سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301
عنوان و نام پديدآور : دراسات فی المکاسب المحرمه [شیخ انصاری]/ لمولفه حسینعلی المنتظری
مشخصات نشر : قم: نشر تفکر، 1415ق. = - 1373.
شابک : 7000ریال(ج.1) ؛ 7000ریال(ج.1)
يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات سرایی: 1380 منتشر شده است
يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: مکتب آیت الله العظمی المنتظری، 1417ق. = 1375)؛ 9000 ریال
يادداشت : ج. 2، 1381، 28000 ریال
يادداشت : 1423 = 1381
یادداشت : کتابنامه
عنوان دیگر : المکاسب. شرح
موضوع : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب -- نقد و تفسیر
موضوع : معاملات (فقه)
شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب. شرح
رده بندی کنگره : BP190/1/الف 8م 70218 1373
رده بندی دیویی : 297/372
شماره کتابشناسی ملی : م 73-2362
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.
أمّا بعد، فبعد ما وقع الفراغ من البحث عن زكاة المال، مستطردا في أثنائه البحث عن ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية بالتفصيل- و قد طبعت الأبحاث بحمد اللّه تعالى و منّه- أبرز الأصدقاء أطروحات مختلفة بالنسبة إلى موضوع البحث الجديد، و منها البحث عن المكاسب المحرّمة و البيع، فاستخرت اللّه- تعالى- و تفألت بكتابه العزيز لذلك- على ما هو دأبي و عادتي في طول حياتي، و إن كان ثقيلا على بعض- فكان أوّل ما يرى منه قوله- تعالى- في سورة التوبة: التّٰائبُونَ الْعٰابدُونَ الْحٰامدُونَ السّٰائحُونَ الرّٰاكعُونَ السّٰاجدُونَ الْآمرُونَ بالْمَعْرُوف وَ النّٰاهُونَ عَن الْمُنْكَر وَ الْحٰافظُونَ لحُدُود اللّٰه وَ بَشِّر الْمُؤْمنينَ «1»، فعزمت و صمّمت على تنفيذ ما هداني اللّه- تعالى- إليه.
______________________________
(1) سورة التوبة (9)، الآية 112.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1،
ص: 8
و حيث كان كتاب المكاسب، الذي ألّفه خرّيت فنّ الفقاهة في الأعصار الأخيرة و أستاذ الأعاظم الشيخ الأعظم الأنصاري- أعلى اللّه مقامه الشريف-، من أعظم ما صنّف في هذا الموضوع و أتقنها بيانا و استدلالا و كان مطرحا لأنظار العلماء و الأفاضل و مدارا لأبحاثهم، كان الأولى جعله محورا للبحث، فنراعي في بحثنا ترتيبه و نذكر ما نلقيه في أبحاثنا حول إفاداته الشريفة. فشكر اللّه- تعالى- سعيه، و وفّقنا لفهم مقاصده الرفيعة و الاهتداء إلى ما هو الحقّ في المسائل المطروحة، و عليه نتّكل و به نستعين.
و قد شرعنا في البحث في يوم الأربعاء، 11 ربيع الأول 1413 ه. ق، الموافق ل 18/ 6/ 1371 ه. ش.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 9
______________________________
قال المصنّف: بسْم اللهِ الرَّحْمٰن الرَّحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
في المكاسب (1) و ينبغي أوّلا التيمّن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة
(1) أقول: قد يقال: إنّ عنوان الكتاب بالمكاسب- كما في المتن- أولى من عنوانه بالمتاجر. إذ التجارة فسّرت بخصوص البيع و الشراء بقصد الربح و زيادة المال، فلا تعمّ ما إذا وقعا لرفع الحاجات فقط من دون أن يقصد الربح، فضلا عمّا إذا لم يقع بيع و شراء بل كان
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 10
للمكاسب من حيث الحلّ و الحرمة (1).
______________________________
هنا استيجار و إيجاد للصنائع و الأعمال المحلّلة أو المحرّمة. و هذا بخلاف المكاسب، فإنّه جمع للمكسب بمعنى ما يطلب به المال، فيعمّ الإجارة أيضا. و المقصود هنا البحث في طرق تحصيل المال و تمييز المحلّل منها عن المحرّم و إن كان بنحو الإجارة، و لذا أفرد البحث عن المكاسب عن بحث البيع.
و لكن يمكن أن يناقش ما ذكر بأنّ عنوان المكاسب أيضا لا يكون جامعا لمحطّ البحث، إذ الكسب أيضا لا يصدق على مبادلة ضروريّات المعاش من الأرزاق و الألبسة مثلا و لا سيّما بالنسبة إلى المشتري، مع أنّ الغرض من البحث هنا بيان حكم جميع المعاملات الواقعة على الأعيان أو المنافع و تمييز المحلّل منها عن المحرّم بنحو العموم. فالعنوان الجامع أن يقال هكذا: «ما تحلّ المعاملة عليه عينا أو منفعة أو انتفاعا و ما تحرم.»
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الكسب بحسب اللغة يصدق على كلّ ما حصّله الإنسان و ناله من الأشياء أو الأعمال، فيصدق
على تحصيل ضروريات المعاش أيضا.
(1) أقول: التيمّن بالكتاب العزيز أنسب، فكان الأولى قبل ذكر الروايات التعرّض لبعض الآيات التي يمكن أن يصطاد منها الضوابط الكلّية في باب المعاملات و بها يرفع اليد عن الأصل الأوّلي فيها أعني أصالة الفساد. فلنتعرض لها:
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 11
______________________________
الآية الأولى قال اللّه- تعالى- في سورة الجمعة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إذٰا نُوديَ للصَّلٰاة منْ يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إلىٰ ذكْر اللّٰه وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ* وَ إذٰا رَأَوْا تجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائماً ... «1»
يظهر من سياق هذه الآيات و ممّا ورد في تفسيرها أنّ النبي «ص» حينما كان قائما يخطب الناس لمّا ارتفع صوت الطبل أو المزامير إعلانا بالتجارات الواردة تركه المستمعون و انفضّوا إليها بقصد التجارة أو اللهو. فالمنع عن البيع وقع لأجل إدراك الخطبة و الجمعة، و أمّا بعد ما قضيت الصلاة فجاز لهم الانتشار في الأرض و الابتغاء من فضل اللّه- تعالى- فيعلم من ذلك جواز الاستفادة ممّا يترقّب منه حصول الفائدة و الاستفادة من فضله- تعالى- و منها البيوع و التجارات الرائجة المفيدة و الصناعات و الإجارات.
ففي المجمع في ذيل قوله- تعالى-: وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه قال: «أي اطلبوا الرزق
______________________________
(1) سورة الجمعة (62)، الآيات 9- 11.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 12
..........
______________________________
في البيع و الشراء. و هذا إباحة و ليس بأمر و إيجاب.» «1»
و فيه أيضا: روى عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها اللّه.
ما أركب فيها إلّا التماس أن يراني اللّه أضحي في طلب الحلال. أما تسمع قول اللّه- عزّ اسمه-: فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه؟ ...» «2»
و في دعائم الإسلام: روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي- عليهم السلام-: أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إذا أعسر أحدكم فليخرج من بيته و ليضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه، و لا يغمّ نفسه و أهله.» «3» و راجع رواية السكوني في هذا المجال. «4»
و بالجملة فظاهر هذه الآيات جواز تحصيل المال بالتجارات و نحوها من مظاهر فضل اللّه- تعالى- إلّا أن يثبت منع من قبل الشارع.
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الآيات ليست في مقام تشريع جواز تحصيل المال و ابتغاء فضل اللّه حتّى يؤخذ بإطلاقها، بل في مقام بيان عقد النفي و هو عدم جواز البيع و غيره ممّا يزاحم الجمعة. و التصريح في الذيل بمفهوم الصّدر وقع تطفّلا، فيكون إشارة إلى التجارات التي ثبتت مشروعيتها بأدلّة أخر.
______________________________
(1) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.
(2) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.
(3) دعائم الإسلام 2/ 13، كتاب البيوع ...، الفصل 1 (ذكر الحضّ على طلب الرزق)، الحديث 1.
(4) راجع الوسائل 12/ 12، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب مقدماتها، الحديث 12.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 13
______________________________
الآية الثانية قوله- تعالى- في سورة النساء: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا
تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «1»
أقول: 1- أصل الأكل: التغذّي بالشي ء بالتقامه و بلعه. و حيث إنّه مستلزم للتسلّط على الشي ء و إفنائه شاع استعماله في إفناء الشي ء مطلقا فيقال: أكلت النار الحطب، و يقال: أكل زيد مال عمرو إذا استولى عليه و تصرّف فيه تصرّف الملّاك في أموالهم المستلزم أحيانا لإعدامها و إفنائها، و ذلك بعناية أنّ الأكل أشدّ ما يحتاج إليه الإنسان و أعمّ تصرّفاته في الأشياء. و هذا الاستعمال شائع عند العرف و العقلاء حتّى الفصحاء منهم. و على أساسه شاع استعماله في الكتاب و السنة أيضا. فالمقصود في الآية، النهي عن الاستيلاء على مال الغير بالطرق الباطلة.
2- و لا يخفى أنّ حرمة أكل المال الحاصل بالأسباب الباطلة كناية عن فسادها عند الشرع و عدم تأثيرها في النقل. كما أنّ حلّيته بالتجارة عن تراض كناية عن صحّتها عنده و تأثيرها في النقل، فذكر اللازم و أريد الملزوم.
و بعبارة أخرى: ظاهر النهي في أمثال المقام الإرشاد إلى فساد الأسباب لا التكليف المحض.
______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآية 29.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 14
..........
______________________________
اللّهم إلّا إذا علم بمناسبة الحكم و الموضوع إرادة التكليف المحض كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة مثلا. حيث إنّ الغرض منه إدراك الجمعة من دون أن يكون في البيع بما هو بيع و معاملة خاصّة مفسدة توجب فساده. إذ لا موضوعية للبيع، و إنما يحرم كلّ فعل زاحم الجمعة. فتعلّق النهي بالبيع بما أنّه فعل من الأفعال المزاحمة، لا بما أنّه معاملة خاصّة. و قد ذكر البيع من باب المثال و شأن النزول و من باب ذكر الفرد الشائع من المزاحمات.
و إن
شئت قلت: إنّ النهي هنا تبعي، و الغرض منه تأكيد السعي إلى الجمعات و خطبها، فتدبّر.
و بالجملة قد تكون المعاملة محرّمة تكليفا فقط كالبيع وقت النداء، و قد تكون محرّمة وضعا فقط كبيع الميتة مثلا، حيث إنه لا دليل على حرمته تكليفا إلّا من جهة التشريع، و قد تكون محرّمة تكليفا و وضعا كالمعاملات الربويّة و كالقمار مثلا.
3- و إضافة الأموال إلى ضمير الجمع بلحاظ توزيع الأموال بينهم. و لعلّ فيها مضافا إلى ذلك إشعارا بأنّ الأموال لوحظ فيها مصالح المجتمع و ليس للشخص التصرّف فيها بنحو يضرّ بهم، نظير قوله- تعالى-: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قيٰاماً «1».
4- و في قوله: بَيْنَكُمْ الدّال على تجمّعهم على المال و وقوعه بينهم إشعار بكون المنهيّ عنه مداورة المال و تداوله بينهم بنقله من يد إلى يد.
5- و الباء في قوله: بالْبٰاطل ظاهرة في السببية، فأريد النهي عن الاستيلاء على
______________________________
(1) سورة النساء (5)، الآية 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 15
..........
______________________________
مال الغير و تملكه بالأسباب و الطرق الباطلة. و يشهد لذلك استثناء التجارة، و هي من الأسباب المملّكة. و المستثنى و المستثنى منه مسانخان إجمالا.
و ربّما يستفاد من بعض الكلمات في التفاسير و كتب الفقه حمل الباء على المقابلة، نظير ما يدخل على الثمن في المعاوضات، فأريد النهي عن أكل مال الغير بإزاء الأمر الباطل، أعني ما لا يفيد مقصودا و لا قيمة له عرفا أو شرعا.
قال في مجمع البيان: «و في قوله: بالْبٰاطل قولان: أحدهما أنّه الربا و القمار و النجش (البخس- البرهان) و الظلم، عن السدّي و هو المرويّ عن الباقر «ع». و الآخر أنّ معناه بغير استحقاق من
طريق الإعواض، عن الحسن.» «1»
أقول: الظاهر كما عرفت أنّ النظر في الآية إلى الأسباب المملّكة لا إلى جنس الثمن و أنه باطل أم لا.
6- ثمّ هل يراد بالأسباب الباطلة خصوص ما ثبت بطلانها شرعا كالقمار و الغصب و الغارات و بيع الملامسة و أمثال ذلك ممّا ورد المنع عنها من ناحية الشرع، كما يظهر من بعض الأخبار و من تفسير الميزان، بل لعلّه المترائى من مصباح الفقاهة أيضا «2» فتأمل.
قال في تفسير الميزان: «و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.» «3»
______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 37، (الجزء الثالث من التفسير)؛ و تفسير البرهان 1/ 363.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 35.
(3) تفسير الميزان 4/ 317 (طبعة أخرى 4/ 337)، في تفسير سورة النساء.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 16
..........
______________________________
و لعلّه أخذ ذلك من زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي، قال بعد ذكر الآية الشريفة:
«أي لا يتصرّف بعضكم في أموال البعض بغير وجه شرعي مثل الربا و الغصب و القمار، و لكن تصرّفوا فيها بطريق شرعي و هو التجارة عن تراض من الطرفين و نحو ذلك.» «1»
و مقتضى هذا البيان كون هذه الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة المتعرّضة للأسباب المحرّمة شرعا.
أو يراد بها مطلق ما يصدق عليه عنوان الباطل كما هو الظاهر من اللفظ. إذ الخطابات المتوجّهة إلى الناس تحمل بموضوعاتها و متعلّقاتها و قيودها على المفاهيم العرفيّة المتبادرة عندهم. و العقلاء أيضا يحكمون بفطرهم ببطلان بعض الأسباب و كونها ظالمة باطلة عند العقل الصريح. نعم من جملة مصاديقها أيضا ما حكم الشرع ببطلانه تخطئة للعقلاء و توسعة للموضوع من باب الحكومة؟
الظاهر هو الثاني. إذ كون
الآية ناظرة إلى الأدلّة الأخر خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر القضيّة كونها حقيقية ما لم يكن دليل على إرادة الخارجيّة. مضافا إلى أن جعل الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة الشرعيّة يوجب حمل النهي فيها على التأكيد و الإرشاد المحض، نظير قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ*، و هذا خلاف ظاهر النهي لظهوره في التأسيس و المولويّة.
فإن قلت: قد فسّر الباطل في أخبار مستفيضة بالقمار و أمثاله، فيعلم من ذلك نظر الآية الشريفة إلى الأسباب المحرّمة من قبل الشارع:
______________________________
(1) زبدة البيان/ 427، كتاب البيع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 17
..........
______________________________
1- ففي رواية زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-:
وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه- عزّ و جلّ- عن ذلك.» «1»
2- و في رواية محمد بن علي عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «نهى عن القمار، و كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك.» «2»
3- و في رواية أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فجاء رجل فقال:
أخبرني عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «يعني بذلك القمار.» «3»
4- و في رواية النوادر قال: قال أبو عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل قال: «ذلك القمار.» «4»
5- و في تفسير البرهان عن نهج البيان عن الباقر و الصادق «ع»: «إنّه القمار و السحت و الربا و الإيمان.» «5»
قلت: تطبيق الموضوعات القرآنية
في أخبارنا على بعض المصاديق لا يدلّ على
______________________________
(1) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.
(3) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
(4) الوسائل 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.
(5) تفسير البرهان 1/ 364.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 18
..........
______________________________
الحصر. و قد يذكر مورد نزول الآية بعنوان التفسير، و لكن أحكام القرآن عامّة لا تختصّ بمورد دون مورد. و قد نادى بذلك الأخبار الواردة عن أهل البيت «ع». هذا مضافا إلى أنّ القمار بنفسه ممّا يحكم العقلاء أيضا ببطلانه إذا خلّوا و فطرتهم السليمة، و لذا يذمّون من خسر ماله في طريقه.
7- و أمّا قوله: تجٰارَةً فقرأها أهل الكوفة بالنصب و الباقون بالرفع- كما في المجمع-. «1» فالرفع على أنّ «تكون» تامّة. و النصب على أنها ناقصة، و اسمها الضمير المستتر العائد إلى التجارة المفهومة من السياق أو إلى الأموال أو إلى الأكل و شبهه.
8- و أمّا معنى التجارة فقال الراغب في المفردات: «التجارة: التصرّف في رأس المال طلبا للربح. يقال: تَجر يتجُر و تاجر و تجر كصاحب و صحب. و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.» «2»
أقول: ليس في كلامه اسم من البيع و الشراء فيشمل إطلاق كلامه من اشترى عينا ليربح فوائدها الحاصلة من الصنع فيها أو الإجارة. و لا يشمل البيوع الحاصلة لا بقصد الاسترباح. و على هذا فبين البيع و التجارة عموم من وجه.
و في مجمع البحرين: «التجارة بالكسر هي انتقال شي ء مملوك من شخص آخر بعوض مقدّر على جهة
التراضي.» «3»
______________________________
(1) راجع مجمع البيان 2/ 36 (الجزء الثالث من التفسير).
(2) مفردات الراغب/ 69.
(3) مجمع البحرين 3/ 233 (ط. أخرى/ 234).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 19
..........
______________________________
و في أوّل تجارة الجواهر: «المراد بها مطلق المعاوضة.» «1»
أقول: ظاهر قوله- تعالى-: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه «2» أيضا كون التجارة أعمّ، إلّا أن يقال كما في تفسير الميزان: إنّ التجارة البيع المستمر و البيع أعمّ من ذلك. «3»
و لكن في لسان العرب: «تجر يتجر تجرا و تجارة: باع و شرى، و كذلك اتّجر و هو افتعل.
و قد غلب على الخمّار.» «4»
و في مجمع البيان في تفسير قوله: تجٰارَةً قال: «أي مبايعة» «5». و على هذا فيختصّ اللفظ بالبيع و الشراء و لا يتقيّد بالربح و قصده، و إن كان المقصود في الآية الشريفة بقرينة المستثنى منه صورة حصول الربح المستلزم لجرّ مال الغير إلى نفسه.
و يظهر من قانون التجارة الرائج في بلادنا- و لعلّه أخذ من البلاد الأخر- حمل لفظ التجارة على معنى أوسع من البيع و الشراء بمراتب ففسّر في المادة الثانية منه المعاملات التجارية بالاشتراء أو تحصيل أيّ نوع من المال المنقول بنيّة بيعه أو إجارته، و تصدّي الحمل و النقل من الطرق البحريّة و البريّة و الجويّة، و عمليّة السمسرة و الوساطة في
______________________________
(1) الجواهر 22/ 4.
(2) سورة النور (24)، الآية 37.
(3) تفسير الميزان 15/ 127 (طبعة أخرى 15/ 137).
(4) لسان العرب 4/ 89.
(5) مجمع البيان 2/ 37 (الجزء الثالث من التفسير).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 20
..........
______________________________
المعاملات، و تأسيس المعامل و تهيئة الخدمات و التداركات، و تأسيس المصانع و إدارتها، و تأسيس المصارف لصرف النقود و
الأوراق المعتبرة، و عمليّات التأمين بأنواعه، و صنع السفن و بيعها و شرائها و المعاملات المرتبطة بها و أمثال ذلك، فراجع. «1»
و لكن هذا لا يفيدنا في تحصيل معنى الكلمة بحسب لغة العرب كما لا يخفى.
9- و ظاهر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ اشتراط صحّة التجارة بوقوعها عن رضى الطرفين بحيث يوجد رضاهما حين العقد و يكون الإقدام على العقد ناشئا عن الرضا.
و مقتضى ذلك عدم صحّة الفضولي و إن تعقّبته الإجازة.
اللّهم إلّا أن يصحّ إسناد البيع إلى المالك بعد تحقّق رضاه بحيث يصدق أنّه باع ماله عن رضاه. و لكنّه مشكل. فالعمدة في تصحيح الفضولي بالإجازة اللاحقة استفادة ذلك من الأخبار و لا سيّما ما ورد في نكاح الفضولي. أو يقال باستقرار سيرة العقلاء على تصحيحه بعد تحقّق رضا المالك حيث إنّه الركن الأعظم في المعاملة.
10- و يظهر من الآية الشريفة أيضا كفاية وقوع العقد عن الرضا في انتقال المبيع إلى المشتري و جواز أكله له، و لا يتوقّف ذلك على القبض كما في الهبة، و لا على انقضاء زمان الخيار و إن حكي ذلك عن الشيخ. «2» و لا ينافي ذلك ثبوت خيار الفسخ لهما أو لأحدهما في موارد الخيار. اللّهم إلّا أن يمنع كون المستثنى في الآية في مقام البيان و سيأتي الإشارة إلى ذلك، و التفصيل يطلب من محلّه.
11- ثمّ هل الاستثناء في الآية متّصل أم منقطع؟ لا يخفى أن الأصل في الاستثناء
______________________________
(1) كتاب «قانون تجارت»/ 9.
(2) راجع المكاسب/ 298، مسألة أنّ المبيع يملك بالعقد و أثر الخيار تزلزل الملك.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 21
..........
______________________________
أن يكون متّصلا. و توجيهه في المقام بأحد وجهين:
الأوّل: أن يجعل المستثنى منه بدون قوله: بالْبٰاطل
و يجعل هو بمنزلة كلام مستقل جي ء به لبيان حال المستثنى منه بعد إخراج المستثنى و تعلّق النهي. فكأنّه قال:
«لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا بطريق التجارة عن تراض، فإنكم إن أكلتموها بغير هذا الطريق كان أكلا بالباطل».
الثاني: أن يقال: إنّ أكل المال بالحقّ و عن استحقاق واقعي ينحصر فيما إذا بني الملكيّة على أساس الملكيّة التكوينيّة بأن ملك الأشياء بتوليدها أو بالصنع عليها و تغيير صورها بحيث يحدث فيها قيمة. و أمّا التّاجر فلا يكون مولّدا لا للموادّ و لا للآثار و الصّور، بل يبيع العين الذي اشتراها بلا تغيير فيها بقيمة زائدة على ما اشتراه. فأكل المقدار الزائد باطل حقيقة، و لكنّ الضرورة الاجتماعيّة أحوج المجتمع إلى تصحيح التجارة فصحّحها الشارع أيضا تسهيلا للأمّة. هذا.
و لا يخفى بعد كلا الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ جعل قوله: بالْبٰاطل بمنزلة جملة مستقلّة معترضة خلاف الظاهر، إذ الظاهر كونه من قيود المستثنى منه.
و أمّا الثاني: فلأنّ الباطل ما لا يترتّب عليه أغراض عقلائيّة. و بعد احتياج المجتمع إلى مبادلة التوليدات لتوقّف الحياة و التعيّش عليها لا يصح إطلاق الباطل عليها. و التاجر يصرف أوقاته و طاقاته و أمواله في تحصيل ما يحتاج إليه النّاس من الأمتعة و في نقلها و حفظها و توزيعها، فلا يكون أخذه للمقدار الزائد على ما اشتراه جزافا و أكلا بالباطل إلّا أن يجحف في التقويم فيحدّده حاكم الإسلام.
ثم كيف يحكم الشرع على أمر بكونه باطلا ثمّ يرخّص فيه بل ربّما يأمر به و يحث
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 22
..........
______________________________
عليه كما وقع منه بالنسبة إلى التجارة؟!:
1- ففي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ترك التجارة ينقص العقل»
«1».
2- و في خبر أسباط بن سالم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فسألنا عن عمر بن مسلم ما فعل؟ فقلت: صالح و لكنّه قد ترك التجارة. فقال أبو عبد اللّه «ع»: «عمل الشيطان- ثلاثا- أما علم أنّ رسول اللّه «ص» اشترى عيرا أتت من الشام فاستفضل فيها ما قضى دينه و قسّم في قرابته؟ يقول اللّه- عزّ و جلّ: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه ...» «2»
3- و عن النبي «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة، و الجزء الباقي في السابيا، يعني الغنم.» «3»
4- و عنه «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة و العشر في المواشي.» «4»
5- و عنه «ص» أيضا قال: «التاجر الصدوق في ظلّ العرش يوم القيامة.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار.
و على هذا فيتعيّن كون الاستثناء منقطعا و هو شائع في محاورات الناس. و يقع غالبا
______________________________
(1) الوسائل 12/ 5، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 1.
(2) الوسائل 12/ 6، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.
(3) الوسائل 12/ 3، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.
(4) الدّر المنثور 2/ 144، تفسير سورة النساء.
(5) الدّر المنثور 2/ 144.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 23
..........
______________________________
لدفع الوهم المحتمل. ففي المقام حيث إنّه- تعالى- نهى عن أكل المال بالباطل و كانت المعاملات الباطلة شائعة رائجة في المجتمع كان مظنّة أن يتوهم المخاطبون أنّه ينهدم بترك هذه المعاملات الرائجة البنية الاقتصادية للمجتمع، فنبّه الشارع بهذا الاستثناء على أن البنية الاقتصاديّة لا تقوم على أساس هذه المعاملات الباطلة بل على التجارات الناشئة عن تراضي الطرفين. و لعلّ التجارة أعمّ من البيع
كما مرّ أو ذكرت من باب المثال و ذكر الفرد الأجلى من المعاملات و أهمّها و أنفعها. و إلّا فالهبات و الإجارات و الجعالات و أمثالها أيضا محلّلة مؤثرة في حفظ النظام الاقتصادي. فالمقصود بالمستثنى في الحقيقة جميع المعاملات الدارجة غير الباطلة التي أظهرها و أهمّها التجارة. و حيث إنّ النهي تعلق بالأسباب الباطلة و التعليق على الوصف يشعر بالعلّيّة فبقرينة المقابلة يفهم أنّ المستثنى هو كلّ ما ليس باطلا عند العرف و العقل الصريح. هذا.
12- و في زبدة البيان: «لو كان الاستثناء متّصلا لزم التأويل، لعدم حصر التصرّف المباح في التجارة عن تراض.» «1»
أقول: أراد بذلك أنّ الاستثناء المتّصل يفيد الحصر و أنّ غير المستثنى بأجمعها داخلة في المستثنى منه و هذا غير صحيح في المقام. و هذا بخلاف المنقطع لكونهما بمنزلة جملتين مستقلتين، فلا مفهوم للمستثنى حتّى ينفي غيره إذ إثبات الشي ء لا ينفي غيره.
و لكن في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لهذا الفرق بين المتصل و المنقطع قال: «إلّا أنّه- تعالى- حيث كان بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن
______________________________
(1) زبدة البيان/ 427. كتاب البيع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 24
..........
______________________________
فاسدها و كان الإهمال ممّا يخلّ بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقاميّة و تكون النتيجة أن الآية مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة بالتجارة عن تراض سواء كان الاستثناء متّصلا أم منقطعا.» «1»
أقول: يمكن أن يناقش ما في مصباح الفقاهة بأنّ كون الآية بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن فاسدها غير واضح، إذ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان الحكم في ناحية المستثنى منه فقط. و إنّما يذكر الاستثناء تطفّلا دفعا لتوهّم إرادة
العموم الذي في المستثنى منه له. فالمتفاهم من الآية الشريفة في المقام كونها بصدد نهي المؤمنين عن تملك أموال الغير و التصرّف فيها بالأسباب الباطلة عقيب نهيهم عن نكاح النساء المحرّمات، لا بيان الأسباب المشروعة للمعاملات.
نعم، لازم كونها بصدد بيان الحكم في المستثنى منه عموم حكمه لجميع أفراده الحقيقية إلّا ما خرج بالاستثناء و إلّا لزم الإهمال و هذا خلف. و هذا معنى دلالة الاستثناء على الحصر. و لكن هذا البيان يجري في المتّصل و كذا في المنقطع بالنسبة إلى أفراد المستثنى منه. و أمّا المستثنى المنقطع فيكون من هذه الجهة بمنزلة كلام مستقلّ، و دلالته على الحصر و نفي الغير يكون من قبيل مفهوم اللقب و هو غير حجّة عند العرف. فما ذكره المحقق الأردبيلي في المقام لعلّه الأظهر، إلّا أن يلتزم بما مرّ من كون التجارة أعمّ من البيع أو أنّها ذكرت من باب المثال.
و بما ذكرناه من أنّ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان حكم المستثنى منه فقط يظهر أمر آخر أيضا. و هو أنّه لو شكّ في ناحية المستثنى في اعتبار جزء أو قيد
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 35.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 25
..........
______________________________
فيه فلا مجال لنفيه بالإطلاق، إذ الإطلاق لا يجري إلّا بعد كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى ما يراد الأخذ بإطلاقه.
و بالجملة من شرائط التمسّك بالإطلاق- على المشهور- كون المتكلّم في مقام البيان.
و الغالب في موارد الاستثناء كون المتكلّم في مقام بيان حكم المستثنى منه فقط فلا مجال للتمسّك به في ناحية المستثنى. ففي المقام إذا شك في اعتبار قيد زائد بالنسبة إلى التجارة المحلّلة شرعا لا مجال للتمسّك لنفيه بإطلاق المستثنى.
فإن قلت: ما
ذكرت صحيح في الاستثناء المتّصل حيث إنّه جملة واحدة و العمدة فيه حكم المستثنى منه. و أمّا في المنقطع فهما بمنزلة جملتين مستقلّتين متعرضتين لحكمين مستقلّين كما مرّ. و على هذا فكما أنّ إطلاق المستثنى منه يقتضي عدم جواز أكل المال بالأسباب الباطلة مطلقا، فكذلك إطلاق المستثنى أيضا يقتضي جواز التجارة عن تراض بإطلاقها إلّا ما ثبت بالدليل خلافه.
قلت: لا نسلّم هذا التفصيل في المقام، إذ المنقطع أيضا لا يخرج عن طبيعة الاستثناء و كون المستثنى منه فيه أصلا في الكلام و المستثنى فرعا ذكر تطفّلا.
و إن شئت قلت: الاستثناء المنقطع أيضا يرجع إلى المتّصل و لكن بتأويل في المستثنى منه بحيث يعمّ المستثنى حتّى يصحّ إخراجه منه.
و يتحصّل ممّا ذكرناه المناقشة في عدّ الآية الشريفة بلحاظ ذيلها من الضوابط الكليّة التي يتمسّك بها في موارد الشكّ.
نعم، على القول بعدم اشتراط الأخذ بالإطلاق على كون المتكلّم في مقام البيان بل يكفي فيه عدم ذكر القيد و عدم الانصراف إلى المقيّد- كما قرّب ذلك المحقّق الحائري
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 26
..........
______________________________
«قده» في الدرر «1»- لا يرد ما أوردناه من الإشكال.
قال في مبحث المطلق و المقيّد ما محصّله: «يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد عند عدم القرينة إذ المهملة مردّدة بين المطلق و المقيد. و لا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد تكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة، و إنما نسبت إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد. فلو قال القائل: جئني برجل يكون ظاهرا في أن الإرادة أولا و بالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد و لكنّه أضاف إرادته إلى الطبيعة بالتبع. و بعد تسليم هذا
الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد، و هذا معنى الإطلاق.
إن قلت: إنّ المهملة ليست قابلة لتعلّق الإرادة الجديّة بها لعدم تعقّل الإهمال ثبوتا فلا محالة تعلّقت إمّا بالمقيد أو المطلق فيكون تعيين الإطلاق بلا دليل.
قلت: عروض الإطلاق للمهملة لا يحتاج إلى لحاظ زائد. و هذا بخلاف التقييد فإذا فرضنا عدم دخل شي ء في تعلّق الحكم سوى المهملة حصل وصف الإطلاق قهرا.
إن قلت: سلّمنا لكنّه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة للمقيّد فيحتاج في نفي هذين إلى إحراز كونه بصدد البيان.
قلت: يمكن نفي كل من هذين الأمرين بالظهور اللفظي و لو لم يحرز كونه بصدد البيان.»
أقول: ما ذكره من ظهور كون الطبيعة مرادة بالذات لا بالتبع عبارة أخرى عن كون المولى في مقام بيان تمام مراده. و المفروض عدم إحراز ذلك و احتمال كونه بصدد الإهمال
______________________________
(1) الدّرر/ 234 (طبعة أخرى 1/ 201).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 27
..........
______________________________
و الإجمال. و المهملة متحقّقة في ضمن المقيّد أيضا بحيث لو أراد المقيّد واقعا و نسب الحكم إلى الطبيعة المهملة لم يعدّ كذبا و لا مجازا.
و بعبارة أخرى: معنى الإطلاق كون الطبيعة المذكورة بوحدتها تمام الموضوع للحكم.
و الحكم بذلك يتوقّف على إحراز كونه بصدد بيان تمام الموضوع لحكمه و لو بالقرينة أو ببناء العقلاء على ذلك. و ليس هذا من باب ظهور اللفظ المستند إلى الوضع بل من باب حكم العقلاء بكون المذكور تمام مراده.
و بالجملة فمقدّمات الحكمة المتوقّف عليها الحكم بالإطلاق ثلاث:
1- كون المولى في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه لا في مقام الإهمال.
2- عدم ذكر القيد في كلامه.
3- عدم انصراف اللفظ إلى المقيّد بحيث يكون في حكم ذكر القيد.
نعم هنا أمر تعرّض
له الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فقال ما محصّله «1»:
«أنّه لا يلزم العلم القطعي بكون المولى في مقام البيان بل التكلّم بما أنّه فعل من الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار يدلّ على كون الغرض منه إفهام ظاهر اللفظ و كونه مرادا للمولى إلّا إذا كان هنا قرينة على كونه بصدد الإهمال و الإجمال. إذ الكلام الصادر عن المتكلّم العاقل المختار يحمل عند العقلاء على كونه صادرا لغرض إفادة ما هو قالب له، و لا يحمل على الإهمال إلّا مع القرينة عليه. كما أنّ سائر الأفعال التي تصدر عن العقلاء تحمل عندهم على وقوعها لأغراضها العادية المتعارفة الغالبة لا لأغراض نادرة غير عاديّة. و لعلّ هذا أيضا مراد المحقّق الحائري.»
______________________________
(1) نهاية الأصول/ 344، في المطلق و المقيّد.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 28
..........
______________________________
و لكن لو صحّ ما بيّناه من كون الغالب في الاستثناءات ذكرها تطفّلا و تبعا صارت هذه الغلبة قرينة عامّة على عدم الإطلاق في المستثنيات، فتدبّر.
اللّهم إلا أن يقال في خصوص المقام كما قيل بأنّ ذكر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ شاهد على كونه بصدد بيان شرعية التجارة أيضا و لذا ذكر القيد الدخيل في شرعيّتها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 29
______________________________
الآية الثالثة قوله- تعالى- في أوّل سورة المائدة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود. أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلّٰا مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ. «1»
1- في تفسير علي بن إبراهيم القمي: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود.» «2»
و الرواية بهذا السند صحيحة.
2- و لكن في تفسير العيّاشي: عن النضر بن سويد، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «العهود». عن ابن سنان مثله. «3» و رواه في تفسير البرهان «4». فالسند على ذلك مشتمل على الإرسال. و لكن التعبير ببعض أصحابنا يشعر بكون المرويّ عنه صحيح العقيدة معتمدا عليه. و لعلّ قوله بعد ذلك: «عن ابن سنان مثله» إشارة إلى رواية علي بن إبراهيم في تفسيره.
______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 1.
(2) تفسير القمى/ 148، (ط. أخرى 1/ 160).
(3) تفسير العيّاشى 1/ 289.
(4) تفسير البرهان 1/ 431.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 30
..........
______________________________
و كيف كان فمقتضى رواية عبد اللّه بن سنان عدم الفرق بين العقد و العهد خارجا هنا أو مطلقا و إن فرض تفاوتهما مفهوما كما قيل.
3- و في دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد «ع» قال: «أَوْفُوا بالْعُقُود في البيع و الشراء و النكاح و الحلف و العهد و الصدقة.» «1»
4- و في تفسير البرهان بسنده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني «ع» في قوله: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «إنّ رسول اللّه «ص» عقد عليهم لعليّ «ع» بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل اللّه: «يٰا أَيُّهَا
الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين «ع».» «2»
5- و في الدّر المنثور بسنده عن ابن عباس قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود يعني بالعهود ما أحلّ اللّه و ما حرّم، و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه، لا تغدروا و لا تنكثوا «3».
6- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقد الجاهلية. ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه «ص» كان يقول: «أوفوا بعقد الجاهلية: و لا تحدثوا عقدا في الإسلام.» «4»
7- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود و هي عقود الجاهلية: الحلف.» «5»
8- و فيه أيضا بسنده عن عبد اللّه بن عبيدة قال: «العقود خمس: عقدة الأيمان و عقدة النكاح و عقدة البيع و عقدة العهد و عقدة الحلف.» «6»
إلى غير ذلك ممّا رواه في الدّر المنثور و لكنّها لم ترفع إلى النبي «ص» فلعلّها اجتهادات
______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 28، كتاب البيوع ...، الفصل 5 (ذكر ما نهى عنه من الغشّ ...)، الحديث 53.
(2) تفسير البرهان 1/ 431.
(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
(2) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
(4) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
(5) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
(6) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 31
..........
______________________________
من المفسرين بذكر المصاديق للعقود. هذا كلّه فيما يرتبط بروايات المسألة.
1- ففي مفردات الراغب: «العقد: الجمع بين أطراف الشي ء. و يستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل و عقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد و
غيرهما.» «1»
2- و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره أي غلظ.» «2»
3- و في لسان العرب: «و العقد: العهد، و الجمع: عقود، و هي أوكد العهود.» «3»
4- و فيه أيضا: «و عقد العسل و الربّ و نحوهما يعقدُ و انعقد و أعقَدتُه فهو مُعقَد و عقيد: غَلُظ.» «4»
أقول: الظاهر أنّ العقود المتعارفة الواقعة بين اثنين روعي فيها شدّ أحد الالتزامين، كما في عقد رأسي الحبل أو الحبلين. و يؤيّد ذلك التعبير عنها بالعقدة كما في قوله- تعالى-:
وَ لٰا تَعْزمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاح حَتّٰى يَبْلُغَ الْكتٰابُ أَجَلَهُ. «5» بل لعلّ التعبير بالعقد في
______________________________
(1) مفردات الراغب/ 353.
(2) صحاح اللغة 2/ 510.
(3) لسان العرب 3/ 297.
(4) لسان العرب 3/ 298.
(5) سورة البقرة (2)، الآية 235.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 32
..........
______________________________
العسل و الربّ أيضا يكون بلحاظ اجتماع أجزائهما و اشتداد بعضها إلى بعض كما في الحبلين.
5- و في مجمع البيان: «العقود جمع عقد بمعنى معقود و هو أوكد العهود. و الفرق بين العقد و العهد أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ و لا يكون إلّا بين متعاقدين. و العهد قد ينفرد به الواحد. فكلّ عقد عهد و لا يكون كلّ عهد عقدا. و أصله عقد الشي ء بغيره و هو وصله به كما يعقد الحبل. و يقال: أعقد العسل فهو معقد و عقيد.» «1»
ثمّ قال في تفسير الآية ما ملخّصه: «أي بالعهود، عن ابن عباس و جماعة من المفسّرين.
ثمّ اختلف في هذه العهود على أقوال:
أحدها: أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة و المظاهرة، و ذلك هو معنى الحلف، عن ابن
عبّاس و مجاهد و الربيع و الضحّاك و قتادة و السدّي.
و ثانيها: أنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم، عن ابن عباس أيضا. و في رواية أخرى قال: هو ما أحلّ و حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه.
و ثالثها: أنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع، عن ابن زيد و زيد بن أسلم.
و رابعها: أنّ ذلك أمر من اللّه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما
______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 33
..........
______________________________
في التوراة و الإنجيل في تصديق نبيّنا و ما جاء به، عن ابن جريج و أبي صالح.
و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»
6- و في الكشاف: «و العقد: العهد الموثق، شبّه بعقد الحبل و نحوه ... و الظاهر أنّها عقود اللّه عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه، و أنه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله: أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «2»
7- و في تفسير الميزان: «العقود جمع عقد و هو شدّ أحد شيئين بالآخر نوع شدّ يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله. و لازمه التزام أحدهما الآخر و عدم انفكاكه عنه. و قد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أوّلا ثمّ استعير فعمّم
للأمور المعنويّة كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك. و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنّه اللزوم و الالتزام فيها. و لما كان العقد- و هو العهد- يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها اللّه من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العباديّة و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضا جمعا محلّى باللام، لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كلّ ما يصدق عليه أنّه عقد.» «3»
______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).
(2) الكشّاف 1/ 590 و 591 (ط. أخرى 1/ 600).
(3) تفسير الميزان 5/ 157 (ط. أخرى 5/ 167)، تفسير سورة المائدة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 34
..........
______________________________
أقول:
يظهر ممّا مرّ من الروايات من طرقنا و من طرق السنّة و كذا من تفاسير الفريقين في المقام: أنّ العقود في الآية يراد بها العهود مطلقا. و لكنّ مرّ عن المجمع: أنّ العقد لا يكون إلّا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد.
أقول: مقتضى كلامه هذا كون العهد أعمّ من العقد. و لكن يرد عليه أنّ العقد في اصطلاح الفقهاء و إن كان مختصّا بما يقع بين اثنين لكن العقود في الآية لا تحمل على اصطلاح الفقهاء بعد تفسيرها في روايات الفريقين بالعهود لأنّه اجتهاد في قبال النصّ.
فيجب حملها على الأعمّ لتشمل العهود الواقعة بين الإنسان و خالقه بحسب إيمانه أو بحسب الفطرة أيضا.
إلّا أن يقال: إنّها أيضا بحسب الحقيقة واقعة بين اثنين: أحدهما الخالق، كما أنّ العهد العهود في
الفقه في قبال اليمين و النذر أيضا و إن كان إيقاعا لا يحتاج إلى القبول لكنّه أيضا يقع بين الشخص و خالقه و يصحّ أن يعبّر عنه بالعقدة.
نعم القرار الذي قد يعقدها الإنسان في نفسه على نفسه عهد ينفرد به الواحد و يشكل إطلاق العقد عليه كما لا دليل على لزوم العمل به.
المستفاد من تفسيري الميزان و المجمع و غيرهما: أنّ في العقد معنى الاستيثاق و الشدّ و اللزوم. و مقتضى ذلك كون الأصل في العقود اللزوم، فيكون إطلاقه على العقود الجائزة من أصلها، كالهبة و المضاربة و نحوهما، بنحو من العناية و المسامحة.
نعم لأحد أن ينكر اعتبار الشدّ في مفهوم العقد و العقدة، بل قيل بحكايتهما عن مطلق ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو خاصّ يحصل منه العقدة سواء وقع بشدّة أو مع الخفّة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 35
..........
______________________________
نعم وجوب الإيفاء لعلّه دالّ على اللزوم و عدم جواز الحلّ إلّا فيما ثبت خلافه، إلّا أن يراد بالوفاء أيضا مطلق العمل على طبق ما أنشأ من العقدة مشدودة أو مخفّفة، فتدبّر.
و سيأتي تفصيل لذلك في الجهة السادسة.
قد ظهر من كلامهم أنّ العقد بحسب اللغة هو الجمع بين أطراف الشي ء أو شدّ أحد شيئين بالآخر، و لازمه تلازم الشيئين.
فنقول: الظاهر أنّ الأمرين المتلازمين في العقود المصطلحة في الفقه هو التزام الموجب بمفاد إيجابه و التزام القابل بمفاد قبوله. فشدّ أحد الالتزامين بالآخر.
و إن شئت قلت: إنّ العقد المصطلح هو شدّ أحد العهدين و القرارين بالآخر. فهذا الذي يتبادر إلى الذهن في المقام.
و لكن في تفسير الميزان في مقام بيان معنى العقد قال: «و العقد هو كلّ فعل أو قول يمثّل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شي ء بشى ء آخر بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرّف فيه ما شاء ...
و كعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل ...» «1»
فجعل المتلازمين في البيع المبيع و المشتري و في النكاح نفس الرّجل و المرأة لا التزامهما.
و الظاهر عدم صحة ما ذكره و صحّة ما ذكرناه. إلّا أن يقال: إنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود و ليس ربط مجموع العهدين و الالتزامين مصداقا للعهد، فتدبّر.
الظاهر عدم صحّة حمل العقود في الآية الشريفة على خصوص العقود المتعارفة المصطلحة في الفقه. إذ لا تناسب على هذا بين قوله: «أَوْفُوا بالْعُقُود»
______________________________
(1) تفسير الميزان 5/ 158 (طبعة أخرى 5/ 168)، تفسير سورة المائدة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 36
..........
______________________________
و بين ما تعقّبه من إحلال بهيمة الأنعام و غيره من الأحكام. فالظاهر تفسير الآية بنحو تشمل تعهد الإنسان في فطرته أو بسبب إيمانه للعمل بأحكام اللّه- تعالى- و الالتزام بمحلّلاته و محرّماته و حدوده و فرائضه و إن شملت العقود المصطلحة أيضا.
و لذا فسّرها ابن عباس- على ما مرّ من المجمع- بأنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ أو حرّم.
و مرّ عن الكشاف قوله: «إنّه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله:
أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «1»
فالسورة كأنّها سورة العهود و المواثيق، ذكر فيها الأحكام النازلة على رسول اللّه «ص» في السنة الأخيرة من عمره الشريف و منها نصبه لوليّ أمر المسلمين من بعده في غدير خمّ بأمر اللّه- تعالى- و صرّح فيها بالمواثيق المأخوذة من اللّه- تعالى- على المسلمين و على اليهود و النصارى:
فصدّر السورة- مخاطبا للمؤمنين- بقوله: أَوْفُوا بالْعُقُود. ثمّ شرع في ذكر المحلّلات و المحرمات و الواجبات، إلى أن قال في الآية السّابعة منها: وَ اذْكُرُوا نعْمَةَ اللّٰه عَلَيْكُمْ وَ ميثٰاقَهُ الَّذي وٰاثَقَكُمْ به إذْ قُلْتُمْ سَمعْنٰا وَ أَطَعْنٰا ... إلى أن قال في الآية الثانية عشرة: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّٰهُ ميثٰاقَ بَني
إسْرٰائيلَ ... و في الآية الثالثة عشرة: فَبمٰا نَقْضهمْ ميثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ ... و في الآية الرابعة عشرة: وَ منَ الَّذينَ قٰالُوا إنّٰا نَصٰارىٰ أَخَذْنٰا ميثٰاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا ممّٰا ذُكِّرُوا به .... و في الآية السبعين: لَقَدْ أَخَذْنٰا ميثٰاقَ بَني إسْرٰائيلَ وَ أَرْسَلْنٰا إلَيْهمْ رُسُلًا ....
______________________________
(1) الكشّاف 1/ 591 (ط. أخرى 1/ 601).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 37
..........
______________________________
و العقد و العهد و الميثاق متقاربة المعنى و إن فرض اختلافها مفهوما. فإمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم في فطرهم على أن يؤمنوا باللّه و يوحدوه و يطيعوه في أوامره و نواهيه. و إمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم بعد الإيمان بالأنبياء على العمل بما جاؤوا به من أحكام اللّه- تعالى-.
و بالجملة فيشكل الحكم بقطع ارتباط الجزء الأوّل من الآية الأولى من السورة عمّا بعده و الحكم بكونه ناظرا إلى العقود المتعارفة المصطلحة فقط التي تتعاقدها الناس بينهم.
نعم، يمكن تفسيرها بنحو يشمل هذه العقود أيضا كما يأتي بيانه.
و هي العمدة في المقام: قد مرّ عن مجمع البيان قوله: «و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»
و مقتضى هذا الكلام أنّ القول الثالث أعني العقود التي يتعاقدها الناس بينهم أيضا داخل في هذا القول بلحاظ صيرورتها بعد إمضاء الشرع لها من عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد.
و على هذا فالعقود في الآية الشريفة ناظرة إلى ما شرّعها و أنفذها الشارع و لو إمضاء مع قطع النظر عن هذه الآية، فلا يجوز التمسّك بهذه الآية لصحّة العقود التي لم تكن في عهد
الشارع و لم يثبت صحّتها بإمضائه كعقد التأمين مثلا.
و يرد هذا الإشكال على ما مرّ من تفسير الميزان أيضا، حيث أدخل عقود المعاملات أيضا في المواثيق الدينيّة التي أخذها اللّه على عباده، فما لم يثبت صحة المعاملة شرعا
______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 152 (الجزء الثالث).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 38
..........
______________________________
و لو بإمضاء سيرة العقلاء لم تكن من المواثيق الدينيّة فلا تشملها العقود في الآية الشريفة.
و بالجملة وجوب الوفاء في الآية- على ما ذكره هذان العلمان- موضوعه المواثيق الدينية و ما أوجبها اللّه- تعالى-. فما لم يثبت صحّة العقد شرعا بدليل خاصّ أو بإطلاق دليل أو ببناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع لم يدخل تحت هذين العنوانين.
و لا يمكن إثباتهما بنفس الحكم في الآية، إذ الحكم لا يثبت موضوع نفسه للزوم الدّور.
و إذا فرض ثبوت صحّة العقد و شرعيّته بدليل آخر لا نحتاج في تصحيحه إلى التمسّك بهذه الآية بل تقع تأكيدا.
فالأولى أن يقال: إنّ لفظ العقود جمع محلّى باللام فمفاده العموم و قد فسّر بالعهود كما مرّ. و الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة تحمل على مفاهيمها و مصاديقها العرفيّة إلّا أن يرد دليل شرعي على خروج بعضها تعبّدا أو دخول غيرها فيها من باب الحكومة.
و على هذا فيشمل العقود في الآية الشريفة كلّ ما حكم العرف أو الشرع بكونه معاهدة و ميثاقا سواء كان ممّا تعاقدها الناس بينهم أو تعاقدوه مع اللّه- تعالى- بإجراء صيغة العهد و ما شابهه، أو بالالتزام بما جاء به أنبياؤه بعد الإيمان بهم أو بما قبلوه و تعهّدوه بحسب الفطرة.
و استعمال لفظ العهد أو الميثاق في الأخير أيضا شائع في الكتاب و السنّة: قال اللّه- تعالى-: أَ
لَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يٰا بَني آدَمَ أَنْ لٰا تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ. «1» و في نهج البلاغة: «و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكّر و هم منسيّ نعمته.» «2»
______________________________
(1) سورة يس (36)، الآية 60.
(2) نهج البلاغة، عبده 1/ 17؛ فيض/ 33؛ صالح/ 43، الخطبة 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 39
..........
______________________________
قال الجصّاص في أحكام القرآن بعد كلام طويل حول الآية: «و قد روي عن ابن عبّاس في قوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقود اللّه فيما حرّم و حلّل. و عن الحسن قال: يعني عقود الدين. و اقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات و الإجارات و النكاحات و جميع ما يتناوله اسم العقود. فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده و في صحّة نذر و لزومه صحّ الاحتجاج بقوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود. لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات و الإجارات و البيوع و غيرها. و يجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس و المال و جواز تعلّقها على الأخطار، لأنّ الآية لم تفرّق بين شي ء منها ...» «1».
أقول: قوله: «و جواز تعلّقها على الأخطار.» ينطبق على عقد التأمين الشائع في عصرنا. هذا.
نعم هنا إشكال ينبغي التأمّل لدفعه، و هو أنّ مفاد الآية الشريفة بالنسبة إلى أحكام اللّه المشروعة من قبل مفاد قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ* فيكون إرشادا محضا إلى حكم العقل بلزوم الإطاعة و لا يقبل المولوية للزوم التسلسل كما حرّر في محلّه. و الجمع بين إرادة الإرشاد المحض بالنسبة إلى هذه الأحكام و بين الحكم بالصحّة تأسيسا بالنسبة إلى العقود و الإيقاعات يرجع إلى الجمع بين اللحاظين و استعمال لفظ واحد في معنيين.
اللّهم إلّا أن يقال: إن للأمر معنى واحدا و هو البعث و التحريك
نحو متعلّقه، غاية الأمر أن البعث الإنشائي قد يتحقّق بداعي الإرشاد إلى حكم العقل، و أخرى بداعي التأسيس و التشريع. و تعدّد الداعي في استعمال واحد لا يوجب استعمال اللفظ في
______________________________
(1) أحكام القرآن للجصّاص 2/ 362.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 40
..........
______________________________
معنيين، إذ اللفظ لم يستعمل في الداعي بل لإنشاء البعث نحو متعلّقه. و المفروض تحقّقه في كليهما.
أو يقال: إنّ لزوم العمل على طبق المواثيق و الوفاء بها و عدم نقضها أيضا ممّا يحكم به العقل نظير لزوم إطاعة المولى. و على هذا فالأمر في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود ممحّض في الإرشاد إلى حكم العقل مطلقا و ليس فيه تأسيس و تشريع أصلا، فتأمّل.
و كيف كان فالظاهر جواز عدّ الآية الشريفة من الضوابط الكليّة الدالّة على صحّة العقود مطلقا إلّا فيما ثبت خلافه.
لا يخفى أنّ المحقّق النراقي «قده» خصّ العائدة الأولى من عوائده بالبحث حول الآية الشريفة و قال في أثناء بحثه: «و من جميع ما ذكرنا ظهر أنّه يلزم في العقد الاستيثاق و الشدّ، و أنّ للعهد معاني متكثرة، و أنّ المعاني التي ذكروها للعقود في الآية بين ستّة بل ثمانية: الأوّل: مطلق العهود. و الثاني: عهود أمير المؤمنين «ع».
و الثالث: عهود الجاهليّة على النحو المتقدم. و الرابع: العقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده؛ إمّا التكاليف و الواجبات خاصّة أو مطلق ما حدّه و شرّعه لهم. و الخامس:
العقود التي بين الناس. و المراد منها يحتمل أن يكون العقود المتداولة بينهم المقرّرة لهم من الشرع، أي العقود الفقهيّة، و أن يكون مطلقها و لو كان باختراعهم. و السّادس: جميع ذلك.»
ثم قال ما ملخّصه: «أنّ فقهاءنا الأخيار في كتبهم الفقهية بين
تارك للاستدلال بتلك الآية لزعم إجمالها، و بين حامل لها على المعنى الأعمّ فيستدلّ بها على حلّية كلّ ما كان عقدا لغة أو عرفا، و بين حامل لها على العقود المتداولة في الشريعة و يتمسّك بها في
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 41
..........
______________________________
تصحيح هذه إذا شكّ في اشتراط شي ء فيها أو وجود مانع عن تأثيرها و نحو ذلك، لا تصحيح عقد برأسه.
و منهم من ضمّ مع العقود المتداولة سائر ما عقده اللّه- سبحانه- على عباده أيضا.
و يظهر من بعضهم احتمال حملها على العقود التي يتعاقدها الناس بعضهم على بعض مطلقا سواء كان من العقود المتداولة في الكتب الفقهية أم لا.
ثمّ إنّ منهم من يفسّر الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد و وجوب الالتزام به إلّا إذا تحقّق ما يرفع لزومه شرعا. و منهم من يفسّره بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا فلا ينافي كون بعض العقود جائزا. و منهم من فسّره بوجوب اعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز. و منهم من حمله على الرخصة و نفي الحظر.»
ثم شرع في تفصيل الأقوال المذكورة و الاستدلال لها بالآية إلى أن قال ما ملخّصه:
«و مع ذلك ففي صحّة التمسك به كلام من وجوه:
الأول: أنّه و إن كان مقتضى الجمع المحلّى كونه مفيدا للعموم لكن الثابت من أصالة الحقيقة إنما هو فيما إذا لم يقترن بالكلام حين التكلّم به ما يوجب الظنّ بعدم إرادة الحقيقة، بل لم يقترن بما يصلح لكونه قرينة.
و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الماهية أو الجمع المحلّى ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة. و لا أقلّ من صلاحية كونه قرينة لإرادتها.
و سورة المائدة نزلت في أواخر
عهد النبيّ «ص». و لا شكّ أنّ قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمّة من العقود، كالعقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده، بل بعض العقود التي بين الناس بعضهم مع بعض. و تقدّم طلب الوفاء بتلك
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 42
..........
______________________________
العقود يورث الظنّ لإرادتها من قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود خاصّة أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسّك لإرادة جميع الأفراد من الجمع المحلّى. مضافا إلى أنّ قوله- تعالى-:
أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلى آخره تفصيل لبعض العقود أيضا كما مرّ في كلام بعض المفسّرين. و هذا أيضا ممّا يضعّف الحمل على العموم.
الثاني: أنّ حمل الآية على العموم يوجب كونها تأكيدا بالنسبة إلى العقود التي تقدّم طلبها على نزول الآية و تأسيسا بالنسبة إلى ما لم يسبق طلبه، فيكون أمر واحد تأكيدا و تأسيسا معا كما في استعمال المشترك في معنييه. و هذا غير جائز إلّا أن يحمل على باب التناسي.
الثالث: أنّه قد عرفت اتفاقهم على اشتراط الاستيثاق و الشدّة في معنى العقد و أنّه العهد الموثّق، فلو أبقينا العقود على العموم أيضا لما دلّ إلّا على وجوب الوفاء بالعهود الموثقة لا كلّ عهد. ففي كلّ عهد يراد إثبات لزومه شرعا لا بد أوّلا من إثبات استحكامه و شدّته، و لا يثبت ذلك إلّا بعد ثبوت اللزوم الشرعي لمنع كون غير ما ثبت لزومه شرعا موثقا.
الرابع: أنّه بعد ما علمت من اتفاقهم على كون العقد هو العهد الموثق أقول: قد عرفت أنّ للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي، منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه أو صحّته في المباحث الفقهيّة. و لو سلمنا أنّ للعهد معنى يلائم ذلك أيضا فإرادة ذلك المعنى في الآية غير معلوم. فيمكن أن يراد من العقود الوصايا الإلهية الموثقة أي المشدّدة، و يمكن أن يراد مطلق الوصايا، و يمكن أن يراد منها الأوامر أو الأيمان أو الضمانات.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 43
______________________________
الخامس: أنه قد عرفت أنّ معنى العقد لغة الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما. و إذا كان هذا معناه اللغوي حقيقة فيكون المراد منه في الآية معناه المجازي. و إذا كان كذلك فيتّسع دائرة الكلام و مجال الجدال في التمسّك بالآية. و حيث انحصر الدليل على أصالة لزوم كلّ عقد بتلك الآية فيكون تلك الأصالة غير ثابتة بل الأصل عدم اللزوم إلّا أن يثبت لزوم عقد بدليل خاصّ كالبيع و أمثاله.» «1» انتهى ما أردنا نقله من العوائد ملخّصا.
و يرد على الوجه الأوّل: أنّ تقدّم طلب بعض الأفراد تدريجا في خلال عشرين سنة لا يوجب رفع اليد عن العامّ المتأخر الظاهر في الاستغراق إلّا إذا كان كالقرينة المتّصلة بحيث ينصرف اللفظ إليها و لا ينعقد معها ظهور في العموم، و كون المقام كذلك ممنوع.
قال الأستاذ الإمام «ره» في بيعه ما ملخّصه: «ألا ترى أنّه إذا قال المولى: أكرم زيدا كلّما جاءك، ثم بعد سنين قال: أكرم عمروا كلّما جاءك، و هكذا أمر بإكرام عدّة أشخاص كلّهم من العلماء ثمّ بعد سنين عديدة قال: أكرم العلماء كلّما جاؤوك، لا يمكن ترك إكرام غير العلماء المذكورين قبله باعتذار احتمال كون المراد بالعموم المعهودين.
مع أنّ في ثبوت نزول المائدة بجميع آياتها في آخر عمره الشريف كلاما و إن وردت به رواية.
مضافا إلى أنّ ذلك مؤيّد للعموم و مؤكّد له. لأن الوحي لمّا كان ينقطع بعدها فلا بدّ من تقنين قوانين كليّة يرجع إليها في سائر الأدوار إلى آخر الأبد. مع أنّ ما ذكره مبنيّ
______________________________
(1) العوائد 1- 8.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 44
..........
______________________________
على أنّ جميع المحرّمات و الواجبات التكليفيّة داخلة في مفهوم العقد، و
هو ضعيف.» «1»
أقول: لقد أجاد فيما أفاد، و لكن تضعيفه الأخير لا يمكن المساعدة عليه لما مرّ في الجهة الرابعة من الارتباط الوثيق بين قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و ما بعده و كون مضمونه بمنزلة الضابطة لما بعدها، فراجع.
و يرد على الوجه الثاني: ما في بيع الأستاذ أيضا من منع لزوم استعمال الأمر في الأكثر، لأنّ لفظ الأمر لا يستعمل في التأسيس أو التأكيد، بل هو مستعمل في معناه أي البعث لكنّه ينتزع منه التأكيد إن كان مسبوقا بأمر متعلّق بعين ما تعلّق ثانيا و ثالثا و إلّا يكون تأسيسا. «2»
و أمّا الجواب عن الوجه الثالث فيظهر ممّا فصّله الأستاذ الإمام في المقام إنكار أخذ الاستيثاق و الشدّة في مفهوم العقد. قال ما محصّله: «أنّ الكلمة وضعت أوّلا للربط الخاصّ الواقع في الحبل و نحوه بنحو يحصل منه مجموعة تسمّى بالعقدة المعبّر عنها بالفارسية: «گره» و ليس في العقدة معنى الشدّة بل هي أعمّ من المشدودة و غيرها. و في الصحاح: «العاقد: الناقة التي قد أقرّت باللقاح لأنّها تعقد بذنبها.» و من الواضح أنّها لا تعقده مستوثقا. و في القاموس فسّر العاقد كما في الصحاح. و على هذا يمكن أن يكون مراد القاموس من قوله: «عقد الحبل و البيع و العهد يعقده: شدّه» مطلق الربط الخاصّ لا تشديده و توثيقه. و يشهد لعدم اعتبار الاستيثاق و التوكيد في معناه قول من فسّره بمطلق العهود كابن عباس و جماعة من المفسّرين.
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدّس سرّه- 1/ 72.
(2) كتاب البيع للإمام الخمينى 1/ 73.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 45
..........
______________________________
و بالجملة الظاهر أنّه ليس في المعنى الحقيقي من العقد اعتبار التوكيد و التوثيق كما أنّ الظاهر استعارة اللفظ الموضوع للطبيعة للعقد في المقام، و مصحّحها دعوى أنّ الربط الاعتباري هو الحبل و تبادل الاعتبارين كتبادل طرفي الحبل بنحو يرتبط و تحصل فيه العقدة، و لا سبيل إلى القول باستعارة اللفظ بمناسبة
أحد مصاديق معناه و هو العقد الموثّق. فتحصّل ممّا مرّ أنّ العقد بالمعنى الاستعاري هو مطلق المعاملة بلحاظ الربط الاعتباري المتبادل.» «1»
أقول: ما ذكره «ره» قابل للمنع إذ المترائى من كلمات أهل اللغة و التفسير و موارد استعمال الكلمة اعتبار الشدّ و التوثيق في مفهوم العقد و العقدة:
ففي المقاييس: «العين و القاف و الدّال أصل واحد يدلّ على شدّ و شدّة وثوق، و إليه ترجع فروع الباب ... و عقدة النكاح و كلّ شي ء: وجوبه و إبرامه. و العقدة في البيع:
إيجابه.» «2»
و قال الخليل بن أحمد في العين: «عقدة كلّ شي ء: إبرامه. و عقدة النكاح: وجوبه.
و عقدة البيع: وجوبه ... و اعتقد الشي ء: صلب. و اعتقد الإخاء و الموادّة بينهما: أي ثبت.» «3»
و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره: أي غلظ ...
و اعتقد الشي ء أي اشتدّ و صلب.» «4»
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدس سرّه- 1/ 68 و 69.
(2) المقاييس 4/ 86.
(3) العين 1/ 140.
(4) صحاح اللغة 2/ 510.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 46
..........
______________________________
و في القاموس: «عقد الحبل و البيع و العهد: شدّه ... و العقد: الضمان و العهد و الجمل الموثّق الظهر ... و العقدة من النكاح و من كلّ شي ء: وجوبه.» «1»
و في المصباح المنير: «عقدت الحبل عقدا من باب ضرب فانعقد. و العقدة: ما يمسكه و يوثقه. و منه قيل: عقدت البيع و نحوه. و عقدة النكاح و غيره: إحكامه و إبرامه.» «2»
و في لسان العرب: «عقدة اللسان: ما غلظ منه، و في لسانه عُقدَة و عَقَد أي التواء ...
عقدة النكاح و البيع: وجوبهما. قال الفارسي: هو من الشدّ و الربط ...
و عقدة كلّ شي ء:
إبرامه.» «3»
و في مجمع البحرين: «و الفرق بين العهد و العقد: أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ.» «4»
و في أقرب الموارد: «عقد الحبل و البيع و العهد و اليمين و نحوها عقدا: أحكمه و شدّه و هو نقيض حلّه ... عقد العسل و الربّ و نحوهما: أغلاه حتّى غلظ.» «5» إلى غير ذلك من كلمات أهل الفنّ.
و بالجملة فالظاهر أنّ لفظ العقد و مشتقاته أخذ في مفهومها اللغوي الاستيثاق و الشدّ.
______________________________
(1) القاموس المحيط 1/ 327.
(2) المصباح المنير/ 575.
(3) لسان العرب 3/ 298.
(4) مجمع البحرين 3/ 103 (ط. أخرى/ 208).
(5) أقرب الموارد 2/ 807.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 47
..........
______________________________
فلنتعرّض للجواب عن الإشكال الثالث للمحقّق النراقي، و نجيب عنه بما لوّح إليه نفسه عقيب إشكاله:
بيان ذلك: أنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود كما مرّ. و التشكيك في ذلك اجتهاد في قبال النصوص. و التوثيق في العهود لا يدور مدار حكم الشرع فيها باللزوم، بل يكفي فيه حكم العرف و العقلاء بذلك. إذ بناؤهم في المعاهدات و المواثيق في جميع الأعصار كان على الإبرام و لزوم الحفظ و كانوا يذمّون ناقضها و المستخفّ بها. فكأنّ الإبرام أخذ في طبيعتها و إن اختلفت مراتبه حسب اختلاف مراتبها كسائر الطبائع المشكّكة. و قال الراغب في تفسير العهد:
«العهد حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال، و سمّي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.» «1» فلزوم المراعاة أخذ في مفهوم العهد.
و بالجملة فالعهود بلحاظ إبرامها و شدّها بالطبع و في اعتبار العقلاء وجب الإيفاء بها عرفا و شرعا، لا أنّ وجوب الإيفاء بها شرعا صار موجبا لشدّها كما في كلام النراقي.
فلا ينقسم العهد إلى لازم و غير
لازم، و مبرم و غير مبرم، بل إلى اللازم و الألزم، و المبرم و الأشدّ إبراما. و هذا هو الملحوظ في مفهوم العقدة أيضا، إذ من يقدم على إيجادها بين الحبلين أو الخيطين أو البنائين لا يوجدها إلّا بداعي الاستحكام و عدم الانحلال و إن اختلفت مراتبها حسب اختلاف القوى و الدواعي.
و على هذا فيكون الحكم بوجوب الإيفاء من ناحية الشارع إرشادا في الحقيقة إلى ما يحكم به العقلاء بفطرتهم بلحاظ كون الموضوع بطبيعته المعتبرة مما يستدعي اللزوم
______________________________
(1) مفردات الراغب/ 363.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 48
..........
______________________________
و الثبات. قال اللّه- تعالى-: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» فرتّب وجوب الإيفاء على طبيعة العهد بإطلاقها.
و يتفق في هذا الحكم جميع الأقوام و الأمم على اختلاف الأهواء و المذاهب، ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر: «و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض اللّه شي ء الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب العذر فلا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك ...» «2»
و يظهر من كلامه هذا ترادف العقد و العهد أو تقاربهما حيث إنّه قد يستعمل هذا و قد يستعمل ذاك.
و تمام الموضوع لوجوب الإيفاء عند العقلاء هو العهد بما هو عهد و عقد من غير فرق بين موارده إلّا إذا وقع عن إكراه و إجبار أو تغرير و خداع. و على هذا الأساس أيضا حكم الشرع.
ثمّ لو
سلّم إهمال العقود بالنسبة إلى اللزوم و عدمه و كونها بالذات أعمّ كان الأمر بالإيفاء بها دالا على الحكم باللزوم و عدم جواز النقض في كلّ عقد إلّا فيما ثبت خلافه. فيجوز الاستدلال بعموم الآية في موارد الشكّ في اللزوم. و يكون وزان قوله-
______________________________
(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.
(2) نهج البلاغة، عبده 3/ 117؛ فيض/ 1027؛ صالح/ 442، الكتاب 53.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 49
..........
______________________________
تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود وزان قوله: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا، و لا سيّما بعد تفسير العقود في أخبار الفريقين بالعهود. و لم يشكّك أحد في عموم آية العهد و دلالتها على لزوم العهود.
فإن قلت: معنى الوفاء بالعهد و النذر و العقد و نحوها هو العمل على طبق مقتضياتها، فوفاء النذر مثلا هو الإتيان بالمنذور لا عدم فكّ النذر، و وفاء البيع بتسليم العين لا بعدم فسخه. فمن لم يفسخ عقد البيع مثلا و لكن لم يعمل بمقتضاه من تسليم العين لا يقال عرفا إنّه و في بعقده.
و إن شئت قلت: إنّ الوفاء و عدمه من لواحق العقد بعد فرض وجوده، و الحكم لا يحفظ موضوع نفسه، فإعدام العقد خارج عن عدم الوفاء به كما أنّ إيجاده غير الوفاء به.
إلّا أن يقال: إنّ الوفاء إبقاء العقد الحادث و عدم الوفاء إعدامه، و لكن هذا غير صحيح.
قلت: هذا ما ذكره الأستاذ الإمام في المقام «1»، و لكن الظاهر خلاف ذلك، إذ الإيفاء بالشي ء الأخذ به تامّا وافيا و عدم نقصه أو تركه. و ضدّه الغدر و هو ترك الشي ء أو نقصه، فانظر إلى قوله- تعالى-: وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادرْ منْهُمْ أَحَداً. «2» أي لم نترك منهم أحدا. و قوله:
وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لهٰذَا الْكتٰاب لٰا يُغٰادرُ صَغيرَةً وَ لٰا كَبيرَةً إلّٰا أَحْصٰاهٰا «3» أي لم يترك منهما شيئا. و يقال: «غدير» للماء المتروك المنقطع من السيل.
قال الراغب في المفردات: «الوافي: الذي بلغ التمام. يقال: درهم واف و كيل واف،
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 70.
(2) سورة الكهف (18)، الآية 47.
(3) سورة الكهف (18)، الآية 49.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 50
..........
______________________________
و أوفيت الكيل و الوزن. قال- تعالى-: وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إذٰا كلْتُمْ. و في بعهده يفي وفاء و أوفى: إذا تمّم العهد و لم ينقض حفظه. و اشتقاق ضدّه و هو الغدر يدلّ على ذلك و هو الترك ...» «1»
و كما يتحقّق ترك العقد بعدم ترتيب آثاره عليه يتحقّق بفسخه و نقضه من رأس أيضا، بل هذا أولى بصدق الترك و التجاوز.
ثمّ لو فرض وجوب ترتيب الأثر على العقد بمقتضى الآية بنحو الإطلاق كان مقتضاه بقاءه و عدم انتقاضه.
قال الشيخ الأعظم في أوّل الخيارات من مكاسبه: «فإذا حرم بإطلاق الآية جميع ما يكون نقضا لمضمون العقد و منها التصرّفات الواقعة بعد فسخ المتصرّف من دون رضا صاحبه كان هذا لازما مساويا للزوم العقد و عدم انفساخه بمجرد فسخ أحدهما، فيستدلّ بالحكم التكليفي على الحكم الوضعي أعني فساد الفسخ من أحدهما بغير رضا الآخر و هو معنى اللزوم.» «2» هذا. و قد فسّرنا العقد بالعهد و مرّ عن الراغب تفسير العهد بحفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال.
و بالجملة فالأصل في العقود و العهود هو اللزوم من غير فرق بين مواردها عند كافة العقلاء في جميع الأعصار و من جميع الأمم. و الشرع أيضا نفّذ ذلك. و في هذا القبيل من
الأحكام لا يصلح المورد لتخصيص العامّ. فكون آية العقود ملحوقا بذكر المحلّلات و المحرّمات لا يوجب الترديد في عمومها، فتدبّر.
______________________________
(1) مفردات الراغب/ 565. و الآية من سورة الإسراء (17)، رقمها 35.
(2) المكاسب للشيخ الأنصاري «ره»/ 215.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 51
..........
______________________________
بقي الإشكال في العقود الجائزة ذاتا كالهبة و الوكالة و العارية و المضاربة و الشركة و أمثالها. فقد يقال: إنّ مقتضى ما ذكرنا لزومها أيضا بعد صدق العقد عليها، غاية الأمر خروجها تعبّدا بالإجماع في كلّ مورد حصل.
و قد يقال- كما في مباني العروة-: إنّ أدلّة اللزوم قاصرة عن شمولها إذ اللزوم من آثار كون مفاد العقد التزاما و تعهّدا. و هذه العقود لا تتضمّن لذلك، بل للإباحة و الإذن فقط و تسمّى عقودا إذنية «1».
أقول: يرجع كلامه هذا إلى منع كون هذه العقود بحسب الحقيقة داخلة تحت عنوان العقد. إذ العقد فسّر بالعهد، و العهد متضمن للالتزام قهرا. فنقول: يمكن القول بأنّ أمثال الوكالة و العارية لا تتضمّن إلّا الإذن. و أمّا الهبة و المضاربة و أنواع الشركة فلم يظهر لي وجه عدم تضمّنها للالتزام. و أيّ فرق بين المضاربة مثلا و بين المزارعة و المساقاة المعدودتين من العقود اللازمة مع كون الجميع على مساق واحد متضمّنة لنحو من الشركة في المال و العمل؟
و المركوز في أذهان العقلاء في مثل المضاربة التزام المالك بجعل رأس المال تحت اختيار العامل و التزام العامل بالعمل فيه و التزامهما معا بتسهيم الربح على ما توافقا عليه، نظير ما في المزارعة و المساقاة. فلو لم يثبت إجماع في البين كان مقتضى العمومات لزوم المضاربة و الشركة أيضا، و كذا الهبة.
و على فرض كون عقد جائزا بالذات
فإدراجه تحت عموم قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و التمسّك به لبعض الخصوصيّات مشكل بعد ما مرّ من اعتبار الشدّ و اللزوم في مفهوم
______________________________
(1) مبانى العروة 3/ 39.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 52
..........
______________________________
العقد. و لعلّ إطلاق العقد عليه مجاز لشباهته بالعقود صورة.
و أمّا ما مرّ نقله في كلام النراقي من بعض من يفسّر الإيفاء باعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز، أو حمله على الرخصة و نفي الحظر فمخالفان للظاهر جدّا. و قال الشيخ في ردّ الاحتمال الأوّل: «إنّ اللزوم و الجواز من الأحكام الشرعيّة للعقد و ليسا من مقتضيات العقد في نفسه مع قطع النظر عن حكم الشارع.» «1» هذا.
و لكن يمكن أن يقال من رأس في العقود و الإيقاعات و جميع المعاملات و المبادلات و الأمور العادية المتعارفة بين الأقوام و الأمم حسب احتياجاتهم في ظروف معيشتهم المتفاوتة حسب تفاوت الشروط و الإمكانات المتطوّرة حسب تكامل العقل و الإدراكات و الصنائع و التكنيكات: إنا لا نحتاج في تصحيحها و خصوصيّاتها إلى إحراز إمضاء الشارع لها، بل يكفي فيها عدم ثبوت ردعه عنها. إذ ليس غرض الشريعة السمحة السهلة و هدفها الأصلي هدم أساس التعيّش و الحياة و التدخّل في الأمور العاديّة التي ينتظم بها شئون الحياة، بل الغرض الأصلي لها هداية الإنسان إلى سعادته الأبدية و سوقه إلى الكمال. و أمّا أمور الحياة الدنيويّة فهي محوّلة غالبا إلى شعور المجتمع و عقولهم الكافية في إدراك صلاحها غالبا إلّا فيما إذا كان أمر مضرّا بحال الناس و لم يلتفت إليه عقول عقلائهم كالمعاملات الربويّة مثلا فيردع عنها، فتدبّر.
و أمّا الإشكال الرابع الّذي أورده المحقّق النراقي «ره» في المقام- و محصّله أنّ العقد فسّر
بالعهد و للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي ء منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه، و لو سلّم فإرادة هذا
______________________________
(1) المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري «ره»/ 215.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 53
..........
______________________________
المعنى في الآية غير معلوم-
فلنا أن نجيب عنه بأنّ الظاهر أنّ لفظ العهد لم يوضع لهذه الأمور المتكثّرة بالاشتراك اللفظي. بل وضع لمفهوم عامّ ينطبق على هذه الأمور بالاشتراك المعنوي، و لم يستعمل اللفظ في الموارد المختلفة إلّا في المفهوم العامّ، و الخصوصيّات تفهم بالقرائن. و إذا ذكر اللفظ في مورد بنحو الإطلاق بلا قرينة معيّنة كقوله: أَوْفُوا بالْعَهْد مثلا حمل على العموم.
و المترائى من مجموع كلمات أهل اللغة و موارد استعمال الكلمة باشتقاقاتها أنّها وضعت لمراقبة الشي ء بداعي حفظه أو للقرار المؤكّد الذي يُهتمّ بمراقبته و حفظه بحيث يحكم العقلاء بلزوم حفظه و حرمة نقضه و نقصه.
فالقرار المؤكّد بأنواعه ملزوم، و المراقبة و الحفظ من لوازمه، و اللفظ قد يستعمل في هذا و قد يستعمل في ذاك و الأوّل أكثر. و استعارة اللفظ الموضوع بإزاء الملزوم للازم و بالعكس كثيرة في الاستعمالات. و القرار يعتبر غالبا بين اثنين أو أكثر بأن يجعل الشي ء أو العمل في عهدة أحدهما للآخر أو في عهدة كلّ منهما للآخر. و إن أمكن أحيانا أن يعتبره الشخص بانفراده في سويداء قلبه أيضا فكأنّه وقع بينه و بين نفسه.
و بمقتضى تأكّد القرار اعتبارا و تشبّهه بالعقدة التي توجد خارجا بين الحبلين مثلا بداعي الشدّ و الإبرام يطلق عليه لفظ العقد أيضا بنحو الاستعارة بلحاظ لازم المعنى الحقيقي أعني اللزوم و عدم الانفكاك. و قد مرّ في
عبارة نهج البلاغة استعمال كلا اللفظين بإزاء معنى واحد. فلنذكر هنا بعض كلمات أهل اللغة في معنى العهد:
1- قال الراغب في المفردات: «العهد: حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال. و سمّي
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 54
..........
______________________________
الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا ... و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه ... و عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بالكتاب و بألسنة رسله، و تارة بما نلتزمه و ليس بلازم في أصل الشرع كالنذور ما يجري مجراها.» «1»
2- و في كتاب العين للخليل بن أحمد: «العهد: الوصيّة و التقدّم إلى صاحبك بشي ء و منه اشتق العهد الذي يكتب للولاة و يجمع على عهود. و قد عهد اللّه يعهد عهدا.
و العهد: الموثق و جمعه عهود ... و التعاهد: الاحتفاظ بالشي ء و إحداث العهد به و كذلك التعهّد و الاعتهاد ...» «2»
3- و في معجم مقاييس اللغة: «العين و الهاء و الدالّ، أصل هذا الباب عندنا دالّ على معنى واحد قد أومأ إليه الخليل. قال: أصله الاحتفاظ بالشي ء و إحداث العهد به. و الذي ذكره من الاحتفاظ هو المعنى الّذي يرجع إليه فروع الباب. فمن ذلك قولهم: عهد الرجل يَعهَدُ عهدا، و هو من الوصية. و إنّما سميّت بذلك لأنّ العهد ممّا ينبغي الاحتفاظ به.
و منه اشتقاق العهد الذي يكتب للولاء من الوصيّة، و جمعه عهود. و العهد: الموثق، و جمعه عهود ...» «3»
4- و في الصحاح: «العهد: الأمان و اليمين و الموثق و الذمّة و الحفاظ و الوصيّة. و قد عهدت إليه أي أوصيته، و منه اشتقّ العهد الذي يكتب للولاة.
و تقول: عليّ عهد اللّه ...
______________________________
(1) المفردات/ 363.
(2) العين 1/ 102.
(3) مقاييس اللغة 4/ 167.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 55
..........
______________________________
و التعهّد: التحفّظ بالشي ء و تجديد العهد به.» «1»
5- و في نهاية ابن الأثير: «و قد تكرّر ذكر العهد في الحديث و يكون بمعنى اليمين و الأمان و الذمّة و الحفاظ و رعاية الحرمة و الوصيّة، و لا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني.» «2» و راجع القاموس و أقرب الموارد أيضا. «3»
أقول: الظاهر من عبارة النهاية تعدّد المعنى بنحو الاشتراك اللفظي، و لكن المترائى من أكثر الكتب رجوع الجميع إلى معنى واحد. و هل هذا المعنى الواحد هو الاحتفاظ المستمرّ ثم استعمل فيما من شأنه و حقّه أن يحتفظ فاستعير اللفظ الموضوع بإزاء اللازم للملزومات، أو بالعكس و أنّ اللفظ وضع للقرار المجعول مؤكّدا بداعي الاحتفاظ و الاستمرار ثمّ استعير لنفس الاحتفاظ؟ و جهان.
و كيف كان فالمستعمل فيه غالبا القرار الاعتباري المؤكّد الذي يكون عند العقلاء موضوعا للّزوم و وجوب الاحتفاظ. و يشمل هذا المفهوم الوصيّة و الأمان و الذمّة و الأمر و العهد المصطلح فقها و النذر و اليمين، و لكن أظهر مصاديقه عند الإطلاق القرار الواقع بين اثنين، و يعبّر عنه بالفارسية: «پيمان»، و يدخل في ذلك جميع العقود المصطلحة، فليس اللفظ مجملا مردّدا بين المعاني المختلفة بحيث لا يظهر المقصود منه.
فهل الآيات الكثيرة النازلة في شأن العهد كقوله- تعالى-: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ
______________________________
(1) صحاح اللغة 2/ 515.
(2) نهاية ابن الأثير 3/ 325.
(3) القاموس المحيط 1/ 331؛ و أقرب الموارد 2/ 842.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 56
..........
______________________________
الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» و قوله: وَ الْمُوفُونَ بعَهْدهمْ إذٰا عٰاهَدُوا
«2» و قوله: وَ الَّذينَ هُمْ لأَمٰانٰاتهمْ وَ عَهْدهمْ رٰاعُونَ* «3» و قوله: بَلىٰ مَنْ أَوْفىٰ بعَهْده وَ اتَّقىٰ فَإنَّ اللّٰهَ يُحبُّ الْمُتَّقينَ «4» و قوله: فَأَتمُّوا إلَيْهمْ عَهْدَهُمْ إلىٰ مُدَّتهمْ «5» و قوله: الَّذينَ يُوفُونَ بعَهْد اللّٰه وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْميثٰاقَ «6» و قوله: وَ أَوْفُوا بعَهْد اللّٰه إذٰا عٰاهَدْتُمْ «7» إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، نزلت للقلقة الألسنة بها إلى يوم القيام من دون أن يفهم المقصود منها، أو أنّها نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور و تهديهم للتي هي أقوم؟ و هكذا قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود «8» المفسّر في أخبار الفريقين بالعهود.
و الخطاب في الآيات القرآنية متوجّهة إلى الناس، و ألفاظها تحمل على المفاهيم العرفيّة: فكلّ ما يراه العرف تعهّدا و التزاما يشمله المطلقات. و من أوضح مصاديق العهود: العقود المصطلحة المنعقدة بين اثنين.
و بما ذكرنا يظهر إمكان التمسّك بآيات العهد و رواياته أيضا على صحة العقود
______________________________
(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.
(2) سورة البقرة (2)، الآية 177.
(3) سورة المؤمنون (23)، الآية 8؛ و سورة المعارج (70)، الآية 32.
(4) سورة آل عمران (3)، الآية 76.
(5) سورة التوبة (9)، الآية 4.
(6) سورة الرعد (13)، الآية 20.
(7) سورة النحل (16)، الآية 91.
(8) سورة المائدة (5)، الآية 1/
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 57
..........
______________________________
و لزومها. و عدم معهودية تمسّك الفقهاء بها لا يدلّ على عدم الدلالة، فكم ترك الأوّلون للآخرين. و القرآن بحر واسع موّاج عميق يسبح فيها أفكار العلماء على اختلافهم إلى يوم القيام.
فإن قلت: إنّا نعلم من مذاق الشرع و ممّا ارتكز في أذهان المتشرعة عدم وجود إطلاق في أدلّة العناوين الثانويّة الطارئة من قبيل النذور
و العهود و الأيمان و الشروط و الوعود بحيث تشمل بإطلاقها الأمور المحرّمة أيضا حتّى نحتاج في إخراجها إلى أدلّة خاصّة، بل أدلّتها بالذات قاصرة عن شمول المحرّمات و تكون ناظرة إلى الأمور المشروعة بالذات.
فهل ترى مثلا: أنّ قوله «ص»: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد» «1» له إطلاق يشمل الوعود المحرّمة أيضا؟! أو أنّه من أوّل الأمر ينصرف إلى خصوص العدات المشروعة بالذات؟
لا مجال للاحتمال الأوّل. و لأجل ذلك لم يتمسّك أحد من الفقهاء بصحة العقود المشكوكة لزومها بآيات العهد و الوعد و رواياتها. إذ بعد انصرافها إلى الأمور المشروعة بالذات يكون التمسّك بها لصحّة الأمر المشكوك فيه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه.
قلت: إن كان الشكّ في مشروعيّة نفس العقد أو العهد مثلا بعد إحراز شرعيّة المتعلّق ذاتا فنقول: إنّ الموضوع في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود مثلا يحمل على المفهوم العرفي و اللام للاستغراق، و على هذا فبنفس هذا الدليل يثبت شرعية كلّ ما سمّي عقدا إلّا ما خرج بالدليل.
______________________________
(1) الكافى 2/ 364، كتاب الإيمان و الكفر، باب خلف الوعد، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 58
..........
______________________________
و إن كان الشكّ في شرعيّة المتعلّق ذاتا مع قطع النظر عن تعلّق العقد به فنقول: نحن نسلّم انصراف الدليل عمّا إذا كان المتعلّق محرّما شرعا للعلم بأنّ المولى لا يريد هدم أساس تشريعاته بتنفيذ هذه العناوين الطارئة.
و لكن أوّلا: نفرض الكلام في المتعلقات المشروعة ذاتا و لا نريد تحليل المحرّمات الشرعيّة بهذه العناوين.
و ثانيا: أنّ كلّ فرد من المتعلّقات شكّ في حرمته ذاتا يتمسّك لنفي حرمته بأدلّة الحلّ فيرتفع المانع عن إجراء حكم العنوان العامّ عليه.
و ثالثا: أنّ المخصّص
في المقام لبّي يقتصر فيه على صورة العلم بحرمة المتعلّق.
و رابعا: أنّه يمكن أن يقال: إنّ تعيين مصاديق المخصّص في المقام لمّا كان من وظائف الشارع لأنّه الحاكم بحرمة الشي ء و عدمها فيجوز في الفرد المشتبه التمسّك بالعامّ و يحرز بذلك عدم حرمته، إذ الحجة في ناحية العامّ تامّ من قبل الشارع و لم تتمّ من قبله في ناحية المخصّص إلّا بالنسبة إلى الأفراد المعلومة. و بالجملة يفترق هذا المقام عن سائر موارد الشبهة المصداقيّة للمخصّص حيث إنّ رفع الشبهة في المقام من وظائف الشارع.
و في الحقيقة كلّ محرّم مخصّص مستقلّ، فيدور الأمر بين قلّة التخصيص و كثرته، فتأمّل هذا.
و يظهر من الأستاذ الإمام في الخيارات ما محصّله: «أنّ بملاحظة تفسير العقود في الآية بالعهود تخرج العقود المصطلحة عنها غالبا، ضرورة أنّ البيع و الإجارة و نحوهما ليس فيها معنى العهدة و العهد و التعهّد لا مطابقة و هو واضح، و لا التزاما لما تقدّم من أنّ الفعل الاختياري لا يعقل أن يكون من المداليل الالتزاميّة. مضافا إلى وضوح أنّ البيع ليس إلّا
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 59
..........
______________________________
تبادل مال بمال. نعم في عقد الضمان و الكفالة التعهّد و الالتزام ثابت فيدخلان في عنوان العهود.
إلّا أنّ الأصحاب تمسّكوا بالآية لنفوذ العقود الاصطلاحيّة و لزومها. و التعبير بعقدة النكاح في الآيتين من القرآن أيضا شاهد لدخول مثل عقد النكاح في العقود، و الاعتبار فيه و في غيره سواء ...» «1»
أقول: البيع و الإجارة و أمثالهما و إن لم تتضمّن لمفهوم التعهّد و الالتزام مطابقة و بالحمل الأوّلي، لكن اعتبارها عند العقلاء و اعتمادهم عليها يكون بلحاظ الالتزام و التعهّد أعني تعهّد البائع مثلا بمفاد
إيجابه و تعهّد المشتري بمفاد قبوله. فالتعهّد متحقّق في نفسهما مع الإنشاء الجدّي الصادر عنهما و ملازم معه، فيدلّ عليه دلالة أحد المتلازمين على الآخر، نظير دلالة المعلول على وجود علّته. و ليست الدلالة منحصرة في الدلالة اللفظية الوضعيّة المنقسمة إلى المطابقة و التضمن و الالتزام. و تسمية العقود المصطلحة بالعقد و العقدة لعلّها من جهة ربط أحد الالتزامين بالآخر اعتبارا فيوجد فيها عهدتان و عقدة بينهما، و بالجملة فيوجد فيها العهدة و العقدة معا. بل يمكن إطلاق العقد و العقدة على كلّ من التعهّدين أيضا بلحاظ شدّه و لزومه، و إن كان المصطلح إطلاقهما على ربط التعهّدين، فتأمّل.
بقي الكلام على الإشكال الخامس الذي أورده في العوائد على الاستدلال بآية العقود. و محصّله أنّ لفظ العقد في الآية استعمل مجازا، و المجازات ممّا تتّسع دائرتها.
و أجاب عنه الأستاذ الإمام في بيعه «بمنع اتّساع دائرة الكلام مع المجازية لأن للمجازات
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 4/ 14 و 15.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 60
..........
______________________________
بواسطة القرائن ظهورات عرفيّة عقلائية و هي حجّة رافعة للاحتمالات المخالفة.» «1»
و بعبارة أخرى: المكالمات و المخاطبات تقع للإفهام، فلا محالة من يستعمل المجازات و الاستعارات ينصب قرينة لفظية أو يعتمد على قرائن حاليّة ينسبق بسببها اللفظ إلى المعنى المقصود و يرتفع بها الإجمال، فتدبّر.
و قد طال البحث عن الآية الثالثة في المقام و مع ذلك لم نؤدّ حقّه فنحيل ذلك إلى وقت و مجال آخر.
______________________________
(1) نفس المصدر 1/ 73.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 61
______________________________
قوله- تعالى- في سورة البقرة: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»
فربّما يستدلّ بها لصحّة كلّ ما يصدق عليه البيع بل للزومه أيضا إلّا فيما دلّ الدليل على خلاف ذلك.
أقول: بيان ماهية البيع و شرح الآية بالتفصيل يأتي في أوّل البيع و في أوّل الخيارات إن بقيت الحياة و ساعد التوفيق. و نقول هنا إجمالا: إنّ البيع مبادلة عين بمال، أو السبب المنشأ به ذلك من القول أو الفعل، على الخلاف في إرادة السبب أو المسبّب.
و لا يخفى: أنّ ما يتحقّق عند إنشاء البيع أمور:
الأوّل: العقد المركّب من الإيجاب و القبول، أو التعاطي خارجا بقصد تحقّق المبادلة، و يقال له البيع السببي.
الثاني: مضمون ذلك أعني تبادل الإضافتين المتحقّق باعتبار الطرفين و إنشائهما، و يقال له البيع المسبّبي. و يعتبر أمرا باقيا في عالم الاعتبار ما لم يتعقّبه الفسخ من ذي الخيار أو الإقالة.
______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 62
..........
______________________________
الثالث: نتيجة المبادلة المذكورة أعني إضافة الملكيّة الحادثة بين المشتري و المبيع و بين البائع و الثمن.
الرابع: حصول الربح أحيانا للبائع مثلا بسبب هذه المعاملة.
الخامس: تصرّف كلّ من المتعاملين فيما انتقل إليه أو في الربح الحاصل بلحاظ الانتقال إليه و صيرورته مالكا لا مطلق التصرّف.
إذا عرفت هذا فنقول: هل المحكوم بالحليّة في الآية الشريفة نفس العقد السببي أو المسببي، أو الملكيّة الحادثة التي هي نتيجة المبادلة، أو الربح الحاصل أحيانا، أو التصرّفات المترتّبة على الملكيّة الحادثة؟ فيه احتمالات. و كذا الكلام في قوله: وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.
قال الأستاذ في بيعه ما محصّله: «الظاهر من صدر الآية و ذيلها أي قوله: فَلَهُ مٰا سَلَفَ و قوله: يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا هو التعرّض للربا الحاصل بالمعاملة لا نفس المعاملة الربويّة. فحينئذ يحتمل في قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا أن يكون مرادهم بالمثليّة مماثلة الربح الحاصل بالبيع للزيادة الحاصلة بالمعاملة
الربويّة، أو يكون مرادهم مماثلة البيع الذي فيه الربح للمعاملة الربويّة بنفسها.
فعلى الاحتمال الأوّل معنى قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا: أحلّ اللّه الربح الحاصل بالبيع و حرّم الزيادة الحاصلة بالمعاملة الربويّة. و مقتضى ذلك صحّة البيع قهرا، ضرورة أن تحليل نتيجة المعاملة ليس تحليلا مالكيا لأنّ عمل المتعاملين ليس إلّا تمليك الأعيان. و أمّا حلّية التصرّف في جميع المال أو في الربح فهي من أحكام الملكيّة المنشأة و تترتّب عليها قهرا، و ليست بإنشاء المالك لها. فتحليل اللّه- تعالى- للربح في البيع يدلّ على تنفيذه لمالكيّة المشتري للمبيع مثلا و ليس تحليلا تعبديّا مستقلا. و تنفيذ مالكيّة
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 63
..........
______________________________
المشتري تنفيذ للسبب المحصّل لها. و بهذا البيان يمكن أن يستدل بالآية على بطلان المعاملة الربويّة أيضا.
و على الاحتمال الثاني يكون قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا بصدد دفع المماثلة بين نفس المعاملتين. و لا شبهة أيضا في دلالته على صحّة البيع سواء أريد به السبب أو المسبّب، بتقريب أنّ قوله هذا لردع توهّم المماثلة، و كانت دعواهم المماثلة لتصحيح أكل الربا فردعهم بأنّهما في ترتّب هذه النتيجة ليسا مثلين، حيث إنّ اللّه- تعالى- أحلّ البيع فتكون نتيجته الحاصلة حلالا، و حرّم الربا فنتيجته حرام. و لازم ذلك صحّة هذا و فساد ذاك.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 63
ثمّ إنّ المراد بالحليّة و الحرمة التكليفيّتان على الاحتمال الأول، و تحتمل التكليفيّة على الاحتمال الثاني و إن كان الأظهر هو الوضعية لأنّ الحلّ و الحرمة إذا نسبا إلى
الأسباب التي يتوصّل بها إلى شي ء آخر، بل إلى مسببات يتوصّل بها إلى النتائج يكونان ظاهرين في الحكم الوضعي لا بمعنى استعمالهما في الحكم الوضعي أو التكليفي كما يتخيّل، بل بمعنى استعمالهما في معناهما اللغوي أي المنع و عدمه و إنّما يفهم التكليف و الوضع بمناسبات الحكم و الموضوع ...» «1»
أقول: إرجاع الإحلال و التحريم في الآية الشريفة إلى التصرّفات في العين أو في الربح الحاصل كما صنعه أوّلا يوهم حملهما على التكليفيّتين بداعي الكناية عن الصحّة و الفساد. و لكن هذا الطريق تبعيد للمسافة بلا وجه و مخالف لظاهر الآية أيضا، إذ ليس المتعلّق لقوله: أحلّ و حرّم التصرّفات أو نتيجة المعاملتين، بل نفس البيع و الربا،
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 55- 58.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 64
..........
______________________________
و الظاهر منهما نفس المعاملتين. و التقدير خلاف الأصل. فالظاهر- كما التفت إليه هو أخيرا- أنّ المقصود من الحلّ و الحرمة هنا الوضعيّتان منهما أعني الصحّة و الفساد.
و استعمال اللفظين في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة الفقهاء و المتشرعة. و أمّا في الكتاب و السنة فكانا يستعملان في المعنى الجامع للتكليف و الوضع و يتعين كلّ منهما بحسب الموضوع و القرائن. فكان يراد بحلّية الشي ء: إطلاقه و عدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع، و بحرمة الشي ء: المنع و المحدوديّة من ناحيته. و إطلاق كلّ شي ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يراد و يترقب من الشي ء. فالمقصود من إحلال البيع: صحّته و نفوذه شرعا، و من تحريم الربا: فساده و عدم نفوذه.
و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله:
وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ
ذٰلكُمْ. «1» إذ الظاهر منهما إرادة فساد النكاح و صحّته لا حرمة الوطي و حلّيته كما قيل.
و قد ترى استعمال اللفظين في الوضع في روايات أجزاء الصلاة و شرائطها كقوله «ع» في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»
و قوله «ع» في معتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن المريض هل تمسك المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال: «لا إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها. و ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.» «3»
______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.
(2) الوسائل 3/ 267، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.
(3) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 65
..........
______________________________
و في رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة: أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة الأيّام إلّا إيماء و هو على حاله؟ فقال: «لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.» «1»
و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الوجوب و الفرض و المنع و الرخصة و نحوها، بل مطلق الأمر و النهي، فتعمّ التكليف و الوضع و يتعيّن كلّ منهما بمناسبة الحكم و الموضوع و القرائن الحاليّة و المقاليّة. و يأتي تفصيل لذلك في شرح رواية تحف العقول الآتية و بعض المباحث الأخر.
و بما ذكرنا يظهر المناقشة في كلام الشيخ الأعظم «ره» في أوّل الخيارات، فإنّه بعد ما حكم باستفادة اللزوم من قوله-
تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود و أنّ المستفاد منه ليس إلّا حكما تكليفيّا يستلزم حكما وضعيّا قال: «و من ذلك يظهر الوجه في دلالة قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ على اللزوم فإنّ حليّة البيع التي لا يراد منها إلّا حلّية جميع التصرّفات المترتبة عليه التي منها ما يقع بعد فسخ أحد المتبايعين بغير رضاء الآخر مستلزمة لعدم تأثير ذلك الفسخ و كونه لغوا غير مؤثّر.» «2»
أقول: قد مرّ أنّ الإحلال في الآية لم يتعلّق بالتصرّفات بل بنفس عنوان البيع فأريد منه الوضع أعني صحّته و ترتيب الآثار عليه. و يشكل دلالته على اللزوم، و تقريب الشيخ لذلك قابل للمناقشة. و الشيخ قد تكلّف فيما ذكره جريا على مبناه من عدم صلاحيّة
______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.
(2) المكاسب للشيخ/ 215، القول في الخيار و أقسامه و أحكامه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 66
..........
______________________________
الأحكام الوضعيّة للجعل و التشريع و أنّها تنتزع دائما من الأحكام التكليفيّة. و نحن نمنع هذا المبنى، و الجعل و التشريع خفيف المؤونة.
و كيف كان فالآية تدلّ على صحّة البيع إجمالا إمّا بالمباشرة كما اخترناه أو بنحو الكناية كما في كلام الشيخ و غيره.
و لكن لا يخفى أنّ ثبوت الإطلاق لها بنحو يتمسّك بها في موارد الشكّ يتوقّف على كونها في مقام بيان شرعيّة البيع بنحو الإطلاق إمّا بنحو الإنشاء مطلقا أو بنحو الإخبار عن التشريع المطلق، و كلاهما قابلان للمنع.
قال الأستاذ الإمام «ره» في المقام ما محصّله: «ثمّ إن في إطلاق الآية إشكالا:
أمّا أوّلا: فلأنّ الظاهر أنّها ليست في مقام تشريع حلّية البيع و حرمة الربا، بل بصدد نفي التسوية بينهما في قبال من قال:
إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا فتكون في مقام بيان حكم آخر.
و أمّا ثانيا: فلأنّ الظاهر منها كونها إخبارا عن حكم شرعي سابق لا إنشاء فعليا للحلّ و الحرمة بقرينة قوله: الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ منَ الْمَسِّ ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا. «1» فلا بدّ و أن يكون حكم البيع و الربا مجعولا سابقا حتى يتوجّه التعيير و التوعيد على القائل بالتسوية.
فظاهر الآية: أنّ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كذا لأجل قولهم خلاف قوله- تعالى- حيث قالوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا مع أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا. فقولهم
______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 67
..........
______________________________
هذا صار موجبا للعذاب و العقاب الأخروي فلا تكون الآية بصدد بيان الحلّ و الحرمة، بل بصدد الإخبار عن حلّية و حرمة سابقتين فلا إطلاق لها لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقا بنحو خاصّ فلا يظهر حال المجعول هل كان مطلقا أو مقيّدا.
و يمكن الذبّ عنهما بأنّ قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إخبار عن قولهم فلا بدّ و أن يكون قولهم: الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا من غير تقييد صونا لكلامه- تعالى- عن الكذب. فحينئذ يكون إخبار اللّه- تعالى- بأنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا موافقا لقولهم موضوعا، فيكون إخبارا بتحليله مطلق البيع و تحريمه مطلق الربا، تأمّل.» «1»
ثم ذكر في الحاشية وجها للتأمّل الأخير فقال: «وجهه أنّ قولهم: «إن البيع مثل الربا» أيضا في مقام بيان التسوية فلا إطلاق له، مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر من الآية صدرا و ذيلا أنّها بصدد بيان تحريم الربا لا تحليل البيع لأنّ تحليله لم يكن محطّ كلامهم
فلا إطلاق فيه من هذه الجهة.» «2»
أقول: دلالة الآية على صحّة البيع إجمالا ممّا لا إشكال فيها، و لكن الإنصاف ورود الإشكالات المذكورة، فلا إطلاق لها حتى يتمسّك به لصحّة البيوع المشكوكة و شروطها و خصوصيّاتها شرعا. إلّا أن يقال بما أشرنا إليه سابقا من عدم الاحتياج في صحّة المعاملات و خصوصيّاتها إلى جعل الشارع و بيانه و لو إمضاء و أنّه يكفي فيها بناء العقلاء و سيرتهم في جميع الأقوام و الأمم ما لم يصل ردع من الشارع نظير ما وصل منه في الربا و القمار و بيع الغرر، فتدبّر.
______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 59 و 61.
(2) نفس المصدر 1/ 61.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 68
______________________________
ثمّ لا يخفى أنّ حمل الأستاذ «ره» القيام المذكور في الآية على العقوبة الأخرويّة و أنّ أكلة الربا يقومون في القيامة قيام من صرعه الشيطان و مسّه أمر ذكره أكثر المفسرين أخذا من بعض الأخبار الواردة.
و لكن من المحتمل أن يكون المقصود من القيام في الآية قيامهم في مسير الحياة و التفكّر في النظام الاقتصادي و كونه على سبيل الانحراف و التعدّي عن الطريق المعتدل، حيث لم يتوجّهوا إلى أنّ الأثمان و النقود وسائل و آلات للمبادلات الاقتصاديّة النافعة و ليست بنفسها أهدافا. و الأصل في المبادلات جلب الأمتعة التي يحتاج إليها المجتمعات من البلاد النائية و حفظها و توزيعها على الوجه الصحيح، و إنّما جاز الاسترباح فيها عوضا عمّا يتحمّله التجار من المشقّات و تشويقا لهم في الإقدام على ذلك، و هو المراد بقوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. فترك هؤلاء التوليدات و التجارات النافعة و صرفوا همهم في تكثير النقود و الأثمان و جعلوها
مقصودة بالذات و قاسوا عملهم الانحرافي بالبيوع و التجارات النافعة، فهذا فكر انحرافي خارج عن الاعتدال يقوم به أكلة الربا في مسير الحياة و قد ولهوا في عملهم هذا و أولعوا به بحيث يشبه حركاتهم و أعمالهم في هذه النشأة حركات المصروعين و السكارى. نعم يمكن أن يكون قيامهم في الآخرة أيضا كذلك، إذ الحشر في القيامة يقع على وفق الملكات التي حصّلها الأفراد في هذه النشأة:
و لتحقيق هذا المعنى مقام آخر. هذا.
و إلى هنا تعرضنا لأربع آيات شريفة من الكتاب العزيز بعنوان الضابطة للمكاسب.
فلنشرع في شرح الروايات التي تعرّض لها الشيخ الأعظم في المقام و هي أيضا أربع روايات:
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 69
فنقول- مستعينا باللّه تعالى- (1): روى في الوسائل و الحدائق عن الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن مولانا الصادق- صلوات اللّه و سلامه عليه- حيث سئل عن معايش العباد فقال:
______________________________
(1) ذكر المصنّف بعنوان الضابطة أربع روايات: رواية تحف العقول، و عبارة فقه الرضا، و رواية عن دعائم الإسلام، و رواية نبويّة عامّية:
فالرواية الأولى: ما في تحف العقول عن الصادق «ع»، و هي رواية طويلة جامعة رواها المصنّف عن الوسائل و الحدائق. و لكن المتن الموجود فيهما و كذا في المكاسب يختلف جدّا عمّا في تحف العقول بحيث يتغيّر به المعنى في بعض الموارد. و كأنّهما كانا بصدد تلخيص الرواية و تهذيبها، و لعلّه أخذ أحدهما من الآخر.
نعم في البحار و كذا في جامع أحاديث الشيعة روياها بتمامها، فراجع. «1» و الأولى نقلها من نفس المصدر. و من أراد ما في الكتابين فليراجع إليهما.
______________________________
(1) الوسائل 12/ 54، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و 13/ 242، الباب 1 من كتاب الإجارة، الحديث 1؛ و الحدائق 18/ 67، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة؛ و بحار الأنوار 100/ 44
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 70
جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات، و يكون فيها حلال من جهة و حرام من جهة.
فأوّل هذه الجهات الأربع الولاية ثمّ التّجارة ثمّ الصّناعات ثمّ الإجارات و الفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدّخول في جهات الحلال و العمل بذلك و اجتناب جهات الحرام منها.
______________________________
ففي تحف العقول المطبوع أخيرا بتصدّي جماعة المدرّسين «1» في عداد ما روى عن الصادق «ع» قال: «سأله
سائل فقال: كم جهات معايش العباد [1] التي فيها الاكتساب [أ] و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟ فقال- عليه السلام-: جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات [2] فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب [3] أربع جهات من المعاملات.
______________________________
[1] الظاهر أنّ المراد بمعايش العباد ما يقوم به حياتهم و تعيّشهم، و يطلق على الأسباب القريبة له كالمأكول و المشروب و الملبوس و نحوها، و على البعيدة منها أعني أسباب تحصيل القريبة منها من الصناعات و العقود و نحوها. و هي المقصودة في الحديث.
[2] الظاهر أنّ المقصود بالمعاملة في الرواية معناها الأعمّ، و لذا عدّ من مصاديقها الصناعات و الحرف. فأريد بها مطلق الأعمال المتعارفة في قبال الأعمال العبادية، فتأمّل.
[3] جمع المكسب مصدر ميمى بمعنى الكسب. و يحتمل بدوا أن يكون اسم مكان فيراد به ما يقع عليه الكسب من العوض و المعوّض، و لكن الظاهر عدم جريان هذا الاحتمال في عبارة الحديث.
______________________________
- (ط. إيران 103/ 44)، كتاب العقود و الإيقاعات، الباب 4 من أبواب المكاسب؛ و جامع أحاديث الشيعة 17/ 145، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.
(1) تحف العقول/ 331.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 71
فاحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الّذين أمر اللّه بولايتهم على النّاس. و الجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.
______________________________
فقال: أ كل هؤلاء الأربعة الأجناس حلال، أو كلّها حرام، أو بعضها حلال و بعضها حرام؟ فقال «ع»: قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة و حرام من جهة.
و هذه الأجناس مسمّيات معروفات الجهات.
فأوّل هذه الجهات الأربعة: الولاية و تولية بعضهم على بعض. فالأوّل ولاية الولاة و ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية
على من هو وال عليه. ثم التجارة في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض. ثم الصناعات في جميع صنوفها، ثم الإجارات في كلّ ما يحتاج إليه من الإجارات.
و كلّ هذه الصنوف تكون حلالا من جهة و حراما من جهة. و الفرض من اللّه- تعالى- على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها و العمل بذلك الحلال و اجتناب جهات الحرام منها.
تفسير معنى الولايات
و هي جهتان: فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم و توليتهم على الناس، و ولاية ولاته و إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.
و الجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور و ولاة ولاته إلى أدناهم بابا من الأبواب التي هو وال عليه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 72
فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل و ولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة و نقيصة. فالولاية له و العمل معه و معونته و تقويته حلال محلّل.
______________________________
فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه [1]. و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره إلى غيره.
فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلّل و حلال الكسب معهم. و ذلك أنّ في ولاية والي العدل و ولاته إحياء حقّ و كلّ عدل، و إماتة كلّ ظلم و جور و فساد، فلذلك كان السّاعي في تقوية
سلطانه و المعين له على ولايته ساعيا إلى طاعة اللّه مقوّيا لدينه.
______________________________
[1] الظاهر من الحديث أنّ الوالي يجب أن يكون أساس ولايته و حكمه ما أمره اللّه به من الأحكام، و أنّ الولاة من قبله يكون ولايتهم في إطار ما أنزل اللّه و في جهته، فليس لهم الزيادة فيما أنزل اللّه و لا النقص منه و لا التحريف لقول اللّه أو لقول الوالي المبتني على ما أمره اللّه به.
و قد قال اللّه- تعالى- مخاطبا لنبيه الأكرم «ص»: وَ أَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «1».
و أمّا على ما في المكاسب من تلخيص العبارة تبعا للوسائل و الحدائق فيفهم منه أنّ الولاة من قبل الوالي الأعظم ليس لهم الزيادة و النقصان فيما أمر به الوالي الأعظم من دون إشارة إلى كونه على أساس ما أمر اللّه به. و لا يخفى أنّ بين الأمرين بونا بعيدا.
______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 49.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 73
و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته فالعمل لهم و الكسب لهم بجهة الولاية معهم حرام محرّم معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر و ذلك أنّ في ولاية والي الجائر دروس [دوس] (1) الحقّ كلّه و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظّلم و الجور و الفساد و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه فلذلك حرم العمل مَعَهم و معُونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضّرورة نظير الضّرورة إلى الدّم و الميتة. (2)
______________________________
و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته:
الرئيس منهم و اتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.
و العمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام و محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير. لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر.
و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه، و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظلم و الجور و الفساد، و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه. فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.
(1) من داس الشي ء أي وطئه برجله، فيكون كناية عن إذلال الحقّ. و في البحار و الوسائل: «دروس الحقّ».
(2) الظاهر أنّه يراد بالاستثناء الجواز و الحلّية حتى بالنسبة إلى الوضع أيضا، فيتملّك الأجرة المأخوذة في قبالها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 74
و أمّا تفسير التّجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التّجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له و كذلك المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصّلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و امساكه و استعماله و هبته و عاريته.
______________________________
و أمّا تفسير التجارات
في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات
التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له [1] و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح [2] الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم، و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.
______________________________
[1] الظاهر أنّه متعلّق بالتفسير لتضمّنه معنى التمييز.
[2] الظاهر أنّ المراد بوجه الصلاح في الحديث ما لا فساد فيه سواء كان واجبا مأمورا به أو كان مباحا مرخّصا فيه و إن لم يصل إلى حدّ الضرورة و الوجوب. و التعبير بالمأمور به من جهة وجوبه الكفائي عند الضرورة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 75
و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشّراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالرّبا أو بيع الميتة
______________________________
و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع
______________________________
و في حاشية الوسائل من المصنف قال: «قد تضمّن
الحديث حصر المباح في المأمور به و المنافع التي لا بدّ منها، و حصر الحرام في المنهي عنه و ما فيه الفساد. فلا دلالة له على أصالة الإباحة و لا أصالة التحريم، فتبقى بقية المنافع و الأفراد التي لا يعلم دخولها في أحد الطرفين و يحتاج إلى نصّ آخر، فإن لم يكن فالاحتياط.» «1»
[1] يظهر منه أنّ الشي ء إن كان مشتملا على وجه من وجوه الفساد لم يجز المعاملة عليه و إن كان واجدا لوجوه الصلاح أيضا. و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ الواجد للمنافع المحلّلة المقصودة عند العقلاء يكون مالا عرفا و شرعا فتصحّ المعاملة عليه بلحاظ المنافع المحلّلة.
اللّهم إلّا أن يكون المقصود في الحديث صورة المعاملة عليه بقصد منافعه المحرّمة فيمكن القول ببطلانها حينئذ، و يأتي التفصيل لذلك في مسألة بيع العنب بقصد صنعه خمرا.
و يحتمل أن يكون «أو شي ء» مجرورا عطفا على قوله «عاريته»، فيراد به معاملة يوجد فيها الفساد، فيكون قوله: «نظير البيع بالربا» مثالا له.
[2] يظهر منه أنّ المقصود ممّا فيه الفساد هو الأعمّ ممّا كان الفساد في المعاملة كالبيع بالربا أو في نفس المبيع كبيع الميتة و الدّم و نحوهما.
______________________________
(1) الوسائل 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 76
أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم السّباع من صنوف سباع الوحش أو الطّير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النّجس فهذا كلّه حرام محرّم لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التّقلب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام كذلك كلّ مبيع ملهوّ به
______________________________
للميتة أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم
السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس. فهذا كلّه حرام و محرّم.
لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. فجميع تقلّبه في ذلك حرام. و كذلك كلّ بيع ملهوّ به.
______________________________
[1] عطف جلود السباع على لحومها و عدّها ممّا يحرم بيعها مع أنّ الظاهر جواز لبسها مع التذكية في غير حال الصلاة فيجوز بيعها لذلك، إمّا أن يحمل على صورة عدم التذكية، أو على بيعها بقصد الصلاة فيها بناء على حرمة ذلك حينئذ، أو على ما إذا لم يتعارف لبسها بحيث صارت بلا منفعة معتدّ بها، أو على منع طهارتها بالصيد بمنع إطلاق لأدلّته و المفروض كونها من سباع الوحش فلا يمكن ذبحها.
هذا و لكن الظاهر جواز صيدها بالآلة الجماديّة لموثّقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «1» نعم يمكن منع جواز صيدها بالكلاب، فراجع الجواهر. «2»
[2] استعمل المصدر بمعنى المفعول، أو وقع في العبارة تصحيف كما لا يخفى.
______________________________
(1) الوسائل 16/ 368، الباب 34 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 4.
(2) الجواهر 36/ 54، كتاب الصيد و الذباحة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 77
و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه- عزّ و جلّ- أو يقوى به الكفر و الشّرك في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التّقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.
و أمّا تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات أن يوجر
______________________________
و كلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه، أو يقوّى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوّى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم. حرام بيعه و شراؤه و إمساكه [1] و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.
و أمّا تفسير الإجارات
فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه
______________________________
[1] يظهر من الرواية حرمة إمساك الأصنام و الصلبان في المتاحف و إن كان لها قيمة عند أهل الدنيا، بل يجب كسرها و إفناؤها كما صنع رسول اللّه «ص» بأصنام الكعبة، و موسى «ع» بالعجل الذي صنعه السّامريّ. فأمثال هذه الأمور لما كانت من جذور الفساد و الانحراف وجب إفناؤها، فتأمّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 78
نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع أو العمل بنفسه و ولده و مملوكه و أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته لأنّهم وكلاء الأجير من عنده ليس هم بولاة الوالي نظير الحمّال الّذي يحمل شيئا معلوما بشي ء معلوم فيجعل ذلك الشي ء الّذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته أو يوجر نفسه في عمل يعمل ذلك بنفسه أو بمملوكه
أو قرابته أو بأجير من قبله فهذه
______________________________
الحلال من جهات الإجارات: أن يوجر نفسه أو داره أو أرضه او شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه [1] و ولده و مملوكه أو أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته [2] أو ملكه أو وكيله في إجارته [3] لأنّهم وكلاء الأجير من عنده، ليس هم بولاة الوالي،
______________________________
[1] يحتمل أن يراد به الجعالة أو العمل بالإذن بدون عقد الإجارة أو الجعالة فيستحقّ به أجرة المثل.
[2] لعلّ المراد بالقرابة المذكورة بعد الولد أقرباؤه الصغار إذا كانوا تحت قيمومته الشرعيّة.
[3] يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: «أجيرا» أي لا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه ... أو وكيلا للأجير في أن يؤجره. و يمكن أن يراد به أجير الأجير الذي يعدّ وكيلا له في أعماله كائنا في إجارته بنحو الإطلاق فيوجره لذلك. و يشهد لذلك قوله بعد ذلك:
«لأنّهم وكلاء الأجير من عنده».
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 79
وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من النّاس ملكا أو سوقة أو كافرا أو مؤمنا فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.
فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظيران يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النّفس بغير حقّ أو عمل التّصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي ء من وجوه الفساد الّذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه
______________________________
نظير الحمّال الذي يحمل
شيئا بشي ء معلوم إلى موضع معلوم، فيحمل ذلك الشي ء الذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته. أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه أو بمملوكه أو قرابته أو بأجير من قبله.
فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة [1] أو كافرا أو مؤمنا، فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.
فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارات نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي ء من وجوه الفساد الذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات.
______________________________
[1] المراد بالسوقة: الرعيّة و من دون الملك، لأنّ الملك يسوقهم إلى ما شاء من أمره.
و يطلق على الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 80
و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شي ء منه أو له إلا لمنفعة من استأجرته كالّذي يستأجر له الأجير ليحمل الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره و ما أشبه ذلك- إلى أن قال:
______________________________
فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له [1] أو شي ء منه أو له إلّا لمنفعة من استأجرته [2] كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره، و ما أشبه ذلك.
و الفرق بين معنى الولاية
و الإجارة و إن كان كلاهما يعملان بأجر: أنّ معنى الولاية أن يلي الإنسان لوالي الولاة أو الولاة فيلي أمر غيره في التولية عليه و تسليطه و جواز أمره و نهيه و قيامه مقام الوليّ إلى الرئيس، أو مقام وكلائه في أمره و توكيده في معونته و تسديد ولايته و إن كان أدناهم ولاية فهو وال على من هو وال عليه يجري مجرى الولاة الكبار الذين يلون ولاية الناس في قتلهم من قتلوا و إظهار الجور و الفساد.
______________________________
[1] يمكن أن يراد بالأوّل إجارة نفسه في صنع الشي ء كصنع الخمر مثلا، و بالثاني إجارة نفسه لمقدّماته، أو بالعكس بأن يراد بالأوّل: الإيجار لمقدّمات العمل الواقعة في طريقه، و بالثاني الإيجار لنفس العمل. و يمكن أن يراد بالأوّل: الإتيان بالعمل مباشرة، و بالثاني الإتيان به و لو بالتسبيب.
و قوله: «أو شي ء منه أوله» يعني به في شي ء منه أو شي ء له، فيراد بذلك الاستيجار لإتيان الجزء من العمل أو مقدّماته في قبال كلّ العمل أو كلّ مقدّماته.
[2] الظاهر كونه غلطا، و الصحيح: «إلّا لمنفعة من استأجره» كما في الحدائق و البحار.
و قيل: إنّ المراد به: من طلبت منه كونك أجيرا له، و هذا معنى غريب لباب الاستفعال.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 81
و كلّ من آجر نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا يجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.
و أمّا تفسير الصّناعات فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من أصناف الصّناعات مثل الكتابة و الحساب و التّجارة و الصّياغة و البناء و الحياكة و السّراجة و القصارة و الخياطة و
صنعة صنوف التّصاوير ما لم
______________________________
و أمّا معنى الإجارة فعلى ما فسّرنا من إجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه من قبل أن يؤاجر الشي ء من غيره فهو يملك يمينه لأنّه لا «1» يلي أمر نفسه و أمر ما يملك قبل أن يؤاجره ممن هو آجره.
و الوالي لا يملك من أمور الناس شيئا إلّا بعد ما يلي أمورهم و يملك توليتهم. و كلّ من آجر نفسه أو آجر ما يملك نفسه أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا تجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.
و أمّا تفسير الصناعات
فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات مثل الكتابة و الحساب و التجارة (النجارة- ظ.) و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الخياطة، و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني، و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها
______________________________
(1)- الظاهر زيادة كلمة: «لا» كما لا يخفى و يظهر ممّا بعده.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 82
يكن مثل الرّوحاني و أنواع صنوف الآلات الّتي يحتاج إليها العباد منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم فحلال تعلّمه و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره.
و إن كانت تلك الصّناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و تكون معونة على الحقّ و الباطل فلا بأس بصناعته و تقلّبه نظير الكتابة الّتي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية و معونة لولاة الجور و كذلك السّكّين و السّيف و الرّمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلات الّتي تصرف إلى وجوه الصّلاح و جهات
الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصّلاح من جميع الخلائق و محرّم عليهم
______________________________
العباد التي منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم، فحلال فعله و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره، و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و يكون معونة على الحقّ و الباطل. فلا بأس بصناعته و تعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور، و كذلك السّكّين و السيف و الرمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف إلى جهات الصلاح و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و فيه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، و محرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ، فليس على العالم و المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم به و بقائهم. و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد و الحرام.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 83
تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ فليس على العالم (المعلّم خ. ل) و لا المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرّجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم و بقائهم و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف فيه (بها خ. ل) في جهات الفساد و الحرام. و ذلك
إنّما حرّم اللّه الصّناعة الّتي هي حرام كلّها الّتي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشّطرنج و كلّ ملهوّ به و الصّلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام (المحرّمة. ظ) و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصّلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجرة عليه و جميع التّقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن يكون صناعة قد تصرف إلى جهة المنافع (المباح خ. ل) و إن كان قد يتصرّف فيها
______________________________
و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا [1] و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه، و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن تكون صناعة قد تنصرف إلى جهات الصنائع (الصلاح- ظ.) و إن كان قد يتصرّف بها و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّه
______________________________
[1] يحتمل أن يراد بالأوّل كونه مقدمة للفساد و بالثاني ما يكون الفساد في نفسه، أو يراد بالأوّل جزء العلّة و بالثاني العلّة التامّة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 84
و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي فلعلّة ما فيه من الصّلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصّلاح
فهذا تفسير بيان وجوه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث (1).
______________________________
لما فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح. فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم. الحديث.»
(1) إذا وقفت على متن الحديث فلنبحث حوله في جهات:
الجهة الأولى: الظاهر- كما في حاشية العلامة الطباطبائي- «1»: أنّ وجوه معايش الخلق أزيد ممّا ذكر في الحديث، إذ منها الزراعات و العمارات و النتاجات و إجراء القنوات و إحياء الموات و كري الأنهار و غرس الأشجار و حيازة المباحات و مطلق الإباحات و الأخماس و الصدقات و حقوق الوكالة و الوصاية و النظارة و مال الجعالة و أمثال ذلك.
و لو فرض إدراج بعضها في الإجارات أو الصناعات بتكلّف فيبقى الإشكال في البقيّة.
فإن قلت: الغرض في الحديث ذكر خصوص المعاملات لا جميع طرق المعاش، و إنّما ذكرت الولايات بحيالها مع كونها من قبيل الإجارات اهتماما بشأنها و لذا ذكرت في أوّل الرواية.
______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة السيّد محمّد كاظم الطباطبائى/ 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 85
..........
______________________________
قلت: ذكر الصناعات في الحديث دليل على كون المراد بالمعاملات هنا المعنى الأعمّ لا خصوص العقود و الإيقاعات، فيراد بها مطلق الأعمال غير العباديّة، مضافا إلى أن قوله في آخر ما حكيناه من الحديث: «فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد ...»
أيضا يدلّ على كون المقصود ذكر جميع المعايش. اللّهم إلّا أن يقال بالنسبة إلى الصناعات إنّها بنفسها لا يستفاد منها غالبا إلّا بالمبادلة على المصنوعات فذكرها في الحديث من جهة وقوعها موضوعا للتجارات أو الإجارات، فتأمّل.
الجهة الثانية: في حاشية المحقّق الإيرواني «ره» ما ملخّصه: «أنّ الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة: فضابط الحلّ فيها أن يكون الشي ء فيه جهة من جهات الصلاح. و ضابط الحرمة أن يكون في الشي ء وجه من وجوه الفساد. ففي ذي الجهتين يقع التزاحم. فإمّا أن يرجّح ضابط الحلّ و يحكم فيه بالحلّ بما يستفاد من قسم الصناعات من تقديم
جهة الصلاح في ذات الجهتين منها، أو يحصل الإجمال بالتعارض فيرجع إلى عمومات أدلّة التجارة و أصالة الحلّ.» «1»
أقول: الظاهر من الرواية الحكم على الشي ء بلحاظ الأثر الغالب المترقّب منه عند العقلاء و المصرف المتعارف فيه. فإن كان الأثر المتعارف المترقّب منه من وجوه الصلاح و ممّا يتقوّم به المعاش حلّ بيعه و إجارته و سائر التقلّبات فيه لذلك. و إن كان الأثر المتعارف المترقب منه عند العقلاء من وجوه الفساد حرم بيعه و شراؤه لذلك.
و بالجملة فالمعيار الآثار و الفوائد المتعارفة المترقّبة من الأشياء. و المقصود في الحديث بيان حكم المعاملات على الأشياء بلحاظ هذه الآثار. نعم لو فرض للشي ء مضافا إلى
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 86
..........
______________________________
منفعة المحرّمة الشائعة منفعة محلّلة عقلائية أيضا و وقعت المعاملة عليه بلحاظها فالظاهر صحّتها بلا إشكال، كما يستفاد ذلك ممّا ذكر في الصناعات ذات الجهتين.
و بذلك يظهر أن ذكر وجوه النجس أيضا في عداد ما يحرم المعاملة عليها ينصرف إلى المعاملة عليها بلحاظ ما كان يترقّب منها غالبا في تلك الأعصار، حيث كانوا يستفيدون منها بالأكل أو الشرب أو اللبس و يعاملون عليها لذلك و قد علّل التحريم فيها بقوله «ع»: «لما فيه من الفساد.» فلو فرض ترتّب فائدة عقلائية محلّلة عليها في طريق صلاح المجتمع كالدّم للتزريق بالمرضى مثلا و وقعت المعاملة عليها لذلك فلا وجه للإشكال فيها.
و بالجملة فليست النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة و إنّما المانع حرمة الفوائد العقلائيّة المترقّبة منها.
الجهة الثالثة: الظاهر أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في هذه الرواية هو الأعمّ من التكليفيّة و الوضعيّة أعني صحة المعاملة و فسادها. فأريد بالحلال ما
أطلقه الشرع بحسب ما يترقّب منه تكليفا أو وضعا أو كليهما، و بالحرام ما منعه كذلك. و إطلاق اللفظين في الوضع كان شائعا في لسان الشرع المبين. و منه قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.
بل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله: وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوٰالكُمْ «1». فيراد بهما فساد النكاح و صحّته وضعا لا حرمة الوطي و حلّيته تكليفا.
و قد كثر هذا النحو من الاستعمال في الروايات، و من ذلك روايتا سماعة و أبي بصير
______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 87
..........
______________________________
في أبواب القيام من الوسائل «1». و قد مرّ ذكرهما في بيان الآية الرابعة.
و لأجل ذلك أردف في الحديث في المقام موضوعات التكليف و الوضع و ذكرها في سياق واحد فقال في وجوه الحلال من التجارات: «فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» و في وجوه الحرام منها قال: «حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته.»
و من الواضح أنّ المترتّب على مثل الإمساك و الاستعمال الحلّ أو الحرمة تكليفا، و على مثل البيع و الهبة الحلّ أو الحرمة تكليفا و وضعا أعني صحتهما أو فسادهما، و هو المتفاهم من التعبيرين في أمثالهما. هذا.
و لا يبعد إرادة الإطلاق في أخبار الحلّية في موارد الشك أيضا كقوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» «2» و في موثقة مسعدة بن صدقة: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه
حرام بعينه فتدعه.» «3» بعد كون المستعمل فيه و المتبادر من اللفظين في تلك الأعصار الجواز و المنع تكليفا و وضعا سواء جعلا وصفين للأفعال أو للذوات بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، و إن شاع في ألسنة الفقهاء المتأخّرين استعمالهما في التكليف فقط.
و ليس الاستعمال من قبيل استعمال اللفظ في المعنيين بل في الجامع بينهما أعني كون الذات أو الفعل مطلقا من قبل الشارع أو ممنوعا عنه بما يناسبه من الإطلاق أو المنع.
و على هذا فيجوز الاستدلال بهذه الأخبار على صحّة الصلاة في اللباس المشكوك فيه
______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديان 6 و 7.
(2) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39.
(3) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديثان 40.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 88
..........
______________________________
بالشبهة الموضوعيّة مثلا. و هذا باب واسع. و قد حكى الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فيما قرّرناه من بحثه الشريف في اللباس المشكوك فيه هذا المعنى من المحقّق القمي و استحسنه.
الجهة الرابعة: البحث في سند الحديث. و هو العمدة في المقام:
لا يخفى أنّ الحديث و إن كان حاويا لضوابط كليّة مهمّة في باب المكاسب المحرّمة و غير المحرّمة و استدل بها المتأخّرون في أبواب كثيرة، إلّا أنّ الاعتماد عليه بانفراده في قبال العمومات الدالّة على صحة العقود و الإيقاعات مشكل و إن كان صالحا للتأييد و الاستيناس.
و السرّ في ذلك أنّ مؤلّف الكتاب: الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني أو الحلبي و إن كان من قدماء أصحابنا الإمامية و وجائهم و كان كتابه معتمدا عليه إجمالا:
ففي رجال المامقاني حاكيا عن الروضات: «إنّه فاضل ففيه و متبحّر نبيه و مترفّع وجيه له كتاب تحف العقول عن آل الرسول «ص» مبسوط كثير الفوائد معتمد عليه عند الأصحاب.» «1»
و في الذريعة عدّه معاصرا للصدوق «ره» و حكى عن الشيخ عليّ بن الحسين بن صادق البحراني قال: «إنّه من قدماء أصحابنا حتّى إنّ شيخنا المفيد ينقل عنه و كتابه ممّا لم يسمح الدهر بمثله.» «2»
و في كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام قال في حقّه: «شيخنا الأقدم و إمامنا
______________________________
(1) راجع روضات الجنّات 2/ 289، الرقم 200؛ و تنقيح المقال 1/ 293.
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3/ 400.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 89
..........
______________________________
الأعظم له كتاب تحف العقول فيما جاء في الحكم و المواعظ عن آل الرسول، كتاب جليل لم يصنّف مثله ...» «1»
و قال مؤلّف تحف العقول في مقدّمة كتابه: «و أسقطت الأسانيد تخفيفا و إيجازا و إن كان أكثره لي سماعا.» «2» ممّا يشعر باعتماده على أكثر ما فيه.
لكن مع ذلك كلّه فرواياته كلّها مراسيل محذوفة الأسناد. مضافا إلى أنّ هذه الرواية بخصوصها كما ترى معقّدة مضطرب المتن مشتملة على التكرار و التطويل بنحو يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضّبط.
قال المحقّق الإيرواني في حاشيته في المقام: «هذه الرواية مخدوشة بالإرسال و عدم اعتناء أصحاب الجوامع بنقلها مع بُعد عدم اطلاعهم عليها، مع ما هي عليه في متنها من القلق و
الاضطراب. و قد اشتبهت في التشقيق و التقسيم كتب المصنّفين. فالاعتماد عليها ما لم تعتضد بمعاضد خارجي مشكل. و الخروج بها عن عموم مثل أَوْفُوا بالْعُقُود و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ أشكل.» «3» هذا.
و لو فرض اعتماد المؤلّف على روايات كتابه و قوّة أسانيدها عنده فلا يكفي هذا في اعتمادنا عليها، لاختلاف المباني في باب حجيّة الأخبار و شرائط الرواة. و من الإغراق في هذا المجال قولهم في حقّ تحف العقول: إنّه ممّا لم يسمح الدهر بمثله «4»، مع وجود مثل
______________________________
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام/ 413.
(2) تحف العقول/ 3.
(3) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 2.
(4) راجع الكنى و الألقاب 1/ 318؛ و الذريعة 3/ 400.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 90
..........
______________________________
الكافي بسعته و جامعيّته. هذا.
و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره العلامة الطباطبائي في حاشيته في المقام، قال:
«ثمّ إنّ هذه الرواية الشريفة و إن كانت مرسلة لا جابر لها ... لكن مضامينها مطابقة للقواعد و مع ذلك فيها أمارات الصدق فلا بأس بالعمل بها.» «1»
أقول: قال في مصباح الفقاهة: «و أمّا قوله: إنّ آثار الصدق منها ظاهرة فلا ندري ما ذا يريد هذا القائل من هذه الآثار، أ هي غموض الرواية و اضطرابها أم تكرار جملها و ألفاظها أم كثرة ضمائرها و تعقيدها أم اشتمالها على أحكام لم يفت بها أحد من الأصحاب و من أهل السنة؟ ...» «2» هذا.
و في مصباح الفقاهة أيضا بعد ما منع حجيّة هذه الرواية لإرسالها و اختصاص الحجيّة بالخبر الموثوق بصدوره قال ما ملخّصه: «و هم و دفع: ربّما يتوهّم انجبار ضعفها بعمل المشهور، لكنّه فاسد كبرى و صغرى: أمّا الكبرى فلعدم كون الشهرة
في نفسها حجّة فكيف تكون موجبة لحجّية الخبر و جابرة لضعفه لأنّه كوضع الحجر في جنب الإنسان.
لا يقال: عمل المشهور بالخبر كاشف عن احتفافه بقرائن قد اطلعوا عليها توجب الوثوق، كما أنّ إعراضهم عن الخبر الصحيح يوجب وهنه و سقوطه، و من هنا اشتهر أنّ الخبر كلّما ازداد صحّة ازداد بإعراض المشهور و هنا.
فإنّه يقال- مضافا إلى أنّه دعوى بلا برهان-: إنّ المناط في حجيّة خبر الواحد هي وثاقة الراوي. و يدلّ على ذلك الموثقة التي أرجع السائل فيها إلى العمري و ابنه، حديث
______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائى/ 2.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 91
..........
______________________________
علّل هذا الحكم فيها بأنّهما ثقتان «1»، و الروايات المتواترة التي أرجع فيها إلى أشخاص موثّقين. و على هذا فإن كان عمل المشهور راجعا إلى توثيق رواة الخبر و شهادتهم بذلك فبها، و إلّا فلا يوجب انجبار ضعفه.
و من هنا يعلم أنّه بعد ثبوت صحّة الخبر لا يضرّه إعراض المشهور عنه إلّا أن يرجع إلى تضعيف رواته.
و أمّا الوجه في منع الصغرى فهو عدم ثبوت عمل المتقدّمين بها. و أمّا عمل المتأخرين فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها مضافا إلى أنّ استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدّا.» «2»
أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- أخيرا من منع الصغرى صحيح، إذ جبران الضعف أو كسر صحّة الخبر من جهة أن شهرة الفتوى بين من لا يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة، بل يكون بناؤهم على التعبّد بالنصوص و أقوال العترة الطاهرة، ربّما تكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم الفتوى عنهم «ع» يدا بيد أو اطلاعهم على قرائن حاليّة أو مقاليّة اختفت علينا. و هذا البيان لا يجري في شهرة
المتأخرين، لانقطاعهم عن الأئمة- عليهم السلام-، فلا محالة استندوا في فتاواهم على اجتهادات عقليّة حول الأخبار الموجودة.
و من الواضح أنّ مضامين رواية تحف العقول لا توجد في كتب القدماء من أصحابنا لا بنحو الفتوى و لا بعنوان الحديث و الرواية، فليس في المقام شهرة يجبر بها ضعف الرواية.
______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 92
..........
______________________________
و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في منع الكبرى فهو أمر كان يصرّ عليه في الأبواب المختلفة من الفقه كما يظهر لمن تتبع تقارير أبحاثه.
و قد اتفق لي في سفري الأول إلى النجف الأشرف: أن قلت له في لقائي: إنّ إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء أمر يدلّ عليه روايات صحيحة دلالة واضحة و كانت هذه الروايات بمرأى الأعاظم من فقهائنا المتقدّمين و مع ذلك نراهم لا يفتون بمضامينها و يفتون بمضمون مرسلة ابن عمير و خبره عن حماد أو غيره الدالّتين على عدم إجزاء غير غسل الجنابة عنه «1»، فهل يبقى مع ذلك وثوق بصحّة تلك الروايات و عدم احتفافها بقرائن مانعة عن ظهورها؟
و بعكس ذلك كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- أعلى اللّه مقامه- مصرّا على الاعتناء بشهرة القدماء من أصحابنا في المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة «ع» يدا بيد- في قبال المسائل الفرعيّة المستنبطة عنها بالاجتهاد- و كان يقول: إنّ بناء الأصحاب كان على أخذ الفقه من الفحول و الأساتذة يدا بيد و إنّ سلسلة فقهنا لم تنقطع في عصر من الأعصار، بل كان أصحاب الأئمة «ع» معتنين بفتاوى الأئمة «ع» مهتمين بها ناقلين إيّاها لتلاميذهم، و كان الخلف يأخذها عن
السّلف إلى عصر الصدوقين و المفيد و المرتضى و الشيخ و أقرانه، و كانوا يذكرونها في كتبهم بألفاظها حتّى اتّهمهم العامّة بأنهم يقلّدون الأوائل و ليسوا من أهل الاجتهاد و الاستنباط كما ذكر ذلك الشيخ في أوّل المبسوط، و كانت الشيعة في عصر الأئمة «ع» يعتنون عملا بفتاوى بطانة الأئمة «ع» و بما اشتهر بينهم و يأخذون بها في مقام العمل، حتّى إنّهم ربّما تركوا ما سمعوه من شخص الإمام
______________________________
(1) الوسائل 1/ 516، كتاب الطهارة، الباب 35 من أبواب الجنابة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 93
..........
______________________________
بعد إشارة البطانة إلى خلافه، و هذا يكشف عن شدّة اعتمادهم على فتاوى البطانة، فراجع خبر عبد اللّه بن محرز في باب الميراث «1».
و مخالفة ابن الجنيد و العماني في أغلب المسائل ناشئة من عدم كونهما في المعاهد العلميّة و لم يتلقّيا الفقه من الأساتذة بل من الكتب التي كانت عندهما.
و كان يقول أيضا: إنّ من تتبع كتب الأخبار و وقف على اختلاف راويين مثلا في نقل مضمون واحد عن إمام واحد، أو اختلاف مصنّفين في ألفاظ رواية واحدة بل مصنّف واحد في موضعين من كتابه و اختلاف النسخ الكثيرة، يظهر له أنّ الاعتماد على رواية واحدة مثلا في مقام الإفتاء مشكل، و إن فرض كون جميع رواته ثقات، إلّا إذا أفتى بمضمونها الأعلام. بل لو فرض وجود روايات مستفيضة في مسألة يظهر لنا بذلك صدور المضمون المشترك بينها عن الأئمة «ع» إجمالا و لكن الحكم بخصوصيّات كلّ واحدة منها مشكل.
و بالجملة فهو- قدّس سرّه- كان يقسم المسائل الفقهية إلى قسمين: مسائل أصليّة مأثورة متلقّاة عن الأئمة المعصومين «ع» و مسائل تفريعية استنبطها الفقهاء من المسائل الأصلية.
و كان
يقول: إنّ كتب القدماء من أصحابنا كالمقنع و الهداية للصدوق، و المقنعة للمفيد، و النهاية للشيخ، و المراسم لسلار، و الكافي لأبي الصلاح الحلبي، و المهذّب لابن البرّاج و أمثالها كانت حاوية للمسائل الأصلية فقط. و الشيخ ألّف المبسوط لذكر التفريعات.
و كان المرز الفاصل بين الصنفين من المسائل محفوظا إلى عصر المحقّق، فهو في الشرائع
______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 94
..........
______________________________
يذكر في كلّ باب أوّلا المسائل الأصلية المأثورة ثمّ يعقّبها بالتفريعات بعنوان: «مسائل» أو «فروع»، و إنّما وقع التخليط بين الصنفين في عصر الشهيدين و من بعدهما.
ففي الصنف الأوّل من المسائل تكون الشهرة حجّة فضلا عن الإجماع، و في الصنف الثاني لا يفيد الإجماع أيضا فضلا عن الشهرة، لأنّ وزانها وزان المسائل العقليّة التي لا مجال فيها للتمسّك بالإجماع و الشهرة «1».
أقول: إطلاق ما ذكره هذان العلمان في هذا المجال قابل للمناقشة:
أمّا ما ذكره الأستاذ- قدّس سرّه- فلأنّ الشهرة بين القدماء إن أوجبت الوثوق و الاطمينان بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع» يدا بيد، أو اطلاعهم على ما لو وصل إلينا كان حجّة قطعا كما هو المدّعى، صحّ الاعتماد عليها.
و لكن من المحتمل كونها في أكثر المسائل على أساس الروايات الموجودة بأيدينا، بل هو المظنون غالبا. و مجرّد الاحتمال كاف في منع الاعتماد عليها، نظير الإجماعات المبتنية و لو احتمالا على الأخبار و المدارك الموجودة عندنا، فليسا دليلين مستقلّين.
ألا ترى أنّ اشتهار تنجّس البئر في كتب القدماء من أصحابنا شهرة قاطعة كيف انهدم أساسها بسبب صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الحاكمة بأنّ ماء
البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغير ريحه أو طعمه. الحديث «2».
و الأستاذ أيضا أفتى بعدم تنجّسها بعذر أنّ القول بالتنجّس كان مستندا إلى الأخبار التي بأيدينا فنحملها على التنزيه.
______________________________
(1) راجع البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر/ 8- 10.
(2) الوسائل 1/ 105، كتاب الطهارة، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 12، و أيضا الحديث 10.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 95
..........
______________________________
نعم لو فرض اشتهار الفتوى بين القدماء من أصحابنا في مسألة، من دون أن يكون له دليل ظاهر فيما بأيدينا من الأخبار و لم يساعده أيضا إطلاق دليل أو اعتبار عقلي، كشفت الشهرة لا محالة عن تلقّي المسألة عن الأئمة «ع» يدا بيد، أو وصول دليل معتبر إليهم غير واصل إلينا، نظير الإفتاء بإتمام الصلاة و إفطار الصيام في سفر الصيد للتجارة و ازدياد المال، مع عدم وجود رواية بذلك فيما بأيدينا و أنّ مقتضى القواعد و الإطلاقات هو التلازم بين الصلاة و الصيام في القصر و الإتمام. و لكن أمثال هذه المسألة قليلة جدّا.
كما أنّ الإنصاف أنّ إعراض المشهور من القدماء عن الروايات الصحيحة مع ظهورها و عدم تطرّق التأويل إليها يوجب و هنها و عدم الوثوق بإرادة ظواهرها، فيشكل الإفتاء بها فتطرح أو يحتاط في المسألة و هو طريق النجاة.
و أمّا ما ذكره آية اللّه الخوئي- طاب ثراه- فيرد عليه أنّ ما دلّ على الإرجاع إلى ثقات الروات لا يدلّ على نفي غير ذلك و عدم حجّية غير خبر الثقة.
بل الظاهر منها أنّ الملاك تحصيل الوثوق بالحكم من أيّ طريق حصل، إذ التعليق على الوصف يدل على العلية، و على ذلك بناء العقلاء أيضا حيث يرون الوثوق و
سكون النفس علما عاديّا يعتمدون عليه في أمورهم.
و ليس هذه الأخبار في مقام إعمال التعبّد و جعل خبر الثقة حجّة تعبّدا. بل في مقام ذكر المصداق لما عليه العقلاء.
فقوله «ع» في حقّ العمري: «فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون» و في حقّه و حقّ ابنه:
«فاسمع لهما و أطعمها فإنّهما الثقتان المأمونان» «1» علّل الإرجاع بأمر ارتكازي يحكم به
______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 96
..........
______________________________
العقلاء، كما هو الغالب في التعليلات الواردة في الكتاب و السنّة حيث تقع لاستيناس ذهن السّامع و دفع استيحاشه المحتمل.
و يشهد لذلك قول الراويين للرضا «ع»: «أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟» قال: «نعم.» «1»
إذ يظهر منه أنّ جواز الاعتماد على الثقة كان واضحا مفروغا عنه بلا تعبّد، و إنّما السؤال وقع عن تعيين المصداق.
و على هذا فإن حصل بسبب عمل المشهور المتعبّدين بالنصّ وثوق بمضمون الرواية وجب الأخذ به، و إذا حصل بإعراضهم عن الصحيح الترديد فيه و ارتفع الوثوق بمضمونه لم يجز الأخذ به، و هذا معنى كون عمل المشهور جابرا لضعف الرواية، و إعراضهم كاسرا لصحّتها.
و بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم و تلاميذ أصحابهم الملازمون لهم كانوا واقفين على فتاواهم. و قد مرّ في خبر عبد اللّه بن محرز أنّ الراوي ترك ما سمعه من شخص الإمام و أخذ بقول أصحابه اعتمادا عليه، و استحسنه الإمام لذلك «2». و يظهر من أخبار كثيرة في أبواب مختلفة اعتماد الشيعة على أصحاب الأئمة و بطانتهم و أخذ الأحكام منهم و إمضاء الأئمة «ع» ذلك، فتأمل. هذا.
و في
ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد في علاج الخبرين المتعارضين قال «ع»: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به
______________________________
(1) الوسائل 18/ 107، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33، و نحوه الحديث 34.
(2) الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 97
..........
______________________________
من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، و إنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه و إلى رسوله ... قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ ...» «1»
و الظاهر أن المقصود بالمجمع عليه في الحديث ما اشتهر العمل به و الإفتاء بمضمونه استنادا إليه كما يظهر من مقابلته بالشاذّ. و إذا وصل العمل بالرواية و الاعتماد عليها إلى حدّ عدّ خلافه شاذّا نادرا صارت عند العقلاء ممّا لا ريب فيها، إذ يحصل بمضمونها الوثوق غالبا. و حمل الشهرة في الحديث على الشهرة الروائية فقط بعيد في الغاية.
توضيح ذلك: أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام:
الأوّل: الشهرة في الرواية بمعنى كثرة الناقلين لها، سواء عملوا بها أم لا.
الثاني: الشهرة العمليّة بمعنى عمل المشهور برواية و استنادهم إليها في مقام الإفتاء.
الثالث: الشهرة الفتوائيّة بمعنى إفتاء المشهور بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند فتواهم كما مرّ من مسألة سفر الصيد للتجارة من التفصيل بين الصلاة و الصيام.
و يظهر من الشيخ الأعظم في الرسائل و كثير من الأعاظم حمل الشهرة في
الحديث و كذا في مرفوعة زرارة الآتية على القسم الأوّل أعني الشهرة الروائيّة «2»، مع وضوح أنّ مجرّد نقل الرواية فقط من دون اعتماد عليها لا يجعلها ممّا لا ريب فيه، بل يكون من قبيل الإعراض الذي يزيد في ريبه. فالمقصود اعتماد الأصحاب على أحد الخبرين
______________________________
(1) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
(2) راجع فرائد الأصول/ 66 و 447.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 98
..........
______________________________
المتعارضين في مقام العمل و الإفتاء بمضمونه. و على ذلك كان يصرّ الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه-.
نعم كان بناء القدماء من أصحابنا على ذكر متن الخبر في مقام الإفتاء، و لكن الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ليس مجرد نقلها، بل العمل بها و الاعتماد عليها من ناحية المتعبدين بالنصوص أعني بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم الواقفين على فتاواهم، و قد عرفت أنّ التعليل في الكتاب و السنة بل في التعليلات العرفيّة أيضا يقع غالبا بما هو المركوز في أذهان السّامعين.
و بالجملة فما هو المرجّح للرواية عند التعارض و يجعلها ممّا لا ريب فيه هو الشهرة العملية.
و مورد المقبولة و إن كان هو الخبران المتعارضان في باب الحكم، لكن عموم التعليل يقتضي الترجيح بها و لو في غير باب الحكم أيضا، كما يقتضي جبرها للخبر الضعيف أيضا.
بل يمكن الاستدلال به لحجيّة الشهرة الفتوائية مطلقا و لا سيّما إذا لم يكن لها مدرك فيما بأيدينا من الأخبار، و كذا كونها موهنة للخبر الصحيح الوارد على خلافها. كلّ ذلك بعموم التعليل المنصوص، إذ ظاهره كون المجمع عليه عند الأصحاب بمعنى المشهور لديهم في مقام العمل ممّا لا ريب فيه بنحو الإطلاق. و السّر في ذلك
أنّ الشهرة العمليّة عند أهل النصّ المتعبّدين به يوجب الوثوق بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع».
اللّهم إلّا أن يقال: بعد اللتيّا و الّتي: سلّمنا أنّ المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة العمليّة و لكن ترجيح الرواية بها في مقام التعارض أخفّ مئونة من جبر الخبر الضعيف
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 99
..........
______________________________
بها أو كونها حجة مستقلّة، إذ بعد فرض كون كلّ واحد من المتعارضين حجّة في نفسه يكفي في ترجيح أحدهما على الآخر وجود مزيّة ما فلا يقاس به غيره.
قال الشيخ الأعظم في الرسائل: «ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ... و كذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرّمانين، فقلت ما كان أكبر.» «1» هذا.
و لكن يرد عليه: أنّا لا نريد إثبات العموم بالأمر بأخذ المجمع عليه من المتعارضين، بل بعموم التعليل. و ظهور التعليل في العموم و الإطلاق في المقام قويّ، و احتمال الخصوصيّة فيه و حمل اللام على العهد مخالف للظاهر جدّا.
و أمّا ما في كلام المحقّق النائيني- قدّس سرّه- من أنّ المراد ممّا لا ريب فيه في المقام عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله من الشاذّ، و هذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية، لأنّه لا يصحّ أن يقال: يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله و إلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره، و بأقوى الشهرتين و بالظنّ المطلق و غير ذلك. «2»
ففيه: أنّ حمل التعليل على عدم الريب الإضافي ممّا لا وجه له بعد ظهوره في عدم الريب بنحو
الإطلاق. بل لا نتصوّر لعدم الريب الإضافي معنى صحيحا، إذ الظاهر ممّا لا ريب فيه ما حصل اليقين أو الاطمينان به، و هذا مفهوم مطلق.
______________________________
(1) فرائد الأصول/ 66.
(2) راجع فوائد الأصول 3/ 54، في أقسام الشهرة و حجّيتها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 100
..........
______________________________
و حمل المجمع عليه في المقبولة على الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم فيكون المراد به الخبر المعلوم صدوره- كما في مصباح الأصول «1»- مخالف للظاهر أيضا، لما مرّ من ظهور الرواية في الشهرة العمليّة أعني الظهور عند الأصحاب عملا و تلقّيهم بالقبول، و هي كما مرّ موجبة للوثوق و سكون النفس غالبا فتكون ممّا لا ريب فيه عند العقلاء و من البيّن رشده عندهم.
و لو فرض العلم بصدوره و لكن وقع الإعراض عنه من قبل بطانة الأئمة «ع» الواقفين على فتاواهم لم يكن ممّا لا ريب فيه، بل كلّه ريب فيترك و يؤخذ بقول البطانة كما ظهر ذلك من خبر عبد اللّه بن محرز الذي مرّت الإشارة إليه «2».
فإن قلت: قول السائل بعد ذلك: «فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» «3» ظاهر في الشهرة الروائيّة، و إلّا فكيف يتصوّر الشهرة العمليّة في كلا المتعارضين؟
قلت: الشهرة بمعنى الظهور لا الأكثرية المطلقة و لذا يصحّ استعمال الأشهر. فيمكن ظهور كلتا الروايتين عند الأصحاب في مقام العمل في قبال ما فرض أوّلا من كون أحدهما مجمعا عليه و الآخر شاذّا. و رواية الثقات لهما كناية عن عملهم بهما يفتي جمع منهم بهذا و جمع آخر بذاك. إذ الإفتاء في تلك الأعصار كان بنقل الرواية المعتبرة عندهم. و لو شك في أنّ المقصود بالشهرة في المقبولة الشهرة الروائيّة أو العمليّة
أخذ
______________________________
(1) مصباح الأصول 2/ 141، المبحث الرابع في حجّية الشهرة.
(2) الوسائل 17/ 445، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.
(3) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 101
..........
______________________________
بالقدر المتيقّن أعني كون إحدى الروايتين مشهورة رواية و عملا كما لا يخفى. هذا.
و المقبولة رواها المشايخ الثلاثة و تلقّاها الأصحاب بالقبول حتّى اشتهرت بالمقبولة.
و صفوان بن يحيى في سندها من أصحاب الإجماع. و عن الشيخ في العدّة: أنّه لا يروي إلّا عن ثقة «1». و محمّد بن عيسى بن عبيد و إن ضعّفه الشيخ لكن قال النجاشي في حقّه: «إنّه جليل في أصحابنا ثقة عين.» «2» و قال في حقّ داود بن حصين الأسدي أيضا: «إنّه كوفي ثقة.» «3»
فيبقى الكلام في عمر بن حنظلة نفسه و قد رويت روايتان يستفاد منهما مدحه و صدقه و لكن في سند أحدهما يزيد بن خليفة و هو واقفي لم يثبت وثاقته و إن مال إليها بعض، و الخبر الآخر رواية نفس عمر بن حنظلة. و لكن كبار الأصحاب رووا عن عمر بن حنظلة و اعتنوا برواياته، و روايته هنا متلقّاة بالقبول و لعلّه يظهر آثار الصدق من متنها و فقراتها فيحصل الوثوق بصحّتها، فتدبّر. و راجع ما حرّرناه في سند الرواية و مفادها في كتاب ولاية الفقيه. «4»
و بالجملة يستفاد من المقبولة الاعتماد على الشهرة إجمالا. و على ذلك استقرّت الفتاوى في علاج الخبرين المتعارضين.
و يؤيّد ذلك مرفوعة زرارة المرويّة في عوالي اللآلي عن العلامة، قال: سألت الباقر «ع» فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا
______________________________
(1) عدّة
الأصول 1/ 386- 387؛ و تنقيح المقال 2/ 100- 101.
(2) رجال النجاشى/ 333 (ط. أخرى/ 235)؛ و تنقيح المقال 3/ 167.
(3) رجال النجاشى/ 159 (ط. أخرى/ 115)؛ و تنقيح المقال 1/ 408.
(4) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1/ 428.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 102
..........
______________________________
زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ...» و رواه عنه في قضاء المستدرك. «1»
و لكن المرفوعة ضعيفة جدّا حتى إنّه طعن فيها و في أصل الكتاب من لم يكن من دأبه المناقشة في الأخبار كصاحب الحدائق «2». و لم يوجد منها أثر في ما بأيدينا من كتب العلامة، و إن أمكن أن يقال: إنّه في العوالي بعد ذكر المرفوعة قال: «و قد ورد هذا الحديث بلفظ آخر و هو ما روى محمد بن عليّ بن محبوب، عن محمد بن عيسى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة.» و ذكر المقبولة بطولها، و لعلّ هذا يوجب الاطمينان بأنّ ابن أبي جمهور رأى المرفوعة في كتاب من كتب العلامة و لكنّه لم يصل إلينا هذا.
و قد طال الكلام في الجهة الرابعة حول حديث تحف العقول. فأعتذر من القرّاء الكرام.
الجهة الخامسة: لا يخفى أنّ الأمور على ثلاثة أقسام:
الأوّل: الحقائق المتأصّلة و الموجودات الخارجيّة التي شغلت وعاء الخارج بمراتبه، مجرّدة كانت أو مادّية، جوهرية أو عرضية محمولة بالضميمة كالأبيض المحمول على الجسم و العالم المحمول على النفس.
الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيّات من دون أن يكون لها وجودات على حدة وراء وجودات مناشئ الانتزاع فتحمل عليها بنحو الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة.
______________________________
(1) عوالي اللآلي 4/ 133، الرقم 229؛ و مستدرك الوسائل 3/ 185، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضى، الحديث 2.
(2) الحدائق 1/ 99، المقدمة السادسة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 103
..........
______________________________
قال في المنظومة:
«و الخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضميمة.»
«1» قوله: «من صميمه» متعلّق بالخارج لا بالمحمول، فيراد أنّه خارج من حاقّ الذات و لكنّه يحمل عليها.
و قد يمثل لذلك في كلماتهم بالفوقيّة و التحتيّة و القبليّة و البعديّة و الأبوّة و البنوّة و أمثال ذلك من الإضافات المتكرّرة، و يقال: إنّ الخارج ظرف لأنفسها لا لوجوداتها إذ لا وجود لواحد منها وراء وجود منشأ انتزاعه.
أقول: لنا فيما مثّلوا به كلام، إذ الخارجيّة مساوقة لنحو من الوجود و إن كان ضعيفا كما في جميع الأعراض النسبيّة. و المقسم للجوهر و المقولات العرضيّة بأجمعها هو الموجود الممكن فيجب أن يتحقّق المقسم في جميع الأقسام و مرتبة وجود العرض غير مرتبة وجود المعروض لتأخّره عنه رتبة. فلا يبقى فرق من هذه الجهة بين البياض و العلم و غيرهما من الكيفيّات و بين مثل الفوقيّة و التحتيّة و الأبوّة و البنوّة و غيرها من الإضافات المتكرّرة و إن تفاوتت في شدّة الوجود و ضعفه، فيكون الجميع من أقسام المحمول بالضميمة.
نعم في المفاهيم العامّة المنتزعة عن الماهيّات الخارجيّة كمفهوم الذات أو
الماهيّة أو الشيئيّة أو الإمكان و نحوها من المعقولات الثانية باصطلاح الفلسفي و كذلك المفاهيم العامّة المنتزعة عن الوجودات الخارجيّة كمفهوم الوحدة أو التشخّص يشكل القول بتحقّق الوجود لها خارجا وراء وجودات مناشئ الانتزاع للزوم التسلسل و غيره من المحاذير
______________________________
(1) شرح المنظومة للحكيم المتألّه السبزواري- قسم المنطق-/ 30، غوص في الفرق بين الذاتى و العرضى.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 104
..........
______________________________
المذكورة في محلّه «1». و يعبّرون عن مثلها بأنّ الاتصاف بها في الخارج و لكن عروضها لمعروضاتها في الذهن بعد تحليله و انتزاعها منها. و ملاك انتزاعها مع أنّ الانتزاع لا يكون جزافا يحتاج إلى تأمّل و بيان أوفى.
الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة التي لا واقعيّة لها في عالم الخارج أصلا، و إنما توجد في وعاء الفرض و الاعتبار باعتبار من له الاعتبار عرفا أو شرعا بلحاظ الآثار المترقّبة منها المترتبة عليها عند العقلاء، فيكون تكوينها بعين وجودها الإنشائي الاعتباري، و ذلك كالمناصب الاعتبارية بمراتبها و الأحكام الشرعيّة التكليفيّة و الوضعيّة. و من هذا القبيل الزوجيّة المعتبرة بين الزوجين و الملكيّة الاعتبارية التي هي موضوع بحثنا في باب المعاملات، لا الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة:
توضيح ذلك: أنّ الملكيّة أعني إضافة الواجديّة المتحقّقة بين المالك و الملك تكون على نوعين: ملكيّة حقيقيّة تكوينيّة، و ملكيّة اعتباريّة محضة:
فالأولى كمالكيّة اللّه- تعالى- لنظام الوجود من الأعلى إلى الأدون بمعنى واجديّته لها و إحاطته القيّوميّة بها تكوينا لتقوّمها به ذاتا. و كذا مالكيّة الإنسان لفكره و قواه و حركاته الصادرة عنه. و من هذا القبيل أيضا مقولة الجدة كواجدية الإنسان خارجا لألبسته المحيطة ببدنه، و يقال لها مقولة الملك أيضا.
و الثانية كمالكية زيد مثلا لداره و بستانه و سائر
أمواله، حيث إنّها إضافة اعتباريّة محضة يعتبرها العرف و الشرع بينهما و إن فرض كون أحدهما بالمغرب و الآخر بالمشرق مثلا. هذا.
______________________________
(1) راجع شرح المنظومة للحكيم السبزواري/ 39، في تعريف المعقول الثانى و بيان الاصطلاحين فيه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 105
..........
______________________________
و في مصباح الفقاهة مثل للملكيّة التكوينيّة بالإضافات الموجودة بين الأشخاص و أعمالهم و أنفسهم و ذممهم، ثمّ قال: «فإنّ أعمال كلّ شخص و نفسه و ذمّته مملوكة له ملكيّة ذاتيّة و له واجديّة لها فوق مرتبة الواجديّة الاعتبارية و دون مرتبة الواجديّة الحقيقيّة التي لمكوّن الموجودات.» «1»
أقول: واجديّة الشخص لنفسه ليس من قبيل الإضافات، إذ الإضافة تحتاج إلى طرفين. اللّهم إلّا أن يفرض الاثنينية بين الشي ء و نفسه ثمّ يعتبر الإضافة بينهما، فمآله إلى الاعتبار قهرا، و بهذا اللحاظ أيضا يحمل الشي ء على نفسه، فتدبّر.
و واجديّة الشخص لذمّته ليست تكوينيّة ذاتية بل هي اعتباريّة محضة، إذ الذمّة أمر اعتباريّ يعتبره العقلاء للأشخاص على حسب ما يرون لهم من الإمكانات كما هو واضح.
ثمّ لا يخفى أنّ اعتبار الملكيّة و فرضها ليس جزافيّا، بل الظاهر أنّ منشأه و أساسه وجود نحو من الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة، و الحاصل أنّ نظام التشريع الصحيح ينطبق على نحو من نظام التكوين.
بيان ذلك أنّ الشخص يملك تكوينا لفكره و قواه و أعضائه و جوارحه في الرتبة الأولى كما مرّ، و يتبع ذلك يملك لحركاته و أفعاله من الصنع و الزرع و الحيازة و نحو ذلك كذلك في الرتبة الثانية. و يتبع ذلك قهرا وجود مصنوعاته و محصولاته و ما أحياه و حازه تحت سلطته فيعتبر إضافة الملكيّة بينها و بينه لكونها من ثمرات حركاته و أفعاله، و يعدّ المستولي
عليها بدون إذنه عند العرف و العقلاء غاصبا لحقّ الغير. فالمرتبة الأولى من الملكيّة الاعتبارية ترتّبت على مرتبتين من التكوينيّة و نتاجات هذه و منافعها تعدّ ملكا له
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 9.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 106
..........
______________________________
في الرتبة المتأخّرة و هكذا. هذا كلّه مع قطع النظر عن المبادلات.
ثم إنّ الصنائع و الحركات توجد لرفع الحاجات، و لما كانت مصنوعات الشخص و توليداته قد لا تفي بجميع حاجاته و قد يزيد بعضها عن مقدار حاجته، فهو بسلطنته عليها ربّما يهبها لمن يحتاج إليها مجانا و ربّما يبادل بعضها عينا أو منفعة في قبال مصنوعات الغير و توليداته لاحتياجه إلى مصنوع الغير و احتياج الغير إلى مصنوعه، فمن هنا انعقدت نطفة المبادلات و المعاملات الدائرة من البيع و الإجارة و نحوهما. فتصير مالكيته لمصنوع الغير في قبال ما كان يملكه من مصنوع نفسه، فيضاف إليه إضافة ثانويّة لكونها متفرّعة على الإضافة الأوّليّة الحاصلة بصنعه، و هكذا ثالثة و رابعة حسب تعاقب المبادلات على الأعيان أو المنافع.
و حيث إنّ جميع الحاجات لا ترتفع بمبادلة نفس الأمتعة بعضها ببعض، إذ ربّما يحتاج الشخص إلى مصنوع الغير و الغير لا يحتاج إلى مصنوع هذا بل إلى متاع آخر يوجد عند ثالث، صار هذا سببا لاعتبار الأثمان بعنوان الواسطة رفعا للحاجات و تسهيلا لأمر المبادلات فيباع المصنوع الزائد بثمن معتبر ثمّ يشتري به عند الحاجة المتاع المحتاج إليه من ثالث أو يستأجر منه. فتشريع المعاملات كان أوّلا على أساس مبادلة الأمتعة على حسب الحاجات، و إنّما جعلت الأثمان في الرتبة الثانية بعنوان الواسطة و الآلة.
و الأثمان قد تغيّرت و تكاملت بحسب الأعصار و الأمم المختلفة و تكاملهم في
المدنيّة.
و للبحث في ذلك محلّ آخر.
و كيف كان فمن المعاملات الدائرة في جميع المجتمعات البيع، و هو مبادلة العين بمال معيّن سواء في ذلك مبادلة متاع بمتاع أو متاع بثمن. و بعبارة أخرى لما كانت الملكيّة
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 107
..........
______________________________
الاعتبارية عبارة عن إضافة خاصّة معتبرة بين المالك و ملكه كان الملك أحد طرفي الإضافة، فالبيع عبارة عن تبديل هذا الطرف من الإضافة بإزاء طرف إضافة أخرى للغير.
فبالبيع يقع التبادل بين الملكين، لا بأن تبقى الإضافة نفسها إذ هي معنى حرفي متقوّم فتدبّر.
و أمّا في باب المواريث فالظاهر اعتبار التبدّل بين المالكين، فالملك كأنّه يبقى في محلّه، و المالك بموته يخلفه وارثه الذي يعتبر وجودا بقائيا له على حسب طبقات الإرث. ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لابنه الحسن «ع»: «و وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني، و كأنّ الموت لو أتاك أتاني ...» «1»
الجهة السادسة: في نقل كلام من حاشية السيّد الطباطبائي «ره» حول حديث تحف العقول. قال: «لا يخفى اشتمال هذا الحديث الشريف على جملة من القواعد الكلّية:
منها: حرمة الدخول في أعمال السلطان الجائر و حرمة التكسّب بهذه الجهة.
و منها: حرمة الإعانة على الإثم.
و منها: جواز التجارة بكلّ ما فيه منفعة محلّلة.
و منها: حرمة التجارة بما فيه مفسدة من هذه الجهة.
و منها: حرمة بيع الأعيان النجسة بل المتنجّسة إذا جعل المراد من الوجوه الأعمّ.
و منها: حرمة عمل يقوى به الكفر.
و منها: حرمة كلّ عمل يوهن به الحقّ.
______________________________
(1) نهج البلاغة، عبده 3/ 43؛ فيض/ 907؛ صالح/ 391، الكتاب 31.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 108
..........
______________________________
و منها: جواز الإجارة بالنسبة إلى كلّ منفعة محلّلة.
و منها: حرمة
الإجارة في كلّ ما يكون محرّما.
و منها: حلّية الصناعات التي لا يترتّب عليها الفساد.
و منها: حرمة ما يكون متمحضا للفساد.
و منها: جواز الصناعة المشتملة على الجهتين بقصد الجهة المحلّلة. بل يظهر من الفقرة الأخيرة جوازها مع عدم قصد الجهة المحرّمة و إن لم يكن قاصدا للمحلّلة حيث قال:
«فلعلّه لما فيه من الصّلاح حلّ ...» بل التأمّل في فقراته يعطي جواز التجارة أو الإجارة أو الصناعة بقصد الجهة المحلّلة النادرة، حيث إنّ المستفاد منها أنّ الملاك ترتّب المفسدة و قصد الصّرف في الجهات المحرّمة ...» «1» انتهى كلام السيّد في الحاشية.
أقول: ما احتمله من شمول وجوه النجس للمتنجّسات ليس ببعيد، إذ لفظ المتنجّس ليس في الروايات و كلمات القدماء من أصحابنا بل كان يطلق على الجميع لفظ النجس أو القذر كما لا يخفى على من تتّبع. و بهذا البيان كان يريد الأستاذ: آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- المناقشة فيما قيل من عدم الدليل على تنجيس المتنجّس لغيره بتقريب أن سراية النجس و القذر إلى غيره معلوم، و اللفظان يشملان للمتنجّس أيضا. و إن كان لنا فيما ذكره كلام ليس هنا محلّ ذكره. هذا.
و لكن يرد على العلّامة الطباطبائي في المقام: أنّ رواية تحف العقول على ما مرّ ضعيفة عليلة سندا و متنا، فلا تصلح إلّا للاستيناس و التأييد.
هذا كلّه حول رواية تحف العقول.
______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة المحقّق الطباطبائى/ 4.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 109
و حكاه غير واحد عن رسالة المحكم و المتشابه للسّيد- قدّس سرّه- (1)
______________________________
(1) أقول: الظاهر أن نظره في ذلك إلى نقل الوسائل و الحدائق:
قال في الوسائل: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه كما مرّ في الخمس و نحوه.» «1»
و
في الحدائق: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه.» «2»
و ما ذكروه عجيب، إذ ليس في المحكم و المتشابه من هذه الرواية عين و لا أثر. نعم فيه نقلا عن تفسير النعماني عن عليّ «ع» قال: «و أمّا ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق و أسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة و وجه العمارة و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات.» ثمّ شرح الوجوه الخمسة بما لا يرتبط بما في رواية تحف العقول، فراجع كتاب الخمس من الوسائل «3» و تفسير النعماني المطبوع بتمامه في البحار «4»، و ذكر فيه بدلا عن لفظ الإمارة لفظ: «الإشارة» و الظاهر أنّه غلط.
______________________________
(1) الوسائل 12/ 57، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.
(2) الحدائق 18/ 70، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة فيما يكتسب به.
(3) الوسائل 6/ 341، كتاب الخمس، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.
(4) بحار الأنوار 90/ 46 (ط. إيران 93/ 46)، كتاب القرآن، الباب 128.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 110
و في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا- صلوات اللّه و سلامه عليه-:
«اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه، لوجه الفساد، ممّا قد نهي عنه، مثل الميتة و الدّم و لحم الخنزير
و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فاسد (فساد- خ.)
للنفس.» (1) انتهى.
______________________________
الرواية الثانية
(1) هذه هي الرواية الثانية من الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة في المقام. و قد كتبناها في المتن على طبق فقه الرضا المطبوع أخيرا من قبل المؤتمر
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 111
..........
______________________________
العالمي للإمام «ع»، فراجع «1».
و الدقة في عبارتها و مقايسة سياقها مع سياق رواية تحف العقول الماضية تعطي الوثوق بأخذ العبارة من تلك الرواية بنحو الخلاصة.
و الكلام يقع تارة في دلالتها و أخرى في سندها:
أمّا من جهة الدلالة فنقول:
أوّلا: الظاهر أنّ المأمور به في العبارة لا يراد به ما بلغ حدّ الضرورة و الوجوب فعلا، بل يراد به ما يوجد فيه شأنيّة الوجوب و ملاكه كثيرا لتوقّف حفظ الإنسان عليه إجمالا. فمثل هذه الأمور حلال و إن لم تصل إلى حدّ الوجوب و الضرورة.
و ثانيا: المراد بالحلال و كذا الحرام هنا أعمّ من التكليف و الوضع، فيستفاد من حلّية البيع و نحوه مثلا صحّتها و ترتّب الأثر عليها أيضا.
و استعمال اللفظين في الوضع في لسان الكتاب و السنة شائع كثير كقوله- تعالى-:
وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «2» و قد مرّ بيان ذلك في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول، فراجع.
و بذلك يظهر الإشكال على ما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيّا كما تقدّم نظير ذلك في رواية تحف العقول، و كلامنا في الحرمة الوضعيّة.» «3»
______________________________
(1) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.
(2) سورة البقرة (2)، الآية 275.
(3) مصباح الفقاهة 1/ 18.
دراسات في
المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 112
..........
______________________________
و ثالثا: ظاهر العبارة أنّ كلّ ما فيه الفساد يحرم إمساكه لوجه الفساد. و المقصود من ذلك إمساكه بقصد أن يستعمل في المآل في الفساد، فلا دلالة في العبارة على حرمة إمساك كلّ ما فيه الفساد بنحو الإطلاق. و بذلك يظهر أيضا المناقشة فيما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «كيف يتفوّه فقيه أو متفقّه بحرمة إمساك الدم و الميتة و لحوم السباع كما أنّ ذلك مقتضى الرواية.» «1»
و رابعا: يظهر من العبارة أنّ الملاك في حرمة الأشياء بنحو الإطلاق ليس إلّا إضرارها بالجسم أو إفسادها للنفس. و لكن يشكل الالتزام بذلك و أنّ ما يحرم لبسه أو نكاحه مثلا أيضا لا ملاك لحرمته إلّا ذلك. نعم على مذهب العدليّة لا يكون تكليف أو وضع بلا ملاك، و لكنّه لا ينحصر في المنافع و المضارّ الشخصيّة فقط كما لا يخفى.
و خامسا: ليس في عبارة فقه الرضا بالنسبة إلى ما فيه الفساد من المنهيّات اسم من حرمة المعاملات عليه و فسادها، إذ ظاهر قوله أخيرا: «فحرام ضارّ للجسم و فساد للنفس» حرمة استعماله بالأكل و الشرب و أمثال ذلك. اللّهم إلّا أن يحكم بمقتضى المقابلة لقوله:
«حلال بيعه و شراؤه» أنّ المقصود هنا حرمة المعاملات أيضا، فتدبّر.
و اعلم أنّ كتاب فقه الرضا من جهة المتن كتاب وزين جامع جيّد الأسلوب يظهر من سياقه و المسائل المعنونة فيه أنّ مؤلّفه كان محيطا إجمالا بفقه الشيعة الإمامية و رواياتهم المأثورة عن الأئمة «ع»، عارفا بمذهب أهل البيت مطّلعا على موازين الجمع بين الأخبار
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 17.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 113
..........
______________________________
المتعارضة، بحيث لو صحّ سند الكتاب و ثبت اعتباره كان
وافيا بحلّ كثير من المعضلات و دليلا لكثير من المسائل و الفتاوى التي وقع الإشكال في مداركها، و إن اشتمل أيضا على بعض الفتاوى التي لا يلتزم بها الشيعة و لكنّها قليلة جدّا.
و آخر الكتاب هو باب القضاء و المشيّة و الإرادة. و أمّا باب فضل صوم شعبان و ما بعده «1» فالظاهر أنّه كتاب آخر ألحق به في الطبع السابق، و هو نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، و قد طبع أخيرا كلّ من الكتابين مستقلا.
فالعمدة هنا البحث في ماهيّة الكتاب و أنّه معتبر أم لا؟ و قد ظهر الكتاب في عصر المجلسيّين- قدّس سرّهما- ثمّ وقع الاختلاف في أنّه من الإمام «ع» أو من مؤلّفات بعض الأصحاب. فالمجلسيّان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنّه لشخص الإمام «ع»:
1- قال المجلسي في مقدمة البحار: «و كتاب فقه الرضا «ع» أخبرني به السيّد الفاضل المحدّث القاضي أمير حسين- طاب ثراه- بعد ما ورد أصفهان. قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت اللّه الحرام أن أتاني جماعة من أهل قم حاجّين، و كان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا «ع»، و سمعت الوالد- رحمه اللّه- أنّه قال سمعت السيّد يقول: كان عليه خطّه- صلوات اللّه عليه- و كان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء.
و قال السيّد: حصل لي العلم بتلك القرائن أنّه تأليف الإمام «ع» فأخذت الكتاب و كتبته و صحّحته. فأخذ والدي- قدّس اللّه روحه- هذا الكتاب من السيّد و استنسخه و صحّحه. و أكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في
______________________________
(1) راجع فقه الرضا/ 56 و ما بعدها من الطبع السابق.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص:
114
..........
______________________________
كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند، و ما يذكره والده في رسالته إليه. و كثير من الأحكام التي ذكرها أصحابنا و لا يعلم مستندها مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات.» «1»
2- و قال المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتّقين تأليف نفسه ما مختصره:
«اعلم أنّ السيّد الثقة الفاضل المعظّم القاضي مير حسين- طاب ثراه- كان مجاورا في مكّة المعظمة سنين، و بعد ذلك جاء إلى أصفهان و ذكر أني جئت بهديّة نفيسة إليك و هو الكتاب الذي كان عند القمّيين و جاؤوا به إليّ عند ما كنت مجاورا، و كان على ظهره أنّه يسمّى بالفقه الرضوي. و كان فيه بعد الحمد و الصلاة: «أمّا بعد فيقول عبد اللّه عليّ بن موسى الرضا.» و كان في مواضع منه خطّه «ع».
و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّه تصنيف الإمام «ع»، و كان نسخة قديمة مصحّحة فانتسخت منها. و لما أعطاني القاضي نسخته انتسخت منها ثم أخذه منّي بعض التلامذة و نسيت الأخذ فجاءني به بعد تأليفي لهذا الشرح، فلمّا تدبّرته ظهر أنّ جميع ما يذكره علي بن بابويه في الرسالة فهو عبارة هذا الكتاب ممّا ليس في كتب الحديث.
و الظاهر أنّه كان هذا الكتاب عند الصدوقين و حصل لهما العلم بأنّه تأليفه «ع».
و الظاهر أنّ الإمام «ع» ألّفه لأهل خراسان و كان مشهورا عندهم. و لما ذهب الصدوق إليها اطّلع عليه بعد ما وصل إلى أبيه قبل ذلك فلمّا كتب أبوه إليه الرسالة و كان ما كتبه موافقا لهذا الكتاب تيقّن عنده مضامينه فاعتمد عليها الصدوق.
______________________________
(1) بحار الأنوار 1/ 11، مصادر الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 115
..........
______________________________
و الذي ظهر لي بعد التتبع أنّ علّة عدم إظهار هذا الكتاب أنّه لمّا كان التأليف في خراسان و كان أهلها من العامّة- و الخاصّة منهم قليلة- اتّقى- صلوات اللّه عليه- فيه في بعض المسائل تأليفا لقلوبهم مع أنّه «ع» ذكر الحقّ أيضا، لم يظهر الصدوق ذلك الكتاب و كان محذوفا عندهما و كانا يفتيان بما فيه و يقولان إنّه قول المعصوم.» «1»
أقول: و راجع في هذا المجال أيضا ما حكاه في المستدرك عن فوائد العلامة الطباطبائي و مفاتيح الأصول نقلا عن المجلسي الأوّل- قدّس اللّه تعالى أسرارهم. «2»
و ما ذكره لتوجيه اشتمال الكتاب على الفتاوى المختصّة بالعامّة ضعيف، إذ الإمام «ع» في خراسان لم يكن مبتلى بالتقيّة في قبال العامّة، فعلى فرض كون الكتاب تأليفا له كيف يخرّب و يوهن كتابه المتقن الجامع بذكر عدد قليل من الفتاوى الباطلة فيه مع عدم الإجبار؟! و أئمتنا «ع» كانوا بصدد بيان الحقّ و قلع أساس الباطل مهما أمكن، كما يظهر من مخالفاتهم في المسائل المختلف فيها بين الشيعة و السنة في الأبواب المختلفة كالعول و التعصيب و نحوهما. هذا.
3- و استند المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه في باب ما يجب على من بدأ بالسعي قبل الطواف بالفقه الرضوي و قال في أثناء كلامه: «قال شيخان فاضلان صالحان ثقتان: إنّهما أتيا بهذه النسخة من قم إلى مكّة، و كانت النسخة قديمة و عليها خطوط إجازات العلماء، و في مواضع منها خطّه «ع».
______________________________
(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.
(2) مستدرك الوسائل 3/ 337، الفائدة الثانية من الخاتمة، في شرح حال الكتب و مؤلفيها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 116
..........
______________________________
و القاضي مير حسين-
طاب ثراه- كان استنسخ منها نسخة أتى بها إلى هذا البلد فاستنسخت أنا من نسخته ...» «1»
أقول: ظاهر هذه العبارة أنّ الشيخين المذكورين أخبرا المجلسي بذلك، و لكن الظاهر أنّهما أخبرا القاضي مير حسين بمكّة و القاضي أخبر المجلسي بأصفهان. و ليس في إخبار الثقتين كون الكتاب للإمام «ع» و إنّما أخبرا بإتيانهما الكتاب الخاصّ من قم، فتدبّر.
4- و المحقق النراقي- قدّس سرّه- خصّ عائدة من كتاب العوائد بتحقيق حال هذا الكتاب و قال ما ملخّصه: «إنّ هذا الكتاب لم يكن متداولا بين الطبقة المتوسّطة من الأصحاب إلى زمان الفاضل محمد تقي المجلسي و هو أوّل من روّج هذا الكتاب، و بعده ولده العلامة محمد باقر المجلسي، فإنّه أورده في كتاب بحار الأنوار.» إلى أن قال ما ملخّصه: «فقد عرفت أنّ الفاضلين المجلسيين و الفاضل الهندي و جمعا من مشايخنا العظام و منهم السيّد السند الأستاذ، و منهم صاحب الحدائق و هو من المصرّين على ذلك و يجعله حجّة بنفسه، و منهم صاحب رياض المسائل، و منهم الوالد الماجد صاحب اللوامع، و بعض من تقدّم عليهم كالفاضل الكاشاني شارح المفاتيح قد سلكوه في مسلك الأخبار و أدرجوه في كتب أحاديث الأئمة الأطهار «ع».»
5- و قال أيضا: «قال السيّد الأستاذ: و ممّا يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوى الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتّى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة، و خالفا لأجله من تقدّمهما من
______________________________
(1) شرح كتاب من لا يحضره الفقيه، كتاب الحج/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 117
..........
______________________________
الأصحاب، و عبّرا في الغالب بنفس عباراته،
و يلوح من الشيخ المفيد الأخذ به و العمل بما فيه من مواضع من المقنعة. و معلوم أنّ هؤلاء الأعاظم الذين هم أركان الشريعة لا يستندون إلى غير مستند و لا يعتمدون على غير معتمد. و قد رجع إلى فتاويهم أصحابنا المتأخّرون عنهم لاعتمادهم عليهم بأنّهم أرباب النصوص و أنّ فتواهم عين النصّ الثابت عن الحجج. و قد ذكر الشهيد [في الذكرى] أن الأصحاب كانوا يعملون بشرائع عليّ بن بابويه. و مرجع كتاب الشرائع و مأخذه هذا الكتاب كما هو معلوم على من تتبّعها و تفحّص ما فيها و عرض أحدهما على الآخر. و من هنا يظهر عذر الصدوق في عدّ رسالة أبيه من الكتب التي إليها المرجع و عليها المعوّل لأنّ الرّسالة مأخوذة من الفقه الرضوي و هو حجّة عنده و لم يكن الصدوق ليقلّد أباه فيما أفتاه حاشاه، و كذلك اعتماد الأصحاب على كتاب عليّ بن بابويه.» «1»
أقول: أراد بالسيّد الأستاذ: العلامة الطباطبائي المشتهر ببحر العلوم، حيث إنّه عقد في فوائده فائدة للبحث في هذا الكتاب «2».
6- و في العوائد أيضا عن سيّده الأستاذ أنّه قال: «قد اتفق لي في سني مجاورتي في المشهد المقدّس الرضوي أنّي وجدت في نسخة من هذا الكتاب من الكتب الموقوفة على الخزانة الرضوية: أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا- عليهما السلام- صنّف هذا الكتاب لمحمّد بن السكين، و أنّ أصل النسخة وجدت في مكة المشرّفة بخطّ الإمام «ع» و كان بالخطّ الكوفي فنقله المولى المقدّس الآميرزا محمد- و كان صاحب الرجال- إلى الخطّ
______________________________
(1) العوائد/ 247- 251.
(2) راجع الفوائد/ 144، الفائدة 45 و هى في آخر الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 118
..........
______________________________
المعروف.» و راجع المستدرك
أيضا. «1»
7- و في كتاب رياض العلماء في شرح حال السيّد عليّ خان شارح الصحيفة قال:
«ثمّ اعلم أنّ أحمد السكين- و قد يقال: أحمد بن السكين- هذا الذي قد كان في عهد مولانا الرضا- صلوات اللّه عليه- و كان مقرّبا عنده في الغاية. و قد كتب لأجله الرضا «ع» كتاب فقه الرضا. و هذا الكتاب بخطّ الرضا «ع» موجود في الطائف بمكّة المعظّمة في جملة من كتب السيّد عليّ خان المذكور التي قد بقيت في بلاد مكّة. و هذه النسخة بالخطّ الكوفي و تاريخها سنة مأتين من الهجرة، و عليها إجازات العلماء و خطوطهم. و قد ذكر الأمير غياث الدين المذكور نفسه أيضا في بعض إجازاته بخطّه هذه النسخة، ثمّ أجاز هذا الكتاب لبعض الأفاضل، و تلك الإجارة بخطّه أيضا موجود في جملة كتب السيّد علي خان عند أولاده بشيراز.» «2»
أقول: في رياض العلماء ذكر غياث الدين منصور من أجداد السيّد علي خان، و أنهى نسبه إلى أحمد السكين بن جعفر بن محمّد بن زيد الشهيد. و يشبه أن يكون أحمد بن السكين في العبارة الأخيرة و محمد بن السكين فيما قبلها أحدهما مصحّف الآخر.
و لكن المذكور في الرجال: محمد بن سكين بن عمّار النخعي. قال النجاشي إنّه ثقة روى أبوه عن أبي عبد اللّه «ع» «3». و لا يهمّنا فعلا تحقيق ذلك.
______________________________
(1) العوائد/ 249، عائدة في حال الفقه الرضوي. و مستدرك الوسائل 3/ 340، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.
(2) رياض العلماء 3/ 364.
(3) رجال النجاشى/ 361 (ط. أخرى/ 256)؛ و عنه في تنقيح المقال 3/ 121.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 119
..........
______________________________
و يظهر من العبارتين أنّ نسخة
الخزانة الرضوية كانت مأخوذة من نسخة السيّد عليّ خان في مكّة، و أنّ هذه النسخة غير ما أتى بها القاضي مير حسين من مكّة، لأنّها كانت لحجّاج قم أتوا بها من قم.
و الظاهر أنّ نسخة القاضي و نسخة القميين كانتا بالخط المعروف لا بالخطّ الكوفي و إلّا لأشار إلى ذلك السيّد و المجلسيّان فيما مرّ من كلامهما، فاحتمال وحدة النسختين بعيد.
و أبعد من ذلك احتمال أن تكون النسخة بالخطّ الكوفي كتابا آخر للرضا «ع» كتبه لابن السكين غير فقه الرضا الموجود عندنا كما يظهر من مصباح الفقاهة «1»، إذ بحر العلوم شهد أنّ النسخة كانت عين فقه الرضا الموجود عندنا.
8- و في الحدائق نقلا عن السيّد المحدّث السيّد نعمة اللّه الجزائري في مقدّمات شرحه على التهذيب قال: «و كم قد رأينا جماعة من العلماء ردّوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة، خصوصا كتاب الفقه الرضويّ الذي أتي به من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان، و هو الآن في خزانة شيخنا المجلسي، فإنّه قد اشتمل على مدارك كثيرة للأحكام و قد خلت عنها هذه الأصول الأربعة و غيرها.» «2»
أقول: يظهر من هذه العبارة أنّ نسخة من فقه الرضا أيضا أتي بها للمجلسي من الهند، فلا محالة تكون غير نسخة القاضي التي أتى بها من مكّة، و لعلّها كانت في خلال الكتب التي كان يؤتى بها للمجلسي من البلاد النائية حين تأليفه للبحار. و من
______________________________
(1) مصاح الفقاهة 1/ 15.
(2) الحدائق 1/ 25، المقدّمة الثانية.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 120
..........
______________________________
المحتمل و لو ضعيفا أنّها كانت مأخوذة من نسخة السيّد علي خان و لو بالواسطة، إذ
السيّد كما في رياض العلماء «1» كان مجاورا بمكّة ثمّ رحل في أوائل حاله إلى حيدرآباد من بلاد الهند و أقام بها مدة طويلة.
و كيف كان فهل الكتاب كان من إنشاء الإمام «ع» و لو إملاء على غيره كما عليه المجلسيان و جمع من فحول المتأخرين، و يؤيّد ذلك موافقة فتاوى الصدوقين لعباراته إذ دأب القدماء كان على الإفتاء بمتون الأخبار، أو أنّه كتاب مكذوب على الإمام «ع» بداعي دسّ بعض الفتاوى الباطلة فيه، أو أنّه رسالة عليّ بن بابويه إلى ابنه الذي اعتمد عليها الصدوق في فتاويه في الفقيه و غيره و كان الأصحاب يرجعون إليها عند إعواز النصوص كما ربّما يستشهد لذلك بموافقة ما حكاه عنها ابنه في الفقيه و المقنع لما في هذا الكتاب، و كذا ما حكاه عنها العلامة في المختلف، و ما أفتى به في الفقيه بلا ذكر مأخذ، أو أنّه كتاب التكليف الّذي ألّفه محمّد بن عليّ الشلمغاني فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم حسين بن روح فقال: ما فيه شي ء إلّا و قد روي عن الأئمة «ع» إلّا موضعين أو ثلاثة فإنّه كذب عليهم كما في غيبة الشيخ الطوسي «2»؟ في المسألة احتمالات بل أقوال:
و استدلّ القائلون بحجّية هذا الكتاب و اعتباره بوجوه عمدتها- كما في مصباح الفقاهة- و جهان:
و وثّقه المجلسيّان و اعتمدا
______________________________
(1) رياض العلماء 3/ 365.
(2) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 121
..........
______________________________
عليه، و خبر الثقة حجّة بمقتضى صحيحة أحمد بن إسحاق الماضية «1» و غيرها.
قال في المستدرك: «إنّ السيّد الثقة الفاضل القاضي أمير حسين أخبر بأنّ هذا الكتاب له «ع» و أخبره بذلك ثقتان عدلان من أهل قم. و هذا خبر صحيح داخل في عموم ما دلّ على حجّية خبر العدل.» «2»
و أورد على ذلك: بأن إخبار السيّد المذكور إمّا أن يكون مستندا إلى القرائن التي أوجبت له العلم: من خطوط العلماء عليه، و خطّ الإمام نفسه في مواضع منه، أو إلى إخبار الشيخين الثقتين له كما يظهر من عبارة المستدرك.
أمّا الأوّل فلا يفيدنا، إذ أدلّة حجيّة خبر الثّقة لا تشمل الأخبار الحدسية، إذ الظاهر من الخبر ما كان يحكي عن الواقع مباشرة، و في الحدسيّات يكون المخبر به في الحقيقة حدس المخبر و اجتهاده لا الواقع.
فإن قلت: الحدس هنا مبني على مقدّمات حسيّة فيكون من قبيل الإخبار بالملكات النفسانيّة كشجاعة زيد مثلا أو سخاوته أو عدالته- بناء على كونها من قبيل الملكات- بسبب مشاهدة آثارها الدالّة عليها. و في هذه الصورة يكون الخبر حجّة عند العقلاء و يكون عندهم بحكم الخبر الحسّي. و عمدة الدليل على حجيّة الأخبار بناء العقلاء و سيرتهم.
قلت: نعم و لكن بشرط وجود الملازمة العادية بين الآثار المشهودة و بين مباديها من الملكات بحيث يحصل العلم بها لكلّ من شاهد الآثار. و ليس المقام من هذا القبيل
______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في
تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.
(2) مستدرك الوسائل 3/ 339، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 122
..........
______________________________
لاختلاف الأشخاص جدّا في قوّة الإدراك و التشخيص و التخصّصات اللازمة. و لعلّ الخطوط التي رآها السيّد المذكور لو كانت بمرآنا لم تحصّل العلم لنا. و احتمال الجعل و التزوير أو الاشتباه في أمثال المقام مع طول الزمان ممّا لا دافع له.
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حجيّة الخبر عندنا ليست من جهة التعبد بل من جهة بناء العقلاء و سيرتهم، و هم كما يعملون بخبر الثقة يعملون في الأمور التخصصية بقول أهل الخبرة الموثوق به أيضا، و تشخيص الخطوط من أهمّ الأمور التخصصية، فتأمّل.
فإن قلت: كيف يمكن التشكيك في إسناد الكتاب إلى الإمام «ع» مع أنّه يوجد فيه عبارات كثيرة تدلّ على كونه له «ع» و لا تنطبق على غير الإمام كقوله في أوّل الكتاب:
«يقول عبد اللّه علي بن موسى الرضا» و قوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «أروي عن أبي العالم» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» إلى غير ذلك من العبارات التي لا ينبغي صدورها عن غير الإمام «ع».
قلت أوّلا: إنّ احتمال الكذب و الافتراء ممّا لا دافع له. و ربّما يؤلّف كتاب مشحون من المطالب الحقّة الصحيحة بداعي دسّ جملة باطلة فيه. و قد كثر الكذب على النبيّ «ص»، و الدسّ في أخبار الأئمة «ع» بدواع مختلفة، كما هو الشائع الذائع في جميع الأعصار بالنسبة إلى الشخصيّات البارزة الاجتماعية. و من المؤسف عليه أنّ فقه الرضا أيضا يوجد فيه بعض ما لا يمكن الالتزام به.
و ثانيا: إنّ أكثر العبارات المذكورة
قابلة للانطباق على أولاد الأئمة «ع» أيضا، فلعلّ المؤلّف للكتاب كان من السادة العلويّين الخبير بفقه الشيعة الإماميّة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 123
..........
______________________________
و أمّا أن جعل إخبار السيّد القاضي مستندا إلى إخبار الثقتين من أهل قم كما مرّ عن المستدرك
فيرد عليه: أنّ الثقتين المذكورين لم يخبرا بكون الكتاب للإمام «ع» و إن أوهم ذلك عبارة المستدرك، و إنّما أخبرا بأنّهما أتيا بالكتاب من قم، فراجع ما مرّ من عبارة المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه. و لو سلّم فليس خبرهما مسندا معنعنا إلى الرضا «ع» حتى يخرج عن الإرسال. و لا دليل على تلقّيهما إيّاه عن آبائهما يدا بيد إلى الإمام «ع» و إن احتمل ذلك في المستدرك. و بالجملة فخبر السّيد أو الثقتين بكون الكتاب للإمام من قبيل الأخبار المرسلة.
نعم مرّ في عبارة المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتقين نقلا عن السيد القاضي قوله: «و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّ هذا الكتاب من تصنيف الإمام.» «1»
و لكن يرد على ذلك أنّه على فرض الوثوق بمن كان عنده الكتاب أنا لا نطلع على حال آبائهم أجمعين فلا يثبت صحة الخبر في جميع الوسائط، فتدبّر.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 123
ممّا تمسّك به المثبتون لحجّية فقه الرضا: موافقة عباراته و مضامينه لما رواه الصدوق من رسالة أبيه إليه و لفتاوى الصدوق في الفقيه و المقنع. و قد كان بناؤهما كسائر القدماء من أصحابنا على الإفتاء بمتون الأخبار، فيظهر بذلك أنّ الكتاب كان عندهما
معتمدين عليه.
و قد ذكر المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي عقيب ما مرّ منه:
______________________________
(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 124
..........
______________________________
«و العمدة في الاعتماد على هذا الكتاب مطابقة فتاوى عليّ بن بابويه في رسالته و فتاوى ولده الصدوق لما فيه من دون تغيير أو تغيير يسير في بعض المواقع.» «1»
و مرّ عن العوائد عن بحر العلوم قوله: «و مما يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام علي بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوي الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة و خالفا لأجله من تقدّمهما من الأصحاب و عبّرا في الغالب بنفس عباراته.» «2»
و يرد على ذلك- كما في مصباح الفقاهة- «3»: أنّ هذا لا يوجب اعتبار الكتاب، لاحتمال العكس و أنّ الكتاب أخذ من رسالة ابن بابويه، بل هو الظاهر، إذ من المستبعد جدّا بل من المستحيل عادة أن يسند عليّ بن بابويه كتاب الإمام- عليه السلام- إلى نفسه من دون أن يشير هو أو ابنه إلى أنّ هذا الكتاب من تأليف الإمام. و هل يرضى أحد أن ينسب مثل هذه السرقة إلى الصدوقين؟! و يحتمل أيضا أخذ كلا الكتابين من كتاب ثالث.
هذا مضافا إلى أنّ سياق الكتاب لا يشبه سياق الروايات الصادرة عن الأئمة «ع» بل يشبه سياق كتب الفتوى المتضمنة لنقل بعض الروايات بعنوان الدليل.
و مضافا إلى اشتمال الكتاب على بعض الفتاوى المخالفة لمذهبنا كقوله مثلا في باب التخلّي و الوضوء: «و إن غسلت قدميك و نسيت المسح عليهما فإنّ ذلك يجزيك، لأنّك
______________________________
(1) الشرح الفارسى للفقيه، كتاب الحج 1/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).
(2)
العوائد/ 250.
(3) مصباح الفقاهة 1/ 15.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 125
..........
______________________________
قد أتيت بأكثر ما عليك و قد ذكر اللّه الجميع في القرآن: المسح و الغسل، قوله- تعالى-:
وَ أَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْن أراد به الغسل بنصب اللام، و قوله: وَ أَرْجُلَكُمْ بكسر اللام أراد به المسح، و كلاهما جائزان: الغسل و المسح.» «1»
و قوله في باب اللباس و ما يكره فيه الصلاة في حكم جلد الميتة: «إنّ دباغته طهارته.» «2»
و قوله: «قد يجوز الصلاة فيما لم تنبته الأرض و لم يحلّ أكله مثل السنجاب و الفنك و السّمور و الحواصل.» «3»
و قوله في تحديد الكر: «و العلامة في ذلك أن تأخذ الحجر فترمي به في وسطه فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبي الغدير فهو دون الكرّ و إن لم يبلغ فهو كرّ.» «4»
و نهيه عن قراءة المعوّذتين في الفريضة لأنه روي أنهما من الرقية ليستا من القرآن دخلوها في القرآن «5».
و قوله في بيان افتتاح الصلاة: «و انو عند افتتاح الصلاة ذكر اللّه و ذكر رسول اللّه «ص» و اجعل واحدا من الأئمة نصب عينيك.» «6» إلى غير ذلك من الموارد. هذا.
و في الفصول في باب حجّية الأخبار في فصل عقده لحجّية أخبار غير الكتب الأربعة قال في شأن فقه الرضا: «و ممّا يبعّد كونه تأليفه «ع» عدم إشارة أحد من علمائنا
______________________________
(1) فقه الرضا/ 79.
(2) فقه الرضا/ 302.
(3) فقه الرضا/ 302.
(4) نفس المصدر/ 91.
(5) نفس المصدر/ 113.
(6) نفس المصدر/ 105.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 126
..........
______________________________
السلف إليه في شي ء من المصنّفات التي بلغت إلينا، مع ما يرى من خوضهم في جمع الأخبار و توغّلهم في ضبط الآثار المرويّة عن الأئمة الأطهار «ع». بل
العادة قاضية بأنّه لو ثبت عندهم مثل هذا الكتاب لاشتهر بينهم غاية الاشتهار و لرجّحوا العمل به على العمل بسائر الأصول و الأخبار لما يتطرّق إليها من احتمال سهو الراوي أو نسيانه أو قصوره في فهم المراد أو في تأدية المفهوم أو تقصيره أو تعمّد الكذب، لا سيّما مع تعدّد الوسائط، و سلامة الكتاب المذكور عن ذلك. و لبعد ما فيه عن التقيّة بخلاف غيره. مع أنّ الصدوق قد جمع في كتاب العيون جميع ما وقف عليه من الأخبار و الآثار المرويّة عن الرضا- عليه السلام-. فلو كان قد عثر على الكتاب المذكور لنقله. و لو منعه عنه طول الكتاب لنبّه على وجوده و اكتفى بذكر بعض صفاته. مضافا إلى شواهد أخر في نفس الكتاب يؤكّد الظن بما ذكرناه ...» «1»
و في المستدرك عن بعض معاصريه ما ملخّصه: «لو كان هذا الكتاب للإمام «ع» لما كان يخفى على ولده: الأئمة الأربعة بعده. و من الظاهر أنّهم ما كانوا يخفون أمثال ذلك عن شيعتهم و مواليهم و لا سيّما خواصهم و معتمديهم، كما أخبر الأئمة «ع» بكتاب علىّ و صحيفة فاطمة- عليهما السلام-، و لكانوا يصرّحون به في كثير من أخبارهم و يأمرون الشيعة بالرجوع إليه و الأخذ منه، و لو وقع هذا لاشتهر بين القدماء و لكان يصل إليهم أثر منه. و لما كان يخفى على مشايخنا المحمّدين الثلاثة المصنّفين للكتب الأربعة و لا سيّما الصدوق «ره» المؤلف نحوا من ثلاثمائة مصنّف في الأخبار و من جملتها عيون أخبار الرضا. و لكان يطلع عليه جملة من فقهاء الشيعة و ما كان يبقى في زاوية الخمول
______________________________
(1) الفصول/ 312، باب حجيّة الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير
الكتب الأربعة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 127
..........
______________________________
فيما يقرب من ألف سنة.» «1»
هذا كله حول القول بكون الكتاب من إنشاء شخص الإمام الثامن علي بن موسى الرضا «ع». و قد ظهر لك عدم ثبوت ذلك.
القول الثاني: أنّه بعينه رسالة عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي إلى ولده الصدوق، و هو المعروف بشرائع عليّ بن بابويه. و ممّن مال إلى هذا القول العالم المتتبّع الخبير. الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصفهاني مؤلّف رياض العلماء. قال في شرح حال ابن بابويه: «و أمّا الرسالة إلى ولده فظنّي أنّه بعينه ما هو الآن يعرف بالفقه الرضوي، لأنّه ينادي على ذلك سياق ذلك الكتاب، و لعلّ ذلك الاشتباه لأنّهم لمّا وجدوا أنّ مؤلّفها هو أبو الحسن عليّ بن موسى كما هو الشائع في حذف بعض الأسامي من النسب حسبوا ذلك، فتأمّل. و تلك الرسالة هي بعينها التي ينقل عنها ولده في الفقيه و في سائر كتبه و يقول:
«قال أبي في رسالته إليّ ...»، لكن قال الأستاد الاستناد أيّده اللّه في أوّل البحار ...» «2»
و قال في شرح حال السيّد القاضي الأمير حسين بعد نقل ما مرّ من البحار في شأن فقه الرضا: «ثمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا الكتاب بعينه رسالة عليّ بن بابويه إلى ولده الشيخ الصدوق. و انتسابه إلى الرضا «ع» غلط نشأ من اشتراك اسمه و اسم والده، فظنّ أنّه لعليّ بن موسى الرضا- عليه السلام- حتى لقّب تلك الرسالة بفقه الرضا. و كان الأستاد العلامة أيضا يميل إلى ذلك ...» «3»
أقول: و قد كان هذا القول في الأيّام السابقة راجحا لديّ لما أحصيت موارد نقل
______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 346، الفائدة الثانية
من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.
(2) رياض العلماء 4/ 9.
(3) رياض العلماء 2/ 31.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 128
..........
______________________________
الصدوق في الفقيه من رسالة أبيه و كانت قريبا من ثلاثين موردا ثمّ قايستها على فقه الرضا فرأيت موافقتهما إلّا في بعض الموارد المشتملة على تغيير يسير، و كذلك قايست بعض ما يحكيه العلامة في المختلف عن الرسالة مع فقه الرضا فوجدتهما موافقين.
و لكن مع ذلك يشكل الالتزام بذلك، إذ لو فرض توجيه عبارة صدر الكتاب بالاشتراك في الاسم و زيادة كلمة: «الرضا» من قبل النسّاخ فكيف نوجّه العبارات الدالة على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة نظير قوله في باب الأغسال: «و ليلة تسع عشرة من شهر رمضان هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع»» «1» و في باب الزكاة: «و إنّي أروي عن أبي العالم- عليه السلام- في تقديم الزكاة و تأخيرها أربعة أشهر أو ستّة أشهر.» «2» و في باب الخمس بعد ذكر آية الخمس: «فتطوّل علينا بذلك امتنانا منه و رحمة» «3». و في باب الدعاء في الوتر: «و هذا ممّا نداوم به نحن معاشر أهل البيت- عليهم السلام-.» «4» إلى غير ذلك من الموارد. و راجع في هذا المجال المستدرك «5»، و الفصول باب حجّية خبر الواحد الفصل الذي مرّ ذكره.
القول الثالث: أنّه بعينه كتاب التكليف الذي ألّفه محمد بن عليّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم الحسين بن روح فقال: «ما فيه شي ء إلّا و قد روي عن الأئمة- عليهم السلام- إلّا موضعين أو ثلاثة
______________________________
(1) فقه الرضا/ 83.
(2) فقه الرضا/ 197.
(3) فقه الرضا/ 293.
(4) فقه الرضا/ 402.
(5)
راجع مستدرك الوسائل 3/ 343، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 129
..........
______________________________
فإنّه كذب عليهم في روايتها لعنه اللّه.» «1»
و قد حكي في مقدّمة فقه الرضا المطبوع أخيرا بتحقيق مؤسّسة آل البيت «ع» هذا القول عن السيّد حسن الصدر في كتابه فصل القضاء «2». و قد جاء السّيد لإثبات ذلك بشواهد:
منها: ما نقله عن كثير من علماء الشيعة كابن إدريس و الشهيدين و غيرهم من تفرّده بنقل رواية الشهادة للشاهد الواحد، و هذا موجود في فقه الرضا باللفظ المرويّ عن كتاب التكليف:
قال العلامة في الخلاصة في شرح حال الشلمغاني: «و له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف، رواه المفيد- رحمه اللّه- إلّا حديثا منه في باب الشهادات: أنّه يجوز للرجل أن يشهد لأخيه إذا كان له شاهد واحد من غير علم.» «3»
و في غيبة الشيخ الطوسي: «و أخبرني جماعة عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود و أبي عبد اللّه الحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أنّهما قالا: ممّا أخطأ محمّد بن عليّ في المذهب في باب الشهادة: أنّه روى عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حقّ فدفعه و لم يكن له من البيّنة عليه إلّا شاهد واحد و كان الشاهد ثقة رجعت إلى الشاهد فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهده عنده لئلا يتوى حقّ امرئ مسلم.» «4» و روى الخبر في عوالي
______________________________
(1) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.
(2) راجع فقه الرضا/ 46. المقدمة.
(3) خلاصة العلامة/ 254.
(4) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 130
..........
______________________________
اللآلي أيضا «1» عن كتاب التكليف.
و الخبر موجود في فقه الرضا بقوله: «و بلغني عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن» «2» و ذكر نحو ما في الغيبة.
و منها: أنّ جماعة من متقدّمي الأصحاب حكوا عن الشلمغاني في تحديد الكرّ: أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه، و أنّه خلاف الإجماع. و هذا التحديد مذكور في فقه الرضا كما مرّ «3».
ثمّ أدام البحث في مقدّمة فقه الرضا فقال: «علما بأنّ راوي كتاب التكليف عن الشلمغاني هو أبو الحسن عليّ بن موسى بن بابويه والد الشيخ الصدوق كما نصّ عليه أرباب الفهارس كالشيخ و العلامة و غيرهم فالاحتمال الوارد هنا أن أبا الحسن علي بن موسى- المصدّر به الكتاب- ليس الإمام الرضا «ع» بل هو ابن بابويه. و عادة القدماء جارية في ذكر اسم الجامع الراوي أو المؤلّف في ديباجة الكتاب و ينسب إليه الكتاب ...
و أمّا عمل الطائفة برواياته و كتبه فقد نقله الشيخ في العدّة، قال: عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب في حال استقامته و تركوا ما رواه في حال تخليطه. و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي و ابن أبي العزاقر و غير هؤلاء.» «4»
أقول: و على هذا فمن المحتمل استفادة الصدوقين و المفيد في الرسالة و الفقيه و المقنعة من هذا الكتاب لعلمهم بصحّة ما فيه إلّا في المواضع الخاصّة، و لم يشيروا إلى المدرك
______________________________
(1) عوالى اللآلى 1/ 315.
(2) فقه الرضا/ 308، باب الشهادة.
(3) فقه الرضا/ 91 باب المياه و شربها ...
(4) فقه الرضا/ 46- 49، المقدمة؛ و راجع أيضا عدّة الأصول 1/ 381.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 131
..........
______________________________
حذرا من ترويج الشخص الفاسد.
نعم
يرد على هذا القول أيضا ما ورد على القول السابق من وجود عبارات في الكتاب تدلّ على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة كقوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» و غير ذلك ممّا لا ينطبق على مثل الشلمغاني. هذا.
و إلى هنا تعرّضنا لثلاثة أقوال في شأن فقه الرضا. و بعد اللتيّا و التي لم يثبت لنا ماهيّته و لا حجّيته و اعتباره بنحو يعتمد عليه مستقلا. نعم، الروايات المنقولة فيه عن الأئمة «ع» تكون بحكم سائر المراسيل، فيمكن جبرها بعمل المشهور مع حصول الوثوق بها. كما أنّ ما وجد من مسائله مفتى به للصدوقين و المفيد لا تقلّ قطعا عن الأخبار المرسلة بعد ما نعلم إجمالا بأنهم لم يكونوا ممّن يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة بل كانوا متعبّدين بالنصوص الواردة و كان بناؤهم على الإفتاء بمتون الأخبار.
و لنذكر في الختام كلام صاحب الفصول في المقام: قال في باب حجّية الخبر في الفصل الذي مرّ ذكره: «و بالجملة فالتحقيق أنّه لا تعويل على الفتاوى المذكورة فيه. نعم ما فيه من الروايات فهي حينئذ بحكم الروايات المرسلة لا يجوز التعويل على شي ء ممّا اشتملت عليه إلّا بعد الانجبار بما يصلح جابرا لها. و لو استظهرنا اعتماد مثل المفيد و الصدوقين عليه في جملة من مواضعه فذلك لا يفيد حجّيته في حقّنا، لأنّه مبنيّ على نظرهم و اجتهادهم. و ليس وظيفتنا في مثل ذلك اتّباعهم، و إلّا لكانت الأخبار الضعيفة التي عوّلوا عليها حجّة في حقّنا ...» «1»
______________________________
(1) الفصول/ 313، باب حجّية الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير الكتب الأربعة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 132
و عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن مولانا الصادق «ع»:
«أنّ الحلال من البيوع كلّ ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للنّاس و يباح لهم الانتفاع. و ما كان محرما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» (1) انتهى.
______________________________
الرواية الثالثة
(1) هذه هي الرواية الثالثة. ففي الدعائم المطبوع: و عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» و هذا من قول جعفر بن محمد «ع» قول جامع لهذا المعنى «1».
أقول: من المحتمل أخذ هذه الرواية أيضا ممّا مرّ من رواية تحف العقول بنحو التلخيص و النقل بالمعنى، نظير ما قلناه في عبارة فقه الرضا السّابقة. و النقل بالمعنى و المضمون كان أمرا شائعا و لا سيّما بالنسبة إلى الروايات المفصّلة.
______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع ...، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 133
..........
______________________________
و في مصباح الفقاهة اعترض على الاستناد بالرواية بأنّ قوله: «و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه» يقتضي حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما، مع أنّه ليس بحرام قطعا. على أنّ الظاهر منه هي الحرمة التكليفية، مع أنّها منتفية جزما في كثير من الموارد التي نهي عن بيعها و شرائها. و إنّما المراد من الحرمة في تلك الموارد هي الحرمة الوضعيّة ليس إلّا، فلا تكون الرواية معمولة بها «1». انتهى.
أقول:
يرد على ما ذكره أوّلا: أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرّما أصله» خصوص المتمحّض في الفساد، لانصراف اللفظ إلى ما كان محرّما بنحو الإطلاق لا من جهة خاصّة. هذا مضافا إلى أن المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم يعني بقصد الجهة المحرّمة و صرفه في المنفعة المحرّمة لا مطلقا. إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية و دوران الحكم مداره: فإن كان الشي ء متمحّضا في الحرمة و الفساد لم يجز بيعه مطلقا، و إن كان ذا جهتين حرم بيعه لجهته المحرّمة فقط.
و يرد على ما ذكره ثانيا: ما مرّ في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول. و محصّله:
أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في لسان الكتاب و السنة أعمّ من التكليف و الوضع، فيراد بحلّية الشي ء إطلاقه من ناحية الشرع، و بحرمته محدوديّته من قبله. و إطلاق كلّ شي ء و محدوديّته بحسب ما يراد و يترقّب من هذا الشي ء. و حيث إنّ المترقّب من الصلاة المأتي بها مثلا صحّتها و سقوط أمرها و من إنشاء العقود و الإيقاعات صحّتها و ترتّب الآثار عليها فلا محالة يتبادر من الحلّية فيها الصّحة و من الحرمة الفساد كما في قوله- تعالى-:
أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا و في حديث سماعة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع»
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 22.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 134
..........
______________________________
و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.» «1»
فنقول: نظير الحلّية و الحرمة و الجواز و عدم الجواز أيضا، فيراد بجواز الشي ء مضيّه و إمضاؤه من ناحية الشرع، و بعدم الجواز عدم مضيّه و إمضائه، فانظر
إلى قوله «ع» في موثقة ابن بكير: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في و بره و بوله و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ.» «2»
و في رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة؟ فكتب: «لا تجوز الصلاة فيه.» «3»
و في مرفوعة محمّد بن إسماعيل إلى أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا تجوز الصلاة في شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه.» «4»
و في صحيحة ابن مهزيار قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تلك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة؟
فكتب: «لا تجوز الصلاة فيها.» «5»
و في صحيحة عليّ بن الريّان قال: كتبت إلى أبي الحسن «ع»: هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان و أظفاره من قبل أن ينفضه و يلقيه عنه؟ فوقّع: «يجوز.» «6»
______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(2) الوسائل 3/ 250، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.
(3) نفس المصدر و الباب 3/ 251، الحديث 4.
(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 7.
(5) الوسائل 3/ 258، كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 3.
(6) الوسائل 3/ 277، كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 135
..........
______________________________
إلى غير ذلك من الأخبار. و المتبادر من جميع هذه الاستعمالات صحّة الصلاة و فسادها. و هذا النحو من الاستعمال كان شائعا في لسان الكتاب و السنّة. نعم، في
أعصارنا غلب الاستعمال في التكليف فقط، و لكن الواجب حمل ألفاظ الكتاب و السنّة على ما كان مصطلحا فيهما.
و العجب من آية اللّه الخوئي- قدّس سرّه- مع كونه خبيرا بلسان الكتاب و السنّة كيف خفيت عليه هذه النكتة في المقام و في الروايتين السابقتين.
و بالجملة فدلالة رواية الدعائم على فساد المعاملة على المحرمات بقصد جهاتها المحرمة ممّا لا إشكال فيها، و إنّما الإشكال في السند.
فنقول: كتاب دعائم الإسلام تأليف أبي حنيفة الشيعي نعمان بن محمّد بن منصور، طبع في مجلّدين. و هو كتاب وزين جامع يظهر لمن تطلّع عليه أنّ مؤلّفه كان عالما متضلّعا بصيرا بالكتاب و السنّة مطّلعا على أخبار أهل البيت «ع» محبّا لهم. و كان قاضي القضاة بمصر في عهد الدولة الفاطميّة، و توفّي بالقاهرة سنة 363، و صلّى عليه الخليفة الفاطمي المعزّ لدين اللّه، و كان كتابه هذا القانون الرسمي منذ عهد المعزّ حتّى نهاية الدولة الفاطميّة. و اختلف في مذهبه و أنّه مات إماميا اثني عشريا أو إسماعيليّا بعد ما كان في بادي الأمر مالكيا:
1- قال ابن خلّكان في الوفيات: «أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد اللّه محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون (حيوان- خ.) أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير المختار المسبّحي في تاريخه فقال: كان من أهل العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 136
..........
______________________________
عليه، و له عدّة تصانيف: منها كتاب «اختلاف أصول المذاهب» و غيره، انتهى كلام المسبّحي في هذا الموضع. و كان مالكيّ المذهب ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة و صنّف كتاب «ابتداء الدعوة للعبيديين»، و كتاب «الأخبار» في الفقه، و كتاب
«الاقتصار» في الفقه أيضا. و قال ابن زولاق في كتاب «أخبار قضاة مصر» في ترجمة أبي الحسن عليّ بن النعمان المذكور ما مثاله: و كان أبوه النعمان بن محمّد القاضي في غاية الفضل، من أهل القرآن و العلم بمعانيه. و عالما بوجوه الفقه و علم اختلاف الفقهاء، و اللغة و الشعر الفحل و المعرفة بأيّام الناس مع عقل و إنصاف. و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا. و له ردود على المخالفين: له ردّ على أبي حنيفة و على مالك و الشافعي و على ابن سريج. و كتاب «اختلاف الفقهاء» ينتصر فيه لأهل البيت- رضي اللّه عنهم- و له القصيدة الفقهية لقّبها بالمنتخبة ...» «1» انتهى ما أردنا نقله عن ابن خلّكان.
أقول: لم يذكر هو فيما عدّ من كتبه كتاب دعائم الإسلام إلّا أن يريد بكتاب «الأخبار» كتاب الدعائم. و انتقاله إلى مذهب الإمامية لا يدلّ على كونه اثني عشريّا، إذ لفظ الإماميّة بحسب مفهومه يعمّ الإسماعيلية أيضا كلفظ الشيعة. و إن تبادر منهما في أعصارنا خصوص الاثني عشريّة.
2- و في مقدمة البحار قال: «و كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهّمون أنّه تأليف الصدوق «ره». و قد ظهر لنا أنّه تأليف أبي حنيفة: النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيّام الدولة الإسماعيلية. و كان مالكيّا أوّلا ثم اهتدى و صار
______________________________
(1) وفيات الأعيان 5/ 415، الرقم 766.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 137
..........
______________________________
إماميّا. و أخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة. لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق «ع» خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة.
و تحت ستر التقيّة أظهر الحقّ لمن نظر فيه متعمّقا. و أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. قال ابن خلّكان»- و ذكر ما حكيناه عنه، ثمّ قال-: «و نحوه ذكر اليافعي و غيره. و قال ابن اشوب آشوب في كتاب معالم العلماء: القاضي:
النعمان بن محمّد ليس بإماميّ. و كتبه حسان: منها شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار.» «1» انتهى ما أردنا نقله عن البحار.
3- و في كتاب لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: «النعمان بن محمّد بن منصور أبو حنيفة كان مالكيّا ثمّ تحوّل إماميّا، و وليّ القضاء للمعزّ العبيدي صاحب مصر فصنّف لهم التصانيف على مذهبهم، و في تصانيفه ما يدلّ على انحلاله. مات بمصر في رجب سنة ثلاث و ستين و ثلاثمائة. و من تصانيفه كتاب «تأويل القرآن.» «2»
أقول: هو أيضا لم يتعرّض لكتاب دعائم الإسلام.
4- و المحقّق التستري الكاظمي في المقابس في مسألة نجاسة الماء القليل بعد ما حكى عن الدعائم عدم النجاسة قال: «و هذا الرجل كما يلوح من كتابه من أفاضل الشيعة بل الإماميّة و إن لم يرو في كتابه إلّا عن الصادق و من قبله من الأئمة «ع» ... فما في معالم السّروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه. و قد ذكر السّروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة و فضائل الأئمة و غيرها ... و أكثر الأخبار التي أوردها في كتاب الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة ... إلّا أنّه مع ذلك خالف فيه الأصحاب في جملة من الأحكام
______________________________
(1) بحار الأنوار 1/ 38، الفصل الثانى توثيق المصادر.
(2) لسان الميزان 6/ 167.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 138
..........
______________________________
المعلومة عندهم بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّية المتعة. فربّما كان مخالفته لهم
هنا و بقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب. و لعلّه لبعض ما ذكر، و لعدم اشتهاره بين الأصحاب و عدم توثيقهم له و عدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره و لم يعدّ الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها. و قال صاحب البحار: إنّ أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. مع أنّ أخبار كثير من الأصول و المصنّفات يعتمد عليها و إن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال و غيرهم.» «1»
أقول: ظاهر الدعائم عدم انفعال الماء مطلقا ما لم يتغيّر بأوصاف النجاسة كالعماني منّا و مالك من فقهاء السنّة. و مقصوده بالسّروي: ابن اشوب آشوب المازندراني السّروي مؤلّف معالم العلماء و المناقب. و قد حكى عنه في البحار كما مرّ نفي كون القاضي إماميّا. و هو المختار لصاحب الروضات أيضا:
5- فقال بعد نقل كلمات الأعلام في المقام: «و لكن الظاهر عندي أنّه لم يكن من الإمامية الحقّة، و إن كان في كتبه يظهر الميل إلى طريقة أهل البيت- عليهم السلام- و الرواية من أحاديثهم من جهة مصلحة وقته و التقرّب إلى السّلاطين من أولادهم ...» «2»
أقول: ظاهر كلام الروضات عدم اعتقاد القاضي بمذهب الإسماعيليّة أيضا و كونه باقيا على مذهبه الأوّل. و لكن يشكل جدّا لمن لا يعتقد بفقه أهل البيت- عليهم السلام- أن يكتب عن فقههم و يدافع عنهم و يعترض على المذاهب الأخر بنحو صنع هذا الرجل جامعا للدقّة و المتانة كما يظهر لمن مارس كتاب الدعائم في الأبواب المختلفة. هذا.
______________________________
(1) مقابس الأنوار 1/ 85 و 86 (ط. أخرى/ 66).
(2) روضات الجنات 8/ 149، الرقم 725.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 139
..........
______________________________
و من أراد تفصيل البحث في هذا
الكتاب و مؤلّفه و مذهبه فليراجع المستدرك «1»، فقد أطال البحث في إثبات كون الرجل من الإمامية الحقّة و أنكر كونه من الإسماعيليّة و لا سيّما الباطنيّة منهم. و ذكر مواضع من كتاب الدعائم روى فيه عن أبي الحسن و أبي جعفر الثاني «ع» و قال: إنّ الإسماعيليّة يعتقدون بإمامة إسماعيل بن جعفر و ابنه محمد بن إسماعيل، و ليس في الكتاب ذكر منهما حتّى في مقام إثبات الإمامة و ردّ مقالات العامّة، بل صرّح في كتابه بكفر الغلاة و الباطنيّة و ضلالتهم و خروجهم من الدين، مع أنّ خلفاء عصره كانوا منهم في الباطن، فكيف يرضى المصنف أن ينسب إليه هذا المذهب؟
أقول: و ملخّص الكلام في المقام أنّ تأليفات الرجل و منها كتاب الدعائم تشهد بنفسها على سعة باعه و نبوغه في العلم و الفقه و الحديث و معرفته بأحاديث أهل البيت- عليهم السلام-، بل و حبّه و ولائه لهم إجمالا. مضافا إلى شهادة علماء التاريخ و الرجال بكونه إماميّا. و هذا اللفظ كان يطلق على من يعتقد بكون الإمامة حقا لعليّ و أولاده المعصومين في قبال المذاهب الأخر، فلا يصغى إلى ما مرّ من ابن اشوب آشوب و صاحب الروضات من التشكيك في ذلك. نعم يشكل إثبات كونه من الإمامية الاثني عشرية.
و لم يثبت كون اصطلاح الإماميّة في تلك الأعصار ممحّضا لهم بل اللفظ بإطلاقه يشمل الإسماعيليّة أيضا.
و ردّ القاضي للغلاة و الباطنيّة و تبريه من أقاويلهم لا يدلّ على عدم كونه من الإسماعيلية المعتدلة. و ليس كلّ إسماعيلي باطنيّا معتقدا بخرافات الباطنيّة و لم يثبت كون الخلفاء الفاطميّين في عصره أيضا منهم.
______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 313، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال
الكتب و مؤلّفيها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 140
______________________________
و الذي يهوّن الخطب عدم تأثير هذا البحث فيما هو محطّ النظر في المقام، إذ الملاك في اعتبار الحديث كون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره سواء كان صحيح المذهب أم لا. و الثابت من كتب التاريخ و الرجال علم الرجل و نبوغه و مذهبه إجمالا و لم يتعرّضوا لوثاقته بنحو يعتمد على حديثه. و لو سلّم فهو لم يكن في عصر الأئمة «ع».
و على هذا يكون رواياته في الكتاب مراسيل، فلا تفيد غالبا إلّا للتأييد و التأكيد كما مرّ عن البحار. اللّهم إلّا إذا فرض في مورد خاصّ جبر الإرسال بشهرة عمليّة. هذا.
و قد عثرت أنا في بعض الأبواب من كتاب الدعائم على أخبار تفسّر بعض المشكلات الموجودة في أخبارنا الصحاح بحيث يرتفع بها الشبهة الموجودة، و هذه بنفسها فائدة مهمّة، نظير روايات العياشي في تفسيره مع كونها مراسيل أيضا.
فإن قلت: قال في أوّل الدعائم: «نقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا رويناه عن الأئمة من أهل بيت رسول اللّه «ص».» «1»
قلت: ثبوت الصحّة عنده لا يوجب الثبوت عندنا، لاحتمال اكتفائه في تصحيح الحديث بما لا نكتفي به.
هذا مضافا إلى اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا، فلا يمكن الاعتماد عليه:
1- منها: ما مرّ من المقابس من إنكاره مشروعية المتعة و قال: «هذا زنا، و ما يفعل هذا إلّا فاجر.» «2»
2- و منها: جعله كلّ واحد من المذي و الدود و الحيات و حب القرع و الدم و القيح
______________________________
(1) دعائم الإسلام 1/ 2.
(2) دعائم الإسلام 2/ 229، كتاب النكاح، الفصل 7 (ذكر الشروط في النكاح).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 141
..........
______________________________
الخارج من أحد المخرجين ناقضا للوضوء «1».
3- و منها: قوله
في الوضوء: «و لا ينبغي أن يتعمد البدء بالمياسر. و إن جهل ذلك أو نسيه حتّى صلّى لم تفسد صلاته.» «2»
4- و منها: قوله في مسح الرأس: «ثمّ أمروا بمسح الرأس مقبلا و مدبرا، يبدأ من وسط رأسه فيمرّ يديه جميعا على ما أقبل من الشعر إلى منقطعه من الجبهة، ثم يردّ يديه من وسط الرأس إلى آخر الشعر من القفا، و يمسح مع ذلك الأذنين ظاهرهما و باطنهما، و يمسح عنقه.» «3»
5- و منها: قوله في الرجلين: «و من غسل رجليه تنظّفا و مبالغة في الوضوء و لابتغاء الفضل و خلّل أصابعه فقد أحسن.» «4»
6- و منها: قوله في الوضوء التجديدي: «و ما غسل من أعضاء الوضوء أو ترك فلا شي ء عليه فيه. و قد روينا عن الحسين بن عليّ «ع» أنّه سئل عن المسح على الخفيّن فسكت حتّى مرّ بموضع فيه ماء و السائل معه فنزل فتوضّأ و مسح على خفّيه و على عمامته و قال: هذا وضوء من لم يحدث.» «5»
______________________________
(1) دعائم الإسلام 1/ 101 و 102، كتاب الطهارة، ذكر الأحداث التى توجب الوضوء.
(2) دعائم الإسلام 1/ 107، كتاب الطهارة، ذكر صفات الوضوء. و راجع أيضا نفس الكتاب و الفصل ص 109.
(3) نفس المصدر 1/ 108.
(4) نفس المصدر 1/ 108.
(5) نفس المصدر 1/ 110.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 142
..........
______________________________
7- و منها: قوله في مسجد الجبهة: «و كلّ ما يجوز لباسه و الصلاة فيه يجوز السجود عليه، و الكفّان و القدمان و الركبتان من المساجد، فإذا جاز لباس ثوب الصوف و الصلاة فيه فذلك ممّا يسجد عليه. و كذلك يجزي السجود بالوجه عليه.» «1»
إلى غير ذلك من الفتاوى المخالفة التي يعثر
عليها المتتبع.
و اعتذر له في المستدرك فقال: «إنّه معذور في ذلك من وجوه:
الأوّل: أنّه لم يخالف في موضع منها إلّا لما ساقه الدليل من ظاهر كتاب أو سنّة، و لم يتمسّك في موضع بالقياس و الاستحسان و الاعتبارات العقليّة و المناطات الظنيّة ...
الثاني: أنّه لم تكن الأحكام في تلك الأعصار بين فقهاء أصحابنا منقّحة متميّزة يتبين لكلّ أحد المجمع عليه منها من غيره، و المشهور منها عمّا سواه ...
الثالث: أنّه ما خالف في فرع غالبا إلّا و معه موافق معروف، و لو لا خوف الإطالة لذكرنا نبذة من ذلك، نعم في مسألة المتعة لا موافق له ...
الرابع: بعد محلّ إقامته عن مجمع العلماء و المحدّثين و الفقهاء الناقدين و تعسّر اطلاعه على زبرهم و تصانيفهم ...» «2»
أقول: على فرض كونه في هذه الآراء قاصرا معذورا فالكتاب المشتمل على هذا السنخ من الآراء و الفتاوى يخرج عن مرحلة الصحّة و الاعتماد، فتأمّل. و لعلّه لأمثال ذلك لم يعتدّ أعاظم الفقهاء و المحدّثين من قبيل شيخ الطائفة و معاصريه و من تابعه بهذا الكتاب و صار متروكا من قبل أصحابنا، فتدبّر.
______________________________
(1) نفس المصدر 1/ 178، كتاب الصلاة، ذكر اللباس في الصلاة.
(2) مستدرك الوسائل 3/ 317، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 143
و في النبوي المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» (1).
______________________________
الرواية الرابعة
(1) هذه هي الرواية الرابعة ممّا ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة. و قد ذكرها شيخ الطائفة بهذا المتن في بيوع الخلاف و استدلّ بها لعدم جواز بيع المسوخ و سرجين مالا يؤكل لحمه، فراجع «1».
و الرواية عامّية نقلها أرباب السنن و المسانيد عن ابن
عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:
ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: «لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها. و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «2»
و رواها البيهقي في السنن بسنده عن ابن عباس «3». و رواها أيضا أحمد في المسند
______________________________
(1) كتاب الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، المسألتان 308 و 310.
(2) سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة.
(3) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 144
..........
______________________________
بسنده عن ابن عباس «1». و رواها أيضا المحدّث النوري في المستدرك عن عوالي اللآلي «2».
و المذكور في الجميع كلمة الأكل.
نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند عن ابن عباس بدونها، فقال: إنّ النبي «ص» قال: «لعن اللّه اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها، و إن اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه.» «3»
أقول: بعد اختلافهم في نقل كلمة الأكل و عدمه و العلم برجوع الروايات إلى رواية واحدة لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون، يكون المظنون وجود كلمة الأكل في الحديث و سقطه في النقل الأخير.
و إن شئت قلت: إنّ أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة و إن كان كلتاهما أصلين معتبرين عند العقلاء لأصالة عدم غفلة الراوي، إلّا أنّه مع تعارضهما تقدّم الأولى عندهم، إذ يبعد جدّا أن
يزيد الراوي من عند نفسه كلمة، و هذا بخلاف السقط فإنّ احتماله ليس بهذه المثابة من البعد.
و بالجملة فما في الخلاف و متن المكاسب من نقلها بدون هذه الكلمة غير ثابت.
و على هذا فتخرج الرواية عن كونها ضابطة كليّة في المقام.
و استدل البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.
و أورد عليه في حاشية الكتاب المسمّاة بالجوهر النقيّ بقوله: «عموم هذا الحديث
______________________________
(1) مسند أحمد 1/ 247 و 293.
(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و عوالي اللآلي 2/ 110، الرقم 301.
(3) مسند أحمد 1/ 322.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 145
..........
______________________________
متروك اتّفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها ...» «1»
أقول: يمكن أن يدافع عن البيهقي بأنّ الظاهر من الحديث حرمة بيع ما يحرم أكله إذا كان معدّا للأكل و بيع لذلك لا مطلقا. و الحاصل: أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر منها وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، فلا محالة يجب حملها على صورة كون المبيع ممّا يصرف عادة في الأكل و كان بيعه لذلك و إلّا لم يمكن الالتزام بمضمونه.
و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد أو ندرة منفعته المحلّلة بحيث تلحق بالعدم. و هذا يقتضي فساد البيع قطعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون هذه الفتوى منهم مستندة إلى هذه الرواية العاميّة حتى يجبر بسببها ضعفها. بل الفساد في هذه الصورة واضح،
إذ بعد حرمة جميع منافع الشي ء يصير الشي ء بمنزلة ما لا منفعة له أصلا فيسقط عن الماليّة شرعا.
و لو قيل بشمول قوله: «إذا حرّم شيئا» لحرمة بعض الانتفاعات منه فلا محالة يراد من الجزاء أيضا بمناسبة الحكم و الموضوع فساد بيعه بقصد هذه المنفعة المحرّمة لا مطلقا، فتأمّل.
و بالجملة فالرواية مضافا إلى الاختلاف في نقلها لم تنقل بطرقنا و لم يثبت استناد أصحابنا إليها في فتاويهم. و استناد الشيخ و أمثاله إلى هذا النسخ من الروايات العاميّة في الكتب الاستدلاليّة لعلّه كان بقصد المماشاة مع أهل الخلاف. هذا.
و قصّة بيع اليهود للشحوم رواها جابر أيضا و لكن بدون الضابطة المذكورة في
______________________________
(1) راجع ذيل «سنن البيهقى» 6/ 13، باب تحريم بيع ما يكون نجسا ... من «الجوهر النقى».
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 146
..........
______________________________
الذيل برواية ابن عبّاس:
ففي سنن أبي داود بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال:
«لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لما حرّم عليهم شحومها أجملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه.» «1»
و راجع في هذا المجال أيضا روايات عمر و أنس و عكرمة بن خالد عن أبيه «2».
أقول: جمله و أجمله و جمّله: أذابه. و الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة على اليهود مطلقا و إن كان المتبادر بدوا من هذه الرواية أنّها كانت من قبيل الميتة. و سيأتي البحث في جواز الانتفاع بالميتة
و عدمه.
و ممّا يقرب من الرواية مضمونا ما رواه أبو داود أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «3»
إذ بإلغاء الخصوصيّة من الموارد الثلاثة المذكورة يستفاد من الرواية وجود التلازم بين حرمة الشي ء و حرمة ثمنه.
و قد ظهر بما ذكرناه بطوله أنّه ليس بين الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة الكليّة ما يعتمد عليه بانفراده بحيث يقاوم عمومات صحّة العقود و التجارات.
نعم، يصلح كلّها للتأييد و التأكيد في الأبواب المختلفة.
______________________________
(1) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
(2) كنز العمّال 4/ 160- 163، بيع الخمر، الروايات 9980- 9987.
(3) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 147
إذا عرفت ما تلوناه و جعلته في بالك متدبّرا لمدلولاته فنقول: قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب إلى محرّم و مكروه و مباح مهملين للمستحبّ و الواجب بناء على عدم وجودهما في المكاسب. مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة و الرعي ممّا ندب إليه الشرع. و للواجب بالصناعة الواجبة كفاية خصوصا إذا تعذّر قيام الغير به، فتأمّل. (1)
______________________________
في تقسيم المكاسب
(1) المكاسب جمع المكسب إمّا مصدر ميميّ بمعنى الكسب أو اسم مكان و يراد به هنا ما يقع عليه أو به الكسب أعني ما يكتسب به من الأشياء أو الأعمال، و بعبارة أخرى موضوع الكسب.
قال الراغب في المفردات: «الكسب: ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع و تحصيل حظّ ككسب المال.» «1».
______________________________
(1) مفردات الراغب/ 447.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 148
..........
______________________________
و قد مثّلوا للمحرّم بصنع آلات اللهو و القمار و الأصنام و نحوها و كذا المعاملة عليها بالبيع و الشراء و الإجارة و نحوها. و للمكروهة بالذباحة و الصرف و بيع الأكفان و الرقيق و نحو ذلك. و للمباح بالصنائع و المعاملات المتعارفة التي لا حزازة فيها.
و الأخبار الواردة في الندب إلى الزرع و الرعي كثيرة جدّا رواها الفريقان:
1- ففي خبر محمّد بن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- اختار لأنبيائه الحرث و الزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «1»
2- و في خبر سهل بن زياد رفعه قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّ اللّه جعل أرزاق أنبيائه في الزرع و الضّرع لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «2»
3- و في خبر سيّابة عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك، أسمع قوما يقولون: إنّ الزراعة مكروهة. فقال له: «ازرعوا و اغرسوا، فلا و اللّه ما عمل الناس عملا أحلّ و لا أطيب منه. و اللّه ليزر عنّ الزرع و ليغرسنّ النخل بعد خروج الدجّال.» «3»
4- و في خبر أحمد بن أبي عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال: قال أبو جعفر «ع»: كان أبي يقول: «خير الأعمال الحرث تزرعه فيأكل منه البرّ و الفاجر: أمّا البرّ فما أكل من شي ء استغفر لك. و أمّا الفاجر فما أكل منه من شي ء لعنه. و يأكل منه البهائم و الطير.» «4»
5- و في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سئل النبي «ص»: أيّ المال خير؟
قال: «الزرع زرعه صاحبه و أصلحه و أدّى حقّه يوم حصاده.» قال: فأيّ المال بعد الزرع
______________________________
(1) الكافى 5/
260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 1.
(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.
(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.
(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 149
..........
______________________________
خير؟ قال: «رجل في غنم له قد تبع بها مواضع القطر ...» «1»
6- و في رواية يزيد بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيّبا أخرجه اللّه- عزّ و جلّ-، و هم يوم القيامة أحسن الناس مقاما و أقربهم منزلة يدعون المباركين.» «2»
7- و في روايته الأخرى قال: سألت جعفر بن محمّد «ع» عن الفلاحين فقال: «هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه. و ما في الأعمال شي ء أحبّ إلى اللّه من الزراعة. و ما بعث اللّه نبيّا إلّا زرّاعا إلّا إدريس فإنّه كان خيّاطا.» «3»
8- و عن محاسن البرقي بسنده عن عليّ «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «عليكم بالغنم و الحرث، فإنّهما يغدوان بخير و يروحان بخير.» «4»
9- و في باب فضل الزرع و الغرس من البخاري بسنده عن أنس قال: قال رسول اللّه «ص»: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة.» «5»
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة. و راجع في هذا المجال تجارة الوسائل، و البحار «6».
______________________________
(1) الكافى 5/ 260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 6.
(2) الكافى 5/ 261، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 7.
(3) الوسائل 12/ 25، كتاب التجارة، الباب 10 من أبواب مقدّماتها، الحديث 3.
(4) الوسائل 8/ 393، كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام الدّوابّ، الحديث 3.
(5) صحيح البخاري 2/ 45، ما جاء في الحرث و المزارعة،
باب فضل الزرع و الغرس ...
(6) راجع الوسائل 12/ 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات التجارة؛ و البحار 100/ 63 (ط. إيران 103/ 63) كتاب العقود و الإيقاعات، باب استحباب الزرع و الغرس ...
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 150
..........
______________________________
و أما أمر المصنّف أخيرا بالتأمّل فلعلّه إشارة إلى ما ذكره الأعلام في المقام:
قال المحقّق الإيرواني في حاشيته: «المستحبّ هو عنوان الزراعة و الرعي دون التكسّب بهما و أخذ الأجرة عليهما و دون التعيّش بهما بصرف الحاصل منهما في المعاش.» «1»
و قال أيضا: «الواجب في الصناعات الواجبة كفاية هو نفس القيام بالصنعة و تصدّيها و عدم التأبي عنها دون عنوان التكسّب بها و أخذ الأجرة عليها. إلّا أن يقال: إنّ القيام المجاني ربّما يزيد في اختلال النظام. و لكن مع ذلك لا يكون التكسّب بعنوان نفسه واجبا، بل يجب بعنوان إقامة النظام. و لو بني على التمثيل للواجب بما وجب بمثل هذه العناوين دخل في الواجب ما وجب بالنذر و اليمين و بعنوان الإنفاق على العيال الواجب النفقة و لأجل أداء الدين.» «2»
أقول: لقد أجاد فيما أفاد.
و يمكن أن يقال في الزرع أنّ الندب إليه لعلّه من جهة توفير أرزاق الناس و ما يقوم به حياتهم و تعيّش البهائم و الطيور و إن وقع العمل عليه مجّانا، و يشعر بذلك بعض ما مرّ من الأخبار.
و في الرعي أيضا لذلك، أو لتحصيل ملكة الانقياد و التواضع للنفس و تمرينها على الأخلاق الحسنة و حسن المعاشرة و العطف على الضعفاء. فإنّ المعتاد بتربية الحيوانات و الأنس بها يصير لا محالة واسع النفس مقتدرا على المعاشرة مع الروحيات النازلة السافلة و الطبقات المختلفة الأهواء و الآراء و يصير
بذلك نافعا لنفسه و للمجتمع. و ذلك أمر مرغوب فيه شرعا.
و يدلّ على ذلك ما ورد من مباشرة الأنبياء العظام لرعي الأغنام كخبر عقبة عن أبي
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.
(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 151
..........
______________________________
عبد اللّه «ع» قال: «ما بعث اللّه نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيه الناس.» «1»
و في النبوي: «ما من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم.» قيل: و أنت يا رسول اللّه؟ قال: «و أنا.» «2»
و أمّا الصناعات الواجبة- و يقال لها الواجبات النظاميّة- فيجاب عنها أوّلا بما مرّ عن الإيرواني من أنّ الواجب فيها نفس القيام بها و لو مجّانا لا التكسب بها.
لا يقال: القيام بها مجانا من قبل الجميع يوجب بنفسه اختلال النظام فلا بدّ و أن يكون الواجب هو التكسّب بها.
فإنّه يقال: ما يوجب الاختلال هو تعيّن المجانيّة و لا نقول بذلك، و إنّما نقول بوجوب الطبيعة الجامعة بين المجانيّة و بين الاكتساب. و قد أوضح ذلك في مصباح الفقاهة، فراجع «3».
و ثانيا: أنّ الصنائع ليست بواجبة أصلا بل هي مباحة بالذات إلّا الصنائع المحرّمة.
و الواجب هو حفظ النظام. و توقفه عليها لا يقتضي وجوبها لمنع وجوب المقدّمة شرعا.
و ثالثا: أنّ كلامنا في الوجوب النفسي الثابت للشي ء بعنوانه- نظير الكراهة النفسيّة الثابتة للصرف و بيع الأكفان و أمثالهما- لا الوجوب المقدّمي التبعيّ.
و رابعا: لو صحّ التمثيل للواجب بما وجب و لو تبعا و بعنوان آخر لدخل فيه أيضا ما وجب بعقد الإجارة أو النذر و أخويه أو لأجل أداء الدين أو النفقة الواجبة عليه، فما وجه الاقتصار على التمثيل بالصنائع الواجبة كفاية؟
و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لبعض
ما مرّ قال: «و التحقيق: أنّ التقسيم إن كان باعتبار نفس التكسّب فلا محيص عن تثليث الأقسام كما تقدّم. و إن كان بلحاظ فعل
______________________________
(1) بحار الأنوار 11/ 64، كتاب النبوّة، الباب 2 (باب نقش خواتيمهم ...)، الحديث 7.
(2) بحار الأنوار 61/ 117، كتاب السماء و العالم، الباب 2 (باب أحوال الأنعام ...).
(3) مصباح الفقاهة 1/ 27.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 152
..........
______________________________
المكلّف و العناوين الثانويّة الطارئة عليه فلا مانع من التخميس.» «1»
أقول: هذا بعض الكلام حول عبارة الشيخ الأعظم «ره» في المقام. و لكن ينبغي التعرّض لبعض كلمات الأصحاب أيضا لزيادة البصيرة، يظهر من بعضها تثليث الأقسام و من بعضها تخميسها:
1- فيظهر من عبارة الشيخ الطوسي «ره» في النهاية تثليث الأقسام، حيث سرد فيها المكاسب المحرّمة ثمّ المباحة ثمّ المكروهة. و المراجعة إليها لازمة لمن أراد أن يطّلع على نظر قدماء الأصحاب في المقام «2». و كذا إلى مقنعة المفيد و إن لم يتعرّض للمكروهة منها «3».
2- و المحقّق في الشرائع ثلّث الأقسام و لكن جعل المقسم ما يكتسب به فقال: «الأوّل:
فيما يكتسب به و هو ينقسم إلى محرّم و مكروه و مباح.» ثمّ قسّم المحرّم إلى خمسة أنواع:
«الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر ... الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو ...
الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ ... الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة و الغناء ... الخامس: ما يجب على الإنسان فعله ...» «4»
و ناقشه الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه فقال ما محصّله: «أنّ ما لا ينتفع به و ما يجب فعله ليسا من أقسام ما جعله مقسما أعني ما يكتسب به، و كذا ما ذكرها في
المكروهات كبيع الصرف و الأكفان و غيرهما ممّا هي من المكاسب المكروهة لا ما يكتسب به المكروه.
و الظاهر أن مراده ما يكون الاكتساب به محرّما أو مكروها أو مباحا.» «5»
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 27.
(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 363، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.
(3) المقنعة/ 586 (ط. أخرى/ 90)، أبواب المكاسب.
(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9- 11)، في أوّل كتاب التجارة.
(5) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 153
..........
______________________________
أقول: لأحد أن يدافع عن المحقّق أوّلا: بأنّ حمل ما يكتسب به على الاكتساب خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر تقسيم ما يكتسب به إلى المحرّم و المكروه و المباح، انقسامه إليها مع قطع النظر عن الاكتساب العارض له لا تقسيم الاكتساب إلى المحرّم و المكروه و المباح.
و على هذا فيمكن أن يقال بأنّ المحرّم فيما لا ينتفع به أخذ الثمن بإزائه، و في الفعل الواجب أخذ الأجرة بإزائه. فيراد بما يكتسب به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، إذ معنى الكسب تحرّي المال و طلبه بنحو الإطلاق. و من يبيع المسوخ مثلا و يأخذ الثمن بإزائها يصدق عليه أنّه يكتسب بعمله هذا. و كذا من يأخذ الأجرة بإزاء العمل الواجب، فتأمّل. كما أنّ في الصرف و نحوه يكون العمل مكروها و يصدق عليه أنّه ممّا يكتسب به.
و ثانيا: أنّ الثمن المأخوذ بإزاء ما لا ينتفع به و كذا الأجرة المأخوذة بإزاء العمل الواجب تكونان بأنفسهما من الأعيان الخارجيّة المحرّمة وضعا لعدم انتقالهما إليه شرعا و قد وقع الاكتساب بهما، فيراد بالمحرّم الأعمّ من التكليف و الوضع نظير ما إذا كان المبيع أو الثمن غصبا. فالخمر محرّمة بلحاظ
شربها و الغصب محرّم بلحاظ غصبها، هذا وضعا و ذاك تكليفا.
و يشهد لذلك ما في متن اللّمعة حيث قسم موضوع التجارة إلى ثلاثة أقسام و عدّ من أقسام المحرّم الأجرة على تغسيل الموتى و الأجرة على الأفعال الخالية من غرض حكمي كالعبث. و لا يراد بموضوع التجارة إلّا ما يكتسب به، فتأمّل.
و بما ذكرناه أوّلا من احتمال كون ما يكتسب به أعمّ من الأعيان الخارجية و الأعمال يظهر أنّ المقسم في كلمات الأصحاب لو كان ما يكتسب به لا نفس الاكتساب أمكن فرض المندوب فيه أيضا و التمثيل له بمثل الزرع و الرعي بناء على استحبابهما شرعا كما قيل.
و لا يرد على ذلك ما مرّ من أنّ المندوب نفس الزرع و الرعي و لو مجانا لا الاكتساب
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 154
..........
______________________________
بهما، إذ المفروض أنّ التقسيم لما يكتسب به لا للاكتساب. و كذلك يمكن فرض الواجب فيه أيضا و التمثيل له بالواجبات النظاميّة بناء على كفاية الوجوب المقدّمي في ذلك.
و لا يرد على ذلك بأنّ الواجب نفس الصناعات و لو مجانا لا الاكتساب بها، فتدبّر.
3- و في المراسم عدّ الأقسام خمسة فقال: «المكاسب على خمسة أضرب: واجب و ندب و مكروه و مباح و محظور. فأمّا الواجب فهو كلّ حلال بيعه أو الاحتراف به إذا كان لا معيشة للإنسان سواه. و أمّا الندب فهو ما يكتسب به على عياله ما يوسّع به عليهم. و أمّا المكروه فأن يكتسب محتكرا أو له عنه غنى و يحتمل به مشقّة. و أمّا المباح فأن يكتسب ما لا يضرّه تركه و لا يقيم بأوده بل له عنه غنى. و أمّا المحظور فأن يكتسب مالا لينفق في
الفساد أو يحترف بالحرام.» ثم قال: «المعايش على ثلاثة أضرب: مباح و محظور و مكروه.» «1» و مثل للثلاثة بنحو ما في الشرائع لأقسام ما يكتسب به.
أقول: يظهر من كلامه «ره» أنّه أراد بالمكسب: المعنى المصدري أعني نفس الاكتساب، و بالوجوب و الحرمة و الندب: الأعمّ من النفسيّ و المقدّمي. و بناء كلامه على كون مقدّمة الواجب واجبة و مقدّمة المندوب مندوبة و مقدّمة الحرام محرّمة شرعا. و قد مرّ منّا منع ذلك.
4- و في متن اللمعة قسّم موضوع التجارة إلى محرّم و مكروه و مباح و بعد ذكر أمثلتها نحو ما في الشرائع قال: «ثمّ التجارة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة.» «2» فأراد بموضوع التجارة ما يكتسب به و بالتجارة المعاملات الواقعة.
5- و العلامة في القواعد جعل المقسم المتاجر و قال: «و هي تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة» «3»
______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
(2) اللمعة الدمشقية/ 62؛ و الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية 1/ 312، الفصل الأوّل من كتاب المتاجر.
(3) القواعد 1/ 119، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 155
..........
______________________________
ثمّ مثّل للواجب بما يحتاج إليه الإنسان لقوته و قوت عياله. و للمندوب بما يقصد به التوسعة على العيال أو نفع المحاويج. و للمباح بما يقصد به الزيادة في المال. و للمكروه بالصرف و بيع الأكفان و نحو ذلك. و للمحظور بما اشتمل على وجه قبيح و قسّمه بخمسة أقسام كما مرّ من الشرائع.
أقول: يرد عليهما نحو ما أوردناه على المراسم بالنسبة إلى الواجب و المندوب.
6- و في المسالك بعد التعرّض لتثليث الأقسام و تخميسها قال ما ملخّصه: «أنّ كلا من التقسيمين حسن، إذ لا
خلل في الثلاثة كما لا خلل في الخمسة، فإنّ مورد القسمة في الثلاثة ما يكتسب به و هو العين و المنفعة، و مورد الخمسة الاكتساب الذي هو فعل المكلّف و من شأنه أن يقبل الأقسام الخمسة.» «1»
أقول: يرد عليه أنّهم ذكروا في أمثلة المحرّم بيع السلاح لأعداء الدين مثلا و بيع ما لا ينتفع به كالحشرات و المسوخ. و لم يتعلّق الحرمة فيهما بالعين أو المنفعة، بل بنفس العمل أعني المعاملة و أخذ الثمن، كما أنّ المكروه أيضا نفس الصرف و بيع الأكفان و هما من قبيل الأعمال. نعم يمكن أن يقال: إنّ المقصود بما يكتسب به ليس خصوص الأعيان أو المنافع بل يعمّ الأعمال أيضا كما مرّ بيانه، فتأمّل.
7- و الأستاذ الإمام «ره» بعد الإشارة إلى ما في القواعد اعترض عليه بما محصّله: «و الظاهر منه أنّ الأقسام للتجارة و أن الأحكام الخمسة هي التكليفيّة لا مع الوضعيّة، فيرد عليه:
أوّلا: أنّ التجارة لا تصير واجبة شرعا و لو كان الطريق لتحصيل قوت العيال منحصرا فيها لمنع وجوب المقدّمة شرعا. و لو سلّم يتعلّق الوجوب بعنوان آخر (: عنوان المقدّميّة) غير ذات الموقوف عليها.
______________________________
(1) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 156
..........
______________________________
و ثانيا: أنّ الحرمة في كثير ممّا ذكره غير ثابتة، أو ثبت عدمها كالتجارة بما لا ينتفع به، فإنّها من حيث هي تجارة و نقل و انتقال ليست محرّمة. و التصرّف في مال الغير- بعد بطلان المعاملة- و إن كان محرّما لكنّه غير عنوان التجارة. و كذلك التجارة بالأعيان النجسة غير ثابتة الحرمة.
و ثالثا: أنّ المقسم في التجارة الواجبة و المستحبّة هو الكسب المنتهي إلى النقل و الانتقال العقلائي الممضى
شرعا أعني ما يوصل المكلّف إلى حفظ النظام، بناء على ما هو التحقيق من أنّ الواجب من المقدّمة- على القول به- خصوص الموصلة منها. و في المحرّمة لو كان كذلك لزم صحّة المعاملة فيها و هي خلاف الواقع المسلّم عندهم، فلا بدّ و أن يكون المراد فيها المعاملة العقلائية و إن لم تصحّ شرعا فلا يكون المقسم واحدا، إلّا أن يقال:
المقسم نفس الطبيعة الجامعة بين الصحيحة و الفاسدة.» «1»
أقول: ما ذكره أوّلا وارد كما مرّ منّا. و أمّا الثاني فمبنيّ على حمل حرمة التجارة على الحرمة التكليفيّة و هو غير واضح. و إرادة التكليف من الوجوب و الندب لا تستلزم إرادته من الحرمة أيضا بعد كون اللفظ بحسب المفهوم قابلا لكليهما بالاشتراك المعنويّ كما مرّ بيانه و كون محطّ نظرهم في أبواب المعاملات بيان صحتها و فسادها. و من قسّم المعاملات و المكاسب إلى المحرّم و المكروه و المباح أيضا كان قصده من المحرّم و المحظور الفاسد منها لا المحرّم تكليفا فقط، فراجع المقنعة و النهاية و الشرائع و غيرها.
و التعبير عن الفساد بلفظ الحرمة و عدم الجواز وقع على لسان الكتاب و السنّة. و قد مرّ في شرح رواية تحف العقول و الروايات الأخر أنّ المقصود بالحرمة المضافة فيها إلى
______________________________
(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 157
..........
______________________________
المعاملات فسادها و عدم ترتّب الآثار عليها لا الحرمة التكليفيّة.
و أمّا ما أورده ثالثا فيمكن أن يقال فيه- كما أشار إليه- أنّ المقسم العقود العقلائية الرائجة فهي موضوع الأحكام الخمسة. و لازم الحكم بوجوبها أو استحبابها صحّتها، و يعني بحرمتها فسادها و عدم ترتّب الأثر عليها.
لا يخفى أنّ الملحوظ
في المقسم إمّا نفس الاكتساب بما أنّه فعل المكلّف، أو ما يكتسب به أعني موضوع كسبه.
و على الأوّل فإمّا أن يلحظ الاكتساب بذاته مع قطع النظر عن انطباق عنوان آخر عليه، و إمّا أن يلحظ مطلقا و لو بلحاظ انطباق عنوان آخر عليه.
فإن لوحظ الاكتساب بذاته فقد يقال: إنّه ليس إلّا مباحا. و ما دلّ على الترغيب في التجارة و في طلب الحلال و كونه من أفضل العبادة و أنّ اللّه- تعالى- يحبّ المحترف الأمين و نحو ذلك فلا تدلّ على كون الاكتساب بذاته عبادة و محبوبا للّه- تعالى- و إلّا لكان الأثرياء المتكاثرون من أعبد الناس و أحبّهم إلى اللّه- تعالى-، بل الرجحان للآثار المترتّبة على الاكتساب: من الاعتماد على النفس، و زيادة العقل، و التوكّل على اللّه- تعالى-، و الاستعفاف، و الاستغناء عن الناس و عدم الكلّ عليهم، و عدم الابتلاء بصرف الحرام، و التوسعة على العيال، و صلة الرحم، و التعطّف على الجيران، و الإنفاق في سبل الخير و أمور الآخرة و نحو ذلك من العناوين المترتّبة على الاكتساب. و قد أشعر بما ذكرناه الأخبار الواردة في الباب.
كيف؟ و ليس الاكتساب من العبادات بالمعنى الأخصّ المتقوّمة بقصد القربة نظير
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 158
..........
______________________________
الصلاة و الصوم و نحوهما. و كونه من العبادات بالمعنى الأعمّ أعني ما يمكن أن يتقرّب بها- إن أتي بها بقصد القربة- لا يتوقّف على حسنه الذاتي بل يكفي فيها حسنه و لو بلحاظ ما يترتّب عليه من الآثار.
اللّهم إلّا أن يقال: يكفي في الحكم باستحباب الشي ء ترغيب الشرع فيه بعنوانه و أمره به و التوبيخ على تركه و إن كان بلحاظ فوائده و الآثار المترتّبة
عليه. فالمستحبّ شرعا نفس هذا العنوان المرغّب فيه. ألا ترى أنّ الصلاة مثلا شرّعت لذكر اللّه- تعالى- و التوجّه إليه. و مع ذلك نحكم بكون نفس الصلاة مستحبّة و عبادة لوقوع الأمر بها دون الآثار. و مقتضى ذلك كون نفس التجارة أو طلب الحلال من الأمور المستحبّة المحبوبة للّه- تعالى- لكثرة بركاتهما للمسلمين و ترتّب آثار جمّة عليهما غالبا، و إن كان الثواب و الأجر الأخروي متفرّعا على قصد التقرّب بهما. فهما من العبادات الشأنيّة، أي ما يصلح لأنّ يتقرّب بها إليه- تعالى-. و ليس المستحبّ منحصرا في العبادات المحضة.
و نظير التجارة و طلب الحلال الزراعة و الرعي المرغّب فيهما في أخبار الفريقين، فيمكن الحكم باستحبابهما شرعا. هذا كلّه إذا لوحظ الاكتساب بذاته.
و أمّا إذا لوحظ بنحو الإطلاق حتّى بلحاظ العناوين المنطبقة عليه فالظاهر انقسامه بانقسام الأحكام الخمسة كما مرّ من المراسم. «1» و كذا ما يكتسب به إن أريد به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، كما مرّ بيانه في دفع ما استشكل به الأستاذ على عبارة الشرائع، فراجع. «2»
______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
(2) راجع ص 152.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 159
و معنى حرمة الاكتساب حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتّب الأثر المحرّم. و أمّا حرمة أكل المال في مقابلها فهو متفرّع على فساد البيع لأنّه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و إن قلنا بعدم التحريم. لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الأثار المحرّمة. أمّا لو قصد الأثر المحلّل فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع. (1)
______________________________
معنى حرمة الاكتساب تكليفا
(1) لا يخفى أنّ
حرمة الاكتساب قد تكون تكليفيّة محضة، و قد تكون وضعيّة فقط، و قد تكون تكليفيّة و وضعيّة معا. فالبيع وقت النداء يحرم تكليفا فقط. و إن شئت قلت: ليس البيع بما أنّه معاملة خاصّة حراما بل بما أنّه شاغل عن الجمعة، فيعمّ الحرمة كلّ فعل شاغل بما أنّه فعل. و بيع ما لا ينتفع به حرام وضعا فقط. و بيع الخمر حرام تكليفا و وضعا و كذلك المعاملة الربويّة.
ثمّ اعلم: أنّه حين إنشاء المعاملة يفرض هنا أمور:
الأوّل: السبب أعني القول أو الفعل الصادر بقصد الإنشاء.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 160
..........
______________________________
الثاني: المسبّب المنشأ في عالم الاعتبار بنحو الجدّ.
الثالث: اعتبار العقلاء و الشرع لما اعتبره المتعاملان و أنشئاه.
الرابع: الآثار المترتبة خارجا من تسليم العوضين و التصرّف فيهما على أساس ما اعتبراه.
الخامس: قصد تحقّق المسبّب و قصد ترتّب الآثار المتحقّق في قلب المتعاقدين.
فما هو موضوع الحرمة التكليفيّة من بين هذه الأمور الخمسة؟ في المسألة أقوال:
أعني النقل و الانتقال الجدّي بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليها. و بعبارة أخرى: المحرّم هو المسبّب و لكن مقيّدا بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليه، و هو الظاهر من كلام المصنّف.
أقول: النقل و الانتقال في كلام المصنّف يحتمل بدوا أن يراد بهما إنشاء النقل و الانتقال، و أن يراد بهما حقيقة النقل و الانتقال الاعتبارية المتحقّقة بالإنشاء و القصد الجدّي، و أن يراد بهما النقل و الانتقال الخارجيان أعني الإقباض و القبض.
و لكن الظاهر منه إرادة الثاني، فيكون الحرام عنده تكليفا هو العقد المسبّبي أعني حقيقة النقل و الانتقال الجديّة الاعتباريّة مقيّدة بقصد ترتيب الآثار المحرّمة عليها، و علّل ذلك أخيرا بقوله: «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف ...» يعني أنّه لو قصد الآثار المحلّلة لم تحرم المعاملة تكليفا بالحرمة الذاتيّة و إن كانت فاسدة بحسب الوضع فتحرم حينئذ إن أتي بها تشريعا. فلو باع الخمر لا بقصد الشرب بل بقصد التخليل أو التطيين بها مثلا أو بنحو الإطلاق لم يشمله دليل حرمة بيعها و إن حرم من باب التشريع.
و يرد على ما ذكره أوّلا: ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أن تقييد دليل حرمة البيع بالقصد المذكور لا موجب له بعد إطلاق الدليل. نعم لو كان الدليل لها الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّمته أو عموم دليل الإعانة على الإثم لتمّ ما ذكره في الجملة،
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 161
..........
______________________________
لكن كلام الشيخ أعمّ من ذلك. و دعوى الانصراف المذكور جزافيّة. و نظير ذلك أن يدّعى انصراف أدلّة تحريم الزنا إلى ذات البعل مثلا. و الالتزام بمثل
هذه الانصرافات يستدعي تأسيس فقه جديد.» «1»
و ثانيا: لو سلّم انصراف دليل التكليف إلى صورة القصد المذكور فلم لا يقال بانصراف دليل الوضع أيضا إلى هذه الصورة؟! و على هذا فلا تفسد المعاملة مع قصد المنافع المحلّلة العقلائيّة و إن كانت نادرة إذا كانت يرغب فيها. بل مرّت دلالة رواية تحف العقول على دوران حرمة المعاملة مدار الآثار المحرّمة، حيث علّل فيها حرمة بيع النجس و غيره بقوله: «لما فيه من الفساد» و صرّح فيها بحلّية الصنائع المشتملة على جهة الفساد و الصلاح معا. و في ذلك إشعار بحلّية المعاملة عليها أيضا إذا وقعت بقصد المنافع المحلّلة.
و عمدة الدليل على حرمة بيع المحرّمات و فساده هو الإجماع. و المتيقّن من موارده صورة القصد المذكور. و مقتضى ذلك جواز بيع الخمر للتخليل و الدّم للتزريق بالمرضى مثلا.
و الشيخ و أمثاله و إن حملوا لفظ الحرمة في الرواية على الحرمة التكليفيّة لكن نحن منعنا ذلك و قلنا باستعمال اللفظ في الأعمّ من التكليف و الوضع و أقمنا لذلك شواهد.
هذا مضافا إلى أنّ الشيخ «ره» لا يقول بجعل الأحكام الوضعيّة مستقلّا بل بانتزاعها من الأحكام التكليفيّة «2». فإذا قال بانصراف التكليف في المقام إلى صورة القصد المذكور كان اللازم أن يقول بانصراف الوضع أيضا لأنّه فرعه.
و ثالثا: أنّ مقتضى كون الموضوع للحرمة التكليفية المسبّب أعني حقيقة النقل
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 29.
(2) راجع فرائد الأصول/ 350.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 162
..........
______________________________
و الانتقال هو صحّة المسبّب و تحقّقه بإيجاد سببه، إذ الحرمة التكليفيّة تتعلّق بما هو تحت اختيار المكلّف. فإن كان المسبّب يتحقّق بسبب إيجاد سببه كان مقدورا للمكلّف بالقدرة على سببه. و إن كان لا يتحقّق
بذلك فلا يكون تحت اختياره حتّى يحرم عليه.
و بعبارة أخرى: النهي عن حقيقة المعاملة يكشف عن صحّتها لو أوقعت و إلّا لم يكن معنى للنهي التحريمي عنها. و لكنّ المشهور القائلين بحرمة بيع الخمر و أمثالها قائلون بفساد المعاملة أيضا، فلا يمكن كون متعلّق النهي حقيقة المسبّب.
فإن قلت: صحّة المعاملة تتقوّم باعتبار المتعاملين لها جدّا مضافا إلى اعتبار العرف و الشرع لذلك. و ليس اعتبار العرف و الشرع تحت اختيار المكلّف حتّى يتعلّق به التحريم، فالتحريم يتعلّق بالقسمة التي تكون تحت اختياره أعني النقل بقصد الجدّ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع له.
قلت: هذا رجوع عن كون المتعلّق للحرمة حقيقة النقل و الانتقال، و مآله إلى كون المحرّم إنشاء المتعاملين أو المنشأ في اعتبارهما فقط.
و رابعا: أنّ ما ذكره الشيخ أخيرا من أنّه لو قصد الأثر المحلّل تكون المعاملة محرّمة من حيث التشريع.
يرد عليه أوّلا: أنّ التشريع إنّما يصدق إذا أتى بالمعاملة بقصد أن يكون صحيحا في الشرع، و ليس كلّ من يقدم على معاملة فاسدة يريد إدخالها في الشرع، بل ربّما يريد التسلّط على العوض المأخوذ، صحيحة كانت المعاملة أو فاسدة.
و ثانيا: أنّ المحرّم في باب التشريع هو القصد الذي يتحقق في قلب المشرّع، و سراية الحرمة إلى العمل المشرّع فيه محلّ كلام. نظير ما قيل في التجرّي من عدم سراية
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 163
..........
______________________________
المبغوضيّة و الحرمة إلى الفعل المتجرّأ به، فتأمّل.
من دون تقييدها بقصد الأثر المحرّم.
قال في منية الطالب ما ملخّصه: «ثمّ إنّ الحرمة المتعلّقة بالمعاملة عبارة عن حرمة تبديل المال أو المنفعة لا حرمة إنشاء المعاملة و لا حرمة آثارها كالتصرّف في الثمن أو المثمن، و لا
قصد ترتّب الأثر عليها. و ذلك لأنّ نفس الإنشاء من حيث إنّه فعل من الأفعال و تلفّظ بألفاظ لا وجه لأن يكون حراما. و هكذا قصد تحقّق المنشأ من حيث إنّه أمر قلبيّ. و أمّا حرمة الآثار فهي مترتّبة على فساد المعاملة و حرمتها لا أنّها هي المحرّمة ابتداء. فما يكون محرّما حقيقة هو نفس التبديل الذي اعتباره بيد مالكه لو لا نهي الشارع الّذي هو مالك الملوك. و بعبارة أخرى: نفس المنشأ بالعقد هو المحرّم لا آلة الإيجاد و لا القصد و لا الآثار.» «1»
أقول: بيانه في الحقيقة تنقيح لكلام الشيخ بنحو لا يرد عليه ما مرّ من الإشكالات.
و يظهر من قوله: «لو لا نهي الشّارع» أنّ مقصوده بالتبديل ليس حقيقة التبديل و التبدّل بل القسمة التي تكون بيد المتعاملين، و بعبارة أخرى: النقل و الانتقال اللولائي، فلا يرد عليه الإشكال الثالث أيضا. نعم يمكن أن يقال: إنّ المنشأ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع لا واقعيّة له إلّا بواقعيّة الإنشاء. فمآل هذا القول و القول الرابع الذي يأتي عن الأستاذ الإمام إلى أمر واحد، فتأمّل.
ما في حاشية المحقّق الإيرواني، قال: «بل معنى حرمة الاكتساب هو حرمة إنشاء النقل و الانتقال بقصد ترتيب أثر المعاملة أعني التسليم و التسلّم للمبيع
______________________________
(1) منية الطالب 1/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 164
..........
______________________________
و الثمن، فلو خلّي عن هذا القصد لم يتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة. و أمّا قصد ترتيب المشتري للأثر المحرّم و صرف المبيع في الحرام فلا دليل على اعتباره. و دعوى انصراف مثل لا تبع الخمر إلى ما لو أراد بالبيع شرب المشتري لها مجازفة.» «1»
أقول: لو اقتصر على هذا الكلام أمكن توجيهه
بأنّه لا يريد تقييد الإنشاء المحرّم شرعا بقصد التسليم و التسلّم حتّى يورد عليه بعدم الدليل على هذا التقييد، بل يريد بيان أنّ الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري. و علامة الجدّ أنّه يرضى بالتسليم عقيبه فذكر القصد المزبور لبيان كون الموضوع للحرمة الإنشاء الجدّي كما في القول الرابع.
و لكنّه- قدّس سرّه- ذكر قبل ذلك ما يستفاد منه أنّ المحرّم في الحقيقة هو الإقباض و التسليم لا البيع. قال: ما ملخّصه: «أنّ ظاهر الرواية التحريم بعنوان الإعانة، و عنوان الإعانة لا ينطبق على الإنشاء الساذج، بل الإعانة حاصلة بالتسليط و الإقباض للمبيع سواء أنشأ بيعها أم لم ينشأ، و كأنّ توصيف البيع بالإعانة لأجل ملازمتها العرفيّة للإقباض فيكون التحريم ملحقا أوّلا و بالذات بالتسليط و ثانيا و بالعرض بالبيع.» «2»
و ناقشه في مصباح الفقاهة و محصّلها: «أنّ تقييد موضوع الحرمة بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في الجملة لا في جميع البيوع المحرّمة. و تحقيقه: أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرّم عليها كالنهي عن بيع
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.
(2) نفس المصدر/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 165
..........
______________________________
السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين. فإنّه لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه، و لذا يجوز بيع السلاح لهم إذا لم يفض إلى تقويتهم عليهم، و حرم نقل السلاح إليهم بغير البيع أيضا كالهبة و الإجارة و العارية إذا أفضى إلى ذلك.
و من هنا يتّضح أن بين عنوان بيع السّلاح منهم و بين تقوية الكفر و الإعانة عليه عموما من وجه.
الثاني: أن يتوجه النهي إلى المعاملة من جهة تعلّقها بشي ء مبغوض ذاتا كالنهي عن
بيع الخمر و الخنزير و الصليب و الصنم.
الثالث: أن يكون النهي عنها باعتبار ذات المعاملة لا المتعلّق كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة و النهي عن بيع المصحف و المسلم من الكافر بناء على حرمة بيعهما منه.
إذا عرفت ذلك ظهر أنّ تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في القسم الأوّل فقط، إذ المحرّم فيه في الحقيقة هو تسليم المبيع لا أصل البيع. و أمّا في الثاني و الثالث فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أدلّة التحريم. نعم لو كان دليلنا على التحريم عموم دليل الإعانة على الإثم أو الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّمته لجاز تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم، فإنّ الإعانة و المقدّمية لا تتحقّقان إلّا بهما.» «1»
أقول: قد مرّ منّا: أنّ المحرّم في البيع وقت النداء ليس البيع بما أنّه معاملة بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة، و لذا يحرم كلّ عمل شاغل عنها و لا يحرم البيع غير الشاغل كما يقع في طريق السعي إليها. و أمّا في بيع المصحف و المسلم من الكافر و كذا في بيع الخمر و الميتة و نحوهما فلا يبعد صحّة ما ذكره المحقّق الإيرواني «ره»، إذ المقصود من
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 28 و 29.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 166
..........
______________________________
النهي عنها عدم تسليط الكافر على المصحف و المسلم و عدم إشاعة الخمر و الميتة في المجتمع. فالمحرّم فيها في الحقيقة هو التسليم و الإقباض، فتدبّر.
ما اختاره الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه، و لعلّه الأظهر و ملخّصه: «أنّ المحرّم على فرض ثبوته هو المعاملة العقلائيّة أي إنشاء السبب جدّا لغرض التسبيب إلى النقل و الانتقال، لا النقل
و الانتقال، و لا هو بقصد ترتّب الأثر، و لا تبديل المال أو المنفعة.
و لا يعقل أن يكون المحرّم النقل و ما يتلوه، لأنهما غير ممكن التحقّق بعد وضوح بطلان تلك المعاملة نصّا و فتوى. و إرادة النقل العقلائي مع قطع النظر عن حكم الشرع و لو لا عدم الإنفاذ، لا ترجع إلى محصّل لعدم الوجود للنقل اللولائي. و ما يمكن أن يتّصف بالحرمة هو المعاملة السببيّة أي الإنشاء الجديّ بقصد حصول المسبّبات لا بمعنى كون القصد جزء الموضوع، بل بمعنى أنّ موضوع الحرمة الإنشاء الجدّي الملازم له.» «1»
ما اختاره آية اللّه الخوئي «ره» على ما في مصباح الفقاهة، و محصّله:
«أنّ ما يكون موضوعا لحلّية البيع بعينه يكون موضوعا لحرمته. بيان ذلك: أنّ البيع ليس عبارة عن الإنشاء الساذج سواء كان الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المعروف عند الأصوليين، أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من الاعتبار كما هو المختار عندنا، و إلّا لزم تحقق البيع بلفظ بعت خاليا عن القصد.
و لا أنّ البيع عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني من دون أن يكون له مظهر، و إلّا لزم صدق البائع على من اعتبر ملكيّة ماله لشخص آخر في مقابل الثمن و إن لم يظهرها بمظهر.
بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز
______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4 و 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 167
..........
______________________________
خارجي سواء تعلّق به الإمضاء من الشرع و العرف أم لم يتعلّق. و إذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعا لحرمة البيع و كذا لحلّيته، و هكذا الكلام في سائر المعاملات.» «1»
أقول: مآل هذا القول أيضا إلى
القول الرابع و إن افترقا من جهة، حيث إنّ الحرام على هذا القول هو المركّب من الإنشاء و القصد، و على القول الرابع الإنشاء الجدّي الملازم للقصد من دون أن يكون القصد جزء للموضوع. و هذا هو الأظهر، إذ موضوع الأحكام التكليفيّة أفعال المكلفين بشرط صدورها عن قصد لا القصود و لا المركب من الأفعال و القصود كما لا يخفى.
ما حكاه في مصباح الفقاهة، قال: «الوجه الثاني: أن يراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه بحيث لا يكفي مجرّد صدوره من البائع خاليا عن ذلك القصد.» «2»
و أورد عليه بما محصّله: «أنّه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك، لإطلاق دليل الحرمة. فلو باع أحد شيئا من الأعيان المحرّمة كالخمر مع علمه بكونه منهيّا عنه فقد ارتكب فعلا محرّما و إن كان غافلا عن قصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف عليه.» «3»
أقول: لعلّ القائل بالقول السّادس أراد إرجاع الحرمة في المقام إلى الحرمة التشريعيّة و بيان أنّ المحرّم قصد التشريع. فتقييده موضوع الحرمة بقصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف لبيان تحقّق التشريع الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة عندهم.
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 30.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 29.
(3) مصباح الفقاهة 1/ 29.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 168
..........
______________________________
كما يحتمل بعيدا أنّ الشيخ أيضا أراد من قوله: «بقصد ترتّب الأثر المحرّم» ذلك أي قصد البائع حلّية الآثار المحرّمة تشريعا.
و لكن يرد على ذلك ما مرّ أوّلا من أنّه ليس كلّ من يقدم على معاملة محرّمة يريد التشريع و إدخالها في الشريعة.
و ثانيا: أن سراية الحرمة في التشريع إلى نفس العمل محلّ كلام بينهم.
و في الختام نقول تتميما للبحث: حيث
إنّ المعاملة في المعاملات المحرّمة فاسدة من رأس لا يترتّب عليها أثر شرعا و يكون وجودها من جهة الأثر كالعدم لا محالة، و من ناحية أخرى لا بدّ في بعضها من القول بالحرمة التكليفيّة المؤكّدة أيضا كالربا الذي درهم منه أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنية بذات محرم «1» و الآكل له في معرض الحرب من اللّه و رسوله، و كبيع الخمر التي لعن رسول اللّه «ص» فيها عشرة، و منها بائعها و مشتريها و آكل ثمنها، «2» لوضوح أنّ هذه التأكيدات ليست بجهة فساد المعاملة و التصرّف في مال الغير فقط، فلأجل ذلك وقع الإشكال في تعيين موضوع الحرمة التكليفيّة، و وقع الأعلام لأجل ذلك في حيص و بيص.
و لا يخفى أنّ الموضوع لها لا بدّ أن يكون من أفعال المكلّفين و تحت اختيارهم، و الذي يصدر عن المكلّف في المعاملات و يكون فعلا له حلالا كانت المعاملة أو حراما هو الإنشاء لها بالقول أو الفعل، و لا يصدق عليه المعاملة عرفا إلّا إذا كان ناشئا عن قصد جدّي، و المنشأ أيضا من حيث انتسابه إلى الفاعل عبارة أخرى عن الإنشاء إذ نسبة المنشأ
______________________________
(1) الوسائل 12/ 423، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب الرّبا، الحديث 4.
(2) راجع الوسائل 17/ 300، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرمة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 169
..........
______________________________
إلى الإنشاء نسبة الوجود إلى الإيجاد، و قد حقّق في محلّة اتحادهما ذاتا و اختلافهما بحسب الاعتبار فقط: فبالإضافة إلى الفاعل يقال له الإيجاد و بالإضافة إلى القابل يقال له الوجود. و على هذا فالحرام هو الإنشاء الناشئ عن قصد جدّي، و هو الحلال أيضا في المعاملات
المحلّلة، فتدبّر.
ما ذكرناه كان في بيان معنى حرمة المعاملة تكليفا. و أمّا حرمتها وضعا فيراد بها بطلانها و عدم ترتّب الأثر عليها.
و لا فرق عندنا و كذا عند العامّة غير الحنفيّة بين البطلان و الفساد؛ فكلّ باطل فاسد و بالعكس. و أمّا الحنفية ففرّقوا بينهما:
قال في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «الفاسد و الباطل بمعنى واحد في عقود البيع، فكلّ فاسد باطل و بالعكس و هو ما اختلّ فيه شي ء من الشروط و الأركان التي سبق ذكرها. و البيوع الفاسدة كلّها محرّمة فيجب على الناس اجتنابها و هي كثيرة.»
و علّق على ذلك ما ملخّصه: «الحنفية قالوا: إنّ الباطل و الفاسد في البيع مختلفان، فالباطل هو ما اختلّ ركنه أو محلّه. و ركن العقد: الإيجاب و القبول، فإذا اختلّ الركن كأن صدر من مجنون أو صبيّ لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد. و كذلك إذا اختلّ المحلّ و هو المبيع كأن كان ميتة أو دما أو خنزيرا.
و أمّا الفاسد فهو ما اختلّ فيه غير الركن و المحلّ كما إذا وقع خلل في الثمن بأن كان خمرا، فإذا اشترى سلعة يصحّ بيعها و جعل ثمنها خمرا انعقد البيع فاسدا ينفذ بقبض
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 170
..........
______________________________
المبيع و لكن على المشتري أن يدفع قيمته غير الخمر لأنّ الخمر لا يصلح ثمنا. و كذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم أو من جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد، فإن البيع في كلّ هذه الأحوال يكون فاسدا لا باطلا ...» «1»
أقول: ظاهر عبارة الماتن أنّ جميع المعاملات الباطلة تكون محرّمة عندهم بحسب التكليف. و لكن لا دليل على هذا التعميم.
و الظاهر أنّ محطّ نظر القدماء من أصحابنا في باب المعاملات المحرّمة بيان بطلانها و فسادها لا الحرمة التكليفيّة و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة تبعا لما ورد في بعض الأخبار.
______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 224، كتاب البيع، مبحث البيع الفاسد.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 171
و كيف كان فالاكتساب المحرّم أنواع نذكر كلا منها في طيّ مسائل. (1)
______________________________
الاكتساب المحرّم خمسة
(1) قد مرّ عن الشرائع و القواعد تقسيم المعاملات المحرّمة إلى خمسة أنواع: الأوّل:
الأعيان النجسة الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثلا. الثالث:
ما لا ينتفع به. الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة مثلا. الخامس:
ما يجب على الإنسان فعله. و يأتي تفصيل هذه الأنواع.
و قبل الورود في البحث ينبغي ذكر عبارة النهاية للشيخ الطوسي «ره» في سرد المكاسب المحرّمة، إذ هو من كتب القدماء من فقهائنا المعدّة لذكر خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السلام- على ما كان يصرّ عليه خرّيت فن الفقه في الأعصار الأخيرة:
الأستاذ الأعظم آية اللّه البروجردي «طاب ثراه»- و هي و إن كانت طويلة لكن التوجّه إليها لازم لأنّها بمنزلة الفهرست للمكاسب المحرّمة التي نحن بصدد تنقيحها و إقامة الدليل عليها. و الالتفات إليها يوجب زيادة البصيرة لمن رام التحقيق في المعاملات المحرّمة.
قال الشيخ في النهاية: «باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة:
كلّ شي ء أباحه اللّه- تعالى- أو ندب إليه و رغّب فيه، فالاكتساب به و التصرّف فيه
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 172
..........
______________________________
حلال جائز سائغ من صناعة و تجارة و غيرهما. و كلّ شي ء حرّمه اللّه- تعالى- و زهّد فيه فلا يجوز التكسّب به و لا التصرّف فيه على
حال.
فمن المحرّمات: الخمر. فالتصرّف فيها حرام على جميع الوجوه: من البيع و الشراء و الهبة و المعاوضة و الحمل لها و الصنعة لها و غير ذلك من أنواع التصرّف.
و من ذلك: لحم الخنزير فبيعه و هبته و أكله حرام و كذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر و جلد و شحم و غير ذلك.
و منها: عمل جميع أنواع الملاهي و التجارة فيها و التكسّب بها: مثل العيدان و الطنابير و غيرهما من أنواع الأباطيل محرّم محظور.
و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز، فالتجارة فيها و التصرّف و التكسب بها حرام محظور.
و كلّ شراب مسكر حكمه حكم الخمر على السواء، قليلا كان أو كثيرا. و كذلك حكم الفقّاع حكمه. فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به حرام محظور. و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة أو شي ء من المحظورات و النجاسات، فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.
و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.
و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسّب به حرام محظور.
و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور، مثل القردة و الفيلة
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 173
..........
______________________________
و الدّببة و غيرها من أنواع المسوخ.
و الرشا في الأحكام سحت.
و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.
و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور إلّا الفهود خاصّة، فإنّه لا بأس بالتكسّب بها و التجارة فيها لأنّها تصلح للصيد. و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه.
و بيع الجرّي و المارماهي و الطّافي و كلّ سمك لا يحلّ أكله، و كذلك الضفادع و السلاحف و جميع ما لا يحلّ أكله، حرام بيعه و التكسّب به و التصرّف فيه.
و معونة الظالمين و أخذ الأجرة على ذلك محرّم محظور.
و كلّ شي ء غشّ فيه فالتجارة فيه و التكسّب به بالبيع و الشراء و غير ذلك حرام محظور.
و تعليم ما حرّمه اللّه- تعالى- و تعلّمه و أخذ الأجرة على ذلك محظور في شريعة الإسلام. و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام.
و بيع السلاح لسائر الكفّار و أعداء الدين حرام. و كذلك عمله لهم و التكسّب بذلك و معونتهم على قتال المسلمين و أخذ الأجرة على ذلك حرام. و كسب المغنّيات و تعلّم الغناء حرام. و كسب النوائح بالأباطيل حرام. و لا بأس بذلك على أهل الدين بالحقّ من الكلام.
و أخذ الأجرة على غسل الأموات و حملهم و مواراتهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام. و أخذ الأجر على الأذان و الصلاة بالناس حرام.
و التكسّب بحفظ كتب الضلال و نسخه حرام محظور. و التكسّب بهجاء أهل الإيمان حرام. و لا بأس بهجاء أهل الضلال و أخذ الأجر على ذلك. و كسب الزانية و مهور البغايا محرّم محظور.
و تعلّم السحر و تعليمه و التكسّب به و أخذ الأجرة
عليه حرام محظور. و كذلك
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 174
..........
______________________________
التكسّب بالكهانة و القيافة و الشعبذة و غير ذلك محرّم محظور. و لا يجوز التصرّف في شي ء من جلود الميتة و لا التكسّب بها على حال ...» «1»
أقول: الظاهر أنّ المقصود بالحرام و المحرّم في كلامه هو الوضع، أعني فساد المعاملة، و لا أقل التكليف و الوضع معا كما لا يخفى. إذ لم يهمل في كلامه هذا حكم الوضع قطعا.
حكم المعاملة على الأعمال المحرّمة قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ محلّ الكلام في المسائل الآتية إنّما هو في الأعيان المحرّمة كالخمر و الخنزير و نحوهما. و أمّا الأعمال المحرمة كالزنا و النميمة و الكذب و الغيبة و نحوها فيكفي في فساد المعاملة عليها الأدلّة الدالّة على تحريمها. إذ مقتضى وجوب الوفاء بالعقود وجوب الوفاء بالعقد الواقع عليها، و مقتضى أدلّة تحريمها وجوب صرف النفس عنها و إيقاف الحركة نحوها، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من المستحيلات العقليّة. و على أقل التقادير فإنّ أدلّة صحّة العقود و وجوب الوفاء بها مختصّة بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغا في نفسه.
و ربّما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ في حكم الأجرة على الواجبات أنّ الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرّمة من الأموال أو عدم إمكان تسليمها شرعا. و بملاحظة ما تقدّم يظهر لك ما فيه، فإنّك قد عرفت أنّ صحة المعاملة عليها و وجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية سواء اعتبرنا الماليّة أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئا من ذلك.» «2»
______________________________
(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 363- 366.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 24.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 175
..........
______________________________
أقول:
إن أراد أنّ مورد بحث فقهائنا «ره» الأعيان المحرّمة لا الأعمال فهذا ممنوع، إذ النوع الرابع من المكاسب المحرّمة التي تعرّضوا لها هي الأعمال المحرّمة كالغناء و النوح بالباطل و نحوهما، فراجع. و إن أراد عدم احتياج حرمة الاكتساب بها إلى البحث و الاستدلال لوضوح حرمة المعاملة بها فله وجه. و لكن مع ذلك لا غنى فيها عن البحث.
إذ يمكن أن يتوهّم أحد أن مفاد أدلّة تحريمها هو التكليف، و مفاد دليل وجوب الوفاء هو الوضع أعني صحّة المعاملة. و لكون العقد عنوان طارئا فلعلّ اللازم تقديم حكمه على الأحكام الأوّليّة كما في سائر موارد تحكيم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّليّة.
و مناقشته على ما استدلّ به أستاذه أيضا مدفوعة، إذ مضافا إلى حسن تكثير الدليل على الحكم إنّ ما استدلّ به أستاذه مقدّم بحسب الرتبة على ما استدلّ به، إذ البيع مبادلة مال بمال و مع فرض عدم الماليّة لشي ء و لو شرعا لا يبقى موضوع للمبادلة حتّى يبحث عن صحّتها أو فسادها.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 176
الأولى: الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني. و فيه مسائل ثمان: (1)
______________________________
الاكتساب بالأعيان النجسة
(1) تعرّض فيها لحكم البول، و العذرة، و الدم، و المني، و الميتة، و الكلب، و الخمر، و الأعيان المتنجّسة غير القابلة للتطهير.
و ظاهره كظاهر كثير من فقهاء الفريقين أنّ لخصوصية كون الشي ء نجسا لا يقبل التطهير دخالة في منع الاكتساب به و إن فرض أنّ له منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، و لذا عدّوا هذا النوع قسيما للنوع الثالث أعني ما لا منفعة له. فلعلّ الشرع المبين أراد بتشريعه هذا تطهير محيط التعيّش عن النجاسات لئلا يتلوّث بها مظاهر حياة الناس و تعيشهم.
و المصنّف و إن عقد لكلّ واحدة من النجاسات مسألة على حدة، لكنّ الأولى أن نبحث أوّلا بحثا جامعا عن حكم الاكتساب بالنجاسات تكليفا و وضعا ثم نخصّ كلّ واحدة منها ببحث يخصّها.
و قبل الورود في البحث نتعرّض لبعض الكلمات من الفريقين:
1- قال المفيد في المقنعة: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ به لغير اللّه و كلّ
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 177
..........
______________________________
محرّم من الأشياء و نجس من الأعيان حرام، و أكل ثمنه حرام.» «1»
2- و قال الشيخ في النهاية بعد ذكر حرمة بيع الخمر و الخنزير و كلّ شراب مسكر:
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 177
«و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة. و بيع الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما أهّل لغير اللّه به و التصرّف
فيه و التكسب به حرام محظور.» «2»
أقول: لا يخفى أنّ في كلامه نحو اغتشاش، إذ موضوع بحثه النجاسات و لكن استثناء بول الإبل يشهد بأنّ المستثنى منه مطلق العذرات و الأبوال.
و الظاهر من أهل اللغة اختصاص العذرة بمدفوع الإنسان و هو الظاهر مما يأتي من المبسوط أيضا، و لكن ذكر لفظ الأنواع قرينة على إرادة الأعمّ و لو مجازا.
و هل المراد بالتصرف خصوص التصرفات الناقلة، أو يشمل الانتفاعات أيضا و لازمه عدم جواز الانتفاع بها و لو بصرفها في التسميد و هذا خلاف ما يأتي من المبسوط؟!
3- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدّم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا ... فأمّا نجس العين فلا يجوز بيعه كجلود الميتة قبل الدباغ و بعده و الخمر و الدّم و البول و العذرة و السّرقين مما لا يؤكل لحمه و لبن ما لا يؤكل لحمه من البهائم ...
______________________________
(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.
(2) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 178
..........
______________________________
و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدم فإنّه لا يجوز بيعه و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف. يجوز بيع الزّيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء و لا يجوز إلّا لذلك.» «1»
أقول: ظاهره اختصاص العذرة بالإنسان، و يظهر منه أيضا نجاسة الفأرة و المسوخ و لبن
ما لا يؤكل لحمه، و المشهور خلاف ذلك.
4- و في المراسم لم يذكر عنوان النجس و لكنّه سرد الأعيان النجسة فيما لا يجوز بيعه فقال: «و بيع المسكرات من الأشربة و الفقاع ... و الأدوية الممزوجة بالخمر و التصرف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدّم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»
5- و في بيع الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال:
«و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «3»
أقول: يظهر منه أنّ النجاسة ليست مانعة بنفسها و إنّما يمنع من بيع النجس لعدم كونه ذا منفعة مباحة فلا يشمل ما إذا اشتمل عليها كالتسميد و نحوه.
______________________________
(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.
(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 179
..........
______________________________
6- و في الشرائع قسّم المحرّم مما يكتسب به إلى خمسة أنواع فقال: «الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر و الأنبذة و الفقاع و كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السّماء، و الميتة و الدّم و أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه ... و الخنزير و جميع أجزائه و جلد الكلب و ما يكون منه.» «1» و راجع
المختصر النافع أيضا «2».
7- و ذيّله في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه. و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»
8- و في الجواهر: «و كيف كان فلا خلاف يعتدّ به في حرمة التكسب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة.» «4»
9- و قال العلامة في القواعد في بيان أنواع المتاجر المحظورة: «الأوّل: كلّ نجس لا يقبل التطهير سواء كانت نجاسته ذاتيّة كالخمر و النبيذ و الفقاع و الميتة و الدّم و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها و الكلب و الخنزير و أجزائهما، أو عرضية كالمائعات النجسة التي لا تقبل التطهير إلّا الدهن النجس لفائدة الاستصباح تحت السّماء خاصّة. و لو كانت نجاسة الدهن ذاتية كالألية المقطوعة من الميتة أو الحيّة لم يجز الاستصباح به و لا تحت السّماء.» «5»
______________________________
(1) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(2) المختصر النافع/ 116 (الجزء 1)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(4) الجواهر 22/ 8، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(5) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 180
..........
______________________________
10- و في التذكرة: «مسألة: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير. و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا لقوله- تعالى-: فَاجْتَنبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. و الأعيان لا يصحّ تحريمها. و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما. و لقول جابر: سمعت رسول اللّه
«ص» و هو بمكة يقول: إن اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» «1»
11- و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا و فيه: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «2»
12- و في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «و من البيوع الباطلة بيع النجس أو المتنجّس على تفصيل في المذاهب.»
و ذيّل ذلك بقوله: «المالكية قالوا: لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها و لو دبغ لأنّه لا يطهر بالدبغ، و كالخمر و كالخنزير و زبل ما لا يؤكل لحمه، سواء كان أكله محرّما كالخيل و البغال و الحمير، أو مكروها كالسّبع و الضبع و الثعلب و الذئب و الهرّ، فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها. و كذلك لا يصحّ بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإنّ الزيت لا يطهر بالغسل ...
الحنابلة قالوا: لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل النجس، أمّا الطاهر
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع. و الآيتان من سورة المائدة (5)، رقمهما 90 و 3.
(2) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 181
..........
______________________________
فإنّه يصحّ كروث الحمام و بهيمة الأنعام، و لا يصحّ بيع الميتة و لا بيع شي ء منها و لو لمضطرّ إلّا السمك و الجراد و نحوهما، و لا يصحّ بيع دهن نجس العين كدهن الميتة، كما لا يصحّ الانتفاع به في أيّ شي ء من الأشياء. أمّا الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه
و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد ...
الشافعية قالوا: لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد ...
الحنفية قالوا: لا يصحّ بيع الخمر و الخنزير و الدّم، فإذا باع خمرا أو خنزيرا كان البيع باطلا ... و كذلك لا ينعقد بيع الميتة كالمنخنقة و الموقوذة و المتردّية و نحوها كما لا يحلّ بيع جلدها قبل الدبغ أمّا بعد الدبغ فإنّه يصحّ لأنّه يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير فإنّه لا يطهر بالدبغ ...» «1»
أقول: يظهر من كلامهم أنّ محطّ النظر الوضع، أعني صحّة المعاملة أو فسادها لا الحرمة التكليفية، و أنّ الملاك لعدم الصحة عنوان النجاسة.
13- و في المهذّب لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعية: «الأعيان ضربان: نجس و طاهر. فأمّا النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه و نجس بملاقاة النجاسة. فأمّا النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، و ذلك مثل الكلب و الخنزير و الخمر و السرجين و ما أشبه ذلك من النجاسات. و الأصل فيه ما روى جابر- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- تعالى- حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» و روى أبو مسعود البدري و أبو هريرة أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الكلب. فنصّ على الكلب و الخنزير و الخمر
______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 182
..........
______________________________
و الميتة و قسنا عليها سائر الأعيان النجسة.» «1»
أقول: حديث جابر مرّ منّا عن أبي داود «2» في ذيل الرواية الرابعة من الروايات الأربع التي رواها الشيخ و يأتي أيضا.
و بالجملة يظهر من كلمات هؤلاء الأعلام من فقهاء الفريقين- سوى عبارة الغنية- أنّ النجاسة عندهم مانعة بنفسها عن صحّة المعاملة و أنّها موضوع مستقل للمنع و إن فرض في البين منفعة محلّلة عقلائية، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به.
نعم ظاهر عبارة الغنية كما مرّ أنّ المنع مستند إلى عدم كون النجس ذا منفعة مباحة.
و يظهر هذا من التنقيح و الإيضاح «3» أيضا كما يأتي.
و الظاهر من أبي إسحاق أنّه لم يكن عند فقهاء السنّة نصّ بهذا العنوان، و إنّما المذكور في النصّ عندهم بيع الخمر و الخنزير و ثمن الكلب، فقاسوا عليها سائر النجاسات، و ظاهرهم حمل الحرمة و النهي الواردين في الحديثين على الحرمة الوضعية أعني بطلان المعاملة.
و من المحتمل أنّ فقهاءنا أيضا وقفوا على النواهي الواردة في الموارد الخاصّة كالكلب و الخمر و الميتة و العذرة فالتقطوا منها عنوانا جامعا بإلغاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي. و من المظنون أنّ نظرهم أيضا كان إلى الحكم الوضعي لا التكليف المحض. هذا.
و لكن مع ذلك كلّه يشكل رفع اليد عن دعاوي الإجماع في المبسوط و التذكرة
______________________________
(1) المهذّب 9/ 225، المطبوع مع شرحه «المجموع» للنووي.
(2) راجع سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
(3) راجع ص 212 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 183
..........
______________________________
و المنتهى و غيرها، و عن ظاهر عباراتهم في الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة «ع» كالمقنعة و النهاية و الغنية بسهولة بمجرد الاحتمال المذكور.
و كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- يقسم مسائل الفقه إلى قسمين:
مسائل أصلية تلقّاها الأصحاب يدا بيد عن الأئمة «ع» و كانوا
يهتمّون فيها بحفظ التعبيرات الواصلة أيضا. و مسائل تفريعية استنبطها فقهاؤنا- رضوان اللّه عليهم- من كلّيات تلك المسائل بإعمال النظر و الاجتهاد.
فالقسم الأوّل بمنزلة متون الروايات المأثورة، و لعلّها كانت مذكورة في كتب الحديث أيضا و لكن لم يصل إلينا بعضها، فتكون الشهرة في هذه المسائل أيضا حجة فضلا عن الإجماع، إذ على فرض ضعف أسانيدها تكون الشهرة جابرة لها.
و القسم الثانى منها لا يفيد فيها الإجماع فضلا عن الشهرة لحصولها بإعمال نظر الأشخاص و اجتهادهم، فوزانها وزان المسائل العقلية التي لا مجال لادّعاء الإجماع فيها.
و الشيخ الطوسي «ره» على ما نصّ عليه في أوّل المبسوط عمل كتاب النهاية لذكر خصوص المسائل الأصلية المأثورة و كتاب المبسوط لذكر جميع المسائل: أصلية كانت أو فرعية، فراجع أوّل المبسوط تقف على تفصيل ذلك.
و مثل النهاية في ذلك مقنعة المفيد و مراسم سلار و المقنع و الهداية للصدوق و الكافي لأبي الصلاح الحلبي و المهذّب لابن البراج.
و على هذا فتعرّض النهاية و المقنعة لعنوان النجاسة في المقام و جعلها مانعا مستقلا أمر يجب الاهتمام به و التوجيه له. و تبعهما في ذلك المحقق و العلامة و غيرهما كما مرّ بعض كلماتهم.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 184
..........
______________________________
نعم لم يتعرّض الصدوق في المقنع و الهداية لعنوان النجاسة في المقام، بل ذكر في المقنع خصوص الكلب و بيع الخمر في بابين منه «1». و لم أجد العنوان في المهذّب أيضا.
فهذا ربما يوهن دعوى الإجماع المذكور. هذا.
و قد عرفت أنّ الظاهر كون محطّ نظر الفقهاء في هذا الباب هو بيان الحكم الوضعي أعني بطلان المعاملة.
و التعبير بلفظ الحرمة لا ينافي ذلك لكونها أعم في لسان الكتاب و السنّة و القدماء
من أصحابنا كما مرّ «2».
و لكنّ الأستاذ الإمام «ره» جعل المهمّ في المقام البحث عن الحرمة التكليفية، بمعنى أنّ إيقاع المعاملة عليها محرّم و إن لم يترتب عليها المسبّب و أطال البحث في الاستدلال لها و المناقشة فيها.
ثم تعرّض لجهة أخرى و قال: هي أيضا مهمّة أصيلة في المقام، و هي أنّ الأثمان المأخوذة في مقابل الأعيان النجسة هل هي محرّمة بعنوان ثمن النجس أو الحرام أو ثمن الخمر و الخنزير و غيرهما أم لا؟ و قال: إنّ هذا غير حرمة التصرّف في مال الغير. و استدلّ لذلك ببعض الروايات المتعرضة لحكم أثمان الأعيان المحرّمة ثم قال: «الظاهر استفادة جهة أخرى من تلك الروايات غير أصيلة في البحث عنها في المقام، و هي بطلان المعاملة، لأن تحريم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحة و إيجاب الوفاء بالعقود، فلازمه العرفي بطلانها و إن كان الثمن بعنوانه محرّما، مضافا إلى الإجماع على البطلان ...» «3»
______________________________
(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.
(2) راجع ص 64، 86. و راجع أيضا ص 196.
(3) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 15.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 185
..........
______________________________
أقول: جعله «ره» البحث عن حرمة المعاملة و كذا حرمة الثمن تكليفا أصيلا و مهمّا، و البحث عن فساد المعاملة غير أصيل خلاف ما مرّ منّا من أنّ محطّ نظر الفقهاء في المقام بيان الحكم الوضعي و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة.
نعم في بعض المعاملات الفاسدة نلتزم بالحرمة التكليفية أيضا كما في بيع الخمر و المعاملات الربوية، لوضوح أنّ اللعن و التأكيدات الواردة في أخبارها تدلّ على مبغوضية أشدّ من مبغوضيّة أكل مال الغير.
و أمّا
حرمة الثمن المذكورة في الروايات فالظاهر كونها كناية عن فساد المعاملة و كون المال مال الغير، و إلّا فلا وجه لحرمته بذاته بعد فساد المعاملة و عدم كونه ثمنا حقيقة، إلّا أن يقال: إنّ أخذه مع التوجّه إلى فساد المعاملة يكون مظهرا للتشريع فيكون حرمته بلحاظ مبرزيّته للتشريع المبغوض شرعا، فتأمّل.
إذا عرفت هذا فلنتعرّض لما يمكن أن يستدلّ بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا مشيرا إلى كلمات الأعلام و ما هو الحق في المقام:
الأوّل: أصل الفساد الجاري في جميع موارد الشك في صحّة المعاملة. و إن شئت قلت:
استصحاب عدم ترتّب الأثر.
و فيه: أنّ الأصل محكوم بما دلّ على صحّة العقود و الشروط و التجارة عن تراض و عناوين المعاملات الخاصّة من البيع و الإجارة و الصلح و نحو ذلك، سواء كان عموما أو إطلاقا شرعيّا أو استقرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار، فكلّ ما تمسّكت به في سائر موارد المعاملة نتمسّك به في المقام أيضا. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التمسّك بعموم العقود و إطلاقها إنّما يصحّ فيما إذا شكّ في اشتراط شي ء في صحّة العقد لا في قابلية المحلّ
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 186
..........
______________________________
كما في المقام، و لكنّ الظاهر بطلان هذا القول بعد تحقق المالية العرفية.
المدّعى في كلام الشيخ و العلامة و غيرهما كما مرّ و الشهرة المحققة في كلمات الأصحاب. و الظاهر أنّ النظر فيهما إلى الوضع أو التكليف و الوضع معا.
و هذا الدليل هو العمدة في المقام إن ثبت.
و فيه: أنّ كون الإجماع أو الشهرة في المقام بنحو يكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم «ع» قابل للمناقشة كما عرفت. لعدم تعرّض بعض القدماء كالصدوق في كتابيه إلّا لبعض المصاديق كالكلب و الخمر في بابين من المقنع «1». و لاحتمال أن المتعرضين للعنوان الكلي التقطوه من الموارد الخاصّة المذكورة في الروايات بإلغاء الخصوصيّة أو استندوا فيه إلى رواية تحف العقول التي يأتي المناقشة فيها.
و يظهر من عبارة الغنية كما مرّ أنّ علّة المنع هي التحفّظ من المنافع المحرّمة.
و المقنعة و النهاية و نحوهما من كتب القدماء ملاء من تعبيرات و تقسيمات و ذكر أقوال و احتمالات في كثير من المسائل نقطع بعدم
صدورها بهذا النحو عن الأئمة «ع».
و بالجملة يوجد فيها كثيرا إعمال اجتهادات و صناعات فقهية. فالعلم بصدور عنوان النجس بإطلاقه موضوعا مستقلا لعدم جواز المعاملة من طريق عبارات هذه الكتب مشكل جدّا، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أن إثبات الإجماع التعبّدي هنا مشكل للاطمينان بل العلم بأنّ مستند المجمعين إنما هو الروايات العامّة أو الخاصّة المذكورة في بيع الأعيان النجسة و الحكم بحرمة الانتفاع بها.» «2»
______________________________
(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 33.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 187
..........
______________________________
أقول: حصول العلم أو الاطمينان ممنوع، و لكن يكفي الاحتمال في إبطال الاستدلال كما عرفت.
يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رجْسٌ منْ عَمَل الشَّيْطٰان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ. «1»
و قد مرّ في عبارة التذكرة الاستدلال به. و تقريبه أنّ وجوب الاجتناب في الآية متفرع على الرجس فيدل على علّية الرجس لذلك و مقتضاها وجوب الاجتناب عن كل رجس، و إطلاقه يقتضي وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات فيه و منها البيع و الشراء.
و أجاب عنه الأستاذ الإمام «ره» في المكاسب بما محصّله: «أوّلا: أنّ وجوب الاجتناب ليس متفرعا على الرجس بإطلاقه بل على الرجس الذي يكون من عمل الشيطان، فمع الشك في كون البيع و الشراء من عمله لا يمكن التمسك بالآية لوجوب الاجتناب عنهما.
و ثانيا: أنّ نفس الخمر من الأعيان الخارجية فليست من عمله فلا بدّ من تقدير و لعلّه خصوص الشرب لا مطلق التقلّبات. إلّا أن يقال: إنّ التقدير أمر مستهجن و إنّما جعل الخمر من عمله ادّعاء، و المصحّح له كون
جميع تقلّباتها من عمله.
و ثالثا: أنّ الرجس مطلقا أو في الآية لا يراد به النجس المصطلح إذ حمله على المسير و الأنصاب و الأزلام يقتضي حمله على معنى آخر غير النجاسة المصطلحة.» «2»
أقول: يمكن أن يناقش الجواب الأوّل بأنّ الظاهر من قوله: منْ عَمَل الشَّيْطٰان
______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 90.
(2) المكاسب المحرمة 1/ 12.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 188
..........
______________________________
كونه خبرا ثانيا لا قيدا للرجس، فيكون كل منهما مقتضيا لوجوب الاجتناب. و لا نحتاج إلى إثبات كون البيع و الشراء من عمل الشيطان و ليس بناء الاستدلال على ذلك، بل على دخولهما في وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات المستفاد من الإطلاق.
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كون: منْ عَمَل الشَّيْطٰان خبرا مستقلا لا ينافي كون وجوب الاجتناب حكما لمجموع الخبرين لا لخصوص الرجسية، و كون جميع النجاسات من عمل الشيطان غير معلوم.
و يناقش الجواب الثالث بأنّ الظاهر كون الرجس في الآية أعمّ من النجس المصطلح و إذا اقتضى الأعمّ وجوب الاجتناب فالأخصّ يقتضي ذلك في ضمنه، اللّهم إلّا أن ينكر الأعمّية لاحتمال كون النسبة بنحو العموم من وجه، فتدبّر.
و الأولى في جواب الاستدلال بالآية أن يقال: إنّ المتبادر من اجتناب الشي ء عدم ترتيب الآثار التي كانوا يترقبونها منه و يرتّبونها عليه في تلك الأعصار كالشرب مثلا في الخمر لا جميع التقلبات. هذا.
و لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الاجتناب عن جميع التقلبات فمقتضى ذلك فساد المعاملة عليه قهرا، إذ الأمر بالاجتناب عنها نظير النهي عنها و ظاهره الإرشاد إلى فسادها.
وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» بتقريب أنّ الرجز بمعنى الرجس، و الهجر المطلق يحصل بهجر جميع التقلبات.
و فيه: أنّ كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه غير
واضح و لم يفسّروه بذلك. و لو
______________________________
(1) سورة المدّثر (74)، الآية 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 189
..........
______________________________
سلّم فلعلّ المراد بهجره هجره في الصلاة أو في الأكل و الشرب و نحوهما، كما هو المحتمل أيضا في قوله: وَ ثيٰابَكَ فَطَهِّرْ. «1» فيكون من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ، فلا دلالة له على منع المعاملة عليه. و يحتمل اختصاص الحكم بالنبي «ص» بقرينة السياق، فتأمّل.
و في التبيان: «قال الحسن: كل معصية رجز. و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه فاهجر الأصنام. و قال إبراهيم و الضحاك: الرجز: الإثم. و قال الكسائي:
الرجز بكسر الراء: العذاب، و بفتحها: الصنم و الوثن. و قالوا: المعنى اهجر ما يؤدّي إلى العذاب. و لم يفرّق أحد بينهما.» «2»
و روى في المجمع «3» عن المفسّرين تفسير الرجز بالأصنام و الأوثان و العذاب و المعاصي و الفعل القبيح و الخلق الذميم و حبّ الدنيا، و لم يرو عنهم تفسيره بالنجس.
و في تفسير علي بن إبراهيم القمي تفسيره بالخسي ء الخبيث «4». و معنى الخسي ء:
الردي ء.
و في الدّر المنثور روى روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في معناه قريبا مما ذكر.
و روى عن جابر «رض» قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: و الرجز فاهجر- برفع الراء- و قال: هي الأوثان «5».
______________________________
(1) سورة المدّثّر (74)، الآية 4.
(2) التبيان 2/ 724.
(3) مجمع البيان 5/ 385 (الجزء 10 من التفسير).
(4) تفسير القمّى/ 702 (ط. الحجرية، سنة 1313 ه. ق). و ليست في طبعته الحديثة 2/ 393 لفظة «الخسى ء».
(5) راجع الدرّ المنثور 6/ 281.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 190
..........
______________________________
و في مفردات الراغب- بعد ذكر آيات الرجز بالكسر الظاهرة في إرادة العذاب- ذكر
هذه الآية و قال: «قيل: هو صنم. و قيل: هو كناية عن الذنب فسمّاه بالمآل كتسمية الندى شحما.» «1» فيظهر منه تفسير اللفظين بالعذاب.
و كيف كان فلم يثبت كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه.
وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. «2»
بتقريب أنّ النجس من أظهر مصاديق الخبائث و أنّ تحريمها يشمل تحريم بيعها أيضا.
أقول: الخبائث في الآية بأيّ معنى كانت لا يدلّ تحريمها على تحريم المعاملات الواقعة عليها، إذ على فرض كون المراد بالخبائث الأعيان الخبيثة و كون النجاسات منها فالظاهر من تحريم الأعيان تحريم الانتفاعات و الآثار الأوليّة المناسبة لها لا تحريم النقل و الانتقال الحقيقيين فضلا عن الاعتباريين. و سيأتي البحث في الآية في مسألة بيع الأبوال الطاهرة فانتظر.
يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «3»
بتقريب أنّ المراد بالباطل ما حكم العرف أو الشرع بكونه باطلا. و النهي إرشاد إلى الفساد، فكما لا تصحّ المعاملة على مالا ماليّة له عرفا و يكون باطلا عندهم لا تصحّ أيضا على ما ألقى الشارع ماليّته كالخمر مثلا.
______________________________
(1) المفردات/ 193.
(2) سورة الأعراف (7)، الآية 157.
(3) سورة النساء (4)، الآية 29.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 191
..........
______________________________
و فيه:- مضافا إلى عدم جريان هذا التقريب فيما إذا كان للنجس منفعة محلّلة مقصودة توجب ماليّته كالتسميد مثلا- أنّ الباء في قوله: بالْبٰاطل يحتمل فيها أمران:
الأوّل: أن تكون للسببية فيراد النهي عن تملك الأموال بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و نحوهما.
الثاني: أن تكون للمقابلة نظير ما تدخل في المعاوضات على ما يجعل ثمنا.
و الظاهر في الآية هو الأوّل بقرينة استثناء التجارة عن تراض حيث إنّها من الأسباب المملّكة. فالنظر في الآية الشريفة إلى الأسباب و الطرق المملّكة لا إلى جنس الثمن أو المثمن و أنّهما باطلان أم لا. و إن شئت التفصيل فراجع ما حرّرناه سابقا في تفسير الآية «1».
منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء. و قد استدل بذلك المصنّف لحرمة المعاوضة على بول غير مأكول اللحم كما يأتي.
و ناقشه في مصباح الفقاهة بأنّه خلط بين الحرمة التكليفية و الوضعية، إذ الأوّلان دليلان على الحرمة التكليفية و الثالث دليل على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة «2».
أقول: لم يظهر لي وجه هذه المناقشة. و كيف يكون نجاسة الشي ء أو حرمته دليلا على حرمة بيعه تكليفا دون فساده؟! و لعلّ الاستدلال بالحرمة و النجاسة لبيان تحقق
______________________________
(1) راجع ص 14 من الكتاب.
(2) راجع مصباح
الفقاهة 1/ 32.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 192
..........
______________________________
موضوع الروايات العامّة، كرواية تحف العقول حيث ذكر فيها حرمة المعاملة على المنهي عنه و وجوه النجس و نحن حملناها على الوضع. أو أنّهما ذكرتا مقدّمة لبيان عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة، فالأمور الثلاثة في هذا الدليل ترجع إلى أمر واحد و هو خروج الشي ء عن كونه مالا، إذ الممنوع شرعا كالممتنع عادة و عقلا فلا يتحقق فيه البيع المعرّف بمبادلة مال بمال.
و كيف كان فيرد على الاستدلال بالحرمة ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أنّه إن أراد منها حرمة الأكل و الشرب فالكبرى ممنوعة لعدم الدليل على أنّ كلّ ما يحرم أكله و شربه يحرم بيعه. و لو فرض ما يدلّ على ذلك وجب تخصيص أكثر أفراده و هذا مستهجن يوجب سقوط الدليل عن الحجية.
و إن أراد منها حرمة جميع منافعه فالصغرى ممنوعة لعدم الدليل على حرمة جميع منافع الأعيان النجسة.» «1»
و يرد على الاستدلال بالنجاسة: أنّه استدلال بنفس المدّعى، و ليس لنا ما يدلّ على حرمة بيع النجس بإطلاقه إلّا رواية تحف العقول، و يأتي البحث فيها.
و أمّا الروايات الواردة في الموارد الخاصّة كالخمر و الميتة و الخنزير و نحوها فيقرب إلى الذهن أنّ النهي عنها كان بلحاظ أنّ المعاملة عليها في تلك الأعصار كان بداعي الأكل و الشرب و سائر الانتفاعات المحرّمة. فينصرف جدّا عن مثل شراء الخمر للتخليل أو التطيين مثلا أو الدم للتزريق بالمريض و العذرة و نحوها للتسميد.
و أمّا عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة الموجب لخروجها عن المالية فأورد عليه في
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 33.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 193
..........
______________________________
مصباح الفقاهة بما محصّله:
«أوّلا: أنّه لا دليل
على اعتبار المالية في البيع و إنّما المناط صدق عنوان المعاوضة عليه.
و ما عن المصباح من أنّه مبادلة مال بمال لا دليل عليه لعدم حجيّة قوله.
و ثانيا: أنّ المالية تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة، فلعلّها كانت في زمان صدور الروايات بلا منفعة محلّلة عقلائية و لكنها في أعصارنا و في البلاد الواجدة للمصانع الحديثة تستخرج منها الأدوية و الغازات و الموادّ النافعة الموجبة للرغبة فيها و أداء المال بإزائها. و القول بأن الشارع ألغى ماليتها مطلقا بتحريم جميع منافعها أوّل الكلام.
و ثالثا: يكفي في صحّة البيع كون المبيع مالا بنظر المتبايعين و لا يلزم كونه مالا بنظر جميع العقلاء.
و رابعا: أنّه على فرض عدم المالية فغاية ما يلزم كون المعاملة سفهية و لا دليل على بطلانها بعد إطلاق أدلّة البيع. و ما هو الفاسد معاملة السفيه لكونه محجورا عليه شرعا لا المعاملة السفهية. هذا مضافا إلى صحّة المعاملة عليها بمقتضى آية التجارة و إن لم يصدق عليه البيع.» «1»
أقول: بعض ما ذكره «ره» لا يخلو من مناقشة، إذ لا يكفي صدق مفهوم المعاوضة لغة بل يجب أن تكون بحيث يعتبرها العقلاء، و هم لا يصحّحون إلّا مالها دخل في رفع الحاجات و إدارة الحياة، و لا محالة يصير لكلّ من العوضين حينئذ قيمة و مالية و لو في شرائط خاصّة و تخرج المعاوضة عن كونها سفهية، و أمّا مع كونها سفهيّة بنحو الإطلاق فلا يقبلها العقل و لا الشرع و ينصرف عنها إطلاق الأدلّة قطعا.
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 34.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 194
______________________________
عن الصادق «ع»، حيث قال: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد مما
هو منهي عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «1»
أقول: لا يخفى أنّ الرواية مع إرسالها و تفرّد تحف العقول بنقلها و خلوّ جوامع الحديث عنها بالكلّية، مضطربة المتن مشتملة على التطويل و التكرار و التهافت في بعض الفقرات بحيث يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ و التعبيرات بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضبط، و مثل هذه لا تصلح لأن تكون دليلا للحكم الشرعي، و لم يثبت أيضا اعتماد المشهور عليها حتى يجبر بذلك ضعفها بل الظاهر عدم ذلك لعدم وجود إيماء إلى ذلك في مؤلّفاتهم. و قد مرّ شرح الرواية بالتفصيل عند نقلها بتمامها، فراجع «2».
هذا مضافا إلى التعليل في المقام بقوله: «لما فيه من الفساد». و الظاهر منه الفساد الظاهر للعقلاء و المتشرّعة، إذ التعليل لا يحسن إلّا بأمر ظاهر واضح. و على هذا فينصرف النهي فيها إلى النجاسات التي كانت تعامل عليها لأجل الانتفاعات المحرّمة الفاسدة على ما كان متعارفا في تلك الأعصار. و لا يشمل بيعها للانتفاعات المحلّلة العقلائية النافعة
______________________________
(1) تحف العقول/ 333.
(2) راجع ص 69 و ما بعدها
من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 195
..........
______________________________
لصلاح المجتمع. و قد صرّح في آخر الرواية بالنسبة إلى الصناعات المشتملة على الصلاح و الفساد معا بحلّية تصريفها إلى جهات الصلاح و جواز تعليمها و تعلّمها لذلك و حرمة تصريفها إلى جهات الفساد و المضارّ، فيمكن أن يستشعر من ذلك حكم المعاملة أيضا و أنّ المعاملة على ذي الجهتين تحرم بلحاظ منافعه المحرّمة و تصحّ بلحاظ منافعه المحلّلة، إذ الظاهر أنّ هذا السنخ من الأحكام ليست بداعي التعبّد المحض بل بلحاظ المصالح و المفاسد المترتبة على موضوعاتها، فتدبّر.
و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» أنّ مفاد رواية تحف العقول الحرمة التكليفية لا الوضعية.
قال في المكاسب بعد ذكر الرواية: «و حمل الحرام على الوضعي بدعوى عدم ظهوره في التكليفي سيّما في زمان الصدور، غير صحيح كما يتّضح بالنظر إلى فقرات الرواية، سيما مع ذكر اللبس و الإمساك و سائر التقلّبات فيها. فقوله: جميع التقلب في ذلك حرام نتيجة لما تقدّم. فكأنّه قال: كما أنّ الأكل و الشرب و اللبس و غيرها حرام، كذلك سائر التقلّبات كالبيع و الشراء و الصلح و العارية و غيرها أيضا حرام، فهي كالنصّ في الحرمة التكليفية.» «1»
و هكذا صنع في مصباح الفقاهة أيضا فقال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيا. و يدلّ على ذلك من الرواية قوله «ع»: «فهو حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و التقلب فيه.» فإنّ الإمساك و التقلّب يشمل جميع أنواع التصرّف حتّى الخارجي منه و لا معنى لحرمته وضعا. و الفقهاء «رض» لم يلتزموا في أكثر المذكورات بذلك و إنّما ذهبوا إلى الحرمة الوضعية.» «2»
______________________________
(1) المكاسب المحرّمة 1/
6.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 8.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 196
..........
______________________________
أقول: قد مرّ منّا في الجهة الثالثة حول الرواية و في بعض المباحث الأخر: أنّ استعمال الحلّ و الحرمة في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة المتشرّعة و المتأخرين من الفقهاء.
و أمّا في الكتاب و السنّة و ألسنة القدماء من فقهائنا فكانا يستعملان في كلّ من التكليف و الوضع و في الجامع بينهما و يتعيّن كل منهما بحسب القرائن و الموضوعات.
فكان يراد بحلّية الشي ء إطلاقه و عدم المنع و المحدوديّة بالنسبة إليه من قبل الشارع، و بحرمته المنع و المحدوديّة. و إطلاق كل شي ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يترقّب منه و يناسبه، فالمناسب للأفعال التكليف، و للعقود و الإيقاعات مثلا التي تنشأ بداعي ترتّب الآثار هو الوضع أعني صحّتها أو فسادها:
قال اللّه- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»
و في صحيحة محمد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»
و ليس استعمال اللفظين في التكليف و الوضع معا من قبيل استعمال اللفظ في معنيين حتى يتحاشى منه بل في الجامع بينهما. و لأجل ذلك أردف في الرواية موضوعات التكليف و الوضع معا و سردها بسياق واحد. فالمناسب لمثل الأكل و الشرب و الإمساك هو التكليف، و للبيع و الهبة و نحوهما هو الوضع، و الظاهر من جميع التقلب بقرينة عطفه على هبته و عاريته التقلّبات المعامليّة لا الخارجية. و على هذا فظهور الرواية في فساد المعاملة على النجس و نحوه واضح. و أمّا الحكم بحرمتها تكليفا فيحتاج إلى عناية زائدة
______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.
(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.
دراسات
في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 197
..........
______________________________
و دليل آخر، كما التزمنا بذلك في مثل بيع الخمر بلحاظ التأكيدات الواردة بالنسبة إليه نظير التأكيدات الواردة بالنسبة إلى الربا. و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الرخصة و المنع، بل مطلق الأمر و النهي مادّة و صيغة. و بذلك يظهر وجه الاستدلال للحكم الوضعي أعني البطلان بالروايات التالية، فتدبّر.
«الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «1»
بتقريب أنّ الأعيان النجسة تكون محرّمة منهيا عنها فلم يجز بيعها و لا شراؤها.
و المراد بعدم الجواز هو الفساد كما مرّ.
و فيه- مضافا إلى إرسال الرواية و عدم ثبوت حجية دعائم الإسلام و رواياته كما مرّ- أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرما أصله منهيا عنه» كونه متمحضا في الحرمة و الفساد بحيث لا يوجد له منفعة محلّلة أصلا و إلّا لزم منه حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما مع وضوح بطلان ذلك.
هذا مضافا إلى أنّ المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم أي بقصد جهته المحرّمة لا مطلقا، إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.
و إن شئت قلت: مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي ذلك. و على هذا فذات الجهتين لا يجوز بيعها لمنافعها المحرّمة و يجوز لمنافعها المحلّلة.
و ظاهر الرواية حلّية المعاملة على كلّ ما هو قوام للناس و صلاح لهم.
______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث
23.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 198
..........
______________________________
و عليك بمراجعة ما بينّاه عند ذكر الرواية بعنوان الضابطة الكلّية «1».
قال: «اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به مما هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد مما قد نهي عنه مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فساد (فاسد- خ.) للنفس.» «2»
أقول: مقايسة هذه العبارة مع رواية تحف العقول تعطي الوثوق بأخذها منها بنحو التلخيص و النقل بالمعنى.
و يرد على الاستدلال بها- مضافا إلى عدم ثبوت حجية فقه الرضا كما مرّ تفصيله- أنّه ليس فيها بالنسبة إلى المنهيات المذكورة اسم من المعاملة عليها، بل التعليق بالإضرار بالجسم و الإفساد للنفس لعلّه يشهد بأنّ المقصود من حرمتها حرمة استعمالها.
إلّا أن يقال بمقتضى المقابلة للصدر: إنّ المقصود بالذيل أيضا حرمة البيع و الشراء و نحوهما.
و لكن يرد على ذلك: أنّ المتبادر من النهي عن بيع مثل هذه الأشياء المحرّمة بيعها بقصد ما كان يترقّب منها و يترتّب عليها في تلك الأعصار عند شرائها من المنافع المحرّمة التي تضرّ بالجسم و تفسد النفس فينصرف عن بيعها و اشترائها لغير ذلك كالخمر
______________________________
(1) راجع ص 132 و ما بعدها من الكتاب.
(2) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و
المكاسب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 199
..........
______________________________
للتخليل و الدم للتزريق بالمرضى مثلا. و عليك بمراجعة ما فصّلناه في بيان العبارة و سند الكتاب و ماهيته «1».
«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و استدلّ به الشيخ «ره» في مسائل الخلاف «2».
و الرواية عامية نقلها أرباب المسانيد و السنن عن ابن عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:
ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السّماء فضحك فقال:
«لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «3»
و راجع البيهقي «4» و مسند أحمد «5» و مستدرك الوسائل «6» عن عوالي اللآلي. و المذكور في الجميع كلمة الأكل.
نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند «7» بدون كلمة الأكل، فراجع.
______________________________
(1) راجع ص 110 و ما بعدها من الكتاب.
(2) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.
(3) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
(4) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.
(5) مسند أحمد 1/ 247 و 293، مسند عبد اللّه بن عباس.
(6) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ عن العوالى 1/ 181.
(7) مسند أحمد 1/ 322، مسند عبد اللّه بن عباس.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 200
..........
______________________________
و قد مرّ منّا أنّ الرواية
واحدة، لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون إلّا في ذكر كلمة الأكل و عدمه.
و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدّم الأولى على الثانية، إذ احتمال زيادة الراوي من عند نفسه بعيد جدّا، و ليس احتمال النقيصة بهذه المثابة. فما في الخلاف «1» و المكاسب من نقل الرواية بدون كلمة الأكل غير ثابت.
و استدلّ البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله. و أورد عليه المحشيّ بقوله: «عموم هذا الحديث متروك اتفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها.»
أقول: إشكال المحشيّ وارد إلّا أن يريد البيهقي حرمة بيع ما يعتاد أكله لأجل أكله مع كونه محرما.
و الحاصل أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر من الرواية وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، و هذا مما لا يلتزم به أحد، فلتحمل الرواية على صورة كون المبيع مما يعتاد أكله و بيع لأجل ذلك، فلا مانع من بيعها للمنافع الأخر.
و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد، و هذا يقتضي فساد بيعه قطعا لسقوطه عن المالية شرعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون فتواهم مستندة إلى هذه الرواية العامية حتّى يجبر ضعفها بذلك. و استناد الشيخ و أمثاله إلى أمثال هذه الروايات العامية لعلّه كان للمماشاة مع أهل الخلاف.
______________________________
(1) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 201
..........
______________________________
و قصّة بيع اليهود للشحوم و أكل أثمانها رواها جابر أيضا عن النبي «ص» و لكن بدون هذه الضابطة و قد مرّت و تأتي أيضا.
و نظير رواية ابن عباس في المقام عن النبي «ص» ما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه «ص» راويتين من خمر فأمر بهما رسول اللّه «ص» فأهريقتا و قال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» «1»
و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ثمن الخمر، قال: أهدي إلى رسول اللّه «ص» راوية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع، فلمّا أن مرّ بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه «ص» من خلفه: يا صاحب الرواية، إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّت في الصعيد ...» «2»
يستشعر من الروايتين وجود الملازمة بين حرمة شرب الشي ء و فساد بيعه و لا يمكن الالتزام بذلك.
و الجواب أنّ الخمر كانت مما يعتاد شربها و كان بيعها في تلك الأعصار لذلك لا محالة فتصحّ الملازمة، و لا دلالة في الحديثين على منع بيعها للتخليل أو التطيين بها مثلا فمقتضى العمومات جوازه.
عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن عليّ بن أبي طالب «ع»، قال: «بائع الخبيثات و مشتريها في الإثم سواء.» «3»
______________________________
(1) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) نفس المصدر و الباب، ص 165، الحديث 6.
(3) مستدرك الوسائل 2/ 425، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 202
..........
______________________________
بتقريب أنّ الأعيان النجسة من أظهر مصاديق الخبيثات، و مقتضى ثبوت الإثم
في بيعها حرمته، بل يمكن القول بفساده أيضا، إذ الشرع لا ينفّذ عقدا حرّمه.
و في البيع وقت النداء ليس المحرّم البيع بما أنّه بيع و معاملة، بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة.
و تأمّل الأستاذ الإمام في دلالة الرواية، قال: «لعدم ظهورها في أنّ الإثم لنفس البيع و الشراء، فإنّها في مقام بيان حكم آخر بعد فرض إثم لهما، فلا يظهر منها أنّ الإثم المفروض لأجل نفس عنوان البيع و الشراء أو لأخذ الثمن و التصرّف فيه و أخذ الخمر و شربه، و إن لا تخل من إشعار على أنّ المحرّم البيع و الشراء.» «1»
أقول: و الذي يسهّل الخطب ضعف الرواية. و يأتي معنى الخبيث في مسألة بيع الأبوال.
بناء على إلغاء الخصوصية منها و استنباط أنّ علّة الحكم فيها هي النجاسة.
فلنتعرّض لبعضها الحاوي لجمع من أفراد النجس، إذ احتمال إلغاء الخصوصيّة فيها قريب و نؤخّر ما تفرّد بذكر واحدة منها إلى فصل البحث عنها:
1- رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» في ذيل قصّة إهداء راوية من خمر لرسول اللّه «ص» أنه قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السّحت.» «2»
2- معتبرة السّكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السّحت: ثمن الميتة و ثمن الكلب
______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 7.
(2) الوسائل 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6؛ و ص 63، الباب 5 منها، الحديث 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 203
..........
______________________________
و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «1»
3- ما عن الفقيه، قال: قال- عليه السلام-: «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي
ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «2»
4- ما في حديث وصايا النبي «ص» لعليّ «ع»، قال: «يا عليّ، من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «3»
5- و في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجّام و أجر الكاهن و أجر القفيز و أجر الفرطون و الميزان إلّا قفيزا يكيله صاحبه أو ميزانا يزن به صاحبه، و ثمن الشطرنج و ثمن النرد و ثمن القرد و جلود السّباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ و ثمن الكلب و أجر الشرطيّ الذي لا يعديك إلّا بأجر، و أجر صاحب السجن و أجر القافي (القائف- المستدرك) و ثمن الخنزير و أجر القاضي و أجر الصاحب (السّاحر- المستدرك) و أجر الحاسب بين القوم لا يحسب لهم إلّا بأجر، و أجر القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلّا بأجر و لا بأس أن يجرى له من بيت المال. و الهدية يلتمس أفضل منها ...» «4»
و رواه عنه في المستدرك. «5»
______________________________
(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(2) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 9.
(4) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180.
(5) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 204
..........
______________________________
1- قال الخليل بن أحمد في العين: «السحت:
كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «1»
2- و في معجم مقاييس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له. و يقال: أسحت في تجارته: إذا كسب السحت. و أسحت ماله:
أفسده.» «2»
3- و في المفردات: «السحت: القشر الذي يستأصل، قال- تعالى-: فَيُسْحتَكُمْ بعَذٰابٍ و قرئ: فَيُسْحتَكُمْ يقال: سحته و أسحته. و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروءته. قال- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت أي لما يسحت دينهم.» «3»
4- و في النهاية: «يقال: مال فلان سحت أي لا شي ء على من استهلكه، و دمه سحت أي لا شي ء على من سفكه. و اشتقاقه من السّحت و هو الإهلاك و الاستيصال.
و السحت: الحرام الذي لا يحلّ كسبه.» «4»
5- و في المنجد: «السحت، جمعه أسحات: الحرام. ما خبث و قبح من المكاسب فلزم منه العار كالرشوة. مال سحت و سحت: متلف هالك.» «5»
______________________________
(1) العين 3/ 132.
(2) مقاييس اللغة 3/ 143.
(3) المفردات للراغب/ 231. و الآية الأولى من سورة طه (20)، رقمها 61؛ و الثانية من سورة المائدة (5)، رقمها 42.
(4) النهاية لابن الأثير 2/ 345.
(5) المنجد/ 323.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 205
..........
______________________________
أقول: يظهر منهم أنّ السحت حرام خاصّ يتنفّر عنه طباع الكرام و يذهب بالدين أو المروّة و لا بركة له و لا بقاء.
و الظاهر من حرمة ثمن المعاملة بنحو الإطلاق بطلانها، إذ مقتضى صحتها انتقال العوضين و جواز التصرّف فيهما. فحرمة الثمن كناية عن عدم انتقاله إلى البائع.
و بعبارة أخرى: حرمة الثمن شرعا و عدم جواز التصرّف فيه لا يجتمع عرفا مع صحّة المعاملة و إيجاب الوفاء
بها.
و هل يستفاد من هذه الروايات و غيرها مما حكم فيها بكون الثمن سحتا أو حراما حرمة الثمن شرعا بعنوان أنّه ثمن لشي ء من المذكورات وراء حرمته بما أنّه مال الغير بحيث يستلزم أخذه و التصرّف فيه استحقاق عقوبة زائدة وراء استحقاقها على التصرف في مال الغير و استحقاقها على معوّض هذا الثمن إن كان عملا محرما كالزنا مثلا و على نفس المعاملة أيضا في مثل بيع الخمر و الربا كما التزمنا بذلك؟
ظاهر كلام الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه «1» ذلك كما مرّ.
و قال أيضا: «و الظاهر منها أنّ الثمن محرّم بعنوان ثمن الحرام أو ثمن النجس، لأنّ الظاهر من تعلّق حكم على عنوان موضوعيته، فالحمل على حرمته باعتبار التصرف في مال الغير بلا إذنه خلاف ظواهر الأدلّة.» «2»
أقول: الظاهر أنّ تحريم الثمن كناية عن بطلان المعاملة و فسادها، و مقتضى ذلك عدم انتقال الثمن و حرمة التصرف فيه لذلك.
و لو أريد استفادة ذلك من لفظ السحت بظنّ دلالته على شدّة الحرمة و المبغوضية
ففيه أنّ التعبير بالسحت ليس لبيان شدّة الحرمة بل لبيان خسّة الاكتساب و مهانته
______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.
(2) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 206
..........
______________________________
بحيث يتنفر عنه طباع أهل المروّة و المكرمة و إن فرض كون نفس العمل شريفا كالقضاء و قراءة القرآن مثلا كما في رواية الجعفريات، فأراد النبي «ص» أو الإمام «ع» بهذا التعبير تأنّفهم من هذه الاكتسابات و أثمانها.
و يشهد لما ذكرنا أنّ كثيرا مما أطلق عليها السحت في رواية الجعفريات و غيرها مما يشكل الالتزام بشدّة حرمتها و عقوبتها بل بأصل حرمتها أيضا، و إنّما أطلق عليها السحت
بلحاظ حزازة الاكتساب بها و تأبّي النفوس الكريمة منها كأجر الحجّام و القاضي و القارئ و الحاسب و ثمن اللقاح و القرد و عوض الهدية أزيد منها.
و في موثقة سماعة قال: قال «ع»: «السّحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «1» و نحوها رواية أخرى لسماعة إلّا أنّ فيها: «كسب الحجّام إذا شارط.» «2»
و الظاهر أنّ سحتيّة أجر الحجّام ليست بلحاظ الحرمة و العقوبة، بل الملاك المشترك بينه و بين ما رادفه هو الحزازة و تأبّي النفوس الكريمة منها. و في بعض الروايات أنّ رسول اللّه «ص» احتجم و أعطى أجر الحجّام، و في بعضها أنّه قال: «اعلفه ناضحك.» «3»
و ملخّص الكلام أنّه من أقدم على بيع الخمر مثلا فمعاملته باطلة قطعا، و مقتضاه عدم انتقال الثمن إليه و حرمة تصرّفه فيه بما أنّه مال الغير، و التزمنا بثبوت الحرمة التكليفية أيضا لهذه المعاملة لما ورد من التأكيدات في رواياته و لعلّها لإيجابها إشاعة
______________________________
(1) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(2) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(3) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 207
..........
______________________________
الخمر في المجتمع قهرا.
و أمّا الالتزام بحرمة الثمن بما أنّه ثمن الخمر زائدا على كونه مال الغير فيشكل الالتزام به، و إن اختاره الأستاذ الإمام.
و لو شكّ في ذلك فالأصل يقتضي العدم بناء على جريانه فيما إذا شكّ في و جهة الحرمة زائدا على ما يعلم في موضوع واحد.
هذا كلّه فيما يرتبط بروايات
السحت.
6- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة و الدم و الخنزير و الأصنام، و عن عسب الفحل، و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة، و قال: هي ميتة.» «1»
و رواه عنه في المستدرك «2».
قال في النهاية: «فيه: أنّه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه ... و لم ينه عن واحد منهما، و إنما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه، فإنّ إعارة الفحل مندوب إليها.» «3»
7- و في باب ثمن الخمر و الميتة من سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «4»
______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.
(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(3) النهاية لابن الأثير 3/ 234.
(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 208
..........
______________________________
8- و فيه أيضا بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة؛ فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود،
إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و في رواية أخرى عن جابر نحو ذلك و لم يقل:
«هو حرام». «1» و رواية جابر رواها مسلم أيضا و ابن ماجة «2».
أقول: جمله و جمّله و أجمله: أذابه. و المترائى من هذه الرواية أنّ الشحوم المحرّمة على اليهود كانت من قبيل الميتة.
و رواية جابر هي التي ذكرها أبو إسحاق في المهذّب دليلا لبطلان بيع النجس مطلقا بقياس سائر النجاسات على ما ذكر فيها كما مرّ.
و محصّل الدليل الثالث عشر إلغاء الخصوصيّة من هذه الروايات المستفيضة المتعرّضة لجمع من أفراد النجس باستظهار أنّ العلّة في منعها هي النجاسة.
هذا، و لكنّ المتبادر من الجميع منع بيعها بلحاظ المنافع التي كانوا يشترونها غالبا لأجلها و يرتّبونها عليها في تلك الأعصار من الأكل و الشرب و نحوهما، فالاستدلال بها على كون عنوان النجاسة بنفسها موضوعا مستقلا للمنع عن المعاملة قابل للمناقشة.
و قد عرفت أنّ المهمّ من هذه الأدلّة هو الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة بين الفريقين.
و قد مرّت المناقشة فيهما أيضا.
______________________________
(1) سنن أبى داود 2/ 250 و 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
(2) راجع صحيح مسلم 3/ 1207، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر ...، الحديث 71؛ و سنن ابن ماجة 2/ 732، كتاب التجارات، باب ما لا يحلّ بيعه، الحديث 2167.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 209
..........
______________________________
و إذا منعنا دلالة هذه الأدلّة على منع المعاملة فمقتضى عمومات العقود و التجارة و البيع صحّتها بلحاظ المنافع المحلّلة العقلائية. و لكنّ الأحوط مع ذلك كلّه- كما في كلام الأعلام- ترك المعاملة عليها بأنحائها.
قالوا: نعم، إذا كانت أعيان النجاسة تحت سلطة أحد فالعقلاء يعتبرون له
بالنسبة إليها حقّ الاختصاص و التقدّم، بحيث يعدّون إجباره على رفع اليد ظلما و تعدّيا، نظير حق السبق بالنسبة إلى الأمكنة المشتركة، فله أن يأخذ شيئا لا بإزاء هذه الأعيان النجسة بل في قبال رفع اليد عنها، فإذا رفع يده عنها استولى عليها من يريدها.
و ممن تعرّض لذلك صاحب الجواهر، فراجع «1».
أقول: لا يخفى أنّ مسائل المعاملات ليست مسائل تعبّدية محضة نظير خصوصيات العبادات الشرعية، بل الملحوظ فيها مصالح المجتمع. فإن فرض أنّ الشارع منع من المعاملة على النجس بأنحائها فلا محالة يكون هذا ناشئا من إرادته تطهير محيط التعيّش منها بالكلية و عدم تلوّث مظاهر الحياة بها أصلا.
و على هذا فلا يرضى الشارع بالاستيلاء عليها بنحو المجّان أيضا بقصد الانتفاع بها كما دلّت على ذلك رواية تحف العقول، حيث نهى فيها عن ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. و حينئذ فيحرم جميع الانتفاعات بها كما التزم بذلك المشهور بالنسبة إلى الميتة و أجزائها. و لذا قالوا بعدم جواز الاستصباح بها حتى تحت السّماء أيضا كما مرّ عن القواعد و فرّقوا بينها و بين الزيت المتنجس في ذلك و هو المستفاد من خبر جابر أيضا.
______________________________
(1) راجع الجواهر 22/ 9، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 210
..........
______________________________
و أمّا إذا فرض أنّ الشارع يرضى بالانتفاع بها بغير مثل الأكل و الشرب الاختياريين فبأيّ وجه نحرّم المعاملة عليها؟ مع أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تحصيل ما يحلّ الانتفاع به و لو في موارد خاصّة و لا منع فيها إلّا بالنسبة إلى ما يضرّ بحال المجتمع كالغرر و الربا و نحوهما، و ليست أحكام الشارع جزافية، فتدبّر.
قد مرّ أنّ الظاهر من كلمات أكثر الأعلام من فقهاء الفريقين: أنّ النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة و أنها موضوع مستقل للمنع و إن فرض أنّ للشي ء منفعة محلّلة مقصودة، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.
و مرّ عن العلامة في التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...» «1»
و عن الشهيد في المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «2» هذا.
و لكن يظهر من كثير من كلماتهم أنّ عدم جواز بيعها معلول لعدم جواز الانتفاع بها.
و مقتضى ذلك أنّه لو قلنا بجواز بعض الانتفاعات المقصودة من الأعيان النجسة كالتسميد من العذرات مثلا لم يمنع عن بيعها لذلك، فليست النجاسة بما هي نجاسة مانعة بل المنع فيها ناش من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة الموجبة لماليّتها عرفا و شرعا.
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 211
..........
______________________________
و على هذا تكون الأعيان النجسة لكونها ممنوعة الانتفاع شرعا و لو إجمالا في الحقيقة قسما من النوع الثالث الآتي أعني ما لا منفعة له محلّلة:
1- ففي الخلاف في مسألة بيع الزيت النجس (المسألة 312) قال: «و روى أبو علي أبي هريرة في الإفصاح أنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح بالزيت النجس، و هذا يدل على جواز بيعه.» «1» و نحو ذلك في الغنية إلّا أنّه قال: «في الأوضاح.» «2»
يظهر من هذه العبارة أنّ جواز البيع دائر
مدار وجود المنفعة المحلّلة.
2- و في الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرمة. و يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل ...» «3»
3- و في المنتهى في مسألة جواز بيع كلب الماشية و نحوها قال: «و لأنّه يصحّ الانتفاع به و نقل اليد فيه و الوصية به فيصحّ بيعه كالحمار.» «4»
4- و فيه أيضا في مسألة جواز إجازة الكلب قال: «لنا أنّه منفعة مباحة فجازت المعاوضة عليها كبيع الحمار.» «5» و نحو ذلك أيضا في التذكرة «6».
5- و في التذكرة: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط
______________________________
(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.
(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.
(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.
(4) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثاني، البحث الأوّل.
(5) نفس المصدر و الصفحة.
(6) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 212
..........
______________________________
لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «1»
6- و فيه أيضا بعد استدلاله لجواز بيع كلب الصيد بأنّه يحلّ الانتفاع به و نقله استدلال المانع بأنّه نجس العين فأشبه الخنزير قال في جوابه: «و النجاسة غير مانعة كالدهن النجس. و الخنزير لا ينتفع به بخلافه.» «2»
7- و فيه أيضا: «يجوز بيع كل ما فيه منفعة لأنّ الملك سبب إطلاق التصرّف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها فيباح لغيره
بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» «3»
أقول: يظهر من هذه العبارة ما كنّا نصرّ عليه من الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و لو في حالة خاصّة و بين صحة المعاملة عليه.
8- و نظير ذلك ما في السرائر فإنّه بعد ما حكى عن نهاية الشيخ المنع عن التكسب بالفيلة و الدببة و غيرها قال: «قال محمد بن إدريس: قوله- رحمه اللّه-: الفيلة و الدببة، فيه كلام و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه. و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك ...» «4»
9- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية. و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدّى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عبّاس عن
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(4) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 213
..........
______________________________
النبيّ «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «1»
أقول: و العجب منه أنّه استدل للكبرى بالروايات العامية و لم يتعرض لرواية تحف العقول و غيرها، فيظهر منه عدم اعتمادهم عليها. و كون الأعيان النجسة محرّمة الانتفاع
بنحو الإطلاق محلّ كلام و سيأتي البحث فيه عند تعرض المصنّف للمسألة.
10- و فخر المحققين في الإيضاح أطال الكلام في هذا المجال نذكره ملخّصا: قال: «و أنا أذكر قاعدة يعرف منها مسائل الخلاف و الوفاق و منشأ الاختلاف في كلّ مسائل البيع، فأقول: ما لا منفعة فيه أصلا لا يجوز العقد عليه لأنّ ذلك من أكل المال بالباطل. و هذا الذي لا منفعة فيه لا يصحّ تملكه كالخمر و الميتة.
و أمّا ما فيه منفعة مقصودة فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون سائر منافعه محرّمة. و الثاني: أن يكون سائر منافعه محلّلة. و الثالث: أن يكون بعضها محلّلا و بعضها محرّما.
فإن كانت سائر منافعه محرّمة صار كالقسم الأوّل الذي لا منفعة فيه كالخمر و الميتة.
و إن كانت سائر منافعه محلّلة جاز بيعه إجماعا كالثوب و العبد و العقار و غير ذلك.
و إن كانت منافعه مختلفة فهذه المواضع من المشكلات. فنقول: إن كان جلّ المنافع و المقصود منها محرّما حتّى صار المحلّل من المنافع كالمطرح فإنّ البيع ممنوع لأنّ المطرح من المنافع كالعدم. و إليه أشار «ع» بقوله: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» و إن كان الأمر بعكس ذلك كان الحكم بعكسه، و هو أن يكون المقصود من المنافع و جلّها مباحا و المحرّم مطرح.
______________________________
(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 214
..........
______________________________
و أشكل من هذا القسم ما يكون فيه منفعة محرّمة مقصودة و سائر منافعه محلّلة مقصودة، فإنّ هذا ينبغي إلحاقه بالقسم الممنوع، لأنّ كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة يؤذن بأنّ لها حصّة من الثمن و لأنّ العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع
و هو عقد واحد على شي ء واحد لا سبيل إلى تبعيضه. و المعاوضة على المحرّم منه ممنوع فيمنع الكلّ.» «1»
أقول: لا وجه لبطلان المعاملة على ما اشتمل على المنفعة المحلّلة المقصودة للعقلاء و إن اشتمل على المنفعة المحرّمة أيضا، و إلّا لفسدت المعاملة على كثير من الأشياء كالعنب و الزبيب مثلا، اللّهم إلّا أن تكون المنفعة المحرّمة مقصودة للمتعاملين و وقعت المعاملة بلحاظها و سيأتي البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد التخمير.
ثم إنّه قلّما يوجد شي ء ممحّض في المنافع المحرّمة أو المحلّلة فقط، إذ كلّ محرّم يمكن أن يباح في بعض الأمكنة و الشرائط. و كلّ مباح يمكن أن يوجد له مصرف حرام.
فالملاك في صحة المعاملة مالية الشي ء و كونه مرغوبا فيه مع قطع النظر عن منافعه المحرمة هذا.
بقي البحث عن جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و عدمه و سيأتي من المصنّف البحث في ذلك، فانتظر.
إذا عرفت ما ذكروه من الأدلّة للمنع عن بيع النجس بعنوانه الكلّي الجامع لجميع النجاسات و المناقشة فيها فلنتعرّض لكلّ واحدة منها على ترتيب المتن، و قد عقد هو للاكتساب بالأعيان النجسة ثماني مسائل.
______________________________
(1) إيضاح الفوائد 1/ 401، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 215
الأولى: يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم بلا خلاف ظاهر، لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة، فيما عدا بعض أفراده كبول الإبل الجلالة أو الموطوءة. (1)
______________________________
1- المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه
(1) في مرجع الاستثناء الأخير احتمالات:
الأوّل: ما في حاشية المحقق الإيرواني، قال: «لعلّ هذا استثناء من صدر الكلام أعني قوله: «يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم.» بتوهم شمول الإجماع المنقول على جواز بيع بول الإبل له و إن حرم شربه.» «1»
الثاني: أن يكون استثناء من صدر الكلام أيضا و لكن بلحاظ عدم كون بول الجلّالة و الموطوءة نجسا، إذ المتيقن من نجاسة بول ما حرم أكله نجاسة بول ما حرم أكله ذاتا لا ما حرم بالعرض.
الثالث: ما في مصباح الفقاهة «2»، و هو كونه استثناء من قوله: «و عدم الانتفاع به.»
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 32.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 216
..........
______________________________
أي ليس لأبوال ما لا يؤكل لحمه نفع ظاهر إلّا بول الإبل الجلّالة أو الموطوءة، فإنّ له منفعة ظاهرة و إن حرم شربه لنجاسته.
و كيف كان 1- ففي مكاسب المقنعة في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس ببيعها و الانتفاع بها و استعمالها لضرب من الأمراض.» «1»
أقول: المفيد «ره» و إن ذكر في عداد ما يحرم بيعه كلّ نجس من الأعيان كما مرّت عبارته، و ظاهره كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا في قبال عدم المنفعة، لكن ظاهر كلامه هنا بقرينة الاستثناء هو الحكم بالمنع على العذرة و الأبوال النجسة و الطاهرة معا بملاك واحد و هو عدم
الانتفاع بها، و أنّ الانتفاع و البيع متلازمان جوازا و منعا. و هذا يؤيّد ما مرّ منّا من جواز البيع و المعاملة على فرض جواز الانتفاع و كون المنفعة مقصودة. و الظاهر أنّه أراد بالحرمة الأعمّ من التكليف و الوضع كما لا يخفى.
2- و في مكاسب المراسم أيضا في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2» فهو أيضا لم يفرّق بين النجسة و الطاهرة منهما، فيظهر منه حرمة بيعهما بملاك واحد.
3- و مرّ عن نهاية الشيخ قوله: «و جميع النجاسات محرّم التصرف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة،
______________________________
(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.
(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 217
..........
______________________________
فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.» «1»
أقول: في هذا الكلام أيضا نوع خلط بين الأبوال النجسة و الطاهرة، إلّا أن يحمل المستثنى على خصوص أبوال الإبل النجسة كالجلّالة أو الموطوءة.
4- و قد مرّ عن المبسوط و الشرائع و القواعد «2» أيضا المنع عن بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها. و كلّ من منع من الفريقين عن بيع الأعيان النجسة بإطلاقها فكلامه لا محالة شامل للأبوال و الأرواث النجسة.
5- و قد مرّ عن المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»
6- و في المستند في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و منها
الأرواث و الأبوال. و تحريم بيعها مما لا يؤكل لحمه شرعا موضع وفاق كما في المسالك.» «4»
أقول: و لأجل ذلك كلّه ترى المصنّف قال: «بلا خلاف ظاهر».
و لكن قد مرّ منّا أنّ كون الإجماع المنقول و الشهرة المحققة في المقام بنحو يكشف بهما قول المعصوم كشفا قطعيا مشكل، و لا سيما و أنّ المترائى من بعضهم كون الملاك في المنع عدم المنفعة أو عدم المنفعة المحلّلة، و لذا أجرى الحكم بالمنع على الأبوال بإطلاقها من غير فرق بين النجسة و الطاهرة منها و استثنى بول الإبل خاصّة لترتب منفعة الاستشفاء عليه.
______________________________
(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
(2) راجع ص 177- 179 من الكتاب.
(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(4) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثانى.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 218
..........
______________________________
و قد مرّ عن ابن زهرة في الغنية «1» اشتراط المنفعة المباحة في المعقود عليه و فرّع على ذلك عدم جواز بيع النجس.
و في التنقيح في منع بيع الأعيان النجسة قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها ...» «2»
فرتّب حرمة البيع على حرمة الانتفاع، و على هذا فلو فرض لها منفعة محلّلة عقلائية فلا وجه لعدم جواز بيعها.
و أمّا قول المصنّف: «لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به» فيحتمل أن يكون إشارة إلى ثلاثة أدلّة مستقلة. و يحتمل أيضا أن يكون ذكر الحرمة و النجاسة توطئة لبيان عدم الانتفاع منفعة محلّلة، فيكون هو الدليل في الحقيقة.
و كيف كان فقد ناقشنا سابقا في هذا
الدليل بالتفصيل، فراجع الدليل السابع مما مرّ.
و محصّله: أنّ حرمة جميع المنافع لا دليل عليها، و حرمة بعضها كالأكل و الشرب و نحوهما غير مانعة عن صحّة المعاملة بلحاظ المنافع الأخر. و المنافع تختلف بحسب اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، و لم يثبت كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا. و إذا فرض لها منافع محلّلة عقلائية و صارت لها مالية بلحاظها، فلا وجه للحكم ببطلان المعاملة عليها بإطلاقها.
______________________________
(1) راجع ص 178- 211 من الكتاب.
(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 219
فرعان
الأوّل: ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها عند المشهور إن قلنا بجواز شربها اختيارا، كما عليه جماعة من القدماء و المتأخرين بل عن المرتضى دعوى الإجماع عليه، فالظاهر جواز بيعها (1).
و إن قلنا بحرمة شربها كما هو مذهب جماعة أخرى لاستخباثها ففي جواز بيعها قولان:
من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة فيها، و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كلّ شي ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كلّ شي ء عليها للانتفاع به في بعض الأوقات.
و من أنّ المنفعة الظاهرة و لو عند الضرورة المسوّغة للشّرب كافية في جواز البيع. و الفرق بينها و بين ذي المنفعة الغير المقصودة حكم العرف بأنّه لا منفعة فيه. و سيجي ء الكلام في ضابطة المنفعة المسوّغة للبيع.
______________________________
بحث استطراديّ حول أبوال ما يؤكل لحمه
(1) لا يخفى أنّ صحّة المعاملة عليها لا تدور مدار جواز شربها، إذ لا تنحصر
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 220
..........
______________________________
منافعها في الشّرب، بل لا يعدّ الشّرب من منافعها بحسب العادة و إن امكن التداوي بها في بعض الأحيان. و لكن يمكن أن يستخرج منها في المصانع الحديثة موادّ كيمياوية نافعة فتصير بذلك ذات قيمة و ماليّة. و حديث: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه» على فرض صحّته منصرف- كما مرّ- إلى صورة كون الشي ء معدّا للأكل و بيع لأجل ذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.
و بالجملة فصحّة المعاملة على الأبوال الطاهرة لا تتوقف على جواز شربها، بل على ماليّتها عند العقلاء بحيث يرغبون في شرائها لأغراض عقلائية. فيكون بين جواز شربها و صحّة
المعاملة عليها بحسب المورد عموم من وجه؛ إذ على فرض جواز الشرب يمكن أن لا يكون لها في مورد ماليّة و قيمة لعدم الرغبة فيها أصلا كما هو الغالب فلا يصحّ بيعها لذلك. و على فرض عدم جواز الشرب يمكن أن يتصوّر لها منافع عقلائية توجب لها قيمة و رغبة فيصحّ بيعها لذلك.
و كيف كان فهل يجوز شرب الأبوال الطاهرة مطلقا، أو لا يجوز مطلقا، أو يفصّل بين بول الإبل و غيره، أو بين حالة الاضطرار و غيرها؟:
1- قد مرّ عن المقنعة و المراسم حرمة بيع الأبوال كلّها إلّا بول الإبل، فيمكن أن يستشعر من كلامهما حرمة شربها أيضا إلّا بول الإبل.
2- و في الأطعمة و الأشربة من النهاية قال: «و لا بأس بأن يستشفى بأبوال الإبل.» «1»
و ظاهر كلامه الاختصاص بها للاستشفاء فقط.
3- و في الأشربة من الوسيلة: «و لا يجوز شرب دماء الحيوانات و لا أبوالها مختارا إلّا
______________________________
(1) النهاية/ 590، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 221
..........
______________________________
بول الإبل، فإنّه يجوز شربه للاستشفاء.» «1»
4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع بعد التعرّض لحرمة البول ممّا لا يؤكل لحمه قال: «و هل يحرم مما يؤكل؟ قيل: نعم إلّا أبوال الإبل، فإنّه يجوز الاستشفاء بها. و قيل:
يحلّ الجميع لمكان طهارته. و الأشبه التحريم لمكان استخباثها.» «2»
أقول: دليله الأخير ناظر الى آية الخبائث و سيأتي البحث فيها.
5- و لكن في أشربة الانتصار: «مسألة: و ممّا يظن قبل التأمّل انفراد الإمامية به القول بتحليل شرب أبوال الإبل و كلّ ما أكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره. و قد وافق الإمامية في ذلك مالك و الثوري و زفر. و
قال محمّد بن الحسن في البول خاصّة مثل قولنا و خالف في الروث. و قال أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي: بول ما أكل لحمه نجس و روثه أيضا، كنجاسة ذلك ممّا لا يؤكل لحمه.
و الذي يدلّ على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتردّد: أنّ الأصل فيما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الإباحة ... و أيضا فإنّ بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس. و كلّ من قال بطهارته جوّز شربه، و لا أحد يذهب إلى طهارته و المنع من شربه ...» «3»
أقول: فهو «ره» حكم بحلّية بول ما أكل لحمه و جواز شربه مطلقا من الإبل و غيره و للتداوي و غيره و ادّعى على ذلك الإجماع، و أطال الكلام في الاستدلال عليه. و ظاهره ابتناء المسألة على طهارة الأبوال و أنّ القول بطهارتها يستلزم القول بحلّيتها مع وضوح بطلان ذلك.
______________________________
(1) الوسيلة/ 364، كتاب المباحات، فصل في بيان أحكام الأشربة.
(2) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.
(3) الانتصار/ 201، مسائل الصيد و الذبائح و الأطعمة و الأشربة و اللباس.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 222
______________________________
و كيف كان فحيث إنّ المسألة مما يقلّ الابتلاء بها- إذ في حال الاختيار يتأبّى كلّ إنسان و يشمئزّ من شرب الأبوال بالطبع، و لذا قد يتعجّب من عنوانها في الروايات و كلمات الأصحاب، و في حالة الاضطرار من وجود عطش مهلك في القفار أو للتداوي المنحصر يحلّ كلّ شي ء محرّم قطعي فضلا عن الأبوال الطاهرة المختلف فيها- كان تطويل البحث فيها تضييعا للوقت، و لكن التعرض لها إجمالا يشتمل على فوائد. و قد تعرّض للمسألة في الجواهر «1». و عمدة
الدليل على الجواز أصالة الحلّ و الإباحة، فيحتاج المنع إلى الدليل الرادع.
و قد يستدلّ للجواز أيضا بما عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ النبيّ «ص» قال: «لا بأس ببول ما اكل لحمه.» «2»
أقول: أبو البختري هو وهب بن وهب. قيل في حقّه: إنّه كان كذّابا. و دلالة الخبر أيضا غير واضحة، إذ المتبادر منه عدم البأس ببوله من جهة النجاسة لا الشرب، لعدم تعارف شربه و قلّة الابتلاء به.
و الخبر مرويّ من طرق السنّة أيضا عنه «ص»، فراجع البيهقي «3». و رواه في الانتصار أيضا في مسألتنا هذه عن البراء بن عازب عنه «ص»، و لكن نظره ظاهرا الاستدلال به للطهارة لا لجواز الشرب كما يظهر من سائر ما رواه، غاية الأمر أنّه بنى جواز الشرب على الطهارة كما مرّ.
و يستدلّ للجواز في أبوال الإبل بنحو الإطلاق بخبر الجعفري، قال: سمعت أبا
______________________________
(1) راجع الجواهر 36/ 391 و ما بعدها، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.
(2) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.
(3) راجع سنن البيهقى 1/ 252، كتاب الطهارة، باب الخبر الذي ورد في سؤر ما يؤكل لحمه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 223
..........
______________________________
الحسن موسى «ع» يقول: «أبوال الإبل خير من ألبانها، و يجعل اللّه- عزّ و جلّ- الشفاء في ألبانها.» «1» و في السند بكر بن صالح، و فيه كلام. و حيث إن ألبان الإبل محلّلة مطلقا فخيريّة أبوالها منها تقتضي حلّيتها بطريق أولى.
إلّا أن يقال- كما في مصباح الفقاهة «2»-: إنّ رواية الجعفري ليست بصدد بيان الجواز التكليفي، بل هي مسوقة لبيان الوجهة الطبّية كما يشهد بذلك
ذيل الرواية، فتأمّل، فإنّ شأن الإمام «ع» هو بيان الأحكام لا الطبّ المحض.
و أكثر الأخبار الواردة في المسألة موردها سؤالا أو جوابا صورة الاستشفاء و التداوي.
و عمدتها في أبوال الإبل فقط، و إن كان بعضها يدلّ على بول غير الإبل أيضا.
و بالجملة فاستفادة العموم منها غير واضحة، بل ربما يستفاد من مفهوم بعضها اختصاص الحلّية و الجواز بصورة الاستشفاء. و بها يرفع اليد عن أصالة الحلّ و عن ظهور روايتي أبي البختري و الجعفري في عموم الحلّ لو سلّم ظهورهما في ذلك.
فلنتعرّض لبعض الروايات:
1- موثّقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل. قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه. و كذلك أبوال الإبل و الغنم.» «3»
أقول: ظاهر الجواب كون بول الإبل و غيرها مما يؤكل لحمه على وزان واحد و اختصاص حلّ الجميع بصورة الاحتياج للتداوي، و إلّا كان ذكر الشرط لغوا. فبمفهوم الشرط يرفع اليد عن أصالة الحلّ.
______________________________
(1) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الحديث 2؛ عنه الوسائل 17/ 87.
(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 38.
(3) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 224
..........
______________________________
2- رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شرب الرجل أبوال الإبل و البقر و الغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس به.» «1»
أقول: مورد الرواية بحسب السؤال و إن كان خصوص صورة الوجع، و الجواب وارد عليها، لكن لا دلالة له على نفي الغير بحيث يرفع به اليد عن أصالة الحلّ. و بالجملة فليس خبرا سماعة و عمّار على وزان واحد،
و إن كان يظهر من عبارة الشيخ في المكاسب ذلك.
3- خبر موسى بن عبد اللّه بن الحسن، قال: سمعت أشياخنا يقولون: «ألبان اللقاح شفاء من كل داء و عاهة. و لصاحب البطن أبوالها.» «2»
أقول: هكذا في الكافي. و في الوسائل عن الكافي: «و لصاحب الربو أبوالها.» «3»
و الخبر لم يرفع إلى المعصوم «ع». و موسى بن عبد اللّه هو موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب «ع».
4- خبر المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه شكا إليه الربو الشديد فقال: «اشرب له أبوال اللقاح، فشربت ذلك فمسح اللّه دائي.» «4»
أقول: اللقاح جمع لقوح بالفتح: النوق ذوات الألبان. و الربو بالفتح قد يفسّر بالنهيج و تواتر النفس و قد يفسّر بانتفاخ البطن.
5- خبر أبي صالح عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة.»
______________________________
(1) الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث
(2) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الرقم 2.
(3) راجع الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الرقم 4.
(4) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 8.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 225
..........
______________________________
فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها. فلمّا برءوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل فبلغ رسول اللّه «ص» الخبر ...» «1»
6- خبر دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي
فإذا برئتم بعثتكم في سريّة. فاستوخموا المدينة فأخرجهم إلى إبل الصدقة و أمرهم أن يشربوا من ألبانها و أبوالها يتداوون بذلك ...» «2»
7- خبر ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن في أبوال الإبل و ألبانها شفاء للذربة بطونهم.» «3» و راجع في هذا المجال سنن البيهقي أيضا «4».
و قد تحصّل ممّا ذكرنا أن مقتضى أصالة الحلّ و إن كان هو الحلّ مطلقا لكن مقتضى مفهوم الشرط في موثقة عمار هو الحلّية للتداوي فقط، فبه يرفع اليد عن الأصل. هذا.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 225
قد مرّ عن المحقق في الشرائع الاستدلال لحرمة الأبوال باستخباثها. و الظاهر كونه إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الأعراف: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ «5»
و قد شاع في المحافل العلمية الاستدلال بالآية لحرمة كلّ ما يتنفر عنه الطباع،
______________________________
(1) الوسائل 18/ 535، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 7.
(2) مستدرك الوسائل، الباب 23 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث 2.
(3) مسند أحمد 1/ 293، مسند عبد اللّه بن عباس.
(4) راجع سنن البيهقى 10/ 4، كتاب الضحايا، باب ما يحلّ من الأدوية النجسة بالضرورة.
(5) سورة الأعراف (7)، الآية 157.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 226
..........
______________________________
و استدلّوا بها أيضا لحرمة الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجسات غير القابلة للتطهير.
و في مصباح الفقاهة حكى عن بعض الأعاظم الاستدلال بالآية في المقام ثم ردّه بما لفظه: «إنّ المقصود من الخبائث كلّ ما فيه مفسدة و رداءة و لو كان من الأفعال المذمومة المعبّر عنه في الفارسية بلفظ «پليد». و يدلّ على ذلك إطلاق الخبيث
على العمل القبيح في قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ. و يساعده العرف و اللغة. و إذن فالآية ناظرة إلى تحريم كلّ ما فيه مفسدة و لو من الأعمال القبيحة، فلا تعمّ شرب الأبوال الطاهرة و نحوها مما تتنفّر عنها الطبائع.» «1»
أقول: الظاهر أنه أراد بذلك أنّ المتبادر من لفظ الخبيث هو ما يكون بذاته رديّا و قبيحا بأن يترتّب عليه المفاسد و المضارّ، و لا دخل لابتهاج الإنسان بالشي ء أو تنفره عنه في حسنه أو قبحه و رداءته. فما لم يحرز كون شي ء أو فعل قبيحا مشتملا على المفسدة لم يثبت حرمته، و ليس الشك في خباثة شي ء من قبيل الشك في المحصّل حتى يجب الاحتياط فيه. هذا.
و لكن يمكن أن يقال: إنّ الألفاظ الملقاة من ناحية الشرع المبين لا تحمل على خصوص المصاديق المعهودة من قبل الشرع. بل على المطلق الشامل للمصاديق العرفية و الشرعية.
و المتبادر من لفظ الخبيث عند العرف كلّ ما يكون رديّا قبيحا في طباعهم و فطرتهم من الأعيان القذرة المكروهة و الأفعال القبيحة المستبشعة المعبّر عن جميع ذلك بالفارسية ب «پليد». و هذا معنى عام يشمل استعمال ما يتنفّر عنه الطباع السّليمة في الأكل و الشرب اختيارا، و لا دليل على اعتبار المفسدة في صدق الخبيث. و لو سلّم اعتبار كون رداءة الشي ء
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 38، و الآية المذكورة من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 227
..........
______________________________
بحسب مضارّه و مفاسده فاستعمال الإنسان العاقل لما يتنفّر منه طبعه و روحه أيضا مشتمل على المفسدة: إذ أيّ مضرّة و مفسدة أقوى من مسّ كرامة الإنسان و تحميل المنفّرات الروحية عليه
بلا جهة مبرّرة لذلك. و ليس للإنسان هتك نفسه و الإضرار بها روحا كان أو جسما إلّا لمصلحة أقوى. نعم للخبيث مراتب، و أقواها ما حكم العقل و الشرع معا بقبحه و رداءته مثل الزنا و السرقة و نحو ذلك.
قال الراغب في المفردات: «المخبث و الخبيث: ما يُكرَه رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا. و أصله الردي ء ... و ذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.
قال- عزّ و جلّ-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. أي ما لا يوافق النفس من المحظورات.
و قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ فكناية عن إتيان الرجال.
و قال- تعالى-: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب. أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة، و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة.
و قال- تعالى-: وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبيثَ بالطَّيِّب أي الحرام بالحلال ...» «1»
و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين «2» أيضا.
و ناقش الأستاذ الإمام «ره» على الاستدلال بآية الخبائث بما محصّله: «أنّها ليست
______________________________
(1) المفردات/ 141. و الآية الأولى من سورة الأعراف (7)، رقمها 157؛ و الثانية من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74؛ و الثالثة من سورة آل عمران (3)، رقمها 179؛ و الرابعة من سورة النساء (4)، رقمها 2.
(2) راجع النهاية 2/ 4؛ و مجمع البحرين 2/ 251 (ط. أخرى/ 148).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 228
..........
______________________________
بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد بيان أوصاف النبي «ص» و ما يصنعه في زمان نبوّته بنحو الحكاية و الإخبار، و ليس المقصود أنّه «ص» يحرّم عليهم عنوان الخبائث بأن يجعل حكم الحرمة على هذا
العنوان.
بل المقصود أنّه يحرّم عليهم كلّ ما كان خبيثا بالحمل الشائع كالميتة و الخمر و الخنزير مثلا، فإذا نهى عن أكل الميتة و لحم الخنزير و الدم مثلا صدق أنّه نهى عن الخبائث.
فعنوان الخبائث عنوان مشير إلى العناوين الخاصّة التي يحرّمها بالتدريج و يكون من قبيل الجمع في التعبير. و كذلك سائر فقرات الآية من قوله: يَأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف وَ يَنْهٰاهُمْ عَن الْمُنْكَر وَ يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات.
و بالجملة فليس هنا حكم تحريمي موضوع على عنوان الخبائث حتّى يبحث عن شموله للأبوال أو الأعيان النجسة مثلا.» «1»
أقول: يمكن أن يناقش عليه بأنّ الخبائث جمع محلّى باللام، و مفاده العموم.
فالجملة و إن لم يكن في مقام إنشاء الحرمة و لم تشرّع الحرمة قطّ على هذا العنوان العام بجعل واحد، لكنها بعمومها تحكي عن تشريع الحرمة على كلّ ما هو من مصاديق الخبيث عرفا أو شرعا. فإذا ثبت خباثة شي ء أو فعل بحكم العرف فلا محالة تدلّ الآية على تشريع الحرمة عليه في ظرفه، فتدبّر. هذا.
و كيف كان فالبحث عن جواز شرب الأبوال في أعصارنا قليل الجدوى. و ليس الشرب الاختياري من المنافع الظاهرة لها، و كذا الأكل بالنسبة إلى الأرواث. فوزانهما في أعصارنا وزان الطين الذي صرّح الشيخ بأنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل
______________________________
(1) المكاسب المحرّمة 1/ 34. و الآية المذكورة من سورة الأعراف (7)، رقمها 157.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 229
..........
______________________________
المحرّم بل لا يعدّ الأكل من منافعه و إن فرض الاستشفاء به في بعض الموارد.
و على هذا فلا يدور جواز بيع الأبوال و الأرواث مدار جواز الشرب و الأكل، بل مدار رغبة العقلاء فيها و ماليّتها عندهم للتسميد أو لاستخراج
الموادّ الكيمياوية مثلا. و لا فرق في ذلك بين الأبوال و الأرواث الطاهرة و النجسة إن فرض لها منافع محلّلة مقصودة للعقلاء و احتاجوا لتحصيلها إلى بذل الأموال. و تختلف هذه بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط و الرغبات.
نظير الماء الذي لا قيمة له في ساحل الشطّ و لكن يبذل بإزائه المال في الأمكنة الأخر، اللّهم إلّا أن يثبت الإجماع على المنع في خصوص النجاسات، و قد مرّ الكلام في ذلك.
نعم يمكن أن يفرض التداوي بها أيضا في بعض البلاد لبعض الأمراض نادرا و إذا فرض ذلك فلا مانع من بيعها حينئذ لذلك، نظير سائر الأدوية المنفرة للطبع. فالملاك تحقق الرغبة و المالية و لو في ظرف خاص.
و ما في المتن من قوله: «و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كل شي ء عليها للانتفاع بها في بعض الأوقات»
فيرد عليه ما في مصباح الفقاهة. و ملخّصه: «أنّ التداوي بها لبعض الأوجاع يجعلها مصداقا لعنوان الأدوية، فكما يجوز بيعها و لو كانت نجسة فكذلك الأبوال مطلقا لكونها من الأدوية. و انطباق الكلّي على أفراده غير مربوط بالقياس.
و ماليّة الأشياء تدور مدار رغبات الناس بلحاظ حاجاتهم إليها على حسب الحالات
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 230
..........
______________________________
و الأزمنة و الأمكنة. و لا شبهة أنّ المرض من الحالات التي لأجلها يحتاج الإنسان إلى الأدوية و العقاقير طاهرة كانت أو نجسة. و لأجل ذلك يجلبها الناس من أقاصي البلاد.
اللّهم إلّا أن يكون مراد المصنّف سقوط ماليّة الأبوال لكثرتها. و فيه- مضافا إلى كونه خلاف الظاهر من كلامه، و
إلى منع كثرتها في البلاد-: أنّ الكثرة لا توجب سقوط ما ليتها بعد إمكان الانتفاع بها في بعض الأمكنة، و إلّا لزم سلب المالية عن أكثر المباحات.
نعم لا يبعد الالتزام بسقوط ماليتها إذا لم ينتفع بها في محلّها و لم يمكن نقلها إلى محلّ ينتفع بها.» «1»
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 39.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 231
نعم يمكن أن يقال: إنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك الخبر المتقدّم عن دعائم الإسلام يدلّ على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة. و المفروض حرمة شرب الأبوال اختيارا، و المنافع الأخر غير الشرب لا يعبأ بها جدّا، فلا ينتقض بالطين المحرّم أكله، فإنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل المحرّم، بل لا يعدّ الأكل من منافع الطين.
فالنبوي دالّ على أنّه إذا حرّم اللّه شيئا بقول مطلق بأن قال: يحرم الشي ء الفلاني، حرم بيعه. لأنّ تحريم عينه إمّا راجع إلى تحريم جميع منافعه أو إلى تحريم أهمّ منافعه الذي يتبادر عند الإطلاق بحيث يكون غيره غير مقصود منه. و على التقديرين يدخل الشي ء لأجل ذلك فيما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.
و الطين لم يحرم كذلك بل لم يحرم إلّا بعض منافعه الغير المقصودة منه و هو الأكل، بخلاف الأبوال، فإنّها حرمت كذلك فيكون التحريم
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 232
راجعا إلى شربها، و غيره من المنافع في حكم العدم. و بالجملة فالانتفاع بالشي ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. (1)
______________________________
(1). أقول: قد حكم المصنّف أوّلا بأنّ الأبوال الطاهرة على القول بحرمة
شربها لا يجوز بيعها لعدم المنفعة المقصودة فيها. و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي ء. ثم أعاد الإشكال هنا ثانيا من طريق آخر فوجّهه إلى حيثية الاضطرار بتقريب أنّ حلّية الشي ء عند الاضطرار لا تجوّز بيعه.
و ملخّص كلامه بعد جمع كلماته: «أنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك خبر دعائم الإسلام يدلان على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة.
و بالجملة فالانتفاع بالشي ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول: «كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة.
و في بول الإبل أيضا لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بجواز البيع إن لم يكن إجماعيّا. لا لأنّه منفعة جزئية نادرة كما يظهر من العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة. بل لأن المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت.»
أقول: لو فرضنا أنّ أحدا مرض مرضا شديدا فاضطرّ إلى شرب أحد من المحرّمات أو أكله لحفظ نفسه من التلف أو الأمراض المزمنة و لم يكن هذا الشي ء عنده و لم يتمكن من تحصيله بنفسه لا لعدم المال بل لعدم القدرة على صنعه و لكن تمكن غيره من صنعه
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 233
..........
______________________________
فهل يتعين بنظر الشيخ الأعظم «ره» على هذا الشخص المريض أن يموت صبرا.
أو أنّه يتعين على هذا الغير صرف ماله و وقته و إمكاناته في تحصيل هذا الشي ء و
صنعه لهذا المريض مجّانا و بلا عوض.
أو أنّه يتعين أن يعطي له المال و لكن لا بإزاء هذا الشي ء بل في قبال رفع يده عمّ صنعه و حصّله مخافة أن تقع المعاملة الباطلة؟!
لا أظنّ أن يلتزم الشيخ بأحد هذه الوجوه الثلاثة، إذ كلها مخالف للحكمة و العقل الصريح و الشريعة السمحة السهلة التي شرّعها اللّه- تعالى- لمصالح عباده إلى يوم القيام.
و في الأدوية الّتي تصنع في أعصارنا لبعض الأمراض الصعب العلاج ما يشتمل على موادّ محرّمة لا بدّ منها، فلا محالة يجب أن يحصّل الدواء اللازم بالشراء ممن حصّله و لو بثمن غال حفظا لحقوق الطرفين. و أيّ صلاح أقوى من حفظ الحياة و السلامة؟!
و قد تبدّل في هذه الموارد عنوان الحرام بعنوان الجواز بل الوجوب لوجوب حفظ النفس.
و كيف يحلّ بقوله «ع» في موثّقة سماعة: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «1» استعمال هذا الشي ء الحرام و لا يجوز بيعه لأجل ذلك؟! و قد مرّ منّا أن الحلّ و الحرمة أعمّ من التكليف و الوضع. و المورد في هذه الرواية أيضا هو الوضع أعني صحّة الصلاة. و معاملة المضطرّ صحيحة كما حقّق في محلّه.
و المعاملات- كما مرّ- أمور عقلائية اعتبرها العقلاء فيما بينهم لرفع حاجات المجتمع
______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 234
..........
______________________________
و لم يردع الشارع إلّا عمّا يضرّ منها من أساسه كالرّبا و الغرر مثلا.
و ليست المعاملات أمورا تعبّدية محضة نظير العبادات المحضة التابعة للمصالح الغيبية الخفيّة التي لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-.
فليحمل قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه»- على
فرض صدوره عنه «ص»- على صورة وقوع المعاملة على الشي ء المحرّم بقصد ترتيب آثاره المحرّمة كالشرب الاختياري في الخمر مثلا. إذ تعليق الجزاء على الشرط ظاهر في التقييد و دورانه مداره فينصرف عن البيع بقصد المنافع غير المحرّمة و منها العلاج عند الضرورة.
و هكذا الكلام في خبري الدعائم و تحف العقول. و قد مرّ أنّ المصنّف أيضا خصّ حرمة الاكتساب بما إذا وقع النقل و الانتقال بقصد ترتيب الأثر المحرّم.
بل يمكن القول بجواز البيع و الشراء فعلا بلحاظ الضرورات المحتملة في المستقبل أيضا و إن لم تتحقق فعلا. و قد تعرّض لهذا المعنى المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام. قال: «و يمكن أن يلتزم بجواز بيع المحرّمات أيضا لأجل التداوي كبيع لحم الأفعى و بيع السمك السقنقور و لو قبل فعلية الاضطرار مقدّمة لزمان الاضطرار كما في الأدوية أيضا كذلك تباع قبل زمان الحاجة. و لعلّ المراد من قوله «ع» في رواية التحف: «إلّا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك» أريد به هذا، فإنّ الضرورة تدعو إلى الاشتراء قبل حلول المرض لأجل التداوي عند حلوله أو لأجل البيع على المريض.» «1»
أقول: ما ذكره أمر متين يشهد به حكم العقلاء و سيرتهم و ينصرف عن مثله روايات المنع.
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 235
و لا ينتقض أيضا بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار، لأن حلّية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدّل عنوان الإضرار بعنوان النفع. (1)
و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول المتقدّمة: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة
حال الاختيار دون الضرورة.
______________________________
(1) في حاشية الإيرواني «ره» في مقام إبداء الفرق بين المقام و بين الأدوية المحرّمة لأجل الإضرار قال: «الفارق هو أنّ الحرمة بمناط الإضرار لا يلحق الشي ء بذاته و إنّما يلحقه بكمّه. و بهذا المناط الخبز و الماء أيضا مضرّان إن أكل الإنسان زائدا عن الحدّ، و ما هذا شأنه لا يحرم بيعه، بخلاف ما كان محرّما في ذاته زاد أو نقص.» «1»
أقول: يمكن أن يوجد دواء يضرّ بذاته لا بكمّه فقط فيحرم استعماله في الشرائط العادية، و لكن المرض مرض مهلك ينحصر الخلاص منه في هذا الدواء المضرّ فيستعمل من باب دفع الأفسد بالفاسد. و على هذا فوزانه وزان ما نحن فيه كما لا يخفى.
و الظاهر أنّ ما ذكره المصنّف من الفرق غير فارق بحسب الحكم لتبدّل موضوع الحرمة في الجميع، فالشي ء المحرّم إذا صار حلالا لشخص و لو لأجل الاضطرار إليه و احتاج في تحصيله إلى الشراء من الغير فلا وجه لمنع المعاملة عليه بعد ما توقف صنعه و تحصيله على صرف المال أو الوقت و صار له ماليّة و قيمة و لو بلحاظ الاضطرار إليه و بالنسبة إلى هذا الشخص الخاصّ.
إذ دليل الاضطرار كما يرفع حرمته تكليفا يرفع حرمته بحسب الوضع أيضا. و المنع في رواية تحف العقول و غيرها منصرف إلى البيع بلحاظ المنافع المحرّمة كما مرّ بيان ذلك، فتدبّر.
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 236
و مما ذكرنا يظهر حرمة بيع لحوم السباع دون شحومها. فإنّ الأوّل من قبيل الأبوال، و الثاني من قبيل الطين في عدم حرمة جميع منافعها المقصودة منها.
و لا ينافيه النبويّ: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم
فباعوها و أكلوا ثمنها.» لأنّ الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا (1). هذا.
______________________________
(1) محصّل كلامه «ره» وجود الفرق بين لحوم السباع و شحومها، بتقريب عدم وجود المنفعة المحلّلة المقصودة للحومها فلا مالية لها فلا يجوز بيعها بخلاف الشحوم لإمكان صرفها في الإسراج و طلي السفن و نحوهما. و لا ينافي ذلك النبويّ، إذ الشحوم كانت محرّمة على اليهود بجميع انتفاعها بخلاف شحوم ما لا يؤكل لحمه علينا إذ المحرم علينا هو الأكل فقط.
أقول: لحوم السباع و إن حرم أكلها لكن يمكن إطعام الكلب و الهرّة بها و صرفها في التسميد، بل و استخراج الموادّ النافعة منها في أعصارنا. و المنفعة و الماليّة تختلفان بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، فلا وجه لمنع بيعها بنحو الإطلاق.
ثم إنّ الأصل في حرمة الشحوم على اليهود هو قوله- تعالى- في سورة الأنعام:
وَ منَ الْبَقَر وَ الْغَنَم حَرَّمْنٰا عَلَيْهمْ شُحُومَهُمٰا إلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا «1» الآية. و الظاهر منه و لا سيّما بقرينة السياق تحريم أكلها لا مطلق الانتفاع بها، فإنّ الأكل هو الأثر المتعارف المترقب منها و لا سيّما في تلك الأعصار.
______________________________
(1) سورة الأنعام (6)، الآية 146.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 237
و لكن الموجود من النبوي في باب الأطعمة على الخلاف: «إنّ اللّه إذا حرّم أكل شي ء حرّم ثمنه.»
______________________________
كما أنّ الظاهر كون اللعن في الحديث متوجّها إليهم بلحاظ بيعها لأجل ذلك من جهة كونه إعانة منهم على الأمر المحرّم.
و الحديث مع الضابطة المذكورة في الذيل المرويّ عن ابن عباس كما مرّ، رواه عنه أبو داود، «1» و البيهقي «2»، و أحمد في ثلاثة مواضع «3». و
المذكور في الجميع كلمة الأكل إلّا في الموضع الأخير من مسند أحمد. و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدم الأولى كما مرّ.
و على هذا فيجب حمله على صورة كون الشي ء معدّا للأكل و بيع لذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، و أمّا مع قطع النظر عن ذلك فلا قصور في دلالته و إن ظهر من كلام المصنّف. هذا كلّه على رواية ابن عباس.
و لكن في رواية جابر أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟! فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» «4»
______________________________
(1) راجع سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
(2) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.
(3) مسند أحمد 1/ 247 و 293 و 322، مسند عبد اللّه بن عباس.
(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 238
و الجواب عنه مع ضعفه و عدم الجابر له سندا و دلالة لقصورها لزوم تخصيص الأكثر.
الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا- على ما في جامع المقاصد و عن إيضاح النافع- إمّا لجواز شربه اختيارا كما يدل عليه قوله «ع» في رواية الجعفري: «أبوال الإبل خير من ألبانها»، و إمّا لأجل الإجماع المنقول لو
قلنا بعدم جواز شربها إلّا لضرورة الاستشفاء كما يدلّ عليه رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن بول الإبل و البقر و الغنم ينتفع به من الوجع هل يجوز أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس.» و موثقة عمار عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى بشربه فلا بأس. و كذلك بول الإبل و الغنم.» (1)
______________________________
و يمكن أن يستشعر من هذه الرواية أنّ المحرّم على اليهود كان جميع الانتفاعات من الشحوم. و لكن يمكن منع ظهورها في ذلك، إذ المتيقن منها حرمة جميع الانتفاعات في خصوص الميتة و سيأتي البحث في ذلك.
(1) راجع الوسائل، أبواب الأطعمة المباحة «1».
و قد مرّ البحث عن حكم شرب الأبوال الطاهرة و أنّ الأصل و إن كان يقتضي الحلّية لكن ظاهر الشرط في موثّقة عمار اختصاص الحلّية بصورة الاحتياج للتداوي. و أمّا موثّقة سماعة فلا تدلّ على الاختصاص، إذ القيد في كلام الراوي.
______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 87 و 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديثان 3 و 7.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 239
لكن الإنصاف أنّه لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بالجواز إن لم يكن إجماعيا، كما يظهر من مخالفة العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة.
قال في النهاية: «و كذلك البول يعني يحرم بيعه و إن كان طاهرا، للاستخباث كأبوال البقر و الإبل و إن انتفع به في شربه للدواء لأنّه منفعة جزئية نادرة فلا يعتدّ به.» انتهى.
أقول: بل لأنّ المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت. (1)
______________________________
و أمّا رواية الجعفري ففي سندها بكر بن صالح، و فيه كلام بل ربما يناقش في دلالتها
أيضا، فراجع ما مرّ في أول المسألة «1».
(1) قد مرّ بالتفصيل أنّ الملاك في جواز البيع الرغبة في الشي ء و ماليّته عند العقلاء بل عند الشخص الذي يشتريه بشرط عدم كون استعماله له محرّما شرعا و لو في حالة خاصّة، و هو المستفاد من رواية التحف و غيرها أيضا.
______________________________
(1) راجع ص 222 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 240
الثانية: يحرم بيع العذرة من كلّ حيوان على المشهور (1)، بل في التذكرة كما عن الخلاف الإجماع على تحريم بيع السرجين النجس. (2)
______________________________
2- بيع العذرة
(1) ظاهر العبارة أنّ المشهور لم يفرّقوا في تحريم البيع بين العذرة النجسة و الطاهرة، و لعلّه المترائى من عبارات المقنعة و المراسم و النهاية كما يأتي. و لا محالة تكون حرمته في الطاهرة منها بلحاظ عدم الانتفاع بها و عدم ماليّتها فلا يتحقق البيع المعرّف بمبادلة مال بمال، و إلّا فلا وجه لحرمة بيعها إذا فرض كونها ذات منفعة محلّلة عقلائية.
و في بعض النسخ- على ما قيل- تقييد العذرة بالنجسة، فيكون الإسناد إلى المشهور مؤذنا بوجود الخلاف في مسألة بيع العذرة النجسة أيضا.
(2) الأولى ذكر بعض الكلمات ثم نتبعها بذكر أخبار المسألة:
1- في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه. و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا.
دليلنا على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته.
و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك، و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 241
..........
______________________________
و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة. و روي عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذا محرّم بالإجماع فوجب أن يكون بيعه محرّما.» «1»
أقول: ظاهره أنّه أراد بالسرجين ما يعمّ عذرة الإنسان أيضا، إذ لم يبحث عنها مستقلا، إلّا أن يقال باتفاق الفريقين على عدم جواز بيعها، فلم يكن وجه للبحث عنها في كتاب الخلاف.
و الظاهر من الشيخ
و قدماء أصحابنا أنّهم أرادوا بجواز البيع و حلّيته و عدم جوازه و حرمته الصحة و عدم الصحة، لا الجواز و الحرمة التكليفين. و لو سلّم إرادتهم التكليف فلا إشكال في إرادة الوضع أيضا.
و بيع أهل الأمصار لزروعهم لو دلّ على الصّحة فيما يؤكل لدلّ عليها فيما لا يؤكل أيضا و لا سيّما في عذرة الإنسان، لشيوع الانتفاع بها في التسميد.
و استدلال الشيخ و أصحابنا بالرواية و أمثالها لعلّه من باب المماشاة مع أهل الخلاف، فلا يثبت بذلك اعتمادهم عليها.
مضافا إلى ما مرّ من أنّ الغالب في نقل هذه الرواية ذكر كلمة الأكل في الشرط فيقيّد الجزاء أيضا بما إذا كان الشي ء معدّا للأكل و وقع البيع و الشراء بهذا الداعي لا مطلقا و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.
و قوله: «هذا محرّم بالإجماع» إن أراد به حرمة جميع الانتفاعات فهي أوّل الكلام بل ممنوعة. و إن أراد به حرمة بعضها فلازمها حرمة البيع لذلك لا مطلقا إلّا أن لا يكون لها مالية.
______________________________
(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 242
..........
______________________________
فالعمدة في كلام الشيخ ما ادّعاه من إجماع الفرقة. و قد مرّ منّا عدم ثبوته بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» كشفا قطعيا و لا سيّما في المقام، إذ من المحتمل كون مدركهم الأخبار الواردة، فتدبّر.
2- و في النهاية: «و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة.» «1»
أقول: استثناء أبوال الإبل يقتضي كون المستثنى منه هو الأعمّ من النجسة و الطاهرة، و هذا ينافي صدر العبارة، ففيها نحو تهافت.
3- و في المبسوط:
«و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدّم فإنّه لا يجوز بيعه. و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» «2»
أقول: ظاهر النهاية حرمة الانتفاع بها مطلقا. و ظاهر المبسوط جواز الانتفاع بها في التسميد بلا خلاف. إلّا أن يريد بتصرف المحرّم في النهاية معنى لا يشمل الانتفاع بالتسميد، كأن يريد التصرفات الناقلة مثلا.
ثمّ القول بعدم جواز البيع مع جواز الانتفاع بها في التسميد لا يخلو من مجازفة. إذ التسميد منفعة مهمّة عقلائية و وجود المنفعة المحلّلة العقلائية يقتضي جواز البيع لأجلها.
و لو قيل في مثل الخمر و الميتة مما يصرف في الشرب و الأكل عادة أنّ بيعها و لو بقصد المنفعة المحلّلة يوجب الإعانة على الإثم لعدم الاطمينان بعدم الانتفاع بها في المنافع
______________________________
(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 243
..........
______________________________
المحرّمة فيحرم بيعها لذلك، فلا يجري هذا الإشكال في مثل العذرة و السّرجين، لوضوح أنّ شراءها ليس إلّا لأجل التسميد و نحوه من المنافع المحلّلة، و على هذا فلا وجه لحرمة بيعها.
4- و قد مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصة ...» «1»
5- و مرّ عن المراسم: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»
أقول: هما لم يفرّقا في العذرة و الأبوال بين النجسة و الطاهرة في حرمة البيع.
و ظاهرهما كونها بملاك واحد، و لعلّه فقد المنفعة المحللة لهما.
6- و ذكر
في الغنية أيضا فيما لا يصحّ بيعه: «سرقين ما لا يؤكل لحم.» «3»
7- و مرّ عن الشرائع ذكر الأعيان النجسة فيما يحرم الاكتساب بها و عدّ منها: «أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه.» «4»
أقول: الظاهر من اللغة اختصاص الروث بمدفوع غير الإنسان اللّهم إلّا أن يراد عموم المجاز.
8- و ذيّل عبارة الشرائع في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «5»
______________________________
(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.
(2) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.
(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(5) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 244
..........
______________________________
9- و ذيلها في الجواهر بقوله: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المنقول منهما مستفيض.» «1»
10- و مرّ عن القواعد في بيان المتاجر المحظورة قوله: «و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها.» «2»
11- و في التذكرة: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعا منّا، و به قال مالك و الشافعي و أحمد للإجماع على نجاسته فيحرم بيعه كالميتة. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبايعونه لزروعهم من غير نكير، فكان إجماعا. و نمنع إجماع العلماء و لا عبرة بغيرهم. و لأنّه رجيع نجس فلم يصحّ بيعه كرجيع الآدميّ. و أمّا غير النجس فيحتمل عندي جواز بيعه.» «3»
أقول: ظاهره أنّ المراد بالسّرجين غير رجيع الآدميّ و أنّ المختلف فيه هو السرجين،
و أمّا رجيع الآدمي فلا اختلاف في حرمة بيعه.
12- و في المنتهى: «لا يجوز بيع السرجين النجس، و به قال الشافعي و أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب ...» «4»
أقول: ظاهر عبارة المنتهى كون معقد الإجماع نجاسة السرجين لا عدم جواز بيعه،
______________________________
(1) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(2) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(4) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 245
..........
______________________________
غاية الأمر أنّه رتّبه عليها و استنتجه منها. و يستشعر هذا من عبارة التذكرة أيضا و أنّ الإجماع على عدم جواز البيع مستنتج من الإجماع على النجاسة. و استدلاله برواية يعقوب بن شعيب الواردة في العذرة دليل على مساواة السرجين و العذرة عنده في الحكم و إن فرض اختلافهما موضوعا.
13- و في نهاية العلامة: «بيع العذرة و شراؤها حرام إجماعا لوجود المقتضي و كذا البول ...» «1»
14- و في المقنع لابن قدامة الكبير: «و لا يجوز بيع السرجين النجس.»
و ذيّله في الشرح الكبير بقوله: «و بهذا قال مالك و الشافعي. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبتاعونه لزروعهم من غير نكير فكان إجماعا. و لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما ذكروه ليس بإجماع لأنّ الإجماع اتفاق أهل العلم و لم يوجد. و لأنّه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي.» «2»
أقول: إنّ العلامة أخذ في المنتهى و التذكرة من عبارة الشرح الكبير.
15- و في بدائع الصنائع في فقه
الحنفية: «و يجوز بيع السرقين و البعر، لأنّه مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق فكان مالا. و لا ينعقد بيع العذرة الخالصة، لأنه لا يباح الانتفاع بها بحال فلا تكون مالا، إلّا إذا كان مخلوطا بالتراب، و التراب غالب فيجوز بيعه لأنه يجوز الانتفاع به.» «3»
أقول: لم يعلّق في هذه العبارة جواز البيع و عدم جوازه على الطهارة و النجاسة بل على
______________________________
(1) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.
(2) ذيل «المغنى» 4/ 16، كتاب البيع، في الشرط الثالث من شروط صحة البيع.
(3) بدائع الصنائع 5/ 144، كتاب البيوع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 246
..........
______________________________
جواز الانتفاع و عدمه، فيظهر منه الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع كما مرّ منّا، و لكنه لم يبيّن في كلامه وجه عدم جواز الانتفاع بالعذرة الخالصة. و خلطها بالتراب لا يخرجها من النجاسة إلّا إذا استحالت فصارت ترابا. نعم، يمكن كون ماليتها في تلك الأعصار متوقفة على خلطها بالتراب. و لعلّ السرقين كان يصرف في تلك الأعصار في الوقود فكان له مالية بنفسه بخلاف العذرة، إذ كان مصرفها التسميد فقط مع التراب.
16- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكية: «لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها ... و زبل ما لا يؤكل لحمه ... فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها.»
و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل و النجس. أمّا الطاهر فإنّه يصحّ.»
و عن الشافعية: «لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»
و عن الحنفية: «و لا ينعقد بيع العذرة
فإذا باعها كان البيع باطلا إلّا إذا خلطها بالتراب فإنّه يجوز بيعها إذا كانت لها قيمة ماليّة كأن صارت سباخا. و يصحّ بيع الزبل و يسمّى سرجين أو سرقين و كذا بيع البعر. و يصحّ الانتفاع و جعله وقودا.» «1»
17- و قد مرّ عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذّب «2» أنّ دليل فقهاء السنّة في عدم جواز بيع النجس خبر جابر المتضمن لتحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير، و ما ورد من النهى عن بيع الكلب، فقاسوا عليها غيرها، فليس لهم في العذرة و السرقين نصّ خاصّ. هذا.
______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.
(2) راجع ص 181 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 247
..........
______________________________
و قد طال الكلام في نقل الكلمات. و يظهر منها اتفاق فقهاء الفريقين على بطلان بيع العذرة بالمعنى الأعمّ إجمالا. و ظاهرهم كونه من جهة النجاسة المحضة و أنّ النجاسة عندهم موضوع مستقلّ لمنع المعاملة في قبال عدم المنفعة، و قد صرّح بهذا التعميم الشهيد فيما مرّ من عبارة المسالك.
مع أنّ الانتفاع بها في التسميد كان شائعا في جميع الأعصار، و التسميد بنفسه منفعة مهمّة عقلائية. و عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ «ع»: «أنّه كان لا يرى بأسا أن يطرح في المزارع العذرة.» «1»
و في أعصارنا ينتفع بها انتفاعات واسعة و يستخرج منها موادّ كيمياوية نافعة. فهل يمكن مع ذلك القول بحرمة جميع هذه الانتفاعات مع استقرار السيرة عليها، أو القول بجواز الانتفاع و حرمة المعاملة عليها، مع وضوح أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة، و
الشريعة السمحة الجامعة الباقية إلى يوم القيامة لا تريد إلّا مصالح العباد؟ فما ذا نقول في هذا المجال؟
و قد ورد في الرواية التي رواها المفضل عن الصادق «ع» في التوحيد ما يدلّ على موقع العذرات في الزراعات؛ فلنذكرها، إذ لها قيمة تاريخية و إن لم تثبت من جهة السند. قال:
«فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره، و بما له قيمة و ما لا قيمة له. و أخسّ من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعد له شي ء حتّى إنّ كلّ شي ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنوّ منه.
______________________________
(1) الوسائل 16/ 358 (طبعة أخرى 16/ 435)، الباب 29 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 248
و يدلّ عليه مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار رواية يعقوب بن شعيب:
«ثمن العذرة من السّحت.» (1)
______________________________
و اعلم أنّه ليس منزلة الشي ء على حسب قيمته، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين. و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشي ء لصغر قيمته. فلو فطنوا طالبوا الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.» «1»
أقول: في الرواية دلالة على الانتفاع بها في التسميد في عصر الأئمة «ع» و على جواز ذلك شرعا و كون قيمتها نازلة في تلك الأعصار و اشتمالها على مواد كيمياوية لو التفتوا إليها لاشتروها بالأثمان الغالية. و ليس فيها إشارة إلى منع المعاملة عليها بل فيها إشعار بجواز المعاملة عليها مع
اشتمالها على القيمة السّوقية. و الاعتبار أيضا يساعد على جواز المعاملة عليها مع فرض جواز الانتفاع بها و كونها ذات قيمة و مالية، إلّا أن يثبت المنع بالدليل.
(1) أقول: القائل بالمنع إمّا أن يستدلّ له بالأدلّة العامّة التي استدلّوا بها لبطلان المعاملة على النجس بإطلاقه. و قد مرّت بالتفصيل و أجبنا عنها بمنع حجيتها أو دلالتها أو إطلاقها، فراجع. «2»
و إمّا أن يستدلّ بما ورد في خصوص العذرة من الإجماع المدّعى و الروايات.
أمّا الإجماع فبعد احتمال كونه مدركيّا يسقط عن الاعتبار. مضافا إلى أن معقد إجماع الخلاف و محلّ البحث في التذكرة و المنتهى و كثير من العبارات هو السرجين،
______________________________
(1) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضل بن عمر، المجلس الثالث؛ مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 249
..........
______________________________
و شموله لعذرة الإنسان غير واضح. كما أنّ مورد الروايات هو العذرة و يشكل شمولها لما يخرج من غير الإنسان كما يأتي. اللّهم إلّا أن يدّعى العلم بمساواتهما في الحكم و إن اختلفا موضوعا، و لكنه كما ترى.
و أمّا الروايات الواردة في المقام فهي أربع روايات يظهر من اثنتين منها المنع، و من الثالثة الجواز، و جمع في الرابعة منها بين المنع و الجواز. فلنذكرها ثمّ نتبعها بما قيل في الجمع بينها:
، قال: «ثمن العذرة من السّحت.» «1»
و في السند علي بن مسكين أو سكن، و كلاهما مهملان لم يذكرا بمدح و لا قدح، فلا يعتمد على الرواية بانفرادها.
أقول: 1- في معجم مقاييس اللغة: «العذرة: فناء الدار. و في الحديث: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» أي فناء ثمّ سمّي الحدث عذرة لأنّه كان يلقى بأفنية الدور.» «2»
2- و في الصحاح: «و العذرة: فناء الدار، سمّيت بذلك لأنّ العذرة كانت تلقى في الأفنية.» «3»
3- و في القاموس: «و العاذر: عرق الاستحاضة و أثر الجرح و الغائط كالعاذرة و العذرة.
و العذرة: فناء الدار و مجلس القوم و أرد أما يخرج من الطعام.» «4»
______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) مقاييس اللغة 4/ 257.
(3) الصحاح 2/ 738.
(4) القاموس المحيط 2/ 86.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 250
..........
______________________________
4- و في النهاية: «و فيه: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» العذرة: فناء الدار و ناحيتها ...
و في حديث ابن عمر أنّه كره السّلت الذي يزرع بالعذرة. يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و سمّيت بالعذرة لأنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور.» «1»
5- و في لسان العرب: «و العاذر و العذرة: الغائط الذي هو السلح. و في حديث ابن عمر أنّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و العذرة: فناء الدار.
و في حديث عليّ «ع» أنّه عاتب قوما فقال: «مالكم لا تنظّفون عذراتكم.» أي أفنيتكم ...
قال أبو عبيد:
و إنّما سمّيت عذرات الناس بهذا لأنها كانت تلقى بالأفنية فكنّي عنها باسم الفناء كما كنّي باسم الغائط، و هي الأرض المطمئنّة، عنها.» «2»
و الظاهر من جميع هذه العبارات أنّ لفظ العذرة يطلق على خصوص ما يخرج من الإنسان كما لا يخفى.
نعم في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع- على ما عن الكافي- ما يشعر بصحة إطلاقها على ما يخرج من غير الإنسان أيضا. قال: «أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها.» و لكن في النقل عن الشيخ هكذا: «أو يسقط فيها شي ء من غيره كالبعرة.» فراجع الوسائل «3».
و في رواية كردويه عن أبي الحسن «ع» في بئر يدخلها ماء المطر فيه البول و العذرة و أبوال الدوابّ و أرواثها و خرء الكلاب «4».
______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 3/ 199.
(2) لسان العرب 4/ 554.
(3) الوسائل 1/ 130، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21 و ذيله.
(4) الوسائل 1/ 140، الباب 20 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 251
..........
______________________________
و في رواية علي بن جعفر عن أخيه «ع» قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زبيل من سرقين «1».
جعل العذرة قسيما للروث و الخرء و السرقين. فيظهر منهما كونها غيرها.
و قد مرّ عن المبسوط قوله: «و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب.» «2» و ظاهره تفاوت الألفاظ الثلاثة. و لكنه قال في النهاية: «أنواع العذرة و الأبوال.» «3» و ظاهره تعميم لفظ العذرة.
و أمّا الزبل ففي الصحاح: «الزبل بالكسر: السرجين. و موضعه مزبلة.» «4»
و في النهاية: «الزبل بالكسر: السرجين. و بالفتح مصدر زبلت الأرض إذا أصلحتها
بالزبل.» «5»
و أمّا السرجين ففي الصحاح: «السرجين بالكسر معرّب ... و يقال: سرقين.» «6»
و في القاموس: «السرجين و السرقين بكسرهما: الزبل، معرّبا سرگين بالفتح.» «7»
فيظهر منهم مرادفة الزبل و السرجين. و إطلاقهما على ما يخرج من غير الإنسان واضح. و هل يطلقان فيما يخرج منه أيضا؟ يحتاج إلى تتبّع أكثر.
و أمّا الروث ففي النهاية: «في حديث الاستنجاء: «نهى عن الروث و الرمّة.» الروث:
______________________________
(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.
(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.
(3) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
(4) الصحاح 4/ 1715.
(5) النهاية لابن الأثير 2/ 294.
(6) الصحاح 5/ 2135.
(7) القاموس المحيط 4/ 234.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 252
..........
______________________________
رجيع ذوات الحافر.» «1»
و في الصحاح: «الروثة واحدة الروث و الأرواث. و قد راثت الفرس. و في المثل: أحشّك و تروثني.» «2»
و في لسان العرب عن ابن سيدة: «الروث: رجيع ذي الحافر و الجمع: أرواث ...
التهذيب: يقال لكلّ ذي حافر: قد راث يروث روثا.» «3»
و لكن مرّ في بعض عبارات الأصحاب في المقام كالشرائع و القواعد لفظ الأرواث، فهل أرادا بذلك خصوص ما يخرج من غير الإنسان أو الأعمّ مجازا و مسامحة كما ربما يطلق لفظ العذرة على ما يخرج من غير الإنسان كذلك؟
و كيف كان فالمتيقن من لفظ العذرة الوارد في رواية يعقوب بن شعيب و غيرها خصوص ما يخرج من الإنسان و يشكل شموله لغيره. فما يظهر من الأستاذ «ره» «4» من التعميم ناسبا له إلى ظاهر اللغويين قابل للمنع.
و أمّا السّحت فقد مرّ عن الخليل في العين «5» تفسيره بكلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.
و عن
مفردات الراغب تفسيره بالقشر الذي يستأصل قال: «و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروّته.» «6»
و في لسان العرب: «السحت و السحت: كلّ حرام قبيح الذكر، و قيل: هو ما خبث من
______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 2/ 271.
(2) الصحاح 1/ 284.
(3) لسان العرب 2/ 156.
(4) راجع المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 40.
(5) راجع العين 3/ 132.
(6) المفردات/ 231.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 253
..........
______________________________
المكاسب و حرم فلزم منه العار ... و يرد في الكلام على المكروه مرّة و على الحرام أخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن و قد تكرر في الحديث.» «1»
و قد مرّ استعماله كثيرا فيما لا حرمة له و لا عقوبة و لكنه ملازم لنحو من العار و الخسّة و عدم المناسبة لكرامة الإنسان:
ففي خبر الجعفريات «2» استعمل في أمور كثيرة منها: ثمن اللقاح و كسب الحجّام و أجر القفيز و الميزان و ثمن القرد و جلود السباع و أجر صاحب السجن و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها.
و في موثّقة سماعة: «السحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «3» و نحوها رواية أخرى له إلّا أنّ فيها: «كسب الحجام إذا شارط.» «4»
مع وضوح عدم حرمة كسب الحجّام، كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة، فراجع «5».
و عن عيون أخبار الرضا عنه، عن آبائه، عن عليّ «ع» في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته.» «6»
______________________________
(1) لسان العرب 2/ 41 و 42.
(2) راجع مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(3) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث
6.
(4) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(5) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.
(6) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11. و الآية المذكورة من سورة المائدة (5)، رقمها 42.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 254
..........
______________________________
و في المستدرك عن ابن عباس في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن.» «1»
و بالجملة فقد أطلق لفظ السحت كثيرا على ما لا حرمة له و لكنه مكروه لا يناسب مقام الإنسان و كرامته، فراجع ما حرّرناه في الدليل الثالث عشر من أدلّة حرمة المعاملة على النجس بنحو الإطلاق «2».
و كما تسند الحرمة إلى الأعيان و الأثمان بلحاظ حرمة الانتفاع بها يجوز أن تسند الكراهة إليها أيضا بلحاظ كراهة أخذها و الانتفاع بها، فليس لفظ الثمن في هذه الأخبار قرينة على إرادة الحرمة.
و المناقشة بضعف هذه الأخبار مدفوعة بوجود الموثقة فيها كما مرّ، و بأنها دالّة على شيوع هذا الاستعمال في المحاورات العربية، و هذا كاف في الاحتجاج، فتأمّل.
نعم، لو لم يكن في البين قرينة على الجواز كان الظاهر من لفظ السحت الحرمة، بل يستفاد من حمله على الثمن بطلان المعاملة أيضا، لوضوح المنافاة بين حرمة الثمن و وجوب الوفاء بالعقد.
و الحاصل: أنّ المراد بالسّحت- على ما يظهر من أهل اللغة و موارد استعماله- القبيح الذي لا يناسب شئون الإنسانية و كرامتها و يلزم منه العار و يسحت دينه أو مروّته. و المتبادر منه مع الإطلاق و عدم القرينة ما بلغ حدّ الحرمة و المبغوضيّة. نظير النهي
المتبادر منه ذلك.
و لكن بعد وجود القرينة أو وجود دليل معتبر على الجواز كان حمل اللفظ على
______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 435، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(2) راجع ص 202 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 255
..........
______________________________
مطلق الخسّة و الرداءة قريبا جدّا من باب إطلاق لفظ الملزوم و إرادة اللازم كما في الكنايات، أو من باب كون القبيح ذا مراتب.
و خسّة التكسب بالعذرة و عدم مسانخته لكرامة الإنسان واضحة و إن ثبت عدم حرمته شرعا.
و قد عدّ في موثقة سماعة من السحت كسب الحجّام، مع وضوح جوازه كما مرّ.
و التكسب بالعذرة أخسّ منه بمراتب.
و بالجملة، رواية يعقوب بن شعيب ظاهرة في المنع و لكن يمكن رفع اليد عن ظاهرها إن فرض وجود دليل معتبر على الجواز. نظير ما نلتزم به في كسب الحجّام و في كلّ منهيّ عنه ورد الترخيص في خلافه. هذا مضافا إلى ضعف سند الرواية كما مرّ.
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار ... و عن بيع العذرة.» و قال: «هي ميتة.» «1»
و الرواية مرسلة، مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب كما مرّ بالتفصيل. و لم يظهر المقصود من قوله: «هي ميتة.» فهل أريد به انعدام الموادّ الحياتية الكامنة في الغذاء النافعة للبدن فخرجت عن المالية، أو أريد تشبيهها بالميتة في حرمة الانتفاع بها؟ كلّ منهما محتمل.
أقول: في كنز العمّال عن عليّ «ع» قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع العذرة.»
و في هامشه هكذا: «بيع العذرة هي طلوع خمسة كواكب ... و تطلع في وسط الحرّ. النهاية.
فيكون المعنى نهى عن البيع المؤجّل
إلى طلوع العذرة لعدم ضبطها في أيّ يوم مثلا.» «2»
______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ عن الدعائم 2/ 18.
(2) كنز العمّال 4/ 170، باب أحكام البيع و ... من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 10013 و هامشه.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 256
نعم، في رواية محمد بن المضارب: «لا بأس ببيع العذرة.» (1)
و جمع الشيخ بينهما بحمل الأوّل على عذرة الإنسان و الثاني على عذرة البهائم. و لعلّه لأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها، بعكس الخبر الثاني، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر.
______________________________
أقول: لم يذكر في النهاية حديث بيع العذرة بل يذكر في تفسير حديث آخر طلوع العذرة و فسرها بما ذكر، فراجع «1».
(1) هذه هي الرواية الثالثة في المسألة، رواها محمد بن مضارب عن أبي عبد اللّه «ع». رواها عنه في الوسائل عن الكليني و الشيخ. «2»
و في رجال المامقاني: إنّ ظاهر ما عن البرقي كون محمد بن مضارب إماميا و استشعر المولى التوحيد من رواية صفوان و ابن مسكان عنه وثاقته. ثم روى رواية تدلّ على أنّ الإمام الصادق «ع» حلّل له جارية يصيب منها و تخدمه و قال: إنّ فيه دلالة على كونه مورد لطف الإمام «ع». «3»
و باقي رجال السند ثقات لا بأس بهم.
و دلالتها على الجواز تكليفا و وضعا واضحة. بل الملحوظ في المعاملات غالبا جهة الوضع، أعني الصحة أو الفساد، و هو المتبادر من الجواز و عدم البأس فيها.
فاحتمال الجمع بينها و بين الرواية السابقة بحمل هذه على الجواز التكليفي المحض و حمل السابقة على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة احتمال بعيد مخالف للذوق و
الفهم العرفي.
______________________________
(1) راجع النهاية لابن الأثير 3/ 198.
(2) الوسائل 12/ 127، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3. نقله عن الكافي 5/ 226، و التهذيب 6/ 372.
(3) راجع تنقيح المقال 3/ 188.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 257
و يقرّب هذا الجمع رواية سماعة، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا حاضر (عن بيع العذرة- ليس في الوسائل) فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.» و قال: «لا بأس ببيع العذرة» (1).
فإنّ الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أنّ تعارض الأوّلين ليس إلّا من حيث الدلالة فلا يرجع فيه إلى المرجحات السّندية أو الخارجية.
و به يدفع ما يقال من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجحات الخارجية ثمّ التخيير أو التوقف لا إلغاء ظهور كلّ منهما. و لهذا طعن على من جمع بين الأمر و النهي بحمل الأمر على الإباحة و النهي على الكراهة.
______________________________
(1) هذه هي الرواية الرابعة في المسألة جمع فيها بين المنع و الجواز. رواها في الوسائل «1» عن الشيخ بسنده عن سماعة. و الظاهر كونها موثقة.
و يستفاد من قوله: «أبيع العذرة» شيوع الانتفاع بها و بيعها و شرائها في تلك الأعصار.
و المتبادر من لفظ العذرة- كما مر- عذرة الإنسان.
أقول: قد يحتمل أن يرجع الضمير في «قال» الأوّل إلى السائل، و لعلّه كان مع الواو فحذفه النسّاخ، فيكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» من تتمة السؤال بنحو الاستفهام، فأجاب الإمام «ع» بقوله: «لا بأس ببيع العذرة.» و الواو في «و قال» زائدة أو مصحّفة من
______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 258
..........
______________________________
الفاء. و هذا النحو من الاشتباهات أو التصحيفات كثيرة في أخبارنا. و عدم البأس ببيعها يدلّ على عدم البأس بثمنها أيضا.
و كيف كان فهذه هي أخبار المسألة. و لهم في الجمع بينها أقوال، فلنتعرّض لها:
الأوّل: ما في التهذيب. قال بعد ذكر رواية محمد بن مضارب أوّلا و رواية يعقوب بن شعيب ثانيا و حكمه بعدم منافاتها لها: «لأنّ هذا الخبر محمول على عذرة الإنسان و الأوّل محمول على عذرة البهائم من الإبل و البقر و الغنم، و لا تنافي بين الخبرين.» ثم ذكر رواية سماعة شاهدة على ذلك و قال: «فلولا أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» ما ذكرناه لكان قوله بعد: «لا بأس ببيع العذرة» مناقضا له، و ذلك منفيّ عن أقوالهم عليهم السلام.» «1» و هكذا صنع في الاستبصار أيضا، إلّا أنّه ذكر بدل عذرة البهائم: «ما عدا عذرة الآدميين.» «2» و لعلّه أراد به ما كثر الابتلاء به و الانتفاع به في التسميد من الأرواث الطاهرة، فيوافق ما في التهذيب.
و يشكل إرادته الأعمّ، إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس. هذا.
و المصنّف هنا أراد تقريب كلام الشيخ و توجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكال و محصّله:
«أنّ رواية المنع نصّ على عذرة الإنسان و ظاهرة في غيرها، بعكس رواية الجواز، فيطرح ظاهر كل منهما بنصّ الآخر. و يقرّب هذا رواية سماعة، فإنّ الجمع فيها بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أن موضوع المنع غير موضوع الجواز، فيكون قرينة
______________________________
(1) التهذيب 6/ 372 و 373، ذيل الحديثين 201 و 202 من باب المكاسب.
(2) الاستبصار 3/ 56، ذيل الحديثين 2 و 3 من باب النهى عن بيع العذرة من كتاب المكاسب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 259
..........
______________________________
على اختلاف موضوع الحكمين في روايتي المنع
و الجواز أيضا، و يكون رفع التنافي بينهما بالتصرف في الدلالة لا بأخذ إحداهما ترجيحا أو تخييرا و طرح الأخرى من رأس كما في سائر موارد التعارض بنحو التباين الكليّ.»
و ناقشه الأستاذ الإمام بما ملخّصه:
«أوّلا: أنّ رفع اليد عن قواعد باب التعارض لا يجوز إلّا بعد كون رواية سماعة صادرة في مجلس واحد لمخاطب واحد. و هو غير مسلّم لبعد صدور مثلها في كلام واحد، و احتمال كونهما روايتين جمعتا في نقل واحد، كما يشعر بذلك توسّط كلمة «قال» و ذكر كلمة «العذرة» ثانيا بالاسم الظاهر. و الراوي سماعة الذي قيل في مضمراته إنّها جمع روايات مستقلات في نقل واحد. و قد سمّى المرويّ عنه في صدرها و أضمر في البقية.
و ثانيا: أنّ كون تعارض روايتي المنع و الجواز من حيث الدلالة لا يوجب رفع اليد عن أدلّة العلاج بل هو محقق لموضوعها. نعم، لو كشف ذلك عن وجه الجمع بينهما كان لما ذكر وجه، و لكنه كما ترى. إذ الميزان في الجمع هو الجمع العقلائي المقبول عرفا و ليس أمرا تعبديا. و مع عدم تحقق الجمع العرفي يحرز موضوع أدلّة التعارض.
و عدم العمل بها في الرواية الواحدة المشتملة على حكمين متنافيين لا يوجب عدم العمل بها في الحديثين المختلفين كما في المقام.
مع إمكان أن يقال بصدق الخبرين المختلفين على الخبر الواحد المشتمل على حكمين أيضا. و دعوى الانصراف ممنوعة. بل مناسبات الحكم و الموضوع تقتضي عموم الحكم للمتّصلين أيضا.» «1»
______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 9.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 260
..........
______________________________
أقول: ما ذكره أخيرا من جريان أخبار العلاج في الجزءين لخبر واحد مشكل، إذ موضوعها الحديثان المختلفان واحد يأمرنا و الآخر ينهانا مثلا
فيؤخذ بأحدهما ترجيحا أو تخييرا و يطرح الآخر. و لا يجري هذا في الجزءين لخبر واحد، لتلازمهما عادة في الصدق و الكذب و الإرادة الجدّية و عدمها.
بل يشكل أصل حجية الخبر الواحد المشتمل على حكمين متنافيين في مجلس واحد مع عدم إمكان الجمع الدلالي بينهما. إذ العمدة في حجية الخبر سيرة العقلاء و هم لا يعتنون بالخبر الكذائي بل يعرضون عنه في مقام العمل و إن وجّهوه بتوجيهات تبرعية حفظا لحريم المرويّ عنه.
و لكن ما ذكره من أنّ الجمع الدلالي إنّما يصحّ فيما إذا كان الجمع عقلائيا مقبولا عند العرف كلام صحيح. و مجرّد أخذ المتيقن من كل من الدليلين المتنافيين بنحو التباين الكلّي كقوله: أكرم العلماء و لا تكرم العلماء مثلا لا يعدّ جمعا عرفيا و لا يوجب صيرورتهما نصّين أو ظاهرين فيهما. و كيف يعدّ كلمة واحدة مستعملة في معنى واحد نصّا على بعض مصاديقه و ظاهرا في بعضها؟! بل الجمع العرفي إنّما يتحقق فيما إذا ارتفع التهافت بين الدليلين عرفا بعد ضمّ أحدهما إلى الآخر و لحاظه معه، نظير ما في العامّ مع الخاصّ و المطلق مع المقيد و الأمر أو النهي مع الترخيص في الخلاف. و إذا لم يتحقق الجمع العرفي بين الدليلين فلا محالة يحكم فيهما بمقتضى أخبار العلاج.
و في مصباح الفقاهة: «بل لو جاز أخذ المتيقن من الدليل لانسدّ باب حجية الظواهر و لم يجز التمسّك بها، إذ ما من دليل إلّا و له متيقّن في إرادة المتكلم، إلّا أن يقال بتخصيص ذلك بصورة التعارض، و هو كما ترى.» «1»
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 261
و احتمل السبزواري حمل خبر المنع على الكراهة.
(1) و فيه ما لا
______________________________
ثم إنّ ما ذكره الشيخ من الجمع لو سلّم جريانه بين أخبار المنع و الجواز الصادرة في مجالس مختلفة باحتمال وجود قرائن مقامية فإجراؤه في جزئي موثقة سماعة بناء على كونها رواية واحدة صادرة في مجلس واحد يوجب القول بأن الإمام «ع» كان في مقام ذكر اللغز و المعمّى لا بيان الحكم الشرعي للسائل، و هذا بعيد من شأنه «ع». هذا ما يرد على الشيخ أوّلا.
و يرد عليه ثانيا: أنّ المتبادر من لفظ العذرة خصوص مدفوع الإنسان، و هو المتفاهم من كلمات أهل اللغة و من موارد استعمال اللفظ كما مرّ بيانه. و يشكل إطلاقها على مدفوع البهائم إلّا مجازا، و المتعارف فيها إطلاق الروث أو السّرجين أو الزبل أو الرجيع كما مرّ.
و ثالثا: أنّ ما ذكره من الجمع على فرض صحّته جمع تبرّعي لا شاهد له و لا يتعيّن بنحو يصحّ الإفتاء على وفقه، إذ يحتمل المحامل الأخر كما يأتي. و يحتمل أخذ المتيقن بأنحاء أخر، كالمخلوط بالتراب و غيره كما فصّل أبو حنيفة. و لو فرض شهادة موثقة سماعة على وجود جمع دلالي بين الطائفتين فلا دلالة لها على خصوص جمع الشيخ، فتدبّر.
(1) هذا هو القول الثاني في الجمع. قال في الكفاية: «و يمكن الجمع بحمل الأوّل على الكراهية و الثاني على الجواز، لكن لا أعلم قائلا به.» «1»
أقول: احتملها المجلسيّان أيضا، فاحتمل الأوّل منهما الكراهة الشديدة كما يأتي كلامه في الحاشية اللاحقة.
و قال الثاني منهما في مرآة العقول بعد ذكر جمع الشيخ: «و لا يبعد حملها على الكراهة و إن كان خلاف المشهور.» «2»
______________________________
(1) كفاية الأحكام/ 84، كتاب التجارة، المقصد الثانى، المبحث الأوّل.
(2) مرآة العقول 19/ 266، ذيل
الحديث 3 من باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ... من كتاب المعيشة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 262
يخفى من البعد. (1)
______________________________
(1) قال في مصباح الفقاهة: «لعلّ الوجه فيه هو أنّ استعمال لفظ السحت في الكراهة غير جار على المنهج الصحيح، فإنّ السحت في اللغة عبارة عن الحرام. إذن فرواية المنع آبية عن الحمل عليها.»
ثمّ ناقش في ذلك بما محصّله: «أوّلا: أنّ لفظ السحت قد استعمل في الكراهة في عدّة روايات، فإنّه أطلق فيها على ثمن جلود السباع و كسب الحجّام و أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن و قبول الهدية مع قضاء الحاجة، مع وضوح أنّه ليس شي ء منها بحرام، و قد نصّ بصحة ذلك الاستعمال غير واحد من أهل اللغة.
و ثانيا: لو سلّمنا حجية قول اللغوي فغاية ما يترتب عليه أنّ حمل لفظ السحت على المكروه خلاف الظاهر، و لا بأس به إذا اقتضاه الجمع بين الدليلين.
لا يقال: و إن صحّ إطلاق السّحت على الكراهة إلّا أنّ نسبته إلى الثمن صريحة في الحرمة.
فإنّه يقال: إنّ عناية تعلّق الكراهة بالثمن لا تزيد على عناية تعلّق الحرمة به، غاية الأمر أنّه إذا تعلّقت الحرمة به أفادت فساد المعاملة أيضا بخلاف الكراهة.» «1»
أقول: قد مرّ منّا معنى السّحت و بعض موارد استعماله في الكراهة و قلنا إنّ الملحوظ في مفهومه هو قبح الشي ء و رداءته. و إطلاقه و إن كان يحمل على الحرمة لكن مع الترخيص في الخلاف يحمل على الكراهة و مطلق الرداءة و الخسّة، نظير صيغة النهي و مادّته، فهذا أمر التزمنا به.
و لكن لا يخفى أنّ الدالّ على الحرمة في المقام لا ينحصر في رواية يعقوب بن
شعيب المشتملة على لفظ السحت، بل يدلّ عليها موثقة سماعة المشتملة على لفظ الحرام، و كذا خبر
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 263
و أبعد منه ما عن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به و الجواز على غيرها. (1)
______________________________
الدعائم المشتمل على مادة النهي أيضا. و حمل لفظه الحرمة على الكراهة غير مأنوس. إلّا أن يقال: إنّ خبر سماعة مشتمل على المنع و الجواز معا فتسقط بذلك عن الاعتبار، و خبر الدعائم لا اعتبار به من أساسه، و لكن لا يخفى أنّ خبر ابن شعيب أيضا ضعيف كما مرّ.
(1) هذا هو القول الثالث في مقام الجمع. قال المجلسي في ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار في ذيل موثقة سماعة: «قال الوالد العلامة- قدّس سرّه-: يمكن حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها، و الكراهة الشديدة و الجواز، أو التقية في الحرمة فإنّ أكثرهم على الحرمة، بأن يكون أجاب السائل علانية ثم لما رأى غفلة منهم أفتى بعدم البأس، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه.» «1»
أقول: قوله: «لكنه خلاف المشهور» لعلّه أراد بذلك أنّ أوّل المرجحات الشهرة الفتوائية، فالترجيح بها مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة و حمل الموافق على التقيّة.
و ناقش في مصباح الفقاهة الاحتمال الأوّل بما ملخصه: «أنّه مضافا إلى كونه تبرعيا أنّ إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها على الإطلاق. على أنّك عرفت أنّ غاية ما يلزم هو كون المعاملة على أمثال تلك الخبائث سفهية و لم يقم دليل على بطلانها. مع أنّ الظاهر من قول السائل في موثقة سماعة كونه بيّاع العذرة و أخذه
ذلك شغلا له. و هذا كالصريح في كون بيعها متعارفا في ذلك الزمان.» «2»
______________________________
(1) ملاذ الأخيار 10/ 379، ذيل الحديث 202 من باب المكاسب.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 46.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 264
و نحوه حمل المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة. (1)
______________________________
أقول: إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها في الأمكنة الأخرى إذا فرض لها قيمة في تلك الأمكنة بأن أمكن نقلها مع حساب مصارف النقل إلى مكان الانتفاع و إلّا لم يكن مالا حينئذ فلم يصحّ بيعها لذلك، إلّا أن يقال- كما أشار إليه أخيرا-: إنّ قول السائل: «إنّي رجل أبيع العذرة» يدلّ على أنّ تجارتها كانت مربحة لا محالة و إلّا لم يتخذ ذلك شغلا لنفسه.
ثم إنّه قد مرّ أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات. و المعاملة السفهية مما لا يقبله العقل و لا الشرع فينصرف عنها إطلاقات الأدلّة. و نكتة منع السفيه عن التصرف في الأموال ليست إلّا كون معاملاته بحسب الأغلب سفهية، فتأمّل.
(1) هذا هو القول الرابع في المقام، و قد مرّ عن المجلسي الأوّل احتماله، و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة «1» منع المالكية و الشافعية و الحنابلة لبيع النجس مطلقا، و ذكر المالكية من أمثلته زبل ما لا يؤكل لحمه، و الشافعية و الحنابلة الزبل النجس. و ظاهرهم شموله لعذرة الإنسان أيضا لاتفاق الجميع في نجاسته. و مرّ عن الحنفية التصريح بعدم انعقاد بيع العذرة إلّا مع خلطها بالتراب.
فالمنع عن البيع في العذرة الخالصة كأنّه إجماعي عندهم. مضافا إلى أنّ الشهرة عندهم تكفي في جريان التقية.
و بالجملة فأرضيّة التقية موجودة بلا إشكال، و لا وجه لاستبعاد المصنّف لها بهذا اللحاظ.
و لكن يرد على
ذلك: أنّ المنع مشهور عندنا أيضا إن لم يكن إجماعيا. و الترجيح بالشهرة الفتوائية أوّل المرجحات في مقبولة عمر بن حنظلة، فيكون الترجيح بها بل و كذا
______________________________
(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيوع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 265
..........
______________________________
بموافقة الكتاب مقدما على الترجيح بمخالفة العامّة. و الجواز موافق لعمومات البيع و العقد و التجارة على القول بعمومها، فمن يقبل المقبولة لا مجال له لأن يقبل التقية في المقام.
نعم، آية اللّه الخوئي «ره» كان يمنع حجية الشهرة و كونها جابرة أو مرجّحة «1» و قال: إنّ الشهرة بالنسبة إلى الخبر كوضع الحجر في جنب الإنسان. فعلى مذاقه «ره» يجري احتمال حمل أخبار المنع على التقية، و لا بعد فيه بعد كون أخبار الجواز موافقا لعمومات الكتاب أيضا.
قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّه لما كان القول بحرمة البيع مذهب العامّة بأجمعهم فنأخذ بالطائفة المجوّزة لبيعها. و من هنا ظهر ما في كلام المصنّف من استبعاد الحمل على التقيّة.
و العجب من الفاضل المامقاني، فإنّه وجّه استبعاد المصنّف و قال: إنّ مجرّد كونه مذهب أكثر العامّة لا يفيد مع كون الرواية من الإمام الصادق «ع» و كون فتوى أبي حنيفة المعاصر له هو الجواز، فخبر الجواز أولى بالحمل على التقيّة. و وجه العجب أنّ أبا حنيفة قد أفتى بحرمة بيع العذرة كما عرفت.» «2»
ما ذكره الأستاذ «ره» في مقام توجيه موثقة سماعة على فرض كونها رواية واحدة. و ملخّصه: «أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» هو الجامع بين الحرمة الوضعية و التكليفية أعني الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن. و يؤيّده أنّ الحرمة إذا
تعلّقت بالعناوين التوصّلية الآلية تكون ظاهرة في الوضع. و المراد بقوله: «لا
______________________________
(1) راجع مصباح الأصول 2/ 201 و ما بعدها؛ و مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 50.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 266
..........
______________________________
بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفية بلحاظ البيع، فكأنّه قال: يحرم بيعها وضعا و لا بأس به تكليفا.» «1»
أقول: يمكن أن يناقش- مضافا إلى عدم قرينة على تعيّن ما ذكر و أنّه جمع تبرّعي محض لا يصلح للإفتاء على وفقه-: أنّ حمل قوله: «لا بأس ببيع العذرة» على نفي الحرمة التكليفية فقط خلاف الظاهر جدّا بل الظاهر منه صحّة بيعها و نفوذه. كما أنّ الظاهر من قوله: «حرام بيعها و ثمنها» بسبب ظهور لفظ الحرمة و بقرينة ضمّ الثمن إلى البيع هي التكليف فقط. و مقتضاه كون نفس البيع حراما بحسب التكليف صحيحا بحسب الوضع نظير البيع وقت النداء أو مع نهي الوالدين. إلّا أن يقال مع فرض صحّة البيع لا وجه لحرمته تكليفا في المقام و لا يجتمع معها أيضا حرمة الثمن فيرجع الأمر إلى أن يحمل الحرمة على الكراهة الشديدة، فتدبّر.
ما حكاه في مصباح الفقاهة عن العلامة المامقاني «ره»، قال:
«الأقرب عندي حمل قوله «ع»: «لا بأس ببيع العذرة» على الاستفهام الإنكاري.» قال:
«و لعلّ هذا مراد المحدّث الكاشاني حيث قال: و لا يبعد أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى و إن كانتا واحدة في الصورة.» «2»
أقول: الحمل على الاستفهام بأنحائه غير بعيد، إذ هو رائج في المحاورات. و لكن يحتمل أن يكون بعكس ما حكاه عن المامقاني، فإنّ الرجل السائل لما كان بنفسه بائعا للعذرة كان سؤاله- على الظاهر- ناشئا عن توهّم
حرمة شغله و كسبه لحرمة موضوعه و نجاسته، فأراد الإمام «ع» رفع توهمه و تزلزله بإبطال ما زعمه سببا لحرمة شغله ببيان أنّ حرمة ذات الشي ء
______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 8.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 49. و انظر كلام المحدّث الكاشانى في الوافي 3/ 42 (م 10).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 267
و الأظهر ما ذكره الشيخ «ره» لو أريد التبرّع بالحمل، لكونه أولى من الطرح و إلّا فرواية الجواز لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى. (1)
______________________________
لا تقتضي حرمة بيعه و ثمنه على الإطلاق و لا ملازمة بين الحرمتين، فذكر ذلك بنحو الاستفهام الإنكاري لرفع التزلزل عنه ثم ذكر حكم المسألة بالصراحة و أنّه لا بأس ببيعها.
فيرتفع التهافت من الرواية و يكون المجموع رواية واحدة لقصة واحدة وقعت في حضور سماعة فنقلها. كيف؟! و لو كانت الجملة الثانية رواية أخرى مستقلة فلم لم يتعرض سماعة لخصوصيات السؤال فيها و موردها على نحو ما حكى خصوصيات الرواية الأولى؟
و قد مرّ أيضا في ذيل نقل الرواية احتمال أن يكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» كلاما للسائل و تتمّة لسؤاله، فراجع.
السابع: أن يقال بأنّه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين مستقلتين على ما مرّ تقريبه، فيكون في الباب طائفتان من الأخبار و بينهما تهافت بنحو التباين فيرجع فيها إلى أخبار العلاج. و مقتضاها الأخذ بأخبار المنع لموافقتها للشهرة و هي أوّل المرجحات في المقبولة كما مرّ. فهذه سبعة احتمالات أو أقوال في الجمع بين أخبار الباب.
(1) قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «الوجوه المشار إليها هي الإجماعات المنقولة و الشهرة الفتوائية و الأدلّة العامّة المتقدّمة على المنع، و ضعف ما يدلّ على الجواز.
و جميع هذه الوجوه مخدوشة لا تصلح لترجيح ما يدلّ على المنع: أمّا الإجماعات فليست تعبّدية بل مدركها الوجوه المتقدمة و لو احتمالا.
و أمّا الشهرة الفتوائية فهي و إن كانت مسلّمة إلّا أنّ ابتناءها على رواية المنع ممنوع. و لو سلّم فلا توجب انجبار ضعف سند الرواية. على أنّ الذي يوجب الترجيح عند المعارضة هي الشهرة في الرواية دون الشهرة الفتوائية.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 268
..........
______________________________
و أمّا الأدلّة العامّة فقد تقدّم الكلام فيها.
و أمّا تخيّل ضعف رواية الجواز سندا ففيه: أوّلا: أنّه محض اشتباه نشأ من خلط ابن مضارب بابن مصادف. و الأوّل منصوص على حسنه.
و ثانيا: أنّ اقتصار الكليني بنقل رواية الجواز فقط دون غيرها يشير إلى اعتبارها، كما هي كذلك لكون رواتها بين ثقات و حسان.» «1»
أقول: قد مرّ منّا أنّ أوّل المرجّحات المذكورة في المقبولة هي الشهرة و المراد بها الشهرة الفتوائية لا الروائيّة، فراجع.
و لكن هذا فيما إذا وقع التعارض بين الخبرين الواجدين لشرائط الحجيّة. و ليس المقام كذلك لوجود التهافت بين الجزءين في موثقة سماعة و هذا يوجب إجمالها. و احتمال كونها روايتين مستقلتين لا
يرفع الإجمال.
و رواية يعقوب بن شعيب ضعيفة جدّا كما مرّ و كذا رواية الدعائم. مضافا إلى اشتمال الأولى على لفظ السّحت و الثانية على مادّة النهي، و كلاهما قابلان للحمل على الكراهة مع وجود الترخيص في الخلاف. و المفروض أنّ رواية محمّد بن مضارب تدلّ على الجواز، و سندها أيضا لا يخلو من حسن كما في المصباح و اقتصر عليها الكليني أيضا.
فإن قلت: الشهرة كما عدّت من المرجّحات تكون جابرة لضعف الروايات أيضا فيجبر بها ضعف رواية ابن شعيب.
قلت: جبرها لها يتوقّف على كون فتواهم مستندة إليها و هو غير واضح. مضافا إلى أنّ الجمع الدّلالي مقدّم على الشهرة المحتمل المدركيّة. و قد عرفت أنّ ظهور لفظ السّحت
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 51.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 269
..........
______________________________
في الحرمة ليس بحدّ يتعارض الترخيص بل يكون وزانه وزان النهي الذي يحمل على الكراهة بقرينة الترخيص في الخلاف.
و كثيرا ما كان أصحابنا يراعون في مقام الإفتاء جانب الاحتياط نظير إفتائهم بنجاسة أهل الكتاب مع دلالة كثير من الأخبار على طهارتهم الذاتية.
و بالجملة، فرواية الجواز لا بأس بها سندا و دلالة و تكون موافقة لعمومات الكتاب و مخالفة لجمهور أهل الخلاف و لم يقم دليل معتبر على خلافها فيجوز الأخذ بها.
قال المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام: «فالمتعيّن في مقام العمل طرح روايات المنع: أمّا رواية سماعة فبالإجمال. و أمّا رواية يعقوب بن شعيب فبضعف السند مضافا إلى الابتلاء بالمعارض. و المرجع عموم أَوْفُوا و أَحَلَّ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و قوله «ع» في رواية التّحف: و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات.»
و قال أيضا: «لا حاجة إلى رواية الجواز، فإنّ
الجواز هو مقتضى العمومات حتى يقوم دليل على المنع. و رواية المنع غير ناهضة لتخصيص العمومات.» «1» هذا.
مضافا إلى ما مرّ منا من أنّ العذرة كانت في جميع الأعصار و الأمصار ممّا ينتفع بها في السماد و إصلاح الأراضي. و هذا بنفسه منفعة عقلائية مهمّة عندهم.
و يدلّ على ذلك مضافا إلى وضوحه قول السائل في موثقة سماعة: «إنّي رجل أبيع العذرة»، حيث يدلّ على أنّه كان شغلا له.
و قول الصادق «ع» في رواية المفضل: «و إنّ موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي ء.» «2» و قد استقرّ على الانتفاع بها السيرة القطعية المتّصلة إلى
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 4.
(2) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضّل بن عمر.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 270
ثم إنّ لفظ العذرة في الروايات إن قلنا إنّه ظاهر في عذرة الإنسان كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة فثبوت الحكم في غيرها بالأخبار العامّة المتقدّمة، و بالإجماع المتقدّم على السرجين النجس. (1)
______________________________
عصر المعصومين «ع». فاحتمال عدم المنفعة العقلائية لها في تلك الأعصار أو عدم جواز الانتفاع بها في التسميد و تحريم الشارع لذلك مما لا ينقدح في ذهن فقيه.
و إذا جاز الانتفاع بها كذلك و توقّف جمعها و جعلها سمادا إلى صرف الأوقات و الإمكانات فلا محالة تصير ذات قيمة و ماليّة.
و المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة. و ليست أهداف تشريعها أو إمضائها مصالح سرّية خفيّة لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى- نظير التعبّديات المحضة.
و لا تريد الشريعة السمحة السهلة إلّا مصالح العباد و تسهيل الأمر عليهم. نعم، في مثل البيع الربوي و
بيع الغرر وقع النهي من ناحية الشارع لوضوح تحقق المفسدة و الضرر الاجتماعي عليهما.
و على هذا فبمقتضى جواز الانتفاع بها و صيرورتها مالا نحكم بجواز المعاملة عليها مضافا إلى عموم أدلّة العقود، فتدبّر.
و هكذا الحكم في السّرجين النجس بعد وضوح جواز الانتفاع بها في التسميد.
(1) قد مرّ بالتفصيل «1» معنى العذرة و أنّ الظاهر اختصاصها بمدفوع الإنسان، و أنّ الإجماعات على المنع في السرجين النجس محتمل المدركية، و لعلّها على أساس ما ذكروه لعدم جواز بيع النجس و منها رواية تحف العقول، فلا تكشف كشفا قطعيّا عن قول المعصومين «ع».
______________________________
(1) راجع ص 249 و ما بعدها و ص 186 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 271
و استشكل في الكفاية في الحكم تبعا للمقدّس الأردبيلي «ره» إن لم يثبت إجماع، و هو حسن. إلّا أنّ الإجماع المنقول هو الجابر لضعف سند الأخبار العامّة السّابقة.
و ربما يستظهر من عبارة الاستبصار القول بجواز بيع عذرة ما عدا الإنسان لحمله أخبار المنع على عذرة الإنسان. (1) و فيه نظر. (2)
______________________________
(1) قد مرّ احتمال إرادة الشيخ من قوله في الاستبصار: «ما عدا عذرة الآدميين» خصوص عذرة البهائم كما في التهذيب. إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس، فراجع «1».
(2) في حاشية المحقق الشيرازي «ره»: «لعلّ الوجه في ذلك: أنّ الجمع التبرعي بحمل أخبار الجواز على عذرة غير الإنسان لا يقتضي ثبوت قول بالجواز فيها بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع فيها واقعا.» «2»
______________________________
(1) راجع ص 258 و 240 من الكتاب.
(2) حاشية المكاسب للمحقق الشيرازي/ 10.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 272
فرع الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محلّلة مقصودة. و عن الخلاف نفي الخلاف فيه. و حكي أيضا عن المرتضى «ره» الإجماع عليه. و عن المفيد حرمة بيع العذرة و الأبوال كلّها إلّا بول الإبل. و حكي عن سلار أيضا. (1)
______________________________
(1) لا إشكال في جواز الانتفاع بالأرواث الطاهرة في التسميد و
غيره. و لو فرض الشك في ذلك فأصالة الحل محكّمة. و بذلك تصير مالا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال فيجوز المعاملة عليها أيضا.
و يشهد لذلك مضافا إلى استقرار السّيرة أدلّة المعاملات العامّة.
و حرمة أكلها للاستخباث و غيره- كما قيل- لا تخرجها عن الماليّة، نظير الطين الذي ليست منفعته المقصودة هي الأكل.
و الظاهر أنّ الإشكال فيها من بعض أهل الخلاف نشأ من القول بنجاستها. و نحن فرغنا من ذلك حيث قلنا بطهارتها. و بذلك تفترق عن السرجين النجس الذي مرّ البحث فيه.
1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه.
و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السّراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا. دليلنا
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 273
..........
______________________________
على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته. و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا. و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة ...» «1»
2- و في الانتصار حكم بجواز شرب أبوال ما يؤكل لحمه و بنى ذلك على طهارتها.
و حكى عن أبي حنيفة و أبي يوسف و الشافعي نجاسة أبوالها و أرواثها، ثم استدلّ على مذهبنا بعد الإجماع المتردّد بأصالة الإباحة و قد مرّت عبارته في مسألة الأبوال، فراجع «2».
و ظاهره اتحاد حكم الأبوال و الأرواث. و لكن ليس في كلامه اسم من البيع إلّا أن يقال باستلزام جواز الانتفاع لجواز البيع كما هو الظاهر الذي كنّا نصرّ عليه.
3- و لكن مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام
إلا أبوال الإبل خاصّة.» «3»
4- و عن المراسم قوله: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «4»
أقول: ظاهرهما بقرينة الاستثناء عدم الفرق بين النجسة و الطاهرة منهما، و إرادة جميع الأرواث من لفظ العذرة. و لا يرى في الطاهرة منهما وجه للمنع إلّا إذا فرض عدم وجود منفعة محلّلة مقصودة.
و روايات المنع عن بيع العذرة لا تشمل الأرواث الطاهرة لما عرفت من كون لفظ العذرة مخصوصا بمدفوع الإنسان.
______________________________
(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.
(2) راجع ص 221 من الكتاب.
(3) المقنعة/ 587، باب المكاسب.
(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 274
و لا أعرف مستندا لذلك إلّا دعوى أنّ تحريم الخبائث في قوله- تعالى-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ يشمل تحريم بيعها.
و قوله «ع»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و ما تقدّم من رواية دعائم الإسلام و غيرها.
و يرد على الأوّل: أنّ المراد بقرينة مقابلته لقوله- تعالى-: يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات الأكل لا مطلق الانتفاع. (1)
______________________________
(1) ظاهر المصنف اختصاص الطيّبات و الخبائث بالمأكولات و المشروبات، و قد مرّ في مسألة الأبوال البحث في الآية «1»، و أنّ الخبيث على ما في مفردات الراغب و غيره كلّ ما يكره رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا، فيتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.
قال اللّه- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ «2» يعني إتيان الرجال. و قال: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب «3» يعني الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة
و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة. و غير ذلك من الآيات الشريفة.
فالمقصود بالخبائث في الآية كلّ ما يحكم العقل و الفطرة السليمة ببطلانه و رداءته من أنواع الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال و الأعيان الخارجية بلحاظ الأفعال المتعلقة بها. و يرادفه
______________________________
(1) راجع ص 225 و ما بعدها من الكتاب.
(2) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.
(3) سورة آل عمران (3)، الآية 179.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 275
و في النبوي و غيره ما عرفت من أنّ الموجب لحرمة الثمن حرمة عين الشي ء بحيث يدلّ على تحريم جميع منافعه أو المنافع المقصودة الغالبة (1) و منفعة الروث ليست هي الأكل المحرّم، فهو كالطين المحرّم كما عرفت سابقا.
______________________________
لفظ «پليد» في الفارسية. و يقابله الطيبات في جميع ذلك.
و المراد بتحريم الأعيان تحريم ما يناسبها من الأكل أو الشرب أو اللبس أو النكاح أو غيرها من الانتفاعات المناسبة.
و يمكن أن يتحقق في شي ء واحد جهة طيب و جهة خباثة، فيحلّ من جهة و يحرم من جهة أخرى. و في الحقيقة تكون الخباثة و الطيب و صفين لنفس الانتفاعات و الأفعال المناسبة.
و على هذا فالأرواث مثلا يحرم أكلها و يحلّ سائر الانتفاعات بها.
و كيف كان فالظاهر أنّ الحلّية و الحرمة المتعلقين بهما تنصرفان إلى الأفعال و الانتفاعات الطبيعية الأوّلية لا مثل البيع و التصرّفات الناقلة الاعتبارية و الآليّة التوصلية، فتدبّر.
(1) إذ حرمة منفعة خاصّة من الشي ء لا يوجب حرمة بيعه بنحو الإطلاق قطعا، إذ ما من شي ء إلّا يحرم بعض الانتفاعات منه، فالمقصود بحرمة الشي ء حرمة جميع منافعه أو منافعه الغالبة بحيث يسقط عن المالية شرعا أو يراد صورة وقوع البيع بلحاظ خصوص المنفعة المحرّمة.
و الحاصل أنّ ظاهر تعليق الجزء
على الشرط كون عنوان الشرط علّة لحكم الجزاء فيدور مدارها، فتدبّر.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 276
الثالثة: يحرم المعاوضة على الدّم بلا خلاف، بل عن النهاية و شرح الإرشاد لفخر الدين و التنقيح الإجماع عليه. (1)
______________________________
3- المعاوضة على الدم
(1) أقول: 1- قد مرّ فيما حكيناه عن المقنعة، و نهاية الشيخ، و المبسوط، و المراسم، و الشرائع و القواعد «1» ذكر الدّم في عداد النجاسات التي لا يصحّ بيعها.
2- و في نهاية العلامة: «بيع الدّم و شراؤه حرام إجماعا لنجاسته و عدم الانتفاع به.» «2»
أقول: ظاهر كلامه: أنّ الإجماع المدّعى ليس بنفسه بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» فيعتمد عليه بل هو مستند إلى وصفي النجاسة و عدم الانتفاع.
و هل هما دليلان مستقلان، أو أنّ النجاسة أوجبت عدم الانتفاع به و هو الدليل لعدم جواز البيع؟ الظاهر هو الثاني. و لا محالة يراد به عدم جواز الانتفاع الذي كان متعارفا في تلك الأعصار من شربه أو أكله مشويا. و إلى ذلك ينصرف التحريم في الآيات الشريفة و الروايات أيضا كما يأتي بيانه.
______________________________
(1) راجع ص 166 و ما بعدها من الكتاب.
(2) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 277
..........
______________________________
3- و مرّ عن التذكرة: «يشترط في المعقود عليه: الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا (إلى أن قال:) و الدّم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه، و كذا ما ليس بنجس منه كدم غير ذي النفس السائلة لاستخباثه.» «1»
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 277
أقول في عبارته الأخيرة تهافت كما لا يخفى.
4- و قد مرّ
عن التنقيح في ذيل قول المحقق: «الأوّل: الأعيان النجسة» قوله: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصح بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية.
و أما الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عباس عن النبي «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «2»
و حكي نحو ذلك عن فخر الدين في شرح الإرشاد «3».
أقول: لا يخفى أنّ ادّعاء الإجماع في كلاهما ليس على الكبرى أعني عدم جواز بيع النجس بل على الصغرى أعني عدم جواز الانتفاع به. و لا يظنّ الالتزام بذلك من ففيه، و يخالفه السيرة و الأخبار الواردة أيضا كما يأتي، فلا محالة يراد بذلك الانتفاعات المحرّمة التي كانت رائجة بين غير المتعبّدين بالشرع من الأكل و الشرب و نحوهما.
و كيف كان فظاهرهما دوران حرمة البيع مدار حرمة الانتفاع، و عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة كما مرّ.
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(3) راجع مفتاح الكرامة 4/ 13، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 278
و يدلّ عليه الأخبار السابقة. (1)
______________________________
5- و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير: «لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدّم.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به ...» ثم استدلّ لذلك بما مرّ من رواية جابر عن النبي «ص» «1».
6- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفية و الحنابلة ذكر الدّم في عداد ما لا يصح بيعها. «2»
7- و كلّ من منع
بيع النجس بإطلاقه أو ادّعى الإجماع على ذلك فكلامه لا محالة يشمل الدم النجس أيضا، فراجع ما مرّ في تلك المسألة «3».
(1) أقول: استدلّ على المسألة بأمور:
الأوّل: ما مرّ من الأدلّة العامة على المنع عن بيع النجس بإطلاقه و قد أنهيناها إلى ثلاثة عشر دليلا.
و يرد على ذلك ما مرّ تفصيلا من الجواب عنها، فراجع «4».
الثاني: الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة في خصوص المسألة و قد مرّ بعض كلمات الفريقين.
و يرد على ذلك- مضافا إلى احتمال المدركية فلا اعتماد عليهما- أن المترائى من كثير من كلماتهم حتّى ممن ادّعى الإجماع في المسألة كالعلامة أنّ المنع عندهم كان
______________________________
(1) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحّة البيع.
(2) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيع.
(3) راجع ص 176 و ما بعدها من الكتاب.
(4) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 279
..........
______________________________
مستندا إلى عدم الانتفاع المحلّل، و لا محالة ينصرف إلى صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة أصلا أو ندرتها بحيث لا توجب القيمة و المالية، أو وقوع البيع بقصد خصوص المنفعة المحرّمة. فلو فرضت منفعة عقلائية محلّلة كالدم للتزريق بالمرضى الرائج في أعصارنا أو لتهيئة السماد و إصلاح الأراضي مثلا فلا وجه لمنع بيعه لذلك. بل قد مرّ منّا وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و بين صحة المعاملة عليه لذلك.
فراجع ما حكيناه في آخر بحث بيع النجس بإطلاقه عن الخلاف و الغنية و السرائر و الإيضاح و التنقيح و مواضع من المنتهى و التذكرة، «1» حيث يظهر منهم دوران صحة البيع مدار وجود الانتفاع المحلّل.
حيث ذكر فيها الدّم.
و يرد عليها- مضافا إلى ما فيها من الضعف و التشويش في المتن و عدم ثبوت اعتماد الأصحاب عليها- تعليل المنع فيها بقوله: «لما فيه من الفساد.» و التصريح بجواز الاستعمال و البيع لجهات المنافع من كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. و على هذا فيصح بيع الدم للتزريق الذي هو
من أهمّ المصالح في أعصارنا.
قال: مرّ أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة. نهاهم عن بيع الدّم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال و النخاع و الخصى و القضيب. فقال له بعض القصّابين: يا أمير المؤمنين، ما الكبد و الطحال إلّا سواء. فقال له: «كذبت يا لكع، ايتوني بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما.» فأتي
______________________________
(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 280
..........
______________________________
بكبد و طحال و تورين من ماء فقال «ع»: «شقوا الطحال من وسطه و شقوا الكبد من وسطه.» ثم أمر «ع» فمرسا في الماء جميعا فابيضت الكبد و لم ينقص شي ء منه و لم يبيضّ الطحال و خرج ما فيه كلّه و صار دما كلّه حتى بقي جلد الطحال و عرقه فقال له:
«هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم و هذا دم.» «1»
أقول: الخصى بضم الخاء جمع الخصية. و اللكع بضم اللام: اللئيم و الأحمق.
و التور بفتح التاء: الإناء الصغير. و مرس الشي ء: نقعه في الماء و مرثه بيده حتى تحلّلت أجزاؤه.
و تقريب الاستدلال بالرواية أن المراد بالدم المذكور فيه الدم النجس الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، و هو الذي تعارف في الجاهلية شربه أو أكله مشويّا و كان له عندهم قيمة، و لذا عبّر عنه في القرآن بقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «2».
و أمّا الدم الطاهر المختلف في الذبيحة فإنّه من القلّة بمكان لا يلاحظ بنفسه، و يكون كالمستهلك في اللحوم، فلا يباع مستقلا.
و نهي القصّابين عن بيعه لا يدلّ على إرادة الدم المختلف، إذ لعلّ القصّابين في تلك الأعصار كانوا بأنفسهم متصدّين لذبح ما كانوا يبيعونه، كما هو
المتعارف في أعصارنا أيضا في كثير من البلاد.
و بيان الإمام «ع» لماهية الطحال من تحلّله بالدم مع كونه طاهرا لا يدلّ على كون المراد
______________________________
(1) الكافي 6/ 253، كتاب الأطعمة، باب ما لا يؤكل من الشاة و غيرها؛ الخصال/ 341 (الجزء 2)؛ عنهما الوسائل 16/ 359 (ط. أخرى 16/ 438).
(2) سورة الأنعام (6)، الآية 145.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 281
..........
______________________________
بالدم أيضا الدم الطاهر، لأنه ذكر قسيما له. ثم لو سلّم إرادة الدم الطاهر فالمنع عن بيعه يدلّ على المنع عن بيع النجس منه بطريق أولى.
و يرد على الاستدلال بالرواية أوّلا بضعف السند، و لم يثبت اعتماد الأصحاب عليها بنحو يجبر به ضعفها.
و ثانيا: بأنّ الظاهر منها النهي عن البيع بقصد الأكل المحرّم، كما يشهد بذلك سنخ شغل القصّابين و وقوعه في سياق سائر الأجزاء المحرّمة، حيث إنّ المنظور النهي عن بيعها للأكل لوضوح جواز اشترائها لطعمة الحيوانات أو لصرف النخاع في الصابون مثلا و على ذلك جرت السيرة في جميع الأعصار.
و مقايسة القصّاب للطحال و الكبد أيضا يدلّ على كون المتبادر النهي عن البيع للأكل، حيث إنّ الكبد مما يؤكل و الطحال مما لا يؤكل.
و كيف كان فلا يشمل النهي في الرواية لبيع الدم و الفضولات للتسميد و نحوه، كما هو المتعارف في أعصارنا. فضلا عن بيع الدم من الإنسان للتزريق بالمرضى، حيث إنّه لا ربط له بشغل القصّابين.
قال: سمعت أبي- و اشترى غلاما حجّاما- فعمد إلى المحاجم فكسرها و قال: إنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الدم و عن ثمن الكلب و مهر البغيّ، و لعن آكل الربا و موكله و الواشمة و المستوشمة، و لعن المصوّر. أخرجه البخاري في
الصحيح من أوجه عن شعبة «1».
______________________________
(1) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 282
..........
______________________________
بتقريب أنّ النهى عن ثمن الدّم و حرمته يدلّ على فساد المعاملة عليه.
و يرد عليه- مضافا إلى عدم ثبوت حجيّة الرواية عندنا- أنّ الراوي أعني أبا جحيفة فهم من كلامه «ص» النهي عن الحجامة لا عن بيع الدّم. إلّا أن يقال: إنّ الملاك ظاهر اللفظ المنقول لا فهم الراوي، فتدبّر.
و اعلم أنّ أبا جحيفة اسمه وهب بن عبد اللّه السوائي بضم السين المهملة، كان من صغار صحابة رسول اللّه «ص»، توفّي «ص» و هو لم يبلغ الحلم و لكنه سمع منه «ص» و روى عنه، و جعله أمير المؤمنين «ع» على بيت المال بالكوفة و شهد معه مشاهده كلّها و كان يحبّه و يثق إليه و يسمّيه وهب الخير و وهب اللّه.
و روى عنه ابنه عون أنّه أكل ثريدة بلحم و أتى رسول اللّه «ص» و هو يتجشّى، فقال «ص»: «اكفف عليك جشاءك أبا جحيفة، فإنّ أكثرهم شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة» قال: فما أكل أبو جحيفة ملأ بطنه حتّى فارق الدنيا، كان إذا تعشّى لا يتغدّى و إذا تغدّى لا يتعشى. راجع في ترجمته تنقيح المقال «1».
مثل قوله- تعالى- في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به. «2» الآية.
بضميمة قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»
و في حاشية المامقاني بعد ذكر هذا الدليل قال ما محصله: «و إن شئت قرّرت هذا الدليل بوجه آخر بأن تقول: إنّه غير منتفع به، حيث نهى الشارع عن المنفعة التي
من
______________________________
(1) راجع تنقيح المقال 3/ 281.
(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 283
..........
______________________________
شأنها أن تترتّب عليه و هو الأكل، فلا عبرة بالانتفاع به في مثل الصبغ أو التسميد، فتكون المعاملة سفهية.
و إن شئت قرّرت بوجه ثالث بأن تقول: إنّ الدم غير مملوك باتفاق علمائنا بل هو من قبيل ما ليس بمتموّل عرفا و لذا لا يضمنه من أتلفه، و قد اشترط في صحّة البيع كون المبيع مملوكا.» «1»
و يرد على هذا الاستدلال: أن محطّ النظر في الآيات و الروايات المشار إليها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة بل تحريم أكلها الذي كان رائجا في الجاهلية، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها:
ففي سورة البقرة و رد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ «2».
ثم عقّبه بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ به لغَيْر اللّٰه «3» الآية.
و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرمات، فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار.
و وقع نظير ذلك في سورة النحل، فراجع «4».
______________________________
(1) غاية الآمال 1/ 18.
(2) سورة البقرة (2)، الآية 172.
(3) سورة البقرة (2)، الآية 173.
(4) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 284
..........
______________________________
و ورد في الأنعام قوله: قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «1» الآية.
و في آية المائدة أيضا يظهر من الآيات بعدها كون النظر إلى الأكل، حيث ذكر فيها إحلال الطيبات و
طعام أهل الكتاب و جواز أكل ما يمسكه الكلاب.
و في الروايات الواردة في بيان ما يحرم من الذبيحة و منها الدم وقع التصريح في كثير منها بلفظ الأكل، و هو الظاهر من غيرها أيضا، فراجع الوسائل «2».
و أما قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» فقد مرّ حمله على صورة كون جميع المنافع محرّمة، أو ندرة المحلّلة منها بحيث لا توجب قيمة و ماليّة، أو صورة وقوع البيع بقصد المحرّمة، كما يشهد بذلك مناسبة الحكم و الموضوع و ظهور الشرط في كونه علّة للجزاء.
و أمّا ما ذكره المامقاني من كون التسميد من المنافع النادرة و كون المعاملة بلحاظه سفهية فالمناقشة فيه واضحة. و كذا قوله بعدم كون الدّم مملوكا متمولا عرفا، إذ الملكية و التموّل دائران مدار المنافع، و هي تختلف بحسب الدماء و الأزمنة و الأمكنة و الشرائط. و تزريق الدّم بالمرضى من أهمّ المصالح و المنافع في أعصارنا و له ماليّة ممتازة في المحافل الطبّية فلا وجه لمنع المعاملة عليه.
______________________________
(1) سورة الأنعام (6)، الآية 145.
(2) راجع الوسائل 16/ 359 و ما بعدها (طبعة أخرى 16/ 438 و ما بعدها)، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 285
فرع و أمّا الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محلّلة كالصبغ و قلنا بجوازه (1) ففي جواز بيعه و جهان. أقواهما الجواز. لأنّها عين طاهرة ينفع بها منفعة محلّلة. (2)
و أمّا مرفوعة الواسطي المتضمنة لمرور أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين و نهيهم عن بيع سبعة: بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال، إلى آخرها (3) فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل. و لا شكّ في تحريمه لما سيجي ء من
أنّ قصد المنفعة المحرّمة في المبيع موجب لحرمة البيع بل بطلانه. (4)
و صرّح في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر لاستخباثه. (5)
و لعلّه لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرّم.
______________________________
(1) أقول: لا وجه للترديد في جوازه، إلّا أن يقال: إنّ الأصل في الأشياء و الأفعال هو الحظر لا الإباحة.
(2) قد ظهر مما مرّ منا عدم الفرق بين النجس و الطاهر بعد وجود المنفعة المحلّلة الموجبة للمالية عرفا.
(3) قد مرّ منّا حمل الدم في المرفوعة على الدم النجس المسفوح الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، فراجع.
(4) سيجي ء البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا.
(5) قال في التذكرة: «و الدم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه. و كذا ما ليس بنجس منه
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 286
..........
______________________________
كدم غير ذي النفس السائلة الاستخباثه.» «1»
قال في مصباح الفقاهه: «ربما يتوهم أن بيع الدم لما كان إعانة على الإثم فيكون محرّما لذلك.
و فيه- مضافا إلى ما سيأتي من عدم الدليل على حرمتها- أنّ النسبة بينها و بين بيع الدّم هو العموم من وجه، فإنّه قد يشتريه الإنسان لغير الأكل كالصبغ و التسميد و نحوهما، فلا يلزم منه إعانة على الإثم بوجه.
و على تقدير كونه إعانة على الإثم فالنهي إنّما تعلق بعنوان خارج عن البيع فلا يدل على الفساد.» «2»
أقول: أراد بذلك أنّ النهي إن تعلق بنفس عنوان المعاملة كان الظاهر منه الإرشاد إلى فساده. و أمّا إذا تعلق بعنوان آخر فغايته وقوع الفعل محرما، و لا يدلّ على فساد المعاملة.
و سيجي ء من المصنف البحث في آية التعاون، فانتظر.
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) مصباح الفقاهة 1/ 56.
دراسات في المكاسب المحرمة،
ج 1، ص: 287
الرابعة: لا إشكال في حرمة بيع المنيّ لنجاسته و عدم الانتفاع به إذا وقع في خارج الرحم. (1)
______________________________
4- بيع المنيّ
(1) قبل الورود في بيان حكم المسألة نتعرض إجمالا لمفاهيم الكلمات المذكورة فيها أعني المني، و العسب، و الملاقيح، و المضامين.
فنقول: أما المنيّ بتشديد الياء ففي أصله و جهان:
الأوّل: التقدير. قال الراغب في المفردات: «المني: التقدير. يقال: منى لك الماني، أي قدّر لك المقدّر ... و المنيّ للذي قدّر به الحيوانات. قال: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً منْ مَنيٍّ يُمْنىٰ منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ. أي تقدّر بالعزّة الإلهية ما لم يكن منه.» «1»
و في المصباح: «منى اللّه الشي ء من باب رمى: قدّره.» «2»
الثاني: الإراقة. قال في المجمع: «أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ، أي تدفقون في الأرحام من
______________________________
(1) المفردات/ 496. و الآية الأولى من سورة القيامة (75)، رقمها 37؛ و الثانية من سورة النجم (53)، رقمها 46.
(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 288
..........
______________________________
المنيّ، و هو الماء الغليظ الذي يكون منه الولد. قوله: منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ قيل: أي تدفق في الرحم. و قيل من المني. يقال: أمنى الرجل يمني: إذا أنزل المنيّ.» «1»
أقول: قالوا: و من هذا أخذ منى مكّة. قال في المصباح: «و سمّي منى لما يمنى به من الدماء، أي يراق.» «2»
و كيف كان فالظاهر أنّ المنيّ يطلق على الماء المذكور بعد خروجه من الفحل.
و أمّا العسب و كذا العسيب فيطلقان على الماء المذكور حال كونه في صلب الفحل.
و كذا على عمل الطروقة و على أجرتها:
ففي نهاية ابن الأثير: «فيه: أنه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عن واحد منها، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه ... و قيل: يقال لكراء الفحل: عسب. و عسب فحله يعسبه، أي أكراه.» «3»
و في المجمع: «عسيب الفحل: أجرة
ضرابه، و منه نهي عن عسيب الفحل. و عسيب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عنه، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه للجهالة التي فيه من تعيين العمل و لأنه قد تلقح و قد لا تلقح.» «4»
______________________________
(1) مجمع البحرين 1/ 399 (ط. أخرى/ 80). و الآية الأولى من سورة الواقعة (56)، رقمها 58.
(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).
(3) النهاية 3/ 234.
(4) مجمع البحرين 2/ 121 (ط. أخرى/ 123).
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 289
..........
______________________________
و في مبسوط الشيخ: «عسب الفحل: هو ضراب الفحل، و ثمنه: أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة؛ سمّوها راوية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه.
و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور، و عقد الإجارة عليه غير فاسد.» «1»
و أمّا الملاقيح و المضامين ففي لغة لقح من النهاية: «و فيه: أنّه «نهى عن الملاقيح و المضامين.» الملاقيح: جمع ملقوح، و هو جنين الناقة. يقال: لقحت الناقة و ولدها ملقوح به إلّا أنّهم استعملوه بحذف الجارّ. و الناقة ملقوحة.» «2»
و في لغة ضمن منه: «و فيه: أنّه «نهى عن بيع المضامين و الملاقيح.» المضامين: ما في أصلاب الفحول و هي جمع مضمون. يقال: ضمن الشي ء بمعنى تضمّنه ... و الملاقيح:
جمع ملقوح و هو ما في بطن الناقة. و فسّرهما مالك في الموطّأ بالعكس ...» «3»
و في الوسائل نقلا عن الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي «ص» أنه نهى عن المجر. و هو أن يباع البعير أو غيره مما في بطن
الناقة.
و نهى عن الملاقيح و المضامين. فالملاقيح: ما في البطون و هي الأجنّة، و المضامين: ما في أصلاب الفحول. و كانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضرب الفحل في عامه و في أعوام.» «4»
______________________________
(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.
(2) النهاية لابن الأثير 4/ 263.
(3) النهاية لابن الأثير 3/ 102. و انظر الموطّأ 2/ 654 (ط. أخرى 2/ 70)، في باب ما لا يجوز من بيع الحيوان من كتاب البيوع.
(4) الوسائل 12/ 262، الباب 10 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 290
..........
______________________________
و راجع في هذا المجال دعائم الإسلام أيضا «1».
و في التذكرة: «لا يجوز بيع الملاقيح، و هي ما في بطون الأمّهات، و لا المضامين و هي ما في أصلاب الفحول ... و منهم من عكس التفسيرين. و لا نعرف خلافا بين العلماء في فساد هذين البيعين للجهالة و عدم القدرة على التسليم. لأنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. و لا خلاف فيه.» «2»
و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير في مسألة عدم جواز بيع الحمل في البطن قال: «و قد روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة: أنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطون، و هي الأجنّة. و المضامين: ما في أصلاب الفحول. فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضربه الفحل في عامه أو في أعوام و أنشد:
«إنّ المضامين التي في الصلب ماء الفحول في الظهور الحدب.»
«3» أقول: الظاهر أنّ المقصود بيع الملاقيح و المضامين بيع ما تكوّن أو يتكون أو يولد حيوانا من هذا الفحل
أو من هذه الناقة لا بيع النطفة و الماء.
و هذا بخلاف العسب و العسيب؛ فإنّ المقصود به بيع الماء قبل خروجه من الفحل. كما أن المقصود ببيع المني بيعه بعد خروجه منه سواء أريق في خارج الرحم أو فيه.
و على هذا فلا يرتبط بيع الملاقيح و المضامين بمسألتنا هذه أعني بيع الماء بشقوقه. و لذا
______________________________
(1) راجع دعائم الإسلام 2/ 21، كتاب البيوع، الفصل 3 (ذكر ما نهى عنه من بيع الغرر)، الحديث 36.
(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(3) ذيل «المغنى» 4/ 27، كتاب البيع، الشرط السادس من شروط صحة البيع.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 291
..........
______________________________
ذكروا مسألة بيع الملاقيح و المضامين في باب بيع الغرر و ما لا يقدر على تسليمه.
و نظيرهما بيع حبل الحبلة، أعني بيع نتاج النتاج. و أفردوا بيع العسيب و بيع المني و ذكروا بيع المني في باب بيع النجس.
و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره في جامع المقاصد و تبعه المصنّف فيما يأتي من عبارته و تبعهما في مصباح الفقاهة «1».
قال في جامع المقاصد في مسألة بيع العسيب: «و الفرق بينه و بين الملاقح: أنّ المراد بها النطفة بعد استقرارها في الرحم. و العسب هي قبل استقرارها. و المجر أعمّ من كلّ منهما.» «2»
أقول: في النهاية: «فيه: أنّه «نهى عن المجر.» أي بيع المجر، و هو ما في البطون كنهيه عن الملاقيح.» «3»
و كيف كان فشقوق بيع النطفة ثلاثة عنونها المصنّف هنا:
الأوّل: بيع المني بعد ما أريق في خارج الرحم. الثاني: بيعه بعد ما أريق في الرحم.
الثالث: بيع ما في صلب الفحل من الماء، و هو المسمّى بعسيب الفحل. و يلحق بذلك إجارة
الفحل للضراب.
ففي المسألة ثلاثة فروع:
و المصنف حكم بحرمة بيعه حينئذ، لنجاسته و عدم الانتفاع به. و الظاهر منه إرادة الحرمة
______________________________
(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 58.
(2) جامع المقاصد 4/ 53، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الثانى.
(3) النهاية لابن الأثير 4/ 298.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 292
..........
______________________________
التكليفية. و لكن الظاهر من الأخبار و كلمات القدماء من أصحابنا و كذا فقهاء السنة في باب المعاملات إرادة الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة، و كذا في النهي و عدم الجواز كما مرّ تفصيله.
و قد تحصل مما حررناه سابقا منع كون النجاسة بنفسها مانعة عن الصحة و حكينا كلمات الفقهاء في هذا المجال. منها كلام ابن زهرة في الغنية و كلام ابن إدريس في السرائر و كلمات العلامة في التذكرة و فخر الدين في الإيضاح، فراجع «1».
و أمّا عدم الانتفاع فإن أريد به حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا كما مرّ عن التنقيح و شرح الإرشاد الإجماع عليها «2» فهي ممنوعة.
و إن أريد بذلك عدم تحقق الانتفاع المحلّل خارجا فلا يعدّ مالا
فيرد عليه: أنّ هذا يختلف بحسب الأمكنة و الأزمنة و الشرائط.
و في أعصارنا يمكن أن ينتفع بالنطفة الملقاة في خارج الرحم في ظروف خاصة في المصانع الحديثة بالتجزية أو تهذيب النسل في الحيوانات أو بالتركيب مع نطفة الأنثى فتصير بذلك مالا يرغب فيه و يبذل بإزائه المال. هذا.
و يظهر من خلاف الشيخ أنّ النجاسة بنفسها مانعة في المقام كما في غيره. قال فيه (المسألة 270): «بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه. و كذلك منيّ ما لا يؤكل لحمه. و للشافعي فيه و جهان. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّها تتضمن ذكر البيض.
فأمّا المني فإنّه نجس عندنا و ما كان نجسا لا يجوز بيعه و لا
______________________________
(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.
(2) راجع ص 277 من الكتاب.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 293
..........
______________________________
أكله بلا خلاف.» «1»
أقول: ذكره للبيض لعلّه يشهد على إرادته بيع المني بعد خروجه، بل قد مرّ أنّه قبل الخروج لا يسمّى منيّا، فراجع.
و الأخبار الواردة في بيض ما لا يؤكل لحمه تدلّ على حرمة أكلها و لا تعرّض فيها لعدم جواز بيعها، فراجع الوسائل «2».
نعم لو انحصرت منفعتها في الأكل فيحرم بيعها أيضا.
و أمّا إذا فرض الانتفاع بها في تكثير نسل الحيوان أو في المصانع الحديثة فلا نرى وجها لحرمة بيعها و فساده.
و مخالفة الشافعي في بيع المني يحتمل كونها مستندة إلى قوله بالطهارة في بعض أقسامه:
ففي أمّ الشافعي: «قال الشافعي: و المني ليس بنجس ... كلّ ما خرج من ذكر من رطوبة بول أو مذي أو ودي أو ما لا يعرف أو يعرف فهو نجس كلّه ما خلا المني. و المني:
الثخين الذي يكون منه الوالد، الذي يكون له رائحة كرائحة الطلع، ليس لشي ء يخرج من ذكر رائحة طيّبة غيره.» «3»
و راجع في هذا المجال الفقه على المذاهب الأربعة «4».
______________________________
(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.
(2) راجع الوسائل 16/ 347 (طبعة أخرى 16/ 422)، الباب 20 من أبواب الأطعمة و الأشربة.
(3) الأمّ 1/ 47، كتاب الطهارة، باب المنى.
(4) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 13، كتاب الطهارة، مبحث الأعيان النجسة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 294
و لو وقع فيه فكذلك لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد نماء الأمّ في الحيوانات عرفا و للأب في الإنسان
شرعا. (1)
لكنّ الظاهر أنّ حكمهم بتبعيته الأمّ متفرّع على عدم تملك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك يتبعه الزرع. فالمتعيّن التعليل بالنجاسة. لكن قد منع بعض من نجاسته إذا دخل من الباطن إلى الباطن.
______________________________
(1) هذا هو الفرع الثاني في المسألة، أعني بيع المني بعد ما وقع في الرحم. و اختار المصنّف في هذه الصورة أيضا حرمة البيع. و علّلها بأنّه لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد في الحيوانات تابع للأمّ و نماء لها عرفا، فإذا دخل المني في رحمها صار بمنزلة الجزء منها و صار ملكا لصاحب الأمّ قهرا، و ليس كالبذر المغروس في أرض الغير حيث قالوا بكون نمائه لصاحب البذر.
هذا محصّل ما أفاده المصنّف في مقام التعليل ثمّ ذكر أنّ هذا متفرّع على عدم تملّك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك فالمتعين التعليل بالنجاسة.
أقول: كان الأولى التعليل بأنّه لا ينتفع المشتري بشرائه و معاملته لوضوح أنّه ينتفع بنفسه بتكوّن الولد منه. و قد أشار إلى ذلك المحقق الإيرواني في حاشيته فقال: «بل ينتفع به لكنه ملكه و نماء ملكه، فلا معنى لأن يشتريه.» «1»
و أمّا التعليل بالنجاسة فيرد عليه منع النجاسة كما أشار إليه و يأتي بيانه.
و إن شئت توضيح حكم هذا الفرع بنحو أو في فنقول: يمكن أن يستدل لمنع المعاملة فيه بأمور:
______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 295
..........
______________________________
الأوّل: النجاسة.
و يرد عليه- مضافا إلى ما مرّ من منع كونها بنفسها مانعة عن الصحة ما لم توجب عدم الانتفاع المحلّل- منع أصل النجاسة في المقام، لانصراف أدلّة نجاسة المني و نحوه إلى صورة وقوعه في خارج البدن. و أمّا حال كونه في الباطن و إن
تحرّك من موضع إلى موضع أو من باطن إلى باطن آخر فلا دليل على نجاسته. و نظير المني في ذلك الدم و البول و الغائط.
الثاني: جهالة المبيع بحسب المقدار فتكون المعاملة غررية.
و يرد على ذلك أنّ الجهالة توجب البطلان إذا كان المطلوب كمية الشي ء بحيث تختلف القيمة باختلافها، و المني ليس كذلك إذ الولد يتكون من جزء صغير منه و الباقي يقع هدرا. هذا مضافا إلى أنّ جهالة المقدار تضرّ في مثل البيع و الإجارة دون مثل الصلح المبني على المسامحة. و قد تعرّض لذلك المحقق الإيرواني في حاشيته «1».
الثالث: الجهالة من جهة احتمال عدم تحقق اللقاح و صيرورته هدرا.
و يرد عليه أنّ هذا لا يوجب عدم القيمة و المالية عرفا. و نظيره البذر المحتمل لأن يفسد و لا ينبت و مع ذلك لا تسقط عن المالية و مثله الفسيلة تشترى و تغرس و ربما تفسد.
الرابع: عدم قدرة البائع على تسليم المبيع.
و فيه: أنّ المعتبر فيها القدرة العرفية، و هي حاصلة بكون الحيوان تحت يد المشتري.
الخامس: ما ذكره المصنّف، و هو أنّ المشتري لا ينتفع بهذا الشراء، إذ مرجعه إلى اشتراء مال نفسه كما مرّ بيانه.
______________________________
(1) راجع حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 296
..........
______________________________
قال في مصباح الفقاهة: «و الذي يسهّل الخطب أن السيرة القطعية من العقلاء و المتشرّعة قائمة على تبعية النتاج للأمّهات في الحيوانات. و قد أمضاها الشارع فلا يمكن التخطّي عنها، كما أنّ الولد للفراش في الإنسان بالنصّ و الإجماع القطعيين.
و من هنا يعاملون مع نتاج الحيوانات معاملة الملك حتّى مع العلم بأن اللقاح حصل من فحل شخص آخر. و إلّا فكان اللازم عليهم إمّا ردّ النتاج إلى
صاحب الفحل إن كان معلوما، أو المعاملة معه معاملة مجهول المالك إن كان المالك مجهولا. و هذا شي ء لا يتفوّه به ذو مسكة.» «1»
أقول: قيام السيرة على ما ذكر صحيح إجمالا.
و لكن يمكن أن يقال باستنادها إلى مهانة نطف الحيوانات عند العقلاء و عدم تقويمهم لها نظير سائر فضولات أبدانها. و لكن لو فرض قلّة الحيوان الفحل في مكان و شدّة الحاجة إلى نطفته بحيث صارت ذات قيمة و ماليّة معتنى بها فأجبر أحد فحل الغير على الطروقة فهل يحلّ نتاجه حينئذ لمالك الأنثى مع كون النطفة ذات قيمة و ماليّة معتنى بها؟ الالتزام بذلك مشكل و لا يبعد القول بجواز شراء النطفة حينئذ.
ثم لا يخفى أنّ قوله «ص»: «الولد للفراش» يكون في قبال العاهر المدّعي، و لا ربط له بمسألة كون الولد تابعا للأب أو الأمّ.
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 59.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 297
و قد ذكر العلامة من المحرّمات بيع عسيب الفحل، و هو ماؤه قبل الاستقرار في الرحم. (1)
______________________________
(1) هذا هو الفرع الثالث في المسألة. و حيث إنه محلّ للابتلاء و كان معنونا في الأخبار و فقه الفريقين فالأولى نقل بعض الكلمات فيه و إن كان محطّ النظر في كثير منها كراء الفحل لا بيع نطفته:
1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 269): «إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة عليه غير فاسد. و قال مالك: يجوز و لم يكرهه. و قال أبو حنيفة و الشافعي: إن الإجارة فاسدة و الأجرة محظورة. دليلنا: أنّ الأصل الإباحة، فمن ادعى الحظر و المنع فعليه الدلالة. فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»
أقول: لو شكّ في إباحة الضراب فالمرجع فيه أصل الإباحة. و أمّا لو شك في صحة الإجارة عليه فالأصل يقتضي فسادها و عدم ترتب الأثر عليها إلّا أن يراد بأصل الإباحة في كلامه عموم أدلّة الإجارات و العقود.
2- و في النهاية: «و كسب صاحب الفحل من الإبل و البقر و الغنم إذا أقامه للنتاج ليس به بأس، و تركه أفضل.» «2»
3- و في المبسوط: «عسب الفحل هو ضراب الفحل. و ثمنه أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة سمّوها رواية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه. و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة
______________________________
(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.
(2) النهاية/ 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 298
..........
______________________________
عليه غير فاسد.» «1»
أقول: قد مرّ في أوّل المسألة أنّ لفظ
العسب و العسيب يطلقان على ماء الفحل قبل الطروقة و على الطروقة و على أجرتها.
4- و قال العلّامة في التذكرة: «يحرم بيع عسيب الفحل، و هو نطفته، لأنه غير متقوّم و لا معلوم و لا مقدور عليه. و لا نعلم فيه خلافا لأنّ النبي «ص» نهى عنه. أمّا إجارة الفحل للضراب فعندنا مكروهة و ليست محرّمة، و هو أضعف وجهي الشافعي. و به قال مالك، لأنها منفعة مقصودة يحتاج إليها في كلّ وقت، فلو لم يجز الإجارة فيها تعذّر تحصيلها لعدم وجوب البذل على المالك. و قال أبو حنيفة و الشافعي في أصحّ وجهيه و أحمد: إنّها محرّمة، لأنه «ص» نهى عن عسيب الفحل. و لأنه لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأنه متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأن القصد هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالبيع.
و نحن نقول بموجب النهي، لتناوله البيع أو التنزيه، و نمنع انتفاء القدرة، و العقد وقع على الإنزاء. و الماء تابع كالظئر.» «2»
أقول: و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا «3».
و العلامة في التذكرة تعرّض لبيع الملاقيح و المضامين في مسألة ثمّ عقّبها بمسألة بيع عسيب الفحل، فيظهر بذلك أنّ بيع عسيب الفحل غير بيع المضامين. و قد مرّ منّا أنّ
______________________________
(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.
(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(3) راجع المنتهى 1/ 1019، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الثانى.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 299
..........
______________________________
المقصود من بيع الملاقيح و المضامين بيع الحيوان المقدّر الذي يتكوّن من هذه الأنثى أو من هذا الفحل. و من بيع العسيب بيع النطفة في صلب الفحل قبل
الضراب، فتدبّر و لا تخلّط.
و بذلك يظهر الإشكال على من توهم اتحاد بيع العسب مع بيع المضامين و اتحاد بيع النطفة في الرحم مع بيع الملاقيح.
و هاهنا إشكال معروف في كتاب الإجارة أشار إليه العلامة هنا في آخر كلامه، و هو أنّ البيع تمليك للعين و الإجارة تمليك للمنفعة لا للعين، و على هذا فيشكل إجارة الفحل للضراب و المرأة للرضاع و الشاة للانتفاع بلبنها و الشجرة للانتفاع بثمرها و نحو ذلك، لاستلزامها في هذه الموارد تملك المستأجر للأعيان و استهلاكها عنده، و هذا خلاف مقتضى الإجارة.
و أجاب عن هذا الإشكال في إجارة العروة بأنّ المناط في المنفعة هو العرف، و عندهم يعدّ اللبن منفعة للشاة و الثمرة منفعة للشجر «1».
و يرد عليه عدم الاعتبار بالإطلاق المسامحي العرفي هنا، إذ المنفعة في كتاب الإجارة يراد بها ما يكون قسيما للعين.
و أجاب عنه في إجارة مستند العروة بما محصّله: «أنّ النظر في العقد في هذه الموارد ليس إلى تمليك الأعيان المذكورة بل إلى تمليك منفعة العين المستأجرة، و هي وصف قائم بها حين الإجارة أعني أهليّتها و استعدادها لأن يتولّد منها الأعيان المذكورة. و هذه الأعيان
______________________________
(1) راجع العروة الوثقى 2/ 620 (ط. المكتبة العلمية الإسلامية، سنة 1399 ه. ق) كتاب الإجارة، الفصل 6، المسألة 12.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 300
..........
______________________________
تتكوّن قهرا في ملك من ملك الوصف المذكور. فالمستأجر لم يتملك بالمباشرة بسبب عقد الإجارة إلّا الاستعداد الخاصّ و هو من قبيل الأوصاف و المنافع. و تملك الأعيان المذكورة تابع عرفا لمن تملك الاستعداد المذكور. و هذا نظير من يستأجر شبكة للصيد، فإنّ استعداد الشبكة إذا انتقل إلى المستأجر فلا محالة تتبعه مالكيته للصيد
الملقى فيها.» «1»
و لكن الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- كان ينكر تعريف الإجارة بتمليك المنفعة و كان يقول: إنّ البيع و الإجارة كليهما إضافتان متعلقتان بالأعيان، فكما تقول:
بعتك هذه الدار تقول: آجرتك هذه الدار. غاية الأمر أنّ مفهوم الإجارة عند العقلاء تقتضي استحقاق المستأجر للانتفاع بالعين مع بقائها مدّة الانتفاع بها، و الانتفاع من كل شي ء بحسب ما يترقب منه.
و أمّا اقتضاؤها لبقاء العين المستأجرة بعد مدّة الانتفاع بها فضلا عن بقاء ما يتولد منها فلا دليل عليه. إلّا أن يثبت هذا بالإجماع.
فإن قلت: نعم الإجارة أيضا متعلقة بالعين و لكن مفاد الإجارة هو تمليك المنفعة و بذلك تفترق عن العارية و لذا يعدّ المستأجر نفسه مالكا للمنفعة و له نقلها إلى غيره.
قلت: لو صحّ هذا لزم صحة إنشاء إجارة الدار بقولنا: ملكتك سكنى هذه الدار.
و الالتزام بذلك مشكل. هذا. و تحقيق المسألة موكول إلى محلّه.
5- و في بيع الشرائع عدّ من المكاسب المكروهة: «ضراب الفحل.» «2»
6- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة قال: «و بيع عسب الفحل غير جائز.»
______________________________
(1) مستند العروة/ 357 و ما بعدها، ذيل المسألة 7 من الفصل 6 من كتاب الإجارة.
(2) الشرائع/ 265 (- ط. أخرى 2/ 11)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 301
..........
______________________________
7- و ذيّله في المغني بقوله: «عسب الفحل: ضرابه. و بيعه أخذ عوضه، و تسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا. و إجارة الفحل للضراب حرام و العقد فاسد. و به قال أبو حنيفة و الشافعي. و حكي عن مالك جوازه. قال ابن عقيل: و يحتمل عندي الجواز لأنّه عقد على منافع الفحل و نزوه، و هذه منفعة مقصودة، و
الماء تابع. و الغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبيّ.
و لنا: ما روى ابن عمر: أنّ النبي «ص»: «نهى عن بيع عسب الفحل.» رواه البخاري.
و عن جابر قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل.» رواه مسلم. و لأنّه ممّا لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأن ذلك متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأنّ المقصود هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالعقد و هو مجهول. و إجارة الظئر خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي فلا يقاس عليه ما ليس مثله ...» «1»
أقول: العسب- كما مرّ- يطلق على نفس الماء في الصلب و على الضراب و على الثمن و الأجرة لهما. و المذكور في كلام الخرقي البيع، و في كلام الشارح الإجارة، و ليس في خبر ابن عمر لفظ البيع بل النهي عن عسب الفحل، فراجع البخاري «2».
و لا مجال للنهي عن نفس الماء و لا عن نفس الضراب، فلا محالة يراد به النهي عن الثمن أو الأجرة أو كليهما.
و خبر جابر رواه مسلم بسنده عنه، يقول: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل و عن بيع الماء و الأرض لتحرث.» «3»
______________________________
(1) المغنى 4/ 277، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.
(2) راجع صحيح البخاري 2/ 37، كتاب الإجارة، باب عسب الفحل.
(3) صحيح مسلم 3/ 1197، كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء ... و تحريم بيع ضراب الفحل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 302
..........
______________________________
و بيع ضراب الجمل فيه ظاهر في إجارته له، كما أنّ المقصود ببيع الماء و الأرض أيضا إجارتهما للحرث.
و إطلاق لفظ البيع على نقل المنفعة كان شائعا كما
يظهر لمن تتبع أخبار الفريقين.
8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و من الأشياء التي لا تصحّ إجارتها ذكور الحيوانات التي تستأجر لإحبال أنثاها، فلا يحلّ استيجار ثور ليحبل بقرة و لا جملا ليحبل ناقة و هكذا لأنّ المقصود من ذلك إنما هو منيه، و هو محرّم لا قيمة له فلا يصحّ الاستيجار عليه، فإذا احتاج شخص إلى ذلك و لم يجد من يعطيه فإنّه يصحّ له أن يدفع الأجرة و يكون الإثم على من أخذها ...» «1»
أقول: بعد حلّية العمل و الاحتياج إليه لا نرى وجها لحرمة أخذ الأجرة عليه. نعم يمكن كون خسّته موجبة لكراهة التكسب به.
هذه بعض كلماتهم في المقام.
إذا عرفت هذا فنقول: الأصل الأوّلي في المعاملات و إن كان هو الفساد، إذ الأصل عدم ترتّب الأثر، لكن عمومات العقود و البيع و الإجارة تقتضي صحّتها إلّا فيما ثبت خلافها. و ما تمسّكوا به للمنع في المقام أمور:
و يرد عليه- مضافا إلى منع نجاسة ما في الباطن كما مرّ- منع مانعية النجاسة بنفسها، و الملاك في الصحة تحقق المنفعة المحلّلة.
و يرد عليه اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط في ذلك. و الملاك في المالية رغبة الشخص فيه بحسب حاجاته الفعلية العقلائية بحيث يبذل بإزائه المال.
______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 3/ 145، مباحث الإجارة، مبحث ما تجوز إجارته و ما لا تجوز.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 303
______________________________
و يرد عليه أنّه إن أريد بذلك الجهل بمقدار النطفة، ففيه أنّ الجهل به يوجب البطلان إذا كان المطلوب مقدار الشي ء و كميته بحيث تختلف الرغبة و القيمة باختلافها و تصير المعاملة غررية. و النطفة ليست كذلك في مقام الإحبال كما مرّ.
و إن أريد بذلك الجهل بأصل وجود النطفة، ففيه أنّ هذا يوجب بطلان البيع.
و أمّا الإجارة فإنّها تقع على عمل الإنزاء بترقّب الإحبال، فيكفي فيها الشأنية و ظنّ وجود النطفة.
و العقلاء يقدمون على ذلك و على أداء الأجرة لذلك، و عمل المسلم محترم. و نظير ذلك رائج في أعمال الناس و معاملاتهم، فيعملون و يعاملون بترقب النتائج.
و يرد عليه أنّ تسليم كل شي ء بحسبه. و تسليم النطفة يحصل بإنزاء الفحل و ترغيبه في العمل.
، فلا تصحّ إذا استلزمت انتقال العين و استهلاكها. و قد مرّ الجواب عنه عن مستند العروة و عن السيّد الأستاذ- طاب ثراه-، فراجع.
و قد صحّت الإجارة على الإرضاع بلا إشكال، لقوله- تعالى-: فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. «1» و للأخبار الواردة.
فيظهر بذلك صحّة الإجارة لعمل يستتبع انتقال عين و استهلاكها.
و ليس هذا من القياس بعد إلغاء الخصوصيّة و العلم بوحدة المناط. و محلّ الإشكال لو سلّم صورة استتباع الانتفاع لتلف العين المستأجرة.
______________________________
(1) سورة الطلاق (65)، الآية 6.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 304
______________________________
1- ما في الخصال في باب التسعة بإسناده عن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السلام-، قال: «لما افتتح رسول اللّه «ص» خيبر دعا بقوسه فاتكأ على سيتها ثم حمد اللّه و أثنى عليه و ذكر ما فتح اللّه له و نصره به و نهى عن خصال تسعة:
عن مهر البغيّ، و عن كسب الدابّة يعني عسب الفحل، و عن خاتم الذهب، و عن ثمن الكلب ...» «1»
و رواه عنه في الوسائل و فيه: «و عن عسيب الدابة، يعني كسب الفحل.» «2»
2- ما عن الفقيه، قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب.» «3»
أقول: التفسير للصدوق. و نقله عنه «ص» بلا ترديد يدلّ على قطعه بصدوره عنه «ص».
3- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام و عن عسب الفحل.» «4» و رواه عنه في المستدرك «5».
4- ما عن الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» في حديث طويل
مرّ، قال: «من السحت
______________________________
(1) الخصال/ 417 (الجزء 2)، الحديث 10.
(2) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.
(3) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(4) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.
(5) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 305
..........
______________________________
ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجام ... و عسب الفحل، و لا بأس أن يهدي له العلف ...» «1»
5 و 6- ما مر عن المغني من حديثي البخاري و مسلم، فراجع.
7- ما في البيهقي بإسناده عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغي و عسب الفحل و عن ثمن السنور و عن الكلب إلّا كلب صيد.» «2»
و راجع البيهقي أيضا، روايتي أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري «3».
8- و في مبسوط السرخسي في فقه الحنفية عن أبي نعيم، عن بعض أصحاب النبي «ص» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن عسب التيس و كسب الحجام و قفيز الطّحان.» «4»
9- و فيه أيضا عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «من السحت عسب التيس و مهر البغيّ و كسب الحجام.» «5»
و هذه الأخبار و إن ضعفت بحسب الأسناد لكنها بلغت من الاستفاضة حدّا يطمئن الإنسان بصدور بعضها، و ليس المضمون ممّا يوجد الداعي إلى اختلاقه. و النهي فيها يشمل البيع و الإجارة معا.
و لكن في قبالها ما يدلّ على الجواز إجمالا:
1- خبر حنان بن سدير، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه «ع» و معنا فرقد الحجّام ... فقال
______________________________
(1) نفس المصدر و
الباب 2/ 426، الحديث 1.
(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.
(3) راجع سنن البيهقى 5/ 339، كتاب البيوع، باب النهى عن عسب الفحل.
(4) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.
(5) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 306
..........
______________________________
له: جعلني اللّه فداك إنّ لي تيسا أكريه، فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه فإنّه لك حلال. و الناس يكرهونه.» قال حنان: قلت: لأيّ شي ء يكرهونه و هو حلال؟ قال:
«لتعيير الناس بعضهم بعضا.» «1»
2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه ... قال: قلت له: أجر التيوس؟ قال: «إن كانت العرب لتعاير به، و لا بأس.» «2»
و صدر كلتا الروايتين يرتبط بكسب الحجام و كونه جائزا حلالا. هذا.
و يمكن الجمع بين هاتين الروايتين و بين أخبار المنع بوجوه:
الأوّل: حمل أخبار المنع على الكراهة حملا للظاهر على النصّ و كثرة استعمال النهي و كذا لفظ السحت في الكراهة. و يؤيد ذلك اشتمال أخبار المنع على ما ليس بحرام قطعا، مثل كسب الحجام و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها و نحو ذلك في خبر الجعفريات مثلا، فتأمّل.
الثاني: حمل أخبار المنع على البيع و الروايتين على الإجارة، كما هي الظاهر منهما.
و يؤيد ذلك أنّ وجود النطفة في الصلب كثيرا ما مشكوك فيه و مع الشكّ في تحقق الشي ء لا يصحّ بيعه.
و على هذا الوجه فدلالة الروايتين على الكراهة أيضا لا تخلو من إشكال، إذ كراهة الناس و تعييرهم لا تكفي في الحكم بالكراهة الشرعية، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حمل أخبار المنع على البيع حمل على الفرد النادر، إذ المتعارف كان هو الإجارة لا
البيع.
______________________________
(1) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 307
كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار، كما في جامع المقاصد و عن غيره. (1) و علّل في الغنية بطلان بيع ما في أصلاب الفحول بالجهالة و عدم القدرة على التسليم. (2)
______________________________
الثالث: حمل أخبار المنع على التقية، لكون المنع عندهم أشهر كما مرّ.
هذا و لكن حمل الأخبار النبوية على التقية غريب غير محتمل.
و أمّا احتمال حمل النهي على التكليف المحض و القول بالصحة وضعا فضعيف جدّا، إذ النهي كما مرّ لم يتعلق بنفس الماء و لا بنفس العمل بل بالثمن أو الأجرة، و مثله يكون ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد كما لا يخفى.
و كيف كان فالإجارة ممّا تصحّ قطعا للروايتين و للآية الشريفة في الرضاع بعد إلغاء الخصوصية، و لحلّية العمل قطعا و كثرة الاحتياج إلى الاستيجار له.
(1) قد مرّ في صدر المسألة عبارة جامع المقاصد و المناقشة فيها، و قلنا إنّ المقصود ببيع الملاقيح و المضامين كان بيع ما يتكوّن حيوانا من هذه الأنثى أو من هذا الفحل لا بيع النطفة المبحوث عنه هنا.
(2) قال في الغنية: «و لما ذكرنا من الشرطين نهي أيضا عن بيع حبل الحبلة و هو نتاج النتاج، و عن بيع الملاقيح و هو ما في بطون الأمهات، و عن بيع المضامين و هو ما في أصلاب الفحول، لأنّ ذلك مجهول غير مقدور على تسليمه.» «1»
أقول: أنت ترى أنّ محطّ نظر الغنية بيع الملاقيح و المضامين، و قد عرفت أنّهما غير بيع النطفة المبحوث عنه هنا.
______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب
البيع من الغنية.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 308
الخامسة: يحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها التي تحلّها الحياة من ذي النفس السائلة على المعروف من مذهب الأصحاب. و في التذكرة كما عن المنتهى و التنقيح الإجماع عليه. و عن رهن الخلاف الإجماع على عدم ملكيتها. (1)
______________________________
5- المعاوضة على الميتة و أجزائها
(1) أقول: 1- قد مرّ عن التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...
و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «1»
2- و فيه أيضا: «لا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إجماعا منّا، و به قال أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. أمّا بعد الدباغ فكذلك عندنا، لأنه لا يطهر خلافا للجمهور ...» «2»
3- و في المنتهى: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «3»
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(3) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 309
و يدلّ عليه- مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار- ما دلّ على أنّ الميتة لا ينتفع بها، منضما إلى اشتراط وجود المنفعة المباحة في المبيع لئلا يدخل في عموم النهي عن أكل المال بالباطل. (1)
______________________________
4- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنها محرّمة الانتفاع. و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص» ...» «1»
5- و في رهن الخلاف (المسألة 34): «إذا كان الرهن شاة فماتت زال ملك الراهن عنها و انفسخ الرهن إجماعا ...
دليلنا: إجماع الفرقة على أنّ جلد الميتة لا يطهر
بالدباغ. و إذا ثبت ذلك لم يعد الملك إجماعا ...» «2»
هذه ما أشار إليه المصنّف من الكلمات. و أنت ترى أنّ إجماع التنقيح على عدم جواز الانتفاع لا عدم جواز المعاوضة.
(1) الكلام هنا يقع في مقامين: الأوّل: حكم الانتفاع بالميتة. الثاني: حكم بيع الميتة و أجزائها النجسة.
و المصنّف بنى البحث عن صحة البيع و عدمها إجمالا على جواز الانتفاع و عدمه.
فالأنسب تقديم هذا البحث فنقول:
______________________________
(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(2) الخلاف 3/ 239 (ط. أخرى 2/ 103)، كتاب الرهن.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 310
______________________________
الأصل الأوّلي يقتضي حلّية الانتفاع بها و بكل شي ء إلّا فيما ثبت من الشرع خلافه.
و في الكتاب العزيز: هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مٰا في الْأَرْض جَميعاً. «1»
و لكن يظهر من كثير من الكلمات و الأخبار الواردة حرمة أنواع التصرف في الميتة و الانتفاع بها. بل يظهر من بعضهم كونها إجماعية. و يظهر من البعض أيضا خلاف ذلك:
1- ففي مكاسب النهاية: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به، و التصرّف فيه و التكسب به حرام محظور ... و لا يجوز التصرّف في شي ء من جلود الميتة و لا التكسب بها على حال.» «2»
أقول: لفظ التصرّف يحتمل أن يراد به التصرفات الناقلة، و يحتمل أن يراد به مطلق الانتفاعات، و لعلّ الثاني أظهر.
2- و في الصيد و الذبائح منه: «و ما لم يذكّ و مات لم يجز استعمال جلده في شي ء من الأشياء لا قبل الدباغ و لا بعده.» «3»
3- و في المراسم: «و التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه ... ببيع و غيره حرام.» «4»
أقول: ظهور لفظ التصرف في هذه العبارة في التصرفات الناقلة قويّ، فيشكل دلالتها على حرمة الانتفاعات.
4- و في مستطرفات السرائر في ردّ خبر البزنطي الدالّ على جواز الإسراج بأليات الغنم المقطوعة من الأحياء قال:
«الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ
______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 29.
(2) النهاية/ 364 و 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...
(3) النهاية/ 586، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.
(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 311
..........
______________________________
حال إلّا أكلها للمضطر غير الباغي و العادي.» «1»
5- و في الجواهر: «لا يجوز الانتفاع بشي ء منها ممّا تحلّه الحياة فضلا عن التكسب سواء كانت ميتة نجس العين أو طاهرها ذي النفس السائلة.» «2»
إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلمات فقهاء الفريقين.
و في قبال ذلك بعض الكلمات الظاهرة في جواز بعض الانتفاعات:
1- ففي المقنع للصدوق: «و لا بأس أن تتوضأ من الماء إذا كان في زقّ من جلد ميتة و لا بأس أن تشربه.» «3»
2- و في الصيد و الذبائح من النهاية: «و يجوز أن يعمل من جلود الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصلاة و الشرب، و تجنّبه أفضل.» «4»
3- و عن التهذيب أنّه بعد نقل صحيحة زرارة (قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء قال: «لا بأس.») قال: «الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «5»
4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع: «و يجوز الاستسقاء بجلود الميتة و إن كان نجسا و لا يصلّي من مائها، و ترك الاستسقاء أفضل.» «6»
______________________________
(1) السرائر 3/ 574، في مستطرفاته عن جامع البزنطى.
(2) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.
(3) الجوامع الفقهية/ 3، باب الوضوء من المقنع.
(4) النهاية/ 587، باب ما يحلّ
من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.
(5) الوسائل 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16 و ذيله؛ عن التهذيب 1/ 413.
(6) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 312
..........
______________________________
5- و في الأطعمة من المختصر النافع: «و يجوز الاستقاء بجلود الميتة و لا يصلّي بمائها.» «1»
6- و في أطعمة الإرشاد: «و لا يجوز الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة، و تركه أفضل.» «2»
7- و في أطعمة القواعد: «و لا يجوز الاستسقاء بجلد الميتة لغير الطهارة، و تركه أفضل.
و لو كان يسع كرّا فأملأه من الفرات جاز استعمال ما فيه، و لو كان أقلّ كان نجسا.» «3»
8- و في طهارة القواعد: «و جلد الميتة لا يطهر بالدباغ. و لو اتخذ منه حوض لا يتسع للكر نجس الماء فيه، و إن احتمله فهو نجس و الماء طاهر، فإن توضأ منه جاز إن كان الباقي كرا فصاعدا.» «4»
إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.
9- و في مفتاح الكرامة بعد التعرّض لبعض كلمات المانعين قال: «و لا مخالف في عدم جواز الانتفاع بالميتة سوى الشيخ في النهاية و المحقق في الشرائع و النافع و تلميذه كاشف الرموز و المصنّف في الإرشاد، فجوّز و الاستقاء بجلودها لغير الصلاة و الشرب.
و مال إليه صاحب التنقيح للأصل و تبادر التناول من الآية الشريفة. و في السرائر أنّه مرويّ ...
و الصّدوق في المقنع جوّز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلوا لغير الطهارة. و قد وافقه المصنّف على ذلك في مطاعم الكتاب.
و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب أنّه نقل عن المصنّف في حلقة الدرس أنّه
______________________________
(1) المختصر النافع/ 254 (الجزء
2)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.
(2) الإرشاد 2/ 113، كتاب الصيد و توابعه، المقصد الثالث، الباب الأوّل.
(3) القواعد 1/ 159، كتاب الصيد و الذباحة، المقصد الخامس، الفصل الأوّل.
(4) القواعد 1/ 7، كتاب الطهارة، المقصد الثالث، الفصل الأوّل.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 313
..........
______________________________
جوّز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة تحت السماء.
و صاحب الكفاية استشكل في حرمة التكسب بجلد الميتة نظرا إلى خبر أبي القاسم الصيقل و ولده.» «1»
أقول: غرضنا من التطويل في نقل كلمات الأصحاب منع تحقق الإجماع في المسألة، حيث تمسك به البعض في المقام حتّى ربما يشككون في جواز الانتفاع بها في التسميد أيضا، مع أنّ المسألة مختلف فيها؛ فترى الشيخ الطوسي مثلا يفتي في كتاب الصيد و الذبائح من نهايته الذي وضعه لنقل خصوص المسائل المأثورة تارة بعدم جواز استعمال جلد الميتة في شي ء من الأشياء. و أخرى بعد صفحة بجواز عمل الدلو منه و الاستقاء به لغير وضوء الصلاة و الشرب.
و مسألة بيع الميتة مبتلى بها في أعصارنا جدّا، حيث يشترون أجساد الأموات للتشريح و الترقيع و نحوهما بأثمان غالية. فإذا لم يثبت إجماع في البين فلنتعرّض لسائر ما يمكن أن يتمسك به في المقام:
فممّا استدلوا به لحرمة جميع الانتفاعات بها بل حرمة المعاوضة عليها أيضا ما ورد من الآيات في تحريم الميتة و ما قارنها:
قال اللّه- تعالى- في أوائل سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به «2» الآية.
قال في التذكرة بعد ذكر الآية: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها و أقرب مجاز إليها جميع
______________________________
(1) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 314
..........
______________________________
وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما.» «1»
و في مفتاح الكرامة: «و قد استدلّ على تحريم الانتفاع بالميتة: الطوسي و البيضاوي و الراوندي في أحد وجهيه و المرتضى في ظاهر الانتصار و المصنّف في التذكرة و نهاية الإحكام و المنتهى و المختلف و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم بقوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
قالوا: لأنه يستلزم إضافة التحريم إلى جميع المنافع المتعلقة بها، لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان حقيقة فتعيّن المجاز. و أقرب المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات. و حكاه في كنز العرفان عن قوم. و احتمله المولى الأردبيلي في آيات أحكامه. و قد يرشد إلى ذلك تخصيص اللحم بالذكر في الخنزير دون الميتة. و قد تجعل الشهرة قرينة على ذلك.» «2»
أقول: قد مرّ في مسألة الدم أنّ محطّ النظر في هذه الآية و نظائرها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة فيها، بل تحريم أكلها الذي
كان متعارفا في تلك الأعصار، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها.
ففي سورة البقرة مثلا ورد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثم عقّبه بلا فصل بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير «3» الآية.
______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.
(2) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.
(3) سورة البقرة (2)، الآيتان 172 و 173.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 315
..........
______________________________
و قد وقع نظير ذلك في سورة النحل أيضا في آيتين متواليتين «1».
و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرّمات فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها، لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار. و بهذا اللحاظ أيضا ذكر اللحم في الخنزير.
و ورد في الأنعام قوله: قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «2»
و في آية المائدة ذكر بعدها إحلال الطيبات و طعام أهل الكتاب و الترخيص في أكل ما يمسكه الكلاب المعلّمة «3».
و استثنى في الآيات الأربع من اضطرّ إليها و قيّد في المائدة بالمخمصة بمعنى المجاعة.
فمع هذه القرائن الكثيرة كيف يحتمل تعلق الحرمة فيها بجميع الانتفاعات؟!
و يشهد لما ذكرنا من كون النظر في الآيات إلى خصوص الأكل ما ورد في تعليل تحريم الأشياء المذكورة، فراجع الوسائل «4».
منها: خبر مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: أخبرني- جعلت فداك- لم حرّم اللّه- تبارك و تعالى- الخمر و الميتة و الدّم و لحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه- سبحانه و تعالى- لم يحرّم ذلك على عباده
و أحلّ لهم سواه رغبة منه فيما حرّم عليهم و لا زهدا فيما أحلّ لهم. و لكنه خلق الخلق و علم- عزّ و جلّ- ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم
______________________________
(1) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.
(2) سورة الأنعام (6)، الآية 145.
(3) سورة المائدة (5)، الآيات 3، 4، 5.
(4) راجع الوسائل 16/ 310 (طبعة أخرى 16/ 376)، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 316
..........
______________________________
فأحلّه لهم و أباحه تفضّلا منه عليهم به- تبارك و تعالى- لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثم أباحه للمضطرّ و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.»
ثم قال: «أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوّته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ...» «1»
و أمّا الأخبار الواردة في المسألة فعلى طائفتين: الأولى ما تدل على المنع. الثانية ما تدل على الجواز.
أمّا الطائفة الأولى فهي كثيرة:
1- موثقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «2»
يستفاد منها بإلغاء الخصوصيّة عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا، إذ لا خصوصية للسّباع في ذلك. و حمل الانتفاع المنفيّ على انتفاع خاصّ كجعلها أوعية للمائعات مثلا خلاف الإطلاق لا يصار إليه إلّا بدليل.
و ما في الكفاية من توقف الإطلاق على انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، على إطلاقه ممنوع؛ إذ المتيقن إن كان من الوضوح بمنزلة القيد المذكور في اللفظ بحيث ينصرف
______________________________
(1) الكافى 6/ 242، كتاب
الأطعمة، باب علل التحريم، الحديث 1.
(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 4.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 317
..........
______________________________
الإطلاق إليه فهو، و إلّا فلا حجة لرفع اليد عن ظهور المطلق.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ المنع في الموثقة و كذا في بعض الأخبار التالية توجّه إلى الانتفاع بالجلد، و لا نسلّم إلغاء الخصوصية منه إلى جميع أجزاء الميتة، إذ الانتفاع بالجلد في التعيّش يوجب السراية غالبا، فلا يسري المنع إلى الانتفاع بالميتة في مثل التسميد و إطعام الطيور مثلا، و بذلك تصير ذات قيمة و مالية قهرا، فيجوز بيعها أيضا لذلك.
2- خبر علي بن أبي المغيرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: الميتة ينتفع منها بشي ء؟
فقال: «لا.» قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه «ص» مرّ بشاة ميتة فقال: «ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها.» فقال «ع»: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي «ص» و كانت شاة مهزولة و لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت. فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها، أي تذكّى.» «1»
و دلالة الخبر واضحة. و قوله: «بشي ء» يحتمل أن يراد به بجزء من أجزائها. و يحتمل أن يراد به بانتفاع من الانتفاعات.
و أمّا السند فهو إلى علي بن أبي المغيرة صحيح، و لكن في عليّ كلام: فعن العلامة توثيقه. و نوقش في ذلك بأنّ منشأ التوثيق الخطأ في فهم كلام النجاشي حيث قال في شرح حال ابنه الحسن: «الحسن بن علي بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفي ثقة هو، و أبوه روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه
«ع» و هو يروي كتاب أبيه عنه و له كتاب مفرد.» «2»
______________________________
(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.
(2) رجال النجاشى/ 49 (ط. أخرى/ 37). و راجع تنقيح المقال 1/ 291 (في ترجمة الحسن بن على)؛
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 318
..........
______________________________
فتوهم من عبارته هذه كون التوثيق لابن و الأب معا، مع وضوح أنّ الواو في قوله:
«و أبوه» للاستيناف لا للعطف، اذ لا يروي الحسن عن أبي جعفر «ع».
قال الأستاذ الإمام «ره»: «فتعبير السّيد صاحب الرياض عنها بالصحيحة غير وجيه ظاهرا.» «1» هذا.
و قصّة مرور رسول اللّه «ص» بالشاة المذكورة رويت بأنحاء أخر أيضا و ربما يخالف بعضها بعضا:
فمنها: موثقة أبي مريم، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السخلة التي مرّ بها رسول اللّه «ص» و هي ميتة فقال رسول اللّه «ص»: «ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟» قال: فقال أبو عبد اللّه «ع»: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «2»
أقول: فظاهر هذه الموثقة أنّ الشاة كانت مذكّاة لا ميتة. قال في الوسائل: «لا منافاة بينه و بين السابق لاحتمال تعدّد الشاة و القول.» «3»
أقول: احتمال تعدّد الواقعة بعيد و لا سيما بعد ملاحظة روايات السنة أيضا في هذا المجال، راجع البيهقي «4».
و منها: ما عن عوالي اللآلي، قال: صحّ عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب
______________________________
- و 2/ 264 (في ترجمة على بن أبى المغيرة).
(1) المكاسب المحرمة 1/ 46.
(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث
3 و ذيله.
(3) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3 و ذيله.
(4) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 319
..........
______________________________
و لا عصب.» و قال في شاة ميمونة: «ألّا انتفعتم بجلدها؟» «1»
و منها: ما عن دعائم الإسلام عن عليّ «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب.» فلما كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟» قال:
قلت: يا رسول اللّه، فأين قولك بالأمس لا ينتفع من الميتة بإهاب؟ قال: ينتفع منها بالإهاب (باللحاف- الدعائم) الذي لا يلصق.» «2»
أقول: عظم الميتة لا يجري عليه حكم الميتة لعدم نجاسته، فلا وجه لعدم جواز الانتفاع به.
و لم يظهر لي وجه ذكر العصب في هذا الخبر و غيره، و أيّ نفع كان يترتب عليه؟
و الظاهر من عدم لصوق الجلد دباغته بنحو يخرج منه دسومته. و هذا يوافق مذاهب أهل الخلاف، حيث يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغة و على ذلك تدلّ أخبارهم، فراجع البيهقي «3».
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المقصود في خبر الدعائم ليس هو الطهارة بالدباغ، بل عدم سرايته إلى ما يلاقيه من الجوامد فيكون بيانه «ص» إرشادا إلى طريق الانتفاع به بلا سراية.
و لعلّ هذا أيضا كان هو المقصود فيما رواه أهل الخلاف عنه «ص» في هذا المجال،
______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.
(2) مستدرك الوسائل 3/ 77، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2؛
عن الدعائم 1/ 126.
(3) راجع سنن البيهقى 1/ 17، كتاب الطهارة، باب طهارة باطنه بالدبغ كطهارة ظاهره ...
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 320
..........
______________________________
حيث قال «ص»: «ألّا نزعتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فتوهّموا من كلامه هذا كون الدباغة مطهرة. و في بعضها قالوا: يا رسول اللّه، إنّها ميتة. قال: «إنّما حرم أكلها».
و ما رووه في قصّة الشاة المذكورة يظهر من بعضها أنّ الشاة كانت لميمونة زوج النبي «ص». و من بعضها أنّها كانت لمولاة لها. و من بعضها أنّها كانت لسودة زوجه «ص». و احتمال تعدّد الواقعة بعيد جدّا، فراجع البيهقي «1».
3- خبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن «ع»، قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا (إن ذكّي- الكافي). فكتب «ع»: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب. و كلّ ما كان من السخال (من) الصوف و إن جزّ و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن. و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّه.» «2»
و السند ضعيف، و فتح بن يزيد مجهول، و لكن دلالة الخبر واضحة إن قلنا بعدم الفرق بين الإهاب و العصب و بين غيرهما من الأجزاء التي تحلّها الحياة.
و الظاهر وجود سقط في الحديث، فيكون قوله: «كلّ ما كان» مبتدأ حذف خبره، مثل: «ينتفع به» مثلا.
و لم يظهر لي وجه عدم ذكر العظم أيضا في عداد الشعر و الوبر و غيرهما، و لا وجه تقييد الصوف بقوله: «و إن جزّ» مع أنّه فرد جليّ. و لعلّ عدم ذكر العظم لعدم ترتب الفائدة عليه في تلك الأعصار. و في الاستبصار «3»: «إن جزّ» بدون الواو فلا إشكال.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب
المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق
دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 320
______________________________
(1) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...
(2) الوسائل 16/ 366 (طبعة أخرى 16/ 448)، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 7؛ عن الكافى 6/ 258.
(3) الاستبصار 4/ 89، كتاب الصيد و الذبائح، باب تحريم جلود الميتة، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 321
..........
______________________________
4- خبر الكاهلي، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا عنده عن قطع أليات الغنم. فقال:
«لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك.» ثم قال «ع»: «إنّ في كتاب عليّ «ع»: أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به.» «1»
و الظاهر أنّ المقصود بالكاهلي هنا عبد اللّه بن يحيى الكاهلي الوجيه عند أبي الحسن «ع» بقرينة رواية البزنطي عنه. و في السند سهل بن زياد، و الأمر فيه سهل، فلا بأس بالسند.
و يظهر منه أنّ عدم جواز الانتفاع بالميتة كان واضحا مفروغا عنه، فصار الجزء المقطوع من الحيّ بحكمها لكونه منها حقيقة أو تنزيلا.
اللّهم إلّا أن يناقش في ذلك بأنّ الخبر بصدد تنزيل الجزء المقطوع منزلة الميتة لا بصدد بيان حكم الميتة، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، فلعلّ الانتفاع المنفي في الميتة كان انتفاعا خاصّا معلوما لأهله، مثل الأكل و نحوه، فيكون المقصود أنّه لا ينتفع به مثل ما ينتفع به لو كان مذكّى.
و يشهد لذلك ما عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا «ع»، قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال:
«نعم، يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» و رواه في قرب الإسناد أيضا عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «2».
5- ما مرّ من خبر العوالي عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.» «3»
______________________________
(1) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 1.
(2) الوسائل 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.
(3) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 322
..........
______________________________
6- ما في سنن البيهقي بإسناده عن عبد اللّه بن عكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه «ص» بأرض جهينة و أنا غلام شابّ أن: «لا تستمتعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.»
و في معناه أخبار أخر عن عبد اللّه بن عكيم «1».
7- ما مرّ من رواية تحف العقول، حيث علّل فيها حرمة بيع الميتة و غيرها من وجوه النجس بقوله: «لأن ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «2»
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعليل بقوله: «لما فيه من الفساد» يحدّد الحكم بموارد ترتّب الفساد عليه. و التعليل يقع غالبا بأمر يدركه العقلاء و المتشرعة بحسب ارتكازهم لا بأمر غيبي لا يدركه الناس، فلا يعمّ الحكم للانتفاع بها في التشريح أو الترقيع أو إطعام الطيور و نحوها.
و لأجل ذلك حكم في الرواية في الصّناعات بحلّية ما اشتملت منها على جهتي الصلاح و الفساد معا و قال: «فلعلّه لما
فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به، و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح.» «3»
8- خبر الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن «ع» فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال: «هي حرام.» قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «4»
______________________________
(1) راجع سنن البيهقى 1/ 14- 15، كتاب الطهارة، باب في جلد الميتة.
(2) تحف العقول/ 333.
(3) تحف العقول/ 336؛ عنه الوسائل 12/ 57، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(4) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 323
..........
______________________________
بتقريب أنّ المقصود بحرمتها ليس حرمة الأكل فقط و إلّا لم يمنع من الاصطباح بها.
بل المقصود بها حرمة جميع الانتفاعات حذرا من تلوّث البدن و الثوب بها أحيانا.
أقول: يمكن أن يقال: إنّ السؤال الأوّل ناظر إلى أنّ المقطوع بحكم المذكّى أو الميتة.
و جواب الإمام «ع» ناظر إلى كونه بحكم الميتة التي ثبت حرمة أكلها بالكتاب و نجاستها بالسنّة و هما حكمان متلازمان في الميتة عند المتشرعة.
و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد ما اتضح كونها بحكم الميتة.
و الإمام «ع» لم ينه عنه و إنّما أرشده إلى أنّ هذا يوجب التلوّث غالبا، فيكون ضرّه أكثر من نفعه. فهذا إرشاد محض و ليس حكما تحريميّا.
و إن شئت قلت: إنّ قوله أخيرا: «و هو حرام» لا يراد به حرمة إصابة اليد و الثوب، لوضوح عدم حرمة ذلك، بل الواو للحال و الضمير عائد إلى الجزء المقطوع و يراد بحرمته نجاسته أو مانعيته عن
الصلاة، و قد شاع استعمال لفظ الحرمة في الأحكام الوضعية.
قال في مصباح الفقاهة في هذا المجال: «بل عدم تعرّضه «ع» لحكم الانتفاع بها بالاستصباح المسؤول عنه و تصدّيه لبيان نجاستها أو مانعيّتها عن الصلاة أدلّ دليل على جواز الانتفاع بها دون العكس. سلّمنا ذلك و لكن لا بدّ من الاقتصار فيها على موردها أعني صورة إصابتها اليد و الثوب.» «1»
فإلى هنا ذكرنا ثمانية أخبار يظهر من بعضها حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا، و من بعضها حرمة الانتفاع بجلدها كذلك، و ربما يقال برجوع القسم الثاني إلى الأوّل بإلغاء الخصوصيّة، و لكن مرّت المناقشة في ذلك. و يدلّ على تحريم جميع الانتفاعات خبر
______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 63.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 324
..........
______________________________
جابر المذكور في كتب السنة أيضا و يأتي نقله في البحث عن بيع الميتة.
و هنا قسم ثالث ربما يظهر منها حرمة الانتفاع بها في اللبس و نحوه حتى في غير حال الصلاة:
1- ما عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن لبس السمور و السنجاب و الفنك. فقال: «لا يلبس و لا يصلّى فيه إلّا أن يكون ذكيّا.» «1»
بتقريب أنّ السؤال وقع عن مطلق اللبس فيها. و الإمام «ع» فصّل في ذلك بين الميتة و المذكّى، فالاستثناء وقع بلحاظ أصل اللبس، إذ الصلاة فيها و لا سيما في السمور و الفنك لا تجوز عندنا مطلقا و المنع عنها في المستثنى منه ذكر تطفّلا.
أقول: عبد اللّه بن الحسن في السند مجهول لم يذكر في الرجال بمدح و لا قدح، فالخبر لا يعتمد عليه.
و يحتمل أن يكون السؤال وقع عن اللبس
بلحاظ الصلاة، فيحمل الجواب على التقية أو الضرورة، كما في الوسائل.
2- ما رواه في تحف العقول عن الصادق «ع» في جوابه عن جهات معايش العباد، قال: «و ما يجوز من اللباس: فكلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه. و كلّ شي ء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه و صوفه و شعره و وبره. و إن كان الصوف و الشعر و الريش و الوبر من الميتة و غير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك و الصلاة فيه.» «2»
______________________________
(1) الوسائل 3/ 255، الباب 4 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 6.
(2) تحف العقول/ 338؛ عنه الوسائل 3/ 252، الباب 3 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 8.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 325
..........
______________________________
يظهر منه عدم جواز لبس الجلد غير المذكّى مطلقا و لو لغير الصلاة.
أقول: أجاب الأستاذ الإمام «ره» فقال: «و يمكن الخدشة في دلالتها بعد الغضّ عن سندها بأنّ الظاهر من قوله: «فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه» أنّه بصدد بيان حكم اللبس في الصلاة فقوله: «فلا بأس بلبسه» كالأمر المقدّمي المذكور توطئة. كقوله: «لا بأس بلبس الحرير و الحرب فيه»، و «لا بأس بالجلوس في المسجد و القضاء فيه»، و «لا بأس بأخذ الماء من الدجلة و الشرب منه» إلى غير ذلك. فحينئذ يكون قوله: «و كلّ شي ء يحلّ أكله ...» بصدد بيان اللبس في الصلاة أيضا. و كذلك الفقرة الأخيرة، فلا يستفاد منها حكمان: تكليفي مربوط بأصل اللبس و وضعيّ مربوط بالصلاة.» «1»
أقول: يرد على ما ذكره: أنّ عنوان الكلام في الرواية هو قوله: «و ما يجوز من اللباس» و ليس فيه اسم من الصلاة، فراجع.
3- ما رواه علي بن
جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها.» «2»
و يرد عليه- مضافا إلى منع ظهور عدم الصلاح في الحرمة- أنّ الظاهر منه هنا الكراهة، إذ فرض الإمام «ع» اللبس مع الحرمة لا يخلو عن بعد و غرابة. هذا مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب بنحو يعتمد عليه.
4- موثقة سماعة، قال: سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الغرا.
______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 47.
(2) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 6.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 326
..........
______________________________
فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة.» «1»
أقول: في المجمع: «في الحديث ذكر الغراء و الكيمخت. الغراء ككتاب: شي ء يتخذ من أطراف الجلود يلصق به و ربما يعمل من السمك، و الغرا كالعصا لغة.» «2»
و فيه أيضا في لغة كمخ: «الكيمخت بالفتح فالسكون. و فسّر بجلد الميتة المملوح.
و قيل: هو الصاغري المشهور.» «3»
و دلالة الموثقة على المنع بالمفهوم كما هو ظاهر.
و أجاب عنها الأستاذ الإمام «ره» «بأنّه لا إطلاق في مفهومها، فإنّه بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم. فلا يستفاد منها إلّا ثبوت البأس مع العلم في الجملة. بل التحقيق أنّ المفهوم قضيّة مهملة حتّى في مثل قوله «ع»: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شي ء.» «4»
أقول: و يمكن حمل المنع في الموثّقة على الكراهة بقرينة موثقة أخرى لسماعة؛ قال:
سألته عن جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت، فرخّص فيه و قال: «إن لم تمسّه فهو أفضل.» «5»
بناء على حمل الترخيص
فيها على أصل الانتفاع بها لا معاملة الطهارة معها، و إلّا كان اللازم حملها على التقية كما لا يخفى.
فقوله: «إن لم تمسّه فهو أفضل» فيه احتمالان: الأوّل: أن يكون كناية عن عدم الانتفاع بها مطلقا. فيدل على كراهة الانتفاع و يكون قرينة على الجمع بين روايات المنع
______________________________
(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 5.
(2) مجمع البحرين 1/ 315 (ط. أخرى/ 63).
(3) مجمع البحرين 2/ 441 (ط. أخرى/ 185).
(4) المكاسب المحرمة 1/ 48.
(5) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 454)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 8.
دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 327
..........
______________________________
و ما يأتي من أخبار الجواز بحمل الأولى على الكراهة.
الثاني: أن يراد به كراهة مسّها باليد و إن كان يابسا لاحتمال السراية أحيانا، و يكون أصل الانتفاع مرخّصا فيه بلا إشكال. و الضمير في قوله: «و هو الكيمخت» يحتمل أن يرجع إلى المملوح، و يحتمل أن يرجع إلى الموصوف و الصفة معا. فالثاني موافق لما مرّ عن المجمع في معنى الكلمة. و أمّا على الأوّل فيكون الكيمخت أعمّ من الميتة و غيرها. و هو الذي يظهر من الموثقة الأولى و من خبر علي بن أبي حمزة الآتية «1».
و كيف كان فهذه أخبار يستدلّ بها على منع الانتفاع بالميتة. و قد عرفت أنّها ثلاثة أقسام: بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بها مطلقا، و بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بجلدها و عصبها و قد مرّ احتمال رجوعها إلى القسم الأوّل بإلغاء الخصوصية، و بعضها تدلّ على حرمة اللبس و ما شابهه. و أكثر الأخبار ضعاف كما مرّ بيانه.
في قبال ما مرّ من أخبار المنع
بأقسامها طائفة أخرى من الأخبار يستفاد منها جواز الانتفاع بالميتة إجمالا إلّا فيما يتوقف على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة:
1- موثقة سماعة الأخيرة الدالة على الترخيص في جلد الميتة المملوح.
2- ما مرّ عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي، صاحب الرضا «ع»، قال:
سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ