سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301
عنوان و نام پديدآور : دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه/ لمولفه المنتظری
مشخصات نشر : قم: دار الفکر، 14ق. = - 13.
شابک : 2500ریال(ج.4)
يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد چهارم، 1411ق. = 1370
يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات تفکر منتشر شده است
يادداشت : جلد سوم (چاپ دوم: 1415ق. = 1373)؛ بها: 7000 ریال. (ناشر: نشر تفکر)
يادداشت : ج. 3 (چاپ دوم) 1415 = 1374
یادداشت : کتابنامه
عنوان دیگر : ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه
موضوع : ولایت فقیه
موضوع : اسلام و دولت
رده بندی کنگره : BP223/8 /م 78د4 1300ی
رده بندی دیویی : 297/45
شماره کتابشناسی ملی : م 70-2367
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين، اولي الأمر الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، و أمرنا رسول اللّه «ص» بالتمسك بهم قرينا للكتاب العزيز الذي لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ و قال: «انهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض.» «1»
اللّهم فوقنا للتمسك بالكتاب العزيز، و بالعترة الذين لم يألوا جهدا في تبيين معارفه و أحكامه و في نصح الأمة و إرشادها.
______________________________
(1)- على ما ورد في حديث الثقلين. و قد تواتر الحديث إجمالا بين الفريقين. راجع ص 58 من الكتاب.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 3
نذكر في المقدمة بنحو الإجمال ضرورة الحكومة، و أنحائها، و الحكومة الاسلامية، و ما دعاني الى تأليف هذا الكتاب و فيها اشارة إلى أبواب الكتاب و فصوله:
اعلم أن من أهم الأمور الضرورية للبشر وجود النظام الاجتماعي و الحكومة العادلة الحافظة لحقوق المجتمع، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا يحصل على حاجاته و طلباته إلّا في ظل الاجتماع و التعاون، و كثيرا ما تعرض له قضايا عامّة تمسّ مصالح المجتمع و يطلب فيها قرار و رأي واحد يجمع القاطعية و قابلية التنفيذ و القدرة عليه، و لا يحصل ذلك الّا تحت لواء حكومة قاطعة، و لأجل ذلك ترى أنه لم تخل حياة الإنسان في جميع مراحلها و أدوارها حتى في العصور الحجرية و في الغابات من حكومة و دويلة.
و هنا ملاحظة أخرى، و هي ان الإنسان قد جبل في طبعه و كيانه على شهوات
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 4
و ميول مختلفة: من حبّ الذات، و حبّ المال و الجاه، و الحرية المطلقة في كل ما يريده و يهواه. و كثيرا ما يستلزم ذلك كلّه التّزاحم و التضارب في الأفكار و الأهواء، و يستعقب الجدال و الصراع. فلا محالة تقع الحاجة الى قوانين و مقررات، و الى قوة منفذة لها مانعة من التعدّي و الكفاح، و لا نعني بالحكومة إلّا هذه القوة المنفذة.
بل الحيوانات أيضا لا تخلو من نحو من النظام، كما يشاهد ذلك في النمل و النحل و نحوهما.
و حتى لو فرضنا محالا أو نادرا تكامل المجتمع و تحقق الرشد الأخلاقي لجميع أفراده، و حصول الإيثار و التناصف بينهم فالاحتياج الى نظام يجمع أمرهم في المصالح العامة و يسدّ
حاجاتهم في الأرزاق و الأمور الصحّيّة، و التعليم و التربية، و المواصلات و المخابرات، و الطرق و الشوارع و غير ذلك من الأمور الرفاهية، و جباية الضرائب و صرفها في هذه المصارف العامة، مما لا يقبل الإنكار. و لا يختصّ هذا بعصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.
فما عن الأصمّ من عدم الاحتياج الى الحكومة اذا تناصفت الأمّة و لم تتظالم، و ما عن ماركس من عدم الاحتياج اليها بعد تحقق الكمون المترقي و ارتفاع الاختلاف الطبقي واضح الفساد.
و أما ما تراه من استيحاش أكثر الناس في بلادنا و تنفرهم من اسم الحكومة و الدولة فليس الّا لابتلائهم طوال القرون المتمادية بأنواع الحكومات المستبدّة الظالمة أو غير اللائقة التي لم تملك البصيرة و الكفاية. و إلّا فالحكومة الصالحة اللائقة الحافظة لحقوق الأمّة الآخذة بيدها المدافعة عن منافعها و مصالحها، مما تقبلها الطباع السليمة و يحكم بضرورتها العقل السليم.
بل ان الحكومة الجائرة أيضا مع ما فيها من الشرّ و الفساد خير من الفتنة و الهرج، كما عن امير المؤمنين «ع»: «وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم.» «1»
و في نهج البلاغة في رد كلام الخوارج: «هؤلاء يقولون: لا إمرة الّا للّه، و انه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر.» «2»
______________________________
(1)- الغرر و الدّرر 6/ 236، الحديث 10109.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 5
و لا يريد هو عليه السلام تبرير امارة الفاجر و بيان مشروعيتها، بل يريد بيان تقدّمها عقلا على الفتنة و الهرج اذا دار الأمر بينهما.
قد ذكروا في
ذلك نظريات عديدة:
منها: ان الدولة نظام اجتماعي يفرضه بالإجبار شخص قويّ أو فريق غالب على الضعفاء و المستضعفين و المتوسطين، استعبادا و استثمارا لهم او استصلاحا و تعطفا عليهم حسب اختلاف الحكام في نيّاتهم.
و منها: ان تشكيل العائلة أمر يقتضيه طبع البشر، ثم هي الخلية الأولى لكل مجتمع و دولة، اذ تجتمع العائلات و تتصل حسب طبعها و حاجتها فتصير عشيرة ثم قبيلة ثم مدينة سياسية يسوسها حكم واحد، ثم ترتبط المدن تدريجا و يحكم عليها نظام واحد و حكم واحد فتصير ملكا واحدا و دولة واحدة، فالدولة نتيجة حركة التاريخ بالطبع.
و منها: ان الإنسان في بادي الأمر كان يعيش على الفطرة و الغريزة و كان يتمتع بحريّة كاملة، ثم تضاربت المصالح و الحرّيّات فسادت القوة و ضاعت حقوق الضعفاء و أصبح أمر الجماعة فوضى، فتوافق عقلاء الناس و اصطلحوا على وضع قوانين خاصة محدّدة للحريات و على قوة منفذة لها حفظا للحقوق، فالحكومة معاقدة اجتماعية بين الحاكم و بين الرعية تحصل باختيار الطرفين.
الى غير ذلك مما قيل في المقام، و لا يهمّنا ذكرها و نقدها و قياس بعضها الى بعض بعد ما اتّضح- كما مرّ- أصل ضرورة الحكومة و الدولة، و سيأتي منا بيان ان الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه و ان النبي الأكرم «ص» أسس بناء الحكومة الإسلامية بأمر اللّه- تعالى- و تعاقدت الجماعة الإسلامية الأولى معه «ص» على الإيمان باللّه و برسوله و برئاسته على الأمة و اتباعها له في كل ما آتاه. و من جملة ما آتاه المقررات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، كما هو واضح لمن تتبع فقه الإسلام.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص:
6
و نحن نعتقد ان اللّه- تعالى- من بدو نشأة الإنسان و خلقه لم يخلهم من الأنبياء و الهداة الى اللّه- تعالى- بل أول من خلقه منهم كان نبيّا، فلعل الحكومة و مقرراتها بسذاجتها كانت من جملة البرامج التي أتى بها الأنبياء من ناحية الوحي حسب حاجة الانسان اليها في طبعه و ذاته.
فمنشأ الدولة و الحكومة في بادي الأمر هو أمر اللّه و وحيه و ان انحرفت بعد ذلك عن مسيرها الصحيح بتغلّب الظالمين و الطغاة. و في الحديث عن النبي «ص» قال:
«كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، و انه لا نبي بعدي و ستكون خلفاء فتكثر.» «1»
و ذلك بان يتسلط الفرد بالقهر و الغلبة و بقوة العساكر و السلاح على البلاد و العباد، و ينزل بمعارضيه أشدّ العقوبات، و لا يتقيد بقانون و لا ضابطة خاصة بل يجعل مال اللّه دولا و عباده خولا، يحكم فيهم بما يهوى و يريد، و يتصور كون السلطة ملكا طلقا له و لوارثه نسلا بعد نسل. و ربما يبلغ هذا السلطان في استعلائه و استكباره حدّا يسمّي نفسه ظلّ اللّه في أرضه و مظهرا لقدرته و سلطنته، و قد يصل الى حدّ يدعي الربوبيّة كما اتفق لفرعون و أمثاله.
و هذا القسم من الحكومة من أردإ أنواعها عند العقل و الفطرة. و أحسن التعبير عن هذا النوع من الحكومة هو ما حكاه اللّه- تعالى- عن ملكة سبأ «قٰالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً، وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ.» «2»
المستحدثة في الأعصار الأخيرة، بان تعتبر الملكية حقا ثابتا وراثيّا و لكن الملك محدود مقيد، و يكون تدبير الأمور محوّلا الى القوى الثلاث:
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1471، الحديث 1842، كتاب الامارة، الباب 10 (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ...).
(2)- سورة النمل (27)، الآية 34.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 7
التشريعية و التنفيذية و القضائية، من دون ان يكون للملك أيّ دخل في ذلك و لا يتحمل أيّة مسئولية في إدارة الملك، كما هو الحال في انكلترا مثلا. فكأنّ الملك عضو زائد محترم مكرّم جدّا يصرف في وجوه تعيشه و ترفهه و تجمّلاته و وسائل فسقه و فجوره آلاف الألوف من بيت المال و من حقوق المحرومين من دون أن يكون على عاتقه أية مسئولية عامة بالنسبة الى المسائل
الأساسية.
و واضح أن هذه أيضا كالأولى باطلة مخالفة للعقل و الفطرة، اذ لا وجه لهذا الحقّ و هذه الوراثة المستمرة من دون نصب من قبل اللّه- تعالى- أو انتخاب من قبل الأمّة، و من دون ان يتحمل مسئولية عامة ماسّة بمصالح المجتمع، سوى المصارف المجحفة الزائدة تبعا للرسم و العادة.
و تسمى في اصطلاح العصر: «ارستوقراطية»، و ذلك بان يتسلط فريق أو شخص من المجتمع على الآخرين لمجرد التفوق النسبي أو المالي، كما هو شائع في العشائر و القبائل و لا سيما في البدويين منهم.
و لا يخفى ان مجرد الانتساب او التمول ما لم يقترن بالصلاحيات النفسية و قوة التدبير و الانتخاب من قبل الأمّة لا يكون ملاكا للولاية و لزوم الطاعة عند العقل و الفطرة.
التي تحصر حقّ الانتخاب بطبقة خاصة معيّنة.
و لا نعرف له مثلا في عصرنا إلّا ما هو المتعارف لدى كنيسة الروم فعلا من انتخاب البابا من قبل البطاركة فقط على أساس أنهم أهل الحل و العقد من دون ان يطلب أصوات الناس و أنظارهم.
و لكن على أساس فكرة و ايدئولوجية خاصة، فيكون الحاكم منتخبا من قبل الفئة المعتقدة بهذه الفكرة الخاصة و مكلفا بادارة المجتمع على هذا الاساس. و لعل الحكومة السوفياتية بأقمارها من هذا القبيل، حيث يكون الانتخاب على أساس المنهج الماركسي و لا سيما في الاقتصاد.
المعبّر عنها بحكومة الشعب
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 8
على الشعب، فيكون الشعب في الحقيقة منشأ للتشريع و التنفيذ، و الحاكم المنتخب يحقق أهواء الشعب و حاجاته كيف ما كانت. و ربما يعدّ هذه أحسن أنحاء الحكومات الدارجة و أوفقها للفطرة لصلاحها مبدأ و غاية، فالمبدأ ارادة الشعب و آراؤه، و الغاية تأمين حاجاته العامة.
أقول: هذا على فرض تحققها واقعا بان يكون الشعب مدركا رشيدا مختارا لا يقع تحت تأثير العوامل المظلّلة و الأجواء و الأهواء و الوعود البراقة و الدعايات الكاذبة الرائجة. و لكن يبعد جدّا حصولها كذلك مأئة بالمائة حتى في مثل الامم الراقية، حيث نرى فيها وقوع الشعب عملا تحت تأثير الوسائل الإعلامية المملوكة لأصحاب الثروات و الشركات العظيمة الاقتصادية التي يكثر فيها الدعايات الكاذبة، فلا تتحقق حكومة الشعب حقيقة بل حكومة طبقة خاصة من المجتمع امتلكوا الثروات و المؤسسات و لا يهدفون إلّا مصالح أنفسهم.
قد عرفت ضرورة الحكومة و حفظ النظام الاجتماعي للبشر، و انّ الهرج و المرج الاجتماعي مما يدرك ضرره و قبحه كل عاقل من أي أمّة أو ملّة كان.
و المراجع للكتاب و السنة و فقه مذاهب الإسلام من الشيعة و السنة يظهر له بالبداهة ان دين الإسلام الذي جاء به النبي الأكرم «ص» لم ينحصر أحكامه في أمور عبادية و مراسيم و آداب فردية فقط، بل هو جامع لجميع ما يحتاج اليه الانسان في مراحل حياته الفردية و العائلية و الاجتماعية من المعارف و الأخلاق و العبادات و المعاملات و السياسات و الاقتصاد و العلاقات الداخلية و الخارجية. فهو بنفسه نظام كامل يجمع الاقتصاد و السياسة أيضا.
و التتبع في أخبار الفريقين
و فتاواهم في الأبواب المختلفة لفقه الإسلام يرشدنا الى كون الحكومة و تنفيذ المقررات أيضا داخلة في نسج الإسلام و نظامه. فالاسلام بذاته دين و دولة، و عبادة و اقتصاد و سياسة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 9
فترى النبي الأكرم «ص» بعد هجرته الى المدينة باشر بتأسيس اول دولة اسلامية عادلة، و قد مهّد لها مقدماتها من أخذ البيعة من القبائل و الوفود و عقد ميثاق الاخوة بين المهاجرين و الانصار و المعاهدة بينهم و بين يهود المدينة. و أقام مسجدا جعله مركزا لتجمّع المسلمين و موضعا لصلواتهم و لنشاطاتهم الاجتماعية و السياسية.
و راسل الملوك و الامراء في البلاد و كتب اليهم يدعوهم الى الإسلام و الدخول تحت ظلّ حكومته.
و لم يقنع ببيان الأحكام و إقامة الصلوات و التبليغ و الارشاد فقط. بل كان ينفّذ حدود الإسلام و احكامه و يبعث العمّال و الولاة و يطالب بالضرائب و الماليات و يجهّز الجيوش و يقاتل المشركين و المناوئين، الى غير ذلك من شئون الحكومة. فهذه كانت سيرته في حياته.
و قد كان الحكم الذي قام به «ص» في عصره مع قصر مدته حكما فريدا لم تعرف البشرية الى الآن له شبيها في سهولته و سذاجته و ما وجد فيه الناس من عدل و حرية و مساواة و ايثار، و قد أذعن بذلك المؤرخون من غير المسلمين أيضا.
و بعد وفاته «ص» لم يشكّ أحد من المسلمين في الاحتياج الى الحكومة، بل أجمعوا على وجوبها و ضرورتها. و إنما وقع الخلاف بين الفريقين في انه «ص» هل نصب أمير المؤمنين «ع» واليا أو إنّه أهمل أمر الخلافة و فوضه الى المسلمين. فالشيعة الامامية تعتقد
ان النبي «ص» قد عيّن أمير المؤمنين «ع» في غدير خمّ و في غيره من المواقف و نصبه لتصدّي الولاية بعد وفاته. و السنة يقولون بانعقاد الامامة بعده «ص» بالشورى و انتخاب أهل الحلّ و العقد. و كيف كان فرسول اللّه «ص» مضافا الى نبوته و رسالته كان بنصّ القرآن الكريم اولى بالمؤمنين من أنفسهم و كان له الولاية عليهم، و كذلك الأئمة الاثنا عشر عندنا كان لهم حق الولاية.
و البحث بحث كلامي يطلب من محله.
و تمتاز الحكومة الاسلامية عن الحكومة الديموقراطية الغربية الدارجة بوجوه:
منها: ان الحاكم في الحكومة الاسلامية يجب أن يكون أعلم الناس و أعدلهم و أتقاهم و أقواهم بالأمر و أبصرهم بمواقع الأمور. ففي عصر النبي «ص» كان هو بنفسه اولى بالمؤمنين من أنفسهم و كانت له الولاية عليهم من قبل اللّه- تعالى-. و بعده كانت الولاية عندنا حقا للأئمة الاثني عشر، و في عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بزمانه البصير بالأمور و الحوادث الرؤوف الحافظ لحقوق الناس حتى الأقليات غير المسلمة،
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 10
فلا يجوز للأمة انتخاب غيره.
و منها: ان الحكومة الاسلامية بشعبها الثلاثة من التشريع و القضاء و التنفيذ تتقيّد بموازين الإسلام و قوانينه العادلة النازلة من قبل اللّه- تعالى- و الوالي منفّذ لأحكامه. و قد يعبّر عن هذه الحكومة بالحكومة التئوقراطية بمعنى حكومة القانون الإلهي على المجتمع.
و أما في النظام الديموقراطي الانتخابي الدارج فملاك الانتخاب فيه رضا الناخبين، و الهدف منه تحقيق أهوائهم و مشتهياتهم كيف ما كانت، فلا يتقيد الناخب و لا المنتخب لا بمقررات شرعية و لا بمصالح عقلية و فضائل أخلاقية. و سيأتي تفصيل ذلك في الباب الخامس،
فانتظر.
لا يخفى أن الانسان العاقل اذا اراد تفويض عمل الى غيره فهو بحكم الفطرة يراعي في الفرد المنتخب أن يتحقق فيه أمور: الأول: العقل الوافي. الثاني: العلم بفنون العمل المفوّض اليه. الثالث: قدرته على العمل. الرابع: أن يكون أمينا لا يهمل الأمر و لا يخون فيه. و قد يعبّر عن ذلك بالعدالة. فمن اراد استيجار شخص لإحداث بناء مثلا فلا محالة يراعي فيه بحكم الفطرة تحقق هذه الشروط و الصفات.
و ادارة شئون الأمة من أهمّ الأمور و أعضلها و أدقها، فلا محالة اذا فرض كون انتخاب الوالي بيد الشعب و كان الشعب حرّا مختارا في الانتخاب وجب عليه بحكم العقل و الفطرة أن يراعي في الوالي المنتخب أن يكون عاقلا، عالما بفنون السياسة و التدبير، قادرا على التنفيذ، أمينا غير خائن. فاعتبار هذه الصفات في الوالي أمر يحكم به العقلاء بفطرتهم و لا حاجة فيه الى التعبّد، و المتخلّف عن ذلك يستحق الذم و اللوم عندهم.
و ذا فرض أن الذين فوّضوا أمر الحكومة الى شخص خاصّ كانوا يعتقدون بمبدإ خاصّ و ايدئولوجية معيّنة متضمنة لقوانين و مقررات مخصوصة في نظام الحياة، و أرادوا
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 11
حسب اعتقادهم ادارة شئونهم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية على أساس هذا المبدأ الخاص و هذه المقررات المعيّنة، فلا محالة بحسب الطبع ينتخبون لذلك من يكون معتقدا بهذا المبدأ و مطلعا على مقرراته. الا ترى ان المعتقدين بالمبدإ المادي و الاقتصاد الماركسي يراعون في الحاكم المنتخب لبلادهم مضافا الى ما مرّ من الشروط العامة اعتقاده بالمنهج المادي الماركسي و اطلاعه على موازينه المرتبطة بالسياسة و الاقتصاد؟
فهذا أيضا أمر طبيعي فطري.
قد
ظهر لك أولا ضرورة الحكومة في حياة البشر و أنها لا تختصّ بعصر دون عصر أو ظرف دون ظرف. و أشرنا ثانيا الى أنحاء الحكومات الدارجة اجمالا. و ثالثا الى جامعية الشريعة الاسلامية و ان الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه كما يأتي تفصيل ذلك. و رابعا الى ان العقلاء بفطرتهم يعتبرون في الحاكم كونه عاقلا امينا عالما برموز السياسة و التدبير قادرا على التنفيذ و الاجراء، و انه اذا كانت الأمّة تعتقد بمبدإ خاص و ايدئولوجية خاصة حاوية لمسائل الحياة في جميع مراحلها فلا محالة تراعي في الحاكم- مضافا الى الشروط العامّة- كونه معتقدا بهذا المبدأ و عالما بمقرراته العادلة المرتبطة بشؤون الحياة لكي يقدر على تنفيذها.
و على هذا فالأمّة الاسلامية حسب اعتقادها بالاسلام و قوانينه العادلة الجامعة تتمنّى أن يكون الحاكم عليها و المهيمن على شئونها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز السياسة قادرا على التنفيذ معتقدا بالاسلام و عالما بضوابطه و مقرراته بل اعلم فيها من غيره، و لا نريد بولاية الفقيه الّا هذا.
و هذا العنوان كان ينطبق عندنا في عصر ظهور الأئمة «ع» على أئمتنا «ع» عترة النبي «ص» و أبواب علمه، و في عصر الغيبة ينطبق على من تفقه في الكتاب و السنة و عرف أحكامهما.
و بهذا البيان يظهر لك أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط التي أشرنا اليها أمر يتمنّاه و يطمح اليه كل من اعتقد بالاسلام و جامعيّته حسب عقله و فطرته، و يراها ضمانا
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 12
لتنفيذ قوانين الإسلام الجامعة للعدالة و صلاح المجتمع. و هذا كلام قابل للعرض على كل عاقل منصف من أيّ ملّة كان. و الأقليّات
غير المسلمة أيضا تحفظ حقوقها في ظل هذه الحكومة حسب رعاية الإسلام اياها.
و ليس معنى ولاية الفقيه تصدّيه لجميع الأمور بنفسه، بل هو يفوّض كل أمر الى أهله من الأشخاص أو المؤسّسات مع رعاية القوّة و التخصّص و الأمانة فيهم، و يكون هو مشرفا عليهم هاديا لهم، مراقبا لهم بعيونه و أياديه و مسئولا عن أعمالهم لو تساهلوا أو قصّروا، و يشاور في كل شعبة من الحوادث و الامور الواقعة المهمة، الخواصّ المضطلعين فيها، حيث ان الأمر لا يرتبط بشخص خاصّ حتى يكون الاشتباه فيه قابلا للإغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الإسلام و المسلمين جميعا، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «1» و اذا كان عقل الكل و خاتم الرسل خوطب بقوله- تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» «2» فتكليف غيره واضح و ان تفوّق و نبغ.
و ليس عدم اطلاع الفقهاء على المسائل السياسية و عدم ورودهم فيها الى الآن عذرا لهم و لا مبرّرا لقعودهم و انزوائهم عن التصدّي للحكومة و شئونها، بل يجب عليهم الورود و الخوض فيها و تعلّمها، ثم ترشيح أنفسهم لما يتمكنون القيام به من شئونها المختلفة، و يجب على الناس انتخابهم و تقويتهم. اذا الولاية و إدارة أمور المسلمين من أهم الفرائض، فانها الوسيلة الوحيدة لإجراء العدالة و تنفيذ سائر الفرائض الاسلامية، فالانزواء عنها و إحالة شئون المسلمين و إدارة أمورهم و بلادهم الى الطواغيت و عملاء الكفر و الفساد ظلم كبير على الإسلام و المسلمين.
ففي رواية سليم بن قيس الآتية عن أمير المؤمنين «ع» انه قال: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالّا كان أو
مهتديا مظلوما
______________________________
(1)- سورة الشورى (42)، الآية 38.
(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 13
كان أو ظالما حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدموا يدا و لا رجلا، و لا يبدءوا بشي ء قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة، يجمع أمرهم و يحكم بينهم و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه و يحفظ أطرافهم.» «1»
و في صحيحة زرارة الآتية عن أبي جعفر «ع» قال: «بني الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة و الزكاة و الحجّ و الصوم و الولاية. قال زرارة: فقلت: و أيّ شي ء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن و الوالي هو الدليل عليهن.» «2»
فأوجب الفرائض تعيين الوالي الذي هو مفتاح سائر الفرائض و بيده اجراؤها و تنفيذها.
كيف؟! و قد ذكر الفقهاء أمورا سمّوها أمورا حسبية و قالوا إن الشارع الحكيم لا يرضى باهمالها و تركها، كحفظ أموال الغيّب و القصّر و نحو ذلك، فيجب على الفقهاء من باب الحسبة التصدّي لها. فنقول: هل الشارع الحكيم لا يرضى باهمال الأموال الجزئية التي تكون للصغار و المجانين مثلا، و يرضى باهمال أمور المسلمين و إحالتها الى الكفار و الصهاينة و عملاء الشرق و الغرب؟! هذا.
و الذي أوجب تنفّر المسلمين و لا سيّما علمائهم و فقهائهم الملتزمين بالدين من اسم الحكومة فضلا عن التدخّل فيها و التصدّي لها، و صار سببا لانزوائهم و انعزالهم عن ميدان السياسة و الحكم هو:
1- ما رأوه و شاهدوه من غلبة الطواغيت و الجبابرة طوال القرون المتمادية على البلاد الاسلامية و قهرهم لأهل الحقّ و
إكثارهم من الظلم و الفساد و الترف و الإسراف و إعمالهم للتزويرات و المكايد الشيطانية و القلب للحقائق و الفضائل باسم الحكومة و السياسة، فصار وجه الحكومة مشوّها بذلك عندهم.
______________________________
(1)- كتاب سليم بن قيس/ 182.
(2)- الكافي 2/ 18، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 14
2- و ما صنعه و ارتكبه علماء السوء و طلّاب الدنيا من التقرب الى بلاط سلاطين الجور، و التبرير لظلمهم و جناياتهم، فكتموا الحقائق و قلّبوها لذلك.
3- و ما روّجته و اصرّت عليه أيادي الاستعمار و عملاؤه من انفكاك الدين عن السياسة، و حصر الدين الاسلامي مع سعته و شموله لجميع شئون الحياة- كما سيظهر لك- في بعض العبادات الصورية و المراسيم و الآداب الشخصية.
فصار كل ذلك سببا لحبس الفقهاء منّا و علماء الدين الأبرار أنفسهم في زوايا المدارس و البيوت، و توهّموا أن الاحتياط في الدين يقتضي الانزواء، و هم قد غفلوا عن هذه الفريضة المهمّة التي هي أساس تنفيذ سائر الفرائض، بحيث صار البحث فيها و في فروعها أيضا متروكا في فقه الشيعة الامامية و خلت منه كتبهم و موسوعاتهم الفقهية الا نادرا أو تطفّلا.
فترى المحقّق النراقي- طاب ثراه- مثلا خصّ عائدة من كتابه المسمّى بالعوائد بالبحث في ولاية الفقيه. و هو مع اختصاره لطيف و زين.
و الشيخ الاعظم الانصاري- طاب ثراه- أيضا تعرض لها اجمالا في كتاب البيع تطفلا لمسألة بيع مال اليتيم.
و ألّف فيها المحقق النائيني- قدّس سرّه- رسالة مختصرة سمّاها تنبيه الأمّة. و هي بالنسبة الى عصره كانت رسالة و زينة فريدة.
و تعرّض للمسألة أيضا بنحو الاجمال السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى
البروجردي- قدّس سرّه- أثناء بحثه في صلاة الجمعة المقرّر المكتوب بقلمي القاصر المطبوع في سنة 1378 من الهجرية القمرية. و اسم الكتاب: «البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر».
و لكن كلّ هذه الأبحاث كانت أبحاثا اجمالية الى أن بحث فيها السيد الأستاذ الإمام آية اللّه العظمى الخميني- مدّ ظلّه العالي- بالتفصيل بنحو بديع في منفاه في العراق فانتشرت أبحاثه باسم الحكومة الاسلامية بالعربية و الفارسية، و صارت سببا لالتفات المسلمين في ايران الاسلامية الى أهمية المسألة و وسيلة لرشدهم و وعيهم السياسي فقاموا و ثاروا على طاغوت ايران بقيادته الحكيمة القاطعة حتى نجحوا و ظفروا بحمد اللّه تعالى و منّته مع قلّة الوسائل و كثرة المشاكل. هذا.
و ان كنت ترى بعض النواقص و الاشكالات في ادارة الشؤون فعلا فانما هي من لوازم
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 15
الثورة و التحوّل، و مسبّبة عن بقاء بعض الجذور الفاسدة من نظام الطاغوت في المؤسسات و الدوائر، و عن عدم التوفيق من قبل لتهية المقدمات اللازمة للدولة الإسلامية الجديدة.
و ليست ادارة مثل ايران في هذا العصر المتلاطم مع هجمة الأجانب و عملائهم الداخلية و الخارجية، و طول الحرب المفروضة علينا من قبلهم أمرا مرنا سهلا. كما ان تهية المقدمات و العناصر اللازمة أيضا تحتاج الى فراغ و مرور زمان، و الى التعاضد و التعاون. فعلى العلماء و الفضلاء الملتزمين و الأساتذة و الشبّان المثقفين في المجالات المختلفة ان يقوموا للّه و يصرفوا جميع طاقاتهم في تعلم سياسة البلاد و العباد و الاطلاع على مسائل الزمان و حاجاتها و احكام القضاء و فنون الاقتصاد و احكامها و سائر المسائل اللازمة حتى ترتفع بهممهم
و نشاطاتهم النواقص و المشاكل.
فاللّه- تعالى- لا يقبل اعتذارنا بعدم العلم و الاطلاع بعد ما يحكم العقل و الشرع بأهمية الموضوع، و يحكم العقل بوجوب المقدمة للواجب و أن أهمّيتها بأهميّة ذيها. و ليكن الغرض معالجة مشاكل العصر بنظام الإسلام لا تطبيق نظام الإسلام على مشاكل العصر، و بينهما فرق واضح.
اللهم فوفقنا للاهتمام بمرضاتك و عدم الابتلاء بالتواكل و التخاذل، آمين رب العالمين.
لمّا انجرّ بحثنا في سهم العاملين من مباحث الزكاة الى مسألة ولاية الفقيه العادل البصير بالأمور في عصرنا الحاضر، اعني عصر غيبة الامام المنتظر- عجل اللّه تعالى فرجه الشريف- اقترح عليّ بعض الحضّار البحث في هذه المسألة المهمة التي صارت مطرحا للأنظار في المحافل المختلفة بعد نجاح الثورة في ايران. و كان يمنعني من اجابة مسئولهم سعة دائرة الموضوع و كثرة المشاغل اليومية، و لكن رأيت أن الميسور لا يترك بالمعسور، و ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فتعرضت للبحث فيها بقدر الوسع. و كان من المناسب جدّا أن أتعرّض في المسائل المطروحة المعنونة، لكلمات العلماء و المصنفين من الشرق و الغرب في هذا المجال، أعني مسألة الحكومة و الدولة، و لكن الوقت لم يساعدني على الرجوع اليها و التعرض لها فقصرت نظري على اصل عنوان المسائل و طرحها و ذكر
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 16
الآيات و الروايات المناسبة لها و ذكر بعض الكلمات من علمائنا محيلا إكمالها و تفصيلها الى ذوي الوسع و الفراغ من أهل الفضل و الكمال.
و كنت على الرسم و العادة أقيّد ما ألقيه في المحاضرات بالكتابة حتى صار بصورة هذا الكتاب الذي بين يديك مع تفاوت ما عن الدروس
في الترتيب و في بعض المطالب و لكن الأساس واحد.
و يشتمل الكتاب على مقدمة و ثمانية أبواب و خاتمة:
1- أشرنا في المقدمة اجمالا الى ضرورة الحكومة و أنحائها الدارجة، و الحكومة الاسلامية و ولاية الفقيه و أبواب الكتاب و فصوله.
2- و بينّا في الباب الأول ما يقتضيه الأصل العملي الفقهي في مسألة الولاية مع قطع النظر عن الأدلّة، و هو باب مختصر جدّا.
3- و في الباب الثاني ثبوت الولاية للنبي الأكرم «ص» و للأئمة المعصومين «ع» عندنا بنحو الإجمال، و ختمناه بتنبيهات نافعة. و لا يخفى ان محل بحثها الكتب الكلامية و بحثنا في الكتاب بحث فقهي و لكن لمّا لم يصحّ خلوّ الكتاب الباحث في الحكومة الإسلامية و ولاية الفقيه عن التعرض لولايتهم- عليهم السلام- التي هي أساس الحكومة الإسلامية تعرضنا لها بنحو الاختصار.
4- و عقدنا الباب الثالث للبحث تفصيلا حول مسألة الحكومة و وجوب اقامة الدولة الاسلامية العادلة في جميع الأعصار، و اشتمل هذا الباب على فصول أربعة:
تعرضنا في الفصل الاول منها لكلمات بعض العلماء المدعين للإجماع في المسألة، و في الفصل الثاني للأبواب المختلفة من الفقه الاسلامي من الأخبار و الفتاوى المشتملة على لفظ الامام أو الوالي أو السلطان أو الحاكم أو بيت المال أو السجن أو السيف أو نحو ذلك مما يدلّ على القدرة و الحكومة و كون تشريع الأحكام في الأبواب المختلفة من فقه الإسلام على أساس وجود الدولة العادلة و الحكومة الاسلامية و أنها داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و يشتمل هذا الفصل على أربعة عشر فصلا. هذا. و ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الباب عشرة أدلّة لإثبات وجوب إقامة الدولة العادلة في جميع
دراسات في ولاية
الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 17
الأعصار و وجوب الاهتمام بها على كل مسلم، بحيث يرجى ان يقتنع بها كل منصف. ثم تعرضنا في الفصل الرابع للأحاديث الموهمة وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة و عدم جواز التحرك لإقامة الدولة، و أوضحنا المقصود منها.
5- و عقدنا الباب الرابع لبيان ما يشترط في الحاكم الإسلامي من الشرائط و المواصفات بحكم العقل و الكتاب و السنّة، و ذكر ما اختلف في اشتراطه فيه. و يشتمل هذا الباب على اثني عشر فصلا.
6- و تعرضنا في الباب الخامس لما تنعقد به الإمامة و الولاية و كيفية ثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة و أنها هل تكون بالنصب العامّ من قبل الأئمة «ع» أو بالانتخاب من قبل الأمّة لمن وجد الشرائط. و يشتمل هذا الباب على ستة فصول. و الفصل السادس منها فصل طويل يشتمل على ستّ عشرة مسألة مهمة جدّا ينبغي ملاحظتها.
و الأخيرة منها مسألة الكفاح المسلّح ضد الإمام الفاقد للصلاح، و انه هل يجوز أم لا.
7- و تعرضنا في الباب السادس لحدود ولاية الفقيه و اختياراته و وظائف الإمام، و السلطات الثلاث، و واجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام و الأمة و واجبات الأمة تجاهه. و يشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا. و أطول الفصول و أهمها الفصل الرابع المتعرض للسلطات الثلاث.
8- و ذكرنا في الباب السابع بعض الآيات و الروايات الواردة في سيرة الإمام و أخلاقه في معاشرته و في مطعمه و ملبسه و نحو ذلك. و فيه فصول ثلاثة. و هو باب لطيف ينبغي للأئمة و الحكام ملاحظتها.
9- و ذكرنا في الباب الثامن المنابع المالية للدولة الإسلامية. و قد تعرضنا لها بنحو الإجمال
في فصول.
10- و ذكرنا في الخاتمة كتاب امير المؤمنين «ع» الى مالك حين ولّاه مصر،
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 18
لاشتماله على مطالب مهمّة في الحكومة و ليكون ختام كتابنا مسكا.
اعلم أن الطريق الذي سلكناه في البحث في مسألة ولاية الفقيه يتفاوت مع ما سلكه الأعاظم المتعرضون لها؛ فانهم يفرضون أولا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط، ثم يتفحصون عما يمكن ان يستدل به لهذا المطلوب المفروض؛ فيذكرون مقبولة عمر بن حنظلة مثلا و غيرها من الأخبار و يتعبون أنفسهم في اثبات دلالتها و ردّ المناقشات الواردة عليها. و لو فرض قوة المناقشات و عدم القدرة على ردّها، فلا محالة يتزلزل عندهم بنيان ولاية الفقيه.
و أما نحن فنثبت أولا ضرورة اصل الحكومة و الدولة للمجتمع في جميع الأعصار و أن الحكومة و الإمامة داخلة في نسج الإسلام و نظامه، و ذلك بالتتبع في متون الكتاب و السنة القويمة و فقه الفريقين. و ثانيا نذكر الشروط و المواصفات المعتبرة في الحاكم الإسلامي بحكم العقل و الكتاب و السنة، ثم نلاحظ ان هذه الشروط و المواصفات لا تنطبق الّا على الفقيه العادل الواجد للشرائط- كما سيأتي- فتثبت ولايته اجمالا و أنه المتعين لها قهرا، ثم نبحث في كيفية انعقاد الولاية و طرقه و أنها هل تنحصر في النصب من العالي فقط أو يثبت بالانتخاب أيضا و لكن في صورة عدم النصب؛ فان ثبت الدليل على نصب الفقيه فهو، و الّا وجب على الأمّة انتخابه، و لا يجوز انتخاب غيره و لا تنعقد له الامامة لفقد الشرائط المعتبرة.
فالطريق الذي سلكناه في المسألة يشبه طريق الفيلسوف في المسائل العقلية الدينية، كإثبات الصانع و صفاته.
و طريق الاصحاب فيها يشبه طريق المتكلم في هذه المسائل، كما لا يخفى على أهله.
و قد أشرنا سابقا الى أن البحث في جميع مسائل الحكومة و شئونها بالتفصيل، و التعرض لكلمات الأعلام و المحققين من علماء الإسلام و علماء الشرق و الغرب في هذا المجال مما يحتاج الى فراغ كثير لا يتيسّر لي فعلا.
فالذي اهتممت به في هذا الكتاب هو التعرض لأصل ضرورة الحكومة في جميع
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 19
الأعصار، ثم التعرض لشرائط الحاكم و طرق تعيينه و انتخابه و بيان وظائف الامام و سيرته و السلطات الثلاث و نحو ذلك، و ذكر الآيات و الروايات التي عثرت عليها في هذه المجالات. نعم، ربما أتعرض لبعض كلمات علماء الإسلام بالمناسبة.
و كان بنائي في كل موضوع على جمع الآيات و الروايات الواردة فيه من طرق الفريقين. و لم أكن أتعرض لصحة الروايات و سقمها من جهة السند الّا في بعض الموارد اللازمة. اذ كان الغرض المهم جمع الأحاديث مهما أمكن، ليسهل تناولها للطالبين. و ربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه.
و ليست مسألة الحكومة الاسلامية أمرا يختصّ بالشيعة الامامية، بل هي ضرورة لجميع المسلمين، فيجب البحث فيها في إطار فقه الإسلام بسعته الشاملة لجميع المذاهب.
و قد استقرت سيرة كثير من فقهائنا الإمامية في كتبهم الفقهية كالسيد المرتضى في الناصريات و الانتصار، و الشيخ الطوسي في الخلاف، و المحقق في المعتبر، و العلامة في التذكرة و المنتهى على التعرض لفتاوى فقهاء السنة و رواياتهم في المسائل الفقهية و الأصولية، و على ذلك استقرت سيرة أستاذنا المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- أعلى اللّه مقامه- أيضا.
و ربما كانت الأخبار الواردة
عن أئمتنا- عليهم السلام- في المسائل المختلفة ناظرة الى الروايات و الفتاوى المشهورة في أعصارهم من فقهاء السنة، و فيها قرائن على ما هو المغزى و المقصود من رواياتنا.
و في كثير من المسائل المطروحة في بحثنا قد تكثرت الأخبار الى حدّ يحصل العلم العادي اجمالا بصدور بعضها، و نعبّر عن ذلك بالتواتر الإجمالي. و يكفي هذا لا ثبات أصل الموضوع المبحوث فيه، و ان لم يصحّ الاستناد الى كل واحد واحد منها فيما يخصه من المضمون.
و يظهر من شيخ الطائفة جواز العمل بالأخبار الواردة من طرق السنة عن امير المؤمنين «ع» و الأئمة من ولده «ع» اذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها او اجماع ينافيها. و الظاهر وجود هذا الملاك فيما رووه عن النبي «ص» أيضا.
قال في العدّة:
«فأمّا اذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب و روى مع ذلك عن الأئمة «ع»
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 20
نظر فيما يرويه، فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره، و ان لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره و يكون هناك ما يوافقه وجب العمل به.
و ان لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك و لا يخالفه و لا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق «ع» انه قال: «اذا أنزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا الى ما رووه عن عليّ «ع» فاعملوا به.»
و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلّوب و نوح بن درّاج و السكوني و غيرهم من العامّة عن أئمتنا- عليهم السلام-
فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه.» «1» هذا.
و نذكر في كل مسألة أولا الآيات الشريفة الدالة عليها، ثم الأخبار المروية عن النبي «ص» من طرق الشيعة كانت أو من طرق السنة، ثم ما روي عن أبي الأئمة أمير المؤمنين «ع» ثم ما روي عن الأئمة من ولده «ع». و ربما يتفق التخلف عن هذا الترتيب لنكتة خاصة تظهر لمن تأمّل. و لا أتعرض لتفسير الآيات و شرح الأحاديث إلّا في بعض الموارد اللازمة حذرا من طول الكتاب. و لو كان لسان بعض الروايات شرح بعض الآيات المذكورة كان المناسب لا محالة تقديمه على غيره من الروايات فراعيت هذه النكتة أيضا. و مع ذلك كلّه فلا أدّعي عدم النقص في الترتيب أو في بيان المطالب أو عدم الخطأ و الاشتباه في الاستنباط من الأدلّة، فان الانسان محلّ الخطأ و النسيان.
و اعلم أن البحوث الفقهية عند المسلمين من الشيعة و السنة قد طرأ عليها في العصور الأخيرة نقصان فاحشان: نقص في كميتها، حيث قلّت الحوزات و المعاهد الإسلامية الدينية و الفقهاء الحذّاق في البلاد بسعي من الاستعمار و عملائه. و نقص في نوعيّتها، حيث تركّزت البحوث على مسائل العبادات و الشؤون الشخصية و انحسرت عن الشؤون
______________________________
(1)- العدّة 1/ 379.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 21
العامّة للأمة الاسلامية تبعا لانحسار حكم الإسلام عن هذه الشؤون.
فنرجو من شبّان المسلمين الملتزمين ممن له قريحة و استعداد ان يقلّوا العرجة على الدنيا و زخارفها و يخلصوا وجوههم للّه، فيقبلوا الى المعاهد الدينية و الحوزات العلمية بنيّات صادقة طاهرة و همم عالية، و لا يقتصر الطّلاب و الفضلاء على تعلّم المسائل الفردية، بل
يبحثوا فقه القضايا العامة أيضا من قبيل إقامة الدولة و حدودها و شرائطها، و فقه الجهاد و الدفاع، و علاقات المسلمين مع المسلمين و مع الكفار و الأقليّات غير المسلمة، و فقه الأنفال و الأراضي و الثروات، و الحدود و التعزيرات و القضاء و الشهادات.
فكم يتفق مسألة عامّة مهمّة لا نجد من يتقنها و يحلّ مشكلتها مع وجود المباني الأساسية لها في الكتاب و السنة و كتب العلماء و الفقهاء الماضين. و هذا نقص و عيب بيّن واضح.
و في الكافي بسند لا بأس به عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اذا أراد اللّه بعبد خيرا فقّهه في الدين.» «1»
و بسند صحيح عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لوددت ان أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتّى يتفقهوا.» «2»
و عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين «ع» قال: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه و لو بسفك المهج و خوض اللجج.» «3»
و لا يخفى ان أفضل العلم بعد معرفة اللّه علم الفقه الذي به يعرف أحكام اللّه- تعالى- في جميع الشؤون. اللّهم فوفقنا للتفقه في دينك و العمل بما يرضيك.
و في ختام المقدمة ألفت نظر القارئ الكريم الى نكتة مهمّة، و هي ان البحث
______________________________
(1)- الكافي 1/ 32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم و فضله و فضل العلماء، الحديث 3.
(2)- الكافي 1/ 31، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم و وجوب طلبه و الحثّ عليه، الحديث 8.
(3)- الكافي 1/ 35، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم و المتعلّم، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 22
الفقهي و العلمي الأصيل يخدم قضية وحدة المسلمين و لا
يضرّ بها، كما قد يتوهم. فان الواجب على المسلمين الأحرار أن يعرف بعضهم معارف الآخرين و فقههم، لا أن يكتم فقهاء هذا المذهب أو ذاك ما يرونه صحيحا و حقّا، فلا يتوقع من باحث شيعي مثلا أن يكتم في البحث العلمي ما يراه حقّا.
و ليس معنى الوحدة الاسلام ية كتمان الحقائق و العلوم، بل يعنى بها تجلّي المشاركات الأصلية الموجودة بينهم و المبادلات العلمية و تشديد العلاقات السياسية و الاقتصادية و حفظ الآداب و الحرم، و جهادهم معا ضدّ الكفر العالمي المسيطر على بلادنا و شئوننا. فديننا واحد و نبيّنا واحد و كتابنا واحد و قبلتنا و مشاعرنا واحدة، و نشارك في الكتاب و السنة. فيجب المراقبة لأن لا يستفيد العدوّ من إلقاء الخلافات و إيجاد الضغائن. فهذا هو عمدة وسيلتهم للسلطة علينا، كما حكي عن أحد رؤساء دولة بريطانيا أنه قال: «فرّق تسد».
و قد استقرت سيرة السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- في بحوثه الفقهية على المقارنة بين فقه المذاهب اجمالا، و نحن أيضا نقفو اثره فنتعرض في بحثنا لفتاوى علماء السنة و رواياتهم. و نرجو من إخواننا السنة أيضا ان يلتفتوا الى فقه الشيعة الذي هو فقه العترة الطاهرة، و لا يلتفتوا الى القاءات الأعداء و ضوضاء الجهال و أهل الشغب.
و بالجملة أوصي أهل البحث و النظر من الفريقين بسعة النظر و حفظ الأدب في الكلام و القلم، و أن لا يقعوا في حبائل الشياطين من الجن و الإنس و النفس الأمّارة بالسوء.
و أقول هنا مذكّرا انه قد حصل لنا بالتجربة انه كلّما وقع البحث في هذا السنخ من المسائل الأساسية الموجبة لوعي المسلمين و رشدهم السياسي، و انتشر فيها
مصنّف، سعى عملاء الاستعمار و الأيادي الجاهلة الساذجة أو الأجيرة الخبيثة في إشاعة الدعايات المسمومة في البلاد الاسلامية و المحافل الدينية و العلمية، و في افساد الجوّ
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 23
و البيئة على المصنف و المصنف.
و لكنّي أوصي الإخوان من الفضلاء الكرام و الأعزّة الأعلام أن لا يصدّهم هذا النوع من الضوضاء عن العمل بالوظائف العلمية و التحقيقات الإسلامية، و ان لا يبادروا الى الاعتراض و المناقشة في مطلب أو جملة من هذا الكتاب إلّا بعد الإحاطة بجميع أبوابه و فصوله، فان المباحث و المطالب فيه متشابكة و مرتبطة غاية الارتباط، و ربما أبدينا نظرا في مقام و أقمنا الدليل عليه في باب آخر، و ربما نذكر أمرا ايرادا و احتمالا لا جزما و اعتقادا، و لا ينضج المطالب و لا يبرهن عليها إلّا في خلال الايرادات و الردود، هذا.
و مع ذلك كلّه فالإنسان محل الخطأ و النسيان، و كفى بالمرء نبلا ان تعدّ معايبه.
و أرجو من الفضلاء الكرام أن يصرفوا طاقاتهم في تنقيح هذه المسائل، فانها مما تعم به البلوى. و من اللّه- تعالى- استمدّ و عليه التّكلان.
و أنا العبد المحتاج إلى رحمة ربّه الهادى، حسينعلى المنتظرى النجف آبادى غفر اللّه له و لوالديه و جعل مستقبل أمره خيرا من ماضيه بجاه محمد و آله الطاهرين. 15 جمادى الأولى 1408 ه. ق.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 25
مع قطع النظر عمّا ورد في الكتاب و السنة
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 27
«مقتضى الأصل و حكم العقل في المسألة»
و عدم نفوذ حكمه فيه، فان أفراد الناس بحسب الطبع خلقوا أحرارا مستقلين. و هم بحسب الخلقة و الفطرة مسلّطون على انفسهم و على ما اكتسبوه من أموالهم بإعمال الفكر و صرف القوى. فالتصرف في شئونهم و أموالهم و التحميل عليهم ظلم و تعدّ عليهم. و كون أفراد الناس بحسب الاستعداد و الفعلية مختلفين في العقل و العلم و الفضائل و الأموال و الطاقات و نحوها لا يوجب ذلك ولاية بعضهم على بعض و تسلطه عليه و لزوم تسليم هذا البعض له.
و في كتاب أمير المؤمنين «ع» لابنه الحسن- عليه السلام: «لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرّا.» «1»
و قال- عليه السلام- أيضا: «أيها الناس، ان آدم لم يلد عبدا و لا أمة، و ان الناس كلهم أحرار و لكن اللّه خوّل بعضكم بعضا.» «2»
اللهم الّا ان يناقش بان الولاية على الناس تدبير لأمورهم و جبر لنقصهم و هذا
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 929؛ عبده 3/ 57؛ لح/ 401، الكتاب 31.
(2)- الكافي 8/ 69 (الروضة) الحديث 26.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 28
غير الاستعباد، فتأمّل.
هذا ما ذكروه في مقام تأسيس الأصل في مسألة الولاية، و لكن هنا أمور أخر أيضا في قبال ذلك الأصل يحكم بها العقل نشير اليها إجمالا و التفصيل في كل منها يحال الى محله. و لعله يوجد لهذه الأمور نحو حكومة على هذا الأصل:
انه لا شك في ان اللّه- تعالى- خالق لنا و لكل شي ء مادة و صورة، جوهرا و عرضا، و بيده التكوين و التنمية و التربية و الهداية، و له ان يتصرف في جميع شئون خلقه، و هو عليم بما يصلح
خلقه و عباده في دينهم و دنياهم و حالهم و مستقبلهم، حكيم في الخلق و التشريع لا يحكم الّا بما يكون صلاحا لنا و لنظام الوجود. و الانسان في قباله مهما بلغ من العلم و المعرفة عاجز قاصر عن ان يحيط بطبائع الأشياء و لطائف وجوده و مصالح نفسه في النشأتين.
فللّه الخلق و الأمر، و له أن يأمر بما يراه صلاحا و ينهى عمّا يراه ضررا و فسادا، و على الانسان ان يخضع للّه و للشريعة الإلهية بقوانينها العادلة الحكيمة في شتى مراحل حياته، يحكم بذلك العقل و يذمّه على المخالفة، و لا يشارك اللّه في ذلك أحد من خلقه.
قال اللّه- تعالى- في كتابه العزيز: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ.» «1»
و قال: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّٰهِ مَوْلٰاهُمُ الْحَقِّ، أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحٰاسِبِينَ.» «2»
______________________________
(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57.
(2)- سورة الأنعام (6)، الآية 62.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 29
و قال: «مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لٰا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.» «1»
و قال: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ، فَاللّٰهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّٰهِ، ذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.» «2»
و قال: «فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.» «3»
و قال: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «4»
الى غير ذلك من الآيات الشريفة.
و أحكامه- تعالى- انما تصل إلينا بالوحي الى
رسله و انبيائه، فيجب علينا اطاعتهم بما انهم وسائط أمره و مبلّغوا رسالاته، و لكن إطاعتهم من هذه الجهة ليست امرا وراء إطاعة اللّه- تعالى-. و الأوامر الصادرة عنهم في هذا المجال ليست مولوية بل أوامر ارشادية نظير أوامر الفقيه الصادرة عنه في مقام بيان احكام اللّه- تعالى- فكأنها إخبار بصورة الانشاء.
ان العقل يحكم بحسن ارشاد الغير و الإحسان اليه، و يحكم أيضا بوجوب الإطاعة لمن يرشد الانسان و يريه صلاحه، بعد ما حصل للإنسان العلم بصدقه و صلاحه. و العقلاء يذمّون الانسان لتركه المصالح المهمة التي أراها غيره و أرشده اليها و ان كان من قبل انسان مثله.
______________________________
(1)- سورة الكهف (18)، الآية 26.
(2)- سورة الشورى (42)، الآية 9 و 10.
(3)- سورة المؤمن (40)، الآية 12.
(4)- سورة المائدة (5)، الآية 44 و 45 و 47.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 30
ان العقل يرى تعظيم المنعم و شكره حسنا و ترك ذلك قبيحا. و لو فرض ان ترك اطاعته صار سببا لعقوقه و اذاه فالعقلاء يذمون الانسان على تركها. اللهم الا ان يزاحمها واجب أهم. و لعل هذا أيضا أحد الملاكات لإلزام العقل بوجوب اطاعة اللّه- تعالى- فيما أمر به أو نهى عنه. بل لعلّ وجوب اطاعة الوالدين أيضا من هذا القبيل، فانهما من أولياء النعم. فالعقلاء مع قطع النظر عن حكم الشرع أيضا يرون حسن اطاعتهما بل لزومها لذلك، فيكون حكم الشرع أيضا بهذا الملاك. و اذا كان هذا حكم الوالد الجسماني فالآباء الروحانيون و أولياء النعم المعنوية التي بها انسانية الانسان هم كذلك بطريق أولى. فيحسن عقلا بل يجب اطاعة الانبياء و أئمة العدل بهذا الملاك.
ما مرّ في المقدمة اجمالا و يأتي بالتفصيل من ان الانسان مدني بالطبع و لا يتيسّر له إدامة حياته الّا في ظلّ التعاون و الاجتماع. و لازم الاجتماع غالبا التضادّ في الأهواء و التضارب و الصراع. فلا محالة يحتاج الى نظم و قوانين تحدّد الحريات و تراعي مصالح الجميع، و الى حاكم ينفذ هذه القوانين و يدبّر الأمور و يرفع المظالم.
و واضح ان الحكومة لا تتم و لا تستقر الّا بإطاعة المجتمع للحاكم، فتجب الاطاعة بحكم العقل، و لا سيما اذا باشروا تعيينه و عاهدوه على ذلك، اذ الفطرة حاكمة بلزوم الوفاء بالعهد. هذا.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 31
و يتحصل مما ذكرناه في هذا الباب انه ان اعتبرنا ان الأصل في المسألة عدم ولاية أحد على أحد فيمكن ان يقال في قبال ذلك ان حكم العقل بوجوب إطاعة اللّه، و اطاعة المرشد
الصادق، و تعظيم المنعم المحسن، و اطاعة الحاكم العادل الحافظ لمصالح المجتمع كلها اصول حاكمة على ذلك الاصل. فتثبت الولاية بالاخرة بحكم العقل.
و لأحد ذاق بعض حلاوة المعرفة ان يعتبر الاصل في المسألة بطريق آخر و لعله أوفق بالواقع و الحقيقة، و هو ان الموجودات ما سوى اللّه و منها الانسان بشراشر وجوداتها و هوياتها و ظواهرها و أعماقها و جواهرها و أعراضها أظلال لوجود الحق متدلّيات بذاته و هو مالك لها و ولي عليها تكوينا و ذاتا، فلا نفسية لها في قباله و لا يصحّ اعتبارها كذلك فانه على خلاف الواقع. و مقتضى الولاية الذاتية و الملكية التكوينية وجوب التسليم له و لأوامره و حرمة مخالفته بحكم العقل. و يتفرع على ذلك وجوب التسليم و الانقياد في قبال جميع الولايات المجعولة من قبله بمراتبها و حدودها: من ولاية الانبياء و الأئمة «ع» و الحكّام و الوالدين و المنعم و المرشد، فان الجميع يرجع الى ولاية اللّه و اطاعته، فتدبر.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 33
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 35
«ثبوت الولاية للنبى «ص» و للأئمة المعصومين «ع»»
لا يخفى ان ولايتهم تكون من مصاديق الولاية و الحكومة التي أشرنا في المقدمة الى كونها ضرورية للمجتمع في جميع الأعصار و نتعرض لأدلّتها بالتفصيل في الباب الثالث و لشرائطها في الباب الرابع. و لعله كان المناسب لأجل ذلك تأخير البحث فيها عن البابين. و لكن لمّا كان النبي الأكرم «ص» هو المؤسّس للحكومة الاسلامية و قد فوّضها عندنا الى الأئمة المعصومين «ع» عندنا، و الفقهاء في عصر الغيبة نوّاب عنهم في ذلك اقتضى تقدّمهم في هذا الشأن و كذا شرفهم و حرمتهم تقديم البحث في ولايتهم اجمالا، و التفصيل فيه موكول الى الكتب الكلامية و كتب الاحتجاج:
فنقول: قد أشرنا الى ثبوت الولاية للّه- تعالى- تكوينا و تشريعا، و ان العقل يحكم بوجوب اطاعته و حرمة مخالفته، و لا يشاركه في ذلك احد من خلقه اللّهم الّا ان يفوض هو مرتبة من الولاية التشريعية الى غيره. فنقول: يظهر من الكتاب و السنة انه- تعالى- فوّض مرتبة من الولاية الى رسول اللّه «ص» و الى بعض الرسل السابقين و كذا الى الأئمة المعصومين «ص» عندنا. و لهذه الجهة وجبت اطاعتهم في أوامرهم المولوية السلطانية الصادرة عنهم بإعمال الولاية. و هذه الاطاعة غير وجوب
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 36
اطاعتهم «ع» في مقام بيان احكام اللّه- تعالى-، فان أوامرهم في هذا المقام أوامر ارشادية محضة لا اطاعة لها سوى اطاعة اللّه.
فلنذكر بعض الآيات الدالة على ولاية بعض الانبياء أو النبي الأكرم أو الأئمة «ع» بشرح مختصر:
قال اللّه- تعالى-: «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. قٰالَ: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «1»
و في اصول الكافي عن الصادق «ع»: «ان اللّه- تبارك و تعالى- اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيّا، و ان اللّه اتخذه نبيّا قبل ان يتخذه رسولا، و ان اللّه اتخذه رسولا قبل ان يتّخذه خليلا، و ان اللّه اتخذه خليلا قبل ان يجعله اماما. فلما جمع له الأشياء قال: «انّي جاعلك للناس إماما.» قال: فمن عظمها في عين ابراهيم قال: و من ذرّيّتي. الحديث.» «2»
فمن هذا الحديث و من تعبير اللّه- تعالى- عن الامامة بالعهد و اضافته الى نفسه و قوله: «انّي جاعلك» يظهر أهمية مقام الإمامة و انها عهد من اللّه بينه و بين من اصطفاه لذلك. و بجعله- تعالى- ابراهيم إماما صار قدوة مفترض الطاعة بحسب الوجدان و الفطرة و يرجع مخالفته الى مخالفة اللّه- تعالى-.
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.
(2)- الكافي 1/ 175، كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء و الرّسل و الأئمة «ع»، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 37
قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «1»
فالمستفاد من الآية ان داود مع انه كان نبيّا لو لم يجعله اللّه خليفة له لم يحقّ له الحكم المولوي و لم يجب التسليم لحكمه، و لكن بعد ما جعله خليفة لنفسه صار وليّا و حقّ له الحكم بين الناس. و لذا فرّعه بالفاء. نعم، نبوته تقتضي وجوب إطاعته فيما يأتي به من اللّه و لكن إطاعته في هذا المقام ليست سوى إطاعة اللّه كما مرّ.
و قال في سورة الأحزاب في حق نبيّنا «ص»: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ، وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ.» «2»
فنبوّته «ص» غير أولويته بالتصرف.
و الآيات الدالة على ولايته «ص» من قبل اللّه- تعالى- كثيرة منها هذه الآية.
بمعنى ان كلّ ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ و المحبّة و الكرامة و إنفاذ الإرادة فالنبي أولى بجميع ذلك من
______________________________
(1)- سورة ص (38)، الآية 26.
(2)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 38
نفسه و عليه ان يرجح جانب النبي على جانب نفسه في جميع المراحل. فلو توجّه شي ء من المخاطر الى نفس النبي فعلى المؤمن ان يقيه بنفسه و ان يكون احبّ اليه من نفسه و اكرم. و لو دعاه النبي الى شي ء و دعته نفسه الى خلافه فعليه أن يقدم ما يريده النبي و يترك هوى نفسه مطلقا. فهو أولى به من نفسه في الأمور الشخصية و الاجتماعية و الدنيوية و الأخروية التكوينية و الاعتبارية، كبيع ماله و طلاق زوجته و نحو ذلك.
، لأنه أعلم بمصالحهم و أحقّ بتدبيرهم، فيكون حكمه و ارادته أنفذ عليهم من ارادة انفسهم و يجب عليهم ان يطيعوه في كل ما امر به من الأمور الاجتماعية و الفردية.
و بعبارة أخرى كل ما يكون للإنسان سلطة و ولاية بالنسبة اليه، من شئون النفس و المال، فولاية النبي «ص» بالنسبة اليها أشدّ و أقوى. فكما ان الأب لعقله و رشده جعل وليا على الصغير بحسب السن أو العقل، فكذلك النبي «ص» يكون لجميع المؤمنين بمنزلة الأب المشفق لولده، العالم بما فيه صلاحهم. فله التصرف في جميع شئونهم، و يجب عليهم التسليم له و تقديم حكمه على هوى انفسهم. بل نسبة الأمّة اليه كأنّها نسبة العبيد الى الموالي. فتصرفه في نفوسهم و أموالهم نحو تصرف في مال نفسه.
و لا يخفى اختصاص ذلك على القول به بما يجوز للمؤمن ارتكابه بنفسه، و
له الولاية و السلطة بالنسبة اليه شرعا. فلا يعمّ ما لا يجوز شرعا من التصرفات، كقتل النفس و تبذير المال و اجراء العقود الفاسدة و نحو ذلك. و بالجملة المتبادر من الآية اولوية النبي «ص» في الأمور التي صحّ للمؤمنين التصدّي لها بالنسبة الى أموالهم و نفوسهم. فلا تعم المحرمات الشرعية حتى تجعل الآية مخصصة لأدلة المحرمات و العقود الفاسدة.
بمعنى
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 39
انه «ص» أحقّ و أولى بالنسبة الى الأمور العامة المطلوبة للشارع غير المأخوذة على شخص خاص من المصالح الاجتماعية التي يرجع فيها كلّ قوم الى رئيسهم و يرونها من وظائف قيّم المجتمع، كإقامة الحدود، و التصرف في أموال الغيّب و القصّر، و حفظ النظام الاجتماعي، و جمع الضرائب و صرفها في المصالح العامة، و عقد المواثيق مع الدول و الملل و نحو ذلك. ففي هذا السنخ من الأمور الاجتماعية المرتبطة بالولاة يكون هو «ص» مبسوط اليد مخلّى السرب و تكون تحت اختياره و يجب على الأمة إطاعته فيها و التسليم له، و لا يجوز لأحد التخلف عن أوامره أو مزاحمته او اتخاذ القرار بخلافه، حيث ان النظام لا يستحكم إلّا بكون الرئيس في الأعمال المرتبطة به مطاعا مخلّى السرب.
و أما الأمور الشخصية الفردية، كبيع مال الشخص و طلاق زوجته و تزويج ابنته مثلا، فليست محطا للنظر في الآية الّا اذا فرض في مورد خاص توقف مصالح المجتمع عليها فتقدم على المصالح الفردية.
و في مجمع البحرين (مادة و لا) في تفسير الآية قال: «روي عن الباقر «ع» انها نزلت في الإمرة، يعني الامارة.» «1» و هذا مؤيّد لإرادة هذا الاحتمال او الاحتمال الرابع.
فيصير معنى الآية ان ولايته أقوى و أشدّ من سائر الولايات، و ان حكمه أنفذ من حكم بعضهم على بعض. ففي الموارد التي ينفذ حكم احد في حق غيره بنحو من أنحاء الولاية فحكم النبي «ص» في هذه الموارد أنفذ من حكم سائر الأولياء.
ففي مجمع البيان:
«قد روي ان النبي «ص» لما أراد غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج قال قوم: نستأذن
آباءنا و امّهاتنا، فنزلت هذه الآية.» «2»
فوزان قوله: «من أنفسهم» في الآية وزان قوله- تعالى-: «فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىٰ
______________________________
(1)- مجمع البحرين/ 92.
(2)- مجمع البيان 4/ 338. (الجزء 8).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 40
أَنْفُسِكُمْ.» «1» أي يسلّم بعضكم على بعض. و قوله لبني اسرائيل: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.» «2»
أي يقتل بعضكم بعضا.
و يشهد لهذا الاحتمال ان كلمة: «أولى» تفضيل من الولاية فيراد به تفضيل ولايته على سائر الولايات، و لا محالة ينحصر مورده أيضا في الأمور التي يتصدّى لها ولاية على الغير.
فهذه اربعة وجوه في الآية. و لا يخفى كون الأول أعم و أشمل من الثاني، و الثاني من الثالث. و قد قال بعض الأعاظم ان اطلاق اللفظ يقتضي اختيار الأول.
و لكن نقول انه يشكل الأخذ بالاطلاق، اذ لا يمكن الالتزام به في مثل الروابط و الحقوق الزوجية الشخصية مثلا، بل و في مثل التصرف في الأموال الشخصية و الزّواج و الطلاق و نحو ذلك، اللهم الّا اذا توقف عليها في مورد خاص مصالح المجتمع، فتدبر.
و يؤيد الوجه الثاني وقوع الآية بعد الآيتين النافيتين لكون الأدعياء أبناء، و الظاهر اشارتهما الى قصة زيد. فيراد بهذه الآية رفع توهم اختصاص زيد بالنبي و اختصاص النبي «ص» به بالبنوّة و الابوّة، بل نسبة النبي «ص» الى جميع المؤمنين نسبة واحدة و له أولوية بالنسبة اليهم جميعا، لكونه بمنزلة الأب لهم كما ان أزواجه امهاتهم.
و في مجمع البيان:
«روي عن أبيّ و ابن مسعود و ابن عباس أنهم كانوا يقرءون: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و هو أب لهم.» و كذلك هو في مصحف أبيّ، و روي ذلك عن أبي جعفر و
أبي عبد اللّه «ع».» «3»
______________________________
(1)- سورة النّور (24)، الآية 61.
(2)- سورة البقرة (2)، الآية 54.
(3)- مجمع البيان 4/ 338. (الجزء 8).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 41
أقول: ليس هذا بمعنى تسليمنا لوقوع النقص في القرآن، لمنع ذلك جدّا، فليحمل- على فرض الصحة- على كون الساقط نحو تفسير للمراد سمعوه من النبي «ص» فأثبته البعض في الكتابة.
و لا يخفى انه على هذا الاحتمال يمكن الخدشة في اطلاق الأولوية، كما انه لا اطلاق لأمومة أزواجه بالنسبة الى جميع آثارها، اللهم إلّا أن يقال بوجوب المحافظة على الاطلاق إلّا فيما ثبت خلافه، فتدبر.
في الوسائل عن أبي عبد اللّه «ع»: «كان رسول اللّه «ص» يقول: انا أولى بكل مؤمن من نفسه. و من ترك مالا فللوارث. و من ترك دينا أو ضياعا «1» فاليّ و عليّ.» «2»
و في مسند أحمد عنه «ص»: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. فمن ترك دينا أو ضياعا فاليّ. و من ترك مالا فللوارث.» «3» و هذا المضمون متواتر في كتب السنة.
و في خبر زيد بن ارقم عنه «ص» في قصة الغدير: «أيها الناس، انّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا ان اتبعتموهما، و هما كتاب اللّه و أهل بيتي عترتي. ثم قال: أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟- ثلاث مرّات- قالوا: نعم. فقال رسول اللّه «ص»: من كنت مولاه فعلي مولاه.» «4»
و قد روي هذا المضمون متواترا بطرقنا و طرق السنة أيضا، فراجع مظانّه «5».
______________________________
(1)- الضّياع بالفتح: العيال، كما في النهاية 3/ 107.
(2)- الوسائل 17/ 551، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة، الحديث 14.
(3)- مسند أحمد 2/ 464.
(4)- مستدرك الحاكم 3/ 110. ذكره الحاكم
و قال إنه صحيح على شرط الشيخين.
(5)- راجع «الغدير» للعلّامة الأميني، و بحار الأنوار 37/ 108، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 52 (باب اخبار الغدير).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 42
و في الدر المنثور للسيوطي:
«و اخرج ابن أبي شيبة و احمد و النسائي عن بريدة، قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول اللّه «ص» ذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه رسول اللّه «ص» تغيّر و قال: يا بريدة، أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت:
بلى يا رسول اللّه. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه.» «1»
و ذكره الحاكم أيضا في المستدرك «2».
و يظهر من خبر بريدة ان هذا المضمون صدر عن النبي «ص» في غير قصة الغدير أيضا، كما انّ خبر الثقلين أيضا صدر عنه «ص» غير مرّة تثبيتا للكتاب و العترة لئلا تنساهما الأمّة.
و يستفاد من اشارته «ص» الى الآية الشريفة و بيان أولوية نفسه ان المراد بالمولى و الأولى واحد و انه «ص» اراد ان يثبت لعليّ «ع» مثل ما أثبته اللّه له «ص» من الولاية و الأولوية و الّا لم يكن لذكر اولويته بالمؤمنين وجه بل كان لغوا. و سيأتي معنى الولي و المولى عن أهل اللغة، فانتظر.
و قوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» يحتمل فيه بالنظر البدوي الإخبار و الإنشاء: فعلى الاول يريد الإخبار بان اللّه- تعالى- جعل عليّا مولى المؤمنين و أولى بهم، و على الثاني يريد انه «ص» بنفسه جعل المولوية لعليّ «ع». هذا. و لكن الأوفق بمذهبنا و ظاهر آية التبليغ الواردة في هذه القصة هو الاحتمال الأول، كما لا يخفى.
______________________________
(1)- الدّرّ المنثور 5/ 182.
(2)- مستدرك الحاكم 3/ 110،
ذكره و قال: إنه صحيح على شرط الشيخين.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 43
اعلم ان اخواننا السنّة يقولون: ان رسول اللّه «ص» لم يوص و لم يستخلف، و لكن الناس اجتمعوا في السقيفة، و بعد منازعة المهاجرين و الأنصار في امر الخلافة و محاجّتهم ابتدر خمسة- و هم عمر بن الخطاب، و ابو عبيدة بن الجراح، و اسيد بن حضير، و بشير بن سعد، و سالم مولى أبي حذيفة- فبايعوا ابا بكر فانعقدت له الامامة بذلك ثم بايعه آخرون، و هم يسمّون هذه البيعة بالشورى.
و في صحيح مسلم عن ابن عمر عن أبيه قبل وفاته:
«انّي لئن لا استخلف فان رسول اللّه «ص» لم يستخلف، و ان استخلف فان ابا بكر قد استخلف.» «1»
و لكنّا نحن الشيعة الامامية نقول: ان رسول اللّه «ص» استخلف عليّا «ع» لا مرّة واحدة بل مرّات من اوائل بعثته «ص» الى حين رحلته و وفاته.
فلنذكر من ذلك نماذج و نحيل التفصيل الى الكتب الكلامية المؤلفة لذلك فنقول:
عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه «ص»: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»، دعاني رسول اللّه «ص» فقال لي: يا علي، ان اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ...، فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ لنا عسّا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم و أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له و هم يومئذ اربعون رجلا يزيدون رجلا، أو
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1455 (طبعة أخرى 6/ 5)، الباب 2 من كتاب الإمارة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 44
ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب ...، فلما أراد
رسول اللّه «ص» ان يكلّمهم بدره أبو لهب الى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم و لم يكلمهم رسول اللّه «ص».
فقال الغد: يا عليّ، ان هذا الرجل سبقني الى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل ان اكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إليّ. قال: ففعلت ثم جمعتهم ...، ثم تكلم رسول اللّه «ص» فقال: يا بني عبد المطلب، انّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به. انّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه- تعالى- ان ادعوكم اليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعا و قلت- و انّي لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا- أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: ان هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و اطيعوا.
قال: فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد امرك ان تسمع لابنك و تطيع. «1»
و رواه أيضا ابن الأثير في الكامل «2» و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة. «3»
و صححه هو و كثير من المؤرخين و المحدثين من الشيعة و السنة، فراجع مظانه.
و قد اشتهر الحديث بحديث بدء الدعوة، و رواه العلامة الأميني بأسانيد كثيرة من طرق السنة في «الغدير»، فراجع «4». و رواه في البحار عن العلل و غيره «5».
قال ابن أبي الحديد بعد نقل القصة:
«و يدلّ على انّه وزير رسول اللّه «ص» من نصّ الكتاب و السنة قول اللّه- تعالى-:
«وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هٰارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*
وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» «6»
و قال النبي «ص» في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام: «انت منّي
______________________________
(1)- تاريخ الطبري 3/ 1171.
(2)- الكامل 2/ 62.
(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 210 و 244.
(4)- الغدير 2/ 278.
(5)- بحار الأنوار 18/ 178، تاريخ نبيّنا «ص»، باب المبعث، الحديث 7.
(6)- سورة طه (20)، الآية 29- 32.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 45
بمنزلة هارون من موسى الّا انه لا نبي بعدي.» فاثبت له جميع مراتب هارون عن موسى. فإذن هو وزير رسول اللّه «ص» و شادّ أزره. و لو لا انه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره.» «1»
فانظر يا أخي المسلم، ان هذه الكلمات اعترافات من عالم سنّي متتبع أودعها في تأليفه المشهور.
«ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ان عليا منّي و أنا منه و هو وليّ كل مؤمن من بعدي.» «2» و سيأتي معنى الولي و انه الأولى بالتصرف. و قوله: «من بعدي» ينفي احتمال كون الولاية بمعنى المحبّة و المودّة، و يعيّن كونها بمعنى المتصرف في الأمور. و في حياة النبي «ص» كان النبي «ص» هو المتصرّف في أمور المسلمين و كان عليّ «ع» في طاعته و منفّذا لأوامره.
و قوله «ص» فيهما: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.» و ذكرنا انه يستفاد من قوله «ص» قبل هذه الجملة: «أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» انه يريد ان يثبت لعليّ «ع» ما اثبته اللّه له من الولاية و الأولوية، و إلّا كان ذكره لغوا «3». و يأتي مثل ذلك في خبر عمار بن ياسر أيضا في قصّة التصدق بالخاتم في الصلاة و نزول آية الولاية.
قال: قال النبي «ص» لعليّ: «أما ترضى ان تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟» «4»
أقول: و كما لم يكن أحد أقرب الى موسى من أخيه هارون «ع» فلذا خلفه في
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 211.
(2)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
(3)- راجع ص 41 و 42 من الكتاب.
(4)- صحيح البخاري 2/ 300، باب مناقب علي بن أبي طالب.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 46
قومه، فكذلك لم يكن أحد أقرب الى رسول اللّه «ص» و الى أهدافه من أخيه و وزيره امير المؤمنين «ع».
و يعلم مقام امير المؤمنين «ع» و موقفه من رسول اللّه «ص» من كلامه «ع» في الخطبة القاصعة من نهج البلاغة:
بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني الى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه.
و كان يمضغ الشي ء ثم يلقمنيه. و ما وجد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل.
و لقد قرن اللّه به «ص» من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره. و لقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل اثر امّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به.
و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري. و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه «ص» و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة و اشمّ ريح النبوّة، و لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه «ص»
فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع و ترى ما أرى الّا انّك لست بنبيّ و لكنّك وزير، و انك لعلى خير.» «1»
ثم نقول: توضيحا انّ النبي الأكرم «ص» قد ارسله اللّه- تعالى- الى الناس كافّة، و جعله رحمة للعالمين و خاتما للنبيين، و ارسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، كما نطق بذلك كلّه القرآن الكريم. و قد صرف هو «ص» عمره الشريف و جميع طاقاته و طاقات أهله و أصحابه في بثّ الإسلام
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 811؛ عبده 2/ 182؛ لح/ 300، الخطبة 192.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 47
و نشره، و صار كأنّه باخع نفسه حرصا على ذلك، و قدّم في سبيل ذلك مئات من الشهداء من خيرة المسلمين، و لم يغفل عنه ساعة واحدة من عمره الشريف. و كان يعتني و يهتمّ في دعوته و ارشاده حتى بالمسائل الجزئية الفرعية كمال الاهتمام.
و كان «ص» مع ذلك ملتفتا الى ان الإسلام لمّا يستوعب الحجاز بعد فضلا عن سائر البلاد، و ان السلطات الكافرة في ايران و الروم و غيرهما تقف أمام نشر الإسلام، و لا يتيسّر دفعها الّا بالقوة و القدرة و القيادة الجازمة، و كان عالما بأخلاق العرب و تعصباتهم القبائلية و العشائرية، و بقاء بعض الرواسب في عدد من النفوس، و ملتفتا الى وجود منافقين يعلمون لانتهاز الفرص، و ان حبّ الدنيا و المناصب رأس كلّ الخطايا، و ان الارتداد و الانقلاب على الأعقاب مما ينبغي ان يخاف منه و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ
إِلّٰا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ؟» «1» و قال الرسول «ص» على ما في البخاري و غيره: «يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» «2» فيقال: ان هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم.» «3»
فهل يجوّز العقل مع ذلك كلّه ان رسول اللّه «ص» مع عقله و درايته و فراسته، مضافا الى نبوته و رسالته، و مع اهتمامه بانتشار الإسلام أهمل بالكلية أمر الدين و الأمّة و ترك أمر القيادة من بعده و لم يعيّن تكليف المسلمين في ذلك؟!
كيف؟! و لو أراد قيّم قرية صغيرة ان يسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه و وجدانه يعيّن مرجعا يرجع اليه حين سفره و غيبته و يوصي بالرجوع اليه في الأمور، و كان هو «ص» أيضا في أسفاره و غزواته يستخلف على المدينة المنورة من يخلفه في أموره الخاصة و العامة مدّة سفره كما ضبط المؤرخون اسماءهم، فكيف ينسب اليه «ص» مع كونه عقل الكل و خاتم الرسل انه ترك الاستخلاف لما بعد وفاته عن عمد أو غفلة؟!
______________________________
(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 144.
(2)- سورة المائدة (5)، الآية 117.
(3)- صحيح البخاري 3/ 127، في تفسير سورة المائدة، و في سنن الترمذي 5/ 4، في تفسير سورة الأنبياء.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 48
و هل يمكن ان يقال ان أبا بكر حيث استخلف كان أبصر بمصالح المسلمين و أرأف بهم و أحرص عليهم من رسول
اللّه «ص» و قد قال اللّه- عزّ و جلّ- في رسوله الكريم: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.» «1» فلا يمكن ان يقال انه «ص» أهمل أمرا يتقوم به نظام أمر المسلمين و قوتهم و شوكتهم.
و قد حكي ان عالما من علماء الشيعة مرّ على جماعة من السنة، فاصرّوا على أن يبيت عندهم ليلا، فأجابهم بشرط ان لا يقع بحث مذهبي. فلمّا تعشّوا قال له أحد علماء السنة: ما رأيك في أبي بكر؟ فقال: كان هو مسلما فاضلا يصلّي و يصوم و يحجّ و يتصدّق و رافق النبي «ص». فقال العالم السنّي: نعم، أضف. فقال العالم الشيعي: و خلاصة الكلام ان أبا بكر كان أفضل و أعقل من رسول اللّه «ص» بمراتب. فاستعجب الحاضرون و قالوا: كيف تقول هذا؟ قال: ان رسول اللّه «ص» ولى المسلمين ثلاث و عشرين سنة و مع ذلك لم يعقل وجوب الاستخلاف و مصالحه، و ابو بكر وليهم أقل من ثلاث سنوات و عقل ذلك و فهمه. فهو لا محالة كان أعقل منه «ص» فالتفت الحاضرون الى عمق المسألة. هذا.
و حين ما طعن الخليفة الثاني قال له ابنه:
«سمعت الناس يقولون مقالة فآليت ان أقولها لك: زعموا انّك غير مستخلف، و انه لو كان لك راعي ابل أو راعي غنم ثم جاءك و تركها رأيت ان قد ضيّع، فرعاية الناس اشدّ. قال: فوافقه قولي.» «2»
فكيف لم يلتفت رسول اللّه «ص» الى هذه النكتة الواضحة التي التفت اليها ابن عمر و وافقه فيها ابوه؟!
و قالت عائشة لعبد اللّه بن عمر:
«يا بنيّ، أبلغ عمر سلامي و قل له: لا تدع أمّة محمّد بلا راع، استخلف عليهم، و لا تدعهم بعدك هملا، فانّي أخشى عليهم
الفتنة.» «3»
______________________________
(1)- سورة التوبة (9)، الآية 128.
(2)- صحيح مسلم 3/ 1455، كتاب الإمارة، الباب 2 (باب الاستخلاف و تركه).
(3)- الإمامة و السياسة 1/ 28.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 49
فعائشة أدركت ضرر الفتنة، و رسول اللّه «ص» لم يدركه؟!
و قال له رجال عادوه قبل موته:
«أوص يا أمير المؤمنين و استخلف.» «1»
فهم قد عرفوا مصلحة الوصية و الاستخلاف، و الرسول «ص» لم يعرف ذلك؟!
و هل لم تكن أهمية حفظ الإسلام و بسطه و تنفيذ مقرراته الى يوم القيامة و حفظ نظام المسلمين في نظر النبي الأكرم «ص» بقدر أهمية الوصايا الشخصية المتعلقة بالأموال الجزئيّة؟!
و قد ورد عنه «ص» انه قال: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية.» «2»
و قال «ص»: «ما حقّ امرئ مسلم أن يبيت ليلتين و له شي ء يوصى فيه الّا و وصيّته مكتوبة عنده.» «3»
ثم نقول: ان قوله- تعالى- في سورة المائدة النازلة على النبي «ص» في أواخر عمره الشريف: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ، وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ» «4» ينادي بكونه مرتبطا بامر مهمّ متمم للرسالة حافظ لها، بحيث لو لم يبلغه خيف على الرسالة. و يستفاد من ظاهر الآية ان الناس كانوا مخالفين لهذا الأمر و يعارضونه في تبليغه.
و قد ورد من طرق الفريقين ان هذه الآية نزلت في قصّة الغدير:
منها: ما في الدر المنثور للسيوطي:
«اخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال:
نزلت هذه الآية: «يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك» على رسول اللّه «ص»
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 189،
و صحيح البخاري 2/ 299.
(2)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.
(3)- سنن ابن ماجة 2/ 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.
(4)- سورة المائدة (5)، الآية 67.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 50
يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.» «1»
و قد ورد انه كان في حجة الوداع مع رسول اللّه «ص» تسعون ألفا، و قيل مأئة ألف و عشرون ألفا، و قيل نحو ذلك. فلما انصرف راجعا الى المدينة و وصل الى غدير خمّ من الجحفة التي يتشعب فيها طريق المدينة من غيرها نزلت عليه هذه الآية. فأمر ان يردّ من تقدم منهم و يحبس من تأخر، فقام خطيبا و قال في ضمن خطبته: «أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»- ثلاث مرات- قالوا: نعم. فقال رسول اللّه «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.»
و الخبر متواتر إجمالا، رواه كثيرون من الصحابة و ان اختلفوا في بعض ألفاظه.
و قد مرّ خبر زيد بن ارقم أيضا. و ان شئت التفصيل فراجع الكتب المفصّلة.
و قد عدّ العلامة المتتبع آية اللّه الحاج الشيخ عبد الحسين الأميني- طاب ثراه- في أول المجلد الأول من موسوعته المسماة ب «الغدير» مأئة و عشرة من أعاظم الصحابة الرواة لحديث الغدير مع ذكر الموارد و المآخذ من كتب السنة، فراجع.
نعم، ان انعقاد الإمامة بالبيعة و انتخاب الأمّة و ان كان موردا للقبول عندي، و سوف نثبته في محله بأدلة شافية ان شاء اللّه- تعالى-، و لكنه في طول النصّ قطعا.
اذ مع وجود النص من قبل الرسول الذي لا ينطق عن الهوى و يكون خبيرا بالفرد الأصلح لا يبقى مجال للشورى و الانتخاب قطعا،
و لا تكون البيعة للمنصوص عليه إلّا تأكيدا للنصّ، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.» «2»
و في نهج البلاغة: «فلمّا مضى «ص» تنازع المسلمون الأمر من بعده. فو اللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته و لا انّهم منحّوه عني من بعده.» «3»
______________________________
(1)- الدرّ المنثور 2/ 298.
(2)- سورة الحشر (59)، الآية 7.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1048؛ عبده 3/ 130؛ لح/ 451، الكتاب 62.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 51
و فيه أيضا: «فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّي مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيه «ص» حتى يوم الناس هذا.» «1»
الى غير ذلك من كلماته «ع» في خطبه و كتبه و احتجاجاته.
و يعجبني هنا نقل حوار جرى بين هشام بن الحكم من اصحاب الامام الصادق «ع» و بين عمرو بن عبيد المعتزلي البصري:
قال هشام:
«دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة، فاذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد، و عليه شملة سوداء متّزر بها من صوف و شملة مرتد بها، و الناس يسألونه. فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم، انّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم. فقلت له:
أ لك عين؟ فقال: يا بنيّ، أيّ شي ء هذا من السؤال و شي ء تراه كيف تسأل عنه؟! فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بنيّ، سل و ان كانت مسألتك حمقاء.
قلت: اجبني فيها، قال لي: سل. قلت: أ لك عين؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان و الأشخاص. قلت: فلك أنف؟ قال: نعم. قلت:
فما تصنع به؟ قال: أشمّ به الرائحة. قلت: أ لك فم؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال:
أذوق به الطعم. قلت: فلك اذن؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت: أ لك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح و الحواسّ.
قلت: أ و ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا. قلت: و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة؟ قال: يا بنيّ، ان الجوارح اذا شكّت في شي ء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته الى القلب، فيستيقن اليقين و يبطل الشك.
قال: هشام: فقلت له: فانما اقام اللّه القلب لشكّ الجوارح؟ قال: نعم. قلت:
لا بدّ من القلب و الّا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت له: يا أبا مروان، فاللّه-
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 59؛ عبده 1/ 37؛ لح/ 53، الخطبة 6.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 52
تبارك و تعالى- لم يترك جوارحك حتى جعل لهم إماما يصحّح لها الصحيح و يتيقن به ما شك فيه، و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكّهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون اليه شكّهم و حيرتهم، و يقيم لك إماما لجوارحك تردّ اليه حيرتك و شكّك؟!
قال: فسكت و لم يقل لي شيئا، ثم التفت إليّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟
فقلت: لا. قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة. قال: فانت اذا هو. ثم ضمّني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه، و ما نطق حتى قمت.» «1» هذا.
و لا أظن احدا من المسلمين يتوقع من أخيه المسلم
ان يكتم ما يعتقده بينه و بين ربّه حقّا و ان لا يبيّنه في البحث العلمي.
و انّما الذي يتوقع من كل مسلم هو حفظ الأدب و صون اللسان و القلم، و البعد عن التشاجر و النزاع، و حفظ اخوّة المسلمين و وحدتهم في مقابل الأجانب و الأعداء. فهذا ما عندنا إجمالا في مسألة الخلافة و الامامة، و التفصيل يطلب من الكتب الكلامية.
و على العالم المنصف تحرّي الحق و قبوله، لا توجيه ما وقع و تبريره. اللهم فاهدنا لما اختلف فيه من الحق.
و أوصى الإخوة المسلمين من السنة و الشيعة أن يراجعوا في مسألة الامامة و الخلافة كتاب «المراجعات» المشتمل على المراجعات الواقعة بين الإمام آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي من علماء الشيعة، و العلامة الاستاذ الشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر من علماء السنة. فالكتاب باختصاره مما يشفي العليل و يروي الغليل. فللّه درّ مؤلفه الجليل.
______________________________
(1)- الكافي 1/ 169، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 53
بقي الكلام في تفسير الولاية و مشتقاتها، فنقول:
قال الراغب في المفردات:
«الولاء و التوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما.
و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان، و من حيث النسبة، و من حيث الدين، و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد. و الولاية: النصرة. و الولاية: تولّى الأمر.
و قيل: الولاية و الولاية نحو الدلالة و الدلالة. و حقيقته: تولّى الامر.
و الوليّ و المولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل اي الموالي، و في معنى المفعول أي الموالى.» «1»
و في نهاية ابن الأثير:
«في أسماء اللّه- تعالى-: «الوليّ»
هو الناصر. و قيل: المتولي لأمور العالم و الخلائق القائم بها. و من اسمائه- عزّ و جلّ-: «الوالي»، و هو مالك الأشياء جميعها، المتصرف فيها. و كأن الولاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل. و ما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي ...
و قد تكرر ذكر المولى في الحديث. و هو اسم يقع على جماعة كثيرة: فهو الربّ، و المالك، و السيّد، و المنعم، و المعتق، و الناصر، و المحبّ، و التابع، و الجار، و ابن العمّ، و الحليف، و العقيد، و الصهر، و العبد، و المعتق، و المنعم عليه ... و كل من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه و وليّه ...، و منه الحديث: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.» يحمل على أكثر الأسماء المذكورة. قال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله- تعالى-: «ذلك بان اللّه مولى الذين آمنوا و ان الكافرين لا مولى لهم». و قول عمر
______________________________
(1)- المفردات/ 570.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 54
لعليّ: «أصبحت مولى كلّ مؤمن.» أي وليّ كلّ مؤمن. و قيل: سبب ذلك ان اسامة قال لعليّ «ع» لست مولاي، انّما مولاي رسول اللّه «ص». فقال «ص»:
«من كنت مولاه فعليّ مولاه.» و منه الحديث: «أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل.» و في رواية «وليّها» أي متولي أمرها.» «1»
و في الصحاح:
«الولي: القرب و الدنوّ. يقال: تباعدنا بعد ولي، و كل مما يليك أي مما يقاربك ...
و اوليته الشي ء فوليه، و كذلك ولي الوالي البلد، و ولي الرجل البيع ولاية فيهما ...
و المولى: المعتق و المعتق و ابن العم و الناصر و الجار، و الوليّ: الصهر. و كل من
ولي أمر واحد فهو وليّه.» «2»
و في معجم مقاييس اللغة:
«الواو و اللام و الياء: أصل صحيح يدلّ على قرب. من ذلك الولي: القرب.
يقال: تباعد بعد ولي، أي قرب. و جلس مما يليني، أي يقاربني. و الوليّ: المطر يجي ء بعد الوسميّ، سمي بذلك لأنه يلي الوسميّ. و من الباب، المولى: المعتق، و المعتق، و الصاحب و الحليف، و ابن العمّ، و الناصر، و الجار. كل هؤلاء من الولي و هو القرب. و كل من ولي أمر آخر فهو وليّه ... و الباب كلّه راجع الى القرب.» «3»
و في لسان العرب:
«و الوليّ: وليّ اليتيم الذي يلي أمره و يقوم بكفايته. و وليّ المرأة: الذي يلي عقد النكاح عليها و لا يدعها تستبدّ بعقد النكاح دونه. و في الحديث: أيّما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل، و في رواية: وليها، أي متولي أمرها ... قال الفراء:
الموالي: ورثة الرجل و بنو عمّه. قال: و الوليّ و المولى واحد في كلام العرب. قال ابو منصور: و من هذا قول سيدنا رسول اللّه «ص»: ايّما امرأة نكحت بغير اذن مولاها.
______________________________
(1)- النهاية لابن الأثير 5/ 227.
(2)- الصحاح 6/ 2528.
(3)- معجم مقاييس اللغة 6/ 141.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 55
و رواه بعضهم: بغير اذن وليّها، لأنهما بمعنى واحد.» «1»
و في اقرب الموارد:
«ولي الشي ء و عليه ولاية و ولاية: ملك امره و قام به.» «2»
الى غير ذلك من كلمات أهل اللغة في معنى الكلمة و اشتقاقاتها و موارد استعمالها، فراجع.
أقول: قد مرّ في كلماتهم: ان وليّ اليتيم هو الذي يلي أمره، و وليّ المرأة من يلي عقد النكاح عليها. و عن النبي «ص»: «أيما امرأة نكحت بغير
اذن وليّها فنكاحها باطل.» «3» و يقال للسلطان: وليّ الأمر، و لمن يلي تجهيز الميت: وليّ الميّت. و عن المبرّد في صفات الباري- تعالى-: «الوليّ هو الأولى و الأحقّ، و كذلك المولى.» فيظهر منه كون العبارات الثلاث بمعنى واحد.
و مرّ عن الفراء ان «الوليّ و المولى واحد في كلام العرب.» و عن المفردات ان «حقيقته: تولّي الأمر. و الولي و المولى يستعملان في ذلك.»
و عن ابن الأثير «انها تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل.»
فيظهر من الجميع ان التصرف مأخوذ في مفهوم الكلمة. فما في بعض الكلمات من تفسير الولاية بخصوص المحبة مما لا يمكن المساعدة عليه. و لو اريد بيان مجرد المحبّة التي هي أمر قلبي لاستعمل لفظ الحبّ أو الودّ، و في قبالهما البغض و الكراهة.
و امّا الولاية فهي تفيد التصدّي لشأن من شئون الغير. و في قبالها العداوة، و هي التجاوز و التعدّي على الغير. فالتصرف بمصلحة الغير ولاية و بضرره عداوة، و كلاهما من مقولة الفعل. و ربّما تستعمل الولاية في التصرف في شئون الغير مطلقا.
فتأمّل في قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «4» و قوله- تعالى-: «اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ،
______________________________
(1)- لسان العرب 15/ 407 و ...
(2)- أقرب الموارد 2/ 1487.
(3)- سنن الترمذي 2/ 280، الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 71.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 56
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ.» «1»
فحيث ما ذكر لفظ الولاية ذكر بعده سنخ الفعل و التصرف الناشئ منها من الأمر و النهي و العمل
المناسب لها. فيظهر بذلك كون التصرف مأخوذا في مفهومها.
و اصل الكلمة كما قالوا: هو الولي بمعنى القرب، و القريب من غيره لا يخلو من نحو تأثير و تصرّف فيه، كما أنّ المتصرف في أمور الغير لا بدّ ان يقع قريبا منه و الى جانبه حتى يتمكن من التصدّي لأموره و التوليّ لمصالحه.
فالانسان قد لا يقدر منفردا على رفع حاجاته فيحتاج الى من يقع الى جانبه، و بهذا يخرج عن الانفراد و يصبح ذا وليّ يقع في تلوه فيجبر نقصه و يسدّ خلله.
و الوليّ و المولى يطلقان على كل من الوالي و المولّى عليه، لاحتياج كل منهما الى الآخر و تصدّي كل منهما شأنا من شئون الآخر، و لوقوع كل منهما في تلو الآخر و في القرب منه. و اذا أردنا بيان ان زيدا ليس منفردا بل له من يتصدّى لبعض أموره فيصح ان يقال: عمرو في تلوه كما يصحّ ان يقال: هو في تلو عمرو. و يشبه رجوع التلو و الولي الى اصل واحد و أبدلت الواو تاء. و نظائره كثيرة في كلام العرب.
و بهذه العناية يطلق لفظ المولى على كل من المالك و المملوك. و بهذه العناية أيضا يقال: «اللّه وليّ الذى آمنوا.» و يقال أيضا: «المؤمن وليّ اللّه.» بل الظاهر ان المعاني الكثيرة التي ذكروها للمولى كلّها ترجع الى أمر واحد و كلّها مصاديق لمفهوم فارد، و هو كون الشخص واقعا الى جانب الآخر ليتصدى بعض شئونه و يسدّ بعض خلله.
و بما ذكرنا يظهر ان قول النبي «ص» في الخبر المتواتر: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» سواء كان بلفظ المولى أو الولي فمراده «ص» ان يثبت لعلي «ع» مثل ما كان لنفسه من
ولاية التصرف و الأولوية المذكورة في الآية الشريفة. و لذا صدّره بقوله:
«أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ثلاث مرات. و ظاهر الكلام ان المولى في الجملتين بمعنى واحد، و هو الأولوية المذكورة في الآية.
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 257.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 57
و لو كان بصدد بيان المحبة لم يحتج الى بيان أولوية نفسه، بل كان ذكرها لغوا.
كيف؟! و لم يكن بيان المحبة القلبية أمرا مهما يوجب ايقاف مأئة الف و عشرين الف رجلا في المفازة في وسط النهار في الهاجرة الشديدة لبيانها و إعلامها.
و يشهد لذلك أيضا قوله «ص» في خبر عمران بن حصين: «ما تريدون من عليّ؟
ان عليا منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن من بعدي.» «1» اذ قوله: «من بعدي» ينفي احتمال كون الكلمة بمعنى المحبة القلبية و يعيّن كونها بمعنى الأولوية و الإمامة، كما هو واضح. هذا. و تفصيل البحث موكول الى الكتب الكلامية المعدّة لهذه الأبحاث، فراجع.
______________________________
(1)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 58
و امّا مسألة التمسك بأهل البيت «ع» و حجية أقوالهم في اصول الدين و فروعه فهي أمر آخر غير مسألة الإمامة و الخلافة. فان مسألة الخلافة مسألة كلامية، و مسألة حجية أقوال العترة و أفعالهم مسألة أصولية، و ان كانت المسألتان عندنا متلازمتين. و الأدلّة الشرعية على الأخذ بمذهب العترة الطاهرة و على رأسهم أمير المؤمنين و باب علم النبي «ص» علي بن أبي طالب «ع» كثيرة. و قد جعلهم رسول اللّه «ص» عدلا للكتاب العزيز
في الحديث المتواتر بين الفريقين الذي تعرّض له ارباب الصحاح و السنن و المسانيد، و رووه عن كثير من الصحابة عن النبي «ص».
ففي صحيح مسلم في حديث الغدير عن زيد بن أرقم، عن النبي «ص»: «أيها الناس، فانما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به- فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه- ثم قال: و أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، اذكركم اللّه في أهل بيتي، اذكركم اللّه في أهل بيتي.» «1»
و روى الترمذي بسنده عن زيد بن ارقم، قال: قال رسول اللّه «ص»: «انّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض، و عترتي أهل بيتي. و لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني
______________________________
(1)- صحيح مسلم 4/ 1873 (طبعة اخرى 7/ 122)، كتاب فضائل الصحابة، الحديث 2408.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 59
فيهما.» «1»
و واضح ان التمسك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، و التمسك بالعترة هو الأخذ بأقوالهم و سنّتهم. فأقوالهم و سنّتهم حجة شرعية إلهية. و قد عرفت ان الحديث متواتر بين الفريقين، و انما ذكرنا ما ذكرناه نموذجا. و قد صدع به رسول اللّه «ص» في مواقف شتّى: تارة في يوم عرفة في حجّة الوداع، و أخرى في غدير خمّ، و ثالثة على منبره في المدينة، و رابعة في حجرته المباركة في مرضه. كل ذلك لتثبيت الكتاب و العترة الطاهرة أساسين للشريعة المطهرة، فراجع مظان نقله.
و يحدس العاقل اللبيب ان امامة
العترة الطاهرة و وجوب التمسك بهم هو الذي رام رسول اللّه «ص» تثبيته بالكتابة، فحالوا بينه و بين ما رامه.
ففي صحيح البخاري بسنده عن ابن عباس، قال:
«لما حضر رسول اللّه «ص» و في البيت رجال فقال النبي «ص»: هلمّوا أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. فقال بعضهم ان رسول اللّه «ص» قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه. فاختلف أهل البيت و اختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. و منهم من يقول غير ذلك. فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف قال رسول اللّه «ص»: «قوموا.» قال عبيد اللّه: فكان يقول ابن عباس:
ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه «ص» و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم.» «2»
فتأمل في تعبيره بقوله: «لا تضلوا بعده» و مشابهته لما في رواية الترمذي.
هذا.
و قد خصّ العلامة البحّاثة الفريد آية اللّه السيد حامد حسين الهندي- قدّس سرّه- مجلدين ضخمين من موسوعته المسماة ب «عبقات الأنوار» بنقل حديث الثقلين و طرقه من كتب السنة، فراجع.
______________________________
(1)- سنن الترمذي 5/ 328، باب مناقب أهل بيت النبي «ص» من أبواب المناقب، الحديث 3876.
(2)- صحيح البخاري 3/ 91 كتاب المغازي، باب مرض النبي «ص» و وفاته.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 60
فعلى الأمة المسلمة التمسك بالعترة الطاهرة في الأعمال و الأقوال. و لا أظن ان يجترئ أحد من العلماء تقديم أئمة المذاهب الأربعة و تفضيلهم على الأئمة من العترة الطاهرة الذين هم سفن نجاة الأمّة و باب حطّتها و أعلام هدايتها، و قد قال النبي «ص» في شأن الكتاب العزيز و فيهم: «فلا تقدموهما لتهلكوا و لا تعلموهما، فانهما
أعلم منكم.» «1»
و في نهج البلاغة: «انظروا أهل بيت نبيّكم، فالزموا سمتهم و اتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، و ان نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا.» «2»
و فيه أيضا: «هم موضع سرّه و لجأ أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد «ص» من هذه الأمّة احد و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين و عماد اليقين، اليهم يفي ء الغالي و بهم يلحق التالي، و لهم خصائص حق الولاية و فيهم الوصية و الوراثة، الآن اذ رجع الحق الى أهله و نقل الى منتقله.» «3»
و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي ذر، قال: سمعت النبي «ص» يقول: «ألا ان مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق.» «4»
و فيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب
______________________________
(1)- الدرّ المنثور 2/ 60.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 286؛ عبده 1/ 189- 190؛ لح/ 143، الخطبة 97.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 44- 45؛ عبده 1/ 24- 25؛ لح/ 47، الخطبة 2.
(4)- مستدرك الحاكم 3/ 151 كتاب معرفة الصحابة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 61
اختلفوا فصاروا حزب إبليس.» «1»
الى غير ذلك مما ورد في أهل البيت من طرق الفريقين و هي كثيرة جدا.
و إنّي أدعو إخواننا من علماء
السنة أن ينظروا الى عقيدتنا في مسألة الإمامة و الخلافة، و في الأخذ بمذهب العترة الطاهرة من أهل بيت النبي «ص» بنظرة علمية و بعين الانصاف، بعيدا عن التأثر بالأجواء السياسية التي نشاهد في أعصارنا كيف تؤثر في الناس و تجعل الحقائق خلف الأستار.
ان التشيع لعليّ و للأئمة من أهل البيت «ع» ليس أحدوثة و لا بدعة بعد هذه الأحاديث النبوية المتواترة عند الفريقين، بل و بعد ورود التسمية بالشيعة في كلام النبي «ص».
ففي الدر المنثور في تفسير سورة البيّنة:
«أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي «ص» فاقبل عليّ فقال النبي «ص»: و الذي نفسي بيده ان هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة.
و نزلت: «ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ...» و أخرج ابن عديّ عن ابن عباس، قال: لما نزلت «ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية» قال رسول اللّه «ص» لعليّ: «هو انت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.» و أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال لي رسول اللّه «ص»: «أ لم تسمع قول اللّه: ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية؟ انت و شيعتك.
و موعدي و موعدكم الحوض، اذا جئت الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين.» «2»
و قد طال الكلام في المقام فأعتذر من القراء الكرام.
______________________________
(1)- مستدرك الحاكم 3/ 149 كتاب معرفة الصحابة.
(2)- الدرّ المنثور 6/ 379.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 62
قوله- تعالى- في سورة الأحزاب: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «1»
و قد نزلت في
قصّة زيد بن حارثة عند ما خطب له النبي «ص» بنت عمّته زينب بنت جحش فاستنكرت هي ذلك و كذلك أخوها عبد اللّه، فلما نزلت الآية قالت: رضيت يا رسول اللّه. و جعلت أمرها الى رسول اللّه «ص» و كذلك اخوها.
و ليست القضية قضية شخصية فقط، بل الظاهر انها كانت اجتماعية و لا سيما بعد ما طلقها زيد و تزوّجها رسول اللّه «ص»، فكأنّ الغرض من ذلك كلّه كان نقض عادتين خرافيتين من عادات الجاهلية: إحداهما الاشميزاز و الاستنكاف من تزويج امرأة قرشية لمولى من الموالي، و ثانيتهما اعتبار كون الأدعياء أبناء و كون أزواجهم في حكم أزواج البنين.
و لا يخفى ان الآية و ان نفت الخيرة و لكن المفروض في مورد النزول على ما ورد، هو حصول الرضا عند العقد بعد ما نزلت الآية، اللهم الّا ان يقال: ان المورد لا يخصص، فتدبر.
قوله- تعالى- في سورة المائدة: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ
______________________________
(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 63
وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ.» «1»
و قد ورد في روايات مستفيضة بل متواترة من طرق الفريقين في شأن نزول الآية أن أمير المؤمنين «ع» تصدق بخاتمه أو غيره في حال الصلاة، فنزلت.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 63
ففي الدر المنثور في ذيل الآية:
«أخرج الطبراني في الأوسط، و ابن مردويه عن عمار بن ياسر، قال: وقف بعليّ سائل و هو راكع في صلاة
تطوع فنزع خاتمه فاعطاه السائل فأتى رسول اللّه «ص» فاعلمه ذلك فنزلت على النبي «ص» هذه الآية: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ. فقرأها رسول اللّه «ص» على أصحابه ثم قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه.» «2»
و لا يخفى ان هذا مورد ثالث لقوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، و الأول في قصّة الغدير، و الثاني قصة بريدة كما مرّ. هذا.
و قد مرّ تفسير الولاية و انها تشعر بالتدبير و القوة و الفعل.
و في أصول الكافي: «عن أبي عبد اللّه في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- قال: انما يعني: أولى بكم، أي أحق بكم و بأموركم و أنفسكم و أموالكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا، يعني عليا و أولاده الأئمة «ع» الى يوم القيامة. الحديث.» «3» و فيه ان الصدقة كانت حلّة قيّمة، و لعل الواقعة تكررت.
______________________________
(1)- سورة المائدة (5)، الآية 55.
(2)- الدّرّ المنثور 2/ 293.
(3)- الكافي 1/ 288، كتاب الحجة، باب ما نص اللّه و رسوله على الأئمة «ع»، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 64
قوله- تعالى- في سورة النساء: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «1»
قيل: «أفرد الأمر بطاعة الرسول للمبالغة و لدفع توهم انه لا يجب الالتزام بما ليس في القرآن من أوامره.» و قيل: «معناه أطيعوا اللّه في الفرائض و أطيعوا الرسول في السنن.»
هذا.
و لكن الظاهر بقرينة عطف اولي الأمر على الرسول و عدم فصلهم عنه هو
كون إطاعة الرسول و اطاعة اولي الأمر هنا من سنخ واحد. فيكون الأمر باطاعة اللّه مرتبطا بأحكام اللّه المشرّعة من قبله- تعالى-. و الأمر بإطاعتها أمر إرشادي لا مولوي، و إلّا لتسلسل الأوامر و المثوبات و العقوبات، كما حقق في محله.
و أما الأمر بإطاعة الرسول و أولي الأمر فيكون أمرا مولويا من اللّه- تعالى- متعلقا باطاعتهم في الأوامر الصادرة عنهم بنحو المولوية بما انهم ولاة الأمر في الأمور الاجتماعية و السياسية و القضائية. و ليس المراد إطاعتهم في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-، لأنها ليست امرا آخر وراء اطاعة اللّه، و أوامرهم- عليهم السلام- في هذا المجال إرشادية محضة، نظير أوامر الفقيه في هذا المجال كما مرّ. و لأجل ذلك كرّرت لفظة: «اطيعوا» و فصّلت اطاعتهم عن اطاعة اللّه- تعالى-، و ان كانت ولايتهم من قبل اللّه- تعالى- و اطاعتهم أيضا نحو اطاعة له. هذا.
و المقصود بالأمر في الآية- على الظاهر- هو الحكومة و إدارة شئون الأمة.
و سمّيت به لقوامها بالأمر من طرف و الاطاعة من طرف آخر.
و في الحديث عن النبي «ص»: «ما ولّت أمّة قط أمرها رجلا و فيهم أعلم منه الّا لم يزل
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 65
أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا.» «1»
و عنه «ص» أيضا: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «2»
و في نهج البلاغة: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة. الحديث.» «3»
و فيه أيضا: «و لعليّ أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم.» «4»
و فيه أيضا: «ان أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمه بأمر اللّه فيه.» «5»
و في كتاب الإمام المجتبى «ع» الى معاوية: «ان
عليّا لما مضى لسبيله ... و لأني المسلمون الأمر بعده ... فانك تعلم انّي أحق بهذا الأمر منك.» «6»
و في خطاب السبط الشهيد «ع» لأصحاب الحرّ: «و نحن أهل بيت محمد و أولى بولاية هذا الأمر عليكم.» «7»
الى غير ذلك من موارد استعمال لفظ الأمر المراد به الإمارة و الحكومة بشعبها المختلفة.
و هذا المعنى أيضا هو المتبادر من قوله- تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.» «8» و قوله:
«وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «9»
و على هذا فيكون معنى «أولي الأمر» الرجال المتصدين لأمر الحكومة و إدارة الشؤون العامة بشعبها المختلفة و في رأسهم الإمام الأعظم.
______________________________
(1)- كتاب سليم بن قيس/ 118.
(2)- صحيح البخاري 3/ 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي إلى كسرى و قيصر.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.
(4)- نهج البلاغة، فيض/ 271؛ عبده 1/ 182؛ لح/ 136، الخطبة 92.
(5)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.
(6)- مقاتل الطالبيين/ 35- 36.
(7)- إرشاد المفيد/ 207 (طبعة اخرى/ 225).
(8)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.
(9)- سورة الشورى (42)، الآية 38.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 66
قال الشيخ الاعظم في مكاسبه في معنى أولي الأمر:
«الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب الرجوع اليه في الأمور العامة التي لم تحمل في الشرع على شخص خاص.» «1» هذا.
و في الدر المنثور:
عن أبي هريرة: «هم الأمراء منكم.» و في لفظ: «هم أمراء السرايا.» و فيه أيضا عن البخاري و مسلم و غير هما بسندهم عن ابن عباس، قال: «نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس اذ بعثه النبي «ص» في سريّة.» «2»
و لكن وردت من طرق أصحابنا الإمامية أخبار
مستفيضة تدلّ على كون المراد بأولي الأمر في الآية الشريفة خصوص الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت. منها:
ما في الكافي بسنده عن بريد العجلي، عن أبي جعفر «ع» قال: «إيانا عنى خاصة. امر جميع المؤمنين الى يوم القيامة بطاعتنا.» «3»
أقول: لا إشكال عندنا في أنّ الأئمة الاثنى عشر هم المستحقون للإمامة بعد النبي «ص» بالنصّ و الأفضلية. و هم القدر المتيقن من اولي الأمر في الآية و المصاديق البارزة لهذا العنوان، و كان على الامّة بيعتهم و اطاعتهم. و لكن من المحتمل ان يكون الحصر في الأخبار المشار اليها حصرا اضافيا بالنسبة الى حكام الجور المتصدين للحكومة في اعصار الأئمة «ع» فارادوا- عليهم السلام- بيان ان الحق لهم و ان هؤلاء المتصدين ليسوا أهلا لهذا الأمر. و الّا فولاية الأمر اذا كانت عن حقّ بأن كانت بجعل الأئمة- عليهم السلام- اياها لشخص أو عنوان، أو بتولية المسلمين احدا على أنفسهم مع كونه واجدا للشرائط المعتبرة ان قلنا بصحة ذلك
______________________________
(1)- المكاسب/ 153.
(2)- الدرّ المنثور 2/ 176.
(3)- الكافي 1/ 276 كتاب الحجة، باب أن الإمام «ع» يعرف الإمام الذي يكون من بعده ...، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 67
كما يأتي في محلّه، فان طبعها لا محالة يقتضي لزوم الاطاعة و التسليم، ليتمّ الأمر و يدفع الهرج و المرج. فهو من قبيل تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعليّة و دوران الحكم مداره. فعلّة وجوب الاطاعة له هي كونه صاحب الأمر و ان له حقّ الأمر شرعا. و لا محالة لا يشمل صورة أمره بمعصية اللّه، اذ ليس له حق الأمر بالمعصية. و بالجملة فاطاعته واجبة في حدود ولايته المشروعة. و
لا يطلق صاحب الأمر الّا على من ثبت له حق الأمر و الحكم شرعا، كما لا يطلق صاحب الدار الّا على من ملكها شرعا دون من تسلط عليها غصبا.
و الحصر لا ينحصر في الحقيقي فقط، فكم قد شاع الاضافي منه في كلماتهم.
و مضامين القرآن الكريم لا تتقيد بموارد النزول و المصاديق الخاصة. و الجري و التطبيق في بعض الروايات على بعض الموارد لا يمنع من التمسك بالاطلاق و العموم.
و كيف يمكن الالتزام بولاية شخص أو اشخاص شرعا بالنصب من قبل اللّه أو بانتخاب الأمة على فرض صحته و لو في شعبة خاصة أو ظرف خاص و مع ذلك لا تفرض طاعتهم، مع انّ الأمر لا يتمّ و الغرض لا يحصل الّا بالإطاعة و التسليم؟
و لا ينحصر ذلك في الامامة الكبرى، فعمّال الوالي أيضا تجب اطاعتهم فيما فوّض اليهم.
و في صحيح مسلم عن رسول اللّه «ص» انه قال: «من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاع أميري فقد أطاعني، و من عصى أميري فقد عصاني.» «1»
و فيه أيضا عنه «ص» انه قال في خطبته في حجة الوداع: «لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و اطيعوا.» «2»
نعم، فيه أيضا عنه «ص» انه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما احبّ و كره
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1466 (طبعة أخرى 6/ 13)، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).
(2)- صحيح مسلم 3/ 1468 (طبعة أخرى 6/ 15)، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1838.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 68
الّا ان يؤمر بمعصية، فان أمر بمعصية فلا سمع و لا
طاعة.» «1» هذا.
و لا يمكن الالتزام بلزوم كون الوالي المفترض طاعته مطلقا معصوما، و الا لا شكل الأمر في العمّال المنصوبين من قبل النبي «ص» و امير المؤمنين «ع» امثال مالك الاشتر و محمد بن ابي بكر و غيرهما، اذ لا اشكال في وجوب إطاعتهم في نطاق ولايتهم. و ان شئت قلت: ان اطاعة المنصوب من قبلهم أو المنتخب باذنهم و على أساس الموازين المبيّنة من قبلهم أيضا هي في الحقيقة اطاعة لهم فتعمه الآية، فتأمل.
و الحاصل ان المحتملات في «اولي الأمر» في الآية الشريفة ثلاثة:
الأول: ان يراد بهم الأمراء و الحكام مطلقا كيف ما كانوا، كما هو الظاهر ممّا مرّ عن أبي هريرة.
الثاني: ان يراد بهم خصوص الأئمة الاثنى عشر المعصومين- سلام اللّه عليهم- كما دلّ عليه ظاهر بعض الأخبار المروية عنهم «ع». و يقرّبه ان الأمر بطاعة أحد على الاطلاق لا يجوز الّا اذا كان معصوما، اذ يقبح على اللّه- تعالى- ان يأمر على الاطلاق بطاعة من يمكن ان يخطئ أو يأمر بالمعصية.
الثالث: ان يقال ان المراد بهم بمناسبة الحكم و الموضوع من له حقّ الأمر و الحكم شرعا. فمن ثبت له هذا الحقّ وجب قهرا اطاعته في ذلك و الّا لصار جعل الحقّ له لغوا. و حقّ الأمر شرعا لا ينحصر في المعصوم، بل يثبت لكل من كانت حكومته مشروعة بالنصب أو بالانتخاب الممضى شرعا، و لكن في حدود حكومته.
فالحكام المنصوبون من قبل النبي «ص» أو أمير المؤمنين «ع» كان لهم حقّ الأمر في
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1469 (طبعة أخرى 6/ 15)، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 69
حدود حكومتهم و
فيما يرتبط بها، و لا محالة وجب على من كان تحت حكومتهم ان يطيعوهم في هذا السنخ من الأوامر. و أما ما يكون معصية للّه- تعالى- فلا تجوز اطاعتهم فيه، كما لا يكون لهم حق الأمر به، بل ليس لهم الأمر في الأمور المباحة غير المرتبطة بشؤون الحكومة أيضا.
و عن ابن عباس في قوله: «و أولي الأمر منكم»:
يعني أهل الفقه و الدين و أهل طاعة اللّه الذين يعلمون الناس معاني دينهم و يأمرونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر. و عن جابر في قوله: «و أولي الأمر منكم» قال: «أولي الفقه و أولي الخير.» و عن مجاهد قال: «هم الفقهاء و العلماء.» «1»
و على هذا فلا تشمل الآية ولاة الجور و عمّالهم فان ولايتهم ساقطة عند اللّه و عند رسوله بل عند العقل أيضا و ليس لهم حق الأمر لما سيجي ء من اعتبار شروط ثمانية في الوالي بحكم العقل و الشرع سواء كانت الولاية بالنصب أو بالانتخاب.
فالانتخاب أيضا على القول به يتقيد بالشروط المذكورة، فلا تنعقد الامامة و الولاية لمن فقدها. و عن أمير المؤمنين «ع»: «اعرفوا اللّه باللّه و الرسول بالرسالة و أولي الأمر بالمعروف و العدل و الاحسان.» «2» كما ان رتبة الانتخاب أيضا على القول به تأتي بعد رتبة النصب، فلا مجال له معه. و التفصيل يأتي في الباب الخامس فانتظر. و نعود الى تفسير الآية بتمامها أيضا في ذلك الباب عند التعرّض لمقبولة عمر بن حنظلة و الاستدلال بها لولاية الفقيه.
قوله- تعالى- في سورة النساء أيضا: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
______________________________
(1)- الدرّ المنثور 2/ 176.
(2)- التوحيد/ 285، باب أنه- عزّ و جلّ- لا يعرف إلّا
به، الحديث 3. و الكافي 1/ 85 كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلّا به، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 70
لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «1»
و المخاطب هو الرسول «ص» فيجب التسليم له و لأوامره.
و لكن يمكن الخدشة في اطلاقها لظهورها في خصوص القضاء الذي هو شعبة من شعب الولاية.
و مورد النزول أيضا على ما في المجمع قضاؤه «ص» في خصام وقع بين الزبير و بين رجل من الأنصار، فراجع «2».
اللهم الّا ان يمنع ظهور الآية في خصوص القضاء، اذ الموصول بعمومه يشمل كل ما يشجر بين المسلمين حتى في مثل الصراعات و الحروب بين فئاتهم و أقوامهم، نظير قوله- تعالى-: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا.» «3»
فالآية نصّ في ولاية النبي «ص» في جميع خلافاتهم الداخلية العامّة و الشخصية، و لا نعني بالحكومة الّا هذا. و موردها و ان كان خصوص القضاء و لكن المورد لا يخصّص.
قوله- تعالى- في سورة النساء أيضا: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ وَ لٰا تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً.» «4»
بتقريب ان اطلاق الحكم بين الناس يشمل جميع الشؤون و يعم المسلمين و غيرهم أيضا. الّا ان يدّعى ظهور الحكم في خصوص القضاء. و سيأتي البحث في ذلك في الباب الخامس.
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 65.
(2)- مجمع البيان 2/ 69. (الجزء 3).
(3)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.
(4)- سورة النساء (4)، الآية 105.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 71
قوله- تعالى- في سورة النور: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ، وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَلىٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰى يَسْتَأْذِنُوهُ ... لٰا تَجْعَلُوا دُعٰاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللّٰهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوٰاذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «1»
فالآية الأولى دلّت على ان لرسول اللّه «ص» مضافا الى منصب الرسالة منصب القيادة و الامامة في الأمور الاجتماعية و السياسية أيضا، و ان الواجب على الأمّة رعاية هذه الجهة أيضا. و الآية الثانية دلّت على وجوب اطاعته في اوامره و حرمة مخالفته. و الظاهر منها ارادة أوامره المولوية الصادرة عنه «ص» بولايته، لا الأوامر الارشادية الصادرة عنه في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-. فانها في الحقيقة أوامر اللّه- تعالى- لا أوامره «ص».
و احتملوا في صدر هذه الآية وجوها:
منها: وجوب تفخيم النبي «ص» في المخاطبة بأن يقولوا مثلا: «يا رسول اللّه» و لا يقولوا: «يا محمد».
و منها: النهي عن التعرض لدعائه عليهم بان يسخطوه فيدعو عليهم، حيث ان دعاءه حق يستجاب بلا شك.
و منها: وجوب اجابة دعوته «ص» الى
الجهاد أو غيره من الشؤون، اذ ليس
______________________________
(1)- سورة النور (24)، الآية 62 و 63.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 72
دعوته لنا كدعوة بعضنا بعضا. فان في القعود عن أمره قعودا عن أمر اللّه- تعالى-، حيث أوجب علينا طاعته «ص».
و لعل الأنسب بالسياق هو الوجه الثالث، كما يشهد بذلك قوله: «قد يعلم اللّه الذين يتسللون منكم لواذا»، أي يفرّون و يخفون أنفسهم. فتدل الآية على ان الامور التي يتطلب فيها التعاون و الاجتماع لا يجوز تركها بدون الاستيذان من القائد، فتدبر.
فهذه تسع آيات يستفاد منها ولاية النبي أو الأئمة أو بعض الأنبياء الأخر.
و كيف كان فالولاية ثابتة للنبي «ص» و للأئمة «ع» بالكتاب و بالسنة المتواترة.
و النبي «ص» كما كان رسول اللّه و خاتم النبيين كان أيضا حاكما على المسلمين و وليّا لهم و أولى بهم من أنفسهم و وجبت عليهم اطاعته في أوامره الصادرة عنه من هذه الجهة امرا مولويا، مضافا الى الأوامر الارشادية الصادرة عنه «ص» في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-، كما مرّ بيانه.
و الأخبار في افتراض طاعة الأئمة «ع» و كون معصيتهم كمعصية اللّه- تعالى- في غاية الكثرة. و يكفيك في ذلك مقبولة عمر بن حنظلة و خبر أبي خديجة و التوقيع المشهورات، حيث علل فيها حكومة الفقيه الراوي و وجوب الرجوع اليه بانّي قد جعلته حاكما أو قاضيا أو انهم حجّتي عليكم، فتأمل.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 73
و ينبغي التنبيه هنا على امور بنحو الإجمال، فان للتفصيل محلا آخر:
قد مرّ بالتفصيل تفسير الولاية عن بعض أهل اللغة، و ان حقيقتها ترجع الى تولّي الأمر و التصرف و التدبير، و يشتق منها لفظ الوالي بمعنى الحاكم و الأمير.
و أما الإمامة، ففي المفردات:
«الامام: المؤتمّ به، انسانا كأن يقتدى بقوله او فعله، أو كتابا أو غير ذلك، محقّا كان أو مبطلا، و جمعه أئمة.» «1»
و في الصحاح:
«الامام: الذي يقتدى به، و جمعه أئمة.» «2»
و في لسان العرب:
______________________________
(1)- المفردات/ 20.
(2)- الصحاح 5/ 1865.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 74
«يقال: امام القوم معناه هو المتقدم لهم. و يكون الامام رئيسا كقولك: امام المسلمين.» «1»
و في المنجد:
«أمّ القوم و بالقوم: تقدمهم و كان لهم اماما. إاتمّ به: اقتدى به .. الامام للمذكر و المؤنث، الجمع: ائمّة و ايمّة: من يؤتمّ به.» «2»
أقول: و يشبه ان يكون اللفظ بفعله مأخوذا من لفظ الإمام بفتح الهمزة بمعنى القدام ضد الخلف، و يحتمل ان يكون مأخوذا من الأمّ- و أمّ الشي ء اصله- فكأن امام القوم اصلهم و هم تبع له. و يمكن ان يكون مأخوذا من الامّ بمعنى القصد، لكونه يقصد.
و كيف كان فيطلق على قائد القوم و زعيمهم الوالي و الامام و السلطان و الحاكم و الامير بعنايات مختلفة، فهو وال بحق تصرفه، و امام بوقوعه في الإمام، و سلطان بسلطته، و حاكم بحكمه، و أمير بأمره، فتدبّر.
الولاية- بمعنى التصرف و الاستيلاء على الشخص أو الأمر- إما تكوينية و إمّا تشريعية. و لا يخفى ثبوت كلتيهما بمرتبتهما الكاملة للّه- تعالى.
و يوجد لرسول اللّه «ص»، بل لجميع الأنبياء أو أكثرهم و كذا للأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم اجمعين- بل لبعض الأولياء الكرام أيضا مرتبة من الولاية
التكوينية، بحسب ارتقاء وجودهم و تكاملهم في العلم و القدرة النفسانية و الارادة
______________________________
(1)- لسان العرب 12/ 26.
(2)- المنجد/ 17.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 75
و المشيّة و الارتباط باللّه- تعالى- و عناية اللّه بهم. اذ جميع معجزات الأنبياء و الأئمة و كرامات الأولياء نحو تصرف منهم في التكوين، و ان كانت مشيّتهم في طول مشية اللّه و باذنه.
قال اللّه- تعالى- خطابا للخليل «ع»: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «1»
و قال حكاية عن موسى «ع»: «فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ، فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ* وَ نَزَعَ يَدَهُ، فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ.»* «2»
و عن المسيح «ع»: «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ، وَ أُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ.» «3»
و في قصة آصف و عرش بلقيس: «قٰالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ: هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي.» «4»
و في نهج البلاغة في آخر الخطبة القاصعة ان رسول اللّه «ص» أمر الشجرة ان تنقلع بعروقها و تأتي رسول اللّه «ص» و تقف بين يديه، فانقلعت بعروقها و جاءت و لها دويّ شديد و قصف كقصف أجنحة الطير. «5»
الى غير ذلك من المعجزات و خوارق العادات.
هذا مضافا الى ان النبي «ص» و الأئمة الطاهرين «ع» خلاصة العالم و ثمرته في قوس الصعود و علّته الغائية. و العلة الغائية احدى العلل.
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 260.
(2)- سورة الأعراف (7)، الآية 107
و 108.
(3)- سورة آل عمران (3)، الآية 49.
(4)- سورة نمل (27)، الآية 40.
(5)- راجع نهج البلاغة، فيض/ 815- 816؛ عبده 2/ 183- 184؛ لح/ 301- 302، الخطبة 192.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 76
فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل اشجار مثمرة غرسها غارسها و سقاها و ربّاها لتثمر له أثمارا حلوة جيّدة. فالثمرة العالية غاية وجود الشجرة و من عللها. فالنبي الأكرم و الأئمة المعصومون ثمرة العالم في قوس الصعود و غايته و ان كان غاية الغايات هو اللّه- تعالى- بذاته المقدسة، كما حقق في محله.
و قد ورد: «لولاك ما خلقت الأفلاك.» «1»
و في الزيارة الجامعة الكبيرة خطابا للأئمة- عليهم السلام-: «بكم فتح اللّه و بكم يختم، و بكم ينزل الغيث و بكم يمسك السماء ان تقع على الأرض الّا باذنه، و بكم ينفس الهم و يكشف الضر.» «2»
و امّا ما نسب إلينا من الاعتقاد بكون العالم مخلوقا للأئمة- عليهم السلام- لا للّه- تعالى- فبهتان عظيم.
و امّا ما في نهج البلاغة من قوله «ع»: «فانّا صنائع ربّنا و الناس بعد صنائع لنا» «3» فلا يراد به الخلقة، بل الهداية و التربية. و لذا ذكر الناس فقط لا جميع الخلق. و منه قولهم: «المرأة صنيعة الرجل»، أي مربّاته.
و كيف كان فأصل الولاية التكوينية بنحو الاجمال ثابتة لهم بلا اشكال و ان لم نحط بحدودها. و لكن محط البحث هنا هو الولاية التشريعية المستتبعة لوجوب الطاعة لهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم من هذه الجهة مضافا الى الأوامر الارشادية الصادرة عنهم في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-. و للبحث في الولاية التكوينية لهم و كيفية صدور المعجزات و الكرامات محل آخر.
______________________________
(1)- بحار الأنوار
15/ 28، تاريخ نبيّنا «ص»، باب بدء خلقه «ص» و ما يتعلق بذلك، الحديث 48.
(2)- الفقيه 2/ 615، كتاب الحجّ- الزيارة الجامعة- الحديث 3213، و عيون أخبار الرضا 2/ 276، الباب 68.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 894؛ عبده 3/ 36؛ لح/ 386، الكتاب 28.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 77
لا يخفى ان الولاية التشريعية بمعنى حق التصرف و الأمر حقيقة ذات مراتب:
فمرتبتها الكاملة ثابتة للّه- تعالى-.
و مرتبة منها ثابتة لبعض الأنبياء و للنبي الأكرم «ص» و الأئمة- عليهم السلام- و في عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بالحوادث و بمسائل زمانه البصير بها القويّ على حلّها على ما يأتي من إثباتها. و يعبر عن واجد هذه المرتبة بالامام و الوالي و الأمير و السلطان و نحو ذلك.
و مرتبة منها أيضا ثابتة للأب و الجد بالنسبة الى الصغير و المجنون و البنت الباكر، و لعدول المؤمنين أيضا في بعض الموارد.
و لعله يوجد مرتبة منها للوالدين مطلقا بنحو تحسن عقلا و شرعا بل تلزم اطاعتهما و عدم التخلف عن أوامرهما ما لم تزاحم أمرا أهم، لكونهما من أولياء النعم.
و مرتبة منها ثابتة لكل مؤمن و مؤمنة، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «1» اذ ظاهر الآية ان كلّ واحد من المؤمنين و المؤمنات جعل له من قبل اللّه- تعالى- مرتبة من الولاية بالنسبة الى كلّ احد، بحيث يحقّ له اجمالا أمره و نهيه، غاية الأمر ضيق نطاق ولايته. و في الحديث عن رسول اللّه «ص»: «كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيّته.» «2»
______________________________
(1)- سورة التوبة (9)، الآية 71.
(2)- صحيح البخاري
1/ 160، كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى و المدن.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 78
أعني واجدية الشخص للصفات و الملكات الذاتية أو الاكتسابية التي بها يصير عند العقلاء صالحا لأن يجعل واليا و بدونها يكون الجعل عندهم جزافا. و هكذا منصب النبوة و الرسالة. فالحكيم المطلق لا يرسل الى الخلق لغرض الارشاد و الهداية، و كذلك لا يجعل إماما لإدارة شئون الناس و التصرف فيما يتعلق بهم الّا من له لياقة ذاتية و أهلية لهذا المنصب. كما ان العقلاء يقضي عقلهم بان لا يؤمّروا على أنفسهم الّا من ثبتت له فضائل نفسانية معينة.
و هذه المرتبة من الولاية كمال ذاتي في الشخص و حقيقة خارجية، و لكنها في الحقيقة ليست هي الولاية و الامامة الاصطلاحية، بل تكون مقدمة لها و من شرائطها.
من قبل من له ذلك و ان فرض عدم ترتب الأثر المترقب منها عليه. مثل الولاية التي جعلها النبي الاكرم «ص» من قبل اللّه- تعالى- لأمير المؤمنين في غدير خمّ، و ان لم ترتّب الأمّة عليها الأثر و تخلّفوا عنها. و نظير ذلك ثبوت منصب الولاية شرعا للأب بالنسبة الى مال الصغير، و ان منعه المانعون من إعمالها.
و تسليم السلطة و القوة له فعلا. مثل ما حصل لأمير المؤمنين «ع» بعد عثمان بالبيعة له.
و لا يخفى ان المرتبة الأولى- كما عرفت- كمال ذاتي للوالي، سواء جعل واليا أم لا، و سواء تحققت له سلطة و استيلاء فعليّ أم لا.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 79
و أمّا المرتبة الثانية فهي أمر اعتباري، بل المناصب كلّها أمور اعتبارية ليس بازائها شي ء في الخارج، سواء جعلت من قبل اللّه- تعالى- أو من قبل الأمّة. غاية الأمر ان اعتبار منصب خاص لشخص خاص لا محالة يكون مشروطا بكونه لائقا له واجدا للفضائل النفسانية او الخارجية و الّا كان جزافا. و الشروط أمور و صفات خارجية تكوينية. فالنبي الأكرم «ص» مثلا كان واجدا لفضائل ذاتية و كسبية و بلغ من القرب الى اللّه- تعالى- مقاما لم يصل اليه ملك مقرب و لا نبي مرسل، و لكن هذه الفضائل غير مأموريته بتبليغ احكام اللّه- تعالى- أو كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. هذا.
و امّا المرتبة الثالثة فهي خارجية الولاية و عينيتها بلحاظ تحقق آثارها في الخارج، حيث يتسلط الوالي بقواه و تنقاد له الأمّة و ينبعثون عن أوامره و نواهيه طوعا أو كرها. و هذه المرتبة لها وجهتان: وجهة كونها مقاما و سلطة يتنافس فيها المتنافسون، و وجهة كونها أمانة من اللّه و من الناس و لا تستعقب إلّا مسئولية و كلفة. و انّما ينظر اليها أولياء اللّه بالوجهة الثانية، كما في كتاب امير المؤمنين «ع» الى الأشعث عامله على آذربيجان: «ان عملك ليس لك بطعمة، و لكنه في عنقك أمانة.» «1»
و قول أمير المؤمنين «ع» مشيرا الى نعله: «و اللّه لهي أحبّ
إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقّا أو ادفع باطلا» «2»، لا يراد به الّا هذه المرتبة من الولاية. اذ لا يريد «ع» كون النعل احبّ اليه من علومه و فضائله و كراماته التي بها فاق الأقران و صار لائقا للخلافة و الولاية، و لا يريد به المنصب المجعول له في غدير خمّ أيضا. و إنّما يريد به السلطة و الإمارة الفعلية التي لا توجب الّا كلفة و مسئولية، و ان كان الناس مولعين بها بما هي رئاسة و مقام. فالنعل التي بها ترفع حاجاته و لا توجب مسئولية أفضل عنده و أحبّ من المقام المستعقب للمسئولية و الكلفة إلّا أن يقيم به حقا أو يدفع به باطلا و يحصّل به لنفسه قربا و أجرا.
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 839؛ عبده 3/ 7؛ لح/ 366، الكتاب 5.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 111؛ عبده 1/ 76؛ لح/ 76، الخطبة 33.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 80
و كذلك قوله في الخطبة الشقشقية: «لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» «1»، و قوله: «و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة، و لكنكم دعوتموني اليها و حملتموني عليها» «2»، لا يراد بهما الّا هذه المرتبة.
و كذلك قوله «ع»: «سلبوني سلطان ابن أمّي.» «3» فان هذه المرتبة من الولاية هي القابلة للسلب. و المراد بابن امّه نفسه كما قيل، أو رسول اللّه «ص» لأن أبويهما عبد اللّه و أبا طالب من أمّ واحدة، و هي فاطمة بنت عمرو.
و هكذا قول الامام السجّاد «ع»: «اللهم ان هذا المقام لخلفائك و أصفيائك
و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها» «4» يراد به هذه المرتبة من الولاية، و الّا ففضائل الأئمة «ع» و علومهم و كمالاتهم النفسانية، التي ثبتت لهم تكوينا و بسببها استحقوا الامامة، مما لا تصل اليها أيدي الغاصبين و لا يتطرق اليها الابتزاز.
و هذا واضح لا سترة عليه.
لا يخفى ان إمامة الأئمة الاثنى عشر لما كانت ثابتة عندنا بالنصّ و بوجدانهم شرائط الإمامة الحقّة، صار هذا سببا لانصراف لفظ الإمام عندنا اليهم- عليهم السلام-، حتّى كأنّ لفظ الإمام وضع لهم. و لكن يجب ان يعلم ان اللفظ كما مرّ في التنبيه الأول قد وضع للقائد الذي يؤتمّ به، إما في الصلاة أو في الجهاد أو في اعمال الحجّ أو في جميع الشؤون السياسية و الاجتماعية، سواء كان بحق أو بباطل.
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 32؛ لح/ 50، الخطبة 3.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 656؛ عبده 2/ 210؛ لح/ 322، الخطبة 205.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 947؛ عبده 3/ 68؛ لح/ 409، الكتاب 36.
(4)- الصحيفة السجادية، الدعاء 48.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 81
ففي الكافي عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان الأئمة في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- إمامان:
قال اللّه- تبارك و تعالى-: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا» «1» لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم و حكم اللّه قبل حكمهم. قال: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّٰارِ» «2» يقدّمون أمرهم قبل أمر اللّه و حكمهم قبل حكم اللّه و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللّه- عزّ و جلّ.» «3»
و في سورة التوبة: «فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.» «4» و الأئمة جمع الإمام.
و لا ينحصر
إطلاق لفظ الإمام على القائد الأعظم و السلطان فقط، بل يطلق على القائد و لو في قسمة خاصة أيضا. فالامام الصادق «ع» أطلق على أمير الحاج المنصوب من قبل سلطان وقته لفظ الإمام، حين سقط هو- عليه السلام- عن بغلته حين الإفاضة من عرفات، فوقف عليه أمير الحاج إسماعيل بن علي، فقال له ابو عبد اللّه «ع»: «سر، فان الإمام لا يقف.» «5»
و في رسالة الحقوق لعليّ بن الحسين- عليهما السلام-: «فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك. و كل سائس إمام.» «6»
و بالجملة فأنس الذهن بإمامة الأئمة الاثنى عشر- سلام اللّه عليهم اجمعين- و علوّ مقام إمامتهم و كونهم أحقّ بها من غيرهم لا ينبغي أن يوجب غفلتك و اغترارك في مفهوم الكلمة. و قد شاع استعمال الكلمة في مفهومها العام في الكتاب و السنّة و كلمات الأصحاب، يقف عليها المتتبع. فلتكن هذه النكتة في ذهنك، فانها تفيدك في المباحث الآتية.
______________________________
(1)- سورة الأنبياء (21)، الآية 73.
(2)- سورة القصص (28)، الآية 41.
(3)- الكافي 1/ 216، كتاب الحجة، باب أن الأئمة في كتاب اللّه إمامان، الحديث 2.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 12.
(5)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر من كتاب الحج.
(6)- الخصال/ 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1، و تحف العقول/ 255.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 83
و لو في عصر الغيبة، بل كونها من ضروريات الإسلام و مما أوجب اللّه- تعالى- تأسيسها و الحفاظ عليها مع الإمكان.
و يشتمل هذا الباب على فصول أربعة:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 85
في رسالته التي ألّفها في صلاة الجمعة:
«اتفق أصحابنا على ان الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى- عليهم السلام- في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، و ربما استثنى الأصحاب القتل و الحدود.» «1»
«الحق عندنا أن وجوب نصب الإمام عام في كل وقت.» «2»
و لكن الظاهر انه- طاب ثراه- يريد الإمام المعصوم.
«كلّيّة ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه أمران:
أحدهما: كلّ ما كان للنبي «ص» و الإمام، الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام، فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضا ذلك إلّا ما أخرجه الدليل من اجماع أو نصّ أو غيرهما.
______________________________
(1)- الجواهر 21/ 396.
(2)- الألفين/ 18.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 86
و ثانيهما: ان كلّ فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، و اناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعا من جهة ورود أمر به أو اجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورد الإذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفة لمعيّن واحد أو جماعة و لا لغير معيّن أي واحد لا بعينه، بل علم لابدّية الإتيان به أو الإذن فيه و لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه و له التصرف فيه و الإتيان به.
اما الأول فالدليل عليه بعد ظاهر الاجماع، حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرّح به الأخبار المتقدمة ...
و امّا الثاني فيدلّ عليه بعد الإجماع أيضا أمران.» «1»
و الظاهر ان مراده بالقسم الثاني هي الأمور المهمة المعبر عنها في كلماتهم بالأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بإهمالها في أيّ ظرف من الظروف.
(على ما كتبت من تقريرات بحثه الشريف):
«اتّفق الخاصة و العامة على انه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس و زعيم يدبّر أمور
المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام و ان اختلفوا في شرائطه و خصوصياته و ان تعيينه من قبل رسول اللّه «ص» أو بالانتخاب العمومي.» «2»
«الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين و سياسة الدنيا. و عقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع و إن شذّ عنهم الأصمّ.» «3»
«اتفق جميع أهل السنة و جميع المرجئة و جميع الشيعة و جميع الخوارج على وجوب
______________________________
(1)- العوائد/ 187- 188.
(2)- البدر الزاهر/ 52.
(3)- الأحكام السلطانية/ 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 87
الامامة، و ان الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام اللّه و يسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول اللّه «ص»، حاشا النجدات من الخوارج، فانهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، و انّما عليهم ان يتعاطوا الحق بينهم. و هذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد. و هم المنسوبون الى نجدة بن عمير الحنفى القائم باليمامة. قال أبو محمد: و قول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه و إبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. و القرآن و السنّة قد ورد بايجاب الإمام، من ذلك قول اللّه- تعالى-: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «1»، مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة و إيجاب الإمامة.» «2»
«ثم إن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و التابعين، لان أصحاب رسول اللّه «ص» عند وفاته بادروا الى بيعة أبي بكر و تسليم النظر اليه. و كذا في كل عصر من بعد ذلك. و لم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، و استقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الامام.» «3»
«قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلّا ما يحكى عن أبي بكر الأصمّ من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم ... فأما طريق وجوب الإمامة ما هي؟ فان مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبها. و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين: إن العقل يدل على وجوب الرئاسة، و هو قول الإمامية.» «4»
«اتفق الأئمة على أن الإمامة فرض و أنه لا بدّ للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.
(2)- الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4/ 87.
(3)- مقدمة ابن خلدون/ 134 (طبعة اخرى/ 191)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 308.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 88
و ينصف المظلومين من الظالمين، و على انه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان و لا مفترقان.» «1»
الى غير ذلك من كلماتهم في المقام الظاهر منها كون المسألة اجماعية، فراجع مظانها.
______________________________
(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 416.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 89
التي يظهر منها إجمالا سعة دائرة الإسلام و جامعيته لجميع شئون الإنسان و أن الحكومة داخلة في نسجه و نظامه، و لا يجوز تعطيلها في عصر و لا مكان
أقول:
- في العوائد، حيث يفرضون اولا ولاية الفقيه ثم يتعقبون و يتفحصون عمّا يمكن ان يستدل به لذلك، و تراهم يعنونون الأخبار المستفيضة الواردة في شأن العلماء و الفقهاء و يستدلون بها لذلك.
و وجوب الاهتمام بشأنها و كونها من برامج الإسلام أم لا؟ و على فرض إثبات اللزوم نبحث عن شرائط الحاكم في نظر شارع الإسلام، و بعد استقصائها ننظر على أيّ عنوان تنطبق هذه الشرائط ثم نبحث عن كيفية تعيينه و عن وظائفه.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 90
و الظاهر ان الطريق الثاني أمتن و أوثق. فالطريقان نظير المشي الكلامي و الفلسفي في المسائل العقلية. فالمتكلم يفرض اولا حدوث العالم مثلا ثم يتصدى للاستدلال عليه من هنا و هناك. امّا الفيلسوف فيتوجه اولا الى حقيقة الوجود و نظام العالم فيجعله موضوعا لبحثه ثم يتصدّى لتحقيق خواصّه و عوارضه، من الوجوب و الإمكان و القدم و الحدوث و نحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للوجود، و لا محالة ينتهي بحثه بالأخرة الى إحراز وجود الخالق و وجوبه و حدوث الخلق و امكانه.
اذا عرفت هذا فنقول: قبل الورود في اصل المسألة و ذكر الأدلة الدالة على لزوم الحكومة و كونها من برامج الإسلام و وجوب إقامتها و الاهتمام بها ينبغي أن نقوم بسير إجمالي في الروايات و الفتاوى المذكور فيها لفظ الامام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم أو بيت المال، أو السجن، أو نحو ذلك في الأبواب المختلفة، من أول الفقه الى آخره، و تفتيش إجمالي عن قوانين الإسلام و مقرراته.
فهذه النظرة الإجمالية، مضافا الى أنها تعرّفنا طبيعة فقه الإسلام و ماهيته، فهي تدلّنا أيضا على كون قوانين الإسلام و
مقرراته مبنية على أساس الولاية و الحكومة الإسلامية أو واقعة في طريقها. و بتعبير آخر تدلنا على كون الدولة داخلة في نسج الإسلام و نظامه، و تعرّفنا أيضا على واجبات الدولة و صلاحياتها.
و سبر الروايات و الفتاوى و إن أوجب التطويل، بل الملال لبعض القرّاء الكرام، و لكنه يشتمل على فوائد كثيرة أيضا. و ليس الغرض الاستقصاء، بل ذكر نماذج من الأبواب المختلفة.
و اعلم أن تصور الإسلام و النظرة اليه على نحوين:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 91
و لم يكلفهم الّا أمورا عبادية و آدابا شخصية يقوم بها كلّ فرد في بيته و معبده، و لا مساس له بالسياسة و المسائل الاقتصادية و الاجتماعية إلّا تبعا، و أن الورود في تلك المسائل و الالتفات اليها يوجب سقوط مكانة الانسان المتدين، لأن لها أهلا و رجالا غير رجال الدين، فالدين منفكّ عن السياسة بالكلية.
فهذا نحو تصور و فهم للإسلام، ابتلي به أكثر المسلمين في أعصارنا، كما ابتلي رجال الكنيسة أيضا.
و قد ابرزت هذا التصور و روّجته الدعايات المشؤومة من قبل الأجانب و عمّالهم و ألقته في أذهان عامة المسلمين غير الواعين، بل و في أذهان كثير من علماء الدين أيضا.
من حين انعقاد نطفته الى وضعه في اللحد، و ما بعد ذلك من نشآته، و بيّن له ما يوجب سعادته في جميع مراحله مما ينبغي رعايته من قبل الوالدين قبل انعقاد نطفته و حينه و حين الحمل و الرضاع و الطفولة، ثم ما يلزمه من تحصيل المعارف الحقة و الأخلاق الفاضلة، و واجباته في قبال خالقه و عائلته و بيئته، و علاقاته الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و روابط الحاكم و الرعية و الحقوق المدنية و الجزائية، و علاقته مع سائر الامم و نحو ذلك. فالاسلام دين واسع قد شرعت مقرراته على أساس الدولة و الحكومة الحقة. فهو دين و دولة، و عقيدة و نظام، و عبادة و أخلاق و تشريع، و اقتصاد و سياسة و حكم، و الواجب على المسلمين الالتفات الى جميع هذه المراحل و الاهتمام بها.
و هذا هو الفهم الصحيح للإسلام، فلنشر الى أبواب الفقه بالإجمال، فانها خير شاهد يدلك على هذا. و نذكر ذلك في فصول:
دراسات في ولاية الفقيه
و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 92
فالصلاة التي هي عمود الدين و قربان كلّ تقي، و تشريعها لارتباط المخلوق بخالقه قد نرى مع ذلك تأكيد الإسلام فيها على الجماعة، حتى ان رسول اللّه «ص» في أول تشريعها أقامها جماعة مع أمير المؤمنين «ع» و خديجة المكرّمة، كما نقله أرباب السير.
و قد أكّد فيها على الجماعة حتى في صفّ القتال و في الظروف الاضطرارية:
1- قال اللّه- تعالى- في سورة النساء: «وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلٰاةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْرىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وٰاحِدَةً. وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً.» «1»
فانظر الى اهتمام الإسلام بالجماعة التي يتعقبها قهرا التفاهم و التعاون و التشكل، و شاهد كيف امتزجت العبادة بالسياسة!
2- و عن نفلية الشهيد عن النبي «ص»: «لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين الّا من علّة.» «2»
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 102.
(2)- مستدرك الوسائل 1/ 489، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 93
3- و عنه أيضا: «الصلاة جماعة و لو على رأس زجّ.» «1»
أقول: الزج بالضم: الحديدة التي في أسفل الرمح، و قد يطلق على الرمح كلّه.
4- و عن الصادق «ع» قال: «هم رسول اللّه «ص» بإحراق قوم في منازلهم كانوا يصلّون في منازلهم و لا يصلّون الجماعة.» «2»
5- و في رواية
العلل عن الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع»: «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص و التوحيد و الإسلام و العبادة للّه إلّا ظاهرا مكشوفا مشهودا، لأن في إظهاره حجة على أهل الشرق و الغرب للّه وحده، و ليكون المنافق و المستخفّ مؤديا لما أقرّ به يظهر الإسلام و المراقبة، و ليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البر و التقوى و الزجر عن كثير من معاصي اللّه- عزّ و جلّ.» «3»
فالمصالح الاجتماعية ملحوظة في الصلاة بطبعها الغالب و ليست الصلاة عبادة محض شخصية، بل كأنّ الأصل الأوّلي فيها هي الجماعة، و الفرادى إنّما هي في صورة الاضطرار.
و أما صلاة الجمعة فقبل الهجرة لم يتيسّر لرسول اللّه «ص» إقامتها بنفسه، و لكن بعد ما آمن به جمع كثير من أهل المدينة أقاموا بأمره صلاة الجمعة بإمامة مصعب بن عمير أو اسعد بن زرارة أو بهما على التناوب. و هي الحجر الأساس الأول للتجمع و تشكيل دولة اسلامية في المدينة. و قد أقامها رسول اللّه «ص» بنفسه في أول جمعة أدركها في المدينة في محلّة بني سالم بمائة من المسلمين. و أقامها بعده من تصدّى لزعامة الأمّة و تنظيم أمورهم. فكان الخلفاء و الأمراء يقيمونها، و كان على الناس حضورها إلّا ذووا الأعذار.
______________________________
(1)- مستدرك الوسائل 1/ 488، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 13.
(2)- الوسائل 5/ 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.
(3)- الوسائل 5/ 372، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 94
و قد شرّع فيها خطبتان يلقيهما الأمير بنفسه و يذكر فيهما، مضافا الى
الحمد و الصلاة و الارشاد و الوعظ، المسائل الاجتماعية و السياسية.
6- ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع»: «فإن قيل: فلم جعلت الخطبة؟
قيل: لأن الجمعة مشهد عامّ، فأراد أن يكون للأمير سبب الى موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية، و توقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم، و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق (الآفات- العلل و العيون) من الأهوال التي لهم فيها المضرة و المنفعة.» «1»
فالمتصدّي لإقامتها هو أمير القوم. و لم يجب حضورها على النساء و الشيوخ و الزمنى و نحوهم، بل يجب على الشبان من الرجال المتمكنين. فكأنّ الغرض كان تهيؤ المسلمين و انتقالهم من صف الجمعة الى صف القتال أو الى صفوف المرابطين الحافظين للثغور.
و بالجملة، فإن إقامة الجمعة من شئون الحكومة، و هي الحجر الأساس لتأسيسها و الحافظ عليها. و قد غلب فيها الجهات الاجتماعية و السياسية، بل العسكرية.
7- و في رواية عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إن على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة، و يوم العيد الى العيد، و يرسل معهم. فإذا قضوا الصلاة و العيد ردّهم الى السجن.» «2»
فيظهر من الحديث أن صلاة الجمعة مما يغلب عليها الوجهة السياسية، حتى انه يجب ان يحضرها المسجونون و الضباط، بل لعلها بنفسها من شئون من بيده اختيار السجون و المسجونين، فهي من شئون الحكومة المسلمة.
8- و في خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر «ع» قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا تجب على أقل منهم: الإمام و قاضيه و المدعي حقا و المدعى عليه و الشاهدان و الذي
______________________________
(1)- الوسائل 5/ 39،
الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6.
(2)- الوسائل 5/ 36، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 95
يضرب الحدود بين يدي الامام.» «1»
و ظهوره في كون إقامتها من شئون الحكومة و إمام المسلمين واضح.
9- و كذلك صلاة العيدين. ففي موثقة سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال:
«لا صلاة في العيدين الّا مع الامام.» و نحوها أخبار أخر «2» اللهم الّا أن يحمل الإمام فيها على إمام الجماعة.
______________________________
(1)- الوسائل 5/ 9 الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 9.
(2)- الوسائل 5/ 96، الباب 2 من أبواب صلاة العبد، الحديث 5 و نحوه غيره في هذا الباب.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 96
1- ففي صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»: «اذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين أمر الإمام بالإفطار. الحديث.» «1»
2- و في خبر عيسى بن أبي منصور انه قال: «كنت عند أبي عبد اللّه «ع» في اليوم الذي يشك فيه، فقال: «يا غلام اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا» فذهب ثم عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه.» «2»
3- و عن الصادق «ع»: قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا با عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك الى الإمام: إن صمت صمنا، و إن أفطرت أفطرنا.
الحديث.» «3» و نحو ذلك من الأخبار.
4- و في صحيحة بريد العجلي، قال: «سئل أبو جعفر «ع» عن رجل شهد عليه شهود أنه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام. قال: يسأل هل عليك في إفطارك إثم، فان قال: لا، فان على الامام
ان يقتله، و ان قال: نعم، فان على الإمام أن ينهكه ضربا.» «4»
5- و في صحيحة عمر بن يزيد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ما تقول في
______________________________
(1)- الوسائل 5/ 104، الباب 9 من أبواب صلاة العيد، الحديث 1.
(2)- الوسائل 7/ 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.
(3)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 5.
(4)- الوسائل 7/ 178، الباب 2 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 97
الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال: لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة. الحديث.» «1»
قال في الوسائل:
«هذا أيضا شامل للمسجد الجامع، لان الإمام العدل أعم من المعصوم، كالشاهد العدل.» «2»
______________________________
(1)- الوسائل 7/ 401، الباب 3 من كتاب الاعتكاف، الحديث 8.
(2)- الوسائل 7/ 402، ذيل الحديث 9 من الباب 3 من كتاب الاعتكاف
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 98
و أما الزكاة فيستفاد من الكتاب العزيز و من أخبار كثيرة أنها من ضرائب الحكومة الاسلامية، و أن المتصدّي لأخذها و ضبطها و تقسيمها هو الحاكم بعمّاله.
1- قال اللّه- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا، وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.» «1»
و نفس جعل السهم للعاملين عليها و المؤلفة قلوبهم دليل على كونها في تصرف الحكومة. و لو كانت بحسب التشريع الأولى بتصرف المالك لم نحتج الى عامل يجمعها و يوصلها الى من يقسمها. و النبي «ص» كان يرسل العمال و المصدقين لجمعها، و كذلك الخلفاء بعده، و هكذا كانت سيرة عليّ «ع».
2- و
في صحيحة زرارة و محمد بن مسلم انهما قالا لأبي عبد اللّه «ع»: «أ رأيت قول اللّه- تبارك و تعالى-: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ.» الآية «2»، أ كل هؤلاء يعطى و إن كان لا يعرف؟ فقال: ان الإمام يعطي هؤلاء جميعا، لأنهم يقرّون له بالطاعة.
قال زرارة: قلت: فان كانوا لا يعرفون؟ فقال: يا زرارة، لو كان يعطى من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، و انما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه. فامّا اليوم فلا تعطها أنت و أصحابك إلّا من يعرف. الحديث.» «3»
______________________________
(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.
(2)- سورة التوبة (9)، الآية 60.
(3)- الوسائل 6/ 143، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 99
فيعلم من هذه الصحيحة ان الزكاة بحسب التشريع الأوّلي تكون في تصرف الإمام، و هو يسدّ بها خلّات من يكون تحت لوائه و حكومته، عارفا كان أو غير عارف. و لكن لما تصدّى للحكومة غير أهلها و كانت الزكوات تصرف في غير مصارفها و يبقى الشيعة محرومين أمر الإمام بإعطاء الشيعة زكواتهم الى العارفين بحقهم. فهذا حكم موقت على خلاف طبع الجعل الاوّلي.
3- و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت له: ما يعطى المصدق؟ قال: ما يرى الإمام و لا يقدر له شي ء.» «1»
4- و في خبر علي بن ابراهيم المرويّ عن تفسيره عن العالم «ع»: «و الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي عنهم و يفكّهم من مال الصدقات. و في سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد
و ليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجّون به، أو في جميع سبل الخير. فعلى الامام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج و الجهاد. و ابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم. فعلى الإمام أن يردّهم الى أوطانهم من مال الصدقات.» «2»
و بالجملة يعرف مما ذكر و أمثاله أن الزكاة شرّعت على أساس الحكومة الإسلامية، و أنها إحدى ضرائبها و تكون الحكومة هي المتصدية لأخذها و ضبطها و وضعها في مواضعها. كل ذلك بواسطة العاملين المنصوبين من قبلها.
5- و في خبر موسى بن بكر قال: «قال لي أبو الحسن «ع»: من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه. فان غلب عليه فليستدن على اللّه و على رسوله ما يقوت به عياله. فان مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه. فإن لم يقضه كان عليه وزره. ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا» الى قوله:
______________________________
(1)- الوسائل 6/ 144، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 4.
(2)- الوسائل 6/ 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 100
«و الغارمين.» فهو فقير مسكين مغرم.» «1»
6- و في خبر مرسل: «سأل الرضا «ع» رجل و أنا اسمع، فقال: جعلت فداك ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ.» «2» أخبرني عن هذه النظرة التي ذكر اللّه- عزّ و جلّ- في كتابه لها حدّ يعرف؟ ... قال: نعم،
ينتظر بقدر ما ينتهي خبره الى الإمام فيقضى عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين اذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فان كان أنفقه في معصية اللّه فلا شي ء له على الإمام.» «3»
7- و في خبر مرسل عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور النساء.» «4»
8- و في خبر صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه «ص»:
أيما مؤمن أو مسلم مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف فعلى الإمام ان يقضيه، فان لم يقضه فعليه إثم ذلك. ان اللّه- تبارك و تعالى- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ» الآية. فهو من الغارمين و له سهم عند الامام. فإن حبسه فإثمه عليه.» «5»
9- و في خبر عن علي بن موسى الرضا: «المغرم اذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنة، فإن اتّسع و إلّا قضى عنه الإمام من بيت المال.» «6»
10- و في خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن موسى «ع» قال: «قلت له:
جعلت فداك، رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ و عليه دين و ليس له مال و أراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته. فقلت: إن هم أرادوا
______________________________
(1)- الوسائل 13/ 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 2.
(2)- سورة البقرة (2)، الآية 280.
(3)- الوسائل 13/ 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 3.
(4)- الوسائل 13/ 92، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 4.
(5)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 7.
(6)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة باب ما يجب من حق
الإمام على الرعية ...، الحديث 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 101
قتله؟ قال: إن قتل عمدا قتل قاتله و أدّى عنه الإمام الدين من سهم الغارمين. الحديث.» «1»
11- و في رواية أبي علي بن راشد، قال: «سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال:
للإمام. قال: قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم، من أردت أن تطهره منهم.» «2»
يظهر من هذه الأخبار المستفيضة أن الزكاة شرعت في الإسلام لسدّ خلّات المسلمين بأجمعها، و أن أمرها يكون بيد الإمام فهو الذي يصرفها في مصارفها.
و حينئذ فهل يمكن القول بأن المراد بالإمام فيها خصوص الإمام المعصوم، فيكون الحكم مقصورا على عصر النبي «ص» و خلافة أمير المؤمنين و عصر ظهور المهدي «ع» ثم تصير معطلة في سائر الأعصار؟!
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 92، الباب 59 من أبواب القصاص، الحديث 2.
(2)- الوسائل 6/ 240، الباب 9 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 102
و أما الخمس و الأنفال فكونهما للإمام بما أنه إمام مما لا إشكال فيه. و قد حققنا في كتاب الخمس أن حيثية الإمامة فيهما حيثية تقييدية لا تعليلية، بمعنى أن الحيثية بنفسها هي الموضوع للملك، لا انها علّة و واسطة في الثبوت لملكية الامام الصادق «ع» مثلا، و الّا لانتقل الى ورثته، لا الى الإمام بعده.
1- و في خبر أبي علي بن راشد، عن أبي الحسن الثالث «ع»: «ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي، و ما كان غير ذلك فهو ميراث.» «1»
2- و عبّر في خبر المحكم و المتشابه عن علي «ع» عن الخمس بأجمعه بوجه الإمارة، فقال: «فأما وجه الإمارة فقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا
غَنِمْتُمْ. الآية.» «2»
و يظهر من الأخبار كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا للإمام- عليه السلام- غاية الأمر أنه يتكفل فقراء بنى هاشم و لذا لم يدخل لام الملك على الأصناف الثلاثة في الآية الشريفة.
3- و في خبر ابن شجاع النيشابوري، عن أبي الحسن الثالث «ع»: «لي منه الخمس مما يفضل من مئونته.» «3»
______________________________
(1)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.
(2)- الوسائل 6/ 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.
(3)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 103
فنسب جميع الخمس الى نفسه.
4- و في خبر أبي علي بن راشد: «قلت له أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: و أي شي ء حقّه فلم أدر ما أجيبه؟
فقال «ع»: يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أيّ شي ء؟ فقال: في أمتعتهم و صنائعهم.
الحديث.» «1»
و ليس الخمس لمصارف شخص الإمام فقط، بل لمنصب الإمامة ليصرفه فيما يراه من مصالح المسلمين، و من أهمّها مصارف شخصه و مصارف السادة.
5- ففي تفسير القمي في ذيل آية الخمس:
«و إنّما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم، لأن اللّه قد ألزمه ما ألزم النبي «ص» من تربية الأيتام و مؤن المسلمين و قضاء ديونهم، و حملهم في الحج و الجهاد. و ذلك قول رسول اللّه «ص» لما أنزل اللّه عليه: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم» و هو أب لهم. فلما جعله اللّه أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد، فقال عند ذلك: «من ترك مالا فلورثته و من ترك دينا أو ضياعا فعلى الوالي.»
فلزم
الإمام ما لزم الرسول. فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم.» «2»
و بالجملة يستفاد من مجموع الأدلة ان الخمس ضريبة اسلامية مقررة لمنصب إمامة المسلمين. و نحوه الأنفال، أعني مجموع الأموال العامّة التي ليس لها مالك شخصي كأرض الموات و الجبال و الآجام و الأودية و البحار و المعادن و نحوها. و قد صرّح بكونها للإمام في أخبار كثيرة، فراجع الباب الأول من أبواب الأنفال من الوسائل. «3».
______________________________
(1)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.
(2)- تفسير علي بن إبراهيم (القمي)/ 254 (طبعة أخرى 1/ 278).
(3)- الوسائل 6/ 364.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 104
6- و منها خبر المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع» حيث قال: «ان للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول اللّه «ص». الحديث.» «1»
و لا يخفى على من له أدنى التفات الى مذاق الشرع ان اللّه- تعالى- لا يجعل جميع الأموال و العقارات التي خلقها لرفع حاجات البشر و خمس جميع أموال الناس ملكا طلقا لشخص الرسول أو الإمام. بل المراد من آية الأنفال و من الروايات الكثيرة الواردة فيها ان اللّه- تعالى- جعلها لمنصب الإمامة و في اختيار الرسول أو الإمام بما أنه زعيم المسلمين و سائسهم، ليصرفها في مصالحهم و يأذن لهم في الاستفادة منها على نظام صحيح عادل.
و بعبارة أخرى، الأنفال أموال عامة خلقها اللّه للأنام، و لكن الإمام وليّ أمرها و بيده زمام اختيارها، ليصرفها و يقسمها على ما يقتضيه مصالح المسلمين.
نعم، من المصالح المهمة أيضا إدارة شئون شخص الإمام و رفع حاجاته الشخصية.
و هذا هو المتعارف و المتداول في جميع الأعصار و البلاد
من جعل الأموال التي لا ترتبط بشخص خاص- لعدم كونه منتجا لها أو وارثا ايّاها ممن انتجها- في اختيار الحاكم الممثل للمجتمع المتبلور فيه جميع من يكون تحت لوائه و حكومته.
و قد أوضحنا ذلك كله في كتاب الخمس و الأنفال، فراجع.
و أنت ترى ان المحدّث الفذّ، ثقة الإسلام الكليني لم يعقد في فروع الكافي بابا للخمس و الأنفال، بل تعرّض لرواياتهما في مبحث الإمامة من الأصول. فيظهر من ذلك أنه- قدّس سرّه- كان يراهما من شئون الإمامة.
و الغرض من بيان ذلك كله في المقام هو الإلفات الى أن تشريع الزكاة و الخمس و الأنفال كان على أساس الحكومة الاسلامية، و أن زمام أمرها بيد الحاكم الصالح المعبّر عنه بالإمام.
و مما يدلّ على هذا الأمر أيضا في هذه الثلاثة مرسلة حماد الطويلة التي يستدل
______________________________
(1)- الوسائل 6/ 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 105
بها في أبواب مختلفة:
7- فروى حماد، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع» قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة. يؤخذ من كلّ من هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله اللّه- تعالى- ... يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شي ء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به ...
و للإمام صفو المال، أن يأخذ من هذه الأموال صفوها ...
و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل و رجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها، و يقوم عليها على ما يصالحهم
الوالي، على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو الثلثين و على قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرهم، فاذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، و نصف العشر مما سقي بالدوالى و النواضح، فأخذه الوالي فوجّهه في الجهة التي وجّهها اللّه على ثمانية أسهم ... فإن فضل من ذلك شي ء ردّ الى الوالي، و ان نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
و يؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها، فيدفع اليهم أنصباءهم على ما صالحهم عليه، و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير.
و له بعد الخمس الأنفال. و الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها. و كل أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لكن صالحوا صلحا و أعطوا بأيديهم على غير قتال. و له رءوس الجبال و بطون الأودية و الآجام و كلّ أرض ميتة لا رب لها. و له صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود. و هو وارث من لا وارث له ...
و كان رسول اللّه «ص» يقسم صدقات البوادي في البوادي و صدقات أهل الحضر في أهل الحضر. و لا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطي أهل كل سهم ثمنا، و لكن
يقسمها على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم كل صنف منهم يقدر لسنته. ليس في ذلك شي ء
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 106
موقوت و لا مسمّى و لا مؤلف، إنما يصنع ذلك على قدر ما يرى و ما يحضره حتى يسدّ فاقة كل قوم منهم. و إن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة الى غيرهم. و الأنفال الى الوالي و كل أرض فتحت في أيام النبي «ص» الى آخر الأبد ...
و ليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس ... و لذلك لم يكن على مال النبي «ص» و الوالي زكاة، لأنه لم يبق فقير محتاج و لكن عليهم أشياء تنوبهم من وجوه، و لهم من تلك الوجوه كما عليهم.» «1»
و السند صحيح الى حمّاد و هو من أصحاب الإجماع. و تعبيره عن المروي عنه ببعض أصحابنا يوجب نحو اعتماد عليه. مضافا الى اعتماد الأصحاب على الخبر في الأبواب المختلفة. هذا.
و دلالة الخبر على كون تشريع الزكاة و الخمس و الأنفال على أساس الولاية و الحكومة الإسلامية المبسوطة اليد، و ان الحاكم هو المتصدّي لأخذها و تقسيمها واضحة، كدلالته على كونه المتصدّي للتصرف في الأراضي المفتوحة عنوة.
و قد بيّن هذه الأحكام الإمام موسى بن جعفر حينما لم يكن هو مبسوط اليد و لم يكن له سلطة و ولاية فعلية بحيث يباشر الأمور المذكورة. فغرضه «ع» كان بيان حكم الزكاة و الخمس و الأنفال و الأراضي بحسب التشريع الأوّلي في الإسلام.
و بالجملة، فنفس تشريع أحكام الإسلام أدل دليل على كون الحكومة و الولاية كالحجر الأساس لبناء الإسلام.
______________________________
(1)- الكافي 1/ 539
كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال و تفسير الخمس ...، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 107
و أما الحج فلا شك في أن الجهات الاجتماعية و السياسية بل الاقتصادية منظورة في تشريعه جدّا.
قال اللّه- تعالى-: «جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ.» «1»
قال الراغب في المفردات: «القيام و القوام اسم لما يقوم به الشي ء.» «2»
فمقتضى الآية أن الناس يتقوّمون في معاشهم و معادهم بالكعبة، كما انهم يتقومون في حياتهم بالمال، كما قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «3»
فيعلم من ذلك أن الغرض من تشريع الحج ليس إتيان صورة الأعمال فقط.
إذ كيف يكون مجرد ذلك مما يقوم به الناس؟! بل الغرض اجتماع المتمكنين من المسلمين و ذوي الطاقات منهم من البلاد و الأصقاع المختلفة و تعارفهم و تفاهمهم ليتعاونوا و يتعاضدوا و يوجدوا بينهم العلاقات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و غيرها، فيكون الحج لهم مؤتمرا كبيرا عالميا في مركز الوحي و النبوة، و بمثل ذلك يقوم الناس و الأمم.
______________________________
(1)- سورة المائدة (5)، الآية 97.
(2)- المفردات/ 432.
(3)- سورة النساء (4)، الآية 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 108
1- ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع» قال: «إنّما أمروا بالحج لعلّة الوفادة الى اللّه- عزّ و جلّ ... مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض و غربها، و من في البر و البحر، ممن يحج و ممن لم يحج من بين تاجر و جالب و بائع و مشتري و كاسب و مسكين و مكار و فقير، و قضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه و نقل أخبار الأئمة «ع» الى كل صقع و ناحية.» «1»
2-
و في خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين و مصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق و الغرب ليتعارفوا، و لينزع كل قوم من التجارات من بلد الى بلد، و لينتفع بذلك المكاري و الجمّال، و لتعرف آثار رسول اللّه «ص» و تعرف أخباره و يذكر و لا ينسى. و لو كان كلّ قوم انما يتكلمون على بلادهم و ما فيها هلكوا و خربت البلاد، و سقطت الجلب و الأرباح، و عميت الأخبار و لم تقفوا على ذلك. فذلك علّة الحج.» «2»
فعليك بالدقة في الخبرين و لا سيما قوله: «ممن يحج و ممن لم يحج»، و قوله: «و قضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه»، و قوله: «ليتعارفوا». فانظر كيف غفل المسلمون و أغفلوا عن بركات و فوائد هذا الاجتماع المهم في مركز الوحي الذي سهّل اللّه تحققه لهم في كل سنة. و لو كان لهم وعي سياسي أمكن لهم حلّ كثير من المسائل و المشاكل بتبادل الأفكار و التفاهم، و لم يتسلط عليهم الغرب و عميلتهم اسرائيل مع كثرة عدد المسلمين و قدرتهم المعنوية و طاقاتهم الاقتصادية بحيث يحتاج اليهم الغرب و الشرق. اللهم فأيقظ المسلمين من نومهم و هجعتهم.
______________________________
(1)- الوسائل 8/ 7، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 15.
(2)- الوسائل 8/ 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 18.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 109
3- و في خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج.»
«1»
4- و في خبر آخر عنه «ع»: «لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده. و لو تركوا زيارة النبي «ص» لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده. فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين.» «2»
و لا يخفى أن الإجبار لا يتحقق إلّا من ناحية الإمام المبسوط اليد الذي له ولاية فعلية. كما ان بيت مال المسلمين أيضا لا يكون إلّا في تصرفه. و الإمام الصادق «ع» بنفسه لم يكن كذلك و كذلك آباؤه و أبناؤه غير أمير المؤمنين «ع». فهل هو- عليه السلام- في هذه الاخبار و نحوها في مقام تعيين الوظيفة للقائم- عليه السلام- فقط، او لكل وال مسلم وجد شرائط الولاية و انتخبه المسلمون حاكما عليهم؟
5- و في خبر حفص، قال: «حج اسماعيل بن علي بالناس سنة أربعين و مأئة، فسقط ابو عبد اللّه «ع» عن بغلته، فوقف عليه اسماعيل، فقال له أبو عبد اللّه «ع»:
سر، فان الإمام لا يقف.» «3»
6- و في خبر آخر له، قال: «رأيت أبا عبد اللّه «ع» و قد حجّ فوقف الموقف، فلما دفع الناس منصرفين سقط ابو عبد اللّه «ع» عن بغلة كان عليها، فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السنة- و هي سنة أربعين و مأئة- فوقف على أبي عبد اللّه «ع» فقال له أبو عبد اللّه «ع»: لا تقف، فان الإمام اذا دفع بالناس لم يكن له أن يقف.
الحديث.» «4»
و لعل غرضه «ع» أن قائد الجماعة و أميرهم يجب عليه رعاية مصلحة الجماعة،
______________________________
(1)- الوسائل 8/ 15، الباب 5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 1.
(2)- الوسائل 8/ 16، الباب
5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 2.
(3)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.
(4)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 110
و لا يفدي مصالح الجماعة لمصلحة شخص و ان كان شخصية معروفة.
و قد أطلق لفظ الإمام في الخبرين على أمير الحاج، مع كونه منصوبا من قبل سلطان وقته.
و يظهر من الخبرين و بعض الأخبار الآتية تعارف تعيين أمير الحاج في تلك الأعصار و كون أداء الأعمال من الوقوف و الإفاضة و نحوهما تحت نظره، و لا محالة كان الأئمة «ع» و أصحابهم أيضا يتابعونه. و لو فرض تخلفهم عنه مرّة أو مرّات لبان و ظهر و ضبطه التاريخ. و بذلك يظهر كفاية الأعمال المأتية بحكم حاكمهم. نعم، كفايتها في صورة العلم بالخلاف مشكل، و لكن الغالب هو الشك لا العلم بالخلاف.
و كيف كان فانه يعلم من الأخبار و التواريخ ان إدارة الحج كانت بيد الحكام و الولاة، و كانوا يباشرونها او ينصبون لها اميرا يحج بالناس و يراقبهم في جميع مواقف الحج. و قد ذكر المسعودي في آخر تاريخه: «مروج الذهب» أسامي أمراء الحج من حين فتح مكة، أعني سنة ثمان من الهجرة الى سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة، فراجع.
و الحج و ان كان عبادة اللّه- تعالى- و لكن الفوائد الاجتماعية و السياسية ملحوظة فيه جدّا، كما مرّ. و التجمع و التشكّل مطلوب فيه، و الأمير الواحد حافظ للتشكل و التكتل، فليس لأحد التخلف عن ذلك. و الأئمة- عليهم السلام- كانوا يعاملون حكّام الجور معاملة الحاكم الحق، حفظا لمصالح الإسلام و المسلمين. و لذا أنفذوا
الخراج و الزكوات و الأخماس المؤداة اليهم و أخذ الجوائز منهم.
و لا ينافي هذا وجوب القيام في قبال سلاطين الجور مع القدرة و وجود العدّة و العدّة، لما سيجي ء من وجوب إقامة الدولة العادلة مع القدرة و لكن مع عدم القدرة عليها يجب رعاية النظام و لا يجوز الهرج و المرج. و التفصيل موكول الى محله.
7- و في صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما «ع» قال: «لا ينبغي للإمام ان
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 111
يصلّي الظهر يوم التروية إلّا بمنى، و يبيت بها الى طلوع الشمس.» و نحوها أخبار اخر «1».
8- و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يصلي الإمام الظهر يوم النفر بمكة.» «2»
و المراد بالإمام في الصحيحتين من كان يحج بالناس من الحاكم نفسه أو أمير الحاج المنصوب من قبله.
9- و في أبواب المزار باب استحباب زيارة النبي «ص» و الأئمة «ع» صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال: «انّما أمر الناس ان يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم و يعرضوا علينا نصرهم.» «3»
10- و في خبر جابر، عن أبي جعفر «ع» قال: «تمام الحج لقاء الإمام.» «4»
و يستفاد من الخبر الأول ان الناس كانوا مكلّفين بعرض حمايتهم و نصرهم على الإمام حتى تستحكم إمامته، و لكن الناس تركوا الأنهار العظيمة و مصّوا الثماد، فلم يقدر الإمام الحق أن يقيم الحكومة الحقة. و لو كان للأئمة «ع» قوة لما قعدوا، كما يظهر من خبر سدير الآتي. «5»
______________________________
(1)- الوسائل 10/ 5، الباب 4 من أبواب إحرام الحج، الحديث 1 و نحوه غيره في هذا الباب.
(2)- الوسائل 10/ 227، الباب 12 من
أبواب العود الى منى، الحديث 1.
(3)- الوسائل 10/ 252، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 1.
(4)- الوسائل 10/ 254، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 8.
(5)- الكافي 2/ 242 كتاب الإيمان و الكفر، باب في قلّة عدد المؤمنين، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 112
. و الآيات الواردة فيه في غاية الكثرة، بل لعلك لا تجد موضوعا مثله في كثرة الآيات الواردة فيه. و الأخبار في وجوبه و فضله و حدوده و شرائطه و أحكامه مستفيضة، بل متواترة إجمالا من طرق الفريقين:
1- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ.»* «1»
2- و قال: «انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا، وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ. ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.» «2»
3- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ، وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.» «3»
4- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اثّٰاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟» «4»
5- و قال: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتٰالِ.» «5»
______________________________
(1)- سورة التوبة (9)، الآية 73.
(2)- سورة التوبة (9)، الآية 41.
(3)- سورة التوبة (9)، الآية 123.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 38.
(5)- سورة الأنفال (8)، الآية 65.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 113
6- و قال: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.» «1»
7- و قال: «وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لٰا أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ* أَ لٰا تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا
بِإِخْرٰاجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟» «2»
8- و قال: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ، وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» «3»
9- و قال: «وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.» «4»
10- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ. وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّٰهِ؟» «5»
الى غير ذلك من الآيات التي سيأتي بعضها.
11- و عن الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه «ص»: «الخير كله في السيف و تحت ظلّ السيف. و لا يقيم الناس إلّا السيف. و السيوف مقاليد الجنة و النار.» «6»
12- و عنه أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «للجنة باب يقال له باب المجاهدين، يمضون اليه فاذا هو مفتوح و هم متقلدون بسيوفهم. و الجمع في الموقف و الملائكة ترحّب بهم.» قال: «فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلّا و فقرا في معيشته و محقا في
______________________________
(1)- سورة التوبة (9)، الآية 5.
(2)- سورة التوبة (9)، الآية 12 و 13.
(3)- سورة التوبة (9)، الآية 29.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 36.
(5)- سورة التوبة (9)، الآية 111.
(6)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 114
دينه، ان اللّه أغنى (أعزّ) أمّتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها.» «1»
13- و عنه أيضا بسنده
قال أمير المؤمنين «ع»: «ان اللّه فرض الجهاد و عظمه و جعله نصره و ناصره. و اللّه ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به.» «2»
14- و في نهج البلاغة: «أما بعد، فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لباس التقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ و شملة البلاء، و ديّث بالصغار و القماء، و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحق منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف و منع النصف.
ألا و إنّي قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و اعلانا، و قلت لكم اغزوهم قبل ان يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم حتى شنّت الغارات عليكم و ملكت عليكم الأوطان.
و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار، و قد قتل حسّان بن حسّان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها. و لقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم. فلو ان امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا.
فيا عجبا! و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرقكم عن حقّكم.
فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون. الحديث.» «3»
الى غير ذلك من الأخبار و
الروايات الواردة في هذا المجال، فراجع مظانّها.
هذا.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(2)- الوسائل 11/ 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 94؛ عبده 1/ 63؛ لح/ 69، الخطبة 27.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 115
و قسّم الفقهاء الجهاد الى قسمين: الجهاد الابتدائي، و الجهاد الدفاعي. و أرادوا من الأول قتال المشركين و الكفار لدعائهم الى الإسلام و التوحيد و العدالة. و من الثاني قتال من دهم المسلمين منهم للدفاع عن حوزة الإسلام و أراضي المسلمين و نفوسهم و أعراضهم و أموالهم و ثقافتهم.
أقول: و يمكن بوجه من العناية ادراج الابتدائي أيضا في الدفاعي، فإنه في الحقيقة دفاع عن حقوق اللّه و حقوق الإنسان، فإن اللّه- تعالى- ما خلق الجنّ و الإنس الّا ليعبدوه فيرتقوا بذلك ارتقاء روحيا و يحصل بذلك الغرض من الخلقة، و أرسل رسوله رحمة للعالمين و أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، و الدين و إن كان أمرا قلبيّا لا يقبل الإكراه، و لكن عامّة الناس بفطرتهم التي فطر اللّه الناس عليها متمايلون الى الحق و القسط، فإذا وقفت سلطات كافرة أو ظالمة في البلاد أمام بسط التوحيد و القسط و تسلطوا على المجتمع و جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا و أفسدوا في الأرض وجب بحكم العقل من باب اللطف رفع شرّهم حتى يعرض الحق و يظهر و ينتشر الدين بطبعه.
فالجهاد الابتدائي في الحقيقة دفاع عن التوحيد و عن القسط و العدالة، و إن شئت قلت: دفاع عن الانسانية.
و بالجملة غرض الإسلام من تشريع الجهاد هو
الدفاع عن العدالة و التوحيد، لا التسلّط على البلاد و استثمار العباد على ما هو دأب المستعمرين في أعصارنا.
ففي خبر الحسن بن محبوب، عن بعض اصحابه، عن أبي جعفر «ع» في بيان
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 116
حدود الجهاد قال: «و أول ذلك الدعاء الى طاعة اللّه من طاعة العباد، و الى عبادة اللّه من عبادة العباد، و الى ولاية اللّه من ولاية العباد ... و ليس الدعاء من طاعة عبد الى طاعة عبد مثله.» «1» هذا.
و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلٰا عُدْوٰانَ إِلّٰا عَلَى الظّٰالِمِينَ.» «2»
يعني ان الغرض من القتال هو رفع الفتنة و بسط التوحيد. و لعل الأول هو الدفاعي المصطلح، و الثاني هو الابتدائي، و اذا تحقق الغرض فلا عدوان بالاستعباد و الاستثمار، إلّا ان يكون القوم ظالمين فيراد رفع ظلمهم و شرّهم، و رفع الظلم أيضا دفاع لا محالة.
و قال أيضا في سورة الأنفال: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ.» «3»
و قال في سورة النساء: «وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظّٰالِمِ أَهْلُهٰا.» «4»
و ظاهر الآية التوبيخ على ترك القتال و الإشعار بان لزومه مرتكز في عقولهم و فطرهم. و لعل قوله: «في سبيل اللّه» يراد به بسط التوحيد و إعلاء كلمة الإسلام و قوله: «و المستضعفين» يراد به الدفاع عن القسط و العدالة عند الهجوم، فاشتملت الآية أيضا على الجهاد الابتدائي و الدفاعي معا، فتدبّر.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 7، الباب 1
من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
(2)- سورة البقرة (2)، الآية 193.
(3)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.
(4)- سورة النساء (4)، الآية 75.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 117
و قد دلّت الأخبار و فتاوى أصحابنا على اشتراط الجهاد الابتدائي بوجود الإمام العادل أو من نصبه لذلك:
1- فعن الرضا «ع» في كتابه الى المأمون: «و الجهاد واجب مع الإمام العادل (العدل خ. ل).» «1»
2- و في خبر بشير عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت له: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت لك: ان القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير، فقلت لي: نعم، هو كذلك؟ فقال ابو عبد اللّه «ع»: هو كذلك، هو كذلك.» «2»
3- و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» عن آبائه، قال: «قال أمير المؤمنين «ع»:
لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه- عزّ و جلّ، فانه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا و الإشاطة بدمائنا و ميتته ميتة جاهلية.» «3»
4- و في خبر سماعة عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لقى عباد البصري عليّ بن الحسين «ع» في طريق مكة فقال له: يا عليّ بن الحسين، تركت الجهاد و صعوبته، و أقبلت على الحج و لينه، ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ.» الآية. فقال علي بن الحسين «ع»: اتمّ الآية، فقال: «التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ» الآية. فقال علي بن الحسين «ع»: اذا رأينا هؤلاء الذين هذه
______________________________
(1)- الوسائل 11/
11، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 24.
(2)- الوسائل 11/ 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(3)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 118
صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.» «1»
الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مقتضاها- كصريح الفتاوى- عدم مشروعية الجهاد مع الجائر.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 118
قال في الجواهر:
«بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه. بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى و صريح الغنية إلّا من أحمد في الأول. قال: و ظاهرهما الإجماع، مضافا الى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام. لكن إن تمّ الإجماع المزبور فذاك، و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلّة الجهاد.» «2»
أقول: ليس في الأخبار و لا في كلمات الأصحاب لفظ الإمام المعصوم، بل الإمام العادل في مقابل الإمام الجائر. و لفظ الإمام في اللغة و كلمات الأئمة «ع» لم ينحصر إطلاقه على الأئمة الاثنى عشر، بل هو موضوع للقائد الذي يؤتمّ به في الجماعة أو الجمعة أو الحج أو سياسة البلاد، كما مرّ في التنبيه الخامس من الباب الثاني. و العدالة أعم من العصمة، و مصداق قوله- تعالى-: «التائبون العابدون» الى قوله: «الحافظون لحدود اللّه» أيضا أعم من الإمام المعصوم. و كذا الإمام المفترض طاعته، و من يؤمن على الحكم
و ينفذ في الفي ء أمر اللّه، لصدق ذلك كله على المنصوبين من قبل النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» أمثال مالك الأشتر و نحوه أيضا.
نعم، كان مصداق الإمام العادل في عصر ظهور الأئمة- عليهم السلام- عندنا هو الإمام المعصوم أو المنصوب من قبله. و لكن الشرط في الجهاد الابتدائي على ما في الأخبار و الكلمات هو عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر، لا الإمام المعصوم في قبال غير المعصوم.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
(2)- الجواهر 21/ 13.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 119
و في الغنية أيضا لم يذكر الّا الإمام العادل «1».
و في المنتهى:
«الجهاد قد يكون للدعاء الى الإسلام، و قد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين عدوّ.
فالأول لا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل و من يأمره الإمام، و الثاني يجب مطلقا. و قال أحمد: يجب الأول مع كل إمام برّ أو فاجر.» «2»
و في التذكرة:
«لا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل أو من نصبه لذلك عند علمائنا أجمع ... و قال أحمد: يجب مع كل إمام: برّ و فاجر.» «3» هذا.
و في سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير، برّا كان أو فاجرا. و الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برّا كان أو فاجرا و إن عمل الكبائر.» «4»
و لا يخفى أنه كان في أعصار الأئمة «ع» يتصدى للجهاد أئمة الجور من الأموية و العباسية، ففي قبال هذا العمل الرائج و هذه الرواية المفتى بها عندهم أراد أئمتنا «ع» بيان أن أمر الجهاد عظيم، لكونه للدعاء الى الإسلام و لارتباطه بنفوس الناس و أعراضهم
و أموالهم، فلا يفوّض الى الجاهلين بموازين الإسلام أو الى الجائرين. و قد مرّ في خبر أبي بصير: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه.» «5» و العقل السليم أيضا يقضى بعدم جواز تسليط الجائرين على نفوس الناس و أموالهم.
و أما العصمة فلا تشترط قطعا و الّا لم يكن للمنصوبين من قبل النبي «ص»
______________________________
(1)- الجوامع الفقهية/ 521.
(2)- المنتهى 2/ 899.
(3)- التذكرة 1/ 406.
(4)- سنن أبي داود 2/ 17 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.
(5)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 120
و أمير المؤمنين «ع» كمالك الأشتر و غيره أيضا الجهاد. و مثل الفقيه العادل العالم بالحوادث و المشاكل في عصر الغيبة كمثل أمراء الجيوش و العمّال المنصوبين من قبلهما «ع» في عدم وجود العصمة لهم و مع ذلك يفترض طاعتهم لولايتهم، كما سيأتي بيانه.
فلا ينحصر الإمام المفترض طاعته في الإمام المعصوم. و إجماع الغنية و التذكرة أيضا على عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر الذي أجازه أحمد تبعا لرواية أبي هريرة.
نعم، في الرياض هنا أضاف لفظ المعصوم، كما لعله كان هو المتبادر في أذهان غيره أيضا و ربّما صرّحوا به أيضا. و لكن فهمهم و أنس ذهنهم ليس من الحجج الشرعية.
و لو قيل في وجهه أن الإمام المعصوم يجبر اشتباه عمّا له و تخلفاتهم، قلنا إن الفقيه العادل أيضا بمقتضى عدالته يجبر التخلفات و الاشتباهات بعد انكشافها.
و الجهاد قد شرّع لرفع الفتنة و كون الدين كلّه للّه، كما في الآية، و حينئذ فهل يمكن الالتزام
بأن اللّه- تعالى- لا يريد رفع الفتنة و ان يكون الدين للّه في عصر غيبة الإمام المعصوم و ان طالت آلاف سنة؟! و قد مرّ عن النبي «ص» أن «الخير كله في السيف و تحت ظل السيف. و لا يقيم الناس إلّا السيف.» «1» و عن أمير المؤمنين «ع» أنّه «ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به» «2» أى بالجهاد.
فهل يمكن الالتزام بأن اللّه لا يريد الخير و صلاح الدنيا و الدين للبشر و للمسلمين في عصر غيبة الإمام الثاني عشر؟! و هل يجوّز العقل أن يترك الناس في عصر الغيبة بلا تكليف في قبال الجنايات و الفساد و الكفر و الإلحاد الى أن يظهر صاحب الأمر؟!
نعم، كون الأمر مهما مرتبطا بالدماء و الأعراض و الأموال يقتضي أن يكون
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(2)- الوسائل 11/ 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 121
مقيدا بملاك و ضابطة، و أن لا يتصدّى له الجاهل بالموازين الشرعية أو الجائر الذي لا التزام له. و هذا ما يقال من كون الوجوب في الجهاد الابتدائي مشروطا بإذن الإمام العادل و تفصيل المسألة موكول الى محله. هذا.
و أما الجهاد الدفاعي بأنواعه التي أشرنا اليها فلا يشترط وجوبه بوجود الإمام قطعا.
و العجب من غفلة بعض المسلمين، حتى بعض علماء الدين، حيث توهموا عدم التكليف لنا حتّى في قبال هجوم الكفار و الصهاينة على بلاد المسلمين، و قتلهم للشيوخ و الشبّان و الأطفال و النسوان، و الاستيلاء على أموالهم و الهتك لنواميسهم و معابدهم مع أن الجهاد الدفاعي لا يشترط في
وجوبه إذن الإمام قطعا، و الدفاع واجب بضرورة من العقل و الشرع.
1- و قد قال اللّه- تعالى- في سورة البقرة في قصة طالوت و قتل داود لجالوت:
«وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعٰالَمِينَ.» «1»
و دفعه الفساد عنهم ليس إلّا بقيام أهل الحق و دفاعهم.
2- و في سورة الحج: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّٰهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلّٰا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّٰهُ. وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً، وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 251.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 122
وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «1»
فما أدري، ألا يقرء المسلمون هذه الآيات الكريمة من القرآن، أو يقرءونها و لكن لا يتدبرونها؟!
و هل يمكن الالتزام بأن اللّه- تعالى- في عصر غيبة الإمام الثاني عشر لا يبغض الفساد في الأرض و لا هدم المساجد و المعابد، و لا يحبّ إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟! لا و اللّه، بل يجب على المسلمين الدفاع عن مراكز التوحيد، و دفع الفساد و المفسدين، و إقامة دعائم الإسلام، و اللّه ينصر من نصره.
نعم، النصر غير الظفر المحتوم على العدوّ، فاللّه- تعالى- ينصر أولياءه بإيمانهم و الربط على قلوبهم و القاء الرعب في قلوب أعدائهم، و كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن
اللّه، و لكن العالم عالم الأسباب و التضادّ و التزاحم، فيمكن ان يتهيأ سبب فوز العدوّ و ظفره بحيله و مكره، و لكن يجب على المسلمين الدفاع عن الإسلام و المسلمين و جهاد المفسدين و الجائرين بعد أن يهيئوا الأسباب المتعارفة، متوكلين على اللّه- تعالى-.
3- و في الحديث عن الصادق «ع» بعد ذكر قوله- تعالى-: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.» قال «ع»: «و بحجّة هذه الآية يقاتل مؤمنو كل زمان.» فراجع «2». هذا.
4- و قد مرّ ان امير المؤمنين- عليه السلام- بلغه أن الرجل من أهل الشام كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم، فقال: «لو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.» و قال: «فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار
______________________________
(1)- سورة الحج (22)، الآية 39 و 40 و 41.
(2)- الوسائل 11/ 27، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 123
عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون.» «1»
فيا أخي المسلم، أو ليس الواحد منا- أنا و أنت- بإنسان؟! أو ليس فينا عواطف الإنسانية و حميّتها فضلا عن الالتزام الاسلامي؟! فكيف يبلغنا مجازر المسلمين و تخريب بلادهم و معابدهم و هتك نواميسهم بأيدي الكفار و الصهاينة في فلسطين و لبنان و أفغانستان و الهند و سائر البلدان و لا نتحرك و لا نحامي، بل و
لا نعترض بكلام و قول، بل و لا نؤيد من يعترض، بل ربّما نؤيد الكفار عمليا؟!
5- و قد روى الطبري في تاريخه عن أبي مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار أن الحسين «ع» خطب أصحابه و أصحاب الحرّ بالبيضة، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن رسول اللّه «ص» قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه «ص» يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا قول، كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا و إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد و عطّلوا الحدود و استأثروا بالفي ء و أحلّوا حرام اللّه و حرّموا حلاله و أنا أحق من غيّر.» «2»
و كلام رسول اللّه «ص» لا يختصّ بالسبط الشهيد و بزيد بن علي و بشهيد فخّ و أمثالهم، بل هو تكليف عام لجميع المسلمين في قبال الكفّار و سلاطين الجور و طواغيت الزمان، كما يدلّ على ذلك عموم الموصول.
و كيف كان فالجهاد الدفاعي في قبال هجوم الأجانب و الكفار و التسلط على بلاد المسلمين و شئونهم و ثقافتهم و اقتصادهم من أوجب الواجبات. و التشكيك في ذلك تشكيك فيما يحكم به الكتاب و السنة، بل العقل و الفطرة، فان اللّه- سبحانه- جهّز الإنسان بل الحيوانات أيضا بأجهزة الدفاع و خلق فيه القوة الغضبية لذلك، كما خلق في الدم الكريات البيض للدفاع عن مملكة البدن في قبال الجراثيم
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 95؛ عبده 1/ 65؛ لح/ 70، الخطبة 27.
(2)- تاريخ الطبري 7/ 300.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 124
المفسدة الخارجية المهاجمة، فتدبّر.
بل الدفاع عن بيضة الإسلام و حوزة المسلمين واجب و لو في ظلّ راية الباطل أيضا بشرط عدم تأييده.
6- ففي خبر يونس قال: «سأل أبا الحسن «ع» رجل و أنا حاضر، فقال له:
جعلت فداك، ان رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا و قوسا في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع هؤلاء لا يجوز، و أمروه بردّهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده و قيل له قد قضى الرجل. قال: فليرابط و لا يقاتل. قال: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم. قال: فإن جاء العدوّ الى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلا أن يخاف على دار المسلمين. أ رأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع خ. ل) لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط و لا يقاتل، و ان خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد «ص».» «1»
و سند الحديث لا بأس به.
فانظر يا أخي المسلم، كيف غفل المسلمون و أغفلوا بتسويل المستعمرين و أياديهم الجاهلة أو الخبيثة و علماء السوء، فحصروا دين اللّه في بعض المراسم الظاهرية و الآداب الشخصية، و استولى الكفار على بلاد المسلمين و معابدهم و جميع شئونهم و شتتوهم و مزّقوهم كل ممزّق، و استضعفوهم بأنحاء الاستضعاف من حيث لا يشعرون. اللهم فبدّد شمل الكفار و فرّق جمعهم و اردد كيدهم الى انفسهم، و أيقظ المسلمين من سباتهم و هجعتهم. آمين ربّ
العالمين. هذا.
و اعلم أن الدفاع لا يمكن و لا يتحصل إلّا بإعداد المقدمات و الوسائل و التسلّح بسلاح العصر، و التدرّب عليه. فيجب ذلك لا محالة، و قد قال اللّه- تعالى- في كتابه
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 125
العزيز: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ.
الآية.» «1»
و لعله لا يتيسّر أيضا في بعض الأحيان إلّا بالتكتل و التشكل و لو خفية، و لا محالة يتوقف ذلك على أن يؤمّروا على أنفسهم رجلا عالما عادلا بصيرا بالأمور، و يلتزموا بإطاعته حتى ينصرهم اللّه بتأييده و نصره، كما اتفق ذلك في أكثر الثورات الناجحة في العالم. و في القرآن الكريم ان بني اسرائيل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه، فبعث اللّه لهم طالوت ملكا «2». فيعلم بذلك ان القتال يتوقف على وجود القائد الجامع للشتات. و ان شئت فسمّ هذا القائد أيضا إماما، و لكن وجوده شرط لتحقق القتال لا شرط لوجوبه، بخلافه في الجهاد الابتدائي فإن الإمام شرط لوجوبه، كما مرّ. بل يمكن أن يقال: إنّ الإمام في كلا القسمين شرط للوجود لا للوجوب، كما يأتى نظيره في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر المتوقفين على الضرب و الجراح، فانتظر.
و قد تحصّل مما ذكرنا أن الجهاد من أهم الواجبات و أنه ينقسم عندهم الى قسمين:
ابتدائى و دفاعي. و الأول على ما قالوا وجوبه مشروط بالإمام، و لكن الإمام لا ينحصر في الإمام المعصوم على الأقوى، فيشمل الفقيه الجامع للشرائط أيضا، و أما الجهاد الدفاعي فلا
يتوقف وجوبه على الإمام. نعم، ربما يتوقف وجوده على التجمع و التشكل، و هو لا محالة يتوقف على وجود القائد و الإمام. فهو شرط للوجود لا للوجوب، كما لا يخفى، فيجب تحصيله.
و كيف كان فالجهاد الدفاعي واجب و لو في عصر الغيبة بلا إشكال.
نعم، هنا أخبار ربما تمسك بها بعض من يوجب السكون و السكوت في قبال الجنايات و هجوم الأعداء في عصر الغيبة، و يصرّون على عدم التدخل في الشؤون السياسية و إقامة الدولة. و قد تعرض لهذه الأخبار صاحب الوسائل في الباب
______________________________
(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.
(2)- راجع سورة البقرة (2)، الآية 246 و 247.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 126
الثالث عشر من الجهاد «1»، و نحن نوردها مع الجواب عنها في آخر هذا الباب في الفصل الرابع منه بعد ذكر الأدلة العشر لضرورة الحكومة و وجوب السعي في إقامة الدولة العادلة. و هو بحث لطيف ينبغي الالتفات اليه. و سنعود الى بحث ما في ضرورة الدفاع و تقوية النظام العسكري و الجنود في الفصل الرابع عشر من الباب السادس أيضا، فانتظر.
______________________________
(1)- الوسائل ج 11 ص 35 و ما بعدها، باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم «ع».
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 127
قال في الخلاف (المسألة 1 من كتاب الباغي):
«الباغي من خرج على إمام عادل و قاتله و منع تسليم الحق اليه، و هو اسم ذمّ. و في أصحابنا من يقول: انه كافر. و وافقنا على أنه اسم ذمّ جماعة من العلماء المعتزلة بأسرهم، و يسمّونهم فسّاقا، و كذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي.
و قال أبو حنيفة هم
فسّاق على وجه التديّن. و قال أصحاب الشافعي ليس باسم ذمّ عند الشافعي، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ، بمنزلة من خالف من الفقهاء في بعض مسائل الاجتهاد. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ...» «1»
و قال في النهاية:
«كل من خرج على إمام عادل و نكث بيعته و خالفه في أحكامه فهو باغ، و جاز للإمام قتاله و مجاهدته ... و من خرج على إمام جائر لم يجز قتالهم على حال. و لا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلّا بأمر الإمام.» «2»
و في الشرائع:
«يجب قتال من خرج على امام عادل اذا ندب اليه الإمام عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام.» «3»
و في الجواهر:
______________________________
(1)- الخلاف 3/ 164.
(2)- النهاية للشيخ/ 296- 297.
(3)- الشرائع 1/ 336.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 128
«لا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكى منهما مستفيض، كالنصوص من طرق العامة و الخاصة.» «1»
أقول: مسألة قتال البغاة من المسائل المهتم بها في فقه الفريقين. و قد رأيت تفسيره بالخارج على الإمام العادل في قبال الإمام الجائر.
و هل يراد به خصوص الإمام المعصوم أو مطلق العادل بعد تحقق امامته؟
وجهان. و لعل الثاني أظهر.
و يدلّ على الحكم، مضافا الى الإجماع و عدم الخلاف، الكتاب و الأخبار من طرق الفريقين.
فقوله- تعالى-: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ.» «2»
بل الظاهر ان تسمية الخارج على الإمام بالباغي أخذت من هذه الآية.
و الخدشة في الاستدلال بها بأنها في اقتتال طائفتين من المؤمنين لأمر ما لا في خروج طائفة على الإمام، مدفوعة. أولا بصدق
الطائفتين على جند الإمام و الباغي بلا اشكال، و ثانيا بالأولوية القطعية. إذ لو وجب دفع الباغي على بعض المؤمنين فدفعه عن إمام المؤمنين يجب بطريق أولى.
و لا يخفى أن في تسمية الباغي و جنده بالمؤمن عندنا لا يخلو عن نحو عناية و تجوز، و كأنه باعتبار حاله قبل البغي. هذا.
في المسألة فكثيرة، و منها خبر ابن المغيرة، عن جعفر، عن أبيه قال:
«ذكرت الحرورية عند علي «ع» فقال: إن خرجوا على إمام عادل او جماعة فقاتلوهم، و إن خرجوا
______________________________
(1)- الجواهر 21/ 324.
(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 129
على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فان لهم في ذلك مقالا.» «1»
و في الوسائل المطبوع: «عقالا» بدل «مقالا»، و لكن في الكافي و العلل: «مقالا».
و المذكور في الحديث التفصيل بين الإمام العادل و الجائر، لا المعصوم و غير المعصوم.
و المراد بالحرورية الخوارج، سمّوا بذلك لاجتماعهم في موضع بظهر الكوفة كان يسمّى بحروراء.
و في مسلم عن عرفجة، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه.» «2» هذا و تفصيل المسألة موكول الى محله.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 60، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
(2)- صحيح مسلم 3/ 1480 (طبعة أخرى 6/ 23)، كتاب الإمارة، الباب 14 (باب حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 130
1- صحيحة زرارة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، و هل عليهم في ذلك شي ء موظّف لا ينبغي أن يجوز الى غيره؟ فقال:
ذلك الى الامام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و ما يطيق. الحديث.» «1»
2- رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سأله عن خراج أهل الذمة و جزيتهم اذا أدّوها من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتهم، أ يحلّ للإمام أن يأخذها و يطيب
ذلك للمسلمين؟ فقال: «ذلك للإمام و المسلمين حلال و هي على أهل الذمة حرام و هم المحتملون لوزره.» «2»
3- صحيحة معاوية بن وهب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للّه و للرسول، و قسم بينهم أربعة أخماس، و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام، يجعله حيث أحبّ.» «3»
4- و في رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار: إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف ... فكل أسير أخذ على
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 113، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(2)- الوسائل 11/ 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(3)- الوسائل 11/ 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 131
تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار: إن شاء منّ عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا.» «1»
5- و في حديث الزهري، عن علي بن الحسين «ع»: «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله و لا تقتله، فانك لا تدري ما حكم الإمام فيه. الحديث.» «2»
6- رواية صفوان و البزنطي جميعا، قالا: «ذكرنا له الكوفة ... فقال: من أسلم طوعا تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر ... و ما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين ... و ما أخذ بالسيف فذلك
الى الإمام يقبّله بالذي يرى. الحديث.» «3»
7- رواية البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا «ع» الخراج و ما سار به أهل بيته، فقال: العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده ... و ما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين ... و ما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبّله بالذي يرى. الحديث.» «4»
و رواية البزنطي صحيحة. و الراوي عنه هو أحمد بن محمد بن عيسى. و في رواية صفوان و البزنطي توسط بينهما و بين أحمد بن محمد بن عيسى، علي بن أحمد بن أشيم.
و عن الشيخ انه مجهول، و عن بعض تضعيفه، و لكن نقل ابن عيسى عنه لعله يدل على اعتماده عليه. ثم ان الراوي في الخبرين هو البزنطي و المروي عنه فيهما هو الرضا «ع»، و يقرب مضمونها، فيحتمل وحدتهما و وجود ابن اشيم في سند الثانية أيضا و سقوطه منه.
و كيف كان فيستفاد من الخبرين أن أرض الموات و المفتوحة عنوة أمرهما الى الإمام، و قد مرّ كون الأنفال الى الإمام و منها أرض الموات و ما لا ربّ له، و كذا الجبال و الأودية و الآجام و غير ذلك.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(2)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(3)- الوسائل 11/ 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(4)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 132
8- و في صحيحة عمر بن يزيد، قال: «سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد اللّه «ع»
عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها، فعمرها و كرى أنهارها و بنى فيها بيوتا و غرس فيها نخلا و شجرا. قال: فقال ابو عبد اللّه «ع»: كان أمير المؤمنين «ع» يقول:
من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له، و عليه طسقها يؤديه الى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم «ع» فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه.» «1»
الى غير ذلك من الأخبار الواردة في الغنائم و الأراضي.
______________________________
(1)- الوسائل 6/ 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 133
1- خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليا «ع» كان يفلّس الرجل اذا التوى على غرمائه، ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسم بينهم، يعني ماله. «1»
2- خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه أن عليّا «ع» كان يحبس في الدين، ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، و إن لم يكن له مال دفعه الى الغرماء. الحديث. «2»
3- خبر اسماعيل بن سعد، قال: «سألت الرضا «ع» ... و عن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت و لا يدرك الوصية، كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه الى ولده الأكابر أو إلى القاضي، و إن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ و إن كان دفع المتاع الى الأكابر و لم يعلم، فذهب فلم يقدر على ردّه كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار و طلبوا لم يجد بدّا من إخراجه، إلّا أن يكون بأمر السلطان.» «3»
4- خبر صفوان، قال: «سألت أبا الحسن «ع» عن رجل كان لرجل
عليه مال، فهلك و له وصيان، فهل يجوز أن يدفع الى أحد الوصيين دون صاحبه؟ قال:
لا يستقيم إلّا أن يكون السلطان قد قسّم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف و على يد هذا النصف، أو يجتمعان بأمر السلطان.» «4»
______________________________
(1)- الوسائل 13/ 146، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 1.
(2)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 3.
(3)- الوسائل 13/ 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3.
(4)- الوسائل 13/ 440، الباب 51 من كتاب الوصايا، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 134
1- ما روته عائشة ان رسول اللّه «ص» قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل. فنكاحها باطل. فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها.
فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له.» «1»
و قد مرّ أن المراد بالإمام و السلطان و الوالي معنى واحد.
2- صحيحة أبي حمزة الثمالي في العنين، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: ...
فإن تزوجت و هي بكر فزعمت أنه لم يصل اليها فإن مثل هذا تعرف النساء، فلينظر اليها من يوثق به منهن، فإذا ذكرت أنها عذراء فعلى الإمام أن يؤجّله سنة، فان وصل اليها و إلّا فرّق بينهما.
الحديث.» «2»
3- صحيحة أبي بصير، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقّا على الإمام ان يفرق بينهما.» «3»
4- خبر معمر بن و شيكة، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «لا يصلح الناس في الطلاق إلّا بالسيف. و لو وليتهم لرددتهم فيه الى كتاب اللّه- عزّ و جلّ.» «4»
______________________________
(1)- سنن الترمذي 2/ 280،
الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.
(2)- الوسائل 14/ 613، الباب 15 من أبواب العيوب و التدليس من كتاب النكاح، الحديث 1.
(3)- الوسائل 15/ 223، الباب 1 من أبواب النفقات من كتاب النكاح، الحديث 2.
(4)- الوسائل 15/ 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 2. و نحوه غيره في هذا الباب.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 135
5- و في خبر أبي بصير، عنه «ع»: «لو ولّيت الناس لعلّمتهم كيف ينبغي لهم أن يطلقوا، ثم لم أوت برجل قد خالف إلّا أوجعت ظهره.» «1» و نحوهما غيرهما.
6- صحيحة بريد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ فقال: ما سكتت عنه و صبرت فخلّ عنها، و إن هي رفعت أمرها الى الوالي أجّلها أربع سنين، ثم يكتب الى الصقع الذي فقد فيه، فليسأل عنه ... و إن لم يكن له مال قيل للوليّ: أنفق عليها، فان فعل فلا سبيل لها الى أن تتزوج ما أنفق عليها، و إن أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقة. الحديث.» «2»
7- قال الصدوق: «و في رواية أخرى انه إن لم يكن للزوج وليّ طلقها الوالي.» «3»
أقول: و في خبر الكناني: «و ان لم يكن له وليّ طلقها السلطان.» «4»
8- صحيحة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن الملاعن و الملاعنة كيف يصنعان؟ قال: يجلس الإمام مستدبر القبلة يقيمهما بين يديه مستقبل القبلة بحذائه.
الحديث.» و نحوها صحيحة البزنطي، عن الرضا «ع». «5»
9- خبر بريد الكناسي، عن أبي جعفر «ع» في الظهار، و فيه: «فإن كان يقدر على أن يعتق فإن على الامام أن يجبره على العتق أو
الصدقة من قبل ان يمسّها و من بعد ما يمسّها.» «6»
و الغرض من سرد هذه الأخبار من الأبواب المختلفة بيان أن الإمامة بمعنى الحكومة داخلة في نظام قوانين الإسلام و نسجها و أنها تبقى ببقائها، و ان عدم الاهتمام بها مساوق لعدم الاهتمام بالإسلام و قوانينه.
______________________________
(1)- الوسائل 15/ 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 3. و نحوه غيره في هذا الباب.
(2)- الوسائل 15/ 389، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 1.
(3)- الوسائل 15/ 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 2.
(4)- الوسائل 15/ 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 5.
(5)- الوسائل 15/ 587، الباب 1 من أبواب كتاب اللعان، الحديث 4 و 2.
(6)- الوسائل 15/ 533، الباب 17 من كتاب الظهار، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 136
1- خبر عبد الملك بن أعين و مالك بن أعين، عن أبي جعفر «ع» قال: «سألته عن نصراني مات و له ابن أخ مسلم و ابن أخت مسلم، و له أولاد و زوجة نصارى ... قيل له: فإن أسلم أولاده و هم صغار؟ فقال: يدفع ما ترك أبوهم الى الإمام حتى يدركوا، فإن أتمّوا على الإسلام إذا أدركوا دفع الإمام ميراثه إليهم، و إن لم يتموا على الإسلام إذا أدركوا دفع الإمام ميراثه إلى ابن أخيه و ابن أخته المسلمين. الحديث.» «1»
2- صحيحة أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مسلم مات و له أم نصرانية ... فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام.» «2»
3- الأخبار الكثيرة الواردة في حكم ميراث من لا وارث له، فراجع الباب 3 و 4
من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة من الوسائل. «3» ففي بعضها أنه من الأنفال، و في بعضها أنه للإمام، و في بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين.
و الظاهر رجوع الجميع إلى أمر واحد، لما مرّ من أن الأنفال للإمام و لكن لا لشخصه بل لحيثية الإمامة و منصبها، فيصرف في مصالح المسلمين و ان كان من أعلى مصالحهم إدارة شئون شخص الإمام، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، و أشرنا اليه هنا في الفصل الرابع. و يأتي في الباب الثامن من هذا الكتاب أيضا.
______________________________
(1)- الوسائل 17/ 379، الباب 2 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
(2)- الوسائل 17/ 381، الباب 3 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.
(3)- الوسائل 17/ 547 و 551، باب أن من مات و لا وارث له ... و باب حكم ما لو تعذر ....
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 137
4- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا يستقيم الناس على الفرائض و الطلاق إلّا بالسيف.» «1» و نحوها غيرها.
فيستفاد من هذه الرواية أن دين الإسلام ليس كما توهمه بعض من لا خبرة له من كونه مشرّعا للقوانين و الآداب فقط من دون أن يلتفت الى القوة المجرية لها، بل إن اقامة الحكومة الحقة المقتدرة لإجراء المقررات و القوانين المشرّعة من أعظم أهدافه و تشريعاته، فانتظر لبيان ذلك و توضيحه.
______________________________
(1)- الوسائل 17/ 419، الباب 3 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 138
1- خبر اسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال أمير المؤمنين «ع» لشريح: يا شريح، قد جلست
مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلّا نبي أو وصيّ نبي أو شقيّ.» «1»
2- و خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فان الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين: لنبيّ (كنبيّ) أو وصي نبي.» «2»
أقول: هل المراد بالحكومة في الحديث خصوص القضاء أو مطلق الولاية التي من شئونها القضاء؟ وجهان. و لعل الأول أظهر. و قوله: «لنبي»، هكذا في الكافي و التهذيب. و في الفقيه: «كنبي»، و لا يخفى وجود الفرق بينهما. اذ على الأول ينحصر في النبي و الوصي، دون الثاني.
و في مرآة العقول:
«لا يخفى أن هذه الأخبار تدلّ بظواهرها على عدم جواز القضاء لغير المعصوم، و لا ريب أنهم- عليهم السلام- كانوا يبعثون القضاة الى البلاد، فلا بد من حملها على أن القضاء بالأصالة لهم و لا يجوز لغيرهم تصدّي ذلك إلّا بإذنهم. و كذا في قوله «ع»: لا يجلسه الّا نبيّ، أي بالأصالة. و الحاصل ان الحصر إضافي بالنسبة الى
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(2)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 139
من جلس فيها بغير إذنهم و نصبهم «ع».» «1»
أقول: ما ذكره من الظهور مبني على كون المراد بالوصي و بالإمام خصوص الإمام المعصوم. و حينئذ فوجوب حملها على من له القضاء بالأصالة أو على الحصر الإضافي واضح، إذ لا يمكن الالتزام بتعطّل القضاء الشرعي في عصر الغيبة و إن طالت آلاف سنة.
و أما ما قال من أنهم «ع» كانوا يبعثون القضاة الى البلاد فإثباته بالنسبة الى غير النبي «ص» و أمير المؤمنين
«ع» بحسب التاريخ مشكل. نعم، كان لهم «ع» وكلاء في بعض البلاد سرّا لرجوع شيعتهم اليهم في المسائل الشرعية و الحقوق الشرعية.
و أما بعث القضاة فلم يثبت، اللهم إلّا أن يريد بذلك جعل منصب القضاء للفقيه بنحو العموم، كما ربما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة و مشهورة أبي خديجة.
3- خبر الأصبغ بن نباتة، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين.» «2»
و مثله خبر أبي مريم، عن أبي جعفر «ع» «3».
فهذا السنخ من الأخبار يدلّ على أن من تشريعات الإسلام وجود الحكومة و الرئاسة و بيت المال العام.
4- خبر البرقي، عن أبيه، عن علي «ع» قال: «يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء و الجهّال من الأطبّاء و المفاليس من الأكرياء. قال: و قال «ع»: حبس الإمام بعد الحد ظلم.» «4»
5- صحيحة عمر بن يزيد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مات
______________________________
(1)- مرآة العقول 4/ 231 من ط. القديم، (أوّل كتاب القضاء).
(2)- الوسائل 18/ 165، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.
(3)- الوسائل 19/ 111، الباب 7 من أبواب دعوى القتل من كتاب القصاص، الحديث 1.
(4)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 140
و ترك امرأته و هي حامل، فوضعت بعد موته غلاما، ثم مات الغلام بعد ما وقع الى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل و صاح حين وقع الى الأرض ثم مات.
قال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام.» «1»
6- خبر حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع»:
من يقيم الحدود؟
السلطان، أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «2»
و هل يراد بقوله: «من اليه الحكم»، القاضي أو الوالي الناصب له؟ وجهان.
و لعل الأول أظهر، فيراد أن القاضي بنفسه يجري و ينفّذ ما حكم به من الحدّ، فتأمّل.
7- قال المفيد في المقنعة:
«فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه، و هم أئمة الهدى من آل محمد «ص» و من نصبوه لذلك من الأمراء و الحكّام. و قد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان.» «3»
8- و في المستدرك عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه أن عليا «ع» قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام.» و رواه في الدعائم عنه «ع» مثله و فيه: «بإمام عدل.» «4»
9- خبر حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة. و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «5»
10- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي «ص» قال: «يوم واحد
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 259، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6.
(2)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
(3)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2. المقنعة/ 129.
(4)- مستدرك الوسائل 3/ 220، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
(5)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 141
من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما. و حدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة
ستين سنة.» «1»
أقول: فاللّه- تعالى- الذي لا يقطع بركاته و قطر السماء عن خلقه في عصر من الأعصار كيف يقطع الإمامة و إقامة الحدود في عصر الغيبة و ان طالت ما طالت بسبب سوء نية الخليفة العباسي و غيره من الأمور؟!
11- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»- في رجل أقيمت عليه البينة بأنه زنى ثم هرب قبل أن يضرب؟ قال: إن تاب فما عليه شي ء، و إن وقع في يد الإمام أقام عليه الحد، و إن علم مكانه بعث إليه.» «2»
12- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «قلت له: رجل جنى إليّ، أعفو عنه أو أرفعه الى السلطان؟ قال: هو حقّك، إن عفوت عنه فحسن، و إن رفعته الى الإمام فإنما طلبت حقك، و كيف لك بالإمام؟» «3»
13- موثقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه. الحديث.» «4»
14- و في الفقيه: «قال رسول اللّه «ص»: لا يحلّ لوال يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلّا في حدّ. و أذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة.» «5»
15- مرسلة البرقي، عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقين «ع» عن أمير المؤمنين «ع»: «إذا قامت البينة فليس للإمام ان يعفو، و اذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى
______________________________
(1)- مستدرك الوسائل 3/ 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.
(2)- الوسائل 18/ 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
(3)- الوسائل 18/ 329، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
(4)- الوسائل 18/ 330، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
(5)-
الفقيه 4/ 73، باب نوادر الحدود، الحديث 5143.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 142
الإمام: إن شاء عفا و إن شاء قطع.» «1»
16- صحيحة الفضيل، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: من أقرّ على نفسه عند الإمام بحق من حدود اللّه مرة واحدة، حرّا كان أو عبدا، أو حرّة كانت أو أمة فعلى الإمام أن يقيم الحد عليه للذي أقرّ به على نفسه، كائنا من كان إلّا الزاني المحصن. الحديث.» «2»
17- خبر الحسين بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد و لا يحتاج الى بينة مع نظره، لأنه أمين اللّه في خلقه. الحديث.» «3»
18- و قال الصادق «ع» في رجل قال لامرأته يا زانية، قالت: أنت أزنى منّي، فقال: «عليها الحد فيما قذفت به، و أما إقرارها على نفسها فلا تحد حتى تقر بذلك عند الإمام أربع مرات.» «4»
19- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يقطع رجل السارق بعد قطع اليد ثم لا يقطع بعد، فإن عاد حبس في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «5» و نحوه روايات اخر.
20- خبر عيسى بن عبد اللّه قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السارق يسرق العام فيقدم الى الوالي ليقطع فيوهب، ثم يؤخذ في قابل و قد سرق الثانية و يقدم الى السلطان فبأيّ السرقتين يقطع؟ قال: يقطع بالأخير. الحديث.» «6»
21- خبر حمزة بن حمران، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» (الى قوله): و إن كان
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
(2)- الوسائل
18/ 343، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.
(3)- الوسائل 18/ 344، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
(4)- الوسائل 18/ 447، الباب 13 من أبواب حد القذف، الحديث 3.
(5)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.
(6)- الوسائل 18/ 500، الباب 9 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 143
الميت لم يتوال الى أحد حتى مات فإن ميراثه لإمام المسلمين. فقلت: فما حال الغاصب؟
فقال: اذا هو أوصل المال الى امام المسلمين فقد سلم. الحديث.» «1»
22- خبر الفقيه و فيه: «فجرت السنة في الحدّ أنه إذا رفع الى الإمام و قامت عليه البيّنة أن لا يعطل و يقام.» «2»
23- خبر المفضل بن صالح، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إذا سرق السارق من البيدر من إمام جائر فلا قطع عليه انّما أخذ حقّه، فاذا كان من إمام عادل عليه القتل.» «3»
24- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «من شهر السلاح في مصر ... فجزاؤه جزاء المحارب و أمره الى الإمام: إن شاء قتله و صلبه، و ان شاء قطع يده و رجله.
الحديث.» «4»
25- صحيحة بريد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-:
«إنما جزاء الذين يحاربون اللّه و رسوله»، قال: ذلك الى الإمام، يفعل ما شاء. قلت:
فمفوّض ذلك اليه؟ قال: لا و لكن نحو الجناية.» «5»
26- خبر عبد اللّه بن طلحة، عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إنما جزاء الذين يحاربون اللّه و رسوله» الآية، «هذا نفي المحارب (المحاربة- كا.) غير هذا النفي. قال:
يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل
و ينفي و يحمل في البحر ثم يقذف به. الحديث.» «6»
27- خبر عمّار الساباطي، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: كل مسلم بين
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 501، الباب 10 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.
(2)- الوسائل 18/ 509، الباب 18 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.
(3)- الوسائل 18/ 519، الباب 24 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.
(4)- الوسائل 18/ 532، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 1.
(5)- الوسائل 18/ 533، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 2.
(6)- الوسائل 18/ 540، الباب 4 من أبواب حد المحارب، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 144
مسلمين ارتد عن الإسلام ... و على الإمام أن يقتله و لا يستتيبه.» «1»
28- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع» انه سئل عمن شتم رسول اللّه «ص» فقال: «يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع الى الإمام.» «2»
29- روى الترمذي بسنده عن رسول اللّه «ص» انه قال: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.» «3»
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 545، الباب 1 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.
(2)- الوسائل 18/ 554، الباب 7 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.
(3)- سنن الترمذي 2/ 438، الباب 2 من أبواب الحدود، الحديث 1447.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 145
1- خبر الفضيل، قال: «قلت لأبي جعفر «ع»: عشرة قتلوا رجلا؟ قال: إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا و غرموا تسع ديات، و إن شاءوا تخيّروا رجلا فقتلوه ... ثم الوالي بعد يلي أدبهم و حبسهم.» «1»
2-
خبر أبي العباس و غيره، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيهم شاءوا. الحديث.» «2» و نحوه غيره.
3- صحيحة حريز، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سألته عن رجل قتل رجلا عمدا، فرفع الى الوالي فدفعه الوالي الى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليه قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ قال: «أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل.
الحديث.» «3»
4- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قضى عليّ «ع» في رجلين أمسك أحدهما و قتل الآخر، قال: «يقتل القاتل و يحبس الآخر حتى يموت غما. الحديث.» «4»
و نحوها غيرها، حيث ان الحبس انّما يقع بيد الحكام و الولاة.
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 6.
(2)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 7.
(3)- الوسائل 19/ 34، الباب 16 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(4)- الوسائل 19/ 35، الباب 17 من أبواب القصاص، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 146
5- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» في عبد جرح رجلين ... قيل له: فان جرح رجلا في اول النهار و جرح آخر في آخر النهار؟ قال: «هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأول.» «1»
6- صحيحة ابن سنان، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول في رجل أراد امرأة على نفسها حراما فرمته بحجر فأصابت منه مقتلا، قال: «ليس عليها شي ء فيما بينها و بين اللّه- عزّ و جلّ-، و إن قدمت الى إمام عادل أهدر دمه.» «2»
7- خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له
في قتل و لا جراحة.» «3»
8- صحيحة ابي بصير، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن رجل قتل رجلا مجنونا فقال: «إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه (فقتله) فلا شي ء عليه من قود و لا دية، و يعطي ورثته ديته من بيت مال المسلمين. الحديث.» «4»
9- خبر أبي الورد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع» أو لأبي جعفر: أصلحك اللّه، رجل حمل عليه رجل مجنون فضربه المجنون ضربة فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه فقتله؟ فقال: «أرى ان لا يقتل به و لا يغرم ديته، و تكون ديته على الإمام و لا يبطل دمه.» «5»
10- خبر أبي عبيدة، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن أعمى فقأ عين صحيح؟ فقال: «إن عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 77، الباب 45 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(2)- الوسائل 19/ 44، الباب 23 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(3)- الوسائل 19/ 47، الباب 24 من أبواب القصاص، الحديث 8.
(4)- الوسائل 19/ 51- 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(5)- الوسائل 19/ 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 147
فالدية على الإمام و لا يبطل حق امرئ مسلم.» «1»
11- صحيحة أبي ولاد الحناط، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مسلم قتل رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلّا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: «على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه) الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل اليه، فإن شاء قتل و إن شاء عفا و إن
شاء أخذ الدية. فإن لم يسلم أحد كان الإمام وليّ أمره، فإن شاء قتل و إن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنّما هو حق جميع المسلمين، و إنّما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية و ليس له أن يعفو.» «2»
12- و صحيحته الاخرى، قال: «قال أبو عبد اللّه «ع» في الرجل يقتل و ليس له وليّ إلّا الإمام: «انه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام و كذلك تكون ديته لإمام المسلمين.» «3»
أقول: لا يخفى أن الصحيحتين من أقوى الشواهد على ما ذكرناه مرارا من أن كون الشي ء للإمام عبارة أخرى عن كونه للمسلمين، فيراد به كونه لمنصب الإمامة و تحت اختيار الإمام لا لشخص الإمام، و لو كان لشخصه لكان له العفو قطعا. و قد مرّ في ميراث من لا وارث له أن المذكور في بعض الأخبار كونه من الأنفال، و في بعضها أنه للإمام، و في بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين، و عرفت أن الجميع يرجع الى أمر واحد. و المراد كونه للمسلمين و لكنه في تصرف الإمام و اختياره. و يبعد جدّا في مقام التشريع جعل جميع الأنفال، أي الأموال
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 65، الباب 35 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(2)- الوسائل 19/ 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 1.
(3)- الوسائل 19/ 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 148
العامّة التي جعلها
اللّه لكافّة البشر و خمس جميع ما يملكه الناس ملكا لشخص واحد، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، و في الباب الثامن من هذا الكتاب.
13- رواية عبد اللّه بن سنان و عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال:
«قضى أمير المؤمنين «ع» في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: «إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين و لا يبطل دم امرئ مسلم، لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام، و يصلّون عليه و يدفنونه. قال: و قضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين.» «1»
و نحوها غيرها، فراجع.
14- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إن وجد قتيل بأرض فلاة أدّيت ديته من بيت المال، فإن أمير المؤمنين «ع» كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم.» «2»
و نحوه غيره، فراجع الباب 9 و 10 من ابواب دعوى القتل. «3»
15- خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت: ميت قطع رأسه؟ قال: عليه الدية. قلت: فمن يأخذ ديته؟ قال: الإمام، هذا للّه. و ان قطعت يمينه أو شي ء من جوارحه فعليه الأرش للإمام.» «4»
16- صحيحة أبي ولاد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة فيما يجنون من قتل أو جراحة، إنما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت الجناية على إمام المسلمين لأنهم يؤدّون إليه الجزية، كما يؤدي العبد الضريبة الى سيّده. قال: و هم مماليك للإمام، فمن أسلم منهم فهو حرّ.» «5»
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 109، الباب 6 من أبواب دعوى القتل، الحديث
1.
(2)- الوسائل 19/ 112، الباب 8 من أبواب دعوى القتل، الحديث 3.
(3)- الوسائل 19/ 114 و 116، باب ثبوت القسامة ... و باب كيفية القسامة.
(4)- الوسائل 19/ 248، الباب 24 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 3.
(5)- الوسائل 19/ 300، الباب 1 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 149
17- خبر أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل قتل رجلا متعمدا ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: «إن كان له مال أخذت الدية من ماله و إلّا فمن الأقرب فالأقرب، و إن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم.» و في رواية أخرى: «ثم للوالي بعد أدبه و حبسه.» «1»
18- مرسلة يونس، عن أحدهما انه قال في الرجل إذا قتل رجلا خطأ فمات قبل أن يخرج الى أولياء المقتول من الدية: «ان الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال.» «2»
19- خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال في مكاتب قتل رجلا خطأ ... فإن عجز المكاتب فلا عاقلة له، إنما ذلك على إمام المسلمين.» «3»
20- ما عن كتاب ظريف، عن أمير المؤمنين «ع» فيمن لم يكن له من يحلف معه و لم يوثق به على ما ذهب من بصره: «انه يضاعف عليه اليمين ... و الوالي يستعين في ذلك بالسؤال و النظر و التثبت في القصاص و الحدود و القود.» «4»
اعلم انا الى هنا مررنا على أبواب كتاب الوسائل مرورا إجماليا، فضبطنا منها كثيرا من الأخبار التي ذكر فيها لفظ الإمام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم، أو الأمير،
أو بيت المال، أو الجبر بالسيف، أو السجن أو نحو ذلك مما يستفاد منه إجمالا أن تشريع القوانين و الأحكام في الإسلام في الأبواب المختلفة كان على أساس حكومة إسلامية تكون وظيفتها إجراء هذه القوانين المختلفة و تنفيذها و لو بالقوة القاهرة.
و بالجملة فكما شرعت في الإسلام القوانين و الأحكام، شرّع فيه نظام الإجراء
______________________________
(1)- الوسائل 19/ 302- 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 1 و 2.
(2)- الوسائل 19/ 302- 304، الباب 6 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
(3)- الوسائل 19/ 308، الباب 12 من أبواب العاقلة، الحديث 1.
(4)- الوسائل 19/ 220، الباب 3 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 150
و التنفيذ أيضا. فالحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و قد ذكرنا ما ذكرناه في ثلاثة عشر فصلا، و لم نكن بصدد الاستقصاء، بل بصدد ذكر نماذج من الأبواب المختلفة. و الأولى ذكر نماذج من الفقه الإسلامي و فتاوى الأصحاب أيضا، و نكتفي فيها بالموارد التي لم نعثر فيها على رواية، و نجعل المرجع كتاب النهاية لشيخ الطائفة و كتاب الشرائع للمحقق الحلّي- طاب ثراهما- و نجعل هذا فصلا مستقلا، فنقول:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 151
أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم أو نحو ذلك مما يشكل حمله على خصوص الإمام المعصوم
1- قال في النهاية:
«و قد يكون الأمر بالمعروف باليد، بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع و قتل النفوس و ضرب من الجراحات، إلّا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة ... و إنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها،
فأمّا باليد فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب: إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدّمناه.» «1»
2- و في كتاب الأمر بالمعروف من الشرائع:
«و لو افتقر الى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم، و قيل: لا إلّا بإذن الإمام، و هو الأظهر.» «2»
أقول: لو توقف إجراء المعروف و الردع عن المنكر على الجراح و الضرب فهل يجبان مطلقا، أو يشترطان بالإذن من الإمام؟ وجهان، بل قولان: من إطلاق الأدلّة، و من أن الجواز بنحو الإطلاق لكل أحد يوجب الهرج و المرج بل و اختلال
______________________________
(1)- النهاية للشيخ/ 300.
(2)- الشرائع 1/ 343.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 152
النظام في بعض المراحل.
و في خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»: «فأنكروا بقلوبكم و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.».
و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفان معا.»
فإطلاق هذين الخبرين و بعض الأخبار الأخر يقتضي عدم الاشتراط، فراجع الوسائل الباب 3 من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر «1». هذا.
و لو قيل بعدم اشتراط الوجوب و لكن الوجود يشترط غالبا بإذن الإمام و الحاكم- اذ الضرب و الجراح لا يحصلان إلّا على أساس القدرة، فيجب تحصيل الحكومة الحقة لتحصل القدرة على التنفيذ مع النظم- كان ذلك موافقا للتحقيق. فالإمام شرط للوجود، لا للوجوب. و تكون أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بكثرتها و تعاضدها و إطلاقها من أقوى الأدلة على وجوب إقامة الدولة الحقة، و الى ذلك اشار خبر يحيى الطويل. اذ المستفاد منه
ان المقصود من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يحصل إلّا بتحصيل القدرة و بسط اليد، اذ لا أثر غالبا للأمر و النهي المجردين اذا لم يتعقبهما إعمال القدرة مع التخلف، و اللّه- تعالى- أجلّ من أن يجعل حكما لا يترتب عليه خاصية و أثر. و التفصيل موكول الى محله.
و سيأتي البحث في مسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إدارة الحسبة في الفصل الخامس من الباب السادس، فانتظر.
3- و في كتاب التجارة من الشرائع:
«و أن يكون البائع مالكا أو ممن له أن يبيع عن المالك، كالأب و الجد للأب و الوكيل و الوصي و الحاكم و أمينه.» «2»
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 403- 407، باب وجوب الأمر و النهي بالقلب ثم ...، الحديث 1 و 2 و ...
(2)- الشرائع 2/ 14.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 153
4- و فيه أيضا:
«و يجبر المحتكر على البيع و لا يسعّر عليه، و قيل: يسعّر. و الأول أظهر.» «1»
5- و في المتاجر من النهاية:
«و متى ضاق على الناس الطعام و لم يوجد إلّا عند من احتكره كان على السلطان أن يجبره على بيعه و يكرهه عليه.» «2»
6- و في كتاب الديون من النهاية:
«و من وجب عليه الدين لا يجوز له مطله و دفعه مع قدرته على قضائه، فإن مطل و دفع كان على الحاكم حبسه و إلزامه الخروج مما وجب عليه، فان حبسه ثم ظهر له بعد ذلك إعساره وجب تخليته، و إن لم يكن معسرا غير انه يدفع به جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه و عقاره و يقضي عنه ما وجب عليه. و ان كان من وجب عليه الدين و ثبت
غائبا وجب أيضا على الحاكم سماع البينة عليه و يجوز له أن يبيع عليه شيئا من أملاكه.» «3»
7- و في المكاسب من النهاية:
«تولّى الأمر من قبل السلطان العادل الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر الواضع الأشياء مواضعها جائز مرغب فيه، و ربما بلغ حد الوجوب.» «4»
8- و فيها أيضا:
«و متى تولى شيئا من أمور السلطان من الإمارة و الجباية و القضاء و غير ذلك من أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل على ذلك الأرزاق و الجوائز و الصلات، فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، و إن كان من جهة
______________________________
(1)- الشرائع 2/ 21.
(2)- النهاية للشيخ/ 374.
(3)- النهاية للشيخ/ 305- 306.
(4)- النهاية للشيخ/ 356.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 154
سلطان الجور فقد رخّص له في قبول ذلك من جهتهم لأن له حظّا في بيت المال.» «1»
9- و فيها أيضا:
«و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدمناه، فأما من جهة سلطان الجور فلا يجوز إلّا عند الضرورة أو الخوف.» «2»
10- و في كتاب الرهن من الشرائع:
«و إذا وضعاه على يد عدل فللعدل ردّه عليهما أو تسليمه الى من يرتضيانه ...
و لو استترا قبضه الحاكم. و لو كانا غائبين و أراد تسليمه إلى الحاكم أو عدل آخر من غير ضرورة لم يجز و يضمن لو سلّم، و كذا لو كان أحدهما غائبا. و إن كان هناك عذر سلّمه الى الحاكم ... و لو خان العدل نقله الحاكم الى أمين غيره ... و إذا حلّ الأجل و تعذّر الأداء كان للمرتهن البيع إن كان وكيلا و
إلّا رفع أمره الى الحاكم ليلزمه بالبيع، فان امتنع كان له حبسه و له أن يبيع عليه ... اذا رهن مشاعا و تشاحّ الشريك و المرتهن في إمساكه انتزعه الحاكم و آجره إن كان له أجرة ...
و لو طلب كل واحد منهما نقدا غير النقد الغالب و تعاسرا ردّهما الحاكم الى الغالب.» «3»
11- و في كتاب الحجر من الشرائع:
«لا يثبت حجر المفلس إلّا بحكم الحاكم، و هل يثبت في السفيه بظهور سفهه؟ فيه تردد، و الوجه أنه لا يثبت. و كذا لا يزول إلّا بحكمه.» «4»
12- و في الشركة من الشرائع:
______________________________
(1)- النهاية للشيخ/ 357.
(2)- النهاية للشيخ/ 367.
(3)- الشرائع 2/ 80- 82، و 84- 85.
(4)- الشرائع 2/ 102.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 155
«فكل ما لا ضرر في قسمته يجبر الممتنع مع التماس الشريك للقسمة.» «1»
13- و في الوديعة منه:
«لا يبرأ المودع إلّا بردّها إلى المالك أو وكيله، فان فقدهما فإلى الحاكم مع العذر.» «2»
14- و في الوكالة منه:
«و ينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولى الحكومة عنهم.» «3»
15- و في الوكالة من النهاية:
«و للناظر في أمور المسلمين و لحاكمهم أن يوكل على سفهائهم و أيتامهم و نواقص عقولهم من يطالب بحقوقهم و يحتج عنهم و لهم.» «4»
16- و في الوصايا من الشرائع:
«لو أوصى الى العدل ففسق بعد موت الموصى أمكن القول ببطلان وصيته، لان الوثوق ربما كان باعتبار صلاحه فلم يتحقق عند زواله، فحينئذ يعز له الحاكم و يستنيب مكانه ... و لو أوصى الى اثنين ... و للحاكم جبرهما على الاجتماع فإن تعاسرا جاز له الاستبدال بهما ... و لو مرض أحدهما أو عجز ضم اليه الحاكم من
يقويه ... و لو ظهر للوصي عجز ضم اليه مساعد و ان ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله و يقيم مكانه أمينا ... و كذا لو مات إنسان و لا وصي له كان للحاكم النظر في تركته.» «5»
______________________________
(1)- الشرائع 2/ 132.
(2)- الشرائع 2/ 167.
(3)- الشرائع 2/ 198.
(4)- النهاية للشيخ/ 317.
(5)- الشرائع 2/ 256- 257.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 156
17- و في النهاية:
«فإن ظهر من الوصي بعده خيانة كان على الناظر في أمر المسلمين أن يعزله و يقيم أمينا مقامه، و إن لم تظهر منه خيانة إلّا أنه ظهر منه ضعف و عجز عن القيام بالوصية كان للناظر في أمر المسلمين أن يقيم معه أمينا ضابطا يعينه.» «1»
18- و في النكاح من الشرائع:
«لا ولاية في عقد النكاح لغير الأب و الجد للأب و ان علا و المولى و الوصي و الحاكم.» «2»
19- و في النكاح من النهاية:
«و متى لم يقم الرجل بنفقة زوجته و بكسوتها و كان متمكنا من ذلك ألزمه الإمام النفقة أو الطلاق.» «3»
20- و فيه أيضا:
«و إن تزوجت المرأة برجل على أنه صحيح فوجدته خصيا كانت بالخيار ... و على الإمام أن يعزّره لئلا يعود الى مثل ذلك.» «4»
21- و في النكاح من الشرائع:
«فإذا كان النشوز منهما و خشي الشقاق بعث الحاكم حكما من أهل الزوج و آخر من أهل المرأة.» «5»
______________________________
(1)- النهاية للشيخ/ 607.
(2)- الشرائع 2/ 276.
(3)- النهاية للشيخ/ 475.
(4)- النهاية للشيخ/ 487- 488.
(5)- الشرائع 2/ 339.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 157
22- و في الطلاق من الشرائع:
«و لو لم يكن له (المجنون) وليّ طلق عنه السلطان أو من نصبه
للنظر في ذلك.» «1»
23- و في الطلاق من النهاية:
«فإن طلق الرجل امرأته و هو زائل العقل بالسكر أو الجنون أو المرّة أو ما أشبهها كان طلاقه غير واقع ... فإن لم يكن له وليّ طلق عنه الإمام أو من نصبه الإمام.» «2»
24- و في الظهار من الشرائع:
«العاشرة: إن صبرت المظاهرة فلا اعتراض، و ان رفعت أمرها الى الحاكم خيّره بين التكفير و الرجعة أو الطلاق.» «3»
25- و في الطلاق من النهاية في حكم الإيلاء:
«فإذا فعل ذلك كانت المرأة بالخيار: إن شاءت صبرت عليه أبدا، و إن شاءت خاصمته الى الحاكم، فإن استعدت عليه أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر ... و إن أقام على عضلها و الامتناع من وطيها خيّره الحاكم ...، فإن أبى الرجوع و الطلاق جميعا و أقام على الإضرار بها حبسه الحاكم في حظيرة من قصب و ضيّق عليه في المطعم و المشرب ...» «4»
26- و في إحياء الموات من الشرائع:
«و لو اقتصر على التحجير و أهمل العمارة أجبره الإمام على أحد الأمرين: إما الإحياء، و إما التخلية بينهما و بين غيره. و لو امتنع أخرجها السلطان من يده
______________________________
(1)- الشرائع 3/ 12.
(2)- النهاية للشيخ/ 509.
(3)- الشرائع 3/ 66.
(4)- النهاية للشيخ/ 527- 528.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 158
لئلا يعطلها.» «1»
27- و في المتاجر من النهاية (باب المزارعة و المساقاة):
«و من أخذ أرضا ميتة فأحياها كانت له و هو أولى بالتصرف فيها إذا لم يعرف لها ربّ، و كان للسلطان طسق الأرض.» «2»
28- و في اللقطة من الشرائع:
«و إذا وجد الملتقط سلطانا ينفق عليه استعان به، و إلّا استعان بالمسلمين ...
الرابعة: اذا كان للمنبوذ ما افتقر
الملتقط في الإنفاق عليه الى إذن الحاكم ...
السادسة: عاقلة اللقيط الإمام اذا لم يظهر له نسب ... و في خطأه الدية على الإمام ... و يبرأ لو سلمه (البعير) الى صاحبه و لو فقده سلمه الى الحاكم ... و إن شاء دفعها (الشاة) الى الحاكم ليحفظها أو يبيعها و يوصل ثمنها الى المالك ...
الأولى: اذا لم يجد الآخذ سلطانا ينفق على الضالة أنفق من نفسه و رجع به ...
و لو كانت (اللقطة) مما لا يبقى كالطعام قوّمه على نفسه و انتفع به، و إن شاء دفعه الى الحاكم ... و إن رأى الحاكم الحظ في بيعه و تعريف ثمنه جاز.» «3»
29- و في شهادات النهاية:
«و ينبغي للإمام أن يعزّر شهود الزور و يشهّرهم في أهل محلتهم لكي يرتدع غيرهم عن مثله في مستقبل الأوقات.» «4»
30- و في حدود النهاية:
«و إذا زنا اليهودي أو النصراني بأهل ملّته كان الإمام مخيرا بين إقامة الحدّ عليه بما تقتضيه شريعة الإسلام و بين تسليمه الى أهل دينه أو دين المرأة ليقيموا عليهم
______________________________
(1)- الشرائع 3/ 275.
(2)- النهاية للشيخ/ 442- 443.
(3)- الشرائع 3/ 284- 286، و 289- 290، و 292.
(4)- النهاية للشيخ/ 336.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 159
الحدود على ما يعتقدونه.» «1»
31- و فيها أيضا:
«و اذا كان الذي وجب عليه الرجم قد قامت عليه به بيّنة كان أول من يرجمه الشهود ثم الإمام ثم الناس. و إن كان قد وجب عليه ذلك بالإقرار كان أول من يرجمه الإمام ثم الناس.» «2»
32- و فيها أيضا:
«من وطئ امرأة ميتة ... و إن كانت الموطوءة زوجته وجب عليه التعزير دون الحد الكامل حسب ما يراه الإمام في
الحال ... و من نكح بهيمة كان عليه التعزير بما دون الحد حسب ما يراه الإمام في الحال.» «3»
33- و فيها أيضا:
«و من بنّج غيره أو أسكره بشي ء احتال عليه في شربه أو أكله ثم أخذ ماله عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام و استرجع عنه ما أخذ ... و المحتال على أموال الناس بالمكر و الخديعة و تزوير الكتب و الشهادات الزور و الرسالات الكاذبة و غير ذلك يجب عليه التأديب و العقاب و أن يغرم ما أخذ بذلك على الكمال، و ينبغي للسلطان أن يشهّره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله.» «4»
34- و في الديات من النهاية:
«و إذا أمر إنسان حرّا بقتل رجل فقتله المأمور وجب القود على القاتل دون الآمر، و كان على الإمام حبسه ما دام حيّا.» «5»
______________________________
(1)- النهاية للشيخ/ 696.
(2)- النهاية للشيخ/ 700.
(3)- النهاية للشيخ/ 708.
(4)- النهاية للشيخ/ 721- 722.
(5)- النهاية للشيخ/ 747.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 160
35- و فيها أيضا:
«و إذا قتل الذميّ مسلما عمدا دفع برمّته هو و جميع ما يملكه الى أولياء المقتول، فإن أرادوا قتله كان لهم ذلك و يتولّى ذلك عنهم السلطان، و إن أرادوا استرقاقه كان رقا لهم.» «1»
36- و فيها أيضا:
«من قلّب على رأس إنسان ماء حارّا فامتعط شعره فلم ينبت كان عليه الدية كاملة، فان نبت و رجع الى ما كان كان عليه أرشه حسب ما يراه الإمام.» «2»
فهذه بعض المسائل التي استخرجناها من كتابي النهاية و الشرائع التي أرجع فيها الحكم الى الحاكم، أو الوالي، أو الإمام، أو السلطان أو نحو ذلك، و كان بناؤنا في ذكر الفتاوى على الاقتصار على الموارد التي
لم نتعرض في الفصول السابقة لرواياتها، و إلّا لزادت على ذلك بكثير.
و أنت اذا تتبعت مصنفات الفريقين في الفقه أو في الحديث لا تجد مصنفا إلّا و يوجد فيه هذا السنخ من الأحاديث أو الفتاوى في غاية الكثرة. كما انك لا تجد فقيها من الفقهاء في عصر من الأعصار أو مصر من الأمصار لم يكن مرجعا لهذا السنخ من المسائل العامّة المرتبطة بقائد المسلمين و إمامهم.
و لم يكن غرضنا استقصاء الروايات و الفتاوى، فإنه يتوقف على فراغ واسع لا يتيسّر لي فعلا، بل كان الغرض ذكر نماذج من الأبواب المختلفة، فتدبر.
______________________________
(1)- النهاية للشيخ/ 748.
(2)- النهاية للشيخ/ 764.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 161
اعلم أنا قد عقدنا الباب الأول من الكتاب فيما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية، و الباب الثاني في بيان ولاية النبي «ص» و الأئمة المعصومين «ع»، و الباب الثالث لبيان لزوم الولاية و ضرورتها و وجوب الاهتمام بها في جميع الأعصار، و فصلنا هذا الباب بفصول اربعة:
تعرضنا في الفصل الأول منها لبعض الكلمات المشتملة على ادعاء الإجماع أو الاتفاق في المسألة.
و في الفصل الثاني مررنا مرورا اجماليا على الروايات و الفتاوى المعلقة فيها الأحكام على الإمام أو السلطان أو الوالي أو الحاكم أو نحو ذلك مما يستفاد منها اجمالا كون الولاية و الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و قد اشتمل هذا الفصل على اربعة عشر فصلا، كما مرّ.
فالآن نعقد الفصل الثالث من الباب لبيان ما يستدل به على لزوم الحكومة و ضرورتها في جميع الأعصار و نذكر لذلك عشرة أدلة:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 162
انه قد حصلت لنا من السبر الإجمالي للأخبار و الفتاوى نتيجتان:
الأولى: ان دين الإسلام ليس كما يزعمه بعض البسطاء السذّج من المسلمين، بل و بعض السذّج من علماء الدين أيضا- نتيجة لإلقاءات المستعمرين و عملائهم- ليس منحصرا في عدّة أعمال عبادية و آداب و مراسيم شخصية فقط، بل هو نظام واسع كافل لجميع ما يحتاج اليه الإنسان و يواجهه في معاشه و معاده من بدو تكوّنه الى آخر مراحل حياته من المصالح الفردية و الاجتماعية، و ما يجب أو ينبغي أن يكون عليه الإنسان في قبال خالقه و عائلته و بيئته، و علاقاته الاقتصادية و السياسية و روابط الحاكم و الرعية و علاقته مع سائر الأمم و نحو ذلك.
الثانية: ان الإسلام ليس
ينحصر في التقنين و التشريع فقط من دون التفات الى القوّة المنفّذة و شرائطها، بل شرّعت أحكامه و مقرراته على أساس الحكومة الصالحة العادلة التي تقدر على إجراء المقررات و تنفيذها. فاشتبك فيه التقنين و التنفيذ معا و كانت الحكومة الصالحة المنفذة للقوانين من أهم برامجه و داخلة في نسجه و نظامه، بنحو يوجب تعطيل الحكومة تعطيل الأحكام و إهمالها. فيجب على المسلمين الاهتمام بأمر الحكومة. و قد تحصّلت لك هاتان النتيجتان من سبر الأخبار و الفتاوى و الدقة فيها، كما مرّ.
و لو فرض المناقشة في استفادة تعيّن الحكومة من الفتاوى المذكورة فيها ألفاظ الإمام و الحاكم و نحوهما باحتمال ان يكون كلام الفقهاء من باب رعاية الاحتياط و الأخذ بالمتيقن، اذ الموارد من الأمور الحسبية المطلوبة على كل حال و يجوز لكل مؤمن التصدّي لها و إعمالها، فلا تسري المناقشة الى الأخبار الكثيرة التي تعرضنا
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 163
لبعضها، اذ دلالتها على تعيّن الإمام و الحاكم بشرائطه و كونه المرجع في الأمور مما لا اشكال فيه.
و يشهد لذلك أيضا جميع الآيات القرآنية المشتملة على أحكام سياسية عامّة خوطب بها الجميع مع احتياج تنفيذها الى القدرة و بسط اليد، كقوله- تعالى-:
«إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. الآية.» «1»
و قوله: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ.» «2»
و قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ.» «3»
و قوله: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى
الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا.» «4»
و قوله: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ، اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ.» «5»
و قوله: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ.» «6»
الى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في القتال و الدفاع.
إذ هذه الأحكام التي لا ترتبط بشخص خاصّ و يكون المطلوب أصل وجودها و تحققها، و إن كانت خوطب بها جميع المسلمين، و لكن حيث يتوقف تنفيذها على بسط اليد و القدرة فلا محالة يكون المأمور بها و المنفذ لها هو الحاكم الذي يتبلور فيه جميع الأمّة، و يكون ممثلا لهم و بيده القيادة و الزعامة.
و يشير الى هذا المعنى قوله «ص»: «الخير كلّه في السيف و تحت ظل السيف و لا يقيم
______________________________
(1)- سورة المائدة (5)، الآية 33.
(2)- سورة المائدة (5)، الآية 38.
(3)- سورة النور (24)، الآية 2.
(4)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.
(5)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.
(6)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 164
الناس الّا السيف.» «1»
اذ السيف كناية عن القوة و القدرة.
و النبي الأكرم «ص» أيضا بعد ما هاجر الى المدينة قد باشر بنفسه إقامة الدولة الإسلامية و عقد بين الطوائف و القبائل من المسلمين و بينهم و بين يهود المدينة اتفاقيات و معاهدات، كما شهدت بذلك التواريخ. و بعث العمّال و القضاة و الجباة لأخذ الزكوات و جنّد الجنود و قاتل المشركين و الناقضين للعهود من اليهود و غيرهم.
و قد ضبط المؤرخون و أرباب الحديث عنه
«ص» أكثر من سبعين غزوة و سرية.
و راسل الأمراء و الملوك و دعاهم الى قبول الإسلام و الدخول تحت لوائه. و استمرّت هذه السيرة بعد أيضا، كما هو واضح.
و بالجملة نفس تشريعات الإسلام و قوانينه تشهد على لزوم دولة و حكومة إسلامية تحفظها و تنفذها و عليه كان العمل في عصر النبي «ص» و كذا بعده. اللهم إلّا أن يدعى إهمال القوانين و نسخها في عصر الغيبة و ان طالت ما طالت، و ان اللّه ترك عنايته بالإسلام و المسلمين جميعا بسبب غيبة إمام العصر- عجل اللّه تعالى فرجه الشريف، فليتعطل الإسلام و ليترك المسلمون مغلوبين مقهورين تحت سلطات الكفار و الجائرين بلا حكومة صالحة حتى يظهر صاحب الأمر «ع» فيجدد الإسلام من رأس. فهل يمكن الالتزام بأن هذا حكم اللّه و التكليف الشرعي؟!
قال السيد الأستاذ، الإمام الخميني- مدّ ظلّه العالي- في محاضراته في الحكومة الإسلامية:
«مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح المجتمع. و لكي يكون القانون مادة لإصلاح و إسعاد البشر فانه يحتاج الى السلطة التنفيذية. لذا فان اللّه- عزّ و جلّ- قد جعل في الأرض الى جانب مجموعة القوانين حكومة و جهاز تنفيذ و إدارة. الرسول الأعظم «ص» كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلامي ... و في
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 165
الحق ان القوانين و الأنظمة الاجتماعية بحاجة الى منفّذ. في كل دول العالم لا ينفع التشريع وحده، و لا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ. فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل. لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة
التنفيذ الى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر وليا للتنفيذ الى جانب تصدّيه للتعليم و النشر و البيان.» «1»
أقول: و قد بلغ اهتمام الإسلام بالإمامة و الحكومة حدّا ورد أنه لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان الإمام أحدهما. «2»
و لا يخفى أن الدولة المعتمدة على الفطرة و الاعتقاد الديني الثابت في أعماق القلب أتقن الحكومات و أحكمها، فان الاعتقاد القلبي ضامن لحفظها و احترام مقرراتها و ليس كذلك الحكومات الدارجة المعتمدة على التغلب و القهر، فتدبر.
و اعلم أن استيحاش أكثر الناس و تنفرهم من ألفاظ الملك و الحكومة و السلطنة و نحوها إنّما هو أمر عارض ناشئ عن ابتلائهم في أكثر الأعصار و الأمصار بالحكومات الظالمة المستبدّة أو غير اللائقة لإدارة شئون الأمة، و إلّا فأصل الملك أمر ممدوح مرغوب فيه عقلا و شرعا، كتابا و سنة إذا كانت الحكومة صالحة عادلة حائزة لرضا الأمة حافظة لحقوقها ملتزمة بتنفيذ القوانين المقبولة لدى الأمّة.
قال اللّه- تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «3»
و قال في قصة بني اسرائيل: «إِنَّ اللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً.» «4»
______________________________
(1)- الحكومة الإسلامية/ 23.
(2)- الكافي 1/ 180، كتاب الحجة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان ...، الحديث 5.
(3)- سورة الحج (22)، الآية 41.
(4)- سورة البقرة (2)، الآية 247.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 166
و قال: «وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ الهُٰ ل الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ.» «1»
و قال حكاية عن يوسف: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحٰادِيثِ.» «2»
و قال: «فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ
الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ، وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً.» «3»
و قال حكاية عن سليمان: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.» «4»
و في داود: «وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطٰابِ.» «5»
و قال: «وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ: يٰا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيٰاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً.» «6»
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 166
الى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل الملك و كونه من أعظم نعم اللّه على عباده.
و الأخبار في ذلك كثيرة يصعب إحصاؤها. و يكفيك في ذلك ما عن أمير المؤمنين «ع»: «إمام عادل خير من مطر وابل.» «7»
و عنه أيضا: «أفضل ما منّ اللّه سبحانه به على عباده علم و عقل و ملك و عدل.» «8»
و عنه أيضا: «ليس ثواب عند اللّه- سبحانه- أعظم من ثواب السلطان العادل و الرجل المحسن.» «9»
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 251.
(2)- سورة يوسف (12)، الآية 101.
(3)- سورة النساء (4)، الآية 54.
(4)- سورة ص (38)، الآية 35.
(5)- سورة ص (38)، الآية 20.
(6)- سورة المائدة (5)، الآية 20.
(7)- الغرر و الدرر 1/ 386، الحديث 1491.
(8)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3205.
(9)- الغرر و الدرر 5/ 90، الحديث 7526.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 167
و عن حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل (عادل:
خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة، و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.»
«1»
الى غير ذلك من الأخبار المروية في كتب الفريقين، فراجع.
و في مقدمة ابن خلدون:
«و اعلم ان الشرع لم يذم الملك لذاته و لا حظر القيام به، و إنما ذمّ المفاسد الناشئة عنه من القهر و الظلم و التمتع باللذات، و لا شك ان في هذه مفاسد محظورة.» «2»
و ان حياتهم في جميع مراحلها و أدوارها حتى في العصور الحجرية و في الغابات لم تخل من قانون و حكومة ما، فإن الإنسان مدني بالطبع و لا تتم حياته و معيشته إلّا في ظلّ الاجتماع و التعاون و المبادلات، و له شهوات و غرائز و ميول مختلفة من حبّ الذات و المال و الجاه و الحرية المطلقة في جميع ما يريده و يهواه، و لا محالة يقع التزاحم و الصراع و التضارب بين الأفكار و الأهواء فلا بدّ له من قوانين و مقررات، و من قوة و قدرة نافذة محدّدة منفذة للمقررات حافظة للنظام و مانعة من التعدّي و التكالب و حافظة للثغور و الأطراف.
و لا نعني بالحكومة و الولاية إلّا هذه. بل الحيوانات أيضا تحتاج الى نحو من هذا النظم و القدرة، كما نشاهد ذلك في أنواع النمل و النحل و نحوهما.
و لو فرض محالا أو نادرا تحقق الرشد الأخلاقي و الثقافة الكاملة في جميع أفراد البشر و التناصف و الإيثار بينهم، فالاحتياج الى نظام يدبر أمورهم الاجتماعية و يؤمّن حاجاتهم من جلب الأرزاق و تأمين الأمور الصحية و التعليم و التربية
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
(2)- مقدمة ابن خلدون/ 135 (طبعة أخرى/ 192)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة
الإسلامية، ج 1، ص: 168
و المواصلات و المخابرات و إيجاد الطرق و الشوارع و سائر المؤسّسات الرفاهية و جباية الضرائب لتأمينها ممّا لا يقبل الإنكار. و لا يختص هذا بمصر دون مصر أو عصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.
فما عن أبي بكر الأصم من عدم الاحتياج الى الحكومة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم، و ما عن ماركس من عدم الاحتياج اليها بعد تحقق الكمون المترقي للبشر و ارتفاع الاختلاف الطبقي بينهم واضح الفساد.
قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الأربعين من نهج البلاغة:
«قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلّا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا انها غير واجبة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم ... فأما طريق وجوب الإمامة ما هي فإن مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبها. و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين ان العقل يدلّ على وجوب الرئاسة. و هو قول الامامية.» «1»
و كيف كان فالإمامة بالمعنى الأعم ضرورة للبشر في جميع الأعصار، و بقاء الأمة ببقاء الإمامة. فلا يجوز للشارع الحكيم اللطيف بالأمة الإسلامية إهمال هذه المهمة و عدم تعيين وظيفة المسلمين بالنسبة الى أصلها و شرائطها و حدودها حتّى بالنسبة الى عصر الغيبة، لعدم تفاوت الأزمنة في ذلك.
و في موثقة أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر «ع» قال: «خطب رسول اللّه «ص» في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، و اللّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنة و يباعدكم من النار إلا و قد أمرتكم به. و ما من شي ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنة إلّا و قد نهيتكم عنه. الحديث.»
«2»
و في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال أمير المؤمنين «ع»:
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 308.
(2)- الكافي 2/ 74، كتاب الإيمان و الكفر باب الطاعة و التقوى، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 169
«الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأمة جميع ما تحتاج اليه.» «1»
و قد عقد الكليني في أصول الكافي بابا سمّاه: «باب الردّ الى الكتاب و السنة، و انه ليس شي ء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج الناس اليه إلّا و قد جاء فيه كتاب أو سنّة»، و ذكر في هذا الباب روايات كثيرة:
منها: خبر مرازم، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان اللّه- تبارك و تعالى- أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج اليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا و قد أنزله اللّه فيه.» «2»
و منها: خبر عمر بن قيس، عن أبي جعفر «ع» قال: سمعته يقول: «ان اللّه- تبارك و تعالى- لم يدع شيئا يحتاج اليه الأمة إلّا أنزله في كتابه و بينه لرسوله «ص» و جعل لكل شي ء حدّا و جعل عليه دليلا يدلّ عليه و جعل على من تعدّى ذلك الحد حدّا.» «3»
فعليك بالدقة في لفظ الأمة، و هل تبقى الأمة بلا دولة و إمامة؟
و منها: خبر سليمان، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ما خلق اللّه حلالا و لا حراما إلّا و له حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، و ما كان من الدار فهو من الدار حتى أرش
الخدش فما سواه، و الجلدة و نصف الجلدة.» «4»
و منها: خبر حماد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة.» «5»
و منها: خبر معلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا
______________________________
(1)- التهذيب 6/ 319، باب في الزيادات في القضايا و الأحكام، الحديث 86.
(2)- الكافي 1/ 59، الحديث 1.
(3)- الكافي 1/ 59، الحديث 2.
(4)- الكافي 1/ 59، الحديث 3.
(5)- الكافي 1/ 59، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 170
و له أصل في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- و لكن لا تبلغه عقول الرجال.» «1» الى غير ذلك من الأخبار.
فإذا فرض أن الإسلام لم يهمل مثل أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة فكيف يهمل ما فيه نظام أمر الأمّة بعد النبي «ص» أو في عصر الغيبة؟!
إن قيّم قرية صغيرة إذا أراد أن يسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه و وجدانه يعيّن مرجعا للأمور يرجع اليه في غيابه، فهل كان النبي «ص» و هو عقل الكل أقل التفاتا و حرصا على حفظ الإسلام الذي صرف فيه طاقاته و طاقات المسلمين مدى عمره الشريف؟!
و قد ورد عنه «ص» في أهمية الوصايا الشخصية بالنسبة الى أموال و أمور جزئية انه قال: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية.» «2»
و قال: «ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين و له شي ء يوصى فيه إلّا و وصيته مكتوبة عنده.» «3»
فهل لم يكن أهمية حفظ الإسلام و بسطه و تنفيذ مقرراته الى يوم القيامة في نظر النبي «ص» بمقدار أهمية الوصايا الشخصية في الأمور الجزئية؟!
و قد ورد من طرق الفريقين
أن قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ، وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ» «4» قد نزلت في قصّة الغدير و نصب أمير المؤمنين «ع»:
منها: ما في الدر المنثور:
«أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال:
نزلت هذه الآية: «يا أيها الرسول، بلّغ ما انزل إليك من ربك» على رسول اللّه «ص»
______________________________
(1)- الكافي 1/ 60، الحديث 6.
(2)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 8.
(3)- سنن ابن ماجة 2/ 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.
(4)- سورة المائدة (5)، الآية 47.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 171
يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.» «1»
و في خبر عمران بن حصين عنه «ص»: «ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ؟ إن عليّا منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن من بعدي.» «2»
و لا يخفى ان قوله «ص»: «من بعدي» ينفي احتمال كون الولاية بمعنى المحبة، و يعين كونها بمعنى الإمامة. و قد مرّ تفصيل ذلك في الباب الثاني.
و قد تواتر عنه «ص» من طرق الفريقين حديث الثقلين المشتمل على إرجاع الأمة بعده الى الكتاب و العترة و إيجاب التمسك بهما، فراجع مظانه. و يظهر بذلك الحديث كون العترة أعلم الناس و أفقههم، و سيجي ء بيان أن الأعلم متعين للإمامة.
و بالجملة، الحكومة و الإمامة و حفظ النظام ضرورة للبشر في جميع الأعصار.
فلا يظن بالشارع الحكيم إهمالها و عدم التعرض لها و لحدودها و شروطها. و ما ذكرناه الى هنا يكفي لإثبات المطلوب، فليجعل الأخبار و
الأدلة الآتية مؤيدات أو مؤكدات فلا يضرنا ضعف بعضها من جهة السند، فتدبر.
ما رواه الصدوق في العيون و العلل عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري، عن أبي الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان و رواه أيضا عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان، عن عمّه أبي عبد اللّه محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان في حديث طويل في العلل و فيه: «فان
______________________________
(1)- الدرّ المنثور 2/ 298.
(2)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 172
قال: فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:
منها: ان الخلق لما وقفوا على حد محدود و أمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدّي و الدخول فيها حظر عليهم. لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.
و منها: أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا الّا بقيّم و رئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم انه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.
و منها: انه لو لم يجعل لهم إماما قيما
أمينا حافظا مستودعا لدرست الملّة و ذهب الدين و غيرت السنة (السنن- العلل) و الأحكام، و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبّهوا ذلك على المسلمين. لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم (حالاتهم- العلل.) فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول «ص» لفسدوا على نحو ما بيّنا و غيرت الشرائع و السنن و الأحكام و الايمان و كان في ذلك فساد الخلق اجمعين.
الحديث.» «1»
و في آخر الحديث ان علي بن محمد بن قتيبة قال للفضل بن شاذان:
«أخبرني عن هذه العلل ذكرتها عن الاستنباط و الاستخراج و هي من نتائج العقل أو هي مما سمعته و رويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه- عزّ و جلّ- بما فرض و لا مراد رسوله «ص» بما شرّع و سنّ و لا أعلل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع» المرة بعد المرة و الشي ء بعد الشي ء فجمعتها. فقلت: فأحدّث بها عنك عن الرضا «ع»؟ قال: نعم.» و قال لمحمد بن شاذان: «سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع» متفرقة فجمعتها و ألّفتها.» «2»
______________________________
(1)- عيون اخبار الرضا (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1، و علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182، الحديث 9.
(2)- عيون أخبار الرضا 2/ 121، الحديث 2 و 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 173
أقول: قال الشيخ في الفهرست:
«الفضل بن شاذان النيشابوري فقيه متكلم جليل القدر، له كتب و مصنفات.» «1»
و عدّه في رجاله من أصحاب الهادي
و العسكري- عليها السلام- و أباه شاذان من أصحاب الجواد «ع» «2».
و في تنقيح المقال عن النجاشي:
«له جلالة في هذه الطائفة، و هو في قدره أشهر من أن نصفه.»
و عن الكشي:
انه صنف مأئة و ثمانين كتابا «3».
و بالجملة التشكيك في الفضل بلا وجه مع ما فيه من كثرة الفضل.
و امّا عبد الواحد و ابن قتيبة فمختلف فيهما:
وثّقهما بعض و مدحهما آخرون و ضعّفهما بعض «4».
و يظهر من الصدوق الاعتماد عليهما. و كذا جعفر بن نعيم «5»، فانه يروى عنه مترضيا عليه.
و أما محمد بن شاذان فعدّه ابن طاوس من وكلاء الناحية المقدسة. قالوا:
و كفى هذا في وثاقته «6».
نعم، هنا شي ء و هو أن الفضل على ما ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الهادي و العسكري «ع» فكيف روى عن الرضا «ع»؟! اللهم الا ان يقال: ان اشتهاره كان في عصرهما، و لا ينافي ذلك كونه مدركا للرضا «ع» في عهد شبابه و كان ممن يحضر مجلسه «ع» في خراسان و يستفيد من كلماته الشريفة.
و عن الكشي:
______________________________
(1)- الفهرست للشيخ/ 124. (ط. اخرى/ 150).
(2)- رجال الشيخ/ 420 و 434 و 402.
(3)- تنقيح المقال 2/ 9 من باب الفاء.
(4)- تنقيح المقال 2/ 233 و 2/ 308.
(5)- تنقيح المقال 1/ 228.
(6)- تنقيح المقال 3/ 130.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 174
انه يروي عن جماعة، و عدّ منهم ابن أبي عمير و صفوان و ابن محبوب و ابن بزيع من الطبقة السادسة أصحاب الرضا «ع» «1».
فلا مانع من روايته عنه «ع» أيضا. و قد توفي هو في سنة 260، و الإمام الثامن- عليه السلام- في سنة اثنتين او ثلاث او ست بعد المائتين. هذا
ما يرتبط بسند الحديث إجمالا.
و أما فقه الحديث فالظاهر أن موضوع سؤال السائل هو إمامة الأئمة الاثنى عشر، و لكن عموم التعليلات الواقعة في كلام الإمام «ع» يشمل جميع الأعصار. فيدل الحديث الشريف على لزوم الحكومة في عصر الغيبة أيضا.
فحكمة وجود الامام و فائدته على ما ذكره الإمام «ع» كثيرة، ذكر منها ثلاثة:
الأولى: إجراء أحكام الإسلام و المنع عن التعدّي عنها. الثانية: كون وجود الإمام ضروريّا للناس في حياتهم و عيشتهم الدينية و الدنيوية. الثالثة: كونه حافظا للأحكام عن التغيير و التحريف و الاندراس.
فنقول: هل لا توجد هذه العلل الثلاث في عصر الغيبة؟ و هل يصير الناس في عصر الغيبة ملائكة لا يحتاجون الى قيّم ينظّم أمورهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم و يقاتلون به عدوّهم و يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما حظر عليهم؟!
ما في نهج البلاغة، قال: و من كلام له- عليه السلام- في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم الّا للّه»، قال- عليه السلام-: «كلمة حقّ يراد بها الباطل. نعم، انه لا حكم إلّا للّه و لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة الّا للّه و انه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر،
______________________________
(1)- تنقيح المقال 2/ 11 من باب الفاء، و اختيار معرفة الرجال/ 543.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 175
يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر و يبلغ اللّه فيها الأجل و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدوّ و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر.»
و في رواية أخرى: انه- عليه السلام- لما سمع تحكيمهم قال: «حكم اللّه انتظر فيكم»، و قال: «أمّا
الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيّ، و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشقيّ الى ان تنقطع مدّته و تدركه منيّته.» «1» انتهى ما في نهج البلاغة.
و قال المبرّد في الكامل: «و لما سمع عليّ «ع» نداءهم لا حكم إلّا للّه، قال:
كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون لا إمارة، و لا بدّ من إمارة برّة أو فاجرة.» «2»
و في كنز العمال عن البيهقي، عن عليّ «ع» قال: «لا يصلح الناس الا أمير برّ أو فاجر. قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا البرّ فكيف بالفاجر؟ قال: ان الفاجر يؤمن اللّه به السبيل و يجاهد به العدوّ و يجبى به الفي ء و يقام به الحدود و يحجّ به البيت و يعبد اللّه فيه المسلم آمنا حتى يأتيه أجله.» «3»
و في مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري، قال: دخل رجل المسجد فقال: لا حكم إلّا للّه، فقال عليّ «ع»: لا حكم الا للّه، ان وعد اللّه حق و لا يستخفنّك الذين لا يوقنون. فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة. أيها الناس، انه لا يصلحكم الّا أمير برّ أو فاجر. قالوا: هذا البر قد عرفناه فما بال الفاجر؟ فقال: يعمل المؤمن و يملى للفاجر و يبلغ اللّه الأجل و تأمن سبلكم و تقوم اسواقكم و يقسم فيئكم و يجاهد عدوّكم و يؤخذ للضعيف من القوى أو قال من الشديد منكم.» «4»
و رواه عنه في كنز العمّال «5».
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.
(2)- الكامل في اللغة و الأدب للمبرد 2/ 131.
(3)- كنز العمال 5/ 751، الباب الثاني من كتاب الخلافة، الحديث 14286.
(4)- المصنف 15/ 328، كتاب الجمل، الحديث 19777.
(5)- كنز العمال 11/
319، كتاب الفتن من قسم الأفعال، الحديث 31618.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 176
أقول: قول الخوارج: «لا حكم إلّا للّه» كان شعارا اتخذوه في صفين و استمرّ منهم بعد ذلك. و حقّية ذلك من جهة ان اللّه- تعالى- اذا أراد شيئا وقع لا محالة لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه، فيراد بالحكم الحكم التكويني، أو من جهة ان اللّه- تعالى- هو شارع الأحكام و جاعلها و أن حكم الأمير الحق أيضا يرجع الى حكم اللّه لتطبيقه الأحكام الكلية على الموارد أو لإيجاب اللّه- تعالى- إطاعته.
و أما إرادتهم الباطل فلقصدهم إبطال جعل الحكمين و تفويض الأمر اليهما شرعا، و إنكار إمارة أمير المؤمنين «ع» و لذا قالوا له في صفين: «الحكم للّه يا عليّ لا لك». «1»
و قوله «ع»: «أو فاجر» لا يريد به شرعية إمارة الفاجر، بل بيان تقدمها عقلا على الهرج و المرج.
و في شرح ابن ميثم البحراني عن رسول اللّه «ص»: «الإمام الجائر خير من الفتنة.»
و عنه «ص» أيضا: «ان اللّه ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة.» و روي:
«بالرجل الفاسق.» «2»
و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم.» «3»
و في البحار عن كنز الكراجكي، عن أمير المؤمنين «ع»: «أسد حطوم خير من سلطان ظلوم، و سلطان ظلوم خير من فتن تدوم.» «4»
و قوله «ع»: «يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر» يحتمل فيه اللف و النشر المرتّب، و يحتمل رجوع الجميع الى الإمرة الفاجرة، و يحتمل رجوع الجميع الى مطلق الإمرة، و يحتمل أن يراد بقوله: «يعمل في إمرته المؤمن» صيرورة المؤمن عاملا
من قبله
______________________________
(1)- وقعة صفين/ 513.
(2)- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2/ 103.
(3)- الغرر و الدرر 6/ 236، الحديث 10109.
(4)- بحار الأنوار 72/ 359 (طبعة إيران 75/ 359)، الباب 81 من كتاب العشرة، الحديث 74.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 177
فيعدل في الرعية، كما اتفق لعليّ بن يقطين في إمارة هارون.
و قوله: «يستريح برّ» أي بما ذكر من الأمور أو بموته. و قوله: «يستراح من فاجر» أي بما ذكر أو بموت الفاجر أو عزله.
و الظاهر ان كلمة «تحكيمهم» مصدر جعليّ يراد به قولهم: «لا حكم الّا للّه» كلفظ التهليل مثلا.
و كيف كان فدلالة الحديث على لزوم الدولة و ضرورتها في جميع الأعصار و الأمصار واضحة لا ريب فيها. و لا يجوز الناس ترك الاهتمام بها، بل يجب تحقيقها و إطاعتها و تأييدها بشرائطها، فتدبر.
ما في المحكم و المتشابه، عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين «ع» قال: «و الأمر و النهي وجه واحد، لا يكون معنى من معاني الأمر إلّا و يكون بعد ذلك نهي، و لا يكون وجه من وجوه النهي إلّا و مقرون به الأمر. قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ.» «1» فاخبر- سبحانه- ان العباد لا يحيون إلّا بالأمر و النهي، كقوله- تعالى-: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ.» «2» و مثله قوله- تعالى-: «ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ.» «3» فالخير هو سبب البقاء و الحياة.
و في هذا أوضح دليل على انه لا بدّ للأمة من إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد فيهم العدوّ و يقسم
الغنائم و يفرض الفرائض و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه مضارّهم، اذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق و إلّا سقطت الرّغبة
______________________________
(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 24.
(2)- سورة البقرة (2)، الآية 179.
(3)- سورة الحج (22)، الآية 77.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 178
و الرهبة و لم يرتدع، و لفسد التدبير و كان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء و الحياة في الطعام و الشراب و المساكن و الملابس و المناكح من النساء و الحلال و الحرام الأمر و النهي، اذ كان- سبحانه- لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك و وجدنا أول المخلوقين و هو آدم- عليه السلام- لم يتم له البقاء و الحياة الا بالأمر و النهي. الحديث.» «1»
و دلالة الرواية على لزوم إمام و حاكم متصد للأمر و النهي و إجراء الأحكام في جميع الأعصار، و أن بقاء الخلق متوقف على ذلك واضحة.
و اعلم ان المحدث المجلسي- طاب ثراه- نقل جميع الكتاب في كتاب القرآن من البحار «2». و ظاهره كون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين «ع» و ذكر ذلك في أول البحار أيضا. و قال في كتاب القرآن بعد نقل الكتاب انه وجد رسالة قديمة منسوبة في أولها الى سعد الأشعري، ذكر فيها مطالب هذا الكتاب مروية عن أمير المؤمنين «ع» و لكنه غير فيها الترتيب و زيد فيها بعض الأخبار «3».
هذا و لكن سبك الكتاب ربما يشهد بكونه من مؤلفات أحد علمائنا مازجا كلامه بالروايات. و يشتمل الكتاب على أمور لا يمكن الأخذ بها، فراجع و تأمّل جيدا.
في جواب كتاب معاوية حيث طلب من أمير المؤمنين
«ع» قتلة عثمان ليقتلهم «فلما قرأ عليّ «ع» كتاب معاوية و بلّغه أبو الدرداء و أبو هريرة رسالته و مقالته قال عليّ- عليه السلام- لأبي الدرداء:
______________________________
(1)- المحكم و المتشابه/ 50، و بحار الأنوار 90/ 40 (طبعة إيران 93/ 40). و اعتمدنا في النقل على البحار، لأنه أصح ظاهرا، فراجع. و في نسخة البحار «يجاهد العدو» بدل «يجاهد فيهم العدو» و «في امر» بدل «فتمام امر» و «و الامر و النهى اذ كان» بدل «الامر و النهى اذ كان».
(2)- بحار الأنوار 90/ 1- 97 (طبعة إيران 93/ 1- 97)، الباب 128 من كتاب القرآن
(3)- بحار الأنوار 90/ 97 (طبعة إيران 93/ 97.).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 179
قد بلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا منّي ثم أبلغاه عنّي و قولا له: ان عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته و لا يسع الأمّة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته و لا نصرته، فلا يخلو من احدى الخصلتين.
و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدّموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة يجمع أمرهم و يحكم بينهم و يأخذ للمظلوم من الظالم حقه و يحفظ أطرافهم و يجبى فيئهم و يقيم حجّتهم (حجهم و جمعتهم- البحار) و يجبى صدقاتهم ثم يحتكمون اليه
في إمامهم المقتول ظلما ليحكم بينهم بالحق. فإن كان إمامهم قتل مظلوما حكم لأوليائه بدمه، و ان كان قتل ظالما نظر كيف الحكم في ذلك.
هذا أول ما ينبغي «1» أن يفعلوه ان يختاروا إماما يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم و يتابعوه و يطيعوه، و إن كانت الخيرة الى اللّه- عزّ و جلّ- و الى رسوله فان اللّه قد كفاهم النظر في ذلك و الاختيار، و رسول اللّه «ص» قد رضي لهم إماما و أمرهم بطاعته و اتباعه، و قد بايعني الناس بعد قتل عثمان و بايعني المهاجرون و الأنصار بعد ما تشاوروا فيّ ثلاثة أيام، و هم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و عقدوا إمامتهم. و لي ذلك أهل بدر و السابقة من المهاجرين و الأنصار، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة و إن بيعتي كانت بمشورة من العامة، فان كان اللّه- جلّ اسمه- جعل الاختيار الى الأمة و هم الذين يختارون و ينظرون لأنفسهم، و اختيارهم لأنفسهم و نظرهم لها خير لهم من اختيار اللّه و رسوله لهم، و كان من اختاروه و بايعوه بيعته بيعة هدى و كان اماما واجبا على الناس طاعته و نصرته، فقد تشاوروا فيّ و اختاروني بإجماع منهم. و ان كان اللّه- عزّ و جلّ- الذي يختار و له الخيرة فقد اختارني للأمّة و استخلفني عليهم و أمرهم بطاعتي و نصرتي في كتابه المنزل و سنة نبيّه «ص». فذلك أقوى لحجّتي و أوجب لحقّي. الحديث.» «2»
و دلالة الخبر على لزوم الامامة و ضرورتها في كل عصر، و وجوب اهتمام الناس
______________________________
(1)- و في البحار: ... كيف الحكم في هذا. و إن أول
ما ينبغي ...
(2)- كتاب سليم بن قيس/ 182، و بحار الأنوار 8/ 555 من ط. القديم، الباب 49 من كتاب ما وقع من الجور ....
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 180
بها و تقديمها على كل أمر واضحة. غاية الأمر انه ان كان الامام معينا من قبل اللّه- تعالى- كما هو معتقدنا بالنسبة الى الأئمة الاثني عشر، وجب التسليم له و تأييده، و إلّا وجب على الناس اختياره و تعيينه ليجمع أمرهم و يحكم بينهم الى آخر ما ذكره. و تعطيلها في عصر الغيبة مساوق لتعطيل ما رتّبه عليها من الآثار، و هو عبارة أخرى عن تعطيل الإسلام، و لا يرضى به اللّه- تعالى- قطعا.
و في الخبر دلالة على ما سنذكره في الباب الخامس من أن الإمامة لا تنعقد إلّا بوجهين: إما النصب من طرف العالي، أو الانتخاب من قبل الأمة، و ان الأول مقدم بحسب الرتبة على الثاني.
نعم، هنا كلام في صحة الكتاب المنسوب الى سليم.
ففي فهرست الشيخ الطوسي «ره»:
«سليم بن قيس الهلالي يكنى أبا صادق، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن أبي القاسم الملقب ما جيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي، عن حماد بن عيسى و عثمان بن عيسى، عن ابان بن أبي عياش، عنه.
و رواه حماد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمر اليماني، عنه.» «1»
و يظهر منه ان حمادا قد يروي الكتاب عن أبان بلا واسطة، و قد يروى عنه بواسطة ابراهيم بن عمر اليماني.
و في فهرست ابن النديم:
«قال محمد بن اسحاق: من أصحاب أمير المؤمنين «ع» سليم بن قيس الهلالي. و كان هاربا من الحجاج، لأنه طلبه
ليقتله فلجأ الى أبان بن أبي عياش فآواه، فلما حضرته الوفاة قال لأبان: ان لك عليّ حقا و قد حضرتني الوفاة. يا ابن أخي، انه كان من أمر رسول اللّه «ص» كيت و كيت، و اعطاه كتابا و هو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور. رواه عنه أبان بن أبي عياش. لم يروه عنه غيره.» «2»
______________________________
(1)- الفهرست للشيخ/ 81 (طبعة أخرى/ 107).
(2)- الفهرست لابن النديم/ 321 (طبعة أخرى/ 275)، الفن الخامس من المقالة السادسة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 181
و روى الكشي أن أبانا زعم أنه قرأ الكتاب على عليّ بن الحسين فقال «ع»:
«صدق سليم. رحمة اللّه عليه. هذا حديث نعرفه.» و في رواية أخرى: «قال أبان فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين انّي حججت فلقيت أبا جعفر محمد بن علي «ع» فحدثت بهذا الحديث كله ... قال: «صدق سليم ...» «1»
و في غيبة النعماني:
«ليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم و رواه عن الأئمة «ع» خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت «ع» و أقدمها، لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل انما هو عن رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين و المقداد و سلمان الفارسي و أبي ذر و من جرى مجراهم ممن شهد رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين و سمع منهما، و هو من الأصول التي ترجع الشيعة اليها و يعول عليها.» «2»
و يظهر من الكليني أيضا الاعتماد على الكتاب، حيث روى في الكافي روايات كثيرة منه، و قال في ديباجة الكافي: «بالآثار الصحيحة عن الصادقين «ع».»
و في مسند
احمد بن حنبل أيضا ذكر لهذا الكتاب و لكن فيه: «سليمان بن قيس» فروى احمد حديثا عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر ثم قال:
«قال أبو عوانة فحدثت ان ابا بشر قال: كان في كتاب سليمان بن قيس.» «3» هذا.
و لكن قد عرفت ان الراوي للكتاب هو أبان فقط، و في رجال الشيخ:
«أبان بن أبي عياش فيروز، تابعي ضعيف.» «4»
______________________________
(1)- اختيار معرفة الرجال/ 104- 105.
(2)- الغيبة للنعماني/ 61، (طبعة أخرى/ 101)، الباب 4 (باب ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماما)، ذيل الحديث 30.
(3)- مسند أحمد 3/ 332.
(4)- رجال الشيخ/ 106.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 182
و قال المفيد في آخر تصحيح الاعتقاد:
«و أما ما تعلق به أبو جعفر «ره» من حديث سليم الذي رجع فيه الى الكتاب المضاف اليه برواية أبان بن أبي عياش فالمعنى فيه صحيح غير ان هذا الكتاب غير موثوق به، و لا يجوز العمل على أكثره. و قد حصل فيه تخليط و تدليس، فينبغي للمتدين ان يجتنب العمل بكل ما فيه و لا يعول على جملته.» «1»
و عن ابن الغضائري:
«الكتاب موضوع لا مرية فيه، و على ذلك علامات شافية تدلّ على ما ذكرناه: منها ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت، و منها أن الأئمة «ع» ثلاثة عشر، و غير ذلك.» «2»
و غرض ابن الغضائري ان محمدا ولد في حجة الوداع و مدة خلافة ابيه سنتان و أشهر، فلا يعقل وعظه له. هذا.
و لكن عن الشهيد الثاني:
«ان الذي رأيت من نسخة الكتاب ان عبد اللّه بن عمر وعظ أباه، و ان الأئمة من ولد إسماعيل
ثلاثة عشر، و هم رسول اللّه «ص» و الأئمة الاثنا عشر. فلا محذور في هذين.»
فهذا بعض الكلام في هذا الكتاب. و على أيّ حال فالاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي مشكل، اللهم الّا للتأييد، فتدبّر.
نتيجة صغرى و كبرى كلية يستفاد كل منهما من نصوص كثيرة:
______________________________
(1)- تصحيح الاعتقاد/ 126.
(2)- تنقيح المقال 2/ 52.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 183
فالصغرى هي أن الإسلام يدعو المسلمين الى التجمع و المرابطة و التشكل و توحيد الكلمة، و ينهى عن الرهبنة و العزلة و عن التشتت و الفرقة.
و الكبرى أن الإمامة هي نظام الأمة و جامعة شتاتها و حافظة وحدتها.
امّا الصغرى فيدلّ عليها آيات و أخبار كثيرة بل متواترة اجمالا:
منها قوله- تعالى-: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً وَ لٰا تَفَرَّقُوا، وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً.» «1»
و منها قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.» «2»
و منها قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا.» «3»
و منها قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ.» «4»
الى غير ذلك من الآيات الداعية الى وحدة الأمّة.
و من الأخبار ما رواه ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع» أن رسول اللّه «ص» قال:
«ثلاث لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للّه و النصيحة لأئمة المسلمين و اللزوم لجماعتهم، فان دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمتهم أدناهم.» «5»
و ما رواه الحلبي، عن ابي عبد اللّه «ع»، قال: «من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد
______________________________
(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 103.
(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 10.
(3)-
سورة آل عمران (3)، الآية 200.
(4)- سورة البقرة (2)، الآية 208.
(5)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبيّ «ص» بالنصيحة ...، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 184
خلع ربقة الإسلام من عنقه.» «1»
و عنه عن أبي عبد اللّه «ع» أيضا قال: «من فارق جماعة المسلمين و نكث صفقة الإمام جاء الى اللّه أجذم.» «2»
و في نهج البلاغة: «و الزموا السواد الأعظم، فان يد اللّه على الجماعة. و إياكم و الفرقة، فان الشاذّ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب. ألا من دعا الى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه.» «3»
و فيه أيضا: «إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فانهم ان تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين.» «4»
و في مسند احمد عن أبي موسى، قال: قال رسول اللّه «ص»: «المؤمن للمؤمن كالبنيان: يشدّ بعضه بعضا.» «5»
و في صحيح مسلم بإسناده عن عرفجة: «قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:
من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه.» «6»
الى غير ذلك من الأخبار.
و امّا ما يدلّ على الكبرى: 1- ففي نهج البلاغة: «فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك ... و الإمامة نظاما للأمّة، و الطاعة تعظيما للإمامة.» «7»
و اعلم ان نسخ نهج البلاغة هنا مختلفة، ففي بعضها: «و الإمامة»، و في بعضها:
______________________________
(1)- الكافي 1/ 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة ...، الحديث 4.
(2)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة ...، الحديث 5.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 392؛ عبده 2/ 11؛ لح/
184، الخطبة 127.
(4)- نهج البلاغة، فيض/ 549؛ عبده 2/ 100؛ لح/ 244، الخطبة 169.
(5)- مسند أحمد 4/ 405.
(6) صحيح مسلم 3/ 1480 (طبعة أخرى 6/ 23) كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع.
(7) نهج البلاغة، فيض/ 1197؛ عبده 3/ 208؛ لح/ 512، الحكمة 252.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 185
«و الأمانات.» و لكن في النهج المكتوب في سنة 494: «و الإمامة نظاما على الأمة.»
و في موضع من الغرر و الدرر للآمدي: «و الإمامة نظاما للأمة.» «1» و في موضع آخر منه:
«الإمامة نظام الأمّة.» «2» و في خطبة الزهراء- سلام اللّه عليها-: «و طاعتنا نظاما للملّة و إمامتنا لمّا للفرقة.» «3»
هذا مضافا الى ان تقارن الجملتين يشهد على صحة: «الإمامة»، فالجملتان في مقام بيان وظيفة الإمام بالنسبة الى الأمة و وظيفة الأمة بالنسبة الى الإمام. هذا.
2- و روى المفيد في الأمالي بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «اسمعوا و أطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر، فانه نظام الإسلام.» «4»
3- و في الكافي في كلام طويل للرضا «ع» في الإمامة: «إن الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين ان الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف. الإمام يحل حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه. الحديث.» «5»
و كلامه- عليه السلام- و إن كان لبيان التركيز على إمامة الأئمة الاثنى عشر «ع» و نحن نعتقد بان الإمامة
في عصر ظهورهم كانت حقّا لهم بالنص و بكونهم أكمل من جميع الجهات، و لكن في عصر الغيبة هل يمكن الالتزام بتعطيل جميع الآثار و الأحكام التي ذكرت في الحديث للإمامة؟
و هل يمكن أن يقال: ان اللّه- تعالى- في عصر الغيبة لا يريد نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين و تنفيذ الأحكام العبادية و الاقتصادية و الجزائية و حفظ
______________________________
(1)- الغرر و الدرر 4/ 457، الحديث 6608.
(2)- الغرر و الدرر 1/ 274، الحديث 1095.
(3)- كشف الغمة 2/ 109.
(4)- الأمالي للمفيد 1/ 14، المجلس 2، الحديث 2.
(5)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 186
الثغور و الأطراف و نحو ذلك مما رتب على الإمامة؟
4- و في نهج البلاغة: «و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فاذا انقطع النظام تفرق الخرز و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.» «1»
5- و فيه أيضا: «و أعظم ما افترض اللّه- سبحانه- من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه- سبحانه- لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم و عزّا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية الى الوالي حقّه و أدّى الوالي اليها حقّها عزّ الحق بينهم و قامت مناهج الدين و اعتدلت معالم العدل و جرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء، و إذا غلبت الرعية و اليها او أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و كثر الإدغال
في الدين و تركت محاج السنن فعمل بالهوى و عطلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطّل و لا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار و تعزّ الأشرار و تعظم تبعات اللّه عند العباد.» «2»
و الإذلال جمع الذل بالكسر، و ذل الطريق: محجّته.
6- و في سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري ان رسول اللّه «ص» قال: «اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم.» «3»
و نحوه عن أبي هريرة عنه «ص».
7- و في مسند أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه «ص» قال: «لا يحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلّا أمّروا عليهم أحدهم.» «4»
فيعلم بذلك أن المجتمع لا ينتظم إلّا بأمير حافظ له، و إذا كان قوام نظام الثلاثة بأمير فكيف ينتظم مجتمع المسلمين بلا أمير و إمام؟!
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 442؛ عبده 2/ 39؛ لح/ 203، الخطبة 146.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 683؛ عبده 2/ 224؛ لح/ 333، الخطبة 216.
(3)- سنن أبي داود 2/ 34، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمّرون أحدهم.
(4)- مسند احمد 2/ 177.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 187
8- و يدل أيضا على أهميّة الحكومة في صلاح الأمّة و حفظ نظامها ما رواه في الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي و إذا فسدا فسدت أمتي. قيل: يا رسول اللّه، و من هما؟ قال:
الفقهاء و الأمراء.» «1»
و بالجملة حفظ النظام من أوجب الواجبات، و الهرج و المرج و اختلال أمور المسلمين من أبغض الأشياء للّه- تعالى-، و لا يتم حفظ النظام إلّا بالحكومة. ألا ترى أن بني
إسرائيل لما كتب عليهم القتال و علموا أن القتال لا يتيسّر إلّا بالتجمع و التكتل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه، فكان مرتكزا في أذهانهم أن التشكّل لا يحصل إلّا بملك حافظ للنظام و التشكل.
و يظهر شدّة اهتمام الإسلام بجمع المسلمين و وحدتهم من الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الجماعة و التحذير من تركها أيضا:
ففي الوسائل بسند صحيح عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «إن أناسا كانوا على عهد رسول اللّه «ص» أبطئوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول اللّه:
«ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد ان نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.» «2»
و في البحار عن مجالس ابن الشيخ باسناده عن زريق، عن أبي عبد اللّه «ع» عن أمير المؤمنين «ع» بلغه أن قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال: «إن قوما لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا، فلا يؤاكلونا و لا يشاربونا و لا يشاورونا و لا يناكحونا و لا يأخذوا من فيئنا شيئا أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، و إني لأوشك أن آمر لهم بنار تشعل في دورهم فأحرقها عليهم أو ينتهون.» قال: فامتنع المسلمون عن مؤاكلتهم و مشاربتهم و مناكحتهم حتى
______________________________
(1)- الخصال 1/ 36، باب الاثنين، الحديث 12.
(2)- الوسائل 5/ 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 188
حضروا الجماعة مع المسلمين «1». إلى غير ذلك من الأخبار.
فانظر كيف اهتم الإسلام بتجمع المسلمين و تشكلهم و اراد كونهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، فجعل الإمامة في الجماعة و الجمعة و الأعياد و الحج و
الإمامة الكبرى سببا لنظامهم و وحدتهم. و لو كان لأمرائهم و لهم غيرة و حمية لبقيت عزّتهم و شوكتهم مع مالهم من كثرة النفوس و الأراضي و الذخائر. و لكن شياطين الغرب و الشرق مزّقوهم كل ممزق و ألقوا فيهم الخلافات و مني المسلمون بأمراء خونة عملاء للشياطين و علماء سوء باعوا آخرتهم بدنياهم و دنيا غيرهم.
اللهم، فخلص المسلمين من شرورهم.
عن عليّ بن ابراهيم، عن أبيه و عبد اللّه بن الصلت جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال:
«بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية. قال زرارة: فقلت:
و أي شي ء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن و الوالي هو الدليل عليهن ... ثم قال: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن اللّه- عزّ و جلّ- يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. «2»
و الرواية صحيحة من حيث السند. و يظهر من هذه الصحيحة و أمثالها أنها ليست بصدد بيان الأمور الاعتقادية في الإسلام، و لذا لم يذكر فيها التوحيد و النبوة
______________________________
(1)- بحار الأنوار 85/ 14 (طبعة إيران 88/ 14)، الباب 83 (باب فضل الجماعة و عللها)، الحديث 25.
(2)- الكافي 2/ 18- 19، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام، الحديث 5. و الآية المذكورة من سورة النساء (4)، رقمها 80.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 189
و المعاد من أصول الدين و أركانه، بل هي بصدد بيان الأعمال الإجرائية و الفرائض العملية للإسلام،
فالمراد بالولاية في هذه الرواية أمر إجرائي عملي ضامن لإجراء البقية، و هي تحقيق الحكومة الإسلامية و الإمامة الحقة. إذ تحت راية هذه الحكومة تقام سائر الفرائض بحدودها و أركانها، كما نخاطب الإمام الشهيد «ع» في زيارته بقولنا: «أشهد انك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة».
و العجب من بعض من لا خبرة لهم، حيث يفسرون الولاية في هذا السنخ من الأخبار بالمودة، و يريدون بها محبة أهل البيت- عليهم السلام- التي هي أمر قلبي، مع وضوح أن المراد بها الإمامة و ولاية التصرف، و لذا قال «ع» في مقام بيان أفضليتها: «لأنها مفتاحهن، و الوالي هو الدليل عليهن.» اذ لا شبهة في ان لفظ الوالي يستعمل بمعنى الإمام و الحاكم، فالمراد إمام المسلمين المبيّن للأحكام و الحافظ لها بحدودها و المجري لها. و قال في ذيل الحديث أيضا: «ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته.»
و في رواية صحيحة عن ابي جعفر «ع»: «و كانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه- تعالى-: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.» «1» قال أبو جعفر «ع»: يقول اللّه- عزّ و جلّ-: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت الفرائض.» «2»
و لفظ الفريضة يستعمل في الواجبات العملية لا الأمور الاعتقادية، و الإمامة الحافظة للإسلام و المجرية لأحكامه هي الفريضة المتممة التي لو لم تنزل لما بلغ رسول اللّه «ص» رسالته، فان قوة الإجراء هي الضامنة لبقاء الأحكام.
و مرّ في الخبر الذي رويناه في الدليل السابق عن الرضا «ع» قوله: «بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و
توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع
______________________________
(1)- سورة المائدة (5)، الآية 3.
(2)- الكافي 1/ 289، كتاب الحجة، باب ما نص اللّه- عزّ و جلّ- و رسوله على الأئمة «ع» ...، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 190
الثغور و الأطراف.» «1»
و بالجملة المراد بالولاية هي الإمامة، و قد مرّ في أوائل الكتاب في ذيل قوله- تعالى-: «النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم» أقوال أهل اللغة في معنى الولاية و ان حقيقتها تولّي الأمر، و تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل، فراجع.
و في كلام أمير المؤمنين «ع» في نهج البلاغة: «و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة.» «2»
و في بعض أخبار الدعائم الخمسة: «فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه، يعني الولاية.» «3»
و ما تركه الناس هي حكومة أهل البيت لا مودّتهم، كما لا يخفى.
و أظن ان تفسير الولاية بالمودة و المحبة تفسير انحرافي ألقي من قبل غاصبي حكومة أهل البيت بين شيعتهم أيضا، تبريرا و توجيها لعملهم.
و كيف كان فالمقصود بالصحيحة ان عمدة الفرائض التي هي أسّ الإسلام و عليها بني الدين هي الفرائض الخمس و أفضلها الدولة الحقة الحافظة و المجرية للبقية، اذ لا يبقى الإسلام بأساسه بلا حكومة حقة، فيجب على المسلم المهتمّ بالإسلام الاهتمام بها في جميع الأعصار، غاية الأمر أن الأئمة الاثنى عشر عندنا مع حضورهم و ظهورهم أحقّ من غيرهم بالنص و بالأكملية، فوجب تأييدهم و إطاعتهم، و أمّا إذا لم يمكن الوصول اليهم بأيّ دليل كان، كما في عصر الغيبة، فلا تعطيل للإسلام، فلا محالة وجب تعيين حاكم بالحق يحفظ مقررات الإسلام و يجربها، و
سيأتي في الباب الآتي شرائط الحاكم الحق، فانتظر.
و قد روى مضمون الصحيحة بنحو يظهر منه ما بيناه أيضا في كتاب المحكم
______________________________
(1)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 656؛ عبده 2/ 210؛ لح/ 322، الخطبة 205.
(3)- الكافي 2/ 18، كتاب الإيمان و الكفر باب دعائم الإسلام، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 191
و المتشابه نقلا عن تفسير النعماني، قال: «فدعائم الإسلام و هي خمس دعائم و على هذه الفرائض الخمسة بني الإسلام فجعل- سبحانه- لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدا جهلها: اولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الولاية، و هي خاتمتها و الحافظة لجميع الفرائض و السنن.» «1»
و قد عرفت ان مطالب الكتاب عند الأصحاب منسوبة الى أمير المؤمنين «ع» و لكن لا يخلو ذلك من مناقشة، و لعل المؤلف مزج كلام نفسه بالروايات، فراجع ما ذكرناه في الدليل الخامس.
«أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ...» «2»
و فيه أيضا: «سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.» «3»
و في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي «ص»: «انه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.» «4»
يظهر من الحديثين الشريفين أنه لا يحق و لا يجوز للإنسان المسلم و لا سيما العالم أن يقعد
في بيته و لا يهتمّ و لا يبالي بما يشاهده من ظلم المستكبرين الطغاة بالنسبة الى
______________________________
(1)- المحكم و المتشابه/ 77، و بحار الأنوار 90/ 62 (طبعة إيران 93/ 62.)
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 113؛ لح/ 439، الكتاب 53.
(4)- سنن ابن ماجة 2/ 810، كتاب الصدقات، الباب 17، الحديث 2426.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 192
الضعفة و المستضعفين، بل يجب عليه حماية الضعفاء و إحقاق حقوقهم، و لا يخفى انه لا يتيسر ذلك غالبا إلّا بالتجمع و التشكل و تحصيل القوة و القدرة بقدر الإمكان، و لا نعني بالحكومة الّا هذا، غاية الأمر أن لها مراتب.
بل قد مرّ في خلال الفصول السابقة أنه لا يجوز للإنسان المسلم أن يقعد في بيته و لا يبالي بما يقع في محيطه و بيئته من الفحشاء و الفساد و إراقة دماء المسلمين و هتك نواميسهم و هضم الكفار و الطواغيت للمسلمين و المستضعفين و تسخيرهم و احتلال بلادهم.
فأدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أدلة الجهاد الدفاعي بأجمعها أيضا من أقوى الأدلة على لزوم تشكل المسلمين و تأسيس الدولة الحقة و تحصيل القدرة مهما أمكن و بقدر الإمكان. و الميسور منها لا يترك بالمعسور.
و الأصحاب و إن ظهر منهم كون وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر اذا توقفا على الضرب و الجراح مشروطين بإذن الإمام، و مقتضاه عدم التكليف على المسلمين في مواجهة الفساد و ان بلغ ما بلغ، و لكن نحن قد قوّينا سابقا عدم اشتراط الوجوب بذلك. نعم، وجود الفعل خارجا، بحيث يؤثر في رفع الفساد و
لا يترتب عليه ضرر، مشروط بالإمام لتحصل القدرة و النظم و لا يحصل الهرج و المرج. فتجب إقامة الحكومة الحقة و تأسيس الدولة بالوجوب المقدمي. و قد مرّ خبر يحيى الطويل عن أبي عبد اللّه «ع»: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كف اليد، و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفّان معا.» «1»
و نحو ذلك الدفاع عن حوزة الإسلام و كيان المسلمين، فإنه واجب مطلق و لكن وجود بعض مراتبه متوقف على التشكل و تحصيل القدرة، و لا محالة يتوقف ذلك على ان يؤمّروا على أنفسهم أميرا ينظّم أمرهم و يجمع شملهم.
فالجهاد بقسميه يحتاج الى الإمام، و لكن في الجهاد الابتدائي الوجوب على ما قالوا مشروط بالإمام و إذنه بخلاف الجهاد الدفاعي، فان الوجوب مطلق و لكن الوجود مشروط
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 193
به و متوقف عليه، و قد مرّ تفصيل الكلام في الجهاد في الفصل السادس، و يأتي الجواب عن الأخبار التي تمسك بها أهل السكوت و السكون في الفصل الرابع من هذا الباب بعد ذكر الأدلة العشرة لوجوب إقامة الدولة الحقة في كل عصر و مكان.
و أئمتنا- عليهم السلام- كانوا في ضيق و شدّة، و لم يكن لهم مساعد على القيام و الثورة ضدّ الحكومات الجائرة. و يأتي كلام الامام الصادق «ع» لسدير الصيرفي:
«يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» «1» و كان مجموع الجداء سبعة عشر.
و ليس المراد بالتقية الواردة في أخبارنا ترك الدفاع و الأمر بالمعروف، بل المراد هو التحفّظ في حال العمل بالتكليف.
و يشهد بذلك قوله «ع»: «التقية ترس المؤمن.» «2» و قوله: «إنّ التقية جنة المؤمن.» «3» فان الترس إنّما يستعمل في ميدان الجهاد لا في حال الاستراحة و العزلة، فتدبر.
و هنا شي ء آخر يجب أن ينبه عليه، و هو ان فقهاءنا- رضوان اللّه عليهم- ذكروا أمورا سموها الأمور الحسبية و قالوا إنّها أمور لا ترتبط بأشخاص خاصّين و لا يرضى الشارع بإهمالها و تركها، كالتصرف في أموال اليتامى و الغيّب و القصر و نحو ذلك.
و حينئذ فإن كان هنا فقيه عادل فهو المتيقن للتصدّي لها و إلّا فيتصدى لها عدول المؤمنين بل و فسّاقهم أيضا اذا لم يوجد العدول.
إذا عرفت هذا فنقول: هل يكون حفظ مال جزئي لصغير أو مجنون خاص من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها فيجب التصدّي لها على أي حال و أما حفظ كيان الإسلام و نظام المسلمين و حفظ دمائهم و نواميسهم و أموالهم فلا أهمية لها ولايتهم الشارع بها و يجوز للمسلمين إهمالها و عدم الاهتمام بها حتى يظهر صاحب
______________________________
(1)- الكافي 2/ 242- 243، كتاب الإيمان و الكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
(2)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 6.
(3)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 194
الأمر «ع»؟! ان هذا الأمر لعجيب.
و عدم عصمة العلماء و الفقهاء و احتمال خطأهم في مقام العمل لا يوجب جواز إهمال ذلك، فإن النبي «ص» أيضا و ان كان بنفسه معصوما و لكن عمّاله الغائبين عنه لم يكونوا معصومين عن الخطأ و
الزلل، و كذلك عمّال أمير المؤمنين «ع»، بل و كذلك عمّال صاحب العصر و الزمان- عجل اللّه فرجه-.
و على أي حال فاحتمال ضياع الحقوق مع النظارة و التصدّي للحفظ و الحراسة أضعف بمراتب من الترك و الإهمال بالكلية، فتدبر جيدا. هذا.
و نعيد الإشارة الى أن نفرة بعض الناس و انزجارهم من ألفاظ الحكومة و السلطنة و نحوهما ليس إلّا لابتلائهم غالبا بالحكومات الجائرة الظالمة أو غير اللائقة. ففي الحقيقة يكون التنفر من الجور و عدم اللياقة، و لكنه سرى الى نفس الحكومة و إلّا فالحكومة و إدارة شئون المسلمين و حفظ نظامهم بالنحو المعقول أمر يستحسنه العقل و الشرع، كما يدلّ عليه كثير من الآيات و الروايات و قد مرّ بعض الآيات في ذيل الدليل الأول، فراجع.
في جميع الأعصار أو كونها مرغوبا فيها شرعا نذكرها و نسردها. فعليك بالدقة في مفادها:
1- ما رواه المفيد في الاختصاص، قال: «و قد روى بعضهم عن أحدهم أنه قال:
الدين و السلطان أخوان توأمان لا بدّ لكل واحد منهما من صاحبه، و الدين أسّ و السلطان حارس، و ما لا أسّ له منهدم و ما لا حارس له ضائع.» «1»
______________________________
(1)- الاختصاص/ 263.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 195
و الظاهر أن مراده بقوله: «احدهم» أحد الأئمة «ع» و ان كان يحتمل غير ذلك أيضا، ففي رسائل إخوان الصفا:
«قال ملك الفرس أردشير في وصيته: إن الملك و الدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلّا بالآخر و ذلك أن الدين أسّ الملك و الملك حارسه فما لا أسّ له مهدوم و ما لا حافظ له ضائع، و لا بدّ للملك من أسّ و لا بدّ للدين من
حارس.» «1» هذا.
و لكن في كنز العمّال أيضا: «الإسلام و السلطان أخوان توأمان لا يصلح واحد منهما إلّا بصاحبه، فالإسلام أسّ و السلطان حارث، و ما لا أسّ له يهدم و ما لا حارث له ضائع.» (الديلمي، عن ابن عباس) «2».
و لعلّ كلمة «حارث» غلط و الصحيح: «حارس»، كما في الاختصاص.
و ظاهره كون الحديث عن النبي «ص».
2- ما في دعائم الإسلام: «و عن علي «ع» انه قال: لا بدّ من إمارة و رزق للأمير، و لا بدّ من عريف و رزق للعريف، و لا بد من حاسب و رزق للحاسب، و لا بد من قاض و رزق للقاضي. و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضى لهم و لكن من بيت المال.» «3»
3- ما في تحف العقول عن الصادق «ع»: «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع اليهم في أمر دنياهم و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع، و أمير خيّر مطاع، و طبيب بصير ثقة.» «4»
و الهمج بالتحريك: السفلة و الحمقى و من لا خير فيهم.
4- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «كل من دان اللّه- عزّ و جلّ- بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّه فسعيه غير مقبول و هو ضالّ متحيّر ... و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من اللّه- عزّ و جلّ- ظاهر عادل أصبح ضالّا تائها. و ان
______________________________
(1)- رسائل إخوان الصفا 3/ 495.
(2)- كنز العمال 6/ 10، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14613.
(3)- دعائم الإسلام 2/ 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1912.
(4)- تحف العقول/ 321.
دراسات في
ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 196
مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق. و اعلم يا محمد، ان ائمة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه قد ضلّوا و أضلوا.» «1»
5- ما في الاختصاص عن محمد بن علي الحلبي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «من مات و ليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهلية.» «2»
6- ما في الاختصاص أيضا عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من مات و ليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية.» قال: قلت: «إمام حيّ» جعلت فداك؟ قال: «إمام حيّ.» «3»
أقول: قد مرّ منّا في أواخر الباب الثاني أن أنس أذهاننا بإمامة الأئمة الاثنى عشر «ع» و أحقّيتهم أوجب انصراف لفظ الإمام عندنا اليهم «ع» و كأن اللفظ وضع لهم، و لكن اللفظ وضع للقائد الذي يؤتم به إما في الصلاة أو في الحج أو في الشؤون السياسية و نحو ذلك، سواء كان بحق أو بباطل. و لذا قال اللّه- تعالى-:
«فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.» «4» و أطلق الإمام الصادق «ع» لفظ الإمام على أمير الحج إسماعيل بن علي حين وقف عليه «ع» فقال له: «سر فإن الإمام لا يقف.» «5» و في رسالة الحقوق لعلي بن الحسين «ع»: «كل سائس إمام.» «6» فراجع ما حررناه هناك.
و لا تستغرب أن يكون موت من ليس عليه إمام حي ظاهر ميتة جاهلية أو ميتة كفر و نفاق، فإن الإمام الحق هو الحارس للدين و المجري للإسلام. و هل يكون وجود الإمام أهون من الوصية بالنسبة الى مال جزئي و قد ورد عن النبي «ص»: «من
______________________________
(1)- الكافي 1/ 183- 184، كتاب الحجة، باب
معرفة الإمام و الردّ اليه، الحديث 8.
(2)- الاختصاص/ 269.
(3)- الاختصاص/ 269.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 12.
(5)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.
(6)- الخصال/ 565 (الجزء 2)، ابواب الخمسين، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 197
مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» «1»؟
7- ما في دعائم الإسلام: «عن جعفر بن محمد «ع» انه قال: ولاية أهل العدل الذين أمر اللّه بولايتهم، و توليتهم و قبولها و العمل لهم فرض من اللّه- عزّ و جلّ- و طاعتهم واجبة، و لا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم. و (ولاية- ظ.) ولاة أهل الجور و اتباعهم، و العاملون لهم في معصية اللّه غير جائزة لمن دعوه الى خدمتهم و العمل لهم و عونهم و لا القبول منهم.» «2»
8- ما رواه حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل (عادل خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «3»
9- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي «ص» قال: «يوم واحد من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما. وحد يقام في الأرض أزكى من عبادة ستين سنة.» «4»
فاللّه الفياض الذي لا يقطع بركاته و قطر السماء عن خلقه مع كثرة المعاصي كيف يقطع عنهم بركات الإمامة و إقامة الحدود في عصر الغيبة بطولها بسبب غيبة وليّ العصر- عجل اللّه فرجه، و يترك خلقه بلا نظام و حكومة؟!
10- ما في نهج البلاغة خطابا لعثمان: «فاعلم ان أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى و هدى، فأقام سنة معلومة و أمات بدعة مجهولة
... و إن شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضل و ضلّ به، فأمات سنة مأخوذة و أحيا بدعة متروكة.» «5»
11- ما في جامع الأصول: «أبو سعيد الخدري «رض» قال: قال
______________________________
(1)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.
(2)- دعائم الإسلام 2/ 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.
(3)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
(4)- مستدرك الوسائل 3/ 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.
(5)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 198
رسول اللّه «ص»: أحب الناس الى اللّه يوم القيمة و أدناهم منه مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس الى اللّه- تعالى- و أبعدهم منه مجلسا إمام جائر. أخرجه الترمذي.» «1»
12- ما رواه في تحف العقول عن الصادق «ع»: «فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته، بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره الى غيره، فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلل، و حلال الكسب معهم. و ذلك ان في ولاية والي العدل و ولاته إحياء كل حق وكل عدل و إماتة كل ظلم و جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعيا الى طاعة اللّه مقويا لدينه.» «2»
و لا يخفى ان هذه الجملات مرويّة عن
الإمام الصادق الذي لم يكن واليا بالفعل مبسوط اليد حتى يترتب على ولايته إحياء الحق و العدل و إماتة الظلم و الجور و الفساد، فتدبّر.
13- ما رواه الآمدي في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض و مقيم العدل في البلاد و العباد و وزعته في الأرض.» «3»
و في نهج البلاغة: «السلطان وزعة اللّه في أرضه.» «4»
و الوزعة: المانعون عن محارم اللّه، جمع وازع. و الجمع باعتبار أن السلطان أريد به الجنس.
14- ما رواه الآمدي أيضا عنه «ع»: «ليس ثواب عند اللّه- سبحانه- أعظم من ثواب السلطان العادل و الرجل المحسن.»
______________________________
(1)- جامع الأصول 4/ 447، الباب 1 من كتاب الخلافة، الحديث 2035.
(2)- تحف العقول/ 332.
(3)- الغرر و الدرر 2/ 604، الحديث 3634.
(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1243؛ عبده 3/ 232؛ لح/ 533، الحكمة 332.
- الغرر و الدرر 5/ 90، الحديث 7526.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 199
15- ما رواه عنه: «العلماء حكّام على الناس.» «1»
16- ما رواه عنه «ع»: «دولة العادل من الواجبات.» «2»
17- ما رواه عنه «ع»: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»
18- ما رواه عنه «ع»: «أجلّ الملوك من ملك نفسه و بسط العدل.» «4»
19- ما رواه عنه «ع»: «أفضل الملوك من حسن فعله و نيته و عدل في جنده و رعيّته.» «5»
20- ما رواه عنه «ع»: «خير الملوك من أمات الجور و أحيا العدل.» «6»
21- ما رواه عنه «ع»: «من أعود الغنائم دولة الأكارم.» «7»
22- ما رواه عنه «ع»: «إمام عادل خير من مطر وابل.» «8»
23- ما رواه عنه «ع»: «أفضل ما منّ اللّه سبحانه به على عباده علم و عقل
و ملك و عدل.» «9»
24- ما رواه عنه «ع»: «إذا بنى الملك على قواعد العدل و دعم بدعائم العقل نصر اللّه مواليه و خذل معاديه.» «10»
25- ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي: «قال الصادق: الملوك حكام على
______________________________
(1)- الغرر و الدرر 1/ 137، الحديث 506.
(2)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5110.
(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.
(4)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3206.
(5)- الغرر و الدرر 2/ 445، الحديث 3234.
(6)- الغرر و الدرر 3/ 431، الحديث 5005.
(7)- الغرر و الدرر 6/ 34، الحديث 9381.
(8)- الغرر و الدرر 1/ 386، الحديث 1491.
(9)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3205.
(10)- الغرر و الدرر 3/ 168، الحديث 4118.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 200
الناس و العلماء حكّام على الملوك.» «1»
26- ما رواه في الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول اللّه «ص»: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمّتي و إذا فسدا فسدت أمّتي. قيل:
يا رسول اللّه، و من هما؟ قال: الفقهاء و الأمراء.» «2»
27- ما رواه في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان اللّه أجلّ و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.» «3»
28- ما رواه في إثبات الهداة عن عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» «4» قال: «إمامهم الذي بين أظهرهم و هو قائم أهل زمانه.» «5»
أقول: الأخبار المتواترة الصادرة عن الأئمة المعصومين و الاحتجاجات المروية عن أصحابهم «ع» كهشام و غيره الدالة على لزوم الإمام و الهادي و الحجة و العالم الحافظ للدين عن التحريف و التغيير، و
ان كان النظر فيها الى إثبات إمامة الأئمة الاثنى عشر- عليهم السلام- في قبال أئمة الجور، و لكن التعليلات و الملاكات المذكورة فيها تشمل جميع الأعصار حتى عصر الغيبة. و لا يمكن أن يقال إن اللّه اللطيف بعباده أهمل أمور المسلمين في عصر الغيبة بسبب غيبة الإمام المنتظر «ع» فراجع الأخبار و تأمّل فيها.
29- ما رواه في إثبات الهداة، عن الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عبد الملك أن
______________________________
(1)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، الباب 1 (باب فرض العلم ...)، الحديث 92.
(2)- الخصال 1/ 36، باب الاثنين، الحديث 12.
(3)- الكافي 1/ 178، كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 6.
(4)- سورة الإسراء (17)، الآية 71.
(5)- إثبات الهداة 1/ 89.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 201
رسول اللّه «ص» قال: «من مات و ليس في عنقه لإمام المسلمين بيعة فميتته ميتة جاهلية.»
قال: و روي في هذا المعنى عدة أحاديث «1».
و لا يخفى انه ليس مفاد الرواية وجوب البيعة بالفعل، بل وجوب وجود الإمام و تعيينه حتى يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده، و ان شئت قلت: ظاهر الرواية انّ الواجب هو الالتزام بالبيعة و التسليم، لا فعلية البيعة، فتأمل.
30- ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن عجلان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ثلاثة يدخلهم اللّه الجنة بغير حساب، و ثلاثة يدخلهم اللّه النار بغير حساب: فأما الذين يدخلهم اللّه الجنة بغير حساب فإمام عادل و تاجر صدوق، و شيخ أفنى عمره في طاعة اللّه- عزّ و جلّ-. و أما الثلاثة الذين يدخلهم اللّه النار بغير حساب فإمام جائر، و تاجر كذوب، و شيخ زان.» «2»
31-
ما رواه في البحار و الوسائل عن أمالي الصدوق بسنده عن الشحّام، عن الصادق «ع» قال: «من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع شرّه (الوسائل:
ستره) و نظر في أمور الناس كان حقا على اللّه- عزّ و جلّ- ان يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنة.» «3»
32- ما رواه في التاج الجامع للأصول عن النبي «ص» قال: «سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العادل، و شابّ نشأ بعبادة اللّه. الحديث.» رواه الخمسة إلّا أبا داود «4».
33- ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي «ص»: «من خلع يدا من طاعة لقي اللّه
______________________________
(1)- إثبات الهداة 1/ 143.
(2)- الخصال 1/ 80، باب الثلاثة، الحديث 1.
(3)- بحار الأنوار 72/ 340 (طبعة إيران 75/ 340)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 18. و الوسائل 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(4)- التاج الجامع للأصول 3/ 49، كتاب الإمارة، الفصل 3 (فيما يجب على الأمير).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 202
يوم القيامة لا حجة له. و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» «1»
34- ما رواه مسلم أيضا عن يحيى بن الحصين، قال: سمعت جدّتي تحدّث أنها سمعت النبي «ص» يخطب في حجة الوداع و هو يقول: «لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا.» «2»
35- ما رواه البخاري في صحيحه و رواه غيره أيضا عن رسول اللّه «ص»:
«كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيّته. الإمام راع و مسئول عن رعيته. الحديث.» «3»
36- و في كنز العمّال: «لا بدّ للناس من إمارة
برّة أو فاجرة. فأما البرّة فتعدل في القسم و تقسم بينكم فيئكم بالسوية، و أما الفاجرة فيبتلى فيها المؤمن. و الإمارة خير من الهرج. قيل:
يا رسول اللّه، و ما الهرج؟ قال: القتل و الكذب.» (طب، عن ابن مسعود) «4»
و قد مرّ نظير ذلك في الأمر الرابع عن نهج البلاغة، فراجع.
37- و في كنز العمّال أيضا: «ما من أحد أفضل منزلة من إمام إن قال صدق و إن حكم عدل، و ان استرحم رحم.» «5» (ابن النجار، عن أنس)
38- و فيه أيضا: «أحب الناس الى اللّه يوم القيامة و أدناهم مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس الى اللّه و أبعدهم منه إمام جائر.» (حم ت، عن أبي سعيد) «6»
39- و فيه أيضا: «نعم الشي ء الإمارة لمن أخذها بحقها و حلّها، و بئس الشي ء الإمارة لمن
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1478 (طبعة أخرى 6/ 22)، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ...، الحديث 1851.
(2)- صحيح مسلم 3/ 1468 (طبعة اخرى 6/ 14)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ...
(3)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.
(4)- كنز العمال 6/ 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14755.
(5)- كنز العمال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14593.
(6)- كنز العمال 6/ 9، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14604.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 203
أخذها بغير حقّها فتكون عليه حسرة يوم القيامة.» (طب، عن زيد بن ثابت) «1»
40- و فيه أيضا: «من استطاع منكم أن لا ينام نوما و لا يصبح صبحا إلّا و
عليه إمام فليفعل.» (ابن عساكر، عن أبي سعيد و ابن عمر) «2»
41- و فيه أيضا: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. و من نزع يدا من طاعة جاء يوم القيمة لا حجة له.» (ط حل، عن ابن عمر) «3»
42- و فيه أيضا: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم حلماءهم و قضى عليهم علماؤهم، و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم، و قضى بينهم جهّالهم، و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «4»
43- و عن النبي «ص» قال: «لعمل الإمام العادل في رعيته يوما واحدا أفضل من عبادة العابد في أهله مأئة عام أو خمسين عاما.» «5»
الى غير ذلك من الأخبار و الروايات، فان الروايات التي يستفاد منها لزوم الإمارة و الملك أو كونه مرغوبا فيه شرعا اذا تحققت العدالة و سائر الشرائط، كثيرة في كتب الفريقين.
و قد مضى في ذيل الأمر الأول أيضا بعض الآيات الدالة على حسن الملك و الدولة و كونه من نعم اللّه- تعالى- على عباده الصالحين، فراجع.
فهذه أدلة عشرة ذكرناها دليلا على لزوم الملك و الدولة في جميع الأعصار، و كفاك ما ذكرناه في الأمرين الأولين، فراجع و تأمّل.
______________________________
(1)- كنز العمال 6/ 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14753.
(2)- كنز العمال 6/ 64، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14855.
(3)- كنز العمّال 6/ 65، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14863.
(4)- كنز العمّال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14595.
(5)- الأموال/ 13، باب حق الإمام على الرعيّة ...، الحديث 14.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة
الإسلامية، ج 1، ص: 204
و اعلم ان الصحاح و السنن و مسانيد إخواننا السنة ملاء من الأخبار الواردة في الإمارة و السلطنة، ففي بعضها مدح الإمارة و الترغيب فيها، و في بعضها التحذير و التخويف منها و ذمّ أئمة الجور و أنهم من أهل النار، و في بعضها وجوب الإطاعة للأمير و إن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف، و في بعضها أنه «لا طاعة لمن لم يطع اللّه» او «لا طاعة في معصية اللّه، إنّما الطاعة في المعروف»، و في بعضها أن السلطان ظل اللّه في الأرض، و في بعضها أن السلطان العادل المتواضع ظلّ اللّه و رمحه في الأرض.
و الجمع بين هذه الروايات بحسب الصناعة الفقهية واضح، لوضوح أنّ الوالي الحق العادل يجب اطاعته دون الظالم الجائر، و لا سيما في ظلمه و جوره، و انه اذا أمّر من قبل الوالي العادل عبد مجدّع يقود الناس بكتاب اللّه- كما في متن الحديث- فالواجب اطاعته و لو كان حبشيا أسود. فان هذا من مزايا الإسلام، حيث الغى الامتيازات اللونية و الجغرافية و الطائفية و الطبقية و قال في القرآن الكريم: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ.» «1» أ لا ترى ان النبي «ص» أمّر أسامة بن زيد قبيل وفاته و أمر الصحابة الكبار أيضا بان يكونوا تحت لوائه؟
و المطلق في قوله: «السلطان ظل اللّه» يجب أن يحمل على المقيد في الحديث الآخر.
فالسلطان العادل الحق ظل اللّه دون الجائر الظالم، فانه ظل الشيطان و طاغوت، و قد أمروا أن يكفروا به.
و يحتمل إرادة الإنشاء أيضا لا الاخبار، فيراد أن السلطان يجب أن يكون ظل اللّه و مظهر رحمته.
نعم، السلطان و لو كان جائرا خير من فتنة تدوم
و من الهرج و المرج، لا بمعنى مشروعية سلطنته بل بمعنى الرجحان العقلي إذا دار الأمر بينهما و لم يمكن تأسيس الحكومة العادلة. و قد مرّ بيان ذلك في ذيل كلام أمير المؤمنين «ع» في الدليل الرابع، فراجع. و يأتي بيان الشرائط للحاكم الحق الذي يجب إطاعته في الباب الرابع، فانتظر.
______________________________
(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 13.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 205
في قبال الجنايات و مظالم الأعداء في عصر الغيبة و عدم التدخل في الشؤون السياسية و إقامة الدولة العادلة و قد ذكر كثيرا منها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، و في الحقيقة تعدّ هذه الأخبار معارضة لما ذكرناها دليلا على وجوب السعى في إقامة الدولة العادلة.
فلنتعرض لها و نبين المراد منها:
قال: «سمعت أبا عبد اللّه يقول: «عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له. و انظروا لأنفسكم. فو اللّه ان الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. و اللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، و لكن له نفس واحدة اذا ذهبت فقد و اللّه ذهبت التوبة. فأنتم أحق ان تختاروا لأنفسكم. إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شي ء تخرجون.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 206
و لا تقولوا: خرج زيد، فان زيدا كان عالما و كان صدوقا، و لم يدعكم الى نفسه و انما دعاكم الى الرضا من آل محمد «ص». و لو ظفر لوفى بما دعاكم إليه. انّما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه.
فالخارج منّا اليوم الى أيّ شي ء يدعوكم؟ الى الرضا من آل محمد «ص»؟ فنحن نشهدكم انا لسنا نرضى به و هو يعصينا اليوم و ليس معه احد، و هو اذا كانت الرايات و الألوية أجدر ألّا يسمع منّا، إلّا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فو اللّه ما صاحبكم إلّا من اجتمعوا عليه. اذا كان رجب فاقبلوا على اسم اللّه،
و ان أحببتم ان تتأخروا الى شعبان فلا ضير، و ان أحببتم ان تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك يكون أقوى لكم. و كفاكم بالسفياني علامة.» «1»
أقول: الصحيحة لا تدل على عدم وجوب الدفاع و عدم جواز الخروج، بل تدل على ان الداعي الى الخروج قد تكون دعوته باطلة، بأن يدعو الى نفسه مثلا مع عدم استحقاقه لما يدّعيه كمن يدعى المهدوية مثلا كذبا. و قد تكون دعوته حقه، كدعوة زيد بن علي بن الحسين مثلا، حيث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة و تسليم الحق الى أهله، أعني المرضى من آل محمد، يعني الامام الصادق «ع» فيجب على الأشخاص المدعوّين أن ينظروا لأنفسهم و يعملوا الدقة في ذلك و لا يتأثروا بالأحاسيس و العواطف الآنية.
فان الإنسان اذا كان بحسب فطرته بحيث يعمل الدقة في احراز ما هو صلاح لغنمه فهو بإعمال الدقة لنفسه أحق و أولى. و هذا حكم عقلي فطري، اذ على الإنسان أن يحكم العقل في الأمور المهمة و لا يقع تحت تأثير الإحساس الآني.
و جعل المجلسي «ره» في المرآة قوله: «انّما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه» بيانا لعلة عدم ظفر زيد، قال في شرح العبارة: «أي فلذلك لم يظفر.» «2»
و كيف كان فالصحيحة تمضي قيام زيد و تدل على جواز القيام للدفاع عن الحقّ.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(2)- مرآة العقول 4/ 365، (من ط. القديم).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 207
و الأخبار في فضائل زيد و علمه و زهده و إمضاء قيامه كثيرة مستفيضة.
و قوله «ع»: «كان عالما و كان صدوقا» إشارة الى صلاحيته لان يكون أميرا في الثورة الحقة بحسب
علمه و عمله.
و لا خصوصية لزيد قطعا، و انما الملاك هدفه في قيامه و صلاحيته لذلك. فالقيام لنقض الحكومة الفاسدة الجائرة مع إعداد مقدماته جائز بل واجب. و لو ظفر زيد لوفى بما دعا اليه من إرجاع الحكومة الى المرضيّ من آل محمد، كما نطق به الخبر.
و عدم تسميته لشخص الامام الصادق «ع» لعله كان لوجهين:
الاول: انه أراد أن ينجذب اليه و يساعده كل من كان مخالفا للحكومة الفاسدة من أيّ فرقة من فرق المسلمين كان، و لذا اعانه حتى بعض من لم يكن من الخاصة، و قد حكى ان أبا حنيفة مثلا أعانه بثلاثين ألف درهم لذلك.
الثاني: انه أراد ان يبقى الإمام الصادق «ع» محفوظا من شرّ الحكومة الفاسدة على فرض عدم الظفر ليبقى ركنا و أساسا للحقّ، يجدّد بناء الإسلام ببيان معارفه و أخلاقياته و أحكامه بعد أن أخفتها حجب التأويلات و التحريفات و استار الجهل و الكتمان. و حفظه «ع» كان من أهمّ الفرائض، كما لا يخفى على من اطلع على العلوم الصادرة عنه «ع» في شتّى الموضوعات.
و روى عمرو بن خالد، قال: قال زيد بن علي بن الحسين «ع»:
«في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه. و حجة زماننا ابن أخي: جعفر بن محمد، لا يضلّ من تبعه و لا يهتدي من خالفه.» «1»
______________________________
(1)- بحار الأنوار 46/ 173، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 24.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 208
ثم ان قيام زيد لم يكن قياما إحساسيّا عاطفيا أعمى بلا اعداد للقوى و الأسباب، فانه بعث الى الأمصار و
جمع الجموع، و الكوفة كانت مقرّا لجند الإسلام من القبائل المختلفة و قد بايعه فيها خلق كثير، و قد قيل انه بايعه فيها أربعون ألفا من أهل السيف.
و امّا اطلاعه على كونه المصلوب بالأخرة في كناسة الكوفة بإخبار الإمام الباقر و الإمام الصادق «ع» فلم يكن يجوّز تخلّفه عن الدفاع عن الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بعد ما تهيأت له الاسباب من الجنود و السلاح. كما أن إخبار النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» بشهادة سيّد الشهداء «ع» في النهاية لم يمنعه من القيام بعد ما دعاه جنود الإسلام من الكوفة بالكتب و الرسائل و أخبره رائده مسلم بتهيؤ العدّة و العدّة. و لو كان لا يجيب الداعين مع كثرتهم و تهيئهم لكان لهم حجة عليه «ع» بحسب الظاهر.
و بالجملة العلم بالشهادة بالأخرة بإخبار غيبي لا يوجب عدم التكليف بعد تحقق شرائطه و أسبابه، فلعل جنوده تظفر و الإسلام يغلب و ان رزق بنفسه الشهادة، و المهم ظفر الإسلام و الحق و تحقق الهدف لا ظفر الشخص و غلبته، و لعل شهادته أيضا تؤثر في تقوّي الإسلام و بسطه، كما يشاهد نظير ذلك في كثير من الثورات.
و كيف كان فقيام زيد بن عليّ كان من سنخ نهضة الحسين «ع» غاية الأمر ان الحسين «ع» كان إماما بالحقّ يدعو الى نفسه، و زيد لم يكن يدعو الى نفسه بل الى الرضا من آل محمد، و قد أراد بذلك الإمام الصادق «ع» لا محالة.
و في خطبته المحكية عنه:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 209
«أ لستم تعلمون انّا ولد نبيّكم المظلومون المقهورون، فلا سهم و فينا و لا تراث اعطينا
و ما زالت بيوتنا تهدم و حرمنا تنتهك ...» «1»
فلم يكن يتكلم هو عن شخصه بل عن العترة «ع»
و عن الصادق «ع»: «إن عمّي كان رجلا لدنيانا و آخرتنا، مضى و اللّه عمّي شهيدا كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه «ص» و عليّ و الحسن و الحسين.» «2»
و في حديث قال الصادق «ع» لفضيل: «يا فضيل، شهدت مع عمّي قتال أهل الشام؟ قلت: نعم. قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة. قال: فلعلك شاك في دمائهم؟
قال: فقلت: لو كنت شاكّا ما قتلتهم. قال: فسمعته و هو يقول: أشركني اللّه في تلك الدماء، مضى و اللّه زيد عمّي و أصحابه شهداء مثل ما مضى عليه عليّ بن أبي طالب و أصحابه.» «3»
و في حديث آخر عن الباقر «ع» عن آبائه قال: «قال رسول اللّه «ص» للحسين «ع»:
يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطى هو و أصحابه يوم القيامة رقاب الناس غرّا محجلين يدخلون الجنة بلا حساب.» «4»
و في خبر ابن سيّابة، قال: «دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد ألف دينار و أمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي، فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن زبير أخا فضيل الرسان أربعة دنانير.» «5»
الى غير ذلك من الأخبار الدالة على فضل زيد و تأييد قيامه.
______________________________
(1)- بحار الأنوار 46/ 206، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 83.
(2)- عيون أخبار الرضا 1/ 252، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا «ع» في زيد)، الحديث 6.
(3)- بحار الأنوار 46/ 171، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين
«ع» و أزواجه)، الحديث 20.
(4)- عيون أخبار الرضا 1/ 249، الباب 25، الحديث 2. بحار الأنوار 46/ 170، الباب 11، الحديث 19.
(5)- بحار الأنوار 46/ 170، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 18.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 210
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 210
هذا و قد عقد الصدوق في العيون بابا في شأن زيد بن علي، و ذكر فيه أخبارا.
منها: ما رواه بسنده عن ابن أبي عبدون، عن أبيه، قال: «لما حمل زيد بن موسى بن جعفر «ع» الى المأمون- و قد كان خرج بالبصرة و أحرق دور ولد العباس- وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا «ع» و قال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك و فعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل، و لو لا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا «ع»: يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيدا الى زيد بن علي «ع» فانه كان من علماء آل محمد «ص» غضب للّه- عزّ و جلّ- فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله. و لقد حدثني أبي موسى بن جعفر «ع» انه سمع أباه جعفر بن محمد «ع» يقول: رحم اللّه عمّي زيدا انه دعا الى الرضا من آل محمد. و لو ظفر لو في بما دعا اليه. و لقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم، ان رضيت ان تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلما ولّى
قال جعفر بن محمد «ع»: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أ ليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال الرضا «ع»: إن زيد بن علي «ع» لم يدّع ما ليس له بحقّ و إنه كان أتقى للّه من ذاك. إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد. و إنما جاء ما جاء فيمن يدّعي أن اللّه نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين اللّه و يضل عن سبيله بغير علم.
و كان زيد و اللّه ممن خوطب بهذه الآية: و جاهدوا في اللّه حق جهاده، هو اجتباكم.» «1»
و قد ذكر الرواية مقطعة في هذا الباب من الوسائل أيضا «2».
و تدلّ هذه الرواية أيضا على قداسة زيد و إمضاء خروجه، و أنه لم يدّع ما ليس له، و أن قيامه كان جهادا في سبيل اللّه و أن إجابته كانت واجبة لمن سمع واعيته، و أن الذي لا يجوز إجابته هو من ادّعى النص على نفسه كذبا فضلّ و أضلّ كالمدعين للمهدوية، و أن الاطّلاع على الشهادة إجمالا بطريق غيبي لا يصير مانعا عن العمل بالوظيفة.
و قال الصدوق في العيون بعد نقل هذه الرواية:
______________________________
(1)- عيون أخبار الرضا 1/ 248، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا «ع» في زيد)، الحديث 1.
(2)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 11.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 211
«لزيد بن علي فضائل كثيرة عن غير الرضا «ع» أحببت إيراد بعضها على إثر هذا الحديث ليعلم من ينظر في كتابنا هذا اعتقاد الامامية فيه.»
ثم ذكر أخبارا كثيرة. فيظهر من الصدوق أنّ قداسة زيد كانت من
معتقدات الإمامية.
و في إرشاد المفيد:
«كان زيد بن علي بن الحسين عين إخوته بعد أبي جعفر «ع» و أفضلهم، و كان ورعا عابدا فقيها سخيا شجاعا، و ظهر بالسيف يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يطلب بثارات الحسين «ع».» «1»
و في تنقيح المقال عن التكملة:
«اتفق علماء الإسلام على جلالته و ثقته و ورعه و علمه و فضله.» «2»
و على هذا فلو فرض القول بان قيام الإمام الشهيد كان من خصائصه و لم يجز جعله أسوة في الخروج على أئمة الجور فقيام زيد لا يختص به قطعا، لعدم خصوصية فيه و عدم كونه إماما معصوما. هذا.
و لكن الفرض باطل قطعا، فإن الإمام أسوة كجده رسول اللّه «ص».
و قد قال «ع» في خطابه لأصحاب الحر: «فلكم فيّ أسوة.» «3»
و الامام المجتبى أيضا قام و جاهد الى أن خان أكثر جنده و غدروا و لم يتمكن من مواصلة الجهاد.
و سائر الأئمة «ع» أيضا لم تتحقق لهم شرائط القيام. و ستأتي رواية سدير و ان الإمام الصادق «ع» قال له: «لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» «4»
فهم- عليهم السلام- نور واحد و طريقهم واحد و انما تختلف الأوضاع
______________________________
(1)- الإرشاد/ 251 (طبعة أخرى/ 268).
(2)- تنقيح المقال 1/ 467.
(3)- تاريخ الطبري 7/ 300.
(4)- الكافي 2/ 242، كتاب الإيمان و الكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 212
و الظروف، فلاحظ.
بل قد مرّ أن القيام للدفاع عن الإسلام و عن حقوق المسلمين في قبال هجوم الأعداء و تسلطهم على بلاد الإسلام و شئون المسلمين مما يحكم به ضرورة العقل و الشرع، و لا يشترط فيه إذن الإمام.
و
قوله- تعالى-: «وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ» «1»
و قوله: «وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» «2» من محكمات القرآن الكريم.
نعم، يجب إعداد القوى و الأسباب للقيام، كما مرّ.
فانظر كيف غفل المسلمون و رؤساؤهم و أغفلوا، و هجمت إسرائيل على القدس الشريف و على أراضي المسلمين و نفوسهم و معابدهم و معاهدهم و نواميسهم و أموالهم، و هجم كفار الغرب و الشرق و عملاؤهم على كيان الإسلام و شئون المسلمين، و كل يوم تسمع أخبار المجازر و الغارات و الاعتقالات، و رجال الملك و وعّاظ السلاطين و علماء السوء ساكتون في قبال هذه المجازر و المظالم و تراهم يصرفون أوقاتهم و طاقاتهم في التعيش و الترف و في إثارة الفتن و الاختلافات الداخلية و هضم بعضهم لبعض. اللّهم فخلّص المسلمين من شرّ حكام الجور و علماء السوء، و أيقظهم من سباتهم و هجعتهم، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه. هذا.
و بالجملة فان قيام زيد كان ثورة حقة أمضاها الأئمة- عليهم السلام- و إن لم يظفر في نهاية الأمر كما لم يظفر سيد الشهداء «ع» بعد تحوّل أوضاع الكوفة بمجي ء
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 75.
(2)- سورة الحج (22)، الآية 40.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 213
عبيد اللّه بن زياد اليها.
فان قلت: روي عن زرارة، قال:
«قال لي زيد بن علي و أنا عند أبي عبد اللّه «ع» يا فتى، ما تقول في رجل من آل محمد «ص» استنصرك؟ قال:
قلت: ان كان مفروض الطاعة نصرته و ان كان غير مفروض الطاعة فلي ان افعل و لي ان لا افعل، فلما خرج قال ابو عبد اللّه «ع»:
أخذته و اللّه من بين يديه و من خلفه و ما تركت له مخرجا.» «1»
و نحو ذلك عن مؤمن الطاق أيضا في حديث مفصل «2».
قلت: ليس كلام أبي عبد اللّه «ع» نصّا في تخطئة قيام زيد، بل هو تحسين لزرارة و مؤمن الطاق في جوابهما. و واضح ان زيدا لم يكن اماما مفترض الطاعة.
هذا مضافا الى ان قوله: «فلي ان افعل ولي ان لا افعل» يدلّ على جواز قيامه مع غير مفترض الطاعة أيضا في الجملة. و الظاهر ان الامام «ع» قد أمضاه في ذلك. ثم لا يخفى ان كونهما من خواصّ الامام الصادق «ع» و مرابطيه، بحيث يعرفهما كل واحد بذلك، كان مقتضيا لعدم إجابتهما له، لما عرفت من أن المصلحة اقتضت عدم ظهور موافقة الإمام الصادق «ع» على قيام زيد و أمثاله ليبقى وجوده الشريف ركنا للحق و مجددا للشريعة بعد ما تطرقت اليها أيدي الكذبة و المحرفين، و حفظه «ع» في تلك الموقعية كان من أهم الفرائض.
نعم، هنا روايات دالّة على ذمّ زيد و تخطئته في قيامه، و لكن أسانيدها ضعيفة
______________________________
(1)- الاحتجاج/ 204، (طبعة أخرى 2/ 137).
(2)- الاحتجاج/ 204، (طبعة اخرى 2/ 141- 142). الكافي 1/ 174، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 214
جدّا فلا تقاوم صحيحة العيص و الأخبار الكثيرة الواردة في مدحه و تأييد ثورته المتلقاة بالقبول من قبل أصحابنا- رضوان اللّه عليهم-. هذا.
و لنذكر واحدة من تلك الروايات نموذجا، و
لعلها أوضحها:
ففي الكافي: «محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن الجارود، عن موسى بن بكر بن داب، عمّن حدّثه، عن أبي جعفر «ع» ان زيد بن علي بن الحسين «ع» دخل على أبي جعفر محمد بن علي و معه كتب من أهل الكوفة، يدعونه فيها الى أنفسهم و يخبرونه باجتماعهم و يأمرونه بالخروج.
فقال له أبو جعفر «ع»: هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت به اليهم و دعوتهم اليه؟
فقال: بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقّنا و بقرابتنا من رسول اللّه «ص» و لما يجدون في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- من وجوب مودّتنا و فرض طاعتنا و لما نحن فيه من الضيق و الضنك و البلاء.
فقال له ابو جعفر «ع»: ان الطاعة مفروضة من اللّه- عزّ و جلّ- و سنّة أمضاها في الأولين، و كذلك يجريها في الآخرين، و الطاعة لواحد منا و المودّة للجميع، و أمر اللّه يجري لأوليائه بحكم موصول و قضاء مفصول و حتم مقضي و قدر مقدور و أجل مسمّى لوقت معلوم، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، انهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئا، فلا تعجل فان اللّه لا يعجل لعجلة العباد، و لا تسبقن اللّه فتعجزك البلية فتصرعك.
قال: فغضب زيد عند ذلك ثم قال: ليس الإمام منّا من جلس في بيته و أرخى ستره و ثبّط عن الجهاد و لكن الإمام منّا من منع حوزته و جاهد في سبيل اللّه حق جهاده و دفع عن رعيّته و ذبّ عن حريمه.
قال أبو جعفر «ع»: هل تعرف يا أخي من نفسك شيئا مما نسبتها اليه فتجي ء عليه بشاهد من كتاب اللّه أو حجة من
رسول اللّه «ص» أو تضرب به مثلا، فان اللّه- عزّ و جلّ- أحل حلالا و حرّم حراما و فرض فرائض و ضرب أمثالا و سنّ سننا و لم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة فيما فرض له من الطاعة أن يسبقه بأمر قبل محله أو يجاهد فيه قبل حلوله، و قد قال اللّه- عزّ و جلّ- في الصيد:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 215
«لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» «1» أ فقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرّم اللّه؟ و جعل لكل شي ء محلا و قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا» «2»، و قال- عزّ و جلّ-: «لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ.» «3» فجعل الشهور عدة معلومة، فجعل منها أربعة حرما، و قال: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّٰهِ» «4» ثم قال- تبارك و تعالى-: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» «5» فجعل لذلك محلا، و قال: «وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰى يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ» «6» فجعل لكل شي ء أجلا و لكل أجل كتابا.
فان كنت على بينة من ربك و يقين من أمرك و تبيان من شأنك فشأنك، و الّا فلا ترومنّ أمرا أنت منه في شك و شبهة و لا تتعاط زوال ملك لم ينقض أكله و لم ينقطع مداه و لم يبلغ الكتاب أجله، فلو قد بلغ مداه و انقطع أكله و بلغ الكتاب أجله لا نقطع الفصل و تتابع النظام و لأعقب اللّه في التابع و المتبوع الذلّ و الصغار. أعوذ باللّه من إمام ضلّ عن وقته، فكان التابع فيه أعلم من
المتبوع.
أ تريد يا أخي أن تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات اللّه و عصوا رسوله و اتبعوا أهواءهم بغير هدى من اللّه و ادعوا الخلافة بلا برهان من اللّه و لا عهد من رسوله؟! أعيذك باللّه يا أخي ان تكون غدا المصلوب بالكناسة.
ثم ارفضّت عيناه و سالت دموعه ثم قال: اللّه بيننا و بين من هتك سترنا و جحدنا حقنا و أفشى سرّنا و نسبنا الى غير جدنا و قال فينا ما لم نقله في أنفسنا.» «7»
أقول: قد نقلنا الرواية بطولها لكنك ترى انها مرسلة، مضافا الى ان الحسين بن الجارود و موسى بن بكر بن داب كليهما مجهولان لم يذكرا في كتب الرجال بمدح و لا قدح.
______________________________
(1)- سورة المائدة (5)، الآية 95.
(2)- سورة المائدة (5)، الآية 2.
(3)- سورة المائدة (5)، الآية 2.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 2.
(5)- سورة التوبة (9)، الآية 5.
(6)- سورة البقرة (2)، الآية 235.
(7)- الكافي 1/ 356، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل ...، الحديث 16.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 216
و قوله: «لواحد منّا» يعني من جاء بامامته النص. و قوله: «لا نقطع الفصل» أي بين دولتي الحق. و قوله: «في التابع و المتبوع» أي من أهل الباطل. و قوله: «ارفضّت عيناه» على وزن احمرّت، أي رشّت.
و قوله: «اللّه بيننا و بين من هتك سترنا» قال في الوافي:
«ليس هذا تعريضا لزيد حاشاه، بل لمن عاداه و عاداه و سيأتي أخبار في علوّ شأن زيد، و أنه و أصحابه يدخلون الجنة بغير حساب، و انه كان إنّما يطلب الأمر لرضا آل محمد و ما طلبه لنفسه، و انه كان يعرف حجة
زمانه و كان مصدقا به- صلوات اللّه عليه- فليس لأحد أن يسي ء الظن فيه- رضوان اللّه عليه-.» «1»
و قال المجلسي في مرآة العقول في ذيل الرواية ما حاصله:
«إن الأخبار اختلفت في حال زيد، فمنها ما يدلّ على ذمه، و أكثرها يدل على كونه مشكورا و انه لم يدّع الإمامة و انه كان قائلا بامامة الباقر و الصادق «ع» و انما خرج لطلب ثار الحسين «ع» و للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و كان يدعو الى الرضا من آل محمد «ص» و اليه ذهب أكثر أصحابنا، بل لم أر في كلامهم غيره. و قيل انّه كان مأذونا من قبل الإمام «ع» سرّا.» «2»
و نحن نقول اجمالا ان قولنا بقداسة زيد و حسن نيّته في قيامه ليس قولا بعصمته و عدم صدور اشتباه منه طيلة عمره و عدم احتياجه الى هداية الإمام و نصيحته له اصلا. و لعله في بادي الأمر اشتبه عليه الأمر و صار أسيرا للأحاسيس الآنية فنبّهه الإمام الباقر «ع» و حذّره من الاستعجال و الاغترار و الاعتماد على بعض من لا يعتمد عليه. و وفاة الإمام الباقر «ع» على ما في أصول الكافي «3» كانت في سنة 114 من الهجرة، و قيام زيد المؤيد عند الأئمة «ع» على ما ذكره أرباب السير كان في عصر الإمام الصادق «ع» في سنة 121، فلعل الظروف و الأجواء اختلفت في
______________________________
(1)- الوافي 1/ «م 2»/ 35.
(2)- مرآة العقول 4/ 18 (ط. القديم 1/ 261).
(3)- الكافي 1/ 469، كتاب الحجة، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي «ع».
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 217
هذه المدة، و هو على ما في بعض
الأخبار كان مقرّا بإمامة الإمام الصادق «ع» و انه حجة زمانه، و قد مرّ منها خبر عمرو بن خالد المروي في الأمالي.
و عدم عجلة اللّه- تعالى- لعجلة العباد أمر صحيح لا مرية فيه، و لكنه لا يوجب رفع التكليف بالدفاع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و هل يمكن الالتزام بانحصار الجهاد و الأمر بالمعروف في من علم بالغيب انه يظفر على خصمه مأئة بالمائة فيجوز لغيره السكوت و السكون في قبال الجنايات و هتك المقدّسات؟!
ثم هل لا يكون مفاد هذا الكلام تخطئة لأمير المؤمنين «ع» في جهاده مع معاوية، و للسبط الشهيد في ثورته على يزيد؟! و هل لم يقع في صفين و كربلاء إراقة للدماء و قتل للنفوس؟!
و انت ترى ان الثورات التي وقعت في العالم ضدّ الملوك المقتدرين و الجبابرة الظالمين قد نجح كثير منها، و منها ثورتنا في ايران، مع انه لم يحصل اليقين بالظفر قبلها.
فهل تكون جميع هذه الثورات الناجحة في قبال الكفار و الظلمة مرفوضة و محكوم عليها بالخطإ و الضلال؟
و هل يكون للكفار و الصهاينة التغلّب على المسلمين و الإغارة عليهم و سفك دمائهم و تخريب بلادهم، و ليس للمسلمين الّا السكوت و التسليم في قبال جميع ذلك؟! لا أدري أيّ فكرة هذه الفكرة؟! و سيجي ء في جواب بعض الأخبار الآتية ما ينفعك في المقام، فانتظر.
و كيف كان فصحيحة العيص في الباب تدل على قداسة زيد و تأييد ثورته و يؤيدها أخبار كثيرة، فلا يعارضها بعض الأخبار الضعاف التي يخالف مضمونها لحكم العقل و محكمات الكتاب و السنة، فيجب أن يردّ علمها الى أهله.
هذا كلّه فيما يرتبط بزيد في ثورته. و تشبه قصته قصة الحسين بن علي
شهيد فخ في ثورته، و قد استفاضت الأخبار في مدحه و تأييده، و الظاهر كما قيل عدم ورود خبر
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 218
في قدحه، فراجع مظانه. و يأتي ذكر منه في الفصل السادس من الباب الخامس في مسألة الكفاح المسلّح ضدّ حكام الجور.
فلنرجع الى شرح بقيّة صحيحة العيص، أعني الرواية الأولى من أخبار الباب، فنقول:
يظهر من الصحيحة إجمالا أنه كانت توجد في عصر الإمام الصادق «ع» بعض الثورات من قبل السادة من أهل البيت غير مؤيدة من قبله «ع» مع اشتمالها على الدعوة الباطلة و العصيان للإمام الحقّ. و لا يهمّنا تشخيصها و معرفتها بأعيانها و ان كان من المحتمل إرادة قيام محمد بن عبد اللّه المحض باسم المهدوية. اذ المستفاد من الأخبار و التواريخ أنه قام باسم المهدوية و أن أباه و أخاه و أصحابه كانوا يعرّفونه بذلك.
ففي الإرشاد عن كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني ما حاصله:
«ان كثيرا من الهاشميين و فيهم عبد اللّه و ابناه: محمد و ابراهيم، و منصور الدوانيقي اجتمعوا في الأبواء فقال عبد اللّه: قد علمتم ان ابني هذا هو المهدي فهلم فلنبايعه فبايعوه جميعا على ذلك فجاء عيسى بن عبد اللّه فقال: لأيّ شي ء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه و جاء جعفر بن محمد «ع» فأوسع له عبد اللّه الى جنبه فتكلم بمثل كلامه فقال جعفر «ع»: لا تفعلوا فان هذا الأمر لم يأت بعد. ان كنت ترى ان اينك هذا هو المهدي فليس به و لا هذا أوانه. و ان كنت انما تريد أن تخرجه غضبا للّه و ليأمر بالمعروف و ينهى
عن المنكر فانا و اللّه لا ندعك و أنت شيخنا و نبايع ابنك في هذا الأمر. فغضب عبد اللّه و قال: لقد علمت خلاف ما تقول و و اللّه ما أطلعك اللّه على غيبه و لكنه يحملك على هذا الحسد لابني ...» «1»
و رواه في البحار أيضا عن إعلام الورى و الارشاد. «2»
______________________________
(1)- الإرشاد/ 259 (طبعة أخرى/ 276)، باب ذكر طرف من أخبار أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق «ع».
(2)- بحار الأنوار 47/ 277، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و ...)، الحديث 18.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 219
و يظهر من نفس هذا الخبر أيضا أن القيام غضبا للّه و للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مما لا بأس به.
و في البحار عن إعلام الورى أيضا:
«ان محمد بن عبد اللّه بن الحسن قال لأبي عبد اللّه «ع»: و اللّه انّي لأعلم منك و أسخى منك و أشجع منك.» «1»
و في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي
أن جماعة من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد و واصل بن عطا و حفص بن سالم و ناس من رؤسائهم، دخلوا على أبي عبد اللّه «ع» و ذكروا انهم أرادوا أن يبايعوا لمحمد بن عبد اللّه بالخلافة و عرضوا عليه أن يدخل معهم في ذلك، فذكر- عليه السلام ..
كلاما طويلا و في آخره روى عن أبيه أن رسول اللّه «ص» قال: «من ضرب الناس بسيفه و دعاهم الى نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلف.» «2»
فيظهر من ذلك ان محمد بن عبد اللّه كان يدعو الى نفسه مع وجود من هو أعلم منه.
و بالجملة حيث
انه روي من طرق الفريقين عن النبي «ص»: ان المهدي يظهر و «يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا» «3»، فقد صار هذا سببا لاشتباه الأمر على كثيرين و ادعاء كثير من الهاشميين المهدوية. و لعل الخبر المرويّ عن النبي «ص» ان المهدي «اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي» «4» كان من مجعولات بعض أتباع محمد بن عبد اللّه بن الحسن. هذا.
و لكن ابن طاوس في الإقبال على ما في البحار التزم جانب الدفاع عن
______________________________
(1)- بحار الأنوار 47/ 275، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و ...)، الحديث 15.
(2)- الوسائل 11/ 29، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(3)- راجع بحار الأنوار ج 51، تاريخ الإمام الثاني عشر، باب ما ورد من الإخبار بالقائم «ع» و ...، و التاج الجامع للأصول 5/ 341- 344، الباب 7 من كتاب الفتن.
(4)- التاج الجامع للأصول 5/ 343.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 220
عبد اللّه و ابنيه «1». و المسألة محتاجة الى تتبع و بحث وسيع، فراجع البحار و غيره.
و يظهر من الأخبار أن الأئمة- عليهم السلام- مع عدم إمضائهم لبعض ثورات السادات كانوا يتأثرون جدّا لما كان يقع على الثوّار من السجن و القتل و الغارات، و كانوا يبكون عليهم بما أنهم أهل بيت النبي و سلبوا بعض حقوقهم و لم تلحظ الأمّة شرفهم و كرامتهم.
و الحاصل ان المستفاد من صحيحة عيص ان الثورات الواقعة على قسمين.
فالدعوة الى النفس كانت باطلة، و الدعوة لنقض السلطة الجائرة و ارجاع الحق الى أهله كانت حقّة. و الواجب على المدعوّين تحكيم العقل و الدقة و اتباع الحق.
و
أما آخر الصحيحة فالظاهر كونه إخبار غيبيا بزمان ظهور القائم «ع» و قيامه و انه في رجب أو شعبان أو بعد رمضان. فإن كان ظهوره في رجب أو شعبان فالإقبال بعد رمضان للّحوق به بعد قيامه، و ان كان ظهوره بعد رمضان فالإقبال قبله للتهيؤ.
و يحتمل- كما في مرآة العقول «2»- ان يريد الامام الصادق «ع» الإقبال الى نفسه قبل أيام الحج مقدمة للاستفادة من علومه و فضائله، فان من حكم الحج لقاء الإمام و الاستضاءة بأنواره، كما في بعض الروايات. هذا.
و قد روى الصدوق بعض صحيحة عيص في العلل بنحو النقل بالمعنى «3» و ستأتي الإشارة اليه.
هذا كلّه فيما يرتبط بصحيحة عيص بن القاسم الرواية الأولى من أخبار الباب و قد طال الكلام فيها، و انما تابعنا الكلام فيها، لان مسألة قيام زيد لها ارتباط مباشر بمسألتنا المبحوث عنها، أعني جواز القيام للدفاع عن الحق في قبال سلاطين الجور أو
______________________________
(1)- بحار الأنوار 47/ 301، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31.
(2)- مرآة العقول 4/ 365 (من ط القديم).
(3)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 10، عن العلل/ 192 (طبعة أخرى/ 577) الجزء 2، الباب 385 (باب نوادر العلل)، الحديث 2.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 221
وجوب السكوت و السكون. و قد ظهر لك ان الصحيحة ليست من أدلة وجوب السكون، بل من ادلة عدم جواز الخروج تحت راية من كانت دعوته باطلة، فلاحظ.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 222
عن ربعي رفعه عن علي بن الحسين «ع» قال: «و اللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم الّا كان مثله
كمثل فرخ طار من وكره قبل ان يستوي جناحاه فاخذه الصبيان فعبثوا به.» «1»
و الرواية كما ترى مرفوعة لا اعتبار بها من حيث السند، اللهم الّا ان يقال ان السند الى حماد صحيح، و حماد من أصحاب الاجماع.
و ربما يتبادر الى الذهن في هذا السنخ من الأخبار كونها من مختلقات عمّال الأمويين و العباسيين لصرف السادة العلويين عن فكرة القيام في قبال مظالمهم. هذا.
مضافا الى ان الظاهر من الخبر انه ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، و ان القيام في قبال الباطل جائر أم لا، بل هو إخبار غيبي منه «ع». و مفاده ان الخارج منّا أهل البيت قبل قيام القائم لا يظفر في النهاية و ان ترتب على قيامه آثار مهمّة.
كيف! و لو كان غرضه «ع» التخطئة للخروج قبل قيام القائم «ع» لكان تخطئة لقيام أبيه الحسين «ع» أيضا.
و لا ينتقض إخباره الغيبي هذا بخروج بعض العلويين في اليمن أو بعض بلاد إيران، أو خروج الفاطميين في افريقيا و ظفرهم و حكومتهم، اذ مضافا الى عدم شمول ملكهم لجميع البلاد الإسلامية ربما يشكك في نسب خصوص الخلفاء الفاطميين، فحكى السيوطي في أول كتابه: تاريخ الخلفاء عن ابن خلّكان أن أكثر اهل العلم لا يصحّحون نسب المهدي عبيد اللّه، جدّ خلفاء مصر «2». و عن الذهبي
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(2)- تاريخ الخلفاء/ 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 223
«ان المحققين متفقون على ان عبيد اللّه المهدي ليس بعلويّ.» «1» هذا، و لكن من المحتمل جدّا دخالة بعض التعصبات و السياسات الباطلة في هذه الكلمات، حيث انهم كانوا معارضين للعباسيين فاهتمّ العباسيون و
عملاؤهم على القدح فيهم بما اختلفوا عليهم من التهم، فراجع التواريخ.
و يمكن ان يكون مراد الإمام بقوله: «منّا» في المرفوعة- على فرض صدورها عنه- خصوص الأئمة الاثنى عشر لا جميع العلويين، حيث ان شيعتهم «ع» كانوا يتوقعون منهم الخروج و القيام، و كانوا يصرّون على ذلك، فأراد الإمام «ع» إقناعهم ببيان أمر غيبي، و هو ان الخارج منّا قبل القائم «ع» لا يوفّق و لا يظفر، لعدم العدّة و العدّة و الأسباب اللازمة.
و على أي حال فالخبر- على فرض صدوره- مربوط بخروج الأئمة «ع» أو خروج أهل البيت و انهم لا يظفرون ظفرا نهائيا، فلا يجوز ان يستدل به على السكوت منّا و عدم الدفاع عن الإسلام و المسلمين في قبال هجمة الكفار و عمّالهم اذا تحققت الشرائط و ظنّ النجاح. و أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه، و قد نجحت الثورة الإسلامية في إيران- بحمد اللّه و منّته- بقيادة أحد من سلالة أهل البيت المضطلع في العلوم الإسلامية.
و نظير هذا الخبر، الخبر المرويّ عن الامام الصادق «ع» في مقدمة الصحيفة السجادية.
و الراوي له على ما في الصحيفة المطبوعة: «عمير بن متوكل، عن أبيه متوكل بن هارون»، و لكن في فهرست الشيخ نسبه الى متوكل بن عمر بن متوكل «2». و لم يذكر الرجل في الرجال بمدح و لا قدح، اللهم إلّا أن يقال إن تلقي الأصحاب كتاب الصحيفة منه دليل على توثيقه عملا، فتأمّل.
و يوجد في السند أيضا ابو المفضل محمد بن عبد اللّه بن المطلب الشيباني.
______________________________
(1)- تاريخ الخلفاء/ 3.
(2)- الفهرست للشيخ/ 170 (ط. أخرى/ 199).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 224
و الرجل مختلف فيه، و عن النجاشي:
«رأيت جلّ
أصحابنا يغمزونه و يضعّفونه»، ثم نسب اليه كتبا منها كتاب فضائل عباس بن عبد المطلب «1».
و نفس هذا يكفي في قدح روايته الموافقة لمصالح بني العباس و سياستهم.
و عن ابن الغضائري:
«محمد بن عبد اللّه بن المطلب الشيباني أبو المفضّل وضّاع كثير المناكير.» «2»
و بالجملة فسند الحديث ليس صافيا. هذا.
و ملخّص ما في مقدمة الصحيفة:
«ان المتوكل بن هارون قال: لقيت يحيى بن زيد بن علي و هو متوجه الى خراسان بعد قتل أبيه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الحج، فسألني عن أهله و بني عمّه، و أحفى السؤال عن جعفر بن محمد «ع» و قال: هل سمعته يذكر شيئا من أمري؟ فقلت: سمعته يقول: إنك تقتل و تصلب كما قتل أبوك و صلب ... فقلت:
انّي رأيت الناس الى ابن عمّك جعفر أميل منهم إليك و الى أبيك. فقال: ان عمي و ابنه جعفرا دعوا الناس الى الحياة و نحن دعوناهم الى الموت. فقلت: يا بن رسول اللّه أ هم أعلم أم أنتم؟ قال: كلّنا له علم غير انهم يعلمون كلّ ما نعلم و لا نعلم كلّ ما يعلمون ...
قال المتوكل: فقبضت الصحيفة فلما قتل يحيى صرت الى المدينة فلقيت أبا عبد اللّه «ع» فحدثته الحديث عن يحيى فبكى ...
قال لي أبو عبد اللّه «ع»: يا متوكل كيف قال لك يحيى: ان عمّي محمد بن علي و ابنه جعفرا دعوا الناس الى الحياة و دعوناهم الى الموت؟ قلت: نعم قد قال لي ذلك.
فقال: يرحم اللّه يحيى، ان أبي حدثني عن أبيه، عن جدّه، عن علي «ع» ان رسول اللّه «ص» أخذته نعسة و هو على منبره فرأى في منامه رجالا ينزون على منبره نزو
______________________________
(1)-
رجال النجاشي/ 281، (طبعة أخرى/ 396).
(2)- تنقيح المقال 3/ 146.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 225
القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقرى ... فأتاه جبرئيل بهذه الآية: «وَ مٰا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلّٰا فِتْنَةً لِلنّٰاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمٰا يَزِيدُهُمْ إِلّٰا طُغْيٰاناً كَبِيراً.» «1» يعني بني أمية ... قال: و أنزل اللّه- تعالى- في ذلك: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «2» تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة القدر.
قال: فاطلع اللّه- عزّ و جلّ- نبيّه ان بني اميّة تملك سلطان هذه الأمة، و ملكها طول هذه المدة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن اللّه- تعالى- بزوال ملكهم ... فأسرّ رسول اللّه «ص» ذلك الى عليّ و أهل بيته. قال: ثم قال أبو عبد اللّه «ع»: ما خرج و لا يخرج منّا أهل البيت الى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلّا اصطلمته البلية و كان قيامه زيادة في مكروهنا و شيعتنا.»
اقول: مضافا الى ما مرّ من الخدشة في سند الخبر، و الى احتمال كون هذا السنخ من الأخبار من مختلقات أيادي خلفاء الوقت لصرف العلويين عن الخروج عليهم و إيجاد روح اليأس فيهم و صرف الناس عن التوجّه اليهم و الدخول تحت رأيتهم: ان مفاد الخبر كما ترى هو ان رسول اللّه «ص» أسرّ بملك بني أمية و طوله مدّة ألف شهر الى عليّ و أهل بيته و منهم الحسين الشهيد قطعا. و الإمام الصادق «ع» قال:
«ما خرج و لا يخرج منا أهل البيت ...»، فكلامه يشمل خروج الحسين «ع» أيضا،
فلو كان بصدد التخطئة للخروج لكان مفاد الحديث تخطئة خروج الحسين «ع» أيضا.
فيعلم بذلك ان المراد بالخبر- على فرض صدوره- ليس هو بيان الحكم الشرعي و ان الخروج جائز أو غير جائز، بل بيان أمر غيبي تلقاه الإمام «ع» من أجداده، و ان الخارج منّا لا ينجح مأئة بالمائة بحيث لا تعرض له البلية. و المصائب مكروهة للطبع قهرا. و ليس كل مكروه للطبع مكروها أو حراما في الشرع، بل
______________________________
(1)- سورة الإسراء (17)، الآية 60.
(2)- سورة القدر (97)، الآية 1- 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 226
عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و تترتب عليه بركات من جهات اخر. فلا يدلّ ذيل الحديث أيضا على تخطئة الخروج و القيام.
و قد مرّ أن إخبار رسول اللّه «ص» بشهادة الحسين «ع» أو شهادة زيد بالأخرة لم يمنعهما عن الخروج، بعد اقتضاء التكليف للدفاع عن الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إتمام الحجة على كثير ممن اشتبه عليه الحق، مع تحقق الشرائط من دعوة رؤساء الكوفة و قواتها المسلّحة و اخبار رائد الإمام مسلم بن عقيل بصدق الداعين و بيعتهم.
كيف! و لو لم يكن للخروج أيّة فائدة إلّا ظهور خباثة بني أمية و بروز باطنهم و امتياز صف الباطل عن صفّ الحق و إتمام الحجة على الناس لئلا يكون لهم على اللّه و على إمام العصر حجّة- مضافا الى تضعيف دولة الباطل و كسر سورتهم- لصار هذا الخروج جائزا بل واجبا.
و في نهج البلاغة: «فالموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين.» «1»
و فيه أيضا: «و سأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس و
الجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.» «2»
و مراده «ع» معاوية، و هو من بني أمية و من أصولها، و قد قاتله «ع» مع أنه «ع» أيضا ممن أسرّ اليه النبي «ص» على ما في الخبر بملك بني أمية.
فلعل مراده «ع» في المقام هو العمل بوظيفة الجهاد ليتميز الخبيث من الطيب و ان لم يظفر في جهاده بالأخرة.
و مفاد الآية الشريفة المذكورة في الخبر ان خلق الناس انما هو للفتنة و البلاء.
و سلطة الجائرين كبني أمية أيضا نحو فتنة و امتحان، ليميز اللّه الخبيث من الطيب خارجا. و في ايام الامتحان أيضا لا ينقطع لطف اللّه و تخويفه أيضا. فلعل خروج
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 138؛ عبده 1/ 96؛ لح/ 88، الخطبة 51.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 971؛ عبده 3/ 82؛ لح/ 418، الكتاب 45.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 227
الإمام الشهيد و نحوه أيضا كان من مصاديق التخويف المذكور في الآية و لكنه مما زاد في طغيانهم.
ثم على فرض كون الخبر في مقام بيان الوظيفة و الحكم الشرعي فهو كما ترى مرتبط بأهل البيت، فلا يجوز التمسك به للسكوت منّا في هذه الأعصار في قبال هجوم الكفار و الصهاينة على بلاد المسلمين و جميع شئونهم.
ثم ان في الخبر اشكالا آخر، و هو ان ألف شهر يساوي ثلاثا و ثمانين سنة و أربعة أشهر. و خلافة عثمان أول خلفاء بني أميّة كانت من السنة الثالثة و العشرين من الهجرة. و البيعة للسفّاح أول خلفاء بني العباس كانت في السنة الاثنتين و ثلاثين و مأئة، فكانت مدّة ملك بني أميّة تسعا و مأئة. و لو اضيف الى ذلك مدّة خلافة
بني أمية في الأندلس صارت قرونا. فكيف جعلها في الرواية الف شهر؟
اللهم الّا ان لا تحسب مدّة خلافة عثمان، و لا خلفاء الأندلس، فيجعل المبدأ السنة الأربعين بعد شهادة أمير المؤمنين «ع» أو صلح الحسن المجتبى «ع» و يحذف أيضا تسع أو ثمان سنوات من الآخر لضعف حكومتهم و مزاحمة ابراهيم العباسي و اخيه السفّاح و المسوّدة في خراسان لهم، فتدبر.
و يمكن ان يقال: ان المراد بألف شهر ليس مفاده المطابقي بل هو كناية عن أصل الكثرة أو القلّة، و هذا شائع في الاستعمالات.
و الظاهر من الرواية- على فرض صدورها- ان نزول سورة القدر كان لتسلية النبي «ص» في قبال ملك بني أمية، و لعلها من جهة بيان ان الملك الظاهري و ان انتقل الى بني امية، و لكن الأئمة من عترة النبي «ص» يكونون مهابط الملائكة و الروح، و عليهم تتنزّل الأمور و المقدرات بنزولهم اليهم، و ليلة القدر ليلة سلام عليهم، يسلّم عليهم الملائكة النازلون، كما ورد بذلك بعض الروايات، فلهم الملك بحسب الباطن و المعنى، لكونهم وسائط الفيض و المقدّرات. هذا.
و نظير المرفوعة و خبر الصحيفة أيضا رواية أبي الجارود، قال: «سمعت
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 228
أبا جعفر «ع» يقول: ليس منّا أهل البيت أحد يدفع ضيما و لا يدعو الى حق إلّا صرعته البلية، حتّى تقوم عصابة شهدت بدرا لا يوارى قتيلها و لا يداوى جريحها. قلت: من عنى أبو جعفر «ع»؟ قال: الملائكة.» «1»
و نحوها روايته الأخرى «2». و لعلهما رواية واحدة و هذه قطعة من تلك، فراجع.
و الجواب عنها يظهر مما مرّ.
و نعيد الكلام فنقول في الجواب عن هذه الأخبار و نظائرها-
مضافا الى ضعف سندها المانع من نهوضها في مقابل الأدلّة القطعية الحاكمة بالجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة أحكام الإسلام و الدفاع عن حوزة المسلمين و شئونهم- ان الظاهر كون بعضها من مختلقات أو تحريفات أيادي حكّام الجور و مرتزقتهم، حيث واجهوا قيام بعض العلويين و اتجاه الناس اليهم فأرادوا بهذه الوسيلة قطع رجائهم و إبعادهم عن ميدان السياسة- فالسياسة ما السياسة؟
و ما ادراك ما السياسة؟!
و بعضها خاص بأصحاب الرايات الضالة الذين كانوا يدعون الناس الى انفسهم.
و بعضها ناظر الى شخص معين أو ظرف معين حيث لا توجد مقدّمات القيام و شروطه.
و بعضها صادر عن تقية من حكام الجور.
و بعضها ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، بل متضمن لإخبار غيبي فقط.
الى غير ذلك من الوجوه التي مرّت أو تأتي في الروايات الآتية، فانتظر.
______________________________
(1)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
(2)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 229
قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا سدير الزم بيتك و كن حلسا من أحلاسه و اسكن ما سكن الليل و النهار، فاذا بلغك ان السفياني قد خرج فارحل إلينا و لو على رجلك.» «1»
بتقريب ان سديرا لا خصوصية له، فيجب السكوت و ترك الخروج الى قيام القائم- عليه السلام-.
أقول: الغاء الخصوصية يتوقف على العلم بعدم دخالة خصوصية الشخص و المورد، و هو ممنوع في مثل سدير بعد تتبع حاله، اذ بالتتبع يظهر انه بنفسه لم يكن ممن يتمكن من القيام و إقامة الحكومة الإسلامية، بل كان رجلا عاديا مخلصا للإمام الصادق- عليه
السلام-، و لكنه كان ممن يغلب إحساسه على تدبيره و فكره، و كان يظن قدرة الإمام على الخروج و تحقق الشرائط لتصديه الخلافة، فكان ينتظر خروج الإمام و يصرّ عليه حتى يكون هو أيضا تحت رايته، فأراد الامام «ع» بيان انه- عليه السلام- ليس ممن يوفّق فعلا لتصدي الخلافة الظاهرية الفعلية و ان العلامة للقائم بالحق خروج السفياني.
و الواجب على مثل هذا الشخص المشتبه عليه الأمر، و الواقع تحت تأثير الإحساس الخاطئ ليس إلّا لزوم بيته، لئلا يهلك نفسه و غيره بلا فائدة.
و الشاهد على ما ذكرنا من حال سدير أمور:
الأول: ما في تنقيح المقال انه: «ذكر عند أبي عبد اللّه «ع» سدير، فقال: سدير
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 230
عصيدة بكل لون.» «1»
و المراد منه على الظاهر انه معقود بكل لون، و انه رجل احساسي مزاجي غير مستقيم بحسب الفكر و الدقة، لا انه ملتزم بالتقية الواجبة و يتلون عند كل فرقة بلون يحفظ به نفسه، كما في تنقيح المقال. اذ لو كان كذلك لم يكن يقع في سجن المخالفين، و قد ورد فيه ان أبا عبد اللّه «ع» قال لزيد الشحام: «يا شحّام، انّي طلبت الى إلهي في سدير و عبد السلام بن عبد الرحمن- و كانا في السجن- فوهبهما لي و خلّى سبيلهما.» «2»
و الشاهد الثاني: ما في الكافي عن سدير الصيرفي، قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فقلت له: و اللّه ما يسعك القعود. فقال: و لم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك. و اللّه لو كان لأمير المؤمنين «ع»
مالك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عديّ. فقال: يا سدير، و كم عسى ان تكونوا؟ قلت:
مأئة ألف، قال: مأئة ألف؟ قلت: نعم، و مأتي ألف. قال: مأتي الف؟ قلت: نعم و نصف الدنيا.
قال: فسكت عني، ثم قال: يخفّ عليك ان تبلغ معنا الى ينبع؟ قلت: نعم. فأمر بحمار و بغل ان يسرجا، فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير، ترى ان تؤثرني بالحمار؟
قلت: البغل أزين و أنبل، قال: الحمار أرفق بي. فنزلت فركب الحمار و ركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة، فقال: يا سدير، انزل بنا نصلي، ثم قال: هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها، فسرنا حتى صرنا الى أرض حمراء، و نظر الى غلام يرعى جداء فقال:
و اللّه يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. و نزلنا و صلّينا، فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها، فاذا هي سبعة عشر.» «3»
و قد ذكرنا الخبر بطوله، اذ يظهر منه وضع الإمام «ع» و ظروفه و حدود ادراك سدير و مدى تشخيصه لذلك، و ليس مراد الإمام مطلق من يسمى بالشيعة، بل
______________________________
(1)- تنقيح المقال 2/ 8.
(2)- تنقيح المقال 2/ 8.
(3)- الكافي 2/ 242، كتاب الإيمان و الكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 231
مراده الشيعة بمعناها الواقعي، أعني الثابت المواتي في جميع المراحل، و هم قليلون جدّا و لا سيّما في تلك الأعصار.
و الشاهد الثالث: خبر معلى بن خنيس الآتي، قال: «ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم و سدير و كتب غير واحد الى أبي عبد اللّه «ع»، حين ظهر المسوّدة قبل
ان يظهر ولد العباس، بانا قد قدّرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال:
فضرب بالكتب الأرض، ثم قال: أف، أف، ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون انه انما يقتل السفياني؟» «1»
و الظاهر ان المراد بعبد السلام بن نعيم هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، الذي مرّ كونه مسجونا مع سدير، فنسب الى جدّه.
و المراد بالمسوّدة أتباع أبي مسلم الخراساني، لسواد ألبستهم و ألويتهم.
فأنت ترى ان سديرا و رفقاءه لعدم إحاطتهم بظروف الإمام و مقدار قدرته و مقاصد المسوّدة في قيامهم توهموا تحقق الشرائط لرجوع الخلافة الفعلية الى الامام.
فأبو مسلم و إن كان يدعو الناس الى رجل من بني هاشم و أقام على ذلك سنين و تبعه كثيرون، و لكنهم اختاروا هذا الشعار لجاذبيته في قبال بني أمية القاتلين لأهل بيت النبي «ص» و لا سيما سيد الشهداء، و لم يكن غرضه واقعا إرجاع الحق الى أهله حتى يسلّموا الأمر الى الإمام الصادق «ع»، بل هو كان مبعوثا من قبل ابراهيم بن محمد العبّاسي ليقوم بأمر خراسان. و بعد قتل ابراهيم صار يدعو الناس الى اخيه عبد اللّه السفاح. و بجنوده تغلّب السفّاح على مروان الحمار و هزمه، و لكن اشتبه امرهم على مثل سدير و رفقائه.
و قوله «ع»: «ما أنا لهؤلاء بإمام»، يحتمل أن يكون إشارة الى المسودّة، اي انهم لا يرونني إماما لهم. و يحتمل ان يكون اشارة الى سدير و رفقائه، فيريد اني لست لهم بإمام، لعدم إطاعتهم لي، أو لست إمامهم الذي يتصدى للخلافة الفعلية.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 232
و يقرب من
هذا الخبر ما في تنقيح المقال عن الكشي بسنده عن عبد الحميد بن أبي الديلم، قال: «كنت عند أبي عبد اللّه، فاتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، و كتاب الفيض بن المختار، و سليمان بن خالد، يخبرونه ان الكوفة شاغرة برجلها، و انه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها. فلما قرأ كتابهم رمى به، ثم قال: «ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون ان صاحبهم السفياني؟» «1»
و لعل المراد ان صاحبهم القائم «ع»، المصاحب للسفياني بحسب الزمان.
و كيف كان فبعد ما عرفت من حال سدير و خصوصياته لا يجوز الغاء الخصوصية في الخطاب الموجّه اليه بلزوم بيته، لاحتمال الخصوصية.
و هل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر و نظائره عن جميع الآيات و الروايات و حكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام و شئون المسلمين في قبال هجوم الكفار و الجائرين، و ان أمكن تحصيل القوة و القدرة لدفعهم، و فرض طول الغيبة آلاف سنة؟! و قد عرفت عدم اشتراط الجهاد الدفاعي بإذن الإمام قطعا.
و قد ظهر بما ذكرنا حال خبر معلى بن خنيس أيضا.
______________________________
(1)- تنقيح المقال 2/ 152، و رجال الكشي/ 353.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 233
عن أبي جعفر «ع» قال: «الغبرة على من أثارها. هلك المحاضير.
قلت: جعلت فداك، و ما المحاضير؟ قال المستعجلون. أما انهم لن يريدوا إلّا من يعرض لهم.
ثم قال: يا أبا المرهف، أما انهم لم يريدوكم بمجحفة إلّا عرض اللّه- عزّ و جلّ- لهم بشاغل. ثم نكت ابو جعفر «ع» في الأرض ثم قال: يا أبا المرهف! قلت: لبيك! قال: أ ترى قوما حبسوا أنفسهم على اللّه- عزّ ذكره- لا يجعل اللّه لهم
فرجا؟ بلى، و اللّه ليجعلن اللّه لهم فرجا.» «1»
و ابو المرهف عدّه الشيخ في الكنى باب أصحاب الباقر «ع» من رجاله «2»، و في تنقيح المقال: «لم أعرف اسمه و لا حاله» «3».
و الغبرة بالضم و بفتحتين: الغبار. و المحضار و المحضير من الخيل و نحوها بكسر الميم فيهما: الشديد الركض. و المجحفة بضم الميم و تقديم الجيم: الداهية.
و يظهر من الخبر وقوع خروج ما لبعض على الحكومة، و تعقيب الحكومة للخارجين، و خوف أبي المرهف من سراية التعقيب له، فأراد الإمام «ع» تقوية خاطره و رفع خوفه ببيان ان ضرر الغبار يعود الى من أثاره، فلا ينال أبا المرهف شي ء.
ثم أخبر «ع» بهلاك المستعجل، أي من وقع تحت تأثير الأحاسيس الآنية و أقدم على القيام قبل تهية المقدمات و إعداد القوة.
و لم يكن بناء أئمتنا على المنع عن الجهاد و الدفاع، بل كانوا ينهون عن التعجيل و التهوّر المضرّ بنفس الخارج و بالأئمة «ع»، حتى ان أخبار التقية أيضا ليست بصدد المنع عن الجهاد، بل بصدد الدقة في حفظ النفس مع الإمكان، مع الاشتغال
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.
(2)- رجال الشيخ/ 142.
(3)- تنقيح المقال 3/ 34 من فصل الكنى.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 234
بالوظيفة الدفاعية. و لذا ورد: «انّ التقية جنّة المؤمن.» «1» أو: «التقية ترس المؤمن.» «2» فان الجنّة و الترس تستعمل في ميدان المبارزة مع العدوّ، لا حين المبيت في المأمن.
و العقل أيضا يحكم بوجوب حفظ النفس مع الإمكان و لو في حال الدفاع.
و الظاهر ان الضمير في قوله «ع»: «انهم» في الموضعين يرجع الى جنود الحكومة، لا الى
الخارجين المستعجلين. و لعل مراده «ع» من القوم الذين حبسوا أنفسهم على اللّه أهل بيت النبي، و من الفرج الحاصل لهم بالأخرة الفرج الحاصل لأهل البيت بقيام القائم «ع».
و كيف كان فليس الخبر في مقام المنع عن الدفاع في قبال هجوم الأعداء أو المنع من اقامة الحكومة الدينية مع امكانه و امكان ايجاد شرائطه، فتدبر.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 4.
(2)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 6.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 235
قال: «كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنا. فجعلنا يسارّ بعضنا بعضا، فقال: أي شي ء تسارّون يا فضل، ان اللّه- عزّ ذكره- لا يعجل لعجلة العباد. و لإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. ثم قال: ان فلان بن فلان؛ حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت فما العلامة فيما بيننا و بينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني فاذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا- يقولها ثلاثا- و هو من المحتوم.» «1»
و السند الى الفضل صحيح. و فضل كان يكتب للمنصور و المهدي على ديوان الخراج. و قالوا في حقه انه مهمل، و ان الظاهر كونه إماميا إلّا انه مجهول الحال «2».
أقول: و الظاهر عدم الدليل على كونه اماميا الا روايته عن الامام و حكاية كتاب أبي مسلم اليه «ع». و من المحتمل كونه من جواسيس الخليفة. فالرواية ضعيفة موهونة من حيث السند.
و قد مرّ ان أبا مسلم في بادي الأمر كان
مبعوثا الى خراسان من قبل ابراهيم العباسي، و بعد موته صار من دعاة اخيه السفّاح، و بقوة جنوده ظفر السفّاح و انتصر على مروان الحمار، و في حياة السفاح كان معظما لديه محترما عنده، و لكن بعد وفاة السفّاح و انتقال الملك الى المنصور حسده المنصور على قدرته و خاف منه، و جعل يضادّه و يحقّره، و في آخر الامر قتله.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5، عن روضة الكافي/ 274، الحديث 412.
(2)- راجع تنقيح المقال 2/ 8 (من باب الفاء).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 236
فلعله في هذه الفترة اراد الارتباط بالامام الصادق ليتقوى بذلك في مقابل المنصور و لم تكن نيته نية صادقة، و الإمام «ع» اطّلع على قصده، و كان يعلم قدرة المنصور و استقرار الملك له و عدم تهيؤ المقدمات لقيامه «ع» بالثورة. و بالإخبار الغيبي عدّ سبعة من أبناء المنصور يتصدون الخلافة. و كاتب المنصور أيضا كان حاضرا في المجلس، فكان الظرف ظرف الاحتياط و التقية.
فعلى فرض صدور الخبر ففي هذا الظرف قال الإمام «ع»: «ان اللّه لا يعجل لعجلة العباد. و لإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله.»
و ليس المراد عدم وجوب الدفاع عن الإسلام و المسلمين مع تهية المقدمات، أو عدم جواز قتال السلاطين و الملوك، و الا كان كلامه «ع» تخطئة لجهاد علي «ع» لمعاوية، و الامام الشهيد ليزيد، و زيد لهشام أيضا. و قد كثر في العالم قتال الملوك و الظفر عليهم، كما في كثير من الثورات الواقعة في الممالك و البلاد و منها الثورة الأخيرة في ايران.
فمراده «ع» إما بيان
أمر غيبي، و هو ان ملك المنصور لا ينقضي، أو بيان أنّ القتال مع الملوك يتوقف على تهية مقدمات كثيرة، فان هزيمة الملوك مع ثبات حكومتهم أمر عسير كإزالة الجبال المتوقفة على صرف طاقات كثيرة، و اذا اتفق الانهزام أمام الملوك و عدم الظفر عليهم فلا يصحّ أن يوجب ذلك يأسا، فان المقاتل قد يظفر و قد لا يظفر، على ما يقتضيه طبع القتال.
و لا يريدان انهزام الملوك محال، فان أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه.
و في آخر الحديث ذكر الإمام «ع» علامة حتمية لفرج آل محمد «ص»، و هو السفياني.
و قد تقرأ هذه الكلمة بالتاء المثناة بدل النون، و يراد بها الثورة الماركسية العالمية. و لكن يبعده ان الظاهر منها الشخص، لا المنهج. و قد ورد ان اسمه عثمان ابن عنبسة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 237
عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم «ع» فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه- عزّ و جلّ.» «1»
و روى النعماني في الغيبة بسنده، عن مالك بن أعين، عن أبي جعفر «ع» انه قال: «كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت.» «2»
اقول: قد مرّ في صحيحة عيص «3» و شرحها بالتفصيل ان الدعوة على قسمين:
فالدعوة الى النفس باطلة، و الدعوة لنقض الباطل و إقامة الحق و إرجاعه الى أهله حقّة مؤيدة من قبل الأئمة «ع».
فمراده بالراية هنا الراية الداعية الى النفس في قبال الحق. و بعبارة أخرى:
الراية الواقعة في قبال القائم، لا في طريقه و مسيره و على منهجه. و لذا عبر عنها بالطاغوت، و عقّبها بكونها معبودة من دون اللّه.
و يؤيد ذلك قول أبي جعفر «ع»
في حديث، على ما في الروضة: «و انه ليس من احد يدعو الى ان يخرج الدجال الّا سيجد من يبايعه، و من رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت.» «4»
فقيد الراية بالضلالة.
و لو قيل: بان الظاهر من الحديث تشخيص القيام الباطل بحسب الزمان
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.
(2)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث
(3)- الصحيحة الأولى من أخبار الباب. راجع ص 205 و ما بعدها من الكتاب.
(4)- الكافي 8/ 296، (الروضة)، الحديث 456.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 238
لا بحسب الهدف، و ان الملاك في بطلان القيام كونه بحسب الزمان قبل قيام القائم، و العموم استغراقي فلا يجوز القيام مطلقا بأي هدف وقع.
قلنا: أولا: انه من المحتمل أن تكون القضية خارجية، و يكون المراد رفع رايات خاصة بصفات خاصة كانت موردا للبحث، اذ يبعد جدّا صدور هذا الكلام عن الإمام «ع» ارتجالا.
و ثانيا: ان الصحيحة على هذا معارضة بصحيحة عيص و غيرها، مما دلّ على تقديس قيام زيد و أمثاله مما كان للدعوة الى الحق، و منها قيام الحسين بن علي شهيد فخّ، و قد قام في خلافة موسى الهادي، و لم يعرف من أئمتنا «ع» رواية تدل على قدحه، بل وردت روايات مستفيضة ظاهرة في تقديسه و تقديس قيامه. ذكرها في مقاتل الطالبيين، و لعلنا نذكرها في بعض المباحث الآتية. هذا.
1- و في غيبة النعماني بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر «ع» في خبر طويل في علامات الظهور: «و ليس في الرايات راية أهدى من اليماني. هي راية هدى، لأنه يدعو الى صاحبكم. فاذا خرج اليماني حرم
بيع السلاح على الناس و كلّ مسلم. و اذا خرج اليماني فانهض اليه، فان رايته راية هدى. و لا يحل لمسلم ان يتولى عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو الى الحق و الى طريق مستقيم.» «1»
فيظهر من هذا الخبر تحقق راية للحق قبل القائم «ع» أيضا، و ان الراية الداعية اليه و الواقعة في طريقه راية هدى يجب النهوض اليها.
2- و في كتاب الغيبة أيضا بسنده عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر «ع» انه قال: «كأنّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فاذا رأوا
______________________________
(1)- الغيبة للنعماني/ 171 (طبعة أخرى/ 256)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم «ع»)، الحديث 13.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 239
ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقوموا، و لا يدفعونها الّا الى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما اني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر.» «1»
و رواه عن كتاب الغيبة في البحار أيضا «2».
و دلالة الخبر أيضا على حدوث ثورة و قيام قبل القائم «ع» و كونه قيام حق واضحة.
3- و في سنن ابن ماجة في حديث عن رسول اللّه «ص»: «انّا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، و ان أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء و تشريدا و تطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها الى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملئوها جورا، فمن ادرك ذلك منكم فليأتهم و لو حبوا على الثلج.»
«3»
4- و فيه أيضا: قال رسول اللّه «ص»: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهدي» يعني سلطانه «4».
5- و في البحار عن تاريخ قم بسنده عن أبي الحسن الأوّل «ع» قال: «رجل من أهل قم يدعو الناس الى الحقّ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، و لا يملّون من الحرب، و لا يجبنون، و على اللّه يتوكّلون، و العاقبة للمتقين.» «5»
و يحتمل انطباق مفاد هذه الأخبار على الثورة الإسلامية الواقعة في ايران، كما لا يخفى.
______________________________
(1)- الغيبة للنعماني/ 182 (طبعة أخرى/ 273)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم «ع»)، الحديث 50.
(2)- بحار الأنوار 52/ 243، تاريخ الإمام الثاني عشر الباب 25 (باب علامات ظهوره «ع»)، الحديث 116.
(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1366، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4082.
(4)- سنن ابن ماجة 2/ 1368، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4088.
(5)- بحار الأنوار 57/ 216 (طبعة إيران 60/ 216)، كتاب السماء و العالم، الباب 36 (باب الممدوح من البلدان و المذموم منها)، الحديث 37.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 240
6- و فيه أيضا عن تاريخ قم: «روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» جالسا، اذ قرأ هذه الآية: «فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولٰاهُمٰا بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلٰالَ الدِّيٰارِ وَ كٰانَ وَعْداً مَفْعُولًا.» «1» فقلنا: جعلنا فداك من هؤلاء؟
فقال- ثلاث مرّات-: هم و اللّه أهل قم.» «2»
7- و في صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبد اللّه، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ
ظاهرين الى يوم القيامة.» «3»
8- و فيه أيضا بسنده عن جابر بن سمرة، عن النبي «ص» انه قال: «لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم السّاعة.» «4» الى غير ذلك من الأخبار.
و ثالثا: ان الصحيحة على ما ذكرتم في مفادها يجب طرحها، لمخالفتها للأدلّة القطعية الواردة في الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. كيف! و قد مرّ ان القيام للدفاع عن الإسلام و عن حوزة المسلمين من أهم الفرائض التي يحكم بها الكتاب و السنة و العقل السليم.
بل يجب ذلك حتى لو فرض عدم القدرة على العمل الا في ظل راية الباطل، بشرط عدم تأييد الباطل، بل الدفاع عن الحق فقط.
ففي خبر يونس قال: سأل أبا الحسن «ع» رجل و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك ان رجلا من مواليك بلغه ان رجلا يعطي سيفا و قوسا في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع
______________________________
(1)- سورة الإسراء (17)، الآية 5.
(2)- بحار الأنوار 57/ 216 (طبعة إيران 60/ 216)، الباب 36 (باب الممدوح من البلدان و المذموم منها)، الحديث 40.
(3)- صحيح مسلم 3/ 1524 (طبعة أخرى 6/ 53)، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1923.
(4)- صحيح مسلم 3/ 1524 (طبعة أخرى 6/ 53)، كتاب الإمارة الباب 53، الحديث 1922.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 241
هؤلاء لا يجوز، و أمروه بردّهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده، و قيل له: قد قضى الرجل؟ قال: فليرابط و لا يقاتل. قال: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم. قال:
فان جاء العدوّ الى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلّا أن يخاف على دار المسلمين. أ رأيتك لو ان الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع- خ. ل) لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط و لا يقاتل. و ان خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد «ص» «1».
و قد روى الحديث المشايخ الثلاثة. و الظاهر صحّته، فان محمد بن عيسى بن عبيد و ان اختلفوا في وثاقته و لكن الظاهر انه ثقة، كما قاله النجاشي «2».
و يظهر من الخبران وجوب الدفاع عن حوزة الإسلام و المسلمين عند هجوم الكفار امر واضح لا مرية فيه، اذ في تركه دروس الإسلام و ذكر من جاء به «ص». و اذا وجب شي ء وجبت مقدماته بالضرورة. و مقدمة الدفاع في هذه الأعصار التسلّح بسلاح اليوم، و التدرّب عليه و التكتل و التشكل مهما أمكن.
ثم نقول: هل يجب الجهاد و الدفاع و دفع الكفار، ثم تفويض أمر الحكومة الى أهل الفسق و الترف، لتدرّبهم في المسائل السياسية و عدم تدرّب العلماء و أهل العدل فيها، كما اتفق في العراق مثلا بعد إخراج البريطانيين منه بجهاد العلماء الأعلام؟! أو يجب حفظ النظام و لو بصرف الوقت في تعلّم المسائل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و العسكرية، و تحصيل الاطلاع الكافي على ما يجري في العالم من الحوادث و العلاقات حتى لا تهجم اللوابس و المشاكل؟
و في الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»: «و العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس.» «3»
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو،
الحديث 2.
(2)- رجال النجاشي/ 235، (طبعة أخرى/ 333).
(3)- الكافي 1/ 27، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 242
و كيف يهتمّ العلماء الأعلام بالأمور الجزئية و يعدّونها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركها، كحفظ مال الصغير أو الغائب مثلا، و لا يهتمّون بكيان الإسلام و مقدرات المسلمين و شئونهم و حفظ نظامهم و قدرتهم و طاقاتهم، و يعدّون التصدّي لها مخالفا للاحتياط؟! فيحوّلونها و يفوّضون أمرها الى من لا علم له بالإسلام، و لا التزام له به، و لا تقوى لديه.
نعم، الظاهر عدم كون ذلك عن تقصير منهم في بادئ الأمر، اذ ان كونهم مسجونين في زوايا المدارس و سراديبها، و مبعّدين عن محيط السياسة في قرون متمادية أوجب يأسهم من عودة الحكم اليهم، و أوجب عدم توجههم الى مقدماتها و لوازمها، و بمرور الزمان غفلوا و استغفلتهم دسائس الاستعمار أيضا.
و لكن من العجب عدم التوجه الى ذلك حتّى بعد ما انتصرت ثورة ايران الإسلامية و احتاجت الى تعاضدهم و تعاونهم على حفظها و التصدّي لشئونها، بل ربما حمل بعضهم عليها و هاجمها عوضا عن التعاون و التعاضد و السعي في تحصيل العلوم المحتاج اليها في حفظها و ادارتها. اللّهم، فوفقنا لنصر الإسلام و تقوية المسلمين بجاه محمد و آله الطاهرين. هذا.
و لنرجع الى فقه الحديث الذي كنا فيه، فنقول: و قد يحتمل بعيدا عدم كون المراد بلفظ القائم الوارد فيه و في بعض الأحاديث الأخر الامام الثاني عشر القائم في آخر الزمان، بل المراد به كل من يكون قيامه بالحقّ، و يكون الغرض في الحديث تخطئة بعض من ينتهز الفرصة حين انشغال من
له الحق في القيام بتحصيل المقدمات و الشرائط، فيستعجل هذا و يقوم قبله، طمعا في الرئاسة و اجتذاب الناس الى نفسه.
و لعل بعض الأئمة- عليهم السلام- كانوا بصدد تهية المقدمات للقيام و الثورة و لكن عدم تقية بعض الشيعة و عدم كتمانهم، او تقدم بعض المنتهزين قد هدم أساس القيام بالحق.
و في تحف العقول في وصية أبي عبد اللّه «ع» لمؤمن الطاق: «فو اللّه لقد قرب هذا
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 243
الأمر ثلاث مرات فأذعتموه، فأخّره اللّه.» «1»
و في اصول الكافي أواخر كتاب الحجة عقد بابا في ان الأئمة- عليهم السلام- كلهم قائمون.
ففي رواية حكم عن أبي جعفر «ع» انه قال: «يا حكم، كلنا قائم بأمر اللّه. قلت:
فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي الى اللّه. قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف و وارث السيف. الحديث.» «2»
و في رواية عبد اللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» «3» قال: إمامهم الذي بين أظهرهم، و هو قائم أهل زمانه.» «4»
و قد مرّ منّا سابقا ان لفظ الإمام وضع للقائد و من يؤتم به، و لا يختص بالأئمة الاثنى عشر. فلعل المراد بقوله: «قائم أهل زمانه» أيضا الأعم، أعني القائم بالفعل في كل أمة. هذا، و لكن الاحتمال المشار اليه بعيد جدّا، اذ الظاهر من لفظ القائم، المستعمل معرفا بأل التعريف في أخبارنا، هو القائم المعهود. فالمراد بالراية المذمومة فيها، الراية الداعية الى نفسها، لا الى إقامة الحق و الامام الحق، فتدبر.
______________________________
(1)- تحف العقول/ 310.
(2)- الكافي 1/ 536، الحديث 1.
(3)- سورة الإسراء (17)، الآية 71.
(4)- الكافي 1/ 536، الحديث 3.
دراسات في ولاية الفقيه
و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 244
، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: خمس علامات قبل قيام القائم «ع»: الصيحة، و السفياني، و الخسف، و قتل النفس الزكية، و اليماني. فقلت: جعلت فداك ان خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أ نخرج معه؟ قال: لا.
الحديث.» «1»
و السند لا بأس به، و ان كان في ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة كلام.
و لعل المراد بالصيحة النداء السماوي، كما في خبر الحلبي عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن عليا و شيعته هم الفائزون.» قال: «و ينادي مناد في آخر النهار ألا إن عثمان و شيعته هم الفائزون.» «2»
و المراد بالخسف خسف جيش السفياني بالبيداء.
و نهى عمر بن حنظلة و أمثاله عن الخروج مع أحد من أهل بيته قضية في واقعة، فلعل النظر كان الى الخروج مع من كان يدعى المهدوية في ذلك العصر.
فالذيل تأكيد لكون العلامات المذكورة حتمية، و ان الخارج من أهل بيته قبل هذه العلامات ليس هو القائم الموعود.
و على أي حال لا ربط للحديث بالجهاد الدفاعي بالنسبة إلينا بعد ما ثبت بالكتاب و السنة و العقل لزومه و وجوبه.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.
(2)- الكافي 8/ 310 (الروضة)، الحديث 484.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 245
و قد مرّ بيانها في ذيل الرواية الثالثة في شرح حال سدير، فراجع «1».
، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه- عليهم السلام- (في وصية النبي «ص» لعليّ «ع») قال: «يا عليّ، ان إزالة الجبال الرواسي أهون من إزالة ملك لم تنقض أيامه.» «2»
أقول: الرواية جزء من رواية طويلة ذكرها الصدوق في أواخر الفقيه. و اكثر فقراتها متضمنة لأحكام شرعية او آداب اخلاقية. و لعل بعضها متضمن لأخبار غيبية.
و ليس غرض النبي «ص» من هذه الفقرة ان القيام في قبال الملوك غير مفيد و غير ناجح. كيف! و قد كثرت الثورات في قبال الملوك في أروبا و آسيا و افريقيا و قد نجحت، و أخيرا ترى انه قد نجحت ثورة ايران الإسلامية في قبال الملكية، و أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه.
______________________________
(1)- راجع ص 231 من الكتاب.
(2)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 246
و ليس المراد أيضا تحريم القيام في قبال الملوك، و إلّا لم يصح قيام أمير المؤمنين «ع» في قبال معاوية الذي أحكم أساس ملكه في الشام، و قد قاتله و رغّب في قتاله و قال «ع» كما في نهج البلاغة: «و سأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس و الجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.» «1»
و لو صحّ ما مرّ في مقدمة الصحيفة من ان النبي «ص» اسرّ اليه و الى أهل بيته بملك بني أميّة و مدّته فلا محالة كان غرضه «ع» من قتاله تميز صف الحق من صف الباطل و اتمام الحجة، كما يشعر به ظاهر العبارة. و
هكذا قيام سيد الشهداء في قبال ملك يزيد.
و بالجملة، لم يكن غرض النبي «ص» من هذه الفقرة بيان عدم النجاح أو حرمة القيام في قبال الملوك، بل بيان ان المقدر و المقضيّ من الملك كغيره من الأمور كائن لا محالة، فيجب ان لا توجب الهزيمة على يد الملوك يأسا للقائم بالحق، فلعله يظفر بعد ذلك و ان لم يظفر فانه قد عمل بوظيفته، او بيان ان ازالة الملك أمر عسير جدّا، كإزالة الجبال الراسي، و انه أمر لا يتحقق إلّا بتهية مقدمات كثيرة و مرور زمان كثير و إرشاد الناس و توعيتهم السياسية، كما ان إزالة الجبل عن موضعه لا تتحقق إلّا بصرف زمان كثير و طاقات كثيرة.
و على أيّ حال فوظيفة الناس بالنسبة الى الدفاع عن الإسلام و المسلمين باقية بحالها، و لا محالة يجب تحصيل مقدماتها، فتدبر.
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 971؛ عبده 3/ 82؛ لح/ 418، الكتاب 45.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 247
و هي قطعة من روايته الأولى التي مرّت بالتفصيل، فراجع «1».
المروية عن العيون، الواردة في شأن زيد. و قد مرّت أيضا في ذيل الرواية الأولى في شرح حال زيد، فراجع «2».
من كتاب احمد بن محمد بن سيار، أبي عبد اللّه السياري، عن رجل قال: ذكر بين يدي أبي عبد اللّه «ع» من خرج من آل محمد «ص» فقال: «لا زال أنا و شيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد. و لوددت أن الخارجي من آل محمد خرج و عليّ نفقة عياله.» «3»
و السند ضعيف مضافا الى الإرسال. فعن النجاشي ان السياري ضعيف فاسد المذهب، مجفوّ الرواية، كثير المراسيل. و عن ابن الغضائري انه ضعيف متهالك غال
______________________________
(1)- راجع ص 205 و ما بعدها من الكتاب.
(2)- راجع ص 210 و ما بعدها من الكتاب.
(3)- الوسائل 11/ 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 12.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 248
منحرف. نعم، عن المستدرك انه رام إثبات وثاقته بإكثار الكليني و غيره عنه. «1»
و كيف كان فذكر صاحب الوسائل للخبر في هذا الباب بلا وجه، اذ ليس الخبر من أدلة منع الخروج، بل من أدلة جوازه اجمالا. و ليس مفاده تأييد كل خروج من آل محمد و جوازه، بل هو بصدد بيان النفع و الخير المترتب عليه قهرا، حيث ان الخروج يوجب اشتغال إمام الجور بدفع من خرج فيغفل قهرا عن الامام «ع» و شيعته، فان كان الخارج داعيا الى الحق فهو، و إلّا فلا أقل من اشتغال الظالم بالظالم، فيبقى أهل الحق في البين سالمين.
قال: «ما كان عبد ليحبس نفسه على اللّه إلّا أدخله اللّه الجنة.» «2»
و ليس هذا الخبر أيضا من أدلة السكوت و منع الخروج، اذ حبس النفس على اللّه معناه وقفه في سبيل اللّه، و هو الى مثل الجهاد أنسب. فهو نظير لفظ الصبر الذي
يتبادر منه الى أذهان عرف العجم السكوت و عدم التحرك، مع أن المراد منه الاستقامة في ميدان العمل بحيث لا تمنعه المشكلات و الحوادث المترتبة عليها عن الجهاد و النضال، فتدبر.
______________________________
(1)- راجع تنقيح المقال 1/ 87.
(2)- الوسائل 11/ 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 13.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 249
قال: «قلت لأبي الحسن الرضا «ع»: ان عبد اللّه ابن بكير كان يروي حديثا، و أنا أحب أن أعرضه عليك. فقال: ما ذلك الحديث؟
قلت: قال ابن بكير: حدثني عبيد بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» أيام خرج محمد (ابراهيم) بن عبد اللّه بن الحسن، اذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك ان محمد بن عبد اللّه قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟ فقال:
اسكنوا ما سكنت السماء و الأرض. فقال عبد اللّه بن بكير: فان كان الأمر هكذا أو لم يكن خروج ما سكنت السماء و الأرض فما من قائم و ما من خروج. فقال أبو الحسن «ع»:
صدق أبو عبد اللّه «ع» و ليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، انما عنى أبو عبد اللّه «ع»: اسكنوا ما سكنت السماء من النداء و الأرض من الخسف بالجيش.» «1»
أقول: قد مرّ ان الظاهر من الأخبار و التواريخ ان محمد بن عبد اللّه قد خرج بعنوان المهدوية، و كان يدعو الى نفسه، فيريد الإمام «ع» بيان ان لقيام المهدي هاتين العلامتين، فلا تقبلوا ادعاء من ادعاها قبلهما. هذا.
مضافا الى ان السائل لا يعلم من هو. و لعله كان في المجلس أحد من الجواسيس، و لذا أجاب الإمام بنحو الإجمال، مما يوهم عدم الخروج
و القيام أصلا، كما توهمه ابن بكير.
و كيف كان فالمستفاد من الحديث كون النداء و الخسف من علائم المهدي الموعود، فلا يجوز الخروج مع من يدّعي المهدوية قبلهما. فلا يدلّ على السكوت و عدم القيام في قبال هجوم أعداء الإسلام على الإسلام و شئون المسلمين، و هذا واضح.
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 40، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 14.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 250
: «الزموا الأرض و اصبروا على البلاء، و لا تحركوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجله اللّه لكم، فإنه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حق ربه و حق رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على اللّه و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله و قامت النية مقام إصلاته لسيفه، و ان لكل شي ء مدة و أجلا.» «1»
أقول: لا يخفى ان كلمات أمير المؤمنين «ع» و خطبه مليئة بالحث على الجهاد و التحريص عليه، و كفاك في ذلك الخطبة 27، و فيها قوله: «فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى. يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون.» «2»
فلا محالة يختص كلامه هنا بمورد خاص و حالة خاصّة، و قد مرّ ان الجهاد مثل سائر الأمور يتوقف على تهية المهمات و القوات و وضع البرنامج الصحيح، و أن الاستعجال فيه و الوقوع تحت تأثير الأحاسيس الآنية مضر جدّا، فأراد- عليه السلام- هنا بيان ذلك.
و في شرح ابن أبي الحديد:
«و ليس خطابه «ع» هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام، كيف و هو لا يزال
يقرّعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك، و لكن قوما من خاصّته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و فسادهم، و يرومون قتلهم
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 765، عبده 2/ 156؛ لح/ 282، الخطبة 190.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 95؛ عبده 1/ 65؛ لح/ 70.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 251
و قتالهم، فنهاهم عن ذلك. و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره، فامرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء.» «1»
و في شرح ابن ميثم البحراني:
«نهى «ع» عن الجهاد من غير أمر أحد من الأئمة من ولده بعده. و ذلك عند عدم قيام من يقوم منهم لطلب الأمر، فانه لا يجوز إجراء هذه الحركات إلّا باشارة من إمام الوقت.» «2»
أقول: ما ذكره الشارح البحراني «ره» خلاف الظاهر، و الأظهر ما مرّ منّا، و يقرب منه ما ذكره ابن ابي الحديد.
و كيف كان فلا يرتبط كلامه «ع» بأعصارنا هذه بالنسبة الى الجهاد الدفاعي بعد تهية شرائطه و مقدماته، بل الجهاد الابتدائي أيضا، كما مرّ.
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 113.
(2)- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4/ 210.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 252
، عن أبي جعفر «ع» قال: «الزم الأرض و لا تحرك يدا و لا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك- و ما أراك تدركها-: اختلاف بني فلان، و مناد ينادي من السماء، و يجيئكم الصوت من ناحية دمشق. الحديث.» «1»
و لا يخفى ان المخاطب هو جابر، و ما ذكر قضية في واقعة. و لعله كان لجابر خصوصية، نظير ما كان لسدير على ما
مرّ، أو لعلّ المجلس لم يخل من الأغيار، او ان غرضه «ع» بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الاشتباه لدى جابر، حيث ان وجود الفساد و الظلم الشديد في عصره و ما ورد من ان القائم بالحق، هو الذي يقوم لرفعهما مما جعله يتوهم حلول وقت القيام. و بعبارة أخرى ذكر علائم المهدي و القائم بالحق شاهد على ان الغرض النهي عن التحرك مع من يدّعي المهدوية ما لم توجد هذه العلامات. الى غير ذلك من المحتملات.
و كيف كان فلا يقاوم مثل هذا الخبر أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بكثرتها، كما لا يخفى.
قال: «خطب علي «ع» بالنهروان (الى ان قال): فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الفتن. فقال:
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 16.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 253
ان الفتنة اذا أقبلت شبهت. ثم ذكر الفتن بعده (الى ان قال): فقام رجل فقال:
يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ قال: انظروا أهل بيت نبيكم، فان لبدوا فالبدوا، و ان استصرخوكم فانصروهم توجروا، و لا تستبقوهم فتصرعكم البلية. ثم ذكر حصول الفرج بخروج صاحب الأمر «ع».» «1»
أقول: الخطبة طويلة مذكورة في أول كتاب الغارات «2» و ذكر قسما منها في نهج البلاغة «3» و ذكر نحوها مفصلة في كتاب سليم بن قيس «4».
و ظاهر كتاب الغارات كون المراد بذلك الزمان زمن فتنة بني امية. و كون المرجع الحق في عصر بين امية أهل بيت النبي «ص» واضح عندنا. و قد ذكر وجوب السكون و التوقف مع سكونهم، و وجوب نصرهم مع قيامهم و استصراخهم.
و على أي حال
فالإرجاع الى أهل بيت النبي «ص» يستلزم حضورهم و ظهورهم و إمكان جعلهم أسوة، فلا يعم الكلام لعصر الغيبة. اللهم إلّا ان يراد كلماتهم و إرشاداتهم الباقية، فيصير محصل الرواية وجوب كون الأئمة من أهل البيت و إرشاداتهم الباقية محورا للعمل و لو في القيام و الجهاد و لا يجوز التخلف عنهم، و هذا أمر صحيح على مذهبنا.
و كيف كان فلا تنافي الرواية أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمعناهما الوسيع، فتدبر.
فهذه سبعة عشر حديثا ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، ربما يتمسك بها من يرى السكون و السكوت في عصر الغيبة. و قد أوضحنا المراد منها. و لا يخفى ان أكثرها مخدوش من حيث السند أيضا، و يحتمل كونها مختلفة من
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 17.
(2)- الغارات 1/ 1- 13.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 273؛ عبده 1/ 182؛ لح/ 137، الخطبة 93.
(4)- كتاب سليم بن قيس/ 156.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 254
قبل أيادي خلفاء الجور و مرتزقتهم لردع العلويين و شيعتهم عن القيام في قبالهم.
و ذكر في الباب 12 من جهاد المستدرك أيضا أخبار اخر يظهر الجواب عنها مما ذكر، فراجع و تأمّل فيما ذكرناه.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 255
قد ظهر لك مما ذكرناه الى هنا ان الجهاد- على ما قالوا- قسمان: ابتدائي و دفاعي.
و الأول مشروط بإذن الإمام قطعا، و ان احتملنا، بل قوينا عدم اختصاصه بالإمام المعصوم و شموله للفقيه الواجد للشرائط أيضا بل و كون الشرط للوجود لا للوجوب.
و الثاني غير مشروط به، بل يحكم بضرورته
و وجوبه مطلقا الكتاب و السنة و العقل. نعم، يجب أن يكون منطبقا على موازين العقل، بأن تمهّد مقدماته و أسبابه. و عند ما يكون الدفاع في قبال هجوم الأعداء على بيضة الإسلام و كيانه و شئون المسلمين و بلادهم فهو لا محالة يتوقف على التسلح و التدرب و التشكّل و الانسجام، و لا يتحقق ذلك قهرا إلّا بأن يؤمّروا على أنفسهم أميرا صالحا ينظّم أمورهم، حذرا من الهرج و المرج، و ان شئت فسمّه إماما، و لكنه شرط للوجود لا للوجوب، بخلافه في الأول على ما قالوا.
نعم، هنا روايات ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، و في المستدرك في الباب 12 منه مما توهم لزوم السكوت و عدم التحرك في قبال الفساد و الظلم و الهجمات قبل قيام القائم «ع» و ان بلغت ما بلغت و طالت الغيبة آلاف سنة.
و ملخّص الجواب عنها- بعد الغضّ عن سندها:
ان بعضا منها متعرضة لإخبارات غيبية، كمدّة ملك بني أميّة و بني العباس و سائر الفتن و الملاحم، و ليست بصدد إيجاب السكوت و عدم التحرك، و إلّا لكان أمير المؤمنين «ع» بنفسه اول عامل بخلافها، و كذلك سيد الشهداء «ع».
و بعضها في مقام النهي عن الخروج مع من يدعو الى نفسه باطلا في قبال من
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 256
يدعو الى إقامة الحق و إرجاعه الى أهله.
و بعضها في مقام بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الشبهة للمخاطب.
و بعضها في مقام النهي عن الاستعجال المضرّ قهرا مع عدم تهيؤ المقدمات و عدم بلوغ الأوان.
و لعل بعضها أيضا في مقام بيان ان الخروج الناجح مأئة بالمائة في جميع
أهدافه هو قيام القائم بالحق في آخر الزمان، و ان غيره لا ينجح كذلك و ان نجح نجاحا نسبيا أو ترتب عليه إتمام الحجة أو غير ذلك و قلنا بوجوبه لذلك. و انت تعلم ان القيام الناجح مأئة بالمائة الشامل لكافة الناس لم يتحقق الى الآن حتى على يد نبيّنا «ص».
و بعضها قضيّة في واقعة خاصة أو ترتبط بشخص خاصّ، و ليس بنحو يعلم بعدم الخصوصية له. الى غير ذلك من الوجوه.
و كيف كان فلا تقاوم هذه الأخبار ما قدمناه من أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمراتبهما الوسيعة، و ما مرّ من وجوب إقامة الدولة العادلة و وجوب إجراء قوانين الإسلام و عدم كونها موقتة بوقت خاص. هذا.
و قد طال كلامنا في هذا الفصل إجمالا و أرجو من الفضلاء الكرام متابعة البحث و البسط فيه، اذ كان تعرضنا له بنحو الاستطراد، و اللّه الموفق للصواب و السداد.
و يأتي منّا في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس بحث في حكم القيام و الكفاح المسلح ضدّ الطواغيت و الجبابرة. و هو أيضا بحث لطيف و له ارتباط بالبحث في هذا الفصل، فانتظر.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 257
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 259
«شرائط الامام الذى تجب طاعته» أقول: قد تعرضنا في الباب الأول لما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية إجمالا.
و في الباب الثاني لولاية النبي الأكرم «ص» و الأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم أجمعين-.
و في الباب الثالث للزوم الولاية في جميع الأعصار حتى في عصر الغيبة، و انه لا يجوز للمسلمين إهمالها و عدم الاهتمام بها.
و قد طال
البحث فيه، و عقدنا فيه أربعة عشر فصلا للسير الإجمالي في أبواب الفقه و الروايات و فتاوى الأصحاب التي يستفاد منها إجمالا كون تشريع الأحكام في الإسلام على أساس الولاية و الحكومة، و انها داخلة في نسج الإسلام و نظامه. ثم ذكرنا في فصل مستقل عشرة أدلة للمدّعى. و تعرضنا في فصل آخر للأخبار التي توهم وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة بعنوان المعارض لما سبق، و أوضحنا المراد منها.
فالآن حان وقت التعرض لشرائط الإمام و الوالي على أساس العقل و الكتاب و السنة، و نذكر ذلك في اثني عشر فصلا:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 261
نتعرض لها نموذجا لما يترتب على الاطلاع عليها من زيادة البصيرة في المسألة، و لا سيما و انه يظهر بها ان اعتبار الفقاهة و الاجتهاد في الوالي ليس امرا تفوّه به المتأخرون، بل كان مشهورا بين الأعاظم من أهل الفقه و العلم في جميع الأعصار، فنقول:
قال الشيخ الرئيس ابن سينا في أواخر الإلهيات من الشفاء في فصل عقده للبحث في الخليفة و الإمام:
«ثم يجب ان يفرض السانّ طاعة من يخلفه، و ان لا يكون الاستخلاف إلّا من جهته او باجماع من أهل السابقة على من يصحّحون علانية عند الجمهور انه مستقل بالسياسة، و انه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة و العفة و حسن التدبير، و انه عارف بالشريعة حتى لا اعرف منه، تصحيحا يظهر و يستعلن و يتفق عليه الجمهور عند الجميع. و يسنّ عليهم انهم اذا افترقوا أو تنازعوا للهوى
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 262
و الميل أو اجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه و الاستحقاق له فقد كفروا باللّه.
و الاستخلاف بالنص أصوب فان ذلك لا يؤدّي الى التشعّب و التشاغب و الاختلاف.» «1»
و عنى الفارابي بأمر الرئيس الأعلى الذي يتولّى ادارة شئون الحكم، فاقترح أن يكون شخصا واحدا لا يرأسه إنسان آخر أصلا، و يسميه: «الرئيس الأول للمدينة الفاضلة و رئيس المعمورة من الأرض كلها».
و مجمل الصفات التي ذكرها هي:
«ان يكون حكيما، قويّ الجسم، قويّ العزيمة، جيّد الفهم، جيّد الحفظ، وافر الذكاء، حسن العبارة، محبّا للعلم، يتحمّل المتاعب في سبيله، غير شره في اللّذات الجسدية، محبّا للصدق، كريم النفس، عادلا ينصف الناس حتى من نفسه و أهله، شجاعا مقداما.»
و عقّب بعد ذكر هذه الشروط فقال:
«ان اجتماع كل هذه الصفات في شخص واحد يكون نادرا، فإن أتيح توفّرها في إنسان كان هو الرئيس، و إلّا فالرئيس كل من اجتمع فيه أكبر قدر ممكن من هذه الصفات، و إذا لم يوجد الإنسان الذي تجتمع فيه أكثر هذه الصفات
و لكن وجد اثنان أحدهما حكيم و الآخر فيه الصفات الباقية يتوليان معا الرئاسة، و يكون كل واحد منهما مكملا للآخر، فاذا تفرقت هذه الصفات في أكثر من اثنين، و كانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل.»
و يرى ان الحكمة من أهمّ صفات الرئيس الأعلى، فاذا لم توجد هذه الصفة في
______________________________
(1)- الشفاء/ 451 (طبعة أخرى 563- 564).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 263
أحد بقيت المدينة الفاضلة بدون رئيس، و ذلك مما يؤدي الى الهلاك «1».
و في كتاب الاحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي:
«و أما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. و الثاني: العلم المؤدي الى الاجتهاد في النوازل و الأحكام. و الثالث:
سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان ليصحّ معها مباشرة ما يدرك بها.
و الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة و سرعة النهوض.
و الخامس: الرأي المفضي الى سياسة الرعية و تدبير المصالح. و السادس: الشجاعة و النجدة المؤدية الى حماية البيضة و جهاد العدو. و السابع: النسب، و هو أن يكون من قريش لورود النص فيه و انعقاد الإجماع عليه.» «2»
أقول: قوله: «الاجتهاد في النوازل و الأحكام»، لعل المراد بالأول معرفة ماهية الحوادث الواقعة المهمة التي يجب على سائس الملة معرفتها بخصوصياتها و مقارناتها حتى يقدر على تطبيق الأحكام الكلية عليها، و المراد بالثاني نفس الأحكام الكلية.
و بعبارة أخرى يراد بالأول معرفة الصغريات، و بالثاني العلم بالكبريات عن اجتهاد. و لا يخفى ان معرفة الصغريات في المسائل الاجتماعية و السياسية من أهم الأمور و أعضلها. و ما ورد في التوقيع الشريف من قوله «ع»: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة حديثنا» «3» أيضا لعله يراد به الرجوع لمعرفة نفس الحوادث و تشخيصها، لا العلم بالأحكام الكلية، فتدبر.
______________________________
(1)- راجع نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/ 219.
(2)- الأحكام السلطانية/ 6.
(3)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 264
و في كتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفراء:
«و أما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط: أحدها: ان يكون قرشيا من الصميم ... الثاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضيا من الحرية و البلوغ و العقل و العلم و العدالة. و الثالث: ان يكون قيما بأمر الحرب و السياسة و إقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك، و الذبّ عن الأمّة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم و الدين.
و قد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة و العلم و الفضل فقال- في رواية عبدوس بن مالك القطان-: و من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة و سمّي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماما عليه، برّا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين. و قال أيضا- في رواية المروزي-: فان كان أميرا يعرف بشرب المسكر و الغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه.» «1»
أقول: لا يخفى ان مقتضى ما حكاه عن أحمد أن الباغي بالسيف على الإمام الحق في أول الأمر باغ يجب على المسلمين قتاله و دفعه، ثم إذا فرض غلبته يصير بذلك إماما واجب الطاعة، و وجب الدفاع عنه و التسليم له و ان كان من أفسق الفسقة و أعتى الجبابرة، و هذا عجيب.
______________________________
(1)- الأحكام السلطانية/
20.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 265
قال في فصل قتال أهل البغي من التذكرة ما ملخّصه:
«يشترط في الإمام أمور: أ: أن يكون مكلّفا، فإن غيره مولّى عليه في خاصة نفسه فكيف يلي أمر الأمة؟ ب: ان يكون مسلما، ليراعي مصلحة المسلمين و الإسلام و ليحصل الوثوق بقوله و يصح الركون اليه. ج: أن يكون عدلا. د: أن يكون حرّا.
ه: ان يكون ذكرا، ليهاب و ليتمكن من مخالطة الرجال. و: أن يكون عالما، ليعرف الأحكام و يعلم الناس. ز: ان يكون شجاعا، ليغزو بنفسه و يعالج الجيوش. ح: ان يكون ذا رأي و كفاية. ط: ان يكون صحيح السمع و البصر و النطق، ليتمكن من فصل الأمور. و هذه الشرائط غير مختلف فيها.
ي: ان يكون صحيح الأعضاء كاليد و الرجل و الأذن، و بالجملة اشتراط سلامة الأعضاء، و هي أولى قولي الشافعي. يا: ان يكون من قريش، لقوله: «الأئمة من قريش.» «1» و هو أظهر قولي الشافعية، و خالف فيه الجويني. يب: يجب ان يكون الامام معصوما عند الشيعة، لأن المقتضي لوجوب الإمامة و نصب الإمام جواز الخطأ على الأمة المستلزم لاختلال النظام، فإن الضرورة قاضية بأن الاجتماع مظنّة التنازع و التغالب ... يج: ان يكون منصوصا عليه من اللّه- تعالى- أو من النبي «ص» أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. يد: أن يكون أفضل أهل زمانه، ليتحقق التمييز عن غيره. و لا يجوز عندنا تقديم المفضول على الفاضل، خلافا لكثير من العامّة، للعقل و النقل ... و الأفضلية تتحقق
بالعلم و الزهد و الورع و شرف النّسب و الكرم و الشجاعة و غير ذلك من الأخلاق الجميلة.
______________________________
(1)- بحار الأنوار 25/ 104، كتاب الإمامة الباب 1 من أبواب علامات الإمام ...، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 266
يه: ان يكون منزّها عن القبائح، لدلالة العصمة عليه، و لأنه يكون مستحقا للإهانة و الإنكار عليه، فيسقط محله من قلوب العامة فتبطل فائدة نصبه، و أن يكون منزها من الدناءة و الرذائل ... و ان يكون منزها عن دناءة الآباء و عهر الامهات، و قد خالفت العامة في ذلك كله.» «1»
اقول: يأتي في الفصل الثانى عشر البحث في العصمة و النصّ.
قال العلامة الأميني في الغدير:
«قال الباقلاني في التمهيد، ص 181: باب الكلام في صفة الإمام الذي يلزم العقد له. فإن قال قائل: فخبّرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم؟ قيل لهم: يجب أن يكون على أوصاف: منها: أن يكون قرشيا من الصميم. و منها: أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين. و منها: أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب، و تدبير الجيوش و السرايا، و سدّ الثغور، و حماية البيضة، و حفظ الأمّة، و الانتقام من ظالمها، و الأخذ لمظلومها، و ما يتعلق به من مصالحها. و منها: أن يكون ممن لا تلحقه رقّة و لا هوادة في إقامة الحدود، و لا جزع لضرب الرقاب و الأبشار.
و منها: أن يكون من أمثلهم في العلم و سائر هذه الأبواب التي يمكن التفاضل فيها، إلّا أن يمنع عارض من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفضول. و ليس من صفاته أن يكون معصوما و لا عالما بالغيب، و
لا أفرس الأمة و أشجعهم، و لا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قبائل قريش.» «2»
______________________________
(1)- التذكرة 1/ 452.
(2)- الغدير 7/ 136.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 267
قال الإيجي في المواقف و الشريف الجرجاني في شرحه مازجا الشرح بالمتن:
« (المقصد الثاني في شروط الإمامة: الجمهور على أن أهل الإمامة) و مستحقها من هو (مجتهد في الأصول و الفروع ليقوم بأمور الدين)، متمكنا من إقامة الحجج و حلّ الشبه في العقائد الدينية، مستقلا بالفتوى في النوازل و أحكام الوقائع نصّا و استنباطا. لأن أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد و فصل الحكومات و رفع المخاصمات، و لن يتم ذلك بدون هذا الشرط، (ذو رأي) و بصارة بتدبير الحروب و السلم و ترتيب الجيوش و حفظ الثغور، (ليقوم بأمور الملك، شجاع) قويّ القلب، (ليقوى على الذب عن الحوزة) و الحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك ...
و لا يهوله أيضا إقامة الحدود و ضرب الرقاب.
(و قيل: لا يشترط) في الإمامة (هذه الصفات) الثلاث، (لأنها لا توجد) الآن مجتمعة. (نعم، يجب أن يكون عدلا) في الظاهر، (لئلا يجور) ... (عاقلا، ليصلح للتصرفات) الشرعية و الملكية، (بالغا لقصور عقل الصبي، ذكرا، اذ النساء ناقصات عقل و دين، حرّا لئلا يشغله خدمة السيد) عن وظائف الإمامة.
(فهذه الصفات) التي هي الثمان أو الخمس (شروط) معتبرة في الإمامة (بالإجماع).» «1»
______________________________
(1)- شرح المواقف للجرجاني 8/ 349.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 268
و عن عبد الملك الجويني، المقلب بإمام الحرمين، انه قال في كتابه المسمى بالإرشاد:
«الشروط التي يجب أن يتصف بها الإمام: 1- الاجتهاد، بحيث لا يحتاج أن يستفيد من غيره في الحوادث. قال: و هذا متفق عليه. 2- التصدّي الى مصالح الأمور و ضبطها. 3- النجدة في تجهيز الجيوش و سدّ الثغور. 4- أن يكون ذا نظر حصيف في النظر الى الأمّة. 5- الشجاعة و الإقدام،
بأن لا تأخذه خور الطبيعة عن ضرب الرقاب و التنكيل بمستوجبي الحدود. 6- و من شرائطها عند أصحابنا- يعني الشافعية- أن يكون الإمام من قريش، لقول رسول اللّه «ص»: «الأئمة من قريش.» «1» و قال: «قدّموا قريشا و لا تقدّموها.» و هذا مما يخالف فيه بعض الناس.
و للاحتمال فيه عندي مجال، و اللّه اعلم بالصواب. لا خفاء في اشتراط حريّة الإمام و اسلامه. و أجمعوا على ان المرأة لا يجوز ان تكون إماما، و ان اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه.» «2»
انه قال في كتابه المسمى: «غياث الأمم في التياث الظلم»:
«يجب على الحاكم مراجعة العلماء فيما يأتي و يذر، فانهم قدوة الأحكام و أعلام
______________________________
(1)- رواه النسائي.
(2)- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/ 222.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 269
الإسلام و ورثة النبوة و قادة الأمّة. و هم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا ...
و اذا كان صاحب الأمر مجتهدا فهو المتبوع الذي يستتبع الكافة في اجتهاده و لا يتبع.
فأما اذا كان سلطان الزمان لم يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء، و السلطان نجدتهم و شوكتهم و قوّتهم. فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله و الفرض الذي نزاوله كنبيّ الزمان، و السلطان مع العالم كملك في زمان النبي «ص» مأمور بالانتهاء الى ما ينهيه اليه النبي «ص».» «1»
و في كتاب المنهاج للنووي، أحد عظماء الشافعية- و لآرائه عندهم قيمة كبيرة:
«شرط الإمام كونه مسلما مكلفا حرّا ذكرا قرشيا مجتهدا شجاعا ذا رأي و سمع و بصر و نطق. و تنعقد الإمامة بالبيعة ... و باستخلاف الإمام ... و باستيلاء جامع، و كذا فاسق و جاهل في الأصح.» «2»
أقول: قد ترى انه في الذيل نقض ما ذكره في الصدر من شرط الاجتهاد. و يرجع ذيل كلامه الى ما مرّ عن أحمد.
و قال ابن حزم في الفصل:
«وجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا يجوز الإمامة لغير من هن فيه، فوجدناها:
______________________________
(1)- النظام السياسي للدولة الإسلامية/ 277.
(2)- المنهاج/ 518، (كتاب البغاة).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 270
أن يكون صليبة من قريش، لإخبار رسول اللّه «ص» ان الإمامة فيهم «1». و أن يكون بالغا مميّزا، لقول رسول اللّه «ص»: رفع القلم عن ثلاثة. فذكر الصبيّ حتّى يحتلم، و المجنون حتى يفيق. و أن يكون رجلا، لقول رسول اللّه «ص»: لا يفلح قوم أسندوا أمرهم الى امرأة. «2» و أن يكون مسلما، لأن اللّه- تعالى- يقول: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. «3» و الخلافة أعظم السبيل، و لأمره بإصغار أهل الكتاب و أخذهم بأداء الجزية و قتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا. و ان يكون متقدما لأمره، عالما بما يلزمه من فرائض الدين، متقيا للّه- تعالى- بالجملة، غير معلن بالفساد في الأرض، لقول اللّه- تعالى-: وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «4» ...، و قد قال رسول اللّه «ص»: من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو ردّ «5»، و
قال- عليه السلام-: يا أبا ذر، انك ضعيف لا تأمرن على اثنين و لا تولّين مال يتيم «6»، و قال- تعالى-: فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً. الآية «7».
فصحّ ان السفيه و الضعيف و من لا يقدر على شي ء فلا بدّ له من وليّ، و من لا بدّ له من وليّ فلا يجوز ان يكون وليّا للمسلمين، فصحّ ان ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز و لا ينعقد أصلا.
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 270
ثم يستحبّ أن يكون عالما بما يخصّه من أمور الدين من العبادات و السياسة و الأحكام، مؤدّيا للفرائض كلها لا يخلّ بشي ء منها، مجتنبا لجميع الكبائر سرّا و جهرا، مستترا بالصغائر ان كانت منه.
فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها، فان ولي فولايته صحيحة و نكرهها. و طاعته فيها اطاع اللّه فيه واجبة. و منعه مما لم يطع اللّه فيه واجب.
______________________________
(1)- جامع الأصول 4/ 438، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2020.
(2)- راجع مسند أحمد 5/ 38.
(3)- سورة النساء (4)، الآية 141.
(4)- سورة المائدة (5)، الآية 2.
(5)- جامع الأصول 1/ 197، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، الباب 1.
(6)- جامع الأصول 4/ 448، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2037.
(7)- سورة البقرة (2)، الآية 282.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 271
و الغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف، شديدا في إنكار المنكر من غير عنف و لا تجاوز للواجب، مستيقظا
غير غافل، شجاع النفس، غير مانع للمال في حقّه و لا مبذّر له في غير حقّه.
و يجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن و سنن رسول اللّه «ص» فهذا يجمع كل فضيلة.» «1»
«و لا تحلّ الخلافة الّا لرجل من قريش صليبة من ولد فهر بن مالك من قبل آبائه.
و لا تحلّ لغير بالغ و ان كان قرشيّا.» «2»
«مسألة: و صفة الإمام أن يكون مجتنبا للكبائر، مستترا بالصغائر، عالما بما يخصّه، حسن السياسة، لأن هذا هو الذي كلّف. و لا معنى لأن يراعى أن يكون غاية الفضل، لأنه لم يوجب ذلك قرآن و لا سنّة.» «3»
______________________________
(1)- الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4/ 166.
(2)- المحلّى 6/ 359، كتاب الإمامة، المسألة 1769.
(3)- المحلّى 6/ 362، كتاب الإمامة، المسألة 1773.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 272
و في مقدمة ابن خلدون:
«و أما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم و العدالة و الكفاية و سلامة الحواس و الأعضاء، مما يؤثر في الرأي و العمل. و اختلف في شرط خامس و هو النسب القرشي. فأما اشتراط العلم فظاهر، لأنه إنما يكون منفذا لأحكام اللّه- تعالى- إذا كان عالما بها، و ما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها. و لا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا، لأن التقليد نقص، و الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف و الأحوال ...» «1»
قال في مآثر الإنافة في معالم الخلافة:
«الفصل الثاني في شروط الإمامة، و قد اعتبر أصحابنا الشافعية لصحة عقدها أربعة عشر شرطا في الإمام: الأول: الذكورة، فلا تنعقد إمامة المرأة ... الثاني:
البلوغ ... الثالث: العقل ... الرابع: البصر، فلا تنعقد إمامة الأعمى ...
الخامس: السمع ... السادس: النطق، فلا تنعقد إمامة الأخرس ... السابع:
سلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة و سرعة النهوض ... الثامن:
الحرية ... التاسع: الإسلام ... العاشر: العدالة ... الحادي عشر: الشجاعة و النجدة ... الثاني عشر: العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام، فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك، لأنه محتاج لأن يصرّف الأمور على النهج القويم
______________________________
(1)- مقدمة ابن خلدون/ 135 (طبعة أخرى/ 193)، الفصل 26 من الفصل الثالث من الكتاب الأول.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 273
و يجربها على الصراط المستقيم، و لأن يعلم الحدود و يستوفي الحقوق و يفصل الخصومات بين الناس. و إذا لم يكن عالما مجتهدا لم يقدر على ذلك. الثالث عشر:
صحة الرأي و التدين فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي ... الرابع عشر: النسب، فلا تنعقد الإمامة بدونه، و المراد أن
يكون من قريش.» «1»
«إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه أن يكون مسلما مكلفا حرّا ذكرا قرشيا عدلا عالما مجتهدا شجاعا ذا رأي صائب سليم السمع و البصر و النطق.» «2»
أقول: هذه بعض كلماتهم في المقام، و تفصيل الأدلّة على الشروط يأتي في الفصول الآتية.
و يظهر لك بالدقّة فيما مرّ من الكلمات أن ولاية الفقيه ليست أمرا بدعا أبدعه فقهاء الشيعة في عصرنا، بل المشهور بين المحققين من علماء السنة أيضا اشتراط الاجتهاد و الفقاهة في الإمام و الوالي.
و لا يخفى أيضا أن اعتبار أكثرهم لوصف القرشية في الإمام إنما هو بلحاظ الأخبار الواردة في هذا الشأن، و سيأتي بيانها، فانتظر.
______________________________
(1)- مآثر الإنافة 1/ 31.
(2)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 416، مبحث شروط الإمامة.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 275
مع قطع النظر عن الآيات و الروايات:
لا يخفى أن المرجع في إثبات الشرائط المعتبرة في الوالي هو العقل و الكتاب و السنة، فلنتعرض هنا لحكم العقل إجمالا، فنقول: إن العقلاء إذا أرادوا أن يفوّضوا أمرا من الأمور إلى شخص فلا محالة يراعون فيه أمورا: الأول: أن يكون الشخص المفوّض اليه عاقلا. الثاني: أن يكون عالما بكيفية العمل و فنونه. الثالث:
أن يكون قادرا على إيجاده و تحصيله على ما هو حقّه. الرابع: أن يكون أمينا يعتمد عليه، و إلّا لجاز أن يخون في أصل العمل أو في كيفيته. مثلا إذا أردتم أن تستأجروا أحدا لإحداث بناء فلا محالة تراعون فيه بحكم الفطرة وجود هذه الشرائط الأربعة.
و الولاية و إدارة شئون الأمّة من أهمّ الأمور و أعضلها و أدقّها، فلا محالة يشترط في الوالي بحكم العقل و الفطرة أن يكون عاقلا عالما بالعمل قادرا عليه
أمينا يعتمد عليه.
و إذا فرض أن المفوّضين لأمر الولاية إلى شخص خاص يعتقدون بمبدإ خاص و إيدئولوجية خاصة متضمنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، و أرادوا إدارة شئونهم
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 276
السياسية على أساس هذا المبدأ و هذه المقررات الخاصة فلا محالة ينتخبون لذلك من يعتقد بهذا المبدأ و يطّلع على مقرراته، بل ينتخبون من يكون أعلم و أكثر اطلاعا، اللهم إلّا أن يزاحم ذلك جهة أقوى و أهمّ.
فهذا أمر طبيعي لا يعدل عنه العقلاء بفطرتهم و ارتكازهم.
مثلا إذا كان أهل منطقة خاصة معتقدين بالمبدإ المادي و الاقتصاد الماركسي فبالطبع يراعون في الوالي المنتخب كونه عاقلا، قادرا على أمر الولاية، معتقدا بهذا المبدأ الخاص، أكثر اطلاعا على قوانينه و مقرراته المرتبطة بإدارة الملك، أمينا معتمدا عليه في أقواله و أفعاله.
و على هذا فالمسلمون المعتقدون بالإسلام و أن الإسلام حاو لجميع ما يحتاج إليه البشر في حياتهم الفردية و العائلية، و في علاقاتهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية مع المسلمين و غيرهم من الأمم لا محالة يراعون في الوالي العقل، و القدرة على الولاية، و اعتقاده بالاسلام، و اطلاعه على مقرراته و أحكامه، بل أعلميته في ذلك، و كذلك أمانته و استقامته المعبّر عنها بالعدالة.
فهذه شرائط للوالي، يحكم العقل بلزوم رعايتها مع الإمكان، سواء كان انتخاب الوالي و نصبه من قبل اللّه- تعالى-، كما نعتقده نحن بالنسبة الى الأئمة الاثنى عشر «ع» بلا إشكال، او كان من قبل الأمة، كما يعتقده إخواننا السنة مطلقا.
و لعلنا نعتقده بالنسبة الى الفقهاء العدول في عصر الغيبة.
و بالجملة اشتراط هذه الشرائط و اعتبارها في والي المسلمين بما هم مسلمون أمر لا يحتاج
الى التعبد الشرعي، بل يدركه الإنسان بعقله و فطرته، و لا نريد بولاية الفقيه إلّا هذا الأمر الفطري الارتكازي.
و قد مرّ في صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع» انه قال: «و انظروا لأنفسكم. فو اللّه إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها.» «1»
______________________________
(1)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 277
فالإمام «ع» أرجع الراوي إلى فطرته و ارتكازه، و الى أمر يلتزم به العقلاء بما هم عقلاء. و ما ذكرناه حقيقة وجدانية، تقبلها طباع جميع البشر و عقولهم إذا خلوا من العناد و التعصب، من أيّ ملة و دين كانوا.
و لو فرض كون أكثر الناس في منطقة خاصة مسلمين متعهدين ملتزمين و يوجد بينهم أقليات غير مسلمة فلا محالة يجب أن تكون الحكومة على أساس موازين الإسلام مع حفظ حقوق الأقليات أيضا. و حفظ حقوقهم أيضا بنفسه يعدّ من مقررات الإسلام و موازينه، كما لا يخفى على أهله.
و قد تلخص مما ذكرنا أن العقل يحكم باعتبار العقل، و القدرة، و الإسلام، و العلم بل الاعلمية، و العدالة في حاكم الإسلام و و اليه. و المعرفة بالإدارة و التدبير أيضا يدخلان بعناية ما في مفهوم العلم، لاحتمال أن يراد به ما هو الأعم من العلم بالكليات و العلم بطرق التطبيق و عواقب الأمر و نحو ذلك. كما يحتمل دخولهما في عنوان القدرة. و سيأتي تفصيل ذلك في محله، فلاحظ و تأمّل.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه
الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 279
لا يخفى أن الآيات التي يمكن أن يتمسك بها لشرائط الإمام و الوالي كثيرة، و نحن قبل الورود في تفصيل الشرائط نذكر جملة من هذه الآيات في فصل مستقل بلا شرح و تفسير إذ في جمعها نحو فائدة، و نحيل الشرح إلى الفصول الآتية. قال اللّه- تعالى-:
1- «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»
2- «لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ، إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً، وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّٰهِ الْمَصِيرُ.» «2»
3- «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ.» «3»
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.
(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 28.
(3)- سورة المائدة (5)، الآية 51.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 280
4- «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ كٰافِرِينَ.» «1»
5- «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «2»
6- «اتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لٰا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ، قَلِيلًا مٰا تَذَكَّرُونَ.» «3»
7- «اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ، أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ.» «4»
8- «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا
بِهِ، وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً.» «5»
9- «وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ الْمُنٰافِقِينَ، وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلًا.» «6»
10- «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.» «7»
11- «وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «8»
12- «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «9»
______________________________
(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 100.
(2)- سورة النساء (4)، الآية 115.
(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 3.
(4)- سورة البقرة (2)، الآية 257.
(5)- سورة النساء (4)، الآية 60.
(6)- سورة الأحزاب (33)، الآية 48.
(7)- سورة الإنسان (76)، الآية 24.
(8)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
(9)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 281
13- «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «1»
14- «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ، وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ.» «2»
15- «قٰالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً، وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ.» «3»
16- «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ* أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ.» «4»
17- «وَ لَقَدْ نَجَّيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنَ الْعَذٰابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كٰانَ عٰالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ.» «5»
18- «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «6»
19- «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً، لٰا يَسْتَوُونَ.» «7»
20- «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «8»
21- «وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ
وَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لٰا يَعْلَمُونَ.» «9»
______________________________
(1)- سورة الكهف (18)، الآية 28.
(2)- سورة هود (11)، الآية 113.
(3)- سورة النمل (27)، الآية 34.
(4)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 22 و 23.
(5)- سورة الدخان (44)، الآية 30 و 31.
(6)- سورة القلم (68)، الآية 35 و 36.
(7)- سورة السجدة (32)، الآية 18.
(8)- سورة البقرة (2)، الآية 124.
(9)- سورة المنافقين (63)، الآية 8.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 282
22- «ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ، وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ لِلّٰهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ* وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ لٰا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» «1»
23- «قُلْ لٰا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اللّٰهِ وَ لٰا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لٰا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَ الْبَصِيرُ؟ أَ فَلٰا تَتَفَكَّرُونَ.» «2»
24- «أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ؟» «3»
25- «وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «4»
26- «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «5»
27- «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ، فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «6»
28- «وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً. قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمٰالِ؟ قٰالَ إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ، وَ اللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ.» «7»
29- «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ؛ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «8»
______________________________
(1)- سورة النحل (16)، الآية 75 و 76.
(2)- سورة الأنعام (6)، الآية 50.
(3)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 14.
(4)- سورة الحج (22)، الآية 40 و 41.
(5)- سورة النساء (4)، الآية 5.
(6)- سورة يونس (10)، الآية 35.
(7)- سورة البقرة (2)، الآية 247.
(8)- سورة الزمر (39)، الآية 9.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 283
30- «قٰالَ اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.» «1»
31- «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «2»
32- «قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ، وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.» «3»
33- «الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ، وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ.
الآية.» «4»
34- «أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ.» «5»
35- «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «6»
36- «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ.» «7»
______________________________
(1)- سورة يوسف (12)، الآية 55.
(2)- سورة القصص (28)، الآية 26.
(3)- سورة النمل (27)، الآية 39.
(4)- سورة النساء (4)، الآية 34.
(5)- سورة الزخرف (43)، الآية 18.
(6)- سورة البقرة (2)، الآية 228.
(7)- سورة الأحزاب (33)، الآية 33.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 285
قد مرّ انه يشترط في الوالي امور: الأول
العقل، و قد بينا في الفصل الثاني ان العقلاء بحسب فطرتهم لا يفوّضون أمورهم الى غيرهم إلّا اذا أحرزوا فيه شروطا و منها العقل. هذا في الأمور المتعارفة فكيف بالولاية التي هي سلطة على الدماء و الأعراض و الأموال.
و في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «يحتاج الإمام إلى قلب عقول، و لسان قؤول، و جنان على إقامة الحق صئول.» «1»
هذا مضافا الى ان المجنون رفع عنه القلم و يكون مولّى عليه فكيف يجعل وليّا على المسلمين؟! و السفيه أيضا محجور عليه.
قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «2»
و المراد بالأموال في الآية الأموال العامة المتعلّقة بالمجتمع او مطلق الأموال و ان كانت للأشخاص. و الوالي مسلّط على الأموال و النفوس قهرا، فلا يجوز أن يكون سفيها.
______________________________
(1)- الغرر و الدرر 6/ 472، الحديث 11010.
(2)- سورة النساء (4)، الآية 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 286
و في رواية الشحام عن أبي عبد اللّه «ع» «لا يكون السفيه إمام التقى.» «1»
و في نهج البلاغة: «و لكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا.» «2»
و في كنز العمّال: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم حلماءهم و قضى عليهم علماؤهم، و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم، و قضى بينهم جهالهم، و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «3».
فيعتبر في الوالي مضافا الى العقل، الرشد في قبال السفاهة أيضا. و ان شئت قلت: يعتبر فيه العقل الكامل، فهما شرط واحد. و بالجملة المسألة
واضحة لا تحتاج الى بحث.
______________________________
(1)- الكافي 1/ 175؛ كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء و ... الحديث 2.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1050؛ عبده 3/ 131؛ لح/ 452، الكتاب 62.
(3)- كنز العمال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة، الحديث 14595.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 287
الشرط الثاني للوالي: الإسلام و الإيمان. فلا يجعل الكافر واليا على المسلمين.
و قد مرّ في الفصل الثاني بيان اعتباره من طريق العقل.
و يدلّ على ذلك من الكتاب آيات كثيرة:
منها قوله- تعالى-: «لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»
إذ الولاية على الغير من أقوى السبل عليه.
و منها قوله: «لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ.» «2»
و منها قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ.» «3»
إلى غير ذلك من الآيات.
______________________________
(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.
(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 28.
(3)- سورة المائدة (5)، الآية 51.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 288
و الروايات الدالّة على ذلك أيضا كثيرة جدا، و منها ما عن النبي «ص»:
«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.» «1» هذا.
و كيف ينتظر و يتوقع ممن لا يعتقد بالإسلام أن يكون مجريا لأحكام الإسلام و مديرا لشئون المسلمين على أساس موازين الإسلام. و بذلك يظهر عدم كفاية الإسلام بالمعنى الأعم، لصدقه على الإقرار اللفظي أيضا، بل يعتبر الإيمان المركّب من الإقرار باللسان و الاعتقاد بالجنان و العمل بالأركان. و وجهه واضح.
و إذا كان الإيمان شرطا في إمام الجماعة فاشتراطه في الإمام الأعظم يثبت بطريق أولى، فتدبّر.
______________________________
(1)- الفقيه 4/ 334، باب ميراث أهل الملل،
الحديث 5719.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 289
الشرط الثالث: العدالة. فلا ولاية للظالم و الفاسق على المسلمين.
و يدلّ على ذلك مضافا إلى حكم العقل كما عرفت الآيات و الروايات الكثيرة من طرق الفريقين.
قوله- تعالى-: «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، قٰالَ: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «1»
قال في أقرب الموارد:
«ظلم فلان ض ظلما و ظلما و مظلمة: وضع الشي ء في غير موضعه، و منه المثل:
«من استرعى الذئب فقد ظلم.» و فلانا: جار عليه ... و الأرض حفرها في غير موضع حفرها ...» «2»
فكل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم و يكون مشمولا لإطلاقه.
و على هذا فكل فاسق ظالم، و كل منحرف عن الحقّ كذلك.
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.
(2)- أقرب الموارد 2/ 731.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 290
2- و من الآيات أيضا قوله- تعالى-: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ ...» «1»
قال عليّ بن إبراهيم في ذيل الآية:
«قال: ركون مودّة و نصيحة و طاعة.» «2»
3- و منها أيضا قوله: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «3»
4- و منها قوله: «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «4»
5- و منها قوله: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.» «5»
6- و منها قوله- حكاية عن أهل النار-: «وَ قٰالُوا: رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «6»
إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها أن الظالم و الفاسق لا يجعل إماما و واليا مفترض الطّاعة، و دلالتها واضحة ظاهرة.
ففي غاية الكثرة. نذكر عدّة منها:
1- ما رواه في أصول الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال:
ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.»
و في رواية أخرى «حتى يكون للرّعية كالأب الرحيم.» «7»
2- ما رواه أيضا بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال سمعت أبا جعفر «ع»
______________________________
(1)- سورة هود (11)، الآية 113.
(2)- تفسير علي بن ابراهيم (القمي)/ 315 (طبعة أخرى 1/ 338).
(3)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
(4)- سورة الكهف (18)، الآية 28.
(5)- سورة الإنسان (76)، الآية 24.
(6)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.
(7)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرّعية ...، الحديث 8.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 291
يقول: «... و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من اللّه- عزّ و جلّ- ظاهر عادل أصبح ضالّا تائها. و إن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق. و اعلم يا محمد، أن أئمّة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلّوا و أضلّوا ...» «1»
3- ما في المحكم و المتشابه: «و إنما هلك الناس حين ساووا بين أئمة الهدى و أئمة الكفر، فقالوا: إن الطاعة مفترضة لكلّ من قام مقام النبي «ص» برّا كان أو فاجرا، فأتوا من قبل ذلك.
قال اللّه- تعالى-: أ فنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم، كيف تحكمون.» «2»
و هل يكون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين «ع» أولا؟ قد مرّ الكلام فيه في الدليل الخامس من أدلة لزوم الولاية، فراجع.
4- ما في نهج البلاغة بعد ما ذكر «ع» سابقته في الإسلام قال: «و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و
الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة.» «3»
أقول: قوله «ع»: «و قد علمتم»، يعني من الآيات القرآنية التي يعلم بها شرائط الولاية، أو من بيان رسول اللّه «ص» أو من بياناته السابقة، أو مما رأوه من أعمال من سبقه.
و قوله: «لا ينبغي» ليس ظاهرا في الكراهة، و إن شاع في اصطلاح الفقهاء في أعصارنا إرادتها منه، فإنّه بحسب اللغة صالح للحرمة أو ظاهر فيها. ففي لسان العرب:
______________________________
(1)- الكافي 1/ 184، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام و الرد اليه، الحديث 8.
(2)- المحكم و المتشابه/ 71، و بحار الأنوار 90/ 57 (طبعة إيران 93/ 57)، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن.
و الآيتان المذكورتان من سورة القلم (68)، الرقم 35 و 36.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 292
«يقال: انبغى لفلان أن يفعل كذا، أي صلح له أن يفعل كذا، و كأنّه قال:
طلب فعل كذا فانطلب له، أي طاوعه ... و انبغى الشي ء تيسّر و تسهّل.» «1»
و على هذا فقوله: «لا ينبغي»، أي لا يصلح و لا يتيسّر تحققه.
و يشهد لذلك موارد استعمال الكلمة في الكتاب العزيز، كقوله- تعالى-:
«قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ.» «2» و قوله: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَ لَا اللَّيْلُ سٰابِقُ النَّهٰارِ.» «3» إلى غير ذلك من
الآيات الشريفة. و في صحيحة زرارة المشهورة في الاستصحاب: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.» «4» هذا.
و «النهمة» بالفتح: الحاجة و بلوغ الشهوة، و بالفتحتين: إفراط الشهوة في الطعام.
و «الجفاء»: سوء الخلق و خلاف البرّ و الصلة. و «الحيف»: الظلم. و «الدول» بضم الدال جمع دولة بالضم: المال الذي تتداوله الأيدي.
و روي: «الخائف» بالمعجمة، و «الدول» بكسر الدال جمع دولة بالفتح، أي الغلبة في الحرب و غيره. فيراد به من يخاف من تقلبات الدهر و غلبة أعدائه عليه، فيتّخذ قوما يتوقّع نصرهم و يقويهم بالتفضيل في العطاء.
و «مقاطع الحكم» حدودها المعينة من قبل اللّه- تعالى-.
و قوله: «فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع»، أي يقف عند مقطع الحكم فلا يقطعه بالحق بل يحكم بالجور، أو يقف عند أصل الحكم و يسوّفه حتى لا يصل المحقّ إلى حقّه أو يضطرّ إلى الصلح.
و المراد بالسنّة أحكام اللّه المبينة بطريقة النبي و قوله و فعله.
و كيف كان فدلالة الكلام على اعتبار العدالة واضحة، فتدبّر.
5- ما في نهج البلاغة أيضا: «و لكنني آسى أن يلى أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها،
______________________________
(1)- لسان العرب 14/ 77.
(2)- سورة الفرقان (25)، الآية 18.
(3)- سورة يس (36)، الآية 40.
(4)- الوسائل 2/ 1062، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 293
فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا.» «1»
6- ما فيه أيضا خطابا لعثمان: «فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة ... و أنّ شر الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات
سنّة معلومة و أحيا بدعة متروكة. و إنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر، يلقى في نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى ثمّ يرتبط في قعرها.» «2»
7- ما في خطبة الحسن بن علي «ع» بمحضر معاوية، قال «ع»: «إنّما الخليفة من سار بكتاب اللّه و سنّة نبيّه «ص»، و ليس الخليفة من سار بالجور.» «3»
8- ما رواه في الإرشاد عن سيد الشهداء- عليه السلام- في جوابه لكتب أهل الكوفة إليه: «فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللّه.» «4» و نحوه في الكامل. «5»
9- ما في نهج البلاغة: «من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. و معلّم نفسه و مؤدّبها أحق بالإجلال من معلّم الناس و مؤدّبهم.» «6»
فتأمّل، إذ يشكل دلالة الحديث على اعتبار العدالة في الإمام.
10- ما رواه في إثبات الهداة، عن الصدوق بسنده، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «قال اللّه- عزّ و جلّ: لأعذّبنّ كلّ رعيّة في
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1050؛ عبده 3/ 131؛ لح/ 452، الكتاب 62.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.
(3)- مقاتل الطالبيين/ 47.
(4)- الإرشاد للمفيد/ 186 (طبعة أخرى/ 204).
(5)- الكامل لابن أثير 4/ 21.
(6)- نهج البلاغة، فيض/ 1117؛ عبده 3/ 166؛ لح/ 480، الحكمة 73.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 294
الإسلام دانت بولاية إمام جائر ظالم ليس من اللّه و إن كانت الرعية عند اللّه بارّة تقيّة. و لأعفونّ عن
كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من اللّه و إن كانت الرعيّة في أعمالها ظالمة مسيئة.» «1»
11- ما رواه في الكافي بسند صحيح، عن هشام بن سالم و حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قيل له بأيّ شي ء يعرف الإمام؟ قال: بالوصية الظاهرة و بالفضل. إنّ الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم و لا بطن و لا فرج فيقال: كذاب و يأكل أموال الناس و ما أشبه هذا.» «2»
12- ما رواه في الدعائم عن جعفر بن محمّد «ع» أنّه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر اللّه بولايتهم و توليتهم و قبولها و العمل لها فرض من اللّه- عزّ و جلّ-، و طاعتهم واجبة. و لا يحلّ لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم و (ولاية ظ) ولاة أهل الجور و اتباعهم و العاملون لهم في معصية اللّه غير جائزة لمن دعوه إلى خدمتهم و العمل لهم و عونهم و لا القبول منهم.» «3»
13- ما في تحف العقول عن الصادق- عليه السلام-: «فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته، بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل، بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره إلى غيره. فإذا صار الوالي والى عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلّل، و حلال الكسب معهم. و ذلك أنّ في ولاية والي العدل و ولاته إحياء كلّ حق و عدل و إماتة كلّ ظلم و
جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعية إلى طاعة اللّه مقوّيا لدينه.
و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته، الرئيس منهم و أتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه. و العمل لهم و الكسب
______________________________
(1)- إثبات الهداة 1/ 123.
(2)- الكافي 1/ 284، كتاب الحجة، باب الأمور التي توجب حجة الإمام «ع»، الحديث 3.
(3)- دعائم الإسلام 2/ 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 295
معهم بجهة الولاية لهم حرام و محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر. و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه و إحياء الباطل كلّه، و إظهار الظلم و الجور و الفساد و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه. فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.» «1»
و آثار الصدق و الحقيقة على الحديث لائحة، كما أن دلالته واضحة. و قال في ديباجة تحف العقول:
«و أسقطت الأسانيد تخفيفا و إيجازا، و إن كان أكثره لي سماعا، و لأن أكثره آداب و حكم تشهد لأنفسها.»
14- ما رواه في الوسائل بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن آبائه، قال أمير المؤمنين «ع»: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم. و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه- عزّ و
جلّ- فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا و الإشاطة بدمائنا، و ميتته ميتة جاهلية.» «2»
15- ما رواه النعماني في كتاب الغيبة عن محمد بن يعقوب بسنده، عن أبي وهب، عن محمد بن منصور، قال: سألته، يعني أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا. قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ.
أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ.» «3» قال: فقال: «فهل رأيت أحدا زعم أن اللّه أمره بالزنا و شرب الخمر أو شي ء من هذه المحارم؟ فقلت: لا. قال: «فما هذه الفاحشة التي يدّعون أن اللّه أمرهم؟ قلت:
اللّه أعلم و وليّه. قال: «فان هذا في أولياء أئمة الجور، ادعوا أن اللّه أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم اللّه بالايتمام بهم، فردّ اللّه ذلك عليهم و أخبرهم أنهم قد قالوا عليه الكذب و سمي ذلك منهم
______________________________
(1)- تحف العقول/ 332.
(2)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.
(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 28.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 296
فاحشة.» «1»
إلى غير ذلك مما دلّ على حرمة إطاعة أئمة الجور، فإن الإمام إنما جعل إماما ليؤتم به، فإذا حرمت الإطاعة فلا إمامة، كما هو واضح.
16- و في تفسير نور الثقلين عن روضة الواعظين للمفيد، قال رسول اللّه «ص»:
«حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات. قال اللّه- تعالى- لداود: حرام على كلّ قلب عالم محبّ للشهوات أن أجعله إماما للمتقين.» «2»
17- ما في كنز العمال عن عليّ «ع» قال: «ثلاثة من كن فيه من الأئمة صلح أن يكون إماما اضطلع بأمانته: إذا
عدل في حكمه، و لم يحتجب دون رعيّته، و أقام كتاب اللّه- تعالى- في القريب و البعيد.» (الديلمي). «3»
18- و في الغرر و الدرر: «سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم.» «4»
19- و فيه أيضا: «ولاة الجور شرار الأمة و أضداد الأئمة.» «5»
20- و قد مرّ في رواية الفضل بن شاذان: «و منها أنّه لو لم يجعل لهم إماما قيّما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة.» «6»
21- و في رواية سليم: «يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة.» «7» هذا.
و الأخبار و الروايات في ذمّ ولاة الجور و حرمة تقويتهم و إعانتهم في غاية
______________________________
(1)- الغيبة للنعماني/ 82 (طبعة أخرى/ 130)، الباب 7 (باب ما روي فيمن شك في واحد من الأئمة ...).
(2)- تفسير نور الثقلين 4/ 44 (في تفسير سورة الفرقان).
(3)- كنز العمال 5/ 764، الباب 2 من كتاب الخلافة من قسم الأفعال، الحديث 14315.
(4)- الغرر و الدرر 4/ 145، الحديث 5626.
(5)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10122.
(6)- علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182 (باب علل الشرائع و أصول الإسلام)، الحديث 9.
(7)- كتاب سليم بن قيس/ 182.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 297
الكثرة. و أيّ إعانة أقوى من الانقياد لهم و التسليم لأوامرهم؟ إذ لا تبقى الحكومة إلّا بإطاعة الأمّة.
و في رواية السكوني عن جعفر بن محمد، عن آبائه- عليهم السلام- قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم.» «1»
و في رواية أخرى عن كتاب ورّام: «قال- عليه السلام-: إذا
كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلما و لاق لهم دواتا. قال:
فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم.» «2»
و في كنز العمال عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: يا كعب بن عجرة أعيذك باللّه من إمارة السفهاء. قلت: يا رسول اللّه و ما إمارة السفهاء؟ قال: يوشك أن تكون أمراء إن حدثوا كذبوا و إن عملوا ظلموا، فمن جاءهم فصدقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس منّي و لست منه و لا يردون عليّ حوضي غدا، و من لم يأتهم و لم يصدقهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو منّي و أنا منه و هو يرد عليّ حوضي غدا.» (ابن جرير) «3».
كما أن الروايات الواردة في مدح الإمام العادل و بركاته أيضا كثيرة و قد مرّ بعضها في الدليل العاشر. و كفاك خبر حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة، و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «4»
و هنا روايات كثيرة تدل على اعتبار العدالة في القاضي، و وجوب التجنب عن قضاة الجور، ذكر بعضها في الوسائل في الباب 1 و 3 من أبواب صفات القاضي، و منها خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فإنّ
______________________________
(1)- الوسائل 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.
(2)- الوسائل 12/ 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.
(3)- كنز العمال 5/ 797، الباب 2 من كتاب الخلافة من قسم الأفعال، الحديث 14412.
(4)- الوسائل 18/ 308، الباب
1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 298
الحكومة إنما هي للإمام العالم بالفضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل) أو وصي نبي.» «1»
و إذا اعتبرت العدالة في القاضي ففي الوالي المسلّط على دماء المسلمين و الأعراض و الأموال تعتبر بطريق أولى. بل القضاء شعبة من شعب الولاية المطلقة، و ربما يتصدى له الوالي بنفسه، كما كان أمير المؤمنين «ع» كذلك.
و إذا اخترنا اعتبار العدالة في إمام الجمعة و الجماعة فاعتبارها في الإمام الذي هو القدوة في جميع الشؤون و بيده زمام أمر المسلمين و يكون مسلطا على النفوس و الأعراض و الأموال آكد. بل الحقّ أنّ تعيين إمام الجمعة و العيدين من شئونه، و هو الأحقّ بإقامتهما مع حضوره. فعن أمير المؤمنين «ع»: «إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار جمّع الناس، ليس ذلك لأحد غيره.» «2»
و إمامة المسلمين مقام الهيّ شامخ، فان كانت من قبل اللّه- تعالى- فيبعد جدّا من لطفه- تعالى- بل يقبح عليه عقلا أن ينصب على الأمة إماما جائرا فاسقا، و يوجب الانقياد و التسليم له. و إن كانت بانتخاب الأمة فالعقل يحكم بقبح انتخاب الظالم الجائر و تسليطه على الدماء و الأعراض و التسليم له و إطاعته.
و أوهن من ذلك عند العقل القول بوجوب الإطاعة للجائر الفاسق الذي غلب بالسيف بلا انتخاب و لا بيعة، و قد قال اللّه- تعالى-: «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ» «3»، و قال:
«وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ» «4»، و قال: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ» «5».
و كفت هذه الآيات جوابا عن كل من يتوهم لزوم الانقياد
للطواغيت و الظلمة و وجوب إطاعتهم.
و كيف يجب إطاعة الجائرين و لا سيما عبدة الكفار و الملاحدة و عملاء الشرق
______________________________
(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
(2)- الوسائل 5/ 36، الباب 20 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
(3)- سورة البقرة (2)، الآية 124.
(4)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.
(5)- سورة هود (11)، الآية 113.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 299
و الغرب منهم و خصوصا في الأمور التي تعدّ معصية للّه- سبحانه؟! و ما يجري على أفواه أعوان الظلمة من أنّ المأمور معذور! فعذر شيطاني لا أساس له، لا في الكتاب و السنّة، و لا في الفطرة. هذا.
و في كنز العمال عن أحمد، عن أنس: «لا طاعة لمن لم يطع اللّه.» «1»
و في نهج البلاغة: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «2»
و في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي «ص» أنّه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحب و كره، إلا ان يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة.» «3»
و فيه أيضا عن علي «ع»: «إنّ رسول اللّه «ص» بعث جيشا و أمّر عليهم رجلا فأوقد نارا و قال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها و قال الآخرون: إنّا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول اللّه «ص» فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة. و قال للآخرين قولا حسنا، و قال: لا طاعة في معصية اللّه، إنّما الطاعة في المعروف. «4»
و في المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: «ان النبي «ص» بعث عبد اللّه بن حذافة على سريّة، فأمر أصحابه، فأوقدوا نارا، ثم أمرهم أن يثبوها
فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ ليثبها فوقع فيها فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول اللّه «ص» فقال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: يا رسول اللّه، كان أميرا و كانت له طاعة. قال: أيّما أمير أمّرته عليكم فأمركم بغير طاعة اللّه فلا تطيعوه، فإنّه لا طاعة في معصية اللّه.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار و لعلّ كونه معصية من جهة خوف الضرر و الهلاك، أو من جهة كونه إحياء لرسم المجوس من تعظيم النار أو للتشبّه بهم.
______________________________
(1)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14872.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1167؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 500، الحكمة 165.
(3)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء ...)، الحديث 1839.
(4)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء ...)، الحديث 1840.
(5)- المصنف 11/ 335، باب لا طاعة في معصية، الحديث 20699.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 300
و كيف كان فإطاعة أمراء الجور بما هو عصيان للّه- تعالى- غير واجبة، بل غير جائزة بلا إشكال و لا أظنّ أن يلتزم بوجوبها أحد ممن له دين أو عقل.
نعم، يوجد هنا بعض الأخبار و الفتاوى من السنة ربما يستفاد منها وجوب الإطاعة و التسليم للأمراء و السلاطين مطلقا، و سيأتي البحث في ذلك بالتفصيل في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس. و هو بحث لطيف مبتلى به في هذه الأعصار ينبغي للفضلاء متابعته، فانتظر.
و قد ورد من طرق الشيعة أيضا روايات ربما يستدل بها على وجوب السكون و السكوت في قبال المظالم و الجنايات، و ان لم تدل
على وجوب التسليم و الطاعة.
و قد ذكرها في الوسائل في الباب الثالث عشر من الجهاد، و العلامة النوري في الباب الثاني عشر من جهاد المستدرك. و أسناد أكثرها مخدوشة و قد تعرضنا لها و للجواب عنها في الفصل الرابع من الباب الثالث، فراجع.
نعم، هنا نكتة يجب التنبيه عليها، و هي أنّ الأمير المنصوب من قبل الإمام لجيش خاص أو لجهة خاصّة إذا فرض تحقق معصية منه أوجبت سقوطه عن العدالة، فهذا بنفسه لا يوجب سقوطه عن منصبه و جواز التخلف عن أوامره و نواهيه في الجهة المشروعة التي نصب لها، بل يجب على من يكون تحت إمارته- مضافا إلى وعظه و إرشاده- إطاعته في الجهة الخاصّة المشروعة التي نصب لها. فإن لم يرتدع بالوعظ رفع أمره إلى الإمام الذي نصبه أميرا، حتى يكون هو الذي يعزله إن أراد.
و أمّا التخلّف عنه مطلقا أو عزله من قبل كلّ شخص فلا يصحّ قطعا، فإنّه يوجب الهرج و المرج.
و لعلّ بعض الروايات الواردة في كتب السنة ناظرة إلى مثل هذه الصورة، كما في حديث عوف بن مالك عن رسول اللّه «ص»: «إذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله و لا تنزعوا يدا من طاعة.» «1»
______________________________
(1)- صحيح مسلم 3/ 1481، كتاب الإمارة، الباب 17 (باب خيار الأئمة و شرارهم)، الحديث 1855.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 301
الرابع من شروط الامام: الفقاهة و العلم بالإسلام و بمقرراته اجتهادا، فلا يصح إمامة الجاهل بالإسلام و بمقرراته، او العالم بها تقليدا.
و يدل على ذلك- مضافا إلى ما مرّ من حكم العقل و بناء العقلاء- الآيات و الروايات من طرق الفريقين:
1- فمنها قوله- تعالى-: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ، فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «1»
و الإمام ممن يجب أن يتّبع بلا إشكال، فاذن العالم الذي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحق بهذا المنصب الشريف.
و الصيغة منسلخة عن معنى التفضيل، نظير قوله- تعالى-: «وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ*
______________________________
(1)- سورة يونس (10)، الآية 35.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 302
أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ.»* «1»
و إن شئت قلت: التفضيل وقع جدلا، حيث إنّ الناس بحسب عاداتهم يثبتون حقّا ما لبعض من لا يهدّي إلّا أن يهدى. فيراد أنّ لمن يهدي إلى الحقّ مزية عليه بلا إشكال و بحكم الفطرة. و المزيّة تبلغ حدّ الإلزام، و لذا أرجعهم في آخر الآية إلى الفطرة، و وبّخهم على الحكم بخلافها.
2- و منها أيضا قوله- تعالى- في قصة طالوت: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» «2»
و المراد باصطفاء اللّه له اصطفاؤه تشريعا بالنصب له، أو تكوينا فيكون ما بعده بيانا له. و بالجملة يستفاد من الآية أن العلم ملاك للتقدم في الملك.
3- و منها أيضا قوله- تعالى-: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ، إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «3»
فمفاد الآية أن العالم مقدم على غيره، و أن تقديم المفضول على الفاضل لا يصدر إلّا ممن لا لبّ له.
- بل الأعلمية- في الوالي فكثيرة جدّا:
من قوله «ع»: «و لا الجاهل فيضلّهم بجهله.» «4»
«أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل.» «5»
______________________________
(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.
(2)- سورة البقرة (2)، الآية 247.
(3)- سورة الزمر (39)، الآية 9.
(4)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.
(5)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 303
أقول: الشغب: تهييج الفساد. و الاستعتاب: الاسترضاء.
و قد مرّ آنفا أنّ قوله: «أحقّ»، منسلخ عن معنى التفضيل، أو يكون التفضيل بلحاظ الجدل، كما مرّ.
و كيف كان فالمزيّة تبلغ حدّ الإلزام، نظير قوله- تعالى-: «و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه»، المستشهد به في الأخبار و الفتاوى على ترتيب طبقات الإرث، و ظاهر أن الترتيب فيها على حدّ اللزوم و التعيّن.
لكن في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:
«و هذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول، لأنّه ما قال:
إن إمامة غير الأقوى فاسدة، و لكنه قال: إن الأقوى أحقّ، و أصحابنا لا ينكرون انه- عليه السلام- أحقّ ممن تقدّمه بالإمامة، مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين، لأنه لا منافاة بين كونه أحقّ و بين صحّة إمامة غيره.» «1»
أقول: يرد عليه ما مرّ من كون المزية موجبة للأحقية على حدّ الإلزام، و لذا عقّبها اللّه- تعالى- بالتوبيخ في سورة يونس بقوله: «فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» كما أن الأولوية في آية: «أُولُوا الْأَرْحٰامِ»* و ترتيب طبقات الإرث كذلك.
كيف؟! و لو لم تكن الأحقية ملزمة لم يكن وجه لقتال الشاغب الآبي عن الرضا و قد قال «ع»: «فإن أبى
قوتل».
و الظاهر أن المراد بالقوة هو القدرة على الولاية المفوّضة اليه بشؤونها المختلفة، فتشمل كمال العقل و التدبير و الشجاعة و حسن السياسة و الإدارة، كما لا يخفى.
«أ فينبغي أن يكون الخليفة على الأمّة إلّا أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه، و قد قال اللّه: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ.» و قال: «وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» و قال: «أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ.» «2»
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/ 328.
(2)- سورة الأحقاف (46)، الآية 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 304
و قال رسول اللّه «ص»: «ما ولّت أمّة قطّ أمرها رجلا و فيهم أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا.» يعني الولاية. فهي غير الإمارة على الأمّة؟!» «1»
قال: «من أمّ قوما و فيهم أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة.» «2»
و لا وجه لحمله على خصوص إمام الجماعة، كما لا يخفى.
عن علي بن الحسين «ع»، عن الحسن بن علي «ع» في خطبته بمحضر معاوية، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «ما ولت أمة أمرها رجلا قط و فيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا.» «3»
و فيه أيضا عن مجالس الشيخ بسنده، عن زاذان، عن الحسن بن علي «ع» في خطبته نحو ذلك. «4»
في بيان صفات الإمام:
«و أما اللواتي في صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس، و أعلم الناس، و أشجع الناس، و أكرم الناس و ما يتبع ذلك لعلل تقتضيه ... و أما إذا لم يكن عالما بجميع ما فرضه اللّه- تعالى- في كتابه و غيره، قلّب الفرائض فأحلّ ما حرّم اللّه، فضلّ و أضلّ ... و الثاني: أن يكون أعلم الناس بحلال اللّه و حرامه و ضروب أحكامه و أمره و نهيه و جميع ما يحتاج إليه الناس، فيحتاج الناس إليه و يستغني عنهم.» «5» و رواه عنه في المحكم و المتشابه «6».
و البحث عن ماهية الكتاب و كتاب سليم قد مرّ في الدليل الخامس و السادس
______________________________
(1)- كتاب سليم بن قيس/ 118.
(2)- المحاسن 1/ 93، الباب 18 من كتاب عقاب الأعمال، الحديث 49.
(3)- غاية المرام/ 298.
(4)- غاية المرام/ 299.
(5)- بحار الأنوار 90/ 44 و 45 و 64 (طبعة إيران 93/ 44 و 45 و 64)، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن.
(6)- المحكم و المتشابه/ 55.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 305
من أدلّة إثبات لزوم الولاية، فراجع.
«و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل ... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه، ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه.» «1»
أقول: قوله: «لا ينكل»، اي لا يضعف و لا يجبن. و المضطلع بالأمر: القويّ عليه، من الضلاعة بمعنى القوة.
و غرض الإمام في الحديث و إن كان بيان أحقيّة الأئمة الاثنى عشر بالأمر لأجل واجديّتهم للصفات المذكورة و لكن بالملاك يثبت الحكم لكلّ من يصير واليا على المسلمين بما هم مسلمون، غاية الأمر
أن الإمامة مع وجود الأئمة المعصومين و ظهورهم حق ثابت لهم من اللّه، و لم يكن لأحد تقمّصها، كما هو مبنى مذهبنا.
قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» بمكّة إذ دخل عليه أناس ... ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال: «يا عمرو، اتق اللّه، و أنتم أيّها الرهط فاتقوا اللّه، فإن أبي حدثني- و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه- أن رسول اللّه «ص» قال: «من ضرب الناس بسيفه و دعاهم إلى نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلف.» «2»
عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من خرج يدعو الناس و فيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع. و من ادّعى الإمامة و ليس بإمام فهو كافر.» «3»
و لا يخفى أن للكفر مراتب، كما ذكر في محله. فقد يستعمل في قبال الإسلام، و قد يستعمل في قبال الإيمان، و قد يطلق على أهل العصيان أيضا.
______________________________
(1)- الكافي 1/ 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.
(2)- الوسائل 11/ 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.
(3)- الوسائل 18/ 564، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 36.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 306
«من دعا الناس إلى نفسه و فيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ.» «1»
: «من تعلّم علما ليماري به السفهاء و يباهي به العلماء و يصرف به الناس إلى نفسه يقول: انا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار.» ثم قال: «إن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها. فمن دعا الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة.» «2»
في بيان أحقيته «ع» بالخلافة: «إنهم قد سمعوا رسول اللّه «ص» يقول عودا و بدء: ما ولّت أمّة رجلا قطّ أمرها و فيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا، فولّوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن و لا يدّعي أنّ له علما بكتاب اللّه و لا سنّة نبيّه، و قد علموا أنّي أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه و أفقههم و أقرأهم لكتاب اللّه و أقضاهم بحكم اللّه.» «3»
«أنا أولى برسول اللّه «ص» حيّا و ميتا، و أنا وصيّه و وزيره و مستودع سرّه و علمه، و أنا الصدّيق الأكبر و الفاروق الأعظم، أوّل من آمن به و صدّقه، و أحسنكم بلاء في جهاد المشركين، و أعرفكم بالكتاب و السنة، و أفقهكم في الدين، و أعلمكم بعواقب الأمور، و أذربكم لسانا، و أثبتكم جنانا.» «4»
عن نصر بن مزاحم، عن أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى معاوية و أصحابه، قال «ع»: «فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما و حديثا أقربها من الرسول، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، أوّلها إسلاما، و أفضلها
______________________________
(1)- تحف العقول/ 375.
(2)- الاختصاص/ 251.
(3)- كتاب سليم بن قيس/ 148.
(4)- الاحتجاج 1/ 46 (طبعة أخرى 1/ 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول اللّه «ص» ...
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 307
جهادا، و أشدّها بما تحمله الأئمة من أمر الأمّة اضطلاعا.» «1»
في مقام الاحتجاج: «فو اللّه يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به، لأنّا أهل البيت، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه «ص»، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسويّة.» «2»
و لا يخفى أنّ كونهم من أهل البيت سببا للأحقّية إنما هو بملاك أن أهل البيت أدرى بما في البيت و أعلم بسنّة النبي «ص» مضافا الى ما فيهم من الفضائل النفسية.
و كيف كان فدلالة الحديث و أمثاله على كون الفقاهة في دين اللّه ملاكا للتقدم واضحة.
في بيان تفضيلهم على أصحاب معاوية في التصدّي لشئون الولاية و أعمالها. و الكتاب طويل، و فيه:
«و هؤلاء الّذين لو ولّوا عليكم لأظهروا فيكم الغضب و الفخر و التسلّط بالجبروت و التطاول بالغضب و الفساد في الأرض، و لاتّبعوا الهوى و حكموا بالرشاء، و أنتم- على ما فيكم من تخاذل و تواكل- خير منهم و أهدى سبيلا: فيكم الحكماء و العلماء و الفقهاء و حملة القرآن و المتهجدون بالأسحار، و العبّاد و الزهّاد في الدنيا و عمّار المساجد و أهل تلاوة القرآن؛ أ فلا تسخطون و تنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم و الأراذل و الأشرار منكم؟» «3»
و روى نحو ذلك في نهج السعادة، مستدرك نهج البلاغة، و فيه: «ألا تسخطون و تنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام الجفاة فيه؟» «4» و نحوه أيضا في شرح
______________________________
(1)- سرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 210.
(2)- الإمامة و السياسة 1/ 19، باب إباءة علي «ع» بيعة أبي بكر.
(3)- الإمامة و السياسة 1/ 136.
(4)- نهج السعادة 5/ 252، الكتاب 156.
دراسات في ولاية
الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 308
ابن أبي الحديد «1».
يظهر من الرواية أن العلم و الفقه كما يعتبر في الإمام الأعظم يعتبر في عمّاله أيضا مهما أمكن، فإنّهم يريدون إجراء أحكام الإسلام و تنفيذها و إدارة شئون المسلمين على أساس ضوابطه، فيجب أن يكونوا مطلعين على موازينه ملتزمين بها.
و المراد بالفقيه هو العالم بالمسائل المبتلى بها في الجهات المختلفة من الحياة من العبادات و المعاملات و السياسات و الاقتصاديات و علاقات الأمم و نحو ذلك.
فالأعلم الأبصر بالأحكام الكلية، و بالموضوعات و ماهية الحوادث الواقعة، و الظروف المحيطة و مسائل العصر أحقّ من غيره. و هذا أمر تحكم به الفطرة أيضا، مضافا الى الآيات و الروايات التي مضت.
عن الإمام الصادق «ع» قوله «ع»:
«و انظروا لأنفسكم. فو اللّه إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها.» «2» هذا.
و هاهنا روايات كثيرة وردت في مواصفات العمّال، و أنه لا يستعمل إلّا من هو أرضى و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه. و منها يستفاد حكم الوالي الأعظم بطريق أولى. و نحن نذكر جملة كثيرة من هذا الروايات في الفصل الرابع من الباب السادس عند البحث عن مواصفات الوزراء و العمال، فلنذكر بعضها هنا نموذجا:
عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل عاملا من المسلمين و هو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه فقد خان اللّه و رسوله و جميع المسلمين.» «3» و رواه عنه العلامة الأميني في كتاب الغدير «4».
عن تمهيد الباقلاني: «من تقدم
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 99.
(2)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.
(3)- سنن البيهقي 10/ 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولى الوالي امرأة و لا فاسقا و ...
(4)- الغدير 8/ 291.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 309
على قوم من المسلمين و هو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان اللّه و رسوله و المسلمين.» «1» بناء على كونه حديثا عن رسول اللّه «ص»، كما هو الظاهر.
«أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أنّ في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غشّ اللّه و غشّ رسوله و غشّ جماعة المسلمين.» «2»
«من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «3»
و لا شك أن الأعلم أرضى من غير الأعلم و إن كان لفظ الحديث يعمّ سائر الفضائل أيضا.
و يظهر من هذه الروايات و أمثالها أن اعتبار العلم بالكتاب و السنة ليس مقصورا على الإمام الأعظم، بل لو أريد تعيين وزير أو أمير أو وال لمنطقة خاصة، و كان هنا فردان متفاوتان في العلم و متماثلان في سائر الفضائل فلا يجوز تقديم غير الأعلم. و لعل العقل السليم أيضا يحكم بذلك، فإنه ترجيح للمرجوح على الراجح و هو قبيح.
نعم، مع تزاحم الفضائل و عدم إمكان الجمع بينها يأتي البحث في الأهم منها في الباب الخامس، فانتظر.
في الغرر عن أمير المؤمنين «ع» من قوله: «العلماء حكام على الناس.» «4»
أقول: المحتملات في الرواية ثلاثة:
الأول: أن تحمل الجملة على الخبر، فيراد بيان فضل العلم و العلماء، و أن العلماء
______________________________
(1)- الغدير 8/ 291، عن التمهيد/ 190.
(2)- كنز العمال 6/ 19، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14653.
(3)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14687.
(4)- الغرر و الدرر 1/ 137، الحديث 506.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 310
بحسب العادة و الطبع يحكمون على المجتمع، و الناس تبع لهم قهرا، من غير فرق بين المذاهب و الملل. ففي كل مذهب يكون الحاكم على عقولهم و أفكارهم علماؤهم، بل لا ينحصر ذلك في علم الدين أيضا. فالجملة نظير قوله «ع»: «العلم حاكم و المال محكوم عليه.» «1»
الثاني: أن تحمل على الإنشاء و يراد بها جعل منصب الحكومة
و الولاية للعلماء، نظير جعلها لأمير المؤمنين «ع» في غدير خم بقوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.»
الثالث: أن تحمل على الإنشاء أيضا و يراد بها التكليف، أي إيجاب انتخاب العلماء للحكومة و تعيّنهم لذلك بحسب حكم الشرع.
فعلى الأخيرين يرتبط الحديث بالمقام، و أما على الأول فلا ربط له به.
و مقتضى الاحتمال الثاني أن أمير المؤمنين «ع» في هذه الجملة جعل منصب الحكومة لجميع العلماء. فلو كان في عصر واحد ألف عالم مثلا يكون جميعهم حكّاما بجعل أمير المؤمنين «ع» و نصبه. و هذا بعيد، بل لعله مقطوع الفساد، مع أنّ اللفظ مطلق يعمّ علماء الدين و غيرهم، و علماء الإسلام و سائر الأديان، و العدول من العلماء و الفسّاق منهم.
فنظير هذه الرواية ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق «ع»: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك.» «2»
و لا يخفى أن قوله: «الملوك حكّام على الناس»، يراد به الاخبار قطعا. فلعله قرينة على إرادة الإخبار في الجملة الثانية أيضا، لوحدة السياق. فيكون المراد أنّ الملوك حكّام على الناس خارجا كما يرى، و العلماء نافذون مؤثرون في الملوك و في آرائهم قهرا، إمّا للإيمان بهم، أو كونهم مجبورين في الأغلب على الالتفات إليهم و إلى
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1155؛ عبده 3/ 187؛ لح/ 496، الحكمة 147.
(2)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، باب فرض العلم، الحديث 92.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 311
آرائهم و الاحترام لهم لجلب رضى الأمّة و جذبهم، أو لاحتياجهم الى علمهم في إدارة شئون الأمة و رفع حوائجها و لا سيما إذا أريد بالعلم الأعم من علم الدين و
من سائر العلوم.
و على هذا فالروايتان أجنبيتان عن المقام، و إنّما تعرضنا لهما تبعا للقوم.
«مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه.»
و حيث إنّ الحديث يشتمل على مضامين عالية ناسب المقام نقله بتمامه فنقول:
روى في تحف العقول عن السبط الشهيد «ع»، قال: و يروى عن أمير المؤمنين «ع»: «اعتبروا ايها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأخبار، إذ يقول: «لَوْ لٰا يَنْهٰاهُمُ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ.» «1» و قال: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ.» «2»
و إنما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الّذين بين أظهرهم المنكر و الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللّه يقول: «فَلٰا تَخْشَوُا النّٰاسَ وَ اخْشَوْنِ.» «3» و قال: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «4» فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أدّيت و أقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها و صعبها. و ذلك أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها.
ثمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، و بالخير مذكورة، و بالنصيحة معروفة، و باللّه في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، و يكرمكم الضعيف، و يؤثركم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده. تشفّعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، و تمشون في الطريق بهيبة الملوك و كرامة
______________________________
(1)- سورة المائدة
(5)، الآية 63.
(2)- سورة المائدة (5)، الآية 78 و 79.
(3)- سورة المائدة (5)، الآية 44.
(4)- سورة التوبة (9)، الآية 71.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 312
الأكابر.
أ ليس كل ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ اللّه و إن كنتم عن أكثر حقه تقصرون؟ فاستخففتم بحقّ الأئمة. فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، و أمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم. فلا مالا بذلتموه، و لا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، و لا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه.
أنتم تتمنون على اللّه جنته و مجاورة رسله و أمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم أيّها المتمنون على اللّه أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فضلتم بها، و من يعرف باللّه لا تكرمون، و أنتم باللّه في عباده تكرمون، و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تفزعون و أنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، و ذمّة رسول اللّه محقورة (مخفورة خ. ل)، و العمى و البكم و الزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، و لا في منزلتكم تعملون، و لا من عمل فيها تعينون (تعنون خ. ل)، و بالادّهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون. كل ذلك مما أمركم اللّه به من النهي و التناهي و أنتم عنه غافلون.
و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (تسعون خ. ل و في الوافي: «لو يسعون»). ذلك بأن مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ و اختلافكم في السنّة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم على الأذى، و تحملتم المؤونة في
ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد، و عنكم تصدر، و إليكم ترجع، و لكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، و استسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات و يسيرون في الشهوات. سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، و إعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، و بين مستضعف على معيشته مغلوب. ينقلبون في الملك بآرائهم، و يستشعرون الخزي (الجري- وافي) بأهوائهم، اقتداء بالأشرار و جرأة على الجبّار. في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع (مسقع- وافي).
فالأرض لهم شاغرة و أيديهم فيها مبسوطة، و الناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، و ذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! و مالي لا أعجب:
و الأرض (كلمة «و الأرض» ليست في الوافي، و لعلّه أصحّ.) من غاشّ غشوم، و متصدق ظلوم، و عامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا، و القاضي بحكمه فيما شجر بيننا.
اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان، و لا التماسا من فضول الحطام، و لكن
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 313
لنرى المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك، و يأمن المظلومون من عبادك، و يعمل بفرائضك و سننك و أحكامك، فإنكم إن لا تنصرونا و تنصفونا قوى الظلمة عليكم، و عملوا في إطفاء نور نبيكم، و حسبنا اللّه، و عليه توكلنا، و اليه أنبنا، و إليه المصير.» «1»
و ذكر قطعتان من الرواية في نهج البلاغة بتفاوت ما «2».
و يظهر من الحديث الشريف شدّة اهتمام الشارع بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمفهومهما
الوسيع، و لذا رتّب عليهما ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقها.
و أنت تعلم أن إجراءهما بهذه السعة يقتضي تحصيل القدرة و إقامة الدولة الحقة، و لذا قلنا سابقا إنّ نفس أدلة الجهاد و الدفاع عن بيضة الإسلام، و أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أقوى الأدلة على لزوم إقامة الدولة الحقة.
و بالجملة، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بمفهومهما الوسيع بمعنى إشاعة المعروف و العدل و قطع جذور المنكر و الفساد، يلازمان الحكومة العادلة، و إذا تركا خلا الجوّ و المحيط قهرا لتسلط الأشرار و دولتهم، كما قال أمير المؤمنين «ع» في وصيته المعروفة قبل وفاته: «لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.» «3»
فتسلط الأشرار أثر طبيعي لتفرق الناس و عدم مراقبة بعضهم لبعض و عدم اهتمامهم بما يجري في المجتمع، فتدبّر.
و العجب من أهل التخاذل و التواكل، كيف أغمضوا عن الآيات و الأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أو تلاعبوا بها و حصروها في الأمر و النهي الواقعين خفية في الموارد الجزئية؟! مع أن الظاهر من بعض الأخبار كون الجهاد بسعته شعبة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و في زيارة السبط الشهيد «ع»: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، و آتيت الزكاة، و أمرت
______________________________
(1) تحف العقول/ 237، و الوافي 2 «م 9»/ 30، باب الحث على الأمر بالمعروف ... من أبواب الأمر بالمعروف ....
(2) نهج البلاغة، فيض/ 317 و 406؛ عبده 1/ 204 و 2/ 19؛ لح/ 154 و 189، الخطبة 106
و 131.
(3) نهج البلاغة، فيض/ 978؛ عبده 3/ 86؛ لح/ 422، الكتاب 47.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 314
بالمعروف و نهيت عن المنكر.» ففيها إشارة الى أن قيامه «ع» في قبال حكومة يزيد كان لإجراء فرائض الإسلام، و من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و قوله «ع» في الحديث: «فاستخففتم بحقّ الأئمة»، لعلّه من جهة أنّ الإمامة الكبرى في تلك الأعصار كانت متعينة لأمير المؤمنين «ع» و بعده للحسنين «ع»، فكان الواجب على العلماء المخاطبين في الحديث إعانة الإمام و تقويته، و التصدي للأعمال من قبله حتى لا يتسلط الجبابرة، و هم قد تركوا هذا الواجب.
و يحتمل ضعيفا أن يكون المراد به أن الإمامة و شئونها كانت حقّا للعلماء، فاستخففتم بحقّ الإمامة، أي تركتموها لغير أهلها.
و يحتمل أيضا أن تكون كلمة: «الأئمة» مصحّف: «الأمة». و يؤيد ذلك التفريع عليه بقوله: «فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم.»
و قوله: «غلبتم عليه من منازل العلماء»، مبنيّ للمفعول كما يظهر بالدقة فيما بعده من قوله: «فأنتم المسلوبون تلك المنزلة.».
و أما قوله: «مجاري الأمور»، فالمجاري إما جمع للمصدر الميمي، أو لاسم المكان.
فإن المجاري المتشعبة لجريان الأمور يجب أن تنتهي في النهاية إلى العلماء.
و إضافة «العلم» الى اللّه من جهة أن العلم به- تعالى- إذا تحقق واقعا تعقبه العلم و العمل بتكاليفه.
و يشهد بذلك قوله- تعالى-: «إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ.» «1» إذ الظاهر منه العلم باللّه، المنتج عن العلم بآياته، كما يشهد بذلك سياق الآية، حيث عدّ فيها آيات اللّه- تعالى- في نظام التكوين. و العلم بالآيات بما هي آيات له يوجب العلم بقدرته و سطوته، فيوجب الخشية قهرا.
و قوله: «الأمناء على حلاله و
حرامه»، يدلّ على العلم بالأحكام، و حفظها عن التغيير و التأويل، فانه مقتضى الأمانة.
و قوله: «شاغرة» من شغرت الأرض، أي لم يبق لها من يحميها و يضبطها.
______________________________
(1)- سورة الفاطر (35)، الآية 28.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 315
و الخطيب المسقع بكسر الميم، أي البليغ العالي الصوت. و يصح فيه الصاد و السين.
و كيف كان فالخطاب في الحديث للعلماء المعاصرين له «ع» من الصحابة و التابعين. و يستفاد منه وجوب كون المرجع لأمور المسلمين، العلماء و ان هذه المنزلة كانت لهم شرعا فسلبت عنهم باختلافهم و تشتتهم، و عدم رعايتهم لتكاليفهم، و رهبتهم من الظلمة و رغبتهم في الدنيا، فمكنوا الظلمة من المنزلة التي كانت لهم و استسلموا أمور اللّه في أيديهم ... و لا ينافي هذا كون الإمامة الكبرى حقّا لشخصه «ع»، إذ الإمام يحتاج إلى مشاورين و قضاة و عمّال، و الواجب انتخابهم من أهل العلم الملتزمين بالشريعة الحقة. هذا.
و في منية الطالب:
«من المحتمل قريبا كون العلماء فيها هم الأئمة «ع» ... فإنّ فيه قرائن تدلّ على أن المراد من العلماء فيه هم الأئمة «ع» فإنهم هم الأمناء على حلال اللّه و حرامه.» «1»
و في حاشية العلامة الأصفهاني على المكاسب:
«و أورد عليه بأنّ الرواية منقولة في تحف العقول، و سياقها يدلّ على أنّها في خصوص الأئمة «ع». و الظاهر أنّه كذلك، فإنّ المذكور فيها هم العلماء باللّه، لا العلماء بأحكام اللّه. و لعلّ المراد أنّهم «ع» بسبب وساطتهم للفيوضات التكوينية و التشريعية تكون مجاري الأمور كلّها حقيقة بيدهم «ع»، لا جعلا. فهي دليل على الولاية الباطنيّة لهم كولايته- تعالى-، لا الأولوية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة.» «2»
أقول: الظاهر
عدم مراجعة هذين العلمين الشريفين- طاب ثراهما- لمجموع الرواية، و إلّا ظهر لهما عدم إمكان حمل العلماء فيها على الأئمة «ع». و من هنا يظهر
________________________________________
نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 315
______________________________
(1)- منية الطالب 1/ 326.
(2)- حاشية المكاسب 1/ 214.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 316
أنّه يجب على العلماء و الفضلاء في مقام الاستدلال بنصّ الكتاب أو الحديث، المراجعة التامّة لنفس الكتاب و كتب الحديث، و عدم الاكتفاء بالمقطعات المنقولة في بعض الكتب و المؤلفات. هذا.
فإن قلت: المتأمّل في الحديث يشاهد أنّ الإمام «ع» بصدد توبيخ العصابة المعاصرة له، و أنّها لم تقم بما عليها من التكاليف و داهنوا الظلمة و تفرقوا عن الحق، فكيف يمكن أن يعبر عنهم بالعلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه؟ فالمراد بالعلماء باللّه في الحديث هم الأئمة الاثنى عشر، كما ذكره هذان العلمان. و يؤيّد ذلك قول الإمام الصادق «ع»: «نحن العلماء و شيعتنا المتعلمون.» «1»
و أما قوله «ع»: «و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون»، فلا يراد أن منازل العلماء كانت لهذه العصابة فسلبت عنهم، بل المراد أنّ قيادة الأئمة الذين هم العلماء بالحقيقة لو استقرّت كانت لهم و بنفعهم و كانت بركاتها تعود اليهم، فلمّا اختلفت العصابة في الحق و تفرّقوا عن الأئمة «ع» سلبت عنهم قيادة الأئمة و بركاته، و لذا قال الإمام «ع»: «منازل العلماء»، و لم يقل: «منازلكم».
و اما قوله «ع» بعد ذلك: «و لو
صبرتم على الأذى و تحملتم المؤونة في ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع»، فالمراد به أنّكم لو لم تتخاذلوا عن نصرة الإمام و لم تستخفّوا بحقّ الأئمة استقرّت سلطة الإمام فصرتم أنتم بالطبع من المشاورين له و من بطانته و أمرائه و المراجع لأمور المسلمين. و القضية قضية شخصية خارجيّة، فليس في الحديث دلالة لا على نصب العلماء و لا على اشتراط العلم و الفقاهة.
و يشهد لما ذكرناه من إرادة الأئمة «ع» قول الإمام «ع»: «فاستخففتم بحقّ الأئمة»، و قوله في آخر الحديث: «فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا» إلى قوله: «فإنّكم إنّ لا تنصرونا و تنصفونا قوى الظلمة عليكم».
______________________________
(1) الكافي 1/ 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، الحديث 4.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 317
قلت: هذه غاية ما يوجّه به الحديث لتطبيقه على خصوص الأئمة الاثنى عشر، و لكن كونه مخالفا لظاهر الحديث واضح، فالظاهر أنّ المراد به مطلق العلماء باللّه، و مراده «ع» أنّكم لو عملتم بواجباتكم كنتم من العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه، و جرت الأمور بأيديكم، و كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع، و لكنّكم تركتم تكاليفكم، فسلبت عنكم منزلتكم، و تمكنت الظلمة من منزلتكم.
ثم على فرض التسليم لما ذكره هذا القائل فنقول: لا نسلم كون القضية شخصية، إذ يستفاد من الحديث إجمالا أن جريان الأمور السياسية يجب أن يكون على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه. و الأئمة الاثنا عشر هم المصاديق البارزة لهذا العنوان، لا أنّه منحصر فيهم، فتدبّر. هذا.
و على ما ذكرنا فهل يريد «ع» بكلامه النصب
و جعل الولاية للعلماء من قبل اللّه- تعالى- أو من قبل الإمام «ع» نظير ما نعتقده من نصب رسول اللّه «ص» لأمير المؤمنين «ع» في غدير خمّ، أو يريد بيان أنه يشترط في الحكّام على المسلمين أن يكونوا من العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه، فيجب على العلماء و على الأمّة أن يحققوا ذلك حتى تصير أمور اللّه عليهم ترد و عنهم تصدر، و ذلك بأن يتّحد العلماء و يأخذوا بالكتاب و السنّة و يدعوا الناس إلى المعروف و تقبل الأمّة إليهم و يساعدوهم على ذلك فلا يخلو ميدان السياسة لأهل الهوى و الظلمة، فالحديث في مقام بيان الحكم الشرعي و أنّ الشرط في الحكّام كونهم من أهل العلم و الأمانة؟
ظاهر بعض الأساتذة الاحتمال الأول. و مقتضاه كون جميع الفقهاء الواجدين للشرائط في عصر صدور الحديث و فيما بعده حكّاما منصوبين بالفعل.
و لكن الالتزام بهذا مشكل و لا سيما في عصر صدوره، حيث كانت الإمامة الكبرى لنفس الإمام «ع» عندنا. و سيأتي تفصيل المسألة، و أنّ فعليّة الولاية للفقهاء بالنصب أو بانتخاب الأمّة في الباب الخامس، فانتظر.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 318
حيث قال «ع»: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين ... أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنّة ...» «1»
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة. و لو تتبعت كتب التاريخ و الحديث و الاحتجاجات الواردة عن أمير المؤمنين «ع» و أولاده المعصومين «ع» لعثرت على شواهد كثيرة تشهد على المدّعى، فراجع.
______________________________
(1) كتاب سليم بن قيس/ 182.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 319
الشرط الخامس للوالي: القوة و حسن الولاية.
قد عرفت في الفصل الثاني من هذه الفصول أنّ العقلاء لو أرادوا تفويض أمر من الأمور إلى الغير راعوا فيه بحسب الفطرة وجود أمور، و منها قدرته و قوته على الأمر المفوّض إليه. فإذا كان هذا حال الأعمال الجزئيّة فعدم جواز تفويض إدارة شئون الأمّة التي هي من أدقّ الأعمال و أحمزها إلى من لا يقدر و لا يقوى عليها يثبت بطريق أولى. و قدرة الشخص على ذلك تتوقف:
اولا: على استعداده لذلك بالذات و يسمّى ذلك بالشمّ السياسي، فإنّ الناس مختلفون في الاستعداد و الانسجام مع الأعمال و الأشغال المختلفة.
و ثانيا: على الاحاطة بكيفية العمل و فنونه، و الاطّلاع على نفسيات أمّته و حاجاتهم، و شرائط الزمان و البيئة.
و ثالثا: على الشجاعة النفسية و القاطعية في التصميم و قوة الإرادة حتّى يتمكن
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 320
من اتخاذ القرار في المسائل المهمّة و لا يضعف، إذ كم من سائس مطلع يضعف عن الإرادة و التصميم لضعفه روحا.
و رابعا: على سلامة الحواس و الأعضاء من السمع و البصر و اللسان و نحوها بمقدار ما يرتبط بعمله المفوّض إليه أو يوجب عدمه شينا يسبّب نفرة الناس منه و عدم تأثير حكمه فيهم، إذ ربما لا يتسلط على الملك و ما يجري في مجال عمله إلّا بمباشرة الإدراك و المقاولة و النطق، و قد يحتاج إلى النهوض و الحركة أيضا. و التشويه في الخلقة يوجب نفرة الناس منه فلا يناسب الولاية المتوقع فيها جذبهم.
أضف إلى جميع ذلك صفة الحلم، فإنّه لو كان الشخص جافيا غضوبا قطع الأمّة بجفائه.
و الظاهر أنّ التعبير بحسن الولاية، و
كذا القوّة المذكورين في بعض الأخبار الآتية أحسن تعبير يستفاد منه جميع ما ذكر. فنذكرها بعنوان شرط واحد مضافا إلى اشتراك رواياتها غالبا كما يظهر لك.
و لا يخفى أنّ المراد بالعلم و الاطّلاع هنا غير العلم المذكور شرطا في الفصل السابق، اذ المراد بالعلم هنا الاطّلاع على المسائل الجزئية و فنون السياسة و حوادث الزمان، و في الفصل السابق العلم بالمسائل الكلية المستنبطة من الكتاب و السنّة، المعبر عنه بالفقاهة.
و كيف كان فمن أدلّة اعتبار القوّة في الوالي حكم العقل و العقلاء، كما عرفت كيف؟ و الوالي على الأمّة يراد منه جبر نقص المولّى عليه، فيجب أن يكون قويا يقدر على ذلك بل و أقوى من جميع من يكون تحت ولايته و نظارته. و التاريخ يشهد بأنه ربّما ابتليت الأمّة بأضرار و آفات كثيرة، بل ربما سقطت بالكلية، بضعف الولاة و عدم كفايتهم.
و يدلّ على اعتبار القوة بسعتها أيضا الكتاب و السنة:
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 321
قوله- تعالى- في قصّة طالوت: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» «1»
و الظاهر من بسط الجسم و ان كان كبره فقط و يناسب هذا لقائد الجيش أيضا، و لكن يمكن أن يكون كناية عن الشجاعة و القدرة الروحية أيضا، لتناسب الجسم و الروح غالبا.
و لعلّ المراد بالعلم هنا أيضا العلم بفنون الحرب المفوضة اليه، لا العلم بالمسائل الكلّية و إن كان يحتمل الأعم أيضا.
2- و من الآيات أيضا قوله حكاية عن يوسف النبي «ع»: «قٰالَ اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.» «2»
إذ الظاهر إرادة كونه أمينا في حفظ الخزائن و الأموال، عليما بفنون حفظها و صرفها
في مصارفها اللازمة.
3- و منها أيضا قوله- تعالى- حكاية عن بنت شعيب في حقّ موسى «ع»: «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «3»
فاذا اشترطت القوة في راعي الغنم بحكم الفطرة فاشتراطها في والي الأمّة بطريق أولى، كما لا يخفى.
4- و منها قوله حكاية عن العفريت: «قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ، وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.» «4»
فالآية تشعر بأن العمل يجب أن يفوّض إلى القويّ الأمين.
5- و منها أيضا قوله- تعالى-: «وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ
______________________________
(1)- سورة البقرة (2)، الآية 247.
(2)- سورة يوسف (12)، الآية 55.
(3)- سورة القصص (28)، الآية 26.
(4)- سورة النمل (27)، الآية 39.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 322
وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ لٰا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» «1»
و نحو ذلك من الآيات التي يمكن أن يستفاد منها- و لو بعناية- اعتبار القوة الكاملة فيمن يفوض إليه عمل عظيم.
فهي في غاية الكثرة:
1- ما في الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع» قال: «قال رسول اللّه: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.» و في رواية أخرى:
«حتى يكون للرعية كالأب الرحيم.» «2»
و قد مرّ أنّ حسن الولاية بسعة معنى الكلمة يعمّ الشجاعة و السياسة و الحلم و نحوها، مما له دخل في حسن قيادة الأمّة.
2- ما مرّ من نهج البلاغة: «أيّها الناس، إنّ
أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، و أعلمهم بأمر اللّه فيه. فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل.» «3»
3- ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين «ع»: «أنا أولى برسول اللّه ...، و أفقهكم في الدين، و أعلمكم بعواقب الأمور، و أذربكم لسانا، و أثبتكم جنانا.» «4»
4- ما رواه ابن أبي الحديد، عن نصر بن مزاحم، عن أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى معاوية و أصحابه: «فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديما و حديثا أقربها من الرسول، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، أوّلها إسلاما، و أفضلها جهادا، و أشدّها بما تحمله الأئمّة من
______________________________
(1)- سورة النحل (16)، الآية 76.
(2)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و ...، الحديث 8.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.
(4)- الاحتجاج 1/ 46 (طبعة أخرى 1/ 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول اللّه «ص» ...
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 323
أمر الأمّة اضطلاعا.» «1»
5- ما في أصول الكافي عن الرضا «ع»: «و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل ... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه، ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه.» «2»
قال في المنجد:
«نكل نكولا عن كذا او من كذا: نكص و جبن.» و فيه أيضا:
«ضلع ضلاعة: كان قويا شديد الأضلاع .... اضطلع بحمله: نهض و قوى عليه.» «3»
6- ما رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة عن عليّ «ع»: «فو اللّه يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به، لأنّا أهل البيت، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا
القاري لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية.» «4»
7- ما في المحكم و المتشابه في صفات الإمام: «و أما اللواتي في صفات ذاته، فانه يجب أن يكون أزهد الناس، و أعلم الناس، و أشجع الناس، و أكرم الناس و ما يتبع ذلك لعلل تقتضيه.» «5»
8- ما في البحار عن أمالي الطوسي بسنده عن أبي ذر أن النبي «ص» قال:
«يا با ذر، إني أحبّ لك ما أحب لنفسي، إنّي أراك ضعيفا، فلا تأمرنّ على اثنين، و لا تولّين مال
______________________________
(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 210.
(2)- الكافي 1/ 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.
(3)- المنجد/ 838 و 454.
(4)- الإمامة و السياسة 1/ 19، باب إباءة علي «ع» بيعة أبي بكر.
(5)- المحكم و المتشابه/ 55، و بحار الأنوار 90/ 44 (طبعة إيران 93/ 44)، كتاب القرآن، الباب 128 (باب ما ورد في أصناف آيات القرآن).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 324
يتيم.» «1»
9- ما في صحيح مسلم عن أبي ذرّ، قال: قلت: يا رسول اللّه، ألا تستعملني؟
قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر، إنّك ضعيف و إنّها أمانة، و إنّها يوم القيامة خزي و ندامة، إلّا من أخذها بحقها و أدّى الذي عليه فيها.» «2»
هذا، و الخبران على فرض صحتهما فقداسة أبي ذرّ و فضائله الجمّة لا تنافي ضعفه عن التدبير و الإدارة.
10- ما في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»
11- و فيه أيضا: «من أحسن الكفاية استحق الولاية.» «4»
12- و
فيه أيضا: «يحتاج الامام إلى قلب عقول، و لسان قؤول، و جنان على إقامة الحق صئول.» «5»
13- ما في الكافي عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يا مفضل، ...
و العالم بزمانه لا يهجم عليه اللوابس.» «6»
14- ما فيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول:
«العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق؛ لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا.» «7»
______________________________
(1)- بحار الأنوار 22/ 406، كتاب تاريخ نبيّنا «ص»، باب كيفية إسلام أبي ذر و ...، و البحار 72/ 342 (طبعة إيران 75/ 342)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك و الأمراء.
(2)- صحيح مسلم 3/ 1457، كتاب الإمارة، الباب 4، (باب كراهة الإمارة بغير ضرورة)، الحديث 1825.
(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.
(4)- الغرر و الدرر 5/ 349، الحديث 8692.
(5)- الغرر و الدرر 6/ 472، الحديث 11010.
(6)- الكافي 1/ 26، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.
(7)- الكافي 1/ 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 325
15- ما فيه أيضا عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه: «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.» «1» بناء على كون المراد بالعلم العلم بكيفية عمله و بفنونه، لا العلم بالكتاب و السنّة.
16- ما مرّ من نهج البلاغة في شرائط الوالي: «و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه ...» «2»
و قد مرّ معنى الحديث
مفصلا، و أن المراد بالنهمة بالفتح إفراط الشهوة في الطعام، و بالجفاء سوء الخلق.
17- ما في نهج البلاغة فيما كتبه لمالك: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء، و ممن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي (المروءات) الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثم أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة.» «3»
أقول: جيب القميص: طوقه. و يقال: «نقي الجيب»، أي طاهر الصدر و القلب. و العنف: الشدة. و ينبو؛ أي يشتدّ.
و رواه في تحف العقول هكذا: «و أفضلهم حلما، و أجمعهم علما و سياسة ...» «4»
و في الدعائم: «ولّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلما، و أجمعهم للعلم و حسن السياسة
______________________________
(1)- الكافي 1/ 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1005؛ عبده 3/ 101؛ لح/ 432، الكتاب 53.
(4)- تحف العقول/ 132.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 326
و صالح الأخلاق ...» «1»
18- ما في نهج البلاغة أيضا: «و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزين لك الشره بالجور. فان البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن باللّه.» «2»
19- ما في نهج البلاغة أيضا: «ثم انظر في أمور عمّا لك، فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهم جماع من شعب
الجور و الخيانة. و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقل في المطامع إشرافا و أبلغ في عواقب الأمور نظرا.» «3»
20- ما في نهج البلاغة في كتابه إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم الأشتر: «أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع. أشدّ على الكفّار من حريق النار. و هو مالك بن الحارث، أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ، فإنّه سيف من سيوف اللّه، لا كليل الظبّة، و لا نابي الضريبة. فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم و لا يحجم و لا يؤخر و لا يقدم إلّا عن أمري، و قد آثرتكم به على نفسي، لنصيحته لكم و شدّة شكيمته على عدوّكم.» «4»
أقول: نكل عنه: نكص و جبن. و الروع: الخوف. و الظبة بالضم فالفتح مخففا:
حد السيف و السنان. و الكليل: الذي لا يقطع و الضريبة: المضروب بالسيف و نحوه. و نبا السيف: لم يؤثر. و الشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس، و شدتها كناية عن قوة النفس.
______________________________
(1)- دعائم الإسلام 1/ 358.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1011؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435، الكتاب 53.
(4)- نهج البلاغة، فيض/ 951؛ عبده 3/ 70؛ لح/ 411، الكتاب 38.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 327
إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها اعتبار القوّة بسعة معناها في الوالي و الأمير. هذا.
و في
منهاج البراعة:
«قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم الى الشتات و نظامهم الى البتات.» «1»
و إذا اعتبرت القوّة في العمّال فكيف بنفس الأئمة المفوض إليهم إدارة الأمّة.
______________________________
(1)- منهاج البراعة 11/ 144.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 329
الشرط السادس في الوالي: أن لا يكون من أهل البخل و الطمع و الحرص و المصانعة و حبّ الجاه. فإنّ الوالي يصير مسلّطا على نفوس المسلمين و أموالهم، و يتوقّع منه رعاية مصالح الأمّة في القبض و البسط و الأعمال و الأخلاق. و الصفات المذكورة لا تناسب ذلك و إن فرض عدم بلوغها حدّا يضرّ بالعدالة.
فالبخيل بحسب الطبع مثلا ربما يمسك عن صرف المال في مصلحة اجتماعية مهمّة، فيضرّ بالأمة قهرا، و ان فرض عدم تعمّده لذلك.
و بالجملة الحبّ الشديد للمال و الجاه و شئون الدنيا يعمي و يصم قهرا، فلا يناسب القيادة العادلة الحكيمة، سواء رجع ذلك الى سلب العدالة أم لا.
و يستفاد جميع ذلك من خلال الروايات المختلفة المروية من طرق الفريقين:
1- فمنها ما مرّ من نهج البلاغة من قوله- عليه السلام-: «و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته ...، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق.» «1»
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 330
2- و ما مرّ منه أيضا في كتابه
لمالك: «و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزين لك الشره بالجور. فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن باللّه.» «1»
إذ لو اعتبر عدم البخل و الحرص في من يشاوره الوالي فاعتبارهما في نفس الوالي يكون بطريق أولى، بل المشاور للوالي يكون من الولاة غالبا و ينتخب واليا بعنوان المشاور، كما هو المتعارف في عصرنا.
3- ما فيه أيضا: «لا يقيم أمر اللّه- سبحانه- إلّا من لا يصانع، و لا يضارع، و لا يتبع المطامع.» «2»
أقول: الظاهر أنّ المراد بالأمر الولاية، و قد شاع استعماله فيها. منها قوله «ع»:
«فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ...» «3»
و في شرح ابن أبي الحديد: «المصانعة: بذل الرشوة.» «4»
و لكن الظاهر كونها بمعنى المداراة و المداهنة مطلقا. نعم، من مصاديقها المداهنة بأخذ الرشوة. فالمراد أنّ الوالي لا يكون مقيما لأمر اللّه إلّا أن يكون منفذا للقوانين و المقررات و لا يداهن أحدا بأخذ الرشوة، أو بسبب الصداقة، أو لكونه من الأقوياء أو نحو ذلك فيعطل أحكام اللّه لذلك.
و المضارعة: المشابهة. فلعلّ المراد أن الحاكم الحق يجب عليه أن يكون مستقلا في الفكر و العمل، و لا يقع أسيرا تحت تأثير العوامل الخارجية أو الداخلية، فيترك محاسن الأخلاق و الأعمال و ما يقتضيه العقل السليم بسبب الأجواء و التقاليد الباطلة.
و لعلّ في كلامه «ع» نحو طعن على معاوية و أمثاله. فقد روي ان عمر بن الخطاب اعترض عليه في سفره الى الشام لما شاهد من زيّه، فاعتذر بأنا في بلد
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.
(2)- نهج
البلاغة، فيض/ 1137؛ عبده 3/ 176؛ لح/ 488، الحكمة 110.
(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.
(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18/ 274.
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 331
أمراؤه كذلك.
و قد أفرط بعده الأمويّون و العباسيّون في الترف و الفساد، حتى صارت الخلافة الإسلامية على طريقة الملوك الجبابرة. و قد قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره.» «1»
و كان- عليه السلام- يكتفي من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه. و شاهد هو في مسيره الى الشام دهاقين الأنبار قد ترجّلوا له و اشتدّوا بين يديه، فقال: «ما هذا الذي صنعتموه؟» فقالوا: خلق منا نعظّم به أمراءنا، فقال: «و اللّه ما ينتفع بهذا أمراؤكم و إنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم و تشقون به في آخرتكم. و ما أخسر المشقة وراءها العقاب، و أربح الدعة معها الأمان من النار.» «2»
و العجب منّا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، و رفع النداء بشعار:
«لا شرقية و لا غربية»، لما ذا ما زلنا نحتفظ بعد بكثير من أزياء الغرب و الشرق و عاداتهم الباطلة؟! اللّهم فوفقنا للأخذ بسنّة النبي و آله «ع» و السير بسيرتهم المرضية.
4- ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري- عليه السلام-: «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه. و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم.» «3»
فإذا كان صاحب الهوى و الحرص على الدنيا و شئونها لا يجوز تقليده في الأحكام فعدم جواز تسليطه على نفوس الناس و أموالهم
يثبت بالأولوية القطعية، كما لا يخفى.
5- ما في صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي «ص» أنا و رجلان من بني عمّي، فقال أحد الرجلين: يا رسول اللّه، أمّرنا على بعض ما ولّاك
______________________________
(1)- نهج البلاغة، فيض/ 663؛ عبده 2/ 213؛ لح/ 325، الخطبة 209.
(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1104؛ عبده 3/ 160؛ لح/ 475، الحكمة 37.
(3)- التفسير المنسوب الى الإمام العسكري «ع»/ 102 (المطبوع بهامش تفسير علي بن ابراهيم)، ذيل الآية 78 من سورة البقرة. (الاحتجاج/ 255).
دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 332
اللّه- عزّ و جلّ-، و قال الآخر مثل ذلك. فقال «ص»: «إنّا و اللّه لا نولّي على هذا العمل أحدا سأله، و لا أحدا حرص عليه.» «1»
و روى نحوه البخاري أيضا في كتاب الأحكام من صحيحه. «2»
6- و في سنن أبي داود، قال أبو موسى قال النبي «ص»: «لن نستعمل- او لا نستعمل- على عملنا من أراده.» «3»
7- و في العقد الفريد: «طلب رجل إلى النبي «ص» أن يستعمله، فقال «ص»: «إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.» «4»
8- و روى ابن قتيبة في الإمامة و السياسة قال: قال ابن عباس لعليّ «ع»:
أرى أنهما (طلحة و الزبير) أحبّا الولاية، فولّ البصرة الزبير و ولّ طلحة الكوفة ...،
فضحك عليّ «ع» ثمّ قال: «ويحك، إنّ العراقين بهما الرجال و الأموال، و متى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، و يضربا الضعيف بالبلاء، و يقويا على القوي بالسلطان. و لو كنت مستعملا أحدا لضرّه و نفعه لاستعملت معاوية على الشام.