انوار الفقاهه في شرح تحريرالوسيله: كتاب النكاح

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي، ناصر، 1305 - ، شارح.

عنوان قراردادي : تحرير الوسيله. شرح.

عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه في شرح تحريرالوسيله: كتاب النكاح/تاليف ناصر مكارم الشيرازي ؛موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر تراث الامام الخميني (س) ، 1428، = 1386 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : 69000 ريال 978-964-335-934-8: ؛ 84000 ريال : ج. 2 : 978-964-335-945-4 ؛ 99000 ريال : 978-964-212-018-5

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج.3: (چاپ اول: 1387) (فيپا).

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1و 2 و 3 كتاب النكاح.-

موضوع : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحريرالوسيله -- نقد و تفسير.

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه.

موضوع : زناشويي (فقه).

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368. تحرير الوسيله. شرح.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س). موسسه چاپ و نشر عروج.

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س).

رده بندي كنگره : BP183/9 /خ8ت302177 1386

رده بندي ديويي : 297/3422

شماره كتابشناسي ملي : 1106618

[المدخل]

هوية الكتاب: اسم الكتاب: انوار الفقاهة/ كتاب النكاح (الجزء الاوّل)

المؤلّف: آية اللّه العظمي مكارم الشّيرازي

النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام- قم

الطّبعة: الاولي/ 1425 ه

المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام- قم

عدد النسخ: 1000 نسخة

رقم الصّفحات و القطع: 656/ وزيري

ردمك: 2- 03- 8139- 964

مركز التّوزيع: نسل جوان- للطّباعة و النّشر- قم- شارع شهداء- فرع 22 تلفكس: 7732478

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 3

[مقدمة المؤلف]

الفقه الإسلامي في العصر الحاضر

يعتبر «الفقه» من أغني العلوم الإسلامية، حيث تشكل الكتب الفقهية قسما مهمّا من المكتبة الإسلامية و قد كتبت آلاف من الكتب تتناول المسائل المهمّة في دائرة العلوم الفقهية منذ قديم الأيّام و إلي العصر الحاضر.

و في هذه الأجواء لا زال الفقه الشيعي، بسبب فتح باب الاجتهاد و استرفاد المعارف الفقهية من التراث الغني لأهل بيت النبي الأكرم صلّي اللّه عليه و آله و ورثة علمه، ينمو و يتسع يوما بعد آخر.

إن النبي الاكرم صلّي اللّه عليه و آله ارتحل عن الدنيا و خلّف فينا امرين: القرآن و العترة كما ورد في حديث الثقلين المقبول لدي جميع علماء الإسلام حيث قرن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عترته و أهل بيته عليهم السّلام مع القرآن الكريم و قال: «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا و أنّهما لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض».

مضافا إلي أنّ فقهاء الشيعة، لغرض الاجتناب عن القياس و الاستحسان و الأدلة الظنية الاخري كانوا يصرّون علي حفظ اصالة الفقه و طرقه الشرعية، لأنّهم يرون أنّ الفقه و تحصيل الأحكام الشرعية يتمّ من خلال الاستفادة من القرآن الكريم و من روايات النبي الأكرم صلّي اللّه عليه و آله الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السّلام من دون التورط

في منزلقات الأدلّة الظنية المذكورة.

و نري لحسن الحظ أنّ بعض علماء الفرق الإسلامية الاخري تحركوا في الآونة الأخيرة علي مستوي فتح باب الاجتهاد في الفقه و استخدام أدواته في عملية الاستنباط الفقهي من الكتاب و السنّة و الابتعاد عن التقليد، و هذه الظاهرة تبشر بخير!

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 4

هذا من جهة، و من جهة اخري نري تحولات عظيمة في المجتمعات البشرية المعاصرة حيث أفرزت معطيات و مسائل فقهية كثيرة، دخلت الدائرة الفقهية بعنوان «المسائل المستحدثة»، و لا بدّ للفقه المعاصر أن يتحرك من موقع تحكيم العلاقة بين «الشريعة» و «الحياة المعاصرة»، و العثور علي الأجوبة لجميع هذه المسائل و الاستفهامات، التي يفرض الواقع المتحرك، و هذا هو أحد العوامل الاخري لاتساع آفاق الفقه الإسلامي.

و بلا شك أنّ الفقيه الماهر المطّلع علي الكتاب السنّة و دليل العقل لا يجد في نفسه وحشة في مواجهة هذه المسائل المستحدثة مهما كانت عميقة و متنوعة، لأننا نقف علي قواعد متماسكة في الاصول، و القواعد الفقهية التي تساهم في عملية استنباط الأحكام الشرعية لجميع هذه المسائل.

و قد أشرنا في مقدمة كتابنا «المسائل المستحدثة» إلي هذه الاصول و القواعد و طريق استخراج و استنباط الأحكام الشرعية لهذه المسائل الجديدة في دائرة الفقه و ذكرنا الطرق العملية في هذه الحركة الاجتهادية (و علي الراغبين مراجعة هذا الكتاب).

و الذين يتصورون أن سعة دائرة المسائل المستحدثة سوف تقود الفقه إلي أجواء عرفية (أي الابتعاد عن الكتاب و السنّة و اللجوء إلي آراء و قوانين وضعية و بشرية) بعيدون عن جادة الصواب قطعا.

هؤلاء في الحقيقة غير مطّلعين علي الاصول و القواعد الغنيّة في الفقه الإسلامي التي تتكفّل الإجابة علي جميع المسائل المستحدثة،

و باب التجربة مفتوح و نحن مستعدون لعرض هذه المنابع الإسلامية أمام أية مسألة تطرح علي بساط البحث.

و في هذه الأجواء نري أنّ من أهم البحوث المطروحة في دائرة الفقه الإسلامي هي التي تتعلق بالمسائل المستحدثة الكثيرة في ابواب النكاح حيث تنطلق هذه الأسئلة علي أثر التحولات الاجتماعية و المستجدات الكثيرة في منظومة القيم و العلاقات البشرية، و خاصة في مجال نظام الاسرة ممّا يزيد في تعقيدات هذه المسائل و أهميتها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 5

إنّ الحديث النبوي الشريف:

«ما بني في الإسلام بناء أهمّ من النكاح». يبيّن بجلاء الأهميّة التي أولاها الإسلام لمسألة النكاح.

و كما ورد في حديث آخر:

«من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر»

حيث يشير إلي دور الزواج في حفظ القيم الأخلاقية و العلاقات الاجتماعية و الأجواء المعنوية في حركة الحياة و الواقع المتغيّر للإنسان.

و لا شك أنّ من الضروري التحرك علي مستوي صيانة هذه السنّة الإسلامية المهمّة، و تقوية دعائم الاسرة يوما بعد آخر، و حمايتها من الذبول و الانحلال.

و هذا الكتاب الذي بين يديك يستعرض المسائل الفقهية المستوحاة من الكتاب و السنّة في باب النكاح، و سنحاول معالجة المسائل المستحدثة المتعلقة بالنكاح أيضا و أداء حقّها في هذا الكتاب إن شاء اللّه.

نأمل أن يكون كتابا نافعا للجميع، و ذخيرة ليوم المعاد.

محرم الحرام 1425 قم: ناصر مكارم الشيرازي

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 7

[و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة]

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة البحث

اشارة

قال الإمام (قدّس سرّه الشريف) في تحرير الوسيلة:

و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة؛ و ما ورد في الحثّ عليه و الذمّ علي تركه، ممّا لا يحصي كثرة، فعن مولانا الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلي اللّه عزّ و جلّ من التزويج. «1» و عن مولانا الصادق عليه السّلام: ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعة يصلّيها غير متزوّج (عزب). «2»

و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رذّال موتاكم العزّاب. «3»

و في خبر آخر عنه صلّي اللّه عليه و آله: أكثر أهل النار العزّاب. «4»

و لا ينبغي أن يمنعه الفقر و العيلة، بعد ما وعد اللّه عزّ و جلّ بالاغناء و السعة، بقوله عزّ من قائل، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ. «5» فعن النبي صلّي اللّه عليه و آله: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظّنّ باللّه عزّ و جلّ. «6»

______________________________

(1). الشيخ الحرّ العاملي، في وسائل الشيعة 14/ 3، الحديث 4، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح.

و التعبير بالبناء، كأنه اشارة إلي بناء نظام الاسرة التي هي مقدمة لبناء المجتمع البشري.

(2). هو، في الوسائل 14/ 8، الحديث 8، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

و لكن ورد فيه؛ … يصليها غير متزوج. و لم نعثر علي مدرك ما في متن التحرير.

(3). الوسائل 14/ 7، الحديث 3، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 8، الحديث 7، الباب 2 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). النور/ 32.

(6). الوسائل 14/ 25، الحديث 4، الباب 10 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)،

ص: 8

لما ذا اخترنا تحرير الوسيلة اخترنا من بين المتون الفقهيّة، كتاب تحرير الوسيلة الذي كان أساسه من الفقيه الماهر آية اللّه السيّد أبو الحسن الأصفهاني (ره) و سمّاه وسيلة النّجاة. و قد كان فقيها جامعا، له احاطة واسعة بالمسائل الفقهيّة، و ذهن سليم و ذوق بليغ و فكر مستقيم و له رئاسة عامّة علي جميع شيعة أهل البيت عليهم السّلام في عصره، تغمّده اللّه بغفرانه. ثمّ نقّحه الإمام الراحل (قدّس سرّه) و اضاف إليه مسائل كثيرة و حرّره تحريرا نافعا و سمّاه تحرير الوسيلة (جزاهما اللّه عن الإسلام و اهله خير الجزاء).

اخترنا هذا المتن لاشتماله علي مسائل كثيرة مبتلي بها في عصرنا ليست في كتب المتأخّرين- و كم ترك الأول للآخر- و مسائله و فروعه أمسّ بحاجة المسلمين في هذا العصر؛ و هو مع ذلك خال عن الاطناب المملّ و الاختصار المخلّ.

و مع ذلك، لا نغفل عمّا ذكره الفقيه المحقّق اليزدي (قدّس سرّه) في العروة الوثقي، و سائر الفقهاء (رضوان اللّه تعالي عليهم)؛ و نأتي بها في محالّة. و كذا المسائل المستحدثة*** التي ليست هنا و هناك (و من اللّه نستمدّ التوفيق و الهداية).

جملة من مستحبات النكاح

أقول: ما أفاده في مقدمة هذا الكتاب (كتاب النكاح) من التأكيد في استحباب النكاح؛ فهو من المشهورات في كلمات الفريقين، بل ادّعي عليه إجماع المسلمين. و كفاك في ذلك، ما ذكره في المسالك حيث قال: بإجماع المسلمين إلّا من شذّ منهم حيث ذهب إلي وجوبه. «1» و ما ذكره الفقيه الماهر (قدّس اللّه نفسه الزكيّة) في الجواهر، حيث إنّه بعد كلام المحقق (قدّس سرّه)، بأن النكاح مستحب لمن تاقت نفسه من الرجال و النساء؛ قال:

كتابا و سنة مستفيضة أو متواترة،

و إجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين، أو

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 9.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 9

ضرورة من المذهب بل الدين. «1»

و يظهر من كلام المسالك أنّ المخالف الشاذ قائل بالوجوب، لا عدم الرجحان؛ و من الجواهر احتمال كون المسألة من الضروريات، و هو غير بعيد؛ كما يظهر لكلّ من عاشر المسلمين، و لو زمانا قصيرا.

***

______________________________

(1) المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 8

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 10

و ينبغي التنبيه هنا علي أمور مهمّة:

أحدها: ما استدل به لاستحباب النكاح

استدل لاستحباب النكاح، بالأدلة الثلاثة.

أمّا كتاب اللّه العزيز، فقد حث بقوله وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ «1» بأبلغ البيان حيث لم يأمر بالنكاح، بل أمر بالإنكاح و هو أمر لجميع المسلمين علي تهيئة مقدمات نكاح العزاب و دفع موانعه و الاعانة علي إيجاد أسبابه و ما يحتاج إليه. و حيث إنّ المانع غالبا في الماضي و الحال كان هو خوف الفقر، فقد صرّح تعالي شأنه بأنّ هذا ليس مانعا: و وعدهم أنّه يغنيهم من فضله و قد ورد في الروايات، أنّ الرزق مع النساء و العيال. «2» فلو لم يكن أمرا هامّا، لما أمر المسلمين جميعا بالاشتراك في تسبيب أسبابه. و لم يرد بمثل هذا التعبير في غيره من الواجبات فلو لم يكن عديم النظير فلا أقل من أنّه قليل النظير.

و أمّا السنّة، فقد روي عن موسي بن جعفر عليهما السّلام: ثلاثة يستظلون بظلّ عرش اللّه يوم القيامة يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، رجل زوج أخاه المسلم أو أخدمه أو كتم له سرّا. «3»

و ستأتي الإشارة إلي شطر آخر، كما مرّت الإشارة إلي بعض منها. «4»

و أمّا الإجماع، فقد عرفت ما نقلناه في صدر

البحث.

بل و يدل عليه دليل العقل، لأنه سبب لحفظ بقاء النسل مع ما فيه من الآثار و البركات الكثيرة الاخري سنتعرض لها إن شاء اللّه تعالي.

______________________________

(1). النور/ 32.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 4، الباب 11 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 27، الحديث 3، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). و إن شئت العثور عليها، فراجع المجلد 14 من الوسائل، أبواب مقدمات النكاح، الباب 1 في استحبابه، و فيه 15 حديثا. الباب 2 في كراهة العزوبة، فيه تسعة احاديث. الباب 10 في كراهة ترك التزويج مخافة العيلة و الفقر، و فيه اربعة أحاديث. و الباب 11 في استحباب التزويج و لو عند الحاجة و الفقر، و فيه خمسة أحاديث. و الباب 12 في استحباب السعي في التزويج و الشفاعة فيه، و فيه ستة أحاديث. إلي غير ذلك.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 11

ثانيها: فلسفة استحباب النكاح و مصالحه الفردية و الاجتماعية

الف) حفظ نسل البشر

لا شك أنّ الطريق الصحيح لحفظ نسل البشر هو النكاح، فهو المطلوب للشارع المقدّس الذي اراد بقاء النوع؛ فقد ورد في الحديث المعروف النبوي صلّي اللّه عليه و آله: تناكحوا تكثروا فإني اباهي بكم الامم يوم القيامة و لو بالسقط. «1»

بل لو خيف انقراض النسل أو الفشل في نوع الإنسان، وجب النكاح علي المسلمين. و كذا إذا خيف غلبة الكفّار علي المسلمين بسبب كثرة نفوسهم و أولادهم.

إن قلت: قد وافق كثير من العقلاء و الخبراء من غير المسلمين- بل و من المسلمين أيضا- علي أنّ تحديد النسل و المواليد أمر لازم في عصرنا و إلّا حصل الفشل، و هذا لا يوافق ما ذكرت في مباهاة الرسول الأعظم صلّي اللّه عليه و آله و لو بالقسط.

قلت: هذا من قبيل استثناء في قاعدة

كليّة، له ظروف خاصة و شرائط معلومة؛ ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالي و إلي أدلتها، فالأخذ بالقاعدة الكليّة صحيح كما انّ الأخذ بالاستثناء مع حفظ حدودها و شرائطها أيضا صحيح.

ب) انه عون علي العفاف و التقوي

النكاح سبب المحافظة علي التقوي و العفاف و الاجتناب عن كثير من الكبائر العظيمة من الزنا و اللواط و المساحقة و الاستمناء بل و غيرها؛ و بدونه يشكل حفظ النفس منها قطعا؛ و لذا ورد في الحديث النبوي أنّه صلّي اللّه عليه و آله قال: من تزوج، أحرز نصف دينه. «2» و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الآخر. «3»

______________________________

(1) العلامة المجلسي، في بحار الأنوار، 103/ 220، الحديث 24.

و قد ورد في الوسائل 14/ 3، الحديث 2، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح؛ ما يقرب منه. و كذا في الوسائل 14/ 34، الحديث 2، الباب 17، من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 5، الحديث 11، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 5، الحديث 12، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 12

و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الباقي. «1»

و لعلّ كونه حافظا لنصف الدين، نشأ من كون الغريزة الجنسية تعادل جميع الأميال و الغرائز الاخري؛ و ليس ببعيد كما يظهر بالتأمل في آثار كل منها بعين الدقّة.

ج) انه سبب لسلامة الروح و الجسم

النكاح سبب لسلامة الجسم و الروح، لكثرة الأمراض الروحانية و الجسمانية الناشئة من ترك الزواج، فإنّ كل عمل علي خلاف طبيعة الإنسان، له ردّ فعل فيه. و أيّ غريزة أقوي من هذه الغريزة و قد شهدت التجارب القطعيّة بظهور المشاكل في ناحية الجسم و الروح بترك الزواج.

و لعل في قوله تعالي: وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا … «2»

و في قوله تعالي: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا …، «3» إشارة إلي هذا المعني.

و في الواقع كل

واحد من الرجل و المرأة مكمّل وجود الآخر، فكل منهما بدون الآخر وجود ناقص، يظهر فيه آثار النقصان معنويا و ماديا بترك الزواج.

د) انه سبب لسلامة المجتمع الانساني

النكاح سبب لسلامة المجتمع الإنساني؛ فان الإنسان العزب لا يحسّ بمسؤولية خاصة، فلا يبالي بما يفعل، و يرتكب الجنايات و إذا رأي آثارا سيّئة لأعماله ينتقل بسهولة إلي مكان آخر فيجني و يسرق و يقتل ثم يذهب إلي مكان آخر. و لكن المتزوج يحمل بمسؤولية الزوجة و الأولاد و له نحو اتّصال بهم لا يمكنه قطع هذه الصلة بسهولة،

______________________________

(1). الوسائل 14/ 5، الحديث 13، الباب 1 من أبواب المقدمات النكاح.

(2). الروم/ 21.

(3). الاعراف/ 189.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 13

فبملاحظتهم يجتنب عن كثير من المعاصي و ما يحول بينه و بينهم؛ و كأنّه إليه يشير ما روي عنه صلّي اللّه عليه و آله من: أنّ أكثر اهل النار العزاب. «1»

و في رواية اخري في المستدرك عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: ما من شابّ تزوج في حداثة سنّه إلّا عجّ شيطانه يا ويله! عصم منّي ثلثي دينه؛ فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي. «2»

و عنه صلّي اللّه عليه و آله في كتاب جامع الأخبار، أنّه قال: شراركم عزّابكم، و العزاب اخوان الشياطين. و قال: خيار امتي المتأهلون و شرار امتي العزاب. «3»

و لعل التعبير في بعض الروايات بالنصف، و في بعضها بالثلث، إشارة إلي اختلاف الناس في تأثير القوة الشهوية.

و قد شهدت التجارب بصدق هذه الأخبار في مقام العمل.

ه) انه سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية

النكاح سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية، كما ورد في بعض الأحاديث، الرزق مع النساء. و ورد في قوله تعالي، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ، فإنّ العزب لا يسعي و لا يجهد بجميع ما يقدر عليه لقلة حوائجه و عدم تقيده من ناحية نفسه، فلا يبالي بما يمرّ عليه و ما يأكل

و يعيش به، بخلاف ما إذا حمل علي عاتقه مسئوليات اخري من الأهل و البنين، فيجهد بكل ما يقدر عليه و يكون ذلك سببا لازدهار الشئون الاقتصادية.

و لذا نري كثيرا من الأفراد قليل المال جدا في زمن عزوبته، ثم إذا تزوج يكون ذا إمكانيات كثيرة و أموال ضخمة و دار و ما يحتاج إليه.

و يدل عليه قوله تعالي: إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ. فان فعله تعالي شأنه، تسبيب الأسباب نحو المطلوب و لا ينافي ذلك ما عرفت من الدليل العقلي.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 8، الحديث 7، الباب 2 من أبواب المقدمات النكاح.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 149، الحديث 16331.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 156، الحديث 16361.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 14

و قد ورد هذا المعني في أحاديث كثيرة، منها:

ما رواه في الوسائل عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: اتخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم. «1»

و ما عن الصادق عليه السّلام: الرزق مع النساء و العيال. «2»

و ما عنه صلّي اللّه عليه و آله أنه قال لزيد بن ثابت: تزوج فإنّ في التزويج بركة. «3» إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب و هو كثير.

ثالثها: تقسيم النكاح بانقسام الأحكام الخمسة

اشارة

قد صرّح غير واحد من أكابر الأصحاب بانّ النكاح و إن كان في نفسه مستحبا و لكن ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة، باعتبار عروض بعض العوارض.

قال في الحدائق: اعلم، إنّهم قالوا إنّ النكاح إنّما يوصف بالاستحباب بالنظر إليه في حدّ ذاته، يعني مع قطع النظر عن اللواحق المتعلّقة به؛ و إلّا فإنّه ينقسم إلي الأقسام الخمسة:

فقد يكون واجبا كما إذا خيف الوقوع في الزناء مع عدمه، و لو

أمكن التسري كان واجبا مخيّرا.

و قد يكون حراما كما إذا أفضي الإتيان به إلي ترك واجب كالحج و الزكاة، و إذا استلزم الزيادة علي الأربع.

و يكره عند عدم توقان النفس إليه مع عدم الطول، علي قول؛ و الزيادة علي واحدة عند الشيخ (قدّس سره).

و قد يستحب، كنكاح القريبة علي قول، للجمع بين صلة الرحم و فضيلة النكاح؛ و اختاره الشهيد في قواعده. و قيل: البعيدة، لقوله صلّي اللّه عليه و آله: لا تنكحوا القرابة القريبة، فإنّ الولد يخلق ضاويا أي نحيفا. و هو اختيار العلّامة في التذكرة و علل بنقصان الشهوة مع القرابة.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 3، الحديث 5، الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 4، الباب 11 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 162، الحديث 16385.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 15

أقول، الظاهر أنّ الخبر المذكور عامّي حيث لم ينقل في كتب أخبارنا و قد ذكره ابن الأثير في نهايته و الظاهر أنّ القول المذكور للعامّة. تبعهم فيه العلّامة في التذكرة و استدل عليه بما استدلوا به.

و أمّا المباح، فهو ما عدا ذلك. و ابن حمزة فرض الاباحة أيضا لمن يشتهي النكاح و لا يقدر عليه أو بالعكس و جعله مستحبا لمن جمع الوجهين و مكروها لمن فقدهما. انتهي. «1»

و إنّما نقلنا كلامه بطوله لما فيه من فوائد كثيرة، و يظهر منه انّ المراد بالاستحباب هنا استحبابه بحسب العوارض مضافا إلي استحبابه الذاتي؛ فلذا مثل له بنكاح القريبة، للجمع بين فضل النكاح و صلة الرحم؛ أو البعيدة، لخروج الولد ضاويا في القريبة.

و لكن الأخير، مؤيد بالاعتبار لما ثبت من الاخطار المهمّة في نكاح القريبة؛ و لا

ينافيه نكاح المعصومين عليهم السّلام لأنّ له استثناءات كسائر الأحكام الكلية لعوارض خاصة؛ هذا مضافا إلي أنّ المعروف بين الأطباء، أنّ نكاح القريبة لا يوجب مرضا؛ نعم، لو كان فيهما الأمراض الخفية تظهر و تشتد لما في الزوجين القريبين من المشابهة في المرض الخفي.

و الرواية و إن كانت ضعيفة بحسب المباني الموجودة في الكتب الرجالية عندنا، و لكن رواها أو ما يشبه منها غير واحد في كتبهم؛ ففي المجازات النبوية للسيّد الرضي، قال صلّي اللّه عليه و آله: اغتربوا لا تضووا. «2»

قال في النهاية: «3» اغتربوا لا تضووا أي، تزوجوا الغرائب دون القرائب فإنّ ولد الغريبة أنجب و اقوي من ولد القريبة … و منه الحديث: لا تنكحوا القرابة القريبة فإنّ الولد يخلق ضاويا.

و قد أسنده في المسالك إليه صلّي اللّه عليه و آله، و قال: لقوله صلّي اللّه عليه و آله لا تنكحوا … الحديث. «4» و علي كل حال، الاجتناب اولي.

______________________________

(1). الشيخ يوسف البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 17.

(2). الشريف الرضي، في المجازات النبوية/ 92، الحديث 59.

(3). ابن الأثير، في النهاية في غريب الحديث 3/ 106.

(4). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 15.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 16

و ما ذكره من مثال المكروه، غير ثابت؛ فإنّ فقدان المال لا يكون سببا للكراهة لا سيما مع ما عرفت من الاية الشريفة و الروايات. و الاولي أن يمثل له بنكاح المتعة إذا اوجب التهمة أو سقوط الإنسان عن أعين الناس؛ كما لعله يظهر من بعض رواياتها.

كلام الشهيد الاوّل في اقسام النكاح

و قال الشهيد الأول في قواعده، «1» إنّه ينقسم النكاح بحسب الناكح بانقسام الأحكام الخمسة، و كذا بحسب المنكوحة، و مثل للأول بما يقرب مما عرفت. و

للثاني بما يكون السبب في الحكم بعض خصوصيات المنكوحة، كحرمة نكاح الام و شبهها، و كراهة نكاح العقيم و شبهه، و استحباب نكاح الأرقاب، و وجوب الوطي بعد أربعة أشهر و شبهه، و اباحة ما عدا ذلك.

و قد صرّح بعض فقهاء العامة بانقسامه إلي أقسام مختلفة و إن كان تقسيمهم غير تقسيمنا؛ كالنووي في المجموع. «2»

و صرّح ابن قدامة في المغني بانقسامه باقسام ثلاثة: 1- من يخاف علي نفسه في الوقوع في الحرام إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه في قول عامة الفقهاء. 2- من يستحب له و هو من له شهوة و لكن يأمن معها الوقوع في الحرام، و نقل هذا القول عن جماعة كثيرة 3- من ليس له شهوة كالعنين، فذكر فيه وجهان: أحدهما، يستحب له النكاح لعموم الأدلة. و ثانيهما، تركه أفضل لعدم حصول مصالح النكاح، و ربما يضرّ صاحبه كما هو ظاهر. «3»

و العمدة، إنّ النكاح قد يجب، لخوف الوقوع في الحرام (علي فرض تركه) أو لوجوب حفظ الموازنة في المواليد بين المسلمين و غيرهم و علوّهم عليهم أو شبه ذلك. و قد

______________________________

(1). الشهيد الاوّل، في القواعد و الفوائد 1/ 380.

(2). محي الدين النووي، في المجموع 16/ 129. و النووي منسوب إلي «نوي» من قراء دمشق و كان من علماء القرن السابع.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 334.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 17

يحرم، لمزاحمة واجب معين فوري مثل المزاحمة للجهاد أو الحج، و لو كان في زمن قصير، و الباقي سهل.

*** هل يكون استحباب النكاح مشروطا؟

و هو أنّ غير واحد من الأكابر قيّدوا استحباب النكاح بمن تاقت نفسه (أي، اشتاقت إليه. و التوق، و التّوقان، بمعني الاشتياق و الاسراع في الشي ء

و فيضان الدمع، و المراد به هنا، الأول.) و لازمه عدم استحبابه لمن لم يشتق؛ مع أنك قد عرفت أن حكمة هذا الحكم بحسب نصوص الباب، ليس مجرد حفظ العفة و التقوي، بل بقاء النسل و اكثار نفوس الامّة المسلمة من أظهر حكمه، و هذا لا يتوقف علي توقان النفس، و لذا ذهب المشهور إلي استحبابه مطلقا؛ فالفتوي بعدم استحبابه بمجرد عدم التوقان، بعيد.

و أبعد من ذلك، القول باستحباب الترك لمن لا يشتهيه. قال شيخ الطائفة في المبسوط:

الناس ضربان، مشته للجماع و قادر علي النكاح، و ضرب لا يشتهيه، فالمشتهي يستحب له أن يتزوج و الذي لا يشتهيه، المستحب أن لا يتزوج، لقوله تعالي (في مقام مدح يحيي): … وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّٰالِحِينَ. «1» فمدحه علي كونه حصورا و هو الذي لا يشتهي النساء. «2»

و الظاهر، أنّ هذه الآية هي العمدة في فتوي جماعة من الأصحاب بتقييد الاستحباب بتوقان النفس، و إن استدل له بدليلين آخرين تأتي الإشارة إليهما.

و يمكن الجواب عنها، بأنّ ظاهر الآية بل صريحها و إن كانت في مقام المدح لذكر عنوان السيّد قبله، و كونه نبيّا من الصالحين بعده، و لكن يرد علي الاستدلال بها؛

أولا: بأنّ المراد من الحصور و إن كان هو التارك لإتيان النساء- كما ذكره كثير من أرباب اللغة و علماء التفسير- و لكن يمكن أن يكون ذلك لخصوصية في حياة

______________________________

(1). آل عمران/ 39.

(2). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 160.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 18

يحيي عليه السّلام، لأنّه كان كالمسيح عليه السّلام كان يتردد دائما من مكان إلي مكان لتبليغ دين اللّه و أداء رسالته إلي خلقه، فهذا في الواقع من قبيل

ما طرأ عليه عنوان الكراهة أو الحرمة لبعض العوارض، فلا ينافي الاستحباب الذاتي.

و ثانيا: إن كون كلمة الحصور دائما بمعني من لا يأتي النساء، غير ثابت؛ بل ذكر لها معان اخري منها، ما ذكره الشيخ في التبيان «1» ذيل الآية الشريفة، الذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة، و يقال للذي يكتم سرّه، الحصور. و قال في المجمع «2» بعد تفسيرها بالذي لا يأتي النساء، و معناه أنّه يحصر نفسه عن الشهوات، أي يمنعها. و قيل: الحصور، الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل، و قيل: هو العنين، و هذا لا يجوز علي الأنبياء لأنّه عيب.

فقد ظهر مما ذكرنا أنّ لها لا أقل من ستّ معان (العنين- الذي لا يأتي النساء- الذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة- الذي يحصر نفسه عن الشهوات- الذي يكتم سرّه- الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل). و المعاني الثلاثة الاولي، لا تناسب مقام النبوة و المدح، بناء علي كون النكاح أمرا مطلوبا، و لكن المعاني الثلاثة الأخيرة تناسبها.

هذا؛ و المعروف في معناها، هو من لا يأتي النساء.

و ثالثا: أنّ المدح لعله علي المنكشف لا الكاشف، أي سلطته علي نفسه و منعها عن طغيان شهواتها.

و رابعا: ثبوت ذلك في شرعهم، ليس دليلا علي ثوبته في شرعنا، بعد قيام الأدلة الكثيرة علي استحباب النكاح مطلقا في هذه الشريعة الغرّاء.

إن قلت: نتمسك باستصحاب الشرائع السابقة.

قلنا: الاستصحاب انما هو في فرض الشك، و نحن لا نشك في استحبابه في شرعنا، أضف إلي ذلك أنّ استصحاب الشرائع السابقة باطل عندنا، لما ذكرنا في المباحث الاصولية من أنّ، الشريعة إذا نسخت نسخت بجميع أحكامه؛ و لذا كان أصحاب النبي صلّي اللّه عليه

و آله

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في التبيان 2/ 452.

(2). الشيخ الطبرسي، في مجمع البيان 2/ 287.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 19

ينتظرون نزول الأحكام في أبواب الزكاة و الصيام و الجهاد و حرمة الشراب و غيرها و إن كانت هذه الامور في الشرائع السابقة.

اللّهم إلّا أن يقال مطلوبية النكاح أمر عقلي فهو من المستقلات العقلية التي لا يمكن القول بخلافه حتي في الشرائع السابقة فالعمدة في الجواب، هي الأولان.

و الأمر سهل بعد ابهام الآية و غموضها، مع ظهور آية الأمر بالانكاح، و الروايات الكثيرة الواردة في المقام علي استحبابها مطلقا، بل لم نجد رواية تدل علي التقييد بالاشتياق.

و استدل للقول بهذا القيد، أيضا بقوله تعالي في مقام الذم، زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ الشَّهَوٰاتِ مِنَ النِّسٰاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنٰاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعٰامِ وَ الْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. «1» و الذم دليل علي عدم الاستحباب.

و فيه، إنّ المذمّة علي حبّ الشهوات، لا مجرد حب المال و البنين و النساء، بقرينة حب البنين. فإنّه لا شك في استحباب حب البنين إذا كان الحب معتدلا لا يدخل صاحبه في المعاصي. و كذلك المال، و هكذا النساء. كيف، و قد منّ اللّه علي عباده بهذه النعم فقال:

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا … «2» و قال عزّ من قائل: وَ لَكُمْ فِيهٰا جَمٰالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ. «3» إلي غير ذلك مما يدلّ علي تفضله علي خلقه بخلق الأنعام لهم، و هكذا بالنسبة إلي الأموال.

كما استدل أيضا بأنّ النكاح غالبا مستلزم لتحمّل مسئوليات كثيرة للزوجة و الأولاد، و الحرمان عن كثير

من العبادات و تحصيل العلوم، فالاولي لمن لا يرغب فيه، إن يتركه، للفرار من هذه الامور.

و فيه، أن تحمل هذه المسؤوليات- كسائر المسؤوليات الاجتماعيّة، عبادة و مطلوبة

______________________________

(1). آل عمران/ 14.

(2). الروم/ 21.

(3). النحل/ 6.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 20

للشارع المقدّس. فقد ورد في الحديث المعتبر عن الصادق عليه السّلام: الكادّ علي عياله كالمجاهد في سبيل اللّه. «1»

بل في حديث آخر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: الذي يطلب من فضل اللّه ما يكف به عياله، أعظم أجرا من المجاهد في سبيل اللّه عزّ و جلّ. «2»

فالحق، استحباب النكاح مطلقا بحسب العنوان الاولي. و اللّه العالم.

رابعها: في معني «النكاح»

النكاح في اللغة

قد اختلف أرباب اللغة و الفقهاء في معني «النكاح» علي أقوال كثيرة، و حيث إنّ هذه الكلمة وردت كثيرا في الكتاب و السّنّة و في بعض الموارد خالية عن القرينة، لا بدّ من تبيين معناها حتي تحمل عليه عند الشك في المراد منه، فنقول (و من اللّه نستمد التوفيق و الهداية): الخلاف واقع في إنّها حقيقة في العقد خاصة، أو في الوطي، أو فيهما معا علي نحو الاشتراك اللفظي، أو المعنوي، أو هي مجاز فيها و معناه الحقيقي شي ء آخر، و هو الالتقاء، يقال تناكح الجيلان إذا التقيا؛ أو معناها هو الضم، يقال تناكح الأشجار أي ضم بعضها إلي بعض.

و إليك بعض كلمات أهل اللّغة أولا، ثم كلمات الفقهاء.

أمّا الأول؛ فقد صرح الراغب في المفردات بأن: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، و محال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد، لأنّ أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره. «3»

و قال الجوهري في الصحاح باشتراكه فيهما، فقال: النكاح، الوطء؛ و قد يكون القعد.

و قال الفيّومي في المصباح المنير

ما نصه: يقال، مأخوذ من نكحه الدواء، إذا خامره و

______________________________

(1). الوسائل 12/ 43، الحديث 1، الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة.

(2). الوسائل 12/ 43، الحديث 2، الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة.

(3). الراغب الاصفهاني، في المفردات في غريب القرآن/ 505، في مادة نكح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 21

غلبه، أو من تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلي بعض، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها؛ و علي هذا يكون مجازا في العقد و الوطء جميعا … و إن قيل، غير مأخوذ من شي ء لا بدّ من القول بالاشتراك. انتهي.

فانظر إلي هؤلاء الثلاثة من معاريف أهل اللغه، فقال الأول بكونه حقيقة في العقد، و الثاني باشتراكه فيهما، و قال الثالث في صدر كلامه بكونه مجازا فيهما، و حقيقة في معان آخر، ذكر منها ثلاثة.

و كذلك اختلاف الفقهاء فيه، فكل اختار مسلكا و إليك نبذ منها:

النكاح في الفقه

قال المحقق النراقي في المستند:

و هو في اللغة، عقد التزويج خاصة علي الأصح، لتبادره عرفا و اصالة عدم النقل؛ و كون العقد مستحدثا، ممنوع، بل لكل دين و ملّة عقد.

و قيل حقيقة في الوطء خاصة، بل هو الأشهر كما قيل، بل عليه الإجماع كما عن المختلف … و قيل حقيقة بينهما لاستعماله فيهما … و قيل مجاز كذلك (أي فيهما) لأخذهما من الضم و الاختلاط و الغلبة؛ و يرد بعدم ثبوت المأخذ. (انتهي محل الحاجة من كلامه). «1»

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك: اعلم أنّ النكاح يستعمل لغة في الوطي كثيرا و في العقد بقلة. قال الجوهري: النكاح، الوطي؛ و قد يقال العقد. و شرعا بالعكس يستعمل بالمعنيين إلّا أنّ استعماله في العقد أكثر؛ بل قيل إنّه

لم يرد في القرآن بمعني الوطي إلّا في قوله تعالي … حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، لاشتراط الوطي في المحلل؛ و فيه نظر لجواز إرادة العقد و استفادة الوطء من السنّة. انتهي. «2»

و قال ابن قدامة في المغني: النكاح في الشرع، هو عقد التزويج؛ فعند اطلاق لفظه

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 9.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 7.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 22

ينصرف إليه ما لم يصرفه عنه دليل و ذكر في ذيل كلامه، الأشهر استعمال لفظ النكاح بازاء العقد في الكتاب و السنّة و لسان أهل العرف. (أجاب بذلك عن القاضي القائل بالاشتراك). «1»

أقول: لا يهمّنا معناه اللغوي بأن يكون عاما أو خاصا أو مشتركا أو مجازا؛ بل الذي يهمّنا، معناه في لسان الشارع المقدس في الكتاب و السنّة.

النكاح في القرآن

فقد استعمل في كتاب اللّه تعالي في 23 موردا، كلّها أو جلّها ظاهرة في العقد؛ مثل قوله تعالي: إِذٰا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ … «2»

و قوله تعالي: فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ … «3»

فإنّ ذكر الطلاق و ذكر الزوج أظهر شاهد علي كون المراد بالنكاح هنا العقد، و إنّما يستفاد اعتبار الدخول في المحلل من السنّة.

و قوله تعالي: … فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ … «4»

و قوله تعالي: … وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰي يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ … «5»

فإنّ عقدة النكاح، من قبيل إضافة العام بالخاص أو إضافة السبب بالمسبب، فيكون النكاح العقد المسببي.

و كذا قوله تعالي: … إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ … «6»

و ليس فيها ما يمكن القول بكونه مستعملا في

خصوص الدخول حتي في آية المحلل، كما عرفت. و كذلك غيرها من أشباهها.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 333.

(2). الاحزاب/ 49.

(3). البقرة/ 230.

(4). النساء/ 3.

(5). البقرة/ 235.

(6). البقرة/ 237.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 23

النكاح في السنّة

و أمّا السنة و الروايات المشتملة علي لفظ النكاح و مشتقاته، فهي أيضا شاهدة علي استعماله في العقد إلّا في موارد شاذّة.

و إن شئت، فانظر الأبواب التالية في المجلد 14 من كتاب الوسائل:

1- الباب 1، من أبواب مقدمات النكاح، فقد ذكر في بعض رواياته، أنّه ما من شي ء أحبّ إلي اللّه عزّ و جلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح.

2- الباب 48، الحديث الأول (و من سنّتي النكاح)، و الحديث الثالث (و إن من سنتي النكاح).

3- الباب 139، الحديث الأول (ليس عندي طول فانكح النساء).

4- الباب 157، فيه روايتان تدلان علي حسن الاحتياط في أمر النكاح.

5- الباب 2، من أبواب عقد النكاح، فيه روايات ثلاثة تدل علي أنّ النكاح لا يكون إلّا بمهر.

6- الباب 4 منه، فيه رواية تدل علي أنّه لا ينقض النكاح إلّا الأب.

7- الباب 5 منه، فيه رواية تدل علي أنّه لا تنكح ذوات الآباء من الابكار إلّا بإذن آبائهن.

8- الباب 9 منه، فيه روايات عديدة تدل علي اعتبار اذن الأب في النكاح.

9- الباب 29 منه، فيه روايتان تدلان عن بطلان نكاح الشغار، و هو نكاح امرأتين يكون مهر أحدهما نكاح الآخر، كان يقول: زوّجني اختك، ازوّجك اختي.

10- الباب 1، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، فيه روايات كثيرة تدل علي حرمة نكاح نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله و حرمة نكاح ما حرّم اللّه من امرأة الأب و غيرها.

و قد ورد في أبواب

الطلاق و المهور في المجلد 15 من الوسائل، أيضا روايات استعمل فيها النكاح في معني العقد، و كذلك في المجلد 18 من أبواب الشهادات.

نعم، قد استعمل هذا اللفظ أيضا في مجرد الدخول بدون العقد في موارد نادرة، مثل ما ورد في أبواب ما يمسك عنه الصائم (في شهر رمضان). ففي رواية: إنّ اللّه لمّا فرض

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 24

الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان … و كان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرّا لقلّة صبرهم … «1»

و في رواية اخري في نفس الباب: فاحل اللّه النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلي طلوع الفجر. «2» إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني في أبواب اخر، مثل أبواب حرمة اللواط.

و الحاصل أنّ هذا الاستعمال الكثير في معني العقد، دليل علي صيرورته حقيقة في العقد، و إن فرض كونه في اللغة حقيقة في الوطي، لأنّ الاطراد من علائم الحقيقة أو سبب لها.

إن قلت: هذه الموارد التي ذكرتموه مقرون بالقرائن المختلفة، و اطراد الاستعمال مع القرينة، لا يكون علامة للحقيقة، كما أنّه لا يكون سببا لها.

قلت: الوضع- كما هو المعلوم- علي قسمين، الوضع التخصيصي و الوضع التخصصي. و هي، العلقة الحاصلة بين اللفظ و المعني في عالم الذهن إمّا من طريق تخصيص اللفظ بها اعتبارا و إنشاء أو تعهدا، و إمّا من طريق كثرة الاستعمال و لو كان مع القرينة، فإنّ كثرة الاستعمال علي كل حال توجب العلقة؛ مثلا إذا قال المولي صلّ مع الوضوء، صلّ إلي القبلة، صلّ مع الجماعة و هكذا … ثم قال: الصلاة، الصلاة؛ ينصرف الذهن إليه لا إلي مجرد الدعاء.

و الحاصل، إنّ

لفظ النكاح لو سلم كونه في اللغة غالبا بمعني الوطي لكن نقل في الشرع إلي العقد، و لا أقل من أنّه ينصرف عند الاطلاق. و اللّه العالم.

خامسها: النكاح عبادة أم لا؟

قد يدور علي بعض الألسن أنّ النكاح نوع من العبادة أو فيه شائبة العبادة؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): لا ريب في أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه خصوصا في النكاح

______________________________

(1). الوسائل 7/ 80، الحديث 4، الباب 43 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(2). الوسائل 7/ 81، الحديث 5، الباب 43 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 25

الذي فيه شوب من العبادات المتلقاة من الشارع، و الأصل تحريم الفرج إلي أن يثبت سبب الحل شرعا. «1»

لا شك في انّ العبادة هنا ليس بمعني ما يشترط في صحته قصد القربة، لأنّه لم يقل أحد باعتبار ذلك، لا من الشيعة و لا من السّنّة، كما أنّ العبادة بالمعني الأعم أي ما يشترط قصد القربة في ترتب الثواب عليه، لا تختص بالنكاح، بل يشمل جميع الواجبات و المستحبات التوصليّة، فايّ معني لهذا التعبير؟

الظاهر أنّ المراد من هذا التعبير كونه من التوقيفيات التي تحتاج إلي بيان الشارع في كلّ مورد و يجري فيه اصالة الفساد عند الشك.

توضيح ذلك، أنّ هناك عقود كثيرة في عرف العقلاء مثل البيع و الاجارة و الشركة و المضاربة و شبهها تعدّ من الامور الإمضائية، قد حكم الشارع بصحتها ما عدا ما خرج بالدليل، فقال يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ فإذا شك في اعتبار شي ء فيها، يحكم بالصحة، إلّا أن يخرج منها بتقييد أو تخصيص؛ فاصالة الصحة حاكمة فيها.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع المقدس أخذ فيها بما عند العرف و العقلاء

و امضاها إلّا في موارد خاصة، فاضاف علي شرائطها و أركانها أو نقص عنها، و لذا يقال باعتبار سيرة العقلاء مع عدم الردع عنها.

لكن النكاح و الطلاق، ليسا من هذا القبيل و إن كانا موجودين في عرف العقلاء قبل نزول الشريعة الإسلامية، و ذلك لأنّ الشارع المقدس أضاف إليها أشياء كثيرة و نقص منها كذلك في الناكح و المنكوح و غيرهما؛ فكأنهما تبدلت ماهيتهما مما كان، فصار كالعبادات من الامور التوقيفية التي لا يمكن الأخذ فيها بعرف العقلاء و سيرتهم بعنوان إنّ عدم الردع فيها كاف في امضائها، بل لا بدّ من ثبوت شرائطها و موانعها من الشرع، و لا يجري فيهما إلّا اصالة الفساد، فهما من الامور التوقيفيّة التي تحتاج دائما إلي الدليل. و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 133.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 26

[المسألة 1: ممّا ينبغي أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها]

اشارة

المسألة 1: ممّا ينبغي أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها. فعن النبي صلّي اللّه عليه و آله: اختاروا لنطفكم، فان الخال أحد الضجيعين. «1» و في خبر آخر: تخيروا لنطفكم، فإن الأبناء تشبه الأخوال. «2» و عن مولانا الصادق عليه السّلام لبعض أصحابه حين قال هممت أن أتزوج: انظر اين تضع نفسك و من تشركه في مالك و تطلعه علي دينك و سرّك، فإن كنت لا بدّ فاعلا فبكرا تنسب إلي الخير و حسن الخلق. الخبر. «3»

و عنه عليه السّلام: إنما المرأة قلّادة فانظر ما تتقلد؛ و ليس للمرأة خطر لا لصالحتهن و لا لطالحتهن، فاما صالحتهن فليس خطرها الذهب و الفضّة هي خير من الذهب و الفضّة، و أمّا طالحتهن فليس خطرهن التراب، التراب خير منها. «4»

و كما ينبغي

للرجل أن ينظر فيمن يختارها للتزويج، كذلك ينبغي ذلك للمرأة و أوليائها بالنسبة إلي الرجل. فعن مولانا الرّضا عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: النكاح رق، فاذا انكح احدكم وليدته فقد ارقها فلينظر أحدكم لمن يرق كريمته. «5»

النظر في صفات من يريد تزويجها

أقول: هذه المسألة بمنزلة الكبري لبيان استحباب اختيار الزوجة الصالحة من دون ذكر شي ء من صفاتها الخاصة، و الحال أنّ المسألة الآتية لبيان الصغري، أعني الصفات الخاصّة، و ما يكون دليلا علي صلاح الزوج أو الزوجة. و هذه مسألة مهمة و إن اندرجت في المستحبات، و لكن قد تكون أهم من بعض الواجبات و يكون تركها سببا لكثير من المحرمات احيانا؛ كما هو ظاهر لمن تدبر.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 29، الحديث 2، الباب 13 من أبواب مقدمات النكاح. (و الضجيع الذي يصاحب الإنسان).

(2). لم يوجد في المصادر الموجودة. و في كنز العمّال 16/ 295، الرقم 44557 ما يقرب منه: تخيروا لنطفكم فان النساء يلدن اشباه اخوانهن و اخواتهن.

(3). الوسائل 14/ 13، الحديث 1، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 17، الحديث 16، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 52، الحديث 8، الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 27

و حيث إنّ الصفات تتبع الأهداف (و كل إنسان يطلب ما يجاوب أغراضه و أهدافه)، بين فيها أنّ المقصود من الزواج في المرحلة الاولي هو بقاء النسل الصالح، و لا شك انّ صفات الأبوين تنتقل إلي أولادهما من طريق الوراثة في الجملة (لا كأمر يوجب الجبر بل يساعد علي الأعمال الصالحة و الطالحة؛ ففي الواقع، الصفات الرّوحيّة كالصفات الجسمانية من الصحة و المرض تنتقل

إلي الأولاد بعنوان المقتضي، لا العلة التامة). فلا بدّ من اختيار زوج أو زوجة يكون فيه المبادي الحسنة، كالبلد الطيب التي يخرج نباته باذن ربه، لا كالبلد الخبيثة التي لا يخرج إلّا نكدا.

و في المرحلة التالية يكون الزوج أو الزوجة شريكا للإنسان في جميع شئون حياته و محرما لأسراره و افكاره و دينه فلا بدّ أن يكون صالحا لهذا الفرض المهم الذي له دور هامّ في حياة الإنسان اجتماعيا و انفراديا.

و في المرحلة الثالثة كل من الزوجين يكون معرفا لصفات زوجه و كيانه و اخلاقه و يكون زينا له أو شينا و هنّ لباس لكم و أنتم لباس لهنّ و لكن لباس يلبسه مرة غالبا في مدة عمره و يخلعه مرّة فلا بدّ أن يكون فيه ما يكون سببا لزين زوجه و اعتباره و مكانته الاجتماعية و يكون مدافعا له أيضا (كما أنّ اللباس دفاع للإنسان) فلا بدّ أن يكون فيه صفات تقتضي ذلك.

و العجب أنّ كثيرا من الناس إذا أرادوا اشتراء قميص يلبسونها عدّة شهور أو سنة واحدة، يتخيرون و يختبرون و يسئلون و يشاورون، و لكن اللباس الذي يلبسونه طول عمرهم لا يتخيرون له. و رعاية هذا الأمر في أعصارنا أهم و أحري من الأعصار السابقة، لأمور لا يخفي علي الباحث.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 28

[المسألة 2: ينبغي أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا علي الجمال و المال]

اشارة

المسألة 2: ينبغي أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا علي الجمال و المال.

فعن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله: من تزوج امرأة لا يتزوجها إلّا لجمالها، لم ير فيها ما يحب، و من تزوجها لمالها لا يتزوجها إلّا له، و كلّه اللّه اليه؛ فعليكم بذات الدين. «1» بل يختار من كانت واجدة لصفات

شريفة صالحة، قد وردت في مدحها الأخبار، فاقدة لصفات ذميمة قد نطقت بذمها الآثار. و اجمع خبر في هذا الباب ما عن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال: خير نسائكم، الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحصان علي غيره، التي تسمع قوله و تطيع امره «2» … إلّا أخبركم بشرار نساءكم، الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود التي لا تتورّع من قبح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحصان معه إذا حضر، لا تسمع قوله و لا تطيع أمره، و إذا خلابها بعلها تمنعت كما تمنّع الصعبة عن ركوبها، لا تقبل منه عذرا و لا تقيل له ذنبا. «3»

و في خبر آخر عنه صلّي اللّه عليه و آله: إيّاكم و خضراء الدمن! قيل: يا رسول اللّه! و ما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء «4».

الصفات المطلوبة في النساء

أقول: هذه المسألة بمنزلة الصغري لما في المسألة السابقة. بيّن فيها الصفات المطلوبة للنساء، و حاصل ما يستفاد من روايات الباب و مما تراه في الخارج، أنّ الإنسان قد يتزوج المرأة لمالها فقط، و اخري لجمالها فقط، و ثالثة لكمالها؛ فقد ذم الأولتان و مدح الثالث.

و إن شئت قلت؛ النكاح علي أقسام، بعضها شهوي، و اخري تجاري، و ثالثة مقامي، و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 31، الحديث 4، الباب 14 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 14، الحديث 2، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 18، الحديث 1، الباب 7 من أبواب مقدمات النكاح. (الظاهر أنّها بعض الرواية السابقة و لذا حكاهما في المستدرك بصورة رواية واحدة- 14/ 166، الحديث 16393).

(4). الوسائل 14/ 19، الحديث 7، الباب 7 من

أبواب مقدمات النكاح. و رواها في المستدرك أيضا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 29

رابعة سياسي، و خامسة قومي عصبي، و سادسة، إنساني، و سابعة إلهي، و كل منها له أصحاب و خيرها أخيرها.

و قد يتزوج امرأة، لها أو لأبيها مال، يرجو مماته ليكتسب ماله من طريق زوجته، و هذا دليل علي دنائة الهمة و عدم الاعتماد باللّه و بنفسه. و قد يكون يتزوجها لجمالها فقط و لا يتفكر في صفاتها الاخري من الديانة و العفة و الوفاء و كرامة الأبوين، و الحال أنّ الجمال يزول بعد ذهاب شبابها بسرعة فتبقي هي و ساير صفاتها، بل قد يكون الجمال مع عدم العفة و الديانة و التقوي سببا لمشاكل عظيمة ينغص العيش و يوجع القلب مما لا يخفي علي الخبير. و قد يكون مال المرأة سببا لطغيانها و عدم سلمها، كما يظهر بالتجارب. و قد يريد اكتساب الجاه و المقام الدنيوي من اسرة زوجته و هذا أيضا دليل علي عدم الاعتماد بربّه و بنفسه، و كونه كلّا علي غيره.

و هكذا بالنسبة إلي النكاح السياسي و غيره، و هناك سياسات محمودة فقد يقع الخلاف بين القبائل المختلفة بما يوجب اراقة الدماء و الفساد في الأرض، ثم تتصالحان، و تتزوج هذه من هذه و بالعكس، فتقوي العلاقة بينهما و تتسالمان.

و المراد من النكاح الإنساني ما يكون بسبب ما في الزوجة من صفات الفضيلة، من العلم و الفهم و العقل و الدراية و علو الطبع و الوفاء و الأمانة، و إن كانت ضعيفة في المعارف الإلهيّة و الديانة؛ و هذه و إن كان لها كمالات، و لكن إذا خلت من الديانة و الإيمان، لا يمكن الاعتماد الكامل عليها. و

أحسن أخلاق المرأة عقلها و دينها و إيمانها و تقواها.

*** ينبغي التنبيه هنا علي امور

1- الاختبار لازم من جانب الزوج أيضا

إنّ الاختيار و الاختبار كما يلزم في جانب الزوجة، يلزم في جائب الزوج أيضا، كما نطقت بها الأخبار و الآثار. فقد ورد في أخبار كثيرة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام أنّه إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه تزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 30

الأرض و فساد كبير. «1»

و هذه الروايات من جانب، تدل علي اعتبار الخلق الحسن و الدين و التقوي في الزوج، و من جانب آخر علي عدم التشديد و الوسواس، و مراعاة الامور المادية و الاعتبارية في زواج البنات. كما قد ورد في روايات كثيرة، النهي عن تزويج البنت لشارب الخمر و سيّئ الخلق. «2»

و من جميع ذلك يظهر لزوم رعاية الصفات الحسنة في تزويج البنات، و اختيار الصهر بغير تشديد.

2- الصفات الحسنة لا تجتمع في واحد عادة

من الامور التي ينبغي لكل إنسان التوجه اليه، أنّ الصفات الحسنة، لا تجتمع في واحد عادة إلّا المعصومين أو الاوحدي من الناس؛ فلذا لا بدّ من ملاحظة المجموع من حيث المجموع. و بعبارة اخري لا بدّ من الكسر و الانكسار، و الجمع و التفريق، و العمل بما يبقي بعد ذلك؛ فمن كان فيه كثير من الصفات الحسنة، يغتفر عنه بعض الصفات غير الحسنة، و إذا كان المعدل إيجابيا لا يلاحظ بعض الجهات السلبية.

و لو أصرّ الإنسان علي جمع جميع الصفات الحسنة في الزوج أو الزوجة، يبقي بلا زوج. و قد ورد في الحديث العلوي عليه السّلام: من استقصي علي صديقه انقطعت مودته. «3» و هذا الحديث و إن ورد موردا آخر إلّا أنّه يعلم حكم المقام منه، و ببالي إنّي رأيت في بعض الروايات مضمونه من

استقصي في الصفات بقي بلا صديق. «4» و مثله يجري في حق الزوج.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 50- 52، الأحاديث 1 و 2 و 3 و 6، الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). فراجع الباب 29 و 30 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه.

(3). عبد الواحد الآمدي، في غرر الحكم و درر الكلم/ 8582.

(4). ورد في بحار الأنوار 74/ 282 بهذا المضمون: من طلب في زماننا هذا صديقا بلا عيب بقي بلا صديق. و في الوسائل 8/ 458: لا تفتش الناس فتبقي بلا صديق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 31

3- التشاور في الزواج

التشاور في كل امر مهم حسن و في الزواج أحسن، لا سيما للشباب، لأنّه ليس لهم تجربة في هذا الأمر و الغالب في الناس أنّهم لا يجرّبون هذه المسألة إلّا مرّة واحدة، فليس للشباب خبرة بأمر النكاح، و لهذا ليس لهم غني عن التشاور مع ذوي اللّب و اهل الخبرة و التجربة في هذا الأمر، لا سيما أنّ بعض الظواهر الحسنة قد يخدعهم أو يعمي أبصارهم و يصمّ أذانهم. هذا، مع أنّ الندامة في النكاح، غالبا لا يمكن تداركها و لا يوجد فيه سبيل إلي الرجوع قهقري إلّا بخسائر كبيرة مادية و معنوية.

4- خفّة المئونة في النكاح مطلوب

مما ورد التأكيد فيه، هو خفة المئونة في النكاح و المهر و جميع امور الحياة. فقد ورد في الحديث: أمّا شوم المرأة، فكثرة مهرها و عقوق زوجها. «1» و في رواية اخري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: من بركة المرأة خفة مؤنتها و تيسير ولادتها و من شؤمها شدة مؤنتها و تعسير ولادتها. «2» و نري في عصرنا هذا مهورا ليس فيها ايّ غرض عقلائي و فيها آلاف ألوف من الدنانير الغالية؛ و قد أفتينا بفساد بعضها من حيث كونها سفهيّا، و حكمنا بوجوب مهر المثل بدلها.

إن قلت: أو ليس اللّه تعالي يقول: … وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلٰا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. «3» و المعروف، أنّ القنطار ملأ مسك ثور ذهبا.

قلنا: أولا، القنطار المأخوذ من القنطرة، كما ذكره الراغب في مفرداته و هو الجسر الذي يعبر عنه، و هو إشارة إلي المال الذي فيه عبور الحياة، تشبيها بالقنطرة، و ذلك غير محدود القدر في نفسه، و إنّما هو بحسب الاضافة (بحسب الأشخاص)؛ ثم نقل عن بعضهم أنه أربعون أوقية، (و الأوقيه

سبعة مثاقيل)؛ و عن بعضهم انّه 1200 دينارا، ثم قال: و قيل، ملأ

______________________________

(1). الوسائل 15/ 11، الحديث 11، الباب 5 من أبواب المهور.

(2). الوسائل 15/ 9، الحديث 3، الباب 5 من أبواب المهور.

(3). النساء/ 20.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 32

مسك ثور ذهبا. و يقرب منه قول غيره. فالمعني الأخير قول ضعيف، و الأصل أنّه مال كثير؛ فلا دلالة لها علي ما ذكر.

و ثانيا، إنّ السفه كما يجري في البيع، بأن يشتري الإنسان ما قيمته مأئة دينار بالف دينار؛ يجري في النكاح بأن ينكح من يكون مهر المثل فيه مأئة، بالف؛ إلّا أن يكون هناك أغراض خاصة عقلائية.

5- كثرة مطالبات كل من الزوجين من الاخر يخرب بناء الاسرة

مما يخرب بناء الاسرة و يزلزل أساس الزواج كثرة مطالبات الزوج من زوجته أو بالعكس. و لا يدوم بيت النكاح إلّا بقلّة المطالبة، و المداراة و العفو و الصفح، بل لا يمكن التعاشر مع الناس إلّا بذلك، بل يجب في كثير من المواضع، التغافل. فقد ورد في الحديث المعروف عن مولانا علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام مخاطبا- ابنه محمّد بن علي عليهما السّلام-: اعلم يا بني إنّ صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين، إصلاح شأن المعايش ملؤ مكيال، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل. «1»

و لو لا التغافل، لا يمكن التعاشر السلمي مع الناس غالبا، كما لا يخفي علي الخبير.

6- السعي في انكاح الايامي مستحب

يستحب- بل قد يجب- السعي في انكاح الأيامي، كما صرّح به في الكتاب العزيز. و إنّما يجب إذا كان الطريق الوحيد أو أحد الطرق للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فكما يجب التزويج لمن يخاف وقوعه في الحرام، فكذلك الانكاح في هذه الموارد. و قد مرّ بعض الأحاديث في التأكيد علي هذا الأمر، و قد روي السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتي يجمع اللّه بينهما. «2»

______________________________

(1). الخزار القمي، في كفاية الأثر/ 240 و العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 46/ 231.

(2). الوسائل 14/ 26، الحديث 2، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 33

و عن موسي بن جعفر عليه السّلام: أن للّه ظلّا يوم القيامة لا يستظلّ تحته إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو عبد اعتق عبدا مؤمنا، أو عبد قضي مغرم مؤمن، أو مؤمن كفّ ايمة مؤمن. «1»

و الايمة، من آم، يئيم، ايمة. و الوصف،

الايّم، للذكر و الانثي. بمعني من فقد زوجه أو فقد من أول الأمر كما صرّح به في المجمع.

و علي كل حال يمكن أن يكون ذلك بصورة الانفراد، أو يكون هناك مشروع وسيع لهذا الأمر الهامّ؛ و الانصاف أنّ من شأن الحكومة الإسلامية تنظيم برنامج لهذه المهمّة، و اعطاء تسهيلات للشباب في هذا الطريق حتي يطهر المجتمع الإسلامي من دنس المفاسد الأخلاقية التي ملأت الجوامع غير المؤمنة بما فيها من الآثار السيّئة في الدنيا و الآخرة.

*** و هنا في تحرير الوسيلة 9 مسألة، ناظرة إلي المستحبات أو امور واضحة من الواجبات أو المحرمات لم نتعرض لها ايكالا إلي وضوحها، فراجعها و تأمل فيها. فنبدأ الآن من المسألة 12 من المسائل التي تعرض لها.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 27، الحديث 6، الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 34

[المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين]

اشارة

المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين. دواما كان النكاح أو منقطعا؛ و أمّا سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة و الضمّ و التفخيذ، فلا بأس بها حتي في الرضيعة.

و لو وطأها قبل التسع و لم يفضها، لم يترتب عليه شي ء غير الإثم علي الأقوي. و إن أفضاها- بأن جعل مسلكي البول و الحيض واحدا، أو مسلكي الحيض و الغائط واحدا- حرم عليه وطؤها أبدا، و لكن علي الأحوط في الصورة الثانية.

و علي أيّ حال لم تخرج عن زوجيته علي الأقوي، فيجري عليها أحكامها من التوارث و حرمة الخامسة و حرمة اختها و غيرها، و تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة، و إن طلّقها، بل و إن تزوجت بعد الطلاق علي الاحوط، بل لا يخلو من قوة.

و يجب عليه دية الافضاء و هي دية

النفس، فاذا كانت حرّة فلها نصف دية الرجل مضافا إلي المهر الذي استحقته بالعقد و الدخول.

و لو دخل بزوجته بعد اكمال التسع فافضاها، لم تحرم عليه و لم تثبت الدية، و لكن الاحوط الانفاق عليها ما دامت حيّة، و إن كان الأقوي عدم الوجوب.

موضوع الافضاء و احكامها

أقول: هذه المسألة من المسائل المهمّة، و تشتمل علي فروع كثيرة، و قد بحث في العروة الوثقي عن هذه المسألة في عشرة مسائل، و نحن نتكلم عن هذه الفروع الموجودة في التحرير، ثم نتكلم إن شاء اللّه، في ما يبقي، بعد ذلك.

[فروع المسألة]

1- حرمة وطي الزوجة قبل اكمال تسع سنين
اشارة

لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين، بل لا يجوز بعده إذا خيف عليها ضرر أو خطر بعدم الاستعداد الجسمانيّ؛ و إنّما يجوز إذا أمن من الضرر و الخطر عليها، و بلغت مبلغا تستعد للمواقعة؛ و تختلف الأفراد في ذلك، و كذلك البلدان؛ و قد كان تزويج الصبيّة لتسع سنين و زفافها، معمولا بين بعض الأقوام في سابق الأيام، و لم يكن ذلك إلّا

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 35

لاستعدادهنّ لذلك، لا سيما إذا كان الزوج أيضا مراهقا لا يكون منشأ لخطر عليها.

و قد كان هذا أيضا متداولا بينهم.

و علي كل حال، القول بحرمة الوطء قبل ذلك ممّا أجمع أصحابنا عليه كما صرح به في الجواهر و قال: إجماعا أيضا بقسميه. «1»

و قال شيخ الطائفة في النهاية: و لا يجوز للرجل أن يدخل بامرأته قبل أن يأتي لها تسع سنين؛ فان دخل بها قبل أن يأتي لها تسع سنين فعابت، كان ضامنا لعيبها؛ و يفرق بينهما و لا تحلّ له أبدا. «2»

و قال النراقي في المستند: لا يجوز الدخول بالمرأة قبل اكمالها تسع سنين بالإجماع المحقق و المحكيّ مستفيضا. «3»

و به صرّح في جامع المقاصد و المسالك حيث قالا: لا خلاف في تحريم وطئ الانثي قبل أن تبلغ تسعا. «4»

أمّا فقهاء العامة فقد تعرضوا الأحكام الافضاء مشروحا كما سيأتي إن شاء اللّه؛ و لكن لم نر لهم حكما بحرمة الدخول قبل

التسع أو العشر أو غيرهما؛ نعم، ذكر النووي في كتاب المجموع أنّه: إذا كانت الزوجة لا تحتمل الوطء بالافضاء، فلا يجوز له وطيها كما لا يلزمها تمكينه. «5»

و من الواضح أنّ هذا غير ما ذكره الأصحاب (قدس اللّه أسرارهم).

و يدل علي أصل الحكم- أي حرمة الوطء قبل تسع سنين- مضافا إلي الإجماع المذكور- روايات كثيرة:

1- ما رواه الكليني (قدس سره) في الصحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 414.

(2). الشيخ الطوسي، في النهاية/ 481.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 80.

(4). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 330، و الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 1/ 439.

(5). محي الدين النووي، في المجموع 20/ 274.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 36

إذا تزوج الرجل الجارية و هي صغيرة، فلا يدخل بها حتي يأتي لها تسع سنين. «1»

2- ما رواه عن عمار السجستاني، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لمولي له: انطلق فقل للقاضي قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حدّ المرأة، أن يدخل بها علي زوجها، ابنة تسع سنين. «2»

3- ما رواه في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه قال: من تزوج جارية صغيرة فلا يطأها حتي تبلغ تسع سنين. «3»

و هناك طائفة من الروايات، تدل علي التخيير بين تسع سنين أو عشر سنين، مثل ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يدخل بالجارية حتي يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين. «4»

و مثلها ما رواه أبو بصير، عنه عليه السّلام. «5»

و هناك طائفة ثالثة، تدل علي خصوص عشر سنين، مثل ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر،

عن أبيه، عن علي عليه السّلام، قال: لا توطأ جارية لأقل من عشر سنين؛ فان فعل، فعيب، فقد ضمن. «6»

و يمكن حمل روايات التخيير علي الاستحباب، لعدم امكان التخيير بين الأقل و الأكثر، و هذا الجمع قريب. و كذا ما دل علي خصوص العشر يحمل علي الاستحباب بقرينة الروايات الدالة علي التخيير. و قد يقال أنّ المراد بالعشر أول العشر أي تمام التسع و الدخول في العاشرة؛ و الأمر سهل، لا سيما بعد الإشكال في بعض اسناد الروايات الدالة علي العشر.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 70، الحديث 1، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 70، الحديث 3، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 214، الحديث 16528.

(4). الوسائل 14/ 70، الحديث 2، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 70، الحديث 4، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

(6). الوسائل 14/ 71، الحديث 7، الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 37

بقي هنا شي:

و هو أنّ ظاهر الأدلة، كون هذا الحكم أي الحرمة، عاما يشمل صورة خوف الإفضاء و عدمه، و أن كانت الحكمة غلبة خوف الإفضاء في أفرادها، إلّا أنّه حكمة لا علّة؛ فلو كانت الزوجة رشيدة في حال الصغر و كان الزوج حديث السنّ لا يخاف من دخوله عيب علي الزوجة، كانت الحرمة ثابتة.

بل يمكن تعميم الحكم لما إذا كانت المراة بالغة، و لكن كانت نحيفة يخاف عليها الافضاء أو العيب، لا يجوز دخوله بها؛ و لا يجب عليها التمكين؛ و لو استمرّ ذلك مدة طويلة، لا يبعد جواز الفسخ للزوج.

2- حكم سائر الاستمتاعات غير الوطء منها

قد صرّح غير واحد من المتأخرين و المعاصرين بجواز سائر الاستمتاعات منها دون الدخول، و قد صرح به في الجواهر، قال: نعم، لا بأس بالاستمتاع بغير الوطء، للأصل السالم عن المعارض. «1»

هذا، و لكن الانصاف أنّ بعض الاستمتاعات بالنسبة إلي الصغيرة كالرضيعة و مثلها، قبيح جدّا في عرف العقلاء، و كان قبحه من المستقلّات العقلية أو العقلائية، فلذا يخرج عن تحت عمومات الحلّية، كما لا يخفي.

3- لو وطئها و لم يوجب إفضاء فما حكمه؟

إذا ارتكب الحرام و وطأ قبل أن تبلغ تسع سنين و لم يوجب إفضاء و لا عيبا، لم يكن عليه شي ء (سوي التعزير علي فرض العلم و العمد في كلّ كبيرة)؛ هذا هو المشهور، و لكن عن الشيخين في المقنعة و النهاية، و ابن ادريس في السرائر، الحرمة أبدا بمجرّد الدخول؛ و نسبه في الكفاية إلي جماعة، و ظاهر المفاتيح الميل إليه، (كما في المستند).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 416.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 38

و قد يستدل له بمرسلة يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

إذا خطب الرجل المراة، فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، فرق بينهما، و لم تحلّ له أبدا. «1»

و لكن الاستدلال باطلاقها بعد ضعف السند، و قوة حملها علي غيرها ممّا يدل علي ثبوت هذا الحكم عند الافضاء، مشكل جدا؛ لا سيما مع عدم ثبوت النسبة إلي هؤلاء الأعلام، فالأقوي فيه ما عرفت.

4- اذا دخل بها فأفضاها

إذا دخل بها قبل تسع سنين، فافضاها، تترتب عليه أحكام أربعة علي المشهور:

1- تحرم عليه وطؤها أبدا.

2- تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة.

3- تجب عليه دية الافضاء، (و هي دية كاملة للمرأة، خمس مأئة دينار).

4- تجري عليها أحكام الزوجة من التوارث و غيره ما لم يطلّقها.

و أمّا الحرمة الأبدية، فلا دليل عليها إلّا مرسلة يعقوب بن يزيد، التي مرّت آنفا؛ و فيه، أنّها ضعيفة السند أوّلا، و لا تختصّ بالافضاء ثانيا، و انجبارها بعمل المشهور، مع اطلاقها بل ظهورها في استناد الحرمة إلي مجرّد الدخول لا إلي الافضاء، مشكل جدا.

هذا مضافا إلي أنّ التحريم المؤبد مخالف لمقتضي النكاح، و المفروض أنّ النكاح باق علي حاله، و قد

دلت عليه الروايات كما ستسمعها إن شاء اللّه.

فاذن يبدو هنا أمر عجيب ليس له نظير في الفقه ظاهرا، و هو أن تكون المرأة زوجة له مع حرمة وطيها أبدا، و كيف يمكن إثبات هذا الأمر العجيب برواية مرسلة، لم يثبت انجبارها.

أضف إلي ذلك، أنّ فيه ضررا عظيما علي الزوجة، لا سيما إذا كانت شابة و كانت قابلة للمواقعة، و لو في حال الافضاء، فان الافضاء قد لا يكون مانعا عنها؛ و لعله لذلك كله مال

______________________________

(1). الوسائل 14/ 381، الحديث 2، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 39

إلي الحليّة جماعة من المتأخرين.

هذا كله إذا لم تندمل و أمّا إذا اندملت أو صارت كاليوم الأول بسبب عمل الجراحية، فلا وجه فيها للحرمة أبدا و لا معني له.

و العجب أنّه قد يظهر من بعضهم بقاء الحرمة، و لو بعد الاندمال!

و أمّا وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة، فهو أيضا مشهور و صرح في الجواهر بعدم وجدانه الخلاف فيه، بل حكي الإجماع عليه عن جماعة. «1» و عمدة ما يدل عليه هو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فافضاها.

قال: عليه الاجراء عليها ما دامت حيّة. «2»

هذا، و لكن ظاهره الاطلاق بالنسبة إلي ما دون التسع و ما بعده، فان الجارية لها مفهوم عام تشمل كل شابة؛ و لكن المشهور- كما قيل- شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعا، علي اختصاص الحكم بالصغيرة؛ و لكن الانصاف أنّ هذا غير كاف في تقييد اطلاق الرواية.

بل الظاهر اطلاقها و شمولها حتي لما بعد الطلاق، خلافا لما عن الإسكافي، فانّه منع منه بعد الطلاق و لا وجه له؛

لا سيّما مع قوله عليه السّلام في مصحح حمران، من تعليل الدية بل و الانفاق، بقوله: قد أفسدها و عطّلها علي الازواج. «3»

نعم، القول بشموله حتي لما بعد النكاح الجديد و الانفاق عليها من زوجها الجديد، غير خال عن الإشكال؛ لأنّ تعدد الانفاق بعيد جدّا لأنّها حينئذ لم تعطل علي الأزواج، و هناك من ينفق عليها، فانصراف الاطلاق عنه غير بعيد.

و القول بأنّ أحد الانفاقين من باب الزوجية، و الآخر من باب الجريمة، كما تري، فانّه مناف لمفهوم الانفاق.

و أمّا الدية، فهي أيضا ممّا اشتهر بين الاصحاب، بل ادعي عليها الإجماع، بل عن العامة أيضا وجوب الدية بالافضاء إمّا مطلقا، أو في خصوص الصغيرة، و مثلها قال ابن

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 426.

(2). الوسائل 14/ 381، الحديث 4، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3). الوسائل 14/ 380، الحديث 1، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 40

قدامة في المغني: أنّ الضمان يجب بوطء الصغيرة أو النحيفة التي لا تحتمل الوطء دون الكبيرة المحتملة له؛ و بهذا قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: يجب الضمان في الجميع، لأنّه جناية فيجب الضمان به؛ ثم حكي مقدار الدية عن بعضهم الثلث، و عن بعضهم الدية الكاملة؛ (الأول عن قتادة و أبي حنيفة، و الثاني عن الشافعي). «1»

و حكي النووي في المجموع، عن بعضهم، التفصيل بين أنواع الافضاء، ففي بعضها تجب ثلث الدية و في بعضها الدية كاملة. «2»

و علي كل حال، يدل عليه مضافا إلي ما ذكر، عدّة روايات:

1- ما رواه حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل عن رجل تزوج جارية بكرا لم تدرك، فلمّا دخل

بها اقتضها فافضاها؟ فقال: إن كان دخل بها حين دخل بها و لها تسع سنين، فلا شي ء عليه؛ و إن كانت لم تبلغ تسع سنين، أو كان لها أقل من ذلك بقليل، حين اقتضها، فانّه قد افسدها و عطّلها علي الأزواج، فعلي الإمام أن يغرمه ديتها؛ و إن امسكها و لم يطلقها، فلا شي ء عليه. «3»

2- و مثله مع تفاوت بيسير ما رواه بريد بن معاوية العجلي، عن الباقر عليه السّلام. «4»

3- و احسن منهما، ما ورد في أبواب الديات، من صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل وقع بجارية فافضاها، و كان إذا نزلت بتلك المنزلة لم تلد؛ قال: الدية كاملة. «5»

و لكن الذي يظهر من ذيل الأولتين، سقوط الدية بامساكها و عدم طلاقها؛ و عن ابن الجنيد الاسكافي، العمل به.

و لكنه معرض عنه بين الأصحاب؛ و الوجه فيه ظاهر، فانّ الدية لزمت بالجناية، و لا وجه لسقوطها بمجرد بقاء نكاحها؛ اللّهم إلّا أن يكون ذلك من باب التصالح بينهما و هو غير بعيد.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 9/ 652.

(2). محي الدين النووي، في المجموع 20/ 273.

(3). الوسائل 14/ 380، الحديث 1، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(4). الوسائل 14/ 381، الحديث 3، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(5). الوسائل 19/ 248، الحديث 1، الباب 9 من أبواب ديات المنافع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 41

هذا، و الانصاف أنّ موارد الافضاء، مختلفة، كما سيأتي؛ ففي بعضها يلزم تعطيل المرأة علي الأزواج، ففيه الدية الكاملة؛ و في بعضها ليس كذلك، بحيث يكون كالجائفة، ففي وجوب الدية الكاملة حينئذ تأمل واضح.

و أمّا بقاء احكام

الزوجيّة إلي أن يطلّقها، و هذا أيضا مشهور بين فقهائنا، بل ادعي في الجواهر فتوي المعظم بل الكل عليه. «1» و يدل عليه، أنّ الخروج عن الزوجية يحتاج إلي أسباب معينة، و ما لم يثبت لا يخرج عنها؛ لا لمجرّد الاستصحاب حتي يقال أنّ المقام من الشبهات الحكميّة، و قد استشكلنا في حجيته، بل لما عرفت من أنّ الخروج عنها منوط بأسباب معينة و لم يحصل شي ء منها.

مضافا إلي ما عرفت في ذيل روايتي حمران و بريد بن معاوية «2» من قوله: و إن امسكها و لم يطلقها فلا شي ء عليه؛ الظاهر بل الصريح في بقاء الزوجية بحالها؛ اللّهم إلّا أن يقال بإن ذيلهما- كما عرفت- غير معمول به عند الأصحاب.

و الذي يمكن الاستدلال به للخروج عن الزوجية، أمران:

1- ما ورد في مرسلة يعقوب بن يزيد، «3» من قوله: فرق بينهما؛ الظاهر في حصول البينونة و بطلان الزوجية؛ و لكن ضعف سندها، و أعراض الأصحاب عنها، يسقطانها عن الحجيّة.

2- أنّ بقائها مع حرمة وطيها أبدا متنافيان، و لكن قد عرفت أنّ الأقوي عدم حرمته.

المراد من الافضاء

يبقي الكلام في المراد من الافضاء هنا؛ فقد اختلفت فيه كلمات فقهاء الخاصة و العامة، و صارت المسألة معركة للآراء و اختلاف الأقوال بين الفريقين متقاربة. «4»

و حاصل الكلام فيه بما يكشف النقاب عن وجه المسألة، أنّ الافضاء في اللغة مأخوذ

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 418.

(2). الوسائل 14/ 380 و 381، الحديثان 1 و 3، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(3). الوسائل 14/ 381، الحديث 2، الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 419 و محي الدين النووي، في المجموع 19/ 123.

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 42

من الفضاء و هو المكان الواسع، و قد يستعمل في الجماع و اللمس و شبههما (من جهة الاتصال في المكان الواسع)، و لكن المقصود منه في المقام ليس مطلق إيجاد الفضاء الواسع في الفرج بالفعل العنيف، بل الظاهر أنّ لهم اصطلاح خاص فيه، و لكن اختلفوا في تفسيره بأقوال:

1- اتحاد مسلكي البول و الحيض.

2- اتحاد مسلكي الحيض و الغائط.

3- يكفي كل منهما في صدق الافضاء.

4- اتحاد مسلكي البول و الغائط (و لكن هذا غير ممكن بدون اتحاد المسالك الثلاثة).

5- اتحاد المسالك الثلاثة.

و قد ذهب إلي كل منها بعضهم؛ و توضيح ذلك، أنّ للمرأة مسالك ثلاثة: مسلك البول و هو في الفوق، و مسلك الحيض و الجماع و هو في الوسط، و مسلك الغائط و هو في الأسفل، (و الأولان واقعان في فضاء الفرج و الآخر مستقل).

و حيث إنّ الحاجز بين مسلكي البول و الحيض رقيق، و بين مسلك الحيض و الغائط غليظ، استبعد كثير منهم اتحاد الأخيرين، و اكتفي بالأولين؛ و لكن صرّح بعضهم بأنّ اتحاد الاخيرين أيضا ممكن و إن كان نادرا.

هذا، و الانصاف عدم قيام دليل علي شي ء من هذه الامور، لعدم ذكرها في اللّغة (إلّا تبعا لبعض كلمات الفقهاء) و عدم ورود شي ء منها في الروايات.

فالحق أن يقال إنّ عنوان الافضاء و إن ورد في روايات عديدة (منها 1/ 34 و 3/ 34 و 4/ 34)، و لكن لعل المراد منها هو معناه اللغوي، و هو ايجاد الفضاء الواسع في الفرج بالخرق و يدل عليه التعبير باقتضها؛ في غير واحد من روايات الباب.

و لكن يفسر الجميع قوله: قد أفسدها و عطّلها علي الأزواج؛ في معتبرة حمران

(1/ 34)، و هو الذي ينبغي أن يستند إليه الفقيه في المقام، فالمعيار هو فساد المرأة، أي تعطيله علي الأزواج.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 43

و إن شئت قلت: الافضاء في الأصل مأخوذ من الفضاء، و هو المحل الواسع؛ فالافضاء بمعني جعل الشي ء واسعا، و قد يأتي بمعني الملامسة؛ فانّ الشي ء يتسع و يصل إلي غيره، (و هو كناية عن الجماع المتعارف، كما في الآية 21 من النساء).

و لكن قد فسّره غير واحد من أرباب اللغة، كالقاموس و لسان العرب، بأنّ المراد: إذا جعل مسلكيها مسلكا واحدا؛ من غير الإشارة بأنّ المراد أي المسلكين؟ و قد صرّح بعضهم كالطريحي في مجمع البحرين، بأنّ المراد مسلك البول و الغائط (انتهي). و لكن قد عرفت أنّ اتحاد هذين المسلكين يوجب اتحاد الجميع.

و لكن هل هذا من المعاني اللغوية، أو أخذه أرباب اللغة من الفقهاء؟ لاتفاق فقهاء العامة و الخاصة علي تفسيره به إجمالا.

و علي كل حال لا يبعد أن يقال ان معناه الأصلي ايجاد الوسعة و الاتساع في شي ء، ثم إنّه لما لم يمكن الاتساع في مقام البحث، بغير خرق أحد الجدارين (ما بين مسلكي البول و الحيض، أو الحيض و الغائط)، فسّر بذلك، فهو اصطلاح فقهي مأخوذ من معناه اللغوي؛ فعلي هذا لا فرق بين جميع الصور الثلاثة، جعل مسلكي البول و الحيض واحدا، أو مسلكي الحيض و الغائط أو الجميع واحدا.

هذا، و لكن يمكن أن يكون المدار علي فسادها و تعطيلها علي الأزواج، فلو فرض اتحاد بعض مسالكها مع بعض و لم تعطّل علي الأزواج، أي كانت مستعدة للوطئ، كاستعدادها للولادة، خرجت عن حكم المسألة من وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة و شبهه،

و إن صدق عليها أنّها مفضاة في الجملة؛ فالحكم دائما يدور مدار هذا العنوان بقرينة معتبرة حمران؛ نعم، إذا حصل فيها نقص و لم تعطل علي الأزواج، وجب أرش الجناية علي كل حال.

*** بقي هنا أمران:

الأول: أنّه إذا عالجها بعض الأطباء، فصلحت للأزواج، بعد أن تعطلت، و هو أمر سهل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 44

في أعصارنا و هو عصر الترقيع و نقل الأعضاء من بعض إلي بعض، تبدل الحكم لتبدل موضوعه، فان حديث حمران كالقياس المنصوص العلّة،- و العلّة تعمّم و تخصص- فالحكم بحمد الله واضح.

هذا، و لكن هل تجب الدية الكاملة في هذه المقامات التي يعود الإنسان إلي حاله الأول بسهولة أو بصعوبة؟، لا يبعد نقصان الدية في هذه المقامات، كما ورد في أبواب كسر العظام و أنّه لو كسرت و عادت بغير نقص، كانت ديتها انقص.

و قد صرّح في التحرير، أنّه إذا كسرت العنق و انحني وجبت دية كاملة، و أنّه لو زال العيب فلا دية، و عليه الأرش؛ و في دية الظهر و أنّه إذا انكسروا حدود دية كاملة و أنّه لو صلح و عولج و لم يبق من آثار الجناية شي ء فمائة دينار؛ «1» إلي غير ذلك من أمثالها.

الثاني: المعروف بينهم أنّه إذا وقع الافضاء بعد تسع سنين، فلا شي ء علي الزوج؛ و الانصاف أنّ هذا الحكم علي اطلاقه ممنوع جدّا، فان كانت الزوجة نحيفة و الزوج قويا يخاف عليها الافضاء، فانه لا يجوز له و لا يجب عليها التمكين، فلو افضاها و الحال هذا، ضمن علي الأحوط لو لا الأقوي.

نعم، لو لم يكن هناك خوف، و رضيت بذلك، لم يكن عليه شي ء لإقدامها علي الفعل، فلا يلزم الضمان عليه.

***

______________________________

(1). راجع

دية الظهر و العنق، في تحرير الوسيلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 45

[المسألة 13: لا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها]

اشارة

المسألة 13: لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها، حتي المنقطعة، علي الأقوي؛ و يختص الحكم بصورة عدم العذر، و أمّا معه فيجوز الترك مطلقا ما دام وجود العذر، كما إذا خيف الضرر عليه أو عليها، و من العذر عدم الميل المانع عن انتشار العضو.

و هل يختص الحكم بالحاضر فلا بأس علي المسافر، و إن طال سفره، أو يعمّها فلا يجوز للمسافر إطالة سفره أزيد من أربعة أشهر، بل يجب عليه مع عدم العذر الحضور لإيفاء حق زوجته؟ قولان: أظهرهما الأول، لكن بشرط كون السفر ضروريا، و لو عرفا، كسفر تجارة أو زيارة أو تحصيل علم و نحو ذلك، دون ما كان لمجرّد الميل و الانس و التفرج و نحو ذلك، علي الأحوط.

ترك وطي الزوجة اكثر من اربعة اشهر

أقول: المعروف من مذهب الأصحاب أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، بل ادعي عليه الإجماع. قال في الحدائق: قد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة اشهر. «1» و قال في المسالك: هذا الحكم موضع وفاق، و به حديث ضعيف السند … و روي العامة أنّ عمر سأل نساء أهل المدينة- لما أخرج أزواجهن إلي الجهاد، و سمع امرأة تنشد أبياتا من جملتها:

فو الله، لو لا الله لا شي ء غيره لزلزل من هذا السرير جوانبه!

- عن أكثر ما تصبر المرأة عن الجماع؟ فقيل له: اربعة أشهر، فجعل المدّة المضروبة للغيبة أربعة أشهر. «2»

و استدل له بامور:

1- الإجماع الذي حاله معلوم.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 89.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 6/ 66.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 46

2- لزوم العسر و الحرج و الضرر، و لكنه يختلف

باختلاف الموارد.

3- ما يستفاد من حكم الايلاء، كما قال الله تعالي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلٰاقَ فَإِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» فانّ الايلاء و هو نوع من القسم اعتبر إلي أربعة اشهر، و هذا دليل علي عدم وجوب الجماع قبل ذلك، و إلّا لم يرخص الله لهم تأخير هذه المدّة؛ فقد خير الزوج بعد هذه المدّة بين أمرين: الرجوع إلي الزوجة، و ترك القسم الدائر علي عدم مقاربته، أو طلاقها؛ و هو دليل علي جواز تأخيره إلي هذه المدّة لا أكثر؛ و لا بأس بهذا الاستدلال.

4- و لعله العمدة، ما رواه صفوان بي يحيي، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المراة الشّابة، فيمسك عنها للأشهر و السنة لا يقربها، ليس يريد الاضرار بها، يكون لهم مصيبة، يكون في ذلك آثما؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثما بعد ذلك. «2»

و قد عرفت أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه وصفه بضعف السند، و لعله نظر في ذلك إلي بعض اسناد الشيخ (قدس سره) هنا، فانّه رواه عن علي بن أحمد بن أشيم، و هو مجهول، و لكن بعض طرق الشيخ، و كذا طريق الصدوق إليه معتبر، فلا غبار علي الحديث من هذه الجهة؛ لكن موردها المرأة الشابة، و تعميم الحكم إلي غيرها يحتاج إلي دليل.

5- مرسلة جعفر بن محمد، عن بعض رجاله، عن الصادق عليه السّلام قال: من جمع من النساء ما لا ينكح، فزنا منهن شي ء، فالإثم عليه. «3»

و هو مع ضعف السند، لا يدل علي اربعة أشهر، فلا يصلح إلّا مؤيدا.

و هذه الأدلة الخمسة و إن كان

في كل واحد ضعف من جهة، و لكن لا يبعد إثبات المقصود مع ضمّ بعضها ببعض.

هذا، و لا يبعد شمولها أيضا للشابة و غيرها إلّا القواعد من النساء، بل يمكن أن يقال

______________________________

(1). البقرة/ 226.

(2). الوسائل 14/ 100، الحديث 1، الباب 71 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 100، الحديث 2، الباب 71 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 47

لو كانت الزوجة تقع في الإثم في هذه المدّة و أقل منها، يجب علي الزوج إتيانها، من وجوب حفظها عن الإثم مهما أمكن بمقتضي أدلة النّهي عن المنكر، مضافا إلي كون الزوج لباسا لهن بمقتضي قوله تعالي: وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ يمنعها عن القبيح، و كذلك إذا لم تقع في الحرام و لكن كانت في عسر و حرج و ضرر.

*** بقي هنا أمران:

الأوّل: هل هناك فرق بين الحاضر و المسافر؟

اطلاق الأدلة، دليل علي العموم، و ما عرفت من جواب الأصحاب لعمر؛ و لكن قد يدعي جريان السيرة علي خلافه، لا سيما في سابق الأيّام التي كانت الأسفار للتجارة أو الزيارة طويلة، و فعل عمر ليس بحجة؛

و الانصاف أنّ جريان السيرة مع عدم ضرورة السفر و عدم رضا الزوجة محل تأمل؛ فالأحوط لو لا الأقوي هو العموم إلّا مع رضاها.

الثاني: هل هناك فرق بين الدائمة و المنقطعة؟

فيه قولان: فعن الشهيد الثاني في الروضة الشمول، و عنه في المسالك، الخصوص؛ و علّله بانه القدر المتيقن مع عدم جريان كثير من أحكام الزوجية علي المنقطعة.

و الانصاف أنّ النص و معاقد الإجماع، عام؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 48

[المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل]

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل، و هو اخراج الآلة عند الانزال و افراغ المني إلي الخارج، في غير الزوجة الدائمة الحرّة، و كذا فيها مع إذنها؛ و أمّا فيها بدون اذنها؛ ففيه قولان: أشهرهما الجواز مع الكراهة، و هو الأقوي، بل لا يبعد عدم الكراهة في التي علم أنّها لا تلد، و في المسنّة و السليطة و البذية و التي لا ترضع ولدها؛ كما أنّ الأقوي عدم وجوب دية النطفة عليه و إن قلنا بالحرمة، و قيل بوجوبها عليه لزوجته، و هي عشرة دنانير و هو ضعيف في الغاية.

حكم العزل

أقول: المشهور- كما في الجواهر و غيره- كراهة العزل عن الحرّة الدائمة بغير رضاها، و قيل- و القائل هو الشيخ المفيد في المقنعة، و شيخ الطائفة في الخلاف، و المبسوط، و جماعة اخري كما حكي عنهم- هو محرم؛ و استدل للحرمة بروايات رواها الفريقان في كتبهم؛ فعن طريق الخاصة عدّة روايات رواها في الوسائل في الباب 74 من أبواب مقدمات النكاح؛ منها:

1- ما رواه في دعائم الإسلام، عن علي عليه السّلام قال: الوأد الخفي أن يجامع الرجل المرأة، فاذا أحسّ الماء نزعه منها فأنزله فيما سواها؛ فلا تفعلوا ذلك، فقد نهي رسول الله أن يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها … «1»

2- عنه صلّي اللّه عليه و آله أنّه وأد الخفي. «2»

فالتعبير عنه بالوأد، (هو دفن الولد حيّا)، دليل علي الحرمة.

3- ما دل علي الجواز في صور خاصة التي تدل بالمفهوم علي حرمة غيره، مثل ما رواه يعقوب الجعفي، قال: سمعت أبا الحسن يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المراة التي تيقنت أنّها لا تلد، و المسنة، المرأة السليطة، و البذية، و المراة التي

لا ترضع ولدها، و

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 333، الحديث 16584.

(2). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 231.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 49

الامّة؛ «1» اللّهم إلّا أن يقال بانّ مفهومها وجود البأس و هو أعم من الحرمة.

4- ما دل علي أنّ فيه الدية- و الدية لا تكون إلّا عن جناية- و قد رواها في الوسائل، في الباب 19 من باب ديات الأعضاء؛ و فيه: أنّ دية افراغ الماء خارج الرحم عشرة دنانير.

و لكن الانصاف أنّها ظاهرة أو صريحة في افراغ ماء الرجل خارج الرحم بغير رضاه؛ فراجع.

فالعمدة هو الأول و الثاني، و اسنادهما ضعيفة.

و لكن هناك روايات كثيرة تدل علي الجواز؛ منها:

صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العزل؟ قال: ذاك إلي الرجل يصرفه حيث شاء. «2»

و مثله الرواية 2 و 3 و 4 و 5 و 6 من ذاك الباب بعينه.

فلو دلت الروايات الواردة في الطائفة الاولي علي الحرمة، فتحمل علي الكراهة بقرينة هذه الروايات، فانه طريق الجمع في جميع أبواب الفقه.

و تشهد له طائفة ثالثة من الروايات، تدل علي الكراهة، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام أنّه سئل عن العزل، فقال: أمّا الامة، فلا بأس؛ فامّا الحرّة، فانّي أكره ذلك، إلّا أن يشترط عليها حين يتزوجها. «3» إلي غير ذلك، فالمسألة ظاهرة.

*** بقي هنا أمران:

الأول: إذا كان ذلك سببا للإضرار بالمراة، أمّا من ناحية الروحية أو الجسميّة، يشكل جواز ذلك، لدليل نفي الضرر و الضرار.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 107، الحديث 4، الباب 76 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 105، الحديث 1، الباب 75 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 106، الحديث 1، الباب

76 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 50

الثاني: هل ترتفع الكراهة إذا كان كثرة الأولاد سببا لمشاكل شخصية أو اجتماعية مثل غلبة الفقر و الجهل و المرض علي الجماعة لعدم وجود ما يكفيهم في هذه الامور الثلاثة فعلا، فيعزل عنها طلبا لقلة الأولاد حتي يربيهم و يحفظهم من الجهل و الفقر؟ لا يبعد ذلك؛ و الوجه فيه، ترجيح هذه الملاكات علي ملاك الكراهة. هذا، و لكن الظروف مختلفة و الشرائط متفاوته؛ و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 51

[المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر إلي جسد الآخر]

اشارة

المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر الي جسد الاخر، ظاهره و باطنه حتّي العورة. و كذا مسّ كلّ عضو منهما بكلّ عضو منه كل عضو من الاخر مع التلذذ و بدونه.

حكم النظر و اللمس لكل من الزوجين

لا كلام و لا اشكال في شي ء مما ذكره في المتن، بل و لا خلاف فيه كما في الجواهر و المستمسك، «1» بل هو من ضروريات الدين كما في الجواهر و المستمسك و المهذب، «2» لاستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار، بل عليه جميع العقلاء الذين لهم زوجية و زواج.

و يدل علي الجواز مضافا الي ما ذكر، روايات كثيرة وردت في الباب 59 من ابواب مقدّمات النكاح، من وسائل الشيعة، المجلد 14. منها ما ارسله ابن أبي عمير، عن اسحاق بن عمار، عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: في الرجل ينظر الي امرأته و هي عريانة؟ قال: لا بأس بذلك.

و هل اللذة الّا ذلك. «3» و غيرها من الروايات نعم يكره النظر الي العورة للنهي عنه في بعض الروايات «4» المحمول علي الكراهة التي هي مقتضي الجمع بين الروايات الناهية و المجوزة. «5» فما ذكره في المتن مما لا اشكال فيه الا ان النظر الي العورة (عورة المرأة) مكروهة.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 73.

(2). مهذب الاحكام، ج 24، ص 38.

(3). الوسائل 14/ 85، الحديث 1، الباب 59، من ابواب مقدمات النكاح.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 51

(4). الوسائل 14/ 85، الحديث 5 و 6 و 7، الباب 59،

من ابواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 85، الحديث 2 و 3، الباب 59، من ابواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 52

[المسألة 16: لا إشكال في جواز نظر الرجل إلي ما عدا العورة من مماثله]

اشارة

المسألة 16: لا اشكال في جواز نظر الرجل الي ما عدا العورة من مماثله، شيخا كان المنظور اليه او شابّا، حسن الصورة او قبيحها، ما لم يكن بتلذّذ و ريبة، و العورة هي القبل و الدبر و البيضتان. و كذا لا اشكال في جواز نظر المرأة الي ما عدا العورة من مماثلها، و امّا عورتها فيحرم ان تنظر اليها كالرجل.

حكم النظر الي المماثل

هذه المسألة كسابقتها واضحة لا ريب فيها و لم نجد من خالف فيها.

قال في الجواهر: لا اشكال كما لا خلاف في انه يجوز ان ينظر الرجل الي مثله ما خلا عورته الواجب عليه سترها في الصلاة شيخا كان أو شابا، حسنا أو قبيحا ما لم يكن النظر لريبة او تلذذ، و كذا المرأة بالنسبة الي المرأة، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل لعله من ضروريات الدين المعلومة باستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار. «1»

و قال في المهذب تعليلا علي المسألة: كل ذلك للأصل، و اجماع المسلمين، بل ضرورة من الدين من اوّل بعثة سيد المرسلين، بل قبلها. و يصح التمسك بالسيرة العقلائية أيضا. «2»

و يشهد لما ذكرنا مضافا الي الاصل و الاجماع و السيرة و بناء العقلاء روايات كثيرة وردت في باب 3 و 4 و 5 و 18 من آداب الحمام من الوسائل، المجلد الاوّل.

منها ما رواه حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا ينظر الرجل الي عورة اخيه. «3»

و منها ما رواه في تحف العقول عن النبي صلّي اللّه عليه و آله: انّه قال: يا علي ايّاك و دخول الحمام بغير

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 29، ص 71.

(2). مهذب الاحكام، ج 24، ص 37.

(3). الوسائل، 1/ 363، الحديث

1، الباب 3، من ابواب آداب الحمام.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 53

ميزر، طعون ملعون الناظر و المنظور اليه. «1»

و غيرهما من الروايات. و جميع ما يدل علي ليس المئزر و عدم جواز دخول الحمام بدونه شاهد علي ما ذكرنا.

______________________________

(1). الوسائل، 1/ 364، الحديث 5، الباب 3، من ابواب آداب الحمام.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 54

[المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلي جسد محارمه ما عدا العورة]

اشارة

المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلي جسد محارمه ما عدا العورة، إذا لم يكن مع تلذذ و ريبة. و المراد من المحارم، من يحرم عليه نكاحهن من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة. و كذا يجوز لهن النظر إلي ما عدا العورة من جسده، بدون تلذّذ و ريبة.

حكم النظر الي المحارم

أقول: من هنا نشرع في مسائل النظر التي هي من أهمّ ما يبتلي به الناس في عصرنا، و نبدأ من النظر إلي المحارم قال في الجواهر- بعد ذكر مسألة جواز النظر إلي المحارم: - بلا خلاف في شي ء من ذلك، بل هو من الضروريات؛ ثم حكي عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية في وجه، أنّه ليس للمحرم التطلع في الجسد عاريا؛ ثمّ قال هو واضح الضعف. «1»

و يظهر من كلام صاحب الرياض «2» و كلام النراقي (رحمه اللّه) في المستند، «3» أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة:

1- جواز النظر إلي جميع بدن المحارم ما عدا العورة، و هو المشهور بين الأصحاب، كما صرّح به جماعة. بل قيل أنّه مقطوع به في كلامهم، بل حكي الإجماع عليه.

2- جواز النظر إلي المحاسن خاصة؛ و فسّر بمواضع الزينة، فيشمل الشعر و الوجه و الكف و الساعد و القدم و شيئا من الساق و موضع العقد من النحر و شبه ذلك (و لم يحك قائله).

3- عدم جواز النظر، إلّا إلي الوجه و الكفين و القدمين. (و قد عرفت حكايته في كلام الجواهر عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية؛ و عن التنقيح، استثناء الثدي حال الارضاع أيضا؛ و لو عدّ هذا قولا آخر، لكانت الأقوال أربعة.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 73.

(2). السيّد علي الطباطبائي، في رياض

المسائل 10/ 65- (2/ 73 ط. ق).

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 43.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 55

و قال ابن قدامة، في المغني: يجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلي ما يظهر غالبا كالرقبة و الرأس و الكفين و القدمين و نحو ذلك؛ و ليس له النظر إلي ما يستتر غالبا كالصدر و الظهر و نحوهما. و ذكر القاضي، إن حكم الرجل مع ذوات محارمه كالرجل مع الرجل و المرأة مع المرأة … ثم حكي عن الضحاك: لو دخلت علي امّي، لقلت أيتها العجوز غطّي شعرك! «1».

و من هنا يظهر، أن الأقوال بين العامّة أيضا ثلاثة طبقا لما بيننا.

أدلّة المشهور علي مذهبهم

و علي كل حال، فقد استدل لقول المشهور أو المنسوب إليهم:

أولا، بقوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ؛ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ … «2»

المراد من الزينة في المقام

و المراد من الزينة في وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ …، الزينة الباطنة؛ و أمّا الزينة الظاهرة، فقد ورد في الجملة السابقة.

و الحاصل؛ أنّ الزينة علي قسمين، الظاهرة التي يجوز اظهارها لكل أحد كالكحل و الخاتم، المصرح بهما في الروايات؛ و الباطنة و هي كالقلادة و الدملج و الخلخال و السوار، فلا يجوز اظهارها إلّا للمحارم و من الواضح أنّ جواز اظهار هذه الزينة، ملازم بجواز رؤية محلّها.

و من هنا يظهر أنّ تفسير الزينة، بمواضع الزينة من باب الدلالة الالتزامية، لا أنّ الزينة

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 454 و 455.

(2). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 56

بمعني مواضع الزينة؛ فان المجاز أو الحذف مخالف للأصل.

و لكن هذا الدليل لا يدل علي مقالة المشهور؛ و لو جعل دليلا علي القول الثاني، كان أحسن. فان المتعارف ارائة الزينة الباطنة و محلها للمحارم، و هو المراد من المحاسن.

و ثانيا، بالروايات الواردة في غسل الميت مما يدل علي جواز نظر المحارم إلي محارمهم. منها:

1- ما رواه منصور، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل، يخرج في السفر و معه امرأته؛ أ يغسّلها؟ قال: نعم، و أمه و أخته و نحو هذا، يلقي علي عورتها خرقة. «1»

و سند الحديث معتبر، فان منصور

و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، إلّا أن المراد منه هنا منصور بن حازم بقرينة رواية صفوان بن يحيي منه. و منصور بن حازم من اجلاء الأصحاب و ثقاتهم، و عدّه المفيد من الفقهاء الأعلام و قد روي روايات كثيرة في أبواب مختلفة تبلغ 360 حديثا. و قد روي منصور، بدون ذكر الأب في 93 مورد غالبها هو منصور بن حازم، و هو من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام و كان له كتاب. و دلالتها مبنيّة علي كون امّه و اخته عطفا علي المفعول في يغسلها، كما هو ظاهر؛ و إلّا كان من قبيل توضيح الواضح.

هذا، و يمكن الجواب عنه بان المراد جواز ذلك عند الضرورة، بقرينة ذكر السفر.

مضافا إلي الرّوايات المقيّدة بوجوب كونه من وراء الثياب التي تكون دليلا علي ضدّه؛ و سيأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

2- ما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل، عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلّا النساء؛ قال: تغسله امرأته أو ذات قرابته إن كانت له، و يصبّ النّساء عليه الماء صبّا «2».

و سند الرواية معتبر و لكنه أيضا ظاهر بل صريح في وروده مورد الضرورة و هو فقدان المماثل؛ بل ظاهرها، ارتكاز ذهن الراوي أيضا عدم الجواز عند وجود المماثل.

______________________________

(1). الوسائل 2/ 705، الحديث 1، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

(2). الوسائل 2/ 705، الحديث 3، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 57

اللّهم إلّا أن يقال إن غسل الميت له خصوصيّة، و لكنه عجيب لأن حال الميّت ليس أشد من الحيّ.

إن قلت: حال الميّت يمكن أن يكون اشد من الحيّ؛

و لذا أمر في الزوجة أن تغسل من وراء الثياب إذا كان الغاسل زوجها، سواء قلنا بوجوبه أو استحبابه.

قلنا: لا يبعد أن يكون هذا الحكم لمنع الزوج أن يري من زوجته بعد مماتها ما يكره، فليس هذا دليلا علي كون الحكم هنا اشد.

3- ما رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السّلام في حديث: إذا مات الرجل في السفر … و إذا كان معه نساء ذوات محرم، يؤزرنه و يصببن عليه الماء صبا و يمسسن جسده و لا يمسسن فرجه «1».

و في طريق الرواية، الحسين بن علوان و هو محل كلام بين الأصحاب. و أمّا زيد بن علي فقد وردت روايات كثيرة في مدحه، و أن خروجه كان للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (و لعله كان بإذن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام) و تضافرها يغنينا عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا دلالتها فهي واضحة، لأنّ الازار لا يستر جميع البدن و هو مقابل للقميص؛ و لذا ذكروا في الديات في باب الحلّة أنّه يكفي فيه قميص و ازار؛ و المئزر ما يستتر به في الحمام، و حينئذ تدل علي جواز نظر النساء المحارم لجسد الرجل المحرم بل و مسّ جسده.

و لكن الانصاف عدم تمامية هذا الاستدلال؛ أمّا أوّلا، فلان ذكر السفر في غير واحد منها دليل علي ورودها و نظرها إلي حال الضرورة، و اين ذلك من حال الاختيار.

و ثانيا، إنّ هذه الطائفة من الروايات معارضة لطائفة اخري؛ منها الرواية الخامسة و التاسعة و الرابعة التي تدل علي وجوب كون غسل المحارم، من وراء الثياب أو القميص دليل علي خلافها فهي معارضة للمطلقات؛ و الجمع بينها إنّما يكون بالتقييد.

و تكون

______________________________

(1). الوسائل 2/ 707، الحديث 8، الباب 20 من أبواب غسل الميت.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 58

النتيجة مخالفة لقول المشهور و دليلا علي القول الآخر. و خروج بعض البدن عن القميص لا يفيد لقول المشهور.

اللّهم إلّا أن يقال: يحمل هذا القيد، علي الاستحباب؛ لورود الطائفة الاولي مورد الحاجة، و لا يجوز تأخير البيان من وقتها. مضافا إلي أنّ بعض الطائفة الاولي صريح في عدم الثياب.

و الحاصل، أنّ هناك طريقين للجمع بين الطائفتين؛ الجمع بالتقييد، أو حمل المقيد علي الاستحباب؛ و لا دليل هنا لتقديم الأول علي الثاني، لا سيما مع صراحة بعض الطائفة الاولي في عدم كون الميت مستورا.

إن قلت: هنا دليل ثالث يمكن الالتجاء إليه في إثبات مقالة المشهور، و هو جريان السيرة بعدم تستر المحارم عن محارمهم في ما عدا العورة و المراد سيرة المتشرعية.

قلنا: السيرة غير ثابتة، و القدر المتيقن اظهار المحاسن و مواضع الزينة، لا مثل الصدر و الظهر و الفخذين، فدعواها بلا دليل.

إن قلت: مقتضي الاصل هنا، الاباحة؛ فلو شك يرجع إليه و هذا في الحقيقة دليل رابع في المسألة.

قلنا: بل، الأصل هو الحرمة بعد ورود العموم في قوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ … * وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ «1» و لم يستثن منها بالنسبة إلي المحارم، إلّا الزينة الباطنة مضافا إلي الظاهرة.

دليل المختار

و من هنا يظهر الدليل علي القول الثاني، و هو الاقتصار علي المحاسن، بمقتضي عموم الآيتين و عدم قيام دليل علي خلافه؛ فالقول الثاني هو الاقوي.

و أمّا القول الثالث، أعني الاقتصار علي الوجه و الكفّين و القدمين فهو باطل قطعا، لأنّه

______________________________

(1). النور/ 30 و 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)،

ص: 59

من قبيل الاجتهاد في مقابل النص القرآني كما لا يخفي. و قد يستدل له بما رواه في الجعفريات باسناده عن علي عليه السّلام أنّه قال: إنّ رجلا أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أمي استأذن عليها- إلي أن قال- يا رسول اللّه اختي تكشف شعرها بين يدي؟ فقال: لا؛ قال: و لم؟ قال: اخاف أن ابدت شيئا من محاسنها و من شعرها أو معصمها أن يواقعها! «1».

و يجاب عنها: أولا: بالإشكال في سندها؛ فانّ الكتاب لإسماعيل بن موسي بن جعفر عليهما السّلام و لم نر في كتاب الرجال توثيقا بل و لا مدحا لإسماعيل، غير أن ارباب الرجال ذكروا أنّه سكن مصر و ولده بها، له كتب يرويها عن أبيه عن آبائه، و الراوي منه هو ابنه موسي بن اسماعيل و هو أيضا مجهول الحال لم يوثق في كتب الرجال و الراوي عنه محمد بن الاشعث و هو أيضا كذلك، فالاعتماد علي الكتاب مشكل.

و ثانيا: انه مخالف لما ورد صريحا في سورة النور من جواز اظهار الزينة الباطنة (و محلها بالملازمة) للمحارم السبعة المذكورة فيها.

و ثالثا: الظاهر أنها قضية في واقعة خاصة، كانت محلا للريبة؛ و إلّا لا تزال الأخوات تكشفن رءوسهن للإخوة و لا يتسبب شيئا، فالحكم الكلي، مع عدم كونه في الغالب محلا للريبة، غير مأنوس كما هو ظاهر.

*** بقي هنا شي ء:

و هو، أنّ ما أفاده في متن تحرير الوسيلة من أنّ المحارم كل من يحرم نكاحه من حيث النسب أو الرضاع أو المصاهرة، هل يتم علي كليّتها؛ فان من المحرمات الأبدية، النكاح في العدة أو بذات البعل مع شرائطه، و هو داخل في

عنوان المصاهرة بناء علي كون المراد به، العقود الموجبة للحرمة الأبدية؛ اللّهم إلّا أن يقال إن المصاهرة لا تشمل أمثال هذه الموارد فتأمل.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 303، الحديث 16781.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 60

و أمّا حرمة نكاح اخت الزوجة، فانّها لا توجب المحرمية، لكون الحرمة مؤقتة لا أبدا، مضافا إلي أنّ الحرام هو الجمع بين الاختين، لا أنّ اخت الزوجة حرام، و الفرق بينهما ظاهر.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 61

[المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلي ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلي ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة من شعرها و سائر جسدها سواء كان فيه تلذذ و ريبة أم لا، و كذا الوجه و الكفان إذا كان بتلذذ و ريبة؛ و أمّا بدونها، ففيه قولان، بل أقوال: الجواز مطلقا، و عدمه مطلقا، و التفصيل بين النظرة الواحدة فالأول، و تكرار النظر فالثاني، و أحوط الأقوال أوسطها.

حكم النظر الي الاجنبيّة

أقول: هذه المسألة معركة للآراء و اختلفت فيها كلماتهم، و المعروف أنّ فيها أقوال ثلاثة كما ذكره غير واحد.

قال الشهيد الثاني في المسالك: تحريم نظر الرجل إلي الأجنبيّة فيما عدا الوجه و الكفين موضع وفاق بين المسلمين، و لا فرق فيه بين التلذذ و عدمه و لا بين خوف الفتنة و عدمه.

و أمّا الوجه و الكفان، فان كان في نظرهما أحد الأمرين، حرم أيضا إجماعا؛ و إلّا ففي الجواز اقوال:

أحدها: الجواز مطلقا علي كراهية، اختاره الشيخ (ره) …

و الثاني: التحريم مطلقا، اختاره العلّامة في التّذكرة …

و الثالث: جواز النظر إلي الوجه و الكفين علي كراهيّة مرّة لا أزيد، و هو الاذي اختاره المصنف و العلّامة في أكثر كتبه … «1»

و صرّح صاحب الجواهر (قدّس اللّه نفسه الشريفة) بأنّ النظر إلي غير الوجه و الكفين غير جائز في حال الاختيار بالإجماع، بل الضرورة من المذهب، بل ضرورة الدين، ثم نقل جواز النظر إلي الوجه و الكفين من دون تلذذ و ريبة عن جماعة، و بعد الاستدلال له

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 46 و 47.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 62

قال: و قيل لا يجوز مطلقا، و اختاره الفاضل في التذكرة و غيرها. و ذكر في آخر

المسألة كلام المحقق (قدّس سرّه)، أي التفصيل بين المرّة الاولي فيجوز، و معاودة النظر فلا يجوز، و جعله أضعف الأقوال في المسألة. «1»

و يظهر من كلام ابن قدامة في المغني، أنّ الأقوال الثلاثة أيضا موجودة عندهم، فقد حكي عن القاضي (من فقهائهم) أنّه قال: يحرم عليه النظر إلي ما عدا الوجه و الكفين، لأنّه عورة، و يباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة و نظر بغير شهوة. ثم قال: و هذا مذهب الشافعي، لقول اللّه تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا. قال ابن عباس:

الوجه و الكفين.

و حكي في صدر كلامه عن أحمد أنّه محرما إلي جميعها حيث قال: لا يأكل مع مطلقته هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلي كفّها؟ لا يحل له ذلك.

ثم اختار هو نفسه، عدم الجواز، و استدل ببعض الآيات و غير واحد من الروايات، منها ما عن علي عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا تتبع النظرة النظرة، فانما لك الاولي و ليست لك الآخرة (و هذه تشير إلي القول الثالث) «2».

أدلّة جواز النظر الي الوجه و الكفين

و علي كل حال يدلّ علي القول الأول؛

من الكتاب العزيز، قوله تعالي في سورة النور: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ، وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا … «3» بناء علي أنّ القدر المسلم منها، هو الوجه و الكفان اللذان محل الزينة الظاهرة.

هذا، و قد ورد روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السّلام في تفسير الزينة الظاهرة؛ منها:

1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، قال:

______________________________

(1).

المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 75- 80.

(2). عبد اللّه بن قدامة، في المغني، 7/ 460.

(3). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 63

الزينة الظاهرة، الكحل و الخاتم «1».

و من الواضح ان ظهور هذين، ملازم لظهور محلّهما، فهو دليل إجمالا علي استثناء الوجه و الكفين، لأنّه لم يقل أحد باستثناء خصوص الأصابع و العينين.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفرا عليه السّلام و سئل عما تظهر المرأة من زينتها، قال: الوجه و الكفين «2».

و المراد منها بقرينة الرواية السابقة كون الوجه و الكفين محلين للزينة.

3- ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ؟ قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «3»

هذه الرواية ناظرة إلي تفسير الزينة الباطنة، يستفاد منها مفهوم الزينة الظاهرة، و ذكر السوارين إشارة إلي السوار و ما دونه، كما أنّ ما دون الخمار إشارة إلي الخمار و ما دونه.

4- ما عن ابي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا قال: الخاتم و المسكة و هي القلب «4».

و المسكة و القلب (كلاهما بالضم ثم السكون) حلّي للمعصم و يقال في الفارسيّة «دستبند». لم يذكر في الرواية الوجه، و لعله لوضوحه و أمّا ذكر المسكه فهو محمول علي ما كان في الاصابع أو انتهاء الكف، و إلّا فهو مخالف لإجماع المسلمين.

5- ما عن تفسير علي بن ابراهيم، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله

تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا: فهي الثياب و الكحل و الخاتم و خضاب الكف و السوار «5».

و هذه الرواية اجمع رواية في الباب، و إن كان في سنده ضعفا بالارسال.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 3، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 5، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 145، الحديث 1، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 146، الحديث 4، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16703.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 64

6- ما في تفسير جوامع الجامع، عنهم عليهم السّلام في تفسير «ما ظهر منها»،: أنّه الكفان و الأصابع. «1» و الظاهر أنّه إشارة إلي ما سبق.

7- ما عن المحاسن عن ابي عبد اللّه عليه السّلام في قوله جلّ ثنائه إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، قال:

الوجه و الذراعان! «2».

و الظاهر إنّ ذكر الذراعين اشتباه من الراوي أو النساخ لعدم نقل الفتوي به من أحد.

8- و عنه في قوله عزّ و جلّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا قال: الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم «3».

فتحصل من هذه الروايات الثمان، بعد ضمّ بعضها ببعض، و تعاضد بعضها ببعض، أنّه لو كان في الآية ابهام يمكن رفعه بما ورد في هذه الروايات، و أنّه يجوز للمرأة إبداء وجهها و كفيها.

إن قلت: جواز ابداء الوجه و الكفين لا يكون دليلا علي جواز النظر و لا ملازمة بينهما عقلا.

قلنا: الانصاف وجود الملازمة عرفا؛ فجواز الابداء دليل علي جواز النظر. أضف إلي ذلك أنّ قوله تعالي لبعولتهن- إلي آخر المحارم- بالنسبة إلي الزينة الباطنة، دليل علي جواز نظر المحارم إليها لمكان «اللام»،

و يستفاد منه حال الزينة الظاهرة، فانّه من البعيد جدا الفرق بينهما.

و يجوز الاستدلال أيضا بقوله تعالي: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ … «4»

فان الخمار في الأصل و إن كان بمعني مطلق ما يستر شيئا- و قد سميت الخمر خمرا لأنّها تستر العقل- إلّا أنّه يطلق في العرف و اللغة بما يستر النساء رءوسهن، و هو المقنعة.

قال في المجمع: و هو غطاء رأس المرأة المنسدل علي جيبها، امرن بالقاء المقانع علي صدورهنّ تغطية لنحورهن. فقد قيل، إنهن كنّ يلقين مقانعهن علي ظهورهن، فتبدو

______________________________

(1). الشيخ الطبرسي، في جوامع الجامع 2/ 616.

(2). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16701.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 275، الحديث 16702.

(4). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 65

صدورهن؛ و كني عن الصدور بالجيوب لأنّها ملبوسة عليها. انتهي. «1»

فلم يأمر بستر الوجوه بها، بل أمر بستر الجيوب و الاعناق، و هذا من أوضح الدليل علي عدم وجوب ستر الوجه.

*** و من السنّة، ممّا استدل به علي عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، روايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة؛ و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي: ما يدل علي هذا الحكم صريحا و بالدلالة المطابقية، و هي روايات، منها:

1- ما رواه مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: ما يحلّ للرجل أن يري من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفّان و القدمان «2».

و مروك، اسمه صالح، و قد حكي الكشي، عن ابن فضال: انه ثقة، شيخ، صدوق.

و قد وقع اسمه في 33 موردا من الروايات، و لكن الحديث مرسل؛ و سيأتي الكلام بالنسبة إلي حكم القدمين من حيث النظر

و الستر، و إن سترهما لم يكن متعارفا عندهم.

2- ما رواه علي بن سويد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلي بالنظر إلي المرأة الجميلة، فيعجبني النظر إليها؛ فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق؛ الحديث. «3»

و الظاهر أنّ عليّ بن سويد، كان بحسب شغله، مبتلي بمراجعة النساء و كانت بعضهنّ جميلة يعجبه النظر إليها و لكن كان يتحاشي عن ذلك، و لذا قال عليه السّلام: إذا عرف اللّه من نيتك الصدق؛ أي لم يكن النظر عن تلذذ و ريبة.

و حاصل معناها أنه كان مبتلي بهن بسبب كسبه و مهنته أو شبه ذلك و كان تعجبه النظر الواقع عليهن من دون قصد تلذذ و ريبة؛ و الشاهد علي ذلك قوله إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق.

______________________________

(1). الشيخ الطبرسي، في مجمع البيان 7/ 241 و 242.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 2، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 231، الحديث 3، الباب 1 من أبواب النكاح المحرم.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 66

3- ما رواه عمرو بن شمر، عن ابي جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: خرج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يريد فاطمة و أنا معه، فلمّا انتهينا إلي الباب، وضع يده عليه فدفعه ثم قال:

السلام عليكم؛ فقالت فاطمة: و عليك السلام يا رسول اللّه؛ قال: ادخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه؛ قال: أدخل و من معي؟ قالت: ليس عليّ قناع؛ فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك؛ ففعلت، ثم قال: السلام عليك؛ فقالت: و عليك السلام يا رسول اللّه. قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول اللّه؛ قال: أنا و

من معي؟ قالت: و من معك. قال جابر:

فدخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و دخلت و إذا وجه فاطمة عليهما السّلام أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: مالي آري وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول اللّه، الجوع! فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

اللّهم مشبع الجوعة و دافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد. قال جابر: فو اللّه لنظرت إلي الدم ينحدر من قصاصها حتي عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم «1».

لو كان هذه الرواية صحيحة، كانت دالة علي المقصود بأوضح بيان؛ لأنّ جواز الكشف للمعصوم، و جواز النظر لمثل جابر في محضر النبي صلّي اللّه عليه و آله أحسن دليل علي المطلوب.

و لكن الإشكال في سند الحديث، لأنه صرح العلّامة في الخلاصة، و النجاشي في رجاله (علي المحكي في جامع الروات) أنّ عمرو بن شمر ضعيف جدا. زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه و الأمر ملتبس. و زاد العلّامة لا أعتمد علي شي ء ممّا يرويه.

و الانصاف أنّ ما ورد في متن هذه الرواية أيضا لا يناسب بنات الموالين و العلماء، فكيف بالصديقة الطاهرة الكبري بنت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله.

4- ما رواه العلامة المجلسي (قدس اللّه نفسه الزكية) في بحار الأنوار، في رواية عن علي بن جعفر عليه السّلام عن أخيه عليه السّلام، سألته عن الرجل، ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكفّ و موضع السوار «2».

و قوله، موضع السوار، بعد ذكر الكف ممّا أعرض الأصحاب كلّهم عنها.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 158، الحديث 3، الباب 120 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). العلامة المجلسي،

في بحار الأنوار 104/ 34، الحديث 11 (رواه عن قرب الاسناد).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 67

5- و هناك بعض الروايات من طرق العامة؛ مثل ما روته عائشة ان اسماء بنت أبي بكر دخلت علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في ثياب رقاق فاعرض عنها، و قال: يا أسماء، أنّ المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يري منها إلّا هذا و هذا؛ و أشار إلي وجهه و كفيه … «1»

الطائفة الثانية: ما تدل بالالتزام، علي المقصود؛ منها:

1- ما ورد في حكم القواعد من النساء؛ عن علي بن أحمد بن يونس، قال ذكر الحسين (رجل مجهول الحال كعلي بن أحمد نفسه) أنّه كتب إليه يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز لها أنّ تكشف رأسها و ذراعها «2» … و لا يخفي أنّه قد نقل هذا الحديث في التهذيب «3» عن علي بن أحمد عن يونس، لا عن علي بن أحمد بن يونس، و الظاهر أنّ الخطأ من نسّاخ الوسائل. و علي بن أحمد هو ابن أشيم و هو أيضا مجهول.

فان التصريح بكشف الرأس و الذراع- دون الوجه و الكفين- دليل علي أنّها كانت مكشوفة من أصل.

2- ما ورد في جواز النظر إلي شعور نساء أهل الذمة؛ مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلي شعورهن و أيديهن «4».

فان عدم الإشارة إلي الوجوه، علي جواز النظر إليها بالنسبة إلي كل احد.

3- ما ورد في جواز النظر إلي شعور نساء الأعراب و أهل السواد؛ مثل ما عن عباد بن صهيب قال

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلي رءوس أهل تهامة و الأعراب و العلوج، لأنهنّ إذا نهوا لا ينتهون «5».

و الرواية معتبرة كما سيأتي إن شاء اللّه، و ذكر جواز النظر إلي شعور نساء الأعراب و شبههم معلّلا بما ذكر فيها، دليل علي أنّ جواز النظر إلي الوجوه، كان عاما.

______________________________

(1). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 460.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 5، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). التهذيب، 7/ 467، الحديث 79.

(4). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 68

4- ما ورد في صحيحة ابن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن امهات الأولاد، لها أن تكشف رأسها بين يدي الرجال؟ قال: تقنّع «1».

و هذه الرواية ناظرة إلي ما يظهر من غير واحد من الروايات من جواز النظر إلي رءوس الإماء، و قد أفتي به المشهور كما صرّح به في الجواهر «2». بل يشير إليه قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ، وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. «3» فان الإماء- كما يظهر من كلمات بعض أكابر المفسرين- كنّ مكشفات و كان أصحاب الريبة قد يمازحوهن؛ فأمر الحرائر بالحجاب، ليعرفن و لا يؤذين؛ ثم سأل الراوي عن جواز النظر إلي رءوس امهات الأولاد؛ فأمر الإمام عليه السّلام بالقناع لهن؛ لأنهن في طريق الحرّية.

و حيث لا إشارة فيها إلي الوجوه، تدل علي انّها كانت مكشوفة.

و هذه الروايات، بعد تضافرها و صحة اسناد بعضها، معتبرة

من حيث السند؛ و قد عرفت دلالتها أيضا.

الطائفة الثالثة: الروايات الكثيرة الواردة في باب ستر المرأة في الصلاة الدالة علي عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، مع عدم الإشارة بوجود الناظر المحترم، مع أن النساء كنّ كثيرا ما يشتركن في صلاة الجماعة في المسجد و لم يكن هناك ستر بينهن و بين الرجال كما هو المتداول اليوم في بعض الأماكن و المساجد، فلو كان النظر إليها محرما و جهت الاشارة اليه.

*** أدلّة عدم جواز النظر

و استدل للقول الثاني، أعني عدم جواز النظر إلي الوجه و الكفين؛

______________________________

(1). الوسائل 14/ 150، الحديث 1، الباب 114 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

(3). الاحزاب/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 69

من كتاب اللّه العزيز، بقوله تعالي: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ … «1» فان حذف المتعلق فيها، دليل علي عموم وجوب الغض عن جميع بدن المرأة.

و بآية عدم جواز ابداء زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ، «2» فانّها أيضا عام.

و استدل ابن قدامة عليه في المغني «3»، بآية الحجاب، قوله تعالي: … وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ … «4» و الحجاب هو الستر المرخي علي الأبواب (يسمي في الفارسية بپرده) و هو ظاهر لجميع البدن.

و بقوله تعالي: … يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ … «5»

أمرن بإدناء الجلابيب، لكيلا يعرفن، و هذا دليل علي ستر جميع البدن.

أقول: و يرد علي الجميع؛ أما أولا، فلو فرض فيها ظهور في وجوب ستر جميع البدن،

فهي معارضة بما هو أقوي منها ظهورا، و هو قوله تعالي: «إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا» لا سيّما مع تأييد هذا الظهور بما روي من الأخبار في تفسيرها- و قد مرت-؛ فهذه

الجملة من الآية، تفسر الجميع؛ لا سيما مع إضافة قوله تعالي: … وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ …،

الدالة علي عدم وجوب ستر الوجه، بمقتضي معني الخمار، أوّلا، و الأمر بخصوص ستر الجيوب، ثانيا.

و ثانيا، إنّ الجلباب علي ما فسره أهل اللغة، هو الملحفة (ستر شبيه بچادر) أو المقنعة الطويلة، أو الدرع الواسع، و ليس في شي ء منها ستر الوجه علي الظاهر، و أمّا قوله تعالي:

… فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ …، «6» فهذا مختص بنساء النبي صلّي اللّه عليه و آله، و ليس فيها ما يدل علي العموم.

فليس في آيات القرآن الكريم ما يدل علي وجوب ستر الوجه و الكفين، بل الدليل

______________________________

(1). النور/ 30.

(2). النور/ 31.

(3). المغني، 7/ 460.

(4). الاحزاب/ 53.

(5). الاحزاب/ 59.

(6). الاحزاب/ 53.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 70

فيها علي العكس.

و من السنّة، بطائفة من الروايات؛ منها:

1- كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلي أبي محمد الحسن بن علي عليهم السّلام في رجل أراد أن يشهد علي امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر، و يسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة حتي تبرز بعينها فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و لا يبعد الاعتماد علي سندها، و لكن دلالتها غير خالية عن الإشكال، لأنّ مفروض كلام الراوي مرأة مستورة لا تريد أن تبرز؛ لا أن الستر وراء الحجاب بحيث لا يري جسمها واجب؛ فأمر الإمام عليه السّلام بظهورها متنقبة مراعاة لحالها. هذا، و يمكن أن لا يكون النقاب ساترا لجميع الوجه، و إلّا لم تكن فائدة لظهورها.

فتأمّل.

2- ما عن أبي جميلة، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: ما من أحد إلّا و هو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللمس … «2»

و سندها ضعيف بأبي جميلة، و هو مفضل بن صالح و هو ضعيف أو مجهول في كلام الأكثر. و قال ابن الغضائري؛ ضعيف، كذاب، يضع الحديث. و مال الوحيد (قدس سره) إلي إصلاح حاله لرواية الأجلّة و أصحاب الإجماع، عنه؛ و هو غير كاف. و أضعف من سندها، دلالتها. لأنّها ناظرة إلي صورة التلذذ و الريبة كما لا يخفي، و هي خارجة عن مفروض الكلام.

3- ما عن سعد الاسكاف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: استقبل شاب من الأنصار بالمدينة، و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فاذا الدماء تسيل علي ثوبه و صدره. فقال و

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 67، الحديث 3347.

(2). الوسائل 14/ 138، الحديث 2، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 71

اللّه لآتين رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و لأخبرنه؛ فأتاه فلما رآه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: ما هذا؟ فاخبر، فهبط جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ، الآية. «1»

و سعد الاسكاف محل للكلام بين علماء الرجال، و عدم دلالتها علي المقصود واضحة، لأنّها كالصريح في كون النظر للتلذذ، بل كان محلا للريبة

بلا إشكال، فهي خارجة عن محل الكلام.

4- ما عن علي بن عقبه، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال سمعته يقول: النظرة سهم من سهام ابليس مسموم، و كم من نظرة اورثت حسرة طويلة. «2»

و في دلالتها أيضا إشكال ظاهر، لأنّ النظرة التي من سهام ابليس و توجب حسرة طويلة، منصرفة إلي ما فيها تلذذ.

5- ما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه قال: النظرة سهم مسموم من سهام ابليس فمن تركها خوفا من اللّه، اعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه «3».

يظهر الإشكال في دلالتها ممّا سبقه.

6- ما رواه أحمد في مسنده، أنّ الخثعمية أتت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حجة الوداع تستفتيه، و كان الفضل بن العباس رديف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، وجّه الفضل عنها، و قال: رجل شاب و امرأة شابة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان «4».

و في سندها و دلالتها إشكال ظاهر، أمّا الأول فهو معلوم، و أما الثاني فلان المقام كان مقام خوف الفتنة، كما هو ظاهر الرواية بل صريح قوله صلّي اللّه عليه و آله: خشيت أن يدخل بينهما الشيطان. ذلك.

سلمنا دلالة الآيات و الروايات علي ما ذكروه، و لكن كلّها أو جلّها اطلاقات و عمومات، تخصص بالأدلة السابقة الدالة علي الجواز، لأنّها صريحة أو ظاهرة في خصوص الوجه أو الكفين، فالترجيح لأدلة الجواز.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 138، الحديث 4، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 138، الحديث 1، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 268، الحديث 16680.

(4). احمد بن حنبل، في مسند احمد 1/ 76 و 157.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص:

72

لا يجوز التمسك باستحسانات ظنّية

قد يتوصل من الجانبين بامور اعتبارية و استحسانات ظنية؛ مثل ما يقال من لزوم العسر و الحرج بستر الوجه و الكفين، و ترك النظر للمعرفة، فإنه كثيرا ما يوجب اختلالات في نظام المعيشة، و لكن الانصاف أنّه ليس أمرا دائميا و قد ذكرنا أنّ دليل العسر و الحرج ناظر إلي العسر و الحرج الشخصيين لا النوعيين، مثلا لو لزم من الصوم، العسر و الحرج في بعض الأيام الحارّة في بعض السنوات لغالب الناس، لا يكون ذلك مجوزا لتركه لجميع الناس، حتي من لا يكون في عسر و حرج. فهذا الدليل، غير كاف في اثبات المطلوب.

كما أنّ القول بلزوم الفساد و الفتنة من عدم ستر الوجه و الكفين، فاللازم، سترهما؛ أيضا استحسان ظنّي، لأنّ المفروض جواز النظر لا لتلذذ و ريبة، لا مطلقا. و المجتمع إن كان مجتمعا مؤمنا يعمل بهذين الشرطين فلا يوجب الفتنة غالبا و إن كان غير مؤمن فلا يفيده شيئا من هذه الأمور.

*** أدلّة القول بالجواز في النظرة الاولي دون التكرار

و أمّا القول الثالث، أي الجواز في النظرة الاولي دون التكرار، الذي قد عرفت أنّه أضعف الأقوال، فقد استدل له بروايات؛ منها:

1- قال الصادق عليه السّلام: أول نظرة لك، و الثانية عليك و لا لك، و الثالثة فيها الهلاك. «1»

و يحتمل كون الحديث مرسلا، أو حديثا آخر للسكوني؛ فراجع الوسائل.

2- ما عن أبي الطفيل، عن علي ابن أبي طالب عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: يا علي، لك كنز في الجنّة و أنت ذو قرنيها؛ فلا تتبع النظرة النظرة، فانّ لك الاولي و ليست لك الأخيرة «2».

و أبو الطفيل هو عامر بن وائلة، ذكروه من رجال النبي و عليّ، و الحسن و السجاد عليهم

السّلام.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 139، الحديث 8، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 14، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 73

مات سنة 110 و لازم ذلك أن يكون له عمر طويل زهاء 130 سنه مثلا؛ و لم يوثق صريحا و لكن ذكره من خواص علي عليه السّلام دليل علي حسن حاله، و يقال أنّه ليس له في الكتب المعروفة إلّا روايتان.

3- ما رواه عبد اللّه بن محمد الرازي، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

… لا تتبع النظرة النظرة فليس لك يا عليّ إلّا أوّل نظرة. «1»

4- و في معاني الأخبار، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا عليّ أول نظرة لك، و الثانية عليك لا لك «2».

و هي أيضا رواية مرسلة.

5- ما عن طرق العامّة في السنن، للبيهقي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: يا عليّ! لا تتبع النظرة النظرة فانّ لك الاولي و ليس لك الآخرة و اللّه تعالي أعلم «3».

و في معناها روايات اخري.

و هذه الأحاديث و إن كانت ضعافا غالبا، إلّا أن تضافرها كاف في إثبات حجية سندها.

و لكن يرد عليها:

أولا، أنها من قبيل العام أو المطلق، لعدم التصريح بالوجه و الكفين فيها، فيمكن تخصيصها بما مرّ في أدلّة جواز النظر إلي الوجه و الكفين، فيجوز النظر إليها مطلقا.

و ثانيا، أنّها ناظرة إلي النظر الابتدائي غير الاختياري أو الاختياري بدون قصد التلذذ و الريبة، و النظر الثانوي الناشي عن شهوة أو ريبة.

و يشهد لذلك- مضافا إلي كونه منصرف الأخبار- غير واحد من روايات

الباب، منها: ما رواه ابن أبي عمير عن الكاهلي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب، الشهوة؛ و كفي بها لصاحبها فتنة. «4»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 140، الحديث 11، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 13، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). البيهقي، في السنن الكبري، 7/ 90.

(4). الوسائل 14/ 139، الحديث 6، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 74

و الكاهلي و هو عبد اللّه بن يحيي و إن لم يرد نص علي وثاقته إلّا أن النجاشي قال هو كان وجها عند أبي الحسن و وصيّ به علي بن يقطين، فقال له اضمن لي الكاهلي و عياله، أضمن لك الجنة، و لا يبعد أن يكون مجموع هذا توثيقا له.

و أمّا دلالته علي المقصود واضحة، فان النهي عن تكرار النظر إنّما هو لخوف الفتنة و ثوران الشهوة.

و في الخصال باسناده عن علي عليه السّلام في حديث الأربعمائة، قال: لكم أول نظرة إلي المرأة فلا تتبعوها نظرة اخري و احذروا الفتنة. «1» و دلالتها أيضا ظاهرة.

فتحصل من جميع ذلك، أن الاقوي هو القول الأول.

*** بقي هنا أمران:

1- استثناء القدمين

هو استثناء القدمين كما ورد في كلمات بعضهم، و يدل عليه امور:

1- جريان السيرة القطعية علي عدم سترهما في الصدر الأول، فانه لم يكن هناك جواريب مثل اليوم بل لم يكن لكثير منهم الحذاء، حتي أن كثيرا من الأعراب لا تلبس نسائهم الجواريب في أيامنا هذا، فلو وجب الستر، لزم الأمر بسترهما. و عدم وجوب الستر، دليل علي جواز النظر بالملازمة، و لكن بالشرطين المذكورين.

إن قلت: لعل ذيولهن كانت طويلة تستر أقدامهن؛ كما يظهر من معتبرة سماعة عن

الصادق عليه السّلام في الرجل يجرّ ثوبه؛ قال: أني لأكره أن يتشبّه بالنساء. «2»

و ما عن سنن النسائي، أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمه: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا. قالت: اذن

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في الخصال/ 632.

(2). الوسائل 3/ 367، الحديث 4، الباب 23 من أبواب احكام الملابس.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 75

تنكشف أقدامهن. قال: اذن يرخين ذراعا لا يزدن «1».

بناء علي أنّ المراد منه ارخاء شبر علي الأرض، و كذا ارخاء ذراع و حينئذ يستر القدمين.

و ما روي أنّ فاطمة (عليها سلام اللّه) كانت تجر أدراعها و ذيولها «2».

قلت: الانصاف، أنّ الرواية الاولي التي يمكن اعتبارها من حيث السند، لا تدل إلّا علي مجرد الجرّ، و مجرد ذلك غير كاف في الستر للقدمين، لا سيما عند المشي، و لا سيما في المطر و غير المطر و في الأراضي الوسخة و شبه ذلك.

و أمّا رواية السنن فمعناه غير معلوم، لأنّ المراد لو كان جرّ الذيول بمقدار ذراع علي الأرض، لم يمكن المشي فيها، لا سيما في الطواف و السعي و شبهها، و لعل المراد منه ارخاء الشبر و الذراع تحت الركبة. و إلّا يشكل القول بغيره، لا سيما مع ما ورد في حديث محمد بن مسلم، قال: نظر أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي رجل قد لبس قميصا يصيب الارض، فقال: ما هذا ثوب طاهر. «3» و منه يظهر الجواب عن رواية فاطمة عليها السّلام مع ضعف سند الروايتين و اعتبار سند رواية محمد بن مسلم، روي عنه عبد الحميد بن عواض الطائي.

2- ما ورد من

عدم وجوب سترهما في الصلاة، بل أفتي به المشهور و يدل عليه كثير من الروايات- كما ذكر في محله- «4» و اطلاقها دليل علي عدم وجوب الستر، حتي إذا كان هناك غير المحارم. كيف و قد تشترك كثير من النساء في الجماعات و في الصلاة في المساجد لا سيّما المسجد الحرام و مسجد النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله.

و يمكن أن يقال ليست هذه الروايات (نصوص كفاية الدرع و الخمار أو شبهه) في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي في مقام بيان حكم الستر الصلاتي. و لكن الانصاف، اطلاقها، و ملازمتها لحكم النظر، و لو في حال صلاة المرأة في المساجد و مواقع الحج و غيرها.

______________________________

(1). النسائي، في سنن النسائي 3/ 137.

(2). رواها المحقق النجفي، في جواهر الكلام 8/ 171. و الفاضل الهندي، في كشف اللثام 3/ 236 من دون تصريح بمدركه.

(3). الوسائل 3/ 367، الحديث 3، الباب 23 من أبواب احكام الملابس.

(4). الوسائل 3/ 293، الباب 28 من أبواب لباس المصلي. و راجع الجواهر 8/ 171.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 76

3- و يدل عليه ما رواه عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال، قلت له: ما يحل للرجل أن يري من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان. «1» و لكن عدم تعرض الأصحاب له و ارسال الرواية و غير ذلك، يوجب الاحتياط مهما أمكن، و إن كان القول بالجواز غير بعيد.

2- استثناء صورتي قصد التلذذ و الريبة

قد عرفت أنّ ظاهر الأصحاب القائلين بجواز النظر إلي الوجه و الكفين، استثناء صورتي قصد التلذذ، و خوف الوقوع في الحرام، و هو المسمي بالريبة عندهم؛ و الظاهر

أنّه ممّا وقع التسالم فيه بينهم. قال في الجواهر، بعد التصريح بأن المراد من الريبة هو خوف الفتنة- و إن كان يظهر من بعضهم التفاوت بينهما بناء علي كون المراد بالريبة، هو ما يخطر بالبال عند النظر من صورة المعصية، و إن كان لا يخاف الوقوع فيها- ما نصه: و الأمر سهل بعد معلومية الحرمة عند الأصحاب، و المفروغية منه، و اشعار النصوص بل ظهورها بل صريح بعضها فيه؛ فلا وجه للمناقشة في الثاني منهما بعدم ثبوت حرمة ذلك بمجرد احتمال الوقوع في المحرم، ضرورة كون المستند ما عرفت، لا هذا، كما هو واضح. «2»

و قد رأيت بعض من لا خبرة له بالفقه ممن يدعي فقها و لا فقه له، في عصرنا يترددون في الأول أيضا أو يصرحون بالجواز و إن قصد التلذذ، أعاذنا اللّه من همزات الشياطين.

و يدل علي المقصود، مضافا إلي أنّه مفروغ عنه عند الأصحاب، كما يظهر من كلماتهم و قد عرفت ذكر القيدين في كلمات أهل السنة، مما يظهر منه التسالم فيه، حتي إنّهم لم يذكروا له دليلا، لوضوحه؛ و مضافا إلي ما هو المعلوم من مذاق الشارع الذي يأمر بعدم الجلوس في محل جلست فيه امرأة حتي برد (و إن كان هذا الحكم و أمثاله كراهيّا)؛ عدّة روايات:

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 2، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النجفي، في الجواهر الكلام، 29/ 70.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 77

1- ما مرّ من رواية علي بن سويد، قال قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلي بالنظر إلي المرأة الجميلة فيعجني النظر إليها، فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق.

الحديث «1».

و قد عرفت أنّ

المراد من هذا التعبير هو الصدق في عدم قصد التلذذ، و التعبير بالجميلة دليل علي أنّ المراد منها النظر إلي الوجه.

و علي بن الحكم الذي يروي عنه، هو علي بن الحكم الثقة بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، و كذا علي بن سويد السائي الذي كان من أصحاب الرضا عليه السّلام فالظاهر اعتبار سند الرواية و كذا دلالتها.

2- الروايات الكثيرة الناهية عن تتبع النظرة النظرة؛ «2» التي قد عرفت أنّها ناظرة إلي النظر بقصد اللذّة، فان ذلك هو المتفاهم منه عرفا.

3- الروايات الدالة علي أنّ لكل عضو زنا، و إن زنا العين النظر، فان القدر المعلوم منها النظر إلي الوجه بقصد اللذّة «3».

4- الحديث المعروف النبوي في الجارية الخثعميّة- و قد مضي نقله عن المغني لابن قدامة، و رواها ابو رافع عن علي عليه السّلام أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله أردف الفضل بن عباس ثم أتي الجمرة، فرماها؛ فاستقبله جارية شابة من خثعم، فقالت: يا رسول اللّه إنّ أبي شيخ كبير قد افند (اقعد) و قد أدركته فريضة اللّه في الحج، فيجزي أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك. و لوي عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول اللّه! لويت عنق ابن عمك؟! قال: رأيت شابا و شابة فلم آمن الشيطان عليهما «4».

5- خصوص رواية الكاهلي، قال: قال أبو عبد اللّه: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة و كفي لصاحبها فتنة «5».

______________________________

(1). الوسائل 14/ 231، الحديث 3، الباب 1 من أبواب النكاح الحرام.

(2). راجع الوسائل، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح و غيره.

(3). قد مرّ سابقا و أيضا في المستدرك 14/ 340 و في سنن البيهقي، 7/ 89.

(4). البيهقي، في السنن الكبري

7/ 89.

(5). الوسائل 14/ 139، الحديث 6، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 78

و الأخيرتان ناظرتان إلي خوف الفتنة؛ و ضعف السند منجبر بعمل الأصحاب.

6- و في ذيل معتبرة عباد بن صهيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و المجنونة و المغلوبة علي عقلها، لا بأس بالنظر إلي شعرها و جسدها، ما لم يتعمد ذلك. «1»

و المراد بالتعمد، بعد ظهور صدر الرواية في كون الكلام في النظر العمدي، هو التلذذ، كما لا يخفي علي الخبير، و كون الكلام في الشعر لا يضرّ بالمقصود بعد كون الشعر في المجنونة بحكم الوجه في العاقلة.

و المسألة واضحة؛ و اطناب الكلام فيها لزوال بعض الوساوس من أرباب الوسوسة في كل شي ء!.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 79

[المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلي الأجنبي كالعكس]

اشارة

المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلي الأجنبي كالعكس، و الأقرب استثناء الوجه و الكفين.

نظر المرأة إلي الأجنبي

أقول: هذه المسألة أيضا مفروغ عنها بين الأصحاب.

قال في الحدائق: الظاهر أنّه لا خلاف في تحريم نظر المرأة إلي الأجنبي، أعمي كان أو مبصرا. «1»

و قال المحقق النراقي في المستند: و كلما ذكر فيه جواز نظر الرجل إلي المرأة، يجوز فيه العكس بالإجماع المركب. «2»

و مراده من الإجماع المركب، أنّ المجوز للنظر فيهما سواء، كالمانع، فمن أجاز في المرأة النظر إلي الوجه و الكفين أجازه هنا، و من منعه منعه هنا.

و قال في الرياض: و تتحد المرأة مع الرجل فتمنع في محل المنع، لا في غيره إجماعا. «3»

و قال ابن قدامة في المغني: أمّا نظر المرأة إلي الرجل ففيه روايتان؛ إحداهما، لها النظر إلي ما ليس بعورة؛ و الاخري، لا يجوز لها النظر من الرجل، إلّا إلي مثل ما ينظر إليه منها.

اختاره أبو بكر و هذا أحد قولي الشافعي. ثم ذكر روايات تدل علي القول الثاني. «4»

أدلّة المسألة

و العمدة في المسأله آية الغض خطابا للنساء، قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 65.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة، 16/ 63.

(3). السيد علي بن الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 72 (2/ 74 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 465.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 80

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا … «1»

و هي عامّة، و لكن يستثني منها الوجه و الكفان بالأولوية القطعية و تسالم الأصحاب.

و من الروايات الدالة علي المقصود:

1- ما عن أحمد بن أبي عبد اللّه قال: استأذن ابن أم مكتوم علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و عنده عائشة و حفصة، فقال لهما: قوما فادخلا البيت. فقالتا: إنّه أعمي!

فقال: إن لم يركما فانكما تريانه «2».

2- و قد روي مثله من طرق العامة بالنسبة إلي أم سلمة و حفصة، و في آخره: أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟ «3» رواه عن أبي داود و غيره.

3- و في رواية اخري بالنسبة إلي أم سلمة و ميمونة. «4» و هذه الروايات الثلاثة متقاربة مضمونا.

4- و في رواية في المستدرك عن الجعفريات عن الباقر عليه السّلام في حق فاطمة عليها السّلام عكس ذلك، و أنها حجبت نفسها عن الأعمي، فسألها النبي صلّي اللّه عليه و آله؛ فقالت: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إن لم يكن يراني فانا اراه … إلي أن قال فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله: أشهد أنك بضعة منّي. «5»

يبقي هنا سؤال في فقه هذه الروايات، و أنّه كيف منعهن من النظر، و الحال إن النساء كن يأتين المساجد و يشترين الأشياء عن الأسواق و غيرها، و كن يرينهم فكيف امرهن بالاحتجاب عن الضرير، و قد جرت سيرة المسلمين قديما و حديثا علي خلافه.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ ابن أم مكتوم أو مثله لم يكن مستورا من جميع الجهات ما عدا الوجه و الكفين، و كثير من الأعراب في الصدر الأول، لم يكن لهم قميص ظاهرا، و كان لهم ازار فقط، أو شي ء شبيه ثوبي الاحرام، و كان يري شي ء كثير من صدرهم أو ظهرهم- كما يستفاد من قصة سوادة بن قيس أيضا- فلذا امرهن بالاحتجاب عنه، و إلّا

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). الوسائل 14/ 171، الحديث 1، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 465.

(4). الوسائل 14/ 172، الحديث 4، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الميرزا

النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 289، الحديث 16740.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 81

كان النظر إلي الوجه و الكفين أمرا متعارفا بينهم.

5- و يدل عليه أيضا، ما رواه الصدوق بسنده المتقدم في عيادة المريض، قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله: اشتد غضب اللّه علي امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها فانّها إن فعلت أحبط اللّه عزّ و جلّ كلّ عمل عملته … «1».

و الظاهر انّ ما في سنده، إشارة إلي ما نقله عنه في الوسائل 2/ 635، الحديث 9، الباب 10 من أبواب الاحتضار، و سنده يشتمل علي أكثر من عشرة وسائط مشتملة علي عدة مجاهيل؛ و أمّا دلالتها ظاهرة، بناء علي ان المراد من قوله ملأت، هو النظر اليه متعمدا، لا أنّ المراد كونه عن شهوة؛ و إلّا لم يجز حتي في المحارم.

هذا ما هو المستفاد من كلمات الأصحاب، و ما يدل عليه من الأدلة؛ و إن كان ذكر المسألة في كلماتهم غالبا علي نحو الاختصار حتي في الجواهر و المستمسك. و لكن الانصاف أنّ التي جرت عليه السيرة قديما و حديثا حتي في زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و ما بعده من الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هو عدم ستر الوجه و الكفين، و شعر الرأس؛ و لذا ورد في وصف شعر النبي صلّي اللّه عليه و آله أنّه كان إلي اذنيه، أو ما ورد في حديث ورود الرضا عليه السّلام نيشابور في وصف ذؤابته و غير ذلك، بل عدم ستر العنق و شي ء من الصدر الذي يظهر من القميص، لا سيما إذا كان واسع الصدر، و عدم ستر القدمين و شي ء

من الساق عندهم بعد الأمر بتقصير الثياب، بل الظاهر عدم ستر الذراعين، لأنّ الرجال لا يزالون يتوضئون عن الأنهار و غيرها في اعين الناس و في الملاء العام. و عدم ستر هذه الأعضاء دليل علي جواز النظر.

إن قلت: جواز الاظهار و عدم وجوب الستر لا يدل علي جواز النظر، لإمكان الأمر بغضّ النظر مع ترخيص ترك الستر، و لا منافاة بينهما، و لا يكون هناك إعانة علي الإثم.

قلنا: عدم المنافات عقلا صحيح، و لكن الانصاف، هو التلازم بين جواز ترك الستر و جواز النظر، و لذا لا يزال الفقهاء يستدلون بقوله تعالي: «إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا»، علي جواز النظر إلي وجه المرأة و كفها؛ الحاصل ان جواز احدهما ملازم عرفا لجواز الآخر، و لا دخل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 171، الحديث 2، الباب 129 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 82

للمسألة بمسألة الإعانة علي الإثم، فتلخص من جميع ذلك أنّ مسألة الحجاب و النظر، هنا أوسع. و اللّه العالم.

*** النظر الي غير المحجبات في التلفزيونات

أنّه من المسائل المستحدثة في عصرنا، هو ارائة الصور الخارجية من التلفزيونات، و كثيرا ما يكون أبدان الرجال مكشوفة فيما لا يحل كشفه في مقابل النساء، لا سيما في الالعاب الرياضية؛ فهل يجوز نظر النساء غير المحارم إليها، و هل هناك فرق بين النشرات المباشرة و بين غير المباشرة و بين محدود المدار و غيره؟

و الجواب عن هذا السؤال، فرع العلم بعمل التلفزيون، و هو علي ما ذكره أهله أنّ الكامرة التلفزيونية تأخذ الصورة الخارجيّة فتبدلها بأمواج مخصوصة، ثم تلك الأمواج تنتقل إلي مدي بعيد و يأخذها أدوات خاصة في التلفزيون، و تبدلها بالصور النورية؛ فما نراه فيها ليس ذاك الشخص بعينه، بل هي

الصورة الحادثة منه بعد انتقال الأمواج.

و لا فرق في ذلك بين النشرات المباشرة و غير المباشرة، و لذا يغيّرون التصاوير بأنواع التغيير، و يمزجونها تارة و يفرقونها اخري.

فحينئذ يقع الكلام في أن أدلة حرمة النظر إلي الأجنبيّة هل تشملها أم لا؟ الظاهر، عدم شمولها لها، كعدم شمولها للنظر إلي صورة المرأة الأجنبيّة بما أنّها صورة.

نعم، إذا كان ذلك سببا لبعض المفاسد، كمشاهدة الأفلام المبتذلة و النساء العاريات و مجالس الخمور و غير ذلك؛ أو كان النظر بتلذذ، أو خيف الوقوع في الفتنة أو شبه ذلك، كان حراما بهذه الجهة، لا من باب النظر إلي الرجل أو المرأة غير ذات محرم.

و الاحتياط في كل حال حسن و هو طريق النجاة. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 83

[المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه]

اشارة

المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه؛ فلا يجوز مسّ الأجنبي الاجنبيّة، و بالعكس. بل لو قلنا بجواز النظر إلي الوجه و الكفين من الأجنبية، لم نقل بجواز مسها منها؛ فلا يجوز للرجل مصافتحها؛ نعم، لا بأس به من وراء الثوب، لكن لا يغمز كفّها احتياطا.

مسّ من يحرم النظر اليه

أقول: الظاهر، أنّ المسألة مورد وفاق بين الأصحاب، بل لعله كذلك بين المخالفين أيضا. قال النراقي (قدس سره) في المستند: الظاهر عدم الخلاف في تحريم مس ما يحرم النظر إليه من المرأة للرجل و من الرجل للمرأة؛ و تدل عليه أيضا العلة المنصوصة المتقدمة في رواية العلل. [إشارة إلي ما رواه محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلي شعور النساء المحجوبات بالأزواج و إلي غيرهن من النساء، لما فيه من تهييج الرجال و ما يدعوا إليه التهييج من الفساد و الدخول فيما لا يحل و لا يجمل و كذا ما أشبه الشعور … ] «1»

ثم قال: بل التهييج في المسّ أقوي منه في النظر … ثم ذكر في ذيل كلامه: و أمّا ما يجوز النظر إليه، فان كان من المحارم، فيجوز مسّه … و إن كان من غيرهم، فمقتضي العلة المتقدمة الخالية عن المعارض، فيه الحرمة؛ ثم ذكر بعض الروايات الناهية، ثم قال: و حمله في المفاتيح علي المصافحة بشهوة، و لا حامل له؛ فاطلاق الحرمة اظهر. «2»

و قال في الجواهر في كلام قصير له في المقام: ان كل موضع حكمنا فيه بتحريم النظر، فتحريم اللمس فيه اولي؛ كما صرّح به بعضهم بل لا أجد فيه خلافا بل كأنّه ضروري علي وجه يكون محرما لنفسه «3» (يعني

لا بسبب التلذذ و الريبة).

______________________________

(1). الوسائل 14/ 140، الحديث 12، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 58 و 59. (مع التلخيص و حفظ نصّ العبارة).

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 100.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 84

و ذكر سيدنا الاستاذ، الحكيم، في المستمسك، بعد نقل كلام الجواهر، ما نصه: و في كلام شيخنا الأعظم (رحمه اللّه): إذا حرم النظر، حرم اللمس قطعا، بل لا إشكال في حرمة اللمس و إن جاز النظر، للأخبار الكثيرة؛ و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه «1».

أدلّة المسألة

هذا، و يدل علي حرمه اللمس فيما حرم النظر، أمران:

أحدهما: قياس الأولوية؛ لأنّ علة الحرمة معلوم بمناسبة الحكم و الموضوع مع التصريح به في رواية العلل، و من الواضح ان العلة في اللمس اشد و آكد، و هذا مما لا ينبغي الريب فيه.

ثانيهما: طائفتان من الأخبار.

الطائفة الاولي: ما ورد من النهي عن مصافحة الأجنبيّة و بالعكس، منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟ فقال: لا، إلّا من وراء الثوب «2».

2- ما رواه سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مصافحة الرجل المرأة؟

قال: لا يحل للرجل أنّ يصافح المرأة، إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوجها … و أمّا المرأة التي يحل له أن يتزوجها، فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب، و لا يغمز كفها «3».

و الظاهر اعتبار سند الروايتين، و دلالتهما علي المطلوب واضحة.

3- ما رواه في عقاب الاعمال، بسند تقدم في عيادة المريض، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال:

و من صافح امرأة حراما، جاء

يوم القيامة مغلولا، ثم يؤمر به إلي النار. «4»

و في سنده إشكال ظاهر كما عرفت؛ بل و في دلالته، لأن قوله: و من صافح حراما؛ لا يخلو من إبهام؛ لعله أراد بذلك صور التلذذ و خوف الفتنة.

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 50.

(2). الوسائل 14/ 151، الحديث 1، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 151، الحديث 2، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 143، الحديث 4، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 85

4- ما رواه الصدوق باسناده عنه صلّي اللّه عليه و آله إلي أن قال: و قال صلّي اللّه عليه و آله: و من صافح امرأة تحرم عليه، فقد باء بسخط من اللّه عزّ و جلّ. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت كلّها واردة في المصافحة و لمس الأيدي، و لكن الانصاف إمكان إلغاء الخصوصيّة عنها، فتشمل كل لمس من أجنبيّ و أجنبيّة؛ مع أن الأمر في اليد، أسهل من غيره؛ فما ذكره سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سرّه) في المستمسك، من أنّ مورد جميع الروايات المماسة في الكفين، فالتعدي عنه، لا دليل عليه إلّا ظهور الإجماع «2»؛ ممّا لا يمكن الموافقة عليه، بل الظاهر أنّ استناد المجمعين أيضا إلي ما ذكرناه.

الطائفة الثانية: ما ورد في باب بيعة النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله للنساء، انه صلّي اللّه عليه و آله كان يدعو بإناء فيملأه ماء، ثم يضع يده فيه و تضع النساء أيديهن في موضع آخر منه؛ و هي روايات كثيرة رواها في الوسائل، في الباب 115، من المقدمات (الحديث الثالث و الرابع و الخامس).

و رواها في المستدرك، في الباب 89، من

المقدمات. (الحديث الأوّل و الرابع و الخامس).

و لكن يمكن المناقشة فيها بان فعل النبي صلّي اللّه عليه و آله دليل علي اجتنابه صلّي اللّه عليه و آله عن مصافحتهن بيده صلّي اللّه عليه و آله، و لكن هل كان هذا مكروها أو حراما، فهو غير معلوم. و بعبارة اخري، مجرد الترك لا يدلّ علي الحرمة. اللّهم إلّا أن يقال: ورد في ذيل بعضها: فكانت يد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الطاهرة، اطيب من أنّ يمس بها كف انثي ليس له بمحرم. «3» و لكنه أيضا لا يخلو عن ابهام.

فالأولي، الاستدلال بالطائفة الاولي، مضافا إلي الأولوية القطيعة.

*** بقي هنا شي ء: هل يجوز المصافحة من وراء الثياب

و هو ما أفاده الماتن، من جواز المصافحة من وراء الثياب، و هو منصوص مضافا إلي

______________________________

(1). الوسائل 14/ 142، الحديث 1، الباب 105 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 50.

(3). الوسائل 14/ 151، الحديث 4، الباب 115 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 86

عدم شمول أدلة حرمة المصافحة، و انصرافها عنه. و احتياطه في المتن لعدم الغمز، مستند إلي ما مرّ في معتبرة سماعة بن مهران (2/ 115)؛ و لكن الانصاف إمكان حملها علي ما إذا كان بشهوة فانه لا داعي لذلك غالبا إلّا ما عرفت.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 87

[المسألة 21: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 21: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة؛ و الاحوط ترك النظر إلي الشعر المنفصل؛ نعم، الظاهر أنّه لا بأس بالنظر إلي السّنّ و الظفر المنفصلين.

حكم النظر الي العضو المبان

أقول: هذه المسألة غير مذكورة في كلمات كثير من الأصحاب، و لم نجد ذكرها في كلمات أهل الخلاف أيضا؛ نعم، ذكر في القواعد: ان العضو المبان، كالمتصل، علي إشكال. «1»

و قال فخر المحققين، في الايضاح، في تقرير إشكال والده (قدس سرهما)، وجهين في المسألة؛ و استدل لكل منهما بما ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه؛ ثم قال في آخر كلامه: و الأصح عندي الأول (أي الحرمة) «2».

و قال في كشف اللثام: و العضو المبان، كالمتصل علي اشكال. «3»

و قال في العروة، في المسألة 45 من الفصل الأول من النكاح: لا يجوز النظر إلي العضو المبان من الأجنبي، مثل اليد و الأنف و اللسان و نحوها. و وافقه كثير من المحشين. و صرح في المستمسك: انه نص عليه غير واحد؛ و حكي عن الشيخ الأعظم إنّ المرجع فيه أصل البراءة، بعد الإشكال في الاستصحاب «4».

و حيث لم يرد نص خاص في المسألة، فاللازم الرجوع إلي القواعد و الاصول.

أدلّة حرمة النظر إلي العضو المبان

و غاية ما استدل به علي الحرمة، امور:

______________________________

(1). العلامة الحلي، في قواعد الاحكام 3/ 7.

(2). فخر المحققين، في إيضاح الفوائد 3/ 10.

(3). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 30 (2/ 10 ط. ق).

(4). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 52.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 88

1- الأمر بالغضّ الدال علي الوجوب، و لا فرق بين الاتصال و الانفصال بمقتضي الاطلاق.

2- النواهي الواردة في الأخبار الدالة علي حرمة النظر، و هي أيضا مطلقة.

3- استصحاب الحرمة، فإنّ النظر كان محرما عند الاتّصال، و يشك في زوالها بعد الانفصال، و الأصل بقاؤه.

4- ما ورد من النهي عن وصل شعر المرأة، بشعر امرأة غيرها.

و الجميع قابل للإيراد؛

أمّا وجوب الغض، فانّ

المراد منه ترك نظر المرأة إلي الرجل و بالعكس، و عضو المبان لا يصدق عليه عنوان الرجل و المرأة؛ و القول بأنّ العرف لا يري فرقا بين المتصل و المنفصل، عجيب، للفرق الواضح بينهما في ملاك الحرمة.

و أمّا الروايات الناهية عن النظر، فانها ناظرة إلي صورة الاتّصال؛ و الحكم بشموله لحالة الانفصال تحكم، و قول بلا دليل.

و أمّا الاستصحاب، فيرد عليه أوّلا، أنّه في الشبهات الحكميّة، و قد ذكرنا في محلّه عدم حجّيته فيها. سلّمنا، لكن الموضوع قد تغير، فان موضوع الحرام كان أجزاء بدن المرأة، و هنا لا يصدق هذا العنوان. و القول بأنّ هذا المقدار لا تضر، لأنّه من قبيل تبدّل الحالات، و إلّا لم يجز الحكم بنجاسة أجزاء الملك أو أجزاء بدن الكلب و شبهه بعد انفصالها؛ ممنوع، بأنّ هذا قطعا من المقومات، فإنّ الذي أوجب الحرمة هو النظر إلي بدن المرأة، و هذا في الواقع كالجماد، و إلّا وجب الحكم بحرمة النظر إلي سنّها و ظفرها بعد انفصالها من بدنها، و الالتزام به بعيد جدّا. و قياسه علي اجزاء نجس العين، قياس مع الفارق، للعلم القطعي بأنّ أجزاء نجس العين نجس، لا نشك فيه حتي يحتاج إلي الاستصحاب.

إن قلت: هذا إذا كان المرجع في بقاء الموضوع؛ لسان الدليل فإنّ الحكم فيه علي عنوان المرأة؛ أمّا إذا كان المرجع فيه العرف فانّه باق علي التحقيق.

قلنا: العرف هنا شاهد بعدم بقاء الموضوع و عدم وجود ملاك الحرمة فيه أو الشك فيه، و الاتّصال هنا من المقومات للموضوع، و إن شئت قلت الموضوع العرفي هنا، عين

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 89

الموضوع المأخوذ من لسان الدليل.

و لو فرض الشك في بقاء الموضوع، لم

يجر الاستصحاب أيضا. لأنّ إحراز الموضوع لازم، و بدونه لا يجري الاستصحاب.

و أمّا الروايات الناهية عن وصل شعر المرأة بامرأة أجنبيّة، فهي علي خلاف المطلوب أدلّ، و لذا ذكرها بعضهم دليلا علي الجواز.

منها، ما رواه ثابت بن سعيد، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء، تجعل في رءوسهن القرامل. «1» قال: يصلح، الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها. الحديث «2».

و ثابت بن سعيد مجهول.

و ما رواه سليمان بن خالد، قال: قلت له: المرأة تجعل في رأسها القرامل. قال: يصلح له الصوف و ما كان من شعر المرأة نفسها، و كره أن يوصل شعر المرأة من شعر بشعر غيرها. الحديث. «3»

و الظاهر انّ سليمان بن خالد، هو الهلالي الثقة، و لكن الحديث مرسل، فشي ء من الروايتين لا يمكن الاعتماد عليه بحسب السند؛ و هناك روايات اخري رواها في الوسائل 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، بعضها تدل علي النهي و بعضها علي الكراهة و تمام الكلام في محله.

و إمّا الدلالة فظاهرها الكراهة، لقوله: و كره للمرأة …؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الكراهة المصطلحة، ممّا نشأت بين الفقهاء، و لم تكن في اللغة، و يشهد له، قوله تعالي بعد ذكر عدة من الكبائر: كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «4». فلا أقل من أن يكون مفهومها أعم من الحرمة و الكراهة المصطلحة، فلا يكون دليلا علي الجواز.

و علي كل حال، لو قلنا بالحرمة، يمكن أن يكون ذلك بسبب نظر زوجها إليه أو لمسه،

______________________________

(1). و المراد بالقرامل، من الشعر أو الصوف.

(2). الوسائل 14/ 135، الحديث 1، الباب 101 من أبواب

مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 136، الحديث 3، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الإسراء/ 38.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 90

و يمكن أن يكون غير ذلك، فلا يكون دليلا علي حرمة النظر. و أمّا لو قلنا بالكراهة- كما هو الأقوي- فهو دليل علي جواز النظر، لملازمته عرفا للنظر و اللمس من الأجنبي، كما لا يخفي.

فتلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الحق هو جواز النظر إلي العضو المبان، و إن كان الأحوط استحبابا هو الاجتناب. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 91

[المسألة 22: يستثني من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة]

اشارة

المسألة 22: يستثني من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة إذا لم يمكن بالمماثل، كمعرفة النبض إذا لم تكن بآلة نحو الدرجة و غيرها، و الفصد و الحجامة و جبر الكسر و نحو ذلك. و مقام الضرورة، كما إذا توقف استنقاذه من الغرق أو الحرق علي النظر و اللمس.

و إذا اقتضت الضرورة، أو توقف العلاج علي النظر دون اللمس، أو العكس، اقتصر علي ما اضطر إليه، و فيما يضطرّ اليه، اقتصر علي مقدار الضرورة، فلا يجوز الآخر و لا التعدي.

مستثنيات حكم النظر و اللمس

أقول: لمّا فرغ عن بحث النظر و اللمس، شرع في المستثنيات، و ذكر منها أمرين، أحدهما اعم من الآخر؛ أمّا الأعم، فهو مقام الضرورة و هذا العنوان عنوان عام يشمل كلّ ضرورة دينية أو دنيوية؛ و الأخص، هو مقام المعالجة.

و ذكر المحقق اليزدي، في العروة الوثقي، أربعة موارد؛ و أضاف إلي الموردين، موردين آخرين: مقام معارضة كل ما هو أهم في نظر الشارع؛ و مقام الشهادة.

و في الحقيقة، جميع ذلك تندرج في قاعدة الأهم و المهم، لأنّ في موارد المعالجة أو الضرورة أو الشهادة، دائما يدور الأمر بين ما يكون مراعاته أهم من حرمة النظر أو اللمس، فإنّ حفظ النفس عند المرض أو عند خوف الغرق أو الحرق، حفظ الحقوق عند الشهادة، أهم في نظر الشارع من حرمة اللمس و النظر، كما هو ظاهر. حتي أنّ اباحة النظر عند إرادة التزويج أيضا من هذا الباب.

فالاولي أن يجعل عنوان الاستثناء، موارد تعارض الأهم و المهم، ثم يذكر أمثلته و مصاديقه، و هذا اضبط لبيان الموضوع و الحكم.

الاقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلي بيان الأقوال في المسألة؛ و الظاهر أنّ المسألة إجماعية.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 92

قال في الجواهر: لا ريب في أنّه يجوز عند الضرورة، نظر كل من الرجل و المرأة إلي الآخر و لمسه. «1»

و قال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: قوله: و يجوز عند الضرورة؛ قد عرفت أنّ موضع المنع من نظر كل من الرجل و المرأة إلي الآخر، مشروط بعدم الحاجة اليه، أمّا معها فيجوز إجماعا. ثم ذكر له أمثلة كثيرة «2».

و لقد أجاد في جعل العنوان الجامع، هو الحاجة، ثم فرع عليها امورا كثيرة؛ و من الواضح أن عنوان

الحاجة أيضا يرجع إلي قاعدة الأهم و المهم، فالاولي جعلها العنوان الوحيد في المسألة.

و قال العلّامة، في التذكرة: القسم الثاني، أن يكون هناك حاجة إلي النظر، فيجوز إجماعا؛ ثم ذكر أمثلة مختلفة نظير إرادة النكاح و إرادة البيع المحتاجة إلي معرفة المشتري أو البائع، و مقام الشهادة و المعالجة. ثم قال: و لا يشترط في جواز نظره، خوف فوات العضو، بل المشقة بترك العلاج، خلافا لبعض الشافعيّة «3».

و قد تلخص من جميع ذلك، أنّ المسألة إجماعية بين الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم). و قال ابن قدامة، في المغني: فصل، فيمن يباح له النظر من الأجانب؛ يباح للطبيب النظر إلي ما تدعوا إليه الحاجة من بدنها، فانه موضع الحاجة … و للشاهد، النظر إلي وجه المشهود عليها … و أنّ عامل امرأة في بيع أو إجارة، فله النظر إلي وجهها ليعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدرك. و قد روي عن أحمد، كراهة ذلك في حق الشابة دون العجوز، و لعله كرهه لمن يخاف الفتنة أو يستغني عن المعاملة، أمّا مع الحاجة و عدم الشهود، فلا بأس «4».

فقد أرسله ارسال المسلمات مما يكشف عن موافقة الجميع أو الأكثر، حتي أنّه ذكر التوجيه لكلام أحمد، ليوافق ما ذكره.

هذا حال المسألة بحسب أقوال الفريقين إجمالا.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 87.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 49. (1/ 436 ط. ق).

(3). العلامة الحلي، في تذكرة الفقهاء 2/ 573.

(4) عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 459.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 93

أدلّة جواز النظر و اللمس في مقام المعالجة

اشارة

و أمّا الدليل علي هذا الحكم، فهو من طريقين:

الأوّل: قاعدة الأهم و المهم:

و هي قاعدة عقلية قد دل عليه صريح العقل و عليه بناء العقلاء، فإذا أحرزنا أنّ مسألة حل مشكلة المعالجة أو الشهادة أو البيع أو النكاح أو غيرها، من قبيل الأهم، و ترك النظر و اللمس من قبيل المهم، لا يبقي شك في ترجيح الأول علي الثاني؛ و هكذا الأمر في جميع الواجبات و المحرمات، مثل الاضطرار إلي أكل الميتة لحفظ النفس، الذي نطق به الكتاب العزيز؛ و مثل الغيبة عند المشهورة، و الكذب لا صلاح ذات البين، و التقية لحفظ النفس، و الأكل في المخمصة من مال الغير، إلي غير ذلك من الأمثلة في مختلف أبواب الفقه.

و هذه القاعدة مركبة من كبري و صغري (أنّ هذا أهم، و هذا مهم؛ و كلما كان كذلك، يرجح فيها الأهم علي المهم) و يشهد لصحة كبراها صريح العقل، و لو كان هناك شبهة فانما هي في تشخيص بعض مصاديقه، فما مضي في كلام بعض الشافعية، من أنّه يشترط في جواز النظر، خوف فوات العضو، إنّما هو خلاف في تشخيص الصغري لا الكبري كما هو ظاهر.

و الحاصل، انّ هذه قاعدة عقلية قطعية مؤيدة بما ورد في الكتاب و السّنّة؛ و كفي بها دليلا في المقام.

الثاني: من طريق الأخبار،

و هي علي طائفتين: أخبار عامة و أخبار خاصّة.

و أمّا الاولي، و هي ما يدل علي حلّية كل محرم عند الضرورة و الاضطرار، و هي روايات:

1- ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض، هل تمسك له المرأة شيئا،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 94

فيسجد عليه؟ فقال: لا، إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها؛ و ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ

إليه «1».

و سند الرواية غير خال عن الإشكال، فان فضالة، مشترك بين جماعة، و لكن الظاهر أنّه فضالة بن أيوب الازدي الثقة، بقرينة رواية حسين بن سعيد عنه (و هو كثير الرواية جدا).

و الحسين أيضا مشترك بين عدد كثير، و لا يبعد أن يكون هو الحسين بن عثمان الرواسي، و لكنه غير ثابت؛ فلو خلي أبو بصير عن إشكال الاشتراك، بقي الإشكال في الحسين، و لعله لذا عبّر في الجواهر 9/، في أحكام القيام، بخبر أبي بصير، الدال علي الترديد في صحة سنده، لا أقل. و أمّا دلالته من حيث الكبري الكلية الواردة فيها، صريحة لا ريب فيها.

2- ما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها، فيستلقي علي ظهره الأيام الكثيرة، أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة، الأيام، إلّا ايماء و هو علي حاله.؟ فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء مما حرمه اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطرّ إليه «2».

و الظاهر، اعتبار سند الرواية، و أمّا دلالتها فهي أيضا واضحة، فقد ذكر فيها الكبري الكليّة بعنوان التعليل لمورد السؤال في الرواية.

3- و هناك رواية اخري، ظاهرها أنّها خاصة، و لكن يمكن استفادة العموم منها، لبعض تعبيراتها و هي ما عن مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال: أنّ اللّه تبارك و تعالي- إلي أن قال- ثم أباحه للمضطر، و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به، فامره بأنّ ينال منه بقدر البلغة، لا غير ذلك … «3»

______________________________

(1). الوسائل 4/ 690، الحديث 7، الباب 1 من أبواب

القيام.

(2). الوسائل 4/ 690، الحديث 6، الباب 1 من أبواب القيام.

(3). الوسائل 16/ 309، الحديث 1، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 95

و سند الرواية، و أن كان ضعيفا أو مبهما، و لكن لا يبعد دلالتها علي العموم، لأنّ قوله لا يقوم بدنه إلّا به؛ عنوان عام، شامل لكثير من موارد الضرورة في العلاج و الفصد و الحجامة و الأعمال الجراحية و غيرها، بل يمكن الغاء الخصوصية منها و التعدي إلي ساير الموارد.

و الحاصل أنّ هذه الروايات، مع تعاضد بعضها ببعض، كاف في إثبات المدعي.

و قد أورد العلّامة المجلسي (رضوان اللّه تعالي عليه)، هذه القاعدة (ما من شي ء … )،

في بحار الأنوار، في ج 2/ 272 و ج 75/ 411 و ج 104/ 284 و أوردها في الوسائل، في خمس مواضع، في ج 1/ 488 و ج 3/ 270 و ج 4/ 690 و أيضا في ج 16/ 137 و لكن الأصل في الجميع هو الحديثان، حديث سماعة و حديث سماعة و حديث أبي بصير.

و هناك روايات تدل علي قاعدة اخري، و هي: ما غلب اللّه عليه فاللّه اولي بالعذر. «1»

استدل بها في الجواهر، لما نحن فيه.

و قد يتوهم دلالتها علي المقصود، و الحال أنّها ناظرة إلي أمر آخر، و هو صورة سلب الاختيار من الإنسان مثل المغمي عليه الذي تفوت منه الصلاة فانه مورد الروايتين، لا المضطر الذي له إرادة و يسند إليه الفعل. و إن شئت قلت، غلبة اللّه علي شي ء، بمعني سلب القدرة، و المضطرّ لا يكون مسلوب القدرة، بل يكون في اختياره ضررا عليه.

و أمّا الثانية، ما ورد في خصوص الاضطرار إلي النظر أو اللمس

إلي غير ذات محرم، و هي روايات؛ منها:

1- ما رواه أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، أمّا كسر و امّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أ يصلح له النظر إليها؟ قال: إذا اضطرت اليه، فليعالجها إن شاءت «2».

و سند الرواية لا بأس به، لان رجالها كلّها ثقات. و أمّا علي بن الحكم و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، و لكن الظاهر بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، هو علي بن

______________________________

(1). الوسائل 5/ 352 و 353، الحديثان 3 و 13، الباب 3 من ابواب قضاء الصلوات.

(2). الوسائل 14/ 172، الحديث 1، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 96

الحكم الكوفي الثقة. قال الشيخ، في الفهرست: له كتاب، رواه أحمد بن محمد عنه. و دلالتها ظاهرة علي المطلوب تدل علي جواز النظر، و يمكن الحاق اللمس به للملازمة في العلاج غالبا، أو لإلغاء الخصوصية.

2- ما رواه في دعائم الإسلام، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السّلام أنّه سئل عن المرأة تصيبها العلّة في جسدها، أ يصلح أن يعالجها الرجل؟ قال: إذا اضطرت إلي ذلك، فلا بأس. «1»

و دلالتها واضحة علي المطلوب، و إن كان سندها ضعيفا بالارسال.

3- ما رواه علي بن جعفر عليه السّلام في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه و تداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة، فلا بأس «2».

بناء علي حملها علي صورة الانحصار و الاضطرار، بقرينة المعالجة و بقرينة

قوله، تداويه، الملازم للمسه غالبا، و إلّا كان دليلا علي جواز النظرة إلي بدن الرجل ما عدا العورة؛ فتدبر.

و سند الرواية معتبر، لأنّ الظاهر أنّ كتاب علي بن جعفر، كان عند صاحب الوسائل موجودا بطريق معتبر.

4- المعروف انه في الغزوات الاسلامية في عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله كانت بعض النساء العالمات بفنون الجراحية، كن يحضرن الجرحي للتداوي و شدّ الجروح و غير ذلك.

5- ما رواه ابن وهب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا ماتت المرأة و في بطنها ولد يتحرك، شق بطنها و يخرج الولد. و قال في المرأة تموت في بطنها الولد، فيخوف عليها؛ قال: لا بأس أنّ يدخل الرجل يده فيقطعه و يخرجه. «3»

و قد استدل في الجواهر، بمكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلي أبي محمد الحسن بن

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 290، الحديث 16744.

(2). الوسائل 14/ 173، الحديث 4، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الشيخ الكليني، في الكافي، 3/ 155، الحديث 3، باب المرأة تموت و في …

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 97

علي عليه السّلام، في رجل أراد أن يشهد علي امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر و يسمع كلامها، إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا يجوز الشهادة عليها حتي تبرز و تثبتها بعنيها؟ فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و سند الحديث و إن كان متينا، فان محمد بن الحسن الصفار، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار، الذي قال النجاشي في حقه: انه كان وجها في أصحابنا

القميين، ثقة، عظيم القدر، قليل السقط في الرواية، له كتب. و قال الشيخ: … له مسائل، كتب بها إلي أبي محمد العسكري عليه السّلام.

و لكن دلالتها غير ظاهرة علي المبني، من جواز النظر إلي الوجه و الكفين، و من المعلوم كفاية النظر إلي الوجه للشهادة.

و قد تحصل من جميع ذلك، إن استثناء موارد الضرورة، سواء كانت للمعالجة أو للشهادة- لو قلنا بعدم جواز النظر إلي الوجه في حال الاختيار- أو للنجاة من الغرق و الحرق، أو لرفع التهمة، أو للبيع و التجارة، أو للنكاح، فإنّه أهم من البيع، كما هو ظاهر.

*** بقي هنا أمران:

1- الضرورات تتقدر بقدرها

هذه أيضا قاعدة عقلائية، كما أنّ الجواز عند الضرورة كذلك، و هذه من قضايا قياساتها معها، و إن شئت قلت: الأصل هو الحرمة، خرجنا منه بمقدار يدل عليه الدليل، و هو مقدار الضرورة، فيبقي الباقي تحته، فلا يجوز التعدي عن المقدار اللازم في كل مقام.

2- ما يجب علي الحكومات الاسلاميّة في هذا المجال

إنّ اللازم علي الحكومات الإسلامية، اتخاذ التدابير اللازمة للطبابة من قبل المماثل،

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 67، الحديث 2، الباب الشهادة علي المرأة و رواها في الوسائل 18/ 297، بشكل آخر (ح 1، باب 43 من أبواب الشهادات) و راجع جواهر الكلام، 29/ 87.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 98

طبيب المرأة للمرأة، و الرجل للرجال، حتي تندفع الضرورة، و لا يبقي لها محل؛ فان دفع الضرورة، بأمر مباح، و لو احتاجت إلي مقدمات، واجب؛ كما إذا كان الإنسان يعلم أنّه لو سافر بلا زاد، سوف يحتاج إلي أكل الميتة، فالواجب عليه تهيئة الزاد لئلا يضطرّ إليها، و لو قصر في ذلك، و احتاج إليها. وجب عليه أكلها من باب الضرورة، و لكنه عاص بسبب القاء نفسه في هذه الضرورة.

هذا واجب بالنسبة إلي شخص واحد، و اوجب منه ملاحظة حال الجماعة، فلو علم رئيس المسلمين، إنّ الناس، لو لم يدّخر لهم الطعام الحلال، سوف يحتاجون إلي أكل الميتات و سائر المحرمات، وجب عليه ادّخارها في أوانها؛ و كذا الحال في مسألة الطب و الجراحية، فاللازم تأسيس كليات طبيّة للنساء و الرجال و المستشفيات و المستوصفات كذلك عند القدرة و الاستطاعة، و الظاهر أنّه أمر ممكن، و الثقافة الإسلاميّة تقتضي ذلك، سواء وافقنا غيرنا أم لم يوافقونا.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 99

[المسألة 23: كما يحرم علي الرجل النظر إلي الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب]

اشارة

المسألة 23: كما يحرم علي الرجل النظر إلي الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب؛ و لا يجب علي الرجال التستر، و إن كان يحرم علي النساء النظر إليهم، عدا ما استثني؛ و إذا علموا بأنّ النساء يتعمدن النظر إليهم، فالأحوط التستر منهن، و إن كان الاقوي

عدم وجوبه.

وجوب الستر و الحجاب علي المرأة

أقول: هذه هي مسألة وجوب الستر و الحجاب علي المرأة، و هي من المسائل المهمة، و علي رغم ذلك قلّ من تعرض لها مستقلا، بل تعلم فتاواهم من أبحاث حرمة النظر و جوازه، في بعض الموارد.

أدلّة وجوب الستر و الحجاب علي المرأة

اشارة

و العلة في ذلك هو:

من ضروريات الإسلام: أنّ المسألة علي إجمالها مما لا خلاف فيه، بل هي إجماعيّة، بل من ضروريات دين الإسلام، يعرفها اليوم الأجانب أيضا، و قد اتسع نطاقها لجهات شتّي، حتي صارت اليوم من شعارات المسلمين يعرفها كل مؤالف و مخالف. و كفي بذلك، دليلا علي إثباتها، و إن كان هناك دلائل كثيرة غيرها، و هي آيات من كتاب اللّه و طوائف من الأخبار.

آيات من كتاب اللّه

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 99

1- قوله تعالي: … وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، «1» و هي صريحة في المطلوب.

______________________________

(1). النور/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 100

2- قوله تعالي: … وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَليٰ جُيُوبِهِنَّ «1»، و قد مرّ تفسيرها، و هي أيضا صريحة في وجوب الستر و حرمة السفور.

3- قوله تعالي: … وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ … «2»

و من المعلوم أنّ المراد منه، هو الزينة الباطنة، فكما، يحرم ابداء الزينة الباطنة، يحرم إبداء محالّها، بل قد يقال أنّ المراد منه خصوص المحالّ، و لكن الانصاف ظهورها في حرمة ابداء الزينة الباطنة أيضا، و بالملازمة تدل علي محالّها.

4- قوله تعالي: … وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ … «3»

نهي النساء عن ضرب الأرجل، لظهور قعقعة الخلخال، و هو من الامور الباعثة للوسوسة في قلوب الرجال، فإذا كان هذا ممنوعا بحسب ظاهر الآية، فابداء الرجل و اليد و الرأس و الرقبة و الصدر، ممنوع بطريق أولي.

5- قوله

تعالي: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «4» و قد وقع الكلام بين المفسرين و الفقهاء، في الآية في مقامين: أحدهما، المراد من، القواعد، هل هي النساء اللاتي مضي وقت نكاحهن و لا يرغب في نكاحهن غالبا، أو المراد اللاتي يئسن من المحيض. ثانيهما، ما المراد بالثياب التي يجوز وضعها لهن، هل هي الخمار و الجلباب، أو خصوص الجلباب، و يبقي الخمار. و للكلام فيهما محلّ آخر، سيأتي إنشاء اللّه. و لكن لا فرق في شي ء من ذلك بالنسبة إلي ما نحن فيه، لأنّ الآية لها مفهوم واضح، و هو أن، غير القواعد، لا يجوز لهن وضع الثياب، بل يجب عليهن ستر أبدانهن (ما عدا الوجه و الكفين كما مرّ آنفا).

6- قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). النور/ 31.

(3). النور/ 31.

(4). النور/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 101

جَلَابِيبِهِنَّ، ذٰلِكَ أَدْنيٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلٰا يُؤْذَيْنَ، وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً. «1»

أمر النبي صلّي اللّه عليه و آله بالأمر بأزواجه و بناته و جميع نساء المؤمنين، أن يدنين عليهن من جلابيبهن، و الجلباب شي ء فوق الخمار كما مرّ؛ و ادنائها، أرخائها علي الصدر و الرقبة، أو مثل ذلك؛ و قد تقرر في علم الاصول، أن الأمر بالأمر، أمر؛ و ظاهره الوجوب.

اللّهم إلّا أنّ يقال، إن تعليلها يدل علي الاستحباب، أو علي أمر إرشادي، لا أمر مولوي، لأنّ الفساق و أرباب الريبة كانوا يمازحون الإماء، فأمرن الحرائر بالجلباب و الستر، ليعرفن من الإماء فلا يؤذين

بذلك؛ ثم هدد في الآية، الآتية هؤلاء المنافقين و الذين في قلوبهم مرض، بالإخراج من المدينة و القتل لو لم ينتهوا عن التعرض لنواميس المسلمين. و إذا كان الأمر إرشاديا فلا يدل علي التحريم.

و لكن يمكن أن يجاب عنه، بأنّه من قبيل ذكر الحكمة، فلا ينافي الأمر المولوي؛ فتأمل.

7- و قد يستدل بقوله تعالي: … وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ، ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ … «2» أمر بسؤالهن من وراء الحجاب، ثم استثني في الآية 55، و قال تعالي: لٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰائِهِنَّ وَ لٰا إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لٰا أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لٰا نِسٰائِهِنَّ وَ لٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ … «3»

و عدم ذكر الأعمام و الأخوال، من جهة العلم بحكمهم، لسبب ذكر أولاد الإخوة و أولاد الأخوات، فيعلم جواز ترك الحجاب بقرينة المقابلة؛ و حيث إنّ قاعدة الاشتراك في التكليف، حاكمة علي جميع الأحكام الواردة في الشرع في حق جماعة، فتثبت في حق الآخرين؛ يستفاد منها حكم عام لجميع النساء. و لكن يرد عليه؛ أنّ المراد بالحجاب هنا، ليس ستر المرأة، بل المراد ستر البيوت المرخي علي أبوابها، فإنّه الذي يعطي المتاع من ورائها، و من المعلوم بالإجماع، أو الضرورة أنّ هذا لا يجب بالنسبة إلي جميع النساء،

______________________________

(1). الاحزاب/ 59.

(2). الاحزاب/ 53.

(3). الاحزاب/ 55.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 102

فانّهن لا يزلن يشترين الأشياء من السوق و يعطين الفلوس، أو يبعن بعض الاشياء في السوق؛ و لا يكون شي ء من ذلك من وراء الستر، و قد جرت بذلك سيرة المسلمين قديما و حديثا.

فاللازم، إمّا القول بكون هذا الحكم من خصائص نساء النبي صلّي

اللّه عليه و آله كالحكم بحرمة زواجهن بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. و إمّا حملها علي نوع من الاستحباب بقرينة قوله تعالي:

ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ. فإنّه تعليل يناسب الحكم المستحبي.

فالاستدلال بالآية للمطلوب، مشكل.

طوائف من الروايات

و أمّا الروايات فيه كثيرة غاية الكثرة، و إنّما تبلغ حد التواتر و هي علي طوائف:

الف) ما ورد في تفسير قوله تعالي «الّا ما ظهر منها»: الروايات الدالة علي تفسير قوله تعالي: إِلّٰا مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، بالوجه و الكفين. مثل ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ. قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «1»

و مثله ما رواه عبد اللّه بن جعفر في قرب الاسناد «2» و كذا ما أشبههما.

ب) ما ورد في القواعد من النساء: ما ورد في حكم القواعد من النساء في الروايات الكثيرة التي رواها في الوسائل، في الباب 110، من مقدمات النكاح.

مثل ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «و القواعد … » ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ قال: الجلباب. «3»

و كذا الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة من هذا الباب بعينه، فانها علي اختلافها في تعيين المصداق في الجلباب، أو الجلباب و الخمار، أو غير ذلك، تدل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 145، الحديث 1، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 146، الحديث 5، الباب 109 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 146، الحديث 1، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 103

علي وجوب الستر علي غير القواعد، مطلقا. (ما عدا الوجه و الكفين المستفاد من روايات اخري).

ج) ما ورد في نساء الاعراب و اهل البوادي: ما ورد في حكم نساء الاعراب و أهل البوادي، من جواز النظر إلي شعورهن، معللا بانّهم إذا نهوا لا ينتهون. «1» بناء علي رجوع ضمير المذكر إلي النساء، لسهولة الأمر في التذكير و التأنيث، و بقرينة ذيل الرواية، فانه قد عطف عليها المجنونة و المغلوبة علي عقلها. و المذكور في نسخة الكافي عندنا أيضا ذلك. «2» و لكن عن الفقيه، و علل الشرائع؛ لأنهن إذا نهين لا ينتهين. «3»

و علي كل حال، دلالتها علي المطلوب واضحة، فانّ مفهومها وجوب الستر عليهن.

و لكن إذا نهين عن السفور، لا ينتهين، فيجوز النظر إليهم، للابتلاء بهن.

د) ما ورد في حكم الاماء من حيث التستر: ما ورد في حكم الإماء من حيث التستر؛ مثل ما رواه في الكافي، في الصحيح، عن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن أمهات الأولاد لها أن تكشف رأسها بين يدي الرجال؟ قال: تقنّع. «4» هذه الرواية تدل بوضوح علي أنّ وجوب التستر علي الحرائر، كان أمرا معلوما مفروغا عنه، و إنّما سئل عن حكم أم الولد، فامر بالتستر. و لعله لكونها في مسير الحريّة.

ه) الروايات الواردة في الباب 125: الروايات الكثيرة الواردة في الباب 125، من المقدمات، التي تدل بعضها علي عدم جواز كشف المرأة رأسها عند الخصيّ، و بعضها علي جوازه، و حمل الثاني علي التقية، أو الضرورة. فمن الأول، ما عن علي بن علي، أخي دعبل، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه، عن الحسين عليهم السّلام، قال: أدخل

علي اختي سكينة بنت علي، خادم، فغطت رأسها منه فقيل لها: أنّه خادم، فقالت: هو رجل منع من شهوته «5» و المراد من قوله: أنّه خادم؛ أنّه خصيّ، بقرينة ذيلها.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الشيخ الكليني، في الكافي 5/ 524، الحديث 1، باب النظر إلي نساء الاعراب.

(3). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 470، و الشيخ الصدوق، في علل الشرائع 2/ 565.

(4). الوسائل 14/ 150، الحديث 1، الباب 114 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 167، الحديث 7، الباب 125 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 104

و من الثاني، ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قناع الحرائر من الخصيّات؟ فقال: كانوا يدخلون علي بنات أبي الحسن عليه السّلام و لا يتقنعن.

قلت: فكانوا أحرارا؟ قال: لا، قلت: فالأحرار يتقنّع منهم؟ قال: لا. «1»

و للبحث عن جواز عدم التستر، أو حرمته، مقام آخر؛ و لكن جميع هذه الروايات الكثيرة نفيا أو إثباتا دليل علي وجوب الستر علي المرأة في غير الموارد المستثناة، سواء كان محل الكلام منها أم لا.

و) ما ورد في وجوب الخمار علي الجارية اذا بلغت: الروايات المتعددة الدالة إما علي وجوب الخمار علي الجارية إذا بلغت، و إمّا علي عدم وجوب التستر عن الصبي حتي يبلغ الصبي، فراجع الباب 126، ففيها أربع روايات، كلّها تدل علي المطلوب بوضوح، فإنّها صريحة في وجوب الستر علي المرأة، إلّا في الموارد المستثناة.

ز) ما دل علي وجوب ستر المرأة عن عبدها: مثل ما رواه يونس بن عمار و يونس بن يعقوب، جميعا، عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام، قال: لا يحلّ للمرأة، أن ينظر عبدها إلي شي ء من جسدها إلّا إلي شعرها غير متعمد لذلك. «2»

و من الواضح، أن الرواية ليست بصدد بيان حكم نظر العبد، بل حكم تستر المرأة عنه، لأنها تقول لا يحلّ للمرأة …

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الروايات الدالة علي وجوب الستر علي النساء، تبلغ حد التواتر، و في الغالب تدل بالدلالة الالتزامية، و هي هاهنا أبلغ من الدلالة المطابقية، لأنّ ظاهرها أو صريحها، كون وجوب الستر امرا مسلما مفروغا عنه بين المسلمين، و إنّما وقع السؤال عما يتفرع عليه و عن استثناءاته، و إذا انضمت بالآيات القرآنية الصريحة، و بالضرورة بين المسلمين، ثبت الحكم بأبلغ البيان و أتمّ البرهان. هذا كله بالنسبة إلي وجوب حجاب النساء.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 167، الحديث 3، الباب 125 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 164، الحديث 1، الباب 124 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 105

عدم وجوب الحجاب علي الرجال

أمّا عدم وجوب حجاب الرجال، فقد صرح في المستمسك، بأنّه: يظهر من كلماتهم من القطعيات عند جميع المسلمين، و ينبغي أن يكون كذلك، فقد استقرت السيرة القطعية عليه بل تمكن دعوي الضرورة عليه. «1»

و الظاهر أن المتعرض للمسألة قليل، و ما ذكره لعله مستفاد من طيّات كلماتهم، علي تأمل.

و لا شك أنّ مقتضي الأصل هنا، عدم الوجوب. و لكن دعوي استقرار السيرة عليه في غير الوجه و الكفين و الرأس و الرقبة و شي ء من الصدر و الذراعين و شي ء من الساق مع القدم، مشكل جدا. فأي سيرة علي وضع القميص عن الصدر و الظهر و الفخذ و شبهه (ما عدا العورة) في مقابل النساء و مرئي منهن. نعم،

بالنسبة إلي المقدار الذي ذكرنا، يمكن دعوي استقرار السيرة عليه.

و لكن ليس هنا دليل علي الوجوب في مقابل أصالة البراءة، لا من الآيات و لا من الروايات و لا من الإجماع. نعم، يمكن الاستدلال له، بمسألة حرمة الإعانة علي الإثم، و بمسألة النهي عن المنكر.

توضيحه، أنّه قد مرّ أنّ نظر المرأة إلي أعضاء الرجل (عدا ما استثناه) حرام، بمقتضي الأدلة الشرعيّة، فإذا كان هناك ناظر محترم من جنس النساء، و علم الرجل به، و لم يستر بدنه، كان أعانها علي الحرام، و الإعانة علي المحرم حرام؛ فلا يتوقف الحكم بالحرمة بصورة التلذذ و الريبة، لأنّ الحرمة غير قاصرة عليها.

هذا، و قد يستشكل علي صغري المسألة بعد قبول كبراها، أي حرمة الإعانة، بأنّ صدق الإعانة فرع قصدها؛ و بتعبير آخر: أنّ الإعانة علي الشي ء، تتوقف علي قصد التسبب، إلي ذلك الشي ء بفعل المقدمة، فاذا لم يكن الفاعل للمقدمة قاصدا حصوله، لا يكون فعل المقدمة إعانة عليه، فمجرد العلم بأنّ المرأة تنظر إليه عمدا، لا يوجب التستر،

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 106

عليه، من باب حرمة الإعانة علي الاثم. «1»

و لكن يرد عليه، أنّ الإعانة أمر عرفي، لا يتوقف علي القصد في بعض الاحيان، و إن شئت قلت: قصده قهري، فمن يبيع أنواع السلاح لأعداء الدين، لا سيّما عند قيام الحرب بينهم و بين المسلمين، و يزودهم بأنواع التزويدات رغبة للفلوس و المنافع المادية، بغير قصد الاعانة، يكون معاونا لهم عند جميع الناس؛ و لا يحتاج إلي نص خاص في المسألة، و إن ورد فيها بعض النصوص.

و كذلك من يبيع العنب للمصانع التي يصنع فيها الشراب عالما عامدا،

بقصد المنافع الكثيرة من دون قصد صنع الشراب، يعد معاونا لهم، و لا يقبل أحد منهم أنّه لم يقصد ذلك، بل قصد المنافع؛ لا سيما إذا كان البائع للمصنع منحصرا فيه. و لذلك، نمنع عن ظهور الرجال عريانا في مقابل النساء في ميادين الرياضة، أو في مراسم العزاء الحسيني، سلام اللّه عليه، و لا أقل من الاحتياط الوجوبي في ذلك، لما ذكرناه.

هذا، و قد يقال لو لم يكن القصد شرطا، بل يكفي فعل بعض المقدمات مع العلم بأنّه ينتهي إلي فعل الحرام من ناحية الغير، لم يجز بيع الخبز و الطعام لأهل المعاصي، فانه مقدمة لأفعاله، و لولاه لم يقدر عليها.

و لكن نجيب عنه، بأنّه فرق واضح بين المقدمات القريبة المباشرة، و البعيدة التائية؛ ففي الأول، يصدق عنوان الإعانة علي الإثم، و في الثاني غير صادق؛ و الشاهد عليه قضاء العرف و العقلاء بذلك.

و امّا الاستدلال بمسألة النهي عن المنكر، فهو أيضا قريب، نظرا إلي أنّ المقصود منه ترك المنكر بأي وسيلة كانت؛ فلذا قد يكون بالقول، و قد يكون بالفعل، مثل إراقة الخمور و كسر الأصنام و أخماد بيوت النيران و ما اشبه ذلك، و قد أقدم عليها النبي صلّي اللّه عليه و آله و وصيّه (سلام اللّه عليه) و المسلمون بعد ذلك، اقتداء بفعل شيخ الأنبياء، إبراهيم (عليه آلاف التحيّة و السلام).

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 107

فاعدام الموضوع، من طرق النهي عن المنكر، فاذا علم الرجل بتعمد المرأة في النظر إلي بدنه (في غير ما استثني) سواء كان بتلذذ و ريبة أم لا، فانّه حرام علي كل حال، علي المشهور، و علي المختار.

فمن طرق النهي عن هذا المنكر، أعدام موضوعه، و هو الستر، فيجب علي الرجال التستر، إذا تعمدن في النظر، من باب النهي عن المنكر.

و ما أفاده سيدنا الاستاذ الحكيم (رضوان اللّه تعالي عليه) في وجه عدم شمول أدلة النهي عن المنكر للمقام، بأنّ المراد منه: الزجر عن المنكر تشريعا، بمعني احداث الداعي إلي الترك؛ فلا يقتضي وجوب ترك بعض المقدمات، لئلا يقع المنكر؛ كما لا يقتضي الأمر بالمعروف فعل بعض المقدمات، ليتحقق المعروف. «1» محل للمنع؛ و ذلك لأنّ النهي، عرفا شامل لجميع ذلك، كما عرفت في كسر الأصنام و إخماد بيوت النيران و شبه ذلك، و كذا ما صرح به الفقهاء من وجوب النكاح علي من يخاف من تركه الوقوع في الحرام، فانّه أيضا من قبيل نفي موضوع الحرام، باشباع الغريزة من طريق الحلال. و الجمود علي لفظ النهي، و القول بظهوره في الزجر تشريعا، غير صحيح بعد العلم بالملاك و بعد ما عرفت من سيرة الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام.

و أمّا ما ذكره في النقض، بوجوب فعل بعض المقدمات ليتحقق المعروف، فالالتزام به غير بعيد؛ فلو علمنا بانّه، لو لم يكن الحمام موجودا في بلد أو قرية، ترك جماعة كثيرة من المسلمين صلاتهم و صيامهم، و كنا قادرين علي بنائه، أو كانت الحكومة قادرة عليه، لم يبعد القول بوجوبه من هذا الباب و لا يبعد أن يكون وجوب تعليم الحلال و الحرام أيضا، من هذا الباب؛ فتدبر جيّدا.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 108

[المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر]

المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر و اللمس بغير شهوة،

لا معها لو فرض ثورانها.

[المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلي الصبيّة، ما لم تبلغ]

المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلي الصبيّة، ما لم تبلغ، إذا لم يكن فيه تلذذ و شهوة. نعم، الاحوط الاولي، الاقتصار علي مواضع لم تجر العادة علي سترها بالألبسة المتعارفة مثل الوجه و الكفين و شعر الراس و الذراعين و القدمين، لا مثل الفخذين و الأليين و الظهر و الصدر و الثديين، و لا ينبغي ترك الاحتياط فيها؛ و الأحوط عدم تقبيلها و عدم وضعها في حجره إذا بلغت ست سنين.

[المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلي الصبي المميز ما لم يبلغ]

اشارة

المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلي الصبي المميز ما لم يبلغ، و لا يجب عليها التستر عنه، ما لم يبلغ مبلغا يترتب علي النظر منه أو إليه ثوران الشهوة، علي الأقوي في الترتب الفعلي، و علي الأحوط في غيره.

حكم النظر إلي الصبي و الصبيّة

اشارة

أقول: هذه المسائل الثلاث، مرتبطة بعضها ببعض من حيث الأقوال و الأدلة، و لذا نتعرض لها في بحث واحد، و حاصل كلام المصنف، أنّ الصبي و الصبية إذا كانا غير مميزين كانا خارجين عن أحكام النظر منهما أو إليهما؛ و أما حكم الرجال بالنسبة إلي الصبية، فهو جواز النظر ما لم تبلغ بغير تلذذ. و اما حكم النساء بالنسبة إلي الصبي، فيجوز أيضا نظرهن إليه ما لم يبلغ. و أمّا بالنسبة إلي نظره إليهن، فالتفصيل بين ثوران الشهوة و عدمه؛ و اللازم ذكر صور المسألة أولا؛ ثم بيان أحكامها. فنقول:

إنّ الصبي أو الصبية، تارة يكون غير مميز، و اخري مميز ليس له ثوران الشهوة و لا في مظانه، و ثالثة يكون له ثوران الشهوة و إن لم يبلغ.

لا خلاف بين الأعلام (رضوان اللّه تعالي عليهم) في الأول، و وقع الكلام في الأخيرين.

قال في الرياض: و يستثني من الحكم مطلقا إجماعا، محل الضرورة، و القواعد من

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 109

النسوة، و الصغير غير المميز و الصغيرة، فيجوز النظر منهن مطلقا و إليهن … و في جواز نظر المميز إلي المرأة، ان لم يكن محلّ ثوران تشوق و شهوة، قولان؛ أحوطهما المنع، فيمنعه الولي عنه «1».

و ظاهره كون المنع في الفرض الثالث، و هو صورة ثوران الشهوة، مسلما مفروغا عنه.

و قال في كشف اللثام: و للصبي الذي لم يظهر علي عورات النساء، النظر إلي الأجنبيّة،

بمعني أنّه ليس عليها التستر عنه. أمّا الذي لم يبلغ مبلغا يحكي ما يري، فكذلك قطعا للقطع بدخوله في الآية. و أمّا الذي يحكيه، و ليس له ثوران شهوة، فاستقرب في التذكرة انه كذلك … و أمّا من به ثوران الشهوة، فقطع بأنّه كالبالغ، و هو قويّ، لظهور الخروج عن غير الظاهرين علي عوراتهن، و أطلق في التحرير كما هنا «2».

و ظاهر كلامه، جعل الأقسام أربعة، (من لا يظهر علي عورات النساء، من لا يقدر علي حكاية ما يري، من ليس له ثوران الشهوة، من له الثوران و لم يبلغ الحلم).

و لكن، الظاهر من كلام الشهيد الثاني (قدس سره)، في المسالك، أنّ غير المميز هو من لا يقدر علي حكاية ما يري، و جعل من كان فيه ثوران الشهوة كالبالغ، يجب منعه و تستر النساء منه، و من ليس كذلك ذكر فيه قولان، الجواز و عدمه. «3»

و يظهر من كلام فقهاء العامّة كابن قدامة في المغني، و النووي في المجموع أنّ الحكم في غير المميز، أيضا مفروغ عنه بينهم؛ و أمّا المميز، فقد وقع الخلاف فيه بينهم، فمنهم من جوز للمرأة عدم التستر عنه ما لم يبلغ. و منهم من جعل المميز أو المراهق، بحكم البالغ «4».

و علي كل حال، لا ينبغي الريب بالنسبة إلي غير المميز، و أنّه لا يجب التستر منه، و يجوز النظر إليه بغير شهوة. و المراد منه هنا من لا يعرف شيئا من الامور الجنسيّة، و لا يقدر علي حكاية شي ء، سواء كان لا يعرف امّه و أباه و غيرهما، كابن لشهر أو شهرين، أو يعرفهما و ما أشبه ذلك، و لكن لا يعرف الحسن عن القبيح، فلا يعرف خطر

النار و البئر و

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 72، (2/ 74 ط. ق).

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 30، (2/ 10 ط. ق).

(3). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 49 (1/ 436 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 458. و محي الدين النووي، في المجموع 16/ 134.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 110

غير ذلك، أو يعرف بعض ذلك و لكن لا يقدر علي حكاية ما يري و لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية.

و الدليل عليه، هو انصراف أدلة حرمة النظر و كذا وجوب السّتر، عنه، و عدم وجود حكمة الوجوب و الحرمة فيه، كما هو واضح.

و استدل أيضا بقوله تعالي: … أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ … «1»

في مقام بيان الاستثناءات عن حكم عدم ابداء الزينة الباطنة، و قد فسّرت الآية، تارة بعدم المعرفة بعورات النساء، و اخري بعدم القوّة عليها.

و الوجه في ذلك، ما ذكرناه في تفسير، الأمثل، من أنّ جملة «لم يظهروا»، قد تكون بمعني لم يطلعوا؛ كما في قوله تعالي: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ …، «2» و اخري بمعني لم يقدروا؛ كما في قوله تعالي: كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لٰا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لٰا ذِمَّةً … «3» (يعني أن غلب المشركون عليكم، لا يراعون فيكم عهدا و لا قسما).

و الظاهر، بملاحظة ذكر العورات، هو المعني الأول؛ فهي إشارة إلي من لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية، و لا يقدر علي حكايتها لعدم معرفته بها.

و علي كل حال، الآية تدل علي بعض المطلوب، أي عدم وجوب تستر النساء عنهم.

أمّا المميز الذي لا يوجد عنده ثوران

الشهوة، فقد عرفت أنّ فيه قولان، الجواز و عدمه؛ و استدل كل واحد بآية من كتاب اللّه عزّ و جلّ، اما عدم الجواز، فلمفهوم قوله تعالي: … أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ النِّسٰاءِ …، فان مفهومه أنّ الأطفال المميزين لا يجوز ابداء الزينة الباطنة لهم، و المقام و إن كان من قبيل مفهوم الوصف، و لكن قد عرفت غير مرّة أنّ القيود التي في مقام الاحتراز، لها مفهوم، أيّا ما كان، و من الواضح أنّ المقام من هذا القبيل.

______________________________

(1). النور/ 31.

(2). الكهف/ 20.

(3). التوبة/ 8.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 111

و أمّا الجواز، فلقوله تعالي في آية الاستيذان: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، ثَلٰاثَ مَرّٰاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلٰاةِ الْفَجْرِ، وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَ مِنْ بَعْدِ صَلٰاةِ الْعِشٰاءِ، ثَلٰاثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لٰا عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَليٰ بَعْضٍ … «1»

دلت علي وجوب الاستيذان في خصوص هذه الأوقات الثلاثة؛ و أمّا في غيرها، فلا يجب علي غير البالغ الاستيذان، سواء كان محرما أو غير محرم. لا يقال: الآية ناظرة إلي المحارم؛ لأنا نقول: بل الظاهر أنّها عامّة، فان ابن العم و ابنته، و كذا ابنة الخال و ابنه و أمثالهم، يطوفون بعضهم علي بعض إذا كانوا صغارا، فالآية شاملة للمحرم و غيره. أمّا الاستيذان في المواقع الثلاثة، لأنّها مظنة الأعمال الجنسية أو شبهها، فقد امروا فيها بالاستيذان، و هذا من أوضح الدليل علي أنّه لا يمكن حمل الآية علي غير المميز.

و الآية التالية لها، تدل علي وجوب استيذان البالغين، في كلّ حال و في جميع الأوقات. قال

تعالي: وَ إِذٰا بَلَغَ الْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ … «2» و هو دليل علي أنّ الحكم ليس مقصورا علي المحارم، بل لعله ظاهر في خصوص غير المحارم.

فتلخص من جميع ذلك، أنّ مفهوم الآية الاولي عدم جواز ابداء الزّينة للمميزين غير البالغين؛ و منطوق الآية الثانية دليل علي جواز الورود من غير اذن لهم، الملازم لكشف رءوسهن أو بعض أبدانهن غالبا، و حيث لا يمكن المعارضة بين آيتين، لأنّ الإسناد قطعيّة و التقيّة ليست فيها، فلا مناص إلّا من الجمع العرفي الدلالي بينهما، امّا بحمل الاولي علي موارد ثوران الشهوة و حمل الثانية علي موارد عدمه، (و لعل التفصيل الذي ذكره جماعة من الأصحاب ناظر إليه). لكنه جمع دلالي لا شاهد له و يسمّي تبرّعيا. اللّهم إلّا أن يقال معني قوله تعالي «لَمْ يَظْهَرُوا عَليٰ عَوْرٰاتِ»، بمعني ثوران الشهوة. أو يقال أنّ الامر بالاستيذان في تلك الأوقات، لا يقتضي جواز النظر، (كما ذكر، في المسالك). و لكن

______________________________

(1). النور/ 58.

(2). النور/ 59.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 112

الانصاف أنّ الاستدلال بترك الاستيذان، في غير الأوقات الثلاثة، و هو دليل علي الجواز عادة.

أو يقال، أنّ المفهوم محمول علي الكراهة، لصراحة المنطوق في الجواز، و إن شئت قلت: المسألة من باب تعارض النص و الظاهر، أو الظاهر مع الأظهر، فالترجيح بالجواز.

و يؤيد الجواز، بل يدل عليه روايات. منها:

1- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن الرضا عليه السّلام، قال: يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطّي المرأة شعرها منه حتي يحتلم. «1»

و الرواية صحيحة.

2- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر (أيضا)، عن الرضا عليه

السّلام قال: لا تغطي المرأة رأسها من الغلام حتي يبلغ الغلام. «2»

و الظاهر اتحاد الروايتين و وقوع التقطيع في الثانية.

3- و من طريق الجمهور، ما رواه ابن قدامة، أنّ أبا طيبة حجم نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله، و هو غلام؛ «3» دلت علي النظر و اللمس حتي في مثل الظهر، و لا يخلو مضمون الرواية من بعد، لا سيّما بالنسبة إلي نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله.

و في الروايتين السابقتين غني و كفاية.

فجواز نظر الصبي إلي المرأة فيما يتعارف كشفه، ممّا لا ينبغي الاشكال فيه؛ أمّا إذا كان هناك ثوران الشهوة، فانّ كان الثوران بالقوة و الاستعداد، فلا دليل علي استثنائه عن الحكم المزبور، و أمّا إذا كان بالفعل، و كان سببا لبعض المفاسد، فالحق استثنائه. و هو من القضايا التي قياساتها معها.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 169، الحديث 3، الباب 126 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 169، الحديث 4، الباب 126 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 458.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 113

بقي هنا شي ء: هل يجوز للرجل أن يضع الصبيّة في حجره و يقبّله؟

الظاهر، عدم الخلاف في جواز ذلك قبل بلوغها ست سنين، و يدل عليه مضافا إلي ما ذكر، جريان السيرة العملية عليه من دون انكار.

و يدل عليه أيضا روايات متضافرة، بعضها صحيح السند. منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن يحيي الكاهلي، قال: سال أحمد بن النعمان، أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن جارية ليس بيني و بينها محرم تغشاني فاحملها و اقبلها؛ فقال: إذا أتي عليها ست سنين فلا تضعها في حجرك «1».

و الرواية معتبرة، إلي عبد اللّه بن يحيي، فلو كان سؤال أحمد بن النعمان بمحضره لم يضره (و يؤيده ما في

بعض طرق الرواية: و اظنني قد حضرته.)، و إلّا يشكل الاعتماد عليه نظرا إلي ان أحمد مجهول؛ و الظاهر أنه لا ينقل عنه في الفقه، إلّا روايتان.

2- زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إذا بلغت الجارية الحرة ست سنين، فلا ينبغي لك أن تقبلها «2».

3- مرفوعة زكريا المؤمن أنّه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا بلغت الجارية ست سنين فلا يقبلها الغلام، و الغلام لا يقبل المرأة إذا جاز سبع سنين. «3»

4 و 5- مثله مرسلة علي بن عقبه؛ «4» و رواية عبد الرحمن بن بحر «5».

و هل يحرم إذا تجاوز السّت، أو يكره؟ ظاهر بعض الروايات السابقة، الحرمة بمقتضي قوله عليه السّلام: لم يجز؛ و قوله: لا يقبلها …؛ و قوله عليه السّلام: فلا تضعها علي حجرك؛ في معتبرة الكاهلي، و لا يضرّه عدم ذكر التقبيل، لذكره في السؤال، و للأولوية.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 169، الحديث 1، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 170، الحديث 2، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 170، الحديث 4، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 170، الحديث 6، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 171، الحديث 7، الباب 127 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 114

و لكن قوله: لا ينبغي؛ في بعض روايات الباب، و ذكر الخمس بدل السّت في بعضها الآخر، دليل علي الكراهة؛ مضافا إلي استقرار السيرة عليه؛ نعم، لا يجوز إذا كان عن شهوة و لكن لا يترك الاحتياط بتركه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 115

[المسألة 27: يجوز النظر إلي نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار]

اشارة

المسألة 27: يجوز النظر إلي نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار، مع عدم

التلذذ و الريبة، أعني خوف الوقوع في الحرام. و الأحوط، الاقتصار علي المواضع التي جرت عادتهن علي عدم التستر عنها؛ و قد تلحق بها، نساء أهل البوادي و القري من الأعراب و غيرهم، اللاتي جرت عادتهن علي عدم التستر، و إذا نهين لا ينتهين، و هو مشكل؛ نعم الظاهر، أنّه يجوز التردد في القري و الأسواق و مواقع تردد تلك النسوة و مجامعهن و محال معاملتهنّ مع العلم عادة بوقوع النظر عليهن؛ و لا يجب غضّ البصر في تلك الحال، إذا لم يكن خوف افتنان.

أقول: هذه المسألة في الواقع مسئلتان: أولاهما، مسألة النظر إلي نساء أهل الذّمّة.

ثانيتهما، مسألة النظر إلي بعض أهل البوادي و غيرهن، ممّن جرت عادتهن علي عدم التستر اللائق بهنّ.

في النظر الي نساء أهل الذمّة

أما الاولي، فحاصل الكلام فيها، أنّ المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلي نسائهم (في الجملة) قال في الرياض: يجوز النظر إلي أهل الذمّة و شعورهن علي الأشهر الأظهر. «1»

و قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلي نساء، أهل الذمة و شعورهن؛ و هو قول الشيخين في المقنعة و النهاية، ما لم يكن ذلك علي وجه التلذذ. «2»

ثم قال في ذيل كلامه: و علي هذا القول عمل الأصحاب، ما عدا ابن ادريس و تبعه العلّامة في المختلف، و أما في باقي كتبه فهو موافق لمذهب الأصحاب.

و الذي يمكن التمسك به لكلام المشهور، أمران: (و إن كان الأصل عدم الجواز، لشمول الاطلاقات لهن أيضا).

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 64، (2/ 73 ط. ق).

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 58.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 116

أدلّة المشهور

الأوّل: روايات يخرج بها عن الأصل. منها:

1- ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة، أن ينظر إلي شعورهن و أيديهن. «1» و الخبر ضعيف بالسكوني، و لكن يمكن انجباره بعمل المشهور.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب عليهم السّلام قال: لا باس بالنظر إلي رءوس نساء أهل الذمة. و قال: ينزل المسلمون علي أهل الذمة في اسفارهم و حاجاتهم، و لا ينزل المسلم علي المسلم إلّا باذنه. «2»

و أبو البختري، هو وهب بن وهب الذي وصفه علماء الرجال بأنّه كان كذابا ضعيفا لا يعتمد عليه، و أن روي عنه ابن أبي عمير في بعض المقامات. و

عن بعض النسخ: إلي نساء أهل الذمة؛ و عليه، معناه أوسع كما هو ظاهر.

3- ما رواه في الجعفريات، باسناده عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: ليس لنساء أهل الذمة حرمة، لا بأس بالنظر إليهن ما لم يتعمد «3».

و هو من حيث المضمون عام، يشمل النظر إلي جميع أبدانهن بعدم الحرمة لهن؛ و لكن الانصاف انصرافه إلي ما هو المتعارف بينهم من عدم ستر الوجه و اليدين و الشعور.

4- و في رواية اخري بهذا الاسناد عنه صلّي اللّه عليه و آله قال: ليس لنساء أهل الذّمّة حرمة، لا باس بالنظر إلي وجوههن و شعورهن و نحورهن و بدنهن ما لم يتعمد ذلك. «4»

و الظاهر، أنّ التصريح فيها ببدنهن أيضا ناظر إلي ما يتعارف، من قبيل شي ء من اليدين و الرجلين و قليل من الصدر.

و دلالة هذه الروايات الاربعة علي المطلوب واضحة؛ و ضعف اسنادها منجبر بعمل

______________________________

(1). الوسائل 14/ 149، الحديث 1، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 149، الحديث 2، الباب 112 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 276، الحديث 16706.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 277، الحديث 16707.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 117

المشهور، مضافا إلي تضافرها.

5- و هناك رواية اخري، وقع الخلاف في نسختها، و هي ما رواه ابن محبوب عن عباد بن صهيب، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلي نساء أهل تهامة و الاعراب و أهل البوادي من أهل الذمة و العلوج، لأنّهن لا ينتهين إذا نهين. «1»

و المراد من تهامة، المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب، و قد يطلق علي مكّه، و

النّسبة إليه التهاميّ، و النّجد هو المنطقة الشّمالية المرتفعة.

و المراد بالعلوج (علي وزن بروج) جمع العلج (علي وزن فكر)، هو مطلق الكفار كفار العجم، أو الرجل الضخم منهم.

و لا إشكال فيها من حيث رجال السند، و لو كان كلام، فانما هو في عباد بن صهيب، فقد ذكر غير واحد من أرباب علم الرجال، أنّه عامي أو بتري (و هو زيدي العامّة). و لكن مجرد ذلك، لا يمنع عن قبول حديثه. فقد صرح في معجم رجال الحديث بعد كلام طويل، أنّ: المتحصل أنّه لا إشكال في وثاقة عباد بن صهيب بشهادة النجاشي و علي بن إبراهيم في تفسيره. «2» و ما يظهر من بعض الروايات أنّه أشكل علي الصادق عليه السّلام في ثوب لبسه؛ و أجابه عليه السّلام بأنّه اشتراه بشي ء قليل، و أنّه لا يمكنه لبس ما كان يلبسه علي عليه السّلام، و لو لبس مثل لباسه في هذا الزمان، لقالوا هذا مراء مثل عباد!؛ الظاهر، أنه عباد بن كثير، لا عباد بن صهيب؛ و لا أقل من الشك، فلا ينافي ذلك وثاقته.

و أمّا دلالتها علي المطلوب، فمن وجهين، تارة من حيث التصريح فيه بأهل الذمة و العلوج؛ و اخري من حيث التعليل، حيث إنّه لا إشكال في أنّ نساء أهل الذمة داخلات تحت عموم التعليل، فانّهن إذا نهين لا ينتهين، إلّا أن يكون هناك قوة قهرية.

و لكن في نسخة الوسائل، لم يذكر أهل الذمة و قال: … و أهل السواد و العلوج، لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون. «3»

______________________________

(1). الشيخ الصدوق، في من لا يحضره الفقيه 3/ 469، و رواه في الجواهر 29/ 69.

(2). السيد الخوئي، في معجم رجال الحديث 10/ 233.

(3). الوسائل 14/ 149،

الحديث 1، الباب 113 من أبواب مقدمات النكاح، (و الضمائر فيه مذكر، و الظاهر أنه اشتباه من الراوي، أو انها بملاحظة ذكر الأهل، كعدم ذكر النساء).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 118

و لكن ذكر العلوج كاف في شمولهن، و أوضح منه ذكر التعليل فيها.

فاختلاف النسخ، غير مضرّ بما نحن بصدده.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزّكيّة) حيث ذكر هذه الرواية بعنوان المعارض، و قال: ضرورة ظهوره في كون العلّة، عدم الانتهاء بالنهي، الذي يمكن كون المراد منه عدم وجوب الغض، و عدم حرمة التردد في الأسواق و الزقاق من هذه الجهة، لما في ذلك من العسر و الحرج بعد فرض عدم الانتهاء بالنهي، فهو حينئذ أمر خارج عما نحن فيه «1».

و الانصاف، أنّ العسر و الحرج لو كانا من قبيل الملاك في المقام، فلا شك في كونهما من قبيل الحكمة و العلّة. و أنّ شئت قلت، أنّ العسر و الحرج هنا نوعي لا شخصي، و إلّا وجب الحكم في الرواية بوجوب بقاء جميع الناس في دارهم إلّا من كان في عسر و حرج شخصي، فيجوز له الخروج؛ و الظاهر أنّه لم يقل به أحد.

فالرواية دليل علي المقصود، لا أنّه مخالف له.

الثاني: من باب أنهن مماليك للإمام عليه السّلام أو مماليك للمسلمين، و المملوكة يجوز النظر إليها. فالدليل مشتمل علي صغري و كبري، لا بدّ من اثبات كل واحد منهما؛ قال في الشرائع: يجوز النظر إلي نساء أهل الذمة و شعورهن لأنهن بمنزلة الإماء. «2»

و أضاف في الجواهر: إنّ أهل الذمة ملك و في ء للمسلمين، و إن حرم عليهم بالعارض، كالأمة المزوّجة (و المراد بالعارض هنا ذمة المسلمين لهم). «3» و علي ذلك،

جواز النظر إليهن من باب جواز نظر المولي إلي مملوكته!

ثم قال: أو ملك للإمام عليه السّلام؛ و مملوكة الغير، يجوز النظر إليها.

و قد استدل لذلك بروايات عديدة. منها:

1- ما رواه في الوسائل عن أبي بصير، يعني ليث المرادي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 69.

(2). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 495.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 119

سألته عن رجل له امرأة نصرانيّة، له أن يتزوج عليها يهودية؟ فقال: إنّ أهل الكتاب مماليك للإمام، و ذلك موسع منّا عليكم خاصة، فلا بأس أن يتزوّج … «1»

و سند الحديث معتبر؛ و لكن في دلالتها تأمل، لإبهام ربط السؤال و الجواب، أوّلا، لأنّه لا مانع من تزويج اليهودية علي النصرانية، و لو كان هناك مانع فكيف يرتفع بكونهن مماليك للإمام عليه السّلام. فهذا الإشكال و الابهام يمنع عن الاعتماد عليها، و يشك في كونها كلاما للإمام عليه السّلام.

2- ما رواه زرارة في الصحيح، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن نصرانية كانت تحت نصراني، و طلّقها، هل عليها عدّة مثل عدة المسلمة؟ فقال: لا؛ لأنّ أهل الكتاب مماليك للإمام … «2» و ليس المراد أنّه ليس عليها، بل المراد منه أنّ عدتها عدّة الإماء، حيضتان أو خمسة و أربعون يوما. و قد صرّح بذلك في ذيل الرواية، فراجع.

هذا و لكن صرّح الأصحاب بأنّه لا فرق في العدّة بين الذميّة و المسلمة، لا في عدّة الوفاة و لا في عدّة الطلاق، بل ادعي عدم الخلاف، بل ادعي الإجماع عليه.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزكية)، حيث صرّح بشذوذ الرواية، و عدم

العامل لها من هذه الجهة في بحث العدد «3».

اللّهم إلّا أن يقال بجواز التجزية بين أجزاء الرواية و عدم العمل بها في موردها، لا يمتنع عن الأخذ بما فيها من العموم، من كون أهل الذمة مماليك للإمام عليه السّلام.

و لكن هذا التفكيك لا سيما بين العلة و المعلوم مشكل جدا، فهذا يوجب سقوط الرواية عن الاستدلال بها.

3- ما رواه أبو ولاد، في الصحيح أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة … و هم مماليك للإمام عليه السّلام، فمن أسلم منهم فهو حرّ. «4»

و دلالتها أحسن من غيرها و سندها معتبر.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 399، الحديث 2، الباب 2 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد.

(2). الوسائل 15/ 477، الحديث 1، الباب 45 من أبواب العدد.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 314.

(4). الوسائل 19/ 300، الحديث 1، الباب 1 من أبواب العاقلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 120

و لكن يرد علي الجميع، أنّ التملك بالنسبة إلي الكفار، إنّما يكون في الحرب، فانّ كان الحرب باذنه عليه السّلام كان ملكا للمقاتلين، و إلّا كان للإمام عليه السّلام. و لكن التملك بدون ذلك غير معهود، مضافا إلي إنّه لم يسمع ترتب آثار الملك عليهم من البيع و الشراء من أحد من الفقهاء، علي أنّ المملوك لا ذمة له، و مال الجزية لا يكون من قبيل الضريبة علي العبد كما هو واضح، و ليس عدتهن- كما عرفت- عدّة الإماء، إلي غير ذلك ممّا يدل علي عدم كونهم من العبيد و الإماء.

فالركون علي هذه الروايات مشكل جدّا، و الاولي ردّ علمها إلي أهلها.

هذا كله بالنسبة إلي الصغري؛ و أمّا الكبري- أعني جواز النظر

إلي الإماء- فالظاهر أنّه مفروغ عنه، و ادعي في الجواهر جريان السيرة عليه و هو غير بعيد، بل قد يظهر من آية الجلباب ذلك، و يمكن الاستيناس له بما دل علي عدم وجوب ستر رأسها في الصلاة، و غير ذلك ممّا لا يخفي علي الخبير.

*** لا فرق بين اصناف الكفّار

الظاهر، أنّه لا فرق بين أصناف الكفار، و إن كان موضوع الكلام في كلمات كثير منهم أهل الذّمّة، و ذلك للأولوية القطعيّة، فان أهل الذمة لهم حرمة باعتبار ذمتهم، و لا حرمة لغيرهم أبدا (مثل أهل الحرب) أو ليس بهذه المثابة (مثل المستأمن و المهادن).

هذا، مضافا إلي ظهور التعليل في معتبرة عباد بن صهيب؛ و مضافا إلي ذكر العلوج- و هم كفار العجم أو مطلق الكفار- في بعض روايات الباب.

ما هو المقدار الذي يجوز النظر اليه؟

المقدار الذي يجوز النظر إليه (مع الشرطين)، هو ما يتعارف إبدائه عندهم، لا جميع بدنهم، لانصراف اطلاق الحكم إليه، مضافا إلي التصريح بالشعور و النحور في بعض أحاديث الباب، (و هو رواية السكوني) و ذكر خصوص الرؤوس في بعضها الآخر، (و هو

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 121

رواية قرب الأسناد، أقوي شاهد علي المطلوب).

و ذكر البدن علي نحو الاطلاق، في رواية الجعفريات، منصرف إلي ما عرفت، بقرينة ساير روايات الباب.

و ما ذكره في المتن من أن ذلك أحوط، ليس علي ما ينبغي، بل الأقوي ذلك.

يجوز للحكومة الاسلامية منعهن من السفور

إذا كان ظهورهن مكشفات في الملاء الإسلامي سببا لهتك حرمة ستر المحجبات من المسلمين، أو سببا لجرأة النساء الفاسقات علي السفور، فعلي الحكومة الإسلامية منعهن عن ذلك، و أمرهن برعاية الستر الإسلامي. كما في زماننا هذا و الحمد للّه.

رأي الفقهاء في النظر الي أهل البوادي

اشارة

أما الثانية، (أعني، مسألة النظر إلي بعض أهل البوادي). فقد صرّح المحقق اليزدي، في العروة الوثقي في ذيل المسألة 27 بانه: قد يلحق بهم نساء أهل البوادي و القري من الاعراب و غيرهم و هو مشكل؛ و وافقه كثير من المحشين.

و الظاهر، أنّ وجه الإشكال فيه هو الإشكال في وثاقة عباد بن صهيب، و لكن قد عرفت شهادة النجاشي، و علي بن ابراهيم (فيما حكي عنهما) بوثاقته، مضافا إلي ما ذكره في المستمسك، من أنّ وقوع أحمد بن محمد بن عيسي في السند، و هو الذي أخرج البرقي عن قم لأنه كان يروي عن الضعفاء؛ و كذا ابن محبوب، الذي هو من أصحاب الإجماع و ممن لا يروي إلّا عن ثقة؛ لا يبعد أن يكون كافيا في جبر ضعف السند. «1»

و الأول و إن كان مؤيدا عندنا، و لكن الثاني لا يوافق المختار في أصحاب الإجماع.

هذا، مضافا إلي لزوم العسر و الحرج علي فرض عدم الجواز، فتأمل؛ و الظاهر أنّ في رواية عباد بن صهيب غني و كفاية. و عدم تعرض الأصحاب لهذه المسألة، لعله لتوقفهم

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 21.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 122

في وثاقة عباد و عدم وصول توثيقه إليهم، فالأقوي هو الجواز مع الشرطين.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يلحق بهن، النساء غير المباليات بأمر الستر، في بلادنا و ساير بلاد المسلمين ممن لا ينتهين إذا نهين؛ و هو غير بعيد بعد عموم التعليل. و لكنّ اللازم رعاية الشرطين، و الاحتراز عن مظانّ التّهم و محالّ وسوسة الشيطان، أعاذنا اللّه منه، للفرق الواضح بينهن و بين أهل البوادي، فالريبة فيهن أكثر و أشمل. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 123

[المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط]

اشارة

المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط أن لا يكون بقصد التلذذ، و إن علم انّه يحصل بسبب النظر قهرا؛ و بشرط أن يحتمل حصول بصيرة بها؛ و بشرط أن يجوز تزويجها فعلا، لا مثل ذات البعل و العدة؛ و بشرط ان يحتمل حصول التوافق علي التزويج، دون من علم أنّها ترد خطبتها؛ و الأحوط الاقتصار علي وجهها و كفيها و شعرها و محاسنها، و إن كان الأقوي جواز التعدي إلي المعاصم، بل و ساير الجسد ما عدا العورة. و الأحوط، أن يكون من وراء الثوب الرقيق؛ كما أنّ الأحوط لو لم يكن الأقوي، الاقتصار علي ما إذا كان قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص. فلا يعم الحكم ما إذا كان قاصدا لمطلق التزويج و كان بصدد تعيين الزوجة بهذا الاختبار، و يجوز تكرار النظر إذا لم يحصل الاطلاع عليها بالنظرة الاولي.

شروط اربعة لجواز النظر الي من يريد تزويجها

أقول: قد ذكر الماتن (قدس سره) في هذا الفرع، شروطا أربعة لجواز نظر من يريد تزويج امرأة.

1- عدم قصد التلذذ (و يلحق به عدم الريبة).

2- احتمال حصول بصيرة بها.

3- أن تكون المرأة جائزة التزويج له، فعلا.

4- احتمال حصول التوافق علي التزويج.

ثم أشار بمقدارها؛ ثم ذكر في ذيل المسألة، ما يعود إلي شرط خامس و شرط سادس.

و هو أن يكون من وراء الثياب الرقاق بالنسبة إلي غير الشعور و مثلها. و أن يكون قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص (لو حصل التوافق عليها). فلنعد إلي أصل المسألة، ثم نذكر الشرائط الستة المذكورة و نبحث عنها.

أمّا أصل المسألة علي إجمالها، فهو ممّا أجمع الأصحاب عليه، بل ادعي الإجماع عليه جماعة، بل ادعي صاحب الجواهر: عدم الخلاف فيها بين المسلمين، و إنّ حكاية

أنوار الفقاهة - كتاب

النكاح (لمكارم)، ص: 124

الإجماع عليها مستفيض أو متواتر كالنصوص. «1»

قال المحقق الكركي، في جامع المقاصد: لا خلاف بين علماء الإسلام في أن من أراد نكاح امرأة، يجوز له النظر إليها في الجملة؛ و قد رواه العامة و الخاصّة. و هل يستحب، فيه وجهان «2».

و قال الشيخ، في الخلاف: يجوز النظر إلي امرأة اجنبية يريد أن يتزوجها إذا نظر إلي ما ليس بعورة فقط. و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي. ثم نقل اختلاف كلمات العامة و الخاصة في تفسير ما ليس بعورة؛ ثم نقل عن المغربي فقط، أنّه لا يجوز أن ينظر إلي شي ء منها. «3»

و قال ابن رشد: و أمّا النظر إلي المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلي الوجه و الكفين فقط، و أجاز ذلك غيره إلي جميع البدن عدا السوأتين، و منع ذلك قوم علي الاطلاق. «4»

أدلّة المسألة

و الدليل عليه روايات كثيرة، و هي كما ذكره بعض الأكابر مستفيضة أو متواترة، فلا نحتاج إلي ملاحظة أسانيدها و إن كان فيها الصحيح و غيره و مضامينها مختلفة. طائفة منها تدل علي جواز ذلك، لأنه أمر شبيه بالبيع؛ و لا شك أنّه ليس بيعا للإنسان الحرّ، بل من جهة اشتمالها علي مهر قليل أو كثير في الغالب يكون شبيها له، فكما أنّه يجوز أو يجب اختبار صفات المبيع، فكذلك بالنسبة إلي النكاح. و هي عدة روايات:

1- ما رواه محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أ ينظر إليها؟ قال: نعم، إنّما يشتريها بأغلي الثمن «5».

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 63.

(2). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 27.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/

247، المسألة 3 من كتاب النكاح.

(4). ابن رشد الأندلسي، في بداية المجتهد … 4/ 202، (2/ 4 ط. دار الفكر).

(5). الوسائل 14/ 59، الحديث 1، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 125

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أ ينظر إلي شعرها؟ فقال: نعم، إنّما يريد أن يشتريها بأغلي الثمن «1».

3- ما رواه يونس بن يعقوب، قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يجوز له أن ينظر اليها.؟ قال: نعم، و ترقق له الثياب، لأنّه يريد أن يشتريها بأغلي الثمن «2».

4- ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السّلام في رجل ينظر إلي محاسن امرأة يريد ان يتزوجها. قال: لا بأس، إنما هو مستام فان يقض أمر يكون. «3»

5- ما عن مسعدة بن اليسع الباهلي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا بأس أن ينظر الرجل إلي محاسن المرأة قبل أن يتزوجها، فإنّما هو مستام فان يقض أمر يكن. «4»

و المراد بالمستام، المشتري؛ و السوم، تعيين القيمة أو نفس المعاملة. و قوله: أن يقض أمر يكن؛ (أي يكون علي بصيرة لو حصل الوفاق علي الزواج؛ أو يكون دائما مستمرا، للعلم بما عقد عليه).

6- ما عن الحسن بن السّريّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سأله عن الرجل ينظر إلي المرأة قبل أن يتزوجها. قال: نعم، فلم يعطي ماله؟ «5».

يعني، يعطي ماله ليحصل به شيئا غاليا.

و لا شك أنّ النكاح ليس بيعا حقيقتا- بل قد يتعجب من هذا التعبير بعض الناس- بل المراد، تشبيه النكاح به

من بعض الجهات (و التشبيه يكون مقربا من بعض الجهات و مبعدا من الآخر) و أنّه يعطي مهرا غاليا لأنّ يتزوج بامرأة صالحة ذات الكمال الباطني و الظاهري؛ و إلّا لا معني لاشترائها من نفسها، مضافا إلي أنّه قد يطلقها و يعطيها مهرها، و لا معني للجمع بين الثمن و المثمن.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 60، الحديث 7، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 61، الحديث 11، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 60، الحديث 8، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 61، الحديث 12، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 59، الحديث 4، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 126

و هناك طائفة اخري، تدل علي مجرد الجواز من دون ذكر عنوان الاشتراء. منها:

7- عن هشام بن سالم و حماد بن عثمان و حفص بن البختري، كلهم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا باس بأن ينظر إلي وجهها و معاصمها إذا أراد أن يتزوجها «1».

8- ما عن الحسن بن السّري، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يتأملها و ينظر إلي خلفها و إلي وجهها؟ قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلي المرأة إذا أراد أن يتزوجها، ينظر إلي خلفها و إلي وجهها «2».

9- ما عن عبد اللّه بن الفضل، عن أبيه، عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت أ ينظر الرجل إلي المرأة يريد تزويجها، فينظر إلي شعرها و محاسنها؟ قال: لا بأس إذا لم يكن متلذذا «3».

10- ما عن يونس بن يعقوب، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

الرجل يريد أن يتزوج المرأة، و أحبّ أن ينظر إليها؟ قال: تحتجز ثم لتقعد، و ليدخل فلينظر. قال قلت: تقوم حتي ينظر إليها؟ قال: نعم. قلت: فتمشي بين يديه؟ قال: ما أحب أن تفعل «4».

و هذه الروايات الأربعة، تدلّ علي جواز النظر مع اختلافها في بيان المقدار الجائز الذي سنتعرض له إن شاء الله.

11- و هناك رواية واحدة مرسلة رواها الرضي، في المجازات النبوية، تدل علي استحباب النظر. قال صلّي اللّه عليه و آله للمغيرة بن شعبة و قد خطب امرأة: لو نظرت إليها. فانه أحري أن يؤدم بينكما «5».

و يؤدم من الايدام، بمعني الموافقة بين الخصمين (أو مطلق الموافقة) و هذه الرواية، تدل علي استحباب النظر، لأنّه مقدمة لتوافق الزوجين، و هو أمر مطلوب للشارع و مقدمة المطلوب مطلوبة، و لكن سندها ضعيف بالارسال.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 59، الحديث 2، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 59، الحديث 3، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 59، الحديث 5، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(4). الوسائل 14/ 60، الحديث 10، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(5). الوسائل 14/ 61، الحديث 13، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 127

و هناك روايات اخري رواها في مستدرك الوسائل ج 14 في الباب 30 من أبواب مقدمات النكاح (رواية 1 و 2 و 3 و 4)، فراجع.

و روايات اخري من طرق اهل السنة رواها في السنن الكبري. منها، ما رواه أبو هريرة، قال: كنت عند النبي صلّي اللّه عليه و آله فأتاه رجل، فاخبره أنّه تزوج امرأة من الأنصار. فقال له رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: أنظرت إليها؟

قال: لا؛ قال: فاذهب فانظر إليها، فان في أعين الأنصار شيئا! «1».

و روي عن جابر بن عبد اللّه، و عن أنس، و عن المغيرة بن شعبة و غيرهم ما يدلّ علي المطلوب أيضا، فراجع «2».

إذا عرفت ذلك فلنعد إلي بيان الشرائط الستة.

أما عدم التلذذ، فقد عرفت التصريح باعتباره في بعض روايات الباب، و إن كان في سندها، اشكال؛ و لكن اعتباره معلوم للتسالم عليه في أمثال المقام التي يمكن الغاء الخصوصية عنها قطعا. و لكن مع ذلك صرّح في الجواهر بخلافه، حيث قال: أما اعتبار عدم اللذة، فينبغي القطع بعدمه، لإطلاق الأدلة، و لعسر التكليف به علي وجه تنتفي الحكمة في مشروعية الحكم المزبور «3».

و لكن الذي يظهر من ذيل، أنّه فرق بين قصد التلذذ، و بين العلم بحصول اللّذة، قهرا مع عدم كونه في قصده؛ حيث إنّ النكاح يكون غالبا بين الشباب و حصول اللّذة للشاب عند النظر إلي الشابة قهريّ غالبا. فلا يمكن نفي كلام الجواهر (قدس سره) و إلّا لم يبق للجواز مورد إلّا قليل، و لكن من المقطوع عدم جواز النظر بهذا القصد، و هذا هو قول الفصل.

و أما اشتراط احتمال حصول بصيرة من النظر، فهو من قبيل القضايا التي قياساتها معها، فانّ الاستثناء من ادلة الحرمة إنّما شرّع لحصول بصيرة جديدة، و لولاها لم يبق طريق إلي مشروعيته، و إن شئت قلت: إنّ اطلاق الروايات منصرفة عنه.

و أما اشتراط كون المرأة جائز التزويج فعلا، فلانصراف الاطلاقات أيضا إليه، فانّ النظر مقدمة للخطبة، و لا معني للخطبة عن زوجة الغير، أو من هي في العدة، و إن كانت

______________________________

(1) و (2)- البيهقي، في السنن الكبري 7/ 84.

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 65.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 128

قاطعة بأنّها ستنفصل عن زوجها.

و أما اشتراط احتمال حصول التوافق علي التزويج، فلو علم بعدم موافقة الزوجة أو أسرتها بذلك النكاح، أو احتمل الموافقة احتمالا ضعيفا غير عقلائي، كان النظر لغوا؛ و من الواضح أنّ هذا الاستثناء من أدلة الحرمة، إنّما هو لنفي الغرر عند إمكان النكاح.

و أما اشتراط كون ذلك من وراء الثياب الرقاق، فسيأتي الكلام فيه.

و أما اشتراط كونه قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص، فهو أيضا منصرف النصوص أو صريحها فان قول السائل: الرجل يريد يتزوج المرأة؛ ظاهر أو صريح في ذلك، فلا يجوز له النظر إلي كلّ مرأها، يراه بداعي حصول القصد إلي زواجها أحيانا.

مقدار الجواز و ما له النظر اليه من المرأة

قد وقع الخلاف فيه بين الخاصة و بين العامة. قال في الشرائع: و يختص الجواز بوجهها و كفيها. «1» و العجب أنّه جوز النظر إلي الوجه و الكفين لكل أحد علي ما صرّح به في مبحث جواز النظر، مع أنّه خصص الجواز هنا أيضا به.

و قال في المسالك: فالذي يجوز النظر إليه منها اتفاقا هو الوجه و الكفان من مفصل الزند ظهرا و بطنا، لأنّ المقصود يحصل بذلك، فيبقي ما عداه علي العموم. «2» و قيل أنّ هذا القول هو المشهور.

و لكن عن النهاية، جواز النظر إلي محاسنها و وجهها كما يجوز النظر إلي مشيها و جسدها من فوق الثياب «3».

و عن الكفاية، جواز النظر إلي الشعر و المحاسن. و هو المحكي عن المدارك الحدائق و الرياض «4».

و قد عرفت تصريح الشيخ في الخلاف- في المسألة 3 من كتاب النكاح- بجواز

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 495.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 41، (1/ 435 ط. ق).

(3). الشيخ

الطوسي، في النهاية/ 484.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 66.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 129

النظر إلي ما ليس بعورة فقط، فاذن يكون الأقوال في المسألة أربعة علي الأقل.

لا ينبغي الشك في ان القول باختصاصه بالوجه و الكفين ممّا لا وجه له، فانّ الغرض لا يحصل بذلك غالبا، مضافا إلي أنّه جائز لكل أحد علي ما عرفت سابقا، فذكرها بالخصوص في هذه الروايات ممّا لا وجه له.

كما أنّ القول بجواز النظر إلي ما عدا العورة- بناء علي أنّ المراد منها السوأتان- ممّا لا دليل عليه من روايات الباب. و اطلاقات الروايات الدالة علي جواز النظر إلي المرأة التي يريد نكاحها، منصرفة إلي ما هو المتعارف عند الخطبة قطعا لا غير.

هذا، و لكن المذكور في الروايات (التي مرّت عليك) امور: منها، الوجه و المعاصم (و يدخل فيها الكفان) و هي مواضع السوار ما فوق الزند، و كذا الشعر و المحاسن و إلي بدنها في الجملة من فوق الثياب الرقيق.

أما الوجه، فواضح؛ أمّا المعاصم، فقد ورد في معتبرة هشام و حماد و حفص بن البختري عن الصادق عليه السّلام، و لا مانع من العمل بها، فيجوز النظر إليها.

و أمّا المحاسن، فقد تضافرت الروايات بجواز النظر إليها، و إن كانت أسانيدها قابلا للمناقشة (و لا يبعد اعتبار سند رواية غياث و هو رواية 8/ 36). فالعمل بها أيضا لا مانع له. إنّما الكلام في المراد بالمحاسن، يمكن أن يراد منه مواضع الزينة و هي الوجه و الرأس و النحر و شي ء من الصدر و المعاصم، و أمّا إرادة جميع البدن منه بعيد جدّا. و لا أقلّ من الشك، و الأصل الحرمة.

و أمّا الشعر، فقد صرح به

في روايتي عبد اللّه بن الفضل و عبد اللّه بن سنان، «1» و هو داخل في المحاسن التي مرّت الإشارة إلي جواز النظر إليها.

بقي هنا حكم النظر إلي البدن من وراء الثياب الرقاق الوارد في رواية يونس بن يعقوب. «2» (و لا يبعد اعتبار سندها). و لكن الكلام في المراد، هل المراد منها الثياب التي تحكي من ورائها أو الثياب الرقاق التي يري منها حجم البدن بخلاف الجلباب و الازار و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 60، الحديث 5 و 7، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 61، الحديث 11، الباب 36 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 130

شبهها؛ و القدر المتيقن منه، الثاني؛ مضافا إلي أنّ الأول غير متعارف بل غير موجود عند البيوت المتدينة؛ فالأحوط لو لا الأقوي، اختيار الاحتمال الثاني؛ و قد وافق علي ذلك، سيّدنا الاستاذ العلّامة الخوئي، في محاضراته في المستند. «1»

*** [بقي هنا أمور]

1- جواز النظر للمرأة

هل المرأة كالرجل، لها أن ينظر إلي الرجل و محاسنه، إن قلنا بعدم جوازه في غير المقام؟

قد يقال، بأنّ الملاك، و هو قوله: إنّما يشتريها بأغلي الثمن؛ غير جار بالنسبة إليها، لأنّ هذا إشارة إلي أنّه يعطي المهر، و لا يمكن أن يسترده و لا أن يبيع مورده لآخر فهذا ثمن غال جدّا. مضافا إلي حرمة القياس. و لكن الانصاف، إنّ الحكمة فيها ليس منحصرا في ذلك، بل دوام الزوجية المصرح به في بعض الروايات و المعلوم بالقرائن الاخري، أيضا من ملاكاته، فلها أيضا أن ينظر إليه لا سيّما أنّها ليس الطلاق بيدها، لا يمكن له الخلاص بعد النكاح باختيارها، و هذا هو الأقوي. و ما أفاده سيدنا الاستاذ في مستند العروة، «2» من وقوع

الزوج في غبن عظيم لو لم يوافقها، لأنّ ماله يذهب هدرا، لعدم إمكان استرداده مطلقا، و الحال أنّ الزوجة ليست كذلك، لأنّه علي فرض الطلاق قد أخذ عوض البضع؛ يظهر الإشكال فيه ممّا سبق، و أنّ الملاك في جواز النظر ليس دفع الغبن فقط، بل له ملاكات اخري موجودة في المرأة.

2- هل يجوز للولي النظر؟

هل للولي النظر أيضا إذا كان اذنه معتبرا، أو كان الزوج أو الزوجة غير رشيدة من هذه الجهة؟

______________________________

(1). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 27.

(2). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 31.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 131

صرّح في الجواهر «1» بعدم جوازه لقصور الأدلة، مضافا إلي أنّ الاولياء يتيسر لهم ذلك من طريق المماثل، فالنساء للنساء و الرجال للرجال. هذا، و لكن لا يبعد الجواز في الصغير و الصغيرة إذا انحصر الطريق فيه، و جوزنا نكاح الصغير و الصغيرة و كذا بالنسبة إلي الأعمي، لو انحصر الطريق في نظر الولي.

3- هل يجوز تكرار النظر؟

هل يجوز التكرار إذا لم يحصل المطلوب في مجلس واحد أو في مجالس؟

قال في العروة: و يجوز تكرار النظر، إذا لم يحصل الغرض- و هو الاطلاع علي حالها- بالنظر الاولي. «2» و استدل له في مستند العروة باطلاق الأدلة. و لكن الانصاف أنّها منصرفة إلي ما هو المتعارف بين الناس في ذلك، فلو قال واحد أنّه لا ينكشف حال المرأة لديّ إلّا بالمعاشرة معها اسبوعا أو شهرا، فانّه لا يقبل منه، و لا اطلاق في الأدلة من هذه الجهة.

4- هل يشترط عدم امكان معرفة حالها من طريق آخر؟

و هل يعتبر عدم إمكان معرفة حالها من طريق آخر من توكيل النساء في ذلك أو مشاهدة صورتها أو أفلامها؟

الظاهر أنّه لا يشترط فيه ذلك، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلي أنّ الحاضر يري ما لا يراه الغائب، و ليس الخبر كالمعاينة.

5- هل يعتبر في ذلك، اذنها أو رضاها بالنظر؟

قال في العروة: و لا يشترط أن يكون ذلك باذنها و رضاها و أضاف في المستند، أنّه: لا

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 68.

(2). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي، كتاب النكاح، المسألة 26.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 132

خلاف في ذلك و ليس هذا من حقوق المرأة، كي يتوقف الحل علي رضاها. «1»

قلت: مضافا إلي ما ورد في بعض الأخبار، من فعل بعض الصحابة، و هو ما رواه جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر علي أن يري منها ما يعجبه و يدعوه اليها، فليفعل. قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ في اصول النخل، حتي رأيت منها بعض ما أعجبني، فتزوجتها «2».

6- هل يشترط ذلك بعدم امكان عقد موقّت؟

هل يشترط في ذلك عدم إمكان الوصول إلي مقصده من طريق العقد الموقت أم لا؟

الظاهر، عدم اعتباره، فيجوز النظر و إن أمكنه العقد الموقت في ساعة واحدة مثلا او اكثر، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلي وجود بعض المشاكل في العقد، و إن كان الاولي، اختياره لو أمكن.

***

______________________________

(1). السيد الخوئي، في المستند، كتاب النكاح 1/ 28.

(2). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 84.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 133

[المسألة 29: الأقوي جواز سماع صوت الأجنبية]

اشارة

المسألة 29: الأقوي جواز سماع صوت الأجنبية ما لم يكن تلذّذ و ريبة و كذا يجوز لها اسماع صوتها للأجانب إذا لم يكن خوف فتنة، و إن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة خصوصا في الشابّة، و ذهب جماعة إلي حرمة السماع و الاسماع و هو ضعيف، نعم يحرم عليها المكالمة مع الرجال بكيفية مهيجة بترقيق القول و تليين الكلام و تحسين الصوت فيطمع الذي في قلبه مرض.

سماع صوت الاجنبية

أقول: كانت هذه المسألة معركة للآراء في قديم الأيام و إن كانت في عصرنا من المشهورات أو المسلمات بين الفقهاء لضرورات لا تخفي علي القارئ.

هذا، و قد صرّح المحقق في الشرائع بأنّه لا يجوز سماع صوت الأجنبيّة (حتي) للأعمي، بل قد ادعي أنّه المشهور. «1» قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب تحريم سماع صوت المرأة الأجنبيّة مبصرا كان السامع أو أعمي، و اطلاق كلامهم شامل لما أوجب السماع التلذذ و الفتنة أم لا. و لا يخلو عن إشكال. «2»

و قد حكاه في الرياض، عن القواعد و الشرائع و التحرير و الإرشاد و غيرها؛ و لكن ذكر في آخر كلامه أنّ: الجواز أقوي، وفاقا لمقطوع التذكرة، و ظاهر جماعة كشيخنا في المسالك، و نسب إلي جدي العلامة المجلسي طاب ثراه. و لكن الأحوط ترك ما زاد علي خمس كلمات. «3»

و اللازم، التكلم في أصل الجواز، أولا. ثم بيان حكم الخضوع بالقول، و تحسين الصوت بالقرآن علي نحو الترتيل، و غيره.

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 496.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 66.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 74، (2/ 75 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 134

ما يدل علي الجواز

أمّا الأول؛ فيدل علي القول بالجواز امور:

منها، السيرة المستمرة بين المسلمين من زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله إلي أعصار الأئمة عليهم السّلام و ما بعدها. كما قال في الجواهر: أنّ السيرة المستمرة في الأعصار و الأمصار من العلماء و المتدينين و غيرهم، و بالمتواتر أو المعلوم مما ورد من كلام الزهراء و بناتها عليها و عليهن السّلام، و من مخاطبة النساء للنبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام

علي وجه لا يمكن إحصائه، و لا تنزيله علي الاضطرار لدين أو دنيا. «1»

و منها، آيات من الذكر الحكيم، مثل تكلّم موسي مع بنات شعيب. قال اللّه تعالي:

… قٰالَ مٰا خَطْبُكُمٰا قٰالَتٰا لٰا نَسْقِي حَتّٰي يُصْدِرَ الرِّعٰاءُ وَ أَبُونٰا شَيْخٌ كَبِيرٌ. «2» فَجٰاءَتْهُ إِحْدٰاهُمٰا تَمْشِي عَلَي اسْتِحْيٰاءٍ قٰالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مٰا سَقَيْتَ لَنٰا … «3» و لا يمكن حملها علي الضرورة.

و تكلم يوسف مع امرأة العزيز و ساير نساء مصر. قال اللّه تعالي: قٰالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ … «4» اللّهم إلّا أن يقال هن كنّ فاسقات لا يقبلن النهي عن المنكر.

بل و ما ورد في قوله تعالي: يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. «5»

و سيأتي إن شاء اللّه، أنّ الخضوع بالقول يراد منه ترقيق الصوت و تليينه بما يكون مهيجا، فيطمع الذي في قلبه مرض. (و هذا التعبير يدل علي أنّ الغريزة الجنسية إذا كانت متعادلا لم تكن محرمة. و إنّما تكون مذمومة إذا خرجت عن حدّ الاعتدال، كما تدل علي أنّ الخروج عن حدّ التعادل في هذه الامور نوع من الأمراض الرّوحيّة).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 98.

(2). القصص/ 23.

(3). القصص/ 25.

(4). يوسف/ 33.

(5). الاحزاب/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 135

و علي أي حال، تدل الآية بمقتضي مفهوم الوصف، أنّ الصوت الذي ليس فيه خضوع، ليس محرما.

و منها، روايات تدل علي جواز السلام علي المرأة و سماع جوابها، و يكره علي الشابة. مثل ما رواه ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله يسلّم علي النساء و يرددن عليه. و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يسلّم علي النساء و كان يكره أن يسلّم علي الشابّة منهن، و يقول: أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل عليّ أكثر مما طلبت من الأجر. «1» و سند الحديث معتبر.

و قال الصدوق: إنّما قال ذلك لغيره، و إن عبّر عن نفسه و أراد بذلك أيضا التخوف من أنّ يظنّ به ظان أنّه يعجبه صوتها، فيكفر. «2»

و ما عن عمار الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه سأله عن النساء كيف يسلمن إذا دخلن علي القوم؟ قال: الامرأة تقول عليكم السلام، و الرجل يقول السلام عليكم. «3»

و طريق الصدوق بعمّار الساباطي قويّ، كما في جامع الرواة عن الخلاصة.

و منها، الروايات الدالة علي نياحة النساء، الظاهرة في سماع صوتهن. مثل ما رواه في البحار، من أنّ الباقر عليه السّلام أوصي أن يندب له في المواسم عشر سنين. «4» و في رواية اخري أنّه عليه السّلام قال: قف من مالي كذا و كذا لنوادب، تندبني عشر سنين بمني أيام مني «5».

و الاولي و إن لم تكن صريحة في المطلوب، لأنّ الندب و النوح لا يختص بالنساء و إن كان الغالب ذلك، و لكن الثانية ظاهرة فيه لتأنيث الضمير.

و يمكن أن يقال إنّ الروايات الدالة علي جواز النياحة و كسب النائحة إذا لم تكن نوحا بالباطل، أيضا دليل علي المطلوب، لأنّ المتعارف سماع صوتهن.

و منها، الروايات الكثيرة المبثوثة في أبواب مختلفة تدل علي فعل المعصوم أو قوله أو تقريره في ذلك، أو من تربي في حجور المعصومين عليهم السّلام. و لكن يمكن حمل خطبة

______________________________

(1). الوسائل 14/ 173، الحديث 3، الباب 131 من

أبواب مقدمات النكاح.

(2). المدرك السابق.

(3). الوسائل 14/ 174، الحديث 4، الباب 131 من أبواب مقدمات النكاح.

(4) و (5). العلامة المجلسي، في بحار الأنوار 82/ 106 و 107.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 136

الزهراء عليها السّلام في مقابل المهاجرين و الأنصار، و كذا خطبتي بنتها زينب عليها السّلام في الكوفة و الشام، علي بعض الضرورات التي لا تخفي. و لكن لا يمكن حمل جميعها علي الضرورات أو علي خصوص العجائز أو شبه ذلك.

و أيضا، ما دل علي جواز تعليم الرجال الأجانب القرآن للنساء، مثل ما عن أبي بصير، قال: كنت اقرئ امرأة كنت اعلّمها القرآن، فمازحتها بشي ء؛ فقدمت علي أبي جعفر عليه السّلام فقال لي: اي شي ء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي فقال: لا تعودن إليها. «1»

و هذا دليل علي جواز سماع صوتها و أنّ الحرام هو الممازحة معها.

ما يدل علي عدم الجواز

و في مقابل هذه الروايات ما يدل علي عدم الجواز، منها:

1- ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تبدءوا النساء بالسلام و لا تدعوهن إلي الطعام. فان النبي صلّي اللّه عليه و آله قال: النساء عيّ و عورة فاستروا عيهنّ بالسكوت، و استروا عوراتهن بالبيوت «2».

و في سنده إشكال، لمكان مسعدة. و قال المجلسي قدس اللّه نفسه الزكية في مرآت العقول في تفسير هذا الحديث: العيّ العجز عن البيان، أي لا يمكنهن التكلم بما ينبغي في أكثر المواطن، فاسعوا في سكوتهن لئلا يظهر منهن ما تكرهونه. فالمراد بالسكوت سكوتهن. و يحتمل أن يكون المراد سكوت الرجال المخاطبين و عدم التكلم معهن «3».

و هذا الحديث مع ضعف سنده، لعله علي خلاف المطلوب أدلّ. لأنّه لا يدل علي

نهي النساء العاقلات العالمات، عن التكلم.

2- ما رواه الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في حديث المناهي، قال: و نهي أن تتكلم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم أكثر من

______________________________

(1). الوسائل 14/ 144، الحديث 5، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 173، الحديث 1، الباب 131 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). العلامة المجلسي، في مرآت العقول 20/ 373.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 137

خمس كلمات، ممّا لا بدّ لها منه. «1»

و هو أيضا مع ضعف سنده بشعيب بن واقد، ورد في حديث المناهي المشتمل علي المكروهات و المحرمات.

إلي غير ذلك، مما يدل علي عدم جواز ممازحتهن، أو السلام عليهن، أو شبه ذلك.

و الجواب عن الجميع، ظاهر بعد الغض عن ضعف السند و الدلالة، لإمكان رفع التعارض بالجمع الدلالي. لأنّ الروايات السابقة صريحة في الجواز، و هذه الروايات علي فرض صحة اسنادها و ثبوت دلالتها ظاهرة في الحرمة، فتحمل علي الكراهة، من باب حمل الظاهر علي النص. مضافا إلي تأييدها بالسيرة المستمرة و آيات الكتاب العزيز.

فالمسألة ممّا لا ينبغي الإشكال فيها.

ما استثني من هذا الحكم

و قد استثني في المتن، و في العروة (في المسألة 39)، و وافقه المحشّون فيما وقفنا عليه؛ ما إذا كان علي نحو مهيج بترقيق الصوت و تليينه، فيحرم، و هو الأقوي. و يمكن الاستدلال له، بقوله تعالي: … فَلٰا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ … «2» فان الخضوع بالقول ليس إلّا ما ذكرنا، بقرينة ذيل الآية. و الخطاب و إن كان إلي ازواج النبي صلّي اللّه عليه و آله، و لكنّ اصالة الاشتراك في التكليف توجب

التعميم.

هذا مضافا إلي أنّه مظنة للريبة، فلا يجوز اسماعها و استماعها.

و قد شاع في زماننا في بعض المجالس، تلاوة القرآن بالصوت الحسن من ناحية النساء في مجالس الرجال أو عند استاذهن، بصورة الانفراد أو مجتمعات، فهل يجوز ذلك أو لا؟

لا كلام في جوازه عند عدم تحسين الصوت، و أمّا إذا كان بتحسين الصوت فلا يبعد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 143، الحديث 2، الباب 106 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). سورة الاحزاب/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 138

حرمته، لأنّه لا يخلوا غالبا من الخضوع في القول، و يكون مظنة للريبة، و وقوع السامع في المعصية. نعم، يمكن إن يقال إن ما يسمي ترتيلا خال عن هذا، و لا أقل من أنّه مشكوك فلا يبعد جوازه خاصة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 139

مسألتان من العروة الوثقي

اشارة

هنا مسألتان يجب التعرض لهما مما وردت في العروة الوثقي.

المسألة الأولي: قال في العروة (في المسألة 35): «1» يستثني من عدم جواز النظر من الأجنبيّ و الأجنبيّة مواضع

اشارة

إلي أن قال- منها، القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا بالنسبة إلي ما هو المعتاد من كشف بعض الشعر و الذراع و نحو ذلك، لا مثل الثدي و البطن و نحوهما مما يعتاد سترهن له.

القواعد من النساء

أقول: هذا الاستثناء ورد في الكتاب العزيز (سورة النور/ 60)، و قد وقع الخلاف في تفسير الآية بما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن مع ذلك لم يتعرض كثير من الفقهاء العظام له مثل صاحب المسالك و الرياض و كشف اللثام و اللمعة و شرحها و المستند و المهذب و غيرها (فيما ظفرنا عليه) و لكن تعرض لها الفقيه الماهر صاحب الجواهر (رضوان اللّه تعالي عليه) و كذا في العروة و المستمسك و غيرهما من أشباههما.

المراد من العجوز

قال الراوندي في فقه القرآن: قوله تعالي: «وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ» يعني المسنات اللاتي يقعدن عن الحيض و عن التزويج. و إنّما ذكر القواعد، لأنّ الشابّة يلزمها من الستر أكثر مما يلزم العجوز، و العجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق و الشعر و الذراع. «2»

و أنت خبير بما في كلامه من الابهام، لعدم بيان الفرق بين العجوز و الشابّة صريحا.

هذا، و قال في جامع المقاصد: و لو كانت عجوزا، فقد قيل أنّها كالشابة، لأنّ الشهوات لا تنضبط، و هي محل الوطء و قد قال عليه السّلام: لكلّ ساقطة لاقطة!- ثم قال: - و الأقرب

______________________________

(1). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 636.

(2). القطب الراوندي، في فقه القرآن 2/ 131.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 140

وفاقا للتذكرة أنّ المراد إذا بلغت في السن إلي حيث تنتفي الفتنة غالبا بالنظر إليها يجوز نظرها.- ثم استدل بعدم المقتضي للحرمة، و بالآية الشريفة «1».

و علي كل حال، الأصل في هذا الحكم هو الآية الشريفة: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللّٰهُ

سَمِيعٌ عَلِيمٌ «2».

وقع الكلام فيها من ثلاث جهات:

1- من جهة معني القواعد، و هو جمع قاعد، أمّا بمعني القعود عن الحيض، أو عن الولادة، أو عن النكاح. و يمكن إن يقال جميعها متقاربة؛ و لكن الانصاف أنّ المرأة اذا بلغت خمسين سنة، لا تقعد عن النكاح، لوجود الرغبة فيهن في الجملة، و كذا قعدت عن الولادة. فالاولي أن يقال ان المراد منه، القعود عن النكاح، كما يفسره قوله تعالي: «اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً»، فعلي الاولين، القيد احترازي، و علي الأخير توضيحي؛ و لعل ذلك يختلف باختلاف الأشخاص و ليس لها سنّ معين، و الحكم يدور مدار الوصف.

2- من ناحية تفسير الثياب، لا شك أنّه ليس المراد وضع جميع ثيابهن و صيرورتهن عراة. حينئذ يقع الكلام في المقدار الجائز، فهل هو الجلباب فقط، أو هو مع المقنعة، أو هما مع الخمار.

ذكر كل واحد من هذه الأقوال الثلاثة في مجمع البيان، من غير اختيار صريح.

هذا، و يظهر من العروة و غيرها أنّها لا تضع الخمار، بل يجعله علي بعض رأسها بحيث يظهر منها بعض الشعر لا جميعه!.

و لكن الانصاف، أن وضع الثياب عام من هذه الجهة اي يشمل الجلباب و المقانع و الخمار، فيظهر شعرها كلها و بعض الذراع و بعض الساق. اللّهم إلّا أن يقال ترك ستر الشعر كله غير متعارف بين المسلمين، حتي في حق العجائز، بل يرونه قبيحا من أي امرأة كان.

فتأمّل.

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 34.

(2). النور/ 60.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 141

3- من ناحية قوله تعالي: «غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ»، هل هو كما ذكره الزمخشري في الكشاف ذيل الآية بمعني؛ غير مظهرات زينتها؛ ليكون حالا عن تلك النساء بعد وضع ثيابهن. أو يكون

كما ذكره الطبرسي (قدس اللّه سرّه الشريف)، و ذكره الزمخشري بعنوان تفسير آخر بمعني؛ غير قاصدات بالوضع، التبرج؛ فيكون حالا لهنّ عند قصد وضع الثياب. و إن كان مآل التفسيرين يكون واحدا. فلا يجوز لهن التبرج بالزينة الباطنة، كإظهار القرط و القلادة و الدستوار و غيرها من أشباهها.

الأحاديث الواردة في حكم القواعد من النساء

هذا كله بالنظر إلي الآية الشريفة، مع قطع النظر عن روايات الباب. و أمّا أحاديث الباب فهي علي طائفتين:

الاولي: ما يدل علي جواز وضع الجلباب فقط. (بما سيأتي له من المعني) و يظهر منها وضوح أصل الحكم، أي استثناء القواعد إجمالا. منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً … ما الذي يصلح لهنّ أن يضعن من ثيابهنّ؟ قال:

الجلباب «1».

2- ما رواه محمد بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: القواعد من النساء ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن؟ قال: تضع الجلباب وحده. «2»

و الظاهر اعتبار سنده أيضا، لأنّ محمّد بن أبي حمزة هو الذي حكي الكشي عن حمدويه، أنّه ثقة فاضل، و يؤيده رواية ابن أبي عمير عنه مكررا (بناء علي أنّه لا يروي إلّا عن ثقة؛ و إن كان محلا للكلام). و لا كلام في باقي رجال السند.

3- ما رواه أبو الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن القواعد من النساء، ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ فقال: الجلباب، إلّا أن تكون امة فليس عليها

______________________________

(1). الوسائل 14/ 146، الحديث 1، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 3، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة -

كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 142

جناح أن تضع خمارها. «1»

و دلالته ظاهرة، أما سنده لا يخلو عن كلام. و لذا عبّر عنه في الجواهر بالخبر. و الظاهر أنّه لمكان محمد بن الفضيل، فقد ضعفه بعض، و وثقه بعض آخر؛ و أمّا أبو الصباح فهو إبراهيم بن نعيم العبدي فهو ثقة، بل قد ورد في بعض الروايات، أنّ الصادق عليه السّلام قال في حقه: أنت ميزان؛ بسبب وثاقته.

4- ما عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام، فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلي شعور النساء المحجوبات بالأزواج- إلي أن قال- إلّا الذي قال اللّه تعالي: وَ الْقَوٰاعِدُ مِنَ النِّسٰاءِ اللّٰاتِي لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً … أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلي شعور مثلهن «2».

و سند الرواية غير نقي، باشتماله علي محمد بن سنان، و فيه كلام في علم الرجال. و كذا دلالته لا يخلو عن كلام، فان قوله أي غير الجلباب؛ إن كان تفسيرا لقوله تعالي: غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ كان موافقا للمطلوب، و لكن يتنافي ذيل الرواية، (فلا بأس بالنظر إلي شعورهن) لأنّ الجلباب ليس ساترا للشعر، بل الخمار أو المقنعة التي كانت تحت الجلباب. اللّهم إلّا أن يكون ساتر الرأس الجلباب فقط، و هو لا يخلو عن بعد بالنسبة إلي قديم الأيام.

و أمّا لو كان وصفا للثياب، كان دليلا علي جواز وضع غير الجلباب من الثياب، فتخرج الرواية عن الطائفة الاولي.

و علي كل حال، المراد من الجلباب- كما تفحصنا في كتب كثيرة من اللغة و التفسير- وجدنا له معاني كثيرة: 1- القميص أو الثوب الواسع. 2- المقنعة. 3- الملحفة. 4-

الإزار و الرداء. قال في النهاية: الجلباب، الازار و الرداء. و قيل، ملحفة؛

و قيل، هو كالمقنعة يغطي به المرأة رأسها و ظهرها و صدرها؛ و قيل، ثوب أوسع من الخمار دون الرداء؛ و لعل الأظهر من الجميع هو الستر الذي كان أكبر من الخمار و أقصر من ما يسمي

______________________________

(1). الوسائل 14/ 147، الحديث 6، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 140، الحديث 12، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 143

عندنا چادر. و وضعه لا يوجب ظهور الشعر غالبا. و قال الراغب في المفردات: أنّ الجلابيب هي القمص و الخمر. و لا يخلو عن بعد بملاحظة موارد استعمالها.

الطائفة الثانية: ما يدل علي جواز وضع الجلباب و الخمار، منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء «أن يضعن ثيابهن» قال: الخمار و الجلباب. قلت: بين يدي من كان؟ فقال: بين يدي من كان، غير متبرجة بزينة؛ فان لم تفعل فهو خير لها … «1»

و سند الرواية معتبر، و دلالتها واضحة، و ظاهرها عدم الفرق بين المحارم و غيرهم، مع اشتراط عدم التبرج بزينة. و قد مرّ معناه عند تفسير الآية الشريفة و قوله قرء أن يضعن ثيابهن …؛ إشارة إلي عدم قراءة من ثيابهن …؛ كما سيأتي في الرواية الآتية إن شاء اللّه.

2- ما عن حماد بن عيسي، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء يضعن من ثيابهن؛ قال: الجلباب و الخمار، إذا كانت المرأة مسنة «2».

و سند الحديث أيضا معتبر، كدلالته، و لكن المذكور فيه: من ثيابهن …؛ و لعله من باب التّفسير، و إلّا دخل في روايات التحريف، و قد ذكرنا في محلّه ضعفها.

3- ما عن علي بن أحمد

بن يونس، قال ذكر الحسين أنّه كتب إليه، يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز أن تكشف رأسها و ذراعها؟ فكتب عليه السّلام: من قعدن عن النكاح «3».

و سند الحديث مشوش، فان علي بن أحمد بن يونس، لم يعرف في الرجال؛ و لذا احتمل بعض أنّ الصحيح علي بن أحمد عن يونس؛ و الحسين أيضا غير معلوم، و أمّا الصفار الواقع في سند الحديث، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ و هو من أعاظم الأصحاب.

4- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يحلّ له أن ينظر إلي شعر اخت امرأته؟ فقال: لا، إلّا أن تكون من القواعد. قلت له: اخت امرأته و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 147، الحديث 2، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(2). الوسائل 14/ 147، الحديث 4، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

(3). الوسائل 14/ 147، الحديث 5، الباب 110 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 144

الغريبة سواء؟ قال: نعم. قلت: فما لي من النظر إليه منها؟ فقال: شعرها و ذراعها «1».

و سند الحديث لا يخلو عن ضعف، بسبب ضعف سند قرب الأسناد، و أمّا دلالته ظاهرة بناء علي أنّ الجواز في ذيلها ناظر إلي القواعد بقرينة صدر الحديث، و جواز النظر إلي الشعر و الذراع دليل علي وضع الجلباب و الخمار.

*** إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد بالجلباب علي ما يظهر من كلمات أرباب اللغة و التفسير فقد عرفته، و الظاهر أنّ المتعارف بين النساء لستر الرأس، كان الخمار و المقنعة. و كان الخمار أطول من المقنعة، كنّ يلبسن أحدهما أمّا المقنعة أو الخمار، و كان المقنعة

مختصة بالحرائر و لذا روي في لسان العرب، أنّ عمر رأي جارية لبست المقنعة، فضربها و نهاها عن التشبه بالحرائر، و لكن الاكتفاء بالخمار أو المقنعة كان قليلا، بل يلبس فوق أحدهما الجلباب ليكون أقرب إلي العفاف.

و حيث إنّ الواجب ليس غير الستر، فالاكتفاء بالقميص الواسع و الخمار أو المقنعة لا مانع له للشابة و المسنة، و إن كان الاولي لبس الجلباب فوقهما، مع أنّ ظاهر الآية اختصاص المسنات بشي ء من التخفيف.

و من هنا يعلم وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار، و إن الاولي محمولة علي نوع من الاستحباب، و المدار في الجواز هو الطائفة الأخيرة.

*** بقي هنا فروع
1- هل هنا فرق بين ذات البعل و غيرها؟

ظاهر اطلاقات الباب عدم الفرق بينهما و قد يتوهم أن قوله تعالي: لٰا يَرْجُونَ نِكٰاحاً

______________________________

(1). الوسائل 14/ 144، الحديث 1، الباب 107 من أبواب مقدمات النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 145

في الآية الشريفة و قوله عليه السّلام: قعدن عن النكاح؛ في بعض روايات الباب، دليل علي أنّ المراد منها غير ذات البعل. و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلي بيان كثرة السّن، لذا عبر عنها في بعض الروايات المعتبرة (صحيحة حريز بن عبد اللّه 4/ 110) بالمسنة.

2- هل الحكم يشمل لمسّهن بالمصافحة و شبهها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الآية الشريفة و الروايات كلها دليل علي جواز النظر.

3- هل الحكم يختصّ بداخل البيوت؟

هل هناك فرق بين وضع الثياب داخل البيوت أو يشمل خارجها أيضا؟

الظاهر عدم الفرق في ذلك، للإطلاقات.

و لكن هذا كله بالعنوان الاوّلي، فلو أوجب ذلك فسادا في المجتمع، أمكن المنع منه بالعنوان الثانوي.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 146

المسألة الثانية: قال في العروة (في المسألة 50): «1» إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز، بالشبهة المحصورة

اشارة

، وجب الاجتناب عن الجميع. و كذا بالنسبة إلي من يجب الستر عنه و من لا يجب، و إن كانت الشبهة غير محصورة أو بدويّة، فان شك في كونه مماثلا أو لا، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا؛ فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ، أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي، و هو كونه مماثلا أو من المحارم؛ فمع الشك يعمل بمقتضي العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاسفتادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرميّة أو نحو ذلك؛ فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتي يكون من موارد أصل البراءة، بل من قبيل المقتضي و المانع.

و إذا شك في كونه زوجة أو لا، فيجري- مضافا إلي ما ذكر من رجوعه إلي الشك في الشرط- أصالة عدم حدوث الزوجية. كذا لو شك في المحرميّة من باب الرضاع.

نعم لو شك في كون المنظور إليه حيوانا أو إنسانا، فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغضّ إلي خصوص الانسان.

و إن كان الشك في كونه بالغا أو صبيّا أو طفلا مميّزا أو غير مميز، ففي وجوب الاحتياط وجهان: من العموم و لو علي الوجه الذي ذكرنا، و من إمكان دعوي الانصراف؛ و الأظهر الأول.

حكم صور الشك في جواز النظر و عدمه

أقول: هذه المسألة تبحث، عن الشبهات الموضوعية للأحكام السابقة، و بعبارة اخري، عن صور الشك في جواز النظر و عدمه، و كذا وجوب الستر و عدمه، من باب الشبهة الموضوعية.

______________________________

(1). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 805.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 147

الصور السبعة

و يتلخص ما ذكره في سبع صور:

1- ما إذا شك في ذلك، و كانت الشبهة محصورة، مثلا: يعلم إحدي هاتين المرأتين اخته و الآخر أجنبيّة، أو إحداهما زوجة و الاخري اخت الزوجة، أو بين ثلاث نفرات أو عشر نفرات.

ما إذا شك في ذلك، و كانت من باب الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية؛ و ذكر لها ست صور:

1- ما إذا دار الأمر بين المماثل و غيره، كما إذا شك في أنّ من يراه من البعيد رجل أو امرأة أجنبيّة مكشوفة، أو رأي أحدا يسبح في شاطئ البحر و لا يدري رجل أو امرأة، فهل يجوز النظر إليه؛ و كذا العكس.

2- ما إذا دار الأمر بين المحارم النسبيّة و غيرهن، كما إذا علم أنّه غير مماثل و لكن شك في أنّ المرأة امّه أو أجنبيّة، لسبب الظلمة أو غيرها.

3- ما إذا دار الأمر بين الزوجة و غيرها، كما إذا رأي امرأة لا يدري أنّها زوجته أو اخت زوجته.

4- ما إذا دار الأمر بين المحارم الرضاعيّة و غيرهن، كما إذا رأي امرأة لا يدري أنّها اخته الرضاعية أو أجنبيّة.

5- ما إذا دار الأمر بين الصّبيّة غير البالغة و البالغة، و غير المميزة أو المميزة، بناء علي جواز النظر إلي غير البالغة أو غير المميزة، فلا يدري هذه الجارية غير مميزة حتي يجوز النظر إليها، أو مميزة أو بالغة (علي اختلاف الأقوال).

6- ما

إذا دار الأمر بين الإنسان و الحيوان، كما إذا راي شبحا من بعيد لا يدري انه إنسان غير ذات محرم أو حيوان. و نضيف إليها صورة سابعة، و هي ما إذا دار الأمر بين المسلمة و الكافرة؛ أو الحرّة و الأمة.

فهذه سبع صور، مضافا إلي الصورة الاولي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 148

حكم الصورة الأولي

أمّا الاولي، فلا شك أنّ مقتضي القاعدة فيها عدم جواز النظر، بمقتضي وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، لتنجز الحكم بالعلم الإجمالي، و العلم منجز علي كل حال. و لا فرق فيما بين الصور الستة الآتية (لجريانها فيها)، مثل أنّه علم بأنّ أحد هذين، امرأة أجنبيّة و علم بأنّ الاخري امه، أو اخته الرضاعية، أو زوجته، أو صبيّة غير بالغة، أو حيوان (و لكن اشتبها).

و جريان أصالة العدم في بعض الصور، كأصالة عدم البلوغ فيمن ينظر إليها، أو عدم التمييز، أو عدم الإسلام، غير كاف في جواز النظر؛ لأنّها معارضة بمثلها في الفرد الآخر.

هذا علي فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي و سقوطها بالتعارض. و أمّا علي القول بعدم جريانها فيه من باب التناقض، فهو اوضح.

حكم الصورة الثانية

أمّا إذا كانت الشبهة بدوية، أو غير محصورة التي هي بحكم البدوية و دار الأمر بين المماثل و غير المماثل الأجنبيّة، أو بين المحارم و غير المحارم؛ فالذي يبدو في النظر، جريان البراءة فيه فانّه من قبيل الشبهة الموضوعيّة التّحريميّة التي وقع الاتفاق فيه من جميع علمائنا، حتي الأخباريين منهم، علي الأخذ بالبراءة فيها؛ و حيث أنّه ليس المقام مقام الاستصحاب لعدم الحالة السابقة، فالبراءة حاكمة.

*** و لكن ذكر هنا وجوه خمسة أو ستة للخروج عن البراءة و القول بوجوب الاجتناب.

الوجه الأول: يجوز الأخذ بالعموم (أي عمومات وجوب الغضّ)، خرج منه ما علم بكونه مماثلا أو محرما، و بقي المشكوك فيه.

و اورد عليه، بأنّ هذا من قبيل التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، و قد ثبت في محله عدم جوازه، لأنّ الخارج من العام عنوان واقعي، و هو المماثل أو المحارم مثلا؛

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 149

فقوله تعالي:

يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ بمعني يغضوا من غير المماثل و المحارم. فاذا قيد العام بعنوان المخصص، تعنون العام بعنوان غير المماثل و المحارم. و حصل هنا نوعين، نوع باق تحت العام، و نوع خارج عنه. و من الواضح عدم جواز الأخذ بهذا العام، في المصداق المشكوك.

و أجيب عنه، بأن هذا إذا كان التخصيص سببا للتنويع، و هنا ليس كذلك. فيرجع إلي العام.

و اورد عليه، بأنّ التخصيص هنا يوجب التنويع، لأنّه من قبيل التخصيص بالمتصل.

فان قوله تعالي: وَ لٰا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّٰا لِبُعُولَتِهِنَّ … أَوْ نِسٰائِهِنَّ، من قبيل المتصل؛ و التخصيص بالمتصل يمنع ظهور العام في العموم، لأنّه كالقرينة المتصلة بالكلام. فإذا قال:

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 149

أكرم العلماء إلّا الفساق منهم، فهو بمعني قوله: أكرم العلماء العدول؛ فمن الأول لا شمول له لغير العدول. فالإرادة الاستعمالية غير شاملة لوجود القرينة المتصلة، فالتخصيص بالمتصل يوجب التنويع.

بل الحال كذلك حتي في المخصص المنفصل- فهو أيضا يوجب التنويع-؛ و ذلك لأنّ التخصيص بالمنفصل، و إنّ لم يكن تصرفا في الإرادة الاستعمالية، و لكنه تصرف في الإرادة الجدية (أو في حجية العام). فإذا قال المولي: أكرم العلماء، و قال بعد حين؛ لا تكرم الفساق منهم. علم أنّ المراد الجدي من العام من أول الأمر كان هذا النوع الخاص (العلماء غير الفساق).

و الحاصل، إنّ التنويع حاصل في كل تخصيص، فالرجوع إلي العام في الشبهات المصداقية غير جائز مطلقا.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني في بعض كلماته و حاصل كلامه (قدس سره)،

أنّ اشتراط الجواز بالمماثلة أو المحرميّة، و تعليق الرخصة عليها، يدل بالدلالة الالتزامية علي أنّ اللازم احراز هذا الشرط؛ فلا يجوز النظر إلّا إذا أحرز المماثلة أو المحرميّة؛ فعند

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 150

الشك لا يجوز، لعدم احرازهما «1».

و لعل كلام صاحب العروة (قدس سره) أيضا ناظر إليه حيث قال: لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض، أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي و هو كونه مماثلا أو من المحارم، و مع الشك يعمل بمقتضي العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك. انتهي. «2»

و الظاهر أنّ قوله: بل لاستفادة شرطية الجواز؛ بمعني احراز شرطية الجواز. فان مجرد الاشتراط غير كاف لإثبات مطلوبه ما لم يكن مقيدا بالاحراز.

و كيف كان، يمكن الجواب عن هذا الوجه بأنّه مجرد دعوي بلا دليل، و ما الفرق بين هذا الشرط و سائر الشروط؛ و لا شك في أنّ الألفاظ ظاهرة في معانيها الواقعية، لا مقيّدة بالعلم و الاحراز.

الوجه الثالث: المقام من قبيل المقتضي و المانع، فالمقتضي للحرمة موجود، و يشك في وجود المانع منه و هو المحرميّة أو المماثلة؛ و مقتضي القاعدة، أنّه إذا علم بوجود المقتضي و شك في وجود المانع، يبني علي حصول النتيجة. كما إذا علم بملاقات الماء للنجاسة و شك في وجود الكريّة المانع من السراية، يبني علي عدم المانع، و يحكم بالنجاسة. و الفرق بينهما و بين الاستصحاب، أنّه يحتاج إلي الحالة السابقة، و القاعدة غير محتاجة اليها.

هذا، و لكن يرد عليه تارة من ناحية الكبري، و اخري من جهة الصغري.

أمّا الكبري، فلأنّه لا دليل علي حجيّة قاعدة المقتضي و المانع لا

من باب بناء العقلاء، و لا من باب الروايات و حكم الشارع المقدس. و قد استوفينا الكلام فيها ذيل المسألة الاستصحاب. و ما أفاده بعضهم من ظهور الصحيحة الاولي من أخبار الاستصحاب؛ فيه إشكال ظاهر، لأنّ ظاهرها أو صريحها كون الحكم ببقاء الطهارة، مستند إلي الحالة السابقة، و الشك في ارتفاعها.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 1/ 119.

(2). السيد الطباطبائي اليزدي، في العروة الوثقي 2/ 806.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 151

و أمّا الصغري، فلأنّه لو سلمنا أن الصورة الثانية أي الشك في المحرمية، كانت من مصاديق هذه القاعدة؛ لكن لا نسلّم أنّ الصّورة الأولي أي الشك في المماثلة، مصداق لها؛ لأنّ المقتضي للحرمة ليس موجودا في كل إنسان حتي تكون المماثلة مانعا عنها، كما هو واضح. فليس من قبيل قاعدة المقتضي و المانع.

الوجه الرابع: هو التمسك بالعدم الأزلي، بأن يقال أنّ المرأة لم تكن محرما (امّا أو اختا) قبل وجودها، و نشك أنّه بعد وجودها صارت محرما أم لا، فيستصحب، عدمه، فيحكم بالحرمة.

توضيح ذلك، أنّ جميع الأوصاف الوجودية مسبوقة بالعدم قبل وجود موضوعها. (و هو المراد بالعدم الأزلي) و لو من باب الانتفاء بانتفاء الموضوع، ثم نشك بعد وجود موضوعها أنّه متصف بها أم لا؟ فيجري الاستصحاب.

و قد ذكروا ذلك، في باب الشك في كون المرأة قرشية و عدمها أيضا.

ان قلت: هذا الاستصحاب معارض بمثله، فكما يستصحب عدم كونها قرشية، يستصحب عدم كونها غير قرشي.

قلت: عدم القرشية ليست وصفا وجوديا، حتي يستصحب عدمه.

هذا، و لكن الإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا غير تامّ، لا من ناحية كونه أصلا مثبتا فقط- كما أفاده المحقق النائيني قدس سره- نظرا إلي أنّ استصحاب العدم المحمولي،

غير كاف لإثبات العدم النعتي. بل لأنّ استصحاب العدم الأزلي، لا يدخل في متفاهم العرف من أخبار الاستصحاب، بأن يقال: إن هذه المرأة لم تكن قبل وجودها اختا لزيد أو قرشيّة، فانه أشبه شي ء بالهزل و المزاح. و لو كان لهذه المفاهيم قيمة في المباحث الفلسفية، لا قيمة لها في المباحث الاصوليّة، فانها امور اعتبارية مأخوذة من بناء العقلاء و أهل العرف، و خلط الأمور الاعتبارية بالامور الواقعيّة التي بدت في عصرنا في علم الاصول أورثت مفاسد كثيرة، و أخرجت المباحث الاصولية عن طريقتها و أوردتها مسالك صعبة لا ينجح طالبها.

و إن شئت قلت: عدم القرشية و شبهها قبل وجود المرأة، كان من قبيل انتفاء الوصف

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 152

بانتفاء الموضوع، و بعد وجودها من قبيل الانتفاء بانتفاء المحمول، و بينهما بون بعيد جدا. و هما أمران مختلفان قطعا، فليست القضية المتيقنة و المشكوكة واحدة في نظر العرف، فلا يجري فيه الاستصحاب.

الوجه الخامس: أن يقال إن وجه المنع هو قاعدة عقلائية اخري، و هو أنّه إذا كان شي ء بحسب طبعه الاولي ممنوعا، و كان المباح منه أفراد أو عناوين معدودة محصورة، فانه يحمل المشكوك علي الغالب، و المستثني لا بدّ من إحرازه. مثلا؛ الوقف، لا يجوز بيعه إلّا في موارد مخصوصة نادرة، فإذا فرض دوران الأمر في بعض الموارد، بين ما لا يجوز و ما يجوز، لا بدّ من إثبات الجواز؛ حتي أنّه لو ادعي صاحب اليد جواز بيع الوقف، بحسب وظيفته الشّرعيّة يشكل الاعتماد عليه، إلّا أن يحرز أسباب الجواز، لأنّ طبيعة الوقف أنّها لاتباع و لا توهب.

و كذا لو شك في بعض حيوان البحر، أنّه حلال أو حرام، يشكل الاعتماد

علي اصالة الحليّة لأنّ جميع أنواعها حرام إلّا السمك إذا كان ذا فلس و الروبيان. و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فان غير المماثل حرام إلّا في موارد محصورة قليلة، فالنظر إلي جميع نساء العالم حرام إلّا هذه؛ فلو شك، يحكم بالحرمة إلّا من ثبت كونها محرما.

و لكن هذا لا يجري في القسم الاول، و هو الشك بين المماثل و غير المماثل، لأنّ كل واحد منهما كثير جدا، فيبقي علي اصالة الحليّة.

*** حكم الصورة الثالثة و الرابعة

هذا كله بالنسبة إلي الصورتين الأوليين من صور الشك.

و أمّا الثالثة و الرابعة، أي موارد الشك في الزوجية و الرضاع، فيجري فيهما- مضافا إلي ما ذكر- استصحاب عدمهما؛ لأنّ لهما حالة سابقة، فيحكم بالحرمة من هذه الجهة أيضا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 153

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا دار الأمر بين الحيوان و الإنسان، فقد صرّح في متن العروة بأن الظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغض، إلي الإنسان. (فيبقي علي الإباحة بمقتضي البراءة).

أقول: بل الظاهر انصرافه إلي الجنس المخالف، أعني غير المماثل، و من البعيد جدا أن يكون مفاده، قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من كل إنسان … كما لا يخفي.

حكم الصورة السادسة

بقيت الصورة السادسة، و هي ما إذا كان له حالة سابقة محللة، كالشك في إنّ المنظور إليها بالغة أو غير بالغة، مميزة أو غيرها.

و ذكر لها و جهان: أحدهما، الحرمة، للوجوه السابقة؛ و الاباحة، لانصراف العموم إلي غيرهما. ثم قال: الأظهر، الأول.

لكن أورد عليه في المستمسك؛ و مستند العروة؛ بأنّ التمسك بعموم الآية أو قاعدة المقتضي و المانع، فرع وجود موضوعهما، فإذا جري الاستصحاب و أحرز عدم الموضوع (عدم التمييز أو عدم البلوغ)، كان الحكم بالجواز في محله.

هذا، و لكن لو قلنا بالقاعدة العقلائيّة التي يمكن تسميتها بقاعدة الغلبة، لم ينفع الاستصحاب في مقابلها. نعم عموم وجوب الغض هنا غير ثابت.

حكم الصورة السابعة

و أمّا الصورة السابعة التي أشرنا إليها، و هي ما إذا شك أن المنظور إليها مسلمة أو كافرة ذمية أو غيرها، أو أنّها امة أو حرّة؛ و هذه تختلف باختلاف الموارد، قد تكون لها حالة سابقة كما إذا كانت كافرة ثم أسلمت أو بالعكس، أو كانت أمة ثم تحررت، و قد تكون من أول أمرها بهذه الصفة؛ ففي بعض مواردها يجري الاستصحاب، و في بعضها لا يجري، و إجراء قاعدة الغلبة فيها تختلف باختلاف البلاد، فاذا كان هناك بلد يكون جميع أهله

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 154

مسلمين و مسلمات و الذّميّة فيها قليل جدا يشكل اجراء اصالة الاباحة فيها، كما أنّه لو كان بالعكس بأن كانت البلدة بلدة الكفار و المسلمون بينهم قليلون لم يبعد الركون إلي اصالة الاباحة لو شكّ. و اللّه العالم بأحكامه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 155

[فصل في عقد النكاح و أحكامه]

اشارة

فصل في عقد النكاح و احكامه النكاح علي قسمين: دائم و منقطع؛ و كل منهما يحتاج إلي عقد مشتمل علي إيجاب و قبول لفظيّين، دالين علي إنشاء المعني المقصود، و الرضا به، دلالة معتبرة عند أهل المحاورة. فلا يكفي مجرد الرضاء القلبي من الطرفين، و لا المعاطاة الجارية في غالب المعاملات، و لا الكتابة، و كذا الإشارة المفهمة في غير الأخرس. و الأحوط لزوما كونه فيهما باللفظ العربي، فلا يجزي غيره من سائر اللغات، إلّا مع العجز عنه و لو بتوكيل الغير. و إن كان الأقوي عدم وجوب التوكيل، و يجوز بغير العربي مع العجز عنه. و عند ذلك لا بأس بايقاعه بغيره، لكن بعبارة يكون مفادها مفاد اللفظ العربي بحيث تعدّ ترجمته.

اعتبار الإنشاء اللفظي في النكاح

أقول: لا ينبغي الشك في اعتبار الإنشاء اللفظي في الايجاب و القبول في النكاح بجميع أقسامه، فلا يكفي مجرد الرضا الباطني و لا المعاطاة.

و هذا هو المشهور، بل صرّح في الحدائق، بإجماع العلماء من الخاصة و العامة علي توقف النكاح علي الايجاب و القبول اللفظيين «1».

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 156.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 156

و قال النراقي قدّس سرّه في المستند: تجب في النكاح، الصيغة، باتفاق علماء الإسلام، بل الضرورة من دين خير الأنام له، و لأصالة عدم ترتب آثار الزوجية بدونها «1».

كلمات الفقهاء

و قال شيخنا الأعظم (الأنصاري)، في كتاب النكاح: أجمع علماء الإسلام، كما صرّح به غير واحد، علي اعتبار أصل الصيغة في عقد النكاح؛ و أنّ الفروج، لا تباح بالاباحة و لا المعاطاة، و بذلك يمتاز النكاح عن السفاح لأنّ فيه التراضي أيضا غالبا «2».

قلت: أمّا عدم الاجتزاء بالتراضي قلبا، فلانه لا يكون عقدا لا هنا، و لا في غيره من العقود؛ فلا يصدق عليها الزوجة، فتدخل في عموم قوله تعالي: إِلّٰا عَليٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ … * «3» كما أنّ البيع و الإجارة و الهبة و غيرها لا تحصل بمجرد الرضا القلبي.

و هذا واضح.

و أمّا عدم كفاية المعاطاة هنا، مع كفايتها في سائر العقود، فالظاهر أنّه للإجماع. فانّ إجماع المسلمين، أوجب امتياز النكاح، عن سائر العقود، بهذا.

بل يمكن أن يقال، إن المتعارف بين جميع العقلاء حتي من لا يعتقد بأي دين من الأديان، عدم الاكتفاء بالمعاطاة، بل يعتقدون علي إنشاء عقد لفظي؛ أو بالكتابة لا أقل.

و تحصل ممّا ذكرنا أنّه:

لا إشكال و لا كلام بين الأعلام، في وجوب كون عقد النكاح بالصيغة اللفظية و أنّ

هذا ممّا اتفقت عليه فقهاء الشيعة و السنة، و لازمه نفي كفاية التراضي قلبا و كذا المعاطاة و الكتابة.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 84.

(2). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 77.

(3). المؤمنون/ 6.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 157

أدلّة المسألة

استدل أو يمكن الاستدلال له بأمور:

1- الإجماع، بل ضرورة الفقه؛ فانّ كلماتهم عند بيان عقد النكاح تدل علي أنّه كان أمرا مفروغا عنه بينهم، و هو حسن.

2- إنّ مجرد التراضي قلبا لا يكون إنشاء عقد، و الحال أنّ العقود كلها تحتاج إلي الإنشاء، و لا بدّ أن يكون الإنشاء إمّا بالقول أو الفعل، و سيأتي عدم كفاية الإنشاء الفعلي هنا.

3- أنّ المعاطاة لو جازت هنا، لم يكن فرق بين النكاح و السفاح، كما ذكره شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح، و تبعه عليه جماعة آخرون. و لكن يرد عليه، أنّ المعاطاة ليست صرف التراضي، و لا مجرد العمل الخارجي، بل العمل بقصد إيجاد العقد، و من الواضح أنّ الزانية و الزاني، لا يقصدان بفعلهما إنشاء إيجاد الزواج الدائم و لا المنقطع، بل يريدان مجرد اللذة الشهوية لا غير. و إنّما يتحقق إنشاء النكاح إذا جعلت المرأة نفسها تحت اختيار الرجل بقصد أن تكون زوجة له. فبطلان المعاطاة في النكاح ليست من ناحية صدق السفاح عليه، بل بالإجماع. لأنّه لم يعهد من أحد من المسلمين الاكتفاء في النكاح بمجرّد إهداء الزوجة إلي بيت زوجها و أمثال ذلك.

4- ما ورد في صحيحة بريد، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً؟ فقال: الميثاق، هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح، و أمّا قوله، غليظا، فهو ماء الرجل يفيضه

اليها «1».

و سند الرواية معتبر، نظرا إلي أنّ المراد من بريد، هو بريد بن معاوية العجلي، و بريد و أن وقع بهذه الصورة في 42 موضعا من الكتب الأربعة، إلّا أنّ المراد به هو بريد بن معاوية، و له أكثر من 248 رواية؛ و يدل عليه في المقام رواية أبي أيوب الخزاز عنه أيضا.

و أمّا دلالته، فلان حصر الميثاق في الكلمة يدل علي عدم جواز غيرها؛ اللّهم إلّا أن

______________________________

(1). الوسائل 14/ 195، الحديث 4، الباب 1 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 158

يقال إنّ الآية ناظرة إلي القضية الخارجية لا إلي الشرطية، فانّ المتعارف كان هو الكلمات، فالآية إشارة إليها.

5- و يدل عليه أيضا، جميع الروايات الواردة في الباب 1 و 2، من أبواب عقد النكاح، فانّ جميعها تدور مدار الألفاظ، بحيث يكون كالأمر المسلم المفروغ عنه.

*** حكم العقد بالكتابة

و من هنا يعلم عدم جواز الاكتفاء بالكتابة، و إن جاز في غير النكاح. توضيح ذلك يتم ببيان امور:

1- أنّ العقود كانت في قديم الأيام بالألفاظ، و كانت تكتب لحفظ نتائجها و عدم نسيانها أو إنكارها من أحد الطرفين، ثم صار الإنشاء الكتبي قائما مقام الإنشاء اللفظي. و لكن اليوم نري أنّ العقلاء لا يعتقدون في المسائل المهمّة بالإنشاء اللفظي، بل يرون من الواجب الاعتماد علي توقيع المكتوبات و امضائها، و جميع الألفاظ التي يذكرونها مقدمة و من قبيل المقاولة. و الاعتبار في المعاملات الخطيرة و المعاهدات الدولية بالكتابة و التوقيع عليها فقط.

و هذا يدل علي أنّ الإنشاء الكتبي لا يقصر شيئا من الإنشاء اللفظي، بل يتقدم عليها في المسائل و العقود المهمّة.

2- من الواضح أنّ بناء العقلاء هو الأصل في

أبواب المعاملات، فكلّما صدق عليه العقد، دخل تحت عموم، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، حتي أنّ العقود المستحدثة، كعقد التأمين (بيمه) و شبهها داخلة فيها ما لم يمنع منه مانع.

فأيّ مانع من قبول صحة جميع العقود إذا انشئت بالكتابة و التوقيع عليها.

3- قد أفتي جماعة من الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) بجواز الاكتفاء بالكتابة في أبواب الطلاق و الوصيّة و الوكالة. و قد ورد التصريح في بعض روايات الوصيّة، أنّه سئل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّ رجلا كتب كتابا بخطّه، و لم يقل لورثته هذه وصيتي، و لم يقل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 159

اني أوصيت … هل يجب علي ورثته القيام بما في الكتاب بخطه … فأمر الإمام عليه السّلام بانفاذ جميع ما في الكتاب. (فراجع الوسائل 13/ 437، الحديث 2، الباب 48، من أبواب أحكام الوصايا).

و استدل بها جماعة لجواز إنشاء الوصية بالكتابة؛ و استدل بها في العروة الوثقي أيضا.

و قد ورد التصريح أيضا في باب طلاق الغائب، أنّه يجوز طلاقه بالكتابة «1» و لا يزال الناس يكتبون وصاياهم و ينشئونها بالكتاب، سواء في ذلك علماء الدين و الرجال السياسيون و غيرهم من آحاد الناس.

و يظهر من كلماتهم، أنّ مخالفة جماعة من الأعاظم لذلك، بسبب توهّم عدم صراحة الكتابة في مفادها، فالمانع عندهم من هذه الناحية، و الحال أنّه يمكن أن تكون الكتابة صريحة في ذلك، بل و اصرح من الالفاظ. و للبحث في جميع ذلك مقام آخر. «2»

4- هذا، و المعروف استثناء النكاح و الطلاق من ذلك، و قد صرح به جماعة من الأصحاب. و لا دليل عليه إلّا الإجماع الذي عرفته بالنسبة إلي النكاح، مضافا إلي أنّ أمر النكاح يختلف مع سائر

المعاملات، و قد صرح بعضهم بأن فيه شائبة العبادة. و قد ذكرنا في محله أنّ المراد منه كونه أمرا توقيفيا يحتاج ورود تشريعه من الشارع المقدس، و ذلك بسبب كثرة التقييدات الواردة فيهما من ناحية الشرع المقدس، بحيث صار كالعبادات التوقيفية.

*** هل الواجب إنشاء العقد بالعربيّة؟

يبقي الكلام في وجوب كون الصيغة اللفظية بالعربية، أو يكفي بكل لسان، أو فيه تفصيل بين القدرة علي العربية (و لو بالتوكيل) و العجز عنها، فيصح في الثاني فقط.

______________________________

(1). الوسائل 15/ 291، الحديث 3، الباب 14 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). و قد كتبت في سابق الأيام، رسالة مفيدة في هذه المسألة، و اشرت إلي جميع جوانبها، و قد طبعت آخر المجلد الثاني من تعليقنا علي العروة. و أخيرا في كتاب، بحوث فقهيّة هامّة. فراجع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 160

قال الشيخ في المبسوط: فانّ عقدا بالفارسية، فانّ كان مع القدرة علي العربية، فلا ينعقد بلا خلاف. و إن كان مع العجز، فعلي وجهين: أحدهما يصح، و هو الأقوي. و الثاني لا يصح. فمن قال لا يصح، قال يوكل من يقبلها أو يتعلمها، و من قال يصح لم يلزمه التعلم «1».

و ادعي المحقق النراقي، (قدس سره) الإجماع في المستند، بل حكاه عن التذكرة أيضا «2».

و لكن شيخنا الأنصاري ادعي الشهرة فيه؛ و أفتي كثير من المتأخرين بجواز غير العربية مطلقا، أو عند عدم التمكن من العربية.

و غاية ما يستدل به علي اعتبار العربية، امور:

1- أنّه مقتضي أصالة الفساد في العقود و الايقاعات (بخلاف العبادات). فانّ الأصل، (أي الاستصحاب) يقتضي عدم حصول الزوجية و عدم ترتب آثارها كما يقتضي عدم النقل و الانتقال في المعاملات.

و فيه، أنّه يتم إذا لم يكن هناك عموم أو اطلاق

بالنسبة إلي صحة النكاح؛ و هنا موجود.

2- اطلاقات النكاح تنصرف إلي ما كان متعارفا في عصر الشارع المقدس، و لا شك أنّ المتعارف في ذلك الزمان هو إجراء الصيغة باللغة العربية.

و فيه، أنّ هذه الانصراف بدوي، يزول بالتأمل؛ لشمول الاطلاقات لجميع اللغات. فان قوله عليه السّلام في تفسير قوله تعالي: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً: الميثاق؛ هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح. «3» عام يشمل جميع أصناف اللغات، و كذلك سائر الاطلاقات.

3- غير العربية بحكم الكناية، و لا يجوز العقد بالكنايات.

و فيه، أنّه ممنوع صغري و كبري، أمّا أنّه بحكم الكناية، فهو من العجائب، لأنّ عقد النكاح موجود في جميع الأقوام و الملل، و لهم في السنتهم الفاظ صريحة و غير صريحة،

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في المبسوط 4/ 194.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 91.

(3). الوسائل 14/ 195، الحديث 4، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 161

و لا معني لكون الألفاظ الصريحة لعقد النكاح منحصرة في العربية، و كما أن إنشاء العقد بالكتابة جائز إذا كان ظاهرا في أداء المعني.

4- و اعجب منه، ما حكاه شيخنا الأعظم الأنصاري عن المحقق الثاني، في جامع المقاصد، في باب الرهن، من منع صدق العقد علي غير العربي مع القدرة علي العربي. «1»

فان العقود بجميع أقسامها موجودة عند جميع الامم، و لها ألفاظ خاصة، وضعت لها بمقتضي حاجتهم إليها، و هذا اوضح من أن يحتاج إلي شاهد.

5- مقتضي الاحتياط في الفروج، و كون عقد النكاح من قبيل الامور التوقيفية، هذا؛ و قد يقال فيها شوب العبادة، و المتيقن منه هو ما يكون بالعربية.

و الظاهر، أنّ هذا أحسن الوجوه؛ و لكن، القدر المتيقن

منه ما إذا كان قادرا علي العربية. و أمّا إذا عجز عنها، فمقتضي السيرة المستمرة كفاية كل لغة، لأنّ الإسلام نشرت في أقطار الأرض في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، و دخل فيه جماعات كثيرة من غير العرب، و كان عندهم نكاح و طلاق، و لم ينقل في ما وصل إلينا من التاريخ و الحديث، ما يدل علي أمر المعصومين (عليهم السلام) باستخدام من هو عارف بلغة العرب، ليكون وكيلا لإجراء صيغ العقود و الطلاق.

*** بقي هنا شي ء:

و هو، أنّه لا بدّ أن يكون صيغة العقد في كل لسان بما يفصح و يعرب و يدل علي معني الزواج بوضوح، كما هو كذلك في العربية. و أمّا ما ذكره قدّس سرّه في العروة، و تبعه في التحرير، من أنّه لا بدّ أن تعدّ ترجمة لما في العربية، فلا يخلو عن مسامحة، لأنّ المعتبر أداء المقصود بوضوح في أي لسان، سواء عدّ ترجمة لما في العربية أم لا؛ فليس أحد الألسنة- و هو العربية في هذا الباب- أصلا، و الباقي فرعا له، بل جميعها علي حد سواء هنا.

***

______________________________

(1). الشيخ الانصاري، في كتاب النكاح/ 79.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 162

[المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوي، أن يكون الإيجاب من طرف الزوجة]

اشارة

المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوي، أن يكون الايجاب من طرف الزوجة، و القبول من طرف الزوج، فلا يجزي أن يقول الزوج: زوجتك نفسي؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ علي الأحوط. و كذا الأحوط تقديم الأول علي الثاني، و إن كان الأظهر جواز العكس إذا لم يكن القبول بلفظ قبلت و أشباهه.

أقول: قد مرّ الكلام في أصل وجوب الصيغة اللفظيّة في النكاح، و من هنا بدء الكلام في خصوصياته و جزئياته.

و قد ذكر هنا فرعان:

أحدهما: وجوب كون الايجاب من الزوجة، و القبول من الزوج. (و جعله احتياطا وجوبيا).

ثانيهما: كون الايجاب مقدما علي القبول، و أفتي بعدم وجوبه، و إن كان الأحوط التقديم، إلّا في صورة واحدة.

هل الواجب كون الايجاب من الزوجة و القبول من الزوج؟

و توضيح الحال في الفرع الأول؛ أنّه لم يتعرض له كثير من الأصحاب، و قد وقع الخلط بين الفرعين في كلمات بعضهم، و ممّن صرّح به شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سره) في كتاب النكاح، و صاحب العروة، و الشارحون لها مثل صاحب المستمسك (قدّس اللّه أسرارهم).

و ظاهر عبارة التحرير، عدم جوازه احتياطا وجوبيا، و يمكن الاستدلال له بأمور:

1- أصالة الفساد الحاكم علي هذه الابواب.

2- عدم معهوديته في إجراء الصيغ بين الناس، فيشكل دخوله تحت العمومات.

3- أنّ حقيقة النكاح، هو تسليط المرأة الرجل علي بعضها في مقابل المهر، و إنشائه لا يكون إلّا من قبل المرأة. و إن شئت قلت، أمر المرأة يتفاوت مع الرجل في الزوجية، فانّ المرأة تجعل نفسها تحت اختيار الرجل، و لا يجعل الرجل نفسه تحت اختيارها، بل يقبل

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 163

جعل المرأة نفسها تحت اختياره، و من جهة هذا التفاوت، يكون الإنشاء دائما من قبل الزوجة، و القبول من الزوج.

و لكن الجميع

مردودة؛ أمّا الأخير، و هو العمدة ففي الواقع نشأ من عدم درك حقيقة الزوجية فان حقيقتها كون كل من الرجل و المرأة منضما إلي الآخر. و لذا يعبّر عنهما بالزوجين، و ليس المهر عوضا في مقابل المرأة، بل من قبيل الشرط. فلذا يقال زوجتك نفسي علي المهر المعلوم، (لا بالمهر المعلوم) بل و عدم ذكر المهر لا يبطل النكاح؛ فالركنان هما الزوج و الزوجة لا غير.

و حينئذ، كما يجوز الإنشاء من قبل الزوجة، يجوز إنشائه من قبل الزوج، فيقول الزوج: تزوجتك علي المهر المعلوم؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ و لا مانع فيه. أو يقول: جعلتك زوجتي (و في الفارسية، تو را به همسري خود درآوردم،).

*** و الحاصل، أنّ العمدة في المسألة هي تحليل معني النكاح؛ أ كان حقيقتها هي تسليط المرأة الرجل علي نفسها في مقابل المهر؛ أو أنّها هي ضمّ إنسان إلي إنسان، و المهر من قبيل الشرط، لا أنّه ركن في العقد. ففي الثاني، لا ينبغي الشك في جواز الإنشاء من ناحية الزوج، بانّ يقول: أتزوجك علي المهر المعلوم؛ فتقول المرأة: قبلت. أو يقول: نكحتك علي المهر المعلوم؛ فتقول: قبلت. و يؤيده اطلاق عنوان الزوج، علي الرجل و المرأة كليهما في كتاب اللّه. قال اللّه تعالي: حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، «1» (هذا في الرجل). و قوله تعالي: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ …، «2» (هذا في المرأة).

و كذلك في اطلاق عنوان النكاح علي الطرفين. قال اللّه تعالي: … حَتّٰي تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ …، (هذا في المرأة). و قال تعالي أيضا: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ …، «3» (اطلاق

______________________________

(1). البقره/ 230.

(2). النساء/ 20.

(3). النساء/ 22.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص:

164

علي فعل الرجل مرتين).

فعلي هذا لا مانع من إنشاء الزوجية بألفاظ النكاح أو غيرها من كل منها و قبول الآخر بلفظ قبلت.

إن قلت: فلم لا يجوز أن يقول الرجل للمرأة: زوجتك نفسي علي المهر. بل يقول:

أزوجك علي المهر. و الحال أنّ المرأة تقول: زوجتك نفسي …

قلت: لعل الوجه فيه، أنّ المرأة في نظام الاسرة الإسلاميّة، بل و غيرها غالبا، تابعة، و الرجل متبوع، فلذا يتفاوت التعبير عنهما بما عرفت. و كذلك في الفارسية، مثلا تقول المرأة: من خود را به همسري تو درآوردم …؛ و لكن لا يقول الرجل هكذا، بل يقول: من تو را به همسري خويش درآوردم … لكن هذا المقدار من التفاوت، لا يوجب تغييرا في ما هو المراد.

و يؤيد ما ذكرنا من جواز الإنشاء من ناحية الرجل، بل تدل عليه، الروايات الكثيرة الواردة في الباب 18 من أبواب المتعة.

فقد ورد فيه روايات تدل جميعها علي المقصود، ما عدا الرواية الخامسة. منها:

ما عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال:

تقول أتزوجك متعة علي كتاب اللّه و سنة نبيّه … فاذا قالت: نعم، فقد رضيت؛ فهي امرأتك، و أنت اولي الناس بها «1».

و مثلها، الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و السادسة منه، و لا ينافي الاستدلال بها ضعف أسناد بعضها، بعد تضافرها و صحّة أسناد بعضها الأخر، كالرواية الثانية. و اشتراك ثعلبة بين جماعة كثيرة لا يوجب إشكالا فيها بعد كون المراد منه ثعلبة بن ميمون، الثقة الجليل، لرواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عنه. كما أن كون الحديث مقطوعا لا ينافي الاعتماد عليه لمكان ثعلبة.

و عدم دلالة الرواية الخامسة، فلأنّ

قوله: زوجيني نفسك … الخ. في الواقع استدعاء، لا

______________________________

(1). الوسائل 14/ 466، الحديث 1، الباب 18 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 165

إنشاء، و لذا لم يتعقبه القبول. فتدبر.

و من هنا يعلم الجواب، عن الدليل الأول و الثاني، فان الأصل، لا مجال له بعد ورود الدليل، كما ان توقيفية النكاح أيضا كذلك.

جواز تقدّم القبول علي الايجاب

هذا كلّه بالنسبة إلي الفرع الأول.

و أمّا الفرع الثاني، أعني جواز تقدم القبول علي الايجاب؛ فالمشهور جوازه. قال في الرياض: و لا يشترط تقديم الايجاب علي القبول في المشهور، بل عليه الإجماع عن المبسوط و السرائر، و هو الحجّة في تخصيص الأصل. و قال في آخر كلامه: ثم أنّه يعتبر، حيثما قدم القبول كونه بغير قبلت و رضيت؛ كنكحت و تزوجت، و هو بمعني الايجاب «1».

و قال في المسالك: أكثر الأصحاب علي جواز تقديم القبول علي الايجاب في النكاح، بل ادعي عليه الشيخ، الإجماع، لحصول المقتضي و هو العقد الجامع للإيجاب و القبول، و لم يثبت اعتبار الترتيب بينهما؛ و لأنّ كلّا منهما في قوة الموجب و القابل. و ينبه عليه ما تقدم في خبر سهل الساعدي. «2» و حاصلها، أنّ امرأة جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالت:

يا رسول اللّه إني قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا. فقام رجل، فقال: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: هل عندك من شي ء تصدقها إيّاه؟- إلي أن قال: - قد زوجتكها بما معك من القرآن. «3» (رواه البخاري، في الصحيح، عن مالك. و أخرجه من وجه آخر، مسلم، عن أبي حازم).

و في

الكافي، بسند معتبر، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: جاءت امرأة إلي النبي، فقالت: زوجني. ثم نقل ما يقرب من حديث سهل الساعدي (الكافي، ج 5/ 380) و 3/ 1 من أبواب عقد النكاح من الوسائل.

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 42، (2/ 69 ط. ق).

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 7/ 94.

(3). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 242.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 166

و ذكر في ذيل كلامه أنّه: ربّما قيل بعدم صحته متقدما، لأنّ حقيقة القبول، الرضا بالايجاب، فمتي وجد قبله لم يكن قبولا، لعدم معناه. ثم صرّح بأنّ المراد، قبول النكاح لا قبول الايجاب؛ ثم ذكر أنّ القبول حقيقة هو ما وقع بلفظ قبلت؛ و لا إشكال في عدم جواز تقدمه بهذا اللفظ. انما الكلام في ما وقع بلفظ تزوجت أو نكحت، فهو في معني الايجاب و تسميته قبولا مجرد اصطلاح. «1»

و قد صرّح بجواز التقديم، ابن حمزة في الوسيلة، و الصهر شتي في إصباح الشيعة، و ابن ادريس في السرائر، و المحقق في الشرائع و مختصر النافع، و العلّامة في القواعد، و الشهيد في اللمعة. «2»

إذا عرفت ذلك فاعلم، أنّه تارة يتكلم في مقتضي القاعدة، و اخري في الادلة الخاصة؛ أمّا الأول، فلا ينبغي الإشكال في أنّ القبول، بلفظ قبلت و رضيت، لا يتقدم علي الايجاب، لعدم معني معقول له، حتي إذا قال قبلت ما تنشئه بعد ذلك؛ كما أنّه لا ينبغي الشك في أنّ القبول بلفظ تزوجتك أو نكحتك، ليس قبولا، بل إنشاء من قبل الزوج، و تسميته قبولا، مجاز. فكان النزاع هنا لفظي. فمن يقول بجواز تقدمه، يسمي ما ذكر قبولا؛ و

من يمنعه، يسمّيه إنشاء من قبل الزوج؛ فالنزاع إنّما هو في اللفظ فقط.

فقد وقع الخلط بين هذا الفرع و الفرع السابق. و لعل عدم ذكر الفرع السابق في كلماتهم بسبب الاكتفاء بما ذكر في الفرع الثاني. (فتدبّر جيّدا).

هذا مقتضي القاعدة؛ و أمّا مقتضي العمومات و الروايات الخاصة الواردة في المتعة أيضا ذلك، و قد مرّ تفصيلها. و قد يقال إن استحياء المرأة من الابتداء بالكلام هنا، كان هو السبب في جواز تقديم القبول هنا بالإجماع، بخلاف سائر العقود، فقد اشكلوا عليه. و لكن الانصاف أنّ مجرّد ذلك غير كاف في اثبات المقصود، لأنّه مجرّد استحسان، لا انّه ضرورة واقعا. مضافا إلي عدم جريانه في ما إذا كان الرجل وكيل المرأة كما هو واضح.

***

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 95، (1/ 444 ط. ق).

(2). راجع سلسلة الينابيع الفقهية، ج 18 و 19.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 167

[المسألة 2: الأحوط، أن يكون الإيجاب في النكاح الدائم بلفظي أنكحت أو زوجت]

اشارة

المسألة 2: الأحوط، أن يكون الايجاب في النكاح الدائم بلفظي انكحت أو زوجت.

فلا يوقع بلفظ متعت، علي الأحوط. و إن كان الاقوي، وقوعه به مع الإتيان بما يجعله ظاهرا في الدوام. و لا يوقع بمثل بعت؛ أو وهبت؛ أو ملكت؛ أو آجرت؛ و أن يكون القبول بلفظ قبلت؛ أو رضيت. و يجوز الاختصار في القبول بلفظ قبلت؛ فقط بعد الايجاب، من دون ذكر المتعلقات التي ذكرت فيه. فلو قال الموجب الوكيل عن الزوجة للزوج: انكحتك موكلتي فلانة علي المهر الفلاني. فقال الزوج: قبلت؛ من دون ان يقول قبلت النكاح لنفسي علي المهر الفلاني، صحّ.

أقول: في المسألة فروع:

ينعقد النكاح بلفظي التزويج و النكاح

الأول: ينعقد النكاح بلفظ التزويج، و النكاح؛ يقول الموجب: زوجتك و أنكحتك. و قد صرح في الرياض، بأنّ انعقاد النكاح بهما مجمع عليه و حكي الإجماع عن الروضة و التذكرة و غيرهما. «1» و كذلك في كشف اللثام، قال: بلا خلاف بين علماء الإسلام، كما في التذكرة. «2» و لكنهما (قدس سرهما) ذكرا الخلاف في الايجاب بلفظ متعت؛ فقد صرّح في الرياض بأنّ: الأكثر، و منهم الإسكافي و المرتضي و أبو الصلاح و ابن حمزة و الحلّي، كما حكي، و عن ظاهر السيد في الطبريات، الإجماع علي المنع، خلافا للمتن و الشرائع و الإرشاد و النهاية.

و قال ابن رشد في بداية المجتهد: اتفقوا علي انعقاد النكاح بلفظ النكاح … و كذلك بلفظ التزويج، و اختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة، أو بلفظ البيع، أو بلفظ الصدقة فاجازه قوم؛ و به قال مالك و أبو حنيفة؛ و قال الشافعي: لا ينعقد إلّا بلفظ النكاح أو التزويج «3».

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 37، (2/ 68 ط. ق).

(2). الفاضل

الهندي، في كشف اللثام 7/ 43، (2/ 12 ط. ق).

(3). ابن رشد الاندلسي، في بداية المجتهد … 4/ 206، (2/ 4، دار الفكر).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 168

هذا، و مقتضي القاعدة هو جواز إنشاء عقد النكاح بكلّ لفظ يكون صريحا أو ظاهرا فيه؛ كما في سائر العقود، فإنّ العقد و هو العهد و التعاهد بين الاثنين صادق علي كل ما كان بعبارة واضحة دالّة عليه، و لا فرق في ذلك بين أن يكون دلالته حقيقيا أو مجازيا، مع القرينة الواضحة، أو كنائيا كذلك؛ فلو قال: متعتك علي المهر المعلوم متعة دائمة، لا يبعد وقوع العقد الدائم به، و كذا غيره من أشباهه، و حتي المجازات و الكنايات مع الشرط المذكور.

إن قلت: كيف يجوز ذلك، و قد ذكرتم غير مرّة أنّ النكاح كالعبادات من الامور التوقيفية لا يصار إليه حتي يصل من الشارع، فهل وصل ما ذكرت، من الشارع المقدس؟

قلت: كان إجراء صيغ النكاح دائما بمرأي و منظر من الشارع المقدس، و لم يرد في شي ء من النصوص، لزوم الاقتصار علي لفظ معين، و الحصر في مادة مخصوصة؛ فهذا دليل علي أنّ الشّارع المقدّس خلّي بين المسلمين و بين ما يؤدي معني النكاح بأيّ لفظ كان؛ إذا كان صريحا أو ظاهرا فيه. و لكن في الألفاظ غير متعارفة كالبيع و الهبة و غيرهما اشكال.

و أما النصوص القرآنية و الروائية، فهي تدل علي جواز الإنشاء بلفظ التزويج. فقوله تعالي: فَلَمّٰا قَضيٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا … «1» - كان في مقام الإنشاء ظاهرا أو لم يكن- دليل علي جواز الإنشاء بهذا اللّفظ.

و كذلك قوله تعالي: وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ

… «2»

أيضا دليل علي جواز الإنشاء به، و إن لم يكن في مقام الإنشاء.

كما أنّ روايات المتعة، (الروايات الخمسة السابقة، الواردة في الباب 18)، دليل علي جواز الإنشاء بلفظ التزويج، و كذلك حديث الساعدي، و ما شابهه من روايات أهل البيت عليهم السّلام التي مرّت الإشارة إليه آنفا كذلك، كان في مقام الإنشاء أو لم يكن.

مضافا إلي أنّه قد ورد التصريح بانشاء العقد الدائم بلفظ التزويج، في الباب الأول من

______________________________

(1). الاحزاب/ 37.

(2). النور/ 32.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 169

أبواب عقد النكاح في مقام إنشاء العقد. ففيه عشر روايات، أكثرها تدل علي المطلوب، أي جواز إنشاء النكاح بلفظ التزويج.

منها: ما رواه زرارة بن أعين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث خلق حوا و تزويج آدم بها- و في آخرها- فقال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك و قد زوجتكها، فضمّها إليك «1».

و منها: ما ورد في باب تزويج الإمام الجواد عليه السّلام ابنة مأمون، قال: زوجتني … ؟ قال:

بلي، قال: قبلت و رضيت. «2»

منها: ما رواه هارون بن مسلم، عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التزويج بغير خطبة. فقال: أو ليس عامة ما نتزوج فتياننا فتياتنا، و نحن نتعرق الطعام علي الخوان، نقول: يا فلان زوج فلانا فلانة. فيقول: نعم، قد فعلت «3».

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني. هذا، و لكن لم نجد رواية تدل علي إجراء العقد صريحا بلفظ النكاح، مثل ما ورد في التزويج، و إن كان يستفاد من فحوي الآيات و الروايات الواردة في النكاح، ذلك.

و أمّا جوازه بلفظ المتعة، مع القرينة الدالة علي أنّ المراد منه هو النكاح الدائم؛ فلأنّ

المتعة من الفاظ النكاح، و ليس صريحا في المنقطع أو ظاهرا فيه، إلّا إذا كان مع ذكر الأجل فلذا ورد في بعض الأحاديث- و أفتي به جماعة كثيرة من الأصحاب- أنّه لو تزوج متعة و ترك ذكر الاجل، انقلب دائما. و هذا دليل علي صلاحية الصيغة لهما. مثل ما رواه عبد اللّه بن بكير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في حديث: أنّ سمي الأجل، فهو متعة و إن لم يسم الأجل، فهو نكاح بات. «4»

و هذا الحكم علي إجماله مشهور أو مجمع عليه، و إن كان في بعض شقوقه نظر. مثل ما لو اراد المنقطع، و لكن ترك ذكر الأجل سهوا لا عمدا. و لكن قبوله في فرض من الفروض- كالمتعمد في ترك ذكر الأجل- كاف فيما نحن بصدده.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 194، الحديث 1، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 194، الحديث 2، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 196، الحديث 7، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 469، الحديث 1، الباب 20 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 170

الكلام في وقوعه بغير اللفظين

بقي الكلام في وقوعه بلفظ بعت؛ و ملكت؛ و آجرت؛ و نحو ذلك.

صرّح غير واحد من أعاظم الأصحاب بأنّه لا ينعقد به. و لكن حكي السيد المرتضي في الناصريات عن أبي حنيفة، انه قال ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك كالبيع و الهبة و التمليك، فأمّا ما لا يقتضي التمليك كالرهن و الاباحة، فلا ينعقد به. و في الإجارة عنده روايتان، أصحهما أنّه لا ينعقد بها «1».

و لكن الانصاف عدم انعقاده بهذه الألفاظ، لا أنّه لا يمكن انه تكون ظاهرة في معني النكاح و

لو بمعونة القرائن الواضحة؛ بل لعدم تعارف إنشاء النكاح بها، مع أنّك قد عرفت أنّ أحكام النكاح توقيفية، فلا يمكن إنشائه بغير ما هو المتعارف بين المسلمين من عصر النبي صلّي اللّه عليه و آله و أعصار الأئمّة عليهم السلام.

و قد يستدل لجواز إنشائه بلفظ الهبة بقوله تعالي: … وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ … «2»

و لكن الانصاف أن الاستدلال بها لا يخلو عن إشكال، لأنّ المراد بالهبة هنا، هو النكاح بلا مهر؛ كما ذكره المفسرون، فليس المراد من الآية إجراء الصيغة بهذا اللفظ، و الشاهد عليه قوله تعالي: «أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا»، فان التعبير بالنكاح ذيل الآية، ينافي كون الإنشاء بلفظ الهبة. و أمّا قوله تعالي: «خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»، إشارة إلي أنّ النكاح بدون المهر مختص بالنبي صلّي اللّه عليه و آله.

و يؤيده بل يدل عليه، روايات كثيرة، واردة في الباب 2 من أبواب عقد النكاح. منها:

1- ما رواه الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة، تهب نفسها للرجل، ينكحها بغير مهر. فقال: إنّما كان هذا للنّبي صلّي اللّه عليه و آله فأمّا لغيره، فلا يصلح هذا، حتي يعوضها شيئا.

الحديث «3».

______________________________

(1). السيد المرتضي، في الناصريات/ 325، المسأله 152.

(2). الاحزاب/ 50.

(3). الوسائل 14/ 198، الحديث 1، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 171

2- ما رواه أبو الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا تحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر «1».

3- و في حديث زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام،

قال: لا يحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله؛ و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر. «2» إلي غير ذلك ممّا في معناه.

و من الظاهر، أنّه ليس شي ء منها بصدد بيان الفاظ الإنشاء، و إنّما هي بصدد بيان عدم جواز النكاح بغير مهر.

نعم، في مرسلة ابن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة وهبت نفسها لرجل من المسلمين؛ قال: أنّ عوضها كان ذلك مستقيما. «3» و هي أيضا راجعة إلي لزوم المهر.

هذا كله في إنشاء الايجاب؛ و أمّا القبول، فقد صرّح الماتن (قدس سره) أنّه يجوز بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ حتي بدون ذكر المتعلقات. و يدل عليه مضافا إلي أنّهما صريحان في قبول الايجاب، ورودهما في روايات عديدة. منها الحديث 2/ 1 من أبواب عقد النكاح، و ما ورد في روايات المتعة في الباب 18 منها. و في المستدرك أيضا ما يدل عليه؛ و لا نطيل بذكرها لوضوح المسألة.

و أمّا جواز ترك ذكر المتعلقات، فلان عطف القبول علي الايجاب، دليل علي قبول جميع القيود و الشروط؛ و في الواقع يكون من قبيل؛ المقدر كالمذكور؛.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 198، الحديث 2، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 199، الحديث 4، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 199، الحديث 5، الباب 2 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 172

[المسألة 3: يتعدي كل من الإنكاح و التزويج، إلي مفعولين]

اشارة

المسألة 3: يتعدي كل من الانكاح و التزويج، إلي مفعولين. و الاولي أن يجعل الزوج، مفعولا أوّلا، و الزوجة ثانيا. و يجوز العكس. و يشتركان في أنّ كلا منهما يتعديان إلي المفعول الثاني، بنفسه تارة، و بواسطة من؛ اخري. فيقال: انكحت أو زوجت زيدا هندا.

أو أنكحت هندا من زيد. و باللام أيضا؛ هذا بحسب المشهور و المأنوس، و ربّما يستعملان علي غير ذلك و هو ليس بمشهور و مأنوس.

تعدّي النكاح و التزويج الي المفعولين

أقول: قلّما تعرضوا لهذه الصيغ؛

أمّا تعدي زوّجته إلي مفعولين، فهو وارد في كتاب اللّه تعالي في قصة زينب: …

زَوَّجْنٰاكَهٰا … «1». و أمّا قوله تعالي: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرٰاناً وَ إِنٰاثاً … «2» بعد قوله تعالي: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ … «3» فهو ناظر إلي الأولاد الذكور و الاناث. يعني يهب كليهما لمن اراد.

و أمّا تعدي الانكاح إلي المفعولين، فقد ورد في كتاب اللّه في قوله تعالي: في قضيّة شعيب: قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ … «4»

أمّا التعدي بالباء، فهو قوله تعالي: كَذٰلِكَ وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. «5» و تفسيرها بقرنّاهم، لا دليل عليه.

هذا، و قد ورد في الروايات المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام، ما يدل علي تعدي ب «ل»؛ و «من»؛ و «إلي»؛.

1- أمّا التعدي ب «ل»؛ ففي تفسير العياشي، عن أبي بصير، في الرجل ينكح أمته لرجل،

______________________________

(1). الاحزاب/ 37.

(2). الشوري/ 50.

(3). الشوري/ 50.

(4). القصص/ 27.

(5). دخان/ 54.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 173

أله أن يفرق بينهما إذا شاء؟ … «1»

2- و التعدي بحرف إلي؛ مثل ما ورد في أبواب النكاح المحرم، عن درست بن عبد الحميد، عن أبي ابراهيم عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: تزوجوا إلي آل فلان، فإنّهم عفّوا فعفّت نسائهم، و لا تزوجوا إلي آل فلان، فانّهم بغوا فبغت نسائهم «2».

و ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال: لا تجالسوا شارب الخمر و لا تزوجوه،

و لا تتزوجوا إليه، و إن مرض فلا تعودوه، و إن مات فلا تشيّعوا جنازته. «3»

3- و التعدي بحرف من؛ فقد ورد في أحاديث:

منها، ما عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينكح أمته من رجل قال: إن كان مملوكا، فليفرق بينهما إذا شاء … «4»

و منها، ما رواه في دعائم الإسلام، عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، أنّه نهي عن نكاح الشغار، و هو أن ينكح الرجل ابنته من رجل علي أن ينكحه الآخر من ابنته، و ليس بينهما صداق … «5»

و منها، ما ورد في قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضائه في غلام ادعي أنّ تلك المرأة امّه، فأنكرت و إقامت أربعين قسامة إلي أن قال: أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام … و في آخرها، فقالت المرأة: تريد ان تزوجني من ولدي. و الحديث طويل عجيب. «6»

و ما في الدعاء؛ و من الحور العين برحمتك فزوجنا؛ «7» فمن، فيه للتبعيض لا للتعدي.

و هناك روايات كثيرة اخري تدل علي تعديه بحرف من؛ و الباء؛ نشير إليها ذيلا «8».

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل، 15/ 26، الحديث 17435.

(2). الوسائل 14/ 270، الحديث 7، الباب 31 من أبواب النكاح المحرم.

(3). الوسائل 17/ 249، الحديث 8، الباب 11 من أبواب الاشربة المحرمة.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 26، الحديث 17434.

(5). الميرزا النوري پ، في مستدرك الوسائل 14/ 323، الحديث 16838.

(6). الوسائل 18/ 206، الحديث 2، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم.

(7). مصباح المتهجّد، ص 69.

(8). راجع: بالنسبة إلي من؛ صحيفة الرضا، لمؤسسة الإمام مهدي،/ 172 و 293. شاذان بن جبرئيل القمي، في الفضائل/ 12.

الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 152. و بالنسبة إلي الباء؛ السيد هاشم-

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 174

و إنّما ورد في منابع اللغة (المنجد) قال بعضهم: زوجه امرأة أو بامرأة أو لامرأة، عقد له عليها.

و أنكر بعضهم تعديه بالباء؛ قال في مختصر الصحاح: قال يونس: ليس من كلام العرب زوّجه بامرأة و لا تزوج بامرأة … و قال الفراء: تزوج بامرأة لغة، و لم يذكر في القاموس إلّا التعدي بالباء.

و من العجب ان الوارد في روايات الباب، هو التعدي بأربعة أحرف من حروف الجر كثيرا، (من- إلي- ل- ب)؛ مع عدم ذكرها في منابع اللغة بل التصريح بعدم استعمال بعضها، و هذا دليل علي قصور كثير من كتب اللغة عن أداء ما عليهم من استعمالات الألفاظ.

و من الواضح، أنّ هذه الروايات الكثيرة، حجّة في ما نحن فيه، حتي مع فرض عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام)، لأنها صادرة علي كل تقدير ممن يتكلم بلسان العرب.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الذي لا شك و لا ريب فيه من ألفاظ الإنشاء، إنشاء التزويج بلفظ زوّجت؛ مع تعديه بنفسه، و تقديم الزوج علي الزوجة، ثم بلفظ النكاح؛ بدون حرف الجر؛ و بعد ذلك تعديه بحرف من؛ الذي ورد في روايات كثيرة، و بحرف الباء؛ الذي لم يذكره في المتن. ثم بحرف إلي؛ و اللام؛.

و لو أراد الاحتياط، يذكر، من و الباء و اللام و إلي، جميعا. و اللّه العالم.

***

______________________________

- البحراني، في مدينة المعاجز 2/ 329. الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 15/ 63. شاذان بن جبرئيل القمي، في الفضائل/ 101. إلي غير ذلك ممّا يعثر عليها المتتبع.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 175

[المسألة 4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما]

اشارة

المسألة

4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما، فبعد التقاول و التواطي و تعيين المهر، تقول الزوجة مخاطبة للزوج: أنكحتك نفسي، أو انكحت نفسي منك، أو لك، علي المهر المعلوم. فيقول الزوج بغير فصل معتدّ به: قبلت النكاح لنفسي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

أو تقول: زوجتك نفسي، أو زوجت نفسي منك، أو لك، علي المهر المعلوم. فيقول:

قبلت التزويج لنفسي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين وكيليهما؛ فبعد التقاول و تعيين الموكلين و المهر، يقول وكيل الزوجة مخاطبا لوكيل الزوج: أنكحت موكلك فلانا لموكلتي فلانة؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان، علي المهر المعلوم. فيقول وكيل الزوج: قبلت النكاح لموكلي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

أو يقول وكيلها: زوجت موكلتي موكلك؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان؛ علي المهر المعلوم. فيقول وكيله: قبلت التزويج لموكلي علي المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين ولييهما كالأب و الجد، فبعد التقاول و تعيين المولّي عليهما و المهر، يقول ولي الزوجة: أنكحت ابنتي، أو ابنة ابني فلانة ابنك أو ابن ابنك فلانا؛ أو من ابنك، أو ابن ابنك؛ أو لابنك، أو لابن ابنك؛ علي المهر المعلوم.

أو يقول: زوجت بنتي ابنك مثلا، أو من ابنك، أو لابنك. فيقول ولي الزوج: قبلت النكاح أو التزويج لابني، أو لابن ابني، علي المهر المعلوم. و قد يكون بالاختلاف بأن يقع بين الزوجة و وكيل الزوج، و بالعكس، أو بينها و بين ولي الزوج، و بالعكس، أو بين وكيل الزوجة و ولي الزوج و بالعكس. و يعرف كيفية ايقاع العقد في هذه الصور ممّا فصلناه في الصور المتقدمة. و الاولي تقديم الزوج علي الزوجة، في جميع الموارد، كما مرّ.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 176

المباشرة و الوكالة و الولاية في إنشاء العقد

أقول: و حاصل كلامه (قدس سره) في هذه المسألة، أنّ لإنشاء العقد صورا مختلفة.

1- قد يكون بين الزوجين بالمباشرة، قد يتقدم إنشاء الزوج و قد يتقدم إنشاء الزوجة بدون حروف الجر، و بحروف الجر.

2- قد يكون بين الوكيلين، و ينقسم بالانقسامات السابقة.

3- قد يكون بين الوليين مع تقسيمه بالأقسام السابقة.

4- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مباشرة مع وكيل الآخر.

5- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مع ولي الآخر.

6- قد يكون بين ولي أحدهما و وكيل الآخر- كل ذلك بدون حرف الجرّ أو معه (من- إلي- ل- الباء).

و ممّا هو جدير بالذكر، أنّه لا يجب علي الوكيل و لا علي الوليّ، التصريح بكونه وكيلا أو وليّا، بل يكفي لكل منهما أن يقول زوجت فلانا فلانة. لأنّ المهم كونه مصداقا للوكيل، و الولي، خارجا؛ لا التصريح بعنوانه. فلا فرق بين إنشاء الفضولي و الوكيل أو الولي في اللفظ؛ إنّما الفرق في واقع الأمر، و هو إن هذا الإنشاء يصدر من الولي و الوكيل أو الفضولي. و يشهد له ما عرفت من قول النبي صلّي اللّه عليه و آله: زوجتكها بما معك من القرآن. و قول الوصي عليه السّلام: أني قد زوجت هذه الجارية من هذه الغلام. و ما مر من قوله تعالي في قصة آدم: قد زوجتكها، فضمها إليك. إلي غير ذلك مما في هذا المعني.

و علي كل حال يدل علي الأحكام المذكورة، عموم أدلة الوكالة و الولاية. فيجوز للولي أو الوكيل إنشاء العقد مع المباشر، أو مع وكيل مثله، أو مع ولي؛ مضافا إلي ما مرّ في الروايات السابقة من إجراء الصيغة بين المباشرين، (راجع روايات المتعة)، بين الوكيل

و المباشر، (راجع رواية سهل الساعدي، و رواية تزويج أمير المؤمنين عليه السّلام الجارية للغلام)، أو بين الولي و المباشر، (راجع رواية تزويج آدم)، إلي غير ذلك.

هذا مضافا إلي جريان السيرة علي كثير مما ذكرنا، فالأدلة هنا ثلاثة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 177

[المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الإيجاب]

اشارة

المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الايجاب، بل يصح الايجاب بلفظ و القبول بلفظ آخر. فلو قال: زوجتك؛ فقال: قبلت النكاح. أو قال: أنكحتك؛ فقال:

قبلت التزويج. صحّ. و إن كان الأحوط المطابقة.

لا يجب تطابق القبول و الايجاب في العبارة

أقول: قد يكون القبول بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ و نعم؛ و غير ذلك ممّا يدلّ علي قبول الايجاب، و لا كلام فيه؛ لأنّ المقدر فيه هو قبول الايجاب بعينه؛ و ليس المقصود في المسألة هذا، بل المقصود أنّه إذا لم يكتف بلفظ القبول، بل أراد ذكر العقد و متعلقاته، فهل يجوز بلفظ آخر غير لفظ الايجاب، بان يجعل القبول بلفظ النكاح، و الحال أنّ الايجاب بلفظ التزويج، أو بالعكس. فهل يصح هذا أو لا يصح؟

قال في الجواهر، بعد ذكر عبارة الشرائع في هذه المسألة الدالة علي الجواز: بلا خلاف و لا إشكال لإطلاق الادلة. «1» و كذا غيره ممن تبعه علي ذلك.

و ما ذكره، حق لا ريب فيه؛ فانّ ادلة أحكام النكاح، و كذا أدلة أحكام العقد، مطلقة تشمل الجميع. و قد عرفت أنّ التّمسّك بهذه المطلقات لا ينافي كون النكاح توقيفيّا بعد ما كانت العقود بمرأي و مسمع من الشارع، و لم يعين لها صيغة خاصّة؛ بل يكفي كل عبارة صريحة أو ظاهرة في أداء هذا المعني ممّا هو معمول.

هذا مضافا إلي ما ورد في بعض النصوص، مثل ما روي في قضية المرأة التي جاءت إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فقالت: زوجني؛ فقال: من لهذه؟ فقام رجل، فقال: أنا يا رسول اللّه.-

إلي أن قال: - قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن. «2» بناء علي كون قوله: أنا يا رسول

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 139.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 178

اللّه؛ بمنزلة الايجاب أو القبول المقدم. و لكن يبعده عدم تعيين المهر إلّا بعده، مضافا إلي أنّ صاحب الوسائل، رواه بعينه في أبواب المهور هكذا: أنا يا رسول اللّه زوجنيها. «1»

***

______________________________

(1). الوسائل 15/ 3، الحديث 1، الباب 2 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 179

[المسألة 6: إذا لحن في الصيغة،]

اشارة

المسألة 6: إذا لحن في الصيغة، فإنّ كان مغيّرا للمعني بحيث يعد اللفظ عبارة لمعني آخر غير ما هو المقصود، لم يكف؛ و إن لم يكن مغيّرا بل كان بحيث يفهم منه المعني المقصود، و يعد لفظا لهذا المعني، إلّا أنّه يقال له لفظ ملحون و عبارة ملحونة من حيث المادة أو من جهة الأعراب و الحركات، فالاكتفاء به لا يخلو من قوة، و إن كان الأحوط خلافه؛ و أولي بالاكتفاء اللغات المحرفة عن اللغة العربية الأصلية. كلغة سواد العراق في هذا الزمان، إذا كان المباشر للعقد من أهالي تلك اللّغة؛ لكن بشرط إن لا يكون مغيرا للمعني، مثل جوزت؛ بدل زوجت؛ إلّا إذا فرض صيرورته في لغتهم كالمنقول.

اختلاف الألحان لأداء الصيغة

أقول: هذه المسألة من المسائل المبتلي بها في كل عصر، لا سيما اللحن في عدم أداء الحروف عن مخارجها المعتبرة أو الاعراب. و حاصل الكلام فيها أنّ اللحن علي أقسام:

1- اللحن المغيّر للمعني، (كما إذا قال زوّجت بدل زوّجت) فهذا موجب لفساد العقد، كما هو ظاهر.

2- اللحن غير المغيّر، كما إذا لم يؤد الحروف عن مخارجها، لا سيما إذا كان العاقد من العجم غير العارف باللغة. فهذا كاف، لأنّ المدار علي صدق العقد و أداء المقصود بالعبارة، و هذا أمر حاصل. بل هو أمر متداول بين غير العرب بل بين العرب الامّي أحيانا.

3- ما إذا كان من اللغات المحرفة، (و ما يسمي عاميانه) بالفاظ مكسّرة، و هذا أيضا علي قسمين، إن لم يغير المعني كان صحيحا لما ذكر، و إن كان مغيّرا للمعني لم يجز علي فتوي الماتن. كما إذا قال جوزت عوض زوجت؛ (و الظاهر أنّ هذه العبارة معمولة بين عوامهم). و لكن الاستاذ السيد

الحكيم، صرّح بصحّته و شمول أدلة العقود، له؛ و هو كذلك، لأداء المقصود به في إنشاء العقد. و من هنا يسهل الأمر في لحن الاعراب و السواد إذا كان متعارفا بين أهل العرف.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 180

[المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلي مضمونه]

المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلي مضمونه، و هو متوقف علي فهم معني لفظي أنكحت؛ و زوجت؛ و لو بنحو الإجمال حتي لا يكون مجرد لقلقة اللسان؛ نعم، لا يعتبر العلم بالقواعد العربية و لا العلم و الاحاطة بخصوصيات معني اللفظين علي التفصيل، بل يكفي علمه إجمالا. فاذا كان الموجب بقوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا لايقاع العلقة الخاصة المعروفة المرتكزة في الاذهان التي يطلق عليها النكاح و الزواج في لغة العرب، و يعبر عنها في لغات آخر بعبارات آخر، و كان القابل قابلا لهذا المعني، كفي. إلا إذا كان جاهلا باللغات بحيث لا يفهم أنّ العلقة، واقعة بلفظ زوجت؛ أو بلفظ موكلي؛ فحينئذ صحته مشكلة، و إن علم أنّ هذه الجملة لهذا المعني.

[المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء]

اشارة

المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء، بأن يكون الموجب في قوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا ايقاع النكاح و الزواج و إيجاد ما لم يكن؛ لا الأخبار و الحكاية عن وقوع شي ء في الخارج؛ و القابل بقوله قبلت؛ منشأ لقبول ما أوقعه الموجب.

اعتبار القصد في اجراء الصيغة

أقول: الاولي تقديم الكلام في المسألة الثامنة قبل السابعة، كما ذكره في العروة، فانّ الثاني فرع الأول، بل يمكن أن يقال كلاهما مسألة واحدة يتكلم فيها أولا في وجوب قصد الإنشاء إجمالا، ثمّ قصده تفصيلا.

في تفسير الإنشاء

و علي كل حال، فلنتكلم في وجوب قصد الانشاء أولا؛ فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، الكلام أمّا أخبار أو إنشاء، و الأخبار هو الحكاية عن أمر خارجي كما إذا تحقق مجي ء زيد في الخارج، و يتحقق فيما بعد، فنقول جاء زيد؛ أو يحيي زيد؛ فان طابقت النسبة الكلامية للواقع، كان صدقا؛ و إلّا كان كذبا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 181

و لكن الإنشاء، هو إيجاد شي ء في عالم الاعتبار بنفس الكلام مع قصده، مثلا، النداء أو الاستفهام، ليس شيئا خارجيا يحكي عنه القائل باللفظ، بل شي ء يوجده. و كذا الأمر و النهي، و كذا البيع و النكاح، (و إن كان بين أقسام الإنشاء فرق) فالعلقة الاعتبارية بين الزوج و الزوجة ليست أمرا موجودا خارجيا، بل أمر اعتباري ذهني فرضي، يوجده المنشئ فيجعل هذا زوجا لهذه في عالم الاعتبار و منظما إليها؛ و العقلاء يفرضون لهذا الاعتبار أحكاما كثيرة قد تكون أكثر من الأحكام المترتبة علي الواقعيات العينية، و ذلك لنظام معاشهم و حفظ مجتمعهم.

و حقيقة الإنشاء أمر دقيق جدا خفي علي الناس إلّا العلماء منهم، و لكنها بإجمالها معلوم لكل أحد حتي الصبيان لأنّها مبتلي بها ليلا و نهارا. فإذا قال الأب لولده الصغير: خذ هذا فقد وهبت لك. يفهم أنّ العلقة الملكية حصلت له، و يري نفسه بعد ذلك أحق الناس به، بعد إن لم يكن كذلك. فلو زاحمه احد، يقول: هذا مالي، وهبه لي

أبي؛ فكنهه في غاية الخفاء و لكن مفهومه من أظهر الأشياء.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ اللازم في العقد، قصد الإنشاء، أي إيجاد العلقة الزوجية؛ و الفرق بينه و بين الأخبار. و لكن هذا أمر سهل بسيط، لا كما يظهر من بعض أهل العلم من أنّه أمر مشكل لا يعرفه العوام، فلا يصح منهم إجراء الصيغة، بل قد عرفت أنّه يعرفه الصبيان أيضا، و ليس أمرا صعبا و لا معني للتشدّد فيه.

و الحاصل، أنّ هناك امورا ظاهرة بوجودها الإجمالي، و لكن كنهها خفية جدا، لا في خصوص ذات اللّه تعالي، بل بالنسبة إلي كثير من الموجودات الإمكانية، كالزمان و المكان و قوة الجاذبة الموجودة في الأرض، و شبهها؛ فانّها من الواضحات لكل أحد بوجودها الإجمالي، حتي بالنسبة إلي الصبيان، و لكن حقيقة الزمان و المكان ما ذا؟ فقد تحيّر فيهما الفلاسفة. و حقيقة قوة الجاذبة الأرضية ما ذا؟ تحيّر فيها علماء العلوم الطبيعي.

و الإنشاء من هذا القبيل، فالملكية و البيع و الهبة و الزوجية من الامور الاعتبارية التي يعرفها كل احد، و كذا إنشاء هذه الامور، فالطفل الذي يأخذ الفلوس و يشتري بها جوزا مثلا يفهم معني الملك و كذا عقد البيع. و إذا بلغ الإنسان حدّ الزواج و أشار إلي أبيه أن

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 182

يزوجه يعرف معني عقدة النّكاح، و بالطبع يعرف معني إنشاء هذا العقد؛ و إن كانت معرفة كنه الإنشاء أو الملكيّة أو الزوجية من الامور الاعتبارية و الإنشائية ممّا يصعب فهمه علي الناس إلّا الراسخين في العلم.

و لا يعتبر في قصد الإنشاء إلّا هذا العلم الإجمالي، و قد ذكرنا في محلّه أنّ الإنشاء إيجاد أمر اعتباري باللفظ أو

الكتابة أو الإشارة، و الامور الاعتبارية امور ذهنية فرضية، لا من الفروض الخيالية بل من الفروض التي يكون بناء العقلاء علي ترتيب الآثار الاجتماعية عليها.

و إن شئت قلت: هذه الامور، تكون لها مصاديق حقيقية خارجية يعتبر نظيرها المنشئ في الذهن؛ فالملكية يكون له مصداق حقيقي و هي السلطة الخارجية التي تكون للإنسان علي بعض الأشياء أو علي أعضائه، يتصرف فيها، كيف يشاء. و البائع يفرضها و يعتبرها في الذهن للمشتري في مقابل الثمن المعين. و يكون لها آثار كثيرة في المجتمع الإنساني.

و كذا الزوجية، لها مصداق حقيقي، و مصداق اعتباري ذهني فرضي، فمصداقها الحقيقي هو الشيئان يكون أحدهما في جنب الآخر، و ينضم احدهما إلي الآخر كاليدين و الرجلين و العينين و الحذاءين، هما زوجان حقيقة و لكن وجودها الاعتباري هو ما يحدث بسبب الإنشاء بين رجل و امرأة و إن كانت بينهما مسافة بعيدة خارجية، هذه خلاصة القول في معني الإنشاء إجمالا.

و للكلام في هذه الامور محل آخر، قد شرحناها هناك «1».

فقد تلخّص مما ذكرنا، ان الوسوسة في إمكان صدور إنشاء النكاح من العوام في غير محلّه، و أنّه ليس إلّا كإمكان صدور إنشاء البيع و الهبة و الإجارة و غيرها منهم. فكل أحد يعرف الفرق بين بعت الأخباري، (مثل بعت أمس) و بعت الإنشائي؛ و كذا الأمر في زوجت الأخباري و الإنشائي.

***

______________________________

(1). راجع أنوار الأصول 1/ 50.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 183

إنّما الكلام في علم المنشئ بمفاد الكلمات التي يذكرها في مقام الانشاء.

هل اللازم معرفتها تفصيلا أو يكفي إجمالا أو لا تجب معرفتها لا إجمالا و لا تفصيلا.

توضيح ذلك: إذا قال البائع: بعت هذا به هذا؛ أو قال العاقد للنكاح: زوجت

موكلتي موكلك بالصداق المعلوم؛ فقد يتصور فيها ثلاث حالات:

1- أن يعرف الفعل و الفاعل و المفعول و الاعراب و البناء و صيغة المتكلم و المخاطب و غير ذلك، و هذا هو العلم التفصيلي بمفاد الكلام.

2- أن يعرف أنّ مفاد هذه الجملة إيجاد علقة النكاح بين هذا الرجل و المرأة، من دون أن يعرف تفاصيل الكلام.

3- أن لا يعرف شيئا من ذلك، و توهم أنّه إذا تكلم هذه الجملة تحصل العلقة قهرا، و بعبارة اخري لم يقصد منه شيئا و لم تكن إلّا لقلقة اللسان.

لا شك في صحة الإنشاء علي الأول، و عدم صحته علي الثالث، إنّما الكلام في الثاني منها، و الظاهر صحته، سواء علم معني الجملة فقط من دون أن يعرف أنّ العلقة واقعة بلفظ زوجت أو موكلي، أو عرف ذلك من دون أن يعرف خصوصيات كل لفظ.

و الدليل علي ما ذكرنا هو حصول معني الإنشاء بالوجدان حينئذ.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 184

[المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الإيجاب و القبول]

اشارة

المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الايجاب و القبول.

اعتبار الموالات بين الإيجاب و القبول

أقول: لا فرق بين عقد النكاح و سائر العقود من هذه الجهة؛ فلو كان هناك دليل علي اعتبار الموالاة، جري في الجميع، و اعتبارها مشهور بين جماعة من الأعلام و إن لم يتعرض له كثير من الأكابر، حتي أنّ المحقق لم يذكر اعتبارها لا هنا و لا في البيع. و ذكر صاحب الجواهر في كتاب البيع كلاما قصيرا فيه.

الادلة الدالة علي اعتبار الموالات

و كيف كان غاية ما يمكن الاستدلال به، علي اعتبارها، مضافا إلي أصالة الفساد في صورة ترك الموالاة، أمران:

1- و هو العمدة، أنّ العقد غير صادق مع الفصل المفرط، لأنّ العقد هيئة اتصالية بين الايجاب و القبول، بل هما بمنزلة كلام واحد، و من الواضح خروجه عن الوحدة مع الفصل الطويل.

إن قلت: العقد، هو الامر النفساني الذي هو العهد، و إن شئت قلت، هو اتّصال الالتزامين النفسيين؛ و هذا المعني حاصل ما لم يرجع احدهما عن التزامه.

قلنا: مجرد الالتزام الباطني، غير كاف في الإنشاء، بل الإنشاء هو الايجاب و القبول باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة لإيجاد الأمر الاعتباري عند العقلاء مقارنا للالتزام النفسي بالعمل بمفاده؛ و المعاقدة أمر واحد يحصل من تركيب الايجاب و القبول، و هذا لا يحصل مع الفصل الطويل.

إن قلت: كثيرا ما يقع الفصل الطويل بين الايجاب و القبول كما هو المعمول في البيع، فيكتب التاجر لصديقه في بلد آخر بكتاب للبيع أو الشراء، و قد تصل إليه بعد اسبوع، فيرسل الجواب بالقبول، فيقع بينهما الفصل باسبوعين، مع ذلك يكون العقد عقدا.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 185

و كثيرا يرسل المهدي هديته من بلد إلي بلد بعيد فتصل إليه بعد شهر فيقبل إنشاء الهدية بعد هذه المدة الطويلة، و لو كان الفصل

الطويل مضرا، كان جميع هذه الهدايا باطلة.

و قد روي كثير من الفقهاء و أرباب السير، أنّ النجاشي، بعد إسلامه، أرسل إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله المارية القبطيّة بعنوان الهدية، (لعله مع هدايا اخري) و قبلها النبي صلّي اللّه عليه و آله.

قلنا: أمّا الكتابة- بناء علي جواز الإنشاء بها في غير النكاح و هو الحق- فهي أمر باق لا تزول بمضي الزمان إلّا إذا كان الفصل خارجا من المتعارف كالسنين، و الألفاظ ليس كذلك، ليس لها بقاء إلّا بمقدار المعاطاتية في نظر العرف، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

و أمّا الهدية المعاطاتية فهي خارجة عمّا نحن فيه، لأنّ الايجاب و القبول يحصل بمحض وصول الهدية بيد المهدي إليه في زمن واحد، و ليس ايجابها بارسالها.

2- عموم وجوب الوفاء بالعقود، منصرف إلي المتعارف، و المتعارف اتّصال الفاظ الايجاب و القبول اتّصالا عرفيا، فلو فرض صدق العقد علي ما خرج عن المتعارف، بأن كان الفصل بينهما باسبوع أو أقلّ أو بشهر أو سنة، فلا أقل أنّه لا شك في خروجه عن منصرف المطلقات، و الأصل يقتضي الفساد.

*** و قد يستدل علي جواز الفصل، بما مرّ من رواية سهل الساعدي، المروي في كتب الفريقين، تارة متصلا إلي سهل، و اخري من طرقنا مسندا إلي الإمام الباقر عليه السّلام بسند معتبر، يرويها عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، و لم يرو من طرقنا متصلا إلي سهل الساعدي، ما عدا رواية رواها في المستدرك، في المجلد 14 في أبواب عقد النكاح، عن عوالي اللئالي، عن سهل الساعدي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و قد عرفت وقوع الفصل الكثير فيها بسبب السؤال عن المهر، و جواب الاعرابي، و

ردّ الجواب مرارا، ثم بعد ذلك صدر ايجاب العقد من النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله وكالة أو ولاية، عليها.

و يجاب عنه، أوّلا، ان هذا المقدار غير قادح بالموالاة، إذا الواجب هو الموالاة العرفية

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 313، الحديث 16801.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 186

لا العقلية، لا سيّما إذا كان الفصل بذكر متعلقات النكاح. كما حكاه في الحدائق، فقال: ربّما اجيب بأنّه لا بأس به إذا كان الكلام لمصلحة العقد؛ إنّما المانع تخلل الكلام الأجنبي. «1»

و ثانيا، الظاهر إنّ القبول وقع بعد ايجاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله من الأعرابي، و إن لم يذكر في الرواية، فان قوله: زوجنيها؛ قبل تعيين المهر كان من قبيل الاستدعاء و الخطبة، بل يظهر مما روي من طرقنا بسند معتبر، أنّ الرجل لما قال: مالي شي ء؛ انصرف عنه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله حتي اعادت المرأة مرّتين و في كل مرّة قال صلّي اللّه عليه و آله: من لهذه؟ فلم يقم غير الأول، ثم سأله عن ما يحسنه من القرآن فجعل المهر تعليمها «2».

قال العلّامة المجلسي (قدس الله سرّه الشريف) بعد نقل الرواية: أنّه صحيح. ثم قال و مضمونه مشهور بين الخاصة و العامة، و استفيد منه أحكام.- إلي أن قال: - الثالث، الفصل بين الايجاب و القبول و هو خلاف المشهور، و ربما يوجه بأنّها كانت من مصلحة العقد و إنّما يضر الكلام الأجنبي. و يظهر من التذكرة جواز التراخي بأكثر من ذلك، فانّه اكتفي بصدورهما في مجلس واحد. «3»

و علي كان حال دليل اعتبار الموالاة ظاهر، و لا دليل علي خلافه.

*** بقي هنا امور

1- هل يكفي وقوعهما في مجلس واحد

هل المدار في الموالاة هو اعتبار صدورهما

في مجلس واحد كما حكي عن التذكرة.؟

الظاهر، أنّه علي اطلاقه ممنوع. فانه قد يكون بينهما فصل طويل علي خلاف المتعارف، فاللازم ايكال الامر إلي العرف و صدق العقد، و كونه علي وفق المتعارف. و الله العالم.

______________________________

(1). المحقّق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 162.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). العلّامة المجلسي، في مرآت العقول 20/ 109.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 187

2- هل التخاطب بالتليفون و ما اشبهه بحكم مجلس واحد؟

لو كان المدار علي وحدة مجلس العقد، فهل اللازم رعاية المجلس الواحد المكاني، أو يكفي كل ما أمكن فيه التخاطب، كما إذا اتصل وكيل الزوج و الزوجة بالتليفون و ما أشبه ذلك.؟ الظاهر كفايته، لحصول التخاطب الذي يراد من الاشتراك في المجلس.

3- لا يضر الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول

الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول و ذكر المهر و خصوصياته و الشروط الموجودة في العقد و لو كانت كثيرة، لم يناف اتّصال العقد و وحدته العرفية، كما هو كذلك في جميع العقود من البيع و الاجارة و غيرهما.

4- كلام من سيدنا الاستاذ الحكيم

قال سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره): لا تعتبر الموالاة الحقيقية و لا العرفية في صدق العقد؛ انما المعتبر أن يكون الموجب منتظرا للقبول، فإذا وقع القبول في ذلك الحال، كان عقدا. فلذا لو اوجب الموجب، فلم يبادر صاحبه إلي القبول، فوعظه و نصحه حتي اقتنع؛ فقال: قبلت؛ صح عقدا … فالمدار علي صدق المطابقة. «1»

و الظاهر أنّ ما أفاده قدّس سرّه مجرد ادعاء، أو يعود إلي نزاع لفظي. فانّ الموالاة في ما ذكره حاصلة؛ و لو حصل هناك فصل طويل يضرّ بالموالاة العرفية، لم يكف و لو كان الموجب منتظرا؛ مثل ما إذا انتظر اسبوعا أو اياما.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 379.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 188

[المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز]

اشارة

المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز. فلو علقه علي شرط و مجي ء زمان، بطل. نعم، لو علقه علي امر محقق الحصول كما إذا قال في يوم الجمعه؛ انكحت ان كان اليوم يوم الجمعة؛ لم يبعد الصحة.

في اعتبار التنجيز

أقول: هذه المسألة، مما تعرضت لها الاصحاب في كتب كثيرة في الوقف و الوكالة و النكاح و البيع، و في الثلاثة الاولي اكثر من الاخيرة؛ لعله لشدة الابتلاء بها فيها، دون الاخير.

و كيف كان، المشهور اعتبار التنجيز و فساد العقد مع التعليق. بل ادعي عليه الاجماع غير واحد منهم.

قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد، في كتاب الوكالة: يجب ان تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا. فلو علقها علي شرط، و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار؛ صفة، و هي ما كان وجوده محقّقا كطلوع الشمس؛ لم يصح. و ذهب جمع من العامة الي جوازها معلقة، لان النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله قال في غزاة موتة: اميركم جعفر، فان قتل فزيد بن حارثة … و التأمير في معني التوكيل. و لأنّه لو قال: انت وكيلي في بيع عيدي، إذا قدم الحاج؛ صح اجماعا. «1»

و ذكر هذا الشرط في كتاب الوقف، «2» و كذا النكاح. «3»

و قال في كشف اللثام: و يشترط التنجيز اتفاقا؛ إذ لا عقد مع التعليق؛ خصوصا و امر الفروج شديد، فلو علقه و لو بامر متحقق كان يقول: ان كان اليوم يوم الجمعة فقد زوجتك؛ لم يصح، و ان لم يرد التعليق. لأنه غير صريح فهي بمنزلة الكناية. «4»

و لكن مع ذلك حكي التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلي، و المحقق

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد، 8/ 180 (1/ 484 ط. ق).

(2). المحقق الكركي، في

جامع المقاصد، 9/ 14 (1/ 513 ط. ق).

(3). المحقق الكركي، في جامع المقاصد، 12/ 77، (2/ 301 ط. ق).

(4). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 48، (2/ 12 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 189

السبزواري، بل عن المحقق القمي الجزم بالصحة في الوكالة؛ و اختار سيدنا الاستاذ الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة، الصحة في جميع العقود. «1» و هو غريب!.

اقسام التعليق

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ التعليق يتصور علي أقسام و قد ذكر له شيخنا العلّامة الأنصاري في كتاب البيع، ستة عشرة صورة، و العمدة من بينها أربع صور:

1- إذا كان التعليق، علي أمر متحقق الوجود في الحال أو الاستقبال.

2- إذا كان معلقا علي أمر غير معلوم الوجود (في الماضي أو المستقبل)؛ و كل واحد أمّا أن يكون التعليق فيه علي أمر يكون مقتضي طبيعة العقد، أو علي أمر زائد عليها.

و الأول، مثل أن يقول: إن كان هذا المال لي، فقد بعته منك. (إذا كان ملكه له معلوما).

و الثاني، أن يقول: إن كان هذا يوم الجمعة، فقد زوجتك. (إذا كان معلوما).

و الثالث، كان يقول: إن كنت عاقلا بالغا، فقد وكلتك. (إذا كان عقله أو بلوغه مجهولا).

و الرابع، أن يقول: إن قدم الحاج غدا، فقد بعته منك. (إذا كان قدوم الحاج غير معلوم).

و كلّ ذلك يمكن أن يكون معلقا علي أمر حالي أو استقبالي.

و الذي يظهر من كلماتهم، ان جميع هذه الصور، ليست ممّا انعقد الإجماع علي بطلانه؛ بل الإجماع المدعي في بعض الصور.

استدل علي بطلان التعليق بامور

اشارة

و علي كل حال فقد استدل علي البطلان، بامور:

1- الإجماع، و لكن حال الإجماع في هذه المسائل معلوم.

2- إن الإنشاء هو الإيجاد، و التعليق في الإنشاء هو التعليق في الإيجاد (المتحد مع الوجود)؛ و من الواضح أنّ التعليق في الوجود، لا معني له؛ بل أمره دائما دائر بين النفي و الإثبات.

______________________________

(1). راجع أنوار الفقاهة، كتاب البيع 1/ 143. و السيد الخوئي، في مصباح الفقاهة 3/ 70.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 190

و إن شئت قلت: كما أنّ الإيجاد التكويني لا يقبل التعليق؛ (كان يقول القائل: أو جدت الضرب أو القتل، إن كان

زيد شارب الخمر أو قاتلا). فانّ إيجاد الضرب هو فعله في الخارج، و هو لا يقبل التعليق؛ كذلك الايجاد التشريعي و الاعتباري في العقود و الايقاعات و غيرها، لا يقبل التعليق.

و لذا اشكل الامر عليهم في باب الواجب المشروط، حيث إنّ الأمر في قوله: إن استطعت فحجّ؛ أو، إن جاء زيد أكرمه، من قبيل الانشاء، و التعليق في الإنشاء محال. فانه لا معني لكون الشي ء موجودا علي تقدير و معدوما علي تقدير آخر، بلّ هو امّا موجود أو معدوم.

و هذا المعني هو الذي الجأ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) إلي القول برجوع الواجب المشروط إلي الواجب المعلق و هو ما كان القيد في متعلق الإنشاء لا في نفس الإنشاء، فقوله: إن استطعت فحج، بمعني قوله: يجب عليك الحج عند الاستطاعة، أو الحج مستطيعا. و كذلك قوله: إذا رأيت الهلال فصم؛ أي يجب عليك الصوم المقيد بكونه بعد رؤية الهلال. و هذا ما يقال من أنّ القيد يرجع إلي المادة لا الهيئة، أي إلي نفس الحج أو الصوم لا إلي إيجابها و كذلك قوله: إذا دخل الوقت فصلّ؛ كل هذه الشروط قيود في الواجب لا الوجوب، لعدم إمكان التعليق في الإنشاء.

و إن كان هذا التفسير خلاف الوجدان و المرتكز في الأذهان.

و لعلّ هذا أيضا هو الذي الجأ سيدنا الاستاذ الخوئي (رحمه الله) إلي القول بان الإنشاء ليس أمرا ايجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني.

و فيه اشكال ظاهر، لأنّ كلّ أحد يري الفرق بين قولنا: افعل؛ و قولنا، أبرز لك ما في ضميري من الإرادة. (و إلّا احتمل الإنشاء الصدق و الكذب، لأنّه نوع من الحكاية) و كذلك بين زوجت نفسي

لك؛ و بين أبرز لك ما في ضميري من اعتبار الزوجيّة و البناء عليها.

و الانصاف، أنّ التعليق في الإنشاء أمر ممكن لا استحالة فيه، و ما يدعي من الاستحالة شبهة في مقابل الوجدان و البرهان، و سنكشف النقاب عنها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 191

أمّا الوجدان؛ فلأنّ الشّرط بحسب القواعد العربية و بحسب الارتكاز العرفي، يعود إلي الهيئة. فلذا إذا قال: إذا دخل الوقت، يجب عليك الصلاة؛ كان الظرف متعلّقا ب يجب لا الصلاة. و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) اعترف بذلك، و لكن ذهب إلي ارتكاب امر مخالف للظاهر، هربا من محذور استحالة التعليق في الإنشاء.

و أمّا البرهان؛ فيتوقف علي فهم معني أن، الشرطيّة، و معادله في الفارسيّة، (اگر)؛ و من العجيب أنا نتكلم ليلا و نهارا بهذه الألفاظ، و لها معان واضحة مرتكزة في أذهاننا اجمالا؛ أمّا عند شرحها و تحليلها يصعب الأمر علينا جدّا.

و الذي يقوي في النظر، أن معناه نوع من الفرض. و قولنا إن جاء زيد …، نفرض أنّه جاء زيد …؛ لا أقول أنّ له معني فعليّ، بل له معني حرفي، و لكن إذا لو حظ استقلالا يعود إلي ما ذكر، كالفرق بين معني من و الابتداء.

فاذا قال: إن جاء زيد أكرمه؛ معناه: نفرض أنّ زيدا جاء، ففي هذا الفرض يجب عليك الأكرام. فالإنشاء هنا أيضا إيجاد بدون التعليق، و لكن إنشاء في فرض. و الفرق بينهما دقيق. و إن شئت توضيحا أكثر، فقس حال المنتظر لقدوم زيد، فسمع صوتا عند الباب، فتخيل أنّه صوت زيد، فقال: يا غلام، قم أكرم زيدا؛ فذهب فلم ير زيدا. و من الواضح أنّ الأمر بالقيام و إكرام زيد في هذه الحالة

ليس معلقا علي شي ء، بل بعث قطعي باتّ؛ و لكن هذا البعث كان بعد تخيل مجي ء زيد، فينحصر باعثيته بفرض مجي ء زيد. و من هنا يجتمع رجوع القيد إلي الهيئة الذي مفادها الإنشاء، مع عدم إمكان التعليق في الإنشاء الذي يعود إلي إيجاد أمر اعتباري.

3- تلخّص من جميع ما ذكر، أن اشتراط التنجيز في العقد، ليس بسبب استحالة التعليق، بل الظاهر، أنّ السبب الوحيد فيه دليل ثالث، و هو عدم كون التّعليق متعارفا و مقبولا عند العقلاء؛ فلذا لا نري أحدا يقول: زوجت نفسي إذا اشتريت دارا آخر؛ أو إن كان هذا اليوم أول الشهر؛ أو غير ذلك من قيود التعليق.

و لعل السّر فيه، ان طبيعة العقود عند العقلاء مبنيّة علي الجزم و القاطعيّة حتي يكون كل من الطرفين عالما بما له من الوظيفة، و إلّا كان مثارا للنزاع و المخاصمة و المشاجرة،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 192

و لذا لا يعتنون بالعقود المعلّقة؛ فاعراض العقلاء من أهل العرف عن العقود المعلقة في أبواب المعاملات و النكاح و غيرها، هو العمدة في عدم صحتها، لما عرفت غير مرّة أنّ العمومات الدالة علي الصحة منصرفة إلي ما هو المتعارف بين العقلاء، و لو كان التعليق علي أمر محقق حالي، كان لغوا.

بل يمكن أن يقال إنّ صدق عنوان العقد علي غير المنجز، بعيد. لأنّه يدل علي استحكام أمر و شدّة و انعقاد، و الإنشاءات المعلقة ليست كذلك، و إن كنت مصرّا علي صدق عنوان العقد فلا أقل من الانصراف إلي غيرها، كما مرّ. نعم له بعض الاستثناءات، ستأتي الإشارة إليها إنشاء اللّه.

4- و هناك دليل آخر، تمسّك به بعضهم لعدم جواز التعليق، و هو تخلف الإنشاء

من المنشأ، (و هذا يجري في التعليق علي الامور المستقبلة).

و حاصله أنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد ملازم للوجود، فكيف يصح أن يكون الإنشاء الذي هو إيجاد، حاليا؛ و الوجود، استقباليا؛ مثلا يكون إنشاء الزوجية يوم السبت، و وجودها يوم الجمعة، إذا علقها علي ذلك اليوم.

و فيه أوّلا: أنّه غير صحيح علي التفسير المختار في معني التعليق في الإنشاء؛ لأنّ الإنشاء ليس حاليا، بل إنّما صدر الإنشاء بعد فرض يوم الجمعة مثلا؛ فهو إيجاد اعتبار في فرض خاص و هو يوم الجمعة، و من المعلوم أنّ الوجود أيضا حاصل فيه فلا تفكيك.

و ثانيا: الإنشاء المعلق (علي فرض صحته، كما هو المفروض) ليس إيجادا مطلقا، بل الإيجاد أيضا معلق كالوجود، فكلاهما معلقان متلازمان كما هو ظاهر.

بقي هنا امور
العقود التي يكون التعليق من طبيعتها

هناك عقود يكون التعليق جزءا من طبيعتها، كالوصيّة التمليكيّة. يقول الموصي: إذا متّ فهذا الدار لك؛ أو يقول: ان مت فهذا الفرس لك. و كالتدبير في أبواب العبيد و الإماء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 193

فيقول المولي لعبده: أنت حرّ دبر وفاتي؛ قال في الجواهر: لا خلاف بين المسلمين في تحققه بإنشاء عتق العبد، معلّقا له علي ما بعد وفات المولي. «1»

و كذا المكاتبة، فقد ذكروا في إنشائه قول المولي لعبده: كاتبتك بهذا المقدار من العوض في هذا المقدار من الزمن، فاذا أديت فأنت حرّ. و قد يقال ذكر الجملة الأخيرة غير واجبة بعد كونه في نيته.

و علي أي تقدير، فهي إنشاء الحريّة علي فرض أداء مال الكتابة. ففي أمثال ذلك يكون التعليق غير مضرّ بصحة العقد، بل قد يقال أن النذر المشروط أيضا من هذا القبيل، كما إذا قال: إن شفاني اللّه، فللّه عليّ كذا و كذا.

و لعمري أنّ

أمثال هذه العقود من أدلة عدم استحالة التعليق في الإنشاء في الجملة، و أنّ البطلان في كثير من العقود لعدم تعارفه فيها، و لا إشكال فيما يتعارف. و أمّا الوكالة، فهي من العقود التي قد تكون منجزة، و قد تكون معلقة، و ليس التعليق فيها مخالفا للمتعارف بين العقلاء. و من هذا القبيل ما روي من طرق الخاصة و العامة في قضية غزوة موتة، و أنّه صلّي اللّه عليه و آله قال للمجاهدين: إنّ جعفرا أميري عليكم و لو قتل جعفر فزيد بن حارثة …

بناء علي كون الامارة هنا بمعني الوكالة؛ و لكن الامارة بنفسها من المقامات الاعتبارية و الامور الإنشائية و ليست من الوكالة و لكن علي كلّ تقدير، تكون الرواية شاهدة علي جواز التعليق في الإنشاء.

*** و الحاصل أنّ العقود و الايقاعات علي أقسام ثلاثة:

1- قسم منها بطبيعتها تقتضي القطع و البت؛ و التعليق فيها ينافي ما يراد منها من المقاصد العقلائية، و أكثر العقود و الايقاعات إلّا ما شذّ منها، من هذا القسم. (كالبيع و الإجارة و النكاح و الطلاق و المضاربة و الهبة و المزارعة و المساقاة و غيرها).

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 3/ 194.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 194

و التعليق في هذه الموارد مخالف لعرف العقلاء، لو لم نقل مخالف لمفهوم هذه العقود، و الشارع قد امضاه، لعدم ردعه عنه.

2- قسم آخر يكون التعليق في طبيعتها لا ينفك منها. (كالتدبير و المكاتبة و الوصية التمليكية و النذر)، و هذا القسم لا يضرها التعليق؛ لأنّ هناك مصالح اقتضت تشريع هذه العقود في العرف و الشرع، كالحاجة إلي تعيين تكليف بعض الأموال بعد الوفاة، و حال العبد من حيث

الحرية في المستقبل، و شبه ذلك، و لذا أسسها العقلاء و أمضاها الشرع القويم، و ليعلم أنّ التعليق فيها في غير ما هو مقتضي طبيعتها، غير جائز أيضا.

3- قسم ثالث منها يكون فيها التعليق تارة و خال عنه اخري، و ذلك كالوكالة (أو التأمير) و لا يبعد جوازه فيها من بعض الجهات، و لكن في غير المتيقن منه، يحكم بالفساد بمقتضي القاعدة.

قد عرفت أنّ التعليق علي اقسام

قسم منها، ما هو معلق علي أمر مشكوك الحصول في المستقبل، و لا يعود إلي طبيعة العقد، كتعليق عقد الزواج علي مجي ء أخيه أو مساعدة المعاينات الطبيّة، فتقول المرأة:

زوجتك نفسي لو جاء أخي؛ أو لو كانت المعاينات مساعدة. فهذا القسم باطل قطعا؛ لما مرّ.

و الثاني، ما هو معلق علي أمر استقبالي قطعي الحصول، كالمثال السابق إذا علم بمجي ء اخيه، أو قالت: ان طلعت الشمس غدا، و امثال ذلك تعدّ لغوا.

و قسم ثالث، يكون التعليق علي امر مشكوك الحصول في الحال. و هذا علي قسمين:

ما يكون من شرائط صحة العقد، كقول الفضولي: بعتك هذا لو رضي مالكه؛ لو كانت هذه المرأة زوجتي طلقتها؛ أو لو كان هذه الدار ملكي و هبتها لك؛ و الظاهر عدم الاشكال في صحتها، لان هذه الشروط مندرجة في طبيعة العقد، و إلّا اشكل الامر في موارد الاحتياط في الزواج و الطلاق و شبههما.

و قسم رابع ما لا يكون كذلك، كالتعليق علي مجي ء الاخ حالا، مع عدم علمه بذلك

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 195

نفيا و اثباتا؛ و الظاهر بطلان ذلك أيضا.

و قسم خامس، يكون التعليق علي امر معلوم الحصول في الحال، و هو لغو. و غير ذلك مما يعلم حاله مما ذكرنا من الادلة.

التمييز بين الشروط و التعليق

قد يتوهم ان الشروط المأخوذة في العقود، كشرط السلامة من العيوب في الزوج أو الزوجة، أو عدم وجود زوج آخر له، أو عدم اخراجها من بلدها، كونها علي مستوي خاص من الدراسة، أو شبه ذلك، من قبيل التعليق في الانشاء؛ فكيف نري اتفاقهم في صحة امثال هذه الشروط مع اتفاقهم علي بطلان التعليق؟

و لكن الجواب عن هذا التوهم ظاهر، فانه فرق واضح بين تعليق الانشاء علي

شرط، و بين الشروط المأخوذة في ضمن العقد؛ فان الثاني قد يكون من سنخ الالتزام بشي ء في ضمن التزام آخر؛ و اخري يكون قيودا و شروطا في المنشأ لا الانشاء.

فان كان من قبيل الالتزام في الالتزام، معناه ان العاقد التزم بامرين، باصل النكاح و التزم في ضمنه بانه لا يخرج الزوجة عن بلدها، و اين ذلك من التعليق في اصل الانشاء.

و ان قلنا انها قيود و اوصاف في المنشأ، معناه انها زوجت نفسها مثلا للزوج الفلاني المتصف بصفات كذا، أو الزوجة مع صفات كذا، و كل ذلك أجنبية عن تعليق اصل الإنشاء كما هو واضح.

و لو جعلها في صورة التعليق في الإنشاء، بأن قالت: زوجتك نفسي إن كنت دكتورا في الطب؛ مثلا؛ أو إن كنت ذا ثروة كذا و كذا؛ بطلت. لعين ما مرّ سابقا.

الشروط الحافظة لحقوق الزوجة

و قد شاع بيننا في الأزمنة الأخيرة، اشتراط شروط كثيرة بنفع الزوجة، يناسب البحث عن صحتها أو عدم صحتها، بمناسبة ما مرّ من البحوث. فنقول و منه جل ثنائه التوفيق:

أوّلا، ان الطلاق و إن كان بيد الرجل، و لكن استفادة السوء منه و الاجحاف علي

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 196

النساء من ناحية الأزواج و هضم حقوقهن، تسبب لجعل هذه الشروط علي الرجال لحفظ حقوقهن، و منع الرجال عن الاضرار بهن مهما أمكن (و كم من تضييقات في الحقوق الاجتماعيّة تسبّبها سوء التدبير في الانتفاع بالحقوق المشروعة).

كثير من هذه الشروط (اثنا عشر شرطا) تعود إلي اعطاء حق الوكالة بلا عزل في ضمن عقد النكاح، أو عقد خارج لازم آخر، بان الزوج لو صار معتادا بالمواد المخدرة، أو جني جناية توجب إخلاده في السجن أو في زمن طويل، أو أساء

العشرة مع المرأة، أو شبه ذلك؛ كانت المرأة وكيلا، أو وكيلا في التوكيل، في طلاق نفسها.

و هناك شرط آخر، و هو أنّه لو طلقها من دون تقصير لها، كان علي الزوج اعطائها نفس أمواله التي اكتسبها بعد النكاح.

و لكن هذا الشرط، لا يخلو من إشكال؛ لما ذكر في محلّه أنّ الجهل في الشروط، يضر بصحّة الشرط، لأنّ عموم النهي عن الغرر يشمله. و قد ذكرنا في مباحث البيع، أنّ التقييد بالبيع الواردة في قوله عليه السّلام: نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن بيع الغرر. لو ثبت صحته، لا يضرنا بعد إمكان إلغاء الخصوصية عنه. لا سيما أنّه امضاء لبناء العقلاء في باب العقود و الايقاعات.

هذا مضافا إلي أنّ الجهل في الشروط قد يسري إلي أصل العقد، كبيع الحيوان بشرط تمليك ما في بطنه (و إن كان محل الكلام ليس من هذا القبيل). و راجع كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) في أبواب الشروط في أواخر أبواب الخيارات؛ فقد ذكر لصحة الشرط تسعة شروطا، سادسها عدم الجهالة؛ فانّه ينفعك في المقام.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 197

[المسألة 11: يشترط في العاقد المجري للصيغة، البلوغ و العقل]

اشارة

المسألة 11: يشترط في العاقد المجري للصيغة، البلوغ و العقل. فلا اعتبار بعقد الصبي و المجنون و لو ادواريا، حال جنونه؛ سواء عقدا لنفسهما أو لغيرهما. و الأحوط البناء علي سقوط عبارة الصبي. لكن لو قصد المميز المعني و عقد لغيره وكالة أو فضولا و اجاز؛ أو عقد لنفسه مع اذن الوليّ أو اجازته؛ أو اجاز هو بعد البلوغ يتخلص بالاحتياط. و كذا يعتبر فيه القصد، فلا اعتبار بعقد الساهي و الغالط و السكران و أشباههم. نعم في خصوص عقد السكري إذا عقبها الإجازة بعد افاقتها لا

يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

الشروط المعتبرة في العاقد

أقول: ذكر في هذه المسألة شروطا ثلاثة، في العاقد المجري للصيغة، و هي العقل و البلوغ و القصد؛ و مقابل الأول المجنون و لو ادواريا حال جنونه (الجنون المؤقت). و مقابل الثاني، غير البالغ و لو كان مراهقا. و مقابل الثالث، السكران أو الساهي و الغالط و الهازل (بناء علي كون المراد من القصد، القصد الجدّي كما هو الظاهر).

و علي كل حال، المشهور بين الأصحاب- كما صرّح به بعضهم- اعتبار البلوغ، و العقل بطريق اولي؛ بل صرّح في جامع المقاصد بأنّه: لا شبهة في أنّ العاقد كائنا من كان …

يشترط فيه البلوغ و العقل و الحريّة؛ فلو عقد الصبي لنفسه أو لغيره، لم يعتد بعبارته، و إن أجاز وليّه. و كذا الصبيّة، و كذا من به جنون ذكرا كان أو انثي، و في حكمه المغمي عليه و السكران. «1»

و أرسله في كشف اللثام ارسال المسلمات. «2» و كذا النراقي في المستند «3».

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 84.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 52، (2/ 13 ط. ق).

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 99.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 198

ما يدل علي اشتراط البلوغ في العاقد

و الذي يدل علي اشتراط البلوغ هنا، و في سائر العقود، امور:

1- بناء العقلاء من أهل العرف، علي عدم الاعتبار بتعهدات الصبي و المجنون و السكران و أشباههم، فلا يرونهم أهلا لذلك من دون فرق بين أرباب الملل و غيرهم. و هذا أمر واضح حتي في الامم السالفة علي الإسلام، علي اختلاف مشاربهم و مسالكهم. نعم، قد يكون بين الامم فرق في تعيين سنّ التكليف و لكن لا اختلاف بينهم في بطلان عقود الصغار و المجانين و السكران إذا سلب عقله

مطلقا؛ و قد امضاه الشارع المقدس، لعدم ردعه عنه بل تأييده، و هذا من أوضح الدليل علي المقصود، و إن لم يستند إليه الأصحاب في كتبهم.

2- حديث رفع القلم عن الثلاثة: عن الصبي حتي يحتلم، و عن المجنون حتي يفيق، و عن النائم حتي يستيقظ؛ و الحديث معروف و معمول به عند الأصحاب «1».

و قد أورد عليه، بأنّ المراد منه قلم التكليف، لا الأحكام الوضعيّة؛ و لهذا يضمن الغلام و الصبي لو أتلفا مال الغير.

و لكن الانصاف أنّه فرق بين الأحكام الوضعيّة الناشئة عن امور خارجية مثل اتلاف مال الغير، و بين التكاليف الناشئة عن تعهدات اختيارية؛ فإذا كان التكليف ساقطا عن الصبي كان العقود و العهود الباعثة علي أحكام و تكاليف أيضا ساقطة عنه.

3- الأحاديث الدالة علي أنّ عمد الصبي و خطاه واحد، (الواردة في الباب 11 من أبواب العاقلة و غيره). و قد يجاب عنها بانّها ليست ناظرة إلي جميع أحكام الصبيان المترتبة علي العمد، بل هي ناظرة إلي خصوص أبواب الديات؛ و لذا فسّر في بعض الروايات بقوله: عمد الصبيان خطا يحمل علي العاقلة. «2»

و لا أقل من الشك في عموم الحكم فيها، فتسقط عن الاستدلال.

4- ما يدل علي أن الصبي و الصّبيّة إذا بلغا يجوز أمرهما؛ و مفهومه أنّه قبل البلوغ

______________________________

(1). الوسائل 1/ 32، الحديث 11، الباب 4 من أبواب مقدمات العبادات.

(2). الوسائل 19/ 307، الحديث 3، الباب 11 من أبواب العاقلة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 199

لا يجوز أمره في شي ء. مثل ما رواه حمران، عن أبي جعفر عليه السّلام قال (في حديث): أنّ الجارية ليست مثل الغلام، أنّ الجارية إذا تزوجت و دخل بها و لها تسع سنين

ذهب عنها اليتم و دفع إليها مالها و جاز أمرها في الشراء و البيع … و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع، و لا يخرج من اليتم حتي يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك «1».

و الحديث و إن كان ضعيف السند، و لكن يمكن انجباره بعمل المشهور؛ و مورده و إن كان البيع و الشراء، و لكن الظاهر إلغاء الخصوصية القطعية عنه، لعدم الفرق بين البيع و النكاح من هذه الجهة.

هذا؛ و هل يستفاد من هذه الأدلة، أنّ الصغير لا يجوز أمره و لا يصح نكاحه مطلقا، سواء كان باذن الولي و إجازته؛ حتي لو كان المتولي لأمر النكاح هو الولي، و كان الصبي مجريا لإنشاء عقد النكاح فقط فلا يصح عقده لنفسه باذن الولي و لا لغيره بعنوان الوكالة في إجراء الإنشاء فقط؛ و بعبارة اخري هل يكون الصغير مسلوب العبارة.

الظاهر من الأدلة، نفي جواز أمره مطلقا، لا خصوص استقلاله به، فلا يجوز وكالته عن الغير في إجراء العقد، لأن الوكالة عقد من العقود لا يصح من الصبي؛ و كذا لنفسه باجازة الولي. و لا أقل من الشك، فيحكم بالفساد. و شمول عمومات وجوب الوفاء بالعقود له بعيد جدا.

ما يدل علي اعتبار العقل في العاقد

و أمّا اعتبار العقل فهو أظهر، لعدم الخلاف فيه بين الفقهاء، و لجريان بناء العقلاء عليه، فلا يقبل أحد منهم عقود المجانين و تعهداتهم سواء كانت لهم أو عليهم، و يدل عليه أيضا حديث رفع القلم بالبيان الذي ذكرناه.

و من الواضح عدم الفرق بين أقسام الجنون بعد وحدة الملاك و كذا ما يشبه الجنون من

______________________________

(1). الوسائل 13/ 142، الحديث 1، الباب 2 من أبواب احكام الحجر.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 200

النوم أو الاغماء أو السكر، لاتحاد الجميع فيما ذكر.

نعم، هناك رواية صحيحة تدل علي أنّ السكري إذا أفاقت و أجازت النكاح، صح أمرها؛ و هي ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام «1» عن ابتليت بشرب النبيذ، فسكرت، فزوجت نفسها رجلا في سكرها، ثم أفاقت فانكرت ذلك، ثم ظنّت أنّه يلزمها ففزعت منه فاقامت مع الرجل علي ذلك التزويج؛ أ حلال هو لها، أم التزويج فاسد لمكان السكر و لا سبيل للزواج عليها؟ فقال: إذا قامت معه بعد ما فاقت، فهو رضا منها. قلت: و يجوز ذلك التزويج عليها؟ قال: نعم «2».

و حاصل الرواية صحة إنشاء السكري و إن لم يعتبر رضاها حال السكر، و لكن إذا لحقه الرضا، كفي.

هذا؛ و الرواية و إن كانت صحيح السند و لكنها مخالفة للقواعد من جهات ثلاث:

1- السكري ليس له قصد، فكيف يصح إنشاء العقد منه.

2- في مفروض الرواية، انكار السكري بعد الإفاقة، فلا يصح الحاق الرضا به، كما صرحوا به في الفضولي.

3- المفروض أنّ رضاها بالعقد، كان بتخيل صحة العقد، و لو لا هذا التخيل لما رضيت به، و من المعلوم أنّ مثل هذا الرضا غير كاف؛ كمن رضي بعقد الفضولي بتوهم إن المشتري أخوه ثم تبيّن خلافه.

و من هنا اختلف مواقف الأصحاب في مقابل الرواية؛ فقد صرّح بعضهم بلزوم طرح الرواية لمخالفتها للقواعد المسلمة في الفقه. قال في الرياض: إلّا أنها لمخالفتها الاصول القطعية المعتضدة- في خصوص المقام- بالشهرة العظيمة، لا يجوز التعويل عليها في مقابلها و تخصيصها به … فطرحها رأسا أو حملها علي ما في المختلف و غيره- و إن بعد- متعين. «3»

______________________________

(1).

و المراد منه، هو أبو الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام، فان ابن بزيع ادرك ثلاثة من أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة و السلام)، الكاظم و الرضا و الجواد، و له روايات كثيرة، 229 موردا.

(2). الوسائل 14/ 221، الحديث 1، الباب 14 من أبواب عقد النكاح.

(3). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 45،، (2/ 69 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 201

و في مقابل هذا القول، صاحب الحدائق؛ حيث صرّح بلزوم العمل بها و تخصيص القواعد بها حيث قال: و كيف كان ففي ذلك تأييد لما قدمناه في غير موضع من أنّ الواجب العمل بالرواية و أن يخصص بها عموم ما دلت عليه تلك القواعد المذكورة. «1»

و قد اختار جمع من محققي الاصحاب توجيه الرواية- بدل طرحها أو قبولها- و حملها علي ما لا ينافي القواعد المعروفة المعتبرة من الشرع و ذكروا للتوجيه طرقا.

منها- حمل الرواية علي بيان الحكم الظاهري، بأن يقال إنّه إذا عقدت المرأة علي نفسها و مكنت الزوج من الدخول و إقامت معها مدّة قصيرة أو طويلة، ثم ادعت إن عقدها كان في حال السكر، لم يسمع منها بلا بينة شرعية، فله الزامها بحقوق الزوجية (هذا هو الذي ذكره في كشف اللثام).

و منها- أن يقال أنّها تدل علي كفاية مجرد الرضا بالزوجية لا لأجل ما فعل في حال السكر، بل لأجل الرضا بعده عدم اشتراط لفظ (ذكر هذا الاحتمال المحقق النراقي في المستند).

و منها- حملها علي سكر لم يبلغ حد عدم التحصيل، كما عن المختلف؛ فإنّ للسكر مراتب مختلفة، في بعضها يكون السكران كالنائم الذي يتكلم في نومه، و في بعضها يعقل و يفهم و إن كان في نشأة

من الخمر، و من ذلك قوله تعالي: لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰاريٰ. «2»

أقول: كل هذه المحامل بعيدة جدا؛ أما الأول فلوضوح مخالفته لصريح الرواية، فليس فيها من الحكم الظاهري عين و لا أثر، بل صريحها بيان حكم المرأة بالنسبة إلي نفسها، لا حكم الزوج بالنسبة اليها.

و أمّا الثاني، فلان كفاية مجرد الرضا، مع مخالفته لما عليه الأصحاب من لزوم اللفظ في النكاح، مخالف لنفس الرواية. لان سؤال الراوي عن النكاح الواقع حال السكر؛ فاجاب عليه السّلام بأنّه يجوز ذلك التزويج عليها بعد رضاها.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 175.

(2). النساء/ 43.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 202

و أمّا الثالث، فلأنّ مقتضاه عدم الحاجة إلي الرضا بعد الافاقة، مع أنّ صريح الرواية خلافها.

فالاولي طرحها و رد علمها إلي أهلها، لمكان مخالفتها للقواعد المسلمة. توضيح ذلك أنّ المراد من القواعد هنا، الاصول المسلمة الثابتة من الكتاب و السنة و بناء العقلاء الممضي من قبل الشارع المقدس؛ فان مفروض السؤال عدم تمشي القصد من السكري، فلا يصح عقدها؛ فانّه لو تمشي منه القصد لم يحتج إلي الرضا بعده مع أنّ صريح الرواية اعتبار الرضا المتأخر. و الاكتفاء بمجرد الرضا من دون عقد و لفظ، مخالف لقولهم باعتبار اللفظ فيه؛ و قد ورد ذلك في روايات كثيرة.

و مخالفة هذه الاصول المسلمة و إن لم يكن محالا، إلّا أنّه لا يمكن إثباته بمجرد خبر واحد اعرض كثير من الأصحاب عن الفتوي به.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 203

[المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين]

اشارة

المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين علي وجه يمتازان عن غيرهما بالاسم أو الإشارة أو الوصف الموجب لذلك، فلو قال: زوجتك احدي بناتي؛ أو قال: زوجت

بنتي فلانة من أحد بنيك؛ أو من أحد هذين؛ بطل.

نعم، يشكل فيما لو كانا معينين بحسب قصد المتعاقدين و متميزين في ذهنهما لكن لم يعيّناهما عند إجراء الصيغة و لم يكن ما يدل عليه من لفظ أو فعل أو قرينة خارجية؛ كما إذا تقاولا و تعاهدا علي تزويج بنته الكبري من ابنه الكبير، و لكن في مقام إجراء الصيغة، قال: زوجت احدي بناتي من أحد بنيك؛ و قبل الآخر.

نعم، لو تقاولا و تعاهدا علي واحدة، فعقدا مبنيّا عليه، فالظاهر الصحة. كما إذا قال بعد التقاول: زوجت ابنتي منك؛ دون أن يقول: زوجت احدي بناتي.

تعيين كل واحد من الزوجين شرط في صحة العقد

أقول: لزوم تعيين كل من الزوجين، مما اتفقت عليهم كلماتهم؛ كما يظهر من الجواهر، و كشف اللثام، و غيره؛ قال في المستمسك إجماعا كما في التذكرة- و اتفاقا- كما في كشف اللثام و في الجواهر حكاه عن غير واحد و في الحدائق نسبته إليهم. «1»

قال في كشف اللثام: و لو زوجهما الوليّ افتقر العقد أو الولي فيه اتفاقا، إلي تعيينها؛ كما لا بدّ من تعيين الزوج مطلقا أمّا بالإشارة أو الاسم أو الوصف الرافع للاشتراك. «2» و أرسله ابن ادريس ارسال المسلّمات. و المراد بذكر الاسم، أن يقول مثلا: زوجتك ابنتي فاطمة؛ و بالوصف، أن يقول مثلا: بنتي الكبري؛ و بالإشارة، أن يقول: بنتي هذا.

أدلّة المسألة

و الذي يدل عليه، مضافا إلي ما ذكر امور:

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 392.

(2). الفاضل الهندي، في كشف اللثام 7/ 49، (2/ 13 ط. ق).

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 204

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 204

1- النهي عن الغرر، سواء كان الحديث بهذه الصورة (نهي النبي صلّي اللّه عليه و آله عن الغرر) أو كان واردا في خصوص البيع، و لكن يمكن إلغاء الخصوصية عنه قطعا.

2- الزوجية معاهدة بين اثنين، و كل منهما يتعهد امورا مهمة و لا معني للتعهد بين إنسان معين و إنسان مجهول؛ أو إنسانين مجهولين كما أنّه لا يمكن تمليك داره بواحد غير معين، و هذا أمر واضح.

3- بناء العقلاء في جميع الامور أيضا علي ذلك، فلم يعهد من أحد منهم نكاح

فرد غير معين ثم تعيينه بالقرعة و شبهها.

نعم، هناك رواية صحيحة قد يتوهم منها المخالفة لما ذكر، و هي صحيحة أبي عبيدة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن رجل كان له ثلاث بنات ابكار، فزوج إحداهن رجلا و لم يسمّ التي زوج، للزوج و لا للشهود، و قد كان الزوج فرض لها صداقها؛ فلما بلغ ادخالها علي الزوج بلغ الزوج انها الكبري من الثلاثة، فقال الزوج لأبيها: إنّما تزوجت منك الصغيرة من بناتك! فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن كان الزوج رءاهن كلهنّ و لم يسم له واحدة منهن، فالقول في ذلك قول الأب؛ و علي الأب فيما بينه و بين الله ان يدفع إلي الزوج، الجارية التي كان نوي ان يزوجها إيّاه عند عقدة النكاح؛ و إن كان الزوج لم يرهن كلّهن و لم يسم له واحدة منهن عند عقدة النكاح، فالنكاح باطل. «1»

و قال في الحدائق، بعد ذكر لزوم تعيين الزوج و الزوجة بحسب القواعد الشرعيّة: أنّ الرواية المذكورة بحسب ظاهرها خارجة عن ذلك، و منافية لما ذكرناه، لأنّها تدل علي أنّ رؤية الزوج لهن كافية في الصحة و الرجوع إلي ما عينه الأب.- ثم ذكر في ذيل كلامه بعد الإشارة إلي اضطراب كلمات المتأخرين في تفسير الرواية- و الحق الحقيق بالاتباع و إن كان قليل الاتباع، هو العمل بالخبر، صح سنده باصطلاحهم أو لم يصح، مهما أمكن أو في مثل هذه المواضع، تخصص به تلك الأخبار الدالة علي تلك القواعد. «2»

و لكن الانصاف أنّ الرواية علي خلاف ما ذكره أدلّ، و هي موافقة للقواعد، لأنّ

______________________________

(1). الوسائل 14/ 222، الحديث 1، الباب 15 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة

23/ 179 إلي 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 205

ظاهرها هو ايكال امر التعيين إلي الأب، و أنّه عينها في قصده، و لو لم يعينها بطل. فاذا رأي الجميع و رضي بكل واحدة منهن، و أو كل أمر التعيين إلي الأب، فالتعيين قد حصل و لزم العقد، يجب قبول قول الأب. و الله العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 206

[المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة]

اشارة

المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة؛ يتبع العقد لما هو المقصود، و يلغي ما وقع غلطا و خطأ. فاذا كان المقصود تزويج البنت الكبري، و تخيل أنّ اسمها فاطمة، و كانت المسمي بفاطمة هي الصغري، و كانت الكبري مسماة بخديجة، و قال: زوجتك الكبري من بناتي فاطمة؛ وقع العقد علي الكبري التي اسمها خديجة، و يلغي تسميتها بفاطمة.

و إن كان المقصود تزويج فاطمة، و تخيّل أنّها الكبري، فتبين أنّها الصغري، وقع العقد علي المسماة بفاطمة و الغي وصفها بانها الكبري.

و كذا لو كان المقصود تزويج المرأة الحاضرة، و تخيل أنّها كبري، و اسمها فاطمة؛ فقال: زوجتك هذه و هي فاطمة و هي الكبري من بناتي؛ فتبين أنّها الصغري و اسمها خديجة، وقع العقد علي المشار إليها، و يلغي الاسم و الوصف.

و لو كان المقصود العقد علي الكبري، فلمّا تخيّل أنّ هذه المرأة الحاضرة هي تلك الكبري، قال: زوجتك هذه و هي الكبري؛ لا يقع العقد علي الكبري بلا إشكال، و في وقوعه علي المشار إليها وجه، لكن لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

تعارض علامات تعيين الزوجين

أقول: قد مرّ في المسألة الثانية عشرة، لزوم تعيين الزوجين علي وجه يرفع الابهام من البين، و ذلك يكون بأحد امور ثلاثة: بالاسم، كفاطمة و خديجة؛ و بالوصف، كالكبري و الصغري؛ و بالإشارة، كهذه و تلك؛ و أنّه إذا ابهم العاقد كان العقد باطلا؛ و إذا اجتمعت هذه الامور الثلاثة أو الاثنان منها و كانت متوافقة، فلا كلام؛ و لو تعارضت فما الحكم فيها؟

و لم يتعرض للمسألة إلّا قليل منهم، كالعلّامة في التذكرة فيما حكاه في المستمسك (ج 14/ 394)، و صاحب الجواهر (ج

29/ 159)، و صاحب العروة (في المسألة 18 من احكام العقد) و قد ذكرها الشارحون للعروة؛ بل يظهر من كلام التذكرة كون المسألة مذكورة في كلام الشافعي (و أشباهه) أيضا. و علي كل حال، ذكر في المتن- بعد التصريح

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 207

بأنّ المدار، علي ما هو المقصود؛ و أنّ العقد بتبع القصد؛- صورا أربعة:

صور العقد و القصد

1- إذا كان المقصود الأصلي هو الموصوف بالوصف- كالكبري- و لكن تخيل أنّ اسمها فاطمة، فقال: زوجت البنت الكبري المسماة بفاطمة؛ فيقع العقد علي الكبري، و يلغي الاسم. و الوجه فيه ظاهر، فانّ العقود تابعة للقصود؛ و ينبغي أن يضاف إليه انّ اللازم توافق الطرفين علي المورد من قبل بالمقاولة و شبهها.

2- إذا كان المقصود تزويج المسمي بفاطمة، و تخيل أنّها الكبري و لكن كانت هي الصغري، فقال: زوجت بنتي الكبري فاطمة …؛ وقع العقد علي فاطمة. (و هذه الصورة، عكس الاولي) و يظهر الوجه فيها ممّا مرّ في السابقة؛ لأنّ حقيقة العقد، التوافق علي شي ء و هو حاصل هنا، فيدخل تحت أدلة وجوب الوفاء بالعقود.

3- إذا كان المقصود تزويج المراة الحاضرة، فقد رآها و استحسنها؛ فقال العاقد:

زوجت هذه المرأة المسماة بفاطمة أو الموصوفة بأنّها الكبري من بنات فلان؛ وقع العقد علي الحاضرة، و لغي الوصف و الاسم. و الدليل عليه هو شمول الاطلاقات له أيضا، بعد صدق عنوان العقد أو عقد النكاح عليه، و لم يمنع منه مانع. و هذه كلّها ظاهرة؛ إنّما الكلام في الوجه الأخير و هو:

4- إذا كان المقصود العقد علي المسمي بفاطمة أو الموصوف بصفة الكبري، و تخيل أن الحاضرة هي التي أرادها، فقال العاقد: زوجتك هذه و هي الكبري و هي

فاطمة؛ و لم تكن، صرّح في المتن بعدم وقوعه لما قصده؛ و في وقوعه للمشار تردد؛ ثم حكم بالاحتياط. و ظاهر هذا الكلام سقوط قاعدة تبعيّة العقود للقصود هنا من جهتين، من جهة عدم وقوعه للمقصود، و من جهة احتمال وقوعه لما لم يكن مقصودا. أمّا الأول؛ فالوجه فيه أنّ الصور الثلاثة الاولي، كان المقصود فيها موردا للإنشاء، فإنشاء العقد علي المسمي مثلا و أن تخيل أنّها الكبري فوصفها بالكبري، و لكن هنا إنشاء العقد علي الحاضر، لا علي الموصوف أو المسمي و أن تخيل أنّها كذلك، فبطلان العقد بالنسبة إليه، لعدم تحقق

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 208

العقد بالنسبة إليه، و هو وجه وجيه.

و أمّا احتمال وقوع العقد علي المشار إليها، فلوقوع العقد عليها فيما هو المفروض، و إن كان السبب فيه، الخطأ في التطبيق.

و لكن الانصاف بطلان العقد بالنسبة إليها لعدم كونها مقصودة. و إن هو إلّا مثل إذن الدخول في الدار، للحاضر، و قال له ادخل يا هذا؛ بظنّ أنّه أخوه و لكن كان أجنبيّا. فهل يرضي أحد بأن يقول، يجوز له دخول الدار، لرضاه بذلك؛ و كذا إذا قال للحاضر: أنت وكيلي في بيع داري؛ بظنّ أنّ المخاطب هو أخوه أو عمّه أو خاله، و لكن كان في الواقع من اعدائه أو من السارقين. فهل يرضي أحد بأن يقول بصحة الوكالة له؟!

فتحصل ممّا ذكرنا، ان ما ذكره في المتن صحيح إلّا في الصورة الأخيرة، فالاحتياط أيضا لا وجه له، و قد وقفنا بعد ما ذكر، علي رواية واردة في خصوص الخطأ في ذكر الاسم، و هي ما رواه محمد بن شعيب؛ قال: كتبت إليه أنّ رجلا خطب إلي ابن عم

له، ابنته، فامر بعض اخوانه أن يزوجه ابنته التي خطبها، و أنّ الرجل أخطأ باسم الجارية، فسماها بغير اسمها، و كان اسمها فاطمة فسماها بغير اسمها، و ليس للرجل ابنة باسم الذي ذكر المزوّج. فوقع: لا بأس به. «1» و لكن سندها ضعيف بمحمد بن شعيب (المجهول) مضافا إلي اضماره، و لكن تؤيد المقصود.

*** بقي هنا شي ء: مقالة السيد الحكيم في المقام

أن سيّدنا الاستاذ الحكيم، بني المسألة علي وحدة المطلوب و تعدده، فان قلنا بأنّ المسألة من قبيل الأول، بطل العقد؛ و علي الثاني، يصح. قال في المستمسك: و منشأ الإشكال هو أنّ القيد، أخذ علي نحو تعدد المطلوب، أو وحدته؛ فعلي الأول، يصح و علي الثاني، يبطل. و لا ينبغي التأمل في أنّ المرتكزات العرفية تقتضي الأول (أي تعدد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 224، الحديث 1، الباب 20 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 209

المطلوب). و لذا بنوا مع تخلف الشرط، علي صحة العقد و خيار الشرط … نعم، إذا كان القيد مقوما للموضوع عرفا، و ذاتيا من ذاتياته، بطل العقد بفقده. «1»

و حاصل كلامه أنّ القيود علي قسمين؛ قسم منها من قبيل تعدد المطلوب، لا بحسب إرادة الأشخاص حتي تكون تابعة لها، بل بحسب عرف العقلاء. مثلا، إذا قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبان فرسا غير عربي، كان العقد صحيحا؛ لأنّ عنوان الفرس و عنوان العربي مطلوبان مستقلان بحسب نظر العقلاء في الغالب، فيحكمون بصحة العقد مع خيار تخلف الشرط. و لكن لو قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبانّ حمارا، فاختلاف الفرس و الحمار في حدّ يعد أحدهما مباينا عن الآخر، لا من قبيل تعدد المطلوب. فعلي هذا لو كان قول العاقد زوجتك هذه فاطمة؛ و أشار إليها

و كان اسمها زينب؛ فإن قلنا بانّه من قبيل تعدد المطلوب كان صحيحا، و إلّا كان باطلا.

و فيه أنّ وحدة المطلوب و تعدده أجنبي ممّا نحن فيه، و إنّما هو في الأوصاف المرغوبة المتعددة و ليس المقام كذلك، فان تسميته بفاطمة مثلا ليست مطلوبة مستقلة، بل كلّ هذه الأوصاف و الاسماء تشير إلي فرد خاص في الخارج فهي من قبيل العنوان المشير، لا الوصف المطلوب.

و إن شئت قلت؛ المفروض أنّه يريد امرأة خاصة وافق عليها من قبل، و لكن تخيل اسمها فاطمة (مثلا) أو أنّها هي الكبري (مثلا)، و لا شك أنّ غير تلك المرأة مباينة لها؛ و أين هذا من تعدد المطلوب.

***

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 395.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 210

[المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح]

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح من طرف واحد أو من طرفين، بتوكيل الزوج أو الزوجة إن كانا كاملين، أو بتوكيل وليّهما إن كانا قاصرين. و يجب علي الوكيل أن لا يتعدي عمّا عينه الموكل من حيث الشخص و المهر و سائر الخصوصيّات. فان تعدي، كان فضوليا موقوفا علي الاجازة. و كذا يجب عليه مراعاة مصلحة الموكل، فإن تعدي و أتي بما هو خلاف المصلحة، كان فضوليا. نعم، لو عيّن خصوصية تعينت و نفذ عمل الوكيل و إن كان علي خلاف مصلحة الموكّل.

التوكيل في النكاح

أقول: هذه المسألة في الواقع تشتمل علي فروع ثلاثة: أولها، جواز التوكيل في النكاح. ثانيها، وظيفة الوكيل في قبال الموكل. و ثالثها، حكمه إذا تعدي عن وظيفته. و هذه المسألة غير مسألة جواز تولي طرفي العقد لفرد واحد؛ فانّها ستأتي في المسألة 16.

الفرع الاول: جواز الوكالة من طرف الزوج أو الزوجة أو كليهما

أي أصل جواز الوكالة في العقد من طرف الزوج أو الزوجة أو من كلا الطرفين (بأن يكون إنشاء العقد من قبل الوكيلين)؛ فالظاهر أنّه ممّا لا كلام فيه و لا إشكال و ارسلوه ارسال المسلمات. و لو كان بينهم فيه كلام فانّما هو في فروع الوكالة، مثل حكم التعدي أو عدم رعاية المصلحة أو زوّجها الوكيل لنفسه و غير ذلك، بل الغالب بين المسلمين إجراء الصيغة من ناحية الوكيلين، فقد جرت سيرتهم علي ذلك.

و يدل عليه عمومات أدلة الوكالة، أولا؛ و ما ورد في خصوص النكاح، ثانيا؛ و هو أيضا؛ علي قسمين: الأول، هو الروايات الكثيرة الواردة في موارد خاصة تدل جميعها علي جواز التوكيل في أمر النكاح. مثل:

1- ما ورد في قصة نكاح أمير المؤمنين عليه السّلام؛ فانّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان وكيلا من ناحية

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 211

سيّدة نساء العالمين، و فيها: و هذا محمد بن عبد اللّه صلّي اللّه عليه و آله زوجني ابنته فاطمة عليها السّلام … «1»

2- ما ورد في قصة تزويج الإمام الجواد عليه السّلام، و فيها: هذا أمير المؤمنين، زوجني ابنته علي ما فرض اللّه. «2»

3- ما ورد في قصة تزويج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله امرأة جاءت إليه، فسألته تزويجها رجل؛ إلي أن قال- زوجتكها علي ما تحسن من القرآن. فعلّمها إياه «3».

4- ما ورد

في قصة امرأة اراد أمير المؤمنين علي عليه السّلام أن يزوجها من شاب؛ فقال لها:

أ لك وليّ؟ قالت: نعم، هؤلاء اخوتي. فقال لهم: أمري فيكم و في اختكم جائز؟ قالوا: نعم.

فقال علي عليه السّلام: أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين، أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام … «4»

إلي غير ذلك من أشباهه.

الثاني، ما ورد في أبواب مختلفة، في حكم الوكيل إذا خالف ما أمر به. «5» و ما ورد في حكمه إذا اخطأ في التسمية. «6» و حكمه إذا كان صغيرا لم يبلغ الحلم. «7» و ما ورد في عدم جواز تعدي الوكيل عمّا عين له. «8»

إلي غير ذلك.

و المستفاد من الجميع، أنّ الوكالة في النكاح، كانت من الامور المسلّمة بين المسلمين.

و لذا لم يسأل السائلون عنها؛ و إنّما سألوا عن فروعها و بعض ما يرتبط بها، و الأئمة المعصومون لم يردعوهم عن ذلك، بل قبلوا منهم.

______________________________

(1). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل، 14/ 311، الحديث 16798.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 2، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 196، الحديث 6، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 228، الحديث 1، الباب 26 من أبواب عقد النكاح.

(6). الوسائل 14/ 224، الحديث 1، الباب 20 من أبواب عقد النكاح.

(7). الوسائل 14/ 222، الحديث 1، الباب 16 من أبواب عقد النكاح.

(8). الوسائل 14/ 216، الأحاديث، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 212

الفرع الثاني: لزوم رعاية مصلحة الموكل

و أمّا الفرع الثاني، فهو أيضا ظاهر، لأنّه منصوب لذلك لا غير. و إن شئت قلت؛ الوكيل بمنزلة الموكل، فكما أنّه لا

يقدم علي ما يخالف مصلحته فكذلك الوكيل، بل قد يكون الانسان فاعلا لبعض ما يضاد منافعه لبعض الأغراض المعنوية أو لرجاء ثواب اللّه، و لكن الوكيل لا يجوز له ذلك، كما هو واضح. فلو خالف مصلحته، فالعقد أيضا فضوليّ لا أثر له بدون الإجازة.

و ليعلم أنّ هذا الفرع إنّما يكون في فرض اطلاق الوكالة، كان يقول: أخطب لي زوجة، من دون تعين الزوجة أو مهرها. و أمّا لو عيّن شخصا و مهرا، فانّه يجوز للوكيل العقد عليها و إن كان علي خلاف مصلحة الموكل، لشمول أدلة الوكالة له.

و أمّا الفرع الثالث، أي عدم جواز تعدي الوكيل عن مورد الوكالة

و إن تعدي كان فضوليا فهو من الواضحات لأنّه مقتضي الوكالة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 213

[المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه]

اشارة

المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه، إلّا إذا صرّحت بالتعميم، أو كان كلامها بحسب متفاهم العرف ظاهرا في العموم بحيث يشمله نفسه.

مقتضي اطلاق الوكالة في النكاح

أقول: قد وقع الكلام في المسألة في كلمات الاصحاب تبعا لبعض الروايات الواردة فيها. و يظهر من كلام النراقي في المستند «1» كونه إجماعيا في الجملة؛ كما يظهر من كلام الشهيد الثاني في المسالك، «2» عدم الخلاف فيها كذلك.

صور خمسة في المسألة

و جملة القول فيها أنّ للمسألة صورا خمسة:

1- إذا وكلت المرأة احدا في تزويجها لرجل معين.

2- إذا وكلت المرأة و اطلقت.

3- إذا صرحت بالعموم، بقولها زوجني ممن شئت.

4- إذا صرحت أكثر من ذلك، بأن قالت: زوجني ممّن شئت حتي من نفسك.

5- إذا قالت: زوجني لنفسك خاصّة.

حكم الصورة الاولي و الثانية

لا إشكال في عدم جواز تزويجها لنفسه في الصورة الاولي؛ و إلّا كان فضوليا.

و قد صرّح غير واحد بعدم الجواز في الثانية (صورة الاطلاق)، و هي التي ادعوا الإجماع أو عدم الخلاف فيها، و الذي يستدل به علي عدم الجواز أمران:

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 146.

(2). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 152.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 214

الأول: انصراف اطلاق الوكالة إلي غير الوكيل، فانّ ظاهرها اختلاف الزوج و المزوّج.

الثاني: روايات؛ منها،

صحيحتا الحلبي و الكناني؛ ففي الاولي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة ولّت أمرها رجلا، فقالت: زوجني فلانا. فقال: لا ازوجك حتي تشهدي لي أنّ أمرك بيدي؛ فاشهدت له. فقال عند التّزويج للذي يخطبها: يا فلان عليك كذا و كذا؛ قال: نعم.

فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك لها عندي، و قد زوجتها نفسي. فقالت المرأة: لا و لا كرامة؛ و ما أمري إلّا بيدي، و ما وليتك أمري إلّا حياء من الكلام. قال: تنزع منه و يوجع رأسه «1».

و الاستدلال به مشكل جدا؛ و ذلك لأنّ مفروض الرواية بحسب الظاهر، كونها من القسم الأول. و أنّ الوكيل دلّس الأمر علي المرأة في قوله: أمرك بيدي؛ و لم تكن راضية بذلك. و اذا، لمّا عرفت الحال، تبرئت منه. و من هنا امر الإمام عليه السّلام بتعزيره أيضا.

و مثله رواية الكناني، علي ما ذكره

صاحب الوسائل ذيل الرواية الاولي.

و منها، ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن امرأة تكون في أهل بيت فتكره أن يعلم بها أهل بيتها، أ يحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها؟ تقول له: قد وكلتك فاشهد علي تزويجي. قال: لا. قلت له: جعلت فداك و إن كانت أيّما. قال: و إن كانت أيّما قلت: فان وكلت غيره بتزويجها (فيزوجها) منه. قال: نعم «2».

بناء علي أنّه إذا لم يجز في صورة التصريح بخصوص اسم الوكيل، فعدم الجواز عند الاطلاق أوضح. و بعبارة اخري، هذه الرواية و إن كانت ناظرة إلي الصورة الخامسة و لكن يمكن استنباط حكم الصورة الثانية و ما بعدها منها بمقتضي الأولوية.

و لكن سيأتي أنّ هذه الرواية في موردها معرض عنها عند المشهور؛ و لهم كلام في سندها، فانّه رواها الشيخ، في التهذيب، باسناده إلي محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام الخ. و نقد سند الحديث هكذا:

______________________________

(1). الوسائل 14/ 216، الحديث 1، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 217، الحديث 4، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 215

1- أمّا طريق الشيخ، إلي محمد بن علي بن محبوب، فالظاهر أنّه صحيح.

2- أمّا ابن محبوب، فهو شيخ القميين في زمانه، ثقة، عين، فقيه، صحيح المذهب.

(علي ما ذكره النجاشي و العلّامة في الخلاصة).

3- و أمّا أحمد بن الحسن، فهو أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال، بقرينة روايته عن عمرو بن سعيد، فهو من الفطحيين، غير أنّه ثقة. (كما عن

النجاشي و الشيخ و العلامة).

4- أمّا عمرو بن سعيد، فهو المدائني، فقد وثقه النجاشي، و العلّامة، لكن حكي الكشي عن بعض (نصر بن الصباح) أنّه فطحي؛ ثم قال: و نصر، لا أعتمد علي قوله؛ و الظاهر أنّه مستند إلي كون نصر من الغلاة علي ما ذكروه في الرجال؛ و لم يوثقه أحد فيما رأيناه.

5- أمّا مصدق، و عمار، كلاهما فطحيان و لكنهما ثقتان؛ فالسند و إن كان مشتملا علي جماعة من الفطحيين و لكنهم ثقات، لا يضر ذلك بقبول روايتهم. و لكن العمدة اعراض الأصحاب عن العمل بها، حتي في موردها، لا ضعف سندها كما ذكره غير واحد.

و أمّا دلالتها، فإنّما يمكن الاستدلال بها في بدء النظر؛ أمّا عند التأمل، فليس فيها إلّا الوكالة في الشهادة علي التزويج، لا نفس التزويج، و هذا غير كاف؛ لأنّ الشهادة علي التزويج التي تكون مستحبا عندنا لا تشمل الزوج أو الزوجة. و يمكن أن يكون المنع، لتولي طرفي العقد من شخص واحد بناء علي منعه، أو تحمل علي التقية أو شبه ذلك؛ فالعمل بمفادها هنا- كما ذكره في الحدائق- ممنوع.

فالعمدة في المقام، هي انصراف الاطلاق إلي غير الوكيل؛ و لو فرض الشك كان الحكم عدم الشمول، فانّ الشمول هو الذي يحتاج إلي دليل.

حكم الصورة الثالثة و الرابعة

و أمّا الصورة الثالثة و الرابعة (المصرحة بالعموم، و المصرحة بشموله حتي للوكيل)، مقتضي القاعدة فيهما صحة الوكالة و النكاح، لأنّ المانع و هو الانصراف قد ارتفع، و أمّا الاستناد في عدم الجواز إلي الروايات السابقة، فقد عرفت حالها و عدم كفايتها.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 216

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا وكّلها لتزويجها لنفسه فقط، فقد صرح في الحدائق بعدم الجواز استنادا إلي رواية عمار، و قال: الظاهر، أنّه لا وجه لذلك إلّا من حيث كونه موجبا قابلا «1».

هذا؛ و قد عرفت عدم إمكان العمل بالرواية لإبهامها في نفسها، و اعراض الأصحاب عنها، و إن كان الاحوط كون الوكيل غير الزوج.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل يأتي هذا الكلام في عكس المسألة، و هو ما إذا و كل الزوج الزوجة في تزويجه، فعقدته لنفسها؟ الظاهر أنّ ما ذكرنا من مقتضي القاعدة يأتي فيها، و أمّا رواية عمار، لو فرض العمل بها في مورده تعبدا، يشكل التعدي منها إلي صورة العكس؛ اللّهم إلّا أن يقال بالفحوي. و اللّه العالم.

***

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 250.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 217

[المسألة 16: الأقوي جواز تولّي شخص واحد طرفي العقد]

اشارة

المسألة 16: الأقوي جواز تولّي شخص واحد طرفي العقد، بأن يكون موجبا و قابلا من الطرفين؛ أصالة من طرف، و وكالة من آخر؛ أو ولاية من الطرفين؛ أو وكالة عنهما؛ أو بالاختلاف؛ و إن كان الأحوط الاولي مع الامكان، تولي اثنين و عدم تولي شخص واحد من الطرفين، خصوصا في تولّي الزوج طرفي العقد، اصالة من طرفه و وكالة عن الزوجة في عقد الانقطاع؛ فإنه لا يخلو عن إشكال غير معتد به، لكن لا ينبغي فيه ترك الاحتياط.

تولّي شخص واحد طرفي العقد

أقول: هذه المسألة كثيرا ما يقع محل الابتلاء، و يكثر البلوي بها، إذا لم يوجد العارف بإجراء صيغ العقود إلّا واحدا؛ أو يراد التبرك برجل إلهي لإجراء طرفي العقد؛ أو غير ذلك.

و قد حكي النراقي في المستند، عن المسالك، عدم الخلاف فيه، و أنّه ذهب الفاضلان و فخر المحقّقين و الشهيدان إلي الجواز. ثم حكي عن إيضاح الفوائد عن بعض علمائنا، المنع منه؛ ثم قال: و هو الأقوي «1».

و في الرياض: الأشبه الأشهر كما عن الإسكافي … الجواز (أي جواز تزويج الوكيل لنفسه)، و لو لزم تولية طرفي العقد. «2» و يظهر من الجواهر في ذيل المسألة السابقة أيضا، الجواز و ادعي عدم وجدان الخلاف فيه. «3»

أدلّة الجواز

و كنّا في سالف الزمان ممن يميل إلي المنع، ثم رجعنا عنه و أفتينا بالجواز.

و استدل للجواز، بعمومات أدلة الولاية و الوكالة؛ فانّ المستفاد منها جواز تزويج الوليّ

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 148.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 110 (2/ 81 ط. ق).

(3). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 196.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 218

و الوكيل عن اثنين؛ بل قد يلوح من بعض الاخبار الخاصة، جوازه. كما سنشير إليه إن شاء اللّه (في ذيل المسألة).

إن قلت: يشترط في المتعاقدين، التغاير و التعدد، فانّ هذا هو المستفاد من معني العقد، فانّه لا يكون إلّا بين اثنين.

قلنا: التغاير الحقيقي لا دليل عليه، بل يكفي الاعتباري. فالوكيل باعتبار كونه وكيلا عن الزوج، يغاير باعتبار كونه وكيلا عن الزوجة. نعم، التغاير الحقيقي يعتبر في الطرفي الواقعي- أي الموكّلين- فانّه لا معني في المعاقدة بين الإنسان و نفسه. هذا مضافا إلي أنّ بناء العقلاء هنا جار علي

ذلك- و هو العمدة- فانّه قد يوقّع اسناد البيع أو النكاح رجل واحد، وكيل عن البائع و المشتري أو الزوج و الزوجة.

أدلّة عدم الجواز

و استدل علي عدم الجواز، تارة باصالة الفساد؛ و اخري بعدم قيام الدليل علي الصحة؛ و ثالثة بعدم الدليل علي كفاية المغايرة الاعتبارية؛ و قد عرفت الجواب عن الجميع. كما أنّه قد يستدل له بموثقة عمار، السابقة، فانّ النهي عن تزويج الوكيل لنفسه لا يكون إلّا لذلك. و فيه، انك قد عرفت اعراض الأصحاب عنها، و إجمالها في نفسها؛ و علي فرض قبولها، ليس فيها إشارة إلي أنّ المنع من هذه الجهة، فالقول بانّ المنع من هذه الجهة تحكّم.

و هناك روايات تشعر (أو تدل) علي وقوع ذلك، أي تولي طرفي العقد من اللّه تعالي أو من بعض المعصومين (عليهم السلام) أو من بعض آخر.

1- منها، ما ورد في قصه آدم و حواء في حديث، قال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك، و قد زوجتكها فضمها إليك «1».

و ليس فيها ما يدل علي قبول آدم هذا العقد؛ اللّهم إلّا أن يقال، ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 194، الحديث 1، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 219

2- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله، و طلبت تزويجها من رجل، إلي أن قال: - قد زوجتكها علي ما تحسن من القرآن؛ فعلمها إيّاه. «1» و ليس فيها أيضا من قبول الرجل عين و لا أثر، (و يرد عليها ما مر في سابقتها).

3- ما ورد في قصة أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل، في المرأة التي

نفت أن يكون الغلام ولدا لها- إلي أن قال- أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام بأربعمائة درهم «2».

ليس فيها من قبول الغلام أثر، و العقد و إن كان صوريا، و لكنه دليل علي كون تولي طرفي العقد صحيحا. اللّهم إلّا أن يقال إنكار المرأة بعد سماع العقد إنكارا شديدا، لم يدع مجالا لقبول الغلام و ردّه.

4- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي وكلت لرجل لتزويجها من غيره. فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك (المهر المعين) لها عندي و قد زوجتها نفسي «3».

و قد مرّ، أنا كنّا في سالف الزمان من القائلين بعدم جواز تولي طرفي العقد لرجل واحد، و لو بعنوان الاحتياط الواجب، ثم رجعنا عنه؛ و الأول، كان من باب عدم تعارفه بين العقلاء، و عمومات صحة العقود ناظرة إلي ما بين العقلاء. ثم رأينا أنّه قد يكون ذلك في إمضاء الاسناد كتابة، الذي هو بمنزلة الإنشاء اللفظي، مضافا إلي ما قد عرفت في معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، ممّا يدل علي ان تولي طرفي العقد لم يكن أمرا منكرا، و ردع الإمام ليس من هذه الجهة، بل من جهة تدليس الرجل.

هل هنا فرق بين العقد الموقت و الدائم؟

بقي الكلام في أنّه ما الفرق بين العقد الموقت و الدائم الذي جعله في المتن أشد

______________________________

(1). الوسائل 14/ 195، الحديث 3، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 195، الحديث 6، الباب 1 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 216، الحديث 1، الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 220

احتياطا، منه، و لعله بسبب حمل رواية عمار علي العقد الموقت، للغلبة

في الايّم؛ و الانصاف أنّه لا ظهور فيها من هذه الجهة.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 221

[المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين]

اشارة

المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين، لا يجوز لهما المقاربة بعد ذلك الزمان، ما لم يحصل لهما العلم بايقاعه، و لا يكفي الظنّ. نعم، لو أخبر الوكيل بالايقاع كفي، لأنّ قوله حجة فيما وكّل فيها.

لا يجوز المقاربة إلّا بعد علمهما بإيقاع العقد من جانب الوكيل

أقول: المسألة واضحة لا ستر عليها، فانّ اصالة عدم تحقق العقد تكون دليلا علي عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية، و الظن المطلق ليس بحجة، و حمل الفعل علي الصحة فرع صدور فعل منه، و المفروض الشك فيه؛ و أمّا حجية أخباره من باب أنّه الأمين؛ أو شبيه بذي اليد الذي جرت سيرة العقلاء علي الأخذ بقوله. نعم، لو كان متهما، لا يمكن القبول منه إلّا إذا علم بصدقه فيما يخبر أو يعلم من قرائن اخري. و اللّه العالم.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 222

[المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح]

اشارة

المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح دواما أو انقطاعا، لا للزوج و لا للزوجة؛ فلو شرطاه بطل الشرط، بل المشهور علي بطلان العقد أيضا؛ و قيل ببطلان الشرط دون العقد، و لا يخلو من قوة. و يجوز اشتراط الخيار في المهر مع تعيين المدّة، فلو فسخ ذو الخيار، سقط المهر المسمّي، فيكون كالعقد بلا ذكر المهر، فيرجع إلي مهر المثل. هذا في العقد الدائم الذي لا يعتبر فيه ذكر المهر؛ و أمّا المتعة لا تصح بلا مهر. فهل يصح فيها اشتراط الخيار في المهر؟ فيه إشكال.

أقول: هذه المسألة في الحقيقة تشتمل علي فرعين:

1- هل يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح، بأن يقول الزوج أو الزوجة أو كلاهما عند إنشاء العقد، انّ لي الخيار إلي سنة، فان أردت فسخت العقد. و علي فرض عدم الصحة، فهل يبطل الشرط فقط أو هو مع العقد؟

2- هل يجوز اشتراط الخيار في المهر؟ و علي تقدير الصحة، فاذا فسخ فما يجب علي الزوج؟

[في المسألة فرعان]

الفرع الاوّل: اشتراط الخيار في عقد النكاح
اشارة

المشهور فيه عدم الجواز، بل ادعي عليه الإجماع. قال في الجواهر: لا يصح اشتراطه في العقد اتفاقا كما في كشف اللثام و غيره. «1»

و قال في الحدائق: أمّا اشتراطه في أصل النكاح، فالمشهور أنّه غير جائز، و لو اشتراطه كان العقد باطلا … و خالف في ذلك ابن ادريس فحكم بصحة العقد و فساد الشرط. «2»

و حكي في المستمسك، عن مكاسب شيخنا الأعظم: عن الخلاف و المبسوط و السرائر و جامع المقاصد و المسالك، الإجماع عليه؛ و قال في ذيل كلامه بعد نقد الأدلة التي استدل بها علي البطلان، ما نصّه: فاذا، العمدة الإجماع المدعي و إن كان ظاهر

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام

29/ 149.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 223

الحدائق وجود القائل بالجواز لأنّه نسب المنع المشهور، و لكن لم يعرف بذلك قائل، و لا من نسب ذلك إلي قائل، و قال في جامع المقاصد أنّه قطعي. «1»

و استدل للبطلان بامور:

1- الإجماع، (و سيأتي الكلام فيه إنشاء اللّه).

2- أنّه ليس معاوضة حتي يصح فيه الاشتراط، و لذا لا يعتبر فيه العلم بصفات المعقود عليه.

3- فيه شائبة العبادة، و العبادات لا يدخلها الخيار.

4- اشتراط الخيار يوجب ابتذال المرأة، و هو ضرر عظيم عليها.

5- قد ورد في صحيحة ابن بكير، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن سمّي الأجل، فهو متعة؛ و إن لم يسم الأجل فهو نكاح بات «2».

و عن أبان بن تغلب، في حديث صيغة المتعة، قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فانّي استحيي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضرّ عليك! قلت: و كيف؟ قال: لأنّك إن لم تشترط، كان تزويج مقام … و لم تقدر علي أن تطلقها إلّا طلاق السنة. «3»

6- ما دل علي أنّه لا يرد النكاح من عيوب خاصّة. «4»

و لكن جميع ذلك، قابل للنقد. أما الأول، فسيأتي.

أما الثاني، فلان عدم جريان الاشتراط في غير المعاوضات، أول الكلام؛ فهو مصادرة علي المطلوب.

و أمّا الثالث، فلأنّه ليس عبادة حقيقة، و علي فرض قبوله قد يدخل الشرط في العبادات أيضا، كما في الإحرام.

و اما الرابع، فلأنّه أخص من المدعي، لأنّ الخيار لو كان للمرأة، لا يوجب ابتذالها، بل

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 405.

(2). الوسائل 14/ 469، الحديث 1، الباب 20 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 470، الحديث 2، الباب 20 من أبواب المتعة.

(4).

راجع الوسائل 14/ 594، الحديث 6 و 10، الباب 1 من أبواب العيوب.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 224

يوجب قوتها و سلطتها، مضافا إلي أنّه استحسان ظنّي واضح.

و أمّا الخامس، فلان المراد من النكاح الباتّ و تزويج مقام، كونه كذلك بحسب طبيعتها، كالبيع اللازم بمقتضي طبعه الذي لا ينافيه جواز خيار الشرط فيه؛ و لذا جواز رد عقد النكاح بالعيوب لا ينافي ذلك.

و أمّا السادس، فلانه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، بل المراد إخراج سائر العيوب. و بعبارة اخري، الحصر هنا إضافي بالنسبة إلي أنواع العيوب، دون الخيارات.

نعم؛ هنا دليل آخر يمكن الركون إليه، و إن لم نر ذكرا له في كلماتهم. و هي، إنّ هناك روايات كثيرة تدل علي نفي خيار المرأة؛ لا بالمعني الذي نحن بصدده، بل بمعني كونها مختارة من قبل الزوج في المقام معه، و عدمه. و لكنه يمكن استفادة المطلوب منها.

توضيح ذلك، أنّه جاء في الكتاب، في قصة أزواج النبي صلّي اللّه عليه و آله، قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلًا* وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدّٰارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. «1» فجعل لهن الخيار في الاقامة معه صلّي اللّه عليه و آله و تركها، فاخترن المقام معه؛ (و ذلك كان بعد توفر الغنائم عند النبي صلّي اللّه عليه و آله، و استدعاء كل واحدة منهن متاعا جديدا من متاع الدنيا، و لما كان اشتغالهن بهذه الامور منافيا لمقام النبي و كيانه صلّي اللّه عليه و آله، خيّرهن فيما ذكر).

ثم وقع الكلام بينهم، في أنّ معني

هذا الخيار أوّلا كفاية خيارهن في حصول الطلاق معه، أو كان الطلاق بيده صلّي اللّه عليه و آله بعد الخيار. و في الفرض الأول هل يختص ذلك به صلّي اللّه عليه و آله، أو يجري في سائر المؤمنين. و كل مؤمن يجوز له في أن يخيّر زوجته أو زوجاته كذلك، و يقوم اختيارها مقام الطلاق. (و قد ذكره صاحب الجواهر، و غيره، في مباحث الطلاق.

فراجع) «2» و المعروف بين الفقهاء، ان اختيارها لا أثر له، و يحتاج إلي إجراء الطلاق.

و قد وردت هذه الروايات، في الوسائل 15/ 335، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق، و هذه الروايات تقرب من عشرين رواية، تتركب من طوائف مختلفة، نبحث عنها

______________________________

(1). الاحزاب/ 28 و 29.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 67.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 225

إنشاء اللّه في محلّها؛ و لكن طائفتان منها يمكن الاستدلال بهما علي ما نحن بصدده.

الاولي: ما يدل علي عدم جواز جعل الخيار لها، حتي في نفس العقد، و هي كالصريحة في المقصود. و هي ما رواه هارون- أو مروان- بن مسلم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال، قلت له: ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: فقال لي: وليّ الأمر من ليس أهله و خالف السنّة و لم يجز النكاح. «1»

و قوله: لم يجز النكاح؛ دليل علي أنّ هذا الخيار كان مجعولا لها في نفس صيغة العقد. و الرواية و إن كانت ضعيف السند، و لكن يمكن انجبارها بعمل المشهور. هذا، و لكنها تدل علي بعض المقصود للمرأة، و لعل عدم ذكر الرجل من جهة عدم حاجته إليه بعد اختياره في الطلاق.

الثانية: ما يدل علي

عدم جواز جعل الخيار لها بعد العقد، و إنّ ذلك كان من خصائص النبي صلّي اللّه عليه و آله و زوجاته.

منها، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الخيار. فقال: و ما هو و ما ذاك، إنّما ذاك شي ء كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله «2».

و منها، ما عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن رجل خيّر امرأته، فاختارت نفسها، بانت منه؟ قال: لا، إنّما هذا شي ء كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خاصّة؛ الحديث «3».

منها، رواية اخري لمحمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما للنساء و التخيير إنما ذلك شي ء خصّ اللّه به نبيّه. «4»

منها، رواية ثالثة له، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي سمعت أباك يقول أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله خيّر نساء فاخترن اللّه و رسوله فلم يمسكهن علي طلاق، و لو اخترن أنفسهن، لبنّ. فقال:

______________________________

(1). الوسائل 15/ 336، الحديث 5، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). الوسائل 15/ 336، الحديث 1، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(3). الوسائل 15/ 336، الحديث 4، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(4). الوسائل 15/ 338، الحديث 13، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 226

إن هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة، و ما للناس و الخيار؛ إنّما هذا شي ء خصّ الله به رسوله صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت ناظرة إلي جعل الخيار لها بعد العقد، و لكن تحاشي الإمام عليه السّلام عن ذلك، تدل علي عدم جواز جعل ذلك لها

في نفس العقد أيضا، إمّا بالأولوية أو بالغاء الخصوصيّة.

نعم، هناك روايات اخري في نفس ذاك الباب، تدل علي صحة جعل الخيار لها، و أنّها إذا اختارت كان بمنزلة الطلاق؛ و لكنها مقيّدة بما داما في المجلس، (مثل 7 و 14 منه). و لكنها معرض عنها عند الأصحاب في أبواب الطلاق، محمولة علي التقيّة بقرينة ما سبق.

أضف إلي ذلك كلّه، عدم جريان الخيار في النكاح عن العقلاء من أهل العرف، و في مذاق المتشرعة لا يكون هناك بينونة إلّا بالطلاق، فالحكم في المسألة واضحة بحمد اللّه تعالي.

هل الشرط الفاسد يبطل العقد؟

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا، أنّ اشتراط الخيار في النكاح غير جائز، فيبطل الشرط. ثم إنّه يقع الكلام في أنّه إذا بطل الشرط، فهل يبطل العقد أيضا أم لا؟

قال في الحدائق: لو اشترطه كان العقد باطلا …؛ و بذلك قطع الشيخ في المبسوط، و جملة من المتاخرين … و خالف في ذلك ابن ادريس، فحكم بصحة العقد و فساد الشرط …

و قال أنّه لا دليل علي البطلان من كتاب و لا سنة و لا إجماع، بل الإجماع علي الصحة لأنّه لم يذهب إلي البطلان أحد من أصحابنا، و إنّما هو من تخريج المخالفين و فروعهم، و اختاره الشيخ علي عادته في الكتاب. «2»

و لكن قال في الجواهر: أنّ القول فيها ببطلان العقد ببطلان الشرط، معروف؛ بل في

______________________________

(1). الوسائل 15/ 336، الحديث 3، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 184.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 227

كشف اللثام نسبته إلي المشهور هنا. «1» و زاد في المستمسك حكاية الشهرة عن المسالك أيضا. «2» و لكن ظاهر الشرائع، عدم فساد العقد هنا بفساد الشرط

من غير ترديد.

و علي أي حال، فالظاهر أنّ القول بالبطلان في المسألة، مشهور بين الأصحاب، و دعوي الإجماع علي خلافه- كما عن ابن ادريس فيما عرفت- لا اعتبار به.

و من العجب، أنّ المشهور في أبواب الشروط الفاسدة أنّها لا تفسد العقد به، و لكن حكموا هنا بالفساد؛ فلا بدّ من مطالبة الفرق.

و علي كل حال، العمدة في القول بصحة العقد، ما ذكره ابن ادريس من وجود المقتضي للصحة، و انتقاء المانع. فانّه لا دليل للبطلان من كتاب و سنة، مع وجود أدلة صحة العقد و وجوب الوفاء بها.

كما أنّ عمدة الدليل علي البطلان، أنّ نفوذ العقد بدون الشرط، ممّا لم يقصده الزوجان.

فان صح العقد بغير الشرط، كان ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

و يجاب عنه، بأنّ الشروط بحسب الارتكاز العرفي، من قبيل تعدد المطلوب. فاصل العقد مطلوب، و الشرط مطلوب آخر؛ فلو لم يتمّ شرائط الصحة للشرط، فأصل العقد يكون صحيحا. و مثله ما ذكروه في بيع ما يملك و ما لا يملك؛ أو بيع ما يملك و ما لا يملك؛ و ليست الشروط أقوي من أجزاء المبيع. و كذلك لو كان الصداق في عقد النكاح ممّا لا يملك كالخمر و الخنزير؛ أو ممّا لا يملكه الزوج كما إذا أصدقه عبدا فبان حرا؛ فان الحكم بالصحة في جميع ذلك ممّا اتفقت عليه كلماتهم، و ليس ذلك كلّه إلّا بسبب تعدد المطلوب، فلا يمكن أن يقال ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

هذا؛ و قد يقال إنّ ما ذكرتم صحيح في غير أركان العقد، فانّه مقصود بالعقد بحسب الارتكاز العرفي، و ما نحن فيه من هذا القبيل، و إن شئت قلت،

شرط الخيار مناف لمقتضي العقد.

قال سيدنا الأستاذ الخوئي، (رحمه الله) في بيان ذلك في بعض تعليقاته علي العروة،

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 150.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 406.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 228

ما نصه: إنّ اشتراط الخيار يرجع إلي تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة و هو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل إلي أجل معلوم، و هذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة.

و يرد علي ما أفاده (قدس سره)، أنّ قصد الدوام لا ينافي جعل الخيار، كما هو كذلك في أبواب البيوع؛ فالبيع تمليك دائم و مع ذلك قد يجعل فيه الخيار، فلا يقال أنّه لم يقصد التمليك الدائم بسبب جعل الخيار؛ و مثله جعل الخيار في الاجارة.

و يمكن أن يكون مراد صاحب العروة و غيره، ممن جعل الخيار في النكاح مخالفا لمقتضي العقد، ما عرفت سابقا من أنّ أمر النكاح أمر بات قطعي، لا يرجع فيه في عرف العقلاء إلّا بالطلاق، فاشتراط الخيار مناف له.

و هناك وجه ثالث لبطلان العقد- ذكرناه في تعليقاتنا علي العروة- و حاصله، أنّ الشرط إذا بطل و صح العقد، يجبر بخيار الفسخ. مثل الشروط الفاسدة في البيوع إذا بطلت أجبرناها بجعل خيار التخلف، لصاحب الشرط؛ كما أنّ تبعض الصفقة في بيع ما يملك و ما لا يملك (أو ما يملك و ما لا يملك)، يجبر بخيار التبعض للمشتري، أو هو و البائع؛ و لكن في النكاح لا يمكن جبرانه بالخيار.

فالحاصل، أنّ الفساد في المقام قوي. و الله العالم.

*** الفرع الثاني: شرط الخيار في المهر

و الظاهر أنّه معروف بين الأصحاب كما أفتي به في الشرائع، و القواعد، و المسالك، و كشف اللثام، و غيرها (علي ما حكي عن

بعضهم) بل قال في المستمسك: أنّهم أرسلوه ارسال المسلمات من دون نقل خلاف. «1»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف، في المسألة 33، من كتاب الصداق: إذا أصدقها دارا و شرط في الصداق ثلاثة أيام شرط الخيار، صح الصداق و الشرط معا، و النكاح صحيح. و للشافعي في صحة الصداق قولان: أحدهما، يبطل و الثاني، يصح. فاذا قال

______________________________

(1). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 407.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 229

يصح، فله في الصداق ثلاثة أوجه: أحدها، يصح المهر و الشرط معا، كما قلناه. و الثاني، يبطلان معا. و الثالث، يبطل الشرط دون الصداق. ثم قال: دليلنا، قوله عليه السّلام: المؤمنون عند شروطهم؛ و لأنّ هذا الشرط لا يخالف الكتاب و السنة، فيجب أن يكون صحيحا. «1» انتهي.

أقول: تقييده بثلاثة أيّام لشرط الخيار، ناظر إلي ما هو الغالب في هذه الامور و في غير واحد من الخيارات، حيث إنّها مشروطة بثلاثة أيّام؛ و إلّا لا يكون لهذا الشرط حد معين.

و كيف كان عدم استناد الشيخ (قدس سره) إلي الإجماع، كما هو رأيه في كثير من المسائل، و عدم نقل الخلاف، (لعله) دليل علي عدم تعرض كثير من الأصحاب، له.

و الأقوي ما هو المعروف، و الدليل عليه ظاهر. فانّ عموم أدلة وجوب الوفاء بالشروط إلّا ما خالف الكتاب و شبه ذلك، يشمله. و المفروض أنّ المهر ليس من أركان العقد الدائم، و حينئذ لو فسخه، رجع إلي مهر المثل؛ لأنّ العقد لا يخلو عن مهر إمّا المسمي أو المثل.

نعم، اللازم تعيين مدّة الخيار، كما صرّح به جماعة من الأصحاب، لأنّ إبهامه و إجماله يوجب الغرر بلا إشكال، و اطلاق كلمات الأصحاب لا يدل علي

عدم وجوب تعيينه لأنّهم ليسوا في مقام البيان من هذه الجهة قطعا. و هكذا الكلام في شرط الخيار في البيع و غيره، فلا بدّ من تعيين مدّته بلا إشكال.

شرط الخيار في العقد الموقت

هذا كله في العقد الدائم؛ أمّا العقد المؤقت، فيشكل شرط الخيار في مهره، لأنّ المهر ركن فيه، فاذا فسخه يبقي بلا مهر. اللّهم إلّا أن يقال، الواجب فيه تعيين المهر في ابتداء العقد، لا في الاستدامة و هنا كذلك، فانّ الخيار و الفسخ يفسخه من حينه، لا من أول العقد، و لكن لازمه رجوع الزوجة إلي مهر المثل هنا، و هو غير معروف في أبواب العقد الموقت.

فالحكم ببطلان الشرط دون العقد، قويّ.

***

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 388 و 389.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 230

[المسألة 19: إذا ادعي رجل زوجية امرأة فصدقته]

اشارة

المسألة 19: إذا ادعي رجل زوجية امرأة فصدقته؛ أو ادعت امرأة زوجية رجل فصدقها، حكم لهما بذلك، مع احتمال الصدق. و ليس لأحد الاعتراض عليهما، من غير فرق بين كونهما بلديين معروفين، أو غريبين.

و أمّا إذا ادعي أحدهما الزوجية و انكر الآخر، فالبيّنة علي المدعي و اليمين علي من انكر. فان كان للمدعي بينة حكم له؛ و إلّا فتتوجه اليمين إلي المنكر، فان حلف، سقط دعوي المدعي؛ و إن نكل، يردّ الحاكم اليمين علي المدعي، فان حلف، ثبت الحق؛ و إن نكل، سقط.

و كذا لو رده المنكر علي المدعي و حلف، ثبت؛ و إن نكل، سقط.

هذا بحسب موازين القضاء و قواعد الدعوي؛ و أمّا بحسب الواقع، فيجب علي كل منهما العمل علي ما هو تكليفه بينه و بين الله تعالي.

إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس

أقول: هذه المسألة و المسائل الخمس الآتية، تكون من مسائل الدعاوي و حقها أن يبحث عنها في أبواب القضاء و شبهها، و لكن جرت عادة القوم بذكر بعض المصاديق في الأبواب الآخر؛ و علي كل حال، هذه المسائل أسست علي مباني معلومة في أبواب القضاء، منها:

1- اقرار العقلاء علي أنفسهم جائز، و هو من المسلمات. و قد استوفينا البحث عنها في القواعد الفقهية، في قاعدة الاقرار.

2- البينة علي المدعي و اليمين علي من أنكر.

3- إذا لم تكن للمدعي بينة، يطلب من المنكر اليمين علي نفي الدعوي، فإن نكل عن اليمين- بأي دليل كان-، يطلب من المدعي اليمين علي دعواه، فلو حلف يثبت به الدعوي، و إن نكل هو أيضا سقط الحق من الجانبين.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 231

4- كذلك لو ردّ المنكر أليمين علي المدعي، فحلف، يثبت الحق؛ و إن نكل سقط من

الجانبين.

و هذه المسائل كالمقطوع بينهم؛ و تطلب أدلتها من أبواب القضاء.

الصور السبعة و حكمها

و علي هذا الأساس نعود إلي المسألة، فنقول- و من الله سبحانه الهداية- فيها صور سبعة:

1- إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس مع تصديق الآخر، حكم لهما بذلك. و دليله قاعدة الاقرار. و ليس لأحد الاعتراض عليهما إلّا أن يعلم كذبهما في هذا الدعوي.

مضافا إلي قاعدة الحمل علي الصحة. فبالنسبة إلي لزوم التزامهما بآثار الزوجية من النفقة و الارث و غيرهما، يرجع إلي الاقرار؛ و بالنسبة إلي أفعال مثل المواقعة و غيرها، يحمل فعلها علي الصحة مطلقا من دون فرق.

و الفرق بين البلدي و الغريب، كما يحكي عن بعض العامة، مما لا وجه له. و وجوب الاشهاد، علي فتوي بعض المخالفين، لا يكون دليلا علي وجود الشاهد للبلدي دائما، و لعل الشاهد سافر أو مات أو لا يعرف مكانه؛ كما أنّه لا يطلب من المرأة عند إرادة تجديد النكاح، شهود الطلاق.

امّا إذا لم يصدقه الآخر، بل أنكر مقاله؛ فله أربع صور:

2- تارة، تكون للمدعي البيّنة علي مدعاه، فيحكم له به.

3- أخري، لا تكون له ذلك فيستحلف المنكر فيحلف علي النفي، فتسقط الدعوي.

4- و ثالثة، ينكل عن اليمين، فيرجع الحاكم إلي المدعي، فلو حلف، ثبت الحكم له.

5- و رابعة، لا يحلف المدعي أيضا، فتسقط الدعوي.

أمّا إذا كان المدعي ليس له بيّنة، و المنكر لا يحلف، بل يرد اليمين و يقول فليحلف المدعي علي دعواه، فيطلب منه الحاكم ذلك، فله صورتان:

6- تارة يحلف، فيثبت به الدعوي.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 232

7- و اخري لا يحلف، فتسقط الدعوي.

كل ذلك، لأصول معلومة مضبوطة ثابتة في أبواب القضاء ممّا لا يمكن مخالفتها.

يبقي الكلام في أن هذه

الأحكام أحكام ظاهرية من باب فصل الخصومة و لا يوجب تغييرا في الواقع؛ فلو كان الزوج كاذبا في دعواه أو الزوجة كاذبة، ثم ثبت له حق بحسب الظاهر، يكون مسئولا عند الله. و قد ادعي الإجماع علي ذلك؛ و يدل عليه المعتبرة المعروفة، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: إنّما اقضي بينكم بالبينات و الأيمان، و بعضكم الحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فانما قطعت له قطعة من النار. «1»

و هذا هو مقتضي القاعدة، لأنّ أحكام القضاء طريقته بلا إشكال عند العقلاء، و في الشرع. و الله العالم.

***

______________________________

(1). الوسائل 18/ 169، الحديث 1، الباب 2 من أبواب كيفية القضاء.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 233

[المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلي الاقرار، يسمع منه]

اشارة

المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلي الاقرار، يسمع منه، و يحكم بالزوجية بينهما؛ و إن كان ذلك بعد الحلف، علي الاقوي.

إذا أقرّ المنكر بوقوع النكاح

أقول: و المسألة غير محرّرة في كلمات الأصحاب و لم يتعرضوا لها، إلّا قليلا. و يظهر من بعض كلمات الجواهر في مسألة الاقرار بعد الانكار، في كتاب القضاء، (في ما لو أقر له واحد بالملك، فانكره المقرّ له، ثم رجع عن انكاره)، أنّه يتعارض الاقرار و الانكار و يتساقطان، فراجع. «1»

هذا؛ و لما تعرض صاحب العروة للمسألة، ذيل المسألة الثانية من المسائل المتفرقة لعقد النكاح، أخذ الشارحون، مثل سيدنا الحكيم في المستمسك، و السيد السبزواري في المهذب، في شرح المسألة بما ستأتي الإشارة إليه، إن شاء اللّه.

و كيف كان لا بدّ من تحرير أصل مسألة الاقرار بعد الانكار علي نحو كلي، حتي يتبين حكم المقام. فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، أنّه لا شك في عدم قبول الانكار بعد الاقرار، لأنّ الإنسان مأخوذ بحكم اقراره بالإجماع و الأدلة القطعية، فلا يسمع منه انكاره.

و أمّا الاقرار بعد الانكار، فقد صرح في العروة بانه: لو رجع المنكر عن انكاره إلي الاقرار، هل يسمع منه و يحكم بالزوجية بينهما، فيه قولان، و الأقوي السماع إذا أظهر عذرا لإنكاره و لم يكن متهما، و إن كان ذلك بعد الحلف.

و صرح في المستمسك بعدم وقوفه، علي وجود قولين في المسألة. «2»

و الأولي أن يقال، في المسألة وجهان، لا قولان لعدم العثور علي القائل. و دليل الوجه الاولي،- أي قبول الاقرار بعد الانكار- هو الأخذ بعموم قاعدة الاقرار؛ و لا ينافيه

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 40/ 447.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 411.

أنوار

الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 234

الانكار السابق. و دليل الوجه الثاني، انصراف العموم عن مثله، و لم يثبت بناء العقلاء عليه أيضا، لا سيّما أنّه يكون مظنة للتهمة دائما؛ و لا أقل من الشك في العموم، و الأصل عدم التأثير.

و أمّا اشتراط بيان العذر و عدم اتهامه، فالظاهر عود كلا الشرطين إلي أمر واحد؛ فانّ المنكر لو لم يذكر عذرا يكون متهما في اقراره. (و مثال العذر، أن تقول المرأة، إنّي خفت من أهلي لو كنت مقرة، لعدم الاستئذان منهم. أو قالت، كنت قريبة العهد بانقضاء عدّة وفات زوجي السابق و كنت استحيي من الناس، فأنكرت الزواج الثاني؛ أو غير ذلك).

و الانصاف أنّ القبول مشكل جدا لما عرفت، و الاتهام لا يرتفع إلّا إذا علمنا بصدقها في عذرها، و أنّ الانكار السابق لم يكن عن جدّ، و حينئذ يتغير حكم المسألة كما هو واضح.

و من هنا يعلم أنّ الحكم بتعارضها و تساقطها- الذي يظهر من بعض كلمات الجواهر- أيضا ليس علي ما ينبغي؛ لأنّه فرع قبول الثاني، و قد عرفت الإشكال فيه. و أشكل من الجميع، إذا كان الاقرار بعد الحلف عقيب الانكار.

و ما ذكره المحقق السبزواري، في المهذب، في شرح كلام صاحب العروة من: أنّ المنساق ممّا ورد في ما يتعلق بالقضاء عن المدعي و المنكر و الحلف و البيّنة، هو المستقر منها، لا الثابت الزائل … فلا يبقي موضوع حتي يقال إن الحلف فاسخ تعبدي، و يكون الاقرار حينئذ بعد الانكار كالإقرار غير الجامع للشرائط؛ «1» أيضا في غير محلّه. لما عرفت من انصراف أدلة حجية الاقرار عن مثل المقام، لا سيّما إذا حلف عند إنكاره.

*** بقي هنا شي ء:

و هو أنّه في أبواب الجنايات

و الديون و شبهها، كثيرا ما ينكر الجاني أو المديون

______________________________

(1). السيد السبزواري، في مهذب الاحكام 24/ 348.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 235

جنايته أو دينه، و بعد طرح الاسئلة من ناحية المسئولين في دائرة القضاء، لا يجد محيصا إلّا عن الاقرار، و هذا اقرار بعد الانكار و هو كثير، و لا شك في قبوله إذا لم يكن الاقرار تحت الضغط؛ و ذلك لأنّه لا مجال للتهمة هنا (بخلاف محل الكلام)، و لذا استقر بناء العقلاء من أهل العرف علي قبوله إلّا في موارد شاذة يكون فيها الاتهام.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 236

[المسألة 21: إذا ادعي رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره]

اشارة

المسألة 21: إذا ادعي رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره؛ و للغير أن يتزوجها قبل فصل الدعوي، و الحكم ببطلان دعوي المدعي؛ أم لا؟ وجهان:

أقواهما، الأول؛ خصوصا فيما تراخي المدعي في الدعوي، أو سكت عنها حتي طال الأمر عليها. و حينئذ، أن اقام المدعي بعد العقد عليها بيّنة، حكم له بها و بفساد العقد عليها. و إن لم تكن بينة، تتوجه اليمين إلي المعقود عليها، فان حلفت بقيت علي زوجيتها و سقطت دعوي المدعي؛ و كذا لوردت اليمين علي المدعي و نكل عن اليمين.

و إنّما الإشكال فيما إذا نكلت عن اليمين أو ردت اليمين علي المدعي، و حلف، فهل يحكم بسببها بفساد العقد عليها فيفرق بينها و بين زوجها؛ أم لا؟ وجهان:

أوجههما، الثاني؛ لكن إذا طلقها الذي عقد عليها أو مات عنها، زال المانع فترد إلي المدعي بسبب حلفه المردود عليه من الحاكم أو المنكر.

حكم من انكر زوجية رجل

أقول: قد ذكر صاحب العروة، هذا الفرع بعنوان المسألة الرابعة من المسائل المتفرقة، و لم يتعرض لها كثير من الأصحاب. نعم، ذكرها الشهيد الثاني في المسالك، و شرّاح العروة في شروحهم، (كالمستمسك و المهذب).

و يمكن بيان المسألة بعنوان كلي، و هو أنّه إذا ادعي واحد علي غيره بدعوي في مال أو زوجية أو غير ذلك، فهل يمنع عن التصرفات فيه حتي تتم الدعوي؛ أو لا يمنع؛ أو يفصل بين ما إذا طالت المدّة بحيث يتضرر المدعي عليه، و بين ما إذا لم تطل، فيمنع المدعي عليه عن التصرفات.

مقتضي القاعدة، عدم منع المرأة عن التزويج؛ لأنّ كل إنسان مسلّط علي نفسه في أمر التزويج و غيره من أشباهه؛ و لا يمكن منعه عنه بمجرد دعوي غيره

كما أنّ الناس مسلطون علي أموالهم و لا يمكن منعهم عن التصرفات بالبيع و الشراء و الهبة و غيرها بمجرد إقامة الدعوي؛ و إلّا كان هناك طريق لمنعهم دائما- و لو في برهة من الزمان-

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 237

بمجرد إقامة دعوي عليه، و هذا ممّا لا يقبله أحد. فمن كان مخالفا لتزويج امرأة من غيرها، كفاه إقامة الدعوي عليها.

ثم بعد التزويج، لا يخلو الأمر، من امور ثلاثة:

إمّا يقيم البينة علي ما ادعاه، فتكون زوجته و يبطل العقد الثاني.

و إمّا لا يقيمها، و لكن تنكر المرأة و تحلف عليه، أو ترد الحلف علي المدعي و هو أيضا لا يحلف، فتسقط الدعوي.

و إمّا يحلف المدعي، اليمين المردود عليه، فحينئذ يؤخذ بما لا ينافي حق الزوج الثاني. فلا يبطل العقد، لأنّه حق شخص ثالث؛ و الحلف لا أثر له إلّا لطرف الدعوي و هي المرأة؛ و فائدته أنّه لو طلقها رجعت إلي الثاني. و القول ببطلان العقد الثاني بسبب الحلف، ممّا لا وجه له؛ لأنّ دليل نفوذه لا يشمل المقام قطعا.

إن قلت: علي هذا، يكون التزويج عليها سببا لبطلان حق المدعي، و عدم وصوله إلي مقصوده بالحلف، فاللازم المنع عنه.

قلنا: أوّلا، إنّ إقامة الدعوي ليست من الحقوق، بل من أحكام الشرع. نعم، موضوع هذا الحكم، المرأة الخلية، فاذا تزوجت انتفي الموضوع؛ فالحكم ينتفي بانتفاء موضوعه كما في بيع العين أو هبتها أو غير ذلك. و لا دليل علي وجوب حفظ الموضوعات.

و ثانيا، لا يعلم من قبل، أنّ المدعي يحلف اليمين المردود عليه أو لا يحلف؛ و منع المرأة عن التسلط علي نفسها، سبب لمنعها عن حقوقها؛ و لا دليل علي أنّ حق المدعي،- لو فرض

له حق- مقدم علي حق المرأة علي نفسها، و مقتضي الجمع بين الحقوق ما عرفت في فرض الطلاق، و الله العالم.

و ذكر الفقيه السبزواري، في مهذب الأحكام، أنّه لم يظهر وجه الأظهريّة في الوجه الأول، (أي جواز تزويجها) مع ما ناقشنا في دليله من انه أشبه بالمصادرة. (و كأنه ناظر إلي كلام صاحب العروة أنّها خلية و مسلطة علي نفسها).

ثم قال: يمكن أن يستدل علي الصحة، باطلاق ما ورد في ايكال الأمر إليها في هذا الموضوع. ففي خبر ميسّر، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: القي المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد،

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 238

فأقول لها: أ لك زوج؟ فتقول: لا؛ فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدقة علي نفسها. «1» فيستفاد منه ثبوت السلطة المطلقة لها ما لم يكن مانع فعلي. و حينئذ فلا أثر للحق الاقتضائي مطلقا. و مع ذلك فالأمر مخالف لمرتكزات أذهان المتشرعة، فانّهم لا يقدمون علي مثل هذه المرأة، إن احتملوا وجود المدعي لزوجيتها، فضلا إذا علموا بوجود المدعي. «2»

و يمكن النقاش في كلامه، أولا، أنّ كون المرأة خلية و مسلطة علي نفسها. ليس مصادرة علي المطلوب، بل هو قاعدة عقلائية و شرعية من أنّ الناس مسلطون علي أموالهم و أنفسهم (سواء كان قولنا، و أنفسهم، من الرواية أم لا) فلا يمكن منعهم من هذه السلطة إلّا بدليل.

و ثانيا، قد عرفت أنّ جواز إقامة الدعوي من الأحكام، و جواز الحلف أو إقامة البينة ليس من الحقوق، فالحق الاقتضائي لا محصل له.

و ثالثا، أنّ مخالفته لمرتكزات المتشرعة، إنّما هو من جهة اصرارهم علي الاحتياط في هذه الامور، و كثير منهم لا يقدمون علي تزويج المرأة المطلقة خوفا من فساد

طلاقها.

و من الواضع أنّ أمثال هذه الاحتياطات لا يمنع عن جواز التزويج. كما أنّ الناس لا يقدمون علي اشتراء ملك فيه دعوي، مع أنّ جواز اشترائه من ذي اليد ممّا لا إشكال فيه.

فالمسألة ظاهرة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 228، الحديث 2، الباب 25 من أبواب عقد النكاح.

(2). السيد السبزواري، في مهذب الأحكام 24/ 243.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 239

[المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعي أنّها خلية من الزوج]

اشارة

المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعي أنّها خلية من الزوج مع احتمال صدقها من غير فحص، حتي فيما إذا كانت ذات بعل سابقا، فادعت طلاقها أو موته. نعم، لو كانت متهمة في دعواها، فالأحوط الاولي الفحص عن حالها. فمن غاب غيبة منقطعة لم يعلم موته و حياته، إذا ادعت زوجته حصول العلم لها بموته من الأمارات و القرائن و أخبار المخبرين، جاز تزويجها و إن لم يحصل العلم بقولها.

و يجوز للوكيل أن يجري العقد عليها، إذا لم يعلم كذبها في دعوي العلم؛ و لكن الاحوط، الترك، خصوصا إذا كانت متهمة.

جواز الركون علي اخبار المرأة المأمونة

أقول: قلما تعرضوا لهذه المسألة أيضا. نعم، ذكرها المحقق، في الشرائع، في بحث نكاح المتعة، و قال: و (يستحب) أن يسألها عن حالها مع التهمة؛ «1» و ذكر صاحب الجواهر (قدس سره)، في شرح هذه العبارة، بعد نقل رواية أبي مريم الآتية، ما يدل علي أنّ ظاهر الرواية، الأمر بالسؤال مطلقا، إلّا أن يعلم كونها مأمونة؛ «2» و هو دليل علي عدم وجوب الفحص مطلقا. و كذلك الشهيد الثاني، ذكر في شرح المسألة في المسالك، ما يدل علي استحباب الفحص في الجملة.

عدم الفرق بين النكاح الدائم و الموقت

و الظاهر أنّه لا فرق بين النكاح الدائم و المنقطع؛ و ارسال المسألة ارسال المسلمات في كلماتهم، دليل علي عدم وجود الخلاف فيها. و في بحث نكاح الشبهة من الجواهر أيضا اشارة إليه، حيث قال في بيان أمثلتها: و التعويل علي أخبار المرأة بعدم الزوج، أو بانقضاء العدة، أو علي شهادة العدلين بطلاق الزوج أو موته، أو غير ذلك من الصور التي لا

______________________________

(1). المحقق الحلي، في شرايع الإسلام 2/ 529.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 30/ 158.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 240

يقدح فيها احتمال عدم الاستحقاق شرعا؛ «1» و ذكرها في العروة، في المسألة السابقة بمثل ما ذكره في التحرير مع اضافات (و الألفاظ مشابهة) و لم يخالف فيه أحد من المحشين فيما وقفنا علي كلماتهم. و في بعض كلماتهم أنّ المسألة مشهورة بينهم؛ بل صرّح في مهذب الأحكام أنّها إجماعيّة.

أدلّة المسألة

و كيف كان يدل عليه روايات كثيرة:

1- ما مر من حديث الميسّر. (2/ 25 من عقد النكاح)

2- ما عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام إنّي تزوجت امرأة فسألت عنها، فقيل فيها. فقال: و أنت لم سألت أيضا، ليس عليكم التفتيش. «2»

و الحديث لا يخلو من ابهام، فان قول الراوي: فقيل فيها؛ لا يدل علي أنّ الإشكال فيها من ناحية احتمال وجود بعل لها؛ بل الظاهر، رميها بالفسوق و الفحشاء، فلا تدل علي المطلوب.

3- ما عن فضل، مولي محمد بن راشد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت: إنّي تزوجت امرأة متعة، فوقع في نفسي أن لها زوجا، ففتشت عن ذلك، فوجدت لها زوجا. قال: و لم فتشت؟ «3»

4- ما رواه مهران بن محمد، عن بعض أصحابنا،

عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قيل له: إنّ فلانا تزوج امرأة متعة. فقيل له، أنّ لها زوجا. فسألها. فقال أبو عبد الله عليه السّلام: و لم سألها. «4»

5- ما عن محمد بن عبد الله الأشعري، قال: قلت للرضا عليه السّلام: الرجل تزوج بالمرأة، فيقع في قلبه أن لها زوجا. فقال: و ما عليه، أ رأيت لو سألها البينة، كان يجد من يشهد أن

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 245.

(2). الوسائل 14/ 227، الحديث 1، الباب 25 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 457، الحديث 3، الباب 10 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 457، الحديث 4، الباب 10 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 241

ليس لها زوج؟ «1»

6- ما عن أبي مريم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سئل عن المتعة؛ فقال: أنّ المتعة اليوم ليست كما كانت قبل اليوم؛ أنّهن كن يومئذ يؤمنّ، و اليوم لا يؤمن، فاسألوا عنهن. «2»

بناء علي أنّ ظاهرها جواز الركون علي أخبار المرأة المأمونة دون المتهمة. و سيأتي أنّ الاصحاب حملوها علي استحباب السؤال في المتهمة؛ فعلي هذا تكون دلالتها اوضح.

7- ما رواه في المستدرك، عن الشيخ المفيد (قدس سره)، في رسالة المتعة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في المرأة الحسناء تري في الطريق، و لا يعرف أن تكون ذات بعل أو عاهر. فقال: ليس هذا عليك، إنّما عليك أن تصدقها. «3»

8- و يدل عليه في الجملة، ما ورد في الصحيح، في أبواب العدد: أنّها إذا ادعت صدقت. «4»

هذا، و لكن هناك رواية معارضة، تدل علي وجوب الفحص و إقامة الشهود علي أنّه لا زوج لها، و هي ما

رواه في الجعفريات، باسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام، في امرأة قدمت علي قوم، فقالت: أنّه ليس لي زوج؛ و لا يعرفها أحد. فقال: لا تزوج حتي تقيم شهودا عدولا أنّه لا زوج لها. «5»

و لكنها مضافا إلي ضعف سندها، و اعراض الأصحاب عنها، يمكن الجمع بينها و بين ما تقدم، بالحمل علي الاستحباب (أو الوجوب)، في خصوص المتهمة دون غيرها.

استثناء المتّهمة

بقي الكلام في استثناء المتهمة عن هذا الحكم، فقد صرح في المتن بأن الاحوط الاولي، ذلك؛ و لكن احتاط في العروة احتياطا وجوبيا، و هو الحق لو لم يكن أقوي. و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 457، الحديث 5، الباب 10 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 451، الحديث 1، الباب 6 من أبواب المتعة.

(3). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 458، الحديث 17282.

(4). الوسائل 15/ 441، الحديث 1، الباب 24 من أبواب العدد.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 323، الحديث 16836.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 242

ذلك لدلالة غير واحد من روايات الباب عليه، و طريق الجمع بينها و بين المجوزة هو حمل الناهية علي المتهمة، مضافا إلي بناء العقلاء علي عدم تصديق المتهم علي الأموال و النفوس؛ بل يوجبون علي أنفسهم الفحص عن ذلك. و مثله عدم حجية يد السّراق و عدم قبول الشاهد الذي يكون في شهادته نفع له.

و كذلك إذا امكن الاطلاع علي الواقع بادني فحص. كما إذا ادعت أن طلاقها مكتوب في الدفاتر الرسمية، أو ادعت شهودا علي ذلك قريبا منها؛ كما هو الحال في مسألة الفحص عن الشبهات الموضوعية في جميع أبواب الفقه.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 243

[المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعي أنّها خلية عن الزوج، فادعي رجل آخر زوجيتها]

اشارة

المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعي أنّها خلية عن الزوج، فادعي رجل آخر زوجيتها، فهذه الدعوي متوجهة إلي كل من الزوج و الزوجة؛ فان إقام المدعي بينة شرعية، حكم له عليهما و فرّق بينهما و سلّمت اليه.

و مع عدم البينة، توجه اليمين إليهما؛ فان حلفا معا علي عدم زوجيته، سقطت دعواه عليهما. فان نكلا عن اليمين، فردها الحاكم عليه أو ردّاها عليه، فحلف، ثبت مدعاه. و إن حلف أحدهما دون الآخر.

بأن نكل عن اليمين فردها الحاكم عليه أو ردّ هو عليه، فحلف، سقطت دعواه بالنسبة إلي الحالف. و امّا بالنسبة إلي الآخر، و إن ثبتت دعوي المدعي بالنسبة إليه، لكن ليس لهذا الثبوت أثر بالنسبة إلي من حلف؛

فان كان الحالف هو الزوج و الناكل هي الزوجة، ليس لنكولها أثر بالنسبة إلي الزوج، إلّا أنّه لو طلقها أو مات عنها، ردت إلي المدعي. و إن كان الحالف هي الزوجة و الناكل هو الزوج، سقطت دعوي المدعي بالنسبة إليها؛ و ليس له سبيل علي كل حال.

لو عقد علي امرأة و ادعي آخر زوجيتها

أقول: هذه المسألة منصوصة في كلمات الأصحاب و في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام، و قد حكي الإجماع عليها في الجملة.

قال في الرياض: و لو عقد علي امرأة و ادعي آخر زوجيتها لم يلتفت إلي دعواه، إلّا مع البيّنة فتقبل دعواه حينئذ، لا مطلقا، بلا خلاف، للنصوص. «1»

و قال في الحدائق: إذا عقد علي امرأة فادعي آخر زوجيتها فقد صرح جمع من الأصحاب بأنّه لا يلتفت إلي دعواه إلّا بالبيّنة، بمعني عدم سماع دعواه بالكلية مع عدم البيّنة، بحيث لا يترتب عليها اليمين علي المرأة و إن كانت منكرة … و ذهب آخرون من الأصحاب أيضا إلي قبول الدعوي و توجه اليمين و الرد و إن لم يسمع في حق الزوج. «2»

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 49 (2/ 70 ط. ق).

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 187.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 244

و صرّح في المسالك بوجود القولين في المسألة في توجه اليمين إلي المرأة و عدمه، و بيان فائدته علي فرض توجه اليمين. «1»

و ذكره في العروة الوثقي في المسألة الثالثة من المسائل المتفرقه

لعقد النكاح.

حكم المسألة بحسب القواعد

و علي كل حال، نتكلم فيها تارة علي القواعد، ثم نذكر الأحاديث الواردة في المسألة لنري هل فيها شي ء مخالف للقواعد أم هي علي وفقها. فنقول: (و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية) في المسألة حالات خمسة:

1- إذا اقام المدعي البيّنة علي أنّها زوجته، فاللازم سماع دعواه و تسليم المرأة إلي المدعي بمقتضي حجيّة البينة، و هو واضح.

2- أن لا يقيم ذلك، فتتوجه الدعوي إلي الزوجين، و عليهما اليمين بمقتضي القاعدة المعروفة، فحلفا لنفي دعوي المدعي، سقط الدعوي تماما.

3- إذا نكلا و ردّ الحاكم اليمين إلي المدعي، أو ردّ القسم إليه و حلف، فاللازم تسليم المرأة للمدعي و نفي الزوجية الثانية.

4- إذا حلف أحدهما و نكل أو ردّ الثاني و كان هي الزوجة، فحلف المدعي اليمين المردود، لم يكن لردّها أو نكولها أثر، لأنها تتعلق بالرجل الثاني بمقتضي عقده عليها من دون مانع، نعم لو طلقها أو مات عنها، ردّ إلي المدعي. «2»

5- إذا حلفت الزوجة، و ردّ الزوج اليمين، فحلف المدعي، لم يكن لدعواه أثر لا في الحال و لا في المستقبل، لأنّ المفروض سقوط الدعوي عن الزوجة بالحلف مطلقا.

حكم المسألة بحسب الأخبار

هذا هو مقتضي القاعدة.

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 110 (2/ 447 ط. ق).

(2). هذا صحيح علي القول بردها إلي الزوج الاول حينئذ، و لكن علي المختار من أن تأثير اليمين المردود في هذا المقام- مع الفصل المزبور- غير ثابت، فهذا الأثر أيضا باطل.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 245

و أمّا بحسب الأخبار؛ ففي حديث عبد العزيز بن المهتدي، قال: سألت الرضا عليه السّلام قلت:

جعلت فداك، إنّ أخي مات و تزوجت امرأته، فجاء عمّي فادعي أنّه كان تزوجها سرا، فسألتها عن ذلك،

فانكرت أشد الانكار، و قالت ما كان بيني و بينه شي ء قطّ. فقال: يلزمك اقرارها و يلزمه انكارها. «1»

و سند الرواية معتبر، لأنّ رجال السند ثقات، و عبد العزيز بن المهتدي هو وكيل الرضا عليه السّلام و قد وثقه العلّامة و النجاشي؛ و في بعض الروايات إنّه كان خير قمي في زمانه.

و دلالتها أيضا ظاهرة، بل تدل علي عدم الحاجة إلي اليمين (يمين المرأة) لعدم ذكر له فيها؛ اللّهم إلّا أن يقال إن اليمين إنّما يكون بعد طرح الدعوي عند القاضي لا مطلقا.

و يدل عليه أيضا، ما رواه يونس، قال: سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان، فسألها لك زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها؛ ثم إنّ رجلا أتاه فقال هي امرأتي، فانكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: هي امرأته إلّا أن يقيم البيّنة. «2»

و سنده لا يخلو عن ضعف (مع قطع النظر عن الارسال) فان علي بن أحمد، هو ابن اشيم (بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه) ظاهرا، و هو مجهول الحال. نعم، للرواية سند آخر ذكرها في الوسائل ذيل الرواية لعله صحيح.

هذا؛ و لكن عمل الأصحاب به و بما قبله يغنينا عن ملاحظة السند (فتأمل). و لكن قد يعارضها ما رواه سماعة قال: سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة، أو غير ثقة فقال إنّ هذه امرأتي، و ليست لي بيّنة. فقال: إن كان ثقة، فلا يقربها؛ و إن كان غير ثقة، فلا يقبل منه. «3» و طريق الرواية معتمد و اضمارها لا يضرّ.

و لكن اعراض الأصحاب عنها و شهرة الفتوي بالحديثين السابقين، سبب ترجيحهما عليها؛ مضافا إلي إمكان الجمع بالحمل علي الاستحباب، لأنّ المدعي إذا كان ثقة

كان المقام مقام الشبهة، ينبغي الاجتناب عنه؛ أو محمول علي حصول الاطمينان بقوله.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 226، الحديث 1، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 226، الحديث 3، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 226، الحديث 2، الباب 23 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 246

و أمّا ما ذكره في الحدائق من إمكان الجمع بينها بالحمل علي التخصيص، فان الأوليين عامان و الأخير خاص؛ و إن قول الثقة حكمه حكم البيّنة. «1»

ففيه أولا، إنّ الرواية الاولي ليس عاما بل وارد في قضية خاصة، فليس المقام من قبيل العام و الخاص. مضافا إلي ما عرفت من اعراض الأصحاب عنه. أضف إلي ذلك، أنّ التصريح بلزوم إقامة البيّنة في الحديث الثاني، يناقض الاعتماد علي الثقة الواحد. فما ذكره مخدوش من جهات شتي، فالأقوي ما ذكره المشهور من الأصحاب.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 190.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 247

[المسألة 24: إذا ادعت امرأة أنها خليّة فتزوجها رجل]

اشارة

المسألة 24: إذا ادعت امرأة انها خليّة فتزوجها رجل، ثم ادعت بعد ذلك انّها كانت ذات بعل، لم تسمع دعواها. نعم، لو اقامت البيّنة علي ذلك، فرّق بينهما؛ و يكفي في ذلك بان تشهد بأنّها كانت ذات بعل فتزوجت حين كونها كذلك من الثاني، عن غير لزوم تعيين زوج معيّن.

اذا ادعت امرأة أنها كانت ذات بعل

أقول: هذه المسألة أيضا غير مذكورة في كلمات الأصحاب، و لم ترد فيها رواية خاصة، و إنّما ذكرها المتأخرون و المعاصرون و حكموا فيها علي وفق القواعد العامة.

و قد ذكره في العروة، في المسألة الثامنة، بعين العبارة المذكورة هنا تقريبا. و قد ذكره الشارحون لها في كلماتهم كالسيّد الحكيم، في المستمسك؛ و السبزواري، في المهذب.

و حاصل الكلام فيها، أنّ دعوي المرأة بدون البيّنة غير مسموعة، لأنّها مخالفة لأصالة الصحة في العقد بعد تمامه أولا، و اقرار في حق الغير و هو الزوج، ثانيا، و لا دليل علي قبول قولها و لا وجوب تصديقها ثالثا؛ فان الروايات السابقة الدالة علي أنّها مصدّقة ناظرة إلي غير المقام و هو ما قبل النكاح، كما هو ظاهر.

أضف إلي ذلك كلّه، أنّ هذا يكون ذريعة فاسدة لكل زوجة لا تريد المقام مع زوجها و لا يطلقها، فانها تتوصل إلي دعوي كونها ذات بعل سابقا و تحلف و تنفصل من زوجها.

نعم، إذا حلفت علي مدعاها لزمها قبول آثارها، كاستحقاقها مهر المثل لا المسمي إذا ادعت غفلتها عن كونها ذات بعل في أول أمرها. (اللّهم إلّا أن يكون المسمي أقل من مهر المثل). و استحقاقها الحدّ، لو ادعت علمها في النكاح الثاني بأنّها ذات بعل. و لكن استحقاقها النفقة، غير بعيد، بعد اجبارها بالتمكين حسب حق الزوج.

نعم، لو أقامت بيّنة علي مدعاها،

تقبل منها، لأنّها حجة علي كل حال، فتنفصل عن زوجها الثاني، و تعود إلي الأول. و كذا إذا أقامت البيّنة علي أنّها كانت في عدّة الطلاق أو الوفاة؛ و حكم المهر ما سبق من أنّه يدور مدار الجهل و العلم، و كذا حكم حدّ الزانية.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 248

و ليعلم أنّ اللازم في البيّنة ان تشهد بأنّها ذات بعل فعلا؛ و أمّا لو شهدت علي أنّها كانت ذات بعل قبلا، فانّها لا تفيد، لعدم تمامية الحكم بدون الاستصحاب، مع أنّ أصالة الصحة في العقد مقدمة علي الاستصحاب. كما لا يخفي.

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 249

[المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار]

اشارة

المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار؛ أعني اختيار الزوجين؛ فلو أكرها، أو اكره أحدهما علي الزواج، لم يصح؛ نعم، لو لحقه الرضا، صح علي الأقوي.

يشترط في صحة العقد اختيار الزوجين

أقول: و المسألة مشتملة علي فرعين: أحدهما، اعتبار الرضا و عدم الاكراه في عقد النكاح من الجانبين؛ ثانيهما، صحته بعد لحوق الرضا، كالفضولي في سائر المقامات.

اعتبار الرضا و عدم الإكراه

و الظاهر أنّ اعتبار الرضا و عدم الاكراه هنا و في جميع العقود ممّا أجمع المسلمون عليهم عدا شاذ؛ بل هو من الأركان في جميع العقود العقلائية بحيث لا يقبل أحد غيره.

و كان ينبغي للماتن (قدس سره)، أن يذكر هذا الشرط في أول مباحث عقد النكاح مع الشرائط الثلاثة الاخري، (العقل و البلوغ و القصد) حتي تتم الشرائط الأربعة العامة.

و أكثر ما ذكروا هذا الشرط في أبواب الطلاق، لشدة الابتلاء به فيها. قال شيخ الطائفة المحقّة (قدس سره): طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها، لا يقع منه؛ و به قال الشافعي، و مالك، و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه، طلاق المكره و عتاقه واقع و كذلك كل عقد يلحقه فسخ؛ فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة، فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا، فان اجازها و إلّا بطلت؛ ثم استدل عليه في الخلاف باجماع الفرقة و أخبارهم و أصالة البراءة و حديث الرفع رواها عن ابن عباس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله. «1»

و قول أبي حنيفة و أصحابه هنا عجيب؛ فانّه لا فرق بين ما يقبل الفسخ و ما لا يقبل، مضافا إلي أنّ الطلاق لا يقبل الفسخ. اللّهم إلّا أن يقال إن مراده هو الرجوع في العدّة، و أنّه

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 478.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 250

إذا لم يرجع بمنزلة الإجازة و الرضا بما وقع منه اكراها. و هذا ليس

ببعيد؛ ففي الحقيقة ليس هو أيضا من المخالفين في المسالة. (و كذلك العتق في نظره). فالمسألة إجماعية بين علماء الإسلام.

و قد تعرض للشرائط العامة، لا سيما الاكراه (موضوعا و حكما) في كلام مبسوط له في الجواهر، فراجع. «1»

و كيف كان، العمدة في دليل المسألة، بناء العقلاء جميعا علي عدم الاعتناء بكل عقد نشأ عن اكراه؛ فان المعاقدة هو المعاهدة، و إنّما يتمّ معناها إذا نشأت عن رضا و اختيار؛ و قد امضاها الشارع المقدس.

هذا مضافا إلي حديث الرفع المعروف بين العامة و الخاصة؛ و ممّا رفع عن الأمة؛ ما اكرهوا عليه؛ أو ما استكرهوا عليه؛ و قد ذكرنا في محله أنّ الرفع لا ينحصر برفع المؤاخذة بل يشمل الأحكام الوضعيّة، فعقد المكره مرفوعة، أي ليس بصحيح. و قد استدل الإمام الصادق عليه السّلام به في رفع أثر طلاق المكره و عتاقه. و قد ورد روايات كثيرة في بطلان طلاق المكره، رواه في الوسائل، في الباب 37، من أبواب مقدمات الطلاق، من الجلد 15؛ فراجع. و الظاهر إلغاء الخصوصيّة عن الطلاق، و إجراء حكمه في النكاح و سائر العقود، و عدم تعرض الأصحاب له في النكاح غالبا للتسالم عليه.

صحّة العقد بعد لحوق الرضا

إنّما الكلام في صحة نكاح المكره، إذا لحقه الرضا و الإجازة، بأن يكون ممّا يجري فيه أحكام الفضولي، و الظاهر أنّ المسألة مشهورة أو إجماعية.

قال في الجواهر: عقد النكاح يقف علي الإجازة علي الأظهر الأشهر، بل المشهور شهرة عظيمة بين القدماء و المتأخرين، بل في الناصريات الاجماع عليه، و في محكي السرائر نفي الخلاف عنه، بل فيه مضافا إلي ذلك، دعوي تواتر الأخبار به. بل من أنكر

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 10 و بعده.

أنوار الفقاهة

- كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 251

الفضولي في غير النكاح أثبته هنا، للإجماع و النصوص. بل لم نعرف الخلاف في ذلك إلّا من الشيخ في محكي الخلاف؛ ثم نقل موافقته أيضا للمشهور في النهاية و التهذيب و الاستبصار. «1»

و نقله في الحدائق أيضا عن المشهور، بل عن المرتضي و ابن ادريس الإجماع عليه. «2»

و لكن مجرد جريان أحكام الفضولي في النكاح، غير كاف لما نحن بصدده؛ حتي تتمّ مسألة اخري، و هي أنّ المكره قاصد للإنشاء، حتي يلحقه الإجازة؛ أو فاقد للقصد كما يظهر من بعضهم حيث عطفوه علي المجنون و المغمي عليه و السكران. و الانصاف- كما فصلنا القول فيه في محله من كتاب البيع «3» - إنّ المكره غالبا يقصد اللفظ و الإنشاء، و إن كان غير راض بمفاده؛ فليس مسلوب العبارة، و ليس المكره كالهازل الذي لا يقصد اللفظ.

فاذن العقد كامل من جميع الجهات ما عدا الرضا و الإجازة، فاذا لحقته الإجازة، تمت؛ لعين ما ذكروه في أبواب الفضولي في البيع، فراجع. و الله العالم.

***

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 201.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق 23/ 257.

(3). أنوار الفقاهة، كتاب البيع/ 256.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 253

[فصل في أولياء العقد]

اشارة

فصل في اولياء العقد

[المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعني أب الأب- فصاعدا، ولاية علي الصغير و الصغيرة]

اشارة

المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعني أب الأب- فصاعدا، ولاية علي الصغير و الصغيرة و المجنون المتصل جنونه بالبلوغ، و كذا المنفصل عنه علي الظاهر؛ و لا ولاية للأمّ عليهم، و للجد من طرف الأمّ، و لو من قبل أمّ الأب، بان كان أبا لأمّ الأب مثلا، و لا للأخ و العمّ و الخال و اولادهم.

أقول: مسألة أولياء العقد اصلها و فروعها، من المسائل المهمّة في أبواب النكاح، و معركة لآراء الفقهاء (رضوان الله تعالي عليهم) و فيها دقائق كثيرة.

و الكلام تارة يكون بالنسبة إلي الصغير و الصغيرة، و اخري في الكبيرة. و هذه المسألة (المسألة الاولي) ناظرة إلي حكم الصغير و الصغيرة، و المسألة الآتية تتكفل لحكم الكبيرة.

و المعروف بين الأصحاب فيما نحن فيه، أنّ الأولياء علي الصغير و الصغيرة أربعة:

الأب و الجدّ، و الوصي، و المولي، و الحاكم، و الكلام الآن في الأب و الجد، و في المسألة فروع أربعة:

الفرع الأوّل: ولاية الاب و الجد عليهما

الظاهر أنّ ولايتهما إجماعي إجمالا، (مع قطع النظر عن خصوصياتهما من جهة عدم المفسدة، أو اشتراط المصلحة؛ و هل هناك مصلحة في زماننا في هذا الامر، أم لا؛ فهذه

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 254

الفروع سوف نتكلم فيها إن شاء الله في المسائل الآتية) و لكن حكي العلّامة (قدس سره)، في المختلف، عن ابن أبي عقيل عدم قبوله لولاية الجد. قال: أمّا ابن أبي عقيل، فانه قال: الولي الذي هو أولي بنكاحهن هو الأب دون غيره من الاولياء، و لم يذكر للجد ولاية. «1»

و قال في الحدائق: ثانيهما (يعني من موارد الخلاف) قول ابن أبي عقيل في نقصان الجد من هؤلاء المذكورين، فانه قال: الولي الذي اولي بنكاحهن هو

الأب دون غيره من الأولياء … «2» و ظاهر هذه العبارة المنقولة عنه، حصر الولاية في الأب.

و علي كل حال فهو شاذ لا يعتمد عليه. و لذا ادعي الأصحاب الإجماع علي المسألة من دون الاعتناء بمخالفته. و يمكن توجيه كلامه بان الأب يشتمل الجد عرفا، كما في قول يوسف: و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب؛ فانّ إسحاق جدّه و إبراهيم جده الأعلي، فاستعمال الأب في الجد ليس أمرا غريبا حتي إذا كان بصيغة المفرد، كما في الشعر المعروف المنسوب لمولانا أمير المؤمنين، (عليه افضل صلوات المصلين):

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الامّ حواء

اللّهم إلّا أن يقال، كل ذلك استعمالات مجازية؛ فتأمل.

و يدل علي قول المشهور روايات كثيرة في أبواب مختلفة، منها، الباب 6، و الباب 11، و الباب 12، من أبواب عقد النكاح؛ نذكر شطرا منها الواردة في الباب 11، فانّها و إن كانت ناظرة إلي تعارض اختيار الأب مع اختيار الجد، لكن يستفاد منها أنّ قبول ولايتهما كان مفروغا عنها، منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما، قال: إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علي ابنه؛ و لابنه أيضا أن يزوجها؛ فقلت: فان هوي أبوها رجلا و جدّها رجلا؟ فقال: الجد أولي بنكاحها. «3»

______________________________

(1). العلامة الحلّي، في مختلف الشيعة 7/ 100.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 202.

(3). الوسائل 14/ 217، الحديث 1، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 255

و سيأتي الكلام إنشاء الله في حكم تعارضهما في المسالة الثالثة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد

جدها أن يزوجها من رجل آخر؟ فقال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله، و يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «1»

3- ما رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة فالجد أولي. «2»

4- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إن الجد إذا زوج ابنة ابنه و كان أبوها حيا، و كان الجد مرضيا جاز. قلنا: فان هوي أبو الجارية هوي، و هوي الجد هوي، و هما سواء في العدل و الرضا؟ قال: أحب إلي أن ترضي بقول الجد. «3»

و هذه الروايات، و روايات كثيرة اخري واردة في نفس الباب، و الباب 12، صريحة في المطلوب؛ و قد عمل بها الأصحاب. فما هو منقول من انكار ابن أبي عقيل لولاية الجد عجيب. و يمكن الاستدلال لولاية الاب و الجد أيضا في الجملة بأنّه القدر المتيقن من الآية الشريفة: إِلّٰا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ. «4»

و في تفسير الآية و إن كان اختلاف بين المفسرين و لكن الظاهر إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي علي الصغار و لكن القدر المتيقن هو الأب.

و يمكن الاستدلال له أيضا بسيرة العقلاء، لا سيما أهل الشرع منهم، فانّهم يرون للأب ولاية علي الصغير و الصغيرة في مصالحهما، و منها النكاح إذا اقتضت المصلحة ذلك.

الفرع الثاني: ولايتهما علي المجنون و المجنونة

للأب و الجد ولاية علي المجنون البالغ و المجنونة كذلك المتصل جنونه بالصغر؛ و الظاهر من كلماتهم أنّ المسألة أيضا إجماعية. و قد ادعي في الجواهر عدم الخلاف

فيها. و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 3، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). البقرة/ 237.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 256

حكي عن المسالك أنّه موضع وفاق. «1» و لا ينقل في شي ء في كلماتهم نص خاص يدل علي ذلك.

و غاية ما يستدل عليه أولا، أنّه مقتضي الاستصحاب بالنسبة إلي حال الصغر.

و قد يورد عليه، بان الموضوع قد تبدل؛ فقد كانت الولاية بسبب الصغر، و المفروض انه قد كبر. و القول بأنّ ذلك من قبيل تبدل الحالات، بعيد، لأنّ الصغر كان مقوما.

مضافا إلي ما ذكرنا في محله من عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية و ما نحن فيه، منها.

و ثانيا، قد يستدل له أيضا بقوله تعالي: وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ …، «2» فان معناها عدم دفع أموالهم إليهم عند عدم استيناس الرشد، و من البعيد بقاء الولاية علي الأموال فقط دون النكاح، مضافا إلي ما ورد في حديث أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالي: … الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ …، «3» ما نصه: هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه و الذي يجوز أمره في مال المرأة … «4»

فمن يجوز له التصرف في مال المرأة، يجوز له عقد نكاحها؛ فتأمل.

و يرد عليه أنّ المخاطب في الآية غير معلوم، و الظاهر في هذه المقامات و نظائرها هو الحاكم الشرعي، كما في قوله تعالي: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا … «5» و قوله تعالي: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ

وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ … «6»

و الاولي، الاستدلال له بسيرة العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أولا، فان أمر أبنائهم المجانين بأيدي آبائهم، سواء فيه المتصل بالصغر و عدمه، كما هو الظاهر لمن راجعهم. و

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام، 29/ 186.

(2). النساء/ 6.

(3). البقرة/ 237.

(4). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(5). المائدة/ 38.

(6). النور/ 2.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 257

لكن القدر المتيقن من هذا الدليل، هو الأب خاصة. و يمكن الاستدلال له ثانيا، بإمكان الغاء الخصوصية عن غير البالغ، بأن يقال إنّ الملاك فيه عرفا الصلة العاطفية بين الولد و أبيه مع قصوره عن استقلال في أموره، و هذا بعينه موجود في ناحية المجنون. اللّهم إلّا أن يقال هذا استحسان ظني لا يبلغ حد اليقين بالملاك.

و علي كل، يظهر من بعض كلماتهم أنّ الإجماع أنّما هو في المتصل بالصغر؛ و أمّا المنفصل فلا إجماع فيه. و لكن الإنصاف أنّه لا ينبغي الفرق بينهما، لاستقرار سيرة العقلاء عليه، و امضاء الشارع له، و لا وجه للتمسك بان الحاكم الشرعي وليّ من لا وليّ له، و التفرقة بينهما تعود إلي نوع من الجمود.

الفرع الثالث: لا ولاية للأم و لو من قبل الاب

أنّه لا ولاية للأمّ و لو من قبل الأب، بان كان أمّا لأب. و يظهر من كلماتهم الإجماع عليه من غير الإسكافي (ابن الجنيد). قال النراقي، في المستند: لا ولاية في النكاح لأحد علي أحد سوي الأب، و الجد له، و المولي، و الحاكم، و الوصي، إجماعا لنا محققا و محكيا مستفيضا، في غير الام و الجد لها وفاقا لغير الإسكافي فيهما أيضا. «1»

بل صرح في الرياض، بأن عدم ولاية الام و أبيها هو الأشهر؛ ثم

نقل الإجماع عليه عن التذكرة و بعض فضلاء الأصحاب. «2»

و استدل عليه بما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها؛ ليس لها مع الأب أمر. و قال: يستأمرها كل أحد ما عدا الأب. «3»

و يمكن المناقشة فيه، أولا بأنّها ناظرة إلي الكبيرة بقرينة الاستيمار. (اللّهم إلّا أن يقال أنّها قد دل علي حكم الصغيرة بطريق اولي. و ثانيا، أنّها من ادلة استقلال الأب في أمر الكبيرة؛ و سيأتي أنّ هذا القول مخالف للتحقيق في المسألة.

______________________________

(1). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 124.

(2). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 87، (2/ 77 ط. ق).

(3). الوسائل 14/ 205، الحديث 3، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 258

2- ما رواه زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

و المراد بنقض النكاح ليس هو الطلاق، لعدم كونه بيد الأب قطعا، بل المراد هو المنع عن تحققه، و عدم جواز استقلال الجارية بعقدها؛ فالنقض هو نقض مقدمات النكاح عند حصولها كرضي الزوجين و مثله.

3- قد ورد عين هذا المضمون، عن محمد بن مسلم، عنه عليه السّلام. «2»

إلي غير ذلك مما في هذا المعني.

و لا يدل علي ولاية الام- مع أنّ الأصل عدم ولاية كل أحد علي غيره- إلّا ما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في رواية عاميّة؛ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، أنّه أمر نعيم بن نجاح أن يستأمر أم ابنته في أمرها. و قال: و آمروهن في بناتهن. «3»

بناء علي أنّ المراد من ابنته، ربيبته؛ و إلّا فمع وجود الأب و أعمال

الولاية لا تصل النوبة إلي الأم. و علي كل حال، هي رواية ضعيفة ذاتا، مضافا إلي أنّها مهجورة بعمل الأصحاب علي خلافها.

و قد يستدل عليه أيضا بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سأله عن رجل زوّجته امّه و هو غائب. قال: النكاح جائز، إن شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك. فان ترك المتزوج تزويجه، فالمهر لازم لأمّه. «4» فان لزوم المهر دليل علي ثبوت النكاح. و فيه، أنّه في الرجل الكبير و لا شك في عدم ولاية أحد عليه، إنّما الكلام في الصغير و المجنون. و أما لزوم المهر علي الأم أمّا يحمل علي دعواها الوكالة، أو علي ضرب من الاستحباب، و الأحسن الأخير؛ مضافا إلي أنّ صدرها علي خلاف المطلوب، أعني عدم نفوذ ولاية الام، أدلّ.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 205، الحديث 1، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 205، الحديث 5، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(3). رواها المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 202 و المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 92 و في كتب العامة، رواها البيهقي، في السنن الكبري 7/ 116.

(4). الوسائل 14/ 211، الحديث 3، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 259

الفرع الرابع: لا ولاية للأخ و الخال و العمّ و اولادهما

لا ولاية للأخ و العم و الخال و أولادهما و قد عرفت التصريح فيما مر من كلام المستند، للنراقي (قدس الله سره الشريف) بإجماع علمائنا عليه، و يظهر ذلك من المحقق الكركي، في جامع المقاصد أيضا، حيث قال: و الولاية الثابتة بالقرابة منحصرة عندنا في قرابة الأبوة و الجدودة من الأبوة باتفاق علمائنا؛ فلا تثبت للأخ ولاية، من الأبوين كان، أو من أحدهما، انفرد أو

كان مع الجد خلافا للعامة؛ و كذا الولد و سائر العصبات قربوا أم بعدوا. «1»

و يظهر من كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة؛ عند ذكر المسألة، إنّ أكثر فقهاء العامة علي ثبوت الولاية للأخ و العم و سائر العصبات و إن اختلفوا في ترتيب ولايتهم من حيث التقدم و التأخر؛ بل يظهر من المالكية ولاية الابن، حتي إذا كان ولد الزنا، علي أمّها؛ إلي غير ذلك من الخرافات و الدعاوي الجزافية. «2»

و علي كل حال، يدل علي عدم ولاية العم،- مضافا إلي أنّه موافق للأصل- ما رواه محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض بني عمّي إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام، ما تقول في صبيّة زوّجها عمها، فلما كبرت أبت التزويج؟ فكتب لي: لا تكره علي ذلك، و الأمر أمرها. «3»

و سند الحديث، و إن كان غير نقي، لعدم توثيق صريح لمحمد بن الحسن الأشعري؛ و لكن عمل الأصحاب بمضمونها جابر لسندها.

و يدل علي عدم ولاية الأخ، أولا، ما رواه الحلبي في حديث صحيح عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سئل عن رجل يريد ان يزوج اخته؟ قال: يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها و إن أبت لا يزوجها. «4»

هذا؛ و لكن الحديث لا يدل علي أزيد من نفي استقلال الأخ، أمّا عدم اعتبار اذنه، فلا؛

______________________________

(1). المحقق الكركي، في جامع المقاصد 12/ 92.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 259

(2). الفقه علي المذاهب الاربعة 4/ 28.

(3). الوسائل 14/ 207، الحديث 2، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(4).

الوسائل 14/ 205، الحديث 4، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 260

بل يمكن إن يكون اللازم اذنهما عند عدم حضور الأب.

هذا مضافا إلي أنّه وارد في الكبيرة، و لا يدل علي نفي اعتبار اذن الأخ في الصغيرة؛ فلا دلالة علي المطلوب.

و ثانيا، ما رواه الصدوق، باسناده عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في رجل يريد أنّ يزوج أخته؟ قال: يؤامرها، فان سكتت فهو اقرارها، و إن أبت لم يزوجها … «1»

و يمكن المناقشة فيها بما مر في الحديث السابق من وجهين، فالاستدلال بها أيضا مشكل؛ هذا مضافا إلي أنّ داود بن سرحان و إن كان ثقة، و لكن صحة طريق الصدوق إليه غير معلوم، فقد حكي في جامع الروات، صحة سنده إليه في خاصة ليس أبواب النكاح منها.

فالعمدة في عدم ولاية الأخ، هي العمومات الدالة علي نفي الولاية عن غير الأب و الجدّ.

هذا؛ و هناك روايات تدل علي صحة عقد الأخ و ولايته؛ منها:

1- ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في انكحها أخوها رجلا، ثم انكحتها امها بعد ذلك رجلا، و خالها أو أخ لها صغير فدخل بها فحبلت فاحتكما فاقام الأول الشهود، فالحقها بالاول و جعل لها الصداقين جميعا، الحديث. «2»

حيث يدل علي صحة استقلال الأخ بعقد نكاح الكبيرة، فيصح في الصغيرة بطريق أولي.

2- عن وليد بياع الاسقاط، قال: سئل أبو عبد الله عليه السّلام و أنا عنده، عن جارية كان لها أخوان، زوجها الأكبر بالكوفه، و زوجها الأصغر بأرض اخري؛ قال: الأول بها اولي؛ الحديث. «3»

3- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد

الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 211، الحديث 1، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 211، الحديث 2، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 211، الحديث 4، الباب 7 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 261

قال: هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه، الحديث. «1»

4- عن بعض أصحابنا، عن الرضا عليه السّلام قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب. «2»

و قد حمل الأصحاب بعض هذه الأحاديث علي كون الأخ وكيلا، و بعضها علي استحباب وكالته و تعظيم شأنه، أو علي التقية لما عرفت من ذهاب العامة إليه، مضافا إلي كونها مهجورة عند الأصحاب.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 6، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 262

[المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية علي البالغ الرشيد]

اشارة

المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية علي البالغ الرشيد و لا علي البالغة الرشيدة إذا كانت ثيبة؛ و امّا إذا كانت بكرا، ففيه أقوال:

1- استقلالها و عدم الولاية لهما عليها لا مستقلا و لا منضما.

2- و استقلالهما و عدم سلطنة و ولاية لها كذلك.

3- و التشريك، بمعني اعتبار اذن الولي و اذنها معا.

4- و التفصيل بين الدوام و الانقطاع، أمّا باستقلالها في الأول دون الثاني.

5- أو العكس.

و الأحوط، الاستئذان منهما. نعم، لا إشكال في سقوط اعتبار اذنهما إن منعاها من التزويج بمن هو كفو لها شرعا و عرفا مع ميلها. و كذا إذا كانا غائبين بحيث لا يمكن الاستئذان منهما مع حاجتها إلي التزويج.

عدم ولاية الاب و الجد علي البالغة الرشيدة

أقول: و يظهر من الحدائق، أنّ صاحب المسالك، بعد نقل هذه الأقوال الخمسة، قال: و زاد بعضهم قولا سادسا و هو أنّ التشريك في الولاية تكون بين المرأة و أبيها خاصة، دون غيره من الأولياء، و نسبه إلي المفيد. «1»

اقوال الفقهاء في المسألة

و علي كل حال، هذه المسألة من المسائل المهمّة التي هي معركة الآراء، و لا يزال يسأل عنها، لابتلاء الناس بها دائما. قال في الحدائق: قد عدّها الأصحاب من امهات المسائل و معضلات المشاكل و قد صنف فيها الرسائل و كثر السؤال عنها و السائل، و أطنب جملة من الأصحاب فيها الاستدلال لهذه الأقوال.

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 212.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 263

و المشهور بينهم من هذه الأقوال، هو الثلاثة الاولي: استقلال الأولياء، و استقلالهن، و التشريك بينهم و بينها.

و الأول، و هو استقلالها محكي عن مشهور المتأخرين، و حكي عن الشيخ، في التبيان؛ و المرتضي؛ و المفيد، في أحكام النساء؛ و ابن الجنيد، و سلار، و ابن إدريس، و هو مذهب المحقق، و العلّامة. «1» فكأنه المشهور بين القدماء و المتأخرين.

و الثاني، و هو عدم استقلالها و عدم تشريكها عن الشيخ، في أكثر كتبه. و الصدوق، و ابن أبي عقيل، و المحدث الكاشاني، و اختاره نفسه. «2» و في المستند حكايته عن جماعة اخري. «3»

و الثالث، و هو التشريك، محكي عن أبي الصلاح الحلبي، و الشيخ المفيد في المقنعة، و اختاره صاحب الوسائل.

و أمّا الرابع، أعني استقلال الأولياء في الدائم دون المنقطع، منقول عن الشيخ في كتابي الأخبار. «4»

و أمّا الخامس، أعني عكسه و هو الولاية في المنقطع دون الدائم، حكاه المحقق في الشرائع، و لم يسم قائله.

و قد

عرفت نسبة القول السادس- و هو أنّ التشريك مختص بالأب- إلي المفيد.

و أما أقوال العامة، فهي أيضا مختلفة جدا، كما يظهر من الخلاف، و الفقه علي المذاهب الأربعة، و غيرهما. قال شيخ الطائفة في الخلاف ما حاصله:

قال الشافعي: إذا بلغت الحرّة الرشيدة، ملكت كل عقد إلّا النكاح، فانّها متي أرادت أن تتزوج افتقر نكاحها إلي الولي، و هو شرط لا ينعقد إلّا به مطلقا علي كل حال …

و قال ابو حنيفة: إذا بلغت المرأة الرشيدة، فقد زالت ولاية الولي عنها، كما زالت عن مالها، و لا يفتقر نكاحها إلي اذنه. ثم ذكر أنّها لو تزوجت و لم تضع نفسها في كفو، جاز

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

(2). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

(3). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 104.

(4). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة 23/ 210.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 264

للولي فسخ نكاحها!

و قال مالك: إن كانت عربيّة و نسيبة، فنكاحها يفتقر إلي الوليّ! و إن كانت معتقة دنيّة! لم يفتقر إليه.

و قال داود: إن كانت بكرا، فنكاحها لا ينعقد إلّا بولي، و إن كانت ثيبا لم يفتقر إلي وليّ … «1»

*** أدلّة القول باستقلالها بالعقد

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي أدلة الأقوال؛ فنقول: (و منه جل شأنه نستمد التوفيق و الهداية) استدل للقول الأول و هو استقلالها بالعقد، بامور:

الأوّل: الأصل؛ و هو انتفاء ولاية كل إنسان علي غيره و هو إمّا يرجع إلي الاستصحاب، بمعني عدم جعل ولاية للأب و الجد علي البكر بعد بلوغها، و القول بأنّ مقتضي الاستصحاب بقاء الولاية الثانية علي الصغير، ممنوع، لتبدل الموضوع قطعا بعد زوال الصغر؛ كما عرفت سابقا. فلا يبقي إلّا أصالة عدم جعل الولاية،

و هو إمّا من قبيل العدم الأزلي، لو كان الموضوع كل شخص؛ أو من قبيل عدم الجعل قبل الشرع، إن كان الموضوع عدم الجعل علي النوع بعنوان القضية الحقيقية.

و لكن كل واحد منهما لا يخلو عن مناقشة.

و الاولي أن يقال، إن المراد بالأصل، عمومات وجوب الوفاء بالعقود التي يكون المكلف فيها كل إنسان بالغ، فاذا عقد البكر عقدا علي نفسها مستقلا وجب عليها الوفاء به، و أمّا إذا عقد عليها الولي، لا دليل علي وجوب وفائها به، فان العقود بمعني عقودكم.

الثاني: الآيات الواردة في الكتاب العزيز، و هي علي طائفتين:

1- الآيات الواردة في المتوفي عنها زوجها، مثل قوله تعالي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 252.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 265

وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؛ «1» و ذلك للعلم بأن عدّة الوفاة لا فرق فيها بين المدخول بها و غير المدخول بها، بين البكر و بين الثيب، فاذا ثبت استقلالها بحسب ظاهر الاية هنا، ثبت في ما لم تتزوج أيضا.

و لكن الاستدلال بها مبني علي صدق البكر علي غير المدخولة و إن تزوجت، و هو الحق؛ لأنّ عنوان الباكرة عرفا صادقة عليها قطعا، كما سيأتي إن شاء الله.

و مثلها الاستدلال بقوله تعالي: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً … فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ …، «2» و دعوي الانصراف ممنوع.

2- الآيات الواردة في المطلقات، مثل قوله تعالي: وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛ «3» و

الاستدلال بها مبني علي وجوب العدّة علي المدخول بها علي غير المتعارف (دبرا) كما هو المشهور، بل في الجواهر دعوي عدم الخلاف فيه، بل ظهور الإجماع عليه، و إن حكي عن الحدائق التوقف فيه. «4» فعلي هذا، يشمل عموم الآية لمثل هذا الفرد التي يصدق عليها البكر لعدم زوال بكارتها، و يتمّ في غيرها بعدم القول بالفصل؛ و دعوي انصراف الآية إلي المدخول بها من طريق المتعارف غير بعيد.

الثالث: الروايات الواردة في المسألة و هي كثيرة تشتمل علي طوائف؛ و يدل علي هذا القول روايات، منها:

1- ما عن سعدان بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت بغير اذن أبيها. «5»

و هي صريحة في المطلوب، و لكن الراوي الأخير سعدان بن مسلم، مجهول الحال،

______________________________

(1). البقرة/ 234.

(2). البقرة/ 240.

(3). البقرة/ 232.

(4). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 32/ 213.

(5). الوسائل 14/ 214، الحديث 4، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 266

فلا يعتمد علي الرواية من دون جبر سندها إمّا بالشهرة أو بالاستفاضة.

2- ما عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها، تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي من مالها ما شاءت، فان أمرها جائز، تزوج إن شاءت بغير اذن وليها … «1»

و من الواضح إن المراد بكونها مالكة أمرها، كونها مستقلة في تصرفها في أموالها الذي يكفي فيه كونها بالغة رشيدة، و إن كانت باكرة، فدلالتها تامّة.

و لكن موسي بن بكر الذي يروي عن زرارة، غير معلوم الحال، و إن ورد فيه بعض المدائح، مثل ما رواه عن أبي الحسن عليه السّلام قال له: لم يخف

عليك أن نبعثك في بعض حوائجنا. فقلت: أنا عبدك، فمرني بما شئت. فوجهني في بعض حوائجه إلي الشام. «2» و لكن الراوي لهذه الفضيلة نفسه و هو كما تري.

3- صحيحة الفضلاء؛ رواها فضيل بن يسار، و محمد بن مسلم، و زرارة، و بريد بن معاوية، كلهم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولي عليها، تزويجها بغير ولي جائز. «3»

سندها واضح الصحة بل هو في قوّة اربع روايات كما هو ظاهر، و قد أورد علي دلالتها أولا، بمنع كون البكر مصداقا لقوله: مالكة أمرها، و غير مولي عليها؛ و ثانيا، المفرد المعرف لا يدل علي العموم. و ثالثا، لا يعلم المراد بملك النفس. و لكن يمكن الجواب عن الجميع؛ أمّا عن الأول، فلان الظاهر أنّ المراد بمالكية أمرها، هو ملكها لأمورها المالية؛ و إلّا لو كان المراد ملكيتها لأمرها في النكاح، كان من قبيل توضيح الواضح، و قولنا، الإنسان إنسان.

و أمّا الثاني، فلأن المفرد العرف، يدل علي الاطلاق المساوق للعموم، كما هو ظاهر. و قد ظهر الجواب عن الثالث أيضا.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 215، الحديث 6، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق الأردبيلي، في جامع الرواة 2/ 272.

(3). الوسائل 14/ 201، الحديث 1، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 267

4- و يدل عليه أيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكة لأمرها، فان شاءت جعلت وليّا. «1»

و المراد بجعل الولي هنا. هو الوكيل؛ فان الولاية ليست أمرا مجعولا من قبل نفس الانسان.

و هناك روايات أيضا واردة في

خصوص أبواب المتعة، تدل علي استقلالها؛ منها:

5- ما رواه ابو سعيد القماط، عمن رواه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام جارية بكر بين أبويها تدعوني إلي نفسها سرّا من أبويها؛ فافعل ذلك؟ قال: نعم، و اتقي موضع الفرج … «2» و هذا دليل علي عدم جواز مواقعتها.

6- ما رواه الحلبي، قال: سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا اذن ابويها؛ قال: لا بأس ما لم يقتض ما هناك، لتعف بذلك. «3»

7- ما عن حفص البختري، عن أبي عبد الله عليه السّلام في الرجل يتزوج البكر متعة، قال:

يكره، للعيب علي أهلها. «4» بناء علي كون الكراهة المصطلحة، لا سيما مع ملاحظه التعليل.

8- روي في المستدرك، عن رسالة المتعة، للشيخ المفيد (قدس سره)، عن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر، إذا رضيت من غير اذن أبيها. «5» و دلالتها صريحة في الاستقلال؛ و لكن سندها مرفوعة.

و في نفس الكتاب، روايات اخري تدل علي عدم جواز نكاح البكر بدون رضاها، و هي لا تدل علي أزيد من التشريك.

9- هناك رواية مرسلة، عن ابن عباس (في منابع العامة)؛ أنّ جارية بكرا جاءت إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله فقالت: إنّ أبي زوجني من ابن أخ له، ليرفع خسيسته، و أنا له كارهة؛ فقال صلّي اللّه عليه و آله:

أجيزي (اختري) ما صنع أبوك. فقالت: لا رغبة لي فيما صنع. قال: فاذهبي فانكحي من

______________________________

(1). الوسائل 14/ 203، الحديث 8، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 458، الحديث 7، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 9، الباب 11 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 459،

الحديث 10، الباب 11 من أبواب المتعة.

(5). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 319، الحديث 16825.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 268

شئت. فقالت: لا رغبة لي عمّا صنع أبي، و لكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء في امور بناتهم شي ء! «1»

و دلالتها واضحة علي المطلوب، فان قوله: فاذهبي فانكحي من شئت؛ دليل واضح علي الاستقلال، و لكن الإشكال أيضا في سندها.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن مقتضي الأصل، و ظواهر الآيات القرآنية، و طائفة كبيرة من الروايات، هو استقلال الباكرة الرشيدة في عقد النكاح، و ضعف اسناد بعضها بعد تضافرها و صحة بعض اسناده غير قادح، كما أنّ اختصاص بعضها بالمتعة غير ضارّ، بعد اطلاق كثير منها.

إن قلت: الموضوع في هذه الروايات هي المالكة لأمرها، و لعل المراد منها هو الثيب، فهي خارجة عن ما نحن بصدده.

قلت: أولا، إنّ هذا العنوان إنّما ورد في خصوص ثلاثه منها، و أمّا الباقي فليس من هذا العنوان فيه أثر. و ثانيا، أنّهم و إن ذكروا في تفسير هذا العنوان احتمالات ثلاثة:

1- المراد منه هو الثيب؛ احتمله صاحب الوسائل و العلّامة المجلسي في مرآة العقول، و المجلسي الأول في روضة المتقين.

2- إنّ المراد منه البكر التي لا أب لها؛ كما احتمله في المرآة، أيضا.

3- إن المراد منه هي الباكرة الرشيدة التي تجوز تصرفاتها في أموالها، كما احتمله روضة المتقين أيضا.

إلّا أنّ الحمل علي الأولين بعيد جدّا، بعد تفسيرها صريحا بالمعني الثالث، في رواية زرارة (6/ 9 من أبواب عقد النكاح)، و ظاهرا في رواية الفضلاء، و كونها من قبيل توضيح الواضح، أو كان المراد مالكية أمرها في النكاح كما هو ظاهر. فالمتعين هو المعني الثالث الذي

اخترناه. هذا، و لكن الحكم في المسألة لا يمكن إلّا بعد ملاحظة أدلة سائر الأقوال.

______________________________

(1). محمد بن يزيد القزويني، في سنن ابن ماجة 1/ 602، الحديث 1874.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 269

أدلّة القول باستقلال الاب و الجد

و يدل علي القول الثاني، أعني استقلال الأب و الجد- بعد عدم إمكان الاستناد إلي الأصل، نظرا إلي تبدل الموضوع من حال الصغر إلي الكبر قطعا- عدة روايات؛ منها:

1- ما عن فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد ابوها أن يزوجها، هو انظر لها. و أمّا الثيب فانّها تستاذن و إن كانت بين أبويها إذا أراد أن يزوجها. «1»

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء أ لها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «2»

3- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها؛ فاذا كانت ثيبا فهي اولي بنفسها. «3»

4- ما عن ابراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس مع أبويها أمر؛ و إذا كانت قد تزوجت لم يزوجها إلّا برضا منها. «4»

5- عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في الجارية يزوجها ابوها بغير رضا منها؛ قال:

ليس مع أبيها أمر، إذا أنكحها جاز نكاحه، و إن كانت كارهة.

6- علي بن جعفر، في كتابه، عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يزوج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم، ليس يكون للولد أمر

إلّا أن تكون امرأة قد دخل بها قبل ذلك … «5»

7- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام … عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها امر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تكبر (تثيب). «6»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 6، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 203، الحديث 11، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 13، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 214، الحديث 6، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 215، الحديث 8، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

(6). الوسائل 14/ 207، الحديث 3، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 270

8- و ما عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الرجل ابنه، كان ذلك إلي ابنه و إذا زوج ابنته جاز ذلك. «1»

بل يمكن الاستدلال بالروايات الكثيرة الواردة في باب تعارض نكاح الأب و الجد، و أنّه يرجح نكاح الجدّ؛ (الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح)، فانّ ظاهرها معلومية جواز نكاح كل واحد منهما استقلالا، و أنّ السؤال عن فرض التعارض.

و لكن الإنصاف أنّه ليس فيها تصريح بالبالغة الرشيدة فحملها علي الصغيرة، غير بعيد. نعم، ظاهر التعليل الواردة في 8/ 11، و هو قوله: لأنّها و أباها للجد؛ ظاهر في العموم.

و كذا قوله: أحب إلي أن ترضي بقول الجدّ؛ «2» ظاهر في كون محل الكلام، البالغة.

و الحاصل أنّ هذه الروايات الثمانية، تدل علي استقلال الأب أو الجد في نكاح الباكرة الرشيدة.

*** أدلّة القول بالتشريك في المسألة

و يدل علي القول الثالث، و هو التشريك، أنّه

موافق للقاعدة بناء علي أنّ الأصل في أبواب النكاح هو الاحتياط، فانّه الفرج و منه الولد. هذا مضافا إلي ظاهر قول الصادق عليه السّلام في موثق صفوان قال: استشار عبد الرحمن، موسي بن جعفر عليه السّلام، في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: أفعل، و يكون ذاك برضاها، فانّ لها في نفسها نصيبا. قال: و استشار خالد بن داود، موسي بن جعفر عليه السّلام في تزويج ابنته علي بن جعفر، فقال: أفعل و يكون ذلك برضاها فان لها في نفسها حظا. «3»

فان التعبير بالحظّ و النصيب، أصدق شاهد علي كون اذنها بعض المطلوب لا تمامه. و قد عرفت اعتبار سندها، و هذا أحسن دليل علي هذا القول.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 221، الحديث 3، الباب 13 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 214، الحديث 2، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 271

و قد يتوهم دلالة الروايات الكثيرة الدالة علي الاستيذان و الاستيمار من الباكرة الرشيدة علي التشريك، بدعوي ظهورها في كون اذنها شرطا في صحة العقد، مضافا إلي اذن الولي؛ و لكن الانصاف عدم دلالتها علي ذلك، لأنّ الاستيذان منها، أعم من كون إذنها تمام العلة أو جزء العلة، كما يقال لا يجوز التصرف في ملك الغير إلّا باذنه و رضاه (مع أنّ الاذن هنا تمام العلة).

و هناك روايات اخري وردت بمضمون واحد، قد يتوهم دلالتها علي القول الثالث، أي التشريك، و هو ما دل علي جواز نقض النكاح للأب؛ منها:

1- ما رواه زرارة في الصحيح، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

2- و مثله

ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «2»

بناء علي أنّ المراد منها، اشتراط اذن البالغة و اذن الأب معا. و لكن دلالتها علي خلاف المطلوب أوضح. و لو عمل بها، حدث قول آخر، لم ينقل من احد، و هو جواز استقلال الباكرة في العقد، و لكن يجوز استقلال الأب في فسخه إذا لم يوافقه. اللّهم إلّا أن يقال إن المراد بالفسخ هنا عدم امضائها، و فيه تأمل.

هذا تمام الكلام في الاقوال الثلاثة المعروفه و مداركها.

و إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه قد يقال أنّ طريق الجمع بين أدلة هذه الأقوال هو الرجوع إلي القول الثالث، فتحمل أدلة استقلال البكر، علي مجرد لزوم اذن الباكرة الرشيدة، كما تحمل أدلة استقلال الولي علي لزوم اذنه.

و لكن الانصاف، لا شاهد علي هذا الجمع، بعد صراحة دليل القول الثاني علي عدم اعتبار رضاها، و صراحة أدلة القول الأول علي عدم اعتبار اذن الولي. و موثق صفوان لا يكون دليلا و شاهدا للجمع، بعد معارضته صريحا بأدلة القول الأول و الثاني.

و لكن لو أردنا الأخذ بمقتضي صناعة الفقه، و عدم إظهار العجز عن استنباط حكم

______________________________

(1). الوسائل 14/ 205، الحديث 1، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 205، الحديث 5، الباب 4 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 272

المسألة علي رغم كثرة الأقوال و تضارب الآراء فيها و كثرة الروايات المتعارضة، كان اللازم الرجوع إلي المرجحات؛ لما عرفت من أنّ صراحة الروايات الدالة علي القولين الأولين مانعة عن الجمع بينها.

و أول المرجحات، هو الشهرة، و لا يبعد موافقها للقول الأول.

كما أنّ ثاني المرجحات، و هو موافقة ظاهر

الكتاب، أيضا يقتضي الرجوع اليه، لظهور غير واحد من الآيات الباهرات في استقلال المرأة.

و امّا مخالفة العامة، فكل من القولين موافق لبعض أقوالهم؛ فقد عرفت ذهاب كل امام منهم إلي قول في المسألة، فالآخذ بهذا المرجح في المقام مشكل جدا.

و قد مال في المستمسك إلي جمع آخر بين الروايات، و هو العمل بكل من الطائفتين الأولين- أي ما دلّ علي استقلالها و استقلال الولي- بأن يكون عقد كل واحد صحيحا، فأيهما سبق كان عقده تامّا، و كذا يجوز للأب نقض النكاح الذي عقدتها البنت؛ و اعترف سيدنا الاستاذ، في المستمسك، بأنّ هذا قول جديد لم نجد به قائلا، و لكن مع ذلك مال إليه.

و لكنه (قدس الله نفسه الزكية) لم يلتفت إلي التهافت الشديد بين الطائفتين، فانّ الثانية يصرح بأنّه ليس لها من الأمر شي ء مع أبيها، فقد ورد التصريح في أربعة من هذه الروايات بهذا المعني، و هذا ينافي استقلالها قطعا؛ فالجمع بينها بما ذكره قدّس سرّه غير ممكن؛ مضافا إلي أنّ الذهاب إلي ما لم يذهب إليه أحد عجيب.

و هناك طريق جمع آخر، اختارها في المسالك، و حاصله الأخذ بالقول الأول و حمل الطائفة الثانية من الأخبار علي كراهة استبداد البنت في هذا الأمر، و الحكم ببطلان نكاحها علي البالغة، انتهي ملخصا. «1»

و فيه أنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد له، بل ينافي و يعارض صريح غير واحد من تلك الروايات، لصراحتها في عدم حق للبالغة الرشيدة مع وجود الأب. فتدبّر. فتحصل من

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الافهام 1/ 450 ط. ق.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 273

جميع ما ذكر، أنّ الأقوي هو القول الأول.

*** بقي هنا امور:

1- مقتضي العناوين الثانوية في المسألة
اشارة

و هو أنّ جميع ما ذكرنا كان

بالنظر إلي العنوان الأولي، و لكن العناوين الثانوية في عصرنا و مجتمعنا ربّما تقتضي عدم استقلال الباكرة في أمر النكاح لا سيما النكاح الموقت، بل اللازم التشريك فيه بينها و بين الأولياء، لمفاسد شتي تترتب علي الاستقلال في المتعة و النكاح الدائم.

توضيح ذلك: أنّ سنّ الزواج و النكاح قد تغير و ارتفع، فلا تتوفق البنات و لا الأبناء للزواج في أوائل الشباب لأسباب شتي؛ منها، الدروس العالية التي لا تسمح لهم بذلك. و منها، شدة المؤنات في أمر المسكن و المعاش. و منها، ذهاب الكثير منهم إلي التكلفات في مراسم النكاح و أمر الجهاز و غير ذلك. هذا من ناحية؛

و من ناحية اخري لقد كثرت أسباب النزعات الشهوية و الشيطانية في عصرنا من الأفلام و الأغنيات و مجالس الفساد و المجلات الفاسدة و ما يسمي «كأمر صناعي» التي تحمل أنواعا كثيرة فاسدة من ذلك.

المشاكل العظيمة المترتبة علي استقلال البكر في النكاح

و من هذه الجهة أقبلت كثير من الأبكار و الأولاد إلي المتعة بدون اذن الأولياء، و الأولياء لا يرضون بذلك لما فيه من المشاكل العظيمة، نشير إلي خمسة منها:

1- القوي الشهوية لا تخضع لضابطة، و لا تسلم لحد خاص، بل إذا هاج بها الإنسان تتعدي كثيرا إلي أقصي ما يمكن؛ و ببالي أنّه قد ورد في الحديث، إذا هاجت الشهوة الجنسية ذهب ثلثا عقل الإنسان، و بقي ثلث منه فقط! و معه لا يقدر كثير من الناس علي ضبط أنفسهم، فيحدث ما لا ينبغي من هتك الاعراض و ذهاب البكارة، و ينعقد الأولاد

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 274

غير المطلوب منها.

2- هذه الأبكار تحت هذه السائقة طبعا ينكحن أفرادا متعددة في أزمنة مختلفة، و بعد ذلك لا يرغب كثير من

الناس في نكاحهن، و كأنّهن من الأرامل، بل و أدون منهن! للزواجات المتعددة التي مرّت عليهن.

3- و هناك مفسدة عظيمة اخري، و هي أنّهن بعد الزواج الدائم، إن كان أزواجهن أحسن من جميع من كن معهم قبل ذلك، فلا كلام؛ و لكن كثيرا ما لا يكون ذلك فيكون هذا سببا لعدم رضايتهن بنكاحهن؛ و قد يكون هذا سببا للطلاق و الخلاف و اضمحلال نظام الاسرة.

4- قد تكون علاقاتهن بعد النكاح الدائم مع من كن معهم قبل ذلك، (و لا سمح الله و نعوذ بالله لو اتسعت هذه العلاقات و كثرت) فانّها مفسدة عظيمة اخري و نسيانهن ما مضي مشكل جدا، إلّا لأهل الدين و التقوي منهن.

5- لو فتح هذا الباب- أي باب النكاح الموقت بسهولة، و بغير حاجة إلي اذن الأولياء و لا كتابتها في الجنسية (لما فيها من المفاسد الكثيرة)- كان سببا لتجاسر ذوي الأهواء و ذوات الأهواء الفاسدة، لصلة كثير منهم و منهن باشخاص مختلفة بعنوان الزواج الموقت، مثل ما هو الآن موجود تحت عنوان الصديق و الرفيق؛ و المفاسد التي تنشأ منه مما لا يخفي علي أحد، فيكثر الزنا تحت عنوان النكاح الموقت.

هذه اللوازم و إن كانت في الأزمنة السابقة أيضا، و لكن لما كان النكاح الدائم ميسّرا و سهلا و أسباب هيجان القوي الشهوية قليلة كانت المفاسد الحاصلة يسيرا.

و علي كل حال، لعله لبعض ما ذكرنا قد ورد التصريح في كثير من روايات المتعة باجتناب الابكار. منها:

1- ما عن عبد الملك بن عمرو، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن المتعة. فقال: أمرها شديد فاتقوا الأبكار. «1»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 460، الحديث 14، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب

النكاح (لمكارم)، ص: 275

2- ما عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: يا ابا بكر، ايّاكم و الأبكار أن تزوجوهن متعة. «1»

3- ما عن أبي مريم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: العذراء التي لها أب، لا تزوج متعة إلّا باذن أبيها. «2» و لازم الاذن غالبا ترك النكاح كما لا يخفي.

4- ما عن المهلب الدلال، أنّه كتب إلي أبي الحسن عليه السّلام إلي أن قال: و لا يكون تزويج متعة ببكر. «3» و ظاهرها البطلان، لما ورد في صدرها فراجع.

و الجمع بينها و بين سائر روايات الباب التي سبق ذكرها، و إن كان بالحمل علي الكراهة إلّا أنّها تخبر عن بعض العناوين الثانوية التي لو شدد أمرها كان مآلها إلي الحرمة.

و من جميع ما ذكرنا، يمكن الحكم بحرمتها بدون اذن الولي، و لا أقل من وجوب الاحتياط فيها.

إن قلت: قد يكون المورد موردا خاصا مطمئنا من جميع الجهات، فلا تجري فيه حكم الحرمة.

قلت: الأحكام لا تتبع الموارد الخاصة، و لا يمكن للفقيه في أمثال المقام، أن يجعل لكل مورد حكما، بعد إن كان الغالب فيها الفساد. فيحكم حكما باتا للعموم و إلّا انفتح فيها أبواب الفرار عن أصل الحكم، و القضاء عليه، و افساده؛ كما أن الأمر في جميع الأحكام عند العقلاء كذلك؛ مثلا إذا قيل لا يجوز العبور عن السراج الأحمر حذرا من تصادم السيارات و اختلال النظام، لا يمكن أن يقال لم لا يجوز العبور إذا لم تكن هناك سيارة في الشارع المقابل.

إن قلت: ان منعنا نكاح المتعة في هذا العصر و سدّدنا بابها مع ما ذكرت من غلبة أسباب الهيجانات الشهوية و توفرها و ارتقاء سن

النكاح، فما الحيلة للنجاة عن الوقوع في المعاصي لا سيّما للشباب، هل هناك طريق؟!

______________________________

(1). الوسائل 14/ 460، الحديث 13، الباب 11 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 459، الحديث 12، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 11، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 276

قلنا: لا محيص إلّا عن الاقبال إلي النكاح السهل البسيط الخالي من التكلفات، فهو الطريق الوحيد للوصول إلي هذا الغرض، لا غير. و لو تغيرت ثقافة المجتمع من النكاح المتكلف فيه إلي النكاح الساذج البسيط، أمكن الجمع بينها و بين تعلم العلوم و شبهه، لا سيما مع إمكان تاخير الزفاف و مع إمكان التحرز عن انعقاد الولد علي فرض الزفاف في عصرنا بأسباب مختلفة.

أضف إلي ذلك، أنّه لا بد للشباب أن يمنعوا بانفسهم عن أسباب الهيجانات الشهوية، و حضور مجالس اللهو و الفساد و الرقص و الأغاني، و مشاهدة الأفلام الفاسده و ترك مطالعة الجرائد و المجلات المفسدة، و لو أراد الشاب فعل جميع ذلك و لم تكن عنده زوجة لانحدر إلي هوّة الفساد بلا إشكال إلّا أنّ كثيرا من ذلك بيده و باختياره، يمكنه تركه.

فتلخص من جميع ذلك أن يشكل جدّا للفقيه، الفتوي بجواز متعة الأبكار في هذه الأعصار، و هذا من العناوين الثانوية. و المراد بها هنا أنّ الحكم في نفسه هو استقلال البالغة الرشيدة في نفسها، و لكن عروض العوارض الخاصة عليه في زماننا هذا، أوجب المنع منه. (مثله في عكس هذه الجهة، حرمة الميتة … بالذات، و لكن بسبب فقدان القوت في السفر مثلا و اضطراره إلي أكلها يصير مباحا).

و إلي ذلك و أمثاله، أشار في الجواهر، بقوله (قدس سره): نعم،

يستحب لها إيثار اختيار وليها علي اختيارها، بل يكره لها الاستبدار، كما أنّه يكره لمن يريد نكاحها فعله بدون اذن وليها، بل ربّما يحرم بالعوارض؛ «1» و الفرق بين الثيب و البكر، غير خفي علي البصير.

هذا كله في نكاح المتعة.

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 183.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 277

المفاسد الكثيرة المترتبة علي استقلال البكر في العقد الدائم

أمّا العقد الدائم في الباكرة بدون اذن الولي أيضا يترتب عليها مفاسد كثيرة:

1- أنّه ليس لها خبرة بأمر النكاح، فانّ المفروض أنّها تنكح لأول مرّة و من الواضح أنّ النكاح الدائم هامّ في حياة كل أحد؛ لا يمكن لمن ليس له تجربة، اتخاذ موضع حسن غالبا، مع ما ظهر في عصرنا من أنواع التدليس و أنواع الغش و الخيانة و التزوير من ناحية الدجالين و الفاسقين ممّا لم يكن في سابق الأيام.

2- أنّها في معرض هيجان الشهوة و هي تعمي و تصمّ، و لا يسمح لها أن تري المحاسن و العيوب كلها، بخلاف ما لو شرّك الولي في امرها، فانّه يري ما لا تراه و يسمع ما لا تسمعه و حيث إنّه يعاني شديدا عمّا تحلّ بابنتها من المشاكل، فلا يقدم إلّا علي ما فيه خيرها و صلاحها.

3- أنّها إن استقلت بأمر النكاح و لم يستأذن من وليّه، فتبين لها كون الزوج من غير اهل الصلاح، فانّها لا تجد من يدافع عنها و يحميها مع شدة حاجتها إليه باعتبار ضعف النساء في مقابل الرجال غالبا. أمّا لو كان باذنه فانه يدافع عنها باشدّ ما يمكن بل يدافع عنها جميع طائفتها؛ لا سيما أنّها تحتاج غالبا إلي أبيها في مصارف الزواج.

4- أضف إلي جميع ذلك، أنّ الولي صاحب نعمتها، و له حق

الاحترام و الأدب، و استقلالها بهذا الأمر ينافي ذلك قطعا.

و في روايات الباب إشارات إلي ما ذكر؛ ففي رواية عبيد بن زرارة (5/ 11 منه)، و رواية علي بن جعفر عليه السّلام (8/ 11 منه): أنت و مالك لأبيك؛ أو: أنها و أباها للجدّ؛ إشارة إلي حفظ حريم الأولياء. و في قوله عليه السّلام في رواية فضل بن عبد الملك: هو انظر لها؛ (6/ 3 منه)، اشارة إلي أن الولي يحفظ مصالح بنته أكثر ممّا تحفظه نفسها.

إن قلت- لا شك أنّ كثيرا من البنات العالمات الفاضلات، أعلم بمصالحهن من آبائهن إذا كانوا جاهلين اميّين و أشباه ذلك؛ فلا أقل من القول باستثناء أمثال هذه الموارد.

قلت: قد عرفت غير مرّة أنّ الأحكام الكليّة و القوانين الإلهيّة و البشرية، لا يدور مدار الأشخاص و الأفراد؛ بل تشمل الجميع، و إن كان ملاكها في الأكثر. و الاستثناء منها بأمثال

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 278

ذلك سبب لضعفها و فتورها؛ لدعوي كل أحد أنّه من مصاديق الاستثناء. فلو قلنا إنّ اذن الولي شرط في عقد الباكرة الرشيدة إلّا أن تكون أعقل و أبصر من وليها، أمكن دعوي ذلك من كل باكرة رشيدة، و لا سيّما في عصرنا هذا الذي يتهم الأولياء بأنّهم لا صلة لهم بضرورات الزمان و حاجات العصر و أنّ الأولاد أخبر منهم بذلك.

إن قلت: ما الفرق بين ما ذكرتم من ثبوت العناوين الثانوية هنا بسبب ظهور المشاكل العظيمة في استقلال البكر، و بين ما لا يقول به أصحابنا الإماميّة و نرفضه من الحكم بالاستحسان؟

قلنا: المنفي هو الاستحسانات الظنيّة؛ أمّا ما بلغ حد القطع سواء كان من المستقلات العقليّة كحسن الإحسان و قبح الظلم، أو من

الامور القطعية النظرية مثل المفاسد و المشاكل التي أشرنا إليه في استقلالهن، مقبول عندنا و عند جميع العقلاء.

2- التفصيل بين النكاح الدائم و الموقّت

أنّ القول بالتفصيل بين النكاح الدائم و المنقطع، بالقول باستقلال البكر في الأول دون الثاني، أو بالعكس، فقد عرفت أنّ الاوّل لم يعرف له قائل و إن حكاه المحقق في الشرائع عن بعض لم يسمه؛ و إن الثاني محكي عن الشيخ في كتابي الأخبار.

و الذي يمكن أن يكون مستمسكا لهذين القولين، طائفتان من الروايات الواردة في أبواب المتعة، في الباب 11، و قد نقلناهما. فمن نظر إلي ما دل علي وجوب استيذان البكر في المتعة عن وليها، مثل صحيح أبي مريم «1» و صحيح البزنطي، «2» ثم ضمّه إلي أدلة قول استقلال البكر في النكاح، و حملها علي الدائم نظرا إلي انصراف اطلاقها إليه، قال بالأول.

أمّا من نظر إلي الطائفة الثانية من روايات المتعة الدالة علي جواز نكاحها بدون اذن الولي، مثل رواية الحلبي، «3» و رواية أبي سعيد، «4» ثم ضمّها إلي ما دلّ علي استقلال الولي في

______________________________

(1). الوسائل 14/ 459، الحديث 12، الباب 11 من أبواب المتعة.

(2). الوسائل 14/ 458، الحديث 5، الباب 11 من أبواب المتعة.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 9، الباب 11 من أبواب المتعة.

(4). الوسائل 14/ 458، الحديث 6، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 279

نكاحها و حملها علي الدائم للانصراف، قال بالثاني.

و الإنصاف أنّ شيئا من هذين، ليس مقبولا، و ما ذكر من الدليل غير كاف، فانّ طريق الجمع بين الروايات الدالة علي عدم جواز نكاح البكر بدون اذن أبيها، و ما دلّ علي جوازه، هو الجمع بالكراهة؛ مضافا إلي ما عرفت من أنّ الروايات الدالة

علي استقلالها في النكاح مطلقا، (أو في خصوص الدائم)، معارض بمثلها الدالة علي استقلال الولي؛ و أنّه لا يمكن الجمع بينهما؛ فاللازم الرجوع إلي المرجحات، و الترجيح لما دل علي استقلال الباكرة و إن كان مقتضي العناوين الثانوية في العصر الحاضر، المنع؛ و لا أقل من الاحتياط.

3- استثني من هذا الحكم صورتان

قد استثني من هذا الحكم، أي اشتراط اذن الولي علي القول به، في التحرير- كما عرفت- في ذيل المسألة، صورتين:

إحداهما، ما إذا منعها الولي عن التزويج مع الكفو شرعا و عرفا مع ميلها إلي النكاح، فاسقط اعتبار اذن الولي؛ و لم يرد نص خاص في المسألة، و استدل له في الشرائع و الجواهر و غيره بالإجماع، و قد حكي الإجماع عن التذكرة و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و كشف اللثام.

و استدل له ثانيا، بقوله تعالي: فَلٰا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، «1» بناء علي ما عرفت سابقا من إمكان كون الطلاق سببا للعدّة مع بقاء البكارة (لدخوله بطريق آخر).

و ثالثا، بقاعدة نفي الحرج في بعض الموارد.

و لكن في الجميع إشكال؛ أمّا الأول، فلان الإجماع علي تقدير ثبوته لا ينفع في هذه المسائل التي يوجد لها دلائل اخري.

______________________________

(1). البقرة/ 232.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 280

و أمّا الثاني، فيرد عليه تارة، بأنّ الآية منصرفة عن هذه الصورة النادرة (انحصار الدخول بطريق غير متعارف)؛ و اخري، بأنّ المخاطب في الآية غير واضح؛ فان كان الأولياء كان دليلا علي المطلوب، و إن كان المخاطب بعدم العضل (أي المنع) هو الزوج السابق (الأزواج السابقين)، فلا دلالة لها علي المطلوب؛ و ثالثة، بأنّ تحريم المنع يمكن أن يكون تكليفيا لا وضعيّا، فالولاية باقية. فتأمل.

و أمّا الثالث فبأن

قاعدة نفي الحرج، تختص بما إذا كانت البكر في عسر و حرج و ليس دائما كذلك.

و الأولي، الاستدلال علي المقصود، بانصراف أدلة الولاية عن مثل ذلك، فإنّها ناظرة إلي حفظ مصالح البنت، لا مصالح الولي؛ و الإشارة إلي مصالح الولي في بعض الأخبار أمر جنبيّ أخلاقي، فليست البنت مالا له يتجربه، كما هو المعمول عند بعض العوام و الذين لا معرفة لهم بحقايق الامور.

بل الولاية في جميع مواردها من الولايات العامة و الخاصة، إنّما هي لحفظ مصالح المولي عليهم لا غير، و الولي في الواقع في خدمتهم.

و قد يستدل بأنّ عدول الولي عن الكفو، مع ميل البنت، في الحقيقة خيانة بها؛ و يسقط الولي عن ولايته إذا خان؛ و يمكن إرجاع هذا الدليل إلي سابقه، فتأمل.

ثم إنّ المراد بالكفو الشرعي واضح و هو أن يكون الزوج مسلما، و أمّا الكفو العرفي هو أن يكون متناسبا في نظر العرف، و ذلك يمكن أن يكون جهات شتي: أولا، من ناحية مقدار السن؛ فلا يكون رجل بلغ ستين سنة، كفوا لباكرة بلغت عشرين سنة.

و ثانيا، من ناحيه العلم، فلا يكون الرجل الأمّي كفوا لآنسة تكون في مستوي عال من ناحية العلم.

و ثالثا من ناحية الديانة، فلا يكون الرجل تارك الصلاة و الصوم كفوا لبنت تكون مراعية لجميع الواجبات بل و كثير من المستحبات.

و رابعا، من ناحية السلامة و الجمال، فلا يكون رجل أعرج أبكم قبيح المنظر كفوا لامرأة ذات سلامة كاملة و جمال.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 281

و خامسا، من ناحيه الغني و الفقر، فلا يكون رجل فقير جدا كفوا لبنت ذات غني كامل.

لا أقول لا يجوز النكاح لغير الكفو العرفي، بل يجوز قطعا. و هذا

نوع من الإيثار و له أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي؛ بل أقول علي فرض اعتبار إذن الولي، له أن يمنع البنت عن النكاح بغير الكفو العرفي، و لا يجوز له المنع من الكفو حتي مع فرض اعتبار اذنه.

ثم، إنّه لو اختار الولي كفوا و اختارت البنت كفوا آخر، فهل تسقط ولايته؟ الظاهر أنّه تسقط، و يكون الخيار إليها؛ وفاقا للمسالك، و خلافا للجواهر. «1» و ذلك لما عرفت من الدليل الذي ذكرنا، من انصراف أدلة الولاية إلي ما هو مصالح للمولي عليه، و اختيار خلافه يكون خيانة عليه؛ و من الواضح أنّ البنت إذا اختارت كفوا تكون الفتها إليه أكثر ممّن يجبره الولي عليه و إن كان كفوا.

ثانيهما، ما إذا غاب الولي غيبة يشكل الوصول إليه، أو مات، مع حاجة البنت إلي التزويج؛ فانّه يسقط اذنه حينئذ، كما صرّح به الشيخ في الخلاف و المحدث البحراني في الحدائق، و صاحب الرياض في الرياض، و شيخنا الأعظم في رسالته، (علي ما حكاه في المستمسك عنهم) و ادعي عدم الخلاف فيه.

و لم يرد فيه أيضا نص؛ و الدليل عليه أيضا هو انصراف أدلة الولاية إلي غير ذلك، فانّ الغرض منها هو حفظ منافعها و المفروض هنا عدمه.

4- استقلال الثيب في النكاح
اشارة

الظاهر أنّه لا خلاف في استقلال الثيب في النكاح، إذا كانت عاقلة رشيدة. و قد حكي الخلاف عن ابن أبي عقيل في الجملة، و خلافه لا يضر بالإجماع، لو لم يكن إجماعا مدركيا.

و يدل عليه، مضافا إلي أنّه موافق للأصل- أصالة عدم الولاية كما عرفت شرحه

______________________________

(1). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 185.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 282

سابقا-، روايات كثيرة التي قد يعبر عنها بأنّها كادت تكون متواترة.

منها:

1- ما رواه الحلبي، من أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها أمر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «1»

2- ما عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الثيب، تخطب إلي نفسها؟ قال: نعم، هي أملك بنفسها، تولي أمرها من شاءت، إذا كانت قد تزوجت زوجا قبله. «2»

3- ما عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها، فاذا كانت ثيبا، فهي اولي بنفسها. «3»

هذه الروايات غير مقيدة بالكفو، و مثلها غيرها.

4- ما عن عبد الخالق، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن المرأة الثيب، تخطب إلي نفسها.

قال: هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا، بعد أن تكون قد نكحت زوجا قبل ذلك. «4»

و مثلها من حيث التقيد بالكفو، رواية اخري عن الحلبي. «5» و يمكن أن يكون التقييد بالكفو بمعني الكفو الشرعي أو العرفي و لكن يحمل علي الاستحباب أو يكون إشارة إلي رشدها، و لا أظنّ أحدا يفتي بأن المعتبر في استقلال الثيب هو اختيار الكفو العرفي.

و هناك روايات اخري، رواها في الوسائل، في نفس الباب، و في المستدرك في المجلد 14، في الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

و من طرق العامة يوجد بعض الروايات الصريحة في استقلال الثيب في أمر النكاح، مثل ما رواه ابن عباس، عن رسول الله صلّي اللّه عليه و آله قال: ليس للولي مع الثيب أمر. «6»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 203، الحديث 11، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/

204، الحديث 12، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 13، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 201، الحديث 2، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(5). الوسائل 14/ 202، الحديث 4، الباب 3 من أبواب عقد النكاح. و هي في الواقع و ايات ثلاثة وصفت بالصحة.

(6). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 118.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 283

و ما رواه أيضا عنه صلّي اللّه عليه و آله قال: الأيّم أحق بنفسها من وليّها، و البكر تستأذن في نفسها … «1»

إلي غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع في كتب الفريقين، و حاصل الجميع استقلال الثيب في أمر النكاح.

و لكن هناك طائفة اخري من الأخبار تعارض ما سبق؛ منها:

1- ما رواه سعيد بن اسماعيل، عن أبيه، قال: سالت الرضا عليه السّلام عن رجل تزوج ببكر أو ثيب لا يعلم أبوها و لا أحد من قراباتها، و لكن تجعل المرأة وكيلا فيزوجها من غير علمهم، قال: لا يكون ذا «2».

2- ما رواه المهلب الدلال، عن أبي الحسن عليه السّلام، إلي أنّ قال: … فكتب عليه السّلام، التزويج الدائم لا يكون إلّا بولي و شاهدين … «3»

و لكن الانصاف عدم مقاومة هذه الطائفة المعارضة للروايات السابقة، لضعفها في نفسها، لعدم ذكر سعيد بن اسماعيل في كتب الرجال، و الظاهر أنّه سعد بن اسماعيل (كما في التهذيب و الاستبصار اللذين هما الأصل في الرواية)، و هو أيضا مجهول. و كذا المهلب الدلال؛ مضافا إلي ان روايته مطلقة قابلة للتقييد بالثيب كما هو واضح؛ أضف إلي ذلك أنّ فيه ذكر الشاهدين، و ليسا شرطا في النكاح، فتحمل علي التقية أو الاستحباب؛ و كذا رواية

سعد بن اسماعيل قابلة للحمل علي الاستحباب.

هذا كله بحسب حكم الثيب.

تحديد معني الثيّب

ثم، إنّه ما المراد بموضوعه و هو الثيب؛ و قد وقع فيه خلاف في أنّه هل هو من ذهبت بكارتها (أي عذرتها، و هي الغشاء المخصوص) بأي سبب كان، حتي بالوثبة أو بمرض و نحوه.

______________________________

(1). البيهقي، في السنن الكبري 7/ 115.

(2). الوسائل 14/ 204، الحديث 15، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 459، الحديث 11، الباب 11 من أبواب المتعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 284

أو أنّ المراد منها ذهابها بالدخول، و لو كان بالزنا، نعوذ بالله.

أو أنّ المراد ما إذا ذهبت بسبب النكاح أو وطي الشبهة.

أو أنّ المراد من لم تتزوج، فاذا زوجت و طلقها قبل الدخول، أو مات عنها زوجها، كانت ثيبة.

قال الشهيد الثاني، في المسالك: أعلم أن الثيبوبة تتحقق بزوال البكارة بوطي و غيره، و انتفاء الولاية عنها مشروط بكونها بالوطي، كما نبه عليه في الرواية، (رواية سعد بن اسماعيل، 15/ 3) فلو ذهب بغيره، فهي بمنزلة البكر. «1»

و قال النراقي في المستند: لو ذهب بكارتها بغير الوطي، فحكمها حكم البكر، و كذا من ذهبت بكارتها بالزنا، و لو تزوجت و مات زوجها، أو طلقها قبل الوطي، لم تسقط الولاية، للإجماع و صدق الباكرة عليها. «2»

ظاهر الكلام المسالك، اشتراطه بأمرين، زوال البكارة و كونها بالوطي.

و ظاهر كلام المستند، اشتراطه بثلاثة امور، زوال البكارة و كونها بالوطي و كون الوطي مشروعا.

و قال في العروة: أنّ المدار علي التزويج فقط، فإذا تزوجت و مات عنها زوجها، أو طلقها قبل الدخول، لا يلحقها حكم البكر. (و هذا هو الذي ادعي في المستند، الإجماع علي خلافه) و صرح بأنّ ذهابها بغير الوطء،

لا يخرجها عن كونها بكرا؛ و كذا لو ذهبت بالزنا أو الشبهة، لا يبعد الالحاق. «3»

و أمّا المخالفون، فقد قال ابن قدامة، في المغني، بان: الثيب … هي الموطوءة في القبل، سواء كان حلالا أو حراما؛ و هذا مذهب الشافعي و قال مالك و أبو حنيفة في المصابة بالفجور حكمها حكم البكر … و إذا ذهبت عذرتها بغير جماع كالوثبة أو شدة حيضة أو باصبع أو عود و نحوه، فحكمها حكم الابكار. ذكره ابن حامد. «4»

______________________________

(1). الشهيد الثاني، في مسالك الأفهام 7/ 144، (1/ 452 ط. ق).

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 123، (مع التلخيص).

(3). السيد محمّد كاظم الطباطبائي، في العروة الوثقي 5/ 616، (2/ 865 ط. ق).

(4). عبد اللّه بن قدامة، في المغني 7/ 388.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 285

و الذي يستفاد من مجموع هذه الأقوال، أنّ الفقهاء من الخاصة و العامة، لم يتفقوا علي شي ء هنا؛ و اللازم الغور في معني الثيب لغة، ثم الغور في روايات الباب، أمّا الأول، فقد قال في القاموس: الثيب، المرأة فارقت زوجها أو دخل بها.

و قال في الصحاح: قال ابن السكيت، و هو الذي دخل بامراة، و هي التي دخل بها؛ و يظهر من الأول أنّ المدار علي أحد امرين، فراقها عن زوجها أو الدخول بها؛ كما أنّ ظاهر الثاني دورانه مدار الدخول.

و قال الراغب في المفردات: إنّ الثيب من؛ ثوب؛ بمعني الرجوع، و هي التي فارق زوجها، و صارت كالأبكار، فجعل المدار علي فراقها عن زوجها.

و لو أخذ بالقدر المتيقن من هذه الكلمات المختلفة، فلا بدّ من اشتراط امور ثلاثة:

تزويجها، و الدخول بها، و مفارقتها عن زوجها.

و أمّا العرف، فالذي يفهم منه، أنّ

الامر يدور مدار بقاء العذرة؛ فاذا كانت باقية؛ يقول هي باكرة، و إلّا ثيّبة. (بناء علي عدم وجود شق ثالث). و ما عرفت من أصل اللغة من اعتبار الدخول، كأنها ناظرة إلي ذلك، لأنّه الغالب.

و أمّا الروايات، فالذي يظهر من كثير منها، أنّ المدار علي النكاح و عدمه؛ منها:

1- ما رواه الحلبي، و عبد الله بن سنان، و الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

في المرأة الثيب تخطب إلي نفسها. قال: هي أملك بنفسها، تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا بعد أن تكون قد نكحت رجلا قبله. «1»

و مثلها ما رواه عبد الخالق، عنه عليه السّلام أيضا. «2» و ما رواه عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، عن الصادق عليه السّلام. «3» و ما رواه ابراهيم بن ميمون عنه عليه السّلام أيضا. «4»

و لكن يظهر من بعض الروايات، اعتبار الدخول، مثل رواية علي بن جعفر، عن أخيه

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 4، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 201، الحديث 2، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 204، الحديث 12، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 214، الحديث 3، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 286

موسي بن جعفر عليه السّلام. «1» و الجمع بينهما هو الحمل علي الغالب.

فالذي يتحصل من جميع ذلك، أنّ المدار علي النكاح؛ و كان السرّ فيه أنّ التي نكحت مرّة لها خبرة و تجربة بأمر النكاح؛ و من الواضح أنّ بقاء العذرة و عدمها لا دخل له فيه، فلو فرض كون العرف أو اللغة بخلافه، يؤخذ بمقتضي الروايات بعد تفسيرها فيها بما ذكر.

و القول بأنّ

النكاح يحمل علي فرده الغالب، و هو ما يكون مع الدخول؛ ممنوع، بان من لم يدخل بها، كثير لا سيما مع ما تعارف في كثير من الناس من الفصل بين العقد و الزفاف، فليس نادرا بحيث تنصرف عنه الروايات.

و ممّا ذكرنا تعرف انه لا مجال لاستصحاب بقاء الولاية، لو لا الدخول. و الله العالم.

بقي هنا شي ء: اذا رجعت البكارة، هل ترجع الولاية

و هو أنّه إذا رجعت بكارة المراة بعد الدخول و زوال العذرة (البكارة) بسبب عمليّة الجراحية، فهل تعود ولاية الأب و الجد عليها؛ بناء علي القول بأنّ الحكم يدور مدار بقاء العذرة و عدمها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الحكم يدور مدار بقاء الغشاء الطبيعي لا المصنوعي الذي وجد بعملية الجراحية، و أمّا نفس هذا العمل مباح في نفسه لو لم يرد به التدليس، بل كان لحفظ حرمة المرأة و شبهها، و لكن لما كان مستلزما للنظر و اللمس المحرّمين، لا يجوز إلّا عند الضرورة.

***

______________________________

(1). الوسائل 14/ 215، الحديث 8، الباب 9 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 287

[المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته]

اشارة

المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته، فعند وجودهما استقل كل منهما بالولاية، و إذا مات أحدهما اختصت بالآخر، و أيّهما سبق في تزويج المولّي عليه عند وجودهما. لم يبق محل للاخر.

و لو زوج كل منهما من شخص، فان علم السابق منهما فهو المقدم، و لغي الآخر. و أنّ علم التقارن، قدم عقد الجدّ و لغي عقد الأب. و أنّ جهل تاريخهما فلا يعلم السبق و اللحوق و التقارن، لزم اجراء حكم العلم الإجمالي بكونها زوجة لأحدهما؛ و أنّ علم تاريخ أحدهما دون الأخر، فان كان المعلوم تاريخ عقد الجد، قدم علي عقد الأب؛ و إن كان عقد الأب، قدم علي عقد الجدّ؛ لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في هذه الصورة.

استقلال كل من الاب و الجد بالولاية

أقول: في هذه المسألة فروع ثلاثة:

أولها: عدم اشتراط ولاية كل منهما بحياة الآخر، و البحث عن لوازمه.

ثانيها: لو زوج كل منهما و كانا معلومي التاريخ.

ثالثها: إذا كانا مجهولي التاريخ، أو أحدهما مجهولا.

الفرع الأول: عدم اشتراط كل منهما بحياة الآخر

اشارة

فلنرجع إلي الفرع الأول- و منه تعالي شأنه نستمد التوفيق و الهداية-:

المشهور بين فقهائنا أنّ ولاية الجد غير مشروطة بحياة الأب. و ذهب شاذّ إلي اشتراطها بها. و من أجمع الكلمات في بيان الأقوال في المسألة كلام المحدث البحراني، حيث قال: هل يشترط في ولاية الجد حياة الأب أم لا؟ المشهور، الثاني؛ و هو ظاهر الشيخ المفيد، و المرتضي، و سلار حيث اطلقوا الحكم بولاية الجدّ. و به قطع ابن ادريس، و من تأخر عنه؛ و ذهب الشيخ في النهاية، إلي أنّ حياة الأب شرط في ولاية الجدّ علي البكر البالغة و الصغيرة، و موته مسقط لولايته عليهما. و نقله في المختلف عن ابن

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 288

الجنيد، و أبي الصلاح، و ابن البراج، و الصدوق في الفقيه، و أمّا ابن أبي عقيل، فقد عرفت أنّه ينكر ولاية الجد مطلقا. «1»

و يظهر من بعض كلمات الجواهر، أنّ هناك قولا ثالثا لبعض العامة، و هو أنّ ولاية الجدّ مشروط بموت الأب؛ فراجع. «2»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف: الذي له الاجبار علي النكاح، الأب و الجدّ مع وجود الأب، و إن علا. و ليس للجد مع عدم الأب ولاية. (و لم ينقل من العامة قولا بالاشتراط،) و ذكر في آخر كلامه، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «3» و دعواه الإجماع مع ذهاب المشهور إلي خلافه، عجيب.

و علي كل حال، فقد ظهر مما ذكرنا أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة، استقلال كل

من الأب و الجد مطلقا؛ و اشتراط ولاية الجد بحياة الأب؛ و اشتراطه بمماته؛ و لكن الاخير من أقوال العامة.

أدلّة قول المشهور

و يمكن الاستدلال علي القول المشهور، بامور:

1- استصحاب بقاء ولاية الجدّ بعد وفاة الأب، لكنه استصحاب في الشبهة الحكمية، و المختار عدم حجيّة الاستصحاب إلّا في الشبهات الموضوعية.

2- اطلاقات ولاية الأب و الجد، الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

و فيه، أنّها واردة في فرض تعارض ولاية الأب و الجد و شبهه، و هو ناظر إلي فرض وجود كليهما، فلا دلالة لها علي ما نحن فيه.

3- الروايات الواردة في بيان المراد من الآية الشريفة: … أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكٰاحِ … ففي رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: الذي بيده عقدة

______________________________

(1). المحقق البحراني، في الحدائق الناضرة، 23/ 202.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 171.

(3). الشيخ الطوسي، في الخلاف 4/ 254، المسألة 17.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 289

النكاح»، هو ولي أمرها. «1»

و حيث إنّ ولاية الجد علي امور البنت معلوم، فعقدة النكاح بيده من غير تقييد.

و في رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

قال: … و الذي يجوز أمره في مال المرأة، … «2» و هي أيضا دالة علي كون الولي علي النكاح، هو الولي علي المال.

و لكن الخبر الثاني ضعيف سندا بالارسال، و دلالة بذكر الأخ. أمّا الأول، فهو صحيح سندا و دلالة.

4- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر … إلي أن قال: و

يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «3»

بناء علي كون ذيلها مطلقا، و لا يضرها ورود الصدر في مورد حياتهما. و سند الرواية معتبر.

5- ما سيأتي من أنّه عند تعارض عقد الأب و الجد في زمان واحد، يقدم عقد الجد؛ فهو أقوي و لا يؤثر موت الأضعف في ولايته. و لكن قد يقال أنّه استحسان ظنّي؛ فان بقاء الضعيف قد يكون شرطا في تأثير القوي؛ فتأمل.

و الحاصل، أنّ بعض هذه الأدلة و إن كان قابلا للمناقشة، و لكن في الباقي غني و كفاية في إثبات المقصود.

أدلّة القول باشتراط ولاية الجدّ ببقاء الاب

أما القول الثاني: أي اشتراط ولاية الجد ببقاء الأب؛ فغاية ما يدل عليه، ما رواه الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إنّ الجد إذا زوج ابنة ابنه، و كان أبوها حيّا و

______________________________

(1). الوسائل 14/ 212، الحديث 2، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 213، الحديث 4، الباب 8 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 290

كان الجد مرضيا، جاز. الحديث. «1»

بناء علي أنّ قوله: و كان أبوها حيّا؛ من تتمة الشرط؛ لأنّه معطوف علي ما قبله و هو الشرط قطعا، (لا أنّه من قبيل الوصف) و من المعلوم أنّ مفهوم الشرط حجة، فاذا انتفي حياة الأب انتفي الجواز.

و امّا قوله: و كان الجدّ مرضيا؛ إشارة إلي شرط آخر، قد ذكرناه في بعض المباحث السابقة، و هو لزوم رعاية مصلحة البنت في النكاح؛ فاللازم كون الولي مرضيا لا خائنا يري مصلحة نفسه و لا يري مصلحة البنت.

و قد صرّح المحقق (قدس سره) في الشرائع بان في الرواية ضعف؛ و تبعه

علي ذلك بعض آخر، و رموها باشتمالها علي جماعة من الواقفية.

و المراد من هؤلاء علي الظاهر هو جعفر بن سماعة، و حسن بن محمد بن سماعة، و حميد بن زياد، فانهم كلهم ثقات علي ما في كتب الرجال و متهمون بالوقف، و كذلك أبان بن عثمان، فانه و إن كان من اصحاب الإجماع و أجمعت العصابة علي تصحيح ما يصح عنه، و لكنه أيضا متهم بالوقف. و أنّ هؤلاء وقفوا علي موسي بن جعفر عليهما السّلام، و لم يقولوا بإمام بعده. و لكن علي كل حال، هم من الثقات، و ليس في روايتهم ضعف بهذا الاعتبار؛ و إن كان فيهم ضعف بحسب المذهب. (و لا يخفي عليك أن الحسن، في السند، هو الحسن بن محمد بن سماعة الواقفي، بقرينة نقل حميد بن زياد، عنه).

هذا؛ و لكن ناقش بعضهم في دلالته أيضا من جهة أن ذكر القيد و الشرط قد لا يكون لبيان المفهوم بل لبيان الفرد الاخفي، و هنا من هذا القبيل؛ لأنّ صحة عقد الجدّ مع حياة الأب و عدم الاستيذان منه، فرد بعيد خفي عن الأذهان، و كأنّه عليه السّلام يقول، لو كان الجد مرضيا جاز نكاحه و إن كان الأب حيّا. (و لو كان ميتا كان قبول نكاحه بطريق اولي)، و هذه المناقشة غير بعيدة عن سياق الكلام، مع ملاحظة الحكم و الموضوع.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 291

أدلّة القول باشتراط ولاية الجد بوفاة الاب

و أمّا القول الثالث: أعني اشتراط ولاية الجدّ بوفاة الأب؛ فهو ممّا لا دليل عليه عندنا، بل هناك روايات كثيرة (في الباب 11) دالة علي ولايته حال حيات الأب بل و

يقدم عليه و يرجح؛ و مع ذلك لا يبقي شك في بطلان هذا القول. و قد عرفت أنّ هذا القول مختار بعض العامّة، و لم يذهب إليه أحد من الأصحاب فيما نعلم. قال الشافعي في كتاب الامّ: و لا ولاية لأحد مع أب؛ فاذا مات، فالجد أو الأب؛ فاذا مات، فالجدّ أبو الجدّ. «1»

و ليس علي ما ذكره دليل معتبر.

*** الفرع الثاني: حكم العقد الصادر منهما في زمان واحد

الفرع الثاني من هذه المسألة؛ أنّه إذا صدر العقد منهما،- من الأب و الجد- فان كان أحدهما مقدما و الآخر مؤخرا، فلا كلام في تاثير المتقدم. و إن كانا في وقت واحد، فالجد مقدم و عقد الأب باطل.

أمّا الأول، أي صحة عقد كل منهما مع سبقه، فقد صرح في الجواهر: أنّه لم يعرف فيه خلافا بين الاصحاب، بل يمكن دعوي الإجماع عليه. «2»

و يدل عليه مضافا إلي أنّه موافق للقاعدة، بعد قبول استقلال كل منهما في الولاية، غير واحد من الأخبار:

مثل ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر. فقال: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله … «3»

و يدل عليه أيضا، ما رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام،

______________________________

(1). الإمام الشافعي، في كتاب الأمّ 5/ 13.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/ 210.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 292

قال: إذا تزوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة، فالجد أولي. «1»

و سند الروايتين معتبر.

و يدل

عليه أيضا روايات اخري، رواها في الوسائل، في نفس الباب؛ أو في المستدرك في الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

و أمّا إذا كانا مقارنين و في زمن واحد، فالترجيح مع عقد الجدّ بالإجماع المحكي عن الغنية، و السرائر، و الانتصار، و الخلاف، و المبسوط، و التذكرة، و الروضة. «2»

و تدل عليه روايات كثيرة، و لكن العمدة من بينها رواية هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، (3/ 11). فقد صرّح فيها بأنّه: إن كانا جميعا في حال واحد، فالجد أولي؛ و الأولوية في أمثال المقام للتعيين. و قد عرفت اعتبار سندها فيما رواه هشام.

و قريب منه، ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت آنفا؛ فانّ ذيلها تدل علي المطلوب بمقتضي مفهوم الشرط حيث قال عليه السّلام: إن لم يكن الأب زوجها قبله؛ (2/ 11). فانه يدل علي أنّهما لو كانا مقارنين، كان عقد الجد صحيحا.

و لو تشاح الأب و الجد، قدم اختيار الجد؛ كما في الشرائع و القواعد و غيرهما (علي ما حكي عنهم)؛ بل عن كشف اللثام حكاية الإجماع عليه عن الانتصار، و الخلاف، و غيرهما. و استدل له بما سبق، و استدل له بصحيحة محمد بن مسلم، و موثقة عبيد بن زرارة. و لو بادر الأب، فعقد، فهل يكون باطلا أو صحيحا، قولان فعن المسالك اختيار الصحة، و احتمل في الجواهر، الأول.

و هناك روايات عديدة تدل علي حكم التشاح، و أنّه لو تشاحا في تزويج البنت، كان الجد اولي، مثل صدر رواية عبيد، و رواية اخري لعبيد، «3» و رواية قرب الاسناد. «4» و غيرهما.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 3، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(2). المحقق النجفي، في جواهر الكلام 29/

210.

(3). الوسائل 14/ 219، الحديث 7، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 219، الحديث 8، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 293

و هل المراد بالاولوية عند التشاح، أنّه لا ولاية للأب حينئذ، أو أنّ الواجب تقديم الأب بحسب الحكم التكليفي لا الحكم الوضعي، فلو عصي و بادر بتزويج بنته قبل الجد، يصح عقده؟

ظاهر الأحاديث هو الأول، فيصح عقد الجد دون الأب.

هذا؛ و يظهر من رواية فضل بن عبد الملك الماضية (4/ 11)، أن تقديم الجد عند التشاح، مستحب؛ حيث قال عليه السّلام: أحبّ إليّ أن ترضي بقول الجدّ.

هذا، و قد عرفت إشكال بعضهم في سند الرواية، و إن كنا لم نتحققه، بل هي من قسم الموثق. و من جميع ذلك يعلم أنّ القول بتقديم قول الجد عند المقارنة وجوبا قوي؛ و كذلك القول باستحباب تقديمه عند التشاح.

*** الفرع الثالث: إذا جهل تاريخ وقوع العقدين

إذا جهل تاريخ وقوع العقدين، أو جهل تاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الأخر؛ ففي المسألة صور ثلاث: الجهل بتاريخ كليهما، الجهل بتاريخ وقوع عقد الجد دون الأب؛ و بالعكس.

أمّا إذا جهل التاريخان، فيجري فيه أحكام العلم الإجمالي؛ لأنّ الاستصحاب ساقط من الطرفين، (أعني استصحاب عدم تقديم عقد الاب، و كذا عدم تقديم عقد الجد)؛ إمّا للتعارض، أو لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي، علي ما ذكروه في علم الاصول عند بيان تعارض الاستصحابين، فراجع. فإذا سقطت الاصول من الجانبين، استقر العلم الإجمالي؛ و لازمه كون المرأة مزوجة، و لكن لا يجوز لأحد الرجلين التعامل معها تعامل الزوجة؛ لأنّ الأصل الجاري في حق كل واحد منهما هو عدم الزوجية، و لا يعارضه الأصل الجاري في مقابله، لخروجه عن محلّ ابتلائه.

و حيث تقع الزوجة في هذا الحال في عسر و حرج شديد، فعلي كل منهما طلاقه- بعنوان الاحتياط- و لو تركا ذلك، فالحاكم الشرعي يطلقها عن زوجها. هذا، و ذكر في الجواهر هنا، احتمال تقديم عقد الجدّ تارة، بدليل أنّ مقتضي الأصلين التقارن، ثم رجع عنه بسبب كون الاقتران أيضا حادث

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 294

ينفي بالأصل. و اخري، لإطلاق ما دل علي تقديمه ما لم يسبقه عقد الأب. و احتمل أيضا الرجوع إلي القرعة من باب أنّه أمر مشكل يرجع إليها.

هذا؛ و الانصاف أنّ شيئا مما ذكره غير كاف في تقديم قول الجد. أمّا القرعة، فقد ذكرنا في محلّه أنّها إنما تجري في ما لم يكن هناك دليل شرعي و لا أصل لفظي و لا شي ء من الاصول العمليّة؛ و هذا هو المراد من المشكل هاهنا، مثل دوران أمر المولود بين أن يكون ولدا لهذا الرجل أو رجل آخر. و كذا الغنم الموطوءة في قطيع غنم، فان الاحتياط لا يجري فيه، لكونه سببا لتلف أموال لا يرضي بها الشارع المقدس، و ليس فيه أصل لفظي، فيرجع إلي القرعة. و لكن فيما نحن فيه، يمكن العمل بالاحتياط، لإمكان اقدام كل منهما بالطلاق.

ان قلت: كيف يطلق، و هو لا يعلم أنّه زوجته؛ و إن علّقه علي كونها زوجة، بأن يقول:

لو كانت هذه زوجتي فهي طالق؛ كان من قبيل التعليق في الإنشاء، و هو لا يجوز.

قلت: هذا من قبيل تعليق الحكم علي وجود موضوعه، و مثل هذا التعليق ممّا لا إشكال فيه. و إن شئت قلت، هو من قبيل قصد الرجاء في العبادات عند الشك في اشتغال الذّمة.

و أمّا القول بأن مقتضي جريان الأصلين، هو

التقارن، فيرجح قول الجدّ. ففيه، أنّ هذا من قبيل الأصل المثبت الذي ثبت في محلّه عدم حجيته، و كأنّه لم تكن مجاري الاصول و شرائطها منقحة في زمن صاحب الجواهر (قدس سره)، و إلّا لم يكن هذا ممّا يخفي علي هذا العالم الكبير النحرير.

و أمّا الرجوع إلي اطلاق قوله: الجدّ أولي بذلك … إن لم يكن الأب زوّجها قبله؛ «1» بدعوي أنّ الأصل- أي أصالة عدم تقديم عقد الأب- يثبت موضوعه، ففيه أنه أيضا مخدوش بعد فرض سقوط الأصلين بالتعارض أو شبهه.

فلا مناص إلّا عن الاحتياط بالطلاق، كما عرفت، و قبله تقسّم النفقة عليهما، لأنّ عدم

______________________________

(1). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 295

التمكين هنا من باب حكم الشرع كما في حال الحيض؛ و كذا تقسم المهر- أعني نصف المهر- عليهما.

إن قلت: أ ليس هذا من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك، فقد ذكر في محله أنّ كلا منهما يجري أصالة الطهارة و أصالة عدم الجنابة؛ و في المقام كل منهما يجري أصالة عدم الزوجية، فلا تجب عليه المهر و النفقة؛ و من الواضع عدم تعارض الأصلين لأنّ الأصلين إنّما يتعارضان إذا كان جريانهما في حق مكلف واحد.

قلت: ما ذكرته صحيح، و لكن نعلم أنّ الشارع المقدس لا يدع المرأة بلا نفقة و لا مهر، و الزوجية لا تخرج عنهما، فيجب تقسيم النفقة و المهر عليهما؛ كما إذا ثبت وقوع القتل من احد شخصين أو اكثر و لا ندري أيهما القاتل، بل و ما دون القتل ممّا فيه الدية، فان الحق، التقسيم بينهما- أو بينهم.

و أمّا إذا كان تاريخ أحدهما معلوما، فان كان المعلوم هو

تاريخ عقد الجدّ، كما إذا علمنا أنّه كان يوم السبت، و لكن لا يعلم أنّ عقد الأب كان يوم الجمعة أو السبت أو بعده؛ فجريان استصحاب مجهول التاريخ لا معارض له، فيجري و يحكم بعدم وجود المانع عند إنشاء عقد الجد، فيحكم بصحته.

و كذلك إذا كان عكس ذلك، فيجري أصالة عدم حدوث عقد الجدّ قبل السبت، مثلا، إذا كان عقد الأب فيه، فيحكم بصحته.

و قد عرفت ان هذا الأصل لا يثبت التقارن، لأنّ التقارن أيضا منفي بالأصل، مضافا إلي كونه من الأصل المثبت.

هذا، و قد يقال- كما في الجواهر- أنّ اطلاق رواية عبيد، دليل علي صحة عقد الجد هنا، لأنه لا يعلم وقوع عقد الأب قبله. و فيه، أنّ الحكم في الرواية لا تدور مدار العلم و الجهل، بل مدار الواقع؛ فاللازم احراز وقوع عقد الجد مقدما أو مقارنا لعقد الأب؛ و هذا أمر ينفيه الأصل بلا معارض، لجريان الأصل في مجهول التاريخ فقط. و لعله لذلك أمر في الجواهر بالتأمل، في ذيل كلامه.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 296

[المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة]

اشارة

المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة. و إلّا يكون العقد فضوليا كالأجنبي، يتوقف صحته علي أجازه الصغير بعد البلوغ، بل الاحوط مراعاة المصلحة.

يشترط في صحة تزويج الولي عدم المفسدة

أقول: الكلام في المقام في أمور ثلاثة: اعتبار عدم المفسدة؛ اعتبار المصلحة؛ و صحة النكاح حتي مع المفسدة للمولي عليه.

اعتبار عدم المفسدة

أمّا اعتبار عدم المفسدة، فقد صرح به كثير من الأصحاب. قال النراقي (قدس سره) في المستند: الظاهر وجوب مراعاة الولي عدم المفسدة في النكاح لظاهر الإجماع … و هل يجب مراعاة المصلحة في النكاح؟ الظاهر لا للأصل و العمومات. «1»

و حكي عن المسالك أيضا، الاتفاق علي اعتبار عدم المفسدة. «2»

و عن العلّامة في التذكرة، و المحقق الثاني اعتبار المصلحة. «3»

و أمّا جوازه مع المفسدة، فالظاهر أنّه لم يقل به أحد من الأصحاب.

استدل علي الأوّل أي اعتبار عدم المفسدة؛ بامور:

1- الأصل، أي أصالة الفساد عند عدم مراعاته؛ لكنها مشروطة بعدم وجود دليل خاص في المسالة.

2- الإجماع؛ و لكن حاله معلوم في أمثال المقام.

3- عمومات نفي الضرر؛ و النسبة بينها و بين عمومات الولاية، و إن كانت بالعموم و

______________________________

(1). المحقّق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 167.

(2). السيد محسن الحكيم، في مستمسك العروة 14/ 455.

(3). بعض المعاصرين في كتابه ذيل المسألة السابعة.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 297

الخصوص من وجه، و لكن حكومة أدلة نفي الضرر علي أدلة الأحكام الشرعيّة تغنينا عن ملاحظة النسبة؛ كما ذكر في محلّه.

4- انصراف الاطلاقات عن فرض المفسدة.

ما يدل علي اعتبار المصلحة

و يدل علي الثاني، أي اعتبار المصلحة، ظهور الآية الشريفة الواردة في الأموال: وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … *. «1»

توضيحه: إنّ المعروف في مسألة أموال اليتامي، عدم جواز التصرف فيها بغير مصلحة، بل ادعي عليه الإجماع. و لكن مخالفة جماعة من الأكابر دليل علي عدم كون المسألة إجماعية و ان كانت مشهورة.

و استدل له بالآية السابقة بناء علي شمولها للجد مع فقد الأب، لصدق اليتيم عليه حينئذ؛ و لكن يرد عليه، أولا، أنّ لازمها عدم كفاية مجرد المصلحة، بل

اللازم اختيار الاصلح. فإذا كان هناك صالح و اصلح، يجب علي الولي اختيار الأصلح. و هذا ممّا لم يقل به أحد فيما نعلم. فاللازم حملها علي الاستحباب.

و لكن ينافيه قوله تعالي في الآية التي قبلها: قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّٰا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً … «2» فقد صرّح فيها بالتحريم؛ و جعل هذه المحرمات إلي جنب الشرك و قتل النفس و عدم قرب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و في سورة الاسراء ذكر قبله قتل الأولاد من املاق و الزنا و قتل النفس التي حرّم الله و ذكر بعده عدّة من المحرمات.

فالاولي أن يقال، إن ترك الأصلح، و العدول إلي الصالح علي قسمين: قسم يعدّ في العرف خيانة علي مال اليتيم، مثل ما إذا كان هناك رجلان أحدهما يشتري مال اليتيم بأضعاف قيمته أو ضعفه، و الثاني يشتريه بربح لا يتجاوز عن العشرة في المائة؛ أو يشتريه

______________________________

(1). الانعام/ 152.

(2). الانعام/ 151.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 298

أحدهما بربح الخمسين في المائة، و الآخر عشرة فقط؛ فباعه الولي بمن يشتريه بانقص، بسبب حبّه له و حاجته اليه، و يترك الآخر. فلا يشك أحد في صدق الخيانة حينئذ. و اخري يكون هناك من يطلبه بربح معقول، و لكن يحتمل لو دوّر الأسواق وجد من يشتريها بأزيد، فهذا لا يجب. و لا يبعد أن تكون الآية ناظرة إلي الفرض الأول.

فدلالة الآية علي وجوب رعاية المصلحة، غير بعيدة.

و ثانيا، بأنّ التعدي عن باب الأموال إلي النكاح، لا دليل عليه، بعد وجود الاطلاقات الدالة علي عدم اعتبار المصلحة، حيث لم يرد في شي ء من النصوص اعتبار وجود المصلحة. (ذكره سيّدنا الاستاذ الخوئي، قدس سره). «1»

و الانصاف،

أنّ الأولوية هنا ممّا لا يمكن نفيها، فان الأموال أمرها أسهل بالنسبة إلي النكاح- لا سيما النكاح الدائم في مقابل الأموال القليلة- و إذا ثبت قياس الأولوية، يخصص به العمومات، و يقيد به الاطلاقات.

هذا؛ و العمدة أنّ ولاية الأب و الجد هل هي من باب كون الولد و ماله لأبيه، أو من باب حفظ مصالح الولد حيث أنّه أبصر بمصالح أولاده و أخبر بها و أشدّ محبة و رحمة من غيره؛ و بعبارة اخري هل هي لانتفاع الولي بها، أو انتفاع المولي عليه؟ لا شك ان الصحيح هو الثاني. و ذلك لأن أصل هذا الحكم مأخوذ من بناء العقلاء من أهل العرف و أمضاه الشارع المقدس؛ و من الواضح أنّ ملاكه عند العقلاء من أهل العرف، هو حفظ مصالح الولد لا مصالح الأب و الجد؛ و من المعلوم أنّ مجرّد عدم المفسدة غير كاف في ذلك.

و إن شئت قلت؛ مفهوم الولاية، ليس إلّا حق التصرف في الأموال و الأنفس بما فيه مصالح المولي عليه، و حيث إنّ رعاية المصلحة موجودة في مفهوم الولاية لا يبقي اطلاق لروايات ولاية الأب و الجد.

إن قلت: إنّ ما ورد في غير واحد من الروايات، من قوله: أنت و مالك لأبيك؛ يدل علي الأول.

قلنا: لا شك أنّه حكم أخلاقي استحبابي، دال علي استحباب الإيثار في مقابل الأب، و

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 283.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 299

إلّا جاز التصرف في الأموال و النكاح حتي مع المفسدة؛ لأنّ الإنسان مختار في ماله، و هذا ممّا لم يقل به احد.

أضف إلي ذلك، أنّ هناك روايات علي اعتبار المصلحة في خصوص نكاح الولي أو تشعر بها.

منها:

1- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد أبوها أن يزوجها، هو انظر لها. «1»

فإن قوله: هو انظر لها؛ يدل بوضوح علي أنّ قبول ولاية الأب و اعتبار نكاحه، إنّما هو بسبب رعاية مصلحة البنت، أكثر ممّا لو كانت هي بنفسها تختار زوجها؛ اللّهم إلّا أن يقال هو من باب الحكمة و محمول علي الغالب، و لكن أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث.

و قد عرفت اعتبار سند الحديث، و إن كان فيه جماعة من الواقفيّة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت الإشارة إليها غير مرّة، و في ذيلها: الجد أولي بذلك ما لم يكن مضارا. «2»

و الانصاف أنّه لا يستفاد منها أكثر من عدم المفسدة؛ و إن كان السند معتبرا.

3- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: أنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه و كان أبوها حيا و كان الجدّ مرضيا، جاز … «3»

و اشتراط كون الجدّ مرضيا، إشارة إلي أنّه يراعي مصلحة ابنة ابنه و سند الحديث أيضا معتبر، كما شهد به العلّامة المجلسي (قدس سره) في مرآت العقول. «4»

فالانصاف، أنّه لا يجوز العدول عن اعتبار المصلحة، و قد عرفت أنّ رعاية الأصلح غير واجبة، إلّا ان يكون أمرا سهل الوصول بحيث يعد العدول عنه اضرارا و خيانة بالنسبة إلي المولي عليه.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 202، الحديث 6، الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 218، الحديث 2، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 218، الحديث 4، الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

(4). العلامة المجلسي، في مرآة العقول 20/

132.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 300

بقي هنا أمران:

1- عقد الاولياء للصغار في عصرنا

انك قد عرفت أنّ أمر الولاية، لو دار مدار المصلحة، أو عدم المفسدة، فانّه لا يصح عقد الأولياء في الصغر في عصرنا، إلّا في موارد نادرة جدا. لأنّ هذه العقود تنتهي إلي مفاسد كثيرة بعد بلوغ الصغير أو الصغيرة. فهم لا يقبلون إلّا من انتخبوه و اختبروه و أحبّوه. فمن هذه الناحية لا بدّ للأولياء من التجنب عن هذه العقود.

2- لو لم يراع الولي المصلحة أو عدم المفسدة يكون العقد فضوليا

أنّه لو لم يراع الولي، المصلحة، أو عدم المفسدة؛ (علي القولين) كان العقد فضوليا إلي أن يبلغ؛ لأن كل انسان يجوز له الأقدام علي ما ليس عرفا مصلحة له، إمّا من باب الايثار، أو برجاء أن يكون كفارة لبعض ذنوبه، أو امور آخر؛ فالعقد لا يكون باطلا من رأسه، بل يكون فضوليا إلي أن يبلغ الصبيّة أو الصبي، فيختار. (و هذا هو الأمر الثالث).

***

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 301

[المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة]

اشارة

المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة مع مراعاة ما يجب مراعاته، لا خيار لهما بعد بلوغهما، بل هو لازم عليهما.

عقد الولي من العقود اللازمة

أقول: هذه المسألة بالنسبة إلي الصغيرة مجمع عليها، و في الصبي مختلف فيها، كما قال في الرياض: و لا خيار في الصبيّة مع البلوغ لو زوجها الوليّ قبله، إجماعا حكاه جماعة … و في الصبي قولان، أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك … خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار بعد الإدراك. «1»

و قال الشيخ في النهاية: و متي عقد الرجل لابنه علي جارية و هو غير بالغ، كان له الخيار إذا بلغ. «2»

و قريب منه ما ذكره المحقق النراقي، في المستند، حيث نفي الخلاف في عدم الخيار في الأول، ثم نقل ذهاب الأكثر في الثاني- أي الصبي- إلي عدم الخيار أيضا. «3»

أدلّة القول بثبوت الخيار للصبي

و الدليل علي الأول عدّة روايات معتبرة؛ منها:

1- ما رواه ابن بزيع، قال سألت أبا الحسن عليه السّلام، عن الصبيّة، يزوّجها أبوها ثم يموت و هي صغيرة، فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها، يجوز عليها التزويج، أو الأمر إليها؟ قال:

يجوز عليها تزويج أبيها. «4»

2- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الجارية الصغيرة يزوجها

______________________________

(1). السيد علي الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 91، (2/ 77 ط. ق).

(2). الشيخ الطوسي، في النهاية/ 467.

(3). المحقّق النراقي، في مستند الشيعة، 16/ 130.

(4). الوسائل 14/ 207، الحديث 1، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 302

أبوها، لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا؛ ليس لها مع أبيها أمر؛ الحديث. «1»

هذا الحديث رواه في الوسائل كما عرفت. و لكن في الكافي، و التهذيب، و الاستبصار التي هي المدرك لنقل الحديث، روايته عن الرضا عليه السّلام. و عبد الله بن الصلت، أبو طالب القمي، من أصحاب الرضا عليه السّلام،

و ليس من أصحاب الصادق عليه السّلام علي ما في كتب الرجال، فرواية الوسائل عنه عليه السّلام لعله خطأ من الكاتب. و علي كل حال سند الحديث معتبر.

3- ما رواه علي بن يقطين، عن الرضا عليه السّلام، و فيها: فاذا بلغت الجارية، فلم ترض، فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليّها. «2» بناء علي كون المراد؛ لا بأس بذلك العقد؛ كما هو الظاهر.

إلي غير ذلك.

و لكن يعارضها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام … و فيها: لكن لهما الخيار إذا أدركا. «3»

و رواية الكناسي عنه عليه السّلام … و فيها: فان زوجها قبل بلوغ التسع سنين، كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين … «4»

و لكن في سنده ضعف بسبب بريد الكناسي، فانّه مجهول، و لو كان الرجل يزيد الكناسي كما في بعض النسخ، فانه أيضا مجهول. و لكن في الحديث الأول غني و كفاية، مضافا إلي أنّ الخبر الأخير مشتمل علي بعض الأحكام المخالفة للإجماع كما قيل.

و قد يجمع بين الطائفتين- كما عن الشيخ قدّس سرّه بأنّ للصبي الطلاق بعد البلوغ، و للصبيّة طلب المهر أو الطلاق، و هذا الجمع بعيد جدّا لا يصار إليه.

و كذا ما افاده سيدنا الاستاد الخوئي (قدس سره)، من إمكان تقييد اطلاق الأخبار السابقة، بصحيحة محمد بن مسلم، لورودها في خصوص مورد كون الزوج و الزوجة

______________________________

(1). الوسائل 14/ 207، الحديث 3، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 208، الحديث 7، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 208، الحديث 8، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(4). الوسائل 14/ 209، الحديث 9، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة -

كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 303

كلاهما صغيرين ثمّ قال: فان تمّ إجماع فهو … و إلّا فيتعين العمل بها. «1»

و كلامه (قدس سره) قابل للمناقشة؛ أولا، بأن الفرد الغالب كونهما صغيرين فاخراج هذه الصورة مشكل. و ثانيا، أنّ الفرق بين الصورتين بعيد جدا لا يقبله العرف لإلغاء الخصوصية عنها قطعا.

فالاولي أن يقبل التعارض، و ترجح الطائفة الاولي بالشهرة الفتوائية، مضافا إلي موافقته لأصالة اللزوم.

هذا كله بالنسبة إلي الصبيّة؛ أمّا بالنسبة إلي الصبي، فقد ذكر المحقق النراقي في المستند: أنّه كالصبيّة عند الأكثر؛ «2»

و قال في الرياض: و في الصبي قولان أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك (أي مثل الصبيّة في لزوم العقد عليه) … خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار، بعد الإدراك. «3»

أدلّة القول بعدم الخيار له

و يدل علي عدم الخيار له بعد البلوغ، أولا، الأصل؛ و قد عرفت أنّ المراد منه الرجوع إلي العمومات، مثل عموم؛ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛ فانّ معني وجوب الوفاء بها هو الوقوف عندها و الالتزام بها و عدم العدول عنها، و هو مساو لعدم الخيار.

إن قلت: يمكن المناقشة في ذلك بأنّ معني أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، هو أوفوا بعقودكم؛ و من المعلوم أنّ العقد هنا ليس عقد الصبي الذي بلغ، بل عقد الولي فالتمسك بها مشكل.

قلنا: لا شك أنّ عقد الولي هو عقد المولي عليه، فانه يأتي من قبله؛ مثل عقد الوكيل الذي هو عقد الموكل، بل اولي منه من جهات مختلفة.

و أمّا الاستصحاب- أي استصحاب بقاء العقد، و لو بعد الفسخ المساوي لعدم تأثير الفسخ- فهو من الاستصحاب في الشبهات الحكمية، و قد عرفت الإشكال فيه علي المختار.

______________________________

(1). السيد الخوئي، في مستند العروة، كتاب النكاح 2/ 278.

(2). المحقق النراقي، في مستند الشيعة 16/ 132.

(3). السيد علي

الطباطبائي، في رياض المسائل 10/ 91، (2/ 78 ط. ق).

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 304

و ثانيا، قد استدل له تارة، بما دل علي صحة عقد الولي علي الصغير، و عدم صحة طلاقه؛ مثل صحيحة الحلبي الواردة من الباب 11 من أبواب ميراث الازواج. «1»

و اخري، بما دل علي توارثهما بعد البلوغ، مثل صحيحة محمد بن مسلم. «2» و ما رواه عبيد بن زرارة. «3» إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني.

و الانصاف أنّ شيئا منها لا يدل علي المقصود، و هو عدم الخيار، و غايتها صحة العقد.

و من الواضح أنّ صحة العقد لا تنافي جواز الفسخ. و قول بعضهم (قدس الله أسرارهم) أنّ جواز التوارث ناف للإلحاق بالفضولي (كما في كلام المستند) خطاء ظاهر؛ فانّ الكلام ليس في الحاقه بالفضولي، بل في الحاقه بالعقد الجائز، و بينهما فرق ظاهر.

نعم، هناك رواية واحدة، رواها في المستدرك، في أبواب عقد النكاح، عن دعائم الإسلام، عن علي عليه السّلام، أنّه قال: تزويج الآباء جائز علي البنين و البنات إذا كانوا صغارا و ليس لهما خيار إذا كبروا. «4»

و هي صريحة في نفي الخيار؛ و لكن الإشكال في سندها كما هو ظاهر.

اللّهم إلّا أن يدعي الانجبار بعمل المشهور. فتأمل؛ فان الانجبار إنّما يكون في الروايات الواردة في الكتب المشهورة التي كانت بمرئي و مسمع من العلماء الكبار، يمكن استنادهم في الفتوي اليها، لا مثل دعائم الإسلام.

و قد استدل سيدنا المحقق الخوئي في المقام بروايتين آخريين وردتا في أبواب المهور؛ أحدهما عن عبيد بن زرارة؛ «5» و الثاني عن فضل بن عبد الملك؛ «6» تدلان علي أنّ المهر علي الغلام، فان لم يكن له مال، أو ضمن الأب

المهر، كان عليه.

و قال (قدس سره)، اطلاقهما دليل علي وجوب المهر، حتي إذا فسخ، و لازمه عدم

______________________________

(1). الوسائل 17/ 528، الحديث 4، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.

(2). الوسائل 14/ 220، الحديث 1، الباب 12 من أبواب عقد النكاح.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1425 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)؛ ص: 304

(3). الوسائل 17/ 528، الحديث 3، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج.

(4). الميرزا النوري، في مستدرك الوسائل 14/ 317، الحديث 16814.

(5). الوسائل 15/ 39، الحديث 1، الباب 28 من أبواب المهور.

(6). الوسائل 15/ 39، الحديث 2، الباب 28 من أبواب المهور.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 305

تأثير الفسخ.

و فيه أولا، أنّهما ليستا في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان أمر آخر، و هو المهر فقط.

و ثانيا، الكلام في نفي الخيار بمقتضي تصريح الروايات، و إلّا أنّ التمسك بالاطلاق هو مقتضي الأصل كما عرفت.

نعم، هناك رواية اخري عن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين، أو يزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين … فإذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها. «1» بناء علي أنّ سكوتها عن بيان حال الابن، دليل علي ثبوت الخيار لها.

و لكن الانصاف أنّها دلالة ضعيفة، ليس فوق حد الاشعار.

فاذن، العمدة في عدم الخيار هو العمومات التي مرّت الإشاره إليها.

الروايات الدالة علي ثبوت الخيار له إذا بلغت

و لكن هناك روايات متعددة تدل علي ثبوت الخيار للصبي إذا بلغت؛ منها:

1- رواية فضل بن عبد

الملك، عن الصادق عليه السّلام: إذا زوج الرجل ابنه فذاك إلي ابنه و إذا زوّج الابنة جاز. «2»

و هو ظاهر الدلالة علي عدم الخيار للصبيّة و ثبوته للصبي؛ اللّهم إلّا أن يقال إنّها واردة في الكبير و الكبيرة بقرينة قوله عليه السّلام: ذاك إلي ابنه؛ فانه ظاهر في البلوغ، فهي خارجة عن محل الكلام.

2- ما رواه محمد بن مسلم، في الصحيح عن الباقر عليه السّلام: … و لكن لهما الخيار إذا أدركا … «3»

______________________________

(1). الوسائل 14/ 208، الحديث 7، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(2). الوسائل 14/ 208، الحديث 4، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

(3). الوسائل 14/ 208، الحديث 8، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 306

3- ما رواه بريد الكناسي، في حديث طويل، عن الباقر عليه السّلام، و فيها أيضا التصريح بالخيار للبنت و الابن بعد البلوغ. «1»

و لكن الاستدلال بهما مشكل، لذكر الخيار لهما، مع ما عرفت من أنّ الخيار في البنت خلاف الإجماع و خلاف ظاهر الروايات؛ و التفكيك بينهما مع ورودهما في عبارة واحدة أشكل، لأنّه مخالف لبناء العقلاء الذي هو المدار في أبواب حجّية خبر الواحد.

و الحاصل أنّ شيئا من هذه الروايات أيضا لا يدل علي المقصود؛ فالرجوع إلي الأصل المقتضي لعدم الخيار ممّا لا مناص عنه.

أضف إلي ذلك، أنّ عقد النكاح لا ينقسم إلي قسمين قسم لازم و قسم جائز، فهذا ممّا لم يعهد في الشرع و لا بين العقلاء.

نعم؛ الخيار جار في عقد النكاح في ثلاث مواضع:

1- خيار العيب، أعني العيوب المعينة المحدودة (سبعة في المرأة، و سبعة في الرجل).

2- خيار التدليس.

3- خيار تخلف الشرط، كما إذا شرطت المرأة، السكني في

بلد خاص، فبعد برهة من الزمان ترك الزوج ذلك، و هاجر إلي بلد آخر، فان المرأة لها خيار تخلف الشرط.

و أمّا كون النكاح بذاته جائزا في بعض الموارد، فهو غير معهود. و الله العالم.

______________________________

(1). الوسائل 14/ 209، الحديث 9، الباب 6 من أبواب عقد النكاح.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 307

[المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل]

اشارة

المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل، أو زوّج الصغير بازيد منه، فان كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، صح العقد و المهر و لزم؛ و إن كانت المصلحة في نفس التزويج دون المهر، فالأقوي صحة العقد و لزومه، و بطلان المهر، بمعني عدم نفوذه و توقفه علي الاجازة بعد البلوغ، فان أجاز استقر، و إلّا رجع إلي مهر المثل.

لو زوج الولي الصغيرة بدون مهر المثل

أقول: في هذه المسألة أقوال ثلاثة:

1- يبطل العقد و المهر؛ و اختاره جماعة من الأكابر، منهم صاحب الجواهر، و صاحب العروة و جماعة من المحشين. بل أسند إلي جماعة من القدماء (أعلي الله مقامهم).

2- بطلان المهر دون العقد، كما اختاره في الشرائع و غيره.

3- صحة الأمرين؛ ذهب إليه شيخنا الطوسي (قدس سره).

قال في الخلاف: إذا زوج الأب أو الجدّ، من له اجبارها علي النكاح، من البكر الصغيرة أو الكبيرة، بمهر دون مهر المثل، ثبت المسمي، و لا يجب مهر المثل. و به قال أبو حنيفة و قال شافعي يبطل المسمي و يجب المهر المثل دليلنا، أنّ المسمي لا خلاف أنّه واجب عليه، و من أوجب مهر المثل، فعليه الدلالة. «1»

و ظاهر كلامه هذا، صحة المهر و العقد؛ و حكاه عن أبي حنيفة أيضا. و لكن ظاهر كلام الشافعي القول الثاني؛ و دليله علي مختاره، الأخذ بالقدر المتيقن و نفي الزائد بالأصل.

و ليعلم أنّ الكلام هنا إنّما هو علي فرض قبول مراعاة المصلحة و لا أقل من عدم المفسدة، و أمّا علي القول بعدم وجوب هذا الشرط، فلا يبقي مجال للبحث عن فساد هذا العقد أو فساد خصوص الشرط، كما هو واضح؛ لأنّ المفروض عدم لزوم مراعاة المصلحة أو عدم المفسدة.

______________________________

(1). الشيخ الطوسي، في الخلاف

4/ 392، المسألة 37.

أنوار الفقاهة - كتاب النكاح (لمكارم)، ص: 308

فقول الشيخ قدّس سرّه خارج عن محط الكلام، كما أنّ استدلال شيخنا الأنصاري له، بقوله عليه السّلام: أنت و مالك لأبيك؛ و أنّ ولاية الأب و الجد من باب ولاية الحسبة و الغبطة بل ولايتهما عليه كولاية المولي علي العبد!؛ خارج عن محط الكلام، مضافا إلي ضعفه في نفسه.

و علي كل حال، المسألة تدور مدار كون العقد و المهر شيئا واحد، أو من قبيل تعدد المطلوب؛ فلو كانا شيئا واحدا، كان الحكم بالفساد و هو الأقوي؛ و إن كانا أمرين مختلفين، و بعبارة اخري من قبيل انشاءين بلفظ واحد، كان الحكم بصحة العقد و بطلان المهر قويا.

و الانصاف، أنّ عقد النكاح إنشاء واحد لأمر واحد. و إن شئت قلت، العقد و المهر من قبيل القيد و المقيد، و ليس هنا إنشاءان مستقلان أو ما بحكمهما؛ فاذا بطل أحدهما بطل الآخر.

إن قلت: إنّ المعروف بين الفقهاء عدم وجوب ذكر المهر في إنشاء العقد، بل و عدم قدح ذكر مهر فاسد كالخمر و الخنزير، و هذا دليل علي كونه أمرا مستقلا.

قلنا: كلّا؛ عدم ذكر المهر، ليس بمعني عدم المهر. فلو أنشأ العقد بقصد كونه بلا مهر، بطل. بل عدم ذكر المهر، بمعني الاكتفاء بمهر المثل في الواقع؛ فهو شي ء يعلم من سياق الكلام. و كذا ذكر المهر الفاسد؛ فانّ المهر، مذكور في الكلام؛ غاية الأمر يتبدل المذكور بحكم الشارع المقدس بمهر حلال و هو مهر المثل.