المحکم في اصول الفقه

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الطباطبایي الحکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان المؤلف واسمه: المحکم في اصول الفقه/ تالیف السید محمدسعید الطباطبایي الحکیم

تفاصيل النشر: دارالهلال - قم - مکتبة آیة الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

رقم المجلدات 6ج

حالة الفهرسة: الفهرسة السابقة

لسان:العربية

ملحوظة:تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة

ملحوظة:فهرس

موضوع:أصول فقه الشيعة

تصنيف الكونجرس:BP159/8/ط2م3 1376

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 77-6154

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

مقدمة الناشر:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يعتبر علم أصول الفقه ركناً أساسياً في علمية استنباط الحكم الشرعي، وقد تبلورت معالمه تدريجياً خلال قرون متعاقبة، وتعمّقت بحوثه منذ عصر الوحيد البهبهاني قدس سره ومن بعده تلميذه الأصولي المجدّد الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، وتلميذه المحقق الخراساني قدس سره، وازدادت بحوثه عمقاً وتشعباً علي أيدي المشايخ الثلاثة المحققين النائيني والعراقي والأصفهاني قدس سرهم، وتلامذتهم ومن بعدهم، حيث برزت عدة اتجاهات رئيسية، وأُلّفت عدّة دورات أصولية لكبار العلماء البارعين في هذا العلم.

ويمثل كتاب (المحكم في أصول الفقه) لمؤلفه المرجع الكبير السيد الحكيم (مدّ ظله) أحد أبرز الدورات الأصولية المعاصرة المعبّرة عمّا وصل إليه الفكر الأصولي المعاصر لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

وقد حظي هذا الكتاب - منذ صدوره - باهتمام الباحثين الأصوليين وإعجابهم، لما فيه من خصائص وامتيازات، وفي مقدمتها..

1 - كونه من تأليف صاحب البحوث نفسه وليس من تقريرات طلابه التي قد لا تفي ببيان خصوصيات البحوث والنكات العلمية المقصودة

ص: 5

لصاحبها.

2 - منهجيته الحديثة المبتكرة المتميزة عن المنهجيات الأخرى.

3 - اشتماله على أطروحات ورؤى مؤلفه المعظم المبتكرة، المعروف باستقلاليته الفكرية في بحوثه وآرائه.

4 - أنه بالرغم من اشتماله على بحوث عقلية معمّقة ومناقشات دقيقة إلاّ انه يتبنى الاتجاه العقلائي في هذا العلم، والذي يمثل معالم المدرسة الأصولية المعاصرة، خلافاً للاتجاه العقلي الصرف الذي أثقل علم الأصول ببحوث عقلية وفلسفية أبعدته عن دوره كعلم آلي لاستنباط الحكم الفقهي.

5 - تركيز مؤلفه على البحوث المهمة وذات الأثر العملي، وتجنب البحث أو الإطالة في ما لا فائدة علمية أو علمية مهمة فيه أو بحوث نسخت أو تجاوزها الزمن.

6 - كونه يجمع بين دقة التعبير والمحتوى، والوضوح النسبي البعيد عن الغموض والتعقيد.

7 - خلوّه من الإيجاز المخلّ والإطناب والتكرار المملّين اللذين لا ينسجمعان مع مستوى الكتب المتخصّصة.

وقد اقترنت هذه الطبعة بإكمال مؤلفه (مد ظله) بحث دورة أصولية جديدة، أضاف خلالها بعض البحوث العلمية والملاحظات الدقيقة التي لم تطرح في ما سبق، ومن بينها مبحث حجية الاطمئنان.

فضلاً عن حلّة جديدة، وفهارس وعناوين مفصّلة داخل الكتب امتازت بها هذه الطبعة عن سابقاتها. نقدّمها للعلماء الأعلام والفضلاء والباحثين الأكارم، وللمكتبة الاسلامية، آملين الإفادة والقبول، سائلين

ص: 6

الباري عزَّ وجلَّ الموفقية والسداد. إنه سميع مجيب.

الناشر

مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية

النجف الأشرف/ غرة رجب الحرام

1434 ه -

مقدمة الناشر

ص: 7

ص: 8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، أبد الآبدين.

رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وأعني على ما وليتني واسترعيتني، وأصلح لي نفسي، وطهر قلبي، وزك عملي، وتقبله مني، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، أنت حسبي نعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بك، عليك توكلت، وإليك أنيب.

ص: 9

ص: 10

تمهيد

تمهيد فيه أمران:

فيه أمران:

الأول: في تعريف علم الأصول

الأمر الأول: وقع الكلام من جملة من أهل الفن في لزوم وحدة موضوع العلم - وهو الجامع بين موضوعات مسائله - وفي المعيار فيه، وفي تحديد موضوع علم الأصول، وتعريف العلم المذكور، والغرض منه، ورتبته... إلى غير ذلك.

وأكثر ذلك خال عن الفائدة المصححة لصرف الوقت، ولاسيما مع اتضاح الحال في كثير من تلك الجهات، بسبب إفاضتهم الكلام فيها، على ما يظهر بمراجعة كلماتهم.

ولعل أهم ذلك وأنفعه الكلام في تعريف علم الأصول، لما فيه من ضبط محل الكلام، وتمييز مقاصده الأصلية عما يبحث فيه استطرادا، وينظر فيه تبعا.

فلنقتصر على ذلك، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق والتسديد.

وحيث كان الغرض من النظر في علم الأصول هو تيسير طريق استنباط الأحكام الشرعية مقدمة لامتثالها، والجري عليها. لحدوث أسباب اختفائها، ولاسيما مع البعد عن عصور المعصومين عليهم السلام.

ص: 11

وكان الغرض الأقصى من ذلك هو الخروج عن عهدة تلك الأحكام، وبراءة الذمة عقلاً عنها، والأمان من العقاب المحتمل على مخالفتها، ونيل الثواب المؤمل بموافقتها.

كان الأنسب أن يقال في تعريفه: هو القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، أو الوظائف العملية الشرعية أو العقلية في موارد الشبهات الحكمية.

ولابد من نظرة في عدة نقاط من هذا التعريف، يتضح المقصود به، والباعث لاختياره.

أُولاها: أن المراد من تمهيد القواعد للاستنباط هو كون الداعي لتحريرها، والنظر فيها الاستنباط، وبذلك تخرج القواعد المحررة في العلوم الأخرى، وإن كانت نافعة في الإستنباط، كبعض القواعد النحوية والصرفية والبلاغية، لأن الداعي لتحريرها أغراض تلك العلوم، لا الاستنباط، وإنما لم تحرر في الأصول استغناء بتحريرها في تلك العلوم إما لتيسر الرجوع إليها عند الحاجة، أو لغلبة الفراغ عن تلك العلوم قبل الشروع في علم الأصول أو لغير ذلك.

ولما كانت وحدة العلم اعتبارية بلحاظ الجهة الملحوظة لمحرره فالظاهر أن الجهة الملحوظة في المقام سد النقص بتحرير ما يحتاج إليه، لعدم تحريره في العلوم الأخرى التي يتيسر الرجوع إليها، لا مطلق الفائدة المذكورة.

نعم، قد تحرر بعض المسائل في أكثر من علم واحد، لاهتمام أهل كل علم من تلك العلوم بها، بلحاظ دخلها في غرضه وعدم الاستغناء بتحريرها

ص: 12

في العلم الاخر، إما لعدم الترتيب بين العلمين في التحصيل، أو لعدم تيسر الرجوع فيها لطالب أحد العلمين في العلم الآخر، أو لعدم استقصاء الكلام فيها في أحدهما بالنحو المناسب للآخر، أو لغير ذلك.

نعم، قد يستشكل في ذلك: بأن لازمه دخول مسائل علم الرجال والدراية في علم الأصول، لأن الغرض منها الاستنباط.

لكنه يندفع: بأن موضوعات مسائل علم الرجال لما كانت جزئية - وهي أفراد الرواة - لم تكن المسائل قواعد، لتدخل في التعريف السابق.

كما أنه لم يتضح توقف الاستنباط على علم الدراية، لأن مرجع أكثر مسائله إلى تفسير مصطلحات القوم، أو بيان حكم الحديث، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن مقام الحجية، وإنما يبحث عن الحجية في قليل من مسائله التي لا مانع من عدها من علم الأصول وإن لم تحرر فيه.

على أن علم الرجال وإن نفع في الاستنباط إلا أنه ليس غرضاً منه، بل الغرض منه معرفة حال الرجال، ليركن إلى أخبارهم وإن لم تكن حجة شرعاً، أو كانت في غير الأحكام الفرعية، ولذا لا تكون حجية خبر الواحد من المبادئ التصديقية للعلم المذكور بحيث يبتني النظر فيه على الفراغ عنها.

بل غرض متقدمي أصحابنا منه الاعتزاز بكثرة علماء الطائفة، وتوسعهم في التأليف في مقابل تشنيعات العامة، على ما تشهد به ديباجة كتبهم، وعلم الدراية ملحق به متمم له، فلاحظ.

ثانيها: المراد من كون الاستنباط غرضاً من تمهيد مسائل علم الأصول إنما هو بلحاظ كون العلم بها موجباً لتيسره - الذي عرفت أنه الغرض من

ص: 13

العلم المذكور - لوقوعها في مقدماته.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا(1) من أنه لابد في كون المسألة أصولية من استقلالها في الاستنباط، والاكتفاء بها فيه، بحيث لا يحتاج فيه إلى ضم مسألة أخرى، ولو في مسألة فقهية واحدة في مقابل المسائل اللغوية، ونحوها مما ينفع في الاستنباط ولا يستقل به، بل لابد فيه من ضم مسائل أخرى أصولية أو غيرها.

فهو مما لا مجال للبناء عليه..

أولاً: لعدم مناسبتة للغرض من علم الأصول، لعدم خصوصية استقلال المسألة في الاستنباط في تيسير طريقه.

وثانياً: لعدم انطباقه خارجاً على كثير من المسائل الأصولية إلا بمحض الفرض والتقدير، بأن يفرض كون ما عدا المسألة الأصولية الواحدة من مقدمات الاستنباط من البديهيات غير المحتاجة للبحث في علم.

وقد ذكر بعض ذلك بنحو يحتاج إلى بحث لا يسعه المقام.

وثالثاً: أنه إنما ذكر ذلك للفرق بين المسائل الأصولية ومسائل العلوم الأخرى مما يتوقف عليه الاستنباط، كالعلوم اللغوية، ويكفي في الفرق ما عرفت في الأمر السابق.

مضافاً إلى إمكان استقلال بعض مسائل تلك العلوم بالاستنباط، كما لو استفيد وجوب التيمم بالأرض من أدلة قطعية السند والدلالة، وشك في مفهوم الأرض، حيث لا يتوقف استنباط جواز التيمم ببعض الأفراد

ص: 14


1- السيد أبو القاسم الخوئي (منه)

المشكوكة منها إلا على تحديد مفهومها، وهو مما يتكلفه علم اللغة.

ومن الغريب أنه جعل المعيار المذكور منشأً لدخول مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب في علم الأصول، دون المسائل المبحوث فيها عن أدوات العموم ومسألة المشتق، مع وضوح أن الحكم الشرعي لما كان عبارة عن قضية مجعولة فهو كما يتوقف على معرفة الحكم - كالواجب المدلول للصيغة - يتوقف على معرفة موضوعه - كالعموم المدخول لأدواته، ومعنى المشتق - وكما يمكن القطع بالموضوع والشك في الحكم - ليحتاج فيه للمسألة المذكورة - يمكن العكس.

ثالثها: المراد باستنباط الأحكام الشرعية هو الوصول لها إما بالقطع، أو بقيام الحجة عليها، لأن مبنى الحجية على الكشف والإثبات، وترتب العمل على قيام الحجة إنما هو لكونه من شؤون الواقع المحكي بها الواصل بسببها، كما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.

كما أن المراد من الوظيفة العملية ما تثبت ابتداءً من دون ثبوت للحكم الشرعي، بل مع فرض الجهل به وعدم قيام الحجة عليه، كما هو الحال في الأصول والقواعد الظاهرية الشرعية والعقلية.

هذا، وقد اقتصر المشهور - فيما حكي - على الشق الأول من التعريف ولما تنبه المتأخرون إلى قصوره عن الوظائف العملية، لعدم تضمنها الحكم الشرعي، خصوصاً العقلية منها، حاولوا تعميمه بالإضافة المذكورة أو نحوها، إذ هو أولى من الالتزام بخروجها عن علم الأصول وأن البحث عنها استطرادي، مع وضوح دخلها في الغرض الأقصى منه الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو الخروج عن عهدة الأحكام الواقعية وبراءة الذمة عنها عقلاً.

ص: 15

بل اقتصر بعض مشايخنا في التعريف على: أنه العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة في مرحلة العمل.

ولابد أن يكون مراده بالوظيفة الأعم من الشرعية والعقلية.

وهو وإن كان أخصر، فيكون أنسب بالتعريف، إلا أن ما ذكرنا أولى، لما فيه من الإشارة الإجمالية لغرضي العلم ووظيفتي المجتهد، وهما استنباط الحكم الشرعي، وتعيين الوظيفة عند تعذره، بل المطلوب الأولي هو استنباط الحكم، لأنه مجهول مطلوب، والاكتفاء بالوظيفة العملية إنما هو لتعذره.

بل لما كانت الوظيفة في كلامه أعم من أن ترفع الشبهة الحكمية - كما في مورد استنباط الحكم الواقعي بالعلم، أو قيام الحجة - وأن تنقح في موردها - كما في موارد الأصول - فالتعريف المذكور بإطلاقه قد ينطبق على المسألة الفقهية، لأنها قاعدة تصلح لتحصيل العلم بالوظيفة العقلية، فإن تشخيص التكليف الشرعي لما كان مستتبعاً لحكم العقل بوجوب إطاعته، كانت القضية الشرعية التكليفية قاعدة يعلم بها لتحصيل الوظيفة العقلية في مقام العمل في الموارد الجزئية.

وهذا بخلاف ما ذكرناه من التعريف، لوضوح أن القضية الشرعية التكليفية عبارة عن حكم ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، لا قاعدة ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، ولا لمعرفة الوظيفة العملية في مورد الشبهة الحكمية، فتأمل جيداً.

رابعها: المراد في التعريف من الشبهة الحكمية التي هي مجرى الوظيفة هي الشك في الحكم الشرعي، للشك في الجعل وجوداً وعدماً،

ص: 16

أو سعةً وضيقاً.

ويقابلها الشبهة الموضوعية، التي يكون الشك فيها بسبب اشتباه الأمور الخارجية مع العلم بالجعل الشرعي بحدوده.

وبذلك تخرج القواعد الفقهية الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية، كقاعدتي اليد والصحة.

وأما القواعد الشرعية الواقعية كقاعدة (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) فهي مسألة فرعية، وقد عرفت خروجها، لأنها تتضمن حكماً شرعياً ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، فلا يدخل في أحد شقي التعريف.

وقد اتضح بما ذكرنا في تعريف علم الأصول أنه لا جامع حقيقي بين المسائل الأصولية، وأن المعيار فيها أن تحرر لِتَيسُّرْ طريق الاستنباط، لصلوح نتيجتها لأن تكون مقدمة له، سواء كان البحث فيها عن الدليلية والحجية، أم عن الظهور العرفي، أم التعبد الظاهري الشرعي، أم الوظيفة الظاهرية العقلية، أم غير ذلك مما يأتي التعرض له..

وقد أطال غير واحد الكلام في ذلك، وذكر بعضهم وجوهاً أُخر قد يلزم منها خروج بعض المسائل عن علم الأصول، وكون البحث فيها استطرادياً.

ولا وجه له بعد دخلها في غرضه الذي أشرنا إليه آنفا.

ولا يسعنا تفصيل الكلام في ذلك.

الأمر الثاني: منهجية البحث

الأمر الثاني: حيث كانت المسائل الأصولية كبريات تنفع في الاستنباط وتشخيص الوظيفة، وتقع في مقدماتها، فالكبريات المذكورة على قسمين:

ص: 17

أولهما: ما يكون مضمونه أمراً واقعياً مدركاً، ولا يتضمن العمل بنفسه، ولا يتقوم به، وإنما يترتب عليه العمل لخصوصية موضوعه، أو بضميمة أمر خارج عنه.

وتنحصر في مباحث الألفاظ - التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات اللفظية، ومداليل المفردات، والهيئات التركيبية - والملازمات العقلية - التي يبحث فيها عن ملازمة أحد الأمرين للاخر أو لعدمه، وعدمها، كمبحث مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي - فان تشخيص الظهور تنقيح لأمرٍ واقعي لا يتقوم بالعمل، وإنما يترتب العمل على مفاد الظاهر إذا كان عملياً، كالأحكام التكليفية، وبضميمة ثبوت حجية الظهور.

كما أن الملازمات العقلية أمور واقعية ليس حكم العقل بها إلا نظرياً لا يبتني على العمل، وإنما قد يترتب العمل على اللازم إذا صار فعلياً تبعاً للملزوم.

ثانيهما: ما يكون مضمونه عملياً مبتنياً على التعذير والتنجيز اللذين يكون موضوعهما العمل، وهي مباحث الحجج، والأصول العملية، والتعارض، لوضوح أن العمل مقوم للحجية والوظيفة العملية، فيلغو جعلهما شرعاً بدونه، ويكون حكم العقل بهما عملياً. كما أن البحث في التعارض راجع إليهما.

ومن ثَمَّ يقع الكلام في كل من القسمين على حدة.

ولنطلق على الأول الأصول النظرية لابتنائه على تشخيص المدركات العرفية في مباحث الألفاظ، والعقلية في مباحث الملازمات.

وعلى الثاني الأصول المبتنية على العمل.

ص: 18

ولكل من القسمين المقاصد المستوفية لهما.

وربما كان لكل من تلك المقاصد أمور خارجة عنها نافعة فيها، تبحث مقدمةً لها، أو استطراداً فيها، على ما يأتي في محله، إن شاء الله تعالى.

كما ينبغي تقديم علم الأصول بقسميه بمقدمة يبحث فيها عن حقيقة الحكم الشرعي الذي يحتاج لعلم الأصول، لأجل معرفته أو معرفة الوظيفة عند الجهل به، فهو من مبادئه المهمة، التي قد تتوقف بعض مباحثه على معرفته.

وقد بحث الأصحاب ذلك في موارد متفرقة من المقاصد، إلا أن تقديمه أولى بعد ما ذكرنا.

وينبغي أيضاً إلحاق علم الأصول بقسميه بخاتمة في مباحث الاجتهاد والتقليد، يكون البحث فيها عن أقسام الاستنباط، وأحكامه، ولواحقه، كالبحث عن التجزي، وعن حجية الاجتهاد في حق المجتهد غيره...

وغير ذلك مما هو خارج عن علم الأصول المبحوث فيه عن مقدمات الاستنباط، وله نحو تعلق به.

ونسأله سبحانه أن يعيننا في الكلام على هذا المنهج واستيفائه، إنه وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 19

ص: 20

مقدمة في حقيقة الأحكام الشرعية

اشارة

الأحكام التي تضمنتها الشريعة المقدسة ويهتم الفقهاء باستنباطها، والمكلفون بمعرفتها، تنقسم إلى قسمين:

الأول: الأحكام التكليفية.

الثاني: الأحكام الوضيعة.

وقد وقع الكلام في حقيقة كل من القسمين، كما وقع في بعض أفراد كل منهما.

وحيث كانا مختلفي السنخ كان المناسب الكلام فيهما في مقامين..

المقام الأول في الأحكام التكليفية

اشارة

وموضوعها فعل المكلف، وهي نحو نسبة بين المولي والعبد وفعله تبتني على اقتضاء فعله، أو عدم فعله، أو عدم اقتضائهما، بل على السعة فيهما.

وهي تقتضي الجري عليها بنفسها والعمل بما يطابقها، بنحو يترتب

ص: 21

العمل عليها في فرض وجود الداعي لموافقتها - من حكم العقل أو غيره - بلا حاجة إلى توسط جعلٍ آخر، بخلاف الأحكام الوضعية، على ما يتضح في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

وهي - حسبما تضمنته الأدلة النقلية، وتطابق عليه المتشرعة، بل العقلاء - خمسة، لأنها إما أن تبتني على عدم اقتضاء الفعل ولا الترك، بل على محض السعة فيهما، أو تبتني على اقتضاء أحدهما، فالأول الإباحة، والثاني إما أن يبتني على الإلزام بمقتضاه، أو على عدم الإلزام به، فالأول ينحصر في الوجوب المبني على الإلزام بالفعل، والتحريم المبني على الإلزام بالترك، والثاني ينحصر في الاستحباب المبني على اقتضاء الفعل، والكراهة المبنية على اقتضاء الترك.

ومنه يظهر أن توصيفها بالتكليفية يبتني على التغليب، لأن التكليف مأخوذ من الكلفة الموقوفة على الإلزام، الذي يتضمنه الوجوب والتحريم، دون غيرهما.

وما ذكرناه ليس مورداً للإشكال، وإنما وقع الكلام في بعض ما يتعلق بذلك.

الكلام في ضمن أمور

وينبغي الكلام فيه في ضمن أمور..

الأمر الأول: حقيقة الإرادة التشريعية والإرادة التكوينية

الأمر الأول: تكرر في كلامهم انتزاع الوجوب والاستحباب أو تسببهما عن تعلق إرادة المولى بالفعل، كما أن التحريم والكراهية منتزعان أو مسببان عن تعلق كراهته به.

وقد استشكل في ذلك بما يرجع إلى أن القادر على تحقيق مراده ودفع ما يكرهه - سواء كان واجب القدرة ك - (الله تعالى)، أم ممكن القدرة

ص: 22

كالإنسان في بعض الأوقات - حيث لا يتخلف وجود مراده عن إرادته، ولا دفع ما يكرهه عن كراهته، لزم عدم عصيان أوامره ونواهيه، مع تحقق العصيان بالوجدان من العبيد لله تعالى الواجب القدرة ولغيره من الموالي العرفيين الذين قد يكونون قادرين على تحقيق مرادهم، وذلك كاشف عن عدم توقف التكاليف على الإرادة والكراهة، وأن منشأ التكليف أمر آخر، وإلا لزم كشف العصيان عن كون التكليف صورياً، لخلوه عن الإرادة فلا تكون مخالفته عصياناً.

وربما كان هذا أحد الوجوه الموجبة لدعوى مغايرة الطلب للإرادة، وأن منشأ التكليف هو الطلب - كما عن الأشاعرة - وأنه هو ما ادعوه من الكلام النفسي، أو غيره مما ذكره بعض أصحابنا.

وقد انجرّ الكلام بمشايخنا المتقدمين والمعاصرين إلى الكلام في ذلك، وفي مسألة الجبر والاختيار، وغير ذلك مما يناسبهما.

ولا يسعنا إطالة الكلام فيما ذكروه، لخروجه عن محل الكلام، بل ربما كان من التكليف المنهي عنه، والذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، فلنقتصر على ما يخص المقام.

وقد حاول غير واحد دفع الإشكال المتقدم بأن عدم تخلف المراد عن الإرادة من القادر مختصٌ بالإرادة التكوينية، وليس التكليف مسبباً أو منتزعاً منها، بل من الإرادة التشريعية، والتخلف فيها غير عزيز، فمبني الإشكال على الخلط بين الإرادتين.

الفرق بين الإرادتين..

ومن هنا لابد من بيان الفرق بين الإرادتين، وقد ذكروا له وجوهاً:

الأول: ما يظهر من النائيني قدس سره

الأول: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا فرق بينهما إلا في

ص: 23

اقتضاء الإرادة التكوينية للفعل بالمباشرة بحركة عضلات المريد، واقتضاء الإرادة التشريعية للفعل المنزل منزلة المباشرة، لابتنائها على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته.

وفيه: أن التنزيل المذكور مما لا شاهد له، بل لا مجال للبناء عليه بعد الرجوع للمرتكزات العرفية، بل لعله ممتنع في التكاليف الشرعية.

على أن التنزيل إن كان تكوينياً راجعاً إلى تبعية حركات العبد وعضلاته لإرادة المولى - كحركات المولى وعضلاته - امتنع التخلف مطلقاً.

وإن كان ادعائياً فلا أثر له في تحقيق مراد المولى الذي هو أمر حقيقي خارجي، تابع لأسبابه التكوينية، فلا وجه لاجتزاء المولى به في فرض كونه مريداً.

وإن كان تشريعياً راجعاً إلى خطاب العبد بجعل عضلاته وحركاته بمنزلة عضلات المولى وحركاته في تحركها تبعاً لإرادته، رجع الكلام إليه، واحتاج إلى بيان الإرادة التشريعية التي اقتضت الخطاب به.

الثاني: ما يظهر من غير واحد

الثاني: ما يظهر من غير واحد من انحصار الفرق بينهما في المتعلق، فمتعلق الإرادة التكوينية هو فعل المريد نفسه، ومتعلق الإرادة التشريعية هو فعل المكلف، بلا فرق بين حقيقتيهما.

وفيه: أن لازم ذلك عدم تحقق الإرادة في ظرف علم المولى بعدم تحقق المراد، لأن فعلية الإرادة المستتبعة للسعي نحو المراد بتحريك العضلات نحوه، أو بطلبه من الغير مشروطة باحتمال تحققه.

بل يلزم عدم تخلف المراد في ظرف قدرة المريد عليه، بأن كان المولى قادراً على فعل العبد ولو بإجباره، كما هو المشاهد في مرادات

ص: 24

الموالي الحتمية، فالتخلف مع القدرة كاشف عن عدم الإرادة فلو كانت الإرادة منشأ للتكليف كشف التخلف عن كون التكليف صورياً لا معصية بمخالفته، لعدم الإرادة على طبقه.

وأما ما ذكره بعضهم: من أن متعلق الإرادة التشريعية ليس مطلق فعل العبد، بل خصوص الاختياري منه، والإرادة المذكورة لا تقتضي جبر العبد، للزوم الخلف.

فهو لا يدفع الإشكال، حيث يلزم مع علم المريد بعدم تحقق الفعل الاختياري عدم فعلية إرادته المستتبعة للسعي له بالتكليف.

كما يلزم عدم تخلفه مع قدرة المولى عليه، مع وضوح أنه قد يتخلف وإن كان قادراً، كما هو المشاهد في كثير من الموالي العرفيين، حيث يتسنى له إقناع العبد وإحداث الداعي له، بمثل الترهيب والترغيب والتذكير.

بل لا إشكال فيه في حق المولى الأعظم قدس سره عز وجل، إذ لو سلم ما ذكره بعضهم من عدم استناد اختيار العبد إليه تعالى، إلا أنه لا ريب في وقوعه تحت سلطانه، ولو بتهيئة أسباب الهداية والسعادة، أو الخذلان والشقاوة، قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا»(1) وقال عز وجل:

«قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (2) وقال سبحانه:

«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» (3) .

مضافاً إلى أن أخذ الاختيار قيداً في المراد والمكلف به لو أمكن

ص: 25


1- سورة يونس: 99
2- سورة الأنعام: 149
3- سورة الشعراء: 26

- وغض النظر عما قيل من عدم كون الاختيار اختيارياً، فيمتنع أخذه في المكلف به الاختياري - كان لازمه عدم الاجزاء بالموافقة بوجه غير اختياري، ولا يمكن البناء عليه في غير العباديات. فلاحظ.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره(1) من أن الاختلاف بين الإرادتين إنما هو في كيفية التعلق بالمراد، مع وحدة حقيقتهما ومتعلقهما.

بدعوى: أنه إذا كان لوجود الفعل مقدمات عديدة كان لكل منها دخل في جهةٍ من جهاته، فهي تمنع العدم من جهتها، وحينئذٍ فالمصلحة الداعية للشيء والموجبة لإرادته قد تكون مقتضية لحفظه من جميع الجهات، وقد تكون مقتضية لحفظه من بعضها، فإن كانت على النحو الأول أوجبت إرادته من جميع الجهات، بنحو تنشأ منها إرادات غيرية بعدد جميع المقدمات، وإن كانت على النحو الثاني أوجبت إرادته من خصوص تلك الجهة، فتنشأ منها إرادة غيرية متعلقة بالمقدمة الحافظة لها دون غيرها.

وحيث كان صدور الفعل من المكلف في فرض عدم الداعي النفسي إليه يتوقف على تشريع التكليف به، وعلم المكلف بالتكليف الذي هو شرط في حدوث الداعي العقلي لفعله، وعدم مزاحمة الداعي العقلي بالدواعي الشهوية على خلافه، كان تشريع التكليف من مقدمات وجود فعل المكلف الحافظة لبعض جهات وجوده، وكانت إرادة الشارع المتعلقة بالفعل من هذه الجهة هي الإرادة التشريعية، وتقابلها الإرادة التكوينية، وهي المتعلقة بفعله من جميع جهات وجوده، المقتضية لحفظه بلحاظ جميع المقدمات، وهي التي يمتنع تخلف المراد عنها مع قدرة المريد، أما التشريعية فلا يمتنع

ص: 26


1- سيدنا الجد السيد محسن الطباطبائي الحكيم. (منه)

التخلف فيها، لغرض قصورها.

وعليه لا يكون العصيان كاشفاً عن عدم الإرادة، بل عن قصورها وأنها لم تبلغ مرتبة التكوينية، كما تكون التشريعية من مراتب التكوينية الموجودة في ضمنها.

وفيه: أن ملاك الإرادة الغيرية لما كان هو الوصول للمراد النفسي فلا مجال له إلا مع العلم بحصول المراد النفسي، للعلم بتحقق بقية المقدمات أو احتمال ذلك.

أما مع العلم بعدم تحقق المراد النفسي، للعلم بعدم تحقق بقية المقدمات، فيمتنع إرادة بقية المقدمات بإرادة غيريةٍ تابعةٍ لإرادة ذيها نفسياً.

نعم، قد تكون مرادةً بإرادةٍ نفسيةٍ غير تابعةٍ لإرادة ذيها، فيقتصر المريد على تحقيقها، وحيث ذكرنا أنه كثيراً ما يعلم المولى بعصيان المكلف للمزاحمات الشهوية أو نحوها للداعي العقلي، امتنع أن يكون تشريع التكليف مسبباً عن إرادة غيرية تابعةً لإرادة المكلف به نفسياً، بل ذلك يكشف عن عدم تعلق الإرادة النفسية به وكون منشأ التكليف أمراً آخر.

ما ذكره الاصفهاني قدس سره في حقيقة الفرق بين الإرادتين

أما بعض المحققين قدس سره فقد أنكر الإرادة التشريعية في موارد التكاليف الشرعية - مع تفسيره الإرادة التكوينية بما يتعلق بفعل المريد نفسه، والإرادة التشريعية بما يتعلق بفعل الغير - لدعوى: أن الإرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد، لأن شوقه إلى الفائدة يستتبع شوقه لذيها، وهو فعل الغير الاختياري، وحيث لم يكن فعل الغير مقدوراً للمريد بلا واسطة، بل بتبع البعث والتحريك اللذين هما فعل المريد بالمباشرة، كانت إرادته سبباً في إرادتهما وفعلهما.

ص: 27

أما إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة للمريد فيمتنع تعلق الشوق به، لامتناع تحققه بلا داع، وحيث كان تعالى مستغنياً بذاته امتنع في حقه الإرادة التشريعية، لعدم كون متعلقها - وهو فعل الغير - مورداً للنفع له.

نعم، ربما يكون إيصال النفع إلى الغير بتحريكه - أمراً أو التماساً أو دعاءً - ذا فائدة عائدة إلى الشخص، فينبعث الشوق إلى إيصال النفع بالبعث والتحريك، الذي هو فعل المريد بالمباشرة.

ولا وجه لعد مثله إرادة تشريعية بعد كون المراد هو إيصال النفع إلى الغير بتحريكه، وهو فعل المريد نفسه. إلا أن يكون محض اصطلاح.

وقد أطال قدس سره في ذلك، ومرجع كلامه - على غموض فيه، وجرى على مسلك أهل المعقول - إلى عدم اشتمال موارد التكاليف الشرعية على إرادة أو كراهة تشريعيتين كي يمتنع تخلفها، بل ليس موضوع الإرادة والكراهة فيها إلا نفس البعث، والزجر.

إلا أن يكونا هما المرادين بالإرادة والكراهة التشريعيتين، فلا مشاحة في الاصطلاح.

وفيه: - مع ما سبق من عدم اختصاص الإشكال بالأحكام الشرعية، بل يجري في تكاليف الموالي العرفيين، الذين اعترف بإمكان الإرادة التشريعية في حقهم - أن توقف الإرادة التشريعية لفعل الغير على وصول نفع منه للمريد غير ظاهر الوجه، بل كما أمكن تعلق الإرادة التكوينية بفعل ما لا يصل نفعه إلى المريد - لفرض كماله - أمكن ذلك في الإرادة التشريعية.

المختار في الفرق بين الإرادتين

والتحقيق: أن منشأ التكليف من الشارع الأقدس وغيره ليس من سنخ الإرادة التكوينية، التي هي في الحيوان عبارة: عن الشوق المستتبع لتحريك

ص: 28

العضلات نحو المراد.

ومن الله تعالى ما يشارك ذلك في النتيجة، وهي: السعي لتحقيق المراد، التي يعبر عنها شرعاً وعرفاً بالمشيئة.

بل هو أمر آخر قد يطلق عليه الإرادة شرعاً وعرفاً، إما بنحو الاشتراك اللفظي، أو مجازاً بلحاظ مشاركته في الجملة للمعنى المتقدم في العلية للمراد، وإن لم تكن عليته تامة، بل بنحو الاقتضاء، وليكن هو المراد بالإرادة التشريعية.

ونظيره في ذلك الكراهة التشريعية.

وتوضيح ذلك: أنه لابد في انتزاع التكليف من نحو من العلاقة بين المكلَّف والمكلِّف تقتضي متابعة الثاني للأول وموافقته، سواءً كان اقتضاؤها بحكم العقل تبعاً لذاتيهما - كالمولى الحقيقي عز وجل مع عبيده - أم لأمرٍ خارجي، كقوة المكلِّف المستلزمة لخوف ضرره، أو وجوب طاعته شرعاً، أو دالة له على المكلف تقتضي موافقته.

وحينئذٍ فما ينتزع منه التكليف هو الخطاب والتشريع المبتنيان على الجهة المذكورة، وعلى جعل السبيل بلحاظها، سواءً كان الداعي لذلك هو إرادة حصول المكلف به تكويناً من جميع الجهات من كل مكلف، أو في الجملة ولو من بعضهم، أم إرادته من بعض الجهات - على ما تقدم توضيحه في كلام سيدنا الأعظم قدس سره - أم أمراً آخر كالملاك الواجب الحفظ تشريعاً على المكلِّف، أو امتحان المكلَّف وإظهار حاله في الطاعة والمعصية.

ومن هنا لا ينافيه تخلف المراد، وإن كان المكلِّف قادراً على تحقيقه من المكلَّف بالأختيار أو بدونه، كما لا يمنع من طلبه العلم بعدم تحققه من

ص: 29

المكلف.

نعم، لو كان الداعي له هو إرادة فعل المكلف تكويناً من جميع الجهات لم يتخلف مع قدرة المكلف، بإجبار المكلف، أو بإحداث الدواعي الموجبة لفعلية اختياره، ومع عجزه لا يصدر التكليف منه مع علمه بعدم تحقق المكلف به، كما لا يصدر معه التكليف منه - أيضاً - لو كان الداعي هو إرادته من بعض الجهات، وإن كان قادراً على تحقيقه.

كل ذلك لعدم فعلية إرادته التكوينية حينئذٍ، ولا داعي للتكليف غيرها، كما سبق توضيحه.

وهو الحال أيضاً لو كان الداعي هو الإرادة بأحد الوجهين، إذا لم يكن الطلب منشأ لانتزاع التكليف، لعدم العلاقة المقتضية لمتابعة المطلوب منه للطالب، وموافقته له.

وقد ظهر من ذلك أن الإرادة التشريعية مباينة للإرادة التكوينية خارجاً، وإن كان متعلقهما واحداً وهو فعل الغير، وأن بينهما عموماً من وجه موردياً في مورد الطلب، حيث يجتمعان فيما لو كان الداعي للتكليف هو تعلق الإرادة التكوينية بالمكلف به، وتنفرد الإرادة التشريعية فيما إذا كان الداعي أمراً آخر كالملاك والامتحان، تنفرد التكوينية فيما لو لم يكن بين الطالب والمطلوب ما يصحح انتزاع التكليف.

وأما امتناع التخلف مع قدرة المريد، وعدم فعلية الإرادة مع العلم بعدم حصول المراد، فهما تابعان للإرادة التكوينية.

كما أن الداعوية العقلية تابعة للإرادة التشريعية التي بها قوام التكليف دون التكوينية.

ص: 30

ولذا كان التكليف الامتحاني حقيقياً مقتضياً للإطاعة عقلاً حتى لو علم المكلف بحاله.

ولا يكون التكليف صورياً إلا بتخلف الإرادة التشريعية، بأن لم يكن الخطاب مبنياً على العلاقة المتقدمة التي يبتني عليها التكليف، ولا على جعل السبيل بلحاظها، كما لو كان الغرض منه الاعتذار للغير عن فعل العبد، لبيان عدم إطاعته للمولى، كي لا يؤاخذ بإساءته لذلك الغير، فلا تجب إطاعته على العبد لو اطلع على حاله.

تعقيب على ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

هذا، وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد إنشاء الطلب هو إبراز كون الفعل على ذمة المكلف فلا يبعد رجوعه إلى ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن مفاد صيغة الطلب إيقاع المادة تشريعاً على المكلف، وكيف كان فلا مجال للالتزام به على ظاهره، لوضوح أنه - مع اختصاصه بالطلب ممن له التكليف، المبني على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعته - من سنخ الوضع، وهو مباين للتكليف المستفاد من إنشاء الطلب سنخاً، لتقوم التكليف بالعمل، ولذا كان مقتضياً له بنفسه، وموضوعاً للطاعة والمعصية بلا توسط أمر غير حكم العقل، ولا يعقل ثبوته مع عدم وجوب العمل، بخلاف الوضع ك (الدين والملك) فهو لا يقتضي العمل بنفسه، ولا يكون موضوعاً للطاعة والمعصية، وإنما يكون موضوعاً للحكم الشرعي المقتضي له والموضوع لهما، ولذا أمكن ثبوته مع عدم وجوبه لعجزٍ، أو عسرٍ، أو غيرهما.

نعم، لما كان البعث والتحريك في مورد التكليف مبنياً على ملاحظة العلاقة المقتضية لمتابعة المكلَّف للمكلِّف، وعلى جعل المسؤولية بلحاظها - كما سبق منّا - كان مستتبعاً للمسؤولية بالفعل المخاطب به، بحيث يصير

ص: 31

كأنه في ذمة المكلف، فكون المكلف مسؤولاً بالفعل وفي ذمته مسبَّب عن إنشاء الطلب في مورد التكليف ومتفرع على التكليف، لا أنه مفاد إنشاء الطلب الذي يكون منشأ لانتزاع التكليف، فضلاً عن أن يكون مفاد مطلق إنشاء الطلب ولو في غير مورد التكليف.

ولعله لذا ورد التعبير عن بعض الواجبات بالدَّين، مثل ما عن الصادق عليهم السلام في وصية لقمان: «وإذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلّها، واسترح منها، فإنها دَين»(1).

ولا يبعد ابتناء ما ذكره على ما ذكرناه من الأمر الارتكازي، وإن لم يوضح في كلامه بالوجه المناسب له.

الأمر الثاني: الكلام في منشأ انتزاع الاستحباب والكراهة

الأمر الثاني: المتيقن مما تقدم منا ومنهم في منشأ انتزاع التكليف إنما هو في الحكمين الإلزاميين، وهما الوجوب والحرمة، وأما الحكمان الاقتضائيان غير الإلزاميين - وهما الاستحباب والكراهة - فالكلام في منشأ انتزاعهما يبتني على الكلام في الفرق بينهما وبين الحكمين الإلزاميين.

وقد يستفاد مذهبهم في ذلك تبعاً مما ذكروه في مباحث مادة الأمر والطلب وصيغتيهما عند الكلام في دلالتها على الوجوب وعدمها، وأنها لو دلت فهل تكون دلالتها بالوضع أو الإطلاق أو بأمر خارج من عقل أو عرف حيث كان الكلام هناك في مقام الإثبات المتفرع على حقيقة الفرق بينهما ثبوتاً.

أما نحن فحيث كنا هنا بصدد التعرض لحقيقة الأحكام كان البحث المذكور من البحوث الأصلية، الحقيقة بالذكر في المقام.

ص: 32


1- الوسائل ج 5، باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات، حديث 25
الكلام في اشتراك الأحكام الإلزامية وغيرها في جهة

والمستفاد من كلماتهم المفروغية عن اشتراك الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية، والإلزامية، في جهة تقتضي الطلب والبعث نحو المتعلق، أو النهي والزجر عنه، وإنما الكلام في الخصوصية الزائدة على ذلك التي يمتاز بها أحد الحكمين عن الآخر.

والكلام في ذلك يبتني..

ابتناء الكلام على الكلام في حقيقة الفرق بين الإرادتين

تارةً: على أن الإرادة التشريعية التي هي منشأ انتزاع التكليف متحدة في حقيقتها مع الإرادة التكوينية، وليس الفرق بينهما إلا في ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من ابتناء الثانية على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته، أو في ما سبق عن غير واحد من اختلاف متعلقهما، فمتعلق الإرادة التكوينية فعل المريد نفسه، ومتعلق التشريعية فعل الغير.

وأخرى: على ما سبق من سيدنا الأعظم قدس سره من أن الإرادة التشريعية مرتبة من التكوينية، وأنها إرادة للفعل من حيثية تشريع التكليف وإيصاله فقط، لا من جميع الجهات كالتكوينية.

وثالثة: على ما سبق من بعض المحققين من عدم انتزاع التكليف الشرعي من الإرادة التشريعية لفعل الغير، بل من نفس البعث والزجر بداعي جعل الداعي، اللذين هما فعل المريد بالمباشرة، ومرادان له بإرادة تكوينية.

ورابعة: على ما سبق من بعض مشايخنا من أن حقيقة التكليف اعتبار المكلَّف به في ذمة المكلَّف.

وخامسة: على ما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية المقومة للتكليف.

ص: 33

الكلام على الأول

أما على الأول فقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره(1): أن الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره راجع إلى الفرق بين مرتبتي الإرادة الموجبة لهما تبعاً لاختلاف الملاك الموجب لهما، فإن كان إلزامياً كانت الإرادة شديدة ينتزع منها الحكم الإلزامي، وإلا كانت الإرادة ضعيفة ينتزع منها الحكم غير الإلزامي.

ويشكل: بأن الإرادة لما كانت هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد والسعي لتحصيله فهي وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها لا تنقسم إلى إلزامية وغيرها، بل عدم الإلزام مستلزم لعدم فعلية الإرادة، لمنافاته لفعلية السعي نحو المراد الذي هو لازم لها، ولذا لا تنقسم الإرادة التكوينية إلى لزومية وغيرها، تبعاً لاختلاف الملاك والغرض الموجب لها، بل مرجع عدم اللزوم في الشوق إلى محض الرغبة من دون أن تبلغ مرتبة الإرادة.

وأما ما ذكره من أن ذلك خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فهو كما ترى! إذ لا وجه لاختلافهما في ذلك بعد الاعتراف باتحاد حقيقتهما، وبعد اشتراكهما في اختلاف الملاك الموجب لهما في الإلزام وعدمه، بل الأولى كون ذلك كاشفاً عن اختلاف حقيقتيهما.

أما بعض الأعاظم قدس سره(2) فقد صرح بما ذكرناه من أن الإرادة وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها ما لم تشتد بحيث يترتب عليها تحريك العضلات لا تكون إرادة.

ص: 34


1- الشيخ آغا ضياء الدين العراقي. (منه)
2- الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني. (منه)

كما أن ظاهره اشتراك الوجوب والاستحباب في الإرادة، وفي ما يترتب عليها، وهو الخطاب المتضمن لإيقاع المادة تشريعاً على المكلف، وإنما يختلفان في المبادئ، حيث يكون إيقاع المادة على المكلف تشريعاً مسبباً تارةً: عن مصلحة لزومية وأخرى: عن مصلحة غير لزومية.

أما وجوب الفعل فهو بحكم العقل، تبعاً لصدق الإطاعة عليه، التي هي واجبة عقلاً بنفسها.

ويكفي في صدقها عليه صدور البعث من المولى من دون قرينة على كون مصلحته غير لزومية.

أما مع قيام القرينة على ذلك بترخيص المولى في الترك فلا يصدق عنوان الإطاعة، ولا يكون واجباً، بل يكون مستحباً.

ومرجع ذلك إلى أن الوجوب والاستحباب وإن اشتراكاً في الإرادة إلا أنهما يختلفان في الملاك الموجب لها، وفي منشأ الانتزاع المسبب عنهما، فالوجوب مسبب عن البعث من دون قرينة على كون الملاك غير لزومي، والاستحباب مسبب عن البعث مع القرينة على ذلك.

وقد قاربه في ذلك بعض من تأخر عنه.

ولابد أن يريد بالإطاعة ما يساوق عدم المعصية، لأنها الواجبة عقلاً والتي يختص بها الأمر الوجوبي، وإلا فالإطاعة بمعنى المتابعة للمولى تتحقق بموافقة الأمر الاستحبابي، ولا تتصف بالوجوب عقلاً، بل بمحض الحسن.

وحينئذٍ يشكل ما ذكره - مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من منافاة الترخيص في الترك للإرادة - بأن التابع لصدق الإطاعة - بالمعنى المذكور

ص: 35

- هو الوجوب العقلي المختص بالتكاليف الشرعية، والكلام إنما هو في الوجوب المولوي الذي هو المنشأ لصدق الإطاعة، وهو الطلب اللزومي الذي لا يختص بأوامر الشارع الأقدس، بل يجري في الأوامر العرفية، ومن الظاهر أنه تابع للطلب الصادر من المولى تبعاً للملاك الداعي له، حيث يكون لزومياً تارة، وغير لزومي أخرى، ومع عدم المعين يكون محتملاً للوجهين، ودليل الترخيص كاشف عن حاله، لا مقوم ثبوتاً لعدم لزوميته، بحيث يكون عدم الدليل عليه مساوقاً للزوم الطلب واقعاً.

كيف، ولازم ذلك كون وصول دليل الترخيص موجباً لانقلاب الطلب من الوجوب إلى الاستحباب ثبوتاً؟! ولا يظن الالتزام به منه ولا من غيره، إلا في موارد النسخ، والانقلاب به - لو تم - مسبب حقيقة عن نفس الترخيص، لا عن وصول دليله.

نعم قد يكون عدم وصول الدليل على الترخيص منشأ للبناء على كون الطلب إلزامياً ظاهراً، لأنه الأصل في الطلب، أو لغير ذلك مما يرجع إلى مقام الإثبات - ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى - فيكون تبعاً لذلك موضوعاً للإطاعة ظاهراً، فيجب عقلاً وجوباً طريقياً في طول وجوب الإطاعة الواقعية، وإن كان مستحباً واقعاً.

فكأن ما ذكره مبتن على اختلاط مقام الثبوت بمقام الإثبات، ومقام الواقع بمقام الظاهر.

الكلام على الثاني

وأما على الثاني فتوجيه الفرق بين الحكمين غير عسير، لأنه إذا أمكن إرادة الشيء من بعض الجهات دون بعض بنحو يقتصر على المقدمات الحافظة لوجوده من تلك الجهات، فكما يمكن الاقتصار على الطلب

ص: 36

الإلزامي الذي يجب عقلاً إطاعته، يمكن الاقتصار على الطلب غير الإلزامي الذي يحسن عقلاً إطاعته، ولذا كان ظاهره انتزاع الوجوب من مقام إظهار الإرادة مع عدم الترخيص في الترك، والاستحباب من مقام إظهارها مع الترخيص فيه.

نعم، لا يبعد كون إلزامية الإرادة والطلب وعدمها راجعة إلى خصوصية في الإرادة والطلب، مستكشفة بالترخيص وعدمه لا متقومة بهما، وأن الترخيص لازم لعدم إلزاميتهما، وعدمه لازم لالزاميتهما، مع تقوم كل من الحكمين الإلزامي وعدمه بنفس الإرادة والطلب بإحدى خصوصيتيهما، من دون دخل للترخيص وعدمه فيه، وذلك لما أشار إليه بعض المحققين قدس سره، من أنه قد لا يخطر أحد الأمرين - من الترخيص وعدمه - على بال الحاكم عند جعل أحد الحكمين والخطاب به. وربما يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره إلى ذلك، والأمر سهل.

الكلام على الثالث

وأما على الثالث فقد ذكر المحقق المذكور أن الفرق بينهما ينحصر في تأكد البعث وعدمه، فالوجوب هو الإنشاء بداعي البعث الأكيد، والاستحباب هو الإنشاء بداعي البعث غير الأكيد، والبعث وإن كان اعتبارياً، والاعتبار بنفسه لا يقبل الشدة والضعف، إلا أن الشدة والضعف في نفس الأمر المعتبر - وهو البعث - لأن اعتبار أمر حقيقي بمرتبته الشديدة أو الضعيفة أمر ممكن، بلحاظ اختلاف الأثر المترتب عليه في مقام العمل.

والمصلحة اللزومية كما تناسب شدة الإرادة تناسب شدة البعث وتأكده، وغير اللزومية كما تناسب ضعف الإرادة تلازم ضعف البعث وعدم تأكده.

ص: 37

وأما الترخيص في الترك وعدمه فهما لازمان لمنشأ الاستحباب والوجوب، لا مقومان له، لما سبق منا التنبيه عليه تبعاً له.

لكن جعل الشدة والضعف في البعث الاعتباري معياراً في الفرق بين الحكمين لا يخلو عن إشكال، لأن اعتبار البعث إنما هو لأجل ترتب الانبعاث عليه عقلاً، كما يترتب خارجاً على البعث الحقيقي، وكما يترتب المراد على الإرادة في التكوينيات، ومن الظاهر ترتب الانبعاث الخارجي على البعث الحقيقي والمراد على الإرادة مطلقاً وإن كانا ضعيفين، وذلك لا يناسب دخل شدة البعث وضعفه في لزوم الانبعاث عقلاً وعدمه.

الكلام على الرابع

وأما على الرابع فقد ذكر بعض مشايخنا: أن الفرق بين الحكمين في مقام الثبوت من حيثية المبدأ.

وذلك بشدة الملاك وضعفه - بناءً على تبعية الأحكام للملاكات - وفي مقام الإثبات من حيثية مقارنة الحكم للترخيص وعدمه، إذ حيث كان الطلب عبارة عن إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، فاللازم عقلاً بمقتضى قانون المولوية والعبودية لزوم الامتثال، وهو مرجع الوجوب. إلا أن يرد ترخيص من المولى نفسه، فيجوز ترك الامتثال عقلاً، وهو مرجع الاستحباب. وهو مقارب لما سبق من بعض الأعاظم قدس سره أو راجع إليه.

غايته أنه صرح بكون الترخيص وعدمه فرقاً بين الحكمين في مقام الإثبات لا الثبوت، وهو لا يناسب ما ذكره من كون الترخيص رافعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال، فيكون الفعل به مستحباً، ولولاه لكان واجباً، حيث يناسب ذلك دخل الترخيص وعدمه في الحكمين ثبوتاً لا إثباتاً.

على أنه إذا كان مفاد الطلب إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف

ص: 38

فوجوب أداء ما في ذمة المكلف عليه لما كان عقلياً راجعاً إلى مقام الإطاعة امتنع ترخيص المولى في تركه، كما يمتنع ترخيصه في ترك الواجب.

إلا أن يرجع ترخيصه إلى رفعه عن ذمة المكلف، فيرتفع موضوع حكم العقل، لكن يكون نسخاً لمفاد الطلب، ولا يبقى معه وجه لبقاء الاستحباب.

أو يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلاً بنحو خاص من الجعل في الذمة، ولا يجب في غيره، وهو ما يستكشف بترخيص المولى، فيكون الترخيص كاشفاً عن حال الجعل، ولم ينهض الوجه المذكور لبيان الفارق بين الجعلين ثبوتا.

ولا مجال لقياسه على ترخيص الدائن في تأخير الدين، أو عدم أدائه الموجب لعدم وجوب الأداء مع بقاء انشغال الذمة بالدين.

للفرق بينهما بأن وجوب أداء حقوق الناس لما كان شرعياً كان للشارع التصرف فيه سعةً وضيقاً، فله إناطته بعدم ترخيص صاحب الحق في ترك الأداء، من دون أن ينافي بقاءه، أما أداء حقوق المولى فهو عقلي خارج عن وظيفة الشارع.

والظاهر توجه ذلك على ما سبق من بعض الأعاظم قدس سره، كما يتوجه ما سبق عليه هنا في الجملة، لرجوع أحدهما للاخر، فلاحظ.

وأما على الخامس - الذي عرفت منا تقريبه - فالحكم غير الإلزامي وإن كان الخطاب به مبنياً على ملاحظة الجهة المقتضية للموافقة بين الحاكم والمخاطب، إلا أنه يفترق عنه في عدم ابتنائه على جعل المسؤولية بلحاظ تلك الجهة، بحيث تكون المخالة خرقاً لها وخروجاً عليها، بل على محض

ص: 39

جعل مقتضى الخطاب على حساب الحاكم منتسباً إليه، بحيث يكون الإتيان به لأجله وعلى حسابه من حيثية واجديته لتلك الجهة المقتضية للمتابعة.

وبعبارة أخرى: الخطاب ممن ينبغي متابعته مبتنياً على ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة هو المصحح لانتزاع الحكم وإضافته إليه، بنحو يقتضي نسبة متعلقة له وصيرورته في حسابه حتى يكون الإتيان به لأجله إطاعةً له وقياماً بمقتضى تلك الجهة الملحوظة، كالعبودية للمولى الأعظم قدس سره، والسلطنة من الموالي العرفيين، والحق المتبادل بين المتناظرين.

وهذا ما تشترك فيه الأحكام المولوية الاقتضائية وبه تمتاز عن الأوامر والنواهي الإرشادية، فإنها لا تبتني على ملاحظة الجهة المذكورة، بل على نحو الإرشاد لواقع لا دخل للآمر والناهي به، ولا ينتسب إليه، ولا يكون منشأ لانتزاع الحكم منه، ولا يصح متابعتها لأجله.

نعم، الحكم المولوي تارة: يتمحض في ذلك، فلا يكون إلزاميا، بل يستلزم الترخيص في الترك مع التفات الحاكم.

وأخرى: يبتني مع ذلك على جعل المسؤولية بالإضافة لتلك الجهة، بحيث تكون مخالفته خرقاً لها وخروجاً عن مقتضاها، فيكون إلزامياً، ويلزمه عدم الترخيص في الترك.

فالفرق بينهما ثبوتاً راجع إلى ذاتي الحكمين، ولا ينحصر في مبادئهما، - وهي الملاكات التي تكون إلزامية تارة، وغير إلزامية أخرى - كما لا ينحصر بالفرق العرضي بالترخيص في الترك وعدمه.

وأولى من ذلك عدم تقومهما بالترخيص وعدمه، أو المنع من الترك، بنحو ينتزعان من الأمرين مع بساطتهما مفهوماً، أو بنحو التركيب في

ص: 40

مفهومهما، إذ اشتمال الخطاب على إحدى الخصوصيتين الذاتيتين المشار إليهما يكفي في انتزاع أحد الحكمين بلا حاجة للترخيص وعدمه، أو المنع.

ومما تقدم يظهر ضعف ما عن بعضهم: من إرجاع الأوامر الاستحبابية للأوامر الإرشادية، وأنها لا تتضمن إلا الإرشاد للمصلحة الراجحة.

وأما ما أشير إليه في وجه ذلك: من منافاة البعث للترخيص في الترك، فلا بد من اختصاصه بالوجوب وخلو الأمر الاستحبابي عنه، وتمحضه في الإرشاد.

فهو مدفوع: بأن المراد بالبعث إن كان هو الحث على الفعل المعبر عنه بالطلب، فهو لا ينافي الترخيص، بل قد لا يخلو منه الأمر الإرشادي أيضاً، كما لو كان الداعي له حب الخير للمخاطب.

وإن كان المراد منه ما يساوق جعل المسؤولية على المخاطب ولابدية الطلب منه فخلو الخطاب عنه لا يستلزم كونه إرشادياً، لما سبق.

كيف! والأوامر الإرشادية لا تصحح نسبة متعلقها للشارع والشريعة، بنحو يؤتى به لأجله، كما لا تقتضي موافقتها أهلية المخاطب بها للثواب منه، مع وضوح ثبوتهما في الأوامر الاستحبابية.

وبالجملة: وضوح الفرق بين الأوامر الاستحبابية والإرشادية بمقتضى المرتكزات المتشرعية والعرفية، وبملاحظة آثار كل منهما بحدٍ لا ينبغي معه خفاؤه وإرجاع أحدهما للآخر، بل اللازم لأجله البناء على خطأ التفسير المستلزم لذلك، ويكون كالشبهة في مقابل البديهة.

ص: 41

تنبيهان

تنبيهان:

الأول: جريان التفسير المتقدم في الحرمة والكراهة

أولهما: ما تقدم منا في تفسير الحكم الاقتضائي الإلزامي وغيره كما يجري في الوجوب والاستحباب يجري في الحرمة والكراهة، وإن اختلفا عنهما في كون الملاك فيهما راجعاً للمفسدة في الفعل المقتضية للزجر عنه، وللمصلحة المقتضية للبعث نحوه في الوجوب والاستحباب.

وأما على بقية المباني فحيث ذكرها أصحابها في مبحث الأوامر تبعاً لبيان مفاد صيغة الأمر ومادته، فقد اقتصر بعضهم على ما يناسبها وهما الوجوب والاستحباب، وربما يستفاد تفسير الحرمة والكراهة من مجموع كلماتهم ولو بلحاظ ملاك المبنى.

فالمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الإرادة ذات المرتبتين، أو مع الترخيص في الترك وعدمه انتزاع الحرمة والكراهة من الكراهة ذات المرتبتين، أو مع الترخيص في الفعل وعدمه.

والمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الطلب أو البعث انتزاع الحرمة والكراهة من النهي أو الزجر.

أما على ما سبق من بعض مشايخنا فالمناسب كون حقيقتهما اعتبار ترك المادة في ذمة المكلف، لكن لازمه عدم الفرق بين تحريم الشيء وإيجاب تركه، مع أنه صرح في مبحث النواهي - من حاشيته على تقريره لدرس شيخه - بالفرق بينهما، وأن المتعلق في الأول الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ من اشتماله على المفسدة، والراجع لتحريمه، ومتعلق الثاني الترك لاشتماله على المصلحة الداعية لطلبه، فيرجع إلى إيجابه.

ص: 42

ومن هنا لا يبعد كون مفاد النهي عنده اعتبار حرمان المكلف من متعلقه أو ما يشبه ذلك، والأمر سهل.

الثاني: وجود الحكم الاقتضائي بذاته ضمن الإلزامي

ثانيهما: لما كان الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره بزيادة حدٍ في الإلزامي يستتبع المسؤولية بالإضافة للجهة التي يبتني الخطاب عليها، مع اشتراكهما في أصل المشروعية، والانتساب للمولى التي هي ملاك اقتضائية الحكم، كان الحكم الاقتضائي غير الإلزامي موجوداً بذاته في ضمن الإلزامي، وإن لم يكن موجوداً بحده.

وحينئذٍ فالمرتكزات العقلانية قاضية بأنه كما يكون للحاكم رفع الحكم الإلزامي بكلا حديه، فلا تبقى معه المشروعية، له رفعه بحده المميز له عن الحكم غير الإلزامي، برفع المسؤولية المقتضية للإلزام مع بقاء المشروعية، ولازم ذلك أن يخلفه الحكم الاقتضائي غير الإلزامي، لتمامية حديه بذلك.

فرفع الإلزام والحكم بالاستحباب - مثلاً - لا يتوقف على رفع مشروعية الفعل المقارنة للإلزام، ثم تشريعه مرة أخرى، وتشخيص الرفع وأنه بأي من النحوين تابع لما يستفيده الفقيه من دليله.

الأمر الثالث: في الإباحة

الأمر الثالث: مما سبق يظهر أن الحكم غير الاقتضائي - وهو الإباحة التي هي أحد الحكام الخمسة - متقوم بعدم الجهة المقتضية لأحد الأحكام الأخرى، فمقتضاه مطابق لمقتضى الأصل الأولي الذي يكفي فيه عدم الخطاب المبتني على ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة، لا بالأمر ولا بالنهي.

والمصحح للحكم به، وجعله مع ذلك هو فتح الطريق للعبيد في

ص: 43

استناد عملهم في مقام السعة لتشريع المولى، فإن فعل الشيء أو تركه لإباحة المولى له أظهر في العبودية له تعالى، والفناء في سبيله من استناده لمجرد عدم منعه منه.

كما قد يشير إليه ما عن تفسير النعماني باسناده عن علي عليهم السلام: «قال رسول الله (ص): إن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(1).

بل لما كان استناد السعة لعدم التكليف من باب الاستناد لعدم المانع، واستنادها للتحليل من باب الاستناد لوجود المقتضي، كفى ذلك في صحة الجعل ارتكازاً، وكان أدعى للشكر على نعمة التخفيف والسعة.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي تشريع الحل بالمعنى الأعم، لكفايته في السعة عملاً، كما هو ظاهر الأدلة المتضمنة للرخصة والحل والإباحة ونحوها.

وأما خصوصية عدم الاقتضاء والإلزام فلا أثر لها فيها، ولعله لذا لم نعهد دليلاً يتضمن الإباحة بالمعنى الأخص، بل لا نعرف لفظاً مختصا بها لغة، وإنما هي اصطلاح للفقهاء في مقام تقسيم الأحكام.

وما تقدم من أن تقسيم الأحكام للخمسة عقلي إنما هو بلحاظ وجودها في الجملة، وإن كان انتزاعياً، على ما يأتي توضيحه.

ودعوى: أن الملاك لا يخلو عن إحدى الحالات الخمس، ولازمه جعل الأحكام على طبق كل منها، ومنها الإباحة بالمعنى الأخص.

ص: 44


1- الوسائل ج 1، باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1، و ج 11، باب: 29 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: 20

مدفوعة: بأن اللازم عدم مخالفة التشريع للملاك، لا مطابقته له، ولذا لا يحسن التشريع في مورد عدم الأثر العملي له وإن كان ملاكه موجوداً، ويكفي في استيفاء الملاك بالتشريع في المورد المذكور تشريع الحل بالمعنى الأعم مع عدم تشريع حكم اقتضائي في مورده.

وأما تشريع الإباحة المذكورة فلا بد فيه ثبوتاً من غرض مصحح له، وإثباتاً من قيام الدليل عليه، وكلاهما غير ظاهر.

ومن هنا لا طريق لإحراز جعل الحكم المذكور بحده، بل غاية ما يدعى كونه منتزعاً من تشريع الحل بالمعنى الأعم، مع عدم تشريع حكم اقتضائي في مورده.

ثم إن الوجه المتقدم إنما ينهض بإمكان تشريع الحل وعدم لغويته، فلا يلزم رفع اليد عن ظاهر أدلته، وحملها على مجرد نفي التحريم.

أما لزوم جعله في مورد عدم التحريم، أو عدم الحكم الاقتضائي فلا طريق له، بل يمكن اكتفاء الشارع في كثير من الموارد بعدم تشريع الحكم الاقتضائي، لعدم تحقق ملاكه، لما سبق من عدم الأثر العملي له.

نعم، لو كان مرجع الحكم الاقتضائي الإرادة والكراهة الحقيقتين كان مرجع الحل بالمعنى الأعم الرضا بالفعل أو الترك، ومرجع الإباحة بالمعنى الأخص الرضا بهما معا، وحينئذٍ يمتنع خلو الواقعة عن أحد الأحكام الخمسة من مثل الشارع الأقدس الذي يستحيل في حقه الغفلة عن الواقعة، إذ الالتفات للشيء مستلزم لإرادته أو كراهته، أو محض الرضا به من دونهما، لكن سبق ضعف المبنى المذكور.

الأمر الرابع: في استناد الحكم الاقتضائي

الأمر الرابع: بناءً على ما تقدم منا في حقيقة الحكم الاقتضائي يكون

ص: 45

وجوده مستنداً للحاكم تبعاً لخطابه الخاص، من دون أن يكون مجعولاً له اعتباراً بما له من مفهوم اسمي، نظير الجعل في الوضعيات.

أما بناءً على إناطته بالإرادة والكراهة الحقيقتين، فإن كان متحداً معهما كان أمراً تكوينياً ليس من أفعال الحاكم، بل من الكيفيات النفسانية التابعة لأسبابها التكوينية، كالعلم بالمصلحة والمفسدة، ونحوه.

وإن كان منتزعاً منهما في ظرف إبرازهما بالإنشاء القولي أو الفعلي - كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره - كان أمراً انتزاعياً غير مجعول بنفسه، ولا بمنشأ انتزاعه، وإنما يستند للمولى بلحاظ كون أحد جزئي منشأ انتزاعه - وهو إبراز الإرادة والكراهة - فعلاً اختيارياً له.

نعم، يكون أمراً جعلياً اعتبارياً بناءً على ما سبق من بعض الأعاظم قدس سره من كونه عبارة عن ما يتبع الإرادة، وهو إيقاع المادة على المخاطب تشريعاً.

ومثله ما سبق من بعض مشايخنا من تقومه بإبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، حيث يكون كسائر الأمور الوضعية، له نحو من الوجود الاعتباري المقصود بالجعل ممن بيده الاعتبار.

الأمر الخامس: في موضوع الإطاعة والمعصية

الأمر الخامس: التكليف وإن كان تابعاً لفعلية الخطاب به تبعاً لفعلية موضوعه، إلا أن الظاهر بمقتضى المرتكزات العقلانية أن موضوع الإطاعة، والمعصية والتقرب هو فعلية الغرض بمعنى بلوغه مرتبة الداعوية، بحيث يهتم المولى بحفظه وإن لم يكن التكليف على طبقه فعلياً، لوجود المانع من فعلية الخطاب به كالعجز عن امتثاله.

ومن ثم ذكروا: عدم جواز تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف قبل دخول الوقت، فضلاً عما بعده.

ص: 46

كما ذكرنا في مبحث التزاحم: عدم جواز فعل ما يؤدي إلى تزاحم التكليفين، المؤدي لتعذر امتثال أحدهما وإن سقط به الخطاب به.

وذكروا في مسألة الضد: أن سقوط أمر المهم لمزاحمته بأمر الأهم - بناء على عدم الأمر الترتيبي بالمهم معه - لا يمنع من مشروعية التقرب به بلحاظ ملاكه.

وتترتب على ذلك ثمرات مهمة، أشير إليها في مباحث التزاحم، استوفينا الكلام في كثير منها في مبحث التعبدي والتوصلي، ومسألة الضد، واجتماع الأمر والنهي، ومبحث التعارض.

بل لا إشكال في حسن تحصيل الغرض المذكور مع غفلة المولى عنه - لو كان ممن يمكن منه الغفلة كما في الموالي العرفيين - وكفايته في التقرب إليه، بل لزوم تحصيله مع كونه لزومياً وعدم صحة الاعتذار بعدم فعلية الخطاب به.

نعم، لا مجال لذلك مع انحصار الغرض بالامتحان، وعدم رجوعه إلى ملاك في المتعلق من شأنه أن يستتبع الخطاب به، لأن غفلة المولى مساوقة لعدم فعلية غرضه المذكور، لأن الامتحان أمر قصدي، فلا موضوع للامتثال والتقرب حينئذٍ.

ص: 47

المقام الثاني في الأحكام الوضعية

اشارة

وهي مقابلة للأحكام التكليفية التي سبق أنها متعلقة بفعل المكلف بنحو تقتضيه وجوداً، أو عدماً، أو تبتني على محض السعة فيه، سواء لم تتعلق بفعل المكلف، كسببية موت الحيوان لنجاسته، أم تعلقت به لا على نحو الاقتضاء أو السعة، كسببية الظهار لوجوب الكفارة، فإن تعلق السببية بالظهار ليس بنحو يقتضي فعله أو تركه أو السعة فيه.

وينبغي تقديم أمور قبل الكلام في حقيقتها..

الأمر الأول: إطلاق الحكم على الأحكام الوضعية

الأمر الأول: إن إطلاق الحكم في المقام ليس باعتبار فرض الحكم به شرعا، لأن حكم الشارع به مساوق لجعله له، مع أن الكلام إنما هو في جعل الشارع للأحكام الوضعية.

بل يراد به ما وقع الحكم به في لسان أهل الاستدلال أو المتشرعة مما كان صدقه تابعاً في الجملة لجعل الشارع، سواء كان مجعولاً له، أم لازماً لجعله، أم نحو ذلك.

الأمر الثاني: في عدد الأحكام الوضعية

الأمر الثاني: ربما وقع الاختلاف في عدد الأحكام الوضعية..

فقيل: إنها ثلاثة: وهي السببية، والشرطية، والمانعية.

ص: 48

وقيل: إنها خمسة، بزيادة العلية، والعلامية.

وقيل: إنها تسعة، بإضافة الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة.

وقيل: إنها غير محصورة، بل كل ما ليس بحكم تكليفي فهو وضعي.

ولا طريق لنا لتحديد المصطلح المذكور، بعد عدم الوقوف على مبدئه ومنشئه.

نعم، حيث كان سبب البحث فيها هنا هو الاختلاف في حقائقها، فالمناسب تعميم البحث لكل ما ليس بحكم تكليفي.

الأمرالثالث: في حقيقة الأحكام الوضعية

بل لا بأس بتعميم المصطلح فعلاً لذلك، تبعاً لعموم الغرض المصحح للاصطلاح، كما جرى عليه مشايخنا في العصور القريبة.

ولعل منشأ التخصيص بالبعض في كلام بعضهم عدم التوجه لعموم الغرض ولو بسبب عدم ظهور الخلاف في غيره. والأمر سهل.

الأمر الثالث: الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية ليس في تحديد مفاهيمها تفصيلاً، لعدم تيسر ذلك بسبب كثرتها، وبساطة مفاهيمها، وارتكازية بعضها بالنحو غير القابل للشرح والتوضيح.

مع أنه لا أثر مهم لذلك، فلو أشير إلى ذلك في بعضها فهو استطراد خارج عن محل الكلام.

بل الكلام إنما هو في جعلها شرعاً، بحيث يكون لها بسبب الجعل الشرعي نحو من الوجود الصالح لترتب الأثر.

لما يترتب على ذلك من الثمرة المهمة، وهي إمكان التعبد بها ظاهراً عند الشك فيها.

ص: 49

بيان ذلك: أنه لا ريب في أن المصحح للتعبد الشرعي الظاهري بالشيء هو ترتب الأثر العملي عليه، بحيث يكون منشأً لحدوث الداعي العقلي للعمل، ويلغو بدون ذلك، إما لكونه أجنبياً عن مقام العمل - كطيران الطير في الجو - أو لمضي وقت العمل - كما لو شك بعد وطء المرأة في حيضها بعد الوطء - أو لتعذر العمل، كما لو شك في طهارة الماء الذي يتعذر استعماله.

كما أنه تقرر في مباحث الأصل المثبت أنه لابد في العمل الملحوظ في مقام التعبد الظاهري من كونه مترتباً بلحاظ القضايا الشرعية من دون توسط أمر خارج عنها، إما لكون الأمر المتعبد به ظاهراً مجعولاً للشارع ومنشأً لحدوث الداعي العقلي للعمل بلا واسطة - كالأحكام التكليفية - أو لكونه موضوعاً لحكم شرعي يترتب عليه العمل، وإن لم يكن في نفسه مجعولاً شرعياً، كالحيض الذي هو موضوع للأحكام التكليفية الخاصة.

وحينئذٍ يقع الكلام في المقام في أن الحكم الوضعي هل له نحو من الوجود مستند لجعل الشارع، ليمكن التعبد به ظاهراً، نفياً، أو إثباتاً، بلحاظ كل من العمل المترتب عليه بلا واسطه، والمترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي أو أن له نحواً من الوجود لا يستند للشارع، فلا يمكن التعبد به إلا بلحاظ العمل المترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي، دون المترتب عليه بلا واسطة أو [أنه ليس له نحو من الوجود أصلاً]، فلا يترتب عليه العمل بنفسه، كما لا يكون موضوعاً لحكم شرعي يترتب عليه العمل بواسطته، فلا يمكن التعبد به أصلاً؟

الأمر الرابع: حقيقة الأمر الاعتباري

الأمر الرابع: قد يعبر عن الموجود..

ص: 50

تارةً: بالأمر الحقيقي.

وأخرى: بالأمر الاعتباري.

وثالثة: بالأمر الانتزاعي.

ولا إشكال في المراد بالأمر الحقيقي، وأنه عبارة عما له ما بإزاء في الخارج التكويني، وأنه يستند في وجوده لأسبابه التكوينية من دون دخل فيه للتشريع. وإن كان ربما يقع الكلام في بعض مصاديقه. وهو غير مهم في المقام.

وإنما المهم تعيين الأمر الاعتباري والانتزاعي حيث وقع الكلام في حقيقتهما، وربما وقع الخلط بينهما للاشتباه في المفهوم أو المصداق.

والظاهر أن الأمر الاعتباري هو المفهوم المتقرر عند الشارع، أو العرف الذي له نحو من الوجود تابع ثبوتاً لجعله والبناء عليه، ممن بيده أمره من شرع أو عرف أو سلطان، ومسبب عن حكمه به، من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج.

وبذلك يكون متوسطاً بين الأمر الحقيقي والادعائي المحض، لأن الأول له ما بإزاء في الخارج مستند لسببه التكويني من دون دخل للجعل والبناء فيه، والثاني لا يكون له بنظر العرف وجود مسبب عن ادعائه والحكم به، بل ليس له وراءهما شئ، كما في موارد الإستعارات والمبالغات والتنزيلات الواردة في مقام الحكم، والتي تبتني على العلاقات المجازية ونحوها.

ولا معنى لمنع وجود الأمر الاعتباري بعد ما ذكرناه من فرض أن له وجوداً بنظر العرف من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج، لأن إنكار

ص: 51

وجوده في عالم الاعتبار خلاف الفرض، وإنكار وجوده في الخارج إنكار لأمرٍ خارج عن المدعى.

نعم، لابد من غرض عقلائي مصحح لانتزاع المفهوم الاعتباري والبناء عليه في عالم الاعتبار، بعد فرض عدم التقرر له في الخارج.

والظاهر أن الغرض منه تنظيم الأحكام والآثار العملية التابعة لمن بيده الاعتبار من شرع أو عرف، وكما كان له جعل الأحكام، كان له اختراع الموضوع فيها لتنظيمها.

لكن لا بمعنى تقوم مفهوم الأمر الاعتباري بخصوص بعض الأحكام، ليلزم ارتفاعه بارتفاعها، بل بمعنى كون اعتباره لأجل تحديد الموضوع الصالح لها، ليسهل تنظيمها، وإن لم تشرع في بعض موارده لفقده بعض شروطها.

ما ذكره النائيني قدس سره في حقيقة الأمر الاعتباري ومناقشته

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في بعض الأمور الاعتبارية من أنها من مراتب بعض الأمور الحقيقية، فإنه بعد أن ذكر أن الملكية من الأمور الاعتبارية ذكر أنه يمكن أن يقال: إنها من سنخ الملكية الحقيقية، فان حقيقة الملكية هي الواجدية، والسلطنة، والإحاطة على الشيء، وهي ذات مراتب أقواها واجديته تعالى لما خلقه، ثم واجدية أوليائه التي هي من مراتب واجديته، ثم واجدية المالك بالملكية الاعتبارية، ثم واجدية المحاط عليه بالمحيط خارجاً، كواجدية الإنسان لما يلبسه من ثيابه.

وجه الضعف: أن اختلاف الأمر الحقيقي والاعتباري سنخاً وأثراً، تبعاً لاختلاف سنخ علتيهما مانع من البناء على كون أحدهما من مراتب الآخر.

ص: 52

نعم، قد يتشابهان في بعض الآثار، فكما أن له تعالى التصرف في مخلوقاته فإن للمالك التصرف في مملوكاته.

لكن الأول عقلي، تبعاً لخصوصية ذاته تعالى وتأثيره في مخلوقاته، والثاني تابع لجعل الشارع إطلاقاً أو تقييداً.

ومثله ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في جملة من عناوين الأمور الاعتبارية، من أن للعناوين المذكورة حقائق حقيقية،

تارةً: تنشأ تكويناً بفعلها في الخارج.

وأخرى: تنشأ تكويناً ادعاءً في مثل العقود والإيقاعات.

ولا تخرج بذلك عن كونها اعتبارية، لأن الوجود الادعائي نوع من الاعتبار، من دون أن تختلف حقائق الأمور الخارجية عن حقائق الأمور الاعتبارية.

وقد يظهر ذلك من بعض المحققين، بل صرح: بأن أسدية الشجاع اعتبارية للعرف كما أن ملكية الوارث اعتبارية لهم أو للشارع، خالطاً بين الاعتبار والادعاء، مدعياً أن المفهوم الواحد كما يكون له مطابق حقيقي يكون له مطابق اعتباري. فراجع كلامه على غموض فيه.

ويظهر وجه ضعفه مما سبق من أن الادعاء مباين للاعتبار، ولذا يتعلق بما لا يقبله من الأمور الحقيقية، وبما يقبله من دون أن يقتضي وجودهما، كادعاء أن الشجاع أسد، وادعاء أن المطلقة رجعياً زوجة، والمزوجة متعة مستأجرة.

ولذا لا يكون الوجود الادعائي فرداً حقيقياً للعنوان المدعى، بل يحتاج الحمل عليه إلى قرينة، بخلاف الوجود الاعتباري، حيث يكون فرداً

ص: 53

حقيقياً لعنوانه، كالوجود الخارجي لعنوانه.

كما يستغني كل منهما عن القرينة لو كان العنوان حقيقةً فيه أو منصرفاً إليه، ويحتاج إليها لو كان مشتركاً لفظياً بينهما.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في اختلاف حقيقتي كل من الأمر الحقيقي والاعتباري سنخاً وتباين مفهوميهما، كما صرح به المحقق الخراساني قدس سره، ومباينة الاعتبار للادعاء.

نعم، قد يكون تشابه الأمر الحقيقي والأمر الاعتباري ذهناً، أو في بعض الآثار المقصودة منهما منشأً لإطلاق عنوان الأمر الحقيقي على الأمر الاعتباري، من باب المجاز أو النقل للمناسبة، من دون أن يقتضي اتحاد حقيقتيهما ومفهوميهما.

ثم إن الظاهر أن الأمور الاعتبارية من سنخ الاعراض القائمة بموضوع واحد، كالحرية والمسجدية والطهارة والنجاسة، أو الإضافات القائمة بأكثر من موضوع واحد، كالزوجية والملكية والرقية وغيرها. وربما يأتي بعض الكلام فيها. ولا تكون من سنخ الموضوعات القائمة بأنفسها، حيث لا نعهد ذلك فيها. هذا كله في الأمر الاعتباري.

حقيقة الأمر الانتزاعي

وأما الأمر الانتزاعي فهو مأخوذ من الانتزاع، ويراد به في ألسنة أهل الاستدلال: استحصال العنوان من الجهة المقومة لمفهومه، فتشترك فيه جميع العناوين، فالعناوين الذاتية تنتزع من مقام الذات، والعرضية تنتزع منها بلحاظ طروء العرض عليها، على اختلاف الاعراض في كونها خارجية واعتبارية، والعناوين الإضافية تنتزع من نحو نسبة بين الذات وغيرها، كالفوقية والبنوة والعلية ونحوها.

ص: 54

إلا أن الظاهر عدم كون ذلك على إطلاقه مراداً لهم من الأمر الانتزاعي بل لهم مصطلح آخر.

وقد اختلفوا في تحديده وموارد إطلاقه، على ما ذكره غير واحد، والمهم هنا ما يناسب المقام، وهو ما يصلح أن يكون قسيماً للأمر الحقيقي والاعتباري.

ما ذكره النائيني قدس سره في حقيقته ومناقشته

وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره: أنه الذي لا يكون له نحو تقرر ووجود، لا في وعاء العين - كالخارجيات - ولا في وعاء الاعتبار - كالاعتباريات - بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع الموجود في عالم العين، كالعلية المنتزعة من العلة والمعلول الخارجيين، أو الموجود في عالم الاعتبار، كالعقد الذي يكون سبباً للزوجية والملكية، إذ حيث كانت الزوجية والملكية اعتباريتين كان سببهما اعتبارياً لا محالة.

فالأمور الانتزاعية ليس لها ما بحذاء في الخارج، سواء كان انتزاعها من مقام الذات، كالامتناع والإمكان والعلية، أم من قيام أحد المقولات بمحله، كالفوقية والتحتية، والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية، فان الفوقية ليست من مقتضيات ذات الفوق، بل لأجل خصوصية أوجبت انتزاع الفوقية منه، وكذا غيرها من المذكورات.

ولا يخفى ما فيه من الإشكال...

أما أولاً: فلأن لزوم كون الأمر الاعتباري اعتبارياً بلا ملزم، بل سببه الحقيقي وهو اعتبار من بيده الاعتبار أمر خارجي بلا ريب، وسببه الجعلي تابع له، فقد يأخذ في موضوعه أمر اعتبارياً، كملكية أحد العمودين الموجبة لانعتاقه، وقد يأخذ في موضوعه أمراً خارجياً، كموت الوارث الموجب

ص: 55

لملك الوارث، والعقد والإيقاع الموجبين لتحقق مضمونيهما، وغير ذلك، بل أكثر أسباب الاعتباريات أمور حقيقية تابعة لأسبابها التكوينية.

وأما ثانياً: فلأنه إذا كانت العلية منتزعة من العلة والمعلول معاً، فلا وجه لانتزاع السببية من خصوص العقد، بل يتعين انتزاعها منه ومن مسببه كالزوجية، كما لا وجه لانتزاع الفوقية من خصوصية في الفوق، بل من خصوصية فيه وفي التحت، لأنها بأجمعها من الإضافات القائمة بطرفين.

نعم، تختلف الإضافات، فقد يكون قيامها بأطرافها بنحو واحد، كالأخوة والتشابه، وقد يختلف نحو قيامها ببعض أطرافها عن نحو قيامها بغيره، كالعلية التي يكون قيامها بأحد طرفيها موجباً لصدق العلة عليه، وقيامها بالآخر موجباً لصدق المعلول عليه، كما أن قيام الإضافة الخاصة بالعالي والسافل يوجب انتزاع كل من الفوقية والتحية، وصدق الفوق على الأول والتحت على الثاني.

وكأن ما سبق منه ناشئ عن الاضطراب في بيان المطلب، وإلا فمن البعيد مخالفته فيما ذكرنا لوضوحه، ومن ثم لم يكن ذلك مهماً.

إنما المهم في المقام أن منشأ الانتزاع المفروض وجوده في عالم العين أو الاعتبار إن كان متضمناً لما يحكي عنه العنوان الانتزاعي كان الأمر الانتزاعي كالعرض موجوداً في عالم العين أو الاعتبار، ولم يكن قسيماً للأمر الخارجي والاعتباري، إذا لا يراد بوجودهما إلا وجود مطابق عناوينهما المحكي بها، لا وجود نفس العناوين.

وإن لم يكن متضمناً لما يحكي عنه العنوان، بحيث لا يحكي العنوان عن شيء متقرر، بل يتحقق المعنون بنفس الانتزاع في الذهن فقط، رجع

ص: 56

إلى ما ذكره غير واحد من أهل المعقول: من أن الإضافات ليست ثابتة في الأعيان، بل في الذهن فقط، وأنه لا وجود لها حقيقة.

وعمدة دليلهم على ذلك: أن وجودها يستلزم إضافة بينها وبين موضوعاتها، فيلزم وجود تلك الإضافة وقيام إضافة بينها وبين الموضوع، وهكذا إلى ما لا نهاية، مع بداهة بطلان ذلك.

مضافاً إلى لزوم وجود ما لا نهاية له من الإضافات، لأن لكل شيء نحواً من الإضافة لشيء مبايناً لنحو إضافته للأشياء الأخر، حتى غير الموجودات في الخارج كالكليات والذهنيات والإعدام.

وهذا بخلاف ما لو كانت الإضافات ذهنية، حيث لا توجد قبل ملاحظتها في الطرفين، كما أن النسبة بينهما وبين الموضوع لا توجد إلا بعد ملاحظتها، فتكون النسب الموجودة محدودة تبعاً لمحدودية اللحاظات والتصورات المتحققة وتناهيها.

وهذا المحذور وإن كان حقيقاً بالتأمل، إلا أن دعوى وجود الإضافات في قبال وجود موضوعاتها حقيقة بالتأمل أيضاً، لما يحس بالوجدان من عدم تمحض عناوين الإضافات في الوجود الذهني وانسلاخها عن الحكاية، بل هي حاكية عن جهات خاصة، كما تحكي عناوين أطرافها الذاتية والعرضية عن مطابقتها في الخارج، ولذا لا يكون الذهن مطلقاً في اختراع الإضافة - كما في التخييليات - أو في اعتبارها - كما في الجعليات - فلا يكون الفوق تحتاً، ولا العلة معلولاً، ولا المتقدم متأخراً، بل هي تابعة لواقع واحد، ليس للذهن التصرف فيه، بل إدراكه. ومن هنا لابد من الجمع بين الوجدان المذكور، والمحذور المزبور.

ص: 57

المختار في حقيقة الأمر الانتزاعي

ولعل الأولى أن يقال: إن كان المدعى وجود الإضافة بوجود زائد على وجود موضوعاتها بنحو تكون من الأمور التكوينية في الخارجيات أو الاعتبارية في الجعليات، فالوجدان المتقدم لا يقتضيه، لأن صدق القضية لا يتوقف على تحقق أطراف نسبتها التي تضمنتها خارجاً أو اعتباراً، فضلاً عن نفس النسبة، إذ كثيراً ما تكون أطراف نسب القضايا ذهنية صرفة، كالكليات والعدميات ونحوها، ويحكم عليها بما يناسب مفاهيمها من لوازم وخواص، فيقال: الإنسان نوع، وشريك الباري ممتنع، مع وضوح عدم كون النوعية والامتناع وموضوعيهما أموراً خارجية تكوينية أو اعتبارية جعلية، كما قد يكون أحد طرفي القضية خارجياً تكوينياً أو اعتبارياً جعلياً دون الآخر، فيقال: زيد ممكن بالذات واجب بالعرض، وعمل الأجير مملوك للمستأجر، مع وضوح أن الموجود خارجاً واعتباراً هو موضوع القضية الأولى ومحمول الثانية، دون محمول الأولى وموضوع الثانية، لأن الإمكان والوجوب كالامتناع لا مطابق لهما في الخارج زائداً على موضوعيهما.

كما أن الملكية إنما تتعلق بالعمل الكلي في حال عدم تحققه في الخارج، ولا يكون تحققه إلا وفاءً بالمملوك وأداءً له.

وهكذا كثير من المفاهيم المدركة للعقل، حيث قد أودع الله - جلت قدرته - في الإنسان قوة الإدراك والتصور، ومكنه من التصرف في البيان بصورة عجيبة تدعو للذهول والاعتبار، لا تقف عند حدود ما يدركه من الخارجيات والاعتباريات. فلتكن الإضافات كذلك وإن كانت أطرافها خارجية أو اعتبارية، من دونه أن ينافي ذلك الوجدان المشار إليه.

وإن كان المدعى تبعية الإضافات لواقع محفوظ يدركه الذهن من

ص: 58

دون أن يكون تابعاً لاختراعه كالتخييلات، ولا لاعتباره كالجعليات، بل ليس له الخروج عنه، فلا يظن من أحدٍ إنكار ذلك.

ما ذكره الأصفهاني قدس سره في حقيقة الإضافات

وما في كلام بعض المحققين قدس سره من تقوم الوجود الفعلي للإضافات بالاعتبار، وأن لها وجوداً اعتبارياً تابعاً للحاظ حيث قد يوهم كونها من الاعتباريات الجعلية كأنه ناشئ عن التوسع في مفهوم الاعتبار على خلاف ما سبق منا تحديده، كما قد يظهر بملاحظة تمام كلامه.

وإلا فبداهة تبعيتها لمنشأ الانتزاع وعدم خضوعها معه للجعل تغني عن إطالة الكلام فيه.

لكن ذلك لا يستلزم وجودها خارجاً أو اعتباراً بحيث يكون عنوانها حاكياً عن مطابق في عالم العين والخارج أو الاعتبار، كما يحكي العنوان العرضي عن أمرٍ في الذات زائد عليها موجود في الخارج أو بالاعتبار.

بل يمكن كون منشأ انتزاع الإضافة خصوصية خاصة في طرفيها أو أطرافها، تابعة لواقع محفوظ يدركه العقل، مصححة لانتزاع المفهوم الإضافي، من دون أن تكون متحدة معه ومحكية بعنوانه، فليس للمفهوم والعنوان الحاكي عنه مطابق في عالم الخارج أو الاعتبار، بل هو أمر متقوم باللحاظ لا يصح انتزاعه إلا من الخصوصية المذكورة، ويكون وجودها وعدمها مداراً في صدقه وعدمه.

فالتشابه - مثلاً - منتزع من كل من الطرفين بلحاظ اتصافهما بوجه الشبه، فإن كانا خارجيين - كالرجلين العالمين - أو اعتباريين - كالزوجية والملك الموجبين لجواز الاستمتاع - كان الوجود الخارجي المستند للسبب التكويني، أو الاعتباري المستند للجعل مختصا بهما، من دون أن

ص: 59

يكونا مطابقين لمفهوم التشابه أو متضمنين لما يطابقه، ولا محكيين بعنوانه إلا بلحاظ ملازمتهما لمفهومه المحكي به، لأنهما منشأ انتزاعه ومصححان له، مع كون مفهومه المطابق له والمحكي به أمراً انتزاعياً لا مطابق له لا في عالم العين والخارج، ولا في عالم الاعتبار.

ولذا لا يختلف سنخ الإضافة ارتكازاً باختلاف سنخ طرفيها، حيث يكونان خارجيين تارة، واعتباريين أخرى، ومختلفين ثالثة، كالتشابه الحاصل بين الرجلين العالمين، وبين الزوجية المنقطعة وملك اليمين في عدم استحقاق القسم، وبين التنكيل بالعبد وملك أحد عموديه له في كونه موجباً لانعتاقه، مع وضوح امتناع قيام الأمر الخارجي بالأمر الاعتباري، كما سبق وضوح عدم كون الإضافات من الاعتباريات الجعلية في ظرف تحقق منشأ انتزاعها، فلا بد من كونها سنخاً ثالثاً غير الأمر الخارجي والاعتباري صالحاً للقيام بكل منهما.

ما ذكره الأصفهاني في الوجود العرضي للإضافات

هذا، وقد ذكر بعض المحققين قدس سره أن الإضافات كما يكون لها وجود بالذات، وهو الوجود الفعلي التابع للاعتبار - كما سبق منه - كذلك لها وجود بالعرض تابع لمنشأ الانتزاع، وهو الوجود بالقوة.

قال قدس سره في تقريبه: «فالسقف لمكان كونه جسماً واقعاً في المكان له قابلية أن يضاف إلى ما فوقه فينتزع منه التحتية وله قابلية أن يضاف إلى ما دونه فينتزع منه الفوقية، فللتحتية والفوقية وجود بوجود السقف، بنحو وجود المقبول بوجود القابل، فوجود السقف الخاص خارجاً وجود بالذات للجسم، ووجود بالعرض لتلك المعاني القابلة للانتزاع منه.

وهذا معنى وجود الأمر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه خارجاً مع

ص: 60

قطع النظر عن اعتبار كل معتبر كان، وبهذا الوجه داخل في المقولات، وبهذا الوجه يقال: إن للإضافات... وجوداً ضعيفاً، أي بنحو وجود المقبول بوجود القابل بالعرض، لا بالذات...».

لكن الظاهر أن وجود القابل خارجاً بالذات لا يستلزم وجود المقبول خارجاً بالعرض، وليس له أي نحو من الوجود الحقيقي، وإلا كان للاعراض - أيضاً - وجود بالعرض تبعاً لوجود موضوعاتها، فوجود الجسم مستتبع لوجود جميع الكيفيات والألوان القابل لها، وإن لم يكن متصفاً إلا بواحد منها.

بل كيف يمكن وجود الإضافة خارجاً مع ما ذكرناه من قابليتها للقيام بالموضوعين الخارجيين والاعتباريين والمختلفين؟! إلا أن يريد بالوجود الخارجي معنى آخر غير ما نفهمه، فيكون النزاع لفظياً لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

وكيف كان فالظاهر أنه ليس للإضافات وجود خارجي ولا اعتباري، بل هي أمور انتزاعية تابعة لتحقق منشأ انتزاعها في الصدق.

قبول بعض الإضافات للجعل

نعم، بعض الإضافات قابلة عرفاً للجعل المستتبع للوجود في عالم الاعتبار إذا لم يكن لها منشأ انتزاع متحقق في طرفيها خارجاً ولا اعتباراً، كالزوجية والملكية والرقية وغيرها، فإنه حيث لم يكن في أطراف هذه الإضافات - مع قطع النظر عن جعلها - ما يصحح انتزاعها من عرض خارجي أو اعتباري، وكانت بنظر العرف من الأمور التابعة لمن بيده الاعتبار، كان له جعلها ابتداءً، لابتناء الاعتبار على كثير من التوسعات، فلا تكون حينئذٍ من الأمور الانتزاعية التابعة لمنشأ الانتزاع، بل من الإضافات الاعتبارية

ص: 61

المجعولة بنفسها، والظاهر خروجها عن محل الكلام.

ثم إن الأمور الانتزاعية لا تختص بالإضافات، بل تكون غيرها مما يكون من سنخ الجواهر من المفاهيم القائمة بأنفسها، كالكليات المجردة، أو من سنخ الاعراض من المفاهيم القائمة بغيرها، كالامتناع والإمكان والنوعية والجنسية وغيرها، لوضوح أنه لا وجود لهذه الأمور، ولا تقرر لمعنوناتها لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار، وإنما هي منتزعة من خصوصيات يدركها العقل في المفاهيم المذكورة ملازمة لصدقها.

بقي شيء

بقي شيء:

وهو أنه بناءً على ما سبق في الأمر الثالث من أن التعبد الظاهري إنما يكون بلحاظ العمل المترتب بالنظر للقضايا الشرعية، بلا توسط أمر خارجاً عنها - إما لكون الأمر المتعبد به مجعولاً للشارع يترتب عليه العمل بلا واسطة، أو لكونه موضوعاً لحكمٍ شرعي، وإن لم يكن بنفسه مجعولاً - للشارع فلا ينبغي التأمل في عدم إمكان التعبد الظاهري بالأمور الحقيقية التكوينية إلا إذا كانت موضوعاً للأحكام الشرعية، حيث يترتب عليها العمل بلحاظها، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة، لعدم كونه مترتباً بلحاظ قضية شرعية.

كما لا ينبغي التأمل في شمولها للأمور الاعتبارية بلحاظ العمل المترتب عليها بلا واسطة، كالحجية - بناءً على جعلها شرعاً - حيث يجوز الاعتماد عليها عقلاً في مقام التعذير، وتجب متابعتها في مقام التنجيز، فضلاً عن العمل المترتب عليها بواسطة حكمها الشرعي، كالطهارة والنجاسة

ص: 62

- بناءً على جعلهما شرعاً - حيث يكونان موضوعاً لأحكام تكليفية تكون مورداً للعمل عقلاً.

صحة التعبد بالأمور الانتزاعية بلحاظ العمل المترتب على أحكامها

وأما الأمور الانتزاعية، فالظاهر أنها كالأمور الخارجية، فيصح التعبد بها بلحاظ العمل المترتب على أحكامها الشرعية، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة.

أما الأول: فلأن لها نحواً من الوجود العرفي في عالمها عرفاً، وإن لم يكن خارجياً ولا اعتبارياً، فيصح عرفاً أخذ الشارع لها في موضوع أحكامه، وإذا كانت موضوعاً للأحكام الشرعية أمكن التعبد بها بلحاظها.

إن قلت: لما لم يكن لها تقرر في عالم الخارج ولا الاعتبار، وكانت متقومة باللحاظ من دون أن يكون لها مطابق وراء ذلك، امتنع أخذها في موضوع الأحكام الشرعية التي تتبع في فعليتها فعلية موضوعاتها، والتي لا إشكال في فعليتها مع عدم اللحاظ، فلا بد من كون الموضوع حقيقة هو منشأ الانتزاع، ويكون هو موضوع التعبد الظاهري إن تمت فيه شروطه.

قلت: الأمور الانتزاعية وإن لم يكن لها نحو من التقرر دقةً إلا أن لها نحواً من التقرر عرفاً، لغفلتهم عن مقتضى الدقة المذكورة، وقد تقرر في محله أن المعيار في تطبيق أدلة الأحكام الواقعية والتعبدات الظاهرية ليس هو الدقة العقلية المغفول عنها عرفاً، بل النظر العرفي، بحيث يكون التطبيق بنظرهم حقيقياً لا تسامحياً مجازياً، فلاحظ.

وأما الثاني: فلأنها غير مجعولة شرعاً حسب الفرض.

نعم، قد يصح نسبة جعلها للشارع الأقدس بلحاظ جعله لمنشأ انتزاعها لو كان أمراً جعلياً.

ص: 63

لكنه ليس بمعنى كونه مفاد القضية الشرعية التي هي المعيار في شمول أدلة التعبد الظاهري، بل بمعنى كونه مسبباً توليدياً عنها ملازماً في الخارج لها، ومثل هذا لا يكفي في شمول أدلة التعبد، بل هو نظير الأصل المثبت.

هذا كله في الأمر الانتزاعي المقابل للأمر الحقيقي والاعتباري، وربما يراد بالأمر الانتزاعي أو العنوان الانتزاعي ما يحكم به أو عليه في كلام الشارع أو المتشرعة، مع أنه ليس في الحقيقة محكوماً به ومجعولاً اعتباراً، ولا محكوماً عليه بما له من المفهوم.

إما لكونه منتزعاً في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم، فلا يكون موضوعاً للحكم، لاستحالة أخذ المتأخر في المتقدم، كما لا يكون محكوماً به ولا مجعولاً، لصدقه بمجرد جعل الحكم بلا حاجة إلى جعلٍ آخر، وإنما يمكن الإخبار به الراجع إلى الإخبار عن الحكم.

وإما لكون المحكوم به أو عليه هو الواقع الخارجي المطابق له بعنوان آخر، فهو مسوق لمحض الحكاية عن الموضوع بما له من عنوان خاص.

فالغصب قد يحكم عليه بالحرمة، كما قد يحمل على بعض التصرفات، مع عدم أخذ عنوان الغصب في موضوع الحرمة بما هو أمر وجودي ذو مفهوم عرفي بسيط، بل ليس موضوعه إلا التصرف في حق المسلم ونحوه ممن يحترم ما له من دون إذن منه أو ممن يقوم مقامه، فهو مركب من التصرف في الحق، وإسلام صاحبه أو نحوه، وعدم الإذن.

وعنوان الغصب إما أن يراد به التصرف في حق الغير بالنحو المنافي لاحترامه شرعاً، أو هو منتزع من الموضوع المركب المذكور وحاكٍ عنه، من

ص: 64

دون أن يكون موضوعاً بمفهومه.

ولازم ذلك عدم جريان التعبد فيه بعنوانه، لعدم كونه مجعولاً شرعاً ولا موضوعاً للحكم الشرعي، بل فيما ينتزع منه، وهو الحكم المجعول شرعاً، أو موضوعه ذو العنوان الخاص.

والظاهر أن الأمر الانتزاعي قد يراد منه في المقام هذا المعنى، كما قد يراد منه المعنى السابق، كما يتضح عند الدخول في محل الكلام.

إذا عرفت هذا، فالكلام في حقيقة الأحكام الوضعية يكون في ضمن مسائل:

المسألة الأولى: في حقيقة الأحكام الوضعية

المسألة الأولى: الظاهر أن الأحكام الوضعية التي أخذت في موضوع الأحكام الشرعية الأخرى: كالحرية، والرقية، والزوجية، والرهنية، والملكية، والوقفية، وغيرها من الأمور الاعتبارية المجعولة للشارع الأقدس تأسيساً، أو إمضاءً لما عليه العرف، لظهور أدلتها في ذلك، ولاسيما ما كان ثبوته تبعاً لإنشائه ممن له السلطنة شرعاً في العقود والإيقاعات، لوضوح أن قصد المنشئ لها إيجادها اعتباراً، فيكون ذلك هو الظاهر من أدلة النفوذ والإمضاء الشرعية، وهو المطابق للمرتكزات المتشرعية، بل العرفية في كثير منها.

خلافاً لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره(1) قال: - في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب، عند الكلام في حقيقة الصحة والفساد، بعد أن ذكر أنهما في المعاملات عبارة عن ترتب الأثر وعدمه - «فإن لوحظت المعاملة سبباً لحكم تكليفي - كالبيع لإباحة التصرفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات - فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها.

ص: 65


1- الشيخ مرتضى الأنصاري. (منه)

وإن لوحظت سبباً لأمرٍ آخر - كسببية البيع للملكية، والنكاح للزوجية والعتق للحرية، وسببية الغسل للطهارة - فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية.

نعم، الحكم بثبوتها شرعي، وحقائقها إما أمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية، كما يقال: الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب، والطهارة نقيض النجاسة. وإما أمور واقعية كشف عنها الشارع».

ولا يخفى أن عدم كون هذه الأمور أحكامها شرعية لا يناسب كون الحكم بثبوتها شرعياً، إلا أن يراد بالحكم بثبوتها الإخبار عنه، كما أن التعبير عنها بالاعتبارية مبني التوسع في معنى الاعتبار، وتعميمه للانتزاع بالمعنى الأخير الذي أشرنا إليه في آخر الأمر الرابع، كما يتضح بملاحظته.

وكيف كان فلا مجال لما ذكره قدس سره بعد ما ذكرنا من ظهور أدلة هذه الأمور في جعلها اعتباراً.

على أن كونها أموراً انتزاعية من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها لا يناسب أخذها في أدلة تلك الأحكام موضوعاً لها.

لما ذكرناه آنفاً من امتناع موضوعية العنوان المنتزع من التكليف له.

ولا مجال لاحتمال الإشارة بها لما هو الموضوع بعنوان آخر، لأنه - مع مخالفته لظاهر أخذها في أدلة تلك الأحكام - موقوف على وجود عنوان صالح للموضوعية مطابق لها مدرك للعرف، وإلا لم يكن عملياً، لعدم إدراك موضوعه، ومن الظاهر أنه لا وجود للعنوان المذكور.

كما لا يناسب عدم اتفاق أفراد الحكم الوضعي وأحواله في الأحكام

ص: 66

التكليفية، واشتراك أكثر من حكم وضعي في بعض الأحكام التكليفية، فالزوجية لا تستلزم جواز الاستمتاع، بل يحرم الاستمتاع بالزوجة حال الإحرام، كما لا تختص به، بل يشاركها فيه ملك اليمين، وملك اليمين إنما يقتضي جواز الاستمتاع إذا كان المالك ذكراً والمملوك أنثى دون بقية الصور.

كما أن الملك لا يقتضي جواز التصرف دائماً، فيحرم التصرف في العين المرهونة، ولا يختص به، بل يشاركه فيه بعض أفراد الوقف، بل المباحات الأصلية التي لا تكون مورداً لحكم وضعي.

فلو كان عنوان الحكم الوضعي منتزعاً من الحكم التكليفي لزم اختلاف مفهومه وحقيقته باختلاف الأحكام التكليفية في مورده، كما يلزم صدقه في جميع موارد ثبوت الحكم التكليفي المنتزع منه، مع وضوح بطلان ذلك.

وقد اعترف قدس سره بذلك في النجاسة عند الكلام في حقيقتها من كتاب الطهارة، قال: «ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذاراً و استنفارا، وظاهر هذا الكلام أن النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب، وليس كذلك قطعاً، لأن النجاسة مما يتصف به الأجسام، فلا دخل له في الأحكام.

فالظاهر أن مراده أنها صفة انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار والاستنفار.

وفيه: أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرغ عليها تلك الأحكام، وهي القذارة التي ذكرناها، لا أنها صفة منتزعة منها،

ص: 67

كالشرطية والسببية والمانعية».

دعوى كونها أموراً واقعية كشف الشارع عنها

وأما كونها أموراً واقعية كشف الشارع عنها فهو خلاف المقطوع به في أكثر تلك الأحكام، حيث لا يشك في تبعيتها حدوثاً وارتفاعاً للإنشاء والجعل ونحوهما، من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج.

نعم، قد يعتد بالاحتمال المذكور في خصوص الطهارة والنجاسة، لعدم تبعيتهما للإنشاء ليدرك العرف اعتباريتهما، بل هما تابعان للأمور التكوينية الذاتية كالبولية، أو العرضية كالملاقاة للنجاسة، حيث يمكن دعوى تأثيرها لهما بلا توسط الجعل الشرعي.

ما ذكره النائيني قدس سره في ذلك ومناقشته

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من منع ذلك، لبداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية، كما يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون بعض الأشياء دون بعض، غايته أن الشارع قد أضاف بعض الأفراد لذلك مما لا يستقذره العرف، وهو ناشئ عن تخطئته للعرف، مع كون المفهوم عرفياً.

ففيه: أن نظافة الشيء وقذارته العرفيتين أمران واقعيان يدركهما العرف فيه فيميل إليه ويقبله، أو يتنفر عنه ويستقذره، وليسا من الأمور الجعلية التابعة لاعتبار من بيده اعتباره.

غايته أن تبعية الميل أو الاستقذار للأمر الواقعي المدرك ليس لكونه علة تامة لهما، بل قد يكون للعادة والتنفير دخل فيهما، ولذا قد يختلفان مورداً باختلاف المجتمعات والأشخاص، وذلك إنما يقتضي كونهما إضافتين لا اعتباريين.

كما أن عدم اختصاصهما بالشرع ووجودهما عند العرف لا يستلزم

ص: 68

كونهما اعتباريين، إذ قد يستقل العرف بإدراك الأمور الواقعية والتأثر بها.

بل ما ذكره قدس سره من فرض التخطئة لا يناسب الأمور الاعتبارية، لأن التخطئة إنما تكون في الأمور الواقعية التي لها واقع محفوظ ويختلف في تشخيصها وإدراكها، أما الأمور الاعتبارية فالاختلاف فيها لا يرجع للتخطئة، بل لمحض عدم اعتبار أحد الحاكمين لما إعتبره الآخر.

على أن المرتكزات الشرعية في النجاسة والطهارة، والعرفية في النظافة والقذارة قاضية باختلاف الأوليين عن الأُخريين سنخاً وتباينهما حقيقةً، لأنها وإن اشتركت في اقتضاء الاجتناب وعدمه عملاً، إلا أن ترتبهما على الأولين راجع إلى حسن الاجتناب بنحو يقتضي المدح ويبعد عن الذم، وعلى الأخيرين راجع لمحض ملائمة النفس من دون أن يستوجب مدحاً أو يدفع ذماً.

وقد يشعر باختلاف سنخهما وحقيقتهما ما في صحيح زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله... فإنما ذلك بمنزلة النخامة. وكل شيء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير، وليس بشيء، فلا تغسله من ثوبك إلا أن تقذره»(1)، لظهوره في إقرار الغسل للاسقذار وعدم الردع عنه، لعدم قذارة الشيء واقعاً، المستلزم لعدم الموضوع له.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في ذلك ومناقشته

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن كون الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية لو تم في الواقعيتين منهما لا يتم في الظاهريتين، بل لا إشكال في كونهما مجعولين للشارع الأقدس.

ص: 69


1- الوسائل ج 1، باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 2

لاندفاعه.. أولاً: بأن الحكم بالطهارة والنجاسة ظاهراً لا يرجع إلى جعلها في قبال الواقع، لينظر في حقيقتهما، بل إلى التعبد بهما في مقام الإثبات والعمل بما لهما من المعنى الواقعي، كالتعبد الظاهري بالموضوعات الخارجية من الحياة والموت وخروج المني وغيرها، على ما ذكرناه في حقيقة الحكم الظاهري، فليس في المقام إلا الأمور الواقعية - الخارجية أو الاعتبارية - التي تدرك بالوجدان تارةً، ويتعبد بها ظاهراً في مقام العمل أخرى.

و ثانياً: بأنه لو كان مرجع التعبد بالشيء ظاهراً إلى جعله فهو إنما يمكن في التعبد بالأحكام القابلة للجعل، أما الأمور الواقعية - كالخمرية والإسكار - فلا يرجع التعبد بها إلى جعلها، لتبعيتها لأسبابها التكوينية وعدم قابليتها للجعل التشريعي، بل لابد من رجوعه لجعل أحكامها، فلو تم كون الطهارة والنجاسة الواقعيتين من الأمور الخارجية غير الجعلية فاللازم رجوع التعبد بهما إلى جعل أحكامهما، لا جعلهما بأنفسهما.

ولعله لأجل ذلك حكي عن شيخنا الأعظم قدس سره الجزم بأن الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع.

وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل، غاية الأمر التوقف والتردد في ذلك.

ولعله لذا كان الظاهر من كلامه الأول المتقدم التردد بين كونهما انتزاعيتين وكونهما واقعيتين، ومن كتاب الطهارة - قبل الكلام الثاني المتقدم - التردد بين كونهما حقيقتين وكونهما اعتباريتين.

بل الإنصاف أن البناء على كونهما اعتباريتين جعليتين هو الأنسب

ص: 70

بملاحظة الأدلة، كصحيح داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).

لظهوره في كون طهورية الماء حكماً امتنانياً، فيلزم كون الطهارة المترتبة عليها كذلك، لامتناع ترتب الأمر التكويني على الأمر التشريعي.

وقريب منه في ذلك قوله عليه السلام: - في الصحيح - «ان الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(2)، حيث يلزم حمله على الجعل التشريعي دون التكويني بقرينة السياق، لأن طهورية التراب تشريعية حسبما يظهر من بعض النصوص(3). فتأمل.

وكذا ما ورد في انتضاح ماء غسل الجنابة في الإناء من نفي البأس به مع الاستشهاد بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(4)، لوضوح أن الحرج لا دخل له في الأمور الخارجية.

وما في رواية جابر في الطعام الذي تقع فيه الفارة من النهي عن أكله حيث قال السائل: الفارة أهون من أن أترك طعامي لأجلها، فقال عليه السلام: «إنك لم تستخف بالفارة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شيء»(5)، بناءً على أن المراد بالتحريم النجاسة لمناسبتها لمورد الرواية.

ص: 71


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 4
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 1
3- راجع الوسائل ج 2، باب: 7 من أبواب التيمم
4- الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المضاف، حديث: 1 و 5
5- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب الماء المضاف، حديث: 2

على أن ملاحظة موارد ثبوتهما تبعد كونهما واقعيتين تكوينيتين لخصوصية في الجسم المعروض لهما، وتقرب كونهما اعتباريتين جعليتين تابعتين للملاكات المختلفة الملحوظة للشارع ولو كانت خارجة عن خصوصية الجسم، كالتنفير والحرج، فماء الاستنجاء طاهر أو لا ينجس من بين الغسالات، والدم المتخلف في الذبيحة طاهر من بين دمائها، وبعض الأمور تطهر بالتبعية، والكافر وما يلحق به قد اشتهر القول بنجاساتهم عينا، إلى غير ذلك.

هذا، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن نجاسة ما يستقذر عرفاً حقيقية واقعية، بخلاف غيره، حيث لا تكون نجاسة إلا ادعائية تنزيلية.

وهو كما ترى - مع مخالفته لظاهر الأدلة - يبتني: أولاً: على مطابقة النجاسة للقذارة العرفية مفهوماً، وقد سبق المنع منه.

و ثانياً: على اطلاع العرف على جميع القذرات، بحيث يكشف عدم استقذارهم للشيء عن عدم قذارته، ولا مجال للبناء عليه، لإمكان اطلاع الشارع على ما يخفى على العرف من القذرات، ولاسيما مع اختلاف الأعراف فيها.

على أن لازمه البناء على نجاسة المستقذرات العرفية وترتب أحكام النجاسة عليها، عملاً بعموماتها، إلا ما دل الدليل على عدم ترتب الأحكام عليه، فيخرج عن العمومات تخصيصاً لا تخصصاً، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

مضافاً إلى أن بعض النجاسات غير المستقذرة لم تستفد نجاستها من الحكم بها بعنوانها، ليتعين حمله على الادعاء والتنزيل بلحاظ جميع

ص: 72

الأحكام بعد تعذر حملها على الحقيقة، لفرض عدم استقذارها عرفاً، بل مما تضمن بعض آثار النجاسة ولوازمها العرفية، كالأمر بالغسل والإهراق ونحوهما، فمع فرض عدم حملها على النجاسة لا وجه للتعدي إلى سائر الأحكام. فتأمل جيداً.

جريان ما ذكره في الطهارة والنجاسة الخبيثة في الحدث الأكبر والأصغر

ثم أن ما ذكرنا في وجه كون النجاسة والطهارة الخبثية اعتباريتين يجري نظيره في الحدث الأكبر والأصغر، والطهارة الحدثية المائية والترابية، فإن سبر النصوص قاضٍ بتبعيتهما للجعل الشرعي تبعاً للملاكات الخارجة عن خصوصية البدن، كما يظهر مما تضمن طهورية الماء والتراب(1)، وما تضمن تعليل تخفيف الوضوء بأن الفرائض إنما وضعت على قدر أقل الناس طاقة(2)، وتعليل غسل أعضاء الوضوء ومسحها بأن آدم عليه السلام قد باشر بها الخطيئة(3)، وتعليل عدم وجوب الغسل من البول والغائط بأنه شيء دائم لا يمكن الإغتسال منه كلما يُبتلى به، و «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(4)، وما تضمن أن الوضوء حد من حدود الله ليعلم من يطيعه، ومن يعصيه، وإن المؤمن لا ينجسه شيء(5)، وأن غسل الجنابة أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها(6).

بل هو المقطوع به بلحاظ الاكتفاء في أسباب الطهارة بالميسور من

ص: 73


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، و ج 2 باب: 7 من أبواب التيمم
2- الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 13
3- الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 16
4- الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب الجنابة، حديث: 4
5- الوسائل ج 1، باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1
6- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الجنابة، حديث 14

ذي الجبيرة ونحوه، وبما تقتضيه التقية، والانتقال للطهارة الترابية عند تعذر المائية، وغير ذلك.

ونظيرهما - أيضاً - التذكية، للاكتفاء فيها بالميسور في كثير من الموارد واعتبار بعض ما يقطع بعدم دخله في خاصية الحيوان المذبوح كالتسمية والاستقبال، مع سقوطهما في بعض الحالات من نسيان أو ضرورة، أو نحوهما إلى غير ذلك.

المسألة الثانية: حقيقة الحجية

المسألة الثانية: الظاهر أن الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها، كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره.

ومرجعها إلى كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل، ويترتب عليها وجوب العمل بالحجة عقلاً.

لا أن المجعول للشارع هو وجوب العمل بالحجة، أو جوازه طريقاً للواقع الذي قامت عليه، مع كون الحجية منتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة بنفسها.

ويشهد لما ذكرنا المرتكزات العقلائية، لارتكاز أن اعتماد العقلاء على الحجج التي عندهم في أعمالهم التابعة لأغراضهم الشخصية بعين ملاك اعتمادهم عليها في خروجهم عن تكاليفهم المولوية، الشرعية أو العرفية، مع وضوح عدم التكليف الطريقي في مورد الاغراض الشخصية.

بل قد لا يحرز في مورد التكاليف العرفية، كما لو احتمل غفلة المولى العرفي عن قيام الحجة على التكليف أو على موضوعه، ليلزم بالعمل بها تبعاً لما عليه العقلاء أو يردع عنها.

ص: 74

ويناسب ذلك التوقيع الشريف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله»(1)، لظهوره في كون الحجية بنفسها وعنوانها من الأمور المتقررة الثابتة، كما هو الحال في سائر ما تضمن عنوان الحجية مما ورد في أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وعبر عنها في الكتاب الشريف بالسلطان.

بل لو كان المراد بالرجوع لرواة الحديث تطبيق العمل على قولهم، لا سؤالهم مقدمة لذلك، كان التوقيع صريحاً في ترتب وجوب العمل على الحجية، لا انتزاعها منه.

هذا، وقد نوقش في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد ما ذكرنا، وبعد ما يأتي في أول الكلام في مسألة قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي، حيث تعرضنا هناك لمفاد جميع الأحكام الظاهرية حسبما تقتضيه مناسبة ذلك المقام.

كما يأتي الكلام في حقيقة الحجية التخييرية عند الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين من مبحث التعارض، لمناسبة يقتضيها ذلك المقام، ولا مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا.

بقي شيء

بقي شيء:

وهو أن احتياج الحجية للجعل إنما هو في غير الحجج الارتكازية، أما الحجج الارتكازية فهي بسبب الارتكاز المذكور الناشئ عن إدراك خصوصية فيها مقتضية للعمل بها لا تحتاج إلى جعل الحجية لها حتى

ص: 75


1- الوسائل ج 18، باب: 11 من صفات القاضي من كتاب القضاء، حديث: 9

إمضاءً، ولذا يصح الاعتماد عليها في مقام التعذير، ويجب العمل بها في مقام التنجيز، حتى مع احتمال غفلة المولى - لو كان ممن يمكن الغفلة في حقه - عن الحاجة إليها بنحو لا يحرز إمضاؤه لحجيتها.

نعم، للمولى الردع عنها، وبلحاظ ذلك كانت تابعة للمولى، لأنه إذا كان رفعها بيده كان بقاؤها تابعاً له، وبذلك فارقت العلم.

ويأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالسيرة على حجية خبر الواحد إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة: حقيقة السببية وأخواتها

المسألة الثالثة: وقع الكلام بينهم في حقيقة السببية، والشرطية، والمانعية، والرافعية، ونحوها مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في الشيء وجوداً وعدماً، وهل أنها من الأمور التكوينية أو المجعولة بالأصل أو التبع أو المنتزعة؟ ولا كلام فيما لا تعلق له منها بالحكم الشرعي ولا بمتعلقه، بل الأمور التكوينية، كسببية النار للإحراق، وشرطية الجفاف فيه، ومانعية الرطوبة منه، ورافعية الدواء للألم، إذ لا إشكال في عدم تبعيتها للجعل والتشريع الذي هو المهم في المقام، والذي هو المعيار في كون الشيء حكماً، بل هي من الأمور الانتزاعية، التي تقدم الكلام فيها في الأمر الرابع، وأن منشأ انتزاعها نحو الترتب بين طرفيها التابع لخصوصية ذاتيهما، من دون أن تستقل بالجعل التكويني، فضلاً عن التشريعي.

وكأن ذلك هو مراد بعض الأعيان المحققين من دعوى كونها من الأمور الحقيقية غير التابعة للجعل التكويني، فضلاً عن التشريعي.

وإنما الكلام فيما له نحو تعلق بالحكم، حيث يكون تابعاً للجعل في الجملة، وهو..

ص: 76

تارةً: يلحظ بالإضافة إلى نفس الحكم التكليفي أو الوضعي، كسببية الاستطاعة لوجوب الحج، والعقد للزوجية، وشرطية البلوغ لتكليف الإنسان أو لنفوذ عقده، ومانعية الحيض من وجوب الصلاة، والرهن من نفوذ العقد على العين المرهونة، ورافعية الاضطرار للحرمة، والإبراء لانشغال الذمة بالدين.

وأخرى: يلحظ بالإضافة إلى المكلف به، كسببية الوضوء والغسل للطهارة، وشرطية الستر للصلاة، ومانعية النجاسة منها، وقاطعية الكلام لها ونحو ذلك.

فالكلام في مقامين..

المقام الأول في ما يكون بالإضافة إلى نفس الحكم

وقد أصر شيخنا الأعظم قدس سره في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب على كونه منتزعاً من جعل الحكم على النحو الخاص، من دون أن يكون مجعولاً مستقلاً في قباله، ولا تابعاً في الجعل له، فضلاً عن أن يكون هو المجعول الأصلي ويكون الحكم تابعاً له.

وحكى عن شرح الزبدة نسبة ذلك للمشهور، وعن شرح الوافية للسيد صدر الدين أنه الذي إستقر عليه رأي المحققين.

مستدلاً عليه بالوجدان، لأن الحاكم لا يجد من نفسه جعل أمر غير

ص: 77

الحكم، ولا يراد من بيان هذه الأمور لو وقعت في لسان الحاكم أو من يحكي عنه إلا بيان نحو جعل الحكم، من دون أن يقصد بيان جعلها.

نعم، لا يراد بذلك اتحادهما مفهوماً، إذ لا ريب في أنهما محمولان مختلفا الموضوع.

لكن حكي عن بعضهم البناء على كون السببية مجعولة، منهم المحقق الأعرجي في شرح الوافية، مدعياً بداهة اختلاف التكليف عن الوضع وعدم رجوع أحدهما للآخر، وإن كانا متلازمين في مقام الجعل فيكون جعل أحدهما مستلزماً لجعل الآخر، قال بعد بيان ذلك: «فقول الشارع: دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة، والحيض مانع منها، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفاً، وهو إيجاب الصلاة عند الزوال، وتحريمها عند الحيض، كما أن قوله تعالى:

«أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» (1) و «دعي الصلاة أيام إقرائك» خطاب تكليفي وإن استتبع وضعاً، وهو كون الدلوك سبباً والأقراء مانعاً.

والحاصل: أن هناك أمرين متباينين كل منهما فرد للحكم، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام».

وقد جرى على ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره مدعياً أنه بعد انتزاع كل من السببية والحكم من الجعل المتضمن لإناطة الحكم بموضوعه لابد من البناء على جعلهما معاً بجعلٍ واحد، من دون وجه لدعوى انتزاعية أحدهما من الآخر الذي يختص بالجعل.

أقول: جعل التكليف والأمور الاعتبارية الوضعية إنما يصح بلحاظ الأثر والعمل المترتب عليها ولو في الجملة، وإلا كان جعلها لغواً غير

ص: 78


1- الاسراء: 78

مصحح لاعتبارها بنظر العقلاء.

ومن هنا لا مجال لدعوى اعتبار كل من الحكم والسببية وجعلهما في عرض واحد، لكفاية أحدهما في ترتب الآثار العملية المهمة بلا حاجة إلى انضمام جعل الآخر إليه.

بل لابد إما من جعل أحدهما في طول الآخر للترتب بينهما في الجعل، بأن يُدّعى - مثلاً - عدم جعل الحكم الذي هو مورد الآثار إلاّ في مرتبة متأخرة عن جعل السببية، فلا بد من جعلها مقدمة لجعله، وإما من الاقتصار في الجعل على السببية، لكونها مورد الآثار دون الحكم، بل يكون منتزعاً منها، من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها، أو الاقتصار في الجعل على الحكم، لكونه مورد الآثار دون الحكم، بل يكون منتزعاً منها، من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها، أو الا قتصار في الجعل على الحكم، لكونه مورد الآثار. دون السببية، بل تكون منتزعة منه، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وغيره.

ولا مجال للأول، لعدم ترتب الحكم على السببية الجعلية لا تكويناً ولا تشريعاً.

أما الأول فلامتناع الترتب التكويني بين الجعليات، والالتزام بترتب التكليف عليها رأساً بلا توسط الجعل - مع كونه خروجاً عن المدعى من كونه جعلياً - مخالف للمرتكزات العقلائية في تبعية تكليف المولى لجعله.

وأما الثاني فلأن الترتب التشريعي بين الأمرين الجعليين فرع إمكان التفكيك بينهما، كالزوجية وجواز الاستمتاع، مع بداهة تعذر ذلك في المقام.

كما لا مجال للثاني، لظهور الأدلة طبقاً للمرتكزات العقلائية

ص: 79

والعرفية في جعل الحكم بنفسه، كما أن التكليفي منه هو الموضوع للإطاعة والمعصية بمقتضى المرتكزات العقلائية، والوضعي منه هو الموضوع للأحكام الشرعية في ظاهر الأدلة.

بل لا معنى لجعل السببية دون الحكم بعد كونها نحو نسبة قائمة به وبالسبب.

فالمتعين الثالث، وهو اختصاص الجعل الاعتباري بالحكم وكون السببية والشرطية ونحوهما أموراً انتزاعية، لكن لا بمعنى مطابقتها للحكم مفهوماً، لبداهة التباين المفهومي بينهما، كما سبق من شيخنا الأعظم قدس سره، ولا بمعنى كونها منتزعة من الحكم بنفسه، لأنها إضافة قائمة به وبالسبب أو نحوه.

بل هي منتزعة من خصوصية جعله المتضمن للترتب بينهما والمستفاد من الكبرى الشرعية، ومجرد انتزاعها من الخطاب به والجعل المتضمنين له - كما سبق من بعض الأعيان المحققين قدس سره - لا يقتضي جعلها اعتباراً مثله، لما تقدم في الأمر الرابع من أن الأمور الانتزاعية ليس لها وجود خارجي أو اعتباري في قبال منشأ انتزاعها، بل ليس الموجود في الخارج أو في عالم الاعتبار إلا منشأ انتزاعها، ومنه ينتزع ذهناً النسب المختلفة المتقابلة وغيرها، فكما تنتزع من جعل الحكم بالنحو الخاص السببية تنتزع المسببية، وكما تنتزع من نحو الترتب بين العلة والمعلول العلية تنتزع المعلولية، إلى غير ذلك مما تقدم.

وإنما يصح نسبتها للجاعل والحكم بتبعيتها للجعل بلحاظ جعله لمنشأ انتزاعها.

ص: 80

فلاحظ ما سبق في الأمر الرابع.

ما ذكره الخراساني قدس سره من منع انتزاع السببية من الحكم

أما المحقق الخراساني قدس سره فقد ذكر أنه لا مجال لانتزاع السببية ونحوها من الحكم لتأخره عن السبب فلا يكون منشأ لانتزاع السببية له، بل هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات السبب اقتضت دخله في الحكم بالنحو الخاص، من دون أن تكون تابعة للجعل.

وفيه: أن تأخر المسبب عن السبب إنما يقتضي امتناع كون المسبب منشأ لانتزاع ذات السبب، لا امتناع كونه منشأ لانتزاع عنوان السببية له التي هي كسائر الإضافات القائمة بالذات والمتأخرة عنها رتبةً.

على أن المدعى ليس هو انتزاع السببية من الحكم بما له من الوجود الخارجي الخاص، المتأخر عن السبب، بل من خصوصية جعله التي تضمنتها الكبرى الشرعية، كعنوان المسببية في التكليف، نظير انتزاع التقدم والتأخر للمتقدم والمتأخر من خصوصية وجودهما الزمانية أو المكانية، من دون أن ينافي ذلك ترتبهما.

وأما الخصوصية التكوينية التي أشار إليها فهي عبارة عن دخل السبب في ملاك الحكم الداعي لجعله، وتبعية السببية للخصوصية المذكورة كتبعية الحكم للملاك مما لا إشكال فيه في الجملة، إلا أنها ليست محلاً للكلام، لأنها من سنخ تبعية الشيء لعلته الإعدادية، ومحل الكلام التبعية التي هي من سنخ تبعية الشيء لعلته التامة.

ولا إشكال في تبعية الحكم والسببية - بالمعنى المذكور - للجعل، ولا يكفي فيهما الملاك ولا خصوصية السبب التكوينية.

غايته أن الجعل يتعلق بالحكم فيكون مجعولاً بنفسه، ولا يتعلق

ص: 81

بالسببية، بل يكون منشأ لتحقق منشأ انتزاعها من دون أن تكون مجعولة بنفسها، لما تقدم.

المقام الثاني فيما يكون بالإضافة إلى المكلف به

لا يخفى أن المكلف به وإن كان أمراً اختيارياً للمكلف، إلا أنه قد يكون فعلاً له بالمباشرة، كالصلاة والصوم، وقد يستند إليه بالتسبيب، بتوسط فعله لسببه التوليدي.

والثاني: إن كان أمراً خارجياً - كالإحراق - كان سببه خارجياً، كجعل الجسم في النار، والسببية بينهما تابعة لخصوصيتهما التكوينية، لا للجعل، فتخرج عن محل الكلام.

وإن كان أمراً جعلياً كالطهارة والتذكية - بناءً على ما سبق من أنهما من الأحكام المجعولة - كان فعله بفعل سببه الشرعي الذي هو الموضوع له في الحقيقة، وكانت السببية بينهما سببية للحكم الشرعي، فتدخل في ما سبق في المقام الأول، من دون خصوصية لهذا المقام، لأن التكليف بالمسبب لا يوجب اختلاف حقيقة السببية قطعاً.

ولعله لذا لم يذكروا فيما يتعلق بالمكلف به السببية بل الشرطية والمانعية ونحوهما، واقتصروا في السببية على السببية لنفس الحكم.

وكيف كان، فالوجه المتقدم في المقام الأول لكون السببية ونحوها

ص: 82

انتزاعية جارٍ هنا، فليس المجعول إلا التكليف بالفعل الخاص، وهو المقيد بالشرط أو عدم المانع أو نحوهما، لأنه مورد الملاك وموضوع الغرض والامتثال، وليست شرطية الشرط للمكلف به ومانعية المانع منه إلا من الإضافات المنتزعة من ذلك، التي يمتنع انفكاكها عنه، وليست مجعولة مثله، لعدم كونها مورداً للغرض ولا موضوعاً لما هو المهم من الأثر.

نعم، هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات الشرط والمانع ونحوهما اقتضت دخلها في ترتب الملاك على المكلف به.

إلا أن التبعية المذكورة كتبعية التكليف للملاك من سنخ تبعية المعلول لعلته الإعدادية، خارجة عن محل الكلام، على ما سبق توضيحه في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره هناك.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك هنا، وبنى على ما ذكرنا من انتزاع الشرطية المذكورة ونحوها من التكليف، من دون أن يشير لوجه الفرق بين المقامين.

هذا وبعض الأعيان المحققين قدس سره مع أنه التزم بجعل السببية والشرطية للحكم كما سبق من جعل الشرطية للمكلف به ونحوها، كما منع من انتزاعها من التكليف.

بدعوى: أن لازمه عدم قيدية شيء لشيء لولا وجود حكم في البين، مع بداهة فساده، لأن الشيء قد يكون قيداً لشيء وطرفاً لإضافته ولو لم يكن في العالم حكم، كالرقبة المؤمنة وزيد العالم، فلا يكون التكليف دخيلاً إلا في إضافة الشرطية للواجب بما هو واجب، كدخله في سائر الإضافات له من مكانه وزمانه وغيرهما، حيث لا يصح إضافتها للواجب بما هو واجب إلا في رتبة متأخرة عن التكليف، من دون أن تعد من الأحكام الوضعية ولا

ص: 83

من الأمور المجعولة أو المنتزعة قطعاً.

أما أصل الإضافة فهي غير تابعة للتكليف، بل هي أمور واقعية منتزعة من الإضافة والربط بين الشيء وذات الواجب في المرتبة السابقة على وجوبه، مع قيام الوجوب بالربط المذكور، كقيامه بذات العمل، فهو متقدم على الوجوب كتقدم الموضوع على العرض، لا منتزع منه.

ويشكل: بأن الأمر الذي لا يتوقف على الحكم إنما هو مقارنة الحصة الخاصة من الذات للقيد في الخارج، أما التقييد فهو كالإطلاق لا موضوع له إلا في مقام الحكم الخبري أو الإنشائي على الماهية الكلية وإن لم توجد بعد في الخارج، فالرقبة وإن كانت قد تتصف في الخارج بالإيمان مع قطع النظر عن الحكم عليها، إلا أنه لا موضوع لإطلاقها أو تقييدها به إلا في مقام الحكم عليها بما هي أمر كلي قابل للوجود في الخارج.

نعم، التقييد المذكور في مرتبة سابقة على الحكم - وإن كان ملزوماً له - لأخذه في موضوعه الذي هو بمعنى معروضه.

أما الشرطية فهي منتزعة من نحو من الترتب بين الشيئين، بحيث يتوقف أحدهما على الآخر، لا من مجرد التقارن بينهما، فإن توقفت ذات الشيء على الشرط كان شرطاً لوجوده، كتوقف فعل المكلف على قدرته، وتوقف السفر على فتح باب المدينة، وإن توقفت خاصيته عليه كان شرطاً له بما هو ذو عنوان منتزع من الخاصية المذكورة، كتوقف نفع الغسل على حرارة الماء، وتوقف إضرار شرب الماء على برودته، حيث تكون حراره الماء وبرودته شرطاً للغسل والشرب بما أن الغسل نافع والشرب ضار، لا بذاتيهما.

ص: 84

وفي المقام حيث لا يراد بشرط المكلف به في كلماتهم شرط ذاته الذي تكون شرطيته تكوينية لا دخل للشارع بها، بل شرط دخوله في حيز التكليف الذي تكون شرطيته تابعة للجعل الشرعي في الجملة ومتفرعة على تقييده به في مقام التكليف به، فلا معنى لدعوى سبق الشرطية رتبة على التكليف، لأن التقييد من الخصوصيات المقومة لشخص التكليف.

كما لا مجال لدعوى جعلها في قباله، لاستحالة انفكاكها عنه، بل يتعين كونها منتزعة منه كسائر الإضافات اللاحقة له التابعة لخصوصيته، كالسببية والشرطية لنفس التكليف.

على أن ما ذكره قدس سره لو تم هنا جرى في الشرطية لنفس الحكم، التي سبق منه الالتزام بجعلها مع الحكم بجعل واحد، لوضوح رجوع شرط الحكم إلى كونه قيداً لسببه وشرطاً في سببيته له، فمعنى شرطية البلوغ لوجوب الحج أو لنفوذ العقد أنهما شرط للأستطاعة والعقد، وقيد فيما يكون منهما موضوعاً للوجوب والنفوذ، نظير شرطية الطهارة للصلاة.

المسألة الرابعة: حقيقة الجزئية

المسألة الرابعة: وقع الكلام بينهم في حقيقة الجزئية، وهل هي منتزعة أو مجعولة.

ولا يخفى أنها كما تتعلق بالمكلف به - كجزئية السورة من الصلاة - تتعلق بالأسباب ذات المسببات الشرعية - كجزئية القبول من العقد الذي هو سبب لترتب مضمونه، وجزئية ملك الزاد من الاستطاعة التي هي سبب وجوب الحج - ولا وجه لتخصيصها بالأول، كما قد توهمه كلمات بعضهم.

هذا، وقد صرح جماعة بانتزاع الجزئية من الأمر بالمركب أو جعله سبباً، من دون أن تكون مجعولة معه، لا استقلالاً ولا تبعاً.

ص: 85

خلافاً لما ذكره شيخنا الأستاذ من انتزاعها أو جعلها في رتبة سابقة على الحكم الوارد على المركب، ولما ذكره بعض مشايخنا من جعلها تبعاً لجعل الحكم المذكور على غرار ما ذكره في السببية. والظاهر الأول.

توضيح حقيقة الكلية والجزئية

وتوضيحه: أن الجزئية والكلية عنوانان متضايفان. ينتزعان من لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة، حيث يكون كل منها بلحاظ الوحدة المذكورة جزءً ومجموعها كلاً، ولولا لحاظها لكانت أموراً متفرقة لا يصدق على كل منها الجزء ولا على مجموعها الكل.

وتلك الوحدة..

تارةً: تكون مقومة لمفهوم واحد ذي عنوان خاص، كما في الماهيات المخترعة للعرف العام - كالدار والمدينة والبستان - أو الخاص الشرعي - كالصلاة والحج - أو غيره - كالكلام بأصطلاح النحويين - فإن وحدتها مع تكثر أجزائها ليست حقيقية، بل لحاظية لمخترع عنوانها من أهل العرف.

وأخرى: تكون مسببة عن لحاظ اشتراك الأمور المتكثرة في جهة تجمعها من دون أن يكون لها عنوان خاص بها إلا العنوان الإضافي المنتزع من تلك الجهة، كعنوان النافع، وما في الصندوق، ومملوك زيد، وغيرها.

إذا عرفت هذا، فجزئية شيء لسبب الحكم - كالقبول الذي هو جزء للعقد - أو للمأمور به - كالسورة التي هي جزء من الصلاة - موقوفة.

أولاً: على دخل الجزء بنحو خاص في الغرض الداعي لجعل الحكم.

و ثانياً: على أخذه في موضوع الحكم في مقام جعله في مرتبة سابقة عليه، لما تقدم من سبق الموضوع على الحكم رتبة.

و ثالثاً: على ورود الحكم على الموضوع المركب من المجموع.

ص: 86

ولا يخفى أن لحاظ الأمر الأول منشأ لانتزاع جزئية الشيء من موضوع الغرض، ولحاظ الثاني منشأ لانتزاع جزئيته من الأمر الملحوظ موضوعاً للحكم، ولحاظ الثالث منشأ لانتزاع جزئيته من المأمور به بما هو مأمور به أو من السبب بما هو سبب.

وحيث كان هذا الأخير هو محل الكلام في المقام، لأنه القابل لاحتمال الجعل استقلالاً أو تبعاً لجعل الحكم، تعين البناء على انتزاع الجزئية من الأمر، وأنها من الإضافات التابعة لخصوصيته كالسببية.

ولا معنى لسبقها على الحكم - كما سبق من شيخنا الأستاذ قدس سره - إلا أن يراد بها أحد الأمرين الأولين، فيكون النزاع لفظياً، كما لا مجال لجعلها استقلالاً ولا تبعاً - كما سبق من بعض مشايخنا - لعدم الأثر لجعلها مع ذلك، نظير ما تقدم في السببية وأخواتها.

هذا، وربما يدعى أن الماهيات المخترعة للشارع الأقدس - كالصلاة والحج - مجعولة له في أنفسها بأختراعها مع قطع النظر عن تعلق الحكم بها، فتكون جزئيتها مجعولة تبعاً لجعلها في رتبة سابقة على الحكم لا تبعاً له.

لكنه ممنوع، لأن معنى اختراع الشارع للماهية تحديد مفهومها في عالم الذهن والتصور، لا جعلها اعتباراً كجعل الزوجية ونحوها، كيف وأجزاؤها أمور حقيقية غير قابلة للجعل التشريعي! ومن الظاهر أن التحديد المذكور لا يقتضي جعل جزئية الجزء، إذ ليس هو إلا تصور المجموع وفرضه أمراً واحداً من دون جعل للجزئية زائداً على ذلك.

غاية الأمر أن التصور المذكور مصحح لانتزاع الجزئية للجزء من الأمر المتصور بما هو متصور، لا بما هو مأمور به، مع توقف انتزاع جزئيته

ص: 87

من المأمور به أو موضوع الحكم على ورود الحكم على المجموع، كما ذكرنا. فلا مخرج عما سبق.

نعم، لو تم ما سبق من المحقق الخراساني قدس سره في وجه تبعية السببية لخصوصية السبب التكوينية جرى نظيره في المقام، لوضوح تبعية الجزئية - بالمعنى المذكور - لخصوصية تكوينية في الجزئية اقتضت دخله في الغرض الداعي لجعل الحكم.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك في المقام وبنى على انتزاع الجزئية من الأمر - كما ذكرنا - من دون أن يشير إلى وجه الفرق بين المقامين.

كما أنه لو تم ما سبق من بعض الأعيان المحققين في الشرطية للمكلف به من تبعيتها للتقييد وأنها من الأمور الواقعية غير الموقوفة على الأمر بالمقيد، جرى نظيره في المقام، لابتناء الجزئية من موضوع الحكم على نحوٍ من التقييد لمتعلق التكليف وقصوره على حال وجود الجزء.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك في المقام أيضاً، وبنى على ما ذكرنا من دون أن يشير إلى وجه الفرق.

المسألة الخامسة: حقيقة الصحة والفساد

المسألة الخامسة: تعرض غير واحدٍ في هذا المقام للصحة والفساد. وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره وجملة ممن تأخر عنه أن الصحة هي التمامية، والفساد عدمها، فهما متقابلان تقابل العدم والملكة، وأرسل في كلامهم إرسال المسلمات، وقد يظهر منهم أن ذلك معناهما اللغوي أو العرفي، بل صرح بعض مشايخنا بأن معناهما لغةً تمامية الأجزاء والشرائط وعدمها.

لكنه يشكل: بأن التمامية لغةً وعرفاً تقابل النقص، أما الصحة فهي

ص: 88

تقابل المرض والسقم والعيب، والفساد يقابل الصلاح لا الصحة، كما يظهر بالرجوع لكلام اللغويين وملاحظة الاستعمالات.

كما أن الصحة والفساد في محل كلامهم مختصان بالأفعال الارتباطية ذات الأجزاء أو الشرائط، والتي تكون مورداً للأحكام الشرعية، دون الأعيان وإن كانت مورداً للأحكام الشرعية وأمكن اتصافها بالتمامية وعدمها.

وذلك كاشف عن أن المقابلة بين الصحة والفساد وإرادة التمامية وعدمها منهما ليستا جرياً على مقتضى اللغة، بل اصطلاح خاص بأهل الفن.

ولا يبعد كون إطلاقهم الصحة والفساد على التمامية وعدمها بلحاظ ملازمة التمامية في المركبات الارتباطية لترتب الأثر المقصود، الذي هو من لوازم الصحة، وملازمة عدم التمامية فيها لعدم ترتبه المشبه للفساد.

وكيف كان فالظاهر أن التمامية التي هي المعيار في الصحة والفساد عندهم إنما تكون بلحاظ الغرض المهم، لا بمعنى مطابقة الصحة لترتب الغرض مفهوماً، بل بمعنى كونه معياراً في صدقها ومصححاً لانتزاعها، فهي منتزعة من تمامية الأجزاء أو الشرائط الدخيلة في الغرض المذكور، فلو لم يكن هناك غرض مهم لم تنتزع الصحة والفساد وإن أمكن انتزاع التمامية وعدمها، التي هي إضافة خاصة يكفي فيها أي جهة لحظت في البين يعتبر فيها بعض الأجزاء أو الشرائط.

ومن هنا لا يتصف الإتلاف - مثلاً - بالصحة بلحاظ ترتب الضمان عليه، ولا يتصف الأكل نسياناً من الصائم بالفساد بلحاظ عدم ترتب الإفطار عليه، وإن أمكن اتصافهما بالتمامية وعدمها بلحاظ مطابقة الأول لموضوع الضمان وعدم مطابقة الثاني لموضوع الإفطار.

ص: 89

ومنه يظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلف صدقهما بنظر الأشخاص تبعاً لاختلافهم في الغرض المهم من العمل، كما نبه له غير واحد.

ولعله لذا وقع الاختلاف في تعريفهما، فعن بعض المتكلمين تفسيرهما بموافقة الأمر الوارد في الشريعة وعدمها، وعن بعض الفقهاء تفسيرهما بموافقة الأمر الوارد في الشريعة، وعن بعض الفقهاء تفسيرهما.. بإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه، من دون أن يرجع ذلك لاختلاف في مفهوم الصحة والفساد.

نعم، الظاهر عدم اختصاص الغرض المهم للفقيه بإسقاط الإعادة والقضاء، بل يعم غيره من الآثار المسببة عن الفعل المقصودة منه، كالتذكية في الذبح، والزوجية في العقد، والبينونة في الطلاق، والطهارة في الغسل، وغيرها.

في حقيقة المطابقة وعدمها في انتزاع الصحة

إذا عرفت أن الصحة والفساد أمران انتزاعيان، وأنهما عبارة عن تمامية العمل ومطابقته لموضوع الغرض المهم وعدمه، فمن الظاهر أن المطابقة وعدمها أمران واقعيان لا دخل للشارع بهما.

نعم، ترتب الغرض على موضوعه كبروياً.

تارة: لا يستند للشارع الأقدس، بل يكون عقلياً، كسقوط الإعادة والقضاء بالإتيان بالمأمور به الواقعي، حيث تقرر في محله أنه إجزاء عقلي لا دخل للشارع به، وليس المجعول للشارع إلا الأمر به.

وأخرى: يستند إليه، كسقوط الإعادة والقضاء واقعاً في مورد عدم مطابقة المأتي به للمأمور به - كما في موارد حديث لا تعاد ونحوها - أو

ص: 90

ظاهراً في موارد التعبد بصحة العمل، وكترتب مضامين العقود والإيقاعات عليها، فإن الآثار المذكورة موقوفة على حكم الشارع الأقدس بها تبعاً لموضوعاتها.

لكن هذا لا يستلزم كون صحة العمل الخارجي في الموارد المذكورة حكماً شرعياً بعدما عرفت في حقيقة الصحة.

نعم، لو كانت الصحة نفس ترتب الأثر دون التمامية الملازمة له اتجه استنادها للشارع في هذه الموارد. لكنه خلاف ظاهرهم. فتأمل جيداً.

هذا عمدة ما ينبغي التعرض له من الأحكام الوضيعة ولم يبق مما ذكر في كلماتهم منها إلا الإمامة، والولاية، والنيابة، والوكالة، والقضاوة، والرخصة، والعزيمة.

في القضاوة

والظاهر أن الأربعة الأول من الأحكام الوضعية داخلة في موضوع المسألة الأولى، لتبعيتها للجعل والاعتبار ممن بيده الاعتبار، وأخذها في موضوع الأحكام الشرعية، كوجوب الطاعة وجواز التصرف ونفوذه. كما أن القضاوة نحو من الولاية والنيابة.

في الإمامة

وما يظهر من غير واحد من المفروغية عن عدم كون الإمامة من الأحكام الوضعية وأنها كالنبوة.

كما ترى! إذ لا ينبغي التأمل في تبعية الإمامة للجعل بعد قوله تعالى:

«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» (1) وما تضمنته جملة من النصوص من أنها تابعة لجعل الإمام ونصبه من قبله تعالى.

ص: 91


1- سورة البقرة: 124

فإن كانت النبوة كذلك فالالتزام بأنها من الأحكام الوضعية غير عزيز، وإن اعتبر فيها كالإمامة كمال النفس وصفاؤها بمرتبة خاصة، لأَنهما شرطان لأهلية المنصب لا مقومتان له، وإن كانت النبوة تابعة لسبب تكويني فلا وجه لقياس الإمامة عليها.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من منع كون الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية، مع المفروغية عن عدم كون الوكالة والنيابة منها، بدعوى: أنه لو بُنَى على هذا التعميم لزم عد النبوة والإمامة منها.

وأما الرخصة والعزيمة فهما من شؤون الحكم التكليفي، إذ المراد بهما أن سقوط الخطاب بالواجب أو المستحب إن كان مع بقاء مشروعيته فهو رخصة، وإن كان مع ارتفاعها فهو عزيمة، فيكون مرجع الرخصة إلى ثبوت الحكم الإقتضائي ببعض مراتبه من دون إلزام، ومرجع العزيمة إلى عدم ثبوته. ولا وجه لعدهما من الأحكام الوضعية.

تذنيب:
تذنيب في مراتب الحكم

نسب للمحقق الخراساني قدس سره أن للحكم مراتب أربعة:

الأولى: الاقتضاء.

الثانية: الإنشاء.

الثالثة: الفعلية.

الرابعة: التنجُّز.

والمستفاد منه قدس سره في المقدمة الثامنة والتاسعة لمبحث اجتماع الأمر

ص: 92

والنهي أن المراد بالحكم الاقتضائي هو الحكم الناشئ عن الملاك التام المقتضي له، وإن لم يكن فعلياً بسبب مزاحمة ملاك آخر له مساوٍ له أو أهم منه، فيمكن وجود حكمين إقتضائيين في موضوع واحد تبعاً لوجود الملاك التام لكل منهما فيه منهما، وإن كان الحكم الفعلي على طبق أحدهما أو مخالفاً لهما.

لكن ظاهر سيدنا الأعظم قدس سره في المقدمة الأولى من مقدمات الاستدلال على امتناع الاجتماع، أن الحكمين في الفرض المذكور إنشائيان لا اقتضائيان.

أما المحقق الخراساني قدس سره فالمستفاد من كلماته المتفرقة ومنها في مبحث الواجب المشروط، أن الحكم الإنشائي هو الحكم المنشأ تبعاً للملاك التام في المتعلق من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة، وإن لم يكن فعلياً لوجود المانع منه، الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر يكون تابعاً لمصلحةٍ فيه لا في المتعلق.

وعليه حمل التكليف المشروط قبل تحقق شرطه، والأَحكام في أول البعثة، حيث ظهرت بالتدريج، والأحكام المودعة عند الحجة (عجل الله فرجه) التي يكون هو المظهر لها وغيرها.

وأما الحكم الفعلي فهو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، الناشئ عن الأمر والنهي حقيقةً، المسبب عن الإرادة والكراهة، والمستتبع للعمل، والموضوع للتنجُّز والمعصية، سواءً كان ناشئاً عن مصلحةٍ في نفسه، أم عن مصلحة أو مفسدة في متعلقة غير مزاحمة بما يمنع من تشريع الحكم على طبقها.

ص: 93

وأما الحكم المنجز فهو الحكم الفعلي البالغ مرتبة الداعوية العقلية، الفعلية بسبب ارتفاع العذر عن مخالفته لوصوله وجداناً أو تعبداً أو لكونه موضوعاً للأصل التنجيزي.

هذا ما تيسر لنا الإطلاع عليه من كلماته المتفرقة في الكفاية.

ويشكل: بأن الملاكات الدخيلة في جعل الأَحكام وإن كانت مختلفة من حيثية قيامها بنفس جعل الحكم أو بمتعلقه بنحو الاقتضاء، مع وجود المزاحم فيه أو بدونه، ومع وجود المانع الخارجي من تشريع الحكم على طبقها - الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر - أو بدونه، إلا أن الظاهر أنها لا تصلح لتشريع الأحكام وجعلها، إلا إذا كانت مورداً للغرض فعلاً بنحو يستتبع السعي نحوها بتشريع الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، والصالح لترتب العمل عليه، لعدم المزاحم لها في المتعلق وعدم المانع من تشريع الحكم على طبقها، أما بدون ذلك فلا جعل وجداناً، ولا حكم بأي مرتبة فرضت، لعدم الأثر المصحح لجعله بعد عدم ترتب العمل عليه، وعدم كونه موضوعاً للطاعة والمعصية والعقاب والثواب.

وأما ما تكرر في كلماتهم في مقام الجمع بين الأدلة من حمل الدليل على الحكم الإقتضائي في بعض الموارد، الراجع إلى ثبوت الحكم من حيثية العنوان المأخوذ فيه، وإن لم يكن فعلياً لوجود المانع، فهو لا يرجع إلى جعل حكم اقتضائي يعم حال وجود المانع ثبوتاً، بل إلى بيان حال العنوان إثباتاً وأن من شأنه أن يستتبع حكماً فعلياً لو لم يبتل بالمانع، فمع إبتلائه بالمانع لا حكم اقتضائي على طبقه، ولعل ذلك هو مراده من الحكم الاقتضائي، كما قد يناسبه ما يأتي منه في حاشية الرسائل.

ص: 94

نعم، الغرض الداعي لجعل الحكم..

تارة: يكون فعلياً، فيستلزم الخطاب بالحكم التنجيزي.

وأخرى: يكون منوطاً بأمر غير متحقق فعلاً فلا مجال للخطاب بالحكم إلا معلقاً على ما أنيط به الغرض، ويكون هو موضوع الحكم، كما في القضية الشرطية.

وقد وقع الكلام بينهم في أن الخطاب بالنحو الثاني هل يستتبع جعلاً ووجوداً فعلياً لحكم تعليقي يترتب العمل عليه بعد تحقق الشرط، بحيث يكون وجود الشرط ظرف العمل بالحكم الموجود سابقاً، من دون أن يكون سبباً لفعلية الحكم، أولا؟ بل لا يكون للحكم وجود فعلي جعلي إلا بتحقق ما علق عليه، وليس مفاد القضية الشرطية إلا الكشف عن ذلك.

ولا مجال للبناء على إستتباع الشرطية جعل حكمين تعليقي مقارن لإنشائها، وفعلي عند تحقق الشرط.

وقد أفضنا الكلام في ذلك عند الكلام في استصحاب الحكم عند الشك في نسخه.

وكيف كان، فليس في المقام إلا إنشاء الحكم معلقاً على موضوعه لو لمن يكن فعلياً، ثم فعليته بنحوٍ ما على تقدير فعلية موضوعة، والحكم المجعول واحد تابع لأحدهما، من دون أن يكون هناك حكم سابق على ذلك بالرتبة تابع لنحو خاص من الملاك يسمى بالحكم الإقتضائي أو الإنشائي.

وأما الملاك فهو من الأمور التكوينية التي لا دخل للحاكم بها ولا تكون من مراتب حكمه.

وأما الأحكام الشرعية في أول البعثة فليس لها أي نحو من الوجود

ص: 95

ولم يكن جعلها إلا تدريجياً حسب اختلاف أزمنة الخطاب بها.

كما أن الأحكام التي تظهر على يدي الحجة (عجل الله فرجه) إما أن تكون تعليقية على موضوعات خاصة لا تكون فعلية إلا بظهوره، أو أنها تشرع حينئذ، وإن كان عليه السلام عالماً من أول الأمر بتشريعها في وقتها آخذاً لها من آبائه عليهم السلام عن النبي (ص)، وبهذا يصح إسنادها للنبي (ص) ولا تنافي ما تضمن عدم نسخ شريعته، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الاعلام من محشي الكفاية من الاعتراف بمرتبتين للحكم - وهما الإنشاء والفعلية - بدعوى: كونهما مجعولين تشريعاً.

حيث ظهر مما سبق أن المجعول ليس إلا شيء واحد، وهو الحكم التعليقي الذي هو مفاد القضية الشرطية، أو الفعلي التابع لفعلية الموضوع، لا كلا الأمرين، وإن كان لهما نحو من الوجود. وأما التنجز فهو من لواحق الحكم المجهول الخارجة عنه، و المتأخرة عنه رتبة تأخر مقام الإثبات عن مقام الثبوت وليست من مراتبه في مقام جعله ووجوده.

هذا، وقد قال المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من حاشيته على الرسائل: «فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً يكون له مراتب في الوجود:

أولها: أن يكون له شأنه، من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلاً.

ثانيها: أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعثاً وزجراً وترخيصاً فعلا.

ص: 96

ثالثها: أن يكون له ذلك مع كونه كذلك فعلاً، من دون أن يكون منجزاً يعاقب عليه.

رابعها: أن يكون له ذلك كالسابقة مع تنجزه فعلاً.

وذلك لوضوح إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط، كما لا يبعد أن يكون ذلك قبل بعثته (ص)، واجتماع العلة التامة له مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزجر، لعدم استعداد الأنام لذلك، كما في صدر الإسلام بالنسبة إلى غالب الأحكام».

وقد ادعى بعد ذلك أن الحكم المشترك بين الكل ولا يختلف فيه العالم والجاهل بالإجماع والضرورة هو الحكم بالمرتبتين الأوليين، وأن الثالثة - كالرابعة - تختلف بحسب الأزمان والأحوال والأشخاص، مدعياً إمكان دعوى الإجماع والضرورة على ذلك.

والظاهر أن قوله: «إمكان اجتماع المتقضي لإنشائه...» بيان للمرتبة الأولى، وهي الشأنية، فيناسب ما تقدم في الحكم الاقتضائي من عدم وجود الحكم.

وقوله: «واجتماع العلة التامة...» بيان للمرتبة الثانية وهي الإنشائية، فيناسب ما تقدم في الحكم الإنشائي. من وجود الإنشاء تبعاً لتمامية علته.

ولا يخفى أن ما ذكره في المرتبة الأولى من أنه لا وجود للحكم فيها أصلاً لا يناسب جعلها من مراتب وجوده بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً.

كما أنه مما تقدم من عدم جعل حكمٍ آخر غير الحكم الفعلي يظهر أنه لا واقع للمرتبة الثانية.

وما ذكره من أنها هي المشتركة بين الكل دون الحكم الفعلي راجع

ص: 97

للتصويب الباطل بالإجماع والضرورة.

ولعل الملجئ له لذلك هو محاولة الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى مع ما قد ينفع في المقام.

وبهذا ينتهي الكلام في حقيقة الحكم الشرعي مقدمةً لعلم الأصول، ويقع الكلام في المباحث الأصولية بقسميها: النظرية المحضة، والناظرة لمقام العمل، ونستمد منه تعالى العون والتأييد، والتوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 98

القسم الأول

في الأصول النظرية

ص: 99

ص: 100

القسم الأول في الأصول النظرية

اشارة

وقد سبق أن البحث فيها عن مدركات واقعية لا تبتني بنفسها على العمل، وإن ترتب عليها بضميمة أمر خارج عنها. كما تقدم أنها تنحصر بمباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقلية.

وحيث كان البحث في الألفاظ مبايناً للبحث في الملازمات العقلية سنخاً ومخالفاً له في المباني، كان المناسب فصلهما وجعل كل منهما في مقام مختص به.

الباب الأول في مباحث الألفاظ

اشارة

وهي التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات الكلامية، لتنقيح صغريات كبرى حجية الظهور التي يأتي الكلام فيها في القسم الثاني من علم الأصول إن شاء الله تعالى، ولا يترتب عليها العمل إلا بضميمة الكبرى المذكورة.

ص: 101

مقدمة:

حيث كان تشخيص الظهورات متفرعاً على دلالة اللفظ على المعنى، كان المناسب التعرض لبعض المباحث اللغوية الدخيلة في الدلالة والمناسبة لها مقدمة للكلام في هذا المقام، لمسيس الحاجة لذلك، ولاسيما بعد عدم استيفاء البحث عنها في العلوم الأديبة، ليستغني به الباحث في الأصول عن ذكرها في المقام.

وقد بحثها الأصحاب في مقدمة علم الأصول من دون أن يقسموا مباحثه بالوجه الذي جرينا عليه.

وهي تكون في ضمن أمور:

الأمر الأول: في مباحث الوضع

الأمر الأول: من الظاهر أن دلالة اللفظ على المعنى

تارة: تبتني على أداء اللفظ له بنفسه بحيث يكون قالباً له.

وأخرى: تبتني على قرينة خارجة عنه لمناسبة صححت ذلك عرفاً.

والاستعمال في الثاني مجازي أو نحوه مما قد يجري عليه أهل الاستعمال، وليس هو فعلاً محل الكلام.

أما في الأول فهو حقيقي، وهو متفرع على علاقة خاصة بين اللفظ والمعنى ونحو من الملازمة الذهنية بينهما، بحيث يكون اللفظ قالباً للمعنى، ويكون سماعه موجباً للانتقال إليه، حتى يصح عرفاً أن ينسب أحدهما للآخر، فيقال: هذا معنى اللفظ، وهذا اللفظ لهذا المعنى.

ص: 102

ولا إشكال في عدم تبعية الملازمة المذكورة لخصوصية ذاتية في اللفظ والمعنى، وإن كان قد يوهمه المحكي عن بعضهم من أن دلالة اللفظ على المعنى طبعية، إذ لا يظن بأحد الالتزام بظاهر ذلك، مع ظهور وهنه باختلاف اللغات، وتوقف فعلية الدلالة على العلم بها.

منشأ ملازمة اللفظ للمعنى

بل الظاهر أن منشأ الملازمة المذكورة أمران:

أحدهما: الوضع التعييني

أحدهما: كثرة الاستعمال في المعنى بنحوٍ يكون للفظ نحو اختصاص به، حتى لا يحتاج معه للقرينة، وإن كان مبدأ الاستعمال مبنياً عليها، حيث قد يظهر من حال معه المستعملين اتكالهم على الاستعمالات المبنية على القرينة وجريهم على طبقها حتى يبلغ حداً يوجب الملازمة المذكورة والعلاقة الخاصة، فيستغنى عن القرينة.

ثانيهما: الوضع التعيني

ثانيهما: الوضع ممن يتعارف قيامه به، كولي الطفل، ومخترعي المفاهيم، كأصحاب الفنون في مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم.

وهو المسمى بالوضع التعييني، في قبال الأول الذي يطلق عليه الوضع التعيني، تغليباً، أو لمناسبته للوضع التعييني، لاشتراكهما في الفائدة. وإلا فالوضع الذي هو من مقولة الفعل مختص بالتعييني.

نعم، لو أريد من الوضع ما يعم فعل سبب الاختصاص بين اللفظ والمعنى - وهو الاستعمال - وإن لم يقصد حصوله به - كما قد يظهر من بعضهم - لا جعل نسبة الاختصاص المذكورة بالمباشرة صح إطلاقه على الأول، لكنه بعيد، والأمر سهل.

ثم إن الظاهر أن الوضع التعييني يتضمن جعل نسبة الاختصاص بين اللفظ والمعنى وإنشاءها المستلزم لاعتبارها عرفاً، وهي مسانخة للنسبة

ص: 103

الحاصلة عرفاً بسبب كثرة الاستعمال.

فكما يرى العرف صحة إضافة اللفظ للمعنى بسبب كثرة الاستعمال بالنحو الخاص يرى صحة إضافته بسبب جعلها ممن بيده جعلها، فيتابع عليها، ويكون البناء على إطلاق اللفظ من دون قرينة عند إرادة المعنى متفرعاً عليها، كما يكون الاستعمال نفسه جرياً على طبقها، لا مقوماً لها، كالتصرف المتفرع على الملكية.

وقد تقدم عند الكلام في حقيقة الأمر الانتزاعي من المقدمة أن الإضافة إذا كان منشأ انتزاعها موجوداً تكويناً لم يمكن جعلها اعتباراً، كالفوقية، أما إذا لم يكن منشأ انتزاعها موجوداً فقد تكون قابلة للجعل، كالملكية.

غايته أن الإضافة في المقام ليست على نهج واحد، بل تختلف باختلاف الموارد، فهي في موارد الوضع التعيني غير مجعولة، لتحقق منشأ انتزاعها تكويناً، وهو حضور المعنى عند سماع اللفظ بسبب شيوع استعماله فيه بالنحو الخاص، وفي موارد الوضع التعييني لا وجود لمنشأ انتزاعها، فيمكن جعلها اعتباراً بنحو تترتب عليها الآثار عرفاً، كما تترتب في الأول.

ولعل هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين قدس سره، وإن لم يكن مجال للتعرض لكلامه وكلام غيره ممن ذكر وجوهاً أُخَرْ في حقيقة الوضع، لضيق المجال عن النقض والإبرام في ذلك بعد عدم ظهور الثمرة له، فراجع.

هذا والظاهر أن الوضع التعييني مختص بمثل الأعلام الشخصية والمفاهيم المخترعة المستحدثة، حيث يتدرج الابتلاء بها، ويلتفت من بيده أمرها إلى الحاجة لتعيين اللفظ الدال عليها، فيختار لها لفظاً خاصاً لمناسبة ما، ولو كانت مثل التبرك.

ص: 104

وأما المفاهيم العامة التي لا تخص طائفة مخصوصة والتي بها تقوم اللغة فمن البعيد جداً ابتناؤها على الوضع التعييني، لتعذره عادةً من شخص واحد أو أشخاص معدودين لكثرة المعاني الأفرادية والتركيبية وتشعبها، وعدم معروفية من له تلك الأهلية، ليوكل إليه ذلك ويتابعه فيه الكل.

ولذا لم ينقل ذلك في التواريخ مع أهميته جداً.

ومثله التصدي من كل من يبتلي بمعنى لوضع لفظ يخصه فيتابع فيه، حتى تكاملت اللغة تدريجاً.

فإن الالتفات للوضع ولفائدته بعيد عما عليه عامة الناس - في أول ابتلائهم بالمعنى - من سذاجة، وخصوصاً مع عدم مألوفية الوضع لهم سابقاً، حيث لا هم لهم إلا بيان المعنى بأي وجه أمكن من إشارة أو استعمال مجازي أو غيرهما.

على أنه لا يتيسر تبليغ الكل بالوضع الأول، وتعدده يستلزم كثرة الاشتراك بالنحو الموجب لإرتباك اللغة وعدم تحقق غرض الوضع.

ما قربه الشيخ الحلي قدس سره من كون جميع الأوضاع تعينيه

ومن هنا فقد قرب شيخنا الأستاذ قدس سره كون جميع تلك الأوضاع تعينية وأن مبدأها الاستعمال غير المسبوق بالوضع تبعاً للحاجة وإعمالاً لملكة البيان التي أودعها الله في الإنسان ولو مع الغفلة عن وجه مناسبة اللفظ للمعنى والجهة الموجبة لاختياره في أدائها، بل ولو مع عدم تحديد طبيعة استعمال اللفظ في المعنى جرياً من الإنسان على مقتضى غريزته بصورة بدائية، من دون تحديد تفصيلي للفظ ولا للمعنى، نظير تعابير الطفل في أول نطقه، ثم يتكامل بمرور الزمن ويتكامل الإنسان ويدخله التطوير والتحسين بعد التنبه لفائدته وتحسسها.

ص: 105

لكن ذلك وإن كان قريباً لمقتضى طبع الإنسان في التدرج، إلا أنه يحتاج لمدة طويلة، وهو لا يناسب ما تضمنته الآيات والأخبار المستفيضة من كلام آدم و حواء في مبدأ الخلقة مع الله تعالى، ومع الملائكة والشيطان، وكلامهم معهما، حيث يظهر منه التوجه في أول الأمر للبيان بصورة منظمة ووجود لغة كافية في أداء المقاصد وعملية التفاهم.

ومن هنا كان من القريب جداً أن الله تعالى قد ساعد الإنسان في مبدأ الخلقة فألهمه فعلية البيان كما أودع فيه ملكته، وهداه لمجموعة من الألفاظ تفي بأغراضه فتكلم بها بطبعه، من دون أن تكون مسبوقة بالوضع، وجرى عليها حتى تكونت اللغة الأولى، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التطوير والتغيير والتبديل تبعاً لتجدد الحاجة وتشعبها، كما هو الحال في سائر شؤون حياته.

وربما تشعبت اللغات منها، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى دفعي إعجازي، كحدوث اللغة الأولى، كما قد يظهر من بعض الأخبار.

ولعل هذا مراد من يقول إن الواضع هو الله تعالى. وربما يكون مرادهم أمراً آخر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه ولا في بقية المباني المذكورة في مبدأ الوضع بعد عدم ظهور الثمرة لذلك.

الأمر الثاني: تقسيم الوضع بلحاظ المتعلق

الأمر الثاني: ما سبق من تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني إنما هو بلحاظ اختلاف خصوصيته في نفسه، وقد قسموه تقسيمين آخرين بلحاظ متعلقه من دون أن يرجع إلى اختلاف فيه في نفسه.

التقسيم الأول: الوضع الشخصي والوضع النوعي

التقسيم الأول: تقسيمه إلى الوضع الشخصي والنوعي.

توضيحه

وتوضيحه: أن من الظاهر أن الموضوع ليس هو اللفظ الجزئي، وهو

ص: 106

شخص اللفظ الملفوظ للواضع - في الوضع التعييني - وللمستعمل - في التعييني - لتصرمه فلا فائدة في حدوث العلاقة بينه وبين المعنى الذي يحتاج لبيانه باستمرار، بل الموضوع هو الكلي منه المنطبق على ما لا نهاية له من الأفراد، وإرادته من اللفظ الملفوظ للواضع تبتني على استعماله في نوعه.

فلا بد من إبتناء هذا التقسيم على نحوٍ من التوسع.

والذي يظهر من المحقق الخراساني قدس سره عند الكلام في وضع المركبات أن الوضع النوعي هو وضع هيئات المركبات - كهيئات الجمل والإعراب والتأكيد والحصر والإضافة وغيرها - لخصوصيات النسب المحكية بها، والشخصي هو وضع مواد المركبات ومفرداتها.

وكانه بلحاظ أن هيئات المركبات لم تؤخذ فيها خصوصية مادة، بل تجري في سائر المواد المناسبة مع إنحفاظها، فهي تشبه النوع المحفوظ في أفراده الساري فيها.

لكن ذلك يقتضي تعميم الوضع النوعي لسائر الهيئات حتى هيئات المفردات الاشتقاقية، كهيئات الأفعال وأسماء الفاعلين والمفعولين.

لوضوح أنها - كهيئات المركبات - محفوظة في المواد المختلفة ولذا عممه له غير واحد، بل ذكر بعض المحققين أنه المعروف. وظاهر سيدنا الأعظم قدس سره المفروغية عنه حتى حمل كلام المحقق الخراساني قدس سره عليه فليكن هو المعول عليه تبعاً لهم.

بل عممه بعض الأعيان المحققين قدس سره لمواد المشتقات، لعدم أخذ هيئة خاصة فيها، بل تنحفظ في سائر الهيئات كأنحفاظ هيئات المشتقات في موادها.

ص: 107

لكن لما كان هذا التقسيم محض اصطلاح - لما ذكرنا من كون الموضوع كلياً دائماً - فلا ينبغي الخروج عما هو المعروف.

وقد تكون المناسبة المصححة له أن نسبة الهيئة للمادة - لفظاً ومعنىً - لما كانت نسبة العرض للموضوع كان المعيار في التعدد هو تعدد المادة عرفاً وكان تعددها في الهيئة موجباً لكون وضع الهيئة نوعياً، بخلاف تعدد الهيئات في المادة الواحدة، فلا يلتفت إليه، ليكون وضع المادة نوعياً، بل هو كتوارد الهيئات التركيبية على المفردات، حيث لا ينافي كون وضعها شخصياً، ولولا الفرق المذكور لكان نوعياً أيضا حتى في الجوامد والحروف.

وقد أجاب بعضهم بوجه آخر غير ظاهر في نفسه، ولا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا من كون التقسيم محض اصطلاح لا مشاحة فيه.

التقسيم الثاني: الوضع العام والوضع الخاص

التقسيم الثاني: تقسيمه بلحاظ عموم المعنى المتصور حين الوضع وخصوصه، وعموم المعنى الموضوع له وخصوصه، إلى أقسام ثلاثة: الوضع الخاص والموضوع له خاص، والوضع العام والموضوع له عام، والوضع العام والموضوع له خاص.

أقسام الوضع

وذلك أن الواضع لابد له من تصور المعنى الموضوع له، إما تفصيلاً بملاحظة ذاته بخصوصياتها، أو إجمالاً بملاحظة عنوان يخصه سيق لمحض الحكاية عنه، كما لو سمى ولده زيداً، ولا يعرفه إلّا بأنه أول مولود له.

وحينئذٍ فإن تصور معنىً خاصاً ووضع اللفظ له فالوضع خاص - لخصوص المعنى المتصور حينه - والموضوع له خاص، كوضع الأعلام الشخصية.

وإن تصور معنىً عاماً، فإن وضع اللفظ له على عمومه، فالوضع عام -

ص: 108

لعموم المعنى المتصور حينه - والموضوع له عام، كوضع أسماء الأجناس.

والأمر في هذين القسمين ظاهر.

وإن وضع اللفظ لإفراد المعنى المتصور بخصوصياتها المتباينة فالوضع عام والموضوع له خاص.

والفرق بينه وبين القسم الثاني: أن الموضوع له في القسم الثاني ليس إلا العام بما له من مفهوم جامع بين الخصوصيات من دون أن تكون الخصوصيات دخيلة في الموضوع له ولا محكية باللفظ حتى في مورد استعماله فيها، حيث لا يحكى عنها حينئذٍ إلّا من حيثية دخولها في القدر المشترك، لا بما به امتيازها، بل هو مقارن لا غير، بخلاف هذا القسم حيث يبتني على دخل كل خصوصية فردية في الموضوع له بنحو البدلية، بحيث يحكي اللفظ عنها بما به امتيازها عن غيرها، ولا يحكي عن القدر المشترك بنفسه مع قطع النظر عن خصوصيات أفراده، لعدم وضعه له، فهو يشارك القسم الثاني في سعة الموضوع له بنحو يصح استعمال اللفظ في جميع الأفراد بدلاً، كما يشارك القسم الأول في الحكاية عن خصوصية الفرد.

توضيح بعض الجهات بأمور

ثم إن توضيح بعض الجهات المتعلقة بهذا التقسيم يكون ببيان أمور:

أولها: القول بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام

أولها: أنه صرح غير واحد بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام الذي يكون بتصور المعنى الخاص عند الوضع مع عدم الوضع له بل للعام بما له من معنىً شائع واسع الانطباق.

وأن الفرق بينه وبين الوضع العام والموضوع له الخاص - الذي هو القسم الثالث المتقدم - هو أن العام وجه من وجوه الخاص، بخلاف الخاص، فإنه لا يكون وجهاً للعام، لأن العنوان العام كما قد يؤخذ بنفسه

ص: 109

موضوعاً للحكم، فيكون تقييدياً، كذلك قد يجعل عبرة لأفراده حاكياً عنها، بحيث يكون موضوع الحكم هو الأفراد بما لها من واقع.

أما الخاص فتصوره لا يكون إلاّ بتصور خصوصيته غير القابلة للسريان والشيوع، فلا يكون حاكياً عن العام الشامل له والساري في غيره.

نعم، قد يكون تصوره مقدمةً لتجريد جهة فيه منه تقبل السريان يكون الوضع لها بعد تجريدها.

لكنه راجع إلى تصورها تفصيلاً، كما لو مر به حيوان فأدرك ماهيته ووضع الاسم لها، أو إجمالاً، كما لو علم بوجود شيء في الصندوق فوضع اللفظ لماهيته المتصورة إجمالاً.

فيكون الوضع للعام بعد تصوره بنفسه بسبب تصور الخاص - كما في القسم الثاني - لا بمجرد تصور الخاص، ليكون من القسم الرابع.

ومنه يظهر اندفاع ما عن المحقق الرشتي من إمكان هذا القسم وأنه كمنصوص العلة، حيث يكون الحكم فيه شخصياً ومع ذلك يسري إلى كل ما فيه العلة.

كما ظهر أن الوضع العام والموضوع له خاص يبتني على الإشارة للخاص من طريق العام الراجعة لنحوٍ من التصور الإجمالي له، فيشبه الوضع الخاص والموضوع له خاص، وإن افترقا في وحدة الموضوع له في الوضع الخاص، وتعدده في العام بسبب كثرة الأفراد المحكية بالعنوان العام المتصور حين الوضع.

ثانيها: وجوه الوضع العام والموضوع له الخاص

ثانيها: أن الوضع العام والموضوع له الخاص

تارةً: يرجع إلى الوضع للخصوصيات بما هي مشتركة في مفهوم العام،

ص: 110

بحيث يكون العام مأخوذاً في الموضوع له مقيداً بإحدى الخصوصيات الفردية على البدل، فتكون الخصوصية قيداً في الموضوع له، لا تمامه، فدلالة اللفظ عليها نظير دلالة المعرف بلام العهد عليها.

وأخرى: يرجع إلى الوضع للخصوصيات بأنفسها من دون ملاحظة اشتراكهما في مفهوم العام، وليس لحاظ العام إلا لأجل حصر الخصوصيات المذكورة وتعيينها، فدلالة اللفظ على كل من الخصوصيات المتباينة كدلالة المشترك اللفظي عليها، وليس الخلاف بينهما إلا في وحدة الوضع في المقام وتعدده في المشترك.

وكلماتهم في المقام لا تخلو عن إجمال وتردد بين الوجهين، وإن لم يبعد كونها للأول أقرب.

ثالثها: جريان الأقسام المذكورة في الوضع التعيني

ثالثها: لا يخفى أن الجمود على ما تقدم في بيان الأقسام المذكورة يقضي باختصاصها بالوضع التعييني المبتني على وضع اللفظ للمعنى بعد تصور الواضع له، دون التعيني الذي عرفت خروجه عن حقيقة الوضع، إلا أنه يمكن جريان نظائرها فيه من حيثية خصوصية المعنى التي هي الغرض الملحوظ في التقسيم.

فإن المعنى الذي يختص به اللفظ ويكون قالباً له بسبب كثرة الاستعمال تارة: يكون جزئياً لا يصطلح اللفظ لنظائره مما يجمعه معه مفهوم واحد، كما في القسم الأول.

وأخرى: يكون كلياً مجرداً عن خصوصيات أفراده، كما في القسم الثاني.

وثالثة: يكون جزيئاً تتبادل فيه خصوصيات أفراد مفهوم واحد كلي،

ص: 111

بحيث يحكي عن الخصوصيات بأنفسها أو بما هي قيود بدلية في المفهوم الكلي المذكور، كما في القسم الثالث بأحد وجهيه المتقدمين آنفا.

الأمر الثالث: في القسم الثالث من أقسام الوضع

الأمر الثالث: بعد أن عرفت أنحاء الوضع الممكنة فلا إشكال في وقوع القسم الأول في الاعلام الشخصية، والثاني في أسماء الأجناس، وإنما الكلام في الثالث، حيث قد يُدّعى أنه عليه يبتني وضع الحروف وما أُلحِقَ بها من أسماء الإشارة والموصولات والضمائر والهيئات ونحوها، وليس التقسيم المذكور إلا مقدمةً لتحقيق الحال فيها.

المعنى الحرفي

وقد أطال أهل الفن في ذلك خصوصاً المتأخرين منهم، حيث كثرت أقوالهم وتشعبت وأبتنت على كثير من الدقة والتعمق، وأحتيج في توضيح كل منها أو في ردها إلى مقدمات كثيرة، مع إعتمادهم على البداهة فيما يذهبون إليه على اختلافهم.

ولعل ذلك ناشئ من أن استعمال الحروف ونحوها يجري على البديهة والفطرة حسبما أودعه الله تعالى في الإنسان من قوة البيان، كما أن ما يراد بها يدرك بالارتكاز بلا كلفة، وتوضيح البديهيات والارتكازيات وبيان حقائقها وتفاصيل معانيها من أشكل المشكلات، حيث يبتني على التعمق والتكلف والتعمّل التي لا يصل بها الإنسان غالباً كما يصل بفطرته وأرتكازه.

ومن هنا يضيق الوقت والصدر معاً من متابعتهم وتعقيب كلماتهم، بل قد تضعف الطاقة عن ذلك.

ولاسيما مع عدم وضوح ترتب ثمرة عملية مهمة عليه، وإن ادعى بعضهم ترتبها، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 112

كما أنه لا يحسن إهمال ذلك رأساً، لعدم خلوه عن الفائدة.

فلنقتصر على بيان ما يتضح لنا فعلاً بعد النظر في كلماتهم، مع التوكل على الله سبحانه وطلب العون والتسديد منه.

فنقول: الظاهر أن جملة من الحروف لم توضع للحكاية عن معان متقررة في عالم الخارج أو الاعتبار أو الانتزاع، ليقع الكلام في أن معانيه كلية أو جزئية، بل هي موضوعة لإيجاد معانيها في عالم الكلام والتلفظ، فمعانيها - كما قيل - إيجادية، لا إخطارية ذات وجود ذهني مطابق لوجودها الحقيقي في عالمه.

كما هو الحال في مثل أدوات التمني والترجي والنداء والاستفهام والطلب والنهي ونحوها، فكما يكون لهذه الأمور واقع نفسي في الجملة يكون لها وجود كلامي بأدواتها المعهودة.

وليس الواقع النفسي محكياً بهذه الأدوات على أن يكون هو المدلول المطابقي لها، بل هو داعٍ لإيجاد مضامينها في عالم اللفظ والكلام، كما قد يكون داعياً لوجودها بالإشارة، فكما يشير الإنسان بيده مستفهماً بداعي حث المخاطب على الإعلام والإفهام يتكلم بأدوات الاستفهام بالداعي المذكور.

ولذا لا يكون الإتيان بها من دون تحقق ما يناسبها في النفس كذباً وإن قصد إظهاره بها، بل لا يكون حينئذٍ إلا إيهاماً وتغريرا.

كما لا يكون الإتيان بها بداع آخر بقرينة مجازاً، لعدم انسلاخها عما سيقت له بحسب وضعهاً، وهو الوجود الكلامي للمعاني المذكورة، كما في الاستفهام بداعي الإنكار، والنداء بداعي التواجد.

ص: 113

نعم، قد تنسلخ عما وضعت له عرفاً، فتكون موجدةً لمعنىً آخر، كإنشاء التأسف بأداة النداء في قوله تعالى: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزئُونَ»(1) حيث لا يتضمن جعل النداء عرفاً والحاصل أن هذه الحروف لم توضع للحاكية عن معنى له تقرر في واقعه بنحو تكون قالباً له، وإن كانت قد تكشف عن معنىً كذلك لملازمة ذهنية أو عرفية، وإنما وضعت لإيجاد معانيها إيجاداً كلامياً، فنسبة وضعها للمعاني المذكورة كنسبة وضع المطرقة للطرق والسكين للقطع، لا كنسبة وضع الأسماء للمعاني الذي يراد به وضعها لبيانها والحكاية عنها بنحو تكون قالباً لها. وكذا الحال في نسبة المعاني لها.

ويلحق بالحروف المذكورة في ذلك أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها، فإنها أدوات لإحداث نحو من الإشارة للشيء - كلام التعريف - إما مطلقاً - كأسماء الإشارة - أو من حيثية معهوديته في الذهن - كضمائر الغيبة - أو من حيثية ما يتعلق به - كالأسماء الموصولة - فإن الإشارة في الجميع لا تقرر لها في نفسها مع قطع النظر عن الاستعمال، بل تتحقق به، كما هو الحال في الإشارة باليد التي تتحقق بالحركة الخاصة بقصدها.

نعم، لما كانت الإشارة تتعلق بمشار إليه له تقرر في نفسه مع قطع النظر عنها، وتبتني على التنبيه له، كان لهذه الأسماء نحو من الحكاية عنه وكانت مستلزمةً بطبعها لحضوره في الذهن.

دعوى إخطارية المعاني

وبهذا قد يدّعى أن لها معاني إخطارية، ولذا عُدَّت من الأسماء

ص: 114


1- سورة يس: 30

وشاركتها في وقوعها طرفاً للنسب المختلفة. فيتجه الكلام حينئذٍ في عمومها وخصوصها.

لكن الظاهر عدم كون المشار إليه معنىً مطابقاً وضعاً، ومحكياً بها حكاية المعنى باللفظ الموضوع له، بل هو يحضر بسببها في الذهن تبعاً لتحقق الإشارة بها، كما هو الحال في الإشارة الخارجية المبنية على مقتضى طبع الإنسان من دون وضع وتعيين، وبعد حضوره في الذهن يحسن جعله طرفاً للنسبة، كما يجعل المحكي باللفظ طرفاً لها.

ولذا لا يكون المشار إليه معنىً لها ولا مصداقاً لمعناها، مع قطع النظر عن مقام الاستعمال الخاص، كما تكون ذات زيد معنى للفظه ومصداقاً لمعنى لفظ (رجل) مع قطع النظر عن استعمالهما فيه.

وهذا نفسه يجري في الموصولات كما قد يظهر بالتأمل.

ومثلها في ذلك بعض الهيئات، كهيئة الأمر، فإنها مستعملة في إيجاد النسبة البعثية وإيجادها.

ودلالتها على الطلب النفسي الواقعي بالملازمة العرفية، لكونه الداعي لإنشاء النسبة المذكورة عرفاً.

وكذا أسماء الافعال، حيث كان الظاهر إبتناءها على إنشاء المعنى، فمفاد (هيهات) ليس هو الحكاية عن البعد، بل إدعاؤه وإنشاء الاستبعاد الذي لا وجود له إلا بالاستعمال.

كما أن مفاد (أف) إنشاء التضجر، لا الإخبار عن الضجر النفسي.

وبالجملة كون معاني جملة من الحروف والأسماء والهيئات الملحقة بها إيجادية أمر لا إشكال فيه.

ص: 115

وإنما الإشكال في ما يتضمن النسب التي لها ما بإزاء خارج عن الكلام، له نحو تقرر في نفسه مع قطع النظر عنه، يكون المعيار في صدق الكلام وكذبه مطابقته للخارج بتحققه في عالمه وعدمها، كأكثر حروف الجر وحروف الشرط والحصر ونحوها، والهيئات الكلامية الدالة على النسب التامة - كهيئة الجملة الاسمية والفعلية غير الطلبية - والناقصة - كالإضافة والحال والتمييز وغيرها - وهيئات المفردات الاشتقاقية، لأنها وإن لم تتصف بنفسها بالصدق والكذب، إلا أنها لما كانت قيوداً في النسب التامة المتصفة بهما، كان وجود المطابق الخارجي لها وعدمه دخيلين في مطابقة تلك النسب للخارج وعدمه وفي صدقها وكذبها، وهو يستلزم تقرر مفاد تلك النسب مع قطع النظر عن الكلام..

ومن ثم قد تتجه دعوى: إن معاني تلك الحروف والهيئات إخطارية.

الاستدلال على كلية المعاني الحرفية

ويقع الكلام حينئذٍ في أنها كلية أو جزئية، وأن وضعها من القسم الثاني أو الثالث، بعد معلومية عدم كونه من القسم الأول.

وقد يستدل على كليتها: بصلوحها للحكاية عما لم يقع من النسب في القضايا المستقبلة ونحوها مع وضوح انطباقه على أكثر من وجه واحد وعدم أخذ خصوصية فردية فيه، لتبعية التشخص للوجود، وذلك راجع إلى كلية مفاهيمها وانطباقها على كثيرين، فكما يكون السير في قولنا: سر من البصرة إلى الكوفة، كلياً فلتكن نسبته للبصرة المستفادة من (من) ونسبته لفاعله المستفادة من هيئة الفعل كليتين أيضا. وكذا الحال فيما إذا حكي بها عن أكثر من نسبة واحدة، كما في قولنا: «ساروا من البصرة، وكما في القضايا الحقيقية، كقولنا: من سار من البصرة ندم. فإنه يناسب الحكاية بها عن مفهوم

ص: 116

كلي ينطبق على كثيرين، لا عن مفهوم جزئي متشخص في واحد».

وتشخص مؤداها من النسب وجزئيته فيما لو كان موجوداً في القضايا الحالية والماضية الجزئية - كما في قولنا: سرت من البصرة - إنما هو لملازمة الوجود للتشخص، لا لأخذ الخصوصية الشخصية في المفهوم، لوضوح عدم اختلاف مفادها في القضايا المذكورة مع مفادها في القضايا المستقبلة ونحوها. فالخصوصية من مقارنات مفادها لا مقومة له.

كما هو الحال في المفاهيم الاسمية الكلية التي قد يراد المتشخص لقرينة مع أخذ الخصوصية في مفهومها.

وقد أصر غير واحد على جزئية المعنى مع بنائهم على كونه إخطارياً له نحو من التقرر مع قطع النظر عن الكلام، ولم يتضح لنا من كلماتهم ما يصلح للجواب عما سبق، فلا مجال لإطالة الكلام فيه.

كما لا مجال لإطالته في حقيقة المعنى الحرفي وأنه متحد مع المعنى الاسمي مفهوماً، أو مباين له حقيقةً، وإن أطالوا في ذلك، لعدم وضوح الثمرة لذلك.

والمهم إنما هو الكلام في كونه إيجادياً أو إخطارياً الذي يترتب عليه الكلام في كليته وجزئيته، ومقتضى ما سبق كونه إخطارياً كلياً.

توجيه عليه السلام إيجادية المعاني الحرفية

هذا، ولكن التأمل في حال بعض النسب الكلامية شاهد بأن انتزاع الصدق والكذب لا يتوقف على كون الحرف حاكياً عن واقع متقرر مع قطع النظر عنه، بل قد يكون مع حدوث نحو من النسبة به لا تقرر لها لولاه.

ولا وجود لها بدونه، فهي إيجادية لا إخطارية، كما هو الحال في نسبة الاستثناء، حيث لا تقرر لها في نفسها، بل هي محض اعتبار قائم

ص: 117

بالكلام متفرع على اعتبار عموم الحكم، فليس في الواقع مع قطع النظر عن الكلام إلا ثبوت الأمر المحكوم به لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه وانتفاؤه، عن المستثنى، ولا يختلف في واقعه، سواء كان بإثبات الحكم لموضوعه ونفيه عما عداه بأن يقال مثلا: تقبل شهادة العادل ولا تقبل شهادة غيره، أم بإثبات الحكم للكل ثم الاستثناء منه، بأن يقال: لا تقبل شهادة أحد إلا العادل.

فإن ذلك يكشف عن عدم المطابق للنسبة الاستثنائية المؤداة بأدواته وعدم التقرر لها بواقع محكي بالأداة حكاية المعنى باللفظ.

وإنما يكون الواقع معياراً في الصدق والكذب بلحاظ كونه مصححاً لاعتبار النسبة عند أهل اللسان في مقام البيان، بحيث تساق النسبة لبيانه ويكون بيانه داعياً لاعتبارها، لا أن الداعي مجرد وجوده، كما سبق في مثل الاستفهام النفسي مع الاستفهام اللفظي.

فليس الفرق بين أدوات الاستفهام - مثلا - وأدوات الاستثناء في أن الأولى موجدةً لمعانيها والثانية حاكيةً عنها، بل ينحصر الفرق بينهما - بعد اشتراكهما في كون معانيهما إيجادية - في أن الثانية موجدةً لمعانيها بداعي بيان أمر له نحو من التقرر مصحح لاعتبارها عرفاً، بخلاف الأولى حيث لا يكون هناك ما يصحح انتزاعها ويكون مقصوداً بها، وإن كان لابد من غرض مصحح لجعلها واعتبارها غير البيان، كرفع الجهل بالأمر المستفهم عنه وبهذا افترقا في قبول الاتصاف بالصدق والكذب وعدمه.

ولعل مثل أدوات الاستثناء في ذلك بعض أدوات العطف والاضراب فإن مفادها - وهو التشريك في الحكم أو التفريق فيه - نحو من النسبة القائمة

ص: 118

بالكلام، والتي هي من شؤون الكلام ولواحقه المتقومة به، من دون أن يكون له مطابق خارجي محكي عنه به حكاية المعنى بلفظه، بل ليس في الواقع إلا ثبوت الأمر المحكوم به أو عدمه في موردهما، وإن اتصف الكلام المشتمل عليهما بالصدق أو الكذب بلحاظ الواقع المذكور.

كما لعله الحال - أيضاً - في بعض الأدوات الأخرى المتضمنة للنسب الواقعة في الكلام القابل للاتصاف بالصدق والكذب، كما قد يظهر بمزيد من التأمل في موارد استعمالها، وإن ضاق الوقت عن استقصائها.

وإذا ثبت عدم ملازمة اتصاف الكلام بالصدق والكذب لكون معاني الأدوات إخطارية، بل يمكن مع كونها إيجادية، فلا طريق لإثبات إخطارية المعنى في جميع الحروف والهيئات، بل ربما تكون إيجادية، بأن تكون جميعاً أدوات لتحقيق نحو من النسبة الكلامية اعتباراً، وإيجاد الربط الكلامي في مقام البيان، وإن كان الغرض من بعضها هو بيان الواقع الخارجي، وحال أطراف القضية بعضها مع بعض في الخارج، الذي هو المصحح لاعتبار النسبة الكلامية المجعولة بأدواتها عند أهل البيان بمقتضى ارتكازياتهم، ومعياراً في الصدق والكذب بنظرهم.

وعلى هذا أصر بعض الأعاظم قدس سره.

تأييد التوجيه المذكور

ولعله الأقرب، كما يناسبه ما هو المعلوم من إمكان بيان الواقع الواحد بصور مختلفة، وبأكثر من نسبة واحدة مختلفة المفاد، من دون اختلاف فيما يبين بها من واقع، فكما يصح أن يقال: (سرت من البصرة) - مثلا - يصح أن يقال: (كان سيري من البصرة) و (مبدأ سيري البصرة) و (بدأت بالسير من البصرة)، وكما تقول: (سافر زيد)، تقول: (تحقق السفر من زيد) و (تحقق

ص: 119

سفر زيد).

فلولا أن النسب اعتبارات محضة لا تتقيد بواقعٍ واحد لكان المناسب عدم الحكاية عن الواقع الواحد إلا بنسبة واحدة، وإن اختلفت ألفاظها من باب الترادف، لا بنسب مختلفة، كما تقدم.

كما يناسب ما ذكرنا - أيضاً - ما هو المحسوس بالوجدان من عدم أداء الحروف والهيئات لمعانيها إلا في مقام استعمالها في تركيب كلامي، بخلاف الأسماء، فإنها لما كانت قالباً لمعانيها بما لها من واقع قائم بنفسه، متقرر في عالمه، أمكن تصور مسمياتها، وحكايتها عنها وإن لم تكن في ضمن تركيب كلامي.

فهي بملاحظة المرتكزات أدوات للبيان، يتحقق بها الربط البياني بين أطراف الكلام المتشتتة، يجري الإنسان فيها بمقتضى المرتكزات البيانية التي أودعها الله جلت قدرته فيه، فكما أدرك بهذه المرتكزات الجاجة في البيان للأسماء للحكاية بها عن مسمياتها المتقررة في عالمها، كذلك أدرك بها الحاجة للحروف لجعل النسب، لترتبط تلك المعاني بعد تفرقها وتنتظم بعد تشتتها، كي يتم بيان حال بعضها مع بعض، وإن لم تتمحض في بيان ذلك.

ولعل هذا هو منشأ الآلية التي تمتاز بها الحروف، وتسالموا عليها تبعاً للفارق الارتكازي بينها وبين الأسماء، لأنها آلات لإيجاد معانٍ لا استقلال لها بنفسها، بل هي قائمة بغيرها، فلا مجال لتصورها وإيجادها إلا في ظرف تصوره والحكاية عنه، حسبما يقتضيه تركيب الكلام، وإلا خفي وجه كون المعنى الذي له تقرر مفهومي وخارجي في نفسه آلياً، لا يتصور ولا يؤدى

ص: 120

إلا في ضمن الكلام، مع ما هو المعلوم من سعة الذهن، وإنطلاقه في مقام التصور والتعقل.

وقد قيل في الآلية غير ذلك، مما يضيق الوقت عن التعرض له، وتعقيبه.

وعلى هذا يتعين البناء على أن المعاني الحرفية التي كانت الحروف أدوات لإيجادها جزئية، لأن الأمر القابل للإيجاد هو الجزئي لا الكلي، وإن كان الكلي معياراً في تحديد تلك الجزئيات التي أعدت الحروف لإيجادها، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص، وإن خالفه في كون الوضع هنا لإيجاد الخاص، لا للحكاية عنه.

ولا يفرق في جزئيته بين كون القضايا التي وردت فيها واقعة وكونها غير واقعة، حاكية عن نسبة واحدة أو متعددة ف (من) - مثلاً - في كل من قولنا: (سرت من البصرة) و (ساروا من البصرة) و (أسير من البصرة) و (سر من البصرة) و (من سار من البصرة ندم) لا تقتضي إلاّ جعل نسبة خاصة بين السير والبصرة، بداعي بيان حال السير والبصرة في الخارج، إلّا أنها في القضية الواقعة الحاكية عن نسبة واحدة حيث كانت حاكية عن حال واقع فلا بد من كونه جزئياً، متشخصاً، أما في الباقي فهي حاكية عن حال يقع ولم يتشخص بعد أو عن حال تشخص في أكثر من واحد، كلي قابل للانطباق على كثيرين، من دون أن يستلزم ذلك اختلافاً في معناها، بل هو جزئي لا غير.

وبهذا يمكن الجمع بين ما هو المرتكز من جزئية المعاني الحرفية، وورودها في ضمن قضايا غير واقعة، الذي سبق تعذره، بناءً على أن معانيها

ص: 121

إخطارية.

ومنه يظهر أن ذلك المعنى الجزئي الحاصل بها ليس مصداقاً للمفاهيم الكلية المذكورة في بيان معاني هذه الحروف، كالابتداء والانتهاء والظرفية ونحوها، لأن جزئيات تلك المفاهيم لها نحو من التقرر، من دون أن تكون تابعةً للكلام ولا مسببة عنه، وإنما هو المنشأ الخارجي المصحح لاعتبارها وجعلها في مقام البيان، والمقصود بالحكاية منها.

وأما ما اشتهر من تفسير معاني الحروف بالأمور المذكورة، فليس لكون هذه الأمور بمفاهيمها أو بمصاديقها مدلولة لها ومحكية بها حكاية المعنى بلفظه، بل لضيق التعبير، حيث يصعب بيان حقيقة الاعتباريات، مع عدم الغرض في معرفتها، بل المهم معرفة الخارج المستفاد منها الملازم لها، فعدل إلى بيانه.

ولعل في محكي كلام السكاكي في المفتاح إشارة إلى ما ذكرنا، قال: «المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسير معانيها، مثل قولنا: «من» معناها ابتداء الغاية، «وفي» معناها الظرفية، و «كي» معناها الغرض، فهذه ليست معاني الحروف، وإلاّ لما كانت حروفا، بل أسماء، لأن الاسمية والحرفية إنما هي باعتبار المعنى، وإنما هي متعلقات لمعانيها. أي: إذا أفادت هذه الحروف معاني ترجع تلك المعاني إلى هذه بنوع استلزام».

ولعل ما سبق في حقيقة المعنى الحرفي أقرب ما قيل فيه، وأنسب بملاحظة خصائصه ولوازمه. وإن كان للتأمل بعد مجال. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

ص: 122

تنبيهان:

تنبيهان:

الأول: في ثمرة النزاع

الأول: ربما تجعل ثمرة النزاع في كلية المعنى الحرفي وجزئيته قبوله للتقييد لو كان كلياً وعدمه لو كان جزئياً، لأن التقييد والإطلاق متقابلان تقابل العدم والملكة، فلا يصح اعتبار كل منهما إلا في موضوع قابل لهما، وحيث لا يقبل الجزئي الإطلاق لا يقبل التقييد.

ويترتب على ذلك الكلام في رجوع القيد في الواجب المشروط للهيئة ذات المعنى الحرفي، أو للمادة ذات المعنى الاسمي.

ولذا تعرضوا لهذا الأمر هناك، إلا أن الأنسب ذكره في المقام، لأنه من ثمراته من دون خصوصية لتلك المسألة.

وكيف كان فقد استشكل في الثمرة المذكورة بوجوه.

الإشكال على الثمرة بوجوه الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره ومناقشته

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الواجب المشروط من أن جزئية الطلب المنشأ - لكونه معنىً حرفياً - إنما تمنع من تقييده بعد إنشائه، لا من إنشائه مقيداً من أول الأمر.

وكأن مراده بذلك أن التقييد المصطلح يبتني على كون المراد من موضوعه الذات القابلة للتقييد والإطلاق، وجعلها طرفاً لنسبة التقييد مع القيد، فيختص بالكلي الصالح في نفسه للسريان والشمول، دون الجزئي، إلا أنه يمكن قصر الجزئي وتضييقه بوجه آخر، بأن يراد منه - ابتداءً - واجد القيد، فلا يحتاج حينئذٍ للتقييد، ويكون الشرط - في المقام - متمحضاً في القرينية على إرادة واجد القيد من الطلب، من دون أن يرجع للتقييد.

ويشكل: - مضافاً إلى ما هو المرتكز من عدم اختلاف مفاد الهيئة حال

ص: 123

وجود القيد عن حال عدمه وعدم تمحض الشرط في القرينية المذكورة، بل هو مبتنٍ على نحو من التقييد، نظير القيود الواردة على الماهية القابلة لذلك - بأن امتناع تقييد الجزئي ليس من حيثية لحاظ التقييد، كي لا يلزم في الوجه الذي ذكره، بل لعدم شيوعه وسريانه، وهو يقتضي امتناع التضييق فيه مطلقاً، سواء كان بالتقييد أم بإرادة المقيد ابتداءً.

إلا أن يرجع ما ذكره إلى إرادة جزئي آخر مباين للجزئي الذي لم يتضيق مفهوماً وحقيقةً، يكون الاختلاف بينهما كالاختلاف بين الكبير والصغير. لكنه خروج عن مفروض الكلام من كون المقيد من سنخ المطلق، مؤدى بنفس أداته.

الثاني: ما ذكره العراقي قدس سره ومناقشته

الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الجزئي لا يقبل التقييد الأفرادي دون الأحوالي.

وفيه: أن الأحوال لما لم توجب تحصيص الجزئي وتفريده إمتنع كونها قيوداً له، وإنما تكون قيوداً للحكم الطارئ عليه، فنجاسة الماء الخاص المتغير بقيد بقاء تغيره لا ترجع إلى أخذ التغير قيداً في الماء النجس، بل إلى أخذه قيداً للحكم بنجاسته الذي هو مفاد الهيئة، فيدخل في محل الكلام من امتناع تقييد المعنى الحرفي.

نعم، لا بأس بتقييد الكلي بالأحوال، لأنها مخصصة ومفردة له، كتقييد الإنسان الذي تقبل شهادته بالعدالة.

الثالث: ما يظهر من السيد الحكيم ومناقشته

الثالث: ما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره في مبحث الواجب المشروط - توجيهاً لما سبق من المحقق الخراساني قدس سره - من أن المعنى الحرفي وإن كان جزئياً، ومنه النسبة الطلبية الخاصة، إلا أن تخصص النسب إنما هو

ص: 124

بتخصيص أطرافها، فيجوز تخصيصها بخصوصية الشرط.

وفيه: أنه إن أريد أن الشرط طرف للنسبة الطلبية، فمن الظاهر أن أطراف النسبة الطلبية في الواجب المشروط والمطلق ليس إلا الطالب والمطلوب منه والمطلوب، وليس الشرط طرفاً لها، بل هو خارج عنها، له نحو من الدخل فيها، وإنما يتجه ذلك في خصوص بعض النسب، التي تقوم بأطراف قليلة تارة وكثيرة أخرى، كنسبة التعاند التي تتضمنها القضية المنفصلة، فكما يقال: «إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو»، يقال: «إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو أو خالد»، من دون تبدل في حقيقة النسبة، ولا يكون الطرف الزائد قيداً فيها، بل مقوماً لها كسائر أطرافها، وليس هو كالشرط في النسبة الطلبية.

وإن أريد أن دخل الشرط في النسبة الطلبية موجب لنحو من التحديد لها فهو وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه لابد من توجيه دخله فيها، بعد فرض عدم تقومها به، لخروجه عن أطرافها، لأن أخذه في النسبة نفسها راجع إلى نحو من التقييد للمعنى الحرفي، الذي هو محل الكلام، وأخذه في المطلوب اعتراف بما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره مستدلاً عليه بأمتناع تقييد المعنى الحرفي لكونه جزئياً، فلا يكون تخلصاً منه.

ما ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: إن جزئية المعنى الحرفي إنما تمنع من نحو خاص من التقييد، وهو الراجع إلى قصر المراد الجدي من الماهية على بعض أفرادها الخارجية ويقابله الإطلاق الراجع الى إرسال الماهية وسريانها في تمام أفرادها، وعدم خصوصية بعض الأفراد في المراد الجدي منها، وهو التقييد بمثل لسان التوصيف، لوضوح أن الجزئية وعدم تكثر

ص: 125

الأفراد لا تناسب التقييد المذكور.

أما ما لا يرجع إلى ذلك من التقييد، بل إلى نحو من التضييق الراجع إلى قصور في وجود ما يطابق المعنى فالجزئية لا تمنع منه، إذ كما تمكن السعة في الوجود الواحد يمكن فيه الضيق.

ومن الظاهر أن تقييد الهيئة بالشرط لا يرجع إلى الأول، فهو لا يقتضي كون المراد بالهيئة ماهية الوجوب المقصورة على خصوص الواجد للشرط من أفرادها، كما لا يقتضي إطلاقها ماهيته بتمام أفرادها، بل ليس مقتضاه إلا إناطة الوجوب الخاص المنشأ، وتعليقه على الشرط بنحو يقصر عن حال فقده، في قبال إطلاقها المقتضي لسعة الوجوب الواحد وسعة وجوده لكل حال، فالفراق بينهما نظير الفرق بين الزوجية الدائمة والزوجية المنقطعة الذي لا يرجع إلى كثرة الأفراد وقلتها، بل إلى سعة الوجود وضيقه.

ولعل هذا هو مراد بعض المحققين من دعوى الفرق بين التقييد بمعنى التعليق والتقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى، وأن الممتنع هو الثاني واللازم في المقام الأول.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من امتناع رجوع الشرط للهيئة

ومن الغريب ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من امتناع رجوع الشرط للهيئة لما تقدم من امتناع تقييد الجزئي، مع إعترافه بأنه مقتضى القواعد العربية، مع وضوح أن القواعد العربية ارتكازية يتبعها الظهور النوعي، فكيف يكون مقتضى الارتكاز والظهور النوعي ممتنعاً في نفسه؟! بل ينبغي جعل ذلك كاشفاً عن خلل في بعض مقدمات المدعى.

ما ذكره النائيني قدس سره من الامتناع المذكور ودفعه

ثم إن بعض الأعاظم قدس سره ذكر وجهاً آخر لمنع رجوع الشرط للهيئة، وهو: أن الإطلاق والتقيد إنما يعرضان على المفاهيم الاسمية الملحوظة

ص: 126

بالاستقلال دون المفاهيم الحرفية التي هي آلية يتعذر لحاظها استقلالاً.

لكنه يندفع: بأن آلية المعنى الحرفي وإن ذكرت في كلماتهم بنحو قد يظهر في التسالم عليها، إلا أن المراد بها لا يخلو عن غموض، والمتيقن منها ما سبق من عدم تقرر معنى الحرف في نفسه بنحو يستقل بالتصور، بل هو قائم بأطرافه فلا يؤدى به إلا عند إيجاده في ضمن الكلام في مقام الاستعمال، وذلك إنما يقتضي امتناع التقييد الراجع إلى قصر الماهية على بعض أفرادها، لأنه فرع تقرر المعنى في نفسه بنحو يوجد في ضمن أفراده، ولذا كان امتناع التقييد المذكور مقتضى المرتكزات الاستعمالية أما التقييد بالنحو الاخر الراجع إلى محض التضييق، كتضييق النسبة الطلبية بالشرط في المقام فالوجه المذكور لا ينهض بالمنع عنه، بل هو كتحديد النسبة بأطرافها، فلا مجال للمنع منه، ولاسيما مع ما عرفت من مطابقته للارتكاز، حيث يصلح ذلك بنفسه للكشف إجمالاً عن خلل في وجه المنع، وإن خَفِيَ تفصيلاً.

نعم، لا يراد بذلك كون الشرط مضيقاً للنسبة في الخارج، لما سبق من تقوم معاني الحروف، وهي النسب الخاصة بالاستعمال، وليس الخارج إلا مصححاً لاعتبارها.

بل المراد كونه موجباً لنحو من التضييق لها في مقام الاستعمال، ويكون أثره تضييق ما يطابقها في الخارج، بخلاف ما لو لم يذكر الشرط، فالوجوب الخارجي المصحح لاعتبار النسبة الطلبية، والمتحقق بسببها كما يكون له نحو من السعة مع عدم تقييدها بالشرط يكون مضيقاً ومختصاً بحال وجود الشرط في الخارج مع تقييدها به.

ص: 127

التنبيه الثاني في الخبر والإنشاء

التنبيه الثاني: سبق أن الحروف والهيئات..

تارة: تتمحض في كونها موجدةً لمعانيها من دون نظر للخارج، كحروف التمني، والاستفهام، وهيئة الأمر، وغيرها.

وأخرى: تكون مسوقةً لإيجاد نحو من الربط والنسب الكلامية بداعي الحكاية عما يكون مصححاً لاعتبارها في الخارج.

أما الأولى فهي متمحضة في الإنشاء، ولا تتصف بالصدق والكذب.

وأما الثانية فإن كانت نسباً ناقصة كانت قيوداً للنسب التامة أو لموضوعاتها، وإن كانت نسباً تامة صدق الخبر عليها، واتصفت بالصدق والكذب بلحاظ مطابقتها للخارج المحكي بها، وعدمها.

إلا أنها قد تخرج عن ذلك ويقصد بها الإنشاء وإيجاد مضمونها اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات، وقد وقع الكلام في منشأ الفرق بين الأمرين.

ما ذكره الخراساني قدس سره من تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف الداعي والمناقشة فيه

وظاهر المحقق الخراساني قدس سره تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف الداعي للاستعمال، مع وحدة المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، فالخبر موضوع للمعنى ليستعمل فيه بداعي الحكاية عنه، والإنشاء موضوع له ليستعمل بداعي تحققه وثبوته.

لكنه يشكل: - مضافاً إلى ما يأتي من اختلاف المعنى فيهما - بأن تعدد الوضع يقتضي الاشتراك واحتياج كل من الأمرين للقرينة، مع أن الظاهر استغناء الخبر عن القرينة وكونه الأصل في الكلام، وأن الإنشاء مبني على نحوٍ من العناية ومفتقر للقرينة.

ومن هنا قد يحمل كلامه قدس سره على أنه ليس بصدد بيان تعدد الوضع، بل

ص: 128

بصدد بيان أن الفرق بين الأمرين راجع إلى اختلاف الغرض من الاستعمال، من دون أن يرجع إلى اختلاف المعنى المستعمل فيه، بل هو واحد في كلا الحالين.

استعمال صيغة الماضي في الإنشاء

إلا أنه يشكل: - أيضاً - بما هو المعلوم من استعمال صيغة الماضي والجملة الاسمية في الإنشاء، مع تجرد الأولى عن الخصوصية الموجبة للدلالة على الماضي، والثانية عن الخصوصية الدالة على الحال، حيث لا يراد به إلا تحقق الأمر المنشأ بعد الكلام.

بل حتى استعمال صيغة المضارع لو لم يبتن على نحو من التصرف في معناها لم يقتض تحقق المنشأ متصلاً بالكلام والإنشاء، لصلوح الفعل المضارع للحال وتمام أزمنة الاستقبال، فإن ذلك كله كاشف عن اختلاف ما تستعمل فيه الهيئة حال الخبر عما تستعمل فيه حال الإنشاء.

ومن هنا لا يبعد البناء على اختصاص الهيئات المذكورة وضعاً بإيجاد النسب التامة بداعي الحكاية عما يصحح اعتبارها في الخارج، ويكون استعمالها في مقام الإنشاء مبنياً على نحو من التوسع أو الادعاء بالنحو المناسب له.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك فيما لا يراد به إنشاء المادة، بل بيان مطلوبيتها أو مبغوضيتها أو عدمها، كاستعمال مثل: «يعيد» و «يغتسل» لبيان مطلوبية الإعادة والغسل، ومثل: (لا يقضي) لبيان عدم وجوب القضاء، ومثل: (يأخذ الجنب من المسجد ولا يضع فيه) لبيان حرمة الوضع دون الأخذ.

وربما يأتي في مبحث دلالة الجملة الخبرية على الطلب توجيه مثل

ص: 129

هذه الاستعمالات، وبيان مباينها.

الأمر الرابع: الاستعمالات المبنية على مقتضى الطبع

الأمر الرابع: لما كان الجري على مقتضى الوضع التعييني والتعيني مقتضى سيرة أهل اللسان المتبعة في مقام البيان، التي جروا عليها بمقتضى ارتكازياتهم، كان المعيار في صحة الاستعمال سيرتهم الارتكازية في مقام التفهيم والتفاهم، وإن لم تستند للوضع، بل لمقتضى أذواقهم وطبائعهم، كما هو الظاهر في بعض الاستعمالات الشائعة بينهم، والمألوفة لهم.

موارد الاستعلامات المذكورة

منها: الاستعمالات المجازية، لو قلنا بأبتنائها على استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فإن الظاهر حينئذٍ ابتناؤها على إستحسان الطبع، لا على نقل اللفظ ووضعه وضعاً شخصياً لمعناه المجازي، ك (الأسد) للرجل الشجاع في طول وضعه لمعناه الحقيقي، بنحو بتني على ملاحظة العلاقة مع المعنى الحقيقي، ويحتاج استعماله فيه للقرينة، ولا على نقل الألفاظ ووضعها وضعاً نوعياً بلحاظ العلاقات المجازية المختلفة، كعلاقة المشابهة والملازمة وغيرهما، ولا على ترخيص الواضع في الاستعمال فيما يناسب المعنى من دون نظر إلى خصوصيات العلائق المجازية. فإن ذلك كله كالمقطوع بعدمه بالنظر لارتكازيات أهل البيان، وسيرة المستعملين.

حيث يبطل الأول تعذر حصر الموارد التي تصح الاستعمالات المجازية فيها عادةً، ليمكن الوضع لها تعييناً أو تعيناً.

والثاني عدم إطّراد استعمال كل لفظ بلحاظ كل علاقة مجازية.

ويبطلهما معاً ما هو المعلوم من عدم توقف اختيارهم للعلاقة المجازية أو موردها على سبق الاستعمال عند أهل اللسان بنحو يتحقق معه الوضع، بل كلما كانت المعاني مخترعة مبتدعة للمستعمل كان (مجلياً).

ص: 130

ويبطل الثالث ما سبق من عدم وجود واضع خاص في غالب الألفاظ، وعدم صدور الترخيص المذكور ممن يتصدى للوضع في مثل الأعلام الشخصية والماهيات المخترعة، بل ليس المدار إلا على مقتضى طبع المستعملين وأذواقهم. ولذا اشترك في كثير من العلاقات أهل اللغات المختلفة.

نعم، بناءً على ابتناء الاستعمالات المجازية على ادّعاء دخول المستعمل فيه في المعنى الموضوع له - كما عن السكاكي - تكون مبنيةً على الوضع للمعنى الحقيقي، لا خروجاً عليه، ويكون الطبع والذوق مصححاً للجري على الادّعاء المذكور، فيخرج عن محل الكلام.

ومنها: الاستعمالات التابعة لظروف خاصة بين بعض المتخاطبين، التي يخرجون فيها عن قانون أهل الكلام لدواعٍ تخصهم، وظروف تحيط بهم، حيث لا يعاب ذلك منهم بعد أن يتأدى به البيان، ويحصل به الغرض الأعم، وإن لم يجر على الوضع ولا على ملاحظة العلاقات المجازية.

ومنها: استعمال اللفظ وإرادة اللفظ دون المعنى في مثل قولنا: «ضَرَبَ» فعل ماض، و «مِنْ» حرف جر، فإنه لا يبتني على وضعها لذلك، ولا على استعمالها فيه مجازاً، لعدم العلاقة المصححة لذلك، بل على محض الجري على مقتضى طبع الإنسان في تأدية مقاصده بما يتيسر له من بيان. وإن كان الوقت يضيق عن تحقيق حاله وتفصيله.

وربما كانت هناك بعض الوجوه الأُخَرْ التي لا يبتني فيها الاستعمال على متابعة الوضع والجري عليه، بل على مقتضى الطبع.

نعم، لا ينبغي التأمل في أن الاستعمالات المذكورة على خلاف

ص: 131

مقتضى الأصل المعول عليه عند العقلاء وأهل اللسان، فيحتاج إلى قرينة، وبدونها يحمل استعمال اللفظ على إرادة معناه الموضوع له، لأن ذلك هو مقتضى الطبع الأولي الذي يجري عليه أهل اللسان في تفهيم المقاصد وفهمها، وإن أمكن الخروج عنه بالقرينة.

الأمر الخامس: علامات الحقيقة

الأمر الخامس: حيث عرفتَ حقيقة الوضع وأقسامه ثبوتاً يقع الكلام هنا في طريق إحرازه إثباتاً، ولا يراد بإحرازه إحرازه بالحجة الظنية التي تكفي في مقام العمل، لأن ذلك موكول لمباحث الحجج، حيث وقع الكلام هناك في حجية قول اللغويين، بل المراد هو العلم الوجداني بالنظر لبعض آثاره ولوازمه، وقد ذكروا لذلك أموراً:

الأول: التبادر

الأول: التبادر، وهو عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بنفسه، بحيث يكون اللفظ هو المؤدي له والموجب لحضوره في الذهن، لوضوح أن العلاقة المذكورة بين اللفظ والمعنى لا تستند لغير الوضع، فتدل عليه دلالة الأثر على المؤثر.

الإشكال في علاميته ودفعه

وقد يشكل: بأن مجرد الوضع لا يكفي في التبادر ما لم يكن معلوماً، فالتبادر موقوف على العلم بالوضع، فإن كان مع ذلك موجباً للعلم بالوضع الذي هو علته لزم الدور - كما قرر في كلام جماعة - وإن كان موجباً لفرد آخر من العلم بالوضع لزم اجتماع فردين من العلم بالوضع، لأن العلم الأول لا يزول بحصول التبادر، وهو - مع إستحالته في نفسه، لأمتناع اجتماع المثلين - موجب للغوية علامية التبادر على الوضع - كما نبّه له بعض الأعيان المحققين قدس سره - لكفاية العلم الأول بالوفاء بالغرض.

ويجاب عن ذلك بما في كلام جماعة: من أنه يكفي في حصول

ص: 132

التبادر العلم الارتكازي بالمعنى بسبب الإطلاع على استعمالات اللفظ المختلفة، وإن لم يلتفت إليه تفصيلاً بنحو يعمل عليه ويرتب عليه الأثر، ويتجلى مفاد الارتكاز المذكور بنحو يترتب عليه العلم بالتبادر، فما يترتب على التبادر نحو من العلم مخالف لنحو العلم الذي يتوقف عليه التبادر، لا عينه ولا مثله.

نعم لابد من العلم باستناد التبادر لحاق اللفظ من دون دخل قرينة عامة أو خاصة فيه، فلو لم يعلم بذلك لا مجال لاستكشاف الوضع منه.

ودعوى: أن الأصل عدم القرينة.

دعوى: أصالة عدم القرينة في إثبات التبادر ودفها

مدفوعةً - مضافاً إلى أن الكلام فيما يوجب العلم الوجداني بالوضع، ولا ينهض به الأصل المذكور، بل غايته لزوم العمل عليه تعبداً - بأن الأصل المذكور إن رجع إلى الاستصحاب فهو مثبت، لعدم كون الملازمة بين الأثر المطلوب - وهو حجية الكلام في المعنى المتبادر إليه - وعدم القرينة شرعية، بل خارجية بتوسط الملازمة بين عدم القرينة واستناد التبادر لحاق اللفظ، وبين استناده لحاق اللفظ وتحقق الوضع للمعنى، وبين الوضع للمعنى وظهور الكلام فيه، وبين ظهوره وحجيته فيه.

وإن كان أصلاً عقلائياً مستقلاً في نفسه مع قطع النظر عن الاستصحاب الشرعي فلم يثبت بناءً العقلاء عليه في تشخيص حال التبادر أو الاستعمال مع الشك في الوضع، بل غاية ما ثبت من أهل اللسان الاعتماد عليه في تشخيص حال الاستعمال مع العلم بالوضع لو احتمل خروج المستعمل عن المعنى الموضوع له اتكالاً على قرينة غفل عنها السامع.

ولعل وجه الفرق: أن هم أهل اللسان وعامة العقلاء معرفة مراد

ص: 133

المتكلم للعمل عليه، فلو بني على التوقف عن حمله على المعنى الموضوع له بمجرد احتمال قرينة مغفول عنها سقطت فائدة الكلام في كثير من الموارد، لعدم الإحاطة بمحتملات القرينة حتى يتسنى للمتكلم سدها بالطرق القطعية. ولعل غفلة المتكلم كثيراً عن الاحتمال المذكور، كيحاول التحرز عنه.

أما تحقيق كيفية التبادر أو الاستعمال بعد معرفة المعنى المتبادر إليه، أو المستعمل فيه، وأنه مستند لحاق اللفظ ليكشف عن الوضع أو للقرينة فلا يكشف عنه، فهو هم الخاصة ممن إستجدت لهم الحاجة لتحقيق المعنى الموضوع له، ولا غرض فيه لعامة العقلاء وأهل اللسان ليتضح موقفهم فيه بما لهم من مرتكزات بيانية وسيرة عملية، كي يعلم جري الشارع على سيرتهم.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال على الوضع للمعنى باستعمال أهل اللغة فيه، تحكيماً لأصالة الحقيقة، ودفعاً لاحتمال المجاز والقرينة.

الثاني: صحة الحمل

الثاني: صحة الحمل وعدم صحة السلب. فقد ذكروا أن حمل اللفظ بما له من معنى على شيء، وعدم صحة سلبه عنه علامة كونه حقيقة فيه، كما أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقة فيه، كما أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقةً فيه، بل مجازاً لو كان مستعملاً فيه.

وتوضيح ذلك: أنهم ذكروا أنه لابد في حمل أحد الشيئين على الآخر من جهة اتحاد بينهما وجهة اختلاف، إذ لو اتحدا من جميع الجهات كانا شيئاً واحداً، ولا يحمل الشيء على نفسه، وإن كانا مختلفين من جميع

ص: 134

الجهات كانا متباينين، ولا يحمل أحد المتباينين على الآخر.

ومن هنا فالحمل عندهم قسمان:

أقسام الحمل أولهما: الحمل الأولي

أولهما: الحمل الأولي الذاتي، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوماً والتغاير بالاعتبار، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على الآخر(1)، في مثل قولنا: «الإنسان هو البشر»، وحمل الحد التام على الماهية كقولنا: «الإنسان حيوان ناطق»، أو العكس، كقولنا: «الحيوان الناطق هو الإنسان»، فإن صح الحمل المذكور بين الشيئين، ولم يصح سلبه علم وضع أحد اللفظين لمعنى الآخر، وكونه حقيقة فيه، وإن صح سلبه عنه، ولم يصح حمله عُلِمَ عدم وضعه له، وكونه مجازاً فيه لو استعمل فيه بما له من خصوصية مفهومية.

وقد استشكل في ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره بأنه إنما يتم في المترادفين، دون الحمل في الحدود التامة، لأن اختلاف الحد عن المحدود بالإجمال والتفصيل مانع من كون أحدهما مفهوماً للآخر، لأن مفهوم كل لفظ مفرد بسيط مجمل.

ويندفع: بأن الإجمال والتفصيل لا يوجبان اختلاف المفهوم، بل اختلاف نحو الحكاية عنه، وهو لا يخل باتحاد المحكي مفهوماً.

نعم، لو أريد بشرح الحقيقة شرح الأجزاء الخارجية دون المفهومية، كشرح السيارة ببيان أجزائها، اتجه ما ذكره قدس سره لعدم التطابق المفهومي حينئذٍ

ص: 135


1- بناء على ما يظهر من بعضهم من كونه من أفراد الحمل الأولي الذاتي. وربما أنكره بعضهم مدعياً أنه نحو آخر من الحمل، وهو غير مهم بعد رجوعه لتحديد الاصطلاح، وشمول محل الكلام لواقع الحمل المذكور وإن لم يكن من القسم المزبور اصطلاحا. (منه)

بين طرفي الحمل، لكنه خارج عن محل الكلام، لعدم اختصاص الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل.

كما استشكل فيه بعض مشايخنا: بأن مفاد الحمل الأولي هو اتحاد ذات المحمول مع ذات الموضوع، ولا نظر فيه إلى حال لفظ المحمول، وأنه موضوع لذات الموضوع وحقيقة فيها أو لا، لأن صحة الحمل من صفات المدلول والمنكشف، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف، فلا يكون الأول دليلاً على الثاني، بل لابد فيه من التبادر لتعيين معنى لفظ المحمول.

ويندفع: - أيضاً - بأنه إذا كشف الحمل عن التطابق بين المعنيين كشف عن كون اللفظ المطابق لأحدهما والحاكي عنه مطابقاً للآخر وحاكياً عنه، للتلازم بين الأمرين.

نعم، لابد فيه من كون لفظ المحمول حقيقةً في معناه المراد به حين الحمل، ليستلزم كونه حقيقةً في مطابقه الذي صح حمله عليه.

وإليه يرجع ما سبق منا - تبعاً لغير واحدٍ - من تقييده بكون المحمول هو اللفظ بما له من المعنى، وهو معناه الذي ينسب له دائماً، لكونه الموضوع له، لا معناه المراد منه حين الحمل ولو كان مجازاً.

ثانيهما: الحمل الشائع الصناعي

ثانيهما: الحمل الشائع الصناعي، وملاكه الاتحاد خارجاً مع الاختلاف مفهوماً، إما لكون الموضوع من أفراد المحمول، لأن المحمول ذاتي له، كحمل الإنسان على زيد، أو عرضي كحمل الأبيض على الثوب، وإما لأتفاقهما في الأفراد، كحمل النوع على الخاصة أو بالعكس في مثل قولنا: «الضاحك إنسان»، أو «الإنسان ضاحك».

ص: 136

ولا يخفى أن الحمل المذكور لا يكشف عن معنى اللفظ الموضوع له، ولا ينهض بتحديده، بل عن سعة مفهوم اللفظ، وانطباقه على ما حمل عليه بنحو يكون استعماله فيه حقيقة، فهو لا يشرح المعنى إلا من الحيثية المذكورة.

نعم: لو كان المعنى معلوماً من سائر الجهات كان الحمل المذكور متمماً لمعرفته. كما أن عدم صحة حمله عليه وصحة سلبه عنه يكشف عن عدم سعة مفهوم اللفظ له وعدم انطباقه عليه، فلو صح استعماله فيه كان مجازاً.

دعوى العراقي قدس سره عدم دلالة صحة السلب على عدم الوضع والمناقشة فيه

لكن ادعى بعض الأعيان المحققين قدس سره أن صحة السلب بلحاظ الحمل الشايع الصناعي لا تدل على عدم الوضع، ولا على المجاز، ولذا يصح سلب أحد المترادفين عن الآخر مع وضعه له وكون استعماله فيه حقيقةً.

وكأنّ نظره في صحة السلب في المترادفين إلى أنه إذا كان مفاد الحمل المذكور هو الاتحاد خارجاً مع الاختلاف مفهوماً كفى في صحة السلب المقابل له عدم الاختلاف في المفهوم، بل الاتفاق فيه، كما في المترادفين.

ويشكل: بأن مفاد الحمل ليس إلا الاتحاد إما في المفهوم أو في الخارج، وليس اعتبار التغاير بين طرفي الحمل اعتباراً أو مفهوماً لكونه مفاداً للحمل كالاتحاد، بل لاستهجان حمل الشيء على نفسه، ولذا لا يكون حمل الشيء على نفسه كاذباً، وحيث كان مفاد السلب نقيضاً لمفاد الحمل إنحصر مفاده بعدم الاتحاد مفهوماً أو خارجاً، ولا يكون مفاده عدم التغاير، ليصح بين المترادفين بلحاظ عدم التغاير بينهما مفهوماً، ولذا لا يصح سلب

ص: 137

الشيء عن نفسه بلحاظ الحمل الأولي، لعدم التغاير بين الطرفين بالاعتبار.

فسلب أحد المترادفين عن الآخر ممتنع في نفسه، لا أنه يصح، كي لا تدل صحة السلب على عدم الحقيقة - كما ذكره - بل لا يصح السلب إلا بلحاظ عدم الاتحاد مفهوماً أو خارجاً، فيدل في الأول على عدم وضع لفظ أحد الطرفين للآخر، وفي الثاني على عدم سعة مفهومه له، وعدم اتحادهما خارجاً، المستلزم لكون استعماله فيه - حتى بنحو التطبيق لو صح - مجازاً.

أما بعض مشايخنا فقد استشكل بنظير ما سبق منه في الحمل الأولي الذاتي، وحاصله: أن الحمل الشايع الصناعي إنما يدل على الاتحاد خارجاً بين الموضوع والمحمول بما هما معنيان قائمان بأنفسهما مدلولان للفظ، ولا يدل على حال استعمال اللفظ.

ويظهر اندفاعه مما سبق، لأنه بعد فرض المحمول معنى حقيقياً للفظه يكون اتحاده خارجاً مع الموضوع المستكشف بالحمل راجعاً لاتحاد الموضوع خارجاً مع معنى اللفظ الحقيقي، فيكون استعمال اللفظ فيه حقيقياً لا محالة.

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من استلزام الحمل بأحد وجهيه للحقيقة، إما لكون المحمول عليه عين معنى اللفظ، أو لكونه من مصاديقه المتحدة معه خارجاً. كما أن السلب مستلزم للمجاز بأحد الوجهين.

الكلام في علامية صحة الحمل

إلا أن الظاهر أنه لا يتجه جعلهما علامة في المقام، لتوقفهما على العلم بتحقق النسبة المصححة لهما بين الطرفين، ولا يكفي فيهما ثبوتها واقعاً مع الجهل بها، فلا يصح الحمل الأولي أو الشايع ممن لا يعلم بالاتحاد مفهوماً أو خارجاً بين الطرفين، كما لا يصح السلب ممن لا يعلم

ص: 138

بالتباين مفهوماً أو خارجاً بينهما، ومع توقفهما على العلم لا يكونان سبباً له، وإلّا لزم الدور أو اجتماع المثلين، نظير ما سبق في التبادر.

وما ذكره غير واحد: من اندفاع ذلك بالاكتفاء في حصولهما بالعلم الارتكازي، كما اكتفي به هناك.

غير متجه، للفرق بينهما وبين التبادر بأن التبادر من سنخ الإنفعال فتكفي فيه العلاقة الذهنية الارتكازية بين اللفظ والمعنى، كسائر الإنفعالات، بخلاف الحمل والسلب، لأنهما من سنخ الحكم ولا يتسنى صدور الحكم للحاكم بنحو يعلم بصحته ما لم يتوجه تفصيلاً لطرفيه، ولما يصححه ويطابقه من النسبة بينهما، ولا يكفي فيه الوجود الارتكازي الذهني من دون أن يتجلى ويتضح له.

الثالث: الاطِّراد

الثالث: الاطِّراد. فعن بعض المتأخرين عده من علامات الوضع. ويظهر من بعضهم أن المراد من ذلك: أن إطّراد استعمال اللفظ في المعنى كاشف عن وضعه له.

ما استشكله الخراساني قدس سره فيه

وقد استشكل فيه المحقق الخراساني قدس سره بأن المجاز وإن لم يطرد بلحاظ نوع العلاقة المجازية، كالمشابهة والملازمة ونحوهما، إلا أنه قد يطرد بلحاظ شخصها، كالمشابهة للأسد في الشجاعة، وللذئب في الخبث.

وتقييد الاستعمال الذي يكون اطراده علامة بما لا يكون بعناية مستلزم لابتناء علاميته على الدور أو اجتماع المثلين، نظير ما تقدم في صحة الحمل، إذ لابد من العلم بالعلامة تفصيلاً، ومع العلم التفصيلي بعدم العناية في الاستعمال يعلم بالوضع للمعنى المستعمل فيه في رتبة سابقة على العلم بتحقق العلامة.

ص: 139

وقد ظهر من جميع ما تقدم انحصار علامة الوضع بالتبادر، وأن صحة الحمل وعدم صحة السلب والإطراد لا تصلح لذلك.

نعم، سبق أن علامية التبادر مشروطة بإحراز استناده لحاق اللفظ، ولا يخلو إحراز ذلك عن صعوبةٍ، حيث قد يغفل عن دخل كثير من القرائن خصوصاً العامة، ككثرة الابتلاء بالمعنى الموجبة لاشتباه الانصراف بالتبادر، ومقدمات الحكمة الموجبة لاشتباه مقتضى الاطلاق به، وشيوع التلازم بين المعنيين الموجب لاشتباه معنى اللفظ بلازم معناه، ونحو ذلك مما يحتاج معه إلى كثير من التأمل والتروي.

ومن أهم ما يستعان به لتمييز حال الاطراد وصحة الحمل، حيث يظهر بالاطراد عدم دخل كثير من القرائن التي يحتمل دخلها ويطرد الاستعمال بدونها، وعدم دخل بعض الخصوصيات والقيود الزائدة على المعنى التي قد تنسبق من الاطلاق ويطرد الاستعمال بدونها، كما يظهر بعدمه عدم الوضع للمعنى على إطلاقه، أو عدم استناد التبادر لحاق اللفظ، بل للقرائن التي يتخلف بتخلفها.

كما يظهر بصحة الحمل وعدم صحة السلب سعة المفهوم، فلو تبادر لخصوص بعض أفراده انكشف دخل بعض القرائن في تبادره، و يظهر بصحة سلب اللفظ عن بعض أفراد المعنى المتبادر إليه وعدم صحة حمله وجود خلل في تبادره إليه على إطلاقه.

إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد من التأمل في حدود المعنى وخصوصياته.

فالعلامات الثلاث كثيراً ما تشترك بمجموعها في تحديد معنى اللفظ

ص: 140

ويستعين بها الفاحص المتثبت في الوصول إلى ما خفي من جهاته، فلا ينبغي الاكتفاء بالتبادر والتسرع في الإستنتاج بسببه.

ولا يتضح حال التبادر غالباً بنحو لا يحتاج لغيره إلا في مورد وضوح الوضع، الذي لا يحتاج فيه للعلامة عليه.

تنبيه:
تنبيه: في العمل بأصالة اتحاد الأزمان وعدمه

لا يخفى أن ما ينكشف بالعلامات المذكورة هو معنى اللفظ الحالي عند حصولها، لا في عصر صدور الاستعمال الذي يراد تشخيص مفاده، كالاستعمال الوارد في الكتاب والسنة، فاللازم الفحص عما لو كان هناك بعض الاستعمالات أو الأَمارات الكاشفة عن تبدل المعنى، فإن أحرز ذلك لم يعمل على المعنى الحالي، بل على الأول لو أمكن تشخيصه باستقصاء الاستعمالات ومراجعة كلمات أهل اللغة ونحو ذلك.

وإن شك في ذلك، فقد صرحوا بأن اللازم العمل على المعنى الحالي، لأَصالة تشابه الأزمان، وعدم النقل المعول عليها عند العقلاء وأهل اللسان، حيث لا إشكال عندهم في حمل الاستعمالات القديمة في الكتاب والسنة وكلام العلماء والمؤلفين والخطباء والشعراء والأوراق القديمة ونحوها على ما يفهمونه منها حين الإطّلاع عليها، ولا يعتنون باحتمال تبدل المعنى بحيث يكون المعنى الفعلي حادثاً بعد الاستعمالات التي يراد تشخيص المراد منها.

نعم، لو علم بحصول النقل وتَبَدُّل المعنى وشك في سبقة على

ص: 141

الاستعمال الذي يراد تشخيص المراد منه أو تأخره عنه. فالظاهر التوقف، ولزوم الفحص عما يعين أحد المعنيين، من قرائن داخلية أو خارجية. بل قد يظهر من بعضهم لزوم البناء على مقتضى المعنى الأول، لأصالة تأخر النقل.

لكنه لا يخلو عن إشكال فيما لو علم بتاريخ الاستعمال وشك في تاريخ النقل، فضلاً عن غيره، لعدم رجوع أصالة تأخر النقل للاستصحاب الشرعي، لأنها تكون أصلاً مثبتاً، وعدم وضوح بناء العقلاء عليها، لقلة الابتلاء بذلك فيما هو مورد الآثار العملية، ليتضح قيام سيرة عملية لهم على ذلك، وعدم وضوح ارتكازياتهم فيه مع قطع النظر عن عملهم.

بل الظاهر أنه لنظير ذلك يلزم التوقف عن العمل بأصالة تشابه الأزمان، وعدم النقل عند الشك فيه، إذا كان هناك من الاستعمالات القديمة أو تصريحات اللغويين أو نحوها ما يثير احتماله بوجه معتد به، وإن لم يكن حجة عليه، لأن المتيقن عملهم بها في مقابل الاحتمالات المجردة التي لا مثير معتد به لها. فلاحظ.

الأمر السادس: استعمال اللفظ في أكثر من معنى

الأمر السادس: حيث لا إشكال في إمكان تعدد معاني اللفظ الواحد، إما بنحو الاشتراك - بناءً على ما هو الظاهر من إمكانه، بل وقوعه - أو مع كون بعضها أو تمامها مجازياً، فقد وقع الكلام بينهم في إمكان استعمال اللفظ باستعمال واحد في أكثر من معنى واحد على أقوال.

وجوه الاستعمال المذكور

ولا يخفى أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى على وجوه:

أولها: أن يستعمل في المجموع المركب من المعنيين بفرض وحدة اعتبارية بينهما، ولا يكون لحاظ كل منهما بخصوصه استقلالياً، بل ضمنياً، كلحاظ سائر أجزاء المعنى المستعمل فيه، كما لو استعمل «القُرء» الذي قيل

ص: 142

بوضعه لكل من الحيض والطهر في تمام الدورة الشهرية المركبة منهما، نظير استعمال اليوم الموضوع للنهار في تمام الدورة اليومية المستوعبة له ولِلّيل.

ثانيها: أن يستعمل في القدر المشترك بينهما بإلغاء خصوصية كل منهما، ولا يلحظ إلا ما به الاشتراك بينهما، وهو الكلي الجامع، سواء كان مفهومياً مبنياً على تجريد كل منهما عن خصوصيته المميزة له عن الآخر، كما لو استعمل «القرء» في حالة المرأة من حيثية الدم المشتركة بين الحيض والطهر، أم منتزعاً من أمرٍ لاحقٍ للمفهومين، كما لو استعمل اللفظ في عنوان المسمى، لوضوح أن التسمية من لواحق كل من المفهومين الخارجة عنه.

ثالثها: أن يستعمل في كل منهما بخصوصه وبما له من جهة امتياز عن الآخر ويلحظ بحدود المفهومية مستقلاً عن الاخر لا منضمَّاً إليه، فتكون كل من الخصوصيتين محكية باللفظ، كما لو استعمل اللفظ فيها وحدها.

والظاهر عدم الإشكال في جواز الاستعمال بأحد الوجهين الأولين - كما صرح به غير واحد - وإن ابتنى على التصرف والخروج عن المعنى الموضوع له، فيكون مجازاً.

غاية الأمر أنه لا يحسن إلا مع عدم استبشاع التصرف في معنى اللفظ وإرادة أحد الوجهين به.

ما تصدى به غير واحد لبيان امتناعه

وليس الإشكال الاّ في الوجه الأخير، ولذا كان ظاهر المعالم، وصريح الفصول، والكفاية اختصاص النزاع به.

الأول ما ذكره الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

وقد تصدى غير واحد لبيان وجه امتناعه. والمستفاد منهم في ذلك وجوه..

ص: 143

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامةً المعنى - كي يمكن كونه علامة على أكثر من واحد - بل جعله وجهاً وعنواناً له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، فيكون اللفظ فانياً في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون، ويمتنع لحاظ ذلك في استعمال واحد بالإضافة إلى معنيين، لاستلزامه لحاظ اللفظ فانياً في كل من المعنيين.

لكن لم يتضح الوجه في امتناع ذلك، فإنه إن رجع إلى امتناع فناء اللفظ في كل من المعنيين، بل ليس له إلا فناء واحد، أشكل: بأن فناء الوجه في ذي الوجه ليس حقيقياً، بل راجعاً إلى طريقية الوجه لذي الوجه، بحيث يكون سبباً لحضوره ذهناً وعبرة له، ولا مانع من كون الشيء الواحد طريقاً لحضور شيئين في الذهن، وهو معنى فنائه فيهما.

إلا أن يراد بالفناء معنىً آخر لم يتضح لنا كي يتضح لازمه.

وإن رجع إلى أن اتحاد اللفظ بالمعنى في مقام الاستعمال يستحيل فرضه في معنيين، لامتناع فرض الوحدة بين شيء واحد وأمرين متباينين.

أشكل: بعدم ابتناء الاستعمال ولا الوضع على فرض الاتحاد بين اللفظ والمعنى، بل على مجرد طريقية اللفظ للمعنى، والتعبير عن ذلك بالاتحاد لا يراد منه حقيقته، كي يلتزم بلازمه.

وإن رجع إلى ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن استعمال اللفظ في معنيين وفنائه فيهما مستلزم للحاظه آلة مرتين تبعاً لكل منهما، ويمتنع لحاظ الشيء الواحد مرتين في آن واحد، لأن اللحاظ إضافة بين اللاحظ والملحوظ وتعدد الإضافة إنما يكون باختلاف أحد طرفيها،

ص: 144

أو باختلاف زمانها، ويمتنع تعددها من دون اختلاف في الطرفين ولا في الزمان.

أشكل: بأن الاستعمال وإن كان موقوفاً على نحوٍ من اللحاظ للفظ يسمى باللحاظ الآلي، إلا أنه لا ملزم بكون كل معنى محتاجاً إلى لحاظ للفظ خاص به، كي يكون الاستعمال في معنيين محتاجاً للحاظ اللفظ مرتين بل لا مانع من كون اللفظ ملحوظاً بلحاظ واحد طريقاً لكل من المعنيين حاكياً عنهما وفانياً فيهما، فلا يحتاج في الاستعمال الواحد إلا للحاظ واحد للفظ مهما تعددت المعاني التي يكون الاستعمال فيها.

الثاني: ما يظهر من العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما يظهر من بعض المحققين قدس سره من أن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، لأن وجود اللفظ في الخارج وجود له بالذات، ووجود للمعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل، وحيث كان الموجود الخارجي بالذات - وهو اللفظ - واحداً امتنع كون الوجود التنزيلي للمعنى متعدداً بتعدد المعنى، لأن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود، لاتحاد الوجود والإيجاد بالذات.

وفيه: أولاً: أن المراد بكون الوجود اللفظي وجوداً تنزيلياً للمعنى إن كان هو اتحادهما خارجاً، بحيث يتطابقان، كي يستحيل اتحاد الشيء الواحد مع أمرين متباينين.

فهو من الوهن بمكان ظاهر، كيف؟! وهما مختلفان سنخاً وموضوعاً! فالأول حقيقي موضوعه اللفظ، والثاني تنزيلي موضوعه المعنى.

وإن كان المراد ترتبهما، بأن يكون إيجاد اللفظ سبباً لإيجاد المعنى، لأنه آلته.

ص: 145

فهو وإن أمكن عقلاً، إلا أنه لا تساعد عليه المرتكزات العرفية الاستعمالية، بل ليس اللفظ إلا حاكياً عن المعنى نعم هو آلة لإحضاره في الذهن، ولا مانع من حكاية الشيء الواحد عن أمرين وكونه آله لإحظارهما معاً في الذهن.

وثانياً: أنه لا مانع من كون الوجود الواحد للفظ وجوداً لكلا المعنيين تنزيلاً، وهو لا ينافي ما سبق منه من أن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن الالتزام بأن التعدد في المقام ليس بالمعنى المتحد مع الإيجاد، بل للموجود، حيث لا ريب في عدم توقف تعدده على تعدد الإيجاد.

فهو نظير: ما لو قتل رجل شخصين بضربة واحدة، حيث لا ريب في تعدد القتلين مع وجودهما بإيجاد واحد.

ودعوى: أنه مع وحدة وجود المعنيين يلزم كون الاستعمال في مجموعهما الذي سبق خروجه عن محل الكلام، لا في كل منهما.

مدفوعة: بأن المعيار في الاستعمال في مجموع المعنيين هو ملاحظة الوحدة الاعتبارية بينهما بملاحظة كل منهما حين الاستعمال بما له من الخصوصيات المميزة عن الآخر ضمناً، ولا يكون الملحوظ الاستقلالي إلا مجموعهما بملاحظة ما به امتيازهما عن غيرهما، والمعيار في الاستعمال في كل منهما هو ملاحظة كل منهما استقلالاً بما له من الخصوصيات المميزة عن غيره حتى الآخر، من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، فمع كون الاستعمال على النحو الثاني يكون الاستعمال في معنيين الذي هو محل الكلام، وإن كان إيجادهما بإيجاد واحد المستلزم لوجودهما بوجود واحد بناءً على ما ذكره قدس سره.

ص: 146

وليس المراد من الاستعمال الذي هو محل الكلام هو الاستعمال في المعنى وحده بنحو لا يكون معه غيره، لوضوح أنه لا معنى معه للنزاع في إمكان الاستعمال في معنيين.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره ودفعه

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن المفهوم المحكي باللفظ قد يكون واحداً كمفهوم النقطة، وقد يكون متعدداً كمفهوم العشرة الذي هو عبارة عن آحاد متكثرة، لكن تكثرها إنما هو قبل الاستعمال، أما بالاستعمال فهو مفهوم واحد، لوحدة الحكاية عنه في مقام استعمال اللفظ فيه.

وعليه إن أريد باستعمال اللفظ في معنيين تعددهما قبل الاستعمال مع وحدتهما به للاستعمال في تمامهما فيكون كل منهما مدلولاً تضمنياً للفظ فلا مانع منه عقلاً.

وإن أريد به استعماله في معنيين بلحاظ حال ما بعد الاستعمال، بحيث يكون كل منهما مدلولاً مطابقياً فهو غير معقول، لأن اثنينيتهما بالاستعمال تتوقف على تعدد الاستعمال، وهو خارج عن الفرض، ممتنع مع وحدة اللفظ.

ويندفع: بأن ما ذكره من تعدد المعنى قبل الاستعمال مع وحدته بعده راجع إلى تركب المفهوم الواحد، ومرجعه إلى الاستعمال في المجموع بعد اعتبار الوحدة بين أجزائه في رتبة سابقة على الاستعمال، وقد تقدم خروجه عن محل الكلام، وأن الكلام إنما هو في الاستعمال الواحد في كل من المعنيين مع لحاظه استقلالاً بتمام حدوده حتى ما يمتاز به عن الآخر، من دون فرض وحدة بينهما، ليكون كل منهما جزءاً لمدلول اللفظ، فإن كان المدّعى امتناع ذلك احتاج إلى دليل.

ص: 147

الرابع: ما ذكره النائيني قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الاستعمال في كل من المعنيين استقلالاً مستلزم لتعدد اللحاظ في آن واحد، وهو ممتنع عقلاً.

وكأن مراده استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين - كما نسب إليه في بعض كلماتهم - وإلاّ فالجمع بين اللحاظين إذا كان أحدهما آلياً مما لا إشكال فيه، بل جميع الاستعمالات مبنية عليه، لأبتنائها على لحاظ اللفظ آلةً والمعنى استقلالاً. ومثله لحاظ الأمور المتعددة ضمناً في أمر واحد ملحوظ بلحاظ استقلالي، كالمفاهيم المركبة.

وكيف كان، فدعوى استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين مع تعدد الملحوظ خالية عن الشاهد، كما ذكره غير واحد ممن تصدى للجواب عن دليله.

نعم، لو أراد امتناعه عادةً لم يكن بعيداً، لابتناء استعمال اللفظ في المعنى عل نحو خاص من اللحاظ له حين أدائه والحكاية عنه باللفظ، وهو لا يتيسر بالإضافة إلى أكثر من معنى بمقتضى المرتكزات الاستعمالية، وليس هو كسائر التصورات المحضة، التي لا إشكال في إمكان اجتماعها في آن واحد في أفق النفس، بالإضافة إلى أمور متعددة لا ارتباط بينها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للنقض على ذلك بأن الإنسان يقوم بأمور متعددة في آن واحد، فيأكل ويمشي ويتكلم ويكتب... إلى غير ذلك مما يتوقف على تصور الأمور المتعددة في زمان واحد.

لاندفاعه بأن تصور العمل الذي لابد منه حين القيام به ليس من سنخ التصور الاستعمالي، بل يكفي فيه التصور الارتكازي المستند لعادة ونحوها، من دون حاجة لتصوره تفصيلاً بحدوده المفهومية الذي لابد منه

ص: 148

حين استعمال اللفظ فيه.

ومثله النقض بأن المتصور حين إرادة بيان الجملة تمام أطرافها، ويبقى هذا التصور إلى إتمامها.

لاندفاعه: - أيضاً - بأن تصور تمام أطراف الجملة يبتني على تصورها ضمناً في ضمن تصور مجموعها ارتكازاً، وليس تصور كل منها استقلالاً تفصيلاً إلا حين النطق بلفظه الدال عليه.

وكذا الحال في اللوازم والملزومات التي قد تقصد بالبيان، لأنها ليست مقصودة بالاستعمال بنحو تكون ملحوظة استقلالاً، ويقصد أداؤها بالكلام وجعله بأزائها، بل هي من سنخ الدواعي له المركوزة في الذهن، فلا تخل بالمدعى.

وبالجملة: الرجوع للوجدان شاهد بتعذر الاستعمال في أكثر من معنى بنحو الاستقلال، لابتناء الاستعمال على نحو من التصور للمعنى حين أدائه باللفظ، لا يمكن تحققه باستعمال واحد بالإضافة إلى أكثر من معنى واحد. ويشاركه في ذلك الإشارة باليد ونحوها، لأنها من سنخه.

نعم، يتيسر سوق بعض الألفاظ أو الهيئات في الكلام لمحض العلامية على أمور أُخَر غير ما استعمل فيه، بالاتفاق مع بعض السامعين لها، أو بداعي التسبيب لتصورهم لها، للعلم بنحو من الملازمة الذهنية بينها وبينه في حقهم، من دون أن يكون مستعملاً فيها ولا مجعولاً بأزائها، بل لا يستعمل إلا في معنى واحد، لتعذر الاستعمال في أكثر من معنى، كما ذكرنا.

على أنه لو سلم عدم تعذره فلا إشكال في احتياجه إلى عناية خاصة تخرج عن الوضع الطبيعي للإنسان المتعارف.

ص: 149

وبسبب الامتناع المدعى أو الحاجة للعناية المذكورة جرت الاستعمالات والبيانات الكلامية من أهل اللسان على وحدة المعنى المستعمل فيه، بحيث لو تيسر للمتكلم لحاظ الأمور المتعددة استقلالاً وجعل اللفظ بإزاء كل منها باستعمال واحد - لخصوصية فيه يمتاز بها عن عامة أهل اللسان، أو بإعماله العناية المشار إليها - لم يكن مجال لحمل كلامه عليه ما دام جارياً على الطريقة العرفية، بل لابد في الحمل عليه من إتضاح خروجه عن الطريقة العرفية في بيانه.

ومنه يظهر أنه ليس كالاستعمال في المعنى المجازي، بحيث لو تردد الأمر بينهما كان مجملاً، فضلاً عن أن يكون أولى من المجاز بناءً على كونه حقيقياً.

بل يتعين الحمل على المجاز لو كان مقبولاً عرفاً بحيث يحمل عليه لو علم بالاستعمال في معنى واحد، لعدم خروجه عن الطريقة العرفية في الكلام، وإن كان محتاجاً للقرينة، عملاً بأصالة الظهور.

والحمل على الحقيقة مختص بما إذا كانت مقتضى أصالة الظهور في فرض جري المتكلم على الطريقة العرفية في البيان، لا مطلقاً، ولو مع استلزامها الخروج عنها.

وإن لم يكن المجاز مقبولاً كان الكلام مجملاً ولا يحمل على الاستعمال في أكثر من معنى، لأن خروج المتكلم عن الطريقة العرفية في كلامه محتاج إلى عناية ليس بناء العقلاء على الحمل عليها من دون بيان.

وعلى هذا لو علم باستعمال اللفظ في أكثر من معنى بأحد الوجوه الثلاثة السابقة، كان المتعين الحمل على أحد الوجهين الأولين مع مقبوليته

ص: 150

عرفاً، لأنهما يرجعان إلى التصرف في المعنى الذي يكون به الاستعمال مجازياً، ومع عدم مقبوليتهما عرفاً، لعدم المناسبة المصححة لهما، أو عدم الجامع العرفي بين المعنيين، أو نحو ذلك يتعين البناء على الإجمال.

ولا مجال لما يظهر من تقرير درس بعض مشايخنا من الإجمال مطلقاً، لعدم المرجّح، فضلاً عما يظهر منه في حاشيته على تقريره لدرس بعض الأعاظم قدس سره من ترجح الوجه الثالث بناءً على كونه حقيقياً، لترجح الحقيقة على المجاز اللازم من الوجهين الأولين.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور..

الأول: منع الاستعمال بلحاظ قيد الوحدة فيه والمناقشة فيها

الأول: أنه قد يمنع استعمال اللفظ في أكثر من معنى مطلقاً أو بنحو الحقيقة لدعوى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر من معنى - وإن كان ممكناً - خروج عن القيد المذكور، فلا يصح، أو يكون مجازاً، كما في المعالم.

فرض الوحدة الذاتية

لكن إن كان المراد بالوحدة التي يدعى التقييد بها هي الوحدة الذاتية المفهومية المتقومة بحدود المعنى المفهومية، فيرجع إلى دعوى: أن اللفظ موضوع للمعنى بحدوده المفهومية الخاصة به، من دون أن ينضم إليه غيره بحد يجمع بينهما.

فالوحدة المذكورة ليست قيداً زائداً على المعنى مأخوذاً فيه عند الوضع له، بل أخذها في المعنى الموضوع له عبارة أخرى عن الوضع للمعنى بنفسه، لتقوم المعنى الموضوع له بحدوده المفهومية، ولا يمكن فرض الوضع له إلا بأخذ تلك الحدود فيه.

ص: 151

ومنه يظهر عدم الخروج عن الوحدة المذكورة بالاستعمال في أكثر من معنى بالوجه الذي هو محل الكلام، وهو جعل اللفظ بإزاء كل من المعنيين بحدوده المفهومية الخاصة به من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، ليكون كل منهما جزء المعنى المستعمل فيه.

ولا يخرج عنها إلا بالاستعمال في تمام المعنيين الذي تقدم أنه في الحقيقة استعمال في معنى واحد يبتني على التصرف في المعنى الموضوع له، ويكون مجازاً، وأنه خارج عن محل الكلام.

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الاستعمالية، بأن يدعى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الاستعمال فيه وحده.

أشكل أولاً: بعدم الدليل على تقييد الموضوع له بذلك، بل المشاهد من طريقة الواضعين خلافه، حيث يضع اللفظ بإزاء المعنى من دون التفات للقيد المذكور.

كما أن المتبادر من اللفظ في الأعلام الشخصية وغيرها هو معناه بحدوده المفهومية مجرداً عن القيد المذكور.

و ثانياً: بأنه يمتنع تقييد المعنى الموضوع له بذلك، لأن الوضع له إنما هو بلحاظ استعماله فيه، ويمتنع تقييد المعنى المستعمل فيه بالقيد المذكور، لأن القيد المذكور من شؤون الاستعمال المتأخرة عنه رتبة، فلا يمكن لحاظه حينه قيداً في المعنى المعروض للاستعمال والمتقدم عليه رتبةً.

مع أن الخصوصية الاستعمالية من طواريء المعنى بما له من تقرر مفهومي، لا سعة فيه كي يقبل التضييق بالتقييد به، لا من طوارئه بما له من وجود خارجي، كي يكون قابلاً له لو كان واسعاً، لكونه كلياً منطبقاً على

ص: 152

كثيرين.

اللهم إلا أن يدعى كون الاستعمال في المعنى وحده شرطاً للواضع، لا قيداً للمعنى الموضوع له.

لكن لا طريق لإحراز اشتراط الواضع، ولاسيما مع ما هو المعلوم من عدم تنبه الواضع لذلك في مثل الأعلام الشخصية، وعدم وجود واضع خاص في غيرها، على ما سبق.

إلا أن يرجع إلى خروجه عن طريقة أهل اللسان - كما ذكرناه آنفاً - فلا يصح الاستعمال مطلقاً حتى مجازاً.

فرض الوحدة الاستعمالية

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الشخصية، بمعنى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد تشخصه خارجاً في فرد واحد، فيمتنع الاستعمال في معانٍ متعددة لأنه يتوقف على إرادة أفراد بعددها.

ولعل ذلك هو مراد صاحب المعالم، لأنه خص ذلك بالمفرد دون المثنى والجمع.

فهو غير بعيد في الجملة، لتبادر الوحدة عرفاً منه، ومن ثم كان المفرد مقابلاً للمثنى والجمع لا أعم منهما.

لكنه يختص ببعض الأسماء مما يختص بالواحد، كما يفرق فيه بين الجنس والواحد بالتاء، كتمرة وكمء، والمفرد النكرة في غيره، حيث يختص أو ينصرف للواحد، دون ما يراد منه الجنس الصادق على القليل والكثير، كأسم الجنس المعرف باللام، والمواد الاشتقاقية التي تقع مورداً للأحكام التكليفية، كمادة: «اضرب» و «صَل» وكذا الأعلام والحروف والهيئات ونحوها مما لا يدل إلا على المعاني بحدودها المفهومية.

ص: 153

مع أن الوحدة لما كانت قيداً في المعنى ومن شؤونه لا أمراً مقابلاً له فلا يخلّ بها الاستعمال في أكثر من معنى، حيث لا يراد بكل منهما إلا المقيد بها، فيكون المراد واحد من كل من المعنيين.

بل لا ينبغي التوقف في ذلك لو تصادق المعنيان في فرد واحد، كالسيد بالمعنى الأصلي اللغوي، وبمعنى الهاشمي الذي هو مشهور عرفاً.

ثم إن أخذ الوحدة المذكورة في المعنى لو منع من الاستعمال في أكثر من معنى منع منه حتى مجازاً، لاستهجان استعمال المفرد في المثنى أو الجمع عرفاً، إلا بعناية تنزيلهما منزلة المفرد، ولابد في المجاز من عدم الاستهجان.

الثاني: استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى

الثاني: ربما يدعى جواز استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى، بأن يراد منهما المتعدد من أفراد معان متعددة لا من أفراد معنى واحد، فيراد من مثل: (عينين) عين جارية وعين نابعة، بل ذهب في المعالم إلى أن الاستعمال المذكور حقيقي لا مجازي.

بدعوى: أنهما في قوة تكرار المفرد، فكما يجوز استعمال المفردات مع التكرار في المعاني المتعددة، كل منها في معنى واحد، يجوز فيما هو بقوتها.

وأستدل على ذلك في المعالم بتثنية الأعلام وجمعها، كالزيدين والهندات، مع وضوح تباين معاني الأعلام ومفاهيمها بنحو الاشتراك.

وتندفع بما أشير إليه في كلام غير واحد: من أن دلالتهما على التعدد إنما هو بهيئتهما، وشأن الهيئة إفادة معنى قائم بمدلول المادة لا في قباله، وحيث كان المراد بمادتهما معنىً واحداً، لوحدة الاستعمال الملزمة بوحدة

ص: 154

المعنى - كما سبق - كان التعدد المستفاد من الهيئة من شؤون ذلك المعنى، وهو تعدد فرده ووجوده، من دون أن يرجع إلى إرادة معنى آخر في قباله.

ولا وجه لقياسه بتعدد المفردات التي يكون التعدد فيها للمادة والتي يصلح كل منها لإرادة معنى في نفسه باستعمال مستقل به، ولا تستعمل بمجموعها باستعمال واحد، كما في المقام.

ولا يراد بكونهما في قوة تكرار المفرد إلا كونهما مثله في إفادة التعدد الشخصي، لا ما يعم تعدد المعنى.

وإنما جازت تثنية الأعلام وجمعها مع تباين معانيها لتأويلهما بالمسمى الذي هو معنى واحد جامع بين تلك المعاني، والذي لا إشكال في جواز الاستعمال في أكثر من معنى بلحاظه، كما تقدم في صدر المسألة.

ويشهد بالتأويل المذكور خروج الأعلام بالتثنية والجمع عن التعريف إلى التنكير والشيوع، فتجري عليها أحكام النكرات من قبول أدات التعريف والوصف بالنكرة وعدم جواز الابتداء بها إلا لمسوّغ، ولو بقيت على معانيها لبقيت على التعريف.

فهما نظير إضافة الأعلام التي لا تصح لولا تأويلها بما يوجب شيوعها، وهو المسمى.

ولذا كان ظاهر قولنا: «هذان زيدان» مثلاً - بيان اسمهما لا ذاتيهما، بخلاف قولنا: «هذا زيد».

الثالث: في اختلاف بعض المفاهيم الإضافية في الصدق

فلا وجه لما في المعالم من أن التأويل المذكور تعسف لا دليل عليه.

الثالث: أن بعض المفاهيم الإضافية أو نحوها قد يختلف صدقها باختلاف منشأ انتزاعها، كعنوان الكبير والأكبر اللذين يصدقان.. تارةً:

ص: 155

بلحاظ العمر.

وأخرى: بلحاظ الجسم والجثة. وثالثة: بلحاظ الشأن والشرف.

ومثل ذلك وإن لم يوجب الاختلاف في المفهوم، بل في معيار الصدق، الذي هو نحو من الاختلاف المصداقي، إلا أن الظاهر دخوله في محل الكلام، فيمتنع استعمال اللفظ في الإضافة بلحاظ أكثر من منشأ انتزاع واحد، لأن ما هو موضوع الأثر والغرض ليس هو الإضافة، بل منشأ انتزاعها، فلابد من ملاحظته في مقام استعمال اللفظ فيها عند الحكم عليها قيداً فيها، ويمتنع ملاحظة أكثر من منشأ واحد بخصوصيته وأخذه قيداً في الاستعمال الواحد، بعين امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

إلا أن يكون بين مناشئ الاستعمال المختلفة قدر جامع، فيمكن الاكتفاء بملاحظته، ويتجه عموم الحكم لها، لكنه ليس نظيراً لمحل الكلام، بل نظير الاستعمال في القدر المشترك بين المعاني الذي سبق خروجه عن محل الكلام.

هذا كله إذا كان استعمال اللفظ في الإضافة في مقامٍ يتعلق بمنشأ انتزاعها، كالأحكام العملية التابعة للغرض والأثر المتعلقين بمنشأ الانتزاع، والقضايا التي مواطنها الخارج ونحوها، أما لو لم يتعلق به فيمكن العموم تبعاً لوحدة المفهوم، كما في موارد شرح مفهوم الإضافة، حيث لا ملزم بالنظر للخارج المصحح لانتزاعها وأخذه قيداً فيها، بل لا ينظر إلا إليها، والمفروض وحدة مفهومها، وعدم اختلافه باختلاف منشأ الانتزاع.

الرابع: في الجمع بين المجاز والحقيقة في استعمال واحد

الرابع: بناءً على رجوع المجاز للتصرف في مفهوم اللفظ، يكون الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي وبين المعنيين المجازيين في

ص: 156

استعمال واحد من صغريات الاستعمال في معنيين، ويلحقه ما سبق.

أما بناءً على رجوعه إلى ادعاء دخول الفرد المجازي في المعنى الموضوع له اللفظ فلا مانع من الجمع بين الأفراد الحقيقية والمجازية، لدخولها في المعنى الواحد الذي استعمل فيه اللفظ.

نعم، الظاهر أن مبنى هذا القول على التصرف في المعنى الموضوع له اللفظ بنحو يشمل الأفراد المجازية بادعاء كون ملاك المعنى الموضوع له جهة العلاقة المجازية، فاستعمال أسد في الرجل الشجاع بادعاء كونه أسداً إنما هو لادعاء أن أسدية الأسد بشجاعته الحاصلة في الرجل الشجاع.

وحينئذٍ يمتنع استعماله في مجازات متعددة بعلاقات مختلفة لا جامع عرفي بينها، لتوقف استعماله في كل منها على ادعاء كون الموضوع له شاملاً له، وأن ملاك التسمية هو جهة العلاقة المصححة له، فيلزم من الجمع بين المجازيين لحاظ كلتا الجهتين بخصوصيتهما ملاكاً للتسمية، ومناطاً للمعنى المستعمل، وهو راجع للاستعمال في المعنيين بخصوصيتهما.

وعليه لا يمكن الاستعمال إلا في مجازٍ واحد وحده أو مع المعنى الحقيقي.

الخامس: في بطون القرآن

الخامس: في بعض النصوص: أن للقران المجيد ظهراً وبطناً(1)، وفي آخر: أن له ظاهراً وباطناً(2)، وفي ثالث: أن له بطناً وللبطن ظهر(3)، وفي

ص: 157


1- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 7 / تفسير العياشي 1:11
2- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 39
3- تفسير العياشي ج 1، ص 12

رابع: أن له بطناً وظهراً وللظهر ظهر(1).

وحيث كان الاستعمال في أكثر من معنى ممتنعاً عند غير واحد فقد حاولوا توجيه النصوص المذكورة ونحوها بحملها.

تارةً: على ما يعم لوازم المعنى مما أريد بيانه بتبع الملزوم وإن لم يكن اللفظ مستعملاً فيه، نظير الكنايات.

وأخرى: بما يراد من اللفظ بمحض العلامية التي أشرنا إليها عند الكلام في المختار من وجه المنع، لا بنحو الإرادة الاستعمالية.

ولعله مراد المحقق الخراساني قدس سره من حمله على ما يراد بنفسه حين استعمال اللفظ في المعنى من دون أن يكون مراداً من اللفظ.

إذ لا وجه لنسبته للقرآن لو لم يكن مراداً بالبيان منه، بل لا معنى لتعلق الإرادة به بنفسه ما لم ترجع إلى إرادة بيانه ونحوها.

ولعل الأقرب الأول، وقد يناسبه مرسلة العيّاشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ظهر القران الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم»(2).

وما في مرسلته الأخرى عن الفضيل عنه عليه السلام قال: «ظهره وبطنه تأويله منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع...»(3).

هذا وحيث سبق أن وجه امتناع الاستعمال في أكثر من معنى تعذره

ص: 158


1- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 41
2- تفسير العياشي ج 1، ص 11
3- تفسير العياشي ج 1، ص 11

عادةً لقصور في المستعمل كان قاصراً عن المنع في القران فلا ملزم بتأويل النصوص المذكورة لو كان ظاهرها الاستعمال في أكثر من معنى.

الأمر السابع: في الحقيقة الشرعية

الأمر السابع: لا ريب في أن الألفاظ التي يحكى بها عند المتشرعة عن الوظائف الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والصوم والخمس والأذان وغيرها صارت حقائق فيها بنحو تتبادر منها من دون قرينة دون معانيها القديمة بحسب أصل اللغة، وإنما وقع الكلام بينهم في أن مبدأ صيرورتها كذلك في عصر النبي (ص) في كلامه وكلام تابعيه أو بعده، وهو المراد بالكلام في ثبوت الحقيقة الشرعية.

ثمرة النزاع

ولا يخفى أن الثمرة لذلك تعيين مداليل الألفاظ المذكورة لو وقعت في الكتاب العزيز أو في كلامه (ص) وكلام معاصريه مجردة عن القرينة، فبناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل على الوظائف الشرعية المذكورة، وبناءً على عدمه تحمل على المعاني اللغوية.

وتوهم أنه بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية يتعين الإجمال، لاشتراك الألفاظ المذكورة بين المعاني الجديدة والمعاني القديمة اللغوية.

مدفوع: بأن محل الكلام ليس هو مجرد الوضع للمعاني المذكورة، بل النقل لها بنحو يقتضي هجر المعنى القديم واحتياج إرادته للعناية والقرينة، ولو في عرف الشارع الأقدس في لسانه ولسان تابعيه، كما هو الحال في العصور المتأخرة، ونظير النقل في سائر الأعراف الخاصة للمعاني المستحدثة لهم، حيث يجب حمل الكلام الصادر من أهل عرف خاص من حيثية كونهم من أهل ذلك العرف على ما هو المعنى عندهم، لا بحسب أصل اللغة.

ص: 159

ومثله ما عن بعض الأعاظم قدس سره و أقره بعض مشايخنا من عدم فعلية الثمرة المذكورة، إذ لا مورد يشك في المراد الاستعمالي فيه، لأن هذه الألفاظ قد صارت في زمان الصادقين عليهما السلام حقائق في المعاني المستحدثة.

وما يرد عن النبي (ص) بحكم ما يرد منهم عليهم السلام إذا كان بطريقهم، وما كان بطريق غيرهم خارج عن الابتلاء.

لاندفاعه: بأن ما ينقل عن النبي (ص) من طريقهم عليهم السلام إنما يكون بحكم ما ينقل عنهم إذا نقلوه في مقام بيان التشريع، حيث يتعين تنبيههم عليهم السلام إلى اختلاف المعنى عما عليه في زمانهم لو كان، أما إذا كان نقلهم له لمحض بيان ألفاظه (ص) كما في موارد نقل الخطب ونحوها فلا يلزمهم التنبيه للاختلاف.

وما ينقل من طريق غيرهم إنما يخرج عن الابتلاء إذا لم يكن النقل موثوقاً به، والجزم بكون تمام ما نقل عنه (ص) من غير طريق الأئمة عليهم السلام غير موثوق بنقله محتاج إلى فحص.

على أنه يكفي نقل غير الثقة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

مع أنه يكفي في الثمرة ما ينقل عن الأئمة السابقين قبل الصادِقَين عليهما السلام فالجزم بعدم فعلية الثمرة غير حاصل.

وكذا ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن الثمرة المذكورة ليست عملية، وإلا فقد قيل: إن هذه المعاني يعلم بإرادة الشارع لها في جميع الاستعمالات، لشهادة التتبع بعدم الاستعمال في غيرها.

إذ فيه: أنه لا مجال لدعوى الاستقراء التام، ولاسيما مع صراحة

ص: 160

بعض نصوص الصلاة على المدفون بإرادة الدعاء منها(1).

وكذا دعوى: إحتفاف جميع الاستعمالات بالقرينة.

إلا أن يراد منها القرينة العامة، وهي مألوفية المعاني المستحدثة ذهنا، بسبب الابتلاء بها.

لكن يأتي أن ذلك شاهد بتحقق الوضع لها وسبب له.

ثم إنهم وإن خصوا الكلام في تحقق الوضع بعصر النبي (ص) إلا أن الثمرة لا تختص به، بل تجري في عصور الأئمة المعصومين عليهم السلام فكلما ثبت الوضع للمعنى الجديد في زمان إمام منهم عليهم السلام لزم الحمل عليه في الكلام الصادر منه وممن بعده من الأئمة ومن أتباعهم، وذلك مهمٌ أيضاً بناءً على ما عليه الإمامية من أن كلامهم عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم سنة تتبع كسنة النبي (ص).

تحقق الوضع التعيني في ألفاظ العبادات

إذا عرفت هذا فالظاهر تحقق الوضع التعيني في غالب الألفاظ المذكورة، وأنها استعملت أولاً في المعاني الجديدة إما مجازاً لمناسبتهما للمعاني الأصلية، كالزكاة التي هي في الأصل النماء والطهارة وسمي الحق الخاص بها بلحاظ كون أدائه سبباً لها، أو لأنها من أفراد المعنى الأصلي، كالصوم والأذان، ثم اشتهرت فيها حتى إنصرفت إليها في زمن قريب في عرف الشارع وتابعيه، بسبب تتابع الاستعمال منهم، ولمألوفية المعاني الجديدة في أذهانهم بسبب الابتلاء بها والحاجة للحكاية عنها دون المعاني الأصلية، حتى يبعد مع ذلك عدم تحقق النقل للمعاني المذكورة، بحيث يحتاج للقرينة الخاصة على إرادتها من الألفاظ، كما هو المشاهد في جميع

ص: 161


1- الوسائل ج 2، باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة، حديث: 4

أهل الأعراف الخاصة بالإضافة إلى ما يختصون به من معاني.

غاية الأمر أن يبقى المعنى الأصلي معروفاً عند غيرهم ممن لا يبتلي بالمعاني الجديدة. بل ربما يسري ذلك للكل بسبب أهمية العرف الجديد، وإنتشاره، وكثرة أتباعه، خصوصاً فيما له أهمية من المعاني بين أهل ذلك العرف، حيث قد يكون له مزيد ظهور وإنتشار بين غيرهم بسببهم.

وأما الوضع التعييني، بتصريح الشارع بتعين هذه الألفاظ لهذه المعاني بنحو يتفرع عليه الاستعمال، فالظاهر أنه لا مجال لاحتماله في المقام، لما في ذلك من العناية والكلفة غير المألوفة في تلك العصور، لأن الغرض الفعلي تفهيم المعاني ولو بالاستعمال فيها مع القرينة التي يسهل إقامتها مع أنه لو صدر ذلك منه (ص) لظهر وبان، لأهميته جداً، وتوفر الدواعي لنقله، من دون موجب لاخفائه.

تقريب الخراساني قدس سره الوضع التعييني

نعم، قرب المحقق الخراساني قدس سره تحقق الوضع التعييني بنفس استعمال اللفظ في المعنى بنحو استعماله فيه لو كان موضوعاً له، ولو بضميمة القرينة الدالة على أن الغرض منه الحكاية عن المعنى، والدلالة عليه بنفس اللفظ على أنه معناه، لا بالقرينة.

وهو وإن كان ممكناً بناءً على أن الوضع عبارة عن الالتزام بتعيين اللفظ بإزاء المعنى، وإبراز الالتزام المذكور إما بإنشاء ذلك المضمون، أو بفعل ما هو من شؤونه وتوابعه وهو الاستعمال الخاص، نظير إبراز الالتزام العقدي بإنشاء مضمونه تارةً، وبالمعاطاة أخرى.

إلا أن الظاهر عدم وقوعه، لما فيه من العناية والخروج عن الوضع الطبيعي في الوضع، بل قصد ذلك وإقامة القرينة عليه أشد مؤنة من إنشاء

ص: 162

الوضع قبل الاستعمال صريحاً.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن ديدن العقلاء في العلوم والفنون التي يخترعونها ويدونونها والصناعات التي يزاولونها على تعيين الألفاظ المناسبة للمعاني المستحدثة ليسهل تفهيمها، وحيث إمتنع الوضع التعييني بالوجه الأول تعين هذا الوجه.

فهو ممنوع، بل تكون المصطلحات للعلوم والفنون والصناعات تدريجي، ولا هم للمؤسسين إلا تفهيم المعاني بالطرق غير المتكلفة بالاستعانة بالقرائن الميسورة، ثم تتكون المصطلحات بتكرر الاستعمال، ولا تدون وتضبط إلا بعد تكامل العلم أو الفن أو الصناعة وثبوت مصطلحاتها.

على أن الوجه الذي ذكره لامتناع الوضع التعييني بالوجه الأول، وهو أنه لو صدر من الشارع لظهر وبان، جارٍ في هذا الوجه أيضاً.

وما ذكره من أن كون الوضع فيه من توابع الاستعمال من دون تصريح به موجب لعدم الالتفات إليه، كي يهتم بنقله. كما ترى! لأن ترتب الغرض على الاستعمال بالنحو المذكور موقوف على إقامة القرينة على حاله، ومع قيام القرينة عليه يتوجه إليه، ويتعلق الغرض بنقله لما ذكرنا من توفر الدواعي لذلك.

فالعمدة ما عرفت من تقريب الوضع التعييني.

هذا، والظاهر أن تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الشرعية بحسب أصل اللغة، كالحج والعمرة، لمعروفيتهما بأسميهما في الجاهلية على ما هو المعهود منهما في الإسلام، تبعاً لشريعة إبراهيم عليه السلام وليس الاختلاف بين ما عندهم وما في الإسلام إلا في بعض الخصوصيات من باب التخطئة

ص: 163

في المصداق، نظير الاختلاف بيننا وبين العامة، من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم أو التشريع.

بل ادعى المحقق الخراساني قدس سره ذلك في كثير من الوظائف الشرعية، كالصلاة والزكاة والصوم، وسبقه إلى ذلك في الفصول، لما تضمنته كثير من الآيات - وكذا النصوص - من تشريعها في الأديان السابقة.

لكن الظاهر أن ذلك إنما يشهد بثبوت الوظائف في تلك الأديان لا على تسميتها بالأسماء المخصوصة، بل هو مقطوع بعدمه بعد اختلاف اللغة.

نعم، لو ثبت بقاء معروفيتها بين أهل تلك الأديان حتى خالطهم العرب وألفوها بسببهم وعبروا عنها بالألفاظ المذكورة اتجه ذلك، إلا أنه لا طريق للجزم به وإن قربه في الفصول.

مع أن الاختلاف بين ما هو المشروع في الإسلام وما هو المشروع عندهم مستلزم لأخذ الخصوصيات المميزة جزءاً من المسمى في عرف المسلمين لأنه مورد حاجتهم، بحيث يتبادر إليها من الكلام المبتني على عرفهم.

وليس هو كالاختلاف بيننا وبين العامة راجعاً إلى التخطئة في المصداق، بل هو يبتني على اختلاف التشريع من دون تخطئة فيه.

ولا ينافي هذا كون الألفاظ بحسب أصل اللغة موضوعة للقدر الجامع بين الوظيفتين، وهو الوظيفة المشروعة. فلاحظ.

وكيف كان فثبوت كون الألفاظ المذكورة موضوعة للمعاني المعهودة لغة لا يمنع من البناء على الحقيقة الشرعية فيها، لما سبق عند

ص: 164

الكلام في الثمرة من أن محل الكلام هو اختصاص المعاني الشرعية بألفاظها المعهودة في عرف الشارع بنحو تكون هي المتبادرة منها، لهجر المعنى الآخر الموضوع له بحسب أصل اللغة وبمقتضى اشتقاق الكلمة في عرفه، لعدم تعلق غرضه به، لا مجرد وضعها لها شرعاً ولو بنحو الاشتراك، كما هو الحال في الوضع للمعنى اللغوي بناءً على القول المذكور، إذ لا إشكال في عدم اختصاصه بالمعاني الشرعية.

فالكلام في الحقيقة الشرعية إنما هو في اختصاص الألفاظ المذكورة بالمعاني الشرعية في عرف الشارع، إما بعد اختصاصها بالمعاني الأخرى، أو بعد اشتراكها بين المعنيين لغةً.

نعم، بناءً على سِبق الوضع للمعاني المذكورة لغةً لو قيل بعدم الحقيقة الشرعية لا يتعين حمل الألفاظ في كلام الشارع على المعنى الآخر غير الشرعي، بل يتردد الأمر بينه وبين المعنى الشرعي، كما هو الحال في جميع موارد الاشتراك.

بقي شيء:

بقي شيء:

وهو أنه قال في الفصول: «وربما عزي إلى الباقلاني القول: بأن هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغوية، والزيادات شروط لقبولها وصحتها. وهو غير ثابت».

وعليه يكون إطلاقها على الوظائف الشرعية في لسان الشارع والمتشرعة من باب إطلاق لفظ الكلي على بعض أصنافه أو أفراده، كما قد يناسبه لزوم لام التعريف لها.

ص: 165

لكنه كما ترى! إذ لا ريب في عدم انطباق المعنى الموضوع له بحسب أصل اللغة على بعض تلك الوظائف، غاية الأمر أن تكون بينهما مناسبة مصححة للإطلاق مجازاً، كما في الزكاة على ما تقدم التنبيه عليه.

وإنما يمكن الكلام في ذلك في مثل الصوم مما كانت فيه الوظيفة الشرعية من أفراد المعنى الموضوع له في أصل اللغة: مضافاً إلى أنه أريد ببقاء تلك الألفاظ على معانيها اللغوية بقاؤها عليها حتى في العصور المتأخرة، فهو مخالف للوجدان، لعدم تبادر غير تلك الوظائف منها عند المتشرعة.

ولا ينافيه شيوع دخول لام التعريف عليها، لأنها قد تكون جنسية لا عهدية، نظير اللام في المنقول بالغلبة.

وإن أريد به بقاؤها عليه في عصر الشارع الأقدس فهو راجع إلى إنكار الحقيقة الشرعية، ولا مجال له بعد ما سبق في وجه الاستدلال عليها.

تنبيه:
تنبيه: لزوم التوقف مع عدم معرفة نوع الاستعمال

لو فرض عدم بلوغ ما سبق في تقريب الوضع التعيني مرتبة يصلح بها لليقين بالوضع إما مطلقاً أو في خصوص بعض الألفاظ التي لم يكثر تداولها في الصدر الأول، أو في خصوص بعض الأزمنة، كأوائل عصر النبي (ص) فحيث يعلم بالنقل بعد ذلك يكون استعمال الشارع الألفاظ المذكورة أو بعضها، أو في الزمن المذكور من مواردها إذا علم بتاريخ الاستعمال وشك في تقدم النقل عليه وتأخره عنه، الذي تقدم منا في آخر الكلام في علامات الحقيقة لزوم التوقف فيه والبناء على الإجمال، لا على الحمل على المعنى

ص: 166

القديم، وأظهر من ذلك ما لو علم بتاريخ النقل وشك في تاريخ الاستعمال أو جهل بالتاريخين معاً، فراجع.

الأمر الثامن: الصحيح الأعم

الأمر الثامن: اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مختصة بالصحيح منها، أو تعمه والفاسد.

تمهيد وفيه مقدمات

وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بذكر مقدمات يتضح بها محل الكلام أو يبتني عليها الاستدلال أو غير ذلك مما له دخل بالمقام.

الأولى: في اختصاص الألفاظ بأحد الأمرين وعصر الشارع

الأولى: لما كانت ثمرة البحث تتعلق بخطابات الشارع الأقدس ونحوها مما له دخل في الحكاية عن الشريعة - على ما يأتي - فالمهم هو اختصاص الألفاظ بأحد الأمرين في عصره.

وحينئذٍ لا ريب في جريان النزاع بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية وحمل الألفاظ المذكورة في استعمالات الشارع واستعمالات الحاكين عنه على الوظائف الشرعية، حيث يقع النزاع في حملها مع التجرد عن القرينة على خصوص الصحيح منها أو الأعم منه ومن الفاسد.

توجيه النزاع مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بوجوه

أما بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فحيث لا تكون الوظائف المذكورة موضوعاً لها أشكل تحقق موضوع للنزاع المذكور، حيث لا مجال للحمل على كل من الأمرين بعد كون الاستعمال فيه مجازياً إلا بالقرينة المعينة له.

إلا أنه ربما يوجه النزاع حينئذٍ بوجوه:

الأول: ما أشار إليه الخراساني قدس سره

الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من إمكان النزاع في أن أي الأمرين من الصحيح أو الأعم قد لحظت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي اللغوي ويكون الاستعمال في الآخر بتبعه وبمناسبته، بحيث يبتني على

ص: 167

ملاحظة علاقتين علاقته بالأول وعلاقة الأول بالمعنى الحقيقي، فأي منهما كانت العلاقة ملحوظة بينه وبين المعنى الحقيقي يكون مقتضى الأصل الحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، ولا يحمل على الآخر إلا مع القرينة المعينة له، لابتنائه على مزيد عناية.

لكنه يرجع إلى إبتناء الاستعمال في الآخر على سبك مجاز في مجاز، وهو في غاية الإشكال، لانحصار مصحح الاستعمال المجازي ارتكازاً في مناسبة المستعمل فيه للمعنى الحقيقي وعدم الاكتفاء بمناسبته لما يناسبه.

اللهم إلا أن الاستعمال فيه مبنياً على التوسع في المجاز الأول، بتنزيله منزلته في طول ملاحظة مناسبته للمعنى الحقيقي كما يظهر من التقريرات. فتأمل.

الثاني: إمكان النزاع في أقربية الأمرين عرفاً

الثاني: إمكان النزاع في أن أي الأمرين أقرب عرفاً، لشدة مناسبته للمعنى الحقيقي، وإن كان الآخر مناسباً له أيضاً، لأن المجازات قد تتفاوت في ذلك، فنفي الماهية - مثلاً - كما يستعمل مجازاً في نفي الصحة يستعمل في نفي الكمال، لمناسبتهما له معاً، وإن كان الأول أنسب، فيكون أقرب عرفاً، فيحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي إلا بقرينة معينة للثاني.

لكنه موقوف على كون المناسبة المصححة للاستعمال قابلة للشدة والضعف، وهو غير ظاهر في المقام.

مع أنه لو أمكن دعوى: أن الصحيح أقرب من الأعم لدخل الصحة في شدة المناسبة للمعنى الحقيقي، فلا مجال لدعوى العكس، لأن الصحيح من أفراد الأعم واجد لخصوصية زائدة عليه، فإن كان لتلك الخصوصية

ص: 168

دخل في المناسبة كان أقرب من الأعم، وإن كانت منافية لها كان الأقرب هو الفاسد لا الأعم، وإلا لم يصح الاستعمال في الخصوصية إلا بلحاظ أن واجدها من أفراد الأعم، الذي هو في الحقيقة استعمال في الأعم لا في الصحيح.

الثالث: ما قد يستفاد من كلمات الخراساني قدس سره

الثالث: ما قد يستفاد من بعض كلمات المحقق الخراساني قدس سره من أنه لو علم باستقرار بناء الشارع في محاوراته على التدرج في المجاز بالاكتفاء في أحد المجازين بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، وعدم الاكتفاء في الآخر إلا بالقرينة المعيِّنة له، اتجه النزاع في أن أي الأمرين من الصحيح والأعم هو الذي يكتفى فيه بالقرينة الصارفة. لكن لا طريق لإثبات بناء الشارع على ذلك.

أقول: إن كان بناؤه عليه تبعاً للطريقة العرفية في البيان، لترجح أحد المعنيين في كونه هو الظاهر عرفاً، إما لاختصاصه بالمناسبة للمعنى الحقيقي، ولا يصح الاستعمال في الآخر إلا لمناسبته له أو لأقربيته للمعنى الحقيقي رجع إلى أحد الوجهين الأولين، فيلحقه ما تقدم فيهما.

وإن كان بناؤه عليه اعتباطاًً مع قطع النظر عن الطريقة العرفية في الاستعمال، فهو مما يقطع بعدمه، لاحتياجه إلى عناية خاصة وعدم ترتب الغرض عليه إلا ببيانه، ولو بين لوصل لنا، لتوفر الدواعي على نقله من دون غرض في إخفائه.

الرابع: ما أشار إليه السيد الحكيم قدس سره

مع أن لازمه التوقف لو احتمل ضياع القرينة على المعنى الآخر، لعدم وضوح بناء العقلاء على أصالة عدم القرينة إلا في تنقيح الظهور، دون تنقيح مقتضى طريقة الشارع الخاصة. إلا أن يثبت تعبد الشارع بها بالخصوص،

ص: 169

ودونه خرط القتاد.

الرابع: ما أشار إليه سيدنا الأعظم قدس سره من إمكان النزاع في أن أي الأمرين هو مقتضى القرينة النوعية العامة، حتى يتعين الحمل عليه بتعذر الحقيقة، ولا يحمل على الآخر إلا بقرينة خاصة، نظير النزاع في الأمر الواقع عقيب الخطر.

وهذا لا يخلو عن وجهٍ لو كان هناك ما يصلح لأن يكون قرينة عامة في جميع موارد الاستعمالات المتعلقة بالشارع الأقدس، بحيث يحتاج الخروج عن مقتضاها لقرينةٍ خاصة.

وبهذا وما قبله - لو تَمّا - يتجه النزاع - أيضاً - فيما لو كانت الوظيفة الشرعية من أفراد المعنى اللغوي بحيث لا يكون الاستعمال فيها مجازياً.

أما الوجهان الأولان فلا يجريان إلا فيما كان استعمال اللفظ فيها مجازياً يبتني على ملاحظة المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

هذا كله لو احتمل الاستعمال في كل من الصحيح والأعم، أما لو كان المدعى عدم صحة الاستعمال أو عدم وقوعه إلا في أحدهما، إما لانحصار العلاقة به، أو لوجود الجامع بين أفراده دون الآخر، أو لكونه محط الغرض دون غيره فلا إشكال في إمكان النزاع في تعيينه، فلاحظ.

الثانية: محل الكلام هو العبادات التي هي موضوعة - ولو في عرف المتشرعة - للخصوصيات الزائدة أو المباينة للمفاهيم اللغوية، كالصلاة والصوم والاعتكاف والحج وغيرها، دون ما لم يكن كذلك، بل بقي على مفهومه اللغوي وإن قيد في مقام الأمر به ببعض القيود الزائدة على ذلك، كقراءة القرآن والسجود والركوع والدعاء والزيارة، لأن القيود المذكورة لا

ص: 170

توجب تبدل مفاهيمها.

نعم يأتي الكلام إن شاء الله تعالى بعد الفراغ عن محل البحث في هذه المسألة الكلام في المعاملات ذات المضامين الإنشائية الاعتبارية، لأنها تتصف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الآثار المطلوبة عليها وعدمه، فيناسب إلحاقها بمحل الكلام.

الثالثة: المراد من الصحة والفساد

الثالثة: تقدم في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الأثر المهم، وإن تعريف الصحة تارةً بموافقة الأمر، وأخرى بإسقاط الإعادة والقضاء ليس للاختلاف في مفهومها، بل في معيار صدقها تبعاً للاختلاف في الغرض المهم.

ولا يخفى أن الموافقة والأمر في التعريف الأول يراد بهما

تارةً: خصوص الواقعيين.

وأخرى: ما يعم الظاهرين.

وعلى الأول تكون الموافقة للأمر أخص مورداً من إسقاط الإعادة والقضاء، لأنهما قد يسقطان بالناقص المأتي به غفلةً أو نسياناً أو خطأً أو جهلاً بسبب التعبد الظاهري، كالصلاة في موارد حديث: «لا تعاد...»، والصوم الذي يؤكل حينه نسياناً وغيرهما.

ولا مجال لدعوى: أن الإجزاء في موردٍ كاشف عن تحقق الغرض من الأمر المستلزم لشمول الأمر الواقعي له لباً، لتبعيته للغرض سعةً وضيقاً.

لاندفاعها بما يأتي في مبحث الإجزاء إن شاء الله تعالى.

ص: 171

أما على الثاني فتكون أعم من وجه مورداً من إسقاط الإعادة والقضاء، حيث قد لا يسقط القضاء في موارد موافقة الأمر ظاهراً، كما لو كان الإخلال بالأركان، وقد يسقط مع القطع بالموافقة خطأً من دون تعبد ظاهري في مورده، لامتناع جعل الحجية مع القطع.

هذا، ولم أعثر عاجلاً على تصريح بكلماتهم بتعيين معيار الصحة في المقام، وإن لم يبعد عن أكثر حجج القائلين بالصحيح إرادة الموافقة الواقعية للأمر الواقعي، على ما يتضح عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وهذا لا ينافي ما ذكرناه وأكدوا عليه من أن الاختلاف بين التعريفين لا يرجع للاختلاف في مفهوم الصحة، بل في معيار صدقها.

الرابعة: دخول الأجزاء في محل النزاع

لأنه لا يراد بالوضع لخصوص الصحيح الاكتفاء بوصف الصحة بلحاظ أي منشأ انتزاع فرض، بل بلحاظ منشأ انتزاع خاص يناسب غرض الشارع من التسمية، فلا بد من تعيين ذلك.

الرابعة: لا إشكال في دخول الأَجزاء في محل النزاع، بمعنى أنه على الصحيح تكون تمام الأجزاء مأخوذة في المسمى.

وأما الشروط فقد وقع الكلام بينهم في دخولها مطلقاً، أو عدمه كذلك، أو دخول خصوص الشروط التي يمكن التقييد بها، دون ما يمتنع التقييد به، كقصد امتثال الأمر، أو غير ذلك من التفصيلات التي أطالوا الكلام في الاستدلال لها.

الخامسة: في ثمرة النزاع

والمناسب إيكال ذلك للكلام في حجة القول بالصحيح حتى يتضح مفادها.

الخامسة: ذكروا في ثمرة النزاع أنه على الأعم يتجه الرجوع لإطلاقات

ص: 172

الخطابات المشتملة على عناوين العبادات المذكورة لنفي ما يحتمل اعتباره فيها من الأجزاء والشرائط التي لا يتوقف عليها صدق تلك العناوين عرفاً.

أما على الصحيح فلا مجال لذلك، لأن الشك في اعتبار شيء فيها مساوق للشك في صدق عناوينها بدونه، ولا يمكن الرجوع للمطلق مع عدم إحراز عنوانه.

نعم، بناءً على اختصاص النزاع بالأجزاء أو بها مع بعض الشرائط يمكن الرجوع في غيرها للإطلاق لو تم من جهته، لعين الوجه المذكور له على الأعم، بل هو راجع للأعم من حيثية الشروط المذكورة.

كما أنه لو كان هناك شرح للماهيات المذكورة، كالنصوص البيانية الواردة في الوضوء والصلاة ونحوهما أمكن التمسك بإطلاقه لنفي اعتبار أمرٍ آخر في صدق عناوينها ويرتفع به إجمالها.

دعوى عدم جواز الرجوع لإطلاق الخطاب لوجهين

لكنه خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في إطلاق أحكام هذه العناوين، لا في إطلاق شرحها. فما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من إستثنائه من الثمرة المتقدمة في غير محله.

أولهما: ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره

هذا، وقد يدعى أنه لا مجال للرجوع لإطلاق الخطابات مطلقاً حتى على القول بالأعم لوجهين:

أولهما: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أنه حيث قام الإجماع بل الضرورة على أن الشارع لا يأمر بالفاسد، فقد ثبت تقييد المسميات المذكورة في أدلتها دفعةً واحدة بكونها صحيحة جامعة لتمام ما يعتبر فيها واقعاً، ولا مجال معه للتمسك بالإطلاق، لعدم الشك في التقييد، بل في تحقق القيد فلا بد من إحرازه.

ص: 173

ويندفع بما أشار إليه قدس سره من أن عنوان الصحيح لم يؤخذ قيداً زائداً في المأمور به، ليمنع من التمسك بإطلاقه، ويجب إحرازه، بل هو منتزع من مقام الأمر ومترتب عليه، لأن كل ما تعلق به الأمر فما يطابقه صحيح، فإذا كان مقتضى إطلاق الخطاب تعلق الأمر بالمسمى مجرداً عن كل قيد كان الصحيح تمام أفراد المسمى المفروض أنه الأعم.

ثانيهما: ما أصر عليه قدس سره في مبحث الأقل والأكثر

مضافاً إلى أن ذلك مختص بإطلاقات الأوامر بالعناوين المذكورة، دون إطلاقات بقية أحكامها، حيث لا ملزم بتقييدها بالصحيح.

إلا أن يدّعى العلم بذلك فيها أيضاً.

ثانيهما: ما أصر عليه قدس سره في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين من أن جميع الأوامر الواردة في الكتاب المجيد بالعبادات - كالصلاة والصوم والحج - ليست واردة في مقام بيان ما هو المشروع منها، بل في مقام الحث والتأكيد عليها، مع إهمال بيانه وإيكاله إلى الخطابات المتعرضة لذلك، الواردة قبله أو التي ترد بعده.

وعمم في التقريرات ذلك لخطابات السنة الشريفة أيضاً، وذكر أنها إما أن تكون في مقام الإهمال أو في مقام بيان خواص العبادات وآثارها من دون أن تكون في مقام بيان مقدار المراد منها، ولم يشذ عن ذلك إلا شاذ.

وما ذكره قدس سره قد يتم فيما ورد في مقام التأكيد على العمل والحث عليه كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر»(1) وقوله عز اسمه:

«إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا» (2) لأن مقام الحث والتأكيد

ص: 174


1- سورة العنكبوت: 45
2- سورة النساء: 103

يناسب سبق التشريع لما هو المشروع والمفروغية عنه.

أما ما تضمن الأمر بالعمل وتشريعه، كقوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ»(1) وقوله عز وجل: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»(2) فمجرد تضمنه التشريع لا ينافي ثبوت الإطلاق له فيما هو المشروع، لأن مقام التشريع يناسب بيان المشروع، فالاكتفاء في بيانه بذكر العنوان ظاهر في الاكتفاء به على إطلاقه.

وأما ما نظر له به من قول الطبيب للمريض في غير وقت الحاجة: «لا بد لك من شرب الدواء أو المسهل» وقول المولى لعبده: «يجب عليك السفر غداً» حيث لا مجال للتمسك فيها بإطلاق الدواء والمسهل والسفر من دون شرحٍ لها وبيان خصوصياتها المطلوبة.

فهو إنما يسلم في مثل الدواء لقرينةٍ خاصةٍ مانعةٍ من احتمال تعلق الغرض بصرف ماهيته، كما يقتضيه الإطلاق، للعلم باختلاف أفراده في سنخ الأثر، وتضاد كثير من آثارها، وعدم مناسبة كل مرض إلا لبعضها، دون مثل المسهل مما له جهة خاصة يمكن تعلق الغرض بها من دون فرق بين خصوصياتها، وكذا السفر، حيث يمكن تعلق الغرض بمفارقة الوطن هرباً من ظالم أو تخلصاً من تكليف لازم أو نحوهما.

إلا أن يعلم بتعلق الغرض بخصوص بعض خصوصيات المسهل أو السفر، فيمتنع التمسك بالإطلاق، نظير ما ذكرناه في إطلاق الدواء.

لكنه راجع للمانع من الإطلاق، لا لما قد يظهر منه قدس سره من عدم انعقاده

ص: 175


1- سورة هود: 114
2- سورة البقرة: 183

مع ورود الكلام في مقام التشريع.

نعم، لا يبعد عروض الإجمال لأغلب المطلقات المذكورة، لنظير ما سبق، حيث يعلم بعدم إرادة الإطلاق منها، بنحو يكتفي بما ينطبق عليه العنوان بناءً على الأعم، لابتناء الأعم - كما سيأتي - على الاكتفاء في صدق العنوان على بعض الأجزاء المعينة - كالأركان - أو غير المعينة بنحو البدلية، ومن العلوم عدم إرادة الاكتفاء بذلك في شيء من أحكام هذه العناوين، بل لابد فيها من أجزاء خاصة لا يخلُّ تخلفها بالتسمية عرفاً، حيث يكشف ذلك عن ورود الإطلاقات لمحض التشريع مع إيكال - بيان حدود المشروع إلى غيرها - ولعل هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره.

هذا وقد حكى في الفصول عن جماعة جعل الثمرة هو الرجوع للإشتغال عند الشك في اعتبار شيء في العبادة بناءً على الصحيح دون الأعم.

وهو إنما يتجه بناءً على التفصيل في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين بين كونه مسبباً عن إجمال العنوان وعدمه، فيرجع في الأول للإشتغال وفي الثاني للبراءة.

إذ لو قلنا بعموم الرجوع فيه للاشتغال لم يفرق بين الصحيحين والأعم، إلا بناءً على تمامية الإطلاق على الأعم - على ما سبق الكلام فيه - فيرفع به اليد عن الأصل.

ولو قلنا بعموم الرجوع فيه للبراءة - كما هو الظاهر - لم يفرق بينهما أيضاً. إلا بناءً على بعض وجوه الجامع الصحيحي الآتية المستلزمة لرجوع الشك للشك في الامتثال الذي لا إشكال في الرجوع فيه للإشتغال

ص: 176

هذا، وربما تتضح بعض الثمرات عند الكلام في الجامع الصحيحي والأعمي، الذي يدعي أنه المسمى على كل من القولين.

السادسة: لابد من فرض الجامع

السادسة: الوضع لكل من الصحيح والأعم يبتني على فرض الجامع بين أفراد كل منهما يكون هو الموضوع له بعد وضوح كون الوضع في المقام من باب الوضع العام والموضوع له عام، لما هو المعلوم من إمكان الاستعمال في المفهوم الجامع مع قطع النظر عن الخصوصيات الفردية.

بل لو كان من باب الوضع العام والموضوع له خاص فقد سبق أنه لابد فيه من ملاحظة الجامع، إما لكونه دخيلاً في الموضوع له بنحو تكون الخصوصيات قيداً فيه على البدل، أو لكونه معياراً لتعين الخصوصيات الموضوع لها وضبطها.

ومن هنا يتعين الكلام في تعيين الجامع على كل من القولين، بل هو من أهم مباحث المسألة وعمدة ما يبتني الاستدلال عليه فيها.

والكلام فيه في مقامين:

ص: 177

المقام الأول في الجامع الصحيحي
المقام الأول في الجامع الصحيحي

وقد يشكل تصويره لوضوح اختلاف أفراد الصحيح في كثير من العبادات - كالوضوء والصلاة والحج - اختلافاً فاحشاً.

ما ذكره الخراساني قدس سره من فرض الجامع

وقد جزم المحقق الخراساني قدس سره بوجوده وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره.

قال: «فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة - مثلاً - بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما».

وقريب منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.

ابتناء ما ذكره على أمور

وما ذكره قدس سره يبتني..

أولاً: على ما أشار إليه هنا وفى غير مقام من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر، بنحو يكشف عن جهة مشتركة بين الأمور المؤثرة يستند إليها الأثر.

و ثانياً: على امتياز كل عبادة ذات عنوان خاص بأثر يخصها، لا يشاركها فيه غيرها، من العبادات أو غيرها.

و ثالثاً: على عموم الآثار المذكورة لتمام أفراد الصحيح وقصورها

ص: 178

عن تمام أفراد الناقص حتى المجزئ منها، بناءً على أن مرادهم بالصحيح - الذي يدّعى الوضع له - خصوص مطابق الأمر - كما سبق تقريبه - لا مطلق المجزئ.

أما الأخير فلا طريق لإثباته، لأن الآثار المذكورة سيقت في الأدلة لبيان الفائدة لا لبيان ملاك الأمر، كي يدور مدارها وجوداً وعدماً، فلا مانع من عمومها للناقص غير المأمور به، خصوصاً ما كان نقصه مجهولاً للمكلف عند إتيانه به.

كما لا مانع من قصورها عن بعض أفراد المأمور به، واختصاصها بالكامل منها المشتمل على شروط القبول أو بعضها، إذ لا طريق لإثبات عمومها لتمام أفراده إلا الإطلاق الذي يشكل الاستدلال به مع عدم وروده لبيان المأمور به، بل في مقام الحث والتأكيد على المأمور به بعد الفراغ عن مشروعيته.

ولاسيما مع ظهور بعض أدلة شروط القبول في عدم الإعتداد بالعمل بدونها، حيث يقرب جداً كون مصححه عدم ترتب مثل هذه الآثار المهمة بل هو صريح خبر يونس بن ظبيان «قال أبو عبد الله (ع): إعلم أن الصلاة حجزة الله في الأرض فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر، فإن كانت صلاته حجزته عن الفواحش و المنكر فإنما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز»(1).

ومثله الثاني، لأن مجرد نسبة الأثر للماهية لا يقتضي اختصاصها بها، وليس في أدلته قرائن تقضي بالاختصاص، كما لعله لم يرد في بعض

ص: 179


1- وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب أفعال الصلاة حديث: 8

الماهيات أدلة تشهد بثبوت آثار لها، ليقع الكلام في اختصاصها بها.

الكلام في ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر

وأما الأول فالكلام فيه..

تارةً: في انطباق الكبرى المذكورة على المقام.

وأخرى: في الدليل عليها.

وقد استشكل سيدنا الأعظم قدس سره في الأول بأنها إنما تلزم بفرض الجامع في المقام لو كانت أفراد العبادة علة حقيقية للأثر المذكور، أما لو كانت علة معدة له فلا ملزم بالجامع بينها، لأن كلاً من وجود الشرط وعدم المانع مؤثر في القابلية مع عدم الجامع بين الوجود والعدم.

ويندفع: بأن كونها معدات إنما يمنع من لزوم فرض الجامع بينها لو اختلف سنخ تأثيرها فيه، كالشرط وعدم المانع، لرجوعه إلى اختلاف الأثر حقيقةً، لأن أثر كل جزءٍ من أجزاء العلة جهة خاصة من جهات المعلول.

أما مع اتحاد جهة التأثير فاللازم البناء على وجود الجامع بين المؤثرات لو تمت الكبرى المذكورة، وظاهر نسبة الآثار في الأدلة للعبادات كونها - بتمام أفرادها - مقتضيات لها، لأن المقتضي هو الذي يصح نسبة الأثر له عرفاً، دون الشرط وعدم المانع.

بل ظاهرها فعلية ترتبها عليها، إما لكونها عللاً تامة، أو لتحقق بقية أجزاء العلة معها.

وأما الثاني، فالذي ذكره المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الواجب التخييري في وجه الكبرى المذكورة: أنه لابد من نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

ص: 180

فإن كان المراد بالسنخية كون الأثر من سنخ المؤثر كي يلزم اتحاد المؤثرات سنخاً بعد فرض أثرها، الذي هو عبارة أخرى عن لزوم الجامع بينها، فلا ملزم به، بل لا مجال له، لرجوعه إلى لزوم وجود الجامع الماهوي بين العلة والمعلول، ولا يظن من أحدٍ البناء عليه.

وإن كان المراد بها أن استناد الأثر للمؤثر ليس اعتباطياً بل هو تابع لخصوصية ذاتيهما، لما قيل: من أنه لولا ذلك لأثَّر كل شيء في كلِ شيءٍ، فهو لا يقتضي لزوم الجامع بين المؤثرات بحيث يستند له الأثر دون خصوصياتها، إذا لا استحالة في كون خصوصية ذات الأثر الواحد تناسب تحققه، بمؤثرات متعددة لا جامع بينها، ومن هنا لا مجال للبناء على الكبرى المذكورة.

وقد أصر ما ذكرنا بعض المحققين وغيره، مدعياً اختصاص الملازمة المذكورة بالواحد الشخصي، لاختصاص برهانها به، على ما أطال الكلام فيه بما لا يسعنا التعرض له، بل يظهر منه إنكار هذه الملازمة في الواحد النوعي من صدر المحققين، كما يظهر من غيره معروفية إنكارها فيه بين جماعة من أهل المعقول.

هذا كله بالنظر للمقدمات التي ابتنى عليها إستكشاف الجامع المذكورة، وأما بالنظر له في نفسه فيشكل من وجهين:

المناقشة فيما ذكره من وجهين

أولهما: أنه كيف يمكن فرض الجامع الماهوي الحقيقي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الخصوصيات المعتبرة في فردية الفرد له، فإنه وإن أمكن اختلاف أفراد الماهية الواحدة في الخصوصيات، بل هو مما لابد منه في تعددها، إلا أنه ليس بنحو تكون الخصوصيات دخيلة في فردية الفرد

ص: 181

للماهية، بل هي زائدة عليها لا يستلزم تخلفها خروج الفرد عن الفردية.

أما الخصوصيات المتباينة في المقام فقد تكون مقومة لفردية الفرد، لتوقف الصحة عليها فيه دون غيره من الأفراد، بل قد تكون مانعة عن فرديتها، كالركعة الرابعة المقومة لصلاة العشاء والمبطلة لصلاة المغرب.

نعم، لو لم يكن المؤثر المسمى متحداً مع الفعل ذي الأجزاء والشرائط بل مبايناً له مسبباً عنه ارتفع المحذور المذكور، لإمكان اختلاف أفراد السبب بهذا الوجه، كالبناء المؤثر للظل الذي يستعمل فيه مقدار خاص من الماء في حالة، وقد يخل به المقدار المذكور في حالة أخرى.

لكن لا مجال للالتزام بذلك في المقام، لما هو المعلوم من اتحاد المسمى مع الفعل بنحو يصح حمله عليه، وليس أحدهما مسبباً عن الآخر، ولذا كان المرجع مع الشك في الجزئية أو الشرطية هو البراءة عند المشهور، مع أن المسمى لو كان هو المسبب عن الأجزاء والشرائط رجع الشك للشك في المحصل الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال بلا إشكال.

ثانيهما: أن وجود القدر المشترك واقعاً لا يكفي في التسمية ما لم يكن معلوماً ومحدوداً ولو إجمالاً، ليتصور عند الوضع في مقام تعيين اللفظ بأزائه، وعند جعل الحكم له في مقام التشريع وعند الاستعمال في مقام الحكاية عنه وأدائه باللفظ.

وحينئذٍ فالجامع الماهوي الحقيقي المذكور إن كان مدركاً بنفسه إستغني عن إستكشافه بالأثر وكان المناسب التنبيه على حدوده ولو بالرسم، وإن لم يكن مدركاً بنفسه لم يكف وجوده واقعاً في صحة الوضع له والاستعمال فيه.

ص: 182

دعوى تصور الجامع من طريق أثره ودفعها

ودعوى: أنه يكفي تصوره من طريق أثره إجمالاً، فالصلاة - مثلاً - هي الذات الناهية عن الفحشاء، بما لها من واقع متقرر في نفسه.

مدفوعةٌ: بأن اللازم عدم انفكاك تصور المسمى عند الاستعمال عن تصور الآثار المذكورة لانحصار طريق تصوره بتصورها، وهو مخالف للوجدان، بل قد يتصور معاني هذه الألفاظ في مقام الاستعمال وغيره من لا يعلم بثبوت الآثار المذكورة لها.

كيف ولازمه لغوية بيان ثبوت هذه الآثار لها في القضايا المتضمنة لذلك لرجوعه إلى قضية بديهية بشرط المحمول؟. على أن ذلك - لو تم. أغنى عن استكشاف الجامع الحقيقي بالملازمة المدعاة بين وحدة الأثر ووحدة المؤثر، حيث يكفي الجامع الانتزاعي بين الذوات المؤثرة للأثر المذكور وإن فرض عدم الجامع الحقيقي بينها.

وبالجملة: ما ذكره قدس سره في تصوير الجامع غير تام في نفسه، ولا خالٍ عن المحذور.

ومما ذكرناه أخيراً يظهر أنه لا مجال لدعوى: انتزاع الجامع المذكور من الآثار المذكورة، على أن تكون مقومةً له مفهوماً، بلحاظ أن الجهة العرضية المشتركة صالحة لانتزاع العنوان القابل للتسمية، بلا حاجة إلى الملازمة بين وحدة الأثر ووحدة المؤثر.

لاندفاعها: بأن لازمها عدم تصور معاني هذه الألفاظ إلا بتصور هذه الآثار، ولغوية بيان ثبوتها لها، نظير ما سبق، بل لا ريب في عدم التطابق المفهومي بين مثل الصلاة والناهي عن الفحشاء، ولا يكون الحمل بينهما أولياً ذاتياً.

ص: 183

على أن لازم ذلك الرجوع مع الشك في اعتبار شيء فيها للاشتغال للشك، في تحقق العنوان المكلف به الموجب للشك في الامتثال بدونه، لأن العنوان المذكور حيث كان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف وهي ترتب الأثر الخاص عليه كانت مصب التكليف عرفاً، وحيث كانت معلومة فلا إجمال في المكلف به، ليقتصر على المتيقن منه، بل يجب إحراز الفراغ عنها نظير الشك في المحصل.

وتردد الفعل الواجد لتلك الجهة بين الأقل والأكثر لا يوجب إجمال المكلف به، لأن التكليف به لا يرجع للتكليف بمقدار خاص منه يفرض فيه الإجمال، بل إلى التكليف بما يحصل الأثر منه مع إبهام مقداره وعدم النظر إليه.

نعم، لو لم يكن العنوان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف، بل حاكياً عن الفعل بنفسه كان تردد الفعل بين الأقل والأكثر مستلزماً لإجمال المكلف به، فيرجع فيه للبراءة.

وكذا لو كان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف إلا أنه لم يكن موضوعاً للتكليف بنفسه وبمنشأ انتزاعه، بل سبق لمحض الحكاية عن الفعل بذاته معرّىً عن كل جهةٍ خارجة عنه، كما ذكرناه أولا في ذيل تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره.

وقد أطلنا الكلام في ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات أصل البراءة. فراجع.

ولعل المحقق الخراساني قدس سره إنما أصر على جريان البراءة لفرضه الجامع المتحد مع الأجزاء حاكياً عنها بذواتها لا بلحاظ ترتب الأثر عليها،

ص: 184

وإن كان مستكشفاً بالأثر بضميمة الملازمة التي ادعاها.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

هذا وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أنه لا مجال لتقرير الجامع بنحو يشمل تمام أفراد الصحيح، إذ لا مجال لفرض الجامع المركب المبتني على ملاحظة الأجزاء والشرائط بخصوصياتها بعد اختلاف أفراده فيها اختلافاً فاحشاً، فكلما هو صحيح في حال فاسد في آخر، ولا الجامع البسيط المنتزع من جهة عرضية أو إضافية أو نحوهما خارجة عن الأجزاء والشرائط.

كالمنتزع من الأثر الخاص أو نحوه، لنظير ما سبق منا.

وحينئذٍ ذكر - كما في التقريرات - أن الوجه هو الالتزام بأن الموضوع له هو خصوص الأجزاء والشرائط الشخصية الثابتة في حق القادر المختار، العالم العامد، من دون حاجة إلى فرض جامع عنواني بسيط بينها، وليس ما ثبت في حق غيره من أفراد المسمى الحقيقية، بل هو بدل مسقط عنه.

نعم، قد تكون حقائق متشرعية ناشئة عن توسع المتشرعة في استعمال الألفاظ فيها بسبب ترتب الأثر المهم عليها، وكثر ذلك منهم حتى صارت حقائق عندهم، لكن لا بلحاظ انتزاعهم الجامع بينها وبين المعنى التام بل بلحاظ وضعهم لأفراد الناقص لمشاركتها للموضوع له الأصلي في مناط التسمية عندهم، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص الذي لا يفرض فيه قدر جامع في مقام الاستعمال في الأفراد.

الإشكال عليه من وجوه

ويشكل ما ذكره من وجوه:

أولها: اختلاف الشرائط في نفسها

أولها: أن الأجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العالم العامد مختلفة في أنفسها باختلاف الأوقات والحالات والأفراد فتختلف الصلاة اليومية في أفرادها وفي حالتي الحضر والسفر، كما تختلف عن بقية

ص: 185

الفرائض، وتختلف الفرائض عن النوافل، والنوافل فيما بينها، وتختلف أقسام الحج والعمرة، إلى غير ذلك، فلو أمكن فرض القدر الجامع بين الأفراد المختلفة أمكن فرضه بينها وبين ما ثبت في حق غير الشخص المذكور.

ثانيها:

ثانيها: أن دعوى كون الوضع أو الاستعمال في لسان المتشرعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص مخالفة للمرتكزات الاستعمالية القطعية، حيث لا إشكال في كثرة موارد ملاحظة القدر الجامع عند الاستعمال، كما في المثنى والجمع والاستعمال في الماهية.

بل دعوى ذلك في لسان الشارع الأقدس أهون من دعواه في لسان المتشرعة، لأن إدراك المستعمل فيه في لسانه بالتبادر بضميمة أصالة تشابه الأزمان، وفي لسانهم بالوجدان غير القابل للتشكيك.

ثالثها:

وثالثها: أن التزام عدم إطلاق العناوين المذكورة في لسان الشارع على ما ثبت في حق المضطر غريب جداً لا يناسب الآيات والنصوص، فقد صدرت آية التميم بقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ...»(1)، وقال تعالى: - في صلاة الخوف - «وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ...»(2)، إلى غير ذلك مما يتضح بأدنى نظرة في الاستعمالات.

ومن الغريب جداً التزامه بأن ثبوت الأجزاء والشرائط غير المتعذرة في حق من يكتفى منه بالعمل الاضطراري من بعض الجهات ليس لإطلاق أدلتها - لأن موضوعها المسمى، وهو خصوص التام - بل للإجماع على

ص: 186


1- سورة المائدة: 5
2- سورة النساء: 102

ثبوت تلك الأجزاء في حق من لم تتعذر عليه.

ما ذكره قدس سره من امتناع فرض الجامع المركب

وأما ما ذكره من امتناع فرض الجامع المركب الحاكي عن الأجزاء والشرائط الشخصية، فقد أورد عليه سيدنا الأعظم قدس سره بإمكان كون الجامع مركباً ينطبق على القليل والكثير بأن يكون القليل في بعض الأحوال واجداً لجهاتٍ يكون بها مصداقاً للمفهوم المركب بعين مصداقية الكثير له، فكما جاز أن يكون التراب أحد الطهورين عند فقد الماء جاز أن يكون القليل قائماً مقام الكثير في فرديته للجامع بلا قصور فيه.

نعم، جعله مركباً من خصوص الأجزاء المعنونة في كلماتهم من التكبير والقراءة ونحوهما مانع من انضباطه بنحو يصدق على القليل والكثير صحيحين، لكن لا ملزم به في مقام تصوير الجامع ثبوتاً.

ويندفع: بأن ذلك راجع إلى عدم انطباق الجامع على الأجزاء بأنفسها وذواتها، بل بلحاظ خصوصية زائدة عليها، نظير عنوان الطهورية في التراب، وذلك هو المراد بالجامع البسيط، إذ لا يراد به في كلام شيخنا الأعظم قدس سره ما لا ينطبق على المركب الخارجي، بل ما لا يحكي عن خصوصيات أجزائه المتكثرة، وإنما يحكي عن جهة قائمة بتمام أجزائه على اختلافها مع النظر للأجزاء بنحو الإبهام من حيثية النوع والكم.

وحينئذٍ يجري فيه ما أورده شيخنا الأعظم قدس سره على الجامع البسيط، فلاحظ.

هذا، وربما يقرر الجامع الصحيحي بوجه لابد في توضيحه من مقدمة..

وهي: أنه لا إشكال في تعين الماهيات الحقيقة تبعاً لحدودها الواقعية.

فكل شيء يلحظ معها إما أن يكون دخيلاً فيها، فيتعذر صدقها بدونه،

ص: 187

أو غير دخيل فلا يتوقف صدقها عليه، بل لو قارنها في الفرد كان خارجاً عنها غير دخيل في فردية الفرد لها، ولا محكي باللفظ الدال عليها عند إطلاقه على ذلك الفرد، ولا يعقل الترديد فيها بالإضافة للشيء الواحد بنحو لا يتوقف صدقها عليه، لكن لو قارنها كان دخيلاً في فردية الفرد لها ومحكياً بلفظها إذا أطلق على ذلك الفرد، لتبعية حدود الماهية لواقعها غير القابل للترديد، وليست فردية الفرد إلا متفرعة على الواقع المذكور من دون أن تكون دخيلة فيه، ليمكن اختلافها باختلاف الأفراد.

ولذا سبق في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره امتناع فرض الجامع الحقيقي الماهوي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الأجزاء المعتبرة فيها.

أما الماهيات الاعتبارية المخترعة فلا مانع من الترديد فيها، لتقومها بالاعتبار، ولا حرج على المعتبر في كيفية اعتبارها، بل له لحاظها بالإضافة لبعض الخصوصيات بنحو الترديد تبعاً لاختلاف الأفراد فيها سواء كانت تلك الخصوصيات من سنخ ما به الاشتراك بين الأفراد أم من سنخ آخر.

فمثلاً: مفهوم الدار لابد فيه من مكان مسور مشتمل على غرفة، إلا أنه قد أُخذ لا يشرط بالإضافة إلى عدد الغرف، وإلى بعض الكماليات، كالحمام والسرداب، فهي في ظرف عدمها في الفرد لا تخل بصدق الدار التامة عليه، وفي ظرف وجودها لا تكون زائدة عليها خارجة عنها، بخلاف مثل المحل التجاري، فإنه لو اتصل بالدار لم يدخل فيها، بل يكون المجموع أكثر من دار.

إذا عرفت هذا، فاختلاف أفراد الصحيح في الأجزاء والشرائط سنخاً

ص: 188

وكماً لا يمنع من فرض جامع اعتباري بينها قد أخذت فيه خصوصيات الأجزاء بنحو الترديد، تبعاً لاختلاف الأفراد فيها، إلا أنه لابد فيه من لحاظ جهة تجمع شتات أفراده المختلفة، وتقصر عن غيرها من أفراد الفاسد.

والإشكال إنما هو في تعيين تلك الجهة، بعدما عرفت من أنه لا مجال للبناء على لحاظ جهة عرضية أو انتزاعية خارجة عن حقيقة الأجزاء مختصة بالأفراد الصحيحة التي يبتني عليها الجامع البسيط، كما سبق، ومع ما هو المعلوم من أن أي مقدار فرض من الأجزاء والشرائط لا يطابق الأفراد الصحيحة، لأنه صحيح في حال دون آخر، ولذا منع غير واحد من وجود الجامع الصحيحي.

لكن الظاهر أن الإشكال المذكور مختص بما إذا كان الوضع تعيينياً من قبل الشارع الأقدس مع قطع النظر عن التشريع، حيث لا جهة تصلح للتعيين حينئذٍ وقد سبق في مبحث الحقيقة الشرعية أنه لا مجال للبناء عليه، بل الوضع تعيني مستند للاستعمالات المتكثرة من الشارع والمتشرعة في المعاني الشرعية بعد الابتلاء بها بسبب التشريع، إذ عليه يمكن كون التشريع معياراً عندهم في التسمية، لا بمعنى أن الوضع يكون للمشروع بما هو مشروع، ليرجع للجامع البسيط، الذي لا مجال للبناء عليه، بل بمعنى أن العرف الخاص بعد الالتفات لأفراد المشروع من كل حقيقة من هذه الحقائق، وإدراك نحو سنخية بينها، ينتزع منها جامعاً اعتبارياً صالحاً للانطباق عليها ويكون الوضع له.

ولا مانع من شمول الجامع المذكور لما شرع بعدها لتحقق ملاك التسمية فيه.

ص: 189

فالتشريع يكون طريقاً لتحديد المتشرعة الأفراد التي ينتزع الجامع منها بعد إدراك نحو من السنخية بينها، مع انطباق الجامع على كل فردٍ فرد بما له من أجزاء وشرائط إقتضاها التشريع بعناوينها الذاتية، وليست خصوصياتها ملحوظة إلا بنحو الترديد تبعاً لواقع الأفراد المشروعة المختلفة فيها.

ومثل هذا الجامع يمكن الوضع له ثبوتاً، وإن كان إحراز ذلك موقوفاً على النظر في حجة القول بالصحيح.

هذا، ولا يخفى أنه لا مجال لاستعمال الشارع في الجامع المذكور في مقام تشريع الماهية أو تشريع فرد منها، لتأخر صدق العنوان عن التشريع رتبة، بل لابد في بيان ما هو المشروع من الاستعمال بوجه آخر، ولو بالاستعمال في المعنى اللغوي مع تقييده ببعض القيود بنحو تعدد الدال والمدلول.

وحينئذٍ لو شك في اعتبار شيء فيه بنحو تتوقف صحته عليه ولا يكون مشروعاً بدونه لم يكن موضوع للثمرة المتقدمة، وهي إجمال الخطاب بسبب إجمال العنوان الصحيحي من حيثية الأمر المشكوك، لفرض عدم الاستعمال فيه، بل يتعين الرجوع لدليل التشريع فان نهض ببيان اعتباره أو عدمه، وإلا كان المرجع الأصل.

نعم، يمكن الاستعمال فيه من قبل الشارع أو المتشرعة بعد الفراغ عن التشريع..

تارةً: في مقام الإخبار عن التشريع في مثل قولنا: «الصلاة أو صلاة الظهر واجبة».

وأخرى: في مقام بيان أمر آخر، كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ

ص: 190

الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» (1) وقولنا: «زيد كثير الصلاة».

وثالثةً: في مقام الحث على العمل كقوله تعالى: «حافظوا على الصلوات»(2).

ورابعةً: لبيان طلبه بعنوانه خاص زائداً على مطلوبيته الذاتية اللازمة لمشروعيته، كما قد يقال في مثل: لا تدع المسجد من دون صلاة.

أما في الأول فيمكن الشك في اعتبار شيء في العمل يبطل بدون.

والظاهر في مثله عدم التمسك بالإطلاق، لعدم إحراز صدق العنوان بدون المشكوك بعد احتمال عدم مشروعية العمل بدونه، ليدخل في ضابط أفراده.

بل يكون مجملاً من حيثية المشكوك، كما سبق عند بيان ثمرة النزاع.

وأما في بقية الصور فحيث لم يكن المقصود للمتكلم بيان المشروع، بل بيان بعض ما يتعلق به بعد الفراغ عن مشروعيته بحدود، فلا إطلاق من حيثية ما يعتبر فيه ليقع الكلام في التمسك به.

نعم، يمكن في الأخير الشك في اعتبار شيء في موضوع المطلوبية الزائدة من دون أن يخل تخلفه بصحة العمل ومشروعيته الذاتية، بل بخصوصيته، وحيث كان ظاهر المتكلم بيان موضوع المطلوبية الزائدة أمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ذلك، لصدق العنوان بدونه، بناءً على أن المراد به الجامع المذكور، وربما يأتي عند الاستدلال للصحيح والأعم بعض ما ينفع في المقام، ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 191


1- سورة العنكبوت: 45
2- سورة البقرة: 238
المقام الثاني في الجامع الأعمّي

وبما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي يتضح تقريب الجامع الأعمي، لأنه بعد ابتلاء أهل العرف الشرعي بالماهيات المخترعة الجديدة والنظر إلى أفرادها المختلفة، وإدراك نحو سنخية بينها، فكما يمكنهم انتزاع جامع اعتباري بين أفرادها المشروعة مع أخذ خصوصيات الأجزاء فيه بنحو الترديد حسب اختلاف الأفراد فيها، كذلك يمكنهم انتزاع جامع أوسع يشمل هذه الأفراد وما يشبهها عرفاً مما يسانخها في الأجزاء، وإن كان فاسداً لعدم مشروعيته.

وعليه في الجملة يبتني تقسيم العمل إلى التام والناقص والصحيح والفاسد، لأن التقسيم فرع ملاحظة جامع بين القسمين يكون مقسماً لهما.

ولعله إلى هذا يرجع تقرير الجامع بأنه: عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور التسمية مدارها عرفاً، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى وعدمه عن عدمه، وفي التقريرات أنه نسب إلى جماعة من القائلين بالأعم، بل قيل: أنه المعروف بينهم.

حيث لا يبعد عدم إرادتهم الوضع لمفهوم المعظم، لعدم انسباقه من

ص: 192

هذه الألفاظ، بل لواقع الأجزاء التي يتحقق بها المعظم في الخارج. كما لا يبعد أن يراد بالمعظم الجملة المعتد بها التي يكتفي بها في صدق الاسم عرفاً بنحو البدلية، لا خصوص أجزاء معينة منها كالأركان، لوضوح صدق المسمى عرفاً مع الإخلال بأي جزء فرض.

وأيضاً لا يراد بالوضع لها الوضع لخصوصها بحيث يكون انضمام الباقي لها موجباً للزيادة على المسمى، للقطع ببطلانه، بل لزومها في تحقق المسمى.

وإن صدق المسمى على التام بمجموعه، بل على الزائد عليه أيضاً.

غاية الأمر أنه يلزم الترديد بالإضافة لخصوصيات الأجزاء المختلفة حسب اختلاف الأفراد فيها سنخاً وكماً، وقد سبق في تقريب الجامع الصحيحي أنه ليس محذوراً في المقام.

ومنه يظهر حال ما أورد عليه في التقريرات والكفاية مما يبتني على امتناع الترديد في المفهوم بالإضافة للخصوصيات التي تختلف الأفراد فيها.

ولعل هذا أحسن الوجوه المذكورة في المقام وأبعدها عن الإشكال، كما يظهر، بمراجعة تلك الوجوه في التقريرات والكفاية وغيرهما، ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ذلك.

الاستدلال على الصحيح بوجوه

إذا عرفت هذا، فقد استدل على الصحيح بوجوه:

أولها: التبادر

أولها: التبادر. وقد سبق في تقريب الجامع الصحيحي أنه لا إجمال في مفهومه كي يتعذر التبادر إليه، غاية الأمر أن تفرع فردية الفرد منه على تشريعه مانع من الحمل عليه في الخطابات المتكلفة للتشريع، وأنه لا مانع من إرادته في مقام الإخبار عنه أو غيره مما لا يرجع إلى مقام التشريع.

ص: 193

لكن قد يجاب عن التبادر: بإمكان استناده إلى كون الصحيح محط الأغراض والآثار، فإن ذلك كالقرينة العامة على إرادته عند الإطلاق، المانعة من القطع باستناد التبادر لحاق اللفظ.

ثانيها: صحة السلب

ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، فقد أصر عليها المحقق الخراساني قدس سره مدعياً أن الإطلاق وإن صح تسامحاً وبالعناية إلا أن السلب يصح أيضاً بالمداقة، التي هي المعيار في الكشف عن قصور المعنى الموضوع له عن مورد السلب.

لكن المتيقن صحة السلب بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم - كالأجزاء وفراغ الذمة - المصحح لتنزيل العمل منزلة العدم، أما صحته بلحاظ المعنى الارتكازي للمسميات التي هي علامة المجاز فهي لا تخلو عن إشكال، ولا يتسنى القطع بها.

ثالثها: ما تضمنته الآيات والروايات

ثالثها: ما تضمن من الآيات والروايات إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات، كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»(1).

وقوله (ص): «الصلاة عماد دينكم»(2)، وقوله عليه السلام: «الصلاة قربان كل تقي»(3)، وقوله عليه السلام: «الصوم جنة من النار»(4)، وقوله عليه السلام: «حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤنة عيالاتكم»(5).

بدعوى: أن مقتضى إثباتها للماهية ثبوتها لجميع أفرادها، وحيث لا

ص: 194


1- سورة العنكبوت: 45
2- الوسائل ج 2، باب: 1 من أبواب الاستحاضة، حديث: 5
3- الوسائل ج 4، باب: 12 من أبواب قواطع الصلاة، حديث: 6
4- الكافي كتاب الايمان والكفر، باب: دعائم الإسلام، حديث: 5، ج 2:19
5- الوسائل ج 8، باب: 1 من أبواب وجوب وشرائطه، حديث: 7

تثبت للفاسد لم يكن من الأفراد الداخلة في المسمى.

وكذا ما تضمن أخذ بعض الأجزاء والشرائط في الماهية كقوله عليه السلام:

«لا صلاة إلا بطهور»(1) وقوله عليه السلام: فيمن لا يقرء بفاتحة الكتاب في صلاته:

«لا صلاة له إلا أن يقرأ بها...»(2) وقوله عليه السلام: «فإن النبي (ص) قال: إن أصحاب الأراك لا حج لهم - يعني الذين يقفون عند الأراك»(3)، لظهوره في عدم صدق معاني هذه الألفاظ حقيقةً على الفاقد لهذه الأمور وإن صدقت عليها تسامحاً.

لكن سبق عند الكلام في تقريب المحقق الخراساني قدس سره للجامع الصحيحي أنه لا مجال لاستفادة اختصاص الآثار بالأفراد الصحيحة ولا عمومها لجميعها من الأدلة المثبتة لها.

على أنها لو إختصت بها فلعله ليس لانحصار أفراد المسمى بالصحيح، بل لورود أدلة هذه الآثار للحث على العمل تأكيداً لداعوية التشريع ودفعاً للعمل بمقتضاه، فيختص ما يقصد بيانه منها بمورده وإن كان المسمى أعم منه.

دعوى منع اعتماد المتكلم على القرينة ودفعها

ودعوى: أنَّ اعتماد المتكلم على القرينة المذكورة خلاف الأصل، وأن مقتضى الأصل جريه على مقتضى الوضع.

مدفوعة: بأنه لم يتضح بناء العقلاء على عدم اعتماد المتكلم على ما يحتف بالكلام مما هو صالح للقرينية مع الشك في المراد فضلاً عما لو علم

ص: 195


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1
2- الوسائل ج 4، باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة، حديث: 1
3- الوسائل ج 9، باب: 19 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، حديث: 11

بالمراد وشك في كيفية الاستعمال، والمتيقن إنما هو بناؤهم على أصالة عدم القرينة عند الشك في وجودها مع الشك في المراد، كما أشار إليه في الجملة المحقق الخراساني قدس سره.

وأما ما تضمن نفي الماهية بانتفاء بعض الأجزاء والشرائط فالاستدلال به موقوف على إحراز كون النفي حقيقياً بلحاظ انتفاء المسمى لا ادعائياً بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم، ولا تنهض أصالة الحقيقة بذلك، لأن المتيقن من بناء العقلاء عليها ما لو شك في المراد دون ما لو علم بالمراد وشك في كيفية الاستعمال.

ومن الظاهر أن ما سيق الكلام له وكان هو الغرض الأقصى للمتكلم ليس هو بيان سعة المفهوم وتحديد انطباقه، نظير كلام اللغويين، ليرجع الشك في كون النفي حقيقياً أو ادعائياً إلى الشك في المراد الذي هو مجرى أصالة الحقيقة، بل بيان عدم الاعتداد بالعمل في مقام الامتثال، لأن ذلك هو وظيفة الشارع الأقدس، ولذا لو دل على الاجتزاء بفاقد الجزء أو الشرط دليل كان معارضاً للأدلة المتقدمة، ولو كانت تلك الأدلة مسوقة لتحديد المفهوم لم يكن معارضاً لها، لأن عدم صدق المسمى على الفاقد لا ينافي الاجتزاء به بدلاً عنه.

فمع العلم بمراد المتكلم - وهو عدم الإعتداد بالفعل الناقص في مقام الامتثال - لا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كون النفي حقيقياً لا ادعائياً، لتنهض الأدلة المتقدمة بالمدعى، وإنما تنهض بأن عدم الاعتداد حقيقي لبطلان العمل، لا مجازي بلحاظ عدم كماله.

ومنه يظهر حال ما في التقريرات من دعوى: ظهور التركيب المذكور

ص: 196

في نفي الحقيقة، وأنه مندفع بأن الظهور المذكور موقوف على سوق الكلام لشرح المفهوم أما مع سوقه لبيان عدم الاعتداد بالناقص في مقام العمل، فلا يكون ظاهراً إلاّ في ذلك، فيحمل على عدم الاعتداد به حقيقةً لبطلانه.

رابعها: طريقة الواضعين الوضع لخصوص التام

رابعها: أن طريقة الواضعين وديدنهم في الوضع للماهيات المخترعة هو الوضع لخصوص التام منها، لأنه الذي تقتضيه حكمة الوضع وهي مساس الحاجة للتعبير عنها كثيراً، والحكم عليها بما هو من لوازمها وآثارها، وأما استعماله في الناقص الذي قد تدعوا الحاجة إليه فليس إلا تسامحياً تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود.

ومن الظاهر أن الشارع لا يتخطى عن الطريقة المذكورة لارتكازيتها.

وقد اعتمد شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - على هذا الوجه وأطال في تقريبه وتوضيحه.

تقريب منع هذا الوجه بوجهين

وذكره المحقق الخراساني قدس سره إلا أنه قال: «ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدةٍ إلا أنها قابلة للمنع»، والمذكور في تقريب المنع وجهان:

الأول ما ذكره العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن غرض الواضع لما كان هو تسهيل طريق التفهيم والتعبير عن المعنى الجديد فهو لا يختص بالصحيح التام، بل يعم الفساد الناقص أيضاً، حيث قد يتعلق الغرض بالتعبير عنه وبيانه، كما قد يتعلق بالتعبير عن الجامع بينه وبين الصحيح، ولا وجه مع ذلك لاختصاص الصحيح بالوضع، بل يتعين الوضع للأعم تبعاً لعموم الغرض، وعليه جرت سيرة العقلاء.

بل ذلك في أوضاع الشارع الأقدس أظهر، لأن غرضه في أكثر أحكامه وفي تشريعها هو تسهيل الأخذ بشريعته وتيسير طريق الوصول إليها

ص: 197

حيث كان الوضع للأعم مستلزماً لفتح باب الأخذ بالإطلاقات التي يتوصل بها لمعرفة الأحكام، كان المناسب منه أختياره، دون الوضع للصحيح الذي ينسد معه ذلك، كما سبق عند الكلام في ثمرة المسألة.

وفيه: أن تفهيم الأفراد الفاسدة أو الأعم والتعبير عنهما ليس داخلاً في الغرض النوعي من الوضع للمعنى الجديد، ولا في المقصود بالأصل منه، بل قد يتعلق به الغرض الشخصي لحاجة طارئة، كما يتعلق بتفهيم سائر المعاني من دون أن يكون منظوراً ولا ملتفتاً إليه حين الوضع، بل ليس المنظور والملتفت إليه إلا المعنى الجديد بما له من حدود مضبوطة بها يتقوم الصحيح التام منه، وبها يكون موضوعاً للآثار الداعية لاختراعه.

كما أن الرجوع للإطلاق على تقدير الوضع للأعم - لو تم - ليس من الأمور المقصودة من الوضع ولا الملتفت إليها حينه، وإن كان من توابعه المترتبة عليه بمقدمات الحكمة، بل ليس الملتفت إليه والمقصود منه إلا تفهيم المعنى.

ولو فرض الالتفات إليه، فرفع الإجمال ببيان حدود المسمى وتوضيحه الذي لا إشكال في الرجوع لإطلاقه - كما سبق - أولى من الوضع للأعم، المبني على الدوران مدار التسمية العرفية التي هي غير منضبطة والتي قد تستلزم ضياع كثير من الحدود المأخوذة في المطلوب، أو تكلف التقييد بها في كل حكم تؤخذ فيه.

الثاني: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن التمام والنقصان - كالصحة والعيب - تطرآن على الماهيات المسميات، فيقال: سرير ناقص وسرير تام، وبيت ناقص وبيت تام، وثوب ناقص وثوب تام، كما يقال: أنه صحيح

ص: 198

ومعيب بلا تصرف ولا عناية، فلابد من الالتزام بكون المسميات بهذه الأسماء الأعم من التام والناقص الذي يطرأ عليه النقصان كما يطرأ عليه التمام، وكذا الحال فيما نحن فيه.

وفيه: أن فرض التمامية والنقص شاهد بكون المسمى هو إتمام، إذ لو عم الناقص كانت الماهية المسماة مشككة، والمشكك يصدق على المرتبة الدانية بعين صدقة على المرتبة العالية، من دون أن تكون الأولى ناقصة ولا الثانية زائدة، كالخط الموضوع للأعم من الطويل والقصير، والجماعة الموضوعة للأعم من الكبيرة والصغيرة، ولا يكون النقص إلا بفوت بعض المسمى الملازم لأخذ متممه فيه واختصاص التسمية بالتام.

ولذا كان التوصيف بالنقص من سنخ الاستدراك والاستثناء عرفاً، وبالتمامية من سنخ التأكيد الذي لا يختلف مفاده عن المؤكد ثبوتاً، وإن اختلفا إثباتاً.

كما لا إشكال ظاهراً في إنصراف الإطلاق إليه وإن لم يختص به الأثر، بل كان الناقص وافياً ببعض ما يترتب على التام، حتى إذا لم تكن قرينة على كون الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.

ولا يتأتى هنا ما سبق في التبادر من احتمال استناده للقرينة العامة، وهي اختصاص الغرض بالتام، لفرض عدم اختصاص التام بالأثر، وعدم القرينة على كون الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.

ولا مجال لقياس المقام بالصحة والعيب اللذين هما من الحالات الطارئة على الفرد من دون إخلال بشيء من مقومات ماهيته الدخيلة في المسمى، لعدم كون المعيار فيهما على تمامية الأجزاء وعدمها، بل على

ص: 199

عروض أمور خارجية تمنع من ترتب الغرض النوعي من الماهية على الفرد.

ومن هنا لابد من ابتناء التقسيم إلى التام والناقص على نحو من العناية، والخروج في لفظ المقسم عن معناه - وهو ما يطابق التام - واستعماله في الأعم منه ومن الناقص، نظير تقسيم الماء إلى المطلق والمضاف، والدينار إلى الصحيح والمزوّر، وبلحاظه قد يطلق على الناقص، ولا يبتني على الحقيقية.

ولذا لا إشكال في صحة التقسيم والاستعمال المذكورين فيما يعلم باختصاصه بالتام، كالقرآن المجيد، والكتب التي يسميها أصحابها، والتي لا إشكال في كون المسمى هو التام منها، مع أنه يصح تقسيم نسخها للتام والناقص.

نعم، حيث كان بين القسمين في موارد التقسيم المذكورة نحو من السنخية متقومة بالصورة أو غيرها كان انتزاع الجامع الأعم بينها ارتكازياً لا يحتاج لمزيد عناية، بل قد تخفى العناية فيه، وليس هو كالتقسيم في أسماء المقادير - كالأعداد والأوزان والمكاييل والمساحات - المتقومة بمحض الكم من دون أخذ نحو صورة فيها يسهل بملاحظتها انتزاع الجامع بين التام والناقص منها، ولذا يحتاج التقسيم فيها لمزيد عناية ظاهرة.

ومن هنا فقد يجعل التوصيف بالتمامية والنقص، والتقسيم للتام والناقص دليلاً آخر على الوضع للصحيح.

اللهم إلا أن يستشكل في صحة التوصيف والتقسيم بلحاظ نفس العناوين والمسميات، لاحتمال ابتنائه على ملاحظة ترتب الأثر وعدمه، فيراد التمامية والنقص بلحاظ الأجزاء التي يترتب عليها الأثر، لا الأجزاء

ص: 200

المقومة للماهية المسماة، فلا ينافي الوضع للأعم، بل يناسبه.

وكيف كان، فقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض الوجهين المتقدمين بدفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الاستدلال بطريقة الواضعين، وأن الظاهر تماميته في نفسه بناءً على كون الوضع في المقام تعيينياً مستنداً للشارع الأقدس أو غيره.

أما بناءً على ما سبق في مبحث الحقيقة الشرعية من كون الوضع تعينياً مستنداً للاستعمال في المعنى الجديد بعد تجدد الابتلاء به فكما يمكن اختصاصه بالصحيح لأنه مورد الغرض والأثر فتنصرف الاستعمالات إليه حتى يختص الوضع به كذلك يمكن عمومه للفاسد الذي هو مورد للابتلاء أيضاً بعد اختراع الماهية، فيكون الوضع للجامع المنتزع بملاحظة السنخية الذي تقدم تقريب الجامع الأعمي به، وتعيين أحد الأمرين محتاج إلى دليل.

نعم، لا يبعد كون الأول أنسب بلحاظ ما هو المرتكز من كون الصحيح هو المنظور بالأصل بسب كونه مورد الأثر وموطن الغرض والفاسد من توابعه من غير أن يكون مراداً بالاستقلال، لكن في بلوغ ذلك حداً صالحاً للاستدلال إشكال.

ويأتي ما يتضح به الحال عند بيان المختار إن شاء الله تعالى.

هذه عمدة الوجوه المستدل بها للصحيح، وهناك بعض الوجوه الأُخر ظاهرة الضعف خصوصاً بملاحظة ما تقدم، فلا مجال لإطالة الكلام فيها.

الاستدلال على الأعم بوجوه

وحيث انتهى الكلام في حجج الصحيح يقع الكلام فيما استدل أو يستدل به على الأعم، وهو وجوه:

أولها: التبادر

أولها: التبادر الذي هو ممكن بناءً على ما سبق من تصوير الجامع

ص: 201

الأعمي، لكن لا إشكال في التبادر لخصوص الصحيح، وإن سبق أنه لا مجال للاستدلال به على الوضع له لاحتمال عدم استناده لحاق اللفظ، بل للقرينة العامة، وهي اختصاص الأثر به، وعلى كل حال لا تبادر للأعم.

ثانيها: عدم صحة السلب

ثانيها: عدم صحة السلب عن الفاسد، الذي لا مجال للإشكال فيه بعدم تحصيل الجامع الأعمي، كما قد يظهر من غير واحد.

لما سبق من تقريبه، ولو غض النظر عنه فالجامع المذكور قد يكون ارتكازياً غير متحصل لنا تفصيلاً، إلا أنه يستكشف بصحة السلب وعدمها سعة انطباقه في الخارج، وهو نحو من المعرفة له، لأنه معرفة له بلازمه.

فالعمدة في رده: أن عدم صحة السلب وإن كان مسلماً في الجملة إلا أنه لم يتضح عدم صحته بملاحظة المسمى بما له من الحدود المفهومية، إذ قد يكون بلحاظ الجامع المتنزع ارتكازاً، المشار إليه عند الكلام في صحة التقسيم إلى التام والناقص، الذي سبق أن انتزاعه لا يحتاج إلى مزيد عناية بل قد تخفى العناية فيه لكونه ارتكازياً، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يشهد بإبتناء صحة السلب على ذلك عند بيان المختار في المقام.

ثالثها: صحة التقسيم

ثالثها: صحة التقسيم إلى الصحيح والفاسد، حيث يدل على انطباق المسمى المقسم على كل منهما وكونه أعم منهما.

وما سبق من منع الاستدلال على الأعم بصحة التقسيم إنما هو في التقسيم للتام والناقص، لتوقف صدق التمامية والنقص على دخل الجزء الذي يدوران مداره في المسمى، بخلاف الصحة والفساد فان المعيار فيهما ترتب الغرض النوعي وعدمه وإن تحقق المسمى في الحالين، نظير ما تقدم في الصحة والعيب.

ص: 202

ويظهر الحال فيه مما تقدم في سابقه، لوضوح أن صحة التقسيم لا تكشف عن عموم المعنى الموضوع له، إلا إذا ثبت كون المراد بالمقسم في مقام التقسيم هو المعنى الموضوع له بما له من الحدود المفهومية، ولا طريق لإثبات ذلك في المقام بعدما سبق من أن الجامع بين التام والناقص ارتكازي تخفى فيه العناية، حيث قد يكون هو المراد في المقام وإن لم يكن موضوعاً له.

رابعها: جملة من النصوص الظاهرة في إطلاق العناوين على الفاسد

رابعها: جملة من النصوص الظاهرة، في إطلاق العناوين على الفاسد، كموثق فضيل - أو صحيحه - عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني: الولاية»(1)، وفي صحيح زرارة عنه عليه السلام: «أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه...»(2).

فإن الأخذ بالأربع في الأول، وبالصوم والتصدق والحج في الثاني لا يكون إلا بإرادة الفاسد منها، بناءً على بطلان العبادة من غير ولاية، ونحوهما تضمن نهي الحائض ونحوها عن الصلاة مما هو كثير جداً، لتعذر الصحيح منها في حقها، فيمتنع نهيها عنه.

وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، كما سبق في الاستدلال بنظير ذلك للصحيح.

على أن المراد من الأربع التي أُخذ بها في الأول هي التي بني عليها

ص: 203


1- الكافي كتاب الايمان والكفر، باب دعائم الإسلام، حديث: 3، ج 2:18
2- الوسائل ج 1، باب: 29 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 2

الإسلام، وهي خصوص الصحيحة، فلابد من كون الأخذ بها مجازياً، ولو لاعتقادهم صحتها، فلا يكشف عن صدق المسمى بفعلهم حقيقة: كما أن ما تضمن النهي عن الصلاة للمحدث - مثلاً - إن كان إرشادياً فكما يمكن أن يكون إرشاداً إلى بطلان العمل مع تحقق المسمى به - كما هو مقتضى الوضع للأعم - يمكن. أن يكون إرشاداً إلى عدم تحقق العمل ذي العنوان الخاص وهو المسمى كما هو مقتضى الوضع للصحيح.

وإن كان مولوياً راجعاً إلى تحريم الفعل - كما هو المدعى في وجه الاستدلال - فمن المعلوم أن المحرم ليس مطلق ما يصح إطلاق الاسم عليه عرفاً ليناسب الأعم، بل خصوص ما هو الصحيح لولا الجهة الموجبة للنهي عنه، فيناسب الصحيح.

وبعبارة أخرى، لابد من إبتناء الاستعمال المذكور على نحو من التصرف والخروج عن مقتضى الأصل، سواءً قلنا بالصحيح أم الأعم، إذ على الأعم يراد من الإطلاق بعض أفراد المسمى، وعلى الصحيح يراد بالعنوان ما يصدق عليه المسمى لولا الجهة الموجبة للنهي، ولا مرجح للأول ليصح الاستدلال بمثل هذا الاستعمال.

ومنه يظهر حال الاستدلال بإمكان نذر مثل ترك الصلاة في الحمام مع عدم إرادة خصوص الصحيح منها لتعذره بسبب النهي الحاصل من النذر، ولغير ذلك مما أطالوا في بيانه.

لاندفاعه: بما سبق من أن الاستعمال أعم من الحقيقة، ولزوم إبتناء الاستعمال على نحو من التصرف والخروج عن مقتضى الأصل بأحد الوجهين المتقدمين، وقد أطالوا في تقريب هذا الوجه والجواب عنه بما

ص: 204

يضيق الوقت عن متابعتهم فيه. كما يضيق عن التعرض للوجوه الأُخَرْ التي سطّرها في التقريرات، لظهور ضعفها، ولاسيما بملاحظة بعض ما سبق.

المختار في المقام

وقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض ما ذكروه بإثبات أحد الأمرين من الصحيح والأعم.

وحيث سبق في تقريب الثمرة عدم التمسك بالإطلاق على كل منهما يتضح عدم أهمية هذا الخلاف، لعدم ترتب الثمرة العملية عليه.

نعم، لا يبعد إمكان تقريب الوضع بنحو من التفصيل بين الوجهين الذي قد تترتب عليه نحو من الثمرة العملية، قد يلائم بعض الوجوه المتقدمة للصحيح، وعمدتها الوجه الرابع.

تفصيل بين الوجهين والكلام في الأجزاء

بيان ذلك: أن الظاهر من الأدلة الشارحة للعبادات بأنواعها، كالوضوء والصلاة والحج، وأصنافها، كصلاة العيدين وحج الأفراد كونها بصدد بيان أجزاء المسميات المعتبرة فيها التي يكون الإخلال بشيء منها موجباً لنقص العمل المسمى وعدم تماميته، لا بيان ما يجب فيها وإن لم تتوقف عليه تمامية المسمى، وإلا فلا طريق لمعرفة جزئية شيء منها، مع أنه لا إشكال في استفادة جزئيتها إما بمجموعها - كما هو الحال على الصحيح - أو في الجملة - كما هو الحال على الأعم.

ومن ثم كان ظاهر الأدلة المذكورة أن المسمى هو المركب من تمام الأجزاء - تبعاً لظهورها في لزومها بتمامها - لا المركب منها في الجملة.

واحتمال خروج المتشرعة بسبب كثرة الاستعمالات إلى تسمية الأعم من التام والناقص بعيد جداً لا يعتد به عرفاً.

سواء أريد به كون الأعم هو المسمى ابتداءً، بحيث لم يبلغ ما عيَّنه

ص: 205

الشارع حد التسمية، أم تجدد الوضع له بعد الوضع للتام بنحو النقل أو الاشتراك.

لمخالفة الأول لما هو المتعارف من أخذ الماهيات المخترعة من مخترعها، ولاسيما في حق أتباعه، بضميمة ظهور الأدلة الشارحة في كونها شرحاً للمسمى بعد الفراغ عن التسمية، خصوصاً بعد أن كان التام هو محط الغرض ومورد الأثر المهم.

والثاني إنما يتجه لو لم يبق لخصوصية التام خصوصية في الابتلاء تقتضي خصوصية في الحاجة للتفهيم، بحيث يكون الابتلاء به كالابتلاء بالناقص، ولا إشكال في عدم ذلك، بل الصحيح باقٍ على ما هو عليه من الخصوصية الموجبة للإهتمام بتفهيمه، والابتلاء بالفاسد إنما هو بتبعه.

بل بعضها يندر الابتلاء بالفاسد منه، كصلاة الآيات ونحوها، حيث لا موجب للخروج في تسميتها عما عيَّنه الشارع من أجزاء لها.

بل يشهد بمطابقة التسمية في عرف المتشرعة لذلك الرجوع إليهم في بيان أجزاء المسميات وشرحها، سواء أريد شرح الماهيات النوعية كالصلاة والصوم والحج، أم شرح أصنافها، كصلاة الظهر والعيدين، وحج التمتع، فإنهم يستوفون الأمور المعتبرة فيها على أنها بتمامها أجزاؤها المقومة لها والشارحة لها، التي تنقص بنقص بعضها، لا أنه لابد فيها من وجودها في الجملة، بحيث يتم المسمى مع نقص شيء منها، وإن لم تجزِ إلا بتماميتها.

وأما احتمال كون الشرح في الأدلة وبيانات المتشرعة ليس للماهيات المسميات على إطلاقها، بل لخصوص المطلوب منها لأنه موطن الغرض، فلا تنافي كون المسمى هو الأعم.

ص: 206

فهو لا يناسب البيانات المذكورة جداً، لعدم الإشعار في شيء منها بعموم المسمى وعدم أخذ خصوصيات الأجزاء فيه.

بل الذي يظهر من ذلك هو المفروغية عما سبق في تقريب الجامع الصحيحي من تفرع التسمية على التشريع، وعدم خروجهم فيها عنه للأعم من المشروع والناقص مما شاركه في السنخية الارتكازية العرفية، حيث لا يسأل عن المشروع إلا بالسؤال عن المسمى ولا يبين إلا ببيانه، من دون إشعار بكون السؤال والبيان لخصوص بعض أفراده.

وبذلك يستكشف أن إطلاقهم الأسماء بلحاظ الجامع - عند الاستعمال في الناقص، والحمل عليه وعدم صحة السلب عنه، أو في مقام التقسيم له وللتام - ليس لكونه موضوعاً له، بل لارتكازيته الموجبة لخفاء العناية في الاستعمال فيه والغفلة عنها، كما جرى العرف على ذلك في جميع الماهيات المخترعة وإن اختص الوضع بالتام، كما سبق، وبهذا يتمم ما سبق في الوجه الرابع من وجوه الأستدلال للصحيح.

نعم، لا يبعد البناء على أن الماهية الواحدة إذا اختلفت أصنافها كان المعيار في صدقها هو الأجزاء المعتبرة في جميع الأصناف مع الترديد فيها بالإضافة للخصوصيات الأُخَر حسب اختلاف تشريعها، لأن ذلك هو الأنسب بشرح الماهية وبيان أجزائها من قبل الشارع، فالصلاة - مثلاً - هي عبارة عن تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين بأذكارها والتشهد والتسليم، لأنها معتبرة في كل الصلوات، مع الترديد من حيثية مراتب الركوع والسجود والقراءة، ومن حيثية عدد الركعات والركوعات، ومن حيثية السورة والتسبيحات في الأخيرين، وغيرها مما يعتبر في أصنافها

ص: 207

المختلفة.

فلو تمت هذه الأمور تمت الماهية وصدقت الصلاة بإطلاقها وإن لم تكن مشروعة، والإخلال بالخصوصيات الزائدة إنما يوجب الإخلال بالأصناف المشروعة منها بخصوصياتها كالظهر والعيدين، ولا يخل بالماهية إلا نقص الأجزاء المقوِّمة لها، فإذا خلت الصلاة عن الركوع كانت صلاة ناقصة لا تامة، أما إذا كانت ركعة واحدة للأجزاء المذكورة فهي صلاة تامة مشروعة - كالوتر - أو غير مشروعة.

والظاهر أن ما تضمن تشريع بعض الصلوات الخالية عن الأجزاء المذكورة أو بعضها، إما أن يبتني على البدلية عن الصلاة، كصلاة المطاردة - كما يناسبه التعبير في بعض نصوصها بفوت الصلاة - أو على الاجتزاء بالصلاة الناقصة، كصلاة الأخرس الخالية عن القراءة وجميع موارد قاعدة الميسور. وإطلاق الاسم عليها توسع بلحاظ تحقق الغرض المهم به.

كما أن ما تضمن الاكتفاء بالناقص في موارد حديث: «لا تعاد الصلاة...»(1) ونحوها لا يستلزم كونها صلاةً تامةً، بل مقتضى الجمع بين الأدلة كونها ناقصة مجزئة. وهكذا الحال في تمام الماهيات كالحج والعمرة وغيرهما.

ولا يبعد مطابقة ما ذكرنا لمفهوم المسميات المذكورة عند المتشرعة، كما يستكشف بالرجوع إليهم في شرحها وبيان أجزائها، وإن كانوا قد يخطئون في بعض ذلك للجهل بالحكم الشرعي.

الكلام في الشروط

هذا كله في الأجزاء، وأما الشروط فهي مختلفة، إذ لا إشكال في

ص: 208


1- الوسائل ج 4، باب: 10 من أبواب الركوع، حديث: 5

دخل قصد عناوين الأفعال من صلاةٍ أو نحوها ولو إجمالاً، وفي دخل الترتيب بين الأجزاء المذكورة إشكال.

كما أن الظاهر عدم دخل بقية الشروط وإن إعتبرت في تمام أفراد الماهية، كالخلوص في جميع العبادات، والطهارة في الصلاة، كما هو الحال في الشروط الدخيلة في فعلية ترتب الأثر في الماهيات المخترعة عند العرف، لصحة الحمل على الفاقد لها ارتكازاً، ولو كانت دخيلة في التسمية لم يصح الحمل إلا بعناية المشابهة، كالحمل على صورة العمل من دون قصد عنوانه، مع أنه ليس كذلك قطعاً، وليس هو كالفاقد للجزء الذي يصح فيه الحمل بلحاظ الجامع الارتكازي بين التام والناقص، على ما تقدم، لأن الفاقد للجزء بعض العمل المسمى وفاقد الشرط مباين لواجده رأساً، فلا مجال فيه للجامع المذكور.

وأما ما تضمن أن إفتتاح الصلاة الوضوء(1)، وأنه والوقت من فرائض الصلاة(2)، فلابد من حمله على لزوم الإتيان بالوضوء لأجلها ولزوم إيقاعها في الوقت، لا أنهما مقومان لمفهومها، إذ لا ريب في مباينة الوضوء والوقت بنفسهما لها، وإنما الكلام في عدم صدقها على العمل إلا مع إيقاعه في الوقت وحال الطهارة المسببة عن الوضوء، ولا يشعر بذلك الألسنة المتقدمة.

ومثلها ما تضمن أن الطهور أحد أثلاث الصلاة(3)، سواء أريد به استعمال الطهور بالوضوء والغسل، أم أثر ذلك وهو الطهارة، للقطع بعدم

ص: 209


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 4 و 7
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 3
3- الوسائل ج 4، باب: 9 من أبواب الركوع، حديث: 1

كونهما جزءاً من المسمى، بنحو يكون أحدهما ثلثاً منه، وإنما الكلام في شرطيتها له، ولا يدل عليه اللسان المذكور.

ما ادعاه السيد الخوئي قدس سره من دوران التسمية مدار الأركان

ثم إن بعض مشايخنا ادعى دوران التسمية مدار الأركان من الأجزاء والشرائط. لا بمعنى كونها تمام المسمى بنحوٍ لو انضمَّ إليها غيرها مما يعتبر في المأمور به لكان زائداً على المسمى كالتعقيب، بل بمعنى توقف صدق الاسم عليها، مع كون المسمى مردداً بالإضافة إلى غيرها، حيث سبق إمكانه في الماهيات المخترعة، فتدخل في المسمى في ظرف وجودها، ويصدق بدونها في ظرف عدمها.

بدعوى: أن الماهيات المذكورة لما كانت مخترعة للشارع، متقومة باعتباره الوحدة بين أجزائها، فلابد من الرجوع إليه في مقوماتها، ومقتضى أدلة الأركان كونها مقومة للماهيات المذكورة لا تحقق بدونها، وأن ما زاد عليها غير مقوم لها ولا مأخوذ فيها، بل في المأمور به.

لكنه يشكل..

المناقشة فيه

أولاً: بأن التعبير بالأركان لم يرد في البيانات الشرعية، ليدعى ظهوره في تقوم المسمى بها، بل في ألسنة الفقهاء بالإضافة إلى بعض الأجزاء والشرائط بعد رجوعهم للأدلة، التي هي لم تتضمن إلا عدم أجزاء الفاقد لها ولو سهواً، وأجزاء الواجد لها الفاقد لغيرها من الأجزاء والشرائط سهواً.

والأول أعم من عدم تحقق المسمى بالفاقد، لإمكان تحققه به وعدم الاجتزاء به لعدم وفائه بالملاك إلا في ظرف انضمام المفقود له مع إمكان استيفاء الملاك بالإتيان به منضماً له، وهو راجع في الحقيقة إلى عدم تعلق الطلب بالمسمى على إطلاقه بل بالمقيد منه. كما هو الحال لو جيء بالفاقد

ص: 210

لغير الأركان عمداً حيث لا إشكال في عدم الاجتزاء به مع تحقق المسمى به عنده.

كما أن الثاني أعم من تحقق المسمى به، حيث يمكن الاجتزاء بالناقص، بل بالمباين، لعدم إمكان تدارك الملاك التام معه، أو لسقوط ملاكه بسببه.

وإما ما تضمن نفي الماهية بفقد بعض الأركان، مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(1).

فهو - مع ورود نظيره في غير الأركان - لا ينهض بالاستدلال، لإمكان كون النفي ادعائياً، ولا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كونه حقيقياً، كما سبق في الوجه الثالث للاستدلال على القول بالصحيح.

كما أن ما تضمنته جملة من النصوص من الحكم بتمامية العمل أو صحته مع فقده لغير الأركان سهواً مسوق لبيان إجزائه الذي هو الأثر المهم المصحح لانتزاع الصحة والتمامية، لا لبيان تحقق المسمى به لينفع فيما نحن فيه.

على أنه قد ورد نقيض ذلك مع تركه عمداً الذي لا يخل بصدق المسمى عنده.

وثانياً: أن الأفراد مختلفة في قدر الأركان المعتبرة فيها، فالمعتبر - مثلاً - في صلاة الصبح ركوعان، وفي صلاة الظهر أربعة، وحينئذٍ إن كانت التسمية دائرة مدار صرف الوجود لكل منها - وهو المعتبر في ركعة واحدة - كما سبق منا - مع كونها مرددة بالإضافة للزائد عليه، فمن الظاهر أن أدلة

ص: 211


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1

الأركان كما تقتضي اعتبار وجودها في الجملة تقتضي اعتبار المقادير الخاصة منها، المختلفة باختلاف الأفراد المشروعة، بنحو تخل الزيادة عليها والنقيصة عنها.

وإن كانت دائرة في مقدارها مدار التشريع - نظير ما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي - فهو لا يناسب ما صرح به من عدم معقولية الجامع الصحيحي لاختلاف أفراده في الأجزاء المعتبرة.

وأشكل من ذلك استدلاله للأعم بصحة إطلاق الاسم على الفاسد دون عناية.

إذ فيه: أنه لو غض النظر عما سبق في رد الاستدلال المذكور، فإن أراد به ما يعم الفاسد الفاقد لبعض الأركان كان منافياً لما سبق منه اختياره والاستدلال عليه من دوران الاسم مدار الأركان، وإن أراد به خصوص الفاسد الواجد لها فمن الظاهر عدم اختصاص صحة الإطلاق به.

ومن هنا فلا مخرج عما سبق تقريبه - تبعاً لظاهر الأدلة - من أن المعتبر في المسمى تمام الأجزاء المعتبرة في تمام أفراد الماهية، وبعض الشروط المعتبرة فيها دون غيرها ودون الأجزاء والشروط المعتبرة في خصوصيات الأصناف.

وهو في الحقيقة نحو من التفصيل بين الصحيح والأعم، فليست التسمية تابعة للصدق العرفي التسامحي الحاصل مع فقد بعض الأجزاء المعتبرة في تمام أفراد الماهية - كما هو مقتضى القول بالأعم - ولا مختصة بالصحيح الواجد لتمام ما يعتبر في المأمور به فعلاً من أجزاء وشرائط وإن لم تعتبر في بقية أفراد الماهية.

ص: 212

وعلى هذا يتجه التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في خصوصية الصنف حتى لو كان وارداً في مقام التشريع، لعدم إجمال المسمى في نفسه - كما هو لازم القول بالصحيح - وعدم استلزام حمل الأمر عليه العلم بكثرة التخصيص - كما هو لازم القول بالأعم - لأن الإطلاق يقتضي مقداراً معيناً مضبوطاً لا يعلم بالزيادة عليه إلا في الشروط العامة التي يمكن الاتكال في بيان إرادتها على أدلتها المشهورة، وما زاد عليها من الأجزاء والشرائط لو فرض ثبوته بأدلة خاصة ليس من الكثرة بحد يستلزم استهجان الإطلاق، ليمنع من انعقاده والاستدلال به لنفي ما يشك في اعتباره، كما سبق منا في توجيه منع التمسك بالإطلاق على القول بالأعم.

نعم، لا مجال للتمسك بالإطلاق لنفي ما يشك في اعتباره في أصل الماهية، لإجمال العنوان بالإضافة إليه، وإن أمكن التمسك به لنفيه على القول بالأعم لو غض النظر عما سبق منا.

وهذه ثمرة معتدٌ بها للتفصيل الذي ذكرناه، وهي قريبة للمرتكزات في مقام الاستدلال. بل لعل سيرتهم الارتكازية عليها. فلاحظ

والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العصمة والسداد.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

الأول: الكلام في الشروط

الأول: أشرنا آنفاً إلى الكلام في دخول الشروط في محل النزاع، وأحلناه على النظر في حجة القولين، فينبغي الكلام فيه هنا فنقول:

من الظاهر الفرق بين الأجزاء والشرائط، بأن الأجزاء هي المعروضة للأمر ويستند إليها الأثر، بحيث يصدق عنوان العمل المأمور به ذي الملاك

ص: 213

عليها.

أما الشروط فهي خارجة عنه، وإنما تكون مقارنته لها دخيلة في واجديته للخصوصية التي بها يكون واجداً لعنوانه ومورداً للأمر والأثر.

فمرجع الكلام في دخل الشروط في المسمى ليس إلى كونها بنفسها داخلة فيه، بل إلى توقف صدق الاسم على العمل على مقارنته لها، نظير توقف صدق عنوان الزبيب على الثمرة على جفافها، مع كون الجفاف عرضاً خارجاً عن الثمرة المسماة بالزبيب.

وقد سبق منّا حال الشروط على المختار، أما على الأعم فمقتضى مساق كلامهم عدم دخل الشروط في التسمية.

وإن كان وضوح دخل قصد عنوان العمل قد يقرب بناءَهم على دخله وأن الفاقد له صورة العمل، لا أنه فاسد منه عندهم، بخلاف بقية الشروط.

وأما على الصحيح فقد صرح غير واحدٍ بدخل الشروط، وهو ظاهر مساق كلماتهم، بل هو كالصريح من تعبيرهم بالصحيح، إذ حمله على الذات التي من شأنها أن تتصف بالصحة بعيدٌ جداً. وهو المناسب للوجه الثالث من وجوه الاستدلال المتقدمة للصحيح بل للوجهين الأولين منها أيضاً، لأن الظاهر أن منشأ دعوى التبادر للصحيح وصحة السلب عن الفاسد هو عدم ترتب الغرض المهم على الفاسد، ولا يفرق فيه بين فاقد الشرط وفاقد الجزء.

نعم، الوجه الرابع لا يلزم به، لعدم اختصاص سيرة الواضعين بأحد الأمرين، بل يضعون تارةً لما هو المؤثر فعلاً لتمامية الشرط، وأخرى لما هو المؤثر شأناً. لكن قصور أحد الأدلة عن عموم الدعوى لا ينافي عمومها.

ص: 214

وبذلك ظهر ضعف ما قد يظهر مما عن الوحيد قدس سره من خروج الشرط عن محل النزاع، حيث فسر الصحة بتمامية الأجزاء، فإنه خروج عن ظاهر كلماتهم واستدلالاتهم في المقام.

ودعوى: أن الشرطية إنما تستفاد من أدلة تقييد المسمى بالشرط، الظاهر في كونه أمراً زائداً، عليه، كقوله عليه السلام: «إذا حاضت الجارية فلا تصلي إلا بخمار»(1).

مدفوعةُ: بإمكان كون التقييد للإرشاد إلى عدم تحقق المسمى بدون الشرط. مع أن كثيراً من أدلة الشروط ليست باللسان المذكور، بل بنظير لسان أخذ الأجزاء، ومنه ما تضمن نفي المسمى بفقد الشرط، مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(2).

على أن ذلك - لو تم - إنما يكشف عن عدم دخل الشرط في المسمى، لا عن عدم القول بدخله فيه من القائلين بالصحيح، ليتجه به الخروج عما سبق.

ما ذكره النائيني قدس سره من عدم شمول النزاع لقصد القربة

وبذلك يشكل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من عدم شمول النزاع لقصد القربة، لأنه متأخر عن الأمر المتأخر عن المسمى، فلا يعقل أخذه فيه مع تأخره عنه بمرتبتين.

وكذا عدم التكليف المزاحم، أو عدم النهي الموجبين لبطلان العبادة، لتأخرهما عن المسمى بمرتبة، لأنهما في مرتبة الأمر به.

وجه الإشكال فيه

وجه الإشكال فيه: ما ذكرناه من أن ذلك إنما يمنع من أخذ الشروط

ص: 215


1- الوسائل ج 3، باب: 28 من أبواب لباس المصلي، حديث: 13
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1

المذكورة في المسمى لا من دخولها في محل النزاع.

مضافاً إلى أنه إنما يمنع من أخذ هذه الأمور بنحو التقييد لا بنتيجة التقييد، بأن يكون المسمى هو الحصة المقارنة لها لباً، كالمؤثر للأثر الخاص أو نحوه، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره. غايته أن يكون النهي موجباً لتعذر النهي عنه. فلا مجال للخروج بذلك عن ظاهر كلماتهم في الصحة الفعلية.

بل ما سبق من استدلال القائلين بالأعم بأنه لو كان المسمى هو الصحيح لامتنع النهي عن الصلاة أو نذر تركها، صريح في شمول النزاع لعدم النهي.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من اتفاقهم على تحقق المسمى مع المزاحم أو مع النهي فلم يتضح مأخذه بعد ما عرفت، إلا أن يكون مراده ما إذا صح العمل معهما، لإمكان التقرب مع المزاحم بالملاك أو بالأمر الترتبي، وكذا مع النهي للغفلة عنه مع تحقق ملاك الأمر في مورد النهي، فيخرج عن محل الكلام من كون هذه الأمور شروطاً تتوقف عليها صحة العمل.

الثاني: الكلام في العبادات

الثاني: سبق في المقدمة الثانية اختصاص محل الكلام بالعبادات التي ثبت استعمالها ولو عند المتشرعة في الخصوصيات الزائدة على معانيها اللغوية لتكون من الماهيات المخترعة، دون غيرها من العبادات كالركوع والسجود والدعاء، فضلاً عن غير العبادات، كالسفر والانفاق على الزوجة، حيث يكون المرجع في تحديده العرف.

بل غالب تلك الأمور لا يتصف بالصحة والفساد عرفاً، لما ذكرناه آنفاً

ص: 216

من انتزاعهما من التمامية وعدمها بلحاظ الأثر المهم، حيث لا يراد به إلا الأثر المطلوب من الماهية نوعاً بمقتضى طبعها.

والأمور المذكورة وإن كانت مورداً للتكاليف الشرعية التي قد تدعو لفعلها طلباً للفراغ عنها ولتكون مجزئة في مقام امتثالها، إلا أن ذلك أمر طاريء عليها خارج عن مقتضى طبعها بما لها من المعاني العرفية، فلا يكون منشأً لانتزاع الصحة والفساد لها، بخلاف الماهيات المخترعة التي أُخترعت بسبب وقوعها مورداً للتكاليف الشرعية، حيث يكون الأثر المذكور لازماً لمفاهيمها عرفاً وثابتاً لها بمقتضى طبعها.

نعم، لما كان مقتضى طبع المعاملات حتى عند العرف ترتب الآثار المرغوب فيها عليها كانت مورداً للصحة والفساد عرفاً بلحاظ ترتب تلك الآثار وعدمه.

ومن هنا ناسب الكلام فيها تبعاً للكلام في العبادات وإن كانت باقية على مفاهيمها العرفية، كما جرى عليه غير واحد في المقام، والمراد بها المضامين الإنشائية الاعتبارية التي تتكفلها العقود والإيقاعات.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم..

الكلام في الوضع للمعاملات

تارةً: في أنها موضوعة للأسباب، وهي العقود والإيقاعات، أو للمسببات الحاصلة بها.

وأخرى: في أنها تختص بالصحيح أو تعم الفاسد.

وثالثة: في ثمرة البحث عن ذلك.

وقد أطالوا في تحقيق هذه الجهات بما لا مجال لتعقيب كلماتهم فيه.

ص: 217

فلنقتصر على بيان ما عندنا وإن كان قد يظهر به حال بعض ما ذكروه..

فنقول بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون منه والتسديد:

المختار في الوضع للمعاملات

لا ينبغي التأمل في أن مضامين المعاملات التي وضعت لها أسماؤها هي المضامين الاعتبارية التي تتضمن العقود والإيقاعات اللفظية إنشاءها، فهي كسائر الأمور الاعتبارية التي سبق الكلام في حقيقتها، وذكرنا أن لها نحواً من التقرر عند العرف أو الشرع، وأن وجودها في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده اعتبارها من شرع أو عرف أو سلطان، وليست العقود والإيقاعات اللفظية المتضمنة لانشائها أو غيرها مما يبرز التزام من له القيام بها إلا أسباباً لها على ما سيتضح.

ولذا كان مفاد أدلة جعلها من الحاكم إمضاء الالتزام المذكور، مع وضوح أن الإمضاء لا يكون إلا مع مطابقة ما حكم به الممضي لموضوع الالتزام الممضى مفهوماً، والعقود والإيقاعات ونحوها أمور حقيقية لها ما بإزاء في الخارج مباينة لمفاد الإمضاء، فهي غير قابلة للإنشاء والاعتبار والإمضاء.

مضامين المعاملات على نحوين

نعم، للمضامين المذكورة نحوان من الوجود:

الأول: نحو من الوجود الادعائي تابع للالتزام بها مع إبرازه بالعقود ونحوها من أي شخص فرض وإن لم يكن له السلطنة عليها بنظر من بيده اعتبارها.

الثاني: الوجود الاعتباري تابع لاعتبار من بيده الاعتبار من شرع أو عرف أو سلطان المتفرع على الوجود الأول إذا صدر ممن له السلطنة بنظره، كالمالك الكامل في المعاملات المالية، ومرجعه إلى إمضاء التزامه، لما

ص: 218

أشرنا إليه من أن الإمضاء لا يكون إلا مع تطابق حكم الممضي مع موضوع الالتزام الممضى مفهوماً.

اختلاف مضامين المعاملات عن باقي الأمور الاعتبارية

وبذلك تختلف مضامين المعاملات عن بقية الأمور الاعتبارية التي يكون الحكم بها تابعاً لتحقق موضوعها، من دون أن يبتني على الإمضاء، كالضمان بسبب الإتلاف، والميراث بسبب الموت، واستحقاق النفقة بسبب الزوجية، فإنه لا يكون لها إلا النحو الثاني من الوجود، وهو الوجود الاعتباري ممن بيده الاعتبار، لعدم رجوع موضوعاتها للنحو الأول منه، بل هي مباينة سِنخاً ومفهوماً لها.

وحيث كان الوجود الأول لمضامين المعاملات موضوعاً للوجود الثاني صح إطلاق السبب عليه عرفاً، كسائر الموضوعات بالإضافة لأحكامها، ولا يصح إطلاقه على العقد - مثلاً - إلا بلحاظ سببيته لذلك الوجود الادعائي، لكون آلة له، نظير نسبة سببية الضمان للإلقاء في النار، بتوسط سببيته للإتلاف الذي هو الموضوع حقيقةً.

هذا، ولا يخفى أن غالب أسماء المعاملات حاكٍ عن إيجاد مضامينها وإيقاعها على موضوعاتها كالبيع والإجارة والمزارعة والتزويج والطلاق والوقف وغيرها، فإنها مصادر لأفعال متعدية فاعلها موقع تلك المضامين على موضوعاتها، لا لأفعال لازمة فاعلها نفس الموضوعات.

وحينئذٍ إن كان المحكي بها الوجود الأول - الذي عرفتَ أنه السبب حقيقةً - صح نسبتها إلى موقع المعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، دون الحاكم الذي يمضي المعاملة من شرع أو عرف أو سلطان، لعدم الدخل له بالوجود المذكور.

ص: 219

وإن كان المحكي بها الوجود الثاني - الذي هو المسبب - صح نسبتها للحاكم الممضي للمعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، كما يصح نسبتها لموقع المعاملة ولو مجازاً بلحاظ فعله لموضوعه - وهو الوجود الأول - نظير نسبة التحليل والتحريم تارةً للشارع الأقدس، وأخرى لمحقق موضوعهما، كالذابح بالوجه الشرعي وبغيره.

وحيث يصح عرفاً نسبة هذه الأمور لموقع المعاملة دون الشارع الأقدس ونحوه ممن له إمضاؤها كشف ذلك عن الوجه الأول، وهو أنها موضوعة للأسباب دون المسببات.

لكن ذلك لخصوصية في الهيئة - وهي هيئة الفعل - دون المادة المشتركة بين الفعل والإنفعال، فإنها صالحة للوجهين، وبلحاظها كان دليل الثاني إمضاءً للأول، فالبيع - مثلاً - لما كان فعل البائع كان عبارة عن إنشاء المعاملة، ولم يكن المحكي به إلا الوجود الإنشائي المستند له دون الشارع، أما الإنبياع فله النحوان السابقان من الوجود، فوجوده الادعائي الإنشائي مستند للبائع، ووجوده الاعتباري الجعلي مستند للشارع مبتنٍ على إمضاء الأول مع تحقق شروطه. وكذا الحال في التزويج والإجارة والوقف ونحوها مما هو مصدر لفعلٍ متعدٍ يتضمن إيقاع المعاملة.

ومنه يظهر أن التطابق بين الوجودين المصحح لكون الثاني إمضاءً للأول إنما هو في نتيجة المعاملات ك (االإنبياع) لا في مضامينها الإيقاعية، بل ليس لها إلا الوجود الأول.

والاختلاف المذكور جارٍ في العناوين المنتزعة من أحد الأمرين، فعنوان المزوجة منتزع من التزويج الذي هو مصدر (زوج) المتعدي، والذي

ص: 220

هو فعل القائم بالعقد دون الشارع، وعنوان الزوج والزوجة منتزعان من نتيجة التزويج، التي لها وجود إنشائي إدِّعائي تابع للعقد، ووجود اعتباري تابع للإمضاء.

وحيث ظهر أن غالب عناوين المعاملات وأسمائها تحكي عن الوجود الإنشائي لموقعها، والذي هو الموضوع للوجود الاعتباري والسبب له بمعنى، وكان الوجود الاعتباري هو الداعي لفعلها والأثر المرغوب فيه منها، ظهر إمكان اتصافها بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الأثر المذكور وعدمه.

وحينئذٍ يقع الكلام في الوضع لمطلق الوجود الإنشائي المذكور، أو لخصوص الصحيح منه الذي يمكن تحديد الجامع له بأثره المذكور.

منع اختصاص وضع المعاملات بالصحيح ودفعه

وقد يمنع اختصاص الوضع بالصحيح، بدعوى: أنه مستلزم لتصرف الشارع في معاني هذه الألفاظ، لتبعية الصحة لقيود شرعية، فلا يدركها العرف ليتسنى له أخذها في الموضوع له. ومن البعيد جداً تصرف الشارع في معاني ألفاظ المعاملات، لعدم الحاجة له بعد مسانخة موضوع الأثر الشرعي للمعنى العرفي، بل يكتفي بتقييده بما يراه من القيود عند إناطة أحكامه به، كسائر الموضوعات العرفية المأخوذة في موضوع الأحكام الشرعية.

بخلاف العبادات التي هي من سنخ الماهيات المخترعة للشارع، والتي خرج بها عن معانيها الأصلية، حيث يقع الكلام في وضعها جديداً للصحيح من تلك الماهيات أو للأعم منه ومن الفاسد.

لكنه يندفع: بإمكان إبتناء وضعها للصحيح على وضعها له عرفاً

ص: 221

ابتداءً، من دون حاجة إلى تصرف شرعي فيها، لا بمعنى وضعها عرفاً للصحيح الشرعي، لعدم إدراك العرف له، ولا للصحيح الواقعي وإن اختلف العرف والشرع في تشخيصه، لعدم انتزاع الصحة والفساد من أمر واقعي متقرر في نفسه، كالنفع والضرر الذي يرجع الاختلاف فيهما للتخطئة، بل حيث كانا منتزعين من ترتب الأثر وعدمه، وكان ترتبه تابعاً لاعتبار من بيده الاعتبار، كانا من الأمور الإضافية النسبية التي يكون اختلاف طرف الإضافة فيها موجباً للاختلاف في صدقها من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم، ولا إلى التخطئة في المصداق، نظير اختلاف الأذواق في اللذيذ والجميل. ومن ذلك اختلاف الشارع مع العرف في موارد الملكية ونحوها من الأمور الاعتبارية.

الإشكال على دعوى وضع المعاملات للصحيح

وبالجملة: لا مانع في المقام من دعوى أن الموضوع له لغةً وعرفاً هو الصحيح الذي يترتب عليه الأثر، فما ترتب عليه الأثر عرفاً بيع عرفاً، وما ترتب عليه الأثر شرعاً بيع شرعاً، من دون أن يرجع الاختلاف بين الشرع والعرف فيه للاختلاف في المفهوم، ولا للتخطئة في المصداق.

نعم، يشكل الدليل على ذلك، حيث لا موجب لدعواه ظاهراً إلا تبادر الصحيح من الإطلاق الذي قد يكون مسبباً عن كونه مورد الغرض والأثر، الذي هو قرينة عامة صالحة لأن تكون منشأً لانصراف الإطلاق، نظير ما تقدم في الاستدلال بالتبادر على الصحيح في العبادات.

بل لما كانت التسمية بلحاظ كون المسمى هو الوجود الإنشائي الادعائي للمفهوم فمن الظاهر أن المنشأ هو المفهوم المجرد. وليس ترتب الأثر إلا من لواحقه، فيبعد جداً أخذه في المسمى. ولاسيما بملاحظة

ص: 222

ورود بعض الأدلة في الإمضاء، مع وضوح أن القابل للإمضاء هو الوجود الإنشائي المطلق، ولا معنى لإمضاء خصوص الصحيح منه إلا بنحو القضية بشرط المحمول التي لا مجال لحمل الأدلة عليها.

نعم، لو كان المدعى الوضع لخصوص الصحيح العرفي لم ينهض ذلك بالمنع منه، لقابليته للإمضاء الشرعي، فينحصر رده بما سبق.

هذا كله في أسماء المعاملات التي هي عبارة عن مصادر الأفعال المتعدية وما ينتزع بلحاظها من عناوين، وأما العناوين المنتزعة من نتائجها، - كالزوج والزوجة والثمن -، فإن لحظ فيها الوجود الإنشائي الادعائي فهي قابلة للاتصاف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الوجود الاعتباري عليها وعدمه، وإن كان الظاهر صدقها مع الفساد وعدم توقفه على الوجود الاعتباري لما سبق. وإن لحظ فيها الوجود الاعتباري فهي غير قابلة للاتصاف بالصحة والفساد، بل إما أن توجد أو لا توجد.

في إمكان التمسك بالإطلاق مع الشك في بعض القيود

بقي الكلام في إمكان التمسك بالإطلاقات وعدمه مع الشك في اعتبار بعض القيود في صحة المعاملة.

والإطلاقات المذكورة:

تارة: تتكفل ببيان نفوذ المعاملة، كقوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها»(1).

وأخرى: تتكفل ببيان أحكامها الأُخَرْ، كوجوب الإنفاق على الزوجة.

أما الأولى: فلا إشكال في إمكان التمسك بها، أما بناءً على ما عرفت

ص: 223


1- الوسائل ج 13، باب: 2 من كتاب الوقوف والصدقات، حديث 2

من وضعها للأعم فظاهر. وكذا بناءً على وضعها للصحيح العرفي. نعم، لابد عليه من إحراز صحة المعاملة عرفاً، لعدم تحقق عنوان المطلق بدونه.

وأما بناءً على وضعها للصحيح شرعاً، أو بما له من مفهوم إضافي صالح للانطباق على الصحيح الشرعي، فلما ذكرناه آنفاً من أن الصحيح الشرعي لا يقبل الإمضاء شرعاً، فلابد من تنزيل دليل الإمضاء على الاستعمال في الأعم، أو في الصحيح العرفي، فيلحقه ما سبق.

وأظهر من ذلك إطلاق نفوذ العقود، لانتزاع العقد من نفس الإيجاب والقبول، لا من نفس المضمون المعاملي المنشأ بهما، فلا مجال لاحتمال اختصاصه بالصحيح.

وأما الثانية: فما كان منها قد اخذ فيه عنوان منتزع من إيقاع المعاملة، كالمبيع والمستأجر والمزارع يصدق بمجرد إيقاعها وإن لم يحرز نفوذها، بناءً على ما سبق من وضعها للأعم، فيكون مقتضى الإطلاق ترتب الحكم بمجرد إيقاع المعاملة وإن لم يتحقق ما يحتمل اعتباره في نفوذها، ولازمه عدم توقف نفوذها عليه، لما هو المعلوم من عدم ترتب أحكامها مع بطلانها.

اللهم إلا أن يرجع ذلك إلى تقييد موضوع الأحكام بالصحيح إستغناءً عن التصريح به بالقرينة العامة القاضية بأن ترتب الحكم على المعاملة فرع نفوذها وصحتها.

وحينئذٍ لا ينهض الإطلاق بإثبات الحكم مع الشك في الصحة، لعدم إحراز قيد الموضوع، فضلاً عن أن ينهض بإثبات صحتها حينئذٍ.

ما إذا كان العنوان منتزعاً من نتيجة الإطلاق

وأشكل من ذلك ما لو كان العنوان المأخوذ في الإطلاق منتزعاً من نتيجة إطلاق المعاملة، كعنوان الزوجة، لما سبق من أن العنوان المذكور

ص: 224

كما يمكن انتزاعه من الوجود الإنشائي التابع لإيقاع المعاملة، يمكن أن يراد به الوجود الاعتباري التابع لإمضائها. بل لعل الثاني هو الظاهر من إطلاق العنوان في كلام الشارع وغيره ممن له الاعتبار، لظهور حاله في إرادة ثبوت العنوان بنظره واعتباره، بل حمل العنوان على الوجود الإنشائي بعيد جداً، لكونه بنظر العرف وجوداً ادعائياً لا حقيقياً، وإنما التزم بالحمل عليه في عناوين المعاملات لخصوصية في الهيئة، كما سبق.

ومن هنا لا ينهض الإطلاق بإثبات الحكم مع الشك في نفوذ المعاملة وصحتها، فضلاً عن أن ينهض بإثبات نفوذها وصحتها، لعدم إحراز عنوانه.

نعم، يمكن التمسك بالإطلاقات المقامية لأدلة الأحكام المذكورة، لأن خطاب الشارع للعرف بأحكام المضامين الاعتبارية من دون أن يتصدى لبيان مورد اعتباره لها ظاهر في الاكتفاء في بيانه على ما عند العرف وعدم خروجه عليهم فيه، كما هو الحال في خطابات الموالي العرفيين أيضاً، حيث لا إشكال في رجوع عبيدهم في معرفة مورد اعتبارهم إلى ما عليه العرف العام عند عدم تصديهم لبيان مورد الاعتبار مع وضوح إمكان خروجهم عما عليه العرف المذكور، كالشارع.

وبالجملة: لما كان الأثر أمراً اعتبارياً للشارع الأقدس، وكان ظاهر خطابه بحكمه لزوم تحققه بالإضافة لاعتباره، فلا مجال للتمسك بإطلاقه اللفظي مع عدم إحرازه، إلا أنه مع عدم تصديه لبيان مورد اعتباره يكون مقتضى الإطلاق المقامي لخطابه الإيكال إلى ما عليه العرف فيه، ومتابعته لهم، كسائر الموالي العرفيين. والظاهر أن ما ذكرنا مطابق لسيرة أهل الاستدلال، فلاحظ.

ص: 225

والله سبحانه وتعالى العالم، ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد له وحده، والصلاة على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في مقدمات مباحث الظهورات، وندخل فيما هو المقصود بالأصل من المباحث المذكورة.

والمراد به تشخيص الظهورات النوعية، سواء إستندت للوضع أم لقرائن عامة منضبطة المفاد، أما الظهورات المستندة لقرائن شخصية غير منضبطة فلا مجال للبحث عنها في علم الأصول، لعدم تيسر استقصائها، بل يوكل للفقيه عند الابتلاء بمواردها.

كما أن محل الكلام ظهور خصوص بعض الهيئات الأفرادية والتركيبية والحروف مما يكثر الابتلاء به ويظهر أثره في الأحكام الشرعية، ولم يبحث بالنحو الكافي في العلوم اللغوية الأخرى، كمعاني المفردات المبحوثة في معاجم اللغة، والهيئات الإعرابية المبحوثة في علم النحو وغير ذلك. والبحث فيها يتم في ضمن مقاصد..(1)

ص: 226


1- سورة البقرة: 124

المقصد الأول

في بحث المشتق

ص: 227

ص: 228

المقصد الأول في بحث المشتق

اشارة

وقد جرى غير واحد على بحثه في مقدمة علم الأصول. وأول من خرج عن ذلك بعض المعاصرين رحمة الله في أصوله، بلحاظ رجوع البحث فيه إلى تشخيص الظهور، وليس في مباديء الظهور.

وكيف كان، فقد وقع الكلام في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه، مع الاتفاق - كما قيل - على كونه مجازاً فيما لا تلبس به إلا في الاستقبال.

أمور لتوضيح محل النزاع

وينبغي تقديم أمور لها دخل بتوضيح محل النزاع، أو نافعة في مقام الاستدلال.

الأمر الأول: المشتق في اصطلاح النحاة

الأمر الأول: المشتق في اصطلاح النحويين ما كان لمادته معنى محفوظ في غيره مما شاركه فيها وفارقه في الهيئة، كالفعل واسمي الفاعل والمفعول وغيرها.

أما في محل النزاع فهو العنوان المنتزع عن الذات، الحاكي عنها بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها.

وبينه وبين المشتق بالمعنى الأول عموم من وجه، حيث يعم بعض

ص: 229

الجوامد باصطلاح النحويين كالأب والام والأخ والزوج والزوجة ونحوها مما يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عموم النزاع لها، كما يقصر عن الفعل والمصدر، حيث لا ينتزعان عن الذات، ولا يحكيان عنها، بل عن المادة المجردة أو مع نحو من النسبة.

نعم، ينبغي أن يكون النزاع في المشتقات راجعاً للنزاع في وضع هيئاتها النوعي، أما في الجوامد فهو راجع للنزاع في وضعها الشخصي، لعدم أمر مشترك يجمعها يكون النزاع فيما وضع له، وإنما تشترك في كونها عنواناً للذات بلحاظ جهة خارجة عنها، وذلك أشبه بالجهة التعليلية.

وأما ما يظهر من الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل ونحوه دون باقي المشتقات، لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام لها. فهو كما ترى! لأن قصور الدليل عن بعض الدعوى لا يشهد بقصور الدعوى. ولاسيما مع ظهور عموم النزاع لأسم المفعول من تفريع جمع من المحققين - كما قيل - على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال حرارته.

نعم، لا يبعد انصراف بعض كلماتهم عن ذلك، إلا أنه لا يكفي في اختصاص النزاع، خصوصاً في العصور المتأخرة بعد الالتفات لهذه الجهات.

هذا، وقد يستشكل في عموم النزاع لاسم الزمان، لأن تصرم الزمان مستلزم لعدم بقاء الذات بعد ارتفاع الحدث، كي يقع الكلام في صحة إطلاق اسم الزمان عليها حقيقةً.

وهو مبني..

ص: 230

أولاً: على وضع الهيئة له بخصوصه ولو بنحو الاشتراك اللفظي بينه وبين المكان، إذ لو كان موضوعاً بوضعٍ واحد للجامع بين الزمان والمكان وهو الظرفية - كما قد يظهر من بعض المحققين وجرى عليه غير واحدٍ من تلامذته، ويناسبه إطّراد اسمَي الزمان والمكان في الهيئة وارتكازية الجامع بينهما - فلا موضوع للإشكال المذكور، لأن الظرفية قابلة للارتفاع عن الذات ولو في المكان، ولا أثر لعدم قبولها له في الزمان بعد عدم وضع الهيئة له بخصوصه.

وثانياً: على كون المحكي باسم الزمان خصوص ما يقارن الحدث من الأمد الموهوم. أما لو أمكن إطلاقه حقيقةً على ما هو أوسع مما يقع بين الحدين الاعتباريين، كالساعة واليوم والشهر - كما يظهر من غير واحدٍ - فيتجه فرض البقاء له بعد ارتفاع الحدث.

وما يظهر من بعض المحققين قدس سره من أن الحدث وإن ارتفع إلا أن التلبس المصحح لانتزاع الظرفية للزمان باقٍ، غير ظاهر فتأمل.

الأمر الثاني: المصحح لانتزاع العنوان الاشتقاقي

الأمر الثاني: حيث عرفت أن محل الكلام هو العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها، فالمصحح لانتزاع العنوان

تارةً: يكون فعلية اتصاف الذات بالعرض، كما في الماشي المنتزع من فعلية الاتصاف بالمشي.

وأخرى: يكون أمراً آخر، كوجود الملكة له، أو القابلية أو الحرفة أو الصنعة أو نحوها مما لا يلحظ فيه الفعلية، كما في عنوان المجتهد المنتزع من تحقق ملكة الاجتهاد في الشخص، والكاتب المنتزع من تحقق ملكة

ص: 231

الكتابة أو كونها وظيفة له وحرفة، والصائغ المنتزع من كون صنعته الصياغة، وأسماء الآلة المنتزعة من قابلية الشيء لأن يتحقق بواسطته الفعل، بحيث لا يحتاج صدوره إلا إلى إعماله فيه، كالفتح للمفتاح والسمر للمسمار.

والاكتفاء بما عدا الفعلية في الثاني إما أن يستند إلى المادة، بأن لا يراد منها الفعلية مع بقاء الهيئة على ما هي عليه من الدلالة على فعلية التلبس بما يراد من المادة، كما في الاجتهاد الذي يراد به اصطلاحاً وجود الملكة الخاصة ولو من دون مزاولة للعمل، والكتابة التي يراد بها تارةً الملكة وأخرى الوظيفة، ولذا تدل المادة على ذلك في غير الهيئة المذكورة، كالفعل والمصدر.

وإما أن يستند لخصوص الهيئة، مع بقاء المادة على ما هي عليه من الدلالة على الحدث الفعلي، كما في أسماء الآلة، حيث لا إشكال في كون المراد بموادها نفس الفعل الخارجي، وليس الاكتفاء بالقابلية المذكورة إلا مقتضى الهيئة الخاصة.

ومثل ذلك ما أفاد الصنعة أو الحرفة مما بني على (فعَّال) كالصرَّاف والنجَّار والوزَّان، حيث لا إشكال في استناد الدلالة على ذلك للهيئة، لا للتوسع في المادة، ولذا تدل على ذلك فيما ينتزع من الأعيان، كالحدَّاد والبزَّاز والجمَّال والورَّاق، مع وضوح عدم الخروج بموادها عن معانيها. فهو نظير هيئة النسبة التي قد يراد بها ذلك، كما في الجوهري.

وربما يتردد الأمر بين الوجهين، كما في الصائغ، الذي يكون المعيار في انتزاعه عرفاً اتخاذ الصياغة صنعةً، لا عمل الصياغة، حيث يحتمل إبتناؤه على التوسع في المادة بإرادة الأمر المذكور منها مع إرادة فعلية القيام به من

ص: 232

الهيئة، كما يحتمل إبتناؤه على التوسع في الهيئة بإرادة ذلك منها مع إرادة نفس العمل من المادة.

وكيف كان، فلا مجال بعد ما سبق لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من رجوع جميع ذلك للتوسع في مفاد المادة من دون تصرف في الهيئة، بل المراد بها ما يراد في القسم الأول من الحكاية عن فعلية القيام بالمعنى الذي أريد من المادة.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من إبتناء ذلك على التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات وادّعاء أن واجد ملكة الشيء أو القابلية له أو متخذه صنعةً أو حرفةً متلبس به دائماً، مع دلالة كل من المادة والهيئة على الفعلية في العمل أو في القيام به.

إذ لا شاهد على التوسع المذكور، بل هو محتاج إلى عناية غير حاصلة ارتكازاً.

بل لا ينبغي احتمالها فيما يطَّرد استعماله في غير الفعلية كأسماء الآلة ومثل الصرَّاف والنجَّار، إذ ليس من شأن التوسع والعناية الإطِّراد. ولاسيما في اسم الآلة الذي لا يستلزم الفعلية أصلاً، فإذا إستندت إفادة ذلك في بعض ما تقدم للهيئة أو المادة أمكن الاستناد في الباقي بلا ملزم لالتزام التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات فيه.

ثم إنه لا إشكال في أن ما تستند الدلالة فيه على غير الفعلية للمادة من هذا القسم داخل في محل النزاع، حيث يقع الكلام في أن هيئته - كسائر هيئات المشتق - موضوعة للدلالة على خصوص حال التلبس أو على الأعم منه ومن حال الانقضاء لكن لا يراد بحال التلبس فيه حال التلبس بفعلية

ص: 233

العمل، بل حال التلبس بما يراد من المادة من ملكة أو حرفة أو غيرهما، ويقابله حال الانقضاء الذي يكون بارتفاع المعنى المذكور، لا بارتفاع التلبس بفعلية العمل.

وأما ما تستند فيه الدلالة على ذلك للهيئة فدخوله في محل النزاع لا يبتني على النزاع في وضع الهيئة للتلبس بما يراد بالمادة في خصوص الحال، أو في الأعم منه ومن حال الانقضاء، لفرض عدم وضعها لإفادة التلبس به مطلقاً، بل لإفادة معنى آخر قد لا يلازمه، بل لابد أن يبتني على النزاع في وضعها لذلك المعنى - من القابلية أو الحرفة أو غيرهما - بقيد فعلية تحققه في الحال، أو بنحو يعم حال إنقضائه، فكما أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها التلبس في عمومه وخصوصه أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها أمراً غير التلبس في عموم ذلك الأمر وخصوصه.

وبالجملة: النزاع في العموم والخصوص إنما هو بعد تعيين ما يراد بالمادة من الأمر الفعلي أو ملكته أو القابلية له أو غيرها، وتعيين ما يراد بالهيئة من التلبس بما يراد بالمادة أو ملكته أو القابلية له أو غيرها.

ومنه يظهر الحال في الجوامد التي تقع عنواناً للذات بلحاظ جهة خارجة عنها، حيث لا فرق بينها وبين المشتقات إلا في أن الكلام فيها في مقتضى وضعها الشخصي، وفي المشتقات في مقتضى وضع هيئاتها النوعي، كما تقدم في الأمر السابق.

ومن جميع ما سبق يظهر أنه لا مجال للاستدلال على عموم المشتق لحال الانقضاء، بصحة إطلاق القسم الثاني من المشتقات المتقدمة مع

ص: 234

انقضاء التلبس بالحدث، كإطلاق الصائغ على الشخص حال عدم انشغاله بعمل الصياغة. فإن ذلك خروج عن محل الكلام، إما لعدم كون المراد بالمادة الحدث، بل الصنعة ونحوها، أو لعدم دلالة الهيئة على التلبس. كيف ولازمه عدم اعتبار التلبس حتى في الحال الماضي، لصدق بعض ما سبق بلحاظ الشأنية من دون تلبس بالحدث أصلاً، كما في اسم الآلة!.

نعم، لو صدق مثل ذلك بعد انقضاء ما يراد بالهيئة والمادة اتجه الاستدلال به.

الأمر الثالث: إطلاق العنوان على الذات إنما يكون بلحاظ الاتحاد

الأمر الثالث: لا يخفى أن إطلاق العنوان الذاتي أو العرضي المشتق أو الجامد على الذات - حاكياً عنها أو صفة لها أو محمولاً عليها - إنما يكون بلحاظ اتحاده معها وانطباقه عليها، وظرف الاتحاد الملحوظ هو المعبر عنه في كلمات بعضهم بحال الجري، ومن الظاهر أنه..

تارةً: يكون في زمان النطق، كما في قولنا: «زيد عادلٌ الآن»، أو «أكرم غداً المسافر الآن».

وأخرى: في زمانٍ آخر، كما في قولنا «زيد مسافر أمس أو غداً»، أو: «أعن الآن المسافر أمس أو غداً».

نعم، مقتضى الإطلاق عرفاً هو تنزيل حال الجري على زمان النطق في القضايا الخارجية، وعدم احتياج إرادته إلى قرينة.

وكأنه لكونه محط الأغراض والآثار، فيكون هو الحقيق بالبيان، فعدم التصدي لبيانه ظاهر في الاتكال على ارتكاز أقربية زمان النطق في بيانه.

ولا يحمل على غيره إلا بقرينة خاصة - كما في الأمثلة المتقدمة - أو عامة، كما لو وقع المشتق طرفاً لنسبة غير حالية، حيث يحمل حال الجري

ص: 235

على حال النسبة، فلو قيل: «تصدق على فقير»، كان ظاهره إرادة الفقير حين التصدق، وإن قيل: «إن جاء زيد زاره العلماء»، كان ظاهره إرادة العلماء حين مجيئه الذي هو زمان لزوم الزيارة، إلى غير ذلك مما تناسبه خصوصيات النسب.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن ما يحكي عنه المشتق وما أُلحق به من الجوامد - من التلبس بالجهة العرضية المصححة لانتزاع العنوان، أو نحو التلبس مما تقدم في الأمر السابق - لا يعتبر تحققه حال النطق، بل يكفي تحققه قبله أو بعده، لعدم العناية في الاستعمالات المذكورة، الكاشف عن كونها حقيقيةً، وعن عموم الوضع بالنحو المناسب لها.

فلابد من كون النزاع في اختصاص المشتق بالحال أو عمومه لحال الانقضاء إنما هو بلحاظ حال الجري، بمعنى: أن العنوان هل يدل على التلبس أو نحوه في خصوص حال الجري، فلا يصدق مع إنقضائه حاله، أو على الأعم منه ومن التلبس أو نحوه قبل حال الجري، فيصدق مع إنقضائه حاله.

ولعل التباس حال الجري بحال النطق بسبب كون التطابق بينهما مقتضى الإطلاق له دخل مهم في اشتباه مفهوم المشتق ولوقوع النزاع فيه، على ما قد يتضح عند بيان المختار والاستدلال له.

الأمر الرابع: اقتضاء النزاع للنزاع في سعة المفهوم

الأمر الرابع: ربما يدعى أن النزاع في المقام ليس في سعة مفهوم المشتق وضيقة، بل في حال صدقه مع وضوح مفهومه، وأن صدقه، على ما انقضى عنه التلبس هل هو لكونه من أفراده الحقيقية أو الادعائية؟ وأن تحرير النزاع في المفهوم خلط في محل الكلام.

ص: 236

لكن لا يخفى أن صدق المعنى على الفرد - المعلوم حاله - حقيقة وعدمه فرع سعة مفهومه له وضيقه عنه، ولا معنى لصدقه عليه مع ضيق مفهومه عنه، ولا لعدم صدقه عليه مع سعة مفهومه له.

بل سبق في استعمال اللفظ في أكثر من معنى أنه لابد من ذلك حتى في الاستعمال المجازي، بناء على إبتناء المجاز على ادّعاء دخول الفرد في معنى اللفظ وعدم الخروج باللفظ عن معناه، فلابد فيه من نحو من التصرف في المعنى الموضوع له بنحو يشمل الفرد ادّعاء.

وحينئذٍ لابد من رجوع النزاع في سعة صدق المشتق للنزاع في سعة مفهومه.

الأمر الخامس: الخلاف في صدق عنوان الموضوع على الذات بالإمكان أو بالفعل

الأمر الخامس: حكي عن الفارابي والشيخ الخلاف في أن صدق عنوان الموضوع على ذاته في القضايا المعتبرة في العلوم هل هو بالإمكان أو بالفعل الذي يكفي فيه الصدق في أحد الأزمنة الثلاثة، فإذا قيل: «كلُّ ماشٍ متحرك»، فالموضوع هو الماشي بالإمكان عند الفارابي، والماشي بالفعل عند الشيخ.

وقد استدل على الثاني بعضهم: بأن ذلك هو المتبادر في العرف واللغة.

وهذا قد لا يناسب ما سبق من الاتفاق على عدم صدق المشتق حقيقة مع التلبس في الاستقبال، فضلاً عما لم يتلبس حتى فيه، بل لم يكن تلبسه إلا إمكانياً.

كما قد لا يناسبه - أيضاً - ما ذكروه في وجه تسمية القضية الفعلية - وهي التي حكم فيها بتحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة - بالمطلقة، من

ص: 237

أن مفادها هو المفهوم من القضية عند إطلاقها، ضرورة أنه لو تم الاتفاق السابق في المشتق فلا يفهم من الإطلاق إلا التلبس في الحال، أو فيما يعمه والتلبس في الماضي، دون التلبس في الاستقبال.

ولم أعثر عاجلاً على من تعرض لذلك عدا بعض الأعاظم قدس سره فقد ذكر أن النزاع بين الفارابي والشيخ أجنبي عن محل الكلام، لأن محل الكلام هو المفاهيم الأفرادية، والنزاع المذكور في القضايا التركيبية، وأن المحمولات فيها هل هي ثابتة على الأفراد الممكنة أو خصوص الفعلية منها.

لكن من الظاهر أن الموضوع الذي هو جزء القضية التركيبية إذا فرض دلالته على معنى خاص بما هو مفهوم إفرادي لزم دلالته على ذلك في ضمن القضية، للقطع بعدم انسلاخه عن معناه الأفرادي عند صيرورته موضوعاً لها، إذ ليس مفاد التركيب إلاّ جعل النسب بين المعاني الأفرادية من دون تصرف فيها.

ولعل الأولى في تقريب خروج النزاع المذكور عن محل الكلام أن يقال: النزاع المذكور إنما هو فيما يعتبر من صدق عنوان الموضوع الذي هو مصحح للجري الذي تقدم الكلام فيه في الأمر السابق، فالفارابي لا يعتبر فعلية الصدق، بل يكتفي بإمكانه، والشيخ يعتبر فعليته ولو في الزمان المستقبل، أما النزاع في محل الكلام فهو في معيار الصدق، وأنه لابد فيه - ولو لم يكن فعلياً بل إمكانياً - من التلبس حينه أو يكفي التلبس فيما سبق عليه.

وكذا الحال فيما تقدم منهم في القضية الفعلية، فإنه راجع إلى أن المفهوم من القضية عند إطلاقها هو صدق المحمول على الموضوع في

ص: 238

الجملة ولو في الزمان اللاحق، وهو لا ينافي ما هو محل الكلام من أن معيار الصدق المصحح للجري هو التلبس حاله أو الأعم منه ومن التلبس فيما سبق.

نعم، بناءً على ما سبق من أن مقتضى الإطلاق كون حال الجري هو حال النطق يتجه عدم تمامية ما ذكروه في الموردين، لأن ذلك يستلزم ظهور الإطلاق في كون الصدق المصحح للجري في حال النطق أيضاً، لا مطلق فعليته ولو في الزمان المستقبل - كما هو مقتضى ما ذكره الشيخ في الموضوع وما ذكروه في القضية الفعلية - فضلاً عن الاكتفاء بالإمكان، كما ذكره الفارابي في الموضوع. لكنه أمر آخر غير مورد الكلام في المشتق.

الأمر السادس: في بساطة المشتق

الأمر السادس: وقع الكلام بينهم في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه.

ومرادهم بالبساطة عدم تضمن المفهوم الذات المتلبسة بالمبدأ، بل هو متمحض في الدلالة على المبدأ المحكي بالمادة، وليس مفاد هيئته إلا نحو نسبة تقتضي لحاظه بنحو يكون عنواناً للذات متحداً معها يصح حمله عليها، في مقابل التركيب الراجع إلى أخذ الذات مع المبدأ في مفهوم المشتق بنحو يكون قيداً لها.

وقد أطالوا في ذلك بما لا يسعنا متابعتهم فيه لخروجه عما نحن بصدده من تعيين سعة مفهوم المشتق من حيثية التلبس وعدمها، وعدم الأثر له في الأستنباط بعد اتفاق القولين في الحكاية به عن الذات ذات المبدأ، وابتنائه على نحو من التدقيقات في المدعى والاستدلال، التي هي أنسب بالمعقولات منها بمبحث الظهورات، التي يكون الغرض منها تشخيص المفاهيم العرفية المدركة لعامة أهل اللسان بحسب سلائقهم وارتكازاتهم

ص: 239

الأولية، غير المبتنية على التكلف والتعمل.

وإنما أشرنا للنزاع المذكور هنا لأجل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن النزاع في سعة مفهوم المشتق وضيقه في محل الكلام فرع وجود جامع عرفي بين حالي التلبس والانقضاء، كي يقع الكلام في الوضع له أو لخصوص حال التلبس، أما لو لم يكن هناك جامع بين الحالين فيمتنع الوضع لهما معاً إلا بنحو الاشتراك اللفظي الذي لا قائل به في المقام، بل يتعين الوضع لخصوص حال التلبس.

دعوى النائيني قدس سره امتناع تقريب الجامع على البساطة والتركيب

وقد ادعى قدس سره امتناع تقريب الجامع على كل من القول بالبساطة والقول بالتركيب.

أما على البساطة: فلأن مفهوم المشتق لما كان هو المبدأ المعرى عن الذات كان صدقه موقوفاً على صدق المبدأ، وإمتنع صدقه مع ارتفاعه، لأنه عبارة أخرى عن المبدأ الملحوظ محمولاً على الذات، ومن المعلوم توقف ذلك على وجود المبدأ، ولا معنى لصدقه مع عدمه، إذ لا جامع بين الوجود والعدم، وقد أقره على ذلك بعض مشايخنا.

وأما على القول بالتركيب: فلأنه لما كانت الذات هي الركن له، وكانت ذات حالين حال التلبس وحال الانقضاء، فلا جامع بينهما إلا بأخذ الزمان جزءاً من مدلول المشتق حتى يمكن بلحاظه فرض الجامع بين الحالين، وحيث لا إشكال في عدم أخذ الزمان في مفهومه فلا مجال لفرض الجامع كي يمكن دعوى الوضع له.

المناقشة فيه

وقد أطال قدس سره في تقريب ذلك على ما في تقريري درسه، كما أطال بعضهم في مناقشته وردِّه. ولا يسعنا استقصاء ما ذكر في المقام، وإنما نكتفي

ص: 240

ببيان عدم تمامية ما ذكره..

أما بناءً على البساطة: فلأن القول بالعموم لحال الانقضاء لا يتوقف على كون المراد بالمشتق الذي هو بمعنى المبدأ الجامع بين وجود المبدأ وعدمه، ليدفع بامتناع الجامع المذكور، بل يكفي حكايته عن المبدأ في ظرفه فانياً في الذات محمولاً عليها - كما هو مفاد الهيئة - مع دعوى الاكتفاء في صحة حمله عليها وحكايته عنها بتلبسها به في الجملة ولو مع انقضاء التلبس حال الحمل والحكاية.

وما ذكره من امتناع لحاظه محمولاً عليها مع انقضاء تلبسها به عين مدّعى القائل باختصاص المشتق بحال التلبس لا يسلم به القائل بالأعم، وليس هو من المباديء المسلمة عند الطرفين ليصح سوقه دليلاً على المدعى المذكور.

وأما بناءً على التركيب: فلأنه لا يتوقف فرض الجامع على أخذ الزمان في مفهوم المشتق، بل كما أمكن دعوى الاختصاص بحال التلبس من دون أخذ زمان الحال فيه، بل بأخذ نحو من النسبة بين الذات والحدث لا تصدق إلا فيه، يمكن دعوى العموم بأخذ نحو من النسبة بينهما تصدق في الحالين.

ولا ضابط للنسب ولا للمفاهيم الأفرادية أو التركيبية، بل هي تابعة لقوة التصور التي لا تقف عند حد محدود.

ولعل وضوح ما ذكرنا بعد التنبيه إليه مغنٍ عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا كان المتعين البناء على إمكان كلا القولين ثبوتاً، وإنما الكلام فيما هو الواقع منهما إثباتاً تبعاً لوجوه الاستدلال المذكورة لكلا الطرفين.

إذا عرفت ذلك فأعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت، فقيل

ص: 241

باختصاص المشتق بحال التلبس مطلقاً وقيل: بعمومه لحال الانقضاء كذلك وقيل: بالتفصيل على وجوه لا مجال لاستقصائها.

المختار في المقام

إلاّ أن الحق هو اختصاص المشتق بحال التلبس ونحوه مما تقدم التعرض له في الأمر الثاني، من دون فرق بين أقسامه وحالاته، ككونه لازماً ومتعدياً، وكونه محكوماً عليه، ومحكوماً به.. قيل إلى غير ذلك.

لأنه هو المتبادر في الكل، ولصحة السلب عما انقضى عنه التلبس ونحوه بلا ريب.

ولذا كان المرتكز تضاد العناوين الاشتقاقية المأخوذة من المباديء المتضادة، كالحاضر والمسافر، والأسود والأبيض والأحمر، والغني والفقير، والجالس والقائم، وغيرها، فكما لا يجتمع الحدثان في ذات واحدة في وقت واحد، لا يجتمع العنوانان الاشتقاقيان منهما للذات كذلك، فلا يحمل على الرجل انه مسافر وحاضر بلحاظ حال واحد، وكذا غيرهما، وهو شاهد بتبعية صدق العنوان لفعلية الانتساب، وإلا كان حملهما كبيان انتساب الحدث بالفعل الماضي الذي يصدق مع ارتفاع النسبة. على ما ذكروه في المقام وأطالوا الكلام فيه بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد وضوحه.

وكأن التوقف فيه من بعضهم ناشئ من دلالة مادة المشتق على أمر غير الفعلية من ملكة أو شأنية أو حرفة أو غيرهما، أو دلالة الهيئة على أمر غير التلبس، على ما سبق التنبيه له في الأمر الثاني.

أو من اشتباه حال الجري في بعض الموارد، وتخيل كونه في زمان خاص متأخر عن التلبس، مع الغفلة عن القرينة الصارفة له إلى زمانه، فيتخيل بسببه كون منشأ الصدق عموم وضع المشتق لحال الانقضاء مطلقاً

ص: 242

أو في بعض الموارد التي تعرض لها بعض المفصلين.

كما هو الحال في المشتقات المأخوذة من المباديء التي لا بقاء معتدٌ به لها بنحو يتعارف الإخبار به أو ترتيب أحكامه حين وقوعه، بل لا يخبر به غالباً ولا يرتب حكمه إلا بعده، كالضارب في قولنا: «زيد ضارب»، و: «كلم الضارب»، حيث لا إشكال في أنه لا يفهم من الأول الإخبار عن ضربه حين تحققه، ومن الثاني إرادة تكليمه حين ضربه.

وكذا فيما إذا قضت المناسبات الارتكازية بكون المبدأ علة لثبوت الحكم وبقائه ولو بعد ارتفاعه، كما في مثل «يضمن المتلف» و «يجلد الزاني» و «يقطع السارق» و «يجزيء المحسن بإحسانه» حيث لا يفهم منها ثبوت هذه الأحكام لهم حين تلبسهم بالأحداث الخاصة لا غير.

ومثله ما لا يتعارف حمله على الذات حين التلبس، كالباني والحارث والنائح والمتكلم وغيرها مما يتعارف حمله على الذات بَعْدَ تلبسها به، وإذا أريد بيانه حين التلبس جيء بالفعل، فيقال،: «زيد يبني أو يحرث أو يتكلم».

فإن هذه الموارد ونحوها وإن أوهمت عموم المشتق لحال الانقضاء، إلا أن الظاهر عدم ابتنائها على ذلك، بل على عدم إرادة الجري حال الإخبار أو حال ترتيب الأحكام، بل المراد به ما يعم الجري فيما سبق مما يطابق حال التلبس، خروجاً فيها عما سبق في الأمر الثاني من أن مقتضى الإطلاق حمل الجري على حال النطق، وأن مقتضى القرينة العامة كونه حال النسبة وترتيب الأحكام، لأن الخصوصيات المشار إليها تكفي في الخروج عن ذلك.

ولذا لا يظن من أحد التوقف في تبادر حال التلبس ونحوه في المشتقات المذكورة وغيرها مع النص على حال الجري والنسبة، كما لو

ص: 243

قيل: «زيد ضارب أو زانٍ أو نجار أو صائغ اليوم»، حيث لا ريب في عدم صدق القضية مع صدور الضرب أو الزنا منه أمس، أو اتخاذه الصياغة أو النجارة صنعة قبل سنة ثم إعراضه عنها.

ومن الظاهر أن (اليوم) قيد للنسبة وظرف للجري الذي يصححه اتحاد العنوان مع الذات الحاصل على القول بالأعم بعد ارتفاع التلبس، وليس قيداً للحدث على أن يكون بمنزلة المفعول المطلق، بحيث يكون معنى قولنا: (زيد ضارب اليوم) - مثلاً - أنه ضارب ضرباً حاصلاً هذا اليوم، كي لا ينافي عدم صدقه لعدم تحقق الضرب منه هذا اليوم صدق الضارب المطلق عليه اليوم بلحاظ سبق الضرب منه. فلاحظ.

ومنه يظهر الحال فيما لا بقاء له بنفسه، بل البقاء لأثره، كالجرح والقتل والتسخين للماء والتنظيف للثوب وغيرها.

فإنه إن أريد من المبدأ فيه حقيقته، وهو المعنى الحدثي المصدري الذي لا بقاء له كان مما سبق، وابتنى الاستعمال فيه على ما سبق من أن الجري ليس بلحاظ حال النطق أو حال ترتيب الأحكام، بل بلحاظ ما سبقه مما يطابق حال التلبس. ولازم ذلك العموم لما لو ارتفع الأثر.

وإن أريد من المبدأ فيه تسامحاً ما يساوق الأثر ويبقى ببقائه - كما يكثر إرادة ذلك في اسم المفعول - خرج عما سبق، ولا ملزم بالخروج في حال الجري عن مقتضى الإطلاق أو القرينة العامة، بل يبنى فيه على مقتضاهما ويختص بحال التلبس الذي هو حال وجود الأثر، وإن ابتنى على نحوٍ من التسامح في المادة، لما سبق من أنه لا أثر لاختلاف المواد فيما نحن بصدده من معنى المشتق. ولذا لا يصح الإطلاق بعد ارتفاع الأثر.

ص: 244

ومنه الإثمار في الشجرة لو أريد منه فعليته، إذ الظاهر عدم إرادة المعنى الحدثي المصدري بل ما يساوق بقاء الثمرة.

نعم، لو أريد به شأنية الإثمار في مقابل ما لا يثمر اتجه صدقه مع قطف الثمرة، بل مع عدم ظهورها أيضاً، لفعلية الشأنية المذكورة.

هذا، وفي الفصول قد فصل بين المشتق المأخوذ من المباديء المتعدية كالضارب والمكرم، فيعم حال الانقضاء، والمأخوذ من المباديء اللازمة كالعالم والقائم، فيختص بحال التلبس، مستدلاً بالتبادر في المقامين.

وكأن منشأه كون الغالب في المتعدي عدم البقاء بالنحو المعتد به، وفي اللازم البقاء، ولعله لذا غفل فعد (المالك) من اللازم مع أنه متعد، ومثله في التبادر لخصوص حال التلبس من المتعديات «اللابس والساكن» وغيرهما، وعكسه في التبادر لما يعم حال الانقضاء من اللوازم «الزاني والجاني والمذنب» وغيرها مما لا بقاء له بنحو معتد به.

وقد سبق أن التبادر لما يعم حال الانقضاء فيما لا بقاء له ونحوه ليس لعموم المشتق له، بل لعدم كون الجري بلحاظ حال النطق، فلا ينافي عموم اختصاص المشتق بحال التلبس.

وإلا فمن البعيد جداً اختلاف مفاد الهيئة لغةً باختلاف المواد، بل لا مجال له بعد ما سبق من تبادر خصوص حال التلبس مع النص على حال الجري.

حجج القائلين بالعموم

بقي الكلام في حجج القائلين بالعموم..

وقد احتجوا بعلامتي الوضع المشهورتين، وهما التبادر وعدم صحة السلب.

ص: 245

ويظهر المنع منهما مما سبق في تقريب الاختصاص بحال التلبس.

كما احتجوا بجملة من الاستعمالات في حال الانقضاء، كآيتي السرقة والزنا وغيرهما، بل ربما يدعى كثرة ذلك بنحو لا يناسب كونه مجازاً.

ويندفع: بأن الاستعمال مع معرفة المراد أعم من الحقيقة.

وكثرة المجاز ليست عزيزة.

مع أنه لم يتضح كون الاستعمالات المذكورة بلحاظ حال الانقضاء، بل الظاهر كونها بلحاظ حال التلبس مع عدم كون الجري في حال النطق ولا حال النسبة، كما يظهر بملاحظة ما سبق، فلا نطيل.

الكلام في آية (لا ينال عهدي الظالمين)

نعم، لا بأس بإفاضة الكلام فيما ورد عن النبي (ص) والأئمة المعصومين عليهم السلام في تفسير قوله تعالى: «لا ينال عهدي الظالمين»(1) أن من عبد صنماً لا يكون إماماً.

فعن إبن المغازلي بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله (ص): «أنا دعوة أبي إبراهيم».

قلت: يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: «أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم أني جاعلك للناس إماماً فاستخف إبراهيم الفرح، قال: ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عز وجل إليه: أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به، قال يا رب ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك عهداً.

قال: إبراهيم عندها: واجنبني وَبَنِيَّ أن نعبد الأصنام ربِّ إنهن أضللن

ص: 246


1- غاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270

كثيراً من الناس. فقال النبي (ص): «فأنتهت الدعوة إليَّ وإلى عليٍّ، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتّخذني نبياً واتخذ علياً وصياً»(1).

وفي صحيح هشام بن سالم، قال أبو عبد الله عليه السلام: «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات، فنبيٌّ منبأ في نفسه لا يعدو غيرها. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام، مثل ما كان إبراهيم على لوط. ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أُرسل إلى طائفةٍ قلوا أو كثروا، كيونس... وعليه إمام. والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم. وقد كان إبراهيم عليه السلام نبياً وليس بإمام حتى قال الله: «إن جاعلك للناس إماماً قال ومِنْ ذريتي»، فقال الله: «لا ينال عهدي الظالمين»، إن عبد صنماً أو وثناً لا يكون أماماً»(2)، وقريب منهما غيرهما(3).

ما ذكر من أن الاستدلال بالآية بناء على عموم المشتق وأجيب بوجوه

وقد ذكروا أن الاستدلال بالآية الشريفة الذي تضمنته النصوص إنما يتم بناءً على عموم المشتق لحال انقضاء التلبس، لابتنائه على كون المراد بعدم إمامة الظالم في الآية الشريفة عدم إمامته ولو بعد ارتفاع ظلمه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الأول: ما ذكر الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من احتمال كون الظلم بحدوثه مانعاً من الإمامة إلى الأبد، فيكفي في امتناع إمامة الشخص صدق الظالم

ص: 247


1- أصول الكافي 1:174، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 271 وقريب منه في أمالي الشيخ الطوسي ص: 388 طبع النجف الأشرف
2- راجع أصول الكافي 1:175، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270-272
3- الكافي 1:377

عليه ولو سابقاً بلحاظ سبق التلبس، بلا حاجه إلى صدقه عليه فعلاً. بل هو المناسب لجلالة قدر الإمامة، ورفعة محلها وعظم خطرها.

ويشكل بمخالقة الاحتمال المذكور لظاهر جعل العنوان، لما سبق من أن حمل حال الجري على حال النسبة - وهي في المقام عدم نيل العهد - مقتضى القرينة العامة بلا ملزم بالخروج عنها، بعد كون الظلم مما له بقاء معتد به قابل عرفاً لأن يبين ثبوت الحكم حينه.

ومجرد كون عموم المانعية لحال عدم صدق العنوان أنسب برفعة مقام الإمامة، لا يقتضي تعيينه بعد كون تبعيتها لصدقه مناسباً لها أيضا، لأن رفعة المنصب بالمقدار الزائد - مع كونه عين الدعوى - لا قرينة على سَوق الآية الشريفة لبيانه.

الثاني: ما ذكره العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما يستفاد مما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره، وهو أن الظلم لما كان له فردان: ما لا بقاء له كضرب اليتيم وما له بقاء كالغصب والكفر، إمتنع إناطة الحكم به بنحو يدور مداره وجوداً وعدماً، لعدم مناسبته لأحد فرديه، بل لابد من أن يناط بوجوده بنحو يبقى بعد ارتفاعه، ليناسب كلا فرديه.

وفيه - مضافاً إلى أن الظلم قد فسر في كثير من الروايات المذكورة بالشرك والكفر، وإلى أنه في مثل ضرب اليتيم قابل للبقاء بلحاظ عدم الاستيهاب أو عدم التوبة. فتأمل -: أنه يكفي في حمل العنوان على أنه مما يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً قابلية بعض أفراده للبقاء، لكفاية ذلك في رفع لغوية الخطاب عرفاً. ولذا لا إشكال في فهم ذلك لو أُخذ عنوان الظالم موضوعاً للمانعية من غير الإمامة العامة، كإمامة الصلاة، وقبول الشهادة.

ص: 248

الثالث: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره والمناقشة فيه

الثالث: ما ذكره الشيخ الطبرسي ويظهر من بعض الأعاظم قدس سره وغيره من إن الآية لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عمن انقضى عنه الظلم حين صدروها، بل بنحو القضية الحقيقة كانت شاملة للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبداً، لأن قوله تعالى: «لا ينال» مضارع منفي غير محدود بوقت، وهو يقتضي التأبيد.

وفيه: أن مقتضى الإطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه، لا عدم ارتفاعه بارتفاعه، فإذا أُخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم دورانه مدار صدق العنوان المذكور، لا ثبوته للذات بعد ارتفاعه، كما هو الحال لو قيل: لا تصلِّ خلف الفاسق.

نعم، لو كان العنوان مسوقاً لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام الموضوع اتجه ما ذكره قدس سره. لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان، ولاسيما في القضايا الحقيقية، وفي مثل المقام مما كان دخل العنوان في الحكم ارتكازياً. بل لا يظن منه ولا من غيره البناء على ذلك.

الرابع: ما ذكر السيد الحكيم قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من ظهور صدر الآية في سؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة لذريته، ويمتنع منه سؤالها لمن هو متلبس بالظلم حينها، بل المسؤول له مِنْ عداهم ممن لم يتلبس بالظلم أصلاً أو انقضى تلبسه به، فيكون ذيلها إخراجاً للقسم الثاني، دون من تلبس بالظلم حينها، لخروجه عن مورد السؤال.

وفيه - مع عدم ظهور صدر الآية ولا الروايات في سؤال إبراهيم وطلبه للإمامة، بل استفهامه عنها، فتأمل -: أن إبراهيم عليه السلام لم يطلب استيعاب ذريته بالإمامة، ليمنع عمومه للمتلبس بالظلم، بل جعلها فيهم في الجملة من دون

ص: 249

نظر لشروط المستحق لها، وبيان المستحق ابتداءً منه تعالى، فلا مانع من حمله على المتلبس فعلاً بالظلم.

الخامس: أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل الآية الشريفة عليه، لاستهجان بيانه حينئذٍ، بل لابد أن يحمل على ما يحتاج للبيان مما فيه نحو من الخفاء، وهو مانعية الظلم آناً ما من الإمامة ولو بعد ارتفاعه، فيكفي صدق العنوان سابقاً بلحاظ حال التلبس.

وفيه: أن وضوح ذلك بحسب المرتكزات العقلية والفطرة الأولية لا يمنع من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملاً بسبب جور الظالمين، بل اعتقاد كثير من أهل الأديان بخلافه، لشبهات روجها الطواغيت، فقد اشتهر عن المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة، وكذا غيرهم من أهل الأديان حتى بعض فرق المسلمين.

ولولا ما من الله تعالى به من وضوح البيان ببقاء القرآن المجيد، وجهود أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم المخلصين، في التأكيد على ذلك، وفي كشف حال الظالمين وسلب الثقة بهم، لأتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة يتبعونهم في الأحكام، ويأخذون منهم الحلال والحرام، كما تبعوا بعض الأوائل في كثير من فروع الدين وأصوله، مع وضوح ظلمهم حين ادعاء المنصب، وإن حاول بعض الأتباع - بضلالهم - التلبيس والدفاع عن أئمتهم، وتنزيه سيرتهم عن الظلم، وسننهم في الدين عن الإبتداع، بعد وضوح مانعية التلبس بالظلم عن الإمامة بسبب الجهود المذكورة.

فكيفُ يستغنى مع ذلك عن إتمام الحجة ببيان صريح في القرآن المجيد الذي يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولا يأتيه الباطل من بين يديه

ص: 250

ولا من خلفه! والحمد لله على هدايته لدينه. ونسأله العصمة والتوفيق.

المختار في المفهوم من الآية الشريفة

والذي ينبغي أن يقال: الاستدلال على عموم المشتق بهذه النصوص موقوف.. أولاً: على ورودها في مقام الإحتجاج بالآية الشريفة على عدم إمامة من عبد وثناً أو صنماً، كي يتعين كون استفادة ذلك منها بمقتضى الوضع أو الظهور العام، ليتسنى إلزام الخصم به في مقام الإحتجاج.

وثانياً: على أن المراد بالعهد في الآية الشريفة الإمامة التي لا تكون فعلية للشخص إلا بوجوده واجتماع الشرائط فيه، ومنها عدم كونه ظالماً، كي يدعى أن ظاهرها لزوم عدم كونه ظالماً حين انعقاد الإمامة له، فلا يشمل من خرج عن التلبس بالظلم إلا بناءً على عموم المشتق.

ولا طريق لإثبات الأمرين، لو لم يكن الظاهر خلافهما.

أما الأول: فلعدم ظهور النصوص في الإحتجاج بالآية والإلزام بمفادها لخصم منكر، بل في مجرد بيان المراد منها، ولا مانع من إبتناء إرادة ما تضمنته النصوص منها على خلاف ظهورها البدوي، لقرائن اطلع عليها من أُوتي علم الكتاب بنحو يرجع إلى استعمال المشتق مجازاً في حال انقضاء التلبس، أو إلى عدم كون الجري بلحاظ حال فعلية الإمامة، بل بلحاظ حال التلبس ولو كان سابقاً على ذلك الراجع إلى مانعية صدق العنوان من أهلية المتصف به للإمامة ولو بعد ارتفاعه.

وأما الثاني: فلاحتمال أن لا يكون المراد بالعهد في الآية العهد بالإمامة للإمام، بل العهد لإبراهيم عليه السلام بجعل الإمامة في ذريته بعد طلبه ذلك أو استفهامه عنه، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر من الآية، بحمل العهد على الفعلي الشخصي، لا الكلي المنحل إلى أفراد تقديرية لا تكون

ص: 251

فعلية إلا بنصب الإمام في وقته. بل هو كالصريح من النبوي المتقدم وغيره.

وعليه: يكون مفاد الآية أن العهد الذي قطعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بالإمامة لذريته قد جعل بنحوٍ لا يتناول الظالم منهم.

وليس المراد به الظالم حين قطع العهد، لعدم وجوده بعد، بل يتعين حمله على من يكون ظالماً حين وجوده، وإن اختص صدقه عليه بحال تلبسه بالظلم، فيعم بإطلاقه من يبقى عليه ومن يفارقه.

وذلك كما يقتضي عدم مقارنة الإمامة للتلبس بالظلم كذلك يقتضي عدم تأخرها عنه أو سبقها عليه واليه يرجع اعتبار العصمة في الإمامة.

أما لو كان المراد بالعهد العهد بالإمامة فلا تنهض الآية بالثاني إلا بناء على عموم المشتق لحال الانقضاء الذي هو محل الكلام، ولا بالثالث إلا بناء على عمومه للتلبس في الاستقبال، الذي لا مجال له بلا كلام.

بقي أمران

بقي في الكلام أمران:

أحدهما: جعل الإمامة ابتداءً

أحدهما: أن ظاهر الآية الشريفة كون الإمامة مجعولة منه تعالى للشخص ابتداءٍ، لعلمه بأهليته لها، كما هو مذهب الإمامية أعز الله دعوتهم، لا إمضاء لبيعة الناس بها، كما هو مذهب العامة، لعدم صحة النسبة له تعالى في الإمضائيات كما سبق عند الكلام في المعاملات من مبحث الصحيح والأعم. ولما هو المعلوم من عدم توقف إمامة إبراهيم عليه السلام على البيعة.

وهو المناسب لرفعة مقام الإمامة وجلالتها وأهمية الآثار المترتبة عليها.

ص: 252

ودعوى: أن ثبوت ذلك منه تعالى لا ينافي إمضاءه سبحانه لبيعة الناس بالإمامة.

مدفوعة: باحتياج الإمضاء للدليل. ولاسيما مع ظهور الآية في أن جعل الإمامة لإبراهيم عليه السلام بعد إبتلائه له بالكلمات وإتمامه لهن، حيث يظهر منه تبعيتها لأهلية الإمام التي تظهر باختباره وإمتحانه تعالى له.

وعليه يلزم تنزيل ما ورد في أحكام الإمامة - كالنبوي المشهور بين الفريقين: «من من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»(1) - على ما تضمنته الآية الشريفة.

ثانيهما: ما ذكره الرازي من المراد بالإمامة ودفعه

ثانيهما: ذكر الرازي في تفسيره أن المراد بالإمامة في الآية الشريفة النبوة لا الخلافة لوجوه: الأول: ظهورها في كون الإمام إماماً لجميع الناس، وذلك لا يكون إلا الرسول المستقل بالشرع، إذ لو كان تابعاً لرسول آخر كان مأموماً لذلك الرسول.

الثاني: أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء ولا يكون كذلك إلا النبي.

الثالث: أن إمامة النبوة أعلى مراتب الإمامة، فيجب الحمل عليها، لذكرها في مقام الامتنان، فلا بد أن تكون تلك النعمة من أعظم النعم، ليحسن نسبة الامتنان. قال بعد ذلك: «فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة».

والكل كما ترى! لاندفاع الأول بأن غير النبي من الأئمة إمام لجميع الناس اللذين في عصره، وذلك هو المنساق من عموم الآية، ولذا لا يقدح في إمامة النبي المستقل بالشريعة عدم إمامته لمن سبق عصره أو تأخر عن شريعته، فلا يقدح في إمامة الإمام عدم إمامته لنبي شريعته غير الموجود

ص: 253


1- سورة البقرة: 124

حين إمامته، بل هو كسائر من سبق عصره من الناس.

نعم، لو تضمنت الآية أن الإمام لا يكون مأموماً ولو لغير أهل عصره اتجه قصورها عن الإمام التابع لنبي شريعته. لكن الآية لم تتضمن ذلك، بل تضمنت أنه إمام لجميع الناس، كما هو ظاهر الجمع المحلى باللام.

وأما الثاني فهو يبتني على مباينهم من اختصاص الإمامة بعد النبي (ص) بنظم أمر الدنيا، ولا يجري على مبانينا معشر الإمامية من عمومها لشؤون الدين والدنيا تبعاً لعموم الحاجة فيهما.

كما أن الثالث موهون بأن كون النبوة أعلى المراتب لا يقتضي إرادتها، لعدم اختصاص الامتنان بالمراتب العالية من النعم، فإن كل نعمةٍ مورد للامتنان.

بل لا امتنان في الاقتصار على المراتب العالية منها.

وإلا لزم الاختصاص بأعلى مراتب النبوة وأشرفها، كالنبوة الخاتمة.

هذا كله مع أن النبوة مباينة للإمامة مفهوماً، فإن الإمام هو الذي يجب على الناس متابعته والأخذ منه والإقتداء به، والنبوة لا تستلزم ذلك، إذ قد يختص النبي بأحكام من دون أن يجب الاخذ منه على الناس، بل قد يكون عليه إمام، كما تضمنه صحيح هشام بن سالم المتقدم وغيره.

بل سبق فيه أن إبراهيم عليه السلام كان نبياً وليس بإمام، كما هو ظاهر صدر الآية الشريفة أيضاً المتضمن أن جعله إماماً كان بعد إبتلائه بالكلمات، قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

ص: 254

قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي... (1) . ولا إشكال ظاهراً في أنه إبتلي بالكلمات وهو نبي.

نعم، بناءً على ما حكاه من قراءة إبن عباس برفع (إبراهيم) ونصب (ربه) يكون المراد ظاهراً إختبار إبراهيم عليه السلام لله سبحانه في إجابة دعائه، إذ يمكن حينئذٍ أن يكون قد دعا الله قبل نبوته، وجُعِلَ نبياً حين جعله إماماً، لا قبل ذلك. لكنها شاذة والاستدلال إنما يكون بالقراءة المشهورة.

وقد خرجنا في الحديث عن الآية عما يقتضيه البحث رغبة في استكمال الفائدة.

وبذلك ينتهي الكلام في بحث المشتق، وإن أطال مشايخنا في بعض ما يتعلق به من المباحث مما لا دخل له بمحل الكلام، ولا يتضح ترتب فائدة معتد بها عليه ينبغي لأجلها صرف الوقت. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

ص: 255


1- سورة النور: 63

ص: 256

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي

ص: 257

ص: 258

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي
اشارة

وقد جرى أهل الفن على التفريق بين الأوامر والنواهي وتخصيص كلٍ منهما بمقصد، مع أن النواهي تشارك الأوامر أو تناظرها في جُل المباحث المذكورة في مقصدها، كمباحث مفاد المادة والصيغة والجمل الخبرية، ومباحث تقسيمات الواجب إلى النفسي والغيري، والأصلي والتبعي، والمطلق والمشروط، والعيني والكفائي وغيرها، ومباحث المرة والتكرار والفور والتراخي وغيرهما، ولم يذكروا تلك المباحث في مقصد النواهي اكتفاءً بما ذكروه في مقصد الأوامر.

وأهم ما ذكروه في مقصد النواهي مسألتا اجتماع الأمر والنهي، واقتضاء النهي الفساد، اللذان هما من مباحث الملازمات العقلية حسب التبويب الذي جرينا عليه، مع أن نسبة الأولى لكل من المقصدين واحدة.

ومن هنا كان الأنسب جمعهما في مقصدٍ واحد، كما جرينا عليه هنا، مع تعميم موضوع البحث لهما في مورد الاشتراك، وتخصيصه بأحدهما في مورد الانفراد.

ص: 259

مقدمة:
مقابلة الأمر للنهي

الظاهر أن الأمر والنهي متقابلان مفهوماً واقتضاءً، فالأمر نحو نسبة بين الآمر والمأمور والماهية المأمور بها تقتضي تحقيق المأمور للماهية وإيجادها في الخارج، والنهي نحو نسبة بينهما وبين الماهية المنهي عنها تقتضي ترك المنهي للماهية وعدم إيجادها في الخارج.

فتقابلهما بلحاظ سنخهما وأثرهما، لا بلحاظ متعلقهما، نظير التقابل بين الإرادة والكراهة في حقيقتهما وإقتضائهما للمراد والمكروه.

وقد يظهر من بعض عباراتهم اتحاد نسبتيهما مفهوماً وأثراً وأن التقابل إنما هو في متعلقهما، فقد ذكر بعضهم في بيان مفاد النهي أنه لا فرق بينه وبين الأمر إلا في أن المطلوب في الأمر الوجود وفي النهي العدم، كما حكي عن آخرين في مسألة الضد أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام وهو الترك.

وذلك كله منافٍ للمرتكزات العقلائية والعرفية في حقيقة النسبتين ومفاد الدال عليهما: وكأنه يبتني على نحوٍ من التسامح أو الأشتباه في حقيقة كل من النسبتين بلازمها في مقام الامتثال أو العمل على طبقها. ولا معدل عما ذكرنا.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في فصول.

ص: 260

الفصل الأول في ما يتعلق بمادة الأمر والنهي
اشارة

ذكروا لمادة الأمر معاني كثيرة، كالطلب والشأن والحادث والشيء وغيرها.

والظاهر أنه مشترك لفظاً بين معنيين: نحو من الطلب أو ما يرجع إليه، ويأتي الكلام في بعض الخصوصيات المأخوذة فيه، والشأن أو ما يجري مجراه، وليطلق على الأول الأمر الطلبي، وعلى الثاني الأمر الشأني.

وهو الجامع بين بقية المعاني المذكورة له، فذكر كل من تلك المعاني بخصوصياتها يبتني على اشتباه المفهوم بالمصداق، حيث يبعد استقلال كل منها بالوضع مع تقاربها ذهنا بنحو يدرك العرف رجوعها لجامع واحد، بل لا ريب في عدم الوضع لبعضها، وأن الاستعمال فيه لاندراجه في مفهوم خاص جامع بينها.

وصعوبة تحديده تفصيلاً لا ينافي إداركه ارتكازاً، ككثير من المفاهيم العرفية.

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أنه عبارة عن الواقعة التي لها أهمية في الجملة، وأرجع الأمر الطلبي إليه، باعتباره من الأمور ذات الأهمية، فلا

ص: 261

يكون لمادة الأمر إلا معنى واحد، وليست مشتركة لفظاً بين معنيين. لقضاء الوجدان بأن الاستعمال في جميع الموارد في معنى واحد.

ويشكل ما ذكره: بأنه - مضافاً إلى عدم أخذ الأهمية في المعنى - لا مجال لإرجاع الأمر الطلبي للمعنى الآخر، وتخصيص المادة بمعنى واحد، لأن الأمر الطلبي مصدر اشتقاقي يجمع على أوامر، كما يجمع النهي على نواهي، والأمر الشأني جامد يجمع على أمور، حيث يكشف ذلك عن اشتراك اللفظ بين معنين متباينين مفهوماً، وإن كان الأمر الطلبي من مصاديق الأمر الشأني ببعض الاعتبارات كالنهي والاستفهام وغيرهما.

وأما ما في منتهى الأصول من إمكان اختلاف جمع المفهوم الواحد باختلاف مصاديقه، كما يمكن اختلافه بحسب الاشتقاق باختلاف نسبه حسب اختلاف الحاجة، فإذا كانت اختلافات النسب في معنى كثيرة كثرت اشتقاقاته، وإن كانت قليلة قلت.

ففيه: أن الجمع يرد على المفهوم باعتبار تعدد أفراده، لا على الأفراد ليختلف باختلافها. وكذا الحال في الاشتقاق، فمع وحدة المعنى لابد من كونه على وجه واحد، والاختلاف في مقدار الاشتقاق إنما يكون مع تعدده، كما يختلف اللازم مع المتعدي في بعض الاشتقاقات.

على أن الأمر ليس في قلة الاشتقاق وكثرته، بل في اشتقاق أحد المعنيين وجمود الآخر، ومباينة المعنى الاشتقاقي للجامد أوضح من أن تخفى.

وقابلية بعض أفراد المعنى الجامد للاشتقاق بلحاظ خصوصيته الفردية لا تصحح الاشتقاق من مادته الجامدة، ولذا لا يصح الاشتقاق من

ص: 262

الأمر الشأني لو أريد به النهي أو الاستفهام أو نحوهما مما يكون فرداً له بملاك فردية الأمر الطلبي له.

ولعله لذا اعترف بعدم خلو ما ذكره عن المناقشات.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في تباين المعنيين مفهوماً، واشتراك مادة الأمر بينهما اشتراكاً لفظياً. نعم قد يكون الأمر الطلبي مأخوذاً من الأمر الشاني بحسب الأصل، كما في كثير من المواد المشتركة، كمادة شجر التي يرجع إليها الشجر الجامد، والشجار المشتق.

والأمر ليس بمهم، إنما المهم تحقيق حال الأمر الطلبي وتحديد مفاده، والمنظور في ذلك إنما هو المفاد اللغوي والعرفي، الذي يحمل عليه في كلام الشارع الأقدس ونحوه مما له دخل في الإستنباط.

وإلا فقد ادُّعي أن المراد به اصطلاحاً القول المخصوص، وهو (افعل) أو ما بمعناه، وهو غير مهم لو تم.

هذا، وأما النهي فهو مختص ظاهراً بالمعنى المقابل للأمر، ويشاركه في أكثر الجهات المبحوث عنها فيه أو في جميعها.

الكلام في معنى المادة

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم:

تارةً: في اتحاد الأمر مع الإرادة النفسية أو مباينته لها لتقومه بالإنشاء.

وأخرى: في أخذ علو الآمر أو استعلائه في مفهومه.

وثالثة: في دلالته وضعاً أو إطلاقاً على الإلزام.

ويجري نظير ذلك في النهي، حيث يقع الكلام في اتحاده مع الكراهة النفسية، وفي اعتبار علو الناهي أو استعلائه فيه، وفي دلالته على الإلزام.

ص: 263

مباينة الأمر والنهي للإرادة والكراهة

والذي ينبغي أن يقال: لا إشكال بعد النظر في المرتكزات العقلائية والعرفية في مباينة الأمر والنهي مفهوماً وخارجاً للإرادة والكراهة النفسيتين وتقومهما بالجعل والإنشاء الذي قد لا يكون مسبباً عن الإرادة والكراهة للمتعلق، بل يكون بداعي الامتحان أو غيره. نظير ما سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام الإقتضائية - في مقدمة علم الأصول - من أن الإرادة والكراهة التشريعيتين اللذين هما منشأ انتزاع التكليف مباينتان سنخاً للإرادة والكراهة النفسيتين الحقيقيتين.

فليس الأمر والنهي إلا عبارة عن الخطاب بالحث نحو الشيء أو الزجر عنه من دون أن يستلزما إرادته أو كراهته فضلاً عن أن يتحدا معهما مفهوماً أو خارجاً، كما يظهر من بعضهم.

نعم الظاهر عدم الاكتفاء فيهما بمطلق الحث والزجر، بل يختصان بما يبتني منهما على فرض المخاطب نفسه بمرتبة من ينبغي متابعته وتنفيذ خطابه، إما لسلطان غالب، أو لقوة قاهرة، أو لحقٍ لازمٍ عرفاً أو شرعاً.

لكن لا بمعنى لزوم بلوغه لذلك حقيقة، بل يكفي تخيله ذلك أو إدعاؤه له، لأن المعيار على إبتناء الخطاب عليه.

ولذا لا يكفي وجوده الواقعي من دون أن يبتني عليه الخطاب. فلو وجب شرعاً إطاعة الأب فطلب طلب الراجي غافلاً عن ذلك لم يصدق على طلبه الأمر، كما لا يصدق على زجره النهي، وإن وجبت إطاعته.

كما أنه لو طلب طلب السلطان القاهر صدق الأمر والنهي وإن لم تجب إطاعته شرعاً ولم يخش سلطانه.

ومرجعه إلى اعتبار الاستعلاء دون العلو، خلافاً لما ذكره غير واحدٍ

ص: 264

من العكس.

بل يجري ذلك حتى في الأوامر والنواهي الإرشادية إذا ابتنت على ادعاء المرشد بلوغه أهلية الإرشاد لمعرفته بمرتبة تلزم بمتابعته.

أما لو ابتنت على محض معرفته بالواقع المرشد إليه ولو صدفة من دون ادعاء لذلك لم يصدق الأمر والنهي.

هذا هو الظاهر بحسب المرتكزات العرفية.

أخذ الإلزام في مفهوم الأمر والنهي

ومن هنا كان الظاهر أخذ الإلزام في مفهوم الأمر والنهي، كما هو المتبادر من إطلاقه، بل الظاهر صحة السلب عن الطلب غير الإلزامي، وإن صح إطلاقه على ما يعمه بنحو من العناية، كما في مقام التقسيم.

وقد يشهد بما ذكرنا جملة من الآيات التي تضمنت ترتب استنكار المخالفة والتحذير منها والذم عليها، بنحو يظهر منها كون هذه الأمور من لوازم المفهوم، كقوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1) وقوله عز وجل: «مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ(2) وكقوله سبحانه: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3).

وكذا الروايات الظاهرة في المفروغية عن اقتضاء الأمر الإلزام، كقوله (ص): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة»(4) أو: «مع كل صلاة»(5) وما في حديث بريرة: فقال لها النبي (ص): «لو

ص: 265


1- سورة الأعراف: 12
2- سورة الرعد: 25
3- الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب السواك، حديث: 4
4- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب السواك، حديث: 3
5- مستدرك الوسائل باب: 36 من أبواب نكاح العبيد والإماء، حديث: 3

راجعتيه فإنه أبو ولدك»، فقالت: «يا رسول الله أتأمرني؟» قال: «لا إنما أنا شفيع»، فقالت: «لا حاجة لي فيه»(1).

فإن الاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة، إلا أن ابتناء الاستعمالات المذكورة في الخصوصية على القرينة دون حاق اللفظ بعيداً جداً، ولاسيما في النبويات. ولا أقل من كونها مؤيدة للمدعى، كما ساقها في الكفاية.

هذا، ولو فرض عدم تمامية ذلك كان ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة بالإطلاق ونحوه جارياً في المقام. كما أن الظاهر مشاركة النهي للأمر في جميع ما تقدم، للتقابل بينهما عرفاً.(2)

ص: 266


1- سورة الأعراف: 24
2- سورة الحج: 73
الفصل الثاني في ما يتعلق بمادة الطلب
اشارة

الطلب لغةً: السعي نحو الشيء لمحاولة تحصيله والوصول إليه. وهو المناسب لموارد إطلاقه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة واستعمال أهل العرف، كقوله تعالى: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا»(1) وقوله عز اسمه: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»(2) وقولهم عليهم السلام: «طلب العلم فريضة»(3) وما ورد من وجوب طلب الماء لمن يجده وعدم مشروعية التيمم بدونه(4)، وقول الشريف الرضي:

لو على قدر ما يحاول قلبي طلبي لم يقر في الغمد غضبي

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة.

والظاهر عدم خروجه عن المعنى المذكور عند إطلاقه في مورد الحث على الشيء، لأن الحث على الشيء نحو من السعي لتحصيله. ومن هنا كان الظاهر اتحاده خارجاً مع الحث المذكور.

ص: 267


1- راجع الوسائل ج 18، باب: 4 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب التيمم
3- كتاب التوحيد للصدوق ص: 296، طبع النجف الأشرف سنة: 1386
4- سورة المائدة: 2
عدم اتحاده مع الإرادة النفسية

وليس هو متحداً مع الإرادة النفسية، لا مصداقاً ولا مفهوماً.

لكن في لسان العرب: «وطلب إلي طلباً: رغب» وقد يظهر منه اتحاد الطلب مع الرغبة التي هي أمر نفسي مباين للحث الإنشائي.

إلا أنه في غير محله، لوضوح أن مراده ليس مجرد الرغبة النفسية، بل إبداؤها للشخص المطلوب إليه في مقام حثه على تحيق المرغوب فيه، الذي يعبر عنه بقولنا: رغب إليه، ومن الظاهر أن الإبداء المذكور هو الحث الإنشائي، فيطابق ما ذكرنا.

بل لا يبعد صدق الطلب عرفاً على الحث المذكور وإن لم يكن بداعي السعي لتحصيل المطلوب، لعدم إرادته، بل بداعٍ آخر، كالامتحان.

ودعوى: أنه حينئذٍ طلب صوري لا حقيقي.

غير ظاهرة، وإنما يكون الخطاب طلباً صورياً لو أوهم الحث ولم يكن وارداً مورد الحث حقيقة، كما في موارد التقية ونحوها.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في عدم اتحاده مفهوماً ولا خارجاً مع الإرادة، بل غاية الأمر كونه ملازماً لها لو غض النظر عما ذكرنا من صدقه في مورد الامتحان.

فما في كلام بعضهم من أنه عبارة عن الإرادة ومتحداً معها، في غير محله قطعاً.

ومثله في الضعف ما عن الأشاعرة من أنه أمر قائم بالنفس غير الإرادة، وهو المسمى عندهم بالكلام النفسي والمدلول بنظرهم للكلام اللفظي.

وقد ذكروا أنه هو المعيار في التكليف دون الإرادة، وبذلك وجهوا تخلف الامتثال عن التكليف مع امتناع تخلف مراده تعالى.

ص: 268

لاندفاعه: بأنه لا واقع للكلام النفسي ارتكازاً، فضلاً عن أن يكون هو الطلب والمعيار في التكليف.

وتخلف الامتثال عن التكليف ليس لأن الكلام النفسي هو المعيار في التكليف، بل لأن المعيار فيه هو الخطاب بداعي جعل السبيل، الذي فسرنا به الإرادة التشريعية، وذكرنا أنه غير مستلزم للإرادة، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول.

وبذلك نستغني عن البحث فيما أطالوا الكلام فيه هنا من إبطال كلام الأشاعرة، وفيما جر إليه ذلك من الكلام في شبهة الجبر، ولاسيما مع خروجه عما هو محل الكلام هنا من تشخيص الظهورات، ومع كون الشبهة المذكورة من مزال الأقدام، حتى ورد النهي عن الكلام في القدر، وأنه بحر عميق فلا تلجه، وطريق مظلم فلا تسلكه، وسرّ الله فلا تكلفه(1). فلا ينبغي الكلام في ذلك إلا لرفع الشبهة لو طرأت على بعض الناس، لا التنبيه إلى الشبهة ثم محاولة رفعها، حيث قد لا يوفق الإنسان لرفعها، فتبقى عليه تبعة التنبيه إليها. عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.

ثم إن الظاهر أن مادة الطلب لا تقتضي العلو من الطالب ولا الاستعلاء، فيصدق الطلب على الدعاء والرجاء وغيرهما. كما لا تختص بالإلزام، ومن ثم كان الطلب أخص من الأمر.

نعم، ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة مع عدم اختصاصها به وضعاً لو تم جارٍ في مادة الطلب، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية له، على ما يتضح إن شاء الله تعالى.

ص: 269


1- سورة البقرة: 23
الفصل الثالث في ما يتعلق بصيغتي الأمر والنهي
اشارة

المراد بصيغة الأمر في كلماتهم هي هيئة فعل الأمر ثلاثياً كان أو غيره. وألحق بها لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع، لاتحادهما فيما هو المهم من محل الكلام، وهو الدلالة على الطلب والإلزام، أما النهي فلا هيئة تخصه، وإنما يستفاد من (لا) الناهية، كما يستفاد الأمر من اللام.

معاني صيغة الأمر

وقد ذكروا لصيغة الأمر معاني متعددة، كالطلب - الذي هو الشائع من موارد استعمالها - والإباحة، كقوله تعالى: «وإذا حللتم فاصطادوا»(1)، والتمني، كقول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي..

والتعجيز، كقوله تعالى: «فأتوا بسورة من مثله»(2)، والتهديد، كقوله تعالى: «وانتظروا إنا منتظرون»(3)، والاحتقار، كقوله سبحانه: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(4) وغيرها.

ص: 270


1- سورة هود: 122
2- سورة طه: 22
3- سورة المائدة: 2
4- سورة البقرة: 222

كما يجري نظيرها في لام الأمر. بل في (لا) الناهية، حيث تصلح للاستعمال في تلك المعاني، مع استبدال الطلب بالنهي.

هل الصيغة مشتركة أو مختصة بالأول؟

وقد وقع الكلام بينهم في اشتراكها بين المعاني لفظاً، أو اختصاصها بالأول مع كونها مجازاً في الباقي.

وإن كان الظاهر - تبعاً لجمع من المحققين - أنها موضوعة لنحو نسبة خاصة لا تخرج عنها إلى غيرها في مقام الاستعمال، لا حقيقةً ولا مجازاً، واختلاف المعاني المذكورة لها راجع لاختلاف دواعي الاستعمال، فكما أن القضية الحملية تستعمل تارةً بداعي الإخبار والحكاية، وأخرى بداعي الاستهزاء والسخرية، مع عدم خروج هيئتها عن معناها، كذلك الحال في المقام، وفي كثير من الهيئات والحروف، على ما يشهد به التدبر في المرتكزات الاستعمالية.

والنسبة المذكورة حيث كانت من المعاني الحرفية التي سبق اختلافها سنخاً مع المعاني الاسمية فلا يكون شرحها بالاسم، - كالطلب والبعث والزجر ونحوها - إلا لفظياً لضيق التعبير على ما سبق في مبحث المعنى الحرفي.

ولعل الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها هيئة الأمر ولامه بالنسبة البعثية، دون الطلبية، لأنها أقرب ارتكازاً للبعث الصاد من الباعث والقائم بين المبعوث والمبعوث إليه منها إلى الطلب القائم بالطالب والأمر المطلوب، وليس المطلوب منه إلا آلة له من دون أن يكون طرفاً له.

وبهذا كانت مقابلة ل (لا) الناهية التي يكون الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها بالنسبة الزجرية، لقيام الزجر بالمزجور والمزجور عنه، وليس

ص: 271

الزاجر إلا فاعل له.

نعم، الخطاب بالنسبة المذكورة والحث بها يصدق عليه الطلب، بلحاظ ما سبق من معناه، لأن الحث المذكور سعي نحو المطلوب، وإن لم تكن النسبة المؤداة طلبية.

ولا يهم تحقيق ذلك بعد عدم الريب ظاهراً في أن الأصل حمل هيئة الأمر وأداته على استعمالهما بداعي الحث على الفعل، وحمل أداة النهي على استعمالها بداعي الزجر عنه، دون بقية الدواعي المتقدمة من إباحة أو تهديد أو غيرهما، من دون فرق بين القول بوحدة معنى الصيغة وأداة الأمر والنهي مع اختلاف الدواعي والقول بتعدده.

في استفادة الإلزام من الصيغة

وإنما المهم استفادة الإلزام منها بالوضع أو الإطلاق أو غيرهما، بحيث يكون هو الأصل الذي يحمل عليه الكلام مع عدم القرينة الصارفة عنه، لأهميته في مقام العمل جداً. ومن ثم كان ذلك حقيقاً بالكلام في المقام، وبالنقض والإبرام.

والظاهر أن النزاع لا ينحصر بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب عقلاً، المتفرع على كون المخاطب بالصيغة ممن تجب إطاعته عقلاً، كالشارع الأقدس، بحيث لا موضوع له في خطاب غيره - كما قد يظهر من بعض الوجوه الآتية وقد يوهمه التعبير عنه بالوجوب - بل يجري في مطلق الإلزام ولو من الموالي العرفيين الذين لا تجب إطاعتهم، بل ولو من غير الموالي، كالداعي والملتمس والشافع.

توضيحه

وتوضيح ذلك.. أن الطلب

تارة: يبتني على نسبة المطلوب للطالب، بحيث يصحح إضافة

ص: 272

المطلوب إليه، فيؤتى به لأجله وعلى حسابه، ويكون الممتثل مستحقاً للشكر منه.

وأخرى: لا يبتني على ذلك، بل على محض الكشف عن واقع لا دخل للطالب له.

والثاني هو الطلب الإرشادي، أما الأول فهو الطلب المولوي إن صدر من المولى، بل قد يطلق على كل طلب صادر ممن يهتم بإطاعته ولو لخوف عقابه أو رجاء ثوابه - كالسلطان - بل من كل من كان مستعلياً وإن لم يكن عالياً في نفسه، وإن صدر من السافل للعالي كان دعاءً أو عرضاً، وإن صدر من النظير للنظير كان شفاعةً والتماساً ونحوهما.

ثم إن الإلزام في الطلب الإرشادي تابع ثبوتاً للواقع الذي يرشد إليه، حيث لابد فيه من الأهمية بمرتبة خاصة، مع عدم المزاحم، أما في المولوي وما يجري مجراه فهو تابع لخصوصية في الطلب الصادر من الطالب، بأن يبتني على نحو من الإصرار على المطلوب زائداً على إضافة المطلوب للطالب وجعله في حسابه، بحيث يكون عدم امتثاله مخالفة له ورداً على الطالب، وإن لم يوجب استحقاق العقاب عقلاً أو عرفاً، لعدم كون الطالب لازم الإطاعة.

ولذا يكون خروجاً عن مقتضى المولوية التي يبتني عليها الطلب المولوي، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.

وأما خصوصية الملاك فهي علة لخصوصية الطلب المذكورة التي يتبعها الإلزام، لا أنها السبب المباشر له، كما في الطلب الإرشادي.

وتمام ما سبق جارٍ في النهي.

ص: 273

هذا كله في منشأ الإلزام في مقام الثبوت.

الكلام في استفادة الإلزام إثباتاً

وأما في مقام الإثبات فقد وقع الكلام في دلالة الصيغة على الإلزام وضعاً أو إطلاقاً، أو عدم دلالتها عليه.

قال في الكفاية: «في أن الصيغة حقيقةً في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال».

ولا ينبغي التأمل في عدم اختصاصها بالطلب غير الإلزامي بعد عدم تبادره منها وعدم العناية في استعمالها في الإلزامي.

كما أن الظاهر عدم اشتراكها لفظاً بين الطلب الإلزامي وغيره، لوجود القدر المشترك بينهما عرفاً، وهو مطلق الطلب الحاصل من النسبة البعثية، فلو أريد العموم لهما كان الظاهر الاكتفاء بالوضع للقدر المشترك المذكور، ولاسيما مع بعد الاشتراك اللفظي في نفسه، خصوصاً في الهيئات والحروف.

والمهم في المقام القولان الآخران..

القول بأنها حقيقة في الطلب الإلزامي

الأول: أنها حقيقة في الطلب الإلزامي، بمعنى أنها موضوعة لنحو من النسبة البعثية لا تلائم غيره، وإلا فالإلزام أو الوجوب بما هو معنى اسمي لا يكون مفاد الحرف.

القول بأنها حقيقة في مطلق الطلب

الثاني: أنها حقيقة في مطلق الطلب الحاصل مع الإلزام وغيره، بأن تكون موضوعة للنسبة البعثية المطلقة الملائمة لكل منهما.

ومرجع أدلة الأول وجهان:

الاستدلال على القول الأول

أولهما: التبادر للإلزامي مع عدم القرينة الحالية أو المقالية الصارفة

ص: 274

عنه. ولذا يصح في مورد الصيغة إطلاق الأمر الذي سبق أنه موضوع للإلزام، كما يصح الذم على المخالفة، وقد وردا في ترك إبليس السجود لآدم مع كون الخطاب به بالصيغة، كما لا يحسن عرفاً الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب.

ثانيهما: استعمالها في كثير من الآيات والروايات ولسان أهل العرف في مقام بيان الإلزام من دون حاجة إلى ضم القرينة بالوجدان.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

إذ هي إنما تتجه مع احتمال القرينة لا مع القطع بعدمها كما لا مجال لمعارضة ذلك باستعمالها في الندب، بعد عدم الإشكال ظاهراً في بناء العرف والمتشرعة على احتياجه للقرينة.

نعم، إنما ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع لخصوص ما يناسب الطلب الإلزامي لو لم يكن الطلب الإلزامي مقتضى الأصل في مفاد الصيغة أو القرينة العامة التي يلزم الحمل عليها مع عدم المخرج عنها حتى لو كانت موضوعة لما يناسب مطلق الطلب، حيث ينحصر منشؤهما حينئذٍ بالوضع، فيستدل بهما عليه.

أما إذا احتمل ذلك أو ثبت فلا ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع، لإمكان استنادهما للأصل أو القرينة المذكورين، بأن لا يكون فهم الإلزام من إطلاق الصيغة من باب تبادر معنى اللفظ الموضوع له منه، ولا الاكتفاء في بيانه بها لأدائها له بمقتضى وضعها له، بل هما مسببان عما ينضم إليها من الأصل أو القرينة المذكورين، مع وضعها لما يناسب مطلق الطلب، كما جرى عليه غير واحدٍ من محققي المتأخرين.

ص: 275

ويناسبه أن إرادة الطلب غير الإلزامي من الصيغة وإن احتاجت للقرينة إلا أنها لا تبتني ارتكازاً على العناية والخروج بها عن معناها، بل هي لا تدل بمقتضى المرتكزات الاستعمالية إلا على محض البعث القابل للأمرين.

وقد يناسبه ما هو ديدنهم فيما لو خوطب بجملة أمور قام الدليل على عدم الإلزام ببعضها من البناء على الإلزام في الباقي، مع أنه لو ابتنت إرادة الطلب الإلزامي من الصيغة على إفادتها له وضعاً وإرادة الطلب غير الإلزامي منها على الخروج بها عما وضعت له، لم يمكن استفادة الإلزام منها بالإضافة إلى ما لم تقم القرينة على عدم الإلزام به في الفرض، كما لعله ظاهر.

وجه الحمل على الإلزام مع وضع الصيغة للنسبة البعثية

ومن هنا كان الظاهر وضع الصيغة للنسبة البعثية المطلقة الملائمة لمطلق الطلب. ولزم الكلام في وجه الحمل على الإلزام مع عدم القرينة الصارفة عنه.

ولهم في ذلك طرق:

الأول: الانصراف لخصوص الإلزام

الأول: الانصراف لخصوص الإلزام لكثرة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده، أو لأكمليته.

وفيه: أن معيار الانصراف لبعض الأفراد هو شدة أنس الذهن به، وهو لا يلازم شيئاً من هذه الأمور وإن كان قد يتحقق معها أو مع بعضها.

مع أن الاستعمال في الطلب غير الإلزامي ليس بأقل، بل هو في خطابات الشارع أكثر، فإن المندوبات والمكروهات وأدلتها أكثر من الواجبات والمحرمات وأدلتها.

وأما الأكملية فهي مبنية على كون المعيار في الإلزام شدة الإرادة أو

ص: 276

الطلب وتأكدهما وقد سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية المنع من ذلك، وأن المعيار فيه أمر آخر ذكرناه هناك وهنا. فراجع.

الثاني: حكم العقل

الثاني: حكم العقل. وقد قرر بوجهين:

الثاني ما يظهر تقريره من النائيني قدس سره

أولهما: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره وربما يوجد في كلام غيره من أن الوجوب هو الثبوت، وهو يكون في التشريعيات عقلياً تبعاً لصدق عنوان الإطاعة على الفعل، فإذا صدر بعث من المولى نحو شيء ولم تقم قرينة على كون المصلحة غير لزومية انطبق عنوان الإطاعة على الانبعاث عن بعثه، فيجب عقلاً.

نعم، لو قامت قرنية على كون المصلحة غير لزومية لم يكن الانبعاث إطاعة فلا يجب عقلاً.

ولا يخفى أنه لابد من حمله على الإطاعة التي يصدق بعدمها العصيان، لأنها هي الواجبة عقلاً تبعاً لقبح المعصية، وهي التي لا تصدق في مورد عدم كون المصلحة لزومية، وإلا فمطلق الإطاعة تصدق على الانبعاث عن بعث المولى فيما إذا لم تكن المصلحة لزومية، وهي لا تتصف عقلاً بالوجوب، بل بمحض الحسن.

ولعله لذا قال بعض المعاصرين في أصوله: «فان العقل يستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والإنزجار عن زجره قضاء لحق المولوية والعبودية، فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لابد للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم يرخص في تركه ويأذن في مخالفته».

المناقشة فيه

وكيف كان، فيشكل ذلك بأن محل الكلام ليس هو الوجوب العقلي التابع لوجوب إطاعة الأمر، بل ما يساوق الإلزام التابع لواقع الخطاب ثبوتاً،

ص: 277

والذي لا يختص بالخطابات الشرعية، كما سبق.

على أن الوجوب العقلي تابع ثبوتاً للإلزام المذكور، فلابد من إحرازه، لا لعدم وصول الترخيص في الترك.

ولو فرض حكم العقل بوجوب الانبعاث مع الشك في الإلزام وعدم وصول الترخيص، فليس هو لتحقق موضوع وجوب الإطاعة واقعاً، بل هو حكم آخر ظاهري طريقي في طول الحكم بوجوب إطاعة البعث الإلزامي واقعاً، نظير الحكم بوجوب الاحتياط مع الشك في الامتثال، الذي هو في طول وجوب الامتثال الواقعي، ومن المعلوم من مذهبه عدم بنائه عليه بل المرجع عنده البراءة في مثل ذلك، كما لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب، أو كان محتفاً بما يصلح قرينة على الترخيص من دون أن يكون ظاهراً فيه، حيث يعلم بصدور البعث من المولى ويشك في الترخيص في الترك.

مضافاً إلى أن مقتضى الوجه المذكور أن يكون ورود الترخيص بل وصوله رافعاً للوجوب، لا كاشفاً عن عدمه من أول الأمر، مع أنه لا يظن بهم البناء عليه في غير مورد النسخ المبتني على تبدل حال الطلب من الإلزام لغيره.

كما أن لازمه كون تصريح الشارع بالوجوب تنبيهاً على أمرٍ خارج عن حقيقة حكمه متمحض للإرشاد إلى حكم العقل، مع وضوح بطلان ذلك ومخالفته للنصوص والأدلة المتضمنة لبيان الفرائض، لصراحتها في كون الإفتراض أمراً تابعاً للشارع مجعولاً له.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

ثانيهما: ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد الصيغة إبراز جعل

ص: 278

المادة في عهدة المكلف واعتبارها في ذمته، فيجب عقلاً السعي لتحقيقها، والخروج عما انشغلت به ذمته ما لم يرخص المولى نفسه في الترك، فيكون الوجوب مستفاداً من حكم العقل لا من الصيغة، بل هي مطلقاً للإبراز المذكور. وليس الفرق بين الوجوب والاستحباب إلا في لزوم المصلحة وعدمه ثبوتاً، وفي الترخيص وعدمه إثباتاً.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن ما ذكره - لو تم - إنما يصلح أن يكون بياناً لحقيقة الحكم الشرعي، ولا مجال لأنْ يكون مفاداً للصيغة، لوضوح عدم الفرق في مفهومها بين أن تقع في كلام الشارع وكلام غيره ممن لا يستتبع إنشاؤه التكليف، بل حتى في الخطابات الإرشادية، فلابد أن يكون مفادها المطابقي أمراً آخر مشتركاً بين جميع الموارد مصحح لانتزاع التكليف - بالمعنى المتقدم أو غيره - لو صدر من المولى الواجب الطاعة عقلاً، كالبعث أو نحوه، فيقع الكلام في وجه حمله على الإلزام مع صلوح مفاد الصيغة لغيره.

ولذا سبق أن محل الكلام لا يختص بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب، بل يجري في جميع الخطابات.

على أن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مقدمة الأصول في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.

وقد سبق المنع من تفسير الحكم التكليفي بذلك ثبوتاً، وأن لازمه كون الفرق بين الاستحباب والوجوب بالترخيص وعدمه في مقام الثبوت، لا في مقام الإثبات، كما ادعاه.

كما أنه إذا كان وجوب أداء ما في الذمة عقلياً كان تنبيه الشارع على الوجوب بياناً لأمرٍ عقلي خارج عن حقيقة حكمه، كما يمتنع ترخيصه في

ص: 279

الترك إلا بنحو النسخ الذي لا وجه معه لبقاء الاستحباب، نظير ما تقدم في الوجه السابق.

إلا أن يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلاً بنحو خاص من الجعل دون غيره، وأنه بالترخيص وعدمه يستكشف نوع الجعل، وحينئذٍ يكون الفرق ثبوتاً بين الوجوب والاستحباب راجعاً إلى ذاتيهما ولا ينحصر بلزوم المصلحة وعدمه.

كما يقع الكلام في وجه حمل الجعل المدلول للصيغة على ما يجب معه الأداء عقلاً مع فرض صلوحه لغيره، ولا ينهض الوجه المذكور ببيان ذلك.

مضافاً إلى أنه إذا كان مفاد الصيغة اعتبار المادة في ذمة المكلف، وكان العقل حاكماً بوجوب الخروج عن ذلك ما لم يثبت الترخيص لزم البناء على الوجوب لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب، أو احتف بما يصلح قرينة على الترخيص من دون أن يكون ظاهراً فيه، حيث يعلم باعتبار المولى المادة في ذمة المكلف، ويشك في ترخيصه في تركه، نظير ما سبق في الوجه الأول.

الثالث: أنه مقتضى الإطلاق

الثالث: أن الإلزام مقتضى الإطلاق فيما لو كان المتكلم في مقام البيان.

وجوه تقريب الإطلاق

وقد يقرب بوجوه:

أولها ما ذكره لخراساني قدس سره

أولها: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الندب كأنه يحتاج إلى مؤنة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، حين لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد.

ص: 280

المناقشة فيه

وفيه: أن عدم المنع من الترك في الندب ليس من سنخ القيد للطلب، لينفى بالإطلاق، بل هو أمر مقارن له خارج عنه مطابق للأصل، فلا ينهض الإطلاق بنفيه.

نعم، لو كان مرجع الندب إلى عدم الطلب مع عدم إرادة المخاطب الامتثال كان مستلزماً لتقييد الطلب، فينفى بالإطلاق. لكن لا مجال لتوهم ذلك.

ثانيها: أنه طلب تام وغيره مرتبة من الطلب

ثانيها: ما يظهر من غير واحدٍ من أن الطلب الإلزامي طلب تام لا حدَّ له وغيره مرتبة من الطلب محدودة بحدٍ من حدود النقص، فإذا كان المتكلم في مقام البيان لزم حمل ما يدل على الطلب في كلامه على الطلب التام الذي يكون ما به امتيازه من سنخ ما به الاشتراك، لصلوح الكلام لبيان كلا حديه، دون الطلب الناقص الذي يكون ما به امتيازه مبايناً لما به الاشتراك، لعدم صلوح الكلام إلا لبيان أحد حديه.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أنه يبتني على كون الفرق بين الطلب الإلزامي وغيره بالشدة والضعف، وقد سبق المنع من ذلك.

و ثانياً: أن ذلك ليس بأولى من أن يقال: لما كان الشديد يبتني على تأكد وجود الماهية بما يزيد على ما يتوقف عليه صدقها ويدل عليه لفظها كان الاقتصار في مقام بيان إحدى الخصوصيتين على اللفظ الدال عليها والذي يكفي في صدقه صرف الوجود مناسباً لإرادة الضعيف الذي يتحقق به صرف الوجود وتحتاج المرتبة الزائدة عليه إلى مرتبة زائدة في البيان.

وإن كان كلا الوجهين غير خالٍ عن الإشكال بل المنع بعد صدق الماهية على كلا الفردين بنحوٍ واحد.

ص: 281

و ثالثاً: أن ذلك لو تم موقوف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان إحدى الخصوصيتين، وعدم الاقتصار على بيان القدر المشترك بينهما، ولا طريق لإحراز ذلك بعد صلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل، لكفايته في الداعوية عقلاً وإن لم يحرز كونه إلزاميًا، غايته أن داعويته لا تكون إلزامية.

نعم، لو لم يكن القدر المشترك صالحاً لأن يترتب عليه العمل اتجه حمل الكلام على بيان إحدى الخصوصيتين مما يترتب عليه العمل.

ومن هنا ذكروا أن المطلق يحمل على الماهية المرسلة، لأن حمله على الماهية المبهمة من حيثية الإرسال والتقييد مستلزم لعدم صلوحه لترتب العمل عليه، وكذا الماهية المقيدة بعد عدم التعرض للقيد، فتتعين الماهية المرسلة الصالحة لأن يترتب عليها العمل.

ولذا كان تعيين أن الماهية المرسلة استغراقية أو بدلية محتاجاً إلى قرينة زائدة على كون المتكلم في مقام البيان، لصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل.

وبالجملة: ليس بناء العرف على حمل الإطلاق على الفرد الأكمل بعد صدق عنوان المطلق بغيره، وصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل، ولذا لا يضن بهم البناء في مثل المقام على الحمل على أعلى مراتب الوجوب وأشدها.

ثالثها: ما ذكره العراقي قدس سره

ثالثها: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فلابد من وفاء الطلب بذلك، ويختص ذلك بالإلزامي، فيكون هو المستفاد بمقتضى إطلاق الطلب، ولو كان هناك مانع

ص: 282

من الإلزام لوجب بيانه، لكونه على خلاف مقتضى الأصل في الطلب.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن غرض الطالب المباشر ليس هو إيجاد مطلوبه في الخارج، بل إرشاد الطالب المخاطب لفائدة المطلوب في الطلب الإرشادي، وإضافة المطلوب للطالب بنحو يمكن الإتيان به لأجله وعلى حسابه بنحوٍ يستحق منه الشكر عليه في غيره من أنواع الطلب، على ما سبق.

نعم، قد يكون الغرض من الإرشاد أو الإضافة المذكورين هو إيجاد المطلوب في الخارج وقد يكون أمراً آخر كالامتحان، ولذا قد يطلب ممن يعلم بعد امتثاله.

ثم إن الغرض من الطلب الإلزامي في غير الإرشادي زائداً على ما سبق جعل المسؤولية من قبل الطالب، بنحو تكون عدم الامتثال رداً لطلبه.

لكن المفروض الشك في كونه غرضاً من الطلب بعد فرض الشك في كون الطلب إلزامياً، فلا يكون قرينة على كون الطلب إلزامياً.

و ثانياً: أنه لو سلم كون غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فليس الغرض دائماً إيجاده مطلقاً وإلا لم يكن الطلب إلا إلزامياً، بل الغرض من الطلب غير الإلزامي هو إيجاده من دون حرج على المطلوب منه، فحيث يفرض الشك في كون الطلب إلزامياً لزم الشك في كون الغرض هو إيجاد المطلوب مطلقاً، ليستكشف به كون الطلب إلزامياً.

وبالجملة: فرض كون الغرض من الطلب مطلقاً مناسباً للإلزام لا يناسب فرض انقسام الطلب إلى إلزامي وغيره، وفرضه في مورد الصيغة مناسباً له لا يناسب الإعتراف بدلالة الصيغة على أصل الطلب الصالح للأمرين.

ص: 283

المختار في المقام

ولعل الأولى أن يقال: لما كان المعيار في الظهور هو طريقة أهل اللسان في مقام التفاهم لم يهم معرفة منشئه بعد استيضاح طريقتهم.

ومن الظاهر من سيرتهم في المقام هو الاكتفاء في بيان الطلب الإلزامي بإطلاق ما يدل على الطلب والبعث من دون حاجة للتنبيه على الإلزام، وأنه لو بين كان من سنخ التأكيد المستغنى عنه، وليس المحتاج للبيان إلا عدم الإلزام.

وعليه يبتني ما تقدم من الاستدلال على الوضع لخصوص الإلزام، الذي تقدم التسليم به في نفسه، وأن الإشكال إنما هو في نهوضه بإثبات الوضع، الذي لو تم لا ينافي الظهور فيه بنحو يستفاد من الإطلاق.

وربما يكون الوجه في بنائهم على ذلك وجريهم عليه أن عدم الإلزام ناشئ عما هو من سنخ المانع عن تأثير الملاك في الإلزام، فلا يعتنى باحتماله مع إحراز المقتضي بنفس البعث.

أو أن البعث والطلب لما كان مقتضياً للانبعاث كان الاقتصار عليه من دون تنبيه على الترخيص الذي هو قد يمنع من فعليته ظاهراً في إرادة الإلزام المناسب لفعليته تبعاً للمقتضي، ولذا يكون الترخيص عرفاً من سنخ الاستدراك على خلاف مقتضى البعث والطلب، فلا يعتنى باحتماله مع المقتضي المذكور.

فالمورد من صغريات قاعدة المقتضي التي قد يجري عليها العقلاء في بعض الموارد.

لكن لا بأن تكون بنفسها دليلاً على الإلزام عند إحراز البعث، بل تكون من القرائن العامة التي يحتف بها الكلام المشتمل على الصيغة،

ص: 284

والتي توجب انعقاد الظهور في الإلزام، مع كون الدليل هو الظهور المنعقد للإطلاق على طبقها، فلو لم ينعقد الظهور لإحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم الإلزام من دون أن يكون ظاهراً فيه، أو لم يحرز لتردد الكلام بين ما هو ظاهر في الإلزام وما هو ظاهر في عدمه، لا مجال للبناء على الإلزام، لعدم التعويل على قاعدة المقتضي بنفسها، ليستغنى بها عن الظهور الإطلاقي المذكور، بل الأصل عدم الإلزام.

كما أن جري أهل اللسان على ما يناسب القاعدة المذكورة في المقام لا يكون قرينة على استعمال الصيغة في الطلب الإلزامي، بل هو موجب لانعقاد الظهور الإطلاقي للكلام في الإلزام مع كونه خارجاً عن مفاد الصيغة، وليس مفادها إلا النسبة البعثية المناسبة للأمرين.

ويظهر أثر ذلك فيما لو تضمنت الصيغة البعث نحو جملة من الأمور قامت القرينة الخارجية على عدم الإلزام ببعضها، حيث لا مجال للبناء على الإلزام في الباقي بناءً على الأول، لامتناع استعمال الصيغة فيه في فرض عدم الإلزام ببعض ما تضمنت البعث له،

أما بناءً على ما ذكرنا فحيث لا تكون القرينة الخارجية رافعةً للظهور الإطلاقي تعين العمل عليه في غير مورد القرينة على خلافه، وعليه سيرتهم، على ما سبق.

نعم، لو كانت القرينة المذكورة متصلة مانعة من انعقاد الظهور الإطلاقي في الإلزام تعين التوقف عن استفادة الإلزام حتى في غير موردها.

ص: 285

تنبيهات

تنبيهات:

الأول جريان الكلام في النهي

الأول: ما تقدم كما يجري في صيغة الأمر وأداته يجري في أداة النهي، كما أشرنا إليه في بعض الموارد، حيث يظهر بالتأمل في الوجوه المذكورة مشاركتها لهما في تلك الجهات الموجبة للانصراف للإلزام أو استفادته من حكم العقل أو الإطلاق، أو في نظائرها.

فمثلاً: إذا كان الفرق بين الوجوب والاستحباب تأكد الإرادة أو البعث، كان الفرق بين الحرمة والكراهة تأكد الكراهة أو الزجر.

وإذا كان مفاد صيغة الأمر البعث نحو المادة، وكان منشأً لصدق الإطاعة الواجبة عقلاً عليها ما لم يرخص المولى في الترك، كما سبق من بعض الأعاظم قدس سره، كان مفاد أداة النهي الزجر عن المادة ويكون منشأ لصدق المعصية القبيحة أو المحرمة عقلاً عليها ما لم يرخص المولى فيها.

كما أنه إذا كان مفاد صيغة الأمر إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، ويجب الخروج عما في الذمة عقلاً ما لم يرخص المولى في تركه - كما سبق من بعض مشايخنا - كان مفاد أداة النهي حرمان المكلف من المادة فيقبح عقلاً التلبس بها ما لم يرخص فيه المولى.

وهكذا الحال في بقية الوجوه وأجوبتها، وإنما لم يتعرضوا لذلك، لأنهم بصدد البحث في الأوامر.

الثاني: جريان الوجوه في مادة الطلب

الثاني: الظاهر أن الوجوه المذكورة تجري في مادة الطلب بعين التقريبات المتقدمة، وكذا في مادة الأمر والنهي بناءً على عدم اختصاصهما وضعاً بالإلزام، كما صرح به بعضهم في مادة الأمر، وأشرنا إليه آنفاً.

ص: 286

بل تجري في كل ما يشاركها في البعث نحو الفعل أو الزجر عنه.

الثالث: كلام صاحب المعالم في شيوع استعمال الصيغة في الندب

الثالث: بعد أن اختار في المعالم اختصاص الصيغة لغةً بالوجوب، واستدل على ذلك قال: «فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر (به) منهم عليهم السلام».

ولا يبعد تمامية ما ذكره بناءً على وضع الصيغة بحسب الأصل للإلزام، وأنه هو الوجه في حملها عليه مع التجرد عن القرينة، لأن كثرة الاستعمال بالنحو المذكور تناسب صيرورة الندب أو مطلق الطلب مجازاً مشهوراً، لو لم يحصل النقل لأحدهما بنحو الاشتراك اللفظي أو مع هجر المعنى الأول.

وما في الكفاية من أن الاستعمال فيه وإن كثر إلا أنه لما كان مع القرينة لم يوجب صيرورة المجاز مشهوراً مانعاً من انعقاد ظهور الكلام في المعنى الحقيقي عند التجرد منها، كما ترى! لأن لازمه امتناع المجاز المشهور، لتوقفه حينئذٍ على شيوع الاستعمال المجازي المجرد عن القرينة، ولا طريق لإحراز كون الاستعمال مجازياً مع التجرد عنها.

ومن هنا فالظاهر أن القرينة في المجاز لما لم تكن جزءً من الدال على المعنى المجازي والحاكي عنه، بل هي قرينة على سوق اللفظ ذي القرينة للدلالة عليه بنفسه خروجاً به عما وضع له، كانت كثرة استعماله فيه موجبة لتحقق العلاقة بينهما حتى يصير مجازاً مشهوراً له أو يتحقق النقل إليه، بخلاف ما لو فرض كون القرينة جزءاً من الدال على المعنى المجازي

ص: 287

الحاكي عنه، حيث تكون كالقيد الوارد على الماهية الذي يكون جزءاً من الدال على إرادة المقيد منها، الذي لا تكون كثرة الاستعمال معه بنفسها سبباً لتجدد العلاقة بين اللفظ الدال على الماهية مع تجرده عن القيد وبين المقيد، إلا بمقارنات أخر زائدة على كثرة الاستعمال.

نعم، بناءً على ما ذكرنا من عدم وضع الصيغة لخصوص الوجوب، بل لما يناسب مطلق الطلب، وأن الحمل على الوجوب لأنه مقتضى الإطلاق عند عندم القرينة، فكثرة الموارد التي تقوم فيها القرينة المتصلة أو المنفصلة على الاستحباب لا توجب تبدل مقتضى الإطلاق، لعدم منافاتها للجهة الموجبة لحمل المطلق على الوجوب، حيث لا موضوع للإطلاق معها، نظير ما ذكرناه في كثرة الاستعمال مع القيد.

ولذا كان ديدن الأصحاب على استفادة الوجوب عند التجرد عن القرينة في أخبار الأئمة عليهم السلام، كما هي سيرة جميع المسلمين على ذلك في النبويات مع شيوع إطلاق الصيغة فيها في مورد الاستحباب أيضاً، بل لعله كذلك في الكتاب المجيد أيضاً.

بل الإنصاف أن كثرة الاستعمال في موارد الندب مع السيرة المذكورة من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من عدم اختصاص الصيغة بالوجوب وضعاً، وحملها عليه مع الإطلاق والتجرد عن القرينة، فلاحظ.

الرابع: وقوع الصيغة عقيب النهي

الرابع: الظاهر أن وقوع صيغة الأمر وأداته عقيب النهي أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في البعث نحو الفعل، فضلاً عن الإلزام به.

كما أن وقوع أداة النهي عقيب الأمر أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في الزجر عن الفعل، فضلاً عن كونه بنحو الإلزام.

ص: 288

لأنها وإن لم تخرج عما استعملت فيه من النسبة البعثية أو الزجرية، إلا أن ما سبق من أصالة كون الداعي للاستعمال هو البعث أو الزجر بمقتضى بناء أهل اللسان لا يجري في الموردين المذكورين، بل المتيقن لهم كون الداعي رفع النهي أو الأمر السابقين أو بيان عدمهما.

ولا مجال لما يحكى عن بعض العامة من عدم خروج صيغة الأمر في المورد المذكور عن الدلالة على الوجوب، فضلاً عن أصل الطلب.

ومثله ما عن المشهور من دلالتها على الإباحة لو أُريد بها الإباحة بالمعنى الأخص التي هي أحد الأحكام الخمسة، لعدم المنشأ لذلك.

وإن أُريد بها الإباحة بالمعنى الأعم، التي هي محض الإذن في الفعل وعدم النهي عنه طابق ما ذكرناه.

هذا، وعن بعضهم أن الأمر إن عُلِّق بزوال علة النهي كان ظاهراً في رجوع الحكم الثابت قبل النهي، كما في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا»(1) وكقوله سبحانه: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»(2). ويجري نظيره في النهي، فهو لو عُلِّق بزوال علة الأمر كان ظاهراً في رجوع الحكم الثابت قبله.

وهو قد يتجه لو كانت علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان الثانوي الطاريء على العنوان الأولي والمانع عن تأثير مقتضيه، كما في الآيتين المتقدمتين، لأن مقتضى إنتهاء أثر العنوان الثانوي المذكور بارتفاعه فعلية الحكم الأولي، لارتفاع المانع منه.

ص: 289


1- سورة البقرة: 197
2- سورة الإسراء: 78

ولا مجال له في غير ذلك بأن تكون علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان المعاقب للعنوان الموجب للحكم الأول، لا طارئاً عليه مجتمعاً معه.

فمثلاً لو كان السلام على الصبية مستحباً، ونُهِيَ عن السلام على الشابة، ثم ورد: فإذا شابت المرأة فسلم عليها، لا مجال لدعوى ظهوره في عود استحباب السلام عليها الثابت حين صباها، لأن ارتفاع حكم الشابة عنها لا يستلزمه.

بل عود الحكم الأولي في الأول لا يستند لظهور الصيغة، بل لإطلاق دليله أو عمومه الأحوالي، حيث يقتصر في الخروج عنه على صورة ثبوت الحكم المنافي له بطروء العنوان الثانوي، وإلا فمجرد ارتفاع الحكم الثانوي تبعاً لارتفاع عنوانه لا ينافي ثبوت حكم ثانوي آخر تبعاً لطروء عنوان ثانوي آخر، مانع من فعلية الحكم الأولي، ولا دافع لاحتمال ذلك إلا الإطلاق أو العموم المذكور.

ومن هنا ليس مفاد الصيغة والأداة في جميع الموارد إلا رفع الحكم السابق، ويرجع في الحكم الجديد إلى قرائن أو أدلة أخر خارجة عنه.

نعم، لو كان النهي أو الأمر السابقين غير إلزاميين فكما يكون ظاهر صيغة الأمر وأداته وأداة النهي ارتفاعهما يكون ظاهرها عدم ثبوت الإلزامي منهما أيضاً. إذ لا يحسن الأمر مع الحرمة، ولا النهي مع الوجوب، بل يدور الأمر بين الأحكام الثلاثة الباقية، كما لعله ظاهر.

ص: 290

الفصل الرابع في الجمل الخبرية

لا إشكال في استعمال الجمل الخبرية في مقام بيان مطلوبية مضمونها من نسبة ثبوتية أو سلبية.

وقد وقع الكلام في ظهورها في اللزوم وعدمه، حيث صرح بعضهم بعدم ظهورها فيه، بل تحمل على مطلق الطلب، لدعوى: أنه بعد فرض الخروج بها عن معناها الذي وضعت له - وهو الإخبار -، فلا مرجح للوجوب من بين المجازات، والمتيقن إرادة أصل الطلب والبعث، لا بمعنى ظهورها فيه، ليتجه ما تقدم في تقريب استفادة الإلزام من الصيغة من أنه مقتضى إطلاق كل ما سبق لبيان البعث أو الزجر، جرياً على قاعدة المقتضي في المقام.

بل بمعنى ترددها بين الاستعمال فيه وفي كلٍ من الوجوب أو الاستحباب بخصوصيته، ومع إجمالها لا مجال للإطلاق المتقدم، لأنه فرع الظهور في مطلق الطلب. وليس الاقتصار على مطلق الطلب إلا لأنه المتيقن في البين.

لكن هذا الوجه يبتني على الخروج بالصيغة عن معناها، وقد أشهر

ص: 291

المنع منه في العصور المتأخرة.

توجيه الدلالة على الإلزام من وجوه

وقد ذكروا في توجيه المنع المذكور وتوجيه الدلالة على الإلزام معه وجوهاً..

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنها مستعملة في معناها لكن لابد اعي الإعلام بالأمر المخبر به - كما هو الأصل في الجمل الخبرية - ليلزم الكذب، بل بداعي البعث نحو المطلوب بوجهٍ آكدٍ من البعث بالصيغة، حيث أخبر المتكلم بوقوع مطلوبه في الخارج لبيان أنه لا يرضى إلا بوقوعه.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن النكتة المذكورة غير ملتفت إليها، ولا مقصودة ارتكازاً، في غالب الاستعمالات، لا من المتكلم ولا من المخاطب، ولا من غيره ممن يطلع على الاستعمال المذكور.

بل ما ذكره من كونه آكد في البعث، وما يلزمه من عدم ملائمتها إلا للوجوب كالمقطوع بعدمه، حيث لا إشكال ظاهراً في قابليتها لأن يراد منها الاستحباب، كما تحمل عليه مع قيام الدليل على الترخيص في الترك كالصيغة، مع أن لازم ذلك التصادم مع الدليل المذكور والاستعمال المزبور وتعذر الجمع بينهما بالاستحباب.

نعم، ذكر قدس سره أن الجهة المذكورة إن لم توجب ظهورها في الوجوب فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين المحتملات عند الإطلاق بمقدمات الحكمة، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع للوجوب توجب تعين إرادته إذا كان المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره.

وكأنه راجع إلى أن الجهة المذكورة لو لم تكن هي المصححة للاستعمال في مقام البعث والطلب، بل كان المصحح له جهة أخرى تجتمع

ص: 292

مع مطلق البعث والطلب وإن لم يكن إلزامياً، إلا أن مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة هو ملاحظة هذه الجهة - زائداً على الجهة المصححة لإرادة البعث والطلب - لكمال مناسبتها للإخبار، وعليه لو قامت القرينة على عدم ملاحظتها لزم الحمل على البعث والطلب غير الإلزامي، لوجود المصحح له غيرها.

لكنه يشكل: بأن ذلك قد يتم لو أُحرز كون المتكلم بصدد بيان إحدى الخصوصيتين، حيث يتعين إتكاله على المناسبة المذكورة - لو تمت - في بيان خصوصية الإلزام، ولا طريق لإحراز ذلك بعد كون أصل البعث والطلب مورداً للعمل.

ومجرد كون إحدى الخصوصيتين أنسب لا تقتضي حمل المطلق عليها بعد صلوح القدر الجامع لأن يترتب عليه العمل، نظير ما تقدم في الوجه الأول من وجوه تقريب كون الإلزام مقتضى إطلاق الصيغة. فراجع.

نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى أن المصحح للاستعمال من سنخ المناسبة المذكورة إلا أنه ذو مراتب أدناها يجتمع مع عدم الإلزام وأقواها يناسب الإلزام، فيكون الإلزام أقرب للإخبار من غيره، فمع عدم القرينة المخرجة عنه يكون هو الظاهر في نفسه لا بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

نظير ظهور نفي الحقيقة في الشرعيات في نفي الأجزاء، لأنه أقرب إليه من نفي الكمال.

ولعله إليه يرجع ما قيل من أن الاستعمال في المقام من باب الإخبار بالشيء تعويلاً على وجود مقتضيه، وهو الإرادة نظير إخبار الطبيب بالموت تعويلاً على وجود مقتضيه، وهو المرض، وإلا لم يمكن الالتزام بظاهره،

ص: 293

لاستلزامه الكذب مع تخلف المقتضي عن التأثير بسبب المزاحمات، كما هو الحال في النظير.

وكيف كان، فلا مجال لدعوى ذلك أيضاً، لعين ما سبق من عدم لحاظ الجهة المذكورة في مقام الاستعمال، فإن الظاهر أنها كما لا تكون ملحوظة بنفسها لا يكون الملحوظ سنخها مما يناسب مطلق الطلب.

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن هيئة الفعل الماضي موضوعة للنسبة التحققية التي تكون..

تارةً: في مقام الإخبار.

وأخرى: في مقام الإنشاء.

فتفيد في الأول وجود المادة خارجاً، وفي الثاني إما أن يراد منها إنشاء وجود المادة باللفظ اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات أو يراد منها إنشاء تحقق المادة في عالم التشريع، فتفيد طلب المادة من المكلف.

وأما هيئة المضارع فهي موضوعة للنسبة التلبسية الراجعة لتلبس الفاعل بالمادة فعلاً، فتفيد في مقام الإخبار التلبس خارجاً، وفي مقام الإنشاء إما تلبس الفاعل بالمادة اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات، أو في مقام التشريع، - كما في المقام -، فتفيد طلب المادة أيضاً.

وبالجملة: الماضي والمضارع موضوعان ومستعملان في النسبة التحققية أو التلبسية لا غير، إما في الخارج أو في عالم الاعتبار أو في عالم التشريع، والإخبار والإنشاء من المداليل السياقية لا اللفظية.

وحينئذٍ إذا أُفيد بهما الطلب كان محمولاً على الوجوب بحكم العقل بالتقريب المتقدم منه في حمل الصيغة عليه.

ص: 294

المناقشة فيه

ولايخلو ما ذكره عن غموض وإشكال، لابتنائه..

أولاً: على عدم الفرق في مدلول الكلام بين الخبر والإنشاء، وقد سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي ثبوت الفرق بينهما فيه.

وثانياً: على ما سبق منه في توجيه حمل الصيغة على الوجوب، الذي سبق أيضاً المنع منه.

مضافاً إلى أن صلوح الكلام لمقام التشريع موقوف على كونه مبرزاً للإرادة أو نحوها مما هو مقوّم للتكليف، فلابد من بيان الوجه في صلوح الجملة الخبرية لذلك. فتأمل.

وإلى أن لازم ذلك صحة الطلب بالفعل الماضي مطلقاً كما يصح الإخبار وإنشاء المادة به كذلك، وقد اعترف بعدم العثور على ذلك في غير القضايا الشرطية، ومن الظاهر أن الفعل الماضي فيها ينسلخ عن الدلالة على الزمان الماضي، حيث يكشف ذلك عن عدم صلوح نسبته بنفسها لمقام التشريع.

الثالث: ما ذكره العراقي قدس سره

الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الجملة الخبرية الفعلية مستعملة تبعاً لوضعها في إيقاع النسبة، غايته أن الداعي لإيقاع النسبة إن كان هو الكشف عن وقوعها في الخارج تمحضت في الخبرية، وإن كان هو التوسل لوقوعها في الخارج قامت مقام الجملة الإنشائية في الطلب، لدلالتها عليه بالملازمة.

والطلب المذكور وإن أمكن كونه غير إلزامي إلا أنها ظاهرة عند الإطلاق بمقدمات الحكمة في كونه إلزامياً، للتقريب الثاني أو الثالث المتقدمين في وجه حمل إطلاق الصيغة عليه.

ص: 295

المناقشة فيه

ويشكل: بأنَّ التوسل إلى تحقق المضمون في الخارج ليس من دواعي الكلام عرفاً بمقتضى طبعه، بل ليس الداعي له طبعاً إلا الحكاية.

وأما إنشاء نفس النسبة وإيجادها اعتبارها بالكلام - كما في صيغ العقود والإيقاعات - فهو يبتني على نحو من التوسع والتصرف في مفاد الكلام على ما سبق في الفرق بين الخبر والإنشاء في ذيل الكلام في المعنى الحرفي.

كما أن التوسل بالوجه الذي ذكره من لوازم إبراز الإرادة أو نحوها مما يقوم التكليف بالكلام، فلابد من توجيه صلوح الكلام، للإبراز المذكور، ولم ينهض كلامه بذلك.

مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في الوجهين السابقين لاستفادة الإلزام من إطلاق الصيغة.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من اختلاف عين الاستعمال في الطلب

هذا، وقد جزم بعض مشايخنا باختلاف معنى الجملة الخبرية حين استعمالها في مقام بيان الطلب عما هي عليه حين استعمالها في مقام الإخبار، فهي في مقام الإخبار مستعملة في إبراز قصد الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها جرياً على مقتضى وضعها، وفي مقام بيان الطلب مستعملة في إبراز الطلب النفسي واعتبار المادة على ذمة المكلف، وإنما تحمل على الوجوب للوجه المتقدم منه في الصيغة من لزوم امتثال ما أمر به المولى عقلاً ما لم يرخص فيه منه.

ويشكل: بما سبق من أنه ليس مفاد التكليف اعتبار المادة في ذمة المكلف، وأن ذلك - لو تم - إنما يصلح تفسيراً للتكليف المبرز بالجمل الخبرية، لا لمفاد الجمل الخبرية أو غيرها من مبرزات التكليف حين إبرازه

ص: 296

بها، كيف وإلا لزم ترادف جميع المبرزات للتكليف! فلابد من كون الإبراز المذكور مدلولاً التزامياً لها ومن سنخ الداعي منها، مع اختصاص كلٍ منها بمدلول لفظي يباين مدلول الآخر.

ومن ثم كان المناسب بيان مدلول الجمل الخبرية اللفظي أولاً، ثم بيان وجه صلوحه للإبراز المذكور.

مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في الوجه العقلي المذكور لاستفادة الوجوب.

المختار في المسألة

ولعل الأولى أن يقال: إذا تم استعمال الجمل الخبرية في محل الكلام في إنشاء الطلب وخروجها عن مقام الإخبار فلا ينبغي التأمل في الخروج بها عن معانيها الموضوعة لها، لتبادر الحكاية بها عن النسب التامة الخارجية، دون طلب المادة والبعث إليها، فإرادة الطلب والبعث بها تبتني على عناية خارجة عما هي موضوعة له، ويكون متبادراً منها، كما أشرنا إليه عند الكلام في الفرق بين الخبر والإنشاء في لواحق المعنى الحرفي.

نعم لا يبعد عدم خروجها في المقام عن الخبرية، فهي مستعملة في مقام الحكاية والإخبار عن حال المطلوب منه أو المنهي بلحاظ ما ينبغي وقوعه منه بسبب الطلب أو النهي المتوجهين له، فكأن حضوره للامتثال وكونه في مقامه قد أُخذ مفروض الوجود، والإخبار بوقوع الفعل منه أو عدمه يبتني على المفروغية عن ذلك، إما لاعتقاد المتكلم ذلك فيه، أو لإدعائه له بسبب ظهور حاله فيه أو تشجيعاً أو ترغيباً أو تخويفاً.

أو أن الإخبار يكون تعليقياً لباً منوطاً بكونه في مقام الامتثال وعدم الخروج عما يراد منه.

ص: 297

وعلى كلا الوجهين يكشف عن ثبوت الطلب أو النهي، ويصلح لبيان أحدهما، لكونهما ملزومين للمدلول اللفظي للجملة، وهو وقوع الفعل أو عدمه من المكلف من حيثية كونه مطيعاً.

توجيه دلالتها على الطلب

وبهذا يمكن توجيه دلالة الجملة الاسمية على الطلب، وإن أُهمل التعرض لها في بعض الوجوه المتقدمة، كما في مثل قوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»(1)، فيحمل على الإخبار بعدم وقوع هذه الأمور ممن فرض الحج للمفروغية عن كونه في مقام القيام بوظائف الحج وفروضه، فلاحظ.

وكيف كان، فبعد فرض ظهور الجمل المذكورة في بيان الطلب أو الزجر، إما لسوقها في مقام الإنشاء مجازاً، أو للإخبار بالوجه المتقدم فالظاهر من المرتكزات الاستعمالية سوقها لبيان أصل الطلب والزجر، لا خصوص الإلزامي أو غير الإلزامي منهما، ولا بنحو تكون مرددة بينهما فقط أو مع مطلق الطلب أو الزجر، لتكون مجملة، لعين ما سبق في الصيغة من صلوحها للإلزامي وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة له ارتكازاً.

وحينئذٍ يتجه حمل إطلاقها على خصوص الإلزامي منهما للوجه المتقدم في الصيغة من دون خصوصية لها في ذلك.

كما أنه يتجه حمل الجمل الإثباتية منها الواردة عقيب النهي أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الفعل، وحمل الجمل السلبية منها الواردة عقيب الأمر أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الترك، لأن المتيقن سوقها لبيان أحد الأمرين دون الطلب أو الزجر، لعدم ظهورها في

ص: 298


1- سورة آل عمران: 133

أحدهما.

فهي إما أن تكون مستعملة في إنشاء الإذن والسَعَة مجازاً، أو مسوقة للإخبار عن حال الفاعل في فرض تعلق إرادته بالفعل أو الترك جرياً على مقتضى السعة والإذن المقصود بيانهما بالجمل الذكورة.

ص: 299

الفصل الخامس في سعة كل من الأمر والنهي موضوعاً وحكماً

لا يخفى أن ورود الأمر أو النهي على الطبيعة يرجع إلى نحو نسبة بين الآمر والمأمور والمأمور به، أو بين الناهي والمنهي والمنهي عنه، وبتلك النسبة قوام الحكم الشرعي الذي هو محل الكلام في المقام.

ما يقبل السعة والضيق

ومن الظاهر أن كلاً من الآمر والناهي والمأمور والمنهي لا سعة فيه، بل هو شخصي لا ينطبق على كثيرين ولا يقبل الإطلاق والتقييد، والذي يقبل السعة والضيق أحد أمرين:

الأول: المأمور به والمنهي عنه

الأول: المأمور به والمنهي عنه، لأنهما عبارة عن الطبيعة الكلية القابلة للإطلاق والتقييد.

الثاني: نفس النسبة

الثاني: نفس النسبة التي يتقوم بها الحكم الشرعي، لأنها وإن كانت جزئية إلا أنها تقبل نحواً من السعة لإطلاقها أو الضيق لتقييدها بشرط أو غاية أو نحوهما، على ما سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي. فراجع. والمتبع في تحديد سعة كل من الأمرين في مقام الإثبات ظاهر الدليل على ما يتضح المعيار فيه في محله.

ثم إنه بعد تحديد سعة كل منهما إطلاقاً أو تقييداً فالظاهر المصرح به

ص: 300

الفرق بين الأمر والنهي من جهتين

في كلام جماعة اختلاف الأمر والنهي في جهتين:

الأولى:

الأولى: أنه يكفي في موافقة الأمر والجري على مقتضاه تحقيق صرف الوجود للماهية المأمور بها مطلقة كانت أو مقيدة، ولا يعتبر استيعاب أفرادها بخلاف النهي، حيث لابد في موافقته، والجري على مقتضاه من استيعاب تمام أفراد الماهية المنهي عنها بالترك، ولا يكفي ترك بعضها مع فعل غيره.

الثانية:

الثانية: أن مقتضى الأمر الجري عليه وموافقته - بتحقيق صرف الوجود - في بعض أزمنة وجوده.

أما النهي فهو يقتضي الجري عليه - بترك تمام أفراد الطبيعة - في تمام أزمنة وجوده، ولا يكفي ترك تمام الأفراد في بعض أزمنة وجوده مع فعل شيء منها في بقيتها.

والظاهر أن الفرق المذكور ليس عقلياً ممتحضاً لمقام الطاعة ومن شؤون الامتثال، مع عدم اختلافها في مقام الجعل، بل هو متفرع ثبوتاً على الفرق بينهما في مقام الجعل تبعاً للفرق بينهما في الملاك، وإثباتاً على ظهور دليل كل منهما فيما يناسبه.

ومن هنا يقع الكلام في وجه الفرق بينهما من الجهتين المذكورتين وقد سبق في مقدمة الكلام في هذا المقصد أن الفرق بين الأمر والنهي ليس من جهة المتعلق، بل متعلقهما واحد، وهو الطبيعة، وليس الاختلاف بينهما إلا ذاتياً مستتبعاً للفرق بينهما في الاقتضاء، فالأمر يقتضي الفعل والنهي يقتضي الترك، فلابد من استناد الفرق بينهما لذلك.

وقد ذكروا في منشأ الفرق المذكور وجوها لا يخلو بعضها عن إشكال في نفسه، وبعضها وإن كان تاماً في نفسه إلا أن الفرق لا يستند إليه

ص: 301

ارتكازاً، للغفلة عنه، ولابد في القرينة من أن تلحظ ولو ارتكازاً في مقام الإفادة والاستفادة. ومن هنا لا مجال لإطالة الكلام فيما ذكروه.

ما ينبغي أن يقال في المقام

ولعل الأولى أن يقال: الطبيعة التي يتعلق بها الأمر والنهي لما لم تكن مقيدة بنحو خاص تعين حملها على الماهية الخارجية بما لها من حدود مفهومية تكون بها صالحة للانطباق على تمام أفرادها وعلى بعضها بنحو واحد، وهي المعبر عنها بالماهية المرسلة، لا خصوص الماهية المقيدة بالسريان أو بالبدلية، لأن السريان المتقوم باجتماع الأفراد، والبدلية المتقومة بالاكتفاء ببعضها، قيدان زائدان على الطبيعة خارجان عن مفهومها، لا قرينة على كلٍ منهما ولا مرجع لأحدهما، بل مقتضى الإطلاق عدم أخذهما في متعلق كل من الأمر والنهي.

نعم، حيث كان مقتضى الأمر إيجاد متعلقه، ومقتضى النهي تركه، فسعة انطباق الماهية مستلزمة للاكتفاء بصرف الوجود منها، الحاصل بالفرد والأفراد، وعدم الاكتفاء في امتثال النهي إلا بترك جميع الأفراد، لأن إيجاد أي فرد لها لا يجتمع مع ترك الماهية المذكورة، بل هو إيجاد لها.

ومن هنا يظهر أن حمل الأمر على البدلية، والنهي على السريان والاستغراق، ليس لأن متعلق الأول الماهية البدلية، ومتعلق الثاني الماهية السارية، كي يطالب بوجه الفرق بينهما، بل قد لا يناسب ما سبق من وحدة متعلقهما، بل لأن سعة الماهية التي هي المتعلق لهما مع اختلاف الأمر والنهي في الاقتضاء - لأن الأول يقتضي الفعل والثاني يقتضي الترك - مستلزمان للاختلاف بينهما في كيفية الامتثال، فيكفي في امتثال الأمر بتحقق صرف الوجود، ولا يكتفى في امتثال النهي إلا بترك تمام الأفراد.

ص: 302

ولذا كان التحقيق أن ما زاد على الفرد الواحد لا يكون خارجاً عن الامتثال، كما هو لازم كون متعلق الأمر الماهية البدلية.

ويؤكد الوجه الذي ذكرناه ويؤيده ما ذكره غير واحد من أن تعذر تحقيق جميع أفراد الطبيعة الطولية والعرضية بضميمة عدم التقييد في متعلق الأمر والنهي بأفراد معينة يمكن الجمع بينها، كاشف عن عدم كون الأمر بها بنحو الاستغراق، بل بنحو يكفي في امتثاله أي فرد، وعن عدم كون النهي عنها بنحو البدلية، لتحقق ترك بعض الأفراد قهراً، بل بنحو الاستغراق.

وإن كان الظاهر عدم كون ذلك منشأ للفرق لعدم دخله ارتكازاً في فهم الكلام، ولابد في القرينة من أن تلحظ في مقام الإفادة والاستفادة، كما سبق.

ومما ذكرنا يتضح توجه الفرق المذكور حتى بناءً على أن اختلاف الأمر والنهي إنما يكون في المتعلق، وأن الأمر عبارة عن طلب الفعل والنهي عبارة عن طلب الترك، إذ لما كان يكفي في فعل الطبيعة إيجاد بعض أفرادها تعين الاكتفاء به في امتثال طلب الفعل، ولما كان تركها لا يتحقق إلا بترك تمام أفرادها تعين توقف امتثال طلب تركها عليه.

لكن هذا الوجه - كأكثر الوجوه المذكورة في كلماتهم - إنما ينهض ببيان الفرق من الجهة الأولى دون الثانية، لوضوح أن توقف ترك الماهية على ترك تمام الأفراد إنما يقتضي توقف امتثال النهي على تركها، أما لزوم استمرار الترك المذكور في تمام أزمنه النهي فهو أمر آخر لا يقتضيه الوجه المتقدم.

دعوى: اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام الأزمنة ودفعها

ودعوى: أن ترك الماهية كما يتوقف على ترك أفرادها العرضية يتوقف

ص: 303

على ترك أفرادها الطولية، وهو لا يكون إلا باستمرار الترك في تمام الأزمنة.

مدفوعة: بأن ترك تمام أفراد الماهية في بعض الأزمنة ترك لتمام أفرادها الطولية فيه وإن كان لتعذرها، ولا يعتبر في امتثال النهي كون تمام الأفراد المتروكة اختيارية مقدورة.

وليس منشأ الفرق من الجهة الثانية توقف ترك الماهية على ترك أفرادها الطولية والعرضية، بل اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام أزمنة وجود موضوعه، بخلاف الأمر، حيث لا يقتضي إلاّ الفعل في بعض أزمنة وجود موضوعه.

ولا ينهض ببيان الفرق من هذه الجهة الوجه المتقدم ولا غيره مما سبق في مساقه، كما يظهر بالتأمل فيها، حتى المؤيد السابق، لوضوح أن تعذر استيعاب أفراد الماهية بالإيجاد إنما يقتضي امتناع الأمر بها بنحو يقتضي الجمع بينها ولغوية النهي عنها بنحو يقتضي الاكتفاء بترك بعضها، لا امتناع الأمر بنحو يقتضي الاشتغال في تمام أزمنته بإيجاد بعض الأفراد، ولا لغوية النهي بنحو يقتضي ترك الجميع في خصوص بعض أزمنته كما لعله يظهر بالتأمل.

وجه الفرق بينهما بلحاظ الأفراد الطولية

ولعل الأولى في وجه الفرق بينهما من الجهة الثانية ما نبّه له سيدنا الأعظم قدس سره وتوضيحه: أن مقتضى الأمر والنهي ليس هو الفعل والترك بمعناهما الاسمي، كي يكون مقتضى إطلاق النهي الاكتفاء بتحقق الترك - لتمام الأفراد - ولو في بعض الأزمنة، كما أن مقتضى إطلاق الأمر الاكتفاء بتحقق الفعل - لبعض الأفراد - في بعضها، لما هو الظاهر من عدم أخذ الفعل والترك بمعناهما الاسمي في متعلق الأمر والنهي، بل ليس متعلقهما إلا

ص: 304

الطبيعة، مع اختلاف نحو النسبة فيهما إليها بالنحو المقتضي ارتكازاً للفعل والترك بمعناهما الحرفي المطابق لنسبة القضية الحملية الموجبة أو السالبة، فيكون امتثال الأمر بتحقيق مفاد القضية الموجبة، وامتثال النهي بتحقيق مفاد القضية السالبة.

ولذا ناسب قيام الجملة الخبرية الحملية الموجبة أو السالبة مقام الجملة الطلبية المفيدة للأمر والنهي، خصوصاً بناءً على ما سبق في توجيه قيامها مقامها.

كما لم يكن الفرق ارتكازاً بين أداة النفي والنهي إلا في سوق الأولى في مقام الحكاية، والثانية في مقام الزجر، مع التطابق بينهما في سعة المفاد.

وحينئذٍ يتجه الفرق المذكور بين الأمر والنهي، لما هو المعلوم من أنه يكفي في صدق القضية الموجبة تحقق النسبة ولو في بعض أزمنتها، ولا يكفي في صدق السالبة إلا استمرار السلب في تمام أزمنتها، ولا يكفي تحققه في بعضها إلا مع تقييدها الذي هو خلاف الفرض.

ولذا كان التناقض ارتكازياً بين قولنا: ضرب زيد، وقولنا: لم يضرب زيد، وبين قولنا: يضرب زيد، وقولنا: لا يضرب زيد، بخلاف قولنا: فعل الضرب، و: تركه، و: يفعل الضرب، و: يتركه، لأن الترك فيهما مأخوذ بمعناه الاسمي، الذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول، والذي يكتفى فيه بالترك في بعض الأزمنة ولو مع الفعل في بعضها.

ويؤيد هذا الوجه غلبة عدم استمرار المكلف في فعل المنهي عنه في تمام أزمنة النهي، فلو أريد من النهي ما يكتفى في امتثاله بالترك في بعض الأزمنة كان ترتب الأثر عليه نادراً.

ص: 305

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في تبادر إرادة استمرار الترك من لفظ التحريم ومن مادة النهي ونحوهما مما يقتضي ترك الفعل، لظهور أن المراد بها ما يراد بأداة النهي.

بل لعله هو الوجه في انسباق ذلك من الأمر بالترك - مع أن الجمود على مدلوله اللفظي الحقيقي لا يقتضيه كما سبق - لأن المستفاد منه إرادة تحريم العمل لا وجوب تركه.

هذا حاصل ما تيسر لنا في وجه الفرق بين الأمر والنهي من الجهتين المذكورتين، الذي هو من الوضوح بحدٍ يستغني عن التوجيه لولا طروء بعض الشبه والمناقشات التي يكفي في دفعها ما سبق.

ومن هنا ينبغي الكلام فيما يتعلق بذلك ويترتب عليه مما وقع مورداً للبحث في كلامهم في مباحث الأوامر والنواهي.

واستيفاؤه يكون في ضمن مسائل..

المسألة الأولى: في المرة والتكرار

المسألة الأولى: في المرة والتكرار

اختلفوا في أن الأمر هل يقتضي المرة في الامتثال أو التكرار أو لا يقتضي شيئاً منهما.

والظاهر أن البحث راجع إلى مقام الجعل وتشخيص حال الأمر، الذي يتفرع عليه مقام الامتثال، لا إلى مقام الامتثال رأساً بعد الفراغ من عدم اقتضاء أحد الأمرين في مقام الجعل، لتكون من لواحق مسألة الأجزاء، لخروج ذلك عن ظاهر كلامهم ومساق حججهم.

ص: 306

هذا، وفي الفصول أن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة، بل نص جماعة على اختصاصه بها، ولذلك عدها من مباحث الصيغة.

إلا أن بعض حججهم لا يناسب الاختصاص المذكور.

ولهذا ألحقناها بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي مطلقاً مع قطع النظر عن الصيغة.

إذا عرفت هذا فالمرة والتكرار

وجوه المرة والتكرار

تارةً: يجعلان من شؤون المكلف به المستفاد من المادة أو نحوها.

وأخرى: يجعلان من شؤون التكليف المستفاد من الصيغة أو نحوها.

المرة والتكرار اللذان هما من شؤون المكلف به

أما على ا لأول الذي هو ظاهرهم فالظاهر - كما صرح به جماعة - عدم اقتضاء التكليف بنفسه المرة ولا التكرار.

إذ ما دل على التكليف - كالصيغة وغيرها - لا يتعرض له.

وما دل على المكلف به - كالمادة ونحوها - إنما يدل على الماهية من حيث هي، والمرة والتكرار خارجان عنها، فينهض الإطلاق بنفي اعتبار التكرار، كما ينهض بنفي اعتبار المرة لو أريد به ما يساوق مانعية التكرار.

وكذا لو أَريد به كون ما زاد على المرة خارجاً عن المكلف به وإن لم يكن مانعاً منه، لمنافاته لإطلاق الماهية المستلزم لصدقها على القليل والكثير.

نعم، لو لم يكن للتكليف إطلاق فالأصل إنما ينهض بنفي اعتبار التكرار ونفي مانعيته لا غير، من دون أن يتعرض لخروج ما زاد على المرة في المكلف به أو دخوله فيه في ضرف وجوده، لعدم اقتضاء كل منهما زيادة

ص: 307

كلفة في مقام العمل.

نعم، يأتي تقريب حكم العقل بالمرة في الجملة في مقام الفراغ والامتثال لا في مقام الجعل.

المرة والتكرار اللذان هما من شؤون التكليف

وأما على الثاني فلا إشكال في المرة بمعنى وحدة التكليف المجعول بعد ما سبق من كون المكلف به هو الطبيعة من حيث هي، لاستحالة اجتماع المثلين، ولابد في تعدده من تعدد متعلقه، لقيام القرينة على أن المكلف به ليس هو الطبيعة من حيث هي، بل بنحو الاستغراق لجملة من الأفراد، حيث يمكن حينئذٍ تعدد التكليف تبعاً لها، كما يمكن وحدته وتعلقه بها بنحو المجموعية، والمتبع في إثبات أحد الأمرين ظاهر الدليل.

وكذا لو ابتنى التكليف على الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة، كما في القضايا الحقيقية، كقوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...»(1) حيث كان ظاهره تعدد الموضوع بتعدد أفراد الدلوك، فيتجدد التكليف بتجدده في كل يوم، المستلزم لتعدد الصلاة الواجبة تبعاً لتعدد التكليف، وعدم كون الواجب طبيعة الصلاة من حيث هي الصادقة بالفرد الواحد، لامتناع تعدد التكليف بها - كما ذكرنا - وتمام الكلام فيه في مبحث التداخل من مفهوم الشرط. فلاحظ.

ولعل ذلك هو منشأ القول بالتكرار، لأن الشائع في الأحكام الشرعية أن يكون تشريعها بنحو القضية الحقيقة.

وإلا فمن البعيد جداً البناء على لزوم التكرار من دون أن يتجدد موضوع التكليف، مع وضوح خروجه عن طريقة العقلاء في فهم دليل

ص: 308


1- سورة الحديد: 21

التكليف وامتثاله بنحو يلحق بالبديهيات.

عدم رجوع التكرار إلى تجدد موضوع التكليف

لكن البناء على التكرار لتجدد موضوع التكليف لا يرجع إلى إفادة الأمر التكرار، الذي هو ظاهر تحرير محل النزاع، بل إلى ظهور القضية في الحقيقية المنحلة إلى قضايا متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة، وهو أجنبي عن محل الكلام جارٍ في غير الأمر أيضاً.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل فيما ذكرنا، وإن أطال غير واحد في استطراد حجج القولين بما لا مجال للتعرض له بعد ما سبق، لظهور ضعفها بأدنى تأمل.

ما يستدل به على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر

نعم، قد يستدل على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر..

تارة: بقوله (ص): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وأخرى: باستصحاب وجوب الطبيعة بعد الإتيان بها مرة.

عدم إفادة التكرار من النبوي

ويظهر اندفاع الأول مما ذكرناه في تعقيب الاستدلال بالحديث على قاعدة الميسور من ضعفه في نفسه وظهوره في الاستحباب.

عدم اقتضاء الاستصحاب للزوم التكرار

وأما الثاني فهو - مع أنه لا يقتضي لزوم التكرار إلا بناءً على الفور، وإلا فلا يمنع من الاكتفاء بالمرة في آخر الوقت، كما لا يخفى - مندفع: بأن فرض تعلق الوجوب بالطبيعة على إطلاقها مستلزم للعلم بسقوطه بالمرة كما يأتي.

واحتمال بقاء الوجوب إنما يكون لاحتمال تعلقه بالطبيعة بقيد التكرار الذي سبق أنه مخالف للإطلاق والأصل.

ص: 309

تنبيهان..

تنبيهان:

الأول: تحقق الامتثال بفرد واحد لصدق الطبيعة به

الأول: بناءً على ما ذكرنا من تعلق الأمر بالطبيعة من حيث هي من دون تقييد بمرة أو تكرار، سواء أحرز عدم التقييد بالإطلاق أم بالأصل، فلا إشكال في تحقق الامتثال بفرد واحد، لصدق الطبيعة به.

وكذا بأفراد متعددة إذا كانت في دفعة واحدة - بأن يفرغ منها في زمان واحد - لصدق الطبيعة المرسلة عليها بعين صدقها على الفرد الواحد.

وإليه يرجع ما قيل من الاكتفاء في الامتثال بصرف الوجود الصادق على القليل والكثير.

وإن لم تكن في دفعة واحدة - بأن يفرغ من بعضها قبل الفراغ من الآخر - فلا إشكال في تحقق الامتثال بالفرد الذي يسبق الفراغ منه وإن تأخر الشروع فيه، لانطباق الطبيعة عليه الموجب لسقوط التكليف بتحقق مقتضاه.

ومعه يمتنع الامتثال بالفرد اللاحق، فلا يكون امتثالاً مستقلاً بعد الامتثال بالأول، ولا يكون دخيلاً في الامتثال الواحد، بحيث يكون الامتثال بكلا الفردين، كما لو كانا في دفعة واحدة، لأن سقوط الأمر وخروج المكلف عن عهدته أمر غير قابل للتعدد عقلاً، فإذا إستند للفرد السابق لانطباق الطبيعة عليه وتحقق مقتضى الأمر به يمتنع استناده للفرد اللاحق، على ما هو الحال في جميع موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد، حيث يستند المعلول للجميع مع تقارنها وللأسبق مع ترتبها.

والتخيير بين الأقل والأكثر لو تم مبنيٌ على تقييد الطبيعة المأمور بها بنحو يمنع من انطباق المأمور به على الفرد الواحد في ظرف وجود فرد

ص: 310

بعده، وهو خلاف فرض إطلاق الطبيعة في المقام.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سره في توجيه عدم صلوح الفرد الثاني للامتثال

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في توجيه عدم صلوح الفرد الثاني للامتثال من أن إطلاق المادة يقتضي أن يراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق، لأنه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم.

المناقشة فيه

ففيه: أن المأمور به ليس هو صرف الوجود بالمعنى الذي ذكره، الذي لا ينطبق على الوجود اللاحق، لعدم أخذ مفهومه في المأمور به بل ليس المأمور به إلا الطبيعة بما لها من حدود مفهومية بعد لحاظها خارجية بنحو الإرسال، ولا إشكال في صدقها على الأفراد المتعاقبة، كما تصدق على الأفراد المقارنة وعلى الفرد الواحد.

وقد يراد بصرف الوجود ذلك.

وإن شئت قلت: عدم الامتثال بالفرد اللاحق ليس لعدم انطباق المأمور به في مقام الجعل عليه، بل لامتناع دخله في سقوط الأمر بعد استقلال الفرد السابق بالامتثال بسبب انطباق المأمور به عليه.

فهو أمر عقلي من شؤون مقام الامتثال، ولا يرجع إلى مقام الجعل.

المتحصل في المقام

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن الحق بلحاظ نفس التكليف هو المرة بمعنى الفرد، في مقام الجعل. وإما بلحاظ المكلف به فلا مجال للبناء على المرة أو التكرار في مقام الجعل، بل يتعين البناء على المرة بمعنى الدفعة - مع وحدة الفرد أو تعدده - في مقام الامتثال بحكم العقل. والمعيار في الدفعة مع تعدد الأفراد هو التقارن في الفراغ عنها ولو مع الترتب في الشروع فيها.

ص: 311

الثاني: عدم حمل الأوامر الندبية على الاستمرار

الثاني: مبنى الأصحاب في جملة من المقامات على حمل الأوامر الندبية على السريان والاستغراق فيسري الأمر إلى جميع الأفراد الطولية والعرضية، بنحو يقتضي التكرار دون صرف الوجود، لانحلال الأمر بالطبيعة إلى أوامر متعددة بعدد الأفراد، كما في الأمر بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والبر والإحسان وغيرها، مع أن ما ذكرناه في الأوامر الوجوبية آت فيها.

توجيه العراقي قدس سره الحمل على الاستمرار

وقد وجهه بعض الأعيان المحققين قدس سره بناءً على ما ذكره في الأوامر، من أن مقتضى القاعدة حمل الإطلاق فيها على السريان لولا تعذر الجمع بين الأفراد الملزم بحمله على صرف الوجود. فإنه مختص بالأوامر الوجوبية، أما الندبية فلا محذور في حملها على السريان مع تعذر الجمع بين الأفراد، لأنها حيث لا تقتضي الإلزام بصرف القدرة لامتثالها لا تمنع من فعلية الأمر بما يزاحمها، فيتعين حمل إطلاقها على السريان بعد أن كان هو مقتضى القاعدة.

وقد يناسبه - أيضاً - الوجه المتقدم في تأييد الوجه المختار في الفرق بين الأمر والنهي.

لكن مما سبق يتضح أن القاعدة لا تقتضي حمل الإطلاق على السريان بعد أن كان أمراً زائداً على الماهية، بل يلزم الحمل على الماهية المرسلة، ولازمة الاكتفاء في امتثال الأمر بصرف الوجود مع قطع النظر عن قرينة تعذر الجمع بين الأفراد، فلا يختص بالأوامر الوجوبية، بل يجري في الندبية، كما ذكرنا.

ومن هنا كان الظاهر العمل بما يقتضيه الإطلاق المذكور في الأوامر الندبية كالوجوبية، والحمل فيها على السريان والاستغراق إنما يكون لقرينة

ص: 312

خاصة خارجية تقتضي ذلك، وهي كثيرة في مواردها، مثل ما تضمن أن الصلاة خير موضوع، وأن ذكر الله حسن على كل حال، أو المناسبات الارتكازية العرفية أو المتشرعية التي قد تقتضي ذلك فيها، كما قد تقتضيه في الأوامر الوجوبية، كما أنها قد تقتضي الاكتفاء بصرف الوجود، كما في مثل غسل اليدين قبل الطعام، لارتكاز أن المراد به التنظيف الذي يكفي فيه ذلك.

المسألة الثانية: الفور والتراخي

المسألة الثانية: في الفور والتراخي

مما وقع الكلام بينهم أن الأمر هل يقتضي الفور بمعنى المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب، أو في أول أزمنة الإمكان - كما عن الشيخ قدس سره وجماعة -، أو التراخي بمعنى جواز التأخير.

وأما بمعنى لزوم التأخير فلم أعثر عاجلاً على قائل به، وإنما يظهر من الفصول وجود متوقف فيه يرى أن التأخير هو المتيقن من الامتثال.

هذا وقد صرح في الفصول بأن النزاع إنما هو في استفادة أحد الأمرين من خصوص الصيغة، وهو المناسب لأخذ غير واحد لها في موضوع النزاع عند تحريره.

لكن ملاحظة مجموع كلماتهم وحججهم تشهد بعدم اختصاص النزاع بها، بل يعم استفادة أحد الأمرين من دليل خارجي شرعي أو عقلي يقتضي أحدهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

بل قد يعم لزوم الفور عقلاً في مقام الامتثال، لا شرعاً في مقام الجعل. ولذا ألحقنا هذه المسألة بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر

ص: 313

والنواهي مطلقاً، لا بالفصل الثالث الذي يبحث فيه عن الصيغة.

إذا عرفت هذا، فالحق ما ذكره جماعة من عدم لزوم الفور ولا التراخي، لا شرعاً في مقام الجعل، ولا عقلاً في مقام الامتثال.

عدم لزوم الفور أو التراخي في مقام الجعل

أما في مقام الجعل فلخروجهما عن مفاد المادة والهيئة ونحوهما مما يدل على المكلف به والتكليف، لعدم دلالة المادة ونحوها مما يدل على المكلف به إلا على الماهية الصادقة بنحو واحد على الأفراد الطولية والعرضية، ومقتضى إطلاقها الاجتزاء بكلٍ منها.

كما أن الهيئة ونحوهما مما يدل على التكليف لا تدل إلا على البعث نحو المكلف به وطلبه على ما هو عليه من السعة، فلا تقتضي وجوب خصوص فردها السابق زماناً بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

دعوى: استتباع البعث الاعتباري للانبعاث ودفعها

ودعوى: أن البعث الاعتباري يستتبع الانبعاث حين تحققه للتلازم بينهما عرفاً، كملازمة البعث الخارجي للانبعاث حقيقةً.

ممنوعةٌ، لأن البعث والانبعاث الخارجيين متلازمان تلازم المتضايفين، فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر عقلاً، أما البعث الاعتباري بالخطاب بالتكليف فهو غير ملازم للانبعاث بمعنى فعلية الإطاعة لا عقلاً ولا عرفاً، لوضوح تخلفها عنه كثيراً، وإنما يلازم الانبعاث بمعنى إحداث الموضوع للإطاعة بالنحو الصالح للداعوية للعمل، أما نحو العمل المدعو إليه فهو تابع للمأمور به سعة وضيقاً، فمع فرض ظهور إطلاقه في إرادة الطبيعة على سعتها لا وجه لكون البعث سبباً لإحداث الداعي نحو خصوص بعض أفراده بالنحو الملازم للبدار.

ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم اقتضاء الأمر بنفسه البدار لو كان

ص: 314

الواجب موقتاً بوقت واسع - بناءً على ما هو المعروف من إمكانه - مع وضوح إمكان البدار للطبيعة المقيدة بالوقت المذكور كالطبيعة المطلقة.

نعم، لو كان المدعى ظهور الصيغة أو نحوها في البعث نحو العمل بنحو البدار كان راجعاً لتقييد المأمور به بالفرد السابق.

لكن لا طريق لإثبات ذلك، بل المرتكزات تقضي بتمحضها في البعث نحو الطبيعة.

فلا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب.

فيما ذكر من الآيات الدلالة على الفور

كما لا مجال لاستفادته من الأمر بالمسارعة والاستباق في قوله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»(1) وكقوله سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(2) وقوله عز اسمه: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...»(3).

بدعوى: أنه ليس المراد من المغفرة والجنة إلا سببهما ومنه فعل الواجبات، التي هي أيضاً من الخيرات.

لاندفاعها: بأن سببية فعل الواجبات للمغفرة والجنة وكونه من الخيرات - بناءً على أن المراد بها الأخروية، كما هو الظاهر، وعليه يبتني الاستدلال - في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بها، فلا يصلح الأمر بالمسارعة والاستباق إليها - الذي هو متأخر رتبةً عن سببيتها وعن صدق عنوان الخيرات عليها - لتقييد المأمور به منها شرعاً، بنحو يكون عدم المسارعة

ص: 315


1- سورة البقرة: 148
2-
3- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب الوضوء

والاستباق مخرجاً لها عن كونها سبباً للمغفرة والجنة ومن الخيرات، لعدم الأمر بها بدونهما.

مع أنها لو حملت على الإلزام المولوي لزم تخصيص الأكثر، لخروج الواجبات الموسعة والمستحبات، مع إباء عمومها ارتكازاً عن التخصيص، كما نبه له غير واحدٍ.

دعوى خروج الأكثر تخصصاً لا تخصيصاً ودفعها

ودعوى: أن خروجها تخصص لا تخصيص، لاستحالة وجوب المبادرة لما يجوز تركه، فلا يهم كثرته.

ممنوعة، لأن استحالة شمول الحكم لبعض أفراد العام لا يقتضي خروجه تخصصاً، بل هو تخصيص عقلي قد يستبشع إذا كثر أو كان العام آبياً عن التخصيص، فيكون قرينة على إرادة ما لا يلزم منه ذلك.

ومنه يظهر أنه لا مجال لحملها على وجوب الفور بنحو تعدد المطلوب - لا بنحو وحدة المطلوب الراجع إلى تقييد المأمور به - وإن لم ينهض بمنعه الوجه الأول. بل يتعين حملها على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن البدار للطاعات مطلقاً وإنتهاز الفرصة في إكتساب الخيرات وإن لم تكن واجبات.

الاستدلال على الفور بحكم العقل

هذا، وربما يدعى استفادة التقييد بالفور من حكم العقل لبعض الوجوه التي أغنى ضعفها عن إطالة الكلام فيها، ولاسيما مع التصدي لدفعها في المعالم والفصول، فراجع.

الاستدلال على التراخي ودفعه

وأما الاستدلال للزوم التراخي بما قيل: من أن الواجب غالباً يحتاج إلى مقدمات مستلزمة للتراخي في امتثاله.

فهو كما ترى! لأن الاضطرار للتراخي غالباً لا يكشف عن مطلوبية

ص: 316

بنحو تعدد المطلوب فضلاً عن وحدته بنحو لا يجزي الفعل لو وقع في أول أزمنة التكليف، لعدم احتياجه إلى مقدمات تقتضي صرف الوقت أو لتحققها قبله.

ومن هنا كان الظاهر عدم لزوم الفور ولا التراخي.

إمكان استفادة الفور عرفاً من شاهد الحال

نعم، قد يستفاد الفور العرفي من شاهد الحال، كما يكثر في الخطابات الشخصية غير المبنية على القوانين العامة، حيث يغلب صدورها عند حضور وقت العمل وتحقق الحاجة للأمر المخاطب به، لا لمحض بيان تحقق موضوع التكليف، ولا يبعد كون الغلبة المذكورة قرينة عامة على حمل الخطابات المذكورة على ذلك عند الشك، سواءً كانت الخطابات تنجيزية، كما في قول القائل: ناولني ماء أو أغلق الباب، أم تعليقية، كما في قوله: إن جاء زيدٌ فأكرمه، وإن أحسن إليك فكافئه، وإن كانت المناسبات العامة الارتكازية والقرائن الخاصة قد تقتضي تعيين وقت خاص.

وهذا بخلاف الخطابات المتضمنة للقوانين العامة، كما في الأحكام الشرعية وغيرها، فإن الظاهر سوقها - تبعاً لمدلولها اللفظي - لمحض بيان تحقيق موضوع التكليف، من دون نظر لوقت العمل به، بل مقتضى الإطلاق المتقدم السعة فيه.

هذا كله لو كان للخطاب بالتكليف إطلاق، أما بدونه فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى البراءة عدم وجوب الفور لو احتُمِل وجوبه بنحو تعدد المطلوب، بأن يكون تكليفاً زائداً على التكليف بالواجب.

وأما لو احتُمِلَ وجوبه قيداً في الواجب بنحو وحدة المطلوب فالكلام فيه هو الكلام في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الذي كان

ص: 317

التحقيق فيه جريان البراءة.

وحينئذٍ لو لم يأت به فوراً يتجه استصحاب التكليف بالطبيعة في الآن الثاني وما بعده على ما هو عليه من التردد بين الفور وعدمه، لأنه صالح للداعوية عقلاً لأصل الطبيعة، نظير صلوح التكليف المردد بين الأقل والأكثر للداعوية نحو الأقل.

وبه ينحل العلم الإجمالي إما بوجوب الفعل فوراً أو بقاء التكليف به لو لم يأت به فوراً، المقتضي للاحتياط بالمبادرة ثم التدارك مع عدمها لولا الانحلال بالاستصحاب المذكور. فتأمل جيداً.

هذا كله في استفادة أحد الأمرين - من الفور أو التراخي - في مقام الجعل شرعاً.

استفادة أحد الأمرين في مقام الفراغ والامتثال ومناقشته

وأما في مقام الفراغ والامتثال فقد يدّعى حكم العقل بلزوم الفور ولو مع السعة في مقام الجعل، لأن الإطاعة من حقوق المولى، ويجب المبادرة بأداء الحق ولا يجوز المماطلة به.

وفيه: أن وجوب المبادرة بأداء الحق شرعي مختص بالاستحقاق المساوق للملكية الاعتبارية، كاستحقاق الدين في الذمة، لما في حبسه من التصرف في الملك بغير إذن صاحبه المنافي لسلطنته.

أما استحقاق الإطاعة عقلاً فهو نحو آخر من الاستحقاق تابع بنظر العقل لداعوية التكليف سعةً وضيقاً، فإذا كان الأمر يدعو للطبيعة على ما هي عليه من السعة بنحو تنطبق على الأفراد اللاحقة كالسابقة لا يحكم العقل بوجوب المبادرة والاقتصار في الإطاعة على الأفراد السابقة.

ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم لزوم الفور في الموقتات الموسعة،

ص: 318

مع كون أدائها حقاً للمولى أيضاً، لعدم الفرق بينها وبين المطلقات إلا في استفادة السعة فيها في مقام الجعل من صريح الخطاب، وفي المطلقات من الإطلاق، ولا دخل لذلك بالفرق في مقام الفراغ والامتثال.

وبالجملة: لا مجال للبناء على لزوم الفور في مقام الامتثال مع فرض السعة في مقام الجعل.

نعم لو علم بالعجز عما عدا الفرد الأول لزمت المبادرة إليه بمقتضى لزوم الإطاعة، كما هو الحال في سائر موارد انحصار القدرة ببعض أفراد الواجب.

بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ والامتثال لزوم المبادرة مع احتمال تجدد العجز عن الطبيعة في الزمن اللاحق، لولا أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء في سائر الموارد، إلا أن يكون هناك مثير لاحتمال العجز بنحو يعتد به العقلاء، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة وفتاوى الأصحاب بلزوم المبادرة لتفريغ الذمة مع ظهور أمارات الموت.

لكنه لا يرجع إلى وجوب المبادرة واقعاً في مقام الفراغ والامتثال، كما هو محل الكلام، بل ظاهراً عند الشك في القدرة على الامتثال بدونها.

المسألة الثالثة: فيما يتعلق بالنهي

المسألة الثالثة: فيما يتعلق بالنهي

حيث سبق أن امتثال النهي إنما يكون بترك تمام أفراد الطبيعة المنهي عنها في تمام أزمنة النهي كان مناسباً للفور والتكرار على خلاف ما سبق في الأمر، وليس هو مورداً للإشكال عندهم.

وإنما وقع الكلام في أمرين:

ص: 319

الأمر الأول: في كفاية امتثال النهي بمحض الترك

الأمر الأول: في أنه هل يُكتفَى في امتثال النهي وموافقته بمحض الترك ولو مع الغفلة عن العمل المنهي عنه أو تعذره، أو لابد فيه من كف النفس عنه الموقوف على الالتفات إليه ثم الإعراض عنه.

وقد يظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى حاق اللفظ هو الاكتفاء بمحض الترك. وكأنه لما أشرنا إليه آنفاً من أن مقتضى النهي عرفاً هو مفاد القضية الحملية السالبة.

ودعوى: أن النهي لما كان مسوقاً لإحداث الداعي للترك كان مقتضاه صدور الترك بداعيه، المستلزم للكف، لابد اعٍ آخر ولا غفلة.

مدفوعةٌ: بأن مرجع ذلك إلى حمل النهي على التعبدي، فيجري فيه ما يجري في أصالة التعبدية في الأمر مما يأتي الكلام فيه، بل لا يظن ممن التزم بأصالة التعبدية في الأمر الالتزام بها في النهي.

على أن ذلك لا يقتضي لزوم الكف مطلقاً، بل في خصوص صورة الإطلاق، لما هو المعلوم من إمكان كون التكليف توصلياً، بل كثرته، وإنما الكلام في الحمل عليه مع الإطلاق. فتأمل.

وكيف كان، فالظاهر ما ذكرناه من المفروغية عن أن الاكتفاء بمحض الترك هو مقتضى الاقتصار على المدلول اللفظي للخطاب، وأن منشأ القول بلزوم الكف هو دعوى: أن محض الترك غير مقدور للمكلف، لأنه أمر أزلي سابق على القدرة فلا يستند إليها ليمكن التكليف به، بل يلزم حمل النهي على التكليف بالكف، الذي هو أمر وجودي مستند للمكلف مقدور له.

ولو تم ذلك فقد يجري فيما لو لم يكن الترك أزلياً، بل كان المكلف متلبساً بالفعل قبل النهي، لأن ذلك لما كان نادراً وكان الغالب ورود النهي

ص: 320

مورد أزلية الترك فقد تكون الغلبة المذكورة موجبة لظهور النهي في إرادة الكف مطلقاً، لعدم الفرق ارتكازاً في مفاده بين الموردين.

عدم تمامية الوجه المذكور في نفسه

لكن الوجه المذكور غير تام في نفسه، لما ذكره جماعة من أن أزلية الترك إنما تستلزم عدم كونه اختيارياً قبل حصول القدرة للمكلف، ولا تنافي تعلق الاختيار به بلحاظ حال استمراره الذي هو ظرف التكليف وتوجه النهي، لأن القدرة على الفعل تستلزم القدرة على الترك، وبدونها يكون الفعل واجباً أو ممتنعاً لا مقدوراً قابلاً لأن يُنهى عنه.

الأمر الثاني: هل يختص الترك المستفاد من الإطلاق بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة

الأمر الثاني: حيث سبق أن النهي مع إطلاقه يقتضي الترك في تمام الأزمنة، فهل يختص ذلك بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة، فإن خولف سقط رأساً ويحتاج بقاؤه إلى قرينة مخرجة عن الإطلاق، أو لا بل يبقى مع المخالفة بنحو يقتضي العود للترك، ما لم تقم قرينة مخرجة عن مقتضى الإطلاق؟

ما ذكره الخراساني قدس سره

صرح المحقق الخراساني قدس سره بعدم دلالته على أحد الأمرين في نفسه، قال: «بل لابد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة...» ولم يتعرض لبيان مقتضى الإطلاق ولا لتوجيهه.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

لكن سيدنا الأعظم قدس سره ذكر أن مقتضى إطلاق المتعلق لحاظه بنحو صرف الوجود، نظير ما تقدم منه في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار، قال «فكما أن إطلاق قوله: اضرب، يقتضي البعث إلى صرف الوجود ولا يقتضي التكرار كذلك إطلاق قوله: لا تضرب، يقتضي الزجر عن صرف الوجود، فإذا خولف بالوجود لم يقتضِ الزجر عن الوجود بعد ذلك، فإنه وجود بعد وجود، لا وجود بعد العدم الذي هو صِرف الوجود.

ص: 321

نعم الغالب في المفسدة أن تكون قائمة بكل حصة بحيالها، وفي المصلحة أن تكون قائمة بصرف الوجود، فلعل هذه الغلبة تقتضي كون مقتضى الإطلاق هو الثاني، لأن الأول حينئذٍ يحتاج إلى بيان. فتأمل».

ويظهر الإشكال فيما ذكره أولاً مما تقدم هناك من أن إطلاق المتعلق لا يقتضي الحمل على صرف الوجود، بل على الطبيعة بحدودها المفهومية، إلا أن سعة انطباقها تستلزم تحققها بصرف الوجود فيكون امتثالا للأمر بها وعدم تحقق تركها إلا بترك تمام أفرادها، فلا يكون امتثال النهي عنها إلا بذلك.

أما أن فعل بعض الأفراد في بعض الأزمنة يوجب سقوط النهي رأساً فهو أمر آخر يحتاج إلى دليل، ومجرد تعلق الأمر بالطبيعة لا يقتضيه.

وأما ما ذكره أخيراً من أن غلبة تعلق المفسدة بالأفراد بنحو الانحلال هو الذي قد يوجب الصرف عن مقتضى الإطلاق الأولي والبناء على بقاء النهي لو خُولِفَ.

فهو غير ظاهر، لعدم وضوح الغلبة المذكورة مع قطع النظر عن موارد الأحكام الشرعية، لتكون من القرائن العرفية العامة الصارفة عن مقتضى الإطلاق. وثبوتها في موارد الأحكام الشرعية لما كان بسبب قيام الأدلة الخاصة لم يكن من القرائن العامة التي يستند إليها الظهور، ويخرج بها عن مقتضى الإطلاق. فلاحظ.

ما ذكره النائيني قدس سره من التفصيل في وجوه ترك الطبيعة

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره: أن ترك الطبيعة..

تارة: يكون مطلوباً استقلالاً وملحوظاً بنحو المعنى الاسمي، بأن يكون المطلوب خلو صفحة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الأفراد

ص: 322

حينئذٍ ملازماً للمطلوب لا نفسه.

وأخرى: يكون مرآةً وملحوظاً بنحو المعنى الحرفي توصلاً به إلى طلب ترك أفرادها، فالمطلوب حقيقة هو ترك نفس الأفراد المستلزم لخلو صحيفة الوجود عن الطبيعة.

وعلى الأول لو عُصِيَ النهي بإيجاد فرد من تلك الطبيعة سقط، إذ ليس هناك إلا نهي واحد متعلق بالطبيعة الواحدة، والمفروض عصيانه.

وعلى الثاني حيث كان النهي منحلاً إلى نواهٍ متعددة بعدد الأفراد فسقوط بعضها بالعصيان لا يقتضي سقوط غيره. وهذا القسم هو الغالب في موارد النهي، لأن منشأه غُالباً هو المفسدة في متعلقه، ولا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة، ومن ثم كان هذا هو ظاهر النهي دون الوجه الأول.

هذا كله بالإضافة إلى الأفراد العرضية.

وأما بالإضافة إلى الأفراد الطولية فبقاء النهي بعد مخالفته كما يمكن أن يكون لأخذ الزمان قيداً في الأفراد موجباً لتكثرها، يمكن أن يكون لاستمرار نفس النهي عن الطبيعة في جميع الأزمنة.

وحيث لا دليل على أخذ الزمان في المتعلق، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما، كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً.

هذا حاصل ما ذكره أثبتناه عن تقرير بعض مشايخنا لدرسه بأكثر ألفاظه.

وكأن مراده من الفرق بين لحاظ ترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي ولحاظه بنحو المعنى الحرفي ليس هو الفرق المذكور في محله بين المعنى

ص: 323

الاسمي والحرفي، لبداهة عدم خروج الطبيعة المتعلقة للنهي عن كونها معنىً اسمياً، بل مجرد لحاظ الطبيعة في الأول استقلالاً مورداً للنهي والغرض، وفي الثاني طريقاً لملاحظة الأفراد التي هي في الحقيقة مورداً لهما، والتعبير بالمعنى الاسمي والحرفي لمجرد المناسبة لما اشتهر من استقلالية الأول وآلية الثاني.

المناقشة فيه

وكيف كان فيرد على ما ذكره..

أولاً: أن تصور الطبيعة بالوجهين غير ظاهر، بل هي لا تلحظ إلا بحدودها المفهومية لكن بنحو تكون خارجية متحدة مع الأفراد، غايته أنها..

تارةً: تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو المجموعية، فلا يكون النهي عنها إلا واحداً له طاعة واحدة ومعصية واحدة.

وأخرى: تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو الانحلال، فيختص كل فرد منها بنهي له طاعته ومعصيته.

و ثانياً: أن غلبة صدور النهي عن مفسدة يشترك فيها جميع الأفراد لا يستلزم كون الغالب في النهي الانحلال، بل كما يمكن أن يكون لكل فرد مفسدته القائمة به المستلزمة للنهي عنه، فيكون النهي عن الطبيعة انحلالياً، كذلك يمكن أن تكون المفسدة واحدة تحصل بكل فرد ولا تستدفع إلا بترك تمام الأفراد، فيكون النهي عن الطبيعة واحداً وارداً على أفرادها بنحو المجموعية.

و ثالثاً: أن ما ذكره في وجه عدم تكثر الأفراد بلحاظ الزمان من عدم الدليل على أخذ الزمان في المتعلق يدفعه أن تكثر الأفراد الخارجية والفرضية التي يشملها الحكم تابع لاختلاف الخصوصيات واقعاً وإن لم

ص: 324

تلحظ تلك الخصوصيات ولم تؤخذ تفصيلاً أو إجمالاً في المتعلق، وإلا فالأفراد العرضية متقومة بخصوصيات لا دليل على أخذها في المتعلق أيضاً.

نعم، مجرد شمول الحكم للأفراد الطولية وتكثرها تبعاً لاختلاف الخصوصيات الزمانية لا يكفي في بقاء الحكم بعد مخالفته ما لم يكن بنحو الانحلال، بحيث يكون لكل فرد نهيه المختص به والذي لا يكون فعلياً إلا بالقدرة عليه، ولا ينهض كلامه بإثبات ذلك.

كما أن ما ذكره من أنه حيث لا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً، لا ينفع في إثبات عدم سقوط النهي بعد مخالفته، وذلك لأن مقدمات الحكمة وإن اقتضت مع عدم ذكر القيد بقاء المحكم في تمام الأزمنة اللاحقة، إلا أن بقاء النهي كما يكون لتجدد الغرض فيه في كل آن، بحيث يكون وجوده في كل آن لغرض مستقل قائم به، فلا يلزم من مخالفته في بعض الآنات سقوطه في بقيتها بعد استقلالها بغرضها، كذلك يكون مع وحدة الغرض منه بحيث لا يتحصل شيء من غرضه إلا بموافقته في جميع الآنات، فيلزم سقوطه بالمخالفة في بعضها، وكلامه قدس سره لا ينهض بإثبات أحد الوجهين.

نعم، الظاهر أن المفهوم عرفاً من الإطلاق هو الثاني، ولذا يعد التارك في الآن الأول مطيعاً عرفاً، لا أن إطاعته مراعاة باستمراره على الترك، كما تكون إطاعة من يشرع في امتثال الواجب الارتباطي مراعاة بإكماله.

وكأنه لابتناء الارتباطية على نحو من العناية الموجب لاحتياجها لمزيد بيان، وبدونه ينهض الإطلاق بدفع احتمالها.

ص: 325

ونظير ذلك يجري في المجموعية بين الأفراد الراجع للارتباطية بينها في مقام النهي، فإنها تبتني على نحو من العناية - أيضاً - التي يدفعها الإطلاق، ويترتب على ذلك زيادة المعصية بزيادة الأفراد المأتي بها من الطبيعة المنهي عنها ولو كانت في دفعة واحدة، فمن ينظر لامرأتين في آنٍ واحد أكثر معصية ممن ينظر لامرأة واحدة.

والرجوع للمرتكزات العرفية في فهم إطلاق النهي كافٍ في استيضاح الجهتين وإن فَرِضَ عدمُ وضوحِ وجهِهِما.

ص: 326

الفصل السادس في تقسيمات المأمور به والمنهي عنه
اشارة

قد ذكروا للواجب تقسيمات كثيرة، كتقسيمه إلى نفسي وغيري، وإلى مطلق ومشروط، وإلى تعييني وتخييري، وغير ذلك.

والبحث في كل تقسيم..

تارةً: في حقيقة الأقسام المتحصلة فيه.

وأخرى: فيما يقتضيه إطلاق الخطاب أو الأصل مع عدم القرينة على تعيين أحد الأقسام.

والظاهر أن تلك التقسيمات لا تختص بالواجب، بل تجري في المستحب، وإنما تعرضوا لها في الواجب لأهميته مع المفروغية عن كون المستحب على غراره.

بل أكثرها يجري في المنهي عنه أيضاً محرماً كان أو مكروهاً.

ولعلهم إنما لم يذكروها فيه لتقديم الكلام عندهم في الأوامر فأغنى الكلام فيها عن الكلام في النواهي، كما أغنى في كثير من المباحث السابقة واللاحقة مما سبق ويأتي عمومه للنواهي. ومن هنا عممنا عنوان البحث.

بل قد ينفع الكلام في بعض تلك الأقسام في غير التكليفيات، كما قد

ص: 327

يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فيقع الكلام في مباحث:

المبحث الأول في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى مطلق ومشروط
اشارة

لا إشكال في إمكان إطلاق المأمور به والمنهي عنه، بنحو يشمل تمام أفراد الماهية، كما يمكن تقييدهما بقيدٍ يرجع إلى تضييق الماهية وقصر مورد الأمر أو النهي منها على بعض الأفراد.

كما لا إشكال في وقوع كلا الأمرين، تبعاً لظاهر دليليهما أو صريحهما، وليس هو محل الكلام في المقام.

الكلام في تقييد التكليف

وإنما الكلام في إطلاق التكليف بالأمر والنهي بنحوٍ لا تتوقف فعليته وصلوحه للبعث والزجر على أمرٍ مفقود، وتقييده بنحوٍ لا يصلح للبعث والزجر إلا بعد وجود القيد من دون أن يؤخذ القيد في متعلقه.

فإن أمكن كل من الأمرين ثبوتاً تعين الرجوع في تعيين كل منهما إثباتاً لظاهر دليلهما، وإن إمتنع الاشتراط تعين رفع اليد عن ظهور الدليل فيه وتنزيله على تقييد نفس المأمور به مع فعلية الأمر بدون القيد.

فمحل الكلام في الحقيقة مختص بما إذا كان ظاهر الدليل اشتراط نفس الأمر أو النهي.

ص: 328

أما لو كان ظاهره تقييد نفس المأمور به أو المنهي عنه فهو خارج عن محل الكلام، حيث لا إشكال في العمل بالظهور المذكور بعد إمكان مؤداه.

هذا، ومن الظاهر أنه لا تكليف مطلق من جميع الجهات، إذ لا أقل اشتراطه بالشروط العامة.

ومن هنا اختلفت كلماتهم في تعريف الواجب المطلق الذي هو محل كلامهم، بنحو يظهر من بعضهم أن الكلام في خصوص بعض الشروط وخروج بعضها عن محل الكلام، كالشروط العامة.

معرفة حال الواجب المشروط

لكن حيث كان المهم من هذا التقسيم معرفة حال الواجب المشروط وكيفية النسبة بينه وبين الشرط في مقام الجعل في الكبريات الشرعية المستتبع لنحو النسبة بينهما في الخارج من دون فرق بين الشروط كان الأنسب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره واحتمله شيخنا الأعظم قدس سرهما من أن وصفي الإطلاق والاشتراط إضافيان.

فالواجب مع كل شيء..

تارةً: يكون له دخل فيه، فيكون مشروطاً بالإضافة إليه.

وأخرى: لا يكون له دخل فيه، فيكون مطلقاً بالإضافة إليه وإن كان مشروطاً بالإضافة إلى غيره.

ولا يهم تحديد الواجب المطلق بعد كون الغرض من التقسيم معرفة الواجب المشروط، بل مطلق الخطاب المشروط أمراً كان أو نهياً إلزامياً كان أو غيره، كما سبق، فاللازم صرف الكلام إليه.

وقد ذكرنا أن الكلام إنما هو في فرض ظهور الدليل في تقييد التكليف، كما في موارد القضية الشرطية، لأن مفاد أداة الشرط نحو نسبة - بين نسبة

ص: 329

جملة الشرط التي مطابقها في الخارج وجود الشرط، ونسبة جملة الجزاء التي مطابقها في الخارج الحكم الفعلي الصالح للبعث والزجر - تقتضي إناطة الثانية بالأولى، ولازم ذلك عدم فعلية الحكم إلا بفعلية الشرط.

وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط عنواناً للموضوع في قضية حقيقية مرجعها إلى جعل الحكم على ما يعم الأفراد المقدرة للموضوع، كما في: يجب على المستطيع الحج، وعلى الزوج الإنفاق، لوضوح أن عنوان الموضوع مقوم للنسبة التي تتضمن الحكم، لا قيد زائد عليها كالشرط.

ورجوعها للقضية الشرطية لُباً لا ينافي كونها أظهر منها في كون الوصف دخيلاً في الحكم، لا في متعلقه.

المشهور رجوع الشرط للهيئة

ومن هنا كان المشهور رجوع الشرط للتكليف المستفاد من هيئة الأمر والنهي أخذاً منهم بظاهر الأدلة، بل ظاهر من سبق على شيخنا الأعظم قدس سره المفروغية عن ذلك، حيث لم يتصدوا لإثبات ذلك، بل لآثاره،

وقد جرى على ذلك جملة ممن تأخر عنه وتصدوا لإثباته، وإن اختلفوا في مفاد الشرطية وحقيقة الحكم المشروط وواقعه في مقام الجعل والخارج، وقد تعرضنا لذلك في مبحث استصحاب الحكم عند الشك في نسخه، ومبحث الاستصحاب التعليقي، لمسيس الحاجة إليه هناك، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد اتفاقهم على ما هو المهم هنا من عدم فعلية الحكم بنحو يصلح للداعوية والبعث والزجر مع عدم تحقق الشرط، بناءً على رجوعه للهيئة.

دعوى الشيخ الأعظم قدس سره رجوع الشرط للمادة

وخالف في ذلك شيخنا الأعظم قدس سره حيث حكي عنه دعوى رجوع الشرط للمكلف به الذي هو مفاد المادة في الخطاب، فيقتضي تقييده وقصره

ص: 330

على الماهية الواجدة للشرط، دون التكليف، بل هو فعلي صالح للداعوية والبعث حتى قبل وجود الشرط بعد الاعتراف بأن مقتضى القواعد العربية ما عليه المشهور، كما سبق توضيحه.

المستفاد من دليله وجهان

والمستفاد مما حكي عنه في التقريرات أن الملزم بالبناء على رجوع الشرط للمادة وجهان:

أحدهما: عدم إطلاق الفرد الموجود من الأمر

أحدهما: أنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الأمر الذي هو مفاد الهيئة، ليقبل التقييد بالشرط، لما اختاره قدس سره من أن المعاني الحرفية جزئية، بخلاف الواجب الذي هو مفاد المادة، فإنه مفهوم كلي قابل للإطلاق والتقييد، فيتعين رجوع الشرط إليه وتقييده له.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

لكن سبق في التنبيه الأول لمبحث المعنى الحرفي الكلام في امتناع تقييده، وذكرنا جملة من الوجوه المذكورة في كلماتهم لإمكان تقييده ودفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره، وأن التحقيق اختلاف سنخ القيود، والذي يمتنع تقييد المعنى الحرفي به بعضها، دون مثل الشرط.

كما ذكرنا هناك أنه لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره هنا من أن كون المعنى الحرفي آلياً مانع من تقييده بالشرط أو غيره، فراجع.

على أن مانعية جزئية المعنى الحرفي وآليته من تقييده لو تمت إنما تمنع من رجوع الشرط للتكليف إذا كان التكليف مستفاداً من الهيئة أو الحرف، دون ما إذا كان مستفاداً من معنى اسمي، كالوجوب والفرض والتحريم، فإذا قيل: يجب عليك الحج إن إستطعت، فكما لا محذور في تقييد الحج بالاستطاعة، لكونه معنىً اسمياً، كذلك لا محذور من تقييد الوجوب بها، لأنه معنى اسمي أيضاً، اللهم إلا أن يقال: لا يراد برجوع القيد للتكليف

ص: 331

كونه قيداً لأحوط في النسبة، وهو التكليف الوارد على المكلف به، الذي قد يلحظ بما هو معنى اسمي ويؤدى بالاسم. بل كونه قيداً لورود التكليف على المكلف به، وانتسابه له، والانتساب المذكور لا يؤدى بالأسم، وإنما يؤدى بهيئة الجملة الحملية ونحوها مما يتضمن معنى حرفياً آلياً. فلاحظ.

نعم لا مجال لذلك فيما لو كان الشرط مأخوذاً عنواناً للموضوع في قضية حملية حقيقية، كما لو قيل: ليحج المستطيع، لوضوح أن عنوان الموضوع طرف النسبة التي هي معنى حرفي لا قيد زائد عليها، ليتجه دعوى امتناع تقييدها به مع جزئيتها أو آليتها.

ولعله لذا احتمل قدس سره عدم فعلية التكليف قبل تحقق العنوان، لعدم تحقق موضوعه.

فراجع ما ذكره في توجيه وجوب المقدمات قبل الوقت لو لزم من الإخلال بها فوت الواجب في وقته.

ثانيهما: وحدة الطلب المنكشف به ثبوتاً

ثانيهما: أن اختلاف ما يدل على الطلب إثباتاً وظهور بعضه في رجوع الشرط للتكليف - كالقضية الشرطية - وظهور بعضه في رجوعه للواجب - كهيئة التوصيف - لا أثر له في الفرق بعد كون الطلب المنكشف به على وجه واحد ثبوتاً لا اختلاف فيه وجداناً، سواء بُيِّنَ بدليل لفظي أو لبي أم بقي كامناً في النفس ولم يُبَيَّن أصلاً لمانع من بيانه.

فإن العاقل إذا توجه إلى أمرٍ فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلاً وهو خارج عن محل الكلام، وإما أن يتعلق غرضه به فيطلبه فعلاً إما بلحاظ مصلحته - كما هو الحال بناءً على تبعية الأحكام للملاكات الواقعية - أو اعتباطاًً وليس هناك صورة أخرى يكون الطلب فيها بنفسه مشروطاً ليمكن

ص: 332

العمل بظاهر ما دل على ذلك.

نعم، إذا تعلق غرضه به فطلبه، فإما أن يكون ذلك الأمر مورداً لطلبه على جميع وجوهه وأحواله، فيكون مطلقاً، أو على تقدير خاص اختياري، للمكلف - كالسفر في القصر، والطهارة في الصلاة - أو غير اختياري، كالزمان.

فإن كان اختياريا.. فتا رةً: يتعلق الغرض بالتكليف به مطلقاً بنحو تكون الخصوصية مورداً للتكليف، فيجب تحصيلها مقدمةً له، فيكون واجباً مطلقاً، كالأول، وإن إفترق عنه بأخذ الخصوصية فيه دونه.

وأخرى: يتعلق الغرض بالتكليف به بنحو لا يجب تحصيل الخصوصية، بل يُكتفى بحصولها من باب الاتفاق، فيجب تحصيله على تقدير حصول الخصوصية، كما في القصر مع السفر، وهو الواجب المشروط.

وكذا الحال لو كانت الخصوصية غير اختيارية، لاستحالة التكليف بها حينئذٍ.

فالفرق بين الواجب المشروط والمطلق الذي تؤخذ الخصوصية فيه ليس بكون الخصوصية قيداً للتكليف في الأول وللمكلف به في الثاني، بل بكونها مورداً للتكليف في الثاني دون الأول، مع كونها قيداً في المكلف به في كليهما، سواء كان دليل الطلب ظاهراً في رجوع الخصوصية للتكليف أم للمكلف به، إذ ليس الموجود وجداناً إلا ما ذكرنا.

ثم إن هذا الوجه لو تم لم يفرق فيه بين استفادة التكليف من معنى حرفي، كمفاد الهيئة والحرف، واستفادته من معنى اسمي، كالوجوب

ص: 333

والتحريم.

كما لا يفرق فيه بين أخذ الخصوصية شرطاً للتكليف في قضية شرطية وأخذها عنواناً لموضوعه في قضية حقيقية، بخلاف الوجه السابق.

ومن هنا لا يتجه منه قدس سره ما سبق من احتمال عدم فعلية التكليف لو كانت الخصوصية عنواناً للموضوع إلا بعد حصولها، ويتجه ما ذكره مقرر درسه من إنكار الفرق وجداناً بينه وبين مفاد الشرطية.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

هذا، ويشكل ما ذكره..

أولاً: بأن فرض أخذ الخصوصية المقدورة في المكلف به مع كون التكليف به بنحو لا يدعو إليها، بل يُكتفى بحصولها من باب الاتفاق غير ظاهر، وإن أقره عليه غيره، بل مع فرض تعلق الغرض بالمقيد وإمكان تحصيله بتحصيل قيده يتعين كون القيد مطلوباً بتبعه، وعدم تعلق الغرض بتحصيل الخصوصية ملازم لعدم تعلقه بتحصيل المقيد بها الذي لا يحصل بدونها، ولذا كانت داعوية التكليف بالشيء لتحصيل مقدماته عقلية، لا شرعية.

دعوى: عدم داعوية التكليف بذي الخصوصية لقصور في القيد ودفعها

نعم، قد يوجه عدم التكليف بالقيد، بأن ما هو المعتبر في المكلف به ليس هو مطلق وجود الخصوصية، ليتعين البعث إليها بتبعه، بل وجودها من باب الاتفاق الذي لا يتحقق مع البعث إليها، فعدم داعوية التكليف بذي الخصوصية إليها ليس لقصور في داعويته، بل لقصور في القيد، حيث لا يترتب الغرض عليه لو وجد بداعي التوصل للمكلف به.

لكنه يندفع: بأن لازم ذلك عدم ترتب الغرض على القيد لو أُتي به بداعي التوصل للمكلف به، فلا يكون من أفراد القيد، ولا يتحصل به

ص: 334

المكلف به المقيد، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

مضافاً إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن لازمه كون الوجود من باب الاتفاق كسائر القيود واجداً لجميع مبادئ الإرادة وإن لم يصح البعث إليه، مع أنه قد يكون مبغوضاً، كما لو قيل: إن ظاهرتَ أو أفطرتَ أو قَتلت مؤمناً فكفِّر.

ومن هنا كان الظاهر كون الشروط التي لا يجب تحصيلها مع القدرة عليها شروطاً للتكليف لا للمكلف به، فلا يصلح التكليف للداعوية إليها، لعدم فعليته قبلها، ولأنه إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه.

ولذا كان عدم وجوب تحصيل الشرط تابعاً ثبوتاً لظهور الدليل في كونه قيداً لنفس التكليف، لأخذه عنواناً لموضوعه في قضية حقيقية أو شرطاً له في ضمن قضية شرطية أو نحوهما، مع وضوح أنه لو بُنِيَ على تنزيل ما ظاهره رجوع الشرط للتكليف على رجوعه للمكلف به لم يكن وجه لاستفادة عدم وجوب تحصيل الشرط منه، ولزم توقف البناء عليه على دليل خاص، وليس بناؤهم على ذلك.

ما ذكره يبتني على الخلط بين شروط التكليف وشروط المكلف به ثبوتاً

و ثانياً: أن ما ذكره قدس سره يبتني على الخلط بين شروط التكليف وشروط المكلف به ثبوتاً، مع وضوح الفرق بينهما بالتأمل في المرتكزات وفي الأمثلة العرفية، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.

الفرق بين خصوصيات التكليف وخصوصيات الواجب

فإن الخصوصية..

تارةً: تكون دخيلة في تعلق الغرض بالماهية وفي الحاجة إليها بلحاظ أثرها وفائدتها، فبدونها لا يحتاج إليها ولا يرغب في أثرها، كالمرض بالإضافة إلى شرب الدواء، والجوع والعطش بالإضافة إلى تناول الطعام

ص: 335

والماء.

وأخرى: تكون دخيلة في ترتب أثرها وفائدتها في فرض تعلق الغرض بها والحاجة إليها وإلى أثرها، كالغليان للدواء والطهي للطعام والتبريد للماء.

فالأولى: تكون من قيود التكليف وشروطه، لتبعية التكليف بالشيء لتعلق الغرض به، والمفروض عدم تعلق الغرض بدونها ولذا لا يجب تحصيلها، لعدم فعلية التكليف قبل حصولها، ولأن التكليف لا يدعو إلى موضوعه، بل إلى متعلقه، بل قد يكون مبغوضاً للمولى، كالمحرمات التي تكون موضوعاً لبعض التكاليف، كوجوب الكفارة ونحوها.

والثانية: تكون من قيود الواجب، لتبعية المكلف به سعةً وضيقاً لمورد الغرض والفائدة والأثر المرغوب فيه، فيجب تحصيلها تبعاً للواجب المقيد بها في فرض فعلية التكليف بالواجب، لتمامية موضوعه.

إلا أن تكون خارجة عن الاختيار كالخصوصية الزمانية، حيث يأتي إن شاء الله تعالى في الواجب المعلَّق الكلام في فعلية التكليف بالمقيد قبل حصوله وعدمها.

وحيث اتضح الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلف به يتضح حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن العاقل إذا توجه إلى شيءٍ فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلاً، أو يتعلق به غرضه فيطلبه فعلاً.

إذ ظهر بذلك أن هناك صورة ثالثة يكون فيها الملتفت إليه مورداً للغرض تعليقاً، لتبعيته لأمرٍ قد لا يكون حاصلاً، فيتعين إناطة التكليف به تبعاً للغرض، ولا يكون التكليف بدونه فعلياً.

ص: 336

وعليه ينزل جميع ما هو ظاهر أو صريح في اشتراط نفس التكليف، كالشرط في القضية الشرطية وعنوان الموضوع في القضية الحقيقية، ولا ملزم بالخروج عن ظاهره.

على أن ما ذكره قدس سره لا يناسب ما اعترف به من أن مقتضى القواعد العربية رجوعه للتكليف.

لوضوح أن مقتضى القواعد المذكورة ظهورات نوعية ارتكازية، فكيف يمكن انعقادها على ما هو ممتنع عقلاً مخالف للوجدان! وليست هي كالظهورات الشخصية التي قد تنعقد على خلاف الواقع لخلل في البيان أو في فهمه.

بل الظهورات النوعية تكشف عن كون ما ينافيها كالشبهة في مقابل البديهة، لابد من ثبوت خلل في بعض مقدماته إجمالاً لو لم يعلم تفصيلاً.

بل ما ذكره قدس سره لا يناسب ما صرح به غير مرة من فرض مقدمة الوجوب، وأنها التي يتوقف عليها الوجوب دون الوجود، وأنه يمتنع ترشح الطلب عليها من الواجب لاستلزامه طلب الحاصل.

إلا أن يكون ذلك منه مماشاة للقوم مع كونها عنده مقدمة للوجود، لتوقف خصوصية الواجب عليها، كما ربما يظهر من بعض عباراته، غايته أن الخصوصية الموقوفة عليها قد أُخِذَت بنحو لا تكون مورداً للتكليف، على ما سبق منه التعرض له.

لكن لازم ذلك الاستدلال على عدم وجوبها بلزوم الخلف، لا بطلب الحاصل، كما سبق منه، الظاهر في المفروغية عن عدم وجوبها قبل وجودها، لعدم وجوب ذِيها.

ص: 337

ومن هنا كان كلامه قدس سره في غاية الاضطراب والإشكال، ولا معدل عما ذكرنا.

منع النائيني قدس سره من رجوع القيد للهيئة لآلية المعنى الحرفي

ثم إن بعض الأعاظم قدس سره منع من رجوع الشرط للهيئة، لما سبق في الوجه الأول من أن المعنى الحرفي آلي غير قابل للتقييد، كما منع من رجوعه للمادة بنفسها المستلزم لتقييد المكلف به مع فعلية التكليف قبل تحقق القيد، لما بنى عليه من إبتناء القضية الشرطية والحقيقية على أخذ الموضوع والشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم المستلزم لعدم فعليته قبل تحقق الشرط والموضوع، على ما فصله وأطال الكلام فيه، ومن هنا ادعى رجوع الشرط للمادة المنتسبة.

قال بعض مشايخنا (دامت بركاته) في تقريره لدرسه: «المراد منه هو تقييد المادة المنتسبة فإن الشيء قد يكون متعلقاً للنسبة الطلبية مطلقاً من غير تقييد، وقد يكون متعلقاً حين اتصافه بقيد في الخارج.

حديث المادة المنتسبة

مثلاً: الحج المطلق لا يتصف بالوجوب، بل المتصف هو المتصف بالاستطاعة الخارجية، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفاً للنسبة الطلبية، فالقيد راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى الفاعل».

بل أنكر قدس سره كون مراد شيخنا الأعظم قدس سره ما هو ظاهر التقريرات من رجوع القيد للمادة، بنحو يكون من قيود الواجب مع إطلاق الوجوب وفعليته، حاكياً عن السيد الشيرازي قدس سره عدم صحة النسبة المذكورة.

لكنه لا يناسب تصدي شيخنا الأعظم قدس سره بما ذكره للرد على صاحب الفصول قدس سره الذي فرق بين المشروط والمعلق بأن القيد في الأول للتكليف

ص: 338

عدم مناسبة ما ذكره النائيني قدس سره لما تصدى به الشيخ الأعظم قدس سره

وفي الثاني للمكلف به مع إطلاق التكليف وفعليته قبل الشرط، فرد عليه بأن القيود وإن اختلفت لفظاً في مقام الإثبات، إلا أنها لا تختلف لباً في مقام الثبوت، بل هي راجعة للمكلف به مطلقاً مع فعلية التكليف على كل حال، وإنما تختلف في كونها مورداً للتكليف تارةً، وعدمه أخرى.... إلى آخر ما تقدم، بنحو يظهر للناظر فيه إنتظام المطلب وتناسقه، حيث يبعد معه اشتباه المقرر فيه جداً، بل يكاد يقطع بعدمه.

المناقشة فيما ذكره النائيني قدس سره

على أن ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره لا يخلو عن غموض وإشكال، إذ لحاظ المادة بما هي منتسبة راجع إلى تقييدها بالنسبة، وإذا كانت آلية المعنى الحرفي مانعة من تقييده كانت مانعة من التقييد به، إذ لابد من لحاظ كل من القيد والمقيد استقلالاً، لأن التقييد نحو من النسبة التي لا تقوم إلا بالمعاني الاسمية الاستقلالية.

نعم، حيث عبر هو قدس سره عن النسبة بمفاد الاسم ولحظها بما هي معنى اسمي أمكن التقييد بها كما يمكن تقييدها. وهو خارج عن مفروض الكلام من كون الدال على النسبة الهيئة أو الحرف وكونها معنى اسمياً آلياً.

وأما لو أراد أن القيد راجع إلى المادة في ظرف انتسابها، على نحو نتيجة التقييد.

أشكل: بأن ذلك جارٍ في قيود الواجب أيضاً، لوضوح أن التقييد لا يصح إلا في ضمن القضية المتضمنة للحكم ولانتساب المادة، ولا معنى لاعتباره مع قطع النظر عن ذلك، فلابد من بيان الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب من وجه آخر.

مضافاً إلى أن تقييده المادة المنتسبة لا يقتضي إناطة التكليف بالقيد،

ص: 339

لفرض كون نسبة الحكم للمادة سابقة رتبةً على التقييد.

كما أن ما ذكره من أن المتصف بالوجوب ليس هو الحج المطلق، بل المقيد بالاستطاعة الخارجية، راجع إلى تقييد الواجب كتقييد الصلاة بالطهارة، إذ لا يراد به إلا تقييدها بالطهارة الخارجية من دون أن يقتضي إناطة التكليف بها.

ودعوى: لزوم وجود الموضوع في رتبة سابقة على الحكم.

مدفوعة: بأن ذلك لا يتم في الموضوع الذي هو بمعنى متعلق التكليف ومعروضه وهو المكلف به وقيوده، لاستحالة بقاء التكليف مع وجوده، وإنما يتم فيما يناط به التكليف مما هو خارج عن المكلف به، كالمكلف وقيوده، وإرادته في المقام موقوفة على تقييد الهيئة المفيدة للتكليف على ما ذكرناه في القضية الشرطية.

إلا أن يراد برجوع القيد للمادة المنتسبة رجوع القيد لانتساب المادة، فلا تكون المادة منتسبة وطرفاً للطلب إلا بوجود القيد، ومن الظاهر أن الانتساب مستفاد من الهيئة فتقييده لا يكون إلا برجوع القيد إليها، كما ذكرنا.

نعم، لا يراد برجوع القيد إليها رجوعه لها بنفسها مع قطع النظر عن أطرافها، لوضوح عدم قيامها بنفسها لا لحاظاً ولا خارجاً، بل رجوعه لها بما هي قائمة بأطرافها من المكلف والمكلف به.

ولذا كان مفاد الشرطية تعليق جملة بجملة، في قبال رجوعه للمادة التي هي مفهوم إفرادي طرف للنسبة.

وبالجملة: كلامه قدس سره في غاية الغموض والإشكال، ولعله ناشئ عن ضيق التعبير واختلاط بعض أنحاء التقييد ببعض، على ما سبق الكلام فيه في

ص: 340

مبحث المعنى الحرفي.

والأمر لا يخرج عما ذكرنا من رجوع الشرط للهيئة المستلزم لكونه جزء من موضوع التكليف الذي يناط فعليته به. هذا و أما ما سبق في ذيل الكلام المتقدم من رجوع القيد للمادة بما هي منتسبة للفاعل، فلا يبعد كونه من سبق القلم وأن المراد بما هي منتسبة للمكلف كما يناسبه أصل المطلب وبعض فقرات كلامه، وما في فوائد الأصول في تقرير مراد بعض الأعاظم قدس سره في المقام.

ثم إنه كما يمكن تقييد الهيئة المفيدة للحكم بالشرط يمكن تقييدها بغيره، كالغاية التي يلزم من أخذها فيه ارتفاعه بحصولها، وكذا غيرها.

وربما يأتي في مبحث مفهوم الغاية ما ينفع في المقام.

ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

بقي شيء: حمل المأمور به على الإطلاق مع عدم القرينة

بقي شيء:

وهو أنه لا ريب ظاهراً في أنه إذا تمت مقدمات الحكمة في الخطاب لزم حمل المأمور به والمنهي عنه على الإطلاق، وأن الاشتراط يحتاج إلى قرينة خاصة وعناية في البيان مخرجة عن ذلك، كالتقييد في المفاهيم الاسمية الأفرادية. وكذا الحال في سائر قيود الهيئة من غاية أو نحوها.

وأما مع عدم تمامية مقدمات الحكمة وإجمال الخطاب أو الإهمال فيه، أو كون الدليل لُبياً، فمقتضى الأصل البراءة من التكليف مع فقد القيد المحتمل، بل مقتضى الاستصحاب عدمه، على ما أوضحناه في محله من مبحث البراءة.

ص: 341

نعم، مع الشك في التقييد بالغاية إذا أحرزت فعلية التكليف قبلها فمقتضى الاستصحاب بقاؤه بعدها بعد فرض عدم أخذه قيداً في متعلق الحكم، حيث يحرز حينئذٍ وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة، وعدم اختلاف موضوعيهما بالإطلاق والتقييد، على ما أوضحناه في محله من مبحث الاستصحاب.

ص: 342

المبحث الثاني في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى معلق ومنجز
اشارة

قسم صاحب الفصول قدس سره الواجب إلى معلق ومنجز، فالمنجز ما يكون زمانه متحداً مع زمان وجوبه، والمعلق ما يكون زمانه متأخراً عن زمان وجوبه، فيكون الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً.

وقد ذكر قدس سره هذا التقسيم للتنبيه على الفرق بين المعلق والمشروط بأن التكليف في المشروط غير فعلي، بخلافه في الأول فإنه فعلي، فهو من أقسام المطلق المقابل للمشروط.

وغرضه بذلك التمهيد لما يأتي إن شاء الله تعالى من ظهور الثمرة بين القسمين في المقدمات المفوتة، وهي التي يتعذر حصول الواجب في وقته إذا لم تحصل قبل الوقت، كالغسل من الحدث الأكبر لمن عليه الصوم في النهار، حيث لا إشكال في وجوبها قبل الوقت تبعاً لوجوب ذيها لو كان من المعلق.

وإنما ينحصر الإشكال في وجوبها لو كان وجوب ذيها مشروطاً غير فعلي قبل الوقت.

ص: 343

ومن هنا لا مجال لما أورده عليه المحقق الخراساني قدس سره من عدم الثمرة لهذا التقسيم، لعدم الفرق بين المعلق والمنجز في الغرض المهم بعد كون التكليف في كليهما حالياً، لأن الثمرة المذكورة مترتبة على إطلاق التكليف وفعليته المشترك بين القسمين، ولا يصح التقسيم إلا بلحاظ ترتب الثمرة على الفرق بين القسمين، وإلا لكثرت التقسيمات.

لاندفاعه: بأنه يكفي في صحة هذا التقسيم بيان الفرق بين المشروط والمعلق، وظهور الثمرة بلحاظه بعد خفائها.

نعم، كان الأنسب بصاحب الفصول قدس سره أن يجعل هذا التقسيم من لواحق تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط، لأنه تقسيم لأحد قسميه، - وهو المطلق -، وليس تقسيماً في مقابله.

كما أن شيخنا الأعظم قدس سره حيث أنكر رجوع الشرط للهيئة في المشروط والتزم برجوع جميع الشروط للمادة، أنكر الفرق بين المشروط والمعلق.

ومرجع كلامه إلى إنكار المشروط بالمعنى المشهور، لا إلى إنكار المعلق وإنما أراد من المشروط المعلَّق.

إذا عرفت هذا، فيقع الكلام..

تارةً: في إمكان المعلق ثبوتاً.

وأخرى: في الدليل عليه إثباتاً.

ص: 344

المقام الأول: في إمكان المعلّق

المقام الأول: في إمكان المعلق

حيث سبق في الوجه الثاني لمناقشة شيخنا الأعظم قدس سره في إنكاره رجوع الشرط للهيئة تقريب الفرق الارتكازي بين شروط الوجوب وشروط الواجب، يتضح أن الخصوصية الزمانية ونحوها من الخصوصيات المستقبلة إذا كانت دخيلة في تعلق الغرض بالواجب، بحيث لا حاجة إليه قبلها، فهي خارجة عن محل الكلام، حيث لا إشكال في دخلها في التكليف حينئذٍ ويكون من المشروط بالمعنى المتقدم.

أقسام المعلّق

وإنما الكلام، فيما إذا لم تكن الخصوصية دخيلة في تعلق الغرض بالواجب لو توقف تحقق الواجب عليها.. تارةً: لكونها من قيوده الشرعية الدخيلة في ترتب مصلحته عليه كالطهارة من الحيض التي يتوقف عليها الصوم الواجب بكفارة قد تحقق سببها حال الحيض.

وأخرى: لكونها ظرفاً للقدرة عليه، لتوقفه تكويناً على أمر استقبالي خارج عن الاختيار.

وثالثة: لتوقفه على مقدمات اختيارية تحتاج إلى زمن.

هذا، وصريح الفصول تعميم المعلق للصورة الأخيرة، وظاهر غير واحد ممن وافقه في إمكان المعلق أو خالفه خروجها عنه، مع اتفاق الكل ومفروغيتهم عن إمكانها ووقوعها وشيوعها، لوضوح أن الانبعاث للمقدمات إنما هو بسبب فعلية التكليف لذيها فدخولها في المعلق محض اصطلاح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

فالعمدة الكلام في الصورتين الأوليين اللتين تشتركان في توقف

ص: 345

المكلف به على أمر غير اختياري مع فرض تجدد القدرة عليه بعد ذلك، لتحقق ما يتوقف عليه في الزمن المستقبل، حيث يقع الكلام في أن ذلك هل يمنع من فعلية التكليف أو لا؟

ومرجعه إلى أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف زائداً على فعلية الملاك والغرض هل هي القدرة على المكلف به في وقته ولو كان هو الزمن المستقبل أو خصوص القدرة الفعلية حين فعلية التكليف؟

ثم إنه لا إشكال في أن البعث نحو الأمر الاستقبالي الموقوف على أمر غير اختياري لا يصح على الإطلاق وبلحاظ جميع المقدمات، بنحو يقتضي الداعوية للانبعاث إليه من حيثيتها، حتى مع حيثية المقدمة غير الاختيارية، لاستحالة ذلك، والقائل بإمكان المعلق إنما يلتزم بإمكان البعث للأمر الاستقبالي من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية، بنحو يقتضي الانبعاث إليه في وقته بعد تحققها لا مطلقاً، كما فيما تكون جميع مقدماته اختيارية.

وجوه المنع من المعلق

ومنه يظهر أنه لا مجال للمنع من المعلق..

تارةً: لقبح التكليف بما لا يطاق.

وأخرى: لأن الغرض من التكليف جعل الداعي العقلي لموافقته، ومع تعذر موافقته يمتنع تحقق الداعي إليها، فيلغو جعل التكليف والخطاب به، لتخلف غرضه.

لوضوح أن الوجهين المذكورين إنما يتوجهان لو كان المدعى فعلية التكليف في المقام بالنحو المقتضي للداعوية على الإطلاق حتى مع حيثية المقدمة المذكورة، حيث يقبح مع فرض تعذر الانبعاث، ويكون لاغياً لتخلف غرضه.

ص: 346

أما حيث كان المدعى أن فعلية التكليف إنما تقتضي الانبعاث للمكلف به في وقته الذي يقدر عليه فيه، لأن ذلك هو الغرض منه، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق، ولا يكون لاغياً.

دعوى: عدم إمكان التفكيك بين مقدمات التكليف في الداعوية ودفعه

نعم، قد يدعى أن داعوية التكليف لتمام مقدماته ارتباطية، فلا يمكن التفكيك بينها في الداعوية. ولذا سبق منا في رد ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في الواجب المشروط امتناع تعلق التكليف بالمقيد من دون أن يقتضي التكليف بتحصيل القيد المقدور.

كما لا إشكال في أن تعذر بعض مقدمات الواجب رأساً مانع من التكليف به بنحو يقتضي تحصيل باقي المقدمات، بل يسقط رأساً.

لكنه يندفع: بأن المنشأ في الارتباطية المذكورة أن فعلية تعلق غرض المولى بالشيء المستتبعة لتحصيله بالتكليف به تقتضي الداعوية لتمام مقدماته التي يتوقف عليها حصوله.

وهو إنما يقتضي الداعوية لتمام مقدماته في ظرف القدرة عليها، ولا ينافي عدم الداعوية إليها في ظرف تعذرها، لأن ذلك لا يرجع لقصور في داعوية التكليف، بل للمانع من فعليتها.

وأما سقوط التكليف بتعذر بعض مقدماته فلأن تعذر المقدمة رأساً مستلزم لتعذر المكلف به فيمتنع التكليف به، لما سبق من قبح التكليف بما لا يطاق ولغويته، ولا معنى للتكليف به لأجل باقي مقدماته، لأن تعلق الغرض بالمقدمات وداعوية التكليف إليها في طول تعلق الغرض بذيها وداعوية التكليف، فمع امتناع داعوية التكليف إليه لتعذره لا موضوع للداعوية إليها، بل يتعين سقوط التكليف.

ص: 347

وهذا بخلاف المقام المفروض فيه تحقق المقدمة غير الاختيارية في المستقبل المستلزم للقدرة على المكلف به حينئذٍ، فلا يقبح التكليف به ولا يكون لاغياً، وإذا صدر التكليف كان صالحاً للداعوية للمكلف به في وقته، فيدعو في طول داعويته له إلى بقية المقدمات الدخيلة في ترتبه.

منافاة أخذ القدرة في التكليف للمعلق

هذا، وقد يستدل لامتناع المعلق بأن التكليف إنما ينتزع من الإرادة التشريعية، وهي لا تكون إلا مع فعلية القدرة على المكلف به، ليمكن معها السعي إليه بتهيئة المقدمات، نظير الإرادة التكوينية التي لا تكون فعلية القدرة على المراد، ولذا عرفت بأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد.

المناقشة فيه

وفيه: - مضافاً إلى عدم وضوح توقف الإرادة التكوينية على فعلية القدرة، بحيث لا تتعلق بالأمر الاستقبالي، وإلى إمكان السعي نحو المعلق بتهيئة مقدماته الاختيارية - أنه لا مجال لقياس الإرادة التشريعية التي هي المعيار في التكليف بالإرادة التكوينية، حيث سبق في بيان حقيقة التكليف اختلافهما سنخاً، وأن الإرادة التشريعية متقومة بالخطاب بداعي جعل السبيل المستتبع لحدوث الداعي العقلي للإطاعة، وعدم صحة الخطاب في المقام بنحو يدعو للمكلف به من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية أول الكلام.

ومن هنا لم يتضح بعد ملاحظة كلماتهم في المقام والتأمل فيما ذكرنا ما ينهض بإثبات امتناع المعلق عقلاً.

نعم، قد يدعى لغوية البعث بالتكليف الفعلي ارتكازاً في ظرف تعذر الواجب وامتناع السعي إليه ولو بالشروع في مقدماته، حيث لا يكفي في

ص: 348

فعلية التكليف بالشيء فعلية تعلق الغرض به، ما لم يكن للتكليف به بالبعث إليه دخل في إحداث الداعي للسعي له.

الفرق بين المعلق ذي المقدمات غير الاختيارية وذي المقدمات الاختيارية

وبذلك يظهر الفرق بين المعلق الذي يتوقف على أمر غير اختياري، وغيره مما كانت جميع مقدماته اختيارية تحتاج إلى زمن، فإنهما وإن اشتركا في كون الواجب استقبالياً يتعذر تحصيله فعلاً، إلا أن إمكان السعي للثاني بالشروع في مقدماته كافٍ في الفرق بينه وبين الأول ارتكازاً ورفع لغوية التكليف به.

لكنه لا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد الاكتفاء في رفع اللغوية بإحداث الداعي لفعل الواجب في وقته.

ولاسيما مع أن المعلق إنما يتعذر السعي إليه من حيثية مقدمته غير الاختيارية، دون بقية المقدمات، سواءً كانت موسعة يتأتى فعلها بعد وقت الواجب - كالوضوء والتستر للصلاة - أم لا، كالمقدمات المفوتة التي لا إشكال في صلوح التكليف للداعوية إليها وفي لزوم تحصيلها، ولا يتضح مع ذلك لغوية فعلية التكليف بالمعلق.

بل لو كان لزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل الوقت موقوفاً على فعلية التكليف لكان وضوح لزوم تحصيلها كافياً في استيضاح فعليته، وفي إمكان المعلق ووقوعه، بل شيوعه.

إلا أنه حيث يأتي - إن شاء الله تعالى - عدم توقفه على ذلك إفتقر إثبات فعلية التكليف بالمعلق وعدم لغويته للرجوع للوجدان فيها بنفسها.

ولا يبعد قضاء الوجدان بها، كما قد يوضحه قياس التعذر حين حدوث التكليف بالتعذر بعد حدوثه، كما لو تعذرت بعض مقدمات الصلاة

ص: 349

بعد دخول وقتها بنحو يستلزم تأخيرها مدة في ضمن الوقت، أو تعذر قضاء الصلاة والصوم الثابتين في الذمة في وقت خاص لطاريء من حيض أو نفاس أو نحوهما.

فإن الالتزام بعدم فعلية التكليف في ذلك وسقوطه بالتعذر وتجدده بتجدد القدرة بعيد جداً عن المرتكزات، والفرق بين الحدوث والبقاء أبعد عنها.

وبالجملة: بعد عدم نهوض ما ذكروه بالاستدلال على امتناع المعلق عقلاً وإمكانه، فمرجع حديث اللغوية وعدمها إلى الرجوع للوجدان والتأمل في المرتكزات العرفية، وهي لا تثمر إلا قناعات شخصية غير قابلة للاستدلال والإلزام، إلا بنحو من التقريب للوجدان وتنبيه بعض التنظيرات ونحوها.

والظاهر - بعد التأمل في ذلك - عدم لغوية التكليف بالمعلق وإمكانه ووقوعه، بل شيوعه، لما ذكرنا، فلاحظ.

تنبيهان:

تنبيهان:

الأول: كفاية إحراز القدرة بأصالة السلامة في المعلق

الأول: حيث سبق عدم الإشكال في اعتبار أصل القدرة في التكليف، وأن البناء على إمكان المعلق راجع للاكتفاء بالقدرة الاستقبالية، فلو قيل به في مورد كانت فعلية التكليف مع التعذر الفعلي منوطة ثبوتاً بتحقق القدرة عليه في المستقبل، وإثباتاً بإحرازها بالعلم أو بطريق معتبر، ومنه أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء، فيبنى لأجلها على فعلية التكليف ظاهراً، فيجب ترتيب آثارها عقلاً.

ص: 350

الثاني: عدم اختصاص ما ذكر بالواجب

الثاني: لا يختص ما ذكر بالواجب وان اقتصروا عليه في عنوان محل كلامهم - على ما هو ديدنهم في كثير من مباحث المقام - بل يجري في المستحب أيضاً، لأنه يشارك الواجب في اعتبار القدرة عليه من حيثية لغوية البعث نحو ما يتعذر تحصيله ويمتنع إحداث الداعي العقلي له، وإن لم يشاركه فيه من حيثية قبح التكليف بما لا يطاق، لفرض عدم ابتنائه على الإلزام المستتبع للإلزام والمؤاخذة.

كما يجري في المنهي عنه أيضاً، أما بلحاظ تعذر ترك المنهي عنه فلعين ما سبق في الواجب والمستحب، وأما بلحاظ تعذر فعله فلأن تعذر فعل الشيء يستلزم لغوية النهي عنه، لامتناع حدوث الداعي العقلي معه، ومثله الحال في الواجب بالإضافة إلى تعذر الترك، كما لا يخفى.

وحينئذٍ يجري الكلام السابق في أن المعتبر هو القدرة الفعلية أو ما يعم القدرة في المستقبل.

هذا، وأما اشتراط نفس الحكم فعدم اختصاصه بالوجوب وجريانه في جميع الأحكام التكليفية بل الوضعية ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

المقام الثاني: في إحراز المعلق إثباتاً

المقام الثاني: في إحراز المعلق

وحيث كان المعيار فيه فعلية التكليف مع تعذر الواجب فلابد فيه من إحراز فعلية التكليف، ولو بإطلاق دليل الخطاب به.

ولو كان مقتضى الإطلاق عدم تقييد التكليف ولا الواجب لكن علم بتقييد أحدهما فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أن اللازم البناء على رجوعه للواجب الذي هو مفاد المادة، دون الوجوب الذي هو مفاد الهيئة، واستدل

ص: 351

على ذلك بوجهين. والظاهر عدم تماميتهما، وإن لم يسع المقام إطالة الكلام فيهما.

بل يتعين التوقف للعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين المانع من حجية كل منهما.

بل لو كان القيد مذكوراً في الكلام وتردد بين الأمرين كان مانعاً من انعقاد كلا الإطلاقين، لأن إحتفاف الكلام بما يصلح للقرينة مانع من انعقاد الإطلاق، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الأولية، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد، ومبحث الظواهر.

ما ذكره في الفصول من رجوع ظرف الزمان للواجب

نعم، ذكر في الفصول أن مقتضى القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمادة دون الهيئة المستلزم لكون الواجب معلقاً، قياساً على ظرف المكان، فكما أنه إذا قيل: صلِّ في المسجد، أو فوق السطح، كان ظاهراً في رجوع القيد للواجب مع إطلاق الوجوب، فيجب تحصيله مقدمةً للامتثال، كذلك إذا قيل: صم غداً، أو سافر في شهر رجب، كان ظاهراً في إطلاق الوجوب وفعليته قبل تحقق الخصوصية الزمانية، وكون القيد راجعاً للواجب، وإن لم يجب تحصيله، لخروجه عن الاختيار وكأنه لاتحاد هيئة ظرفي الزمان والمكان ارتكازاً المقتضي لاتحاد مفادهما ومتعلقهما في الكلام.

وبهذا فرق قدس سره بين ما إذا كانت الخصوصية الزمانية أو غيرها مأخوذة بلسان الظرف، وما إذا كانت مأخوذة شرطاً في جملة شرطية، حيث يتعيَّن رجوعها في الثاني للتكليف الذي هو مفاد الهيئة بمقتضى القواعد العربية، على ما سبق توضيحه في الواجب المشروط.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بالفرق بين ظرف الزمان وظرف المكان، لا من جهة

ص: 352

اختلاف مفاد هيئتيهما وضعاً، فإنه بعيد جداً بعدما سبق، بل لأنه لا معنى لظرفية المكان للحكم بل لا تكون ظرفية المكان من شؤون الحكم إلا بتأويل القضية الظرفية بقضية شرطية يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف، بأن يرجع قولنا: صلِّ في المسجد - مثلاً - إلى قولنا: صلِّ إن كنت في المسجد، وهو تكلُّف مستبعد، فكان الأولى صرف الظرفية للمكلف به، بأن يكون الظرف متعلقاً به وقيداً له، فمرجع قولنا: صلِّ في المسجد، إلى قولنا: صلِّ صلاة واقعة في المسجد.

أما ظرفية الزمان فكما يمكن رجوعها للمكلف به يمكن رجوعها للحكم، فيتعين البناء على رجوعها إليه لو كان هو مقتضى الظهور الأولي، كما هو الظاهر.

ولذا كان هو ظاهر التركيب لو كانت الخصوصية الزمانية اختيارية، كما لو قيل: صل حين دخولك المسجد، أو وقت سفرك.

ومن ثَمَّ لا يكون التكليف فعلياً قبل تحقق الخصوصية، ولا يجب تحصيلها مقدمة لامتثاله.

وبعبارة أخرى: مقتضى الظهور الأولي للكلام رجوع الظرف - مطلقاً زماناً كان أو مكاناً - للحكم، وحيث لا ملزم بالخروج عن ذلك في ظرف الزمان كان هو مقتضى الظهور الفعلي، ولذا لا يجب تحصيل الخصوصية الزمانية لو كانت اختيارية.

أما في ظرف المكان فلابد من الخروج عنه، لإمتناع ظرفية المكان للحكم، حيث يكون ذلك قرينة عامة على إرجاعها للمكلف به بعد كونه أقرب عرفاً من تنزيل مفاد القضية الظرفية على مفاد القضية الشرطية التي

ص: 353

يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف.

ثم إن ما ذكره قدس سره من اقتضاء القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمكلف به - لو تم - لا يقتضي كون الواجب معلقاً إلا بضميمة إحراز فعلية الوجوب الذي لا دليل عليه إلا إطلاق الهيئة، والتمسك به فرع إمكان الواجب المعلَّق، كما جرى عليه هو قدس سره.

أما لو كان ممتنعاً لدعوى اللغوية أو غيرها من المحاذير العقلية الارتكازية، فيكون ذلك قرينة عامة صارفة عن مقتضى الإطلاق، ولا يصلح الإطلاق للدلالة على إمكانه، لتوقف الإطلاق على عدم القرينة العامة الصارفة عن مقتضاه.

بخلاف ما سبق من اقتضاء القواعد العربية رجوع الشرط في الشرطية للهيئة، فإنه ظهور نوعي ارتكازي مستند للوضع لا يمكن عادةً قيامه على ما هو ممتنع في نفسه.

ولذا سبق منا الاستدلال به على إمكان تقييد الهيئة، وأنه يكشف عن خلل في وجه المنع إجمالا لو لم يتضح تفصيلاً، فهو كالشبهة في مقابل البديهة، فلاحظ.

ص: 354

المبحث الثالث في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى نفسي وغيري
اشارة

قسم الأصوليون الواجب إلى القسمين المذكورين، بسبب تعرضهم لذلك في مباحث الأوامر، واهتمامهم بخصوص الوجوب منها.

مع أنه لا إشكال في جريانه في المستحب.

بل الظاهر جريانه في الجملة في المحرم والمكروه، على ما يتضح في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.

وهم وإن اختلفوا في تعريف كل من القسمين، إلا أن خلافهم ليس للخلاف في مصاديق كل منهما، بل في التعريف المطابق لها.

ولعل الأولى أن يقال: الأمر بالشيء إن كان لمقدميته لمأمور به فهو غيري، وإلا فهو نفسي، سواءً كان مسبباً عن حسن ذلك الشيء ذاتاً أم عرضاً، بلحاظ المصالح المترتبة عليه التي لا تكون بنفسها مورداً للتكليف.

وكذا الحال في النهي، فهو إن تعلق بالشيء لمقدميته لمنهيٍ عنه كان غيرياً، وإلا كان نفسياً.

والأمر سهل بعدما ذكرنا من أن النزاع في التعريف لا في المعرف.

ص: 355

هذا، والأمر والنهي الغيريان إنما يكونان منشأً لانتزاع التكليف الغيري المولوي بناءً على ثبوت الملازمة بين التكليف بالشيء والتكليف بمقدمته الذي يأتي الكلام فيه في مباحث الملازمات العقلية إن شاء الله تعالى.

وحيث يأتي هناك عدم ثبوت الملازمات المذكورة وأن المقدمة إنما تجب أو تحرم عقلاً لا شرعاً فلا تكليف غيري.

وأمر المولى بمقدمة المأمور به ونهيه عن مقدمة المنهي عنه لو صدر لا يكون بداعي التكليف، بل بداع آخر، كالإرشاد للإطاعة، أو لبيان المقدمية.

هل ظاهر الأمر والنهي مع التجريد عن القرينة يحمل على النفسي أم لا؟

إذا عرفت هذا، فيقع الكلام في أن ظاهر الأمر والنهي لو جردا عن القرينة هل يقتضي الحمل على كونهما نفسيين أو لا بل لا دافع لاحتمال كونهما مقدميين، سواء قلنا بثبوت التكليف الغيري للبناء على الملازمة، أم لم نقل، على ما سبق.

ما ذكره الخراساني قدس سره

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أن مقتضى إطلاق الصيغة كون التكليف نفسياً، لما هو المعلوم من توقف التكليف الغيري بالمقدمة على فعلية التكليف النفسي بذيها، فلا يصح البعث إليها إلا مقيداً بذلك، وهو خلاف إطلاق الصيغة.

ولا يخفى أن ذلك لا يتجه لو احتمل كون الأمر أو النهي لبيان المقدمية، لوضوح أن المقدميَّة لو كانت لا تختص بحال دون حال، فيصح إطلاق البعث الوارد لبيانها، ولا تنافي إطلاق الصيغة.

إلا أن يُدفع الاحتمال المذكور بأن سَوق الأمر والنهي لبيان المقدمية

ص: 356

من سنخ الكنايات التي لا يحمل الكلام عليها إلا بالقرينة، لما تقدم من وضع صيغة الأمر والنهي للنسبة البعثية أو الزجرية، أو يدّعى خروج الاحتمال المذكور عن محل الكلام، وأن الكلام في فرض صدور الأمر والنهي بداعي البعث والزجر، مع التردد في حالهما وأنهما نفسيان أو غيريان.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

فالعمدة في المقام: أن الوجه المذكور إنما يتم لو كانت الغيرية مستلزمة لتقييد البعث أو الزجر، لكون التكليف النفسي الذي تحتمل المقدمية بالإضافة إليه مشروطاً بشرط غير حاصل ولا مذكور في الخطاب، كما لو أطلق طلب الوضوء - الذي يحتمل كونه غيرياً بالإضافة إلى طب الصلاة - بنحو يتناول ما قبل الوقت، دون ما لو كان مشروطاً بشرطٍ حاصلٍ أو مذكور في الخطاب، كما لو أُمِرَ بعد الوقت بالكون على طهارة، أو أُمِرَ به مشروطاً بالوقت، حيث لا ينفع الوجه المذكور، لعدم منافاة الغيرية لإطلاق البعث حينئذٍ، كما هو ظاهر.

المختار في المقام

فالأَولى أن يقال: إنه وإن لم يكن في ذلك مجال للإطلاق المقابل للتقييد، إلا أنه يمكن إثبات كون الأمر نفسياً بالإطلاق السياقي للأمر، فإن المستفاد عرفاً من إطلاق الأمر بالشيء كونه بنفسه مورداً للغرض، بحيث يدعو أمره له استقلالاً، ويحصل الغرض الأقصى من الأمر بالإتيان به، ويسقط التكليف به تبعاً لذلك بلا حاجة إلى ضم شيء إليه، كما هو الحال في المأمور به النفسي، بخلاف المأمور به الغيري، لوضوح أنه لا يدعو إلى متعلقه إلا في طول داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه، لأن الغرض منه في طول الغرض من المأمور به النفسي، فما لم يحصل المأمور به النفسي لا يسقط الأمر الغيري، إما لأن الأمر الغيري متعلق بخصوص المقدمة الموصلة -

ص: 357

كما هو الظاهر - أو لتوقف حصول الغرض الأقصى منه على ذلك، بنحو يكون سقوط الأمر بامتثاله مراعىً بحصوله، وهو خلاف المنسبق من الأمر ارتكازاً.

نعم، هذا الوجه كسابقه إنما يحرز كون الأمر نفسياً، ولا ينفي احتمال كون متعلقه مأموراً به غيرياً أيضاً، لكونه قيداً في الواجب النفسي، لإمكان اجتماع الجهتين في أمرٍ واحدٍ كصلاة الظهر المطلوبة نفسياً، وغيرياً بالإضافة إلى العصر، لأنها من قيودها، لوجوب الترتيب بينهما، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا إطلاق دليل ذلك الواجب لو كان.

هذا كله في غير المسببات التوليدية التي لا تنفك عن أسبابها، ولا تنفك أسبابها عنها، كالوضوء والطهارة، فلو ورد الأمر بالسبب، وتردد بين مطلوبيته لنفسه ومطلوبيته غيرياً لأجل مطلوبية مسببه، فلا أثر عملي للشك المذكور، لا في السبب، لفرض ترتب غرضه عليه مطلقاً بسبب عدم انفكاكه عن مسببه، ولا في المسبب، لفرض عدم انفكاكه عن سببه، ليحتاج إلى تقييده به، فلا ينهض إطلاق كل منهما بإثبات أحد الأمرين أو نفيه.

نعم، قد يشعر التعبير بالسبب بمطلوبيته بعنوانه الأولي، لا الثانوي المنتزع من ترتب مسببه عليه. لكنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة. ولعله خارج عن محل الكلام، فلاحظ.

الكلام مع عدم إطلاق دليل الخطاب وله صور ثلاث

هذا كله مع ثبوت إطلاق لدليل الخطاب بالشيء وبما يحتمل مقدميته له، أما مع عدمه فالصور مختلفة.

مثلاً: إذا علم بوجوب الوضوء إما نفسياً أو غيرياً لمقدميته لقراءة القرآن بسبب تقييد الواجب منها به.

ص: 358

فتارةً: يعلم بعدم وجوب القراءة فعلاً.

وأخرى: يعلم بوجوبها.

وثالثة: يشك فيه.

لا إشكال في جريان البراءة في الصورة الأولى من وجوب الوضوء، للعلم بعدم فعلية وجوبه غيرياً بسبب عدم وجوب القراءة، فالشك في وجوبه نفسياً متمحض في الشك في التكليف الاستقلالي الذي هو مجرى البراءة بلا إشكال.

نعم، لو علم بوجوب القراءة بعد ذلك جرى حكم الصورة الثانية على ما يأتي توضيحه.

وأما الصورة الثانية فمرجعها إلى العلم بوجوب القراءة في الجملة إما مطلقةً أو مقيدةً بالوضوء، مع العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسياً أو تقييد القراءة الواجبة به، وحيث كان في كلٍ منهما زيادة كلفة مقتضى البراءة عدمها كان العلم الإجمالي المذكور منجزاً لكلا طرفيه، فيجب الفراغ عنهما بتقديم الوضوء على القراءة والإتيان بها حاله، ولا يُكتفى بالوضوء الذي لا تتحقق به القراءة عن طهارة، كما لو وقع بعدها أو تخلل بينهما الحدث.

ودعوى: جواز الاقتصار على الوضوء من دون محافظة على قيديته للقراءة، لأن العلم الإجمالي المذكور يستلزم العلم بوجوب الوضوء تفصيلاً وإن تردد بين كونه نفسياً وغيرياً، فينحل به العلم الإجمالي، ولا يكون منجزاً لاحتمال قيديته للقراءة.

مدفوعة: بأن وجوب الوضوء غيرياً كما يتفرع ثبوتاً على وجوب القراءة المقيد به نفسياً يتفرع عليه في مقام التنجيز، لما أشرنا إليه آنفاً من

ص: 359

تفرع داعوية الأمر الغيري المتعلقة على داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه، وأنها في طولها، فلا يتنجز وجوب الوضوء على كل حال إلا بتنجز احتمال وجوبه غيرياً الموقوف على تنجز احتمال وجوب القراءة المقيدة به بسبب العلم الإجمالي، فلا يكون مانعاً من تنجزه.

وبعبارة أخرى: العلم بوجوب الوضوء على كل حال لا يكون منجزاً له إلا بمنجزية كل من احتمالي وجوبه النفسي والغيري، وحيث كان تنجز احتمال وجوبه الغيري متفرعاً على تنجز احتمال الوجوب النفسي للقراءة المقيدة به لا يكون مانعاً منه.

ونظير المقام ما لو عُلِمَ إجمالاً بوجوب الوضوء نفسياً أو الصلاة المقيدة به، حيث لا مجال لدعوى انحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب الوضوء على كل حال إما نفسياً أو غيرياً، فيجتزأ به ولا يؤتى بالصلاة لعين ما ذكر.

هذا، وحيث كان التحقيق منجزية العلم الإجمالي في التدريجات يظهر أنه لا يعتبر العلم بفعلية وجوب القراءة في الحال، بل يكفي العلم بفعلية وجوبها بعد ذلك، المستلزم للعلم الإجمالي بأحد الأمرين من وجوب الوضوء نفسياً في الحال، ووجوب القراءة المقيد به بعد ذلك، فيتنجز كل منهما، كما أشرنا إليه في الصورة الأولى.

وأما الصورة الثالثة فحيث لا يعلم فيها بوجوب نفسي في الحال، لا للوضوء، لاحتمال كون الأمر به غيرياً، ولا للقراءة بالفرض المستلزم لعدم العلم بفعلية وجوب الوضوء الغيري فلا مانع فيها من الرجوع للبراءة من كلٍ من التكليفين.

ومجرد العلم بأنه لو وجبت القراءة في الحال لكان الوضوء واجباً

ص: 360

فعلاً نفسياً أو غيرياً لا يكفي في تنجز شيء من الأمرين بعد فرض عدم العلم بوجوب القراءة.

نعم، لو علِمَ بوجوبها بعد ذلك دخلت في الصورة الثانية، كما سبق.

وربما كانت في المقام صور أُخرى يظهر الحال فيها مما تقدم، ولا مجال لاستقصائها.

تذنيب: في استحقاق الثواب على الوجوب الغيري وعدمه

تذنيب:

أشرنا آنفاً إلى أن داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي، فلا بد في مقربية موافقته وتحقق الإطاعة بها من وقوعها بداعي امتثال الأمر النفسي، فتكون مقربيته بلحاظ كونه شروعاً في امتثال الأمر النفسي واستحقاق الثواب به بلحاظ ذلك، لا لكونه موجباً للاستحقاق بنفسه، لعدم قيام غرض به في قبال غرض الأمر النفسي. فزيادة الثواب به ليس لكونها عوضاً عنه في قبال عوضية أصل الثواب لامتثال الأمر النفسي، بل لامتثال الأمر النفسي بلحاظ طول مدة الاشتغال به، لما هو المرتكز من أن أفضل الأعمال أشقها.

نعم، ليس معنى استحقاق الزيادة به لزومها عقلاً على المولى، بحيث يكون حبسها ظلماً منه، نظير استحقاق الأُجرة على المؤجر. بل كون العبد أهلاً لها لقيامه بما هو موضوع للتعويض، ولذا يصدق عليها الثواب والأجر والجزاء على العمل.

وليست هي ابتداءٌ تفضل من المولى كتفضله بنعمة الخلق والرزق ونحوهما مما لا يصدق عليه الجزاء بل الظاهر أن ذلك هو مرجع الاستحقاق

ص: 361

على امتثال التكليف النفسي أيضاً، وليس هو لازماً على المولى، لأن لزومه لا يناسب وجوب الإطاعة على العبد، ولا هو ابتداء تفضل.

وقد يشير إلى الفرق بين الاستحقاق بالنحو الذي ذكرنا وابتداء التفضل قوله في الدعاء: «اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلَّ شيء».

ثم إنه تعرض غير واحدٍ في المقام لتوجيه اعتبار التقرب في الطهارات الثلاث، واستحقاق الثواب عليها بما لا مجال لإطالة الكلام فيه، وربما يفي البحث في الفقه ببعض ذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

ص: 362

المبحث الرابع في تقسيم المأمور به إلى تعييني وتخييري
اشارة

وموضوع هذا التقسيم في كلماتهم وإن كان خصوص الوجوب، إلا أنه ناشئ عن إهتمامهم به، وإلا فوضوح عمومه للاستحباب مانع من احتمال بنائهم على تخصيصه بالوجوب.

نعم، الظاهر عدم جريانه في النهي وإن جرى نظيره فيه على ما نتعرض له في ذيل هذا المبحث إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فالمراد بالمأمور به التعييني ما يتعلق به الأمر على نحو يقتضي تحقيقه بعينه من دون أن يقوم مقامه فيه بشيء آخر، كالصلاة والصوم والحج، وبالتخييري ما يتعلق به الأمر بنحو يقتضي الاجتزاء عنه بعدل له يقوم مقامه في امتثاله، كما في خصال الكفارة.

هذا، وحيث كان متعلق التكليف مطلقاً فعل المكلف الذي هو كلي ذو أفراد كثيرة يتحقق امتثاله بأي فردٍ منها من دون مرجح لبعض الأصناف أو الأفراد على بعض كان التكليف مطلقاً مبنياً على التخيير، لكن التخيير المذكور عقلي، ومحل الكلام التخيير الشرعي.

الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي

ومحصل الفرق بينهما: أن الغرض الداعي للتكليف إن كان قائماً بما

ص: 363

به الاشتراك بين الأطراف، بحيث يكون وافياً به، من دون دخل لما به الامتياز بينها فيه، بل هي مقارنة لموضوع الغرض لا غير، كان التكليف متعلقاً بما به الاشتراك بعينه، - وهو الجامع -، وكان التخيير بين الأطراف عقلياً، بملاك تحقق الإطاعة مع كلٍ منها، وقبح الترجيح من غير مرجح، من دون أن يستند للمولى، لأنه ليس من شؤون تكليفه.

وإن كان قائماً بما به الامتياز بينها على البدل - ولو بضميمة ما به الاشتراك - بحيث يكون لكلٍ منها دخل فيه حين وجوده لزم تعلق التكليف بها على نحو وفائها بالغرض، ويكون التخيير بينها شرعياً، لتبعيته لنحو تكليفه بها. وهو محل الكلام في المقام.

ولو فرض تعذر الخطاب تعييناً بالجامع في الأول لعدم إدراك العرف له تعين الخطاب بأفراده تخييراً.

لكن لا يكون التخيير شرعياً وإن أصر عليه بعض الأعاظم قدس سره، بل هو عقلي، لتبعية الحكم للملاك والغرض ثبوتاً، بل يكون الخطاب بالأفراد عرضياً للوصول بها للجامع الذي هو المكلف به ثبوتاً، ويكون التخيير عقلياً.

ما ذكره الخراساني قدس سره من المعيار في التخيير العقلي

ومن هنا ذكر المحقق الخراساني قدس سره أن التكليف التخييري لو كان ناشئاً عن غرضٍ واحد يقوم به كل واحد من الأطراف لزم كون التخيير عقلياً، لأن امتناع صدور الواحد عن المتعدد ملزم بكون الغرض الواحد مستنداً للجامع بين الأطراف من دون دخل لخصوصياتها المتباينة فيه، فيكون هو المكلف به تعييناً تبعاً للغرض المذكور، وليس ذكر الأطراف بخصوصياتها إلا لتعيينه وحصره، لا لقيام التكليف بها، ليكون التخيير شرعياً.

ص: 364

المناقشة فيه وتوجيه ما ذكره

لكن ما ذكره مبني على ما سبق منه في مبحث الصحيح والأعم من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر، وقد سبق هناك الإشكال في وجهه، وأنه قد أنكره غير واحدٍ.

مع أنه لا يتم لو اختلف نحو تأثير كلٍ منهما في الغرض الواحد، كما لو كان غرض المولى إعداد الطعام للأكل، ليرفع به الجوع، فأمر بشراء طعام مطبوخ أو طبخ طعام مملوك، فإن أثر الأول رفع المانع الشرعي من الانتفاع بالطعام، وأثر الثاني تحقيق شرطه الخارجي، وهما مختلفان ماهيةً، وإن اشتركا في الغرض الأقصى المذكور الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم، فلا مانع من اختلاف مؤثر كلٍ منهما من دون أن يستند لجامعٍ واحد.

وكالتأديب والردع الذي يكون بمثل الصوم الموجب للألم البدني، وبمثل الصدقة والعتق الموجبين للخسارة المالية، مع عدم الجامع الماهوي بين الأثرين المذكورين.

اللهم إلا أن يكون ذلك خارجاً عن فرض وحدة الغرض في كلامه وداخلاً في فرض تعدده، الذي يكون التخيير فيه شرعياً عنده، بأن يريد من الغرض الأثر المباشر لكلٍ منهما الذي يراد من كل منهما في طول الغرض الأقصى، والمفروض تعدده فيهما وإن اشتركا في الغرض الأقصى المترتب بالواسطة، ولا يدخل في وحدة الغرض في مفروض كلامه إلا ما إذا اشتركا حتى في الغرض المباشر، كما لو خير في الفرض بين شراء الطعام واستيهابه، حيث يكون الغرض منهما والأثر المباشر لهما رفع المانع الشرعي.

لكنه بعيد جداً عن ظاهر كلامه، حيث جعل مورد التخيير الشرعي ما إذا تعدد الغرض وإمتنع حصول غرض كلٍ منهما في ظرف حصول غرض

ص: 365

الآخر، مع وضوح عدم امتناع حصول كلا الغرضين المستندين لكلا الطرفين بالمباشرة في المثال المتقدم، فلو لم يدخل في صورة وحدة الغرض لكانت القسمة غير مستوعبة، وهو بعيد.

ومن هنا كان الظاهر أن مراده بالغرض هو الغرض الأقصى الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم، والذي قد يكون واحداً، كما في المثال السابق، وقد يكون متعدداً يمتنع حصول أكثر من واحد منه، كما لو احتاج إلى استعمال دواء ينفع بصره وآخر ينفع سمعه، وكان استعمال أحد الدوائين مانعاً من تأثير الآخر وإن أمكن استعماله معه، فيتعين عليه الأمر بالإتيان بأحدهما تخييراً.

ما استشكله العراقي قدس سره في التخيير الشرعي مع تعدد الغرض ودفعه

نعم، استشكل بعض المحققين قدس سره في كون التخيير شرعياً مع تعدد الغرض وتعذر استيفاء أكثر من غرض واحد، بأن مرجع ذلك إلى التزاحم الملاكي، والتخيير فيه عقلي كالتخيير في التزاحم بين التكليفين المتساويين في الأهمية في مسألة الضد.

لكنه يندفع: بأنه مرجع التخيير العقلي في التزاحم بين التكليفين والتزاحم الملاكي - لو تم - إما إلى حكم العقل بالتخيير في قبال لزوم الجمع أو ترجيح أحد المتزاحمين بعينه واكتفاء الشارع بذلك من دون أن يتصدى للتخيير في مقام الجعل، أو إلى إدراك العقل تخيير الشارع في مقام الجعل جمعاً بين قدرة المكلف وقبح الترجيح بلا مرجح، من دون حاجة إلى بيان شرعي.

أما مرجع التخيير العقلي في المقام فهو التخيير في مقام الامتثال للتكليف بالقدر الجامع الذي يفي بالغرض من دون دخل للخصوصيتين

ص: 366

في المكلف به والغرض، ولو بنحو البدلية، في قبال التخيير الشرعي التابع لدخل الخصوصيتين في المكلف به بنحو البدلية تبعاً لدخلهما في الغرض - كما سبق - وإن كان التخيير الشرعي بالمعنى المذكور عقلياً بالمعنى الأول الراجع لحكم العقل بالتخيير أو إدراكه تخيير الشارع، لأن ذلك لا يستلزم عدم دخل الخصوصيتين في الغرض والمكلف به، بل هو يبتني على ذلك.

ما استشكله السيد الخوئي قدس سره

كما استشكل فيه بعض مشايخنا..

تارةً: بما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره - أيضاً - من أن تعدد الغرض بالنحو المذكور مستلزم لتعدد العقاب في صورة العصيان وعدم استيفاء كلا الغرضين، لتفويت كل منهما في ظرف القدرة على تحصيله لعدم الانشغال بالآخر.

وأخرى: بأن التضاد بين الغرضين إن رجع إلى أن سبق تحصيل أحدهما مانع من تحصيل الآخر مع إمكان تحصيلهما معاً دفعةً واحدة لزم على المولى الأمر بالإتيان بالطرفين دفعةً واحدة محافظةً على كلا الغرضين الإلزاميين.

وإن رجع إلى تعذر الجمع بينهما مطلقاً ولو مع الإتيان بالطرفين دفعة واحدة لزم عدم الامتثال بالإتيان بالطرفين دفعة واحدة، لامتناع وجود أحد الغرضين معه، لأنه بلا مرجح.

المناقشة فيه

لكن الأول يبتني على أن المعيار في تعدد العقاب على تعدد الغرض الفائت لا على قدرة المكلف على الجمع بين الغرضين، ويأتي في بحث الترتب إن شاء الله تعالى أن الحق الثاني.

وأما الثاني فهو يندفع: بأنه لما كان مقتضى الإطلاق تحقق الامتثال

ص: 367

بالجمع بين الطرفين كشف عن مرجح لأحدهما يقتضي تحقق الامتثال به عند الإتيان بهما دفعة، لأنه أسبق تأثيراً في غرضه من الآخر، فيمنع من تأثير الآخر في غرضه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من استبعاد التزاحم بين الغرضين مع القدرة على الجمع بين الفعلين، وأنه من باب فرض أنياب الأغوال.

فهو استبعاد خالٍ عن المنشأ، إذ لا إطلاع لنا على خصوصيات ملاكات الأحكام الشرعية، ولاسيما مع قرب وقوعه في الأمور العرفية.

نعم، لا ملزم في فرض تعدد الإغراض بالتزام تعذر تحصيل أكثر من غرض واحد، حيث قد يكون منشأ التخيير مع تعدد الغرض وإمكان تحصيل الجميع وجود المانع من الإلزام بالجمع بين الأغراض، كالحرج النوعي، ومصلحة الإرفاق بالمكلف ونحوهما مما لا يتوقف على تعذر الجمع وبه لا يبقى موضوع للاستبعاد، لشيوع ذلك كثيراً، ولا للإشكالين المتقدمين من بعض مشايخنا.

إذ لا يكون كل منهما بنفسه غرضاً مستقلاً، بل ليس هناك إلا غرض واحد متعلق بهما بدلاً، فلا يفوت بتركهما معاً إلا غرض واحد فليس عليه إلا عقاب واحد.

كما لا مانع حينئذٍ من ترتب غرض كل منهما عند الجمع بينهما دفعةً أو تدريجاً وإن لم يكن لازماً.

دعوى: رجوع الغرضين إلى غرض واحد ودفعها

ودعوى: أن ذلك راجع إلى وحدة الغرض، وهو أحد الأمرين، لأن المراد بالغرض ليس مجرد المقتضي للتكليف، المفروض تعدده في المقام، بل ما يبلغ مرتبة الفعلية بلحاظ سائر الجهات الدخيلة في الملاك، ومنها مثل

ص: 368

مصلحة الإرفاق، وبلحاظ ذلك لا يكون الملاك إلا أحد الأمرين.

مدفوعة: بأن أحد الأمرين ليس عنواناً جامعاً حقيقياً ماهوياً، لتكون وحدته مستلزمة لوحدة المؤثر - بناءً على ما سبق من المحقق الخراساني قدس سره وهو الجامع بين الأطراف، كي يكون هو المكلف به، ويكون التخيير عقلياً، بل هو جامع انتزاعي يحكي عن كل من الغرضين بخصوصيتيهما المتباينتين، فالغرض الفعلي هو أحدهما على البدل، فلا يستلزم وحدة المؤثر وهو الجامع بين طرفي التخيير، بل يكون التخيير شرعياً بين الطرفين بخصوصيتيهما المؤثرين للغرضين بخصوصيتيهما.

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن التخيير الشرعي بالمعنى المتقدم لا يتوقف على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من تعذر الجمع بين الغرضين، بل يجري معه ومع إمكان الجمع بينهما. كما لا يتوقف على ما ذكره من تعدد الغرض، بل يجري مع وحدته أيضاً.

الكلام في حقيقة الوجوب الغيري على أقوال

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في حقيقة الوجوب التخييري على أقوال قد تظهر الثمرة بينها في فرض الشك في كون الوجوب تخييرياً، على ما تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويجري نظيرها في الاستحباب التخييري وإن كان خارجاً عن عنوان كلامهم.

الأول: ما يظهر من الخراساني قدس سره

الأول: ما يظهر من من المحقق الخراساني قدس سره من أنه سنخ خاص من الوجوب مباين للوجوب التعييني سنخاً ثابت لجميع أطراف التخيير، فلكل منها وجوبه الخاص به، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على فعل الواحد منها والعقاب بتركها بتمامها، لا أن

ص: 369

الوارد عليها بمجموعها وجوب واحد يقتضي التخيير بينها في مقام العمل.

ولعله راجع إلى ما أوضحه بعض الأعيان من المحققين قدس سره ونسبه المحقق القمي في حاشيته على المعالم من أن الوجوب التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة لمتعلقه لا تقتضي وجوده إلا في ظرف عدم الآخر، بخلاف الطلب التعييني، فإنه طلب تام ناشئ عن إرادة تامة لمتعلقه تقتضي وجوده مطلقاً ومن جميع الجهات.

المناقشة فيه

ويشكل: بعدم وضوح الفرق بين التكليف التعييني والتخييري سنخاً، كعدم وضوح تعدد التكليف التخييري بعدد الأطراف، وعدم تعقل الطلب الناقص والإرادة الناقصة، بل الإرادة والطلب مطلقاً يقتضيان تحقيق متعلقهما، وهما على نحوٍ واحد في التعييني والتخييري وليس التخيير ناشئاً من اختلاف سنخ الطلب، بل من اختلاف نحو تعلقه بمتعلقه.

هذا ما تقتضيه المرتكزات العرفية في المقام التي ينحصر المرجع في أمثاله بها.

الثاني: رجوعه إلى وجوب كل طرف تعييناً مشروطاً بعدم الآخر

الثاني: أنه راجع إلى وجوب كل طرف تعييناً، لكن وجوب كل منها مشروط بعدم فعل الآخر.

والظاهر أنه لا يُفرَق في ذلك بين وحدة الغرض وتعدده مع عدم التكليف بما يحصل الغرضين لتعذر إستيفائهما، أو للمانع من التكليف بالجمع بينهما، على ما سبق في بيان مورد التخيير الشرعي.

إذ مع وحدة الغرض لا ينحصر تحصيله بكل طرف إلا في ظرف عدم غيره فلا يدعو الغرض للتكليف به إلا مشروطاً بعدم حصول غيره، ومع تعدده لا يكون كل غرض فعلياً قابلاً للتكليف بما يحصِّله تعييناً إلا في ظرف

ص: 370

عدم حصول غيره، لعدم تحقق ما يحصِّله، فلا يدعو كل غرض للتكليف بما يحصِّله إلا مشروطاً بذلك.

دعوى: لزوم الجمع بين طرفين دفعةً واحدةً ودفعها

وأما دعوى: أن لازمه كون الجمع بين طرفين دفعةً واحدةً لتكليفين، لتحقق شرط فعليتهما معاً في ظرف موافقتهما، فيتحقق امتثالهما، ولازمه استحقاق المكلف ثوابين ولا يظن من أحد الالتزام بذلك، بل هو ارتكازاً كالجمع بين فردين من الماهية المأمور بها تعييناً، لا يستحق به إلا ثواب واحد.

فقد تندفع: بأن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل، أما مع وحدته، لوحدة الغرض الداعي للتكاليف أو لتعذر تحصيل أكثر من واحد منها، فلا مجال لتعدد الثواب، لتبعية الثواب للغرض لا للتكليف.

نعم، يشكل فيما إذا أمكن تحصيل جميع الأغراض وكان عدم الإلزام بالجمع بينها للمانع، لوضوح أنه مع فعلية التكليف بكل طرف لفعلية غرضه وحصوله بالامتثال لا وجه لوحدة الثواب.

الثالث: رجوعه إلى وجوب كل من الأطراف تعييناً مطلقاً

الثالث: أنه راجع إلى وجوب كل من الأطراف تعييناً مطلقاً، مع كون امتثال بعضها مسقطاً للتكليف بالباقي، حيث قد يسقط التكليف بغير الامتثال لارتفاع موضوعه ونحوه.

المناقشة فيه

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدم في سابقه من استلزامه تعدد الامتثال والثواب على ما فُصِّل - أنه مع إمكان استيفاء غرض الباقي وعدم المانع من بقاء التكليف به لا وجه لسقوطه، ومع تعذر استيفاء غرضه أو تحقق المانع من بقاء التكليف به - كالحرج النوعي - لا وجه لإطلاق التكليف به من أول

ص: 371

الأمر، بل لابد من تقييد التكليف به بالنحو المناسب لغرضه، نظير ما تقدم في الوجه الثاني، كما أورد به في الجملة المحقق الخراساني قدس سره.

هذا، مضافاً إلى أن ما يبتني عليه هذا الوجه وسابقه من تعدد التكليف المستلزم لتعدد الامتثال في ظرف الإتيان بالفعلين دفعةً واحدة - ولو مع وحدة الثواب - بعيد عن المرتكزات العرفية، تبعاً لظهور الأدلة اللفظية الظاهرة في وحدة التكليف مع التخيير في المكلف به، كما هو مفاد العطف ب (أو) أو نحوه، لا في تعدد التكليف، فلا مجال لارتكابه إلا مع امتناع الحمل على الظاهر المذكور. وربما يأتي لذلك توضيح في الوجه الخامس.

الرابع: أنه أحد الأطراف المعين عند الله تعالى

الرابع: أن المكلف به أحد الأطراف المعين عند الله تعالى، وهو الذي يأتي به المكلف في مقام الامتثال.

وهو وإن أمكن عقلاً لو أريد به ظاهره من تعين المكلف به ثبوتاً ابتداءً وليس إتيان المكلف بأحد الأطراف إلا كاشفاً عن كونه هو المكلف به في حقه والذي يفي بالغرض، حيث لا يلزم منه تبعية التكليف للامتثال، ولا عدم تعين المكلف به على تقدير عدم إتيان المكلف بشيءٍ من الأطراف أو جمعه بينها دفعة المستلزم لعدم التكليف.

وإنما يرد ذلك لو أريد استناد التعيين لفعل المكلف ثبوتاً، الذي هو خلاف ظاهر هذا القول.

المناقشة فيه

إلا أنه مخالف لظواهر الأدلة، ولما هو المقطوع به في حقيقة التكليف التخييري في العرفيات، فإن مقتضاهما عدم الفرق بين الأطراف في نسبة التكليف، وعدم الفرق بين أفراد المكلفين في المكلف به منها.

وكأن ذلك هو الذي أوجب وهن القول المذكور حتى قيل: إنه تبرأ

ص: 372

منه كل من المعتزلة والأشاعرة ونسبه إلى الآخر.

ومثله في ذلك ما قيل من أن الواجب أحد الأطراف المعين عند الله تعالى، ولا يتعين إثباتاً حتى بفعل المكلف، وإنما الآخر مسقِط له من دون أن يكون مكلفاً به في عرضه، نظير طلاق الزوجة المسقط لوجوب الإنفاق عليها.

مضافاً إلى ما يرد عليهما: من أن اللازم عدم وجوب الإتيان بالممكن منهما عند تعذر أحدهما، لعدم العلم بكونه مكلفاً به، وعدم وجوب فعل المسقِط عند تعذر المكلف به.

الخامس: رجوعه إلى التكليف بأحد الأمرين لا بعينه

الخامس: أن مرجعه إلى التكليف بأحد الأمرين لا بعينه من دون أن يكون لأحدهما اختصاص به في مقام الثبوت، خلافاً للوجه السابق، كما لا يختلف عن التعييني سنخاً، خلافاً للوجه الأول، ولا يكون متعدداً بعدد الأطراف، خلافاً للوجوه الثلاثة الأُوَلْ.

هذا وقد أشرنا إلى أن عنوان أحد الأمرين منتزع من الأمرين بخصوصيتيهما، ويحكى عنهما كذلك بنحو الترديد، من دون أن يحكي تعييناً عن جهة مشتركة بينهما، كما هو الحال في العناوين الذاتية - كالإنسان والحيوان - والعرضية الحقيقية - كالعالم - أو الاعتبارية - كالزوج - أو الانتزاعية - كالفوق - حيث تنتزع بأجمعها من جهة مشتركة بين الأفراد.

ومن هنا لا يكون عنوان أحد الأمرين بنفسه مورداً للغرض ولا للإرادة ولا للتكليف، بحيث يكون هو المكلف به تعييناً ويكون التخيير بين الأطراف عقلياً، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.

وحينئذٍ لا مجال لإرجاع هذا الوجه إليه، المستلزم لعدم الفرق بين

ص: 373

التخييري والتعييني إلا في المتعلق، حيث يكون متعلق التعييني عنواناً منتزعاً من جهة مشتركة بين الأطراف، ومتعلق التخييري عنوان أحدها.

ما ذكره السيد االخوئي قدس سره والمناقشة فيه

وما ذكره بعض مشايخنا من إرجاع التكليف التخييري لذلك لدعوى أن الوجوب لما كان أمراً اعتبارياً أمكن تعلقه بالعناوين الانتزاعية، كما ترى! لأنه مع عدم وجود منشأ انتزاع للعنوان لا يكون موطناً للغرض، ليكون مورداً للتكليف.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من إمكان التكليف بالمفهوم المذكور وإن لم يكن له منشأ انتزاع موجود في الخارج.

رجوع الوجه المذكور إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما

هذا مضافاً إلى أن عنوان أحد الأمور كثيراً ما لا يؤخذ في موضوع التكليف التخييري، بل يرد التكليف على الأطراف بخصوصياتها مع العطف بينها ب (أو) التي لا تفيد مفهوماً اسمياً صالحاً لأن يكون متعلق التكليف، مع وضوح عدم الفرق بين المفادين، الكاشف عن عدم كون المراد - في صورة أخذه - تعلق التكليف به، بل محض العبرة به لبيان التعلق بالأطراف بالنحو الذي يؤديه العطف ب (أو).

فلابد من رجوع هذا الوجه إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما - كما ذكره بعض الأعاظم قدس سره - بمعنى تعلقه بكل من الخصوصيتين بنحوٍ خاص من التعلق يقتضي التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل منهما بدلاً.

فالفرق بينه وبين التكليف التعييني في المتعلق وكيفية التعلق، فمتعلق التعييني واحد، ومتعلق التخييري متعدد، وتعلق التعييني بالواحد بنحو يصح نسبة التكليف إليه ويقتضي تحقيقه لا غير، وتعلق التخييري بالمتعدد بنحو يقتضي تحقيق طرف منه على البدل من دون أن يصح نسبته إليه إلا مع بقية

ص: 374

الأطراف بنحو البدلية.

وكأنه إليه يرجع ما قيل: من تعلقه بالواحد المردد، وإلا فالترديد، ظاهر في الإبهام، الممتنع ثبوتاً والممكن إثباتاً، وهو مباين للتخيير سنخاً.

ومن هنا لا مجال لرده بامتناع البعث نحو المردد كما لا تتعلق الإرادة به، إذ لو أريد بالبعث نحو المردد البعث نحو المبهم فليس منه المقام، وإن أريد به البعث التخييري فامتناعه أول الكلام.

نعم، يمتنع البعث الخارجي نحو المردد، لأنه إضافة شخصية متقومة بأطرافها من الباعث والمبعوث والمبعوث إليه، فمع عدم تشخص بعضها فلا تتشخص، فلا توجد. ولذا لا يتعلق بالجزئي، مع تعلق البعث الاعتباري بالكلي.

دعوى امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين بنحو الترديد

هذا، وقد يدعى امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين بنحو الترديد والتخيير، لأنه ناشئ عن الإرادة التشريعية، وهي لا تتعلق إلا بالمعين، فتقتضي تحقيقه تعييناً، قياساً على الإرادة التكوينية التي لا تتعلق إلا بالمعين القابل للإيجاد، فتقتضي إيجاده.

لكن بعض الأعاظم قدس سره منع من قياس الإرادة التشريعية بالتكوينية في ذلك، لأن الإرادة التكوينية لما كانت علة لإيجاد المراد لزم كون متعلقها معيناً قابلاً للإيجاد خارجاً، بخلاف التشريعية لتبعيتها للغرض سعةً وضيقاً، وبهذا اختلفا في تعلق الثانية بالكلي، دون الأولى.

المختار في المقام

والذي ينبغي أن يقال: الإرادة التكوينية في مرتبة الغرض تابعةً له سعةً وضيقاً وتعييناً وتخييراً، فكما تتعلق تعييناً بالكلي الواحد ذي الخصوصيات الفردية المتكثرة، لوفائه بالغرض، كذلك تتعلق بالأكثر بنحو التخيير والبدلية

ص: 375

تبعاً لنحو دخله في الغرض.

نعم، في مرتبة تحقيق المراد لا تكفي الإرادة المذكورة بأحد النحوين، بل لابد من أن ينضم إليها اختيار إحدى الخصوصيات تعييناً من الكلي الواحد الذي تعلق به الغرض والإرادة تعييناً، أو من أحد الكليات المتعددة التي تعلق بها الغرض والإرادة بنحو التخيير والبدلية.

لكن اختيار الخصوصية تعييناً في المقام المذكور ليس ناشئاً من الغرض الأول، بل من جهات خارجية زائدة عليه، ككون الخصوصية المذكورة أسهل أو أفضل أو غيرهما.

وهذا لا ينافي تحقق الإرادة التكوينية الناشئة عن الغرض وبقائها على سعتها بالنحو السابق، ولذا قد تتمحض في الداعوية للسعي نحو الامتثال بفعل المقدمات المشتركة قبل الاحتياج للتعيين.

مثلاً: لو أراد الشخص شراء الطعام تعييناً أو أراد شراء الفراش أو بيع الثياب بنحو التخيير والبدلية، لغرضٍ قائم بأحد النحوين، ولم يحدد ما ينبغي اختياره من الخصوصيات، فإنه قد يذهب للسوق الذي هو مقدمة مشتركة بين الخصوصيات مندفعاً عن الإرادة المفروضة بأحد النحوين محضاً، فإذا وصل إلى السوق وصار في مقام تحقيق ما أراده تبعاً لغرضه فلابد له من اختيار إحدى خصوصيات الطعام في الفرض الأول، أو اختيار إحدى الخصوصيات من أحد الأمرين من البيع والشراء في الفرض الثاني، لأمرٍ زائدٍ على الغرض الذي تسببت عنه الإرادة الأولى، ككون ما يختاره أسهل أو أنفع له أو لمن يهمه أمره أو نحو ذلك. هذا في الإرادة التكوينية.

أما الإرادة التشريعية فمن الظاهر أنها - بأي معنى فسرت - لما كانت

ص: 376

مسببة عن الغرض فهي نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تعلق الغرض، تابعة له سعةٍ وضيقاً وتعييناً وتخييراً، وليست نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تحقيق المراد، بل ليس النظير لها إلا الإرادة الحاصلة من المكلف حين الامتثال، والتي هي مسببة عن التكليف لا منشأ له.

ومما ذكرنا يظهر أن ما سبق من منع تعلق الإرادة التشريعية بالمتعدد بنحو الترديد، والتخيير، قياساً على الإرادة التكوينية، وما سبق من بعض الأعاظم قدس سره من الفرق بين الإرادتين، ناشئان عن الخلط بين الإرادة التكوينية التابعة للغرض، والإرادة الحاصلة حين تحقيق المراد.

ومن هنا لا مخرج عما هو ظاهر الأدلة من تعلق التكليف التخييري بالأطراف بخصوصياتها المتباينة بنحو البدلية والتخيير.

بل لما كان الظهور المذكور نوعياً ارتكازياً كان بنفسه صالحاً لدفع بعض التوهمات والشبه المنافية له والكشف عن خلل فيها إجمالاً، فلاحظ.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور:

الأول: مقتضى الإطلاق كون الأمر تعيينياً

الأول: من الظاهر أن مقتضى الإطلاق البناء على كون الأمر بالشيء تعيينياً، سواء إسُتفيد الأمر من هيئة إفعل أو نحوها، أم من مادة الأمر أو الوجوب أو الأستحباب أو نحوها من المفاهيم الاسمية.

لكن لا بمعنى الإطلاق المقابل للتقييد كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره وغيره، بل بمعنى ما يستفاد من الكلام مع التجرد عن القرينة، لما أشرنا إليه من أن نحو تعلق الأمر التخييري بمتعلقه يقتضي عدم نسبته لبعض الأطرف، بل لتمامها بنحو يفيد التخيير، فالاقتصار على نسبته للواحد

ص: 377

ظاهر في التعيينية.

وكذا الحال بناءً على الوجه الأول، لأن سنخ الوجوب التخييري الذي عَبَّر عنه بالطلب الناقص يبتني على نحو عنايةٍ لا يحمل عليها الكلام إلا بالقرينة.

نعم، بناءً على الوجه الثاني يكون ذلك مستفاداً من الإطلاق المقابل للتقييد، إذ لا يكون الأمر بالشيء تخييرياً إلا إذا كان مقيداً بعدم فعل بقية الأطراف، الذي هو خلاف مقتضى إطلاق الهيئة أو نحوها مما يدل على الأمر.

وكذا على الوجه الرابع المبتني على رجوع الأمر التخييري إلى وجوب المعين عند الله تعالى الذي يفعله المكلف لوضوح أنه عليه يلزم اختلاف أفراد المكلفين فيما هو الواجب من الأطراف، فإذا ورد الأمر بشيء كان مقتضى إطلاق الموضوع اشتراك جميع المكلفين في المأمور به.

أما بناءً على الوجه الثالث فلا ينهض الإطلاق ابتداءً بنفي كون الوجوب تخييرياً، لابتناء الوجوب التخييري عليه على كون وجوب كل طرفٍ مطلقاً، وأن سقوطه بالطرف الآخر ليس لكونه مقيداً بعدم فعله.

نعم، ينهض بنفي لازمه وهو السقوط بفعل الطرف الآخر، لأن مقتضى الإطلاق الأحوالي بقاء التكليف بعد فعل الطرف الآخر، المستلزم لعدم كونه تخييرياً.

مع أن سقوط الأمر بغير الامتثال مع فرض إطلاقه - لو أمكن - فهو خلاف الأصل فيه، لأن الأمر يدعو إلى متعلقه. فلاحظ.

هذا إذا كان الأمر وارداً لبيان الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية،

ص: 378

أما إذا كان وارداً لبيان الحكم الشخصي في قضية خارجية، وأحتمل كونه تخييرياً وإنما اقتصر على بعض الأطراف لتعذر غيره على الشخص المذكور، فلا مجال للتمسك بأحد الوجوه المتقدمة لإثبات كونه تعيينياً بحسب أصل الجعل، بعد فرض عدم تصدي المتكلم لبيان الحكم بحسب أصل الجعل.

لكن حمل الخطاب في القضايا الشرعية على القضية الشخصية الخارجية مخالف للظاهر، لأن الخطاب وإن كان كثيراً ما يوجّه لشخصٍ خاصٍ إلا أن المفهوم منه عدم خصوصيته في الحكم، بل يشاركه فيه كل واجدٍ للجهة المشار إليها في موضوع الحكم.

ثم إنه لو فقد الإطلاق فالكلام في أن مقتضى الأصل التعيين أو التخيير موكول إلى مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، لشدة ارتباطه بها، فلا مجال معه لإطالة الكلام فيها هنا.

الثاني: في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه

الثاني: وقع الكلام بينهم في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر، وربما يمنع بأنه بعد وجود الأقل ووفائه بالغرض وسقوط الأمر به لا مجال لدخل الزائد في الامتثال.

ومنه يظهر اختصاص الكلام بما إذا كان الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل، دون ما إذا كانت في أثنائه - كما في التخيير بين القصر والتمام، حيث يؤتى بالركعتين الأخيرتين قبل التسليم الذي تتم به الصلاة المقصورة - أو مصاحبةً له - كالتخيير بين كتابة القرآن فقط وكتابته مع قراءته دفعةً - لعدم تحقق الأقل الذي يسقط به الأمر إلا مع الزيادة، فلا محذور في استناد الامتثال إليهما في ظرف اجتماعهما، وإن كان الأقل وحده صالحاً لأن يتحقق به الامتثال، فيخير بينهما وبين الأقل وحده في مقام الأمر.

ص: 379

فما قد يظهر من بعض كلماتهم من عموم الكلام لذلك لعله في غير محله.

دعوى: عدم دخل الزيادة في الامتثال بعد وفاء الأقل

ودعوى: أنه لا مجال لدخل الزيادة في الامتثال بعد فرض وفاء الأقل به، لترتب الغرض عليه دونها، بل لابد من كونها خارجةً عنه مطلقاً ولو لم يكن الإتيان بها بعد الفراغ منه.

نعم، لو كانت الزيادة فرداً آخر من أفراد المأمور به صالحةً لأن يترتب عليها الغرض ويتحقق بها الامتثال - كما لو أمر بالضرب، فضرب شخصين دفعةً واحدةً - تعين استناد الامتثال للفردين في ظرف اجتماعهما، لعدم المرجح.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن وفاء الأقل بالغرض وتحقق الامتثال به حين الإتيان به وحده لا ينافي عدم وفائه به حين الإتيان به مع الزيادة، بل يستند إليهما معاً حين اجتماعهما، ولا وجه مع ذلك لاستناد الامتثال لخصوص الأقل، بل يتعين استناده لهما، لابتناء الأمر على التخيير بينهما معاً وبين الأقل وحده، تبعاً لنحو ترتب الغرض عليهما.

وبالجملة: ما ينبغي الكلام فيه صورة الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل الصالح لأن يفي بالغرض ويتحقق به الامتثال، كالتخيير بين صوم يوم واحد وصوم يومين، بلحاظ المحذور المتقدم.

والظاهر اندفاع المحذور المذكور: بأن الملاك الموجب للتكليف بالفعل لا يلزم أن يكون هو أثره المترتب عليه بالمباشرة والمسبب التوليدي له، كانكسار الزجاج المترتب على ضربه بالحجر، بل هو الغرض الأقصى الذي قد لا يترتب عليه إلا بوسائط ومقدمات متعددة، كالأكل المترتب

ص: 380

على شراء الطعام، وحينئذٍ يمكن أن يكون ترتب الغرض الأقصى على الأقل مشروطاً بعدم انضمام الزائد إليه، أما مع انضمامه إليه ولو بعد وجوده فالغرض الأقصى يستند إليهما معاً، ولا وجه مع ذلك لاختصاص التكليف بالأقل وحده وكونه تعيينياً، بل لابد من التخيير بينه وبين الأكثر، تبعاً لنحو ترتب الغرض عليهما.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في ذلك

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من رجوع ذلك في الحقيقة إلى التخيير بين المتباينين، لأن الأقل حينئذٍ مقيد بعدم كونه في ضمن الأكثر، فيباين الأكثر.

المناقشة فيه

ففيه: أن دخوله في التخيير بين المتباينين لا ينافي امتناعه للوجه المذكور واحتياج إمكانه لدفعه بما تقدم، والمراد بالتخيير بين الأقل والأكثر ذلك، بل لا يكون إلا كذلك، وإلا فلو أُخذ الأقل لا بشرط، بحيث يترتب الغرض عليه وحده سواءً كانت الزيادة معه أم لم تكن، لم يكن من التخيير بين الأقل والأكثر، بل بين المطلق والمقيد الذي لا إشكال في امتناعه، لتحقق المطلق في ضمن الواجد للقيد، فمع وفائه بالغرض بنفسه يكون دخل القيد فيه خُلفاً.

وبعبارةٍ أخرى: المراد من الأقل والأكثر ما ينتزع من الأجزاء الخارجية في مقابل المتباينين بالإضافة إليها كالعتق والصدقة، لا ما ينتزع من الجزء التحليلي، - وهو التقييد -.

فما ذكره أشبه بالإشكال اللفظي.

وإن كان يحسن ملاحظة كلامه، حيث قد يظهر منه منع ما ذكرناه من التخيير بالنحو السابق واختصاص الممكن بمثل التخيير بين القصر والإتمام

ص: 381

الذي لا يمكن فيه إلحاق الزيادة بعد الفراغ من الأقل، فينهض ما سبق منا بدفعه، فتأمل جيداً.

لزوم القرينة على الحمل على التخيير المذكور

ثم إن التخيير المذكور لما كان على خلاف المتعارف ولم تأنس به أذهان العرف كان الحمل عليه محتاجاً إلى عناية وكان الأظهر عرفاً حمل دليل التخيير بين الأقل والأكثر على أفضلية الزيادة، سواءً كانت من سنخ الأقل كالصوم يوماً أو يومين، أم من غير سنخه كالصلاة مع التعقيب أو بدونه، فضلاً عما إذا لم يكن الدليل بلسان التخيير، بل كان الأمر بكلٍ منهما بلسان ظاهر في التعيين، حيث لا يجمع بينهما بالحمل على التخيير، بل على الأفضلية.

بل لعل ذلك يجري - أيضاً - فيما إذا كان الإتيان بالزيادة قبل الفراغ من الأقل الذي عرفت أنه خارج عن محل الكلام، حيث يكون الأقرب الحمل على أفضلية الأكثر وإن كان طرفاً للتخيير، لعدم سقوط الأمر إلا بإتمام العمل.

نعم، قد يشكل في مثل القصر والإتمام مما كان مقتضى الأصل أو الدليل مبطلية الزيادة، حيث يكون المتيقن من التخيير فيه بيان مشروعية الأكثر وإجزائه، ولا مجال لاستفادة أفضليته إلا بدليلٍ خاص.

إمكان التخيير بين الأقل والأكثر عقلياً

ثم إن التخيير بين الأقل والأكثر كما يكون شرعياً، لكون كل منهما دخيلاً بخصوصيته في ترتب الغرض الواحد أو المتعدد، يكون عقلياً، كما لو كان الأثر مستنداً لجهة مشتركة تصدق على الكثير بعين صدقها على القليل، كعنوان الجماعة والورد ونحوهما.

وقد سبق أن هذا هو المعيار في الفرق بين التخييرين، ولا يناط بما

ص: 382

ذكره المحقق الخراساني قدس سره من تعدد الغرض ووحدته.

الثالث: التخيير بين الأقل والأكثر في النهي

الثالث: من الظاهر أنه كما يمكن كون الملاك الموجب للأمر بنحو يقتضي الاكتفاء بأحد الأمرين، فيكون الأمر تخييرياً، كذلك يمكن كون الملاك الموجب للنهي مقتضياً للاكتفاء بترك أحد الأمرين، لكنه لا يوجب النهي التخييري، لعدم مناسبة التخيير للنهي عرفاً، بل يوجب النهي عن الجمع بين الأمرين.

نعم، يمكن كون الترخيص تخييرياً، كما فيما لو كان ناشئاً عن مصلحة مخرجة عن مقتضى الحكم الأولي، تقتضي الترخيص في فعل أحد الأمرين دون الجمع بينهما، ولا يكون الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي.

والنهي عن الجمع والترخيص التخييري وإن كانا متفقين عملاً، إلا أنهما يختلفان منشأ ومورداً، فإن كان مقتضى الحكم الأولي الترخيص في الأطراف لولا المفسدة المانعة من الجمع بينها لزم الأول، كما في النهي عن الجمع بين الأختين في النكاح، وإن كان مقتضى الحكم الأولي المنع من الأطراف لولا المصلحة المقتضية للترخيص في أحدها لزم الثاني، كما في التخيير بين القصاص وأخذ الديَّة.

ص: 383

المبحث الخامس في تقسيم المأمور به إلى عيني وكفائي
اشارة

وهذا التقسيم كسابقه في عدم الاختصاص بالوجوب، بل يعم الاستحباب وإن قصرت عنه عناوينهم، كما لا يجري في النهي، بل يجري نظيره، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فالمراد بالعيني ما يطلب فعله من جميع المكلفين، بنحو لا يغني امتثال أحدهم عن امتثال غيره، بل لكل منهم امتثاله ومعصيته، كالصلاة والصوم، وبالكفائي ما يُكتفى فيه بامتثال بعض المكلفين، ولو تركه الكل لعوقبوا عليه، كالصلاة على الميت.

في حقيقة الوجوب الكفائي

وقد اختلفوا في حقيقة الوجوب الكفائي - الذي هو موضوع كلامهم - على أقوال يجري نظيرها في الاستحباب.

الأول ما يظهر من الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أنه سنخ خاص من الوجوب يعرف بآثاره، نظير ما سبق منه في الوجوب التخييري.

ويشكل بنظير ما سبق هناك من عدم وضوح الفرق بين الوجوب العيني والكفائي سنخاً.

الثاني: أنه عبارة عن تعدد الوجوبات بتعدد المكلفين

الثاني: أنه عبارة عن وجوبات عينية بعدد أفراد المكلفين يكون بقاء

ص: 384

كل منها مشروطاً بعدم امتثال غيره لتكليفه، فمع امتثال أحدها من أحدهم تسقط بقيتها عن غيره، نظير ما سبق في الواجب التخييري.

وبهذا البيان يتضح أنه لو انشغل به أكثر من واحد وفرغوا دفعة واحدة كان الكل ممتثلين، لعدم تحقق مسقط تكليف كل منهم إلا بعد امتثاله له.

ولا مجال للإشكال فيه بأن لازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى به أكثر من واحد دفعةً، لعدم تحقق شرط تكليف كلٍ منهم.

نعم، يتجه الإشكال المذكور لو كان المراد بهذا الوجه كون عدم امتثال أحدهم في جميع الأزمنة شرطاً في أصل ثبوت التكليف، لا في بقائه.

حيث يكون امتثال كلٍ منهم مانعاً من ثبوت تكليف الآخرين المانع من صدق الامتثال على فعلهم المستلزم لعدم امتثال الكل، لعدم المرجح، فيبقى التكليف.

لكن يبعد جداً إرادتهم ذلك، كيف ولازمه كون امتثال أحدهم في بعض الأزمنة كاشفاً عن عدم ثبوت التكليف في حق الآخرين من أول الأمر، لا مسقطاً له بعد ثبوته!

المناقشة فيه

نعم، يشكل الوجه المذكور بأن الذي يكلف به كل مكلف إن كان هو الماهية على إطلاقها في مقابل العدم المحض والتي يكفي في تحققها فعل أحد المكلفين، فلا مجال لإرجاعه للتكاليف العينية في حق جميع المكلفين، لوضوح إبتناء التكاليف العينية في حقهم إلى تكليف كل منهم بفعله المباين لفعل غيره، والمقابل لعدم فعله، لا للعدم المحض.

كما لا يحتاج معه مسقطية امتثال أحدهم لتكاليف الباقين إلى تقييدها بعدمه، لعدم بقاء موضوعها معه.

ص: 385

وإن كان هو الماهية الصادرة منه في مقابل عدم فعله هو لها، بحيث يكلف كل فرد منهم بفرد من الماهية غير ما يكلف به الآخر، فمن الظاهر عدم تعلق الغرض الفعلي قبل فعل أحدهم إلا بفعل واحد منهم، إما لوحدة الغرض من الأمر ذاتاً وحصوله بفعل الواحد، أو تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر حصول أكثر من واحد الراجع إلى كون الغرض واحداً بنحو البدلية، مستتبعاً للاكتفاء بمطلق وجود الماهية في قبال عدمها المطلق.

لا أن الغرض من أول الأمر متعلق بفعل الكل بنحو يقتضي إتيان كل منهم بفرد غير ما يأتي به الآخر، غايته أنه يسقط بفعل بعضهم، نظير: ما لو أمر جماعة بأن يسقي كل منهم أرض الزرع دلواً من الماء، فسقاها المطر وأرواها.

كيف وقد لا يكون المكلف به قابلاً للتعدد، كتطهير المسجد وحفظ المال وكسر الإناء ونحوها!

دعوى: اقتضاء ذلك استحقاق ثواب واحد مع امتثال الكل ودفعها

وأما الإشكال على ذلك: بأن لازمه استحقاق ثواب واحد مع امتثال الكل دفعةً لوحدة الغرض الحاصل من فعلهم، لما سبق في نظير هذا الوجه من الواجب التخييري من أن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل به، لا مع وحدته.

فهو مندفع: بالفرق ارتكازاً بين تعدد الامتثال مع وحدة الممتثل، كما في الواجب التخييري، وتعدده مع تعدد الممتثل، كما هنا، حيث يستحق كل منهم أجر عمله بعد فرض وقوعه في محله وكونه دخيلاً في حصول غرض المولى وإن كان واحداً.

وإلا فلو كان إتيان الكل به دفعةً موجباً لحصول أغراض بعددهم لزم

ص: 386

التكليف به محافظةً عليها.

وبالجملة: لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والنظر في الواجبات الكفائية العرفية في إبتناء الوجوب الكفائي على وحدة الغرض من فعل الكل المستلزم للاكتفاء بفعل أحدهم في مقابل العدم المحض، لا في مقابل عدم فعله بنفسه.

المناقشة فيه

كما يشكل هذا الوجه وما قبله: بأن الواجب الكفائي قد يتعذر قيام شخص واحد به دائماً أو في بعض الحالات، كالجهاد بالمقدار الذي يدفع به الخطر عن المسلمين، والحج بالمقدار الذي تتعطل بدونه المشاعر، فيمتنع رجوع التكليف به إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد المكلفين، سواء كانت مباينة للتكليف العيني سنخاً - كما هو مقتضى الوجه الأول - أم من أفراده مع كونها مشروطة بعدم امتثال الآخرين - كما هو مقتضى الوجه الثاني - بل لابد من كونه بنحو خاص صالح لتكليف كل فرد بالقيام به استقلالاً أو مع غيره حسب اختلاف الأفراد والأحوال.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره والمناقشة فيه

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الوجوب الكفائي لما كان ناشئاً عن غرضٍ واحدٍ تعين كونه وجوباً واحداً متعلقاً بصرف وجود المكلف، نظير تعلقه بصرف وجود المكلف به، فبامتثال أحدهم يتحقق الفعل من صرف الوجود فيسقط الغرض ولا يبقى مجال لامتثال الباقين، كما أنهم بامتثالهم جميعاً يثابون جميعاً، لانطباق صرف الوجود عليهم بأجمعهم.

وفيه: أنه لا يُتعقل تكليف صرف الوجود، بل هو غير قابل للخطاب والتكليف، لأن التكليف من الإضافات الخارجية التي لا تتعلق إلا بالمكلف

ص: 387

الخارجي المعين، كما لا تصدر إلا من المكلف الخارجي المعين، وإنما أمكن تعلقه بالمكلف به على إطلاقه بنحو يُكتفى في امتثاله بصرف الوجود لأنه لا يتعلق به في ظرف وجوده، بل في ظرف عدمه بنحو يقتضي إيجاده، لأن وجوده ليس ظرفاً لثبوت التكليف، بل ظرف سقوطه بالامتثال، فلا وجه لقياس المكلف على المكلف به في إمكان كونه الطبيعة التي يُكتفى فيها بصرف الوجود.

الرابع: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وجوب واحد متعلق بأحدهم على تردده، نظير تعلق الوجوب التخييري بأحد الأطراف على تردده.

وفيه: أنه مرجع الترديد في الواجب التخييري إلى التخيير، وهو إنما يتعقل في المكلف به دون المكلف، نظير ما تقدم في الوجه الثالث.

على أن استحقاق العقاب والثواب فرع التكليف، فإذا كان المكلف هو أحدهم مردداً لزم كون الثواب أو العقاب واحداً ثابتاً لأحدهم كذلك حتى في فرض إطاعتهم أو عصيانهم جميعاً. وهو كما ترى! لا معنى له، بل لا يلتزم به هو ولا غيره.

هذا، مضافاً إلى الإشكال في جميع الوجوه المتقدمة: بأن لازمها أنه لو فرض عجز بعض المكلفين عن امتثال التكليف الكفائي بنفسه لم يجب عليه السعي في امتثال غيره بالنحو الذي يقدر عليه، لسقوط التكليف عنه بالتعذر لو كان له تكليف يخصه مباين للتكليف العيني سنخاً أو فرد منه مشروط بعدم امتثال الغير - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - وخروجه عن موضوعه لو كان مشاركاً للغير في التكليف الواحد الثابت لصرف الوجود أو للمردد - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لوضوح امتناع تكليفه بأي

ص: 388

وجه في ظرف عجزه.

ولا دليل على وجوب السعي لامتثال الغير لتكليفه، غاية الأمر أنه يجب إعلام الجاهل بتشريع التكليف به، كما يجب الأمر بالمعروف، وقد لا يتم موضوع كل منهما، كما قد لا ينفعان في ترتب امتثال الغير لتكليفه، ولا يجب غير ذلك من وجوه السعي في امتثاله، كإعلامه بتحقق موضوع التكليف، وإقناعه بوجهٍ آخر لا يقتضيه الأمر بالمعروف، وتهيئة مقدمات الامتثال له.

كما لا يجب السعي لتحقيق مسقط التكليف عند تعذر امتثاله، مثلاً: لو تعذر على أحد الزوجين القيام بحقوق الآخر في ظرف مطالبته لم يجب عليه السعي للطلاق لتسقط الحقوق المذكورة عنه، ولو وجب على زيد مشايعة صديقه إذا سافر لم يجب عليه عند تعذر مشايعته له إقناعه بالعدول عن السفر، وهكذا.

مع أنه لا إشكال ظاهراً في أن تعذر امتثال الواجب الكفائي على بعض أفراد المكلفين لا يسقطه عنه رأساً، بل يجب عليه السعي لقيام غيره من المكلفين به بأي وجهٍ أمكن، إلا بدليل مخرج عن ذلك.

وهذا كاشف عن عدم تمامية شيء من الوجوه المتقدمة في توجيهه، وأنه مجعول بنحوٍ خاص يقتضي وجوب السعي بالوجه المذكور وإن لم تقتضه الوجوه المذكورة.

المختار في الوجوب الكفائي

فلعل الأَولى أن يقال: إن التكليف الكفائي عبارة عن تكليف كل فرد بالماهية لا بنحو يقتضي تكليفه بفردٍ منها مباين لما كلف به غيره - كما في التكليف العيني - بل بنحوٍ يقتضي مطلق وجودها في مقابل عدمها المحض،

ص: 389

لوفاء ذلك بالغرض الداعي للتكليف، كما سبق توضيحه عند الكلام في الوجه الثاني.

الفرق بينه وبين التكليف العيني

فالفرق بينه وبين التكليف العيني ليس في السنخ - كما هو مقتضى الوجه الأول - ولا في إطلاق التكليف وتقييده - كما هو مقتضى الوجه الثاني - ولا في المكلف - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - بل في المكلف به، حيث يكون المكلف به في العيني في حق كل فرداً يخصه من الماهية مبايناً للفرد الذي يكلف به الآخر - يقوم به هو بالمباشرة أو يكتفي بقيام غيره مقامه فيه - وفي الكفائي أصل وجود الماهية الحاصل بفعل أيٍ منهم بانفراده أو بمشاركة غيره له.

ودعوى: امتناع ذلك، لأن وحدة المكلف به تمنع من تعدد التكليف، وتعدد المكلف يمنع من وحدة التكليف.

ممنوعة، بل يتعين تعدد التكليف في المقام، لأن التكليف، كما ذكرناه غير مرة - إضافة قائمة بين المكلِّف والمكلَّف والمكلف به، ومن الظاهر أنه لا يعتبر في تعدد الإضافة اختلاف تمام الأطراف، بل يكفي اختلاف بعضها.

ومن هنا يتجه تعدد الثواب أو العقاب مع امتثال الكل دفعة أو عصيانهم، لامتثال كل منهم لتكليفه الذي يخصه أو عصيانه له.

ومثلها دعوى: امتناع تكليف الإنسان بالقدر الجامع بين فعله وفعل غيره، لخروج فعل غيره عن قدرته، بل لابد من تقييد المأمور به بخصوص فعله المباين لفعل غيره، لأنه المقدور له.

لاندفاعها: بأنه لا يعتبر القدرة على تمام أفراد المأمور به، بل يكفي القدرة عليه بالقدرة على بعض أفراده.

ص: 390

على أن فعل الغير قد يكون مقدوراً للمكلف صالحاً لأن يخاطب به ويكلف بتحصيله فيما لو كان قادراً على إحداث الداعي له للفعل في ظرف قدرته عليه، أو إقداره عليه في ظرف تحقق الداعي له، أو كليهما.

ولذا يصح التكليف بما لا يقدر على مباشرته له إذا كان قادراً على تفريغ ذمته منه بالاستنابة فيه. وعليه تبتني صحة الإجارة على العمل بنحو تنشغل به ذمة الأجير من دون اعتبار مباشرته له، بل مع تعذرها عليه.

توجيه لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي

وبهذا يتجه في المقام لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي من الغير على العاجز عن القيام به، لأن عجزه عن فعله بالمباشرة لا ينافي قدرته على الوجود المطلق المتحقق بفعل غيره بالإعلام والإقناع وتهيئة المقدمات، وحيث كان الوجود المذكور هو المكلف به فلا وجه لسقوطه مع القدرة عليه بالنحو المذكور، وليس هو متمحضاً في السعي لامتثال الغير لتكليفه، كي لا يجب.

كما ظهر الوجه في لزوم استقلال شخص بالفعل تارةً، والاشتراك فيه أخرى، والتخيير بينهما ثالثة، لأن الوجود المطلق يتحقق بالوجهين، فيتخير بينهما مع القدرة عليهما معاً ويتعين أحدهما مع اختصاص القدرة به.

نعم، لا يبعد كون الاشتراك في الفعل الواحد موجباً للاشتراك في ثواب واحد، لوحدة الامتثال وإن تعددت التكاليف، ولا يستقل كل مشارك فيه بثواب الامتثال التام، للفرق الارتكازي في مقدار الثواب الذي يستحقه الشخص بين استقلاله بالفعل ومشاركة غيره له فيه.

بل لا يبعد ذلك مع استقلال كل منهم بفعل تام دفعة واحدة، لأن كلاً منها وإن كان امتثالاً تاماً لتكليفه، إلا أن وحدة الغرض واشتراكهم في

ص: 391

تحقيقه تناسب وحدة الثواب واشتراكهم فيه، بل قد يدعى ذلك في العقاب وإن كان لا يخلو عن إشكال، خصوصاً الثاني.

والأمر سهل، لعدم تعلق ذلك بمقام العمل، بل هو وظيفة المولى الحكيم الذي لا يخفى عليه مقدار الاستحقاق، ورحمته وسعت كل شيء.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور:

الأول: وجوه الواجب الكفائي

الأول: أشرنا آنفاً إلى أن الوجوب الكفائي..

تارةً: يكون مع وحدة الغرض ذاتاً، فلابد من ترتبه على الوجود المطلق المكلف به من دون دخل لخصوصيات أفعال المكلفين، فيكون هو المكلف به.

وأخرى: يكون مع تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر استيفاء تمام الأغراض المستلزم لفعلية غرض واحد على البدل، والموجب للاكتفاء بفعل واحد من المكلفين على البدل.

لكن الثاني يختلف، لأن الغرض البدلي المذكور..

تارةً: يقتضي حفظه من كل أحدٍ، فيكلف الكل بتحصيله بتحقيق أحد أفعال المكلفين على البدل، والاكتفاء بالوجود المطلق لأنه لا ينفك عنه، لا لقيام الغرض به كما في الصورة الأولى.

وأخرى: يقتضي حفظ كل مكلف للغرض الحاصل بفعله على تقدير عدم حفظ الآخر لغرض فعله.

وعلى الأول يكون التكليف كفائياً يجري ما فيه ما تقدم.

ص: 392

أما على الثاني فيكون التكليف في حق كل واحد عينياً مقيداً بعدم امتثال غيره، ولازمه أنه مع تعذر الامتثال على أحدهم لا يجب عليه السعي لامتثال الآخرين إلا بدليلٍ خاص، فلاحظ.

الثاني: عدم جواز الامتثال بفرد ناقص مع إمكان الفرد التام من الغير

الثاني: أن المكلف به حيث كان هو الوجود المطلق تعين أنه مع تعذر القيام بالفرد التام على شخصٍ لا يشرع له الامتثال بالفرد الناقص الاضطراري مع قدرة غيره على الامتثال بالفرد التام وحضوره له، لعدم صدق الاضطرار مع ذلك للناقص، فلا يجزي.

وهذا بخلاف ما لو كان كل فرد مكلفاً بفعله، حيث يصدق الاضطرار في حقه، فيشرع له الفعل الناقص، وحينئذٍ يتجه سقوط التكليف عن الآخرين لو كان لدليل السقوط إطلاق يشمل الإتيان بكل مشروع وإن كان ناقصاً، فتأمل جيداً.

الثالث: في تنقيح مجرى الأصل مع فقد الإطلاق المستفاد منه الكفائي أو العيني

الثالث: حيث كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي بإطلاق المكلف به في الكفائي بنحو يكتفي فيه بصرف الوجود الصادر من كل أحدٍ، وتقييده في العيني بفرد خاص يختص بالمكلف الواحد، أو أفراد متعددة يختص كل منها بفرد من المكلفين، فإن كان هناك إطلاق يقتضي الأول، كما لو كان الخطاب بالفعل المبني للمجهول - مثل: ليصلِّ في المسجد ويحج البيت - عمل به، وإلا فإن كان هناك ظهور يقتضي تكليف بعض المكلفين أو جميعهم بأفراد تخصهم، كما هو ظاهر الخطاب بالفعل المبني للفاعل - مثل: صَلَّوا في المسجد وحُجَّ البيت - عمل عليه أيضاً.

وإن فقد الأمران كان المرجع الأصول العملية، وهي تختلف باختلاف الموارد. فلو علم الشخص بتكليفه بالشيء في الجملة فحيث

ص: 393

كانت العينية مستلزمه لخصوصية زائدة في المكلف به، وهي الفرد المباين للفرد الذي كلف به أو يأتي به الغير، كان مقتضى الأصل عدمها والاجتزاء بالوجود المطلق الصادر من أي شخصٍ، بناءً على ما هو التحقيق من أن المرجع البراءة مع الشك في اعتبار الخصوصية في المأمور به، على ما يذكر في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم، لو كان الفعل متعذراً عليه ودار الأمر بين كون التكليف عينياً يسقط بالتعذر المذكور وكونه كفائياً لا يسقط به، بل يجب عليه السعي لتحصيله من غيره كان مقتضى البراءة الأول، للشك في أصل التكليف.

وكذا لو علم الشخص بتكليف غيره بشيء ودار الأمر بين كونه عينياً مختصاً به وكونه كفائياً يشترك هو معه فيه، كما لو دار الأمر بين اختصاص أحكام الميت بالولي وعمومها لجميع المكلفين، فإن مقتضى الأصل براءة ذمة غير الولي من التكاليف المذكورة.

الرابع: جريان الكفائي في النهي

الرابع: كما أن الأمر بالطبيعة يقتضي تكليف كل فرد من أفراد الموضوع..

تارةً: بفرد منها يخصه.

وأخرى: بوجودها المطلق المقابل للعدم المحض من أي فردٍ فرض، فيكون في الأول عينياً وفي الثاني كفائياً.

كذلك النهي عن الطبيعة يقتضي نهي كل فرد..

تارةً: عن إيجاده هو لها.

وأخرى: عن أصل وجودها.

ص: 394

وعلى الأول يُكتفى في امتثال كل فرد بتركه هو، ولا يجب عليه منع غيره إلا بدليل خاص، كدليل الأمر بالمعروف.

أما على الثاني فكما يلزم كل مكلف ترك الطبيعة يلزمه منع الغير من القيام بها، تجنباً لأصل وجودها.

فهو نظير الوجوب الكفائي في نحو توجيه التكليف بالماهية، وإن افترقا في كيفية الامتثال، حيث يُكتفى في امتثال الوجوب الكفائي بفعل الواحد، ويعتبر في امتثال النهي المذكور ترك الكل.

لكن الفرق المذكور متفرع على الفرق بين الأمر والنهي مطلقاً في كيفية الامتثال، حيث يُكتفى في امتثال الأول بصرف الوجود، ويعتبر في امتثال الثاني ترك تمام الأفراد.

نعم، الغالب في موارد النهي المذكور ثبوت النهي عن الخصوصية أيضاً، وهي المباشرة في حق كل فرد. فمثلاً: النهي عن قتل المؤمن راجع إلى نهيين: نهي عن مباشرة قتله عيناً على كل أحد، يكفي في امتثاله من كل مكلف تجنبه له، ونهي للكل عن تحقق ذلك، بنحو يجب على الكل منع كل أحد منه، وهو راجع لوجوب حفظه عليهم، فمن لم يقتله ومنع من قتله امتثل النهيين، ومن لم يقتل ولم يمنع من قتله امتثل الأول دون الثاني، ومن قتله خالفهما معاً، ولذا يكون أشد معصية من الأول.

أما الوجوب الكفائي فكثيراً ما يصاحب استحباباً عينياً للمباشرة، كما في أحكام الميت، فلاحظ.

ص: 395

المبحث السادس في تقسيم المأمور به إلى مطلق وموقت
اشارة

وهذا التقسيم - كسابقه - وإن ذكر في الواجب إلا أنه لا يختص به، بل يعم المستحب، بل قد يجري في المنهي عنه، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

في أخذ الخصوصية الزمانية في المأمور به

إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن الزمان لابد منه في كل فعل حادث، ومنه الفعل المأمور به، فهو من لوازم المأمور به العقلية التي يمتنع أخذها فيه شرعاً للزوم اللغوية.

إلا أنه.. تارةً: لا تؤخذ فيه خصوصية زمانية، بل يكون مطلقاً من حيثية الزمان.

وأخرى: تؤخذ فيه خصوصية زمانية زائدة على ما يستلزمه عقلاً من أصل الزمان.

والأول هو المطلق، والثاني هو الموقت.

ولعل هذا هو المراد مما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الزمان وإن كان مما لابد منه عقلاً في الواجب، إلا أنه تارةً يؤخذ فيه شرعاً، وأخرى لا يؤخذ.

ص: 396

وإلا فلا مجال لما يظهر من كلامه من أن الزمان الذي لابد منه عقلاً قد يؤخذ في الواجب، لما ذكرناه من أن ما لابد منه عقلاً - وهو أصل الزمان - يمتنع أخذه شرعاً، وما يمكن أخذه شرعاً - وهو الخصوصية الزمانية - لا يقتضيه العقل.

هذا، وقد تقدم في المسألة الثانية من الفصل الخامس ما يتعلق بالمطلق، وأن إطلاق الأمر هل يقتضي الفور في مقام الجعل أو الامتثال أو لا يقتضيه؟ ومن ثم كان المهم في المقام الكلام في الموقت.

في قسمي المؤقت

وقد قسموه إلى قسمين:

الأول: الموسع، وهو الذي يكون وقته أوسع منه، كالصلاة اليومية.

الثاني: المضيَّق، وهو الذي يكون وقته بقدره، كالصوم في نهار شهر رمضان.

ما أشكل على القسم الأول

وقد استشكل في الأول بما عن بعض القدماء من أنه يؤدي إلى جواز ترك الواجب، كما في المعالم.

فإن كان المراد به أنه يؤدي إلى جواز تركه في أول الوقت، وهو ينافي وجوبه فيه. فهو ليس محذوراً، لأن وجوبه لما كان مبنياً على السعة، تبعاً للغرض الداعي له، فجواز الترك عن أول الوقت لا ينافيه، نظير جواز ترك الواجب التخييري إلى بدله.

وإن كان المراد به أن سعة الوقت لما كانت تقتضي جواز التأخير عن أوله فقد يتعذر بعد ذلك، فيفوت الواجب رأساً فوتاً لا عقاب معه، وهو ينافي وجوبه، لفرض القدرة عليه في الجملة.

ص: 397

دفعه

فهو مندفع: بأن السعة إنما تقتضي جواز تأخيره عن أول الوقت مع القدرة عليه في آخره، لا مع العجز عنه.

نعم، يجوز تأخيره ظاهراً مع عدم ظهور أمارات العجز عنه في آخر الوقت لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء - كما سبق في مسألة الفور والتراخي - وتعذر الواجب بعد ذلك وإن استلزم فوت الواجب، إلا أنه يكشف عن عدم جواز تأخيره عن أول الوقت، فهو لا يرجع إلى جواز تفويته واقعاً، لينافي وجوبه، بل تفويته مستند إلى خطأ أصالة السلامة، كخطأ سائر الطرق الظاهرية الذي قد يستلزم فوت امتثال التكليف فوتاً لا عقاب معه من دون أن ينافي ثبوته.

رجوع الأمر بالموسع إلى الأمر بالطبيعة المقيدة

ثم إن الظاهر أن الأمر بالموسع راجع إلى الأمر بالطبيعة المقيدة بما في الوقت بما لها من أفراد متكثرة طولية وعرضية، وكما يكون التخيير بين أفرادها العرضية عقلياً بسبب عدم دخل خصوصياتها في الغرض، كذلك التخيير بين أفرادها الطولية.

وما قد ينسب إلى جماعة - منهم العلّامة - من كون التخيير بين الأفراد الطولية شرعياً في غير محله.

على إشكال في النسبة، لأن الذي حكاه في الفصول عنهم أن الواجب الموسع ينحل إلى واجبات تخييرية.

ولعل مرادهم بذلك مجرد بيان سعة المكلف به والاجتزاء بأي فردٍ منه في مقام العمل، لا التخيير الشرعي المقابل للتخيير العقلي. والأمر سهل.

ما ذكره النائيني قدس سره من الإشكال على القسم الثاني

كما استشكل في الثاني - وهو المضيق - بما أشار إليه بعض الأعاظم قدس سره وغيره من أنه لابد من تقدم البعث على الانبعاث ولو آناً ما، فإن كان حدوث

ص: 398

البعث والتكليف سابقاً على الوقت لزم تقدم المشروط على شرطه، وإن كان مقارناً لأوله لزم تأخر الانبعاث عنه، فيكون الوقت أوسع من الواجب لا بقدره.

ما دفع به الإشكال المذكور

وقد يدفع بوجهين:

الأول: ما ذكره النائيني قدس سره

الأول: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن لزوم تقدم البعث على الانبعاث وإن كان بديهياً، إلا أنه ليس تقدماً زمانياً، بل رتبياً، كما هو الحال في جميع العلل مع معلولاتها، وحينئذٍ لا مانع من كون أول الوقت زماناً لكلٍ من التكليف والانبعاث للمكلف به.

نعم، لابد من العلم قبل الوقت بحدوث التكليف عنده، ليتمكن من الانبعاث فيه، بخلاف العلم بالموضوع - وهو الوقت - فلا يعتبر تقدمه عليه.

بل أنكر بعض مشايخنا لزوم التقدم الزماني حتى للعلم بالتكليف، مدعياً أن العلم بالتكليف المستلزم للعلم بترتب العقاب متقدم على الامتثال والانبعاث طبعاً، لا زماناً.

لكنه يشكل: بأن الاندفاع لما كان مشروطاً بالعلم بالتكليف الفعلي فهو موقوف على العلم بجعل التكليف كبروياً، وبتحقق موضوعه، ومنه الوقت - بناءً على كونه شرطاً للتكليف أيضاً - فلا وجه لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الفرق بين العلم بالحكم والعلم بالموضوع.

كما أن الظاهر أنه لابد في تأثير العلم بالحكم الفعلي - المترتب على العلم بالأمرين - في النفس بنحو يستلزم فعلية الاندفاع من مضي زمان ما، كما هو الحال في سائر الدواعي للعمل، حيث لابد من مضي زمانٍ ما على الالتفات إليها، لتستحكم في النفس ويترتب عليها الاندفاع، كما قد يتضح

ص: 399

بالرجوع للمرتكزات.

الثاني: فيما لو كان الوقت قيداً للواجب

الثاني: أن الكلام فيما إذا كان الوقت قيداً للواجب، لا للوجوب، وحينئذٍ لا مانع من دعوى سبق الوجوب على الوقت بنحو الواجب المعلق.

اللهم إلا أن يكون مبنى الإشكال على امتناع الواجب المعلق، كما هو مختار بعض الأعاظم قدس سره.

لكن عمدة الإشكال في المعلق هو امتناع فعلية التكليف بالأمر المتأخر، لعدم كونه اختيارياً فلا يمكن الانبعاث نحوه، كي يمكن البعث إليه، وهو إنما يقتضي امتناع تأخر المكلف به عن التكليف مدة أطول مما يقتضيه الترتب بين البعث والانبعاث، أما مع فرض لزوم تأخر الانبعاث عن البعث آناً ما - كما هو مبنى الإشكال في المضيق - فلا محذور في تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب بقدر ذلك، بل لا فائدة حينئذٍ في سعة زمان الواجب بحيث يقارن الوجوب زماناً.

وعلى ذلك لا مانع من البناء على كون زمان الواجب بقدره، مع تقدم زمان الوجوب عليه بالقدر اللازم في الترتب بين العلم بالحكم الفعلي والانبعاث.

نعم، كثيراً ما لا يتيسر العلم بدخول الوقت وخروجه مقارناً لأوله وآخره، بل لا يعلم بدخوله إلا بعد مضي شيءٍ منه، ولا بخروجه إلا بعد مدة من مضيه، لعدم وضوح حدوده - كالفجر والظهر والمغرب - بنحو التدقيق.

كما أن الفعل المأمور به قلما يتيسر تهيئة جميع مقدماته، بحيث يشرع فيه بمجرد دخول وقته كالصوم، بل كثيراً ما يحتاج لبعض المقدمات القريبة التي تستغرق زمناً ولو قليلاً، كالتخطي لدخول المسجد.

ص: 400

ومن هنا كان الظاهر انحصار الواجب المضيق عادةً بما إذا كان أمراً استمرارياً يمكن الشروع فيه قبل الوقت والبقاء عليه بعده، لا بنية الوجوب في تمامه، بل ليقع ما يجب منه في تمام الوقت، كما في مثل الإمساك للصوم والكون في المسجد للاعتكاف، حيث يمكن الشروع فيهما قبل الفجر والبقاء عليهما لما بعد المغرب ليحصل المطلوب منهما في تمام وقته وبين الحدين، ويكون الطرفان المكتنفان له مقدمة علمية، ليتيسر بها إحراز الامتثال، وفي مثل ذلك لا يهم البناء على مقارنة البعث للانبعاث أو على الترتب بينهما.

وهذا بخلاف مثل الصلاة، حيث لا مجال لتوقيتها بوقتٍ خاص بنحوٍ يشرع بها في أوله، ويفرغ منها في آخره، وتطابقه دقةً، لتعسر امتثالها بالنحو المذكور، بل تعذره عادةً.

بقي أمور..

بقي في المقام أمور:

الأول: في لزوم تدارك المؤقت

الأمر الأول: لا ريب في عدم دلالة الأمر بالموقت بوجهٍ على وجوب تداركه بعد الوقت لو فات فيه، كما ذكره غير واحدٍ، لأن التوقيت من أنحاء التقييد وحيث كان تعذر القيد موجباً لتعذر المقيد تعين قصور دليل الأمر بالمقيد عن إثبات وجوب فاقد القيد عند تعذره، بل قد يكون ظاهراً في عدم وجوبه، كما لو كان مفاد التقييد حصر الفعل المشروع بالمقيد لا مجرد الأمر به، كما في مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(1) فلابد في وجوب التدارك بعد الوقت من دليل آخر غير دليل الأمر بالموقت.

ص: 401


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب الوضوء

وتوضيح الكلام في ذلك يقتضي الكلام أولاً في أنحاء التقييد بالوقت الممكنة ثبوتاً، ثم في مفاد الأدلة إثباتاً.

المقام الأول في مقام الثبوت
المقام الأول في مقام الثبوت في وجوه أخذ القيد في الواجب

لما كان أخذ الوقت في الواجب عبارة عن تقييده به فأخذ القيد في الواجب يكون..

تارةً: لغرضٍ مستقلٍ عن غرضه موقوف على الإتيان بالواجب مقارناً للقيد، من دون أن يكون القيد دخيلاً في مصلحة الواجب، كما لو وجبت الصلاة في المسجد لمصلحة إشغال المسجد من دون دخل له بمصلحة الصلاة. وهو راجع إلى كون القيد واجباً في واجب.

وأخرى: لتوقف غرض الواجب عليه في ظرف التمكن منه، بنحو لو أخل به حينئذٍ فقد أخل بغرضه، لكنه مع تعذره يسقط دخله فيه رأساً، ويكون الفاقد للقيد حينئذٍ محصلاً لتمام الغرض.

وثالثة: كالثانية إلا أنه مع التعذر يسقط دخله بالإضافة إلى بعض مراتب الغرض، فيكون الفاقد في ظرف تعذر القيد محصلاً لبعض الغرض بالنحو اللازم الحفظ.

ورابعةً: يكون لتوقف غرض الواجب عليه مطلقاً حتى في ظرف تعذره، بحيث لا يكون الفاقد مع التعذر محصلاً لشيء من الغرض، لكن

ص: 402

يحدث بفوت الغرض غرض آخر مباين له يقتضي تكليفاً آخر مبايناً للتكليف بالمقيد من سنخ التدارك له، كالضمان بسبب الإتلاف، أو العقوبة عليه، كالحد والتعزير والكفارة.

وخامسةً: كالرابعة، لكن من دون أن يحدث غرض يقتضي تكليفاً آخر.

وربما كانت هناك بعض الصور الأخرى، إلا أنه لا أثر لها أو يظهر حكمها من الصور التي ذكرناها.

وهذه الصور تختلف من جهات..

جهات اختلاف الوجوه المذكورة

الأولى: أنه في الصورتين الأخيرتين لو تعذر القيد لا يجب الفاقد أصلاً، بخلاف الصور الثلاث الأول.

الثانية: أنه في الصورة الثانية يجوز تعجيز النفس عن القيد، لحصول تمام الغرض بالفاقد في ظرف العجز عنه، بخلاف بقية الصور.

الثالثة: أنه في الصور الأربع الأخيرة لو أُتِيَ بالفاقد للقيد في ظرف القدرة عليه لم يكن مشروعاً ولا امتثالاً، لعدم مطابقته للمأمور به، فلا يجتزأ به إلا بدليلٍ خاص من باب الاجتزاء بغير المأمور به عنه، بخلاف الصورة الأولى، لفرض عدم توقف غرض أصل الواجب على القيد، فيصح ويقع امتثالاً لأمره، وإن لم يمتثل أمر القيد.

وحينئذٍ إن كان موضوع الأمر بالقيد هو الإتيان بذات الواجب مقارناً له وجبت إعادته مع القيد وإن سقط أمره، تحصيلاً لمصلحة القيد، وإن كان موضوعه الإتيان بالواجب بما هو واجب مقارناً له تعين سقوط أمر القيد، لتعذر امتثاله بارتفاع موضوعه بعد فرض سقوط أمر المقيد بالامتثال.

وعليه يتجه عدم صحة الفاقد للقيد لو كان عبادةً مع الالتفات لذلك، لأن

ص: 403

استلزامه تفويت مصلحة القيد الواجب موجب لمبعديته، فيمتنع التقرب به.

الرابعة: أنه لو شك بعد تعذر القيد في الامتثال بالمقيد حين القدرة عليه كان مقتضى قاعدة الاشتغال في الصورة الأولى الإتيان بذات الواجب، لما عرفت من رجوعها إلى تكليفين أحدهما بالذات والآخر بالقيد، فسقوط الثاني بالامتثال أو التعذر لا ينافي بقاء الأول، وحيث كان الشك في امتثاله كان مقتضى قاعدة الاشتغال الإتيان به.

كما أنه في الصورة الرابعة والخامسة لا مجال لقاعدة الاشتغال، للعلم بسقوط التكليف المعلوم بالامتثال أو التعذر، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث تكليف جديد في الصورة الرابعة، وهو أجنبي عن مفاد قاعدة الاشتغال.

بل قد يدعى ذلك أيضاً في الصورة الثانية والثالثة، للعلم سابقاً بالتكليف بالمقيد، والمفروض سقوطه بالامتثال أو التعذر، مع الشك في تجدد التكليف بالفاقد للقيد.

لكنه لا يخلو عن إشكالٍ، لأن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في تمام الغرض في الصورة الثانية مستلزم لرجوعهما إلى تكليفٍ واحد تخييري تابع لغرض واحد يشك في امتثاله.

ومرجع التكليف المذكور إلى التكليف بأحد أمرين: الإتيان بالواجد للقيد حين القدرة عليه، والإتيان بالفاقد له حين تعذره، ولذا لا يجب حفظ القدرة على القيد، نظير التخيير من أول الأمر بين الإتيان بالتمام حين الحضر، والإتيان بالقصر حين السفر، فتعذر القيد على تقدير عدم الامتثال لا يوجب تبدل التكليف، بل تبدل الامتثال لتبدل طرف التخيير المقدور، وحيث فرض

ص: 404

الشك في امتثال التكليف بالطرف الأول كان مقتضى قاعدة الاشتغال إحراز الفراغ عنه بامتثاله بالطرف الثاني، نظير ما لو شك المكلف بعد السفر في أنه صلى تماما قبله.

كما أن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في بعض الغرض في الصورة الثالثة مستلزم لانحلال التكليف - تبعاً للغرض - إلى تكليفين: تعييني بالواجد للقيد بلحاظ توقف بعض مراتب الغرض عليه، وتخييري بأحد أمرين: الإتيان بالواجد له في ظرف القدرة عليه، والإتيان بالفاقد له في ظرف العجز عنه، ومع الشك في الامتثال في ظرف القدرة على القيد وإن كان يعلم بسقوط الأول إما بالامتثال أو التعذر، إلا أنه لا يعلم بسقوط الثاني، بل يحتمل بقاؤه وعدم امتثاله، فيجب إحراز الفراغ عنه بالإتيان بالفاقد، نظير ما سبق في الصورة الثانية، فلاحظ.

المقام الثاني في مقام الإثبات
المقام الثاني: في مقام الإثبات

من الظاهر أنه لا مجال لحمل التقييد بالوقت على الصورة الثانية، لما سبق من أن لازمها جواز التعجيز عن القيد، مع وضوح لزوم المحافظة على الوقت في الموقت وعدم جواز تأخيره عنه.

فيدور أمره بين الصور الأربع الأخرى.

ص: 405

وحينئذٍ فتارةً: يكون لدليل الواجب الموقت إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت، بأن استفيد التوقيت من دليلٍ منفصل.

وأخرى: لا يكون له إطلاق يقتضي ذلك.

كما أن دليل التوقيت..

تارةً: يكون ظاهراً في انحصار الواجب بالوقت، بحيث لا يجب بعده، نظير قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور»(1) الظاهر في عدم مشروعيتها بدونه.

وأخرى: لا يكون ظاهراً في ذلك، بل في مجرد لزوم الإتيان به في الوقت.

فإن كان لدليل الواجب إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في انحصار الواجب بالوقت، لزم البناء على وجوبه بعد الوقت لو لم يؤتَ به فيه، عملاً بالإطلاق المذكور.

وأمكن حينئذٍ حمله على الصورة الأولى، وإن لم يظهر أثرها المتقدم، وهو صحة الفعل الفاقد للقيد مع التمكن منه، لامتناع فرض ذلك في الوقت، لاستحالة انفكاك الفعل عنه مع القدرة عليه، وليس هو كسائر القيود - كالطهارة - مما يمكن خلو الفعل عنه مع القدرة عليه، ليكون عدم صحته حينئذٍ مانعاً من حمل التقييد به على الصورة المذكورة.

كما يمكن حمله على الصورة الثالثة الراجعة لكونه قيداً حال القدرة عليه، دون حال تعذره.

ودعوى: أنه يلغو التقييد بالنحو المذكور في الوقت، لأنه في حال

ص: 406


1- سورة البقرة: 183-185

وجوده يمتنع انفكاك الفعل عنه، وليس هو كغيره من القيود التي يمكن انفكاك الفعل عنها حال القدرة عليها كي يمنع التقييد منه.

مدفوعة: بأنه يكفي في رفع لغوية التقييد بالوقت في خصوص حال القدرة عليه لزوم المحافظة عليه، الذي سبق أنه اللازم في هذه الصورة.

وإنما يتجه لزوم اللغوية في الصورة الثانية التي لا يجب فيها المحافظة على القيد، والتي سبق عدم احتمالها في المقام.

وإن كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار لزم البناء على عدم وجوبه بعد الوقت وإن كان لدليله إطلاق، لوجوب رفع اليد عن المطلق بالمقيد، ويتردد بين الصورة الرابعة والخامسة.

وأما لو لم يكن له ظهور في الانحصار ولا كان لدليل الواجب إطلاق، فلا طريق لإثبات وجوبه بعد الوقت ولا لنفيه، بل يتردد بين جميع الصور الأربع المذكورة.

وربما يدعى أن مقتضى قاعدة الميسور - بناءً على شمولها للشروط - وجوبه بعد الوقت، وان تعذر خصوصية الوقت حينئذٍ لا يوجب سقوط الواجب من أصله.

بل لو تمت كانت مقتضاها وجوبه بعده حتى لو كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار، لحكومتها على أدلة الأجزاء والشرائط الظاهرة في الارتباطية بينها مطلقاً، المستلزم لسقوط الواجب بتعذر بعضها.

لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة من أصلها، على ما ذكرناه في التنبيه الخامس من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فراجع.

ومن هنا كان المرجع فيما لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق ولا لدليل

ص: 407

التوقيت ظهور في الانحصار هو الأصول العملية. والظاهر أن المحكم أصل البراءة.

ولا مجال لاستصحاب وجوب الواجب بعد الوقت، لاحتمال كون الوقت قيداً في الواجب، لا واجباً فيه مستقلاً عنه - كما في الصورة الأولى - فيكون ما بعد الوقت مبايناً لما علم وجوبه سابقاً، ومع احتمال تعدد الموضوع لا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بالتسامح العرفي في وحدة الموضوع، على ما ذكرناه في محله.

الأمر الثاني: في كون القضاء من سنخ الأداء وعدمه

الأمر الثاني: لو فرض قصور دليل الواجب عن إثبات وجوبه بعد الوقت، لعدم الإطلاق فيه، أو لظهور دليل التوقيت في الانحصار فقد ورد وجوب القضاء في كثير من الفرائض والنوافل، كالصلاة والصوم وغيرهما.

وحينئذٍ يقع الكلام في أن القضاء من سنخ الأداء، إما لوفائه بتمام غرضه مع كون مصلحة الوقت مباينة لمصلحة الواجب - كما هو مقتضى الصورة الأولى - أو لوفائه ببعض مصلحته، لكون الوقت دخيلاً في بعض مراتبها - كما هو مقتضى الصورة الثالثة - أو أنه من سنخ آخر لا يكون محصلاً لشيء من مصلحة الأداء، لفوتها بتمامها بفوت الوقت، وإنما هو تدارك لفوته، نظير تدارك فوت الصحة بالدواء، فيناسب الصورة الرابعة.

وقد سبق ظهور الفرق في جريان قاعدة الاشتغال عند الشك بعد الوقت في الامتثال فيه، حيث تجري في الصورة الأولى والثالثة، دون الرابعة.

ما ذكره النائيني قدس سره

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الصورة الأولى والثالثة وإن كانتا ممكنتين ثبوتاً إلا أن ظاهر أدلة القضاء هو الصورة الرابعة، لأن ظاهر لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته، ولا معنى للتدارك في

ص: 408

الصورتين المذكورتين، حيث يكون الفعل خارج الوقت مأموراً به بنفس الأمر الأول فيهما.

المناقشة فيه

وفيه: أنه إن أُريد بتدارك ما فات في وقته مجرد الإتيان بالواجب بعد وقته، فهو لا ينافي الصورتين المذكورتين، وإن أريد به تدارك النقص الحاصل بسبب فوت الواجب، بحيث يكون الفرق بين الأداء والقضاء هو الفرق بين حراسة المال المانعة من تلفه وضمانه بعد تلفه بسبب التفريط في الحراسة، فهو بعيد عن المرتكز عرفاً لمعنى القضاء، بل المرتكز عرفاً أن ما يُؤتى به قضاء لشيءٍ من سنخه لا مباين له، ولذا لا يصدق القضاء في المثال المذكور ونظائره من الأمثلة العرفية والشرعية، ويطلق عند العرف على مثل أداء الدين بعد وقته وعند المتشرعة على الصوم بعد شهر رمضان لمن تركه فيه لمرضٍ أو سفرٍ مع ظهور دليله في أنه من سنخه.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ...»(1) فإنه ظاهر في وحدة الأمر تبعاً لوحدة الغرض والملاك، وإن اختلف الزمان الواجب فيه الصوم باختلاف الأحوال، كما يناسبه صدره المتضمن فرض الصيام أياماً معدودات، وذيله المتضمن تعليل القضاء بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، حيث لا يناسب اختصاص الفرض بصوم رمضان وأن صوم المسافر والمريض بعده

ص: 409


1- سورة القصص: 29

جبر لما حصل لهما من نقص بسبب الإفطار فيه، نظير الضمان في المثال المتقدم.

ويؤيد ما ذكرنا تفسير اللغويين للقضاء بالأداء والوفاء للدين أو للعهد أو نحوهما. وهو الظاهر من قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ»(1) وقوله: «إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا»(2) وقوله: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ»(3) وقوله: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ»(4) وقوله (ص): «مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر»(5) إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة في الكتاب والسنة وغيرهما الظاهرة في أن قضاء الشيء هو أداؤه بنفسه، والظاهر عدم خروج المعنى المتشرعي الحادث عن ذلك، وإن إختص بما إذا كان بعد الوقت.

ما أيد به مطلبه قدس سره

هذا، وقد أيد قدس سره مدّعاه بثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين، مع أن الوجوب تابع لقصد الناذر، وهو في الفرض لم يتعلق إلا بالفعل المقيد بزمان خاص، فيستحيل بقاء الأمر التابع لقصده بعد فوت الوقت المقصود.

اندفاعه

ويندفع: بأن قضاء الحج المنذور ليس عليه دليل إلا الإجماع كما قيل، ولا يعلم من حال المجمِعِين إرادة المعنى الخاص من القضاء، بل لعلهم نَزَّلوا البدلية منزلة القضاء.

ص: 410


1- سورة الأحزاب: 23
2- سورة يوسف: 68
3- سورة البقرة: 200
4- سورة النساء: 103
5- راجع الوسائل ج 11، باب: 1 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه

وأما قضاء الصوم المنذور فأكثر نصوصه قد تضمنت وجوب يوم بدل يوم أو مكان يوم(1)، ولم أعثر على ما تضمن لفظ القضاء إلا خبر صالح بن عبد الله: قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: «إن أخي حبس فجعلت على نفسي صوم شهرٍ، فصمت. فربما أتاني بعض إخواني فأفطرت أياماً أفأقضيه؟» قال: «لا بأس»(2).

ومرسل عبد الله بن جندب عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه سأله عن رجل جعل على نفسه نذراً صوماً فحضرته نية في زيارة أبي عبد الله قال: «يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك»(3).

وهما - مع عدم صراحتهما في الصوم المعين - قد يحملان على نحوٍ من التسامح في الإطلاق.

هذا، مع قرب أن يكون تشريع القضاء مبنياً على لحاظ الشارع القيود المأخوذة في المنذور بنحو الانحلال تعبداً، وإن كانت مأخوذة في النذر بنحو الارتباطية، ولذا ورد وجوب أداء المنذور مع تعذر بعض قيوده الأُخَر غير الوقت(4).

فلا يخرج بذلك عما ذكرنا من كون القضاء ارتكازاً من سنخ الأداء ناشئ عن ملاكه وغرضه.

ص: 411


1- الوسائل ج 7، باب: 7 من أبواب بقية الصوم الواجب و ج 8 باب: 34 وباب 37 من أبواب وجوب الحج وشرائطه. و ج 16، باب: 10 من كتاب النذر والعهد
2- الوسائل ج 7، باب: 17 من أبواب بقية الصوم الواجب، حديث: 2
3- الوسائل ج 16، باب: 13 من أبواب كتاب النذر والعهد، حديث: 1
4- راجع الوسائل ج 7، باب: 13 و 16 من أبواب بقية الصوم الواجب، و ج 16، باب: 8 وباب: 20 من كتاب النذر والعهد وغيرهما
ما ذكره قدس سره ودفعه

وأما ما ذكره بعض أفاضل العصر رحمة الله من أن القضاء لما كان هو تدارك ما فات فهو مختص بالصورة الرابعة، لأن ما فات من مصلحة الوقت في الصورة الأولى والثالثة لا يقبل التدارك، وما يقبل التدارك - وهو أصل الواجب - لا فوت بالإضافة إليه، بل هو كالواجبات المطلقة متى ما أُتِيَ به يكون أداء.

ففيه: أن تفسير القضاء بذلك لم يرد في كلام الشارع أو نحوه ممن يؤمن عليه الخطأ في تحديد المفهوم، وإنما ورد في كلام بعضهم للتعبير عما إرتكز في معنى القضاء، فلا مجال للخروج به عما ذكرنا من المعنى الارتكازي له، بل لابد من كون ذكر الفوت مبتنياً على ملاحظة فوت الوقت من حيثية دخله في بعض مراتب ملاك الواجب، لا لتحقق الفوت بلحاظ أصل الواجب، وإلا لم يصدق معه القضاء لما سبق.

كون القضاء من سنخ الأداء

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات العرفية والمتشرعية في كون القضاء من سنخ الأداء، وإن كان فاقداً لخصوصيته الدخيلة في بعض مراتب مصلحته.

ومن هنا كان المنصرف من إطلاق دليل القضاء أخذ جميع ما يعتبر في الأداء فيه لو فرض إجمال أمره من هذه الجهة.

نعم، اشتهر عند المتشرعة إطلاقه تبعاً لكثير من الاستعمالات الشرعية على خصوص ما إذا كان الفائت مصلحة الوقت، دون غيره من القيود الشرعية التي لا يكون تعذرها مسقطاً لأصل الواجب، حيث لا يصدق على فاقدها عند التعذر بالمعنى المذكور.

كما لابد من كون مصلحة الوقت من مراتب مصلحة الواجب، بحيث

ص: 412

يكون الوقت وقتاً للواجب، كما في الصورة الثالثة، فلو لم تكن من مراتبها وكانت مستقلة عنها لم يصدق القضاء، كما في الصورة الأولى.

فلو نذر المكلف أن يأتي بالصلاة في وقتها الفضيلي فلم يأت بها فيه لا يصدق على الإتيان بها بعد ذلك القضاء، كما لا يصدق الفوت بالإضافة إليها، لعدم كون النذر موجباً لتوقيتها.

ومنه يظهر عدم صدقه مع الإخلال بالفورية - بناءً على وجوبها - لو كانت واجبة بملاكٍ آخر، لا قيداً في الواجب.

ولذا لا يكون وفاء المماطل بالدين قضاءً، إلا إذا كان الدين موقتاً، وإن وجبت المبادرة في الوفاء مع إطلاق الدين - أيضاً - بملاك حرمة حبس الحق عن أهله.

كما ظهر بذلك - أيضاً - أنه لا بأس بإطلاق الفوت والقضاء فيما لو استفيد وجوب الواجب خارج الوقت من إطلاق دليل الواجب مع عدم ظهور دليل الوقت في الانحصار. ولا مجال لما يظهر من غير واحدٍ من الإشكال في ذلك.

نعم، لابد من كون المستفاد من دليل الوقت توقيت الواجب به، بحيث يكون دخيلاً في ملاكه، لا مجرد وجوب إيقاعه فيه بملاك آخر، من باب أنه واجب في واجب.

هذا كله لو كان الأمر بالفعل خارج الوقت متضمناً لعنوان القضاء، أما لو لم يكن كذلك، بل تضمن مجرد الأمر به بعنوانه فالظاهر أن المنصرف منه عرفاً كونه من سنخ ما وجب في الوقت لاتحاد سنخ الغرض منهما، لا مبايناً له، كما في الصورة الرابعة، فالوقت دخيل في بعض مصلحة الواجب، لا في

ص: 413

تمامها، ليكون الوجوب بعد الوقت بلحاظ مصلحة أخرى مباينة لمصلحة الواجب في الوقت. وعليه يكون قضاءً بالمعنى المتقدم وإن لم يصرح بلفظه.

كل ذلك بسبب مألوفية ذلك وشيوعه عند العرف والمتشرعة، واستبعاد اختلاف سنخ الغرض مع الاتفاق في الجنس.

وقد تحصل من جميع ما سبق: أنه مع إطلاق دليل الواجب وعدم ظهور دليل الوقت في الانحصار يكون وجوب الإتيان بالموقت بعد الوقت مستفاداً من نفس دليل الواجب بلا حاجة إلى دليلٍ آخر. وفي غير ذلك لابد فيه من دليل خاص، وهو دليل القضاء.

لكن الدليل المذكور لا يكشف عرفاً عن أمرٍ مباينٍ للأمر الأول، تبعاً لتباين متعلقيهما واختلاف سنخ الغرض منهما، بل عن حال الأمر الأول، وأنه بنحو يقتضي التكليف بالموقت بعد الوقت قضاءً له، لإمكان استيفاء بعض مصلحته، وأن المأتي به بعد الوقت من سنخ المأتي به قبله.

وعليه فما اشتهر من أن القضاء بأمرٍ جديد - في غير صورة الإطلاق المتقدمة - إنما يصح لو أريد به أنه محتاج للأمر في مقام الإثبات من دون تعدد فيه ثبوتاً، فتأمل جيداً.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الأمر الثالث: في إجزاء تقديم الموقت على الوقت ووجوهه

الأمر الثالث: كما يمكن أن يكون الموقت بنحو يجب قضاؤه بعد الوقت يمكن أن يكون بنحو يُجزئ تقديمه عليه.

وإجزاء ذلك..

تارةً: يكون لوفاء الفعل السابق بالغرض، فلا يجب الفعل في وقته لاستيفاء غرضه.

ص: 414

وأخرى: يكون لمانعيتة من تحصيل الغرض بنحو يتعذر استيفاؤه بالفعل في الوقت.

أما الأول فلابد فيه من كون الوقت شرطاً للتكليف، ليمتنع الامتثال بالفعل السابق عليه ويكون من تقديم الفعل على وقته، إذ لو لم يكن الوقت شرطاً له وكان التكليف فعلياً قبله فلا مجال لتوقيت نفس الواجب به بعد فرض وفاء الفعل السابق عليه بغرضه، ومع إطلاق التكليف والمكلف به معاً بالإضافة إلى الوقت لا يكون الفعل السابق عليه مقدماً على وقته، بل امتثالاً لتكليفه في وقته.

وأما الثاني فكما يمكن مع اشتراط التكليف بالوقت يمكن مع إطلاقه، حيث يكون الوقت شرطاً للواجب بسبب عدم ترتب غرضه عليه إلا فيه، فيكون تقديمه عليه تقديماً للواجب على وقته مطلقاً.

لكن لابد من النهي عنه لو كان التكليف فعلياً أو علم بتحقق شرط فعليته بعد ذلك، لما فيه من تفويت الغرض الفعلي في وقته، وإن كان مسقطاً للواجب في وقته لو جيء به وخولف النهي.

هذا، وحيث كان ظاهر الإجزاء هو الوفاء بالغرض كان ظاهر التعبير به في الأدلة إرادة الوجه الأول، لا الثاني.

الأمر الرابع: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره من استحالة كون الزمان أضيق وقاعدة من أدرك ركعة

الأمر الرابع: حيث سبق أن الموسع هو الذي يكون وقته أوسع منه، والمضيق هو الذي يكون وقته بقدره فقد قال سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه: «ويمتنع أن يكون الزمان أضيق، لأن التكليف بالفعل تكليف بالمحال. نعم، قد يكون الزمان وقتاً لبعضه، كما في من أدرك ركعة من الوقت، بناءً على كون خارج الوقت ليس وقتاً لباقي الفعل، كما هو الظاهر، لعدم التلازم بين

ص: 415

التنزيلين، كما ذكرناه في محله».

وكأنه أشار إلى ما ذَكَرَهُ في مستمسكه في شرح المسألة الحادية عشرة من فصل أوقات الفرائض التي تعرض فيها لذلك.

قال قدس سره: «ثم إن الظاهر من النص والفتوى تنزيل الصلاة الواقع منها في الوقت ركعة منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه، ومقتضاه ترتيب أحكامها عليها، لا تنزيل خارج الوقت المساوي لثلاث ركعات - مثلاً - منزلة نفس الوقت، ليكون مفاده ترتيب أحكامه عليه، فلاحظ».

وما ذكره قدس سره في محله، لعدم تعرض الأدلة للوقت بنحوٍ تقتضي سعته، بل لنفس الصلاة بنحو تقتضي أجزاءها وتماميتها، ففي خبر الأَصبغ بن نُباته: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة»(1). لكن لم يتضح عاجلاً الأثر العملي لذلك.

وقد يستفاد منه قدس سره هناك ظهور الأثر في وجوب المبادرة، إذ بناءً على استفادة سعة الوقت من النصوص يجوز تأخير الصلاة إليه اختياراً، حيث تقع في وقتها، وبناءً على دلالتها على كون الوقت لبعض الصلاة، لتمحضها في تنزيل الصلاة الواقع بعضها خارج الوقت منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه، يجب المبادرة بالصلاة وإيقاعها بتمامها في الوقت، عملاً بمقتضى التوقيت.

ويشكل: بعدم الفرق بين الوجهين في ذلك، لأن مفاد دليل التوقيت تعيين الوقت ووجوب إيقاع الصلاة بتمامها فيه، فإن كان مفاد التنزيل توسيع الوقت كان حاكماً على دليل التوقيت بلحاظ مفاده الأول، وإن كان مفاده تنزيل الصلاة الواقع بعضها في الوقت منزلة الصلاة الواقعة فيه بتمامها كان

ص: 416


1- الوسائل ج 3، باب: 30 من أبواب المواقيت، حديث: 2

حاكماً عليه بلحاظ مفاده الثاني.

فالظاهر عدم تبعية وجوب المبادرة وعدمه لأحد الوجهين، بل إن كان للتنزيل المذكور إطلاق يشمل حال الاختيار - كما هو مقتضى الخبر المتقدم - لم تجب المبادرة، لما ذكرنا من حكومته على دليل التوقيت بلحاظ أحد مفاديه.

وإن لم يكن له إطلاق كذلك، بل كان مختصاً بحال الاضطرار، وجبت المبادرة مع التمكن، عملاً بدليل التوقيت، حيث لا يكون دليل التنزيل حاكماً عليه إلا في حال التعذر لضيق الوقت - ولو بسوء الاختيار - فتجب المبادرة معه إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها بعد الوقت محافظةً على الوقت الاضطراري بعد تعذر الاختياري.

الأمر الخامس: جريان التقسيم في المستحب

الأمر الخامس: أشرنا في أول الكلام في هذا التقسيم إلى عدم اختصاصه بالواجب، بل يجري في المستحب.

وأما المنهي عنه - من المكروه والمحرم - فالظاهر جريانه فيه أيضاً، لإمكان اختصاص الفعل المنهي عنه بزمانٍ خاص، تبعاً لاختصاص المفسدة به، ولا إشكال فيه مع كون الوقت مضيقاً، حيث يقتضي تركه في تمام الوقت.

وأما فرض كونه موسعاً بنحوٍ تكون المفسدة مقتضية لترك الفعل في بعض الوقت غير المعين لا في تمامه، فهو وإن كان ممكناً، إلا أنه لا يناسب النهي، لما سبق من ابتنائه على استيعاب أفراد المنهي عنه بالترك، لا البدلية فيها، فلابد من مطابقة التكليف للملاك من أن يكون بصورة الأمر بالترك مدة من الزمان في ضمن الوقت، كالأمر بترك الماء ساعةً من يوم خاص، أو ترك السفر يوماً من شهرٍ خاصٍ، فتكون السعة في المأمور به لا في المنهي عنه.

ص: 417

كما أنه يمكن فيه تشريع القضاء وأجزاء الترك قبل الوقت عن الترك فيه على النحو المتقدم في الواجب.

ص: 418

المبحث السابع في تقسيم المأمور به إلى تعبدي وتوصلي
اشارة

وينبغي تمهيد الكلام بذكر أمور:

الأمر الأول: تفسير التعبدي والتوصلي

الأمر الأول: المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على موافقته بوجهٍ قربي من الأمر - على الكلام الآتي في تحديد الوجه القربي - والتوصلي بخلافه، فيسقط أمره بمجرد حصوله.

ولعله إلى ذلك ترجع عباراتهم على اختلافها الذي قد يكون ناشئاً من اختلافهم في كيفية أخذ الوجه القربي واعتباره، وهو أمر يأتي الكلام فيه، ولا ينبغي التعرض له هنا، بل يقتصر هنا على التعريف بالرسم بذكر الأثر المتفق عليه عند الكل.

وأما تفسير التوصلي بما يمكن الإتيان به لأجل فائدته للعلم بها، والتعبدي بما لا يمكن أن يؤتى به إلا للتعبد بأمر المولى من دون أن يعلم بالفائدة الموجبة للأمر به - كما قد ينسب للقدماء - فهو مصطلح آخر خارج عن محل الكلام في المقام.

الأمر الثاني: جريان التقسيم في المستحب

الأمر الثاني: هذا التقسيم - ككثير من التقسيمات السابقة - لا يختص بالواجب، بل يجري في المستحب بلا إشكال، وإن قصرت عنه بعض

ص: 419

كلماتهم.

جريان التقسيم في الحرام وعدمه

وأما جريانه في المنهي عنه فهو مبني على ما يأتي الكلام فيه من أن القصد القربي في التعبدي هل هو من شؤون المتعلق المأخوذة فيه، أو هو أمر خارج عنه يعتبر فيه شرعاً بأمر آخر، أو عقلاً في مقام الامتثال.

فعلى الثاني يجري التقسيم في النهي، حيث لا يقتضي النهي عن الماهية إلا محض الترك، وإن أمكن لزوم التقرب فيه لأمرٍ خارج عنه تارةً فيكون تعبدياً، وعدمه أخرى فيكون توصلياً.

أما على الأول - الذي هو الظاهر - فلا يجري في النهي، بل لا يكون النهي إلا توصلياً، ولا يكون التعبدي إلا أمراً، لأن قصد التقرب أمر وجودي ومقتضى الخطاب تحقيقه لا تركه، وما يقتضي فعل المتعلق هو الأمر لا النهي.

غايته أن المأمور به التعبدي..

تارةً: يكون هو الفعل المقيد بالقصد القربي، كالصلاة.

وأخرى: يكون هو الترك المقيد به، كالصوم. ولعل ارتكازية الأول هي المنشأ لعدهم الصوم مأموراً به تعبدياً من دون أن يبدلوا ذلك بعدِّ ما يمسك عنه الصائم محرمات تعبدية.

الأمر الثالث: وجوه المقربية

الأمر الثالث: ذكروا للمقربية وجوهاً كثيرة، كقصد الامتثال، وقصد المصلحة، وطلب الثواب وخوف العقاب - الأخرويين أو الدنيويين - وغيرها.

وفي الجواهر أنه لابد من الامتثال مع استظهار أن ذلك هو مراد الاصحاب من قصد القربة. وظاهر شيخنا الأستاذ قدس سره موافقته، كما قد يظهر

ص: 420

من غيره، وعن شيخنا الأعظم قدس سره موافقته فيما عدا قصد المصلحة وأنه في عرضه، وربما قيل: إنها جميعاً في عرضٍ واحد.

كما ربما يمنع من تحقق التقرب وصحة العبادة مع الأخيرين، بل نسب للمشهور، وعن السيد رضي الدين بن طاووس القطع به، وعن قواعد الشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب أو أكثرهم، وعن الرازي اتفاق المتكلمين عليه، وعن العلامة في جواب المسائل المهنائية اتفاق العدلية على عدم استحقاق الثواب معهما.

هذا، ولا ينبغي التأمل في أن المعيار في المقربية عند العرف قصد ملاك المحبوبية للمتقرب منه بما هو كذلك، وهو عبارة عن الجهة الموجبة لمحبوبية الفعل أو الترك لمن يراد التقرب منه، وهي أسبق مرتبة من أمره وعلة له، وقد تستكشف تارةً به، وأخرى بغيره، كما لو تعذر الأمر منه لعجزٍ أو غفلةٍ أو غيرهما.

لكن لابد من فعلية الملاك بحيث يبلغ مرتبة إستتباع الإرادة والخطاب لولا المانع.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن جميع الدواعي القربية في عرضٍ واحدٍ، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله سبحانه، كما يستفاد من قوله عليه السلام: «وكان عمله بنيةٍ صالحةٍ يقصد بها ربه».

فيدفعه: أن إضافة العمل لله سبحانه بحيث يحسب عليه إنما تصح مع ملاحظة نحو علاقةٍ له به، والظاهر أن العلاقة المصححة له ما ذكرنا من كونه واجداً لملاك المحبوبية، فلابد من قصده.

إن قلت: هذا لا يناسب ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من

ص: 421

انتزاع التكليف من الإرادة التشريعية التي هي منتزعة من الخطاب بداعي جعل السبيل وجعل مقتضاه في حساب المخاطب منتسباً إليه، والتي سبق أنها مباينة للإرادة التكوينية سنخاً وإن كانت في بعض الموارد مسببة عنها. إذ المحبوبية من شؤون الإرادة التكوينية، لا من شؤون الخطاب بالوجه المذكور، مع أنه لا إشكال في أنه يكفي في التقرب المعتبر في التعبدي قصد امتثال التكليف المنتزع من الإرادة التشريعية المذكورة.

قلت: المراد بملاك المحبوبية ما يعم ملاك التكليف الموجب للإرادة التشريعية، فكما أن قصد ملاك المحبوبية الموجب للإرادة التكوينية يكون مقرباً من باب تقرب المحسن بإحسانه لمن أحسن إليه، كذلك قصد ملاك الإرادة التشريعية يكون مقرباً من باب تقرب العبد للمولى والمكلَّف للمكلَّف، فإذا علم العبد بثبوت الملاك بالنحو المذكور وبلوغه مرتبة جعل التكليف كفى قصده في تقربه من المولى بما هو مولى، وإن لم يخاطبه المولى - تبعاً للملاك المذكور - لمانعٍ من غفلةٍ أو عجزٍ أو نحوهما - لو كان ممكناً في حقه - لأن ذلك كافٍ في حسن الطاعة أو وجوبها، ولا يتوقف وجوبها وحسنها على الخطاب فعلاً، كما يظهر بأدنى تدبر في المرتكزات العقلائية.

وعليه يبتني ما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم بقصد الملاك، فيصح لو كان عبادةً، وإن قيل بعدم الأمر به بسبب المزاحمة للأهم وعدم ثبوت الأمر الترتبي على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

في مقربية قصد الامتثال

ومن هنا ظهر أن مقربية قصد الامتثال إنما هي لكونه في طول قصد ملاك المحبوبية، فهو راجع إليه. كما أن قصد المصلحة إن أريد به قصدها

ص: 422

بما هي هي فهو ليس مقرباً من المولى، لعدم دخله به، وإن أريد به قصدها بما أنها ملاك للتكليف المولوي فهو عبارة أخرى عما ذكرناه من قصد ملاك المحبوبية.

قصد تحصيل الثواب وموافقة ملاك المحبوبية

وأما قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب فهما في طول قصد موافقة ملاك المحبوبية ومبنيان عليه لا في عرضه، وتوضيح ذلك: أن موافقة ملاك المحبوبية لما لم يكن داعياً ذاتياً للمكلف لم يصلح للداعوية إلا بلحاظ جهات خاصة تكون داعية في طول داعويته.

وتلك الجهات.. تارةً: ترجع إلى المولى نفسه، ككونه أهلاً للطاعة، أو لحب العبد له المقتضي لسعيه فيما يحبه، أو شكراً منه لنعمه، أو نحوها.

وأخرى: ترجع للعبد نفسه، كطلب الرفعة عند المولى، واستحقاق الشكر منه، ودفع المحذور وإستجلاب المحبوب الدنيويين أو الأخرويين.

والظاهر عدم منافاة شيءٍ منها للتقرب، فتصح العبادة مع الجميع إذا كان قصدها في طول قصد ملاك المحبوبية، بنحو داعي الداعي، كما هو محل الكلام.

دعوى: أنه من قبيل المعاوضات ودفعها

ودعوى: أن العمل برجاء المحبوب أو دفع المكروه الدنيويين أو الأُخرويين من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مقام السيد المستحق للعبادة، ولا يتحقق بها التقرب، بل لا يكون التقرب إلا مع صدور العمل لأجله.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم إذا لم يلحظ رضا المولى ومحبوبيته داعياً للعمل، بل كان الداعي بالمباشرة هو دفع المكروه وجلب المحبوب على أنه أثر العمل، نظير اللوازم الخارجية الطبعية، أو عوضه، نظير أجرة الأجير،

ص: 423

حيث تكون داعويتها لعمله بالمباشرة، لا في طول محبوبية المستأجر لعمله.

بخلاف ما إذا كان جلب المحبوب ودفع المكروه ملحوظاً على أنه داعي الداعي مع كون الداعي بالمباشرة هو محبوبية المولى، بأن يأتي العبد بالعمل لأنه محبوب للمولى وطاعةً له، كي يَرضى عنه ويكون أهلاً لرحمته وبعيداً عن نقمته فإن ذلك لا يمنع من التقرب للمولى واستحقاق الشكر منه بالإحسان للعبد والإنعام عليه ودفع المكروه عنه.

نظير التحبب للعشيرة بالإحسان إليهم، لأنهم جناحه الذي به يطير ويده التي بها يصول، حيث لا إشكال في كونه مقرباً منهم ومستوجباً لشكرهم وامتنانهم واستحقاق الجزاء منهم.

إشكال مقربية تحصيل الثواب

إن قلت: قد تقرر في محله أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، فإذا أمر زيد بإطاعة عمرو، فأمر عمرو بشيء، فمن أتى به إطاعةً له بداعي إطاعة زيد، كان الداعي الحقيقي له هو إطاعة زيد، فيكون متقرباً له لا لعمرو، فإذا كان الداعي لامتثال أمر المولى وإرضائه هو تحصيل ثوابه أو دفع عقابه، كان الداعي الحقيقي تحصيل الثواب أو دفع العقاب، ولا ينظر إلى داعوية إرضائه، ليكون مقرباً منه.

دفعه

قلت: هذا إنما يتم إذا كان الداعي الأول مجرد موافقة أمر الآمر، نظير موافقة أمر المستأجر، دون ما إذا كان هو موافقته من حيثية محبوبيته المستتبعة لرضاه والتحبب إليه، فإنها لا تنافي التقرب منه وإن كان الداعي الحقيقي هو ما وراء ذلك من موافقة أمر الغير أو تحصيل الثواب وتجنب العقاب.

ولذا كان الإحسان للمؤمنين رغبة في إرضائهم وتحصيل محبوبهم

ص: 424

بداعي أمر الشارع موجباً للتقرب منهم واستحقاق شكرهم والجزاء منهم بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية، وإن كان الداعي الحقيقي هو أمر الشارع.

عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب

بل لا ينبغي التأمل في عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب ودفع المكروه الدنيويين والأُخرويين للتقرب والعبادية بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية، وسيرة المتشرعة، والآيات والروايات الحاثة على الطاعة والزاجرة عن المعصية ببيان ما يترتب على الأُولى من أنواع خير الدنيا وثواب الآخرة، وعلى الثانية من أنواع ضرر الدنيا وعذاب الآخرة. لوضوح أن بيانهما ليكونا داعيين للعمل، وكذا نصوص قاعدة التسامح في السنن(1) الظاهرة والصريحة في كون الداعي للعمل هو الثواب الموعود به، وما تضمن بيان مراتب العبادة(2) كالصحيح الآتي وغيره.

بل تضمن بعض النصوص الترغيب على العمل طلباً لما عند الله تعالى، ففي النبوي: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمرئٍ ما نوى، فمن غزا ابتغاءَ ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى»(3)، وفي صحيح الحسين بن أبي سارة: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول،: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(4).

نعم، العمل بقصد دفع المحذور وجلب المحبوب مرتبة دانية من

ص: 425


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات
3- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10
4- الوسائل ج 11، باب: 13 من أبواب جهاد النفس، حديث: 5

الإطاعة، والتقرب بها دون التقرب بالوجوه الأخرى مما يعود للمولى - كأهليته والحب له - أو للعبد - كالتحبب للمولى وطلب الرفعة عنده - لأنها أظهر في تعظيمه وتقديسه، بل هي ملازمة لسمو نفس العبد المتقرب وعلو همته.

ففي صحيح هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال: العبادة [إن العباد] ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(1)، وقريب منه غيره، لكنه أمر آخر لا ينافي الأجزاء الذي نحن بصدده، بل يستلزمه.

هذا، وقد يستظهر من غير واحدٍ ممن منع من التقرب مع قصد جلب المحبوب ودفع المكروه إرادة قصده عوضاً بلا توسط قصد التحبب للمولى بفعل ما يحبه، بل هو صريح بعضهم.

كما أن من القريب أن يكون مراد من بنى على الصحة معه إرادة ما ذكرناه من كون قصده في طول قصد ملاك المحبوبية للتحبب للمولى، كما هو صريح بعضهم.

ومن ثم لا يبعد اختلاف موضوع النزاع، المستلزم لعدم كون النزاع حقيقياً، إلا أن يرجع للنزاع في إمكان اجتماع القصدين أو التنافي بينهما. ولا مجال لاستقصاء كلماتهم، والمهم ما ذكرناه من التفصيل.

ثم إن الظاهر إبتناء عمل المتشرعة مع قصد جلب الثواب ودفع العقاب الأُخرويين على الوجه الذي ذكرناه الراجع إلى كون ترتبهما فرع التحبب بالعمل للمولى، ليكون العبد أهلاً لرحمته وبعيداً عن نقمته، لأن

ص: 426


1- الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1

ذلك هو الوجه في ترتبهما حسب ارتكازياتهم.

وكذا الحال في قصد دفع وجلب جملة من المضار والمنافع الدنيوية.

ولو فرض كون ترتب بعضها بنظرهم لا بالوجه المذكور، بل لأنه من سنخ اللوازم والآثار الطبيعية للعمل المترتبة عليه بنفسه، أو من سنخ الأجر المحض من دون توسط التحبب للمولى، فلابد في صحة العبادة مع قصده من ضم الداعي القربي بنحوٍ يستقل بالتأثير، بحمل النفس على ذلك، ولو بترويضها عليه لأجل الغرض الدنيوي المذكور، وإلا أشكل صحة العبادة، كما هو الحال في جميع الدواعي المباحة غير القربية، على ما يذكر في مباحث النية من الفقه.

الأمر الرابع: في العبادة الذاتية

الأمر الرابع: وقع الكلام بينهم في وجود العبادة الذاتية التي لا تناط بقصد التقرب للمعبود الذي سبق توقفه على محبوبية العمل له، بل تصدق على العمل ولو مع نهي المعبود عنه، المستلزم لمبعديته منه.

وهي وإن كانت خارجة عن محل الكلام، لما سبق من أن المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على امتثاله بوجه قربي، إلا أن مناسبتها له تقتضي ذكرها في المقام استطراداً.

فاعلم أنه صرح بعضهم بوجود العبادة الذاتية، ومثَّل لها بالركوع والسجود ونحوهما.

ومنع منها آخرون، منهم سيدنا الأعظم قدس سره مدعياً أن المعيار في العبادية قصد ملاك المحبوبية للمولى، ولا تصدق بدونه. بل ذكر أن الالتزام بتحقق العبادة الذاتية له تعالى مانع من النهي عنها لحسنها ذاتاً.

ما ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: الظاهر أن العبادة متقومة عرفاً بخضوع العابد

ص: 427

للمعبود بمرتبة عالية بحيث يكون فانياً أمامه، ولا استقلال له معه.

ولعله إليه يرجع ما في مجمع البيان، قال في تفسير سورة الفاتحة: «والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم.

ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة، ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك إختص سبحانه بأن يعبد، ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة، كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، وتحسن الطاعة لغير الله تعالى ولا تحسن العبادة لغيره.

وقول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود، يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر، وقد يكون موافقاً لأمره ولا يكون عابداً له، ألا ترى أن الابن يوافق أمر الأب ولا يكون عابداً له، وكذلك العبد يطيع مولاه ولا يكون عابداً له بطاعته إياه، والكفار يعبدون الأصنام، ولا يكونون مطيعين لهم، إذ لا يتصور من جهتهم الأمر».

مظهر العبادة الذاتية

ولذلك مظهران:

الأول: ذاتي

الأول: ذاتي، وهو إطاعة أمر المعبود ونهيه بنحو يبتني على الفناء فيه ومنتهى الخضوع له لاستحقاقه ذلك عليه لذاته متفرعاً على ملكيته بالذات لنفس المطيع، دون ما لو كان استحقاقه للإطاعة لأمرٍ خارج عن ذاته، كشكر إحسان سابق أو بجعله ممن يجب إطاعته، كإطاعة النبي والإمام والمولى والمستأجر بأمر الله تعالى، أو لاستحقاقٍ ذاتي لا يتفرع على استحقاق نفس المطيع، كاستحقاق الأب الإطاعة على الولد، فضلاً عما لو لم يبتن على الاستحقاق، كإطاعة شخصٍ لآخر برجاء إحسانه أو لدفع شره، أو تفضلاً

ص: 428

منه عليه.

الثاني: عرفي

الثاني: عرفي، وذلك بالإتيان بأمور تبانى العرف والعقلاء على كونها مظهراً للخضوع الخاص أزاء الطرف المقابل ومبرزة لذلك، كالركوع له والسجود وتقديسه وتمجيده بما يناسب بلوغه المقام المذكور.

ولا مجال لدعوى: أن عبادية هذه الأمور ذاتية. لاختلافها باختلاف الأعراف على حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهي كسائر الأمور العرفية التي تقبل إمضاء المعبود وردعه واختراعه، فله أن يردع عن طريق خاص، فلا يكون مظهراً لعبادته، كما أن له أن يخترع طريقاً خاصاً، فيكون مظهراً لها، لنفوذ جعله على من يعبده بعد فرض خضوعه له وفنائه فيه.

وهذا بخلاف الأول، حيث لا مجال للردع عنه، بحيث يخرج عن كونه عبادة بعد كون عباديته ذاتية.

هذا، وأما النهي عن العبادة تكليفاً أو لمبغوضيتها من دون ردعٍ عن كيفية أدائها، بل مع فرض كون العمل مؤدياً، فإن كان من المعبود مع عدم استحقاقه لذلك فلا مانع منه، بل هو في غاية الحسن، كنهي المعصومين عليهم السلام عن عبادة الناس لهم. من دون فرق بين نوعي العبادة الذاتية والعرفية.

ونهيه عن العبادة الذاتية التي هي الإطاعة بالنحو الخاص للأمر والنهي لا ينافي صدور الأمر والنهي منه، لأنهما إنما يقتضيان أصل الإطاعة، دون النحو الخاص منها، وإنما يحسن النحو الخاص تبعاً لاستحقاق الآمر والناهي العبادة، فمع فرض عدم استحقاقه لا مانع من نهيه عنه.

وكذا الحال في نهي غير المعبود، كنهيه تعالى عن عبادة غيره ونهي المعصومين عليهم السلام عن عبادة الملائكة والأصنام.

ص: 429

كما أن النهي المذكور لا يوجب انسلاخ عنوان العبادية عن العمل الذي تؤدى به العبادة وإن صدر من المعبود، خلافاً لما سبق من سيدنا الأعظم قدس سره، ولذا لا يكون نهي المعصومين عليهم السلام عن عبادتهم بالركوع والسجود ونحوهما مخرجاً لها عن كونها عبادةً لهم.

نعم، يكون مانعاً من التقرب بها للناهي، فهي عبادة مبعدة عن المعبود لو نهى عنها.

وإن كان مع استحقاق المعبود للعبادة كالنهي عن عبادته تعالى بنحوٍ من الأنحاء فحيث كانت عبادته حسنة ذاتاً فلا يحسن النهي عنها إلا مع مزاحمة جهة الحسن الذاتية بجهة قبح عرضية ترجح عليها، حيث لا مانع من مزاحمة الجهة الذاتية للحسن والقبح، إلا أن تكون علةً تامةً لأحدهما، وليس هو المدعى في المقام، بل المدعى كون عبادة المستحق مجرد مقتضٍ للحسن يقبل المزاحمة كالصدق. وحينئذٍ لا يخرج العمل عن كونه عبادة بالنهي المذكور.

غاية الأمر أنه يمتنع التقرب به من الناهي ويكون مبعداً عنه، وإن كان هو المعبود نفسه.

إذا عرفت هذا فالكلام في المقام..

تارةً: في الفرق بين التعبدي والتوصلي في مقام الثبوت بحسب حقيقتهما، وإلا فالفرق بينهما بحسب أثرهما وكيفية امتثالهما قد سبق في الأمر الأول.

وأخرى: فيما يقتضيه الإطلاق أو الأصل عند الدوران بينهما في مقام الإثبات.

ص: 430

المقام الأول في الفرق بينهما في مقام الثبوت

فحيث سبق توقف امتثال التعبدي وسقوطه على الإتيان به بوجهٍ قربي، بخلاف التوصلي، يقع الكلام في أن الفرق بينهما في ذلك هل يتفرع على الاختلاف بينهما في متعلق الأمر فهو مطلق في التوصلي ومقيد في التعبدي بنحوٍ يقتضي الإتيان بالوجه القربي، أو على الاختلاف بينهما في الماهية والسنخ، نظير الاختلاف بين الوجوب والاستحباب، فالأمر التوصلي نحو من الأمر يقتضي محض الموافقة، والتعبدي نحو آخر يقتضي المتابعة بالنحو القربي، من دون فرق بينهما في المتعلق، أو على الاختلاف بينهما في الغرض، فيتأدى الغرض من التوصلي بمجرد موافقته، ولا يتأدى الغرض من التعبدي إلا بالموافقة عن القصد القربي، من دون فرق بينهما في المتعلق ولا في السنخ. واللازم النظر في جميع هذه الوجوه.

الوجه الأول: الفرق من حيث إطلاق المتعلق وتقييده

الوجه الأول: في أن الفرق بينهما بإطلاق المتعلق وتقيده.

والظاهر أنه هو المرتكز بدواً والمتعين في نفسه لو أمكن، وليس البناء من بعضهم على أحد الوجهين الآخرين إلا للبناء على امتناعه.

وجوه امتناع التقييد

وما يظهر بعد التأمل في كلماتهم في وجه امتناعه: أن أخذ الدواعي القربية في المأمور به يشكل:

تارةً: في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة، السابقة على الأمر.

ص: 431

وأخرى: في مقام توجيه الخطاب وإنشاء الأمر.

وثالثةً: في مقام فعلية التكليف.

ورابعةً: في مقام الامتثال.

والبحث في ذلك يكون بالكلام في جهات.

الجهة الأولى: وجه الإشكال في مقام فعلية الملاك

الجهة الأولى: في وجه الإشكال في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة ونحوها مما يكون سابقاً على الأمر.

والظاهر أن عمدة الإشكال في هذا المقام: أن الداعي للفعل لما كان هو الأمر الذي يكون قصده علة في إرادة الفعل ووجوده في الخارج معلولاً للفعل، فداعوية الشيء للفعل في رتبةٍ متأخرةٍ عن فرض ترتبه عليه، فكيف تكون دخيلة في ترتبه عليه؟! فما لم يكن تطهير الثوب مترتباً على غسله لا يتأتى داعوية التطهير للغسل، وما لم يكن إحراق الورقة مترتباً على إلقائها في النار لا يكون الإحراق داعياً للإلقاء، ولازم ذلك ترتب الداعي على الفعل وإن لم يقصد منه ولم يكن داعياً له.

وحيث كانت الدواعي القربية المقصودة - كامتثال الأمر وموافقة ملاك المحبوبية ونحوهما - مستلزمة لفعلية الغرض والملاك والإرادة إمتنع دخل قصدها في فعلية هذه الأمور بحيث يختص متعلقها بما يكون مشتملاً على القصد المذكور.

لكن هذا إنما يلزم لو كان الداعي القربي هو كون الفعل بنفسه علةً تامةً لتحقق محبوب المولى وامتثال أمره أو نحوهما من الدواعي القريبة، كما هو الحال في التقرب بالمأمور به التوصلي.

أما لو كان الداعي كونه مقتضياً لذلك فلا محذور، لوضوح أن قصد

ص: 432

الداعي القربي لا يكون دخيلاً فيما هو المقصود، وهو كون العمل العبادي مقتضياً لمحبوبية المولى أو امتثال أمره، بل هو دخيل في فعلية محبوبيته وامتثال أمره، بناءً على ما هو الظاهر من كونه شرطاً في المأمور به.

وبهذا يتجه دخل قصد الأثر في ترتبه في الأمور العرفية، كترتب التعظيم على القيام المقصود منه التعظيم، والتأديب على الضرب المقصود به التأديب، حيث لا يراد به قصد كون القيام والضرب علةً تامةً للتعظيم والتأديب، وإلا إمتنع دخل قصدهما في ترتبهما على القيام والضرب، بل قصد كونهما مقتضيين لهما، مع كون القصد شرطاً ودخيلاً في فعليتهما، لا في مجرد اقتضاء القيام والضرب لهما.

هذا، وأما بناءً على أن القصد القربي جزء من المأمور به فهو دخيل في مقتضي المحبوبية والامتثال، ولابد حينئذٍ من كون الداعي القربي هو الإتيان بجزء المحبوب وما به الامتثال لا بتمامه، فيكون المقصود هو التقرب بالأمر الضمني الوارد عليه، لا بالأمر بالمركب التام، حيث لا يكون الداعي القربي دخيلاً في جزئية العمل من المحبوب والامتثال بل تماميتهما.

وبالجملة: ليس الداعي القربي المقصود حين العمل والدخيل في تمامية الغرض والمحبوب والامتثال هو تحقيق ما يكون القصد دخيلاً فيه، الذي هو تمام موضوع الغرض والمحبوبية والامتثال، بل ما يستقل العمل به مع قطع النظر عن الداعي القربي، وهو كونه مقتضياً لها أو جزءاً منها، فلا يتوجه المحذور المذكور.

إن قلت: التقرب من المولى إنما هو بتحقيق غرضه، وحيث لا يترتب شيء من غرض المأمور به الارتباطي إلا بتماميته بتمام أجزائه وشروطه فلا

ص: 433

مجال للتقرب بالجزء والمقتضي إلا في ضمن قصد التقرب بتمام المركب، ولا يكون قصد الجزء أو المقتضي بدونه مقرباً، لعدم وفائه بالغرض، كما أشار لذلك المحقق الخراساني قدس سره في بعض جهات الكلام في المقام.

قلت: هذا إنما يقتضي امتناع التقرب بالجزء والمقتضي في ظرف عدم تمامية المركب الارتباطي، لعدم ترتب شيء من الغرض عليه حينئذٍ، ولا يقتضي لزوم التقرب به في ضمن التقرب بتمام المركب، بل يكفي تمامية المركب ولو بوجه غير قربي، فإذا وجب غسل الثوب مرتين بنحو الارتباطية يمتنع التقرب بغسله مرةً واحدةً في ظرف غسله مرةً أخرى، أما مع غسله مرةً أخرى سابقاً أو لاحقاً بوجهٍ غير قربي فيمكن التقرب بغسلةٍ واحدةٍ، لكونها دخيلةً في ترتب غرض المولى وفعليته، وإن لم يستند ترتب الغرض إليه وحده.

وفي المقام حيث كان قصد التقرب بالجزء أو المقتضي متمماً للمطلوب لعلة الامتثال وموافقة ملاك المحبوبية أمكن التقرب بالجزء أو المقتضي، لكونه دخيلاً في فعلية الغرض وترتبه.

بل هو راجع حينئذٍ للتقرب بفعلية الغرض في طول التقرب بجزء علته، لأن تحقيق المقتضي أو جزء العلة وإن كان هو الداعي المباشر للعمل، إلا أن تحقيق الغرض المعلول وفعليته بإتمام علته يكون ملحوظاً من باب داعي الداعي، الذي تقدم أنه الداعي الحقيقي، وإن لم يتقرَّب ببقية إجزاء العلة، ولبعض مشايخنا كلام لا يبعد رجوعه لذلك.

الجهة الثانية: في تقييد الأمر بقصد الامتثال

الجهة الثانية: في وجه الإشكال في مقام توجه الخطاب وإنشاء الأمر.

والمذكور في كلماتهم وجهان يرجعان إلى امتناع تقييد الأمر بقصد

ص: 434

الامتثال.

أحدهما: ما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره

أحدهما: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - وتبعه غير واحد على اختلاف عباراتهم، ومرجع الكل إلى أن قصد الامتثال لما كان من شؤون امتثال الأمر كان متأخراً رتبة، وحيث كان متعلق الأمر متقدماً على الأمر رتبةً تقدم الموضوع على عرضه، كان قصد الامتثال متأخراً عن متعلق الأمر بمرتبتين، فيمتنع أخذه فيه، لامتناع أخذ المتأخر في المتقدم.

ولا ينفع في دفع ذلك ما سبق في أن المأخوذ في المتعلق هو قصد امتثال الأمر الضمني الوارد على الجزء أو الذات، لا قصد امتثال الأمر الاستقلالي الوارد على المركب بتمامه بما فيه قصد الامتثال المذكور، والذي هو متأخر عن المتعلق رتبة تأخر العرض عن معروضه.

والوجه في عدم نفعه: أن الأمر الضمني ليس له تقرر في مرتبة الإنشاء، ليمكن لحاظه وأخذه في المتعلق، بل هو مستفاد بحسب التحليل العقلي في المرتبة المتأخرة عن الإنشاء، الذي لا يكون إلا للأمر الاستقلالي بالمركب التام، فأخذه في المتعلق يستلزم أخذ ما هو متأخر عنه في الرتبة.

ومثله ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن العارض على المتعلق المتأخر عنه رتبةً هو الحكم بوجوده الخارجي، والمدعى أخذه فيه ليس داعويته، لتكون من شؤونه المتوقفة عليه والمتأخرة عنه رتبةً، بل داعوية صورته الذهنية غير المتوقفة عليه، لأن الداعي هو الحكم بوجوده العلمي.

لاندفاعه: بأن الداعي ليس هو الصورة الذهنية للأمر بنفسها، بل بما هي عبرةً لوجوده الخارجي، وإن كان قد يختلف عنها، فلابد في أخذ داعوية الأمر في المتعلق من تصور الأمر له مفروض التقرر والوجود، وهو ممتنع

ص: 435

في مقام إنشائه، لعدم تقرره بشخصه إلا في رتبة متأخرة عن الإنشاء، كما يظهر بأدنى تأمل في المرتكزات العرفية.

وهناك بعض الوجوه الأخر مذكور في دفع الإشكال المذكور لا مجال لإطالة الكلام فيه مع تعقده وعدم وضوح نهوضه.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

والذي ينبغي أن يقال: حيث لا يرجع هذا الإشكال إلى امتناع اختصاص متعلق الأمر بالواجد لقصد الامتثال، بل إلى امتناع لحاظ القصد المذكور قيداً في المتعلق حين الأمر، فالمتعين مع تعلق الغرض بخصوص الواجد للقيد عدم التكليف بالمطلق، بل بخصوص الواجد بنتيجة التقييد، لتبعية الأمر للغرض، غايته أنه لا يبين بلسان التقييد، بل بلسان آخر يكشف عن حال المتعلق من بيان لفظي أو لبي.

وكأن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في التخلص عن الإشكال راجع إلى ذلك.

ثانيهما: ما ذكره النائيني قدس سره

ثانيهما: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره - كما في تقرير درسه لبعض مشايخنا - وحاصله: أنه لابد من أخذ موضوع التكليف مفروض الوجود في مقام الإنشاء، بحيث يجعل التكليف في فرض وجوده، ولذا لا يقتضي التكليف إيجاده، بل لا يثبت التكليف إلا في رتبةً متأخرة عنه، بخلاف متعلق التكليف، حيث يثبت التكليف بدونه ويقتضي إيجاده بماله من أجزاء وشرائط.

أما متعلق متعلق التكليف، كالزوجة التي هي متعلق الإنفاق الواجب والعقد الذي هو متعلق الوفاء الواجب ونحوهما، فلابد أن يكون جزءاً من موضوع التكليف ملحوظاً في مقام الإنشاء مفروض الوجود في رتبةٍ

ص: 436

سابقة عليه، ولذا لا يجب على المكلف الزواج ليمتثل التكليف بالإنفاق، ولا إيقاع العقد ليمتثل التكليف بالوفاء، بل يجب الإنفاق والوفاء في فرض تحقق الزوجية والعقد.

ومن الظاهر أن تقييد العمل بقصد امتثال الأمر راجع إلى كون الأمر متعلقاً لقصد الامتثال الذي هو معتبر في العمل المتعلق للتكليف، فيلزم أخذه موضوعاً للتكليف مفروض الوجود في مرحلة الإنشاء، وهو ممتنع، لاستلزامه تقدم الأمر على نفسه وكونه موضوعاً لنفسه.

وما ذكره قدس سره - لو تم - إمتنع اختصاص التكليف بالواجد لقصد الامتثال ثبوتاً، ولو بنحو نتيجة التقييد، لأن تقدم الأمر على نفسه وأخذه موضوعاً لها مفروض الوجود في رتبةٍ سابقةٍ عليها ممتنع ثبوتاً، بأي وجهٍ فرض بيانه.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأن كون متعلق متعلق الحكم مأخوذاً موضوعاً فيه مفروض الوجود في مرتبةٍ سابقةٍ في مقام الإنشاء ليس لازماً عقلاً، ولذا لو وجب الغسل بالماء الطاهر أو التستر باللباس المنسوج أو التصدق بالخاتم المصوغ، فلا يراد وجوبها على تقدير وجود الأمور المذكورة، بل بنحو يقتضي إيجادها.

نعم، كثيراً ما يستفاد ذلك لبعض القرائن اللفظية أو العقلية أو الارتكازية.

ولعل تعريف المتعلق كثيراً ما يكون ظاهراً في أخذه مفروض الوجود، لما فيه من معنى العهد، ولذا كان الفرق ظاهراً بين قولنا: يجب على الرجل الإنفاق على زوجته، وقولنا: يجب عليه الإنفاق على زوجةٍ له.

كما قد يكون للحكم المجعول أو لكيفية جعله دخل في ذلك، كما في

ص: 437

وجوب الوفاء بالعقود، الظاهر في كونه إمضاءً للقضية الارتكازية العرفية، التي لا يراد بها إلا الوفاء بالعقد على تقدير وجوده، لا بنحو يقتضي إيجاده.

مع أنه حيث كان المراد به الوفاء بكل عقدٍ، لا الاكتفاء بالمسمى، ويعلم بعدم وجوب إيقاع جميع أفراد العقود، كان المتعين إرادة الاكتفاء بكل عقدٍ بعد فرض وقوعه.

ومن هنا لا مجال لإثبات لزوم ذلك في المقام، ليمتنع اختصاص التكليف ثبوتاً بالواجد لقصد الامتثال.

نعم، قد يكون منشأ ذلك ما أشير إليه في تقرير درسه للكاظمي من أن الأمر لما كان خارجاً عن اختيار المكلف كانت قدرته على قصد امتثاله مشروطةً بوجوده، فلابد من أخذه مفروض الوجود موضوعاً للأمر، إذ لابد في الأمر من قدرة المكلف في رتبةٍ سابقةٍ عليه.

لكنه - مع توقفه على امتناع الواجب المعلق - يندفع: بأن أخذ منشأ القدرة في موضوع التكليف ولحاظه مفروض الوجود في رتبةٍ سابقةٍ عليه لما لم يكن لدخله في ملاكه، بل لامتناع التكليف بما لا يطاق، فهو مختص بما إذا كان أمراً خارجاً عن التكليف وغير ملازم له، كالوقت، أما إذا كان هو التكليف بنفسه - كما في المقام - أو ملازماً له، فلا ملزم بأخذه في موضوعه، لملازمة جعل التكليف للقدرة حينئذٍ، فلا يلزم من عدم أخذه في موضوعه التكليف بما لا يطاق، كما نَبَّه لذلك في الجملة بعض الأعيان المحققين قدس سره.

ابتناء الوجهين على انحصار التعبد بقصد الامتثال

هذا، ولا يخفى أن الوجهين معاً مبنيان على انحصار الداعي القربي بقصد الامتثال.

أما بناءً على ما سبق منّا من أن المعيار فيه قصد ملاك المحبوبية فلا

ص: 438

يلزم من التقييد به شيء من المحذورين المذكورين، لأن الملاك المذكور سابق في الرتبة على الأمر، فلا محذور في أخذه في موضوعه، كما يلزم من أخذ قصده في متعلقه أخذ ما هو من شؤون الأمر في متعلقه، كما اعترف بذلك في الجملة غير واحدٍ.

الجهة الثالثة: في الإشكال في مقام فعلية الخطاب

الجهة الثالثة: في وجه الإشكال في مقام الفعلية.

وقد وجهه بعض الأعاظم قدس سره بناءً على ما سبق منه من الإشكال في مقام الخطاب وإنشاء الأمر بأنه إذا كان لازم التقييد المذكور أخذ الأمر في موضوع نفسه، يلزم فعليته في رتبةٍ سابقةٍ على فعلية نفسه، لما هو المعلوم من أن فعلية الموضوع بتمام أجزائه وشرائطه سابقةً رتبةً على فعلية حكمه.

هذا، وحيث سبق عدم تمامية المحذور المذكور في مقام الخطاب وإنشاء الأمر، خصوصاً بناءً على أن المعتبر قصد ملاك المحبوبية فلا موضوع له في هذا المقام.

الجهة الثالثة: في الإشكال في مقام الامتثال وتقريبه من وجوه

الجهة الرابعة: في وجه الإشكال في مقام الامتثال.

وقد يقرب بوجوه:

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن قصد الامتثال خارج عن الاختيار، لما تقرر من خروج الإرادة عنه، وإلا لتسلسلت.

وهو لو تم جرى في قصد غير الامتثال أيضاً.

دفعه

لكنه يندفع بأن لزوم التسلسل إنما يكشف عن عدم لزوم كون كل إرادة اختيارية بنحو الإيجاب الكلي، ولا يقتضي امتناع تعلق الاختيار بالإرادة والقصد بنحو السلب الكلي، بل لا مانع من كون بعض الإرادات اختيارية، كالإرادة المتعلقة بالفعل الاختياري، بنحو يمكن كونها قيداً في

ص: 439

المطلوب أو جزءاً منه.

كيف ولولا ذلك لإمتنع ما اختاره من كون قصد الامتثال واجباً عقلاً في العبادة، لدخله في غرض المولى، لامتناع تحقق الدواعي العقلية نحو الأمور غير الاختيارية؟!

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن داعوية قصد امتثال الأمر للعمل فرع تحقق الامتثال به في مرتبة سابقة على داعويته، لكونه واجداً لتمام أجزاء المأمور به وشرائطه، فإذا كان قصد داعويته دخيلاً فيه جزءاً أو شرطاً لزم كون داعويته في مرتبةٍ متأخرةٍ عن قصدها.

وهو راجع إلى ما تقدم منّا من المحذور في مرتبة تعلق الغرض والملاك. والذي سبق عدم الفرق فيه بين الدواعي، كما نبّه له قدس سره في الجملة في هذا المقام.

دفعه

ومما سبق هناك يظهر اندفاعه: بأن المقصود في مقام الامتثال - تبعاً لما هو المعتبر في مقام الجعل - ليس هو قصد كون العمل علة تامة للجهة المقصودة في الداعوية، بل مجرد كونه مقتضياً لها أو جزءاً منها، وما يتوقف على القصد المذكور هو فعلية ترتب تلك الجهة عليه، فالقصد المذكور دخيل في تمامية العلة، لا في الاقتضاء أو الجزء المقصود من العمل.

ومنه يظهر أنه لا مجال للإشكال بالعجز عن الامتثال، بتقريب: أن الإتيان بالعمل بقصد امتثال أمره متوقف على كونه مأموراً به بنفسه، والمفروض عدم الأمر به بنفسه، بل مقيداً بالقصد المذكور.

لاندفاعه: بأنه إنما يتجه لو كان المعتبر قصد كونه علةً تامةً للامتثال، أما حيث كان المعتبر قصد كونه مقتضياً له فيكفي فيه الأمر به مقيداً بالقصد

ص: 440

المذكور.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره أيضاً

الثالث: ما ذكره هو قدس سره - أيضاً - من أن قصد الداعي أياً ما فرض فهو في مرتبةً سابقةٍ على الإرادة، لأنه علة لها، فيمتنع كونه في عرض العمل المتعلق لها والمسبب عنها، بحيث يكون مراداً معه لأنه جزء منه أو قيد فيه.

ودفعه

وفيه: أنه إن كان المراد تعلق الإرادة بشخص الداعي الذي هو علة لها، فهو مسلّم، إلا أنه لا ينفع في المقام، لما تقدم من أن الداعي المعتبر هو قصد كون العمل جزءاً من الجهة الملحوظة - من الامتثال أو موافقة ملاك المحبوبية أو نحوهما - أو مقتضياً لها، وهو علة للإرادة المتعلقة بذات العمل، من دون أن يكون الداعي المذكور مراداً بالإرادة المذكورة ولا من شؤون متعلقها، وإنما هو مراد بالإرادة المتعلقة به، وهي غير مسببة عن الداعي المعتبر في العمل، وكلتا الإرادتين في طول إرادة المركب التام الذي هو علة تامة لتلك الجهة الملحوظة.

فمثلاً: الداعي لإرادة فعل الصلاة بذاتها هو كونها مقتضية للامتثال أو جزءاً، وهو المعتبر في متعلق الأمر - جزءاً أو شرطاً - وليس هو مراداً بالإرادة المذكورة، بل علة لها، وإنما هو معلول للإرادة المتعلقة به، التي هي إرادة فعل شرط الامتثال أو جزئه الآخر، وكلتا الإرادتين في طول إرادة المركب التام، والتي يكون الداعي لها قصد العلة التامة للامتثال، وقد سبق في الجهة الأولى أن قصد جزء العلة للامتثال كافٍ في المقربية في ظرف تمامية العلة.

وإن كان المراد امتناع تعلق الإرادة بالداعي وإن لم يكن علةً لها فالدليل المذكور لا ينهض به، بل هو مخالف للوجدان، حيث لا إشكال في أن الداعي قد يقصد ويراد بإرادةٍ مسببةٍ عن داعٍ آخر، كالإتيان بالمأمور به

ص: 441

التوصلي بقصد الامتثال لأجل تحصيل الثواب عليه.

بل لولا ذلك لإمتنع التعبدي مطلقاً حتى مع توجيهه بما سيأتي منه قدس سره من ابتنائه على تعدد الأمر، لأن امتناع تعلق الإرادة بالداعي القربي مانع من تعلق الأمر به، لأن الغرض من الأمر إحداث الداعي العقلي نحو المأمور به، ويمتنع حدوث الداعي العقلي نحو ما يمتنع تعلق الإرادة به.

على أن هذا الإيراد إنما يتوجه لو كان الداعي القربي جزءاً من العبادة المأمور بها، حيث يلزم كونه مراداً للمكلف كسائر أجزاء المأمور به.

أما بناءً على كونه شرطاً فيها فمن الظاهر أنه لا يعتبر تعلق الإرادة والاختيار بالشرط، بل يعتبر كون المشروط اختيارياً مراداً للمكلف في ظرف تحقق الشرط، كالصلاة إلى القبلة وإن لم يكن الاستقبال اختيارياً، فعدم تعلق الإرادة بالداعي القربي لا يمنع من كونه شرطاً في العبادة المأمور بها بعد كون العبادة الواجدة له اختيارية مرادةً للمكلف.

وتوهم: أن القيد إذا لم يكن موجوداً فخروجه عن الاختيار مستلزم لعدم كون المقيد اختيارياً.

مدفوع: بأنه لا مجال لذلك في الاختيار، فإن العمل المقيد به اختياري، وإن لم يلزم كونه هو اختيارياً، فلاحظ.

وجه استحالة تقييد المتعلق ذاتاً َ

هذا، وفي المقام وجه آخر ذكره غير واحدٍ لعله لا يختص بمقام الامتثال، بل يرجع إلى استحالة تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله ذاتاً.

وهو أنه لما كان الأمر يدعو إلى متعلقه ذاتاً فلو كانت داعويته مأخوذة في متعلقه لزم كونه داعياً إلى داعوية نفسه، وهو كعليته لعلية نفسه محال.

ما دفعه به العراقي قدس سره

وقد دفعه بعض الأعيان المحققين قدس سره بالتفكيك الذي تقدم التنبيه له

ص: 442

غير مرة، بدعوى: أن الأمر بالمركب لا يدعو إلى داعوية نفسه، بل الحصة من الأمر المتعلقة بقصد الامتثال تدعو إلى داعوية الحصة المتعلقة بنفس العمل، لما سبق من أن المعتبر هو قصد كون العمل جزءاً من الامتثال أو مقتضياً له، لا أنه تمام الامتثال وعلته التامة، ليكون امتثالاً للأمر بتمام المركب.

وعليه لا يلزم إلا داعوية إحدى الحصتين من الأمر لداعوية الأخرى، ولا محذور فيه.

وهو وإن كان مسلّماً - لما سبق - إلا أنه يشكل بما تقدم في الوجه الأول لمحذور التقييد في مقام توجيه الخطاب، من أنه يمتنع لحاظ الأمر الانحلال والتفكيك في الأمر في مقام إنشائه، ليأخذ داعوية بعض حصصه في موضوع الأخرى.

إلا أن يدعى أخذه لباً بنحو نتيجة التقييد لا بصريحه، نظير ما تقدم في الوجه المذكور.

مع أن داعوية الأمر - وإن كان ضمنياً إلى متعلقه - من لوازمه الذاتية، فيمتنع استنادها إلى أمر خارج عنه.

وهذا هو العمدة في المحذور، لأنه ثبوتي لا يختلف باختلاف ألسنة جعل الحكم، بخلاف الأول.

الأولى: في دفع المحذور المذكور

فالأَولى دفع المحذور المذكور: بأن داعوية الأمر إلى متعلقه التي هي من لوازمه الذاتية ليست هي داعويته الفعلية في نفس المكلف، فإنها من شؤون المكلف، لا من لوازم الأمر الذاتية، بل هي بمعنى إقتضائه تحصيله، والداعوية المأخوذة في المأمور به ليست بهذا المعنى، لعدم كونه

ص: 443

من شؤون المكلف، بل هي بمعنى فعلية داعويته في نفس المكلف، بحيث يكون اندفاعه عنه، ولا مانع من استنادها لأمرٍ خارجٍ عن ذات الأمر، وهو خصوصية متعلقه، فيكون الأمر داعياً - بالمعنى الأول - لها في ضمن متعلقه، فلاحظ.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام لمنع اختصاص متعلق الأمر بالقصد القربي، وقد ظهر عدم تماميتها في أنفسها أو عدم نهوضها بالمنع منه.

ومن هنا ينبغي البناء على إمكانه، غايته أنه لو كان القصد القربي مختصاً بقصد امتثال الأمر إمتنع أخذه بلسان التقييد في مقام جعل الحكم وتوجيه الخطاب، للوجه الأول، المتقدم في محذور التقييد في المقام المذكور، بل يتعين قصور المتعلق بنتيجة التقييد، فلابد من بيان ذلك بلسان آخر.

أما بناءً على ما سبق من أن المدار فيه على قصد ملاك المحبوبية فلا مانع من أخذه بلسان التقييد، كما تقدم.

بقي شيء: في متمم الجعل

بقي شيء:

وهو أنه ربما يدعى أنه بناءً على امتناع اختصاص متعلق الأمر بالقصد القربي فلو كان الغرض مختصاً به يتعين تعدد الأمر محافظةً على الغرض المذكور.

وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدس سره وجعله من صغريات متمم الجعل الذي التزم به في غير مورد من موارد امتناع التقييد.

ص: 444

وحاصله: أن جعل المولى وأمره..

تارةً: يكون تاماً ووافياً بغرضه وملاكه.

وأخرى: لا يكون وافياً به، لتعذر استيفاء الغرض بأمرٍ واحد، فلابد من تتميم الجعل بجعلٍ آخر، بأن يكون له أمران يحصل بهما غرضه ويستوفي الملاك الملحوظ له.

وفي المقام إذا كان الملاك الملحوظ للمولى يقتضي التعبدية فحيث يستحيل استيفاؤه بأمرٍ واحد يتعين للمولى أن يأمر أولاً بذات العبادة، ثم يأمر ثانياً بالإتيان بها بقصد امتثال الأمر الأول الذي لا يلزم منه شيء من المحاذير السابقة، وحيث فرض أن الأمرين ناشئان عن غرضٍ واحدٍ كانا ارتباطيين في مقام الامتثال، ويمتنع سقوط أحدهما بالامتثال دون الآخر.

ما أورده به الخراساني قدس سره

وقد أورد المحقق الخراساني قدس سره على تعدد الأمر في مثل ذلك بعدم الحاجة إلى الأمر الثاني حينئذٍ، بل على الآمر أن يتكل على ما يحكم به العقل من أنه مع عدم حصول الغرض بمجرد موافقة الأمر الأول يجب على المكلف موافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض بالإتيان بجميع ما يكون دخيلاً فيه، وإن لم يؤخذ في الأمر.

ما دفعه به السيد الحكيم قدس سره

وقد دفعه سيدنا الأعظم قدس سره بأنه إنما يتم مع علم المكلف بعدم حصول الغرض، وكذا مع الشك لو قيل بحكم العقل بالاحتياط، أما لو قيل بحكمه بالبراءة فلا مانع من الأمر الثاني مولوياً، ليكون رافعاً لحكم العقل.

بل لو قيل بأن حكم العقل بالاحتياط منوط بعدم البيان من الشارع الأقدس صح الأمر مولوياً وكان وارداً على حكم العقل.

والظاهر رجوع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره إلى ذلك، بل لا

ص: 445

يبعد رجوع ما ذكره بعض المحققين إليه في الجملة أيضاً.

لكن لا يخفى أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ناظر إلى مقام الثبوت، لا الإثبات، فمرجعه إلى أنه بعد فرض عدم وفاء مجرد موافقة الأمر الأول بالغرض يحكم العقل بموافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض من دون حاجةٍ إلى أمرٍ شرعي، بل هو يلغو معه.

أما مقتضى الوظيفة الظاهرية عند الشك في حصول الغرض بمحض الموافقة فهو أمر آخر يأتي في المقام الثاني المعد لمقام الإثبات، فإن قلنا هناك بتوقف عدم الاكتفاء بمحض الموافقة على البيان الشرعي - وحكم العقل بالبراءة بدونه - لزم على المولى البيان محافظةً على الغرض.

بل قد يلزم البيان عليه أو يحسن حتى لو قيل بلزوم الاحتياط تجنباً لفوت الغرض بسبب قصور بعض المكلفين على استيضاح الحكم المذكور أو غفلته عن احتمال عدم حصول الغرض بمجرد الموافقة.

لكن البيان لا يكون بالجعل الآخر والأمر الثاني الذي هو محل الكلام، بل بمحض الكشف عن حال الغرض، لتنقيح صغرى حكم العقل المذكور.

توجيه مراد الخراساني قدس سره

وبعبارة أخرى: مراد المحقق الخراساني قدس سره اكتفاء الشارع في مقام الثبوت بحكم العقل بلزوم تحصيل الغرض عن الأمر الثاني، لا إكتفاؤه في مقام الإثبات بحكم العقل بالاحتياط في تحصيل الغرض عند الشك فيه عن بيان حال غرض الأمر الأول.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن شأن العقل إدراك أن الشيء قد أراده الشارع، وليس من شؤونه الأمر والتشريع حتى يكون شارعاً في قبال

ص: 446

الشارع.

لاندفاعه: بأن المدعى هو إلزام العقل بقصد الامتثال ابتداءً، ليكون شارعاً في قبال الشارع، بل بتوسط فرض توقف غرض الشارع عليه، نظير حكمه بوجوب الإطاعة في فرض ورود الأمر الشرعي.

ومرجع ذلك إلى أن موضوع وجوب الإطاعة عقلاً لا يختص بالأمر، بل يعم تحصيل الغرض ولو بدونه.

إلا إن يكون مراده إنكار ذلك وتخصيص موضوع وجوب الإطاعة بالأمر.

لكنه في غير محله، على ما يأتي في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين التعبدي والتوصلي إن شاء الله تعالى.

العمدة في دفع ما ذكره الخراساني قدس سره

فالعمدة في دفع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره أن حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى وإن تم إلا أنه لا يمنع من أمر المولى بما يتوقف عليه حصول غرضه، ولا يستلزم لغويته، وإلاّ لزم اكتفاء المولى ببيان موضوعات أغراضه عن جميع أحكامه، ولا يحتاج في التعبد حتى إلى الأمر الأول الذي يعترف قدس سره به.

بل يأتي في الوجه الثالث أن تعلق غرض المولى بشيءٍ بعد فرض عدم غفلته مستلزم للأمر به استقلالاً، أو في ضمن غيره جزءاً أو شرطاً، فلا موضوع لما ذكره قدس سره.

نعم، ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره مبني على إمكان الإهمال في مقام الثبوت وعدم انحصار أمر الجعل بالإطلاق والتقييد، إذ حينئذٍ لا يكون عدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزم لإطلاقه ثبوتاً، ليكون مُخلاً بالغرض، بل

ص: 447

يكون المتعلق مُهملاً من هذه الجهة ثبوتاً، فلا يلزم إلا قصوره عن استيفاء الغرض، ويتوقف استيفاؤه على متمم الجعل وهو الأمر الثاني.

أما بناءً على امتناع الإهمال، وأن المتعلق لا يخرج عن الإطلاق والتقييد - كما يأتي في المقام الثاني - فعدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزم لإطلاقه، المستلزم في المقام لإخلاله بالغرض الممتنع في نفسه، ولكون الأمر الثاني من سنخ الناسخ لإطلاق الأمر الأول لا المتمم له، وهو خلاف الفرض.

ولأجله لابد من البناء على قصور متعلق الأمر الأول ابتداءً واختصاصه بواجد القيد ثبوتاً وإن لم يؤخذ بلسان التقييد، فلا يكون الأمر الأول قاصراً عن استيفاء الغرض، ليحتاج إلى متمم الجعل بالأمر الثاني، بل وافياً به، غاية الأمر أنه يحتاج إلى بيان قصور متعلقه في مقام الإثبات، نظير ما ذكرناه آنفاً بناءً على اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

مضافاً إلى أن الأمر الأول لما لم يكن وافياً بغرض المولى - بالفرض - فقصد امتثاله لا يكون مقرباً، إلا بلحاظ ما سبق في الجهة الأولى من إمكان التقرب بقصد بعض ما يحصّل الغرض أو مقتضيه في ضرف تمامية العلة له، وهو لو تم إقتضى الاكتفاء مع وحدة الأمر بقصد مقتضي الامتثال وموافقة الأمر الضمني الوارد على ذات العبادة، الذي سبق منّا أنه معه لا يتم ما ذكره قدس سره في وجه امتناع تقييد متعلق الأمر مع وحدته.

ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدس سره من إبتناء التعبدي على متمم الجعل وتعدد الأمر، فلاحظ.

الوجه الثاني: أن الفرق اختلاف سنخهما

الوجه الثاني: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في ماهية الأمر

ص: 448

وسنخه.

قد يدعى أن التعبدي سنخ من الأمر يقتضي إيجاد متعلقه بقصد امتثاله، بخلاف التوصلي فإنه سنخ آخر منه يقتضي تحقيق متعلقه مطلقاً، فالفرق بينهما نظير الفرق بين الوجوب والاستحباب، حيث يقتضي الأول منهما لزوم الإطاعة بخلاف الثاني من دون فرق بينهما في المتعلق.

ولا يخفى أن تخصيص مقتضى التعبدي بقصد الامتثال مبني على ما هو المشهور من انحصار القصد القربي به، أما بناءً على الاكتفاء فيه بوجهٍ آخر فيكون هو الفارق في المقام.

ومن هنا لا مجال للإشكال فيه من بعض الأعاظم قدس سره بعدم اختصاص الداعي القربي بالقصد المذكور، كي يدعى كونه من لوازم ذات الأمر.

نعم، استشكل فيه - أيضاً - باستحالة كون دعوة الأمر موجودة بوجوده وفي عرضه وإلا لتقدم الشيء على نفسه.

وكأنه راجع إلى أن تأخر داعوية الأمر رتبةً تمنع من إفادة الأمر نفسه لزومها بحيث يوجد بإنشائه.

لكنه - مع ابتنائه على اختصاص الداعي القربي بقصد امتثال الأمر الذي سبق الكلام فيه - إنما يتم لو كان المدعى دخل لزوم الداعوية في مفهوم الأمر التعبدي، بحيث يكون به امتيازه، ويكون مقوماً له وينشأ بإنشائه، أما لو كان المدعى أن ما به امتيازه عن التوصلي أمر آخر يستلزم لزوم داعوية الأمر في مقام الامتثال فلا مانع من ذلك، نظير اقتضاء كل أمر لأن يمتثل مع أن امتثال الأمر متأخر عنه رتبةً كداعويته.

ومجرد التأخر الرتبي لا يمنع من وجود المتأخر بإيجاد المتقدم، كما

ص: 449

هو الحال في جميع اللوازم وإن كانت متأخرة رتبةً عن ملزوماتها.

ومن هنا كان الظاهر أن اختلاف ماهية الأمر بالنحو المذكور بمكان من الإمكان.

نعم، لا شاهد عليه، بل لا يدرك العقل للأمر إلا حقيقةً واحدةً، وأن إطاعته مطلقاً تكون بتحقيق متعلقه في الخارج، ولا يعتبر في مقام الإطاعة إلا ما اعتبر في المتعلق شطراً أو شرطاً.

هذا ما تقتضيه المرتكزات المحكمة في المقام، والتي هي المرجع في مثل ذلك من دون حاجة للبرهان.

الوجه الثالث: الفرق في الغرض الداعي للأمر

الوجه الثالث: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر.

من الظاهر أن اختلاف التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر ليس مورداً للإشكال في نفسه، وإنما الإشكال في أن الاختلاف بينهما في الغرض هل يستلزم الاختلاف بينهما في المتعلق مع وحدة بالأمر أو تعدده - كما هو مقتضى الوجه الأول - أو في سنخ الأمر - كما هو مقتضى الوجه الثاني - أولا يستلزمه، بل يكون حتى مع وحدة سنخ الأمر ومتعلقه.

وقد اختار الثاني المحقق الخراساني قدس سره حيث أصر على وحدة الأمر والمتعلق فيهما من دون أن يشير للاختلاف بينهما في السنخ، ومع ذلك ذكر أن الأمر التوصلي يحصل غرض الأمر منه بمجرد موافقته، فيسقط بذلك تبعاً لحصول الغرض.

بخلاف التعبدي فإن حصول غرضه منه يتوقف على موافقته بقصد الامتثال، فلا يسقط بدونه، لتبعية الأمر للغرض حدوثاً وسقوطاً، فيجب

ص: 450

قصد الامتثال عقلاً وإن لم يؤخذ فيه شرعاً، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب موافقته بنحو يحصل به الغرض كي يسقط الأمر.

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام في تعدد الأمر.

ما استشكله النائيني قدس سره

لكن استشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره.. أولاً: بابتنائه على اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

و ثانياً: باستحالة كون دعوة الأمر غرضاً منه وموجودةً بوجوده.

و ثالثاً: بعدم لزوم متابعة الغرض.

إلا أنه يظهر حال الأول مما تقدم في الوجه الثاني.

كما أن ظاهره كون المراد بالثاني ما تقدم منه في دفع الوجه المذكور. ويظهر اندفاعه مما تقدم.

مضافاً إلى أنه - لو تم - إنما يمنع من استناد لزوم داعوية الأمر للأمر نفسه، بنحوٍ يكون هو المقتضي لها - كما تقدم في الوجه الثاني - وليس هو محل الكلام هنا، بل المدعى استناده إلى تعلق الغرض المستكشف بالأمر أو بغيره وأنه هو المقتضي للموافقة بالوجه المذكور.

ومجرد صدور الأمر عن مثل هذا الغرض لا يستلزم استناد لزوم الداعوية للأمر المذكور، كما لعله ظاهر. ولعله لذا أهمل في تقرير درسه للكاظمي.

وأما الثالث فهو وإن ذكر في تقريري درسه، وقد أصر عليه شيخنا الأستاذ قدس سره، مدعياً أن موضوع الإطاعة الواجبة عقلاً يختص بالأمر الشرعي،

ص: 451

وأن الشارع إنما عبَّدنا بأحكامه دون أغراضه ومرغوباته، إلا أنه حكي عنه قدس سره العدول عن ذلك مدعياً إلزام العقل بموافقة غرض المولى، لاندراجه تحت الكبرى العقلية بلزوم الإطاعة، وعليه جرى غير واحدٍ من الأكابر، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه.

وهو الموافق للمرتكزات العقلية القطعية في باب الإطاعة والمعصية.

بل لزوم موافقة الأمر والنهي ارتكازاً إنما هو بلحاظ كاشفيتهما عرفاً عن غرض الآمر والناهي، الذي هو الموضوع الحقيقي لوجوب الإطاعة عقلاً، لا لخصوصيتهما فيه، فيجب القيام بغرض المولى لو علم به وإن لم يصدر أمر أو نهي من قبله، لعجزه عنهما أو تخيله عدم الفائدة فيهما.

بل يكفي في ذلك عندهم بلوغ الملاك مرتبة لو التفت المولى إلى بلوغها لتعلق غرضه به وأمر أو نهى على طبقه، وإن كان غافلاً لسهوٍ أو نومٍ أو نحوهما - لو أمكن في حقه - على ما أشرنا إليه عند الكلام في معيار المقربية.

وقد تقدم في الأمر الخامس من الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ما ينفع في المقام.

وأما ما سبق من شيخنا الأستاذ قدس سره من أن الشارع إنما عبَّدنا بأحكامه، فالمراد به غير ظاهر، إذ لم يصدر من الشارع تعبّد بالأحكام في قبال جعلها، كي يصلح لأن يكون بياناً لما ينبغي إطاعته - لو كان من شأنه التعرض لذلك - بل ليس وراء جعله الأحكام إلا حكم العقل بلزوم الإطاعة، فاللازم النظر في موضوعه، وقد ذكرنا أن المعيار فيه الغرض.

نعم، عدم مطابقة الأمر للغرض سعةً وضيقاً إنما تمكن مع غفلة

ص: 452

المولى وجهله بعدم استيفاء غرضه بالأمر، ولا يعقل في حق الملتفت العالم - كالشارع الأقدس - إلا بناءً على إمكان الإهمال في مقام الثبوت، حيث لا يكون الأمر مخالفاً للغرض في مورد الإهمال.

أما بناءً على امتناع الإهمال - كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقام الثاني - فعدم مطابقة الأمر للغرض وعدم وفائه به مستلزم لمخالفة الأمر للغرض، الذي هو ممتنع في نفسه، بل لابد معه من التطابق بينهما وقصور متعلق الأمر عما لا يحصل به الغرض لباً وبنتيجة التقييد لو فرض امتناع تحديده بلسان التقييد، على ما يظهر بالرجوع لما تقدم عند الكلام في تعدد الأمر، وحينئذٍ لا أثر للنزاع في لزوم موافقة الغرض.

كما لا مجال لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن القصد القربي إنما يجب عقلاً لتوقف غرض الشارع عليه من دون أن يؤخذ في متعلق الأمر، بل لابد من البناء على اختصاص متعلق الأمر بالواجد للقصد المذكور، ويجب الاقتصار عليه عقلاً لوجوب إطاعة الأمر.

ومن هنا لا معدل عن الوجه الأول، الذي سبق إمكانه في نفسه ومطابقته للمرتكزات، فلاحظ.

ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 453

المقام الثاني في الدوران بين التعبدي والتوصلي في مقام الإثبات

والكلام في هذا المقام إنما يكون في مقتضى الدليل والأصل بعد الفراغ عن الفرق بينهما في مقام الثبوت بأحد الوجوه المتقدمة وهو ينحصر بجهتين.

الجهة الأولى: في مفاد الدليل

الجهة الأولى: في مفاد الدليل.

ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق التوصلية بناءً على إمكان التقييد بالقصد القربي، لأنه يكون كسائر القيود التي شأن الإطلاق نفيها.

الكلام في عدم جواز التمسك بالإطلاق لامتناع التقييد

إما بناءً على امتناع التقييد فقد ذكر غير واحدٍ أنه لا مجال للتمسك بالإطلاق، بل هو ممتنع في ظرف امتناع التقييد، لأن الإطلاق ليس هو محض عدم التقييد، كي يلزم في مورد امتناعه، بل عدم التقييد في المورد القابل للتقيد، فليس التقابل بينهما من تقابل النقيضين، بل من تقابل العدم والملكة، فمع امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضاً.

ولا يخلو المراد بذلك عن إجمال.

في وجه امتناع الإطلاق ثبوتاً وإثباتاً

إذ.. تارةً: يراد به أن امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق في مقام الثبوت، وفي مرحلة ورود الحكم على الماهية واقعاً، فلا يكون الحكم مطلقاً ولا مقيداً لباً، بل يكون مهملاً من هذه الجهة ثبوتاً، فيعمل به على إهماله تبعاً للغرض الموجب له - كما تقدم من المحقق الخراساني قدس سره - أو

ص: 454

يحتاج إلى جعلٍ آخر، وهو الذي عبَّر بعض الأعاظم قدس سره ب (متمم الجعل)، وجعل منه الأمر الثاني في المقام.

وأخرى: يراد به أن امتناع التقييد مانع من ظهور الكلام في الإطلاق في مقام الإثبات، فلا يكون بياناً على سريان الحكم، بل يكون مجملاً من هذه الجهة، ويحتاج إلى بيانٍ آخر، وإن كان دائراً بين الإطلاق والتقييد ثبوتاً غير خارجٍ عنهما، لامتناع الإهمال.

فالواسطة بين الإطلاق والتقييد على الأول الإهمال، وعلى الثاني الإجمال. ولا بأس بالكلام في الأمرين، فإن محله طبعاً وإن كان هو مبحث المطلق والمقيد، إلا أن إبتناء الكلام في هذه المسألة عليه وأهميتها وتشعب مبانيها تلزم باستيفاء الكلام فيها بالبحث في كلا الأمرين.

امتناع الإطلاق ثبوتاً ورأي النائيني قدس سره

أما الأول: فعمدة الوجه فيه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الإطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد، إلا أنه لابد فيه من ورود الحكم على المقسم، لأنه هو القابل للأمرين، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فيمتنع كل منهما مع امتناع ورود الحكم على المقسم، كما هو المفروض في المقام، لأن انقسام المتعلق إلى ما يؤتى به بقصد امتثال الأمر وما يؤتى به لا بقصده إنما هو في رتبة متأخرة عن ورود الأمر عليه، ولا يقبل الانقسام إلى ذلك في مرتبة ورود الأمر عليه.

وهكذا الحال في جميع القيود المنتزعة في مرتبةٍ متأخرةٍ عن ورود الحكم، كالعلم به والالتفات إليه، بل يتعين الإهمال بالإضافة إليها.

المناقشة فيه

وفيه: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة، فلابد فيهما من فرض موضوع قابل لهما، إلا أن موضوعهما هو

ص: 455

الماهية الخارجية القابلة للوجود في ضمن أفراد كثيرة، دون الماهية المجردة التي لا وجود لها في الخارج، والجزئي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين.

وحينئذٍ فالماهية المذكورة المأخوذة موضوعاً للحكم أو متعلقاً له إن لحظت بنفسها ولم يؤخذ فيها ما يمنع من انطباقها على بعض الأفراد لزم سريان الحكم لتمام أفرادها، ولزم الإطلاق البدلي أو الشمولي الانحلالي أو المجموعي، وإن أخذ فيها ما يوجب قصورها عن بعض الأفراد لزم التقييد، ولا يعقل الإهمال وخلو الأمر عن الوجهين، لأن الماهية إن كانت وافيةً بنفسها بالغرض الموجب لجعل الحكم بنظر الحاكم لزم الاكتفاء بها وتعين الإطلاق، وإن لم تكن وافيةً به فلا مجال للاكتفاء بها بعد كون انطباقها على تمام الأفراد قهرياً، فيلزم من الاكتفاء بها الإخلال بالغرض، وهو ممتنع، بل لابد من أخذها بنحو تقصر في موضوعيتها عما لا يفي بالغرض، إما بالتقييد صريحاً بالعنوان الدخيل في الغرض لو أمكن أو بنتيجة التقييد بقصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد بواقعها لا بعنوانها المنتزع من القيد.

فأن أراد من الإهمال مجرد عدم التقييد صريحاً مع قصور الموضوع بنتيجة التقييد، فهو خلاف ما نفهمه من الإهمال، ولا يستلزم قصور الجعل ثبوتاً بنحو يحتاج إلى المتمم الذي ذكره، بل غاية الأمر احتياج الحصة التي هي موضوع الحكم إلى البيان بوجهٍ غير التقييد.

ما ذكره قدس سره من أنه لابد في الإطلاق من ورود الحكم على المقسم

وإن أراد منه عدم شمول الحكم ولا قصوره، بل يكون مسكوتاً عنه في المورد الذي لا يفي بالغرض، كالفرد الخارج عن الماهية تخصصاً، فلا مجال له بعد فرض لحاظ الماهية وكون انطباقها على جميع أفرادها قهرياً.

وأما ما ذكره قدس سره من أنه لابد في الإطلاق من ورود الحكم على

ص: 456

المقسم، فيندفع: بأن المقسم في المقام ليس إلا الماهية المفروض ورود الحكم عليه لأن مقسمية الماهية لتمام حصصها واقعي قهري.

ومجرد امتناع تعنون الحصة بالقيد في مرتبة ورود الحكم على الماهية إنما يمنع من مقسمية الماهية للحصة بعنوانها المنتزع من القيد، لا من مقسميتها لها بواقعها، المستلزم لشمول الإطلاق لها بالواقع المذكور أو قصوره عنها كذلك، ولا يعقل الإهمال، كما ذكرنا.

ولولا ذلك لزم الإهمال بالإضافة إلى ما يفي بالغرض وهو الواجد للقيد أيضاً، لأنه يشارك ما لا يفي به في عدم مقسمية الماهية له بعنوانه المنتزع من القيد في مرتبة ورود الحكم عليها، ولازمه لغوية الجعل، فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا كما يجري بناءً على أن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضوعه، وأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - كما هو الظاهر - كذلك يجري بناءً على أن الإطلاق عبارة عن لحاظ سريان الحكم لتمام أفراد الماهية، وأن التقابل بينه وبين التقييد تقابل الضدين.

إذ لا يراد - على المبنى المذكور - بلحاظ السريان لتمام أفراد الماهية لحاظ السريان إليها بعناوينها المنتزعة من كل قيد يفرض فيها، بنحو يستلزم السريان في مورد كل قيد لحاظه في مقام جعل الحكم، كي يمتنع السريان في مورد القيود التي يمتنع لحاظها في مقام الجعل.

بل المراد لحاظ السريان إلى الأفراد بواقعها المقارن لأي عنوان يفرض من دون لحاظ العنوان، ولذا لا إشكال في بنائهم على الإطلاق بالإضافة إلى القيود التي يمكن لحاظها، لكن يعلم غفلة المتكلم عنها حين الخطاب والجعل - لو أمكن في حقه الغفلة - ولا يعتبر في التعميم بلحاظ

ص: 457

كل قيدٍ إلى إحراز التفات الحكم إليه عند الإطلاق وتعميمه بالإضافة إليه.

في امتناع الإهمال ثبوتاً

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع الإهمال ثبوتاً، بل لابد من كون الحكم الوارد على الماهية مجعولاً واقعاً بنحو الإطلاق أو التقييد، بمعنى قصوره عن بعض الحصص واقعاً ولو بنتيجة التقييد، وإن لم تلحظ بعناوينها المنتزعة من بعض القيود، لامتناع لحاظه في مرتبة جعل الحكم.

في امتناع الإطلاق إثباتاً

وأما الثاني فعمدة الوجه فيه: أن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الغرض منافياً للحكمة، لأنه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان المستتبع للعمل يلزمه ذكر تمام ما هو الدخيل في مراده، ليقع العمل تبعاً له مطابقاً لغرضه.

وهذا إنما يتم إذا كان التقييد ممكناً في نفسه، إذ لو كان ممتنعاً لا يكون الإخلال به مع دخله في الغرض منافياً للحكمة، فلا يكون عدم ذكره كاشفاً عن عدم إرادته، لينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

المناقشة فيه

وفيه: أن تعذر التقييد في المقام لا يستلزم تعذر بيان إرادة المقيد، بل يمكن بيانه بطريقٍ آخر، فعدم بيانه بالطريق المذكور كاشف عن عدم إرادته ومستلزم لانعقاد الإطلاق، كعدم التقييد، مع إمكانه.

على أن التعذر لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان، بل لو لم يكن مراداً لا ينبغي الخطاب به، ويلزم البيان بطريقٍ آخر يطابق المراد ويوافق الغرض.

ومجرد كون قرينة الحكمة من مقدمات الإطلاق لا ينافي ذلك، على ما يتضح في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

ومن هنا لا يكون امتناع التقييد - بعد ما سبق من امتناع الإهمال

ص: 458

ثبوتاً - مانعاً من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان.

وعليه يكون مقتضى الإطلاق في المقام التوصلية، ويحتاج البناء على كون المأمور به تعبدياً إلى الدليل الخاص.

وينبغي تتميم البحث في المقام بذكر أمور..

الأول: ابتناء ما تقدم على الفرق في متعلق الأمر

الأول: أن ما تقدم في تقريب الإطلاق مبني على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في متعلق الأمر.

أما بناءً على أن الفرق بينهما في سنخ الأمر فلا موضوع للتمسك بإطلاق المأمور به، بل غاية الأمر التمسك بإطلاق الأمر، لدعوى: أن كون الأمر تعبدياً يحتاج إلى مؤنة بيان، نظير التمسك بإطلاقه لإثبات كونه وجوبياً، لدعوى: أن الاستحباب يحتاج إلى مؤنة البيان، كما تقدم من بعضهم.

لكن حيث كان المحكم في مفاد الإطلاق الارتكازيات المتفرعة في المقام على إدراك الفرق في سنخ الطلب ثبوتاً، وقد سبق عدم إدراكنا للفرق بينهما، فلا يتيسر لنا التصديق بمفاد الإطلاق المذكور ولا دفعه، بل يختص الجزم بأحد الأمرين بمن يدعي الفرق المذكور.

وأما بناءً على أن الفرق بينهما في الغرض الداعي له وأنه في التوصلي يحصل بمجرد الموافقة وفي التعبدي لا يحصل إلا بالموافقة بالوجه القربي من دون فرق في المتعلق، فمن الظاهر أن الإطلاق إنما ينهض بتعيين متعلق الأمر، وأما كاشفيته عن مورد الغرض فهي بضميمة لزوم مطابقة الأمر للغرض، فمع فرض إبتناء الكلام على عدم لزوم التطابق بينهما، وإمكان قصور متعلق الأمر عنه فلا مجال لاستفادة مورد الغرض من الإطلاق.

إلا أن يدعى بناء العقلاء على أن الأصل التطابق بينهما في فرض

ص: 459

الشك فيه، ليتم بضميمته استفادة مورد الغرض من الإطلاق.

لكن التصديق بمفاد الأصل المذكور فرع وضوح إمكان عدم التطابق بينهما، وهو غير متعقل لنا في فرض التفات الحاكم، بل الظاهر امتناعه.

بل سبق منا عند الكلام في الوجه المذكور أن عدم مطابقة الأمر للغرض إنما تمكن بناءً على إمكان الإهمال ثبوتاً، ومع فرض الإهمال لا موضوع للإطلاق في مقام الإثبات، ليقع الكلام في مفاده، ويمكن دعوى كاشفيته عن موضوع الغرض.

الثاني: دعوى ظهور الأمر في التوصلية بعد عدم الإطلاق

الثاني: بناءً على عدم جواز التمسك بإطلاق المادة في فرض امتناع التقييد، إما للزوم الإهمال ثبوتاً، أو لعدم صلوح الإطلاق للبيان في مقام الإثبات فقد يدعى ظهور الأمر في التوصلية، لا من جهة الإطلاق المذكور، كما جرى على ذلك شيخنا الأعظم قدس سره على ما في التقريرات.

فإنه بعد أن منع من التمسك بالإطلاق بالإضافة للقيود المنتزعة في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بالفعل قال: «فالحق الحقيق بالتصديق هو أن ظاهر الأمر يقتضي التوصلية، إذ ليس المستفاد من الأمر إلا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل [بالفعل. ظ] على ما هو مدلول المادة، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب، لامتناع طلب الحاصل».

المناقشة فيه

لكن ما ذكره إن ابتنى على ظهور الصيغة في طلب المادة بنفسها بنحوٍ يطابق الغرض فهو عبارة أخرى عن الرجوع لإطلاق المادة الذي أنكره في صدر كلامه.

وإن ابتنى على ظهورها في طلب المادة في الجملة من دون أن

ص: 460

ينهض بالإطلاق من حيثية القيد المذكور، بل لابد من الإهمال أو الإجمال - ليناسب ما سبق منه - فمن الظاهر أن طلب المادة في الجملة لا يستلزم أجزاء المأتي به لا بقصد التقرب، لعدم ثبوت صدق المطلوب عليه، ليلزم من عدم سقوط الطلب به طلب الحاصل.

وإن ابتنى على خروج قصد التقرب عن المأمور به ودخله في الغرض الذي عليه المدار في سقوط الأمر، بنحوٍ لا يلزم من إطلاق المأمور به مطابقته للغرض، فلابد من التزام عدم امتناع طلب الحاصل إذا لم يحصل به الغرض، وأنه يلزم عقلاً تحقيق المطلوب بالوجه الذي يحصل به الغرض، وإلا لزم امتناع التعبدي.

نعم، قال: - بعد كلام له - «وأما الشك في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنه لا يعقل أن يكون مفاداً بالكاشف عن الطلب لابد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان - كما هو المحرر في أصالة البراءة - من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظية أو غيرها».

وظاهره الرجوع في العمل على التوصلية للأصل العملي، وهو لا يناسب ما قربه في كلامه السابق من ظهور الأمر في التوصلية، ومن هنا كان كلامه قدس سره مضطرباً.

بل يظهر بمراجعة من كلماته في فرائده وما نسب له في التقريرات شدة اضطراب مبانيه في المسألة، حيث يظهر من بعضها كون القصد القربي معتبراً في المأمور به شطراً أو شرطاً وإن احتاج إلى بيان آخر، ويظهر من بعضها كونه خارجاً عنه ومن شؤون الامتثال لتوقف الغرض عليه، مع

ص: 461

اختلافها فيما هو المرجع عند الشك فيه من ظهور الأمر أو الأصل العملي المقتضي للبراءة أو الاشتغال.

وقد ذكرنا جملة منها في تعليقتنا على الكفاية، ولا مجال لاستقصائها هنا.

ما ذكره النائيني قدس سره من أن مقتضى الإطلاق المقامي التوصلية

أما بعض الأعاظم قدس سره فبعد ما سبق منه من امتناع كل من الإطلاق والتقييد من حيثية القيد الخاص ولزوم الإهمال، وأنه لابد في كون الواجب تعبدياً من تتميم الجعل بالأمر الثاني، ذكر أن مقتضى الإطلاق المقامي التوصلية.

بدعوى: أنه إذا كان المولى في مقام بيان تمام جعله ولم ينصب قرينة على الجعل الثاني المتمم للجعل الأول فمقتضى إطلاق المقام تمامية الجعل الأول وعدم احتياجه للمتمم، فيحرز بذلك التوصلية.

لكنه يشكل: بأنه لما كان مبنى كلامه على الإهمال وعدم الإطلاق ثبوتاً، فلا معنى لكشف الإطلاق المقامي عن تمامية الجعل التي لا تكون إلا بالإطلاق أو التقييد، بل لابد للجعل من متمم يفيد فائدة التقييد أو فائدة الإطلاق.

غاية الأمر أن يكون الإطلاق المقامي كاشفاً عن كون الجعل المتمم بخصوص أحد الوجهين، ولم يتعرض قدس سره في كلامه لذلك ولا لوجهه.

ولا يسعنا الجزم بأحد الوجهين بعدما إستوضحناه من عدم تمامية مبنى المسألة في كلامه.

الثالث: دعوى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية

الثالث: ذهب جماعة منهم الكلباسي في الإشارات - على ما حكي - إلى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية.

ص: 462

ويستدل على ذلك بوجوهٍ:

أولها: كون الغرض محركية الأمر

أولها: أن غرض المولى من الأمر جعله محركاً للعبد نحو العمل المأمور به، فلابد في موافقة الغرض المذكور من الإتيان بالمأمور به بداعي امتثال الأمر، فيكون الأمر تعبدياً، ويحتاج الاكتفاء به بدونه إلى دليل مخرج عن ذلك.

وبهذا الوجه لا يبقى مجال لإطلاق المادة الذي تقدم أن مقتضاه التوصلية.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من ابتنائه على لزوم قصد الامتثال في التعبدي، وقد تقدم عدم لزومه.

فيدفعه: أن عدم لزوم قصد الامتثال والاكتفاء بالقصد القربي - بالوجه الذي تقدم منّا أو منه - إنما هو لعدم الدليل على وجوبه والاقتصار على القصد القربي، أما لو فرض نهوض هذا الوجه بإثبات وجوبه لزم البناء عليه ورفع اليد عما تقدم.

فالعمدة الإشكال فيه..

المناقشة فيه

تارةً: بأن الالتزام بذلك في الأمر يقتضي الالتزام به في النهي، إذ لو كان الغرض من الأمر جعله محركاً للعبد نحو المأمور به كان الغرض من النهي كونه داعياً لترك المنهي عنه، بل يلتزم بنظيره في الترخيص، حيث يكون الغرض منه إعتماد العبد عليه في السعة في مقام العمل، مع وضوح عدم كون النهي والترخيص تعبديين.

ولا يظن بأحد الالتزام بأن ذلك للدليل الخاص مع ظهور الخطاب بهما في التعبدية.

ص: 463

وأخرى: بأنه ليس الغرض من الشيء إلا ما يترتب عليه ولا يتخلف عنه، ومن الظاهر أن فعلية محركية الأمر قد تتخلف عنه بالمعصية أو غيرها، فلا تكون غرضاً منه، بل ليس الغرض منه إلا إحداث الداعي العقلي الصالح للمحركية نحو العمل، وهو مشترك بين التعبدي والتوصلي.

وثالثةً: بأن الغرض الذي يجب متابعته ويلزم مطابقة المأمور به له سعةً وضيقاً وإطلاقاً وتقييداً هو الغرض من المأمور به، وهو الملاك المترتب عليه، لا الغرض من الأمر نفسه، كمحركية المأمور أو إحداث الداعي العقلي له أو نحوهما، فلو كان غرض الآمر من الأمر تحبيب الفعل للمكلف - لتخيل أنه لا يفعله لو لم يحبه - لم يستلزم ذلك تقييد المأمور به بداعي الحب، فلو فعل المأمور به لابد اعي الحب امتثل وسقط الأمر.

كيف ولا ريب في أن الداعي المذكور هو الداعي في جميع الأوامر حتى التوصلية، فلولا عدم ملازمته لتقييد المتعلق بقصد الامتثال لإمتنع كون الأمر توصلياً؟!

دعوى: تعبدية جميع الأوامر ودفعها

ودعوى: أن جميع الأوامر تعبدية، وأن قيام الدليل على عدم اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر لا يكشف عن عدم اعتبار القصد المذكور في متعلقه، بل غاية الأمر أن يكون الفعل الخالي عنه رافعاً لموضوع الامتثال، فيسقط الأمر به لتعذر امتثاله، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولا يكون الفعل المذكور امتثالا له. وإليه ترجع جميع الأوامر التوصلية.

غريبة جداً، وإن ادعاها من لا يستهان به في مجالس المذاكرة أو الدرس، على ما ببالي.

لوضوح أن سقوط الأمر بالعمل الخالي عن القصد المذكور في

ص: 464

تلك الموارد ليس لتعذر استيفاء الملاك معه، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولذا لا يكون محرماً، بل لحصول الملاك به، كما يحصل مع القصد المذكور، ومع عموم مورد الملاك لا وجه لتقييد المتعلق.

ثانيها: الآية الشريفة.. ودفعها

ثانيها: قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(1).

ويشكل بأن الظاهر من الإخلاص لله تعالى في الدين في غير موردٍ من الكتاب المجيد هو التوحيد في مقابل الشرك، وأما التقرب بالعمل فهو إخلاص العمل له.

ويناسب إرادة ما ذكرنا في المقام قوله تعالى: «حُنَفَاء» حيث تضمن جملة من الآيات أخذ الحنيفية في التدين بدين الإسلام، ومقابلتها بالشرك.

كما يناسبه - أيضاً - عطف الصلاة والزكاة اللتين هما من الواجبات الاستقلالية الزائدة على التوحيد المطلوبة معه، والمعتبر فيهما الإخلاص بمعنى التقرب، فلا يناسب عطفهما عليه لو كان هو المراد بالإخلاص، ولاسيما مع كون الأمر به إرشادياً لبيان شرطيته، من دون أن يكون مطلوباً مولوياً استقلالياً.

على أنه لو سلم إرادته من الآية فهي لا تنفع فيما نحن فيه، لأن اللام في قوله: «لِيَعْبُدُوا» إن كانت للغاية بلحاظ نفس الأمر أو لتقوية العامل - التي قد تكون هي لام الإرادة التي ذكرها بعضهم - فهي لبيان المأمور به، وتدل الآية على أنهم لم يؤمروا إلا بالعبادة الخالصة لله تعالى - إن كان الحصر حقيقياً - أو لم يؤمروا بالعبادة إلا على وجه الإخلاص - لو كان

ص: 465


1- سورة البينة: 5

الحصر إضافياً - لا أنه يعتبر في الواجبات أن تقع على وجه الإخلاص، فهي ظاهرة في بيان قضية خارجية أخبر بها عن حال أحكامهم والتشريعات الثابتة لهم، لا قضية حقيقية تشريعية تتضمن اعتبار الإخلاص في المأمور به، لتنفع في حقنا.

فالمقام نظير ما لو قال: لم نأمرهم إلا بالصلاة عن طهارة، فإنه لا يقتضي اعتبار الطهارة في كل صلاة حتى غير ما أمروا به، بخلاف ما لو قيل: وجعلنا عليهم أن لا صلاة إلا بطهور، فإنه يقتضي شرطية الطهور في كل صلاة تفرض وإن لم تجب عليهم.

وإن كانت اللام للغاية بلحاظ المأمور به فهي ظاهرة في أنهم أُمروا بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير من الواجبات والمستحبات، ولا دلالة لها على تعيين ما أمروا به وأنه (عبادي) أو غيره.

مع أنه وارد لبيان حكم أهل الكتاب، فالاستدلال به في حقنا مبني على جريان استصحاب أحكامهم أو أصالة عدم النسخ فيها، وهو - مع أنه خلاف التحقيق - لا ينفع في الخروج عن الإطلاق الذي تقدم أنه يقتضي التوصلية.

اللهم إلا أن يستفاد من قوله تعالى: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» ثبوت الحكم المذكور في جميع الأديان. فينهض حينئذٍ برفع اليد عن الإطلاق المذكور.

ثالثها: نصوص الأعمال بالنيات

ثالثها: ما في غير واحدٍ من النصوص من أنه لا عمل إلا بنية، وأن

ص: 466

الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى(1).

وربما يظهر من بعضهم الاستدلال به بحمله على النفي الحقيقي بلحاظ دلالته على توقف الأفعال الاختيارية على النية.

لكنه - مع بعده في نفسه، لأنه أمر تكويني خارجي لا غرض ببيانه - أجنبي عما نحن فيه، لأن النية المعتبرة في التعبدي عبارة عن قصد الفعل بنحوٍ مقرب، ولا يتوقف الفعل الاختياري على ذلك.

مع أن لزوم كون الفعل اختيارياً بالمعنى الذي يتوقف على النية أول الكلام، بل مقتضى الإطلاق عدمه، كما كان مقتضى إطلاق أدلة الضمان - مثلاً - ترتبه على الإتلاف ولو لم يكن عن قصدٍ.

تقريب: الاستدلال به

فالأولى تقريب الاستدلال به بظهوره في الحث على النية بلسان نفي الموضوع ادعاءً، لعدم ترتب أثره، وهو راجع إلى تقييد إطلاق موضوع الأثر بالواجد للنية، نظير قولهم عليهم السلام: «لا صلاة إلا بطهور»(2) وحيث كان ظاهر النصوص المذكورة إرادة قصد القربة من النية كان مقتضى إطلاقها التعبدية في الواجبات.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأنه بعد تعذر حمله على الحقيقة فليس حمله على إناطة الأجزاء بالنية الراجع لشرطيتها في متعلق الحكم الشرعي بأولى من حمله على إناطة الثواب ونحوه بها، لأن كلاً منهما مورد لغرضٍ مهم صالح لأن يبين ويصح نفي الحقيقة توسعاً بلحاظه.

ودعوى: منافاة ذلك لما ذكروه من أن نفي الصحة أقرب إلى نفي

ص: 467


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء

الحقيقة من نفي الكمال.

ممنوعة، للفرق بأن الكمال مرتبة زائدة على الصحة، وتعلق الغرض به متفرع على تعلقه بها، فنفي الموضوع لأجله معهاً مبتنٍ على تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وليس كذلك الثواب والأجزاء، بل هما أمران متباينان بينهما عموم من وجه موردي يمكن تعلق الغرض بكلٍ منهما بانفراده.

ومثلها دعوى: أن مقتضى الإطلاق العموم لكلا الأمرين. لاندفاعها بعدم الجامع بينهما عرفاً، إذ لو أُريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية، ولو أُريد نفي الأجزاء تعبدية محضة ترجع إلى تقييد إطلاقات التشريع بالنية.

وبهذا يظهر أن الأول أظهر في نفسه، لأن أُنس الذهن بالقضايا الارتكازية يوجب انصراف الذهب إليها مع صلوح الكلام لها، فإرادة غيرها يحتاج إلى قرينةٍ صارفةٍ، وبدونها يُحمل الكلام عليها عرفاً.

ولاسيما مع استلزام الثاني كثرة التخصيص بنحوٍ ظاهرٍ عند الخطاب بالكلام، لأن عدم العبادية في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي لا تخفى بحال، خصوصاً مع شمول إطلاقها للمستحبات، بل لموضوعات الأحكام الوضعية التي يرغب المكلف في ترتبها بتحقيق موضوعاتها.

ومن ثم كان ظاهر القضية آبياً عن التخصيص ارتكازاً، لوضوح أن الآبي عنه هو المعنى الأول الارتكازي.

على أن هذا المعنى هو المتعين من قولهم عليهم السلام: «إنما الأعمال بالنيات، لكل امرئٍ ما نوى».

لظهورها في اختلاف العمل باختلاف النية، لا في نفي العمل عند

ص: 468

عدمها، ليصلح للحمل على عدم الإجزاء بدونها.

ومن الغريب ما في الجواهر من الاستدلال بالنبوي: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمريءٍ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى»(1)، مع صراحته في إرادة الثواب، ووروده في الجهاد الذي هو توصلي.

رابعها ما تضمن الأمر بالإطاعة

رابعها: ما تضمن الأمر بالإطاعة، بدعوى: أن الإطاعة لا تكون إلا بقصد الامتثال، فيصلح لتقييد الإطلاق المقتضي للتوصلية.

وفيه: أن الظاهر من الإطاعة في المقام محض الموافقة في مقابل المخالفة، فتكون الأوامر المذكورة للإرشاد، كما يظهر من مقابلته بالمخالفة في مثل قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»(2) ومن عطف الرسول وحده أو مع أولي الأمر في كثير من الآيات، مع وضوح عدم اعتبار قصد امتثال أمر غيره تعالى.

ويناسبه ظهور الأوامر المذكورة في مطلوبية الإطاعة استقلالاً، لا في الإرشاد لقيديتها في متعلق الأوامر الأخرى.

وظهور شمولها للنواهي مع عدم الإشكال في عدم اعتبار قصد الامتثال فيها، ككثير من الأوامر.

والتزام خروجها تخصيصاً - مع استلزامه تخصيص الأكثر - ليس بأولى من حملها على المعنى الذي ذكرناه.

بل ما ذكرناه أولى بعد كونه ارتكازياً ينصرف الذهن إليه، نظير ما

ص: 469


1- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10
2- سورة التغابن: 12

ذكرناه في الوجه السابق، ولذا كانت آبيةً عن التخصيص ارتكازاً.

وقد تحصَّل من جميع ما سبق: أنه لا قرينة عامة داخلية أو خارجية مخرجة عن الإطلاق الذي ذكرناه المقتضي للتوصلية.

فلابد من العمل عليه إلا في الموارد التي يخرج عنه فيها بالأدلة الخاصة المقتضية للتعبدية.

الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي

الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي، الذي هو المرجع مع عدم الأصل اللفظي.

ولا ينبغي التأمل بناءً على ما سبق من دخل القصد القربي في متعلق الأمر العبادي بنحو التقييد أو بنتيجته في كون المقام من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان التحقيق فيها جريان البراءة من الأمر المشكوك والاكتفاء في مقام الامتثال بالأقل الذي يعلم التكليف به.

وكذا بناءً على وجوبه بأمرٍ ثانٍ، لأن الأمر الثاني لما كان متمماً للجعل الأول فالشك فيه شك فيما يعتبر في الواجب الارتباطي المستفاد من الأمرين معاً.

كما أنه بناءً على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الأمر فلا يبعد البناء على عدم منجزية العلم الإجمالي بأحد التكليفين إلا للأثر المشترك بينهما المتيقن في مقام العمل، وهو لزوم محض الموافقة، دون ما يمتاز به التكليف التعبدي من لزوم التقرب به، فهو نظير ما لو علم إجمالاً بوجوب شيءٍ أو استحبابه، حيث لا ينهض العلم المذكور لتنجيز خصوصية الوجوب وما به امتيازه من لزوم الموافقة، بل تختص منجزيته بالأثر المشترك بينهما، وهو حسن الموافقة.

ص: 470

وأما لو كان الفرق بينهما في الغرض للتكليف - كما جرى عليه المحقق الخراساني قدس سره وسبقه إليه شيخنا الأعظم قدس سره على اضطراب في كلامه أشرنا إليه عند الكلام في ظاهر الأمر بناءً على عدم الرجوع للإطلاق - فقد ذكروا أنه لا مجال للرجوع للبراءة والبناء عملاً على التوصلية، حتى لو قيل بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

وما يظهر منهم في وجه الفرق بينهما: أن الشك هناك في تحديد المكلف به، فقد يتجه دعوى الرجوع في عدم التكليف بالزائد للبراءة، لعدم المنجز له، فيكون العقاب عليه بلا بيان، وللأدلة الشرعية المتضمنة عدم المؤاخذة على ما لا يعلم، ويقتصر على الأقل لتنجزه بالعلم بالتكليف به على كل حال.

أما هنا فحيث فرض عدم الشك في مقدار الواجب، لعدم دخل القصد القربي فيه مطلقاً وإن كان تعبدياً، فلا موضوع معه للبراءة من التكليف بالزائدة لا العقلية، ولا الشرعية لاختصاصهما بالشك في التكليف.

بل حيث كان الشك في المقام في سقوط التكليف المعلوم بدون القصد المذكور، لاحتمال اعتباره في مقام الامتثال تبعاً لدخله في الغرض لزم الاحتياط به، لإحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بحدوده.

لكن لا يخفى أن احتمال عدم سقوط التكليف لعدم حصول الغرض في المقام لما كان متفرعاً على احتمال دخل القصد القربي في الغرض وعلى لزوم موافقة غرض المولى وتبعية سقوط التكليف لحصول غرضه، فهو يجري في الشك في دخل شيء في المأمور به، الذي هو موضوع مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لما هو المعلوم من ملازمة احتمال دخل شيء

ص: 471

في المأمور به لاحتمال دخله في غرض الأمر به، ومع فرض اختصاص أدلة البراءة في الشك في التكليف فهي لا تقتضي إلا السعة من حيثية التكليف، لا من حيثية الغرض، بل يرجع الشك من حيثية الغرض للشك في سقوط التكليف بدونه بعين البيان المذكور هنا.

ومن هنا ذكرت شبهه الغرض وجهاً للاحتياط في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

فلابد في البناء على البراءة من دفعها، وقد ذكر جملة من الوجوه لذلك تنفع كلها أو جلها في المقام لو تمت.

وعمدتها - حسبما ذكرناه في محله - أن بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى بعد فرض تصديه لحفظ غرضه بالتكليف، ولا يجب حفظه على المكلف إلا من حيثية ما بين دخله فيه، دون غيره من الجهات، فمع قصور بيانه عن دخل بعض الأمور فيه لا يتنجز وجوب حفظه من حيثيته، كما لا يتنجز احتمال عدم امتثال التكليف لاحتمال دخل ما لم يبين المولى دخله في متعلقه من الأجزاء والشرائط.

البناء على البراءة على جميع المباني

ومن الظاهر أن هذا الوجه يجري في المقام لأن المفروض تصدي المولى لحفظ غرضه بالتكليف، وقصور بيانه عن إثبات دخل قصد التقرب فيه، فلا يتنجز حفظ الغرض من حيثيته بعين البيان المتقدم.

ومن هنا كان الظاهر على جميع المباني البناء على البراءة عند احتمال كون الواجب تعبدياً، إما لأن هذه المسألة من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين - التي كان التحقيق فيها البراءة - أو لأنها نظيرها.

بل ربما كان جريان البراءة فيها أظهر منه في تلك المسألة، بناءً على

ص: 472

أن الفرق بين التوصلي والتعبدي في سنخ الأمر، لما تقدم.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أن التحقيق كون خصوصية التعبدية كسائر الخصوصيات المأخوذة في المتعلق، والتي يكون مقتضى الإطلاق نفيها، ومقتضى الأصل البراءة منها.

وإنما أطلنا الكلام فيها لكثرة الشبهات التي أثيرت حول ذلك من الأعيان والأكابر في العصور المتأخرة، والتي أوجبت تعقّد هذه المسألة وغموض الحال فيها واضطراب مبانيها.

ونأمل منه تعالى أن نكون قد وفقنا للخروج منها بالوجه المناسب. وهو ولي العصمة والسداد، ولا حول ولا قوة إلا به.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور..

الأول:

الأول: ذكرنا في الأمر الثالث من مقدمات الكلام في هذه المسألة أنه يكفي في التقرب قصد ملاك المحبوبية وإن لم يقصد امتثال الأمر.

ولا إشكال في الاكتفاء بذلك في التعبدي لو كان الدليل المثبت لكونه تعبدياً ظاهراً في الإكتفاء بقصد التقرب، أما لو كان مجملاً من هذه الجهة فيتوقف الاكتفاء به على أن تكون التوصلية مقتضى الإطلاق أو الأصل، لأنها إن كانت مقتضى الإطلاق كان دليل التعبدية مقيداً له، ومع دوران القيد بين الأقل والأكثر يتعين الاكتفاء بالأقل، اقتصاراً في الخروج عن الإطلاق على المتيقن.

وكذا إذا كانت مقتضى الأصل، لمشاركته للإطلاق في لزوم الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن.

ص: 473

أما إذا كان مقتضى الدليل العام أو الخاص المثبت لكون الواجب تعبدياً هو اعتبار ما زاد على قصد التقرب فلابد من البناء عليه، كما أشرنا إليه عند الكلام في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على أصالة التعبدية.

كما أنه بناءً على أن التعبدية مقتضى الأصل، لرجوع الشك فيها للشك في سقوط التكليف والفراغ عنه، فاللازم مع عدم الدليل الخاص أو العام على التوصلية الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله مما زاد على قصد التقرب، كقصد الامتثال وغيره.

ومنه يظهر الحال في قصد الوجه - الذي هو عبارة عن قصد الأمر بخصوصيته من الوجوب أو الاستحباب داعياً - والتمييز - الذي هو عبارة عن قصد الفعل بعنوانه المنتزع من كونه متعلقاً للوجوب أو الاستحباب بخصوصيته، أو تمييز الأجزاء الواجبة أو المستحبة - فإنهما كقصد الامتثال زائدان على قصد التقرب، فيدفعان بالإطلاق أو الأصل، بناءً على ما سبق من أنهما يقتضيان التوصلية.

ومثلهما الكلام في الإجتزاء بالامتثال الاحتمالي إذا أصاب الواقع بالامتثال الإجمالي مع التكرار وبدونه، لأنه يكفي في التقرب بالفعل الإتيان به لاحتمال كونه مطلوباً بنحو الشبهة البدوية أو المحصورة، فعدم الاجتزاء بذلك لاعتبار أمر زائد على التقرب يحتاج إلى دليل مخرج عن مقتضى الإطلاق والأصل.

وقد ذكرنا في الفصل الخامس من مباحث القطع الكلام في وجوه الاستدلال على ذلك، فراجع.

الثاني: في عبادية الطهارات الثلاث

الثاني: لا يخفى أن إشكال التعبدي والنقض والإبرام فيه يختص بما

ص: 474

إذا كان الأمر نفسه تعبدياً بمعنى أنه قد أُخذ في متعلقه التقرب به من حيثيته، إما بقصد امتثاله أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به أو نحوهما، أما لو كان الأمر توصلياً وقد اعتُبر التقرب في موضوعه ولو من غير جهته، أو اعتبر التقرب به في موضوع حكمٍ آخرٍ فلا إشكال أصلاً، بل هو كسائر القيود غير المترتبة على الحكم المقيد والتي يمكن لحاظها في مرتبةٍ سابقةٍ عليه.

ومن ذلك عبادية الطهارات، لوضوح أن أمرها النفسي - وهو الأمر بالكون على الطهارة - توصلي لا يعتبر في امتثاله التقرب به فيها، بل هو راجع إلى استحباب الكون على الطهارة بالمعنى الاسم المصدري، وإن كان إحداث الطهارة بالمعنى المصدري بداعي أمرٍ آخر غير الاستحباب المذكور.

وكذا الحال في مطلوبيتها الغيرية، سواءً قيل بثبوت الأمر الشرعي الغيري، أم بعدمه وأن لزوم المقدمة عقلي لتوقف امتثال ذي المقدمة عليها، ومقربيتها بلحاظ كونها شروعاً في امتثاله - كما هو التحقيق - لما هو المعلوم من أن مطلوبية المقدمة ليست تعبدية، فلا يعتبر في مقدمية المقدمة التقرب بأمرها المقدمي، بل يكفي حصولها بأي وجهٍ اتفق.

غاية الأمر قيام الدليل على أن سببية أسباب الطهارات لها مشروطة بإيقاعها بوجهٍ عبادي، ومن الظاهر أن عبادية الطهارة لا تتفرع على سببية أسبابها لها، لتتوجه شبهة امتناع تقييدها بها، على نحو ما سبق في التعبدي.

ومن هنا لو فرض الشك في معيار التعبدية المعتبرة وأنه يكفي محض التقرب أو ما زاد عليه فالمتعين الاكتفاء بمحض التقرب اقتصاراً في الخروج عن إطلاق دليل سببية أسباب الطهارة لها على المتيقن.

ص: 475

ومن الظاهر أن يكفي في الجهة المصححة للتقرب العلم بالأمر بالشيء أو بمقدميته لما هو المأمور به، ولو كانا توصليين، كما يكفي في ذلك اعتقاد أحد الأمرين أو احتماله - بنحوٍ يؤتى بالفعل لرجاء حصوله - وإن انكشف خطأ الاعتقاد المذكور أو عدم مطابقة الاحتمال للواقع.

بل يكفي في ذلك التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي بما يتوقف عليه يعلم أو يتوقع فعليته بعد ذلك.

فيتجه صحة الطهارات في جميع ذلك، ولا ملزم بتوقفها على ثبوت الأمر واقعاً وفعليته.

وبهذا يظهر الحال في كثير من الفروع المترتبة على اعتبار النية في الطهارات، والتي تعرض لها الفقهاء في محالها المناسبة.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره في إطلاق التوصلية

الثالث: ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن التوصلي قد يطلق ويراد به..

تارةً: ما لا يعتبر صدوره عن قصدٍ واختيارٍ.

وأخرى: ما يسقط بفعل الغير باستنابةٍ أو تبرعٍ.

وثالثةً: ما يسقط بالفرد المحرم.

وقد أطال الكلام في مقتضى الإطلاق والأصل لو شك في كون المأمور به توصلياً بأحد المعاني المذكورة وعدمه.

المختار فيما لو شك في اعتبار القصد

والذي ينبغي أن يقال: ظاهر الأمر بفعل شيءٍ لزوم صدوره عن المأمور، بحيث يصح نسبته إليه، وإن لم يقصده بذاته، فضلاً عن أن يقصده بعنوانه الخاص الذي أُخذ في متعلق الأمر كعنوان الغسل.

ولذا كان إطلاق دليل ضمان المتلف للمثل أو القيمة والقاتل للدية

ص: 476

شاملاً لمن يقع منه أحد الأمرين من دون قصد إليهما.

نعم، لابد فيه من استناد الفعل إليه بحيث يستقل به ولو بفعل سببه التوليدي الذي لا يحتاج معه إلى توسط فعل الغير، وبدون ذلك لا يصح نسبة الفعل للشخص، فمن أُوقع على شخصٍ فقتل أو على مال فتلف لا يصح نسبة القتل والإتلاف إليه، بل إلى موقعه.

ومنه يظهر أن مقتضى الظهور المذكور عدم الإجتزاء بفعل الغير مع الاستنابة فضلاً عن التبرع، بل لابد فيه من دليلٍ عامٍ أو خاصٍ يقتضي بدلية فعل المستناب والمتبرع عن فعل المكلف.

نعم، قد لا يكون ظاهر الدليل تكليف الشخص بفعل المأمور به، بل بتحققه في الخارج بأي وجهٍ اتفق، كما لو قيل: يجب عليك أن تكون أرض الدار طاهرةً يوم الجمعة، بناءً على ما سبق في مبحث الواجب الكفائي من إمكان التكليف بوجود الماهية في مقابل عدمها المطلق، من دون أن يقتضي التكليف بخصوصية إيجادها.

وحينئذٍ يتجه الاكتفاء بفعل الغير مع عدم الاستنابة ولا التبرع، فضلاً عما إذا كان مع أحدهما.

بل الاكتفاء بحصول المكلف به في الخارج ولو من غير فاعلٍ مختار، كما لو طهَّر المطر في المثال المتقدم أرض الدار.

غايته أنه لا يكون المكلف معه ممتثلاً ولا مشاركاً في الامتثال، بل يسقط التكليف عنه بحصول المكلف به وتحقق الغرض الداعي له.

ودعوى: أنه من باب سقوط التكليف بتعذر الامتثال، لارتفاع موضوعه من دون حصول المكلف به، نظير تعذر إجراء أحكام الميت

ص: 477

عليه بتلفه. ولذا يكون خلاف الأصل للشك معه في المسقط، بل خلاف الإطلاق، لأن مقتضى الإطلاق بقاء التكليف وإمكان امتثاله ما دام المكلف به مقدوراً.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في فرض عدم حصول الغرض وتعذر تحصيله، ولذا يجب على المكلف المنع منه، لما فيه من التعجيز عن الامتثال، كما في حرق الميت في المثال، لا في مفروض الكلام من حصول الغرض المستلزم لحصول المكلف به، لتبعيته له، ولذا لا يجب المنع منه.

هذا، ولو فرض إجمال الدليل وعدم الإطلاق فحيث كانت خصوصية المباشرة زائدة على الماهية كان الأصل عدم التكليف بها.

ودعوى: أن الشك في المقام حيث كان في سقوط التكليف فالمرجع معه الاشتغال.

مدفوعة: باختصاص الاشتغال بما إذا كان الشك في السقوط للشك في الامتثال مع تحديد المكلف به، دون مثل المقام مما كان الشك فيه للشك في حدود المكلف به.

بل هو من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان التحقيق فيها البراءة.

وأصالة عدم سقوط التكليف بغير الامتثال، لا أصل لها، وإنما الأصل عدم سقوطه مع عدم حصول المكلف به الذي يتنجز التكليف به، والمفروض حصوله في المقام وإن لم يكن امتثالاً، كما يظهر مما ذكرنا.

وأما السقوط بالفرد المحرم فهو موقوف على أن يكون الفرد المحرم واجداً لملاك الوجوب، ولا يكون تحريمه مستلزماً لخروجه عن إطلاق

ص: 478

الواجب رأساً، بل يكون واجداً لكلتا الجهتين المقتضيتين لكلٍ من الوجوب والتحريم، وإن فُرض عدم فعلية وجوبه، لامتناع اجتماعه مع التحريم الفعلي، لأن عدم فعلية وجوبه لا تنافي إجزاءه بعد فرض واجديته للملاك.

والمعيار في إحراز حال الفرد، وأنه واجد للملاك أو لا موكول لمسألة اجتماع الأمر والنهي، لأنه راجع لإحراز موضوعها، وقد ذكرناه في مبحث التزاحم في مقدمات الكلام في تعارض الأدلة. ولا مجال للكلام فيه هنا مع ذلك.

والحمد لله رب العالمين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 479

الفصل السابع في أن متعلق الأمر والنهي هو الطبائع أو الأفراد
اشارة

قد اختلفت كلماتهم في تحرير محل النزاع في المقام، بنحوٍ قد يظهر منه عدم الاتفاق عليه في كلام المتنازعين وأن كل طرف يختار ما لا يدفعه الآخر ويدفع ما لا يختاره.

ومن هنا كان المناسب التعرض لما ينبغي البناء عليه في ضمن أمورٍ قد يتضح بها الحال.

الأول: محط الأغراض الوجود الخارجي

الأول: لا ريب في أن محط الأغراض والملاكات هو الوجود الخارجي، دون الماهية بنفسها مع قطع النظر عنه، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي بالماهية من حيث هي. ولا يظن من أحدٍ النزاع في ذلك.

نعم، قد يظهر من استدلال القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد بأن الطبيعة من حيث هي لا وجود لها في الخارج، منافاة القول بتعلقهما بالطبائع لما ذكرنا.

لكن الظاهر أنه في غير محله، ولعله يبتني على الجمود على لفظ الطبيعة ومقابلتها بالفرد.

كما أن الاستدلال المذكور قد يكشف عن كون مراد القائلين بتعلق

ص: 480

الأمر بالأفراد تعلقه بالطبيعة الخارجية الموجودة بوجود الفرد، في مقابل تعلقه بالطبيعة من حيث هي، دون ما يأتي مما قد ينسب لهم، وهو يناسب ما ذكرنا من عدم تحديد محل النزاع.

الثاني: قيام الغرض بأفراد الماهية على نحوين

الثاني: قيام الغرض والملاك والمصالح والمفاسد بأفراد الماهية بنحو يقتضي الأمر والنهي..

تارةً: يكون لاستناد الغرض إلى خصوص ما به الاشتراك بينها، ويكون ما به امتياز كلٍ منها مقارناً لمورد الملاك غير دخيلٍ فيه، كما لو كان منشأ تعلق الغرض بإكرام العلماء بنحو البدلية أو الاستغراق مجرد العلم المشترك بينهم، بحيث لو فرض - ولو محالاً - تجرده عن كل خصوصية لكفى في تعلق الغرض بالإكرام.

وأخرى: يكون لدخل ما به امتياز كلٍ منها فيه بنحو البدلية، كما لو كان كل من العلم والإحسان والكرم والشرف كافياً في تعلق الغرض بإكرام من اتصف بها، وكان من في الدار بين عالم ومحسن وكريم وشريف، فيتعلق الغرض بإكرام من فيها.

وحيث كان متعلق الأمر والنهي هو موضوع الغرض تعين في الصورة الأولى تعلق الأمر بالجهة المشتركة بين الأفراد، دون خصوصياتها، وفي الثانية تعلقه بالخصوصيات بنحو الاستغراق أو البدلية، وعدم الاكتفاء بالجهة المشتركة - كالكون في الدار في المثال - بعد عدم وفائها بالغرض.

ولو كان الأمر بدلياً كان التخيير في الأُولى عقلياً، وفي الثانية شرعياً، على ما ذكرناه في أول مبحث الواجب التخييري ضابطاً في الفرق بين التخييرين.

ص: 481

لكن يظهر من غير واحدٍ أن مراد القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد دخل الخصوصيات الفردية في متعلقهما مطلقاً حتى في الصورة الأولى.

وهو بعيد جداً، بل أنكره بعضهم أشد الإنكار، قال بعض المحققين قدس سره:

«جعل اللوازم الغير دخيلة في الغرض مقومة للمطلوب بعيد جداً عن ساحة العلماء والعقلاء».

ولعل منشأ النسبة إليهم الجمود على لفظ الأفراد من دون ملاحظة بقية كلماتهم، وقد سبق أن استدلالهم المتقدم يناسب كون مرادهم بذلك ما يقابل تعلقهما بالطبيعة من حيث هي.

هذا كله في مقام الثبوت، وأما في مقام الإثبات فمن الظاهر أن جعل الطبيعة متعلقاً للأمر والنهي ظاهر في الصورة الأولى، دون الثانية، لرجوع الثانية إلى أن ذكر الطبيعة لمحض الإشارة بها للأفراد، من دون أن تكون بنفسها مورداً للغرض، والحكم، وهو خلاف الظاهر جداً، بل خلاف المقطوع به في غالب الموارد.

الثالث: قيام الوجودات الخارجية بالماهيات الخارجية

الثالث: لا يخفى أن قيام الوجودات الخارجية بلحاظ الجهة المشتركة بينها بالملاكات من المصالح والمفاسد الموجبة لتعلق الغرض بتحقيقها أو بتركها هو الموجب لتعلق الأمر والنهي بتلك الجهة المعبر عنها بالماهية الخارجية، بمعنى أن الحاكم يلحظ تلك الجهة بما لها من حدود مفهومية ويجعلها موضوعاً لأمره ونهيه، وحيث كان مقتضى الأمر تحقيق متعلقه في الخارج ومقتضى النهي تركه كان الأمر داعياً للوجود الخارجي بلحاظ واجديته للجهة المشتركة، والنهي داعياً لتركه بلحاظ ذلك.

وحينئذٍ فبلحاظ تعلق الأمر والنهي بالجهة المشتركة يتجه دعوى

ص: 482

تعلقهما بالطبيعة، وبلحاظ داعويتهما لتحقيق الوجود الخارجي أو لتركه يتجه دعوى تعلقهما بالأفراد.

ولم يتحصل لنا بعد النظر في كلماتهم وجود مخالف في ذلك، كما لم يتضح لنا وجود نزاع جوهري يصح الكلام فيه في هذه المسألة زائد على ما بيَّنا، بل يقرب كون النزاع المذكور فيها شبيهاً بالنزاع اللفظي ناشئاً عن عدم تحديد محل النزاع.

نعم، ربما يكون النزاع فيها مبتنياً على بعض مباحث المعقول، كما يظهر من بعض المحققين قدس سره حيث ذكر: أنه إما أن يبتني على النزاع في إمكان وجود الكلي الطبيعي في الخارج وامتناعه، فمن يقول بإمكانه يقول بإمكان تعلق الأمر والنهي بالماهية.

للقدرة عليها، ومن يقول بامتناعه يقول بتعلقهما بالأفراد، لأنها المقدورة، دون الماهية.

أو على النزاع في أصالة الماهية أو الوجود، فمن يقول بالأول يقول بتعلق التكليف بالماهية، ومن يقول بالثاني يقول بتعلقهما بالأفراد.

وحيث لا يسعنا الكلام في تحقيق أحد الأمرين، بل لا يبعد عدم رجوع النزاع فيهما إلى محصلٍ، فلا مجال لإطالة الكلام في هذه المسألة بأكثر مما ذكرنا.

الرابع: اختلاف تعلق التكليف بمتعلقه عن سائر الأعراض بمتعلقاتها

الرابع: لا يخفى أن تعلق التكليف بمتعلقه ليس على حدِّ تعلق سائر الأعراض بمتعلقها، لوضوح أن العرض الخارجي لا يقوم إلا بمعروضه الخارجي، ويمتنع فعليته مع عدم فعليته، أما التكليف فوجود متعلقه موجب لسقوطه بالامتثال أو العصيان، ولا يكون فعلياً إلا في ضرف عدم وجوده.

ص: 483

بل هو يتعلق بمتعلقه بما له من حدود مفهومية، كما سبق - من دون أن يكون موجوداً في الخارج، لكن بنحو يدعو إلى إيجاده أو إلى تركه. فإضافته إليه نظير إضافة التناقض للنقيضين والتضاد للضدين.

ويشاركه في ذلك من الأحكام الوضعية الملكية المتعلقة بالكليات من الأعمال والأعيان، دون المتعلقة بالأمور الشخصية ودون بقية الأحكام الوضعية.

ومنه يظهر أنه لا موقع للإشكال في تعلق الطلب بالوجود بأنه إن كان سابقاً على المطلوب لزم وجود العرض دون معروضه، وإن كان متأخراً عنه لزم طلب الحاصل، إذ يفي ما ذكرناه ببيان الحال، ولا ينبغي معه إطالة الكلام فيما ذكره بعضهم في دفعه.

تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد

تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد

ص: 484

الفصل الثامن
في أن نسخ الوجوب أو التحريم هل يقتضي بقاء جواز الفعل أو الترك

قد وقع الكلام بينهم في أنه مع نسخ الوجوب هل يُبنى على بقاء الجواز بالمعنى الأعم، الراجع لعدم التحريم، أو الأخص الذي هو عبارة عن الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ويجري نظير ذلك في نسخ التحريم بالإضافة إلى بقاء جواز الترك.

وحيث لا يكثر الابتلاء بهذه المسألة فالمناسب إيجاز الكلام فيها بالاقتصار على بيان ما تقتضيه القاعدة على مبان ينا في حقيقة الحكمين المذكورين من أنهما بسيطان منتزعان من الخطاب بداعي جعل السبيل، لا مركبان من الإذن في الفعل أو الترك والمنع من النقيض ولا أن الإذن المذكور من مراتبهما.

فنقول: حيث كانت الأحكام الخمسة متباينة في أنفسها احتاج كل منها لجعلٍ مستقل، ومن الظاهر أن رفع كل من الوجوب والتحريم إنما يستلزم جعل غيره من الأحكام ولو كان هو الحكم الآخر منهما، لا خصوص أحد الأحكام الثلاثة الباقية المستلزمة للجواز بالمعنى الأعم، فضلاً عن خصوص

ص: 485

الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الإباحة.

ودعوى: أن جواز الفعل لما كان لازماً أعم للوجوب وجواز الترك لازماً أعم للتحريم، ونسخ الحكم لا يستلزم نسخ لازمه الأعم كان مقتضى الأصل بقاء اللازم المذكور وعدم نسخه.

مدفوعةٌ: بأن الوجوب والتحريم لا يستلزمان جواز الفعل وجواز ا لترك على أنهما حكمان شرعيان، لتجري أصالة عدم النسخ فيهما، لوضوح انحصار الأحكام في الخمسة، بل على أنهما حكمان عقليان، كما أنهما يستلزمان ثبوت ملاكيهما، وكلاهما ليس موضوعاً لأصالة عدم النسخ.

نعم، لو حكم شرعاً بجواز الفعل قبل جعل الوجوب، وبجواز الترك قبل جعل التحريم، فحيث لا يكون جعل الوجوب مستلزماً لارتفاع الأول، ولا جعل التحريم مستلزم لارتفاع الثاني، لعدم التنافي بينهما عرفاً، أمكن الرجوع فيهما لأصالة عدم النسخ بعد نسخ الوجوب والتحريم.

وهذا بخلاف ما إذا ورد الخطاب بهما بعد جعل الوجوب أو التحريم، لأنه حيث يلغو جعلهما معهما لزم حمل الخطاب بهما على محض بيان اللازم العقلي للحكم المجعول، أو على بيان عدم جعل التحريم في مورد الوجوب أو الوجوب في مورد التحريم، وكلاهما ليس موضوعاً لأصالة عدم النسخ. فتأمل.

وحينئذٍ يكون المرجع هو الأصل المقتضي للبراءة، ولو لاستصحاب عدم التحريم مع نسخ الوجوب، وعدم الوجوب مع نسخ التحريم، بناءً على جريانه في مورد البراءة، على ما ذكرناه في مبحث أصل البراءة.

ولا مجال لمعارضته باستصحاب عدم كل من الاستحباب والإباحة

ص: 486

والكراهة.

لأنه لا يستلزم التحريم أو الوجوب شرعاً، بل عقلاً بضميمة العلم بسنخ الوجوب أو التحريم وليس الأصل حجةً في اللازم غير الشرعي لمؤداه.

نسخ التكليف هل يقتضي البناء على الجواز

ص: 487

الفصل التاسع في الأمر بالأمر
اشارة

قد وقع الكلام في أن الأمر بالأمر بشيءٍ هل يكون أمراً بذلك الشيء في حق المأمور الثاني أو لا؟

ويجري نظيره في الأمر بالنهي عن الشيء، وأنه هل يقتضي النهي عنه من قبل الأمر في حق المنهي أو لا؟

ولا وجه لتخصيص الكلام بالأول إلا ذكره في مبحث الأوامر.

وحيث كان مبنى الكلام فيهما واحداً فلنجرٍ في تحريره على ما جروا عليه من الكلام في الأمر بالأمر، لأنه أيسر بياناً، وبه يتضح الحال في الأمر بالنهي.

وينبغي الكلام في صور ذلك ثبوتاً، ثم فيما هو الظاهر منها في ضمن مقامين:

المقام الأول:

المقام الأول: وقوعه على وجوه

إذا أمر زيد عمراً بأن يأمر بكراً بالسفر فهو يقع على وجوه..

الأول: أن يكون نفسياً ناشئاً عن ملاك مستقل

الأول: أن يكون أمراً نفسياً حقيقياً ناشئاً عن ملاكٍ مستقلٍ به من دون

ص: 488

ملاك يقتضي أمر زيد لبكر بالسفر حتى بعد أمر عمرو له، ولا يكون سفره مورداً لغرضه أصلاً، كما لو أراد إستكشاف حال بكر وأنه يطيع عمراً أولا.

وعليه يكون الأمر من عمرو لبيان مراده، دون مراد زيد، وتكون إطاعة بكر أو معصيته له لا لزيد.

كما لا أثر لهذا الأمر في حق بكر، بل إن كان من شأنه أن يطيع عمراً أطاعه وإن لم يأمر زيد عمراً بأمره، وإلا لم يطعه وإن أمره زيد بذلك.

الثاني: أن يكون نفسياً مع عدم استقلال ملاكه

الثاني: أن يكون أمراً نفسياً حقيقياً من دون أن يكون مستقلاً بالملاك، بل لتوقف ترتب الملاك المقتضي لأمر زيدٍ بكراً بالسفر على أمر عمرو به له، فهو راجع في الحقيقة إلى أمر زيد بكراً بالسفر المترتب على أمر عمرو به له، إلا أنه حيث كان الترتب المذكور موقوفاً على تحقق الأمر به من عمرو أمر عمراً بتحقيق ذلك، فهو نظير أمر شخص بتهيئة شرط ما يجب على غيره.

لكن هذا موقوف على وجوب إطاعة عمرو على بكر من قبل زيد، نظير وجوب إطاعة المولى على العبد شرعاً، وإلا لم يمكن التوصل بأمر عمرو للغرض المذكور، بل يكون كالوجه الخامس.

وعليه يكون أمر عمرو بكراً بالسفر محققاً لموضوع أمر زيد له به، فيكون شرط الواجب والوجوب معاً، ويكون السفر من بكر بعد أمر عمرو له به إطاعةً لزيدٍ وعمروٍ وتركه معصيةً لهما معاً.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر بالأمر من زيدٍ ولم يأمره عمرو بالسفر لم يجب عليه السفر، لا من جهة زيد، لعدم تحقق موضوع أمره، ولا من جهة عمرو، لعدم صدور الأمر منه.

الثالث: أن يكون غيرياً

الثالث: أن يكون طريقياً يراد به محض التبليغ وإيصال تكليف زيد

ص: 489

لبكر بالسفر من طريق الأمر المذكور، مع تمامية الملاك في السفر المقتضي لأمر زيدٍ بكراً به مطلقاً من دون تعليق للتكليف ولا تقييد للمكلف به، نظير أمر الله سبحانه الرسل بأمر أممهم بما شرعه تعالى عليهم.

وعليه لا يكون الأمر من عمروٍ لبيان مراده، بل لبيان مراد زيد، فلا تكون إطاعة بكر ومعصيته له بل لزيد، عكس الوجه الأول.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر المذكور من زيد كان موضوعاً لإطاعته ولو لم يأمره عمرو.

الرابع: أن يكون غيرياً لتحصيل إطاعة المأمور

الرابع: أن يكون طريقياً لتحصيل إطاعة بكر للأمر بالسفر من زيدٍ في فرض ثبوته في حقه وعدم قيامه بامتثاله، لتأكيد داعي الامتثال كما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهو يشارك الوجه الثاني في كون الإطاعة والمعصية لزيد وعمرو معاً، ويفارقه في عدم توقف لزوم الإطاعة - من حيثية أمر زيدٍ - على صدور الأمر من عمرٍ، لفرض ثبوت التكليف في حقه، وأن أثّر أمر عمرو تأكيد داعي الامتثال، لا تحقيق موضوعه، كما في الوجه الثاني.

الخامس: أن يكون غيرياً لتحصيل الموضوع

الخامس: أن يكون طريقياً لتحصيل السفر من بكر من دون أن يكلف به من قبل زيد مطلقاً حتى بعد أمر عمرو له به، لمانعٍ من تكليف زيد له به، من إجلال أو احتقار أو غيرهما مما يمنع من فعلية ملاك التكليف في حقه، بل يختص الأمر بالسفر بعمروٍ وتكون الإطاعة له لا لزيد.

وبهذا يفارق الوجوه الثلاثة الأخيرة ويشارك الوجه الأول.

لكن يفارقه في كون تحقق السفر من بكر هو الغرض الأقصى من الأمر، على خلاف ما ذكرناه في الوجه الأول.

ص: 490

ومن هنا يفترقان في أن حصول السفر من بكر من دون أمر عمرو به في الأول مفوت لملاك أمر عمرو بالأمر به بعد تعذر امتثاله معه، بخلافه في الثاني، حيث يستلزم سقوط الأمر بحصول غرضه، وإن لم يمتثل.

هذا وقد اقتصر المحقق الخراساني قدس سره على الوجوه الثلاثة الأول، كما اقتصر بعض الأعاظم قدس سره على الأول والثالث ولم يشيللأخيرين، بل لم أعثر عاجلاً على من أشار إليهما في المقام، مع شيوعهما وأهميتهما.

وربما كان هناك بعض الوجوه الأُخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، وقد يظهر الحال فيها مما ذكرنا في هذه الوجوه.

المقام الثاني:

المقام الثاني: اختيار الوجه فيه

حيث ظهر اختلاف وجوه الأمر بالأمر ثبوتاً ودورانه بين الوجوه الخمسة فالظاهر أن الوجه الأول بعيد في نفسه ومخالف لظاهر إطلاق الأمر، لأن ارتكاز اقتضاء الأمر لتحصيل متعلقه موجب لظهور الأمر به في تعلق الغرض بمتعلقه الذي هو كالمعلول له، كسائر موارد الأمر بالعلة، كما لا يبعد ذلك في الوجه الثاني أيضاً، لأن استبعاد تقييد المطلوب بخصوصية علة له، بحيث لا يراد منه إلا ما يصدر عنها يوجب انصراف إطلاق الأمر عنه وظهوره في تعلق الغرض بالمعلول من حيث هو ولو صدر بتوسط غير تلك العلة.

مع أن توقفه على فرض تكليف الأمر الأول للمأمور الثاني بإطاعة الأمر الثاني يوجب عدم الأثر المهم لاحتماله، إذ مع عدم ثبوت تكليفه بذلك لا موضوع لهذ الوجه، ومع ثبوته لابد له من إطاعة الأمر

ص: 491

الثاني - كعمروٍ في المثال - إذا أمره.

نعم، يظهر الأثر لو لم يأمره الثاني، حيث لا يجب عليه الإتيان بالفعل على هذا الوجه والوجه الخامس، ويجب على الوجه الثالث والرابع. وهو ليس بمهم، فيتردد الأمر بين الوجوه الباقية.

وقد ذهب غير واحد إلى ظهور الأمر في الثالث.

قال سيدنا الأعظم قدس سره: «الظاهر ثبوت القرينة النوعية على كون الأمر بالأمر من قبيل الأمر بالتبليغ الملحوظ فيه التبليغ طريقاً، وليس جارياً مجرى الأوامر في كون الغرض في متعلقاتها».

ولعله ناشئ عن عدم تعرضهم للوجهين الأخيرين، حيث يتعين الثالث بعد ما سبق وأشير إليه في كلماتهم من بعد الوجهين الأولين.

وإلا فهو غير ظاهر إلا في ظرف كون وظيفة المأمور بالأمر التبليغ عن الأمر الأول، كما في الأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم، حيث ينصرف أمره والأمر منه إلى إعمال وظيفته.

وأما في غيره فلا يتضح وجه ظهور الأمر في إرادة التبليغ، بل هو مخالف لظاهره لغةً وعرفاً.

ولذا يفهم منه لزوم قيام المأمور بوظيفة الآمر الذي يدعو لتحصيل مطلوبه من ترغيبٍ أو ترهيبٍ أو نحوهما مما يحقق في نفس المأمور داعي الامتثال، ولا يكتفي بمجرد التبليغ.

ومن هنا كان الظاهر تردد الأمر المذكور بين الوجهين الأخيرين.

وحيث كان الوجه الرابع مبتنياً على تكليف الأمر الأول للمأمور الثاني

ص: 492

بالفعل احتاج إلى قرينة ومؤنة بيان، وبدون ذلك يتعين الوجه الخامس، لأنه مقتضى الأصل.

وأولى بذلك ما لو كانت هناك قرينة على عدم كونه بصدد تكليفه، فضلاً عما لو علم بذلك.

في تحديد ثمرة النزاع

ثم إنه ذكر غير واحد أن ثمرة النزاع المذكور تظهر في عبادات الصبي، وأنه بناءً على الوجه الثالث - الذي عرفت من غير واحدٍ دعوى ظهور الأمر بالأمر فيه - يمكن استفادة شرعيتها من قوله عليه السلام: «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين»(1) وقوله عليه السلام: «فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام»(2) وغيرهما مما ورد في أمر الولي للصبي بالعبادات.

ولابد لأجله من حمل حديث رفع القلم على رفع الإلزام مع ثبوت أصل المشروعية، وهذا بخلاف ما لو بني على الوجه الأول، حيث يكون الصبي مأموراً بها من قبل الولي دون الشارع.

وفيه: أنه لو بني على ذلك فمقتضى الجمع العرفي حينئذٍ تخصيص عموم حديث رفع القلم بأدلة الأوامر المذكورة، لأنها أخص مطلقاً، حيث تختص بالصلاة والصيام، ويعم حديث الرفع جميع التكاليف، ولا وجه معه للجمع برفع اليد عن ظهور هذه الأوامر في الإلزام.

خصوصاً مع قوة ظهور بعضها وصراحة بعضها في الإلزام، حيث

ص: 493


1- الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 5
2- الوسائل ج 7، باب: 29 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 3

تضمن أنهم يؤخذون بذلك ويجبرون عليه ويضربون(1)، إذ لو كان ذلك طريقياً مبتنياً على محض تبليغ الحكم الشرعي فلا معنى لابتنائه على الإلزام مع عدم كون الحكم الشرعي إلزامياً.

مع أنه لا يظن بأحدٍ كما لم يعرف من الأصحاب البناء على ذلك أو فهمه من الأدلة.

ولا منشأ لذلك إلا أن المستفاد من الأوامر المذكورة بحسب المرتكزات ليس هو الوجه الثالث، لظهورها بل صراحة بعضها في عدم إرادة محض التبليغ، بل الأمر الحقيقي المبتني على الترغيب والترهيب، الذي هو اللازم في الوجه الرابع والخامس، وحيث كانت المفروغية عن عدم تكليف الصبي بضميمة ظهور وصراحة نصوص الأوامر المذكورة في إرادة إلزام الولي للصبي تمنع من الوجه الرابع فيتعين الوجه الخامس.

كما هو المتعين فيما تضمنته النصوص أو قام عليه الإجماع واقتضته المرتكزات من لزوم منعه وتعزيره على بعض المستنكرات كالزنا واللواط وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة وغيرها.

فهو نظير ما تضمن الأمر بمنع الصبيان والمجانين عن دخول المسجد لا يكون المراد به إلا تجنب ذلك من دون خطاب لهم بحرمته أو بكراهته.

نعم، يمكن استفادة مشروعية العبادات من الأوامر المذكورة لا من جهة ما ذكروه، بل من جهة ظهور نسبة العبادات المذكورة للصبيان في أنهم يؤمرون بها على ما هي عليه بحقائقها المعهودة المستلزم للقدرة عليها

ص: 494


1- راجع الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، و ج 3، باب: 29 من أبواب من يصح منه الصوم

كذلك، لا أن المأمور به صورها لمحض التمرين، وحينئذٍ يلزم مشروعيتها، لتعذر التقرب بها بدونها.

ولا يفرق في ذلك بين جميع الوجوه المتقدمة للأمر بالأمر.

هذا، مضافاً إلى أنه إذا بني على تنزيل حديث الرفع على مجرد رفع الإلزام إما لأنه الظاهر فيه - كما هو التحقيق - أو للجمع بين الأدلة أمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بإطلاق أدلة تشريعها، حيث يكون مقتضى الجمع بينها وبين الحديث المذكور البناء في حق الصبي على أصل المشروعية. وتمام الكلام في محله.

ص: 495

الفصل العاشر في الأمر بعد الأمر
اشارة

ذكرنا غير مرة أن التكليف نحو من الإضافة القائمة بين المكلِّف والمكلِّف والمكلِّف به، وحيث كانت وحدة الإضافة تابعةً لوحدة أطرافها، والمفروض وحدة المكلف والمكلف فلابد في تعدد التكليف من تعدد المكلَّف به، ومع وحدة المكلف به من جميع الجهات يتعين وحدة التكليف وحينئذٍ نقول:

تردد الأمر ثبوتاً بين ثلاثة وجوه

إذا ورد الأمر بالماهية الواحدة مرتين - مثلاً - فالأمر مردد ثبوتاً بين وجوه ثلاثة:

الأول: أن يراد بهما بيان تكليف واحد

الأول: أن يراد بهما بيان تكليف واحد تابع لموضوع واحد، وتكرار البيان للتأكيد أو غيره مما يأتي من دون أن يكشف عن تأكد في التكليف المبين لغرض وحدة موضوعه.

الثاني: أن يراد بهما بيان تكليف واحد لموضوعين

الثاني: أن يراد بهما معاً بيان تكليفٍ واحدٍ تابعٍ لموضوعين كل منهما صالح لترتبه عليه، فيراد بكلٍ منهما بيان تحقق التكليف من حيثية موضوع خاص مباين للموضوع الذي بيِّن بالآخر تحقق ذلك التكليف من حيثيته. فيلزمه تأكد التكليف المبيَّن تبعاً لتعدد المقتضي له، من دون تأكيد في البيان،

ص: 496

لفرض عدم اشتراك البيانين في مبينٍ واحد.

الثالث: أن يراد بكل منها تكليف مستقل

الثالث: أن يراد بكلٍ منهما بيان تكليف مستقلٍ تابعٍ لموضوعه مباين للتكليف المبيَّن بالآخر.

وحيث سبق استلزام تعدد التكليف لتعدد المكلف به، فلابد من كون متعلق كلٍ منهما مبايناً لمتعلق الآخر وإن كانا تحت ماهية واحدة، بأن يراد من كل منهما فرد منها مباين للفرد المراد من الآخر، في مقابل الاكتفاء بصرف الوجود.

ومرجع الثالث إلى عدم تداخل التكليفين في مقام الامتثال، والثاني إلى التداخل فيه، لا بمعنى تداخل التكليفين فيه، لفرض وحدة التكليف، بل بمعنى التداخل مع تعدد الموضوع، إذ لا يراد بالتداخل إلا ذلك على ما يتضح في محله من مبحث مفهوم الشرط.

أما في الأول فلا موضوع لمسألة التداخل لفرض وحدة التكليف تبعاً لوحدة موضوعه، فليس له إلا امتثال واحد.

مقتضى إطلاق متعلق التكليف

إذا عرفت هذا، فمقتضى إطلاق متعلق التكليف في كل من الخطابين هو الاكتفاء بصرف الوجود المستلزم لوحدة التكليف مع تعدد موضوعه المقتضي له أو وحدته، فيتردد الأمر بين الوجهين الأولين.

بل في فرض اتحاد موضوع الأمر في الخطابين - كما لو ورد مرتين: من ظَاهَرَ فَلْيُكَفِّر - يتعين الوجه الأول، لتوقف الوجه الثاني معه على عدم كون الموضوع المذكور موضوعاً للحكم في أحدهما أو في كليهما، بل هو مقارن له، ليمكن فرض ثبوت الحكم من جهتين معه، وهو خلاف الظاهر.

وكذا الحال لو كان الأمر فعلياً لفعلية موضوعه - كما قال مرتين

ص: 497

لشخصٍ مُظاهِر: كفِّر - في فرض عدم غفلة الأمر - كالشارع الأقدس - حيث يبعد جداً إرادته بيان التكليف من حيثية أحد الموضوعين دون الاخر في كل خطاب لو كان الموضوع متعدداً.

بل حيث يكون الموضوع في مثل ذلك جهة تعليلية غير مقصودة بالبيان، لا يكون المقصود بالبيان إلا ثبوت الحكم فعلاً، فيكون المبين بالبيانين واحداً كما في الوجه الأول وإن كان الداعي للبيان متعدداً.

دعوى: أن التأكيد خلاف الأصل ودفعها

ودعوى: أن التأكيد في البيان خلاف الأصل، بل الأصل فيه التأسيس وتعدد المبين إما لتعدد التكليف أو لتعدد الجهة الموجبة له مع وحدته، وحيث يأتي في مبحث مفهوم الشرط أن الثاني خلاف الأصل، وأن الأصل عدم التداخل تعين البناء على تعدد التكليف، كما هو مقتضى الوجه الثالث.

مدفوعة: أولاً: بأن أصالة التأسيس ليست بنحوٍ تنهض برفع اليد عما ذكرنا.

وثانياً: بأن تكرار البيان في الوجه الأول قد لا يكون للتأكيد، بل لغفلة الأمر - لو أمكن في حقه الغفلة - أو المأمور أو جهل أحدهما بالأمر الأول، كما قد يكون لاختلاف مقام البيان لتعدد المناسبة المقتضية له، كما لو أمر بالسجود عند قراءة آية العزيمة في مقام بيان أحكام قراءة القرآن، وفي مقام بيان أقسام السجود الواجب حيث لا تأكيد في ذلك، لاختصاص التأكيد بالبيان اللاحق المبتني على البيان السابق، دون ما لا يبتني عليه، ومن الظاهر أنه لا أصل ينفي ذلك، ليخرج به عما ذكرنا.

وثالثاً: أن منشأ البناء على أصالة عدم التداخل - كما يأتي إن شاء الله تعالى - هو ظهور دليل كل أمرٍ في أن الموضوع الذي تضمنه سبب مستقل

ص: 498

لتكليف مستقل، وبذلك يخرج عن إطلاق المتعلق الذي سبقت الإشارة إليه، فمع فرض وحدة الموضوع، أو عدم ذكره وفعلية الأمر، لا منشأ للبناء على عدم التداخل، ليخرج به عن إطلاق المتعلق المقتضي للإجتزاء بصرف الوجود.

نعم، لو كان ظاهر الخطاب تعدد الجهة الموجبة للأمر، بأن اختلف موضوعه أو شرطه - كما في مثل: إن أفطرت فكفِّر، وإن ظاهرت فكفر - فلا مجال للوجه الأول، لظهور كل منهما في بيان الأمر من حيثية الشرط أو الموضوع المذكور فيه، فالتعدد في المبين مع انفراد كل بيانٍ بمبينٍ واحد. بل يتردد الأمر بين الوجهين الآخرين.

ويأتي في مبحث مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى أن البناء في مثل ذلك على الوجه الثالث الذي هو مرجع أصالة عدم التداخل.

هذا، وأما النهي بعد النهي فلا مجال فيه للوجه الثالث، لفرض كونه استغراقياً يقتضي ترك تمام الأفراد سواء اتحد أم تعدد، بل يتردد الأمر فيه بين الوجهين الأولين، ولا أثر للتردد المذكور عملاً، على أنه مما سبق يتضح لزوم حمله على الثاني مع تعدد الموضوع أو الشرط وعلى الأول بدون ذلك، خصوصاً مع اتحاد الموضوع أو الشرط، فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

وبهذا انتهى ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر والنواهي، فإنه وإن ذكر جماعة من الأصحاب مسائل الإجزاء و مقدمة الواجب والضد في مباحث الأوامر، ومسألتي اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد في مباحث النواهي، إلا أنه حيث كان منهجنا الاقتصار على المباحث اللفظية فلا مجال

ص: 499

لبحث هذه المسائل هنا، بل توكل لمباحث الملازمات العقلية لابتناء عمدة الكلام فيها عليها.

ولو كان فيها بعض الجهات المتعلقة بالألفاظ يشار إليها هناك تبعاً، لا بنحو يقتضي ذكرها في مباحث الألفاظ، والله سبحانه ولي التوفيق.

وكان الفراغ منه ضحى الجمعة، الثلاثين من شهر ربيع الأول، سنة: (1401 ه)،

وانتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأربعاء، الخامس من شهر ربيع الثاني من السنة المذكورة.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 500

المقصد الثالث

في المفاهيم

ص: 501

ص: 502

المقصد الثالث في المفاهيم

المقصد الثالث في المفاهيم
اشارة

تمهيد

تمهيد وفيه أمور:

فيه أمور..

الأول: تعريف المفهوم

الأول: من الظاهر أن المنطوق لغةً يختص باللفظ المؤدى بآلة النطق، والمفهوم بالمعنى المدرك بقوة الفهم، وليس كل منهما بالمعنى المذكور مورداً للكلام في المقام، وإنما يراد بمحل الكلام مصطلح خاص لكل من العنوانين يختص بالجمل المتضمنة لحكمٍ خبري أو إنشائي.

وهما متقابلان في الكلام الواحد، فالكلام الذي له مفهوم له منطوق، وغيره لا منطوق له ولا مفهوم بهذا المصطلح، وإن كان الحكم الذي تضمنه مفاداً بالجملة المنطوقة.

ويستفاد من غير واحدٍ أن المنطوق هو الحكم الذي تضمنته القضية بما لها من مدلول مطابقي، والمفهوم هو الحكم الذي لم يذكر، وإنما استفيد بالملازمة من خصوصية قد تضمنتها، فمنطوق قولنا: إنما زيد قائم، ثبوت القيام لزيد الذي هو مدلوله المطابقي، ومفهومه عدم قيام غيره الملازم للحصر الذي تضمنه بسبب اشتماله على أداة (إنما).

لكن الظاهر أن الخصوصية التي تستلزم المفهوم لا يلزم أن تتضمنها

ص: 503

القضية، بل يكفي استفادتها منها بدلالة الاقتضاء أو غيرها، فمفهوم الوصف - مثلاً لو قيل به - يبتني على أن ذكر الوصف قيداً في موضوع الحكم يفيد عليته للحكم أو إناطته به، المستلزمين لانتفائه بانتفائه، مع أنه لا يصرح في القضية بالعلية والإناطة المذكورتين، ولا تدل عليها أداة أو هيئة في الكلام، بل يستفادان عرفاً منها.

كما لا يعتبر في المنطوق أن يكون مدلولاً مطابقياً لها، فإن منطوق بعض الجمل وإن كان كذلك كالمنطوق في الجملة الوصفية وذات مفهوم الموافقة، إلا أنه لا يطَّرد في جميعها، بل قد يكون لازماً لمفاد القضية، مثلاً منطوق القضية الشرطية ثبوت الجزاء حال ثبوت الشرط - الذي هو مفاد قضية حملية مقيدة بحال ثبوته - وهو ملازم لمفاد الشرطية بسبب تضمها إناطة الجزاء بالشرط، لا عينها.

وأما التعبير عنه في جملة من كلماتهم بنفس الشرطية فهو مبني على نحوٍ من التسامح، وتجريد الشرطية المنطوقة عن خصوصية الإناطة، لما هو المعلوم من تباين المنطوق والمفهوم وعدم تضمن الأول للثاني، وإن استفيدا معاً من الشرطية.

ومثله في ذلك منطوق جملة الاستثناء، فإنه عبارة عن ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه الذي يعبر عنه بلسان التقييد، وليس هو مدلولاً مطابقياً للجملة، بل لازماً لها، لوضوح التباين بين مفاد التقييد والاستثناء مفهوماً.

ومن هنا فالظاهر أن اختلاف المنطوق والمفهوم اصطلاحاً ليس بلحاظ كون الأول مذكوفي القضية، والثاني ملازماً للخصوصية المذكورة

ص: 504

فيها، بل بلحاظ كيفية استفادتهما من القضية، لكن لا بلحاظ خصوص مضمونها اللفظي المطابقي، بل ما يعم مضمونها العرفي التابع للملازمة الذهنية العرفية أو نحوها، وإن لم يكن لازماً حقيقياً.

فالمنطوق هو الأقرب عرفاً لمضمونها من المفهوم، إما لأنه المدلول المطابقي لها، كمنطوق القضية بالإضافة إلى مفهوم الموافقة والوصف، أو لأنه الأقرب لمدلولها المطابقي، كمنطوق القضية الشرطية بالإضافة إلى مفهومها.

على أنه لم يتضح بعد عموم ذلك واطراده في كل ما هو الأقرب للمضمون والأبعد، ليصح تعريف المنطوق والمفهوم بذلك، وإنما المتيقن أن ذلك قدر جامع بين جميع الموارد التي أطلق فيها المفهوم مقابل المنطوق، ووقع الكلام فيها في مباحث المفاهيم.

الثاني: البحث عن ظهور الكلام في المفهوم

الثاني: حيث كان مقصد المفاهيم من مباحث الألفاظ، وتقدم في التمهيد للدخول في هذا العلم أن المبحوث عنه فيها تشخيص الظهورات النوعية فالبحث في المقام إنما يكون عن ظهور الكلام في المفهوم لا عن حجيته بعد فرض الظهور فيه، فإنه من صغريات البحث عن حجية الظهور الذي يأتي في القسم الثاني من هذا العلم.

وما في جملة من الكلمات من التعبير عن مسائل هذا المقصد بمسألة حجية مفهوم الوصف أو الشرط أو نحوهما إنما يراد به ذلك، كما يظهر بأدنى تأملٍ في كيفية تحريرهم الكلام في تلك المسائل.

الثالث: مفهوم الموافقة

الثالث: قسموا المفهوم إلى قسمين:

أولهما: مفهوم الموافقة، وهو الذي يطابق المنطوق في الإيجاب

ص: 505

والسلب.

ثانيهما: مفهوم المخالفة، وهو الذي يخالفه فيهما.

وذكروا في الأول مفهوم الأولوية العرفية، والمعيار فيه أن يستفاد عرفاً من الخطاب بالحكم في الأدنى ثبوته في الأقوى أو العكس بسبب إدراك العرف جهة الحكم من نفس الخطاب به، نظير: دلالة تحليل وطء الجارية على تحليل ما دونه من الاستمتاع كالتقبيل، وإن فرض غفلة المتكلم عنه حين التحليل، حيث يفهم العرف أن الجهة الموجبة لتحليله الاهتمام بمتعة المحلل له وإشباع رغبته، ورفع الحرج لأجل ذلك عن الأهم تستلزم عرفاً رفعه عن الأخف.

وأظهر من ذلك ما لو فهم العرف سوق الخطاب لبيان عموم الحكم ببيان ثبوته في الفرد الأدنى أو الأعلى، لينتقل لغيره بالأولوية، كما هو الظاهر في قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...»(1) حيث يفهم عرفاً أن الغرض بيان عموم النهي عن الإهانة والايذاء بالنهي عن الفرد الضعيف منهما.

وبهذا كان المفهوم مقتضى ظهور الكلام، لأن الفهم العرفي بأحد الوجهين من سنخ القرينة الحالية، بخلاف الانتقال من أحد الفردين للآخر بالأولوية التي هي من الأدلة العقلية، حيث لا يعتبر فيه فهم ذلك من الدليل، بل يكفي فيه إدراك أقوائية الملاك في الفرد الآخر منه في مورد الدليل.

ولذا لابد فيه من القطع بالملاك أو قيام الحجة عليه بالخصوص، أما في مفهوم الموافقة فلا يعتبر إلا ظهور الدليل بأحد الوجهين، ومن ثم يمكن رفع اليد عنه بظهور أقوى منه، كما هو الحال في سائر الظهورات في موارد

ص: 506


1- سورة الإسراء: 23

الجمع العرفي.

موارد مفهوم الموافقة وعدم اختصاصه بالأولوية العرفية

ومنه يتضح عدم اختصاص مفهوم الموافقة بمفهوم الأولوية العرفية، بل يجري في جميع موارد فهم عموم الحكم في الدليل الوارد في خصوص بعض الأفراد، لالغاء خصوصيتها عرفاً، إذ يستفاد من الدليل المذكور نظير الحكم الذي تضمنه في بقية الموارد، وهو شائع في الأدلة.

ونظيره تسرية الحكم عن مورده بتنقيح المناط، وإن كان الفرق بينهما نظير الفرق المتقدم بين التعدي بالأولوية العرفية الذي هو من مفهوم الموافقة والتعدي بالأولوية الذي هو من الأدلة العقلية.

بل من مفهوم الموافقة - أيضا - التعدي عن مورد الدليل لجميع موارد العلة المنصوصة، حيث يستفاد من التعليل دوران الحكم مداره وجوداً وعدماً، كما في قولنا: «لا تأكل الرمان لأنه حامض» حيث يستفاد منه عموم النهي لغير الرُّمّان من أفراد الحامض، وعدم النهي في الرمان غير الحامض، ولما كان الأول مطابقاً للحكم المنطوق في الإيجاب كان من مفهوم الموافقة، ولما كان الثاني مخالفاً له فيه كان من مفهوم المخالفة.

لكن أهل الفن اقتصروا في مفهوم الموافقة على مورد الأولوية العرفية.

ولعله لعدم كونهم بصدد حصر أفراده، لوضوح الحال فيها وعدم الخلاف في التعدي عن مورد أدلتها.

أو لأن التعدي بفهم عدم الخصوصية بسبب ارتكازيته لم يلتفت إليه تفصيلاً، لينبِّه على كبراه الجامعة بين أفراده، والتعدي في مورد العلة المنصوصة قد تعرضوا له في الجملة في مباحث القياس، فاستغنوا بذلك

ص: 507

عن التنبيه له في مباحث المفاهيم، أو غفلوا عن كونه منها.

كما لعله لأحد الوجهين لم يذكروا قصر الحكم عن الموضوع الفاقد للعلة المنصوصة في مفهوم المخالفة.

وكيف كان، فلا مجال لإطالة الكلام في مفهوم الموافقة بعد الاتفاق على موارده - كما ذكرنا - مع عدم وضوح الضوابط العامة لتشخيص صغرياته، بل هو من الظهورات الشخصية الموكولة لنظر الفقيه في كل موردٍ مورد.

وإنما نقتصر على الكلام في مفهوم المخالفة، تبعاً لأهل الفن، حيث تعرضوا لجملة من الموارد وقع البحث في دلالة الكلام على المفهوم فيها.

والبحث فيها يقع في ضمن فصول..

ص: 508

الفصل الأول في مفهوم الشرط
اشارة

لا إشكال في دلالة القضية الشرطية على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو منطوقها، وإنما الكلام في دلالتها على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط الذي هو مفهومها بمصطلحهم، فقد أصر على ذلك جماعة، ومنعه آخرون.

المناط في الدلالة على المفهوم

ومحل الكلام إنما هو دلالتها بالوضع أو الإطلاق، بحيث يكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي للجملة الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة، وإلا ففهم ذلك منها في كثير من الموارد وتجردها عنه في موارد أخرى ليس محلاً للكلام ظاهراً.

كما أن اتفاق جميع القضايا الشرطية من حيثية الدلالة على المفهوم أو عدمها واختلافها في الحيثية المذكورة محل كلام يأتي إن شاء الله تعالى، والذي هو فعلا محل الكلام ما اقترن ب (إن) أو نحوها.

هذا، والمستفاد من كلام شيخنا الأعظم قدس سره وجملة ممن تأخر عنه أن المناط في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ظهورها في كون الشرط علة منحصرة للجزاء، وبدونه لا دلالة لها عليه.

ص: 509

وظاهر صاحب الفصول - بل صريحه - أنه يكفي فيه ظهورها في مجرد لزوم الشرط للجزاء بمعنى عدم حصول الجزاء إلا مع حصول الشرط، إما لكون الشرط علة منحصرة للجزاء، أو لكون الجزاء علة للشرط، أو لكونهما معلولين لعلةٍ واحدةٍ، ووافقه على ذلك سيدنا الأعظم قدس سره.

ولا ريب أن ما ذكراه هو المتعين، إذ لو فرض أن الجزاء علة تامة للشرط أو متمماً لعلته - مع وجود بقية أجزائها - فعدمه مستلزم لعدم الجزاء. وكذا لو اشتركا في العلة المنحصرة أو العلل المتعددة، حيث يستلزم انتفاء الشرط انتفاء علته، فينتفي معلولها الآخر وهو الجزاء.

بل لو فُرض ظهورها في عدم الانفكاك بينهما خارجاً بالنحو المذكور كفى في الدلالة على ا لمفهوم وإن كان اتفاقياً لا لزومياً بناءً على ما يأتي في معنى الاتفاقية، إذ يكفي في المفهوم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وإن لم يكن ممتنعاً.

ومما ذكرنا يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الشرط لو كان معلولاً للجزاء لم يقتضِ المفهوم، لأن وجود المعلول وإن كان كاشفاً عن وجود العلة، إلا أن عدم المعلول لا يكشف عن عدم ذات العلة، لجواز استناده إلى وجود المانع.

فإنه إنما يتم لو كان الجزاء جزءً من علة الشرط غير متمم لها، كالمقتضي، حيث يمكن وجوده في ظرف عدم المعلول للمانع، دون ما إذا كان علته التامة أو متمماً للعلة - كما ذكرنا - حيث لابد حينئذٍ من انتفاء الشرط عند انتفائه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في كفاية دلالة الشرطية على لزوم الشرط

ص: 510

للجزاء بالنحو المتقدم في دلالتها على المفهوم.

ومن هنا كان هو المهم في محل الكلام، إلا أن المناسب التعرض لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الكلام في دلالتها على العلية المنحصرة، لأنها وإن كانت أخص من اللزوم المذكور إلا أن تحقيق مفاد الشرطية من هذه الجهة لا يخلو في نفسه عن فائدةٍ، ولاسيما مع كون تماميته مستلزمة للظهور في المفهوم الذي هو محل الكلام في المقام.

دلالة الشرطية على أمور مترتبة في نفسها

وعليه يقع الكلام في دلالتها على أمورٍ مترتبة في أنفسها..

الأول: اللزوم

الأول: اللزوم، في مقابل كون الشرطية اتفاقية.

وقد أصر غير واحدٍ على ظهور الشرطية في كونها لزومية، بل ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن استعمالها في الاتفاقية نادر جداً، بل هو غير صحيح في نفسه، ولابد في صحة الاستعمال في تلك الموارد من رعاية علاقة وإعمال عناية، ضرورة أنه لا يصح تعليق كل شيءٍ على كل شيءٍ، وسبقه إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره.

كلام السيد الحكيم قدس سره في المراد من اللزوم

لكن قال سيدنا الأعظم قدس سره: «الاتفاق المقابل للزوم إن أُريد به أن لا يكون بين الشرط والجزاء علاقة تقتضي اقترانهما فذلك مما أحاله جماعة، لأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما علة للآخر أو يكونا معلولي علة واحدة - ولو بوسائط - لامتناع تعدد الواجب. ولذلك أنكر هؤلاء الاتفاقية بهذا المعنى التي هي أحد قسمي المتصلة. وإن أريد به أن لا يكون بينهما علاقة ظاهرة في نظر العقل - كما هو معنى الاتفاقية عند هؤلاء الجماعة - فالمراد من اللزومية حينئذٍ ما يكون بينهما علاقة ظاهرة.

وعليه فدعوى ظهور القضية الشرطية في اللزومية بهذا المعنى في

ص: 511

غاية السقوط لا دعوى كونها اتفاقية».

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن ما ذكره من عدم خروج الموجودين عن الفرضين المذكورين في كلامه لا يستلزم إنكار الاتفاقية التي لا علاقة بين طرفيها أصلاً، حيث تتعين فيما إذا كان أحد طرفي الشرطية أو كلاهما نسبة منتزعة من مقام ذات الموضوع أو لازمها، نحو: إن كان الإنسان ناطقاً كان الحمار ناهقاً، وإن كان زيد ممكناً كان شريك الباري ممتنعاً، وإن كان زيد جميلاً كانت الأربعة زوجاً، وغيرها لوضوح أن النسبة المنتزعة من مقام الذات غير معلولة لأمرٍ خارج عنها، لتتردد بين الفرضين المذكورين في كلامه، بل هي قائمة بنفسها غير مرتبطة بغيرها.

و ثانياً: أن امتناع الاتفاقية الحقيقية لا يستلزم كون المراد بها مطلق ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة بنظر العقل، بل قد يراد بها خصوص ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة أصلاً ولو عرفاً، كالعلاقة بين وجود زيد وجريان النهر، المستلزم لعدم قصد أدائها بالجملة الشرطية وتمحضها في بيان تقارن النسبتين، لأن مجرد وجود العلاقة واقعاً لا يوجب الظهور في الاستعمال فيها ما لم تقصد بالاستعمال، ولابد في قصدها من إدراكها، ويكون المراد باللزومية ما كانت العلاقة فيها مدركه ولو إجمالاً عرفاً وعقلاً، كما في مثل: إذ أراد الله تعالى شيئاً كان، أو عرفاً فقط، كما في قولنا: إن وقع الثوب في الماء ابتلَّ، فيقصد أداؤها بالجملة الشرطية زائداً على التقارن بين النسبتين، والظاهر أن هذا هو مراد من يدعي ظهور الشرطية في اللزومية.

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في اللزوم زائداً على التقارن، والمعيار فيه ما ذكرنا. بل الظاهر عدم صحة استعمالها في

ص: 512

الاتفاقية إلا بعنايةٍ، كما تقدم ممن ذكرنا.

مبنى تقسيم المناطقة الشرطية إلى لزومية واتفاقية

والظاهر أن مبنى تقسيم المنطقيين الشرطية إلى لزومية واتفاقية إرادتهم بالشرطية ما تضمن مجرد الاتصال بين النسبتين الذي يكفي فيه تقارنهما، أو الانفصال بينهما الذي يكفي فيه التردد بينهما، ولذا تؤدى المتصلة عندهم بقولنا: كلما كان كذا كان كذا، والمنفصلة ب (إما) ومن الظاهر أن (ما) في (كُلَّما) ظرفية مصدرية، متمحضة في الدلالة على الزمان، وليست كأدوات الشرط خصوصاً (إن) التي سبق أن الكلام فعلاً فيها، حيث لا إشكال في أن المفهوم منها عرفاً معنى زائد على الظرفية لا يصدق في الاتفاقية.

ومنه يظهر حال ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الشرطية لا تلازم اللزوم، لشهادة الوجدان بعدم العناية في إرادة الاتفاقية منها، لأنها ليست إلا لبيان مصاحبة المقدم مع التالي.

ولا يبعد أن يكون ذلك منه مبتنياً على النظر للشرطية عند المناطقة المألوفة في استعمالاتهم.

الثاني: ترتب الجزاء على الشرط

الثاني: ترتب الجزاء على الشرط دون العكس، أو كونهما في مرتبة واحدة، كالمتضايفين.

وقد أصر غير واحدٍ على ظهور الجملة الشرطية في الترتب، وإن اختلفوا في كونه بالوضع أو بغيره، كما سيأتي.

إنكار الخراساني قدس سره لذلك

وظاهر المحقق الخراساني قدس سره إنكار ذلك، لعدم العناية في استعمال الشرطية في مطلق اللزوم من دون ترتب، كما في قولنا: إن صارت هند زوجة لك صرت زوجاً لها، وإن جاء زيد جاء عمرو لو كان علة مجيئهما فصل الخصومة المشتركة بينهما. بل مع عكس الترتب، كما في قولنا: إن

ص: 513

عُوفي زيد فقد استعمل الدواء، وإن أفطر زيد فهو مريض.

لكن قال سيدنا الأعظم قدس سره: «ظهور الجملة الشرطية في الترتب مما لا ينبغي أن يُنكر، بشهادة دخول الفاء في الجزاء».

وهو كما ترى! فإن ذلك إنما يشهد بالترتب في مورد دخول الفاء، ولعله مستند إليها لا إلى هيئة الجملة الشرطية أو أداتها.

ما ينبغي أن يقال في المقام

فلعل الأَولى أن يقال: لا ينبغي التأمل في عدم صحة استعمال الشرطية فيما لو كان الجزاء متقدماً رتبةً على الشرط واستهجان ذلك، فلا يصح أن يقال: إن انكسر الإناء وقع على الأرض، وإن طهر الثوب غسل.

وأما مثل الاستعمال المتقدم في تقريب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فليس الجزاء فيه علة للشرط، بل معلول له، لأن مفاد نسبة الجزاء فيه ليس محض الحدوث الذي هو علة الشرط، ولذا لو قيل بدل المثال الأول: إن عُوفي زيد شرب الدواء، وبدل الثاني: إن أفطر مرض، كان مستهجناً أو ينقلب المعنى، بل مفادها نسبة التحقيق والاتضاح التي هي مفاد (قد) في الأول أو نسبة التقرر والثبوت التي هي مفاد الجملة الاسمية في الثاني، وكلاهما ليس علة للشرط.

وهما مسوقان لبيان أنه ينبغي العلم بمفاد الجملة المبني على الانتقال من وجود المعلول إلى وجود العلة، ومن الظاهر أن العلم بالعلة معلول للعلم بالمعلول في ذلك. ويشهد به دخول الفاء على الجزاء الظاهرة في تفرعه تعلى الشرط، ولا معنى لتفرع العلة على المعلول، إلا بلحاظ تفرع العلم بها عليه.

وكأنه إلى ذلك يرجع ما عن المحقق القمي قدس سره وغيره من أن الشرط

ص: 514

في مثل ذلك سبب للعلم بالجزاء.

ولا وقع للإيراد عليه - كما يظهر من التقريرات - بأن محل الكلام هو علية الشرط للجزاء، لا علية العلم به للعلم به.

إذ بناءً على ما ذكرنا يكون الجزاء متضمناً معنى العلم ومسوقاً للكناية عنه، فيكون الجزاء بنفسه معلولاً للشرط.

وأما استعمالها فيما إذا كان متحدي الرتبة - كالمثالين المتقدمين - فلا يبعد ابتناؤه على التنزيل وادعاء ترتب الجزاء على الشرط، بسبب سبق فرضه، حيث يستتبع فرض الجزاء بضميمة التلازم بينهما، كما يناسبه الفرق ارتكازاً في كل طرفٍ بين جعله شرطاً وجعله جزاءً، فلا يتمحض الفرق بين قولنا: إن صارت هند زوجةً لك صرت زوجاً لها، وقولنا: إن صرت زوجاً لهندٍ صارت زوجةً لك، في مجرد التقديم والتأخير الذكري، نظير الفرق بين قولنا: اشترك زيد وعمرو، وقولنا: اشترك عمرو وزيد، بل يزيد عليه باختلاف نحو التبعية اللحاظية الادعائية.

وإلا فمن البعيد جداً إفادتها القدر المشترك بين خصوص ترتب الجزاء على الشرط وتساويهما في الرتبة، لعدم كونه عرفياً ولا مفهوماً منها، بل ليس الجامع العرفي بينهما إلا محض التلازم الذي يعم صورة ترتب الشرط على الجزاء، وحيث عرفت استهجان الاستعمال فيها تعين اختصاصها بترتب الجزاء على الشرط وابتناء استعمالها مع تساويهما رتبةً على الادعاء، كما ذكرنا. ولذا لو لم تقم قرينة ملزمة بحمل الترتب على الادعائي - بالوجه المتقدم أو غيره - كان ظاهر الشرطية الترتب الحقيقي بينهما، فيستفاد من مثل: إن جاء زيد جاء عمرو، تبعية مجيء عمرو لمجيء زيد وترتبه عليه

ص: 515

ومعلوليته له.

ما ذكره المظفر رحمهم الله في أصوله

وأما ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله من أن المترتب على الشرط في القضايا الشرطية الخبرية هو الإخبار والحكاية عن الجزاء لا نفس الجزاء، سواءً كان الجزاء مترتباً على الشرط ثبوتاً، أم كان الشرط مترتباً عليه أم كانا في رتبة واحدةٍ.

فلا مجال للبناء عليه، لأن التعليق إنما هو بين الشرط والجزاء المحكيين، فكما يكون المعلَّق عليه هو الشرط لا الحكاية عنه يكون المعلَّق هو الجزاء لا الحكاية عنه.

ولذا التزم بأن الجزاء لو تضمن إنشاء حكم تكليفي أو وضعي كان المعلق هو الحكم لا إنشاؤه.

بل الإخبار والإنشاء فعليان لا تعليق فيهما، ولذا يتصف الإخبار فلا بالصدق أو الكذب والإنشاء بالنفوذ أو البطلان، وإنما التعليق في المخبر عنه والمنشأ.

ولو تم ما ذكره لصح استعمال الشرطية مع عكس الترتيب، في مثل قولنا: إن انكسر الإناء وقع على الأرض، وقد عرفت استهجانه، كما عرفت أن مثل: إن عوفي زيد فقد استعمل الدواء، ليس من الاستعمال في عكس الترتيب.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على الشرط، كما يظهر من جماعةٍ استيضاحه.

مستند الترتب في الشرطية

وإنما اختلفوا في أن ذلك مستند للوضع أو لغيره، كما أشرنا إليه آنفاً، فقد استوضح بعض الأعاظم قدس سره عدم استناده للوضع، وإلا لزم أن يكون

ص: 516

الاستعمال في غيره مجازاً مبنياً على عناية، وهو باطل بالضرورة.

ومن ثم ادعى أنه مستند إلى سياق الكلام، لأن ظاهر جعل شيءٍ مقدماً وجعل شيءٍ آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدم.

ويشكل بأن مجرد تقديم الشيء في الذكر - مع أنه لا يطّرد في الشرطية، حيث قد يتقدم الجزاء فيها - لا يوجب ظهور الكلام في تقدمه ثبوتاً، بل غايته الإشعار به غير البالغ مرتبة الحجية، فلا بد أن يكون ذلك مختصاً بالشرط والجزاء في الجملة الشرطية، وحيث كان ذلك مستنداً ارتكازاً لنفس الجملة الشرطية بهيئتها وأداتها فالظاهر منشئه بالوضع.

وما ذكره من أن لازمه كون الاستعمال في خلاف الترتيب مجازاً يظهر الحال فيه مما سبق من قرب ابتناء الاستعمال مع التساوي في الرتبة على الادعاء والتنزيل، وعدم ثبوت الاستعمال مع عكس الترتيب، بل هو مستهجن، وأن ما يوهم ذلك ليس منه في الحقيقة، وإلا لزم كونه مخالفاً لظاهر الشرطية، للجهة التي ذكرها، مع وضوح عدم كونه كذلك.

ومن ثم كان الظاهر استناد ظهورها في الترتب للوضع، كما قربه شيخنا الأعظم قدس سره.

الثالث: الترتب بنحو العلية

الثالث: كون الترتب بنحو العلية.

وظاهر غير واحد أن الكلام فيه هو الكلام في أصل الترتب، حيث لم يفصلوا بينهما. وكأنه لأنه ليس المراد بالعلية هي خصوص العلية التامة، إذ لا إشكال في صدق الشرطية مع كون الشرط جزءاً من العلة في ظرف تحقق بقية أجزائها، ولا مطلق المقدمية المتقومة بكون أحد الأمرين جزءاً من علة الاخر ودخيلاً في ترتبه، لأن ذلك لا يستلزم حصول الجزاء عند

ص: 517

حصول الشرط، الذي لا إشكال في دلالة الشرطية عليه، وقد سبق أنه المراد بالمنطوق بل مطلق ما يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، الذي هو القدر المشترك بين العلة التامة وتتميم العلة، ولو لملازمة الشرط لتحقق آخر أجزاء العلة.

ومن هنا لا مجال لحمل الترتب - الذي تقدم البناء عليه - على التقدم بالشرف، فإنه - مع عدم التفات العرف العام له، وقيامه بالمفردات كالحيوان والجماد والنور والظلام، لا بين مفاد الجمل من النسب، كما في الترتب التي تفيده الشرطية - لا يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، ولا على الترتب بالزمان، لأنه مستلزم للانفكاك بينهما.

المعيار في الترتب الطبعي

وأما الترتب بالطبع فالذي يظهر منهم أن المعيار فيه كون المتقدم جزءاً من علة المتأخر، فقد يعدّ منه تقدم الموضوع على العرض، مع وضوح توقف العرض على موضوعه، فهو جزء علته المعدّ له، كما عدّ منه تقدم الجزء على الكل، مع أن الجزئية والكلية منتزعتان من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة، فالجزء بما هو جزء غير متقدم على الكل طبعاً، بل هما متضايفان متلازمان، لوحدة منشأ انتزاعهما.

وأما الجزء بذاته فهو متقدم على الكل تقدم الموضوع على عرضه، لأن الكلية حيث كانت منتزعة من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة فالوحدة المذكورة قائمة بذات الأجزاء قيام العرض بموضوعه.

وعليه لا مجال لإرادة التقدم الطبعي في المقام، لما سبق من أن مجرد المقدمية لا يكفي في حصول الجزاء عند حصول الشرط، بل المعيار ما ذكرنا من العلية.

ص: 518

على أنه حيث كانت الشرطية دالة على حصول الجزاء عند حصول الشرط، فمن الظاهر أن ما يلزم حصول الشيء عند حصوله ليس إلا علته أو لازمها أو معلوله، وحيث فرض ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على الشرط تعين ظهورها في علية الشرط للجزاء، إذ لو كان معلولاً له لزم عكس الترتب، ولو كان لازماً لعلته فلا ترتب بينهما.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن المراد بالترتب في المقام ليس إلا الترتب بالعلية بالمعنى الجامع بين العلة التامة ومتمم العلة، كما ذكرنا.

ومن هنا كان ما سبق في وجه دلالة الشرطية على الترتب كافياً فيها، بل لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في دخل الشرط في الجزاء وترتب الجزاء على الشرط وتفرعه عليه حتى لو غض النظر عن انحصار الترتب بالعلية.

دعوى عدم استناد الترتب للوضع

نعم، قد يدعى أن ذلك غير مستندٍ للوضع، بل للإطلاق، إما لأن علاقة العلية أكمل أفراد العلائق، وحيث كانت الشرطية دالة على اللزوم لعلاقةٍ كان إطلاقها منصرفاً لأكمل العلائق، وإما لظهور الشرطية في وجود الجزاء عند وجود الشرط على وجه الاستقلال من دون حاجةٍ إلى أمر آخر معه، وهو مستلزم لاستناد وجوده إليه.

ولو تم هذان الوجهان كانا صالحين لإثبات الترتب، وتعين لأجلهما رفع اليد عما سبق من استناده للوضع، إذ لا يتعين استناد الظهور للوضع إلا مع عدم القرينة العامة أو الخاصة التي يمكن استناده إليها.

كما أنه قد ذكر هذان الوجهان لإثبات الترتب والعلية معاً، لما سبق من وحدة كلامهم فيهما.

ص: 519

دفع الدعوة المذكورة

لكن يندفع الأول: - مضافاً إلى منع كون علاقة العلية أكمل، وإلى أنها لا تستلزم ترتب الجزاء على الشرط، بل تكون مع العكس، كما في التقريرات - بأن مجرد الأكملية ثبوتاً لا تقتضي انصراف الإطلاق في مقام الإثبات، كما تقدم نظيره عند الكلام في وجه دلالة صيغة الأمر على الإلزام.

والثاني: بأن عدم الحاجة إلى انضمام شيءٍ مع الشرط في وجود الجزاء إن أريد عدم توقف وجود الجزاء عند وجود الشرط على أمر مفقود، فلا ريب أنه مقتضى إطلاق الملازمة بينهما الذي هو مقتضى إطلاق الشرطية، إلا أنه لا يستلزم استقلاله بالتأثير فيه، بل يكون مع محض التلازم بينهما من دون ترتب، فضلاً عن العلية. وإن أريد به عدم استناد وجود الجزاء عند وجود الشرط لأمر آخر ولو كان موجوداً عند وجود الشرط فلا مجال للبناء على ظهور الشرطية فيه، خصوصاً إذا قيل بعدم دلالتها على العلية، بل على مجرد الملازمة، كما هو مبنى هذا الوجه، لعدم اقتضاء الملازمة أكثر من تقارن المتلازمين في الوجود من دون نظر إلى العلة المؤثرة في وجود كل منهما.

كيف ولوكانت الشرطية ظاهرة في ذلك لزم كون الشرط علة تامة للجزاء! ولا يظن من أحدٍ احتماله، خصوصا في الأحكام الشرعية التي كان أهم أجزاء علتها جعل الشارع الأقدس لها على موضوعاتها، وليس الشرط إلا متمماً لعلتها ومستلزماً لفعليتها.

ومن هنا كان الظاهر استناد الظهور في العلية بالمعنى المتقدم للوضع، لأنه المتبادر من الشرطية ارتكازاً من دون ضم قرينهٍ خاصةٍ أو ارتكازيةٍ.

نعم، ليس المراد بالعلية في الأحكام الشرعية إلا كون الشرط موضوعاً

ص: 520

للحكم الذي يتضمنه الجزاء، حيث يكون هو المتمم لعلة فعليته في فرض جعله شرعاً على موضوعه.

ولذا لا إشكال ظاهراً في بنائهم على كون الشرط موضوعاً للحكم الذي يتضمنه الجزاء، فيكفي التعبد به ظاهراً في التعبد بالحكم، ولا يبتني على الأصل المثبت.

وما عن بعضهم من كون الأسباب الشرعية معرفات، لا مؤثرات حقيقية، قد يراد به كونها معرفات عن مورد الجعل الشرعي، أو عن الملاكات الداعية له، لملازمة موضوع الحكم لملاكه، في قبال استقلالها بالتأثير بعد الجعل كبروياً، أو كونها بنفسها ملاكاً للحكم.

لا أنها معرفات عن الموضوعات من دون أن تكون موضوعات حقيقية، فإنه خلاف ظاهر الشرطية وغيرها من القضايا المتكفلة بجعل الأحكام الشرعية على موضوعاتها.

بل خلاف ما سبق من ظهور الشرطية في الترتب، لأن لازم موضوع الحكم لا يتقدم على الحكم رتبةً.

الرابع: كون العلية بنحو الانحصار

الرابع: كون العلية بنحو الانحصار.

وقد احتمل شيخنا الأعظم قدس سره أن النزاع في المفهوم راجع للنزاع في دلالة الشرطية على ذلك، للاتفاق على ما قبله، وإن كان قد يظهر من بعض كلماتهم التشكيك فيما قبله أيضاً.

وقد أصر غير واحدٍ من القدماء والمتأخرين على ظهور الشرطية فيه، ومنع منه آخرون.

وقد ذكرنا في أول الفصل أن المعيار في دلالة الشرطية على المفهوم

ص: 521

ليس هو دلالتها على العلية المنحصرة، بل على لزوم الشرط للجزاء بنحو لا يتحقق الجزاء بدونه ولو اتفاقاً.

ومن الظاهر أن ظهور الشرطية في ذلك مستلزم لظهورها في كون الشرط علةً منحصرةً، بناءً على ما سبق من ظهورها في كون الشرط علة للجزاء، ولظهورها في كون الشرط لازماً مساوياً للجزاء، بناءً على ظهورها في مجرد اللزوم دون العلية.

ومن هنا كان المناسب الكلام في ظهور الشرطية في ذلك، سواء رجع إلى ظهورها في العلية المنحصرة أم لا.

ما استدل على العلية

وقد يستدل عليه بوجوه، وإن ذكر بعضها أو كلها في كلماتهم دليلاً على ظهور الشرطية في العلية المنحصرة.

الأول: ظهور الإطلاق في الفرد الأكمل

الأول: أن الظاهر من إطلاق العلاقة اللزومية إرادة الفرد الأكمل منها، وهو الناشئ عن انحصار العلة في الشرط.

المناقشة فيه

ويشكل: - مضافاً إلى ما سبق من عدم انصراف الإطلاق للأكمل - بأنه لا دخل لانحصار العلية في اللزوم بنحو يقتضي أكمليته - كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره - لابتناء اللزوم على عدم انفكاك الجزاء عن الشرط الحاصل مع انحصار العلية وعدمه بنحوٍ واحدٍ.

وكذا الحال في العلية لتقومها بتأثير العلة في المعلول، ولا أثر للانحصار في ذلك.

الثاني: أنه مقتضى إطلاق نسبة اللزوم

نعم، قد يكون لمنشأ اللزوم دخل في كماله، فاللزوم الذاتي أكمل عرفاً من اللزوم لأمرٍ خارجٍ عن الذات، ولا دخل لذلك بما نحن فيه.

الثاني: أن مقتضى إطلاق نسبة اللزوم، كما كان مقتضى إطلاق هيئة

ص: 522

الأمر الحمل على الوجوب التعييني دون التخييري.

المناقشة فيه

ويشكل: بالفرق بأن هيئة الأمر حيث كانت متضمنة لنسبة البعث نحو المأمور به بنحوٍ يقتضي الانبعاث نحوه كانت ظاهرة في كون التكليف به تعيينياً مقتضياً للإتيان به لا غير، لا تخييرياً يجزئ فيه غيره، إذ مقتضاه عدم الانبعاث إليه في ظرف الانبعاث للطرف الآخر، وهو خلاف إطلاق نسبة البعث، أو خلاف مقتضاها لو بقيت على إطلاقها.

أما في المقام فحيث فرض عدم دلالة الشرطية إلا على لزوم تحقق الجزاء عند تحقق الشرط فهو بنفسه لا يقتضي الانحصار، لأن تحقق الجزاء عند تحقق أمر آخر لا ينافي اللزوم المذكور بوجهٍ أصلاً، كما لا ينافي إطلاقه.

وإنما يتجه القياس في فرض التسليم بظهور الشرطية في الانحصار والإناطة، لأن قيام شيءٍ آخر مقام الشرط مخالف لظهور الاقتصار في بيان العلة المنحصرة على الشرط، نظير مخالفة قيام شيءٍ مقام المأمور به لظهور الاقتصار عليه في بيان المطلوب الذي لابد من الإتيان به، بل يحتاج كلٍ منهما للبيان بمثل العطف ب - (أو).

ومثله في ذلك تقريب هذا الاستدلال بإطلاق الشرط، بدعوى: أن مقتضى إطلاقه تعينه، كما كان مقتضى إطلاق الواجب تعينه.

لاندفاعه: بأنه لا دخل للانحصار وعدمه في الشرط بنحوٍ يكون من شؤونه التابعة لإطلاقه وتقييده.

ومجرد احتياج عدم الانحصار للبيان لا يكفي في كونه مقتضى الإطلاق ما لم يكن من شؤون موضوع الإطلاق وأنحائه، وليس هو كإرسال الماهية وسريانها الذي يكون مقتضى إطلاقها.

ص: 523

على أن الانحصار أيضاً يحتاج إلى بيان لو فرض كون مفاد الشرطية وضعاً مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط ولزومه له.

واستفادة التعيين في الواجب دون التخيير ليس من إطلاق الواجب، بل من إطلاق الهيئة بالوجه المتقدم، وقد سبق عدم صحة قياس المقام عليه.

تقريب إطلاق نسبة الجزاء في العلية المنحصرة

وكذا تقريبه بإطلاق نسبة الجزاء، بدعوى: أن الاقتصار في تقييدها على الشرط وعدم تقييدها بغيره بمفاد (أو) ظاهر في انحصار العلة به، كما كان عدم تقييدها بغيره بمفاد الواو ظاهر في استقلال الشرط بالتأثير وعدم توقف نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه، فيكون علةً تامةً أو متمماً للعلة، كما تقدم.

دفعه

لاندفاعه: بأن الإطلاق إنما ينهض بدفع القيد لرجوعه إلى تضييق موضوعه الذي هو مفاد المفرد أو الهيئة، ومن الظاهر أنه كما يكون اشتراط نسبة الجزاء بالشرط راجعاً إلى تضييق النسبة المذكورة، فيكون مدفوعاً بإطلاقها، كذلك يكون عدم استقلال الشرط في فرض التقييد به، فإن توقف فعلية نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه موجب لزيادة في تضييقها، فيكون زيادة في تقييدها، ويدفع بالإطلاق.

أما عدم انحصار العلية بالشرط وقيام شيءٍ آخر مقامه في تحقيق نسبة الجزاء فهو لا يستلزم التضييق في النسبة المذكورة، بل هي باقية على سعتها، فلا يكون قيداً فيها، ليدفع بإطلاقها، بل تكون الشرطية ساكتة عن ذلك، فلا وجه لجعل الأمرين من بابٍ واحدٍ.

وبالجملة: لا مجال للاستدلال بالإطلاق المذكور، سواءً أريد به إطلاق نسبة اللزوم، أم إطلاق الشرط، أم إطلاق الجزاء، على اختلاف

ص: 524

كلمات المستدلين واضطرابها.

ومجرد الحاجة في بيان الشرط الآخر إلى العطف بمفاد (أو) لا يكفي في ذلك، ولا يصحح قياسه على حمل إطلاق الأمر على التعييني دون التخييري.

ولذا لو صرح باللزوم بالمفاد الاسمي - كما لو قيل: مجيء زيد مستلزم لأن يجب إكرامه - لم ينفع الإطلاق في استفادة المفهوم، سواء أريد به إطلاق اللازم أم الملزوم أم الملازمة، بخلاف ما لو صرح بالوجوب بالمفاد الاسمي، فقيل: يجب الصدقة، حيث يحمل على الوجوب التعييني كهيئة الأمر.

الثالث: مقتضى الإطلاق تأثير الشرط في الجزاء دائماً

الثالث: أن مقتضى إطلاق الشرطية تأثير الشرط للجزاء دائماً، ولازم ذلك انحصار العلة به، إذ لو كان غيره مؤثراً له لزم انفراد الغير به لو كان أسبق، ولا يكون هو مؤثراً لو تأخر، وهو خلاف الإطلاق المذكور.

وأما تقريره بأن مقتضى الإطلاق استقلال الشرط بالتأثير، ولو كان غيره مؤثراً، لزم استناد الأثر إليهما معاً لو تقارنا، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد.

فهو كما ترى! موقوف على ظهور الشرطية في كون الشرط علة تامة للجزاء، وقد سبق أنه لا مجال للبناء على ذلك، وأنه قد يكون متمماً للعلة، فلا يستقل بالتأثير، فاستناد الجزاء للشرط وللأمر الآخر عند اجتماعهما لا ينافي إطلاق الشرطية، ويتعين الاقتصار في تقريبه على الوجه الأول.

ومن الظاهر أنه يبتني على دلالة الشرحية على العلية، ولا موضوع له بناءً على تمحضها في الدلالة على الملازمة ولو مع كون الجزاء هو العلة.

ص: 525

المناقشة فيه

هذا، والظاهر أنه لا مجال للاستدلال بالوجه المذكور..

أولاً: لأن المنصرف من إطلاق تأثير المؤثر للأثر بيان تحققه تبعاً له في فرض عدمه، لا مطلقاً بنحوٍ يقتضي عدمه قبله. فإذا قيل: وقوع الإناء سبب لانكساره، كان ظاهره تأثير الوقوع في الانكسار لو لم ينكسر قبله، لا أنه لا ينكسر قبله بسبب آخر بل انكساره قبله كالرافع لموضوع الإطلاق من دون أن ينافيه عرفاً، وكذا الحال في الشرطية غير المسوقة للمفهوم ونحوها مما لا يتضمن إلا سببية شيءٍ لحدوث آخر.

ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره غير واحدٍ في المقام من ظهور الكلام في بيان المؤثرية الاقتضائية الراجعة إلى قابلية المؤثر للتأثير. وإلا فلا إشكال في ظهور الكلام في المؤثرية الفعلية، لتمامية العلة حين وجود الشرط وعدم المانع من التأثير.

و ثانياً: لأن ذلك إنما يمنع من استناد الجزاء لأمرٍ سابقٍ على الشرط بنحوٍ لا يبقى معه موضوع لتأثير الشرط في ظرف وجوده، ولا يمنع من استناده لأمرٍ لا يجتمع مع الشرط، كما لو قيل: إن جاء زيد من سفره هذا يوم الجمعة وجب إكرامه، واحتمل وجوب إكرامه أيضاً لو جاء من هذا السفر يوم الثلاثاء، أو يجتمع معه في ظرف لا يمنع من تأثيره، لتعدد الموضوع، كما لو قيل: رحب بالقادم إن كان عالماً، واحتمل وجوب الترحيب به إن كان كريماً، أو قيل: إن ذبح الحيوان بالحديد حل أكله، واحتمل حليته أيضاً لو ذبح بالذهب.

وحيث لا إشكال في عدم الفرق في دلالة الشرطية على المفهوم وعدمها بين الموارد، ولا مجال لاستناد الدلالة والظهور لعدم الفصل

ص: 526

لزم عدم نهوض هذا الوجه بإثبات المفهوم، كما يناسبه الغفلة عنه بحسب المرتكزات في مقام الشرطية أو استفادة المفهوم منها، ولو استفيد المفهوم منها فمن وجهٍ آخر يعم جميع الموارد.

الرابع: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الرابع: ما ذكره بعض المحققين وسيدنا الأعظم قدس سره ما من أن ظهور القضية الشرطية في دخل خصوصية الشرط في تحقيق الجزاء موجب لظهورها في كونه علة منحصرة له، إذ لو قام مقامه أمر آخر كان الجزاء مستنداً للجامع بينهما بلا دخلٍ للخصوصية.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن ذلك منتقض بغير الشرطية من القضايا المتكفلة ببيان موضوعات الأحكام الدخيلة فيها، فكما كان ظاهر قولنا: أكرم زيداً إن كان فقيراً دخل الفقر في الحكم، كذلك قولنا: أكرم الفقير، وأظهر منهما قولنا: فقر المرء سبب لوجوب إكرامه، مع عدم بنائهم على ثبوت المفهوم لغير الشرطية.

و ثانياً: أنه يبتني على أن وحدة الأثر تستلزم وحدة المؤثر، وقد سبق منا ومن بعض المحققين نفسه المنع من ذلك في مبحث الصحيح والأعم.

ولو تم، فهو أمر بُرهاني لا يدركه أهل اللسان ليترتب عليه الظهور النوعي في المفهوم، لوضوح أن الظهورات النوعية تبتني على الارتكازيات المدركة لعامة أهل اللسان.

على أن ذلك إنما يقتضي كون الشرط هو القدر المشترك لو كان دخل كل من الشرطين في الملاك بنحوٍ واحد، أما لو اختلف نحو دخلهما فيه فهو راجع إلى اختلاف الأثر حقيقةً، ولا ملزم معه باستناد الأثر للقدر المشترك، بل يتعين دخل خصوصية كل منهما فيه.

ص: 527

مثلاً: إذا كان فقر زيد مقتضياً لوجوب الانفاق عليه، إلا أن إساءته مانعة من وجوب ذلك إلا مع اضطراره، صح الحكم بوجوب الانفاق عليه مع عدم إساءته ومع اضطراره من دون ملزم برجوع عدم الإساءة والاضطرار لجامعٍ واحد، لأن تأثير عدم الإساءة في الوجوب بلحاظ ارتفاع المانع من تأثير المقتضي للملاك، وتأثير الاضطرار فيه بلحاظ كونه العلة التامة له، فلا تمنع الإساءة من تأثيره، ولا ملزم بوجود القدر الجامع الحقيقي بين عدم المانع والعلة التامة، بل هو ممتنع في نفسه.

ما ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: ظهور القضية في دخل خصوصية الموضوع أو غيره من القيود في الحكم إنما هو بمعنى دخلها في شخص الحكم المنشأ والمبين، ولا ظهور لها في دخلها في سنخه، بحيث لا يثبت مع خصوصية أخرى تشاركها في جامع عرفي، فضلاً عما إذا كانت مشاركة لها في جامع عقلي مستكشف بقاعدة استلزام وحدة الأثر لوحدة المؤثر لو تمت.

ودلالة القضية على دخل الخصوصية في سنخ الحكم تحتاج إلى عناية لابد من إثباتها في المقام وغيره. ويأتي في بعض تنبيهات المسألة توضيح ذلك.

الخامس: ما حكي عن العراقي قدس سره

الخامس: ما حكاه في منتهى الأصول عن بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الكلام في ثبوت المفهوم في المقام وغيره لا يبتني على ظهور القضية في كون ما أُخذ فيها موضوع أو شرط أو وصف أو غيرها علة منحصرة للحكم، لاشتراك جميع القضايا في ذلك، لظهور أخذ الشيء في الحكم في كونه دخيلاً بخصوصه، وأنه تمام ما يعتبر في الحكم، فلا يخلفه شيء آخر، كما لا يعتبر معه شيء آخر، من دون فرق بين القضايا في ذلك، بل الذي يبتني

ص: 528

على ثبوت المفهوم هو أن المنشأ سنخ الحكم أو شخصه، فإن كان الأول كان انتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة مستلزماً لانتفاء تمام أفراد الحكم، فيثبت المفهوم، وإن كان الثاني فانتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة لا ينافي ثبوت فردٍ آخر من الحكم، فلا يثبت المفهوم.

وحينئذٍ فالقضية بطبعها لا تتضمن إلا إنشاء الحكم بنحو القضية المهملة على موضوعه، وهي في قوة الجزئية لا إطلاق لها يشمل جميع وجودات سنخ الحكم، ليثبت المفهوم.

نعم، لو تضمنت القضية جهة زائدة على ربط الحكم بموضوعه أمكن دعوى الإطلاق من هذه الجهة الزائدة وخروجه عن الإهمال وظهور القضية في إنشاء سنخ الحكم المستلزم لثبوت المفهوم، لا شخصه، كما هو الحال في القضية الشرطية والمتضمنة للغاية والحصر، لاشتمالها على خصوصية زائدة على ربط الحكم بالموضوع، بخلاف القضية المشتملة على الوصف، لأن الوصف لما كان من شؤون الموضوع، بل بلحاظ عينه ونفسه، فلا يفيد أكثر من ربط الحكم بالموضوع، ليدل على إنشاء سنخ الحكم ويخرج به عن مفاد القضية بطبعها.

ويشكل ما ذكره..

المناقشة فيه

أولاً: بأنه لا مجال للتفريق بين القضايا في ظهور بعضها في إنشاء سنخ الحكم وظهور الآخر في إنشاء شخصه، بعد أن كان الحكم نحواً من النسبة المتقومة بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوع وقيود، بل ليس المنشأ أو المخبر عنه إلا النسبة المتشخصة والمتقومة بتمام ما أخذ فيها من أطراف، ولا مجال لاحتمال تكفل القضية بإنشاء سنخ الحكم بنحو يشمل صورة

ص: 529

فقد الموضوع أو بعض قيوده، ليحتاج في استفادة أن المجعول هو الحكم الجزئي، إلى دعوى إهمال الحكم المنشأ بحسب طبع القضية، وأن المهملة في قوة الجزئية، بل لا معنى للإهمال في القضايا المتضمنة للإنشاء والجعل، لامتناع الإهمال في المجعول ثبوتاً، وعموم الحكم وخصوصه تابع لعموم موضوعه وخصوصه، لا لكون الحكم المنشأ أوسع من موضوعه.

ومن ثم كان لازم ذلك ارتفاع الحكم المنشأ بارتفاع موضوعه أو قيوده، وهو معنى كونها علة منحصرة، له - حسبما تقدم منه - لا بمعنى ظهور القضية في ذلك، بل لا تتكفل القضية إلا ربط الحكم بالموضوع والقيد بنحوٍ يقتضي قصوره عن غيرهما.

ولذا لا يكون مرادهم بالنزاع في كون بعض القيود علة منحصرة في ذلك، لبداهة اشتراك جميع القضايا فيه - كما ذكره - ولوضوح أن ارتفاع الحكم لارتفاع موضوعه أو قيده لا ينافي ثبوت حكم آخر مثله لموضوعٍ آخر أو في حال آخر، فلا يكون هو المعيار في المفهوم، بل المعيار فيه أن يستفاد من القضية انحصار سنخ الحكم بالموضوع أو القيد المذكور فيها، بحيث لا يثبت إلا معها، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في الوجه السابق، وهو مرادهم بالانحصار الذي يقع الكلام فيه في بعض القضايا، ومنها الشرطية.

و ثانياً: أن مجرد اشتمال القضية الشرطية على خصوصية زائدة على ربط الحكم بموضوعه لا يكفي في ظهورها في إنشاء السنخ الذي جعله معياراً في الدلالة على المفهوم، كما لا يكفي في ظهورها في انحصار السنخ بالخصوصية المذكورة، الذي عرفت أنه المعيار في الدلالة عليه، وإلا لاطَّرَدَ ذلك في سائر القيود الزائدة على الموضوع من ظرفٍ أو حالٍ أو غيرهما، بل

ص: 530

لجرى في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع، بل لابد فيه من جهةٍ أخرى تستلزم الانحصار، ولو لم يكن انحصار العلية، ولذا اهتم أهل الفن بتحقيق ذلك، والكلام فيه إثباتاً ونفياً.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم لإثبات ظهور الجملة الشرطية في الانحصار بضميمة الإطلاق من دون أن تكون موضوعة لذلك، بل مع عدم وضعها عند بعضهم حتى لإفادة العلية.

الأولى ما يظهر من الشيخ الأعظم قدس سره من الاستدلال على المرتكزات الاستعمالية

وحيث ظهر وَهْنُهَا فلعل الأولى ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وسبقه إليه جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين من ظهورها بنفسها في الانحصار، بمعنى لزوم الشرط للجزاء، بحيث ينتفي الجزاء بانتفائه الذي سبق أنه المعيار في المفهوم.

لقضاء الوجدان بذلك بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية، للفرق ارتكازاً بين الشرط وغيره من قيود النسبة، كالظرف والحال وغيرهما في أن التقييد به لا يبتني على مجرد إفادة ثبوتها عنده، بل تعليقها عليه وإناطتها به، ولذا أطلق عليه الشرط عندهم وعلى القضية أنها شرطية، لوضوح أن شرط الشيء ليس مجرد ما يحصل عنده، بل ما يتوقف وجوده عليه، فلولا ارتكاز أن مفاد الشرطية الإناطة والتعليق بالنحو الذي ذكرناه لم يكن وجه للإطلاق المذكور.

كثرة موارد تجريد الشرطية عن العلية

نعم، لا إشكال في كثرة موارد تجريد الشرطية عن الخصوصية المذكورة وسوقها لبيان مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط، من دون تعليق عليه ولا إناطة به.

ولعل ذلك هو منشأ بناء من تقدم على كون الخصوصية المستلزمة

ص: 531

للمفهوم خارجة عن مفاد القضية وضعاً، وبسبب ارتكاز ظهورها في الخصوصية المذكورة تكلف من تكلف توجيه كونها مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة، على اختلاف الوجوه المتقدمة.

لكن الارتكاز المذكور - بعدما عرفت من عدم تمامية تلك الوجوه - كافٍ في إثبات إفادتها لها وضعاً، من دون أن ينافيه كثرة موارد تجريدها عنها، لشيوع التوسع في الاستعمالات، نظير التوسع في غير الشرطية مما تضمن التقييد بالوصف والظرف وغيرهما، فيساق لبيان الإناطة والتعليق بنحوٍ يقتضي المفهوم، مع وضوح عدم إفادته لذلك لا وضعاً ولا إطلاقاً.

وبالجملة: قياس الشرطية على غيرها شاهد بالفرق بينهما في إفادة الإناطة وعدمها، وكما لا ينافي ذلك سَوق غير الشرطية لإفادة الإناطة في كثيرٍ من الاستعمالات لا ينافيه تجريد الشرطية عنها في الاستعمالات الكثيرة، لأن المعيار في الوضع التبادر، لا الاستعمال.

الاستدلال ببعض النصوص في المقام

ثم إنه قد يُستدل لما ذكرنا ببعض النصوص الظاهرة في المفروغية عن إفادة الشرطية المفهوم، كصحيح عبيد بن زرارة: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قوله عز وجل: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»؟ قال: «ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه»(1).

وما في صحيح أبي أيوب عن أبي عبد الله عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْه(2) من قوله عليه السلام

ص: 532


1- الوسائل ج 7، باب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 8
2- سورة البقرة: 203

«فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجّل، ولكنه قال: ومن تأخر فلا إثم عليه»(1).

وصحيح أبي بصير: سألت أعبد الله عليه السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال: «لا تأكل، إن علياً عليه السلام كان يقول: «إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»(2)، وغيرها.

وهي إن لم تبلغ مرتبة الاستدلال، فلا إشكال في قوة تأييدها للمطلوب، ولاسيما الأولين، وخصوصاً الثاني، لظهوره في فهم الناس الإناطة بأنفسهم.

ما ذكره المنطقيون من أن رفع المقدم لا يستلزم رفع التالي

هذا، وأما ما ذكره المنطقيون في القياس الاستثنائي من أن رفع المقدم في المتصلة لا يستلزم رفع التالي. فهو مبني على إرادتهم بها ما تتضمن مجرد اتصال نسبة الجزاء بنسبة الشرط، ولذا تؤدي عندهم بقولنا: كلما كان كذا كان كذا، مع أن (ما) في (كلما) مصدرية ظرفية متمحضة في الدلالة على الزمان، ولذا صح منهم تقسيمها إلى اللزومية والاتفاقية، وليس الملحوظ لهم المعنى اللغوي والعرفي لمفاد الأداة أو الهيئة، كما أشرنا إليه عند الكلام في دلالة الشرطية على اللزوم، فلا مجال للخروج بما ذكروه عما ذكرنا من التبادر.

تنبيهات..

بقي في المقام تنبيهات..

التنبيه الأول: المتيقن مما تقدم الجملة المقترنة ب - (أن)

التنبيه الأول: أشرنا في أول الفصل إلى أن المتيقن من محل الكلام الجملة المقترنة ب (إن) ونحوها، وذلك لأن (إن) بسبب شيوع استعمالها

ص: 533


1- الوسائل ج 10، باب: 9 من أبواب العود إلى منى، حديث: 4
2- الوسائل ج 16، باب: 12 من أبواب الذبائح، حديث: 1

اتضح مؤداها حتى صارت أظهر أدوات الشرط في إفادة الإناطة والتعليق المستلزمين للمفهوم.

ولكن الظاهر مشاركة كثير من أدوات الشرط لها، سواء كانت جازمة للمضارع ك (من) و (ما) أم لا ك (إذا)، كما يشهد به أو يؤيده النصوص المتقدمة.

ولا ينافي ذلك ما صرح به النحويون من أن (إذ) ظرف مضاف للجملة التي بعدها معمولة للجزاء. لأنه لو تم فتضمن (إذا) معنى الظرف لا ينافي إفادتها الإناطة أيضاً.

نعم، ما يقل استعماله في أعرافنا ك (أيان وحيثما وإذ ما ومتى ومهما) لا يتسنى لنا تحديد مفاده بالتبادر، ليتضح ظهوره في المفهوم وعدمه.

ولا يتسنى لنا الجزم بتلازم أدوات الشرط في ذلك، وإن كان مظنوناً لعدم وضوح كون المعيار في جعلهم لها من أدوات الشرط ملاحظتهم إفادتها الخصوصية المستلزمة للمفهوم، بل لعله ناشئ عن مجرد إفادتها الارتباط بين المقدم والتالي، نظير ما تقدم من المنطقيين، فيكون مصطلحاً نحوياً لا يصلح لتحديد المفهوم اللغوي والعرفي للأدوات المذكورة.

الشرطية الخالية من الأداة

هذا، والظاهر استفادة المفهوم من الشرطية الخالية عن الأداة، وهي المتضمنة لجواب الطلب، نحو: أسلم تسلم، لقوة ظهور هيئتها في الإناطة والتعليق، ويؤيده صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال له رجل: جُعِلتُ فداك إن الله يقول: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» وإنا ندعو فلا يستجاب لنا، قال: «لأنكم لا توفون بعهده، وإن الله يقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ»

ص: 534

والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم»(1).

نعم، يشكل استفادته من الحملية المشعرة بالشرط، وهي التي يكون المبتدأ فيها موصولاً والخبر مقترناً بالفاء، نحو الذي يأتي فله درهم، فإنهم وإن ذكروا أن دخول الفاء مشعر بتضمن الموصول معنى الشرط، إلا أن المتيقن منه تضمنه له من حيثية إفادة كون الصلة علة للخبر، لا من حيثية الإناطة والتعليق.

التنبيه الثاني: المعيار انتفاء سنخ الحكم لا شخصه

التنبيه الثاني: أشرنا آنفاً إلى أن المعيار في استفاده المفهوم من القضية دلالتها على انتفاء سنخ الحكم حال عدم الشرط، لا انتفاء شخصه. فقولنا: أكرم زيداً إن جاءك لما كان دالاً على وجوب الإكرام عند المجيء، فانتفاء الوجوب المذكور حال عدم المجيء لعدم تحقق موضوعه لا ينافي ثبوت فرد آخر من وجوب الإكرام في حال المرض مثلاً، ليستلزم المفهوم، وإنما المستلزم للمفهوم انتفاء مطلق وجوب الإكرام حال عدم المجيء.

وهكذا الحال في جميع المفاهيم، فمفهوم الغاية يتوقف على ظهور القضية في ارتفاع مطلق الحكم بحصول الغاية، لا خصوص الحكم الثابت قبل حصولها، ومفهوم الاستثناء والوصف يتوقف على ظهورها في ارتفاع مطلق الحكم في المستثنى أو فاقد الوصف، لا خصوص الحكم الوارد على الباقي من المستثنى منه وعلى الموصوف، ومفهوم اللقب على ظهورها في ارتفاع مطلق الحكم عن غير الموضوع المذكور فيها، لا خصوص الحكم الوارد عليه... إلى غير ذلك. وبذلك ظهر أنه ليس المراد بشخص الحكم في مقابل سنخه الحكم الشخصي الوارد على الموضوع الجزئي كنجاسة

ص: 535


1- تفسير القمي: ج 1، ص 46

الثوب الخاص في مقابل الحكم الكلي الوارد على الموضوع العام بنحو الانحلال، كنجاسة الملاقي للنجس، لاختلاف القضايا المتضمنة للأحكام في ذلك، بل الحكم المقارن للخصوصية المذكورة في القضية من موضوعٍ أو قيدٍ أو غيرهما مما يكون منشأ للمفهوم، في مقابل ذات الحكم مع قطع النظر عن تلك الخصوصية.

الكلام في مفاد القضية حملية أو إنشائية

هذا، ولا ينبغي التأمل في أن مفاد القضية - إنشائية كانت أم خبرية - جعل الأمر المحكوم به أو الحكاية عنه مقارناً لتمام ما أُخذ في القضية من موضوع أو قيد أو غيرهما، لتقوّم النسبة التي تتضمنها القضية بأطرافها، فلا معنى لعمومها لحال عدم بعض تلك الأطراف.

إلا أن يخرج بعض تلك الأطراف عن كونه قيداً في القضية، كالوصف المذكور لمحض بيان حال الموضوع اللازم أو ا لغالب.

أو تكون خصوصية القيد ملغية لذكره في القضية عبرةً لبيان قيدية الماهية التي يندرج تحتها.

لكن كلاهما - مع مخالفته للظاهر واحتياجه للقرينة - لا ينافي ما ذكرنا من دخل القيد في الحكم الذي تتضمنه القضية، وأنها لا تفيد إلا الحكم المتقوم به.

ومرجع ذلك إلى كون المجعول في القضية الإنشائية والمحكي عنه في الخبرية شخص الحكم لا سنخه.

وعليه يبتني منع ما سبق عن بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه قد يستفاد من بعض القضايا إنشاء سنخ الحكم لاشتماله على خصوصيةٍ زائدةٍ على جعل الحكم على موضوعه.

ص: 536

عدم ابتناء استفادة سنخ الحكم على عموم المعنى الحرفي

هذا، ولا فرق في ذلك بين القول بعموم المعنى الحرفي والقول بخصوصه، لوضوح أن عموم المعنى الحرفي مفهوماً لا ينافي كون المنشأ فرداً خاصاً من الحكم متقوماً بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوعٍ وقيودٍ، لأن إطلاقه بالإضافة إليها لا يجتمع مع أخذها فيه.

وليس الفرق بين جزئية المعنى الحرفي وكليته إلا في كون الخصوصية خارجة عن مفهومه مقارنةً له وكونها مأخوذة في المفهوم - نظير الفرق بين قولنا: أكرم زيداً، وقولنا: أكرم الرجل، في كونه مفهومياً محضاً - مع كون المؤدى واحداً مطابقاً للنسبة المتقومة بالأطراف.

فما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من كون المنشأ سنخ الحكم، لعموم المعنى الحرفي، في غير محله.

ومثله ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من الالتزام بذلك فيما لو كان الحكم الذي يتضمنه الجزاء مستفاداً من معنى اسمي، كالوجوب والتحريم، لعموم المعنى المذكور مفهوماً، وليس كالمعنى الحرفي شخصياً جزئياً.

وكذا ما في التقريرات من أن الكلام المشتمل على المفهوم إذا كان خبرياً، كقولنا: يجب كذا إن كان كذا، فالمخبر عن ثبوته في المنطوق ليس شخصاً خاصاً من الحكم، بل هو كلي الحكم، وإنما يكون شخصاً خاصاً منه إذا كان إنشائياً كقولنا: أكرم زيداً إن جاءك.

لابتناء جميع ذلك على تعقل كون المنشأ أو المخبر عنه كلي الحكم وسنخه بالنحو الذي يشمل فاقد الخصوصية التي تضمنتها القضية، وقد عرفت أنه غير معقول، وأن أخذ القيد في القضية مستلزم لاختصاص الحكم الذي تضمنته في مقام الإخبار أو الإنشاء بما يقارنه، ومرجعه إلى كون مفاد

ص: 537

القضية شخص الحكم لا سنخه.

على أن لازم ما في التقريرات ثبوت المفهوم لكل قضية خبرية، ولازم ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره ثبوته لكل قضية يستفاد الحكم من معنى اسمي فيها، ولازم ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ثبوته في كل قضية، ولا يختص - بناءً على ما ذكروه - بالشرطية ونحوها، لأنه بعد أن كان الحكم الذي تتضمنه القضية هو السنخ، والمفروض أن مفادها ارتباطه بالموضوع أو القيد الخاص المذكور فيها، ولازم ذلك انتفاؤه بانتفائه، وامتناع وجوده في موضوع آخر أو في غير مورد القيد، فلاحظ.

ويترتب على ما ذكرنا أن ثبوت شخص الحكم في الموضوع أو مورد القيد إذا كان منافياً لثبوت مثله في غيرهما تعين البناء على عدم ثبوته واختصاص سنخ الحكم بالموضوع ومورد القيد، من دون فرق بين القضايا.

لكنه ليس من المفهوم المصطلح الذي يبتني على خصوصية في مفاد القضية، بل لخصوصية في الحكم، وذلك كما في الوقوف، لوضوح أن العين إذا وقفت على وجهٍ أمتنع وقفها على وجهٍ آخر.

فإذا قال: هذه الدار وقف على أولادي الفقراء، اختص بها أولاده الفقراء، ولم يدخل في الموقوف عليهم غير الفقراء من أولاده، وإن لم نقل بمفهوم الوصف، ولا غير أولاده، وإن لم نقل بمفهوم اللقب، لا بوقفية أخرى، لامتناع وقف العين مرتين، ولا بالوقفية، الأولى، لتوقف دخول غير الفقراء من أولاده فيها على عدم سوق الوقف للتقييد، بل لمحض التوصيف بالغلبة، وتوقف دخول غير أولاده على إلغاء خصوصية الأولاد، وأن ذكرهم عبرة للأعم منهم كأرحامه، أو مطلق الناس، وقد عرفت أنهما خلاف ظاهر

ص: 538

الكلام، بل قد يكونا خلاف المقطوع به منه.

ولا يفرق في ذلك بين كون القضية إنشائية وكونها إخبارية عن حال الوقفية الواقعة، كما في مقام الإقرار والشهادة.

وما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من عدم الدلالة على الانتفاء في الإخبار إلا أن تكون القضية ذات مفهوم.

في غير محله بعد ظهور القضية الخبرية في بيان تمام الموقوف عليهم، لأن الاقتصار في بيان طرف الإضافة على شيءٍ ظاهر في كونه تمام الطرف، لا بعضه.

نعم، يتجه ذلك لو لم تتضمن الموقوف عليهم، بل مجرد استحقاقهم التصرف في الوقف، لأن استحقاقهم بالوقفية الواحدة لا ينافي استحقاق غيرهم بها.

ونظير الوقف في ذلك ما يتضمن الملكية أو يستلزمها، كالهبة والوصية ونحوهما، مع اتحاد موضوع الملكية. أما مع تعدد فلا يتم ذلك، بل تتوقف الدلالة على الانتفاء على سوق القضية للمفهوم، لعدم التنافي بين الملكيتين.

وعليه هذا فلو أوصى بإعطاء داره لجيرانه، ثم أوصى بإعطائها لجيرانه الفقراء أو إن كانوا فقراء، كانت الوصية الثانية ناسخة للأولى، من دون نظر إلى ظهور القضية المتضمنة لها في المفهوم.

أما إذا أوصى بإعطاء كل رجل منهم عشرة دراهم، ثم أوصى بإعطاء كل رجلٍ من فقرائهم عشرة دراهم لم تكن ناسخة للأولى إلا إذا كانت القضية المتضمنة لها ظاهرة في المفهوم.

ص: 539

ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما عن الشهيد الثاني في محكي تمهيد القواعد من عدم الإشكال في دلالة القضية على المفهوم في مثل الوقف والوصايا والنذور والايمان، قال: «كما إذا قال: وقفت داري على أولادي الفقراء، أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك. ولعل الوجه في تخصيص المذكور هو عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم، وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك: وقفت على أولادي مطلقاً».

محاولة توجيه دلالة الشرطية على انتفاء سنخ الحكم مع كون المنشأ شخصه

إذا عرفت هذا، فقد حاول غير واحدٍ توجيه دلالة الشرطية على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط مع فرض كون المنشأ هو شخصه، إما مطلقاً، كما ذكرنا، أو إذا كانت واردةً في مقام الإنشاء، كما يظهر من التقريرات، أو إذا استفيد الحكم مع معنى حرفي، كما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره.

والمذكور في كلماتهم وجوه:

أحدها: ما يظهر من التقريرات

أحدها: ما يظهر من التقريرات قال: «وأما ارتفاع مطلق الوجوب فيما إذا كان الكلام إنشائياً فهو من فوائد العلية والسببية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث إن ارتفاع شخص الطلب والوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلة والسبب المأخوذ في الجملة الشرطية، فإن ذلك يرتفع ولو لم يؤخذ المذكور في حيال أداة الشرط علة له، كما هو ظاهر في اللقب والوصف، فقضية العلية والسببية ارتفاع نوع الوجوب الذي أنشأه الأمر وصار بواسطة إنشائه شخصا...».

وظاهره أنه لما لم يكن ارتفاع شخص الحكم بارتفاع الخصوصية المأخوذة فيه موقوفاً على سوقها علة له، بل يكفي فيه سوقها قيداً في القضية بأي نحوٍ اتفق، فأخذها علة له - كما هو ظاهر الشرطية - لابد أن يكون لبيان

ص: 540

ارتفاع أصل الحكم وسنخه بارتفاعها، لا ارتفاع خصوص شخصه.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن مرجع ذلك إلى أن دلالة الشرطية على انتفاء السنخ - المستلزم للمفهوم - ليست بالوضع، بل بدلالة الاقتضاء دفعاً للغوية ذكر الشرط بصورة العلة، وهو موقوف على انحصار فائدة البيان بصورة العلة بذلك، لكنه غير ظاهر، بل قد يكون بنفسه محطاً للغرض ومورداً للفائدة، ولو بلحاظ نكتة بيانية.

على أن لازم ذلك دلالة الشرطية على المفهوم وإن لم نقل بدلالتها على الانحصار. ومن ثم جعل بعض المحققين قدس سره استفادة انتفاء السنخ من فوائد بيان انحصار العلة، لا من فوائد بيان أصل العلية.

وثانياً: أن ذلك لو تم اقتضى دلالة الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع على المفهوم، بحيث تقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط. بل هي أولى بذلك، للاستغناء فيها عن ذكر الشرط مطلقاً بعد تقوم موضوع الجزاء به، بخلاف غيرها، حيث يحتاج فيها لذكره إما بصورة قيد الموضوع أو بصورة العلة، فذكره بصورة العلة مع الاستغناء عنه أولى بالدلالة على انتفاء سنخ الحكم من ذكره بصورتها مع الحاجة إلى ذكره ولو بصورةٍ أخرى. فلاحظ.

ثانيها: ما ذكره النائيني قدس سره

ثانيها: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن المعلق في الشرطية ليس هو مفاد الهيئة، لأنه معنى حرفي وملحوظ آلي، بل هو نتيجة القضية المذكورة في الجزاء، وإن شئت عبرت عنها بالمادة المنتسبة، على ما تقدم تفصيله في بحث الواجب المشروط.

وعليه يكون المعلق في الحقيقة هو الحكم العارض للمادة، كوجوب الصلاة في قولنا: إذا دخل الوقت فصل.

ص: 541

المناقشة فيه

لكنه حيث يبتني على ما تقدم منه في الواجب المشروط يظهر الإشكال فيه مما تقدم هناك في وجه ضعف المبنى المذكور.

مع أنه لا ينهض بدفع الإشكال، لأن الحكم الذي هو نتيجة الهيئة عنده هو الوجوب الشخصي الخارجي، لفرض جزئية مفهوم الهيئة عنده، فكيف يكون المتحصل منها سنخ الحكم!

ثالثها: ما يظهر من السيد الحكيم قدس سره

ثالثها: ما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره من أن ظاهر القضية تعليل سنخ الجزاء لا شخصه، سواء كان الإنشاء وارداً على الطبيعة أم على الشخص، مستشهداً على ذلك بأن المشهور - مع بنائهم على أن الصيغة مستعملة في المعنى الجزئي - قائلون بدلالة القضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء. وقد يظهر منه توجيه ما سبق من التقريرات بذلك.

المناقشة فيه

لكنه كما ترى! إذ لا إشكال في أن مفاد الشرطية نحو نسبة بين الشرط ونفس الجزاء، لا سنخه ومجرد بناء المشهور على ما سبق لابد من النظر في وجهه، ولا يصلح بنفسه وجهاً للمدعى.

المختار في المقام

والذي ينبغي أن يقال: حيث سبق أن شخص الحكم هو الحكم المتحصل من القضية المتقوم بتمام ما أخذ فيها من موضوع وقيود، فلا مجال لكونه موضوعاً للتقييد الذي تتضمنه القضية، لتفرعه عليه، بل ليس موضوع التقييد إلا الذات بنفسها، الصالحة لطروء القيد وعدمه وهي المساوقة لسنخ الحكم بالمعنى الذي تقدم، وإن لم يكن مجعولاً أو مخبراً عنه على سعته، لامتناع تقييده بعد إطلاقه إلا بنسخه.

فمثلاً الوجوب في قولنا: يجب إكرام زيد، قد لحظ في مرتبة وروده على إكرام زيد بذاته على ما هو عليه من سعة في المفهوم، وتضييقه إنما

ص: 542

يكون بتقييده بموضوعه، وهو إكرام زيد، وفي مرتبة متأخرة عنه.

فهو في المرتبة الأولى سنخ الحكم وطرف للتقييد غير مجعول على سعته، وفي الثانية شخصه الذي تناوله الجعل.

كما أن وجوب إكرام زيد الذي هو مفاد الجزاء في قولنا: أكرم زيداً إن جاءك، قد لحظ في مرتبة تقييده بالمجيء بذاته، على ما هو عليه من سعة، وتضييقه بالشرط الذي يتحصل منه شخص الحكم إنما يكون في المرتبة اللاحقة لتقييده بالشرط، وهكذا الحال في جميع القيود التي تتضمنها القضية.

وحينئذٍ إذا فرض ظهور التقييد ببعض القيود في الانحصار والإناطة بها فليس المراد بهما إلا الانحصار والإناطة بالإضافة إلى موضوع التقييد وهو السنخ المستلزم للمفهوم، وإن كان الحكم المتحصل من القضية المنشأ أو المخبر عنه بها هو الشخص.

فكون الحكم المجعول أو المخبر عنه هو الشخص لا يستلزم كونه هو المنوط بالقيد والمعلق عليه، بل لا يمكن ذلك بعد كونه متحصلاً منهما ومتأخراً عنهما رتبةً، بل ليس موضوعهما إلا السنخ، والذات القابلة للأمرين.

وعلى هذا يكون المعيار في سعة المفهوم، فإنها تابعة لسعة الحكم الذي يكون طرفاً للتقييد.

فحيث كان مفهوم اللقب مبنياً على ظهور تقييد الحكم بموضوعه في انحصاره به، وكان الموضوع قيداً للحكم بذاته غير بشيء أصلاً، كان مفهوم اللقب على تقدير القول به أوسع المفاهيم، لرجوعه إلى انتفاء ذات الحكم عن غير الموضوع المذكور في القضية.

ص: 543

أما غيره من القيود فحيث كان وارداً على الحكم بعد تقييده بموضوعه المذكور في القضية فمفهومه - لو قيل به - انتفاء الحكم عن ذلك الموضوع في غير مورد القيد، لا انتفاء مطلق الحكم في غير مورد القيد، بحيث يستلزم انتفاءه عن موضوعٍ آخر.

ولذا كان مفهوم الشرط في قولنا: أكرم العالم إن كان عادلاً، ومفهوم الوصف في قولنا: أكرم العالم العادل، عدم وجوب إكرام العالم غير العادل.

لا عدم وجوب إكرام غير العالم مطلقاً، بل هو يبتني على مفهوم اللقب.

ولا عدم وجوب إكرامه إذا لم يكن عادلاً، بل هو يبتني على كون الشرط أو الوصف وهو العدالة تمام العلة المنحصرة - الذي سبق أنه لا مجال للبناء عليه في الشرطية، ولا يظن من أحدٍ البناء عليه في الوصفية - إذ لو كان متمماً للعلة أمكن اختصاص الاحتياج إليه بالعالم، لكونه متمما لمقتضى الحكم فيه، أو شرطاً لتأثير مقتضيه فيه، أو رافعاً للمانع منه، دون غيره - كالفقير الجاهل - بل يكون واجداً لتمام مقتضى الحكم من دون أن يحتاج تأثيره للشرط، أو يمتنع بمانعٍ.

وبذلك يظهر الحال في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع، فإن ظهور الشرطية في المفهوم لما سبق إنما يقتضي إفادتها إناطة ثبوت الحكم لموضوعه بالشرط المفروض عدم انفكاكه عن الموضوع، ومقتضى الإناطة المذكورة ارتفاع الحكم عن موضوعه بارتفاع الشرط بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وأما ارتفاع الحكم عن غير موضوعه بارتفاع الشرط فهو أمر لا

ص: 544

تقتضيه الشرطية ليصح النقض بها في المقام، كما عن بعضهم.

فإذا قيل: إن قَدِمَ العالم فاستقبله، كان مفهومه عدم وجوب استقبال العالم عند عدم قدومه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع - إذ لا موضوع للاستقبال مع عدم القدوم - لا عدم وجوب استقبال غيره، وإنما يستفاد ذلك لو قيل استقبل القادم من السفر إن كان عالماً، فلاحظ.

التنبيه الثالث: مفهوم القضية الشرطية الكلية

التنبيه الثالث: من الظاهر أن المفهوم لما كان يبتني على إناطة الجزاء بالشرط وتعليقه عليه كان عبارة عن ثبوت نقيض الجزاء عند عدم الشرط.

وهو ظاهر فيما لو كان الجزاء حكماً خاصاً تبعاً لخصوصية موضوعه، كما في قولنا: أكرم زيداً إن جاءك.

وكذا لو كان حكماً عاماً منحلاً إلى أحكام متعددة بعدد أفراد موضوعه، وكان الشرط منحلاً إلى شروط متعددة تبعاً لها، كما في قولنا: أكرم العالم إن كان عادلاً، حيث يستفاد منه إناطة وجوب إكرام كل عالم بعدالته.

أما لو كان مفاد الجزاء حكماً عاماً، ولم يكن الشرط منحلاً إلى شروط متعددة بعدد أفراد العام الذي تضمنه الجزاء، فهل يكون مقتضى المفهوم قضية كلية مختلفة مع المنطوق في الإيجاب والسلب، أو مهملة في قوة الجزئية.

فمقتضى مفهوم قولهم عليهم السلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1) على الأول تنجس غير الكر بكل نجسٍ، وعلى الثاني مجرد تنجسه في الجملة ولو ببعض النجاسات، ومقتضى مفهوم قولنا: إن جاء زيد فأكرم ولده، على الأول أن جميع أولاد زيد لا يجب إكرامهم عند عدم مجيئه،

ص: 545


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المطلق

وعلى الثاني مجرد عدم وجوب إكرام جميعهم، وإن وجب إكرام بعضهم.

تقريب استفادة الجزئية من نقيض الكلية

إذا عرفت هذا فالظاهر الثاني، لأن إناطة العام بالشرط إنما تستلزم عدم ثبوته مع ارتفاع الشرط، وهو إنما يكون بسلب العموم، لا بعموم السلب من دون فرق في ذلك بين أن يكون العموم انحلالياً وأن يكون مجموعياً.

والمعلَّق على الشرط في الأول وإن كان أحكاماً متعددة حقيقةً وعرفاً، بخلافه في الثاني بل هو حكم واحد حقيقةً وعرفاً، وتحليله إلى أحكام متعددة ضمنية إنما هو بالتحليل العقلي، إلا أن ذلك ليس فارقاً في المقام بعد كون المعلق والمنوط في القسمين هو العام.

نعم، لو كان المعلق والمنوط كل واحدٍ من الأحكام الانحلالية في العام الانحلالي، بحيث يرجع إلى إناطات متعددة بعدد تلك الأحكام، ويكون كل منها منوطاً مع قطع النظر عن غيره، اتجه عموم المفهوم، لأن إناطة كل حكم بنفسه تستلزم ارتفاعه بارتفاع الشرط، فيلزم ارتفاع الجميع بارتفاعه. لكنه يحتاج إلى عناية خاصة زائدة على مفاد العام، وقرينة مخرجة عن ظهور الكلام الأولي في كون المعلق هو العام.

ومجرد كون العموم انحلالياً لا يستلزم ذلك، لأن انحلالية العام لا تنافي جعله بنفسه طرفاً للتعليق، ولا تستلزم النظر إلى أحكام أفراده وإناطتها بأنفسها مع قطع النظر عنه، بحيث تنحل إناطته إلى إناطات متعددة بعددها.

ولذا لا إشكال في ظهور مثل قولنا: إذا أخذ زيد سلاحه لم يخف أحداً، في أنه إذا لم يأخذ سلاحه خاف في الجملة، لا من كل أحدٍ، مع أن العموم فيه انحلالي بلا إشكال.

ما ذكره النائيني قدس سره ومناقشته

فما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن العموم إذا كان انحلالياً كان المعلق

ص: 546

كل واحدٍ من الأحكام، بنحوٍ يستلزم كون المفهوم قضية عامة، في غير محله.

وأشكل من ذلك ما ذكره معياراً في مقام الإثبات من أن العموم الذي يتضمنه الجزاء إذا استفيد من معنى اسمي - كلفظ - (كل) - أمكن أن يكون المعلق نفس العموم، فيكون المفهوم قضية جزئية، كما يمكن أن يكون هو الحكم العام بتمام أفراده، فيكون المفهوم قضية كلية.

أما إذا كان مستفاداً من معنى حرفي - كهيئة الجمع المعرف باللام، والنكرة في سياق النهي أو النفي، كحديث الكر المتقدم - فلا يمكن أن يكون المتعلق هو العموم، بل هو الحكم العام بما له من أفراد ينحل إليها.

إذ يرد عليه: أولاً: أن العموم المستفاد من معنى حرفي كما يكون انحلالياً يكون مجموعياً، ولا يختص العموم المجموعي بما يستفاد من معنى اسمي، بل هو تابع لقرائن تختلف باختلاف الموارد.

وثانياً: إن كون العموم مستفاداً من معنى حرفي لا يمنع من تعليقه بنفسه على الشرط، إما لما سبق منّا في الواجب المشروط من قابلية المعنى الحرفي للتعليق، أو لما سبق منه في التنبيه الثاني من أن المعلّق نتيجة القضية المذكورة في الجزاء، فإذا كانت نتيجتها العموم أمكن أن يكون هو المعلق على الشرط.

وبالجملة: النظر في الأمثلة العرفية - كالمثال المتقدم - شاهد بأن المعلق هو العام، وأن تعليق الأفراد بأنفسها كل على انفراده يحتاج إلى عناية يفتقر ظهور الكلام فيها إلى قرينة.

ومما ذكرنا يظهر أن الجزاء لو كان قضية مهملة أو جزئية كان مقتضى المفهوم قضية عامة مخالفة لها في الإيجاب والسلب، لأن نقيض الجزئية

ص: 547

كلية إلا أن يراد بها الإشارة إلى أفراد خاصة، فيكون المفهوم قضية جزئية أيضاً مراداً بها خصوص تلك الأفراد.

لكن الظاهر عدم الإشكال في احتياجه إلى قرينةٍ خاصةٍ لمخالفته للظهور الأولي للكلام.

التنبيه الرابع: تعدد الشرطية مع وحدة الجزاء

التنبيه الرابع: إذا تعددت الشرطية مع وحدة الجزاء واختلاف الشرط، لزم التنافي بناءً على ظهور الشرطية في المفهوم، لأن مقتضى مفهوم كل شرطية انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها وإن تحقق شرط الأخرى، وهو ينافي إطلاق منطوق الأخرى.

ولا إشكال في ذلك مع عدم قابلية الجزاء للتعدد، كما في قولنا: إذا خفي الأذان فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر.

دعوى: عدم التنافي مع قابلية الجزاء للتعدد

أما مع قابليته له، فقد يدعى عدم التنافي بين الشرطيتين أو الأكثر، كما في قولنا: إن ظاهرت فاعتق رقبة، وإن أفطرت فاعتق رقبة، حيث يمكن تعدد التكليف بالعتق تبعاً لتعدد السبب، فمع تحقق أحد الشرطين أو الأكثر يتحقق التكليف التابع له، دون التكليف التابع للاخر، وبانتفائه ينتفي التكليف التابع له، وإن لم ينتف التكليف التابع له، ولا تنافي، لأن المنوط بكل شرط تكليفه التابع له.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأن تعدد التكليف لما كان موقوفاً على تعدد المكلف به، بحمل المكلف به في كل شرطية على فرد من الماهية مباين للفرد المكلف به في الأخرى، فهو مخالف لإطلاق المكلف به في كل شرطية، لأن مقتضى الإطلاق إرادة أصل الماهية التي يكفي في امتثالها صرف الوجود، ومع وحدة المكلف به يمتنع تعدد التكليف، بل يتعين وحدته ويلزم التنافي، لأن

ص: 548

مقتضى مفهوم كل شرطية عدم تحققه في ظرف عدم تحقق شرطها، وإن تحقق شرط الأخرى.

وبالجملة: تعدد التكليف وإن لم يناف ظهور هيئة الطلب في كل من الشرطيتين، إلا أنه منافٍ لإطلاق المادة التي يراد بها المكلف به في كل منهما، وهو كاف في التنافي المدعى في المقام.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح أن التنافي لا يختص بتعدد الشرطية، بل يجري فيما لو كانت إحدى القضيتين شرطية والأخرى حملية قد تضمنت موضوعاً للحكم غير الشرط الذي تضمنته الشرطية، كما لو قيل: يجب على من خفي عليه الأذان التقصير، وقيل: إن خفيت الجدران فقصر، لأن ثبوت الجزاء مع غير الشرط ينافي ظهور الشرطية في إناطته به.

بل يجري - أيضاً - في غير الشرطية مما تضمن حصر الحكم بموضوعه مع ما تضمن ثبوته مع غيره، كقولهم عليهم السلام: «ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك..» مع ما تضمن ناقضية النوم(1).

فملاك التنافي ظهور أحد الدليلين في حصر الحكم بموضوع وظهور الآخر في ثبوته مع غيره بدونه.

وذكرهم لذلك في ذيل مفهوم الشرط ليس لاختصاص التنافي به، بل لابتناء ظهور الشرطية في المفهوم على ظهورها في الإناطة والانحصار الذي هو الملاك في التنافي.

نعم، قد تختص الشرطية ببعض الجهات الدخيلة فيما ذكروه في المقام.

ص: 549


1- راجع في الأمرين الوسائل ج 1، باب: 2 و 3 من أبواب نواقض الوضوء

ومن ثم ينبغي متابعتهم في جعلها موضوع الكلام هنا، وإن أمكن استفادة حال غيرها مما يذكر فيها تبعاً، وإن امتاز بشيءٍ ينبغي أن ينبه عليه.

في كيفية الجمع بين الشرطيتين

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في كيفية الجمع بين الشرطيتين ورفع التنافي بينهما.

الوجوه المحتملة ثلاثة

والوجوه المحتملة ثلاثة:

الأول: المحافظة على مفهوم كل من الشرطيتين مع تقييد منطوق كلٍ منهما به، فيبنى على عدم ثبوت الجزاء إلا بتحقق الشرطين معاً، وانتفائه بانتفاء كل منهما.

الثاني: المحافظة على إطلاق منطوق كل منهما مع تنزيل مفهوم كلٍ منهما على ما لا ينافيه، فيبنى على كفاية كل من الشرطين في ثبوت الجزاء، وأنه ينتفي بانتفائهما معاً.

الثالث: رفع اليد عن المفهوم رأساً، فتحمل الشرطية على بيان مجرد ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، دون إناطته به، فيبنى على كفاية كل من الشرطين في ثبوت الجزاء من دون نظر إلى حال انتفائهما.

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من رجوع هذا الوجه لسابقه، بلحاظ اشتراكهما في استقلال الشرط في التأثير بالجزاء وموضوعيته له.

إذ فيه: أن مجرد اشتراكهما في ذلك لا يستلزم رجوع أحدهما للاخر بعد اختلافهما عملاً في فرض انتفاء كلا الشرطين، تبعاً لاختلافهما مفهوماً، لابتناء هذا الوجه على رفع اليد عن ظهور الشرطية في المفهوم والإناطة رأساً، وابتناء ما قبله على المحافظة عليه مع تنزيله على ما يناسب المنطوق

ص: 550

في القضية الأخرى.

أقربية الوجه الثالث عرفاً

والظاهر أن الأقرب عرفاً هو الثالث، لابتناء الثاني على ما لا مجال للبناء عليه، كما يأتي إن شاء الله تعالى، وابتناء الأول على التصرف في ظهور الشرطية في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط واستقلاله في التأثير فيه، وهو أقوى من ظهورها في الإناطة، ولذا سبق شيوع استعمالها مجردة عنها خالية عن المفهوم، ويتعين في الجمع العرفي المحافظة على أقوى الظهورين ورفع اليد عن أضعفهما.

ولا يبعد مفروغيتهم عن ذلك فيما لو أمكن تعدد الجزاء، كالمثال المتقدم في أول هذا التنبيه، ولذا غفل بعضهم عن التنافي بين الشرطيتين بدواً بسبب وضوح الجمع بهذا الوجه وارتكازيته.

نعم، قد يقوى ظهور الشرطية في الإناطة وبيان توقف الجزاء على الشرط المستلزم لانتفائه بانتفائه بنحوٍ لا يمكن رفع اليد عنه رأساً، كما لو ورد في مورد يفرغ معه عن ثبوت الجزاء ويشك في حده، حيث يغلب عدم التصدي لبيان مجرد ثبوته بثبوت الشرط، بل بيان توقفه عليه، المستلزم للمفهوم.

كما هو الحال فيما تضمن أنه إذا خفي الأذان فقصر، وإذا خفي الجدارن فقصر(1)، لوضوح أن مجرد وجوب القصر حينئذٍ مقتضى إطلاق وجوب القصر على المسافر، الذي يظهر المفروغية عنه في مقام البيان، فلا غرض ببيانه، بل المناسب لذلك حمله على بيان توقف وجوب القصر على الشرط المستلزم للمفهوم، فلا مجال لرفع اليد عنه في مقام الجمع العرفي

ص: 551


1- بناء على ورود نص بهذا المضمون، وهو محل كلام موكول إلى محله من الفقه

كما هو مقتضى الوجه الثالث، بل يتعين الوجه الأول أو غيره تبعاً للقرائن الخاصة المختلفة باختلاف الموارد، وقد يأتي التعرض لبعض الوجوه المناسبة فيه.

لكن الكلام في المقام من حيثية طبع الشرطية، التي عرفت أن ظهورها في الإناطة والمفهوم دون ظهورها في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط بنحوٍ يقتضي استقلاله بالتأثير فيه وفي موضوعيته له من دون حاجة إلى انضمام غيره إليه، فيتعين رفع اليد عن الظهور الأضعف في مقام الجمع العرفي.

هذا، ولم أعثر عاجلاً على من اختار الوجه الأول.

نعم، حيث سبق من بعض الأعاظم قدس سره رجوع الوجه الثالث للثاني لزم تردد الأمر عنده بين الوجه الأول والثاني، وقد ذكر أنه لا مرجح لأحدهما بعد مخالفة كلٍ منهما للإطلاق، لابتناء الأول على تقييد الشرط بمفاد (الواو) الراجع للزوم انضمام أحد الشرطين للآخر في ترتب الجزاء، والثاني على تقييده بمفاد (أو) الراجع لقيام أحد الشرطين مقام الآخر في ترتب الجزاء، وحينئذٍ يتعين الإجمال والرجوع للأصول العملية مع تحقق أحد الشرطين دون الاخر.

لكن عرفت عدم رجوع الثالث للثاني وأنه يتعين البناء عليه، مضافاً إلى ما سبق في الاستدلال على المفهوم من أن الوجه في دلالة الشرطية عليه ليس هو الإطلاق المقابل للتقييد بأو، لأن مفاد (أو) لا ينافي الإطلاق، فلا مجال لمعارضته للإطلاق المقابل للتقييد بالواو، بل الوجه فيه ظهور الشرطية في الإناطة الذي سبق أنه دون ظهورها في استقلال الشرط في موضوعيته للجزاء، فيلزم الجمع العرفي برفع اليد عن الظهور في الإناطة،

ص: 552

لأنه أضعف الظهورين.

الكلام في الوجه الثاني وابتناؤه على أحد وجوه

وأما الوجه الثاني فهو الذي جرى عليه غير واحدٍ، وهو يبتني على أحد وجوه..

الأول: ما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره من تقييد المفهوم بمنطوق الأخرى

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وغيره من تقييد مفهوم كل من الشرطيتين بمنطوق الأخرى.

وقد اعترف قدس سره - كما ذكر غيره - بأن المفهوم ليس مفاد قضية قابلة للتقييد، بل هو لازم لمفاد الشرطية فلابد من التصرف في ملزومه المدلول للشرطية بحمله على ما ينتج نتيجة التقييد المذكور. وهو وإن لم يشر إلى كيفية التصرف إلا أنه قد يقرب بوجهين:

أحدهما: حمل الإناطة على الإناطة الناقصة بالمقدار الذي لا ينافي ثبوت الجزاء مع الشرط الآخر.

لكنه كما ترى! لأن الإناطة والتوقف أمر بسيط لا يقبل الانحلال والتبعيض عرفاً، ليمكن رفع اليد عن بعض مراتبه مع المحافظة على الباقي في مقام الجمع العرفي بين الأدلة المتعارضة.

ثانيهما: ما أشار إليه سيدنا الأعظم قدس سره من أن المعلق على الشرط لما كان هو السنخ أمكن التفكيك فيه، بأن يكون المعلق كل فرد منه عدا واحد، فإنه يثبت مع الشرط الآخر.

وقد ذكر قدس سره أنه معقول في نفسه وإن لم يمكن الالتزام به في الجمع بين الشرطيتين.

لكن الظاهر أنه غير معقول في نفسه، إذ ليس سنخ الجزاء - كما سبق - إلا عبارة عن مفاد قضيته مع قطع النظر عن تقييدها بالشرط، وهو مما لا

ص: 553

أفراد له، كي يمكن التفكيك بينها في إناطة بعضها دون الآخر، فإن النسبة في نفسها ليست كالماهية الكلية ذات أفراد، بل هي أمر واحد تلحظ على نحو السعة أو الضيق بالقيد.

وليس توقفها على أحد أمرين راجعاً إلى توقف قسم من أفرادها على أحدهما بخصوصه، والقسم الآخر على الثاني بخصوصه، نظير اتصاف الماهية في الخارج بأحد وصفين - كالعلم والجهل - الراجع لاتصاف كل قسمٍ من أفرادها بأحدهما معيناً، كما لعله ظاهر.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من أنه بعد امتناع التصرف في المفهوم نفسه، لما سبق من كونه لازماً لمفاد الشرطية فلابد من رفع اليد عن ملزومه الذي هو مفادها بالمقدار الذي يرتفع به التعارض، ولا يكون ذلك إلا بتقييد المنطوق بمفاد (أو) ورفع اليد عن إطلاقه من هذه الجهة.

وجه الإشكال: أن ملزوم المفهوم لما كان هو الإناطة غير القابلة للانحلال والتبعيض عرفاً فلا مجال للاقتصار في رفع اليد عنها على ما يرتفع به التعارض، بل لابد إما من رفع اليد عنها رأساً أوالبناء عليها ورفع التعارض بوجهٍ آخر.

ومجرد كون نسبة المفهوم اللازم لها مع منطوق الشرطية الأخرى العموم المطلق لا يكفي في الجمع بالتقييد ما لم يكن جمعاً عرفياً.

كما أن الحمل على مفاد (أو) ليس من سنخ التقييد ولا تصرفاً في نفس الإناطة التي هي المنشأ في الدلالة على المفهوم، بل هو تصرف في موضوعها يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 554

الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من تقييد إطلاق الشرط بعدم الآخر

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - من تقييد إطلاق الشرط في كل منهما بعدم الآخر. فمثل: إذا أخفي الأذان فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر، يحمل على أنه: إذا خفي الأذان ولم يخف الجدران فقصر، وإذا خفي الجدران ولم يخف الأذان فقصر.

المناقشة فيه

وفيه: أنه إن أريد بذلك إبقاء ظهور الشرطيتين في الإناطة المستلزمة للمفهوم، فهو وإن نفع في دعوى أن مقتضاهما عدم تحقق الجزاء عند عدم تحقق الشرطين - كما لو لم يخف الأذان ولا الجدران في المثال المتقدم - لأنه من صور ارتفاع الشرط المقيد لكلٍ من الشرطيتين.

إلا أنه مستلزم للتعارض بين الشرطيتين، لأن شرط كلٍ منهما لما كان هو المقيد فتحققه من أفراد ارتفاع شرط الأخرى.

كما يستلزم البناء على عدم ثبوت الجزاء عند تحقق كلا الأمرين - كما لو خفي الأذان والجدران معاً في المثال المتقدم - لأنه من صور ارتفاع الشرط المقيد لكلٍ من الشرطيتين، وهو خلاف المقطوع به.

مع أنه مستلزم - أيضاً - لرفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال شرطها في التأثير في الجزاء وموضوعيته له، وقد سبق أنه أقوى من ظهورها في الإناطة والمفهوم.

وإن أريد به رفع اليد عن ظهور الشرطية في الإناطة كفى ذلك في رفع التنافي بلا حاجة إلى تقييد الشرط ورجع إلى الوجه الثالث الذي ذكرناه.

كما أن التقييد المذكور لا ينفع حينئذٍ في إثبات المفهوم المدعى على تقدير ارتفاع لكلا الشرطين، وإنما يستلزم إخراج صورة تحقق كلا الشرطين - كما لو خفي الأذان والجدران معاً - عن مفاد الشرطيتين، وتكون مسكوتاً

ص: 555

عنها، وهو خلاف المقطوع به أيضاً.

الثالث: تقييد كل منهما بعدم تحقق شرط الأخرى

الثالث: تقييد كل من الشرطيتين بعدم تحقق شرط الأخرى.

فإن الشرطية كسائر القضايا قابلة للتقييد بالشرط وغيره، كما في قولنا: إن سألك زيد فإن كان فقيراً فأعطه، ولازم ذلك قصور مفهومها عن صورة فقد القيد، فلو وجب إعطاء زيد مع عدم سؤاله وإن كان غنياً لم يكن منافياً لمفهوم الشرطية المذكورة.

فإذا قيدت كل من الشرطيتين في المقام بعدم تحقق شرط الأخرى قصر مفهومها عن صورة تحققه، فلا يصلح لمعارضة منطوق الأخرى، وإنما يكون مفهومهما مختصاً بصورة فقد الشرطين، كما هو مبنى الوجه الثاني.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان القيد قيداً للشرطية بتمامها، كالمثال المتقدم، دون ما إذا كان شرطاً لخصوص جزائها، كما هو المفروض في ا لمقام، إذ لا وجه حينئذٍ لصرفه إلى أصل الشرطية.

مع أن تقييد الشرطية كما يقتضي قصور مفهومها عن صورة فقد القيد يقتضي قصور منطوقها أيضاً، فلو لم يجب في المثال المتقدم إعطاء زيد إذا لم يسأل وإن كان فقيراً لم يكن منافياً لمنطوق الشرطية، ولازم ذلك خروج صورة تحقق كلا الشرطين في المقام - بأن خفي الأذان والجدران معاً - عن موضوع الشرطيتين، فلا يحكم بترتب الجزاء فيها، بل تكون مسكوتاً عنها، وقد سبق أنه خلاف المقطوع به.

الرابع: حمل الشرط على القدر الجامع

الرابع: حمل الشرط على القدر الجامع بين الشرطين وهو راجع إلى التصرف في ظهور الشرط في الخصوصية، وحمله في كلتا الشرطيتين على القدر الجامع مع المحافظة على ظهورهما في الإناطة، ولازمه انتفاء الجزاء

ص: 556

بانتفاء القدر الجامع.

قال في التقريرات: «ولعل العرف يساعد على ذلك بعد الإطلاع على التعدد».

المناقشة فيه

ويشكل: بأن المراد بذلك إن كان جعل تعدد الشرطية قرينة على أن المراد بكل شرطٍ هو القدر الجامع، بحيث يكون مسوقاً عبرةً له، نظير ما لو مر بشخص حيوان، فقال: اسم هذا أرنب، حيث لا يراد به إنه اسم لشخصه، بل لجنسه.

فهو بعيد جداً إلا في نادر من الموارد، لقوة ظهور العنوان في الحكاية عن معنونه استقلالاً واحتياج فنائه في غيره إلى عناية خاصة يصعب البناء عليها في غالب الموارد، بل يمتنع ذلك فيما لو لم يكن بين الشرطين جامعٍ عرفي، لتفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت.

وإن كان المراد جعل تعدد الشرطية قرينة على أن موضوع الحكم الذي يتضمنه الجزاء هو القدر الجامع وأن ذكر كل من الشرطين لأنه فرد منه، لا لدخل خصوصيته فيه.

فهو وإن كان قريباً عرفاً فيما لو كان بين الشرطين جامع عرفي، بل متعيناً مطلقاً بناءً على ما تكرر من بعضهم - كالمحقق الخراساني قدس سره - من امتناع تعدد موضوع الحكم الواحد حقيقة، لامتناع تأثير المتعدد في الواحد.

إلا أنه لا ينفع في المحافظة على ظهور الشرطية في المفهوم، ليكون مقتضى الشرطيتين انتفاء الجزاء بانتفاء كلا الشرطيتين، حيث لا يصح تعليق الحكم على بعض أفراد موضوعه وإناطته به، وإنما يصح الحكم بمجرد ثبوته له.

ص: 557

فإذا صح ملك ولد مطلق المملوك، عبداً كان أو أمةً صح أن يقال: يملك ولد العبد، ولا يصح أن يقال: يملك الإنسان إن كان ولد عبد.

إلا أن يراد بالعبد مطلق المملوك، ولو كان أمة، بحيث يساق لبيانه ويجعل عبرة له.

حال دعوى تقييد الشرط بمفاد (أو)

ومنه يظهر الحال فيما ذكره غير واحد - منهم بعض الأعاظم قدس سره وبعض مشايخنا - من تقييد الشرط بمفاد (أو) فقد ذكرنا آنفاً أن ذلك ليس من التقييد، وإن كان نحواً من التصرف في متعلق الإناطة.

وحينئذٍ يشكل بأن كفاية أحد الأمرين في ثبوت الحكم إنما يصحح تعليقه على أحدهما بنحو الترديد بالتصريح بالعطف ب (أو) ولا يصحح تعليقه على أحدهما بعينه، بل لابد من تنزيل الشرطية المقتصر فيها على أحدهما بعينه على مجرد الثبوت عند الثبوت دون الإناطة.

إلا أن يفرض الإشارة بالمعين إلى المردد بين الأمرين، لمعهودية الترديد بينهما، وهو محتاج إلى عناية خارجة عن المتعارف ليس بناءَ العرف على الحمل عليها بمجرد اختلاف الشرط في الشرطيتين أو الأكثر قطعاً، بل لابد فيها من قرينةٍ خاصةٍ نادرة التحقق.

هذا ما عثرنا عليه وتيسر لنا الوصول إليه من الوجوه لتقريب الوجه الثاني المبتني على المحافظة على المفهوم في كل من الشرطيتين بالنحو الذي لا ينافي عموم منطوق الأخرى.

وحيث ظهر عدم تماميتها يدور الأمر بين الوجه الأول والثالث، وقد سبق أن الثالث هو الأظهر نوعاً، لأن ظهور الشرطية في استقلال الشرط في التأثير أقوى من ظهورها في الإناطة المستتبعة للمفهوم.

ص: 558

احتفاف الشرطية بقرائن توجب قوة ظهورها في الإناطة

كما سبق أن الشرطية قد تحتف بما يوجب قوة ظهورها في الإناطة والتوقف المستلزمين للمفهوم، فلا مجال حينئذٍ للوجه الثالث، بل لابد من الجمع بوجه آخر، تبعاً لخصوصيات القرائن المختلفة باختلاف الموارد من دون ضابط لها.

ولا يسعنا استقصاء الوجوه الممكنة، وإنما نكتفي بالإشارة إلى ما يحضرنا منها، ليستعين به الفقيه في مقام الجمع بين الأدلة..

منها: الوجه الأول المبتني على رفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال الشرط في التأثير، وتقييد الشرط في كل منهما بالآخر، ومرجعه إلى توقف ثبوت الجزاء على اجتماع الشرطين، وانتفائه بانتفاء أحدهما.

ومنها: البناء على اختلاف الحكم المعلق في كل من الشرطيتين سنخاً، نظير ما تضمن توقف حلية السمك على ما إذا كان له فلس، مع ما تضمن توقفها على إخراجه من الماء حياً، فيحمل الأول على الحلية الاقتضائية بلحاظ ذات الحيوان، والثاني على الحلية الفعلية.

الوجوه الممكنة في الخروج بها عن القاعدة الأولوية

ومنها: حمل الشرطيتين أو أحداهما على الحصر الإضافي الذي هو شائع في استعمالات العرف للقضايا المسوقة للحصر، فيقتصر مفهومه على مورد الإضافة نظير حمل ما تضمن حصر ناقضية الوضوء بما يخرج من الطرفين الأسفلين على كونه بالإضافة إلى سائر ما يخرج من البدن، كالقيء والرعاف، فيبنى على عدم ناقضيتها، من دون أن ينافي ناقضية ما لا يخرج منه، كالنوم.

ففي المقام يحمل ما تضمن اشتراط القصر بخفاء الأذان تارةً، وبخفاء الجدران أخرى - مثلاً - على الحصر بالإضافة إلى محض السفر، لبيان عدم

ص: 559

كفايته بنفسه في القصر.

نعم، لازم ذلك سقوط إطلاق سببية السفر للقصر عن الحجية في غير مورد خفاء الجدران والأذان، لكشفه عن عدم كونه تمام الموضوع للقصر، بل هو مقتض له، لابد في فعليته معه من انضمام أمرٍ آخر إليه.

فلابد من الرجوع إلى دليل آخر، كإطلاق وجوب التمام أو غيره.

وليس المقام من صغريات العام المخصص الذي هو حجة في الباقي، لابتناء التخصيص على إخراج بعض أفراد العام عن عمومه الراجع لعدم كفاية عنوان العام في ثبوت حكمه في خصوص مورده، لا مطلقاً، بخلاف الحصر الإضافي في المقام، فإن المفروض سوقه لبيان عدم كفاية السفر بنفسه في القصر مطلقاً، بل لابد فيه من انضمام شيء آخر إليه في تتميم موضوعه.

وحينئذٍ فالبناء على القصر في غير مورد خفاء الأذان والجدران إن كان لأجل محض السفر - كما هو مقتضى العموم المذكور - كان منافياً للحصر المذكور، وإن كان لأجل خصوصية زائدة عليه - كالتعب مثلاً - فمن الظاهر عدم نهوض ا لعام ولا غيره بإثبات دخله في موضوعه، فلاحظ.

ومنها: التصرف في خصوص إحدى الشرطيتين إما بتقييد الشرط فيها بشرط الأخرى لو كان أخص منه، أو بحمل الشرط فيها على كونه علامةً على تحقق شرط الأخرى في مورد الشك، مع كون شرط الأخرى هو المنحصر به الحكم حقيقةً.

ولذا احتمل في التقريرات كون ذلك هو الوجه لما في السرائر وعن غيره من أن التعويل على خفاء الأذان، دون خفاء الجدران. بأن يكون خفاء

ص: 560

الجدران أمارة على خفاء الأذان.

إلى غير ذلك مما لا يتيسر ضبطه، ويوكل لنظر الفقيه في الموارد المختلفة، ولو فرض عدم وضوح وجه الجمع لزم التوقف والرجوع للأدلة الأُخَر، أو الأصول العملية.

التنبيه الخامس: في التداخل

التنبيه الخامس: لا إشكال في ترتب الحكم تبعاً لترتب موضوعه بتمام حدوده المأخوذة في الكبرى الشرعية المستفادة من دليلٍ واحدٍ أو من أدلة متعددة بعد الجمع بينها.

وقد وقع الكلام بينهم في أن تعدد وجود الموضوع في الخارج هل يستلزم تعدد الحكم بنحو يقتضي تعدد الامتثال، أو لا فيكتفى بامتثال واحد وقد عنونت المسألة في كلماتهم بمسألة التداخل.

المعيار في تعدد وجود الموضوع

والمعيار في موضوعها على تعدد وجود موضوع الحكم في الخارج، إما من سنخ واحد يختص الحكم به كبروياً - كما لو قيل: إنما يجب إكرام زيد بمجيئه، فجاء مرتين - أو لا يختص به - كما لو ظاهَرَ الشخص مرتين بالإضافة لوجوب الكفارة - أو من سنخين كل منهما موضوع له كبروياً - كما لو ظاهر الشخص وقتل خطأً بالإضافة للكفارة - لعدم الفرق في ملاك النزاع بين الأقسام المذكورة بعد اشتراكها في تعدد السبب خارجاً ووحدة المسبب.

ومنه: يظهر عدم تفرع هذه المسألة على الكلام في المسألة السابقة، لأن البحث في تلك المسألة إنما هو عن أنه مع تعدد الشرط ووحدة الجزاء هل يبنى على استقلال كل من الشرطين في موضوعيته للحكم الذي يتضمنه الجزاء، فيكون الموضوع متعدداً كبروياً، أو عدم استقلاله، بل ليس الموضوع

ص: 561

كبروياً إلا المركب من الشرطين، ومحل الكلام هو تعدد الموضوع صغروياً ولو مع وحدته كبروياً، كما عرفت.

نعم، لو وجد فرد من كل من الشرطين في الخارج كان تحقق موضوع هذه المسألة مبتنياً إثباتاً على الكلام في تلك المسألة، فإن بني على استقلال كل من الشرطين في الموضوعية تحقق موضوع هذه المسألة، وإلا فلا.

فتلك المسألة إنما تصلح لتنقيح بعض صغريان هذه المسألة، لاتمام موضوعها، كما يظهر من كيفية تحريرها في بعض كلماتهم.

بل لا يختص موضوع الكلام في هذه المسألة بالشرطية، بل يجري في الحملية والأدلة اللبية، لاشتراكها معها في تعيين موضوع الحكم كبروياً، ولا مناسبة لذكرهم لها في ذيل الكلام في مفهوم الشرط وبعد الكلام في المسألة السابقة إلا ما أشرنا إليه من تفرع بعض صغرياتها إثباتاً على تلك المسألة المتفرعة على المفهوم، وإلا فلا دخل للمفهوم فيها بعد كون تعيين موضوع الحكم من شؤون المنطوق لا المفهوم.

محل الكلام الحكم القابل للتعدد

هذا، ومحل الكلام الحكم القابل للتعدد تبعاً لتعدد متعلقه، كالوجوب والاستحباب الواردين على الماهية بنحو البدل، والتي يكفي تحقيقها بتحقيق فرد منها في امتثال كل منهما، حيث يمكن تعددهما تبعاً لتعدد الموضوع، فيلزم تعدد الامتثال بتعدد الفرد من تلك الماهية.

ومثلهما الضمان الذي قد يتعلق بقدر معين من المال الكلي، حيث يمكن تعدده بتعدد المضمون من ذلك المقدار.

دون ما لا يقبل التعدد لوحدة متعلقه، إما لكونه كلياً قد تعلق الحكم به بنحو الاستغراق كمتعلق التحريم والكراهة، أو لكونه شخصياً، كمتعلق

ص: 562

النجاسة، وضمان اليد والإتلاف وهو الجسم الخارجي غير القابل للتعدد، حيث لا إشكال في التداخل في مثل ذلك، لامتناع تعدد الحكم من سنخٍ واحدٍ مع وحدة متعلقه، لاستلزامه اجتماع المثلين.

إلا أن يفرض الاختلاف بين الحكمين في الخواص والآثار، نظير اختلاف النجاسة المسببة عن ملاقاة البول مع النجاسة المسببة عن ملاقاة الدم في كيفية التطهير، واختلاف الحرمة المسببة عن الاسكار مع الحرمة المسببة عن الغصبية في ترتب الحد والسقوط بإذن المالك في التصرف، لرجوع ذلك في الحقيقة إلى الاختلاف في سنخ الحكم، فلا يلزم من التعدد معه اجتماع المثلين، فتأمل.

المختار عدم التداخل

إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم التداخل مطلقاً، وهو المنسوب للمشهور، وعن جماعة - منهم المحقق الخوانساري - اختيار التداخل مطلقاً، وعن الحلي التفصيل بين اتحاد الموضوعات جنساً واختلافها فالتداخل في الأول دون الثاني، وقد يناسبه النظر في كلماتهم في بعض فروع الفقه.

دعوى: عدم التداخل لإطلاق دليل الواجب

وكيف كان، فقد يدعى أن مقتضى إطلاق الواجب في كل دليل متكفل ببيان الموضوع هو التداخل والاكتفاء في امتثال التكليف الذي بصرف الوجود ولو مع تعدد الموضوع في الخارج، لا لكون متعلق التكليف هو صرف الوجود، لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره وسبق منّا في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار من منع ذلك، بل لأنه مع تعلق التكليف بالماهية المعرّاة عن كل قيد - كما هو مقتضى فرض الإطلاق - يتعين الاكتفاء في امتثاله بصرف الوجود، لتحققها به.

ما ذكره النائيني قدس سره في دفع الدعوى المذكورة

لكن يظهر من تقرير بعض مشايخنا لدرس بعض الأعاظم قدس سره أن

ص: 563

الاكتفاء بصرف الوجود في امتثال التكليف بالماهية إنما هو مع وحدة الطلب المتعلق بها، أما مع تعدده - كما هو مقتضى ظهور كل دليل في تحقق التكليف تبعاً لوجود موضوعه بنحو الانحلال، المستلزم لتكثره بتكثر وجوده - فالمتعين عدم الاكتفاء بصرف الوجود، بل لابد من تعدد إيجادها تبعاً لتعدد التكليف الوارد عليها.

المناقشة فيه: أولاً امتناع تعدد التكليف الوارد على الماهية المعراة

وفيه: أولاً: أنه يمتنع تعدد التكليف الوارد على الماهية المعراة عن كل قيد يقتضي تعدد المتعلق، لقيام التكليف بالاعتبار العرفي، والعرف لا يعتبر تعدد التكليف إلا في ظرف اختلاف ما يدعو إليه، أما مع وحدته من جميع الجهات، فيلغو اعتبار التعدد عرفاً، غايته أن يلتزم بتأكد التكليف حينئذٍ.

وإليه يرجع ما سبقت الإشارة إليه من استلزام تعدد الحكم مع وحدة متعلقه اجتماع المثلين، لأن استحالة الاجتماع في الاعتباريات فرع عدم صحة اعتبار الأمرين عرفاً، وليس هو كامتناع الاجتماع في الأمور الحقيقية تابعاً لجهة حقيقية يدركها العقل، ليكون امتناع الاجتماع عقلياً.

ومن هنا كان الظاهر أنه مع اجتماع الوجوب والاستحباب على متعلقٍ واحدٍ لا يلتزم بتعدد الطلب، بل بتأكده، لأن ما به الاشتراك بين الطلبين لا يقبل التعدد عرفاً، بل التأكد، وإن كان الحكمان متباينين حقيقةً وليسا متماثلين.

نعم، لابد من كونه لزومياً، بلحاظ كون اللزوم مما يمتاز به الوجوب، فيثبت تبعاً لتحقق مقتضي الوجوب.

وبالجملة: لابد مع وحدة المتعلق - وهو الماهية المطلقة - من وحدة

ص: 564

الطلب.

أما مع تعدد الطلب فلابد من تقييد الماهية بما يوجب التعدد، ولو بتعدد الفرد أو الدفعة، بحيث يكون المطلوب بكل من الطلبين مقيداً بكونه غير ما يمتثل به الآخر، وإن كان مطلقاً من سائر الجهات، فالتباين بين متعلقيهما بمحض اختلاف التحصص، لا بلحاظ اختلاف القيود والمقارنات الخارجية.

لكن لا إشكال في كون التقييد بذلك مدفوعاً بالإطلاق المذكور، وأَن مقتضى الإطلاق هو التكليف بأصل الماهية الصادقة بصرف الوجود.

وأما ما عن بعض مشايخنا من تأييد ما سبق عن شيخه بثبوت النظير له في مثل ما إذا أتلف زيد من عمر درهماً ثم اقترض منه آخر، حيث تنشغل ذمته من طبيعة الدراهم بدرهمين قد استقل كلٍ منهما بأمره، ومثله ما لو فات المكلف صوم يومين حيث تنشغل ذمته بتكليفين كلٍ منهما متعلق بقضاء يومٍ من دون تميز لمتعلق كلٍ من الحكمين في الموردين، ولذا تبرأ الذمة من أحد التكليفين بفعل فرد واحد من دون حاجة إلى تمييزه.

فهو كما ترى! لا يشهد بتعدد الطلب مع وحدة المطلوب وهو الماهية المطلقة، بل بكفاية تعدد الفرد في التعدد المعتبر في المتعلق من دون حاجةٍ إلى مميز زائد على ذلك، وهو مما لا إشكال فيه، كما لا إشكال في كونه نحواً من التقييد المدفوع بإطلاق الواجب، كما ذكرنا.

ثانياً: أنه لا ملزم بتعدد الامتثال بالتكرار

و ثانياً: أنه لو أمكن تعدد الطلب مع وحدة المطلوب، وهو الماهية المطلقة فلا ملزم بتعدد الامتثال بالتكرار، لأن كل طلب إنما يدعو إلى نقض عدمها، الحاصل بصرف الوجود وبالفرد الواحد، وحكم العقل بالامتثال لا

ص: 565

يقتضي أكثر من تحقيق ما يدعو إليه الطلب.

ولذا لا إشكال في الاكتفاء به مع تعدد الطالب وصحة اعتبار تعدد التكليف عرفاً، بلحاظ اختلاف طرف النسبة الطلبية ومع ذلك يكون مقتضى إطلاق المطلوب في كل منهما الاكتفاء بصرف الوجود، ولا يحتاج إلى التعدد إلا مع التقييد بما يناسب تعدد الفرد، الذي سبق أنه مدفوع بالإطلاق.

وبالجملة: الاكتفاء بصرف الوجود مع وحدة الطلب، ولزوم تعدد الامتثال بتعدد الفعل مع تعدد الطلب، ليس لمحض حكم العقل مع وحدة المتعلق في مقام الجعل في الموردين، بل لاختلاف المتعلق، فهو مع وحدة الطلب الماهية المطلقة التي يكفي في تحقيقها صرف الوجود، ومع تعدده الماهية المقيدة بما يستلزم التعدد، بحيث لا يتحقق الامتثال إلا به.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره غير واحد في تحرير محل الكلام من أن الكلام يقع..

تارة: في تداخل الأسباب، فيرجع إلى أن تعدد وجود الموضوع في الخارج هل يوجب تعدد الحكم أو لا؟ والمرجع فيه ظهور الدليلين، ومع فقده فالأصل التداخل والاقتصار في التكليف على المتيقن، وهو الواحد.

وأخرى: في تداخل المسببات، فيرجع إلى أنه بعد فرض تعدد الحكم تبعاً لتعدد الموضوع هل يلزم تعدد الفعل الممتثل به، أو لا بل يكفي في امتثال التكاليف المتعددة فعل واحد؟ ومع الشك فالمتعين البناء على عدم التداخل، للشك في سقوط التكاليف المتيقنة بالفعل الواحد، ومقتضى قاعدة الاشتغال عدمه.

ولا مجال للرجوع فيه لظهور الدليل بعد كونه من شؤون الامتثال، لا

ص: 566

من شؤون الجعل الذي يتكفل به الدليل، كما هو الحال في المقام الأول.

وجه الإشكال: أنه بعدما سبق من امتناع تعدد التكليف مع وحدة المتعلق، وهو الماهية المطلقة، وأنه لابد من تعدده معه بتقييد الماهية في كلٍ منهما بما يقتضي التباين بين المتعلقين ويستلزم امتثال كل من التكليفين بفردٍ مباين لما يمتثل به الآخر، يمتنع البناء على عدم التداخل في الأسباب مع التداخل في المسببات.

إذ مع وحدة المتعلق يتعين وحدة التكليف، الراجع للتداخل في الأسباب، فيلزم الاكتفاء في امتثاله بصرف الوجود، ومع تعدد التكليف بتعين تعدد المكلف به وعدم الاجتزاء في الامتثال بالفرد الواحد، بل لابد من التعدد الراجع لعدم التداخل في المسببات.

إلا أن يكون الاجتزاء بالفرد الواحد لإسقاط أحد التكليفين، لا بامتثاله، وهو خارج عن محل الكلام. مع أنه لو فرض إمكان تعدد التكليف مع وحدة المكلف به فقد سبق أن اللازم الاكتفاء في امتثال التكليفين بصرف الوجود، ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال بالتكليف.

نعم، قد يتجه البحث في المقامين المذكورين فيما لو كان ترتب التكليف على الموضوع بتوسط أثر يستتبع التكليف، كما في ترتب التكليف بأسباب الطهارات على تحقق سبب الحدث، حيث يتجه فيه الكلام.

أولاً: في تعدد الحدث بتعدد سببه، الراجع للكلام في تداخل الأسباب.

و ثانياً: في لزوم تعدد المطهر - كالغسل - في فرض تعدد الحدث، أو عدمه والاكتفاء في إزالة الأحداث المتعددة بالمطهر الواحد، الراجع للكلام

ص: 567

في تداخل المسببات.

لكن الثاني - كالأول - حيث كان تابعاً للجعل الشرعي يتجه الرجوع فيه لأدلته، وليس هو من شؤون الامتثال، لينحصر المرجع فيه بقاعدة الاشتغال.

ويأتي تفصيل الكلام فيه - إن شاء الله تعالى - بعد الكلام في التكليف ونحوه - كالضمان - الذي هو عمدة الكلام في ا لمقام.

لابد من النظر فيما يخرج به عن الإطلاق في التداخل

هذا، وحيث سبق أن مقتضى إطلاق متعلق الحكم هو التداخل فاللازم النظر فيما يخرج به عن الإطلاق المذكور، فاعلم أنه حيث سبق امتناع تعدد الحكم مع وحدة متعلقه، وهو الماهية المطلقة التي يقتضيها الإطلاق، بل اللازم مع ذلك وحدة الحكم، كان لازم الإطلاق المذكور استناد الحكم لاسبق الموضوعات وجوداً، أما اللاحق فهو لا يستلزم حدوث الحكم، بل يكون خالياً عن الأثر لو لم يقبل الحكم التأكد - كالضمان - وإن كان الحكم قابلاً له - كالتكليف - يكون أثر الموضوع اللاحق تأكيده، من دون أن يستند إليه حكم حادث بحدوثه.

ومن الظاهر أن ذلك مخالف لظاهر دليل موضوعية الموضوع وسببية السبب، لظهور القضية الشرطية والحملية الحقيقية ونحوهما مما يتضمن سببية الموضوع للحكم في ترتب الحكم على الموضوع، بحيث يستند إليه حدوثه بعد العدم، لا ما يعم تأكيد حكم سابق عليه، فضلاً عن عدم ترتب شيء عليه أصلاً لو لم يقبل ا لحكم التأكيد، كما لا إشكال ظاهراً في أن الظهور المذكور أقوى من الإطلاق المتقدم، فيقدم عليه، ويلتزم بتقييد المتعلق بما يستلزم التعدد، ليمكن تعدد الحكم وتجدده بتجدد الموضوع.

وأما ما قيل: من أن الأسباب ليست أسباباً حقيقيةً، بل معرفات،

ص: 568

فيمكن تعدد المعرف مع وحدة المعرف.

فقد سبق عند الكلام في ظهور الشرطية في العلية أنه إن رجع لعدم موضوعيتها في الحكم فهو خلاف ظاهر الأدلة، وإن رجع إلى كونها معرفات عن الملاكات مع موضوعيتها، فهو لا ينافي ما ذكرناه من ظهور الكبريات الشرعية في ترتب الأحكام عليها وحدوثها بحدوثها.

على أنه لو فرض كونها معرفات فهي معرفات لحدوث الحكم مقارناً لها، المستلزم لتعدد الحكم الحادث بتعاقبها، ولا مجال لاحتمال كونها معرفات عن وجود الحكم في الجملة ولو سابقاً عليها.

فرض تقارن وجود الأسباب

هذا كله في فرض تعاقب وجود الأسباب، أما في فرض تقارنها فلابد في عدم التداخل مع ما ذكرنا من ظهور دليل السببية في استقلال السبب في التأثير في المسبب، حيث لابد معه من تعدد المسبب، ليستقل كل سبب بأثره، أما لو لم يتم الظهور المذكور فمجرد ظهور الدليل في تأثير السبب وترتب المسبب عليه لا يقتضي تعدد المسبب، لإمكان اشتراك كل من السببين في مسببٍ واحدٍ يستند إليهما ويترتب عليهما، ويلزم التداخل.

وأما ما يظهر من التقريرات من أن ذلك هو مقتضى فرض كونه سبباً تاماً لا يتوقف ترتب المسبب عليه على انضمام غيره إليه، وأن السبب ليس هو المركب من الأمرين.

فهو كما ترى! لأن عدم استقلال السبب بالتأثير يكون..

تارةً: لقصور فيه، بحيث يحتاج تأثيره إلى انضمام شيءٍ آخر إليه

وأخرى: لقصور في المسبب، لوحدته واجتماع الأسباب المتعددة عليه، حيث لابد من استناده لمجموعها وعدم استقلال كل واحد منها به،

ص: 569

وإن كان كافياً في ترتبه لو انفرد.

والمفروغية في المقام عن كون الموضوع سبباً تاماً إنما تنافي الأول الذي يكفي في منعه ظهور الأدلة في فعلية ترتب المسبب عليه وحدوثه بحدوثه، دون الثاني الذي يتوقف عليه عدم التداخل في محل الكلام.

بل لابد فيه من ظهور الأدلة - مضافاً إلى ذلك - في كون المترتب فرد مستقل من الحكم، بحيث لا يشركه في التأثير فيه سبب آخر حتى لو اجتمع معه، ولا تلازم بين الأمرين.

فالعمدة في ذلك: أن الدليل المتكفل بسببية السبب كما يظهر في تأثيره في المسبب وترتبه عليه كذلك يظهر في استقلاله به، لأن ذلك هو مقتضى طبع السبب التام السببية، وإنما تشترك الأسباب التامة في مسببٍ واحدٍ لعدم قابلية المسبب للتعدد المانع من تمامية مقتضاها، كما لو ضرب الزجاج دفعة ضربتين تصلح كل منهما لكسره، حيث لا يستقل كل منهما بالكسر في ظرف تقارنهما وإن استقل في ظرف انفراده.

وحيث كان عدم الاستقلال في مثل ذلك للمانع فهو لا ينافي ظهور الدليل في نفسه في الاستقلال بنحوٍ يرفع به اليد عما تقدم من إطلاق المتعلق.

ثم إن تحقق موضوع المسألة - وهو تعدد الأسباب - مع تعدد أفراد سنخ واحدٍ يبتني على أخذ الموضوع بنحو الانحلال، بحيث يكون كل فرد موضوعاً مستقلاً، لظهور دليل ا لسببية في ذلك، لا في كون الدخيل في الحكم هو مطلق الوجود الناقض للعدم المطلق لماهية السبب، الذي لا يقبل التعدد والتكرار، وهو مما يختلف باختلاف الأدلة.

إلا أن المفروض في محل الكلام ذلك، ولذا لو تجدد الموضوع

ص: 570

بفرد آخر بعد امتثال الحكم المسبب عن الفرد الأول لأقتضى تجدد الحكم ولزوم الامتثال بفرد آخر بلا إشكال ظاهر، مع أنه لو أُخذ الموضوع بالنحو الآخر لم يكن الوجود اللاحق مورداً للأثر حتى بعد الامتثال، لعدم ناقضيته للعدم المطلق.

ومنه يظهر أنه لا مجال للتفصيل في التداخل وعدمه بين تعدد الموضوع من سنخٍ واحد ومن سنخين، كما تقدم عن الحلي، إذ مع أخذ الموضوع بنحو الانحلال يتعين عدم التداخل، ومع أخذه بالنحو الآخر يخرج عن مسألة تداخل الأسباب، ويتعين عدم تأثير الفرد اللاحق حتى بعد امتثال الحكم المسبب عن الفرد السابق، وهو مخالف لمفروض الكلام في المقام.

كون المبحث من مباحث الألفاظ

هذا، ومن جميع ما تقدم يظهر أن البحث في المسألة من مباحث الألفاظ، المبتنية ثبوتاً على تشخيص الظهور، فالتداخل يبتني على ظهور الواجب في الإطلاق، كما أن عدمه يبتني على ظهور دليل السببية في السببية المطلقة بالنحو المقتضي لكون المترتب على وجود الموضوع هو الحكم المستقل مطلقاً ولو كان مسبوقاً بوجود مثله تبعاً لوجود موضوع سابق، وفي أخذ الموضوع بنحو الانحلال.

ما ذكره في التقريرات والمناقشة فيه

ولا مجال مع ذلك لما في التقريرات من أن النزاع في هذه المسألة إنما يؤول إلى النزاع في اقتضاء معنى السببية عند التعدد تعدد المسببات، وإن لم يكن ذلك المعنى مدلولاً عليه بدلالة لفظية كما إذا قام الإجماع على سببية أمرين لوجوب شيءٍ، ولا يبتني على تحقيق مفاد الإطلاق.

إذ فيه: أن السببية تختلف باختلاف الموارد، والقطع بثبوتها في الجملة

ص: 571

لا يكفي في البناء على التداخل أو عدمه بل لابد في البناء على أحد الأمرين من الرجوع لظواهر الأدلة، فما لم يتم ظهور دليل السببية في السببية المطلقة وفي أخذ الموضوع بنحو الانحلال لا مجال للبناء على عدم التداخل، بل يتعين البناء على التداخل عملاً بإطلاق الواجب.

هذا، ولو لم يكن للواجب إطلاق حينئذٍ كان مقتضى الأصل التداخل، لوضوح أن مقتضى أصل البراءة الاقتصار في التكليف على المتيقن، وهو التكليف الواحد الذي يكفي في امتثاله الفرد الواحد.

ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال، لأن الشك في الفراغ ليس للشك في امتثال تكليف معلوم، بل للشك في ثبوت التكليف الزائد.

دعوى: ابتناء الكلام على مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ودفعها

ودعوى: أن المقام يبتني على الكلام في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن تعدد التكليف لما كان مستلزماً لتقييد المكلف به بما يقتضي التعدد يكون احتماله مستلزماً للشك في تقييد المكلف به الذي هو موضوع تلك المسألة.

مدفوعة: بأن الشك في التقييد إنما يكون موضوعاً للمسألة المذكورة إذا كان التقييد المحتمل ناشئاً من دخل القيد في الغرض الذي هو منشأ للتكليف المتيقن، دون مثل المقام مما كان منشأ التقييد تعدد الغرض المستتبع لتعدد التكليف والمكلف به، من دون أن يؤخذ في أحد التكليفين أو كليهما خصوصية زائدة على الماهية دخيلة في الغرض، فيكون الفرد الواحد محققاً لأحد الغرضين قطعاً حتى لو كان التكليف متعدداً.

امتثال فرد واحد موجب لسقوط أحد التكليفين

ومنه يظهر أنه في مورد عدم التداخل يكون الإتيان بفرد واحد موجباً لسقوط أحد التكليفين، لأنه وإن لم يكن امتثالا لأحد التكليفين بخصوصه،

ص: 572

لعدم المرجح له بعد صلوح الفرد المذكور لأن يقع امتثالاً لكلٍ منهما، إلا أن عدم دخل الخصوصية في الغرض وعدم التميز بين موضوعي الغرضين ثبوتاً بأكثر من تعدد الوجود مستلزم لسقوط أحد الغرضين بالإتيان بأحد الفردين قهراً، المستلزم لسقوط أحد التكليفين وبقاء التكليف بفردٍ واحد كما يتضح بالقياس على الإرادة التكوينية المتعلقة بالوجود المتعدد بنحو الانحلال دون الارتباطية.

واعتبار قصد خصوص أحد الأمرين في امتثاله محتاج إلى دليلٍ خاصٍ دالٍ على دخل القصد المذكور في ترتب غرضه، والإطلاق والأصل يدفعان ذلك.

نعم، لو اختص امتثال أحد التكليفين بأثرٍ - كما في من عليه صوم يوم من سنته وآخر من السنة السابقة، حيث يكون أثر قضاء الأول قبل مجيء رمضان اللاحق عدم ثبوت الفدية - يتعين توقف ترتب الأثر المذكور على سقوط خصوص أمره إما بقصد امتثاله بالفرد الأول، أو بالإتيان بالفردين الموجب لحصول كلا الغرضين وسقوط كلا الأمرين، فتأمل جيداً.

بقي أمور

بقي في المقام أمور:

الأول: مع عدم قبول الحكم للتعدد

الأول: إذا كان الحكم غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه، فإن لم يقبل التأكيد فلا إشكال في استناده لأسبق الأسباب، واحداً كان أو متعدداً، من دون أثر للاحق.

وإن كان قابلاً له لم يبعد البناء عليه، لأنه بعد تعذر البناء على مقتضى ظهور دليل سببيته في ترتب حكم مستقل عليه لم يبعد التنزل إلى تأثيره تأكيد

ص: 573

الحكم الواحد، كما هو مقتضى طبع السببية في مثل ذلك وهو أقرب عرفاً من رفع اليد عن ظهور الدليل في تأثير المتأخر رأساً تخصيصاً لعموم السببية.

بل لا ينبغي التأمل في تعينه مع تقارن السببين، لأن اشتراك المتقارنين في المسبب الواحد ليس إلا لأنه مقتضى طبع السببية، وهي تقتضي التأكيد مع قابلية المسبب له.

الثاني: مع اختلاف المتعلق مفهوماً

الثاني: ما تقدم إنما هو مع اتحاد متعلق التكليف المسبب عن الأسباب المتعددة مفهوماً ومصداقاً، أما إذا اختلف المتعلق مفهوماً ولو بلحاظ اختلاف القيود المأخوذة في الماهية الواحدة، فإن كان المتعلقان متباينين مورداً، كما لو كان الواجب في أحدهما الصدقة بدرهم، وفي الآخر الصدقة بدينار فلا إشكال في عدم التداخل.

مع فرض تصادق المتعلق فالنسبة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة

وإن كانا متصادقين مورداً في الجملة فالنسبة بينهما تكون..

تارةً: العموم من وجه، كما لو كان الواجب في أحدهما إكرام العالم و في الآخر ضيافة الهاشمي، حيث يجتمعان في إكرام عالم هاشمي بالضيافة.

وأخرى: العموم المطلق، كما لو كان الواجب في أحدهما عتق مطلق الرقبة، وفي الآخر عتق خصوص المؤمنة.

وثالثة: التساوي، كما لو كان الواجب في أحدهما لبس الخاتم وفي الآخر التزين به، مع فرض كون الاختلاف بينهما معنوياً، لتعلق كل من الغرضين بإحدى الخصوصيتين، فتكون هي مورد التكليف دون الأخرى، وإن كانت ملازمة لها، لا لفظياً محضاً راجعاً إلى سوق إحداهما في الدليل كنايةً عن الأخرى، وإلا لم يكن بين الواجبين اختلاف مفهومي، وخرج عما نحن فيه ودخل فيما سبق.

ص: 574

الكلام فيما لو كانت النسبة هي العموم من وجه

أما في الأولى فالظاهر أنه لا مانع من التداخل، بمعنى إمكان امتثال كلا الأمرين بفردٍ واحدٍ من مورد الاجتماع، عملاً بإطلاق الواجب في كلٍ منهما، ولا ينهض إطلاق دليل السببية بالخروج عنه، إذ لا مانع من تأثير كل سبب لحكمه المستقل بعد اختلاف متعلقي الحكمين مفهوماً ومورداً.

ومجرد اجتماع العنوانين في بعض الأفراد لا يمنع من إطلاق كل منهما بنحو يشمل محل الاجتماع، لوجود الأثر المصحح للتكليف بكل منهما على إطلاقه، بلحاظ إمكان الامتثال بالفرد الذي به الافتراق، ولا ملزم بالتقييد في كل منهما بما إذا لم يمتثل به الآخر، لإمكان وفاء المجمع بكلا الغرضين الموجب لسقوط كلا الأمرين وتحقق امتثالهما به.

وبعبارة أخرى: قد سبق أن محذور اجتماع المثلين مع تعدد التكليف بالماهية الواحدة راجع إلى عدم اعتبار العرف تعدد التكليفين إلا في ظرف تعدد ما يدعو إليه، ولا مجال لذلك في المقام بعد اختلاف ما يدعو إليه كل منهما في الجملة وانطباقه على ما لا ينطبق عليه الآخر، وإن تطابقا في بعض الأفراد لأن تطابقهما فيه وإن اقتضى دعوةٍ كل منهما إلى وجوده، إلا أن كلاً منهما إنما يدعو إليه بنحو البدلية بينه وبين ما به الافتراق من كلٍ من المتعلقين، فاختلاف نحو داعويتهما إليه باختلاف طرف البدلية.

نعم، لو كان كلا التكليفين استغراقياً انحلالياً اتجه امتناع تعدد الحكم فيه، لداعوية كل منهما إليه عيناً، ولا أثر لانضمام غيره إليه في داعوية التكليف له، فاتحد نحو الداعوية.

الكلام فيما لو كانت النسبة هي العموم المطلق

ولأجل ذلك لا يبعد البناء على التداخل في الثانية أيضاً، لأن الأخص وإن كان مدعوا إليه بكل من التكليفين، إلا أن التكليف الوارد عليه يدعو إليه

ص: 575

عيناً، والتكليف الوارد على العام يدعو إليه بنحو التخيير والبدلية، فاختلف نحو داعويتهما إليه، فلا يلغو التكليف بكل منهما على إطلاقه، ليتعين تقييد كل منهما بما يباين الآخر المستلزم لعدم التداخل، محافظة على تعدد التكليف الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية.

ومما تقدم في هاتين الصورتين يظهر أن مقتضى القاعدة البناء على التداخل لو كان التكليفان تخييريين مشتركين في بعض الأطراف وينفرد كلٍ منهما بطرف، أو كان أحدهما تخييرياً والآخر تعيينياً متعلقاً بأحد أطراف التخيير، كما لو خير في أحدهما بين العتق والصدقة، وألزم في الآخر بالعتق، أو خير بينه وبين الصوم.

بل يتعين ذلك في جميع موارد اختلاف نحو تعلق الحكم بالمتعلق الواحد، ككونه مطلوباً استقلالياً في أحدهما وضمنياً في الآخر، وغير ذلك.

الكلام فيما لو كانت النسبة التساوي

وأما الثالثة فقد يمنع التداخل فيها، لامتناع تعدد التكليف بالعنوانين مع التلازم بينهما خارجاً، للغويته، بسبب كفاية امتثال أحدهما في تحقق متعلق الآخر، بل لابد في تعدد التكليفين الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية من تقييد متعلق كلٍ منهما بما يقتضي تعدد الامتثال، كما في صورة اتحاد متعلقي التكليفين مفهوماً.

لكنه يشكل: بأن التلازم بين الواجبين لا يمنع من تعدد التكليف بهما عرفاً، لأن كلاً منهما إنما يدعو إلى متعلقه ذاتاً وإلى لازمه تبعاً، فاختلف سنخ الداعوية، بل ليست الداعوية التبعية داعوية حقيقية.

وفائدة تعدد التكليف تبعاً لتعدد الملاك تعدد ما يستتبعه من إحداث الداعي العقلي والعقاب والثواب، فيكون أدعى للامتثال، كتأكيد التكليف

ص: 576

الواحد. ولذا يصح عرفاً نسبة التكليف إلى كلٍ منهما، لا إلى خصوص أحدهما، لعدم المرجح، ولا إلى قدر مشترك بينهما، لعدم إدراك العرف له.

وإنما الممتنع هو اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي، إذ مع تعذر الجمع بينهما، لكون كلٍ منهما اقتضائياً على خلاف مقتضى الآخر يلغو جعلهما معاً، بل قد يستلزم التكليف بما لا يطاق، كما لو كان أحدهما وجوبياً والآخر تحريمياً ومع إمكان الجمع بينهما لكون أحدهما اقتضائياً دون الآخر يلغو جعل غير الاقتضائي، لعدم صلوحه للداعوية مع الاقتضائي. ويستثنى من ذلك ما إذا كانا اقتضائيين وأحدهما غير الزامي كالوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة فإنه لا مانع من اجتماعهما في المتلازمين لعين ما سبق في تعدد التكليف.

نعم، قد يتجه ما ذكر من امتناع تعدد التكليف لو كان ما ينطبق عليه العنوانان في الخارج أمراً واحداً، لا أمرين متلازمين، كما لو وجب إكرام أصغر أولاد زيد، وأكبر أولاد هند، واتحدا في الخارج، حيث يتجه لزوم وحدة التكليف ونسبته للذات التي هي مجمع العنوانين، ويتوقف تعدد التكليف على التقييد بما يقتضي تعدد الامتثال المستلزم لعدم التداخل.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن مقتضى إطلاق المتعلق في الأقسام الثلاثة التداخل، وإطلاق دليل السببية لا ينهض بالخروج عنه في الأولين، لأن اجتماع العنوانين في بعض الأفراد لا يمنع من تعدد الحكمين، وكذا في الثالث لو كان ما ينطبق عليه العنوانان متلازمين في الخارج من دون أن يتحدا، لعدم المحذور في تعدد حكم المتلازمين.

فلابد في البناء على عدم التداخل فيها من قرينةٍ أخرى مخرجة عن

ص: 577

مقتضى إطلاق المتعلق، ولا ضابط لذلك، بل يوكل للفقه.

نعم، كثيراً ما تقوم القرينة على كون الواجبات المسبب وجوبها عن الأسباب المختلفة ما هيات شرعية متباينة في أنفسها، نظير تباين صلاتي الظهر والعصر، وحجة الإسلام وغيرها، وأقسام الكفارات، وإن اشتركت في الأجزاء والشرائط، وليس تباينها لمجرد تعدد الأمر بها أو اختلاف سبب الأمر ولازم ذلك عدم انطباقها على فردٍ واحدٍ في الخارج ليمكن أن يمتثل به أوامرها المتعددة.

وهذا أمر خارج عن محل الكلام، لأن الكلام في مفاد نفس القضية المتكفلة ببيان موضوعية الموضوع للتكليف مع قطع النظر عن القرائن الخارجية.

الثالث: لو كان التكليف سبباً عن الموضوع بتوسط أثره

الثالث: أشرنا آنفاً إلى أن محل الكلام في التداخل وعدمه ما إذا كان التكليف مسبباً عن الموضوع بالمباشرة، دون ما إذا كان مسبباً عنه بتوسط أثره، كما في أسباب الخبث والحدث بالإضافة إلى وجوب التطهير بالغسل أو الوضوء والغسل، لوضوح أن موضوع التطهير هو الخبث والحدث المسببان عن أسبابهما المعهودة، لا نفس حدوث تلك الأسباب.

وحينئذٍ نقول: إذا ورد: من بال فليتوضأ، ومن نام فليتوضأ، فمقتضى إطلاق المأمور به هو الاكتفاء بوضوءٍ واحدٍ بحدوث كل من السببين، ولا ينهض إطلاق دليل السببية برفع اليد عن مقتضى الإطلاق المذكور، لأن سببية كل من النوم والبول لوجوب الوضوء لما كان بتوسط سببيتهما للحدث فمقتضى إطلاق سببيتهما إنما هو تعدد الحدث المسبب عن كل منهما، وحيث لا مانع من رفع الوضوء الواحد للأحداث المتعددة فلا ملزم

ص: 578

بالخروج عن إطلاق الوضوء في الدليلين المقتضي للتداخل.

دعوى: البناء على التداخل لو لم يتضمن الدليلان إلا بيان السببية ودفعها

ودعوى:، أن ذلك إنما يتجه لو لم يتضمن الدليلان إلا بيان السببية، كما لو قيل: من بال فالوضوء رافع لحدثه، ومن نام فالوضوء رافع لحدثه، أما إذا تضمن الأمر بالوضوء بسبب الحدث فيجري ما سبق في وجه عدم التداخل، لأنه لو لم يكن الوضوء الواجب بكل منهما ما يباين الآخر، بل مطلق ماهيته لم يكن الحدث الثاني موجباً لحدوث الأمر المستقل بالوضوء، لما سبق من امتناع تعدد الأمر مع وحدة المتعلق، بل غايته تأكيد الأمر الأول، وهو - كما سبق - مخالف لظاهر إطلاق دليل السببية.

مدفوعة: بأن الأمر المذكور إن كان للارشاد إلى كون السبب محققاً للحدث الذي يرفعه الوضوء - كما هو الغالب - فمن الظاهر أن ما سِيقَ الكلام له - وهو الحدث - متعدد ولو مع وحدة الوضوء.

وإن كان لبيان الأمر المولوي برفع الحدث المسبب عن السبب المذكور نفسياً - كما في الأمر بالكون على الطهارة - أو غيرياً - لتوقف مثل الصلاة عليه - فهو غيري بلحاظ مقدمية الوضوء لرفع الحدث المطلوب، ولا مانع من تعدد الأمر الغيري بالمقدمة الواحدة مع تعدد ذي المقدمة، لأن داعويته في طول داعوية الأمر النفسي وبينهما نحو من الارتباطية، فمع تعدد الأمر النفسي لتعدد ذي المقدمة تختلف نحو داعوية الأمرين بالمقدمة، وقد سبق أنه لا محذور في تعدد الأمر بالمأمور به الواحد مع اختلاف نحو الداعوية.

هذا بناء على ثبوت الأمر الغيري المولوي، وأما بناءً على عدمه وأنه ليس الأمر بالمقدمة إلا عقلياً لأنها من شؤون إطاعة الأمر النفسي - كما هو التحقيق - فالأمر أظهر، حيث ليس في البين إلا أمران نفسيان برفع كلٍ من

ص: 579

الحدثين، إذ لا مانع من تعدد الأمر مع تعدد المأمور به ولو مع التلازم بين المتعلقين، نظير ما تقدم في الصورة الثالثة من الأمر السابق.

نعم، لو لم يكن الأمر غيرياً لرفع الأثر - كالحدث في المثال السابق - بل نفسياً بسبب تحقق الأثر من دون أن يراد به رفعه كما لو قيل: من بال فليتصدق بدرهم، ومن نام فليتصدق بدرهم، كان الأصل عدم التداخل، لعين ما سبق، ولا أثر لتوسط الأثر حينئذٍ إلا أن يثبت من الخارج وحدة الأثر، فيلزم عدم تأثير السبب اللاحق فيه، فلا تعدد في موضوع التكليف، فيكون نظير فعل المفطر في نهار شهر رمضان بالإضافة إلى الكفارة، الذي فهم من الأدلة أن موضوعيته للكفارة بلحاظ مبطليته للصوم غير القابلة للتعدد.

وكذا لو ثبت تعدد الأثر وعدم سببية اللاحق للتكليف المستقل، وكلاهما مخالف لإطلاق دليل السببية، لما تقدم من أن مقتضاه تأثير كل سببٍ لفردٍ مستقلٍ من المسبب.

الرابع: ابتناء التداخل

الرابع: قد ظهر من جميع ما سبق أن التداخل في مورد يبتني إما على وحدة متعلق التكليف - وهو الماهية المطلقة - المستلزمة لوحدة التكليف واستناده لاسبق الأسباب، وإما على تعدده وتعدد التكليف تبعاً له مع حصول المتعدد بفعلٍ واحدٍ يمتثل به التكاليف المتعددة، وعلى كلا الوجهين يتعين كون التداخل عزيمة بمعنى عدم مشروعية تكرار الامتثال بفعلٍ آخر، إذ لا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر الواحد أو الأوامر المتعددة بالفعل الأول.

ولا يُتعقل كونه رخصة يشرع معه تكرار الامتثال، كما قد يتردد في بعض الكلمات، إذ لا امتثال إلا في فرض وجود الأمر، ومع فرض وجوده بعد الفعل الأول لا تداخل.

ص: 580

نعم، لو ابتنى التداخل على تعدد الأمر تبعاً لتعدد متعلقه مع تحقق المتعلق المتعدد بالفعل الواحد - كما هو مبنى الوجه الثاني - فلو كان سقوط أحد الأمرين أو كليهما مشروطاً بقصد امتثاله يتعين عدم سقوط ما لم يقصد امتثاله ويلزم تكرار الفعل بقصده، كما ذكره في التقريرات.

لكنه راجع إلى التفصيل في التداخل وتوقفه على قصد الامتثال، لا على كون التداخل في ظرف ثبوته رخصةً لا عزيمةً.

وكذا لو فرض التداخل بأحد الوجهين السابقين، مع استحباب التكرار لتعدد الأسباب، حيث لا يكون التداخل رخصة، بل عزيمة بالإضافة إلى التكليف المسبب عن السببين، وإنما يكون التكرار لامتثال الاستحباب المفروض من دون تداخل فيه.

ص: 581

الفصل الثاني في مفهوم الوصف
اشارة

وقع الكلام في أن أخذ الوصف في موضوع الحكم هل يدل على إناطته به وانتفائه بانتفائه، أو لا، بل على مجرد ثبوته في ظرف ثبوته.

وكلامهم في تحديد محل النزاع لا يخلو عن اضطراب، حيث وقع الكلام..

تارةً: في اختصاصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أو عمومه لغير المعتمد مما أُخذ بنفسه في موضوع الحكم لا قيداً في موضوعه.

وأخرى: في أن المفهوم المتنازع فيه انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف من خصوص أفراد الذات المقيدة به، أو مطلقاً ولو من غيرها، فلو قيل: أحب العسل الحلو، وتجب في الغنم السائمة الزكاة، كان ظاهر عدم محبوبية كل غير حلو ولو من الرمان، وعدم وجوب الزكاة في كل غير سائم ولو من الإبل.

محاولة تخصيص النزاع في مورين

وقد حاول غير واحدٍ تخصيص النزاع في الموردين لبعض الوجوه الصالحة في الحقيقة لبيان ضعف عموم القول بالمفهوم، لا لبيان قصور مورد النزاع، بل لا وجه له بعد ظهور عمومه من ذهاب بعضهم لعموم ثبوت المفهوم أو عموم بعض استدلالاتهم عليه.

ص: 582

بل يتعين تعميم محل النزاع، والنظر في حال كل دليلٍ بنفسه من حيثية عموم مفاده أو خصوصه.

بل قد يتجه تعميمه للوصف الضمني، كما في النبوي: «لَئِنْ يمتلئ بطن الرجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً» لأن امتلاء البطن كناية عن الكثرة، فلو كان له مفهوم كان مقتضاه عدم البأس بالشعر القليل.

بل لعل ملاك النزاع بملاحظة بعض تصريحاتهم واستدلالاتهم يشمل غير الوصف من القيود، كالحال والظرف وغيرهما، كما يظهر عند استقصاء الأدلة.

إذا عرفت هذا، فقد ذكرنا في الوجه الرابع والخامس لتقريب دلالة الشرطية على الإناطة وفي التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط أن مفاد القضية جعل الحكم الشخصي المتقوم بتمام ما أُخذ فيها من قيود وشروط وخصوصيات، أو الحكاية عنه، وأنها لا تتضمن جعل الحكم بنحوٍ أوسع من ذلك، ولا الحكاية عنه.

إلا أن يخرج بعض الأطراف عن كونه قيداً في القضية، كالوصف المذكور لبيان الحال اللازم للموضوع أو الغالب، كتقييد الربائب المحرمة على زوج الأُم في الآية الشريفة بكونها في حجره، أو تكون خصوصية الطرف ملغية، بحيث يكون مسوقاً لبيان دخل ما هو الأعم منه، كما لو قال العطشان: جئني بماءٍ أشربه، والجائع: جئني بخبزٍ آكله، وأرادا بذلك طلب مطلق ما يرفع العطش والجوع من السوائل والطعام، وكلاهما مخالف لظاهر أخذ العنوان في القضية.

والظاهر رجوع الأول إلى ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون

ص: 583

احترازياً، والثاني إلى ما قيل من ظهور أخذ العنوان في دخله بخصوصيته في الحكم.

كما ذكرنا آنفاً أن ذلك وحده لا يكفي في الدلالة على ا لمفهوم، لأن انتفاء الحكم الذي تضمنته القضية بانتفاء بعض أطرافها لا ينافي ثبوت مثله في مورد الانتفاء، بل لابد مع ذلك من ظهور القضية في كون الطرف المأخوذ فيها دخيلاً في سنخ الحكم، بحيث ينتفي بانتفائه.

وحينئذٍ فالظاهر أن الوصف ككثير من القيود المذكورة في القضية - من الحال والظرف وغيرهما - لا ظهور له في ذلك وضعاً، لعدم فهم ذلك من نفس الكلام، بل ليس المفهوم من حاق الكلام إلا ثبوت الحكم بثبوت القيد.

ومما سبق يظهر أن ذلك لا ينافي ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازياً، وأن ظاهر العنوان دخله بخصوصيته في الحكم، لما ذكرنا من أن ذلك إنما هو بالإضافة إلى شخص الحكم لا سنخه.

الاستدلال على مفهوم الوصف بوجوه أخرى

ومن هنا لابد من الاستدلال على مفهوم الوصف أو غيره من القيود بوجوه أُخر لا ترجع إلى دعوى كونه مقتضى الوضع.

والمذكور في كلماتهم وجوه:

الأول: لزوم اللغوية بدونه

الأول: دعوى لزوم اللغوية بدونه، إذ لو كان الحكم يعم حال فقد القيد لم يكن لتكلف ذكره فائدة.

وهو - لو تم - لا يختص بالوصف، بل يجري في سائر القيود التي تتضمنها القضية.

نعم، قد يختص بالوصف المعتمد على الموصوف ونحوه من القيود

ص: 584

الزائدة على الموضوع، حيث قد تتجه دعوى لغوية تكلف ذكرها زائداً على ذكر الموضوع لو كان الحكم ثابتاً للموضوع مطلقاً ولو مع فقدها، أما غير المعتمد فلا وجه للغوية جعله موضوعاً بمجرد عموم الحكم لغيره، لأن بيان ثبوت الحكم في مورده كافٍ في الفائدة الرافعة للغويته، وإلا لزم البناء على حجية مفهوم اللقب لأجلها، ولم يعرف منهم الاستدلال عليه بها، وليس هو كالمعتمد الذي يكفي الإطلاق في بيان ثبوت الحكم في مورده.

كما أن المفهوم اللازم من الاستدلال المذكور هو كون انتفاء القيد موجباً لانتفاء الحكم عن بقية أفراد الموضوع وأحواله، لكفايته في رفع اللغوية المدعاة، وإن لم يرتفع الحكم عن موضوعٍ آخر حال فقد القيد، كما لعله ظاهر.

وكيف كان، فمن الظاهر أن توقف رفع اللغوية على المفهوم غير مطرد، ليكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة، بل قد يكون ذكره لدفع توهم عدم ثبوت الحكم في مورده، لكونه من أفراد المطلق الخفية، أو لكونه مورد اهتمام الحاكم لأولويته بالملاك، أو لكونه مورداً للابتلاء أو السؤال أو نحو ذلك.

مضافاً إلى أنه يكفي في رفع اللغوية دخل القيد في الحكم بنحوٍ لا يثبت لفاقده مطلقاً، ولا يتوقف على عموم انتفائه بانتفائه، بحيث لا يخلفه قيد آخر متمم لموضوع الحكم بدلاً عنه، فإذا قيل: أكرم الرجل العالم، لا يعتبر في رفع لغوية ذكر الوصف توقف وجوب الإكرام عليه وانحصاره بمورده - كما هو مدعى القائل بالمفهوم - بل يكفي في رفعها عدم وجوب إكرام مطلق الرجل، بحيث لا دخل للعلم فيه أصلاً، حيث يكون فائدة ذكر

ص: 585

الوصف حينئذٍ بيان دخله في تمامية موضوع وجوب الإكرام، وإن لم تنحصر به، بل يشاركه فيها غيره، كالفقر والتدين وحسن الخلق وغيرها.

الثاني: دلالة الوصف على العلية

الثاني: دلالة الوصف على العلية قال في التقريرات: «قد ملأ الأسماع قولهم: إن التعليق على الوصف يُشعر بالعلية».

وهو - لو تم - يختص بالوصف الحاكي عن جهة عرضية زائدة على الذات، ولا يعم غيره من القيود.

نعم، لا يختص بالوصف المعتمد على الموصوف. كما أن المفهوم الذي يقتضيه انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مطلقاً لو لم يكن معتمداً.

وأما إن كان معتمداً فإن رجع الوجه المذكور إلى دعوى عليته المنحصرة للحكم أعم من أن يكون تمام العلة أو متممها - كما تقدم منّا في العلية المدعاة للشرط - اتجه اختصاص المفهوم بانتفاء الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف، دون غيره مما يفقده، لإمكان احتياج الموضوع إلى تتميم علية الحكم بالوصف دون غيره من الموضوعات، بل هي علة تامة له.

وإن رجع إلى دعوى كونه تمام العلة المنحصرة للحكم من دون دخلٍ لخصوصية الموضوع في عليته اتجه عموم المفهوم، وانتفاء الحكم تبعاً لانتفاء الوصف مطلقاً ولو في غير الموضوع.

لكنه يشكل..

أولاً: بأن الإشعار لا يبلغ مرتبة الحجية.

وثانياً: بأنه غير مطّرد، بل يختص بالوصف المناسب ارتكازاً للحكم، كالعلم والعدالة بالإضافة إلى وجوب الإكرام، دون مثل: تقل الثياب البيض

ص: 586

والمياه العذبة، وتكثر الرجال الطوال والنساء القصار.

وثالثاً: بأن العلية بمجردها لا تكفي في المفهوم، ما لم تكن بنحو الانحصار، ولا إشعار للوصف بكونه علة منحصرة.

نعم، قد يستفاد ذلك من قرينة خاصة أو من سوقه مساق التعليل، كما لو قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، ويتعين البناء حينئذٍ على المفهوم.

ولعله إليه يرجع ما عن العلامة من التفصيل في ثبوت المفهوم وعدمه بين كون الوصف علة وعدمه.

لكنه خارج عن محل الكلام، لوضوح أن الكلام في ظهور الوصف بنفسه في المفهوم.

الثالث: مع عدم ظهوره في المفهوم لا وجه لحمل المطلق على المقيد

الثالث: أنه لولا ظهور الوصف في المفهوم لم يكن وجه لحمل المطلق على المقيد المثبتين، لعدم التنافي بينهما بدواً، مع أن بناء الفقهاء وأهل الاستدلال على التنافي البدوي بينهما ولزوم الجمع بذلك.

ولا يخفى أنه لو تم فالمفهوم اللازم له هو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف عن الموضوع - إذا كان معتمداً - لا عن غيره.

كما أنه لا يختص بالوصف المعتمد، بل يجري في غيره أيضاً، كما يجري في غير الوصف من القيود، لعموم البناء على الجمع بين المطلق والمقيد فيها.

لكنه تقرر في محله أن التنافي بين المطلق والمقيد غير المختلفين في الإيجاب والسلب مختص بما إذا كان الحكم الذي تضمناه واحداً وارداً على الماهية بنحو البدلية، كما في مثل: من ظاهَرَ فليعتق رقبة، و: من ظَاهَرَ فليعتق رقبة مؤمنة، بخلاف ما إذا كان وارداً عليها بنحو الاستغراق، كما في

ص: 587

مثل: من أحرم حرم عليه الصيد، ومن أحرم حرم عليه صيد الوحش.

والوجه في التنافي المذكور: أن الحكم الوارد على الماهية بنحو البدلية كالوارد عليها بنحو المجموعية واحد له نحو نسبة خاصة مع جميع أفرادها، وليس هو حكماً منحلاً إلى أحكام مستقلة متعددة بعدد الأفراد، كما هو الحال في الحكم الوارد على الماهية بنحو الاستغراق.

ومن الظاهر أن الحكم الواحد البدلي أو المجموعي يمتنع تعلقه بالعام والخاص معاً، لا من جهة ظهور القيد في الانتفاء عند الانتفاء بحسب تركيبه اللفظي، بل لأن تعلقه بالخاص يقتضي تعين الامتثال بفرد منه لو كان الحكم بدلياً، والاكتفاء بتمام أفراده لو كان مجموعياً، وتعلقه بالعام يقتضي الاكتفاء بفردٍ منه - ولو من غير الخاص - لو كان بدلياً، وتعين الامتثال بتمام أفراده لو كان مجموعياً، عكس الأول.

ولذا يقع التنافي بين العام والخاص مطلقاً وإن لم يكن الخاص وصفاً ولا مقيداً، بل اسماً جامداً، كما لو قيل: إن ظاهرت فاعتق رقبة، و: إن ظاهرت فاعتق رجلاً، مع وضوح أن أخذ الاسم الجامد في موضوع الحكم لا يدل على الانتفاء عند الانتفاء إلا بناءً على مفهوم اللقب، الذي هو خارج عن محل الكلام.

وهذا بخلاف الحكم الاستغراقي فإنه حيث كان منحلاً إلى أحكامٍ متعددة بعدد أفراد الماهية لكل منها إطاعته ومعصيته، فلا تنافي بين تعلقه بالعام وتعلقه بالخاص، إلا أن يكون لدليل تعلقه بالخاص ظهور في الانحصار والانتفاء عند الانتفاء.

ومن ثم كان عدم البناء على حمل المطلق على المقيد في ذلك، لعدم

ص: 588

التنافي بينهما، والاقتصار في البناء على التنافي على ما إذا كان الحكم بدلياً شاهداً بعدم ابتنائه على مفهوم الوصف، بل على خصوصية الحكم.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم.

وربما استدل بعضهم بفهم أهل اللسان المفهوم في بعض الموارد وهو كما ترى! لا ينهض بالاستدلال، لعدم حجية فهمهم، واحتمال استناده لقرائن خاصةٍ خارجةٍ عن مفاد التوصيف.

ومن هنا يتعين البناء على عدم دلالة الوصف على المفهوم، بحيث يكون من الظهورات النوعية.

وإن كان قد يحمل الكلام عليه لقرائن خاصة مقالية أو حالية غير منضبطة.

ما عن السيد الخوئي قدس سره من أن ظاهر القيد الاحترازية

هذا، وعن بعض مشايخنا أن الوصف وإن لم يدل على المفهوم بمعنى انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف إلا أنه يدل على عدم ثبوت الحكم لذات الموصوف على الإطلاق، بل لابد في تتميم موضوعيتها من انضمام أمر آخر إليها سواءً كان هو الوصف أم غيره.

فمثلاً قولنا: أكرم الرجل العالم، وإن لم يدل على انحصار وجوب الإكرام، بل لابد في موضوعيته للوجوب المذكور من انضمام أمر زائد عليه من العلم أو غيره مما يقوم مقامه، فالقضية المذكورة تنافي عموم وجوب إكرام الرجل، وإن لم تناف عموم وجوب بعض أصنافه الأخرى، كالفقير والمتدين وغيرهما.

وقد وجه ذلك: بأن ظاهر القيد أن يكون احترازياً، وخروجه في بعض الموارد عن ذلك محتاج للقرينة المخرجة عن الظهور المذكور، وثبوت

ص: 589

الحكم لمطلق الذات الوارد عليها القيد من دون أن يكون القيد دخيلاً فيه ينافي احترازية القيد.

ومن ثَمَّ خصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أما غيره فحيث لم يسق لتقييد موضوع الحكم فلا ظهور له في الاحترازية، بل هو كسائر الموضوعات التي يرد عليها الحكم ابتداءً، لا مجال لظهوره في المفهوم بناءً على عدم القول بمفهوم اللقب، الذي هو خارج عن محل الكلام.

المناقشة فيه

لكنه كما ترى! إذ المراد بأصالة الاحترازية في القيد إن كان بالإضافة إلى شخص الحكم - كما تقدم أنه الظاهر - فقد سبق أنه لا ينفع في المفهوم أيضاً، وإن كان بالإضافة إلى سنخ الحكم فهو يقتضي انحصاره بواجد القيد المستلزم للمفهوم، لأن مرجعه إلى الاحتراز بالمقيد عن شمول الحكم لغير موارده، ولا يقتضي التفصيل الذي ذكره.

نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى عدم ظهور القيد في الاحترازية بالإضافة إلى سنخ الحكم، بل في دخله في ثبوت الحكم في مورده زائداً على تحديده لمورد الحكم، لاستلزام دخله عدم كفاية الذات في ترتب الحكم وعدم كونها تمام الموضوع له وإن أمكن أن يخلفه أمر آخر يقوم مقامه في الدخل في الحكم وتتميمه لموضوعه.

لكن الظهور في ذلك يبتني على أحد الاستدلالين الأولين لو غض النظر عن الوجه الأول في دفع الأول، وعن الوجهين الأولين في دفع الثاني، كما يظهر بملاحظتهما والتأمل فيهما.

وحيث لا مجال للغض عنها فلا مجال للبناء على التفصيل المذكور.

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

ص: 590

الفصل الثالث في مفهوم الغاية
اشارة

وقع الكلام في أن التقييد بالغاية هل يدل على انتفاء الحكم بحصولها أولا؟

وقد ذكر غير واحدٍ أن الغاية..

وجوه وقوع الغاية في الحكم

تارةً: تكون قيداً للحكم.

وأخرى: تكون قيداً للموضوع، وبنوا على ذلك الكلام في المفهوم.

وينبغي الكلام في هذا التقسيم وإيضاح حدوده فنقول:

الظاهر أن المراد بالأول رجوع الحكم للنسبة التي يتضمنها الكلام، لا للمحمول، ففي مثل: كل شيءٍ طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل مسافر مستوحش حتى يتخذ سكناً، يكون المراد استمرار النسبة إلى حصول الغاية، لا الحكم بحصول الطهارة والوحشة المستمرتين إلى حصول الغاية، لأن لازم الثاني توقف صدق القضية على حصول الغاية، لأن صدق الحملية كما يتوقف على تحقق المحمول يتوقف على تحقق قيوده، وليس كذلك على الأول، لعدم توقف صدق القضية على تحقق قيود النسبة التي تضمنتها من شرطٍ أو غايةٍ أو ظرفٍ أو غيرها، بل غاية الأمر أنه لابد في ظرف تحقق القيود

ص: 591

أو عدمها في الخارج من مطابقة النسبة في الخارج لنحو قيديتها، فتتحقق النسبة بتحقق الشرط والظرف وترتفع بتحقق الغاية، ولا تتحقق النسبة مع عدم تحقق الشرط، كما لا يعلم تحققها مع عدم تحقق الظرف، ولا ترتفع - بعد تحققها - مع عدم تحقق الغاية.

وحيث لا ظهور للقضية في تحقق الغاية، ولذا لا تكذب مع عدم تحققها، لزم رجوعها إلى النسبة.

وما يظهر من بعض عباراتهم من أنها قد ترجع إلى المحمول، في غير محله على الظاهر، لعدم معهوديته في القضايا المتعارفة المعهودة.

وأما الثاني فقد تردد في بعض كلماتهم أن الغاية ترجع..

تارةً: لمتعلق الحكم كالسير في قولنا: سر من الكوفة إلى البصرة.

وأخرى: لموضوع المتعلق، كالأيدي والأرجل في قوله تعالى:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (1) ، حيث لا تكون غاية للغسل والمسح، ولذا لا يجب الانتهاء فيهما بالمرفق والكعب وإليه يرجع ما قيل من أنها لتحديد المغسول.

لكن الظاهر رجوع الثاني للأول، وأن المراد بمثل الآية بيان غاية الغسل، غاية الأمر أنه ليس بلحاظ التدرج في وجود أجزائه، الذي يكون معيار الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى سبق الوجود وتأخره، بل بلحاظ محض التحديد وبيان المقدار، الذي يكون الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى بمحض الاعتبار، نظير تحديد الأمكنة والبقاع، حيث يصح أن يقال في تحديد البحر الأبيض المتوسط مثلاً: إنه يمتد من جبل طارق إلى بلاد الشام، كما يصح

ص: 592


1- سورة المائدة: 6

أن يقال: يمتد من بلاد الشام إلى جبل طارق، فيكون المراد بالآية بيان مقدار الغسل بلحاظ سعة المغسول.

وإلا فحملها على تقييد نفس الموضوع الخارجي بلحاظ أجزائه بعيد عن المرتكزات غير معهود النظير.

ومنه يظهر أن غاية الموضوع كغاية الحكم راجعة للنسبة، لوضوح أن متعلق الحكم هو فعل المكلف، ورجوع الغاية إليه إنما هو بلحاظ قيام المكلف به وصدوره منه وانتسابه إليه.

وليس الفرق بين رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع إلا في أن مرجع الغاية في الأول هي النسبة بين الحكم ومتعلقه، أما في الثاني فهي النسبة التي يرد عليها الحكم وتكون متعلقاً له.

فإذا قيل: يجب أن تجلس من طلوع الشمس إلى الظهر، فإن كان التوقيت للنسبة بين الوجوب والجلوس - مع إطلاق الجلوس - كانت الغاية راجعةً للحكم، وإن كان للنسبة الصدورية بين المكلف والجلوس التي هي متعلق للوجوب - مع إطلاق نسبة الوجوب إليها - كانت الغاية راجعة للموضوع.

ولعله لذا ذكر النحويون أن الجار والمجرور لابد أن يتعلق بالفعل وما يقوم مقامه من الأسماء المتضمنة معنى الحدوث والتجدد، حيث لا يبعد كونه بلحاظ تضمن تلك الأسماء معاني حدثية قد لحظ انتسابها لموضوعاتها، فلاحظ.

الكلام في مقامين

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في مقامين:

الأول: في مقام الثبوت

الأول: في مقام الثبوت، الراجع لبيان حال واقع كلٍ من القسمين من

ص: 593

حيثية الدلالة على المفهوم.

رجوع الغاية للحكم وللموضوع

وقد ذكر غير واحدٍ أن الغاية إن رجعت للحكم لزم انتفاؤه بحصول الغاية، وكانت القضية دالة على المفهوم، وإن رجعت للموضوع كانت كسائر قيوده لا مفهوم لها.

ما استدل به الخراساني قدس سره على المفهوم في الأول

أما الأول: فقد استدل عليه المحقق الخراساني قدس سره بأن فرض كون الشيء غاية لشيءٍ ملازم لارتفاعه بارتفاعه، وإلا لم يكن غايةً له.

ولا مجال للإشكال عليه: بأن ذلك فرع كون الغاية غاية لسنخ الحكم، لا لشخصه، فلابد من إثبات ذلك.

لظهور اندفاعه مما سبق في التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط من أن ما تتضمنه القضية وإن كان هو شخص الحكم المتقوم بتمام ما أُخذ فيها من قيود، إلا أن موضوع التقييد الذات على سعتها المساوقة للسنخ بالمعنى المتقدم، فتضيق بالقيد، فالقيد يرد على السنخ، وإن كان المتحصل من القضية المتضمنة له هو الشخص. فراجع.

المناقشة فيه

فالعمدة في الإشكال على الاستدلال المذكور: أنه مع فرض كون الشيء غايةً لابد من ثبوت المفهوم، ولا مجال للنزاع فيه، ومرجع النزاع المذكور إلى النزاع في ظهور الكلام في كون الشيء غاية، فإن التعبير بالغاية إنما وقع في كلام أهل الفن من دون أن يتضمنه الكلام الذي وقع النزاع في دلالته على المفهوم، وإنما تضمن أدوات خاصة مثل: (إلى) و (حتى)، ومرجع النزاع في المقام إلى النزاع في ظهور تلك الأدوات في كون ما بعدها غايةً للنسبة، بحيث ترتفع بعدها، وعدمه وأنها إنما تدل على مجرد استمرار النسبة إليها سواءً انتهت بها أم بقيت بعدها.

ص: 594

ونظير ذلك تعبيرهم عن مدخول أدوات الشرط بالشرط، فإن فرض كونه شرطاً ملازم لدلالة القضية الشرطية على المفهوم، والنزاع في دلالتها عليه راجع للنزاع في ظهور الأدوات في شرطيته للجزاء أو مجرد تحققه حينه وإن أمكن أن يتحقق بدونه.

وحينئذٍ لا يبعد عدم دلالة الأدوات المذكورة بنفسها إلا على مجرد الاستمرار، دون الانتهاء، كما يشهد به النظر في استعمالاتها فيما لو كانت قيوداً لفعل المكلف، لا للحكم.

ففي قولنا: سرت من الكوفة إلى البصرة، أو حتى دخلت البصرة، لا يستفاد انتهاء السير بالبصرة، بحيث لا سير بعد الدخول إليها وكذا لو قيل: سر من الكوفة إلى البصرة، لا يستفاد إلا تقييد السير الواجب بأن يستمر للبصرة وإن لم ينته إليها.

وكذا الحال في الغاية الزمانية في مثل: سرت إلى ساعةٍ، أو سر إلى ساعةٍ.

ودعوى: أن دخول البصرة ومضي الساعة وإن لم يكن بهما انتهاء السير بواقعه إلا أن بهما انتهاء السير المخبر عنه والواجب.

مدفوعة: بأن السير بواقعه إذا لم يطابق السير المخبر عنه والواجب لم يصدق به الخبر ولم يمتثل به الواجب.

إلا أن يراد بذلك أن دخول البصرة ومضي الساعة يكفي في تحقق المخبر عنه وامتثال الواجب، بحيث ينتهيان بلا حاجة لاستمراره بعدهما.

لكنه - وإن تم - غير ناشئ من دلالة الأداتين على الانتهاء، بل يكفي فيه دلالتهما على مجرد الاستمرار، لأن السير المستمر لمكانٍ أو زمانٍ يحصل

ص: 595

بالوصول إليهما وإن استمر السائر بعدهما.

وأما اللازم من دلالتهما على الانتهاء فهو أخذ الانتهاء لمدخولهما قيداً في المخبر عنه والمطلوب، بحيث لا ينطبق على ما لا ينتهي به، كما لو قال: سرت سيراً منتهياً بالبصرة أو بالساعة، أو: سر سيراً كذلك، والظاهر عدم دلالتهما على ذلك، كما ذكرنا.

إلا بقرينةٍ خارجةٍ عن ذلك، كورود الكلام في مقام التحديد، حيث يستفاد المفهوم معه حتى في اللقب والعدد، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولعل كثرة ورودهما في المورد المذكور هو الموهم لدلالتهما على الانتهاء والغاية زائداً على الاستمرار.

لكن تشخيص المفاد الوضعي إنما يكون بملاحظة الموارد الخالية عن القرائن الخارجية، وأظهرها موارد الاستفهام، كما لو قيل: هل صادف أن سرت من الكوفة إلى البصرة، أو كنت في الدار من الظهر إلى المغرب، حيث لا إشكال ظاهراً في أن المنسبق منه الاستفهام عن مجرد استمرار السير بين البلدين، وقضاء تلك المدة في الدار، لا عن تحقق السير والكون المحدودين بالحدين، بحيث لا يزيد عليهما، كما لا ينقص عنهما.

ثم إن ما ذكرناه من الأمثلة وإن كان فيما إذا كانت الأدوات قيوداً للفعل الذي هو خارج عما نحن فيه من فرض كونها قيوداً للحكم، إلا أن اختلاف مفاد الأداة وضعاً باختلاف متعلق التقييد بها بعيد جداً، بل هو كالمقطوع بعدمه.

انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأداتين

نعم، لا إشكال في انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأداتين، بل ظهورها فيه أقوى من ظهور موارد التقييد بأدوات الشرط فيه، كما صرح

ص: 596

به غير واحدٍ، ويشهد به كثرة استعمال أدوات الشرط معراة عن المفهوم، بخلاف الأداتين المذكورتين، وظهور التعارض مع اختلاف الغاية بالزيادة والنقيصة، كما لو قيل: كل شيء ظاهر حتى يشهد شاهدان أنه قذر، و: كل شيءٍ طاهر حتى يشهد أربعة شهود أنه قذر، مع وضوح عدم التنافي لو تمحضت الأداة ببيان الاستمرار، الذي هو مفادها الوضعي، كما سبق، فلابد من استناد الظهور في المفهوم لأمرٍ آخر غير الوضع.

ولا يهم تحقيق منشأ الظهور المذكور، لعدم تعلق الغرض به، بل بنفس الظهور الذي هو أمر وجداني لا يقبل الإنكار أو الإشكال.

نعم، لا يبعد أن يكون منشؤوه أنه لما كان مقتضى إطلاق جعل الحكم على موضوعه استمراره باستمراره كان بيان مجرد الاستمرار مستغنى عنه ولاغياً عرفاً، وذلك أوجب مألوفية استعمال الأداتين المذكورتين في مقام التحديد زائداً على بيان أصل الاستمرار الذي هو مفادهما الوضعي، حتى صار لهما ظهور ثانوي في ذلك زائداً على ظهورهما الوضعي في الاستمرار.

ولا يرجع ذلك إلى كون اللغوية هي القرينة الموجبة للظهور في التحديد، ليتجه ما سبق في وجه منع استناد مفهوم الوصف إليها من عدم انحصار الغرض المصحح لذكر القيد بالتحديد، بل إلى كونها علةً في مألوفية استعمالها في التحديد بين أهل اللسان بنحوٍ أوجب ظهورها فيه نوعاً، لإغفالهم بقية الأغراض المصححة لبيان مجرد الاستمرار.

وبعبارة أخرى: اللغوية في المقام نظير علة التسمية التي لا يلزم اطرادها، مع كون منشأ الظهور مألوفية الاستعمال في مقام التحديد بين أهل اللسان، وليست هي القرينة التي يستند الظهور إليها، ليلزم اطرادها، ويتجه

ص: 597

النقض بلزوم البناء لأجلها على ثبوت المفهوم للوصف.

في رجوع الغاية للموضوع

وأما الثاني: - وهو عدم المفهوم فيما إذا رجعت الغاية للموضوع - فقد وجَّه في كلماتهم بأن ثبوت الحكم للموضوع المقيد لا ينافي ثبوت مثله لفاقد القيد، نظير ما تقدم في مفهوم الوصف.

هذا، وحيث سبق عدم ظهور الأداتين في الغاية والنهاية فلا إشكال في عدم دلالة التقييد بهما على كون متعلق الحكم هو الفعل المنتهي بمدخولهما، بحيث لا ينطبق على ما يزيد على ذلك، وتكون الزيادة عليه مانعةً من الامتثال به.

وإنما الكلام في أن التقييد بهما هل يدل على انتهاء متعلق الحكم بحصول مدخولهما، بحيث لا يكون ما بعده مورداً للحكم، أو لابل يكون مسكوتاً عنه محتملاً لذلك فإذا قيل: اجلس إلى الظهر هل يكون ظاهر الكلام خروج الجلوس بعد الظهر عن الواجب، أو لا بل يكون مسكوتاً عنه، بحيث لو دل دليل آخر على دخوله في الواجب لم يكن منافياً له؟

وحينئذٍ نقول: لا ينبغي التأمل في الظهور في المفهوم مع وحدة الحكم، بأن كان بالإضافة لأجزاء الزمان بدلياً، كما لو قيل: يجب أن تجلس في المسجد ساعةً من طلوع الشمس إلى الظهر، أو مجموعياً ارتباطياً، كما في قوله تعالى:

«ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» (1) ، لأن مقتضى إطلاق متعلق الحكم تحديده سعةً وضيقاً على طبق القيود المأخوذة في الخطاب من دون خصوصيةٍ لأدوات الغاية، فلو كان بدلياً كان مقتضاه تعين الامتثال بفرد من الماهية المقيدة التي أُخذت مورداً للتكليف والإجتزاء به، وإن كان مجموعياً كان

ص: 598


1- سورة البقرة: 187

مقتضاه الإجتزاء بالماهية المذكورة، وعدم لزوم ما زاد عليها المستلزم لعدم لزوم ما بعد الغاية في المقام.

وأما لو كان الحكم متعدداً، لكونه بالإضافة لأجزاء الزمان استغراقياً انحلالياً راجعاً إلى أحكام متعددة بعددها لكل منها إطاعته ومعصيته فالإطلاق إنما يقتضي ثبوت الحكم للفعل في كل جزءٍ من أجزاء الزمان أو المكان الواقعة قبل مدخول الأداتين بحياله واستقلاله من دون نظر إلى غيره، فلا ينهض بنفي الحكم عما بعد مدخولهما.

إلا أن يستفاد من ذكرهما إرادة التحديد زائداً على الاستمرار، وهو غير بعيد بالنظر إلى ما تقدم في توجيه دلالتهما على ذلك لو رجعا للحكم لا للموضوع، ولذا لا يفرق ارتكازاً في ظهور مثل آية الصوم في عدم وجوب ما زاد على الحد بين كون الإمساك الواجب في تمام النهار مجموعياً وكونه انحلالياً، فتأمل.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك إذا كانت الغاية راجعةً لموضوع متعلق التكليف، لكونها جزءه، كما في آية الوضوء، وكما في مثل: اغسل المسجد إلى نصفه، لو فُرض مطلوبية غسل كل جزء بنحو الانحلال، لأن نسبة الفعل للموضوع، كالغسل للأيدي أو المسجد تقتضي الاستيعاب وضعاً لا بالإطلاق، فذكر الغاية بلحاظ بعض الأجزاء كالمرافق والنصف لو كان لمجرد بيان الاستيعاب له كان أبعد عن الفائدة عرفاً مما سبق، ولذا يكون المستفاد منه تحديد الواجب وبيان انتهائه بالغاية، فهو نظير الاستثناء لما بعد الغاية من الاستيعاب المستفاد وضعاً.

تعين ظهور الأداتين في المفهوم

ومن هنا يتعين البناء على ظهور الأداتين في المفهوم من دون فرق

ص: 599

بين كونهما قيداً للحكم وكونهما قيداً للموضوع، كما أطلقه بعضهم.

عدم استناد المفهوم للوضع

غاية الأمر أنه لا يستند لوضع الأداتين للغاية والانتهاء، بل لاستعمال العرف لهما في مقام التحديد، زائداً على الاستمرار والاستيعاب الذي هو المفاد الوضعي لهما، بنحوٍ يكون ذلك منشأ لثبوت ظهور ثانوي لهما فيه.

وإن كانت الموارد مختلفة في مراتب الظهور في ذلك، فأظهرها ما كان الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الوضع، كما في التحديد بجزء موضوع المتعلق، ثم ما كان الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الإطلاق، كما في تحديد الحكم، وفي غيرهما قد يحتاج إلى قرينةٍ زائدة، فتأمل جيداً.

نعم، إذا ذكر سبب للحكم فتقييده هو أو موضوعه بهما لا ينافي الإطلاق في حكمٍ آخر ثابت بسبب آخر، فتحديد وجوب الإمساك أو الإمساك الواجب بدخول الليل من حيثية الصوم المعهود لا ينافي إطلاق وجوب الإمساك بسبب آخر بنحوٍ يشمل الليل لو فرض احتماله.

لأن الإطلاق مع وحدة الحكم لكونه بدلياً أو مجموعياً إنما يقتضي تحديد متعلق التكليف المبين لا متعلق غيره، كما أن بناء العرف على استعمال الأداتين في مقام التحديد من جهة لغوية بيان محض الاستمرار لا تقتضي ما زاد على ذلك. ولعل ذلك خارج عن محل الكلام.

الثاني: في مقام الإثبات

الثاني: في مقام الإثبات. ومرجع الكلام فيه إلى تشخيص موارد كل من رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع، وإنما يحتاج إلى الكلام في ذلك بناء على الفرق بينهما في الدلالة على المفهوم، أما بناء على ما سبق منا من عدم الفرق بينهما فيه فهو مستغنى عنه، وإنما نتعرض له لاستيعاب الكلام على تمام مباني المسألة مع عدم خلوه في نفسه عن الفائدة.

ص: 600

فنقول: لا ينبغي التأمل في رجوع الغاية المكانية للموضوع، دون الحكم، ومثلها في ذلك مطلق الظرف المكاني، لأن الحكم وضعياً كان أو تكليفاً من الاعتباريات غير القابلة عرفاً للتحديد بالمكان، فإذا قيل: تجب على زيد الصلاة في المسجد أو السير إلى البصرة، لا معنى لكون الوجوب مظروفاً للمسجد، أو محدوداً بالبصرة.

إلا أن ترجع الظرفية المكانية إلى الظرفية الزمانية بالإضافة إلى الحكم، فيراد في المثالين ثبوته في زمان كون زيد في المسجد، أو إلى زمان وصوله للبصرة لكنه مبتنٍ على عناية وتقدير محتاج للقرينة.

وبدونها يتعين البناء على تقييد الموضوع وهو - في المثالين - الصلاة والسير مع إطلاق الحكم.

ومثله ما إذا كانت الغاية جزءاً من موضوع متعلق الحكم، كالمرافق والكعبين في قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(1).

لوضوح أن موضوع المتعلق من شؤونه، لا من شؤون حكمه، ولذا تقدم منا رجوعها لباً للمتعلق.

وأما الغاية الزمانية فهي كسائر الظروف الزمانية تصلح لتقييد كل من الحكم والموضوع.

لكنها إنما ترجع للمعاني الاسمية الحدثية المنتسبة، لا لنفس النسب، فإذا كان الحكم مستفاداً من الهيئة، كما في قولنا: صم يوم الجمعة، أو إلى الليل تعين رجوع الظرف للمتعلق الذي هو الموضوع، وهو الصوم بما هو

ص: 601


1- سورة المائدة: 6

صادر من المكلف، لا لوجوبه، لأن الدال على الوجوب ليس إلا الهيئة المتمحضة في الدلالة على النسبة.

أما إذا كان الحكم مستفاداً من معنى اسمي، كما في قولنا: يجب الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل، أمكن رجوع الظرف له، كما يمكن رجوعه لمتعلقه.

وحينئذٍ مقتضى ظهور الكلام رجوعه للسابق منهما، ففي قولنا: الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل واجب، يرجع الصوم، وفي قولنا: يجب يوم الجمعة أو إلى الليل الصوم، يرجع للوجوب، ولو كان متأخراً عنهما معاً لا يبعد رجوعه للأقرب إليه منهما، ففي قولنا: يجب الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل، يرجع للصوم، وفي قولنا: الصوم يجب إلى الليل أو يوم الجمعة، يرجع إلى الوجوب.

وقد يخرج عن ذلك بقرائن خاصة لا مجال لضبطها، فلاحظ.

وينبغي التنبيه على أمور

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول: في أدوات الغاية

الأول: لا إشكال في أن من أدوات الغاية التي هي محل الكلام (إلى) واللام التي بمعناها و (حتى) الجارة، دون العاطفة التي هي لإدخال الفرد الخفي، كما في قولنا: مات الناس حتى الأنبياء، فإنها لتأكيد العموم، من دون نظر للاستمرار والغاية.

وأما (أو) التي ذكر النحويون أنها بمعنى (إلى) أو (إلا) فالظاهر أنها لا تخرج عن معناها من الترديد، الذي يراد به في المقام مفاد مانعة الخلو، غايته أنها إن تعقبت فعلاً لا يقبل الاستمرار دلَّت على الترديد بين وقوع ما قبلها ووقوع ما بعدها، فتناسب مفاد (إلّا)، وإن تعقبت فعلاً يقبل الاستمرار

ص: 602

دلت على استمراره إلى أن يتحقق مدخولها، فيناسب مفاد (إلى) من دون نظر لارتفاعه بعد حصوله، كما هو حال مانعة الخلو، ولا تدل حينئذٍ على المفهوم.

الثاني: في دخول المدخول في حكم المغيى

الثاني: وقع الكلام في دخول مدخول أدوات الغاية في حكم المغيى وعدمه، بمعنى أن مفاد الأدوات هل هو الاستمرار إلى ما قبل المدخول مع كون نفس المدخول مسكوتاً عنه أو مبدأ لانقطاع الاستمرار - على الكلام في المفهوم - أو أن مفادها الاستمرار حتى بالإضافة إليه، وأن المسكوت عنه أو مبدأ الانقطاع هو ما بعده.

ولا يخفى أن البحث في ذلك يرجع لتحديد المنطوق، ويرجع لتحديد المفهوم بتبعه، لا ابتداءً.

كما أن محل الكلام هو صورة فقد القرينة على أحد الأمرين، وإلا فكثيراً ما تتحكم القرائن الخاصة الحالية والمقالية في تعيين أحدهما.

وربما استدل على الأول بما عن نجم الأئمة من أن الغاية من حدود المغيى، فيتعين خروجها عنه.

وهو كما ترى! لأن كونها حداً بالمعنى المذكور أول الكلام، بل للقائل بالوجه الثاني دعوى كونها آخره الذي ينتهي به، لا الذي ينتهي إليه.

أما ابن هشام فقد فصل في المغني بين (إلى) و (حتى) مدعياً البناء على الدخول في الثانية دون الأولى، حملاً على الغالب في البابين.

لكن الغلبة إنما تنفع إذا أوجبت الظهور النوعي، لأن مجرد الغلبة مع القرائن الخاصة ليست من القرائن العامة التي يلزم العمل عليها في مورد فقد القرينة، وكون الغلبة في المقام - لو سلمت - بالنحو المذكور غير ظاهر.

ص: 603

فلعل الأَولى التوقف في مورد فقد القرينة.

والذي يُهوّن الأمر كثرة احتفاف الكلام بما يصلح شاهداً على أحد الأمرين وإن كان هو مساق الكلام الذي هو من سنخ القرينة الحالية.

الثالث: في مفاد (من)

الثالث: الظاهر أن (من) المذكورة للابتداء في مساق أدوات الغاية، بالإضافة إلى ما قبل مدخولها تشترك مع أدوات الغاية بالإضافة إلى ما بعد مدخولها في الكلام المتقدم في المفهوم.

كما أنها بالإضافة إلى نفس مدخولها تشترك مع تلك الأدوات في الكلام المتقدم في الأمر السابق الراجع إلى دخوله في حكم المغيى وخروجه عنه.

ص: 604

الفصل الرابع في مفهوم الحصر
اشارة

لا يخفى أن حصر الحكم بمورد ملازم لانتفائه عن غيره وثبوت نقيضه فيه، الذي هو عبارة أخرى عن المفهوم، فلا معنى للنزاع في مفهوم الحصر.

فلابد من رجوع الكلام في المقام إلى الكلام في تشخيص مفاد أدوات خاصة وهل أنها دالة على الحصر، ليكون لها مفهوم أولا، بل هي متمحضة في الدلالة على ثبوت الحكم في المورد من دون أن تتضمن الحصر.

في أدوات الحصر

وهي عدة أدوات..

منها: أدوات الاستثناء مثل (إلا) و (غير) و (سوى) و (عدا) وغيرها مما ذكره النحويون، وإنما تقع مورداً للكلام إذا وردت للاستثناء، دون ما إذا وقعت للتوصيف، بل تبتني دلالتها على المفهوم حينئذٍ على الكلام في مفهوم الوصف.

هذا، والظاهر شيوع استعمال (غير) للتوصيف دون الاستثناء ومألوفيته، كما في قوله تعالى: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»(1)، وقولنا: أكرم عالماً غير فاسق، و: أكرمت رجلاً غير فاسقٍ،

ص: 605


1- سورة فاطر: 37

لتوقف الاستثناء على شمول الحكم لتمام الأفراد أو الأحوال، ولا يجري مع كونه بدلياً أو وارداً على المبهم الذي لا عموم فيه، كما في الأمثلة المذكورة، ولاسيما الأول حيث كان ما بعد (غير) فيه مبايناً لما قبلها لا من أفراده، فيراد بالوصف فيه بيان حال الموضوع، لا تقييده مع شيوعه، كما في الأخيرين.

ومن هنا يشكل البناء على الاستثناء في المورد الصالح له وللوصف، كما في قولنا: أكرم العلماء غير العدول. إلا أن يعين أحد الأمرين بكيفية الإعراب أو بقرينة خارجية.

الكلام في (إلا)

وأما (إلا) فقد ذكر النحويون أنها قد تكون وصفية مستشهدين بقوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) على كلام لا مجال للإطالة فيه، كما ذكروا ورودها عاطفةً وزائدةً.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في أن المتبادر منها الاستثناء ولو بسبب شيوع استعمالها فيه، فيتعين الحمل عليه في غير مورد امتناعه، الذي لا مجال للكلام في ضبطه.

كما أن الظاهر عدم استعمال بقية الأدوات في التوصيف.

الكلام في ظهور الاستثناء

إذا عرفت هذا، فلا إشكال في ظهور الاستثناء في ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه، وهو المراد بالمنطوق في المقام.

وأما بالإضافة إلى المستثنى فقد وقع الكلام في ظهوره في ثبوت نقيض الحكم السابق له، بحيث يدل على الحصر بالإضافة إليه، ليكون له مفهوم كما هو المعروف بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه. أو عدمه، بل يكون مسكوتاً عنه، لتمحض الاستثناء في تضييق دائرة الموضوع، كما عن

ص: 606


1- سورة الأنبياء: 22

أبي حنيفة.

والحق الأول، لتبادر ذلك منه، حيث يتضح بالنظر إليه الفرق بين الاستثناء ومثل الوصف مما يتمحض في تضييق الموضوع، ويأتي مزيد توضيح له بعد الكلام في حجة القول الثاني.

ومعه لا حاجة إلى الاستدلال عليه بقبول إسلام كل من قال كلمة الإخلاص، مع وضوح أنه لولا دلالة الاستثناء على ذلك لم تدل على التوحيد إذا صدرت ممن لا يعترف بوجود مدبّر للكون، كالدهرية. لأن الاستدلال المذكور وإن كان تاماً، إلا أن الأمر أوضح من أن يتشبث له به.

وأما الإشكال في الاستدلال بذلك بأن مجرد الاستعمال لا يدل على الوضع، لإمكان استناد الدلالة عليه لقرينة حالٍ أو مقالٍ.

فهو كما ترى! لوضوح أن قبول الإسلام بذلك لم يكن مشروطاً باطلاع القائل على القرينة واستناده إليها.

ومثله دعوى: أن قبول الإسلام بذلك شرعاً لا يستلزم دلالته على التوحيد لغةً، بل هو نظير الشعار الذي يعتمد على التباني، والاصطلاح.

لوضوح اندفاعها بما هو المعلوم من أن قبول الإسلام بها شرعاً فرع دلالتها على إقرار القائل بالتوحيد إما لدلالتها عليه لغةً أو بالقرينة، وحيث سبق المنع من الثاني تعين الأول.

النصوص الشارحة للشهادتين

وهو المناسب للنصوص الشارحة للإسلام بالشهادتين(1)، ولتأكيد كلمة الإخلاص بقولنا: «وحده لا شريك له» هذا، وقد يستشكل في دلالتها

ص: 607


1- راجع الكافي ج 2، ص 18-25، طبع الحروف في إيران

على التوحيد بأن خبر (لا) إن قدر (موجود) لم تدل على امتناع إله غيره تعالى، وإن قدر (ممكن) لم تدل على فعلية وجوده تعالى.

وقد حاول غير واحدٍ الجواب عن ذلك، ولعل أقرب الوجوه ما ذكره في التقريرات وغيرها من أنه لا يعتبر في التوحيد المعتبر في الإسلام إلا إثبات الألوهية له تعالى فعلاً ونفيها عن غيره كذلك.

وأما نفي إمكان ألوهية غيره فهو بواسطة ملازمة واقعية لا يضر خفاؤها وعدم العلم بها في جريان حكم الإسلام، وليس الإذعان به مأخوذاً في التوحيد الذي هو أول ركني الإسلام.

نعم، لا يبعد كونه من ضروريات الإسلام الزائدة على أركانه، فلا يعتبر الالتفات إليها والإذعان بها فيه، وإن كان إنكارها بعد الاطلاع على حالها من الدين موجباً للخروج منه، لمنافاته للإذعان به، كما يشهد به الرجوع لارتكازيات المتشرعة، وللاستدلال عليه في الكتاب والسنة بقضايا برهانية واضحة عند المسلمين كقوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1).

على أنه لو فرض أخذ نفي إمكان ألوهية غيره تعالى في التوحيد الذي هو ركن الإسلام أمكن ذلك بحمل القضية على بيان الانحصار به تعالى خارجاً مع كون الضرورة جهة لها بتمامها ارتكازاً، لا أن الإمكان قيد في موضوع عقد السلب منها، كي لا تدل على فعلية وجوده وألوهيته تعالى.

الاستدلال على عدم المفهوم ب - (لا صلاة إلا بطهور)

هذا وقد استدل على ما سبق عن أبي حنيفة من عدم ظهور الاستثناء في ثبوت نقيض الحكم السابق للمستثنى ليكون له مفهوم بمثل: لا صلاة إلا

ص: 608


1- سورة الأنبياء: 22

بطهور.

تقريب الاستدلال

بدعوى: أنه لو كان له مفهوم لدل على حصول الصلاة مع الطهارة ولو مع فقد بقية الأجزاء والشرائط، ولا إشكال في عدم دلالته على ذلك.

ما أجيب عن الاستدلال المذكور

وقد أجيب عن ذلك بوجوه..

الأول: عدم منافاة الاستعمال مع عدم المفهوم للوضع له

الأول: أن الاستعمال مع عدم إرادة المفهوم لا ينافي الوضع للمفهوم، لأن الاستعمال مع القرينة المعينة للمراد أعم من الحقيقة.

وفيه: أنه لا مجال لاحتمال الاعتماد على القرينة في مثل هذا التركيب، لشيوعه مع عدم ظهور العناية والقرينة المخرجة عن مقتضى الظهور الأولى فيه، وليس هو كالاستعمالات الشخصية التي قد يستند فهم المراد منها إلى القرائن المكتنفة للكلام.

وبعبارةٍ أخرى: الاستدلال ليس بعدم إرادة المفهوم من هذا التركيب، كي يمكن استناد فهم ذلك للقرينة، بل بعدم ظهوره بنفسه فيه مع قطع النظر عن القرينة.

الثاني:

الثاني: أن المفروض في موضوع الحصر في مثل هذا التركيب تمامية بقية الأجزاء والشرائط، فعدم تحقق الصلاة مع الطهارة - مثلاً - لفقد بعض الأجزاء أو الشرائط الأُخر لا يكون منافياً للمفهوم، بل خارجاً عن موضوعه.

والظاهر رجوع ما في التقريرات والكفاية لهذا الوجه وما قبله.

ويندفع: بأنه بعيد عن المرتكز الاستعمالي لهذا التركيب، لعدم الالتفات فيه للتقييد بتمامية الأجزاء والشرائط.

بل لا مجال للبناء عليه، لأن لازم خروج فاقد بعض الأجزاء والشرائط

ص: 609

الأُخَر موضوعاً قصور المنطوق والمفهوم معاً عنه، فكما لا يقتضي المفهوم حصوله مع الطهارة لا يقتضي المنطوق عدم حصوله بدونها، مع أنه لا ريب في عموم المنطوق له. فإذا قيل: لا صلاة إلا بطهور، و: لا صلاة إلا بركوع، كان مقتضاهما بطلان الصلاة الفاقدة للطهارة والركوع معاً من جهتين، لا أنهما ساكتان عنها لخروجها عن موضوع كلٍ منهما.

الثالث: نفي الإمكان لا الوجود

الثالث: ما في هامش بعض نسخ الكفاية من أن المراد من مثله نفي الإمكان، لا الوجود، ولازمه في المثال إمكان الصلاة مع الطهارة، لا ثبوتها فعلاً، لينافي ما سبق.

وفيه: أن التركيب بنفسه إنما يقتضي نفي الوجود دون الإمكان، كما هو الحال في مثل: لا يأتي زيد إلا أن يجيء عمرو، و: لا آكل إلا أن أغسل يدي ونحوهما، وإنما استفيد عدم الإمكان في المقام بلحاظ كون القضية تشريعية مسوقة لبيان شرطية الطهارة للصلاة، ويمتنع تحقق المشروط مع عدم شرطه، ومن الظاهر أن ذلك يجري في جميع الأجزاء والشروط، فكما لا تمكن الصلاة مع فقد الطهارة لا تمكن مع فقد بعض الأجزاء والشروط الأُخر وإن كانت الطهارة موجودة، فتنافي المفهوم، فوجود الطهارة كما لا يستلزم وجود الطهارة مطلقاً لا يستلزم إمكانها كذلك، ولم ينفع ما ذكره في دفع الإشكال.

على أن الإشكال لا يختص بالمثال المتقدم، بل يجري في نظائره من التراكيب مما هو ظاهر في نفي الوجود دون الإمكان، كالمثالين المتقدمين، كما هو ظاهر.

الرابع: ما عن السيد الخوئي قدس سره

الرابع: ما عن بعض مشايخنا من أن المستثنى في المقام لما كان هو

ص: 610

الظرف مثل: (بطهور) فلابد من تقدير متعلق له، فيكون المعنى: لا صلاة إلا صلاة بطهور.

ومرجع ذلك إلى أن الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور، لا أنها يلزم أن تقع مع جميع أفراده.

ويندفع: بأن كون الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور ليس هو مفاد المفهوم، بل لازم المنطوق، وأما مفاد المفهوم فهو وقوع الصلاة مع الطهور بنحو القضية التنجيزية، كما كان مفاد المنطوق سلبها بدونه كذلك، وحيث هو غير مطّرد في فاقد بعض الأجزاء والشرائط الأخرى يعود الإشكال.

وأما تقدير متعلق الظرف المستثنى بنفس الصلاة فهو إنما يتم لو كان الاستثناء من عموم أفراد الصلاة المنفية، وليس كذلك، بل الظاهر أنه استثناء من عموم أحوال نفي الصلاة، فكأنه قيل: لا صلاة في جميع الأحوال إلا حال وجود الطهور.

الوجه في الجواب عنه

فلعل الأَولى أن يقال في الجواب: إن حكم المستثنى منه لما كان هو السلب المطلق للصلاة بدون الطهارة بنحو الاستيعاب والاستغراق فمفهومه المستفاد من الاستثناء ليس إلا نقيضه وهو وجودها في الجملة مع الطهارة، لا وجودها معها مطلقاً، إذ ليس نقيض السلب الكلي إلا الإيجاب الجزئي دون الإيجاب الكلي، وهكذا الحال في نظير المثال من التراكيب. وقد تقدم توضيح ذلك في التنبيه الثالث من مبحث مفهوم الشرط، فراجع.

نعم، لو لم يدل الكلام على وجود الصلاة مع الطهارة حتى في الجملة بحيث يكون مسكوتاً عنه اتجه سوقه شاهداً لعدم الدلالة على المفهوم.

لكن لا مجال لإنكار دلالته على ذلك.

ص: 611

وبالجملة: وضوح دلالة الاستثناء على ثبوت نقيض الحكم للمستثنى مانع من رفع اليد عنه بمثل هذه الاستعمالات الشائعة وكاشف عن ابتنائها على ما لا ينافيه إجمالاً لو لم يتسن معرفته تفصيلاً.

ومما يوضح ذلك ويؤكده ما اشتهر تبعاً للمرتكزات الاستعمالية من دلالة الاستثناء على الحصر، إذ لا حصر مع كون حكم المستثنى مسكوتاً عنه.

ولاسيما وأنه لا يراد به دلالته على انحصار الحكم بما عدا المستثنى، بل على انحصار نقيضه بالمستثنى المبتني على المفروغية عن ثبوت النقيض له، بل كونه المقصود بالأصل منه، كما يناسبه حسن تأكيده بما يدل على انحصاره به، مثل (وحده) و (لا غير)، إذ انصراف التأكيد إليه شاهد بكونه هو المقصود بالأصل، وأن ذكر حكم المستثنى منه للتمهيد له، فلاحظ.

نعم، الحصر المذكور إنما هو بالإضافة إلى أفراد المستثنى منه دون غيرها، إلا أن يكون الاستثناء منقطعاً، فيدل على الحصر بالإضافة إلى ما يناسبه مما يدخل معه ومع المستثنى منه تحت جامعٍ عرفيٍ واحدٍ، فلو قيل: ما في الدار رجل إلا حمار، كان ظاهره نفي وجود ما يناسب الحمار من غير أفراد الرجل، كالجمل والثور، لأن الظاهر عدم خروج (إلا) فيه عن الاستثناء الذي لا يصح عرفاً إلا بعموم المستثنى منه للمستثنى المستلزم لإرادة الجامع العرفي بينهما، كما ذكرنا.

وما في بعض الكلمات من كون (إلا) فيه بمعنى (لكن) بعيد عن المرتكزات الاستعمالية.

ولازم ما ذكرنا دلالة الاستثناء المفرَّغ - وهو الذي يحذف المستثنى

ص: 612

منه فيه ويختص بالنفي - على الحصر الحقيقي وعموم النفي لجميع ما عدا المستثنى، لأن حذف المتعلق مع عدم القرينة يقتضي الحمل على العموم.

غاية الأمر أنه كثيراً ما يراد به الحصر الإضافي، بلحاظ خصوص جهةٍ ملحوظةٍ للمتكلم يقتضيها سياق الكلام أو غيره من القرائن المحيطية به، والتي لا مجال لضبطها، بل تختلف باختلاف خصوصيات الموارد.

الكلام في (إنما)

ومنها: (إنما) حيث كان المعروف فيها إفادة الحصر، على ما يظهر من تصريح أهل اللغة، بل عن بعضهم أنه لم يظهر مخالف فيه، وعن آخر دعوى إجماع النحاة عليه، كما ذكر في التقريرات أنه المنقول عن أئمة التفسير.

ويقتضيه التبادر، حيث لا إشكال في ظهورها في انحصار المتقدم بالمتأخر.

غاية الأمر أنها - كسائر أدوات الحصر - كثيراً ما تستعمل في الحصر الإضافي بلحاظ خصوص بعض الجهات المقصودة بالنفي مما يقتضيه قرينة حال أو مقال، بل هو المتعين دائماً في حصر الموصوف بالصفة، نحو: إنما زيد شاعر أو تاجر أو عامل، حيث لا يراد به نفي كل صفةٍ أخرى عنه، لما هو المعلوم من عدم خلوه عن كثير من الصفات، كالحياة والتكلم وغيرهما، بل نفي خصوص بعض الصفات مما تقتضيه قرينة السياق، كالعلم أو الشجاعة أو غيرهما.

وذلك لا ينافي دلالتها على الحصر بما هو نسبة خاصة، لأن الفرق بين الحصر الحقيقي والإضافي في طرف النسبة المذكورة لا في أصلها.

ولذا لا يصح الإتيان بها لمحض بيان ثبوت الحكم للموضوع من دون حصر أصلاً.

ص: 613

نعم، الحصر الإضافي محتاج إلى قرينةٍ، وبدونها يتعين الحمل على الحصر الحقيقي.

ما استشكله في التقريرات من دلالتها على الحصر

لكن استشكل في التقريرات في دلالتها على الحصر. قال: «والإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعاً لبعض الكلمات العربية، كما في أداة الشرط وأما النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع...».

وكأن الذي أوجب التباس الحال عليه شيوع استعمالها في الحصر الإضافي، وإلا فتبادر الحصر منها في الجملة مما لا ينبغي أن ينكر، كشيوع استعمالها فيه في عرفنا.

على أنه يكفي إدراكه من استعمالاتها فيه في العصور السابقة، حيث قد يتيسر الإطلاق على معاني الألفاظ المستعملة لهم إذا كان استعمالها كثيراً شائعاً، حيث قد يدرك من مجموعها مفاد اللفظ بنفسه مع قطع النظر عن القرينة.

إنكار الرازي دلالة آية (إنما وليكم الله...) على المفهوم

هذا، وقد أنكر الرازي دلالتها على الحصر في مقام الجواب عن استدلال الإمامية بقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) قال: «لا نسلّم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلِّم أن كلمة (إنما) للحصر. والدليل

ص: 614


1- سورة المائدة: 55

عليه قوله: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء»(1) ولا شك إن الحياة الدنيا لها أمثال أُخرى سوى هذا المثل. وقال: «إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(2)، ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها».

لكن الآيتين الكريمتين لا تنافيان دلالة (إنما) على الحصر.

أما الأولى فلأن وجود أمثال أخر للدنيا إنما ينافي الحصر المذكور لو كان حقيقياً، دون ما لو كان إضافياً - كما هو الظاهر منه - لدفع توهم ابتنائها على البقاء الذي هو مقتضى الاهتمام بها والركون إليها من عامه الناس، فإن ذلك منهم مظهر لغفلتهم عن حالها، فحسن حصرها بالمثل المذكور في الآية لردعهم عن ذلك وتنبيههم لما يخالف مقتضى حالهم وإن كان لها أمثال أُخر.

ولذا حسن الحصر ب (إلا) بنظيره في قول الشاعر:

* وما الدهر إلا منجنونا بأهله *

ومنه يظهر الحال في الآية الثانية، فإن المراد بها الحصر الإضافي أيضاً توهيناً لحالها، وردعاً لمن يرغب فيها ويعتد بها، لكن مع ابتنائه على التغليب - ولو ادعاءً - إغفالاً لما يكسبه أهل البصائر والكمال من الدرجات العالية والتجارة السامية.

ولذا حسن الحصر المذكور ب (إلا) في قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

ص: 615


1- سورة يونس: 24
2- سورة محمد (ص): 36

إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» (1) وقوله سبحانه: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ»(2).

وأما ما ذكره من أن اللهو واللعب قد يحصل في غيرها.

فهو إنما ينافي حصر اللهو واللعب بها، لا حصرها بهما الذي تضمنته الآية الشريفة.

هذا، وقد ذكر بعضهم من أدوات الحصر (بل) على بعض وجوهها التي ذكرها أهل اللغة.

ولا يسعنا تفصيل الكلام في وجوهها وتمييز موارد استعمالها، بل نحيل في ذلك على ما ذكروه.

كما أنه قد تكون هناك بعض الأدوات الأخرى تدل على الحصر بنفسها أو بالقرينة لا مجال لنا لاستقصائها، بل توكل لمباحث اللغة ونظر الفقيه في مقام الرجوع للأدلة.

الكلام في تعريف المسند إليه

ومنها: تعريف المسند إليه باللام، حيث يدل على اختصاصه بالمسند، نحو: العالم زيد، والنجس من الميتة ما كان له نفس سائلة، ونحوهما.

ومحل الكلام ما إذا لم تكن اللام للعهد، وإلا اقتضت انحصار المعهود بالمسند، دون أصل الماهية بلا كلام.

ما استشكله الخراساني قدس سره في دلالته على المفهوم

وقد استشكل في ثبوت المفهوم في المقام بما قد يرجع إليه ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أنه موقوف إما على كون الحمل أولياً ذاتياً، لملازمة التطابق المفهومي للتساوي المصداقي في الخارج أو على كون اللام للاستغراق، أو كون الماهية ملحوظة بنحو الإرسال، حيث يلزمهما

ص: 616


1- سورة الأنعام: 32
2- سورة العنكبوت: 64

اتحاد تمام أفراد الماهية في الخارج بالمسند، المستلزم لمباينتها لما يباينه.

لكن الحمل الأولي خلاف الأصل في القضايا المتعارفة، بل الأصل فيها هو الحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد الخارجي، بل هو المتعين في غالب الموارد، حيث يعلم بعدم التطابق المفهومي بين طرفي الحمل.

كما أن الأصل في اللام أن تكون للجنس، وحملها على الاستغراق محتاج إلى القرينة، كحمل الماهية على الإرسال، بناءً على إمكانهما ذاتاً وقيام القرينة عليهما في بعض الموارد، على ما لعله يأتي الكلام فيه في مبحث المطلق والمقيد.

وعلى ذلك فليس مفاد القضايا المفروضة في محل الكلام إلا حمل المسند على الجنس والماهية وحمل الشيء على الجنس والماهية لا يقتضي اختصاصهما به، ولا يدل عليه.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأنه إن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يجتمع معه في الخارج، فإذا قيل: الكاتب متحرك الأصابع، لم يناف اتصافه بغير ذلك كالأكل والمشي، فهو مسلّم، إلا أنه لا ينافي الحصر المدعى في المقام، إذ ليس المراد به في المقام إلا كون تمام أفراد الماهية مطابقة للمسند، بحيث لا يباينه منها شيء، فإذا قيل: العالم زيد، كان ظاهره اتحاد تمام أفراد العالم مع زيد، وإن أمكن اتحادها مع عنوانٍ آخر يجتمع معه، كالعادل والمتكلم.

وإن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يباينه ولا يجتمع معه في الخارج المستلزم لمباينة بعض أفرادهما للمحمول، فهو

ص: 617

في غاية المنع، إذ لا ريب في ظهور حمل الشيء على الجنس في اتصاف تمام أفراده به ولو بضميمة مقدمات الإطلاق، فإذا قيل: الإنسان أبيض، كان ظاهره اتصاف تمام أفراده بالبياض، وعدم اتصاف بعضها بغيره مما يضاده، فليس فيها أحمر ولا أسود.

وبذلك يتم المدعى، لأنه إذا كان ظاهر قولنا: العالم زيد، كون تمام أفراد العالم متصفاً بأنه زيد لزم عدم عالمية غير زيد من أفراد الإنسان المباينة له، كما لا يخفى.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في الدلالة على الحصر بالوجه المذكور، ولاسيما بعد مطابقته للمرتكزات الاستعمالية.

حديث السيد الحكيم قدس سره

قال سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه تعقيباً على ما ذكره المحقق المذكور: «ظهور قولنا: القائم زيد، في الحصر أقوى من كثير من الظهورات التي بنى عليها المصنف قدس سره وغيره، والرجوع إلى العرف شاهد عليه، وكفى بإجماع البيانيين مؤيداً له، فلا مجال للتأمل فيه.

بل الظاهر من كلام جماعة ممن تعرض للمقام المفروغية عن ثبوت المفهوم، وأن الكلام في وجهه، فالنقض والإبرام إنما يكون فيه، لا في ثبوت المفهوم».

هذا، مضافاً إلى شيءٍ، وهو أن الظاهر من حمل أحد الشيئين على الآخر ليس محض انطباق أحدهما على الآخر، غير المستلزم لاختصاصه به، بل التطابق بينهما، بحيث يكون أحدهما عين الآخر - مفهوماً لو كان الحمل أولياً ذاتياً، وخارجاً لو كان الحمل شايعاً صناعياً - كما هو مفاد (هو هو)، ولازم ذلك اختصاص أحدهما بالآخر وعدم انطباقه على ما يباينه.

ص: 618

وعلى هذا يبتني التعريف بالرسم في مثل قولنا: الإنسان هو الحيوان الضاحك، أو الخفاش هو الطائر الولود، مع وضوح أن الحمل فيه شائع صناعي، ولو لم يكن مقتضى الحمل التطابق لم يصلح الحمل للتحديد، لإمكان كون أحدهما أعم من الآخر مطلقاً أو من وجه.

ولا مجال للنقض على ذلك بالحمل مع تنكير أحدهما، كما في قولنا: الإنسان ماشٍ، وزيد عالم، لأن مفاد النكرة - التي هي أحد الطرفين - ليس نفس الجنس ارتكازاً، كمفاد المعرف باللام، بل ما يعم مفاد الحصة منه، فلا يدل الحمل المذكور، إلا على التطابق بين الإنسان والماشي وبين زيد والعالم في الجملة، ولو بلحاظ التطابق بينهما وبين حصة من كلٍ منهما، ومرجعه إلى مجرد انطباق جنس الماشي على الإنسان، وجنس العالم على زيد، وإن لم يطابقاهما ولم يختصا بهما.

ومثله في ذلك الحكم بالشيء على الموضوع بنسبة أخرى غير نسبة الحمل، حيث يكفي حصوله له وإن لم يختص به نحو قولنا: زيد في الدار، أو جاء، أو: جاء زيد، أو غير ذلك.

وبذلك يتضح عدم الفرق في الدلالة على الحصر بين كون المعرف بلام الجنس مسنداً إليه، الذي هو محل الكلام وكونه مسنداً، كما في قولنا: زيد العالم، والخفاش هو الطائر الولود، وهو المطابق للمرتكزات العرفية الاستعمالية التي هي المعيار في الظهور الحجة.

وأما ما في التقريرات من أن الماهية قد تعتبر على وجه لا يستفاد منها الحصر، سواء كانت موضوعاً، أم محمولاً معرفاً، كما إذا قيل لمن سمع الأسد ولم يشاهد فرداً منه: الأسد هذا، أو: هذا الأسد.

ص: 619

فيندفع: بأن المحمول في الأول والموضوع في الثاني وإن كان هو الفرد المشار إليه بلفظ (هذا) والذي لا تختص به الماهية، إلا أنه مسوق عبرة للماهية على عمومها، كما في قولنا: هذا اسمه أسد.

ومن هنا فالحمل المذكور في الحقيقة أولي ذاتي، أو واجد لملاكه إن لم يكن منه اصطلاحاً.

ولو أُريد به الحمل على الفرد بنفسه لم يصح إلا أن يقال: هذا أسد، أو: أسد هذا، أو: هذا من أفراد الأسد، لما ذكرناه من أن مفاد النكرة ما يعم الفرد من الجنس والماهية، لا نفس الجنس على ما هو عليه.

جريان الكلام فيما يشبه المعرّف باللام

ثم إن ما ذكرنا كما يجري في المعرف باللام يجري فيما يشبهه مما يحكي عن الجنس والماهية في مقام التعريف، كالموصول في قولنا: الذي يجب إكرامه زيد، أو: زيد هو الذي يجب إكرامه. ومثله المضاف إذا أُريد به العهد الجنسي، نحو قول الشاعر:

إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك

نعم، قد لا يراد بالإضافة العهد، بل محض النسبة بين الطرفين، كما هو كثير فيما يقع خبراً نحو قولنا: زيد أخو عمرو أو عدوه أو جاره أو نحوها، حيث لا يراد به إلا أنه أخ له أو عدو أو جار من دون إشارة للجنس، أو لفردٍ معهود.

ولعله خارج عن أصل معنى الإضافة، كما تعرض له بعض البيانيين.

الكلام في تقديم ما حقه التأخير

ومنها: تقديم ما حقه التأخير. فقد ذكر البيانيون أنه يدل على حصر المتأخر بالمتقدم، كتقديم المفعول في قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

ص: 620

نَسْتَعِينُ» (1) .

وقد صرّح في التلخيص وشرحه أن دلالته ليست بالوضع، بل بفحوى الكلام حسبما يدركه منه ذو الذوق السليم.

لكنهم ذكروا - أيضاً - في وجه تقديم المسند وغيره من متعلقات الفعل التي حقها التأخير وجوهاً أخرى، كالتشويق في مثل قول الشاعر:

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

والاهتمام كقولنا: أمير جاءني، وغيرهما.

ومرجع ذلك إلى تبعية الدلالة على التخصيص للمناسبات والقرائن المكتنفة للكلام والتي لا يتيسر لنا ضبطها.

وقد تعرضوا لضوابطها واختلفوا فيها، وقد يبلغ بعضها مرتبة الإشعار، الذي يكفي في البلاغة، دون الظهور الحجة الذي هو المهم في المقام.

كما أن ذلك قد يجري في تقديم ما حقه التقديم، كالمسند إليه، على ما ذكروه.

ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك، بل يوكل تشخيصه للفقيه عند النظر في الأدلة، مستعيناً في فهمها واستظهار المراد منها بما ذكروه، مع تحكيم ذوقه وسليقته.

ص: 621


1- سورة الفاتحة: 4
الفصل الخامس في مفهوم اللقب

قال في التقريرات: «والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام، كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك».

وكأن مراده بأركان الكلام مطلق ما كان طرفاً لنسبةٍ قد تضمنها ولو كان فضلةً من دون خصوصية للمفعول، كالحال والظرف وغيرهما، كما عممه لذلك سيدنا الأعظم قدس سره.

وإليه يرجع ما ذكره في الفصول من أن مفهوم اللقب عبارة عما لا يتناوله الاسم.

ولا يخرج من ذلك إلا ما سبق الكلام في دلالته على المفهوم، كالشرط والوصف.

والظاهر عدم ثبوت المفهوم لذلك بنفسه مع قطع النظر عن القرينة، كما نسبه في التقريرات إلى أهل الحق وجماعة من مخالفينا، قال: «وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه».

ويشهد لما ذكرنا عدم تبادر المفهوم من حاق الكلام وبحسب أصل التركيب مع قطع النظر عن القرينة.

ص: 622

غاية الأمر أنه تقدم في مفهوم الشرط أن أخذ شيءٍ في موضوع الحكم يقتضي تقوم شخص الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه.

وحينئذٍ قد يكون له نحو من المفهوم لخصوصية في الحكم، كما لو أُخذ قيداً في متعلق أمر بدلي، فلو ورد الأمر بعتق رجل، أو السفر للحج ماشياً، أو يوم الجمعة، استفيد عدم أجزاء عتق المرأة، ولا السفر راكباً، ولا في غير يوم الجمعة، ولزم رفع اليد عن الإطلاق المقتضي لأجزاء أحد هذه الأمور لو ثبت.

لكنه ليس لإفادة التقييد الذي هو محل الكلام بل لظهور الأمر بشيءٍ في كونه تعيينياً، كما تقدم توضيحه في مفهوم الوصف. ولذا لا ينافي الأمر بالمطلق بسببٍ آخر.

كما أنه قد يستفاد منه المفهوم وانتفاء سنخ الحكم في غير الموضوع المذكور في القضية، إما للزوم اللغوية بدونه عرفاً، ولا ضابط لذلك.

أو لوروده في مقام التحديد، كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال: قال رجل لعلي بن الحسين: أين يتوضأ الغرباء؟ قال: يتقي شطوط الأنهار والطرق النافذة وتحت الأشجار المثمرة ومواضع اللعن..»(1) لأن ظاهر السؤال طلب تمام ما ينبغي اجتنابه.

هذا، وكثيراً ما يكون أخذ شيءٍ في موضوع الحكم مشعراً بثبوت نقيضه في غيره، فقول القائل في مقام التعريض بشخصٍ: الحمد لله الذي نزهني عن السرقة، مشعر بأن ذلك الشخص قد سرق.

بل قد يبلغ مرتبة الظهور الحجة بضميمة خصوصية حال أو مقال لا

ص: 623


1- الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 1

مجال لضبطها.

وكأن بعض ما تقدم هو الذي أوهم من سبق ثبوت المفهوم للقب، كما يظهر مما أشار إليه في الفصول والتقريرات من استدلالهم.

ص: 624

الفصل السادس مفهوم العدد
اشارة

الظاهر أنه لا مفهوم للعدد بنفسه، كما نسبه في التقريرات لجمعٍ كثير من أصحابنا ومخالفينا، قال: «بل وادعي وفاق أصحابنا فيه. وحكي القول بالإثبات مطلقاً، ولم نعرف قائله».

ويقتضيه ما سبق في اللقب من عدم تبادره من حاق اللفظ، فقوله (ص) في النبوي: «إن الله كره لكم أيتها الأمة أربعاً وعشرين خصلة ونهاكم عنها...»(1) لا دلالة له على عدم كراهة ما زاد عليها.

وقد أشار في الفصول والتقريرات إلى احتجاج القائلين بالمفهوم فيه بوجوه ظاهرة الضعف لا مجال لإطالة الكلام فيها.

نعم، ما سبق في اللقب من الدلالة عليه في خصوص بعض الموارد وإشعاره به في بعضها جارٍ هنا، بل لا يبعد هنا كونه أظهر وأكثر، وخصوصاً التحديد، حيث يكثر سوق العدد له.

بل لا إشكال في ظهور الكلام فيه لو ورد طرفاً للحمل كقولنا: حد الزنا مائة جلدة، لأن مقتضى الحمل الاتحاد والتطابق بين طرفيه. وكذا لو

ص: 625


1- الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 11.

وقع جواباً عن السؤال عن الكم، كبعض الأمثلة الآتية.. إلى غير ذلك من طرق استفادة التحديد.

غاية الأمر أن التحديد..

وجوه التحديد بالعدد

تارةً: يكون لنفي الزيادة والنقيصة معاً، كما هو الأصل عند فقد القرينة، لكن بنحوٍ يقتضي خروج الزائد عن الحد، دون المنع عنه إلا لجهةٍ خارجةٍ، كحرمة المسلم في المثال المتقدم.

وأخرى: لنفي النقيصة دون الزيادة، كما في حديث العيص عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال في التقصير: حده أربعة وعشرون ميلاً»(1).

وثالثة: بالعكس، كحديث حماد: قلت لأبي عبد الله عليه السلام في أدب الصبي والمملوك، فقال: «خمسة أو ستة وارفق»(2).

ولابد في تعيين أحد الأخيرين من قرينة مقالية أو حالية ولو كانت هي المناسبات الارتكازية.

هذه هي المفاهيم المذكورة في كلماتهم بعناوينها الخاصة.

وربما يستفاد المفهوم - الذي هو عبارة عن ثبوت نقيض الحكم المذكور في غير مورده - في بعض الألفاظ والموارد الخاصة من دون أن يدخل تحت عنوان أحدها ولو بضميمة قرينة خارجية.

وحيث لا ضابط لذلك لا يسعنا استقصاء موارده، كما لا مجال لإطالة الكلام فيه، بل يوكل للناظر في الاستعمالات الممارس لها.

ص: 626


1- الوسائل ج 5، باب 1 من أبواب صلاة المسافر، حديث: 14
2- الوسائل ج 18، باب 8 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، حديث: 1

والحمد لله رب العالمين

انتهى الكلام في مباحث المفاهيم صبح السبت، السابع عشر من شهر شعبان المعظم، من السنة الأولى بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية، في النجف الأشرف، على مشرِّفه الصلاة والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

وكان الفراغ من تبييضه - بعد تدريسه - صبح الأحد الثامن عشر من الشهر المذكور بقلم مؤلفه حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 627

ص: 628

المحتويات

ص: 629

ص: 630

الصورة

ص: 631

الصورة

ص: 632

الصورة

ص: 633

الصورة

ص: 634

الصورة

ص: 635

الصورة

ص: 636

الصورة

ص: 637

الصورة

ص: 638

الصورة

ص: 639

الصورة

ص: 640

الصورة

ص: 641

الصورة

ص: 642

الصورة

ص: 643

الصورة

ص: 644

الصورة

ص: 645

الصورة

ص: 646

الصورة

ص: 647

الصورة

ص: 648

الصورة

ص: 649

الصورة

ص: 650

الصورة

ص: 651

الصورة

ص: 652

الصورة

ص: 653

الصورة

ص: 654

الصورة

ص: 655

الصورة

ص: 656

الصورة

ص: 657

الصورة

ص: 658

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه: طباطبایی حکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان و نام پديدآور: المحکم في اصول الفقه/ تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

مشخصات نشر: دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

تعداد المجلدات 6ج

وضعیت فهرست نویسی: فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

يادداشت:این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است

یادداشت:کتابنامه

موضوع:اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/ط2م3 1376

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

المدخل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

المقصد الرابع

في العام والخاص

ص: 7

ص: 8

المقصد الرابع في العام والخاص

اشارة

جرى الأصحاب المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن مباحث المطلق والمقيد.

وكأن مبنى الفرق بينهما عندهم على أن العام ما يفيد الشمول والسريان في الأفراد وضعاً، والمطلق ما يستفاد فيه ذلك من مقدمات الحكمة.

كما قد يظهر من بعض كلمات متقدميهم إطلاق العام على ما يكون حكمه شمولياً، والمطلق على ما يكون حكمه بدلياً.

عدم الفرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد

لكن الظاهر تداخل جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق، كمباحث الجمع بين العام والخاص، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص، وتعقب الاستثناء لجمل متعددة وغيرها، حيث يكون البحث فيها عن العام من حيثية ظهوره في تساوي الأفراد أو الأحوال من حيثية الحكم، الذي لا يفرق فيه بين القسمين.

ولذا كان المناسب تعميم هذا المقصد لكلا القسمين، بجعل موضوعه العموم والخصوص من الحيثية المذكورة، وعقد فصل فيه لبيان منشأ ظهور المطلق في الإطلاق، فإنه أولى مما جروا عليه من البحث في مقصدين

ص: 9

مع تداخل جملةٍ من مباحثهما، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق على السريان لمقدمات الحكمة دون الوضع ليس اتفاقياً، وكذا دلالة بعض ما عد من ألفاظ العموم على ذلك بالوضع، كالنكرة في سياق النفي والنهي، على ما يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

بل لا إشكال في عموم المباحث المذكورة لما إذا استندت الدلالة على العموم لقرائن خارجية خاصة، دون الوضع ومقدمات الحكمة، من دون أن يجعل له عنوان يخصه، بل يطلق عليه عنوان العام عندهم في مقام البحث والاستدلال.

في تعريف العام

ومن هنا كان المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه: «ما دل على سريان الحكم في أفراد متعلقه أو أحواله، بحيث تتساوى فيه» مهما كان منشأ الدلالة.

وكثيراً ما جروا على ذلك في مقام الاستدلال والنظر في النسبة بين الأدلة وبيان حالها، حيث يغفلون منشأ الدلالة على العموم عند إطلاق عنوان العام على الدليل.

نعم، يخرج عن ذلك ما إذا كان الاستيعاب مأخوذاً في مفهوم المتعلق، كالعشرة والشهر في قولنا: أضف عشرة رجال شهراً، لوضوح أن نسبة الأجزاء له حينئذٍ ليست نسبة الفرد أو الحال للمتعلق، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه. ومجرد إمكان قصره عن بعضها بالاستثناء - كالعام بالإضافة للأفراد - لا يوجب عموم مفهوم العام له اصطلاحاً بعد عدم شمول المهم من مباحث العموم والخصوص له.

في تعريف الخاص

أما الخاص فلا يُراد به إلا «ما دل على حكم موافق أو منافٍ لحكم عام

ص: 10

أوسع منه شمولاً» سواءً كان الموضوع فيه جزئياً أم كلياً، كقولنا: لا تكرم زيداً، أو: لا تكرم النحويين، بالإضافة لقولنا: أكرم العالم، أو: كل عالم، أو: أكرم عالماً، فهو عنوان إضافي، حيث لا يصدق على الدليل عنوان الخاص في محل الكلام مع قطع النظر عن عام أوسع منه شمولاً، وبلحاظه يصدق عليه وإن كان هو عاماً في نفسه. وذلك هو المراد بالمقيد، وإن افترقا عندهم بأن الخاص في مقابل العام، والمقيد في مقابل المطلق.

وحيث عرفت عموم العام للمطلق في محل الكلام يتعين عموم الخاص للمقيد. وعلى ذلك جرى كثير من إطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة النسبة بين الأدلة، نظير ما ذكرناه في العام.

هذا، وينبغي الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول..

العام والخاص

ص: 11

ص: 12

الفصل الأول في أقسام العموم

الكلام في أقسام العموم

لا يخفى أن تعلق الحكم بالطبيعة بنحو يشمل جميع أفرادها، إما أن يكون بنحو الانحلال، بأن يرجع إلى أحكام متعددة بعدد أفرادها، لكل منها أثره من إطاعة ومعصية وغيرهما. وإما أن لا يكون كذلك، بل يكون حكماً واحداً متعلقاً بالطبيعة ذات الأفراد.

وهو تارةً: يقتضي الجمع بين الأفراد فعلاً أو تركاً.

وأخرى: يقتضي فرداً واحداً منها بدلاً بنحو يستلزم التخيير بينها عقلاً.

والأول هو العموم الاستغراقي، والثاني المجموعي، والثالث البدلي.

وحيث كان صدق العموم على الجميع وانقسامه لها مبنياً على تعريفه بنحو يشملها كان مبنياً على محض الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

ما ذكره النائيني (قدس سره) فيما عدا العموم البدلي من أقسام العلوم

فلا وقع مع ذلك لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن في عد العموم البدلي من أقسام العموم مسامحة، لمنافاة البدلية للعموم بلحاظ أن متعلق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فرداً واحداً، وإن كانت البدلية عامة. فتأمل.

هذا، وإن عُلِمَ أحد الأقسام بعينه فلا إشكال، وإلا لزم النظر فيما هو

ص: 13

مقتضى الظهور النوعي.

والظاهر عدم الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه، بل الوضع والقرائن العامة والخاصة وافية بتمييز موارده عن مواردهما. ولو فرض الاشتباه بينهما فلا يظهر لنا فعلاً طريق لتعيين أحدهما.

الاشتباه بين العموم الاستغراقي والمجموعي

وإنما الكلام في الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.

وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن الأصل في العموم أن يكون استغراقياً، لاحتياج العموم المجموعي إلى مؤنة زائدة، وهي مؤنة اعتبار الأمور الكثيرة أمراً واحداً، ليحكم عليها بحكم واحد، وهو خلاف الأصل.

ويشكل بعدم وضوح لزوم ملاحظة الأمور المتكثرة أمراً واحداً في العموم المجموعي، بل يكفي لحاظها في أنفسها وجعل حكم واحد لها، بنحو يكون وارداً عليها بتمامها، لا بنحو يكون وارداً على أمر واحد منتزع منها، ليرجع إلى لحاظ الوحدة بينها ويكون خلاف الأصل، في قبال ما إذا جعل لكل منها حكم مستقل به، الذي يكون العموم معه استغراقياً انحلالياً.

وذلك جارٍ في تعاطف المفردات، كما لو قيل: أكرم زيداً وعمراً وبكراً، حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية والارتباطية.

تقريب الأصل في العموم المجموعي

بل الظاهر أن العموم الاستغراقي هو المبني على نحو من العناية، وهي ملاحظة الحكم الذي تضمنته القضية منحلاً إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد، فإن ذلك إن لم يكن خلاف الظهور الأولي فلا أقل من كونه خلاف الأصل.

دفع الأصل المذكور

هذا، وقد يقرب أصالة الانحلال في العموم بأن العموم المجموعي

ص: 14

مستلزم لتقييد حكم كل فرد بإطاعة أحكام بقية الأفراد، وهو خلاف الإطلاق.

لكنه يندفع: بأن إطلاق حكم الفرد بالنحو المقتضي لعدم دخل إطاعة أحكام بقية الأفراد فيه فرع كونه استقلالياً وكون العموم انحلالياً، أما إذا كان ضمنياً لكون العموم مجموعياً فلا إطلاق فيه، ليمنع من البناء على التقييد المذكور، فلا مجال للاستدلال بالإطلاق على الانحلالية. وكذا الحال في تعاطف المفردات.

العمدة في وجه الانحلال

نعم، يتجه الإطلاق في حكم الفرد مع تعدد الجمل، كما في قولنا: أكرم زيداً، وأكرم عمراً، وأكرم بكراً.

فالعمدة في وجه البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف العرف إليه من الإطلاق تبعاً للمرتكزات الاستعمالية، حيث تبتني المجموعية على الارتباطية التي تحتاج عندهم إلى مؤنة بيان.

وقد سبق في آخر الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في حكم النهي لو خولف ما ينفع في المقام. فراجع.

ص: 15

ص: 16

الفصل الثاني في ما يدل على العموم

اشارة

اختلفت كلمات أهل الفن من قدماء ومتأخرين في تحديد ما وضعت له أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على المفاهيم الكلية الذاتية والعرضية، وأنه هل هو المطلق الساري في تمام الأفراد بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازاً، أو ما يعمه والمقيد.

وقد أطال المتأخرون تبعاً لذلك في أقسام الماهية واعتباراتها، واختلفوا في تعداد الأقسام وتحديدها ونسبة بعضها إلى بعض.

والظاهر أن الكلام في ذلك راجع إلى تحديد المصطلحات وتشخيصها، وهو أمر لا يترتب عليه كثير فائدة، بل لا أثر له فيما هو محل الكلام في المقام، ليحسن إطالة الكلام فيه ومحاكمة آرائهم، ولاسيما مع كثرة كلامهم وشدة الخلاف بينهم، كما يظهر بالنظر في كلماتهم في المقام.

ولعل الأولى أن يقال: لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها..

وجوه لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها

تارةً: يرجع إلى لحاظها بنفسها بما لها من حدود مفهومية مقومة لها من دون أن يسري إلى ما في الخارج من أفرادها، فيكون الحكم مقصوراً عليها بما هي كلي ذهني لا يسري إلى ما في الخارج كما في قولنا: الإنسان

ص: 17

نوع، وكما في موارد الحمل الأولي الذاتي الذي يقصد به شرح المفهوم وتحديده، ولعل ذلك هو المراد بالماهية الذهنية.

وأخرى: يرجع إلى لحاظها عبرةً إلى ما في الخارج من أفرادها، بحيث يكون الحكم منصباً على الأفراد الخارجية وجارياً عليها حقيقة. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الخارجية في كلماتهم.

وهي تارةً: تُلحظ بنفسها مع قطع النظر عما هو خارج عنها، فيعبر عنها بالماهية لا بشرط، كما في قولنا: أكرم العالم.

وأخرى: تلحظ مع ما هو خارج عنها مقيدة بوجوده، كما في قولنا: أكرم العالم العادل، ويُعبر عنها بالماهية بشرط شيء، أو بعدمه، كما في قولنا: أكرم العالم غير الفاسق، ويعبر عنها بالماهية بشرط لا.

انقسام الماهية إلى أقسامها بلحاظ تبادل حالات الأمر الواحد

وبهذا يظهر أن انقسام الماهية إلى الأقسام المذكورة من الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ليس كسائر الانقسامات راجعاً إلى تباين الأقسام بخصوصياتها مع رجوع اشتراكها في المقسم إلى تماثل ما به الاشتراك بينها، بل هو راجع إلى تبادل حالات الأمر الواحد، وهو الماهية بحدودها المفهومية المحكية باللفظ التي يختلف لحاظها باختلاف الوجوه المتقدمة، فهو نظير انقسام زيد إلى القائم والقاعد، لا كانقسام الإنسان إلى الرجل والمرأة.

وإن كان قد يظهر من بعض كلماتهم أن التقسيم المذكور ونحوه حقيقي، وأن الأقسام متباينة في أنفسها.

عدم الإشكال في القسم الأول والثاني من أقسام الماهية

والأمر سهل، إذ المهم معرفة الأقسام لا حال التقسيم.

هذا، ولا إشكال ظاهراً في أن استعمال الألفاظ الموضوعة للماهية

ص: 18

في القسم الأول - وهو الماهية الذهنية - حقيقةً، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على العناية التي لابد منها في المجاز، وكذا القسم الثاني، وهو الماهية الخارجية الملحوظة بنحو اللابشرط، لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن الماهية بحدودها المفهومية، وسوقها عبرة للأفراد مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.

الكلام في استعمال الماهية في القسم الثالث هل هو مجازي أم حقيقي

وإنما الإشكال في القسم الثالث، وهو الماهية الخارجية المقيدة بشرط شيء أو بشرط لا، فقد حُكِيَ عن القدماء أن استعمالها فيه مجازي.

وعن السلطان ومن تأخر عنه أنه حقيقي، وهو الأظهر، لقضاء التأمل بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ في حالتي الإطلاق والتقييد، وهو الماهية بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيداً أو الحكاية عن التقييد بدالٍ آخر لا يوجب خروج اللفظ الحاكي عن الماهية عما هو الموضوع له، نظير الإخبار والتوصيف اللذين لا يوجبان خروج اللفظ الدال على الموضوع عن معناه الحقيقي.

وتوهم: أخذ السريان والإطلاق فيها قيداً في الموضوع له، فيكون التقييد مستلزماً للتصرف في الموضوع له ويلزم المجاز.

مدفوع: بقضاء التأمل بأن السريان أمر زائد على المفهوم عرفاً، حيث قد يؤخذ بدالٍ آخر، كأدوات العموم، فلو كان مأخوذاً في مدلول اللفظ كانت الأدوات المذكورة متمحضة في التأكيد، وهو بعيد عن المرتكزات الاستعمالية جداً. مضافاً إلى أن الماهية الذهنية - التي سبق أنَّ الاستعمال فيها حقيقي - لا تقبل السريان. ومن ثم كان الظاهر أن السريان من شؤون الحكم الوارد على الماهية الخارجية، كالتقييد.

ص: 19

كون التقييد مستلزماً لأخذ خصوصية زائدة

ودعوى: أن السريان وإن لم يؤخذ في الموضوع له إلا أن التقييد مستلزم لأخذ أمرٍ زائد على الموضوع له في مدلول اللفظ، وهو الخصوصية المتقومة بالقيد الزائدة على الماهية، فيلزم المجاز.

دفع الدعوة المذكورة

مدفوعة: بأن خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ الموضوع للماهية المقيدة، ليلزم أخذ أمر خارج عن الموضوع له في المستعمل فيه، بل ليس المستعمل فيه إلا الماهية بحدودها المفهومية، والخصوصية مستفادة من دال آخر، وهو التقييد، الذي هو مطَّرد ولا يبتني الاستعمال في مورده على العناية، والذي هو نحو نسبة بين ذات المقيد - وهو الماهية بحدودها المفهومية الموضوع لها اللفظ - والقيد تقتضي قصر الحكم على خصوص ما قارن القيد من الذات.

ولو كان الاستعمال معه مبنياً على الخروج باللفظ عن مدلوله إلى المقيد بما هو مقيد لم يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحيالها ومؤدى بها، بل كانت مسوقة للتأكيد، أو ألفاظاً مهملة لا غرض من الإتيان بها إلا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى اللفظ، من دون أن تفيد معنىً زائداً عليه، والأول خلاف المعلوم من مفاد هيئة التقييد، والثاني غير معهود في الاستعمالات العرفية.

ولا مجال لتنظيرها بقرينة المجاز والمشترك ونحوهما، لأن تلك القرائن ذات مدلول خاص مباين للمعنى المراد من اللفظ، وقرينتها إنما هي بلحاظ ملائمتها له، لا لتمحضها للإشارة لاستعمال اللفظ فيه.

ويتضح ما ذكرنا فيما لو أريد بيان شجاعة زيد تارة: بقولنا زيد رجل. وأخرى: بقولنا: زيد رجل شجاع، حيث لا إشكال ظاهراً في وضوح الفرق

ص: 20

في معنى الرجل بين الوجهين، وابتناء الأول على الخروج به عن معناه، واستعماله في خصوصية الشجاع زائداً عليه، نظير: يا أشباه الرجال ولا رجال، وعدم الخروج به في الثاني عن معناه، وإنما أفيدت الشجاعة بالتقييد زائداً عليه.

الماهية الذهنية والخارجية

وبالجملة: ليس المستعمل فيه عند إرادة الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة إلا الماهية بحدودها المفهومية التي وضع لها اللفظ، وليس مفاد التقييد إلا نسبةً زائدةً على الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ، ليلزم المجاز، غايته أن مفاد النسبة المذكورة قصر الحكم على خصوص واجد القيد من أفراد الماهية، وهو لا يستلزم المجاز، كما هو الحال في سائر النسب، حيث لا تستلزم تبدل المستعمل فيه في أطرافها والخروج بها عن معناها، بل إضافة معنى زائد عليها خارج عن المستعمل فيه.

ثم إن هذا إنما يقتضي عدم المجازية مع التقييد المتصل، ولا ينهض بدفع المجاز مع ثبوت التقييد المنفصل الكاشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع فرض نسبة الحكم للماهية لا بشرط من دون أخذ نسبة التقييد زائداً عليها، ليجري ما تقدم في وجه عدم المجاز.

دعوى أن الموضوع له هو القدر المشترك

وقد حاول غير واحد توجيه عدم المجاز في الاستعمال المذكور، بدعوى: أن الموضوع له هو القدر المشترك بين الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة، الذي قد يعبر عنه باللا بشرط المقسمي.

دفع الدعوى المذكورة

لكن لا يخفى أن القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه، لانحصار الماهية الملحوظة بأحد الوجوه المتقدمة.

ومن ثم قيل: إنه ليس اعتباراً للماهية في قبال الاعتبارات الأخر، بل

ص: 21

هو موجود في ضمنها، فهو جامع انتزاعي بينها، لا جامع حقيقي مفهومي يمكن لحاظه بنفسه بنحو يشملها، فليس مرجع الوضع له إلى تصور الماهية بنحوه حين الوضع وتعيين اللفظ بأزائه، بل إلى الوضع لأقسامه الثلاثة بنحو الترديد، نظير الاشتراك وتعدد الوضع، وهو مما يقطع بعدمه، لما فيه من التكلف.

بل التحقيق ما سبق من كون الموضوع له هو الماهية بما لها من حدود مفهومية قابلة للتحديد والتصور، التي عرفت أنها تقبل اللحاظ على أحد الوجوه المذكورة.

الكلام في تقييد الماهية بالمنفصل

وحينئذٍ يرجع الإشكال مع التقييد المنفصل، لفرض عدم تقييد الماهية عند الحكم عليها، فإن ابتنى ذلك على إرادة المقيد من اللفظ الموضوع للماهية لزم المجاز، للخروج به عما وضع له، وهو الماهية بنفسها الشاملة له ولغيره.

فالظاهر أن الأمر يبتني على أمرٍ آخر، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على الماهية الخارجية بحدودها المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام أفرادها، بحيث لو كان مختصاً ببعض أفرادها لم يصح نسبته إليها إلا مع التقييد المتصل بما يطابق تلك الأفراد - الذي سبق عدم لزوم المجازية - أو استعمال اللفظ في المقيد خروجاً به عما وضع له - المستلزم للمجاز - أو لا؟ بل يكفي في نسبة الحكم لها بما لها من المعنى ثبوته لبعض أفرادها من دون حاجة للتقييد.

الوجه المختار

إذا عرفت هذا، فالظاهر هو الثاني، ومرجعه إلى صحة الاستعمال بنحو القضية المهملة الراجعة إلى ثبوت الحكم للماهية في الجملة بالنحو

ص: 22

المردد بين تمام الأفراد وبعضها، من دون أن يبتني الاستعمال مع ثبوت الحكم للبعض على قصده بنحو التقييد المبتني على أخذ الخصوصية المعينة له، ولا بنتيجته المبتنية على ملاحظته بذاته، بل على ملاحظة الماهية بذاتها ونسبة الحكم إليها في الجملة.

ويشهد بما ذكرنا عدم العناية في الاستعمال المذكور ارتكازاً، الذي يبتني على كثير من القضايا الشايعة بين أهل اللسان، كقولنا: قد رأيت الأسد، وركبت الفرس، وأكلت اللحم، وشربت اللبن، وغيرها، وكما في القضايا المتضمنة للأحكام عند عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات، حيث لا إشكال في عدم ابتناء ذلك على العناية باستعمال اللفظ في المقيد.

كيف وقد لا يحيط المتكلم عند الاستعمال بالخصوصيات والقيود الدخيلة في الحكم ليتسنى له الاستعمال في المقيد بها أو المقارن لها. فلولا صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية بمجرد ثبوته لبعض أفرادها لم تصح الاستعمالات المذكورة.

والفرق بين ما ذكرنا وما سبق من المتأخرين من دعوى الوضع للجامع بين المطلق والمقيد: أن التوسع - على ما ذكروه - في مفهوم اللفظ الدال على الماهية، و - على ما ذكرنا - في مفاد الحمل والحكم على الماهية.

ولعل ارتكازية صحة الاستعمال المذكور وعدم مجازيته هو الذي أوهم سعة ما وضع له لفظ الماهية بالنحو المتقدم، الذي ذكرنا عدم إمكان الالتزام به، وأنه يتعين توجيه هذا الاستعمال بما سبق.

نعم، لا يتعين ما ذكرنا في التقييد المنفصل، بل كما يمكن ذلك فيه، يمكن أن يبتني على قيام قرينة متصلة حالية أو مقالية على التقييد وإن خفيت،

ص: 23

أو على استعمال المطلق في المقيد مجازاً، كما سبق من القدماء. لأنه بعد أن فرض انعقاد الظهور في العموم والإطلاق تكون جميع الوجوه المذكورة مخالفة للأصل، فلابد في تعيين أحدها من معين.

ولعله يتضح بعض الكلام في ذلك عند الكلام في الجمع بين العام والخاص.

كما أن ما ذكرنا من صحة إرادة المهملة إنما يتجه في القضية الموجبة ونحوها، أما السالبة ونحوها فلا إشكال في عدم صحتها مع الإهمال وتوقفها على استيعاب السلب لتمام الأفراد فلابد من أحد الوجهين الآخرين أو نحوهما لو ثبت الخصوص.

وتمام الكلام في ذلك عند الكلام في مفاد النكرة في سياق النفي والنهي إن شاء الله تعالى.

وجوه الحمل على الماهية

ثم إن ما ذكرنا من صحة الحمل على الماهية..

تارة: بنحو الإطلاق.

وأخرى: بنحو التقييد المتصل، وأن الأول يكفي فيه ثبوت الحكم في الجملة بنحو الإهمال الذي يناسب التقييد المنفصل، يجري نظيره في النسبة التي إليها يرجع العموم الأحوالي، فنسبة الحكم للموضوع قد تبتني على ثبوته له في خصوص حال يستفاد من تقييده بشرط أو غاية أو غيرهما من القيود المتصلة، كما قد تبتني على ثبوته له في الجملة بنحو الإهمال الذي يجتمع مع ثبوته له دائماً، وثبوته له في خصوص حال، وعلى الثاني قد يبتني التقييد المنفصل، من دون أن يخرج في شيء منها عن مفاد النسبة وضعاً.

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن مفاد الوضع في المفردات

ص: 24

والهيئات مع عدم التقييد ليس إلا ثبوت الحكم للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة بالإضافة إلى الأفراد والأحوال.

ومن هنا لابد من الكلام في ما يدل على العموم وضعاً أو عقلاً أو بقرائن عامة، ليترتب عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام، وله عقدنا هذا الفصل. ويكون ذلك في ضمن مباحث..

ص: 25

المبحث الأول

المبحث الأول: في ألفاظ العموم

لا إشكال في دلالة بعض الأدوات على العموم الأفرادي أو الأحوالي وضعاً، مثل: (كل) و (جميع) و (أي) في مثل: أكرم كل رجل، أو جميع الرجال، أو أي رجل، ودائماً في مثل: الخمر نجسة دائماً، ونحوها، لأن ذلك هو المتبادر منها.

ومعه لا مجال لما حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم والخصوص، أو اختصاصها بالخصوص.

كما لا مجال لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في كتاب المعالم وغيره.

القول في تمامية الدلالة على العموم بضميمة مقدمات الحكمة

هذا، ويظهر من غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم لتمام أفراد الماهية الداخلة عليها، حيث لا إشكال في عدم دلالتها على العموم لها مع تقييدها، ففي مثل: أكرم كل عالمٍ عادلٍ لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم، بل لخصوص أفراد العادل منه، ومرجع ذلك إلى أن مفاد الأداة هو عموم الحكم لأفراد ما يراد من مدخولها مطلقاً كان أو مقيداً، فلابد في استفادة العموم منه لتمام أفراد المدخول من إحراز كون المراد به الماهية المطلقة المرسلة، وهو إنما يكون بضميمة مقدمات الحكمة، ومع عدم تماميتها لا مجال لإحراز العموم لتمام أفرادها من الأداة.

ص: 26

المناقشة في القول المذكور

لكنه يبتني على كون اللفظ الدال على الماهية موضوعاً للقدر المشترك بين المطلقة المرسلة والمقيدة، حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى إلى قرينة الحكمة.

وقد سبق ضعفه، وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية، والتقييد نسبة زائدة عليها، غاية الأمر أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضي بنفسه استيعاب أفرادها به، بل يكفي ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة، فمع فرض دلالة الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد ما أريد من مدخولها - وهو الماهية بحدودها المفهومية - يتعين خروجها عن الإهمال، والبناء على العموم لتمام الأفراد بلا حاجة لمقدمات الحكمة.

ولا ينافي ذلك قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل، واختصاصه بأفراد المقيد، لأن نسبة التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي قصر العموم عليها، ومع عدمه لابد من سعة العموم.

نعم، لو احتمل التقييد المتصل بقرينة حالية أو مقالية قد اختفت علينا فاستفادة العموم لتمام الأفراد تبتني على أصالة عدم القرينة، وهي مباينة لمقدمات الحكمة مفاداً ومورداً، كما هو ظاهر.

أما لو لم يحتمل التقييد المتصل فأداة العموم بنفسها تقتضي سعته لتمام أفراد المدخول وضعاً، من دون ضميمة مقدمات الحكمة، وإلا خرجت أدوات العموم في إفادته عن التأسيس، للتأكيد، إذ مع عدم تمامية المقدمات المذكورة لا تصلح لإفادة العموم لأفراد المدخول، بسبب احتمال إرادة المقيد منه، ومع تماميتها تستند إفادة العموم لها، غاية الأمر أنها قد تنفع في تبدل نحو العموم من البدلية للاستغراقية أو المجموعية، كما

ص: 27

لو كان مدخولها نكرة.

وهو كما ترى بعيد عن المرتكزات الاستعمالية، لقضاء التأمل فيها بإفادة الأدوات أصل العموم تأسيساً، لا تأكيداً. ومعها لا تتم مقدمات الحكمة، لأن منها عدم البيان. فلاحظ.

العموم الأفرادي والأحوالي

ص: 28

المبحث الثاني

المبحث الثاني: في دلالة النكرة في سياق النفي على العموم
اشارة

لا إشكال في دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم، لأن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها كما يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهي إلا بانتفاء تمام الأفراد.

ومن ثَمَّ كانت الدلالة على العموم في ذلك عقلية متفرعة على دلالة اللفظ على الماهية ذات الوجود الواسع بما لها من حدود مفهومية.

وبذلك ظهر عدم اختصاص ذلك بالنكرة، بل يجري في كل ما يدل على الماهية إذا وقع في سياق النفي والنهي.

وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في الفصل الخامس من مقصد الأوامر والنواهي عند الكلام في الفرق بين الأمر والنهي في مقام الامتثال.

استشكال النائيني (قدس سره) في دلالة مطلق الماهية على العموم إذا وقعت في سياق النفي

هذا، وقد استشكل في ذلك بعض المحققين (رحمه الله)، قال في أوائل مبحث النهي: «لا يخفى عليك أن الطبيعة توجد بوجودات متعددة، ولكل وجود عدم هو بديله ونقيضه، فقد يلاحظ الوجود مضافاً إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها، فيقابله إضافة العدم إلى مثلها، ونتيجة المهملة جزئية، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها. وقد يلاحظ الوجود مضافاً إلى الطبيعة بنحو الكثرة، فلكل وجود منها عدم هو بديله، فهناك وجودات وأعدام، وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة،

ص: 29

أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذ عنه وجود، فيقابله عدم مثله، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثرة، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم... فما اشتهر من أن تحقق الطبيعة بتحقق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل له، حيث لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها».

دفع الإشكال المذكور

لكنه كما ترى! لأنه إذا كان وجود الطبيعة المهملة بوجود بعض الأفراد وعدمها بعدم بعضها لزم اجتماع الوجود والعدم المضافين لها بوجود بعض الأفراد دون بعض، وإذا كان وجود الطبيعة بنحو الكثرة - الراجعة إلى ملاحظة كل فرد فرد بنحو العموم الانحلالي - أو بنحو السعة - الراجعة إلى ملاحظة مجموع الأفراد شيئاً واحداً بنحو الارتباطية والمجموعية - بوجود تمام الأفراد وعدمها بأحد النحوين بعدم كل منها، لزم ارتفاع الوجود والعدم المضافين لها بأحد النحوين المذكورين، بوجود بعض الأفراد دون بعض.

ولازم ذلك عدم التناقض بين الوجود والعدم مع وحدة موضوعهما، لإمكان اجتماعهما في الأول، وارتفاعهما في الأخيرين، مع أن التناقض بينهما من أول البديهيات.

ومن ثَمَّ كانت الطبيعة المهملة المفروض وجودها بوجود فردٍ واحدٍ لا تنعدم إلا بعدم جميع الأفراد، ولذا كان نقيض المهملة - التي هي في قوة الجزئية - سالبة كلية. كما أن الطبيعة الملحوظة بنحو الكثرة والتي توجد بوجود تمام أفرادها تنعدم بعدم بعض أفرادها. ولذا كان (ليس كل) سوراً للسالبة الجزئية.

وكذا الملحوظة بنحو السعة في الوجود التي يتحد وجودها مع وجود

ص: 30

تمام أفرادها بنحو المجموعية والارتباطية، لوضوح أنه يكفي في صدق نقيض الكل أو المقيد عدم جزئه أو قيده.

الذي ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: الوجود والعدم عارضان حقيقة على الفرد، دون الماهية، بل هي أمر اعتباري انتزاعي لا يصح نسبة الوجود له إلا اعتباراً بلحاظ وجود أفراده، إلا أن سعة مفهومها بنحو تنطبق على تمام الأفراد - على ما هي عليه من الاعتبار والانتزاع - مستلزم لصحة نسبة الوجود إليها بوجود فرد واحد، وتوقف نسبة العدم إليها على عدم تمام الأفراد، وتقابل وجود كل فرد إنما يكون مع عدمه إذا نسب الوجود والعدم للفرد، دون ما إذا نسب للماهية المنطبقة على كل فردٍ فرد، لما ذكرنا.

هذا، وقد سبق أن الإهمال في القضية ليس لسعة مفهوم اللفظ الدال على الماهية، بل ليس الموضوع له اللفظ إلا الماهية بحدودها المفهومية، وليس الإهمال إلا من شؤون النسبة، حيث يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها، أما سلبه فيتوقف على عدم ثبوته لشيءٍ من أفرادها، كما سبق.

ثم إن لازم ما ذكره عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم إلا مع إحراز كون المراد بها الماهية غير المهملة، بل المطلقة السارية في تمام الأفراد بأحد النحوين الأخيرين المذكورين في كلامه. ولذا التزم بتوقف دلالتها على العموم على تمامية مقدمات الحكمة فيها.

وهو الذي ذكره غيره أيضاًً، لا لاحتمال صدق السلب على الماهية ببعض أنحائها بعدم بعض أفرادها، كما سبق منه (قدس سره)، بل للبناء منهم على أن الموضوع له هو القدر المشترك بين المطلق والمقيد، ووقوع المقيدة في

ص: 31

سياق النفي والنهي لا يقتضي العموم إلا لأفرادها، فاستفادة العموم لتمام أفراد المدخول موقوف على كون المراد به المطلقة الذي يحرز بالمقدمات المذكورة.

وأما ما ذكره بعضهم من أن النفي قرينة عند العرف على إرادة الشياع بلا حاجةٍ إلى مقدمات الحكمة.

فغير ظاهر، إذ لم يتضح وجه خصوصية النفي في ذلك لأنه كسائر النسب الطارئة على الموضوع لا تقتضي بيان المراد منه زائداً على مدلوله اللفظي، وأنه قد لحظ بنحو السريان والشياع.

فالعمدة في وجه الاستغناء عن المقدمات المذكورة ما تقدم منا من عدم الوضع للقدر المشترك بين المطلق والمقيد، بل ليس الموضوع له إلا الماهية بحدودها المفهومية، التي ذكرنا أن لازم سعة وجودها بتكثر أفرادها هو صدق الوجود عليها بوجود بعضها، وتوقف عدمها على عدم تمام الأفراد.

كما ذكرنا آنفاً أنه يكفي في إثبات الحكم لها ثبوته لبعض أفرادها، ولا يصح سلبه عنها إلا بعدم ثبوته لشيء من أفرادها.

نعم، لو شك في العموم الأحوالي الراجع للشك في إطلاق النسبة نفسها فالظاهر عدم جريان ما تقدم، لعدم الفرق بين النسبة الإيجابية والسلبية في الصلوح للإهمال، فمع عدم إحراز إطلاقها من مقدمات الحكمة أو نحوها يتعين التوقف، وعدم البناء على العموم الأحوالي. فتأمل جيداً.

ص: 32

تنبيه: في مفاد النكرة وأقسام
تنبيه:

ذكر غير واحد أن مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد.

لكن الظاهر أنه يختلف - مع قطع النظر عن خصوصية النسبة - باختلاف أقسامها، فهي..

تارةً: تدل على الماهية بنفسها مع قطع النظر عن القلة والكثرة، فتنطبق على الكثير بعين انطباقها على القليل، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد المشتقات. ولذا تقدم أن الأمر لا يدل على المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس الإفرادي، كماء وتراب وحنطة.

وأخرى: تدل على الماهية المتشخصة بواحد. كالمصدر الذي على وزن فعلة، ومثل رجل وامرأة وثوب، وما يقترن بالتاء مما يفرق بينه وبين واحده بها، كشجرةٍ، وثمرةٍ، وحبةٍ وتمرةٍ، وما يتجرد عنها من عكسه ككمء.

وثالثةً: تدل على الماهية المتكثرة، وهو اسم الجنس الجمعي، كالمجرد عن التاء مما يفرّق بينه وبين واحدِهِ بها، كشجر وثمر، وحب، وتمر، والمقترن بها من عكسه، ككمأة، بناءً على أنه ليس جمعاً، بل اسم جنس.

هذا، وربما يجمع بين ما ذكرنا وما ذكروه من إطلاق دلالة النكرة على الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد بأن مرادهم بما ذكروه دلالة النكرة على الفرد المردد بالنحو المدلول للنكرة المأخوذ فيها من إطلاق أو تقييد بالوحدة أو التكثر، فمثل شجر وإن كان يدل على أشجار كثيرة، إلا أنه يدل على فرد واحد شايع في أفراد الشجر الكثير، كما يدل لفظ شجرة على فرد شايع في أفراد الشجرة الواحدة ويدل لفظ حنطة على فرد شايع في أفراد

ص: 33

الحنطة الصادقة على القليل والكثير، فأخذ الكثرة في القسم الثالث لا تنافي دلالة النكرة على الفرد الواحد، والذي تكون الكثرة مقومة لفرديته.

وجه دلالة النكرة في سياق النفي على العموم بلحاظ أقسامها

إذا عرفت هذا، فلا يخفى أن ما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم من توقف انتفاء الطبيعة على انتفاء تمام أفرادها كما يجري في القسم الأول يجري في القسم الثاني، لأن انتفاء المتشخص بالواحد لا يكون مع وجود الأفراد المتكثرة، وكما ينافيه انحصار الوجود بالواحد ينافيه وجود المتكثر.

نعم، لو كان مفاد نفيها انتفاء التشخص بالواحد وانتفاء وحدة التشخص لم يناف التشخص بالمتكثر. لكن من المعلوم أن مفاد النكرة ليس هو التشخص بالواحد ووحدة التشخص، الذي لا يصدق مع التكثر، بل المتشخص بالواحد الذي يصدق معه، فلا يصح نفيه إلا مع نفيه.

وأما مثل: لا رجل في الدار بل رجلان، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود المنفي بالانفراد بقرينة الاستدراك، ولولاه يكون المفهوم نفي الرجل مطلقاً ولو مع الكثرة، فكأنه قيل: لا رجل فقط في الدار بل رجلان، نظير قولنا: ليس بعض العلماء في الدار بل كلهم، وليس زيد في الدار، بل الزيدان معاً.

وإليه يرجع ما ذكره بعض النحويين من أن (لا) قد ترد لنفي الوحدة، لا لنفي الجنس، وإلا فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائماً لنفي الجنس.

وأما الثالث فقد يشكل جريان ما تقدم فيه، لعدم توقف انتفاء الطبيعة المتكثرة على انتفاء الفرد الواحد أو الفردين، فيلزم عدم دلالة وقوع هذا

ص: 34

القسم في سياق النفي والنهي على انتفاء الطبيعة رأساً، بل على انتفاء المتكثر منها.

إباء المرتكزات الاستعمالية عن عدم دلالة النكرة على الانتفاء رأساً

لكن الرجوع للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك، فمثل: لا شجر في الدار، ولا ثمر في الشجرة، ولا بقر في المرعى، يدل على انتفاء الماهية رأساً، كما عن بعض النحويين التنبيه على ذلك.

وليس هو كنفي الجمع أو المثنى، حيث لا يدل قولنا: ليس في الدار شجرتان، أو أشجار، على انتفاء الشجرة الواحدة في الأول، والشجرتين في الثاني.

وجه الإباء المذكور

ولعله ناشئ عن شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهي في نفي الطبيعة فأوجب الانصراف إلى ذلك وفهمه عرفاً منه حتى في هذا القسم، وإن لم يقتضه الجمود على المعنى اللغوي له.

كما ربما يبتني على أن استعمال هذا القسم في خصوص المتكثر ليس لأخذ التكثر قيداً في مفهومه لغة، بل هو موضوع لغة للطبيعة بما هي كالقسم الأول، وإن كان ينصرف إلى المتكثر بسبب كثرة الاستعمال فيه عرفاً، كما احتمله أو جزم به بعض النحويين.

ولذا يتجرد عن قيد التكثر عند دخول لام الجنس عليه، ويراد به الطبيعة من حيث هي، كما في مثل قولنا: الشجر نبت له ساق مرتفع وأغصان متكثرة، وقولنا: رأيت الشجر، وأكلت التمر والثمر، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهي يستعمل في معناه ومدلوله اللغوي المذكور، الذي لا يكون انتفاؤه إلا بانتفاء تمام الأفراد.

ولعل الأول أقرب ارتكازاً.

ص: 35

اختلاف النكرة باختلاف ما يراد منها

هذا، ومن الظاهر اختلاف مفاد النكرة، حيث يراد بها..

تارة: الكلي القابل ثبوتاً للانطباق على كل فردٍ فرد من دون تعيين، كما في قولنا: أكرم رجلاً. ولك عليَّ درهم.

وأخرى: الفرد المعين ثبوتاً المردد إثباتاً بين أفراد، كما في قولنا: أكرمت رجلاً، أو: يدخل الدار غداً رجل.

والظاهر أن الاختلاف ليس في مفاد النكرة وضعاً، لبعد الاشتراك جداً، بل هي موضوعة للأول: وهو الكلي القابل للانطباق على كل فرد من دون تعين له ثبوتاً، لأن ذلك هو المتبادر منها مع قطع النظر عن خصوصيات النسب، ولبعد الاشتراك جداً.

والتعيين ثبوتاً في الثاني ناشئ عن خصوصية النسبة، لأن النسبة الخبرية قد يتعين مطابقها ثبوتاً، وإن كان قد لا يتعين، كما لو كان الحاصل في الخارج أكثر من فرد واحد، حيث لا يتعين فرد بعينه لمطابقة النسبة الخبرية حتى ثبوتاً، لعدم المرجح.

أما النسبة الطلبية ونسبة التمليك الواردة على الكلي فهما لا يتعلقان إلا بالكلي على ما هو عليه من الشياع والسريان، وليس التشخص والتعين إلا من لوازم تحقيق مقتضاها في مقام الامتثال أو الوفاء المتأخرين عن مقام الخطاب والجعل رتبة، ولذا لا تعين لو فُرض عدم الوفاء أو الامتثال.

الكلام في شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضي العموم المجموعي أو الاستغراقي

ثم إن الظاهر عدم الإشكال في أن شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضي العموم المجموعي أو الاستغراقي لأفراد الطبيعة في مثل الأوامر مما يقتضي إيجاد المتعلق، بل غايته العموم البدلي، إذ بعد ما سبق من تحقق الطبيعة بتحقق فرد واحد يتعين موافقة الحكم به.

ص: 36

نعم، استفادة سعته لتمام الأفراد، بحيث يجزئ أي منها تتوقف على قرينة خارجية، ولو كانت هي مقدمات الحكمة، لإمكان نسبة الحكم للطبيعة بنحو الإهمال، نظير ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس.

لكن القرينة المذكورة إنما تقتضي السعة للطبيعة على النحو الذي تضمنه الكلام من إطلاق أو تقييد، فمع تقييدها بمتصل لا تقتضي القرينة المفروضة سعته لغير المقيد.

النكرة في سياق النفي والنهي
مفاد النكرة
مفاد النكرة
مفاد النكرة

ص: 37

المبحث الثالث

المبحث الثالث: في دلالة التعريف على العموم في الجملة

لا إشكال في دلالة اللام على التعريف في الجملة، وإنما الإشكال في اختصاصها به أو دلالتها على غيره، وفي سنخ التعريف الذي تدل عليه.

وقد ذكر غير واحد أنها تدل..

وجه دلالة اللام على العموم

تارةً: على التعريف العهدي، الذي يراد به الإشارة لفرد معهود بسبب تقدم ذكره، وهو العهد الذكري، نحو قوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (1)، أو أنس الذهن به وهو العهد الذهني، نحو قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا(2).

وأخرى: على الاستغراق لتمام أفراد المدخول نحو قوله تعالى:

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا...(3).

وثالثةً: لتعريف الجنس نحو: الرجل خير من المرأة، و: أكلت الخبز، وشربت الماء، ورأيت الأسد، حيث لا عهد.

ورابعةً: للتزيين أو لِلَمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ، كما في الأعلام الشخصية (كالحسن) و (الحسين) و (الفضل).

ص: 38


1- سورة المزمل: 15، 16.
2- سورة القصص: 15.
3- سورة العصر: 1، 2، 3.
شهادة المرتكزات الاستعمالية بعدم خروج اللام في جميع وجوهها عن التعريف

هذا، والظاهر بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في الجميع عن التعريف، وحقيقته الإشارة لما أريد من المدخول بما أنه متعين ذهناً وحاضر عند العقل. لكن لا على أن يكون الوجود الذهني هو تمام المراد من المعرّف، أو جزءاً منه، كما قد توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام التعريف، ليمتنع كون المعرف طرفاً للنسبة ذات المطابق الخارجي، لعدم انطباق الوجود الذهني على ما في الخارج، إلا بالتجريد والعناية اللذين لا مجال للبناء عليهما في الاستعمالات العرفية الشائعة.

بل على أن يكون مقارناً للاستعمال مع كون المراد نفس المفهوم - في التعريف الجنسي - أو الفرد - في التعريف العهدي - المفروض حضوره ذهناً.

فطرف النسبة هو المفهوم أو الفرد بنفسه من دون دخل لحضوره ذهناً حتى بنحو التقييد، من دون أن يلزم التجريد أو العناية. وليس حضوره ذهناً المستفاد من اللام إلا مقارناً للاستعمال.

فالتعريف نظير الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في طرفيته للنسبة بوجه.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) في وجه كون التعريف الجنسي لفظياً ودفعه

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في وجه كون التعريف الجنسي في علم الجنس ولامه لفظياً من استلزام كونه حقيقياً تعذر حمل المعرف على الأفراد، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في الخارج، على ما أوضحناه في تعقيب كلامه وشرحه. فراجع.

ثم إن تمحض اللام في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف مفاد الكلام في ما سبق ذكره من الأقسام لاختلاف خصوصيات

ص: 39

الموارد.

فحيث يكون هناك ما يقتضي تعيّن فرد بخصوصيته من تقدم ذكره أو أُنس الذهن به ينصرف التعريف للماهية من حيثية تشخصها في الفرد المذكور، فيشار بها إليه من حيثية تعينه ذهناً، دون بقية الأفراد، ويكون التعريف عهدياً.

ومع عدمه ينصرف التعريف للماهية والمفهوم بنفسه، لأنه هو مدلول المدخول المتعين ذهناً، من دون صارف عنه، فيكون التعريف جنسياً، ويراد بالمدخول مفهومه من حيثية تعينه ذهناً.

دعوى: تعين المفهوم مع العلم ذهناً

ودعوى: أن مفهومه مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهناً بلا حاجة إلى اللام، ومع الجهل به لا تصلح اللام لتعيينه، فلابد من كون التعريف صورياً لفظياً، لا حقيقياً معنوياً، بخلاف التعريف العهدي، حيث تكون فائدة اللام رفع الشياع في الفرد الحاصل لولا اللام، وتعينه بالفرد المعهود، فيكون تعريفاً حقيقياً معنوياً.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن فائدة اللام ليست هي التعيين ذهناً بل الإشارة للمتعين بما هو متعين، مع استناد التعين الذهني لغيرها، فهي تقتضي التنبيه لتعين المراد ذهناً، من دون فرق بين الفرد الذي يكون تعريفه عهدياً، والمفهوم الذي يكون تعريفه جنسياً، وإنما يقتضي التعريف العهدي رفع الشياع وانحصار المراد بالفرد المعهود لأن المدخول بنفسه لا يصلح لتعيين الفرد، وإنما يصلح لبيان إرادة الفرد الشايع في الأفراد المردد بينها، فمع اقتضاء اللام التنبيه على تعيين المراد وفرض انحصار التعين في الذهن بالفرد الخاص يتعين انصراف المراد إليه واختصاصه به، فيرتفع الشياع والتردد فيه.

ص: 40

أما مع عدم تعين فرد خاص في الذهن وتساوي الأفراد فيه ولزوم كون التعريف والتعيين المفروض من مفاد اللام للمفهوم نفسه، فحيث لا شياع في المفهوم بنفسه يتعين عدم استفادة رفع الشياع، لعدم الموضوع له، من دون أن ينافي إفادتها التعريف الذي هو عبارة عن الإشارة لتعين المراد ومعهوديته في الذهن، ولا ملزم بكون التعريف حينئذٍ لفظياً صورياً.

ولذا كان دخول اللام في مثل ذلك موجباً لفهم عدم إرادة الفرد الشائع بين الأفراد، كما يكون هو المراد مع التجرد عنها، بل الماهية والمفهوم بنفسه، لأنه هو المتعين دون الفرد المفروض عدم تعينه، ولو كانت اللام في ذلك منسلخة عن التعيين والتعريف الحقيقي لم يكن وجه لاختلاف مفاد النكرة عن مفاد اللام في مثل ذلك.

ما ذكره بعضهم من عدم الفرق بين المدخول المعرّف وغيره ودفعه

وأما ما ذكره بعضهم من أن المدخول في مثل قولنا: ادخل السوق، واشتر اللحم، مع عدم العهد في معنى قولنا: أدخل سوقاً واشتر لحماً.

فهو مخالف للوجدان، لأن المستفاد مع التنكير نسبة الحكم رأساً للفرد الواحد الشايع في الأفراد والمردد بينها، وإن أمكن ثبوته لما زاد عليه، والمستفاد مع التعريف باللام نسبته رأساً للجنس، وثبوته للفرد بتبعه، لعدم صحة نسبة الحكم المذكور للماهية إلا بلحاظ ثبوته لأفرادها.

ولذا لا نظر فيه لكمية الأفراد، لأن ثبوت الحكم للماهية يصح بلحاظ ثبوته لأفرادها في الجملة.

وبالجملة: وضوح الفرق ارتكازاً - مع عدم العهد - بين المعرف باللام والمجرد عنها مانع من البناء على كون التعريف صورياً لفظياً.

ومجرد عدم إفادة اللام رفع الشياع والترديد لا يستلزم ذلك، لعدم

ص: 41

تقوم التعريف برفع الشياع، بل بالإشارة للمتعين ذهناً بما هو متعين، ورفع الشياع إنما يستلزمه في تعريف الفرد القابل له، دون المفهوم الكلي غير القابل له.

عدم اختلاف مؤدى اللام العهدية والجنسية

وبذلك يظهر أن مؤدى اللام العهدية والجنسية واحد، وأن خصوصية العهد تابعة لخصوصية المورد، لا لاختلاف مؤدى اللام.

عدم قبول الحكم للعموم والخصوص إذا كان مقصوراً على ذاتها وذاتياتها

ثم إن اللام حيث تكون للجنس مع عدم العهد، ويكون طرف النسبة هو الجنس والماهية، فإن كان الحكم من شؤون الماهية بحدودها المفهومية مقصوراً على ذاتها وذاتياتها من دون نظر للخارج لم يقبل العموم ولا الخصوص، كما في القضايا الذهنية، مثل: الإنسان نوع، أو الواردة للتحديد، مثل: الإنسان حيوان ناطق.

قبول الحكم للعموم والخصوص إذا كان من شؤون الماهية الخارجية

وإن كان من شؤون الماهية الخارجية، لكونه لاحقاً للأفراد، فهو يقبل العموم والخصوص، وحيث تقدم أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها، فليس مفاده إلا قضية مهملة، ولا يستفاد عمومها إلا بقرينة عامة، كمقدمات الحكمة، أو خاصة، كالاستثناء الذي هو فرع العموم. وإليه ترجع اللام الاستغراقية المتقدمة في كلماتهم.

وليس العموم معه مستفاداً من نفس اللام، بحيث يكون مؤدى لها في مقابل التعريف، وتكون في قبال الجنسية قسيمةً لها، لاستبعاد الاشتراك في الأدوات، وعدم الفرق في معنى اللام ارتكازاً.

وقد يشهد بما ذكرنا من استناد استفادة العموم للاستثناء أنه لو تعذر العموم الحقيقي في مورده يستفاد العموم الإضافي بالنحو المناسب له، ففي مثل: أكلت اللحم إلا لحم البقر أو: إلا اللحم المشوي حيث يعلم بعدم

ص: 42

إرادة العموم الحقيقي بلحاظ تمام أفراد اللحم يتعين الحمل على العموم الإضافي بلحاظ أنواعه في الأول، لتقوم المستثنى بالنوع، وبلحاظ حالاته في الثاني، لتقوم المستثنى بالحال.

ولو كانت الدلالة على العموم مستندة للام لزم إما البناء على أن اللام للاستغراق التام إلا فيما علم بخروجه، أو أنها جنسية ليست للاستغراق مع التسامح والتوسع في نسبة الاستثناء بجعل متعلقها القضية المهملة التي لا عموم فيها. فلاحظ.

نعم، لا يبعد ظهور تعريف المبتدأ أو ما هو بمنزلته - كاسم كان - في عموم الحكم لتمام الأفراد، بخلاف تعريف غيره من أطراف النسب كالفاعل والمفعول به ونحوهما.

ولذا نجد الفرق الواضح بين قولنا: أكلت اللحم، وقولنا: اللحم مأكول، حيث يتعين حمل الثاني على العموم وإرادة القابلية للأكل، دون القضية المهملة وإرادة فعلية الأكل، كما في الأول. ومنه مثل قولنا: الرجل خير من المرأة، والعالم خير من الجاهل. حيث يُراد به أن كل رجل خير من المرأة، وكل عالم خير من الجاهل، لكن لا من جميع الجهات، بل من حيثية الرجولة والأنوثة، والعلم والجهل، لا أن الرجل والعالم خير من المرأة والجاهل في الجملة لا بنحو العموم. ولذا كان من الواضح التنافي عرفاً بينهما وبين القضيتين المتضمنتين لعكس التفضيل المذكور فيهما، وهما قولنا: المرأة خير من الرجل، والجاهل خير من العالم.

ومن هنا كان على من يرى وجود لام الاستغراق عدّ اللام في ذلك منها، لا جنسية. لكن ربما يكون ذلك لخصوصية في هيئة الجملة، لا

ص: 43

لخصوصية في اللام.

كما ربما يكون مستنداً لمقدمات الحكمة على ما قد يتضح عند الكلام فيها وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.

تمحض اللام في التعريف الجنسي

وبالجملة: الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية عدم دلالة اللام بنفسها وضعاً على الاستغراق، بل هي في مورده متمحضة في التعريف الجنسي، والاستغراق مستفاد من خصوصيات الموارد المختلفة.

كما أن الظاهر رجوع لام التزيين في الأعلام الشخصية إلى لام العهد التي هي لتعريف الفرد وتعيينه، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى المعنى الأصلي الكلي القابل للانطباق على كثيرين، والذي يمكن أن يراد به - بضميمة اللام - خصوص الفرد المعهود.

ولذا تكون الإشارة بها للمسمى من حيثية ذلك المعنى، فتشعر بواجديته له، وليست متمحضة في الدلالة على الذات، كما هو حال الأعلام الشخصية، لتكون اللام لمحض التزيين اللفظي، بل هي لتزيين البيان، بلحاظ تضمنه معنى زائداً على الذات، أو لتزيين المراد بها إذا كان المعنى الأصلي حسناً، ولو كان ذماً كانت للتهجين والذم.

ويناسب ما ذكرنا أنهم ذكروا أن اللّام المذكورة للمح المعنى المنقول عنه اللفظ، واعتبروا في جواز دخولها قابلية المعنى المذكور لها.

نعم، ربما يغفل عن ذلك في مقام الاستعمال في أعرافنا المتأخرة للبعد عن اللغة والجهل بخصوصيات البيان.

وبهذا تم ما ذكرناه آنفاً من تمحض اللام في التعريف، وأنّ الأقسام

ص: 44

المذكورة لها لا تخرج عنه. واختلافها إنما يكون لاختلاف خصوصيات الموارد من دون أن يرجع إلى تعدد مؤداها واختلافه.

كما ظهر أن إفادة المعرَّف باللام العموم يحتاج إلى قرينة عامة - كمقدمات الحكمة أو تعريف المبتدأ - أو خاصة، كالاستثناء.

الكلام في تعريف الجمع

هذا كله في تعريف المفرد، وأما تعريف الجمع فالظاهر عدم الإشكال في إفادته العموم مع عدم العهد لخصوص بعض الأفراد. وإنما الكلام في وجهه بينهم.

منشأ دلالته على العموم

والظاهر أن منشأه ظهور اللام في التعريف وفرض أنّ المراد بمدخولها المتعين ذهناً. لكن لا بلحاظ تعريف الماهية بنفسها، على أن يكون التعريف جنسياً، كما في تعريف المفرد، لما هو الظاهر من أن هيئة الجمع تقتضي كون المراد بالمدخول الأفراد، لأنها القابلة للتكثر، دون الطبيعة بنفسها.

ولا بلحاظ تعريف نفس مرتبة الجمع المدلولة لهيئته، لما هو المعلوم من صلوح الهيئة لجميع المراتب من دون مرجح لأحدها في التعيين والحضور الذهني.

ومجرد كون المرتبة العليا المستغرقة لتمام الأفراد طرفاً للمراتب ليس فوقه طرف لا يقتضي ترجيحها، لأن ذلك ليس بأولى من ترجح المرتبة السفلى بكونها طرفاً ليس دونه طرف، والوسطى بكونها وسطاً بين الطرفين.

مضافاً إلى أن الجمع بمراتبه مستفاد من الهيئة، فيكون معنىً حرفياً غير قابل للتعريف.

كون تعريف الجمع عهدياً

بل الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية كون استفادة العموم بسبب كون التعريف للأفراد المحكية بالجمع، فيكون التعريف عهدياً.

ص: 45

بتقريب: أنه حيث لا مرجح لبعض الأفراد على بعض - لفرض عدم ما يوجب العهد لبعضها بخصوصه - يتعين إرادة جميعها - بعد فرض دلالة اللام على التعريف والتعين الذهني - بلحاظ تعينها في الذهن من حيثية كونها فرداً للماهية، فيراد باللام الإشارة للأفراد المتميزة عن غيرها من الذوات بالحيثية المذكورة، فيلزمه كون المراد بالجمع المرتبة العليا وإن لم تكن هي موضوع التعريف. بخلاف ما لو أريد بعض الأفراد، لفرض عدم المميز لها عن غيرها من الأفراد، ليمكن فرض التعيين لها.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) في الجمع المحلى باللام

نعم، لو كانت هناك جهة تصلح لترجيح بعض الأفراد ذهناً كانت هي المتيقن من الجمع المعرف وتعين حمله عليها.

ومنه يظهر أنه لا ملزم بما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من ابتناء دلالة الجمع المحلى باللام على العموم إما على وضعه بهيئته له ابتداء، أو على كون اللام فيه للاستغراق.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره) من وجهين

على أن الوجه الأول يشكل..

تارةً: بعدم معهودية اختصاص المركب بمجموعه بوضع لمعنى لا تؤديه مفرداته بأنفسها.

وأخرى: بأن لازمه كون دلالة الجمع المعرف على الخصوص في موارد العهد الذكري أو الذهني لخصوص بعض الأفراد مبنياً على الاشتراك أو المجاز - كما نبه له في الجملة بعض مشايخنا - وهو بعيد في نفسه مخالف للمرتكزات الاستعمالية جداً.

كما يشكل الوجه الثاني..

تارةً: بأن اللام إذا كانت مشتركة بين الاستغراقية وغيرها احتاج تعيين

ص: 46

الاستغراقية في الداخلة على الجمع للقرينة الخاصة كما يحتاج إليها في الداخلة على المفرد، مع أنه لا إشكال عندهم في عدم توقف فهم العموم منه عليها.

وأخرى: بما تقدم من استبعاد الاشتراك في مفاد اللام، بل لا ينبغي التأمل في عدمه بعد ملاحظة ما ذكرنا.

تنبيهان: التنبيه الأول: جريان ما تقدم في المعرف بالإضافة

تنبيهان:

الأول: ما ذكرناه كما يجري في المعرف باللام يجري في المعرف بالإضافة، نحو أكرم علماء بلدك، أو أكرم عالم بلدك، لما أشرنا إليه في ذيل الكلام في تعريف المسند من أن الإضافة بمقتضى الأصل تقتضي العهد والتعريف زائداً على الاختصاص، للفرق الواضح بين قولنا: غلام زيد، وغلام لزيد.

فإذا كان المضاف جمعاً كعلماء المدينة اقتضى الاستغراق والعموم بالتقريب المتقدم، وإذا كان مفرداً حمل غالباً على العهد الذهني، فيراد من مثل: عالم المدينة، أظهر علمائها، وقد يراد به الجنس المقيد، كما لو أريد به ما يقابل عالم القرية، كما في قولنا: عالم المدينة أعلم من عالم القرية، فيلحقه ما تقدم في تعريف الجنس باللام.

نعم، أشرنا هناك إلى أن الإضافة للمعرفة قد تتمحض في الاختصاص من دون تعريف وعهد. وهو الحال في الإضافة للنكرة لأن شيوع المضاف إليه مستلزم لشيوع المضاف، كعالم بلد، أو علماء بلد، وحينئذٍ يكون كسائر المطلقات التي تحتاج استفادة العموم منها إلى قرينة خارجية. فلاحظ.

ص: 47

التنبيه الثاني: الاختلاف في العلم الجنسي

الثاني: كما اختلفوا في تعريف الجنس وأنه حقيقي معنوي أو صوري لفظي، اختلفوا في علم الجنس، كأسامة للأسد، وثعالة للثعلب.

وحيث لا يتعارف استعماله في عصورنا فلا مجال للرجوع فيه للتبادر والمرتكزات الاستعمالية.

نعم، الظاهر إطباقهم على كونه بمعنى المعرف بلام الجنس، ولذا كان اختيارهم فيهما متفقاً، ويناسبه صحة استعمال أحدهما في مورد الآخر، فكما يقال: هذا الأسد مقبلاً، والأسد أشجع من الثعلب، يقال: هذا أسامة مقبلاً، وأسامة أشجع من ثعالة. وحينئذٍ يجري فيه ما تقدم في المعرف بلام الجنس من تقريب كون تعريفه حقيقياً.

نعم، أشرنا آنفاً إلى أن حمل مدخول اللام على الجنس ناشئ عن كون تعريفها حقيقياً، إذ لو كان لفظياً لزم كون مفاده مفاد النكرة المجردة عبارة عن الفرد الشايع بين الأفراد، أما علم الجنس فالظاهر عدم الإشكال في أن مفاده الجنس والطبيعة بنفسها لا الفرد الشايع بين الأفراد وان كان تعريفه لفظياً. وحينئذٍ يجري على الحكم الوارد عليه ما يجري على الحكم الوارد على الجنس من احتمال العموم والخصوص، وأن المتيقن منه القضية المهملة.

ص: 48

المبحث الرابع

المبحث الرابع: الكلام في مقدمات الحكمة

بعد أن سبق أنه يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة، وأن استفادة العموم الأفرادي والأحوالي تحتاج إلى قرينة خارجية خاصة أو عامة، فعدم انضباط القرائن الخاصة ملزم بإيكال النظر فيها للفقه عند الابتلاء بالأدلة والظهورات الشخصية وتشخيص مفاداتها، ولا مجال للبحث عنها في الأصول، لأن موضوع البحث فيها الظهورات النوعية.

وأما القرينة العامة فهي عبارة عن مقدمات الحكمة التي يبتني عليها استفادة الإطلاق الأفرادي والأحوالي عندهم، وقد اختلفوا في عددها وتحديدها.

ولابد من التعرض لجميع ما ذكروه على اختلافهم فيه، والنظر في توقف الظهور في الإطلاق على كل مقدمة مقدمة بعد تحديدها.

المقدمة الأولى: إمكان التقييد

الأولى: إمكان التقييد. فلو امتنع، لاستحالة لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم، لكونه متفرعاً عليه، يمتنع انعقاد الظهور في الإطلاق، كما في تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله، وتقييد الحكم بالعلم به، على ما ذكره غير واحد وأطالوا الكلام في وجهه، أولهم - في ما عثرت عليه - شيخنا الأعظم (رحمه الله)، على ما في التقريرات.

ص: 49

وجوه اعتبار إمكان التقييد في التمسك بالإطلاق، وردها

وقد تعرضنا لذلك في مبحث التعبدي والتوصلي في تقريب أصالة التوصلية، وذكرنا هناك أنه..

تارةً: يُراد بذلك ما يظهر من بعض الأعاظم (رحمه الله) من أن امتناع التقييد يسلتزم امتناع الإطلاق ويلزم الإهمال ثبوتاً.

وأخرى: يراد به ما يظهر من جماعة أولهم شيخنا الأعظم - على ما يظهر من التقريرات - من أن امتناع التقييد بقيد مّا مانع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق من حيثيته، فلا يكون بياناً عليه في مقام الإثبات، بل يكون مجملاً، وإن كان دائراً بين الإطلاق والتقييد ثبوتاً غير خارج عنهما، لامتناع الإهمال.

وذكرنا هناك أنه لا مجال للأول، بل يمتنع الإهمال ثبوتاً مطلقاً.

وأما الثاني فقد سبق توجيهه بأن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الغرض منافياً للحكمة، وهو إنما يتم مع إمكان التقييد، إذ مع تعذره لا يكون الإخلال به منافياً للحكمة.

كما سبق دفع ذلك بأن تعذر التقييد لا يستلزم تعذر بيان إرادة خصوص واجد القيد بطريق آخر، فعدم بيانه مع إمكانه يستلزم ظهور المطلق في الإطلاق، كعدم التقييد مع إمكانه. ولا أقل من قدرته على ترك بيانه بالوجه المنافي لغرضه، أو على إحاطته بما يوجب إجماله من حيثية القيد المذكور، فإقدامه على بيان المطلق مع ذلك موجب لظهور كلامه في إرادة الإطلاق.

وقد أشرنا هناك إلى أن تعذر البيان والتقييد لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق، وأحلنا في توضيحه على ما نذكره هنا.

ص: 50

وجه عدم منع تعذر البيان من الظهور في الإطلاق

وحاصله: أن عدم منافاة الإخلال بالتقييد للحكمة مع التعذر لا يختص بالتعذر الذاتي العقلي الناشئ من امتناع اللحاظ - والذي هو محل الكلام - بل يجري في التعذر بالعرض لخوف أو ضرر، أو غفلة عن القيد كما في الموالي العرفيين بالإضافة إلى بعض القيود التي لا يقع منشأ انتزاعها مورداً لابتلائهم ليلتفتوا إليها، كما يجري في سائر الجهات المصححة للإخلال بالبيان التام بنظر العقلاء، ولو كانت أمراً غير التعذر، كعدم استيعاب السامع لتمام ما يُلقى إليه مع عدم ابتلائه بفاقد القيد، حيث لا يخل ترك التقييد في خطابه بالغرض، بل قد يستوجب ذكر القيد فوته.

بل مقتضى ذلك التوقف عن الرجوع للإطلاق بمجرد احتمال وجود الجهات المصححة لترك التقييد من تعذر أو غيره، لاحتمال استناد ترك التقييد لها، فلا يكون منافياً للحكمة لو كان القيد دخيلاً في الغرض، ولا أصل يدفع الاحتمال المذكور.

ولازم ذلك عدم الرجوع للإطلاق إلا مع العلم بانحصار سبب عدم التقييد بعدم دخل القيد في الغرض، بحيث لو كان دخيلاً كان ترك التقييد منافياً للحكمة.

وحينئذٍ يكون الإطلاق موجباً للعلم بالمراد مع فرض حكمة المتكلم، وهو خلاف المقطوع به من محل كلامهم - تبعاً لأهل اللسان - في حجية الإطلاق، لما هو المعلوم من أنه من صغريات حجية الظهور، الذي قد لا يوجب الظن، فضلاً عن العلم.

فلابد من البناء على أن وجود الجهات المصححة بنظر العقلاء لترك التقييد مع دخله في الغرض إنما يكون عذراً للمتكلم في ترك البيان والتقييد

ص: 51

من دون أن يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق، الذي هو حجة للمتكلم وعليه، كما هو محل الكلام.

وإن شئت قلت: اقتصار المتكلم في شرح مراده على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها ظاهر في وفائها بغرضه، من دون فرق بين الخصوصيات المقارنة لأفرادها وأحوالها، بنحو يصح أن يعتمد عليه وإن لم تف بغرضه واقعاً لاعتبار بعض القيود فيه مما كان له عذر عقلائي في ترك بيانه.

ومن هنا يتعين على المتكلم الحكيم تجنب البيان بالنحو المذكور الظاهر في الإطلاق، لئلاّ يكون مفوِّتاً لغرضه، إما بتركه البيان رأساً، أو بإحاطته بما يمنع من ظهوره في الإطلاق، أو بغير ذلك مما تقدم.

فلو فرض وجود الملزم العقلائي له بالبيان بالنحو الظاهر في الإطلاق، على خلاف غرضه، كان عذراً له من دون أن يخل بظهور كلامه، ويكون الظهور حجة ما لم يبتل بما يسقطه عن الحجية.

وجه ظهور المطلق في إرادة الإطلاق الإخلال بالحكمة في ترك التقييد

وأما ما ذكروه من أن منشأ ظهور المطلق في إرادة الإطلاق لزوم الإخلال بالحكمة في ترك التقييد مع ارادته. فالجمود على ظاهره مستلزم لما تقدم مما عرفت تعذر الالتزام به.

ولا يبعد أن يراد به أن تعلق الغرض بالمقيَّد لما كان مقتضياً لبيانه - بأي صورة - من الحكيم لولا المانع كان ذلك قرينة عامة بنظر العقلاء يصح الركون إليها في معرفة مراد المتكلم موجبة لظهور اقتصاره على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها في عدم دخل أي قيد يحتمل، وإرادة الإطلاق، ولا يُعتنى باحتمال استناد عدم التقييد للجهات المانعة في ظهور كلامه المذكور وحجيته.

ص: 52

فمحذور الإخلال بالحكمة جهة ارتكازية لاحظها العقلاء وأهل اللسان بلحاظ المقتضيات الأولية، فكانت عندهم قرينة عامة موجبة لظهور المطلق في الإطلاق، وليست علة شخصية فعلية بلحاظ تمام الجهات يدور انعقاد الظهور مدارها.

ولذا لا إشكال في انعقاد الظهور المذكور حتى مع احتمال عدم حكمة المتكلم، وعدم تقيده باستيفاء مراده ببيانه، أو العلم بذلك، كما يصح الاحتجاج له وعليه بظاهر الكلام المستند لقرينة الحكمة النوعية وإن احتمل خروجه في بيانه عليها، لعدم حكمته.

هذا كله بناء على ما هو الظاهر من أنه يكفي في الإطلاق عدم أخذ القيد في موضوع الحكم أو متعلقه، فهو أمر عدمي مقارن للبيان، والتقابل بينه وبين التقييد تقابل العدم والملكة، كما سبق في مبحث التعبدي والتوصلي الإشارة إليه.

الكلام في كون المطلق عبارة عن رفض القيود

أما بناء على أنه عبارة عن رفض القيود، وأنه أمر وجودي مقابل للتقييد تقابل الضدين، فقد يدعى توقفه على إمكان لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم، لأن رفضه فرع لحاظه، كما قد ينزل عليه ما في التقريرات.

دفع المبنى المذكور

لكنه يندفع.. أولاً: بضعف المبنى المذكور، لوضوح أنه يكفي في الإطلاق ثبوتاً إدراك الحاكم وفاء الماهية بالغرض المقتضي لجعل الحكم أو إناطته بها بلا حاجة إلى مؤنة رفض القيود، ومع عدم توقف الإطلاق في مقام الثبوت على رفضها لا موجب لتوقف الإطلاق في مقام الإثبات عليه، فضلاً عن توقفه على إحرازه.

وثانياً: بأن المراد من رفض القيود ليس إلا رفضها إجمالاً، الراجع

ص: 53

إلى لحاظ تجرد الماهية في موضوعيتها للحكم ووفائها بالغرض وحدها من دون حاجة إلى انضمام أمر آخر إليها بلا ملاحظة للقيود بمشخصاتها وخصوصياتها تفصيلاً، لما هو المعلوم من عدم إحاطة الموالي العرفيين بتمام القيود الفرضية، لعدم تناهيها، بل قد يعلم بغفلتهم عن بعض القيود تفصيلاً لعدم الابتلاء به أو لعدم مناسبته للحكم، أو لغير ذلك، ومع ذلك يبنى على انعقاد الظهور لإطلاقاتهم بلحاظ كل قيد يفرض، وإن علم غفلتهم عنه حين الخطاب إجمالاً أو تفصيلاً، وحينئذٍ لا يخل بالإطلاق تعذر لحاظ القيد بخصوصيته، لتأخره عن الحكم رتبة وتفرعه عليه، لكفاية رفضه في جملة القيود الملحوظة إجمالاً.

المختار: عدم توقف الإطلاق على إمكان التقييد

والمتحصل من جميع ما تقدم عدم توقف الإطلاق ثبوتاً ولا إثباتاً - الذي هو محل الكلام هنا - على إمكان التقييد ذاتاً، فضلاً عن إمكانه بلحاظ الجهات العرضية أيضاً. فلا مجال لعد ذلك من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها انعقاد الظهور في الإطلاق.

ويتضح ما ذكرنا بأدنى ملاحظة لسيرة أهل اللسان ومرتكزاتهم، حيث يستفيدون بطبعهم العموم بلحاظ القيود المذكورة من الإطلاق من دون التفات لهذه الخصوصيات.

ولذا بنى من منع من الإطلاق في الفرض على نتيجته، فأصر في التقريرات على ظهور الأمر في التوصلية، كما أصر بعض الأعاظم (رحمه الله) على استفادتها بمتمم الجعل، وغيره على وفاء الإطلاق المقامي بها، من دون أن يتضح وجه تقريبها في كلماتهم بعد فرض عدم انعقاد الإطلاق اللفظي.

بل الظاهر عدم الإشكال في عدم تماميتها لو صرح في الخطاب

ص: 54

بثبوت الحكم بنحو القضية المهملة الصالحة للإطلاق والتقييد، مع أن مرجع إنكار الإطلاق اللفظي إلى ذلك. وقد تعرضنا لذلك في الجملة في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع.

المقدمة الثانية: عدم وجود البيان على التقييد

الثانية: عدم وجود البيان على التقييد، سواء كان بلسان الحصر وثبوت نقيض الحكم لفاقد القيد، كالقيود ذات المفهوم، مثل الشرط والاستثناء، أم بلسان آخر لا يقتضي إلا قصور شخص الحكم عن الفاقد للقيد، كالوصف والظرف.

ولا إشكال في اعتبار هذه المقدمة ومانعية البيان من الظهور في الإطلاق، وإنما الإشكال في أنها تعم البيان المنفصل بحيث يكون وروده رافعاً لموضوع الإطلاق ومانعاً من تمامية مقتضي الظهور فيه، أو تختص بالمتصل، فلا يكون العثور على المنفصل مانعاً من تمامية مقتضي الظهور الإطلاقي، بل يكون منافياً له، كسائر الظهورات المتنافية التي يعالج تنافيها بالجمع العرفي المبتني على تنزيل أضعف الظهورين على أقواهما.

ما ذكره في التقريرات من الوجه في العموم للبيان المنفصل

صرح في التقريرات بالأول، قال في بيان ما يتوقف عليه الإطلاق: «إنه موقوف على أمرين أحدهما: انتفاء ما يوجب التقييد داخلاً وخارجاً... فلو دل دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق، لارتفاع مقتضي الإطلاق، لا لوجود المانع عنه، وإن كان الدليل الدال على التقييد أيضاً مما يحتمل فيه التصرف بحمل الوارد فيه على الاستحباب، إلا أن أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال، ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق، لعدم لزوم مجاز فيه، وإنما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل. فالإطلاق حينئذٍ بمنزلة الأصول العملية في قبال الدليل، وإن كان معدوداً

ص: 55

في عداد الأدلة دون الأصول، فكأنه برزخ بينهما». وعلى ذلك جرى بعض الأعاظم (رحمه الله).

الإشكال على الوجه المذكور

لكن التأمل في المرتكزات الاستعمالية قاض بعدم تمامية ما ذكره، وأن مقتضي الظهور في الإطلاق لا يرتفع بورود البيان المنفصل، بل هو من سنخ المعارض للإطلاق مع تمامية مقتضي ظهوره بمجرد عدم البيان المتصل، وأن الإطلاق كسائر الظهورات الكلامية التابعة لفراغ المتكلم عن كلامه، لابتناء طريقة أهل اللسان على أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء، وظهور كلامه تابع لفراغه منه ومتحصل من مجموعه، وبهذا يفترق البيان المتصل عن المنفصل في مانعية الأول من الظهور الإطلاقي، دون الثاني، بل هو منافٍ له.

ولذا كان احتفاف الكلام بما يصلح للبيان والقرينية على التقييد من دون أن يكون ظاهراً فيه مانعاً من انعقاد ظهوره في الإطلاق - على ما يأتي في المقدمة الثالثة إن شاء الله تعالى - مع عدم الإشكال في عدم مانعية البيان المنفصل بالنحو المذكور من حجية الظهور في الإطلاق، فضلاً عن انعقاده.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من خروج الشارع عن طريقة العقلاء ودفعه

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (رحمه الله) من خروج الشارع الأقدس عن طريقة العقلاء وأهل اللسان في البيان لاعتماده على القرائن المنفصلة. فهو - مع عدم اختصاص الإطلاق به، بل يجري في الظهورات الوضعية أيضاًً - غير تام في نفسه، على ما يأتي في مبحث التعارض عند الكلام في الجمع العرفي.

وعلى ذلك يلزم النظر في وجوه الترجيح بين الظهور الإطلاقي والبيان المنفصل من دون أن يكون الثاني رافعاً لموضوع الأول، كما هو الحال في سائر موارد تعارض الظهورين.

ص: 56

ومجرد عدم لزوم المجاز من التصرف في المطلق ولزومه من التصرف في البيان المنفصل - مع عدم تماميته في التصرف بالحمل على الاستحباب المفروض في كلامه المتقدم، على ما تقدم في بحث الأوامر - لا يصلح لترجيح ظهور البيان المنفصل، فضلاً عن كونه رافعاً لموضوع الظهور الإطلاقي، لأن الرجوع لأصالة الحقيقة بملاك الرجوع لأصالة الظهور، ولذا يختص بما إذا كان المعنى الحقيقي هو الظاهر، فمع فرض تمامية ظهور الإطلاق وعدم ارتفاع موضوعه يشتركان في تحقق ملاك الحجية، ويبقى الترجيح منوطاً بأقوائية أحد الظهورين، الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الظهورات المتنافية، على ما ذكرناه في مبحث التعارض.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من منع البيان المنفصل من الدلالة التصديقية

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (رحمه الله) هنا من أن البيان المنفصل وإن لم يمنع من الدلالة التصديقية للكلام، بمعنى انعقاد الظهور في ما قاله المتكلم، بحيث يكون قابلاً للنقل بالمعنى، كما يمنع منه البيان المتصل، إلا أنه يمنع من الدلالة التصديقية على مراد المتكلم الواقعي.

فهو مسلم في الجملة، إلا أنه لا يصلح وجهًا لعدّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الحكمة التي يبتني عليها الإطلاق، لما هو المعلوم من أن الظهور الإطلاقي الذي هو محل الكلام هو الدلالة التصديقية الأولى، التي هي الموضوع للدلالة التصديقية الثانية الراجعة إلى الحكم بحجية الظهور على مراد المتكلم.

وإنما ينهض البيان المنفصل بالمنع من حجيته إذا كان قرينة عرفاً على شرح المراد من الإطلاق لأقوائيته منه ظهوراً، كما هو الحال في رافعيته لحجية سائر الظهورات المستقرة التابعة للوضع أو القرائن العامة أو الخاصة.

ص: 57

فلو كان ذلك كافياً في عدِّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الإطلاق لزم عدّه مقدمةً لسائر الظهورات، حتى الوضعية، ولم يعهد ذلك منهم.

ومن ثَمَّ كان كلامه (قدس سره) مضطرباً، بل لا يتناسب مع ما ذكره في مبحث التعارض، وإن كان الظاهر منه هناك التحويل على ما ذكره هنا.

المقدمة الثالثة: عدم وجود القدر المتيقن وما ذكره الخراساني (قدس سره)

الثالثة: عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، فلو وجد لا مجال للبناء على الإطلاق، بل يقتصر على القدر المتيقن، كما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره).

وتوضيح الكلام في ذلك: أن أفراد المطلق أو أحواله..

تارةً: تتساوى في احتمال شمول الحكم لها، من دون مرجح لبعضها على الآخر، لا بلحاظ مقام الخطاب، ولا بلحاظ مقام آخر.

وأخرى: لا تتساوى فيه، بل يكون شمول الحكم لبعضها أظهر من شموله للآخر.

إما بلحاظ أمر خارج عن الخطاب لا يكون من القرائن المحيطة به عرفاً، كما لو كان الحكم تعبدياً لا مناسبة ارتكازية بينه وبين الموضوع، ثم علم من الخارج وجه المناسبة بينهما، وكان ذلك الوجه في بعض الأحوال أو الأفراد أظهر منه في غيرها، أو ثبت بدليل آخر ورود الحكم على بعض الأفراد أو الأحوال، ولم يثبت في غيرها، أو نحو ذلك.

وإما بلحاظ مقام الخطاب وما يحيط به من قرائن عرفية حالية، كما لو كانت المناسبة ارتكازية ينسبق إليها الذهن من الخطاب بالحكم، وكانت في بعض الأفراد أو الأحوال أظهر منها في الآخر، أو مقالية، كما لو كان بعض الأفراد أو الأحوال مورداً للإطلاق، أو وقع التمثيل به من المتكلم،

ص: 58

أو نحوهما. والجمود على عبارة المحقق الخراساني (قدس سره) يناسب إرادة هذا القسم.

توضيح استدلال الخراساني (قدس سره)

ومرجع استدلاله عليه إلى أن المفروض من حال المتكلم - بمقتضى

المقدمة الآتية - أنه في مقام بيان تمام مراده، فمع عدم وجود المتيقن مطلقاً لو لم يكن في مقام بيان إرادة تمام الأفراد أو الأحوال بالإطلاق بلحاظ صلوحه لإرادة كل منها، بل كان مريداً بعضها، كان مخلاً بغرضه، لعدم صلوح الإطلاق لبيان إرادة خصوص ذلك البعض بعد فرض تساوي الأفراد بالإضافة إليها وحيثية صلوحه لها مشتركة بينها.

وكذا لو كان هناك متيقن لا بلحاظ مقام التخاطب، لفرض أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده بخطابه، لا مطلقاً ولو بطريق آخر، والمفروض عدم صلوح الخطاب لإرادة خصوص ذلك المتيقن.

بخلاف ما لو كان هناك متيقن في مقام التخاطب، حيث يكون الإطلاق صالحاً لبيانه بخصوصه بعد فرض ترجحه على بقية الأفراد، فلا يكون مخلاً بغرضه لو أراده بخصوصه، ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة غيره بالإطلاق.

وهذا الوجه إنما يتجه لو كان المراد بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده - الذي يأتي في المقدمة الرابعة - كونه في مقام بيان تمام الأفراد والأحوال التي يشملها حكمه، بحيث لو قصر بيانه عن بعضها كان مخلاً بغرضه، إذ عليه يكون وجود المتيقن في مقام التخاطب مستلزماً لصلوح الإطلاق لأن يكون بياناً لتمام المراد لو كان المراد مختصاً به.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

لكن الظاهر عدم إرادتهم به ذلك..

أولاً: لعدم الطريق لإحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده

ص: 59

بالمعنى المذكور في غالب الإطلاقات، إذ غاية ما يقتضيه الأصل في حال المتكلم أنه بصدد كون ما بيّن مراداً له، لا أنه تمام مراده، بل هو محتاج لعناية خاصة، كوروده في مقام التحديد ونحوه.

وثانياً: لأن لازمه ثبوت المفهوم للإطلاق، فمثلاً، إذ أحرز أن المتكلم في مقام بيان تمام الأفراد التي ثبت لها الحكم في قوله: أكرم العالم، لزم كون أفراد العالم تمام من يجب إكرامه، ولا يثبت وجوب الإكرام لغيرها، مع أنه ليس بناؤهم على ذلك في الإطلاقات.

ومنه يظهر أنه لو كان الوجه في استفادة العموم ما ذكره كفى في تصوير المقدمة الآتية بكون المتكلم في مقام بيان مراد له وإن لم يكن تمامه، مع أنهم مطبقون على أخذ التمامية فيها.

وثالثاً: لأنه بعد فرض عدم صلوح الإطلاق في نفسه لبيان العموم، وصلوحه لإرادة كل فرد وحده، لعدم ظهوره في نفسه إلا في الإهمال، فمجرد كونه في مقام البيان بالنحو المذكور لا يتضح عرفاً كونه مصححاً على قرينية الصلوح المذكورة في بيان إرادة تمام الأفراد بالإطلاق.

تعين حمل كلامهم على كون المتكلم في مقام بيان تمام ما هو الدخيل

ومن هنا يتعين حمل مرادهم من كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد على ما تقتضيه أكثر كلماتهم، وهو كونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض وما يؤخذ في موضوع الحكم، الذي كلما زاد كان موضوع الحكم أضيق وأفراده أقل، لا الاقتصار على بيان بعض ما يؤخذ فيه، فإذا كان موضوع الحكم هو العالم العادل يكون بيان تمام المراد ببيان دخل العدالة زائداً على العلم، ولا يُكتفى ببيان دخل العلم الذي هو جزء الموضوع، إذ بناء عليه يكون اقتصار المتكلم على بيان الماهية ظاهراً في كونها تمام الموضوع

ص: 60

الذي يفي بالغرض، المستلزم لثبوت الحكم لتمام أفرادها من دون فرق بين خصوصياتها، لأن اختصاص الحكم ببعضها مستلزم لدخل خصوصيتها في الموضوع والغرض زائداً على الماهية.

وهذا المعنى قد يتيسر إحرازه من المتكلم في جملة من الموارد على ما يأتي في المقدمة الرابعة إن شاء الله تعالى.

كما أنه لا يستلزم ثبوت المفهوم للإطلاق، لأن كون الماهية تمام الموضوع للحكم بحيث لا يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليها في ثبوته لا ينافي كون ماهية أخرى موضوعاً له أيضاًً، بأن يثبت الحكم لهما معاً.

وحينئذٍ فوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يكفي في كون الكلام بياناً لتمام المراد لو اختص المراد بالمتيقن المذكور، لأن كون الكلام بياناً لشمول الحكم للمتيقن المذكور لا يستلزم كونه بياناً لدخل خصوصيته في الحكم، بل هو موقوف على ذكر ما يدل على التقييد بها، والمفروض عدمه، وأن التقييد محتمل واقعاً، لا مدلول للكلام.

ومن ثم لا يتم ما ذكره في وجه توقف الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بالمعنى المتقدم.

بل لا مجال للبناء عليه بعد ملاحظة سيرة أهل الاستدلال للمرتكزات الاستعمالية، ولذا اشتهر أن المورد لا يخصص الوارد، بل الظاهر المفروغية عن عدم اختصاص الإطلاق بموارد التمثيل ولا بأظهر الأفراد ونحوها مما يكون متيقناً بلحاظ مقام التخاطب.

اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب

نعم، يتجه اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لو أريد منه ما يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق مما لا يبلغ مرتبة الظهور

ص: 61

في التقييد، كما في مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية عرفاً من دون أن يتعين لها، لما تقدم في المقدمة الثانية من أن للمتكلم ما دام مشغولاً بكلامه أن يلحق به ما شاء، وأن انعقاد ظهور كلامه تابع لتمام ما يشتمل عليه ويحيط به من قرائن حالية ومقالية.

فوجود ما يصلح للقرينية بالوجه المذكور يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الوضعية وغيرها.

ومرجعه إلى عدم بيان تمام المراد بالكلام، لعدم صلوحه له بسبب وجود المتيقن بالمعنى المذكور، لا إلى بيانه به لو كان المراد خصوص المتيقن، كما تقدم من المحقق الخراساني (قدس سره).

ولذا يتعذر حمل كلامه عليه، ويتعين حمله على ما تقدم مما عرفت عدم تماميته.

المقدمة الرابعة: كون المتكلم في مقام البيان

الرابعة: كون المتكلم في مقام البيان. من الظاهر أن الغرض من الكلام هو البيان والإفادة للمقاصد، وعدم كون المتكلم في مقام البيان أصلاً إما أن يكون لخروجه عن مقتضى طبيعة الكلام، الذي هو خلاف الأصل فيه، أو لغفلته عن صدور الكلام منه، التي يدفعها أصالة عدم الغفلة، المعول عليها في جميع تصرفات الإنسان وأفعاله. ومن هنا كان بناء العقلاء على كاشفية الكلام عن مقاصد المتكلم وأغراضه.

إلا أن ذلك بمجرده لا ينفع في محل الكلام، لوضوح أنه إنما يقتضي كونه بصدد إفادته لمؤداه الذي يصلح لبيانه ويكون قالباً له، دون غيره مما يخالفه أو يزيد عليه، وحيث فرض في محل الكلام أن مفاد المطلق وضعاً ليس إلا القضية المهملة فاستفادة العموم منها يحتاج إلى مزيد عناية، ولا

ص: 62

يكفي فيها إحراز كون المتكلم في مقام البيان بالوجه المتقدم.

ضعف ما ذكره المظفر (قدس سره) في أصوله

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض المعاصرين (رحمه الله) في أصوله في تقريب أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو الذي ينفع في التمسك بالإطلاق ورفع احتمال كون القضية مهملة، قال: «ولو شك في أن المتكلم في مقام البيان أو الإهمال فإن الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، فإن العقلاء كما يحملون المتكلم على أنه ملتفت غير غافل، وجاد غير هازل، عند الشك في ذلك، كذلك يحملونه على أنه في مقام البيان والتفهيم، لا في مقام الإهمال والإيهام».

إذ فيه: أن الإهمال إذا لم يكن منافياً لمفاد الكلام، بل الكلام صالح له بمقتضى وضعه وطبعه، فلا وجه لجعله في سياق الإيهام الذي هو خلاف طبع الكلام بالتقريب المتقدم. إلا أن يريد بالإهمال ما يساوق الإيهام، لا مفاد القضية المهملة. لكن نفيه لا يستلزم إرادة العموم بوجه.

وبالجملة: لا مجال لإرجاع البيان في المقام إلى البيان الذي يقتضيه طبع الكلام، والذي لا إشكال في أنه مقتضى الأصل عند العقلاء، كما يظهر من الكلام المتقدم وقد تُشعر به بعض كلماتهم الأُخَر.

المراد من المقدمة المذكورة

ومن هنا كان مرادهم من هذه المقدمة أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ما يكون دخيلاً في موضوع الحكم وترتب الغرض، لا بمعنى ما ينحصر الموضوع به ويتوقف الغرض عليه، ليستلزم المفهوم، بل بمعنى ما يتم به الموضوع ويتحصل به الغرض - في مقابل ما يحتاج تمامية الموضوع وتحقق الغرض به إلى انضمام غيره إليه - وإن أمكن تحقق الموضوع بغيره، كما ذكرناه في المقدمة الثالثة.

ص: 63

وحينئذٍ فاقتصار المتكلم على بيان الماهية لا يرجع إلى مجرد دخلها في الموضوع والغرض وحصولهما معها في الجملة ولو بانضمام غيرها من القيود إليها، كما هو لازم القضية المهملة، بل إلى بيان كونها تمام ما هو الدخيل فيه المستلزم لعموم الحكم وثبوته لتمام أفرادها وفي جميع أحوالها.

وحيث كان ذلك زائداً على مفاد الإطلاق وضعاً - بناء على من سبق - فقد وقع الكلام في وجه البناء عليه.

وقد ذكر أو يذكر لذلك وجوه..

وجوه البناء على الإطلاق مع اقتصار المتكلم على بيان الماهية

الأول: ما في التقريرات، قال: «وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشك في ورود المطلق في مقام البيان؟ قد يقال: إن أغلب موارد استعمال المطلقات إنما هو ذلك، فعند الشك يحمل عليه. وليس بذلك البعيد. فتأمل».

وفيه: أن الغلبة - مع عدم الدليل على حجيتها - غير ظاهرة، إذ لا قرينة في أكثر المطلقات على ذلك، وغاية ما ثبت ببناء العرف جواز التمسك بها والرجوع إليها في استفادة العموم - كما سيأتي - فلو كان التمسك بها عندهم مبنياً على هذه المقدمة كشف عن بنائهم على هذه المقدمة بمقتضى الأصل، لا عن غلبة وجودها.

الثاني: بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو المذكور، لما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن العقلاء كما يحكمون بمطابقة مراد المولى الجدي لاستعماله، وعدم إرادته خلافه، كذلك يحكمون بأنه إذا كان له مراد جدي يكون بصدد بيانه، وكونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه، وحيث كان المراد له غير مهمل بل إما مطلق أو مقيد، فمع فرض

ص: 64

عدم التقييد يتعين كونه هو المطلق، ولا يُبنى على الإهمال.

وفيه: أن مخالفة المراد الجدي للاستعمال لما كانت على خلاف مقتضى الطبع حسب ما أودعه الله سبحانه من غريزة البيان وجعله يدركه من وظيفة الكلام، توجه دعوى بناء العقلاء على أصالة عدمها.

أما القضية المهملة فليست مخالفة للمراد الجدي، سواء كان هو الإطلاق أم التقييد، بل مفادها جزؤه الأعم المشترك بين الأمرين، فالحمل عليها - بعد كونها المفاد الوضعي للكلام - لا يخالف مقتضى طبع الاستعمال. غاية ما يلزم منه كون المبين بعض المراد، وليس هو مخالفاً للأصل، إذ كما كان للمتكلم أن لا يبين شيئاً من مراده له أن يقتصر على بيان بعضه، ولم يتضح بناء العقلاء على أنه لو تصدى لبيان مراده في الجملة لزمه استيعابه بالبيان.

ولذا لو سيق غير الإطلاق لبيان دخل شيء في الحكم واحتمل دخل غيره معه فلا يظن من أحد البناء على عدم دخل غيره للأصل المدعى، فلو قيل: يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة، لا يستفاد منه عدم توقفه على غيره، ولو قيل: لا صلاة إلا بطهور، لم يستفد عدم دخل غير الطهارة في الصلاة وخصوصية الإطلاق في الأصل المذكور عين المدعى.

الثالث: بناء العقلاء على أن الأصل في الكلام أن يترتب عليه العمل، لأن الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل، ومن الظاهر أن القضية المهملة غير صالحة لأن يترتب عليها العمل، وكذا بيان جزء الموضوع الدخيل في الغرض، وإنما يترتب العمل مع بيان تمام الموضوع وتمام ما هو الدخيل في الغرض، وهو لا يكون إلا بحمل القضية

ص: 65

على الكلية الذي هو المدعى.

وفيه.. أولاً: أنه لو كان ذلك هو الوجه في البناء على كون المتكلم في مقام البيان لزم عدم حمل الإطلاق على العموم في القضايا التي لا يترتب عليها العمل أو يعلم بعدم كون المقصود من بيانها ترتبه، بل مجرد الإعلام بمضمونها، كالأخبار التاريخية والقضايا العلمية والواقعية الصرفة، كقولنا: أسلم من في المدينة المنورة قبل الفتح، ويتبخر الماء إذا كانت حرارته بدرجة كذا، وتكثر الأمطار في الشتاء، ونحوها، مع أن الظاهر عدم الفرق في ظهور المطلق في العموم بين أقسام القضايا.

كما يلزم عدم حمل الإطلاق على العموم في القضايا التي يقصد من بيانها العمل مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب - بالمعنى الذي تقدم ظهور كلام المحقق الخراساني (قدس سره) فيه - كالمورد والتمثيل ونحوهما من القرائن المتصلة الكاشفة عن إرادة بعض أفراد المطلق أو أحواله، لأن عدم حمل المطلق معه على السريان في تمام الأفراد والأحوال لا يستلزم عدم صلوحه لترتب العمل عليه، إذ يكفي ترتبه في مورد القدر المتيقن، وإرادة ما زاد عليه تحتاج إلى قرينة أخرى.

وقد سبق أنه لا مجال لذلك، حيث لم يعهد منهم التوقف عن حمل المطلق على العموم لوجود القدر المتيقن المذكور.

وثانياً: أن كون الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل ليس بنحو يمنع عرفاً من الحمل على القضية المهملة - المتكفلة ببيان دخل شيء في الموضوع في الجملة - إذا كان هو مقتضى الكلام وضعاً، إذ كثيراً ما يكون غرض المتكلم مقصوراً على ذلك، أما لعدم كون غرضه من

ص: 66

البيان ترتب العمل عليه، بل مجرد الإعلام بالمضمون اكتفاء ببيان آخر يكفي في ترتب العمل، أو لعدم إحاطته حين الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في الغرض - كما في الموالي العرفيين الذين يمكن في حقهم الجهل - أو لتعلق الغرض بتأخير بيان الخصوصيات لوقت آخر، أو لغير ذلك مما لا يكون الغرض معه من البيان استقلاله بترتب العمل عليه، ولم يتضح بناء العرف وأهل اللسان على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة، بنحو يكون الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان الذي يستقل بترتب العمل عليه، المستلزم لكونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض والموضوع، فيلزمه حمل الإطلاق على القضية الكلية.

ولذا لا إشكال في عدم بنائهم على ذلك في غير الإطلاق مما يتضمن دخل شيء في موضوع الحكم والغرض في الجملة، كما لو قيل: يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة، نظير ما تقدم في رد الوجه السابق.

نعم قد يحتف بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يترتب عليه العمل فعلاً، فيتعين وروده لبيان تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض، وحمله على القضية الكلية دون المهملة. كما لو ورد الخطاب بالإطلاق أو غيره مما يدل على دخل شيء في موضوع الحكم عند طلب المكلف من المولى بيان ما يعمل عليه حال فراقه له وعدم توقعه بياناً آخر منه، أو نحو ذلك. لكن من الظاهر أن حمل الإطلاق على العموم لا يختص بالمورد المذكور.

المقدمة الرابعة: بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد

الرابع: بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في خصوص الإطلاق.

ص: 67

الاستشهاد ببناء العرف

وقد استشهد له غير واحد ببناء العرف في محاوراتهم على التمسك بالإطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام صدوره في مقام بيان أصل التشريع من دون نظر لبيان ما هو المشروع نظير قول الطبيب للمريض: لابد لك من استعمال الدواء، أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات، كقوله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (1)، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الأكل من حيثيتها، لا من جميع الجهات بحيث لا يجب تطهير محل الإمساك، ولا يفرق بين أقسام الحيوان المصيد، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.

الإشكال فيه

وفيه: أن السيرة المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان إلا إذا ثبت توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في ذلك المقام، نظير توقفه على عدم التقييد المتصل، حيث يكشف بناؤهم على التمسك بالإطلاق مع الشك في القرينة على التقييد عن بنائهم على أصالة عدم القرينة. لكن بناءهم على توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد غير ثابت، بل قد يكون مبنياً على وجه آخر، ومجرد صحة التمسك به مع إحراز كون المتكلم في المقام المذكور أعم منه، لإمكان صحته مع عدم إحرازه أيضاًً للوجه الآخر.

ومن هنا لا يبعد عدم ابتناء التمسك بالإطلاق على المقدمة المذكورة، بل هو مبتن على أن الإهمال كالتقييد خلاف الأصل لا يحمل عليه المطلق عرفاً إلا بدليل.

ص: 68


1- سورة المائدة: 4.

فإن ما تقدم من صحة إرادة المهملة من الإطلاق وإن كان تاماً، إلا أن مصححه لما كان هو الرجوع لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة، فاللازم النظر في كيفية سيرتهم، وحيث تقدم أن بناءهم على التمسك بالإطلاق وحمله على العموم، لظهوره فيه، ما لم يحتف بما يقتضي صدوره لبيان أصل التشريع من دون نظر لخصوصياته أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات، تعين متابعتهم في ذلك من دون حاجة إلى دعوى ابتنائه على إحراز كونه في مقام البيان من جميع الجهات وبيان تمام المراد، ثم النظر في وجه إحراز ذلك والتشبث له بما لا ينهض به.

بل التأمل في المرتكزات العرفية الاستعمالية قاضٍ بأن ورود المطلق في مقام البيان بالنحو المذكور مقتضى ظهوره في العموم والسريان وتابع له، كالعام الوضعي، لا من مقدمات الظهور في العموم التي يلزم إحرازها في رتبة سابقة على الظهور فيه من دون أن تستفاد منه، نظير عدم وجود القيد المتصل الذي هو مقتضى أصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من نفس الكلام.

ولذا لو ثبت من الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان من دون قرينة على ذلك محتف بها الكلام لم ينكشف عدم ظهور المطلق في السريان، بل الظهور باقٍ وإن سقط عن الحجية.

المتحصل في حمل المطلق على العموم

بخلاف ما لو ثبت احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد، حيث ينكشف بذلك عدم الظهور في السريان، وكذب أصالة عدم القرينة، لا أن الظهور باق وإن سقط عن الحجية.

والذي تحصَّل من جميع ما تقدم: أن حمل الإطلاق على العموم

ص: 69

وظهوره فيه لا يتوقف إلا على مقدمات ثلاث..

الأولى: عدم اشتماله على التقييد المتصل.

الثانية: عدم احتفافه بما يصلح للقرينية على التقييد، وإن لم يكن ظاهراً فيه عرفاً، بل يكون موجباً لإجماله. ويكفي في إحرازهما في فرض الشك أصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان في جميع الموارد من دون خصوصية للإطلاق.

الثالثة: عدم احتفافه بما يناسب وروده في مقام البيان من خصوص بعض الجهات غير الجهة التي يراد التمسك بالإطلاق من حيثيتها، وإلا تعين الإهمال من تلك الجهة.

وأما ما عدا ذلك مما عد من مقدمات الإطلاق فليس دخيلاً فيه.

كما ظهر مما سبق في المقدمة الأولى أن ما ذكروه من ابتناء اقتضاء مقدمات الإطلاق العموم على قرينة الحكمة - حتى سميت بمقدمات الحكمة - ليس بلحاظ منافاة عدم إرادة العموم معها للحكمة فعلاً، بل بلحاظ خصوص المقتضيات الأولية بحسب طبع الكلام.

ومما ذكرنا يظهر حال الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد الذي كثيراً ما يذكرون مانعيته من التمسك بالإطلاق، فإنه إنما يمنع منه إذا كان مانعاً من تمامية إحدى المقدمتين الأوليين، إما لكونه عرفاً بمنزلة القرينة الحالية الظاهرة في التقييد، أو لكونه صالحاً للقرينية عليه وإن لم يكن ظاهراً فيه، بل يكون موجباً للإجمال. سواء كان ناشئاً من كثرة الاستعمال أم غيرها، كمناسبة الحكم والموضوع.

أما لو لم يكن بأحد النحوين المذكورين فهو بدوي لا يعتد به في رفع

ص: 70

اليد عن الإطلاق، كالناشئ من كثرة الابتلاء بالفرد أو من كونه أظهر الأفراد أو نحوهما.

وأما كثرة الاستعمال في بعض الأفراد الموجبة للاشتراك أو ما يقاربه بنحو يكون كالمجاز المشهور فهي موجبة لإجمال لفظ المطلق وتردده بين الماهية الواسعة والضيقة، فيلزم الاقتصار على المتيقن.

وليس ذلك من الانصراف في شيءٍ، لأنه عبارة عن قصور ظهور دليل الحكم عن بعض أفراد الموضوع، والمفروض في محل الكلام عدم إحراز عموم مفهوم الموضوع بما هو معنى إفرادي مع قطع النظر عن الحكم، كسائر موارد إجمال مفردات الكلام.

ص: 71

ص: 72

الفصل الثالث: في العام المخصص

اشارة

ذكرنا في مباحث التعارض أنه مع تنافي الدليلين بدواً لو كان أحدهما أظهر من الآخر تعين العمل بالأظهر وتنزيل الآخر عليه من باب الجمع العرفي.

وعلى هذا يبتني تقديم الخاص على العام مع التنافي بينهما، لأن الخاص أظهر في مورده من العام، على كلام تعرضنا له هناك.

ومحل الكلام في المقام العام والخاص المتنافيان بعد الفراغ عما ذكرنا من تقديم الخاص في مورده على العام بنحو يمنع من البناء على عمومه له، ولذا كان عنوان البحث العام المخصَّص.

نعم، محل كلامهم يعم ما إذا كان المخصِّص متصلاً، كالوصف والاستثناء، ولا يختص بما إذا كان منفصلاً ليكون من موارد الجمع العرفي الذي أشرنا إليه بسبب تنافي الدليلين.

حجية العام في الباقي

إذا عرفت هذا، فالمعروف عدم سقوط العام عن الحجية رأساً بالتخصيص، بل يبقى حجة في الباقي غير مورد التخصيص قال في الفصول: «كما عُزِيَ إلى أصحابنا، وعليه المحققون من مخالفينا».

ص: 73

وفي المعالم: «ولا أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفاً. نعم، يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه».

وعن بعضهم أنه أنكر حجيته مطلقاً، أو مع تفصيلات لا مجال لاستقصائها، والمهم منها التفصيل بين ما إذا كان المخصَّص متصلاً وما إذا كان منفصلاً، فالعام في الأول حجة في الباقي، دون الثاني.

وقد احتج منكر الحجية في الباقي مطلقاً أو مع التفصيل..

احتجاج منكر حجية العام في الباقي

تارةً: بأن اللفظ حقيقة في العموم، وهو غير مراد منه بقرينة التخصيص، وما دونه من المراتب مجازات، واللفظ صالح لكل منها، ولا قرينة على تعيين اللفظ المستعمل فيه، فيبقى اللفظ مجملاً.

وأخرى: بأن العام بعد التخصيص غير ظاهر في الباقي، وما لا يكون الكلام ظاهراً فيه لا يكون حجة فيه.

هذا، وقد تقدم في أول الفصل السابق أن التخصيص المتصل نحو نسبة تقتضي قصور الحكم عن مورد التخصيص، من دون أن تستلزم استعمال العام الوضعي أو الإطلاقي في غير المعنى الموضوع له، ليلزم المجاز فيه.

على أنه لو فرض لزوم المجاز فلا إشكال في ظهور العام في إرادة تمام الباقي بعد التخصيص، وهو كاف في الحجية، بل المدار عليه لا على الحقيقة.

ولذا لم يقع الكلام في دلالة القضايا ذات القيود الخاصة كالاستثناء والتوصيف وغيرهما على المنطوق، ولا في حجيتها فيه، وإنما وقع الكلام في دلالتها على المفهوم. فتأمل.

ص: 74

وبالجملة: لا إشكال في أن ثبوت الحكم لتمام ما عدا مورد التخصيص مقتضى الظهور الحجة، وضعياً كان أو إطلاقياً أو عرفياً.

هذا، والظاهر عموم ذلك لما إذا كان التخصيص بقرينة حالية غير لفظية، قد احتف بها الكلام بسب ظهورها حين صدوره، بنحو يصلح للمتكلم الاعتماد عليها في البيان، فإن العام معها ظاهر في إرادة الباقي بلا إشكال.

غاية الأمر أن الاستعمال معها..

تارةً: يبتني على حذف التخصيص وتقديره اعتماداً على القرينة، الذي هو كسائر موارد الحذف والتقدير ليس من المجاز في شيءٍ.

وأخرى: يبتني على التوسع في استعمال الكلام الدال في نفسه على العموم، لتنزيل التخصيص منزلة العدم، فيلزم المجاز.

ولا أهمية لتشخيص موارد كلٍ من القسمين بعد اشتراكهما فيما هو المهم، وهو ظهور العام في إرادة الباقي، وحجية الظهور المذكور ومن هنا يلزم صرف الكلام لما إذا كان المخصص منفصلاً، فنقول:

العمدة في تقريب الإشكال فيه: أن العام في نفسه ظاهر في إرادة العموم، وحيث كان الخاص منافياً لذلك، وفرض تقديمه على العام، فلابد من رفع اليد به عن ظهور العام في إرادة العموم. ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة تمام الباقي، لا من العام بنفسه، لعدم ظهوره في نفسه إلا في إرادة العموم بتمامه، دون تمام ما عدا مورد التخصيص، ولا بضميمة دليل التخصيص، لأنه إنما يتضمن عدم إرادة مورده من العام، من دون أن يتضمن شرح المراد من العام.

ص: 75

نعم، لو فرض نظره للعام وشرحه للمراد منه تعين البناء على مفاده، كما لو أمر المولى بإكرام جيرانه، ونبه بعد ذلك على أنه أراد من عدا زيد منهم.

لكن الخاص يكون حاكماً على العام حكومة بيانية، وهو خارج عن محل الكلام.

ثم إنه لا يهم مع ذلك تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص المنفصل حقيقي أو مجازي، إذ لو كان ظاهراً بنفسه أو بضميمة المخصص في إرادة الباقي كان حجة وإن كان مجازاً، وإن لم يكن ظاهراً فيه لم يكن حجة وإن كان حقيقة، لإمكان إرادة ما دونه الذي هو حقيقة أيضاًً. وإن كان ربما يتضح الحال فيه من هذه الجهة تبعاً للكلام في وجه الحجية الذي هو المهم في المقام.

ما ذكره من وجوه دفع عدم حجية العام في الباقي

اشارة

هذا، وقد حاول غير واحد دفع الإشكال في حجية العام في الباقي، وما ذكر في كلماتهم أو يمكن أن يذكر وجوه:

الأول: البناء على حجية أقرب المجازات
اشارة

الأول: أن الاستعمال في ما دون العموم من المراتب وإن كان مجازاً، إلا أن الترجيح لتمام الباقي بعد التخصيص، لأنه أقرب للعام مما دونه، فيتعين الحمل عليه بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي، وهو العموم.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا اعتبار في الترجيح لبعض المجازات بالأقربية بحسب المقدار، بل المعيار فيه الأقربية الذهنية عرفاً، إما لتعارف الاستعمال فيه وكثرته عند عدم إرادة الحقيقة، أو لقوة المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي، بحيث ينتقل الذهن منه إليه، فمثلاً إرادة خصوص النافع من عموم العالم بلحاظ مناسبة العلم للنفع أقرب عرفاً من إرادة كلٍ من عدا زيد منه، وإن كان

ص: 76

الثاني أكثر أفراداً أو أقرب مقداراً للعام.

الثاني: ظهور العام في تمام الباقي
اشارة

الثاني: ما في التقريرات من دعوى ظهور العام في تمام الباقي بعد التخصيص، لأن دلالة العام على أفراده انحلالية، فدلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على بقية الأفراد. وحينئذٍ فصرف دليل التخصيص للعام عن دلالته على مورده لا ينافي ظهوره في غيره من أفراده ودلالته عليه، فيلزم العمل به فيه بعد فرض عدم الصارف عنه.

المناقشة فيه

وفيه: أن دلالة العموم على حكم الأفراد ليست انحلالية، بل ارتباطية، لأن العموم إن كان وضعياً فأداة العموم لها مدلول واحد، وهو العموم، وإن كان إطلاقياً فمقتضى مقدمات الحكمة كون الماهية تمام الموضوع، المستلزم لعموم الحكم لتمام أفرادها. وتحليله في القسمين إلى حكم كل فرد فرد عقلي لا عرفي يبتني على استقلال كل منها في كونه مدلولاً للكلام، بنحو يكون للكلام دلالات متعددة، نظير تعدد المضامين تبعاً لتعدد الكلام.

إلا أن يرجع إلى ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من التفكيك بين الدلالات الضمنية في الحجية.

ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) من التفكيك بين الدلالات الضمنية في الحجية

بتقريب: أن العام وإن كان له دلالة واحدة على حكم جميع الأفراد بنحو الارتباطية، إلا أنها لا ترتفع بالمخصِّص بعد فرض كونه منفصلاً.

غايته أن المخصص ينافي دلالة العام الضمنية على حكم مورد التخصيص، فيلزم رفع اليد عنها بعد فرض تقديمه، ولا ملزم معه برفع اليد عن بقية دلالاته الضمنية على حكم بقية الأفراد، لأن دلالات الكلام الواحد الضمنية وإن كانت ارتباطية حدوثاً وارتفاعاً، إلا أنه لا ارتباطية بينها في الحجية.

ص: 77

بل هي أولى بعدم الارتباطية في الحجية من الدلالة الالتزامية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية، حيث تقرر عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية بسقوط الدلالة المطابقية عنها، وإن كانت تابعة لها ومتفرعة عليها ثبوتاً، وليست كالدلالات التضمنية التي ليس بينها إلا مجرد التلازم من دون تفرع لبعضها على بعض.

المناقشة فيه

لكن الظاهر عدم تمامية ما ذكره (قدس سره) من عدم الارتباطية في الحجية بين الدلالة الالتزامية والمطابقية، على ما ذكرناه في مبحث التعارض عند الكلام في دلالة المتعارضين على نفي الثالث، بل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالمعارضة مستلزم لسقوط الدلالة الالتزامية عنها.

ونظيره المقام، الراجع إلى الارتباطية في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية، لا بين الدلالات التضمنية فقط، لوضوح أن الخاص كما ينافي دلالة العام التضمنية على ثبوت حكمه في مورد التخصيص ينافي دلالته المطابقية على العموم، فلو بني على بقائه حجة في دلالاته التضمنية على ثبوت حكمه في بقية الأفراد لزم التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية، الذي هو كالتفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية، لا أهون منه.

ما ذكره النائيني (قدس سره) والمناقشة فيه

ومنه يظهر عدم نهوض ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) بدفع الإشكال، فإنه ذكر أن تخصيص العام بالمنفصل لا يستلزم مجازيته، لأنه إنما يكشف عن أن المراد بمدخول أداة العموم هو المقيد لا المطلق، وذلك لا يوجب المجاز، لا في الأداة، ولا في المدخول.

أما الأداة فلأنها موضوعة لعموم ما يراد من المدخول، فإذا أريد منه

ص: 78

المقيد لم تقتض وضعاً إلا عموم أفراده.

وأما المدخول فلأنه موضوع للماهية المهملة الصادقة مع الإطلاق والتقييد، وإنما تحمل على المطلقة بمقدمات الحكمة، وغاية ما يلزم من التخصيص هو انكشاف عدم مطابقة مقتضى مقدمات الحكمة لمراد المتكلم، وأن مراده الماهية المقيدة، وإن أخل بذكر القيد غفلة أو لمصلحة في إهماله.

للإشكال فيه: بأنه لما كان مقتضى مقدمات الحكمة كون المطلق تمام المراد من دون دخل أي قيد فيه، فمع قيام الدليل المنفصل على دخل قيد خاص يكون منافياً لمقتضى المقدمات المذكورة، وإثبات كون تمام الموضوع هو خصوص واجد القيد الخاص بلا حاجة إلى انضمام قيد آخر مما لا ينهض به الخاص، ولا العام إلا بناء على التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية - وهي الدلالة على كون المطلق تمام المراد - والدلالة الالتزامية - وهي الدلالة على عدم دخل بقية القيود غير القيد الخاص - فتبقى الثانية حجة مع سقوط الأولى، لمنافاتها للخاص، وقد سبق المنع منه.

على أن ما ذكره من الوجه يبتني على أن استفادة العموم لتمام أفراد المدخول من الأدوات الموضوعة له يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل السابق المنع منه، كما سبق هنا أن المهم تحقيق الظهور في إرادة الباقي، ولا يهم تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص حقيقي أو مجازي.

الثالث: استعمال العام في الباقي من باب ضرب القاعدة
اشارة

الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن العام في مورد التخصيص لا يلزم استعماله في الخصوص، ليكون مجازاً مردداً بين مراتب

ص: 79

الخصوص، بل يمكن استعماله في العموم من باب ضرب القاعدة مع كون الخاص مانعاً من حجية ظهوره تحكيماً للنص أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره في العموم، فيقتصر في الخروج عنه على مورد المزاحمة، وهو مورد التخصيص، ويرجع إلى ظهوره في الباقي.

ودعوى: أن ذلك مجرد احتمال لا يرتفع به إجمال العام، لاحتمال عدم استعماله في العموم بقرينة الخاص، بل في بعض مراتب الخصوص التي يلزم بسبب عدم تعيينها الإجمال.

مدفوعة: بأن مجرد احتمال الخروج بالعام عما وضع له من العموم لا يمنع من الرجوع لأصالة الحقيقة فيه بعد فرض استقرار ظهوره في العموم المطابق لها، بل يتعين البناء عليه والاقتصار في الخروج عنه على مورد مزاحمته بالخاص، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه (قدس سره).

ولا يخلو المراد به عن إجمال، لأن القاعدة إذا كانت مجعولة حقيقة بنحو العموم لبيان الحكم الواقعي امتنع مخالفتها بالتخصيص، إلا أن يرجع إلى النسخ الذي هو خلاف الفرض.

توجيه ما ذكره (قدس سره) بوجهين

ومن هنا فقد يوجه ما ذكره بوجهين..

أحدهما: أن العام لم يرد لبيان الحكم الواقعي، بل الظاهري الذي يكون قاعدة يرجع إليها عند الشك، فإنه كثيراً ما لا يتسنى بيان الحكم الواقعي بوجه تفصيلي إما لكثرة الخصوصيات المأخوذة فيه بنحو لا مجال معه للمتكلم لاستيعابها بالبيان ولو لخوف ضياعها على المخاطب، أو لمحذور خارجي في بيان الخصوصيات المأخوذة فيه، فيبين الحكم الظاهري بوجه عام ثم يبين خلافه في مورد الحاجة.

ص: 80

مثلاً: لو علم المولى أن أكثر الواردين عليه يستحق الإكرام، وأن من لا يستحقه منهم قليل يعسر ضبطه أو لا يحسن بيانه بعنوان جامع له، فقد يوجه الخطاب لوكيله بدواً بأن عليه ظاهراً أن يكرم كل من يرد عليه، منبهاً له على أنه إذا رأى أحداً منهم لا يستحق ذلك أعلمه به.

غايته أن القرينة على ورود العام بالنحو المذكور قد لا تضيع، وقد تضيع فيحمل العام بدواً على بيان الحكم الواقعي، وبورود الخاص ينكشف حال العام ويحمل على بيان الحكم الظاهري من باب الجمع العرفي.

ويشكل: بأن ذلك وإن كان وجهاً للجمع يرفع به التعارض بين الدليلين، كما أنه يفي بحجية العام في الباقي، لوجوب الرجوع للحكم الظاهري عند الشك في الحكم الواقعي.

إلا أنه خلاف الظاهر جداً، لما فيه من التصرف في موضوع حكم العام بتقييده بالشك في حكمه الواقعي، وفي نفس حكمه بحمله على التعبد بالحكم ظاهراً في مقام العمل، لا على جعل نفس الحكم، كما أن لازمه عدم التنافي بين حكمي العام والخاص وتحكيم الثاني عملاً بأقوى الدليلين، بل شرح الخاص للمراد من العام مع التباين بين حكميهما سنخاً، على وجه يكون ورود الخاص رافعاً لموضوع العام.

وكل ذلك مما تأباه المرتكزات العرفية في الجمع بين الأدلة.

ومنه يظهر أن هذا الوجه لا يرجع إلى استعمال العام في العموم، ليكون مقتضى أصالة الظهور والحقيقة، لأن تقييد الموضوع بالجهل نحو من التخصيص، كاستعمال العام في الخاص، ويزيد عليه بأن حمل القضية على إرادة التعبد بالحكم ظاهراً، لا على جعله واقعاً نحو من الخروج بها

ص: 81

عما هي موضوعة له وظاهرة فيه.

ومن هنا كان هذا الوجه خلاف المقطوع به من مرتكزات أهل اللسان، ولا سيما أهل الاستدلال، حيث لا إشكال عندهم في أن العام المخصَّص من الأدلة الواقعية، دون الأصول الظاهرية العملية.

ثانيهما: أن العام وإن تضمن بيان الحكم الواقعي التابع لواقع العنوان المأخوذ في العام مع قطع النظر عن الجهل به، إلا أنه لم يرد لبيان المراد الجدي الذي يجب العمل عليه، كما هو مقتضى الأصل العقلائي في كلام المتكلم المعبر عنه بأصالة الجهة، بل لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها، ويخرج عنها في مورد دليل أقوى منها، تسهيلاً لبيان المراد الجدي فيما لو لم يتسن للمتكلم استيعابه بتمام خصوصياته ببيان واحد، لما تقدم في الوجه السابق، إذ كما يكون للمتكلم مخالفة بيانه مراده الجدي لتقية أو لمصلحة الامتحان، كذلك يكون له مخالفته لمصلحة تتعلَّق بالبيان نفسه.

وبذلك يظهر الفرق بين هذا الوجه وما قبله، لابتناء الوجه السابق على ورود العام لبيان المراد الجدي، وإن كان هو الحكم الظاهري عند الشك، وابتناء هذا الوجه على تضمن العام الحكم الواقعي من دون أن يكون مراداً جدياً، بل لضرب القاعدة.

كما أن الرجوع لحكم العام ظاهراً عند احتمال التخصيص على الأول مقتضى نفس الحكم المؤدى بالعام، أما على الثاني فليس هو مقتضى نفس الحكم المؤدى، لفرض أن المؤدى هو الحكم الواقعي، بل مقتضى الغرض من بيان القضية، وهو ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخصص.

ص: 82

ودعوى: أنه مع عدم ورود العام لبيان المراد الجدي لا مجال لحجيته في الباقي، لأن الخاص وإن لم يصلح لبيان عدم إرادة غير مورده بالإرادة الجدية، إلا أنه لا طريق لإحراز إرادة الباقي بإرادة جدية بعد فرض عدم صدور العام لذلك.

والتفكيك في أصالة الجهة بالإضافة لأفراد العام مما لا مجال له مع وحدة الاستعمال والبيان. نظير: ما لو علم بصدور العام تقية واحتمل إرادة بعض أفراده بإرادة جدية ومطابقة مضمونه فيه للحكم الواقعي.

مدفوعة: بأن مبنى ضرب القاعدة - الذي فرض في هذا الوجه - على ذلك، وإلا لم يصلح العام لأن يكون قاعدة يرجع إليها في مقام العمل عند فقد المعارض.

هذا حاصل ما قد يوجه به كلام المحقق الخراساني (قدس سره). ولعله أقرب إلى كلامه من الوجه السابق، لظهور كلامه في أن تقديم الخاص لأنه أقوى الدليلين، لا لأنه رافع لموضوع حكم العام. كما شيد هذا الوجه غير واحد من مشايخنا على اختلاف منهم في بيانه.

لكنه يشكل..

أولاً: بأن مرجع ذلك إلى رفع اليد عن أصالة الجهة في العام، وليس هو بأولى من رفع اليد عن أصالة الظهور والحقيقة فيه بحمله على الاستعمال في الخصوص.

بل لعل العكس هو الأولى، وأن أصالة الجهة مقدمة على أصالة الظهور، ولذا كان بناء أهل الاستدلال على عدم حمل أحد الدليلين على التقية إلا مع تعذر الجمع عرفاً بينهما بالتصرف في ظهور أحدهما أو

ص: 83

ظهورهما معاً ولو بنحو يلزم المجاز.

على أن رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ليس بأولى من رفع اليد عنها في الخاص، بحمله على التقية أو نحوها، لأن أقوائية الخاص ليست من حيثية جهته، بل من حيثية ظهوره، وذلك إنما يقتضي تقديمه على العام من حيثية الظهور مع المحافظة على أصالة الجهة فيهما معاً، لا تقديمه على العام من حيثية الجهة مع المحافظة على أصالة الظهور فيهما معاً، كما هو مقتضى هذا الوجه.

وثانياً: بأن هذا الوجه لا يصلح لتوجيه الرجوع للعام المخصَّص عند الشك في زيادة التخصيص بعد فرض منافاة الخاص له، لأنه قد أُخذ فيه مفروغاً عنه، حيث كان غرضاً من العام لم ينظر في وجه ترتبه عليه، لما تقدم من أن ترتبه عليه بعد البناء على هذا الوجه مقتضى فرض كون الغرض من العام ضرب القاعدة. فهو أشبه بالقضية بشرط المحمول لا تتكفل ببيان وجه ترتب المحمول.

وهذا بخلاف الوجه السابق، لأن ابتناءه على حمل العام على الحكم الظاهري مستلزم لعدم التنافي بين العام والخاص الوارد لبيان الحكم الواقعي، فيكون الرجوع للعام مع الشك في وجود الخاص الآخر مقتضى عموم العام غير المخصص في الحقيقة والذي لا منافي له، الذي هو حجة بلا إشكال.

وبالجملة: لا يصح كون الغرض من العام - المفروض تضمنه الحكم الواقعي - ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في زيادة التخصيص إلا بعد الفراغ عن حجية العام المخصَّص، فلا يصلح لأن يكون توجيهاً لحجية

ص: 84

العام المذكور الذي هو محل الكلام.

بل لا أثر للبناء عليه مع ذلك بعد عدم وقف الأثر العملي عليه.

نعم، لو ابتنى هذا الوجه على مجرد رفع اليد عن أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى مورد التخصيص من دون أن يبتني على كون الغرض منه ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها - كما قد يظهر من بعض تقريباته في كلماتهم - كان بنفسه صالحاً لبيان وجه الرجوع للعام المخصص بعد فرض الاستعمال في العموم وجريان أصالة الجهة فيه بالإضافة إلى بقية الأفراد.

لكن يتوجه عليه حينئذٍ ما سبق من أنه لا مجال للتفكيك في أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى أفراده مع وحدة الاستعمال والبيان.

وربما يظهر من بعض كلماتهم تقريب هذا الوجه بأن الخاص لا يقتضي رفع اليد عن ظهور العام في الاستعمال في العموم، ولا عن أصالة الجهة فيه، بل عن حجيته في الفرد بإرجاع أصالة الجهة إلى الحجية، وحيث كان منشأ رفع اليد بالخاص عن حجية العام معارضته له وأقوائيته منه لزم الاقتصار على مورد المعارضة، دون غيره.

ويشكل: بأن حجية الكلام متفرعة عن كاشفيته عرفاً - بمقتضى سيرة أهل اللسان - عن مراد المتكلم الجدي التابع للملاك والمستتبع للعمل، وحيث يمتنع إرادة المتنافيين بالوجه المذكور كان الخاص منافياً للعام لو كان مستعملاً في العموم بداعي المراد الجدي.

فإن كان المدعى كاشفيته عن عدم استعمال العام في العموم امتنع العمل بالعام مع عدم تعيين ما استعمل فيه - كما قرر في أصل الإشكال -.

ص: 85

وإن كان المدعى كاشفيته عن عدم صدور العام بداعي بيان المراد الجدي رجع لهذا الوجه الذي عرفت الكلام فيه.

وأما رافعيته لحجيته في الفرد من دون أن يكشف عن أحد الأمرين فلا نتعقله.

الرابع: عدم إرادة التخصيص العموم
اشارة

الرابع: ما أشار إليه بعض الأعاظم (قدس سره) في توجيه حجية العام المخصص من أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه، لإمكان أن يراد العموم منه إرادة تمهيدية، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه.

الإشكال فيه

وفيه: أن المراد إن كان هو التمهيد بضرب القاعدة التي يرجع إليها تسهيلاً للبيان رجع للوجه السابق، وجرى فيه ما تقدم.

وإن كان هو التمهيد البياني، نظير التمهيد بذكر عموم الحكم للمستثنى منه أو الموصوف لذكر التقييد بالمستثنى أو الوصف.

فهو إنما يتم في التخصيص المتصل بهيئات خاصة ويكون المحصل معه من مجموع الكلام مضموناً واحداً عرفاً، وهو إرادة تمام أفراد الباقي، ولا مجال لذلك في التخصيص المنفصل الذي يكون المحصل منه مضموناً مبايناً لمضمون العام عرفاً ومنافياً له بنحو لابد من الجمع بينهما.

وصحة اتكال المتكلم أو خصوص الشارع على القرائن المنفصلة كالمتصلة لا يصحح التمهيد لها بالنحو المذكور بعد خروجه عن طريقة أهل المحاورة في الاستعمال.

غاية الأمر أنها تكون صالحة لرفع اليد بها عن مقتضى الظهور المنعقد للكلام الآخر، ومن الظاهر أنها كما قد تكون قرينة عرفاً على تعيين المراد به على خلاف مقتضاه الأول، كذلك قد تكون موجبة للتوقف في مفاده

ص: 86

وصيرورته بحكم المجمل، فلابد في بيان وجه عدم إجمال العام في المقام بعد النظر في حجة القائلين به.

الوجه المختار: في حجية العام في الباقي

ولعل الأولى أن يقال: الوجه في حجية العام المخصَّص في الباقي بناء أهل المحاورة على ذلك وسيرتهم القطعية الارتكازية التي جرت على طبقها سيرة العلماء في مقام الاستدلال من صدر الإسلام إلى يومنا هذا بمقتضى طبعهم من غير نكير منهم ولا توقف.

ولا يعتنى بخلاف من تقدم لشبهة حصلت له بعد شذوذه وخروجه عن سيرتهم وسيرة أهل المحاورة، التي لولاها لاختل نظام الاستدلال واستنباط الأحكام، لكثرة التخصيص في العمومات، حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص.

وكفى بسيرة أهل المحاورة وارتكازياتهم حجة في المقام، لأنها الدليل على حجية الظواهر الكلامية في جميع الموارد.

والظاهر ابتناء حجية العام في الباقي عندهم على صرف العام للباقي بعد تعذر إبقائه على عمومه بسبب الخاص، لا لكون الخاص ناظراً له وشارحاً للمراد منه، ولا لكون الباقي أقرب المجازات، ولا لكون دلالة العام على أفراده انحلالية، ولا لبقية الوجوه المتقدمة، لما سبق من الإشكال فيها.

بل لكون العام بنظر العرف من سنخ المقتضي للكشف عن إرادة المتكلم لأفراده وأحواله، فلا يرفع اليد عنه فيها إلا في مورد المزاحمة بالخاص، عملاً بالمقتضي ما لم يثبت المانع، بناء منهم على التفكيك بين الأفراد والأحوال في استكشاف مراد المتكلم من العام، لخصوصية في

ص: 87

اشتراط صلوح الباقي لحمل العام عليه

العام، لا لعموم التفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية.

نعم، لابد من كون الباقي صالحاً لأن يحمل العام عليه عرفاً، ولا يكون سوقه لأجله مستنكراً عند أهل المحاورة ومستهجناً لديهم، وإلا امتنع حمل العام عليه، ولزم الجمع بوجه آخر إن أمكن، وإلا كان التعارض بين العام والخاص مستحكماً، كما لو لزم تخصيص الأكثر أو أظهر الأفراد أو المورد أو غيرها. كما لابد من تعيين الخاص للتقديم عرفاً في مقام الجمع بينهما، فلو كان هناك وجه آخر صالح لأن يبنى عليه في مقام الجمع تعيّن اختياره إن كان أقرب عرفاً، ولزم التوقف مع عدم المرجح لأحدهما.

وحيث لا ضابط لذلك تعين إيكاله لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة ومحاولة الجمع بينها. إلا أن المفروض في محل الكلام تقديم الخاص ورفع اليد به عن عموم العام، كما سبق في أول الفصل.

هذا، وبعد الفراغ عن تقديم الخاص على العام، وحجية العام في الباقي معه، فالعام المخصص يبتني صدوره ثبوتاً..

تارةً: على التسامح والتوسع في العموم بتنزيل الأفراد الخارجة بالتخصيص منزلة العدم لقلتها أو عدم الاعتداد بها، أو في اللفظ الدال على الماهية بإرادة المقيد منها مجازاً، لقرينة اختفت علينا.

وأخرى: على وجود قرينة على التخصيص المتصل، الذي تقدم أنه لا يبتني على المجاز، وقد اختفت تلك القرينة أيضاًً، وعلى الوجهين لا يكون العام ظاهراً في العموم حين صدوره، وإن ظهر فيه بعد ذلك بسبب اختفاء القرينة والتعويل على أصالة عدمها.

وثالثةً: على كون الداعي من بيان العام الظاهر في العموم حين

ص: 88

صدوره ضرب القاعدة التي يرجع إليها في مقام العمل اعتماداً على البيان المنفصل وقت الحاجة، وإن لم يكن العموم مراداً جدياً... إلى غير ذلك مما يمكن ثبوتاً، وإن لم يدركه العرف في مقام الجمع بين العام والخاص، بل لا يدركون إلّا مجرد صرف الخاص للعام عن مورده إلى الباقي، وحجيته فيه لأجل ذلك، لأن ذلك هو المهم الذي يناط به العمل، فيقتصر نظر العرف عليه، وما سواه أمور واقعية لا دخل لها في العمل قد تدرك بدليل خارج وقد لا تدرك.

العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص
العام المخصص

ص: 89

ص: 90

الفصل الرابع في إجمال الخاص واشتباهه

اشارة

لا إشكال في أن التمسك بالدليل في مورد فرع إحراز موضوعه فيه، فلا يتمسك به مع عدم إحرازه للشبهة الموضوعية أو لإجمال الدليل بنحو الشبهة المفهومية أو غيرها.

ومن هنا لا إشكال في عدم حجية كل من العام والخاص مع عدم إحراز عنوانه. وإنما الإشكال والكلام بينهم في حجية العام بعد إحراز عنوانه في مورد إجمال الخاص والشك في تحقق عنوانه.

هذا، وحيث سبق أن المخصِّص المتصل مانع من انعقاد ظهور العام في العموم تعين عدم حجية العام في مورد اشتباه الخاص المتصل وإجماله مطلقاً لسريان إجمال الخاص المذكور للعام، ويكون العام مجملاً بالإضافة إليه حقيقة، كما لو كان الإجمال والاشتباه في عنوان العام بنفسه.

ومن هنا ينبغي جعل موضوع الكلام اشتباه الخاص المنفصل الذي لا يسري إجماله إلى العام حقيقةً، ولا يمنع من انعقاد ظهوره في العموم الذي عرفت أنه المقتضي للحجية.

إذا عرفت هذا، فإجمال الخاص واشتباهه في بعض الموارد..

ص: 91

تارةً: يكون للشبهة المفهومية.

وأخرى: للشبهة المصداقية، بسبب اشتباه الأمور الخارجية مع وضوح المفهوم وعدم إجمال معنى الخاص.

فيقع الكلام في مقامين..

المقام الأول في الشبهة المفهومية

اشارة

والمعيار فيها خفاء المراد بالخاص، إما لإجمال مفهوم عنوانه لغة أو شرعاً أو عرفاً، أو لاحتفافه بما يمنع من انعقاد ظهوره ويوجب إجماله.

بل يكفي إجماله حكماً مع انعقاد ظهوره بدواً، بسبب القرائن المنفصلة الكاشفة عن عدم إرادة ظاهره به، وأن المراد به أمر آخر مورد للإجمال.

ولا يخفى أن الإجمال بأحد الأنحاء المذكورة..

تارة: يكون للتردد بين الأقل والأكثر، حيث يكون الأقل متيقناً والزائد مشكوكاً، كما لو تردد الفاسق بين مطلق العاصي وخصوص مرتكب الكبيرة، حيث يكون مرتكب الصغيرة فقط مورداً للاشتباه، وكما لو تردد المسافر بين مطلق من خرج عن بلده وخصوص قاطع المسافة بنحو يوجب التقصير شرعاً.

وأخرى: يكون للتردد بين المتباينين، لاشتراك أو غيره، كما لو تردد

ص: 92

زيد بين رجلين.

ومنه: إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه، كما لو تردد الشريف بين العلوي وذي الشأن والمقام الاجتماعي، لأن مورد الاجتماع وإن كان متيقناً من الخاص - نظير صورة التردد بين الأقل والأكثر - إلا أن تباين موردي افتراق كل منهما، والعلم بإرادة أحدهما إجمالاً كاف في جريان حكم المتباينين، إذ لا أثر لوجود المتيقن في محل الكلام، حيث لا إشكال في حجية الخاص دون العام فيه، وإنما الإشكال في حجية العام في مورد الشك، الذي قد يختلف حاله مع العلم الإجمالي.

أما في الصورة الأولى - وهي التردد بين الأقل والأكثر - فالظاهر - تبعاً لما صرح به جماعة - هو حجية العام في مورد الإجمال والاشتباه.

لما تقدم من أن سقوط العام عن الحجية في مورد الخاص المنفصل ليس لارتفاع ظهوره فيه، ولا لكشفه عن عدم استعماله في العموم، بل لمزاحمة ظهوره فيه بما هو أقوى منه، وما يكون عرفاً من سنخ الرافع لمقتضي حجيته.

وذلك لا يتم بالإضافة إلى مورد إجمال الخاص، لأن الخاص لا يكون حجة إلا فيما هو ظاهر فيه، وهو الأقل المتيقن، دون مورد الإجمال والاشتباه، فلا يصلح لمزاحمة العام، الذي تقدم أنه المقتضي للحجية، بل يتعين العمل فيه بالعام، لعدم جواز رفع اليد عن المقتضي في المقام، إلا مع ثبوت المانع. فمورد الإجمال في المقام كسائر موارد الشك في التخصيص الزائد، الذي تقدم حجية العام المخصص فيها.

ومجرد احتمال شمول التخصيص المعلوم له لا يصلح فارقاً بينه

ص: 93

وبينها بعد فرض عدم حجية الخاص فيها.

ودعوى: أن الخاص وإن كان مجملاً يكشف عن عدم إرادة أفراده من العام - وإن كان العام ظاهراً في إرادتها - فمع فرض إجماله لا يعلم بإرادة مورد الإجمال من العام، فلا وجه لحجيته فيه.

مدفوعة: بأن كشف الخاص عن عدم إرادة أفراده من العام بنحو يلزم برفع اليد عن ظهور العام فيها لما كان بملاك تقديم أقوى الحجتين كان متفرعاً على حجيته في أفراده، فمع فرض عدم حجيته في مورد الإجمال لا يصلح للكشف عن عدم إرادته من العام، ليرفع به اليد عن مقتضى الحجية فيها.

نعم، لو كان الجمع بين العام والخاص مبتنياً على كون الخاص قرينة على استعمال العام في ما عداه، خروجاً به عن معناه الموضوع له فقد تتجه الدعوى المذكورة، حيث يلزم إجمال المعنى المستعمل فيه العام وعدم وضوح شموله لمورد الاشتباه بعد فرض عدم استعماله في ما هو ظاهر فيه في نفسه، فلا أثر لشموله للمورد المذكور، نظير: ما لو وجب إكرام العالم، ثم قامت القرينة الخارجية على عدم استعمال العالم في معناه الحقيقي، بل أريد منه مجازاً معنى مردداً بين خصوص العامل به في نفسه النافع به لغيره، ومطلق العامل به وإن لم ينفع به غيره.

لكن سبق عدم ابتناء الجمع بينهما على ذلك، بل على تقديم الخاص بملاك تقديم أقوى الحجتين، فيقصر عن مورد الإجمال، كما تقدم، وينفرد به العام.

بل قد يُدّعى أن العام يكون بياناً للخاص وشارحاً له، لأن العام حيث

ص: 94

يكون حجة في مورد الإجمال وصالحاً للكشف عن كونه مراداً جدياً منه فاللازم عدم إرادته من الخاص وقصوره عنه.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، لعدم نظر العام للخاص، ليكون بياناً شارحاً للمراد منه ورافعاً لإجماله.

وأصالة العموم وإن اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك، إلا أنها لا تنهض بشرح المراد من الخاص وتعيين مفهومه، وإن كان لازماً له، لعدم وضوح البناء على ذلك من العقلاء وأهل اللسان الذين هم المرجع في تحديد مقتضى أصالة العموم، وقد تقرر في محله أن حجية الأمارة في لازم مؤداها سعة وضيقاً تابع لبناء العقلاء الذي هو المعيار في حجيتها.

وإن شئت قلت: المتيقن من بناء العقلاء على أصالة العموم هو الرجوع إليها في إجراء حكم العام في مورد الشك في التخصيص، دون ترتيب جميع لوازم ذلك بما فيها شرح مفاد الأدلة الأُخر ورفع إجمالها، وبيان مفاهيم العناوين المأخوذة فيها.

كيف ولازم ذلك ارتفاع الإجمال في عنوان الخاص بلحاظ جميع أحكامه، حتى غير حكم الخاص! ولا يُظَن من أحد البناء عليه.

ولعله يأتي نظير ذلك في بعض المباحث المتعلقة بالمقام.

وأما في الصورة الثانية - وهي الدوران بين المتباينين - فالظاهر سقوط العام عن الحجية في كل من طرفي الترديد بخصوصه، للعلم الإجمالي بإرادته من الخاص، فيكون الخاص حجة فيه إجمالاً، بنحو يمنع من جريان أصالة العموم في كل منهما بخصوصه، للعلم الإجمالي بكذبها معه، مع عدم المرجح لأحدهما بعد كون نسبتهما لكل من العام والخاص بنحو واحد.

ص: 95

ولا مجال لقياسه بالعلم الإجمالي بكذب الأصل العملي في أحد الموردين إجمالاً، حيث تقرر في محله جريان كل منهما وترتب الأثر عليه ما لم يلزم مخالفة عملية لعلم إجمالي منجز.

للفرق بينهما بأن لأدلة الأصول العملية إطلاقاً يشمل أطراف العلم الإجمالي من دون محذور في التعبد الظاهري على خلاف العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزاً، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.

بل لا يلزم التكاذب بين التطبيقين حقيقة بلحاظ ذلك.

أما أصالة العموم فليس الدليل عليها إلا بناء العقلاء، وهو يقصر عن صورة العلم الإجمالي بالكذب بعد كون مفاد العام حكماً واقعياً، وثبوته في أحد طرفي الترديد بمقتضى عموم العام مستلزم لانتفائه في الآخر، فيلزم التكاذب بين تطبيقي العام في كلا طرفي الترديد بلحاظ المدلول الالتزامي المذكور.

ولا أقل من الشك في بناء العقلاء على الرجوع لأصالة العموم حينئذٍ، حيث يلزم التوقف عنها بعد انحصار الدليل عليها به.

نعم، الظاهر أنها إنما تقصر عن كل منهما بخصوصيته، لا عن أحدهما إجمالاً، لأن الخاص إنما يكون حجة في أحدهما إجمالاً، لا في كليهما، والتوقف في كل منهما بخصوصه إنما هو لعدم المرجح، لا بنحو يمنع من حجية العام في أحدهما إجمالاً، لأصالة العموم.

فيلزم البناء على ثبوت حكم العام كذلك وترتيب أثره من وجوب الاحتياط - لو كان تكليفاً - وغيره.

وعلى ذلك يلزم الرجوع إلى قواعد العلم الإجمالي في طرفي

ص: 96

الترديد، فإن كان حكم الخاص إلزامياً دون العام، أو بالعكس، أو كلاهما إلزامياً من دون تناف عملي بينهما - كما لو تضمن أحدهما وجوب الإكرام بدينار والآخر وجوب الإكرام بثوب - لزم الاحتياط في الفردين على طبق الحكم الإلزامي المفروض، وإن كان كلاهما إلزامياً مع التنافي بينهما عملاً - كما لو تضمن أحدهما وجوب الإكرام والآخر حرمته - امتنع الاحتياط، وكان كلا الطرفين مورداً للدوران بين محذورين، الذي تحقق في محله أن حكمه التخيير.

إلا أن يكون هناك دليل أو أصل آخر مانع من منجزية العلم الإجمالي، وشارح للوظيفة في كل من الفردين بنحو لا ينافي العلم الإجمالي المذكور. على ما يذكر في محله من مباحث العلم الإجمالي.

ونظير ذلك ما لو علم إجمالاً بالتخصيص في أحد فردين من عام واحد أو عمومين، لا لإجمال المخصص الواحد - كما هو محل الكلام - بل للعلم الإجمالي بصدور أحد الخاصين أو حجيته، لعين الوجه المتقدم.

بل الظاهر جريانه أيضاً فيما لو دار الأمر بين التخصيص في أحدهما المردد والتخصيص في كليهما، فإن التخصيص المعلوم إجمالاً واحد، وهو وإن لم يحرز تعينه واقعاً، لاحتمال ثبوت التخصيصين معاً، ولا مرجح لأحدهما في انطباق التخصيص المعلوم عليه، إلا أن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم إجمالاً وإن لم يكن له تعين واقعي.

ولازمه البناء على ثبوت حكم العام في أحد طرفي الترديد، فيجري فيه ما سبق من مقتضى العلم الإجمالي. فلاحظ.

ص: 97

تنبيه: الكلام في تخصيص الدليل المجمل
تنبيه:

قد يكون الدليل المجمل مردداً بين معنيين يلزم تخصيص العام من أحدهما دون الآخر، كما لو ورد: يجب إكرام كل فقيه، وورد: لا يجب إكرام زيد، وتردد زيد بين شخصين أحدهما فقيه والآخر نحوي، أو ورد: لا يجب إكرام أولاد عمرو، وورد: يجب إكرام زيد، وتردد زيد بين أحد أولاد عمرو وغيره.

وحينئذٍ لا إشكال في أن الدليل المجمل المذكور لا ينهض بتخصيص العام، بل مقتضى أصالة العموم في العام إرادة فرده الذي هو طرف الترديد.

نعم، إن كان ثبوت الحكم للفرد الآخر منافياً لعموم آخر - كما لو ورد في المثال الأول عموم وجوب إكرام النحوي أيضاً - لزم العلم الإجمالي بتخصيص أحد العمومين الذي تقدم الكلام فيه.

وأما إذا كان منافياً لأصل عملي، كما في المثال الثاني المتقدم، لأن مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب إكرام الشخص المذكور، فلا يبعد لزوم رفع اليد عن الأصل المذكور، لأن الدليل المذكور وإن لم ينهض بنفسه لرفع اليد عن الأصل بسبب إجماله، كما أن العام لا يصلح لشرح المراد منه بنحو يرفع إجماله، لما سبق من قصور العموم عن ذلك، إلا أن الخاص لما كان بنفسه حجة على ثبوت حكمه لمورده على إجماله، والعام حجة على ثبوت حكمه لفرده الذي هو طرف الترديد، وكان لازم ثبوت حكمه لفرده

ص: 98

المذكور ثبوت حكم الدليل المجمل للفرد الآخر، كان العام حجة بمدلوله الالتزامي على ذلك، لأن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في مثل هذا من لوازم مؤداه، فيكون حاكماً على الأصل الجاري في الفرد المذكور.

ومن هنا لا مجال للبناء على التوقف عن عموم العام في فرده المذكور وعن الأصل العملي في الفرد الآخر، لدعوى: مخالفة مؤداهما للعلم الإجمالي بثبوت التكليف في أحد الفردين من دون مرجح لأحدهما. فتأمل جيداً.

إجمال الخاص مفهوماً
إجمال الخاص مفهوماً
إجمال الخاص مفهوماً
إجمال الخاص مفهوماً

ص: 99

المقام الثاني في الشبهة الموضوعية

اشارة

وقد اختلفت كلماتهم في حجية العام في مورد الاشتباه بين القول بحجيته مطلقا، وبعدمها كذلك، وبالتفصيل بوجوه مختلفة يأتي الكلام فيها.

ومحل كلامهم - حسبما يظهر من حججهم - هو صورة الشبهة البدوية.

أما مع العلم الإجمالي بفردية أحد فردين للخاص فالظاهر عدم الإشكال بينهم في جريان حكم العلم الإجمالي بالتخصيص الذي تقدم الكلام فيه في المقام الأول، لعدم الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية فيه، وإنما لم يتعرضوا لذلك لوضوحه، وليس الإشكال عندهم إلا من حيثية الشك بنفسه مع قطع النظر عن الخصوصيات الزائدة عليه، لاختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية فيه. أما العلم الإجمالي فهو خصوصية زائدة على الشك لا يفرق فيها بين الموردين.

نعم لو دار الأمر بين فردية فرد واحد للخاص وفردية فردين فالشك في فردية الثاني من صغريات الشبهة البدوية التي هي محل الكلام، ولا مجال للجزم فيها بحجية العام، كما تقدم في المقام الأول، لابتنائه هناك على

ص: 100

المفروغية عن حجية العام مع الشك في التخصيص بنحو الشبهة الحكمية.

المختار في المسألة وعموم حجية العام

إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم حجية العام في الشبهة المذكورة مطلقاً، وأن ما قيل بحجيته فيها من الموارد إما غير تام أو خارج عنها حقيقة.

والوجه في ذلك: أن التمسك بالعام - بل بكل دليل - في مورد إنما هو بعد الفراغ عن تعيين المراد الجدي به، بحيث ينقح به موضوع الحكم المستلزم له ثبوتاً، ثم إحراز تحقق ذلك الموضوع في ذلك المورد بالوجدان أو بدليل آخر.

فالتمسك بالعام يبتني على قياس اقتراني مؤلف من كبرى حملية تتضمن موضوع الحكم الملازم له ثبوتاً يستفاد من الدليل كون مضمونها مراداً بالإرادة الجدية، وصغرى حملية تتضمن ثبوت الموضوع المذكور في المورد الذي يراد الرجوع للدليل فيه.

فإذا ورد: أكرم كلَّ عالم، فلابد في التمسك به لوجوب إكرام زيد أن يحرز..

أولاً: المراد الجدي منه، لينقّح به موضوع الحكم الواقعي.

وثانياً: تحقق الموضوع المستفاد من ذلك في زيد. ولا يكفي إحراز أن زيداً عالم في وجوب إكرامه إذا لم يحرز تعلق الإرادة الجدية بالعموم، فضلاً عما إذا أحرز عدم تعلقها به. ولذا لو كان العموم مخصصاً وأحرز دخول زيد في الخاص لم ينهض العموم بإثبات وجوب إكرامه بلا إشكال.

وحينئذٍ حيث كان مقتضى الجمع بين العام والخاص عدم تعلق الإرادة الجدية بالعموم، بل بما عدا مورد الخاص منه، فلا وجه للاكتفاء بإحراز عنوان العام في مورد الشك في تحقق عنوان الخاص، لعدم إحراز

ص: 101

موضوع الحكم الواقعي المستلزم له ثبوتاً بذلك.

ولا أثر لإحراز عنوان العام بعد ثبوت عدم كونه تمام الموضوع، إذ لا يكفي في ترتب الحكم إحراز جزء الموضوع قطعاً.

وبعبارة أخرى: التوقف عن حكم العام في الفرد ليس لمجرد حجية الخاص فيه، كي يقصر عن المقام بعد فرض عدم حجية الخاص في الفرد، بل لحجية الخاص - بعد فرض عدم الإجمال فيه - في شرح المراد من العام وتحديد موضوع حكمه وتخصيصه بما عدا أفراد الخاص الواقعية، فمع فرض عدم ظهور حال الفرد من هذه الجهة يتعين التوقف فيه عن حكم كل من العام والخاص بعد عدم إحراز موضوعه الواقعي المتحصل بعد الجمع بين الأدلة.

نعم، لو كان الخارج عن العام واقعاً خصوص ما علم كونه من أفراد الخاص اتجه حجية العام في مورد الشك وخرج عن محل الكلام، لرجوعه إلى اليقين بعدم فردية مورد الشك من الخاص.

لكن ذلك إن ابتنى على ظهور الخاص في نفسه في الاختصاص في مورد العلم، فهو مخالف لإطلاق دليله.

وإن ابتنى على تنزيل الخاص على ذلك في مقام الجمع بينه وبين العام، فلا وجه له بعد فرض إطلاق الخاص وكون الفرد المذكور كسائر أفراد الخاص مورداً للتنافي بينه وبين العام المفروض تقديمه عليه.

كما أنه لو أحرز خروج الفرد عن الخاص بدليل آخر أو بأصل فالمتجه البناء على ثبوت حكم العام على ما يأتي الكلام فيه في ذيل الكلام في المسألة. لكنه خارج عن محل الكلام.

ص: 102

وربما يوجه المدعى بوجه آخر يرجع لما تقدم، حاصله: أن العام كسائر الأدلة إنما يكون حجة على مضمونه المراد منه جداً، المستكشف به باستقلاله أو بضميمة القرائن الخارجية، ومنها الخاص، وهو في المقام الحكم التابع للموضوع بما له من حدود مفهومية، ولا يكون بنفسه حجة على ثبوت الحكم للفرد، لعدم تعرضه له بوجه، وإنما يبنى على ثبوت حكمه في الفرد لأن ذلك مقتضى طبيعة نفس الحكم المستفاد منه والمضمون المؤدى به، الذي هو حجة فيه، فإن ثبوت الحكم للموضوع بضميمة تحقق الموضوع في الفرد يقتضي ثبوت الحكم للفرد.

وحينئذٍ بعد فرض كون مقتضى الجمع بين العام والخاص قصور موضوع حكم العام عن بعض أفراد عنوانه - وهو الداخل في الخاص واقعاً - واختصاصه بما عداه، فملازمة الحكم للموضوع إنما تنفع في إثبات الحكم للفرد بعد إحراز الموضوع الحقيقي فيه، وهو المتحصل بعد التخصيص، ولا يكفي فيه إحراز عنوان العام الذي ثبت عدم كونه تمام الموضوع.

ولا مجال لقياسه بصورة إجمال مفهوم الخاص، لأن كلاً من العام والخاص لما كان متعرضاً للحكم، وكانا متنافيين في تحديد موضوعه، فمع فرض عدم حجية الخاص في مورد الإجمال يتعين حجية العام في إحراز عموم موضوع الحكم له، لظهوره فيه من دون معارض، فمع إحراز تحققه في الفرد يتعين ثبوت الحكم له.

استدلال التقريرات لعدم حجية العام

هذا، ويظهر من التقريرات الاستدلال لعدم حجية العام في المقام بأن العام لا يصلح لرفع الشك في المصداق المشتبه، ولا يكون بياناً على خروجه عن أفراد الخاص، لعدم سوق الكلام له، وعدم كون بيانه وظيفة

ص: 103

للمتكلم.

ولا يخفى أن الاستدلال بذلك إنما يتجه بعد الفراغ عن توقف الرجوع للعام في الفرد المشتبه على رفع الشك المذكور فيه.

وبعد تسليم ذلك لا يظن من أحد التوقف في عدم حجية العام ليحتاج للاستدلال المذكور، وإن كان قد يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) نهوض العام برفع الاشتباه، كما يأتي.

والظاهر أن عمدة أدلة القائلين بحجية العام ترجع إلى حجيته مع بقاء الاشتباه في الفرد، نظير حجيته مع إجمال المخصص مفهوماً، حيث تقدم أن العام حجة وإن لم ينهض بشرح حال الخاص، وأنه شامل لمورد الشك أولاً.

ومن ثم كان الأنسب في الاحتجاج على المدعى ما ذكرنا. فلاحظ.

استدلال العراقي (قدس سره) على المنع من حجية العام

لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) العكس، فقد ذكر أن العمدة في المنع عن التمسك بالعام ما سبق من التقريرات، وأنه لولاه تعين حجية العام في مورد الاشتباه، لأن دليل التخصيص لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع للحكم، بل يبقى عنوان العام على ما هو عليه من الموضوعية، والتخصيص لا يكشف إلا عن خروج مورده عن حكم العام، دون أن يقتضي إضافة جزء آخر متمم للموضوع، وذكر أن هذا هو الفرق بين التخصيص والتقييد، فإن تقييد الإطلاق يوجب رفع اليد عن ظهور المطلق في كون عنوانه تمام الموضوع، ويكشف عن كون عنوان القيد متمماً لموضوع حكم المطلق، بخلاف التخصيص، فإنه لا يقتضي إلا رفع اليد عن عموم الحكم مع بقاء عنوان العام تمام الموضوع لحكمه.

ص: 104

وحينئذٍ لا مانع من التمسك بالعام في الفرد المشتبه بعد فرض إحراز عنوان العام فيه الذي هو تمام الموضوع لحكمه، وعدم إحراز خروجه بالتخصيص، لعدم إحراز عنوانه. وإنما يتجه ذلك في المطلق إذا ثبت تقييده وشك في دخول أفراده تحت المقيد، لما تقدم من عدم كون المطلق حينئذٍ تمام الموضوع.

وكأن مبنى الفرق الذي ذكره بين التخصيص والتقييد على ما قد يدّعى من أن أداة العموم تكشف عن كون مدخولها الماهية المطلقة، وحيث كان التخصيص منافياً لسريان الحكم في أفرادها تعين حمل الخاص على الإخراج من دون أن يكشف عن إرادة الماهية المقيدة من الدخول، لمنافاته للأداة. أما في المطلق فاستفادة إرادة الماهية المطلقة لما كان بسبب مقدمات الحكمة، وكان ورود المقيد مانعاً من التعويل على المقدمات المذكورة، تعين كشف المقيد عن إرادة الماهية المقيدة من المطلق المستلزم لدخل القيد في موضوع الحكم.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

هذا، ولا يهم الكلام في تمامية الفرق المذكور، وإنما المهم تحقيق حال ما ذكره في التخصيص، فإنه لا يخلو عن غموض.

إذ المراد بالموضوع في كلامهم ما يكون بمنزلة العلة التامة للحكم، بحيث يستلزمه ولا يحتاج ثبوت الحكم معه إلى أمر آخر. وحينئذٍ يكون الجمع بين كون عنوان العام تمام الموضوع للحكم وعدم ثبوت الحكم لأفراد الخاص كالجمع بين النقيضين.

إلا أن يريد بكون العام تمام الموضوع أنه تمام الموضوع العنواني بمعنى أن دليل التخصيص لا يقتضي إضافة عنوان لموضوع الحكم غير

ص: 105

عنوان العام يكون قيداً فيه، بل مجرد خروج مورده المستلزم لعدم ثبوت الحكم لتمام أفراد الموضوع العنواني، وعدم كونه تمام الموضوع بالمعنى الأول المتقدم منهم.

وهو حينئذٍ أمر معقول في نفسه يأتي الكلام فيه في ذيل المسألة، إلا أنه لا ينفع في حجية العام في ما نحن فيه، لأن إحراز الموضوع العنواني في الفرد إنما يقتضي ثبوت الحكم له إذا أحرز كونه موضوعاً بالمعنى الأول المتقدم، بحيث يثبت الحكم لجميع أفراده - ليترتب معه شكل قياسي بالنحو المتقدم - لا في مثل المقام مما فرض فيه خروج بعض الأفراد منه، واحتمل كون الفرد من القسم الخارج.

دفع الإشكال المذكور في كلامه (قدس سره)

ثم إنه (قدس سره) قد أشار في مقالاته إلى دفع الإشكال الذي ذكرناه بقوله: «كما أن مجرد كون المخصص موجباً لتضييق دائرة حجية العام بغير ما انطبق عليه مفهومه - ومع الشك في مصداق المخصص يشك في انطباق الحجة من العام عليه أيضاًً - لا يوجب رفع اليد عن العام بالمرة، إذ العام إنما خرج عن الحجية من جهة الشبهة الحكمية. وأما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فلا قصور للعام بعد صدقه على هذا الفرد أن يشمله، وبالملازمة يستكشف بأن المشكوك خارج عن مصداق الخاص...».

دفع ما ذكره (قدس سره)

وهو كما ترى! لوضوح أن الملازمة لو كانت كافية في مثل ذلك - وغض النظر عما تقدم في نظير المقام - فمن الظاهر أن الخروج عن مصاديق الخاص ليس ملازماً لعنوان العام المفروض إحرازه في الفرد المشتبه، بل لحكمه المفروض الشك فيه، وقد سبق أن العام إنما يكون حجة على إثبات حكمه في الفرد بعد حجيته على تحديد الموضوع الواقعي للحكم، وإحراز

ص: 106

ذلك الموضوع في الفرد، وحيث كان العام قاصراً عن أفراد الخاص الواقعية - بمقتضى فرض التخصيص واعترف به في الإشكال - لم يكن حجة في إثبات حكمه للفرد المشتبه، ليتعدى منه للازمه، وهو خروجه عن مصاديق الخاص.

وبعبارة أخرى: حجية العام في الشبهة الموضوعية فرع حجيته في الشبهة الحكمية، لما تقدم من أن التمسك به في الفرد إنما هو بعد إحراز كونه من مصاديق موضوع الحكم الذي يكون العام حجة فيه، وحيث فرض قصور موضوع الحكم المتحصل بعد التخصيص وعدم إحرازه في الفرد لا وجه لحجية العام فيه على إثبات حكمه، ليتعدى من ذلك إلى إحراز خروجه عن الخاص بضميمة الملازمة المذكورة.

على أنه إذا كانت حجية العام في حكم الفرد المشتبه موقوفة على إحراز خروجه عن الخاص لزم إحرازه في مرتبة سابقة على حجيته فيه، وإحرازه في مرتبة لاحِقَة بضميمة الملازمة دوري، وإن لم تكن موقوفة عليه فلا أهمية لإثبات نهوض العام بإحرازه بضميمتها، لأن المهم إنما هو إثبات الحكم في الفرد المشتبه.

وبالجملة: الظاهر عدم الإشكال في عدم نهوض العام بإثبات خروج الفرد عن عنوان الخاص، لعدم تعرض العام إلا لثبوت حكمه في فرض ثبوت موضوعه، من دون نظر لتنقيح موضوعه، فضلاً عن تنقيح عنوان الخاص ونفيه. وعليه يبتني ما سبق من التقريرات، وسبق أنه (قدس سره) قد عول عليه. ومن ثم كان كلامه في غاية الاضطراب والإشكال.

وجه القول بحجية العام في الشبهة المصداقية

بقي الكلام في وجه القول بحجية العام في مورد اشتباه الخاص في

ص: 107

المقام، فاعلم أنه قد يستدل عليه بوجهين:

الأول: أن الخاص إنما يزاحم العام في ما هو حجةً فيه، وحيث لا يكون حجة في مورد الاشتباه لا وجه لرفع اليد عن العام فيه، إذ لا ترفع اليد عن الحجة إلا بالحجة.

ويظهر اندفاعه مما سبق، إذ الخاص بعد أن لم يكن مجملاً كان حجةً في تمام أفراده حتى ما كان منها مورداً للاشتباه، وصالحاً لمزاحمة العام فيها، بنحو يكشف حكمه عنها بتمامها، وحيث كان العمل بالدليل في الفرد متفرعاً على إحراز تحقق موضوع حكمه فيه، لا يكفي في العمل بالعام في مورد الاشتباه إحراز عنوانه بعد أن كان مقتضى الجمع عدم كونه تمام الموضوع للحكم، بل لابد من إحراز تمام الموضوع المتحصل منه بعد الجمع، وبعد فرض عدم إحرازه فيه لا مجال للبناء على ثبوت حكمه فيه، وإن لم يكن الخاص حجة فيه أيضاًً.

الثاني: أن عنوان العام مقتضٍ لثبوت حكمه، وعنوان الخاص من سنخ المانع منه، فمع إحراز المقتضي في الفرد المشتبه والشك في المانع يتعين البناء على عدم المانع والعمل على طبق المقتضي، ومرجع ذلك إلى عدم تعويل العقلاء على احتمال المانع وهو الخاص بعد إحراز المقتضي وهو العام في المقام، بل يبنون معه على ثبوت المعلول، وهو حكم العام.

ويندفع بما ذكره غير واحد من منع الكبرى والصغرى. حيث لم يتضح من بناء العقلاء عموم الرجوع لقاعدة المقتضي، سواءً أريد بها مجرد عدم الاعتناء باحتمال المانع في مقام العمل، أم التعبد ظاهراً بعدمه عند احتماله، وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد وليس منها المقام.

ص: 108

كما أنه لا يطَّرد كون عنوان العام من سنخ المقتضي للحكم وعنوان الخاص من سنخ المانع منه، بل قد يكون عنوان العام جزء المقتضي أو من سنخ ارتفاع المانع، والتخصيص متضمناً بيان المقتضي أو متممه أو شرطه.

وهو لا ينافي ما سبق منّا في وجه حجية العام في الباقي من أن العام من سنخ المقتضي للحجية والخاص من سنخ المانع، فإن كون دليل العام من سنخ المقتضي للحجية لا يستلزم كون عنوانه من سنخ المقتضي للحكم، كما لا يلزم من كون دليل الخاص من سنخ المانع من حجية العام كون عنوانه من سنخ المانع من حكمه، لعدم السنخية بين مقامي الإثبات والثبوت.

الكلام في التفصل في المسألة
اشارة

وحيث اتضح وجه الاستدلال للقول بحجية العام في الشبهة المصداقية وبعدمها يقع الكلام في الأقوال المفصَّلة، وقد أشرنا آنفاً إلى أن ما قيل فيه بحجية العام من موارد الشبهة المصداقية إما غير تام أو خارج عنه حقيقة.

ومن ثم يتعين النظر في الأقوال المفصلة وفي أدلتها.

فاعلم أن النظر في كلماتهم يشهد بعد التأمل بتداخل التفصيلات في كلماتهم، حيث قد يظهر منهم الاستدلال والتمثيل لكل منها بما يناسب الآخر. ولعل الأولى إرجاعها إلى وجوه أربعة..

القول الأول ما يظهر من التقريرات

الأول: ما يظهر من التقريرات في عنوان كلامه - وإن لم يناسبه تمامه بلحاظ الأمثلة ووجه الاستدلال - من أن الخاص إذا كان عنوانياً لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه، وإن لم يكن عنوانياً كان العام حجة فيه.

وتوضيح ذلك أن الخاص..

تارة: يكون مسوقاً لبيان دخل عنوانه في الحكم، بحيث يكون ثبوته

ص: 109

للأفراد من حيثيته. كما هو الظاهر في العنوان الذي له منشأ انتزاع في الخارج كالعالم والجار ونحوهما، دون مثل (هؤلاء) مما يحكى عن الأفراد رأساً.

وأخرى: يكون مسوقاً لمحض الحكاية عن الأفراد والإشارة إليها مع كونها بخصوصياتها المتباينة موضوعاً للحكم، سواء كانت الأفراد جزئيات خارجية، كما لو سبق من المتكلم ذكر مجموعة أشخاص للمخاطب، ثم قال: لا تكرم من سبق ذكره، لوضوح أن سبق الذكر لا دخل له في الحكم، أم عناوين كلية، كما في قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ (1)، لوضوح أن موضوع التحريم هو العناوين الخاصة من الخنزير والميتة وغيرهما بخصوصياتها المتباينة، لا بعنوان كونها مما يتلى.

أما الأول فمقتضاه ثبوت الحكم لعنوانه المستلزم لقصور حكم العام عن مورده تبعاً لقصور موضوعه عنه، من دون فرق بين أن يكون العام عنوانياً وأن يكون غير عنواني.

ولازم ذلك امتناع الرجوع للعام في مورد الشك في الخاص، لعدم إحراز موضوع حكمه، كما تقدم. من دون فرق في ذلك بين أن يكون العنوان دخيلاً في الملاك ثبوتاً، وأن يكون ملازماً لعنوان آخر هو الدخيل فيه لا يتيسر تشخيصه من غير طريقه، لأن الفرق المذكور لا يوجب الفرق في إناطة الحكم بالعنوان في مقام الاحتجاج وإلإلزام، إذا إناطة الحاكم حكمه بالعنوان إنما هو لتحديد مورد الملاك، وهو حاصل في المقام.

نعم، لو صرح بأن ذكر العنوان إنما هو لملازمته لعنوان أو عناوين أُخَر لم يبعد ظهور حاله في إناطة الحكم بذلك العنوان أو العناوين الأخر على

ص: 110


1- سورة المائدة: 1.

إجمالها.

لكن حيث كان الشك في العنوان المذكور ملازماً للشك في العنوان الذي هو موضوع الحكم جرى فيه ما سبق من لزوم التوقف عن العام في مورد الشك في عنوان الخاص، لعدم الفرق بينهما في الجهة المتقدمة.

نعم، قد يظهر الفرق بينهما عند الرجوع للأصول الموضوعية، حيث يلزم هناك تنقيح الأصل للعنوان المذكور في دليل التخصيص، وهنا تنقيحه للعنوان الآخر على إجماله، وهو خارج عن محل الكلام. فتأمل.

وأما الثاني فهو حجة على ثبوت الحكم للأفراد المتعددة بخصوصياتها المستلزم لتخصيصات متعددة بعدد الأفراد تبعاً لتعدد الخصوصيات التي لا يثبت حكم العام معها. بمعنى انحلال الخاص إلى تخصيصات متعددة بتعدد الأفراد. ولازم ذلك أن يرجع الشك في انطباق عنوان الخاص على بعض الأفراد إلى الشك في تخصيص العام بذلك الفرد بخصوصيته استقلالاً زائداً على التخصيص بالأفراد المعلومة، من دون فرق بين أن يكون العام بنفسه عنوانياً وكونه غير عنواني، فيتعين حجية العام فيه بعد فرض عدم حجية الخاص فيه، لأصالة العموم مع الشك في زيادة التخصيص بلا إشكال.

وبعبارة أخرى: وضوح العنوان مفهوماً لا أثر له بعد فرض عدم كونه بنفسه مورداً للتخصيص، وإنما المهم وضوح أفراده التي هي مورد التخصيص، والتي سيق لمحض الحكاية عنها، ومع فرض الاشتباه في بعضها وعدم المنجز للفرد المشتبه من غير طريق العنوان يتعين الرجوع فيه لأصالة العموم.

فهو في الحقيقة خارج عن محل الكلام من الشك في مصداق الخاص

ص: 111

إلى الشك في مقدار التخصيص.

ودعوى: أن ظاهر حال الحاكم أنه أوكل تشخيص موضوع حكمه إلى المكلف، فمع فرض تقييده بقيد لم يحرزه المكلف في مورد الاشتباه لا مجال لإحرازه الحكم.

مدفوعة: بأنه بعد فرض دوران القيد بين الأقل والأكثر، وكون نفي الزائد مقتضى أصالة العموم يحرز موضوع الحكم في مورد الاشتباه، فيحرز الحكم بتبعه.

ومن هنا كان الظاهر تمامية التفصيل المذكور. لكنه ليس تفصيلاً في محل الكلام حقيقة وإن أوهمه.

هذا، وقد احتج عليه في التقريرات بما يناسب التفصيل الثاني الذي يأتي الكلام في وجهه.

القول الثاني: كون العام ظاهراً في العنوان المشتبه
اشارة

الثاني: أنه إذا كان العام ظاهراً في إحراز عنوان المشتبه - المفروض إناطة الحكم به زائداً على عنوان العام - في تمام أفراده تبعاً لتحقق الحكم فيها كان حجة في الفرد المشتبه وتعين البناء على ثبوت حكمه فيه، وإن لم يكن ظاهراً في ذلك تعين عدم حجيته في الفرد المشتبه والتوقف عن ثبوت حكمه فيه.

وتوضيح ذلك: أنه لما كان ظاهر العام بدواً ثبوت حكمه في تمام أفراده، كان مقتضاه بدواً ثبوت تمام ما يتوقف عليه الحكم من الملاك وما يستلزمه فيها، فإذا قال المولى: أكرم كل من يدخل بيتي، وعلم من الخارج توقف وجوب الإكرام بنظره على العلم والعدالة كان ظاهر العموم المتقدم كون كل من يدخل بيته عالماً

ص: 112

عادلاً، كما يكون مقتضاه تمامية ملاك وجوب الإكرام في جميعهم، ومقتضاه عدم التنافي بينه وبين ما دل على اعتبار العلم والعدالة في من يجب إكرامه.

الإشكال على القول المذكور

لكن البناء على ذلك مما لا يمكن في أكثر عمومات الأحكام - الشرعية وغيرها من الأحكام العامة في القوانين ونحوها - مع أدلة اعتبار بعض الأمور في موضوعاتها، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجاً بين العناوين المأخوذة في العمومات والعناوين المأخوذة في تلك الأدلة، بنحو لا مجال عرفاً معه لحمل العام على تحقق تلك الأمور والعناوين في أفراده، بل يتعين البناء على التنافي بين الدليلين.

ومن ثَمَّ يُبنى على أن أدلة اعتبار تلك الأمور في حكم العام مخصصة للعام وكاشفة عن أن المراد الجدي بالعام إثبات حكمه في بعض أفراد موضوعه أو أحواله، وهو مورد تحقق ما دلت تلك الأدلة على اعتباره في الحكم. ومرجعه إلى اختصاص موضوع حكم العام بصورة تحقق ذلك الشيء.

ولذا تقدم منّا في الاستدلال للمدعى أن إحراز عنوان العام في الفرد لا يكفي في جريان حكمه فيه، بل لابد من إحراز موضوعه الحقيقي المتحصل منه بعد الجمع بينه وبين الخاص.

لكن كثيراً ما يكون ظاهر العام - في القضايا الشرعية وغيرها - تحقق ذلك الأمر المعتبر في الحكم في تمام أفراده، وأنه ملازم لعنوان العام كحكمه، لعدم المانع من ذلك بسبب عدم وضوح الانفكاك بينهما عند العرف. بل لا إشكال في دلالته على ذلك لو كان ذلك الأمر ظاهر الملازمة

ص: 113

للحكم عقلاً، كالملاك، أو عرفاً، كالطهارة اللازمة عرفاً وارتكازاً للمطهرية، حيث يكون وضوح لزومها فيها مستلزماً لدلالة عموم مطهرية الشيء على عموم طهارته، فيما لو لم يتضح عدم التلازم بينهما، على ما فصلنا الكلام فيه في مباحث المياه من الفقه.

وفي مثل ذلك لا مجال لدعوى تقييد موضوع حكم العام بصورة وجود ذلك الشيء، إذ لا معنى للتقييد به مع الحكم بوجوده تبعاً لعموم الحكم الملزوم له، بل يكون مقتضى عمومه ثبوته في تمام أفراده، حتى أنه لو فرض عدم ثبوته في فرد كان منافياً للعموم المذكور وكاشفاً عن تخصيص موضوع حكم العام بالإضافة إلى ذلك الفرد بخصوصيته.

ومثل ذلك ما لو كان المستفاد من العام - بنفسه أو بقرائن خارجية - أنه وارد لتحديد مفهوم ذلك الأمر المعتبر في الحكم أو مصداقه أو بيان مورده، وأن ما تضمنه من جعل الحكم مترتب على ذلك ومتفرع عليه.

فالأول: مثل ما لو دل الدليل على جريان حكم التوارث بالشهادتين، ودل آخر على اعتبار الإسلام فيه، حيث يفهم من الأول أن مفاد الشهادتين مطابق لمفهوم الإسلام، وأن الدليل الأول شارح لموضوع الثاني.

والثاني: ما دل على ترك المرأة الصلاة إذا رأت الدم ثلاثة أيام مع ما دل على اعتبار الحيض في جواز ترك الصلاة، حيث يفهم من الأول تحديد مصاديق الحيض، وأنها تتحقق بالدم المذكور.

والثالث: مثل ما لو دل الدليل على الأمر بلعن بني أمية قاطبة مع ما دل على حرمة لعن المؤمن، حيث يستفاد من الأول أنهم مستحقون للعن، لأنهم غير مؤمنين.

ص: 114

وفي جميع ذلك لا ينبغي التأمل في عدم التنافي بين الدليلين، ليكون أحدهما مخصصاً للآخر، بل يكون العام وارداً على الآخر ومنقحاً لموضوعه.

ولو فرض ثبوت عدم تحقق ذلك الأمر - المعتبر في الحكم - في بعض أفراد العام المستلزم لعدم ترتب حكمه - كما لو ثبت كفر منكر الضروري، وإن شهد الشهادتين، وعدم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام إذا لم يفصل بينه وبين الحيض السابق عشرة، أو إيمان بعض بني أمية المعيَّن - لم يرجع إلى تخصيص عموم العام بصورة وجوده - بأن يبنى في الأمثلة المتقدمة على تخصيص عموم جريان حكم التوراث بالشهادتين بما إذا كان قائلهما مسلماً، وعموم ترك الصلاة مع استمرار الدم ثلاثة أيام بما إذا كان حيضاً، وعموم الأمر بلعن بني أمية بما إذا لم يكونوا مؤمنين - لأن ذلك خلاف فرض سوق العموم لبيان وجوده.

بل لابد من البناء على تخصيص العموم المذكور بذلك الفرد بخصوصيته، فيُبنى مثلاً على تخصيص عموم إسلام من أقر بالشهادتين المستفاد من عموم جريان حكم التوراث معهما بغير منكر الضروري، وتخصيص عموم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام المستفاد من عموم ترك الصلاة معه، بما إذا فصل بينه وبين الحيض السابق عشرة أيام، وتخصيص عموم عدم إيمان بني أمية المستفاد من الأمر بلعنهم بغير الشخص الخاص الذي ثبت إيمانه.

ومنه يظهر أن المرجع مع الشك في حال بعض أفراد العام المذكور وأنه واجد للأمر المفروض اعتباره في الحكم أو فاقد له هو عموم ذلك

ص: 115

العام، لصلوحه لأن يكون بياناً على ثبوته فيه اقتصاراً في تخصيصه على الفرد المتيقن عدم ثبوته فيه، لما ذكرناه من كون التخصيص به بخصوصيته لا بعنوانه المشكوك ثبوته في الفرد الآخر. ومن هنا يتم التفصيل المذكور.

لكنه ليس تفصيلاً في محل الكلام، لعدم الشك في دخول الفرد تحت عنوان يعلم بتخصيص العام بالإضافة إليه - كما هو محل الكلام - بل في التخصيص بالفرد بخصوصيته زائداً على التخصيص المتيقن الذي لا إشكال في حجية العام معه، وصلوحه لأن يكون بياناً لجهة الشك وإحراز ما يعتبر في الحكم.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من التفصيل

وكأن بعض الأعاظم (قدس سره) نظر إلى ما ذكرنا حين ذكر أن الشك إذا كان في الملاك كان العام صالحاً لبيان ثبوته في تمام أفراده، فلا يعتنى بالشك في ثبوته في بعضها، بل يتمسك فيه بعموم الحكم، وأن ذلك ليس من صغريات محل الكلام، لعدم كون الملاك قيداً في موضوع الحكم، ليكون الشك فيه شكّاً في المخصص.

ولعله لذا مثل له بمثال اللعن المتقدم، مع وضوح أن ذلك ليس من الشك في الملاك، فإن عدم الإيمان ليس ملاكاً لجواز اللعن، بل موضوع له كما ذكره بعض مشايخنا. غايته أنه الموضوع الذي يستفاد من العام بيان مورده، أو مما يستفاد من العام ثبوته للملازمة الذهنية بينه وبين حكمه نظير ملازمة المطهرية للطهارة.

القول الثالث: التفصيل بين المخصص اللفظي واللبي

الثالث: ما ذكره غير واحد من أن المخصص إن كان لفظياً لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه، وإن كان لبياً كان العام حجة فيه.

وربما نسب ذلك للتقريرات. لكن ما في التقريرات ظاهر في إرادة

ص: 116

التفصيل الأول. غاية الأمر أنه ذكر أن أغلب ما يكون المخصص عنوانياً إذا كان لفظياً، وأغلب ما يكون غير عنواني إذا كان لبياً. وهو أمر آخر غير التفصيل في حجية العام بين المخصص اللفظي واللبي، الذي نحن بصدده.

على أنه غير ظاهر، وإنما الذي يكثر في المخصص اللبي إجمال مورد التخصيص وتردده مفهوما بين الأقل والأكثر أو نحوهما.

وجوه الاستدلال عليه..
اشارة

وكيف كان، فقد استدل عليه بوجوه..

الأول: ما ذكره الخراساني (قدس سره)
اشارة

أحدها: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن المخصص إذا كان لفظياً فقد ألقى المولى حجتين يجب اتباع كل منهما، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما تقديم الخاص بنحو يكشف عن عدم إرادة مورده من العام وقصور موضوع حكم العام عنه لزم التوقف في مورد الشك، لعدم العلم بدخوله في ما أريد من العام.

أما إذا كان المخصص لبياً فالملقى من المولى ليس إلا العام الظاهر في إرادة العموم بتمامه، فلابد من اتباعه إلا فيما يعلم بعدم إرادته منه، لأن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه.

واليقين بعدم إرادة الخاص إنما يكون حجة فيما يعلم بانطباقه عليه وخروجه عن العام.

الإشكال على ما ذكره الأخوند (قدس سره)

ويشكل: بأن مجرد الفرق بين المخصصين بإلقاء اللفظي من قبل المولى دون اللبي لا يصلح فارقاً بعد اشتراكهما في صحة احتجاج المولى بهما على العبد، وفي الكشف عن مراده من العام، وأنه يقصر عن موردهما وعن تمام أفرادهما الواقعية التي يحتمل كون الفرد المشتبه منها، حيث سبق منا ومنه أن ذلك هو المعيار في عدم حجية العام في الفرد المذكور، وإن كان

ص: 117

الخاص غير حجة فيه أيضاً، لعدم إحراز موضوعه.

وما ذكره في وجه التمسك بالعام في الفرد المذكور مع المخصص اللبي من أن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه إنما ينفع لو لم ينكشف بالخاص مخالفة ظهور العام لمراده، وقصوره عن أفراد الخاص الواقعية، كما ذكرنا.

إلا أن يرجع إلى ما ذكرناه في التفصيل الثاني من أن ظاهر العام بدواً لما كان هو ثبوت حكمه في تمام أفراده كان مقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم فيها، من دون أن يكون موضوعه مقيداً بها، فإذا شك في ثبوت بعض ما يعتبر في الحكم في بعض الأفراد لزم البناء على ثبوته وترتب الحكم عليه، عملاً بعموم العام، واقتصاراً في الخروج عنه على ما علم بفقده لشيءٍ مما يعتبر في الحكم.

وقد يناسبه قوله (قدس سره) بعد ذلك: «بل يمكن أن يقال: إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فرداً لما علم بخروجه عن حكمه، فيقال في مثل: لعن الله بني أمية قاطبة: إن فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه، لمكان العموم، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً، فينتج: إنه ليس بمؤمن».

وبما تقدم يظهر حال ذلك، وأنه لو تم يجري في المخصص اللفظي، كالأمثلة المتقدمة، ومنها المثال الذي ذكره، لوضوح أن عدم جواز لعن المؤمن يستفاد بالمطابقة والالتزام من الأدلة اللفظية المتضمنة تحريم لعن غير المستحق(1)، وسب المؤمن(2)، وتعييره

ص: 118


1- راجع الوسائل ج 8 باب: 160 من أبواب أحكام العشرة.
2- راجع الوسائل ج 8 باب: 158 من أبواب أحكام العشرة.

وتأنيبه(1)، وايذائه(2)، وإهانته(3)، وإذلاله واحتقاره(4)، والطعن عليه(5) وغير ذلك، مما يتضمن حرمة نفسه وعرضه.

كما أن لعن المعصوم أو أمره باللعن في حق شخص يفيد بالملازمة عدم إيمانه، كإفادة دليل المطهرية الطهارة أو نحو ذلك مما تقدم.

وحينئذٍ يتعين أن لا يكون عدم الإيمان قيداً لموضوع العموم المذكور - ليكون مما نحن فيه - بل العموم منقح له، فلو ثبت إيمان بعضهم كان التخصيص به بخصوصيته، ورجع احتمال إيمان غيره إلى احتمال زيادة التخصيص المدفوع بأصالة العموم، وخرج عن محل الكلام، وهو الشك في مصداق الخاص المحدد المفهوم.

ولولا ذلك لم يتجه التمسك بعموم اللعن حتى لو كان دليل حرمة لعن المؤمن لبياً، وتم التفصيل المذكور، لأن حرمة لعن المؤمن من الوضوح في ارتكازيات المتشرعة بنحو تلحق بالتخصيص المتصل المانع من انعقاد ظهور العام في العموم، فلا يصح التمسك معه بالعموم في مورد الشك مطلقاً، وإن كان المخصص لبياً، كما اعترف به (قدس سره) وأشرنا إليه في أول هذا الفصل.

والحاصل: أن ذلك لا ينفع في محل الكلام مما كان الدليل اللبي من سنخ المخصص للعام الذي يكون مقتضى الجمع العرفي عدم ثبوت حكم

ص: 119


1- راجع الوسائل ج 8 باب: 150 من أبواب أحكام العشرة.
2- راجع الوسائل ج 8 باب: 145 من أبواب أحكام العشرة.
3- راجع الوسائل ج 8 باب: 146 من أبواب أحكام العشرة.
4- راجع الوسائل ج 8 باب: 147 من أبواب أحكام العشرة.
5- راجع الوسائل ج 8 باب: 159 من أبواب أحكام العشرة.

العام لتمام أفراده، وعدم كون عنوان العام تمام الموضوع لحكمه، بل لابد في تمامية موضوعه من انضمام خصوصية زائدة عليه، لا ينهض العام ببيان ثبوتها في تمام أفراده. وشك في واجدية الفرد لتلك الخصوصية للشبهة الموضوعية.

الثاني: ما حكي عن التقريرات

ثانيها: ما حكاه بعضهم عن التقريرات من أن إلقاء المولى للخاص اللفظي كاشف عن أنه أحال معرفة أفراده وتمييزها عن بقية أفراد العام على المخاطب، فلا يكون دخول المشكوك في الباقي تحت العام بأولى من دخوله في الخاص الخارج عنه، وأما إذا كان الخاص لبياً فالمتكلم لم يلق لبيان حكمه إلا حجة واحدة، وهي العام، وظاهره أنه بصدد بيان مصاديق حكمه بنفس عنوان العام وأنه كلما يصدق عليه فهو محكوم بحكمه، وأنه ليس في أفراده عنوان منافٍ لحكمه، فيكون حجة في كل ما لم يعلم بخروجه من الأفراد.

وفيه: أنه إن استفيد من العام بعد الجمع بينه وبين الدليل الدال على اعتبار شيء ما في موضوع حكمه كون أفراد العام واجدة لذلك الشيء، فلا تنافي بين العام وذلك الدليل، ليكون مخصصاً له، بل يكون العام وارداً عليه ومنقحاً لموضوعه.

وحينئذٍ يتجه التمسك بالعام في الفرد المشكوك واجديته للأمر المعتبر في الحكم وإن كان الدال على اعتبار ذلك الشيء لفظياً، لأن ظاهر حال المتكلم في الدليل اللفظي وإن كان هو الإحالة على المخاطب في معرفة أفراده وتمييزها، إلا أنه يكفي المخاطب الرجوع للعام المذكور في التمييز بعد فرض نهوضه به.

ص: 120

وإن لم يستفد من العام بعد الجمع ذلك، بل لا ظهور للعام إلا في كون عنوانه تمام موضوع الحكم، كان الدليلان متنافيين، وبعد فرض تخصيص العام بذلك الدليل يقصر عن أفراد الخاص الواقعية، فلا يصح التمسك به فيما احتمل كونه منها وإن كان ذلك الدليل لبياً، لما تقدم من أنه يكشف أيضاًً عن قصور موضوع حكم العام وتقييده بغير أفراده.

فليس معيار الفرق بين الأمرين كون الخاص لفظياً وكونه لبياً، بل ما تقدم في التفصيل السابق.

ويأتي في الوجه الثالث تقريب عدم نهوض العام بنفي المنافي لحكمه في أفراده، كما يأتي أن لازم ذلك عدم التمسك بالأصل الموضوعي المنقح لعنوان الخاص.

الثالث: ما ذكره الأصفهاني (قدس سره)
اشارة

ثالثها: ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن العام لما كان دالاً على ثبوت حكمه الفعلي لأفراده، دون الاقتضائي، كان دالاً بالملازمة على عدم منافاة أي عنوان تتصف به أفراده لحكمه، وعلى عدم وجود العناوين المنافية له فيها.

وحينئذٍ يكون الخاص اللفظي منافياً له في الأمرين معاً، فهو يدل بالأصل على كون عنوانه منافياً لحكم العام، ويدل تبعاً على كون العنوان المذكور موجوداً أو متوقعاً بين الأفراد وإلا كان بيانه عبثاً، لعدم الفائدة، وحيث فرض تقديم الخاص لزم رفع اليد به عن دلالة العام على كلا الأمرين، فلا رافع للشك في الفرد المشتبه، أما الخاص اللبي فهو ينافي العام في الأمر الأول، لمشاركته للفظي في الدلالة على عدم ثبوت حكم العام مع عنوانه، دون الثاني، لعدم كونه ملقى من المولى، ليكون القاؤه مع عدم

ص: 121

وجوده أو توقعه عبثاً منه، بل هو حاصل بسبب إدراك المنافاة بين حكم العام وعنوان الخاص وإن لم يكن موجوداً في أفراد العام. فيبقى العام حجة في الدلالة على عدم وجود المنافي لحكمه في أفراده، فيرتفع به الشك في الفرد المشتبه ويحرز به خروجه عن الخاص، المستلزم لثبوت حكم العام له.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

ويشكل: بأن العام في الشرعيات حيث كان غالباً أو دائماً بنحو القضية الحقيقية كان مفاده نفي منافاة كل عنوان يمكن طروؤه على أفراده لحكمه وإن لم يوجد ولا يتوقع فيها، لأن موضوع القضية الحقيقية لما كان هو العنوان بما له من أفراد موجودة أو فرضية فمقتضى عموم العام ثبوت الحكم لأي فرد يفرض وإن اتصف بالعنوان غير المتوقع، المستلزم لعدم منافاة العنوان المذكور لحكم العام. ولا مجال مع ذلك لدلالته على نفي العنوان المنافي لأفراده، حيث لا منافي حتى يدل على انتفائه فيها. وإنما يثبت المنافي بالخاص الكاشف عن عدم مطابقة ظهور العام للواقع، وأن موضوع حكمه ليس مطلق عنوانه، بل خصوص الحصة الفاقدة لعنوان الخاص منه، وحينئذٍ لا مجال للرجوع إليه في الفرد المشتبه، لعدم إحراز موضوع حكمه فيه وعدم الرافع لاشتباهه بعد ما ذكرناه من عدم نهوض العام بنفي المنافي لحكمه عن أفراده.

وأما القضية الخارجية فهي لا تدل على عدم منافاة كل عنوان لحكم العام، بل عدم منافاة خصوص العناوين الموجودة في الأفراد، فإذا فرض العلم بوجود العنوان الخاص ولو في فرد واحد لم يكن للعام ظهور في نفسه عن بقية الأفراد، لا بنفسه مع قطع النظر عن الخاص، ولا بعد الجمع بينه وبين الخاص، لأن مقتضاه في نفسه عدم منافاة العنوان المذكور لحكمه

ص: 122

- بعد كونمقتضاه ثبوت حكمه للفرد الواجد له - فلا ينهض بنفيه عن بقية الأفراد، ومقتضاه بعد الجمع قصور موضوعه عن الحصة الواجدة للعنوان من دون نظر لتعيينها.

وإن فرض عدم العلم بوجود العنوان في فرد فقد يكون مقتضى العموم عدم وجود العنوان على تقدير منافاته المفروض ثبوتها بالدليل الآخر. وحينئذٍ يخرج ذلك الدليل عن كونه مخصصاً ويخرج عن محل الكلام على ما يتضح في التفصيل الرابع إن شاء الله تعالى.

وهو غير مهم في محل الكلام، لما ذكرناه من أن العمومات الشرعية بنحو القضية الحقيقية التي ذكرنا عدم دلالة العموم معها على نفي العنوان المنافي، بل على عدم منافاة أي عنوان يفرض.

الإشكال بوجوه أخر على ما ذكره (قدس سره)

هذا، ولو غض النظر عن ذلك، وسلم ما ذكره من دلالة العام على عدم وجود المنافي في أفراده، ومنافاة الخاص اللفظي له دون اللبي، لأشكل الاستدلال بذلك على التفصيل المذكور..

تارةً: بأن ظهور الخاص اللفظي في وجود المنافي بين أفراد العام حيث كان لدفع محذور العبث واللغوية فهو مختص بما إذا كان الخاص أخص مطلقاً، دون ما لو كان أخص من وجه - وفرض تقديمه على العام - إذ يكفي في رفع اللغوية حينئذٍ وجوده في الأفراد الأخر الخارجة عن العام، فلا يعارض العام في الدلالة على عدم وجوده في أفراده، مع عدم الفرق عندهم ظاهراً بين نوعي الخاص المذكورين في محل الكلام.

وأخرى: بأن دلالة الخاص المطلق على وجود المنافي بين أفراده لما كان بمعنى وجوده فيها في الجملة، لا في تمامها، تعين الاقتصار فيه على

ص: 123

المتيقن، ولم يرفع به اليد عن حجية العام في الدلالة على عدم وجود المنافي بالإضافة إلى الفرد المشتبه لو زاد على المتيقن. ولو فرض عدم التفكيك في حجية العام بين الأفراد، لابتنائها على الارتباطية فلا وجه لتقديم الخاص على العام في الدلالة على وجود المنافي بين أفراده، لاستحكام التعارض بينهما حينئذٍ بعد امتناع الجمع العرفي بالتخصيص. نظير ما لو لزم من تقديم الخاص تخصيص الأكثر.

على أنه لو سُلِّم تقديم الخاص حينئذٍ وسقوط العام رأساً عن الحجية لزم رفع اليد عن العام في الدلالة على عدم وجود المنافي بين أفراده لو علم بوجود المنافي فيها في الجملة، ولو كان المخصص لبياً، واختص هذا الوجه بما إذا لم يعلم بوجود عنوان الخاص اللبي أصلاً في أفراد العام.

وثالثة: بأن لازم ذلك عدم الرجوع في المخصص اللبي للأصل الموضوعي المنقح لكون المشتبه واجداً لعنوان الخاص ومحكوماً بحكمه، لكون الأصل المذكور محكوماً للعام المفروض نهوضه بنفي عنوان الخاص في أفراده، ولا يظن منهم البناء عليه.

الرابع: ما قد يستفاد من السيد الحكيم
اشارة

(قدس سره)

رابعها: ما قد يستفاد مما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في توجيه كلام المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه إذا كان المخصص لفظياً فحيث كان موضوع الحجية فيه مدلوله بماله من مفهوم محدد فالفرد المشتبه يحتمل كونه موضوعاً للحجة على خلاف العام بسبب احتمال انطباق مفهوم الخاص وعنوانه عليه.

أما إذا كان لبياً فحيث كان المخصص فيه هو العلم امتنع حصوله في الفرد المشتبه، للتضاد بين العلم والشك، وبذلك يكون الفرد المشتبه معلوم

ص: 124

الخروج عن الحجة المخالفة للعام، فتتعين حجية العام فيه، لانفراده فيه.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

وفيه.. أولاً: أنه حيث كان المفروض في محل الكلام ورود التخصيص على العنوان، لا على الفرد ابتداء فاحتمال دخول الفرد المشتبه في موضوع الحجية في المخصص اللفظي ليس لاحتمال حجية المخصص فيه ابتداء، بل لكون المخصص بياناً وحجة على العنوان المحتمل انطباقه على الفرد المذكور، وهذا جارٍ في المخصص اللبي إذا كان عنوانياً.

وثانياً: أن منشأ سقوط العام عن الحجية في الفرد المشتبه ليس هو احتمال دخوله في موضوع الحجة، إذ لا يتجه رفع اليد عن الحجة في مورد لاحتمال دخوله في حجة أخرى معارضة لها، بل يتعين العمل بالحجة ما لم يثبت المعارض، وإنما المنشأ له هو صلوح الخاص لبيان المراد من العام عرفاً، بحيث يكشف عن قصوره عن الأفراد الواقعية للخاص، فلا يحرز دخول الفرد المذكور في المراد الواقعي منه.

وإن شئت قلت: العام والخاص ليسا متعارضين في الأفراد ابتداء، وإلا تعين تقديم العام في الفرد المشتبه حتى في مورد التخصيص اللفظي، بل هما متعارضان في تعيين مراد المتكلم من العموم، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما حمل العام على ما عدا الخاص لا يحرز تحقق موضوع الحجية في الفرد المشتبه، وذلك كما يجري في المخصص اللفظي يجري في المخصص العنواني اللبي.

توجيه التفصيل المذكور

وقد تحصل من جميع ما تقدم عدم تمامية التفصيل بين المخصص اللفظي واللبي.

ولعل نظر المفصلين إلى ما إذا كان العام بياناً لحال أفراده، وأنها خارجة

ص: 125

عما دل الدليل اللبي على منافاته لحكم العام من دون أن يكون انتفاؤه قيداً في موضوعه، كما يناسبه بعض أمثلتهم والوجهان الثاني والثالث للاستدلال على التفصيل المذكور. مع الغفلة عن أن ذلك خارج عن محل الكلام، حيث لا يكون الدليل اللبي مخصصاً بالإضافة إلى العنوان المحتمل انطباقه على الفرد، بل لو كان هناك تخصيص كان موضوعه الفرد بخصوصيته، وليس العنوان إلا مرآة للأفراد، أو جهة تعليلية للتخصيص بالإضافة إليها، ويكون مرجع الشك في انطباقه على الفرد إلى الشك في زيادة التخصيص بالإضافة إليه، الذي لا إشكال معه في حجية العام. كما يتضح بملاحظة ما تقدم.

الرابع: ما ذكره
السيد الحكيم (قدس سره)

الرابع: من التفصيلات في المقام: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره).

وبيانه، أنه تارةً: يكون العام والخاص بنحو القضية الحقيقية.

وأخرى: يكونان بنحو القضية الخارجية.

وثالثة: يكون العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.

ورابعةً: بالعكس.

فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في الصور الثلاث الأُوَلْ، للتكاذب بين العام والخاص، بسبب العلم بكون أفراد الخاص أفراداً للعام، فيلزم الجمع بينهما، وحيث فرض أن الجمع بتقديم الخاص والبناء على اختصاص موضوع العلم بما عدا مورده امتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه، لعدم إحراز دخوله في موضوع حكم العام وإن كان واجداً لعنوانه، على ما تقدم مكرراً.

أما في الصورة الرابعة فلا يعلم بالتكاذب بينهما، لإمكان كون تمام

ص: 126

أفراد العام الخارجية غير متصفة بعنوان الخاص، فلا ملزم بالخروج عن ظاهر العام، بل يجعل دليلاً على عدم انطباق الخاص على أفراده.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

لكن ما ذكره من عدم التكاذب في الصورة الرابعة إنما يتم مع عدم العلم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص، أما مع العلم باتصاف بعضها به وتردده بين الأقل والأكثر فلابد من التكاذب بين الدليلين، فيجري فيه ما يجري في بقية الصور.

كما أن ما ذكره من التكاذب في الصور الثلاث الأوَلْ إنما يتم في الخاص المطلق مفهوماً، كما لو ورد: أكرم العلماء، و: لا تكرم النحويين. أما في الخاص من وجه المفروض التقديم في مورد الاجتماع - كما لو ورد: أكرم العلماء، و: لا تكرم الفساق، وفرض تقديم الثاني في مورد الاجتماع وتخصيصه للأول - فقد لا يعلم بالتكاذب بين الدليلين، لإمكان مباينة أفراد العام الخارجية لأفراد الخاص لو كانا معاً بنحو القضية الخارجية، وملازمة عنوان أحدهما لعدم الآخر في الخارج - ولو اتفاقاً - لو كانا بنحو القضية الحقيقية، وعدم اتصاف شيءٍ من أفراد الخاص الخارجية بعنوان العام لو كان العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.

ومن الظاهر عدم الفرق في محل الكلام بين الخاص المطلق والخاص من وجه المفروض التقديم على العام. وعليه يبتني دخول الصورة الرابعة في محل الكلام، لوضوح أن الخاص فيها لما كان بنحو القضية الحقيقية الشاملة لأفراد عنوانه الفرضية يكون أعم من وجهٍ من العام المختص بأفراد عنوانه الخارجية.

ودعوى: أن ذلك خارج عن فرض العموم والخصوص حتى من وجهٍ،

ص: 127

لرجوع الاحتمال المذكور إلى احتمال التباين الموردي، الذي لا تنافي معه بين الدليلين.

مدفوعة: بأن فرض العموم والخصوص في المقام إنما هو بلحاظ مفهوم كل من العنوانين، لا بلحاظ الخارج، وإلا لم يتجه فرضه في الصورة الرابعة، لأن احتمال عدم اتصاف شيء من أفراد العام الخارجية بعنوان الخاص فيها مساوق لاحتمال التباين الموردي بين الدليلين وعدم التنافي بينهما أيضاًً.

وبالجملة: مجرد كون القضية حقيقية أو خارجية لا يصلح بنفسه معياراً في التكاذب بين الدليلين وعدمه اللذين يبتني عليهما التفصيل المذكور.

نعم، ذكرنا في أول التفصيل الثاني أن العام لما كان ظاهراً بدواً في ثبوت حكمه لتمام أفراده فمقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم في جميعها، المستلزم لعدم التنافي بينه وبين دليل اعتبار ذلك الشيء في الحكم، بل يكون وارداً على ذلك الدليل ومحرزاً لثبوت موضوعه في أفراد العام، فإذا قال: أكرم كل من يدخل بيتي، وقال: لا يكرم الفاسق، يكون مقتضى الأول أن كل من يدخل بيته غير فاسق، فلا ينافي الثاني، بل يكون وارداً عليه.

كما ذكرنا هناك أنه لا مجال للبناء على ذلك في غالب عمومات الأحكام الشرعية ونحوها من الأحكام العامة، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجاً بين العناوين المأخوذة في عمومات الأحكام المذكورة والأمور المستفاد من الأدلة الأخر دخلها في تلك الأحكام، بل لابد من البناء على التنافي بين الدليلين والجمع بينهما بالتخصيص أو غيره، إلا في بعض الموارد التي ذكرنا بعض الضوابط لها في ما تقدم فراجع.

ص: 128

أما عمومات الأحكام غير العامة فقد يمكن فيها ذلك، من دون فرق بين أن تكون بنحو القضية الخارجية، كما لو قال: أكرم من في الدار، أم الحقيقية، كما لو قال: أكرم من أجالسه، حيث لا مجال للبناء على تخصيصهما بمثل: لا يكرم الفاسق، مع احتمال أن كل من في الدار ليس بفاسق، وأنه لا يجالس الفاسق، بل حيث لا يحرز التنافي بين العمومين المذكورين وذلك الدليل يتعين العمل بالعمومين في تمام أفرادهما، ويكونان دليلاً على عدم اتصاف شيء منها بالفسق.

غاية الأمر أن الحكم في القضية الخارجية لما كان منضبط الأفراد بسبب انحصار موضوعه بالأفراد الموجودة فكثيراً ما يتجه فيه ما سبق، بخلاف الحكم في القضية الحقيقية، فإنه كثيراً ما يكون منتشراً غير منضبط الأفراد فلا يتجه فيه ما سبق.

كما أنهما يفترقان فيما لو علم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص، الذي يعلم معه بتخصيص العام في الجملة وعدم بقائه على عمومه، حيث لا مجال غالباً لاحتمال تخصيص العام لو كان بنحو القضية الحقيقية بالإضافة لخصوصيات الأفراد المتصفة بعنوان الخاص، لعدم انحصارها، بل يكون التخصيص بالإضافة لعنوان الخاص الجامع لها على ما هي عليه من الكثرة وعدم الانحصار، فيمتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه، لما تقدم.

توجيه جواز التمسك بالعام في بعض الموارد

نعم، لو كانت الأفراد المذكورة قليلة منضبطة فالأمر كما لو كان العام بنحو القضية الخارجية المنحصرة الأفراد، التي كثيراً ما يتجه فيها احتمال التخصيص بالإضافة لخصوصيات الأفراد، ويكون عنوانها المنافي للحكم

ص: 129

تعليلياً، فيتجه التمسك بالعموم في الفرد المشتبه، لرجوع الشك فيه للشك في زيادة التخصيص.

كما أنه لو تردد الأمر بين الوجهين تعين البناء على الثاني اقتصاراً على المتيقن من التخصيص.

لكن كثيراً ما يستفاد التخصيص بالنحو الأول حتى مع كون العام بنحو القضية الخارجية أو الحقيقية غير العامة، كما لو ورد التخصيص في المثالين السابقين بلسان: لا يكرم منهم من كان فاسقاً، أو: إنما يكرم منهم العادل.

وبالجملة: لا مجال لجعل الضابط في الفرق كون العام بنحو القضية الخارجية وكونه بنحو القضية الحقيقية، بل الضابط فيه ما تقدم في التفصيل الثاني من صلوح العام لبيان عدم ثبوت المنافي للحكم في أفراده، المستلزم لعدم التنافي بين الدليلين، وعدم العلم بتخصيص العام، أو العلم بتخصيصه في الجملة ولو بخصوصيات الأفراد، من دون أن يحرز تخصيصه بالعنوان المنافي للحكم، فيرجع الشك في اتصاف الفرد بالعنوان المنافي للشك في أصل التخصيص أو في زيادته بالإضافة إلى الفرد بخصوصيته، الذي يصح فيه التمسك بالعام بلا كلام، ويخرج عن الشك في مصداق الخاص الذي هو محل الكلام في المقام.

غاية الأمر أن العام إذا كان بنحو القضية الخارجية فكثيراً ما يحرز فيه ذلك. ولعل هذا هو الذي أَوْهَمَ التفصيل المذكور.

المتحصل من مجموع ما تقدم

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أنه لا يتجه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقاً، وأنه لا يصح من التفصيلات المتقدمة إلا الأولان اللذان لا يرجعان حقيقة إلى التفصيل في ذلك، بل إلى لزوم التمسك بالعام مع

ص: 130

الشك في أصل التخصيص أو زيادته، الذي هو خارج عن محل الكلام. وأن التفصيلين الأخيرين لا يتجهان إلا إذا رجعاً إلى أحد الأولين. فلاحظ وتأمل جيداً. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

وينبغي التنبيه على أمور..

التنبيه على أمور: الأول: لابد من التفريق في التخصيص بين العنوان أو الفرد

الأمر الأول: حيث ظهر مما تقدم أن المتجه من التفاصيل المتقدمة هو الأول والثاني فمن الظاهر اشتراكهما في أمر واحد، وهو كون التخصيص المعلوم أو المحتمل ليس بالإضافة للعنوان الذي يشك في ثبوته للفرد، بل بالإضافة إلى خصوصيات الأفراد، بحيث يرجع الشك في حال الفرد للشك في التخصيص بالإضافة إليه بخصوصيته، الذي يكون نفيه مقتضى أصالة العموم، لا إلى الشك في انطباق عنوان الخاص عليه.

ومن هنا كان تشخيص موضوع التخصيص وأنه العنوان أو الفرد مهما جداً، إذ كثيراً ما يغفل عن رجوع التخصيص للفرد ويتخيل رجوعه للعنوان بسبب اطراده في أفراده.

ولا مجال لإعطاء الضوابط العامة التامة له، إذ كثيراً ما يستند للقرائن الخاصة غير المنضبطة، والتي يختلف تشخيصها باختلاف الموارد والأنظار، وكثيراً ما يلتبس الحال في موردين..

الكلام في العنوان

أحدهما: ما إذا كان العنوان تعليلياً، بأن يكون هو المنشأ للتخصيص بالإضافة إلى الفرد من دون أن يكون بنفسه مورداً للتخصيص.

فإن الدخيل في موضوع الحكم وإن كان هو العنوان، تبعاً لدخل منشأ انتزاعه في الملاك، وأخذ الفرد ليس إلا لاتصافه بالعنوان، إلا أن المتكلم

ص: 131

قد يأخذ الفرد مورداً للتخصيص دون العنوان، لأنه ليس بصدد بيان موضوع الحكم مع إيكال تشخيصه للمخاطب، بل بصدد تشخيص الموضوع بنفسه - إما لأنه مما يرجع إليه فيه، أو لتيسر تشخيصه عليه أو لغير ذلك - فلابد له من بيان مورد العنوان الدخيل في الحكم، وهو الفرد وجعله بنفسه طرفاً للتخصيص، ولا معنى مع ذلك لأخذ العنوان، بل يكون العنوان تعليلياً، كما ذكرنا.

ومن هنا التبس الأمر على غير واحد فادعى تخصيص عموم لعن بني أمية بغير المؤمن، وعموم إكرام الجيران بغير الأعداء، ونحو ذلك، مع الغفلة عن أن مورد التخصيص في ذلك هو الأفراد، دون العناوين، على ما تقدم توضيحه في التفصيل الثاني.

الكلام في العنوان الانتزاعي

ثانيهما: ما إذا كان العنوان انتزاعياً متفرعاً على ثبوت الحكم لموضوعه، على ما أطال الكلام فيه في التقريرات، حيث لا مجال مع ذلك لأن يكون بنفسه دخيلاً في متعلق الحكم المذكور، كعنوان الصحيح والفاسد والمجزي والمشروع وغيرها مما ينتزع من مطابقة الفعل للتشريع وعدمها، وإن غفل عن ذلك غير واحد. فقد تقدم في أوائل مبحث الصحيح والأعم التعرض لتوهم بعضهم تقييد إطلاقات التشريع بناءً على الأعم بالصحيح، وأنه يمتنع لأجل ذلك التمسك بها مع الشك في الصحة، وتكرر نظيره من صاحب الحدائق.

وقد سبق دفعه بما ذكرناه هنا من امتناع التقييد بالصحيح، بل مقتضى الإطلاق صحة كل ما يحتمل فساده ما لم يدل الدليل على عدم مشروعيته بخصوصيته تقييداً لإطلاق دليل المشروعية.

ص: 132

نعم، يمكن أخذها قيداً في غير أدلة التشريع مما يتضمن ترتيب الآثار على المسميات، كتقييد ما تضمن أن تزويج البنت محرم لأمها بالتزويج الصحيح - لو قلنا بأن المسمى هو الأعم - لعدم لزوم محذور أخذ المتأخر في المتقدم منه، لأن العنوان المذكور متأخر رتبة عن تشريع العقد وتنفيذه ومنتزع منه، لا عن ترتب الآثار الأُخَر عليه، كما لعله ظاهر.

ثم إنه يترتب على عدم أخذ العنوان طرفاً للتخصيص أنه لا مجال لإحراز دخول الفرد في التخصيص أو خروجه عنه بالأصل المحرز للعنوان أو لعدمه، بل لابد من إحرازه بطريق آخر، ولو كان هو العموم نفسه - لو كان صالحاً لإثباته، على ما تقدم تقريبه في بعض الموارد - أو كان هو الأصل المحرز لمنشأ انتزاعه لو كان انتزاعياً. فلاحظ.

التنبيه الثاني: التفصيل بين أنواع التخصيص

الأمر الثاني: لا يخفى أن المخصص متصلاً كان أم منفصلاً..

تارةً: يتضمن تحديد موضوع حكم العام بحدود مفهومية. فالمتصل كالتخصيص بالوصف في مثل قولنا: أكرم العالم العادل. والمنفصل كتخصيص قولنا: أكرم العلماء بقولنا: إنما يكرم العالم العادل.

وأخرى: لا يتعرض لحكم العام ولا لتحديد موضوعه، بل لتحديد ما يخرج عنه ويكون موضوعاً لحكم الخاص.

فالمتصل كالتخصيص بالاستثناء في مثل قولنا: أكرم العلماء إلا النحويين، حيث لا يتضمن تحديد الباقي المحكوم بحكم العام، بل تحديد الخارج عنه، وهو المستثنى المحكوم بحكم الخاص.

والمنفصل كتخصيص عموم قولنا: أكرم العلماء بقولنا: لا يكرم النحوي، ولا ينبغي الإشكال في أن القسم الأول يوجب تعنون موضوع

ص: 133

حكم العام بالعنوان الخاص، بنحو يمنع من ظهور العام في تعنونه بعنوانه لو كان متصلاً، ويوجب رفع اليد عن ظهوره في ذلك لو كان منفصلاً.

كلام الأصفهاني (قدس سره) في التخصيص المتضمن كتحديد موضوع العام بحدود مفهومية

لكن يظهر من استدلال بعض المحققين (قدس سره) لعدم نهوض المخصص المنفصل ببيان تعنون موضوع حكم العام على خلاف مقتضى العام عموم ذلك لهذا القسم من المنفصل - وإن ذكره في القسم الثاني - قال: «لما أشرنا إليه سابقاً من أن الواقع لا ينقلب عما هو عليه، فما هو الموضوع لحكم العام بحسب الظهور المنعقد له يستحيل أن ينقلب عما هو عليه بسبب ورود كاشف أقوى، بل يسقط عن الحجية في القدر المزاحم.

لا يقال: يكشف المخصص عن أن الموضوع الحقيقي للحكم ما عدا الخاص، لا أنه يوجب انقلاب الظهور، ليقال: إنه محال.

لأنا نقول: ليس للموضوعية للبعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ انتزاعه مقام إلا مقام تعلق البعث الإنشائي بشيءٍ، وجعل الداعي إلى غير ما تعلق به البعث الإنشائي محال، لأنه مصداق جعل الداعي، والمفروض تعلقه بهذا العنوان، فصيرورته داعياً إلى غير ما تعلق به خلف محال، فليس شأن المخصص إلا إخراج بعض أفراد العام وقصر الحكم على باقي الأفراد، من دون أن يجعل الباقي معنوناً بعنوان وجودي أو عدمي».

وكأنه يريد بذلك - على غموض في كلامه - أن البعث الحقيقي لما كان تابعاً للبعث الإنشائي فموضوعه هو موضوع البعث الإنشائي المستفاد من الكلام، وحيث كان المفروض تعلق البعث الإنشائي بعنوان العام وكان الغرض من تعلقه به داعويته له فلا مجال معه لفرض كونه داعياً إلى غيره، لأنه خلف محال، فيتعين البناء على بقائه على ما هو عليه من داعويته إلى

ص: 134

نفس عنوان العام، كما هو مقتضى ظهوره، فيكون عنوان العام هو الموضوع للبعث الحقيقي، وإن لم يكن حجة في المقدار الخارج بالتخصيص، عملاً بأقوى الحجتين.

ومنه يتضح عدم الفرق بين أدلة التخصيص المنفصل، وعدم اختصاص ذلك بالقسم الثاني منه بعد اشتراك القسمين في انعقاد ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع.

الإشكال فيما ذكره (قدس سره)

وفيه: أن البعث الحقيقي وإن كان تابعاً للبعث الإنشائي، وكان الغرض من البعث الإنشائي جعل الداعي على طبقه، إلا أن تبعية البعث الإنشائي لظهور العام متفرع على حجية العام في الكشف عن مراد المتكلم، فمع فرض معارضة ظهور الخاص له في ذلك وتقديمه عليه يتعين رفع اليد عن ظهور العام في تحديد موضوع البعث الإنشائي، فإن كان الخاص وافياً به كان هو الحجة في تعيينه، ولا مجال معه للرجوع فيه للعام.

بل كيف يمكن الجمع بين فرض موضوعية عنوان العام لحكمه مع خروج بعض أفراده عنه، إذ من المعلوم أن مرادهم بالموضوع ما هو كالعلة التامة للحكم بحيث لا ينفك عنه، وقد تقدم منا نظير ذلك في رد نظيره الذي تقدم من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) عند الاستدلال لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

نعم، لو لم يكن مقتضى الجمع بين العام والخاص عدم مطابقة العام لمراد المتكلم، بل يبقى ظهوره حجة عليه، غايته أنه يحمل مراد المتكلم به على ضرب القاعدة الظاهرية عند عدم الدليل المخرج، فيكون حكم العام ظاهرياً لا واقعياً، يتجه حينئذٍ البناء على كون عنوان العام تمام الموضوع

ص: 135

لحكمه الظاهري المذكور، فيطابق ظاهره من كونه صادراً بداعي جعل الداعي، ولا ينافيه الحكم الثابت في مورد الخاص، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.

لكن مرادهم بتعنون موضوع حكم العام هو موضوع حكمه الواقعي المستفاد بعد التخصيص، لا الظاهري المذكور.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من صلوح الخاص في هذا القسم لبيان تعنون موضوع حكم العام بعنوانه بما له من حدود مفهومية.

الكلام في عدم تحديد المخصص لموضوع العام واختلافهم في مقتضى الجمع على وجوه

وأما القسم الثاني فقد اختلفوا في مقتضى الجمع بينه وبين العام على أقوال واحتمالات..

الأول: أنه يوجب تعنون موضوع حكم العام بعنوان وجودي مضاد لعنوان الخاص. ولعله المترائى من بعض عبارات التقريرات، كما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره).

الثاني: أنه يوجب تعنونه بكل عنوان مناف لعنوان الخاص، كما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره). وأما حمل كلامه على أن كل عنوان مباين لعنوان الخاص لا ينافي حكم العام. فهو بعيد عن ظاهر كلامه غير مناسب للثمرة التي رتبها عليه.

الثالث: أنه يوجب تعنونه بعنوان عدمي نقيض لعنوان الخاص. وبه صرح بعض الأعاظم (قدس سره).

الرابع: أنه لا يقتضي تعنون موضوع الحكم بعنوان آخر غير عنوان العام، بل يوجب خروج مورده عن عموم الحكم. وإليه ذهب بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم I ويناسبه ما تقدم من بعض المحققين من

ص: 136

المحشين في القسم الأول.

لكن لا ينبغي التأمل في بطلان الأول، لمخالفته للمرتكزات في فهم الأدلة، لوضوح أن المدلول المطابقي للتخصيص في هذا القسم ليس إلا إخراج مورده عن حكم العام، وهو لا يستلزم أخذ العنوان المضاد للخاص في موضوع حكم العام، بنحو يكون دخيلاً في ثبوته واقعاً، وفي التعبد به ظاهراً.

ولاسيما وأن العناوين المضادة للخاص قد تتعدد مع تلازمها، والترجيح بينها في الموضوعية بلا مرجح، والجمع بينها بلا فائدة، فيمتنع للزوم اللغوية.

ومنه يظهر ضعف الثاني، ومجرد ثبوت حكم العام مع أي عنوان يفرض لا يستلزم دخلها فيه، كما هو الحال في جميع العناوين الملازمة لموضوع الحكم.

حديث النائيني (قدس سره)

وأما الثالث فقد استدل عليه بعض الأعاظم (قدس سره) بأنه حيث كان الإهمال في موضوع الحكم ممتنعاً فموضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص إن كان ملحوظاً بشرط شيء أو لا بشرط لزم التناقض والتهافت بين حكم العام وحكم الخاص، فتعين لحاظه بشرط لا، وهو المدعى، لرجوعه إلى تقييد موضوعه بعدم عنوان الخاص.

ما أجيب عما ذكره (قدس سره)

وقد يجاب عن ذلك: بإمكان اشتمال ذات المطلق المحفوظة في أفراد عنوان العام على ملاك مقتض لحكمه، مع اشتمال الواجد منها لعنوان الخاص على ملاك مقتض لحكم الخاص أيضاًً، ومع أقوائية الثاني يثبت حكم الخاص للمقيد بما هو مقيد، وإن كانت الذات المحفوظة فيه بما هي

ص: 137

هي مشتملة على الملاك المقتضي لحكم العام. ومن هنا لا مانع من كون تمام موضوع حكم العام هو عنوانه مع ثبوت حكم الخاص لمورده.

الإشكال على الجواب المذكور

لكنه كما ترى! فإن ذلك إنما يتم في العناوين الثانوية التي لا يكون موضوع الحكم وملاكه قاصراً عن موردها، بل يكون طروؤها مانعاً من فعلية الحكم مع تمامية مقتضيه، وموردها خارج عن المتيقن من باب التخصيص وداخل في التزاحم الملاكي.

على أنه إنما يقتضي إطلاق موضوع حكم العام الاقتضائي، لا الفعلي الذي هو محل الكلام، وإلا فعموم موضوع الحكم الفعلي لا يجتمع مع التخصيص. بل لابد في مثل ذلك من الالتزام بأخذ عدم عنوان الخاص في موضوع حكم العام، لأن عنوان الخاص لما كان من سنخ الرافع أو المانع كان عدمه متمماً لموضوع الحكم، كما يكون عدم المانع متمماً للعلة في التكوينيات، كما لا يخفى.

ويختص الإشكال بما إذا كان عنوان العام قاصراً عن الاقتضاء في مورد الخاص، الذي هو المتيقن من باب التخصيص.

الكلام في ثمرة الأقوال

الوجه في المسألة

والذي ينبغي أن يقال: أنه لا إشكال في أن التخصيص يكشف عن عدم إطلاق موضوع حكم العام واختصاصه بفاقد القيد، إلا أنه لا يستلزم أخذ عنوان نقيض الخاص قيداً في موضوع الحكم، بحيث يكون سوراً له ودخيلاً فيه، بل يمكن كون قصر الحكم عنه بنتيجة التقييد. فما هو الدخيل في موضوع حكم العام في مورد فقد عنوان الخاص ليس إلا عنوان العام وإن لم يكن صالحاً للتأثير في مورد عنوان الخاص. وليس ذلك لأخذ عنوان عدم الخاص متمماً لموضوع حكم العام، بل هو محض لازم مقارن مع كون

ص: 138

تمام الموضوع في مورده المأخوذ من الشارع هو عنوان العام لا غير.

وحينئذٍ لا ملزم باستفادة تقييد موضوع حكم العام بعدم عنوان الخاص بعد أن لم يكن مفاد التخصيص المطابقي ولا الالتزامي إلا خروج مورد الخاص عن حكم العام، وقصور عنوان العام عن تأثير حكمه في مورده، بل يتعين اختصاص الموضوع العنواني بعنوان العام، وإن لم يكن تمام الموضوع الحقيقي الذي هو بمنزلة العلة التامة يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، لفرض قصوره في مورد الخاص. ولا يبعد رجوع ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) لذلك.

بقي الكلام في ثمرة الأقوال في المقام، وهي تظهر في التمسك بالأصول الموضوعية لإحراز حكم العام في الفرد المشتبه، لوضوح أنه لابد في ترتب الحكم الذي تضمنه الدليل عملاً من إحراز موضوع حكمه، ولا ينفع فيه إحراز غيره من العناوين، وإن كان لازماً للموضوع إلا بناء على الأصل المثبت.

وحينئذٍ يلزم في ترتيب حكم العام في المقام على الأول إحراز العنوان الوجودي المضاد للخاص، وعلى الثالث إحراز العنوان العدمي، وعلى الثالث يكفي إحراز أي عنوان مناف له وجودياً كان أو عدمياً.

وهذا كله واضح، إنما الإشكال على القول الرابع، فقد صرح بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم I بامتناع التمسك بالأصل الموضوعي وجودياً كان أو عدمياً، وأن الأصل العدمي وإن كان ينفع في نفي حكم الخاص، إلا أنه لا يقتضي إثبات حكم العام.

نعم، لو لم يتضمن العام حكماً، بل مجرد نفي حكم الخاص - كما لو

ص: 139

قيل: لا يجب إكرام العالم إلا العادل - لزم ترتبه، كما نبه له سيدنا الأعظم (قدس سره).

لكن يصعب البناء على ذلك بالنظر للمرتكزات الاستدلالية، فإذا قيل: يجب صلة كل فقير، ثم ورد: يستحب صلة الفقير المكفي المؤنة. فالتوقف عن وجوب صلة زيد مع استصحاب عدم كونه مكفي المؤنة بعيد جداً، ولا يظن منهما ولا من غيرهما البناء على ذلك في نظائره من الفقه.

بل قد جرى سيدنا الأعظم (قدس سره) في مستمسكه على خلاف ذلك في جملة من الفروع، فقوّى وجوب تغسيل من شك في شهادته، لأصالة عدم شهادته المحرزة لدخوله في عموم وجوب تغسيل الميت، والعفو عن قليل الدم المشكوك كونه دم الحيض أو نحوه، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم العفو عما دون الدرهم، وعدم العفو عن الدم المشكوك كونه من القرح أو الجرح، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم مانعية النجاسة من الصلاة.

بل قال عند الكلام في الأخير: «بناء على ما هو الظاهر من أن نفي عنوان الخاص بالأصل يكفي في ثبوت حكم العام له» وهو صريح في مخالفته لما ذكره هنا من عدم الاكتفاء بالأصل المذكور.

نعم، قال في وجه ذلك عند الكلام في الثاني: «وقد عرفت أن الجمع بين الخاص والعام يقتضي عرفاً كون موضوع حكم العام عنوان العام الذي ليس بخاص».

وهو صريح في عدوله عن أصل مبنى المنع من التمسك بالأصل، وبنائه على الوجه الثالث دون الرابع.

لكن لم يتضح بناء العرف على ذلك في غير ما إذا كان عنوان

ص: 140

المخصص ثانوياً بعد ما ذكرنا. كما لم يتسن لي عاجلاً العثور على توضيح ذلك منه لينظر فيه.

ولا يبعد كون استيضاحه له ناشئاً عما أشرنا إليه من قضاء المرتكزات الاستدلالية بالاكتفاء في ثبوت حكم العام للفرد بالأصل المحرز لعدم دخوله في عنوان الخاص، لدعوى التلازم بينهما.

لكن الظاهر عدم التلازم بينهما، بل يكفي الأصل المذكور حتى بناء على ما ذكرنا من عدم تعنون موضوع حكم العام بالعنوان العدمي النقيض للخاص. لأن العنوان العدمي وإن لم يكن مأخوذاً في موضوع حكم العام ولا دخيلاً في ترتبه، إلا أن إحرازه يقتضي إحراز عدم خروج مورده عن عموم حكم العام، بل إحراز بقائه تحته محكوماً بحكمه.

إشكال اعتبار الأصل المذكور مثبتاً

إن قلت: كون المورد محكوماً بحكم العام ليس مفاداً للأصل المذكور، ولا أثراً لمفاده بعد فرض عدم أخذ القيد العدمي في موضوع حكمه، بل هو لازم له، فالتمسك به فيه لا يخرج عن الأصل المثبت.

الجواب عن الإشكال المذكور

قلت: التخصيص وإن لم يقتض تعنون موضوع العام بعنوان عدم الخاص، إلا أنه بضميمة أصالة العموم في الباقي يقتضي تحديد موضوعه بما يطابقه، لما أشرنا إليه من أنه يكشف عن عدم كون عنوان العام تمام الموضوع الحقيقي، بل هو مقيد بخصوصيةٍ ما، وهذه الخصوصية وإن لم تحدد من قبل الشارع الأقدس مفهوماً بعنوان صالح لأن يكون سوراً للموضوع، إلا أنها قد حددت من قبله مصداقاً ببيان عدم خروج غير موارد عنوان الخاص عنه، فمع إحراز أن الفرد من القسم الباقي لا الخارج بالأصل الموضوعي يحرز واجديته لحد الموضوع المأخوذ من قبل الشارع.

ص: 141

وذلك كافٍ في الخروج عن الأصل المثبت، لأن المعيار فيه ليس على إحراز عنوان موضوع الحكم الدخيل فيه، بل على إحراز مورده، تبعاً للحد المستفاد من الشارع الأقدس الإناطة به في مقام العمل وبيان الحكم وإن كان من طريق اللازم، كما ذكرناه في بحث الأصل المثبت.

وإلا فأخذ العنوان في الأدلة اللفظية لا ظهور له إلا في ترتب الحكم عند ترتب العنوان وتحديد مورده، لا في دخل العنوان في الحكم، لإمكان أن يكون العنوان ملازماً لما هو الدخيل فيه، غايته أنه قد يشعر بدخله فيما لو كان مناسباً للحكم ارتكازاً. فلولا الاكتفاء بإحراز ذلك في التعبد بالحكم والخروج عن الأصل المثبت لم يكن وجه للاكتفاء بإحراز العنوان إلا مع العلم بدخله في الحكم بمعنى دخل منشأ انتزاعه، ومن المعلوم من المرتكزات الاستدلالية خلافه.

ويظهر وجه ذلك بملاحظة ما ذكرناه في مبحث الأصل المثبت من أن منشأ عدم الرجوع إليه هو انصراف أدلة التعبد الظاهري إلى التعبد بالكبريات الشرعية موضوعاً أو حكماً، ولا تشمل الملازمات الخارجية. وهو مختص عرفاً بما إذا لم تكن الملازمة مستفادة من الشارع الأقدس في مقام تحديد الحكم وبيان مورده من دون خصوصية للعنوان في ذلك.

وقد يتضح ما ذكرنا بملاحظة ما إذا نسخ حكم العام في مورد عنوان الخاص، فإن استفادة تعنون الباقي بعنوان عدم الخاص بعيد جداً، وعدم الاكتفاء بأصالة عدم الخاص لإحراز حكم العام أبعد.

وأما عدم الاكتفاء بإحراز العنوان الانتزاعي - وإن كان مذكوراً في كلام الشارع الأقدس - فليس هو لعدم دخل العنوان المذكور في الحكم،

ص: 142

بل لسوقه في كلام الشارع لمحض الحكاية عما هو الحد للحكم من دون أن يراد به تحديد الحكم وبيان موارده.

وبما ذكرنا يتضح أنه لا فرق بين القول الثالث والرابع في مقام العمل. ومن ثم لا يهم تحقيق الحق منهما مع وضوح بطلان القولين الأولين، وكون الثمرة المشتركة بين القولين الأخيرين ارتكازية. فلاحظ.

التنبيه الثالث: حديث الخراساني (قدس سره) عن بعضهم في التمسك بالعام مع الشك في الفرد لا من جهة التخصيص

الأمر الثالث: قال المحقق الخراساني (قدس سره): «ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمايع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء بالنذر للعموم، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك». ثم تعرض لرد ذلك. وسبقه إلى ذلك في التقريرات.

رد الحديث المذكور

وحاصل ما ينبغي أن يقال في وجه رده: أن الاستدلال بعموم الحكم الثانوي - كوجوب الوفاء بالنذر وبالشرط، وإطاعة المولى والزوج والوالدين - فرع إحراز موضوعه، وحيث فرض تقييده بالحكم الأولي - كالرجحان في الوفاء بالنذر، وعدم مخالفة الكتاب في الوفاء بالشرط وعدم معصية الله سبحانه في إطاعة المخلوق - فإن كان التقييد به مستفاداً من قرينة متصلة كان التمسك بالعموم مع الشك في القيد تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام الذي لا يصح بلا كلام. وإن كان تقييده به مستفاداً من قرينة منفصلة كان التمسك به مع الشك المذكور تمسكاً بالعام

ص: 143

في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي سبق أن التحقيق عدم جوازه. وإذا لم يصح التمسك بعموم الحكم الثانوي: لا مجال للانتقال للازمه، وهو الحكم الأولي المذكور.

على أنه لو صح التمسك بالعموم المذكور لم يصح إثبات اللازم المذكور إلا إذا كان لزومه عقلياً، أما إذا كان شرعياً - تبعاً لعموم الدليل - مع إمكان التخلف خارجاً - تخصيصاً للعموم - فالتمسك به مبني على ما يأتي في الأمر الرابع من الكلام في حجية العام في عكس نقيضه، وهكذا الحال لو دل الدليل بالخصوص على ثبوت الحكم الثانوي المذكور في مورد.

نعم، لو كان ذلك الدليل مسوقاً لبيان اللازم المذكور والكناية عنه من باب بيان اللازم ببيان الملزوم، أو كان مستفاداً منه بسبب ملازمة عرفية بينهما فلا إشكال.

هذا، وأما ما تضمن صحة الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر مع نذرهما كذلك فهو أجنبي عما نحن فيه، لأن مقتضاه سببية النذر لرجحان المنذور في الفرض وإن لم يكن راجحاً في نفسه، لا كشف وجوب الوفاء بنذره عن رجحان الفعل في نفسه مع الشك في رجحانه كذلك، كما هو المدعى في المقام.

هذا، وقد تعرض المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره لبيان وجه صحة نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بما لا مجال لإطالة الكلام فيه لخروجه عن محل الكلام.

التنبيه الرابع: الكلام في التمسك بالعام لإثبات حال الموضوع

الأمر الرابع: لا إشكال في جواز التمسك بالعام لإثبات حكمه بعد إحراز موضوعه، وإنما الإشكال في جواز التمسك به لإثبات حال الموضوع

ص: 144

بعد إحراز الحكم.

وقد ذكر في التقريرات لذلك موردين:

ما ذكره في التقريرات من الموارد

الأول: ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد معين وشك في كون خروجه عنه تخصيصاً مع واجديته لعنوانه، أو تخصصاً مع عدم واجديته لعنوانه، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء، وعلم بعدم وجوب إكرام زيد واحتمل كونه عالماً.

توجيه ما في التقريرات

الثاني: ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد مردد بين ما هو من أفراد العام ليلزم التخصيص، وما هو خارج عنه فيلزم التخصص، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء، وورد عدم وجوب إكرام زيد، وكان زيد مشتركاً بين شخصين أحدهما عالم دون الآخر. وظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) المفروغية عن حجية العام فيهما، كما صرح به في التقريرات، ويقتضيه ما ذكره في الرسائل، وحكي عنه في بعض الموارد. فيُبنى في الأول على أن زيداً ليس بعالم، وفي الثاني على أن المراد بزيد هو زيد غير العالم.

بل قال في التقريرات: «وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها [بأنها. ظ] لا تنجس المحل، فإن كان نجساً غير منجس يلزم تخصيص قولنا: كل نجس منجس».

هذا، ولا إشكال ظاهراً في أنه لا نظر للعام في نفسه إلى حال الموضوع، بل هو متكفل بإثبات الحكم بعد الفراغ عن حال الموضوع.

وغاية ما يقال في وجه ما في التقريرات: إن ثبوت الحكم لتمام أفراد العام - الذي هو مقتضى أصالة العموم - لما كان ملازماً لشرح حال الموضوع لزم البناء عليه، لأن العام من سنخ الأمارة التي هي حجة في لازم مؤداها،

ص: 145

وليس كالأصل يقصر عن ذلك. فمثلاً قضية: كل عالم يجب إكرامه، تستلزم أن كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم، لأنه عكس نقيضها الملازم لها في الصدق، فيترتب عليه ما تقدم في المثالين.

دفع التوجيه المذكور

لكنه يندفع بما ذكره غير واحد: من أن الدليل على حجية العموم لما كان هو سيرة أهل اللسان الارتكازية لزم الاقتصار في حجيته على مقتضاها، والمتيقن منها الرجوع للعام في تسرية حكمه لأفراده، لا في شرح حال الموضوع من غير هذه الجهة.

الكلام في حجية الإمارة في لازم مؤداها

وما اشتهر من أن الأمارة حجة في لازم مؤداها ليس على إطلاقه على ما ذكرناه عند الكلام في الأصل المثبت من مباحث الاستصحاب. ولذا لا يظن منه (قدس سره) البناء على رفع إجمال الخاص بالعام وإن كان العام حجة في مورد إجماله، كما نبهنا عليه في أوائل هذا الفصل.

نعم، لو كان بيان الحكم المخالف للعام في مورد مسوقاً لبيان عدم ثبوت عنوان العام فيه أو مستفاداً منه بسبب الملازمة العرفية الذهنية بينهما من باب بيان الموضوع ببيان الحكم فلا إشكال في البناء على عدم التخصيص.

لكنه ليس لأصالة العموم في العام، بل لظهور الدليل المفروض في نفي عنوان العام، كما في ما تضمن عدم وجوب غسل ملاقي بعض الأمور، كالجاف والمذي، أو عدم وجوب الوضوء أو الغسل من بعض الأمور كالقبلة وخروج المذي والاحتلام من دون خروج شيء وغيرها، فإنه ظاهر في عدم تنجس الملاقي وعدم سببية الأمور المذكورة للحدث، ولا مجال معه لاحتمال التنجس وتحقق الحدث من دون أن يجب التطهير من الخبث

ص: 146

أو التطهر من الحدث تخصيصاً لعموم مانعيتهما.

ولعل هذا هو الذي أوْهَم صحة الاستدلال بأصالة العموم في المقام، كما نسبه في التقريرات للأصحاب في استدلالاتهم.

البناء على عموم العام في الفرد الواجد لعنوانه في طرفي الترديد

ثم إنه لا إشكال في البناء في المثال الثاني المتقدم على ثبوت حكم العام في الفرد الواجد لعنوانه من طرفي التردد، فيجب إكرام زيد العالم في الفرض، لأصالة العموم بعد فرض عدم إحراز إرادته من الخاص. إنما الإشكال في حكم الخاص، حيث لا مجال لإحراز ثبوته في كل منهما بخصوصه بعد إجمال دليله.

عدم نهوض العام في تعيين مورد حكم الخاص

وكما لا ينهض العام بشرح الموضوع الخاص المردد، وأنه الفاقد لعنوان العام - كزيد غير العالم في المثال - كذلك لا ينهض بتعيين مورد حكمه، وأنه الطرف المذكور فلا يحرز به أن الذي لا يكرم هو زيد غير العالم مثلاً، وعلى ذلك إن لم يكن حكم الخاص إلزامياً فالأمر سهل. أما إذا كان إلزامياً فهو يقتضي العلم الإجمالي بثبوته في أحد الطرفين.

وحينئذٍ إن لم يكن حكم العام إلزامياً تعين منجزية العلم الإجمالي الحاصل بسبب إجمال الخاص، كما ورد استحباب إكرام كل عالم، وورد حرمة إكرام زيد المردد بين الرجلين، فإن زيد العالم وإن استحب إكرامه بمقتضى العموم، إلا أنه يجب الاحتياط بترك إكرام الزيدين معاً، خروجاً عن مقتضى العلم الإجمالي، بعد عدم نهوض العام بتعيين المعلوم بالإجمال ورفع إجماله.

وإن كان حكم العام إلزامياً فتارةً: يمكن الجمع بين حكمي الخاص والعام في الامتثال، كما ورد يجب إكرام العلماء بزيارتهم، وورد وجوب

ص: 147

إكرام زيد باستضافته. وفي ذلك يكون العلم الإجمالي المسبب عن الخاص منجزاً فيتعين في المثال إكرام زيد العالم بزيارته، عملاً بعموم العام، واستضافة كلا الزيدين، خروجاً عن العلم الإجمالي المذكور.

وأخرى: يتعذر الجمع بين حكمي العام والخاص في الامتثال كما لو ورد في المثال السابق: يحرم إكرام زيد. وفي ذلك لا يكون العلم الإجمالي المسبب عن الخاص منجزاً، لاقترانه بما يمنع من منجزيته في أحد طرفيه المعين، كزيد العالم في المثال، إذ يتردد الأمر فيه بين وجوب الإكرام وحرمته، وحيث يتعذر الاحتياط في مثل ذلك لا يتنجز فيه احتمال الحرمة المسبب عن الخاص، بل يتعين وجوب إكرامه، عملاً بعموم وجوب إكرام العلماء ومع سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في أحد طرفيه المعين يسقط عن المنجزية في الآخر، كزيد غير العالم في المثال ويكون أصل البراءة. فلاحظ.

ص: 148

الفصل الخامس في عموم الحكم لغير المخاطبين

اشارة

لا إشكال في عموم الأحكام التي تتضمنها الخطابات الشرعية لمن لم يوجد حين الخطاب، فضلاً عمن لم يحضر مجلسه من الموجودين حينه، لما هو المعلوم من عموم الشريعة الإسلامية واستمرار أحكامها إلى يوم القيامة.

وإنما الإشكال في أن ذلك مقتضى ظهور الكلام نفسه - إما لعموم الخطاب به أو بدونه - أو مستفاد من أدلةٍ أخرى تقتضي اشتراك الكل في الأحكام المذكورة، كما يظهر من جملة من عباراتهم، فقد تكرر في كلماتهم الاستدلال على العموم بالإجماع على الاشتراك.

ومن الظاهر أن محل الكلام هو الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية.

وأما ما يستفاد من الأدلة اللبية، فعمومه تابع لعموم الموضوعات المأخوذة في تلك الأدلة، إذ لا محذور في نهوض الدليل اللبي بإثبات الحكم لمن لم يوجد حين تحقق الدليل على نحو يكون حجة عليه بعد وجوده وصلوحه للتكليف، لتمحض الدليل اللبي في الكشف، ولا مانع من انكشاف الحكم المذكور بهذا النحو وإن لم يوجد صاحبه بعد.

ص: 149

البناء على ظهور الكلام في العموم إذا كان بنحو القضية الحقيقية

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في ظهور الكلام في عموم الحكم لغير الموجودين إذا تضمن جعله على موضوعه بنحو القضية الحقيقية التي هي في قوة الشرطية من دون أن يتضمن جعل الموضوع طرفاً للخطاب، كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا(1)، وقوله «رفع عن أمتي تسعة...»(2) وغيرهما، ومثله في ذلك ما كان بنحو القضية الشرطية صريحاً نحو قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا(3).

وامتناع ثبوت الحكم لغير الموجود إنما هو بمعنى امتناع فعلية الحكم في حقه، والدليل المذكور غير متضمن للحكم الفعلي، بل لمجرد جعل الحكم على موضوعه وإنشائه، بحيث لا يكون فعلياً إلا بفعليته، فكما يشمل الموجودين غير المتصفين بعنوان الموضوع إذا اتصفوا به بعد ذلك، كذلك يشمل غير الموجودين إذا وجدوا واتصفوا به بعد ذلك.

ولا يخل بذلك توجيه الخطاب بالقضية لجماعة خاصة أو لشخص واحد كالنبي F ، لأن خطابهم لمجرد الإعلام أو لطلب التبليغ، لا لاختصاص الحكم بهم، ولذا قد لا يكونون واجدين لموضوع الحكم.

الكلام فيما ورد بلسان خطاب الموضوع

وأما ما ورد بلسان خطاب الموضوع، كما في كثير من آيات الأحكام والنصوص المتضمنة لخطاب السائلين أو الحاضرين بأحكامهم، فقد يمنع العموم فيه لمن لم يحضر مجلس الخطاب من الموجودين فضلاً عن

ص: 150


1- سورة آل عمران: 97.
2- راجع الوسائل ج 5 باب: 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2 وكذا الجزء 11. باب: 56 من أبواب جهاد النفس.
3- سورة الإسراء: 33.

غيرهم، لامتناع الخطاب الحقيقي مع غير المواجه به.

دفع الخراساني (قدس سره) لذلك

وقد حاول المحقق الخراساني (قدس سره) دفع ذلك بأن أدوات الخطاب كضمائره وأدوات النداء ونحوها ليست موضوعةً للخطاب الحقيقي، بل الإيقاعي الإنشائي، وإن كان بداع آخر غير التفهيم من التحسر والتأسف وغيرهما، كما في خطاب العجماوات والجمادات وغيرها مما لا يصلح للخطاب الحقيقي. وكذا الحال في الخطاب بتوجيه الكلام وإن لم يكن بأدواته الخاصة. غاية الأمر أن المنصرف من الجميع إرادة الخطاب الحقيقي، نظير ما ذكره في أدوات وصيغ المعاني الإنشائية من الاستفهام والطلب والتمني وغيرها. ولا مجال لذلك في خطابات الشارع الأقدس، للمفروغية عن عدم اختصاص مضمونها بمن حضر مجلس الخطاب.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

ويشكل: بأن الخطاب يفترق عن غيره من المعاني الإنشائية، فإن للمعاني الإنشائية واقعاً نفسياً حقيقياً مبايناً لمقام الإنشاء، فتتجه دعوى وضع الأدوات والصيغ لمحض الإنشاء والإيقاع، إما بداعي بيان ذلك الواقع النفسي أو بداع آخر.

أما الخطاب فهو قائم بنفس الكلام ونحوه من أدوات البيان، كالكتابة والإشارة وغيرها، وليس له واقع وراء ذلك، يكون هو المراد بالخطاب الحقيقي، لتتجه دعوى وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي، وأنه تارة يكون بداعي الخطاب الحقيقي، وأخرى بداع آخر. بل ليس في المقام إلا أمر واحد، وهو الخطاب الحقيقي الذي هو مقتضى الكلام.

ولذا قد يدعى تجريد الكلام عن معناه في مورد خطاب من لا يقبل الخطاب، ويكون مجازاً. لكنه بعيد جداً عن المرتكزات الاستعمالية

ص: 151

والبيانية، كما يظهر بأدنى ملاحظة لها.

ومن هنا فالظاهر أنه إن أريد بخطاب من لا يقبل الخطاب خطابه حال عدم قابليته، كخطاب الأموات والرسوم والأطلال وغيرها، فهو مبني على ادعاء أنه صالح للخطاب بإعمال قوة التخييل.

ولذا قد يُنسب إليه ما يناسب الخطاب مما هو من شأن ذي الإحساس والشعور، كالجواب والعتاب والبكاء والضحك والفرح والحزن وغيرها.

وإن أريد به خطابه بعد قابليته للخطاب وتفهيمه حينئذٍ، كخطاب الغائب أو غير الموجود بالكتابة والتسجيل في مقام الوصية أو نحوها، كان مبنياً على ملاحظة الحال الذي يصلح معه للخطاب كأنه حال حاضر، ولذا لا يترتب على الخطاب في القسم الأول أي أثر ويتمحض في التخييل، أما في هذا القسم فيترتب الأثر في وقته، لقصد التفهيم حينه بالخطاب، كما يقصد بخطاب الحاضر القابل للخطاب.

لكن من الظاهر أن جميع ما تقدم في توجيه الخطاب في حق من هو غير قابل له مبني على عناية تحتاج إلى قرينة.

وما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) من أن عموم الحكم واستمراره يصلح قرينة على ذلك. في غير محله، لإمكان قصر الخطاب بالحكم العام على بعض المكلفين وتبليغ غيرهم به من غير طريق الخطاب المذكور، كخطاب آخر أو الإجماع على الاشتراك في المقام أو غيرهما. بل هو المقطوع به في البيانات الخاصة الواردة في النصوص المتضمنة لخطاب الحاضرين أو السائلين بأحكامهم. ولذا قد تشتمل تبعاً على بعض الخصوصيات الزائدة على الحكم مختصة بهم دون غيرهم، حيث لا مجال

ص: 152

مع ذلك لعموم الخطاب لغيرهم. ومن ثم لا يكون دالاً بالمطابقة إلا على حكم المخاطب.

غاية الأمر أنه قد يستفاد عموم الحكم من الكلام بضميمة إلغاء خصوصية مورده عرفاً ولو للمفروغية عن عموم أحكام الشريعة واستمرارها التي هي من سنخ القرينة الحالية المحيطة بالكلام. ولذا قد يتعدى في غير مورد الخطاب أيضاًً لو تضمن الكلام بيان حكم شخص خاص غير مخاطب.

وحينئذٍ لابد في تحديد الموضوع من الاقتصار في الخصوصيات الملغية على المقدار المتيقن إلغاؤه عند العرف، بلحاظ القرائن المقالية والحالية، ومنها المناسبات الارتكازية، دون ما لم يستظهر إلغاؤه، ولا ضابط لذلك.

لكن ذلك غير عموم الخطاب لغير من يحضر مجلسه أو يوجه له بأحد الوجوه المتقدمة التي عرفت احتياجها للقرينة.

توجيه ذلك في خصوص الخطاب القرآني

نعم، قد يتجه ذلك في الخطابات القرآنية الموجهة للعناوين كالناس والمؤمنين والعباد، وذلك لما هو المعلوم من عدم خطابه تعالى لهم في مجلس خاص وبنحو المشافهة، ليمكن حمله على ظاهره من دون تنزيل ولا عناية، وإنما هو منزل على النبي F للتبليغ به، فلابد أن يكون المخاطب به كل من أريد تبليغه سواء كان موجوداً أو صالحاً للتبليغ حين التنزيل أم لا، لأنه F مرسل للكل، كل في وقته.

ويتعين حمله على ما سبق منا من تنزيل حال الصلوح للتبليغ والخطاب منزلة الحال الحاضر.

ومثله في ذلك ما يوجه في الكتب ونحوها للعامة، نظير كتب الأئمة B

ص: 153

إلى شيعتهم، وكتب الأمراء لرعاياهم، من طريق الولاة أو الرسل.

وأما ما تضمن في القرآن المجيد خطاب النبي بضمير الجمع نحو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ (1)، فالخطاب فيه وإن اختص به، إلا أن موضوع الحكم المبين بالدليل يعم جميع المسلمين حتى غير الموجودين حين الخطاب، لوضع أدوات الخطاب بالجمع لما يعم خطاب الواحد وإرادة غيره معه في الحكم، وحيث لا معين لمقدار الجمع، وكان خطابه F بلحاظ كونه مبلغاً لغيره، ينصرف لعموم من وظيفته F تبليغه بالأحكام وإن لم يكن موجوداً.

نعم، ما تضمن خطابه F بشخصه بضمير المفرد نحو قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(2)، يجري فيه ما سبق في الخطابات التي تضمنتها النصوص من أن مدلولها المطابقي خصوص حكم المخاطب، ويكون التعميم لغيره بإلغاء خصوصية المورد، أو بقرينة حالية أو مقالية تقضي بأن مبنى خطابه على إرادة تفهيم غيره، من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).

ص: 154


1- سورة الطلاق: 1.
2- سورة الضحى: 9.

الفصل السادس: في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

اشارة

قد وقع الكلام بينهم في أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يمنع من البناء على عموم حكمه فيقتصر فيه على خصوص الأفراد المرادة بالضمير، أو لا، بل يبقى العام على عمومه.

والظاهر أن محل الكلام ما إذا كان حكم العام مبايناً لحكم الضمير، ليتجه احتمال التفكيك بينهما في العموم والخصوص، دون ما لو كان الحكم واحداً، كما في قولنا: أثم أعداء زيد بشتمهم له، حيث لا إشكال ظاهراً في اختصاص حكم العام، وهو الإثم بمن شتم زيداً، دون غيرهم من أعدائه، وإن أمكن إثمهم أيضاًً لا من جهة الشتم الذي هو حكم آخر لم يتضمنه العام.

إذا عرفت هذا، فالظاهر التفصيل بين أن يكون اختصاص حكم الضمير ببعض الأفراد مقتضى قرينة متصلة، وأن يكون مقتضى دليل منفصل.

التفصيل بين فرض وجود القرينة ووجود دليل منفصل

فالأول: نحو قوله تعالى: ِّللَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)، فإن الإيلاء وإن كان هو الحلف على ترك الوطء، فلا يمنع من

ص: 155


1- سورة البقرة: 226، 227.;

عموم النساء للمتمتع بها، إلا أن قوله: وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ مختص بمن يشرع طلاقهن، وهن الدائمات.

وفي مثل ذلك يتعين التوقف عن عموم حكم العام، فلا يبنى على عموم حكم الإيلاء في الآية للمتمتع بها، لأن ذلك من القرائن المحيطة بالكلام المانعة من انعقاد الظهور في عمومه. وجميع ما ذكر في كلماتهم في وجه عدم رفع اليد عن العموم ولزوم التصرف في الضمير - لو تم - إنما يتوجه مع انعقاد الظهور في العموم وبلوغه مرتبة الحجية.

والثاني: نحو قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ...(1)، فإن ظاهر الصدر عموم العدة للمطلقات، وظاهر الذيل المشتمل على الضمير جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة. وتخصيصه ببعض الأقسام إنما استفيد من أدلة أخرى خارجة عن الكلام.

والفرق بينه وبين الآية الأولى أنه وارد لتشريع الرجعة، فيكون ظاهراً في عموم تشريعها للمطلقات بمقتضى إسناده لضميرهن. أما الآية الأولى فهي غير واردة لتشريع الطلاق، لتكون ظاهرة في عموم تشريعه للمؤالى منهن، بل لبيان أن الطلاق يحل مشكلة الإيلاء عملاً بعد الفراغ عن تشريعه، فلا يكون لها ظهور في عموم تشريعه.

وكيف كان، ففي هذا القسم حيث لا إشكال في انعقاد الظهور في عموم حكم العام - كثبوت العدة للمطلقة في الآية - الذي هو حجة في نفسه، لا ملزم برفع اليد عنه بالدليل الخارج المتضمن تخصيص حكم الضمير،

ص: 156


1- سورة البقرة: 228.

لعدم التلازم بينهما، فلا مجال للبناء عليه والخروج عن أصالة العموم.

دوران الأمر بين التصرف في العام والتصرف بالضمير

إن قلت: لما كان ظاهر الكلام التطابق بين الضمير ومرجعه فبعد قيام الدليل الخارج على اختصاص حكم الضمير ببعض أفراد العام يدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على خصوص الأفراد الباقية المحكومة بحكم الضمير، والتصرف في الضمير بالبناء على عدم التطابق بينه وبين مرجعه من باب الاستخدام، أو على التوسع في إسناد الحكم إليه على عمومه مع ثبوت حكمه لبعض أفراده، وليس التصرف في الضمير بأحد الوجهين بأولى من التصرف في العام بالتخصيص، بل لعلَّ الثاني أولى ولا أقل من التوقف عن عموم العام بعد عدم المرجح.

ودعوى: أن التصرف في عموم المرجع تصرف في الضمير أيضاً، والتصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في عموم المرجع، فالتصرف في الضمير معلوم على كل حال، ولا تجري فيه أصالة الظهور، والتصرف في العام مشكوك، فتجري فيه أصالة الظهور.

مدفوعة: بأن مقتضى الظهور في الضمير ليس هو حمله على ما يظهر من مرجعه مطلقاً، بل حمله على ما يراد من مرجعه، فإذا فرض كون المراد بمرجعه بعض الأفراد، فإرادة خصوصها بالضمير لا تنافي ظهوره، بل هي على طبق أصالة الظهور فيه، وإنما يكون إرادة خصوصها منافية لظهوره إذا أريد من مرجعه العموم الذي هو على طبق ظهوره. ومن ثم لا يكون في المقام إلا تصرف واحد في الضمير أو في المرجع.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من عدم نهوض أصالة الظهور في الضمير بمعارضة أصالة الظهور في العام

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من عدم نهوض أصالة الظهور في الضمير بمعارضة أصالة الظهور في العموم، لأن أصالة الظهور إنما

ص: 157

تكون حجة في تعيين المراد، لا في تعيين كيفية الاستعمال مع العلم بالمراد، والمفروض في المقام العلم بالمراد من الضمير - وهو الخصوص - والشك في المراد بالمرجع، فلا تجري أصالة الظهور في الضمير لتعيين كيفية الاستعمال، لتعارض أصالة الظهور في المرجع لتعيين المراد به وحمله على العموم.

فيشكل: بأن ذلك إنما يتم مع تعدد الكلام وعدم ارتباط أحد الكلامين بالآخر، وأما مع وحدته وارتباط بعضه ببعض فمع لزوم التصرف فيه تبعاً للقرينة الخارجية - وهي في المقام القرينة الدالة على تخصيص حكم الضمير - لابد من ملاحظة جميع خصوصيات الكلام في مقام التصرف فيه، وتنزيله على مقتضى القرينة.

وببيان آخر نقول: ليس التعارض في المقام بين أصالة الظهور في الضمير وأصالة الظهور في العام، ليتجه ما تقدم من حجية أصالة الظهور في تعيين المراد دون كيفية الاستعمال، بل بين الكلام الظاهر في عموم حكمي الضمير ومرجعه معاً والقرينة الخارجية الدالة على تخصيص حكم الضمير، وبعد فرض تقديم القرينة يتعين التصرف في الكلام وتنزيله بمجموعه على ما يناسبها، وليس التصرف فيه بتخصيص حكم الضمير وحده مع استلزامه التصرف فيه بأحد الوجهين المتقدمين بأولى من التصرف فيه بتخصيص كلا الحكمين وحمل المرجع على خلاف ظاهره الذي لا يستلزم التصرف في الضمير. بل لعل الثاني أولى، كما تقدم.

جواب الإشكال المذكور

قلت: إنما يتم ذلك لو كان مرجع الجمع بين العام والخاص بالتخصيص إلى حمل العام على كونه مستعملا في بعض أفراده، حيث يلزم

ص: 158

مع تخصيص حكم الضمير دون حكم مرجعه التصرف في الضمير بأحد الوجهين المتقدمين، وقد سبق أن الجمع بينهما لا يبتني على ذلك، بل على مجرد رفع اليد عن ظهور العام في إرادة العموم لمورد الخاص، تقديماً لأقوى الحجتين في الكشف عن مراد المتكلم، وإن أمكن أن يكون العام مستعملاً في العموم لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها، أو مع قرينة متصلة على الخصوص قد خفيت علينا.

ومن الظاهر أن ذلك يقتضي الاقتصار في المقام على مورد المزاحمة، وهو حكم الضمير دون حكم مرجعه. بل لا مخرج فيه عن ظهوره في العموم المفروض انعقاده وحجيته في نفسه.

ما ذكره في التقريرات من أن الضمير من سنخ الكنايات فلا يعارض العموم

وأما ما يظهر من التقريرات من الإشكال في ذلك بأن الضمير ليس من صيغ العموم، ليدعى أنه هو المعارض لدليل التخصيص، ويلزم الاقتصار في التخصيص عليه، بل هو من سنخ الكنايات، فتارة يكون كناية عن جماعة محصورة وأخرى عن غيرها، والمعارض للتخصيص هو المرجع.

دفع ما ذكره في التقريرات

فيندفع: بأن الضمير وإن لم يكن من صيغ العموم اصطلاحاً، إلا أنه كالعام في إمكان الحكم عليه وأرادة الخاص منه بقرينة متصلة حالية أو مقالية - كالاستثناء والشرط - أو منفصلة مع وروده لضرب القاعدة أو غير ذلك مما تقدم عند الجمع بين العام والخاص. ومن ثَمَّ لا مانع من معارضة دليل التخصيص له وتحكيمه عليه وحده.

تنبيه: جريان المعيار في جميع موارد اشتمال الكلام على عمومات متعددة

تنبيه:

ما ذكرناه في معيار التفصيل يجري في جميع موارد اشتمال الكلام

ص: 159

على عمومات متعددة ثبت التخصيص في بعضها بقرينة متصلة أو منفصلة واحتمل سريانه لجميعها. ومنه الجمل أو المفردات المتعددة المتعقبة باستثناء واحد، كما في قولنا: أكرم العلماء وأكرم الأشراف إلا الفساق، وقولنا: أكرم العلماء والأشراف إلا الفساق، وقولنا: أكرم العلماء وأضفهم إلا الفساق، وقولنا: أكرم العلماء وجالس الأشراف إلا الفساق، ونحوها.

فيتوقف عن العموم في الأمثلة المذكورة بالإضافة إلى غير الأخير المتيقن التخصيص، لأن التخصيص المذكور من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم في بقية المتعلقات والجمل.

نعم، لا يبعد أقربية الرجوع للأخير وحده مع اتحاد متعلق الحكم وتكراره لفظاً، كما في المثال الأول، ليكون فائدة التكرار اللفظي وعدم الاكتفاء بعطف المفرد استقلال الجملة الأخيرة بمتعلقها - وهو الاستثناء - وانفرادها به.

كما لا يبعد أقربية الرجوع للكل مع تعاطف المفردات - كما في المثال الثاني - أو الجمل المتضمنة لتكرار الموضوع بوجه تبعي وهو الضمير - كما في المثال الثالث - لاحتياج الاستثناء من المفرد والجملة المذكورة لعناية وكلفة.

لكن في بلوغ ذلك حد الظهور النوعي الحجة إشكال، بل قد يكون من سنخ النكت البلاغية التي لا توجب إلا الإشعار.

وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما ذكرناه من المعيار للظهور النوعي المتبع لولا القرائن الخاصة التي لا تنضبط، بل توكل لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

ص: 160

الفصل السابع في الجمع بين المطلق والمقيد

اشارة

لقد جرى أهل الفن على تحرير هذه المسألة في مبحث المطلق والمقيد الذي هو بحسب تبويبهم مباين لمبحث العام والخاص.

وحيث سبق منّا في أول مبحث العام والخاص أن موضوعه يعم المطلق والمقيد تعين إلحاق هذه المسألة بالمبحث المذكور، كما جرينا عليه هنا.

الجمع بين المطلق والمقيد بعد فرض التنافي بينهما

هذا، وقد سبق في أول فصل العام المخصص أن الكلام فيه بعد فرض تقديم الخاص على العام من باب الجمع العرفي الذي ذكرنا في مبحث التعارض ضوابطه ولزوم الجري عليه، وهو مبني على فرض التنافي بين العام والخاص بحسب ظهورهما البدوي، وعلى كون ظهور الخاص أقوى بحيث يصلح قرينة عرفاً على تنزيل العام على غير مورده، والأول مما يسهل تشخيصه بعد الإحاطة بالضوابط العامة للظهورات النوعية وملاحظة القرائن الخاصة المحيطة بالكلام، والثاني مقتضى العام والخاص بطبعهما، لأن الخاص في مورده كالنص بالإضافة إلى العام، وان أمكن أقوائية العام بلحاظ جهات أخر، بحيث يكون التصرف في الخاص وتنزيله على ما لا

ص: 161

ينافي العام أقرب من تخصيص العام به، ولا ضابط لذلك، بل يوكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة.

وذلك كما يجري فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ليكون من صغريات العموم يجري فيما لو كانت بمقدمات الحكمة، ليكون من صغريات الإطلاق باصطلاحهم.

غير أنه وقع الكلام بينهم في الجمع بين المطلق والمقيد بلحاظ بعض الجهات التي أوجبت تنبههم لتحرير الكلام في ذلك، دون الكلام في الجمع بين العام والخاص.

ونحن نتابعهم في ذلك ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير المطلق والمقيد. ومن هنا فحيث كان الجمع بين المطلق والمقيد فرع التنافي بدواً بينهما فالتنافي بينهما يتوقف على أمرين.

توقف التنافي على أمرين أحدهما: وحدة الحكم الكبروي

أحدهما: وحدة الحكم الكبروي الذي وردا لتحديده، فلو كان ظاهر كل منهما بيان حكم خاص به فلا تنافي بينهما، لأن الإطلاق والتقييد من سنخ الضدين اللذين يتوقف التنافي بينهما على وحدة الموضوع، وذلك ظاهر مع اختلاف موضوعيهما، كما لو ورد: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و: إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة، أو: إن أفطرت فلا تعتق رقبة غير مؤمنة.

ومنه ما لو أطلق أحدهما وعلق الآخر على موضوع خاص. وأما في غير ذلك فلا إشكال فيما لو صرح فيهما بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما.

بل لا يبعد البناء على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين غير معلقين على شيء أو معلقين على أمر واحد، حيث لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما،

ص: 162

لبعد اقتصار المتكلم في كل دليل على بيان أحد التكليفين، وإهمال الآخر مع وحدة الموضوع.

نعم، الظاهر عدم الفرق بين الاحتمالين في لزوم الإتيان بالمقيد، بناء على ما يأتي من حمل المطلق على المقيد مع وحدة التكليف، وفي جواز الاقتصار على فرد منه، بناء على ما سبق في مسألة التداخل من أن مقتضى القاعدة تداخل التكليفين في الامتثال مع اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد.

وإنما يختلفان في أنه بناء على وحدة التكليف لا يكون الإتيان بالفاقد للقيد مع القدرة على المقيد مشروعاً، لعدم التكليف به بعد فرض حمل المطلق على المقيد، بل وكذا مع تعذر القيد إلا بدليل خارجي يقتضي الاكتفاء بالميسور. وأما بناء على تعدده فيكون الإتيان بالفاقد مشروعاً امتثالاً لأمر المطلق، كما يجب عند تعذر القيد، لأن تعذر امتثال أحد التكليفين لا يسقط الآخر، كما هو ظاهر.

الثاني: تنافيهما في تحديد الحكم الكبروي

ثانيهما: أن يتنافيا بحسب ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد، كما لو كان المطلق بدلياً، ظاهراً في الاكتفاء بأصل الماهية وكان المقيد ظاهراً في مطلوبية خصوصية منها، أو عدم الاكتفاء بخصوصية منها، كما في قولنا: أعتق رقبة، مع قولنا: أعتق رقبة مؤمنة، أو: لا تعتق رقبة كافرة.

وأما لو كان المطلق شمولياً، وكان المقيد متضمناً ثبوت الحكم لبعض الأفراد أو في بعض الأحوال. فإن كان المقيد ظاهراً في الحصر فلا إشكال في التنافي بينهما. من دون فرق بين أن تكون دلالته نوعية - وضعية أو سياقية -، كما في مفهوم الشرط وغيره من المفاهيم المتقدمة، كقولنا:

ص: 163

أكرم العالم، مع قولنا: إنما يكرم العالم العادل، أو: أكرم العالم إن نفع، وأن تكون شخصية لخصوصية خاصة في الكلام، كما لو ورد مورد التحديد. والظاهر وضوح لزوم تنزيل المطلق على المقيد عندهم، لأن ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق، بل كثيراً ما يكون أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

وأظهر من ذلك ما لو دل المقيد على نفي الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال صريحاً أو ظاهراً، كما في قولنا: أكرم العالم، مع قولنا: لا يكرم العالم الفاسق، أو: لا يكرم العالم إن لم ينفع.

وإن لم يكن المقيد ظاهراً في الحصر فلا تنافي بين الدليلين، لأن ثبوت الحكم لبعض الأفراد لا ينافي ثبوته لجميعها.

ومن ثَمَّ يختص الكلام في المقام بالمطلق البدلي. بل مقتضى فرضهم الكلام في الإثباتيين كون محل كلامهم بعض أقسامه، وأن تحكيم المقيد مع كونه نافياً ليس مورداً للإشكال، كما صرح به بعضهم.

وجه حمل المطلق على المقيد وما أشار إليه الأخوند (قدس سره)

إذا عرفت هذا، فالمعروف بينهم حمل المطلق على المقيد. والوجه فيه ما أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) من أن ظهور المقيد في الأمر التعييني الإلزامي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد، فيتعين تحكيم المقيد ورفع اليد عن الإطلاق. دون العكس وتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري، بأن يراد به في المقام بيان أحد أفراد الواجب، أو على الاستحباب التعييني ببيان أفضل الأفراد. لأن حمل الأمر بالشيء على كونه تخييرياً لبيان أحد أفراد الواجب بعيد عن ظاهره جداً

ص: 164

ومحتاج إلى عناية خاصة.

وحمله على بيان أفضل الأفراد وإن لم يكن كذلك، إلا أنه أبعد من حمل المطلق على المقيد، ولذا لا إشكال عندهم في تقديم المقيد المنفي مع أنه يمكن أيضاً حمله على الكراهة ببيان الفرد المرجوح وإن كان مجزياً تحكيماً للمطلق.

نعم، قد يحتف المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية تقتضي أقوائية المطلق، فيلزم تحكيمه وحمل المقيد عليه بأحد الوجهين المتقدمين، ولا سيما الثاني منهما، كما لا يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي لقوة دلالته على العموم، بنحو قد لا يسهل تنزيله على المقيد.

لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام، وأن مورد البحث المطلق المستفاد عمومه من مقدمات الحكمة مع المقيد في نفسيهما، مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجري ذلك في بقية الأقسام، التي عرفت عدم الإشكال بينهم في تقديم المقيد فيها، كما لو كان المقيد سلبياً أو مثبتاً دالاً على الحصر، فيحكم المطلق للقرينة المذكورة، ويحمل المقيد السلبي على بيان الفرد المرجوح، والمثبت على أفضل الأفراد.

هذا، وقد استدل في كلماتهم على تقديم المقيد في محل الكلام..

تارةً: بأنه جمع بين الدليلين، وهو أولى من الطرح، كما عن المشهور.

وجوه الاستدلال في تقديم المقيد

وأخرى: بأن المقيد يكشف عن عدم صدور المطلق في مقام البيان الذي هو شرط في انعقاد الإطلاق، فلا إطلاق معه كي يرفع به اليد عن ظهور المقيد في الوجوب، كما يظهر من التقريرات.

ص: 165

وثالثة: بأنه مقتضى مفهوم الوصف، كما عن البهائي، ولذا أورد على المشهور بالتناقض، لعدم بنائهم على ثبوت مفهوم الوصف.

ورابعة: بالاحتياط، كما يظهر مما عن المحقق القمي.

الإشكال على الوجوه المذكورة

والكل كما ترى! لاندفاع الأول: بعدم انحصار الجمع بالوجه المذكور، كما يظهر مما سبق.

والثاني: بأنه يكفي في انعقاد الإطلاق عدم البيان المتصل، كما سبق عند الكلام في مقدمات الحكمة.

والثالث: بأن موضوع المقيد قد لا يكون وصفاً، فلا مفهوم له إجماعاً، ولو كان له مفهوم خرج عن محل كلامهم من فرض الدليلين مثبتين، كما نبَّه له في التقريرات.

والرابع: بأن الكلام في مفاد الجمع بين الدليلين عرفاً، لا في مقتضى الأصل العملي، الذي هو مورد للكلام في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

فالعمدة ما سبق.

الكلام في الجمع المذكور في المستحبات

نعم، قد يستشكل فيه بعدم بنائهم عليه في المستحبات، بل يغلب بناؤهم فيها على حمل المقيد على أفضل الأفراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه تحكيماً للإطلاق. ولعل ذلك هو الموجب لتحرير المسألة في كلماتهم والمنبه لخصوصيتها من بين فروض العام والخاص، حتى أفردت بالبحث والكلام.

وقد حاول في التقريرات تقريب الفرق بين الواجبات والمستحبات..

ص: 166

تارةً: بغلبة العلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان، فلا يصلح المقيد للكشف عن عدم ورودها في المقام المذكور، ليمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق على مسلكه المتقدم. ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.

وأخرى: بغلبة العلم باختلاف مراتب المحبوبية في المستحبات، ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.

وزاد عليه المحقق الخراساني (قدس سره) بأن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة السنن استحباب المطلق على إطلاقه.

الإشكال في توجيه ما ذكر في تقديم المقيد في المستحبات

ويشكل الكل: بعدم المنشأ للعلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان. كما أن الظاهر عدم صلوح المقيد المنفصل للمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق حتى في الواجبات، كما سبق. كما أن غلبة اختلاف مراتب المحبوبية - مع قرب استناد إحرازها ولو ببعض مراتبها لبنائهم على الجمع المذكور، فلا تكون مستنداً له - لا تختص بالمستحبات، لما هو المعلوم من كثرة اختلاف أفراد الواجبات في الفضيلة. مضافاً إلى الإشكال فيه وفي ما قبله بعدم وضوح كون الغلبة من القرائن الموجبة لتبدل مقتضى الجمع العرفي.

وأما قاعدة التسامح في أدلة السنن فهي - على التحقيق - إنما تنهض بحسن الإتيان بالفعل برجاء المطلوبية، لا بالاستحباب الشرعي، كما هو مبناهم في المستحبات في المقام.

على أنه لما كان موضوعها بلوغ الثواب على العمل فالمطلق وإن كان في نفسه دليلاً على استحباب ما عدا أفراد المقيد فيصدق به بلوغ الثواب

ص: 167

عليه، إلا أنه إذا كان مقتضى الجمع العرفي حمله بقرينة المقيد على ما عدا فاقد القيد خرج عن كونه دليلاً على ذلك ولم يتحقق به موضوع القاعدة. فتأمل.

مضافاً إلى أنه لو تم كون مقتضى القاعدة استحباب فاقد القيد فلا يتضح وجه البناء على كون واجد القيد أفضل الأفراد. وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا المحقق الخراساني (قدس سره).

المختار في الجمع في المستحبات

فالذي ينبغي أن يقال: إن كان إطلاق دليل المستحب شمولياً، كدليل استحباب قراءة القرآن، وزيارة المعصومين B ، والدعاء، والصدقة، والإحسان، وغيرها مما هو كثير، فلا إشكال بلحاظ ما سبق من عدم التنافي بين المطلق الشمولي والمقيد، ليلزم رفعه بالتقييد، لأن ثبوت الحكم لبعض أفراد الماهية لا ينافي ثبوته لتمامها.

نعم، لا ينهض دليل المقيد حينئذٍ بإثبات كون واجد القيد أفضل الأفراد، بل لابد في البناء على ذلك من التشبت بإشعار أخذ العنوان في المتعلق في كونه علّة للحكم، حيث يكون مقتضى ذلك عليّة كل من عنواني المطلق والمقيد للحكم المستلزم لتأكد الحكم في أفراد المقيد بتعدد مقتضيه، أو الاستعانة بالمناسبات الارتكازية أو القرائن الخارجية المقتضية لأفضلية المقيد لو تمت، وبدونها لا يبنى على ذلك.

وأما إن كان بدلياً فالمقيد وإن كان ظاهراً في التعيين وعدم امتثال أمره بغير واجد القيد، إلا أن أمره كما يمكن أن يكون هو عين الأمر بالمطلق المستلزم للتنافي بين الدليلين - لامتناع اختلاف متعلق الأمر الواحد بالإطلاق - والتقييد فيلزم الجمع بتنزيل المطلق على المقيد، والالتزام بعدم

ص: 168

إرادة فاقد القيد من المطلق وعدم تحقق الامتثال به، كذلك يمكن أن يكون أمراً آخر متعلقاً بالخصوصية زائداً على الماهية المطلوبة بأمر المطلق، من دون أن ينافي المطلق ليلزم حمله عليه، بل يبقى المطلق على إطلاقه متعلقاً أمره بأصل الماهية دون الخصوصية، فيصلح فاقد القيد لامتثاله. ومرجعه إلى أن المقيد أفضل الأفراد.

ولا مجال للبناء على الأول بعد منافاته لمقتضى الإطلاق إلا بقرينة خاصة.

وأما ما سبق عند الكلام في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين، من استبعاد تعدد الحكم مع إطلاقه في الدليلين أو تعليقه على شرط واحد، فهو مختص بالحكم الإلزامي، الذي يهتم ببيانه والقيام بمقتضاه، حيث يبعد اهتمام الحاكم ببيان أحد الحكمين الإلزاميين دون الآخر مع وحدة موضوعهما واتحاد سنخهما لمجرد اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد، بخلاف الحكمين غير الإلزاميين، حيث قد يهتم الحاكم ببيان بعض المطلوب لإحداث الداعي له، دون بعض، لعدم كونه إلزامياً وعدم مناسبة المقام لبيانه.

على أن الأثر المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد، وفي المستحبات هو مشروعية فاقد القيد.

وقد سبق أن الأول كما لا يترتب مع وحدة الحكم لا يترتب مع تعدده، ولا ينفع الإطلاق في الواجبات في ترتبه إما لتقييده مع كون الحكم واحداً، أو للزوم امتثال أمر المقيد مع كون الحكم متعدداً، ومن هنا لا يهم إثبات وحدة الحكم هناك.

ص: 169

وأما الثاني فيترتب مع تعدد الحكم لا مع وحدته، وحيث كان مقتضى الإطلاق ترتبه المستلزم لتعدد الحكم، فلابد في الخروج عنه من قرينة ملزمة بوحدة الحكم.

وبعبارة أخرى: حمل المقيد على بيان أفضل الأفراد في الواجبات مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في الإلزام، وهو أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق غالباً، فيلزم رفع اليد به عن الإطلاق حينئذٍ، أما في المستحبات فحيث فرض عدم أرادة الإلزام منه فهو لا ينافي المطلق، فلابد في الخروج فيها عن مقتضى الإطلاق من قرينة خاصة تقضي بوحدة الحكم، كما ذكرنا.

نعم، ذلك إنما يتم إذا كان المقيد بلسان محض الأمر بعنوانه، أما إذا كان الأمر فيه وارداً لشرح الماهية المستحبة - كما لو ورد السؤال عن زيارة الحسين (عليه السلام)، فأجيب بالأمر باستقبال القبلة فيها - فمقتضاه وحدة الحكم وانحصار الماهية المذكورة بالمقيد، فيلزم تنزيل المطلق عليه ورفع اليد عن الإطلاق به وحمله حينئذٍ على أفضل الأفراد مخالف للظاهر ومحتاج للقرينة، هذا وقد أشار في التقريرات لبعض ما ذكرنا في توجيه مبنى المشهور على مسلكهم من عدم مانعية البيان المنفصل من انعقاد الإطلاق. فراجع.

هذا كله إذا كان المقيد بلسان الأمر، وأما إذا كان بلسان النهي عن بعض الأفراد، فإن أمكن إبقاؤه على ظاهره من كونه مولوياً تحريمياً أو تنزيهياً فلا إشكال في كونه أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق، فيقيد به المطلق لو كان شمولياً، بل لو كان بدلياً أيضاً على ما يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

وإن كان للإرشاد لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره امتناع امتثال

ص: 170

المستحب بمورده إلا بقرينة تقضي بحمله على بيان الفرد المرجوح والأقل فضيلة. وكذا لو كان بلسان تحديد الموضوع إثباتاً، نحو قولنا: إنما النافلة بعد الفريضة، أو نفياً، نحو قلنا: لا نافلة لمن لا يؤدي الفريضة، حيث يكون حاكماً على إطلاق الاستحباب حكومة عرفية.

هذا ما تيسر لنا في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبيعة الأدلة المفروضة، وكثيراً ما تتحكم القرائن الخاصة بما فيها مناسبات الحكم والموضوع في كيفية الجمع بين الأدلة بنحو تؤكد ما ذكرنا أو تلزم بالخروج عنه، ولا ضابط لذلك.

ص: 171

ص: 172

الفصل الثامن في تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

لما كان المعيار في التخصيص على أقوائية الخاص ظهوراً من العام - كما سبق - فقد وقع الكلام في تخصيص العام بالمفهوم بلحاظ أن دلالة الكلام على المفهوم ليست كدلالته على المنطوق، وحيث كانت دلالة العام على العموم بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وإن كان أضعف منه من حيثية العموم والخصوص.

ومن ثم اختلفوا في تخصيص العام بالمفهوم.

لكن لا يبعد غلبة أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له، وإن كان اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في كيفية الجمع العرفي بينهما، والتي لا ضابط لها، بل توكل لنظر الفقيه.

الكلام في تخصيص مفهوم الموافقة

هذا في مفهوم المخالفة، وأما مفهوم الموافقة فلا إشكال بينهم في تخصيص العام به، لأن وضوح ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفاً، فعدم تخصيص العام لا ترجع إلى رفع اليد عن المفهوم وحده، بل عن المنطوق أيضاًً، فلا يجري فيه الوجه السابق للتوقف.

ص: 173

ثم إن أهل الفن قد حرروا في مبحث العام والخاص بعض المسائل الأخرى، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، ومسألة الدوران بين التخصيص والنسخ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.

ويظهر الحال في المسألة الأولى مما يأتي في استدلال المانعين من حجية خبر الواحد بكثرة مخالفته لظواهر الكتاب.

وفي الثانية مما يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض عند الكلام في الدوران بين النسخ والجمع العرفي بين الدليلين.

وفي الثالثة مما يأتي في خاتمة علم الأصول من الكلام في وجوب الفحص عن الأدلة.

ولا مجال مع ذلك لتحرير الكلام هنا في هذه المسائل، لأن البحث في تلك المواضع أوسع وأشمل.

الإشارة إلى المجمل والمبين

كما أنهم عقدوا بحثاً للمجمل والمبين وأطالوا الكلام في تعريفهما، وفي بعض صغرياتهما بما لا مجال لصرف الوقت فيه، بعد كون مفهومهما بالمقدار الذي يحتاج إليه في مقام العمل من المفاهيم العرفية الجلية، وعدم انضباط صغرياتهما، لأنها كما تتبع الظهورات النوعية المنضبطة لو تعارضت - كالعامين من وجهٍ - تتبع القرائن الشخصية غير المنضبطة، لو تعارضت أيضاًً، كما أنها تتبع أيضاًً تحديد مفاهيم المفردات وعدمه. ومن هنا كان الأنسب إيكال تشخيصها لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

ص: 174

خاتمة مباحث الألفاظ

خاتمة مباحث الألفاظ: ما ينبغي للفقيه أن يتحلى به عند الاستنباط

ما ذكرناه من الكبريات في هذه المباحث مبتن على ملاحظة الظهورات النوعية المنضبطة التي تكون مرجعاً لولا القرائن الخاصة. وعلى الفقيه أن لا يتسرع في استنباط الأحكام تبعاً لها، بل يلزمه التأمل في خصوصيات الموارد وفي ما يكتنف بالكلام من القرائن، ولا سيما الحالية منها التي كثيراً ما يغفل عنها.

كما عليه أن يتحفظ ويتروَّى كي لا يخرج في فهم الكلام اعتماداً على ما عنده من مقدمات الاستظهار عما تقتضيه السليقة العرفية والذوق السليم في خصوصيات الاستعمالات، فإن مؤدى الكلام هو المفهوم العرفي منه، وليست الكبريات المتقدمة ونحوها مما يذكر في علوم اللغة إلا لتسهيل فهمه وإدراكه من دون أن تستقل به وحدها، فلا ينبغي أن يكتفي بها، بل ينبغي عرض نتائجها على المفهوم العرفي وتحكيم الذوق والسليقة فيها، فإن خالفتها كشف ذلك عن قرينة مغفول عنها يلزم التأمل لتحديد مفادها، أو خطأ بعض الكبريات التي اعتمدها فلابد من النظر في حالها.

ومن ثم كان الفقه من أشق العمليات العلمية، لعدم انضباط مقدماته، وعدم تحديد نتائجه ومحصلاته، بخلاف غالب العلوم الأخرى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 175

انتهى الكلام في مباحث الألفاظ ضحى الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الأول، من السنة الثانية بعد الألف والأربعمائة، للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم المشرف على مشرِّفه الصلاة والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد)، عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

والحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام.

وانتهى تبييضه بعد تدريسه ضحى الاثنين، التاسع والعشرين من الشهر المذكور، بقلم مؤلفه الفقير حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 176

الباب الثاني

في الملازمات العقلية

ص: 177

ص: 178

الباب الثاني في الملازمات العقلية

اشارة

أشرنا في المقدمة إلى أن الأصول النظرية التي يكون مضمونها أمراً واقعياً مدركاً لا يتضمن العمل بنفسه، بل بخصوصية متعلقه - لكونه حكماً شرعياً عملياً أو ملازماً له - تنحصر في مباحث الألفاظ المتضمنة تشخيص الظهورات الكلامية - والتي تقدم الكلام فيها - ومباحث الملازمات العقلية المتضمنة للكلام في إدراك العقل أمرين لينتقل من أحدهما للآخر. وهي التي عقد البحث في هذا المقام لها.

ويفترقان في أن الظهورات اللفظية، حيث لا تستلزم العلم بمضمونها، توقف العمل بها على ثبوت كبرى حجية الظهور التي هي من مسائل الأصول، فهي ترجع إلى تنقيح صغريات الكبرى المذكورة.

الإشكال على المظفر (قدس سره) في تبويب الملازمات العقلية في الأصول

أما الملازمات العقلية فحيث كانت وجدانية قطعية فترتب العمل عليها لا يتوقف على حجية شيءٍ غير العلم الذي لا يكون البحث عن حجيته من مسائل الأصول، بل يكون البحث في مسائل الأصول بعد الفراغ عن لزوم العمل به، حيث لا يترتب العمل عليها لولاه.

وأما ما جرى عليه بعض المعاصرين في أصوله من جعل مسائل

ص: 179

الملازمات صغريات لكبرى مسألة أصولية، وهي مسألة حجية الدليل العقلي.

فهو خروج عما يقتضيه نظم البحث في المسائل الأصولية. وربما جرَّه اضطراب كلماتهم في المقام.

ثم إن الملازمات العقلية المبحوث عنها في علم الأصول مختلفة في نتائجها وكيفية الاستدلال بها، فغالبها يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، بخلاف مسألة الإجزاء فإنها تقع في طريق تشخيص الوظيفة العملية العقلية.

كما أن غالبها ينتج بواسطة صغرى شرعية، فمسألة مقدمة الواجب التي يبحث فيها عن ملازمة وجوب الشيء لوجوب مقدمته - لو بني عليها - لا تكون نتيجتها وجوب كل مقدمة لشيءٍ إلا بعد فرض وجوبه شرعاً، ومثلها غيرها، بخلاف مسألة ملازمة حكم الشرع لحكم العقل، فإنها لو تمت تنتج حكم الشارع في مورد بمجرد فرض حكم العقل في ذلك المورد، بلا حاجة إلى فرض حكم الشارع.

ومن هنا يكون الدليل على الحكم الشرعي المبتني عليها عقلياً محضاً، بخلاف ما قبلها. ولذا قسم بعض المعاصرين بحث الملازمات العقلية إلى قسم المستقلات العقلية، وقسم غير المستقلات العقلية. وإلا فالملازمات التي هي - موضوع هذا الباب - بنفسها عقلية محضة في الجميع، فهو أشبه بالتقسيم بلحاظ حال المتعلق، ومن ثم لا نرى داعياً لهذا التقسيم.

إذا عرفت هذا، فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول..

ص: 180

الفصل الأول في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

اشارة

قد وقع الخلاف واضطربت كلماتهم من عصور الإسلام الأولى إلى العصور المتأخرة في ثبوت حكم العقل الذي هو موضوع الملازمة، ثم في حقيقته، ثم في ملازمة حكم الشارع له.

بل قد يظهر من بعض كلماتهم الكلام بعد ذلك في حجية الدليل العقلي المبتني على ذلك على الحكم الشرعي المنكشف به، ومرجعه إلى الكلام في حجية القطع الحاصل من دليل العقل المذكور.

وقد أشرنا إلى خروجه عن علم الأصول، لأن الكلام في مسائل الأصول بعد الفراغ عن حجية القطع التي يأتي الكلام فيها في مقدمة بحث الأصول المبتنية على العمل إن شاء الله تعالى.

ولطول مدة البحث في ذلك وكثرة اضطرابهم فيه لا يسعنا متابعة كلماتهم فيه، بل نحاول اختصار البحث والاقتصار على ما نصل إليه في تحقيقه وما يتعلق بذلك من كلماتهم التي لابد من التعرض لها.

ونسأل الله عز وجل أن يمدنا بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد، إنه ولي الأمور، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 181

هذا، وقد أشرنا إلى أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم الشرعي في مورد إلا بضميمة حكم العقل في ذلك المورد.

ومن هنا ينبغي البحث عن ذلك وإن كان خارجاً عن مسألة الملازمة، لأن الملازمة لا تتضح إلا بعد اتضاح أطرافها، وحيث لا يكون البحث في حكم العقل تحت متناول الناظر في علم الأصول، يتعين البحث عنه وبيان حقيقته هنا.

وهو وإن كان من سنخ المقدمة للكلام في الملازمة إلا أن أهميته تناسب عقد بحثٍ مستقلٍ له. وعلى هذا يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين..

ص: 182

المبحث الأول في ثبوت الحكم للعقل في الوقائع وعدمه

اشارة

من الظاهر أن صدور الفعل الاختياري لابد له من داعٍ في الفعل يدركه الفاعل فينبعث عنه، كما لا إشكال في وجود الدواعي الفطرية - كطلب النفع ودفع الضرر - والعاطفية - كالحب والرحمة والبغض والقسوة والشهوة والغضب - والتأديبية - الشرعية والخلقية - والعاديات - العرفية والشخصية -.

وإنما الإشكال في وجود الدواعي العقلية التي تصلح لدعوة العاقل بما هو عاقل مجرد عن كل داعٍ خارج عن العقل، وهي دواعي الحسن والقبح، فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك، فادعى العدلية وجود الحسن والقبح في الأشياء في الجملة - لا بمعنى أن كل شيءٍ إما حسن أو قبيح، بل في مقابل السلب الكلي - بحيث لو أدركت جهاتهما كانت صالحة للداعوية العقلية. وأنكر ذلك الأشاعرة مدعين أن الحسن ما حسنه الشارع، والقبيح ما قبحه، وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبح.

الاستدلال على وجود الدواعي العقلية بوجهين

والحق الأول، وقد استدل عليه بوجوه متعددة، ولعل الأولى الاقتصار على وجهين:

ص: 183

أولهما: الرجوع للوجدان، فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام والمنزَّه عن الدواعي الخارجية الشهوية والغضبية وغيرها يرى أن هناك أموراً حسنة ينبغي فعلها ويمدح فاعلها، كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار، وأخرى قبيحة لا ينبغي فعلها ويذم فاعلها، كالكذب والخيانة والإيذاء والتعدي. وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها قد تبتني على شبهات تخرج بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.

تزاحم جهات الحسن أو القبح بما يضادها

نعم، لا إشكال في أن جهات الحسن والقبح في هذه الأمور قد تزاحم بجهات تضادها، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية، على ما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد أو داعٍ واحد(1)، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة لا يخرج في الحقيقة عن قبحه، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن حسنه، بل تسقط داعوية قبح الأول وحسن الثاني بسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.

ولعل هذا هو مرادهم بأن الحسن والقبح في مثل هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه من الحسن أو القبح الاقتضائي بطروء الجهة المزاحمة.

لكنه في غير محله، لأنه لو كان طروء الجهة المزاحمة رافعاً للجهة الأولية الاقتضائية لكان الكذب الذي تندفع به المفسدة المهمة في مورد كغيره مما لا قبح فيه إذا اندفعت به تلك المفسدة، مع أنه ليس كذلك ارتكازاً.

ص: 184


1- أما لو اختلف سنخ الداعوية - كما لو تزاحم الداعي العقلي والداعي الشهوي - أو تعدد الداعي - كما لو تزاحم مطلوب الأب ومطلوب الأم - بقي كل من الداعيين على ما هو عليه من فعلية الداعوية، وإن امتنع تأثيرهما معاً، ولزوم اختصاص التأثير في الاندفاع بأحدهما أو سقوطهما معاً من التأثير. (منه مد ظله)

ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين.

كما أن جهات الحسن والقبح العقلية قد تزاحم بدواعٍ خارجية عاطفية أو غيرها تمنع من تأثيرها في فعلية الاندفاع عنها، كما هو الحال في جميع الدواعي.

بل الدواعي المذكورة المزاحمة قد تمنع من الاعتراف بالحسن والقبح، حيث قد لا يهون على الإنسان الاعتراف بجريمته، بل يفرض عليه كبرياؤه الإنكار والمباهتة.

لكن ذلك لا يغير الحق عما هو عليه ولا يقوم بعذر في مقابل المرتكزات العقلية التي بها تقوم الحجة عند الله تعالى والناس.

ثانيهما: أنه بعد صدور الممكنات منه تعالى من التكوينيات والتشريعيات، فحيث يمتنع صدور الإرادة من غير داع، وامتنع في حقه عزّ شأنه الداعي الفطري - كطلب النفع ودفع الضرر، لاستلزامها الحاجة - وغيره من الدواعي غير العقلية المتقدمة - لاستلزامها النقص - فضلاً عن الدواعي غير العقلائية - لاستلزامها العبث المنزَّه عنه تعالى - يلزم البناء على ثبوت الداعي العقلي الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي المعلوم له جل شأنه في رتبة سابقة على تعلق إرادته تعالى به، لا أن حسنه تابع لإرادته.

ويؤيده ذلك ما يظهر من الكتاب المجيد والنصوص الشريفة من تبعية التشريع للدواعي العقلية إما لمصلحة في جعل الحكم، أو للمصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام. بل قد يظهر من بعضها المفروغية عن ذلك.

ص: 185

غاية الأمر أنا لا نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنهما، وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور واقعاً والعلم به إجمالاً بسبب العلم بجريان الإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه، خلافاً لما عليه الأشاعرة.

وجوه احتجاج الأشاعرة وردها

هذا وقد احتج الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع النظر عن حكم الشارع بوجوه..

أحدها: أن الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه والاعتبارات، حيث قد يكون الصدق مثلاً قبيحاً، كما لو ترتبت عليه مفسدة مهمة، والكذب حسناً، كما لو اندفعت به مفسدة مهمة، وكذا غيرهما.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن الاختلاف إنما يكون في داعوية الحسن والقبح بسبب المزاحمة وعدمها، لا في أصل ثبوتهما.

ولو سلّم فهو إنما يمنع من كون الأمور المذكورة عللاً تامة للحسن والقبح، لا من ثبوتهما لها في الجملة ولو عند عدم المزاحم، لأنها من سنخ المقتضي لأحدهما بذاتها مع قطع النظر عن حكم الشارع الأقدس.

هذا، وأما ما تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين من أن بعض الأمور علل تامة للحسن أو القبح، ولا تنفك عن أحدهما، كما لا تقبل المزاحمة، كالعدل والإحسان والظلم والعدوان.

فيتضح الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيها: ما قيل إنه أهم أدلتهم، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء، مع وضوح الفرق بينهما، فإن الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع

ص: 186

وقوع الاختلاف في الأول.

وفيه: أن الملازمة ممنوعة، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية في الوضوح والخفاء، بل تختلف باختلاف القضايا، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها كانت من الأوليات التي يكون التصديق بها لازماً لمفهوم طرفيها، بخلاف قضية التحسين والتقبيح، فإنها وإن كانت قطعية، إلا أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها، بل يحتاج التصديق بها إلى شيءٍ من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه، وإلى التمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات النفسية المتقدمة، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والإشكالات عليها حتى قد يلتبس الأمر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.

وأما ما يظهر من بعضهم - فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم المذكور - من أن القضية المذكورة من القضايا التأديبية التي لو خلّي الإنسان وعقله المجرد لم يذعن بها، بل لابد في إذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف بها تبعاً لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق آرائهم المحمودة عليها.

فهو غير ظاهر بعد الرجوع للمرتكزات، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه العقل إليها وتمييز الدواعي العقلية عن غيرها في إذعان النفس بها ما لم تمنع الشبهات من ذلك.

ثالثها: أنه لو حسن الفعل أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون الباري مختاراً في تشريع الأحكام، لأن قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه تعالى يستلزم امتناع مخالفته له، فلا يكون مختاراً فيه.

ص: 187

وفيه: أن امتناع صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه، كي ينافي اختياره، بل لأن كماله لا يناسب اختياره للقبيح، ويستلزم اختياره للحسن، فهو مبتن على الاختيار، وليس منافياً له.

وهناك بعض الوجوه الأخَر لا مجال لإطالة الكلام فيها، لوضوح ضعفها، أو لابتنائها على مبانٍ ظهر بطلانها في محله المناسب.

ولا سيما مع أن ثبوت الحسن والقبح من الوضوح بنحوٍ لا يحتاج معه للنقض والإبرام، بل الوجوه المستدل بها على عدمهما لو كانت متينة بحسب الصورة فهي لا تخرج عن كونها شبه في مقابل البديهة لا ملزم بالتطويل فيها والتعريج عليها.

بقي الكلام في حقيقة الحكم بالحسن والقبح وكيفية إدراك العقل لهما.

والظاهر بعد التأمل في المرتكزات أن العقل يدرك أولاً حسن الشيء أو قبحه على أنه أمر واقعي كسائر المدركات الواقعية، ثم يدعو لفعل الحسن وترك القبيح.

والداعوية المذكورة وإن كانت نحواً من الحكم إلا أنه لا يعتمد على قوة وسلطان لتكون أمراً ونهياً، إذ لا حول للعقل ولا سلطان، بل محض إرشاد ونصح مبتنٍ على نحو من التشجيع والتأنيب نابع من صوت الحس والوجدان والضمير الذي أودعه تعالى في الإنسان واحتج به عليه.

وإليه يرجع حكم العقلاء باستحقاق المدح أو الذم وأهلية الثواب أو العقاب.

والحكمان المذكوران مختلفان سنخاً ومترتبان في أنفسهما ترتب

ص: 188

الحكم والموضوع.

ونظير ذلك إدراك الإنسان اللذات ثم دعوة النفس لتحصيلها، وغير ذلك من الداعويات المختلفة.

وتحقيق أن الحاكم بهما العقل النظري أو العملي يبتني على محض اصطلاح لا مشاحة فيه. والمهم ما ذكرنا.

ما ذكره المظفر

(قدس سره)

من عدم واقعية الحسن والقبح إلا إدارك العقلاء

هذا، وقد ذكر بعض المعاصرين في أصوله أنه ليس للحسن والقبح واقعية إلا إدراك العقلاء، وتطابقهم على أن الشيء ينبغي أن يفعل أو يترك، وأن ذلك من التأديبات الصلاحية الداخلة في القضايا المشهورة التي ليس لها واقع وراء تطابق العقلاء. قال: «فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنَّ فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم. ويكفينا شاهداً على ما نقول - من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة، وأنها ليست من قسم الضروريات - ما قاله الشيخ الرئيس في منطق الإشارات، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة. وربما خصصناها باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة، وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه، مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح، وأن الكذب قبيح، لا ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي».

ومرجع ذلك إلى إنكار الحكم الأول الذي ذكرناه آنفاً، وأن الحسن والقبح عبارة عن الحكم الثاني مما سبق.

ولا مجال للبناء عليه، لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الفعل

ص: 189

ليس اعتباطياً، بل لإدراكهم أمراً فيه يقتضي فعله أو تركه، تكون الداعوية العقلية متفرعة عليه تفرع الحكم على الموضوع، وذلك الأمر هو الحسن أو القبح.

فالحسن والقبح أمران واقعيان لا يتوقفان ثبوتاً على إدراك العقلاء، ولا على مدحهم وذمهم. ولذا يصح عرفاً أن يقال: ينبغي للإنسان أن يصدق ولا ينبغي له أن يكذب، لأن الصدق حسن والكذب قبيح. وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه آنفاً من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن والقبح لا يخرج الحسن عن حسنه والقبيح عن قبحه، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية لو لم يكونا أهم من المزاحم.

أما لو قيل بأن الحسن والقبح عبارة عن نفس الحكم بأن الشيء مما ينبغي فعله أولا ينبغي، وأنه يستحق عليه المدح أو الذم - الذي هو عبارة عن نفس الداعوية - لزم البناء على تأثير المزاحم في نفس الحسن والقبح ورفعه لهما، بل يخرج عن كونه مزاحماً بل يكون عدمه من قيود الموضوع، كما هو ظاهر.

ولعل ما تقدم من الإشارات مسوق لبيان أن الشهرة هي العمدة في إثبات الحسن والقبح وإدراكهما لا في ثبوتهما، فلا ينافي ما ذكرناه هنا.

كما قد يناسبه أن المحقق الطوسي

(قدس سره)

ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة يجوز ارتكاب أقل القبيحين، وهو يبتني على ما ذكرناه من عدم خروج القبيح المرجوح عن قبحه بالمزاحمة. فلاحظ.

على أنه لو سلّم أن مدح العقلاء وذمهم لا يستند إلى إدراكهم حسن الشيء أو قبحه، بل ليس الحسن والقبح إلا استحقاق المدح والذم وكون

ص: 190

الشيء مما ينبغي فعله أو تركه، إلا أن الظاهر أن كون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه مستند للداعوية العقلية التي يستقل كل أحد بها بنفسه، لا بسبب تطابق آراء العقلاء، بحيث لو فرض عدم وجود غير عاقل واحد لحكم عقله بذلك، وليس تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.

كلام المظفر (قدس سره) في المنطق

وبالجملة: لا دخل لتطابق آراء العقلاء في ثبوت الحسن والقبح، ولا في الداعوية لفعل الحسن وترك القبيح، كما أنه غير دخيل أيضاًً في إثبات التحسين والتقبيح وإقرار الإنسان بهما.

هذا، ولبعض المعاصرين (قدس سره) في منطقه عند شرح حقيقة الخلقيات من المشهورات كلام يقارب ما ذكرنا لو لم يطابقه، قال: «والصحيح في هذا الباب أن يقال: إن الله تعالى خلق في قلب الإنسان حساً وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها، وذلك الحس هو الضمير بمصطلح علم الأخلاق الحديث، وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي أو العقل المستقيم أو الحس السليم عند قدماء علماء الأخلاق وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم. فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوّي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة، ويقر عين فاعل الفضيلة. وهو موجود في قلب كل إنسان، وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الأفعال، فهي تشترك جميعاً في التمييز بين الفضيلة والرذيلة، وإن اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه، كسائر قوى النفس، إذ تتفاوت في الأفراد قوةً وضعفاً. ولأجل هذا كانت الخلقيات من المشهورات وإن كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر، بل هي من خاصة الخاصة. نعم الإصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على

ص: 191

كل إنسان إلا بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه...».

وهو - كما ترى - كالصريح في أن إقرار عين فاعل الفضيلة وتأنيب مرتكب الرذيلة متفرع على إدراك حسن الأشياء وقبحها، وأن قوة الإدراك مودعة في الإنسان غير مكتسبة من تطابق العقلاء، بل تطابقهم هو المسبب عن واجديتهم للقوة المذكورة.

وهو وإن ذكر ذلك في الخلقيات، دون التأديبات الصلاحية، التي خصها بما تطابق عليه العقلاء من أجل قضاء الصالح العام لأن بها انحفاظ النظام وبقاء النوع، إلا أن الظاهر أن حسن الحفاظ على النظام والسعي لبقاء النوع يختص بما يبتني على الفضيلة واجتناب الرذيلة كما يناسبه تمثيله له بحسن العدل وقبح الظلم، وإلا فلا يدعو العقل إليه ولا يراه حسناً. غاية الأمر أن تدعو إليه الفطرة لو لازم دفع الضرر، أو جلب النفع للنفس، أو تدعو إليه العاطفة وغير ذلك من الدواعي غير العقلية.

على أنه لا إشكال في كون الخلقيات من صغريات التحسين والتقبيح العقليين، فما ذكره فيها لا يناسب ما ذكره في حقيقتهما في كلامه المتقدم وغيره من أصوله.

ومن الغريب أنه في أصوله قد حول على ما ذكره في منطقه بنحوٍ قد يظهر منه جريه فيهما على نهجٍ واحدٍ.

ص: 192

المبحث الثاني في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

اشارة

لعل المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الأمور شرعاً بالأدلة الأربعة، لابتناء الاستدلال بحكم العقل عليها على إدراك قبحها، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.

وربما ابتنى عليها عدهم للأدلة أربعة، وأرادوا برابعها حكم العقل، وإن اختلفوا في تعيينه.

الاستدلال على الملازمة

وكيف كان، فقد استدل عليها بوجوه تعرض لجملة منها في الفصول وأطال الكلام فيها، ولعل أمتنها ما جعله ثالث الوجوه، وإليه يرجع ما اعتمده بعض المعاصرين في أصوله، وذكره بقوله: «فإن العقل إذا حكم بحسن شيءٍ أو قبحه - أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيءٍ، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه، لما فيه من الإخلال بذلك - فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع، فلابد أن يحكم الشارع بحكمهم، لأنه منهم، بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل - بل خالق العقل - كسائر العقلاء لابد أن يحكم بما يحكمون، ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في

ص: 193

حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع، وهذا خلاف الفرض».

ومقتضاه كون الملازمة في المقام من صغريات الملازمة بين الكل والجزء، نظير الملازمة بين الإجماع المصطلح بين الأصحاب وقول الإمام (عليه السلام).

وفيه: أن محل الكلام ليس هو إدراك الشارع حسن الشيء أو قبحه وداعوية العقل على طبقهما، واستحقاق المدح والذم بمتابعة الداعوية المذكورة ومخالفتها، فإن ذلك حكم العقل نفسه وليس إدراك الشارع له إلا كإدراك غيره من العقلاء لا يصحح نسبة الحكم إليه بنحو تكون موافقته ومخالفته طاعة له مستتبعة لاستحقاق ثوابه ومعصية له مستتبعة لاستحقاق عقابه.

رأي المظفر (قدس سره) من أن المراد من الاستحقاق هو المجازاة

وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن المراد باستحقاق المدح والذم المفروض في حكم العقل بالتحسين والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب والمكافأة بالشر الشامل للعقاب.

رد الرأي المذكور

فهو كما ترى! لوضوح أن الموافق للداعي العقلي لا يستحق على سائر العقلاء الثواب، كما لا يستحق المخالف له العقاب منهم، مع أنهم يشاركون الشارع في إدراك حكم العقل المذكور، بل لا يصح منهم إلا المدح والذم المساوقات لمفاد (نعم) و (بئس).

وإنما يصح من الشارع العقاب لتميزه عنهم بكونه المنعم المالك الذي له حق الطاعة على عبده، ويترتب على ثبوت الحق المذكور مقتضاه من استحقاق حسن الجزاء على أدائه وسوء العقاب على التفريط فيه.

ومن الظاهر أن حق الطاعة فرع نسبة الحكم للمولى زائداً على حكم

ص: 194

العقل به، وهو لا يكون إلا بجعل الحكم المولوي منه زائداً على إدراكه مقتضى حكم العقل.

دعوى: كفاية نسبة الحكم للمولى بما هو عاقل

ودعوى: أنه يكفي في نسبة الحكم إليه حكمه به بما هو عاقل كسائر العقلاء، وإنما يفترق عنهم بأنه يستحق الطاعة على العبيد، فينبغي منه ثوابه عليها، ويستحق عقابه بالتفريط فيها، بخلافهم، وإذا لم يستحقوا الطاعة لم ينتظر منهم الثواب عليها ولا يصح منهم العقاب على التفريط فيها، وإن كان الحكم منسوباً لهم بمجرد حكمهم به بما هم عقلاء، كما ينسب للشارع.

دفع الدعوى المذكورة

ممنوعة: وإلا لزم انقلاب الأحكام الإرشادية إلى أحكام مولوية، لإدراك الشارع حكم العقل فيها، فيكون منسوباً إليه ومنشأ لاستحقاق الثواب والعقاب منه.

وهو مما لا يمكن البناء عليه.

كما لا يصح عند العقلاء عقاب من له حق الطاعة من الناس شرعاً - كالمولى المالك - أو عرفاً - كالرئيس الصالح المعترف برئاسته - أو ادعاءً - كالسلطان القاهر - بمخالفة مقتضى الداعوية العقلية، بل لابد من صدور الحكم المولوي منه على طبقها، بحيث يعلم منه الإلزام بمقتضاها زائداً على إلزام العقل.

بل لو حكم على خلاف مقتضى الداعوية العقلية - كما لو أمر بالكذب - نسب إليه الحكم المذكور، وكان موضوعاً للطاعة والمعصية، دون مقتضى الداعوية العقلية وإن كان مدركاً له كالشارع.

على أن عدم استحقاق العقلاء الطاعة إنما يمنع من استحقاق العقاب منهم بمعصيتهم، لا من استحقاق الثواب عليهم بإطاعتهم، فلو كان الحكم

ص: 195

العقلي منسوباً لكل منهم بمجرد إدراكهم له لزم استحقاق الثواب عليهم بموافقته.

وبالجملة: محل الكلام هو حكم الشارع المولوي المجعول منه زائداً على حكم العقل المدرك له، ولابد في دعوى ملازمته لحكم العقل المذكور من الدليل.

ولم يتضح لنا عاجلاً ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه التي ذكرها في الفصول.

ما هو التحقيق في المسألة

والتحقيق: أن لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل يبتني على وجوب اللطف منه تعالى عقلاً بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعاً، وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالباً في الجري على مقتضى حكم العقل، لمزاحمتها بالدواعي الأخرى التي هي أقوى منها في حق أكثر الناس، فيجب على الشارع من أجل حفظ مقتضيات الأحكام العقلية جعل الحكم على طبقها، لتتأكدالداعوية العقلية بالداعوية الشرعية، حيث يتسنى بجعل الحكم الشرعي الجري على مقتضاه لأجله تعالى والعمل لحسابه، لكونه المنعم المالك الكامل القادر، إما لأنه اللازم الشكر لإنعامه، أو الذي هو أهل لأن يعبد بالطاعة لكماله، فيتأكد الداعي العقلي بمثله، أو لأنه المحبوب لإنعامه وكماله، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي العاطفي، أو لأنه المرجو المرهوب، لمالكيته وقدرته، المستلزمين لاستحقاق الثواب ورجائه، واستحقاق العقاب ورهبته، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر، الذي هو أقوى الدواعي عند العامة.

لكن ذلك لا يكون لمجرد حكم العقل بحسن الحسن وقبح القبيح،

ص: 196

وداعويته لفعل الأول وترك الثاني، بل هو تابع لحكم عقلي آخر متفرع على الحكم المذكور، وهو وجوب حفظ مقتضى حكم العقل المذكور بالتشريع على طبقه، نظير تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتفرع على ثبوت المعروف والمنكر تشريعاً.

وذلك الحكم مختص بالشارع الأقدس، لاختصاص القدرة على مقتضاه به، بلحاظ علمه المطلق التام بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد تزاحمها، وقدرته على حفظها بالدواعي المذكورة آنفاً بسبب التشريع، لواجديته لجهاتها، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم وجه، وكل ذلك مما ينفرد به جل شأنه وعز اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه. ولو لم يثبت وجوب اللطف منه تعالى بالنحو المذكور أمكن استفادة حكم الشارع الأقدس على طبق الحكم العقلي بلحاظ ماسبق في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين، من أنه بعد صدور الممكنات منه تعالى في التشريعات، فحيث يمتنع صدور التشريع منه من غير داع، وامتنع في حقه عز وجل الداعي الفطري - كطلب النفع ودفع الضرر، لاستلزامها الحاجة - وغيره من الدواعي غير العقلية، كالعاطفة - لاستلزامها النقص - فضلاً عن الدواعي غير العقلائية - لاستلزامها العبث المنزه عنه تعالى - يتعين البناء على ثبوت الداعي العقلي الراجع للتحسين والتقبيح العقليين، حيث لا يكون الاندفاع عنه والتشريع على طبقه منافياً لكماله المطلق جلَّ شأنه، وينحصر منشأ التشريع به.

وإذا تم ذلك تعين كون التشريع مستوعباً لجميع موارد الداعي العقلي المذكور، لقبح الترجيح بلا مرجح. ومرجع ذلك إلى استتباع التحسين

ص: 197

والتقبيح العقليين لحكم الشارع الأقدس وملازمتهما له وإن لم يتم وجوب اللطف منه تعالى بالوجه المتقدم. فتأمل جيداً.

ما يتوقف عليه وجوب حفظ مقتضيات الدواعي العقلية

هذا، ولكن وجوب حفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع لابد فيه من أمرين..

أحدهما: عدم المزاحم للمقتضيات المذكورة بما يمنع من فعلية تأثيرها في الداعوية العقلية.

ثانيهما: عدم المانع من التشريع على طبقها وإن كانت فعلية التأثير في الداعوية العقلية، حيث قد يكون في جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية، وتلزم بجعل الحكم منه على نحو آخر. نظير رفع القلم عن الصبي المميز، فإن الداعي العقلي في حقه وإن كان فعلياً - فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلاً - إلا أن الشارع الأقدس حيث أدرك المفسدة في إلزامه بمقتضاه شرعاً تعين رفع القلم عنه من قِبَله الراجع إلى ترخيصه بمخالفته.

ولعل كثيراً من المستحبات والمكروهات إنما لم يكن حكمها إلزامياً للمانع من إلزام الشارع فيها، لا لقصور مقتضي الداعوية العقلية فيها عن الإلزام، كما فيما إذا كان المانع من الإلزام مصلحة التسهيل والامتنان، لوضوح عدم كون المنة والتسهيل من المصالح المترتبة على الفعل أو الترك والصالحة لمزاحمة مقتضي الداعي العقلي بنحو تمنع من كون داعويته إلزامية، بل من الجهات المانعة من نفس الإلزام والتكليف، مع بقاء الفعل على ما هو عليه من الداعوية العقلية، نظير مصلحة رفع الإلزام عن الصبي المميز.

وأما ما تضمن اهتمام شريعة الإسلام بالفضائل ومحاسن الأخلاق

ص: 198

كالنبوي المشهور: «بعثت لِأُ تَمِّمَ مكارم الأخلاق». فهو محمول على كون الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولي فيه، في مقابل الشرايع الباطلة المهملة لذلك، أو المبنية على انتهاك الحرمات وترويج الرذائل والتشجيع عليها، فلا ينافي ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع المذكور والوقوف عندها.

ومن هنا يمتنع البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه، بنحو ينتقل من الثاني للأول، وينفع في الاستنباط، لما هو المعلوم من عدم إحاطة العقل بكثير من المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية التي لو اطلع عليها لم تكن الداعوية فعلية.

والداعوية العقلية مع الجهل المذكور وإن كانت فعلية، لعدم الخروج عن المقتضي المعلوم باحتمال المزاحمة، إلا أن الاحتمال المذكور يمنع من العلم بالجعل الشرعي على طبق المقتضي المذكور، لاحتمال اطلاع الشارع الأقدس على ما لم يطلع عليه العقل من المزاحمات.

كما أن العقل لا يحيط أيضًا بكثير من موانع التشريع غير المانعة من الداعوية العقلية، فلا يتسنى له العلم بالتشريع على طبقها أيضاًً، كي ينفع ذلك في الاستنباط الذي هو محل الكلام.

الكلام في ما ذكره من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح

وأما ما تكرر في كلماتهم من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح وللداعوية العقلية، ولا تقبل المزاحمة بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها، وأنه لابد من حكم الشارع على طبق الداعوية العقلية المذكورة فيها، كعنوان العدل والإحسان والظلم والعدوان.

فهو وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه لا ينفع في المقام، لأن

ص: 199

تشخيص مصاديق العناوين المذكورة تابع للتشريع، لما هو المعلوم من أن العدل الذي هو محل الكلام هو وضع الشيء في موضعه، والإحسان هو فعل ما هو حسن، وأن الظلم والعدوان عبارة عن هضم حق الغير والتصرف على خلاف مقتضى حقه.

ومن الظاهر أنه لا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة التي هي موضوع الحسن والقبح العقليين التشخيص العرفي لأفرادهما، بل ليس موضوعها إلا الفرد الحقيقي المتحصل بتشخيص الشارع، ولذا لا يكون قتل المؤمن بالكافر عدلاً، ولا إعانة المرتد على الهرب من القتل إحساناً، ولا ذبح الحيوان ولا قتل الحربي ولا أكل المارَّة من ثمر الشجر الذي في الطريق المملوك للغير ظلماً وعدواناً... إلى غير ذلك.

وبعد فرض أخذ التشخيص من الشارع يكون الحكم معلوماً في رتبة سابقة على إحراز كون الفرد حسناً أو قبيحاً، فلا ينفع العلم بالحسن والقبح في الاستنباط.

بل مرجع ذلك إلى ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع الأقدس هو المالك المطلق والمنعم المفضل الذي يجب عقلاً متابعته والجري على مقتضى حكمه، وإن لزم كون حكمه أيضاًً على طبق الموازين العقلية التي يحيط بها أكمل إحاطة، لأن كماله يمنع من اختياره ما يخالفها.

ولأجل ذلك قد يحمل الأمر والنهي الواردان على العناوين المذكورة على الإرشاد، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ (1) وقوله سبحانه:

ص: 200


1- سورة النحل: 90.

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ (1)، وقوله عز اسمه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ (2) ، ونحو ذلك.

لأن فرض كون الشيء عدلاً وإحساناً عند الشارع متفرع على أمره به، وفرض كونه فاحشة ومنكراً وبغياً وإثماً متفرع على نهيه عنه، فلا معنى للأمر بالأول والنهي عن الثاني مولوياً، بل لابد من حمل الأمر والنهي على الإرشاد، نظير الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية.

لكنه مخالف للظاهر، لاستلزامه عدم ترتب العمل على الأوامر والنواهي المذكورة، فيتعين إبقاؤها على ظهورها في المولوية، غاية الأمر الرجوع في تشخيص أفراد العناوين المذكورة للعرف، كما هو مقتضى الإطلاقات المقامية، ما لم يثبت من الشارع الأقدس خلافه.

وهذا لا ينافي ما ذكرنا من أن المرجع في تشخيص موضوع القضية العقلية هو الشارع دون العرف.

لأن المعيار في البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع والقرائن الخاصة والعامة، ومنها الإطلاق المقامي، أما في القضايا العقلية فالمعيار على ما يعلم من العقل، ولا دخل للظهور العرفي فيها.

ومن جميع ما سبق يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه، بل بين حكم العقل بحسن الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه - مع عدم المزاحم

ص: 201


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة الأعراف: 33.

والموانع - ونفس الحكم.

بل يكفي حسن الحكم لمصلحة فيه، لا في المتعلق، كمصلحة الامتحان أو التأديب والعقاب، حيث يمكن ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق، كما لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده، وفي تحريم بعض الأمور على اليهود، كما قد يظهر من قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (1) وغيره.

وعلى ذلك جرى في الفصول بعد التعرض لجملة مما ذكرنا وغيره مما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

وإليه يرجع ما ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين من أن ما صدر من الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر في حقه.

ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية، لعدم إحاطة العقل بالملزوم بجميع خصوصياته، ليتسنى تشخيص موارده، بل هو مما ينفرد به الشارع الأقدس، وإن أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.

ولعله عليه يحمل ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.

نعم، قد يدرك العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف، وأنه ظلم ينزّه عنه تعالى، كالتكليف واقعاً بما لا يطاق، وظاهراً مع الجهل المطلق - لا

ص: 202


1- سورة الأنعام: 146.

عن تقصير - حتى بوجوب الاحتياط، الذي هو مرجع البراءة العقلية.

وذلك ينفع في معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعية، ومعرفة الوظيفة الظاهرية العملية.

إلا أن ذلك خارج عن محل كلامنا، للتسالم على عدم التكليف بما لا يطاق، بنحو لا يهتم بإثباته من طريق الملازمة، ولعدم نهوض البراءة العقلية بمعرفة الحكم الواقعي، لتكون من الأدلة التي هي مورد البحث، وإنما هي أصل عملي يبحث عنه في محلٍ آخر.

نعم، يتجه دخولها في محل الكلام لو كان المراد من الأدلة ما يعم دليل الوظيفة الظاهرية العملية. ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.

كلام الفصول في إثبات الملازمة الظاهرية والاستدلال عليه

بقي شيء، وهو أن صاحب الفصول وإن نفى الملازمة الواقعية بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه، كما تقدم، إلا أنه ذهب إلى الملازمة بينهما ظاهراً، بمعنى أنه يُبنى ظاهراً على حكم الشرع بما حكم به العقل ما لم يثبت خلافه من قبل الشارع الأقدس.

مستدلاً على ذلك بوجهين:

أولهما: إطلاق الآيات المتقدمة.

ثانيهما: أن العقل بعد أن يدرك مقتضي الحكم لا يعتد باحتمال المانع.

لكن الوجه الأول حيث لا يرجع لحكم العقل، بل لظهور الأدلة النقلية فهو خارج عن مورد البحث، ولا يسعنا إطالة الكلام في ذلك، لأن نتيجته أحكام فرعية، لا قاعدة أصولية، ولعدم اختصاص الأدلة المناسبة بالآيات المذكورة، واستقصاء الكلام في جميعها وفي مقتضى الجمع بينها

ص: 203

في أنفسها وبينها وبين غيرها يحتاج إلى جهد كثير ووقت طويل.

رد الاستدلال المذكور

فالأولى إيكاله إلى مورد الحاجة إليه من الفقه، وبحثه بالمقدار الذي يقتضيه المورد.

وأما الثاني فهو يبتني على قاعدة المقتضي التي لم تثبت كلية، كما لم يتضح التعويل عليها في خصوص المورد، وإنما ثبت الرجوع إليها في بعض الموارد لخصوصيتها.

ولا مجال لقياس المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن وقبح القبيح، حيث لا يعتد به العقل في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن أو القبح المعلوم، فلا ينبغي بنظره الكذب لاحتمال ترتب مصلحة مهمة عليه، ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.

للفرق بأن الشك في المزاحم إنما هو بعد إحراز تمامية موضوع الداعوية العقلية، نظير ما لو شك في وجود المزاحم للتكليف الشرعي المعلوم.

أما في المقام فالشك في تمامية موضوع الداعوية الشرعية، حيث لم يحرز إلا المقتضي للملاك، وهو الحسن أو القبح العقليان، مع احتمال وجود المانع من تأثيره في لزوم الجعل الشرعي، فينحصر الأمر فيه بقاعدة المقتضي الذي ذكرنا عدم تماميتها.

المتحصل في المقام

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن التحسين والتقبيح العقليين وإن كانا ثابتين، بمعنى إدراك العقل الحسن والقبح في بعض الموارد وداعويته على طبقهما، إلا أنهما لا يستلزمان حكم الشارع الأقدس على طبقهما، لإمكان اطلاعه على ما يزاحم مقتضياتهما، أو على ما يمنع من جعل الحكم من قبله

ص: 204

على طبقهما. كما لا يستتعبان لزوم البناء ظاهراً على جعل الحكم الشرعي، لينفع ذلك في مقام الاستنباط.

نعم، لو حسن جعل التكليف من قِبَله تعالى، إما لحسن متعلقه أو قبحه - من دون مزاحم يوجب قصور داعويتهما عقلاً، ولا مانع من جعل الحكم الشرعي على طبقهما - أو لمصلحة في نفس الحكم لا دخل للمتعلق فيها، فلابد من جعله سبحانه للحكم، لكماله المانع من تخلفه عن الداعي العقلي.

إلا أنه لا يتسنى للعقل غالباً إدراك حسن الجعل، لعدم إحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك. فلا تنفع الملازمة المذكورة في الاستنباط.

غاية الأمر أنه قد يتسنى له إدراك قبح التكليف الواقعي أو الظاهري في بعض الموارد، كالتكليف بما لا يطاق، والتكليف مع الجهل المطلق حتى بوجوب الاحتياط، الذي ترجع إليه البراءة العقلية التي يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق.

ص: 205

ص: 206

الفصل الثاني: في الإجزاء

اشارة

اختلفوا في أن الإتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الأمر ويدعو إليه هل يقتضي الإجزاء أو لا يقتضيه؟

في تحديد معنى الإجزاء في المقام

وقد وقع الكلام منهم في تحديد معنى الإجزاء الذي هو محل الكلام، وأنه عبارة عن الامتثال وإسقاط الأمر أو إسقاط القضاء. والظاهر - كما ذكره في التقريرات في الجملة - عدم خروج الإجزاء عن معناه اللّغوي والعرفي، وهو الكفاية، وحيث كان المعنى المذكور إضافياً يختلف باختلاف ما يكفي الشيء عنه أو فيه فهو يختلف باختلاف الأمر المهم الذي يراد البحث عنه، وأنه الامتثال أو سقوط القضاء، ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب، قد يكون منشؤه اختلاف الأمر الذي هو موضوع كلامهم بين الواقعي الأولي والاضطراري والظاهري.

ولا ينبغي إطالة الكلام في تحقيق ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله تعالى بالجميع.

التمهيد لمحل الكلام في الفرق بين المسألة ومسألة المرة والتكرار

وينبغي التمهيد لمحل الكلام ببيان أمر، وهو أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار المتقدمة، أن البحث في تلك المسألة عما يقتضيه

ص: 207

ظهور إطلاق الأمر من تحديد المأمور به، وأنه مطلق الماهية، أو المقيد منها بالمرة، أو بالتكرار. وهنا في تحقق الإجزاء بالفعل المطابق للمأمور به بعد فرض تحديده بإطلاق الأمر أو غيره.

ومن ثَمَّ كان البحث في تلك المسألة إثباتياً موضوعه ظهور الأمر، وهنا ثبوتياً موضوعه فعل المأمور به، وكانت تلك المسألة من مسائل الظهورات اللفظية، أما هذه المسألة فهي على بعض وجوهها عقلية، وعلى بعضها الآخر تبتني على مقتضى الظهور أو الأصل.

وبلحاظ الأول حررناها في مباحث الملازمات العقلية تغليباً.

ولا ينبغي إطالة الكلام هنا في تفصيل ذلك بعد ظهوره عند الدخول في المسألة، ولا في وجه التغليب المذكور، بعد خلوه عن الفائدة، وكونه أشبه بتوجيه الاصطلاح، إذ المهم نفس البحث، لا موضعه وبابه.

وقد تعرضوا في تمهيد المسألة لبعض الأمور الأخرى مما يرجع لتحديد محل النزاع رأينا الإعراض عنها أحرى، لظهور حالها، فالبحث فيها أشبه بالبحث اللفظي.

توجيه الإجزاء في المقام

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الأمر بالنحو الذي يدعو إليه تقتضي الإجزاء، بمعنى امتثاله وسقوط داعويته، لأن الأمر لا يدعو إلا إلى موافقته بتحقيق المأمور به، فمع موافقته لا يبقى موضوع للداعوية، وذلك عبارةً أخرى عن عدم لزوم الإعادة، التي هي عبارة أخرى عن تكرار الامتثال بتحقيق المأمور به التام في الوقت، فضلاً عن القضاء الذي هو عبارة عن تدارك فوت المأمور به في وقته بالإتيان به خارج الوقت محافظة على أصل الواجب دون خصوصية الوقت.

ص: 208

إذ لا فوت مع موافقته ليتحقق موضوع القضاء. من دون فرق بين كون القضاء بالأمر الأول وكونه بأمر جديد، إذ على كلا المبنين لابد فيه من الفوت.

ومنه يظهر أن التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامحٍ، إذ السقوط فرع المقتضي للثبوت.

ووضوح ما ذكرنا يغني عن إطالة الكلام فيه، وإن حُكي عن بعضهم الخلاف فيه، قال في الفصول: «ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الأمر يستلزم الإجزاء. وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار في ما نقل عنه: لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول: إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب، ويلزم القضاء مع ذلك. هذا كلامه...». وهو من الشذوذ ومخالفة الضرورة بمكانٍ ظاهرٍ.

نعم، يمكن وجوب الإتيان بالفعل ثانياً في الوقت أو في خارجه من دون أن يكون إعادة أو قضاء، بل على أن يكون مأموراً من أول الأمر بالتعدد، فلا يكون الإتيان بمرة واحدة موافقة للأمر ولا أداء للواجب. لكنه خارج عن مفروض الكلام.

في تبديل الامتثال بالامتثال

هذا، وقد ذكر غير واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر، وذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن ذلك وإن أمكن في مقام الثبوت إلا أنه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات، وجعل منه ما ورد في تبديل الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة جماعة.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من اختصاصه بغير ما كان علة تامة لحصول الغرض

أما المحقق الخراساني (قدس سره) فقد خصه بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض وإن كان يفي به بعد ذلك لو اكتفي به، قال: «كما إذا أتى

ص: 209

بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً، كما إذا لم يأت به أولاً. ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب حدوثه، فحينئذٍ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر - كما كان له قبل إتيانه الأول - بدلاً عنه... ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة، وأن الله يختار أحبهما إليه».

وكأن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من إمكان عدم مطابقة المأمور به للغرض. وحيث سبق منا امتناعه في حق المولى الملتفت لما يطابق الغرض تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيداً لباً بما يترتب عليه الغرض، ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الماهية بصرف الوجود، بل يكون مراعى بترتبه عليه، فتبديله بفرد آخر قبل حصوله لا يكون من تبديل الامتثال، بل من العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره، كما لو عدل عن ذلك قبل الإتيان بالفرد.

وهذا هو الوجه في ما ذكره من أن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، وإلا ففرض الامتثال بالفرد الأول لا يناسب عدم سقوط الأمر.

نعم، لا إشكال في احتياج ذلك للدليل الخاص، وإلا فمقتضى الإطلاق كون المأمور به الماهية بنفسها لا بشرط، بنحو تنطبق على الوجود الأول ولا تنسلخ عنه، المستلزم لترتب الغرض على أول وجود منها، ولتحقق الامتثال به وسقوط الأمر، وعدم مشروعية العدول لغيره بعد حصوله. والتقييد اللبي المذكور يحتاج للدليل على عدم مطابقة المأمور به للغرض.

مسألة إعادة الصلاة جماعة

وأما مسألة إعادة الصلاة جماعةً التي دلت عليها جملة من

ص: 210

النصوص(1)، فهي لا تبتني على تبديل الامتثال بالمعنى الذي هو محل الكلام، حيث لا إشكال في تحقق الامتثال بالصلاة الأولى، وسقوط الأمر، الذي لا موضوع معه للامتثال الآخر، بل على مشروعية الإعادة أو استحبابها بملاك زائد على ملاك الأمر الممتثل، إما أن يقتضي استحباب الإعادة والتكرار زائداً على أصل الماهية، كما يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلاة أخرى(2)، وقد يستفاد من غيره(3)، أو يقتضي التفاضل بين الأفراد في مقام الامتثال، كملاك الجماعة ونحوها.

غاية الأمر أن ظاهر دليل تشريع التفاضل المذكور بدواً اختصاص موضوعه بامتثال أمر الماهية، فلا موضوع له مع امتثاله بفرد آخر، إلا أن الأدلة الخاصة دلت على إمكان استيفائه معه بالإتيان بفردٍ آخر واجد للخصوصية، فيترتب ملاك الفرد الأفضل عليه كما يترتب لو كان امتثال أمر الماهية به ابتداء.

وعليه يحمل ما تضمن من نصوص المسألة أن الله يختار أحبهما إليه(4) ونحوه، بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل، وإن كان الامتثال بغيرها، وإليه يستند سقوط أمر الواجب.

نعم، في صحيحي هشام بن سالم وحفص بن البختري: «في الرجل يصلي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة. فقال: يصلي معهم ويجعلها

ص: 211


1- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة.
2- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة: حديث: 2.
3- راجع الوسائل: ج 5 باب: 6 من أبواب صلاة الجماعة.
4- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة: حديث: 10.

الفريضة»(1)، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره، لسقوط الفرض بالفرد الأول، فلابد من حمله على أن المأتي به من سنخ الفريضة ماهية فهو ظهر أخرى مثلاً، لا صلاة مباينة للصلاة المأتي بها ماهية، وإن لم تكن فريضة بالفعل، غاية الأمر أنه يقصد أنها تحسب في مقام الثواب كما لو امتثل الفرض بها، نظير ما ذكرناه فيما تضمن أن الله يختار أحبهما إليه.

ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) وردّه

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من حمله على قصد القضاء بها، كما هو صريح قوله (عليه السلام) في حديث إسحاق: «صل واجعلها لما فات»(2).

فهو بعيد جداً، لأن ظاهر تعريف الفريضة معهوديتها، ولا معهود عرفاً إلا الفريضة التي أداها.

ومجرد تضمن حديث إسحاق نية القضاء لا يلزم بذلك، نظير ما تضمن جعلها(3) نافلة بل الظاهر الجمع بجواز الكل.

امتناع تبديل الامتثال بالامتثال

وبالجملة: يمتنع تبديل الامتثال، لأن الامتثال الأول مستلزم لسقوط الأمر، ومعه لا يبقى موضوع الثاني. وإنما يمكن تقييد المأمور به بنحوٍ ينطبق على الفرد الثاني على تقدير وجوده دون الأول، نظير ما تقدم فيما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، فيكون الإتيان بالثاني عدولاً عن الامتثال بالأول، لا تبديلاً في الامتثال، كما تقدم في نظيره.

ثم إن ما ذكرنا من أن موافقة الأمر تستلزم امتثاله وسقوطه الراجع لعدم وجوب الإعادة فضلاً عن القضاء، بل عدم مشروعيتهما كما يجري

ص: 212


1- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة: حديث: 1، 11.
2- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة: حديث: 1.
3- راجع الوسائل: ج 5 باب: 54 من أبواب صلاة الجماعة: حديث: 8.

في الأمر الواقعي الأولي يجري في الأمر الاضطراري الثانوي وفي الأمر الظاهري، بمعنى أن موافقة كل منهما تمنع من التعبدية به ثانياً بالإعادة أو القضاء على طبقه، لعين الوجه المتقدم من أن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.

وقد وقع الكلام بينهم في أمرين..

أولهما: إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري، بمعنى أن موافقة الأمر الاضطراري هل تقتضي الإجزاء بعد ارتفاع التعذر، فلا تجب الإعادة ولا القضاء على طبق الأمر الاختياري؟

ثانيهما: إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي، بمعنى أن موافقة الأمر الظاهري هل تقتضي الإجزاء عن الأمر الواقعي، فلو انكشف الخطأ لا تجب الإعادة على طبق الأمر المذكور؟

وعمدة الكلام في مبحث الإجزاء في هذين الأمرين، لما فيهما من النقض والإبرام وابتناء الكلام فيهما على المباني المختلفة.

وأما إجزاء موافقة الأمر عن امتثاله ثانياً فقد سبق أن وضوحه مغنٍ عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا يقع الكلام في مقامين..

ص: 213

المقام الأول: في إجزاء الأمر الاضطراري

اشارة

والكلام في إجزائه عن الإعادة لو ارتفع التعذر في أثناء الوقت إنما يكون بعد الفراغ عن مشروعية الأمر الاضطراري بمجرد تعذر المأمور به الاختياري في أثناء الوقت وإن لم يستوعبه.

وإلا فلو فرض اختصاص مشروعيته بالتعذر المستوعب للوقت يكون ارتفاع التعذر في أثناء الوقت مستلزماً لعدم مشروعيته من أول الأمر، فيخرج عن موضوع الكلام من إجزاء الأمر الاضطراري.

غاية الأمر أنه لو فرض القطع باستمرار التعذر أو التعبد به ظاهراً مع احتماله فأتى بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع التعذر قبل خروج الوقت يكون ارتفاعه كاشفاً عن خطأ القطع أو التعبد الظاهري بمشروعية البدار، فيبتني إجزاؤه على إجزاء الفعل الخطئي أو الأمر الظاهري، الذي يأتي الكلام فيه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

توجيه النائيني (قدس سره) لمشروعية المأمور به الاضطراري

إذا عرفت هذا، فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن مشروعية المأمور به الاضطراري في الوقت مستلزمة لإجزائه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت، لأن تعذر القيد في الوقت إن أوجب سقوط قيديته حال

ص: 214

التعذر كان فاقد القيد وافياً بالملاك، فلا يصدق مع الإتيان به الفوت الذي هو موضوع القضاء، وإن لم يوجب سقوط قيديته - لعدم حصول ملاك الواجب بدونه - امتنع الأمر بفاقد القيد - كما في فاقد الطهورين - ففرض الأمر بفاقد القيد حال التعذر ووجوب القضاء متناقضان.

ولا مجال لوجوب القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وإن حصلت مصلحة أصل الواجب بالمأمور به الاضطراري.

لأن مصلحة القيد إنما يمكن تحصيلها حال كونه قيداً في المأمور به، فمع فرض عدم قيديته فيه، لحصول أصل المأمور به وسقوط أمره بفعل المأمور به الاضطراري في الوقت لا يبقى موضوع لاستيفاء مصلحة القيد وإن كانت لازمة التحصيل في نفسها.

وبالجملة: مع مشروعية الاضطراري ووفائه بملاك أصل المطلوب لا مجال لمشروعية القضاء، لا لتدارك ملاك أصل المطلوب، لفرض حصوله بالاضطراري، ولا لتدارك مصلحة القيد، لتعذر تحصيلها بعد اختصاص مشروعية القيد بما إذا كان قيداً في المطلوب المفروض سقوط أمره.

وأما إيجاب الفعل خارج الوقت بعنوان آخر غير عنوان القضاء فهو وإن كان ممكناً، إلا أنه خارج عن محل الكلام في المقام.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره) أولاً: عدم لزوم وفاء الاضطراري بالملاك

وفيه.. أولاً: أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافياً بملاك أصل الواجب دون قيده، بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب بعض أو تمام المفسدة الحاصلة من تأخير المأمور به الاختياري عن الوقت، من دون أن يؤدي شيئاً من مصلحته، كما لو وجب غسل المسجد يوم الجمعة، أو دفع عشرة دنانير لزيد، فإن تعذر الغسل وجب سد باب المسجد، وإن تعذر المال

ص: 215

وجب الاعتذار من زيد بالعجز، وكان مصلحة الغسل التطهير ومصلحة دفع المال وفاء دين في الذمة، وكان إيجاب سد باب المسجد عند تعذر الغسل لتجنب صلاة الناس في موضع نجس، والاعتذار من زيد عند تعذر المال لتطييب خاطره، وفي مثل ذلك يتعين تدارك المأمور به الاختياري بالقضاء عند ارتفاع العذر، لعدم وفاء المأمور به الاضطراري بشيءٍ من مصلحته.

ودعوى: خروج ذلك عن المأمور به الاضطراري اصطلاحاً، كما قد يظهر منه (قدس سره).

ممنوعة: إذ ليس المراد به إلا ما يجب بدلاً عن الواجب المتعذر، ولا طريق لتشخيصه إلا ذلك، حيث لا يتيسر لنا تشخيص حال الملاكات وكيفية ترتبها، وأنها بالنحو الذي فرضه (قدس سره)، بل يمكن أن تكون بالنحو الذي ذكرنا أو غيره وإن كان الاضطراري من سنخ فاقد القيد عرفاً، لا من سنخ آخر كالمثالين المتقدمين.

ثانياُ: عدم الملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء

وثانياً: أنه لو سلّم لزوم وفاء المأمور به الاضطراري بملاك المأمور به الاختياري بذاته دون ملاك قيده - كما فرضه هو (قدس سره) - فلا ملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء، بل يمكن وفاء القيد بملاكه إذا حصل في العمل ثانياً وإن كان ملاك أصل العمل قد استوفي سابقاً، فلا يجب العمل لملاكه الأصلي - لغرض استيفائه - بل لأجل استيفاء ملاك القيد لا غير، كما لو وجب الغَسل بالماء الحار لأجل التنظيف بمرتبة مؤكدة، فتعذر الماء الحار فوجب أصل الغَسل لأجل التنظيف بمرتبة ضعيفة، حيث يمكن وجوب الغسل بالماء الحار عند القدرة عليه لأجل التنظيف بالمرتبة الزائدة، لا لأجل التنظيف بالمرتبة الضعيفة المفروض الحصول.

ص: 216

ودعوى: أن ذلك لا يناسب فرض الارتباطية بين القيد والمقيد.

ممنوعة: لأن فرض الارتباطية إنما كان في حال القدرة، لافي حال التعذر الذي هو محل الكلام، إذ لا إشكال في عدم الارتباطية بينهما في الجملة، ولذا شرع الفاقد للقيد حال التعذر.

جريان ما ذكره النائيني (قدس سره) في الإعادة إذا جرت في القضاء

هذا، ولا يخفى أن الوجه الذي ذكره - لو تمَّ - كما يجري في القضاء يجري في الإعادة، في فرض ارتفاع العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع الأمر الاضطراري مطلق التعذر وإن لم يستوعبه. لتوقف وجوب الإعادة على عدم استيفاء الملاك وإمكان استيفائه، إلا أنه ذكر لنفي وجوب الإعادة وجهاً آخر يرجع إلى أن مشروعية البدار للمأمور به الاضطراري في محل الكلام تستلزم، بعد فرض الإجماع على عدم وجوب صلاتين على المكلف في اليوم الواحد، وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري الملزم، إذ مع عدم وفائه بها يكون تشريعه مفوتاً لغرض المولى، وهو ممتنع، وإذا كان وافياً بتمام ملاك الاختياري لم تشرع الإعادة.

الإشكال على التعميم للإعادة

لكنه يشكل: - مضافاً إلى اختصاصه بالصلاة التي قام الإجماع على عدم وجوبها مرتين دون غيرها مما لا إجماع فيه - بأن الإجماع إنما يقتضي عدم وجوب الجمع بين المبادرة للاضطراري حال التعذر والإعادة بعد ارتفاع التعذر، وليس هو محل الكلام حتى على القول بعدم إجزاء الاضطراري عن الإعادة، لأن مشروعية الاضطراري مع عدم إجزائه عن الإعادة لا ترجع إلى وجوب المبادرة إليه، بل إلى عدم لغويته لو أتى به لترتب بعض الملاك عليه وإن جاز عدم الإتيان به وانتظار ارتفاع العذر والاقتصار على الاختياري، فلا تنافي الإجماع المذكور.

ص: 217

كما لا مانع من ذلك في نفسه، ولا محذور في التخيير بين الاقتصار على الاختياري في آخر الوقت والجمع بينه وبين الاضطراري في أوله، لعدم وفاء الاضطراري إلا ببعض الملاك الملزم، وإمكان استيفاء الباقي منه بالإتيان بالاختياري، نظير ما تقدم في مثال التطهير بالماء الحار.

توجيه السيد الخوئي (قدس سره)

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من امتناع التخيير المذكور لرجوعه إلى وجوب الاختياري في آخر الوقت على كل حال ولا مجال معه لوجوب الاضطراري في أول الوقت تخييراً، لأن لازمه أن يكون واجباً على تقدير المبادرة إليه وغير واجب على تقدير عدم المبادرة إليه، وهو باطل.

الإشكال عليه

فهو كما ترى! لأن الوجوب التخييري للزائد ثابت قبل وقوعه، والتعييني غير ثابت له حتى بعد وقوعه، وإنما التابع لوقوعه هو تعينه خارجاً للامتثال، كما هو الحال في سائر موارد امتثال التكاليف الوجوبية والاستحبابية.

ولو تمَّ ما ذكره لزم امتناع التخيير بين الأقل والأكثر مطلقاً حتى لو كان الزائد دخيلاً في ترتب الملاك على تقدير وجوده، مع أنه قد اعترف بإمكانه حينئذٍ، وإنما يمتنع التخيير المذكور لو كان الأقل مستقلاً بالملاك ولم يكن للزائد دخل فيه على تقدير وجوده، ولا مجال له في المقام، لأن المفروض ترتب بعض الملاك على الاضطراري وكون الإعادة لاستيفاء الباقي منه بالاختياري، لا لاستيفائه بتمامه.

المتحصل في المقام

وقد تحصل مما تقدم: أنه لا مجال للبناء على لزوم إجزاء المأمور به الاضطراري عن الإعادة أو القضاء بعد ارتفاع التعذر على ما يطابق المأمور به الاختياري، بل يمكن فرض عدم إجزائه عنهما، فلا مانع من الالتزام به لو

ص: 218

اقتضته الأدلة.

هذا كله في مقام الثبوت، وأما مقام الإثبات ومفاد الأدلة بعد فرض إمكان كل من الإجزاء وعدمه فالكلام تارة في الإعادة، وأخرى في القضاء. أما الإعادة..

الرأي المختار في المقام

فالذي ينبغي أن يقال: المأمور به الاضطراري - سواءً كان فرداً من الماهية المأمور بها ووجداً لعنوانها، كالصلاة من جلوس والطهارة الترابية، أم بدلاً عنها، كما لو وجب الاستغفار على من لم يجد الكفارة - لما كان تشريعه معلقاً على تعذر الاختياري فالمستفاد من دليله عرفاً عدم وفائه بتمام الملاك - الذي هو مورد الغرض - حال التعذر، وليس هو كسائر الأفراد أو الأبدال المشروعة في حال خاص، فالصلاة من جلوس حال تعذر القيام - مثلاً - ليست كالصلاة قصراً حال السفر، بل هي نظير الميسور من المطلوب الذي لا يسقط بالمعسور منه، ويجتزأ به للضرورة. ولذا لا يجوز - ارتكازاً - تعجيز النفس عن المأمور به الاختياري الذي يتحقق به موضوع الاضطراري، كما يجوز السفر الذي يتحقق به موضوع القصر. ولازم ذلك عدم الاكتفاء بالمأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب التعذر للوقت، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك الذي هو مورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في الوقت بانتظار ارتفاع العذر.

وحينئذٍ إن دل الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق التعذر وإن لم يستوعب الوقت، فإن كان المراد به مجرد المشروعية في مقابل لغويته وعدم ترتب شيءٍ من الملاك عليه، لم يناف ما ذكرنا من عدم وفائه بتمام الملاك المذكور.

ص: 219

ويتعين حينئذٍ عدم الإجتزاء به عن الإعادة بعد ارتفاع التعذر، عملاً بإطلاق دليل المأمور به الاختياري المقتضي لفعلية الأمر به بالقدرة عليه في بعض الوقت، من دون أن ينافيه دليل مشروعية الاضطراري بعد كون المراد به المشروعية بالمعنى المذكور.

وإن كان المراد به الإجتزاء به في أداء الخطاب المتوجه في الوقت كان مسوقاً لبيان إجزائه عن الإعادة الذي هو محل الكلام في المقام، وكشف عن وفائه في حال التعذر بتمام الملاك الذي يفي به الاختياري في حال القدرة، أو ببعضه مع عدم فعلية الغرض بتحصيل الباقي، لمصلحة التسهيل أو غيرها، على خلاف ما سبق أنه المستفاد عرفاً من إطلاق دليل تشريع البدل الاضطراري، ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.

هذا، ومن الظاهر أن المفهوم عرفاً من تشريع البدل الاضطراري هو المعنى الثاني، لأنه المهم لعامة المكلفين، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة والبيانات الشرعية، وإرادة المعنى الأول تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام عليها إلا بقرينة. ومن ثم كان الثاني هو المفهوم حتى من الدليل اللبي المبتني على التصدي للبيان والمتفرع على مدلول الكلام وتشخيص المراد به، كالإجماع المستفاد من كلام أهل الفتوى.

وعلى هذا يبتني ما تكرر منا ومن غير واحد من أن قرينة الاضطرار - المناسبة لعدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري، كما تقدم - تقتضي اختصاص مشروعية المأمور به الاضطراري بالتعذر في تمام الوقت.

لوضوح أن القرينة المذكورة إنما تقتضي ذلك لو استفيد من دليل مشروعيته إجزاؤه، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك ومورد الغرض مع إمكان

ص: 220

استيفائه بتمامه في آخر الوقت عند ارتفاع العذر، أما لو استفيد منه مجرد المشروعية في مقابل اللغوية، فالقرينة المذكورة لا تمنع من مشروعيته بالتعذر في بعض الوقت، لما عرفت من عدم ملازمة المشروعية بالمعنى المذكور للاجتزاء عن الإعادة، بل مقتضى الإطلاق عدمه المستلزم لفوت بعض الملاك.

وقد ظهر مما ذكرنا أن استفادة الإجزاء من دليل مشروعية الاضطراري بمطلق التعذر - وإن لم يكن مستوعباً للوقت - إنما هو لأجل أن الدليل المذكور مسوق نوعاً لبيان ذلك، لا لكون المشروعية مستلزمة للإجزاء عقلاً، كما يظهر مما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره).

الكلام في القضاء وتوجيه الإجزاء فيه

هذا كله في الإعادة، وأما القضاء فعدم وجوبه في فرض كون موضوع الاضطراري مجرد التعذر وإن لم يستوعب الوقت مستفاد عرفاً مما دل على عدم وجوب الإعادة، لأن عدم وجوب الإعادة حيث كان مستلزماً لوفاء الاضطراري بتمام الملاك أو ببعضه مع عدم فعلية تعلق الغرض بالباقي فهو مستلزم لعدم تحقق موضوع القضاء مع الإتيان بالاضطراري في وقته، لأن موضوع القضاء إن كان هو الفوت فهو لا يصدق عرفاً بالإضافة للمطلوب بعد حصول تمام ما هو مورد الغرض من ملاكه. وإن كان هو عدم الإتيان بالواجب فالمراد منه خصوص ما يلازم فوت غرضه، لفعلية تعلق الغرض به تعييناً حين فوته ولو مع عدم فعلية الخطاب به لمانع من نوم أو نحوه، لا مطلق عدم الإتيان به ولو مع حصول غرضه ببدله المجزي عنه.

وإن شئت قلت: المأمور به الاضطراري إن كان واجداً لعنوان الماهية المأمور بها حال الاختيار والتي يكون فوتها أو عدم الإتيان بها موضوعاً

ص: 221

للقضاء - كالصلاة من جلوس عند تعذر الصلاة من قيام - كان دليل تشريعه وارداً على دليل القضاء، لأنه منقح لفرد المأمور به حال الاضطرار.

وإن كان فاقداً لعنوانها كان مرجع تشريعه إلى بدليته عن الماهية المذكورة، ومن الظاهر حكومة دليل البدلية على دليل الواجب، حيث يكون مفاده قيامه مقامه، فلا يترتب معه أثر فوته أو عدم الإتيان به وبذلك يكون حاكماً على دليل القضاء أيضاًً. مضافاً إلى أن سقوط القضاء أولى عرفاً من سقوط الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت. كما لا يخفى.

وأما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري التعذر في تمام الوقت فإجزاؤه عن القضاء ليس بذلك الوضوح لعدم المخرج عما هو المرتكز - بسبب أخذ التعذر في موضوعه - من عدم وفائه بتمام ملاك الاختياري الذي هو مورد الغرض الفعلي، لإمكان كون تشريعه لأهمية مصلحة الوقت الملزمة بتحصيل ما يمكن تحصيله من ملاكه فيه، مع كون الباقي ممكن التحصيل بالقضاء عند ارتفاع التعذر بعد الوقت، كما أنه لازم، فيتحقق موضوع القضاء.

إلا أنه لا يبعد ظهور أدلة تشريعه في الاجتزاء به عن القضاء عند ارتفاع العذر وورودها لبيان الخروج به عن الخطاب المتوجه في الوقت من أصله بلحاظ تمام الملاك الذي هو مورد الغرض الفعلي، لا بلحاظ خصوصية الوقت منه مع بقاء شيء منه يطالب به المكلف خارج الوقت، لأن ذلك هو مقتضى ما سبق في القسم الأول من ورود دليل الاضطراري أو حكومته على دليل القضاء.

ومجرد عدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري لا ينافي ذلك،

ص: 222

لإمكان كون الإتيان بالمأمور به الاضطراري - المشروع والمحصل لبعض الملاك - في الوقت مانعاً من فعلية تعلق الغرض بالباقي من الملاك، إما لتعذر تحصيله بالقضاء، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل رفع اليد عنه.

ولا أقل من كون ذلك مقتضى الإطلاقات المقامية لأدلة تشريع الاضطراري، للغفلة عن وجوب القضاء معه جداً.

توجيه مقتضى القاعدة الارتكازية في الإجزاء

ولعله لأن مقتضى القاعدة الارتكازية في تعذر المطلوب الارتباطي في الوقت - ولو بتعذر قيده - هو تعذر تحصيل شيءٍ من الملاك المستلزم لسقوط الأمر رأساً وعدم وجوب الميسور الاضطراري، بل انتظار القضاء عند ارتفاع التعذر لتحصيل الملاك بتمامه إذا كان العمل مما يقبل القضاء، فدليل تشريع المأمور به الاضطراري كما يكون ردعاً عن مقتضى القاعدة من سقوط الأمر في الوقت يكون عرفاً ردعاً عن وجوب القضاء لتحصيل الملاك بتمامه، لكونه مترتباً على ذلك، ووجوب القضاء لتتميم الملاك الحاصل بالاضطراري وإن كان ممكناً إلا أنه مغفول عنه، لعدم اقتضاء القاعدة له، فعدم التنبيه عليه في أدلة تشريع الاضطراري موجب لظهورها في عدمه بمقتضى إطلاقاتها المقامية.

ومرجع ذلك إلى عدم تعلق الغرض الفعلي بعد الوقت بتحصيل الملاك الفائت الذي لم يستوف بالاضطراري إما لتعذره، أو لرفع اليد عنه ولو لمصلحة التسهيل، وإن كان مهماً في نفسه لازم التحصيل في ضمن الوقت، ولذا اختص تشريع الاضطراري والاكتفاء به بالتعذر المستوعب لتمام الوقت، كما هو مفروض الكلام.

على أنه لو فرض إجمال دليل تشريع المأمور به الاضطراري من

ص: 223

هذه الجهة، ولو لكونه لبياً لا ينهض المتيقن منه بإثبات سقوط القضاء، فلا أقل من كون نفيه مقتضى الأصل، لاختصاص أدلة القضاء بفوت الفريضة أو عدم الإتيان بها رأساً بالنحو المستلزم لفوت ملاكها رأساً، ولا يشمل فرض الإتيان بالفرد أو البدل الاضطراري المحصل لبعض ملاك الفريضة. فوجوب القضاء في محل الكلام يحتاج إلى دليل خاص.

نعم، لو كان لدليل الأمر الاختياري بالعمل التام إطلاق يقتضي عدم التوقيت، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في قيدية الوقت ودخله في مصلحة الماهية المأمور بها، بل في مجرد مطلوبية إيقاع العمل فيه ولو بنحو تعدد المطلوب، يكون وجوب الإتيان به بعد ارتفاع التعذر خارج الوقت مقتضي الإطلاق المذكور، الذي يخرج به عن الأصل المتقدم، واحتاج إجزاء المأمور به الاضطراري عن القضاء للدليل، كالتشبث له بما سبق.

لكن في صدق القضاء حينئذٍ إشكال، لما سبق في مبحث الموقت من اختصاصه بما إذا كان الوقت قيداً في المطلوب ودخيلاً في مصلحته. فراجع وتأمل جيداً.

تنبيه:

حيث ذكرنا ظهور أدلة تشريع الاضطراري في بيان الاجتزاء به عن الإعادة والقضاء، وكان ذلك - بضميمة ارتكاز عدم وفائه بتمام الملاك - منشأ لانصراف إطلاقاته إلى التعذر المستوعب للوقت، فلا مجال لأن يستفاد من الإطلاقات المذكورة مشروعيته بمعنى عدم لغويته بالتعذر غير المستوعب للوقت وإن لم يكن مجزئاً، بل لابد فيه من دليل خاص، هو مفقود غالباً.

ص: 224

المقام الثاني في إجزاء الأمر الظاهري

اشارة

ولا فرق فيه بين أن يكون أولياً اختيارياً، وأن يكون ثانوياً اضطرارياً، غايته أن إجزاء الثاني يراد به إجزاؤه عن الأمر الاضطراري الواقعي، ويبتني إجزاؤه عن الأمر الاختياري الواقعي على ما سبق في المقام الأول.

محل الكلام بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في تبعية الأمر للواقع

ومحل الكلام في المقام هو مقتضى الحكم الظاهري بمقتضى ظاهر دليله أو دليل خارج بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الأمر للواقع.

أما لو فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في أن موضوعه الأعم من الواقع والظاهر أو خصوص الظاهر فلا إشكال في الإجزاء، ويدخل في إجزاء موافقة الأمر الواقعي عن امتثاله والتعبد به ثانياً، الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل.

ومن هنا لزم البناء على الإجزاء بناء على التصويب المنسوب للأشاعرة، الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق، والتصويب المنسوب للمعتزلة المبني على جعل الأحكام الواقعية في مرتبة سابقة على التعبد الظاهري مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعاً لها، لكونه سبباً

ص: 225

لحدوث الملاكات المزاحمة لملاكاتها والمانعة من فعلية تعلق الغرض بها، بل يتعلق الغرض الفعلي بالملاكات الناشئة من قيام الطرق بنحو يستتبع جعل الحكم على طبقها ورفع اليد عن الحكم الواقعي.

أما على الأول فظاهر، لعدم وجود واقع تفرض مخالفته، بل ليس الواقع إلا ما أدى إليه الطريق الذي فرض العمل على طبقه.

غاية الأمر أن قيام الطريق المخالف للطريق الذي عمل على طبقه يوجب تبدل الواقع، وهو إنما يقتضي تبدل الوظيفة في حق المكلف إذا لم يعمل على طبق الطريق الأول، أما مع عمله على طبقه فقد سقط الأمر، نظير ما لو سافر بعد أن صلى تماماً.

وأما على الثاني فلأن الواقع لما لم يكن فعلياً، لعدم فعلية تعلق الغرض بملاكه فلا أثر لموافقته ومخالفته، بل الأثر للحكم الفعلي المفروض موافقته.

خروج الإجزاء عن محل الكلام بناء على التصويب

ومن هنا كان الإجزاء بناء على التصويب - بكلا وجهيه - خارجاً في الحقيقة عن محل الكلام من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي، حيث لا أمر واقعي حين العمل وراء الظاهر، ليقع الكلام في إجزاء الظاهر عنه.

نعم، هذا مختص بما إذا اختلف الطريقان في كيفية العمل المطلوب، كما لو أدى الأول إلى عدم اعتبار الطهارة في الصلاة على الميت، والثاني إلى اعتبارها، أو أدى الأول إلى وجوب صلاة الجمعة، والثاني إلى وجوب صلاة الظهر.

أما لو اختلفا في ثبوت الوظيفة وعدمه، كما لو دل الأول على عدم وجوب صلاة الكسوف والثاني على وجوبها، فإن كان قيام الثاني في الوقت

ص: 226

فلا إشكال في وجوب الأداء على طبقه، لتمامية موضوعه، وإن كان خارج الوقت فالظاهر عدم وجوب القضاء، لأنه فرع فعلية ملاك الأداء، كما سبق، والمفروض عدم فعليته.

اختصاص الكلام بما إذا كان موضوع التعبد هو الكبريات الشرعية

كما أن الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد الشرعي الظاهري الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية، دون ما إذا كان موضوعه الموضوعات الجزئية المستلزمة لأحكام جزئية، حيث ادعي الإجماع على عدم التصويب فيها.

وإن كان تحقيق مقتضى التصويب بِوَجهَيه سعة وضيقاً موقوفاً على الإحاطة بمباني القائلين بها وحججهم، وهو مما لا يسعه الوقت. كما أنه غير مهم بعد ظهور بطلان التصويب، والمهم إنما هو الكلام بناء على التخطئة التي ادعي اتفاق أصحابنا عليها.

وقد ظهر مما سبق في محل الكلام أن مقتضى الأصل الأولي عدم الإجزاء، لأن مقتضى فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في لزوم متابعته عدم ترتب الأثر مع مخالفته، فلابد في دعوى الإجزاء من إقامة الدليل المخرج عن ذلك، إما لاستفادته من نفس دليل الحكم الظاهري أو من دليل آخر.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) في توجيه الإجزاء

إذا عرفت هذا، فقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) في كفايته أن الحكم الظاهري إن ابتنى على تعبد الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله ظاهراً - كما هو مفاد قاعدة الحل والطهارة، بل الاستصحاب، بناء على أنه يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، لا تنزيل الشك منزلة اليقين - اقتضى الإجزاء، لحكومة دليله على دليل الأمر الواقعي، حيث يكون موسعاً للموضوع ومبيناً أنه أعم من الواقعي والظاهري، فيصح العمل ويجزي،

ص: 227

لواجديته لجزئه أو شرطه، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان العمل لجزئه أو شرطه، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل.

بخلاف ما يبتني منه على التعبد بوجود الشرط واقعاً، كما في موارد الأمارات، فإنه حيث لا يبتني على جعل الموضوع في قبال الواقع، بل على إحراز ثبوت الموضوع في الواقع - كما هو مقتضى لسان الأمارة بضميمة دليل حجيتها - فبانكشاف الخطأ ينكشف عدم تحقق الموضوع واقعاً، وفقد العمل لجزئه أو شرطه، فلا يجزي.

موارد ابتناء الحكم بثبوت عنوان الموضوع

أقول: الحكم بثبوت عنوان الموضوع في موردٍ..

تارةً: يبتني على التطبيق الحقيقي لاشتباه المصداق أو المفهوم، كما في قوله (عليه السلام) في الفقاع: «هو خمر مجهول»(1) ونحو: كل دينٍ جرّ نفعاً فهو ربا.

وأخرى: يبتني على الجعل الحقيقي فيما لو كان الموضوع أمراً جعلياً، مثل ما تضمن الحكم بالملكية مع الحيازة بالإضافة إلى أحكام الملك.

وثالثة: يبتني على التطبيق الادعائي التنزيلي بلحاظ الاشتراك في الأحكام، نحو: المطلقة رجعياً زوجة.

والأولان لا يبتنيان على توسيع موضوع الحكم، بل على بيان مفهومه أو مصداقه أو جعل مصداقه، ويكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان بمعونة دليل التطبيق في الجملة.

ص: 228


1- الوسائل: ج 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة: حديث: 11.

وأما الثالث فحيث كان مصحح الادعاء فيه هو الاشتراك في الأحكام كان كناية عن عدم اختصاص موضوع الحكم بعنوانه الذي تضمنه دليله، وأنه يعم مورد التطبيق، فهما يشتركان في الحكم الواحد، وهو راجع إلى توسيع موضوع الحكم، ولذا يكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى دليل التطبيق، لا دليل الحكم.

الكلام فيما ذكره الخراساني (قدس سره) من التوجيه

وحيث ظهر ذلك فإن كان مبنى كلامه (قدس سره) أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية ونحوهما في أنفسها كون الجزء أو الشرط هو الأعم من الأمر الواقعي والظاهري من الطهارة والحلية ونحوهما، فدليل الحكم الظاهري وإن تضمن جعل الحل والطهارة حقيقة لا يكون حاكماً على دليل الجزئية والشرطية، ولا موسعاً لموضوعهما، بل يكون وارداً عليه، لتضمنه جعل الموضوع حقيقة، كما تقدم في الوجه الثاني. ويكون الإجزاء حينئذٍ مقتضى دليل الحكم الواقعي، كالإجزاء مع الطهارة أو الحل الواقعيين.

وإن كان مبنى كلامه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية كون الجزء والشرط خصوص الأمر الواقعي من الطهارة أو الحلية أو نحوهما فدليل الحكم الظاهري إنما يكون حاكماً عليه لو كان مفاده الحكم بالطهارة والحل ونحوهما ادعاء وتنزيلاً من دون أن يتضمن جعلاً حقيقياً، على ما سبق في الوجه الثالث. وهو خلاف مفروض كلامه.

أما لو كان مفاده الحكم بهما ظاهراً بنحو يتضمن الجعل الحقيقي - كما هو مقتضى كلامه - فإن كان الحل والطهارة الظاهريان من أفراد الحل والطهارة الواقعيين، وليس الفرق بينهما إلا في الموضوع، حيث يكون موضوع الواقعيين الذات بنفسها، وموضوع الظاهريين الذات بعنوان كونها

ص: 229

مجهولة الحال، لم يكن دليلهما حاكماً على دليل الجزئية والشرطية، بل وارداً عليه، نظير ما تقدم على المبنى الأول.

وإن كانا مباينين للحل والطهارة الواقعيين لم يكن الحكم بهما مقتضياً لترتب حكم الحل والطهارة الواقعيين ظاهراً، فضلاً عن ترتبه واقعاً بنحو يقتضي الإجزاء حتى لو انكشف الخطأ، لعدم كونهما حينئذٍ من أفراد الموضوع.

إلا أن يثبت بدليلٍ آخر تنزيلهما منزلة الحل والطهارة الواقعيين في الأحكام. ولا تنهض به أدله جعلهما لأن جعل الموضوع في مرتبة سابقة على جعل حكمه، فلا يتكفل بهما معاً دليل واحد متضمن لجعل واحد. ومن هنا لم يكن كلامه خالياً من الاضطراب.

على أن لازمه تأسيس فقهٍ جديد، فإن مفاد أدلة الأصول المذكورة - ومنها الاستصحاب - لو كان حاكماً على أدلة الأحكام الواقعية وموسعاً لدائرة الجزء والشرط، بنحو يقتضي الإجزاء واقعاً في المأمور به الذي هو موضوع الصحة والفساد والإجزاء، لجرى في شروط وأجزاء غيره مما يكون مورداً للآثار، كالعقود والإيقاعات وموضوعات الأحكام الأُخَر، فإذا تم التعبد الظاهري - الذي تتضمنه تلك الأصول - بتلك الشروط صحت العقود والإيقاعات وترتبت تلك الأحكام واقعاً ولو مع خطأ التعبد المذكور، فيصح بيع وقف مستصحب الملكية، وتستحق مستصحبة الزوجية النفقة، ويكون عقد الغير عليها محرماً لها عليه مؤبداً، وينجس الجسم بملاقاة مستصحب النجاسة، كما يطهر المتنجس بغسله بماء محكوم بالطهارة لأصالة الطهارة أو استصحابها... إلى غير ذلك، لأن دليل التعبد الظاهري كما يكون حاكماً

ص: 230

على دليل الشرطية في المأمور به يكون حاكماً على سائر أدلة الشرطية، لأن نسبته للجميع على نحوٍ واحد.

كما لا يختص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد أمراً مجعولاً شرعاً - كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وغيرها - بل يجري فيما إذا كان موضوعه أمراً خارجياً مأخوذاً في موضوع أحكام شرعية، ككون المرأة في العدة المستلزم لتحريمها مؤبداً بالعقد عليها، وكونها حائضاً المستلزم لوجوب الكفارة بوطئها، وكونها طاهراً المستلزم لصحة طلاقها، ونحو ذلك، إما للتعبد بنفس الأمر الخارجي أو بأحكامه على ما يذكر في محله. ووهن اللازم المذكور غني عن البيان. بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب.

ومنه يتضح أنه لا مجال للبناء على أن موضوع الشرطية والجزئية - للمأمور به وغيره من العقود والإيقاعات وغيرهما من الأحكام - الأعم من الظاهر والواقع، ولا على كون موضوعها خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري من أفراد الواقع، لأن المبنيين معاً مستلزمان للمحذور المتقدم، وهو ترتب الأثر واقعاً ولو مع خطأ التعبد.

كما أن البناء على أن الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري مبايناً له وليس من أفراده مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى ظاهراً حال الجهل، لعدم كون مؤدى التعبد من أفراد موضوع الحكم الشرعي، ليترتب عليه الحكم. وهو أوهن مما سبق، لاستلزامه لغوية جعل الحكم الظاهري، كما لا يخفى.

التحقيق في المقام والبناء على عدم الإجزاء

فالتحقيق: أن مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير جعل

ص: 231

الحكم الواقعي، ليقع الكلام في أنه من سنخه وأفراده أو مباين له، بل ليس في المقام إلا أمر واحد حقيقي كالموضوعات الخارجية أو جعلي اعتباري كالأحكام الشرعية يكون بنفسه موضوعاً للأثر العملي الشرعي أو العقلي.

وتحققه في مقام الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجياً حقيقياً، ولجعله من قبل الشارع إذا كان جعلياً اعتبارياً، وهو الذي تتضمنه أدلة الأحكام الواقعية.

كما أن البناء عليه في مقام الإثبات والعمل تابع للقطع به، ومع عدمه فالتعبد الظاهري لا يتضمن جعل الحكم في عرض الحكم الواقعي، بل جواز البناء في مقام العمل عليه إثباتاً وفي طوله. غايته أن البناء عليه بمقتضى التعبد الشرعي..

تارة: يتفرع على قيام الحجة عليه، لصلوحها شرعاً لإثباته.

وأخرى: لا يتفرع عليها، بل يكون التعبد به ابتدائياً لمحض الجهل به أو مع سبق اليقين به أو لغير ذلك، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مسألة قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر أن ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد، وإن كان موضوع الأثر ثبوتاً هو الواقع بنفسه، لا ما يعمه والظاهر، وأن عدم الإجزاء بانكشاف الخلاف إنما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان العمل لجزئه أو شرطه بعد سقوط دليل التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل المفروض ارتفاعه.

ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه الأمر الواقعي من عدم الإجزاء بعد انكشاف وقوع العمل على خلاف ما أخذ فيه.

ص: 232

الكلام في البناء على الإجزاء بناء على السببية

هذا، وقد يدعى أنه يلزم الإجزاء بناء على أن الطرق والأصول مجعولة بنحو السببية لا الطريقية، بمعنى أن جعلها ناشٍ عن مصلحة في متابعتها. إذ عليه يتدارك الواقع الذي أخطأه بتلك المصلحة، ومع تداركه يتعين البناء على الإجزاء.

ويشكل: بأن مصلحة جعل الطريق إن كانت في قبال الملاك الواقعي بنحوٍ تصلح لمزاحمته وتدارك فوته بنحوٍ يستلزم الإجزاء لزم التصويب المنسوب للمعتزلة الذي هو خارج عن الفرض.

بل يلزم التصويب الباطل حتى لو لم يلزم الإجزاء من التدارك، لكون المتدارك، خصوص مفسدة تأخير الواجب عن وقته إذا استلزمه العمل بالطريق، على ما يأتي في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إن شاء الله تعالى. كما ربما يأتي هناك وفي مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي ما ينفع في المقام. فلاحظ.

بقي في المقام أمور..

بقي في المقام أمور:

الأول: عدم الإجزاء مع النسيان ونحوه

الأول: لا ينبغي التأمل في عدم الإجزاء لو كان العمل مخالفاً للأمر الواقعي من دون أمر ظاهري، بل لنسيان أو غفلةٍ أو اعتقادٍ خاطئ في الموضوع أو الحكم، لأن مجرد العذر العقلي لا ينافي بطلان العمل المستلزم لوجوب التدارك بمقتضى الأصل.

نعم، يمكن دلالة الدليل الخاص فيه على الإجزاء الواقعي خروجاً عن مقتضى الأصل، كما قد يدل على إجزاء الأمر الظاهري كذلك، على ما يأتي في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.

ص: 233

الثاني: صور ثبوت المخالفة للواقع والكلام فيه
اشارة

الثاني: حيث ذكرنا أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفة الأمر الواقعي فالمخالفة..

تارة: تثبت بالعلم الوجداني. ولا إشكال حينئذٍ في لزوم ترتيب أثرها المذكور، وهو عدم الإجزاء. وهو المتيقن مما سبق.

وأخرى: تكون مقتضى التعبد الشرعي، لتبدل الاجتهاد في حق المجتهد أو عدول المقلد عن فتواه السابقة أو تقليد غيره في حق المقلد، أو لابتناء العمل على أصل قامت الأمارة بعد العمل على خلاف مقتضاه، أو تبدل مفاد الأمارة، كما لو عدلت البينة عن الشهادة بوجه إلى غيره، وغير ذلك مما لا يبلغ العلم. وقد وقع الكلام بينهم في الإجزاء في هذا القسم في الجملة وعدمه.

ولا يخفى أنه بعد فرض اختلاف مؤدى التعبد الشرعي حين العمل عنه بعد العمل لا يعقل حجيتهما معاً في واقعةٍ واحدةٍ، لامتناع التعبد بالنقيضين.

وحينئذٍ حيث فرض حجية التعبد الثاني، فإن اختص دليل حجيته بالوقائع اللاحقة مع بقاء التعبد الأول حجة في الوقائع السابقة فلا إشكال في إجزاء العمل السابق بمقتضى حجية التعبد الأول وعدم انكشاف مخالفته للأمر الواقعي بالتعبد الثاني.

نعم، قد يلزم من ذلك مخالفة علم إجمالي منجز، فيسقط كلا التعبدين عن الحجية في الوقائع المختصة به، كما لو قلد من يقول بوجوب التقصير بالسفر ثمانية فراسخ ملفقة، وعمل عليه مدة، ثم قلد من يقول بوجوب الإتمام في ذلك، وأنه لابد في التقصير من السفر ثمانية فراسخ امتدادية. فلو فرض حجية كل من التقليدين في الوقائع المقارنة له فحيث يعلم اتحاد

ص: 234

جميع الوقائع في الحكم الواقعي يعلم إجمالاً إما بخطأ مقتضى التقليد الأول، فيجب قضاء ما وقع على طبق التقليد الأول تماماً، أو بخطأ الثاني، فيجب القصر في الوقائع اللاحقة.

وإن كان دليل حجيته يعم الوقائع السابقة بنحوٍ ينهض بإثبات وجوب التدارك فيها بالإعادة والقضاء المستلزم لسقوط التعبد الأول عن الحجية فيها واختصاصه بصورة عدم قيام التعبد الثاني تعين عدم الإجزاء ولزوم التدارك، كما لو استندت فتوى المجتهد أو عمل المكلف للأصل الترخيصي الجاري في الشبهة الموضوعية أو الحكمية، ثم عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على خبر معتبر، أو قامت بينة عند المكلف، على خلاف مقتضى الأصل المفروض الذي وقع العمل على طبقه.

وإن فرض الشك في حال التعبدين بنحو لا يحرز عموم الثاني للوقائع السابقة وسقوط الأول عنها، ولا قصوره عنها وبقاء الأول حجة فيها، لإجمال دليلهما، كان العمل السابق غير محرز الصحة والإجزاء، لأن الحكم بصحة العمل وإجزائه وترتيب أثرهما في كل زمان موقوف على حجية التعبد بهما في ذلك الزمان، ولا يكفي حجيته عليهما في زمان صدور العمل، كما هو الحال في القطع.

وحينئذٍ إن كانت الشبهة موضوعية - كما لو شك في الطهارة الحدثية فيما اعتبر فيه الطهارة - فلا ينبغي التأمل في لزوم الإعادة، لأصالة الاشتغال بالتكليف المتيقن المفروض الشك في امتثاله.

بل لا يبعد وجوب القضاء لأصالة الاشتغال - أيضاًً - بناء على ما هو الظاهر من أن القضاء وإن احتاج إلى دليل إلا أنه بعد فرض ثبوته متحد مع

ص: 235

الأداء، وأن الوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب، فسقوطه بالتعذر لا ينافي جريان قاعدة الاشتغال في أصل المكلف به.

ولو فرض مباينته للأداء، بحيث يسقط التكليف بالأداء ويخلفه التكليف بالقضاء كفت أصالة عدم الإتيان بالواجب في وقته في وجوب القضاء، بناء على ما هو الظاهر من أن موضوعه ذلك، لا عنوان الفوت الذي لا يحرز بالأصل.

ويأتي بعض الكلام في ذلك في ذيل التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة، كما ذكرناه في الفقه في المسألة الحادية والثمانين من مباحث الوضوء من شرح منهاج الصالحين. فراجع.

نعم، لو كان هناك محرز آخر لصحة العمل غير التعبد الأول، كقاعدة الفراغ، وقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت جاز التعويل عليه. ولا مجال لإطالة الكلام في صغريات ذلك، بل يوكل لمورد الحاجة من الفقه، لخروجه عن محل الكلام، إذ الكلام في الإجزاء من حيثية التعبد الأول لا غير.

الكلام فيما لو كانت الشبهة حكمية

وإن كانت الشبهة حكمية فإن كان مفاد التعبد الأول عدم التكليف أصلاً ومفاد الثاني ثبوته ووجوب القضاء بالتخلف عن مقتضاه، كما لو قلد من يفتي بعدم وجوب صلاة الكسوفين وعمل على ذلك مدة ثم قلد من يفتي بوجوبهما ووجوب قضائهما، كان مقتضى أصالة البراءة عدم التكليف في الوقائع السابقة بعد فرض كون المتيقن من حجية فتوى الثاني الوقائع اللاحقة.

وكذا لو اختلفا في اعتبار خصوصية مفقودة في العمل السابق، كما لو

ص: 236

صلى بدون سورة مقلداً لمن يقول بعدم وجوبها ثم قلد من يقول بوجوبها، بناء على ما هو الظاهر من جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين فيبني على الإجزاء في الفرض.

إلا أن يلزم مخالفة علم إجمالي، كما لو صلى قصراً تبعاً لتقليد من يفتي به، ثم قلد من يفتي بالتمام، حيث يعلم إجمالاً إما بوجوب قضاء ما صلّاه قصراً أو وجوب القصر في الصلوات اللاحقة.

وأما لو اختلفا في إحراز المكلف به مع الاتفاق على تحديده فيجري ما سبق في الشبهة الموضوعية، كما في موارد الاختلاف في المحصل، مثل ما لو قلد من يقول بكفاية المسح بماءٍ جديد في الوضوء وترتب الطهارة المطلوبة عليه، ثم قلد من يقول ببطلان الوضوء معه.

ومثلها موارد الاختلاف في التعبد الظاهري، كما لو عمل تبعاً لتقليد من يقول بجريان قاعدة الفراغ مع عدم الالتفات لمنشأ الشك حين العمل، أو من يقول بأصالة العدالة في المسلم، ثم قلد من يخالف في ذلك.

المعيار في الإجزاء

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن المدار في الإجزاء على بقاء التعبد الأول حجة في الوقائع السابقة، ليحرز به مطابقة العمل فيها للأمر الواقعي، لا على مجرد عدم حجية التعبد الثاني فيها، كي لا يحرز به مخالفة العمل للأمر الواقعي، إلا فيما إذا كانت الشبهة حكمية وكان الشك في أصل التكليف أو في جزء المكلف به أو شرطه مع عدم لزوم مخالفة علم إجمالي منجز، فيكفي في الإجزاء مجرد عدم حجية التعبد الثاني في الوقائع السابقة وإن لم يثبت بقاء حجية التعبد الأول فيها، لإجمال دليله.

إذا عرف هذا، فاعلم أنه لم يتضح منهم الخلاف في أصالة عدم

ص: 237

الإجزاء مع تبدل مقتضى التعبد إلا في اختلاف مقتضى الاجتهاد، حيث يظهر من جملة منهم أن الأصل فيه الإجزاء وعدم وجوب تدارك ما وقع من الأعمال على طبق الاجتهاد الأول.

وجه الاستدلال على الإجزاء مع الاجتهاد
اشارة

وقد استدل له في كلامهم بوجوه..

الأول: ما ذكره في الفصول

أولها: ما ذكره في الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين، ولو بحسب زمانين، لعدم الدليل على ذلك.

ومرجعه إلى أنه بعد فرض سبق حجية الاجتهاد الأول في الوقائع السابقة، لا دليل على حجية الاجتهاد الثاني فيها بعد حدوثه، ليجب العمل على مقتضاه بالبناء على عدم الإجزاء.

وفيه.. أولاً: أنه ظهر مما تقدم أن مجرد عدم الدليل على حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة لا يكفي في الإجزاء في كثير من الموارد، بل لابد فيه من بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في تلك الوقائع، وهو محتاج إلى الدليل.

الثاني: ما ذكره في التقريرات

وثانياً: أن حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة مقتضى عموم أدلة حجية الأدلة التي ابتنى عليها، لعدم الفرق في حجية الظواهر وخبر الواحد والأصول وغيرها بين الوقائع.

ومجرد العمل على خلافها في بعض الوقائع اعتماداً على حجة أخرى قد ظهر لزوم رفع اليد عنها وهي الحجة السابقة المعلومة عدم حجيتها لا يخرجها عن موضوع الحجية، بل هي كما لو لم يعمل فيها بتلك الحجة السابقة بعد فرض تقديم الحجة اللاحقة عليها ورفع اليد بها عنها.

ثانيها: ما حكاه في التقريرات عن بعض الأجلة من أن تبدل الاجتهاد

ص: 238

وقيام حجة أخرى على خلاف الحجة الأولى ليس إلا نظير النسخ، فإنه بوصول الحجة الثانية ينقضي زمان الحجة الأولى، من دون أن ترتفع حجيتها في ما كانت حجة فيه.

وفيه: أنه بعد فرض عدم تبدل الواقع باختلاف الحجج لا مجال لقياس المقام بالنسخ، لا بالإضافة للواقع، كما هو ظاهر، ولا بالإضافة للحجة السابقة، لأنه إن أريد بذلك بقاء حجيتها في الوقائع السابقة فهو موقوف على ثبوت الإطلاق لها وقصور إطلاق دليل الحجة الثانية عن شمول تلك الوقائع، وقد سبق أنه لا مجال لذلك في الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد.

وإن أريد به الاكتفاء في الإجزاء بمطابقة العمل للحجة السابقة حين صدوره ولو بعد سقوطها عن الحجية، فهو أوهن، لوضوح أن البناء عملاً على الإجزاء في كل زمان موقوف على قيام الحجة عليه في ذلك الزمان، ولا يكفي قيامها عليه سابقاً بعد فرض سقوطها عن الحجية بعد ذلك، نظير القطع إذا ارتفع بعد العمل على طبقه.

الثالث: لزوم الترجيح من غير مرجح

ثالثها: أن الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع السابقة دون الأولى ترجيح من غير مرجح بعد كونهما معاً ظنيتين، فعن كاشف الغطاء بعد كلام له في المقام: «على أنه لا رجحان للظن على الظن السابق حين ثبوته».

ويظهر ضعفه مما تقدم، فإنه بعد فرض سقوط الأمارة الأولى عن الحجية - بمقتضى أدلة الأمارتين - يتعين التعويل على الثانية دون الأولى، وإنما تكون الأولى كالثانية ما دامت حجةً، كما هو الحال قبل قيام الثانية، لا مطلقاً ولو بعد سقوطها عن الحجية.

الرابع: الاستصحاب

رابعها: أنه مقتضى الاستصحاب.

ص: 239

وفيه: أنه إن أريد به استصحاب الحكم الظاهري التابع للأمارة الأولى فهو معلوم الارتفاع بعد سقوطها عن الحجية، لما تقدم.

وإن أريد به استصحاب الحكم الواقعي المحكي بالأمارة الأولى، فهو - مع اختصاصه بما إذا كان التعبد بلسان الأمارة أو الأصل التعبدي، على كلام في الثاني - غير متيقن الحدوث بعد سقوط الأمارة الأولى عن الحجية، بل هو بمنزلة متيقن العدم بعد حجية الثانية.

على أن الشك ليس في استمراره بعد حدوثه الذي هو مفاد الاستصحاب، بل في أصل ثبوته وهو موضوع الأثر، وإن كان استمراره على تقدير ثبوته معلوماً.

الخامس: لزوم الحرج وارتفاع الوثوق بالاجتهاد

خامسها: أنه لو بني على عدم الإجزاء يلزم الحرج ويرتفع الوثوق بالاجتهاد، لكثر التعرض للاختلاف فيه، وهو خلاف الحكمة الداعية إليه.

وفيه: - مع أن لزوم الحرج غير مطرد، وقاعدة نفيه لا تنهض بتشريع حجية التعبد السابق ونحوه من الأحكام التي يتدارك بها الحرج، وأنه لا طريق لإحراز أن الحكمة من الاجتهاد هو الوثوق بالنحو المذكور، كما يأتي في الأمر الثالث توضيحه - أن ذلك إن رجع إلى كون الجهتين المذكورتين كاشفتين عن بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في الوقايع السابقة، واختصاص سقوطه وحجية الاجتهاد الثاني بالوقائع اللاحقة.

فهو مخالف للمرتكزات جداً بعد النظر في أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد، كما ذكرناه آنفاً، ويبتني على عناية خاصة لا مجال للبناء عليها لأجل الجهتين المذكورتين.

نعم، قد يدعى كشف الجهتين المذكورتين عن كون موافقة العمل

ص: 240

للاجتهاد الأول موجبة للإجزاء ثبوتاً ولو مع مخالفة الأمر الواقعي، بحيث يبني على الإجزاء حتى مع العلم بالمخالفة له، فضلاً عما لو كان مقتضى الاجتهاد الثاني غير قطعي، وهو أمر آخر خارج عن مقتضى الأصل المتقدم، يأتي الكلام فيه في الأمر الثالث، كما يأتي الكلام في حال الجهتين المذكورتين. ومحل الكلام هنا في ما يقتضيه الأصل والقاعدة الظاهرية بعد الفراغ عما سبق من أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفة الحكم الواقعي. ولذا صرح بعضهم بعدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة، وتقدم أنه المتيقن من محل الكلام.

هذا كله مع أن ما عدا الوجه الأول - لو تمَّ - لا يختص بتبدل الاجتهاد، بل يجري في غيره من موارد تبدل مقتضى التعبد في الشبهة الموضوعية والحكمية.

بل لا يبعد ذلك في الوجه الأول أيضاًً، لعدم الفرق غالباً بين ألسنة أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد وألسنة غيرها مما يبتني عليه التعبد في الموارد الأخرى. بل قد يرجع التعبد الذي يبتني عليه الاجتهاد في الشبهة الحكمية والتعبد في الشبهة الموضوعية إلى دليل واحد، كما هو الحال في الأصول.

لكن من البعيد جداً بناؤهم على مقتضى الوجوه المتقدمة في غير تبدل الاجتهاد، بل الظاهر مفروغيتهم فيه عن رفع اليد عن الإجزاء الذي هو مقتضى التعبد السابق بالتعبد اللاحق المخالف له. وإن كانت بعض كلماتهم قد لا تناسبه.

ثم إنهم ذكروا عدم الفرق في البناء على الإجزاء اعتماداً على الاجتهاد

ص: 241

السابق بين المجتهد نفسه والمقلد، لعموم الوجوه المتقدمة.

والظاهر أن ما سبق منّا في وجه المنع عن ذلك كما يجري في حق المجتهد نفسه يجري في حق المقلد، سواء عدل مقلده عن فتواه السابقة أم اجتهد هو على خلاف مقتضى تقليده السابق، حيث لا إشكال في عموم حجية الاجتهاد الثاني منه أو من مقلَّده للوقائع السابقة، تبعاً لعموم حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد، كما تقدم.

وأما لو عدل عن تقليد المجتهد إلى تقليد غيره ممن يخالفه في الاجتهاد ويرى بطلان العمل السابق، فعموم حجية اجتهاد الثاني للوقائع السابقة موقوف على عموم دليل العدول لها، وهو يختلف باختلاف موارد العدول، ولا يسع الوقت استقصاء ذلك، بل يوكل لمباحث الاجتهاد والتقليد الآتية في محلها.

كما أنا قد استوفينا الكلام في هذا المقام في الفقه في المسألة السادسة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد من شرح منهاج الصالحين. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

الثالث: إمكان حكم الشارع بالإجزاء
اشارة

الثالث: لا يخفى أن عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري مع مخالفته للواقعي وإن كان مقتضى الأصل - كما تقدم - إلا أنه لا إشكال في إمكان حكم الشارع بالإجزاء بنحو يرجع إلى أن موضوع الحكم الواقعي أعم من الوجود الواقعي والظاهري، بل هو يخرج في الحقيقة عن موضوع الأصل المتقدم، لرجوعه إلى موافقة الحكم الواقعي، الذي لابد معه من الإجزاء كما تقدم.

كما يمكن حكمه بالإجزاء مع تبعية الحكم الواقعي للواقع وفرض

ص: 242

تحقق المخالفة له بمتابعة الحكم الظاهري، على خلاف مقتضى الأصل المتقدم، من باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره، إما لوفائه بغرضه في ظرف الإتيان به خطأ، أو لسقوط غرضه معه عن الفعلية، لمصلحة الامتنان والتسهيل أو لتعذر استيفاء غرضه معه، أو لغير ذلك.

وقد ثبت ذلك في جملة من موارد الخطأ في الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي، كموارد: «لا تعاد الصلاة...» وغيرها مما لا ضابط له، ولا مجال لاستقصائه، فلا مجال للكلام فيه هنا، بل يوكل لمباحثه المناسبة في الفقه.

الكلام في الإجزاء مع استناد العمل لاجتهاد أو تقليد سابق
اشارة

نعم، ينبغي الكلام هنا في ما وقع الكلام فيه بينهم من الإجزاء وعدمه مع استناد العمل لاجتهاد أو تقليد سابق يلزم رفع اليد عن مؤداه، لأنه أمر عام منضبط في الجملة، ومورد لابتلاء الكثير.

وهو وإن كان من شؤون الاجتهاد والتقليد، ولذا حرره غير واحد في مباحثهما، إلا أنه لابتناء بعض الكلام فيه على مباني مسألة الإجزاء ومناسبته لها يحسن التعرض له هنا.

فنقول: لا يخفى أن المراد بالإجزاء..

تارة: هو الإجزاء الظاهري، لاحتمال إصابة مقتضى الاجتهاد أو التقليد السابق الواقع.

وأخرى: هو الإجزاء الواقعي حتى مع فرض المخالفة للواقع، لاجتزاء الشارع بالعمل المذكور عن الواقع لإحدى الجهات المتقدمة.

ولازم الأول عدم الاجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة، بخلاف الثاني. وقد يظهر من جملة كلماتهم إرادة الأول، ويظهر حاله مما تقدم في

ص: 243

التنبيه السابق.

والذي يناسب البحث المعقود له هذا التنبيه هو الثاني. وقد يستدل عليه بوجوه..

الأول: لزوم العسر والحرج

الأول: أنه لولاه يلزم العسر والحرج، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأي واحد بالإضافة لعمل نفسه، وتعرض المقلد لاختلاف الفتاوى عليه لأجل ذلك، ولأجل العدول في التقليد أو حدوث الاجتهاد له بعد العمل على التقليد مدة طويلة، ومقتضى قاعدة نفي العسر والحرج البناء على الإجزاء وسقوط التكليف الواقعي حينئذٍ.

وفيه: أن لزوم الحرج من عدم الاجزاء في غير موارد (لا تعاد) ونحوها مما دل الدليل على الإجزاء فيه بالخصوص لا يطَّرد في جميع الموارد، بل يختلف باختلاف التكاليف ومدة العمل على الاجتهاد الخاطئ، وغاية ما يدعى لزوم الحرج نوعاً، وهو لا ينفع في جريان القاعدة، لأن موضوعها الحرج الشخصي.

مع أن ذلك منتقض بما إذا تفرعت المخالفة على تعبد شرعي غير الاجتهاد والتقليد في الشبهات الموضوعية كاستصحاب عدم البلوغ وأصالة الطهارة والتذكية وغيرها. وكذا لو لم يتفرع على تعبد شرعي، بل على خطأ أو نسيان، وكذا لو تعمد ترك الواجب مدةً طويلة، مع أنه ليس البناء على سقوط التكليف في ذلك، بل غايته رفع وجوب المبادرة لو كانت واجبة بالأصل ونحوها.

الثاني: منافاة عدم الإجزاء لحكمة الاجتهاد والتقليد

الثاني: أن حكمة تشريع الاجتهاد والتقليد هو الوثوق بهما في العمل على طبقهما والركون إليهما فيه، ومع عدم الإجزاء لا تترتب الحكمة

ص: 244

المذكورة، بسبب كثرة التعرض للاختلاف، كما أشير إليه في الوجه الأول، لأن صعوبة القضاء تمنع من الركون بالوجه المذكور وتحمل على الاحتياط مهما أمكن.

وفيه: - مع عدم اختصاص الحكمة المذكورة بالاجتهاد، بل هي لو تمت تجرى في غيرهما من موارد التعبد الظاهري التي لم يظهر منهم البناء فيها على الإجزاء - أنه لا دليل على كون الحكمة هو الوثوق بالنحو المذكور، بل لعلها رفع التحير حال الجهل لا غير. فالوجه المذكور كسابقه استحساني لا ينهض بالاستدلال. نعم، قد ينهضان بالتأييد على ما يأتي في تقريب الاستدلال بالسيرة.

الثالث: الإجماع

الثالث: الإجماع المدعى في كلام بعض، ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم: أنه ظاهر المذهب، وعن آخر: أنه مقتضى الإجماع، بل الضرورة.

نعم، ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن المتيقن منه العبادات، بل ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن المتيقن منه الصلاة، وأن عهدة دعوى الإجزاء مطلقاً على مدعيها.

وفيه: أنه لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير، ولا سيما مع إنكار مثل شيخنا الأعظم (قدس سره) له، حتى نسب في التقريرات دعوى الإجماع والضرورة إلى بعض من لا تحقيق له. مضافاً إلى إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات والطرق الظاهرية بعد انكشاف خطئها بنحوٍ يشمل المقام، قال في التقريرات: - في بيان القول بعدم الإجزاء فيها - «وفاقاً للنهاية، والتهذيب، والمختصر وشروحه، وشرح

ص: 245

المنهاج، على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم، بل وفي محكي النهاية الإجماع عليه، بل وادعى العميدي (قدس سره) الاتفاق على ذلك...».

الرابع: سيرة المتشرعة
اشارة

الرابع: سيرة المتشرعة لابتلائهم بذلك كثيراً، خصوصاً بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.

لكن أنكرها غير واحد، وذكر بعض مشايخنا أنها - لو تمت - مستندة في أمثال عصرنا إلى فتاوى المجتهدين، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين B.

ثم إن هذه الوجوه قد سيقت في كلماتهم لبيان الإجزاء أو عدمه مع تبدل التعبد بتعبد مثله غير علمي، لاختلاف الاجتهاد أو التقليد بنحو قد يظهر منهم اختصاص الكلام بذلك، بل صرح غير واحد ممن بنى على الإجزاء بعدم الإجزاء مع ظهور المخالفة بالعلم الوجداني، حتى حكى بعض الأعاظم (قدس سره) دعوى جماعة الإجماع عليه.

ولازم ذلك كون الإجزاء ظاهرياً مبتنياً على قصور الاجتهاد الثاني عن شمول الوقائع السابقة وبقاء الاجتهاد الأول حجة فيها، وقد سبق في رد الوجه الخامس للاستدلال على الإجزاء الظاهري في آخر التنبيه الثاني استبعاد ذلك جداً. ولذا قد تساق الوجوه المذكورة للاستدلال على الإجزاء الواقعي الذي هو محل الكلام في هذا التنبيه، كما جرينا عليه هنا.

توجيه الاستدلال بالسيرة

وحيث ظهر ضعف تقريباتها المتقدمة فربما توجه بنحو آخر ترجع إلى الاستدلال عليه بالسيرة.

وحاصله: أنه لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام الشرعية في عصور

ص: 246

المعصومين B على الخطأ كثيراً، لأن ظهور اختلافنا مع العامة في الفقه - المنبه للزوم أخذ أهل الحق أحكامهم من أئمتهم وأصحابهم الذين على نهجهم - قد بدأ في عصر الصادقين C أو قريباً منه، وقبل ذلك كان الأمر مختلطاً على المسلمين بجميع فرقهم، فلا امتياز لفقه كل فرقة عن فقه غيرها.

ثم لما تنبه الشيعة للاختلاف وَوَسِعَ الأئمة B الكلام وبدؤوا يرجعون إليهم في فقههم ابتلوا بأسباب الاختفاء والالتباس، حيث كثر اختلاف الأحاديث من جهة التقية والخطأ والكذب، حتى تضمنت بعض النصوص أنهم B بصدد إحداث الخلاف بين الشيعة محافظة عليهم كي لا يتميزوا بقول فيؤخذوا به.

وكان صدور الروايات منهم B تدريجياً تبعاً لتنبه السائل أو حاجته الشخصية غالباً، ولم يكن وصولها لجميع الشيعة متيسراً، بل كانت تصل تدريجياً لأشخاصهم. وذلك بطبعه مستلزم لاطلاع أفراد الشيعة بوجه شايع على خطأ ما وصل إليهم وجروا عليه في مقام العمل - في الصدر الأول قبل رجوعهم لأئمتهم B وبعده - على اختلاف أسباب اطلاعهم على ذلك من سؤالهم B مباشرة أو بسماع الأحاديث المروية عنهم أو بالاستفتاء ممن يتصدى للفتوى من أصحابهم المنتشرين تدريجاً في أقطار الأرض، كما تشير إلى بعضه النصوص.

فلو كان البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد ظهور الخطأ للزم الهرج والمرج وكثر الوقوع في العسر والحرج، ولكان شيوع الابتلاء به مستلزماً لظهوره المانع لهم عادةً من الركون إلى النصوص وفتاوى الأصحاب، بل فتاوى الأئمة B أنفسهم بسبب احتمال التقية فيها أو عدم فهمها، لأن

ص: 247

لزوم مثل هذه المشكلة ينبه للاحتمالات المغفول عنها بدواً، ويرفع الوثوق الطبيعي.

وبذلك يضطرب نظامهم ويرتبك أمر الفقه عليهم. ولو كان الأمر على ذلك لظهر وبان، وكثر السؤال عن حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها، وما يترتب على ذلك من فروع متشعبة، فإهمال ذلك ظاهر في المفروغية عن الإجزاء.

وهو المناسب لما هو المرتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج والضيق، وما تضمنته جملة من النصوص من أنهم B لا يوقعون شيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمة لهم تداركاً للمشاكل التي أحاطت بهم من جراء سلطان الظلمة واستضعافهم في الأرض حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وعصفت بهم أعاصير الفتن والمحن. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو المعين على ما ناب من خطب.

بل لا يبعد كون ذلك موجباً لظهور بعض النصوص الدالة على اختلاف الأحاديث وصدور بعضها للتقية في الإجزاء، ولو بإطلاقاتها المقامية، حيث يحتاج لزوم التدارك للتنبيه فعدمه ظاهر في عدمه.

بل لعل النظر في النصوص وسبرها بعد التنبه لما ذكرنا يوجب القطع به. ولا سيما مع تأيده بسيرة المتشرعة في العصور القريبة المعتضدة بما عرفت من دعوى الإجماع على الإجزاء التي لا يبعد عدم استنادها لتصريحاتهم، لما أشرنا إليه من استحداث تحرير المسألة، بل للسيرة المذكورة بعد إحراز اتصالها بعصور المعصومين B لما ذكرنا، الذي لا يبعد رجوع جميع الوجوه المتقدمة إليه، كما يظهر بملاحظته وملاحظتها.

ص: 248

دعوى وجود المتيقن من السيرة

ودعوى: أن المتيقن من ذلك ما دلت الأدلة الخاصة على اغتفار الخطأ فيه، كما في موارد: «لا تعاد الصلاة» ونحوها، ولم يعلم بناؤهم على الإجزاء في غير ذلك.

دفع الدعوة المذكورة

مدفوعة.. أولاً: بأن الإجزاء في الموارد المذكورة مع الخطأ في الحكم الشرعي الكلي وإن كان مقتضى إطلاق بعض هذه الأدلة وصريح بعضها، إلا أن الإجزاء في مواردها لما لم يكن ارتكازياً، لعدم خصوصيتها، ولم تكن الأدلة عليه كثيرة شائعة فهو لا يستغنى فيه عن السؤال عند ظهور الخطأ في الحكم، فعدم السؤال شاهد بالمفروغية لخصوصية الجهل بالحكم الناشئ عن خطأ الدليل الذي يعتمد عليه، التي لا يفرق فيها ارتكازاً بين مورد وآخر.

وبعبارة أخرى: ليس الاستدلال بمجرد عدم البيان من الشارع الأقدس، كي يدعى أنه يكفي في بيان الإجزاء في هذه الموارد الأدلة المشار إليها، وفي بيان عدمه في غيرها أنه مقتضى القواعد العامة، وعدم وضوح سيرة على خلافها، بل بعدم ورود السؤال عن حكمها من المتشرعة عند الالتفات للخطأ الذي لا وجه له - بعدما أشرنا إليه من استلزام عدم الإجزاء العسر والحرج، والهرج والمرج - إلا المفروغية عن العفو والإجزاء مع استناد الخطأ والبطلان للبيان الواصل، لا للمكلف نفسه، ولا خصوصية للموارد المذكورة ارتكازاً في المفروغية المذكورة، فالجهة الارتكازية التي عليها تبتني السيرة لا تختص بالموارد المذكورة حتى لو اختص المتيقن من السيرة بها.

وثانياً: بأنه لا خصوصية للموارد المذكورة في وقوع الخطأ من المتشرعة تبعاً لاختلاف النصوص والفتاوى عليهم، بل هو جارٍ في غيرها،

ص: 249

كتحديد الكر، وكيفية التطهير، والنجاسات، والوضوء والتيمم ونواقضهما، والقصر والتمام، والتذكية وغيرها مما يوجب الخطأ فيه رأساً أو بالواسطة بطلان العمل وما يترتب عليه من قضاءٍ وضمانٍ وغيرهما. فعدم الاهتمام بتمييز الموارد المذكورة عن غيرها عند الالتفات للبطلان شاهد بالمفروغية عن الإجزاء في الكل للجهة التي أشرنا إليها.

دعوى عدم كشف السيرة عن الإجزاء الواقعي

ومثلها دعوى: أن ذلك لا يكشف عن الإجزاء الواقعي، بل يكفي فيه الإجزاء الظاهري المبتني على عدم التعويل في الوقائع السابقة على احتمال المخالفة للحكم الواقعي.

دفع الدعوة المذكورة

لاندفاعها.. أولاً: بأن الإجزاء الظاهري لما كان مبنياً على قصور حجية الحجة اللاحقة عن شمول الأعمال السابقة، وبقاء حجية الحجة السابقة فيها، وقد سبق أنه بعيد عن المرتكزات جداً، فلا مجال لابتناء السيرة المتقدمة عليه، لظهور حالها في أنها ارتكازية مبنية على المفروغية عن مقتضاها، بنحو يستغنى معها عن السؤال، كما تقدم.

وثانياً: بأن عثورهم على الخطأ في عصور المعصومين B كثيراً ما يكون بطرق تفيد العلم بطبعها، كسؤال الأئمة B بأنفسهم، أو الرجوع لخلّص أصحابهم في رواياتهم أو فتاواهم، فإن الالتفات لاحتمال مخالفة ذلك للواقع لتقية أو نحوها في تلك العصور يحتاج إلى منبه غالباً، وبدونه كثيراً ما يحصل العلم، فلولا البناء على الإجزاء الواقعي لم تتم السيرة المذكورة. كيف ولازم الإجزاء الظاهري للبناء على بقاء حجية الحجة السابقة حصول العلم الإجمالي بالمخالفة في كثير من الموارد الملزم بالاحتياط بالجمع بين الوظيفتين، كما تقدم، ومن المعلوم عدم ابتناء السيرة عليه.

ص: 250

نعم، لا يبعد اختصاص السيرة بالأوامر ونحوها مما يكون مقتضى البطلان فيها عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء ونحوهما مما هو من سنخ التدارك أو الجزاء كالكفارة.

أما غيرها من موارد الخطأ كالمعاملات ونحوها فيشكل البناء على الصحة فيها، لعدم شيوع الاطلاع على الخطأ فيها، لجري المتشرعة بطبعهم فيها غالباً على ما يغلب جري الشارع عليه، وهو الطرق العرفية، وليست هي كالأمور المأخوذة من الشارع الأقدس التي يستند فيها لما ينسب للشارع من بيانات يكثر فيها الخطأ، على ما تقدم.

مع أنه لو فرض الاطلاع على الخطأ فيها فلا يبعد بناؤهم معه على البطلان ولو لاحتمال اختصاص الجهة الارتكازية بما يرجع للشارع الأقدس، تنازلاً منه عن ما هو له تسهيلاً على المكلفين، دون ما يرجع إلى غيره كالضمانات ونحوها.

وعدم ترتيبهم أثر البطلان قد يكون للضياع والاختلاط وعدم تيسر المراجعة، وإلا فلم يتضح بناؤهم على عدم المراجعة مع تيسرها.

وأظهر من ذلك ما لا يكون من سنخ التدارك، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق وترتيب آثار صحته، فمن ذكى بغير الحديد - مثلاً - لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل بعد ذلك على عدم مشروعيته، لم يبعد توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية عليها ونحو ذلك.

ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة، لأن المتيقن منها عدم تدارك بطلان العمل بالقضاء ونحوه، لا البناء على صحة العمل أو ترتيب

ص: 251

جميع آثار صحته.

ولعله إليه يرجع ما قيل من اختصاص الإجماع بالعبادات، وإلا فلم يظهر وجه خصوصيتها. بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الإعادة في الوقت، لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.

ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة لندرة الابتلاء بانكشاف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت، وعدم وضوح بنائهم على عدم وجوب الإعادة معه بعد عدم أهميته، فلا حرج ولا ضيق في الإعادة ليلتفت إليها ويسأل عنها، ليكشف عدم السؤال عن المفروغية عن الإجزاء.

كما أن المتيقن أيضاًً ولو بلحاظ الارتكاز الذي لا يبعد ابتناؤها عليه ما لو كان خفاء الحكم مستنداً لقصور البيان، إما لعدم وصوله أو لوصول خلاف الواقع، لا لخطأ المكلف في الاستفادة من الأدلة الواصلة له أو نسيانه للدليل أو نحوهما مما يعود للمكلف نفسه، وإن كان معذوراً، لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور أيضاًً، لقربهم من زمان الخطاب بالحكم المناسب لإحاطتهم بالقرائن المكتنفة له وتيسر فهمهم له غالباً وعدم ضياع مؤداه عليهم.

ولو فرض ابتلاؤهم به فلا يتضح بناؤهم على الإجزاء معه، لاحتمال كون منشأ الإجزاء عندهم ارتكازاً التخفيف تداركاً لما يقع على المكلفين بسبب محنتهم، دون ما يحصل بسبب المكلف نفسه.

ومنه يظهر عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه عند تبدل اجتهاده في أمثال عصورنا، لابتناء تبدل رأيه غالباً على انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها أو عن كيفية الجمع بينها، لا لعدم تيسر الوصول إليها،

ص: 252

بخلاف العامي لو بقي على تقليد المجتهد بعد عدوله عن فتواه، أو عدل لغيره ممن يخالفه في فتواه، أو اجتهد على خلاف رأيه، لعدم استناد خطئه في العمل لأمر يعود له، بل لفتوى المجتهد التي هي الطريق الشرعي المتيسر في حقه مع تعذر الوصول للواقع من طريقٍ آخر.

نعم، لو كان ناشئاً من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه، أو كان مقصراً في الرجوع للمجتهد المذكور اتجه عدم الإجزاء في حقه، لاستناد الخطأ له كالمجتهد، لا لقصور الأدلة.

توجيه دعوى الإجماع المتقدمة

هذا، وأما ما سبق من دعوى الإجماع على عدم الإجزاء، بل سبق عن غير واحد دعواه مع ظهور الخطأ بالعلم الوجداني وأنه المتيقن من كلامهم. فلا يبعد حمل ما أطلق فيه عدم الإجزاء على إرادة بيان مقتضى الأصل في الأحكام الظاهرية في مقابل التصويب الذي عليه العامة، فهو راجع إلى الإجماع على التخطئة، أو بيان عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه، أو في المعاملات ونحوها، بنحو يرجع إلى عدم ترتيب أثر الصحة على العمل بعد ظهور بطلانه بالاجتهاد الثاني - كما هما مورد كلام العميدي - حيث سبق عدم وضوح السيرة على الإجزاء في الموردين.

وأما الإجماع على عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالخطأ، المستلزم لعدم الإجزاء الواقعي، فلا مجال للتعويل عليه بعد ظهور ذهاب جماعة للإجزاء في صورة اختلاف الاجتهاد. لما عرفت من أن حمله على الإجزاء الظاهري لا يناسب المرتكزات جداً، مع استلزامه حدوث علم إجمالي منجز يقتضي وجوب الاحتياط الذي ليس بناؤهم عليه، حيث يناسب ذلك

ص: 253

إرادتهم الإجزاء الواقعي.

وإلا كانت مبانيهم مضطربة، ومع ذلك لا مجال للتعويل على دعوى الإجماع المذكورة والتوقف لأجلها عن السيرة التي سبق تقريبها.

هذا، وبقي في المقام بعض الجهات تخص الاجتهاد لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا، بل توكل لمبحث الاجتهاد والتقليد من الأصول أو الفقه.

الرابع: عدم الإجزاء بالنسبة للغير ممن يترتب الأثر في حقه

الرابع: الأمر الظاهري كما لا يقتضي الإجزاء في حق المخاطب به ثبوتاً مع مخالفته للواقع، وإثباتاً مع ظهور خطئه له، كذلك لا يقتضي الإجزاء في حق غيره ممن يترتب الأثر في حقه على عمل المخاطب بالحكم الظاهري، فلا يترتب الأثر في حق ذلك الغير ثبوتاً مع خطأ الحكم الظاهري الذي اعتمد عليه المخاطب به، كما لا يجوز له ترتيب الأثر ظاهراً مع ظهور الخطأ له ولو بمقتضى التعبد الظاهري الثابت في حق نفسه، فمن صلى متعبداً ظاهراً بالطهارة - مثلاً - لا يجوز الائتمام به لمن يرى خطأ التعبد المذكور وإن لم يستند في البناء على الخطأ للعلم الوجداني، بل لتعبد آخر ثابت في حقه، عملاً بعموم حجية ذلك التعبد، لأن المدار في عمل كل شخص التعبد الثابت في حقه، لا الثابت في حق غيره.

نعم، لو كان موضوع جواز الائتمام بالمصلي صحة صلاته ولو ظاهراً في حقه - ولو مع بطلانها في حق المؤتم به - اتجه الائتمام به في الفرض، لثبوت الموضوع له. وهو تابع لدليل الحكم المذكور، ولسنا بصدد تحقيق ذلك هنا.

لكن في التقريرات بعد أن ذكر ذلك قال: «والمسألة في غاية الإشكال، نظراً إلى بعض اللوازم، إذ على تقديره يجوز العقد على المعقودة بالفارسية

ص: 254

لمن لم يجوّز ذلك، وأمثاله».

ولا يخفى أن ذلك ليس محذوراً يوجب الإشكال في ما تقتضيه القاعدة وجرى عليه الأصحاب، على ما نبه له بعد ذلك بذكر جملة من تصريحاتهم. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 255

ص: 256

الفصل الثالث في مقدمة الواجب

اشارة

قد حررت هذه المسألة في كلام قدماء الأصوليين وأهل الاستدلال ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب مقدمة الواجب تبعاً لوجوبه وعدمه.

ويظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عدم خصوصية الواجب في موضوع الكلام، بل يعم المستحب، وأن مقدمته هل تكون مستحبة تبعاً لاستحبابه أو لا؟ بل الظاهر عموم ملاك النزاع للحرام والمكروه، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.

ومن هنا يكون موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم الاقتضائي للشيء وثبوت مثله لمقدمته. وبهذا يكون البحث المذكور في قسم الملازمات العقلية.

كما أنه قد تعرض المتأخرون بتبع الكلام المذكور لبعض ما يتعلق بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في ضمن مباحث عقدت تمهيداً لمحل الكلام، أو من لواحقه التابعة له.

هذا، والظاهر أن موضوع كلامهم - وهو الملازمة المذكورة - ليس مورداً للأثر العملي، وأن جميع ما يترتب من الآثار العملية على تقدير

ص: 257

الملازمة يترتب على تقدير عدمها، كما سيتضح عند الكلام فيها.

كما أن الأمور التي بحثت في كلامهم تبعاً هي المهمة في مقام العمل، ولا يترتب الكلام فيها على ثبوت الملازمة، كما يتضح أيضاًً.

ومن هنا لا يحسن تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في الأمور المذكورة تابعاً له، كما جروا عليه.

بل ينبغي بحث كل من الأمور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل عن بحث الملازمة.

توجيه البحث عن الملازمة مع عدم ترتب الأثر العملي لها

وإنما تبحث الملازمة مع ما عرفت من عدم الأثر لها في مقام العمل..

أولاً: لمتابعتهم في ما جروا عليه من الاهتمام بالبحث فيها.

وثانياً: ليظهر من مطاوي البحث المذكور ما ذكرناه من عدم الأثر العملي للملازمة المذكورة.

وينبغي التمهيد للمباحث المذكورة بأمرين لهما تمام الدخل في تنقيح محل الكلام، وتحديد موضوع الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.

التنبيه لأمرين. الأول: استلزام فعلية الداعي العقلي لحدوث داع مسانخ له لفعل مقدمته

الأمر الأول: لا إشكال ظاهراً في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من الدواعي لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته، على أن يكون الداعي الثاني في طول الداعي الأول، تابعاً له، فانياً فيه، مرتبطاً به، غير مستقل عنه، لوحدة الغرض الموجب لهما، فلا يكون الثاني صالحاً للمحركية ما لم يصلح الأول لها، بل محركية الأول إنما تكون بالجري على طبق الثاني، كما أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول، ولا يكون متعلقه موضوعاً للداعوية إلا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من إنكاره، ويغني عن إطالة

ص: 258

الكلام فيه. وإنما الكلام في ما يلحق ذلك..

تارةً: في تحديد موضوع الداعوية للمقدمة، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسمٍ منها، وهي التي يترتب ذوها عليها، المعبر عنها بالمقدمة الموصلة، أو التي يقصد بها التوصل إليه أو نحو ذلك.

وأخرى: في سعة الداعوية المذكورة، وأنها مطلقة أو مقيدة.

وثالثةً: في أن المقدمة التي هي موضوع الداعوية بالنحو المذكور هل يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل، أو لا؟ فإذا وجب أو استحب شيء شرعاً لزم وجوب أو استحباب مقدمته كذلك، أو لا؟ بل ليست المقدمة إلا مورداً للداعوية للعقلية تبعاً للداعوية الثابتة لذيها بسبب الحكم الشرعي الثابت له، من دون أن تكون مورداً لحكم شرعي آخر.

واليه يرجع البحث في الملازمة التي هي موضوع البحث في مقدمة الواجب في كلامهم، حتى جعلوا البحث في الأمرين من لواحقه. ولا وجه له بعد عدم تفرع البحث فيهما عليه، كما سبق.

نعم، قد يحسن لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما، لأنه أقرب لاتساق الكلام فيهما مع كلامهم.

هذا، وبما ذكرنا من وضوح تبعية المقدمة لذيها في الداعوية يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) - وأقره عليه غيره - من إمكان عدم اقتضاء التكليف بذي المقدمة تحصيل المقدمة، بل يكفي حصولها من باب الاتفاق، حيث ظهر امتناع ذلك.

ولو كان هناك مقدمة لا يلزم تحصيلها لزم البناء على كونها شرطاً

ص: 259

لأصل التكليف بذيها، فلا يكون التكليف به قبل حصولها فعلياً ليقتضي الإتيان به وبها تبعاً له، على ما تقدم التعرض له في مبحث الواجب المشروط من فصل تقسيمات الواجب من المقصد الثاني من مباحث الألفاظ. فراجع.

الثاني: المراد من مقدمة الواجب

الأمر الثاني: من الظاهر أن المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود الواجب ويكون له الدخل فيه، ولذا تكون الداعوية للواجب مستلزمة للداعوية إليه.

وقد قسمت في كلماتهم بتقسيمات كثيرة، بعض الأقسام فيها خال عن الأثر المصحح للتقسيم، وبعضها خارج عن محل الكلام. كمقدمة الوجوب، وهي التي يتوقف عليها وجوب الشيء، بحيث لا يجب إلا في رتبة متأخرة عن وجودها، كالبلوغ بالإضافة إلى جميع الواجبات، وكالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج، فإنه وإن أمكن أن يتوقف عليها الواجب بذاته - كالاستطاعة في الجملة بالإضافة للحج - إلا أنه لا يتوقف عليها بما هو واجب وبعد فرض وجوبه، ليدعو إليها وتدخل في محل الكلام، لفرض وجودها في رتبة سابقة على وجوبه وثبوت الداعوية إليه. وكمقدمة العلم التي يراد بها ما يتوقف عليه إحراز امتثال الواجب، وإن كان مبايناً له غير دخيل في وجوده.

في تقسيمات المقدمة المبحوث عنها

ولعل الأولى الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في تحديد محل الكلام..

الأول: في تقسيمها إلى داخلية وخارجية

الأول: تقسيمها إلى داخلية وخارجية.

والداخلية: هي عبارة عن الأجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها معه.

ص: 260

والخارجية: هي ما يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه، كالشروط الشرعية وأجزاء العلة التكوينية.

الكلام في دخول المقدمة الداخلية

وقد وقع الكلام بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام، فمنع بعضهم من دخولها، لعدم المقدمية بينها وبين الواجب، لفرض كونها عينه ومتحدة معه حقيقة ولا اثنينية بينهما، فليس في المقام إلا الداعوية النفسية نحو المركب المنبثة على أجزائه بنحو ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمناً بنحو الارتباطية.

وقد حاول بعضهم دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار. وقد أطيل الكلام في ذلك بما لا مجال لاستقصائه.

والعمدة في الإشكال فيه: أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام، لأن الداعوية للمقدمة لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة عنها، بحيث يكون الجري عليها شروعاً في الجري عليها - كما تقدم - فهي مختصة لباً بصورة تحقق تمام المقدمات، على ما يظهر مما يأتي في بحث المقدمة الموصلة، فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية للأجزاء لكانت مختصة بصورة تحقق تمامها، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي هو موضوع الداعوية النفسية، ولا فرق بينهما، ليمكن تعدد الداعوية، بحيث تكون إحدى الداعويتين في طول الأخرى.

ودعوى: أنه يمكن اجتماع الداعويتين النفسية والغيرية في الشيء الواحد، كما لو كان مطلوباً في نفسه وشرطاً في مطلوب آخر، كصلاة الظهر مع صلاة العصر، غاية الأمر أن تكون إحداهما مؤكدة للأخرى.

مدفوعة: بالفرق بأن الداعوية الغيرية في الفرض المذكور ليست في

ص: 261

طول الداعوية النفسية، بل هي مستقلة عنها وإن كانت في طول داعوية نفسية أخرى، وهي الداعوية الثابتة للمطلوب الآخر المشروط بذلك الشيء.

أما في المقام فهي - لو ثبتت - في طول الداعوية النفسية ولأجل تحقيق متعلقها، ومع اتحاد متعلقهما لا موضوع للغيرية، ولا أثر لها في مقام العمل. ولا مجال لفرض التأكد بينهما لو فرض إمكان تعددهما، لتعدد متعلقهما، إذ مع فعلية تأثير الداعوية النفسية في مقام العمل لا يحتاج للداعوية الغيرية، ومع عدم فعليته لا تصلح الداعوية الغيرية للتأثير، لأنها في طول الداعوية النفسية، كما سبق.

ومن هنا لا تتأكد الداعوية الغيرية في المقدمة الواحدة لو تعددت جهة دخلها وتوقف ذيها عليها، كما لو توقفت الطهارة الحدثية والخبثية للصلاة على إيصال الماء المتنجس بالمادة ليطهر، فإن الداعوية النفسية للصلاة وإن اقتضت داعوية غيرية للإيصال المذكور، لتوقفها عليه من جهتين، إلا أن داعويته الغيرية المذكورة واحدة لا تأكد فيها، كالداعوية للمقدمة التي يتوقف عليها من جهة واحدة، كالستر للصلاة، لوحدة الداعوية النفسية التي تنتهي إليها الداعوية الغيرية وتناط بها وتكون في طولها. فلاحظ.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في خروج المقدمة الداخلية عن محل الكلام، بل ليست هي مقدمة في الحقيقة. وربما يظهر أثر ذلك في مسألة دوران التكليف بين الأقل والأكثر الارتباطيين، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثاني: تقسيمها إلى تكوينية وشرعية

الثاني: تقسيمها إلى تكوينية وشرعية.

فإن توقف الواجب على شيء..

ص: 262

تارةً: يبتني على علاقة تكوينية بينهما يدركها المكلف بحكم العقل أو بعادة أو نحوهما، كتوقف الحج على قطع المسافة.

وأخرى: يبتني على تقييد الواجب بذلك الشيء شرعاً، كتوقف الصلاة على الستر أو الطهارة أو نحوهما.

ولا إشكال في دخول الأولى في محل النزاع.

ما ذكره المظفر (قدس سره) من الإشكال في دخول الثانية في محل النزاع

وأما الثانية فقد قال بعض المعاصرين (رحمه الله) في أصوله: «ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا - على ما يظهر من بعض تقريرات درسه - إلى أن الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجباً بالوجوب الغيري - وسماه مقدمة داخلية بالمعنى الأعم - باعتبار أن التقييد لما كان داخلاً في المأمور به وجزءاً له فهو واجب بالوجوب النفسي، ولما كان انتزاع التقييد إنما يكون من القيد - أي منشأ انتزاعه هو القيد - والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشأ انتزاعه، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشأ انتزاعه، فيكون الأمر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقاً بالقيد، وإذا كان القيد واجباً نفسياً فكيف يكون مرة أخرى واجباً بالوجوب الغيري؟!».

وكأن مراده بشيخه المذكور بعض الأعاظم (قدس سره)، لتعارف التعبير عنه بمثل العبارة المذكورة، ولأنه صرح بأن الشروط الشرعية مقدمة داخلية بالمعنى الأعم، بلحاظ دخول التقييد بها في المأمور به، وخارجية بالمعنى الأعم بلحاظ خروج ذواتها عن المأمور به، وجعل الداخلية بالمعنى الأخص الأجزاء، لدخولها في المأمور به بذواتها وبالتقييد بها، والخارجية بالمعنى الأخص المقدمات التكوينية - التي عبروا عنها بالمقدمات العقلية أو العادية - لعدم دخولها في المأمور به، لا بذواتها ولا بالتقييد بها. لكنه (قدس سره) لم

ص: 263

يشر - على ما في تقرير درسه لبعض مشايخنا - إلى احتمال خروج الشروط الشرعية عن محل النزاع. بل ظاهره اختصاص الكلام في ذلك بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأخص - التي هي الجزء - بل صرح بذلك وبدخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل الكلام على ما في تقرير درسه للكاظمي. نعم يأتي منه عند الكلام في الشرط المتأخر ما قد يناسب ذلك.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

وكيف كان، فيشكل ما ذكر: بأن التقييد ليس من أفعال المكلف، ليدخل في المأمور به، بل هو كالإطلاق من شؤون جعل التكليف الذي هو فعل المولى، وليس مفاده إلا اختصاص المأمور به بالحصة المقارنة للقيد، وذلك لا يقتضي دخول شيء في المأمور به غير الأجزاء، وليس القيد إلا ملازماً للمأمور به، غاية الأمر ظهور التقييد في كون القيد دخيلاً في ترتب الغرض على المأمور به، من دون أن يكون بنفسه وافياً بالغرض في جملة الأجزاء، وهو لا يقتضي دخول التقييد ولا القيد في المأمور به.

توجيه ما ذكره (قدس سره)

اللهم إلا أن يراد بالتقييد حفظ القيد حال الإتيان بالمأمور به الذي هو فعل المكلف، والذي هو عبارة أخرى عن نفس وجود القيد ومنتزع من القيام به وفعله، كالتستر حال الصلاة.

لكن البناء على دخوله في المأمور به مستلزم لكونه مقدمة داخلية بالمعنى الأخص، ودخل الشرط بذاته في المأمور به، وانقلاب الشروط أجزاءً. ولا يظن من أحد البناء على ذلك، لوضوح الفرق بينهما ثبوتاً، بأن الجزء ما يكون مقوماً للمأمور به ويستند الغرض إليه، والشرط ما يخرج عن المأمور به وإن كان دخيلاً في ترتب الغرض عليه، بحيث لا يكون المركب وافياً بالغرض إلا في ظرف واجديته له.

ص: 264

وإثباتاً باختلاف ألسنة أدلة الجعل، ولازم ذلك عدم دخول القيد في المأمور به، لعدم وجوب حفظه لنفسه، بل لأجل تحقيق الحصة المقارنة له والتي هي موضوع الأمر النفسي، وبذلك يكون موضوعاً للداعوية الغيرية، ويدخل في محل الكلام.

لابد أن تكون المقدمة التكوينية متصلة بذيها

بقي شيء، وهو أن المقدمة التكوينية لابد أن تكون متصلة بذيها، بحيث لا يكون بينهما إلا التقدم الرتبي، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع، لامتناع تأثير المعدوم قبل وجوده وبعده.

وأما تقدم بعض أجزاء العلة في بعض الموارد، وهو ما يسمى بالمعد، فليس لكون المؤثر بلا واسطة هو الوجود المتقدم، بل إما لكون المؤثر هو الوجود المذكور بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه، أو أثر أثره، الذي يستند إليه المعلول مباشرةً، كما في تأثير الحديد المحمي في النار في كي الجسم بعد إخمادها ووضعه على الجسم، فإن المؤثر للكي ليس هو النار السابقة عليه، بل أثرها، وهو حرارة الحديد الباقية بعد إخماد النار، وإما لكون المؤثر هو الوجود الاستمراري المتصل بالمعلول، كما في تأثير النار في إحراق الثوب المبتل الملقى فيها بعد جفافه، فإن الإحراق لا يستند للنار بحدوثها السابق على الجفاف بل ليس أثرها إلا تجفيف الثوب، وإنما يستند الإحراق للنار بوجودها الاستمراري بعد الجفاف ومرجع الأمرين إلى اتصال العلة بالمعلول، وإن تقدمت عليه صورة.

ومنه يظهر امتناع تأخرها عنه حتى صورة، إذ قبل وجودها لا أثر لها ولا استمرار.

ص: 265

ما ذكره العراقي (قدس سره) من اختصاص امتناع التقدم والتأخر بالمقتضي ومن الشرط

لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) - على طول في الكلام المنقول عنه في تقرير درسه - اختصاص امتناع التقدم والتأخر عن المعلول بالمقتضي الذي يستند إليه المعلول ويترشح منه، دون الشرط، بتقريب: أن الأثر لا يستند للشرط، بل ليس المؤثر إلا الحصة الخاصة من ماهية المقتضي، وهي المضافة للشرط، وليس دخل الشرط إلا بلحاظ كونه طرفاً للإضافة مع الحصة المؤثر من المقتضي، وكما يمكن كون الشيء طرفاً للإضافة مع المقارن يمكن كونه طرفاً للإضافة مع المتقدم والمتأخر.

الإشكال على عموم ما ذكره (قدس سره)

ويشكل: بأن اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي المضافة للشرط إن كان من جهة دخل الشرط في فعلية تأثير المقتضي، بحيث يقتضي تميز الحصة المضافة له عن غيرها بميزة تكوينية خارجية تستلزم فعلية الأثر، كان اللازم مقارنة الشرط - كالمقتضي - للتأثير والأثر، إذ حيث كانت تلك الخصوصية والميزة مستندة للشرط استحال انفكاكها عنه. إلا أن تكون مستندة إليه بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه، فيمكن تقدم الشرط حينئذٍ ويكون معداً، وإن امتنع كونه متأخراً، كما تقدم.

دعوى: كون المتأخر شرطاً بوصف تأخره لا بذاته

وإن كان اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي لمحض الإضافة للشرط من دون أن يستند للشرط بوجوده جهة دخيلة في فعلية التأثير، فالإضافة المذكورة أمر انتزاعي صرف لا يعقل توقف التأثير عليه في العلل التكوينية ذات الآثار الحقيقية الخارجية التي هي محل الكلام، لعدم السنخية، كما لعله ظاهر.

ومنه يظهر ضعف دعوى: أن المتأخر يكون شرطاً بوصف تأخره، لا بذاته، وعنوان التأخر يصدق قبل وجود المتأخر بذاته، فالشرط في الحقيقة

ص: 266

مقارن لا متأخر.

دفع الدعوى المذكورة

إذ فيها - مضافاً إلى خروجها عن مفروض الكلام من تأخر الشرط، وإلى عدم وضوح صدق عنوان التأخر قبل وجود المتأخر - أن التأخر بنفسه عنوان انتزاعي متقوم بالإضافة التي هي أمر اعتباري محض، لا يستند إليه الأثر التكويني، ولا يكون جزءاً من علته، وليس الأثر إلا للذات المفروض تأخرها وعدم اتصالها بالمعلول، فلا يعقل تأثيرها فيه، لما تقدم.

دعوى كون العدم حافظاً لقابلية المحل

وأضعف من ذلك ما قد يدعى: من أنه لا مانع عندهم من كون العدم حافظاً لقابلية المحل، بشهادة أن عدم المانع من أجزاء العلة، كالشرط، فإذا جاز فيه جاز في الشرط.

دفع الدعوى المذكورة

إذ فيه: أن دخل العدم في المعلول وإن كان ممكناً، إلا أنه مختص بعدم المانع الذي يكون بوجوده دخيلاً في عدم المعلول، ولا يكون وجوده - المقارن أو المتقدم أو المتأخر - دخيلاً في وجود المعلول، ولا يجري في عدم الشرط المفروض كون وجوده دخيلاً في وجود المعلول.

لوضوح أنه مع كون الشيء شرطاً ووجوده دخيلاً في وجود المعلول فتحقق المعلول قبل وجوده أو بعد ارتفاعه. إن ابتنى على استناد المعلول لوجوده المتقدم أو المتأخر، لزم تأثير الشيء حال عدمه الذي عرفت امتناعه.

وإن ابتنى على استناد المعلول للعدم المقارن - كما يناسبه قياسه بعدم المانع - فهو - مع استلزامه عدم الحاجة للوجود المتقدم أو المتأخر، وخروجه عن محل الكلام من فرض الشرط المتأخر أو المتقدم - ينافي فرض كون الشيء شرطاً، لرجوعه إلى كون الشرط هو الجامع بين الوجود والعدم وهو محال.

ص: 267

فالإنصاف: أن بداهة امتناع الشرط المتقدم - في غير المعد بالتوجيه المتقدم - والمتأخر تغني عن إطالة الكلام فيه وفي الاستدلال عليه لولا ظهور القول بإمكانه أو احتماله ممن لا ينبغي تجاهل كلامه.

هذا كله في العلل التكوينية، وأما العلل والمقدمات الشرعية فحيث سبق أن منشأ عليتها ومقدمتيها أخذها قيداً في المأمور به شرعاً فمن الظاهر أن التقييد - كسائر الإضافات الاعتبارية - كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن يكون بالمتقدم والمتأخر.

نعم، لما كان الأمر تابعاً للغرض سعة وضيقاً فتقييد المأمور به لابد أن يكون لاختصاص الغرض بالمقيد.

توجيه دخالة التقدم والتأخر في فعلية ترتب الغرض

وحينئذٍ قد يشكل: بأن المتأخر والمتقدم كيف يكون دخيلاً في فعلية ترتب الغرض على المأمور به مع عدم وجوده حينه، نظير ما تقدم في العلل التكوينية، لأن ترتب الغرض على المأمور به ليس تابعاً للجعل الشرعي، بل لخصوصيات تكوينية.

ولابد من توجيهه بأحد وجهين..

أولهما: أن القيد ملازم للحصة المؤثرة للغرض، فيكون كاشفاً محضاً عنها من دون أن يكون دخيلاً في فعلية الغرض.

ثانيهما: أن الشرط المتقدم يبتني على ما تقدم في المعد في التكوينيات، والمتأخر يبتني على كون المأمور به غير مؤثر لفعلية الغرض الأقصى بل لقابلية تحققه، وفعليته تابعة لوجود الشرط، نظير ما تقدم في المعد، فإن ذلك ممكن عقلاً وواقع عرفاً، نظير إكرام الضيف بالطعام القليل، الذي لا يترتب عليه الغرض - وهو حسن الضيافة - إلّا بضميمة الاعتذار بعده بأنه

ص: 268

تمام الميسور وإن لم يناسب حق الضيف ومقامه.

ما ذكره النائيني (قدس سره) في توجيه الشرط المتأخر

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) في توجيه الشرط المتأخر في المأمور به - كما في تقرير درسه لبعض مشايخنا (قدس سره) - أن الشرط لا يزيد في المعنى على الجزء الدخيل في المأمور به، فكما لا إشكال في إمكان تأخر أجزاء المأمور به بعضها عن بعض كذلك لا ينبغي الإشكال في جواز تأخر شرط المأمور به عنه، لكون الشرط بنفسه مورداً للتكليف كالجزء، لما سبق منه من دخول التقييد بالشرط في المأمور به، وحيث كان التقييد منتزعاً من القيد، وكان التكليف بالأمر الانتزاعي راجعاً إلى التكليف بمنشأ انتزاعه، لزم كون الشرط بنفسه داخلاً في المأمور به، كالجزء، فيجري فيه ما يجري فيه من جواز تأخره. لكن سبق أنه لا مجال للبناء على رجوع الشرط للجزء. بل الأمر بالعكس، لأن أخذ الجزء في المركب راجع إلى أمرين..

أحدهما: وجوب الجزء في ضمن الكل.

ثانيهما: تقييد بعض الأجزاء ببعض - الذي هو مقتضى الارتباطية - بحيث لا يترتب الغرض من كل منهما ولا يدخل في حيز المأمور به إلا بوجود الباقي وانضمامه إليه. والتقييد المذكور كالتقييد بالشرط يرجع إلى اختصاص مورد الغرض والأمر بالحصة الخاصة من الماهية.

وحينئذٍ يشكل تأخر الأجزاء بعضها عن بعض بما سبق في الإشكال على الشرط المتأخر، وينحصر الجواب عنه بما سبق. ولولاه لامتنع أخذ الأجزاء التدريجية في المركب، ولزم كون التكليف به بنحو الانحلال، دون الارتباطية - التي إليها يرجع التقييد - واختصت الارتباطية في المركب بما إذا كانت أجزاؤه دفعية. ووضوح بطلانه كاشف عن تمامية ما ذكرنا.

ص: 269

تتميم: في الشرط المتقدم أو المتأخر للحكم الشرعي

تتميم:

كما وقع الكلام في الشرط المتقدم والمتأخر للمأمور به كذلك وقع في الشرط المتقدم والمتأخر للحكم الشرعي التكليفي والوضعي.

والظاهر إمكانه، لنظير ما سبق في وجه إمكانه في المأمور به، لوضوح تبعية شرطية شيءٍ للحكم لأخذه فيه قيداً، وقد سبق أن التقييد كما يمكن بالمقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر.

غاية الأمر أن أخذ الشيء قيداً في الحكم إنما يحسن مع دخله في فعلية تعلق الغرض الداعي لجعله، بحيث تتوقف فعليته على ثبوت الشرط في ظرفه، بخلاف شرط المأمور به، فإن أخذه موقوف على دخله في تحقق الغرض من المأمور به وترتبه في الخارج، على ما تقدم توضيحه في مبحث الواجب المشروط.

لكنه ليس فارقاً في محل الكلام، إذ كما يمكن توقف تعلق الغرض على أمر مقارن للحكم - كدخل المرض في حسن استعمال الدواء - كذلك يمكن توقفه على أمر متقدم أو متأخر عنه، كما في توقف حسن إكرام زيد - بملاك الشكر - على سبق حسن الصنيع منه، وتوقف حسن إعداد الطعام في يوم على مجيء الضيف في غده، ولازم ذلك جعل الحكم منوطاً بالشرط على نحو دخله في الغرض، لتبعية الحكم للغرض سعةً وضيقاً.

منع النائيني (قدس سره) من تأخر شرط الحكم

لكن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من كون شرط الحكم متأخراً، بتقريب: أن شرطية شيء للحكم وإن لم ترجع إلى علّيته له حقيقة، لوضوح كون تمام علة الحكم جعل الحاكم له، إلا أنها راجعة إلى أخذه فيه مفروض الوجود،

ص: 270

كما هو مفاد القضية الشرطية والحملية الحقيقية الراجعة إليها، ومع أخذه فيه مفروض الوجود تمتنع فعلية الحكم قبل وجوده، لأنه خلف.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

ويشكل: بأنه لا يراد بأخذ الشرط مفروض الوجود تعليقه على وجوده فعلاً، بحيث لا يكون الحكم فعلياً حتى يوجد، بل تعليقه على وجوده في ظرفه المعتبر في الحكم مقارناً أو سابقاً أو لاحقاً، فلابد من فرض وجوده في الظرف المذكور، وهو الظرف الذي تصدق بوجوده فيه النسبة التي تتضمنها جملة الشرط في الشرطية أو تستفاد من عنوان الموضوع في القضية الحقيقية الحملية، فإذا كان مطابق النسبة هو وجود الشرط فعلاً لزم مقارنة الشرط للحكم، كقولنا: إن كنت مسافراً فقصر، أو: المسافر يقصر، وإن كان مطابقها وجود الشرط سابقاً أو لاحقاً لزم تقدم الشرط أو تأخره، كما لو قيل: إن سافرت أول الشهر، أو: إن تسافر آخر الشهر، وجب عليك في وسطه الصدقة، أو قيل: المسافر أول الشهر أو آخره يجب عليه في وسطه الصدقة.

وحيث كان الكل ممكناً ثبوتاً تبعاً لنحو دخل الشرط في الغرض - كما سبق - فلا مجال للمنع من بعض ذلك لو ساعدت عليه الأدلة إثباتاً.

ودعوى: أن مرجع ذلك إلى كون الشرط مقارناً مطلقاً، لأن الشرط على ذلك هو النسبة المأخوذة في الحكم المفروض لزوم مقارنة صدقها له وإن كان ظرف مقتضاها متقدماً أو متأخراً.

مدفوعة: بأن النسبة معنى حرفي انتزاعي لا تصلح لأن تكون دخيلة في الغرض ولا موضوعاً للحكم بنفسها، بل بلحاظ مطابقها الخارجي الحقيقي الذي يكون هو الدخيل في الغرض وفي موضوع الحكم، وهو القابل للوجود والعدم، دون النسبة، فإنها إنما تتصف بالصدق والكذب

ص: 271

دون الوجود والعدم.

ولو بني على كون الشرط مقارناً بلحاظ مقارنة صدق النسبة المأخوذة في الحكم وإن كان مطابقها متقدماً أو متأخراً لم يبق في المقام شرط متقدم أو متأخر ليقع الكلام في إمكانه وامتناعه، وانقلب النزاع لفظياً.

ومما ذكرنا يظهر اندفاع دعوى: أن الشروط الشرعية للأحكام دخيلة في موضوعاتها، ويستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه بحيث يتقدم عليه.

إذ فيها: أن الممتنع هو انفكاك الحكم عن تحقق موضوعه في ظرفه المعتبر في الحكم والذي يستفاد من النسبة التي يتضمنها دليله، لا عن تحقق موضوعه في الخارج حينه.

ولولا ما ذكرنا لأشكل الشرط المتقدم أيضاًً، لوضوح أن استحالة انفكاك الحكم عن موضوعه تقتضي تقارنهما. بل يجري ذلك على ما تقدم من بعض الأعاظم (قدس سره) أيضاً، لوضوح أن مقتضى أخذ الشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم وجوده حينها، لا قبلها مع انعدامه حينها.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من إمكان الشرط المتقدم والمتأخر في الأحكام كما يمكن في المأمور به.

وبذلك ينتهي الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة، ويقع الكلام في المباحث المقصودة بالأصل، وهي ثلاثة..

ص: 272

المبحث الأول في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته

اشارة

قد اختلفت كلماتهم في تحرير مورد النزاع في المقام، فحرر في كلام جماعة من المتأخرين بالوجه الذي ذكرناه، وهو البحث في الملازمة بين الوجوبين، وبذلك لا تكون المسألة فرعية فقهية، لعدم البحث فيها عن نفس الحكم الشرعي، بل أصولية لوقوعها في طريق استنباط الحكم المذكور في الموارد المتفرقة التي يفرض فيها وجوب شيء ذي مقدمة.

وأما القدماء، فقد حررها جملة منهم بعنوان البحث في وجوب مقدمة الواجب. وذلك قد يوهم كونها فرعية، للبحث فيها عن نفس الحكم الشرعي الفرعي، وهو وجوب المقدمة. وقد منع جماعة من ذلك، لوجوه لا تخلو عن إشكال أو كلام لا يسع المقام استقصاءه.

ولعل الأولى في تقريب عدم كونها فرعية أن يقال: وحدة المسألة الفرعية موقوفة على وحدة الحكم الفرعي الذي يبحث عنه فيها، ووحدة الحكم تابعة لوحدة الموضوع بعنوانه الذي أخذ فيه عند جعل الحكم، ومن الظاهر أنه لا حكم للشارع بوجوب المقدمة بما هي مقدمة، لأن العنوان المذكور تعليلي لا تقييدي، لعدم تضمن الأدلة الشرعية له، وإنما استفيد

ص: 273

الحكم - على تقدير ثبوت وجوب المقدمة - من حكم العقل، والعقل لا يرى لهذا العنوان دخلاً في الحكم بنفسه، بل تمام الموضوع ذات المقدمة على اختلاف مواردها، لأن الواجب يتوقف عليها بذواتها وخصوصياتها، لا بالعنوان المذكور، فموضوع الحكم الشرعي هو مصاديق المقدمة المختلفة بخصوصياتها، ولازم ذلك تعدد الأحكام الشرعية بعددها.

مضافاً إلى ماهو المعلوم من مساق أدلتهم من أن المدعى كون وجوب الشيء سبباً لوجوب مقدمته، بحيث يكون وجوب مقدمته مترشحاً من وجوبه، وليس هو موضوعاً لوجوب مقدمته نتيجة كبرى مجعولة خارجة عن وجوبه لا دخل لوجوبه فيها، نظير ملكية الشيء بالحيازة التي تكون موضوعاً لكبريات أحكام الملك المجعولة بجعل مستقل عنها، كتوريثه وجواز بيعه وجوب الإنفاق على واجب النفقة منه.

ولازم ذلك حدوث جعل وجوب مقدمة كل واجب تبعاً لجعل وجوبه، وتعدد جعل وجوباتها تبعاً لتعدد وجوب الواجبات النفسية. وليس هناك جعل واحد لكبرى واحدة تتضمن وجوب مقدمة الواجب.

فهذه المسألة تشير إلى تلك الأحكام، لا إلى حكم واحد، فلا تكون مسألة فرعية واحدة، بل مشيرة إلى مسائل فرعية كثيرة.

توجيه خروج المسألة عن كونها مسألة فرعية

وحيث كان البحث هنا عن الجهة الجامعة بين المسائل، - وهي الملازمة - خرجت عن كونها مسألة فرعية، لعدم البحث فيها عن الحكم الشرعي، بل عن أمر عقلي. وتعين كونها أصولية لو كان المعيار في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي مطلقاً وإن لم يكن للحكم المذكور أثر عملي، أما إذا اختصت بما إذا كان للحكم

ص: 274

المستنبط بها أثر عملي خرجت عن كونها أصولية أيضاً، بناء على ما أشرنا إليه آنفاً، ويأتي توضيحه إن شاء الله تعالى من أن الأمر الغيري لا يترتب عليه أثر في مقام العمل، بل الأثر الثابت معه ثابت بدونه وحينئذٍ تكون المسألة علمية محضةً. فلاحظ.

أدلة وجوب المقدمة

إذا عرفت هذا، فاعلم أنهم اختلفوا في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها على أقوالٍ، من الإثبات مطلقاً، والنفي مطلقاً، والتفصيل.

واللازم النظر في الوجوه التي استدل بها القائلون بثبوت الملازمة، ثم النظر في حجة المفصلين.

الوجه المنسوب للحسن البصري

وأقدم الوجوه فيما يظهر هو ما نسب لأبي الحسين البصري ومن تبعه من أنها لو لم تجب لجاز تركها، فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.

ما ذكره المحقق السبزواري (قدس سره) من الوجه

وقد أطالوا في بيان هذا الوجه ومناقشته، إلا أن ظهور وهنه يغني عن ذلك، لوضوح أن عدم وجوب المقدمة شرعاً لا ينافي وجوبها عقلاً - كما يأتي - فضلاً عن أن يستلزم امتناعها، ليلزم سقوط التكليف بذيها أو كون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق.

ومن هنا يلزم النظر فيه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد سطر في الفصول والتقريرات وجوهاً كثيرةً لعل أهمها وجهان، لأن باقي الوجوه بين ما هو ظاهر الضعف، وما هو راجع للوجهين المذكورين أو يظهر الحال فيه من الكلام فيهما..

أحدهما: ما عن المحقق السبزواري من أنها لو لم تجب لم يستحق العقاب مع ترك المقدمات المفوتة، وهي التي يكون التفريط فيها قبل وقت

ص: 275

الواجب مستلزماً لتعذر الواجب في وقته، كقطع المسافة للحج، لأن التفريط حينئذٍ ليس إلا بالمقدمة المفروض عدم وجوبها، دون نفس الواجب، لفرض عدم حضور وقته، ومع عدم استحقاق العقاب بتركها لا مجال للعقاب على ترك الواجب في وقته، لفرض تعذره.

لكنه إن بني على داعوية التكليف عقلاً قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه، بامتثاله كفت داعويته في العقاب عليه مع ترك المقدمة المؤدي في الفرض لتركه وإن بني على عدم داعوية التكليف قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه في وقته فلا مجال للبناء على داعوية وجوب المقدمة بنحو يستحق العقاب بتركها، لأن داعويته في طول داعوية التكليف بذي المقدمة.

ومن هنا لا مجال لابتناء استحقاق العقاب في الفرض على وجوب المقدمة غيرياً تبعاً لوجوب ذيها الذي هو محل الكلام في المقام، بنحو يستدل به عليه.

ومن ثم يأتي في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى توجيه العقاب في الفرض بأن التكليف يدعو قبل وقته لحفظ نفسه في وقته بلا حاجة للبناء على وجوب المقدمة. ولولا ذلك تعين البناء على وجوب المقدمة نفسياً. وتمام الكلام هناك.

ما ذكره جماعة من الوجه

ثانيهما: ما ذكره جماعة من المتأخرين كصاحب الفصول وشيخنا الأعظم وجماعة ممن تأخر عنهما وحكي عن المحقق السبزواري أيضاًً ما قد يرجع إليه، وتقريبه: - بعد النظر في كلمات جملة منهم على اختلاف يسير بينها - أن الوجدان السليم يقضي بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه، إذ ليس المدعى في المقام هو الطلب الفعلي للمقدمة على

ص: 276

نحو طلب ذيها، لوضوح أن الطالب قد يغفل عن المقدمات، أو يعتقد عدم توقف الواجب على بعضها، بل هو طلبها تبعاً إجمالاً بمقتضى الارتكازيات الكامنة في النفس، على نحوٍ لو توجه إليها تفصيلاً لوجه الطلب بها كذلك، وذلك نحو من أنحاء الطلب الذي يترتب عليه آثاره، بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب المقدمة في التكاليف الشرعية، فاستحالة الغفلة في حق الشارع الأقدس تستلزم الطلب الفعلي التفصيلي منه بعد ثبوت هذا النحو من الملازمة بين التكليف بالمقدمة والتكليف بذيها.

الكلام فيما ذكروه من الوجه

أقول: الظاهر رجوع دعوى الوجدان المذكورة إلى ما تقدم في الأمر الأول من التمهيد لمباحث المقدمة من أن حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته، فإن ذلك لا يختص بالمكلف، بل يجري في المولى أيضاًً، ففرض حصول الإرادة والداعي له لفعل المكلف بنحو يطلبه منه ويكلفه به لابد أن يستلزم حدوث ذلك بالإضافة لمقدمته.

لكن ذلك وحده لا يكفي في إثبات تعلق الطلب الغيري بالمقدمة والتكليف بها، لأمرين..

أولهما: أنه لما كان الغرض من الطلب والتكليف إحداث الداعي لفعل الشيء - وإن لم يندفع عنه المكلف - فإن كان التكليف بذي المقدمة كافياً في إحداث الداعي المذكور نحوه لزم - بمقتضى الملازمة المتقدمة - حدوث الداعي المسانخ له نحو المقدمة نفسها أيضاًً بلا حاجة إلى تعلق الطلب والتكليف المولوي الغيري بها، فيكون طلبها والتكليف بها لغواً لا فائدة فيه، وإن لم يكن التكليف بذي المقدمة كافياً في إحداث الداعي

ص: 277

نحوه لم يصلح التكليف بالمقدمة لإحداث الداعي نحوها، وكذا الحال في التحرك عن الداعي المسبب عن التكليف النفسي والتحرك عن الداعي المسبب عن التكليف بالمقدمة، لما هو المعلوم من أن داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي وبملاك امتثاله، على غرار ما سبق من تفرع الداعوية نحو المقدمة على الداعوية نحو ذيها، فلا يصلح الأمر الغيري حتى لتأكيد داعوية المقدمة المسببة عن الأمر النفسي، لما سبق عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع التأكيد في الداعويتين الطوليتين اللتين تكون إحداهما فانية في الأخرى.

جواب النائيني والعراقي I على الوجه المذكور

هذا، وقد أجاب بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين I عن ذلك: بأن الإرادة الغيرية إرادة قهرية ترشحية معلولة للإرادة النفسية، ومثلها لا يحتاج إلى ملاحظة الغرض والثمرة.

ولا يخفى أنه تكرر في كلماتهم خروج الإرادة مطلقاً عن الاختيار، وأنها لازمة لإدراك ترتب الغرض الفعلي على المراد من دون مزاحم، وليس الفرق بين الإرادة النفسية والغيرية عِلِّية الأولى للثانية، بل أن الأولى ناشئة عن غرض استقلالي قائم بالمراد، والثانية ناشئة عن غرض غير مستقل، بل فانٍ في الغرض الأول وفي طوله وفي طريق تحصيله، وملازم له.

وذلك وحده لا يكفي في كون الإرادة الغيرية منشأ للتكليف بمتعلقها بعد كون المصحح للتكليف والغرض منه عقلاً إحداث الداعي نحو المكلف به مع ما ذكرناه من كفاية التكليف بذي المقدمة في إحداث الداعي له وللمقدمة في طوله بلا حاجة لتكليف آخر بها.

فالمقام يشبه تعلق إرادة المولى بإطاعة أوامره المتفرعة على إرادته

ص: 278

لمتعلقاتها وفي الملازمة لها وفي طولها، حيث لا إشكال عندهم في عدم صلوحها للتكليف بالإطاعة زائداً على التكليف بمتعلق الأمر بعنوانه بعد أن لم تكن ناشئة عن غرض آخر مستقل عن الغرض من المأمور به، لتصلح للداعوية نحوه ولو بتأكيد داعوية أمره.

ابتناء ما ذكروه على انتزاع التكليف من تعلق الإرادة به

اللهم إلا أن يدعى أن لزوم كون الغرض من التكليف والمصحح له هو احداث الداعي للمكلف به مختص بالتكليف النفسي الناشئ عن إرادة استقلالية مسببة عن ملاك استقلالي، أما التكليف الغيري فلا يعتبر فيه ذلك، بل يكفي فيه ثبوت الإرادة الغيرية التبعية بالوجه المتقدم ولو لم تترتب عليه ثمرة.

لكن لا نتعقل اعتبار العقلاء للتكليف وانتزاعهم له مع عدم الثمرة. إلا أن يرجع النزاع لفظيًاً، لعدم الإشكال في ثبوت الإرادة الغيرية في فرض ثبوت الإرادة النفسية، وفي عدم ترتب الثمرة العملية لها، وإنما النزاع في الاكتفاء بذلك في إطلاق التكليف. وليس هو بمهم.

ثانيهما: أن ذلك يبتني على ما تكرر في كلام جملة منهم من انتزاع التكليف من تعلق إرادة المولى بفعل المكلف على نحو إرادته لفعل نفسه، من دون فرق بينهما إلا في متعلق الإرادة. وعليه يبتني ما قيل من أن الإرادة التشريعية - التي هي منشأ انتزاع التكليف - من سنخ الإرادة التكوينية. إذ عليه لا يتحقق التكليف النفسي إلا بعد تعلق غرض المولى وإرادته بذي المقدمة المستلزم - بمقتضى الملازمة المتقدمة - لتعلق غرضه وإرادته للمقدمة تبعاً.

لكن سبق في مقدمة الأصول عند الكلام في حقيقة الحكم التكليفي المنع من ذلك، وأن الحكم التكليفي منتزع من الخطاب بداعي جعل السبيل

ص: 279

مبنياً على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعة المكلف للحاكم من خوفٍ أو رجاءٍ أو استحقاقٍ أو غيرها.

وحينئذٍ لا مجال لاحتمال وجوب المقدمة، لوضوح أن الخطاب بذي المقدمة لا يبتني إلا على جعل السبيل بالإضافة إليه، لكونه بنفسه موضوعاً للملاك والغرض الفعلي، وهو الذي يكون مقصوداً بالإطاعة والمعصية وما يستتبعهما من ثواب وعقاب وغيرهما، ولا ملازمة بين جعل السبيل بالإضافة إليه وجعله بالإضافة للمقدمة، لأن الملازمة المتقدمة إنما هي بالإضافة إلى الإرادة والداعوية، لا بالإضافة إلى جعل السبيل، بل هو تابع لموضوع الغرض. كما أنه يلغو بالإضافة للمقدمة بعد فرض عدم ترتب آثاره بالإضافة إليها.

نعم، لما كان التكليف بذي المقدمة مستلزماً لحدوث الداعي إليه في حق المكلف فهو مستلزم لحدوثه بالإضافة إلى المقدمة في حقه أيضاًً تبعاً للملازمة المتقدمة. فالمقدمة تشارك الواجب في الداعوية المسببة عن التكليف، لا في الداعوية السابقة عليه رتبة، وهي الداعوية لجعل السبيل، بل هي مختصة بالواجب الذي هو موضوع الملاك والغرض.

هذا، وأما الأوامر الشرعية ببعض المقدمات فهي مسوقة إما لبيان شرطيتها ومقدميتها للواجب أو لبيان مطلق اللزوم والثبوت ولو بلحاظ الداعي العقلي، أو بلحاظ الكيفية الخارجية لإيقاع الواجب أو غير ذلك مما يناسبه لسان تلك الأدلة، ولا مجال لحمله على الوجوب الشرعي بعد ما ذكرنا.

الكلام فيما ذكروه من التفصيل في وجوب المقدمة

بقي الكلام في التفصيلات المذكورة في المقام، وهي كثيرة قد يتضح

ص: 280

بعضها مما يأتي في المبحثين الآتيين، وبعضها ظاهر الضعف بملاحظة ما تقدم، فالكلام فيه خالٍ عن الفائدة.

التفصيل بين السبب وغيره

ولعل الأولى الاقتصار هنا على التفصيل بين السبب وغيره، لعدم خلوه عن الفائدة ولو تبعاً.

وكأن مرادهم بالسبب هو السبب التوليدي الذي لا ينفك عنه الواجب، ويكون نتيجة قهرية له من دون توسط اختيار الفاعل بينهما، كإلقاء الثوب في النار الموجب لاحتراقه وأفعال الوضوء الموجبة للطهارة.

وقد استدل على وجوبه بأنه لابد من صرف التكليف بالمسبب إليه، لأنه هو فعل المكلف المقدور له، دون المسبب، بل هو نتيجة فعله، ممتنع عليه في فرض عدم تحقق السبب وواجب في فرض تحققه، من دون أن يكون فعلاً له ولا مقدوراً له بنفسه، ليصح تكليفه به.

لكنه - كما ترى - لا يصلح لأن يكون دليلاً على وجوب السبب غيرياً - كما هو محل الكلام - بل على اختصاص الوجوب النفسي بالسبب دون المسبب.

وحينئذٍ يشكل: بأنه يكفي في نسبة المسبب للمكلف وقدرته عليه المصححين لتكليفه به قدرته على فعل سببه المذكور الذي لا ينفك عنه، فلا وجه لصرف التكليف للسبب في فرض ظهور الدليل في التكليف بالمسبب.

وتظهر الثمرة بينهما في فرض إجمال السبب وتردده بين الأقل والأكثر، فإن كان المكلف به هو السبب كان المورد من صغريات دوران المكلف به بين الأقل والأكثر الذي هو مجرى البراءة، وإن كان المكلف به هو المسبب كان المورد من صغريات الشك في الامتثال الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال، وهو المتعين بعد ما عرفت.

ص: 281

بل لو فرض انطباق العنوان المكلف به على ما هو فعل المكلف بالمباشرة بحيث يكون متحداً معه عرفاً، لا مسبباً عنه، إلا أنه كان منتزعاً من جهة زائدة عليه مسببة عنه، فالمرجع قاعدة الاشتغال أيضاًً، كما لو وجب استعمال الدواء، وتردد الفعل الذي ينطبق عليه العنوان المذكور بين الأقل والأكثر، لأن التكليف ينصب عرفاً على منشأ انتزاع العنوان، كترتب الأثر المطلوب الذي بلحاظه يصدق على الشيء أنه دواء، لا على فعل المكلف بنفسه، وإن كان عنوان المكلف به منطبقاً عليه، كما تقدم التعرض لذلك في تقريب الجامع الصحيحي من طريق الأثر. فراجع.

ولنقتصر على ما تقدم في ذكر الأقوال والاحتجاج لها، لكفايته في المهم من محل الكلام ومورد الخلاف في المقام.

تنبيهان: الأول: عدم استحقاق العقاب على ترك المقدمة

تنبيهان:

التنبيه الأول: لا إشكال في استحقاق العقاب بمخالفة تكليف المولى الأعظم المستحق للطاعة وعصيانه، وكذا في استحقاق الثواب بموافقته وإطاعته، لا بمعنى ثبوت حق للمطيع على المولى، نظير استحقاق الأجير أجرته، لعدم وضوح ذلك بعد كون الطاعة حقاً للمولى، بل بمعنى صيرورته أهلاً للثواب بملاك الشكر والجزاء، لا بملاك التفضل الابتدائي.

والمتيقن من ذلك هو موافقة ومخالفة التكليف النفسي بذي المقدمة، وأما التكليف الغيري بالمقدمة - بناء على ثبوته - فيظهر مما نقله في التقريرات عن بعضهم مشاركته للتكليف النفسي في ذلك، حتى صرح في محكي الإشارات بثبوت عقابين.

ص: 282

وهو مما يصعب البناء عليه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية التي هي المرجع في مثل ذلك، فإن المعيار عندهم في الطاعة والمعصية والتقرب والتمرد التي بها يناط الثواب والعقاب هو التكاليف النفسية المجعولة بالأصل بلحاظ الملاكات والأغراض الأصلية المقتضية لها، دون الغيرية التي هي في طولها في مقام الجعل ومقام الطاعة والعصيان.

وملازمة التكليف لاستحقاق العقاب والثواب ممنوعة جداً بعد كون منشأ الملازمة حكم العقل.

بل لو فرض ثبوت الملازمة المذكورة كانت دليلاً على عدم ثبوت التكليف الغيري بالمقدمة، بضميمة ما ذكرنا من عدم استحقاق الثواب والعقاب عليها بمقتضى المرتكزات العقلائية.

بل قد تكون كثرة المقدمات موجبة لتخفيف العقاب على مخالفة التكليف النفسي، حيث قد تستلزم صعوبته، فتكون مخالفته أبعد عن التمرد من مخالفة التكليف الذي تسهل موافقته لقلة المقدمات المتعلقة به.

نعم، حيث كان ترك المقدمة موجباً لمخالفة التكليف النفسي تعين كونه سبباً لاستحقاق العقاب عليه.

كما أنه لما كان المعيار في استحقاق الثواب هو الحسن الفاعلي بالانقياد للمولى والخضوع لأمره وتحمل المشقة في سبيله أمكن كون فعل المقدمة منشأ لاستحقاق الثواب، لا لأجله، بل لكونه شروعاً في امتثال التكليف النفسي الذي يزيد ثوابه كلما زادت المشقة به وطال أمد الانقياد بمتابعته. وعلى هذا ينزل ما ورد في كثير من النصوص من ثبوت الثواب على المقدمات في كثير من الطاعات.

ص: 283

لكن لا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.

الثاني: ثبوت الداعوية للمقدمة وإن لم تجب غيرياً

التنبيه الثاني: حيث ظهر مما سبق أن الأمر الغيري بالمقدمة لا يكون بنفسه مورداً للإطاعة والثواب والمعصية والعقاب إلا في طول الأمر النفسي بلحاظ كون إطاعته شروعاً في إطاعته ومعصيته موصلة لمعصيته، فمن الظاهر أن ذلك ثابت للمقدمة في نفسها وإن لم نقل بوجوبها غيرياً، كما هو الحال في الداعوية العقلية لها تبعاً للداعوية لذيها المسببة عن الأمر الشرعي به.

ومرجع ذلك إلى عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه، فلا يهتم الفقيه بإثباته لتنفعه مسألة الملازمة في الاستنباط ويتحقق بها الغرض من المسألة الأصولية.

ما ذكره العراقي (قدس سره) من إمكان التقرب بقصد الأمر الغيري

لكن ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن الأثر العملي للأمر الغيري هو إمكان التقرب بقصده، لأن حقيقة الامتثال هو الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر المولوي المتوجه إليه من دون نظر لخصوصيات الإرادة.

الإشكال على ما ذكره (قدس سره)

وفيه: أن التقرب بالأمر إنما هو يقصد متابعته على نحو داعويته، وحيث كانت داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي فلابد في التقرب به من قصد الأمر النفسي في طول قصده، ومع قصد الأمر النفسي يتحقق التقرب بالمقدمة ولو مع عدم قصد الأمر الغيري بها، بل ولو مع عدم ثبوته. بل سبق منا في مبحث التعبدي والتوصلي أن التقرب إنما هو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف بالأمر، ومن الظاهر أن الغرض من المقدمة الداعي للأمر بها هو الغرض من الأمر النفسي، فلابد في مقربية المقدمة من قصده، سواء كانت مأموراً بها غيرياً أم لا.

ص: 284

فلا مخرج عما ذكرنا من عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه.

نعم، قد يدعى ثبوت الأثر له بلحاظ بعض اللوازم الخارجية، وبلحاظه تكون المسألة ذات ثمرة عملية لا علمية محضة.

ومن الظاهر أن الأثر المذكور لا يكون ثمرة للمسألة الأصولية - كما هو المهم في المقام - إلا إذا نفع في تشخيص حكم شرعي كلي أو وظيفة عملية كلية في الشبهات الحكمية، دون ما لو كان منقحاً للحكم الجزئي أو الوظيفة في الشبهات الموضوعية، فمثل الاكتفاء بالوفاء بنذر فعل الواجب بفعل المقدمة لا يكون أثراً مهما في المقام، لوضوح أن الشك في الوفاء بالنذر المذكور بفعل المقدمة لا يرجع الشبهة الحكمية، بل الموضوعية التي يهتم بها الفقيه دون الأصولي، فلا يهم البحث عن مثل ذلك في المقام، وإن كثر التعرض له في كلماتهم. فلتلحظ.

تقريب الثمرة الأصولية للمسألة بوجهين

ومن هنا فقد تقرب الثمرة الأصولية للمسألة بوجهين:

الأول: فرض حرمة المقدمة في نفسها

أولهما: أن المقدمة إذا كانت محرمةً في نفسها فإن قلنا بوجوب مقدمة الواجب يكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي، وإن لم نقل به كانت المقدمة محرمةً لاغير.

وفيه: أن كون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي وعدمه إنما يكون ثمرةً بلحاظ اختلاف الأثر العملي بينهما، ولا اختلاف في المقام، إذ الأثر العملي إما أن يكون هو إمكان التوصل بالمقدمة، أو ثبوت الحرمة لها المستلزم لاستحقاق العقاب عليها، أو إمكان التقرب بها لو كانت عبادة.

أما الأول فهو ثابت مطلقاً، سواء قيل بوجوب المقدمة وكون المورد

ص: 285

من صغريات مسألة الاجتماع أم لم نقل بذلك، لوضوح عدم دخل ذلك في خصوصية المقدمة المقتضية لإمكان التوصل بها.

وأما الثاني فمع انحصار المقدمة بالمحرمة يقع التزاحم بين التكليف النفسي بذي المقدمة وحرمة المقدمة، فمع أهمية حرمتها تبقى هي الفعلية ويسقط التكليف النفسي، فلا تكون مقدمة لواجب، ومع أهمية التكليف النفسي أو تساويهما تسقط حرمة المقدمة، وعلى كليهما لا يكون المورد من صغريات مسألة الاجتماع، من دون فرق بين القول بوجوب مقدمة الواجب وعدمه.

ومع عدم الانحصار بالمحرمة لا إشكال في فعلية حرمة المقدمة، أما بناءً على عدم وجوب مقدمة الواجب فواضح، وأما بناءً على وجوبها فكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما يستلزم عدم حرمتها بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الأمر، ولا مجال للثاني مع كون الأمر تخييرياً، كما في المقام لفرض عدم الانحصار.

وأما الثالث - وهو التقرب بالمقدمة - فإن قلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين امتناع التقرب بالمقدمة - في فرض فعلية حرمتها - إما لعدم الانحصار بالمحرمة أو لأهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها في فرض الانحصار - وإن قيل بوجوب مقدمة الواجب وكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي.

كما يتعين إمكان التقرب بها في فرض عدم فعلية حرمتها - للانحصار بها مع عدم أهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها - وإن قيل بعدم وجوب مقدمة الواجب، لكفاية قصد امتثال الأمر بذيها في التقرب بها من دون مانع.

ص: 286

وإن قلنا بكفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين إمكان التقرب بها، حتى بناء على عدم وجوب مقدمة الواجب، حيث يكفي في مقربيتها قصد امتثال الأمر بذيها - في ظرف فعليته، لأهميته من حرمة المقدمة مع الانحصار بالمحرمة أو لعدم الانحصار بها - أو قصد التقرب بموافقة ملاكه - في ظرف عدم فعلية الأمر نفسه، لأهمية حرمة المقدمة، مع الانحصار بها - وإن لم يقصد الأمر الغيري.

الثاني: فساد العبادة إذا كان تركها مقدمة لفعل واجب

ثانيهما: فساد العبادة إذا كان تركها مقدمةً لواجب فعلي، حيث يكون تركها واجباً بناءً على الملازمة، فيكون فعلها محرماً - بناء على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام - فيمتنع التقرب بها، فتفسد، أما بناء على عدم الملازمة فلا يكون تركها واجباً لتحرم ويمتنع التقرب بها.

ويشكل: بأنه يكفي في امتناع التقرب بالعبادة حينئذٍ مقدمية تركها للواجب الفعلي، وإن لم يكن تركها حينئذ ٍواجباً شرعاً، لعدم البناء على الملازمة، لأن ذلك راجع إلى كونها مانعة من امتثال الواجب، وفعل المانع من الامتثال مبعد وإن لم نقل بحرمته شرعاً، لما فيه من التمرد على المولى، نظير التجري، فلا تترتب الثمرة المطلوبة.

وقد تعرض غير واحد لبعض الجهات الأخَر للإشكال على هاتين الثمرتين لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما ذكرنا.

ومن هنا فالظاهر عدم الثمرة العملية لمسألة الملازمة. وربما يأتي في المبحثين الآخرين ما ينفع في المقام. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 287

المبحث الثاني في تحديد المقدمة التي هي موضوع الداعوية

اشارة

حيث سبق في أول الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو غيره نحو الشيء يستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته، فيقع الكلام هنا في تحديد موضوع الداعوية التبعية المذكورة، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها.

ومحل كلامهم وإن كان هو تحديد موضوع الوجوب بناء على الملازمة، إلا أن الظاهر عدم اختصاص ملاك الكلام وثمرته بذلك، بل يجري حتى بناء على عدم الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته بلحاظ الداعوية المذكورة.

لكن حيث كان موضوع كلامهم الوجوب فالمناسب لنا متابعتهم محافظة على نسق الكلام في عرض الحجج والأقوال، ومنه يستفاد تحديد موضوع الداعوية، لأن الظاهر تبعية الوجوب - بناء على القول بالملازمة - للداعوية المذكورة سعةً وضيقاً، كما يظهر مما سبق في تقريب الاستدلال بالوجدان على الملازمة.

ماذكره الخراساني (قدس سره) من وجوب مطلق المقدمة

إذا عرفت هذا، فقد ذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى وجوب مطلق

ص: 288

المقدمة.

بدعوى: أنه ليس الغرض منها إلاّ سدّ العدم من جهتها بحصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ولا يفرق في ذلك بين أفرادها.

وربما ينسب ذلك للمشهور، لعدم التنبيه على التفصيل إلا في العصور المتأخرة، وإن كان في كفاية ذلك في نسبة الإطلاق إليهم إشكال، لعدم توجههم لهذه النكات وقوة احتمال جريهم على الارتكازيات التي يدعي القائلون بالتفصيل متابعتهم لها.

وجها التفصيل في المقدمات

وكيف كان، فالمذكور في كلماتهم للتفصيل وجهان..

الأول: ما يظهر من التقريرات من وجوب خصوص ما قصد به التوصل

الأول: ما يظهر من التقريرات من أن الواجب من أفراد المقدمة خصوص ما يؤتى به بقصد التوصل لذيها، وإن كان الغرض - وهو التوصل لذي المقدمة - يتحقق بغيره أيضاًً.

وربما يستفاد من بعض فقرات كلامه عدم إرادة ذلك، بل إرادة أن امتثال أمر المقدمة ووقوعها على نحو العبادية موقوف على قصد التوصل بها لذيها.

وهو وإن كان مناسباً لاستدلاله في التقريرات ولبعض فقرات كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في طهارته، إلا أن صدر كلامه وذيله صريح في إرادة ما نسب له من اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، حيث صرح بعدم ظهور أثر النزاع في غير المقدمات العبادية بسبب إجزاء الفعل المأتي به لا بقصد التوصل، لأن الغرض منه التوصل الحاصل مطلقاً، ثم قال: «نعم يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق، فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لا

ص: 289

يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت [كان. ظ] مقدمة لإنقاذ غريق، بل يقع واجباً سواء ترتب عليه الغير أو لا، وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصداً لإنقاذ الغريق».

وقد استدل على ما ذكره بالوجدان على عدم تحقق امتثال الأمر الغيري إلا مع قصد التوصل بالمقدمة لذيها.

المناقشة فيه

ويشكل: بأنه إن أراد بالامتثال موافقة الأمر بتحقيق المأمور به فتحققه في المقام تابع لسعة المأمور به وعدم دخل قصد التوصل فيه، ولابد من البناء على ذلك، لأن منشأ تبعية المقدمة لذيها في الداعوية هو توقفه عليها والغرض من وجوبها غيرياً - بناءً على الملازمة - هو التوصل بها إليه، ومعه لا وجه لاختصاصها بما يقصد به التوصل بعد عدم دخل القصد المذكور في ترتب ذي المقدمة عليها.

وإن أراد به ما يساوق العبادية - كما يناسبه الوجه الآخر لاستدلاله - فلا إشكال في عدم تحققه في المقام، لما تقدم من أن التقرب بالأمر الغيري في طول التقرب بالأمر النفسي، فما لم يقصد بالمقدمة التوصل لامتثال الأمر النفسي لا تكون مقربة، إلا أنه لا يستلزم اختصاص ما يقصد به التوصل بالوجوب، نظير توقف عبادية الواجب التوصلي على قصد أمره مع عموم الواجب نفسه لما لم يقصد به الأمر، تبعاً لعموم ملاكه والغرض منه.

هذا، وتظهر الثمرة لذلك فيما تقدم منه التعرض له من اختصاص ارتفاع حكم المقدمة الأولي المزاحم بتكليف ذي المقدمة بما قصد به التوصل وعمومه لغيره، لوضوح أن فعلية الداعوية العقلية في المقدمة على مقتضى حكم ذيها - وما يستتبعها من التكليف الغيري بناء على الملازمة - لا

ص: 290

يجتمع مع حكم المقدمة الأولي المزاحم لها.

وحيث عرفت عدم اختصاص المقدمة الواجبة بما قصد به التوصل تعين البناء على ارتفاع حكمها حتى عما لم يقصد به التوصل.

نعم، بناءً على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يلزم بقاء الحرمة في غير الموصلة واقعاً، فإن قصد بها التوصل كان مخطئاً في اعتقاد وجوبها لاعتقاده إيصالها ويكون معذوراً، وإن لم يقصد بها التوصل كان متمرداً بالإقدام عليها. إلا أن يترتب عليها ذو المقدمة فينكشف عدم حرمتها واقعاً، وإن كان متجرياً في الإقدام عليها، لاعتقاده حرمتها وعدم إيصالها.

ولعل ما تقدم منه مبني على اشتباه مقتضى اعتبار قصد التوصل بمقتضى اعتبار الإيصال. فلاحظه.

لكن ذكر في التقريرات ثمرتين أُخريين:

ما ذكره في التقريرات من الثمرتين

إحداهما: ما إذا كان على المكلف فائتةً فتوضأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا لإحدى غايات الوضوء الأخر، فعلى القول باختصاص الوجوب بما قصد به التوصل لا يجوز الدخول بذلك الوضوء في الفائتة ولا في الحاضرة التي يدخل وقتها، وعلى القول بعمومه لما لم يقصد به التوصل يجوز الدخول به فيها.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن عدم جواز الدخول بالوضوء المذكور في الصلاة لا يبتني على اختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل، بل على اختصاص العبادية بها، لأن الوضوء من العبادات، فمع عدم التقرب به يبطل فلا يجوز الدخول به في إحدى غاياته، وإن قلنا بأن الواجب مطلق المقدمة.

فما ذكره (قدس سره) يبتني على الخلط بين الأمرين كما يبتني عليه كثير من

ص: 291

فقرات كلامه.

ثانيتهما: ما إذا اشتبهت القبلة في جهات، وقلنا بوجوب الاحتياط، فلو صلى إلى إحدى الجهات غير قاصدٍ الاحتياط بالصلاة لباقيها، فعلى القول باختصاص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل لا تصح الصلاة المذكورة، بل لابد في الاحتياط الواجب من إعادة الصلاة للجهة المذكورة مع الصلاة لبقية الجهات، وعلى القول بالعموم تصح الصلاة المذكورة ويكتفي في الاحتياط بضم الصلاة لبقية الجهات إليها.

وهو كما ترى! إذ ليست الصلاة المذكورة مقدمة وجودية للواجب، لتكون موضوعاً للداعوية التبعية والوجوب الغيري، ويجري فيها ما تقدم من الكلام في اعتبار قصد التوصل وعدمه، بل هي مقدمة علمية واجبة عقلاً وجوباً ظاهرياً، فهي أجنبية عن محل الكلام.

نعم، ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) في التنبيه الثاني من تنبيهات الشبهة الوجوبية الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي، أنه لابد في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت عبادة أن ينوي بكل منها الإتيان به احتياطاً لإحراز الواجب الواقعي، وذلك موقوف على قصد الإتيان بجميع الأطراف، لعدم إحراز الواجب الواقعي إلا بذلك.

وهو - لو تم - يبتني على خصوصية النية المعتبرة في العبادات، لا على أخذ قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب الذي هو محل الكلام.

على أنه غير تام على ما ذكرناه في تعقيب كلامه (قدس سره). ومن هنا فالظاهر انحصار الثمرة العملية بما ذكرناه أولاً. كما ظهر من جميع ما تقدم شدة

ص: 292

اضطراب ما في التقريرات. ومنه سبحانه نستمد العصمة والسداد.

الثاني: ما ذكره في الفصول من وجوب الموصلة

الثاني: ما ذكره في الفصول - منبهاً إلى عدم الوقوف على من تفطن له - من أن الواجب خصوص المقدمة الموصلة، وهي التي يترتب عليها الواجب، فإذا حصلت المقدمة كانت مراعاةً بترتب ذيها عليها، فإن ترتب كشف عن وقوعها على صفة الوجوب، وإن لم يترتب عليها انكشف عدم وقوعها على الصفة المذكورة.

وقد أنكر ذلك عليه أشد الإنكار شيخنا الأعظم (قدس سره) - على ما في التقريرات - والمحقق الخراساني وبعض الأعاظم I. كما وافقه عليه جماعة من الأكابر كالسيد الطباطبائي اليزدي - في ما حكي عنه - وبعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم I وغيرهم. وهو الحق، على ما سيتضح إن شاء الله تعالى.

وينبغي نقل كلام صاحب الفصول الذي هو الأصل في التفصيل المذكور والنظر في حجته.

قال (قدس سره) - في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة مقدمة الواجب -: «والذي يدل على ذلك أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائداً على القدر المذكور.

وأيضاًً، لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له (كذا) دون ما لا يتوصل به إليه وإن كان من شأنه أن يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقاً أو على تقدير التوصل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير

ص: 293

التوصل بها إليه.

وأيضاًً، حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئاً لمجرد حصول شيءٍ آخر لا يريده إذا وقع مجرداً عنه، ويلزم أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطاً بحصوله».

ولا يخفى أن مرجع الوجهين الأولين إلى دعوى الوجدان التي يسهل على الخصم إنكارها، كما أنكرها في المقام، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها، وإن كان على حقٍ فيهما.

فالعمدة الوجه الأخير المبني على ما هو المعلوم من تبعية الواجب للغرض سعةً وضيقاً.

ما أجاب به الخراساني (قدس سره)

وقد أجاب عنه المحقق الخراساني (قدس سره): بأن الغرض من وجوب المقدمة ليس هو التوصل لذي المقدمة، لما هو المعلوم من أن الغرض الداعي لإيجاب الشيء هو ما يكون معلولاً بوجوده الخارجي للواجب ومترتباً عليه، ومن الظاهر أن ذا المقدمة لا يترتب على المقدمة بنفسها، بل يتوقف على مقدماته الأخرى، ومنها اختيار المكلف له.

إلا أن تكون المقدمة تسبيبية توليدية، والمفروض عدم اختصاص الوجوب الغيري - وكذا الداعوية التبعية - بها، فلابد من كون الغرض من وجوب المقدمة أمراً آخر مشترك الترتب على جميع المقدمات، وهو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة.

دفع ما ذكره (قدس سره)

ويندفع: بأن مراد صاحب الفصول من كون الغرض الداعي لوجوب

ص: 294

المقدمة هو التوصل لذيها ليس هو ترتب ذيها عليها استقلالاً، بحيث لا ينفك عنها، ليختص بالمقدمة التسبيبية التوليدية، بل فعلية استناد وجود الواجب للمقدمة وترتبه عليها، ولو ضمنا باشتراك بقية المقدمات فيه، وذلك لا يختص بالمقدمة التسبيبية التوليدية، بل يعم كل مقدمةٍ موصلة.

وأما ما ذكره من أن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول الواجب فقد استشكل فيه غير واحد: بأن إمكان الواجب لا يستند لوجود المقدمة، بل لإمكانها، فلا يعقل أن يكون هو الغرض من إيجابها والسبب في الداعوية التبعية لها.

لكن هذا إنما يتوجه عليه لو كان مراده أن الواجب يمتنع حين عدم المقدمة، وهو بعيد عن ظاهر كلامه، بل ظاهره أن الواجب يمتنع بشرط عدم المقدمة، لامتناع وجود المعلول بشرط عدم العلة وإن أمكن حال عدمها، فالغرض من وجوب المقدمة حصول ما يمتنع الواجب بشرط عدمه(1).

وإليه يرجع ما في التقريرات من أن وجه وجوب المقدمة أن عدمها يوجب عدم المطلوب، لرجوعه إلى وجوب عدم المعلول وامتناع وجوده بشرط عدم المقدمة.

نعم، يشكل ذلك: بأن امتناع وجود الواجب في فرض عدم شيء وبشرطه لا يقتضي وجوب ذلك الشيء - ولا الداعوية إليه - على إطلاقه بنحو يسري لجميع أفراده، كي يتعين عموم المقدمة الواجبة لغير الموصلة،

ص: 295


1- وبعبارة أخرى: يصح قولنا: يمتنع وجود الواجب حال عدم المقدمة، على أن يكون حال عدم المقدمة ظرفاً لوجود الواجب لا لامتناعه، ففي حال عدم المقدمة وإن كان وجود الواجب ممكناً، إلا أن وجود الواجب حال عدم المقدمة ممتنع، فالغرض من وجوب المقدمة حصول ما يكون وجود الواجب حال عدمه ممتنعاً.

بل يقتضي وجوبه - وكذا الداعوية إليه - في الجملة في مقابل السلب المطلق الذي بشرطه يمتنع الواجب.

ولذا يصدق ذلك بالإضافة إلى الجامع بين المقدمة وغيرها، فكما يصح أن يقال: لولا الغسل لم تمكن الصلاة، وعدمه موجب لعدمها، كذلك يصح أن يقال: لولا غسل البدن لم تمكن الصلاة وعدمه موجب لعدمها.

وكما أن الثاني لا يصحح وجوب مطلق غسل البدن ولو لم يتحقق به الغسل، كذلك لا يجب في الأول أن يصحح وجوب مطلق الغسل ولو لم يكن موصلاً للصلاة، كما هو المدعى.

هذا، وقد يدعى أن الغرض من وجوب المقدمة هو سد باب عدم ذيها من جهتها، فإن وجود ذي المقدمة لما كان موقوفاً على وجود تمام مقدماته، فعدم كل منها موجب لعدمه ووجوده يسد باب عدم ذي المقدمة من جهته وإن لم توجد بقيه المقدمات.

وحينئذٍ فالمدعى أن الغرض من وجوب كل مقدمةٍ ليس هو حصول ذيها، ليختص بالموصلة، بل سد باب عدمه من جهتها ولو مع عدم غيرها، وذلك مشترك بين الموصلة وغيرها.

وربما يحمل على هذا ما تقدم من التقريرات والمحقق الخراساني، وإن كان الجمود على حاق عبارتهما لا يقتضيه.

التحقيق في المسألة

وكيف كان، فبعد أن لم يكن مراد صاحب الفصول من التوصل بالمقدمة لذيها هو ترتبه عليها باستقلالها ليندفع بما سبق من المحقق الخراساني، بل فعلية استناد ذي المقدمة إليها ولو بانضمام بقية المقدمات إليها، يقع الكلام في أن الغرض من وجوب المقدمة هو ذلك، ليختص

ص: 296

الوجوب والداعوية المسببان عن وجوب ذي المقدمة بالمقدمة الموصلة، أو مطلق سد باب العدم من جهتها ولو لم يترتب عليها ذو المقدمة لعدم تحقق بقية المقدمات، فيعم الوجوب والداعوية غير الموصلة أيضاًً.

ولا ينبغي التأمل في أن الغرض هو الأول، حيث لا إشكال ظاهراً في جواز تبديل المقدمة قبل حصول ذيها، فإذا نصب المكلف السلم للصعود على السطح جاز له قبل الصعود عليه تبديله بسلم آخر يصعد عليه.

كما لا إشكال في وجوب تكرارها لو تعذر ترتب ذيها عليها بعد التمكن منه، كما لو انكسر السلم في الفرض، وقد سبق في مبحث الإجزاء أن تبديل الفرد الذي يمتثل به إنما يجوز أو يجب إذا لم يكن المأتي به علة تامة لحصول الغرض، كما اعترف به المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره، ومن الظاهر أن الغرض من الأمر بالمقدمة لو كان هو مجرد سد باب العدم من جهتها فالمأتي به منها علة تامة له، وإنما لا يكون علة تامة بالإضافة إلى نفس التوصل الموقوف على تحقق بقية أجزاء علة ذي المقدمة، فجواز التبديل ووجوبه في الفرض قبل حصوله شاهد بكونه هو الغرض، كما ذكره في الفصول.

وأما سد باب العدم من جهتها فهو لو كان غرضاً لا يكون غرضاً على إطلاقه، بل يكون مقيداً بسد باب العدم من بقية الجهات، وإلا فسد باب العدم من جهة خصوص مقدمة دون غيرها لا فائدة فيه بعد فرض عدم ترتب ذي المقدمة عليه الذي هو الملحوظ بالأصل والمقدمة ملحوظة بتبعه، كما اعترف به المحقق الخراساني (قدس سره) نفسه، ومع ذلك لا وجه لدخوله في موضوع الغرض، كما لا يخفى.

ص: 297

وأشكل من ذلك ما يظهر منه ومن التقريرات في رد ما ذكره في الفصول في تقريب لزوم تبعية الواجب للغرض سعة وضيقاً بقوله المتقدم: «وصريح الوجدان قاضٍ بأن من يريد شيئاً لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرداً عنه...» من أنه لو سلّم كون الغرض من وجوب المقدمة هو حصول ذيها، إلا أن ذلك لا يقتضي قصور المقدمة المطلوبة عن صورة عدم حصوله، بل تقع على ما هي عليه من المطلوبية وإن لم يحصل.

بدعوى: أن حصول ذي المقدمة جهة تعليلية، وهي لا تقتضي قصور المطلوب وتبعيته لها، وإنما ذلك في الجهة التقييدية ولا مجال للبناء على أن حصول ذي المقدمة جهة تقييدية في المقام، لما يأتي، حتى قال المحقق الخراساني (قدس سره): «ولعل منشأ توهمه خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية».

إذ فيه: أن الجهة التعليلية لما كانت هي الغرض الداعي للطلب فعدم تبعية المطلوب لها سعة وضيقاً خلف. غاية الأمر أن تبعية الطلب للغرض - الذي هو الجهة التعليلية - ليس بوجوده الواقعي، بل العلمي، فإذا اعتقد الطالب وفاء شيء به طلبه، وإن لم يكن ذلك الشيء وافياً به واقعاً. وبهذا تفارق الجهة التعليلية الجهة التقييدية التي يتبعها المطلوب بوجودها الواقعي.

لكن تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي أن المعيار في الداعوية العقلية ولزوم الإطاعة هو الغرض دون الأمر إذا لم يكن مطابقاً له.

كما تقدم أن عدم مطابقة الأمر للغرض بوجوده الواقعي إنما تمكن مع غفلة المولى وجهله بعدم استيفاء غرضه بالأمر، ولا يعقل في حق العالم الملتفت، كالشارع الأقدس. بل لابد من التطابق لُبًّا بين طلبه وموضوع

ص: 298

غرضه بماله من وجود واقعي، وإن لم يطابقه لفظاً، فلا يظهر الفرق بين الجهة التقييدية والتعليلية في أوامره من هذه الجهة.

هذا كله في الطلب الفعلي التفصيلي الأصلي، وأما الطلب الارتكازي - ومنه الطلب الغيري المدعى للمقدمة، كما سبق في الاستدلال عليه - فهو تابع للغرض واقعاً سعة وضيقاً حتى في حق من يمكن في حقه الجهل والغفلة، لعدم توجه الطالب لموضوعه تفصيلاً، كي يمكن خطؤه في تشخيص موضوع الغرض، بل هو كامن في مرتكزاته التابعة لارتكازية الغرض، فلا يعقل انفكاكه عن الغرض وعدم مطابقته له.

ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من رجوع الجهة التعليلية للجهة التقييدية في الأحكام العقلية.

بل وضوح ارتكازية الغرض في المقام ووضوح اختصاصه ببعض أفراد المقدمة صالحان عرفاً للقرينية على تقييد المقدمة المطلوبة بالموصلة لو فرض وقوعها مورداً للطلب في دليل له إطلاق لفظي صادر ممن يمكن في حقه الغفلة.

المتحصل مما تقدم في وجوب المقدمة الموصلة

والمتحصّل من جميع ما تقدم: أنه لا ينبغي التأمل في اختصاص الغرض الذي هو المنشأ للداعوية التبعية والوجوب الغيري - لو قيل به - بالمقدمة الموصلة، وفي لزوم اختصاص الداعوية والوجوب بها تبعاً لاختصاص الغرض بها.

وعلى ذلك يبتني ما تقدم منا في مبحث الإجزاء من أن المأمور به إذا لم يكن علة تامة لحصول الغرض كان مقيداً لباً بما يترتب عليه الغرض، وأن ما قيل إنه من تبديل الامتثال ليس منه حقيقة، بل من العدول في الامتثال قبل

ص: 299

تحققه، وذكرنا هناك أن كلام المحقق الخراساني (قدس سره) يناسبه ولا يأباه. وعلى هذا ينبغي البناء في المقام.

تقريب المدعى على وجوب خصوص المقدمة الموصلة

ولعل الأولى في تقريبه أن يقال: أن الداعوية نحو الشيء إنما تستتبع الداعوية نحو جميع مقدماته بنحو الارتباطية لا بنحو الانحلال، وعلى هذا النحو يبتني الطلب الغيري المتفرع عليها - كما تقدم - فالمطلوب من كل منها ما يقارن بقيتها، وليس موضوع الداعوية الاستقلالية إلا المركب منها، وهو العلة التامة، لأنه هو الذي يترتب عليه ذو المقدمة، دون كل جزء بحياله واستقلاله، فليس في المقام إلا داعوية غيرية واحدة تابعة للداعوية النفسية متعلقة بالعلة التامة ومنحلة إلى داعويات ضمنية ارتباطية بعدد أجزائها.

وعلى هذا النحو تكون المقدمات موضوعاً للوجوب الغيري، غايته أنه إذا كان بعضها غير قابل للتكليف - كما قد يدعى في مثل اختيار المكلف لذي المقدمة وإرادته - لا يكون بنفسه موضوعاً للوجوب الغيري، بل قيداً للواجب من سائر المقدمات، فالمطلوب من كل منها ما يقارنه، ليتحقق به ذو المقدمة الذي هو موضوع الوجوب النفسي والداعوية الأصلية.

وعلى ذلك يبتني ما تقدم منا في أول الفصل من أن الداعوية الغيرية في طول الداعوية النفسية ومرتبطة بها، وأنها لا تصلح للمحركية ما لم تصلح الداعوية النفسية لها، وأن محركيتها ومقربيتها باعتبار كون الجري عليها شروعاً في الجري على طبق الداعوية النفسية، فإن ذلك لا يتم مع فرض عموم موضوع الداعوية الغيرية للمقدمة غير الموصلة، إذ مع ذلك يمكن الجري على طبق الداعوية الغيرية مستقلاً عن الجري على طبق الداعوية النفسية باختيار المقدمة غير الموصلة.

ص: 300

ويزيد الأمر وضوحاً وجهان..

أحدهما: النظر في ثمرة النزاع في المقام التي تقدمت الإشارة إليها في آخر الكلام في اعتبار قصد التوصل، وهي أن المقدمة لو كانت محرمةً في نفسها وزوحمت حرمتها بوجوب ذيها بنحو يرفع حرمتها، لأهميته، فإن قيل باختصاص وجوب المقدمة الغيري وداعويتها التبعية بالموصلة تعين بقاء غير الموصل منها على حرمته، فيعاقب عليه مع الإتيان به لا بداعي التوصل للواجب، بل كان التوصل بفرد آخر متأخر عنه، وإن قيل بعموم الواجب لزم البناء على عدم حرمة غير الموصل أيضاً فلا يعاقب عليه كما لا يعاقب على الموصل.

ودعوى: أن عموم وجوب المقدمة لغير الموصل لا ينافي لزوم الاقتصار عقلاً على الموصل في الفرض، جمعاً بين غرضي الشارع.

مدفوعة: بأن بعد فرض فعلية وجوب ذي المقدمة وتبعية الداعوية العقلية للمقدمة له، وكذا وجوبها الغيري لو قيل به وفرض عموم موضوعهما لغير الموصل لا معنى لمنع العقل من غير الموصل، ولا لفعلية تعلق غرض المولى بتركه، بل هو خلف. فلزوم ترك غير الموصل في الفرض شاهد بقصور الداعوية والوجوب الغيري عنه.

ثانيهما: أنه لو علم المكلف في سعة الوقت بعدم ترتب الواجب على الفرد الأول من المقدمة، لا لقصور فيه، بل لأمر يرجع لاختياره، فالأمر النفسي بذي المقدمة إن كان يدعو غيرياً لخصوص الفرد المذكور سقط به وجاز ترك الفرد الآخر المستلزم لترك ذي المقدمة، ومن المعلوم عدم جوازه، وإن كان يدعو له ولما بعده من الأفراد حتى يتحقق الفرد الموصل،

ص: 301

فهو خلاف المعهود من تعلق الأمر بالطبيعة بنحو البدلية المستلزم للاجتزاء في امتثاله بصرف الوجود المنطبق على الوجود الأول. وإن كان يدعو لخصوص غيره مما يترتب عليه الواجب فهو المطلوب.

هذا، مضافاً إلى الوجهين الأولين المذكورين في كلام الفصول المتقدم المبتنيين على ملاحظة الوجدان، وإن أنكرهما المحقق الخراساني (قدس سره) تبعاً للتقريرات. بل لا يبعد ظهور بعض الوجوه الوجدانية الأخرى بالتأمل.

وجوه الإشكال على وجوب خصوص الموصلة

ومن هنا كان اختصاص الوجوب والداعوية بالمقدمة الموصلة من الوضوح بحدٍ يغني عن إطالة الكلام فيه، لولا إنكار من عرفت من الأكابر له حتى صار مورداً للنقض والإبرام بين الأعلام. وذلك يلزمنا بالنظر في وجوه الإشكال التي أُوردت عليه في كلماتهم، استيفاء للكلام في المسألة، وهي جملة من الوجوه..

الأول: ما في التقريرات والكفاية

الأول: ما في التقريرات والكفاية من قضاء صريح الوجدان بسقوط التكليف الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار ترتب الواجب عليها، وذلك آية عدم اعتبار ترتب الواجب في وقوعها على صفة المطلوبية.

دفع الإشكال المذكور

ويظهر اندفاعه مما سبق، حيث لابد من البناء على أن تحقق الامتثال به مراعى بتحقق بقية المقدمات وترتب ذي المقدمة، فإن ترتب كشف عن وقوعها على صفة الوجوب الغيري، وإلا انكشف عدمه كما هو الحال في سائر الواجبات الارتباطية والمنوطة بغرض متأخر عنها.

ولذا تقدم عدم الإشكال في جواز تبديلها بفرد آخر، بل وجوبه لو تعذر ترتب ذي المقدمة عليها بعد إمكانه، ويكون الامتثال بالثاني مع أنه لا معنى لامتثال الأمر ثانياً بعد سقوطه بالامتثال.

ص: 302

غايته أن الأمر في المقام لا يدعو فعلاً إلى الإتيان بفرد آخر، لأن الفرد المأتي به مشارك للفرد الآخر في صلوحه لأن يكون امتثالاً بترتب الواجب عليه بعد ذلك، والأمر لا يدعو إلا إلى صرف الوجود الصالح للانطباق على كلا الوجودين من غير مرجح، فكما يكون المكلف مخيراً بين الفردين قبل الإتيان بالفرد الأول يكون مخيراً بعده بين الإتيان بالواجب بعده، ليكون الامتثال به، والامتثال بغيره.

إلا أن يسقط الفرد المأتي به عن قابلية ترتب الواجب عليه فيتعين غيره، نظير الإتيان بجزء الواجب الارتباطي، حيث يكون الامتثال به مراعى بإكمال الواجب، من دون أن يدعو التكليف به إلى فرد آخر منه إلا بعد طروء المانع من تحقق الامتثال به بطروء المبطل.

الثاني: ما في التقريرات

الثاني: ما في التقريرات من أن وجوب خصوص المقدمة الموصلة مستلزم لوجوب مطلق المقدمة في لحاظ الواقع، لأن الأمر بالمقيد بقيد منتزع عن أمر مغاير له في الوجود يقتضي الأمر بالمطلق، إذ لابد من إيجاد المطلق أولاً ثم إلحاقه بالقيد، وفي المقام حيث كان الإيصال منتزعاً من ترتب الواجب المغاير وجوداً للمقدمة لزم الإتيان بمطلق المقدمة ثم إلحاقها بالقيد.

دفع الإشكال المذكور

وفيه - مع أن ذلك يجري في جميع موارد الأمر بالمقيد -: أن الأمر بالمقيد لا يستلزم الأمر بالمطلق بما هو مطلق بحيث ينطبق على فاقد القيد، بل ينافيه، وإنما يستلزم الأمر بالذات المحفوظة في حالتي الإطلاق والتقييد، ولازمه في المقام وجوب ذات المقدمة في ضمن الموصلة، لا وجوب مطلق المقدمة ولو لم تكن موصلة لينافي المدعى.

ص: 303

الثالث: لزوم كون الإيصال واجباً غيرياً

الثالث: أنه إذا كان الواجب من المقدمة خصوص الموصلة، كان الإيصال واجباً غيرياً كسائر قيود المقدمة - نظير الطهارة في الساتر - وحيث كان الإيصال منتزعاً من ترتب الواجب النفسي لزم اتصافه بالوجوب تبعاً لوجوب مقدمته غيرياً.

المناقشة فيه

وفيه: أن امتناع ذلك إن كان بلحاظ لزوم الدور بتقريب: أن وجوب المقدمة إنما نشأ من وجوب ذيها، فلو ترشح وجوب ذيها من وجوبها لزم الدور، كما قرره بعض الأعاظم (قدس سره).

أشكل: بظهور أن وجوب ذي المقدمة الناشئ من قبل وجوب المقدمة الغيري ليس هو وجوبه النفسي الذي نشأ منه وجوب المقدمة، بل وجوب غيري آخر، فلا دور.

وإن كان بلحاظ لزوم التسلسل بتقريب أن وجود ذي المقدمة إذا كان قيداً في الواجب من المقدمة كان مقدمة له، وحيث لا يجب من المقدمة إلا الموصل الموقوف على وجود ذيها كانت المقدمة من قيوده ومقدمة له فتجب، وهكذا إلى مالا نهاية، لرجوع ذلك إلى أن كلاًّ من المقدمة وذيها يكون مقدمة للواجب من الآخر في المرتبة المتأخرة عن مقدميته له، فيتسلسل الوجوب لكل منهما، كما قرره سيدنا الأعظم (قدس سره).

أشكل: بما ذكره (قدس سره) ه من أنه في فرض ثبوت ذي المقدمة الذي به يتحقق الإيصال للمقدمة يلزم تحقق المقدمة، فلا موضوع لتقييده بالإيصال إليها، لتجب غيرياً تبعاً لوجوبه. ويلزم التسلسل.

وإن كان بلحاظ ما سبق منا عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع اجتماع الوجوب النفسي والغيري في موضوع واحد مع وحدة الغرض

ص: 304

الموجب لهما، للزوم اللغوية.

أشكل: بأن ذلك لا يقتضي امتناع تقييد المقدمة الواجبة بالإيصال المنتزع من وجود ذيها، بل امتناع استتباع التقييد المذكور وجوب ذي المقدمة غيرياً بتبع وجوب المقدمة، لأن المقدمية إنما تقتضي الداعوية التبعية والوجوب الغيري - لو قيل به - مع عدم المانع، كلزوم اللغوية، نظير ما تقدم في المقدمة الداخلية.

ومنه يظهر وجه آخر في الجواب عن التقريبين الأولين، لابتنائهما على لزوم وجوب ذي المقدمة غيرياً بتبع وجوب المقدمة، ولا موضوع لها بدون ذلك.

الرابع: ما ذكره النائيني (قدس سره)

الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الواجب لو كان هو خصوص المقدمة الموصلة فبما أن ذات المقدمة مقومة لها، تكون مقدمة لتحققها في الخارج، فإن التزم الخصم بوجوبها مع عدم اعتبار قيد الإيصال إلى جزئها الآخر فقد اعترف بما أنكره، وإن اعتبر قيد الإيصال في اتصافها بالوجوب فقد لزمه التسلسل، إذ كل ما هو مقيد بالإيصال له ذات تكون مقدمة له.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذات المقيد في ظرف وجود قيده عين المقيد، لا مقدمة له، كي تجب بوجوب غيري آخر مباين لوجوبه، ويلزم التسلسل بلحاظ أن المقدمة لما كانت مقيدة بالإيصال، فهي في كل مرتبة لها قيد وذات مقدمة له.

على أن التسلسل في مثل ذلك لما كان في الوجوبات الغيرية المترتبة فهو من التسلسل في المعلولات الذي لا وجه لبطلانه إلا الوجدان على عدم وجود جعول غير متناهية، ولا مجال له في المقام، لما تقدم عند الاستدلال

ص: 305

لوجوب المقدمة من كون عدم الوجوب الغيري الثابت لها جعلياً فعلياً، بل ارتكازياً تبعياً بسبب دخله في الغرض الارتكازي، بمعنى أن المولى لو سئل عن المقدمة لطلبها، ولا محذور في الالتزام بالتسلسل في ذلك، بمعنى أن كل ما يفرض مقدمة للغرض المقتضي للطلب، وإن لم يطلب فعلاً، لعدم الداعي لفعلية طلبه بعد اقتضاء الخطاب النفسي الإتيان به عقلاً. وهذا يجري في الوجه الثالث لو قرر بالتسلسل أيضاً. فتأمل جيداً.

لخامس: ما ذكره العراقي (قدس سره)

الخامس: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من لزوم الدور، حيث يستلزم كون ذي المقدمة مقدمة لها.

وكأنه لأن تحقق منشأ القيد - وهو في المقام الإيصال المنوط بوجود ذي المقدمة - مما يتوقف عليه وجود المقيد - وهو في المقام المقدمة الموصلة - بما هو مقيد.

المناقشة فيه

ويندفع: بأنه ليس المدعى هو دخل الإيصال في مقدمية المقدمة، لتبعية مقدميتها لخصوصية ذاتها المشتركة بين الموصلة وغيرها من أفراد ماهية المقدمة، بل في وقوعها على صفة الوجوب، فالواجب النفسي موقوف على ذات المقدمة، وماهيتها، وهي غير موقوفة عليه، وإنما الموقوف عليه وقوعها على صفة الوجوب.

السادس: ما ذكره العراقي (قدس سره) أيضاً

السادس: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاًً من أن تقييد المقدمة الواجبة بترتب ذي المقدمة عليها يرجع إلى تقييد الواجب بما لا يمكن انفكاك الواجب عنه على تقدير تحققه، ومثل ذلك مستحيل، لأنه يؤول إلى اشتراط الواجب وتقييده بوجود نفسه.

ولعله يريد أن المقدمة لما كانت قيداً في الواجب النفسي، فإذا كان هو

ص: 306

قيداً فيها لزم كونه قيداً لنفسه.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن الإيصال لا يستلزم وجود الواجب النفسي على إطلاقه، بل خصوص ما يقارن القيد منه وليس هو ملازماً لماهية الواجب النفسي، ليمتنع رجوع تقييده بالمقدمة للتقييد به، بل هو أخص منه، ولا محذور في تقييده به.

وثانياً: أن تقييد المقدمة الواجبة بالإيصال لا يستلزم تقييد الواجب النفسي به، كيف ومقدمية المقدمة من أصلها قد لا تبتني على تقييد الواجب النفسي بها، لكونها تكوينية، مع وضوح عموم الكلام في الموصلة لها.

بل لزوم وجود المقدمة الموصلة مقتضي مقدمية المقدمة على إطلاقها، ولذا لا إشكال في عدم كفاية المقدمة غير الموصلة، سواء قيل باختصاص الوجوب بالموصلة أم لا.

غاية الأمر أن القائل بعدم الاختصاص يقول بوقوع غير الموصل على صفة الوجوب أيضاًً، وهذا الوجه لا ينهض بإثبات ذلك.

وبعبارة أخرى: تقييد المقدمة الواجبة بالإيصال لا يستلزم تقييد الواجب النفسي به، لعدم تقييد الواجب النفسي بأصل المقدمة، فضلاً عن إيصالها. غاية الأمر أنه قد يكون مقيداً بما يتوقف تحققه على فعل خارج عنه مباين له - كتقييد الصلاة بالطهارة والستر - فيكون فعله مقدمة شرعية اصطلاحاً، والقيد حينئذٍ هو ذلك الأمر بذاته على النحو الذي يقتضيه التقييد، غايته أن فعل ما يحققه..

تارةً: لا يوصل التحقق المقيد، بل لمجرد سد باب عدمه من جهته.

وأخرى: يوصل إليه، والمدعى هو اختصاص الوجوب الغيري

ص: 307

بالثاني، وأنه لا يعم الأول، ولا دخل لذلك بالواجب النفسي بوجهه، بل هو تابع لتحديد الغرض من الواجب الغيري، الذي تقدم الكلام فيه. فتأمل جيداً.

ابتناء الوجوه الأربعة الأخيرة على أمرين

هذا، والوجوه الأربعة الأخيرة مبنية على أمرين:

الأول: أن إيصال المقدمة منتزع من ترتب ذي المقدمة عليها.

الثاني: أن اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة راجع إلى أخذ عنوان الإيصال قيداً في المقدمة الواجبة، كسائر القيود المأخوذة في بعض المقدمات، نظير الطهارة في الساتر.

وقد أنكر بعض المحققين (قدس سره) الأول، مدعياً أن إيصال المقدمة منتزع من بلوغها إلى حيث يمتنع انفكاكها عن ذيها، فهو ملازم لترتب الواجب، لا أنه منتزع منه.

ولا يخفى أن عنوان الإيصال لم يؤخذ بنفسه في موضوع دليل لفظي، ليهتم بتحديد مفهومه ومنشأ انتزاعه، وإنما وقع التعبير به في كلام الفصول في مقام تحديد الواجب من المقدمة، فلو فرض تمامية المحاذير المتقدمة أمكن التخلص منها بالمنع من أخذ الإيصال بالمعنى المنتزع من ترتب ذي المقدمة والالتزام بأن المأخوذ هو الإيصال بالمعنى المنتزع مما ذكره (قدس سره) أو نحوه مما لا يستلزم المحاذير المذكورة، عملاً بما تقدم من الأدلة على عدم وجوب مطلق المقدمة وإن لم تكن موصلةً.

بل يمكن إنكار الأمر الثاني رأساً - وهو ابتناء اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة على أخذ عنوان الإيصال قيداً في المقدمة الواجبة - بالالتزام بأن الواجب هو الفرد الموصل بذاته لا بقيده - كما جرى عليه بعض

ص: 308

الأعيان المحققين (قدس سره) - وليس ذكر الإيصال إلا للإشارة إلى الفرد المذكور، الذي هو مورد الغرض، فهو عنوان تعليلي كعنوان المقدمة، لا تقييدي.

وكلام الفصول لا يأبى الحمل على ذلك وإن نسب إليه الالتزام بالتقييد، لعدم ظهور كلامه في التوجه لهذه الجهة، والتقييد - لو فرض منه التعبير به أو بما يرجع إليه - أعم من دخل القيد في موضوع الحكم، بل قد يراد به مجرد اختصاص متعلق الوجوب بالموصل، الذي يظهر منه (قدس سره) أنه المهم في المقام.

ما ذكره السيد البجنوردي (قدس سره) من كون الحصة هي الطبيعة المقيدة بقيد

وأما ما ذكره بعض السادة المعاصرين (قدس سره) من أن تحصص الطبيعة إنما يكون بواسطة تقييدها بقيد، فالحصة هي الطبيعة المقيدة بقيد، بحيث يكون التقييد داخلاً والقيد خارجاً، ومع قطع النظر عن القيد والتقييد لا حصة في البين.

فهو لا يخلو عن غموض.

المناقشة فيه

إذ لو أريد بتحصص الطبيعة تحصيصها خارجاً، فهو لا يتوقف على التقييد، لأن كل حصة متميزة بنفسها وبخصوصياتها المقارنة لها خارجاً، ولو مع إطلاق الطبيعة في مقام جعل الحكم عليها.

ولو أريد به تحصصها ذهناً في مقام جعل الحكم عليها، ليقصر الحكم عن باقي الحصص. فهو مسلَّم، إلا أنه لا يستلزم دخل القيد في الحكم، بحيث يقتضي وجوب منشأ انتزاعه، بل غاية ما يلزم هو أخذه أو أخذ ملازمه لمحض الإشارة للحصة المقارنة له.

غاية الأمر أن ظاهر التقييد بالعنوان في لسان الأدلة دخله في الحكم وترتب الغرض. لكن لا يعول عليه في فرض لزوم محذورٍ عقلي. بل لا

ص: 309

موضوع له فيما لو لم يكن دليل الحكم لفظياً، بل عقلياً، كما في وجوب المقدمة.

وقد تقدم في تقسيم المقدمة إلى شرعية وتكوينية ما له نفع في المقام.

على أن تميز الحصة ذهناً إنما يحتاج إليه إذا كان الحكم مجعولاً جعلاً استقلالياً، إذا كان الحكم تبعياً ارتكازياً - كوجوب المقدمة غيرياً، على ما سبق - فلا يحتاج إلى لحاظ الموضوع وتحديده بالعنوان ليلزم التقييد لو كان مختصاً ببعض حصص الماهية، بل هو تابع للغرض الارتكازي سعة وضيقاً، فإذا اختص الغرض ببعض الحصص من الماهية - كالموصل في المقام، على ما ذكرنا - لزم اختصاص الحكم تبعاً له به، من دون حاجة لتحديده بالعنوان والقيد.

وقد يظهر من جميع ما تقدم أنه لا محذور في البناء على اختصاص الداعوية التبعية والوجوب الغيري - لو قيل به - بالمقدمة الموصلة.

بل الإنصاف: أن وضوح اختصاصهما بها يجعل الوجوه المذكورة من سنخ الشبهة في مقابل البديهة، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها لولا صدورها من أعيان الفن وأعلام التحقيق ممن لا ينبغي تجاهل كلامهم والإعراض عن مطالبهم، شكر الله تعالى سعيهم وقدس أسرارهم، ونفعنا ببركة تحقيقاتهم وإفاداتهم وجزاهم عنا خير الجزاء.

وقد أعرضنا عن بعض ما ذكروه في المقام، لعدم أهميته أو عدم دخله في إثبات اختصاص الواجب من المقدمة بالموصلة أو عمومه لغيرها، الذي هو المهم في المقام، فلا يسعنا إطالة الكلام فيه زائداً على ما سبق مما لم يسعنا الإعراض عنه لما ذكرنا. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق. وهو

ص: 310

حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إن الثمرة المهمة للنزاع في المقدمة الموصلة هو ما ذكرناه في الوجه الأول للاستدلال عليها، وأشرنا إليه عند الكلام في ثمرة القول باعتبار قصد التوصل، من أن المقدمة لو كانت محرمة في نفسها فعلى القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يختص ارتفاع الحرمة بالفرد الموصل، وعلى القول ترفع الحرمة حتى عن غير الموصل.

لكنهم لم يتعرضوا بوجه معتد به للثمرة المذكورة، وإنما تعرضوا لغيرها مما يتعلق بمسألة الضد لا يسعنا إطالة الكلام فيها، وربما يأتي في مسألة الضد ما يتعلق بذلك.

ص: 311

المبحث الثالث في تحديد داعوية المقدمة

اشارة

حيث ذكرنا في أول الفصل أن فعلية الداعي العقلي أو نحوه نحو الشيء يستتبع فعلية الداعي المسانخ له نحو مقدمته.

فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى ذلك تبعية الداعي التبعي نحو المقدمة للداعي الأصلي نحو ذيها سعةً وضيقاً، لأنه مقتضى تبعيته له في أصل وجوده، وحيث كانت الداعوية الأصلية نحو ذي المقدمة ملازمة للتكليف النفسي به، وكان وجوب المقدمة - غيرياً على القول به - متفرعاً على الداعي التبعي المذكور لها وتابعاً لها سعةً وضيقاً اتجه ما ذكروه من تبعية الوجوب الغيري - على القول به - للوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط، فلا يعقل اشتراط أحدهما بشيء وإطلاق الآخر من جهته.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

وهم وإن ذكروا ذلك في الوجوب الغيري إلا أنه ناشئ عن كونه هو المهم عندهم في البحث عن المقدمة، مع أنه في الحقيقة مبتن على التبعية في الإطلاق والاشتراط بين الداعويتين، وأثر التحديد يظهر فيهما حتى بناء على المختار من عدم ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة.

ص: 312

ومن ثم عقدنا لذلك بحثاً مستقلاً عن بحث الملازمة، تابعاً لأصل المقدمة ومتفرعاً على داعويتها المذكورة.

ما ذكره في المعالم من عدم التبعية

هذا، ويظهر من المعالم ما ينافي التبعية المذكورة، حيث ذكر أنه يمكن تصحيح العبادة إذا كانت ضداً لواجب، حيث لا تقع محرمة حتى بناء على وجوب مقدمة الواجب وأن من مقدماته ترك ضده الخاص.

وقال في تقريب ذلك: «وأيضاًً فحجة القول بوجوب المقدمة - على تقدير تسليمها - إنما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلف مريداً للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر. وحينئذٍ فاللازم عدم وجوب ترك الضد الخاص في حال عدم إرادة الفعل المتوقف عليه من حيث كونه مقدمة له...».

وظاهره اختصاص وجوب المقدمة بما إذا أريد ذوها، مع وضوح عدم اختصاص وجوب ذيها بالحال المذكور، وهو ينافي ما سبق من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

المناقشة فيه

ولا مجال للبناء عليه بعد ما ذكرنا، بل لابد من البناء على فعلية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري - لو قيل به - تبعاً لفعلية وجوب ذيها حتى في حال عدم ارادته.

نعم، لو جيء بالمقدمة حال عدم إرادة ذيها لم تقع مورداً للداعوية ولا على صفة الوجوب بناء على ما تقدم في المبحث السابق من اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة.

إلا أن يترتب ذوها عليها، فينكشف وقوعها مورداً للداعوية وعلى صفة الوجوب، على خلاف ما قصد بها.

ص: 313

وكأن هذا منه (قدس سره) وما تقدم من شيخنا الأعظم (قدس سره) من اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب، مبنيان على اختصاص الداعوية والوجوب بالمقدمة الموصلة، غايته أن الاختلاف مسبب عن الاشتباه في تحديد مورد الارتكاز واختلاف مؤداه.

الكلام في المقدمات المفوتة

ثم إنه يتفرع على ما سبق من تبعية داعوية المقدمة ووجوبها - لو قيل به - لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط الكلام المشهور في المقدمات المفوتة، وهي التي لو لم يؤت بها قبل وقت الواجب تعذر الإتيان بها في وقته، فيفوت الواجب، حيث يشكل البناء على وجوبها ولزوم تهيئتها قبل الوقت بعد فعلية وجوب ذيها حينئذٍ، فكيف تجب مقدمته عقلاً أو شرعاً، لمنافاته لما سبق من التبعية المذكورة.

تصدي الأصحاب في دفع إشكال المقدمات المفوتة

ومن هنا تصدى الأصحاب لدفع الإشكال المذكور وتوجيه وجوب المقدمة في الفرض شرعاً أو عقلاً بما لا ينافي ما سبق.

وقد ذكروا وجوهاً لابد من التعرض لها والنظر فيها..

الأول: ما تقدم من الفصول

الأول: ما تقدم من الفصول من الالتزام بالواجب المعلق برجوع قيد الوقت للمكلف به لا للتكليف.

واليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من رجوع قيود الهيئة للمادة، كما تقدم في تقسيمات الواجب. حيث يكون مقتضى ذلك فعلية الداعوية نحو المكلف النفسي قبل الوقت - تبعاً لفعلية التكليف به - فيلزم حفظ القدرة عليه بفعل مقدمته المذكورة، فتكون فعلية داعويتها قبل الوقت تابعة لفعلية داعوية ذيها.

بل لو تَمّ ذلك اقتضى فعليه الداعوية للمقدمات غير المفوتة - وهي

ص: 314

التي يمكن تحصيلها في الوقت - أيضاًً، لأن فعلية الداعوية للمقدمة - تبعاً لفعلية الداعوية لذيها - تقتضي السعي لتحصيلها، غايته أنه مع تضيق وقتها تلزم المبادرة، ومع عدمه لا تلزم، نظير الواجب الفعلي مع سعة وقته.

هذا، وقد سبق منا في مبحث الواجب المعلق أنه ممكن ثبوتاً.

ولكنه يحتاج إلى إثبات، وأن ما ذكره في الفصول من ظهور الدليل في رجوع التقييد بالوقت للمكلف به غير تام، وكذا ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من لزوم رجوع جميع القيود له. فراجع.

الثاني: ما يظهر من العراقي (قدس سره)

الثاني: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) على مسلكه في التكليف المشروط من أنه فعلي قبل فعلية شرطه خارجاً، وأن المنوط بفعلية الشرط هو فعلية محركيته، حيث التزم في المقام في دفع إشكال المقدمات المفوتة بأن المتوقف على فعلية الشرط هو محركية التكليف المشروط نحو نفس المكلف به، وأما محركيته نحو مقدماته فهي غير موقوفة عليه، بل تابعة لفعلية التكليف بذيها وإن لم يكن محركاً نحوه، ولازم ذلك وجوب التحرك قبل الشرط للمقدمات المفوتة مضيقاً ولغير المفوتة موسعاً، نظير ما تقدم على الوجه الأول.

المناقشة فيه

ويشكل.. أولاً: بضعف المبنى المذكور، على ما أوضحناه بتفصيل في مبحث استصحاب الحكم مع الشك في نسخه، حيث ذكرنا هناك أن فعلية الحكم تابعة لفعلية شرطه على النحو الذي أخذ فيه.

وثانياً: بأن وجه تبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري للداعوية نحو ذيها ووجوبه النفسي كما يقتضي بتبعيتهما لهما في الفعلية يقتضي تبعيتهما لهما في المحركية، كما يساعده الرجوع للارتكازيات التي

ص: 315

هي الدليل على أصل التبعية بينهما.

كيف وقد التزم (قدس سره) - بناء على المبنى المذكور - بفعلية التكليف المشروط حتى مع عدم تحقق الشرط أصلاً وإن لم يكن محركاً نحو متعلقه، فلو كانت محركيته نحو مقدمته تابعة لفعليته لا لمحركيته نحو متعلقه لزم فعلية المحركية نحو المقدمة مطلقاً حتى مع العلم بعدم تحقق الشرط في حق المكلف أصلاً، وهو بديهي البطلان.

الثالث: ما ذكره النائيني (قدس سره) من متمم الجعل

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من الالتزام بوجوب المقدمة بمتمم الجعل، بتقريب: أنه لما كان المفروض تمامية الملاك في ظرفه وفعلية تعلق الغرض بالواجب حينئذٍ فالعقل يحكم بوجوب حفظ القدرة بفعل المقدمة التي يكون تركها مفوتاً للواجب في ظرفه، لوجوب حفظ الغرض، ولا يكون فوته في وقته بتفويتها في وقتها عذراً، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، ولا يمنع من العقاب.

وحينئذٍ يستكشف بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وجوب المقدمة شرعاً في ظرف القدرة عليها، ومثل هذا الوجوب يكون متمماً للجعل الأول - وهو جعل التكليف النفسي لذي المقدمة - لعدم وفاء الجعل المذكور بغرضه إلا به.

المناقشة فيه

وفيه: أنه بعد فرض حكم العقل بوجوب حفظ الغرض وقبح تفويته يكون الحكم المذكور كافياً في محركية المكلف نحو المقدمة المفروضة التي يتوقف عليها حفظ الغرض، لرجوعه إلى استحقاق العقاب بتفويت الغرض بتركها، ومع ذلك لا حاجة للجعل الشرعي على طبقه الذي يكون متمما للجعل الأول، إذ ليس الغرض من الجعل المذكور إلا إحداث الداعي

ص: 316

العقلي المفروض حدوثه في رتبة سابقة على الحكم، فالحكم العقلي المذكور نظير حكمه بوجوب الإطاعة وقبح المعصية الذي يلغو معه الجعل الشرعي على طبقه.

وهذا وإن جرى في أصل وجوب المقدمة - كما سبق - إلا أنه كان المدعى لهم تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها ارتكازاً بلا حاجة لجعل استقلالي، حتى قيل: إنه وجوب قهري، كما سبق.

فإن كان المدعى ذلك في المقام رجع إلى دعوى عموم وجوب المقدمة التبعي الارتكازي للمقدمات المفوتة، وأنه لا مانع من فعلية وجوب المقدمة وداعويتها قبل وجوب ذيها بلا حاجة إلى متمم الجعل.

وإن كان المدعى وجوب المقدمات المفوتة بجعل استقلالي لا يقتضيه وجوب ذيها أشكل بما ذكرنا من عدم الحاجة إليه مع حكم العقل المذكور، لكفايته في المحركية.

وأما الحكم العقلي الذي يستتبع الحكم الشرعي - بناء على تمامية قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وإن سبق منا المنع منها في الفصل الأول من مبحث الملازمات العقلية - فهو الحكم بمجرد الحسن والقبح من دون أن يرجع إلى استحقاق العقاب والثواب، حيث لا يكفي ذلك في محركية المكلف وجريه على طبقه ما لم يستتبع حكم الشارع وجعله المستتبع للعقاب والثواب بنظر العقل، فيجب على الشارع الجعل حفظاً لمقتضى حكم العقل.

اللهم إلا أن لا يريد من وجوب حفظ الغرض عقلاً وجوبه على المكلف، بنحو يستتبع استحقاق العقاب والثواب، بل وجوبه على الشارع،

ص: 317

بتقريب أنه كما يجب على الشارع حفظ الملاك الفعلي بجعل التكليف على طبقه في وقته يجب عليه حفظه بالتكليف قبل الوقت بالمقدمة التي يتوقف حفظ المكلف به في وقته على الإتيان بها حينئذ ٍ.

لكنه مخالف لظاهر كلامه جداً - وإن ناسب بعض فقراته - خصوصاً مع استدلاله بقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، لوضوح رجوعها إلى أن التفويت بالاختيار الذي هو فعل المكلف مورد للمسؤولية عقلاً.

على أن من الظاهر أن وجوب حفظ الملاك على الشارع بالتكليف بالمقدمة السابقة على الوقت فرع أهميته بالنحو المقتضي لذلك، لاختلاف الملاكات في ذلك، ولا طريق لإحراز ذلك إلا من طريق الشارع، ومرجع ذلك إلى توقف وجوب المقدمة المفوتة على الدليل الخاص الذي هو خارج عن محل الكلام، ولا يكفي فيه إطلاق دليل الواجب المقتضي لفعلية التكليف في الوقت مع ما هو المعلوم من توقف فعلية التكليف على القدرة، وفرض أن وجوب حفظ القدرة بفعل المقدمة المفوتة تابع لجعلٍ خاص غير محرز.

وهذا بخلاف ما لو تمَّ حكم العقل بالوجه الأول، لرجوعه إلى أن فعلية التكليف في الوقت مع القدرة تبعاً لفعلية ملاكه - المفروض إحرازها بإطلاق دليله - كما يقتضي حكم العقل بوجوب امتثاله في وقته مع القدرة عليه، بنحو يستتبع العقاب والثواب، كذلك يقتضي حكمه بالنحو المذكور بوجوب حفظ القدرة عليه بفعل المقدمة المفوتة وقبح تفويته بتركها، بلا حاجه إلى جعل شرعي، لأنه من شؤون إطاعة التكليف ولواحقها.

وأشكل من ذلك ما ذكره (قدس سره) من أن متمم الجعل المذكور يقتضي حفظ

ص: 318

الواجب في وقته ووجوب مقدمته المفوتة شرعاً حتى لو كان وقت المقدمة سابقاً على البلوغ.

إذ فيه: أن ذلك مناف لإطلاق دليل رفع القلم عن الصبي.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن البلوغ إنما يكون شرطاً للتكاليف الشرعية التي لم تستكشف بقاعدة يستقل العقل بها، دون ما استكشف من استقلال العقل بحكم، حيث يستحيل اشتراط تلك التكاليف بالبلوغ وعدم تحققها قبله، لمنافاته للحكم الذي استقل به العقل، كما في وجوب المعرفة في الأصول الاعتقادية قبل البلوغ، فإن العقل يستقل به لأجل أن يكون المكلف مؤمناً في أول زمان بلوغه، ولا يتخلف عنه في أول أزمنته بالمقدار الذي يقتضيه الفحص.

فهو كما ترى! لوضوح أن حكم العقل المذكور. إن أريد به حكمه في حق المكلف بوجوب حفظ غرض المولى في وقته، المستفاد من فعلية تكليفه حينئذٍ، فهو متفرع على التكليف الشرعي المذكور وفي طوله، وراجع لاستحقاق العقاب على مخالفته، فمع حكم الشارع نفسه برفع القلم عن الصبي لا مجال لحكم العقل المذكور، إذ مع تفريط الصبي في المقدمة فالعقاب على فوت الواجب في وقته إن كان بلحاظ تفريطه حال صباه فهو مخالف لرفع القلم عن الصبي، وإن كان بلحاظ تركه للواجب بعد البلوغ فالمفروض تعذره في حقه.

ومرجع ذلك إلى أن مقتضى الجمع بين إطلاق دليل الحكم المقتضي لفعليته في الوقت وإطلاق حديث رفع القلم توقف فعلية الحكم في الوقت على قدرة المكلف بعد بلوغه على حفظه، بأن تتحقق المقدمة في الفرض

ص: 319

قبل البلوغ، لعدم تمامية ملاكه بنحو يقتضي الإلزام إلا حينئذٍ، لا عموم فعليته تبعاً لتمامية ملاكه الملزم بالنحو المقتضي لوجوب المقدمة قبل البلوغ.

وإن أريد به حكمه في حق الشارع بوجوب حفظ الغرض والملاك بتشريع وجوب المقدمة المفوتة، فهو متفرع على أهمية الملاك بالنحو المذكور، ومقتضى إطلاق حديث رفع القلم عن الصبي عدم أهميته بهذا النحو.

وبعبارة أخرى: لما كان عموم رفع القلم عن الصبي حاكماً على إطلاقات التكاليف الأولية - ومنها وجوب المعرفة والإيمان - فهو كما يقتضي عدم فعليتها في حق الصبي واختصاصها بالبالغ كذلك يقتضي عدم فعليتها في حق البالغ بالنحو الملزم للصبي بالمحافظة عليها بفعل المقدمات المفوتة، بل تختص فعليتها في حقه بما إذا كان قادراً على حفظها بعد بلوغه، بأن تحققت منه المقدمة المفوتة في الفرض حال الصبي، من دون أن يكون مكلفاً بها أو مسؤولاً عنها حينئذٍ.

ونظير دليل رفع القلم عن الصبي سائر أدلة الرفع الثانوية، كرفع الحرج والضرر والإكراه لو فرض انطباق عناوينها على المقدمات المفوتة دون الواجب في وقته، حيث لا إشكال ظاهراً في أن مقتضى حكومتها على عمومات التكاليف الأولية قصور التكاليف الأولية عن اقتضاء حفظ القدرة عليها بفعل المقدمات المذكورة، بل اختصاص فعليتها بما إذا كانت مقدورة من دون أن تستلزم الوقوع ولو من حيثية المقدمة المفوتة في ما ينافي دليل الرفع كالحرج والضرر ونحوهما.

ولا يختص ذلك بالمقدمات المفوتة، بل يجري في غيرها أيضاًً إذا كان

ص: 320

ارتفاع الصبا أو الإكراه أو نحوهما من عناوين الرفع في آخر الوقت، بنحو لو لم يأت بالمقدمة في الوقت حال الصبا أو الإكراه مثلاً لتعذر الواجب بعده، كل ذلك لإطلاق أدله الرفع.

وأما ما اشتهر من امتناع رفع اليد عن حكم العقل بحكم الشرع أو غيره. فهو مختص بالمستقلات العقلية، كحكم العقل بحسن بعض الأمور أو قبحها، وبمثل امتناع اجتماع النقيضين.

وأما أحكامه المتفرعة على أحكام الشارع والتابعة للملاكات المدركة له فلابد من البناء على سلطان الشارع عليها تبعاً لسلطانه على حكمه بتخصيصه، بل تخصيصه لحكمه إنما يستلزم قصورها موضوعاً وتخصصاً في مورد التخصيص، لا تخصيصها، ليدفع بامتناع تخصيص الحكم العقلي، كما يظهر منه (قدس سره) في المقام.

نعم، لما كان عموم رفع القلم ونحوه شرعياً أمكن تخصيصه في بعض الموارد. إلا أنه يحتاج إلى دليل خاص، وهو خارج عن محل الكلام.

ما حكي عن القمي (قدس سره) من أن المقدمات المفوتة واجبة بوجوب أصلي

ثم أنه قد حكى في التقريرات عن المحقق التقي في حاشيته على المعالم أن المقدمات المفوتة واجبة بوجوب أصلي وإن كانت الحكمة الباعثة على تعلق الطلب بها تحصيل ملاك الواجب في الوقت بلحاظ أنها توصل للواجب المذكور، حيث يكون بسببها مقدوراً عليه قابلاً لأن يكلف به.

ولا يخفى رجوع ذلك إلى الوجه الثاني الذي ذكرناه في تعقيب كلام بعض الأعاظم (قدس سره). غايته أنه لم يصرح باستكشافه بطريق العقل.

فإن كان مراده ذلك بالتقريب المتقدم اتجه عليه ما سبق من توقفه على

ص: 321

أهمية ملاك التكليف الموقت، ولا بد في إحرازها من دليل خاص.

وإن كان مراده مجرد توجيهه في ظرف وقوعه لم ينفع في إثبات وقوعه واحتاج للدليل الخاص.

على أنه ذكر أن التكليف المذكور يستتبع العقاب، وإن عدّه غيرياً محل تأمل، بل لا يبعد كونه نفيساً. وظاهره أن مخالفته تقتضي العقاب عليها، لا على فوت الواجب الموقت المسبب عنها. وهو مخالف للمرتكزات العقلائية التي هي المرجع في العقاب والثواب، بل الظاهر أن ترك المقدمات المفوتة كترك بقية المقدمات لا يكون مورداً للعقاب إلا بلحاظ أدائه لترك ذي المقدمة الذي هو مورد الملاك والغرض الأصلي.

الرابع: ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره)

ومن ثَّم يكون كلام بعض الأعاظم (قدس سره) من هذه الجهة أقرب للمرتكزات.

الرابع: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط وإن كان مسلماً - لما سبق من تبعية وجوبها لوجوبه وأنه في طوله - إلا أن ذلك إنما يقتضي إناطة وجوب المقدمة بما أنيط به وجوب ذيها من دون أن يستلزم اتفاقهما في نحو الإناطة، بل يمكن أن يكون الشرط الواحد دخيلاً في وجوب ذي المقدمة بنحو الشرط المتقدم أو المقارن، وفي وجوب نفس المقدمة بنحو الشرط المتأخر، ولا ملزم باتحاد نحو الإناطة في الوجوبين.

ولا يخفى أن نحو النسبة بين الوجوب النفسي والغيري تابع لجهات ارتكازية غير خاضعة للتصرف الشرعي، فإذا أمكن اختلاف نحو الإناطة فيهما بالوجه المذكور فلا وجه لاختصاص ذلك بالمقدمات المفوتة، بل يجري في غيرها أيضاًً.

ص: 322

غايته أن الواجب خصوص ما يترتب عليه الغرض، وهو التوصل لذي المقدمة، فإن اختص بما قبل وقت الواجب اختص الوجوب به، وكانت المقدمة مفوتة، وإن عمّه وغيره مما يكون بعد الوقت كان الواجب هو الأعم، ويكون وجوبه من قبل الوقت موسعاً، كما هو الحال في كثير من المقدمات، وإن اختص بما يكون في الوقت اختص الوجوب به، كما قد يختص بما يكون بعد الوقت، كشروط الواجب المتأخرة عنه، كغسل المستحاضة الليلي الذي قيل بأنه شرط في صحة الصوم الواقع منها في النهار.

الإشكال عليه

هذا، وقد اقتصر (قدس سره) في مبحث شروط البراءة الشرعية من حقائقه وكتاب الصوم من مستمسكه(1) في تقريب هذا الوجه على ما تقدم.

وحينئذٍ يشكل: بأن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط تبتني - كما تقدم - على تبعية الداعوية نحو المقدمة للداعوية نحو ذيها، بلحاظ أن حدوث الداعي العقلي أو غيره نحو الشيء يستتبع حدوث الداعي المسانخ له نحو مقدمته.

ومقتضى ذلك التقارن بين الداعويتين وعدم انفكاك إحداهما عن الأخرى خارجاً، وذلك كما يقتضي إناطة كل منهما بما يناط به الآخر يقتضي اتفاقهما في نحو الإناطة.

ودعوى: أن كيفية إناطة التكليف بالشرط تابعة لنحو دخل الشرط في فعلية غرضه، وحيث كان غرض التكليف بالمقدمة هو تحصيل ذيها وترتبه عليها، فإذا كان ترتبه موقوفاً على سبق المقدمة على الشرط تعين وجوبها

ص: 323


1- ذكر ذلك في شرح المسألة الثالثة والستين من فصل ما يجب الإمساك عنه في الصوم من المفطرات.

قبله، وإن كان وجوب ذيها لاحقاً له، لأن دخله في غرضه وملاكه يقتضي ذلك.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يفي بتوجيه كون المقدمة الواجبة هي المقدمة السابقة على الشرط، لأنها هي التي تفي بالغرض المقتضي لوجوبها، دون غيرها، ولا ينهض بتوجيه سبق وجوبها عليه مع عدم فعلية وجوب ذيها.

لكنه (قدس سره) دفع الإشكال المذكور في أوائل فصل الوضوءات المستحبة من مستمسكه، بأن الشرط للأمر النفسي ليس هو الوجود الخارجي للأمر المنوط به، كي لا يكون فعلياً قبله ويمتنع فعلية الأمر الغيري، بل الوجود الذهني له، فقبل تحقق الشرط خارجاً يكون الأمر النفسي حاصلاً، لكنه منوط بالشرط، فلا مانع من أن يكون مثل هذا الأمر المنوط بالشرط مستتبعاً لأمرٍ غيري منوط أيضاًً بذلك الشرط، لكن على نحو آخر من الإناطة.

وهو مبتن على ما تقدم من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من فعلية الواجب المشروط ولو مع عدم فعلية شرطه، وأن المنوط بفعلية وجود الشرط خارجاً هو فعلية محركيته.

فيرجع ما ذكره (قدس سره) إلى أن كلاًّ من الوجوب النفسي والغيري فعلي قبل تحقق الشرط، والمنوط بوجود الشرط خارجاً هو محركيتهما، غايته أن اختلافهما في الإناطة بالوجه المتقدم منه (قدس سره) يقتضي كون محركية الوجوب النفسي نحو ذي المقدمة مقارنة أو متأخرة عن وجود الشرط، لأنه بالإضافة إليها شرط مقارن أو متقدم، ومحركية الوجوب الغيري نحو المقدمة سابقة على وجود الشرط، لأنه بالإضافة إليها شرط متأخر.

ولا فرق بينه وبين ما تقدم من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في الوجه

ص: 324

الثاني، إلا أن مقتضى هذا الوجه تبعية محركية الأمر الغيري نحو المقدمة لمحركية الأمر النفسي نحو ذيها في الاشتراط والإناطة وإن اختلف نحوهما، بخلاف ذلك الوجه، حيث يظهر منه عدم إناطة المحركية نحو مقدمة الواجب المشروط بالشرط أصلاً.

ولذا تقدم الإيراد عليه بأن لازمه فعلية محركية الواجب المشروط نحو مقدمته حتى مع العلم بعدم وجود الشرط أصلاً، ولا يرد ذلك على هذا الوجه.

نعم، يرد عليه - مضافاً إلى ما تقدم من ضعف المبنى المذكور في الواجب المشروط من فعليته ولو مع عدم تحقق الشرط - أن الجهة الارتكازية القاضية بتبعية الداعوية نحو المقدمة ووجوبها الغيري للداعوية نحو ذيها ووجوبه النفسي كما تقتضي التقارن بين الداعويتين والوجوبين المذكورين - على ما تقدم - تقتضي التقارن بين محركيتيهما، حيث تكون محركية الداعوية والوجوب الغيري في طول محركية الداعوية والوجوب النفسي، ولا نتعقل انفكاكها عنها.

وأما ما قد يظهر منه (قدس سره) في مبحث شروط البراءة من حقائقه من تقريب إمكان انفكاكها عنها بأنه لا ريب في أن الوجوب المطلق إذا كان لمتعلقه مقدمات لا يصلح للمحركية إلا بعد فعل المقدمات، والوجوب الغيري له فعلية المحركية إلى تلك المقدمات، فإذا جاز اختلافهما في هذا المقدار جاز اختلافهما في غيره.

فهو كما ترى! لوضوح أن محركية الوجوب الغيري في الوقت للمقدمة فرع محركية الوجوب النفسي لذيها وفي طولها، لأن الإتيان به إنما

ص: 325

يكون من طريقها، والإتيان بها من أجل الإتيان به وشروع في امتثال أمره، الذي هو فرع محركيته، فلا انفكاك بين محركيتيهما.

ولا وجه مع ذلك لقياسه بالمقام المفروض فيه فعلية المحركية نحو المقدمة، مع عدم محركية ذيها، لكون المحركية لها سابقة على وجود الشرط والمحركية لذيها لاحقة له، لاختلاف نحو إناطتهما به.

الخامس: ما ذكره المظفر (قدس سره)

ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره (قدس سره) في دفع الإشكال وإن حاول تتميمه في كلماته المتفرقة المشار إليها. فلاحظ.

الخامس: ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله متمماً به الوجه الذي نسبه لشيخه بعض المحققين (قدس سره) الذي لا مجال لإطالة الكلام فيه، لعدم دخله في دفع الإشكال، وإنما يتكفل بحله المتمم المذكور.

وحاصله: أن الأمر بالواجب قبل وقته وإن لم يكن فعلياً إلا أن عدم فعليته ليس لدخل الوقت في مصلحة الواجب وملاكه، بل للمانع، بلحاظ استلزام البعث للانبعاث، فمع امتناع البعث نحو الواجب، لعدم حضور وقته يمتنع البعث نحوه، وإن تم ملاكه، وحيث كان المانع مفقوداً في المقدمة، لفرض حضور وقتها فيمكن الانبعاث نحوها، تعين فعلية البعث نحوها وثبوت الأمر بها. من دون أن ينافي كبرى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط، لأن الكبرى المذكورة إنما تمنع من فعلية وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها في ظرف عدم تمامية ملاك وجوب ذيها، لا مع تمامية ملاكه ووجود المانع من فعلية البعث نحوه.

ومرجع ما ذكره (قدس سره) إلى أن وجوب المقدمة لا يتبع وجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط، وإنما يتبع تمامية ملاك وجوبه فيهما وإن لم يكن

ص: 326

وجوبه فعلياً لمانع خارجي، كعدم حضور وقته.

لكنه - لو تم - لا يفي بدفع الإشكال، إذ هو - مع ابتنائه على عدم دخل الوقت في ملاك الواجب، وهو يحتاج للإثبات بعد فرض قصور إطلاق الأمر عن إثبات فعليته قبل الوقت، لامتناعها - إنما يدفع الإشكال في المقدمات التي يمكن الإتيان بها بعد تمامية ملاك الواجب النفسي قبل فعلية وجوبه، ولا يمكن الإتيان بها بعد فعلية وجوبه، دون المقدمات التي لا يمكن الإتيان بها إلا قبل تمامية ملاك الواجب النفسي، لعدم تمامية موضوعه، كما لو علم بتعذر شراء الدواء للمريض إلا قبل مرضه أو تعذر شراء الطعام للضيف إلا قبل مجيئه، مع العلم بأنه سوف يتحقق المرض وسوف يأتي الضيف.

المختار في توجيه وجوب المقدمات المفوتة

فلعل الأولى توجيه وجوب المقدمات المفوتة بما ذكره غير واحد.

وحاصله: أن العقل كما يحكم بوجوب امتثال التكليف الفعلي في وقته يحكم بكونه منشأ للمسؤولية على المكلف قبل وقته بنحو يقبح منه تعجيز نفسه عن امتثاله، لقبح تفويت غرض المولى الفعلي في وقته، والعجز إنما يكون عذراً عقلاً إذا لم يستند للمكلف. فللتكليف والغرض قبل الوقت نحو من الداعوية العقلية تقتضي حفظ القدرة عليه، كما يكونان في الوقت موضوعين للداعوية العقلية للامتثال.

ويكفي في استيضاح ما ذكرنا الرجوع للمرتكزات العقلية والعقلائية في التكاليف الشرعية والعرفية.

وعليه تبتني منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات فإن طرف العلم الإجمالي المتأخر لو لم يكن مستتبعاً لنحو من الداعوية لم يصلح العلم الإجمالي للتنجيز، بل يكون كما لو خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن

ص: 327

الابتلاء، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

هذا، ولا مجال للاستشهاد بذلك على فعلية التكليف قبل الوقت، على مسلك صاحب الفصول وشيخنا الأعظم I في الواجب المعلق والمشروط، أو على مسلك بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم I المشار إليه آنفاً في الواجب المشروط. لعدم الملزم بانحصار الداعوية العقلية لحفظ المكلف به ومورد الغرض بحال فعلية التكليف.

كيف والجهة المذكورة تجري حتى مع العلم بعدم توجه صاحب التكليف والغرض لحدوثهما في الوقت اللاحق، فلو علم زيد من حال صديقه - مثلاً - أنه سوف يتعلق غرضه وطلبه بفعل شيء ما، لم يحسن منه بمقتضى حقوق الصداقة بينهما تعجيز نفسه عن ذلك الشيء وإن كان الصديق حال التعجيز غافلاً عن تعلق غرضه في المستقبل بذلك الشيء، بل كان معتقداً عدم تعلق غرضه به فيما بعد جهلاً بحدوث الحاجة له أو بتبدل نظره، من باب تبدل الاجتهاد أو الذوق.

حيث لا مجال مع ذلك لتوهم سبق وجود تكليف معلق أو مشروط منه، كي يدعى أن له نحواً من الفعلية وأن الداعوية العقلية لعدم التعجيز ناشئة منها.

ومنه يظهر أن الداعوية لفعل المقدمة قبل الوقت ليست أصلية نفسية - كما تقدم عن المحقق التقي - ولا متفرعة على الداعوية لامتثال التكليف النفسي، تبعاً لفعليته قبل الوقت - لتبتني على الواجب المعلق أو ما يرجع إليه من دعوى رجوع القيد للمادة، أو على فعلية التكليف المشروط قبل الوجود الخارجي لشرطه - أو مع البناء على أن فعليته بعد الوقت - ليلزم

ص: 328

عدم تقارن الداعويتين - بل هي متفرعة على داعوية التكليف والغرض الفعلي المتأخر لحفظه قبل وقته، وكونه منشأ للمسؤولية بالوجه المتقدم، فالداعويتان متقارنتان مع تفرع داعوية المقدمة على الداعوية النفسية وعدم استقلالها عنها.

وبالجملة: لا ريب في ثبوت الداعوية العقلية بالوجه المذكور المستلزم لمنع العقل من تعجيز العبد نفسه قبل وقته عن امتثاله بعده، واستتباع ذلك ثبوت الداعي العقلي نحو المقدمة بنحو يقتضي حفظ التكليف والغرض بفعلها، واستحقاق العقاب مع العجز عن الامتثال بتركها، وإن كان العجز المذكور مانعاً من توجه التكليف في الوقت، لامتناع تكليف العاجز وتوجيه الخطاب إليه.

فليس العقاب في المقام على مخالفة التكليف بعد ثبوته، بل على التفريط فيه وتفويت ملاكه، كما صرح بذلك في التقريرات - مدعياً أنه قد يظهر من بعضهم - وعبر عنه بالمعصية الحكمية، في مقابل المعصية الحقيقية التي هي عبارة عن مخالفة التكليف بعد ثبوته.

وإن كان ذلك لا يناسب مبناه من رجوع الشرط للمادة والواجب، لا للوجوب، وما صرح به في المقام من أن الوجوب فعلي قبل تحقق الشرط، لأن لازم ذلك كون التعجيز معصية حقيقية ومخالفة للتكليف بعد ثبوته، كالتعجيز عن المقدمة بعد دخول الوقت.

وهو أمر راجع لاضطراب مبناه في الواجب المشروط، لا لعدم تمامية ما ذكره وأوضحناه هنا.

نعم، في كفاية ذلك في ثبوت الوجوب الغيري للمقدمة لمحض

ص: 329

ملازمة وجوب الشيء لوجوب مقدمته - لو تمت - إشكال، بل منع، لأن المسؤولية بالواجب والداعوية لحفظه وعدم جواز التعجيز عنه قبل الوقت ليست شرعية لتستتبع الداعوية الشرعية للمقدمة، بل عقلية محضة تابعة لثبوت التكليف الشرعي وفعلية الغرض في وقته، فلا يتحقق معها موضوع الملازمة المدعاة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها.

وأما دعوى: لزوم الجعل الشرعي على طبق الداعوية العقلية. فيظهر حالها مما تقدم في دفع الوجه الثالث الذي سبق من بعض الأعاظم (قدس سره).

نعم، قد يدعى أن الجهة الارتكازية المقتضية لوجوب المقدمة شرعاً تبعاً لوجوب ذيها لو تمت تقتضي أيضاًً وجوب المقدمة شرعاً في المقام قياساً على الإرادة التكوينية.

لكن حيث تقدم ثبوت الداعوية، العقلية في المقام في مورد عدم توجه صاحب الغرض والتكليف قبل الوقت لهما، بل اعتقاده بعدمهما المستلزم لعدم طلبه للمقدمة المفوتة لو نبه إليها، فلا مجال لدعوى عموم وجوب المقدمات المفوتة غيرياً تبعاً لعموم الداعوية العقلية المدعاة لها، غاية ما يدعى ثبوت الوجوب الغيري في صورة توجه صاحب الغرض والتكليف لحدوثهما في وقتهما.

وإن كان تحقيق ذلك غير مهم، خصوصاً بعدما سبق من عدم ثبوت ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها رأساً، وعدم الأثر له عملاً لو ثبت، وإنما المهم لزوم الإتيان بالمقدمات المفوتة مطلقاً وعدم جواز التفريط بها عقلاً، بنحو يستتبع العقاب على فوت الواجب معه، وهو ما يتكفل به الوجه الذي ذكرناه.

ص: 330

عدم اختصاص ما ذكر بالمقدمات المفوتة

ثم إن ما ذكرنا لا يختص بالمقدمات المفوتة، بل يجري في نظيرها، وهو شرط الواجب المتأخر، كغسل المستحاضة الليلي الذي قيل بتوقف صحة صوم اليوم السابق عليه، حيث لا معنى للتكليف بالواجب بعد فعله وخروج وقته، لتجب مقدمته المذكورة تبعاً لوجوبه، بل يجب عقلاً الإتيان بها محافظة على تمامية الواجب المأتي به في الوقت، ليكون به امتثال الأمر السابق واستيفاء غرضه الفعلي في وقته.

كما يجري أيضاًً في المقدمة الموسعة القابلة للتحصيل في الوقت وخارجه، كالوضوء للصلاة، فلا مانع من البناء على داعوية العقل لها قبل الوقت بنحو السعة، فيتخير المكلف بين المبادرة إليها وتأخيرها بعد دخول الوقت، وإن لم يتسن الإتيان بها بداعي الوجوب الغيري لو فرض عدم ثبوته والظاهر كفاية الداعوية المذكورة في مقربية المقدمة قبل الوقت لو قصد التوصل بها لامتثال أمر ذيها في وقته واستيفاء غرضه، وإن لم يقصد بها امتثال أمرها، لعدم توقف المقربية على قصد الأمر.

فإذا كانت المقدمة عبادة وكان المعتبر فيها مطلق التقرب دون المقيد بحال فعلية أمر ذيها اتجه صحتها، ولأجله يتعين صحة الإتيان بالوضوء والغسل قبل الوقت للتهيؤ لامتثال أمر الصلاة في وقتها، بلا حاجة إلى قصد أمر آخر بها، كالأمر بالكون على الطهارة أو غيره، على ما أوضحناه في مباحث نية الوضوء من شرح منهاج الصالحين، وتقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث التعبدي والتوصلي ما ينفع في المقام. فلاحظ.

ص: 331

تنبيه: حرمة التعجيز مع تمامية الملاك وفعلية الغرض

تنبيه

ما ذكرناه من عدم جواز التعجيز عن امتثال التكليف في وقته موقوف على تمامية ملاكه وفعلية غرضه على تقدير التعجيز، لعدم أخذ القدرة عليه جزءاً من الموضوع، وإن توقف عليها فعلية الخطاب، لقبح خطاب العاجز، كما هو مقتضى إطلاق الخطاب بالتكليف معلقاً على الشرط أو الوقت، على ما أوضحناه في أوائل مبحث التعارض عند الكلام في الفرق بينه وبين التزاحم وبيان حقيقة التزاحم.

أما لو كانت فعلية القدرة عليه في الوقت دخيلة في ملاكه ومأخوذة في موضوعه فلا محذور في التعجيز قبل الوقت، حيث لا يتحقق معه موضوع التكليف ويكون مانعاً من تمامية ملاكه وغرضه، فلا يلزم من التعجيز عنه تفويت ملاكٍ فعلي.

بل قد يجوز التعجيز في الوقت، كما لو كان العجز فيه موجباً لارتفاع الموضوع والملاك بعد ثبوتهما، حيث لا يقبح عقلاً رفع موضوع التكليف وملاكه، كما لو سافر الصائم فساغ له الإفطار، وإنما القبيح تفويت الملاك مع فعليته وتمامية الموضوع، وهو غير لازم في الفرض.

ومن هنا يجوز تعجيز المكلف نفسه عن الحج قبل ملك الزاد والراحلة، وعن التصرف بالمال الزكوي قبل حلول الحول.

وعليه يبتني ما تضمن من النصوص جواز اجناب المكلف نفسه مع عدم الماء على كلام لا يسعنا استقصاؤه، بل هو موكول للفقه. فلا مجال

ص: 332

لتوهم منافاة ذلك لما ذكرناه هنا في توجيه وجوب المقدمات المفوتة مطلقاً.

خاتمة: في مقدمات الحرام والمكروه

خاتمة

ذكرنا في أول الفصل أن موضوع المسألة في تحرير الأصوليين لها هو مقدمة الواجب، وأنه يظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عموم جهات الكلام فيها المقدمة المستحب.

وأما مقدمة الحرام والمكروه فالظاهر مشاركتها لمقدمة الواجب والمستحب في بعض جهات الكلام المتقدمة.

وتوضيح ذلك: أن الظاهر مشاركة مقدمة الحرام والمكروه لمقدمة الواجب والمستحب في حدوث الداعي للترك، فكما يكون حدوث الداعي لفعل الشيء مستتبعاً لحدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته كذلك يكون حدوث الداعي لترك الشيء مستتبعاً لحدوث الداعي المسانخ له لترك مقدمته.

ويتفرع على ذلك الكلام في جهات ثلاث تقدم الكلام في نظيرها..

الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدمته

الأولى: الملازمة بين حرمة الشيء شرعاً أو كراهته لحرمة مقدمته أو كراهتها. والظاهر ابتناؤها على ما تقدم في مقدمة الواجب، فإذا كانت الداعوية التبعية لفعل مقدمة الواجب والمستحب منشأ لمطلوبيتها شرعاً تبعاً لمطلوبية ذيها فالداعوية التبعية لترك مقدمة الحرام مستلزمة للنهي عنها شرعاً تبعاً للنهي عن ذيها، لعدم الفرق بينهما في الكلام المتقدم.

تحديد المقدمة المبحوث عنها

الثانية: تحديد المقدمة التي هي مورد الداعوية المذكورة. وقد تقدم

ص: 333

في مقدمة الواجب أنها خصوص العلة التامة، وأن مقتضى ذلك وجوب كل جزء من أجزائها بوجوب ضمني ارتباطي، ومرجعه إلى اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة، إما بقيد الإيصال أو بذاتها.

وأما هنا فحيث فرض أن الداعي الأصلي يقتضي ترك الشيء، وكان وجوده مستنداً للعلة التامة كان الداعي المذكور مستتبعاً لحدوث الداعي لعدم تمامية العلة. ومرجعه إلى اقتضاء الداعي ترك كل جزء من أجزاء العلة على البدل، كما نبه له سيدنا الأعظم (قدس سره) في الجملة.

وبعبارة أخرى: تعلق الأمر والنهي بالمركب تابع لنحو تعلق الغرض به وترتبه عليه، فحيث كان الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفاً على وجود تمام أجزائها تعين مطلوبية الأجزاء بنحو المجموع، وحيث كان الغرض الداعي لمبغوضية العلة التامة للمبغوض موقوفاً على عدم تماميتها بنحو يكفي في ترتبه عدم وجود بعض أجزائها على البدل تعين مبغوضية أجزائها بالنحو المذكور، لا بنحو المجموعية.

وحينئذٍ فمقتضى البدلية المذكورة عدم مخالفة الداعي التبعي المذكور إلا بفعل ما ينحصر بتركه عدم تمامية العلة، وهو آخر أجزائها لو كانت تدريجية أو ما قبل الآخر إذا كان الآخر قهري الحصول، فلا يكون التمرد والمخالفة إلا بفعل الجزء المذكور.

نظير مخالفة الأمر الموسع التي لا تتحقق إلا بترك آخر الأفراد الطولية الممكنة، دون الأفراد الأُوَل، فلا يكون المكلف متمرداً ومخالفاً للتكليف بتركه للواجب الموسع إلا بمضي آخر زمان يمكن فيه فعل الواجب، من دون أن يكون مخالفاً له بتركه فيما سبق عليه، وإن كان عازماً على الترك من

ص: 334

أول الأمر.

غاية الأمر أن العزم المذكور موجب للقبح الفاعلي في حقه، وهو أمر آخر لا يرجع إلى فعلية المخالفة بالفعل أو الترك.

نعم، لو كان الإتيان بالجزء الأول لعلة الحرام بقصد التوصل للحرام فالظاهر تحقق التمرد به بملاك التجري، لا بملاك المخالفة.

ما ذكره العراقي (قدس سره) من حرمة المقدمة الموصولة بقصد الإيصال

وأما لو أتى به لا بقصد التوصل للحرام فلا تمرد به ولا تجري أيضاًً، ولو مع العلم بترتب الحرام عليه بالاختيار للعزم على فعل الحرام بعد تمامية مقدماته، وإنما يكون العزم المذكور موجباً للقبح الفاعلي دون الفعلي، وهو أمر آخر.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في المقام من حرمة المقدمة الموصلة في ظرف الإيصال - لا بقيده - مطلقاً ولو مع عدم قصد التوصل بها للحرام، نظير ثبوت الوجوب لمقدمة الواجب.

الإشكال عليه

فإنه يتبني على حرمة تمام أجزاء العلة في ظرف تماميتها ولو تدريجاً. وهو في غير محله، لأنه حيث كان يكفي في عدم تحقق المبغوض عدم أي جزء من أجزاء علته بدلاً فلا وجه لمبغوضية تمامها في ظرف اجتماعها، كما تقدم توضيحه.

نعم، لو فرض وجودها دفعةً تعين استناد المخالفة والعصيان للكل، لعدم المرجح بينها بعد صلوح كل منها لانطباق الوجود البدلي عليه، لا لمبغوضية الكل بنحو المجموع، نظير ترك تمام الأفراد العرضية للواجب البدلي، فإنه إنما يقتضي المخالفة بترك الكل لعدم المرجح بينها في استناد ترك الوجود البدلي المطلوب إليه، لا لإرادة الكل بنحو المجموع.

ص: 335

وتظهر الثمرة لذلك(1) في مثل ما لو توضأ المكلف في حفرةٍ مباحةٍ ناوياً أو عالماً بفتح طريق جريان الماء منها بعد إكمال الوضوء للأرض المغصوبة فعلى القول بحرمة المقدمة الموصلة مطلقاً يتعين بطلان الوضوء لكونه مقدمة إعدادية موصلة للحرام المفروض تحقق بقية أجزاء علته فيما بعد، فيكون تمرداً ومخالفة للحرمة ويمتنع التقرب به، وعلى ما ذكرنا يصح الوضوء، لعدم التمرد والمخالفة إلا بفعل الجزء الأخير من علة الحرام، وهو فتح الطريق من الحوض للأرض المغصوبة، وإنما يبطل الوضوء إذا كان هو آخر أجزاء العلة، لانفتاح الطريق من أول الأمر.

تحديد الداعوية نحو المقدمة

وإلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني وبعض الأعاظم I في المقام، حيث خصّا الحرمة بالمقدمة التي يمتنع معها ترك الحرام.

الثالثة: تحديد الداعوية نحو المقدمة.

والظاهر أنه يجري هنا ما تقدم في مقدمة الواجب من تبعية حكم المقدمة لحكم ذيها في الإطلاق والاشتراط، وأن المنع قبل وقت الحرام من مقدمته التي ينحصر تركه في وقته بتركها قبل وقته يبتني على ما تقدم في المقدمات المفوتة، من دون فرق بين المقامين، كما يظهر بالتأمل في الوجوه السابقة.

وبهذا ينتهي الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله رب العالمين، ومنه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 336


1- لا تظهر الثمرة المذكورة في فعل مقدمة المكروه، لأن فعل المكروه ليس تمرداً مانعاً من التقرب المعتبر في العبادة، على ما يأتي توضيحه في مبحث اجتماع الأمر والنهي عند الكلام في العبادات المكروهة إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع: في مسألة الضد

اشارة

قد وقع الكلام بينهم في أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟.

ومرادهم بالضد كل ما ينافي المأمور به، بحيث لا يمكن اقترانهما في الخارج، سواءً كان عدمياً، وهو ترك المأمور به، الذي يعبر عنه في كلماتهم ب (الضد العام)، أو وجودياً، وهو الذي يعبر عنه ب (الضد الخاص)، كالصلاة الذي يتعذر معها إزالة النجاسة عن المسجد، سواء أريد به كل واحد من الأضداد الخاصة أم الجامع بينها، الذي قيل إنه قد يعبر عنه بالضد العام أيضاًً.

المراد بالاقتضاء

والمراد باقتضائه له مطلق لابديته معه، سواء رجع إلى عينية الأمر بالشيء مع النهي عن ضده أم إلى جزئيته له - كما قد يدعى في الضد العام - أم إلى ملازمته له لمقدمية ترك الضد لفعل المأمور به أو بدونها، كما يظهر بالنظر في مجموع كلماتهم.

وبلحاظ الأخير صح لنا عقد المسألة في مباحث الملازمات العقلية، لأنه هو المهم من جهات الكلام في المسألة.

ص: 337

وما يظهر من بعض كلماتهم من التعرض للدلالة اللفظية لا يوجب جعل المسألة من مباحث الألفاظ، لما هو المعلوم من عدم اختصاص محل الكلام بما إذا كان الأمر مستفاداً من اللفظ، بل ليس ذلك منهم إلا لاستكمال البحث في المسألة واستيفاء الاحتمالات فيها مع كون المهم هو الملازمة التي قد تكون هي المنشأ للكلام في الدلالة اللفظية الالتزامية.

هذا، وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمرين..

الكلام في الضدالمستلزم لمعصية الأمر

الأول: أن محل الكلام في المقام الضد المستلزم لمعصية الأمر، لكون الأمر مضيقاً يقتضي صرف القدرة الفعلية لامتثاله وينافيه صرفها في ضده، دون الموسع الذي لا يقتضي إلا صرف القدرة في بعض الوقت إليه من دون أن ينافيه صرف القدرة في بعضه الآخر إليه.

ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام في توجيهه.

تصحيح كون المسألة أصولية

الثاني: حيث كانت نتيجة المسألة متضمنة لحكم الضد شرعاً صح منهم عدها من مسائل الأصول بناء على المعيار المتقدم للمسألة الأصولية، إلا أن من الظاهر أن الحرمة المدعاة للضد ليست بنفسها مورداً للأثر العقلي من العقاب بالمخالفة والثواب بالموافقة. حيث لا إشكال ظاهراً في أنها في طول الأمر بالضد في الغرض والطاعة والمعصية.

ولذا لا يظن من أحد البناء على استحقاق فاعل المأمور به وتارك ضده لثوابين ولا استحقاق تارك المأمور به وفاعل ضده لعقابين، ولذا لا تكون النتيجة المذكورة مهمة في مقام العمل، نظير ما تقدم في مسألة مقدمة الواجب.

فالظاهر أن ثمرة المسألة العملية عندهم - كما صرح به بعضهم - هو

ص: 338

امتناع التعبد بالضد والتقرب به، فيبطل لو كان عبادة، بناء على ما يأتي في الفصل السادس إن شاء الله تعالى من اقتضاء النهي في العبادة الفساد.

لكن الثمرة المذكورة لا تتوقف على حرمة الضد شرعاً، بل يكفي فيها كونه تمرداً على المولى ولو لم يكن محرماً شرعاً، كما يتضح فرضه في ما يأتي.

ومن هنا لا يكون بحثهم في المسألة عن حرمة الضد مناسباً للثمرة التي حررت لأجلها. ولعل لذلك دخلاً في اضطراب بعض كلماتهم في المقام، فكان نظر القدماء في إثبات اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده في بعض الموارد إلى كون فعل الضد تمرداً على المولى ومخالفة لأمره، لاختلاط ذلك عليهم بالنهي عن الضد، ونظر المتأخرين في نفي الاقتضاء في ذلك إلى تحقيق مفهوم الأمر والنهي والتدقيق في مفادهما ومقتضاهما مع إغفال حال الثمرة التي ذكرناها، وعدم التنبيه إلى أن نفي الاقتضاء لا ينافي ترتبها.

ومن هنا كان المناسب لنا في هذا البحث الجمع بين الأمرين بالبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وعدمه لمتابعتهم في تحرير محل النزاع، وعن ترتب الثمرة المذكورة، لكونه الغرض المهم من النزاع.

بقي في المقام شيء، وهو أنه لابد في ترتب الثمرة المذكورة من أمرين:

اعتبار تمامية ملاك الأمر

أحدهما: تمامية ملاك الأمر بالعبادة مع الأمر بالضد، ليمكن صحتها في نفسها - لولا التمرد على المولى اللازم منها - بالتقرب بقصد أمرها الأصلي أو الترتبي - على القول به - أو قصد الملاك المذكور، أما لو استلزم

ص: 339

فقدها للملاك وخروجها عن الطبيعة المأمور بها ذاتاً فبطلانها لعدم المقتضي لا للمانع وهو كونها ضداً للمأمور به.

وتمييز أحد الأمرين يبتني على ما يذكر في مبحث التزاحم ويأتي بعض الكلام فيه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

اعتبار التفات المكلف للجهة الموجبة للتمرد

ثانيهما: التفات المكلف للجهة الموجبة لكون الفعل تمرداً على المولى، بل يكفي اعتقاده بذلك خطأ، أما مع الغفلة عنها فلا يمتنع التقرب بالعمل ولو مع وجودها واقعاً، كما هو ظاهر.

إذا عرفت هذا فالكلام في تحرير محل النزاع ومورد الثمرة المذكورة يكون في ضمن أمور..

الكلام في بساطة الأوامر والنواهي

الأمر الأول: سبق منا في مقدمة المقصد الثاني في الأوامر والنواهي من مباحث الألفاظ أن الأمر والنهي متقابلان مفهوماً واقتضاءً، فالأمر بالشيء نحو إضافة تقتضي فعله، والنهي نحو إضافة تقتضي تركه، كما أنه تقدم في مقدمة الأصول عند الكلام في الفرق بين الحكم الإلزامي والاقتضائي غير الإلزامي أن كلاًّ من الحكمين بسيط له منشأ انتزاع خاص به، ولا تركيب في أحدهما.

ومن هنا لا مجال لدعوى: أن الأمر بالشيء - إذا كان إلزامياً - مركب من طلبه مع النهي عن تركه، بحيث يكون النهي المولوي عن ترك الشيء - الذي سبق عنهم التعبير عنه بالضد العام - جزءاً من الأمر به، فضلاً عن أن يكون عينه، كما قد يدعى في المقام.

الكلام في الضد العام

نعم، اقتضاء الأمر بالشيء لفعله مستلزم لاقتضائه عدم تركه، للتلازم بينهما، والمقتضي لأحد المتلازمين مقتض للآخر. ومرجع ذلك إلى أن عدم

ص: 340

الترك مما يقتضيه الأمر في مقام الامتثال ويدعو إليه عقلاً، لا أن الترك مورد لنهي متحد مع الأمر بالشيء أو جزء منه، ولذا لا يفرق في الاقتضاء المذكور بين الأمر الإرشادي والمولوي الإلزامي وغيره. غايته أن نحو الاقتضاء من حيثية المولوية وإلإلزام يختلف باختلاف الأمر في الجهة المذكورة.

كما ظهر مما ذكرنا أنه لا مجال لدعوى ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن تركه، لأن الغرض من النهي لما كان هو الداعوية لعدم الترك فالداعوية المذكورة حاصلة بنفس الأمر، كما سبق، فيكون النهي معه خالياً عن الأثر ولاغياً، لعدم دخله في ترتب الغرض المطلوب، بل يترتب بدونه.

ومن هنا لا مجال لدعوى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام - وهو الترك - بشيء من الوجوه المتقدمة، وإن استوضحها جماعة.

نعم، حيث كان الأمر بالشيء مقتضياً عملاً لفعله وعدم تركه - كما تقدم - يكون الترك مخالفة للأمر، فإذا كان الأمر مولوياً إلزامياً كان الترك معصية للمولى وتمرداً عليه، فلا يمكن التقرب به، بل يبطل إذا كان عبادة وإن لم يكن منهياً عنه شرعاً، فإذا وجب الأكل في نهار شهر رمضان - مثلاً - لخوف ظالم ونحوه فعصى المكلف بتركه، امتنع منه التقرب بالصوم الذي هو عبارة عن ترك المفطرات ومنها الأكل المذكور، ونظير ذلك ما لو أمر بترك الشيء، فإن فعله يكون معصية وتمرداً وإن لم يكن منهياً عنه، لعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن نقيضه. فإذا وجب ترك الارتماس، لأنه من المفطرات امتنع التقرب بفعله.

بل لا يبعد جريان ذلك في الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فإن الأمر بأحدهما وإن لم يقتض

ص: 341

النهي عن الآخر، إلا أن فعل الآخر يكون عرفاً بنفسه مخالفة للآخر وتمرداً على الأمر، بحيث يمتنع معه التقرب به منه.

ومجرد التباين بين ترك المأمور به وفعل الضد المذكور حقيقةً لا ينافي ذلك. لأن المعيار في التمرد والانقياد ونحوهما من الأمور الارتكازية على النظر العرفي دون الدقي.

ومن هنا تترتب في جميع ما ذكرنا الثمرة المتقدمة لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن لم يكن الاقتضاء تاماً فيها، لما سبق.

الكلام في الضد الخاص

الأمر الثاني: ربما يدعى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص لمجرد ملازمة فعل الشيء لترك ضده، لدعوى امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، فإذا كان الشيء واجباً كان ترك ضده واجباً أيضاًً، فيكون فعله منهياً عنه.

لكنه يشكل: - مع ابتنائه على اقتضاء الأمر بترك الشيء النهي عن فعله، الذي تقدم في الأمر الأول المنع منه - بأن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم لا يقتضي لزوم اتفاقهما فيه بل لما كان الغرض من جعل الحكم للشيء إحداث الداعي نحوه بلحاظ الملاك المقتضي له، فإذا كان الملاك مختصاً بأحد المتلازمين فلا وجه لجعل الحكم على الآخر وإن كان موافقاً لحكم ذي الملاك، بل يكون عبثاً.

نعم، إذا كان كل منهما مورداً للملاك صح جعل الحكم لكل منهما، حيث يكون أثره تعدد الداعوية وثبوتها من الجهتين، نظير تأكيدها بسبب تأكد الحكم الواحد للموضوع الواحد الواجد لأكثر من ملاك واحد.

لكنه خارج عن محل الكلام من اقتضاء مجرد الملازمة بين الشيئين

ص: 342

اتفاقهما في الحكم مع قطع النظر عن اشتراكهما في الملاك.

الكلام في الاقتضاءبلحاظ مقدمية عدم الضد

الأمر الثالث: ربما يدعى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده بلحاظ توقف الشيء على عدم ضده ومقدمية عدم الضد له، فيستلزم الأمر به الأمر بعدم الضد وتركه، الملازم لحرمة فعل الضد.

ومرجع ذلك إلى مقدمات ثلاث..

الأولى: مقدمية ترك الضد لفعل ضده.

الثانية: ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها.

الثالثة: اقتضاء وجوب ترك الشيء لحرمة فعله.

ويظهر بطلان الثالثة مما تقدم هنا في الأمر الأول، وبطلان الثانية مما تقدم في الفصل السابق، ويأتي الكلام في الأولى إن شاء الله تعالى.

لكن المقدمتين الأخيرتين إنما يحتاج إليهما لإثبات النهي الشرعي عن الضد أما بلحاظ الثمرة المتقدمة - وهي امتناع التقرب بالضد وبطلانه لو كان عبادة - فلا حاجة للمقدمة الثالثة، لما سبق في الأمر الأول من أن وجوب ترك الشيء مانع من التقرب بفعله لكونه تمرداً على المولى وإن لم يكن منهياً عنه.

كما لا حاجة للمقدمة الثانية، لأن مقدمة الواجب وإن لم تجب شرعاً إلا أن وجوب ذيها لما كان يدعو إليها في طول داعويته إليه فلا مجال بنظر العقلاء للتقرب بمخالفة مقتضى الداعوية المذكورة، لرجوعه إلى مخالفة مقتضى الوجوب النفسي المذكور، فيكون معصية للمولى وتمرداً عليه، فكيف يتقرب به إليه؟!، فإذا فرض كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده كان الأمر بالشيء داعياً لترك ضده تبعاً، فيكون فعله مخالفة لمقتضى داعويته

ص: 343

المذكورة.

ويظهر من الفصول عدم تمامية ذلك بناء على ما تقدم منه ومنا في الفصل السابق من اختصاص الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة، بتقريب: أنه إذا كان ترك الضد مقدمة للواجب، كان الواجب الغيري هو تركه الموصل لفعل الواجب، لا مطلق تركه، فيكون الحرام ترك الترك الموصل، لا فعل الضد وإن كان فعله لازماً للترك المذكور، لأن الترك المذكور إما أن يكون بالترك غير الموصل أو مع الفعل.

وقد أطال (قدس سره) هو ومن بعده الكلام في ذلك نقضاً وإبراماً بما لا يسع المقام استقصاءه. إلا أنه حيث ذكرنا أن المعيار في الثمرة ليس على النهي الشرعي، ليهتم بتحديد موضوعه، بل على كون الفعل تمرداً على المولى، فالمرتكزات العرفية والعقلائية حاكمة بما سبق منا من أن داعوية الواجب النفسي للترك في الفرض موجبة لكون الفعل مخالفة لمقتضى الداعوية المذكورة وتمرداً على المولى فلا يمكن التقرب بالفعل.

ولذا لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب من المتطهر بفعل سبب الحدث - كالجماع - مع تضيق وقت الصلاة، بحيث لا يسع الطهارة لها، وما ذلك إلا لتوقف الصلاة الواجبة على ترك سبب الحدث، فيكون مخالفة لمقتضى وجوبها وتمرداً على المولى، ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا كان الظاهر عدم دخل المقدمتين الأوليين في ترتب الثمرة المهمة لمسألة الضد، وهي امتناع التقرب بالضد وفساده لو كان عبادة، بل يكفي فيها المقدمة الأولى وهي مقدمية ترك الضد لفعل ضده.

ولذا اهتم جماعة من الأعيان بالكلام فيها وجعلوه من أهم مباحث

ص: 344

المسألة، وهو ما يأتي إن شاء الله تعالى.

الكلام في توقف وجود الشيء على عدم ضده

الأمر الرابع: وقع الكلام بينهم في توقف وجود الشيء على عدم ضده الراجع لمقدمية عدم الضد للواجب، وقد أطالوا الكلام في المقدمية المذكورة وجوداً وعدماً، وأصر جماعة على امتناعها ولزوم المحاذير العقلية منها.

والظاهر أن مجرد التضاد بين الشيئين بنحو يمتنع اجتماعهما في الوجود لا يقتضي إلا ملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر وتركه، دون توقفه عليه الذي هو المعيار في المقدمية.

حديث الأصفهاني (قدس سره)

ويظهر من بعض المحققين (قدس سره) كفاية ذلك في التوقف والمقدمية، بدعوى: أن عدم الضد متمم لقابلية الموضوع للاتصاف بالضد الآخر، وقابلية الموضوع لعروض الشيء من أجزاء علة ذلك الشيء التي يتوقف عليها وجوده.

الإشكال عليه

ويدفعه: أن مجرد امتناع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد لا يستلزم توقف قابلية الموضوع لأحد الضدين على خلوه عن ضده الآخر في رتبة سابقة عليه، ليكون عدم الضد من مقدمات ضده وأجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها، وإنما يتم ذلك في المانع.

الفرق بين الضد والمانع

ومحصل الفرق بين المانع والضد: أن المانع ما يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده - بما له من خصوصية ذاتية وعرضية معتبرة في التأثير - في المعلول، إما لخصوصيته التكوينية، كالرطوبة المانعة من تأثير النار للإحراق، أو لأخذ عدمه في الموضوع شرعاً كزوجية الأم المانعة من زوجية بنتها.

ص: 345

من دون فرق بين ما إذا كان المانع غير ممكن الارتفاع إما لمانعيته مطلقاً بحدوثه، كزوجية البنت المانعة من زوجية أمها، أو بحدوثه وبقائه مع تعذر ارتفاعه، كالسور الحصين المانع من اقتحام العدو للمدينة، وما إذا كان ممكن الارتفاع، إما بتأثير المقتضي بأن يكون المقتضي بحدوثه مؤثراً فيه ورافعاً له أولاً ثم يكون باستمراره مؤثراً في المعلول بعد رفعه للمانع، كالرطوبة المانعة من تأثير النار في أطراف الجسم بمماسته إلا بعد تجفيفها له مع استمرارها بعد التجفيف أو برافع آخر كغلق الباب المانع من دخول الحيوان الدار إلا بعد فتح الإنسان له، وزوجية الأم قبل الدخول المانعة من زوجية بنتها إلا بعد ارتفاعها بطلاق أو نحوه.

والجامع بين الكل أن يكون وجود الشيء بنفسه مانعاً من تأثير المقتضي في المعلول، بحيث يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده، فإن مقتضى ذلك توقف وجود المعلول على عدم المانع كتوقفه على وجود المقتضي والشرط وكونه مثلهما من أجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها في رتبةٍ سابقةٍ عليه.

عدم صلوح الضد للمانعية

أما الضد فهو لا يصلح للمانعية من تأثير مقتضي ضده فيه، لعدم واجديته للخصوصية المناسبة لذلك، فلا يكون وجود كل من الضدين مفتقراً لعدم الآخر، بحيث لابد من عدم الضد في رتبة سابقة على وجود ضده، وإن امتنع اجتماعهما في الوجود، إما للتنافر بين مقتضييهما بنحو يلزم من وجود مقتضي كل منهما عدم المقتضي للآخر، كالصلاة وإزالة النجاسة، حيث لا يعقل تعلق الإرادة بكل منهما التي هي من سنخ المقتضي لهما بعد فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما، فيستند عدم كل منهما في ظرف

ص: 346

وجود الآخر لعدم المقتضي له، لا لمانعية وجود الآخر من تأثير مقتضيه فيه.

أو لمانعية مقتضي أحدهما من تأثير مقتضي الآخر كحركة الثوب المستندة للهواء وسكونه المستند لجاذبية الأرض، فمع حدوث الهواء المقتضي للحركة لا يستند عدم السكون لعدم المقتضي، لبقاء قوة الجاذبية معه وإن كانت مغلوبةً له، بل لوجود الهواء المقتضي للحركة، حيث يكون هو المانع من تأثير الجاذبية في السكون، فيستند عدم السكون إليه لا لعدم المقتضي ولا للحركة، كما أنه مع عدم الهواء يستند السكون للجاذبية من دون دخل لعدم الحركة، فليس كل من الحركة والسكون مانعاً من الآخر.

ومما ذكرنا يظهر أن قابلية الموضوع للعارض التي هي من أجزاء علته إنما تكون بخلوه عن الموانع التي يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه، لا بخلوه عن الأضداد حيث لا وجه لجعله من أجزائها بعد عدم دخله في تأثير المقتضي، لعدم مانعية وجود الأضداد من تأثيره، وإن كانت منافية للعارض، بحيث لا تجتمع معه في الخارج ولا يسعهما الموضوع في وقت واحد.

هذا، وحيث تقدم أن المعيار في التضاد بين الشيئين مجرد عدم اجتماعهما في الوجود، وأن ذلك بنفسه لا يقتضي توقف أحدهما على عدم الآخر، ومقدمية عدمه له الذي هو محل الكلام، بل لابد فيه من مانعية أحد الأمرين من تأثير مقتضي الآخر فيه - الذي لابد في إحرازه من الرجوع للطرق والأصول الصالحة لإثباته - وهو خارج عن محل الكلام، تكون دعوى مانعية أحد الضدين للآخر خلفاً لا يحتاج في بطلانها للاستدلال.

لكن قد اهتم غير واحدٍ بالكلام في امتناع مانعية أحد الضدين للآخر وعدمه وقد يقرب الامتناع بدعوى استلزام المانعية للدور.

ص: 347

تقريب امتناع مانعية أحد الضدين للآخر

ولعل الأولى في تقريبه أن يقال: كما يستند وجود الشيء لعدم المانع بحيث يكون من مقدماته، كذلك يستند عدمه لوجود المانع بحيث يكون من مقدماته، فإذا كان كل من الضدين مانعاً من الآخر، فكما يلزم استناد وجود كل من الضدين لعدم الآخر ومقدميته له، بملاك علّية عدم المانع للمعلول ومقدميته له، كذلك يلزم استناد عدم كل منهما لوجود الآخر ومقدميته له، بملاك عِلِّية وجود المانع لعدم المعلول ومقدميته له. فيكون عدم الصلاة - مثلاً - مقدمة لإزالة النجاسة، لمقدمية عدم المانع للمعلول، كما تكون الإزالة مقدمة لعدم الصلاة، لمقدمية المانع لعدم المعلول، وهو دور واضح.

دفع الأصفهاني (قدس سره)

وقد حاول غير واحد دفع ذلك، والمستفاد منهم في دفعه وجوه..

أولها: ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) في تتميم توجيه ما سبق منه في تقريب التمانع بين الضدين، بأن قابلية المحل من أجزاء العلة، من أن العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل، ليتصور شرطية شيء له، فلا منشأ للمقدمية من جانب العدم، بل يختص التوقف بالوجود، فلا دور.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن عدم احتياج العدم إلى فاعل وإن كان مسلماً، إلّا أنه يحتاج إلى قابل بالمعنى المتقدم، إذ لا إشكال في توقفه على عدم تمامية علة الوجود، لأن العلة المذكورة رافعة للعدم ومانعة منه بلا إشكال، فيكون عدمها متمماً لقابلية المحل له، نظير رافعية وجود المانع للوجود الموجبة لعلية عدمه له، فإذا كان عدم المانع من أجزاء علة الوجود كان وجوده مؤثراً للعدم ومقدمة له.

ثم إنه (قدس سره) قد أطال في تتميم مدعاه وتحقيقه والكلام في ترتب الثمرة

ص: 348

عليه بما لا يسع المقام استقصاءه ويضيق الصدر عن متابعته فيه وتعقيبه.

دفع الخونساري (قدس سره)

ثانيها: ما عن المحقق الخونساري (قدس سره) من أن عدم الضد مستند إلى عدم تمامية علته بعدم أي جزء منها، ولا يتوقف على وجود المانع الذي فرض أن منه الضد.

نعم لو وجد تمام أجزاء العلة غير عدم المانع اتجه توقف عدم الضد حينئذٍ. على وجود المانع المفروض أن منه الضد، لانحصار عدم تمامية العلة به حينئذٍ، لكن فرض تمامية أجزاء العلة غير عدم الضد قد يكون محالاً.

وما ذكره من احتمال محالية الفرض المذكور قد يرجع إلى ما يأتي في الوجه الثالث.

المناقشة فيه

وأما ما ذكره من عدم توقف وجود الضد على وجود المانع، بل يكفي فيه عدم تمامية بقية أجزاء العلة فيشكل: بأنه لا يعتبر في توجه محذور الدور التوقف من الطرفين، لانحصار علة كل منهما بالآخر، بل يكفي فعلية الاستناد إليه لأنه أحد أفراد العلة، لأن علة الوجود إذا كانت مركبة من المقتضي والشرط وعدم المانع كان ارتفاع كل منها علة للعدم، فمع ارتفاع الكل - بعدم المقتضي والشرط ووجود المانع - يستند العدم للكل، ومنه وجود المانع، لعدم المرجح. إلا أن يدعى وجود المرجح لما يأتي الكلام فيه.

لكنه - لو تم - فعدم فعلية استناد العدم لوجود المانع لا ينافي كونه في مرتبة علة العدم ومتقدماً عليه، فإذا كان المانع هو الضد كان متقدماً رتبة على عدم ضده فيستحيل توقفه على العدم المذكور، لاستلزام تقدم المتأخر، وهو لا يقصر عن محذور الدور. وإلى هذا أشار المحقق الخراساني (قدس سره) بامتناع

ص: 349

توقف الشيء على ما يصلح لأن يتوقف عليه.

ثالثهما: أن عدم الشيء وإن كان يكفي فيه عدم تمامية أجزاء علته ولو بتخلف بعضها، إلا أن استناده إلى كل جزء منها ليس في عرض واحد، كي يلزم عند عدم الجميع الاستناد لعدم الكل، بل استناده لبعضها متقدم رتبة على استناده للآخر، فهو في الرتبة الأولى يستند لعدم المقتضي، فإن وجد المقتضي استند لعدم الشرط الوجودي، فإن وجد أيضاًً استند لوجود المانع، ولا يستند لوجود المانع في ظرف عدم المقتضي أو الشرط. ولذا يستهجن عرفاً تعليل عدم الإحراق - مثلاً - مع عدم النار، أو عدم قربها من الجسم برطوبة الجسم.

وحينئذٍ فكون كل من الضدين مانعاً من الآخر إنما يقتضي استناد وجود الضد لعدم ضده، لأنه من أجزاء علته، ولا يقتضي استناد عدم الضد لوجود ضده، بل في فرض عدم مقتضي الضد الآخر أو عدم شرطه يستند عدمه لهما، وفي فرض وجودهما يمتنع وجود الضد الأول، لامتناع وجود مقتضيي الضدين مع أقوائية كلٍ منهما وسائر شروط تأثيرهما الوجودية - كالقدرة في الأفعال الاختيارية - بل لابد من ارتفاع مقتضي أحدهما أو ارتفاع شرطه الملازم لارتفاعه، فيوجد الضد الآخر، ولا يستند عدمه لوجود الضد في حال. وربما يحمل على ذلك كلام الخونساري، وإن كان ظاهره ما تقدم.

ويشكل.. أولاً: بما عرفت في سابقه من أن عدم فعلية استناد عدم الضد لوجود ضده لا ينافي تقدم وجود ضده عليه رتبة بعد فرض مانعيته وكون العدم المذكور من أجزاء علة الوجود، فيلزم تقدم المتأخر.

ص: 350

وثانياً: بأن الترتب المذكور غير ظاهر بعد كون الخصوصية الذاتية في المانع الموجبة لسد باب الوجود من جهته غير تابعة لوجود المقتضي والشرط. ومجرد الترتب في نسبة العدم عرفاً لا يكفي في مثل ذلك من الأمور الواقعية المدركة للعقل. فتأمل.

وثالثاً: أنه إذا فرض امتناع استناد عدم الضد إلى وجود ضده، فكيف يمكن الجزم بمانعية الضد، لأن مانعية الشيء في التكوينيات منتزعة من خصوصيته الذاتية المقتضية لاستناد العدم إليه مطلقاً، أو في ظرف وجود المقتضي والشرط، على الكلام المتقدم، والخصوصية المذكورة إنما تدرك بطريق فعلية الاستناد، فإذا فرض عدم فعليته فلا طريق إلى إدراك الخصوصية المذكورة.

بل فرض امتناع بقاء الضد حال وجود مقتضي ضده الآخر وشرطه - لما تقدم - مساوق لفرض عدم مانعيته، إذ لا معنى لمانعية الشيء للمقتضي الذي لا يجتمع معه، لوضوح أن المانعية نحو من المزاحمة المتفرعة على اجتماع المتزاحمين، وفرض عدم اجتماعهما بالضرورة مساوق لفرض عدم التزاحم بينهما.

وقد أشار إلى ذلك في الجملة في التقريرات والكفاية، بل ساق بعض الأعاظم (قدس سره) ذلك في الجملة دليلاً على عدم التمانع بين الضدين. فراجع.

ورابعاً: بأن مانعية الضد بالنحو المذكور - لو تمت - لا تصحح التكليف الغيري بعدمه ولا الداعوية الغيرية له عقلاً بنحو يكون فعله مخالفة لمقتضى الأمر وتمرداً على الآمر لتترتب الثمرة المهمة للمسألة، إذ المفروض أنه مع عدم المقتضي والشرط يستند العدم إليه لا لوجود الضد، فلا منشأ للتكليف

ص: 351

والداعوية الغيريين بعدمه، ومع وجودهما لا وجود للضد، فلا يستند إليه عدم ضده المأمور، كي يدعو الأمر بالضد لعدمه.

دفع المحقق الخونساري (قدس سره) بالفرق بين الضد الموجود والمعدوم

رابعها: ما عن المحقق الخونساري (قدس سره) من الفرق بين الضد الموجود، فيتوقف ضده على عدمه، والمعدوم، فلا يتوقف ضده على عدمه. وصريح كلامه أن ذلك ليس لخصوصية في الضد، بل هو الحال في كل مانع، فالمعلول إنما يتوقف على عدم المانع إذا كان المانع موجوداً، ولا يتوقف عليه إذا كان معدوماً.

قال في محكي كلامه - بعد أن دفع الدور بما سبق -: «وهنا كلام آخر، وهو أنه يجوز أن يقال: إن المانع إذا كان موجوداً فعدمه مما يتوقف عليه وجود الشيء، أما إذا كان معدوماً فلا... وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور أن حمل كلامه على ظاهره أيضاً...».

قال في التقريرات: «وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل: هو أنه إذا فرضنا اشتغال المحل بوجود أحد الأضداد، كالسواد مثلاً، كان وجود الآخر - كالبياض - موقوفاً على ارتفاع الموجود، لمكان التضاد. وأما وجود السواد في ذلك المحل لم يكن موقوفاً على عدم البياض، لأن هذا العدم سابق على علة السواد ومقارن لها، فلا توقف من الطرف الآخر، فلا دور».

أقول: ليس منشأ الدور هو لزوم توقف كل من الضدين على عدم الآخر، كي يرتفع بالتفصيل بين الموجود والمعدوم، بدعوى: أن عدم المعدوم لا يتوقف عليه الموجود، لحصوله، بل منشؤه لزوم عِلّية وجود الضد لعدم ضده، لما تقدم من استناد عدم الشيء لوجود مانعه، وهو لا يرتفع بالتفصيل المذكور، فإن عدم توقف السواد حال وجوده على عدم

ص: 352

البياض وغيره من الأضداد المفقودة لا ينافي علية البياض لعدم السواد الموجود، بملاك علّية المانع لعدم المعلول، فتوقف البياض على عدم السواد مستلزم للدور.

ودعوى: أن السواد الموجود إذا لم يتوقف على عدم البياض المعدوم لم يكن وجود ذلك البياض علة لعدم السواد، لأن علة العدم إنما هي نقيض علة الوجود.

مدفوعة: بأنه لم يفرض في كلام المحقق المذكور خروج المانع المعدوم عن كونه مانعاً وعن كون عدمه من أجزاء العلة، بل مجرد عدم فعلية توقف وجود المعلول الموجود على عدمه، لتحقق العدم المذكور. وإلا فالخصوصية الذاتية بين المانع والممنوع لا تتوقف على وجود الممنوع قطعاً.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في بطلان التفصيل المذكور، فإن عدم المانع لما كان من أجزاء العلة فلا يفرق في افتقار المعلول إليه وتوقفه عليه بين تحققه وعدمه. قال في التقريرات: «الفرق بين حالة وجود الضد وحالة عدمه والتزام التوقف في الأول دون الثاني مما لا سبيل إليه، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلاً في الثاني، ولا معنى لمنع التوقف في المقدمات الحاصلة».

نعم، قد يدعى أنه مع تحققه لا مجال للتكليف به غيرياً تبعاً لوجوب المعلول نفسياً، لأنه طلب الحاصل.

لكنه - مع خروجه عن محل الكلام من التوقف والاستناد الذي هو منشأ لزوم الدور - إنما يتم مع تعذر ارتفاعه بعد حدوثه، أما مع عدم تعذره

ص: 353

فيتعين التكليف غيرياً بالمحافظة عليه، كسائر المقدمات الموجودة.

هذا ما تيسر لنا الكلام فيه من الوجوه المذكورة في كلماتهم للتخلص من محذور الدور الموجه على دعوى التمانع بين الضدين. وقد ظهر عدم تماميتها.

ما ذكره السيد (قدس سره) الحكيم من توجيه مانعية الضد

بقي في المقام شيء، وهو أنه ذكر سيدنا الأعظم (قدس سره) في توجيه امتناع مانعية الضد أن عدم المانع لما كان سابقاً رتبة على الممنوع لأنه من أجزاء علته كان وجود المانع سابقاً عليه أيضاًً، لأن النقيضين في رتبة واحدة، فلو كان كل منهما مانعاً من الآخر لزم تقدم كل منهما رتبة على الآخر وهو محال، بل لابد من البناء على أنهما في رتبة واحدة كنقيضهما، وقد حكي ذلك عن بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أيضاًً.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن الملاك في تقدم الشيء على الآخر رتبة خصوصية بينهما مقتضية لذلك، كالعلية، ولا يكفي فيه كون أحدهما في رتبة ما هو متقدم على الآخر، فالعم لا يكون متقدماً على ابن أخيه رتبة، وإن كان هو في رتبة أبيه المتقدم عليه بملاك العلية.

وحينئذٍ فمجرد كون الضد في رتبة نقيضه المتقدم على ضده الآخر رتبة بملاك العلية لا يقتضي تقدمه على الضد الآخر المذكور.

بل كون النقيضين في رتبة واحدة بمعنى عدم المنشأ لتقدم أحدهما على الآخر مسلم، وأما بمعنى لزوم كونهما في رتبة واحدة، كالعنوانين المتضايفين المنتزعين من منشأ انتزاع واحد، فهو مورد لكلام لا مجال لإطالة الكلام فيه.

فالعمدة في منع التمانع بين الضدين لزوم محذور الدور المتقدم، وإن

ص: 354

تقدم أناّ في غنى عنه بعد ما سبق منا من ذكر المعيار في المانعية، وأن مجرد التضاد بين الشيئين والتنافر بينهما في الخارج بحيث يمتنع اجتماعهما لا يكفي فيها.

الكلام في الثمرة المهمة

الأمر الخامس: أشرنا في الأمر الثاني من التمهيد لهذه المسألة إلى أن الثمرة المهمة لها هي فساد الضد لو كان عبادة، بناء على اقتضاء النهي عن العبادة الفساد.

إنكار النائيني (قدس سره) للثمرة

وقد يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) إنكار الثمرة المذكورة، بدعوى: أن النهي الغيري لا ينافي ثبوت ملاك الأمر المصحح للتقرب والعبادية - على ما يأتي - فلا موجب للفساد معه.

وهو مبني على أن منشأ اقتضاء النهي في العبادة الفساد هو كشفه عن عدم ملاك الأمر فيها - كما ذكره في تلك المسألة - وما ذكرناه يبتني على أن منشأه امتناع التقرب بما يكون معصية للمولى وتمرداً عليه، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ولذا سبق اختصاص الثمرة المذكورة بما إذا التفت المكلف لجهة المبعدية المذكورة، إذ مع الغفلة عنه لا يمتنع التقرب بالعبادة بخلاف ما لو كان مبنى الثمرة القصور الملاكي، حيث يبطل العمل الخالي عن ملاك الأمر مطلقاً، كصلاة الحائض.

ثم إن امتناع التقرب بالضد مع النهي الغيري المبتني على مانعية الضد ومقدمية عدمه لوجود ضده المأمور به مما لا إشكال فيه، بل تقدم في الأمر الثالث امتناعه مع فرض المانعية وإن لم نقل باستلزامها النهي الغيري.

وأما امتناعه مع النهي التبعي المبتني على محض الملازمة بين فعل

ص: 355

الشيء وترك ضده، الذي سبق الكلام فيه في الأمر الثاني، فهو موكول إلى نظر القائلين بثبوت هذا النهي، وأنه هل يقتضي مبعدية المنهي عنه وامتناع التقرب به أو لا؟ ولا يتيسر لنا النظر فيه بعد ما سبق منا من المنع عن ثبوت النهي المذكور، لعدم الموضوع.

إنكار البهائي (قدس سره) للثمرة

هذا ويظهر مما عن البهائي إنكار الثمرة المذكورة بدعوى: أن الأمر بالضد وإن لم يقتض النهي عن ضده إلا أنه يستلزم عدم الأمر بضده، فيمتنع التقرب به، لأنه فرع الأمر به، فيبطل لو كان عبادة، فبطلان الضد لو كان عبادة لازم مطلقاً سواء قيل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده أم لا.

المناقشة فيه

أقول: أما امتناع التقرب بالعبادة ولو مع عدم النهي، لاستلزام فعلية الأمر بضدها عدم الأمر بها، فإن ابتنى استلزام الأمر بضدها عدم الأمر بها على قصور الأمر عنها خطاباً وملاكاً، نظير الصلاة الفاقدة للطهارة، فلا مجال للبناء عليه، لأن قصور الأمر المذكور إنما هو من جهة التزاحم بين الأمرين، وهو إنما يوجب فعلية الأهم وقصور المهم خطاباً لا ملاكاً، على ما تقدمت الإشارة إليه من بعض الأعاظم (قدس سره)، وأوضحناه عند الكلام في معيار التزاحم من مقدمات مبحث التعارض. فراجع.

وإن ابتنى الاستلزام المذكور على قصور الأمر بها خطاباً مع بقاء الملاك، مع البناء على توقف العبادية على قصد الأمر الفعلي فيظهر ضعفه مما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي من أن معيار العبادية التقرب بقصد ملاك المحبوبية، وأن قصد الأمر راجع إليه لكشف الأمر عن الملاك، فمع فرض ثبوته في المقام يكفي قصده في التقرب المعتبر في العبادية ما لم يمنع منه وقوع الفعل على نحو التمرد على المولى، لكونه منهياً عنه، أو

ص: 356

لكون تركه مقدمة لواجب نفسي فعلي، وهو الذي يرجع إليه الكلام في هذه المسألة، ولازم ذلك ابتناء بطلان العبادة على الكلام في هذه المسألة.

وأما ما ذكره من استلزام الأمر بالضد عدم الأمر بضده الآخر فهو يتم في الجملة مع كون الأمر بالضد الآخر مزاحماً له لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، إذ مع فرض فعلية أحدهما لأهميته بتعين سقوط الآخر وعدم فعليته في عرضه لامتناع التكليف بغير المقدور.

نعم، وقع الكلام في إمكان الأمر به في طول الأمر الفعلي المفروض بالأهم بنحو الترتب، ويأتي تحقيقه في الأمر السادس إن شاء الله تعالى.

وإنما الإشكال فيما لو لم يكن الأمر بالضد الآخر مزاحماً للأمر الفعلي المفروض، لإمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال بامتثال الأمر بالضد الآخر بفرد لا يزاحم الضد المأمور به فعلاً، إما لكونه موسعاً، كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد مع سعة وقت صلاة الواجبة، حيث يمكن الجمع بين الامتثالين بتطهير المسجد ثم الصلاة، أو لكونه مضيقاً ذا فردين فرد مضاد للواجب الفعلي يتعذر جمعه معه وآخر غير مضاد له كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد وضاق وقت الغسل للصلاة، إلا أنه يمكن الغسل تارة: بنحو يتحقق معه تطهير المسجد بتكثير ماء الغسل حتى يجري على الموضع النجس منه فيطهره، وأخرى: بنحو لا يتحقق معه التطهير بالغسل بالماء القليل.

فقد وقع الكلام بينهم في مثل ذلك في أن الأمر بالضد الآخر هل يشمل الفرد المزاحم للمأمور به الفعلي بحيث يمكن قصد امتثال الأمر وإن استلزم عصيان ذلك الأمر، أو يقصر عنه فلا يمكن قصد الامتثال به إلا بناء

ص: 357

على ثبوت الأمر الترتبي الطولي المشار إليه آنفاً، ويأتي الكلام فيه.

دعوى ابتناء الكلام على مسألة تعلق الأمر والنهي بالطبائع والأفراد

ويظهر من غير واحد ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في مسألة تعلق الأمر والنهي بالطبايع والأفراد، فعلى الأول - الراجع عند بعضهم إلى تعلق الأمر التعييني بالطبيعة من دون دخل للخصوصيات الفردية - لا مانع من قصد الامتثال بالفرد المزاحم، لأن قصد الأمر به ليس لكونه بنفسه مأموراً به كي لا يجتمع مع الأمر الفعلي بضده المزاحم له، بل لتعلق الأمر بالطبيعة المنطبقة عليه قهراً، فمع عدم سقوط الأمر بالطبيعة لعدم مزاحمته للأمر الفعلي بالضد لإمكان امتثاله بفرد غير مزاحم يتعين إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم منها أيضاًً. أما بناء على الثاني - الراجع عند بعضهم إلى تعلق الأمر بالأفراد تخييراً - فيتعين سقوط الأمر بالفرد المزاحم واختصاص الأمر بغيره، فلا مجال لقصد الامتثال به. هذا ما يظهر من بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم (قدس سره) وحكاه بعض الأعاظم (قدس سره) عن المحقق الثاني (قدس سره)، بل قد يظهر منه جريان غير واحد ممن تأخر عنه من المحققين عليه.

وهو يرجع إلى دعويين..

دعوى تحقق الامتثال بالفرد المزاحم بناء على التعلق بالطبائع

الأولى: تحقق الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالطبايع، لعدم سقوط أمر الطبيعة بعد فرض عدم مزاحمته للتكليف الفعلي بالضد وانطباقها على الفرد المزاحم قهراً.

وقد استشكل فيها بعض الأعاظم (قدس سره) بأنها إنما تتم بناء على أن منشأ اعتبار القدرة في التكليف هو قبح تكليف العاجز، حيث يكفي في رفع قبح التكليف بالطبيعة القدرة على فرد منها.

لكن التحقيق اقتضاء التكليف بنفسه القدرة على متعلقه، لأن الغرض

ص: 358

منه إحداث الداعي للمكلف لتحريك عضلاته نحو متعلقه باختياره، وذلك يقتضي لزوم القدرة على المتعلق، لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً - لأمر تكويني - أو شرعاً - بسبب المزاحمة لتكليف فعلي، كما في المقام - ولازم ذلك تقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة، وخروج غير المقدور عنها، وهو الفرد المزاحم في المقام، فلا يقع امتثالاً، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه بعد فرض التقييد المذكور.

ويندفع: بأن ذلك - كقبح تكليف العاجز - إنما يقتضي اعتبار القدرة وصفاً للماهية المكلف بها شرطاً للتكليف، لا قيداً للماهية المكلف بها، بحيث يقتضي تحصيصها إلى حصتين مقدورة وغير مقدورة، ليختص التكليف بالأولى ويقصر عن الثانية، كما هو الحال في سائر القيود المأخوذة في المادة، وحينئذٍ حيث يكفي في القدرة على الطبيعة القدرة على بعض أفرادها كفى ذلك في التكليف بها من دون حاجة لتقييدها بالأفراد المقدورة، فتنطبق على الفرد المزاحم قهراً ويمكن قصد امتثال أمرها به بعد فرض فعليته.

نعم، إنما يتم ذلك فيما إذا كان عدم التزاحم بين التكليفين مع تعدد أفراد الضد العرضية واختصاص المزاحمة ببعضها، نظير ما تقدم في مثال الغسل وتطهير المسجد، لفعلية القدرة على الطبيعة، أما إذا انحصر منشؤه بوجود أفراد طولية، لكون أمره موسعاً، نظير ما تقدم في مثال الصلاة والتطهير، فهو يبتني على إمكان الواجب المعلق، أما بناء على امتناعه فالمتعين سقوط التكليف بمزاحمة بعض الأفراد الطولية للضد المكلف به فعلاً، لعدم فعلية القدرة المصححة للتكليف بها، لا بلحاظ الفرد المزاحم

ص: 359

لتعذره شرعاً، ولا بلحاظ الأفراد الأخرى، لأنها استقبالية، لا تكون القدرة عليها مصححة للتكليف على المبنى المذكور المزاحم ومعه لا موضوع لقصد الامتثال بالفرد.

ومن ثم كان الأولى لبعض الأعاظم (قدس سره) سلوك ذلك في وجه منع الامتثال به، لما سبق منه من منع الواجب المعلق (قدس سره)، كما نبه لذلك بعض مشايخنا دامت بركاته.

لكن حيث تقدم منا في محله إمكانه فلا مجال للتوقف من هذه الجهة في فعلية التكليف بالطبيعة، وفي إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم.

دعوى تعذر الامتثال بالفرد المزاحم بناء على التعلق بالأفراد

الثانية: تعذر الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالأفراد - بالوجه المتقدم - حيث لابد من سقوط أمره التخييري بالمزاحمة واختصاص الأمر بغيره. والظاهر عدم تماميتها، لأن الأمر بالفرد المزاحم لما كان تخييرياً على المبنى المذكور لم يكن مزاحماً للأمر الفعلي بالضد، لأنه إنما يقتضي صرف القدرة للامتثال بأحد الأفراد المفروض عدم مزاحمة بعضها، لا بخصوص الفرد المزاحم منها، بل هو من حيثية الفرد المذكور لا اقتضائي، فلا يزاحم الاقتضائي، وهو الأمر الفعلي بالضد، فلا وجه لقصور الأمر التخييري عن الفرد المزاحم.

إن قلت: يلغو الأمر التخييري بالفرد المزاحم، لأن أثره العملي هو التخيير عقلاً بين فعل الفرد المذكور وتركه إلى البدل، ومع فرض التكليف الفعلي بالضد المزاحم للضد المذكور لا مجال للتخيير المذكور، بل يتعين عقلاً امتثال الأمر بالفرد غير المزاحم، فلابد من اختصاص التكليف به. نظير ما لو استلزم الواجب مباحاً بالأصل، حيث لا مجال معه لبقاء الإباحة

ص: 360

وفعليتها، بدعوى: أنها غير اقتضائية، فلا تزاحم الوجوب الاقتضائي، بل لابد من البناء على لغويتها، لعدم بقاء أثرها العملي، وهو التخيير العقلي بين الفعل والترك مع فرض الملازمة المذكورة.

قلت: لا يختص الأثر العملي للأمر التخييري بالتخيير عقلاً بين الأفراد، ليلغو مع فرض ارتفاعه بالمزاحمة، نظير ما ذكر في ملازمة الواجب للمباح، بل له أثر آخر، وهو امتثال التكليف التخييري بكل من أطراف التخيير وسقوطه به، ومن الظاهر عدم منافاة هذا الأثر للأمر الفعلي بالضد المزاحم بوجه، فلا وجه لارتفاعه به، وبلحاظه يتعين بقاء الأمر التخييري على سعته، ولا يلزم لغويته.

وبالجملة: الأمر الفعلي بالضد لا ينافي الأمر الموسع بالضد الآخر، لا من جهة المزاحمة، لفرض إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال، ولا من جهة لزوم اللغوية، لأن تحقق الامتثال بالفرد أثر مصحح للأمر التخييري، فلا وجه لقصوره عن الطرف المزاحم، ولازم ذلك إمكان قصد الامتثال حتى لو قيل بتعلق الأوامر بالأفراد.

ولو فرض امتناع سعة الأمر التخييري للفرد المزاحم للزوم اللغوية تعين امتناع بقاء الطبيعة على سعتها له بناء على تعلق الأمر بالطبايع أيضاًً، لأن الأثر العملي للأمر بالطبيعة المطلقة ليس إلا السعة العملية أيضاًً والتخيير العقلي في امتثال الأمر بها وصلوح كل فرد له، ومع المزاحمة لا تبقى السعة العملية بالوجه المذكور، كما لا تبقى مع الأمر التخييري بتمام أفرادها، بل يتعين تقييدها بالأفراد المقدورة وتعذر قصد الامتثال بالفرد المزاحم.

وكيف كان، فلا يتم ما سبق منهم من ابتناء إمكان قصد الامتثال بالفرد

ص: 361

المزاحم على الخلاف في مسألة تعلق الأوامر والنواهي بالطبايع والأفراد. بل التحقيق إمكانه مطلقاً.

ونظير ذلك يجري في الأمر الشرعي التخييري، كالأمر بخصال الكفارة لو كان بعض الأطراف مزاحماً لتكليف فعلي، حيث يتعين عدم سقوطه، لعين ما سبق.

وعلى ذلك يختص سقوط الأمر بالضد مع فعلية الأمر بضده بما إذا كان مزاحماً للأمر الفعلي المذكور، لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال.

هذا كله بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، بل مجرد سقوط أمره.

وأما بناء على اقتضائه له ففي منافاة النهي المذكور للأمر بالضد مطلقاً أو في خصوص صورة المزاحمة، لانحصار الضد المأمور به بالفرد المنهي عنه، أو عدم منافاته له مطلقاً، كلام يأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

سقوط الأمر بالضد في الجملة لا مطلقاً (مسألة الترتيب)

الأمر السادس: حيث سبق سقوط الأمر بالضد في فرض فعلّية الأمر بضده مطلقاً أو في فرض التزاحم بين الأمر وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال فالمتيقن من ذلك سقوطه في الجملة، بمعنى عدم بقائه على النحو الذي كان عليه بحسب أصل تشريعه من الإطلاق بنحو يقتضي ثبوته ولزوم امتثاله ولو مع مخالفة الآخر، لأنه مناف لفرض فعلية الآخر ولزوم امتثاله.

أما سقوطه مطلقاً فهو محل كلام بينهم، حيث اشتهر في العصور المتأخرة الكلام في ثبوته بنحو لا يقتضي معصية الآخر، بل في طولها وبنحو الترتب بينهما مع فعليته في ظرف فعلية الآخر، بحيث يمكن قصد الامتثال

ص: 362

بمتعلقه ويصح لو كان عبادة وإن قيل بعدم كفاية قصد الملاك في التقريب المعتبر في العبادة.

والكلام المذكور وإن حرر في كلمات المتأخرين في مسألة الضد المفروض فيها التزاحم بين الأمرين تبعاً للتضاد بين متعلقيهما، إلا أن ملاكه لا يختص بذلك، بل يجري في النهيين المتزاحمين تبعاً لامتناع ترك متعلقيهما معاً، وفي الأمر والنهي لو فرض التلازم بين متعلقيهما بحيث لا يمكن فعل متعلق الأمر وترك متعلق النهي فهو من مباحث التزاحم بين التكليفين الذي لم يختص في كلامهم بباب يبحث عنه وعن أحكامه بل صار البحث فيه وفي أحكامه متفرقاً في الأبواب المناسبة لكل منها.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد تقرر في محله أنه مع تزاحم التكليفين في مقام الامتثال فمع عدم المرجح لأحدهما يتخير في امتثال كل منهما، ومع وجوده يتعين الراجح.

ومرجع ذلك إلى تصرف صاحب التكليف وجاعله - مع التفاته - في تكليفه بنحو يقتضي ذلك. ويأتي الكلام في مرجع التخيير مع عدم المرجح.

وأما تعين الراجح مع وجوده فهو يبتني على بقاء الراجح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف القدرة إلى امتثاله وإهمال المرجوح، ولا إشكال معه في امتناع بقاء المرجوح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف القدرة لامتثاله ولو مع إهمال الراجح، لتنافي مقتضاهما بعد فرض التزاحم بينهما، فيمتنع فعليتهما مع فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما.

وإنما الكلام في إمكان فعلية المرجوح في الجملة في ظرف فعلية الراجح لكن بنحو لا يصلح لمزاحمته، بل بنحو الترتب عليه، كما قرَّبه

ص: 363

جماعة من الأعيان أولهم - في ما قيل - المحقق الثاني(1) (قدس سره)، ثم تبعه كاشف الغطاء، وتلميذه التقي في حاشية المعالم، وأخوه في فصوله وغيرهما، وشيد ذلك السيد الشيرازي الكبير وأوضحه، وتبعه جماعة من أعاظم المتأخرين عنه إلى عصرنا الحاضر، وصرح بعضهم بامتناعه، وأنه لابد من سقوطه مطلقاً بحيث لا يصير فعلياً إلا بعد سقوط الراجح بالامتثال أو العصيان، كما أصر عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) - على ما في التقريرات - وشدد النكير على القول بالترتب، وتبعه المحقق الخراساني (قدس سره).

توجيه الأمر الترتبي

وقد يوجه الأمر الترتبي بالمرجوح في ظرف فعلية الأمر بالراجح بما عن التقي في حاشيته على المعالم، وهو: أن يكون مشروطاً بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر، بحيث يكون عصيان الراجح في وقته مستلزماً لفعلية المرجوح من أول الأمر، فيجتمع الأمران في مقام الفعلية، الراجح لإطلاقه، والمرجوح لتحقق شرطه - وهو عصيان الراجح - في وقته.

أما لو كان مشروطاً بعصيان الراجح بنحو الشرط المتقدم أو المقارن فلا يجتمع الأمران، إذ لا يكون المرجوح فعلياً إلا في المرتبة المتأخرة عن عصيان الراجح، وهي مرتبة سقوط الراجح عن الفعلية.

كلام النائيني (قدس سره)

لكن أصر بعض الأعاظم (قدس سره) على كفاية أخذ عصيان الراجح شرطاً في فعلية المرجوح بنحو الشرط المقارن في اجتماع الأمرين، بدعوى:

ص: 364


1- نسب ذلك له بلحاظ ما ذكره في جامع المقاصد في رد حكم العلامة (قدس سره) ببطلان الصلاة في أول الوقت من المدين المكلف بأداء دينه فوراً. وكلامه على طوله غير ظاهر في الترتب، بل في عدم التنافي بين الأمر الموسع بأحد الضدين والأمر المضيق بالآخر، فلا يكون المضيق مستلزماً لتقييد الموسع، وهو ما تقدم الكلام فيه في الأمر السابق. نعم ذيل كلامه قد يناسب الترتب. فليلحظ. منه (مد ظله).

أن العصيان كالامتثال لا يكون إلا في زمان ثبوت الحكم وفعليته، لأنه الموضوع لهما، كما أن زمان فعلية الحكم هو زمان تحقق شرطه وتمامية موضوعه، لا متأخر عنه، لاستحالة انفكاك الحكم عن موضوعه.

وحينئذٍ فحيث فرض كون عصيان الراجح مأخوذاً موضوعاً للمرجوح وشرطاً لفعليته كان زمانه وزمان فعلية الراجح وزمان فعلية المرجوح واحداً، ويجتمع الأمران في الزمان المذكور، وهو كاف في الترتب.

الإشكال عليه

وفيه: أن التكليف الراجح وإن كان محفوظاً في مرتبة عصيانه، إلا أنه يسقط في المرتبة المتأخرة عنه، والتكليف المرجوح لما كان شرطه المتمم لموضوعه عصيان الراجح كان متأخراً عن العصيان رتبة. فلا يجتمع التكليفان رتبة، حيث لا يكون المرجوح فعلياً إلا في المرتبة المتأخرة عن العصيان والتي يسقط فيها الراجح. كما لا يجتمعان زماناً، لأن زمان حدوث العصيان هو زمان سقوط الراجح وفعلية المرجوح، فهما متصلان متعاقبان في الفعلية، لا مجتمعان فيها، نظير وجوب الصوم المنتهي بالمغرب وجواز الإفطار الحاصل به، وانشغال الذمة بالدين الذي ينتهي بالإبراء وفراغ الذمة منه الحاصل به.

ولولا ذلك لزم اجتماع النقيضين في زمان واحد، لأن زمان حدوث الرافع هو زمان وجود المرفوع، كما أن الرافع علة لعدم المرفوع وموضوع له، فيلزم اجتماع وجود المرفوع وعدمه في زمان وجود الرافع.

وحينئذٍ فليس مثل ذلك منشأ لتوهم التزاحم، كي يحتاج في تصحيحه للترتب، إذ التزاحم بين التكليفين إنما يكون مع اجتماع مقتضيي الداعوية لكل منهما لتمامية شرط فعليته وتعذر الجمع بين مقتضاهما، لا مع تعاقب

ص: 365

مقتضي الداعوية لكل منهما، حيث يتعين تأثير كل مقتض في الداعوية، لعدم المزاحم له حين وجوده.

وهو أيضاًً لا ينفع في ما نحن فيه الذي لأجله قيل بالترتب، إذ المهم وقوع الضد امتثالاً للأمر المرجوح مع فعلية الأمر الراجح بضده، إما مع كون الأمر الراجح مستمراً، كالأمر بتطهير المسجد المبني على لزوم الإتيان به فوراً ففوراً، فعصيانه في كل آن لا ينافي توجهه في الآن الثاني، أو مع كون زمان الراجح أوسع منه قليلاً بنحو لا يكفي للمرجوح، كما لو شرع في الصلاة في زمان يمكن إنقاذ الغريق فيه قبل إكمالها، بحيث لا يتعذر بمجرد الشروع فيها ويتعذر بعد إكمالها، حيث لا إشكال في فعلية الأمر الراجح حين إرادة امتثال أمر المرجوح وعدم سقوطه بالعصيان بعد، لفرض سعة وقته.

وأما ما ذكره فهو إنما ينفع فيما إذا كان الشروع في امتثال المرجوح مقارناً لسقوط الراجح بالعصيان وإن كان لذلك صورتان:

إحداهما: ما إذا كان منشؤه سببية الشروع في المرجوح لعصيان التكليف بالراجح، ومانعيته من امتثاله، كما لو كان مشغولاً بصلاة يجب إتمامها ويحرم قطعها، فبدأ مؤمناً بالسلام عليه الذي هو مأمور به ذاتاً.

وهي خارجة عما نحن فيه من فرض التزاحم لمجرد التضاد، لأن التزاحم حينئذٍ لمانعية المأمور به المرجوح من المأمور به الراجح زائداً على التضاد بينهما.

على أنه يتعذر وقوع المرجوح - كالسلام على المؤمن - امتثالاً لأمره، بناء على ما ذكره (قدس سره) لأن الامتثال متأخر رتبة عن حدوث الأمر، وفي مرتبة

ص: 366

الإقدام على المرجوح لا أمر به، لعدم فعلية العصيان لأمر الراجح، بل هو في مرتبة متأخرة عن فعل المرجوح.

ثانيتهما: ما إذا كان امتثال المرجوح مقارناً صرفاً للعصيان من دون أن يكون سبباً له، كما لو وجب على المكلف أن يكون مسافراً حين طلوع الفجر، فعصى وصام ذلك النهار.

وفي مثل ذلك كثيراً ما يتعذر الراجح - كالسفر في المثال - إن لم يؤت به قبل الوقت آثماً، فيسقط قبل فعلية أمر المرجوح، فلا يتعاقبان زماناً، فضلاً عن أن يجتمعا.

نعم، قد لا يتعذر، كالأمور القصدية غير المحتاجة إلى مقدمة خارجية، كنية الإقامة للمسافر أو تركها، فينفع ما ذكره (قدس سره) في توجيه تحقق الامتثال مع التعاقب.

لكن كلام الأصحاب الذي دعاهم لتحرير مسألة الترتب لو شمل ذلك فليس هو المهم في المقام.

ومنه يظهر أنه ليس من الترتب المهم عند الأصحاب ما إذا وجب السفر على الحاضر أو ترك الإقامة على المسافر، ثم وجب عليه الصوم على تقدير عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة. وإن جعله (قدس سره) من الترتب بتقريب: أن الصوم والسفر أو ترك الإقامة متضادان، مع أنه لا إشكال في وجوب الصوم في فرض عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة، كما جعل هذا من شواهد صحة الترتب.

وبما ذكرنا يتضح أن كلامه إنما ينفع فيها، لأن عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة في كل آن من النهار قبل الزوال شرط لوجوب الصوم في ذلك

ص: 367

الآن.

كما عرفت خروجها عن المهم من الترتب الذي هو محل الكلام، وإنما المهم ما إذا كان عصيان الراجح شرطاً متأخراً لفعلية المرجوح.

نعم، من يرى امتناع الشرط المتأخر - كبعض الأعاظم (قدس سره) - يمكنه التخلص بفرض كون الشرط المقارن هو تعقب العصيان المنتزع في الزمن السابق من تحققه في الزمن اللاحق، حيث لا فرق عملاً بينه وبين كون العصيان بنفسه شرطاً متأخراً. فلابد من النظر في توجيه الأمر الترتبي معه مع استلزامه التكليف بالضدين.

إذا عرفت هذا، فقد يوجه الأمر المذكور بأنه وإن استلزم التكليف بالضدين المفروض تعذر الجمع بينهما، إلا أن ذلك حيث كان باختيار المكلف عصيان الراجح لم يكن محذوراً، لقدرته على عدم عصيانه فلا يكلف بالمرجوح، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ويشكل بما ذكره غير واحد: بأن امتناع التكليف بالضدين وما لا يقدر عليه المكلف لا يختص بما إذا كان موضوع التكليف خارجاً عن اختيار المكلف، بل يجري حتى مع كونه باختياره، لما تقدم من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي للمكلف نحو امتثاله، فمع تعذر امتثاله يكون التكليف لغواً.

وقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما تنفع في استحقاق العقاب على ما يستند تعذره للاختيار، لا في تصحيح فعلية التكليف بما يستند تعذره للاختيار، فضلاً عن تصحيحه بمجرد استناد موضوعه له، كما في المقام.

ص: 368

العمدة في دفع المحذور

فالعمدة في دفع المحذور المذكور ما ذكر في كلام غير واحد..

وحاصله: أن تعذر الجمع بين التكليفين في الامتثال إنما يمنع من الجمع بينهما في مقام الفعلية بلحاظ اقتضاء كل منهما صرف القدرة لامتثاله وترك امتثال الآخر، فيتزاحمان، ولا يصلحان لإحداث الداعي لموافقة مقتضاهما.

وذلك غير لازم مع الجمع بينهما بنحو الترتب، لعدم منافاة المرجوح للراجح، إذ حيث كان مشروطاً بعصيان الراجح فهو لا يقتضي عصيانه، لأن التكليف لا يقتضي حفظ شرطه، وإنما يقتضي امتثاله في فرض تحقق شرطه وفعليته.

كما أن الراجح لا ينافي المرجوح أيضاًً، لأن المرجوح حيث لا يقتضي حفظ نفسه بحفظ شرطه فالراجح لما كان مقتضياً امتثال نفسه وعدم عصيانه كان مقتضياً لرفع التكليف المرجوح برفع شرطه، لا لمخالفته في ظرف فعليته وتحقق شرطه، كي ينافي مقتضاه.

وبعبارة أخرى: مجرد فعلية التكليفين مع تعذر امتثالهما لا يكفي في التزاحم بينهما، بل لابد فيه من تنافي مقتضييهما بنحو لابد معه من مخالفة أحدهما، فيتزاحمان، وذلك غير حاصل في المقام، لأن المرجوح لا يقتضي صرف القدرة لامتثاله بنحو يستلزم عصيان الراجح، لأن التكليف لا يدعو لحفظ شرطه، والراجح وإن اقتضى صرف القدرة لامتثاله وعدم موافقة المرجوح، إلا أن عدم موافقة المرجوح حينئذٍ ليست مخالفة لمقتضاه، ولا عصياناً له، لارتفاعه تبعاً لارتفاع شرطه بامتثال الراجح وعدم عصيانه، فكل من التكليفين لا ينافي مقتضى الآخر ولا يقتضي عصيانه.

ص: 369

ولو فرض تحقق العصيان للراجح وحده أو مع المرجوح فهو مستند لسوء اختيار المكلف من دون أن يكون مقتضى أحد التكليفين ليلزم التزاحم بينهما المانع من فعليتهما.

وما اشتهر من أن التكليف المشروط يصير مطلقاً بتحقق شرطه، راجع إلى أنه يصير كالمطلق في فعلية داعويته تبعاً لفعليته بتحقق شرطه، لا أنه كالمطلق في إطلاق داعويته بنحو يقتضي حفظه مطلقاً ولو بحفظ شرطه.

ومما ذكرنا يتضح أن اجتماع التكليفين بالنحو المذكور لا يقتضي الجمع بينهما في مقام الامتثال، ليمتنع مع تعذر الجمع المذكور، بل يقتضي امتثال الراجح مطلقاً وامتثال المرجوح عند عصيان الراجح، وكل منهما مقدور للمكلف من دون تزاحم بينهما، فلا وجه لامتناع اجتماعهما.

ودعوى: أن إطلاق الراجح يوجب تعذر امتثال المرجوح، وسلب القدرة عليه شرعاً، فلا مجال لجعله ولو مقيداً.

مدفوعة: بأن سلب القدرة على امتثال المرجوح شرعاً بسبب الراجح إنما هو لاقتضاء الراجح صرف القدرة إليه، فمع فرض عدم تأثيره بسبب مزاحمته بالدواعي الموجبة للعصيان فلا وجه لمانعيته من التكليف المرجوح مع القدرة التكوينية على امتثاله، بل يصح جعله حينئذٍ.

وإنما امتنع جعلهما معاً بنحو الإطلاق مع القدرة على امتثال كل منهما في ظرف عصيان الآخر، لاقتضائهما الجمع في مقام الامتثال المتعذر تكويناً، فمع فرض عدم اقتضائهما ذلك لتقييد المرجوح بعصيان الراجح لا وجه لامتناع اجتماعها. بل يلزم جعلهما حينئذٍ بالنحو المذكور بعد فرض تمامية ملاك المرجوح المقتضي لوجوب حفظه على المولى بجعل

ص: 370

التكليف مهما أمكن.

وتعذر حفظه مع تحصيل ملاك الراجح بالامتثال لا يصحح التفريط فيه مع فوته بالعصيان، بل يلزم حفظه بجعل الحكم على طبقه، كما يجب جعله على الإطلاق مع عدم المزاحمة بالراجح.

هذا، وقد يستشكل في الترتب بوجهين..

الإشكال على الترتب الأول ما ذكره الخراساني (قدس سره)

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن ملاك استحالة جعل التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما في عرض واحد آت في جعلهما بنحو الترتب، لأنهما وان لم يجتمعا في مرتبة التكليف الراجح، لتأخر المرجوح عنه رتبة بسبب أخذ عصيانه في موضوعه، إلا أنهما يجتمعان في مرتبة المرجوح. قال في حاشية الرسائل: «لعدم تقيد تنجز الأول بمرتبة، بل يعم المراتب ومنها هذه المرتبة».

الإشكال عليه

وفيه.. أولاً: أن الوجود البقائي الاستمراري للشيء لا يكون إلا بالإضافة إلى الزمان تبعاً لاستمرار العلة أو تجددها، أما بالإضافة إلى المرتبة فلا بقاء ولا استمرار له، ليكون في مرتبة ما هو متأخر عنه، لأن منشأ اختلاف الرتبة في الشيئين والترتب بينهما خصوصية فيهما تقتضي ذلك، وهي لا ترتفع عنهما بعد فرض وجودها فيهما، فلا يعقل ارتفاع الترتب بين المترتبين طبعاً كالعلة والمعلول، ومنه المقام لأن منشأ الترتب بين التكليفين أخذ عصيان أحدهما في موضوع الآخر، وقد سبق أن تحقق شرط التكليف لا يجعله مطلقاً، بحيث ترتفع إناطته بالشرط وتكون داعويته مطلقة.

وبعبارة أخرى: منشأ التأخر الرتبي خصوصية في المترتبين غير قابلة للارتفاع، وهي في المقام أخذ عصيان الراجح في موضوع المرجوح غير

ص: 371

المرتفع بوجود الشرط، فلا يجتمعان في رتبة واحدة، بخلاف منشأ التقدم الزماني، فإنه ليس إلا وجود علة المتقدم وعدم وجود علة المتأخر، ويمكن اختصاص الزمان الأول بذلك، واجتماع العلتين بعده في الوجود، فيجتمع المعلولان زماناً.

وثانياً: أن محذور اجتماع التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما ليس هو وجودهما في رتبة واحدة، ويكون مراد القائل بالترتب التخلص من المحذور المذكور، كي ينفع ما ذكره (قدس سره) - لو تم - في دفعه، بل هو تزاحم التكليفين وتنافي مقتضاهما، الذي سبق عدم لزومه مع الترتب، ولذا لا إشكال في امتناع اجتماعهما مع اختلافهما رتبة بوجه آخر لا يرفع التزاحم، كاشتراط أحدهما بالعلم بالآخر أو إطاعته، فمع ارتفاع محذور التزاحم بالترتب بالوجه المتقدم لا يهم ما ذكره (قدس سره) من لزوم اجتماعهما في مرتبة وجود المرجوح وفعليته وإن تم.

ولعله لذا تدرج في الكفاية من الحديث المتقدم إلى الإصرار على عدم ارتفاع التزاحم بالترتب بما يظهر اندفاعه مما تقدم. فراجع كلامه وتأمل فيه.

ومن ثم لا يختص الترتب الذي يندفع به المحذور بما إذا كان شرط المرجوح هو عصيان الراجح بعنوانه، ليلزم تأخره عنه رتبة، بل يكفي فيه كون الشرط عدم تحقق مقتضى الراجح بترك المأمور به وفعل المنهي عنه، وإن لم يلزم معه تأخر المرجوح عنه رتبة، فلا فرق في عدم مزاحمة الأمر بالصلاة للأمر بإنقاذ الغريق بين كون أمر الصلاة مشروطاً بعصيان أمر الإنقاذ بعنوانه، ليتأخر رتبة عن الأمر بالإنقاذ، وكونه مشروطاً بعدم الإنقاذ بنفسه

ص: 372

من دون أخذ العصيان، فلا يتأخر عن الأمر بالإنقاذ.

بل لعل مرادهم بالاشتراط بالعصيان ذلك، لا أخذ العصيان بعنوانه، ويكون هو الوجه في إطلاقهم الترتب عليه، لا اختلاف التكليفين رتبة لأخذ أحدهما في موضوع الآخر، لعدم دخل ذلك للأثر المهم في المقام.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) أيضاً

الثاني: ما ذكره هو (قدس سره) أيضاًً من أن لازمه استحقاق عقابين في صورة مخالفة كلا التكليفين، ولا يظن التزامهم به، لضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف.

قال: «وكان سيدنا الأستاذ (قدس سره) لا يلتزم به على ما هو ببالي، وكنا نورد به على الترتب وكان بصدد تصحيحه».

توجيه النائيني (قدس سره) لما ذكره الخراساني (قدس سره)

لكن أصر غير واحد ممن يلتزم بالترتب على تعدد العقاب في المقام تبعاً لتعدد التكليف وتعدد العصيان، وقد وجهه بعض الأعاظم (قدس سره) بوجهين..

أولهما: أن العقاب ليس على ترك الجمع بين الامتثالين المفروض تعذره على المكلف، بل على الجمع بين العصيانين، بمعنى أن يعاقب على ترك امتثال كل منهما في حال ترك الآخر، ومن الظاهر أن ترك امتثال كل منهما في حال ترك امتثال الآخر مقدور للمكلف، فيعاقب عليه.

الإشكال عليه

وفيه: أن العقاب إن كان على الجمع بين العصيانين المقدور للمكلف لزم وحدة العقاب، لأن الجمع أمر واحد.

مضافاً إلى أن الجمع لا دخل له في غرض المولى، ولا في تكليفه، وإنما هو عنوان انتزاعي لكلٍ من العصيانين المتعلقين بتكليفي المولى.

وإن كان على منشأ انتزاع الجمع المذكور، وهو كل من العصيانين بنفسه المفروض اجتماعه مع الآخر، بأن يكون لكل عصيان عقاب يخصه.

ص: 373

فالوجه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال، لوضوح أن العقاب لا يحسن بمجرد القدرة على المعصية، بل لابد فيه من القدرة على الطاعة أيضاًً، ومن الظاهر عدم القدرة على طاعة التكليفين معاً.

ومجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في صحة العقاب، بل لابد من القدرة المطلقة على الشيء من تمام الجهات، فمع العجز من بعض الجهات يتعين قصور العقاب من جهتها، والعقاب على قدر الطاقة، وإلا جرى ذلك في التكليفين المتزاحمين أيضاًً، مع ارتكاز أن امتناع العقاب عليهما معاً ليس لمجرد امتناع فعليتهما ذاتاً، لامتناع إحداث الداعي لغير المقدور، بل لكونه ظلماً أيضاًً قبيحاً بملاك قبح العقاب على ما لا يطاق.

على أن ذلك لو كفي فلا داعي لدعوى العقاب على الجمع بين العصيانين، بل يمكن له دعوى أن العقاب على ترك كل من الامتثالين المفروض كونه مقدوراً في نفسه مع قطع النظر عن الآخر.

ثانيهما: أنه لا يلزم في جواز تعدد العقاب القدرة على الجمع بين العصيانين، بل يكفي فيه القدرة على كل منهما في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر، فمع فرض تعدد التكليف وعدم الارتباطية بين التكليفين يكون لكل منهما عصيانه المختص به المقدور في نفسه مع قطع النظر عن الآخر.

ويظهر اندفاعه مما تقدم من أن مجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في تعدد العقاب عليهما مع امتناع الجمع بينهما في مقام الامتثال والعصيان.

اللهم إلا أن يرجع ما ذكره إلى ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من عدم اعتبار

ص: 374

القدرة في العقاب إلا لتصحيح التكليف.

قال: «بل ضرورة حسن العقاب على مخالفة التكليف الفعلي تقتضي الالتزام بترتب عقابين بعدما عرفت من إمكان التكليف بهما وفرض معصيتهما معاً. وقبح العقاب على مالا يقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع إلى قبح العقاب على ما لا تكليف به، فلا يكون العقاب عليه عقاباً على المعصية».

لكن يظهر مما سبق منا في رد الوجه الأول المنع من ذلك، وأن العقاب إنما يحسن على قدر الطاقة.

نعم، بعد أن كان القائلون بالترتب مختلفين في وحدة العقاب - كما حكاه المحقق الخراساني (قدس سره) عن السيد الشيرازي الكبير (قدس سره) - وتعدده - كما تقدم من بعض الأعاظم وسيدنا الأعظم I ووافقهما غيرهما - يظهر أنه لا مجال للاستدلال على بطلان الترتب باستلزامه تعدد العقاب، لأن ذلك إنما يصلح للاستدلال إذا لم يلتزم به القائل بالترتب، كما لا يخفى.

ومن هنا فالكلام في ذلك لا يرجع لتتميم الاستدلال على الترتب، بل لتحقيق حال التكليف والعقاب في المقام.

تحقيق حال التكليف والعقاب

وحينئذٍ نقول: كبرى استلزام المعصية للعقاب تقضي بتعدد العقاب مع ثبوت الأمر الترتبي ووحدته مع عدمه. وحيث كان ثبوت الأمر الترتبي مقتضى كبرى لزوم حفظ الملاك والغرض تشريعاً، كما تقدم، وتعدد العقاب منافٍ لكبرى قبح العقاب على ما لا يطاق، لزم التدافع بين الكبريات الثلاث المذكورة الكاشف عن قصور بعضها عن المقام، وحيث لم تكن الكبريات المذكورة مأخوذة من أدلة لفظية قابلة للتخصيص، بل هي عقلية وجدانية

ص: 375

كشف ذلك عن قصور بعضها في نفسه، وأن صيغتها بنحو القضية الكلية الشاملة للمورد في غير محله ناشئ عن اختلاط الأمر على الوجدان، بل اللازم الرجوع للوجدان في خصوصيات الموارد والتمييز بينها، ليتضح عموم هذه الكبريات لها أو قصورها عنها، ولا ينبغي سوقها على أنها مسلمة الثبوت على عمومها. فضلاً عن الاحتجاج بها في المورد مع ثبوت الخلاف في عموم كل منها له، حيث أنكر جماعة الترتب على خلاف عموم الكبرى الثانية، والتزم به بعضهم مع وحدة العقاب على خلاف عموم الأولى، كما التزم آخرون به مع تعدد العقاب على خلاف عموم الثالثة.

هذا، ولا ينبغي التأمل في إمكان الترتب ولزومه بعد ملاحظة ما تقدم في تقريبه وتوضيحه، ولا أقل من جعل مفروض الكلام ثبوته والتسليم به.

كما لا ينبغي التأمل في عدم تعدد العقاب معه، بحيث يكون عقاب عاصي التكليفين معاً في المقام كعقاب عاصيهما مع عدم المزاحمة وإمكان الجمع في الامتثال، فمثلاً: لو تعرض للغرق مؤمن ومستضعف وأشرفا على الخطر، وكان هناك شخصان أحدهما يستطيع إنقاذ أحد الغريقين لا غير سباحة، والآخر يستطيع إنقاذهما معاً بسفينة، فتركاهما حتى غرقا، فهل يمكن بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والتأمل فيها دعوى: أن عقاب الشخصين بنحو واحد، لاشتراكهما في مخالفة تكليفين، وإن كان التكليفان ثابتين في حق الأول بنحو الترتب وفي حق الثاني في عرض واحد.

وأيضاًً، فالأمر الترتبي كما يجري في التكلفين المختلفين في الأهمية كذلك يجري في التكليفين المتساويين، غايته أن كلاً منهما مشروط بعدم امتثال الآخر، وحينئذٍ لو تعرضت للغرق سفينة تحمل جماعة كثيرة يغرقون

ص: 376

بغرقها، وكان هنا جماعة مختلفو الطاقة على إنقاذهم، فبعضهم يستطيع إنقاذهم بأجمعهم بسفينة كبيرة، وآخر يستطيع إنقاذهم نصفهم بسفينة متوسطة، وثالث يستطيع إنقاذ ربعهم بسفينة صغيرة، ورابع يستطيع إنقاذ جماعة قليلة بقارب صغير، وخامس يستطيع إنقاذ شخصين منهم بخشبة، وسادس يستطيع إنقاذ واحد منهم سباحة مثلاً، فهل يمكن البناء على كون عقاب الكل واحداً لو تكاسلوا وتركوهم حتى غرقوا، لأنهم تركوا إنقاذ كل منهم مع تكليفهم بإنقاذه مطلقاً أو بشرط ترك إنقاذ غيره المفروض التحقق؟!.

وهكذا ما يشبه المثالين المذكورين من الأمثلة الكثيرة التي يزيد النظر فيها والتأمل في حالها استيضاح ما ذكرنا من عدم تعدد العقاب في فرض العجز عن الجمع بين الامتثالين وإن تعددت المعصية لفعلية كل ٍمن التكليفين.

ومن هنا يتعين البناء على أن العقاب إنما يكون بقدر طاقة المكلف، فإذا كان التكليفان المتزاحمان متساويين كان العقاب المستحق بقدر العقاب على واحد منهما، نظير الأمر التخييري الذي لا يستحق مع ترك امتثاله بترك تمام الأطراف إلا عقاب واحد، وإن افترقا بتعدد التكليف الفعلي والملاك في المقام ووحدتهما في الأمر التخييري على ما سبق في محله. غايته أن وحدة العقاب هناك لوحدة الغرض، وهنا لعجز المكلف وقصوره عن استيفاء الغرضين.

وإن كانا مختلفين في الأهمية فحيث كان المرجوح مشاركاً للراجح في مرتبة من الأهمية ويمتاز الراجح بمرتبة أخرى، فبلحاظ ما به الاشتراك

ص: 377

يلحقهما حكم المتساويين، فلا يوجب تركهما إلّا عقاباً واحداً مناسباً لتلك المرتبة، بلحاظ العجز عن استيفائهما معاً، نظير التكليف التخييري، على ما تقدم، وبلحاظ ما به الامتياز يكون الراجح كالواجب التعييني المستقل يستحق لأجله العقاب، للقدرة على استيفائه بفعله.

ومرجع ذلك إلى أن ترك امتثال المرجوح لا يزيد في العقاب الحاصل بترك امتثال الراجح غاية الأمر أن امتثال المرجوح يوجب تخفيف العقاب المستحق بعصيان الراجح، لما فيه من استيفاء ملاكه المشارك لملاك الراجح في بعض مراتب الأهمية. والتي ذكرنا أن الحال بالإضافة إليها نظير الواجب التخييري. فيكون عقاب من اقتصر على عصيان الراجح من دون أن يبتلي بالمرجوح أو مع الابتلاء به وعصيانه أشد من عقاب من ابتلي بالمرجوح فامتثله بدلاً عن الراجح.

فالعقاب في المقام كالعقاب الحاصل بترك التكليفين غير المتزاحمين إذا كان أحدهما وافياً ببعض ملاك الآخر، كالأمر باللبن بملاك كونه شراباً وغذاءً، والأمر بالماء بملاك كونه شراباً، حيث لا إشكال في لزوم التكليف بهما بنحو التكليف الترتبي بالضدين، في كون الراجح مطلقاً والمرجوح مقيداً بعصيان الراجح، مع خلوهما عن إشكال التكليف بالضدين.

كما لا إشكال في أنهما لو عصيا معاً لم يستحق إلا عقاب واحد بقدر عقاب عصيان الراجح، ولو عصي الراجح وامتثل المرجوح لم يستحق إلا بعض ذلك العقاب بلحاظ ما لم يستوفه المرجوح من الملاك، ولا فرق بين ذلك والمقام في كيفية الاستحقاق ارتكازاً، وإن افترقا في أن وحدة العقاب في ذلك لقصور الملاك، وفي المقام لقصور المكلف وعجزه عن امتثال

ص: 378

التكليفين، كما يفترقان في كيفية الملاك للتداخل بين الملاكين في ذلك والتباين بينهما في المقام، لأن الفرقين المذكورين كالفرق بين التكليف التخييري الأصلي والتكليفين المتزاحمين المتساويي الأهمية، الذي عرفت أنه لا يوجب فرقاً في كيفية استحقاق العقاب.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى كون الخطاب الترتبي المرجوح إرشادياً، بلحاظ عدم استتباع مخالفته العقاب زائداً على عقاب مخالفة الراجح، إذ يكفي في مولويته استتباع موافقته تخفيف العقاب الواحد اللازم من عصيانهما.

على أن المعيار في مولوية التكليف ليس هو استتباعه الثواب والعقاب، بل صحة إضافة مؤداه للمولى، بحيث تكون موافقته لحسابه ولأجله، لصدوره بداعي جعل السبيل منه، حيث لا يتوقف جعل السبيل على العقاب والثواب، بل يكفي فيه لحاظ حق المولى، المستتبع لشكره أو نحوه من دواعي الموافقة، وذلك لا يجري في الخطابات الإرشادية.

ابتناء الطاعة والمعصية على خصوصيات أخر

هذا كله حال العقاب بلحاظ طبيعة الأمرين الترتبيين وبالنظر لملاكيهما. وربما تبتني الإطاعة والمعصية على خصوصيات أُخر تقتضي نحواً آخر.

فقد يبتني ترك الراجح وموافقة المرجوح على الاستهانة برجحان الراجح وبأهميته شرعاً، كما لو أنقذ المستضعف، لا لأنه أيسر عليه، بل لعدم بنائه على أهمية المؤمن وعدم اهتمامه بعظيم حقه وحرمته، حيث قد يكون ذلك أشد من تركهما معاً تكاسلاً عن تحمل مشقة الإنقاذ واستصعاباً له، مع الإذعان بأهمية الإيمان وحرمة الإسلام.

ص: 379

كما قد يبتني تركهما معاً على الاستهانة بتكليف المولى وعدم احترامه لا على تجنب مشقة الامتثال والكسل عنه، حيث يكون البعد عن المولى والتمرد عليه بتركهما معاً أشد من البعد والتمرد بترك الراجح لصعوبته وتجنب مشقته من دون أن يبتلي بالمرجوح. لكن هذا خارج عن محض الإطاعة والمعصية بما هما الذي هو محل الكلام.

وقد ظهر من جميع ما تقدم أن الالتزام بوحدة العقاب لا ينافي البناء على ثبوت الأمر الترتبي بالمرجوح وكونه مولوياً، وأنه لا وجه للمنع منه مع ذلك وبعد عدم مزاحمته للأمر بالراجح، ولاسيما مع عدم إباء المرتكزات العرفية منه.

بل اعترف المحقق الخراساني (قدس سره) بوقوعه في العرفيات. قال سيدنا الأعظم (قدس سره): «كما يقول الأب لولده: اذهب اليوم إلى المعلم، فإن عصيت فاكتب في الدار ولا تلعب مع الصبيان. وببالي أني سمعته (رحمه الله) يمثل بذلك في مجلس درسه الشريف».

لكنه (قدس سره) مع اعترافه به قال في توجيهه: «لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة، وإما أن يكون الأمر به إرشاداً إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب به بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم، لا أنه أمر مولوي فعلي كالأمر به».

ويظهر حاله مما تقدم من توجيه كونه مولوياً موجباً لتخفيف العقاب بنفسه، لكونه محققاً للملاك المشارك للفائت في بعض المرتبة من الأهمية، لا من باب مقابلة الثواب للعقاب وإحباط الأول للثاني.

ص: 380

مضافاً إلى ما أشرنا إليه من ثبوت النظير له فيما لو كان أحد الواجبين وافياً ببعض ملاك الآخر، وليس الفرق بينهما إلا في أن تقييد المرجوح في النظير مقتضى ملاكه بطبعه، وفي المقام مقتضى قصور قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين، وليس هو فارقاً بعد كون مقتضى التقييد المذكور عدم الجمع بين الامتثالين وارتفاع التزاحم بين التكليفين على ما سبق. بل الظاهر أن المثال المتقدم عنه (قدس سره) من قسم النظير لا مما نحن فيه من موارد الترتب للتزاحم، كما يظهر بالتأمل. والأمر سهل.

تنبيهات الترتب

وينبغي تتميم الكلام في الترتب بتنبيهات..

الأول: توجيه الأمر الترتبي بنحو الشرط المقارن أو المتقدم

التنبيه الأول: تقدم توجيه الأمر الترتبي المرجوح بأن يكون مشروطاً بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر. وقد يوجه أيضاًً بأن يكون مشروطاً بالعزم على عصيانه، لا بفعلية عصيانه وهو الذي اقتصر عليه كاشف الغطاء (قدس سره) في محكي كلامه.

ولا يعتبر حينئذٍ كونه شرطاً متأخراً، بل يمكن كونه شرطاً متقدماً أو مقارناً، لعدم سقوط التكليف بالعزم على العصيان، فيجتمع التكليفان في زمان واحد.

ما يظهر من الخراساني (قدس سره)

بل قد يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) لزوم كونه بأحد الوجهين وامتناع كونه شرطاً متأخراً. وإن كان هو غير ظاهر الوجه.

وكيف كان، فالظاهر عدم تمامية الوجه المذكور في تقريب الترتب..

أولاً: لأن لازمه فعلية التكليف المرجوح في ظرف تحقق العزم المذكور من المكلف حتى لو وافق التكليف الراجح غفلة وبلا قصد، ولا يمكن البناء على فعلية المرجوح مع موافقة الراجح بعد فرض تعذر الجمع

ص: 381

بين امتثاليهما.

وثانياً: لعدم ارتفاع محذور التزاحم بين التكليفين بذلك، إذ بعد فرض تحقق العزم على عصيان الراجح وفعلية كلا التكليفين فكل منهما يدعو لامتثاله وإن استلزم عصيان الآخر، وحيث لم يكن امتثال الراجح رافعاً لفعلية المرجوح، لفرض عدم اشتراط المرجوح بالعصيان، بل بالعزم عليه كان كل منهما مقتضياً لمخالفة مقتضى الآخر، الذي هو المعيار في التزاحم بينهما.

ومجرد استناد فعلية التكليفين معاً لسوء اختيار المكلف لا يكفي في دفع محذور التزاحم، كما تقدم.

إن قلت: لما كان الراجح يدعو لامتثاله فهو يدعو تبعاً لقصد امتثاله وعدم العزم على عصيانه، الذي هو شرط فعلية المرجوح ومتمم لموضوعه، فلا ينافي مقتضى المرجوح، لما تقدم من أن التكليف لا يدعو لحفظ شرطه وتحصيل موضوعه.

قلت: داعوية الراجح - كغيره من التكاليف - لامتثاله إنما هي بمعنى اقتضائه الموافقة ولو من دون قصد، بل ولو مع قصد العصيان والعزم عليه، لا بمعنى داعويته لقصد الامتثال وعدم العزم على العصيان.

نعم، إذا كان الراجح تعبدياً فحيث يكون مقيداً - ولو لباً - بقصد الامتثال أو نحوه، تكون موافقته موقوفة على القصد المذكور، فالداعوية للموافقة ترجع لداعويته - بالأصل، لا تبعاً - للقصد المذكور المنافي لقصد العصيان والعزم عليه الذي فرض كونه شرطاً للمرجوح.

لكن هذا وحده لا يكفي في رفع التزاحم بين التكليفين، لأنه بعد

ص: 382

تحقق العزم على عصيان الراجح فالراجح وإن اقتضى عدم العزم المذكور، إلا أن المرجوح بعد تمامية موضوعه بتحقق العزم المذكور يقتضي موافقته ولو مع عصيان الراجح، وهو كافٍ في التزاحم.

فهو كما لو وجب بنحو الإطلاق إراقة الماء بعيداً عن المسجد، ووجب غسل المسجد به مشروطاً بكونه في المسجد، حيث يتزاحمان حين كونه في المسجد وإن كان الأول يقتضي رفع شرط الثاني لداعويته لإخراج الماء من المسجد مقدمة لإراقته بعيداً عنه. فتأمل جيداً.

الثاني: اختصاص الترتب في التزاحم لمجرد التضاد

التنبيه الثاني: الكلام المتقدم في الترتب يختص بما إذا كان التزاحم بين التكليفين لمجرد التضاد وتعذر الجمع بين الامتثالين، دون ما إذا كان منشؤه مقدمية مخالفة أحد التكليفين لامتثال الآخر، كحرمة العبور في الأرض المغصوبة ووجوب إنقاذ الغريق لو توقف إنقاذه على عبورها، وكوجوب تطهير المسجد وحرمة قتل المؤمن لو توقف التطهير على قتله.

ومنه التزاحم في الضدين بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر. حيث يشكل التكليف الترتبي المرجوح.

أما إذا كان ترك موافقة التكليف المرجوح مقدمة لموافقة التكليف الراجح، كالمثال الأول، فلأنه حيث تقدم اختصاص الداعوية الغيرية بالمقدمة الموصلة، فالتكليف المرجوح بالإضافة لغير الموصل فعلي مطلقاً، سواء امتثل الراجح أم لم يمتثل، وبالإضافة للموصل غير فعلي مطلقاً، لأن فرض إيصاله ملازم لفرض امتثال الراجح الذي لا موضوع معه للترتب.

ولو فرض عموم الداعوية الغيرية لغير الموصل ففرض فعلية الراجح

ص: 383

ملازم لداعويته لمخالفة المرجوح، فيمتنع معها فعلية المرجوح مطلقاً ولو بنحو الترتب بملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي في متعلق واحد، مع غض النظر عن التزاحم.

وأما إذا كان ترك موافقة الراجح مقدمة لموافقة التكليف المرجوح - كالمثال الثاني - فلأن فعلية المرجوح ولو بنحو الترتب تستلزم داعويته لمخالفة الراجح التي يمتنع فرضها مع فرض فعلية الراجح وإطلاقه بملاك امتناع اجتماع الأمر والنهي. وإنما تتجه فعليته بعد سقوط الراجح بالعصيان، لعدم المانع.

نعم، لو كان التكليفان متساويين فلا مانع من الترتب بالنحو الآتي في المتساويين، الراجع لتقييد كل منهما بمخالفة الآخر، حيث لا يكون كل منهما فعلياً في ظرف موافقة الآخر ليدعو لترك موافقة الآخر، ويمتنع معه فعلية الآخر، كما لعله ظاهر.

الثالث: جريان الترتب في التكليفين المتساويي الأهمية

التنبيه الثالث: ما سبق في تقريب الأمر الترتبي كما يجري في التكليفين المختلفي الأهمية كذلك يجري في التكليفين المتساويين في الأهمية، غايته أن كلاً منهما يكون مشروطاً بمخالفة الآخر، نظير ما سبق في الوجه الثالث في بيان حقيقة الوجوب التخييري، وإنما سبق هناك رده لارتكاز وحدة التكليف تبعاً لوحدة الغرض، ولا مانع من البناء عليه في المقام مع تعدد التكليف تبعاً لتعدد الغرض، وإن امتنع إطلاق فعلية التكليفين معاً بسبب التزاحم الاتفاقي بينهما، كما يمتنع إطلاق أحدهما، لعدم المرجح.

ودعوى: أن الجمع لا ينحصر بالترتب بالنحو المذكور، بل يمكن انقلاب التكليفين التعيينيين إلى تكليف تخييري واحد بكلا الطرفين.

ص: 384

مدفوعة: - مضافاً إلى ارتكاز تبعية التكليف للغرض في الوحدة والتعدد، فمع فرض تعدد الغرض في المقام لا مجال للبناء على وحدة التكليف. فتأمل - بأن التزاحم لا يختص بالأمرين، ليمكن انقلابهما إلى أمر تخييري بالطرفين، بل يجري في تزاحم النهيين، وتزاحم الأمر والنهي، وفرض التخيير حينئذٍ يحتاج إلى عناية أشد من عناية تقييد كل من التكليفين بالنحو الذي ذكرنا، فلا وجه للخروج عنه بعد مطابقته للارتكاز.

ما ذكره العراقي (قدس سره) من امتناع الترتب في المتساويين

لكن ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن الترتب بالوجه المتقدم وإن أمكن في التكليفين المختلفي الأهمية، إلا أنه ممتنع في التكليفين المتساويين فيها، لأن تقييد كل منهما بمعصية الآخر مستلزم لتأخر كل منهما رتبة عن الآخر، لأخذه في موضوعه، وهو ممتنع عقلاً، فيتعين الجمع بينهما بوجه آخر مع إبقاء كل منهما على إطلاقه.

وحاصله: أن الطلب إن كان ممكن الامتثال ولم يبتلِ بالمزاحم كان طلباً تاماً مقتضياً حصول المطلوب على كل حال ومن جميع الجهات، أما إذا ابتلي بالمزاحم فهو طلب ناقص لا يقتضي حصول المطلوب من تمام الجهات، بل من غير جهة المزاحم وبنحو لا يمنع منه، فكل من الطلبين في المقام وإن كان مطلقاً لا تقييد فيه، إلا أنه ناقص إنما يقتضي وجود المطلوب من غير جهة المزاحم.

وحينئذٍ يمكن جريان ذلك في مختلفي الأهمية، فيلتزم بإطلاق كل منهما مع كون طلب الراجح تاماً لا نقص فيه، وطلب المرجوح ناقصاً يقتضي وجوده من غير جهة المهم و

دفع ما ذكره (قدس سره)

بنحو لا يمنع منه، لعدم الفرق عرفاً بين

المقامين، ولا موجب لالتزام تقييد طلب المهم وإن كان ممكناً.

ص: 385

ويندفع ما ذكره في وجه امتناع الترتب بين المتساويين في الأهمية بأنه لا يلزم في الترتب كون شرط أحد التكليفين عصيان الآخر بعنوانه، ليلزم تأخره عنه رتبة، بل يكفي كون الشرط ترك متعلقه إن كان أمراً وفعله إن كان نهياً الذي يتحقق به العصيان، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في الاختلاف الرتبي بين الأمرين الترتبيين في دفع الإيراد الأول من إيرادي المحقق الخراساني (قدس سره) على الترتب. فراجع.

كما أن ما ذكره من تقريب كون الطلب في كلٍ منهما ناقصاً مبني على تعقل نقص الطلب الذي تقدم منه (قدس سره) في مبحث الواجب التخييري تقريبه بالإضافة إلى تمام أطراف التخيير. وتقدم منا المنع من ذلك.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 386

الفصل الخامس في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

وقع الكلام بينهم في إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعه.

والظاهر أن محل الكلام اجتماعهما مع تعدد الجهة في ما يكون مجمعاً للجهتين، مع المفروغية عن امتناع اجتماعهما في الواحد من جهة واحدة وبعنوان واحد.

فمرجع النزاع إلى أن تعدد الجهة والعنوان لكل من الأمر والنهي هل يكفي في تعدد متعلقهما ولو مع اجتماع الجهتين والعنوانين في وجود خارجي واحد، فيكون الوجود المذكور مجمعاً لهما تبعاً لتعدد عنوانه، أو لابد معه من تعدد الوجود الخارجي، ومع وحدته لا يكفي تعدد الجهة في إمكان اجتماع الأمر والنهي، بل لابد من قصور أحدهما أو كليهما عن المجمع.

كل ذلك بعد الفراغ عن دخل العنوان في الحكم وعدم سوقه لمحض الحكاية عن الأفراد بذواتها، إما لظهور الدليل في ذلك أو للعلم به من دليل خارجي.

ص: 387

ومن هنا كانت المسألة عقلية يبحث فيها عن كيفية ورود الحكم على العنوان وكيفية دخله فيه، الذي يستقل به العقل بعد استفادة أصل دخله من دليل الحكم اللفظي أو غيره وربما يأتي لذلك مزيد توضيح.

كون المسألة أصولية

كما لا ينبغي التأمل في كون المسألة أصولية بعد تحريرها لأجل استنباط الأحكام الفرعية ووقوع نتيجتها في طريق استنباطها، وهي أحكام موارد الاجتماع، وما يترتب عليها من إمكان امتثال الأمر بها وعدمه على ما يتضح بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

ولا ينافي في ذلك واجديتها لجهات أخر تقتضي عدها في غير مسائل الأصول، لأنه لا يعتبر في المسألة الأصولية تمحضها في غرض الاستنباط وعدم ترتب غرض آخر عليها، بل يكفي تحريرها لأجل الاستنباط وصلوحها لأن يترتب عليها.

هذا، وكلامهم في المسألة في غاية الاضطراب والتشويش، لاختلافهم في تحديد موضوع النزاع والمعيار فيه ثبوتاً، وعدم إيضاح جملة منهم لكيفية تشخيصه إثباتاً، كما اختلفوا في مباني المسألة ومقدمات الاستدلال فيها.

ومن هنا يضيق الوقت ولا ينشرح الصدر لاستيعاب كلماتهم والنظر فيها، بل ينبغي الاقتصار على ما يخص الثمرة المهمة للمسألة، وهي حكم مورد الاجتماع بنحو يمكن الامتثال به ويصح مع الالتفات للحرمة أو مع الغفلة عنها أو الجهل بها.

وتحديد مباني الكلام في ترتبها يكون بذكر أمور مقدمة للكلام في المطلوب.

في تضاد الأحكام التكليفية الخمسة

الأمر الأول: لا إشكال في تضاد الأحكام التكليفية الخمسة بمعنى

ص: 388

امتناع اجتماع أكثر من حكم واحد منها في موضوع واحد. إلا أن الكلام وقع بينهم في وجه التضاد. وينبغي التعرض لذلك، لابتناء تحديد مورد التضاد سعة وضيقاً عليه.

فنقول: من البديهي امتناع اجتماع البعث والزجر الحقيقيين بالإضافة إلى شيء واحد، لتقومهما بالانبعاث والانزجار نحوه، وهما حركتان خارجيتان متنافيتان.

لكن هذا وحده لا ينفع في ما نحن فيه، لعدم اقتضاء الوجوب أو الحرمة والاستحباب والكراهة البعث والزجر الحقيقيين، بل يقتضيان البعث والزجر الاعتباريين أو الإنشائيين، وحينئذٍ لابد من النظر في وجه التضاد بينهما مع ما هو المعلوم من أن الاعتبار والإنشاء خفيف المؤنة.

وقد يستدل لذلك بوجوه..

وجوه التضاد:

الأول: ما يظهر من الفصول

أولها: ما يظهر من الفصول وقد يستفاد من التقريرات من أن منشأ تضادها وتنافيها هو تضاد منشأ انتزاعها، وهو المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة.

المناقشة فيه

ويندفع بما تقدم في مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية من عدم انتزاعها من المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة، وأن الإرادة والكراهة التشريعتين اللتين اشتهر انتزاع الأحكام التكليفية منها مباينتان للإرادة والكراهة والمحبوبية والمبغوضية سنخاً. وتضاد الإرادة والكراهة التشريعيتين محل الكلام ومحتاج لبيان آخر غير ما تقدم.

الثاني: ما ذ كره السيد الحكيم (قدس سره)

ثانيها: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن منشأ التضاد بين الأحكام هو تضاد ملاكاتها، فملاك وجوب الشيء كونه ذا مصلحة بلا مزاحم وملاك

ص: 389

حرمته كونه ذا مفسدة بلا مزاحم.

قال (قدس سره): «فلو فرض محالاً كون الشيء الواحد ذا مصلحة بلا مزاحم وذا مفسدة كذلك لابد أن تتعلق به الإرادة والكراهة معاً، والأمر والنهي كذلك... ومنه يظهر حال بقية الأحكام التكليفية، فإن التنافي بين الجميع لذلك، فنسبة التنافي إليها إنما هي بالعرض، أما ما هو مورد التنافي أولاً وبالذات فهو الملاكات لاغير. ولذلك يظهر الفرق بين اجتماع الوجوب والحرمة في موضوع واحد وبين التكليف بالمحال، فإن الثاني لا قصور في ملاكه، فلو ثبت كان بملاك، وإنما القصور في القدرة عليه لا غير، والأول يمتنع، لعدم الملاك حتى لو فرض محالاً ثبوت القدرة على الامتثال...».

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن ذلك - كما أشار إليه في آخر كلامه - مبني على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، ولا يتم بناء على عدم تبعيتها للمصالح والمفاسد مطلقاً، أو على تبعيتها للمصالح في أنفسها، لا في متعلقاتها، مع أن الظاهر عدم ابتناء تضاد الأحكام على شيء من ذلك، بل هو ثابت مطلقاً، كما أنه مسلم عند الكل حتى من لم يقل بابتنائها على ذلك.

وثانياً: أن هذا مختص بالأحكام الصادرة من المولى الحكيم الذي تبتني أحكامه على ملاحظة الملاكات، دون أحكام غيره ممن لا يتقيد في أحكامه بذلك، مع أن امتناع صدور الحكمين منه ظاهر، بحيث لو فرض خطابه بالحكمين معاً، لحمل على عدم القصد لأحدهما، أو العدول عنه ونسخه بالآخر، أو لغوية خطابه، بحيث لا ينتزع منه الحكم، ولا ينتزع منه بنظر العقلاء الحكمان معاً.

وثالثاً: أن مقتضي الوجوب مثلاً هو المصلحة الملزمة، والمفسدة

ص: 390

الملزمة من سنخ المانع من تأثير المقتضي، كما أن مقتضي الحرمة هو المفسدة الملزمة والمصلحة من سنخ المانع وحيث لا يراد بملاك الحكم المقتضي وحده، بل مع عدم المانع لزم امتناع الاجتماع حتى مع تعدد الموضوع إذا فرض امتناع امتثال الحكمين خارجاً، لأن ذلك يكفي في التمانع بين المقتضيين المستلزم لعدم تمامية ملاكي الحكمين معاً، بل يكفي في عدم تمامية ملاك الحكم الواحد تعذر امتثاله، لأن التعذر من سنخ المانع من فعلية تأثير المقتضي في الحكم، فيكون عدم جعل الحكم لعدم الملاك أيضاًً.

وبعبارة أخرى: كما يكون اشتمال نفس موضوع المصلحة على المفسدة المزاحمة مانعاً من تأثير المصلحة في الوجوب، كذلك يكون التلازم بين موضوع المصلحة وموضوع المفسدة، وتعذر موضوع المصلحة وحده مانعين من تأثيرها فيه، ولا فرق بينهما في عدم تمامية العلة التامة التي هي المراد بملاك الحكم، فلا وجه للفرق بين المقامين بأن الامتناع في الأول بملاك امتناع الضدين لامتناع تمامية الملاكين وفي الثاني بملاك امتناع التكليف بغير المقدور مع تمامية الملاك.

ورابعاً: بأن ظاهره عدم التضاد بين الإرادة والكراهة ذاتاً، بل بالعرض بسبب التضاد بين الملاكين، وهو خلاف المرتكزات القطعية، ولذا لا إشكال في امتناع اجتماعهما حتى في مثل المجنون لو تحقق منه الالتفات للموضوع مع عدم ملاحظته للملاك قطعاً.

بل الإرادة كيف نفساني خاص بالإضافة للمتعلق لا يجتمع مع الكراهة التي هي كيف آخر بالإضافة له، والتنافر بينهما ذاتي ومن ثم أخذ

ص: 391

مفروغاً عنه في الوجه الأول.

وما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) من عدم التضاد بينهما إما مخالف للبداهة أو أنه يريد من التضاد تنافراً خاصاً لا مطلق التنافي المستلزم لامتناع الاجتماع الذي هو محل الكلام في المقام. وقد أطلنا الكلام فيه في شرحنا لكفاية الأصول، ولا مجال للتعرض له في المقام.

ومما ذكرنا يظهر أن البناء من سيدنا الأعظم (قدس سره) على عدم تضاد الأحكام التكليفية ذاتاً - بل بالعرض تبعاً للتضاد بين الملاكات - لا يناسب مبناه في حقيقة الأحكام التكليفية من انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين اللتين هما بنظره من سنخ الإرادة والكراهة التكوينيتين.

الثالث: أن المصحح للأحكام التكليفية تميزها بآثارها

ثالثها: أن الأحكام التكليفية وإن كانت من سنخ الأمور الاعتبارية - بناءً على ما سبق منا في حقيقة الإرادة والكراهة التشريعيتين، لأن جعل السبيل من سنخ الاعتبار - والأمور الاعتبارية قائمة بنفس المعتبر وتابعة لجعله الذي هو خفيف المؤنة، إلا أن مصحح اعتبارها بنظر العقلاء هو تميزها بآثارها، بحيث يكون ترتبها عليها نوعاً ملحوظاً في مقام جعلها، كالزوجية المناسبة للاستمتاع، والطهارة المناسبة للمباشرة، والنجاسة المناسبة للتوقي والاجتناب، والحرية المناسبة للاستقلال في التصرف، والرقية المناسبة للتحجير فيه وتبعيته للمالك، ونحو ذلك.

ولولا ملاحظة الآثار النوعية وترتبها على الأمر المعتبر لكان الاعتبار لغواً لا يكون بنظر العقلاء منشأ لتحقق الأمر المعتبر، كاعتبار النجاسة للهواء والزوجية للماء والحرية للتراب المفروض عدم قابليتها للآثار المناسبة لهذه الأمور.

ص: 392

ولا ينافي ذلك اختلاف أفراد العنوان الاعتباري في الآثار المناسبة ورفع بعضها في بعض الموارد، كحرمة وطء الزوجة حال الحيض أو مع الظهار أو الإيلاء، وجواز شرب النجس للضرورة وعدم تنجس ماء الاستنجاء أو ملاقيه - مع ملاقاة أحدهما للنجس - وعدم جواز التطهير بماء الاستنجاء بناء على طهارته وعدم استقلال الصبي بالتصرف مع حريته وغير ذلك إذ ليس المدعى كون ترتب تمام الآثار المناسبة فعلاً مقوماً للعناوين الاعتبارية، بحيث لو تخلف بعضها أو تمامها في بعض الأحوال لا يصح الاعتبار المذكور، بل المدعى أن شأنية ترتب الآثار المذكورة مصحح للاعتبار، وإن لم تترتب لمانع أو تخلف بعضها واختلفت أفرادها فيها. ولذا احتيج ترتب الآثار للجعل المستقل عن جعل العناوين الاعتبارية، ولم يكف جعلها عن جعل الآثار، كما لا يكفي جعل الآثار عن جعلها، إلا بناء على انتزاع الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية، الذي لا مجال للبناء عليه، على ما تقدم في مقدمة علم الأصول.

إذا عرفت هذا فتضاد الأمور الاعتبارية إنما يكون بلحاظ تنافي آثارها النوعية عرفاً، بحيث يدرك العرف امتناع اجتماع السنخين، كما في تضاد الطهارة والنجاسة والحرية والرقية ونحوها مما لا منشأ للتضاد فيه عرفاً إلا تنافي الآثار النوعية، حيث لا يصح بنظر العقلاء اعتبار كلا الأمرين في الموضوع الواحد، بل يكون بينهما بسبب ذلك كمال المعاندة والمنافرة، وإن كان الاعتبار في نفسه خفيف المؤنة ولا يلزم من جعل الحكمين معاً التكليف بغير المقدور، لعدم ابتناء الأحكام الوضعية على العمل إلا بضميمة أحكامها التكليفية التي يمكن جعلها مع تضاد الحكمين الوضعيين بنحو لا

ص: 393

يلزم منه التكليف بغير المقدور بإثبات بعض آثار كل من الحكمين.

وإنما يصح اعتبار كلا الأمرين في الموضوع الواحد مع عدم تنافي آثارهما النوعية عرفاً، كالنجاسة والملكية، وكزوجية المرأة وحريتها.

ومن هنا يتضح الوجه في تضاد الأحكام التكليفية، لأن مصحح جعلها اقتضاؤها بنظر العقل نحواً من العمل، وحيث كانت متنافية بطبعها في نحو الاقتضاء، كانت متضادة عرفاً بحيث لا يصح اعتبارها في الموضوع الواحد بنظرهم.

بل حيث كانت متقومة بالاقتضاء المذكور بنحو تقتضي فعلية التأثير في إحداث الداعي للعمل كانت تابعة لفعلية الاقتضاء المذكور، لا لشأنيته - كما تقدم في بقية الاعتباريات بالإضافة إلى آثارها المناسبة - فيمتنع اعتبارها مع عدمه مطلقاً حتى لو كان مسبباً عن تعذر امتثال الحكم اتفاقاً في الموضوع الواحد أو أحد الموضوعين بسبب التزاحم، لا من جهة قبح التكليف بما لا يطاق بملاك الظلم، بل من جهة اللغوية كما تقدم من بعض الأعاظم (قدس سره) عند الكلام في ثمرة مسألة الضد.

غايته أن الامتناع المذكور لا يوجب التضاد إلا بالإضافة إلى الحكمين في الموضوع الواحد لاختصاص التضاد اصطلاحاً بتنافي العارضين لذاتيهما في الموضوع الواحد. ومن هنا صح دعوى التضاد بين الأحكام التكليفية.

ومن ذلك يظهر أن تنافي الحكمين ليس تابعاً للتضاد بين أمرين حقيقيين كالإرادة والكراهة أو الملاكين - كما هو مبنى الوجهين السابقين - بل للتنافي بينهما بأنفسهما، إما على نحو التنافي بين سائر الأحكام الوضعية والأمور الاعتبارية المتضادة، أو للتنافي بين أنحاء اقتضائها للعمل، الذي هو

ص: 394

المقوم لها والمصحح لجعلها.

ما ذكره الأصفهاني (قدس سره) في وجه منع التضاد

وأما ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) في وجه منع التضاد من إمكان اجتماع الحكمين في موضوع واحد ولو من موالي متعددين، حيث يكشف عن عدم تضاد الحكمين بحسب حقيقتهما، وخصوصيات الموالي من المقومات الفردية التي لا تكون دخيلة في التضاد، لأنه من شؤون الحقائق والطبايع، لا من شؤون الأفراد.

المناقشة فيه

ففيه: أن خصوصية المولى وان كانت من المقومات الفردية إلا أنه لا مانع من دخل الخصوصيات الفردية في امتناع الاجتماع الناشئ عن التضاد - بالمعنى الراجع لامتناع الاجتماع الذي هو محل الكلام - إذا كانت الخصوصيات الفردية مقومة للموضوع، ولذا يمتنع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد، لا مطلقاً.

وفي المقام حيث كان الحكم التكليفي نحو إضافة قائمةٍ بالمكلِّف والمكلَّف والمكلَّف به فهو متقوم بالأطراف المذكورة، وهي الموضوع له، فالتضاد بين الأحكام إنما يقتضي امتناع اجتماعها مع وحدة الموضوع بانحفاظ الأطراف الثلاثة، لا مع تعدده باختلاف بعضها، كما هو الحال في سائر الأمور الإضافية كالأبوة والبنوة اللذين يمتنع اجتماعهما في الشخص الواحد بالإضافة إلى شخص واحد، وإن أمكن اجتماعهما فيه بالإضافة إلى شخصين. إلا أن يريد من التضاد تنافراً خاصاً خارجاً عن محل الكلام.

بداهة التضاد بين الأحكام

وبالجملة: التضاد بين الأحكام التكليفية بالمعنى الراجع لامتناع اجتماع أكثر من حكم واحد في الموضوع الواحد لذاتيهما من البديهيات المستغنية عن الاستدلال والاستدلال على منعه ملحق بالشبهة في مقابل

ص: 395

البديهة، وإنما الكلام في منشأ التضاد، والظاهر تمامية ما تقدم في تقريبه.

هذا، وحيث كانت الأحكام التكليفية كلها مختلفة في نحو اقتضائها للعمل بالإضافة لمتعلقاتها كان التضاد ثابتاً بينها كلها ولا يختص ببعضها.

اختلاف نحو التضاد بين الأحكام

غايته أن تضاد الوجوب والتحريم تضاد تام بلحاظ تمام الحدود، لعدم اشتراكهما في جهة من جهات الاقتضاء، فلا يمكن موافقة كل منهما إلا بمخالفة الآخر وعصيانه، بخلاف التضاد بين بقية الأحكام في أنفسها أو بينها وبين الوجوب والتحريم، فإنه ليس تاماً، بل من جهة خصوص ما به امتياز أحد الحكمين عن الآخر من الحدود، فالوجوب والاستحباب يشتركان في اقتضاء الفعل، ويختلفان في ابتناء الاستحباب على عدم الحرج في الترك، واقتضاء الوجوب الحرج فيه، والوجوب والكراهة يشتركان في عدم الحرج في الفعل، ويمتاز الوجوب باقتضائه الحرج في الترك والكراهة باقتضاء الترك ورجحانه، كما أن الكراهة والاستحباب يشتركان في عدم الحرج في كل من الفعل والترك مع امتياز كل منهما باقتضاء خصوص أحد الأمرين، وهكذا.

ويظهر أثر ذلك في إمكان تأكد أحد الحكمين بالآخر بالإضافة إلى الحد المشترك إذا كان اقتضائياً، كتأكد الوجوب بالاستحباب بالإضافة إلى ما يشترك بينهما، وهو اقتضاء الفعل ورجحانه. نظير التأكيد في الحكم الواحد الحاصل باجتماع جهتين تقتضيانه.

كما يبتني على ذلك عدم التضاد التام بين الوجوب أو الاستحباب البدلي - إما للتخيير العقلي أو الشرعي - والتحريم فيما لو أمكن امتثال الأول بغير مورد الثاني، لكون موضوعه أعم من موضوع الثاني مطلقاً أو من وجه،

ص: 396

كوجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الفاسق العالم أو مطلقاً، وذلك لأن الحكم البدلي يقتضي عملاً السعة بالإضافة إلى مورد الاجتماع والاجتزاء به في امتثاله، ومقتضى الثاني بالإضافة إليه وإن كان عدم السعة، فينافي حدّه الأول، إلا أنه لا ينافي حده الثاني، وهو الاجتزاء به في مقام امتثال الحكم البدلي، لإمكان وفائه بغرضه وإن كان مستلزماً للإخلال بالثاني وعصيانه. نظير ما تقدم في ثمرة مسألة الضد من عدم التنافي بين التكليف الموسع والمضيق بنحو يمكن شمول الموسع للأفراد الحاصلة في وقت المضيق.

فإذا كان مورد الاجتماع في المقام وافياً بملاك الحكم البدلي فمجرد كون الإتيان به مخلاً بغرض الحكم الآخر وموجباً لعصيانه لا ينافي إجزاءَهُ عن الحكم البدلي، ليلزم تقييد متعلق الحكم البدلي بغيره، كما لا وجه للتزاحم بين الملاكين بعد إمكان استيفاء كلٍ منهما بامتثال البدلي بغير مورد الاجتماع، بل يتعين في مثل ذلك سعة متعلق الحكم البدلي لمورد الاجتماع وإن كان متعلقاً للحكم الآخر، ولا يتضادان من هذه الجهة.

والفرق بينه وبين التقييد نظير الفرق بين التقييد بشيء زائد على الماهية كتقييد الصلاة بالطهارة المستلزم لعدم إجزاء فاقد القيد، ومطلوبية شيءٍ في شيء بنحو تعدد المطلوب كالأمر بإيقاع الصلاة في المسجد المستلزم لإجزاء الفاقد عن أصل المطلوب وإن لزم منه الإخلال بالآخر.

كما لا تضاد أصلاً بين الوجوب أو الاستحباب المذكور والكراهة في الفرض، لأن الأمر بالماهية إنما يقتضي السعة في امتثاله بالإضافة إلى مورد الاجتماع من دون أن ينافي مرجوحيته بنحو ينبغي اختيار غيره من الأفراد، كما نبه لذلك بعض الأعاظم (قدس سره) في مسألة اقتضاء النهي عن العبادة الفساد.

ص: 397

فلاحظ.

إن قلت: لازم هذا عدم تعارض الدليلين في مثل ذلك أصلاً والعمل على إطلاق كل منهما، مع أن بناء العرف ظاهراً على التعارض بينهما بدواً ثم الجمع بالتخصيص والتقييد، فإذا ورد: أكرم عالماً، ثم ورد: يحرم إكرام العالم الفاسق، كانا متعارضين بدواً، ولزم الجمع بتخصيص أحدهما بالآخر، بحيث لو قدم الثاني لزم عدم إجزاء إكرام العالم الفاسق. لا مجرد حرمته مع إجزائه.

قلت: لا إشكال في ذلك لو أريد بالنهي الإرشاد لعدم إجزاء مورده وخروجه عن الماهية المطلوبة نظير النهي الوارد لشرح الماهيات الشرعية، كالنهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه. لكنه أجنبي عن المقام من فرض التنافي بين الوجوب البدلي والتحريم.

وأما لو أُريد بالنهي مجرد التحريم لملاك أجنبي عن ملاك الأمر فاطراد التعارض والجمع بالنحو المذكور لا يخلو عن إشكال، بل لا يبعد اختلافه باختلاف الموارد تبعاً لخصوصيات المناسبات والقرائن المحيطة بالكلام. بل الظاهر عدمه لو كان النهي للكراهة دون التحريم.

ولو سلّم فهو مختص بالتحريم ولعله ناشئ عن أن إطلاق الأمر كما يقتضي إجزاء كل فرد كذلك يقتضي السعة وعدم الحرج بالإضافة إلى الأفراد، وحيث كان النهي منافياً للثاني فرفع اليد عن الإطلاق في متعلق الأمر وحمله على غير مورد النهي أقرب عرفاً من التفكيك بين الإجزاء والسعة في مورد النهي محافظةً على الإطلاق فيه.

وذلك راجع إلى مقام الإثبات التابع للظهور، فلا ينافي ما ذكرنا من

ص: 398

إمكان إجزاء مورد النهي، لعدم التضاد بين الأمر المذكور والنهي من هذه الجهة الذي هو راجع لمقام الثبوت، فلا ينهض ذلك لو تم بالخروج عما تقدم. فلاحظ.

عدم التعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي

الأمر الثاني: من الظاهر أنه لا تعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي في مسألة الاجتماع بناء على جواز الاجتماع، لعدم التنافي بين الدليلين.

كما أنه بناءً على الامتناع فالمشهور أنه مع تقديم جانب النهي لا يخرج مورد الاجتماع عن موضوع الأمر تخصيصاً وملاكاً، بل للمانع، مع دخوله فيه ذاتاً وواجديته لملاكه بتمامه، فإن كان الأمر توصلياً أجزأ عنه مطلقاً، وإن كان تعبدياً أجزأ مع عدم مبعدية النهي للغفلة عنه أو الجهل به، فضلاً عما لو لم يكن فعلياً بسبب الاضطرار لمخالفته.

كما لا ريب في كفاية العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي في الدخول في هذه المسألة، مع الكلام في الاكتفاء في ذلك بما إذا كان بينهما عموم مطلق، على كلام لا يهم التعرض له.

هذا ولا إشكال عندهم أيضاًً في التعارض البدوي بين الدليلين المتضمنين لحكمين متضادين إذا كان بين موضوعيهما عموم وخصوص مطلق أو من وجه، ولم يشر أحد منهم للتفصيل في ذلك بين القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وعدمه.

كما لا إشكال عندهم ظاهراً في أنه مع عدم المرجح لأحد الدليلين يسقطان معاً عن الحجية في مورد الاجتماع، ومع المرجح لأحدهما يسقط الآخر عنه، وفي الموردين لا مجال للبناء على ثبوت ملاك الحكم الذي يسقط دليله عن الحجية في مورد الاجتماع، بل يتوقف في ذلك، فلا يجتزأ به

ص: 399

في امتثال الأمر لو سقط دليله عن الحجية بسبب التعارض، أو تقديم الدليل الآخر.

وهذا كاشف عن أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي بنظرهم مباين لمورد التعارض، وإن اشتركا في كون النسبة بين العنوانين العموم من وجه فقط أو مع العموم المطلق أيضاًً.

الكلام في ضابط مسألة الاجتماع وفي الفرق بينه وبين التعارض

وقد وقع الكلام بينهم في ضابط موضوع مسألة الاجتماع، وفي الفرق بينه وبين موضوع التعارض المذكور. ويظهر منهم في ضابط الفرق بينهما وجهان..

أولهما: ما ذكر المظفر (قدس سره) في أصوله

أولهما: ما ذكره بعض المعاصرين (قدس سره) في أصوله وحاصله: أن العنوان الذي يؤخذ موضوعاً للحكم..

تارة: يلحظ فانياً في مصاديقه على نحو يسع جميع الأفراد بما لها من المميزات، فيكون شاملاً بسعته للمجمع بين العنوانين، فيعد في حكم المتعرض له بالخصوص، ولو من جهة كونه متوقع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبه عليه المتكلم، وحينئذٍ يكون دليل الحكم دالاً التزاماً على نفي الحكم الآخر المضاد له في المجمع قال: «ولا نضايقك في أن تسمي مثل هذا العموم العموم الاستغراقي، كما صنع بعضهم».

وأخرى: يلحظ فانياً في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد، فلم تلحظ كثرتها ومميزاتها في مقام الأمر والنهي، فيكون المأمور به والمنهي عنه صرف وجود الطبيعة. قال: «ولتسم مثل هذا العموم العموم البدلي، كما صنع بعضهم».

ففي الصورة الأولى يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام

ص: 400

الجعل والتشريع، لتكاذبهما في مورد الاجتماع، لاقتضاء كل منهما ثبوت حكمه فيه بالمطابقة ونفي حكم الآخر بالالتزام، للتنافي بين الحكمين. وحينئذٍ يتعين التعارض بينهما، ومقتضى القاعدة تساقطهما معاً في المورد المذكور، فلا يحرز فيه الوجوب ولا الحرمة.

ومعه لا مجال لدخوله في موضوع مسألة الاجتماع، لاختصاصه بما إذا فرض شمول الدليلين لمورد اجتماع العنوانين وحجيتهما بالإضافة إليه، وذلك إنما يكون مع عدم التعارض بينهما في مقام الجعل والتشريع.

أما في الصورة الثانية فيدخل المورد في موضوع مسألة الاجتماع، ولا تعارض بين الدليلين، لعدم لحاظ الأفراد بنحو يسع الأفراد جميعها، وإن كان العنوان في ذاته شاملاً لها، لأن الحكم يتعلق بصرف الطبيعة المأمور بها - كالصلاة - والمنهي عنها - كالغصب - فلا يكون دليل وجوب الصلاة مثلاً دالاً على وجوبها حتى في مورد الغصب، بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الحرمة فيه، كما لا يكون دليل حرمة الغصب دالاً على حرمته حتى في مورد الصلاة بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الوجوب فيه، فلا يقع التعارض بين الدليلين. وحينئذٍ لو اختار المكلف الجمع بينهما في مقام الامتثال يقع الكلام في جواز الاجتماع وعدمه، فعلى الجواز يكون مطيعاً وعاصياً، وعلى الامتناع يكون مطيعاً لا غير إن رجح الأمر، وعاصياً لا غير إن رجح النهي، لوقوع التزاحم بين التكليفين الموجب للرجوع إلى أقوى الملاكين.

هذا حاصل ما ذكره في المقام. وقد أطال في تقريبه بنحو اضطرنا إلى إطالة الكلام في شرحه تبعاً له، لئلاّ يفوت شيء بسبب الاختصار يخل بالمطلب، وإن أعرضنا عن بعض التفصيلات، لعدم أهميتها في بيانه.

ص: 401

وفيه.. أولاً: أنه لم يتضح الفرق بين الصورتين.

إذا لو أريد بالأولى العموم الاستغراقي - بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو الجمع الذي هو مفاد الواو - وبالثانية العموم البدلي - بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو التخيير الذي هو مفاد أو - فلا مجال لفرض الثانية في النهي، لعدم الإشكال في كون عمومه استغراقياً بالمعنى المعروف.

وإن أريد بالأولى العموم الوضعي وبالثانية العموم الإطلاقي فالفرق بينهما بالإضافة إلى بيان حكم الأفراد في غاية الإشكال، فإن منشأ الدلالة على حكم الأفراد وإن اختلف فيهما، إلا أنهما مشتركان في أصل الدلالة عليه وعلى كيفية تعلق الحكمين، ولذا لا إشكال في أن ما ذكروه من تحقق التعارض بين العامين من وجه يجري في المطلقين، فالمراد بالعام فيه وفي كثير من أحكام العام ما يعم المطلق، كما ذكرناه في مبحث العموم والخصوص، ويشهد به أدنى سبر لكلماتهم في الفقه والأصول.

وكيف كان فالدليل بعد فرض ظهوره في العموم يدل على سعة الحكم للفرد بنفسه دون ما هو خارج عنه مما يقارنه وجوداً ولا يتحد معه خارجاً.

وحينئذٍ فإن قيل بأن موضوع الحكم هو العنوان أو بأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون - اللذين عليهما يبتني القول بإمكان اجتماع الأمر والنهي عندهم - كان موضوع أحد الدليلين مقارناً لموضوع الآخر في مورد الاجتماع، مع خروجه عنه ومباينته له، فلا يكون عموم موضوع أحد الحكمين له منافياً لعموم موضوع الآخر له، ليقع التعارض بين الدليلين.

وإن قيل بأن موضوع الحكم هو المعنون مع عدم تعدده بتعدد العنوان

ص: 402

- الذي عليه يبتني القول بالامتناع عندهم - كان موضوع حكم أحد الدليلين متحداً مع موضوع الآخر في مورد الاجتماع، فيكون عموم موضوع أحد الحكمين له منافياً لعموم موضوع الآخر له، ويقع التعارض بين الدليلين من دون فرق بين الأدلة وأنحاء دلالتها بعد فرض عمومها لمورد الاجتماع.

وثانياً: أن كلاً من الدليلين في الصورة الثانية إن كان في نفسه متكفلاً ببيان حكم مورد الاجتماع كانا متكاذبين متعارضين بناء على امتناع اجتماع الحكمين في الوجود الواحد المجمع للعنوانين، لعين ما ذكره في الصورة الأولى، أما بناء على إمكان اجتماعهما فيه فلا تنافي بين مفادي الدليلين، ومعه لا تعارض حتى في الصورة الأولى أيضاًً، لما سبق من أن العموم مطلقاً إنما يقتضي سعة حكمه للفرد بنفسه دون ما يقارنه.

وإن لم يكونا متكفلين ببيان حكمه، لتعرضهما لثبوت الحكم للماهية من دون نظر للأفراد، كان مرجعه إلى عدم الإطلاق لكل منهما ووروده بنحو القضية المهملة، ومعه لا مجال لكون المجمع من مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي، لتوقفه على ثبوت كل منهما فيه بمقتضى دليله، لينظر في إمكان اجتماعهما ويعمل بكل من الدليلين فيه أو امتناعه ويتعين سقوط أحدهما أو كليهما فيه، ويكون أبعد عن المسألة من صورة التعارض.

ومن ثم كان كلامه في غاية الغموض والاضطراب، ولم يتحصل منه ما يمكن الركون إليه في بيان ضابط موضوع المسألة، والفارق بينه وبين مورد التعارض.

ثانيهما: ما حكاه عن النائيني (قدس سره)

ثانيهما: ما حكاه هو (رحمه الله) عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الجهتين في العامين من وجه إن كانتا تعليليتين كان العامان متعارضين، لاتحاد المأمور به

ص: 403

مع المنهي عنه، فيمتنع معه اجتماع الحكمين في مورد اجتماع الجهتين وإن تعددت علتهما، وإن كانتا تقييديتين فلا تعارض بينهما، لتعدد الموضوع، ويدخلان حينئذٍ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، وفي باب التزاحم مع عدمها.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا ضابط للفرق المذكور بين العناوين، كما لا تتعرض له أدلة أحكامها، بل هي إنما تتعرض لإثبات الحكم على العنوان الحاكي عن المعنون، بنحو يظهر منه نوعاً دخله في الحكم والغرض، فإما أن يبنى على كونه تعليلياً في الجميع أو تقييدياً في الجميع(1).

نعم قد تدل القرينة الخاصة على سوق العنوان لمحض الحكاية عن أفراده والإشارة إليها من دون دخل له في الحكم والغرض، وهو حينئذٍ لا يكون تعليلياً ولا تقييدياً.

مع أن كون العنوانين تقييديين من مباني القول بجواز الاجتماع في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي عندهم، لاستلزامه تعدد موضوع الحكمين ولو مع اجتماع العنوانين في فرد واحد، لا ضابط لموضوع المسألة المذكورة، بنحو يتنازع بعد البناء عليه في جواز الاجتماع فيه وامتناعه، كما لعله ظاهر بالتأمل.

نعم، لم أعثر عاجلاً على التفصيل المذكور في تقريري درس بعض الأعاظم (قدس سره) المعروفين، لا هنا ولا في مسألة الضد، وإن تعرض في المسألتين لما هو الدخيل في المقام في الجملة، كما لم ينقله عنه غير بعض المعاصرين

ص: 404


1- يأتي التعرض للضابط المستفاد منه لكون الجهة تعليلية أو تقييدية في آخر الكلام في مطلبه هذا.

ممن تسنى لي العثور على كلامه.

وإنما ذكر هنا أن مرجع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في أن الجهتين تعليليتان، ليلزم التعارض في موردها، أو تقييديتان كي لا يلزم التعارض، بل يدخل المورد في التزاحم.

وليس هذا فرقاً بين موضوع المسألة ومورد التعارض المشار إليه، الذي هو محل الكلام، بل بيان لمبنى كون موضوع المسألة من صغريات التعارض، وهو أمر آخر.

وبعبارة أخرى: محل الكلام هو الفرق بين الموارد التي يحكم فيها بالتعارض ابتداء وعلى كل حال، وموضوع مسألة الاجتماع التي يبتني دخولها عنده في صغريات التعارض على ما ذكر، لا ضابط دخول موضوع هذه المسألة في التعارض أو التزاحم، الذي تعرض له.

مع أن ما ذكره من لزوم التعارض في موضوع المسألة بناء على أن الجهتين تعليليتان لا يناسب بناء المشهور على الامتناع وتقديم جانب النهي مع إجزاء المجمع عن الأمر في التوصليات مطلقاً، وفي التعبديات مع الغفلة عن النهي أو الجهل به أو الاضطرار لمخالفته، كما يظهر بالتأمل.

هذا، ويظهر منه (قدس سره) في ضابط كون الجهتين تعليليتين وكونهما تقييديتين أن التركب بين الجهتين إن كان اتحادياً كانتا تعليليتين، وإن كان انضمامياً كانتا تقييديتين.

لكنه في الحقيقة ليس ضابطاً لتعيين حال الجهة وأنها تعليلية أو تقييدية، بل لتمييز موارد تعدد المعنون بتعدد العنوان، وموارد وحدته مع تعدد العنوان، وبينهما فرق ظاهر.

ص: 405

نعم، هو مثله في أنه مبنى جواز الاجتماع وامتناعه في موضوع المسألة، دون ما هو محل الكلام من ضابط الفرق بين موضوعها ومورد التعارض.

ويأتي تمام الكلام في ما ذكره إن شاء الله تعالى.

والمتحصل: أنه لا يتضح من كلامهم ما ينهض بالفرق بين موارد التعارض وموضوع المسألة في العامين من وجه.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) في ضابط موضوع المسألة

نعم ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) في ضابط موضوع المسألة أنه لابد من اشتمال المجمع على ملاكي الحكمين معاً، كي يمكن جريان النزاع حينئذٍ في إمكان ثبوت كلا الحكمين، تبعاً لملاكه، وعدمه، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين.

وقد تبعه في ذلك بعض الأكابر من تلامذته في درره، وجعله ضابطاً للفرق بين موارد التعارض وموضوع المسألة، وأنه لابد في التعارض من وحدة الملاك واختصاصه بأحد الحكمين.

وهو في محله في الجملة، لمناسبته لما سبق من المشهور من البناء على إجزاء المجمع عن الأمر مع بنائهم على الامتناع وتقديم جانب النهي وما سبق من عدم الإشكال في عدم الإجزاء في مورد التعارض البدوي.

إلا أنه ضابط ثبوتي لا إثباتي، ليتجه الرجوع إليه في تمييز موضوع المسألة عن مورد التعارض، لوضوح أن الأدلة لا تتعرض للملاكات ابتداء، ليمكن دلالتها على ثبوت ملاكي الحكمين في مورد مجمع العنوانين وإن امتنع اجتماع الحكمين فيه، وإنما تتعرض للأحكام واستفادة الملاكات منها بتبعها، فلا بد من التمييز بين الموارد التي يحكم فيها ابتداء بتعارض

ص: 406

الدليلين في مجمع العنوانين بنحو يستلزم سقوط أحدهما أو سقوطهما معاً عن الحجية حتى بالإضافة إلى الملاك وموضوع هذه المسألة الذي يحرز فيه من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع، ويبتني إحراز كلا الحكمين أو أحدهما فيه على النزاع في إمكان الاجتماع وامتناعه.

أما مع عدم التمييز المذكور وفرض الموارد بنحو واحد فاللازم بناء التعارض بين الدليلين وعدمه على الخلاف في جواز الاجتماع وامتناعه. فإن قيل بالجواز فلا تعارض بين الدليلين مطلقاً لا في الملاكين ولا في الحكمين، وإن قيل بالامتناع يلزم التعارض بينهما في مدلولهما المطابقي، وهو إثبات كلا الحكمين في العنوانين.

وحينئذٍ فإن قيل بأن تعارض الدليلين في مدلولهما المطابقي كما يسقطهما عن الحجية فيه يسقطهما عن الحجية في مدلولهما الالتزامي - كما هو التحقيق على ما ذكرناه في مبحث التعارض - تعين عدم إحراز ملاك أحد الحكمين أو كليهما من الإطلاقين في المجمع، فلا يجزي عن الأمر بناء على تقديم جانب النهي.

وإن قيل بأنه لا يسقطهما عن الحجية في المدلول الالتزامي، تعين إحراز الملاكين في المجمع وإجزائه عن الأمر ولو مع تقديم جانب النهي في التوصليات مطلقاً وفي التعبديات مع عدم صلوح النهي للمبعدية.

لكن عرفت أن بناء المشهور ليس على ذلك، بل على التعارض في بعض الموارد مطلقاً وإن قيل بجواز الاجتماع المستلزم لعدم إجزاء المجمع عن الأمر مع عدم تقديم دليله، وعلى إجزاء المجمع عن الأمر في خصوص موضوع مسألة الاجتماع مع بنائهم على الامتناع وتقديم النهي فيه.

ص: 407

ومن ثَمَّ ذكر بعض مشايخنا (دامت بركاته) أن ذلك من المشهور ناشٍ عن الغفلة عن مقتضي التعارض اللازم بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي، وأن اللازم بطلان الامتثال بالمجمع مع الجهل بالنهي ونحوه مما لا يرتفع معه النهي واقعاً، لأن فعلية النهي في المجمع تستلزم قصور متعلق الأمر عنه، فلا يحرز ملاكه فيه، ليكون مجزياً.

نعم، لم يلتزم بذلك مع الاضطرار لمخالفة النهي، كما يظهر من غيره أيضاًً.

وقد يقرب بأنه بعد فرض قصور النهي عن مورد الاضطرار لا مانع من عموم إطلاق الأمر له، فيحرز الأمر به تبعاً لثبوت الملاك فيه، ويتعين إجزاؤه.

لكنه يشكل: بأن المنشأ للتعارض في العامين من وجه وإن كان هو تنافي الحكمين بنحو يمتنع فعليتهما معاً، فيقصر عن فرض الاضطرار لمخالفة حكم الراجح حيث يلزم سقوطه ولا يمتنع معه فعلية الآخر، إلا أن بناء العرف فيه على كون مورد التعارض الموجب لقصور أحد الدليلين أو كليهما هو المجمع بذاته وبعنوانه الأولي، لا بما هو محكوم فعلاً بالحكم الآخر، فيؤخذ بذاته قيداً في موضوع الدليل المرجوح ويستثنى منه ملاكاً وخطاباً مطلقاً ولو مع سقوط حكم الدليل الراجح بمثل الاضطرار والحرج مما لا يرتفع الملاك، كما يشهد بذلك ملاحظة النظائر في سائر موارد العامين من وجه.

مثلاً إذا ورد: أكرم العلماء، وورد: لا تكرم الفساق، ففرض تقديم الثاني في العالم الفاسق راجع عرفاً إلى تقييد الأول بغير الفساق من العلماء

ص: 408

وقصوره عنهم ذاتاً وإن ارتفعت حرمة إكرامهم بالاضطرار.

ولذا لا يظن من أحد الالتزام في فرض الاضطرار إلى إكرام فاسق من العلماء أو غيرهم بلزوم إكرام الفاسق من العلماء تحكيماً لعموم وجوب إكرام العلماء بعد فرض قصور عموم حرمة إكرام الفساق بالاضطرار، نظير المقام.

بل لو تم ذلك جرى في العموم المطلق، فيلتزم بأنه لو سقط حكم الخاص للاضطرار يرجع في مورد ه لحكم العام، مع أنه لا يظن بأحد الالتزام بذلك، وإنما يجمع بينهما بخروج مورد الخاص عن حكم العام مطلقاً على النحو الذي ذكرناه في العامين من وجه.

ومن ذلك يظهر حال ما ذكره (دامت بركاته) من أن ملاك الحرمة لما لم يكن مؤثراً في مبغوضية المجمع فعلا حال الاضطرار له لا يكون مانعاً من إيجابه بعد فرض اشتماله في نفسه على الملاك الملزم، فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل الوجوب فيه، فيثبت صحة امتثال أمر الطبيعة به، ويكون مصداقاً للطبيعة الواجبة في الخارج.

لاندفاعه: بأنه لا إشكال في صحة الامتثال بالجمع في فرض إحراز ملاك الوجوب فيه، لعدم المانع من تأثير الملاك لحكمه، بلا حاجة للإطلاق، بل يكفي التقرب بالملاك لو فرض عدم الأمر بعد عدم فعلية النهي المانع من التقرب.

إلا أن الإشكال في إحراز الملاك بعد فرض تعارض الدليلين وتقديم دليل الحرمة في المجمع المستلزم لقصور دليل الوجوب عنه بذاته، كما تقدم.

ص: 409

ومن ثم كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره من التفصيل بين الجهل بالنهي والاضطرار لمخالفته، بل يلزم عدم صحة الامتثال في الجميع بناء على ما ذهب إليه من كون المورد من صغريات التعارض.

إلحاق مورد الاجتماع بالتزاحم دون التعارض

فالعمدة في المقام عدم تمامية المبنى المذكور، وأن مورد اجتماع الأمر والنهي ملحق بالتزاحم دون التعارض، لإحراز كلا الملاكين فيه من الإطلاق، فإن الجمود في تحرير محل النزاع في مسألة الاجتماع على ما تقدم من إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين قد يوهم عموم النزاع في كفاية تعدد العنوان في إمكان سعة الحكمين المتضادين للمجمع بين العنوانين لكل عنوان من دون فرق بين العناوين وأنحاء اجتماعها في المورد الواحد، المستلزم لابتناء التعارض بين دليلي الحكمين المختلفي العنوان في المجمع على النزاع في مسألة الاجتماع مطلقاً، فإن قيل بامتناع الاجتماع لزم التعارض بين الدليلين لتكاذبهما تبعاً لتنافي مفاديهما في الجميع، وإن قيل بجواز الاجتماع فلا تعارض في الجميع.

لكن لا مجال لذلك بعد ملاحظة مفروغيتهم عن التعارض البدوي في بعض العناوين من دون ابتناء على مسألة الاجتماع وإجراء أحكام التعارض من الجمع العرفي مع إمكانه والترجيح أو التخيير أو التساقط مع تعذره، بنحو يُبنى على عدم إحراز ملاك الحكم الذي تضمنه الدليل المرجوح أو الساقط بالتعارض، مع ما أشرنا إليه آنفاً من بناء المشهور على إحراز ملاك الحكم في موضوع مسألة الاجتماع، حيث يكشف ذلك عن الفرق عندهم بين العناوين، بل عن ارتكازية الفرق المذكور، حيث جروا عليه بطبعهم من دون تنبيه له وتحديد لموارده.

ص: 410

وتوضيح ذلك: أن امتناع التمسك بالإطلاقين معاً لإثبات فعلية الحكمين المتضمنين لهما كما يكون مع تضاد حكميهما ووحدة متعلقهما، كذلك يكون مع تعدد متعلق حكميهما وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال، إما للغوية جعل الحكم مع تعذر الامتثال، أو لقبح التكليف بما لا يطاق، كما تقدم في ثمرة مسألة الضد.

إلا أن بناء العرف في الأول على تكاذب الإطلاقين في مقام الإثبات بنحو يسقط أحدهما أو كلاهما عن الحجية رأساً، فكما لا يثبت به الحكم الفعلي لا يثبت ملاكه. وهو المراد بالتعارض الذي يكون معيار الترجيح فيه قوة الدليل، ولا أثر فيه لأهمية الحكم.

أما في الثاني فلا تكاذب بين الإطلاقين بنظر العرف، بل يحمل كل منهما على بيان ثبوت حكمه في نفسه لولا العجز عن الامتثال الذي يسقط معه الحكم عن الفعلية مع بقاء ملاكه، المستلزم لتزاحم الملاكين ثبوتاً في تأثير الحكم. وهو المراد بالتزاحم الذي يكون معيار الترجيح فيه أهمية الحكم تبعاً لأهمية ملاكه، ولا أثر فيه لقوة الدليل، على ما حقق في محله من مباحث التعارض. ولا إشكال في شيء من ذلك.

كما لا إشكال في أن أظهر مصاديق الأول ما إذا اتحد موضوع الحكمين بحسب العنوان والمعنون معاً، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب إكرام العلماء والآخر على حرمته، وأن أظهر مصاديق الثاني ما إذا تعدد موضوعهما بحسب العنوان والمعنون، كما في ما دل على وجوب إنقاذ المؤمن وما دل على حرمة التصرف في المغصوب لو توقف الإنقاذ على التصرف.

ص: 411

وإنما الإشكال فيما لو تعدد موضوعهما بحسب العنوان واتحد بحسب المعنون، لاجتماع العنوانين في بعض الأفراد، لاضطرابهم في ذلك جداً.

وعليه يبتني اشتباه مورد تعارض العامين من وجه بموضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي اللذين نحن بصدد التمييز بينهما.

والظاهر أن الحال يتضح بملاحظة أقسام العناوين وكيفية انتزاعها لمعنوناتها.

تحقيق في حال العناوين الحاكية عن فعل المكلف

فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف الصالح لأن يكون موضوعاً للأحكام التكليفية ومعروضاً لها..

تارة: تكون أولية حاكية عنه بذاته من دون نظر لشيء خارج عنه، كعنوان المشي والنوم والتكلم والأكل والشرب والسب والمدح والغيبة وغيرها.

وأخرى: تكون ثانوية منتزعة من الفعل بلحاظ أمر خارج عنه، كالعناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب شيء عليه، كعنوان الإحراق والإيذاء والإضرار والتأديب والتكريم والإنقاذ والتداوي وغيرها، والعناوين الإضافية المنتزعة من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة والمشابهة والفوقية والتحتية وغيرها.

والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين بقسميها إلى التكليف بمنشأ انتزاعها، لكونه موطن الغرض والملاك.

ففي القسم الأول يكون المكلف به هو الفعل بذاته، لأنه هو منشأ انتزاع العنوان، من دون فرق بين التكليف به على إطلاقه والتكليف به مقيداً

ص: 412

ببعض القيود الخارجة عنه، كتقييد المشي بالسرعة والأكل بطعام خاص والنوم بوقت خاص إلى غير ذلك، وليست فائدة التقييد إلا تضييق مورد التكليف وقصره على ما يقارن القيد من دون أن يكون القيد بنفسه مورداً للتكليف وجزءاً من متعلقه، على ما سبق توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية. فراجع.

أما في القسم الثاني فليس المكلف به وموطن الغرض حقيقة إلا منشأ انتزاع العنوان الخارج عن فعل المكلف وليس التكليف بفعله إلا للتوصل إليه، لكونه مسبباً عنه، كما في العنوان التسبيبي، حيث يكون فعل المكلف سبباً لمنشأ انتزاع العنوان، أو لكونه قائماً به، كما في العنوان الإضافي، حيث يكون فعل المكلف طرفاً للإضافة التي هي منشأ انتزاع العنوان، فتقوم به قيام العرض بموضوعه.

ومن ثَمَّ ذكرنا أنه مع تردد فعل المكلف في هذا القسم بين الأقل والأكثر يجب الاحتياط لإحراز منشأ انتزاع العنوان الذي هو المكلف به حقيقة من دون أن يكون مجملاً بخلاف القسم الأول، حيث يرجع إجمال فعل المكلف إلى إجمال المكلف به، لفرض انتزاع عنوانه من نفس الذات، فيقتصر في التكليف على المتيقن، ويقتصر ويرجع في الزائد البراءة.

نعم، لو رجع الإجمال في هذا القسم إلى إجمال منشأ الانتزاع الواجب وتردده بين الأقل والأكثر تعين الرجوع للبراءة في الزائد المشكوك، كما لو تردد الحطب الواجب الإحراق بين القليل والكثير.

ويترتب على ذلك أن اختلاف العنوانين مع وحدة فعل المكلف المعنون بهما. إن كان لتعدد منشأ انتزاع العنوان، بأن يكون أحدهما أولياً

ص: 413

منتزعاً من الذات والآخر ثانوياً منتزعاً من أمر خارج عنها - كعنواني المشي والإيذاء - أو كلاهما ثانوياً مع اختلاف منشأ انتزاعهما - كعنواني الإيذاء والإكرام - كان راجعاً لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم، لأن فعل المكلف وإن كان واحداً، إلا أنه ليس متعلقاً لأحد التكليفين أو كليهما إلا تبعاً لتعلقه وتعلق الغرض والملاك بمنشأ انتزاع العنوان المباين له.

ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن وقضاء حاجته، ووجوب إنقاذه من الهلكة، لا تعارض مثل عمومات حرمة الغناء والغيبة والكذب، وإن كانت نسبة كل واحد من تلك العمومات مع كل واحد من هذه هي العموم من وجه، حيث قد يتحقق العنوانان في فعل واحد ويصدقان عليه، بل يكون مجمع العنوانين مورداً للتزاحم بسبب تحقق الملاكين الفعليين معاً كل في موضوعه، فيرجع فيه لمرجحات التزاحم، فيقدم الأهم على المهم، والإلزامي على غيره، والتعييني أو المضيق على التخييري أو الموسع، إلى غير ذلك مما يذكر في محله.

أما إذا كان منشأ اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة للخصوصيات الخارجية عن منشأ الانتزاع، كخصوصيات الزمان والمكان والمتعلق وغيرها، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج، كان راجعاً لوحدة الموضوع الذي عرفت لزوم التعارض معه، سواء كان العنوانان أوليين كالسفر في شهر رمضان والسفر إلى كربلاء، أم ثانويين كإيذاء المؤمن وإيذاء العاصي. وإليه نظروا في الحكم بالتعارض البدوي بين العام والخاص والمستحكم في العامين من وجه.

نعم، لو كان القيد مقوماً في الخارج لمنشأ الانتزاع دخل في تعدد

ص: 414

الموضوع، كإكرام زيد وإكرام عمرو لو حصلا بفعل واحد، وكذا إكرام العادل وإكرام الفاسق، لوضوح تقوم إضافة الإكرام خارجاً بالشخص المكرم، فتتعدد مع تعدده، كما في المثالين، وتتحد مع وحدته وإن اختلف عنوانه بأن كان عالماً وفاسقاً. فلاحظ.

كما أنه لو كانت خصوصية كل من العنوانين دخيلة في ثبوت حكمه - ولو بمقتضى المناسبة الارتكازية بين الحكم والموضوع - كان مورد الاجتماع من موارد التزاحم الملاكي الراجع لتزاحم المقتضيات، دون الملاكات الفعلية، ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين، كما لو وجب كل من إكرام العالم وإكرام العادل، حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكداً، تبعاً لتأكد ملاكه بتعدد المقتضي فيه.

لكن تحقق في محله أن مورد التزاحم الملاكي من موارد التعارض، فتجري أحكامه المتقدمة، وتختص أحكام التزاحم المتقدمة بالتزاحم الحكمي، الذي لا يكون إلا مع فعلية الملاكين واختلاف المتعلقين، ومنه ما ذكرنا من اختلاف العنوانين إذا كان مختلفين في منشأ الانتزاع.

اختصاص موضوع المسألة بالعنوان الحاكي بذاته من دون نظر لشيء خارج

إذا عرفت هذا فالظاهر اختصاص موضوع مسألة الاجتماع عندهم بما إذا كان اختلاف العنوانين بالوجه الأول، المبتني على اختلاف منشأ انتزاعهما، والذي تقدم أنه من صغريات التزاحم، دون الثاني المبتني على اختلاف قيودهما الخارجة عن منشأ الانتزاع، والذي تقدم أنه من صغريات التعارض.

وبه يجمع بين ما ذكروه من التعارض بين العامين من وجه وما ذكروه في المقام مما تقدم ظهوره في المفروغية عن إحراز ملاك الحكمين.

ص: 415

كما يناسبه مفروغيتهم في المقام عن تقديم جانب النهي، مع أنه لا يتجه في المتعارضين، وإنما يتجه في التزاحم بلحاظ أن النهي لما كان شمولياً يكون تعيينياً في المجمع، بخلاف الأمر المفروض في أمثلتهم كونه بدلياً تخييرياً.

وكذا تمثيلهم لتعارض العامين من وجه بمثل: أكرم العلماء أو عالماً، ولا تكرم الفساق الذي تقدم أنه من القسم الثاني ولمسألة الاجتماع بمثل حرمة الغصب ووجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة، لوضوح أن موضوع الأمر في الوضوء والغسل هو الغسل بذاته أو بعنوان كونه طهارة الذي هو من العناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب الطهارة عليه، وفي الصلاة هو الأفعال بعناوينها الأولية من القيام والركوع والسجود، أما موضوع النهي في الغصب فليس هو الفعل بأحد العناوين المذكورة، بل بعنوان كونه تصرفاً في ملك الغير بغير إذنه الراجع للتعدي عليه ومخالفة مقتضى سلطنته وحقه، وهو من العناوين الإضافية المباينة في منشأ الانتزاع للعناوين المذكورة، إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد تتبع في كلماتهم.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في التنبيه الثالث من هذه المسألة من عدم الفرق بين العناوين وأنحاء اختلافها، وحمل كلماتهم على ما يناسب ذلك فراجع.

ومثله ما تقدم من بعض مشايخنا (دامت بركاته) من الحكم بالتعارض المستلزم لعدم إحراز الملاك في موضوع مسألة الاجتماع ونسبة الغفلة للمشهور في حكمهم بالإجزاء كما تقدم.

بل هو لا يناسب ما ذكره في وجه تقديم النهي في مثل الصلاة والغصب

ص: 416

من أن المفهوم عرفاً أن الغصب من سنخ العنوان الثانوي الرافع للحكم الأولي، إذ لو تم ذلك فالعنوان الثانوي وإن اقتضى رفع الحكم الأولي إلا أنه لا يقتضي رفع ملاكه، فلا وجه لعدم إجزائه، إلا أن يريد بالعنوان الثانوي كل عنوانٍ زائدٍ على الذات موجب لتبدل حكمها. لكن الوضوء والغسل والصلاة أيضاًً عناوين ثانوية بالمعنى المذكور، لأخذ خصوصيات فيها زائدةٍ على ذوات الأفعال، فيرجع السؤال عن وجه دليل تقديم الغصب على دليلها.

وبالجملة: الظاهر وفاء ما ذكرنا ببيان ضابط موضوع مسألة الاجتماع والفرق بينه وبين مورد التعارض في العامين من وجه، وتوجيه مباني المشهور في المقام.

ما ذكره النائيني (قدس سره) في ضابط المسألة

بقي الكلام في ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في ضابط موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي والفرق بينه وبين مورد التعارض مع اشتراكهما في العموم من وجه بين العنوانين، من أن التركيب بين العنوانين في الخارج إن كان انضمامياً كان موضوعاً لمسألة الاجتماع، وإن كان اتحادياً خرج عنه ودخل في التعارض. وقد أطال الكلام في بيان ذلك وفي المقدمات التي يبتني عليها.

والذي يتحصل مما تضمنه تقرير درسه لبعض مشايخنا: أن موضوع الأحكام التكليفية لما كان هو فعل المكلف، وهو المبدأ المصدري، كالقيام والصلاة والسفر والغصب وغيرها، فإن كان أحد المبدأين الصادرين من فاعلٍ واحدٍ مبايناً للآخر وجوداً وإيجاداً، بمعنى أن إيجاد أحدهما لا يستلزم إيجاد الآخر، كالصلاة والنظر للأجنبية، خرجا عن محل الكلام من فرض

ص: 417

اجتماع العنوانين في موجود واحد، بلا إشكال.

وكذا إن كانا موجودين بتأثير واحد، بنحو لا يمكن التفكيك بينهما في الخارج إلا أن الإشارة الحسية لأحدهما لا تكون إشارة للآخر، كاستقبال المغرب واستدبار المشرق.

وإن كانا موجودين بتأثير واحد، وكانت الإشارة لأحدهما عين الإشارة للآخر - كالغصب والصلاة في الدار المغصوبة - كان بينهما نحو من التركب، لكن التركب المذكور ليس اتحادياً مبنياً على اتحادهما في الموجود الواحد، بل هو انضمامي يبتني على امتياز أحدهما عن الآخر حقيقة، بخلاف العنوانين الاشتقاقيين منهما - كالغاصب والمصلي - فإن التركيب بينهما يكون اتحادياً.

والسر في الفرق: أن مبدأ الاشتقاق - ومنه فعل المكلف - ماهية واحدة موجودة في جميع الأفراد، فالصلاة في المكان المغصوب متحدة مع الصلاة في غيره ماهية، والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد مع الغصب الموجود في غيرها، والبياض الموجود في اللبن متحد مع البياض الموجود في العاج، فمع اجتماعهما في الموجود الواحد يمتنع اتحادهما في الخارج، لاستحالة صدق الماهيتين المتباينتين في فرد واحد، لوضوح أنه ليس للفرد إلا ماهية واحدة وحينئذٍ يتعين أن يكون التركب بينهما في الخارج انضمامياً مع التعدد حقيقة، ويدخل في موضوع مسألة الاجتماع.

بخلاف معروض المبادئ المحكي عنه بالعنوان الاشتقاقي، إذ لا مانع من توارد الأعراض المتباينة على المعروض الواحد وجوداً وماهية، فتعدد عناوينه الاشتقاقية تبعاً لذلك، ويكون مجمعاً لها. ومن هنا يكون التركيب

ص: 418

بينها اتحادياً لا انضمامياً، فمع اختلاف متعلق الحكمين فيها لا غير، لأخذها على اختلافها قيداً في فعل المكلف الواحد الذي هو متعلق الحكم كما في: أكرم العالم أو العلماء، ولا تكرم الفساق، يكون التركيب بينها في المجمع اتحادياً، لا انضمامياً، ويدخل في التعارض.

الاستدلال على ما ذكره من وجوه

لكنه يشكل.. أولاً: بأنه إذا أمكن تعدد الموجود من مبدأ الاشتقاق مع وحدة الإشارة الحسية له الراجع لخطأ الإشارة المذكورة أو ابتنائها على التسامح أمكن ذلك في العناوين الاشتقاقية من المبادئ المتعددة.

وما تقدم من إمكان اتحاد العناوين المذكور في الموجود الخارجي الواحد، لعدم المانع من وحدة المعروض مع تعدد أعراضه. لا ينافي التعدد المذكور، لأن الإمكان أعم من الوقوع.

وحينئذٍ لا وجه للبناء على التعارض المبني على تكاذب الأدلة لأن إحراز التكاذب فرع إحراز تنافي مضموني الدليلين والمفروض عدم إحرازه بسبب إمكان التعدد، بل مقتضى إطلاق الدليلين عدمه.

إلا أن يدعى أن وحدة الإشارة الحسية كافية في بناء العرف على التعارض ورفعهم اليد عن إطلاق الدليل عرفاً، وإن لم يستلزم التنافي بين مفادي الإطلاقين عقلاً.

لكنه كما يجري في العناوين الاشتقاقية يجري في مبادئ الاشتقاق، فلابد في الفرق من وجه آخر.

وثانياً: بأن ما ذكره من امتناع اتحاد الماهيتين في الخارج الذي عليه يبتني امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية - ومنها فعل المكلف - في الموجود الواحد، وإن كان من المسلمات التي لا إشكال فيها عندهم، إلا أنه مختص

ص: 419

بالماهيات الحقيقية الراجعة إلى أحد الأجناس العالية والمقولات العشر، كالإنسان والفرس والقيام والكلام. بخلاف الماهيات الاعتبارية، كالغصب والصلاة، حيث لا مانع من اتحادها في أنفسها أو اتحادها مع بعض الماهيات الحقيقية في الموجود الخارجي، لعدم تقوم مفاهيمها بالذاتيات، بل بمحض الاعتبار والانتزاع، ومن الظاهر إمكان أن يكون الموجود الخارجي المتحد الماهية الحقيقية موضوعاً لأكثر من اعتبار أو انتزاع واحد، كالشخص الواحد الذي يكون زوجاً ورقاً، والعمل الواحد الذي يكون مستحباً ومملوكاً للغير، كما يمكن أن يكون الاعتبار أو الانتزاع الواحد أموراً متعددة مختلفة في الماهية الحقيقية، كالغصب المنتزع من التصرف في ملك الغير أو المنافي لحقه الصادق على الكون في الدار المغصوبة الذي هو من مقولة الأين ولبس الثوب المغصوب الذي هو من مقولة الفعل وغيرهما.

ويترتب على ذلك إمكان اجتماع المبادئ الاشتقاقية المتعددة - ومنها أفعال المكلف التي هي موضوع الأحكام التكليفية - في موجود واحد إذا كانت جميع عناوينها أو بعضها حاكية عن ماهية اعتبارية أو انتزاعية بنحو يكون التركيب بينها اتحادياً بالمعنى الذي ذكره، كما هو الحال في مثل الصلاة والغصب المتحدين في السجود الواحد على الأرض المغصوبة، لكونه جزءاً صلاتياً وتصرفاً في ملك الغير بغير إذنه.

ولذا اعترف في جملة كلامه بأن التركيب اتحادي بين متعلق الأمر والنهي في قولنا: اشرب الماء، ولا تغصب لو كان الماء مغصوباً، حيث يقع كل تصرف فيه غصباً، ومنه الشرب وجعل ذلك خارجاً عن موضوع مسألة الاجتماع الذي تقدم منه اختصاصه بما إذا كان التركب بين المتعلقين

ص: 420

انضمامياً.

ومنه يظهر حال ما ذكره (قدس سره) من أن الحركة في ضمن الصلاة متحدة مع الصلاة، والحركة في ضمن الغصب متحدة مع الغصب، ولا مجال للبناء على اتحاد الحركتين في حركة واحدة، بل يتعين تباينهما، لتباين مقولتيهما.

لظهور ابتنائه على ما ذكره من تعدد ماهيتي الغصب والصلاة وامتناع اتحادهما، وقد عرفت ضعفه. مضافاً إلى الإشكال فيه..

أولاً: بأن تعدد الحركة مستلزم لحرمة كلتا الحركتين، لكونهما تصرفاً في المغصوب، فيقع الإشكال في اتحاد متعلق الأمر والنهي في الحركة الصلاتية.

وثانياً: بأن الحركة بتمام أفرادها من مقولة واحدة، ولا اختلاف بين الحركتين في المقولة، وغاية ما ينهض به كلامه أنهما مختلفا الماهية.

وثالثاً: بأن وحدة الحركة من الوضوح والبداهة بنحو لا يمكن معه الإذعان للبرهان على التعدد.

ولو فرض تعددها فأي تركب انضمامي بين حركتين متباينتين، وكيف تكون الإشارة الحسية إليهما واحدة، وهل هما إلا كحركة الماشي وحركة المنحني المتباينتين ذاتاً وعلةً وإيجاداً وخارجاً.

نعم، ذكر (قدس سره) في جملة كلامه أن محل الكلام يختص بموردين..

أحدهما: ما إذا كان متعلق كل من الأمر والنهي من مقولة مباينة لمقولة الآخر، كالقيام في الدار المغصوبة، فإن القيام من مقولة الوضع، والهيئة الحاصلة للقائم بالإضافة للدار من مقولة الأين، وهما مقولتان متغايرتان في الخارج.

ص: 421

ثانيهما: ما إذا كان متعلق أحدهما فرداً من المقولات ومتعلق الآخر خصوصية فيها زائدة عليها منتزعة من أمر خارج عنها، كالابتداء والانتهاء بالإضافة إلى السير، فإن السير الخارجي الذي هو فرد لمقولة حقيقية ينتزع منه الابتداء بالإضافة إلى البصرة مثلاً، فالابتداء موجود خارجي متمم لمقولة السير باعتبار صدوره من البصرة.

ومنه الوضوء من الإناء المغصوب أو المتخذ من الذهب أو الفضة، إذ الوضوء باعتبار نفسه الذي هو فرد من أفراد المقولة مأمور به، وباعتبار اضافته إلى الإناء الذي يحرم التصرف فيه منهي عنه، وليس نفس استعمال الإناء داخلاً في إحدى المقولات، بل هو متمم لها ومنشأ لانتزاع عنوان تقييدي زائد عليها.

وهو لو تم لم يحتج لما سبق منه أولاً من عموم امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية في الخارج، لامتناع اتحاد الماهيتين في الموجود الواحد المستلزم لتعدد ماهية الموجود الخارجي الواحد. بداهة أن تباين المقولات وامتناع اتحادها في أنفسها كامتناع اتحادها مع متمم المقولة بالمعنى المذكور من الوضوح بحد لا يحتاج معه لإقامة البرهان.

ولا يرد عليه ما سبق من الوجهين، لابتناء أولهما على وحدة الإشارة الحسية للماهيتين في الخارج، ومن الظاهر تعددها في المقولتين، وفي المقولة مع متممها الذي هو من سنخ الإضافة المباينة لطرفها، وابتناء ثانيهما على إمكان اتحاد الماهيتين في الجملة، لا مطلقاً ولو مع تعدد المقولة أو في المقولة ومتممها.

فالعمدة عدم تمامية ما ذكره. أما كون متعلقي الأمر والنهي من

ص: 422

مقولتين، وأن متعلق النهي في الغصب من مقولة الأين ومتعلق الأمر في الصلاة من مقولةٍ مباينةٍ لها، كالقيام الذي هو من مقولة الوضع.

فهو في غاية المنع، ولذا لا إشكال ظاهراً في خروج الصوم وقراءة القرآن في الدار المغصوبة عن موضوع المسألة، ومجرد اجتماع المقولتين حينهما، لأنهما من مقولة الفعل وكون المصلي والقارئ في الدار من مقولة الأين، لا يكفي في دخوله في موضوعها، كما لا يكفي في دخول الصلاة في المكان الذي لا يحرم التصرف فيه وإن حرم الكون فيه ليمين أو نحوه.

بل ليس دخول الصلاة في الدار المغصوبة في موضوع المسألة إلا بلحاظ حرمة التصرف في المغصوب ومخالفة مقتضى حق المالك فيه بأي مقولة فرض، فيتحد مع بعض الأفعال الصلاتية كالركوع والسجود والقيام، سواء كانت الأفعال الصلاتية خصوص الأفعال المذكورة بمفاهيمها المصدرية أو بما هي أسماء مصادر أم مع مقدماتها من الهوي والنهوض ونحوهما.

وكذا الصلاة في الثوب المغصوب إنما تكون من موضوع المسألة بلحاظ كون الحركات الصلاتية بنفسها تصرفاً في الثوب فتحرم، لا لمجرد حرمة لبسه، ولذا لا تدخل فيه الصلاة في الثوب الذي يحرم لبسه ليمينٍ ونحوه من دون أن يحرم التصرف فيه... إلى غير ذلك.

وفرض كون موضوعي الأمر والنهي من مقولتين خروج عن محل الكلام، بل لا يناسب ما سبق منه من وجود الصلاة والغصب بتأثير واحد ووحدة الإشارة الحسية لهما معاً، لوضوح تباين المقولات ذاتاً وعلة وإيجاداً وخارجاً، بنحوٍ لابد من تعدد الإشارة إليها.

ص: 423

كما أن كون الغصب من مقولة الأين لا يناسب ما تقدم منه من فرض الحركة الغصبية ومباينتها للحركة الصلاتية، لوضوح أن الحركة ليست من مقولة الأين، بل من مقولة الفعل.

وأما كون متعلق أحدهما من إحدى المقولات ومتعلق الآخر متمماً للمقولة.

فهو مسلم في الجملة، إلا أن من الواضح أن متمم المقولة لما لم يكن له ما بإزاء في الخارج ممتاز عن المقولة صالح للإيجاد بنفسه، بل هو من سنخ الإضافة القائمة بأطرافها، فهو منتزع في المقام من إضافة فعل المكلف لأمر خارج عنه، لزم رجوع التكليف به أمراً أو نهياً للتكليف بالفعل المحقق للإضافة الذي هو من إحدى المقولات، فالمحرم في المثال حقيقة نفس الأكل أو الوضوء الخاص المتعلق بالإناء، وحيث كان هو متعلق الأمر فرضاً لزم اتحاد المتعلقين وكونهما من مقولة واحدة.

والحاصل: أن ما ذكره من فرض التركيب الانضمامي مما لا نتعقله ولا نتحققه، بل متعلقاهما إما أن يتعددا خارجاً بنحو تتعد الإشارة الحسية إليهما من دون تركيب بينهما أصلاً، فيخرج المورد عن موضوع المسألة، أو يتحدا في الخارج حقيقة، لكون عنوان أحدهما أو كليهما انتزاعياً أو اعتبارياً قابلاً للاتحاد مع الآخر. فلا مجال للتعويل على ما ذكره في ضابط موضوع المسألة والفرق بينه وبين مورد التعارض، بل لا مخرج عما سبق منا في الضابط والفر ق بينهما، فلاحظ.

الأمر الثالث: يظهر من كلام غير واحد ابتناء الكلام في المسألة على أن متعلق الأحكام هو العناوين أو المعنونات، وأنه على الأول لا مانع

ص: 424

من اجتماع الأمر والنهي في مجمع العنوانين، لتعدد الموضوع، بل يمكن التقرب به وامتثال الأمر بناء على ذلك أيضاًً، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية، وعلى الثاني يمتنع اجتماعهما فيه، لوحدة الموضوع بناء على أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون، فيلزم اجتماع الضدين، كما يمتنع التقرب به بعد فرض تعلق النهي به لامتناع التقرب بما هو مبعد.

وينبغي الكلام هنا في المبنى المذكور وإيكال الكلام في ابتناء النزاع في هذه المسألة عليه إلى ما يأتي عند التعرض للمختار فيها.

اختلاف الأحكام في طبعها على أقسام ثلاثة

وتوضيح المبنى المذكور: أن الأحكام ككثير من الأمور الاعتبارية والذهنية تختلف في طبعها على أقسام ثلاثة..

أولها: ما يتعلق بكل من العناوين الكلية والمعنونات الجزئية، كالملكية المتعلقة: تارة: بالعناوين، كالذميات ومنافع الأعيان في مثل الإجارة والشرط، لفعلية ملكيتها وترتب الأثر عليها بلحاظ نفس الكلي قبل وجوده في الخارج. وأخرى: بالمعنونات الجزئية الخارجية، كملكية الأعيان الموجودة.

ثانيها: ما يتعلق بالمعنونات الخارجية لا غير، كالزوجية، والرقية والطهارة والنجاسة، وليس تعلقها بالعناوين في مقام الجعل أو الإخبار في مثل قولنا: الميتة نجسة، وما أشرقت عليه الشمس فقد طهر إلا بنحو القضية التعليقية الراجعة لعدم فعلية الحكم إلا تبعاً لفعلية انطباق العنوان على الفرد في الخارج، مع كون الموضوع له هو الفرد المذكور، وليس العنوان إلا جهة تعليلية، من دون أن يكون بنفسه بماله من حدود مفهومية كلية موضوعاً للحكم.

ص: 425

ثالثها: ما يتعلق بالعناوين الكلية بما لها من حدود مفهومية دون معنوناتها، وهو الأحكام التكليفية، إذ لا مجال للبناء على تعلقها بالفرد الخارجي على نحو تعلق القسم الثاني به، لوضوح أن ظرف وجود الفرد ظرف سقوط التكليف بالإطاعة أو العصيان، لا ظرف ثبوته وفعليته، وإنما يثبت ويكون فعلياً في ظرف عدمه، ولا موضوع له حينئذٍ إلا العنوان الكلي، نظير ملكية الأمور الكلية من الذميات وغيرها.

نعم، لا ينبغي الإشكال في أن تعلق الأحكام التكليفية بالعناوين والماهيات الكلية مبني على النظر لمقام العمل، فكل حكم يقتضي نحواً خاصاً من العمل متعلقاً بالماهية فالوجوب يقتضي إيجادها في الخارج بفعل فرد منها والتحريم يقتضي عدمها بعدم تمام الأفراد في الخارج، والإباحة تقتضي التخيير بين الفعل والترك، فالفرد مطابق لموضوع التكليف ومتحد معه بنحو من أنحاء الاتحاد في الخارج، ووجوده أو عدمه مطابقان لمقتضى التكليف أو مخالفان له، لقيام الغرض والملاك المقتضي للفعل أو الترك بالوجود الخارجي الطارئ على الفرد، لا بالماهية من حيث هي مع قطع النظر عنه. ومن ثم يكون به الإطاعة والعصيان، نظير وفاء الذمي الكلي بالأعيان الشخصية.

وكأنه إلى هذا نظر من حكم بتعلق التكليف بالمعنون، وإلى ما ذكرناه أولاً نظر من حكم بتعلقه بالعنوان.

والمتعين ما ذكرنا حيث يكون به الجمع بين الأمرين ويبتني على ملاحظة كلتا الجهتين. وقد تقدم في مبحث تعلق الأوامر والنواهي بالطبايع أو الأفراد ما قد ينفع في المقام.

ص: 426

ولنقتصر في مقدمات الكلام في المسألة على هذه الأمور الثلاثة المتقدمة، لكفايتها في توضيح محل النزاع.

إذا عرفت ذلك كله فاعلم: أنه حيث تقدم في الأمر الثاني تحديد محل الكلام، وأنه ملحق بالتزاحم بين الحكمين، وأن إطلاق كلا الدليلين فيه ينهض بإثبات ملاك كل من الحكمين في المجمع، فلا إشكال في إجزاء المجمع في امتثال الأمر، سواء قيل بإمكان اجتماع الحكمين فيه أم بامتناعه ولزوم انفراده بأحدهما، إذ مع وفائه بملاكه لابد من إجزائه عنه وإن لم يكن مأموراً به فعلاً للمانع. وإنما الكلام والإشكال..

أولاً: في إمكان اجتماع الحكمين فيه وفعليتهما معاً، الذي هو موضوع الكلام في موضوع المسألة.

وثانياً: في إمكان التقرب به لو كان عبادة وفرض فعلية النهي عنه إما لإمكان اجتماعه مع الأمر أو لتقديمه عليه مع امتناع الاجتماع، الذي هو من أهم الآثار العملية.

فالكلام في مقامين..

ص: 427

المقام الأول في إمكان الاجتماع وامتناعه

ولا ينبغي الإشكال في إمكانه مع فرض عدم اتحاد العنوانين في الوجود الواحد، وأن ما يطابق أحدهما مباين لما يطابق الآخر وإن اجتمعا في فرد واحد.

وإليه يرجع ما قيل من أن تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون، وما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) من أن التركيب بين العنوانين انضمامي لا اتحادي. لأن فرض تعدد الموضوع ملازم لفرض عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد.

كما أنه حيث فرض في محل كلامهم سعة متعلق الأمر وعدم انحصاره بالمجمع بين العنوانين وإمكان امتثاله بغيره، فلا تزاحم بين التكليفين، بل يتعين فعلية النهي الاستغراقي في المجمع ومزاحمته لبعض أفراد المأمور به.

فإن قيل بأن ذلك يستلزم قصور النهي عن الأفراد المذكورة - كما هو مختار بعض الأعاظم (قدس سره) - لزم قصور متعلق الأمر عن المجمع من جهة المزاحمة، لا من جهة لزوم اجتماع الضدين.

ص: 428

وإن لم نقل بذلك - كما هو الحق - تعين بقاء الأمر على إطلاقه وشموله للمجمع كالنهي. ويظهر الكلام في ذلك مما تقدم في ثمرة مسألة الضد. فراجع.

وأما بناءً على اتحاد العنوانين في المجمع لاتحاد مطابق كل منهما فيه - على ما هو التحقيق، كما يظهر مما تقدم في مناقشة بعض الأعاظم (قدس سره) في دعوى أن التركيب بين العنوانين انضمامي - فبناءً على ما هو المعروف بينهم من تضاد الحكمين يتعين البناء على انفراد المجمع بأحدهما وعدم اجتماعهما فيه.

كما يتعين حينئذٍ تقدم النهي، لأن ملاكه تعييني فلا يزاحم بملاك الأمر التخييري بالفرض، بلا حاجة إلى جهة أخرى تقتضي ترجيحه، لأن ذلك إنما يحتاج إليه في موارد التعارض بين الدليلين، دون موارد التزاحم بين الحكمين التي تقدم أن المقام منها.

لكن يظهر من جملة من كلماتهم أنه بناء على تعلق الأحكام بالعناوين كما تقدم منا لا يلزم من عموم موضوع الحكمين معاً للمجمع اجتماع الضدين. أما في مقام البعث والزجر فلتعدد المتعلق، وهو العنوان، وأما في مقام الإطاعة والعصيان بالفرد فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان، من دون أن يلزم اجتماعهما في واحد.

ذهاب المظفرتبعاً للأصفهاني I إلى إمكان الاجتماع

ومن ثم ذهب إلى جواز الاجتماع بعض المحققين وتبعه بعض المعاصرين.

حيث قال في أصوله: «وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد... متعلقاً للإيجاب والتحريم إلا بالعرض،

ص: 429

وليس ذلك بمحال، فإن المحال إنما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلقاً للإيجاب والتحريم. وعليه فيصح أن يقع الفعل الواحد امتثالاً للأمر من جهة باعتبار انطباق المأمور به عليه وعصياناً للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان المنهي عنه».

الإشكال عليه

وفيه: أن منشأ تضاد الأحكام كما سبق ليس إلا اختلاف مقتضياتها في مقام العمل، وحيث كان متعلق العمل هو الفرد لزم التضاد بينها بلحاظ اختلاف نحو العمل المتعلق به من حيثية كل منها ولا أثر لتعدد العنوان في ذلك.

ومن ثم لا إشكال بعد ملاحظة المرتكزات العرفية في أن امتناع اجتماع الحكمين مع التطابق بين العنوانين وكون النسبة بينهما التساوي ليس لخصوص محذور التكليف بما لا يطاق، لعموم الامتناع لما إذا أمكن الجمع بين الحكمين عملاً، كالكراهة أو الاستحباب والوجوب، بل لمحذور اجتماع الضدين الراجع للتنافي ارتكازاً بين الحكمين.

بل الوجه المختار لنا ولهما لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات جار في جميع العناوين من دون فرق بينها، مع أن بعض المعاصرين (رحمه الله) اعترف في ما سبق بتنافي الإطلاقين في بعض موارد العموم من وجه، والتزم لأجله بالتعارض بينهما وخروجهما عن موضوع مسألة الاجتماع واختصاص موضوعها بما إذا لحظ كل من العنوانين فانياً في مطلق الوجود المضاف للطبيعة من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد.

ولولا الاكتفاء بوحدة المعنون في التنافي بين الحكمين وامتناع اجتماعهما لم يكن وجه لذلك كله، كما يظهر بأدنى تأمل.

ص: 430

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من لزوم البناء على امتناع الاجتماع في المقام بناء على تضاد الحكمين من دون أن يكون لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات دخل في ذلك.

نعم، تقدم في الأمر الأول أن التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم إذا كان موضوع الأول أعم مطلقاً أو من وجه ليس تاماً، لأن الحكم البدلي كما يقتضي السعة بالإضافة إلى تمام أطرافه يقتضي الاجتزاء بها في مقام امتثاله، والتحريم ينافي السعة لمورده، ولا ينافي إجزاءه في امتثال الأمر، فيتعين إمكان اجتماعهما في ذلك.

غاية الأمر أنه تقدم دعوى ظهور دليل النهي في مقام الإثبات في قصور الأمر عن متعلقه بنحو لا يجزي عنه وإن أمكن إجزاؤه ثبوتاً. لكنها - لو تمت - تختص بموارد التعارض التي لا يحرز فيها من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع، دون موضوع مسألة الاجتماع الذي سبق نهوض الإطلاقين فيه بإحراز كلا الملاكين فيه.

إذ مع فرض إحراز كلا الملاكين وإمكان تأثيرهما معاً لا وجه للبناء على عدم ثبوت الأمر من حيثية الإجزاء في المقام، كما لعله ظاهر.

ولعل ارتكاز ذلك وعدم وضوح حدوده هو الموجب لدعوى إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين ممن تقدم، مع الغفلة عما ذكرنا.

هذا هو المهم من الكلام في المسألة.

وذكر في كلماتهم الاستدلال على امتناع الاجتماع وجوازه بوجوه أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها، ولا سيما مع ظهور حال بعضها مما تقدم.

ص: 431

نعم، ربما احتج للجواز بالعبادات المكروهة. ويأتي الكلام فيها في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

ص: 432

المقام الثاني في إمكان قصد التقرب بالمجمع في فرض النهي عنه

والأثر لذلك إجزاؤه لو كان عبادةً.

ولا ينبغي التأمل في إمكان قصد التقرب به مع الغفلة عن النهي أو الجهل به، لعدم صلوحه للمبعدية حينئذٍ لينافي القصد المذكور.

غايته أن التقرب به مع البناء على إمكان الاجتماع لكونه من أفراد الطبيعة المأمور بها، ومع البناء على امتناعه لمجرد واجديته للملاك المفروض في المقام. كما أن الكلام في كفاية الجهل التقصيري في تحقق التقرب المعتبر في العبادة تابع لدليل اعتبار التقرب، وهو يختلف باختلاف العبادات، فيوكل للفقه، وليس الكلام هنا إلا في إمكان قصد التقرب الذي يكفي فيه الجهل بالنهي مطلقاً، كما ذكرنا.

وأما مع الالتفات للنهي فإن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بملاك اجتماع الضدين، لوحدة متعلق الحكمين، بناء على تعلق الأحكام بالمعنونات دون العناوين، واتحاد العنوانين في المجمع، لاتحاد مطابق كل منهما فيه، فلا إشكال في امتناع قصد التقرب في المقام، لامتناع فعلية التقرب والانقياد بما هو مبعد وتمرد على المولى، وإن كان واجداً لملاك

ص: 433

المقربية، كما هو المفروض في المقام.

وأما لو قيل بإمكان الاجتماع، لتعلق الحكم بالعنوان المفروض تعدده، دون المعنون، كما تقدم من بعض المحققين والمعاصرين وغض النظر عما تقدم، أو لعدم التضاد التام بين العنوانين، كما تقدم منا، فقد ذكرا I أن اللازم البناء على إمكان التقرب حينئذٍ، حيث يكون المقام من ضم الطاعة للمعصية في مقام الامتثال، لا من التقرب بما هو مبعد الممتنع، لفرض تعدد موضوعي الوجوب والحرمة، وهما العنوانان.

لكنه يشكل بأن ذلك لا أثر له في إمكان التقرب، لأن الانقياد والتقرب والبعد والتمرد لا تتبع مقام الجعل المفروض تعلقه بالعنوانين، بل مقام الامتثال والعصيان اللذين يكونان بالمعنون المفروض في المقام وحدته ولو مع تعدد العنوان، فيلزم التقرب بما هو مبعد.

ولذا يتعين امتناع تقرب المكلف بالفعل الموصل للحرام، بحيث لا يقدر على منعه بعده، كما لو كانت الصلاة على السطح موجبة لتخلخله بحيث ينفذ فيه المطر، ويسقط على من تحته من المؤمنين، أو كانت موجبة لتنفر الظالم وقتله مؤمناً تحت يده، ونحو ذلك، كل ذلك لأن موضوع الحرمة وإن كان مبايناً لموضوع الوجوب في مقام الجعل، إلا أن استناد الحرام في الفرض لفعل المكلف موجب لصدق المعصية عليه وكونه تمرداً على المولى ومبعداً منه، فلا يناسب التقرب به منه، ليمكن قصده.

دفع الأصفهاني (قدس سره) لامتناع التقرب

وقد حاول بعض المحققين (قدس سره) دفع ذلك، فقال: «وأما التقرب بالمبعد فإن أريد منه ما هو نظير القرب والبعد المكانيين، بحيث لا يعقل حصول القرب إلى مكان مع حصول البعد عنه، ففيه: أن لازمه بطلان العمل حتى

ص: 434

في الاجتماع الموردي، نظراً إلى عدم حصول القرب والبعد معاً في زمان واحد. وإن أريد منه سقوط الأمر والنهي وترتب الغرض وعدمه فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطاً للأمر - حيث إنه مطابق ما تعلق به - ومسقطاً للنهي بالعصيان، حيث إنه خلاف ما تعلق به ونقيضه.

وكذا ترتب الثواب عليه، من حيث إنه موجب لسقوط الأمر بإتيان ما يطابق متعلقه المحصل للغرض منه، فإنه لا ينافي ترتب العقاب عليه من حيث إنه موجب لسقوط النهي بإتيان ما يناقض متعلقه المنافي لغرضه منه.

بل هكذا حال القرب والبعد الناشئين من التخلق بالأخلاق الفاضلة أو الرذيلة، فإنه بواسطة التخلق بالخلق الفاضل له التشبه بالمبدأ الكامل، فهو قريب من هذا الوجه، وإن كان بواسطة التخلق بخلق رذيل بعيد منه من ذلك الوجه».

الإشكال عليه

ويشكل: بأن التقرب المعتبر في العبادة ليس بمعنى القرب المكاني ليمتنع اجتماعه مع البعد في وقت واحد، ولو مع تعدد الفعل، ولا بمعنى موافقة التكليف والغرض، ليمكن اجتماعه مع البعد ولو مع وحدة الفعل، بل بمعنى وقوع الفعل في طريق المولى ولأجله في حسابه بحيث يكون مظهراً للخضوع له ولعبادته والفناء فيه والانقياد له، وذلك لا يمكن مع وقوع الفعل نفسه على وجه العصيان للمولى والتمرد عليه والخروج عن مقتضى مولويته، وإن أمكن ذلك بالإضافة إلى فعل آخر مباين له ولو مع وحدة الزمان.

ومنه يظهر الحال في استحقاق العقاب والثواب، فإنهما تابعان للبعد والقرب بالمعنى المذكور، لا لمجرد موافقة التكليف والغرض ومخالفتهما،

ص: 435

ليمكن اجتماعهما بالإضافة إلى الفعل الواحد.

وأما ما ذكره أخيراً من قياس القرب والبعد الحاصلين بالتخلق بالأخلاق الفاضلة والرذيلة بما نحن فيه.

فهو كما ترى! إذ ليس القرب والبعد فيهما إلا بمعنى المشابهة والمباينة اللذين هما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف جهتي الشبه والمباينة. على أن الخلق الفاضل مباين للرذيلة ماهية ومظهراً في مقام العمل، فلا ينفع الاستشهاد بهما في المقام.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب بالفعل الواحد إذا كان معصية مبعداً. واختلاف العنوان أو تعدد الغرض لا ينفع مع وحدة الفعل.

ولولا ذلك لأمكن التقرب بالمجمع حتى بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي، لأنه وإن لم يكن مأموراً به حينئذٍ إلا أن المفروض واجديته لملاك الأمر ووفاؤه بغرضه، وأن المورد من صغريات التزاحم، ولذا كان المعروف صحة الامتثال به مع الغفلة عن النهي.

وحينئذٍ يتقرب بقصد الملاك، مع أن ظاهره كصريح بعض المعاصرين وغيره المفروغية عن عدم التقرب حينئذٍ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.

وما أبعد بين ما ذكراه وما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من امتناع التقرب بناء على مختاره من جواز الاجتماع لأن التركيب بين العنوانين انضمامي.

بدعوى: أنهما وإن لم يتحدا في الخارج إلا أن امتزاجهما في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة لأحدهما دون الآخر يوجب اتحادهما في مقام الإيجاد والتأثير، فيكون موجدهما مرتكباً للقبيح في إيجاده، ومعه يستحيل مقربية الفعل الصادر منه.

ص: 436

هذا ما ذكره، وإن كان التصديق به فرع تعقل التركيب الانضمامي، ليرجع للمرتكزات في إمكان التقرب معه وامتناعه، وقد سبق عدم تعقله، فلا مجال للجزم بحال ما ذكره.

وكيف كان، فلا مخرج عما ذكرنا من امتناع التقرب بناء على المختار من اتحاد العنوانين في الخارج واتحاد مطابق كل منهما في الفرد، بحيث يوجدان بفعل واحد من دون فرق بين القول بإمكان الاجتماع والقول بامتناعه، وبين القول بتعلق الأحكام بالمعنونات والقول بتعلقها بالعناوين، لأن المقربية والمبعدية من شؤون مقام الامتثال والعصيان المفروض اتحادهما في الخارج. فلاحظ.

بقي في المقام تنبيهات...

تنبيهات المسألة: الأول: اختصاص مورد الكلام بصورة المندوحة

التنبيه الأول: أشرنا في مطاوي الكلام السابق إلى اختصاص مورد كلامهم بصورة وجود المندوحة وإمكان امتثال الأمر بغير المجمع، حيث لا إشكال في بقاء الأمر بالنهي فعلياً حينئذٍ مطلقاً وإن قيل بالامتناع، لعدم مزاحمته للنهي، ولزوم تقديم النهي عملاً في المجمع، لأنه تعييني، فلا يمكن استيفاؤه مع استيفاء الأمر التخييري بفردٍ آخر.

ومعه لا حاجة في تقديم النهي إلى وجه آخر إثباتي راجع للأدلة، أو ثبوتي راجع للحكم نفسه بلحاظ أهميته، وإن أطال غير واحد الكلام في ذلك.

أما في صورة عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بالمجمع فيلزم التزاحم بين الحكمين، ويتعين تقديم الأقوى منهما تبعاً لقوة ملاكه، على ما هو المقرر في التزاحم. أما الأضعف فلا يكون فعلياً إلا معلقاً على عصيان

ص: 437

الآخر بنحو الترتب.

فإذا انحصر تطهير المسجد بالماء المغصوب، فإن كان وجوب التطهير أهم كان فعلياً مطلقاً بنحوٍ يقتضي استعمال الماء المغصوب، ولا يحرم استعمال الماء المغصوب إلا في ظرف عصيان أمر التطهير، فلو استعمل الماء المغصوب في غير التطهير فعل حراماً، وعصى التكليفين معاً

وإن كان تحريم الغصب أهم كان هو الفعلي بنحو الإطلاق بحيث يقتضي ترك تطهير المسجد. ولايجب تطهيره إلا في ظرف عصيان تحريم الغصب، فلو أقدم على استعمال الماء المغصوب كان عليه صرفه في تطهير المسجد. ولو لم يطهره حينئذٍ عصى التكليفين معاً.

نعم لو كان التكليف الأضعف عبادة كالوضوء تعين عدم فعليته حتى بنحو الترتب، لتعذر امتثاله، بعد ما سبق من امتناع التقرب بالحرام، والمفروض فعلية التحريم، لأنه الأهم.

الثاني: الكلام في الاجتماع بالعبادات المكروهة

التنبيه الثاني: أشرنا في آخر المقام الأول إلى استدلال بعضهم على جواز اجتماع الأمر والنهي بالعبادات المكروهة، كالصلاة في الحمام وصوم يوم عاشوراء وغيرهما.

وتقريبه: أن وجه تضاد الأحكام الذي هو مبنى امتناع الاجتماع لا يختص بالوجوب أو الاستحباب والحرمة، بل يجري في الوجوب أو الاستحباب والكراهة أيضاً، فلو كان مانعاً من اجتماع الحكمين في محل الكلام لامتنعت كراهة العبادة، لتقوم العبادة بالأمر، فيلزم اجتماع الكراهة مع الوجوب أو الاستحباب، مع أنه لا إشكال في إمكانها، بل ثبوتها في الجملة.

ص: 438

لكن لا مجال للاستدلال المذكور بعد ملاحظة أن من العبادات المكروهة عندهم ما ينحصر امتثال أمره بالفرد المكروه، كصوم التطوع يوم عاشوراء، مع وضوح امتناع اجتماع الأمر المذكور والنهي فيه لو كانا لزوميين.

بل كثير منها ما يتحد فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي وإن اختلفا بالإطلاق والتقييد، وقد سبق بناؤهم فيه على التنافي بين الحكمين والتعارض بين الدليلين مطلقاً وخروجه عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي.

الكلام في العبادات المكروهة وهي على قسمين

ومن هنا يلزم النظر في العبادات المكروهة وتطبيقها على ما سبق وغيره مما تقتضيه القواعد.

فنقول: - بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون والتسديد منه - العبادات المكروهة على قسمين:

القسم الأول: ما يختلف فيه منشأ الانتزاع

القسم الأول: ما يختلف فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي، كالوضوء والغسل بالماء المشمس، حيث يظهر من أدلة الكراهة أن موضوعها استعمال الماء المذكور في الغَسل ونحوه بعنوانه الأولي، مع أن موضوع الأمر بالوضوء والغسل هو الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه، فهو عنوان ثانوي تسبيبي.

والكلام في هذا القسم هو الكلام المتقدم في مسألة الاجتماع من كون المورد ملحقاً بالتزاحم في واجديته لملاك كلا الحكمين.

فإن أمكن امتثال الأمر بفرد آخر غير المجمع أثّرَ كل من الملاكين أثره، لعدم التضاد بين الحكمين بعد عدم كون الكراهة حكماً إلزامياً وعدم كون

ص: 439

الأمر اقتضائياً في مورد الاجتماع، فيلتزم ببقاء الأمر على إطلاقه بالإضافة إليه، فيجز عنه، مع فعلية الكراهة فيه.

وإن انحصر امتثال الأمر بالمجمع لزم التزاحم بين الحكمين، فيتعين تقديم الأمر إن كان إلزامياً، والترجيح بالأهمية إن لم يكن إلزامياً. لكن المرجوح وإن سقط بالمزاحمة يبقى ملاكه، ولذا يصح الامتثال به إن كان المرجوح هو الأمر.

كما أن الظاهر عدم الإشكال بينهم في إمكان التقرب به لو كان عبادة، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكلماتهم في الفقه، حيث ذكروا في شروط العبادات - كالطهارات والصلاة والحج - إباحة متعلقاتها في الجملة، كالماء والإناء والمصب والساتر وغيرها على تفصيل يرجع إلى اعتبار عدم اتحاد فعل العبادة مع الحرام أو إيصاله إليه، ولم يشيروا لذلك في الكراهة مع كثرة المكروهات في الأمور المذكورة بنحو تتحد العبادة معها أو توصل إليها، وما ذلك إلا لمفروغيتهم عن عدم مانعيتها من التقرب.

وكأنه لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من الفرق بين النهي التحريمي والتنزيهي بأن التحريمي يقتضي كون الفعل معصية للمولى ومبعداً منه، فيمتنع التقرب به، بخلاف التنزيهي، حيث لا تكون مخالفته معصية للمولى.

ولذا اتفقوا على صحة العبادة مع مزاحمتها لمستحب أهم، واختلفوا في صحتها مع مزاحمتها لواجب، فذهب جماعة لبطلانها للنهي عنها، بناء منهم على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده.

حديث السيد الحكيم (قدس سره)

لكن قال سيدنا الأعظم (قدس سره): «النهي التحريمي والنهي التنزيهي وإن اختلفا في اقتضاء مخالفتهما البعد وعدمه... إلا أنهما لا يختلفان في

ص: 440

مانعيتهما من إمكان التقرب، حيث لا يتأتى قصد التقرب بما هو مبغوض للمولى ويزجر عنه. والاتفاق على صحة العبادة إذا كانت ضداً للمستحب الأهم ينبغي أن يكون دليلاً على مختاره من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، لا على عدم قدح النهي التنزيهي في إمكان التقرب».

الإشكال عليه

وفيه: أن بطلان القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن كان مسلماً، إلا أنه مبني على عدم مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر، فلا يكون فعل الضد المهم مانعاً من ضده الأهم ليكون منهياً عنه عرضاً تبعاً للأمر به ويمتنع التقرب ويبطل إذا كان عبادة.

أما لو فرض كون العبادة مانعة من فعل الواجب، بحيث يستند تركه إليها، فلا إشكال في بطلانها عندهم، حيث يكون فعلها معصية لأمره وتمرداً على المولى، فيمتنع التقرب بها منه، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك فيما لو كانت مانعة من مستحب مأمور به فعلا كالحج والزيارة، ومنه الضد بناء على التمانع بين الضدين. وما ذلك إلا للفرق بين التكليف الإلزامي وغيره بما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره).

وعليه يبتني تفريقهم الذي ذكره بين ضد الواجب وضد المستحب في الاتفاق على صحة الثاني إذا كان عبادة والخلاف في صحة الأول وابتنائه على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده.

ما يظهر من الخراساني (قدس سره) من اختصاصه بما إذا كان النهي عرضياً

نعم، يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) اختصاص ذلك بما إذا كان النهي عرضياً بسبب كون الفعل مفوتاً لمصلحة غير ملزمة، أما لو كان أصلياً بسبب ترتب مفسدة غير ملزمة على الفعل - كما هو المفروض في هذا القسم - فيكون مانعاً من التقرب.

ص: 441

وقد يظهر من غير واحد المفروغية عنه.

وكأنه لدعوى أن المفسدة توجب مبغوضية الفعل وإن لم يلزم بتركه، فيمتنع مع ذلك التقرب به.

لكنه لا يناسب ما أشرنا إليه من ظهور عدم الإشكال بينهم في الفقه في إمكان التقرب في هذا القسم.

وكأنه يبتني على ما سبق منا في حقيقة الأحكام التكليفية الشرعية من عدم انتزاعها من الإرادة والكراهة الحقيقيتين اللتين هما من سنخ المحبوبية والمبغوضية، بل من الخطاب بداعي إضافة الفعل أو الترك للمولى الأعظم وجعله في حسابه، بحيث يقوم به المكلف لأجله مع جعل المسؤولية في الأحكام الإلزامية، وبدونه في غيرها من الأحكام الاقتضائية.

وبعبارة أخرى: المانع من قصد التقرب للمولى بالفعل إما كونه معصية له وتمرداً عليه، أو كونه مبغوضاً له بحيث يتنفر منه، والنهي التنزيهي لا يوجب الأول فرضاً، كما لا يستلزم الثاني على التحقيق، بل هو محال في حقه تعالى. فلا وجه لمانعيته من التقرب بالفعل لو كان ذا ملاك صالح للمقربية.

ومنه يظهر أن ما سبق من سيدنا الأعظم (قدس سره) من امتناع التقرب بما هو مبغوض للمولى ممنوع صغروياً، وإن تم كبروياً.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الكراهة من التقرب، بعد ما ذكرناه آنفاً من ظهور مفروغية الأصحاب في الفقه عن ذلك، حيث يكشف ذلك عن وضوح المدعى بنحو يلحقه بالبديهيات، ويلحق وجوه المنع بالشبهات المقابلة لها التي لا تعويل عليها لو خفي وجه حلها، فضلاً عما

ص: 442

لو اتضح، كما سبق.

القسم الثاني: ما يتحد فيه منشأ الانتزاع

القسم الثاني: ما يتحد فيه منشأ انتزاع عنواني متعلق الأمر والنهي مع الاختلاف بالإطلاق والتقييد، كما في الصلاة في الحمام أو في السواد وصوم يوم عاشوراء وغيرها.

ولا يخفى أن اجتماع الملاكين في المجمع كما يمكن ثبوتاً مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين، كذلك يمكن مع اتحاد منشأ انتزاعهما، وإنما الفرق بينهما في استفادة ذلك من الإطلاقين، حيث ينهض الإطلاقان بإثبات الملاكين في المجمع بنظر العرف مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين، ولا ينهضان بذلك مع اتحاد منشأ انتزاعهما، بل يكونان متعارضين فيه عرفاً، ومعه لا يحرز الملاكان، كما تقدم.

حمل الكراهية على أحد وجهين:

لكن لابد في المقام من إحراز ملاك الأمر، لأن كراهة العبادة وعدم حرمتها تستلزم مشروعيتها وصحتها التي هي فرع ثبوت ملاكها. ومن هنا يمكن حمل الكراهة المستفادة من النهي ونحوه على أحد وجهين..

الأول: الكراهة الحقيقية

أولهما: الكراهة الحقيقية الراجعة إلى مرجوحية الفعل. وذلك بأن يكون المجمع واجداً لملاكها مع ملاك الأمر المفروض. وحينئذٍ إن كان الأمر بدلياً لا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة - كالصلاة في الحمام أو في السواد بالإضافة إلى وجوب صلاة الفريضة واستحباب صلاة النافلة المرتبة، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى قضاء رمضان أو قضاء الصوم المطلق - تعين عدم التزاحم بين الحكمين، وعموم الحكم البدلي لمورد الكراهة بناء على ما سبق منا من عدم التضاد التام بين الأمر البدلي والنهي في مثل المقام.

وإن كان الأمر بدلياً ينحصر امتثاله بمورد الكراهة - كالصلاة المذكورة

ص: 443

مع ضيق الوقت، والنوافل المبتدأة في الأوقات المكروهة، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى عموم استحاب الصوم الشمولي المقتضي لاستحباب صوم اليوم المذكور تعييناً - لزم التزاحم بين الحكمين، فيكون الأمر فعلياً إذا كان إلزامياً، ولا تكون الكراهة فعلية، فلا يتأتى توهم مانعيتها من التقرب الذي تقدم الكلام فيه. ومع عدم كون الأمر إلزامياً يتعين الترجيح بالأهمية فلو كانت الكراهة أهم لم يكن الأمر فعلياً. كما هو الظاهر في مثل صوم يوم عاشوراء، حيث يظهر من أدلة النهي عنه مرجوحيته، بحيث يكون تركه أرجح من فعله(1)، بل ظاهرها الحرمة لولا المفروغية ظاهراً عن مشروعيته وإن كان تحقيق ذلك موكولاً للفقه، وهو خارج عن محل الكلام.

ولا مجال في الفرض المذكور للبناء على ثبوت الأمر الترتبي معلقاً على مخالفة الكراهة، لأن مخالفتها إنما تكون بموافقة الأمر، فإناطة الأمر بها راجع لطلب الحاصل.

ودعوى: أن ذلك يختص بما إذ كان ملاك الأمر مترتباً على مطلق الوجود، وأما إذا كان مترتباً على حصة خاصة من الفعل فلا محالة يكون المورد داخلاً في صغرى التزاحم الذي يمكن فيه الترتب، كما في المقام، حيث يكون ملاك الأمر مترتباً على الفعل بما هو عبادة مقصوداً به الترتب، فلا تكون مخالفة الكراهة بالفعل كافية في موافقة الأمر، ليلزم من فعلية الأمر حينه طلب الحاصل.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم لو كفى الفعل لا بقصد التقرب في ترتب ملاك الكراهة وفي مخالفتها، كما في مثل التزاحم بين

ص: 444


1- راجع الوسائل ج: 7 باب: 21 من أبواب الصوم المندوب.

استحباب الصوم واستحباب إجابة المؤمن بالأكل عنده، حيث يكفي في مخالفة الثاني الإمساك لا بنية الصوم التقربي، وحينئذٍ يمكن الأمر بالصوم التقربي بنحو الترتب معلقاً على عدم إجابة المؤمن، وهو خلاف المفروض في المقام، لوضوح أن المنهي عنه تنزيهاً هو العبادة بما هي عبادة، كصوم يوم عاشوراء والصلاة في الحمام، فلا تكون مخالفته إلا بالفعل التقربي الذي يتحقق به موافقة الأمر العبادي.

وبعبارةٍ أخرى: الأمر في المقام دائر بين النقيضين، إلا أنهما ليسا مطلق الفعل وتركه، بل خصوص الفعل العبادي وتركه، وهو كافٍ في امتناع أمر العبادة بنحو الترتب.

نعم، هذا لا ينافي مشروعية الفعل العبادي بلحاظ ملاكه وإن امتنع الأمر به. ولا فرق بين المقام وسائر موارد التزاحم المعهودة، إلا في أن التزاحم في تلك الموارد اتفاقي، فيكون التكليف المرجوح في غير مورد المزاحمة فعلياً، وفي المقام دائمي لا يكون المرجوح فيه فعلياً دائماً، مع اشتراكهما في إمكان تحصيل ملاك المرجوح، فيمكن التقرب به بلحاظ ذلك بعد ما سبق في القسم الأول من عدم مانعية الكراهة من التقرب.

وأما الإشكال في ذلك بامتناع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية التي يصلح معها للمقربية، لأنه حيث يلزم من تحصيله فوت الملاك الأهم ينبغي على المولى سد باب تحصيله برفع اليد عنه بنحو لا يصلح أن ينسب إليه ويحصل لأجله، منعاً من تفويت الملاك الأهم، ويبقى ملاكاً اقتضائياً، كما في سائر موارد التزاحم الملاكي.

فيندفع: بأن بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية وصلوحه للمقربية لا

ص: 445

يكون بنفسه مفوتاً للملاك الأهم، وإنما المفوت له هو موافقة العبد للملاك المرجوح بفعل العبادة، غاية الأمر أن بلوغه المرتبة المذكورة شرط في التفويت المذكور، إذ لولاه لتعذر على العبد التقرب بالعبادة والإتيان بها، وكان تاركاً لها قهراً، ويتعذر عليه مخالفة ملاك الأهم، إلا أنه لا يجب على المولى تعجيز العبد عن مخالفة الأحكام وتفويت الملاكات.

ولاسيما مع أن فائدة إبقاء الملاك في مرتبة الفعلية وتشريع الفعل تبعاً له تحصيل العبد لثوابه لو اختاره أو ثواب امتثال الكراهة لو قصده بالترك، أما مع رفع اليد عنه وسقوطه عن المرتبة المذكورة، فيلزم عجز العبد عن الفعل ووقوع الترك منه قهراً بنحو لا يستتبع الثواب عليه، نظير ترك صوم يوم العيد.

وبالجملة: يتعين البناء على إمكان مشروعية الفعل في المقام ووقوعها تبعاً للملاك المفروض بنحو يمكن التقرب به لأجله وإن لم يكن الأمر على طبقه فعلياً.

ثانيهما: الكراهة الإضافية

ثانيهما: يبتني على كون الكراهة إضافية، راجعة إلى نقص الفرد المرجوح بلحاظ ماهية المأمور به من حيث هي بطبعها وإن كان راجحاً في نفسه.

وتوضيح ذلك: أن الماهية المأمور بها قد يكون لها بنفسها نحو من الأثر والملاك مع قطع النظر عن المشخصات والمقارنات.

أما تشخصها في بعض الأفراد والمقارنات..

فتارة: لا يكون له دخل في الأثر المذكور.

وأخرى: يكون له ميزة تقتضي نقصه.

وثالثة: يكون له ميزة تقتضي زيادته.

ص: 446

والأول هو الفرد العادي، والثاني هو الفرد المكروه، والثالث هو الفرد المستحب، وإن كان الكل مؤدياً للمقدار الداعي للتشريع الوجوبي أو الاستحبابي.

فالمكروه وإن كان راجح الوجود بلحاظ ما يحصل به من ملاك الماهية، الموجب لتشريع حكمها. إلا أنه حيث كان موجباً لنقص الملاك الذي هو مقتضي الماهية بنفسها صدق عليه المكروه بلحاظ ذلك، وإن كان مجزئاً لفرض كفاية الباقي في غرض التشريع الوجوبي أو الاستحبابي للماهية، فهو أنقص ملاكاً بالإضافة إلى الماهية بطبعها، لا بالإضافة إلى الماهية بما هي مشروعة بنحو الوجوب أو الاستحباب، بل هو مؤد لتمام الملاك المقتضي للتشريع المذكور.

ومنه يظهر أن اختلاف أفراد الماهية في الفضيلة لا يصحح إطلاق المكروه على كل ما هو أنقص من غيره، ولا صدق المستحب على كل ما هو أفضل من غيره، بل يختص المكروه بما ينقص معه الملاك الثابت للماهية بطبعها، والمستحب بخصوص ما يزيد معه الملاك المذكور، كما نبه له المحقق الخراساني (قدس سره).

هذا، ومن الظاهر أن الكراهة بالمعنى المذكور لا تقتضي مرجوحية الفعل، لتنافي وجوبه أو استحبابه، ويقع الكلام في وجه الجمع بينهما.

نعم، الكراهة المذكورة إنما تصحح النهي الشرعي مع وجود المندوحة وإمكان تحصيل ملاك الأمر بالطبيعة في فرد لا نقص فيه، حيث يكون الغرض منه التنبيه لاختيار الامتثال بالفرد المذكور.

أما مع عدم المندوحة وانحصار الامتثال بالفرد الناقص فلا يصح النهي

ص: 447

عنه، إذ ينحصر به حصول ما يمكن تحصيله من الملاك الراجح التحصيل.

ومن هنا لا مجال لتنزيل كراهة مثل صوم يوم عاشوراء على الوجه المذكور، لعدم اختصاصها بمثل صوم القضاء مما يمكن امتثاله في غير اليوم المذكور، بل يعم مثل صوم التطوع الاستغراقي الراجع لاستحباب صوم كل يوم، لملاكه القائم به، ولا يفي به غيره. فتخص الكراهة في مثله بالوجه الأول.

الكلام في حال استحباب بعض أفراد الماهية المشروعة

بقي شيء، وهو أنه يظهر من جميع ما تقدم الحال في استحباب بعض أفراد الماهية المشروعة، واجبة كانت أو مستحبة، وأنه مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين يكون الاستحباب حقيقياً ناشئاً عن ملاك مباين لملاك أصل الماهية، ومع اتحاد منشأ انتزاعهما والاختلاف في القيود قد يكون الاستحباب حقيقياً ناشئاً عن ملاك مباين لملاك أصل الماهية، وقد يكون إضافياً ناشئاً عن ملاكٍ مسانخٍ لملاكها، نظير ما تقدم في الكراهة الإضافية. وعلى جميع التقادير يلزم تأكد الرجحان في المجمع لواجديته لكلا الملاكين.

وما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من كونه موجباً لتأكد الوجوب لو كان أمر الماهية وجوبياً. في غير محله، ضرورة أن تأكد الوجوب إنما يكون بتأكد الإلزام الذي لا مجال له في المقام بعد فرض كون الجهة التي يمتاز بها المجمع إنما تقتضي استحبابه، لا وجوبه.

الثالث: لزوم تقديم النهي

التنبيه الثالث: بعد فرض اجتماع ملاكي الأمر والنهي في المجمع فقد تقدم لزوم تقديم النهي عملاً، لأن مفروض كلامهم وجود المندوحة في امتثال الأمر وإمكان امتثاله بغير مورد الاجتماع، فلا يكون تعيينياً في مورد

ص: 448

الاجتماع، ليصلح لمزاحمة النهي التعييني.

كما تقدم في التنبيه الأول أنه مع عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بمورد الاجتماع يلحق المورد بالتزاحم الذي يتعين فيه تقديم الأهم تبعاً لأهمية ملاكه.

وحينئذٍ لو فرض تقديم النهي في المجمع لوجود المندوحة، أو لأهميته مع عدمها، إلا أن المكلف اضطر لارتكاب أحد أفراد الماهية المحرمة التي منها المجمع، فلا إشكال في سقوط النهي عن الفعلية في تمام أفراد الماهية، ومنها المجمع، بنحو البدلية، مطلقاً ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار، لما تقدم من امتناع التكليف في فرض تعذر امتثاله، لانحصار الغرض منه بإحداث الداعي العقلي المشروط بالقدرة.

وحينئذٍ يلزم البناء على وجوب المجمع، أما في فرض وجود المندوحة في امتثال الأمر مع البناء على عدم التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم - كما تقدم منا - فظاهر، لفرض عموم الوجوب للمجمع قبل سقوط النهي، فبقاؤه بعد ارتفاعه أولى.

وأما بناء على التضاد بينهما أو فرض عدم المندوحة المستلزم لسقوط الأمر حال فعلية النهي، فلأنه بعد فرض عدم تأثير ملاك النهي بسبب الاضطرار يتعين تأثير ملاك الأمر وفعليته.

توقف السيد الحكيم (قدس سره) في ذلك

لكن استشكل في ذلك سيدنا الأعظم (قدس سره) قال: «لأن الفعل يكون مرجوحاً حينئذٍ، ولا يجوز الأمر بما هو مرجوح، والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم، كي يكون الفعل راجحاً ولو بالعرض نعم يكون واجباً عقلاً لا شرعاً، نظير ارتكاب أقل القبيحين».

ص: 449

الإشكال عليه

وفيه: أنه بعد فرض الاضطرار لارتكاب المرجوح وعدم صلوح ملاكه المرجح له للمنع فلا أثر له في مزاحمة ملاك الوجوب، وإن كان هو أقوى منه بدواً.

وبعبارة أخرى: في ظرف لزوم فوت ملاك النهي بسبب الاضطرار يكون اختيار المجمع أرجح من عدمه لأن تركه يستلزم فوت كلا الملاكين وفعله يستلزم تحصيل أحدهما، وهو أرجح من فوتهما معاً، فمرجوحيته في نفسه لا ينافي رجحانه عرضاً في حال الاضطرار المفروض، فيلزم الأمر به شرعاً في الحال المذكور. ولولا ذلك لم يكن وجه للوجوب العقلي الذي ادعاه (قدس سره)، لعدم الفرق بين حكمي العقل والشرع في لزوم مراعاة الرجحان المذكور.

ودعوى: كفاية الحكم العقلي المذكور عن حكم الشارع في حفظ الملاك، ومعه لا فائدة في حكم الشارع.

مدفوعة: بأن حفظ الملاك بالتشريع مختص بالشارع وليس للعقل إلا الحكم في مرتبة متأخرة عنه بلزوم متابعته وإطاعته، ولولا ذلك لزم اكتفاء الشارع الأقدس ببيان الملاكات عن جعل الأحكام على طبقها.

واختصاص العقل بالحكم باختيار أقل القبيحين إنما يكون مع قيام الشارع بوظيفته في حفظ الملاك بالتشريع، كما لو أراد المكلف لداع شهوي أو نحوه مخالفة أحد تكليفين للشارع مختلفي الأهمية، فإن العقل يحكم بأولوية موافقة الأهم فيهما.

حديث الخراساني (قدس سره) من امتناع الأمر مع الاضطرار بسوء الاختيار

هذا، ويظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) امتناع الأمر مع كون الاضطرار بسوء الاختيار، لا لقصور في الملاك، بل لوجود المانع، وهو كون الفعل

ص: 450

معصية ومبغوضاً ومستحقاً عليه العقاب لدعوى منافاة ذلك للأمر به، الذي هو فرع محبوبيته ومستلزم لكونه طاعة مستحقاً عليه الثواب، وهذا هو الفارق بين الاضطرار المذكور والاضطرار لا بسوء الاختيار.

دفع الحديث المذكور

ويندفع: بأن مبغوضية الماهية من حيثية تفويت الملاك الأهم لا تنافي محبوبية خصوص المجمع بعد لزوم فوت الملاك المذكور - بسبب الاضطرار - لأجل تحصيل الملاك المهم، فهو بعد الاضطرار محبوب فعلاً وإن كان مبغوضاً اقتضاء. ولا فرق بين الاضطرارين بالإضافة للملاك الذي هو المعيار في المحبوبية والمبغوضية والأمر والنهي.

بل تقدم أن التكاليف الشرعية لا تتقوم بالمحبوبية والمبغوضية بل بالخطاب بداعي جعل السبيل التابع لحال الملاك الذي لا يفرق فيه بين الاضطرارين، وإنما الفرق بينهما في المؤاخذة على الحرام بسوء الاختيار، وعدمها إذا لم يكن كذلك.

ولا دخل لذلك في إمكان الأمر، إذا لا تبتني المؤاخذة على الحرام إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار على كون الفعل بنفسه حين وقوعه معصية فعلية، لفرض سقوط النهي، بل على كون الاضطرار مصححاً للعقاب عليه في وقته بلحاظ تفويت ملاك الحرمة به، وهو لا ينافي الأمر به تبعاً للملاك الآخر بعد فرض لزوم فوت ملاك الحرمة على كل حال بسبب الاضطرار، فيقع امتثالاً للأمر بعد فعليته، وإن كان الاضطرار منشأ للعقاب عليه، لاستناد تفويت ملاك النهي إليه.

وأما كونه معصية للنهي فإنما هو بمعنى منجزية النهي عنه حين الاضطرار بحيث يقتضي المنع عن الوقوع في الاضطرار ويعاقب بسببه

ص: 451

بمقدار ما يقع من الحرام، لا بمعنى كونه معصية وتمرداً حين وقوعه بعد الاضطرار وبعد سقوط النهي، ليمنع من الأمر به ووقوعه طاعة للأمر المذكور.

وبالجملة: ظرف القبح الفاعلي الذي هو مورد المنع العقلي ويمتنع معه الأمر هو ظرف القيام بسبب الاضطرار، لا ظرف الفعل بعده، وإن كان مورد القبح الفعلي هو ظرف الفعل بعد الوقوع في الاضطرار، وهو لا يمنع من الأمر به بعد كونه سبباً لتحصيل ما يمكن تحصيله من الملاك، حيث يوجب حسنه فعلاً من دون أن يمنع منه قبحه الأولي، حيث لا يؤثر في المنع بعد لابدية حصوله بسبب الاضطرار. فلاحظ.

ونظير ذلك ما لو لاحظ المولى ملاكاً فجعل التكليف لحفظه، فألجأه المكلف لرفع اليد عنه مع بقاء ملاكه بإحداث الملاك المزاحم الأهم، حيث يكون إحداث الملاك المذكور بمنزلة التعجيز عن التكليف الأول في استحقاق عقاب مخالفته كالمعصية له، وإن كان امتثال التكليف الحادث على طبق الملاك الأهم لازماً، لفعليته.

كما لو أوجب المولى حفظ الماء، فأراد المكلف إلجاءَهُ للتكليف بصرفه بفعل ما يوجب عطش من يهتم المولى بحفظه، فأمره بصرف الماء في رفع عطشه، فإنه يستحق بفعل ما يوجب العطش عقاب صرف الماء، وإن وجب عليه بعد حصول العطش.

ودعوى: أن العقاب في ذلك على إحداث الملاك الأهم، كفعل ما يوجب العطش، لا على صرف الماء المأمور به بعد العطش.

مدفوعة: بأن إحداث الملاك الأهم كالاضطرار في المقام، وإن كان

ص: 452

هو المنشأ في استحقاق العقاب، إلا أن العقاب بلحاظ الملاك الفائت، ولذا يكون العقاب تابعاً له كثرة وقلة، فكلما كان الماء المحتاج لصرفه أكثر كان العقاب أكثر. وإن أبيت فيه إلا عن ذلك جرى مثله في المقام، لأنهما من باب واحد.

وبالجملة: المقامان من باب واحد والرجوع للمرتكزات العقلائية في الملاكات وما يستتبعها من جعل الأحكام والطاعة والمعصية والانقياد والتمرد والثواب والعقاب يشهد بإمكان الأمر بالمجمع، بل لزومه بلحاظ ملاكه، وإن كان المكلف مستحقاً للعقاب بلحاظ فوت ملاك النهي عنه بسبب الاضطرار بسوء الاختيار، وإن تبدل حكم الفعل والأمر به حين القيام به إنما ينافي العقاب عليه إذا لم يستند للمكلف تفويت ملاك النهي السابق، وإلا لم ينافه، لعدم رجوع استحقاق العقاب للوعيد المستتبع للداعي العقلي المنافي لمقتضى الأمر، بل هو أمر واقعي لا أثر له في مقام العمل.

نعم، متابعة الأمر اللاحق في المقام توجب نحواً من الثواب أو تخفيف العقاب السابق، نظير ما تقدم في الأمر الترتبي بالضد، وإن كان بين المقامين فرق من جهات متعددة. فلاحظ.

ومما ذكرنا يتضح أنه يمكن التقرب في فرض الاضطرار للحرام، لأن المانع منه ليس إلا فعلية الحرمة، فمع فرض عدم فعليتها وسقوطها بالاضطرار لا مانع منه.

بل فرض فعلية الأمر يستلزم إمكان التقرب، إذ لا معنى لفعلية الأمر مع عدم التقرب بامتثاله. ومجرد واجديته لملاك الحرمة لا يصلح للمنع من التقرب بعد فرض سقوط الملاك المذكور عن تأثير الحرمة، وعدم صلوحه

ص: 453

لمزاحمة ملاك الأمر والمنع منه.

كما لا يمنع من ذلك كون الاضطرار بسوء الاختيار، لأن التمرد الذي يمتنع معه التقرب إنما يكون بفعل سبب الاضطرار، لا بنفس فعل الحرام بعد سقوط حرمته بتحقق سبب الاضطرار. والعقاب عليه ليس لكونه بنفسه تمرداً، بل بمعنى عدم معذرية الاضطرار في الإتيان به.

نعم، لابد مع ذلك من الالتفات إلى سقوط الحرمة بسبب الاضطرار، بحيث يكون الارتكاب لأجله، لا لعدم الاهتمام بمخالفة المولى والتمرد عليه مع قطع النظر عنه، لأن سقوط الحرمة مع الاضطرار ليس لارتفاع موضوعها، بل لكونه عرفاً من سنخ العذر المانع من العقاب، كالحرج والجهل.

وصلوح الأعذار لرفع المسؤولية ارتكازاً، بحيث لا تكون المخالفة تمرداً، فرع الاعتماد عليها في مخالفة التكليف للأولى بنحو لا يقدم المكلف عليها لولاها، ولا يكفي تحققها واقعاً مع عدم اهتمام المكلف بها وكونه بحيث يخالف المولى على كل حال، لعدم اهتمامه بمخالفته والتمرد عليه، وإلا وقعت تمرداً وكانت مانعة من التقرب وإن لم يكن التكليف بها فعلياً، بل وإن وقعت مورداً للأمر، كما في المقام، لأن التقرب بالأمر فرع الانقياد للمولى، فلا يقع ممن هو بفعله في مقام التمرد عليه والاستهانة به.

وبالجملة: إذا التفت المكلف إلى سقوط الحرمة عن المجمع بسبب الاضطرار وفعلية الوجوب له، وكان داعيه إلى الفعل هو الوجوب المذكور، والانقياد للمولى بموافقته، تم منه التقرب المعتبر في العبادة وصحت منه، وإن كان معاقباً بلحاظ حصول سبب الاضطرار بسوء اختياره على المولى

ص: 454

بفعل السبب المذكور.

وأظهر من ذلك ما لو حصلت التوبة الماحية للذنب، بأن ندم المكلف على ما كان منه وأقلع عنه وعزم على عدم الرجوع إليه، حيث لا فرق بين الاضطرار حينئذٍ والاضطرار لا بسوء الاختيار في إمكان التقرب بالأمر بلا إشكال.

وعليه يبتني تفصيل سيدنا الأعظم (قدس سره) في مستمسكه في صحة الصلاة بين التوبة وغيرها قال: «ويظهر من الجواهر أن التوبة إنما يترتب عليها الأثر إذا كانت بعد الفعل لا قبله. ولكنه غير ظاهر في مثل الفرض، أعني ما لو فعل ما هو علة تامة في الوقوع في المعصية».

وما ذكره (قدس سره) في محله. بل حتى لو تم ما في الجواهر، وغض النظر عما تقدم - من أن منشأ استحقاق للعقاب هو إيقاع النفس في الاضطرار السابق على التوبة - فهو مختص بأثر التوبة الراجع للشارع الأقدس، وهو رفع العقاب دون مثل التقرب من الآثار التكوينية النفسية الوجدانية، حيث لا إشكال في إمكانه مع التوبة في الفرض، لارتفاع حالة التمرد المانعة منه معها، وإن لم تكن التوبة مسقطة للعقاب في الفرض. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ولنكتف بما ذكرنا في الكلام في الاضطرار، حيث يمكن الاستغناء بملاحظته عن الكلام في ما أطالوا فيه من حكم الخروج من الأرض المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره، لأن المهم من ذلك هو إمكان التقرب بالعبادة المبنية على التصرف في الغصب حال الخروج، الذي يظهر حاله مما ذكرناه هنا. وأما نفس حكم الخروج فلا أهمية للكلام فيه بعد المفروغية

ص: 455

عن لزومه عقلاً، ولو لتجنب أشد المحذورين. وبذلك ينتهي الكلام في مسأله اجتماع الأمر والنهي.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 456

الفصل السادس في اقتضاء النهي الفساد

اشارة

إن عدّ هذه المسألة من مسائل الملازمات العقلية يبتني على ما هو الظاهر منهم من عدم الفرق في محل الكلام بين استفادة النهي من دليل لفظي واستفادته من غيره، حيث يظهر من ذلك أن موضوع البحث هو الملازمة ثبوتاً بين النهي والفساد، لا إلى ظهور دليل النهي في الفساد إثباتاً.

نعم قد ينافي ذلك ذهاب بعضهم - كما قيل - إلى دلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة فيها.

قال سيدنا الأعظم (قدس سره): «فلو كان البحث في المقام عن الملازمة التي لا مساس لها باللفظ لا عن الدلالة التي هي من أحواله، كان اللازم عد القول المذكور من القول بالنفي، لا قولاً بالإثبات، كما صنعوا».

ومن ثم قد يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) عد البحث في المسألة من مباحث الألفاظ الراجعة لمقام الدلالة.

لكن لا مجال لرفع اليد عما سبق بعد عدم أهمية القول المذكور، وقرب كون منشئه دعوى الملازمة الشرعية لظهور بعض النصوص في ذلك، كما يأتي إن شاء الله تعالى. ولذا يبعد منه تخصيصه بما إذا استفيد

ص: 457

النهي من دليل لفظي، فيخرج عن مباحث الألفاظ.

ومن هنا كان الأولى إدخال المسألة في الملازمات العقلية، وعدّ القول المذكور قولاً بالنفي، فإنه أجمع لشتات البحث، وأولى بنظمه.

إذا عرفت هذا فاعلم: أن محل كلامهم العبادات والمعاملات وقد تقدم في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد في العمل منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الغرض المهم عليه، فما يترتب عليه الغرض المهم هو الصحيح وما لم يترتب عليه هو الفاسد.

وحيث كان الغرض العملي المهم من فعل العبادة هو الإجزاء والخروج عن مقتضى الأمر بها كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.

وجعل المعيار في الصحة أمراً آخر كموافقة الأمر أو الشريعة تطويل لا يترتب عليه أثر في مقام العمل.

كما أنه حيث كان الغرض من المعاملة - عقداً كانت أو إيقاعاً - هو ترتب مضمونها شرعاً كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.

وحيث كان منشأ المنافاة في كل منهما مبايناً لمنشئه في الآخر فاللازم البحث في مقامين..

ص: 458

المقام الأول في العبادات

اشارة

وقد يقرب اقتضاء النهي عنها فسادها بمنافاة النهي للأمر بها، الذي لابد منه في مشروعية العبادة وصحتها.

وهو يبتني على ما تقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي من التضاد بين الأحكام، وقد تقدم الكلام في شموله لما إذا كان الأمر بدلياً مع وجود المندوحة وإمكان امتثاله بغير مورد النهي.

مع أن المفروض في محل الكلام إن كان هو إحراز ملاك الأمر في مورد النهي، بدليل خاص، أو تبعاً للضابط المتقدم في تلك المسألة فمن الظاهر أنه يكفي في صحة العبادة وغيرها مما يقع مورداً للأمر ويهتم بإجزائه واجديته للملاك ولو مع سقوط الأمر.

وإن كان المفروض عدم إحراز ملاك الأمر في مورد النهي، للدليل الخاص على عدم ثبوته، أو تبعاً للضابط المتقدم فمنشأ الفساد ثبوتاً ليس هو النهي، بل فقد الملاك المذكور. غايته أن دليل النهي قد يمنع من إحراز ملاك الأمر من إطلاق دليله، وهو أمر آخر غير اقتضاء النهي الفساد.

هذا، مضافاً إلى أن الوجه المذكور لا يختص بالعبادة، بل يجري في

ص: 459

كل مأمور به وإن كان توصلياً، كتطهير المسجد وتكفين الميت والإنفاق على الزوجة وغيرها، لوضوح أنه لا مجال لإجزاء ما لا يشمله الأمر ولا يكون واجداً لملاكه، مع أن ظاهر أخذهم العبادة في موضوع الكلام خصوصيتها في اقتضاء النهي الفساد.

ومن هنا كان الظاهر أن نظرهم في دعوى اقتضاء النهي الفساد إلى مانعية النهي الفعلي من التقرب ولو مع إحراز الملاك أو عموم الأمر لدعوى إمكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان - كما تقدم من بعضهم - أو لدعوى عدم التضاد التام بين النهي والأمر البدلي مع المندوحة - كما تقدم منا - وقد تقدم توضيح ذلك في مسألة اجتماع الأمر والنهي. فراجع.

ويترتب على ذلك أمور..

اختصاص الاقتضاء بما إذا كان النهي معلوماً

الأول: اختصاص اقتضاء النهي الفساد في محل الكلام بما إذا كان النهي معلوماً أو محرزاً بدليل شرعي أو عقلي، أو منجزاً عملاً بأصل كذلك، أما مع الجهل المعذر أو الغفلة عنه أو عن وجوب الاحتياط ولو كانت عن تقصير فلا يكون مانعاً من التقرب وجداناً.

نعم قد يدعى عدم كفاية التقرب المذكور مع التقصير المصحح للعقاب، وهو خارج عن محل الكلام راجع إلى تحديد التقرب المعتبر في العبادة، وهو بالفقه أنسب.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح أن التنافي بين الأمر والنهي لو تم لا يختص بصورة الالتفات إليهما.

عدم اختصاص الاقتضاء بالنهي الواقعي

الثاني: أن اقتضاء الفساد لا يختص بالنهي الواقعي، بل يجري في اعتقاده خطأ وإحرازه بدليل شرعي أو عقلي أو تنجزه بأصل كذلك، ولو مع

ص: 460

عدم وجوده واقعاً، لاشتراك الجميع في جعل المكلف حين الفعل في مقام التمرد به المنافي للتقرب به.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح اختصاص المنافي للأمر بالنهي الواقعي. نعم لا مجال للتقرب به، فلا يصح إذا كان عبادة.

اختصاص الاقتضاء بالنهي التحريمي

الثالث: اختصاص الاقتضاء بالنهي التحريمي دون التنزيهي، لما تقدم عند الكلام في العبادات المكروهة من عدم مانعية التنزيهي من التقرب.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لوضوح أن الكراهة كالحرمة منافية للوجوب والاستحباب.

نعم ذلك لا يجري مع المندوحة وإمكان امتثال الأمر بغير مورد الكراهة، لما تقدم عند الكلام في تضاد الأحكام من عدم التضاد أصلاً بين الكراهة والأمر البدلي مع المندوحة. فراجع.

عموم اقتضاء الفساد للنهي الغيري

الرابع: عموم اقتضاء الفساد للنهي الغيري الثابت لمقدمة الحرام على النحو المتقدم في ذيل مسألة مقدمة الواجب، بل حتى لو لم نقل بثبوت الحرمة الغيرية للمقدمة المذكورة لابد من البناء على بطلانها لو كانت عبادة، لأن عصيان النهي النفسي لما كان يستند للإتيان بها يكون الإتيان بها تمرداً يتعذر التقرب به.

بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول، لأن وقوع المأمور به مقدمة للحرام الفعلي وإن أوجب سقوط الأمر به للتزاحم لو كان مضيقاً، ورفع اليد عنه في مقام العمل لو كان موسعاً، إلا أنه لا ينافي بقاء ملاكه، ومعه يتعين الإجزاء بلا إشكال، نظير ما تقدم في مسألة الضد. غاية الأمر أنه

ص: 461

لامجال للتقرب به، فلا يصح إذا كان عبادة.
اشارة

صور النهي في المقام

بقي شيء، وهو أنه بناءً على اقتضاء النهي الفساد على أحد المبنيين السابقين فالنهي في المقام يتصور على وجوه..

أولها: النهي المتعلق بالعبادة بتمامها

أولها: النهي المتعلق بالعبادة بنفسها وبتمامها، ولا إشكال في اقتضائه الفساد.

ثانيها: النهي المتعلق بجزء العبادة
اشارة

ثانيها: النهي عن جزئها. والأمر فيه كذلك، لأن الجزء حيث كان عبادة يفسد بالنهي وفساده مستلزم لفساد الكل، إلا في فرض اجتزاء الشارع بالناقص، كما في موارد حديث: «لا تعاد الصلاة...»(1)

، أو فرض تداركه بإعادة الجزء في محله، إذا لم يتعذر التدارك ببطلان المركب بزيادة الجزء الفاسد المنهي عنه، الذي هو محتاج لدليلٍ خاص.

كلام النائيني (قدس سره)

لكن ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) - بعد البناء منه على الوجه الأول لاقتضاء النهي الفساد - أنه يكفي النهي عن الجزء في البناء على مبطليته بدعوى: أن النهي عن الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا، وتكون مقيدة بعدمه، فيكون من الموانع المخلة بها.

المناقشة فيه

وهو كما ترى، فإن حرمه الشيء لا تستلزم تقييد المركب بعدمه، ليكون مبطلاً له. ولذا لا إشكال في عدم مبطلية الحرام للمركب إذا لم يكن من سنخ أجزائه، كالنظر للأجنبية في أثناء الصلاة.

ولا فرق بينه وبين ما هو من سنخ الأجزاء إلا في أن النهي عن الثاني قد يستلزم تقييد إطلاق دليل جزئية الجزء بغيره، بحيث لا يجزي المنهي عنه في تمامية المركب بل لابد من غيره، وهو راجع إلى فساده، لا إفساده.

ص: 462


1- الوسائل ج: 4 باب: 10 من أبواب الركوع: حديث: 5.

هذا وحيث كان معيار بطلان العبادة في الفرض بطلان جزئها، لاستلزام بطلان الجزء بطلان الكل، فاللازم عدم اختصاص بطلان المركب بما إذا كان بتمامه عبادياً، بل يكفي فيه عبادية جزئه المنهي عنه، لعموم منشأ البطلان له.

ثالثها: النهي من شرط العبادة
اشارة

ثالثها: النهي عن شرط العبادة، كالنهي عن حرمة لبس الحرير للرجال لو فرض عدم الدليل على مانعيته من الصلاة. وقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أنه لا يوجب فساد العبادة.

توجيه النائيني (قدس سره) لذلك

ووجَّهه بعض الأعاظم (قدس سره) بأن الشرط في الحقيقة هو المعنى الاسم المصدري، والحرام هو المعنى المصدري، وهما متباينان، فالمحرم أجنبي عن العبادة فلا يقتضي فسادها، بل هو كالنظر للأجنبية أثناء الصلاة.

إشكال السيد الخوئي (قدس سره)

واستشكل فيه بعض مشايخنا (دامت بركاته) بأن المعنى المصدري عين المعنى الاسم المصدري حقيقة ووجوداً وخارجاً، وليس الفرق بينهما إلا اعتبارياً، فيمتنع كون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه، ولا محيص عن الالتزام بكون النهي المتعلق بالشرط موجباً لكون التقييد بالشرط المأمور به في ضمن الأمر بالمقيد متقيداً بغير الفرد المحرم، ضرورة أن المأمور به لابد أن يكون مغايراً في الوجود للمنهي عنه في الخارج، فالعبادة المقترنة بالشرط المنهي عنه لا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها، فتقع فاسدة لا محالة.

وما ذكره من اتحاد المصدر مع اسم المصدر في محله. بل اختصاص الشرط باسم المصدر غير ظاهر المأخذ، بل هو تابع لدليل الشرطية الذي يمكن أن يكون بالوجهين.

إلا أن ذلك وحده لا يكفي في مانعية النهي من شمول القيد للفرد

ص: 463

المحرم، لأن التقييد بالشرط لا يرجع إلى الأمر به، كي يدعى منافاة النهي له ويلزم قصور الشرط عن الفرد المنهي عنه، بل هو راجع إلى الأمر بالمشروط المقارن له بنحو لا يسع غيره - على ما تقدم توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية من مبحث المقدمة - وهو لا ينافي حرمة الشرط بوجه، فوجوب خصوص الصلاة المقارنة للستر لا تنافي حرمة الستر إلا من حيثية لزوم التكليف بما لا يطاق، فإذا لم ينحصر الستر بالفرد المحرم لم يلزم المحذور المذكور، ولا موجب لتقييد الستر المعتبر بخصوص غير المحرم.

نعم، بناء على ثبوت الأمر الغيري بالشرط ومنافاة النهي للأمر البدلي مع المندوحة يتعين قصور الأمر الغيري عن الفرد المحرم. إلا أنه ليس لقصور الأمر المذكور عن الشرطية كي لا يجزي، بل للمانع مع كونه مجزياً، عملاً بإطلاق دليل الشرطية.

توجيه الأصفهاني (قدس سره)

هذا، وقد ذكر بعض المحققين (قدس سره) في وجه اقتضاء النهي عن الشرط البطلان أن التقرب بالمتقيد بالمبغوض كالتقرب بالمبغوض، وكذا الأمر بالمتقيد بالمبغوض كالأمر بالمبغوض. وهو راجع إلى امتناع الأمر بالمشروط والتقرب به مع حرمة الشرط.

التحقيق في المسألة

أقول: أما امتناع الأمر بالمشروط مع حرمة الشرط فهو مختص بما إذا انحصر الشرط بالحرام، كما يظهر مما سبق. وأما التقرب بالمشروط مع حرمة الشرط فلم يتضح الوجه في امتناعه مطلقاً بعد كونهما فعلين متباينين اختياريين صادرين عن إرادتين، لا دخل لأحدهما بالآخر في مقام الفعل وتحريك العضلات، ومجرد دخل الشرط في المشروط شرعاً لا أثر له في

ص: 464

مقام التقرب.

نعم لو كانت إرادة المشروط مستلزمة لإرادة الشرط للالتفات إلى شرطيته وانحصار الداعي للشرط بفعله لم يبعد امتناع التقرب بالمشروط، حيث يكون قصد امتثال أمر المشروط - الذي به مقتضي التقرب - راجعاً إلى قصد فعل الحرام وداعياً إليه، ومعه يمتنع التقرب ارتكازا.

ومن ثم ذكرنا في الفقه امتناع التقرب بالمركب إذا استلزم فعل الحرام تدريجاً، كالوضوء بالاغتراف من إناء الذهب لأن الغسل بنفسه وإن لم يكن محرماً إلا أن القصد للغسل الوضوئي لما كان مستلزماً للقصد إلى إكماله بتكرار الاغتراف المحرَّم امتنع التقرب به. فلاحظ.

رابعها: النهي المتعلق بوصف العبادة
اشارة

رابعها: النهي المتعلق بوصف العبادة الخارج عنها.

دعوى الخراساني (قدس سره) مساوقة النهي عنه للنهي عنها

وقد ادعى المحقق الخراساني (قدس سره) أن الوصف إذا كان لازماً للعبادة بحيث لا يمكن وجوده في غيرها - كالجهر في القراءة الذي لا ينفك عنها، وإن أمكن انفكاكها عنه واتصافها بغيره - كان النهي عنه مساوقاً للنهي عنها، فيترتب عليه حكم النهي عن العبادة.

وهو غير ظاهر الوجه، إذ مجرد ملازمة الوصف للموصوف لا تقتضي اشتراكهما في الحكم. بل لا تمنع من اختلافهما في المقام فيه بعد فرض إمكان خلو الموصوف عن الوصف - وإن امتنع العكس - فيكون الوصف حراماً والموصوف واجباً. كيف! وقد سبق إمكان اجتماع الوجوب البدلي مع الحرمة في موضوع واحد، فإمكان اجتماعهما في موضوعين متلازمين أولى.

اللّهم إلا أن يرجع إلى أن النهي عن الوصف لا يراد به إلا النهي

ص: 465

عن الموصوف الواجد له فالمراد بالنهي عن الجهر بالقراءة هو النهي عن القراءة الجهرية، واستفادة النهي عن الموصوف ليس لكونه لازماً للنهي عن الوصف، بل لكونه هو المراد منه.

لكنه لا يخلو عن خفاء. على أنه لم يتضح الوجه في اختصاصه بالنهي عن الوصف اللازم الذي لا يتحقق في غير العبادة.

ما ينبغي أن يقال في المسألة

فالأولى أن يقال: لما كان الموصوف في المقام هو العبادة التي هي فعل المكلف، وهو من الأمور المتصرمة غير القارة في الوجود، فإن كان الوصف منتزعاً من فعل منفصل عنها في الوجود بإرادة متجددة لا دخل لها بإرادتها، كالعجب بالعبادة وإعلام الغير بها المتأخرين عنها - لو فرض حرمتهما - فلا إشكال في عدم مانعية حرمة الوصف المذكور من التقرب بها حين وقوعها. إلا أن يكون إيجادها بداعي التوصل لتحقيق الوصف المذكور، حيث يكون القصد المذكور موجباً لكون العمل تجرياً مبعداً يمتنع معه التقرب به.

وإن كان منتزعاً من فعل مقارن لها في الوجود بقصد مقارن لقصدها، منتزع من أمر قائم بها - كالجهر بالقراءة - أو خارج عنها - كالرياء بها - أشكل التقرب بها مع الالتفات لحرمة الوصف، لأن القصد إليها قصد لتحقيق موضوع الوصف المحرم الذي يكون به وجوده وبعدمه عدمه، فيكون فعله بهذا اللحاظ مبعداً يتعذر معه التقرب به.

والتفكيك بين القصدين تبعاً للتفكيك بين الفعلين دقة لا يكفي في التقرب بحسب المرتكزات العقلائية المحكمة في المقام.

وعلى ذلك يبتني بطلان الصلاة لو قصد الرياء ببعض خصوصياتها

ص: 466

الخارجة عنها، كالتحنك حالها أو إيقاعها في المسجد أو جماعة، فضلاً عن مثل التأنّي فيها أو الجهر بها أو اختيار بعض السور المأثورة فيها.

نعم، لما كان البطلان في ذلك كله بملاك امتناع التقرب بالمبعد جرى فيه ما تقدم من تحديده بصورة الالتفات للحرمة وغيره. فلاحظ.

ص: 467

المقام الثاني في المعاملات

اشارة

ولا إشكال ظاهراً عند جماعة من محققي المتأخرين في عدم اقتضاء النهي فيها الفساد لو كان راجعاً لحرمة المعاملة من حيث هي وبعنوانها، كما في حرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فلا يمنع من ترتب أثرها عليها، إذ ليس نسبتها إلى أثرها إلا نسبة الموضوع لحكمه، لوضوح أن سببيتها لأثرها منتزعة من حكم الشارع بنفوذ مضمونها، ومن الظاهر عدم منافاة حرمة الموضوع لترتب حكمه عليه، كما في تحريم كثير من الأسباب الشرعية، كأسباب الضمان والقصاص والكفارات وغيرها.

وأظهر من ذلك ما لو كان راجعاً لحرمة المعاملة لجهةٍ خارجةٍ عنها - غير المضمون المعاملي المسبب عنها - كما لو حرم إيقاع العقد الكلامي لإضرار الكلام بالعاقد، أو لحرمة كلام أحد المعاقدين مع الآخر، لجهة تخصهما.

وأما لو كان راجعاً لحرمة الأثر، بحيث لا تكون المفسدة قائمة بالمعاملة لذاتها أو لجهة خارجة عنها، بل بلحاظ أثرها وترتب مضمونها عليها شرعاً، وحرمة المعاملة إنما هي لكونها الفعل الاختياري للمكلف

ص: 468

المستتبع لترتب أثره شرعاً مع عدم قدرته على الأثر مباشرة، نظير تنجيس المسجد الذي يحرم بلحاظ ترتب النجاسة عليه. ومثاله في المقام ما لو فرض حرمة بيع المصحف أو المسلم من الكافر، لقيام المفسدة بتملك الكافر لهما. فقد يدعى منافاة التحريم للصحة واستلزامه الفساد لوجهين..

دعوى منافاة التحريم للصحة لوجهين الأول: منافاة جعل الصحة وترتب المفسدة عليه

الأول: أن الأثر لما كان من الأحكام التابعة للشارع، وترتبه على المعاملة ليس لخصوصيتها الذاتية التكوينية، بل لإمضائها من قِبَله الراجع لحكمه بالأثر بعد تحقق المعاملة، فمع فرض ترتب المفسدة عليه ومبغوضيته للشارع تبعاً لها، ولذا حرمه، كيف يمكن جعله من قبله وحكمه بترتبه، إمضاء للسبب، بل يتعين عدم ترتبه الراجع لفساد المعاملة.

وقد يدفع ذلك بإرجاع النهي عن الأثر إلى النهي عن المؤثر، لأن الأثر ليس فعلاً للمكلف، لا بالمباشرة، كما هو ظاهر، ولا بالتسبيب لعدم كون سببية السبب ذاتية، بل هو تابع لاعتبار الشارع الذي هو بيده، فيمتنع نهي المكلف عنه، ويتعين رجوع النهي عنه للنهي عن إيجاد المعاملة بنفسها، لأنها الأمر الاختياري له، فيلحقه حكم الصورة الأولى.

دفع المنافاة

وفيه: أن النهي وإن كان راجعاً إلى المعاملة، لما ذكر، إلا أن المفروض كون موضوع المفسدة والمبغوضية هو الأثر، وسراية النهي منه إلى المعاملة ليس لكونها بنفسها موضوع المفسدة والمبغوضية، بل لأنها الأمر الاختياري الموصل إليه في الجملة، القابل لأن يكلف به، مع كون موضوع المفسدة هو الأثر، فيعود الإشكال.

ولعل الأولى دفعه..

أولاً: بالنقض بأن لازمه البطلان مع كون النهي تنزيهياً، لأنه أيضاًً

ص: 469

ناشئ عن مفسدة ومبغوضية بنحوٍ لا يناسب جعل الشارع له، وإن لم يكن بنحو يقتضي إلزام المكلف بتركه.

وثانياً: بأن ذلك يبتني على كون النهي ناشئاً عن كراهة المولى للأثر كراهة حقيقية لايمكن معها جعله له واعتباره إياه، وقد تقدم غير مرة المنع من ذلك، وأن الأحكام التكليفية لا تنشأ عن الإرادة والكراهة الحقيقيتين، بل عن الإرادة والكراهة التشريعيتين الراجعتين إلى الخطاب بداعي جعل السبيل. ولذا أمكن تخلف الواقع عنهما. وحينئذٍ كما يمكن تخلف الواقع عنهما في الأمور الحقيقية بتقدير أسبابها التكوينية يمكن تخلفه عنهما في الأمور الاعتبارية باعتبارها شرعاً تبعاً لتحقق موضوعاتها.

وثالثاً: بأن الحكم وإن كان ذا مفسدة ومبغوضاً للحاكم، إلا أنه لا مانع من اختلاف حاله قبل وجود الموضوع عن حاله بعده ولو لتجدد المزاحم للمفسدة المذكورة، فإن ذلك يقتضي مبغوضيته قبل وجود الموضوع - وهو المعاملة - بنحو يوجب النهي عن إيجاده فراراً عن تجدد المزاحم الملزم بجعل الحكم وإن لزمت المفسدة.

ونظيره في الأحكام الشرعية غير المعاملات تحريم تنجيس المسجد الراجع للنهي عن إيجاد سبب النجاسة بلحاظ سببيته لها، لا لذاته، مع الحكم بها بعد تحققه، وفي الأمور العرفية ما لو كان في خروج الدار عن ملك مالكها مفسدة بنظره، إلا أنه كان يرى أن في عدم مضي بيع ولده لها مفسدة أعظم، فإنه ينهي ولده تكليفاً عن بيعها ويمضي بيعه وضعاً.

ومن هنا يمكن نهي الموكل وكيله تكليفاً عن بعض التصرفات مع عموم وكالته لها، إلا أن يرجع النهي إلى تحديد موضوع وكالته من دون نهي

ص: 470

تكليفي، فلا يكون نظيراً للمقام.

ما ذكره النائيني (قدس سره)

وبالجملة: لا منافاة بين النهي التكليفي عن المعاملة والسبب الشرعي من حيثية الأثر والمسبب مع عموم سببيته لمورد النهي.

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن النهي عن المسبب بالنحو المذكور موجب لسلب سلطنة المكلف الموقع للمعاملة عليها وحجره عنها، فلا ينفذ تصرفه، لوضوح اعتبار سلطنة القائم بالمعاملة عليها في نفوذها منه.

الإشكال عليه

وفيه: أن السلطنة المعتبرة شرعاً في موقع المعاملة إنما هي السلطنة الوضعية الراجعة إلى أهليته من حيثية كون التصرف من شؤونه التابعة له، كالوكيل والمالك الكامل والولي الشرعي. وهي منوطة بأمور خاصة ليس منها الحِل التكليفي، لا السلطنة التكوينية الراجعة إلى قدرته على المعاملة خارجاً، ولا التكليفية الراجعة إلى الإذن له في إيقاعها وعدم حرمتها عليه.

نعم يعتبر في الإجارة القدرة على العمل وفي البيع القدرة على التسليم في الجملة بالمعنى الذي ينافيه التحريم. إلا أنه أجنبي عما نحن فيه، لعدم مانعية حرمة نفس إيقاع المعاملة الذي هو محل الكلام، بل حرمة بعض شؤونها، وهو أحد العوضين، لمنافاتها لنفوذ العقد المقتضي لتسليمه.

مع أن لازم هذا الوجه الفساد لو كان النهي متعلقاً بالمعاملة بعنوانها، لا من جهة خصوص السبب، كالنهي عن البيع وقت النداء، ولا يختص بما إذا كان النهي عنها بلحاظ مسببها، لأن اعتبار السلطنة على المعاملة إنما هو بالإضافة إلى إيقاعها، فمع فرض سلب النهي للسلطنة يتعين الفساد، مع أنه (قدس سره) صرح كغيره بعدم اقتضائه الفساد في ذلك.

ص: 471

دعوى استفادة الفساد من النصوص الواردة في نكاح العبد

هذا وقد يدعى استفادة اقتضاء النهي الفساد شرعاً من النصوص الواردة في نكاح العبد بغير إذن مولاه الظاهرة في أنه لو كان عاصياً لله تعالى فسد نكاحه. ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده. فقال: ذاك إلى سيده إن شاء أجازه، وإن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله، وإنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز»(1) وقريب من ذلك موثقه عنه (عليه السلام): «سألته عن رجل تزوج عبده [امرأة] بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه. قال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما... وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأول. فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصل النكاح كان عاصياً. فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاص لله، إنما عصى سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه»(2) لقرب أن يكون قول زرارة: «فإن أصل النكاح كان عاصياً» وارداً مورد الاستنكار لما تضمنه صدر الحديث من بقائهما على النكاح الأول مع إمضاء المولى له، وأن اللازم بطلان النكاح من أصله، فيكون الجواب ظاهراً في إقرار ذلك مع كونه عاصياً لله في إتيان ما حرمه، ويدل على المدعى، كما تقدم في الصحيح. وقد يستفاد من غيرهما.

ص: 472


1- الوسائل ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء: حديث: 1.
2- الوسائل ج: 14 باب: 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء: حديث: 2.

ودعوى: أن نفي عصيانه له تعالى لا يناسب فرض عصيان السيد،

لوضوح ملازمته لعصيان الله تعالى فالحكم بالصحة معه لا يناسب اقتضاء النهي الفساد، بل عدم اقتضائه له، ولابد أن يكون المراد بنفي عصيانه تعالى نفي عصيانه الوضعي الراجع لمشروعية النكاح ذاتاً.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن المراد من نفي عصيانه تعالى ليس هو نفي مطلق العصيان، لينافي فرض عصيان السيد، بل نفي خصوص عصيانه الراجع لمخالفة نهيه بلحاظ حقه بالمباشرة، لا بتوسط حقوق الناس بعضهم على بعض.

ويكون المتحصل من الرواية أن مانعية النهي حدوثاً وبقاء تابعة له حدوثاً وبقاء، فالنهي عن المعاملة إن كان راجعاً لحقه تعالى فحيث لا رافع له، لعدم تجدد الرضا منه بما خولف فيه يستتبع الفساد رأساً، بنحو لا يمكن تصحيحها، وإن كان راجعاً لحق الناس فحيث يمكن ارتفاع النهي الشرعي بتجدد رضا من له الحق تكون صحتها مراعاة بذلك لرافعيته لنهي الشارع. هذا ما قد يرجع إليه كلام بعض الأعاظم (قدس سره) في توجيه الاستدلال.

ويشكل: بأن النهي عما وقع لا يقبل البقاء ولا الارتفاع، لعدم الموضوع له بعد مخالفته، والعصيان المسبب عنه لا يرتفع بعد تحققه.

ودعوى: أن المراد بارتفاع النهي والعصيان المسبب عنه ارتفاع موضوعه ومنشأ حدوثه، وهو في المقام مخالفة مقتضى سلطنة السيد الذي يرتفع بتجدد رضاه.

مدفوعة: بأن ذلك لا يكفي في تصحيح المعاملة الفاسدة من غير جهة مخالفة مقتضى السلطنة، فمن تزوج بنت زوجته غير المدخول بها أو ذات العدة لم يصح زواجه بطلاق أمها أو خروجها من العدة.

على أنه لا مجال لفرض العصيان التكليفي - الذي هو محل الكلام -

ص: 473

في مورد النص بعد ما هو الظاهر من عدم عصيان العبد تكليفياً بمجرد إيقاع العقد، خصوصاً إذا أوقعه غيره كمأذونه ونحوه ممن لا سلطان للسيد عليه كما لا يتحقق العصيان المذكور في أكثر موارد إيقاع المعاملات غير المشروعة والباطلة.

كما أنه لا يناسب سياق عصيان الله تعالى بعصيان السيد مع عدم فرض سبق النهي من السيد الذي يتوقف عليه عصيانه التكليفي.

ومن هنا كان الظاهر ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) ونسب لجماعةٍ - منهم الوحيد والمحقق القمي I - من حمل العصيان في المقام على العصيان الوضعي المنتزع من إيقاع المعاملة على خلاف الوجه المشروع لها الذي به يترتب أثرها.

ويرجع مضمون الحديث إلى أن مخالفة المشروع إن كان بإيقاعها على وجه لم يشرعه الله تعالى أصلاً، كالنكاح في العدة - وهو المراد بمعصية الله تعالى - فهو يبطل رأساً ولا يقبل التصحيح.

وإن كان بإيقاعها على وجه شرعه الله تعالى ذاتاً، وإنما لم ينفذ لمخالفته مقتضى سلطنة الغير، كالمولى - وهو المراد بمعصية السيد - أمكن تصحيحه برضا من له السلطنة وإجازته، لارتفاع المانع معه من النفوذ، حيث يكون النفوذ حينئذٍ مقتضى السلطنة، على ما يذكر في محله من مبحث العقد الفضولي. فتكون النصوص أجنبية عن محل الكلام من النهي التكليفي.

ص: 474

تنبيهان..
تنبيهان: الأول: دلالة النهي على الصحة

الأول: قال في التقريرات: «حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة، والمنقول عن نهاية العلامة التوقف، ووافقهما فخر المحققين في نهاية المأمول، وأحال الأمر على شرح التهذيب».

وقد نقل فيها وجهين للاستدلال. يرجع أولهما إلى اعتبار القدرة في متعلق النهي مع قطع النظر عنه. والثاني: إلى لزوم صحة متعلق النهي، لعدم الفرق بينه وبين متعلق الأمر.

لكن الأول - كما ترى - لا يقتضي القدرة بعد النهي، ليتوهم منافاتها للبطلان.

على أنه لو اعتبرت القدرة على المتعلق حتى بعد النهي عنه، فلا ينافيها البطلان بناء على الأعم، لصدق العنوان المنهي عنه مع البطلان على المبنى المذكور.

وأما بناء على الصحيح فمتعلق النهي وإن لم يكن مقدوراً إلا مع الصحة، لتوقف عنوانه عليها، إلا أن متعلق النهي هو الصحيح لولا النهي، لا مطلقاً ولو بعد النهي، لتقدم الموضوع على حكمه رتبة، والظاهر أن المتعلق المذكور مقدور بعد النهي ولو صار فاسداً بسببه، فمثلاً: لو فرض توقف صدق الصلاة على الصحة، إلا أن متعلق النهي ليس هو إلا ما يصدق عليه الصلاة قبل النهي، وهو مقدور بعد النهي وإن خرج عن كونه صلاة لفساده.

ومنه يظهر اندفاع الثاني، لأن متعلق الأمر كمتعلق النهي ليس إلا ما

ص: 475

يصدق عليه العنوان مع قطع النظر عن حكمه وفي رتبةٍ سابقةٍ عليه، وهو لا ينافي صحته أو فساده في رتبة متأخرة عنه حتى لو كان العنوان متوقفاً على الصحة ويتوقف عليها صدقه، بل الأمر في العبادات أظهر بناء على توقف صحتها على الأمر، حيث لا يكون متعلق الأمر فيها هو الصحيح الفعلي لولا الأمر، بل هو الصحيح الاقتضائي لولاه، فمع كونه هو موضوع النهي لا ملزم بصحته. ومن ثم لا مجال للبناء على الكبرى المذكورة، ولا مخرج عما سبق.

الثاني: محل الكلام هو النهي التكليفي

الثاني: محل الكلام في العبادات والمعاملات هو النهي التكليفي عن نفس العبادة أو المعاملة المستتبع للعقاب عليهما، لا النهي الوارد للإرشاد لبطلان العمل وعدم إجزائه أو عدم نفوذه، كنهي المكلف عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه، وعن بيعه ما ليس عنده، حيث لا إشكال حينئذٍ في دلالته إثباتاً على الفساد، بل هو المفروض، مع استناد الفساد ثبوتاً لعدم تمامية الملاك، لا للنهي نفسه. كما أن النهي المذكور لا يقتضي التحريم التكليفي للعمل.

ومثله النهي عن ترتيب الأثر، كالنهي عن أكل الثمن، فإنه وإن أمكن أن يكون تكليفياً بالإضافة إلى ترتيب الأثر، إلا أنه لا يكون تكليفياً بالإضافة إلى إيقاع نفس الفعل ذي الأثر، بل لا يقتضي إلا الفساد فيه.

نعم قد يجتمع الأمران في العبادة أو المعاملة، فتكون محرمة تكليفاً وفاسدة وضعاً، كما هو الظاهر في الصلاة بلا وضوء والمعاملة الربوية. بل قد يظهر من أدلة بعض المعاملات أنها توجب شدة حرمة الثمن، بحيث يكون أكله أشد من أكل مال الغير بدون إذنه، كما هو الحال في المعاملة

ص: 476

الربوية.

لكنه خارج عن محل الكلام، ويتبع الدليل الخاص، ولا ضابط له، فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم ومنه نستمد العون والتوفيق.

انتهى الكلام في مبحث اقتضاء النهي الفساد، وبه ينتهي الكلام في باب الملازمات العقلية من قسم الأصول النظرية.

وكان ذلك ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول، للسنة الثالثة بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. في النجف الأشرف بيُمن الحرم المشرف على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

والحمد لله رب العالمين، وله الشكر على تيسير ذلك وتسهيله، ونسأله سبحانه إتمام النعمة بقبول العمل، وغفران الزلل، وصلاح الحال، وراحة البال، وحسن العاقبة في المبدأ والمآل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

كما انتهى تبييضه بعد تدريسه عصر الأربعاء السابع والعشرين من الشهر المذكور في النجف الأشرف، بيمنى مؤلفه الفقير، حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 477

ص: 478

المحتویات

ص: 479

ص: 480

الصورة

ص: 481

الصورة

ص: 482

الصورة

ص: 483

الصورة

ص: 484

الصورة

ص: 485

الصورة

ص: 486

الصورة

ص: 487

الصورة

ص: 488

الصورة

ص: 489

الصورة

ص: 490

الصورة

ص: 491

الصورة

ص: 492

الصورة

ص: 493

الصورة

ص: 494

الصورة

ص: 495

الصورة

ص: 496

الصورة

ص: 497

الصورة

ص: 498

الصورة

ص: 499

الصورة

ص: 500

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه: طباطبایی حکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان و نام پديدآور: المحکم في اصول الفقه/ تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

مشخصات نشر: دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

تعداد المجلدات 6ج

وضعیت فهرست نویسی: فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

يادداشت:این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است

یادداشت:کتابنامه

موضوع:اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/ط2م3 1376

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

الابتداء بتحرير هذه المطالب في المسودة مساء الثلاثاء غرة جمادى الأولى، سنة 1392 هجرية.

الابتداء بإلقاء هذه المضامين في مجلس الدرس ضحى الأحد السادس من شهر جمادى الأولى، سنة 1392 هجرية.

الابتداء بتبييض هذه المطالب في هذه الأوراق مساء الثلاثاء الخامس عشر من شهر جمادى الأولى، سنة 1392 هجرية. محمد سعيد الطباطبائي الحكيم

ص: 5

ص: 6

القسم الثاني: في الأصول المبتنية على العمل

اشارة

ص: 7

ص: 8

القسم الثاني: في الأصول المبتنية على العمل

وقد سبق في التمهيد لمباحث الأصول أن المراد بها الكبريات المبتنية على العمل والناظرة له، لابتنائها على التعذير والتنجيز وتحديد مواردهما، وهي مباحث الحجج والأصول العملية، في مقابل القسم الأول المبحوث فيه عن مدركات واقعية لا تتضمن العمل بنفسها، وإنما يترتب عليها لخصوصية موضوعها أو بضميمة أمرٍ خارجٍ عنها.

تمهيد

تمهيد: في حالات المكلف

اعلم أن من التفت إلى حكمٍ شرعيٍ فإما أن يحصل له القطع به أو بعدمه أو لا، وعلى الثاني فإما أن تقوم عنده الحجة المعتبرة عقلاً أو شرعاً عليه أو لا.

ولا إشكال في وجوب متابعة القطع في الصورة الأولى، ومتابعة الحجة في الثانية، وأما في الثالثة فإن دل دليل شرعي أو عقلي على وجوب الفحص عن الحكم أو الحجة تعين، ومع تعذر الفحص أو

استكماله أو عدم قيام الدليل على وجوبه، كان له الرجوع إلى الوظيفة العملية الشرعية أو

ص: 9

العقلية المقررة للجاهل، وهي المعبر عنها بالأصول في مصطلحهم.

ولا إشكال في شيءٍ من ذلك، إلا أن الذي ينبغي التنبيه عليه أمور..

تنبيهات:

الأول: الترتب بين القطع وما بعده عقلي

الأول: أن الترتب بين القطع وما بعده عقلي، لامتناع جعل الحجة أو الأصل مع القطع، لحجيته الذاتية. وأما الترتب بين الرجوع للحجة والرجوع للأصول فهو مبني على تقديم أدلة الحجج على أدلة الأصول بالحكومة أو الورود أو غيرهما، على ما يأتي الكلام فيه في شروط العمل بالأصل إن شاء الله تعالى.

الثاني: عدم الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره

الثاني: أنه لا فرق في موضوع الأقسام بين الحكم الإلزامي وغيره، كالاستحباب، ولا وجه للتخصيص بالأول - الذي هو المراد بالتكليف في كلامهم - لجريان الأقسام المذكورة في الجميع. ولاسيما مع عموم الغرض المهم - وهو الاستنباط - لها.

نعم، بعض الأصول العملية - كالبراءة - يختص بالحكم الإلزامي، إلا أنه لا يقتضي تخصيص التقسيم به بعد ما ذكرنا.

الثالث: أولوية التعميم لمطلق الملتفت للحكم الشرعي

الثالث: أن الأولى تعميم موضوع الأقسام المتقدمة لمطلق الملتفت - كما ذكرنا - وعدم تخصيصه بالمكلف - كما صنعه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - لعدم أخذ التكليف في رتبةٍ سابقةٍ على التقسيم، بل شرائط المكلف كسائر الأمور المعتبرة في الحكم الشرعي مما يمكن أن تكون مورداً للقطع أو الحجة أو الوظيفة العملية، فتجري الأقسام بلحاظها، فلو فرض الشك في التكليف للشك في ما يعتبر في البلوغ لجري فيه حكم الشك في التكليف من سائر الجهات بلا فرقٍ أصلاً.

بل قد تفرض الأقسام المذكورة مع العلم بعدم البلوغ بناءً على ما

ص: 10

عرفت من عموم موضوع التقسيم للأحكام غير الإلزامية، على ما هو الحق من اختصاص أدلة رفع القلم بها.

الكلام في تخصيص الموضوع بالمجتهد

وأما تخصيص الموضوع بالمجتهد - كما يظهر من بعضهم - فلا وجه له بعد جريان الأقسام في غيره، إذ العامي إن فرض حصول القطع له بالحكم الشرعي تعين عليه العمل به، وإلا فإن فرض قيام

الحجة عليه في حقه - ولو كانت هي فتوى المجتهد - تعين عليه العمل بها، وإلا تعين عليه ما يتعين على المجتهد في فرض فقد الحجة.

ومجرد تعذر الرجوع عليه لبعض الحجج أو لبعض الأصول - كالبراءة - لا يقتضي تخصيص التقسيم به، بل هو كتعذرها في بعض الموارد على المجتهد، لحصول الموانع له.

نعم، الغرض المهم في المقام لما كان هو استنباط الأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية كان الغرض المذكور في بعض الأقسام مختصاً بالمجتهد، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص التقسيم به، وإلا كان اللازم عدم التعرض للقطع، لعدم دخله في الغرض المذكور، كما سيأتي. مع أن الغرض من التقسيم الإشارة الإجمالية إلى المقاصد المبحوث عنها، لا التفصيلية المبنية على التدقيق، بل هي موكولة إلى حين الدخول في المقاصد. وبهذا يظهر أنه لا حاجة في التعميم إلى ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من دعوى إمكان حصول الصفات في حق بعض العوام ممن له خبرة بالأدلة وإن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد. كما يمكن رجوعه للأدلة الاجتهادية والأصول العملية بتوسط فحص المجتهد، حيث إنه ينوب عنه في ذلك.

على أن ما ذكره لا يخلو في نفسه عن الإشكال، على ما قد يتضح في

ص: 11

بعض المباحث الآتية.

كما يظهر أنه لا حاجة إلى تخصيص موضوع التقسيم بالأحكام الكلية، بل يجري في الأحكام الجزئية التي يلحقها العلم والجهل بسبب العلم بتحقق الموضوع في الخارج والجهل به، وإن اختص الغرض بالأحكام الكلية.

الرابع: سبب جعل المدار في القسمين الأخيرين على قيام الحجة

الرابع: إنما جعلنا المدار في القسمين الأخيرين على قيام الحجة المعتبرة وعدمه - كما جرى عليه المحقق الخراساني (قدس سره) - لا على الظن والشك - كما جرى عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) - لعدم خصوصية الظن والشك في الأحكام المذكورة لهما. إذ موضوع الحجية لا يختص بالظن، بل قد يكون أموراً أخر قد لا توجب الظن بل تجتمع معه تارةً، ومع الشك - بل الوهم - أخرى.

كما أن موضوع الأصول العملية لا يختص بالشك، بل يعم صورة وجود الظن غير المعتبر، وليس موضوعها إلا عدم الحجة على الحكم الواقعي، كما ذكرنا.

ودعوى: أن المراد بالظن هو النوعي المعتبر، لا مطلق الظن الشخصي. كما ترى! تلاعب بالألفاظ، إذا لا معنى لحجية الظن النوعي.

بل غاية ما يقال: إن الحجة ما من شأنه أن يفيد الظن وإن لم يفده فعلاً. وهو - مع عدم تماميته، لامكان حجية ما ليس من شأنه أن يفيد الظن - راجع في الحقيقة إلى أن المدار على الحجية، لا على الظن.

توجيه العراقي (قدس سره) لتثليث الأقسام في كلام الشيخ (قدس سره)

نعم، ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن تثليث الأقسام بالوجه المذكور في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) إنما هو بلحاظ خصوصيات الأقسام المذكورة من حيثية وجوب الحجية وإمكانها وامتناعها، لا بلحاظ كونها

ص: 12

موضوعاً للحجية الفعلية وعدمه، فالقطع حيث كان تام الكشف وجبت حجيته عقلاً، والظن حيث كان فيه نحو نقص في الكاشفية أمكن حجيته بجعل الشارع، والشك حيث لم يكن فيه كشف أصلاً امتنعت حجيته.

مناقشة التوجيه المذكور

وفيه.. أولاً: أن شيخنا الأعظم (قدس سره) وإن أشار إلى ذلك في مبحث البراءة، إلا أنه لم يتضح منه كون التقسيم بلحاظه، بل ظاهره كون التقسيم بلحاظ الحجية وعدمها فعلاً، ولذا ذكر أن الظن الذي لم يدل على اعتباره دليل بحكم الشك.

وثانياً: أنه لا يظهر الوجه في امتناع جعل الحجية للشك، لأن الظاهر أن المعيار في الحجية في باب الطرق والأمارات ليس هو الكشف الذاتي الناقص في الأمارة، ليختص بالظن ولا يجري في الشك، بل المعيار فيها لسان الجعل والتعبد، فإن كان مبنياً على اعتبار الشيء طريقاً إلى الواقع كان حجةً، وإن كان شكاً، بل وهماً. وإن كان مبنياً على محض التعبد بالعمل من دون نظر إلى الواقع ولا كشف عنه كان أصلاً وإن كان ظناً، كما اعترف بالأخير شيخنا الأعظم (قدس سره) في خاتمة الاستصحاب.

وثالثاً: أن ما يقبل الحجية قد لا يكون هو الظن أو الشك، بل أمراً آخر، يقارن أحدهما أو كلاً منهما، كخبر الواحد، فلا يكون التقسيم مستوفياً للأقسام، بخلاف ما ذكرنا.

الخامس: اختصاص الرجوع للأصول العملية في صورة عدم الدليل مع وجوب الفحص

الخامس: أنه قد يظهر منهم في تحرير التقسيم أنه مع عدم الحجة المعتبرة ينحصر الأمر بالرجوع للأصول العملية، وليس الأمر كذلك، بل هو مختص بما إذا لم يدل الدليل على وجوب الفحص عن الواقع أو الحجة - كما في مورد أصالة التخيير مطلقاً، وفي غيره في العبادات بناءً على لزوم

ص: 13

نية الوجه مع الإمكان فيها - فإن الدليل المذكور يكون مانعاً من الرجوع للأصول العملية. ومن ثم كان ما ذكرنا في بيان حكم الصورة الثالثة أولى.

السادس: سبب عدم اختصاص الكلام في تشخيص موضوع القطع

السادس: أن الكبرى المذكورة في التقسيم المتقدم حيث كانت بديهيةً - لما سيأتي من بداهة وجوب متابعة القطع، وكذا الحجة والأصل العملي في موردهما، لأنه مقتضى جعلهما - فالمهم تشخيص موضوعها وصغرياتها، وحيث كان تشخيص موارد القطع وضبطها متعذراً، لأنه أمر حقيقي تابع لأسبابه التكوينية غير المنضبطة، لم يقع مورداً للكلام في المقام، واختص الكلام بتشخيص الحجج ومفاد الأصول العملية ومواردها، ليرجع إليها مع عدم القطع، فإنها لما كانت تابعةً لجعل الشارع وحكم العقل تيسر ضبطها، تبعاً لما يستفاد من أدلتها.

البحث في مقامين

ومن هنا كان الغرض المقصود بالأصل للأصولي - الباحث عن طرق استنباط الأحكام الشرعية الواقعية التي هي مفاد الحجج، والظاهرية التي هي مفاد الأصول - البحث في مقامين..

الأول: في مباحث الحجج.

الثاني: في مباحث الأصول العملية شرعيةً كانت أو عقليةً.

كما أن المناسب لهذا القسم من مباحث الأصول التعرض هنا لبعض المباحث المتعلقة بالقطع، تبعاً لغير واحدٍ لأنه مثلها في الحجية ولزوم المتابعة.

وبعض هذه المباحث ليس مختصاً بالقطع، بل يعم غيره من الحجج والأصول، لكن لا من حيثية تشخيص مواردها - الذي هو الغرض الأصلي للمقام، كما عرفت - بل بلحاظ الأحكام اللاحقة

لها في ظرف قيامها

ص: 14

وجريانها، كالبحث عن التجري، وعن مقتضى العلم الإجمالي، وتقسيم القطع إلى الطريقي والموضوعي، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

ومن ثم كان المناسب جعلها مقدمةً للمقصدين المذكورين لارتباطها بهما.

كون التقسيم المتقدم هو الأنسب بمقاصد الكتاب

ومما ذكرنا ظهر أن التقسيم بالوجه المتقدم هو الأنسب بمقاصد الكتاب، لتضمنه الإشارة الإجمالية لموضوعات مباحث المقصدين المذكورين والمقدمة، بخلاف ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في أول كلامه من تثنية الأقسام، حيث ذكر أن المكلف إذا التفت إلى حكمٍ فعليٍ واقعيٍ أو ظاهري، فإما أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن الانسدادي أو الأصول العقلية.

فإن التقسيم المذكور وإن كان عقلياً، إلا أنه لا فائدة فيه، لعدم تضمنه الإشارة الإجمالية للمقاصد المبحوث عنها، لوضوح أن القسم الأول جامع بين مباحث القطع والحجج وأهم الأصول العملية، وهي الأصول الشرعية. فلا يتأدى بذلك الغرض المهم من التقسيم.

وأما مباحث التعارض فقد جعلها بعض المعاصرين في أصوله خاتمة لمباحث الحجج.

ولا يخفى أن بعض أحكام التعارض لا يختص بالحجج، بل يجري في الأصول أيضاً، مثل مقتضى الأصل في المتعارضين. وبعضها يختص بخصوص الإخبار من الحجج، كالتخيير - بناءً على ثبوته - والمرجحات المنصوصة، فلا وجه لجعله من لواحق مباحث الحجج.

كما لا وجه لجعله خاتمة للمقصدين الباحثين في الحجج والأصول،

ص: 15

لأنه ليس خارجاً عن المقصد المهم حتى يجعل خاتمةً لهما، بل هو بحث في شؤون الحجج والأصول وشروط فعلية الحجية والتعبد. ولذا كانت مسائله كبريات في الاستنباط.

ومن ثم كان الأنسب جعله في مقصدٍ مستقلٍ، كما صنعه المحقق الخراساني (قدس سره).

حاصل تقسيم المباحث

وعلى هذا يكون البحث في قسم الأصول الناظرة لمقام العمل في مقدمة ومقاصد ثلاثة..

أما المقدمة ففي أحكام القطع وأقسامه.

وأما المقاصد الثلاثة..

فالأول: في مباحث الحجج.

والثاني: في الأصول العملية.

والثالث: في التعارض.

ونسأله تعالى العون في الجميع والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 16

مقدمة

في أحكام القطع وأقسامه، وفيها فصول..

الفصل الأول: في حجية القطع

اشارة

والحجية.. تارة: يراد بها محض لزوم المتابعة في مقام العمل.

وأخرى: يراد بها المنجزية المستلزمة لاستحقاق العقاب بالمخالفة، والمعذرية المستلزمة للأمان منه مع الموافقة ولو مع الخطأ وعدم الوصول للواقع.

ويظهر من بعض كلماتهم في المقام التلازم بين الأمرين، بل الخلط بينهما، وإن صرحوا بعدم الملازمة في غير المقام، بل أشار بعضهم إلى ذلك في المقام.

ولأجل ذلك ينبغي الكلام في مقامين..

الكلام في مقامين: الأول: في وجوب متابعة القطع

المقام الأول: في وجوب متابعة القطع في مقام العمل ولعله المهم في المقام، ولا يخفى أن كلمات الأعلام وإن تطابقت على ذلك، إلا أنهم قد

ص: 17

اختلفوا في تقريبه.

ولعل الأولى أن يقال: بعد فرض كون الواقع الذي يتعلق به القطع مورداً لعمل المكلف إلزاماً كان أو غيره، فمن البديهي أنه بنفسه لا يقتضي فعلية العمل، لأن العمل من الأمور التابعة للاختيار المنوط بالالتفات للجهات المقتضية له. أما بعد فرض الوصول للواقع والالتفات إليه فلا معنى للتوقف عن العمل على ما يقتضيه. وحيث كان القطع بنفسه وصولاً للواقع فلابد من متابعته، لتحقق موضوع العمل وشرطه.

وبذلك تكون متابعته مقتضى ذاته ولا تحتاج لجعل من الشارع، بل يكون جعله لغواً، لعدم استناد الأثر إليه، كما لا تحتاج إلى حكم العقل زائداً على مقتضى الذات.

وهذا بخلاف غيره من الطرق، فإنها لما لم تكن بنفسها وصولاً للواقع، ولا سبباً للوصول له توقف وجوب متابعتها على أمرٍ خارجٍ عنها، وهو حكم العقل بها زائداً على ذاتها، أو الجعل الشرعي لها، فيترتب العمل على جعلها ولا يكون لاغياً.

كما أنه لا مجال للردع عن متابعة القطع، إذ عدم متابعته إن كان لعدم كون الواقع مورداً للعمل، فهو خارج عن محل الكلام، إذ المفروض عدم تصرف الشارع في الحكم المعلوم برفعه أو نسخه. وإن كان لعدم كونه وصولاً للواقع، فلا معنى له، إذ القطع عين الوصول للواقع، وبه قوام ذاته. وإن كان لاعتبار أمرٍ آخر في فعلية العمل بالواقع زائد على وصوله فهو خلاف المرتكزات الأولية. النظرية غير المختصة بالإنسان، بل كل ذي شعورٍ لا يحتاج في ترتيب الأثر على الواقع إلى أكثر من وصوله.

ص: 18

ولو فرض منه عدم ترتيب الأثر عليه بوصوله فليس ذلك لكون الوصول بنظره غير كافٍ في فعلية العمل، بل لقصور الواقع عن مقام العمل، إما لعدم كونه مقتضياً له بنظره، أو لكونه مزاحماً بما يمنع عن تأثيره من شهوةٍ أو غضبٍ أو نحوهما.

ومن ثم تكون المخالفة مع العلم للواقع المعلوم، لا للعلم نفسه، بل لا يلتفت للعلم في مقام العمل، ويكون مغفولاً عنه حينه.

اختلاف القطع عن سائر الحج المجعولة

وهذا بخلاف غيره من الحجج المجعولة، فإن المخالفة معها..

تارةً: تكون ناشئةً من عدم الاعتناء بالواقع الذي قامت عليه.

وأخرى: تكون ناشئةً من عدم الاعتناء بالحجة نفسها وتجاهل دليل حجيتها دون أن يصل إلى الواقع الذي قامت عليه.

وقد ظهر بما ذكرنا أمور ينبغي الالتفات إليها..

لابد من الالتفات إلى أمور: الأول ما يقال: من أن القطع طريق إلى الواقع

الأول: أن ما في بعض كلماتهم من أن القطع طريق إلى الواقع لا يخلو عن تسامحٍ أو إشكال، فإن الطريق ما يكون سبباً للوصول للواقع، وليس القطع كذلك، بل هو بنفسه وصول له.

نعم، سبب القطع قد يكون طريقاً للواقع، لابتنائه على بيانه والكشف عنه، كالخبر المتواتر، وقد لا يكون كذلك، كما في الأسباب التكوينية الموجبة لحصول القطع بطريق الإلهام ونحوه.

الثاني: متابعة القطع ليست ناشئة من حكم العقل بها

الثاني: أن متابعة القطع ليست ناشئة من حكم العقل بها، المبتني على التحسين والتقبيح، إذ لا جهة تقتضي حسن متابعة القطع وقبح مخالفته، بل هو - كما عرفت - مغفول عنه حين العمل.

ص: 19

كما لا تكون ناشئةً من إلزام العقل به بملاك دفع الضرر، إذ ذلك موقوف على الالتفات لمنشأ الضرر حين العمل، وقد عرفت الغفلة عن القطع في مقام العمل. بل هي ناشئة من كون القطع بذاته محققاً لشرط الاختيار، وهو الالتفات للجهات المقتضية للعمل، كما سبق.

ومن ثم كانت نسبة الوجوب للمتابعة غير خالية عن المسامحة، والمراد بذلك مجرد اللابدية التكوينية التابعة للذات.

نعم، كون الواقع المعلوم مورداً للعمل قد يكون بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح العقليين، كما في وجوب شكر المنعم وقبح الظلم، وقد يكون بملاك لزوم دفع الضرر، الذي قد يكون معلوماً، كما في شرب ما يعلم كونه سماً وقد يكون محتملاً، كما في موارد التكاليف الشرعية، حيث إن مخالفتها توجب استحقاق العقاب، لا فعليته، لإمكان العفو.

الثالث: موضع الآثار العملية هو الواقع

الثالث: أن موضوع الآثار العملية من حسن العمل أو قبحه هو الواقع المقطوع به، لأنه موطن الأغراض والملاكات المقتضية للحسن والقبح، ولذا لا يكون القطع مأخوذاً في الكبريات العقلية، بل موضوعها الواقع بنفسه وليس القطع إلا شرطاً في فعلية العمل، لكونه محققاً لشرط تعلق الاختيار به، فهو شرط في ترتيب العمل على الصغرى، لا شرط في موضوع الكبرى.

نعم، حيث كان العمل في الصغرى تابعاً للاختيار، وكان الاختيار منوطاً خارجاً بالالتفات للجهات المقتضية للعمل - كما ذكرنا - كان العمل تابعاً للقطع بنفسه وإن لم يصب الواقع، بل كان جهلاً مركباً، لتحقق شرط الاختيار به، وبهذا يكون القطع دخيلاً في الحسن والقبح الفاعليين المستتبعين لفعلية المدح والذم، والمسببين عن العمل على طبق مقتضى

ص: 20

الحسن والقبح الفعليين وعن مخالفته.

كأن هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في المقام، وإن كان تقرير كلامه قد يوهم خلاف ذلك، وأن القطع هو تمام الموضوع للحسن والقبح الفعليين في الكبرى.

وهو كما ترى! لأن أخذه في الكبرى مستلزم لأخذه في الصغرى لينطبق موضوع الصغرى على موضوع الكبرى، وقد عرفت أنه مغفول عنه في مقام العمل، وليس الالتفات إلا للواقع المقطوع به، وهو الذي يكون موضوع الملاك والغرض.

الرابع: عدم صحة إطلاق الحجة على القطع

الرابع: أنه لا مجال لإطلاق الحجة على القطع بالإضافة إلى الأحكام الشرعية، لا بالمعنى المنطقي، ولا بالمعنى الأصولي.

أما الأول فلأن الحجة بالمعنى المنطقي هي الأوسط القياسي، والقطع بالحكم لم يؤخذ في موضوع الكبريات الشرعية، لاستحالة تقييد الحكم بالعلم به. وأما القطع بالموضوع - كالخمر - فهو غير مأخوذٍ في موضوع الكبريات الشرعية أيضاً، لأن الكلام في القطع الطريقي، لا الموضوعي.

وأما الثاني فلأن الحجة بالمعنى الأصولي هي ما يوجب إثبات متعلقه في مقام العمل، بحيث يصح الاعتماد عليه في الحكم به، كما في الطرق والأمارات القائمة على الأحكام والموضوعات، ولا يصدق ذلك على القطع، لما عرفت من أنه عين وصول الواقع وانكشافه للنفس، فهو مغنٍ عن طلب الحجة رافع لموضوعها.

وبعبارةٍ أخرى: الحجة في مقام العمل هي التي يكون العمل مبتنياً عليها، بحيث يعتمد عليها في مقام إحراز موضوعه، وذلك لا يجري في

ص: 21

القطع، لما عرفت من أنه لما كان عبارة عن الوصول للواقع، كان النظر في مقام العمل للواقع لا غير، ولم يكن القطع ملتفتاً إليه حينه أصلاً.

نعم، قد يطلق على القطع الحجة بالمعنى العرفي، الراجع إلى كون الشيء منجزاً ومعذراً. ويأتي الكلام فيه في المقام الثاني.

الخامس: خروج هذه المسألة عن المسائل الأصولية

الخامس: أن هذه المسألة خارجة عن المسائل الأصولية، إذ المعيار في المسألة الأصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي، لكونها إحدى مقدمات القياس المنتج له، وقد عرفت أن القطع بنفسه وصول للحكم، وليس هو مقدمة للوصول إليه واستنباطه، فهو عبارة عن العلم بالنتيجة المغني عن تكلف القياس المنتج لها.

وأما متابعته فهي من آثاره اللاحقة له بذاته والتي لا دخل لها بالاستنباط بوجه، بل هي كوجوب متابعة الحكم المستنبط، الذي لا يكون مقدمة لاستنباطه.

تنبيه

تنبيه: الكلام في استحالة ردع الشارع

استدل غير واحدٍ تبعاً لشيخنا الأعظم (قدس سره) على وجوب متابعة القطع واستحالة ردع الشارع عنها، بأن ردع الشارع عن العمل به مستلزم للتناقض في الواقع أو في نظر القاطع، لأن المكلف إذا

حصل له القطع بحرمة الفقاع - مثلاً - فنهي الشارع له عن العمل بقطعه وترخيصه في ارتكابه موجب للتناقض واقعاً أو في نظره بين الحكم الذي قطع به والترخيص الشرعي المذكور.

وفيه.. أولاً: أن بطلان التناقض لم يبلغ إلا مرتبة القطع، فالاستدلال

ص: 22

به موقوف على حجية القطع، فكيف يكون دليلاً على حجيته؟.

وبعبارةٍ أخرى: الغرض من الاستدلال إيصال الواقع المستدل عليه للذهن وتصديقه به، فإذا لم تكن متابعة الواقع الواصل - التي هي عبارة عن حجية القطع - بديهيةً غنيةً عن الاستدلال لم ينفع الاستدلال في مورد.

ولو أمكن ردع الشارع عن حجية العلم فكما يمكن ردعه عن حجية العلم بالحكم الشرعي كذلك يمكن ردعه عن حجية العلم بامتناع الردع المذكور الحاصل من الاستدلال بالتناقض. فتأمل جيداً.

وثانياً: أن الردع عن العمل بالقطع لا يرجع إلى الترخيص على خلاف الواقع المقطوع به، بل مجرد الحكم بعدم حجيته، وذلك لا يناقض الحكم الواقعي المقطوع به بوجه. نظير الحكم بعدم حجية الظن، فإنه لا يكون راجعاً إلى الترخيص على خلاف الحكم المظنون، حتى يستلزم الظن بالتناقض، الذي هو ممتنع كالعلم به.

نعم، يستفاد الترخيص من الحجج أو الأصول الشرعية التي تجري مع عدم الحجة. وذلك مشترك بين العلم والظن وغيرهما.

توجيه ما يندفع به الإشكال المذكور

ومن ثم أشكل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. والوجه الذي يندفع به الإشكال المذكور إنما لا يجري في صورة القطع لفرض حجيته ذاتاً بنحوٍ يمتنع التعبد بالحكم الظاهري معه، فمع الفرض المذكور لا حاجة للاستدلال على الحجية بلزوم التناقض، وبدونه لا محذور في التناقض بين الحكم الواقعي والظاهري، كما هو الحال في صورة الظن.

على أن ذلك إنما يمنع من الرجوع للأصول الشرعية، لا العقلية، فإنها لا تقتضي حكماً شرعياً مناقضاً أو مضاداً للحكم الواقعي، بل لا تتضمن إلا

ص: 23

الوظيفة العقلية عند عدم الحجة.

وبالجملة: لزوم متابعة القطع أوضح من أن يستدل عليه بمثل ذلك.

المقام الثاني: في منجزية القطع

المقام الثاني: في منجزية القطع ومعذريته.

ولا إشكال عندهم في ثبوتهما للقطع في الجملة. لكن لا يبعد كون موضوع المعذرية والمنجزية أمراً آخر يجتمع مع القطع تارةً، ومع عدمه أخرى، ولا خصوصية للقطع فيهما.

بيان ذلك: أن الظاهر أن ملاك المعذرية بحسب المرتكزات العقلائية هي امتناع داعوية الحكم الواقعي، فإن وجود الحكم الواقعي لا يصلح بنفسه منشأ للمسؤولية، بنحوٍ يكون منجزاً في حق المكلف، ما لم يكن بنحوٍ يصلح لأن يدعو المكلف إلى موافقته، فإذا كان بنحوٍ يمكن أن يكون داعياً للمكلف كان منجزاً، أما لو امتنعت داعويته فلا يكون صالحاً للتنجز، بل لابد من الحكم بالمعذرية حينئذٍ.

موارد امتناع داعوية الحكم الواقعي

إذا عرفت هذا، فامتناع داعوية الحكم الواقعي بنحوٍ لابد معه من المعذرية بالإضافة إليه يكون..

تارةً: مع القطع بخلاف الحكم الواقعي لا عن تقصير.

وأخرى: مع قيام الحجة على خلافه.

وثالثةً: مع وجود الأصل المؤمن منه.

ورابعةً: مع الغفلة المطلقة لا عن تقصير.

إذ في الصورة الأولى والرابعة تمتنع داعويته بسبب تعذر الالتفات إليه، لما هو المعلوم من توقف داعوية الداعي على الالتفات إليه.

ص: 24

وفي الصورة الثانية والثالثة وإن كان احتمال التكليف والالتفات إليه متحققاً، إلا أن الاحتمال لا يكفي في الداعوية مع وجود المؤمن والمرخص في إهمال التكليف المحتمل، كما لا يخفى.

كما أن إمكان داعوية الحكم الواقعي يكون..

تارةً: مع القطع به.

وأخرى: مع قيام الحجة عليه.

وثالثةً: مع قيام الأصل الملزم بمراعاة احتماله.

ورابعةً: مع القطع بخلافه عن تقصير.

وخامسةً: مع الغفلة المطلقة عنه عن تقصير.

إذ في الصور الثلاث الأُوَلْ يكون الواقع بالغاً مرتبة الداعوية الفعلية. وفي الصورتين الأخيرتين وإن لم يكن كذلك، لفرض عدم احتمال التكليف الذي هو شرط في فعلية داعويته، إلا أنه لما كان المفروض أن عدم احتمال التكليف ناشئ عن التقصير، بحيث لولاه لكان احتمال التكليف بنحوٍ منجزٍ متيسراً كان ذلك راجعاً إلى إمكان داعوية التكليف ذاتاً، وتعذرها مستند إلى المكلف نفسه ومسبب عن تقصيره، فلا يكون مانعاً من منجزيته في حقه.

على أن الحكم وإن لم يلتفت إليه بعنوانه تفصيلاً في الصورتين المذكورتين، إلا أن فرض التقصير مستلزم للالتفات إليه إجمالاً، لأن التقصير إنما يكون مع الالتفات إلى وجود أحكام في الشريعة يجب الخروج عنها والفحص مقدمةً لذلك ولو بنحو الالتفات، ومثل هذا الالتفات الإجمالي للحكم كافٍ في صلوحه للداعوية وفي تنجزه. فلاحظ.

ص: 25

ومما ذكرنا يظهر أن المنجزية ملازمة للقطع كوجوب المتابعة، إذ التنجيز إنما يفرض مع إصابة القطع للواقع، ومعه يكون الواقع داعياً بالفعل لوصوله، أما المعذرية فهي مختصة بما إذا لم يكن ناشئاً عن تقصير، كما أشار إلى ذلك المحقق الخراساني (قدس سره) هنا. فتأمل جيداً.

الكلام في مقامين:

ص: 26

الفصل الثاني: في التجري

اشارة

وقع الكلام بينهم في استحقاق العقاب بمخالفة القطع مع خطئه بعد الفراغ عن الاستحقاق بها مع إصابته. وكلام شيخنا الأعظم (قدس سره) هنا مضطرب في تحديد محل النزاع، إلا أن من تأخر عنه قد فصل الكلام في الجهات التي يمكن أن تقع مورداً للنزاع في المقام.

ما يستفاد منهم في موارد الكلام

والمستفاد منهم أن الكلام..

تارةً: في أن ما يقطع بكونه مورداً للتكليف مورد له واقعاً، فإذا قطع بحرمة شيءٍ كان حراماً شرعاً، وإذا قطع بوجوب شيءٍ كان واجباً كذلك، ففعل الأول وترك الثاني يكونان معصيةً حقيقيةً، فيستحق عليهما العقاب.

وأخرى: في كون نفس التجري - وهو القصد للمعصية في ظرف الجري عليها بفعل ما يعتقد كونه معصيةً - محرماً شرعاً، من دون أن يكون نفس الفعل المتجري به محرماً.

وثالثةً: في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي، بدعوى: أن منشأ استحقاق العقاب لا يختص عقلاً بالمعصية الحقيقية.

ولأجل ذلك كان اللازم الكلام في الوجوه الثلاثة في مقامات ثلاثة..

ص: 27

المقام الأول: في تحقيق حال عمل المكلف

المقام الأول: في تحقيق حال عمل المكلف الذي يكون به التجري، وأنه هل يكون محرماً شرعاً أو لا؟ وقد يوجه تحريمه بوجوه..

الوجه الأول: في توجيه المقام

الوجه الأول: أن الخطابات الأولية بالتكاليف الشرعية الواردة على العناوين الخاصة - كالخمر والصلاة وغيرهما - لا تختص بالمعنونات الواقعية، بل لابد من صرفها إلى ما يعتقد بانطباق العناوين عليه وإن كان خطأً، فيكون مورد التجري مشمولاً لإطلاق الأدلة المذكورة أو عمومها.

دعوى: لابد من تعلق التكليف بما هو مقدور

وقد يستفاد مما ذكره غير واحدٍ توجيه ذلك بدعوى: أن التكليف لابد أن يتعلق بما هو مقدور للمكلف، بنحوٍ يقتضي توجه الاختيار والإرادة نحوه، فالمطلوب الأصلي للمولى توجه اختيار المكلف وإرادته نحو الفعل، وحيث كان تمام الموضوع للإرادة والاختيار هو الصور الذهنية الحاصلة حين القطع - ولو مع الخطأ - لا المعنونات الواقعية، لعدم السنخية بينها وبين الاختيار والإرادة اللذين موطنهما النفس، فيمتنع تأثيرها فيهما، لزم صرف التكليف بالعناوين الواقعية إلى التكليف بالاختيار المتعلق بالصور الذهنية الحاصلة مع القطع، فمرجع التكليف بحرمة الخمر - مثلاً - إلى تحريم اختيار ترك ما يقطع بكونه خمراً، كما أن مرجع التكليف بوجوب الصلاة - مثلاً - إلى التكليف باختيار فعل ما يقطع بكونه صلاةً، سواءً كان القطع مصيباً أم مخطئاً.

مناقشة الدعوى المذكورة

وفيه.. أولاً: أنه مختص بما إذا كان الخطأ في الموضوع الثابت له الحكم، كالخمر، ولا يجري فيما لو كان الخطأ في أصل ثبوت الحكم، كما لو قطع خطأً بحرمة عصير الزبيب مثلاً، إذ لا إطلاق في البين، حتى يتوهم عمومه لحال الخطأ.

ص: 28

وثانياً: أنه مستلزم لعدم تحقق الامتثال لو فرض موافقة التكليف غفلةً من دون إعمال الإرادة والاختيار - نظير ما قيل من أن النهي يقتضي الكف لا مجرد الترك - ولإجزاء ما يقطع خطأً بأنه من أفراد الواجب - كما نبه له بعض مشايخنا - ولترتيب بقية آثار العنوان الذي هو مورد التكليف، كالحد والكفارة ونحوهما مما يساق في الأدلة مساق التكليف بالعنوان، إذ لا مجال للتفكيك بين الآثار المذكورة والتكليف في الموضوع مع سوقها في الأدلة في مساقٍ واحدٍ، فتأمل.

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على ذلك.

على أنه لا يرجع إلى حرمة الفعل المتجري به شرعاً، كما هو المدعى في تحرير محل الكلام، بل إلى حرمة اختياره شرعاً كاختيار الترك في مورد الإصابة، من دون أن يحرم نفس الفعل الخارجي في مورد الإصابة أو الخطأ.

وثالثاً: أنه لا وجه لصرف التكليف بالعنوان إلى التكليف بالاختيار والإرادة المتعلقين به، فإن توقف التكليف على القدرة لا يقتضي إلا التكليف بالواقع في ظرف كونه مقدوراً، لا التكليف باختياره وإرادته.

دعوى: أن الغرض من التكليف إحداث الداعي

نعم، قد يقال: إن الغرض من التكليف إحداث الداعي في نفس المكلف ليختار ما كلف به، فالمطلوب للآمر هو الاختيار، لأنه الغرض من التكليف.

مناقشة الدعوى المذكورة

وفيه: أن كون الاختيار داعياً للتكليف وغرضاً منه لا يقتضي كونه مطلوباً للآمر، بحيث يكون هو المكلف به، بل هو نظير تخويف المكلف الذي قد يكون غرضاً من الخطاب، وليس المطلوب إلا العنوان الواقعي الذي جعل في الأدلة مورداً للتكليف.

ص: 29

وبعبارةٍ أخرى: حدوث الداعي في نفس المكلف واختياره لما كلف به مما قد يترتب تكويناً على التكليف، لا أنه هو المكلف به.

على أن ما اشتهر من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي لا أصل له، كيف وقد يعلم المولى بعدم حدوث الداعي في نفس المكلف، لكونه في مقام التمرد عليه، وذلك لا يمنعه من تكليفه له، الناشئ من إرادته التشريعية المتقومة بجعل السبيل، وإنما يكون إحداث الداعي غرضاً فيما لو كانت الإرادة التشريعية ناشئةً من الإرادة التكوينية للفعل المطلوب. فهو من لوازم الإرادة التكوينية، لا التشريعية التي يتقوم بها التكليف.

والتحقيق: أن الغرض من التكليف هو إحداث الداعي العقلي بمعنى داعوية العقل للفعل أو الترك لا حدوث الداعي الفعلي في نفس المكلف.

وبالجملة: لا مجال لتوهم كون موضوع التكليف هو الاختيار والإرادة مع منافاته لظهور الأدلة في كون المكلف به هو العناوين الحاكية عن المعنونات الواقعية التي هي موضوع الأغراض والآثار، وبها تقوم الملاكات الموجبة للتكليف.

بل لولا ذلك لما تعلق اختيار المكلف بالعناوين المذكورة، لوضوح أن الداعي لتعلق الاختيار بها هو امتثال التكليف بها، المستلزم لكونها بأنفسها موضوعاً له، ولو كان موضوعه الاختيار نفسه لكان اللازم تعلق الاختيار بالاختيار مقدمةً لامتثال التكليف به، ولا يكفي اختيار واحد متعلق بالعناوين المذكورة مع عدم التكليف بها، وهو كما ترى!

ورابعاً: أن كون المكلف به هو الاختيار والإرادة لا يستلزم عمومه لما إذا كانا واردين في مورد الخطأ، فإن تبعيتهما للصور الذهنية ليس بمعنى

ص: 30

كونها موضوعاً لهما بحيث يتعلقان بها تعلق العَرَض بموضوعه، لوضوح أن الصور الذهنية ملحوظةً عبرةً للموجودات الخارجية المطابقة لها وحاكية عنها، فالمتعلق هو الموجودات الخارجية، بل بمعنى أنهما مسببان عن الصور الذهنية، لما تقدم من توقف الاختيار على الالتفات للجهات المقتضية له، وذلك لا ينافي اختصاص التكليف بالاختيار والإرادة بخصوص ما كان منها مصيباً للمعنونات الواقعية.

وجها المراد من الاختيار

بيان ذلك: أن المراد بالاختيار..

تارةً: يكون محض القصد القائم بالنفس المقارن للفعل.

وأخرى: يكون هو إعمال القدرة والإرادة في الفعل الخارجي، فهو عبارة عن إضافة قائمة بين الفاعل وفعله منتزعة عن قيامه به عن التفات إليه.

أما الأول فهو حاصل بنحوٍ واحدٍ في صورتي الخطأ والإصابة، فكما يكون شارب الخمر الحقيقي قاصداً لشرب الخمر، كذلك يكون شارب ما يعتقد خطأ أنه خمر.

وأما الثاني فحيث كان أمراً إضافياً قائماً بموضوعه الخارجي، فصدقه تابع لتحقق موضوعه واقعاً، فمن شرب الماء المقطوع الخمرية لا يصدق أنه اختار شرب الخمر، بل هو قد اختار شرب الماء الذي يعتقد أنه خمر.

وحينئذٍ نقول: الدليل المتقدم - لو تم - لا يقتضي صرف التكليف للأمر الأول، بل للأمر الثاني، لأنه المناسب لأخذ القدرة في التكليف حيث يكون الموضوع الأفعال الخارجية، ولما هو المعلوم من قيام الملاكات بالأمور الخارجية، وعليه لا يكون موضوع التكليف إلا الاختيار المتعلق بالمعنونات الواقعية غير الحاصل في مورد التجري.

ص: 31

نعم، لو استفيد من الأدلة أن متعلق الاختيار هو الأمور الخارجية التي يقطع بثبوت العناوين لها ولو كان خطأً كان اللازم العموم لمورد التجري. لكنه خلاف ظاهر الأدلة، لظهورها في أن المدار على الواقع.

وبالجملة: ظاهر الأدلة أن الموضوع هو المعنونات الواقعية، سواءً كانت بأنفسها موضوعاً للتكليف - كما هو الحق - أم كانت موضوعاً للاختيار الذي هو موضوع التكليف - كما يدّعيه المستدل - وهو لا يقتضي عموم التكليف لمورد التجري.

فالإنصاف: أن الوجه المذكور في غاية السقوط ولولا تعرض غير واحدٍ من الأكابر له لما أطلنا الكلام فيه، وإن كنا قد تابعناهم في كثيرٍ مما ذكروه في رده.

الوجه الثاني من وجوه توجيه التحريم

الوجه الثاني: أن الأحكام الأولية وإن اختصت - تبعاً لأدلتها - بالمعنونات الواقعية، إلا أن القطع بحرمة شيءٍ موجب لحدوث مفسدةٍ فيه تقتضي حرمته بعنوان ثانوي، كما أن القطع بوجوب شيء يوجب حدوث مصلحةٍ فيه تقتضي وجوبه بعنوان ثانوي أيضاً.

مناقشة الوجه المذكور

وفيه: أن حدوث ملاك مغاير للملاك الواقعي بسبب القطع بالحكم الشرعي إن كان يعم القطع المصيب للواقع لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة، ولا يظن من أحدٍ الالتزام بذلك. بل يلزم التسلسل في الأحكام الشرعية، إذ كل قطعٍ محدثٍ للحكم تبعاً له وموجب للقطع به إلى ما لا نهاية.

وإن كان مختصاً بالقطع غير المصيب للواقع فهو يشكل..

أولاً: بأنه وإن كان ممكناً ذاتاً، إلا أنه محتاج إلى دليلٍ تعبدي خاص

ص: 32

مفقود في المقام، بل قام الدليل على عدمه، لرجوعه للتصويب المنسوب للمعتزلة، الذي قام الإجماع عندنا على بطلانه،

خصوصاً في مورد خطأ القطع، لا الطريق أو الأصل الشرعيين المستتبعين للحكم الظاهري، ولاسيما في مورد الخطأ في الموضوع.

وثانياً: أن الحكم المذكور لا يقتضي استحقاق العقاب، لعدم العلم به، إذ المفروض حصول القطع له بثبوت حكم العنوان الأولي المفروض عدمه، وعدم التفاته إلى خطأ قطعه، ليعلم بثبوت الحكم الثانوي له.

ومنه يظهر أنه لا أثر لجعل الحكم المذكور وإن تم ملاكه، لعدم صلوحه للداعوية بعد امتناع الإطلاع على موضوعه.

نعم، لو كان التجري في مورد خطأ الأمارة أو الأصل لكان لاستحقاق العقاب لأجل الحكم الثانوي الثابت فيه - بناءً على التصويب - وجه، لأن احتمال خطأ الأصل أو الأمارة موجب للعلم التفصيلي بثبوت التكليف في موردهما، إما الأولي الثابت مع إصابة الأصل أو الأمارة للواقع، أو الثانوي الثابت مع خطئهما، وهذا كافٍ في تنجز التكليف الثانوي لو فرض ثبوته، بخلاف مورد القطع، لأن القاطع لا يحتمل ثبوت الحكم الثانوي حتى يتنجز مع العلم المذكور.

دعوى: كفاية استحقاق العقاب عند تحقق الإقدام على المخالفة

ودعوى: أنه يكفي في استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع الجهل به الإقدام في مورده على مخالفة المولى ولو باعتقاد تكليفٍ آخرٍ خطأً، فمن أقدم على شرب الخمر فشرب ماءً مغصوباً استحق العقاب للمعصية وإن كان ما قصده لم يقع وما وقع منه لم يقصد.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن استحقاق العقاب في مثل ذلك - لو تم - فهو بلحاظ

ص: 33

الإقدام على مخالفة ما اعتقده خطأً، وهو مبني على استحقاق المتجري للعقاب الذي هو محل الكلام في المقام، لا بلحاظ مخالفة التكليف الواقعي المجهول، ليكون معصيةً حقيقيةً، ولذا لا تكون مرتبة العقاب تابعةً له ارتكازاً، فمن رأى شبحاً واعتقد أنه حيوان مملوك لمسلم، فقتله، وتبين أنه إنسان مؤمن، لا يستحق عقاب قاتل المؤمن، بل غاية ما يستحقه بتجريه عقاب المعتدي على المسلم بإتلاف ملكه.

وبالجملة: استحقاق العقاب في مثل ذلك - لو تم - فهو بملاك التجري، لا بملاك المعصية الحقيقية.

نعم، لو اشترك المقطوع به والمجهول في موضوع تكليفٍ واحدٍ استحق عقابه بملاك المعصية الحقيقية وإن اختلفا في بعض الخصوصيات الخارجة عن التكليف أو الموجبة لزيادته، كما لو شرب خمراً باعتقاد أنه من خمر زيد، فبان أنه من خمر عمرو، أو شرب خمراً باعتقاد أنه ماء متنجس، فإنه يستحق في الأول عقاب الخمر، وفي الثاني عقاب شرب النجس، بملاك المعصية الحقيقية، لمصادفة ما اعتقده للواقع في الجهة المشتركة المقتضية للحرمة، وإن خالفه في بعض الخصوصيات كخصوصية كونه من زيد أو خصوصية الخمرية.

أما في المقام فالمفروض أن ملاك الحرمة الأولية المقطوع بها مباين لملاك الحرمة الثانوية الثابتة بسبب خطأ القطع، فما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد، والثاني لا عقاب عليه قطعاً، والأول يبتني على استحقاق العقاب على التجري وإن لم يكن معصيةً حقيقيةً.

دعوى: أن القطع موجب للحرمة بعين ملاك الحرمة الواقعية

ودعوى: أن القطع موجب للحرمة بعين ملاك الحرمة الواقعية، لا

ص: 34

بملاك آخر مترتب عليه، ومرجع ذلك إلى أن المجعول حكم واحد ثابت في حالتي الإصابة والخطأ، فيكفي الالتفات له في ترتب عقاب الواقع بملاك المعصية الحقيقية.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن ذلك خروج عن محل الكلام لرجوعه إلى عدم خطأ القطع حينئذٍ. مع أنه محال في نفسه، لتأخر القطع رتبةً عن الحكم المقطوع، فكيف يكون مأخوذاً في موضوعه؟ ومن ثم امتنع التصويب المنسوب للأشاعرة.

نعم، قد يتصور ذلك في القطع بالموضوع، بأن لا يكون الحرام - مثلاً - هو الخمر فقط، بل مقطوع الخمرية أو ما يعمها.

لكنه راجع إلى كون القطع موضوعياً، لا طريقياً، وهو خروج عن محل الكلام، ومخالف لظاهر أدلة الأحكام من أن الموضوع هو العناوين الواقعية لا غير.

ما يشكل به على الخراساني (قدس سره)

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) قال: هذا مع أن الفعل المتجري به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل

لا يكون غالباً مما يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً.

وجه الإشكال

وجه الإشكال: أنه إن فرض تعقل كون عنوان القطع بالوجوب أو الحرمة مطلقاً وإن كان مصيباً موجباً لحدوث التكليف الشرعي، كفى في الالتفات إلى العنوان المذكور المصحح للعقاب الالتفات إليه بما هو آلة

ص: 35

للواقع، فإن القطع كاشف عن نفسه وعن غيره، ولا ملزم باعتبار الالتفات الاستقلالي في تنجز الحكم واستحقاق العقاب عليه.

فالعمدة ما عرفت من امتناع ذلك من دون فرقٍ بين كون القطع مأخوذاً في موضع الحكم المنكشف به وكونه موجباً لحدوث حكمٍ آخر.

وإن فرض تبدل الحكم الواقعي بسبب القطع المخطئ لا غير، بحيث يكون القطع المذكور موجباً لحدوث حكمٍ ثانوي رافع للحكم الواقعي. فهو وإن كان ممكناً ذاتاً كما عرفت، إلا أن العنوان المذكور مما يمتنع الالتفات إليه، لا استقلالاً ولا آلة، بل يقطع بعدمه حين القطع، لما هو المعلوم من امتناع احتمال خطأ القطع حين وجوده.

مع أن عدم الالتفات إلى العنوان لا ينافي كونه من جهات الحسن أو القبح عقلاً بنحوٍ يستلزم التكليف شرعاً لقاعدة الملازمة، لوضوح أن منشأ الحسن والقبح المذكورين الملاكات الواقعية التي عرفت إمكان تبدلها بسبب القطع، وليس الالتفات شرطاً في تأثر الملاكات الواقعية للحسن والقبح المستلزمين للأحكام الشرعية بقاعدة الملازمة، كما هو الحال في جميع الأحكام الواقعية المغفول عن موضوعاتها.

نعم، الملاكات المذكورة كالأحكام التابعة لها لا تقتضي الحسن والقبح العقليين في حق المكلف المستتبعين للمدح والذم، كما لا تقتضي استحقاق العقاب ولا الثواب إلا بالالتفات إليها، كما سبق.

محصل الكلام: الالتفات موجب لاستحقاق الثواب على الفعل

وبالجملة: الالتفات إلى موضوع التكليف شرط في استحقاق الثواب أو العقاب على الفعل، لا في جعل الحكم له إلا بملاحظة ما سبق من أن تعذر الالتفات لموضوع الحكم دائماً - كما في المقام - مانع من جعله، لعدم

ص: 36

صلوحه للداعوية في مقام العمل، ولا للعقاب والثواب، وإن تم ملاكه. فلاحظ.

الوجه الثالث من وجوه التحريم

الوجه الثالث: أنه لا إشكال في أن القطع بالحرمة يوجب القبح الفاعلي في الفعل، الذي هو بمعنى كشف الفعل عن سوء سريرة العبد مع المولى.

بل يأتي أنه يوجب القبح الفعلي، حيث يوجب كون الفعل نفسه تمرداً على المولى وخروجاً عن مقتضى العبودية له، وهو قبيح عقلاً. وحينئذٍ فالقبح المذكور كاشف عن الحرمة الشرعية، لقاعدة الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي.

دفع الوجه المذكور

ويندفع: بأن الحسن والقبح المستلزمين للحرمة شرعاً هما الناشئان من المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام، لا الناشئان من نفس الحكم الشرعي المتفرعان عليه، بسبب صدق عنوان الطاعة والمعصية والانقياد والتجري ونحوها مما هو متأخر رتبةً عن التكليف، فإنه لا معنى لاستلزامه الحكم الشرعي وكشفه عنه.

وبالجملة: الحسن والقبح المذكوران من سنخ حسن الطاعة وقبح المعصية لا يقتضيان التكليف شرعاً، بل يتفرعان عليه، فلابد في إثبات التكليف الشرعي من وجهٍ آخر.

مع أن موضوع الحسن والقبح المذكورين إن اختص بما إذا كان القطع مخطئاً لم ينفع جعل التكليف شرعاً على طبقهما في تصحيح العقاب بعد عدم الالتفات للعنوان المذكور. بل يمتنع جعل التكليف مع امتناع الالتفات إليه، لما تقدم من عدم الأثر له، فيلغو جعله. وإن عم ما إذا كان

ص: 37

القطع مصيباً لزم تعدد التكليف في مورد الإصابة ولا يظن من أحد الالتزام به. فتأمل جيداً.

الوجه الرابع من وجوه التحريم

الوجه الرابع: دعوى دلالة الأدلة الشرعية على حرمة الفعل المتجري به لمجرد الاعتقاد.

منها: موثقة سماعة، قال: سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر، فقال أحدهما: هو ذا، وقال الآخر: ما أرى شيئاً، قال: فليأكل الذي لم يستبن [يتبين خ. ل] له الفجر، وقد حرم على الذي زعم أنه رأى الفجر، إن الله عز وجل يقول: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ(1)، فقد ادعى شيخنا الأعظم (قدس سره) ظهورها في ذلك. وكأنه لحكم الإمام (ع) بحرمة الأكل على الذي تبين له، ومقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة حتى في ظرف الخطأ.

ومنها: الإجماع المدعى في موردين..

الأول: من ظن ضيق الوقت، حيث ادعي الإجماع على أنه إن أخّر الصلاة عصى وإن انكشف سعة الوقت.

الثاني: من سلك طريقاً مظنون الضرر، حيث ادعي الإجماع أيضاً على عصيانه ووجوب الإتمام عليه وإن انكشف عدم الضرر.

الإشكال في الاستدلال بالنصوص

لكن الجميع - مع أنها مختصة بمواردها - غير صالحةً للاستدلال.

أما الموثقة فلأن التبين في الآية الكريمة إن كان هو الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعياً وخرج عن باب التجري. وإن كان موضوع

ص: 38


1- الوسائل ج 7، 85 باب 48 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك حديث:

الحرمة هو طلوع الفجر واقعاً والتبين طريق إلى ذلك، لإمكان الرجوع مع عدمه إلى استصحاب الليل - كما هو الظاهر - كان مراد الإمام (ع) من الحرمة هي الحرمة في مقام العمل ظاهراً الراجعة إلى تنجز طلوع الفجر عليه وعدم جريان الأصل المرخص، ليطابق الدليل، وهو الآية الكريمة، وذلك يقتضي اختصاص الحرمة الواقعية بحال الإصابة، ولا تعم الخطأ، ولا دلالة للرواية حينئذٍ على كون الأكل محرماً واقعياً ومعصيةً حقيقيةً بسبب الاعتقاد الخاطئ.

وأما الإجماع فيدفعه..

الإشكال في الاستدلال بالإجماع

أولاً: أنه غير ثابت، ولاسيما مع تصريح العلامة (قدس سره) في محكي التذكرة بعدم المعصية بتأخير الصلاة لو انكشف سعة الوقت، وعن النهاية والبهائي التوقف في ذلك. بل عن الشهيد (قدس سره) في محكي قواعده التنظر في تأثير التجري العقاب والذم، فضلاً عن التحريم الشرعي.

وثانياً: أنه لا يبعد حمله على إرادة أنه بحكم المعصية من حيث التمرد على المولى والعقاب، لا أنه معصيةً حقيقيةً، بمعنى كونه مخالفة لحكمٍ شرعيٍ واقعي، لعدم ثبوت كون المعصية في مصطلحهم خصوص المخالفة للتكليف الواقعي. ولعل هذا المعنى عندهم كافٍ في وجوب الإتمام.

وثالثاً: أنه قد يكون مبنياً على ذهابهم إلى كون ظن الضرر وضيق الوقت تمام الموضوع لحرمة السفر ووجوب المبادرة بالصلاة واقعاً، فيخرج عن باب التجري، وذلك في نفسه وإن كان خلاف ظاهر الأدلة، إلا أنه لعلهم استظهروا من الأدلة ما لم نستظهره منها. كيف ولازم الحمل على ما ذكر التصويب الذي أجمعوا على بطلانه.

ص: 39

هذا كله مع أن الحكم المذكور لما كان غير ملتفتٍ إليه مع القطع، لعدم احتمال خطأ القطع لم ينفع في تصحيح العقاب على ما تقدم الكلام فيه في الوجه الثاني. فراجع وتأمل جيداً.

المقام الثاني: في حرمة التجري نفسياً

المقام الثاني: في كون نفس التجري بما هو أمر نفسي محرماً.

وربما يظهر من بعض كلماتهم امتناع تحريمه شرعاً، لكونه خارجاً عن الاختيار، لأنه عبارة عن القصد والعزم وهما من مبادي الاختيار، فلو كانا اختياريين لزم التسلسل في الاختيار.

ويدفعه: أن التسلسل إنما يمنع من كون كل اختيار اختيارياً، ولا يقتضي كون كل اختيار خارجاً عن الاختيار، فلا مانع من كون الاختيار الأول المتعلق بنفس الفعل الخارجي - مثلاً - اختيارياً بنحوٍ يصح التكليف به.

وبوجهٍ آخر نقول: التسلسل إنما يقتضي عدم توقف الاختيار على الاختيار، بحيث لا يوجد بدونه، ولا يمنع من دخوله تحته، بنحوٍ يمكن أن يستند إلى الاختيار تارةً، وأن لا يستند إليه أخرى، وهذا كافٍ في دخوله تحت التكليف، إذ لا يعتبر في التكليف إلا القدرة على المكلف به، وإن كان قد يتحقق من دون إعمالها.

فالإنصاف: أن الاختيار وإن كان مما يغفل عنه كثيراً، ولا يلتفت إلا إلى موضوعه وهو الفعل الخارجي، إلا أنه يمكن توجه النفس له وسيطرتها عليه بسبب التأمل في ما يترتب عليه من الآثار، فيمكن تعلق التكليف به، كما قد يشهد به ما ورد من الحث على نية الخير والتحذير من نية الشر، فإنه لو لم يكن وارداً لبيان الحكم المولوي الوجوبي أو الاستحبابي فلا أقل من وروده للإرشاد، وذلك أيضاً موقوف على كون النية اختيارية، إذ لا معنى للحث

ص: 40

على ما ليس اختيارياً. فتأمل.

نعم، قد يشكل الأمر: بأن المحرم إن كان هو مطلق العزم على المعصية ولو مع الإصابة لزم تعدد المعصية في صورة الإصابة، ولا يظن بأحدٍ الالتزام به. وإن كان خصوص العزم الخاطئ فهو بسبب امتناع الالتفات إليه حين وجوده يلغو تحريمه، كما أنه لا يصحح العقاب، كما عرفت في المقام الأول.

ومنه يظهر أن ما دل من النصوص على الحث على نية الخير والزجر عن نية الشر لو فرض عمومه لمثل العزم الحاصل حين الفعل لابد أن يحمل على محض الإرشاد، بلحاظ الحسن والقبح

العقليين الثابتين لهما. بل حتى لو فرض دلالة الأدلة على الثواب والعقاب فهي لا تكشف عن الحكم الشرعي، لعدم التلازم بينهما وبينه، كما يأتي.

ويأتي التعرض للنصوص المذكورة إن شاء الله تعالى.

المقام الثالث: في استحقاق العقاب مع عدم التكليف

المقام الثالث: في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي.

وذلك راجع إلى أن موضوع الاستحقاق لا يختص بالمعصية الحقيقية، بل يعم التجري، فتكون المسألة عقليةً صرفةً، لأن المرجع في استحقاق العقاب هو العقل لا غير. بخلاف البحث في المقامين الأولين.

وعن السبزواري تقرير حكم العقل المذكور بأنه لا فرق بين المعصية الحقيقية والتجري، إلا في إصابة الواقع وعدمه، ومثل ذلك لا يكون فارقاً في استحقاق العقاب، لأنه أمر خارج عن اختيار المكلف، وليس من المكلف إلا الإقدام على ما يعتقد كونه معصيةً، وهو اختياري له.

ص: 41

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره): بأن العقاب على ما لا يرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيح، أما عدم العقاب لأمرٍ خارجٍ عن الاختيار فقبحه غير معلوم.

ولا يخفى أن الكلام ليس في نفس العقاب، ليقع الكلام في قبحه وعدمه، بل في استحقاقه.

فالأولى أن يقال: إن من يرى عدم استحقاق المتجري للعقاب يرى أن موضوع الاستحقاق خصوص المخالفة الواقعية التي هي اختيارية لمن يصيب قطعه الواقع، وعدم الاستحقاق مع الخطأ لعدم الموضوع، ولا مانع عند العقلاء من كونه غير اختياري، نظير من لا يتحقق منه العصيان لحبسٍ ونحوه مما يوجب عجزه عن المعصية، وإن كان بحيث لو قدر لعصى، مع أنه لا يستحق العقاب عندهم.

والإنصاف: أنه لا مجال للاستدلال في مثل هذه الأمور الارتكازية العقلية التي ليس لها وراء الإرتكاز واقع محفوظ يمكن الاستدلال عليه. كما لا مجال لفرض كبريات مسلمةٍ. لتنفع في الاستدلال، لأن الكبريات لما كانت مأخوذةً من العقل امتنع فرضها عليه، فإنكار بعض صغرياتها أو

التشكيك فيها قد يرجع إلى إنكار الكبرى بالنحو الشامل لتلك الصغريات أو التشكيك فيها، فتسقط عن الاستدلال.

نعم، قد تكون فائدة الاستدلال تنبيه الوجدان وحمله على استيضاح المرتكز الذي قد يغفل عنه أو يلتبس عليه لبعض الشبه التي قد تثار حول الموضوع، فالعمدة هو الوجدان المترتب على الاستدلال، لا الاستدلال نفسه.

ص: 42

وحينئذٍ فنقول: التأمل في المرتكزات العقلية قاض ٍبأن الملاك في استحقاق العقاب التمرد على المولى وهتك حرمته ومجاهرته بذلك، وكل ذلك حاصل مع المعصية الحقيقية والتجري بنحوٍ واحد، وخصوصية إصابة القطع الواقع في الأول غير دخيلةٍ ارتكازاً في موضوع استحقاق العقاب.

وبعبارةٍ أخرى: مبنى ثبوت الحقوق العقلية والعرفية هو ثبوتها بنحوٍ يقتضي عدم التعمد لمخالفتها، فيعد المقدم على ذلك مخالفاً لمقتضى الحق وإن كان مخطئاً في اعتقاد ثبوته، ولا يختص ذلك بحق المولوية، بل يجري في غيره، كحق الأبوة والأخوة والصداقة والإحسان وغيرها، فمن اعتقد أن صديقه مريض فتسامح في عيادته عدّ مخالفاً لمقتضى حق الصداقة وحوسب حساب المخالف وإن كان مخطئاً في اعتقاد مرضه.

دعوى: استحقاق العقاب في خصوص ما كان مبغوضاً للمولى

ودعوى: أنه لابد في استحقاق العقاب على الفعل من مبغوضيته للمولى وقبحه، وأنه لا معنى للعقاب على ما لا يبغضه المولى، فضلاً عما يحبه، كما لو صادف التجري موافقة تكليفٍ واقعي غير مقصود.

مناقشة الدعوى المذكورة

مصادرة، بل لما كان الاستحقاق في المعصية بحكم العقل فالملاك فيه ارتكازاً ما ذكرنا، الذي لا يفرق فيه بين الموارد المذكورة. على أنه سيأتي أن ذلك موجب لاتصاف الفعل المتجري به بنحوٍ من القبح هو الملاك في استحقاق العقاب.

وهذا بخلاف ما إذا كان المكلف في مقام التمرد من غير طريق التجري، كما لو كان بحيث لو قدر لعصى، فإنه لا يستلزم شيئاً من ذلك، لعدم ابتنائه على المجاهرة للمولى وهتك حرمته، وإن كان هو قبيحاً في نفسه.

ص: 43

على أنه لا يبعد عموم ملاك استحقاق العقاب لذلك أيضاً، ولو فرض عدم العقاب عليه فهو من باب الإسقاط للتفضل منه تعالى، على ما سيأتي الكلام فيه في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم، لا يبعد اختصاص ذلك بالمولى الحقيقي الواجب الإطاعة عقلاً، الذي يكون الخضوع له من حقوقه والتمرد عليه ظلم له، أما الموالي العرفيون أو السلاطين ونحوهم ممن يسطو بقوته فالظاهر أن العقلاء لا يرون لهم العقاب بمقتضى سلطنتهم إلا في ظرف المخالفة الحقيقية، وأما مع الخطأ فلا موضوع له، إذ نفس التمرد ليس مما يستهجن عقلاً بالفرض حتى يستحق عليه العقاب، وإنما السبيل للمكلف مع مخالفة تكليفه، فمع فرض عدم المخالفة لا موضوع للعقاب.

ومن ثم لا نلتزم بأن العقاب المستحق بالتجري على المولى الأعظم هو المجعول على المعصية الحقيقية الذي أوعد به، لأن موضوع الجعل والوعيد مخالفة التكليف الواقعي لا ما يعم التجري، فلا يستحق العبد بالتجري إلا العقاب في الجملة، مع إيكال تقديره للمولى الأعظم المحيط بموازين العدل.

وبالجملة: استحقاق العقاب مع التجري إنما هو في ما إذا كان لزوم الطاعة وترك المعصية بحكم العقل المبني على التحسين والتقبيح من حيث كونهما من حقوق المولى اللازمة له، وتركهما ظلم له، ولا يفرق في ملاك ذلك بين المعصية الحقيقية والتجري، بخلاف ما إذا كان بملاك دفع الضرر من حيث ترتب العقاب الموعود على المعصية، لأن موضوع الوعيد هو المعصية الحقيقية، لا ما يعم التجري.

ص: 44

وإذا عرفت هذا، فلا يهم الكلام في أن القبح في التجري فاعلي فقط، أو فعلي أيضاً، إذ عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي إنما هو لأجل المرتكزات العقلية المدعاة في المقام، فلا معنى للخروج بها عما عرفت من ارتكاز استحقاق العقاب مع التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي. بل الارتكاز المذكور راجع إلى عدم عموم عدم استحقاق العقاب مع القبح الفاعلي لمثل مورد التجري واختصاصه بغيره. وسيأتي الكلام في القبح الفاعلي في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى.

نعم، لا يبعد البناء على ثبوت القبح الفعلي في مورد التجري، وأن الفعل بنفسه يتصف بالقبح، لكونه بنفسه ظلماً للمولى، لما فيه من هتك حرمته والخروج عن مقتضى العبودية له، فالعنوان القبيح

وهو ظلم المولى وهتك حرمته منطبق على الفعل بنفسه، كما صرح به بعض الأعيان المحققين (قدس سره) وأطال الكلام فيه.

الكلام في لزوم مزاحمة القبح للملاك الواقعي

إن قلت: على هذا يلزم مزاحمة القبح المذكور للملاك الواقعي المقتضي للحكم الواقعي في الفعل المتجري به، فإن لم يكن الملاك الواقعي اقتضائياً لم يزاحم قبح الفعل من حيث التجري، كما في مورد التجري بالمباح. وإن كان اقتضائياً كانا متزاحمين، فيلزم تأثير الأقوى منهما أو سقوطهما عن التأثير بسبب التزاحم، كما في مورد التجري بالواجب، بل المستحب، وهو مستلزم للتصويب في الجملة.

بل يلزم تأكد القبح لو صادف التجري قبيحاً واقعياً من غير الجهة المتجرى بها، كما لو أقدم على محرم فصادف محرماً آخر غيره، كما يلزم تأكد القبح في المعصية الحقيقية أيضاً.

ص: 45

بخلاف ما لو كان قبح التجري فاعلياً فقط، فإن تعدد موضوع الحسن والقبح مانع من التزاحم والتأكد، بل يبقى الحسن أو القبح الواقعيان قائمين بموضوعهما وهو الفعل، والقبح الناشئ من التجري قائماً بموضوعه، وهو الفاعل.

مناقشته

قلت: الحسن والقبح الواقعيان التابعان للملاكات الواقعية لا يصلحان لمزاحمة القبح الناشئ من التجري أو تأكيده، لأن التأكيد أو التزاحم بين الجهات المقتضية للحسن والقبح أو نحوهما إنما يكونان بلحاظ اتحاد الآثار ذاتاً أو تضادها، كما هو الحال في جهات الحسن والقبح الواقعية، فإن آثارها لما كانت هي الأحكام الشرعية، وكانت الأحكام متضادة بسبب اختلاف نحو العمل المترتب عليها كان لابد من التأكيد فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكماً واحداً، والتزاحم فيما لو اجتمعت جهتان تقتضيان حكمين متضادين.

أما مع عدم الاتحاد أو التضاد بين الآثار فلا مجال للتأكد ولا التزاحم، بل تؤثر كل جهة أثرها استقلالاً، كما هو الحال في الحسن والقبح الواقعيين مع القبح الحاصل بالتجري، فإن أثر الأولين هو الحكم الشرعي الواقعي المطابق لأحدهما، وأثر الأخير هو استحقاق الذم والعقاب، ولا اتحاد بين الأثرين المذكورين، كما لا تضاد بينهما، فلا وجه للتأكد ولا للتزاحم، بل يؤثر كل منهما استقلالاً.

فالتجري بفعل ما هو مباح واقعي وبفعل ما هو واجب واقعي وبفعل ما هو حرام واقعي من غير الجهة المتجرى بها بمرتبةٍ واحدة من حيث القبح المقتضي لاستحقاق الذم والعقاب. كما لا يفرق في مرتبة الحسن أو القبح

ص: 46

الواقعيين المقتضيين للحكم الشرعي بين أنحاء وقوع الفعل، من حيث كونه بقصد الطاعة أو بقصد المعصية أو غفلة من دون قصد إحداهما.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما عن الفصول من استحقاق العقاب والذم مع التجري بترك ما يعتقد وجوبه أو فعل ما يعتقد تحريمه، إلا أن يصادف الأول ترك حرام واقعي والثاني فعل واجب واقعي، لمزاحمة الحسن الواقعي لقبح التجري. ومن ثم كان التجري على الحرام في المكروهات الواقعية أشد منه في مباحاتها، وهو فيها أشد منه في مندوباتها... إلى آخر ما ذكره مما يتضح حاله بما ذكرنا من أن عدم السنخية بين الآثار مانع من التزاحم والتأكد.

ومثله في الإشكال ما ذكره (قدس سره) من أن التجري لو صادف المعصية الواقعية تداخل عقاباهما.

لظهوره في أن مصادفة المعصية الواقعية بنفسها موجبة للعقاب مع قطع النظر عن القصد، وقد عرفت بطلانه. مع أنه لو تم فلا وجه للتداخل، إلا الضرورة على أن المعصية الواقعية ليس لها إلا عقاب واحد، وهي تكشف عن وحدة منشأ العقاب، وهو التجري بقصد المعصية لا غير. فتأمل جيداً.

تنبيهات: الأول: في القبح الفاعلي

وينبغي التنبيه على أمور..

التنبيه الأول: في القبح الفاعلي.

تردد في كلام غير واحدٍ أن القبح الفاعلي بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب. وقد أشرنا قريباً إلى أن الكلية المذكورة لا تشمل التجري لو فرض عدم اشتماله على القبح الفعلي، وإن كان الظاهر اشتماله عليه.

صور القبح الفاعلي الثمانية

وينبغي التعرض لصور القبح الفاعلي، فنقول: المكلف الذي

ص: 47

تضعف نفسه عن تجنب المعصية لو ابتلي بها له حالات مترتبة من حيثية الحسن والقبح..

الأولى: أن يتخيل من نفسه أو يحتمل بسبب عدم ابتلائه بالمعصية أنه يرتدع عنها لو ابتلي بها. فيتحقق منه العزم على ذلك.

الثانية: أن لا يكون له عزم على تجنب المعصية بسب غفلته عنها.

الثالثة: أن يكون ملتفتاً إليها راغباً في تركها إلا أنه لا عزم له عليه قبل الوقت لاعتقاده ضعف نفسه عن الوقوف أمام المغريات.

الرابعة: أن يلتفت إليها ولا يعزم على فعلها ولا على تركها تسامحاً فيها.

الخامسة: أن يكون ملتفتاً إليها وراغباً فيها، إلا أنه بسبب تعذرها عليه لا يتحقق منه العزم عليها، وإن كان في نفسه أنه لو قدر لفعل.

السادسة: أن يعزم على المعصية، ولا يسعى نحوها لعدم حضور وقتها المناسب بنظره.

السابعة: أن يسعى لها بفعل بعض المقدمات وإن لم يصل إليها لمانعٍ منها.

الثامنة: أن يباشر فعل ما يعتقد أنه معصية، فيصيب المعصية الحقيقية، أو يخطئ فيتحقق منه التجري فقط.

الكلام في استحقاق العقاب بلحاظ الصور المتقدمة

لا إشكال في عدم استحقاق العقاب ولا الذم في الصور الثلاث الأول، ولذا لا ينبغي عدها موضوعاً للقبح، إذ القبح عبارة عما ينتزع من مقام الذم ويقتضي الردع، ومجرد ضعف النفس واقعاً عن الوقوف أمام

ص: 48

المغريات لا يقتضي ذلك، وإن كان هو منافياً لكمالها.

بل لما كان العزم على تجنب المعصية في الصورة الأولى مفروض التحقق ويستحق به المدح عقلاً كانت موضوعاً للحسن.

بل لعلها موضوع التفضل بالثواب، كما قد يشهد به حديث أبي بصير عن أبي عبد الله (ع)، قال: إن العبد المؤمن الفقير ليقول: يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير، فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نية كتب له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله. إن الله واسع كريم(1)، فإن الظاهر من صدق النية ليس هو مطابقتها للواقع، بل خلوصها وعدم كونها بدويةً يقصد بها استجلاب الرزق لا غير. فلاحظ.

كما أنه لا ريب في كون الصور الخمس الباقية موضوعاً للقبح، وإن كان يختلف فيها شدةً وضعفاً حسب ترتبها، لمنافاتها جميعاً لما يحكم به العقل من لزوم الخضوع للمولى الأعظم والفناء فيه، والانقياد لتكاليفه.

بل عرفت أن الصورة الثامنة موضوع لاستحقاق العقاب مطلقاً ولو مع الخطأ.

كما أن الظاهر أن الصورة السابعة مشاركة في الملاك الموجب للاستحقاق، من حيثية إبراز ما في النفس بالفعل الخارجي المبني على التمرد على المولى وانتهاك حرمته.

وأما الصور الرابعة والخامسة والسادسة، فلا يبعد كونها مورداً لاستحقاق العقاب، كما هو مقتضى المرتكزات العقلائية، لأنها نحو من ظلم المولى الأعظم والتقصير في حقه، إذ ليس حقه الطاعة خارجاً، بل تمام

ص: 49


1- الوسائل ج 1 باب 6: من أبواب مقدمة العبادات حديث:

الخضوع والفناء غير الحاصل في الصور المذكورة.

نعم، ورد في كثير من النصوص عدم العقاب على نية السيئة، وأنها لا تكتب على العبد، بخلاف نية الحسنة، فإنها تكتب له(1). وهي صريحة في عدم العقاب في الصورة السادسة، وتقتضي عدمه في الرابعة والخامسة بالأولوية.

بل ظاهرها عدم ترتب العقاب حتى في الصورة السابعة.

بل قد يدعى ظهورها في عدمه مع التجري أيضاً، إذ ليس فيه إلا النية والعزم على السيئة دون فعلها.

لكن الظاهر أن المراد من النية فيها العزم السابق على الفعل وعلى اختياره، لا ما يساوق الاختيار المقارن للفعل الحاصل مع التجري، كما قد يشهد به ما في خبر حمزة بن حمران عن أبي عبد الله (ع): ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن لم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها...(2)، فإنه كالصريح في أن المراد من النية العزم الذي يمكن العدول عنه قبل اختيار الفعل، ويكون العدول عنه حسنة تكتب للعبد، لا ما يعم الاختيار المقارن للفعل.

اللهم إلا أن يقال: الأخبار المذكورة ظاهرة في أن المدار في العقاب على فعل السيئة نفسها، وهو غير متحقق مع التجري.

وفيه: أن الاعتماد على مثل هذا الظهور في مثل هذه الأمور غير ظاهرٍ الوجه، لانصراف أدلة الحجية في الظهورات وغيرها إلى الحجية في مقام

ص: 50


1- راجع النصوص المذكورة في الوسائل ج 1 باب 6 من أبواب مقدمة العبادات.
2- الوسائل ج 1 باب 6 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 20.

العمل، وترتب العقاب لا دخل له بعمل المكلف.

هذا، مع ظهور غير واحدٍ من النصوص في ثبوت العقاب بفعل مقدمات الحرام، فتدل على ثبوته في التجري بالأولوية، مثل ما ورد من أنه إذا تلاقى المسلمان بالسيف فالقاتل والمقتول في النار، معللاً دخول المقتول النار بأنه أراد قتل صاحبه، وما ورد في عقاب غارس الخمر وعاصرها ومعتصرها(1)، فإنه شامل لمن يعصرها لشرب نفسه، مع وضوح كون العقاب حينئذٍ بملاك القصد إلى المعصية، وكذا ما ورد في الماشي بالنميمة(2) وغير ذلك، فحمل نصوص عدم العقاب على خصوص العزم غير المستتبع للعمل الحاصل في الصورة السادسة، وعدم شمولها للصورة السابعة والثامنة قريب جداً.

ثم إن عدم العقاب الذي تضمنته النصوص المتقدمة لا ينافي استحقاقه، الذي هو محل الكلام، لإمكان كونه من باب العفو والتفضل منه تعالى.

نعم، قد ينافيه خبر مسعدة بن صدقة عن الصادق (ع): لو كانت النيات من أهل الفسق يؤخذ بها أهلها إذاً لأُخذ كل من نوى الزناء بالزناء، وكل من نوى السرقة بالسرقة، وكل من نوى القتل بالقتل. ولكن الله عدل كريم ليس الجور من شأنه، ولكنه يثيب على نيات الخير أهلها وإضمارهم عليها، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتى يفعلوا(3)، لظهوره في أن مؤاخذة أهل

ص: 51


1- راجع الوسائل ج 17 باب: 34 من أبواب الأشربة المحرمة.
2- راجع الوسائل ج 8 باب: 164 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج لكن لا يعبد ظهور النصوص المذكورة في حرمة نفس النميمة لا في ترتب العقاب على المشي إليها مع قطع النظر عن ترتبها، إذ لا يبعد كون المراد بالماشي بالنميمة هو النمام لا غير. (منه)
3- الوسائل ج 1 باب: 6 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 21.

الفسق بنياتهم جور ينافي عدله تعالى، وجزاء أهل الخير على نياتهم تفضل يناسب كرمه عز اسمه.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما عرفت من حكم العقل، فلابد أن تحمل على منافاة العقاب لمرتبةٍ خاصةٍ من الكرم وإطلاق الجور على ذلك توسع بلحاظ سعة رحمته المناسبة لرفعة مقامه التي ليس من شأنه الخروج عنها فلا تنافي حكم العقل بالاستحقاق.

ولاسيما مع ما ورد من أن نية الكافر شر من عمله(1)، معللاً في بعض النصوص بأن الكافر ينوي ويأمل من الشر ما لا يدركه. وما ورد من تعليل خلود أهل النار فيها بأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً(2). وما ورد من أنه يكتب للكافر في سقمه من العمل السيئ ما كان

يكتب في صحته(3)، فإنه صريح في أن عدم فعل السيئة لتعذرها بسبب السقم - كما في الصورة الخامسة المتقدمة - لا يرفع عقابها في حق الكافر، ولو كان ذلك جوراً لم يفرق فيه بين المؤمن والكافر.

والإنصاف: أن نصوص المقام لا تخلو عن التنافي بظواهرها، مع ضعف سند كثير منها، فلا مجال للتعويل عليها ولا للجمع العرفي بينها في مثل المقام من الأمور العقلية غير المتعلقة بمقام العمل. فلا مجال للخروج بها عما ذكرنا، والمتيقن منها عدم العقاب في الصورة الخامسة بنحوٍ لا ينافي الاستحقاق، ويثبت في ما قبلها بالأولوية، كما ذكرنا.

ص: 52


1- راجع الوسائل ج 1 باب: 6 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 17.
2- الوسائل ج 1 باب: 6 من أبواب مقدمة العبادات حديث 4.
3- الوسائل ج 1 باب 7 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 5.

هذا كله لو كانت نية المعصية مسببةً عن الشهوة أو الغضب المزاحمين للحكم الشرعي في مقام تأثير الداعوية في نفس المكلف، أما لو كانت مسببةً عن الاستهوان بتكاليفه تعالى، أو الرغبة في محاربته والخروج عن أمره فهي أهم من جريمة المعصية، بل قد توجب الخروج عن الدين والخلود في العذاب المهين.

ولعله إليه يرجع ما تضمن أن نية الكافر شر من عمله. نسأله تعالى العصمة والسداد والتوفيق لما يحب ويرضى إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.

التنبيه الثاني: عدم اختصاص التجري بالقطع

التنبيه الثاني: في عدم اختصاص التجري بالقطع.

لا يختص التجري بالقطع، بل يجري في غيره من موارد تنجز التكليف المستند لقيام الطريق الشرعي عليه أو جريان الأصل المحرز أو غيره فيه.

ولا يخفى أنه بناءً على جعلها من باب السببية لا تكون مخالفتها مع خطئها تجرياً، بل معصية حقيقيةً، لا بالإضافة إلى الواقع، بل بالإضافة إليها نفسها، وإنما يتحقق التجري بناءً على ما هو التحقيق من أنها مجعولةٌ من باب الطريقية، إذ الأحكام الطريقية لا تكون موضوعاً للإطاعة والمعصية عقلاً بأنفسها، بل بلحاظ الواقع الذي قامت عليه، فمع فرض خطئها وعدم كون مخالفتها موجبةً لمخالفة الواقع لا يلزم إلا التجري بالإضافة إلى الواقع.

مذهب الأنصاري (قدس سره) في تحقيق التجري بمخالفة الطريق

هذا، وظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) تحقق التجري بمخالفة الطريق في صورة الخطأ سواءً كان الإقدام برجاء تحقق المعصية، أم لعدم المبالاة بذلك، أم برجاء عدم تحققها. وظاهره كون التجري في الجميع بالإضافة

ص: 53

إلى الواقع.

دعوى النائيني (قدس سره)

لكن ادعى بعض الأعاظم (قدس سره) أن التجري في الصورة الثالثة بالإضافة إلى الطريق نفسه.

مناقشته

وفيه.. أولاً: ما عرفت من أن الأحكام الطريقية لا تكون بأنفسها موضوعاً للإطاعة والمعصية، فكيف تكون موضوعاً للتجري؟. نعم لو كان الإقدام للبناء على عدم الحجية تشريعاً كان التشريع المذكور محرماً قطعاً.

وثانياً: أن مقتضى جعلها متابعتها، فعدمها مخالفةً حقيقيةً للدليل المذكور، فتكون معصيةً حقيقيةً لا تجرياً. وأما رجاء عدم الإصابة فلا ينافي جعلها بوجهٍ، كما لا يخفى.

هذا، وقد يدعى عدم تحقق التجري في الصورة المذكورة - كما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) - لا بالإضافة إلى الحكم بجعل الطريق، لما عرفت، ولا بالإضافة إلى الواقع، لعدم ابتناء الإقدام على مخالفته وهتك حرمة المولى بالإضافة إليه، بل ليس فيه إلا الخروج عن مقتضى قاعدة دفع الضرر المحتمل، فلا يقتضي ترتب العقاب إلا في صورة الوقوع في الحرام لا غير.

ما ذكره الأنصاري (قدس سره) في صدق التجري مع عدم كون الجهل عذراً شرعاً

لكن الإنصاف: أن مجرد رجاء عدم تحقق المعصية مع عدم المؤمن لا ينافي تحقق ملاك التجري من تجاهل المولى وهتك حرمته، فإن مقتضى لزوم احترامه والفناء فيه الاهتمام بطاعته مع الاحتمال المنجز. نعم الملاك المذكور بمرتبةٍ ضعيفة تتفاوت شدة وضعفاً تبعاً لضعف الاحتمال وقوته.

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) قد اعتبر في صدق التجري مع عدم العلم عدم كون الجهل عذراً شرعاً عقلاً.

ص: 54

قال (قدس سره): وإلا لم يتحقق احتمال المعصية وإن تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي، كما في موارد أصالة البراءة، واستصحابها.

تحقيق حال ما ذكره (قدس سره)

ولا إشكال في تمامية ما ذكره إذا كان الإقدام استناداً إلى العذر المذكور، سواءً كان برجاء عدم مخالفة التكليف الواقعي، أم لعدم الاهتمام بذلك، أم برجاء مخالفته، كما لو شرب محتمل الخمرية برجاء

أن يكون خمراً قد رخص الشارع ظاهراً في شربه، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعاً، وليس فيه تمرد على المولى ولا هتك لحرمته، بل هو مبني على الاهتمام به والتقيد بما رسمه.

أما إذا لم يكن الإقدام مستنداً إلى العذر، إما للجهل بكونه عذراً، أو لعدم الاهتمام بالتكليف الشرعي الواقعي وعدم المبالاة بمخالفته لا عن عذر، فلا يبعد عدم المعذرية حينئذٍ، وتحقق المعصية الحقيقية أو التجري، لأن معذرية العذر عرفاً لا تكون بمجرد وجوده واقعاً، بل بالاعتماد عليه والاستناد إليه، بل الصورة الثانية راجعة إلى الاستهوان بالدين التي عرفت أنها أشد من المعصية الحقيقية.

وكأن ما ذكرنا هو مراد بعض الأعاظم (قدس سره)، وإن كان قد يظهر من تقرير درسه للمرحوم الكاظمي لزوم كون الإقدام برجاء عدم إصابة الواقع، الذي عرفت أنه لا ملزم به. فراجع.

التنبيه الثالث: في الانقياد

التنبيه الثالث: في الانقياد.

وهو عبارة عن الإقدام على الموافقة في مورد اعتقاد التكليف أو احتماله مع عدم ثبوت التكليف واقعاً، عكس التجري، وهو قسمان..

قسما الانقياد

الأول: ما يكون مع المنجز للتكليف من قطعٍ أو دليلٍ أو أصل.

ص: 55

الثاني: ما يكون مع المؤمن المعذر منه من دليلٍ أو أصلٍ يحتمل خطؤه.

الكلام في القسم الأول

أما الأول: فملاكه ملاك الطاعة الحقيقية، فهو لازم إما بحكم العقل المبتني على التحسين والتقبيح، كما في الانقياد للمولى الأعظم الذي يستحق الإطاعة ذاتاً، وإما بملاك دفع الضرر المقطوع أو المحتمل، كما في الانقياد للأوامر المبنية على الوعيد بالعقاب ممن يقدر عليه، شرعية كانت أو عرفية.

ولا إشكال في كونه منشأً للمدح، من حيثية القيام بما ينبغي من الحق اللازم أو دفع الضرر، وإن كان لا يبعد اختلاف سنخ المدح فيها، وأما الثواب فالكلام فيه هنا هو الكلام فيه في الإطاعة الحقيقية.

والظاهر أن الإطاعة لا تكون منشأً لاستحقاق الثواب ولزومه للمطيع، لأن فرض لزوم الفعل مانع عرفاً من استحقاق الجزاء عليه، لاختصاص استحقاق الجزاء بما إذا كان القيام بالعمل في مقابله،

لا للزومه في نفسه. من دون فرقٍ بين أن تكون الإطاعة واجبةً ذاتاً، كما في إطاعة المولى الأعظم، وغيرها، كما في غيره ممن لا يطاع إلا لدفع الضرر.

وعدم استحقاق الآمر للإطاعة في الصورة الثانية يمنعه من الإلزام والوعيد، لا أنه يوجب عليه الثواب على العمل للمطيع بعد فرض جعل التكليف منه عليه. إلا أن يكون من باب التعويض والتدارك، لفرض ظلمه له بتكليفه إياه من غير حق. وهو خارجٍ عن محل الكلام.

نعم، لا إشكال في أن الإطاعة والانقياد يكونان منشأً لأهلية القائم بهما للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء، وليس ثوابه ابتداءً تفضل،

ص: 56

كالابتداء به على من لم يعمل شيئاً أو كان عاصياً، فإن المحسن الكريم أهل للإحسان على غير المطيع، بل على العاصي، إلا أنهما لا يكونان أهلاً لذلك بخلاف المطيع والمنقاد فإنهما أهل للجزاء بالإحسان بسبب عملهما.

هذا كله لو فرض عدم الوعد من المولى بالثواب على الإطاعة، وإلا كان له نحو من الاستحقاق عليه بملاك الوفاء بالوعد، لا بملاك الاستحقاق على العمل.

والظاهر أنه يختص بموضوعه فلو فرض أنه الإطاعة الحقيقية لم يشمل الانقياد، لخروجه عن موضوع الوعد وإن اعتقد المكلف دخوله فيه. نظير ما تقدم من عدم عقاب المتجري بمقتضى الوعيد.

الكلام في القسم الثاني

وأما القسم الثاني: فلا إشكال في حسنه بملاك الاحتياط للواقع وإن لم يكن منجزاً، كما تشهد به المرتكزات العرفية، والعقلية والشرعية.

ومن ثم جرت سيرة الفقهاء على الندب إليه والحث عليه في موارد الفتوى على خلافه.

والكلام في الثواب هنا هو الكلام فيه في القسم الأول، فهو لا يكون منشأً لاستحقاق الثواب، لا ذاتاً ولا بملاك الوعد على الطاعة، بل يكون منشأً لأهلية التفضل بالثواب والجزاء. وعليه تحمل نصوص التسامح في أدلة السنن، كما أنها حيث كانت ظاهرةً في الوعد عليه يكون هو منشأ للاستحقاق بملاك الوعد المذكور.

هذا، والظاهر أنه ليس علةً تامةً للحسن، بل هو مقتضٍ له قابل للردع الشرعي بسبب انطباق بعض العناوين المرجوحة عليه.

وربما يظهر من الأدلة الشرعية الردع عنه في الجملة، ولا يسع المقام

ص: 57

تفصيل ذلك، بل هو محتاج إلى فضل تتبع للأدلة ومزيد تأمل فيها. ويأتي الكلام فيه في مباحث البراءة إن شاء الله تعالى.

ص: 58

الفصل الثالث: في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

اشارة

لا يخفى أن القطع بالإضافة إلى الحكم..

تارةً: لا يكون له دخل فيه إلا من حيث كونه طريقاً له كاشفاً عنه، من دون أن يؤخذ في موضوعه، بل يكون موضوع الحكم أمراً آخر تابعاً لواقعه.

وأخرى: يؤخذ في موضوع الحكم، بحيث لا يترتب الحكم إلا تبعاً للقطع وفي رتبةٍ متأخرةٍ عنه.

وقد أُطلق على الأول القطع الطريقي، وعلى الثاني القطع الموضوعي.

ولا إشكال في ذلك بين كل من تعرض له، فاللازم صرف الكلام إلى ما يتفرع على هذا التقسيم مما وقع الكلام فيه بينهم.

ومن هنا ينبغي الكلام في أمور ثلاثة..

الكلام في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: امتناع دخل القطع في تحقق متعلقه

الأمر الأول: أنه حيث عرفت أن القطع عبارة عن وصول متعلقه للمكلف، ورؤيته له، فهو نحو من الإضافة القائمة بين القاطع والمقطوع به متأخر عنهما رتبةً، كسائر الإضافات القائمة بموضوعاتها المتفرعة عليها، فيمتنع أن يكون دخيلاً في تحقق متعلقة من حكمٍ أو موضوع.

ومن هنا يتعين كون القطع بالإضافة إلى متعلقة طريقياً صرفاً، ولا

ص: 59

يكون موضوعياً إلا بالإضافة إلى حكمٍ آخر متأخر رتبةً عنه وعن متعلقه، على ما يأتي التعرض له ولأقسامه في الأمر الثاني.

وحيث امتنع تقييد الحكم بالقطع به - لما عرفت من امتناع أخذ القطع موضوعاً لمتعلقه - لزم إطلاق الحكم في مرتبة جعله بالإضافة إلى حالتي حصول القطع به وعدمه، فيعم كلا الحالين، ولا يختص بأحدهما، كما لا يختص ببعض أفراد أحدهما. ومن ثم كان التصويب المنسوب للأشاعرة محالاً في نفسه.

بل يمتنع اختصاص الحكم بحال القطع به أو ببعض أفراد القطع به ولو بنتيجة التقييد، بأن يكون المأخوذ في موضوع الحكم عنواناً آخر ملازماً للقطع بالحكم أو لبعض أفراده، لأن لازم ذلك امتناع حصول القطع بالحكم، ومرجعه إلى امتناع حصول موضوع الحكم، الموجب للغوية جعله.

إذ القطع بالحكم.. تارةً: يكون مسبباً عن بيانه للمكلف بنحو القضية الخارجية.

وأخرى: يكون مسبباً عن بيانه له بنحو القضية الحقيقية.

والأول يتوقف على علم الحاكم بتحقق موضوع حكمه قبل بيانه للمكلف، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع لقطع المكلف بالحكم المتأخر عن بيانه له. وحصول القطع للمكلف من الثاني موقوف على سبق تحقق القطع له بحصول موضوع الحكم في الخارج، وهو ممتنع مع فرض ملازمة الموضوع للعلم بالحكم.

الكلام فيما نسب إلى العراقي (قدس سره)

أما ما ذكره شيخنا الأستاذ دامت بركاته - تبعاً لما حكاه عن أُستاذه العراقي (قدس سره) - في تقريب نتيجة التقييد بالعلم: بأن الحاكم الملتفت للذات

ص: 60

المقارنة للعلم بالحكم والذات المقارنة للجهل به له أن يجعل الحكم على خصوص الأولى، لا على ما يعمها والثانية.

مناقشة ما ذكره (قدس سره)

ففيه: أن العلم بالحكم موقوف على العلم بموضوعه، فمع فرض أخذ خصوصية الذات في موضوعه لا مجال لتحصيل العلم به إلا مع فرض تحديد الذات المأخوذة في الموضوع، وتحديدها من طريق العلم دوري، ومن طريق العنوان الملازم له قد عرفت إشكاله، إذ لابد من سبق العلم بالموضوع زماناً على العلم بالحكم، والمفروض ملازمة العنوان للعلم وعدم سبقه عليه.

وفرض التفات الآمر للذات العالمة بالحكم في كلامه مبني على فرض جعل تمام موضوع الحكم هو العنوان الواقعي المجرد عن خصوصية الذات - كالاستطاعة - فيمكن للمكلف تحصيل العلم به، أما مع فرض العدول عن الفرض المذكور وأخذ خصوصية الذات زائداً على العنوان الواقعي فيتعذر تحصيل العلم به للمكلف.

نعم، لو كان مرجع ذلك إلى أن الحاكم لما كان يعلم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله على العنوان الواقعي فهو يجعل الحكم مختصاً بالذات المذكورة بعنوانٍ آخر يخصها يكون متمماً للموضوع - كعنوان الذكي - فلا محذور فيه.

لكنه خروج عما نحن فيه، لأن مرجعه إلى تخصيص الحكم بالذات التي من شأنها أن تعلم بالحكم على تقدير جعله، لا بالذات العالمة بالحكم المجعول فعلاً، الذي هو محل الكلام.

وبالجملة: امتناع تقييد الحكم بالقطع به ليس لمجرد ترتب عنوان القيد

ص: 61

على المقيد، فيلزم من أخذه فيه لحاظ المتأخر قيداً في المتقدم نظير ما يذكر في قصد الامتثال في مبحث التعبدي والتوصلي، حتى يمكن إبداله بالتقييد بما يلازم القيد المذكور من دون أخذ عنوانه المترتب على المقيد، الذي هو عبارة عن نتيجة التقييد، بل للترتب الخارجي الذاتي بينهما الموجب لامتناع نتيجة التقييد أيضاً. فتأمل جيداً.

ما ذكره النائيني (قدس سره)

أما بعض الأعاظم (قدس سره) فقد ذكر في المقام إمكان أخذ العلم في موضوع الحكم الذي تعلق به بنتيجة التقييد، وإن امتنع أخذه بنحو التقييد اللحاظي في مرتبة جعل الحكم، بدعوى: أن امتناع التقييد اللحاظي مستلزم لامتناع الإطلاق اللحاظي أيضاً، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة،

وهو موجب لقصور الجعل الأول عن إثبات أحدهما، فلابد من جعلٍ آخر يستفاد منه نتيجة أحدهما، وهو ما اصطلح عليه ب - (متمم الجعل).

المناقشة فيه

وفيه: أنه إن كان الجعل الأول متعيناً لأحد الأمرين من الإطلاق والتقييد ثبوتاً، لامتناع الإهمال في الحكم ثبوتاً - كما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي هنا - فلا حاجة إلى جعلٍ آخر، بل لا يحتاج إلا إلى شرح حال الجعل الأول ورفع إجماله.

التحقيق في المقام

والتحقيق: أنه يكفي فيه إطلاقه المستفاد من مقدمات الحكمة، على ما ذكرناه في مبحث المطلق والمقيد، بل عرفت هنا امتناع اختصاص الحكم بحال العلم به لا بالتقييد ولا بنتيجة التقييد، فيتعين العموم، فلا منشأ لتوهم الإجمال حتى يحتاج للإطلاق من هذه الجهة.

فرض الإهمال في الجعل الأول وتتميمه بجعل آخر

وإن فرض إهمال الجعل الأول ثبوتاً - كما يظهر منه في مبحث التعبدي والتوصلي والمطلق والمقيد - فيحتاج إلى جعلٍ آخر يتمم ما يقتضيه الجعل

ص: 62

الأول.

المناقشة فيه

ففيه.. أولاً: ما أشرنا إليه من امتناع الإهمال ثبوتاً.

وثانياً: أن فرض الإهمال في الجعل الأول مانع من العلم بالحكم الذي تضمنه، لتوقف العلم بالحكم على تحديد موضوعه والعلم به، ومع فرض عدمهما لا علم بالحكم، فكيف يمكن التقييد به في الجعل الثاني؟!.

وثالثاً: ما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من أن الجعل الثاني وإن رفع محذور الإهمال في الجعل الأول، إلا أن المحذور وارد فيه أيضاً، إذ يمتنع تقييده بصورة العلم به أيضاً، كما يمتنع إطلاقه تبعاً لذلك. والتزام جعل ثالث متأخر عنه رتبةً رافع لإهماله موجب لتوجه المحذور في الجعل الثالث أيضاً، فيحتاج إلى جعلٍ رابع... وهكذا إلى ما لا نهاية.

وبالجملة: الالتزام بمتمم الجعل لا يرجع إلى محصلٍ ظاهر، لا في المقام ولا في غيره من الموارد التي التزم فيها (قدس سره)، كما ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي أيضاً.

ولاسيما مع ما نبه له شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من القطع بعدم الجعل الثاني في الأحكام العرفية، لوضوح عدم الالتفات فيها إلى جعلٍ آخر لا من المولى ولا من المكلف، مع أنها مشتركة مع الأحكام الشرعية في الإشكال. وهو شاهد بعدم توقف الأمر فيها على الالتزام بمتمم الجعل.

هذا كله لو أُريد من أخذ العلم في موضوع الحكم هو العلم بالحكم الجزئي التابع لوجود الموضوع في الخارج أما لو أريد منه العلم بالحكم الكلي المستنبط من الأدلة، فلا يتوجه المحذور المتقدم فيه، للتباين بين ما يكون العلم طريقاً له وما يكون مأخوذاً في موضوعه.

ص: 63

نعم، مرجع ذلك إلى أن موضوع الحكم لباً ليس هو العنوان المأخوذ في الكبرى الشرعية - كالاستطاعة - على إطلاقه، وإلا لاستحال دخل العلم في الصغرى، بل لابد أن يكون الموضوع مقيداً بالعلم بالكبرى المذكورة، وحيث كان العلم بالكبرى متأخراً عن نفس الكبرى رتبةً امتنع التقييد به بعنوانه فيها، بل لابد حينئذٍ من فرض نتيجة التقييد، وأن الحكم في الكبرى لم يجعل على العنوان الواقعي - كالمستطيع - على إطلاقه، بل على خصوص الذات المقارنة للعلم بتشريع الحكم الذي تضمنته الكبرى المذكورة على إجماله، ولا يلزم منه المحذور المتقدم، وهو امتناع حصول العلم بالحكم، لوضوح إمكان حصول العلم بالكبرى المذكورة لكل أحدٍ، فيعلم بالحكم تبعاً لذلك. فتأمل جيداً.

إمكان اختصاص الأحكام بالعالم بوجهين

ثم إنه يمكن اختصاص الأحكام الفعلية بخصوص العالم بوجهين آخرين..

الأول: أن تكون الأحكام اقتضائية لا فعلية

الأول: أن تكون الأحكام التي تضمنتها الكبريات الشرعية اقتضائية لا فعلية، ويكون العلم بها متمماً لملاكها وشرطاً لفعليتها، فالعلم بالإضافة إلى الحكم الاقتضائي طريقي، وبالإضافة إلى الحكم الفعلي موضوعي. وليس مأخوذاً في نفس الحكم الذي هو طريق إليه كما هو محل الكلام.

الثاني: أن تكون الأحكام فعلية مع الجهل بها مطلقاً

الثاني: أن تكون الأحكام المذكورة فعليةً، إلا أن الجهل بها مطلقاً أو مع وجود المعذر من الحكم رافع لها، لكونه سبباً في حدوث ملاك مزاحم للملاك الواقعي مانع من تأثيره. وإلى هذا يرجع التصويب المحكي عن المعتزلة.

ولا إشكال في أن الوجهين المذكورين خلاف ظاهر الأدلة، فلابد

ص: 64

فيها من دليلٍ مخرجٍ عنها. ويأتي في مبحث إمكان التعبد بغير العلم تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

بقي أمران:
الأول: عدم إمكان اختصاص الحكم بحال الجهل

بقي في المقام أمران:

الأول: أن اختصاص الحكم بحال الجهل به غير ممكن بنحو التقييد اللحاظي، لاستلزامه أخذ المتأخر في المتقدم.

بل قد يدعى أنه لا مجال لذلك بنتيجة التقييد أيضاً، لاستلزامه لغوية جعل الحكم، إذ الأثر المصحح له عرفاً هو العمل المترتب على العلم، فلو اختص بحال الجهل لم يكن صالحاً لترتب العمل.

لكن هذا إنما يمنع من اختصاص الحكم بصورة عدم المنجز له، ولا يمنع من اختصاصه بصورة الجهل بالحكم الذي يجتمع مع المنجز له، فإن المعيار في العمل بالحكم على المنجز له ولو لم يكن قطعاً، فيكون أثر جعل الحكم حينئذٍ ترتب العمل عليه بسبب غير العلم من المنجزات من الأمارات والأصول.

غاية الأمر أن يكون العلم من سنخ الرافع للحكم، لكونه سبباً في حدوث المزاحم له، ولا محذور في ذلك. وما حكاه شيخنا الأستاذ عن بعض الأعاظم (قدس سره) من امتناع كون القطع موجباً لتغير الملاك كي يتبعه الحكم. مما لم يتضح مأخذه لو تمت نسبته له.

الثاني: ما ذكره النائيني (قدس سره) من كون العلم موضوعاً في الأحكام العقلية

الثاني: قال المرحوم الكاظمي في تقرير درس بعض الأعاظم (قدس سره): وأما الأحكام العقلية فالعلم فيها دائماً يكون موضوعاً... فإن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات إلى الموضوع العقلي، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الناس إلا بعد الالتفات إلى كونه مال

ص: 65

الناس....

المناقشة فيه

ولا يخفى ما في ظاهره من التدافع، إذ بعد فرض كون الموضوع العقلي هو العنوان الواقعي - كالتصرف في مال الناس - كيف يكون العلم بالموضوع دخيلاً فيه؟! فلابد إما من الالتزام بأن الموضوع هو العلم بالعنوان، لا العنوان الواقعي بنفسه، أو بأن العلم بالعنوان طريقي محض لا موضوعي.

والذي ينبغي أن يقال: الحسن والقبح المنتزعان من الملاك المقتضي للعمل، واللذان هما مفاد الكبريات العقلية موضوعهما العناوين الواقعية، كالإحسان إلى الناس والتصرف في أموالهم، والحسن

والقبح المترتبان على العمل الملازمان لاستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عليه موضوعهما العلم بالعناوين المذكورة، لا العناوين بأنفسها.

والخلط بين المعنيين في غير محله، نظير ما تقدم من الخلط بين قسمي القبح الفعلي عند الكلام في قبح التجري، والذي عليه يبتني التفصيل المتقدم عن صاحب الفصول (قدس سره). فراجع.

الأمر الثاني: في القطع الموضوعي وأقسامه

الأمر الثاني: حيث عرفت امتناع أخذ القطع موضوعاً في ما هو طريق إليه، وأن القطع لا يكون موضوعياً إلا بالإضافة إلى حكم آخر غير ما قام عليه.

فاعلم: أن الأقسام الفرضية المتصورة للقطع الموضوعي كثيرة، والمناسب التعرض لما وقع الكلام فيه بينهم بلحاظ بعض الآثار المترتبة عليه فنقول:

القطع الموضوعي إما أن يتعلق بموضوع واقعي لا حكم له شرعاً،

ص: 66

كقيام زيد، أو بموضوع له حكم شرعي كالاستطاعة، أو بنفس الحكم الشرعي، كوجوب الحج.

لا إشكال في الأول.

احتمالات الحكم المترتب على القطع

وعلى الأخيرين فالحكم المترتب على القطع..

تارةً: يكون مماثلاً لحكم المقطوع أو للحكم المقطوع به، بأن يتفقا نوعاً ومتعلقاً كما لو قال: إن علمت أنك مستطيع وجب عليك الحج، أو: إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك الحج، مع فرض أن تمام موضوع وجوب الحج هو الاستطاعة، وأن الوجوب الثابت بسبب العلم بها أو بوجوب الحج هو وجوب آخر غير ذلك الوجوب.

وأخرى: يكون مضاداً له، كما لو قال: إن علمت أنك مستطيع حرم عليك الحج، أو: إن علمت أن الحج واجب عليك حرم عليك الحج.

وثالثةً: يكون مخالفاً له بأن يتعدد متعلقهما، كما لو قال: إن علمت أنك مستطيع وجب عليك التصدق، أو: إن علمت أن الحج واجب عليك وجب عليك التصدق.

لا إشكال في إمكان الأخير.

كما لا ينبغي الإشكال في امتناع الثاني، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين ولا يصححه اختلاف الحكمين رتبةً، لما ذكره غير واحدٍ من أن الاختلاف الرتبي لا يصحح اجتماع الضدين. فإن ملاك التضاد بين الأحكام المانع من اجتماعها في متعلق واحد تنافيها في مقام العمل، وهو لا يرتفع باختلاف الرتبة المذكور.

نعم، لو فرض كون العلم رافعاً للحكم الأولي بحيث يختص الحكم

ص: 67

بحال الجهل به أو بموضوعه جرى فيه ما تقدم قريباً من الكلام في إمكان اختصاص الحكم بحال الجهل.

وأما الأول فالظاهر أنه لا محذور فيه، غايته أنه لا يجتمع الحكمان بحديهما في المتعلق الواحد، بل يتعين البناء على ثبوت حكم واحد بمرتبةٍ مؤكدة فيه، لأن التكليف نحو إضافة ونسبة بين المكلِّف والمكلَّف والمكلَّف به لا تقبل عرفاً التعدد إلا مع تعدد بعض أطرافها.

ولو فرض اجتماع أكثر من جهةٍ واحدةٍ له كان المرتكز عرفاً ثبوت تكليفٍ واحد بمرتبة شديدة. وإن كان لا أثر ظاهراً للفرق بين التأكد والتعدد في المقام.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) في تقسيم القطع الموضوعي

هذا، وقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن القطع الموضوعي..

تارةً: يكون مأخوذاً بما هو صفة خاصة قائمة بالشخص.

وأخرى: يكون مأخوذاً بما هو طريق إلى الواقع المقطوع به.

ما ذكره النائيني (قدس سره) في ضابطة التقسيم المذكور

وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) في بيان ضابط التقسيم المذكور أن القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة وجهة الحقيقية فيه قائمة بنفس القاطع من حيث قيام الصورة بذهنه، وجهة الإضافة قائمة بذي الصورة، وهي المتعلق، فإن أُخذ موضوعاً في الحكم بلحاظ الجهة الأولى كان من القسم الأول، وإن أُخذ بلحاظ الجهة الثانية كان من القسم الثاني.

المناقشة فيه

وفيه: أن أخذه بلحاظ الجهة الثانية لا ينافي خصوصيته، بأن يكون المأخوذ هو الكشف الخاص الحاصل في القطع، لا مطلق الكشف، فملاحظة كاشفيته لا تنافي كونه مأخوذاً بما هو صفةٍ خاصة، كما صرح به المحقق الخراساني (قدس سره). قال: يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاك عن متعلقة،

ص: 68

وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به.

وبعبارةٍ أخرى: الغرض من التقسيم المذكور هو ما سيأتي من قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القطع الموضوعي وعدمه، وليس المعيار في الغرض المذكور ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من الضابط في التقسيم، بل القطع إن اعتبر بنفسه وخصوصيته كان من القسم الأول، من دون فرق بين أن يلحظ بما هو صفة خاصة قائمة بالقاطع، وأن يلحظ بما هو كاشف خاص متعلق بالمقطوع به. وإن اعتبر بما أنه إحراز للمقطوع مستتبع للعمل عليه ومصحح للبناء عليه كان من القسم الثاني.

وقد يترتب على ذلك قيام غيره من الأمارات والأصول المحرزة مقامه. لكن لا من جهة تنزيلها منزلته، بل لأنها أفراد حقيقية للموضوع مثله، لأن الموضوع في الحقيقة مطلق الإحراز لا خصوص الإحراز بالقطع، وذكر القطع في الأدلة بما أنه أحد الأفراد لا لخصوصيته.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني (قدس سره) في ضابط التقسيم، ولعله يأتي زيادة توضيح لذلك في الأمر الثالث.

ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) ذكر أن القطع بقسميه السابقين..

في ما ذكره الخراساني (قدس سره) في التقسيم

تارةً: يؤخذ تمام الموضوع للحكم، فيترتب الحكم معه وإن كان خطأً.

وأخرى: يكون جزء الموضوع وجزؤه الآخر هو الواقع الذي تعلق به، فلا يترتب الحكم إلا مع إصابة القطع للواقع. فتكون الأقسام أربعة.

إشكال النائيني (قدس سره) على ما ذكره (قدس سره)

وقد استشكل بعض الأعاظم (قدس سره) في إمكان أخذه تمام الموضوع مع أخذه على نحو الطريقية من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع بوجهٍ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظه، كما هو الشأن في

ص: 69

كل طريق، حيث يكون لحاظه طريقاً لحاظاً لذي الطريق في الحقيقة.

المناقشة فيه

وفيه: أن أخذ الطريق في موضوع الحكم بما هو طريق إنما يقتضي لحاظ طريقيته للواقع وأخذها في الموضوع وهو يستلزم النظر للواقع تبعاً لا على أن يكون دخيلاً في موضوع الحكم، بل كما يمكن أن يكون دخيلاً فيه يمكن أن يكون أجنبياً عنه.

ولو فرض كون الواقع هو الملحوظ الاستقلالي - والقطع آلة له فانٍ فيه - خرج عن القطع الموضوعي وكان طريقياً محضاً خارجاً عن محل الكلام.

وبالجملة: أخذ القطع في الموضوع بما هو طريق وإن اقتضى ملاحظة الواقع لكونه طرف الإضافة إلا أنه لا يقتضي أخذه في الموضوع معه، بل يمكن أن يكون تمام الموضوع هو الانكشاف الحاصل به، كما ذكر ذلك شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)، فما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من الأقسام الأربعة ممكنة بأجمعها.

الأمر الثالث: في قيام الطرق مقام القطع

الأمر الثالث: حيث عرفت أن القطع..

تارةً: يكون طريقياً.

وأخرى: يكون موضوعياً.

فيقع الكلام هنا في قيام الطرق والأصول مقامه بقسميه.

وحيث كان الكلام في ذلك مبنياً على الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول كان المناسب التعرض هنا لذلك مقدمةً لمحل الكلام، وإن كان محله مباحث الحجج والأصول.

ص: 70

وجوه كلماتهم في قيام الطرق مقام القطع

وكلماتهم في ذلك مختلفة جداً، وما يمكن تحصيله منها على اختلافها وجوه..

الأول: تنزيلها منزلة الواقع

الأول: أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأصول تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع عند تحقق موضوعاتها، فكما يكون الواقع مورداً للعمل تكون هي مورداً له، كما هو الحال في سائر موارد التنزيل.

المناقشة فيه:
أولاً: بعدم ظهور الأدلة في ذلك

وفيه.. أولاً: أنه لا ظهور للأدلة في ذلك بوجهٍ، فإن ظهورها في كون التعبد بلحاظ العمل يقتضي كونها مورداً للعمل كالواقع، من دون دلالة على كونه بعناية التنزيل المذكور.

بل لسان التعبد بمضامين الطرق والأصول مباين للسان التنزيل، لوضوح أن مفاد الطرق بيان الواقع، فمفاد أدلة اعتبارها لزوم البناء على كون مضمونها هو الواقع، لا تنزيل أمر آخر منزلته. ومفاد الأصول لزوم التعبد بالعناوين الموضوعية - كالتذكية - والحكمية - كالحلية والطهارة - ولزوم البناء عليها في مقام العمل، لا تنزيل العناوين المتعبد بها منزلة العناوين الواقعية، بل هو أمر آخر متأخر رتبةً عن التعبد، لكونه نحو نسبة بين الأمر المتعبد به والواقع، فيحتاج إلى دليلٍ آخر لا ينهض به دليل التعبد.

اللهم إلا أن يدّعى أن التنزيل إنما هو بين موضوع الأصول والمحكوم بالحكم الواقعي، لا بين مفاد الأصول والواقع، فمرجع قوله (ع): كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر، إلى تنزيل مجهول الحال منزلة الطاهر في ثبوت أحكامه له، والحكم عليه بالطهارة ادعاءً بلحاظ الأحكام الثابتة للطاهر، لا الحكم عليه بها حقيقةً في مقام الظاهر، ثم تنزيلها منزلة الطهارة الواقعية، ليتجه الإشكال المتقدم.

ص: 71

نعم، هو خلاف الظاهر، لأن ظاهر الحكم بشيء هو الحكم به حقيقةً لا ادعاءً وتنزيلاً.

ودعوى: تعذر الحمل على الحكم الحقيقي، لتبعيته للواقع، لا للجهل به، فيتعين الحمل على الحكم الادعائي.

مدفوعة: بأن الحمل على الادعاء والتنزيل لا يرفع المحذور المذكور، إذ التنزيل إنما يصح بلحاظ أحكام المنزل عليه، وهي - كالعنوان المحكوم به - تابعة لموضوعاتها الواقعية أيضاً، فكما يصح الحكم بالعنوان ادعاءً وتنزيلاً بلحاظ أحكامه مع عدم ثبوتها واقعاً، كذلك يصح الحكم الحقيقي بالعنوان نفسه مع عدم ثبوته واقعاً. وإذا لم يصح الثاني لم يصح الأول.

ومنه يظهر أن الحمل المذكور لا يصلح لرفع محذور الاختلاف بين الحكم الواقعي والظاهري وإنما هو يبتني على ظهور الأدلة في ذلك، وقد عرفت عدمه.

ثانياً: عدم تعقل التنزيل بلحاظ نفس الأحكام

وثانياً: أن التنزيل المذكور - لو تم - إنما يتعقل في التعبد بموضوعات الأحكام التكليفية - كالطهارة والتذكية والرطوبة - فيدعى أن الحكم بها ليس حقيقياً، بل هو ادعائي بلحاظ أحكامها الشرعية، بخلاف التعبد بنفس الأحكام التكليفية - كالحل والحرمة - لعدم كونها موضوعاً لأحكام شرعية يصح بلحاظها التنزيل. وأحكامها العقلية - كوجوب الإطاعة - مختصة بها، ولا تنالها يد الجعل الشرعي، حتى يمكن التنزيل بلحاظها.

الكلام في جعل المؤدى منزلة الواقع

إلا أن يلتزم في ذلك بجعل المؤدى حقيقةً، وأن معنى تنزيله منزلة الواقع جعله كالواقع، فيكون مؤدى دليل الاعتبار في الطرق والأصول الموضوعية جعل أحكام تلك الموضوعات، وفي الطرق والأصول الحكمية

ص: 72

جعل نفس تلك الأحكام.

المناقشة فيه

وهو - كما ترى - لا يناسب اتحاد لسان دليل الاعتبار في المقامين، بل رجوعهما إلى خطابٍ واحد جامع لهما في كثير من الطرق والأصول. مضافاً إلى استلزامه جعل الحكم الظاهري في قبال الحكم الواقعي، وهو لا يخلو عن إشكال يأتي الكلام فيه في محله.

ومن ثم يتعين حمل التنزيل المذكور - لو ورد - على الكناية عن حجية الطرق في إحراز الواقع وترتيب آثاره، فيرجع إلى الوجه الرابع، الذي يأتي الكلام فيه.

الثاني: تنزيلها منزلة العلم

الثاني: أن مفاد أدلة الطرق هو تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها ادعاءً لأجل التنزيل المذكور، فكما يلزم العمل مع العلم يلزم بقيامها.

وكذا الاستصحاب بدعوى: أن مفاد دليله تنزيل الشك في مورده منزلة اليقين، فيترتب عليه آثار اليقين من لزوم العمل وغيره. وأما بقية الأصول فلابد من توجيهها بوجه آخر، ويأتي الكلام فيها بعد الفراغ من الوجه الرابع.

المناقشة فيه:
أولاً: عدم إمكان استفادة التنزيل

وفيه.. أولاً: أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور، لعدم تضمن أدلة الاعتبار له صريحاً كما أنها لم تتضمن توصيف الطرق بأنها علم حتى يحمل بقرينة مباينتها للعلم على التنزيل والادعاء. وغاية ما تدل عليه لزوم متابعتها عملاً، من دون دلالة على كون ذلك متفرعاً على لزوم متابعة العلم وفي طوله وبعناية تنزيلها منزلته.

كيف وقد سيقت في بعض الأدلة في مقابل العلم دون إشعار بالتنزيل المذكور، ففي رواية مسعدة بن صدقة: والأشياء كلها على هذا حتى يستبين

ص: 73

لك غير هذا أو تقوم به البينة.

ودعوى: أن مقتضى الجمع بينه وبين قوله (ع) في صدرها: كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام كون البينة أحد فردي العلم شرعاً.

مدفوعة: بأن الجمع بينهما يقتضي حمل العلم في الصدر على مطلق الحجة والكاشف الذي يترتب عليه العمل، لا تنزيل البينة منزلة العلم الوجداني الذي هو محل الكلام.

ودعوى: أن غالب الطرق حجة ببناء العقلاء الممضى شرعاً، وحيث كان مقتضى المرتكزات العقلائية تنزيلها منزلة العلم وإلغاء احتمال الخلاف معها تعين حمل أدلة الإمضاء الشرعية على ذلك.

مدفوعة: بأن المتيقن من بنائهم العمل بالطرق المذكورة والبناء على ترتب مضمونها وعدم الاعتناء عملاً باحتمال خطئها، وذلك وإن أوجب اشتراكها عندهم مع العلم في مقام العمل، إلا أنه لا يقتضي كون العمل بها بعناية تنزيلها منزلته بإلغاء احتمال الخلاف ادعاءً.

بل لا معنى لابتناء الارتكاز والسيرة المذكورين على التنزيل المذكور، إذ التنزيل إنما يتجه في الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية، حيث يكون الغرض منه تسرية الحكم الثابت بحسب ظاهر الدليل للعنوان إلى الفاقد له، كما في: الطواف بالبيت صلاة.

أما الأدلة اللبية فيغني قيامها على ثبوت الحكم لفاقد العنوان عن عناية التنزيل منزلته. وأما الاستصحاب فلا ظهور لدليله في التنزيل المذكور أيضاً، بل لا يستفاد منه إلا وجوب البناء على مقتضى اليقين في حال الشك على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 74

ومما ذكرنا هنا وفي الوجه الأول يظهر حال ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من ظهور أدلة الاعتبار في التنزيلين معاً، أعني تنزيل الطريق منزلة العلم وتنزيل المؤدى منزلة الواقع المعلوم.

ويأتي تمام الكلام في ما ذكره (قدس سره) عند الكلام في قيام الطرق مقام القطع الموضوعي.

ثانياً: عدم صحة التنزيل بلحاظ الآثار التكوينية

وثانياً: أن التنزيل منزلة العلم إنما يصح بلحاظ الآثار العملية الشرعية للعلم لو فرض أخذ العلم موضوعاً في بعض الآثار، لا بلحاظ الآثار التكوينية أو العقلية له، لوضوح أن الأولى تابعة لأسبابها، والثانية تابعة لموضوعاتها الواقعية ولا تقبل التصرف الشرعي بجعلها على موضوعٍ آخر، ولازم ذلك عدم قيامها مقام القطع الطريقي، مع أن قيامها مقامه هو المتيقن من أدلة جعلها، وهو كاشف عن عدم ابتناء جعل الطرق على تنزيلها منزلة العلم بعناية اشتراكها معه في الأحكام الشرعية الثابتة له، بل لو فرض ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة القطع فلابدَّ، إما من..

دعوى: رجوعه التنزيل إلى تنزيل المؤدى منزلة الواقع ودفعها

دعوى: أنه راجع إلى تنزيل المؤدى منزلة الواقع بأن يلحظ القطع والطريق في مقام التنزيل بما هما آلةً لمتعلقيهما وطريق لملاحظته من دون لحاظٍ لهما باستقلالهما - كما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) - فيرجع هذا الوجه إلى الوجه الأول، ويجري فيه ما سبق.

دعوى رجوع التنزيل بلحاظ الآثار العقلية ودفعها

أو دعوى: أن التنزيل المذكور إنما هو بلحاظ آثار القطع العقلية والتكوينية من ترتب العمل ووجوب الإطاعة ونحوها، لكن لا بجعلها ابتداءً، بل بتوسط جعل موضوعاتها وهي الأحكام الشرعية المطابقة للمؤديات، فإن كان المؤدى حكماً كان مرجع التنزيل إلى جعله، وإن كان موضوعاً كان

ص: 75

مرجعه إلى جعل حكمه، ويكون الحكم المجعول ظاهرياً، بناءً على إمكان جعل الحكم الظاهري.

دعوى: أن التنزيل كناية عن التكليف ودفعها

أو دعوى: أن التنزيل المذكور كنايةً عن التكليف شرعاً بالعمل على طبقها على أن يكون التكليف المذكور طريقياً لحفظ الواقع المحتمل الذي قامت عليه، نظير التكليف بالاحتياط في بعض الموارد.

أو دعوى: أنه كناية عن حجية الطرق على مؤدياتها ومحرزيته بها كالقطع، وهو الظاهر كما أشرنا إليه في الوجه الأول، ويأتي توضيحه في الوجه الرابع.

الثالث: ما ذكره النائيني (قدس سره) جعلها علماً تعبداً

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن مفاد أدلة الطرق والأصول جعلها علماً تعبداً، لكن من حيث كونه طريقاً وكاشفاً، وقد ذكر في توضيح ذلك أن في القطع ثلاث جهات مترتبة..

الأولى: أنه صفة حقيقية قائمة بالقاطع.

الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإرائته للواقع المنكشف به.

الثالثة: جهة البناء والجري العملي على وفقه، ولعله لذا سمي اعتقاداً، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد.

ولا يشاركه في الجهة الأولى شيء، بل تشاركه الطرق المجعولة في الجهتين الأخريين، حيث كان مفاد أدلة اعتبارها جعلها علماً شرعاً بتتميم كشفها وطريقيتها للواقع. ومن ثم اعتبر في الطرق أن تكون لها في حد ذاتها جهة كشف، وليس من الشارع إلا تتميمه بإلغاء احتمال الخلاف شرعاً، ويترتب على ذلك الجري العملي عليها.

ص: 76

أما الأصول التنزيلية فهي تشاركه في الجهة الثالثة فقط، فالمجعول فيها الجري والبناء العملي على الواقع، الذي كان في العلم قهرياً وفي الأصول تعبدياً، دون الكشف والطريقية، إذ ليس للشك الذي هو الموضوع فيها جهة كشف أصلاً.

المناقشة فيه:
أولاً: بأن التعبد لا يتناول الحقائق الجعلية

وفيه.. أولاً: أن التعبد والاعتبار إنما يتناول الحقائق الجعلية، دون الحقائق المتأصلة، كالعلم والانكشاف ونحوهما من الصفات الحقيقية التي لها ما بأزاء في الخارج، فلا معنى لاعتبار الطرق علماً وخلع صفته لها تشريعاً. وكما لا يمكن اعتباره في غير مورده بما هو صفة خاصة لا يمكن اعتباره بما هو كاشف، لأن الانكشاف من الأمور الحقيقية المقومة لذات العلم، فكما لا يمكن سلخ العلم عنه تشريعاً لا يمكن جعله لغيره كذلك.

وأشكل من ذلك ما رتبه (قدس سره) عليه من لزوم كون الطرق لها في حد ذاتها جهة كشف تممها الشارع.

إذ مع فرض أن العلم والكشف مما يقبل الجعل والتشريع لا فرق في جعله بين ما فيه كشف ذاتي ناقص وغيره، فكما يمكن تتميم الكشف في الأول يمكن إحداثه بتمامه في الثاني. على أنه سبق في الأمر الرابع من التمهيد أنه لا يعتبر في الطرق أن يكون لها في حدِّ ذاتها جهة كشف ناقص.

ثانياً: بعدم إمكان استفادة ذلك من الأدلة

وثانياً: أنه لو سلم إمكان الجعل المذكور، إلا أنه لا مجال لاستفادته من الأدلة، لما ذكرناه في الوجه الثاني. بل الجعل المذكور محتاج إلى عنايةٍ خاصة لا إشعار في الأدلة بها.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم حملها على ذلك، بقرينة ورودها مورد الإمضاء لبناء العقلاء في العمل بالطرق المذكورة، لابتناء عملهم بها

ص: 77

على معاملتها معاملة القطع الوجداني.

ففيه: أن بناء العقلاء إنما هو على العمل بالطرق المذكورة وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف، لا على البناء تشريعاً على كونها علماً والتعبد بذلك، فإن ذلك كسائر الأحكام محتاج إلى عنايةٍ خاصة لا طريق لاستفادته من سيرة العقلاء ومرتكزاتهم.

ثالثاً: أن الجهة المذكورة ليست من مقومات العقل

وثالثاً: أن الجهة الثالثة التي ذكرها للقطع من البناء والجري العملي وعقد القلب على الواقع المقطوع ليس من مقومات القطع، بل مما يترتب عليه في الجملة، فإن القاطع قد يعقد قلبه على ما يقطع به، وقد يعقد قلبه على خلافه جحوداً.

ولو سلم ملازمة القطع للاعتقاد فالأصول لا تقوم مقامه فيه، لوضوح عدم كون المطلوب فيها الاعتقاد بثبوت مؤداها، ولا جعله تشريعاً، بل مجرد البناء العملي، وهو مباين للاعتقاد الحاصل بالقطع.

إلا أن يكون مراده من ذلك محض البناء العملي الذي لا إشكال في ثبوته في الطرق والأصول، كما سيأتي.

الرابع: ما ذكره الخراساني (قدس سره) من أن أدلة الاعتبار تفيد جعل الحجية

الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في خصوص الطرق والأمارات من أن مفاد أدلة اعتبارها جعل حجيتها. قال (قدس سره): والحجية المجعولة غير مستتبعةٍ لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبةً لتنجز التكليف به إذا أصاب، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة غير المجعولة.

ويظهر من بعض مشايخنا أنه فهم منه كون الحجية عبارة عن المنجزية

ص: 78

والمعذرية، فأورد عليه بأن المعذرية والمنجزية من الأحكام العقلية التابعة لموضوعها، وهو البيان، فلا مجال لجعلها في غير موضوعها، لامتناع تخصيص الحكم العقلي.

مناقشة ما ذكره (قدس سره)

وفيه: أن ظاهر كلام المحقق الخراساني (قدس سره) المتقدم أن الحجة المجعولة عبارة عن معنى اعتباري مستلزم للمعذرية والمنجزية، وليست عينهما، فلا يلزمه تخصيص الحكم العقلي، بل عموم موضوعه لصورة قيام الحجة وعدم اختصاصه بالعلم، ولا محذور في ذلك.

نعم، أورد عليه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بعدم مساعدة الاعتبار عليه، إذ هو متفرع على اعتبار الواسطة في القطع بين كاشفيته ومعذريته ومنجزيته، وأن ترتبهما عليه ليس بمجرد كاشفيته، بل بتوسط الحجية المتفرعة عليها المجعولة في الطرق، ولا يساعد على ذلك التدبر في المرتكزات العقلية، إذ ليس المصحح للمعذرية والمنجزية في القطع بنظر العقل إلا كاشفيته.

ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) من أن الحجية منتزعة من الحكم الظاهري (قدس سره)

ومن ثم يظهر منه (قدس سره) أن مرجع جعل الحجية إلى تكاليف شرعيةٍ طريقيةٍ بالعمل على مقتضى الحجة لحفظ الواقع المحتمل، نظير أوامر الاحتياط، فتكون التكاليف المذكورة بسبب العلم بها موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً كالتكاليف الواقعية.

ولعله إليه يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في مسألة البقاء على تقليد الميت من أن الحجية منتزعة من الحكم الظاهري الراجع إلى الأمر بالعمل على الواقع على تقدير المصادفة - نظير أوامر الاحتياط - وإلى الترخيص على تقدير المخالفة فإن ذلك هو منشأ صحة الاعتذار والاحتجاج.

ص: 79

لكن ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيته ومعذريته وإن كان متيناً جداً، إلا أنه لا ينافي كون الحجية أمراً اعتبارياً مجعولاً في غير القطع من الطرق والأمارات، وذلك لأن الانكشاف التام في القطع بنفسه مقتضٍ للعمل على الواقع بلا حاجةٍ للحجية، إذ يكفي في العمل بالواقع وصوله، كما سبق في الفصل الأول، بخلاف الطرق والأمارات، فإن عدم وصول الواقع معها موجب لقصوره عن تأثير فعلية العمل، فيحتاج فيه إلى جعل الحجية لها لتصلح للتعبد بالواقع وإحرازه شرعاً.

ومن ثم سبق أنه لا مجال لوصف القطع بالحجية في مقام العمل، لعدم الاعتماد عليه فيه، بل النظر للواقع وحده، بخلاف الطرق، فإن ترتيب الأثر على الواقع يبتني عليها، فهي في مقام العمل ملتفت إليها في طول الالتفات للواقع.

كما سبق أيضاً أن عدم ترتب العمل عليها يرجع تارةً إلى إهمالها، وأخرى إلى إهمال الواقع الذي قامت عليه، بخلاف عدم العمل مع القطع، فإنه مستلزم لإهمال الواقع المقطوع به لاغير.

وبالجملة: عدم توسط الحجية في القطع بين كاشفيته ومنجزيته ومعذريته لا ينافي كون الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة في الطرق التي لا كشف لها في نفسها، فملاك العمل فيها مباين لملاك العمل بالقطع، لا متحد معه راجع إليه - إما لكونها موضوعاً لأحكام طريقيةً مقطوعاً بها، كما ذكره (قدس سره)، أو لكونها علماً شرعاً بالإضافة إلى الواقع، كما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) - فإنه تكلف لا تناسبه المرتكزات العقلائية.

ص: 80

وكأنه ناشئ من تخيل اختصاص المعذرية والمنجزية بالعلم، لعموم قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، بحمل البيان في الأولى على ظاهره، وهو العلم الذي هو صريح اليقين في الثانية، مع الغفلة عن أن القاعدتين المذكورتين ليستا مأخوذتين من أدلةٍ

لفظية، حتى يتجه الجمود على ظواهرها، بل هما قاعدتان لُبِّيتان ارتكازيتان وقع التعبير عنهما في كلماتهم بما تقدم تسامحاً لوضوح المقصود، فلا ينبغي الجمود على مفاد الألفاظ المذكورة، بل يلزم النظر إلى مفاد القاعدتين ارتكازاً، وهو يقتضي ما ذكرنا من أن الموضوع فيها ما يعم قيام الحجة، من دون حاجةٍ إلى إرجاعه للعلم.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا موجب للبناء على كون الحجية منتزعة من الحكم الطريقي، وهو وجوب العمل بالحجة شرعاً.

كيف ولازمه كون الحجية في الأحكام الإلزامية مباينة للحجية في الأحكام الترخيصية؟! لاختلاف منشأ انتزاعهما، لأن الأولى منتزعة من وجوب العمل بالحجة، والثانية منتزعة من جوازه لا وجوبه.

مضافاً إلى أن المرتكز وجوب العمل بالحجة من الأحكام العقلية المتفرعة على الحجية، والحجية من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل، كما يشهد به التوقيع الشريف: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله(1)، فإنه ظاهر في تأصل الحجية بالجعل وترتب العمل عليها، لا أنها منتزعة من وجوب العمل، على ما هو التحقيق في سائر الأحكام الوضعية، وإن فارقتها في أن ترتب العمل عليها

ص: 81


1- الوسائل ج 18 باب 11 من أبواب صفات القاصي حديث 9.

عقلي، وعلى سائر الأحكام الوضعية شرعي. وقد تقدم في مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية ما ينفع في المقام.

على أن مجرد الأمر بالعمل على طبق الطريق لا يستلزم حجيته، بل إن كان تعبدياً لمحض احتمال إصابة الواقع نظير الأمر بالاحتياط لم يستلزم الحجية، وإن كان متفرعاً على صلوح الطريق شرعاً لإثبات مؤداه، بحيث يعتمد عليه في البناء عليه ويكون العمل بالمؤدى بعد ثبوته، كما يعمل عليه مع انكشافه بالعلم الوجداني، كان مستلزماً للحجية. ومرجع ذلك إلى أن الحجية أمر اعتباري قابل للجعل يترتب عليه العمل عقلاً، كما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) وليست منتزعة من وجوب العمل على طبق الطريق، كما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره).

نعم، وجوب العمل عقلاً بالحجة طريقي في طول وجوب إطاعة التكاليف الشرعية، لرجوعه إلى إحراز الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى. كما أن جعل الحجية شرعاً طريقي لإحراز الأحكام الواقعية الشرعية، فإن الشارع الأقدس - كسائر الحكام - كما يكون له جعل الحكم ثبوتاً يكون له أن يُعبِّد به إثباتاً في ظرف الجهل به بجعل الحجة الحاكية عنه، بحيث يكون مفاد أدلة جعلها محرزيتها شرعاً به، فيجب العمل على مقتضى ذلك، كما هو الحال مع العلم، من دون أن يكون وراءها شيء إلا الواقع، فإن أصابته فهو، وإن أخطأته فليس هناك إلا تخيل ثبوته، كما في خطأ القطع.

ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) من أن الحجية منتزعة من الحكم الظاهري (قدس سره)

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشية الرسائل، حيث ذكر أن مؤديات الحجج في صورة الخطأ أحكام صورية، ناشئةً من إطلاق حجيتها من دون إناطة بصورة الإصابة، لامتناع التمييز معها.

ص: 82

مناقشة ما ذكره (قدس سره)

وأما لو أريد ظاهره من استتباع الحجية لحكمٍ صوري في صورة الخطأ، فيشكل..

أولاً: بما عرفت من عدم استتباع الحجية لجعل حكم ظاهري حتى في صورة الإصابة، بل هي لا تتضمن إلا التعبد بالواقع وإحرازه.

وثانياً: بأنه لو فرض استلزام جعل الحجية لجعل حكم على طبق الحجة، فلا معنى لكون الحكم المذكور صورياً في صورة الخطأ مع كون الحجية حينئذٍ حقيقيةً، والالتزام بأن الحجية حينئذٍ صورية مستلزم لعدم ترتب الأثر عليها مع احتمال الخطأ.

والحاصل: أن الحجية معنى اعتباري قابل للجعل يتضمن كون الشيء بنحوٍ صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل، ولازم ذلك عقلاً منجزيته ومعذريته. ولعل هذا هو مراد بعض الأعاظم (قدس سره) من المحرزية والوسطية في الإثبات، وإن كان لا ينبغي التعبير بتتميم الكشف وبأن الحجة من أفراد العلم شرعاً، كما تقدم.

وكأنه قد التبس عليه عدم الاعتناء باحتمال الخلاف عملاً اللازم من جعل الحجة بإلغائه ورفعه تعبداً وشرعاً اللازم من تتميم الكشف.

ثم إنه حيث كان ما ذكرنا في معنى الحجية هو المرتكز عرفاً في الطرق والأمارات لزم حمل أدلة اعتبارها على اختلاف ألسنتها على ذلك، كما أشرنا إليه في الوجهين الأولين. فتأمل جيداً.

في مفاد أدلة الأصول

هذا كله في مفاد أدلة جعل الطرق، وأما أدلة الأصول فهي قسمان:

الأول: ما يتضمن التعبد بالعنوان الحكمي كالحل والطهارة، أو الموضوعي كعدم التذكية.

ص: 83

الثاني: ما لا يتضمن ذلك، بل يقتضي العمل في ظرف الشك من دون توسط التعبد المذكور.

أما الأول فكالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة وغيرها.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) في حاشيته على الرسائل

وقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشية الرسائل أن مفاد أدلته أحكام حقيقية، قال: وأما الأصول التعبدية - كأصالة الإباحة، والطهارة، والاستصحاب في وجهٍ - فهي أحكام شرعية فعلية حقيقية، بداهة أن: كل شيءٍ حلال إباحة فعلية وترخيص حقيقي في الاقتحام في الشبهة من الشارع، كالترخيص في المباحات الواقعية، والتفاوت بين الترخيصين بكون موضوع أحدهما الشيء بعنوانه الواقعي، وموضوع الآخر بعنوان كونه مجهول الحكم لا يوجب التفاوت بينهما بالحقيقة والصورة، كما لا يخفى.

وهذا هو الظاهر من كثير منهم، ومن ثم توجه الإشكال في جمع الحكم المذكور مع الحكم الواقعي.

هذا، ولكن ارتكاز التنافي بين جعل الحكم في ظرف الشك مع إطلاق موضوع الحكم الواقعي - المستفاد من الغاية التي تضمنتها الأدلة المذكورة، لظهورها في أن العلم بالواقع طريق محض لا دخل له في الحكم الواقعي أصلاً - مانع من ظهور الأدلة المذكورة في جعل الحكم في ظرف الشك، بل هي ظاهرة في التعبد بالحكم أو الموضوع عند الشك فيها، الذي هو بمعنى البناء على تحققهما إثباتاً، فلا ينافي ثبوت الحكم الواقعي بوجهٍ.

صور جعل الحكم

وبعبارةٍ أخرى: ليس في المقام نوعان من الحكم: واقعي وظاهري، بل الحاكم..

تارةً: يجعل الحكم على موضوعه ثبوتاً ويعتبره في عالمه.

ص: 84

وأخرى: يعبِّد به أو يعبِّد بموضوعه المستلزم للتعبد به عرفاً، بنحوٍ يقتضي البناء على أحدهما إثباتاً في مقام ترتيب الأثر عملاً بعد الفراغ عن مقام الثبوت وفي رتبةٍ متأخرة عنه..

والأول هو مفاد الأدلة الاجتهادية على الأحكام الشرعية التي أطلق عليها في كلماتهم الأحكام الواقعية.

والثاني هو مفاد أدلة الأصول، وليس مفادها الأول، لما ذكرناه من القرينة. بل هو مقتضى مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية العرفية، إذ الجهل لما كان يقتضي التحير في الحكم المجهول في مقام العمل احتيج معه إلى ما يرفع التحير المذكور، فكان المناسب ورود أدلة الأصول لذلك بالتعبد بما هو المجهول بنحوٍ يستتبع العمل به، لا لجعل حكمٍ آخر، إذ الجهل بنفسه لا يقتضي الحاجة لذلك حتى تنصرف الأدلة له.

ومنه يظهر الفرق بين القضايا المذكورة التي موضوعها الجهل وسائر القضايا الحملية التي يكون موضوعها الذات، فإن فرض الذات بنفسها لا يقتضي فرض التحير المحوج للتعبد في مقام الإحراز والبناء العملي، بل لا معنى للتعبد في المقام المذكور إلا بعد الفراغ عن ثبوت شيء يحتاج إلى ذلك، فيتعين حمل القضايا الحملية على جعل الحكم في مقام الثبوت.

وهذا بخلاف فرض الجهل في أدلة الأصول، فإنه ملازم لفرض واقعٍ مجهول يمكن التعبد به، في مقام الإحراز العملي، بل يحتاج إليه لرفع التحير الحاصل من الجهل.

بل ما ذكرنا كالصريح من دليل الاستصحاب، لعدم التعرض فيه لما يوهم جعل المستصحب أو أحكامه بوجه، كيف و لازمه التفكيك بين

ص: 85

الاستصحاب الموضوعي والحكمي، بحمل الثاني على جعل المستصحب نفسه، والأول على جعل أحكامه ولا مجال لذلك مع اتحاد دليلهما. بل ليس التعرض فيه إلا للزوم العمل على مقتضى اليقين بعد ارتفاعه، وحيث إن اليقين لا يقتضي جعل المتيقن، بل البناء والعمل على ثبوته كان مفاد الاستصحاب ذلك لا غير.

بل ما تضمن التعبد بالعنوان لما ورد بعضه في الحكم الشرعي القابل للجعل - كقاعدتي الطهارة والحل - وبعضه في الموضوع الخارجي غير القابل للجعل - كقاعدة الفراش - كان حمله على الجعل

مستلزماً لتنزيل الأول فيه على جعل نفس العنوان الذي تضمنته القاعدة، والثاني على جعل أحكامه، وهو تفكيك لا يناسب تقارب لسان الدليلين بخلاف حمله على التعبد الذي ذكرناه، حيث لا مانع من البناء عليه في القسمين بنحوٍ واحد بلا محذور.

وبالجملة: التأمل في لسان أدلة الأصول بعد الرجوع للمرتكزات شاهد صدقٍ بأن مفادها ليس هو جعل العناوين المحمولة، بل التعبد بها في ظرف الشك فيها الراجع إلى لزوم البناء عليها في مقام العمل، خصوصاً في العناوين الموضوعية الصرفة التي لا تنالها يد الجعل الشرعي، فإنه أولى من حمل الحكم بها على جعل أحكامها، لأنه خروج عن الظاهر بلا وجهٍ.

ومن القريب جداً أن يكون هذا هو مراد بعض الأعاظم (قدس سره) مما تقدم منه في الأصول، كما أشرنا إليه آنفاً.

ومن جميع ذلك ظهر عدم الفرق بين مفاد أدلة الطرق والأمارات وأدلة الأصول، بل هي تشترك في التعبد بالمشكوك.

ص: 86

غاية الأمر أن التعبد به في الثانية ابتداءً، وفي الأولى بتوسط قيام الحجة عليه التي يتضمن لسان دليل جعلها الكشف عنه وبيانه بها.

ومن هنا كان اللازم العمل على الأدلة المذكورة، لعدم منافاتها لأدلة الأحكام الواقعية بوجهٍ حتى في مورد الخطأ، لعدم اقتضائها جعل حكم في قبال الحكم المجعول فيها. بل التعبد بها في مقام العمل وإحرازها إثباتاً، مع الفراغ عن مقام الثبوت والجعل وفي رتبةٍ متأخرةٍ عنه، فالخطأ فيها كالخطأ مع القطع لا ينافي الحكم الواقعي بوجه، كما لا ينافي دليله.

وكأن هذا هو مراد بعض الأعاظم (قدس سره) من الحكومة الظاهرية، وإلا فالحكومة عندهم من حالات الدليلين المتعارضين، ولا تعارض بين الأدلة في المقام لا واقعاً ولا ظاهراً، كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر ارتفاع إشكال اجتماع الحكم الواقعي والظاهري من أصله. ويأتي تمام الكلام في ذلك في مبحث التعبد بغير العلم إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فهو منحصر ظاهراً بأصالتي البراءة والاحتياط الشرعيين، فإنهما وإن تضمنتا العمل، إلا أن العمل المذكور ليس بتوسط البناء على ما يقتضيه، لعدم تضمنهما التعبد بثبوت الحكم الترخيصي أو التكليفي، بل لجعل العمل في حال الشك من حيث هو.

ولا إشكال في البراءة، لأنها على مقتضى حكم العقل فمفاد أدلتها إما إمضاء لحكمه بقاعدة قبح العقاب من غير بيان، أو بيان عدم جعل وجوب الاحتياط.

وإنما وقع الإشكال في الاحتياط، لأن المرتكز عرفاً كون العقاب معه

ص: 87

في ظرف المخالفة على الواقع المفروض عدم بيانه، فيكون العقاب منافياً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقد أطال الأعاظم (قدس الله أسرارهم) في توجيه ذلك.

ولعل الأَولى أن يقال: التأمل في المرتكزات العقلية قاضٍ بأنه كما يكون للحاكم جعل الحكم ثبوتاً، ويكون له التعبد به في ظرف الشك فيه..

تارة: بتوسط نصب الحجة عليه.

وأخرى: بدونه، كما في الأصول التعبدية، كذلك له التصدي لحفظ التكليف ببيان اهتمامه بحفظه بنحوٍ يقتضي الاحتياط في ظرف الشك فيه أو الفحص عنه وتعلمه، فوجوب الاحتياط كوجوب التعلم حكم عقلي طريقي راجع لتنجز التكليف عقلاً بسبب بيان الشارع اهتمامه بحفظه، الذي يكفي بنظر العقل في صحة العقاب عليه مع الجهل به.

ولا مجال مع ذلك لدعوى منافاته لعموم قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأن القاعدة المذكورة لما كانت عقليةً ارتكازية، ولم تؤخذ من أدلةٍ لفظية، فلا مجال للتمسك بعمومها في غير مورد الارتكاز، وهي مختصة ارتكازاً بما إذا لم يتصد الحاكم لحفظ حكمه وأوكل الأمر لحكم العقل، أما إذا تصدى لحفظه وَبيَّن اهتمامه به فلا حكم للعقل بذلك، بل يحسن العقاب عليه بنظر العقل عند المخالفة، فبيان الشارع اهتمامه بالتكليف الواقعي بالنحو المذكور رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب وإن لم يكن رافعاً للجهل.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من وجوب الاحتياط النفسي

وبما ذكرنا يظهر أنه لا موجب لما تكلفه بعض الأعاظم (قدس سره) من أن وجوب الاحتياط نفسي وعلته حفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به،

ص: 88

وأنه إن خولف فإن كان التكليف الواقعي ثابتاً استحق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المعلوم، لا على مخالفة الواقع المجهول، وإن لم يكن التكليف الواقعي ثابتاً فلا عقاب. لأن وجوب الاحتياط لما كانت علته حفظ الواقع، فمع عدمه لا وجوب له واقعاً، لتبعية الحكم لعلته وجوداً وعدماً.

مضافاً إلى الإشكال فيه..

المناقشة فيما ذكره (قدس سره)

أولاً: بظهور أدلة الاحتياط - لو تمت - في أن العقاب على الواقع في ظرف مخالفته، كما يشهد به مثل قولهم (عليهم السلام): من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.

وثانياً: بأنه إذا فرض كون علة وجوب الاحتياط حفظ الواقع، بحيث يكون تابعاً له وجوداً وعدماً كان جعله لاغياً، للشك في ثبوته تبعاً للشك في تحقق علته، فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل.

وأشكل منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن التكليف بالاحتياط يصلح لبيان التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده.

لما هو المعلوم من عدم كون لسان وجوب الاحتياط لسان بيان للواقع لا في ظرف وجوده ولا في ظرف عدمه.

وقد أطال (قدس سره) في ذلك، كما أطال غيره فيه. وما جرهم إلى ذلك إلا دفع محذور العقاب من غير بيان. والظاهر أن ما ذكرنا في دفعه هو الأقرب للمرتكزات العقلية والأنسب بالأدلة الشرعية في المقام. فلاحظ.

هذا تمام الكلام في مفاد أدلة الطرق والأصول، وقد استقصينا الكلام فيه زائداً على محل الحاجة هنا لينتظم البحث حتى يتسنى الإرجاع إليه في ما يأتي عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم. والله سبحانه وتعالى

ص: 89

ولي العصمة والسداد.

في قيام الطرق والأصول مقام القطع

وإذ عرفت هذا، يقع الكلام في قيام الطرق والأصول مقام القطع، فنقول:

قيامها مقام القطع الطريقي

أما قيامها مقام القطع الطريقي من حيثية استتباعه للعمل على مقتضى الواقع فليس هو مورداً للإشكال بينهم، لاقتضاء جميع الوجوه المتقدمة لذلك، بل هو المتيقن من أدلة الجعل والتعبد، كما لا يخفى.

نعم، الوجوه المتقدمة مختلفة، فإن مفاد الوجه الأول والثالث أن ترتب العمل على الطرق والأصول في طول ترتبه على القطع، ومفاد الوجه الرابع أن ترتبه عليها في قبال ترتبه على القطع، لعدم اختصاص ملاك العمل به. أما الثاني فهو يختلف باختلاف المحامل الأربعة المتقدمة عند الكلام فيه. فراجع. إلا أن هذا لا أثر له في المطلوب.

قيامها مقام القطع الموضوعي

وأما قيامها مقام القطع الموضوعي فهو المهم في المقام الذي اختلفت فيه كلمات الأعلام، وفي قيامها مقامه مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل بين ما كان مأخوذاً بما هو طريق للواقع، وما كان مأخوذاً بما هو صفة خاصة، فتقوم مقام الأول دون الثاني، وجوه أو أقوال.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

صرح بالأخير شيخنا الأعظم (قدس سره). وقد استدل عليه بعض الأعاظم (قدس سره) بما عرفت منه في أدلة جعل الطرق والأصول من أن مفادها جعل الطرق علماً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً، لا من حيث كونه صفةً خاصة، فتلحقها أحكامه الثابتة له من الحيثية الأولى دون الثانية.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: ما عرفت من الإشكال في المبنى المذكور ثبوتاً وإثباتاً.

وثانياً: أنه لا يتم في الأصول لاعترافه بعدم قيامها مقام العلم في جهة

ص: 90

كاشفيته وطريقيته، بل في البناء العملي لا غير.

وثالثاً: أن جعل الطريق علماً شرعاً إنما يقتضي ثبوت أحكام مطلق العلم له، دون أحكام خصوص العلم الوجداني، فإذا فرض ظهور أدلة أحكام العلم الموضوعي في خصوص الوجداني - كما اعترف به (قدس سره) - لم تنهض أدلة اعتبار الطريق وجعله علماً في قيامه مقامه في الأحكام المذكورة.

دعوى: حكومة أدلة الطرق والأمارات

ودعوى: أن ذلك مقتضى الحكومة، وأن أدلة أحكام العلم الموضوعي وإن كانت ظاهرةً بدواً في خصوص العلم الوجداني، إلا أن دليل جعل الطرق علماً يكشف عن سعة موضوع تلك الأحكام

وعمومه لمطلق العلم والمحرز وإن كان تعبدياً، كما هو الحال في سائر موارد الحكومة الموسعة للموضوع.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بعدم كون المقام من موارد الحكومة المصطلحة لهم، لاختصاص الحكومة بموارد التنزيل الادعائي المتقوم باشتراك المنزَّل مع المنزَّل عليه في الأحكام، الكاشف عن كون موضوع تلك الأحكام هو الأعم منها، وإن كان ظاهر أدلتها الأولية هو الاختصاص بالمنزل عليه، كما في مثل: المطلقة رجعياً زوجة، والطواف بالبيت صلاة.

وليس المفروض في كلامه (قدس سره) ظهور الأدلة في تنزيل الطرق منزلة العلم الوجداني والحكم عليها به ادعاء، بل جعلها علماً تعبداً، فهي من أفراد العلم حقيقية بسبب التعبد.

وحينئذٍ فإذا فرض كون موضوع الأحكام مطلق العلم والإحراز لم تكن الأدلة المذكورة حاكمةً، بل تكون واردةً عليها، كما هو الحال في أحكام القطع الطريقي العقلية، كالمنجزية واستحقاق العقاب وغيرهما. وإن فرض

ص: 91

ظهور أدلتها في اختصاص موضوعها بالإحراز الوجداني - كما اعترف به (قدس سره) في أحكام القطع الموضوعي - لم ينهض دليل التعبد بتسرية تلك الأحكام، لعدم انحصار فائدته بذلك حتى يخرج به عن ظهور الأدلة - الذي اعترف به - إذ يكفي في فائدته تسرية أحكام مطلق العلم، كأحكام القطع الطريقي. كما نبَّه إلى بعض ذلك شيخنا الأستاذ (دامت بركاته).

توجيه ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

وقد يوجه ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) بدعوى: ظهور أدلة اعتبار الطرق والأمارات في تنزيلها منزلة العلم وأنها من أفراده ادعاء المقتضي لاشتراكها معه في أحكامه وإن لم تكن منه حقيقةً ولا تعبداً، كما تقدم في الوجه الثاني، وهو المصرح به في كلام بعض الأعيان المحققين (قدس سره).

الإشكال على التوجيه

ويشكل.. أولاً: بما عرفت من قصور الأدلة عن إثبات التنزيل المذكور.

الإشكال على التوجيه بما ذكره الخراساني (قدس سره)

وثانياً: بما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) - وأشرنا إليه آنفاً - من أن التنزيل المذكور إن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لنفس العلم لم ينهض بقيام الطرق مقام القطع الطريقي الذي يكون منجزاً لأحكام الواقع، وإن كان بلحاظ الأحكام الشرعية لمتعلق القطع لم ينهض بقيامها مقام القطع الموضوعي. ولا جامع بين الأمرين، لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، إذ التنزيل بلحاظ أحكام نفس القطع مستلزم للحاظ القطع والطريق استقلالاً في مقام التنزيل، والتنزيل بلحاظ أحكام المتعلق مستلزم للحاظها آلةً وعبرةً للمتعلق، وهو ممتنع. وحيث كان قيام الطرق مقام القطع الطريقي متيقناً من أدلة الحجية تعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي.

دفع ما ذكره الخراساني (قدس سره) من وجوه

وقد يدفع الإشكال من هذه الجهة بوجوه..

ص: 92

الأول: ما ذكره العراقي (قدس سره)

الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الإشكال المذكور إنما يتجه لو كان التنزيل في مورد الطريقية المحضة متوجهاً إلى نفس الواقع المعلوم والمؤدى، أما إذا كان متوجها إلى نفس العلم والطريق فيمكن عموم التنزيل بلحاظ كلا الأثرين، حيث يكون التنزيل بين الطريق والعلم بلحاظ تمام الآثار العملية المترتبة على العلم إما بموافقة حكم نفسه أو بموافقة حكم متعلقه، كما لو كان العلم حاصلاً بالوجدان. وعدم كون الأثر شرعياً في العلم الطريقي غير ضائرٍ بصحة إطلاق التنزيل، لأن شرعيته في طرف المنزل كافية في صحة التنزيل وإن لم يكن كذلك في طرف المنزل عليه.

وفيه: أن عدم كون الأثر شرعياً في الطريقية المحضة كما يكون في طرف المنزل عليه - وهو العلم - كذلك يكون في طرف المنزل - وهو الطريق - لما هو المعلوم من أن المنجزية والمعذرية ولزوم الإطاعة وعدم المعصية المقتضية للعمل على الواقع في العلم الطريقي من مختصات العقل غير القابلة للجعل شرعاً، وإنما يكون للشارع جعل موضوعاتها، و هي الأحكام التكليفية أو الحجية أو نحوهما. وقد سبق آنفاً - عند الكلام في الوجه الثاني - أنه بناءً على التنزيل المدعى لابد في قيام الطرق مقام العلم الطريقي من أحد وجوهٍ أربعةٍ ترجع إلى جعل أحكام الواقع ظاهراً أو جعل أحكام طريقية لحفظ الواقع المحتمل، أو جعل الحجية لإحرازه وتنجيزه، وكل ذلك لا يناسب قيام الطرق مقام القطع الموضوعي في أحكامه الشرعية الواقعية، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.

الثاني: ما ذكره الخراساني (قدس سره) في حاشيته على الرسائل

الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشية الرسائل من أن دليل الاعتبار وإن تضمن تنزيل المؤدى منزلة الواقع المقطوع به في أحكامه، دون

ص: 93

تنزيل نفس الأمارة منزلة القطع، لما تقدم، إلا أنه

يستفاد منه تنزيل القطع بالمؤدى منزلة القطع بالواقع في أحكامه، للملازمة العرفية بين التنزيلين، وإن لم تكن بينهما ملازمة عقلية.

وقد استشكل في ذلك في الكفاية بوجهٍ لا يخلو عن إشكال، ولا يسع المقام التعرض له، لتشعبه وتعدد محتملاته.

ويكفي في الجواب عما ذكره في الحاشية - بعد ابتنائه على كون مفاد أدلة اعتبار الطرق تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وقد عرفت الإشكال فيه آنفاً - أن ما ادعاه من الملازمة العرفية مما لم يتضح مأخذه، بل هو ممنوع جداً بعد تعدد موضوع التنزيلين واختلاف الأحكام المترتبة عليهما.

توجيه كفاية إطلاق التنزيل في ترتب أحكام القطع

إن قلت: يكفي في ترتب أحكام القطع بالواقع على القطع بالمؤدى إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع بلا حاجةٍ إلى تنزيلٍ آخر، كي يحتاج إثباته إلى دعوى الملازمة العرفية ويتسنى منعها.

وتوضيح ذلك: أن إطلاق التنزيل يقتضي ترتب جميع الأحكام التي كان المنزل عليه دخيلاً في ترتبها، سواءً كان تمام الموضوع لها أم جزءه، بأن أخذ المنزل عليه قيداً في عنوان موضوعها، فكما يكون مقتضى تنزيل عمرو منزلة زيد مشاركته له في مثل الحرية والولاية مما يثبت لعنوان زيدٍ بنفسه واستقلاله، كذلك مقتضاه مشاركته في مثل وجوب إكرام ولده لو فرض ثبوت وجوب إكرام ولد زيد، مع أن الوجوب لم يثبت لعنوان زيد بنفسه، بل ثبت لعنوان إكرام ولد زيد، وليس زيد إلا جزءاً لموضوع الحكم وقيداً في عنوانه، لإتمام الموضوع.

ولذا كان بناء الأصحاب - تبعاً للمرتكزات العرفية في فهم الكلام -

ص: 94

على أن مقتضى إطلاق تنزيل المطلقة رجعياً منزلة الزوجة حرمة أختها، ومقتضى تنزيل الفقاع منزلة الخمر - لو فرض كون الدليل وارداً مورد التنزيل - ثبوت الحد بشربه، مع أن التحريم من أحكام أخت الزوجة، والحد من أحكام شرب الخمر، لا من أحكام الزوجة والخمر استقلالاً بنحوٍ يكونان تمام الموضوع لهما، كالنجاسة بالإضافة للخمر.

نعم، لو لم يكن المنزَّل عليه دخيلاً في موضوع الحكم، وإنما أُخذ في الدليل لمحض التعريف بالموضوع والإشارة إليه، بأن لم يكن وجوب إكرام ولد زيدٍ - مثلاً - بما أنه ولد زيدٍ، بل لخصوصية فيه

ولم يقصد بنسبته إليه في الدليل إلا محض الإشارة إليه، كان تنزيل عمرو منزلة زيد قاصراً عن إثبات مثل ذلك، لا بإطلاقه ولا بالملازمة العرفية، فلا يجب إكرام ولد عمرو في المثال إلا بدليلٍ آخر متضمن لتنزيله منزلة ولد زيد.

ومن الظاهر أن أخذ الواقع المعلوم بعنوانه في دليل الحكم الثابت للعلم الموضوعي ليس لمحض التعريف، بل لكونه قيداً في موضوعه، فإذا ورد: إن علمت المرأة بوفاة زوجها بدأت عدتها، فوفاة الزوج قيد في موضوع الحكم لا محض معرف له. وحينئذٍ فإذا فرض ظهور دليل اعتبار البينة في تنزيل مؤداها منزلة وفاة الزوج - الذي هو الواقع - كان مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت الحكم المذكور، فيحكم بأن العلم بمؤدى البينة موجب لبدء عدتها. ولذا لا يظن من أحد التوقف في أن مقتضى إطلاق تنزيل الفقاع منزلة الخمر ثبوت أحكام العلم بالخمر للعلم بالفقاع كثبوت الحد ونحوه.

دفع التوجيه المذكور

قلت: التنزيل المذكور لما كان ظاهرياً لا واقعياً، فمقتضاه ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل ظاهراً لا واقعاً، مع تبعية الحكم الواقعي

ص: 95

للموضوع الواقعي، وحيث كان ثبوت الأحكام ظاهراً مشروطاً باحتمال تحقق موضوعاتها الواقعية، فلا مجال له في المقام، للعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي، وهو القطع بالواقع. وأما ثبوت أحكام القطع بالواقع للقطع بالمؤدى واقعاً، المستلزم لسعة موضوعها واقعاً، فلا ينهض به التنزيل الظاهري المذكور، بل يتوقف على كون التنزيل واقعياً، كما في تنزيل الفقاع منزلة الخمر.

وبالجملة: إطلاق تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا ينهض بإثبات أحكام القطع الموضوعي للقطع بالمؤدى لا ظاهراً ولا واقعاً. أما الأول فللعلم بعدم تحقق الموضوع الواقعي. وأما الثاني فلعدم السنخية، بل لابد فيه من تنزيلٍ آخر واقعي، إما بين المؤدى والواقع، أو بين القطع بالمؤدى والقطع بالواقع، ولا مجال لاستفادته من التنزيل الظاهري المذكور، إلا بدعوى الملازمة العرفية، وهي ممنوعة جداً، لعدم المنشأ لها ارتكازاً.

فتأمل جيداً.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره)

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن الإشكال المذكور إنما يتوجه لو كان الملحوظ في مقام التنزيل مفهوم الطريق فقط، حيث يمتنع الجمع بين لحاظه استقلالاً في نفسه ولحاظه آلةً وطريقاً للمؤدى. أما لو كان الملحوظ هو الطريق والمؤدى معاً وتنزيلهما معاً منزلة القطع والواقع فلا يلزم المحذور، لرجوعه إلى تنزيلين مختلفي الموضوع والآثار، قد لحظ موضوع كل منهما استقلالاً بلحاظ أحكامه الخاصة به. والمستفاد من أدلة الحجية هو الثاني، كما يشهد به مثل قول العسكري (ع): العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما

ص: 96

وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان (1) وغيره مما يتضمن الطريق والمؤدى كثير.

مع أن ما لا يكون بهذا المضمون لابد أن يكون محمولاً عليه، جرياً على الارتكاز العقلائي في باب الحجج من كونها بمنزلة العلم عندهم في ترتيب آثاره عليها. كما أن مؤداها بمنزلة الواقع في ترتيب آثاره.

المناقشة فيما ذكره (قدس سره)

وفيه: أن ما ساقه من الأدلة على التنزيل بالوجه المذكور مما لم يتضح دلالته عليه، فإن الحديث المتقدم وإن تضمن الحكم على العمري وابنه (رضوان الله عليهما) بالوثاقة، ثم الحكم بأن ما أدياه فعنه (ع) يؤديان، إلا أن الأول قضية خبرية واقعية لا ترجع إلى تنزيل خبرهما منزلة العلم شرعاً في قبال تنزيل ما يؤديانه منزلة الواقع، بحيث يكون في المقام تنزيلان تعبديان مستقلان أولهما واقعي يرجع إلى سعة موضوع الحكم الوارد على العلم وشموله للطريق، والثاني ظاهري في طول الواقع لبيان الوظيفة العملية حال الجهل به. بل سيقت للتمهيد للثاني ببيان موضوعه، ولذا فرع الثاني على الأول بالفاء ثم علله بما يرجع إلى الأول. فليس في المقام إلا الحكم بأن ما أدياه فعنه يؤديان.

وهو حينئذٍ إما أن يحمل على الحقيقة - كما هو الظاهر - فيقتضي الملازمة الواقعية بين خبر العمريين (رضوان الله عليهما) والواقع، نظير قوله (ص): علي مع الحق والحق مع علي ويدل على عصمتهما (رضوان الله عليهما) في الأداء عنه (ع). أو على الادعاء الراجع إلى الحكم على ما يؤديانه بأنه أداء عنه (ع) تنزيلاً، فلا يقتضي إلا تنزيل المؤدى منزلة الواقع،

ص: 97


1- الوسائل ج 18 باب 11 من أبواب صفات القاضي، حديث: 4.

كما تقدم في الوجه الأول. وحينئذٍ يتعين حمله على الكناية عن حجية خبرهما، فيرجع إلى ما ذكرناه في الوجه الرابع، وهو أجنبي عن تنزيل الطريق منزلة العلم في أحكامه الشرعية الخاصة به، بنحوٍ يقتضي ثبوتها له واقعاً.

ومنه يظهر الحال في بقية أدلة الحجية النقلية، فإنه - مضافاً إلى عدم الإشعار فيها بالتنزيل بوجه، كما أشرنا إليه آنفاً - لابد من حملها على حجية الطرق، لأنه المرتكز عرفاً، كما تقدم في الوجه الرابع، دون ما ذكره (قدس سره).

وأوضح من ذلك الأدلة اللبية، لما أشرنا إليه في الوجه الثاني من أنه لا معنى للتنزيل فيها. فراجع وتأمل جيداً.

هذا مضافاً إلى أن جميع الوجوه المتقدمة المبتنية على أن أدلة الطرق تتضمن تنزيل الطرق بنفسها منزلة القطع - ولو تبعاً لتنزيل مؤدياتها منزلة الواقع - تقتضي قيام الطرق مقام القطع الموضوعي مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الحكم بما هو صفة خاصة. فإن الطرق وإن لم تحقق معها الصفة المذكورة إلا أن مقتضى دليل التنزيل عموم حكم القطع لما هو بمنزلته وإن كان فاقداً لخاصيته، كما هو الحال في سائر موارد التنزيل، ضرورة ظهور أحكام المنزل عليه في كونه مأخوذاً فيها بخصوصيته وخاصته بنحوٍ لا يتعدى لغيره، وإنما تعمم تلك الأحكام للمنزل عليه المباين له والفاقد لخاصيته بضميمة دليل التنزيل لا غير. مع أن من الظاهر عدم بنائهم على ذلك. فلاحظ.

هذا حاصل ما تسنى لنا التعرض له من كلماتهم في المقام، وقد جرينا فيه على ما يظهر منهم من أن جريان أحكام القطع الموضوعي مع قيام الطرق والأصول في طول جريانها مع القطع، لكون الأحكام مختصة

ص: 98

بالقطع، فالتعدي منه إليها موقوف على كونها من أفراده التعبدية الجعلية، أو الادعائية التنزيلية، وحيث عرفت عدم تمامية الأمرين معاً يتعين البناء على عدم قيامها مقام القطع الموضوعي مطلقاً، كما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية، خلافاً لشيخنا الأعظم (قدس سره).

المختار في المقام ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

لكن التحقيق: أن ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من التفصيل في محله، لأن فرض كون المأخوذ في الموضوع هو القطع بما هو طريق إلى الواقع راجع إلى أن الموضوع ليس هو القطع بنفسه - حتى يتوقف جريان أحكامه مع الطرق على تنزيلها منزلته أو جعلها من أفراده تعبداً - بل بما أنه أحد أفراد الطريق،

والموضوع الحقيقي هو مطلق الطريق كما تقدمت الإشارة إليه في تقسيم القطع الموضوعي، وحينئذٍ فتكون الطرق الشرعية بمقتضى جعلها من أفراد الموضوع حقيقةً بلا حاجةٍ إلى عناية جعلها علماً تعبداً أو ادعاءً، كي يتسنى إنكار ذلك.

ومنه يظهر توجه الإشكال على المحقق الخراساني (قدس سره)، فإنه مع تفسيره القطع المأخوذ على وجه الطريقية بما ذكرنا منع من قيام الطرق مقامه، مع أنه لا إشكال في كونها طرقاً للمتعلق فتكون من أفراد الموضوع حقيقةً بلا حاجةٍ إلى عناية التنزيل أو التعبد بكونها علماً كما ذكرنا.

نعم، قد تتوجه الحاجة إلى ذلك بناءً على ما تقدم من بعض الأعاظم (قدس سره) في تفسير القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية. فراجع.

إن قلت: أدلة الحجية إنما تقتضي التعبد بالمؤدى وإحرازه بلحاظ أثره، للغوية التعبد بالشيء من دون لحاظ أثرٍ عملي مترتب عليه، والمفروض أن الأثر في المقام ليس مترتباً على المؤدى، بل على نفس التعبد والإحراز،

ص: 99

فمع عدم ترتب الأثر على المؤدى لا يصح التعبد به، حتى يترتب أثر التعبد المذكور ويقوم مقام القطع الموضوعي.

قلت: يكفي في تصحيح اعتبار الحجية ورفع لغوية التعبد ترتب الأثر على نفس التعبد، ولا يعتبر ترتب الأثر على نفس المؤدى، لأن الحجية ليست عبارة عن وجوب المتابعة، حتى تتوقف على فرض أثر للمؤدى تتحقق المتابعة بلحاظه، بل هي - كما تقدم - معنى اعتباري يقتضي الاعتماد على الطريق في إثبات المؤدى والبناء عليه، وهذا المعنى لا يتقوم بفرض الأثر للمؤدى.

نعم، لابد في تصحيح التعبد من فرض أثرٍ يخرجه عن اللغوية، ويكفي فيه الأثر المفروض في المقام المترتب على نفس التعبد والإحراز.

مع أن هذا - لو تم - إنما يمنع من قيام الطرق مقام القطع الموضوعي لو فرض عدم الأثر للمؤدى، أما لو فرض ثبوت الأثر له أيضاً فلا وجه للمنع. فلاحظ.

ورود أدلة الطرق على دليل حكم القطع الموضوعي

ثم إنه مما ذكرنا يظهر أن أدلة اعتبار الطرق وحجيتها تكون واردة على دليل حكم القطع الموضوعي وروداً واقعياً، نظير أدلة مملكية الحيازة مع أدلة أحكام الملك، لا حاكمة عليه حكومةً

واقعية، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) وغيره، إذ الحكومة عندهم مختصة بباب التنزيل، وقد عرفت أنه لا تنزيل في المقام، وأن الطرق من أفراد الموضوع الحقيقية بسبب التعبد الشرعي.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من الحكومة الظاهرية ودفعه

ومن الغريب ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الحكومة في المقام ظاهرية. فإن الحكومة الظاهرية إنما تجري في ما يقتضي إحراز الموضوع

ص: 100

إثباتاً مع تبعيته للواقع ثبوتاً، والإحراز بالطرق في المقام محقق للموضوع واقعاً، لا لإحرازه إثباتاً، فإن المحرز ظاهراً بالطرق هو المؤدى، والمفروض عدم كونه موضوع الحكم، وإنما الموضوع هو الإحراز المحقق بها واقعاً بضميمة دليل التعبد.

نعم، قيامها مقام القطع الطريقي بملاك الحكومة الظاهرية، لأن المحرز بها ظاهراً هو الواقع الذي هو موضوع الأحكام الشرعية أو العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية، مع تبعية الأحكام ثبوتاً للموضوعات الواقعية، لا للإحراز، فترتب الأحكام عليها لإحراز موضوعاتها ظاهراً، لا لتحققها واقعاً.

هذا كله في الطرق، وأما الأصول فحيث عرفت أن التعبد فيها بالمؤدى مع الشك ابتداءً، لا بتوسط قيام الطريق والحجة عليه فقيامها مقام القطع الموضوعي مبني على أن أخذ القطع في الموضوع هل هو من حيثية كاشفيته وطريقيته التي لا يشاركه فيها إلا الطرق دون الأصول، أو من حيثية كونه سبباً في البناء على متعلقة وإحرازه الذي يشاركه فيه الأصول أيضاً، وذلك موكول إلى ما يستفيده الفقيه من الأدلة.

وإن كان لا يبعد الثاني بل لعله الظاهر - مع عدم قرينةٍ على التقييد - بناءً على ما عرفت في الفصل الأول من أن العلم ليس طريقاً للواقع، بل هو عبارة عن نفس الوصول إليه وإحرازه الذي هو نتيجة الطريق، فإن الأصول بسبب التعبد بها تشاركه في النتيجة المذكورة، كالطرق والأمارات.

نعم، هذا مختص بالأصول التعبدية، كالاستصحاب وأصالة الحل والطهارة، دون البراءة والاحتياط.

ص: 101

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الوجه في عدم قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي المأخوذ بما هو صفة خاصة، فإن دليل التعبد بها لا يقتضي مشاركتها له في الخصوصية المذكورة، ولا تنزيلها منزلته في الأحكام.

نعم، هو محتاج إلى دليلٍ خاص يقتضي التنزيل المذكور، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). وهو - لو تمَّ - كان حاكماً على دليلٍ القطع الموضوعي المذكور، بناءً على ما عرفت في ضابط الحكومة عندهم.

فالإنصاف: أن ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في غاية المتانة ويسهل الاستدلال عليه بما تقدم، من دون حاجةٍ إلى ما ارتكبه من بعده من التكلفات والتعسفات التي عرفت الكلام فيها. وقد أطلنا الكلام في ذلك مجاراة لهم، ولولاها لكنا في غنى عن هذا التطويل بما ذكرنا. فتأمل جيداً. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

الكلام في الظن الطريقي

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) تعرض بتبع ذلك لأقسام الظن، فذكر أنه وإن لم يكن كالعلم الطريقي في حجيته الذاتية، بل يفتقر إلى الجعل، إلا أنه قد يؤخذ طريقاً صرفاً لمتعلقه وحجةً شرعاً عليه، وقد يؤخذ موضوعاً في الحكم، إما بما هو طريقٍ لمتعلقه، أو بما هو صفة خاصة، فيقوم مقامه سائر الطرق في الأولين دون الأخير.

وقد أطال بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين (قدس سره) في الأقسام المذكورة وأحكامها. ويتضح حال كثير مما ذكر بملاحظة ما ذكرنا في القطع وأقسامه. ولا مجال مع ذلك لتفصيل الكلام فيها، ولاسيما مع عدم وضوح الأثر العملي لذلك، فلاحظ. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.

ص: 102

الفصل الرابع: في عموم أحكام القطع لجميع أفراده وعدمه

اشارة

الكلام هنا.. تارةً: في القطع الموضوعي.

وأخرى: في القطع الطريقي.

الكلام في القطع الموضوعي

أما الأول فحيث كان أخذه في موضوع الحكم تابعاً للحاكم فعمومه وخصوصه من حيثية الأشخاص والأسباب والحالات وغيرها تابع له كسائر الموضوعات المأخوذة في أحكامه.

ومن ثم قيل بإمكان تقييده بغير قطع القطاع. بل قيل: إن الإطلاق منصرف عنه لو فرض عدم المقيد له خارجاً. وربما حمل عليه كلام كاشف الغطاء الآتي.

والذي ينبغي أن يقال..

تارةً: يراد من قطع القطاع من يكثر منه القطع على خلاف ما يتعارف لغيره، لتهيؤ أسبابه المتعارفة له دون غيره، لعلمه بالمقدمات الحسية أو الحدسية الموجبة له. ولا إشكال في إمكان تقييد إطلاق القطع بالإضافة إليه بدليلٍ خاص.

أما انصراف الإطلاق عنه بنفسه بلا حاجهٍ للتقييد فلا وجه له. ومجرد

ص: 103

الخروج عن المتعارف في الكثرة لا يوجبه، كالخروج عن المتعارف في القلة في حق بعض الأشخاص بسبب قلة تهيؤ المقدمات الموجبة له في حقهم.

نعم، قد ينصرف الإطلاق عن خصوص بعض الأسباب لقرائنٍ عامةٍ أو خاصة، كاختصاص حجية الخبر في الأمور الحسية بما إذا استند إلى الحس، وما قيل من اختصاص حجية فتوى المجتهد بما إذا حصل له العلم من الطرق الشرعية المتعارفة، دون مثل الجفر والرمل ونحوهما مما يوجب العلم لممارسه.

وأخرى: يراد منه من يحصل له القطع من أسباب غير متعارفةٍ لا ينبغي حصوله منها بحيث لو فرض حصولها لغيره لم توجب القطع له.

ولا يبعد انصراف إطلاق دليل أخذ القطع في الموضوع عن مثله بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بغير القاطع، كحجية شهادته وفتواه ونفوذ حكمه ونحوها مما يتعلق بغيره، لأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون أخذ القطع من حيثية غلبة الوصول به للواقع المقطوع وكشفه نوعاً عنه، وذلك لا يحصل في القطع الحاصل من الأسباب المذكورة، فهو نظير اعتبار الضبط في الشاهد والراوي.

وأما بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بالقاطع نفسه فلا مجال للانصراف المذكور، لعدم كون ذلك مما يدركه القاطع في قطعه، لأنه يرى أن قطعه من سببٍ ينبغي حصوله منه، وأن عدم حصوله لغيره لقصورٍ فيهم لا في السبب نفسه.

ومنه يظهر امتناع التقييد بذلك في دليلٍ خارج، لأن عنوان المقيد إذا

ص: 104

لم يتيسر تشخيصه يلغو التقييد به، لعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل.

نعم، للحاكم أن يحصل غرضه بالتقييد بوجهٍ آخر راجع إليه ملازم له قابل لأن يدركه القاطع، مثل التقييد بخصوص السبب الذي يحصل القاطع به لمتعارف الناس، دون غيره من الأسباب، وإن كان مما ينبغي حصول القطع به بنظر القاطع، فإن العنوان المذكور مما يمكن للقاطع تشخيصه، فلا يلغو التقييد به. فلاحظ.

الكلام في القطع الطريقي

وأما الثاني - وهو القطع الطريقي - فحيث كان العمل عليه تابعاً لذاته لم يفرق فيه بين أفراده، لعدم الفرق بينها في الخصوصية المقتضية للعمل عليه، كما يظهر بالتأمل في الوجه المتقدم في الفصل الأول. ولم ينقل الخلاف في ذلك إلا في موردين..

الكلام في خروج قطع من خرج عن العادة في قطعه

الأول: ما عن كاشف الغطاء (قدس سره) من عدم الاعتبار بقطع من خرج عن العادة في قطعه، كما لا اعتبار بشك كثير الشك وظن كثير الظن.

قال في محكي كلامه في مباحث الصلاة: وكثير الشك عرفاً - يعرف بعرض الحال على عادة الناس - لا اعتبار بشكه. وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو ظنه، فإنه يلغو اعتبارهما في حقه.

وظاهر كلامه إرادة القطع الطريقي، لما هو المعلوم من أن القطع في باب الصلاة كالظن والشك لا يكون مأخوذاً في موضوع الحكم الواقعي، وإن افترق عنهما بأخذهما في موضوع الحكم الظاهري دونه، إذ لا مجال للحكم الظاهري معه.

ولا مجال مع ذلك لاحتمال حمله على القطع الموضوعي، وإن جعله شيخنا الأعظم (قدس سره) وجهاً في تعقيب كلامه (قدس سره)، بل هو الذي قربه شيخنا

ص: 105

الأستاذ (دامت بركاته)، لأن رفعة مقام كاشف الغطاء (قدس سره) تمنع من حمل كلامه على القطع الطريقي. لكنه - كما عرفت - خروج عن ظاهر كلامه. والعصمة لأهلها.

وأما ما ذكره في الفصول في توجيه المنع عن العمل بقطع القطاع ولو كان طريقياً، من إمكان منع الشارع عن التعويل على القطع، وأن العقل قد يستقل في بعض الموارد بعدم ورود منعٍ شرعي، لمنافاته لحكمةٍ فعليةٍ قطعية، وقد لا يستقل بذلك، لكن يستقل حينئذٍ بحجية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع الشرعي.

فهو مبني على ما ذكره في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي من أن استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي واقعياً كان أو ظاهرياً مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من تعويله عليه، بتخيل أن حجية القطع من الأحكام العقلية.

وضعفه يظهر مما سبق في الفصل الأول من أن ترتب العمل على القطع ليس بملاك حكم العقل بحجيته، بل لخصوصيته الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي.

مع أن ما بنى عليه في الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي قد تقدم ضعفه في ذيل الفصل الأول من مباحث الملازمات العقلية. فراجع.

الكلام في القطع الحاصل من المقدمات العقلية

الثاني: ما حكي عن الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية النظرية على تفصيل في كلماتهم. وقد تعرض شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره لبعضها.

وقد ادعى المحقق الخراساني (قدس سره) أن مرادهم بها إما المنع من حصول

ص: 106

القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية، أو المنع من الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي.

لكن حمل بعض كلماتهم على ذلك وإن كان ممكناً إلا أنه قد يصعب حمل جميعها عليه، بل قد يتعذر، لظهورها أو صراحتها في ما تقدم من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وذلك بظاهره ممتنع، لما سبق في وجه لزوم متابعة القطع.

نعم، قد يستدل عليه بالأخبار الكثيرة التي أشار إلى بعضها شيخنا الأعظم (قدس سره) مثل قولهم (عليهم السلام): أما إنه شرٌ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا(1) وما ورد من النهي عن أن يُدانَ لله تعالى بغير السماع منهم(2)، وما تضمن النهي عن النظر في الدين بالرأي(3)، وقولهم (عليهم السلام): أما لو أن رجلاً صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه فتكون أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله ثواب، ولا كان من أهل الإيمان(4).

لكن التأمل في النصوص المذكورة قاضٍ بأنها أجنبية عما نحن فيه، بل هي واردة لبيان عدم حجية الرأي والقياس ووجوب التعبد بأقوالهم (عليهم السلام)، وعدم الاستغناء عنهم بذلك.

أو لبيان عدم إيصال الرأي والنظر للحكم الشرعي، بل هو يزيد في التيه

ص: 107


1- تراجع هذه المضامين في الوسائل ج 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي.
2- تراجع هذه المضامين في الوسائل ج 18 باب: 7 من أبواب صفات القاضي.
3- راجع الوسائل ج 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي.
4- راجع الوسائل ج 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 13 وقريب منه في ج 18 باب: 7 حديث 11.

والضلال، نظير ما تضمن أن السنة إذا قيست محق الدين، فيكون التسليم به مانعاً عن حصول القطع منه غالباً.

أو لبيان عدم جواز النظر في الدين، لما قد يستتبعه من الضلال والخطأ، فيكون الناظر مقصراً غير معذور حتى لو فرض حصول القطع له، وهذا لا ينافي لزوم العمل على طبق القطع، لما سبق من عدم التلازم بين لزوم العمل بالقطع ومعذريته في فرض الخطأ.

أو لبيان شرطية الولاية في قبول الأعمال، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص المذكورة على اختلاف ألسنتها.

تقريب الشيخ الحلي (قدس سره) مما يستفاد من النصوص

هذا، وقد قرَّب شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) حمل النصوص المذكورة على كون أخذ الحكم من الكتاب والسنة شرطاً في صحة العمل - عبادةً كان أو معاملةً - لا على شرطية الولاية له فقط، فالحكم وإن كان ثابتاً مع وصوله بالطرق العقلية، إلا أنه يتعذر امتثاله إلا بعد النظر في أدلته من الكتاب والسنة، نظير تعذر امتثال أمر الصلاة للجنب والكافر إلا بعد الغسل والإيمان.

نعم، لابد من كون الاشتراط المذكور بنتيجة التقييد لا بالتقييد اللحاظي، فراراً عن محذور أخذ ما يتأتى من قبل الحكم في متعلقه، نظير ما يذكر في مبحث التعبدي والتوصلي.

وكأنه استند إلى مثل الخبر الأخير الظاهر في كون اعتبار الولاية لأجل اعتبار كون العمل بدلالة الولي (ع)، فالشرط في الحقيقة هو الدلالة المذكورة.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا يبعد كون ذكر دلالة الولي (ع) لبيان لزوم الخضوع له

ص: 108

والتسليم لقوله، بحيث لو دل على شيء لقبل منه، كما هو لازم الولاية، لا لبيان اعتبار كون كل عملٍ صادراً عن دلالته، لما هو المعلوم من سيرة الأصحاب من الاكتفاء في العمل بما حصلوه من الكتاب والسنة ولو لم يكن بدلالة ولي العصر (ع)، وعدم توقف العمل في كل حكمٍ على وصوله منه واستناده له.

كيف ولازم ذلك تعذر الاحتياط مع الشك في الحكم؟! لعدم كون العمل بدلالة ولي الله، بل برجاء مشروعيته لا غير، وهو - كما ترى - مخالف لسيرة العلماء والمتشرعة في الفتوى والعمل.

وكيف كان، فلا إشعار في النصوص المتقدمة في عدم جواز العمل على طبق الحكم المقطوع به بعد فرض حصول القطع به الذي هو محل الكلام في المقام. كيف وهو من المستحيلات التي يمتنع الحكم بها من الشارع الأقدس.

نعم، لو فرض تمامية دلالة النصوص المذكورة عليه تعين حملها على ما سبق في الأمر الأول من الفصل السابق من توجيه تقييد الحكم بالعلم به ببعض الوجوه، إما بأن يكون العلم المأخوذ في الحكم هو العلم بالحكم الكلي، الذي هو مؤدى الكبريات الشرعية، أو يكون العلم شرطاً في فعلية الحكم، أو يكون الجهل مانعاً منها، فإن الوجوه المذكورة يمكن فرضها هنا بأن تكون الكبريات الشرعية مشروطة بعدم انحصار طريق الوصول إليها بالطرق العقلية. أو يكون إمكان الوصول للأحكام بالطرق النقلية شرطاً في فعليتها، أو يكون تعذر الوصول إليها بها مانعاً من فعليتها ورافعاً لها.

ولا مجال لتوهم اشتراط فعلية الأحكام بفعلية العلم بها من الكتاب

ص: 109

والسنة - لا بمجرد إمكانه - فإن لازم ذلك عدم وجوب الفحص عن الأحكام في الكتاب والسنة، لعدم فعليتها قبله، فلا مجال للتكليف الطريقي بالفحص عنها، كما لا مجال لحمل وجوب الفحص على أنه تكليف نفسي، لأنه خلاف ظاهر أدلته، كما حقق في محله.

وأما توجيه ذلك بما تقدم من بعض الأعاظم (قدس سره) عند الكلام في تقييد الحكم بالعلم به من إمكان التقييد بمثل ذلك بمتمم الجعل، فيدعى في المقام تقييد الحكم بعدم وصوله بالطرق العقلية، فقد عرفت الإشكال فيه هناك. فراجع، وتأمل.

ص: 110

الفصل الخامس: في العلم الإجمالي

اشارة

والكلام فيه..

تارةً: في كفايته في مقام وصول التكليف وتنجيزه.

وأخرى: في الاكتفاء به في مقام الامتثال والفراغ عن التكليف بعد فرض تنجيزه بعلمٍ وغيره.

المقام الأول: في كفايته في تنجيز التكليف ووصوله

فيقع الكلام في مقامين..

المقام الأول: في كفايته في تنجيز التكليف ووصوله.

والكلام فيه..

تارةً: في التنجيز بنحوٍ يمنع من المخالفة القطعية.

وأخرى: بنحوٍ يلزم بالموافقة القطعية، وعلى كلا التقديرين فهل هو لكون العلم الإجمالي علة تامة فيه، أو لكونه مقتضياً له بنحوٍ يقبل الردع الشرعي عنه؟.

هذا، والمراد بالردع هو الحكم شرعاً بعدم منجزية العلم الإجمالي بنحوٍ يمنع من المخالفة القطعية، أو بنحوٍ يقتضي الموافقة القطعية، فيلزمه جريان الأصول في تمام الأطراف أو بعضها لو فرض عموم أدلتها لها، لعدم

ص: 111

المانع. فجريان الأصول في الأطراف ليس هو عبارة عن الردع، بل هو أمر مترتب عليه بعد فرض عموم أدلتها لها.

نعم، قد يستفاد الردع لو فرض إمكانه من عموم أدلة الأصول بالملازمة لو فرض توقف جريانها عليه، كما قد يكون جريانها مبتنياً على أمرٍ آخر غير الردع المذكور، كجعل البدل الذي يمكن حتى مع فرض عِلِّية العلم الإجمالي التامة في المنجزية.

ومنه يظهر أن ما هو محل الكلام هنا من عِلِّية العلم الإجمالي التامة في المنجزية واقتضائه لها، وعدمهما لا دخل له بما يأتي الكلام فيه في مبحث الاشتغال من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

فقد يذهب ذاهب إلى جريان الأصول في بعض الأطراف مع التزامه هنا بالعلية التامة، لدعوى استفادة جعل البدل منها مثلاً، وقد يذهب آخر إلى عدم جريانها مع التزامه هنا بالاقتضاء وعدم العلية التامة، لدعوى قصور أدلتها عن عموم الأطراف بنحوٍ تكشف عن الردع عن منجزية العلم الإجمالي، غاية الأمر أن محل الكلام هنا يكون من مباني الكلام هناك وينفع فيه في الجملة. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من كون القول بجريان الأصول في بعض الأطراف متفرعاً على القول بالاقتضاء. وأنه لا يجري مع البناء على علية العلم الإجمالي للموافقة القطعية.

ومثله ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) هنا من أن البحث في حرمة المخالفة القطعية مما يناسب مباحث العلم، والبحث في وجوب الموافقة القطعية مما يناسب مباحث الشك - ومن ثم أوكله لمباحث الأصول

ص: 112

العملية، للإشكال فيه بأن وجوب الموافقة القطعية كحرمة المخالفة القطعية من شؤون تنجز التكليف المترتب على العلم به، فالمناسب التعرض له في مباحثه. وجريان الأصول في الأطراف وعدمه أمر آخر يتفرع على ذلك في الجملة كما أشرنا إليه ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

منجزية العلم الإجمالي

إذا عرفت هذا، فلنرجع لما نحن بصدده من منجزية العلم الإجمالي بأحد الوجوه المتقدمة وعدمها فنقول: مما تقدم في وجه منجزية العلم ووجوب العمل عليه يظهر الوجه في منجزية العلم الإجمالي ووجوب العمل عليه، لعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في الجهة المتقدمة المقتضية للعمل من كونه عبارةً عن الوصول للواقع والالتفات إليه الموجب للعمل بالوجه الذي يقتضيه الواقع المعلوم. وقد عرفت بذلك امتناع الردع الشرعي عن العمل على طبق العلم.

ولا يفترق العلم الإجمالي عن التفصيلي إلا بابتلائه بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف، ولا دخل لهذا في الوجه المتقدم المقتضي للعمل على طبق العلم.

نعم، قد يكون الإجمال موجباً لقصور الواقع المعلوم عن مقام العمل لمزاحمة كلفة الاحتياط له، فإن الجهة المذكورة قد تكون مزاحمة للملاك الواقعي المقتضي للعمل على طبق الواقع، فتمنع عن تأثيره، فعدم العمل على طبق العلم ليس لقصور في العلم، بل في المعلوم.

ولا مجال لذلك في محل الكلام، إذ الجهة المذكورة إن كانت مزاحمة لملاك التكليف، بحيث تمنع من تأثيره التكليف شرعاً - كما في موارد الحرج - فهي خارجة عن محل الكلام، إذ الكلام في العلم الإجمالي

ص: 113

بالتكليف الفعلي.

وإن كانت مزاحمةً لنفس التكليف بنحوٍ تمنع من حكم العقل بوجوب إطاعته، فهو ممتنع في الأحكام الشرعية، لأن ضرر العصيان لما كان شديداً فلا يزاحمه شيء، بخلاف الأضرار الأُخَرْ، فإنها قد تزاحم بكلفة الاحتياط.

وأما حديث الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وعدم لزوم الموافقة القطعية - إما لعدم اقتضاء العلم لها، أو لردع الشارع عنها بعد فرض عدم عليته التامة لها - فهو لو أمكن في العلم الإجمالي أمكن في العلم التفصيلي لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية للعمل كما ذكرنا.

والظاهر منهم عدم إمكانه، لحكم العقل بأن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وإن كان لا يخلو عن إشكال، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث الشك في التكليف.

وكيف كان، فبناءً على امتناعه في العلم التفصيلي ينبغي منعه في العلم الإجمالي لعدم الفرق. نعم، للشارع أن يعبدنا بالامتثال ظاهراً، ببعض طرق الإحراز، كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك. وهو خارج عما نحن فيه.

وكأن وجه توهم الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية توهم أن المعلوم لما كان هو أحد الأطراف فلا يتنجز ما زاد عليه، ولا يجب الفراغ إلا عنه، فالامتثال بأحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز وإن كان إطاعةً احتمالية للتكليف الواقعي.

مع الغفلة عن أن المعلوم ليس هو مفهوم أحدها - كما في الواجب التخييري - حتى يكفي في إحراز الفراغ عنه الإتيان بواحد، بل هو أحدها

ص: 114

المعين واقعاً بخصوصيته على ترديده، فلابد من إحراز الخصوصية الواقعية في إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم، وهو موقوف على الاحتياط التام.

فرض ظهور الأدلة في جواز ارتكاب بعض الأطراف

ومما ذكرنا ظهر أنه لو فرض ظهور الأدلة الشرعية في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو تمامها فلابد إما من تنزيلها على كون العلم الإجمالي مانعاً من فعلية التكليف المعلوم - كما تقدم نظيره في العلم التفصيلي الموضوعي - أو على تصرف الشارع في مقام إحراز الامتثال بجعل البدل الظاهري - كما في موارد القرعة - أو نحو ذلك مما يأتي الكلام فيه في محله ومما لا يلزم منه محذور مخالفة العلم. كما يلزم ذلك أيضاً فيما لو كان ظاهر الأدلة جواز مخالفة العلم التفصيلي.

وعلى ذلك يتعين توجيه الفروع التي ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره) التي قد يظهر منها جواز مخالفة العلم التفصيلي، فضلاً عن الإجمالي. ولا مجال لإطالة الكلام فيها. فراجع.

كما ظهر حال ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من إمكان ردع الشارع الأقدس عن منجزية العلم الإجمالي، وأنه ليس علةً تامةً للتنجز، بل هو مقتضٍ له يمكن رفع اليد عنه لمانعٍ عقلي - كما في الشبهة غير المحصورة - أو ترخيصٍ شرعي.

إذ يتضح الإشكال فيه بما سبق.

وعدم التنجز في الشبهة غير المحصورة ليس لقصور في منجزية العلم، بل لقصورٍ في التكليف المعلوم بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو عن قدرة المكلف، على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى. والترخيص الشرعي لابد من توجيهه، كما عرفت، ويأتي الكلام

ص: 115

في ذلك في مباحث الأصول العملية إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا فرق في ما ذكرنا بين كون الإجمال لاشتباه الحكم مع تعيين المتعلق - كما لو علم بأن شيئاً معيناً إما واجب أو حرام - أو لاشتباه المتعلق مع تعيين الحكم - كما لو علم بوجوب القصر أو التمام - أو لاشتباههما معاً - كما لو علمت المرأة المشتبهة الحيض إما بوجوب الصلاة أو حرمة المكث في المسجد عليها - إما من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية. ومن دون فرقٍ بين رجوع الأطراف إلى خطابٍ واحد كالجمع بين القصر والتمام امتثالاً للتكليف بالصلاة. ورجوعها إلى خطابات متعددة كوجوب الصلاة وحرمة المكث في المسجد في حق مشتبهة الحيض. كما لا فرق أيضاً بين أسباب الاشتباه، على ما تعرض له شيخنا الأعظم (قدس سره) وأطال الكلام في بعض فروعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

ولنقتصر في المقام الأول على هذا المقدار، مع إيكال بعض المباحث المتعلقة به إلى مباحث الأصول العملية، تبعاً لما سلكه الأكابر.

المقام الثاني: في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال

المقام الثاني: في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في مقام الامتثال.

ولا إشكال ظاهراً في الاكتفاء به مع تعذر الامتثال التفصيلي ولو في العباديات، وكذا الاكتفاء به ولو مع التمكن منه في التوصليات ومنها المحرمات. كما أنه قد يظهر منهم هنا المفروغية عن الاكتفاء به في العباديات مع تعذر الامتثال التفصيلي. لكن في السرائر والجامع أنه مع انحصار الساتر بالثوبين المعلوم نجاسة أحدهما وتعذر تطهيرهما يجب الصلاة عارياً. ونسب في الخلاف لقوم من أصحابنا، وفي السرائر لبعضهم. وهو غير غريب جداً. إلا أن يبتني على النص الخاص المخرج عن مقتضى

ص: 116

القاعدة، فيخرج عن محل الكلام.

الاحتياط في العبادات

وكيف كان فيقع الكلام في الاكتفاء به في العباديات مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالفحص وتعيين المعلوم بالإجمال. ومنه يظهر الحال مع تعذر الامتثال التفصيلي.

وهو.. تارةً: يكون في الواجبات الاستقلالية التي لا يتحقق الامتثال الإجمالي فيها إلا بالتكرار، كما في الجمع بين القصر والتمام وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين.

وأخرى: في الواجبات الضمنية من الأجزاء والشرائط، كما لو علم بوجوب إحدى سورتين في الصلاة فجمع بينهما في صلاةٍ واحدة.

وينبغي أيضاً الكلام - تبعاً لغير واحد - في الاحتياط مع احتمال التكليف من دون علمٍ إجمالي، كما لو احتمل وجوب صلاة العيد فأتى بها من دون فحض يستكشف به الحال مع التمكن منه.

فيقع الكلام في المواضع الثلاثة..

الكلام في المنع من الاحتياط غير المقرون بعلم إجمالي

الأول: الاحتياط مع الاحتمال غير المقرون بعلم إجمالي. وقد اضطرب كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في ذلك كثيراً في مباحث القطع والانسداد والبراءة والاشتغال، وقد مال في بعض كلماته إلى عدم مشروعية الاحتياط. بل نسب إلى المشهور عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد والتقليد بالاحتياط. وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره). والمستفاد منهم في وجهه أمور..

توجيه المنع المذكور بوجوه الأول: منافاته لنية الوجه

الأول: أنه يعتبر في العبادة الإتيان بها بنية الوجه الخاص من الوجوب أو الندب، فقد نقل شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه نقل غير واحدٍ اتفاق المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجهها، وأن السيد

ص: 117

الرضي (قدس سره) نقل إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها، وأن أخاه السيد المرتضى أقره على ذلك.

قال (قدس سره) في خاتمة البراءة والاشتغال بعد نقل ذلك: بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلاً في المسألة، فضلاً عن كونهما منشأً للشك الملزم للاحتياط، كما ذكرنا.

مناقشة الوجه المذكور

لكن لم يتضح الوجه في اعتبار قصد الوجه في العبادة، إذ لو أُريد به أنه معتبر عند العقلاء في الإطاعة فقد تحقق في محله عدم اعتبار أصل قصد التقرب فيها عندهم فضلاً عن قصد الوجه، ولذا كان الأصل في الأوامر التوصلية.

كيف ولو كان معتبراً في أصل الإطاعة لزم تعذرها بتعذر الفحص وعدم مشروعية الاحتياط لا مع العلم الإجمالي ولا مع الشك البدوي، مع مفروغيتهم عن مشروعيته حينئذٍ. والفرق بين صورتي التعذر وعدمه تحكم تأباه المرتكزات العقلائية جداً.

ولعل مراد المتكلمين من دخل قصد الوجه في الإطاعة دخله في الإطاعة المستلزمة للمدح والثواب، لا في الإطاعة التي يقتضيها الأمر وتكون مسقطةً له، التي هي محل الكلام.

وإن كان التحقيق عدم اعتبار قصد الوجه في الإطاعة حتى بالمعنى المذكور، بل يكفي فيها الإتيان بداعي موافقة ملاك المحبوبية، الأعم من الإيجابية والندبية وإن كانت محتملة، في مقابل الإتيان به بدواعٍ أُخَر لا دخل لها بالمولى.

ص: 118

بل قد يظهر من بعض كلماتهم أن ذلك مرادهم من اعتبار قصد الوجه، قال في محكي التجريد: ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والإخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه والمندوب كذلك...، وعن العلامة في شرحه: واعلم أنه يشترط في استحقاق

الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه، وكذا المندوب بفعله لندبه أو لوجه ندبه.

وإن أُريد أنه معتبر شرعاً في خصوص العبادات مع التمكن منه، فهو محتاج إلى دليلٍ مفقود، بل إهمال الشارع له مع غفلة العقلاء والمتشرعة عنه موجب للقطع بعدم اعتباره، بل قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في مبحث الانسداد: إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل في الأدلة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وسيرة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العلمية. ولذا ذكر المحقق (قدس سره) - كما في المدارك في باب الوضوء -: أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري.

دعوى الإجماع على ذلك

وأما دعوى الإجماع المتقدمة عن الرضي (قدس سره) فالظاهر أنها أجنبية عما نحن فيه، وأن مراده (قدس سره) الإجماع على بطلان عمل الجاهل المعتقد لخلاف الواقع إذا عمل على طبق اعتقاده، خلافاً لما عن المصوِّبة من صحة عمله وانقلاب الواقع في حقه.

قال في الذكرى في مسألة اجتزاء المسافر بصلاته لو أتم جاهلاً بوجوب القصر عليه: وسأل المرتضى (رضى الله عنه) عن ذلك الرضي (رحمة الله) فقال: الإجماع على أن من صلى صلاةً لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية

ص: 119

والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها، فلا تكون مجزيةً. فأجاب المرتضى بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ونحوه في الروض. وأين هذا مما نحن فيه، وهو ما إذا كان عمل الجاهل مطابقاً للواقع، وقد جاء به برجاء إصابته.

وأما دعوى: أن حسن الأفعال وقبحها إنما يكون بالعناوين القصدية وربما يتوقف حسن العبادة على قصد خصوص بعض العناوين غير المعلومة لنا تفصيلاً، فلابد من قصدها إجمالاً بقصد الوجه الذي تكون عليه العبادة من الوجوب أو الاستحباب، لأن قصده قصد لها إجمالاً من حيث أخذها في موضوعه.

دفع الدعوى المذكورة

فمندفعة: بأن إطلاق الأمر ظاهر في عدم دخل عنوان زائد على الذات في حسن الفعل المأمور به، كما يكون إطلاق النهي ظاهراً في عدم دخله في قبح الفعل المنهي عنه. مع أن العناوين القصدية الدخيلة في الحسن عرفاً - كالتعظيم الدخيل في حسن القيام - يكفي عند العرف قصدها بنحو الاحتمال لا الجزم.

ثم إن هذا الوجه - لو تم - لا ينهض بإثبات لزوم قصد خصوصية الوجوب أو الاستحباب، بل يكفي فيه قصد الأمر على إجماله، كما يكفي فيه قصد الأمر عنواناً وصفياً، لا داعياً وغاية، وهو خلاف ظاهر المحكي عن القائلين باعتبار قصد الوجه.

الوجه الثاني: ما ذكره النائيني (قدس سره)

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن مراتب الامتثال عند العقل أربعة مترتبة، لا يجوز العدول إلى اللاحقة مع التمكن من السابقة، وهي الامتثال التفصيلي بالعلم الوجداني أو الطرق والأصول المعتبرة، ثم

ص: 120

الامتثال الإجمالي، ثم الظني، ثم الاحتمالي.

ففي المقام إن كانت الشبهة موضوعية يحسن الاحتياط مطلقاً ولو قبل الفحص، لعدم وجوب الفحص فيها، فلا تكون منجزة.

وإن كانت حكميةً لم يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص والعجز عن معرفة الحكم، لتنجز التكليف فيها بمجرد الاحتمال بتمام ما يعتبر فيه، وحيث كان الامتثال التفصيلي معتبراً فيه مع التمكن منه كان هو المتعين، ولم يحسن الانتقال منه إلى الامتثال الاحتمالي.

مناقشة ما ذكره (قدس سره)

وفيه.. أولاً: أنه لا أصل لما ذكره من الترتب بين الوجوه المذكورة، لأن الترتب المذكور إن كان بحكم العقل لكونه من شؤون الإطاعة اللازمة للتكليف لم يفرق فيه بين التوصليات والتعبديات، مع أنه لا إشكال في التخيير بين الوجوه المذكورة في التوصليات مطلقاً ولو مع التمكن من الفحص واستعلام الحال.

وإن كان بحكم الشارع لدخله في غرضه في خصوص العبادات كقصد التقرب، كان محتاجاً للدليل، كأصل العبادية، كما تقدم نظيره في قصد الوجه.

بل لازم ما ذكره أنه مع اليأس عن تحصيل العلم أو الحجة واحتمال التمكن من تقوية الاحتمال بجعله ظناً بواسطة الفحص أنه لا يشرع الاحتياط إلا بعد الفحص المذكور، ولا يظن منه (قدس سره) الالتزام به.

نعم، لا إشكال في عدم اكتفاء العقل بالإطاعة الظنية أو الاحتمالية مع إحراز الأمر أو تنجزه بحيث لا يعلم بالفراغ عنه، بل لابد من تحصيل الإطاعة العلمية وإحراز الفراغ عن التكليف مع التمكن من ذلك، لما هو

ص: 121

المعلوم من أن التكليف اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) من الإطاعة الظنية والاحتمالية عند تعرضه للمراتب الأربعة المذكورة في المقدمة الرابعة من مقدمات دليل الانسداد، وهو لا ينافي صحة العمل مع الإطاعة الظنية أو الاحتمالية لو صادف الواقع ووقوع الامتثال والفراغ عن التكليف به.

كما أنه أجنبي عما نحن فيه، حيث ينشأ الظن بالإطاعة أو احتمالها هنا من الظن بأصل التكليف أو احتماله، بحيث يعلم بتحقق الإطاعة وحصول الفراغ عن التكليف على تقدير ثبوته.

وبالجملة: إن كان المدعى عدم الاكتفاء ظاهراً بالإطاعة الاحتمالية وإن سقط بها التكليف واقعاً لو كان المأتي به مطابقاً له - كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) - فهو مسلم، لكنه أجنبي عما نحن فيه، حيث كان الشك هنا في أصل التكليف مع العلم بمطابقة المأتي به له لو فرض ثبوته.

وإن كان المدعى عدم الاكتفاء واقعاً بموافقة الأمر المحتمل، وأن التكليف لا يسقط إلا بموافقته في ظرف العلم به - كما هو صريح بعض الأعاظم (قدس سره)، وهو الذي ينفع في ما نحن فيه - فهو في غاية المنع.

وثانياً: أنه لو تم أخذ الإطاعة العلمية في العباديات لم يفرق فيه بين الشبهة الموضوعية والحكمية. ومجرد عدم تنجز التكاليف في الشبهة الموضوعية إنما يقتضي عدم لزوم التعرض لامتثالها، لا الاكتفاء في امتثالها بالوجه الاحتمالي وسقوط غرضها به، بل هو كامتثالها بوجهٍ غير عبادي لا يسقط الغرض ولا يتحقق به الامتثال، فاللازم الالتزام بتخيير المكلف بين إهمالها والفحص عنها ثم امتثالها بوجهٍ علميٍ تفصيلي.

ص: 122

الوجه الثالث: منافاته لاعتبار قصد داعي الأمر

الثالث: أنه لما كان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي الأمر لزم إحراز الأمر حتى يمكن جعله داعياً، ولا يمكن جعله داعياً بمجرد احتمال وجوده.

نعم، لازم ذلك الاكتفاء بالأمر المردد بين الوجوب والاستحباب، ولا يعتبر إحراز أحدهما بخصوصيته إلا بناءً على اعتبار قصد الوجه الذي سبق الكلام فيه.

المناقشة فيه

وفيه: أن المعتبر في العبادة على التحقيق ليس إلا الإتيان بها بوجهٍ قربي، ولا خصوصية لقصد الأمر إلا من حيث ملازمته لذلك، وحيث كان الإتيان بها بداعي امتثال الأمر المحتمل من وجوه المقربية تعين الاجتزاء به ولا موجب لإحراز الأمر.

كيف! ولازم ذلك انسداد باب الاحتياط حتى مع تعذر الفحص، مع أنه لا ينبغي الإشكال في إمكانه بعد التأمل في مرتكزات العرف والمتشرعة والرجوع لسيرتهم، وقد اعترف شيخنا الأعظم (قدس سره) باستقرار سيرة العلماء والصلحاء فتوىً وعملاً على إعادة العبادات لمجرد الخروج عن مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة.

والفرق بين صورتي القدرة على الفحص وتعذره تحكّم لا شاهد له، بل تأباه المرتكزات جداً.

الوجه الرابع: لزوم الوجوه المتقدمة للشك في الصحة

الرابع: أنه لو فرض قصور الوجوه المتقدمة عن إثبات لزوم الفحص مع القدرة عليه وعدم مشروعية الاحتياط بدونه فلا أقل من كونها موجبةً للشك الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال بالتكليف - كما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) في ذيل كلامه المتقدم في الوجه الأول وصرح به في غير

ص: 123

مقام - لأن هذا الشرط ليس على حد سائر الشروط المعتبرة في الواجب داخلاً في حيز الأمر وقيداً في المأمور به ليرجع مع الشك فيه لأصالة البراءة، لامتناع أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه، بل هو كقصد التقرب من الأمور المعتبرة في تحقق الإطاعة التي يسقط بها الأمر ويتحصل بها الغرض، فمع احتمال دخله فيها يشك في تحققها وسقوط الأمر بدونه، ومقتضى قاعدة الاشتغال بالتكليف لزوم إحراز الفراغ عنه بالإتيان بجميع ما يحتمل دخله في الإطاعة المسقطة له.

المناقشة فيها

وفيه: أن الإطاعة من مختصات العقل التي لا تصرف للشارع الأقدس فيها وهي عبارة عن الإتيان بما يطابق المأمور به بأي وجهٍ اتفق، كما في التوصليات، وكل ما يعتبر زائداً على ذلك من قصد

التقرب وغيره لابد من رجوعه لُبّاً إلى المأمور به، ولابد في إثباته من قيام الدليل عليه الكاشف عن أخذه في المأمور به ولو بنحو نتيجة التقييد، وبدونه يرجع لإطلاق الأمر.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن التمسك بالإطلاقات المقامية بعد كون الأمور المذكورة مما لا يرى العرف دخلها في الإطاعة، فعدم تنبيه الشارع الأقدس عليها كاشف عن عدم تصرفه في كيفية الإطاعة وإيكالها إلى طريقة العرف.

ولو غض النظر عن ذلك أيضاً أمكن الرجوع لأصالة البراءة، إما لما عرفت من رجوع الشك في ذلك إلى الشك في قيد المأمور به الداخل في حيز الأمر، فيكون كسائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، أو لحكم العقل بعدم تنجز الغرض الواقعي من التكليف إلا بالمقدار الذي قامت عليه الحجة، كما ذكر ذلك أيضاً في مبحث الدوران بين الأقل والأكثر

ص: 124

الارتباطيين. وتمام الكلام في مبحث التعبدي والتوصلي.

هذا تمام ما ذكر في المقام، وقد عرفت عدم نهوض شيء مما ذكروه بالمنع عن الاحتياط في محل الكلام. فلابد من البناء على جوازه، كما هو المطابق لمرتكزات العرف والمتشرعة.

بل لعله المستفاد من نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في المفروغية عن مشروعية الاحتياط والحث عليه. فإن تقييدها بصورة تعذر الفحص بعيد جداً بعد ظهورها في الحث عليه بمجرد البلوغ. وأبعد منه تقييدها بالتوصليات، لأن العبادات المعروفة هي المتيقن من مورد النصوص، لكونها الفرد الشايع المألوف للمتشرعة من العمل الذي يترتب عليه الثواب.

بل إهمال الشارع للتنبيه على امتناع الاحتياط في محل الكلام - مع كونه مما يغفل عنه العرف بل المتشرعة، لما عرفت من سيرتهم ومرتكزاتهم - قد يوجب القطع بمشروعية الاحتياط، فلا يحتاج مع ذلك للرجوع للأدلة فضلاً عن الأصول، كما اعترف به في الجملة شيخنا الأعظم (قدس سره) في غير موضعٍ من كلامه.

هذا كله في الواجبات الاستقلالية، وأما الواجبات الضمنية فقد يقال بأنها أولى بجواز الاحتياط. ويأتي في الموضع الثالث الكلام في وجهه.

الكلام في المنع من الاحتياط بتكرار العبادة

الموضع الثاني: الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الاستقلالي، وقد اضطرب فيه كلام شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل مال هنا للمنع، وحكى عن بعض الاتفاق عليه، وأصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره)، بل استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) استمرار سيرة العلماء على عدم التكرار مع ثبوت الطريق

ص: 125

الشرعي إلى الحكم ولو كان هو الظن المطلق - لو فرض تمامية مقدمات الانسداد - فضلاً عما لو أمكن الوصول للحكم الشرعي بالعلم أو الظن الخاص وقد يستدل عليه..

تارةً: بما تقدم من دعوى اعتبار نية الوجه أو كون الإطاعة التفصيلية مقدمة على الإجمالية. وقد عرفت الجواب عن ذلك.

وأما ما تقدم أيضاً من اعتبار الجزم بالأمر في التقرب المعتبر في العبادة، فلا مجال للتمسك به في المقام، للعلم بتحقق الأمر فيه وإن لم يعلم حين العمل بانطباقه على المأتي به. ولذا ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) في كيفية النية مع التكرار عند تعذر الفحص أنه يجب أن ينوي بكلٍ من الأطراف حصول الواجب به أو بصاحبه تقرباً إلى الله تعالى. واعتبار العلم بتحقق الامتثال حين العمل وتمييز الواجب عن غيره حينه لا دليل عليه.

وأخرى: بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في خصوص المقام من أن التكرار أجنبي عن سيرة العلماء والمتشرعة وأنه مستلزم للعب بأمر المولى.

قال (قدس سره): من أتى بصلواتٍ غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة - بأن صلى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجداً على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلاً اجتماع الشروط الثلاثة - يعد في العرف والشرع لاعباً بأمر المولى. والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل.

مناقشته

وفيه: أن مجانبة المتشرعة للتكرار لعلها ناشئة من صعوبته لا من ارتكاز عدم مشروعيته عندهم. ولذا قد يقدمون عليه مع صعوبة الفحص من

ص: 126

دون استنكار، فلا تكون سيرتهم دليلاً على المنع.

وأما لزوم اللعب فإن أُريد به ما يساوق الاستهانة بالأمر، فهو ممنوع جداً، وإن أريد به ما يساوق عدم الغرض العُقلائي المصحح للعمل، فهو ليس محذوراً.

على أنه لا يلزم فيما لو كان له غرض عقلائي مصحح للتكرار، كصعوبة الفحص، أو إصابة الواقع، كما في غالب الشبهات الحكمية، حيث إن الفحص فيها لا يوجب اليقين بالواقع غالباً، وإن أمكن به معرفة مؤدى الحجة، وكذا بعض الشبهات الموضوعية.

ومنه يظهر الفرق بين الصلاتين ومائة صلاة، فإن صعوبة المائة لا تصحح الإقدام عليها عند العقلاء إلا لغرضٍ مهم، وسهولة الصلاتين تصحح الإقدام عليهما لأدنى غرض.

وأما الإجماع فهو - مع عدم ثبوته بنحو معتد به - لم يتضح كونه إجماعاً تعبدياً لقرب استناده إلى بعض الوجوه المتقدمة التي عرفت وهنها. فلا مجال لرفع اليد به عن مقتضى الإطلاقات اللفظية أو المقامية والأصل على ما تقدم تفصيله في الموضع الأول.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من وجه المنع

لكن ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن الأصل في المقام يقتضي الاحتياط لرجوعه إلى الدوران بين التعيين والتخيير، للشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعيين التفصيلي.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا مجال للتخيير شرعاً بين الامتثال التفصيلي والإجمالي، لعدم تصرف الشارع في مقام الامتثال.

مضافاً إلى القطع بأن بعض أطراف الامتثال الإجمالي خارج عن

ص: 127

مطلوب المولى غير دخيلٍ في غرضه، فلا معنى لتخييره بينه وبين الامتثال التفصيلي، بل التخيير بينهما على تقديره عقلي، ومرجع الشك في المقام إلى الشك في أخذ خصوصية في الواجب زائدة على ذاته موقوفة على الامتثال التفصيلي وعدمه، وفي مثله تجري البراءة عنده (قدس سره)، ولذا التزم بجريانها لدفع احتمال اعتبار قصد الوجه. فتأمل جيداً.

الكلام في الاحتياط بالتكرار في التكليف الضمني

الموضع الثالث: الاحتياط بالتكرار في موارد العلم الإجمالي بالتكليف الضمني.

ولا ينبغي الإشكال فيه في الشروط، لعدم قصد التقرب بها، بل بالمشروط في ظرف تحققها، فالجمع بينها لا يمنع من قصد الوجه فيه، ولا من تحقق الامتثال التفصيلي ولا غيرهما مما قيل باعتباره في المقام.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من الجواز هنا مع المنع في المورد المتقدم

وأما الأجزاء فكذلك بناءً على ما عرفت منا في الواجبات الاستقلالية.

بل صرح بعض الأعاظم (قدس سره) بجوازه فيها مع منعه منه في التكاليف الاستقلالية، بدعوى: أنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك.

الإشكال فيما أفاده (قدس سره)

لكنه يشكل: بأن التفكيك بين الأجزاء وتمام العمل في اعتبار الإطاعة التفصيلية فيه دونها لا يرجع إلى محصل، بعد اتحاده معها خارجاً، فما يعتبر في تمام العمل من القصود يعتبر فيها بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية. نعم يمكن ذلك ببيانٍ خاصٍ من الشارع، ومن الظاهر عدمه.

ما ذكر السيد الخوئي (قدس سره) من وجه المنع هذا، وذكر بعض مشايخنا (دامت بركاته) أن المانع من التكرار لو كان هو اعتبار قصد الوجه لم يجر في الأجزاء، لاختصاص دليله بالواجبات الاستقلالية، لانحصاره بأمرين..

ص: 128

الأول: الإجماع المنقول، وهو لا يشمل الأجزاء، لذهاب المشهور إلى جواز الاحتياط فيها.

الثاني: ما تقدم من أن حسن الأفعال أو قبحها إنما يكون بالعناوين القصدية التي لا يتسنى قصدها إلا بقصد الوجه، وهو لا يجري في الأجزاء أيضاً، لأن قصد وجوب مجموع العمل والأمر المتعلق بالكل يكفي في قصد العنوان الحسن إجمالاً، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزءٍ بنفسه، وليس لكل جزءٍ حسن مستقل ليقصد وجهه.

لكن عهدة ما ذكره من قصور الإجماع المنقول عليه، ولا يسعني عاجلاً تحقيقه.

وأما الوجه الآخر فالظاهر أنه يجري في الأجزاء ولا يختص بالكل، لأن قصد العنوان الحسن المتعلق بالكل إنما يكون بقصده من كل جزءٍ بنفسه لوضوح اتحاد الكل مع الأجزاء، فلا معنى لقصد

العنوان فيه دونها، وحينئذٍ فلابد من إحراز دخول كل جزء في ضمن الكل الذي هو موضوع الأمر حتى يقصد العنوان الحسن المأخوذ في الكل حين الإتيان به كما لعله ظاهر.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني، وقد تعرض شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره هنا للكلام في تأخر الاحتياط مرتبة عن الظن الخاص والمطلق، كما تعرض (قدس سره) في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة لبعض الفروع المترتبة على عدم جواز الاحتياط مع التمكن من الفحص، ولا حاجة لإطالة الكلام في ذلك بعد ما عرفت.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في أحكام القطع وآثاره تبعاً للأكابر في المقام.

ص: 129

ولا يخفى أن بعض ما تقدم لا يختص بالقطع، بل يجري نظيره في الحجج المعتبرة بل الأصول، كمبحث التجري، والقطع الموضوعي، والعلم الإجمالي وغير ذلك مما يظهر للمتأمل. والله سبحانه العالم العاصم، وهو ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

انتهى تسويده في 22 شوال، سنة 1392 هجرية، وانتهى تبييضه في 30 شوال سنة 1392 هجرية.

ص: 130

ص: 131

ص: 132

المقصد الأول

مباحث الحجج

المقصد الأول: في مباحث الحجج

اشارة

وقد سبق أن البحث فيه يكون في تشخيص الحجج وتعيينها والظاهر أن محل الكلام هو ما ثبت له الحجية شرعاً الراجعة إلى تعبد الشارع الأقدس بمضمون الحجة، تبعاً لاعتباره حجيتها ولا معنى للحجية العقلية، لما هو المرتكز من عدم كون الجعل والاعتبار من وظيفة العقل، نعم له الحكم بحسن

العقاب أو قبحه، الراجعين إلى منجزية احتمال التكليف بنظره وعدمه، من دون توسط اعتبار الحجية، وأما القطع فقد عرفت الإشكال في إطلاق الحجة عليه، وإن صحّ العقاب معه.

وأما ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الظن على الحكومة حجة عقلية وإن لم يكن حجةً ذاتية، كالقطع، لتوقفه على مقدمات الانسداد.

فلا يبعد أن يرجع إلى ما ذكرنا من كونه بنظر العقل منجزاً للأحكام في ظرف الانسداد. ويأتي الكلام في ذلك في أواخر دليل الانسداد.

الكلام في تشخيص موارد الحجج غير العلمية

وكيف كان، فالمناسب التعرض تمهيداً للكلام في تشخيص موارد الحجج غير العلمية لأمرين..

الأول: إمكان التعبد بغير العلم عقلاً، إذ لو كان ممتنعاً ثبوتاً لم يبق

ص: 133

مجال للنظر في أدلته إثباتاً.

الثاني: تنقيح مقتضى الأصل عند عدم الدليل على الحجية، ليرجع إليه لو فرض قصور الأدلة عن إثبات الحجية لشيءٍ أو نفيها عنه.

المقام الاول: في إمكان التعبد بغير العلم

المقام الأول: في إمكان التعبد بغير العلم

المستفاد من كلماتهم أن الإمكان يطلق ويراد به..

تارةً: الإمكان الاحتمالي الذي هو بمعنى احتمال الوقوع، في مقابل القطع بالعدم.

وأخرى: الإمكان الذاتي المقابل لامتناع الشيء لذاته عقلاً مع قطع النظر عما هو خارج عنها كاجتماع النقيضين.

وثالثةً: الإمكان القياسي، والمراد به هنا: المقابل لامتناع الشيء عقلاً بلحاظ قيام الدليل على الامتناع عليه، ولو بلحاظ لزوم محاذير منه خارجة عن ذاته أدركها العقل.

ورابعةً: الإمكان الوقوعي، المقابل لامتناعه مطلقاً ولو بلحاظ ما هو خارج عن ذاته من المحاذير الواقعية حتى المغفول عنها، فالممكن بهذا المعنى ما لا محذور فيه واقعاً.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الاحتمالي، لأنه من الأمور الوجدانية غير القابلة للنزاع والبرهان. ولا

ص: 134

الإمكان الذاتي، لعدم وفائه بالغرض المشار إليه في المقام، وهو فتح باب النظر في أدلة الوقوع، إذ من الظاهر أنه لا يكفي في ذلك إمكان الشيء ذاتاً، بل لابد من إمكان وقوعه، لعدم لزوم محذور منه، كما لا يخفى.

ومن ثم كان ظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره إرادة الإمكان الوقوعي. وحينئذٍ يقع الكلام في الاستدلال عليه في المقام.

استدلال الشيخ الأعظم (قدس سره) على الإمكان الوقوعي

قال شيخنا الأعظم (قدس سره): واستدل المشهور على الإمكان بأَنّا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال. وفي هذا التقرير نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقول بجميع الجهات المحسنة والمقبحة وعلمها بانتفائها، وهو غير حاصل في ما نحن فيه. فالأولى أن يقرر هكذا: أَنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة. وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

والأولى أن يقال: إنه يكفي في ترتب الغرض الذي أشرنا إليه - وهو النظر في أدلة الجعل - ونحوه من اللوازم المذكورة للإمكان عدم قيام الدليل على امتناع الجعل، فلا يجوز بنظر العقل إهمال الأدلة الدالة على ثبوت الشيء، بمجرد احتمال امتناعه ولزوم محذور منه مغفول عنه، بل هو من سنخ احتمال المزاحم لا يعتني به العقل ما لم يثبت بالدليل.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من دعوى حكم العقلاء بالإمكان الوقوعي بمجرد عدم الدليل على الامتناع، فإنه إذا كان يكفي بنظر العقل في ترتيب الآثار عدم الدليل على الامتناع لم يحتج إلى إحراز الإمكان ولم يتعلق به غرض للعقلاء حتى يمكن دعوى حكمهم به بالوجه المذكور.

والحاصل: أن الإمكان الوقوعي لا طريق لإثباته، كما لا حاجة له، بل يكفي عدم الدليل على الامتناع الذي هو عبارة عن الإمكان القياسي.

ص: 135

ومن ثم ذكر سيدنا الأعظم (قدس سره) أن النزاع في المقام إنما هو فيه لا في الإمكان الوقوعي.

وإن كان يشكل بأنه خلاف ظاهر كلامهم، لأن الإمكان بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى الإثبات، بل يكفي فيه إبطال دليل المانع، مع أن ظاهر ما نقله شيخنا الأعظم (قدس سره) عن المشهور أنهم بصدد إثباته،

وهو ظاهر في إرادة الإمكان الوقوعي، الذي عرفت أن ما ذكره المشهور وشيخنا الأعظم (قدس سره) لا ينهض بإثباته.

نعم، ذكر في الكفاية أن أدلة وقوع التعبد بالطرق شرعاً كافية في إثبات الإمكان الوقوعي، لملازمة فعلية الشيء لإمكانه بالمعنى المذكور، ومع قطع النظر عن أدلة وقوع التعبد لا أثر للنزاع في الإمكان حتى يحتاج إلى إثباتٍ بطريقٍ آخر.

ما ذكر السيد الحكيم (قدس سره)

وما ذكره (قدس سره) متين جداً في مثل المقام مما انحصر دليل الإثبات بالأدلة القطعية، لما هو المعلوم من لزوم انتهاء أدلة التعبد بغير العلم إلى القطع، فإن الأدلة المذكورة توجب القطع بالإمكان بالمعنى المذكور.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من الإشكال فيه..

تارةً: بأن النزاع في الإمكان في رتبةٍ سابقةٍ على النزاع في الوقوع.

وأخرى: بأن النزاع المذكور من قبيل النزاع في أمرٍ عقلي، فلا يصح الاستدلال عليه بدليل الوقوع، الذي هو من سنخ الدليل السمعي.

وثالثة: بأن عدم الأثر للنزاع في الإمكان مع قطع النظر عن أدلة الوقوع لا يمنع من صحة النزاع، ويكون النزاع حينئذٍ علمياً محضاً، لا عملياً، كما هو الحال في كثير من نزاعاتهم.

ص: 136

المناقشة فيما ذكره (قدس سره)

فهو كما ترى! لاندفاع الأول: بأن سبق النزاع في الإمكان رتبةً لا ينافي الاستدلال عليه بدليل الوقوع.

والثاني بأنه لا مانع من إثبات الأمر العقلي بالدليل السمعي إذا كان موجباً لليقين به، بل هو أولى من الأدلة العقلية، لرجوعه إلى مقدمات حسية بديهية لا مجال لردها بالبراهين العقلية التي قد يستدل بها على الامتناع، بل تكون شبهةً في مقابل البديهة، ولعله لذا أمر (قدس سره) في هذا الوجه بالتأمل.

نعم، لو لم تكن أدلة الوقوع قطعية، بل قابلة للرد أو التأويل كان النزاع في الإمكان مهماً، إذ معه لا حاجة للتأويل، وبدونه يحتاج له. لكنه لا مجال له في المقام.

والثالث: بأن النزاعات العملية المحضة إنما تحسن مع توقع الأثر العملي لها ولو على بعض مباني المسألة، لا مع عدم الأثر مطلقاً كما في المقام.

والحاصل: أن ما ذكره في الكفاية متين جداً. لكنه راجع إلى عدم الأثر للنزاع في الإمكان، بل يلزم النظر في أدلة الوقوع ابتداءً.

وعليه ينبغي أن يكون الغرض الأصلي من الاستدلال على الامتناع نفي الوقوع، وإبطال أدلته، لا نفي الإمكان، والغرض من إبطال دليل الامتناع رفع المنافي لأدلة الوقوع، ليتسنى إثباته بها، لا إثبات الإمكان. فلاحظ.

ما نسب لابن قبة من امتناع التعبد بخبر الواحد جارٍ في مطلق الأمارة

وكيف كان، فقد نسب لابن قبة دعوى امتناع التعبد بخبر الواحد عقلاً، ودليله لو تم جار في مطلق الأمارة غير العلمية، بل في مطلق التعبد بغير العلم ولو كان مفاد الأصل. إذ عمدة دليله - على ما قرره شيخنا الأعظم (قدس سره) وحكي عن القوانين - أنه يلزم منه تحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ لا يؤمن

ص: 137

أن يكون ما أخبر بحليته حراماً وبالعكس.

رجوع الوجه المذكور إلى محاذير ثلاثة

هذا، والمحتمل بدواً رجوع الوجه المذكور إلى أحد محاذير ثلاثة..

الأول: أن تحليل الحرام وتحريم الحلال مستلزم لتفويت ملاكهما وتضييعه، وهو قبيح، بل هو مستلزم لنقض الغرض، لفرض تعلق الغرض بمقتضى الحكم الواقعي، فجعل الطريق الموصل لما يخالفه مانع من الجري عليه وموجب لنقض الغرض المذكور.

ومنه يظهر أن لزوم المحذور المذكور لا يتوقف على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، لامتناع نقض الغرض مطلقاً.

الثاني: أنه مستلزم لاجتماع الحكمين المتضادين أو المتناقضين، وهو محال.

الثالث: أنه مستلزم للتشريع القبيح، لما يستلزمه التعبد المذكور من إدخال ما ليس من الدين في الدين، ونسبته ما لم يصدر من الشارع الأقدس له.

هذا، ولم أعثر على حمل كلام ابن قبة على الوجه الثالث أو احتمله فيه، إلا أن ما سبق عنه لا يأباه.

حمل كلام ابن قبة على الوجه الأول ومناقشته

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) - بل صرح به بعض الأعاظم (قدس سره) - من حمله على خصوص الأول، فلا وجه له. بل لا يناسبه ما ذكره من لزوم تحريم الحلال، لما هو المعلوم من أن تحريم الحلال لا يستلزم تفويت ملاكه.

نعم، بناءً على ما يظهر من الفصول في تقريره للمحذور المذكور من ترتبه على العمل بالطريق، يتم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) لظهور أن المحذورين الأخيرين لا يتوقفان على العمل بالطرق، بل يكفي في لزوم

ص: 138

الثاني التعبد بها من الشارع، وفي لزوم الثالث بناء المكلف على مؤداها والالتزام به ولو مع عدم العمل.

وكيف كان، فالمحذور الثالث ظاهر الدفع، إما لأن التعبد الشرعي رافع لقبح نسبة ما لم يصدر من الشارع له ومخرج له عن التشريع، لاختصاص القبح الواقعي بما إذا كانت النسبة من غير حجة، ولذا لو فرض استنادها للقطع المخالف للواقع فلا قبح واقعاً.

أو لأن الالتزام بمؤدى الطريق والأصل لا يقتضي الالتزام بأنه الحكم الشرعي الثابت واقعاً، ليلزم نسبة ما لم يصدر من الشارع له، بل الالتزام بأنه الحكم الذي قامت عليه الحجة الشرعية أو اقتضته الوظيفة العملية، وهو مطابق للواقع. ويأتي في المقام الثاني عند الكلام في الأصل المعول عليه عند الشك في الحجية توضيح ذلك.

النظر في المحذورين الأولين

فالعمدة النظر في المحذورين الأولين، حيث أطال الأصحاب الكلام في دفعهما.

ومن الظاهر أنهما مبنيان على ما هو الحق من التخطئة، ولا موضوع لهما على التصويب، لعدم بقاء الحكم الواقعي على خلاف الطرق الشرعية حتى يلزم من جعلها تفويت ملاكه، أو جعل حكمٍ آخر مضاد له، ليلزم اجتماع الضدين.

من دون فرق بين التصويب المنسوب للأشاعرة الراجع إلى عدم جعل حكمٍ واقعي غير مؤدى الطريق، والتصويب المنسوب للمعتزلة، المبني على جعل الأحكام الواقعية مع قطع النظر عن الطرق

مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعاً لها، لحدوث الملاك المزاحم لملاكاتها الرافع

ص: 139

لها والموجب لجعل الحكم على طبق الطريق.

فما يظهر من غير واحدٍ في دفع المحذور المذكور بما يناسب الوجه الثاني من التصويب في غير محله، لأنه خروج عما هو مفروض الكلام ويظهر التسالم عليه بيننا من بطلان التصويب بكلا وجهيه.

الكلام في المحذورين المذكورين معاً

وإذا عرفت هذا يقع الكلام في المحذورين معاً، فنقول:

أما الأول: فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره أنه لا يلزم مع فرض انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية، إذ معه يكون الموجب لفوات الملاكات هو الانسداد لا جعل الطرق، بل يكون جعلها سبباً لتحصيل بعض ما يفوت من الملاكات بسبب الانسداد بعد فرض عدم وجوب الاحتياط ولو لتعذره.

هذا، وقد زاد بعض الأعاظم (قدس سره): أن المحذور المذكور لا يلزم مع انفتاح باب العلم أيضاً لو فرض اطلاع الشارع على كون الطرق المجعولة أقل خطأً من العلم الحاصل للمكلف أو مساوية له، إذ المراد بانفتاح باب العلم انفتاح باب القطع ولو خطأً، لا فعلية العلم المصيب دائماً، لعدم إمكان إحراز ذلك. وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره)، إلا أنه ألحقه بفرض الانسداد، وألحقه بعض الأعاظم (قدس سره) بفرض الانفتاح.

إشكال العراقي (قدس سره) بأن الخطأ في الطريق تفويت اختياري

وقد استشكل فيه بعض الأعيان المحققين (قدس سره): بأن ضياع الملاك مع خطأ القطع قهري، لعدم التفات القاطع إلى خطأ قطعه، بخلاف التعبد بالطريق مع الخطأ، فإنه تفويت اختياري مستند للشارع فيقبح منه.

المناقشة فيما ذكره (قدس سره)

وهو كما ترى! إذ لا معنى لفرض كون التفويت اختيارياً مستنداً للشارع مع فرض تحققه على كل حال حتى مع عدم نصبه للطريق. فما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في محله.

ص: 140

نعم، ذكر (قدس سره) أن الطرق المبحوث عنها من هذا القبيل، لأنها ليست اختراعية للشارع، بل هي طرق عرفية عقلائية، وهي عندهم كالعلم من حيث الاتقان والاستحكام والإصابة والخطأ، فلا قبح في جعل الشارع لها بناءً على ما تقدم.

وفيه.. أولاً: أن الكلام لا يختص بالطرق العرفية، بل يجري في غيرها مما ثبت جعله - كيد المسلم التي هي أمارة على التذكية ولو مع استحلاله للميتة - أو لم يثبت، لما هو المعلوم من عدم الفرق بين الطرق العرفية وغيرها في الإمكان والامتناع.

وثانياً: أنه لا مجال لدعوى بناء العقلاء على كون الطرق المذكورة كالعلم في الاستحكام والإصابة، كيف وظهور الخطأ فيها لا يحصى؟! ولاسيما مثل اليد، وأصالتي الصحة والطهارة، خصوصاً مع عموم حجيتها لصورة إمكان الفحص، الذي لا إشكال في كونه عندهم أوصل منها.

وثالثاً: أن الكلام لا يختص بالطرق، بل يجري في الأصول التي يجوز الرجوع لها مع التمكن من الفحص واستعلام الحال في الشبهات الموضوعية كأصالة الطهارة، بل مع حكم العقل بلزوم الاحتياط وتحصيل العلم لولاها، كما في موارد قاعدة الصحة والتجاوز، فإن الرجوع حينئذٍ لها موجب لتفويت الملاك الواقعي كثيراً مع إمكان تحصيله بالفحص أو الاحتياط اللازم عقلاً.

دفع المحذور بما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

فالإنصاف أنه لا مجال لدفع المحذور المذكور بذلك، بل لابد من التماس طريقٍ آخر.

وقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره أنه يمكن الالتزام بتدارك الملاكات

ص: 141

الفائتة بمصلحة متابعة الطرق، فقيام الطرق لا يوجب تبدل الملاكات الواقعية الثابتة لأفعال المكلفين ليوجب تبدل أحكامها الواقعية - كما هو مقتضى الوجه الثاني للتصويب - بل هو موجب لحدوث مصلحة في نفس سلوك الطرق ومتابعتها يكون بها تدارك ما فات من تلك الملاكات بسبب خطأ الطرق وعمل المكلف عليها، ولولا التدارك لكان تفويت الملاكات الواقعية قبيحاً، كما ذكر في تقرير المحذور.

مناقشة ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

لكن لا يخفى أنه لا ملزم بالتدارك كما ذكره غير واحدٍ، إذ مع فرض كون مصلحة الطرق أهم من الملاكات الواقعية الفائتة لا قبح في تفويت الملاكات ولا يلزم معه تداركها، ومع فرض عدم أهميتها منها يقبح تفويت الملاكات لأجلها، ولا ينفع فيه التدارك بها.

ولاسيما مع كون عدم التدارك هو المناسب لمرتكزات المتشرعة، لما هو المرتكز عندهم من أن الجهل بالواقع موجب لتفويته، وأن ما فعله الظالمون مما سبب تضييع الأحكام كان سبباً لخسارة الناس وحرمانهم من بركاتها، وربما يستظهر ذلك من بعض الأخبار.

اللهم إلا أن يكون المراد بتدارك ما فات مجرد وجود المزاحم المصحح لتفويته. لكنه خلاف ظاهر كلماتهم خصوصاً شيخنا الأعظم (قدس سره).

وكيف كان، فهذا الوجه وإن دفع المحذور المذكور، إلا أنه لا ينفع في ما نحن فيه، إذ مرجعه إلى كون ملاك سلوك الطرق مزاحماً للملاكات الواقعية، لمنافاته لها عملاً، ومن الظاهر أنه مع تزاحم الملاكات يكون التأثير للأقوى منها، ويسقط الأضعف عن تأثير الحكم الذي يقتضيه، ولازم ذلك في المقام سقوط الأحكام الواقعية، ولزوم سلوك الطرق، وهو راجع

ص: 142

إلى الوجه الثاني من التصويب، لعدم توقف التصويب على كون قيام الطرق موجباً لتغير الملاك الواقعي الثابت للفعل بعنوانه الأولي، بل يكفي تغير ملاكه بعنوان ثانوي طارئ عليه، كعنوان سلوك الطرق ومتابعتها، الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية الطارئة عليه بسبب قيام الطرق، كما لا يخفى.

نعم، هذا الوجه لا يقتضي الإجزاء مع إمكان التدارك بمثل الإعادة والقضاء، لعدم منافاته للفوت، فإن وجود المصحح لتفويت الملاكات في الوقت لا ينافي إمكان تداركها بعد ذلك، نظير ترك الصلاة أو الصوم لمزاحم أهم، ولا يبعد كون مبنى القائلين بالتصويب على الإجزاء، لعدم تحقق الفوت بسبب تبدل الملاك، وهو - لو تم - كاشف عن ابتناء التصويب عندهم على تبدل ملاك الفعل بنفسه، لا من جهة المزاحم.

لكن هذا لا ينافي بطلان هذا الوجه وخروجه عن محل الكلام، كالتصويب بالمعنى المذكور، لرجوعه إلى عدم فعلية الأحكام الواقعية ولو من جهة المزاحمة، وهو خلاف ما ادعاه شيخنا الأعظم (قدس سره) من تواتر الأخبار باشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها، كما لا يخفى.

وبالجملة: حيث فرض فعلية الأحكام الواقعية تبعاً لفعلية ملاكاتها تعين الالتزام بعدم طروء المزاحم لتلك الملاكات بسبب قيام الطرق، وهو مصلحة السلوك المشار إليها.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية

وقد حاول المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية بوجه آخر لا يبتني على المصلحة السلوكية، فقد ذكر أن المصحح لتفويت الملاكات الواقعية هو المصلحة الملزمة بنصب

ص: 143

الطرق والتعبد بها، نظير مصلحة التسهيل النوعي، فنصب الطرق لا يقتضي المصلحة في سلوكها الذي هو من عناوين فعل المكلف الثانوية، ليزاحم الملاكات الواقعية ويمنع من فعلية أحكامها، بل هو نفسه مشتمل على المصلحة الملزمة المصححة لتفويت الملاكات الواقعية، والرافعة لقبحها.

وعن بعض الأعاظم (قدس سره) أنه لابد حينئذٍ من تدارك ما فات من الملاكات الواقعية بسبب الجعل.

وهو غير ظاهر، إذ لا موجب للتدارك مع فرض أهمية مصلحة الجعل، لعدم قبح تفويت المهم لأجل الأهم عقلاً ولو لم يتدارك، كما هو ظاهر.

نعم، قد يستشكل في ذلك أيضاً - كما يستفاد من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) - بأنه راجع إلى فرض التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعية وملاك نصب الطرق، لامتناع استيفاء كلا الملاكين، بل استيفاء الثاني مانع من استيفاء الأول، فإن فرض أهمية الملاكات الواقعية تعلق الغرض الفعلي للمولى بجعل الأحكام الواقعية على طبقها وامتنع نصب الطرق المخالفة لها، لما فيه من تفويت تلك الملاكات ونقض الغرض الفعلي، وإن فرض أهمية ملاك نصب الطرق لزم رفع اليد عن الملاكات الواقعية وسقوط أحكامها، وهو خلاف فرض فعلية الأحكام الواقعية وتعلق الغرض بها.

وبالجملة: تعلق الغرض والإرادة الفعليين على طبق الأحكام الواقعية ينافي نصب الطرق المؤدية إلى خلافها بعين التنافي بين إرادة الشيء وإرادة ما يمنع عنه، كما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره).

ومن الغريب ما ذكره بعض مشايخنا من تنظير مصلحة التسهيل النوعية في المقام بحق الشفعة الذي ثبت للشريك، لأنه ربما يتضرر من اشتراكه مع

ص: 144

الشريك اللاحق، وبطهارة الحديد، وعدم وجوب السواك، ونحو ذلك.

إذ فيه: أن تقديم الملاك النوعي في هذا الموارد موجب لعدم تأثير الملاك المزاحم بها في الحكم الفعلي، وليس الحكم الفعلي إلا على طبقها، بخلاف المقام حيث فرض فيه كون الحكم المخالف لمؤدى الأمارة فعلياً، لفعلية ملاكه.

ثم إن هذا الإشكال لو تم لانفتح به أبواب من الإشكال لا مجال للالتزام بها، فإن تعلق الغرض والإرادة الفعليين بحفظ الملاك الواقعي الفعلي كما يمنع من إرادة ما ينافيه - وهو نصب الطرق المؤدية لخلافه - كذلك يقتضي جعل ما يكون سبباً في حفظه، كنصب الطرق المؤدية له المأمون منها الخطأ،

وإيجاب الاحتياط لو فرض تعذرها وانسداد باب العلم، بل يلزم النهي عن سلوك الطرق المؤدية للقطع إذا كانت بنظر المولى معرضة للخطأ وموجبة لفوت الملاك الواقعي. كما يلزم تهيئة أسباب الطاعة بإقناع المكلف بها ترغيباً أو ترهيباً. ولا يمكن الالتزام بشيء من ذلك، لما هو المعلوم من كثرة فوت الواقع بسبب خطأ القطع وعدم نصب الشارع لطرق مأمونة الخطأ، وعدم وجوب الاحتياط شرعاً في أكثر موارد الشك، بل يجوز الرجوع لمقتضى البراءة ولو بحكم العقل وشيوع تخلف المكلفين عن إطاعة الأحكام الشرعية. فلابد إما من دفع هذه الشبهة في هذه الموارد، فتندفع في ما نحن فيه، لأنه من سنخها، أو إهمالها فيها، لأنها من سنخ الشبهة في مقابل البديهة، فتهمل في ما نحن فيه أيضاً.

ما ذكره العراقي (قدس سره) لدفع الشبهة

وقد تصدى بعض الأعيان المحققين (قدس سره) لدفع الشبهة من أساسها بنحو - لو تم - ينفع في جميع الجهات المتقدمة. إلا أنه لطوله وكثرة مقدماته

ص: 145

لا يسعنا استقصاؤه، وقد لخّصه سيدنا الأعظم (قدس سره) واقتصر منه على ما يناسب القول بجعل الطرق لمحض الطريقية، وهو يبتني على أمرين.

تلخيص السيدالحكيم (قدس سره) لما ذكره العراقي (قدس سره)

الأول: أن منشأ تضاد الأحكام هو تنافي الإرادة والكراهة والرضا التي هي المعيار في كون الحكم حقيقياً، وتنافيها ناشئ من تنافي مباديها وهي ترجح الوجود على العدم، وترجح العدم على الوجود، وتساويهما في نظر المولى، لاستحالة اجتماع هذه الأمور في شيء واحد.

إلا أن يكون للشيء الواحد جهات من الوجود، فيمكن اتصافه بكل من هذه الأمور بلحاظ كل جهة من جهاته، فيكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ جهة، وعدمه أرجح من وجوده بلحاظ جهة أخرى، وعليه فالوجود الواحد إذا كان له مقدمات متعددة تتعدد جهاته بتعدد تلك المقدمات، فكما يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه من جميع الجهات الموجب لإيجاده بإيجاد جميع مقدماته، كذلك يمكن أن يكون وجوده أرجح من عدمه بلحاظ بعض جهاته، فيتعلق الغرض بإيجاده من تلك الجهة دون بقية الجهات، وهو يقتضي إيجاد المقدمة المتعلقة بالجهة المرادة دون بقية المقدمات، بل قد يكون عدمها أرجح من وجودها، فتتعلق الكراهة بالفعل من جهتها، كما تعلقت الإرادة به من الجهة الأولى، ولا محذور حينئذٍ في اجتماع الضدين في الشيء الواحد لتعدد الجهة.

كما أن الحال كذلك في المركب الذي تتعدد جهاته بتعدد أجزائه، فقد يتعلق به الغرض من جميع الجهات، فيوجد بتمام أجزائه، وقد يتعلق به الغرض من بعض جهاته، فلا يوجد إلا بعض أجزائه.

الثاني: أن الإرادة التشريعية التي هي المناط في الأحكام من سنخ

ص: 146

الإرادة التكوينية، بل هي مرتبة منها، وليس الفرق بينهما إلا في كيفية التعلق بالمراد، فإن لوجود الفعل من المكلف مقدمات، بعضها يتعلق بالعبد، وبعضها يتعلق بالمولى، وهي جعل الحكم، وتنجيزه على المكلف - بإيصاله أو بإيجاب الاحتياط فيه - وحدوث الداعي العقلي له إلى الإطاعة، كالخوف من المولى، أو الرجاء له وغيرهما.

فإن تعلقت إرادة المولى بالفعل من جميع الجهات لاقتضاء ملاكه لذلك كانت تلك الإرادة تكوينية، وامتنع تخلفها عن المراد - مع قدرة المولى - والإرادة المذكورة تستتبع إرادات غيرية لتمام المقدمات الموصلة له، فيجعل المولى الحكم وينجزه على المكلف بإيصاله أو إيجاب الاحتياط عليه فيه، ويهدده و يخوفه، إلى أن يختار الامتثال ويحقق المراد.

وإن تعلقت به من جهة تشريع الحكم فقط لعدم اقتضاء ملاكه إلا ذلك كانت الإرادة تشريعية، وهي لا تقتضي إلا تشريع الحكم وجعله، ولا تقتضي تنجيزه ولا غيره من المقدمات، بل يتوقف ذلك على إرادة أخرى تقتضي الوجود من تلك الجهات وذلك تابع لغرض المولى التابع لمقدار الملاك الملحوظ له.

وبالجملة: الإرادة التشريعية مرتبة من الإرادة التكوينية تقتضي وجود فعل المكلف من حيث تشريع الحكم لا غير، ولذا أمكن تخلف المراد عنها.

إذا عرفت هذا، ظهر أن جعل الحكم لا ينافي جعل الطرق المخالفة له، كما لا يقتضي تيسير طريق الوصول له أو حفظه بإيجاب الاحتياط ونحوه، لأن جعل الحكم تابع للإرادة التشريعية، وهي إرادة فعل المكلف من حيث جعل الحكم، وهو لا يستلزم إرادته من بقية الجهات - كتنجيزه وغيره - لما

ص: 147

عرفت من إمكان التفكيك في الإرادة بين جهات الوجود ومقدماته، فيترجح الوجود على العدم من بعضها، ويترجح العدم على الوجود من بعضها الآخر. كما لا محذور في تفويت الملاك حينئذٍ في مرحلة تنجيز الحكم، إذ لا اقتضاء في الملاك للتحصيل إلا من حيث جعل الحكم، فلا يقبح تفويته من الجهات الأُخَر بجعل الطريق المنافي له.

نعم، لو فرض تعلق الإرادة بفعل المكلف من جهة تنجيز التكليف به أيضاً لاقتضاء ملاكه لذلك امتنع نصب الطريق المخالف له، بل لابد من تنجيزه ولو بجعل الاحتياط لئلا يلزم نقض الغرض وتفويت الملاك اللازم التحصيل.

مواقع النظر فيما أفاده (قدس سره)

لكن هذا خروج عن الفرض، إذ الكلام في منافاة نصب الطريق لأصل الجعل، واستلزامه تفويت الملاك الموجب له لا غير.

كما ظهر - أيضاً - عدم لزوم محذور اجتماع الحكمين المتضادين لو كان مؤدى الطريق مخالفاً للأحكام الواقعية، فإن التعبد بالطريق وإن كان حاكياً عن الترخيص في مخالفة الأحكام الواقعية، إلا أن الترخيص قد تعلق بحيثية إيصال الحكم وتنجيزه، فلا ينافي الحكم الواقعي الناشئ عن الإرادة التشريعية المتعلقة بحيثية جعل الحكم، لاختلاف الجهة الرافع لمحذور اجتماع الحكمين المتضادين، كما عرفت. وقد أطال (قدس سره) - تبعاً لشيخه المذكور (قدس سره) - في توضيح ذلك وتنقيحه، كما يظهر بمراجعة كلامهما.

لكن ما ذكره من إمكان التفكيك في إرادة الشيء بين جهات وجوده من حيثية الأجزاء والمقدمات مما تأباه المرتكزات العرفية جداً - كما ذكرناه عند الكلام في حقيقة الإرادة التشريعية - لأن الإرادة الغيرية لما كانت في

ص: 148

طول الإرادة النفسية وكان الغرض الموجب لها هو الوصول للمراد النفسي فلابد من الارتباطية بين الإرادات الغيرية المتعلقة بجميع المقدمات وامتنع التفكيك بينها، فإرادة ذي المقدمة تستلزم إرادة جميع مقدماته، ومع عدم إرادة بعضها وعدم السعي له المستلزم لعدم حصول المراد النفسي يمتنع تعلق الإرادة النفسية به، فيمتنع معه إرادة بعض المقدمات غيرياً.

وكذا الحال في المركب ذي الأجزاء ضرورة الارتباطية أيضاً بين الإرادات الضمنية التي تنحل إليها الإرادة الاستقلالية المتعلقة بالمركب.

نعم، قد يتعلق الغرض الاستقلالي بالمقدمة أو الجزء، فيكون مراداً نفسياً أو استقلالياً. من دون أن تتعلق الإرادة بذي المقدمة ولا بالمركب، وهو خارج عن محل الكلام، حيث فرض فيه كون متعلق

التكليف بنفسه مراداً للمولى وفرض توقف وجوده على المقدمات المذكورة في كلامه (قدس سره)، لا أن الإرادة قد تعلقت بجعل التكليف من دون أن تتعلق بالمكلف به.

وحينئذٍٍ يعود المحذور المتقدم، إذ مع فرض فعلية الملاك على طبق الحكم الواقعي المستلزم لتعلق الغرض والإرادة بمتعلق الحكم لابد من حفظ المولى لمراده بفعل تمام مقدماته ومنها تنجيز التكليف، ولا يكتفي بجعل الحكم. كما يعود محذور لزوم اجتماع الضدين، لأن تعدد الجهة لا يجدي مع الارتباطية بين الجهات في تعلق الإرادة والغرض، كما لعله ظاهر.

الوجه في دفع المحذور المذكور

هذا، والظاهر اندفاع المحذور المذكور بناءً على ما هو الظاهر في حقيقة الإرادة التشريعية التي هي الملاك في ثبوت الأحكام الشرعية، فقد ذكرنا في محله أنها ليست من سنخ الإرادة التكوينية، ولا ملازمة لها، بل هي متقومة بالجعل والخطاب بداعي جعل السبيل على المكلف، وهي..

ص: 149

تارةً: تصدر عن إرادة تكوينية للفعل، وهي حينئذٍ غير قابلة للتخلف مع فرض قدرة المريد، فلابد له من تحقيق تمام ما له الدخل في وقوع المراد مما يحمل المكلف على الامتثال، من تنجيز الحكم على المكلف، وإقداره على امتثاله، وإحداث الداعي في نفسه بالتخويف والتهديد والهداية وغير ذلك، لئلّا يلزم نقض الغرض.

وأخرى: لا تصدر عن إرادة تكوينية، بل لدواعٍ أخر، فلا يلزم تهيئة ما يتوقف عليه الامتثال مما تقدم، بل يمكن حينئذٍ تهيئة ما يمنع عنه، من نصب الطرق المؤدية لخلاف الواقع، أو تعجيز المكلف عن الوصول إليه ومعرفته بنحوٍ لا يتسنى الاحتياط كما في الدوران بين المحذورين أو إيجاد أسباب العصيان له، كإثارة الدواعي الشهوية، وتمكين الشيطان منه، وحرمانه من فيض الهداية الربانية، ولا يلزم من ذلك نقض الغرض بوجه.

نعم، لا إشكال في أن التكاليف الشرعية تابعة للملاكات الفعلية، إلا أن فعلية الملاكات لا تقتضي عقلاً حفظها من جميع الجهات، بل تقتضي حفظها في مقام التشريع بالوجه الذي لا يلزم منه محذور أهم، فإذا فرض لزوم المحذور - كالحرج النوعي - لم يقبح عقلاً تفويتها - بجعل الطرق المخالفة أو بعدم إيجاب الاحتياط أو بغيرهما - ولا ينافي ذلك فعليتها، إذ ليس المراد بفعلية الملاك المستتبعة

لفعلية الحكم إلا كونه بنحوٍ يقتضي رجحان الفعل أو الترك، بحيث يقتضي العمل لو تنجز في حق المكلف، وجواز تفويته من قبل الشارع بجعل ما يمنع من تنجيزه - كالطرق المخالفة له - لمصلحة في جعله لا ينافي فعليته بهذا المعنى، ولا يلزم منه التصويب.

وبعبارةٍ أخرى: بطلان التصويب إنما يقتضي فعلية الأحكام - تبعاً

ص: 150

لملاكاتها - في حق المكلف، بحيث يكون عمل المكلف واجداً للملاك المقتضي للحكم من دون مزاحم، وهو لا يستلزم فعلية الملاك في حق المولى بنحوٍ يلزمه استيفاؤه تشريعاً حتى بإيصاله للمكلف، بل يمكن عروض ما يقتضي تفويته وعدم تنجيزه من المزاحمات، فلا يقبح منه حينئذٍ تفويته وإن كان تاماً مقتضياً للعمل من المكلف لولا عدم التنجيز.

وهذا بخلاف ما إذا كان نصب الطريق موجباً لحدوث ملاك في نفس الفعل يقتضي متابعة الطريق - كما هو مبنى المصلحة السلوكية - فإن الملاك الواقعي يكون مزاحماً قاصراً عن تأثير الحكم الفعلي مع قطع النظر عن عدم تنجيزه، ومن ثم كان نحواً من التصويب، كما سبق.

هذا، مضافاً إلى أن امتناع الجمع بين الغرضين واستيفائهما معاً في الخارج إنما يمنع من فعليتهما معاً في حق الشخص الواحد، ويستلزم سقوط أحدهما أو كليهما عن الفعلية فيما إذا كانا معاً راجعين إلى مقام الثبوت أو إلى مقام الإثبات، كما إذا تعذر الجمع بين حفظ المال وحفظ الصحة، أو بين حفظ كرامة الشاهد المقتضي لقبول شهادته والاهتمام بالواقع المشهود به المقتضي لعدم الاكتفاء فيه بغير العلم، أما إذا كان أحدهما راجعاً إلى مقام الثبوت والآخر راجعاً إلى مقام الإثبات فلا مانع من فعليتهما معاً بنحوٍ ينبغي العمل عليهما معاً، كما لو لم يزاحم بالآخر، من دون أن يكون تفويت الملاك الراجع إلى مقام الثبوت لأجل الملاك الراجع إلى مقام الإثبات منافياً لفعليته بنحوٍ ينبغي حصوله.

مثلاً: إذا اقتضى علاج المرض استعمال الدواء على رأس كل ساعة، ولم يمكن إحراز ذلك كاملاً إلا بشراء المنبه، وكان شراؤه مجحفاً

ص: 151

بالمريض، فقد يكون العلاج المذكور من الأهمية بنحوٍ يلزم بتحمل الإجحاف المالي، وقد لا يكون كذلك، إما لعدم أهمية المرض، أو لعدم استلزام الإخلال بالموعد في بعض الوقائع بسبب عدم المنبه تعذر العلاج رأساً، بل عدم كمال العلاج وبلوغه المرتبة التامة، وحينئذٍ

لا يقدم المريض على شراء المنبه دفعاً للضرر المجحف به وإن استلزم الإخلال بالموعد في بعض الوقائع، من دون أن يخرج الحفاظ عن الموعد فيها عن الفعلية، ولذا لو حصل صدفة بلا علم بالوقت كان وافياً بالغرض الفعلي، كما لو حصل عن علم بالوقت. وهذا بخلاف ما لو كان الحفاظ على الموعد في بعض الوقائع مستلزماً لمحاذير ثبوتية، كالتعرض للبرد المضر بالبدن من جهة أخرى غير المرض المعالج، أو الضرر المالي المجحف في نفس العلاج، كغلاء الدواء، ونحوهما مما يمنع من فعلية الغرض فيه ثبوتاً، بحيث لو وقع لم يكن مطابقاً للغرض الفعلي على نحو غيرها من الوقائع غير المزاحمة من تلك الجهة.

وبما ذكرنا ظهر أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من كون المصلحة المقتضية لنصب الطرق في نفس التعبد بالطرق وجعلها من قبل الشارع، لا في متابعة المكلف للطرق - كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) - وافٍ بدفع محذور تفويت الملاكات الواقعية.

ولا يتوجه عليه محذور نقض الغرض، لتوقفه على كون التكاليف الفعلية ناشئة عن الإرادة التكوينية.

كما لا يتوجه عليه محذور عدم فعلية الملاكات ولا الأحكام التابعة لها، لما عرفت من أن وجود ما يمنع من تنجيز المولى للحكم لا ينافي فعليته

ص: 152

في حق المكلف، بمعنى كون ملاكه مقتضياً للفعل - لو فرض تنجزه - غير مزاحم بما يمنع من تأثيره.

هذا ما تيسر لنا في دفع محذور لزوم تفويت الملاكات الواقعية ونقض الغرض من جعل الطرق غير العلمية. والله سبحانه ولي التوفيق.

المحذور الثاني: محذور اجتماع الحكمين المتضادين

وأما المحذور الثاني: - وهو محذور اجتماع الحكمين المتضادين - فقد يدعى عدم اختصاصه بصورة المخالفة، بل يجري نظيره في صورة الموافقة، حيث يلزم حينئذٍ اجتماع المثلين.

ما ذكره النائيني (قدس سره)

وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن ذلك ليس محذوراً، إذ يمكن حينئذٍ الالتزام بالتأكد بين الحكمين، فيكون في المورد حكم واحدٍ بمرتبةٍ شديدة.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن الحكم الواقعي إن كان منجزاً في صورة إصابة الطريق له بحيث يكون منشأً لاستحقاق العقاب والثواب لزم تأكد العقاب والثواب وشدتهما، بحيث يكون العقاب والثواب على الحكم الذي أصابه الطريق أشد من العقاب والثواب على الحكم الذي يصيبه المكلف بالقطع، حيث لا يكون القطع مستتبعاً لحكم يؤكد الحكم الواقعي، بخلاف الطريق. وإن لم يكن منجزاً صالحاً لأن يعاقب ويثاب عليه - لفرض عدم العلم به - لزم كون العقاب على الحكم الظاهري لا الواقعي، وكلا الأمرين لا يمكن الالتزام به.

وثانياً: أن الحكم الظاهري إذا كان من سنخ الحكم الواقعي بحيث يؤكده في صورة الموافقة يلزم في صورة المخالفة جريان أحكام اجتماع الحكمين بعنوانين في مورد واحد، فيقدم الإلزامي على غيره، والاقتضائي على غيره، ويتزاحمان لو كانا اقتضائيين إلزاميين أو غير إلزاميين، فيسقطان لو كانا متساويين ملاكاً، ويقدم الأقوى منهما مع عدم التساوي. ومن الظاهر

ص: 153

عدم الالتزام بذلك.

الوجه في دفع المحذور المذكور

فالتحقيق: أن الحكم الظاهري مباين سنخاً للحكم الواقعي، فلا يتأكد أحدهما بالآخر مع تماثلهما، ولا يتزاحمان مع تضادهما، فلابد من النظر في حالهما وفي كيفية الجمع بينهما مع التماثل والتضاد.

وجوه دفع المحذور

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه ربما يدفع المحذور المذكور بوجوه..

الأول: ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) من اختلاف الجهة

الأول: ما تقدم من سيدنا الأعظم وشيخه I من اختلاف الجهة، فإنه رافع لمحذور اجتماع الضدين والمثلين. وقد سبق الإشكال في الوجه المذكور.

الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) عن تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في أول مباحث الشك، ومباحث التعادل والتراجيح من أن الحكم الظاهري متأخر رتبة عن الحكم الواقعي، لأن موضوعه الشك فيه.

وهو وإن ذكر ذلك في مفاد الأصول، إلا أنه قد يتوجه نظيره في مفاد الطرق فإن قيام الطريق على الحكم الواقعي لما كان متأخراً عنه رتبة تأخر الكاشف عن المنكشف كان الحكم الظاهري المترتب عليه متأخراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وحينئذٍ فقد يدعى أن اختلاف الرتبة رافع لمحذور اجتماع المثلين والضدين، كما يرفع محذور اجتماع النقيضين، حيث يجوز اجتماعهما في زمان واحد وموضوع واحد مع اختلاف الرتبة، فالمعلول في زمان وجود العلة معدوم في مرتبة وجود العلة وموجود في المرتبة الثانية.

إشكال السيد الحكيم (قدس سره)

وقد أجاب عنه سيدنا الأعظم (قدس سره) بمنع كفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع المتضادين، إذ لا يجوز بالضرورة أن يكون مقطوع المحبوبية بما هو

ص: 154

كذلك مبغوضاً، مع أن المبغوضية متأخرة عن المحبوبية بمرتبتين، كتأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي.

المناقشة فيه

أقول: اعترف (قدس سره) في تقرير هذا الوجه بكفاية اختلاف الرتبة في جواز اجتماع النقيضين، كما ذكرنا، ومن الظاهر أنه ليس أهون من اجتماع الضدين، وكما يمكن تصوير اجتماع النقيضين مع اختلاف الرتبة بما تقدم يمكن تصوير اجتماع الضدين فيما لو طرأ على أحد الضدين علة ضده الآخر الرافعة له، فإن الضدين موجودان في زمان وجود العلة وإن اختلفا بالرتبة، حيث يكون الأول موجوداً في مرتبة حدوث العلة الرافعة له، والثاني موجوداً في المرتبة الثانية.

الأولى في جواب الشيخ الأعظم (قدس سره)

ولعل الأولى في الجواب أن يقال: أن الاجتماع الحقيقي بين النقيضين أو الضدين في زمان واحد محال، ولا يصححه اختلاف الرتبة، ولا اجتماع حقيقي في ما تقدم، بل ليس إلا صحة نسبة كل منهما إلى العلة نحو نسبة توهم الاجتماع بينهما، بسبب تفرع المعلول على العلة وتأخره عنها رتبة ولحاظاً، ولا يعقل فرض آن واحد يتحقق فيه كلا الضدين والنقيضين، ولذا كان الاجتماع المزعوم بنحوٍ لا يقبل الاستمرار والاستقرار، بل من حين نهاية أحدهما يبدأ الآخر. وهذا لا يشبه ما نحن فيه، حيث يكون كل من الحكم الواقعي والظاهري مجتمعاًَ مع الآخر بنحو الاستمرار والاستقرار، لتحقق موضوع كل منهما في ظرف تحقق موضوع الآخر.

وما هو النظير لما تقدم من تصحيح الاجتماع مع اختلاف الرتبة نصب الطرق بناءً على الوجه الثاني من التصويب، حيث يكون الحكم الواقعي موجوداً في مرتبة قيام الطريق معدوماً في المرتبة الثانية التي يتحقق فيها

ص: 155

الحكم الثانوي المضاد له الذي هو مؤدى الطريق.

ولو كان اختلاف الرتبة بسبب أخذ أحد الحكمين في موضوع الآخر مصححاً لاجتماعهما بالوجه الذي هو محل الكلام لصح أخذ العلم بأحد الحكمين في موضوع الآخر، فيكون العلم بوجوب شيءٍ - مثلاً - موجباً لحرمته مع بقائه على الوجوب، ومن الظاهر أن العلم متأخر رتبة عن الحكم المعلوم كالشك المأخوذ في المقام.

وبالجملة: اختلاف الحكمين المتضادين رتبة بسبب أخذ أحدهما في موضوع الآخر لا يصحح اجتماعهما بالنحو الذي هو محل الكلام، حيث يكون كل منهما مستمراً باستمرار موضوعه، مقتضياً للعمل المطابق له، مجتمعاً مع الآخر في ذلك.

وكأن ما ذكرنا هو مراد المحقق الخراساني (قدس سره)، حيث أورد على الوجه المتقدم بأن الحكم الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الحكم الواقعي، إلا أنه يجتمع معه في بعض مراتبه، فيلزم اجتماع المتنافيين في المرتبة المذكورة.

وإلا فهو بظاهره بَيِّن الوهن، إذ مع فرض الترتب بين الحكمين لأخذ أحدهما في موضوع الآخر لا معنى لاجتماعهما في بعض المراتب، كما نبه له سيدنا الأعظم (قدس سره). فتأمل جيداً.

الثالث: أن الحكم الواقعي شأني

الثالث: ما عن بعض الأساطين من أن الحكم الواقعي شأني أو إنشائي - على اختلاف عباراته - والحكم الظاهري فعلي. وربما يظهر ذلك من بعض كلمات شيخنا الأعظم (قدس سره)، وحكي أيضاً عن المحقق الخراساني (قدس سره).

المناقشة فيه

ولا يخفى أنه إن كان المراد بالحكم الإنشائي أو الشأني الحكم الذي

ص: 156

لم يتم ملاكه ولا موضوعه فلا يصلح لأن يترتب عليه العمل، نظير الحكم الاقتضائي، في مقابل الحكم الفعلي الذي تم ملاكه بالنحو المذكور، فهو راجع إلى التصويب الباطل.

وإن كان المراد به ما لم يبلغ مرتبة الامتثال بسبب الجهل به، ويكون المراد بالفعلي ما كان بالغاً المرتبة المذكورة، فهو مسلم، إلا أنه لا ينفع في جواز اجتماع الحكمين، ضرورة امتناع اجتماع الحكمين الواقعيين المتضادين وإن لم يكونا معاً فعليين بالمعنى المذكور، فضلاً عما لو كان أحدهما فعلياً، كما في المقام، ولذا كان الدليل على الحكم دليلاً على نفي ضده وإن لم يتنجز، كما هو ظاهر.

الرابع: ما ذكره الخراساني (قدس سره) من كون الحكم الواقعي فعلي لا يستتبع البعث والزجر

الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في بعض أقسام الحكم الظاهري من أن الحكم الواقعي وإن كان فعلياً بنحوٍ لو علم به المكلف لتنجز عليه، إلا أن فعليته لا تستتبع البعث والزجر في نفس المولى، لوجود المانع، وهو المصلحة الملزمة بالترخيص الجدي الظاهري.

المناقشة فيه

وفيه: أن عدم بلوغ الحكم مرتبة البعث والزجر راجع إلى عدم كونه فعلياً، بحيث يكون العلم به منجزاً له، فإن الحكم الفعلي هو الواصل إلى المرتبة المذكورة، ولا يكون العلم به دخيلاً في موضوعه وملاكه ثبوتاً، بل يكون منجزاً له مع كونه على ما هو عليه قبل التنجز تام الملاك والموضوع، وحيث إن الحكم الفعلي بعد تنجزه واصل إلى مرتبة البعث والزجر فهو قبل التنجز كذلك.

نعم، قد يكون وصول الحكم دخيلاً في فعليته متمماً لملاكه وموضوعه وموجباً لوصوله إلى مرتبة البعث والزجر، نظير ما تقدم من أخذ

ص: 157

العلم في موضوع الحكم المعلوم، فهو قبله غير واصل إلى مرتبة الفعلية ولا إلى مرتبة البعث والزجر، إلا أن العلم به حينئذٍ لا يكون منجزاً له، بل يكون المنجز له العلم بفعليته المترتبة على العلم به، والالتزام بذلك في المقام راجع للتصويب. كما أشار لذلك سيدنا الأعظم (قدس سره).

الخامس: ما ذكره الخراساني (قدس سره) أيضاً

الخامس: ما ذكره هو في بعض أقسام الحكم الظاهري أيضاً، من أنه وإن لزم اجتماع الحكمين إلا أنهما ليسا بضدين ولا مثلين، لأن منشأ تضاد الأحكام تضاد مبادئها، وهي الإرادة والكراهة في نفس المولى بسبب المصلحة أو المفسدة الموجودتين في المتعلق، وليس الحكم الظاهري ناشئاً عن إرادة أو كراهة في نفس المولى مضادتين لمنشأ الحكم الواقعي ليمنع اجتماعهما، بل هو حكم طريقي ناشئ عن مصلحة في جعله وإنشائه لا يترتب عليه إلا التنجز أو صحة الاعتذار، فلا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله.

ما استشكله السيد الحكيم (قدس سره)

وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم (قدس سره): بأن الحكم الذي لا يكون حاكياً عن إرادة أو كراهة أو ترخيص نفسي لا يكون موضوع أثر في نظر العقل، فكيف يترتب عليه تنجز الواقع أو العذر في مخالفته.

دفع الإشكال المذكور

ويندفع: بأن عدم ترتب الأثر بنظر العقل موقوف على كون الإنشاء صورياً لا بداعي البعث والزجر، وهو غير مدّعى في المقام، بل المدّعى عدم صدور الحكم عن إرادة أو كراهة أو رضا بنفس المتعلق، وهو فعل المكلف، واعتبار ذلك في ترتب الأثر بنظر العقل أول الكلام.

نعم، يشكل ما ذكره المحقق المذكور..

أولاً: بأن توقف الأحكام الواقعية على مصالح في متعلقاتها ليس

ص: 158

مسلَّماً، بل يمكن أن تكون ناشئةً عن مصالح في جعلها، ولو فرض امتناع ذلك في أحكام الشارع فليس هو لكون المصالح والمفاسد في المتعلقات مقومة للأحكام الواقعية، بحيث لا يمكن جعل الحكم بدونها، بل لدعوى أنه منافٍ للحكمة فيقبح من الشارع، وإلا فلا إشكال في إمكان جعل الحكم بدون ذلك، إما لإنكار التحسين والتقبيح العقليين - كما عن الأشاعرة - أو لكون المولى ممن يمكن في حقه الخروج عن ذلك كالموالي العرفيين، وحينئذٍ تكون الأحكام المذكورة كالأحكام الظاهرية على ما ذكره (قدس سره)، فتكون مضادةً لها، كتضاد الأحكام الظاهرية المختلفة فيما بينها، ولا ينهض الوجه المذكور بدفع المحذور حينئذٍ.

وثانياً: بما أشرنا إليه آنفاً من عدم كون الأحكام الواقعية ناشئة عن الإرادة والكراهة المسببتين عن المصلحة والمفسدة في المتعلق، ليكون منشأ تضادها تضاد مبادئها، بل هي ناشئة عن الخطاب بداعي جعل السبيل، أو بداعي رفع الحرج، وحيث كانت متقومة بنحو اقتضائها للفعل كانت متضادةً في أنفسها، لأن لكلٍ منها نحو اقتضاء للفعل من قبل المولى لا يناسب اقتضاء الآخر له، ولذا كان تضاد الأحكام ارتكازياً، حتى بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، ومن الظاهر مشاركة الأحكام الواقعية للظاهرية في ذلك، فإذا كان الحكم الظاهري مخالفاً للواقعي كان مقتضاهما من حيث العمل مختلفاً، ولزم التضاد بينهما كالحكمين الواقعيين.

السادس: ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره)

السادس: ما ذكره بعض مشايخنا مبنياً على بعض ما تقدم في الوجه السابق، وحاصله: أن حقيقة الأحكام التكليفية جعل متعلقاتها في ذمة

ص: 159

المكلف واعتبارها عليه كالدين في ذمة المديون، وعليه فهي اعتبارات صرفة خفيفة المؤنة لا تضاد بينها في أنفسها، وإنما يكون تضادها عرضياً باعتبار تضاد مباديها

- من الشوق والكراهة والمصلحة والمفسدة - وتضاد آثارها في مقام الامتثال، لتعذر جمع المكلف بينها فيه.

وهذا إنما يقتضي التضاد فيما لو كان الحكمان المختلفان معاً واقعيين أو ظاهريين، دون ما لو كان أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، لعدم التنافي بين مباديهما ولا بين آثارهما، أما المبادئ فلعدم كون الحكم الظاهري ناشئاً عن المصلحة أو المفسدة والشوق أو الكراهة للمتعلق كالواقعي، بل هو ناشئ عن مصلحة في جعله - كما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) - وهي تقتضي الشوق إلى الجعل لا إلى المتعلق، فلا ينافي الحكم الواقعي من هذه الجهة. وأما من حيث الآثار فلامتناع وصولهما معاً للمكلف، ليتعذر امتثالهما، لوضوح أنه مع وصول الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري ومع عدمه لا يجب امتثاله عقلاً، ليتعذر الجمع بينه وبين الحكم الواقعي في الامتثال.

مناقشته من وجهين

وفيه.. أولاً: أن ما ذكره في حقيقة الأحكام التكليفية من أنها من سنخ الوضع والاعتبار كالدين مخالف للمرتكزات العرفية، للتباين ارتكازاً بين مفاد الوضع والتكليف، فالأول من سنخ الجعل والتكوين الاعتباري، والثاني من سنخ البعث والتحريك اعتباراً، فهو ناظر لحركة المكلف متقوم بها، ولذا امتنع اعتباره وجعله عرفاً مع تعذر الفعل، بخلاف الوضع كالدين، ولذا ذكرنا أنه متقوم بالخطاب والتحريك بداعي جعل السبيل إلزاماً أو اقتضاءً، كما أن الإباحة مبتنية على النظر لفعل المكلف ورفع الحرج فيه.

ص: 160

وثانياً: أن ما ذكره في منشأ تضاد الأحكام الواقعية من حيث المبدأ مما لا مجال له بعد ما سبق في دفع محذور تفويت الملاكات الواقعية من عدم تبعية الأحكام للإرادة والشوق والكراهة، وما عرفت في دفع الوجه الخامس المتقدم من عدم لزوم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

كما أن ما ذكره في منشأ التضاد بينها من التنافي بينها في الآثار لعدم إمكان الجمع بينها في الامتثال انما يقتضي امتناع الجمع بينها لاستلزامه التكليف بالمحال، لا التضاد بينها بنحوٍ يكون الجمع بينها في نفسه محالاً.

مع أنه مختص بالأحكام المتنافية في مقام العمل، دون مثل الوجوب مع الاستحباب، والإباحة مع غيرها من الأحكام، إذ لا يتعذر على المكلف الجمع بينها في مقام الامتثال.

وقد عرفت في رد الوجه الخامس أن الأحكام لما كانت أموراً اعتبارية جعلية، وكان قوامها نحو اقتضائها للفعل من قبل المولى الجاعل لها كان اختلافها في نحو اقتضائه موجباً للتضاد بينها ذاتاً بحسب المرتكزات العرفية التي هي المدار في اعتبار الأحكام الشرعية، وذلك جارٍ في الحكم الواقعي والظاهري المخالف له، لما هو المعلوم من أن الحكم الظاهري له نحو من الاقتضاء للفعل كالحكم الواقعي، فيعود المحذور.

ومجرد عدم محركية الحكم الواقعي، وعدم فعلية تأثيره بسبب الجهل به، وعدم تنجزه لا يرفع التضاد المذكور، لأن منشأ التضاد ليس هو الحركة الفعلية المسببة عن الحكم، بل نحو اقتضاء الحكم للحركة، الذي يمتنع اختلافه مع وحدة الحاكم.

ولذا لا ريب في التضاد بين الحكمين الواقعيين لو كان أحدهما مقارناً

ص: 161

للجهل بالآخر من دون أن يؤخذ في موضوعه الجهل به، كما لو فرض جهل المكلف بفسق زيد، وحكم المولى بوجوب إكرامه، وحرمة إكرام كل فاسقٍ، فيكون إكرامه واجباً وحراماً في وقت واحد. بل لا إشكال في أن الحكم بوجوب إكرام زيد يكون ملازماً إما لعدم كونه فاسقاً، أو لتخصيص عموم حرمة إكرام الفساق.

وبالجملة: الوجه المذكور لا ينهض بدفع الشبهة. بل لابد من التأمل في وجه آخر يكون به التخلص عنها.

فنقول بعد التوكل على الله تعالى والاستعانة به:

التحقيق في وجه الشبهة

لا موقع للشبهة في موارد الطرق بناءً على ما عرفت في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من أن مفاد أدلة جعلها ليس جعل مؤداها، بل جعل حجيتها، لأن الحجية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل، فإن حجية الطريق لا تماثل الحكم الواقعي الثابت في مورده ولا تضاده، لاختلافهما سنخاً.

وكذا الحال في الأصول الإحرازية، كالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة، فإنها لا تقتضي إلا التعبد بمؤداها ولزوم البناء عليه إثباتاً في مقام العمل، لا جعله ثبوتاً، ليستلزم جعل الحكم الظاهري ويقع الكلام في مضادته للحكم الواقعي أو مماثلته له.

نعم، لا مجال لذلك في الأصول غير الإحرازية المنحصرة ظاهراً بالبراءة والاحتياط، لوضوح أنهما لا يتضمنان البناء في مقام العمل على ثبوت التكليف أو عدمه، بل محض حكم العمل في ظرف الشك به.

وحينئذٍ فقد يتوجه المحذور فيهما..

ص: 162

بدعوى: أن مرجع إيجاب الاحتياط وجعل البراءة إلى جعل حكم فعلي لفعل المكلف في ظرف الجهل بالحكم الواقعي يضاد الحكم الواقعي أو يماثله، كسائر الأحكام الثانوية بالإضافة إلى الأحكام الأولية.

لكنه يندفع: بأن الحكم المذكور لا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله، لأنه في طوله، لا من أجل أن موضوعه مترتب عليه - كما تقدم في الوجه الثاني - بل لأنه وارد لبيان الوظيفة العملية أزاء الحكم الواقعي، فهو ليس حكماً لفعل المكلف المشكوك الحكم في قبال حكمه الواقعي ومع قطع النظر عنه، ليكون حكماً واقعياً مثله مماثلاً أو مضاداً له، بل هو حكم لنفس الحكم الواقعي متفرع عليه راجع إلى جعل الوظيفة فيه، فلا سنخية بين الحكمين حتى تكون بينهما مماثلة أو مضادة.

نظير حكم العقل بالبراءة والاحتياط، أو بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية بالإضافة إلى الحكم الواقعي. غايته أن حكم الشارع إن كان مخالفاً لحكم العقل كان رادعاً عنه، وارداً عليه، رافعاً لموضوعه، وإن كان موافقاً له كان إمضاء له وبياناً لعدم جعل ما يرفع موضوعه، كما تقدم توضيح ذلك في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي، كما تقدم هناك أيضاً بعض الجهات المتعلقة بالمقام. فراجع.

ولأجل ما ذكرنا من اختلاف السنخية والطولية بين الحكمين كان عدم التضاد والتماثل بين الأحكام الواقعية والظاهرية أمراً ارتكازياً جلياً عند العقلاء، مع وضوح ثبوت التماثل والتضاد عندهم بين الأحكام الواقعية بنفسها، وبين الأحكام الظاهرية كذلك.

ثم إنه لو فرض غض النظر عما ذكرناه في الطرق والأصول الإحرازية،

ص: 163

وقلنا باستلزامها لجعل الأحكام الظاهرية في مواردها فلابد من الالتزام بأن الأحكام المذكورة من سنخ الحكم بالبراءة والاحتياط الشرعيين في طول الأحكام الواقعية لبيان الوظيفة العملية فيها، لا أنها أحكام مجعولة في عرضها ومع قطع النظر عنها، وإلا أشكل محذور التماثل والتضاد منها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

المقام الثاني: في ما يرجع إليه عند الشك في الحجية

المقام الثاني: في الأصل أو القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في الحجية

لا إشكال - في الجملة - في أن الأصل عدم الحجية في ما شك في حجيته. إلا أن الظاهر اختلاف الكلام باختلاف آثار الحجية المترتبة عليها.

وتوضيح ذلك: أنهم ذكروا أن للحجية أثرين..

الأول: ما يرجع لمقام العمل بمؤدى الحجة، وهو المعذرية والمنجزية بالإضافة إلى التكليف الواقعي، المستتبعان للعمل عليه.

الثاني: جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتعبد به على أنه من الدين.

أما الأول فهو الأثر المهم في المقام، لمناسبته لوظيفة الأصولي.

ولا ريب في كونه من الآثار العقلية المحضة. كما ريب في أنه مع الشك في الحجية لا يرى العقل ترتب الأثر المذكور، فما هو المعذر والمنجز فعلاً هو ما ثبت حجيته والتعبد به من قبل المولى.

لكن الظاهر أن اعتبار وصول الحجية في ترتب الأثر المذكور ليس لكون الوصول دخيلاً في مقتضي الأثر عليه، وهو لزوم الإطاعة، فإن تمام المقتضي والموضوع ثبوتاً بنظر العقل هو الجعل الواقعي، نظير اعتبار

ص: 164

وصول التكليف في ترتب الأثر عليه، وهو لزوم الإطاعة، فإن تمام المقتضي

والموضوع للإطاعة بنظر العقل هو التكليف الواقعي بنفسه، وليس وصوله إلا شرطاً في ذلك، لا أنه تمام المقتضي أو متمم له.

ويترتب على ذلك أنه لا يلغو قيام الطرق ولا جريان الأصول في الحجية إثباتاً ونفياً، لترتب العمل على مؤدى الطرق والأصول بعد كون تمام المقتضي للعمل هو الحجية.

ولا مجال معه للإشكال في استصحاب عدم الحجية بعدم ترتب الأثر عليه، لأنه يكفي في عدم المعذرية والمنجزية المستتبعين للعمل الشك في الحجية الحاصل بالوجدان، ولا يحتاج فيه لإحراز عدمها بالاستصحاب وغيره.

لاندفاعه: بأن عدم المعذرية والمنجزية وإن كان يترتب بمجرد الشك، إلا أن ترتبه بملاك عدم حصول شرط المعذرية والمنجزية، بخلاف ترتبه مع إحراز عدم الحجية، فإنه بملاك عدم المقتضي لهما، ومثل هذا الاختلاف كافٍ في الأثر المصحح لجريان استصحاب عدم الحجية.

ومن ثم جرى استصحاب عدم التكليف، مع أن الشك في التكليف كافٍ في البراءة عنه وعدم وجوب العمل عليه عقلاً.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من عدم لزوم ترتب الأثر على استصحاب الحجية

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشية الرسائل من أن الحجية وعدمها لما كانا مما تناله يد الجعل الشرعي، وتكون مورداً لتصرف الشارع لم يتوقف جريان الاستصحاب فيهما على ترتب الأثر الشرعي، وإنما يحتاج إلى ذلك في استصحاب الموضوعات الخارجية التي لا تنالها يد الجعل.

فهو لا يكفي في دفع الإشكال، فإن استصحاب الأمور التي تنالها يد

ص: 165

الجعل وإن لم يحتج إلى أثرٍ شرعي، إلا أنه لابد له من أثرٍ عملي وإن كان عقلياً، كوجوب الإطاعة للتكليف ولزوم العمل بالحجة تبعاً لمنجزيتها.

ومن ثم لا يصح استصحاب التكليف لو لم يكن مورداً للعمل، لأن الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية يلغو مع عدم ترتب العمل عليه.

فالأَولى في الجواب ما ذكرنا.

بقي شيء: التمسك في عدم الحجية بما دل على حرمة الاعتماد على غير العلم

بقي في المقام شيء، وهو أنه ربما يتمسك لعدم حجية ما شك في حجيته بإطلاق ما دل على عدم الاعتماد على غير العلم، كقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(1)، وما دل على عدم الاعتماد على الظن وأنه لا يغني عن الحق شيئاً ونحو ذلك.

إشكال النائيني (قدس سره) على ذلك

وعن بعض الأعاظم (قدس سره) الإشكال فيه: بأن أدلة حجية الطرق حاكمة على الأدلة المانعة، فإن دليل حجية خبر الثقة يخرجه عن موضوع دليل المنع ويجعله علماً تعبداً، فالشك في حجية شيء ملازم للشك في كونه علماً، فلا يجوز التمسك فيه بعموم عدم جواز التمسك بغير العلم، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يجوز بلا كلام.

جواب السيد الخوئي (قدس سره)

وأجاب عنه بعض مشايخنا: بأنه لا أثر للحجية ما لم تصل، فالحكومة إنما هي بعد الوصول وخبر الثقة إنما يكون علماً تعبدياً بعد إحراز حجيته.

الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي (قدس سره)

لكنه كما ترى! فإن الحجية وإن لم يترتب عليها العمل عقلاً إلا بوصولها، إلا أن ملاك الحكومة المدعى وهو كون الحجة علماً شرعاً تابع لوجودها الواقعي، لأنه متقوم بالجعل الشرعي، كسائر الأمور الجعلية،

ص: 166


1- سورة الإسراء: 36.

كالملكية والحرية والولاية وغيرها.

الأولى في جواب النائيني (قدس سره)

فالأولى في الجواب عما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) أن الحكومة عندهم تخصيص بلسان رفع الموضوع تنزيلاً، فالشك فيها شك في التخصيص الذي يندفع بعموم العام بلا كلام.

ولا يتم ما ذكره (قدس سره) إلا على القول بالورود الذي هو رفع حقيقي لموضوع العام بسبب التعبد الشرعي.

وهو محل إشكال، بل منع، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق. على أنه لو تم أمكن الرجوع لاستصحاب عدم كونه علماً. لظهور أن صيرورة الطريق علماً بالجعل الشرعي - لو تمَّ - أمر حادث مسبوق بالعدم. وبضميمة الأصل المذكور يحرز عموم عدم حجية غير العلم له. هذا كله بعد الفراغ عن كون العلم في

العموم المذكور مأخوذاً بما هو طريق، لا بما هو صفة. وإلاّ فلا موقع للإشكال من أصله، كما هو ظاهر.

الإشكال على أصل الاستدلال بالآية

نعم، يشكل أصل الاستدلال بعدم وضوح الدليل على العموم المذكور، فإن الآية المتقدمة لم يتضح ورودها لبيان عدم الاعتماد في مقام العمل على غير العلم، بل لعل المراد بها بيان حرمة التعبد والتدين والفتوى من غير علم تكليفاً، كما يناسبه ذيلها - بناءً على سوقه مساق التعليل، وليس استئنافاً - ويشهد له ما في خبر علي بن جعفر: ليس لك أن تتكلم بما شئت، لأن الله عز وجل يقول: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1).

ص: 167


1- يراجع الخبر المذكور وبقية أخبار المقام في الوسائل ج 18 الباب: 4 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

وحينئذٍ فالاستدلال بها مبني على ملازمة الحجية لجواز الفتوى والتعبد بمؤدى الحجة، بحيث يستدل بدليل تحريمهما على عدم الحجية، وهو محل إشكال كما يأتي عند الكلام في الأثر الثاني للحجية.

على أنها لو دلت على ذلك فهي ككثير من الأخبار المتضمنة أنه لا عمل إلا بعلم، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، منصرفة إلى خصوص من لا يعلم لا بالواقع ولا بالحجة، ولو لأنه مقتضى الجمع بينه وبين ما دل على حجية كثير مما لا يفيد العلم، فإن الجمع بذلك أولى من الجمع بتخصيص العموم المذكور، لأنه آبٍ عن التخصيص عرفاً، لانصرافه إلى بيان معنى ارتكازي، فهو نظير ما ورد من أن العامل على غير بصيرة كسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً. وحينئذٍ فلا يدل إلا على عدم صحة الاعتماد على ما لم يعلم حجيته، فيطابق مفاد الأصل العقلي المتقدم ويكون إرشاداً له، ولا يكون دليلاً على عدم جعل الحجية واقعاً لكل ما لا يفيد العلم، ليمكن الاستدلال بعمومه مع الشك في الحجية.

وأما ما دل على عدم الاعتماد على الظن، فهو وإن كان ظاهراً في عدم حجيته في مقام العمل، إلا أنه إنما يدل على عدم حجية الظن من حيث هو ظن، ولا ينافي حجية بعض ما يوجب الظن نوعاً بخصوصيته، كخبر الثقة وغيره.

مع أنه ظاهر في الإشارة إلى أمر ارتكازيٍ عقلائيٍ، لا تأسيسي للشارع تعبدي، ولذا ورد مورد الذم والتبكيت والاحتجاج على الكفار، ولا يحسن الاحتجاج عليهم بالقضايا التعبدية الصرفة.

وحينئذٍ فهو مختص بالظنون غير المعتمدة عند العقلاء، ولا يشمل ما يحسن الاعتماد عليه عندهم، كخبر

ص: 168

الثقة، وقول أهل الخبرة وغيرهما.

نعم، قد يستدل بإطلاق أدلة الأصول، فإن مقتضى جعل الغاية فيها هو العلم عدم ترتب العمل على غير العلم، بل لزوم العمل معه بمقتضى الأصل، وهو ملازم لعدم حجيته في مقام العمل.

لكن الظاهر أنه يكفي في العمل بالأصل عدم إحراز حجية ما خالفه، ولا يعتبر إحراز عدم حجيته، ليكون إطلاق دليل الأصل دالاً على عدم حجية غير العلم. وهو مبني على كيفية الجمع بين الطرق والأصول، وله مقام آخر.

وأما الثاني: وهو جواز نسبة مؤدى الحجة للمولى والتدين به، فهو ليس من الآثار المهمة في المقام، لعدم دخله بمقام العمل بالحجة. بل هو حكم فرعي خارج عن محل الكلام.

نعم، قد يدعى أن الحجية ملازمة لجواز نسبة مؤدى الحجة للمولى، فيمكن الاستدلال على عدم الحجية في مشكوكها بما يدل على عدم جواز النسبة والتدين اعتماداً على مشكوك الحجية، فينفع ذلك في محل الكلام وإن كان أجنبياً عنه.

وربما قيل: إن شيخنا الأعظم (قدس سره) قد جرى على ذلك، حيث استدل على الأصل في المقام بما دل على حرمة التعبد مع عدم العلم من جهة التشريع.

بل هو الذي أصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره) بدعوى: أن معنى جعل الطريق حجة هو كونه وسطاً لإثبات متعلقه وإحراز مؤداه، فيكون حاله حال العلم، فكما لا يمكن المنع عن التعبد بمتعلق العلم لا يمكن المنع عن التعبد بمؤدى الحجة.

ص: 169

وقد رد بذلك على ما نسبه للمحقق الخراساني (قدس سره) من عدم الملازمة بين الحجية وجواز النسبة والتدين، وأنه يمكن عدم جواز التعبد بمؤدى الحجة، كما في الظن الانسدادي على الحكومة.

ما استشكله النائيني (قدس سره) وغيره

واستشكل بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره في التنظير: بأن الظن الانسدادي على الحكومة ليس حجةً مثبتاً لمتعلقه، إذ ليس شأن العقل تشريع الحجية، بل ليس منه إلا الحكم بالاكتفاء بالإطاعة الظنية بعد فرض تنجز الأحكام بالعلم الإجمالي السابق على الظن.

أقول: إن أريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم الاكتفاء بمشكوك الحجية في مقام العمل، لعدم جواز التعبد بمضمونه، فقد عرفت آنفاً أنه مقطوع به من العقل فلا يحتاج إلى الاستدلال. بل لا معنى لفرض الملازمة المذكورة، بل هما حكمان لا دخل لأحدهما بالآخر وإن تقارنا في موردٍ واحد.

وإن أُريد بالاستدلال المذكور إثبات عدم حجية مشكوك الحجية واقعاً، لأن ملازمة الحجية لجواز التعبد تقتضي العلم بعدمها عند عدمه، كما قد يظهر من كلام بعض الأعاظم (قدس سره).

فهو لا يخلو عن إشكال، لأن ملازمة الحجية لجواز التدين والتعبد - لو تمَّت - مشروطة بوصول الحجية، إذ لا إشكال في حرمة التدين واقعاً تبعاً لما لا يعلم حجيته وإن كان حجةً واقعاً، فالملازمة لو تمت إنما هي بين العلم بالحجية وجواز التعبد، فعدم جوازه مستلزم لعدم العلم بالحجية، لا لعدمها واقعاً، ليصح الاستدلال به عليه.

نعم، لو ورد من الشارع الأقدس النهي عن التعبد في خصوص طريق

ص: 170

بعنوانه - كاجتهاد الرأي - كان ظاهراً في عدم حجيته واقعاً بناءً على الملازمة المذكورة، لأن ظاهر أخذ عنوان الطريق في موضوع الحكم كونه موضوعاً للنهي من حيث عدم حجيته الذي هو من الأمور الواقعية التي يرجع فيها للشارع ويكون من شأنه بيانها، لا من حيث كونه مشكوك الحجية، إذ ليس من وظيفة الشارع إبقاء الشك في الحجية، بل من شأنه رفع الشك المذكور ببيان الحكم الواقعي، كما هو الحال في جميع موارد الشك في الأحكام الواقعية.

بل لعله مقتضى الإطلاق، إذ لو كان ملاك حرمة التعبد به الشك في حجيته لجاز التعبد به مع ارتفاع الشك بقيام الدليل على الحجية، وهو خلاف الإطلاق. فلاحظ.

توجيه ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره)

أما شيخنا الأعظم (قدس سره) فالظاهر أنه في مقام الاستدلال على أصالة حرمة التعبد بغير العلم بالأدلة المذكورة، وليس في مقام الاستدلال على عدم الحجية بأدلة حرمة التعبد، ليبتني على الملازمة المذكورة. نعم كلامه خارج عما هو المهم في المقام، لما سبق.

توجيه ما ذكره الخراساني (قدس سره)

وأما المحقق الخراساني (قدس سره) فلا يظهر منه في حاشية الرسائل التفكيك بين الحجية وجواز التعبد، بل التفكيك بين العمل بالظن والتعبد به، وأن العمل به إنما هو بمعنى الاستناد إليه وإن لم يبتن على التعبد، كما في العمل به في العرفيات أو في الشرعيات في حال الانسداد بناءً على الحكومة، خلافاً لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من الملازمة بين العمل بالظن والتعبد به، وأن الموافقة له من دون تعبد لا يصدق عليها العمل به.

وأما في الكفاية فهو وإن صرح بعدم ملازمة الحجية لجواز التعبد،

ص: 171

إلا أن مراده من الحجية مطلق لزوم المتابعة ولو عقلاً، لا خصوص الحجية الشرعية ليتوجه عليه ما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) من ملازمة جعل الحجية لجواز التعبد.

وبعبارةٍ أخرى: لا يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) التفكيك بين الحجية الشرعية وجواز النسبة الذي هو محل كلام بعض الأعاظم (قدس سره)، بل صرح في الحاشية بتبعية جواز التعبد للحجية الشرعية، وأن الأصل الجاري فيها سببي بالإضافة إلى الأصل الجاري فيه. فراجع وتأمل جيداً.

أمور متعلقة بأثر الحجية

بقي في المقام أمور متعلقة بالأثر المذكور للحجية..

الأول: دعوى الملازمة بين الحجية وجواز التعبد

الأول: عرفت من بعض الأعاظم (قدس سره) - وقد يظهر من غيره - دعوى الملازمة بين الحجية وجواز التعبد، بمؤدى الحجة والتدين به ونسبته للمولى. وظاهره جواز التعبد به على أنه الحكم الواقعي، كما في صورة العلم به.

وهو لا يخلو عن إشكال، لانصراف دليل الحجية إلى خصوص مقام العمل بالحجة، لأنه الغرض المهم منها، لا إلى جواز نسبة المؤدى مع فرض عدم العلم به.

ورجوع حجية الطريق إلى كونه وسطاً في إثبات مؤداه - لو تم - فلا يراد إلا إثباته من حيثية العمل، فالحجة كالعلم من حيثية وجوب العمل بالمؤدى عقلاً، لا بلحاظ جميع الآثار التي منها جواز النسبة شرعاً. ولاسيما مع كون غالب الطرق عقلائية، وظاهر أدلتها إمضاء طريقة العقلاء في العمل بها، لوضوح عدم بناء العقلاء على ترتيب غير العمل عليها.

فلا مخرج عما دل على عدم جواز النسبة والتعبد والفتوى بما لا

ص: 172

يعلم. على ما سيأتي التعرض له.

ولو فرض القول بجواز النسبة والتعبد اعتماداً على الحجة فلابد له من دليلٍ آخر غير دليل الحجية، كما قد يدعى ورود النصوص به، وإن كان هو خلاف الظاهر. وللكلام مقام آخر.

نعم، لا إشكال في جواز التعبد والتدين به على أنه الحكم الظاهري الذي أذن الشارع بالعمل عليه، فإنه معلوم بالوجدان بسبب العلم بحجيته الطريق، فالقول به قول عن علم. وربما يكون هذا هو مراد كثير ممن ذكر أن جواز التعبد من لوازم الحجية.

حرمة التعبد استناداً إلى مشكوك الحجية

وعلى ما ذكرنا يتضح الوجه في عدم جواز التعبد استناداً إلى مشكوك الحجية، وحرمة الفتوى اعتماداً عليه فإن التعبد به على أنه الحكم الواقعي أو الظاهري تعبد بما لم يعلم، الذي تظافرت الأدلة بحرمته.

فمن الكتاب قوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)، بناء على ما سبق، وقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (2).

ومن السنة ما تضمن عدّ القاضي بما لا يعلم في عداد القضاة الذين في النار، وما تضمن النهي عن التدين والفتوى بغير علم، والتوعيد عليه وغير ذلك من النصوص الكثيرة، المعتضدة بالمرتكزات القطعية الشرعية والعقلائية على استنكار ذلك.

بل استنكار مطلق القول بغير علم وإن لم يكن في الشرعيات المبنية

ص: 173


1- سورة الإسراء: 36.
2- سورة الحاقة: 44-47.

على التدين، فاستنكاره عندهم بملاك استنكار الكذب.

وقد يشهد به ما تضمن أن الكذب المفترع أن يحدثك شخص بحديث عن آخر، فتحدث به عمن حدثك عنه، وما تضمن النهي عن الظن، لأنه أكذب الكذب وغير ذلك مما ذكره في الوسائل في أوائل كتاب القضاء.

نعم، يزيد الكذب في الشرعيات باستلزامه الكذب على الله وخلفائه الذي هو أشد تحريماً من سائر أفراد الكذب كما أن التدين يحرم بحيثية أخرى ارتكازاً، من حيث كونه تصرفاً في ما هو من وظيفة الشارع وتحكماً عليه.

وبالجملة: وضوح حرمة الفتوى والتعبد والتدين بغير العلم يغني عن تجشم الاستدلال عليها وإطالة الكلام فيها.

هذا، ولو فرض جواز التعبد بالحجة على أنه الواقع - خلافاً لما سبق منا - فلابد من القطع بالحجية، ولا يجدي احتمالها، بدعوى: أنه معه لا يعلم بالحرمة، لاحتمال وجود المسوغ، وهو الحجة الواقعية التي فرض كونها كالعلم.

وذلك لعموم ما تقدم من المرتكزات الشرعية والعقلائية، فكما لا يجدي عندهم ثبوت الشيء واقعاً في جواز البناء عليه والتعبد والفتوى به، بل لابد فيها من العلم، كذلك لا يجدي قيام الحجة عليه واقعاً ما لم يعلم بذلك.

بل هذا هو المنصرف من الأدلة النقلية المتقدمة، فإنه لو فرض كون قيام الحجة بمنزلة العلم فلابد من تنزيل الأدلة المتقدمة ولو بقرينة المرتكزات المذكورة على بيان لزوم انتهاء التعبد والتدين والفتوى إلى

ص: 174

العلم ولو بالحجية، لا أن ثبوت الحجية واقعاً كالعلم مسوغ لها.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن التشريع المحرم بالأدلة اللفظية واللبية كما يعم التعبد بما لم يعلم ثبوته مما هو ثابت واقعاً، كذلك يعم ما لم يعلم قيام الحجة عليه، وإن قامت عليه واقعاً، بل قيام الحجة على الشيء كوجوده واقعاً لا يجدي ما لم يعلم.

الثاني: تمام موضوع الحرمة هو عدم العلم بجعل الواقع

الثاني: الظاهر أن تمام الموضوع الواقعي والمقتضي للحرمة هو عدم العلم بجعل الواقع المتعبد به أو بجعل الحجة عليه. كما أن تمام الموضوع للجواز هو العلم بذلك، وليس لجعل الحكم الواقعي المتعبد به أو لجعل الحجة عليه أو عدمهما دخل في ذلك.

دعوى: أن تمام موضوع جواز التعبد الجعل الواقعي

ولا مجال لدعوى: أن تمام الموضوع الواقعي لجواز التعبد هو الجعل الواقعي للحكم المتعبد به أو للحجة عليه، إلا أن ترتيب الأثر ظاهراً مشروط بالعلم به ووصوله، لوجوب الاحتياط فيه مع الشك، أو لأصالة عدمه، بحيث لو كان الأمر المتعبد به مجعولاً في الواقع أو كانت الحجة عليه مجعولة ولم يعلم بهما جاز التعبد واقعاً وإن حرم ظاهراً.

دفع الدعوى المذكورة

لاندفاعها: بظهور أدلة التحريم المتقدمة في الحرمة الواقعية، وأن العقاب بملاك المعصية لا بملاك التجري، وهو المطابق للمرتكزات العقلائية والمتشرعية، الصالحة لتفسير الأدلة لو فرض إجمالها.

كما أن الظاهر أن العلم تمام المقتضي للحكم، لا أنه شرط فيه مع كون المقتضي هو الجعل الواقعي، نظير ما تقدم في الأثر الأول للحجية. لأن المرتكز عند العقلاء والمتشرعة كون تمام منشأ القبح هو عدم الاعتماد في التعبد والفتوى على ما ينبغي الاعتماد عليه، وهو الظاهر من الأدلة النقلية

ص: 175

أيضاً.

ومنه يظهر أنه لا مجال لاستصحاب عدم الحكم أو عدم قيام الحجة عليه بلحاظ حرمة التعبد به. لأنه يكفي في الحرمة الشك وعدم العلم الذي هو سابق رتبة على الاستصحاب، وليس من آثار الأمر المستصحب حتى يحرز بالاستصحاب.

كما أنه لو فرض عدم الأثر العملي لاستصحاب نفس الحكم فلا مجال لاستصحابه بلحاظ جواز التعبد بثبوته، لأن جواز التعبد ليس من آثار الحكم حتى يحرز باستصحابه، بل من آثار ثبوته، وثبوته ظاهراً بالاستصحاب مشروط بالأثر العملي الرافع للغويته، فمع عدمه لا يجري استصحابه، ولا يثبت ظاهراً حتى يتعبد به.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين أثري الحجية في تصحيح الاستصحاب، فالاثر الأول مصحح له دون الثاني.

الثالث: ما ذكره الخراساني (قدس سره) من أن التشريع ليس محرماً شرعياً بل قبيح عقلاً

الثالث: ذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى أن التشريع ليس محرماً شرعاً، بل هو قبيح عقلاً، نظير قبح المعصية والتجري، لما فيه من هتك لحرمة المولى، فالعقل يحكم باستحقاق العقاب معه من دون توسط حكم شرعي. وظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) - حيث استدل عليه بالأدلة الشرعية - خلافه، وقواه بعض الأعاظم (قدس سره)، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات المولوية هي الواقعة في سلسلة معلولات التكاليف، كقبح المعصية والتجري وحسن الطاعة، دون غيرها مما يكون ناشئاً عن إدراك المصالح والمفاسد، فإنه يستكشف بها الحكم الشرعي، بناءً على قاعدة الملازمة، فالمقام نظير الكذب القبيح عقلاً المحرم شرعاً.

ص: 176

وما ذكره (قدس سره) متين جداً.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من كون التشريع بنفسه هتكاً للمولى، فهو بنفسه - لو تم - لا يمنع من التكليف المولوي، نظير حرمة سب المولى ومعاداة أوليائه، وموالاة أعدائه، ولذا يمكن عقلاً إباحة المولى له لبعض المزاحمات، وليس كقبح المعصية. فتأمل جيداً.

الرابع: أن المحرم نفس التعبد والتدين لا العمل المترتب عليه

الرابع: الظاهر بعد التأمل في المرتكزات والرجوع للأدلة المتقدمة أن المحرم هو نفس التعبد والتدين بما هو أمر قلبي، كما صرح به المحقق الخراساني (قدس سره)، لا العمل المترتب عليه، بل هو باقٍ على حكمه الواقعي من دون أن يطرأ عليه ما يوجب تبدل حكمه. خلافاً لما استظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) ونسب لبعض الأعاظم (قدس سره).

نعم، لو أضيف إلى التعبد والتدين بالحكم إسناده للمولى قولاً والفتوى به كان محرماً أيضاً بملاك حرمة الكذب على المولى.

وكذا لو أُضيف إليه القضاء به، فإنه يحرم بمقتضى ما دل على حرمة القضاء من غير علم.

لكنه أجنبي عن حرمة نفس العمل المأتي به بقصد التشريع.

فلا وجه لما نسب لبعض الأعاظم (قدس سره) من الاستدلال على حرمة العمل بظاهر قوله (ع) في تعداد القضاة الذين في النار: ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم.

نعم، لا يبعد كون التشريع مانعاً من التقرب بالفعل، نظير الإتيان بالواجب مع اعتقاد ترتب الحرام عليه، فلا يصح لو كان عبادة في الواقع. فتأمل جيداً.

ص: 177

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية. فلنشرع في ما هو المقصود بالكلام وهو تشخيص موارد الحجج.

وتفصيل ذلك في ضمن فصول..

ص: 178

الفصل الأول: في حجية الظواهر

اشارة

حيث كان الكلام هو أهم الطرق البيانية التي جرى العقلاء على التفاهم بها، وكان ذلك مما فضّل الله تعالى به الإنسان وميزه به عن البهائم، وكان للعقلاء وأهل اللسان طرق خاصة في أداء

المقاصد بالكلام وتحصيلها به، فالظاهر من الشارع الأقدس جريه على الطرق المذكورة والمتابعة لها وعدم الخروج عنها، وإلا كان عليه التنبيه على ذلك، والردع عن الطرق المذكورة، لأن متابعتها هي مقتضى الطبيعة الأولية كسائر السير العقلائية العامة، فتحتاج مخالفتها إلى البيان والردع، وحيث لم يظهر منه الردع عن الطرق المذكورة، بل الجري عليها في كثير من الموارد كان ذلك قرينة قطعية على إمضائه للطرق العقلائية، وإلا كان مخلاً بغرضه ومغرراً باتباعه، وهو قبيح منه ممتنع في حقه.

وبالجملة: لا ريب في عدم خروج الشارع عن الطرق العقلائية في مقام التفاهم بالكلام، وهذا راجع إلى حجية الطرق المذكورة شرعاً إمضاءً لسيرة العقلاء.

من دون فرق بين كلامه وكلام غيره، فكما يجوز أخذ مقاصده من

ص: 179

كلامه بالطرق المذكورة كذلك يجوز أخذ مقاصد غيره بها في حكمه، كما في موارد الوصايا والأقارير والشهادات وغيرها.

تحديد الطرق العقلائية

وحينئذٍ فاللازم النظر في الطرق العقلائية وتحديدها.

فنقول: ليس مبنى العقلاء في مقام التفاهم على الاقتصار على النصوص الكلامية غير القابلة للاحتمال والتأويل، بل مبناهم على الاعتماد على الظهورات والركون إليها في بيان المقاصد الجدية، بل هي الأكثر شيوعاً، لأنها أيسر وأسهل، ولعدم تيسر ضبط النصوص في قواعد عامة يتفق عليها الكل، لعدم الضابط للاحتمالات القريبة فضلاً عن البعيدة، فلو اقتصر على النصوص لتوقف التفاهم واختلت موازينه، كما لا يخفى.

ولا فرق في الظهورات بين أن تكون عامة مستندة للوضع، أو لقرائن عامة يرجع إليها عند عدم الصارف، وأن تكون خاصة مستندة لقرائن خاصة اكتنفت الكلام.

نعم لابد من تشخيص مقتضى الظهور الكلامي أولاً. والظاهر أنه لا ضابط لمعرفة الظهورات الخاصة، وأما الظهورات العامة فعمدتها الوضع، وقد ذكر له الأصوليون علامات، كالتبادر ونحوه، كما وقع الكلام منهم في تشخيص بعض الظهورات لأهميتها، كظهور المشتق وصيغة الأمر والمفاهيم وغيرها.

وليس هناك طريق ظني لها وقع الكلام في حجيته غير قول أهل اللغة الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

ثم إن الفرق بين النص والظاهر بعد اشتراكهما في الكشف عن مراد المتكلم الجدي، هو القطع بالمراد من النص واحتمال خلافه في الظاهر،

ص: 180

لاحتمال أحد أمور..

موارد احتمال إرادة خلاف الظاهر

الأول: خروج المتكلم عن الطريق العقلائي المذكور واختراعه طريقاً آخر.

الثاني: عدم صدور الكلام لبيان المراد الجدي، بل لغرض آخر عقلائي كالخوف والتقية وغيرهما أو غير عقلائي.

الثالث: غفلة المتكلم عن مقتضى الظهور أو عن إقامة القرينة الخاصة الموجبة لتبدله، لو فرض إمكان ذلك في حقه، كما في غير الشارع.

الرابع: ضياع قرائن احتفت بالكلام أوجب تبدل ظهوره.

نعم، لا إشكال في عدم اعتناء العقلاء بالاحتمالات المذكورة بأجمعها، وأن الظهور هو المتبع، فيدفع الأول بأصالة جري العاقل على مقتضى الطريق المألوف للعقلاء، ومن ثم سبق أن الخروج عنه يحتاج إلى دليل رادع، والثاني بأصالة الجهة المعول عليها عند العقلاء. ويدفع الثالث أصالة عدم الخطأ والغفلة المعول عليها في غير المقام أيضاً. والرابع أصالة عدم القرينة. ولولا ذلك لاختل نظام التفاهم.

ابتناء أصالة الظهور على الأصول المذكورة

هذا، والظاهر أن أصالة الظهور الراجعة إلى كون مقتضى الظهور هو المراد الجدي للمتكلم تبتني على الأصول المذكورة بأجمعها، وترجع إليها فهي إجمال لمؤدياتها، وليست أصلاً برأسه في قبالها.

وأما الأصول الوجودية الأُخر - كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها مما يذكر في كلماتهم - فهي راجعة إلى أصالة الظهور ومن صغرياتها، فلا يعول عليها لو فرض انعقاد الظهور على خلافها.

كما أن الأصول العدمية الأُخر - كأصالة عدم المخصص والمقيد

ص: 181

ونحوها - إن أُريد بها نفي اتصال الأمور المذكورة بالكلام بنحوٍ تقتضي تبدل ظهوره فهي راجعة إلى أصالة عدم القرينة ومن صغرياتها. وإن أُريد بها نفي الأمور المذكورة خارج الكلام بنحوٍ يرفع بها اليد عن مقتضى ظهوره بعد

فرض انعقاده - كما هو غير بعيد - كانت من صغريات أصالة عدم المعارض المعول عليها عند العقلاء أيضاً.

والظاهر أن ما ذكرنا أولى مما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من رجوع أصالة الحقيقة وأخواتها إلى أصالة عدم القرينة، ومما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من إنكار أصالة عدم القرينة، والاعتراف بأصالة الظهور، بدعوى: أن بناء العقلاء على إرادة الظهور ليس بتوسط بنائهم على عدم احتفاف الكلام بالقرينة. ومما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة، ومترتبة عليها موضوعاً، لأن أصالة عدم القرينة تنقح ظهور الكلام، وأصالة الظهور تقتضي إرادة مقتضاه بعد الفراغ عن ثبوته، على تفصيل في كلامه.

وكذا ما تردد في كلمات بعضهم من جعل أصالة الظهور في قبال أصالة الجهة. فإن جميع ذلك خلاف الظاهر، والظاهر ما ذكرنا. فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا من حجية الظواهر من المسلمات في الجملة، نعم وقع الكلام بينهم في بعض الموارد إما لدعوى عدم بناء العقلاء عليها، أو لدعوى ردع الشارع عن مقتضى سيرتهم فيها. واستقصاء الكلام فيها في ضمن مباحث..

ص: 182

المبحث الأول: في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام
المبحث الأول: حجية الظواهر فيمن لم يقصد بالإفهام

فعن المحقق القمي (قدس سره) اختصاص الحجية بمن قصد بالإفهام. وربما يحمل عليه كلام صاحب المعالم (قدس سره) في الدليل الرابع على حجية الخبر.

الاستدلال على ذلك

وحاصل ما يستدل به لذلك: أن أصالة الظهور مبنية على أصالة عدم الغفلة المعول عليها عند العقلاء في جميع أمورهم، فكلما احتمل إرادة المتكلم لخلاف ظاهر كلامه إما لغفلته عن إقامة القرينة، أو لغفلة السامع عن القرائن المكتنفة بالكلام، فلا يُعتنى بالاحتمال المذكور، لأصالة عدم الغفلة منهما.

أما لو لم يبتن احتمال إرادة خلاف الظاهر على احتمال الغفلة منهما فلا دليل على حجة الظهور في معرفة مراد المتكلم. وحينئذٍ فحيث لم يكن وظيفة المتكلم تفهيم كل أحد، بل تفهيم خصوص من يقصد إفهامه، وله تعمد إخفاء المراد عن غيره، فلا مجال لحجية الكلام في حق من لم يقصد بالإفهام، لاحتمال اختصاص من قصد بالإفهام بقرينة لم يطلع عليها غيره، ولا يكون عدم اطلاعه عليها ناشئاً عن غفلته، ولا عن غفلة المتكلم، ليدفع الاحتمال المذكور بالأصل، بل لعدم حدوث الداعي للمتكلم في اطلاعه

ص: 183

على القرينة، ولا دافع للاحتمال المذكور.

الإشكلال على الاستدلال

وفيه: - كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره - أن بناء العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر لا يبتني على خصوص أصالة عدم الغفلة، بل الأصل عندهم عدم الصارف عن ظاهر الكلام مطلقاً بعد الفحص عنه في مظانِّه، من دون فرق بين المشافه وغيره، فإذا وقع كتاب موجه من شخص إلى آخر بيد ثالث، فإنه لا يتأمل في استخراج مراد المرسل منه، بحيث لو كان مضمون الكتاب متعلقاً بعمله لم يكن له التساهل والتسامح معتذراً بعدم حجية ظهور الكتاب في حقه، لعدم كونه مقصوداً بالتفهيم به.

وعلى هذا جرت سيرة العلماء في الأحكام الكلية، حيث يأخذونها من ظواهر الأخبار، مع كون المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين بها - على تفصيل يأتي - وكذا في الأحكام الجزئية، كما في باب الوصايا والأقارير والعقود وغيرها، كما لا يخفى. فما ذكره (قدس سره) من التفصيل غير ظاهر.

ثمرة التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره

بقي في المقام شيء، وهو أن المحقق القمي (قدس سره) جعل ثمرة التفصيل المتقدم عدم حجية الأخبار، لأن المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين. وكذا الكتاب بناءً على عدم كوننا مقصودين بالإفهام به، أما بناءً على كونه من باب تصنيف المصنفين يقصد به تفهيم كل من يطلع عليه فيكون حجة علينا وإن لم نكن مخاطبين به.

أما ما ذكره في الكتاب فقد أنكره شيخنا الأعظم (قدس سره) مدعياً أن لازم التفصيل المذكور عدم حجية ظواهره مطلقاً وإن كان من باب تصنيف المصنفين.

ص: 184

وكأن وجهه: أن احتمال إرادة خلاف الظاهر منه لا يستند إلى احتمال غفلة المتكلم أو السامع عن القرينة، بل إلى احتمال ضياع قرائن كانت موجودة حين الخطاب به، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا أصالة عدم القرينة، التي تقدم من المحقق القمي (قدس سره) إنكارها في غير مورد احتمال الغفلة.

وفيه: أن احتمال ضياع القرينة لا يُعتنى به بعد فرض كون المتكلم في مقام تفهيم كل أحد بكلامه، إذ يلزمه حينئذٍ عدم الاعتماد إلا على القرائن التي من شأنها الوصول لكل أحد، فلو فرض ضياع القرينة كان فهم خلاف المراد ناشئاً منه من دون تقصير من المكلف.

دعوى عدم قبح الاعتماد وعلى القرائن التي من شأنها الوصول إلى الجميع

ودعوى: أنه لا يقبح الاعتماد على القرائن التي من شأنها الوصول إلى جميع من قصد إفهامه وإن اختفت بسبب المكلفين أنفسهم، إذ لا يجب على الشارع إلا حفظ الواقع بالطرق المتعارفة.

لو تمت لا تنافي حجية الظهور بمقتضى فرض تعهد المتكلم به في حق كل من قصد إفهامه، لرجوعه إلى ظهور حال المتكلم في عدم الاعتماد على القرائن المختفية، فاختفاؤها خلاف فرض ظاهر تعهده وإن لم يقبح منه التعهد المذكور، وهذا بخلاف اختفاء القرينة في حق من لم يقصد به بالإفهام، فإنه لا ينافي ظهور حال المتكلم ولا تعهده.

وبالجملة: احتمال اختفاء القرائن مع فرض قصد المتكلم تفهيم كل أحد كاحتمال تعمد المتكلم بيان خلاف الواقع لمصلحة ملزمة لا ينافي حجية الظهور، وأما ما ذكره المحقق القمي (قدس سره) من انحصار أصالة عدم القرينة باحتمال الغفلة، فهو على الظاهر لبيان سقوط الظهور عن الحجية مع احتمال اختفاء القرينة من دون تعهد من المتكلم، لا لبيان سقوطه مطلقاً

ص: 185

حتى مع تعهده. فلاحظ.

الإشكال على ما ذكره القمي (قدس سره) في الأخبار

وأما ما ذكره في الأخبار فهو غير ظاهر في أكثر الأخبار، وهي التي يرويها المخاطبون بها، لأن نقلها مبني على بيان المضمون لأجل العمل به والرجوع إليه، لا لمجرد نقل اللفظ، فيكون الناقل متعهداً بالمضمون، فيلزمه التعرض لجميع ما هو الدخيل فيه من قرينة حالية أو مقالية.

ولذا كان الظاهر أن اختلاف النسخ بالزيادة والنقصان إذا كان موجباً لاختلاف المضمون لحقه حكم التعارض، لأن ظاهر من لا يروي الزيادة عدم وجودها، فيعارض ناقلها.

وعليه فاحتمال عدم وصول القرينة الحاصلة للمخاطب المقصود بالإفهام ناشئ من احتمال غفلة المخاطب عنها في مقام تلقي المضمون من المعصوم (ع) أو غفلته عنها في مقام حكايته، أو تعمد إخفائها، ويندفع الأولان بأصالة عدم الغفلة، والثالث بفرض حجية نقله، لكونه ثقة في نفسه.

نعم، قد يتم في الأخبار التي يرويها غير المخاطبين بها كما لو قال الراوي: سمعته يقول لرجل، أو: سأله رجل، أو نحو ذلك.

وما ذكره شيخنا الأستاذ من كون المقصود بها إفهام جميع السامعين لها، لا خصوص السائل، لأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعلمون أن غرض الجالسين في مجالسهم الاستفادة من سؤال السائلين والتفقه به.

وإن لم يكن بعيداً، إلا أنه غير ظاهر بنحو يعتد به في إثبات المطلوب، فلا يبعد ترتب الثمرة في مثل ذلك، كما ذكره المحقق القمي (قدس سره).

لكن الأخبار المذكورة تشهد بعدم الفرق في الحجية بين من قصد بالإفهام وغيره، لما أشرنا إليه من أن النقل ليس لمحض حكاية اللفظ، بل

ص: 186

لبيان المضمون من أجل الرجوع إليه والعمل به، وهو شاهد بأن عموم الحجية من الارتكازيات العامة التي جرى عليها الرواة ونقلة الحديث والعلماء في مقام الاستدلال، وإليه يرجع ما تقدم من الاستدلال بسيرة العلماء في أخذ الأحكام الكلية من الأخبار.

وجوه الإشكال في الرجوع للروايات ودفعه

ثم إنه قد يستشكل في الرجوع للروايات..

تارةً: من جهة التقطيع الذي طرأ عليها، حيث يحتمل معه ضياع القرينة.

وأخرى: من حيث النقل بالمعنى، حيث إن الناقل قد يخطئ في فهم المراد أو في أدائه بغير لفظه.

ويندفع الأول بما أشرنا إليه من أصالة عدم الغفلة، فإنه حيث كان إثبات الروايات في الكتب بعد تقطيعها لأجل الرجوع إليها والأخذ بمضامينها كان اللازم على مثبتها ملاحظة القرائن الدخيلة في فهم المراد، واحتمال غفلته مدفوع بالأصل.

ويندفع الثاني: - مضافاً إلى ظهور كلام الراوي في أنه حاكٍ باللفظ - بأن ظاهر النصوص المجوزة له حجيته، لما هو المعلوم من أن الغرض من النقل هو الرجوع للحديث والعمل به، فالحكم بجوازه

ظاهر في حجيته. ولا يبعد بناء العقلاء على ذلك أيضاً، لأصالة عدم الغفلة والخطأ من الناقل في فهم المعنى وأدائه.

ويكفي في الإعراض عن هذه التشكيكات النظر في سيرة الرواة والعلماء قديماً وحديثاً، فإن اهتمامهم بتدوين الأحاديث واستدلالهم بها يوجب القطع بالمفروغية عن حجية ظهورها عند الكل، كما هو ظاهر جداً.

ص: 187

المبحث الثاني: في اعتبار إفادة الظواهر الظن بها وعدمه
اشارة

هل يعتبر في حجية الظواهر إفادتها الظن

أو عدم الظن بخلافها أو لا؟

المبحث الثاني: في اعتبار إفادة الظواهر الظن بها وعدمه

قال شيخنا الأعظم (قدس سره): ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن، أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها. لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان في كل مكان.

وربما يدعى قصور سيرة العقلاء عن ذلك، لما نبه له بعض مشايخنا من أن المشاهد من طريقة العقلاء عدم التعويل في الأمور المهمة على الظهور ما لم يحصل لهم الظن أو الاطمئنان بالمراد منه ولو بالاستزادة في القرائن الموضحة له.

لكنه مندفع بما نبه له أيضاً من اختصاصه بما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع، دون ما لو كان المطلوب الخروج عن عهدة التكليف ومسؤوليته، فإنهم يكتفون حينئذٍ بالظهور لصلوحه - بنظرهم - للتنجيز والتعذير وإن لم يوصل للواقع.

وبعبارةٍ أخرى: عدم اعتمادهم على الظواهر في الفرض ليس لعدم

ص: 188

حجيتها، بل لعدم اكتفائهم بالحجة مع احتمال خطئها، لتعلق غرضهم بالواقع.

ولعل منشأه أن إناطة الحجية بالظن وجوداً أو عدماً يوجب عدم انضباط موارد الحجة حتى يتكل عليها المتكلم، لاختلاف الظن الشخصي بحسب الأحوال والأشخاص كثيراً وعدم انضباطه

ثبوتاً ولا إثباتاً، وذلك يوجب اضطراب باب التفاهم، ويتوقف معه الإلزام والاحتجاج بالكلام، بخلاف ما لو كان تابعاً للظهور، فإن ضبطه سهل حينئذٍ، لتبعيته للمرتكزات العامة المشتركة غالباً بين الكل، فيتسنى الاعتماد عليه في مقام التفاهم والإلزام به في مقام الاحتجاج والتعذير والتنجيز.

توقف العقلاء عن العمل بالظهور مع الأمارات العرفية الموجب لرفع اليد عن أصالة عدم القرينة

نعم، لا يبعد توقف العقلاء عن الاعتماد على الظهور مع وجود أمارات عرفية توجب الوثوق بوجود قرائن ترفع بها اليد عن أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة ونحوهما مما كان العمل بالظهور مبنياً عليه، وإن لم يقطع بوجود القرائن المذكورة ولم تكن الأمارات معتبرة، ولعله على ذلك تبتني سيرة الفقهاء في مختلف العصور على طرح الروايات المتروكة والمهجورة بين الأصحاب، فإن هجرها قرينة عرفية توجب الاطمئنان بعثورهم على خلل في ظهورها أو جهتها، وإن لم يقطع بذلك.

وإنما لا يكفي الظن أو الوثوق بعدم إرادة الظهور إذا لم يستند إلى أمارةٍ تقتضي وجود القرينة بالنحو المذكور، بل استند إلى جهات خارجية لا دخل لها بالظهور.

ولعله لذا لا يُعتنى بشهرة الفتوى على خلاف ظهور الرواية إذا لم يظهر منهم الهجر لها أو لظهورها، بل كان لأجل الاعتماد على دليلٍ بنوا

ص: 189

على معارضته لها، أو لعدم اطلاعهم على الرواية، أو لخطئهم في فهمها، أو لنحو ذلك مما لا يوجب الوثوق باطلاعهم على ما يوجب الخلل في ظهورها أو جهتها. فتأمل جيداً.

ص: 190

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب الكريم
اشارة

المبحث الثالث: في حجية ظواهر الكتاب

فقد حكي عن جماعةٍ من الأخباريين المنع عن العمل بظواهر الكتاب ما لم يرد تفسيرها عن الأئمة (عليهم السلام)، وهو ظاهر الوسائل.

وجوه الاستدلال بالمنع من العمل بظواهر الكتاب

وقد استدل له بوجوهٍ كثيرةٍ بعضها ظاهر الوهن، وما ينبغي الكلام فيه وجوه..

الأول: النصوص وهي على طوائف

الأول: - وهو عمدتها - النصوص الكثيرة التي تعرض لكثيرٍ منها في الوسائل، وأنهاها في الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي إلى ثمانين، ثم قال: وتقدم ما يدل على ذلك، ويأتي ما يدل عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة جداً... وإنما اقتصرت على ما ذكرت لتجاوزه حد التواتر.

وهي على طوائف..

الطائفة الأولى: ما تضمن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة (عليهم السلام)

الأولى: ما تضمن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة (عليهم السلام) كصحيح منصور بن حازم: وقلت لأبي عبد الله (ع):.. وقلت للناس: أليس تعلمون أن رسول الله (ص) كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى... فقلت: فحين مضى رسول الله (ص) من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ، والقدري،

ص: 191

والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجةً إلا بقيِّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً... فأشهد أن علياً (ع) كان قيِّم القرآن... فقال: رحمك الله (1) ، ورواية عبيدة السلماني، سمعت علياً (ع) يقول: يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا بما لا تعلمون، فإن رسول الله (ص) قال قولاً آل منه إلى غيره، وقد قال قولاً من وضعه غير موضعه كذب عليه. فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا: يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال: يُسأل عن ذلك علماء آل محمد (ص)(2).

الثانية: ما تضمن اختصاص الأئمة بالعلم بالتأويل

الثانية: ما تضمن اختصاص الأئمة (عليهم السلام) بالعلم بالتأويل وأنهم الراسخون في العلم، وما تضمن تفسير قوله تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بهم (عليهم السلام)، وأن علم الكتاب عندهم، وإليهم ميراثه خاصةً، وعهد بيانه إليهم، وهم المستنبطون، ووجوب الرجوع لهم في تفسير القرآن، وأن التمسك بالقرآن هو الذي يأخذه منهم ومن سفرائهم إلى شيعتهم، لا عن آراء المجادلين وقياس الفاسقين.

الثالثة: ما تضمن النهي عن تفسير القرآن

الثالثة: ما تضمن النهي عن تفسير القرآن مطلقاً، أو عن تفسيره بالرأي، أو من غير علم، وعن القول والمراء والجدال فيه، وأخذه من غير الأئمة (عليهم السلام)،

وأن الرجل ينتزع الآية فيخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض، وأنه ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر، ونحو ذلك.

الرابعة: ما تضمن أن للقرآن بطناً وظهراً

الرابعة: ما تضمن أن للقرآن ظهراً وبطناً، وأن فيه ناسخاً ومنسوخاً،

ص: 192


1- الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب صفات القاضي، حديث 1.
2- الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب صفات القاضي، حديث 27.

وأنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه، ومن تفسيره، ونحو ذلك.

لكن النصوص المذكورة على كثرتها لا شاهد فيها بالمدعى.

المناقشة في الطائفة الأولى

أما الطائفة الأولى فالعمدة فيها صحيح منصور، وهو ظاهر في إرادة لزوم نصب الإمام ليكون حجةً على الناس في رفع الاختلاف وبيان الحق، وأن القرآن لا يكفي في ذلك، وهو لا ينافي حجية ظاهر الكتاب في مقام العمل كظاهر كلام الإمام (ع) الذي لا يرفع الاختلاف أيضاً. فالمراد فيه بالحجة الحجة الرافعة للاختلاف، لا الحجة التي يرجع إليها في مقام العمل.

وإن شئت قلت: ظاهر كلام الراوي الإشارة إلى الواقع الخارجي الذي كان عليه الناس، حيث تمسك كل فئةٍ من القرآن بما يناسب رغباتهم وآراءهم ليجادلوا به مع تجاهلهم لغيره، غفلةً أو تغافلاً عن اشتماله على المجمل والمتشابه والظهورات المتنافية، وعن عدم وفاء ظواهره ببيان تمام الواقع، لوجود غيره من الأدلة من سنة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام)، وأن ذلك سبب للتفرق والانقسام في الأمة، ولا يمكن تجنبه إلا بنصب مرجع يحكم فيه ويبين ما خفي منه، ولا ظهور له في الردع عن العمل بظاهر القرآن على أنه حجة كسائر الحجج بعد الفحص عما ينافيها.

وأما رواية عبيدة فهي وإن كان لها نحو تعلق بالمطلوب، لورودها في الفتوى، إلا أنها - مع ضعف سندها - لا يبعد حملها على بيان عدم جواز الاستغناء بالكتاب الكريم وسنة النبي (ص) من دون رجوع للأئمة (عليهم السلام) تنبيهاً على مقام أهل البيت (عليهم السلام) الذي كان مجهولاً حينئذٍ، كما يشهد به صدرها الظاهر في التنبيه على عروض النسخ أو الكذب أو نحوهما مما يمنع من

ص: 193

الاكتفاء بسنة النبي (ص)، فإنه مسوق لبيان عدم جواز العمل بما روي منها على ما هو عليه والاستغناء به عن أهل البيت (عليهم السلام)، ولا ينافي حجيتها بعد استكمال الفحص، وحينئذٍ فيراد بالرجوع في ما أُخذ من الكتاب لعلماء آل محمد (ص) قبول ما يرد عنهم فيه، وعدم الاستغناء عنهم به، كما هو طريقة العامة، فلا ينافي حجيته بعد الفحص وعدم العثور على ما ينافيه منهم (عليهم السلام).

المناقشة في الطائفة الثانية

وأما الطائفة الثانية فهي - على كثرتها - أجنبية عما نحن فيه، إذ لا تدل إلا على لزوم قبول ما يرد من الأئمة (عليهم السلام) في تفسير القرآن وتأويله وعدم الاستغناء عنهم به وفي تأويله، كما عليه العامة، لا عدم حجية ظاهره إذا لم يرد منهم ما ينافيه.

وليس معنى لزوم أخذه منهم (عليهم السلام) دون غيرهم إلا أخذ ما احتاج إلى التأويل والتفسير، لا أخذ ما هو ظاهر بنفسه، إذ الظاهر يصل بنفسه عرفاً بلا حاجةٍ لأن يؤخذ من أحد كما أن إرثه ليس إلا بإرث ما اختص بالنبي (ص) من علمه وخفي على الناس، ولا يشمل مثل الظواهر التي تظهر لعموم الناس.

المناقشة في الطائفة الثالثة

ومنه يظهر حال الطائفة الثالثة، فإن الأمور المذكورة فيها لا تنافي حجية ظواهر القرآن، لعدم ابتناء العمل بها على التفسير والتأويل، ولا على القول فيه بغير علمٍ، وليس هو من انتزاع الآية، ولا من ضرب بعض القرآن ببعض، لظهورهما في ابتناء أخذ المعنى على التكلف والعناية أو التحكم.

المناقشة في الطائفة الرابعة

ومثلها في ذلك الطائفة الرابعة، فإن وجود الظهر والبطن والناسخ والمنسوخ وغيرها في القرآن لا ينافي حجية ظاهره بالطرق المقررة في سائر الظواهر، نعم يمنع من الأخذ بالظهور البدوي من دون نظرٍ في القرائن الأُخر التي يكون بالنظر إليها من المتشابه.

ص: 194

وليس معنى بعده عن عقول الرجال تعذر حصول شيء منه لهم، بل بمعنى تعذر الوصول على تمام ما يقصد به، كما هو ظاهر ما في مرسلة شبيب بن أنس عن الصادق (ع)، قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم، قال: يا أبا حنيفة لقد ادعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم... وما ورثك الله من كتابه حرفاً(1). بل هو صريح ما في رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع): ثم إن الله قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلا من صفى ذهنه، ولطف حسه، وصح تمييزه، ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم(2).

كيف ولا إشكال - ولو بضميمة بعض الروايات - في أن بعض ظواهره مرادة، وهي مما تصل له العقول.

وبالجملة: التأمل في الروايات المذكورة المتقدمة وغيرها على كثرتها شاهد بورودها للردع عن الاستغناء بالقرآن عن الأئمة (عليهم السلام) أو في مقام النهي عن تأويل مجملاته وصرف ظواهرها بالاجتهاد والاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان، أو عن الأخذ بمشتبهاته من دون تأملٍ في القرائن الأُخر، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.

على أنه لو فرض عدم ظهور جميع النصوص المذكورة في ما ذكرنا تعين حملها عليه أو على نحوه مما لا ينافي المطلوب لأجل النصوص

ص: 195


1- الوسائل ج 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 27.
2- الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب صفات القاضي حديث 44.

الكثيرة الظاهرة في جواز الرجوع لظواهر الكتاب والعمل بها، كحديث الثقلين ونحوه مما دل على حجية الكتاب والسنة، وأحاديث عرض الأخبار على الكتاب وأحاديث الترجيح بينها بموافقته.

وما في الوسائل من أن العمل حينئذٍ بالكتاب والسنة لا بالكتاب وحده. كما ترى! فإن مفاد النصوص المدعى دلالتها على المنع ليس هو المنع تعبداً عن العمل به إلا بضميمة السنة، بل المنع لعدم إمكان الاطلاع على معناه إلا بشرحه فيها، وحينئذٍ فإذا فرض تعارض النصوص الشارحة كيف يكون مرجحاً لها مع فرض إجماله وتعذر الاطلاع على معناه؟! بل كيف يمكن مع ذلك طرح الأخبار به لو خالفها، أو كونه قرينةً عليها لو وافقها؟! كما تضمنته نصوص العرض، وكيف يكون المتبوع تابعاً والحاكم محكوماً؟!

ومثل النصوص المتقدمة النصوص الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة المتفرقة التي يظهر منها المفروغية عن جواز الرجوع للقرآن والاحتجاج بظاهره، وقد تعرض لبعضها شيخنا الأعظم (قدس سره)، ولا مجال لاستقصائها.

جريان سيرة الأصحاب في الرجوع للكتاب بعد تسالمهم على حجيته

وعلى هذا جرت سيرة الأصحاب قديماً وحديثاً، فقد عرفوا بالرجوع للكتاب والاستدلال به متسالمين على حجيته، حتى اشتهر بينهم عدّه أول الأدلة الأربعة، وتقديمه على سائر الأدلة الظنية، مع أن النصوص المتقدمة نصب أعينهم قد تضمنتها كتبهم، وحفظتها صدورهم، ووعتها قلوبهم، وما

ذلك إلا لعدم صلوحها بنظرهم للردع عن حجيته، ولا للمنع عن العمل به. ويمتنع عادةً خطؤهم في ذلك، ونحوه مما يشيع الابتلاء به، خصوصاً مع اتصاله بعصور المعصومين (صلوات الله عليهم).

ص: 196

الاستدلال بباقي الوجوه على المنع من العمل بظواهر القرآن

وبهذا يظهر حال بقية الوجوه التي استدل بها للأخباريين، فقد استدل لهم بوجوهٍ كثيرة لا مجال للتعويل عليها بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب وتسالمهم على حجية ظواهر الكتاب.

مع أنها في أنفسها غير صالحةٍ للاستدلال.

الاستدلال بما عن السيد الصدر (قدس سره)

منها: ما عن السيد الصدر - على اضطراب كلامه - من أن الظواهر من المتشابه الذي ورد النهي عن العمل به في الكتاب والسنة، وأن المحكم خصوص النصوص القطعية الدلالة. ولو فرض الشك في شمول المتشابه للظواهر كفى في منع العمل بها.

وفيه: أن المتشابه هو المحتاج للتأويل - كما تضمنته الآية الكريمة - إما لإجماله في نفسه، أو لمصادمته لظهورٍ مثله، أو لدليلٍ قطعي مانع من البناء عليه، ولا يشمل الظواهر التي لا معارض لها والتي يبني العقلاء على العمل بها.

ومن ثَمَّ كان ظاهر الآية الكريمة المفروغية عن حرمة العمل بالمتشابه، لا النهي عنه تأسيساً ردعاً عن طريقة العقلاء في العمل بالظواهر.

ولو فرض إجمال المراد بالمتشابه لزم الاقتصار فيه على المتيقن، فلا ينهض لإثبات الردع عن الظواهر، ويلزم العمل بها، لأنه مقتضى الأصل الذي اعترف به في كل ظاهر.

الاستدلال بما دلّ على وقوع التحريف في القرآن

ومنها: أن ما دل من الروايات على وقوع التحريف في القرآن مانع من العمل به، لاحتمال ضياع القرآن الموجبة لتبدل ظهوره. ولا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة في الظواهر التي وصلت إلينا، لعدم بناء العقلاء عليها في مثل ذلك، خلافاً لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام من عدم

ص: 197

سقوط الظواهر التي بأيدينا إلا مع العلم الإجمالي المنجز بوجود الخلل فيها.

وفيه: أنه يصعب جداً البناء على التحريف مع ما هو المعلوم من اهتمام المسلمين بحفظ القرآن في الصدور والزبر، ومدارسته من الصدر الأول، بنحوٍ لا يتهيأ لأحدٍ تضييعه بالتحريف، كما أطال

الكلام فيه السيد المرتضى (قدس سره) وغيره، فلو فرض صحة النصوص الدالة عليه، وتعذر حملها على معنىً آخر لزم التوقف وردها إلى أهلها (عليهم السلام) فإنهم أعلم بما أريد بها.

على أن ما تقدم من النصوص الكثيرة الصريحة في جواز العمل بظواهر القرآن شاهد بعدم كون التحريف - لو فرض وقوعه - مانعاً من ذلك، إما لعدم وقوعه في آيات الأحكام، أو لكونه في كلامٍ مستقلٍ لا دخل له بالظهورات الواصلة، أو لغير ذلك، كما نبّه له غير واحدٍ.

الاستدلال بمانعية العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد

ومنها: أن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوّز وغيرها في ظواهر الكتاب مانع من الرجوع إليها.

وفيه: أن العلم المذكور إنما يمنع عن العمل بالظواهر قبل الفحص عما ينافيها، لا مطلقاً، لانحلاله بالعلم بوجود المقدار الكافي بالفحص، كما هو الحال في ظواهر الأخبار أيضاً، على ما يذكر في مسألة وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام، وفي شرائط الأصول العملية وغيرهما.

وهناك بعض الوجوه الأُخَر راجعة إلى ما تقدم، أو بينة الوهن، فلا ينبغي أن تسطر وتذكر بعد ما عرفت، والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

ص: 198

الفصل الثاني: في حجية قول اللغويين

اشارة

لا إشكال في أن الظهور الذي تقدم اعتباره هو الظهور الخاص الحاصل من مجموع الكلام، الذي قد يكون على طبق الظهور النوعي للمفردات، وهو ظهورها في معانيها الموضوعة لها، وقد يكون على خلافها بسبب القرائن النوعية أو الشخصية المحيطة بالكلام الموجبة للخروج عن مقتضى الوضع.

نعم، مع عدم القرينة المخرجة عن مقتضى الوضع لا إشكال في ظهور الكلام في المعنى الموضوع له، فيكون هو المتبع.

ومن ثَمَّ ذكرنا أن أصالة الحقيقة من صغريات أصالة الظهور، وراجعة إليها. ولذا كان تشخيص ظهور المفردات النوعي التابع لوضعها مهماً في المقام.

وجوه الاستدلال بحجية قول اللغويين

ولا كلام مع القطع بذلك للتبادر أو اتفاق اللغويين أو غيرهما، وإنما الكلام في جواز الرجوع للغويين في ذلك وحجية قولهم فيه مع عدم حصول القطع منه، فقد ذهب إليه جماعة. وقد استدل عليه بوجوه..

الأول: الإجماع العملي

الأول: إجماع العلماء عملاً على الرجوع لهم والاستشهاد بكلامهم

ص: 199

لمعرفة المراد بالكلام من غير نكيرٍ من أحد.

المناقشة فيه

ويشكل: بقرب كون رجوعهم لهم لتحصيل الاطمئنان من قولهم أو القطع بالمعنى، إما لاتفاقهم، أو لقرائنٍ خارجيةٍ تقتضي ذلك، أو للاستعانة بهم في معرفة موارد الاستعمال إلى غير ذلك مما يمنع من الجزم بابتناء رجوعهم لهم على البناء على حجية قولهم، فضلاً عن الاتفاق عليها بنحوٍ يكشف عن ثبوتها شرعاً.

الثاني: أنه مقتضى السيرة العقلائية

الثاني: أنه مقتضى سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، حيث لا إشكال بينهم في الرجوع في كل فنٍ إلى أهله، ومنه المقام.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أنه لم يتضح خبرة اللغويين بتعيين المعاني الموضوع لها، فإنه وإن كان ظاهرهم التصدي لذلك لا لتعيين موارد الاستعمال، إلا أن النظر في كتبهم يمنع من الثقة بخبرتهم، لكثرة المعاني التي يذكرونها للفظ الواحد بنحوٍ يطمئن بعدم وضعه لجميعها استقلالاً، وأن مستندهم في

ذكرها محض الاستعمال فيها مع الغفلة عن أن خصوصيات كثير منها ناشئةً من خصوصيات الاستعمال، ولم تؤخذ في المعنى وضعاً.

وثانياً: أنه لا وثوق بتقيدهم في ثبوت الاستعمالات التي يستنبط منها المعنى بالوجه المعتبر من علمٍ أو علميٍ، بل من القريب جداً تسامحهم في ذلك كثيراً، فلا مجال للتعويل عليهم بملاك الرجوع إلى أهل الخبرة.

نعم، قد يستأنس بما ذكروه بنحوٍ يكون من مقدمات تشخيص الظهور واستنباطه بنظر الباحث واجتهاده.

وثالثاً: أن من المعلوم تسامحهم في تحديد المعنى ومبناهم على الإشارة إليه إجمالاً من دون ضبطٍ له بالنحو الجامع المانع. ومن ثم اشتهر

ص: 200

أن تعاريفهم لفظية لا حقيقية، ومعه لا مجال للرجوع لهم لمعرفة المعنى تفصيلاً، وأما معرفته إجمالاً فلا أثر لحجية قولهم فيها، لتيسر القطع به غالباً ولو بعد الرجوع لهم.

ورابعاً: أن جواز الرجوع إلى أهل الخبرة يختص بمن لا يتيسر له الاجتهاد في موضوع خبرتهم، والظاهر تيسر الاجتهاد للفقيه في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام، لقلة موارد الاحتياج لذلك في الأحكام الشرعية، وتيسر مقدمات الاستنباط ولو بعد الرجوع لهم، بنحوٍ لا يعلم بأنهم أوصل منه نوعاً. فلاحظ.

هذا وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من اختصاص بناء العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة بما إذا حصل الوثوق بقولهم، وهو لا يحصل من قول اللغويين.

فإن أراد به اعتبار حصول الوثوق الشخصي فهو غير ظاهرٍ من سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة.

وإن أراد به أن قول اللغويين ليس من شأنه أن يوجب الوثوق نوعاً بنحو يصح التعويل عليه عند العقلاء. فلعله راجع إلى ما ذكرنا.

إشكال السيد الحكيم (قدس سره) في السيرة العقلائية

ثم إن سيدنا الأعظم (قدس سره) قد استشكل في الاستدلال المذكور: بأن الرجوع إلى أهل الخبرة إنما هو في الأمور الحدسية المبنية على الاجتهاد وإعمال النظر، وليس منها تعيين معنى اللفظ، حيث يكون الاستناد فيه على المقدمات القريبة من الحس، فهو نظير نقل الخبر بالمعنى، لا يدخل في باب قول أهل الخبرة بالمعنى المذكور، بل في باب خبر الثقة، فينبغي الاستدلال عليه بعموم قبول خبر الثقة في الأحكام، لأن خبر اللغوي وإن

ص: 201

كان عن الموضوع، لا عن الحكم - كالمفتي - إلا أن المراد بقبول خبر الثقة في الأحكام كل خبرٍ ينتهي إلى الخبر عن الحكم الكلي ولو بالالتزام، ومنه المقام، فلا يعتبر فيه العدالة والعدد، بخلاف الخبر عن الموضوع الصرف الذي لا يقتضي إلاّ الحكم الجزئي.

أقول: تعيين المعنى إنما يبتني على الحدس القريب من الحس إذا كان مبتنياً على التبادر - كما في النقل بالمعنى ومعرفة أهل اللغة بلغتهم - أو كان مبنياً على استفاضة النقل من أهل اللسان وتسالمهم. أما لو كان مبنياً على استنباط المعنى من الاستعمالات بعد التأمل فيها، وتمييز حقائقها من مجازاتها، وتعيين الخصوصيات الاستعمالية من الخصوصيات الوضعية ونحو ذلك، كما هو الحال في المفاهيم ذات الحدود الخفية، فهو مبني على الحدس والاجتهاد الملحق لصاحبه بأهل الخبرة، كما اعترف به (قدس سره).

وحجية قول أهل اللغة في الأول لا أهمية لها غالباً، لغلبة تيسر معرفة المعنى للباحث نفسه في مثل ذلك ولو بضميمة ذكرهم له، ولاسيما مع كون الوجه المذكور لا يقتضي غالباً تعيين المعنى بوجهٍ تفصيلي، بل إجمالي، وإنما المهم حجية قولهم في الثاني لو فرض خبرتهم، لصعوبة تمييزه على الباحث نفسه، كما لا يخفى.

هذا، مع أن التأمل في ما سبق منا وفي غيره يمنع من الوثوق باللغويين بنحوٍ يدرج خبرهم في خبر الثقة. فتأمل جيداً.

الثالث: لزوم انسداد باب اللغة

الثالث: أنه لو لم يرجع لقول اللغويين لزم انسداد باب العلم باللغة، إذ الغالب انحصار معرفة أصل المعنى إجمالاً أو خصوصياته تفصيلاً بالرجوع لهم، ومع انسداد باب العلم يتعين التنزل للظن الحاصل من قولهم.

ص: 202

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أنه لا أثر لانسداد باب العلم باللغة إلا من حيث إفضائه إلى انسداد باب العلم في غالب الأحكام الشرعية، وهو لا يلزم في المقام، لقلة الأحكام المتعلقة بالمفاهيم المجملة التي لا يتسنى للفقيه تشخيص ظهور الأدلة المتعرضة لها بنفسه ولو بمعونة الرجوع لهم، فلا يلزم من الرجوع للأصول فيها مخالفة قطعية، فضلاً عن الخروج عن الدين، كما لا يلزم من الاحتياط فيها الحرج، فضلاً عن اختلال النظام، كي يتعين معه الرجوع للظن حكومةً أو كشفاً.

وثانياً: أنه لو تم اقتضى الاكتفاء بكل ظنٍ، لا بخصوص ما يحصل بقول اللغوي، إلا أن يكون هو المتيقن مع فرض إهمال نتيجة دليل الانسداد. وهو غير ظاهر.

وثالثاً: أن ما عرفت من الإشكال في خبرة اللغويين والثقة بهم يمنع من حصول الظن بقولهم.

تنبيه:
كلام النائيني (قدس سره) فيما لو حصل الوثوق بالمعنى من قولهم

ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنه بعد الفراغ عن عدم حجية قول اللغويين فلو حصل الوثوق بالمعنى من قولهم أوجب ظهور اللفظ فيه، ولا يكون الوثوق بالمراد مستنداً لأمر خارجي غير معتبر، بل يدخل المورد في كبرى حجية الظهور بالخصوص، لأن الوثوق بالمعنى لو حصل قبل إلقاء الكلام لأوجب ظهور اللفظ فيه قطعاً، فكذا بعده، لعدم معقولية الفرق.

وفيه: أن الوثوق بالمعنى - سواءً حصل من قول اللغويين أم من غيره - لا يوجب إلا الوثوق بالظهور، سواءً حصل قبل إلقاء الكلام أم بعده.

ص: 203

وحينئذٍ فحيث كان موضوع الحجية هو الظهور الواقعي فلابد من إحرازه بعلمٍ أو علمي، ولا يكفي مجرد الوثوق إذا لم يستند إلى حجةٍ، كما هو المفروض. إلا أن يراد به العلم العادي، فيكون حجةً بنفسه.

وكيف كان فحصول الوثوق بالمعنى من قول اللغويين لا يوجب ظهور اللفظ فيه، بل يوجب الوثوق بظهور اللفظ فيه. فلاحظ.

ص: 204

الفصل الثالث: في حجية الإجماع المنقول

اشارة

لا يخفى أن الكلام في هذه المسألة متفرع على القول بحجية خبر الواحد، حيث قد يدعى أن حجية خبر الواحد تستلزم حجية نقل الإجماع بخبر الواحد، لأنه من أفراده، فكان المناسب التعرض لها بعد الكلام في ذلك، إلا أن شيخنا الأعظم (قدس سره) حيث حررها هنا وتبعه جماعة ممن تأخر عنه تابعناهم في ذلك.

هذا، وينبغي تقديم أمورٍ تنفع في تحرير الكلام..

ينبغي تقديم أمور: الأول: الملاك في حجية الإجماع موافقة قول الإمام (ع)

الأمر الأول: اشتهر ذكر الإجماع في أدلة الأحكام في كلمات أهل الاستدلال، وقد صرح أصحابنا بأن الإجماع ليس حجةً بنفسه، بل الملاك في حجيته موافقة المجمعين للإمام (ع) فالحجة قوله، لا أقوالهم، إذ لا مرجع للأمة بعد النبي (ص) إلا الكتاب الكريم والعترة الطاهرة، ولا عبرة بأقوال الأمة إذا خالفتهما.

نعم، قد يستكشف قوله (ع) من أقوالهم، فلا أثر لأقوالهم إلا من حيثية الكشف عن الحجة.

الثاني: موارد إحراز رأي الإمام (ع)

الأمر الثاني: بعد ما عرفت من أن حجية الإجماع منوطة باتفاق

ص: 205

الإمام (ع) من المجمعين فإحراز رأيه (ع) يكون بأحد وجوهٍ...

الأول: العلم برأيه (ع) بطريق الحس أو بطريق ملحق بالحس، كالتواتر.

الثاني: إحرازه حدساً بقاعدة اللطف، التي حكي عن الشيخ (قدس سره) البناء عليها، بل امتناع الاستدلال بالإجماع لولاها وهي راجعة إلى امتناع اتفاق الأمة في عصر على خلاف رأي الإمام (ع)، بل يجب عليه (ع) إزاحة العلة بالظهور، أو إظهار من يبين الحق في المسألة، فمتى تم اتفاقهم كشف عن موافقتهم له (ع) وإن كان التحقيق عدم تمامية القاعدة المذكورة، لعدم ظهور منشأ الوجوب المذكور بعد كون ضياع الحق مسبباً عن تقصير الأمة في أداء واجبها، وكما أمكن نتيجة ذلك ضياع الحق على البعض مع الخلاف أمكن ضياعه على الكل.

الثالث: إحرازه حدساً بمقدماتٍ نظريةٍ يختلف الناس فيها، كحسن الظن بالمجمعين، بنحوٍ يمتنع عادةً اتفاقهم على الخطأ مطلقاً، أو في خصوص الواقعة، لكونها مورداً للابتلاء، المانع من اختفاء حكمها عليهم، أو نحو ذلك.

الثالث: ما يظهر من بعضهم من رجوع الإجماع إلى الاتفاق المشتمل على قول الإمام (ع)

الأمر الثالث: لما كان ملاك حجية الإجماع موافقة الإمام (ع) للمجمعين فربما يظهر من كلام بعضهم أن الإجماع في الاصطلاح هو الاتفاق المشتمل على قول الإمام (ع) بحيث يكون ظاهر ناقل الإجماع مع عدم القرينة الصارفة هو نقل قول الإمام (ع) في ضمن أقوال المجمعين.

لكنه خلاف الظاهر، بل ظاهرهم إرادة إجماع العلماء أنفسهم، فليس المنقول إلا قولهم، كما يشهد به مقابلة الإجماع في كثير من الموارد

ص: 206

بالخلاف، واستثناء بعض الأشخاص من الإجماع وغير ذلك مما يظهر منه عدم إرادة المعنى المذكور.

بل هو كالصريح في مثل قولهم: أجمع علماؤنا أو أصحابنا، أو فقهاؤنا، أو فقهاء أهل البيت (عليهم السلام).

نعم، قد يحتمل إرادة دخول الإمام (ع) في المجمعين من مثل قولهم: أجمعت الأمة، أو المسلمون، أو أهل الحق، أو الطائفة، أو نحو ذلك.

وبالجملة: دعوى ظهور كلام ناقل الإجماع في نقل قول الإمام (ع) مع المجمعين في غير محلها، بل ظاهره غالباً إرادة نقل أقوال العلماء وحدهم، وإن كان مستلزماً لقول الإمام (ع) بنظر الناقل.

ولاسيما إذا نقل الإجماع في مقام الاحتجاج، لظهوره في خصوصية اتفاق الجميع في الاحتجاج، وإن كان من حيث استلزامه للحجة، لا في كون الاحتجاج بقول البعض - وهو الإمام (ع) - ولا أثر للباقين.

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) ذكر أن الإجماع اصطلاحاً مختص باتفاق أهل العصر الواحد، واستشهد بكلمات بعضهم.

وهو وإن ناسب طريقة القائلين بقاعدة اللطف، إلا أنه لم يتضح بوجهٍ معتدٍ به بنحوٍ يصلح لتحديد مصطلحهم بذلك، لتحمل كلماتهم عليه عند الإطلاق.

ولاسيما مع ظهور كثير من كلماتهم في الفقه في إرادة إجماع جميع العلماء، كما يشهد به مقابلة الإجماع بالخلاف، بنحوٍ يظهر منه إرادة الخلاف ولو بين أهل العصور المختلفة، فلا مخرج عن مقتضى الإطلاق الظاهر في إرادة علماء جميع العصور.

ص: 207

نعم، الاطلاع بطريق حسي على فتاوى جميع علماء العصر الواحد فضلاً عن فتاوى علماء جميع العصور لا يتسنى عادةً لأحد، خصوصاً المتأخرين، مع تباعد الأمكنة، وعدم ضبط فتاوى كثير من العلماء، إما لكونهم مغمورين لا ظهور لهم، أو لضياع فتاواهم، بل ربما لا يكون لبعضهم فتوى في المسألة، لعدم رجوع غيره له، وإنما رأيه لعمل نفسه، أو نظره في أدلتها. فتأمل.

فلابد من توجيه كلام مدعي الإجماع، إما بحمله على إرادة خصوص أهل الفتاوى الظاهرة أو أهل الكتب المشهورة أو نحو ذلك، وإما بحمله على إرادة الكل مع كون الإطلاع عليهم بطريق الحدس، لاستبعاد مخالفتهم للمشهورين، أو لابتناء الفتوى على أصل أو قاعدة إجماعية بنظر مدعي الإجماع، كما تعرض لذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وأطال الكلام فيه.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه حُكي عن جماعة أن ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام يقتضي حجية الإجماع المنقول لأنه من أفراده، لرجوع دعوى الإجماع إلى حكاية قول الإمام (ع) أو رأيه، بل ربما قيل: إنه من الخبر العالي السند، لأن مدعى الإجماع يحكي عنه (ع) بلا واسطة.

حجية الإجماع المنقول بملاك حجية خبر الواحد مبني على أمرين

والذي ينبغي أن يقال: إن حجية نقل الإجماع بملاك حجية خبر الواحد مبني على أحد أمرين:

الأول: أن يكون مرجع كلام ناقل الإجماع إلى نقل قول الإمام (ع) في ضمن أقوال المجمعين.

الثاني: أن يكون ما ينقله من الأقوال ملازماً عقلاً أو عادةً لقول الإمام (ع)، فيكون خبره حجةً فيه، بناءً على ما هو الظاهر من حجية الخبر

ص: 208

في لازم مؤداه وإن لم يقصد المخبر الإخبار عنه.

أما الأول فهو بعيد عن ظاهر كلام أكثر نقلة الإجماع، كما سبق.

مع أنه لا مجال لحجيته مع عدم كون ناقل الإجماع من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لعدم اطلاعه على آرائهم من السؤال ونحوه من الطرق الحسية.

كما يبعد اطلاعهم عليها من طريقٍ ملحقٍ بالحس، كالتواتر الموجب للعلم لكل أحدٍ، وإلا لكان ذكره في مقام الاستدلال أولى من ذكر الإجماع، لأنه أصرح في بيان الحجة.

مع أنه يكفي في عدم قبول نقل الإجماع الشك في ذلك بعد عدم ظهور كلام الناقل فيه، إذ لو سلم ظهوره في نقل قول الإمام (ع) فلا ظهور له في اعتماده على الحدس الملحق بالحس، لاحتمال اعتماده على خبر من لا يوجب خبره العلم لغيره، فيكون بمنزلة روايةٍ مرسلةٍ ليس بحجة.

على أن الظاهر بل المقطوع به ابتناء النقل - لو تم ظهور كلام الناقل فيه - على الحدس، لقاعدة اللطف أو غيرها مما تقدم، ومثل ذلك خارج عن عموم أدلة حجية خبر الثقة في الأحكام، لاختصاصها بالأخبار عن حسٍ أو حدسٍ قريب منه، وقبول الخبر عن حدس إنما هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة، الذي لا يصح من المجتهد، بل يجب عليه إعمال اجتهاده بنفسه.

ومما ذكرنا يظهر حال ما عن بعضٍ من حجية الإجماع المنقول من القدماء، بدعوى احتمال كون مستندهم في ذلك هو السماع من المعصوم ولو بالواسطة، لقرب عصرهم من عصر الحضور.

إذ لو فرض حصول الاحتمال المذكور فلا مجال للتعويل عليه بعد ما عرفت.

ص: 209

وأما الثاني فلا مجال لإحرازه بعد ما عرفت من أن كلام ناقل الإجماع وإن كان ظاهراً بدواً في إرادة النقل عن جميع العلماء في جميع الأعصار، وهو لو تم ملازم لقول الإمام (ع) عادةً، إلا أنه بعد العلم

بامتناع الاطلاع على أقوالهم بطرقٍ حسيةٍ لابد من حمله على إرادة النقل عن بعضهم أو عن جميعهم اعتماداً على الحدس، ومثل ذلك لا يستلزم عادةً قول الإمام (ع) حتى ينفع في المقام.

ما ذكره النائيني (قدس سره) من كاشفية الإجماع عن دليل معتبر عندهم

ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) ذكر أن إجماع الأصحاب يكشف عن دليلٍ معتبرٍ عندهم خفي علينا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه، وإلا احتمل استنادهم إليها، لا إلى دليلٍ آخرٍ وراءها، وحينئذٍ فلو فرض كون ناقل الإجماع مثل الشهيد والمحقق والعلامة J تعين اعتبار حكايتهم، لأنهم يحكون نفس الفتاوى بلسان الإجماع الكاشفة عن الدليل المعتبر مع عدم وجود أصلٍ أو قاعدةٍ في البين، بخلاف ما لو كان الحاكي من المتقدمين عليهم، لأن الغالب ابتناء حكايتهم الإجماع على الأصل أو القاعدة بنظرهم، لا على حكاية نفس الفتاوى.

أقول: الاتفاق منهم على الفتوى لا يستلزم وجود دليلٍ معتبرٍ واقعاً، إذ كما أمكن خطؤهم في الاستناد إلى الأصل أو القاعدة أو الدليل الموجود في المسألة، يمكن خطؤهم في الأدلة التي اعتمدوها وخفيت علينا.

نعم، هو يكشف عن وجود دليلٍ معتبرٍ عندهم، كما تكشف فتوى العدل الواحد عن وجود دليلٍ معتبرٍ عنده، وذلك بنفسه لا يكفي في الحجية، كما لا يخفى.

مع أن الفرق في الحاكي بين مثل المحقق ومن تقدّمه - لو تم - لا ينفع

ص: 210

بعد ما عرفت من امتناع اطلاع الحاكي على فتاوى الكل حساً، بل لابد من توجيه حكايته بما تقدم المانع من الاعتماد عليه.

فالإنصاف أنه لا مجال لحجية الإجماع المنقول بنفسه.

نعم، قد تشهد القرائن في بعض المقامات بمطابقته للحكم الواقعي، أو للدليل المعتبر، وهو يختلف باختلاف ناقلي الإجماع، والمسائل المنقول فيها، والمجتهدين الذين يرجعون للنقل. كما قد يحصل العلم بالحكم من ذهاب المشهور، أو تسالم جماعةٍ قليلةٍ عليه أو غير ذلك مما لا ضابط له، ليرجع إليه.

ص: 211

ص: 212

الفصل الرابع: في حجية الشهرة الفتوائية

اشارة

ذكروا أن الشهرة..

تارةً: تكون في الرواية، وهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة ومعروفيتها عندهم وتسالمهم عليها، في قبال الحديث النادر الذي ينفرد به البعض.

وأخرى: تكون في العمل بالرواية أو في الإعراض عنها في مقام الاستدلال.

وثالثةً: تكون في الفتوى مع قطع النظر عن دليل الحكم.

والأولى من المرجحات في باب تعارض الروايات.

والثانية هي التي قيل: إنها تجبر الحديث الضعيف وتوهن الحديث الصحيح. وقد أشرنا في آخر مبحث حجية الظواهر إلى وجه الثاني. ولعله يأتي في مبحث حجية خبر الواحد الكلام في وجه الأول.

وأما الثالثة فهي محل الكلام في المقام.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) في معيار الشهرة الفتوائية

وقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنها تحصل بفتوى جل الفقهاء المعروفين، سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف، أم لم يعرف الخلاف والوفاق

ص: 213

من غيرهم.

وقد حكي عن بعضهم حجيتها، وقد استدل عليها..

الكلام في الاستدلال على حجية الشهرة ومناقشته

تارةً: بما دل على حجية الخبر بضميمة الأولوية، لأن الظن الحاصل منها أقوى من الظن الحاصل منه.

وأخرى: بما تضمن الترجيح بين الروايات المتعارضة بالشهرة، كما في المقبولة والمرفوعة.

وثالثةً: بأنها مقتضى التعليل في آية النبأ بقوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (1)، بتقريب: أن المراد من الجهالة السفاهة، فتدل بمقتضى التعليل الموجب لتخصيص الحكم بمورده على جواز الاعتماد على ما لا يكون الاعتماد عليه سفاهةً، ومنه الشهرة المذكورة.

والكل كما ترى!

إذ يندفع الأول: بأن المدعى إن كان هو الأولوية الظنية فهي - مع عدم تماميتها كما يأتي - أوهن بمراتبٍ من الشهرة، فكيف يتمسك بها في حجيتها، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره).

وإن كان هو الأولوية القطعية فهي ممنوعة..

تارةً: لعدم ثبوت كون إفادة الظن هي الملاك في حجية الخبر، كيف ولا إشكال في عدم حجية كثير مما يفيد الظن غيره؟!

وأخرى: لعدم اطراد أقوائية الظن الحاصل من الشهرة من الظن الحاصل من الخبر.

ص: 214


1- سورة الحجرات: 6.

ويندفع الثاني..

تارةً: بما عرفت من أن المرجح هو الشهرة في الرواية الموجبة لعدم الريب فيها، لا الشهرة في الفتوى التي هي محل الكلام هنا.

وما قيل من عموم الشهرة المذكورة في الأدلة لهما، يظهر وهنه بأدنى تأملٍ فيها، كما تعرض له غير واحدٍ بما لا ينبغي الإطالة فيه.

وأخرى: بأن الترجيح بالشهرة لا يستلزم حجيتها في نفسها في غير مورد التعارض، إذ لا تلازم بين مرجحية الشيء وحجيته.

ودعوى: أن إطلاق قوله (ع): خذ بما اشتهر بين أصحابك كما يقتضي ترجيح المشهور من الخبرين يقتضي ترجيح المشهور من الفتويين.

مدفوعة: بظهوره في ترجيح المشهور من الدليلين بعد الفراغ عن دليليتهما ذاتاً، لا في كون الشهرة مرجحة في مورد التعارض لما لا يكون دليلاً بذاته كالفتويين، بحيث تكون الشهرة هي الملاك في الدليلية.

مع أنه لا إطلاق فيه يشمل غير الخبرين بعد اختصاص السؤال بهما.

ويندفع الثالث - بعد تسليم أن المراد بالجهالة السفاهة، على ما يأتي الكلام فيه في مبحث خبر الواحد -:

تارةً: بأن تخصيص الحكم بمورد التعليل إنما يكون بالإضافة إلى موضوعه لا في غيره، فإذا قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، دل على اختصاص النهي بالحامض في خصوص الرمان، لا مطلقاً، فلا ينافي النهي عن غير الحامض من الرمان، ففي المقام يدل التعليل على اختصاص النهي بخبر الفاسق الذي يكون الاعتماد عليه سفهياً، دون خبر الفاسق الثقة الذي لا يكون الاعتماد عليه سفهياً، ولا يقتضي حجية غير الخبر مما لا يكون

ص: 215

الاعتماد عليه سفهياً.

وأخرى: بعدم وضوح كون الاعتماد على الشهرة غير سفهيٍ، لعدم وضوح اعتماد العقلاء عليها مع قطع النظر عن دليلها. بل هو من سنخ التقليد الذي لا ينبغي عندهم للمجتهد القادر على استنباط الحكم بنفسه.

ص: 216

الفصل الخامس: في حجية خبر الواحد

تمهيد:

استنباط الحكم الفرعي من قول المعصوم (ع) يتوقف على أمورٍ..

تمهيد

الأول: صدوره.

الثاني: ظهوره في المعنى.

الثالث: إرادة المتكلم لظاهر الكلام.

ولا إشكال مع العلم بهذه الأمور أو ببعضها.

وأما مع الشك فالمتكفل بالأخير هو أصالة الظهور، التي تقدم الكلام فيها في الفصل الأول، وتقدم ابتناؤها على أصالة الجهة وعدم الغفلة وغيرهما، وليست هي أصلاً مستقلاً في قبال أصالة الجهة.

وأما الأمر الثاني فقد تقدم في الفصل الثاني أنه لم يذكر طريق غير علميٍ له عدا قول اللغويين، كما تقدم المنع من حجيته.

وأما الأمر الأول فالمتكفل له هذه المسألة، لأن من أهم الطرق غير العلمية على صدور الكلام من المعصوم (ع) هو خبر الواحد. بل هو الطريق الوحيد الذي وقع الكلام في حجيته بالخصوص.

ص: 217

كما أنه ينفع في غير الكلام من أفراد السنة - أعني الفعل والتقرير - بل ينفع في غير السنة مما يقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية الكلية، كالقرائن الخارجية التي تنهض ببيان المراد من الكتاب والسنة ووثاقة رجال السند أو عدالتهم، كما لا يخفى.

ومنه يظهر الوجه في عدّ هذه المسألة من المسائل الأصولية، فإنها واجدة لملاك المسألة الأصولية وهو تحريرها لاستنباط الأحكام الفرعية.

ومعه لا حاجة إلى تجشم دعوى أن البحث فيها عن عوارض موضوع علم الأصول، وهو السنة أو الأدلة، كما أطال فيه غير واحد.

ولاسيما مع عدم وضوح لزوم فرض الموضوع لعلم الأصول ولا لغيره من العلوم، وإن صرح به جماعة، بل هو المعروف، كما تعرضنا لذلك في محله. فراجع.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن الخبر..

تارةً: يوجب العلم بمؤداه، إما لتواتره أو لاحتفافه بالقرائن القطعية.

وأخرى: لا يوجبه.

ولا إشكال في وجوب العمل بالأول من جهة العلم الحاصل منه لا لخصوصيته، فهو خارج عن محل الكلام. ومحل الكلام هو الثاني، وهو المراد بخبر الواحد في المقام، لا خصوص خبر المخبر الواحد، كما هو ظاهر العنوان.

الأقوال في حجية خبر الواحد

وقد وقع الكلام في حجية خبر الواحد - بالمعنى المذكور - بالخصوص على أقوالٍ كثيرةٍ، فبين مانع مطلقاً، وقائل بحجية جميع ما في الكتب الأربعة مطلقاً، أو بعد استثناء ما خالف المشهور أو مطلق خبر العدل، أو الثقة، أو

ص: 218

الخبر المعمول به بين الأصحاب، أو المظنون بصدوره، أو غير ذلك.

ما ينسب للأخباريين من قطعية صدور الأخبار

وربما ينسب إلى بعض الأخباريين - ولعله ظاهر الوسائل - أن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة قطعية الصدور، فهي خارجة عن محل الكلام. وحيث كان القطع من الأمور الوجدانية غير المنضبطة فلا مجال للاستدلال على هذا القول ولا على بطلانه.

وقد أطال في غير واحدةٍ في فوائد خاتمة الوسائل في سرد القرائن الموجبة لذلك.

والإنصاف أنها على أهميتها لا توجب العلم التفصيلي بصدور كل خبرٍ من الأخبار المذكورة، ولاسيما مع بعد زماننا عن زمان الصدور والتدوين واضطراب كثير من الأخبار، فإن ذلك يفتح باب الشك، ولا طريق لسده.

نعم، التأمل في القرائن المذكورة وغيرها يوجب العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار، بحيث لو فرض عدم صدور بعضها فهو قليل جداً؛ وهذا لا يغني عن النظر في أدلة الحجية إثباتاً أو منعاً. فراجع وتأمل جيداً.

ثم إن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات..

الأول: في حجج النافين مطلقاً.

الثاني: في حجج المثبتين في الجملة.

الثالث: في تحديد ما هو الحجة حسبما يستفاد من أدلة الحجية بعد الفراغ عن دلالتها في الجملة.

وهو من أهم مباحث المسألة، وإنما لم نلحقه بالمقام الثاني خوفاً من

ص: 219

اضطراب الكلام، لكثرة الأدلة المستدل بها، مع الإشكال في أصل دلالتها على الحجية، وفي تحديد مدلولها بعد الفراغ عن ذلك، فيصعب الكلام في كلا الأمرين في مقامٍ واحدٍ، والظاهر أن فصلهما معين على تيسير بيان المقصود، وسهولة تفهمه. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق، وعليه نتوكل في الكلام في هذه المسألة المهمة، إنه ولي الأمور، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المقام الأول: في حجج النافين
اشارة

المقام الأول: في حجج النافين

فقد ذهب لعدم حجية خبر الواحد مطلقاً جماعة من الأعيان، كابني زُهرة وإدريس، وحكي عن السيد المرتضى والقاضي والطبرسي، بل ربما نسب إلى المفيد والشيخ I. وحيث كان عدم الحجية هو المطابق للأصل، فهو لا يحتاج إلى الاستدلال، إلا أنه قد ينفع الاستدلال بلحاظ أنه لو تم كان مانعاً من أدلة المثبتين أو معارضاً لها لو كانت تامةً في أنفسها.

الاستدلال على عدم الحجية بأمور

وكيف كان، فقد استدل لعدم حجيته بالأدلة الأربعة..

الأول: الكتاب المجيد

الأول: الكتاب المجيد، حيث تضمن كثير من الآيات الشريفة عموم النهي عن القول بغير علمٍ، والعمل بالظن، ومع الجهل، ومنها عموم التعليل في آية النبأ، كما استدل به السيد في الغنية والطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان.

مناقشة الاستدلال

والجواب عن ذلك ما تقدم في تقرير أصالة عدم الحجية من عدم نهوض العمومات المذكورة ببيان عدم الحجية واقعاً في جميع ما لا يفيد العلم بنحوٍ يعم خبر الواحد. على أنها لو تمت فهي عمومات قابلة للتخصيص بما يأتي إن شاء الله تعالى من أدلة حجية خبر الواحد.

ودعوى: إبائها عن التخصيص، مساوقة لدعوى: دلالتها على أمرٍ

ص: 220

ارتكازيٍ عرفي، لا أمرٍ تعبدي محض من قبل الشارع، وهو مناسب لحملها على الإرشاد لما يحكم به العقل من لزوم انتهاء العمل للعلم ولو بالحجية، فلا تنافي حجية بعض الأمور غير العلمية، لتنفع في ما نحن فيه، كما تقدم هناك أيضاً. وأما عموم عدم حجية غير العلم واقعاً فهو أمر تعبدي صرف غير آبٍ عن التخصيص، فلا مانع من تخصيصه بأدلة الحجية الآتية.

نعم، هذا في غير سيرة العقلاء من أدلة الحجية، وأما السيرة فالظاهر عدم نهوضها بتخصيص الآيات - لو فرض دلالتها على عدم الحجية - بل ربما يدعى أنه لو تمت دلالة الآيات كانت رادعةً عنها على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى عند الاستدلال بالسيرة على حجية الخبر.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الظاهر من الآيات المذكورة أو المتيقن من إطلاقها هو النهي عن اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية لا ما يعم الأحكام الفرعية.

فهو لو تم في بعض الآيات لا يتم في جميعها، فإن ظاهر بعضها سوق العموم المذكور مساق التعليل أو الكبرى العامة، كقوله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1) وغيره.

بل لو فرض اختصاص بعضها بأصول الدين كان ظهورها في بيان أمرٍ ارتكازي عرفي شاهداً بعدم الخصوصية لمواردها وعمومها للفروع.

هذا، ويأتي إن شاء الله تعالى في الاستدلال بآية النبأ على حجية خبر الواحد الكلام في عموم التعليل فيها مع الغض عما ذكرناه هنا. فلاحظ.

الثاني: السنة وهي طائفتان

الثاني: السنة الشريفة وهي طائفتان:

ص: 221


1- سورة النجم: 28.
الأولى: ما تضمن النهي عن العمل بغير العلم

الأولى: ما تضمن النهي عن العمل مع عدم العلم. ويظهر الكلام فيها مما تقدم في الاستدلال بالكتاب.

الثانية: ما ورد في النهي عن العمل بغير العلم في خصوص الأخبار

الثانية: ما ورد من النصوص الكثيرة المتواترة معنىً أو إجمالاً في خصوص الأخبار، وذكر جملة منها شيخنا الأعظم (قدس سره)، مثل ما تضمن وجوب رد ما لم يعلم أنه قولهم (عليهم السلام)، أو لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من الكتاب، أو لم يكن موافقاً للقرآن، إليهم (عليهم السلام)، وما تضمن بطلان ما لا يصدقه الكتاب، وأن ما لايوافق الكتاب فهو زخرف، وما تضمن النهي عن قبول الأحاديث المخالفة للكتاب أو السنة، أو عن قبول الأحاديث غير الموافقة للكتاب أو السنة، معللاً في بعضها بدس الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ونحو ذلك من الأخبار المقتضية لعدم حجية الأخبار التي بأيدينا لعدم العلم بصدورها، ومخالفتها للكتاب أو السنة المعلومة ولو بالعموم والخصوص.

ما ينبغي أن يقال في النصوص المذكورة

ولا أقل من عدم موافقتها لهما وعدم اعتضادها بشاهدٍ منها. وما فرض اعتضاده بذلك لا أثر لحجيته، للاستغناء بالكتاب والسنة المعلومة عنه.

والذي ينبغي أن يقال: النصوص المذكورة على أقسام:

الأول: ما ورد في الخبرين المتعارضين

الأول: ما ورد في المتعارضين، كمكاتبة داود بن فرقد إلى الهادي (ع):

«نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك سلام الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب (ع) بخطه: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردوه إلينا ونحوها ما عن مستطرفات السرائر، وغير ذلك من النصوص، وقد تعرض في الوسائل لجملةٍ منها في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.

ص: 222

ومن الظاهر خروج هذه النصوص عن محل الكلام، بل هي على الحجية أدل، لظهورها في المفروغية عن حجية الخبر لولا المعارضة.

وأما دعوى: أن أدلة حجية الخبر تكون حاكمةً على مثل الروايتين الأوليين، لأنها تقتضي كون خبر الثقة علماً تنزيلاً.

فهو كما ترى! لوضوح كون خبر الثقة متيقناً من مورد الخبرين المذكورين، إذ لا يحتمل السؤال عن خصوص أخبار غير الثقات، ولاسيما مع التعارض الظاهر في المفروغية عن الحجية في الجملة لولا التعارض، فلو كان خبر الثقة حجةً لكان الأولى جعله معياراً في التفصيل، لا إهماله وجعل العلم معياراً فيه الذي هو من الحجج الذاتية غير المحتاجة إلى البيان، فعدم التنبيه عليه والاقتصار على ذكر العلم كالصريح في إرادة العلم الحقيقي، وأما الإشكال فيهما بأنهما من أخبار الآحاد، فيلزم من حجيتها عدمها، فيظهر حاله مما يأتي في القسم الثالث، فلاحظ.

الثاني: ما تضمن التبري من الخبر المخالف للكتاب

الثاني: ما تضمن التبري من الخبر المخالف للكتاب أو الذي لا يوافقه، وأنه زخرف أو باطل، وهو نصوص كثيرة ذكرها شيخنا الأعظم (قدس سره)، مثل قوله (ص): ما جاءكم عنِّي ما لا يوافق القرآن فلم أقله(1)، وقريب منه مصحح هشام بن الحكم وغيره(2)، وخبر أيوب بن الحر: كل حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زخرف(3) ونحوه خبر أيوب بن راشد(4) وغيرها.

وهذه النصوص على كثرتها لا تنفع أيضاً في ما نحن فيه، لأن المراد

ص: 223


1- تفسير العياشي: ج 1، ص 8.
2- الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 15.
3- الكافي ج 1: ص 69 تفسير العياشي ص 9.
4- الكافي ج 1: ص 69. الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث 12.

بالمخالفة فيها المخالفة بالتباين، لأن لسانها آبٍ عن التخصيص، ومن المعلوم صدور الأخبار الكثيرة عنهم على خلاف ظاهر القرآن.

كما أنه لابد من حمل عدم الموافقة للقرآن على ذلك أيضاً، لا مجرد عدم الموافقة ولو لعدم وجوب الحكم في القرآن - كما هو ظاهرها بدواً - كيف ولا ريب في عدم وفاء ظاهر القرآن بجميع الأحكام، وأن بقيتها مأخوذة من النبي (ص) وآله (عليهم السلام)، ولذا كان كمال الدين بولايتهم. وقد استفاضت النصوص بوجود أخبار منهم (عليهم السلام) بمضامين لا يمكن تحصيلها من الكتاب الكريم.

ودعوى: أنه لا مجال لحمل النصوص المذكورة على المخالفة بالتباين، إذ لا يصدر من الكذاب عليهم ما يباين الكتاب والسنة المعلومة، لعدم ترتب غرضه، إذ لا يصدقه أحد في ذلك.

مدفوعة: بأن عدم مخالفتهم (عليهم السلام) للقرآن إنما يتضح لأهل الحق وذوي البصائر، دون غيرهم من جهال الناس وذوي المقالات الباطلة، من أعدائهم الذين يجوزون صدور الباطل منهم (عليهم السلام)، أو المفوضة والمغالين ونحوهم ممن يرى أن لهم (عليهم السلام) الحق في تشريع الأحكام المخالفة للكتاب، وهذا كافٍ في غرض الكذابين الذين همهم تشويه سمعتهم (عليهم السلام) أو إضلال الناس بالروايات المكذوبة.

ولاسيما مع دس الروايات المذكورة في كتب أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، الذين يصدقون عليهم، كما صرحت به روايتا هشام بن الحكم الآتيتان وغيرهما.

بل لا ينبغي الريب في وجود أخبارٍ كثيرةٍ ليست من سنخ أحاديثهم (عليهم السلام)

ص: 224

ولا تناسب طريق أهل الحق، ولا تشابه القرآن كما استفاضت به النصوص، ومن ثم نشأت الفرق الضالة من الغلاة وغيرهم ممن ينتسب للأئمة (عليهم السلام) ويدعي الأخذ منهم والقبول عنهم.

نعم، يشكل الحمل المذكور في خبر كليب الأسدي، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ما أتاكم عنا من حديثٍ لا يصدقه كتاب الله فهو باطل، فإنه ظاهر في عدم صدور ما لا يصدقه الكتاب من الأخبار، فلابد من حمله على ما يأتي في القسم الثالث، أو الالتزام بإجماله وردِّه لهم (عليهم السلام).

الثالث: ما تضمن النهي عن قبول الخبر المخالف للكتاب

الثالث: ما تضمن النهي عن قبول الخبر الذي يخالف الكتاب، أو لا يوافقه أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه، وأنه يجب رده إليهم، ولا يعمل به، من دون تعرض لتكذيبه. وهو أخبار كثيرة، كرواية ابن أبي يعفور سألت أبا عبد الله (ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (ص)، وإلا فالذي جاءكم أولى به(1)، ومرسل عبد الله بن بكير عن أبي جعفر (ع):

«إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا، والا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم (2) ، ورواية محمد بن مسلم قال أبو عبد الله (ع): يا محمد ما جاءك في روايةٍ من برٍ أو فاجرٍ يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من برٍ أو فاجرٍ يخالف القرآن فلا تأخذ به(3) ورواية جابر عن أبي جعفر (ع) في حديث قال: انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً

ص: 225


1- الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 11.
2- الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي: حديث 8.
3- تفسير العياشي: ج 1، ص 8.

فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا (1) ، وخبر سدير، قال أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهماالسلام): لا تصدق علينا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه (ص)(2) وما رواه الكشي بسنده الصحيح عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن: أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص)، فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل، وقال رسول الله (ص).

قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (ع)، ووجدت أصحاب أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (ع)، فأنكر منها أحاديث كثيرةً أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (ع)، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع)، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث، إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (ع) فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إما [انا. ظ] عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول: قال فلان

ص: 226


1- الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 37.
2- تفسير العياشي: ج 1، ص 9.

وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه، وقولوا: أنت أعلم وما جئت به، فإن مع كل قولٍ منا حقيقة، وعليه نور، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان (1) ، قال شيخنا الأعظم (قدس سره): والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنة متواترة جداً.

وهذه الروايات هي المهمة في المقام، لأنها مع كثرتها وتشابه مضامينها ظاهرة في أن عدم حجية الأخبار ليس لبطلانها - كي يختص بالأخبار المخالفة للقرآن بالتباين، كما تقدم في القسم الثاني - بل لاحتمال كذبها من جهة احتمال الدس، وهو موجود في أغلب الأخبار التي بأيدينا، فظاهر هذه النصوص توقف العمل بها على اعتضادها بالقرائن القطعية من الكتاب والسنة المعلومة وعدم كفاية رواية الثقات لها.

ولا مجال لدعوى تخصيصها بأخبار غير الثقات، جمعاً بينها وبين ما دل على حجية خبر الثقة.

لأن أخبار الثقات متيقنة من مواردها، إذ عدم حجية خبر غير الثقة لا يحتاج إلى هذا النحو من التأكيد والبيان، بل البيان المذكور ظاهر في الردع عن الأخبار التي هي مورد الابتلاء ومن شأنها أن يعمل بها التي منها أخبار الثقات، بل خبر محمد بن مسلم صريح في العموم لخبر الثقة، وقريب منه خبر ابن أبي يعفور، فإن إهمال الإمام (ع) الترجيح بالثقة مع تعرض السائل لها كالصريح في عدم كفاية الثقة في الحجية، وكذا رواية الكشي، لظهورها في عدم جواز الاعتماد على ما في كتب أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، ولا مجال

ص: 227


1- رجال الكشي ص 195.

لحملهم بأجمعهم على غير الثقات.

بل هذه الأخبار تصلح لتخصيص عموم حجية خبر الثقة أو العدل لو تم، لاختصاصها بخصوص الأخبار المروية عن أهل البيت (عليهم السلام)، كما تصلح للردع عن سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة فيها.

بل بملاحظة التعليل في خبري الكشي المتقدم والآتي تكون الأخبار المذكورة حاكمةً أو واردةً على العمومات المذكورة والسيرة، لأنها تكشف عن ابتلاء الأخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) بما يمنع من الاعتماد عليها عند العقلاء، ويرفع الثقة بصدورها، وهو دس الأكاذيب فيها.

لزوم قبول الأخبار المذكورة لواجديتها للشرائط

ومما ذكرنا يظهر لزوم قبول هذه الأخبار وإن كانت من أخبار الآحاد - إذا كانت واجدةً لشرائط الحجية المستفادة من عمومات الحجية أو من سيرة العقلاء - فضلاً عما لو كانت متواترة، لوجود مقتضي الحجية فيها، وعدم المانع منها، لقصورها عن إثبات عدم حجية أنفسها، بل هي مختصة ببيان عدم الحجية في غيرها من الأخبار، لا من جهة امتناع شمول القضية لنفسها، فإنه لا أصل له، بل من جهة امتناع وجود المانع عن الحجية في جميع الأخبار حتى هذه الأخبار نفسها، إذ بعد انحصار بيان وجود المانع عن الحجية بها لابد إما من وجود المانع المذكور فيها دون بقية الأخبار، أو في بقية الأخبار دونها، وحيث يتعذر حملها على بيان الأول، لاستلزامه استعمال الكلام في نفسه، بل في ما هو متأخر عنه ومن شؤونه، واستلزامه لغوية صدورها، تعين الثاني، فتبقى هذه الأخبار داخلة في عموم الحجية وباقية على مقتضى السيرة، وتكون حجةً على تخصيص عموم الحجية والخروج عن مقتضى السيرة في بقية الأخبار، ومسقطة لها عن الحجية.

ص: 228

نظير ما لو ورد ظهور كلامي رادع عن حجية الظهور.

نعم، من يرى قصور الخبر عن الحجية ذاتاً لا من جهة المانع ليس له الاحتجاج بهذه الأخبار إلا مع تواترها. وهو غير مهم.

وكيف كان، فالأخبار المذكورة وافيةً ببيان عدم حجية أخبار الثقات إما لتواترها أو لما ذكرنا.

مناقشة الاستدلال المذكور

اللهم إلا أن يقال: ما رواه الكشي (قدس سره) وإن اشتمل على عدم جواز تصديق الروايات التي لا شاهد عليها من الكتاب، إلا أن الظاهر سوقه مساق التبري منها وبيان عدم صدورها منهم (عليهم السلام)، وأنها لا تشبه أقوالهم ومن قول الشيطان، وهو يناسب حملها على روايات الغلو ونحوها، كما يشهد به ما رواه الكشي عن هشام بن الحكم أيضاً، أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، وأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه

فيأمرهم أن يثبتوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم (1) .

وما ذكرناه في صحيح محمد بن عيسى جارٍ في خبر سدير أيضاً، لظهوره في أن عدم التصديق ليس لمحض عدم الحجية، بل لكذب الرواية التي لا شاهد عليها من الكتاب وبراءتهم (عليهم السلام) منها.

ولعل ما ذكرنا في الصحيح المذكور من وروده لأجل الحذر من روايات الغلو ونحوها مما لا يتناسب مع مقامهم (عليهم السلام)، يكون قرينةً على بقية

ص: 229


1- رجال الكشي ص 196.

روايات المقام، فالمنظور فيها ذلك، دون روايات الأحكام التي بأيدينا والتي لا تتضمن أحكاماً بعيدة عن تعاليمهم (عليهم السلام)، ولا منافية للقرآن. والمخالفة بالعموم والخصوص ونحوه لا تعد مخالفةً عرفاً، بل هي من سنخ التفسير والشرح الذي هو من شأنهم (عليهم السلام).

ولاسيما مع ما قد يقال من ضعف سند الروايات وعدم وضوح تواترها إلا في خصوص صورة المخالفة. فتأمل.

على أنه لا مجال للتعويل عليها في ذلك بعد التأمل في سيرة الأصحاب قديماً وحديثاً وتسالمهم على الرجوع للروايات والعمل عليها، فإن الروايات المذكورة نصب أعينهم مشهورة عندهم معروفة لديهم، فعدم امتناعهم لأجلها من العمل بالأخبار المروية عندهم شاهد باطلاعهم على ما يمنع من العمل بها فيها، إما لانصرافها إلى ما ذكرنا ونحوه، أو لتهذيب الأخبار عن الأخبار المكذوبة بعد عرضها على الأئمة (عليهم السلام)، أو بقرائنٍ أُخر، بنحو يعلم بارتفاع ما يقتضي التوقف عنها ويلزم بطلب الشاهد عليها ونحو ذلك.

والمظنون اختصاص الأخبار المذكورة بأوقات خاصة كثر فيها الكذب والتخليط والدس المانع من الاعتماد على كتب الثقات، وقد زال ذلك بعرض الكتب على الأئمة (عليهم السلام)، وبتنبه الأصحاب لذلك بنحوٍ أوجب شدة احتياطهم في تحمل الروايات وفي روايتها وعدم اكتفائهم بإثباتها في الكتب وغير ذلك مما يشهد به سيرتهم على قبول أخبار الثقات، كما أشرنا إليه ويأتي الكلام فيه عند التعرض لأدلة المثبتين إن شاء الله تعالى.

هذا، مضافاً إلى النصوص الكثيرة التي يأتي التعرض لها هناك،

ص: 230

الظاهرة في المفروغية عن قبول أخبار الثقات عن أهل البيت (عليهم السلام)، إذ لا مجال معها للتعويل على الأخبار المذكورة هنا بوجهٍ، بل يكشف عن الخلل فيها ببعض الوجوه التي ذكرناها أو غيرها.

هذا ما تيسر لنا من الكلام في هذه الأخبار، ونسأله تعالى التسديد في ذلك، إنه ولي الأمور، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الثالث: الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى (قدس سره)

الثالث: الإجماع، فقد ادعى السيد المرتضى (قدس سره) إجماع أصحابنا على عدم العمل بأخبار الآحاد، بل جعله كالقياس في كون ترك العمل به ضرورياً من مذهبهم، يعرفه الموافق والمخالف منهم، لما هو المعلوم منهم من أنهم لا يعملون بما لا يوجب العلم.

والجواب عنه منع الإجماع المذكور، بل لعل الإجماع على خلاف ذلك، كما يأتي في أدلة المثبتين.

وما ذكره السيد المرتضى (قدس سره) لا يبعد حمله على أخبار المخالفين ونحوها من الأخبار الضعيفة، كما يشهد به ما ذكره الشيخ (قدس سره) في العدة، ويقتضيه التدبر في سيرة أصحابنا (رضوان الله عليهم) في العمل بأخبار الثقات.

وهو (قدس سره) وإن ادعى أن أخبارهم التي يعملون بها محتفة بالقرائن القطعية وإن كانت مودعةً في الكتب بطريق الآحاد، إلا أنه لا يبعد أيضاً أن يكون مراده ما يعم الوثوق بصدور الخبر، لما هو المعلوم من صعوبة الالتزام بحصول القطع بجميع الأخبار لجميع العاملين بها، كما ذكره الشيخ (قدس سره) أيضاً. ولعله يأتي في استدلال المثبتين بالإجماع ما ينفع في ذلك.

على أنه من الإجماع المنقول الذي تقدم عدم الاعتماد عليه ما لم

ص: 231

يوجب العلم بالواقع أو بالدليل المعتبر، وهو لا يوجب ذلك، بل ولا الظن بهما لو فرض عدم العلم بخلافه.

هذا، وأما الإشكال فيه: بأن العمل بالإجماع المنقول في المقام تعويل على خبر الواحد الذي هو محل الكلام، بل المفروض في كلامه المنع منه. فيظهر حاله بما تقدم في الطائفة الثالثة من الأخبار. فتأمل.

الرابع: العقل

الرابع: العقل، فقد تقدم عند الكلام في إمكان التعبد بغير العلم عن ابن قبة المنع من حجيته عقلاً، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال. كما تقدم تفصيل الكلام في المحذور المذكور ودفعه بما لا مزيد عليه.

المقام الثاني: في حجج المثبتين
اشارة

المقام الثاني: في حجج المثبتين

المعروف من مذهب الأصحاب العمل بخبر الواحد في الجملة، وصرح به غير واحدٍ منهم. وقد استدل على حجيته وجواز العمل به بالأدلة الأربعة أيضاً وهي..

الأول: الكتاب الكريم

الأول: الكتاب الكريم، وقد استدل منه بآيات..

الآية الأولى: آية النبأ والكلام فيها

الأولى: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (1).

الكلام في الآية في موضعين تحقق مقتضى الدلالة ووجود المانع على تقدير تمامية المقتضي

والكلام فيها يقع في موضعين..

الأول: تحقق مقتضى الدلالة على حجية الخبر في الجملة فيها.

الثاني: في وجود المانع من ذلك على تقدير تمامية المقتضي.

أما الأول: فحاصل الكلام في كيفية الاستدلال بها: أن وجوب التبين

ص: 232


1- سورة الحجرات: 6.

كناية عن عدم حجية الخبر، ومقتضى جعل موضوع عدم الحجية هو خبر الفاسق حجية خبر غير الفاسق.

إما لأن في خبر الفاسق جهتين، ذاتية: وهي كونه خبر واحد، وعرضية: وهي كونه خبر فاسق، فذكر الجهة الثانية وإهمال الأولى ظاهر في عدم صلوح الأولى لاقتضاء الحكم، وإلا لكانت الأولى بالذكر، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي، فلابد أن يكون المقتضي لعدم الحجية هو الجهة الثانية، ولاسيما مع مناسبتها للحكم عرفاً، فإنه ظاهر في دخلها فيه.

وإما لأجل استفادة إناطته بالفسق من الشرط الدال على التعليق، والظاهر في المفهوم على التحقيق.

عدم تمامية الاستدلال بكلا الوجهين

لكن الظاهر عدم تمامية الاستدلال بكلا وجهيه.

أما الأول: فلأنه راجع إلى الاستدلال بمفهوم الوصف والتحقيق عدم ثبوته على ما فصل في محله. ومجرد المناسبة بين الوصف والحكم عرفاً لا يوجب ظهوره فيه، بنحو يمكن الاحتجاج به، بل غاية ما تقتضيه الإشعار به. على أنها لا توجبه في المقام بناءً على ما يأتي من عدم سوق الآية لمحض بيان عدم الحجية، بل للاستنكار والتبكيت زائداً عليه، فلعل ذكر الفسق لأنه آكد في ذلك، لا لإناطة عدم الحجية به.

ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) عن بعضهم من الإشكال

ثم إن بعض مشايخنا حكى عن بعضهم الإشكال في الوجه المذكور..

تارةً: بأن كون خبر الفاسق خبر واحدٍ جهة عرضية أيضاً ككونه خبر فاسق، وذكر أحد العرضيين في موضوع الحكم لا ينفي عِلِّية الآخر له، فلا يتم الوجه المذكور.

ص: 233

وأخرى: بأنه يمتنع ثبوت الحكم بعدم الحجية للطبيعة المهملة، بل لابد من ثبوته للطبيعة المقيدة إما بالفسق وإمّا بالإطلاق، وحينئذٍ فذكر أحد القيدين في موضوع الحكم لا يدل على عدم دخل الآخر فيه.

وثالثةً: بعدم تمامية المفهوم في المقام، إذا لا إشكال في عدم حجية كثير من أخبار غير الفساق، كالأطفال وغيرهم. وهذا الأخير لو تم جرى في الوجه الثاني الآتي، كما لا يخفى.

دفع الوجوه المذكورة

ومن الظاهر اندفاع الوجوه المذكور، كما ذكره بعض مشايخنا أيضاً.

أما الأول: فلأنه ليس المراد بخبر الواحد الذي قيل إنه جهة ذاتية هو خبر الشخص الواحد، كما تقدم، بل الخبر الذي لا يفيد العلم، ومن الظاهر أن عدم إفادة الخبر العلم هو مقتضى الأصل الأولي فيه، ولا يراد بالجهة الذاتية هنا إلا ذلك، في قبال الجهة العرضية التي يراد بها ما يستند إلى ما هو خارج عن الذات، ككون الخبر خبر فاسق.

وإن شئت قلت: المراد باجتماع الجهة الذاتية والعرضية هو اجتماع جهتين إحداهما أعم من الأخرى مطلقاً، أو متساويين مع كون إحداهما ثابتة للشيء بلحاظ جهات زائدةٍ على وجوده، في قبال ما لو كان بين الجهتين عموم من وجهٍ. ومن الظاهر أن جهة كون الخبر خبراً واحداً التي هي بمعنى

عدم كونه موجباً للعلم أعم مطلقاً من كونه خبر فاسق، وهي ثابتة للخبر في نفسه مع قطع النظر عما هو زائد على وجوده، فهي جهة ذاتية بالإضافة إلى كون الخبر خبر فاسق. فلاحظ.

وأما الثاني: فلأن المدعى أن التقييد بالفسق ظاهر في دخله في الحكم وفي عدم ثبوته للطبيعة من حيث هي بنحوٍ يقتضي سريانه لتمام أفرادها الذي

ص: 234

يكفي فيه عدم تقييدها، لا في عدم ثبوته للطبيعة المقيدة بالإطلاق ليرد عليه أن التقييد بأحد أمرين لا يقتضي نفي دخل الآخر.

وإن شئت قلت: الإطلاق لو تم كونه قيداً فهو قيد غير عرفي، فلا يمنع من دعوى ظهور القيود العرفية في عدم إرادته.

وأما الثالث: فلأن الخروج عن مقتضى المفهوم في بعض الموارد لا ينافي ثبوته بنحوٍ يرجع إليه مع عدم الدليل على خلافه، كما هو الحال في أكثر الظهورات الكلامية، كالعموم والإطلاق وغيرها.

فالعمدة في إبطال الوجه المذكور ما عرفت.

سوق الشرطية لتحقيق الموضوع فلا مفهوم لها

وأما الوجه الثاني فلأن الظاهر كون الشرطية في المقام مسوقة لتحقيق الموضوع، فلا يكون لها مفهوم.

والعمدة في ذلك: أن وجوب التبين في الجزاء لما كان كنايةً عن عدم حجية الخبر فمن الظاهر أن المراد به عدم حجية خصوص خبر الفاسق الذي هو موضوع قضية الشرط، ومن الظاهر أن قضية الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع المذكور، لا لبيان أمرٍ خارجٍ عنه، إذ مجيء الفاسق بالنبأ عبارة عن وجوده، وبدونه لا خبر للفاسق حتى يصح الحكم بحجيته أو عدمها.

تقريب الخراساني (قدس سره) للشرطية

نعم، لو كان الموضوع مطلق النبأ، ومجيء الفاسق به الذي تضمنته جملة الشرط من الأمور الخارجة عنه الزائدة عليه لم تكن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع وكان لها مفهوم، كما لو كان الخطاب هكذا: النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا عنه. لكنه لا يناسب التركيب الكلامي في الآية الشريفة، وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) تقريبه.

تقريب العراقي (قدس سره) للمفهوم

وكذا ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الموضوع هو النبأ

ص: 235

والشرط هو كون الجائي به فاسقاً، وأن مرجع القضية إلى قولنا: النبأ إن كان الجائي به فاسقاً وجب التبين عنه.

بل الظاهر من القضية أن الموضوع في جملة الجزاء هو خصوص خبر الفاسق الذي سيقت جملة الشرط لتحقيقه، وبارتفاعه لا يبقى موضوع للحكم الذي سيقت جملة الجزاء له، فلا مفهوم للقضية.

اندفاع ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره)

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض مشايخنا من أن ما يؤخذ في الشرط إن كان مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً لا يثبت المفهوم بانتفائه، وإن لم يتوقف عليه الجزاء عقلاً بل شرعاً يثبت المفهوم بانتفائه.

ومن ثم لو قيل: إن ركب الأمير وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ بركابه، كان أصل الركوب مسوقاً لتحقيق الموضوع، فلا مفهوم بانتفائه، بخلاف خصوصية يوم الجمعة، فإنه يثبت المفهوم بانتفائها، ومن الظاهر أن وجوب التبين عن النبأ يتوقف عقلاً على ثبوت النبأ، دون خصوصية الفسق، فيتعين ثبوت المفهوم بانتفائه.

وجه الاندفاع: أن الذي لا يتوقف على خصوصية الفسق عقلاً هو التبين عن مطلق النبأ، أما التبين عن خصوص نبأ الفاسق الذي هو مفاد الجزاء - كما سبق - فهو كما يتوقف على ثبوت أصل النبأ يتوقف على خصوصية الفسق.

وأما التنظير بالمثال المتقدم فهو في غير محله، لأن القضية المذكورة ذات شرطين مستقلين يتقوم الموضوع بأحدهما دون الآخر، بخلاف الآية كريمة، لأن الشرط فيها أمر واحد يتقوم به الموضوع، وإن كان مقيداً.

فهو نظير قولنا: إن ركب الأمير يوم الجمعة فخذ بركابه، الذي لا

ص: 236

مفهوم له على الظاهر، لأن المقوم لأخذ الركاب في القضية هو الركوب في يوم الجمعة الذي تعرضت له جملة الشرط، لا مطلق الركوب وخصوصية الجمعة زائدة على ذلك.

نعم، قد يستفاد من الخارج أن المقصود الإناطة بيوم الجمعة بعد الفراغ عن أصل الركوب. لكنه خارج عن محل الكلام.

وبالجملة: التأمل في الآية الشريفة في المقام شاهد بعدم المفهوم لها، لكون جملة الشرط فيها مسوقة لتحقيق موضوع الحكم في الجزاء. وحملها على المفهوم تكلف لا شاهد له.

تقريب النائيني (قدس سره) في دلالة الآية على المفهوم

نعم، ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) - بعد الاعتراف بما ذكرنا - تقريباً آخر لدلالة الآية على المفهوم، قال مقرر درسه: هذا، ولكن الإنصاف أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول، فإن موردها... إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، فقد اجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد، وكون المخبر فاسقاً، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية، لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبِر فاسقاً، فيكون الشرط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسقاً، لا كون الخبر واحداً، إذ لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه، لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق. ولا يتوهم أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط، أو إلى دلالة الإيماء، فإن ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط....

ص: 237

مناقشة التقريب المذكور

وفيه: أنه لم يتضح الوجه في رجوع ما ذكره لمفهوم الشرط، كما لم يتضح دخل مورد النزول بما ذكره، لوضوح أن المفهوم تابع لتركيب القضية، وقد اعترف بأنه لا يقتضي المفهوم، ومورد النزول داخل في القضية سواءً كان لها مفهوم أم لم يكن.

وغاية ما يمكن به تقريب ما ذكره: ما أشار إليه من دعوى ورود الآية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها، إذ لو تم ذلك رجع إلى حمل الآية على التحديد والحصر، ولا إشكال في أن تحديد الخبر الذي يجب التبين عنه بخبر الفاسق يقتضي حجية غيره وعدم وجوب التبين عنه، من دون فرقٍ بين الجملة الشرطية وغيرها.

لكن الشأن في استفادة ذلك من الآية بنفسها أو من مورد نزولها، إذ المتيقن منها بيان وجوب التبين عن خبر الفاسق الذي هو مورد النزول، أما ورودها لتمييز ما يجب التبين عنه عن غيره فلا دلالة لها عليه، لا بنفسها، ولا بضميمة موردها. فما ذكره لا يرجع إلى محصلٍ ظاهر.

ثم إنه ربما يستدل بالآية الشريفة..

ما يمكن أن يستدل بالأية الشريفة ومناقشته

تارةً: من جهة التبين المأمور به، إذ ليس المراد به التبين العلمي، بل العرفي، وهو حاصل بنفس خبر العادل، فيكون حجةً بنفسه.

وأخرى: من جهة التعليل في الآية الشريفة بخوف الندم، وخبر العادل لا يخاف من الندم في العمل به، لأن الندم إنما يحسن إطلاقه على ارتكاب ما لا يحسن فعله، وليس منه العمل بخبر العادل الذي يؤمن عليه الكذب، وإن فرض خطؤه واقعاً.

وثالثةً: من جهة ظهور الآية الشريفة - بقرينة المورد - في الردع عن سيرة

ص: 238

العقلاء على العمل بالخبر، فتخصيص الردع بخبر الفاسق ظاهر في عدم الردع عن السيرة في غيره. ولعله إليه يرجع ما تقدم من بعض الأعاظم (قدس سره).

ويشكل الأول: بأن ظاهر التبين هو العلمي لا العرفي، اللهم إلا أن يحمل عليه بقرينة التعليل بالندم الذي يكفي في رفعه التبين العرفي.

والثاني: - مع ابتنائه على ورود الذيل للتعليل الذي هو محل الكلام الآتي - بأن التعليل إنما يقتضي ارتفاع الحكم بارتفاعه في موضوع الحكم المعلل، لا مطلقاً، فإذا قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، اقتضى جواز أكل ما لا يكون حامضاً من الرمان، لا كل ما ليس بحامضٍ، كما تقدم نظيره في أواخر مبحث حجية الشهرة. وحينئذٍ فهو إنما يدل على جواز العمل بخبر الفاسق الذي لا يورث الندم، لا جواز العمل بكل ما لا يوجب الندم ومنه خبر العادل. اللهم إلا أن يتمسك فيه بالأولوية.

والثالث: بأنه لم يتضح من مورد الآية قيام سيرةٍ من العقلاء على العمل بالخبر وورود الآية للردع عنها، بل هو لا يناسب التعليل بالندم، المختص بما لا يحسن فعله عند العقلاء، بل الآية واردة للتبكيت والإنكار على فعل ما لا يقره العقلاء، ولا نظر فيها إلى مورد السيرة بوجه.

هذا، مع أن هذه الوجوه - لو تمت - لا تصلح لتقريب دلالة الآية على حجية خبر العادل، إذ لا تعرض في الآية لتعيين ما يحصل به التبين، ولا تعيين ما يرتفع به الندم، ولا تعيين مورد عمل العقلاء بالخبر.

وغاية ما تقتضيه هو بناء العقلاء على حصول التبين بخبر العادل، وحسن العمل به، وقيام السيرة عليه فالاستدلال يكون ببناء العقلاء لا بالآية، وهو خارج عن محل الكلام، وموكول إلى الاستدلال بالسيرة. فلاحظ.

ص: 239

ما أورد على الاستدلال بالآية بعد فرض دلالتها على المفهوم

وأما الموضع الثاني: فحاصل الكلام فيه: أنه قد أُورد على الاستدلال بالآية الشريفة بعد فرض كونها ذات مفهوم بإيرادات تعرض لها شيخنا الأعظم (قدس سره)، بعضها يختص بها، وبعضها يعم جميع عمومات حجية الخبر.

أما القسم الأول فهو عدة وجوه..

الأول: مانعية عموم التعليل في الذيل من العمل بالمفهوم

الوجه الأول: - وهو أهمها - ما ذكره في العدة والغنية، وحكي عن الذريعة والمعارج وغيرها، وأشار إليه في مجمع البيان ومحكي التبيان، وأصر عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) مدعياً أنه لا دافع له. وحاصله: أنه لابد من رفع اليد عن المفهوم بعموم التعليل في ذيلها، حيث إن مقتضاه النهي عن الإقدام مع الجهل لاحتمال الوقوع في أمرٍ محذور، ولا مانع من رفع اليد عن المفهوم بقرينةٍ مانعةٍ منه.

وقد يدفع ذلك بوجوه..

دفع المظفر (قدس سره)

الأول: ما ذكره بعض المعاصرين (رحمة الله) في أصوله في تقريب معنى الآية من منع سوق الذيل للتعليل، لما فيه من لزوم تقدير مفعول لقوله: فَتَبَيَّنُوا، ولزوم تقدير ما يدل على التعليل في الذيل، بأن يكون تقدير الآية هكذا: إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا صدقة لئلا تصيبوا قوماً... أو نحو ذلك، وهو خلاف الأصل، فالأولى جعل الذيل بنفسه مفعولاً لقوله: فَتَبَيَّنُوا قال: فيكون معناه: فتثبتوا واحذروا إصابة قومٍ بجهالةٍ. وحينئذٍ لا يكون للذيل عموم ينهض برفع اليد عن المفهوم.

مناقشته

وفيه: أنه لا مجال لكون الذيل مفعولاً للتبين بعد تقييد الذيل بالجهالة التي هي من الأمور الوجدانية غير القابلة للجهل، والتبين إنما يكون عن الأمور الواقعية القابلة للجهل، فلا يتم ما ذكره إلا بتقدير تعلق الذيل بفعل

ص: 240

يناسبه كالحذر، إما بتقدير فعل الحذر - كما ذكره في كلامه - أو بتصيده من التبين بجعل التبين متضمناً معناه، وكلاهما خلاف الأصل كالتقدير مع الحمل على التعليل.

بل لعل الثاني أولى، لاشتهار حذف عامل أن خصوصاً في مقام التعليل، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (1)، وقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (2)، وقوله تعالى: وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (3)، وغيرها.

ولاسيما مع كون التعليل أبلغ في بيان المطلوب وأدعى للارتداع.

ولا أقل من الإجمال الموجب لعدم ظهور الآية الشريفة في المفهوم لو فرض مانعية التعليل منه.

الثاني: كون المفهوم أخص مطلقاً من عموم التعليل

الثاني: ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن المفهوم أخص مطلقاً من عموم التعليل، لاختصاصه بخبر العادل غير العلمي، لخروج الخبر العلمي عن المفهوم والمنطوق معاً، لقصور أدلة نفي الحجية وإثباتها عنه.

بل لو فرض عموم المفهوم للخبر كان أعم من وجهٍ من التعليل، فيقدم

ص: 241


1- سورة الأعراف: 172.
2- سورة الزمر: 55، 56.
3- سورة الأعراف: 20.

المفهوم في مورد الاجتماع، وهو خبر العادل غير العلمي، إذ لو قدم التعليل واختص المفهوم بالخبر العلمي كان لغواً، لأن ارتفاع حكم المنطوق معه عقلي لا شرعي، فهو نظير السالبة بانتفاء الموضوع لا تصلح لبيان قضيةٍ شرعيةٍ، كما هو شأن المفهوم.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره): بأن التعارض إنما هو بين ظهور التعليل في العموم وظهور الشرطية في المفهوم، وحيث كان الأول أقوى كان مانعاً من الثاني مع اتصال الكلام، فلا مفهوم حتى يصلح لمعارضة عموم التعليل وينهض بتخصيصه.

وما ذكره (قدس سره) موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث: حكومة المفهوم على التعليل

الثالث: ما ذكره غير واحدٍ من حكومة المفهوم على التعليل، لأنه يقتضي كون خبر العادل علماً تعبداً أو تنزيلاً، فيخرج عن موضوع التعليل، فلا معارضة بين التعليل والمفهوم حتى يرفع اليد بالأول عن الثاني.

وهو مبني على كون مفاد جعل الطرق جعلها علماً تعبداً أو تنزيلاً، وقد تقدم إنكار ذلك في الفصل الثالث من الكلام في القطع.

هذا، مع أن التنزيل المذكور - لو تم - موقوف على انعقاد الظهور في المفهوم المقتضي للحجية، وعموم التعليل مانع من انعقاده، لأنه يقتضي وجوب التبين وعدم حجية خبر العادل.

وبعبارةٍ أخرى: خروج خبر العادل عن عموم التعليل إثباتاً في رتبةٍ متأخرةٍ عن انعقاد الظهور في المفهوم، وعموم التعليل مانع عن انعقاده. وأما مجرد صلوح القضية في نفسها للدلالة على المفهوم فهو لا ينفع ما لم ينعقد

ص: 242

ظهورها فيه، لعدم القرينة المانعة، وعموم التعليل قرينة مانعة.

فما ذكر إنما يتم لو كان دليل المفهوم منفصلاً عن التعليل، لا في مثل الآية الشريفة، كما أشار إليه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته).

ولعل ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في المقام ناظر إلى ذلك. فراجع.

دفع السيدالحكيم (قدس سره) للحكومة المذكورة

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في وجه منع الحكومة المذكورة من أنه لما كان الأصل في التعليل أن يكون ارتكازياً تعين حمله على الجهل الحقيقي، لأنه المطابق للارتكاز، فلا يصلح المفهوم لإخراج مورده عنه.

فهو كما ترى! لمنع عموم وجوب التبين ارتكازاً لجميع موارد الجهل الحقيقي كما سيأتي، بل لا إشكال في اختصاصه بغير موارد قيام الحجج - المفروض كونها علماً تنزيلاً - قطعاً، لمنافاة وجوب التبين للحجية عرفاً.

وأما خصوصية مورد الآية من حيث أهمية القتل والاعتداء على الناس بغير حقٍ فهي لا تمنع ارتكازاً من جعل الحجج والاكتفاء بها عن الواقع في مقام العمل.

ولذا لا إشكال ظاهراً في أن عموم التعليل في المقام كسائر عمومات عدم حجية غير العلم ونسبته إلى أدلة جعل الحجج كنسبتها إليها في لزوم تقديم أدلة الحجج بالحكومة أو نحوها، وعدم توهم أن النسبة بينه وبينها لما كانت هي العموم من وجه لزم التوقف في مورد الاجتماع، بل تقديم عمومه، لإبائه عن التخصيص بعد كونه ارتكازياً. فتأمل.

الوجه في منع الحكومة المذكورة

وكيف كان، يكفي في منع الحكومة ما ذكرنا. ولذا لم يتضح لنا بعد الرجوع لكلماتهم والتأمل ما يدفع به إشكال منع عموم التعليل من

ص: 243

ظهور القضية لو فرض صلوحها له ذاتاً، وقد عرفت من شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه لا دافع للإشكال المذكور.

نعم، الإشكال المذكور موقوف على عموم التعليل لمورد المفهوم، وهو لا يخلو عن إشكالٍ، بل منع، فإن حمله على مطلق العمل مع عدم العلم بالواقع لا يناسب مقام التعليل الذي ينبغي فيه أن يكون ارتكازياً صالحاً لبيان وجه الحكم وتقريبه إلى ذهن السامع ليذعن به ويقتنع بمضمونه، كما لا يناسب خصوصية الفسق التي هي من الخصوصيات الارتكازية في التوقف عن الخبر.

بل المناسب للأمرين الحمل على خصوص الجهل الذي لا يرى العقلاء الإقدام معه، لعدم وجود ما يصلح لأن يعتمد عليه ويطمئن إليه، كما لو لم يكن هناك إلا خبر الفاسق، فتقديم عموم التعليل على المفهوم، إنما هو بالإضافة إلى ما يشبه خبر الفاسق في ذلك، كخبر العدل غير الضابط، دون خبر العدل الضابط الذي يصح الركون إليه والاعتماد عليه عند العقلاء، بل التعليل يقصر عنه.

كما يقصر عن خبر الفاسق الثقة المأمون عليه الكذب وإن كان داخلاً في المنطوق، ولعل وجه ذكر الفاسق غلبة كونه من القسم الأول، مع التنبيه والتأكيد على فسق المخبر في مورد النزول.

ونظير ما ذكرنا ما لو قيل: لا تستعمل الدواء الذي تصفه لك النساء لأنك لا تأمن ضرره، فإنه لا يتوهم عموم التعليل فيه لما يصنعه الطبيب الحاذق غير المعصوم من الخطأ، وإنما يعم ما يصفه غير الأطباء من الرجال، كما يقصر عما تصفه النساء الطبيبات الحاذقات، وليس وجه ذكر النساء إلا

ص: 244

غلبة تصدي غير الطبيبات منهن لوصف الدواء، أو الابتلاء بهن في مورد الخطاب.

ويشهد بما ذكرنا - مضافاً إلى ذلك - التعقيب بالندم، الظاهر في المفروغية عن ترتب الندم على خبر الفاسق، لا الحكم به تأسيساً، ومن الظاهر أن الندم لا يكون بنظر العقلاء بمجرد فوت الواقع، بل مع التقصير فيه المستلزم لتقريع النفس وتأنيبها، ولا تقصير في العمل بخبر العادل المذكور.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من لزوم عموم التعليل

ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في تقريب الإشكال: من أن مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبرٍ لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبر عادلاً.

المناقشة فيه

إذ فيه: أن العادل الذي لا يؤمن من الوقوع في الندم من العمل بخبره هو خصوص غير الضابط، وهو خارج عن محل الكلام، وأما غيره فالندم مأمون معه وإن لم يؤمن معه فوت الواقع.

ثم إنه لأجل ما ذكرنا من قصور التعليل عن مورد المفهوم كان عموم التعليل آبياً عن التخصيص عرفاً، ولو حمل على مطلق عدم العلم بالواقع لم يكن آبياً عنه، لتعارف الطرق غير العلمية عند العقلاء.

الكلام في حمل الجهالة على ما يناسب الطيش والحمق والسفه

هذا كله بناءً على حمل الجهالة على ما يقابل العلم، وأما بناءً على حملها على ما يناسب الطيش والحمق والسفه، ويقابل التعقل والحكمة والاتزان فالأمر أظهر.

ولعل المعنى الثاني هو الأشهر في الاستعمال في الكتاب والسنة وغيرهما، فقد استعمل الجهل ومشتقاته في ما يزيد على عشرين موضعاً من الكتاب الكريم كلها في المعنى المذكور أو قابلة للحمل عليه، واشتهر

ص: 245

استعماله في ذلك في السنة الشريفة، كما يظهر بملاحظة كتاب العقل والجهل من الكافي وغيره، وكذا الحال في استعمالات أهل اللغة.

ما ذكره المظفر (قدس سره) من معنى الجهل

بل ذكر بعض المعاصرين (رحمة الله) في أصوله أن تتبع الاستعمالات في أصول اللغة يشهد بأن تحديد الجهل بخصوص ما يقابل العلم اصطلاح جديد للمسلمين في عهد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية، حيث استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ وكسبها إطاراً يناسب الأفكار الفلسفية، وإلا فالجهل في أصل اللغة يراد به المعنى الأول الذي قد يلتقي مع المعنى الجديد.

وما ذكره وإن لم يتضح بسبب شيوع استعمال الجهل في ما يقابل العلم قبل العهد المذكور، إلا أنه لا يبعد كون معناه الأصلي هو المقابل للتعقل، والمعنى الآخر متفرعاً عنه. ولا أقل من كون المعنى المذكور هو الأشيع استعمالاً.

ويناسبه أن الجهل عرفاً من أوصاف الذم المستتبعة للوم، بخلاف محض عدم العلم، فإنه وإن كان نقصاً، إلا أنه من سنخ العذر الرافع للوم.

وكيف كان، فالمعنى المذكور هو الأقرب في الآية الشريفة، ولاسيما بملاحظة كونها إشارةً إلى أمر ارتكازي عرفي، كما لعله ظاهر. وحينئذٍ فقصور التعليل فيها عن مورد المفهوم ظاهر جداً.

دعوى حمل التعليل على ما لا يقدم عليه العقلاء لا يناسب مورد الآية

نعم، قد يقال: إن حمل التعليل على خصوص ما لا يقدم العقلاء على العمل به - إما لحمل الجهالة على ما يقابل الحكمة، أو لحملها على ما يقابل العلم بعد تخصيصها بذلك - لا يناسب مورد الآية، حيث وردت للردع عن محاولة النبي (ص) أو الصحابة العمل بخبر الفاسق. إذ لا مجال لتوهم

ص: 246

إقدامهم على ما لا ينبغي الإقدام عليه عند العقلاء بنحوٍ منافٍ للحكمة ومناسب للسفه والحمق، بل لابد من الالتزام بورود الآية الشريفة لردعهم في مورد سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

دفع الدعوى المذكورة

لكنه مندفع بما أشرنا إليه من عدم ظهور الآية في الردع تعبداً أو تأسيساً من قبل الشارع، بل في التنبيه إلى طريقة العقلاء وارتكازياتهم في لزوم التثبت في خبر الفاسق، الكاشف عن كون مورد الردع مما لا يقدم عليه العقلاء.

ولم يظهر منها الردع للنبي (ص) أو لأهل التعقل من المؤمنين، بل سياقها كالصريح في مجانبة النبي (ص) ومن أطاعه من المؤمنين للعمل بخبر الفاسق في مورد النزول، وأن الردع مختص بغيرهم من جهال الناس الذين ينعقون مع كل ناعق، ويؤخذون بالتهريج والإرجاف الذي يقوم به المنافقون ونحوهم ممن لا يتقيد بتعاليم النبي (ص)، ولا يتبع سبيل المؤمنين، وقد ابتلي بهم النبي (ص) في حياته والمؤمنون بعد وفاته.

فانظر قوله تعالى بعد الآية المذكورة: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (1) فإنه كالصريح في انقسام المسلمين على أنفسهم طائفةً مع النبي (ص) في التوقف عن خبر الفاسق قد حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الفسوق والعصيان، وطائفةً أرادوا العمل به وحملوا النبي (ص) على ذلك وأصروا عليه، ولكنه (ص) أبى عليهم، فنزلت الآية تأييداً له وقمعاً للفتنة، كما نبَّه لذلك شيخنا الأستاذ

ص: 247


1- الحجرات: 7.

(دامت بركاته) وسبقه إليه بعض المفسرين كالزمخشري في الكشاف وغيره على ما حكي.

فالآية الشريفة وردت للعتب على هؤلاء الجهال الذين أرادوا الخروج عن الطريق العقلائي في الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه واستنكار موقفهم وتبكيتهم، فليست هي رادعة عن سيرة العقلاء في العمل بالخبر، بل داعية لمقتضى سيرتهم في التوقف عن خبر غير المأمون واستنكار الخروج عنها بمحاولة العمل به، كما أشرنا إليه آنفاً عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الخبر.

كما وردت أكثر آيات سورة الحجرات لتأديب المسلمين وتهذيبهم مما يشينهم من أخلاقٍ وأفعال، كرفع أصواتهم فوق صوت النبي (ص)، وعدم توقيره، وسخرية بعضهم من بعض، واغتيابهم لهم و غير ذلك مما لا يقره العقلاء، ولا يناسب الحكمة والتعقل.

وبالجملة: التأمل في لسان الآية الكريمة وسياقها وبقية آيات السورة شاهد بما ذكرنا وإن أغفله كثير من المفسرين.

وبه يتم ما ذكرنا من قصور التعليل عن شمول مورد المفهوم، فلا ينهض برفع اليد عنه لو تم في نفسه، ولا موقع للإشكال المذكور من أصله.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح أنه لا مجال للاستدلال بالآية على عدم حجية خبر الفاسق مطلقاً وإن كان ثقةً في نفسه مأموناً عليه الكذب، للزوم الخروج عن إطلاق الفاسق فيها بالتعليل بعد حمله على ما عرفت. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من ورود الآية للإرشاد وعدم جواز مقايسة خبر الناس بغيره

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من ورود الآية للإرشاد إلى عدم جواز

ص: 248

مقايسة خبر الفاسق بغيره وإن حصل منه الاطمئنان. لأن الاطمئنان الحاصل منه يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزاً عن الكذب.

ناقشته

فهو غير ظاهر، إذ لو أريد به زوال الاطمئنان من خبره حقيقةً بسبب الالتفات إلى فسقه، فهو غير مطرد لأن ملكة التحرز عن الكذب لا تختص بالعادل قطعاً، بل هو خلاف المفروض من تحرزه عن الكذب.

وإن أُريد به أن الاطمئنان من خبره وإن لم يذهب بالالتفات إلى فسقه إلا أن الشارع قد ردع عن خبره مطلقاً، لعدم اكتفائه بالاطمئنان الحاصل منه، فلا مجال له بعد ما تقدم من ظهور التعليل في كونه ارتكازياً لا تعبدياً، وظهور الآية في الحث على مقتضى طريقة العقلاء لا الردع عنها، فلا مجال للخروج بالآية عما دل على حجية خبر الثقة لو تم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

الوجه الثاني مما أورد على الاستدلال بالآية

الوجه الثاني: مما أورد على الاستدلال بالآية: أن المفهوم غير معمولٍ به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية، إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء فيها بخبر الواحد، بل لابد فيه من التعدد، فلابد من طرح المفهوم، لعدم جواز إخراج المورد.

وقد أجاب عنه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره: بأن المورد داخل في المنطوق، وهو عدم حجية خبر الفاسق، لا في المفهوم، وهو حجية خبر العادل، وغاية ما يلزم هو تقييد المفهوم في الموضوعات الخارجية بالتعدد، ولا يلزم منه خروج المورد. وإليه يرجع ما قيل من أن ارتكاب التقييد في المفهوم مقدم على إلغائه بالكلية.

ص: 249

والذي ينبغي أن يقال: إرجاع الشرطية إلى المنطوق والمفهوم ليس لانحلالها إليهما حقيقةً، بنحوٍ تكون هناك قضيتان يمكن طروء التقييد عليهما أو على إحداهما، بل لدلالتها على معنى يستلزمهما، وهو إناطة الجزاء بالشرط المستلزمة لوجوده عند وجوده وانتفائه عند انتفائه.

وحينئذٍ فإذا فُرض كون الشرطية ذات مفهوم كان مفادها إناطة عدم حجية الخبر بالفسق المستلزمة لثبوت الحجية مع العدالة مطلقاً، وحيث لا مجال لذلك في الموضوعات لاعتبار التعدد فيها بلا إشكالٍ فلابد إما من تخصيص موضوع الشرطية وهو النبأ بغير الموضوعات، أو إلغاء ظهور الشرطية في الإناطة، وحملها على محض بيان ترتب الجزاء على الشرط، وحيث يمتنع الأول، لاستلزامه خروج المورد عن الشرطية، تعين الثاني المستلزم لعدم كون القضية ذات مفهوم وتوجه الإشكال.

وأما احتمال إبقاء الشرطية على عمومها والمحافظة على ظهورها في الإناطة المستلزمة للمفهوم مع تقييدها في خصوص الموضوعات بالتعدد.

فلا مجال له، إذ التقييد المذكور لا يناسب الإناطة التامة، ولا مجال للتفكيك في الإناطة لبساطتها، كما أوضحناه في مسألة تعدد الشرط مع وحدة الجزاء من مبحث مفهوم الشرط. فراجع.

ولعله لذا ذكر في الفصول أن ذلك تكلف مستبشع. نعم، لو فرض قوة ظهور الشرطية في الإناطة، بحيث لا يمكن رفع اليد عنه بوجهٍ فقد سبق هناك إمكان التصرف في الشرطية بنحو يناسب التقييد، وذكرنا هناك بعض الوجوه لذلك، ويمكن هنا البناء على أن المعلق على الفسق ليس هو محض وجوب التبين الراجع لعدم الحجية مع الفسق، ليكون مقتضى المفهوم إطلاق

ص: 250

الحجية مع عدمه غير المناسب للمورد، بل عموم وجوب التبين الراجع لعموم عدم الحجية مع الفسق، ويكون مقتضى المفهوم بثبوت الحجية في الجملة مع عدمه، فيناسب المورد، لإمكان حجية خبر العادل فيه في الجملة ولو مع التعدد. فتأمل جيداً.

هذا، وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من أن الارتداد ليس مورداً للآية فحسب، بل هي مختصة به وبما يشبهه مما يوجب القتل، بقرينة التعليل المتضمن لإصابة قوم، التي يراد بها قتلهم، الذي هو من أحكام الارتداد ونحوه.

الوجه الثالث: مما أورد على الاستدلال بالآية

فربما يندفع: بأن خصوص التعليل لخصوصية المورد لا ينافي عموم الحكم المعلل، عملاً بإطلاق النبأ، كما أشار إلى ذلك في الفصول.

الوجه الثالث: ما عن بعضٍ من أن التبين في الآية الشريفة إن أُريد به خصوص العلم الوجداني كان الأمر به إرشادياً، لأن وجوب العمل به عقلي، والمفهوم لا يستفاد من الأمر الإرشادي.

وإن أُريد به مجرد الوثوق وقع التدافع بين المنطوق والمفهوم، لأن مقتضى المفهوم حجية خبر العادل مطلقاً وإن لم يحصل الوثوق به لإعراض الأصحاب ونحوه، ومقتضى المنطوق حجية خبر الفاسق الذي يحصل الوثوق به ولو من عمل الأصحاب به، ولا قائل بذلك بين الأصحاب.

إذ هم بين من يعتبر العدالة أو الثقة في المخبر، ولا يعبأ بحصول الوثوق بالخبر نفسه، ومن يعتبر حصول الوثوق بالخبر نفسه، ولا يكتفي بعدالة المخبر أو ثقته، فلا يعمل بالخبر المهجور وإن كان صحيحاً، فالجمع بين الأمرين إحداث قول ثالث.

ص: 251

مناقشته

وفيه.. أولاً: ما أشار إليه بعض مشايخنا من أنه لا مانع من حمل التبين على العلمي إذ الشرطية في الآية لا تتضمن وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي، بل وجوب تحصيله وعدم العمل بالخبر بدونه، وليس هو مما يحكم به العقل، بل هو حكم شرعي راجع إلى عدم حجية الخبر بدونه، فلا مانع من استفادة المفهوم منه.

على أنه لا مانع من استفادة المفهوم لو تضمنت الشرطية وجوب العمل بالعلم الذي هو أمر عقلي، إذ ليس مفادها مجرد ذلك، بل إناطة وجوب العمل بالعلم وتخصيصه به، وهو مستلزم لعدم حجية غيره الذي هو أمر شرعي. ولذا لو قيل: الخبر إن أفاد العلم فاعمل به، كان مفهومه عدم حجية الخبر غير العلمي شرعاً.

وثانياً: أنه لا مانع من القول الثالث المذكور لو اقتضته الأدلة بعد عدم رجوع كلام الأصحاب إلى القول بعدم الفصل، بل إلى مجرد عدم القول به.

على أنه لا يبعد بناء الأصحاب عليه، ولعل عدم عملهم بالخبر الصحيح المهجور ليس لعدم حجية سنده، بل لكشف الهجر عن خللٍ في دلالته أو جهته، كما أشرنا إليه عند الكلام في حجية الظواهر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه لا مانع من تقييد المفهوم بما إذا لم يكن الخبر مهجوراً عند الأصحاب، فيظهر الكلام فيه مما سبق في الوجه الثاني من تعذر تسليط القيد على المفهوم وحده.

الوجه الرابع: مما أورد على الاستدلال بالآية

الوجه الرابع: أنه لا مجال للعمل بالمفهوم في الأحكام، لوجوب الفحص عن المعارض في خبر العادل بلا إشكال، الذي هو نحو من التبين، فينافي المفهوم.

ص: 252

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من مناقشة الوجه المذكور

ويندفع بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن وجوب الفحص عن المعارض ليس من سنخ التبين الذي تعرضت له الآية، إذا التبين فيها كنايةً عن عدم حجية الخبر ذاتاً، والفحص عن المعارض مبني على حجيته ذاتاً لولا المعارض ولذا لو فحص عن المعارض ولم يعثر عليه عمل بالحجة، أما لو تبين عن غير الحجة - كخبر الفاسق - ولم يعثر على شيء فلا يعمل به.

الوجه الخامس مما أورد على الاستدلال بالآية

الوجه الخامس: أن المراد من الفاسق لا يخلو عن إجمال، لأن إطلاقه في مقابل العادل بالمعنى المعتبر عندهم في حجية الخبر وتحديده بالمعنى المذكور اصطلاح متأخر، والشايع في الاستعمالات خصوصاً في الكتاب الشريف إطلاقه في مقابل المؤمن، فيعم الكافر والمنافق، وهو المناسب لمورد الآية، بل في بعض الروايات النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي، وأنه فاسق العمل، وحينئذٍ فلا مجال لحمل القضية على المفهوم إلا بتقييده بالعادل الذي لا مجال له، إما لما سبق في الوجه الثاني من امتناع تقييد المفهوم، أو لأن التقييد المذكور لما كان مستلزماً لإخراج كثير من الأفراد أو أكثرها كان إلغاء المفهوم أهون منه وأقرب عرفاً.

هذا تمام الكلام في وجوه الإيراد على الاستدلال بالمفهوم. وهناك بعض الوجوه الأُخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، قد تعرض لها ولدفعها صاحب الفصول وشيخنا الأعظم I. فراجع.

وقد عرفت أن العمدة فيها هو الوجه الثاني والخامس، مضافاً إلى الإشكال في أصل صلوح القضية بحسب تركيبها الكلامي لإفادة المفهوم. فلاحظ وتأمل جيداً.

هذا كله في القسم الأول مما أورد على الاستدلال بالآية الشريفة.

ص: 253

القسم الثاني: مما أورد على جميع عمومات الخبر

وأما القسم الثاني - وهو ما لا يختص بها، بل يجري في جميع عمومات الخبر - فلا ينبغي التعرض له هنا، بل في ذيل الكلام في أدلة المثبتين، إلا أنه متابعة شيخنا الأعظم (قدس سره) تقتضي التعرض له هنا. وهو عدة وجوه..

الأول معارضة الحجية لعموم عدم حجية غبر العلم

الأول: أن عموم دليل حجية الخبر معارض بعمومات عدم حجية غير العلم، والمرجع بعد التساقط أصالة عدم الحجية.

وقد أجاب عن ذلك غير واحدٍ: بأن دليل حجية الخبر أخص مطلقاً من عمومات عدم حجية غير العلم، لاختصاصه بالخبر الذي لا يفيد العلم، للغوية جعل الحجية للخبر العلمي بعد حجية العلم ذاتاً، فيلزم تخصيصها به.

إن قلت: قصور دليل الحجية عن شمول الخبر العلمي لا يوجب كونه أخص مطلقاً من العمومات المذكورة، لاختصاصها بصورة التمكن من العلم، بناءً على اقتضاء مقدمات الانسداد حجية الظن بنحو الكشف الراجع إلى حجيته شرعاً، فتكون النسبة هي العموم من وجه.

قلت: لازم ذلك هو البناء على حجية الخبر بالخصوص في حال الانسداد، لعدم المعارض له حينئذٍ، وهو كافٍ في المقام كما نبه له شيخنا الأعظم (قدس سره).

مع أن تخصيص عمومات عدم حجية غير العلم بدليل الانسداد مع عمومها الحال الانسداد ذاتاً لا يقتضي كونها أعم من وجهٍ من أدلة حجية الخبر، إلا بناءً على انقلاب النسبة الذي لا نقول به، لعدم المرجح لبعض المخصصات على بعضٍ حتى تلاحظ النسبة بينه وبين العام قبل ملاحظة نسبة غيره، بل حيث كانت نسبة المخصصات جميعاً للعام واحدة كان لابد من تخصيصه بها جميعاً.

ص: 254

ما ذكره الشيخ الحلي (قدس سره) من أن دليل الانسداد بمنزلة المخصص المتصل

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من أن دليل الانسداد لما كان عقلياً كان مقدماً على غيره، لأنه بمنزلة المخصص المتصل، المانع من انعقاد ظهور العام في العموم، وكان موجباً لاختصاصه من أول الأمر بصورة التمكن من العلم، فيكون أخص من وجهٍ من عموم دليل حجية الخبر.

مناقشته

ففيه: أن ذلك إنما يتم في الدليل العقلي الجلي الذي هو من سنخ القرينة المتصلة، دون مثل دليل الانسداد المبني على مقدماتٍ نظريةٍ محتاجةٍ إلى التأمل.

الوجه في الإشكال

ومما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لدعوى كون عمومات عدم حجية غير العلم أخص من وجه، بلحاظ تخصيصها بمثل البينة ونحوها مما يجري في الشبهات الموضوعية.

نعم، قد يقال: لا وجه لاختصاص أدلة الحجية بالخبر غير المفيد للعلم وعدم شمولها للخبر المفيد له، فإن ذلك إنما يتم فيما لو استفيدت الحجية مما دل على جعلها بعنوانها شرعاً، أو مما دل على وجوب العمل بالطريق تأسيساً من قبل الشارع الأقدس، أما لو استفيد منها وجوب العمل بالطريق من دون ظهورٍ له في التأسيس، بل بنحوٍ قابل للتنزيل على كونه جرياً على ما يحكم به العقل أو يبني عليه العقلاء، فلا وجه لقصور دليله عن صورة العلم، بل لا مانع من اختصاصه بها. غاية الأمر أن ذلك يرجع إلى عدم كون الدليل مسوقاً لبيان الحجية الشرعية ولا ضير فيه.

وإن شئت قلت: الدليل المذكور إن شمل صورة غير العلم كشف عن جعل الحجية شرعاً فيها، وإن اختص بصورة العلم - ولو بقرينة عمومات عدم حجية غير العلم - كشف عن عدم جعلها، بل كون الأمر بالعمل حينئذٍ

ص: 255

إرشاداً لحكم العقل به، والظاهر أن أدلة حجية الخبر ومنها آية النبأ من القسم الثاني ولذا ورد في بعض النصوص الاستدلال بآية النفر على وجوب النفر لمعرفة الإمام، مع أنه يعتبر في معرفته العلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لا مجال لذلك في آية النبأ، لأن المفهوم فيها لما كان تابعاً للمنطوق كان مختصاً بالخبر الذي لا يفيد العلم تبعاً له.

فيدفعه: أن ذلك موقوف على سوق الآية للمفهوم، وظهورها فيه وإن كان مفروضاً في محل الكلام، إلا أنها حيث كانت منافيةً لعموم ما دل على عدم حجية غير العلم، فكما يمكن الجمع بينها وبينه بتخصيصه بها، كذلك يمكن الجمع برفع اليد عن ظهورها في المفهوم بحمل ذكر الفاسق فيها على كونه لمحض غلبة عدم حصول العلم من خبره، لمناسبته لذلك، لا لخصوصيته في الحكم بعدم الحجية، وهو لا ينافي المفروض في محل الكلام.

اللهم إلا أن يدعى أن الوجه الأول هو الأقرب عرفاً. لكنه لا يخلو عن تأملٍ وإشكال، فإنه وإن كان البناء على تخصيص العموم بالمفهوم في سائر الموارد، إلا أنه يشكل في خصوص المقام، بقرب حمل ذكر الفاسق على غلبة كون خبره غير موجبٍ للعلم، وهو مما يوجب ضعف الظهور في المفهوم بنحو يشكل رفع اليد به عن العموم.

حكومة عمومات حجية الخبر على عمومات عدم حجية غير العلم

هذا، وقد أجاب غير واحدٍ عن الإشكال المذكور بحكومة عمومات حجية الخبر على عمومات عدم حجية غير العلم، لأنها تقتضي كونه علماً تعبداً أو تنزيلاً، فيخرج عن العمومات المذكورة، وقد أشرنا إلى منع ذلك

ص: 256

قريباً، وتقدم تفصيله عند الكلام في مفاد أدلة جعل الطرق والأصول في الفصل الثالث من مباحث القطع. فراجع.

نعم، الإشكال المذكور مبني على ثبوت عموم يقتضي عدم حجية غير العلم، وقد تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية المنع من ذلك. فراجع.

الوجه الثاني: استلزام البناء على عموم حجية الخبر لحجية نقل الإجماع من السيد المرتضى (قدس سره)

الوجه الثاني: أنه لو بُني على العمل بعموم حجية الخبر لزم حجية نقل الإجماع من السيد المرتضى (قدس سره) على عدم حجية خبر الواحد، لأنه حاكٍ لقول الإمام (ع) في جملة المجمعين.

مناقشة الوجه المذكور

وفيه.. أولاً: أن أدلة الحجية تقصر عن شمول نقل الإجماع، لما تقدم في الفصل الثالث من عدم حجية الإجماع المنقول.

وثانياً: أن نقل السيد (قدس سره) الإجماع المذكور معارض بنقل الشيخ (قدس سره) الإجماع على الحجية، ولا وجه لترجيح الأول، بل قد يلزم ترجيح الثاني، لقرائنٍ يأتي التعرض لها.

هذا، وقد أجاب غير واحدٍ عن الوجه المذكور أيضاً بأنه يمتنع شمول أدلة الحجية لخبر السيد (قدس سره)، لأنه يلزم من حجيته عدمها، لأنه أيضاً خبر واحدٍ غير علمي.

دعوى امتناع دخول الإجماع المنقول لامتناع شمول القضية لنفسها

ودعوى: امتناع دخوله في الإجماع المنقول به لامتناع شمول القضية لنفسها.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة.. أولاً: بأن امتناع شمولها لنفسها لفظاً لا ينافي شمولها ملاكاً، لما هو المعلوم من عدم خصوصية خبر السيد (قدس سره) من بين غيره من أخبار الآحاد بأمرٍ يقتضي حجيته.

وثانياً: بأنه لا يمتنع شمول القضية لنفسها إذا كانت حقيقيةً راجعةً إلى

ص: 257

ثبوت الحكم في فرض وجود الموضوع، فإن انطباقها على نفسها حينئذٍ قهري.

نعم، لو كانت قضيةً خارجيةً واردة على خصوص الأفراد المتحققة من الموضوع امتنع شمولها لنفسها، للزوم فرض الموضوع في رتبةٍ سابقةٍ على الحكم. لكن من الظاهر أن القضية المدَّعى عليها الإجماع في كلام السيد (قدس سره) حقيقية لا خارجية فلا مانع من شمولها لنفسها.

التحقيق في الإشكال

هذا، والذي ينبغي أن يقال: إن كان مرجع الإجماع المدعى من السيد (قدس سره) إلى عدم حجية الخبر من جهة المانع وهو ردع الأئمة (عليهم السلام) لمفاسد حادثةٍ مانعةٍ من القبول مع ثبوت مقتضي الحجية بعموم أدلتها أو بسيرة العقلاء أو نحوهما اتجه دخول نقل الإجماع المذكور في أدلة الحجية، ومانعيته من حجية غيره من الأخبار، لثبوت مقتضي الحجية فيه وعدم ثبوت الردع عنه، لامتناع شموله لنفسه مع انحصار بيان المانع عن الحجية به، إذ يستحيل ثبوت ملاك عدم الحجية حينئذٍ فيه، فلابد من قصور الحكم الذي تضمنه عن شموله تبعاً لقصور ملاكه، كما تقدم نظيره مفصلاً في الطائفة الثالثة من الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر.

وإن كان مرجعه إلى عدم الحجية لعدم المقتضي في الخبر لها، بنحوٍ يرجع إلى عدم حجية الخبر ذاتاً، امتنع دخوله في أدلة الحجية لمنافاته لها، فيمتنع شمولها له، بل تكون مكذبةً له مانعة من وجود مقتضي الحجية فيه، لاستحالة حجية المتكاذبين معاً، وحيث كانت الأدلة حجةً فرضاً امتنع حجيته وكانت مانعةً منها. مع أنه يعلم بعدم جواز التعويل عليه إما لكذبه أو لعدم حجيته، إذ لو كان صادقاً كان غير حجةٍ، لأنه كسائر أخبار الآحاد،

ص: 258

فيشمله الحكم الذي تضمنه بعد فرض كونه وارداً لبيان قضيةٍ حقيقيةٍ لا خارجية، كما تقدم، وإلا كان كاذباً، وذلك يسقطه عن الحجية، كما لو علم إجمالاً بفسق الشاهد أو خطئه وكذب خبره.

ومنه يظهر أنه لا وقع لما تقدم من الجواب منهم بأنه يلزم من حجيته عدمها، إذ في الفرض الأول لا يلزم من حجيته عدمها، وفي الفرض الثاني لا مجال لدخوله في أدلة الحجية ذاتاً، كي يحتاج في خروجه إلى المانع المذكور ثم إنه قد ذكر غير واحدٍ وجوهاً أُخر في الجواب، لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما عرفت فراجع، وتأمل جيداً.

الوجه الثالث: دعوى قصور الإطلاقات عن حجية الخبر

الوجه الثالث: دعوى قصور الإطلاقات عن إثبات حجية الخبر بالواسطة، الذي هو مورد الابتلاء في عصورنا، واختصاصها بالخبر من غير واسطة، الذي ليس بأيدينا شيء منه.

توجيه الدعوى المذكورة بأمور

وقد يوجه ذلك بوجوه..

الأول: الانصراف

الأول: انصراف إطلاقات الحجية عن الخبر بالواسطة.

وفيه: أنه لا منشأ للانصراف إلا دعوى: أن منصرف الإطلاقات إهمال احتمال الخلاف في الخبر، الناشئ من احتمال تعمد المخبر للكذب أو احتمال خطئه، لاندفاع الأول بفرض عدالته أو وثاقته، والثاني بأصالة عدم الخطأ أو الغفلة.

وهذا لا يجري في الأخبار بالواسطة، لعدم انحصار احتمال مخالفة الواقع فيه بذلك، بل ينشأ أيضاً من احتمال كذب الوسائط أو خطئهم، ولا دافع للاحتمال المذكور.

ومن الظاهر أن الدعوى المذكورة إنما تقتضي التوقف عن الخبر

ص: 259

بالواسطة مع عدم العلم بالوسائط - كما في المراسيل - أو مع ضعفها، أما مع العلم بها، وتحقق شرط الحجية فيها - كما هو محل الكلام - فلا وجه للانصراف بعد اندفاع احتمال الكذب والخطأ فيها بعين ما يندفع به احتمالهما في الخبر بلا واسطة، فعمومات الحجية تقتضي حجية كل خبر من أخبار الوسائط، كما لا يخفى.

الثاني: اختصاص إطلاقات الحجية في صورة ترتب الأثر

الثاني: أن إطلاقات الحجية مختصة بما إذا ترتب أثر شرعي على التعبد بمؤدى الحجة، ولا أثر إلا لخبر الحاكي عن الإمام مباشرةً، لترتب الحكم الشرعي عليه، أما من قبله من رجال السند فلا يثبت بخبر كلٍ منهم إلا إخبار من بعده من دون أن يترتب عليه حكم شرعي.

الإشكال عليه

وفيه: أنه يكفي في ترتب الأثر المصحح للحجية في خبر كلٍ منهم دخله في ترتب الحكم الشرعي، بأن يترتب عليه الحكم ولو ضمناً، بضميمة حجية بقية أخبارهم، لكفاية ذلك في رفع اللغوية، ولا يعتبر ترتب الأثر الشرعي على كل خبرٍ استقلالاً، وإلا امتنعت حجية خبر الحاكي عن الإمام مباشرةً أيضاً، إذ ليس أثره المباشر إلا التعبد بصدور كلام الإمام وليس هو حكماً شرعياً، ولا يترتب عليه الحكم الشرعي إلا بضميمة التعبد بظهوره.

الثالث: امتناع ترتب الموضوع على حكمه وتفرعه عليه

الثالث: أنه لا ريب في تقدم الموضوع على حكمه رتبةً، لأنه كالمعروض له، ففي مرتبة ورود الحكم لابد من كون الموضوع متحققاً، ويمتنع ترتب الموضوع على حكمه وتفرعه عليه، وحيث كان موضوع الحجية في العمومات هو الخبر فلابد من فرضه في رتبةٍ سابقة عليها، ومن الظاهر أن خبر من عدا الأول من رجال السند غير معلومٍ وجداناً، بل تعبداً بضميمة الحكم بحجية خبر من قبله المستفادة من العمومات، مع أنه

ص: 260

موضوع للحجية أيضاً، فيلزم كون الخبر الذي هو موضوع الحجية متفرعاً عليها. نعم لا يجري هذا في خبر أول رجال السند، لأنه معلوم وجداناً، لا تعبداً.

المناقشة فيه

وفيه: أن خبر كل من الوسائط لا يتفرع التعبد به على حجيته بنفسه، بل على حجية خبر الحاكي عنه، ولا محذور في ذلك، لتعدد الحكم بالحجية تبعاً لتعدد الأخبار التي هي موضوع لها. واتحاد الأحكام المذكورة دليلاً لا يوجب اتحادها ذاتاً، لانحلال العام إلى أحكامٍ بعدد أفراد موضوعه.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوجيه الإشكال باستلزام شمول العمومات للأخبار بالواسطة لكون الحجية أثراً لنفسها، إذا لا أثر لحجية خبر الأول إلا إثبات خبر الثاني ثم حجيته لإثبات خبر الثالث ثم حجيته، وهكذا حتى نصل إلى خبر الحاكي عن الإمام، مع وضوح التباين بين الأثر والمؤثر، بل ترتبهما.

لاندفاعه: بأن أثر الحجية في كل خبرٍ ليس هو حجيته نفسها، بل حجية الخبر المحكي به، فالأثر مباين للمؤثر ومترتب عليه.

وأما دعوى: أن الأحكام المذكورة بالحجية المتعددة بتعدد موضوعاتها لما كانت مترتبةً في أنفسها امتنع إرادتها من الدليل الواحد وهو عموم الحجية، لاستحالة لحاظ الأمور المترتبة بلحاظٍ واحدٍ.

فمندفعة: بأن الملحوظ في العام الوارد بنحو القضية الحقيقية ليس هو الأفراد بخصوصياتها المتباينة، بل هو العنوان بحدوده المفهومية بنحوٍ ينطبق على أفراده المحققة والمقدرة، وانطباقه حينئذٍ على أفراده المترتبة قهري ولا محذور فيه. ومن ثم تقدم في الوجه الثاني شمول القضية لنفسها

ص: 261

مع عدم محذورٍ خارجي.

بل لو كان العام بنحو القضية الخارجية المختصة بالأفراد المتحققة لم يمتنع شموله للأفراد المترتبة في أنفسها ثبوتاً، كالعلة والمعلول، لعدم لحاظ ترتبها في مقام الحكاية عنها بالعام، بل الملحوظ مجرد فرديتها له، وهي متساوية من الحيثية المذكورة.

نعم، لو كان بعضها ثبوتاً متأخراً رتبةً عن صدور العام أو إعماله امتنع شمول العام له، لعدم كونه من الأفراد المتحققة في مرتبة صدور العام وحكايته عن أفراده.

إلا أن الأخبار بالواسطة ليست كذلك، لوضوح أن أخبار الوسائط وإن لم تكن جميعها محرزةً وجداناً، بل لا يحرز كل منها إلا تعبداً بسبب إعمال عموم الحجية في الخبر الذي قبله الحاكي عنه، إلا أنها ليست مترتبة ثبوتاً على إعمال العام، بل مترتبة عليه إثباتاً، فهي بأجمعها من الأفراد المحققة في مرتبة صدور العام ومشمولة له واقعاً، وإن كان إحراز فردية كل منها متأخراً رتبة عن إعمال العام في الخبر الحاكي له، ولا محذور فيه.

نعم، قد يقال: إذا كان الدليل متعرضاً لموضوع حكم دليل آخر ومنقحاً له يكون حاكماً على ذلك الدليل ومتقدماً عليه رتبة، وحيث يمتنع اتحاد الحاكم والمحكوم، لاستلزامه تقدم الدليل على نفسه ونظره لها، يمتنع دخول الحكم بالحجية في جميع أخبار الوسائط تحت دليل واحد، لأنه حيث كان كل منها منقحاً لموضوع الآخر كان دليله حاكماً على دليله، فيلزم اتحاد الحاكم والمحكوم.

لكنه مندفع: بأن الترتب والتحاكم في مثل المقام إنما يكون بين نفس

ص: 262

الحكمين، لترتب موضوع أحدهما على الآخر إثباتاً، ونسبته إلى الدليلين بالعرض وقد عرفت أنه لا مانع من شمول العام للأحكام المترتبة ثبوتاً فضلاً عن المترتبة إثباتاً، وإنما يكون التحاكم بين الدليلين حقيقة فيما لو كان أحدهما ناظراً للآخر وشارحاً له بما هو دليل، وفي مثله يمتنع اتحاد الدليل الحاكم والمحكوم. وتمام الكلام في مبحث التعارض.

عدم جريان الوجوه الثلاثة في الأدلة اللبية لحجية الخبر

ثم إن هذه الوجوه الثلاثة من الإشكال مختصة بعمومات حجية الخبر القابلة للتخصيص، ولا تجري في الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة ونحوهما، إذ هي - لو تمَّت - قطعية لا تبقي مجالاً للوجوه المذكورة، وإلا لم تصلح للدليلية، فلا موضوع للإشكال عليها بما تقدم، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في آية النبأ، وقد أطلنا الكلام فيها تبعاً لما ذكره مشايخنا في المقام. ومن الله سبحانه نستمد العون، وبه الاعتصام.

الآية الثانية: آية النفر

الآية الثانية: التي استدل بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1).

تقريب الاستدلال بها

ولعل الأولى في تقريب الاستدلال بها أن يقال: هي ظاهرة في وجوب الحذر تبعاً لظهورها في وجوب الإنذار، لأنها ظاهرة في كونه غاية له، بمقتضى كلمة (لعل) المسوقة مساق التعليل، والعلة إذا كانت مما يترتب على المطلوب كانت غاية له مطلوبة مثله.

وحينئذٍ فوجوب الحذر راجع إلى حجية قول المنذر بالأحكام الإلزامية القابلة للحذر. ويتم في غيرها بعدم الفصل، بل بفهم عدم

ص: 263


1- سورة التوبة: 122.

الخصوصية، بعد ظهورها في كون الحذر من الأمور المترتبة طبعاً على الإنذار، لا أنها في مقام تشريعه بعده تعبداً تأسيساً من الشارع، وذلك إنما يكون بلحاظ السيرة العقلائية المرتكز مضمونها في الأذهان، فيكون ظاهر الآية الشريفة إمضاءها والجري عليها، ومن الظاهر عدم خصوصية الأحكام الإلزامية في السيرة المذكورة.

توهم إمكان تحقق الحذر بالعمل بالخبر احتياطاً

وبذلك يندفع توهم أن الحذر كما يكون بقبول الخبر وحجيته كذلك يكون بالعمل عليه احتياطاً لتنجز الواقع المحتمل به، فغاية ما تدل عليه الآية الشريفة منجزية الخبر للتكليف المحتمل، وهو أعم من حجيته عليه، وحيث لا موضوع لذلك في الخبر الذي لا يتضمن تكليفاً كان خارجاً عن مدلولها.

دفع التوهم

وجه الاندفاع: أن ذلك لا يناسب ظهور الآية في إمضاء أمر ارتكازي، كما تقدم، لأن الأمر الارتكازي الذي جرت عليه سيرة العقلاء هو حجية الخبر وقبوله، لا وجوب الاحتياط معه، بل هو - لو تم - يحتاج إلى جعل شرعي تأسيسي لا يناسب مساق الآية الشريفة.

مضافاً إلى المفروغية ظاهراً عن الملازمة بين وجوب الحذر عقيب الخبر وحجيته، وذلك كافٍ في المطلوب لو فرض قصور الآية بمدلولها اللفظي عن إفادته.

وجوه الإشكال في الاستدلال بالآية:

وبما ذكرنا من ظهور الآية في إمضاء سيرة العقلاء يظهر وجه اختصاصها بالخبر الموثوق به على ما يأتي تفصيله، لعدم بناء العقلاء على حجية كل خبر، فلا حاجة معه إلى طلب الدليل على التخصيص.

هذا، وقد يستشكل في الاستدلال المذكور بوجوه..

الأول: ما ذكره الخراساني (قدس سره) من عدم إطلاق الآية في وجوب الحذر

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من عدم إطلاق في الآية

ص: 264

يقتضي وجوب الحذر عند الإنذار، لأنها مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان كون غاية الإنذار الحذر، ولعل وجوبه مشروط بالعلم.

المناقشة فيه

وفيه: أن سوق الآية لبيان وجوب النفر لا ينافي سوقها لبيان ترتب الحذر على الإنذار وكونه غاية له، كما هو مقتضى تركيبها الكلامي.

نعم، قد يمنع كون الإطلاق مقتضى تركيبها الكلامي بظهور (لعل) في عدم ملازمة ما بعدها لما قبلها وإمكان تخلفه عنه، فلعل المراد لزوم الحذر في الجملة ولو على تقدير حصول العلم من الإنذار،

بأن تعدد المنذرون أو قامت القرينة على صدقهم. نظير قولك: انصح زيداً لعله يقبل، وأخبره لعله يصدقك. ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في منع الإطلاق.

لكنه مندفع: بأن (لعل) إنما تقتضي عدم الملازمة بين الحذر نفسه والإنذار، وهو لا ينافي مطلوبية الحذر عقيب الإنذار بمقتضى كونه غايةً له، الظاهر في مطلوبيته بمجرده، نظير قولك: أحسن لزيد لعله ينفعك، وادفع له عشرة دراهم لعله يتعفف عن الناس، فإنه ظاهر في كون الإحسان ودفع الدراهم كافيين في حسن النفع والاستغناء من زيد بلا حاجة إلى أمر آخر، واحتمال دخله مدفوع بالإطلاق.

ولابد أن يكون عدم ملازمة الغاية لذيها المستفاد من (لعل) لأمر آخر كقصور المكلف، لعدم علمه بكون الشيء غاية للواجب واجباً بتبعه، كما لعله الحال في مثل: أخبره لعله يصدقك، أو تقصيره لتجاهله لذلك عصياناً، كما هو الظاهر في المقام، لأن الأمر بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد، خصوصاً مع ظهور الآية في كون ذلك مقتضى طبيعة الإنذار، نظراً للسيرة العقلائية المشار إليها آنفاً.

ص: 265

الثاني: عدم جعل الحذر غاية لمطلق الإنذار

الثاني: أن الحذر لم يجعل غاية لمطلق الإنذار وإن كان من واحد، لينفع في ما نحن فيه، بل لإنذار الطائفة، وإخبارهم يوجب غالباً العلم مع فرض كونهم ثقات، خصوصاً في عصر صدور الآية، بلحاظ قرب الناس من صاحب الشريعة، الموجب غالباً لانكشاف حال الخبر، لتيسر القرائن.

فلا تكون الآية واردة جرياً على سيرة العقلاء في الاعتماد على الخبر، بل لبيان لزوم الاستعانة بالغير في تحصيل العلم لمن لا يتيسر له تحصيله بنفسه. ويشهد به ما ورد من الاستشهاد بها على لزوم النفر لمعرفة الإمام، مع أنه لابد فيه من العلم.

وأجاب عن ذلك بعض مشايخنا بأن ظاهر مقابلة الجمع بالجمع إرادة الاستغراق والتفريق، فالمعنى أن كل واحد من الطائفة ينذر بعضاً من قومه، لا أن مجموع الطائفة ينذرون مجموع القوم، وهو الذي يقتضيه طبع الحال، إذ الغالب عدم اجتماع الطائفة المتفقهة في نادٍ واحد، بل يذهب كل إلى خاصته فينذرهم بما تفقه فيه.

المناقشة فيه

وفيه: أن ظهور مقابلة الجمع بالجمع في التفريق مختص بما إذا أُخذ فيه عنوان لا يصدق على الجمع، كما في مثل: أكرموا جيرانكم، وأدبوا أولادكم، لوضوح أن علاقة الجوار والبنوة لا تقوم بالمجموع من حيث المجموع بل بكل جار وجاره وأب وابنه بنحو التفريق، دون مثل المقام مما كان نسبة القوم لأفراد الطائفة نسبةً واحدة، فإن حمله على التفريق وإن كان ممكناً، إلا أنه يحتاج إلى دليل.

بل الظاهر أنه لا مجال للبناء عليه في المقام، ولذا لا يظن من أحد دعوى أنه لو قصر بعض المتفقهين فلم ينذر لم يجب على الباقين استيعاب

ص: 266

الباقين بالإنذار بل لهم الاكتفاء بإنذار بعضهم، كما هو مقتضى التفريق المدعى.

وأما كون ذلك مقتضى طبع الحال فهو لا يخلو عن غموض، لإمكان أن تكون سيرتهم في تلك العصور على الاجتماع في نوادي رؤسائهم ونحوها مما يضم جماعتهم، كما هو الظاهر من سيرة أهل القرى والأحياء المبنية. على البساطة والبعد عن الحضارة الحديثة والمدنية المعقدة التي باعدت بين الناس وأشغلت كلاً بنفسه.

نعم، ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن التكليف بالتفقه والإنذار والحذر استغراقي انحلالي لا مجموعي ارتباطي، فيجب على كل أحد القيام بها وإن عصى غيره.

فإن تم كان قرينة في المقام على حجية الخبر من المنذرين بنحو صرف الوجود الشامل للواحد، لأن الحذر إذا كان غاية لوجوب الإنذار بنحو الانحلال دل على كفاية الإنذار من شخص واحد في وجوب الحذر الملازم لحجيته.

وما ذكره مقطوع به في الحذر، وهو الظاهر في التفقه والإنذار، كما هو الحال في كل الخطابات الشرعية الموجهة للجمع.

ومن ثم استفيد من الآية الشريفة وجوب الاجتهاد وتبليغ الأحكام كفايةً على كل أحد ولو لم يقم به غيره.

وعلى هذا فظهور الآية في عموم الحجية تبعاً لمقتضى سيرة العقلاء مستحكم. فتأمل جيداً.

وأما الاستشهاد في الأخبار بالآية الشريفة لوجوب النفر لمعرفة الإمام

ص: 267

فهو بلحاظ ظهورها في جواز الاستعانة بالغير في الفحص وعدم وجوب مباشرة كل أحد له، لا لظهورها في اعتبار المعرفة العلمية، بل اعتبارها في معرفة الإمام مستفاد من دليلٍ خاص غير الآية.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) من عدم وجوب الحذر إلا عقيب الإنذار بالحكم الشرعي لا مطلقاً

الثالث: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن التفقه الواجب إنما هو معرفة الأحكام الشرعية، والإنذار الواجب إنما يكون بها، والحذر لا يجب إلا عقيبه، لا عقيب كل إنذار، فإذا لم يحرز المكلف المنذَر أن الإنذار بالأحكام الشرعية لاحتمال خطأ المنذِر أو تعمده الكذب لا يحرز تحقق موضوع وجوب الحذر، ولا يحرز تحقق موضوعه إلا بالعلم بموافقة الإنذار للواقع، فهو نظير: أخبر زيداً بأوامري لعله يمتثلها.

وفيه: أنه لا إشكال في أن الحذر إنما هو من الأحكام الواقعية الشرعية، وهو لا ينافي ظهور الآية في كون الإنذار طريقاً شرعياً لمعرفتها وحجةً عليها، وليس المراد بالإنذار بالأحكام الشرعية الذي هو حجة إلا الإخبار عنها، وهو أمر وجداني لا يتوقف على صدقه، ولو توقف وجوب الحذر على العلم بصدقة لغى جعل حجيته.

وأما المثال الذي ذكره فهو يفترق عن المقام بأن تكليف الآمر للرسول بالتبليغ غير معلوم للمكلف، فلا طريق له إلى إحراز حجية تبليغه، فلابد من تنزيله على صورة حصول العلم بالواقع منه، بخلاف المقام، فإن التكليف بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام لا يجهله أحد، كما أشرنا إليه قريباً، فيصلح لأن يكون بياناً على حجية الإنذار.

الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) أيضاً

الرابع: ما ذكره هو أيضاً على تفصيل لا مجال لاستقصائه وسبقه إليه في الفصول.

ص: 268

والأولى تقريبه: بأن التفقه والإنذار من وظيفة المفتي لا الراوي، لأن التفقه في الدين عبارة عن معرفة أحكامه، وهو لا يكون بمجرد تحمل الرواية وحفظها، بل باستحصال الحكم منها، لتمامية دلالتها وعدم المعارض لها، كما أن الإنذار عبارة عن الإخبار مع التخويف، وهو لا يكون بمجرد الإخبار بكلام الإمام، بل بالإخبار بالتكليف المستلزم للعقاب.

نعم، يظهر من رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (ع) صدق التفقه والإنذار بمجرد تحمل الرواية وروايتها، لقوله (ع): إنما أُمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل... مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقعٍ وناحية، كما قال الله عز وجل: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ...(1).

مناقشته بأنه راجع إلى الاستدلال بالسنة

لكن الاعتماد عليها في الخروج عن ظاهر الآية راجع إلى الاستدلال بالسنة لا بالكتاب، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم (قدس سره).

ما ذكره النائيني (قدس سره)

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف، إلا أنه لا يعتبر تصريح المخبر بالتخويف، بل يكفي تضمن الخبر له واشتماله عليه وإن سيق لغيره، ولذا يصدق على الفتوى مع عدم تصريح المفتي بالتخويف، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلاً منهما يشتمل على التخويف ضمناً، فإن الإخبار بالوجوب يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

المناقشة فيه

ففيه: أن اشتمال الخبر على التخويف ضمناً وإن كان كافياً في صدق الإنذار، إلا أنه لابد من قصد المخبر له، لابتناء خبره على الملازمة بين

ص: 269


1- الوسائل ج 7، 8 باب: 1 من أبواب وجوب الحج، شرائطه، حديث: 15.

الخبر به والعقاب، بحيث يرجع الإخبار به للإخبار بالعقاب، وذلك مختص بالمفتي، ولا يجري في الراوي الناقل لألفاظ الحديث من دون تعهد بمضمونه، وأما الراوي المتعهد بالمضمون فهو وإن كان منذراً أيضاً، إلا أن ظاهر الآية حجية خبره من حيثية إنذاره لا مطلقاً، وهو راجع إلى قبول قوله في ترتب العقاب الذي يختص بالعامي الذي يجب عليه تقليده، وأما قبول المجتهد لإخباره عن كلام الإمام مجرداً عما تضمنه من التخويف فلا دلالة للآية عليه بوجه.

ومنه يظهر اندفاع ما في الفصول من أنه إذا ثبت من الآية حجية رواية الراوي المذكور لصدق الإنذار عليها ثبت حجية رواية غيره بعدم القول بالفصل.

إذ فيه: أن حجية روايته في حق المجتهد لم تثبت من الآية حتى يتعدى لغيرها بعدم الفصل، وحجيتها في حق العامي راجعة إلى حجية فتواه، ومن الظاهر ثبوت الفصل بينها وبين حجية رواياته في حق المجتهد، فضلاً عن روايات غيره.

اللهم إلا أن يدعى دلالتها على حجية الرواية بتنقيح المناط أو بالأولوية العرفية، لأن الرواية لما كانت من مقدمات الفتوى فحجية الفتوى مع ابتنائها عليها وعلى الحدس تقتضي حجيتها بالفحوى.

وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كانت الفتوى حجةً في حق المجتهد كالرواية، أما حيث كانت حجةً في حق العامي الذي ينحصر معرفته بالوظيفة الفعلية بها فحجيتها في حقه لا تستلزم حجية الرواية في حق المجتهد لا عقلاً ولا عرفاً. فتأمل جيداً.

ص: 270

فالإنصاف أنه لا دافع للإشكال المذكور، ومن ثم كان الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الفتوى أولى من الاستدلال بها في المقام.

الآية الثالثة: آية الكتمان

الآية الثالثة: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (1).

تقريب الاستدلال بالآية

بتقريب: أن حرمة الكتمان ووجوب البيان ظاهر في وجوب القبول، وإلا لغى. ومن ثم استدل في المسالك على حجية خبر المرأة عما في رحمها بقوله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ (2).

المناقشة فيه

وفيه: أن وجوب الإظهار لا يلغو مع عدم حجيته، لإمكان كون فائدته مجرد إثارة الاحتمال الملزم بالفحص، أو الاحتياط، بل قد يوجب العلم أو يكون بعض السبب له، وذلك فائدة مهمة.

دعوى الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب القبول ودفعها

نعم، قد تدعى الملازمة العرفية بين وجوب الإنذار ووجوب القبول وإن لم يكن بينهما ملازمة واقعية، لكنها - لو تمت - مختصة بما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء، بالإبلاغ المأمور به، ولم يكن الغالب فيه إفادة العلم، ولعل منه مورد كلام المسالك، دون المقام، لعدم انحصار المعرفة بأخبار الآحاد، خصوصاً في عصر صدور الآية.

مع أن الآية مختصة بالإخبار عما أنزله الله تعالى، وهو وظيفة المجتهد دون الراوي، لأنه إنما يحكي كلام الإمام، وهو وإن كان ملازماً لما أنزله الله تعالى، إلا أنه غير محكي له، كما تقدم نظيره في الآية السابقة. فلاحظ.

ص: 271


1- سورة البقرة: 159.
2- سورة البقرة: 228.
الآية الرابعة والخامسة

الآية الرابعة والخامسة: قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ...(1)، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (2)، بتقريب أنهما ظاهران في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم والقبول عنه، فيكون دالاً على إمضاء سيرة العقلاء على قبول خبر الثقة، لورودها في مقام الاحتجاج على الكفار، وإبطال زعمهم في امتناع بعث البشر، فإن مقام الاحتجاج لا يناسب اللجوء للقضايا التعبدية المحضة، بل ينبغي الاستعانة فيه بالقضايا الإرتكازية العامة التي لا يتسنى للخصم إنكارها.

ومنه يظهر الوجه في اختصاصها بما إذا كان المخبر ثقة، كما تقدم في آية النفر نظيره.

ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) في المراد من الآية

كما يظهر اندفاع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وسبقه إليه في الفصول من أن ظاهر الآية بقرينة السياق إرادة علماء أهل الكتاب، كما عن بعض المفسرين.

المناقشة فيه

إذ فيه: أن ورود القضية مورد الإمضاء لسيرة العقلاء الارتكازية موجب لإلغاء خصوصية موردها عرفاً لو فرض عدم العموم فيها لفظاً. على أنه لم يتضح وجه اقتضاء قرينة السياق ذلك. إذ غاية ما يقال في تقريبه إن الآية واردة لردع المشركين عن إنكار بعث الأنبياء من البشر، وحثهم على سؤال علماء أهل الكتاب، لأنهم يقرون ببعثهم،

ص: 272


1- سورة النحل: 43، 44.
2- سورة الأنبياء: 7.

وهو كما ترى، فإن مدعي ذلك من المشركين لا يقر بأن علماء أهل الكتاب من أهل الذكر، بل ينكر عليهم ويكذبهم، كما ينكر على النبي (ص) ويكذبه. ولو أقر لهم بذلك مع الإنكار المذكور كان مكابراً في إنكاره المذكور ومتناقضاً في دعاواه قد لا يحسن محاورته والاحتجاج معه.

ومن هنا لا يبعد كون تفريع الأمر بسؤال أهل الذكر على إرسال الرسل بلحاظ أن فائدة إرسالهم لما كانت هي هداية الناس بما أرسلوا به، فعلى الناس اغتنام ذلك بالسؤال عما أنزل على الأنبياء (عليهم السلام)، وأخذ ممن حمله عنهم وحفظه، وقد يناسب ذلك قوله تعالى تعقيباً على الأية الأولى:... و َ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1)، كما يناسبه ما يأتي من تفسير أهل الذكر بأهل البيت (صلوات الله عليهم).

ومثله في الإشكال ما ذكره (قدس سره) من أنه ليس المراد بأهل العلم مطلق من علم ولو بسماع رواية من الإمام، وإلا لدل على حجية قول كل عالم بشيء ولو بطريق الحس، مع أنه يصح سلب هذا العنوان عنه، بل المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم هو سؤالهم عما يعدون عالمين به، فينحصر مدلوله في التقليد دون الرواية.

فإنه يندفع: بأن الظاهر صدق العنوان على الرواة لا خصوص المجتهدين عملاً بإطلاق العلم الشامل للعلم الحسي، وهو المناسب لمورد الآية، لوضوح أن السؤال فيها ليس عن أمر حدسي نظري، بل عن أمر حسي ثابت بطرق حسية أو ملحقة بالحس، لوضوحها. فتأمل.

ص: 273


1- سورة النحل: 44.

وأما ما ذكره من صحة سلب العنوان عمن علم بشيء بطريق الحس. فهو مبني على تعارف إطلاق العنوان على خصوص العلم بطريق الحدس، بل خصوص العلم بالأحكام الشرعية، من دون اختصاص له بذلك لغةً، ولا موجب لذلك في الآية الشريفة، خصوصاً مع ظهورها في إمضاء السيرة الارتكازية المشار إليها.

الإشكال في الاستدلال بالآيتين

نعم، يشكل الاستدلال لوجهين، أشار إليهما شيخنا الأعظم (قدس سره)..

الأول: عدم ظهورهما في كون السؤال من أجل العمل

الأول: أنه لا ظهور للآيتين الشريفتين في كون السؤال لأجل العمل، لتدل على حجية الجواب عرفاً. بل لعل الظاهر منها كون السؤال لأجل تحصيل العلم، لأن ظاهرها الإنكار على من امتنع عن الإذعان بجواز بعث الرسل من البشر، فيكون الأمر بالسؤال لتحصيل الإذعان المذكور، لا لأجل العمل بالجواب وإن لم يوجبه، وهو لا ينافي كون القضية ارتكازية، إذ الارتكاز كما يقتضي العمل بخبر الثقة وإن لم يحصل منه العلم، كذلك يقتضي السعي لتحصيل العلم في مورد الحاجة إليه بالسؤال من الغير والاستعانة به وعدم الاقتصار على ما يدركه الإنسان بنفسه مستغنياً عن غيره. ولا أقل من إجمال الآية من هذه الجهة فلا مجال للاستدلال بها.

الثاني: ظاهر النصوص الكثيرة من اختصاص أهل الكتاب بالأئمة (عليهم السلام)

الثاني: أنه لابد من رفع اليد عن ظهور الآيتين البدوي في إرادة مطلق العلماء من أهل الذكر بالنصوص الكثيرة الظاهرة، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة (عليهم السلام) وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع في ما نحن فيه، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إنهم اليهود والنصارى، قال: إذاً يدعوكم إلى دينهم قال: قال بيده إلى صدره: نحن

ص: 274

أهل الذكر ونحن المسؤولون وغيره من النصوص الكثيرة(1).

ودعوى: أن ذلك من التفسير بالباطن فلا يمنع من حجية الظهور.

مدفوعة: بأن التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه، كما تضمنته النصوص المذكورة، مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن لا يناسب مساق النصوص المذكورة. بل بعد ما سبق من عدم اختصاص أهل الذكر بأهل الكتاب يتضح بالتأمل كون التفسير المذكور هو الأقرب لذلك، لأن الذكر هو ما أنزل على الأنبياء من الكتب والتعاليم. والحقيقون بأن يكونوا أهل ذلك هم الذين أورثوها وعرفوها حق معرفتها. وقد انحصر ذلك بهم (صلوات الله عليهم).

وأما علماء أهل الكتاب فهم أهل الذكر ادعاءً لا حقيقة. كما أن علماء المسلمين لما كان علمهم بما في الكتاب في الجملة مبتنياً على الحدس والاجتهاد فكونهم من أهل الذكر مبني على نحو من التوسع والتسامح. وانحصار المراد بأحد الفريقين بنظر عامة الناس مبني على الغفلة أو التغافل عن مقام أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وواقع علمهم بما أنزله الله تعالى.

نعم في بعض النصوص أن الذكر هو رسول الله (ص) فيكون آله (عليهم السلام) هم أهل الذكر. وقد استدل في بعضها على ذلك بقوله تعالى: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ...(2)، وذلك مبني على

ص: 275


1- يراجع في النصوص المذكورة أصول الكافي ج 1: ص 211، والوسائل ج 18، باب: 7 من أبواب صفات القاضي، بحار الأنوار ج 23: ص 172، 180.
2- سورة الطلاق: 10، 11.

نحو من التكلف، فيشبه التفسير بالباطن.

لكن قد يكون سلوك ذلك من أجل إثبات المطلوب بحقيقة لا يستطيع الخصم ردها، وهي كونهم (عليهم السلام) أهل النبي (ص)، وتجنب الاعتماد في إثباته على حقيقة قد يتجاهلها الخصم، وهي اختصاصهم (عليهم السلام) بعلم الكتاب وراثة عن الأنبياء (عليهم السلام) وإلا فقد تضمن بعض النصوص أن الذكر هو القرآن المجيد - ولو لأنه المهيمن على الكتب السماوية، والذي يجب الرجوع إليه فعلاً - وأنهم (عليهم السلام) أهله. وهو

الظاهر من بقية النصوص الكثيرة المقتصرة فيها على كونهم (صلوات الله عليهم) أهل الذكر من دون تنبيه لوجه ذلك.

ومثلها ما ذكره بعض مشايخنا من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه فلا تنافي عمومه لغيره، وقد ورد عنهم (عليهم السلام) أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.

لاندفاعه: بأنه لا يظهر من النصوص المذكورة محض تطبيق أهل الذكر عليهم (عليهم السلام)، ولا نزولها فيهم (عليهم السلام)، بل اختصاصها بهم (عليهم السلام)، كما ذكرنا فتكون كسائر الآيات المختصة بهم (عليهم السلام) كآيات الولاية والمودة والتطهير، التي لا يلزم موتها، لأنهم (عليهم السلام) باقون ما بقي القرآن مرجعاً للناس وحجةً عليهم.

الآية السادسة: آية الإيذاء

الآية السادسة: قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1).

تقريب الاستدلال بها

وتقريب الاستدلال بها: أن بعض المنافقين المؤذين لرسول الله (ص)

ص: 276


1- سورة التوبة: 61.

لما طعن في النبي (ص) بأنه أذن يقبل كلما يسمع، ويصدق كل أحد فلا يخشى من وصول الخبر له، لأنا ننكره فيصدقنا، رد عليهم تعالى بأن تصديقه لكم ليس حقيقياً، بل هو صوري، وهو خير لكم، إذ لولاه لأوقع بكم عقابه، وليس إيمانه الحقيقي إلا بالله وللمؤمنين، فهم الذين يصدقهم تصديقاً حقيقياً دونكم. فيدل ذلك على رجحان تصديق المؤمنين، وصحة الاعتماد على خبرهم، وحجيته.

وأما حمل التصديق للمؤمنين فيها على التصديق الصوري وإظهار القبول من دون تصديق حقيقي، تأكيداً لما تضمنه قوله تعالى: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ الذي لا يراد به التصديق الحقيقي، لأن المخاطب به هم المنافقون الذين يعلم عدم تصديق النبي (ص) لهم - كما أطال الكلام فيه شيخنا الأعظم (قدس سره) - فهو بعيد عن ظاهر الآية جداً، لظهور سياقها في مدح المؤمنين بتصديقه (ص) لهم، وهو يناسب إرادة المؤمنين الحقيقيين، لا ما يعم المنافقين، بل إطلاق عنوان المؤمن على ما يعم المنافق في مثل هذه الآية الواردة لذم المنافقين بعيد جداً غير مناسب لذيلها المفصل بين المؤمنين والمؤذين لرسول الله (ص) في الرحمة والعذاب.

ومثله في الإشكال دعوى: أن اختلاف تعدية فعل الإيمان لله تعالى والمؤمنين، حيث عُدّي له تعالى بالباء ولهم باللام قرينةً على إرادة التصديق الصوري من الإيمان للمؤمنين، الراجع إلى قبول عذر المعتذر ورفع العقاب عنه المستلزم لأمانه، لما قيل من أن اختلاف التعدية للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان.

لاندفاعها: بعدم تبادر ذلك في اللام، بل الظاهر منها إرادة التصديق

ص: 277

الحقيقي، كما في قوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (1)، وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً(2)، وقوله تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (3).

واختلاف التعدية ظاهر في أن المراد بالإيمان به تعالى ليس هو تصديقه كالمؤمنين، بل التصديق بوجوده كالإيمان بالآخرة، وإن كان ذلك خلاف ظاهر صحيح حريز الآتي، لكن الصحيح لا ينافي ما ذكرنا في تصديق المؤمنين، الذي هو محل الكلام، فهو يدل على أن كلا الإيمانين إيمان التصديق، لا إيمان الأمان.

وبالجملة: ما ذكرناه في معنى تصديق المؤمنين هو الظاهر المناسب لسياق الآية، وحكي عن بعض المفسرين.

ويشهد به صحيح حريز المتضمن استبضاع إسماعيل بن الإمام الصادق (ع) رجلاً من قريش بلغه أنه يشرب الخمر، فأكل الرجل المال، فدعا إسماعيل في الطواف بالأجر والخلف، فقال له الصادق (ع): يا بني فلا والله مالك على الله هذا، ولا لك أن يأجرك، ولا يخلف عليك، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته. فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر، إنما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني إن الله عز وجل يقول في كتابه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: يصدق الله ويصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. ولا تأتمن شارب الخمر، إن الله عز

ص: 278


1- سورة يوسف: 17.
2- سورة الإسراء: 90.
3- سورة الشعراء: 111.

وجل يقول في كتابه وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ فأي سفيه أسفه من شارب الخمر... (1) وقريب منه مرسلة العياشي(2).

وحملهما على التصديق الصوري بعيد عن الظاهر جداً، ولاسيما مع تطبيق الإمام (ع) شارب الخمر على الرجل المذكور، بل لا مجال له في رواية عمر بن يزيد، قلت لأبي عبد الله (ع): أرأيت من لم يقر بأنكم

في ليلة القدر كما ذكرت ولم يجحده؟ قال: أما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر. وأما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع، ثم قال أبو عبد الله (ع): يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (3).

ومما ذكرنا يظهر مواقع الإشكال في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) في المقام. فراجع.

ثم إنه لو تم ما ذكرنا فلا إطلاق للآية الشريفة يقتضي عموم تصديق المؤمنين، لعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام أنه (ص) لا يصدق غير المؤمنين ومدح المؤمنين بذلك، وهو لا ينافي اعتبار بعض الأمور في تصديقهم.

نعم، قد يستفاد ورودها للعموم بضميمة الاستدلال بها في الروايتين المتقدمتين، خصوصاً الأولى، لتعقيب الاستدلال فيها ببيان الكبرى المذكورة. لكنه خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة.

هذا تمام ما عثرنا عليه من الآيات التي استدل بها في المقام. وقد

ص: 279


1- الوسائل، باب: 6 من أبواب الوديعة ح 1.
2- تفسير العياشي حديث 83 من تفسير سورة براءة: ج 2 ص 95.
3- الوسائل ج 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث 19.

عرفت عدم نهوض ما عدا الأخيرة منها بالمطلوب.

الثاني: السنة وهي على طوائف

الثاني: من الأدلة التي استدل بها في المقام: السنة، وهي على طوائف..

الأولى: ما ورد في الخبرين المتعارضين

الطائفة الأولى: ما ورد في الخبرين المتعارضين، وهي عدة أخبار، كمقبولة عمر بن حنظلة، وموثقة سماعة، ومرسلات الكليني، وخبري المعلى بن خنيس والميثمي، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله، وخبر الحسين السرى، وروايات الحسن بن الجهم، ورواية محمد بن عبد الله، ومكاتبة محمد بن علي بن عيسى، ومرسلتي الحارث بن المغيرة وسماعة بن مهران، ومرسلة الاحتجاج(1)، ومرفوعة زرارة المروية عن عوالي اللآلي، ويبلغ مجموعها ثماني عشرة رواية.

وهي وإن اختلفت من حيثية الحكم بالتخيير والترجيح والتوقف، إلا أن ظاهرها المفروغية عن قبول الرواية لولا التعارض.

ويبعد حملها على خصوص ما يقطع بصدوره، لندرة التعارض معه، بل لو فرض القطع بدواً بصدور الرواية إلا أن الالتفات إلى وجود المعارض لها يزيل القطع غالباً، خصوصاً مع التنبيه في

بعضها على كون الراويين ثقتين، فإنه كالصريح في أن المقتضي للعمل هو الوثوق بالراوي. مع أن اشتمال بعضها على المرجحات السندية - كالأوثقية - مانع من حملها على صورة العلم، إذ لا موضوع لها معه.

الطائفة الثانية: ما تضمن إرجاع الشيعة

الطائفة الثانية: ما تضمن الإرجاع للشيعة أو للعلماء والرواة، وكتبهم، كالتوقيع الشريف عن الحجة عجّل الله فرجه: وأما الحوادث الواقعة

ص: 280


1- راجع في الأخبار المذكورة الوسائل ج 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي، حديث: 1، 5، 6، 9، 19، 8، 21، 29، 30، 31، 40، 48، 34، 36، 41، 42، 43.

فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله وكتاب الإمام الكاظم (ع) لعلي بن سويد: وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم... وفي كتاب الإمام الهادي (ع) لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه: فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا، وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى(1).

ودعوى: اختصاصها بالفتوى، في غير محلها، فإن الرجوع للرواة في الأول لو لم يختص بأخذ الروايات منهم فلا أقل من عمومه لها، فتأمل.

كما أن معالم الدين في الثاني تشمل الروايات أو تختص بها، كما أن الظاهر شمول الثالث لها بإطلاقه.

وأوضح منها في ذلك ما تضمن جواز الرجوع للكتب، كموثق عبيد بن زرارة، قال لي أبو عبد الله (ع): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها، وخبر المفضل بن عمر، قال لي أبو عبد الله (ع): اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم(2)، فإنهما كالصريحين في النظر إلى زمان الغيبة ونحوه مما تنقطع فيه طرق العلم وينحصر الأمر في الكتب.

وحملها على إرادة الرجوع إليها في خصوص ما يورث العلم بعيد جداً عن الواقع الخارجي، ضرورة قلة المتواترات في الكتب، وانقطاع

ص: 281


1- الوسائل ج 18، باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9 و 42 و 45.
2- الوسائل ج 18، باب 8 من أبواب صفات القاضي حديث 17، 18.

القرائن القطعية المحتفة بأخبار الآحاد بتقادم الزمان. بل في غالب موارد تواتر الروايات أو احتفافها بالقرائن القطعية لا يحتاج إلى الكتب، للاتفاق على الحكم. فهما ظاهران في المفروغية عن قبول خبر الواحد المودع في الكتب.

ومثلهما في ذلك رواية محمد بن الحسن بن أبي خالد أو حسنته، قلت لأبي جعفر الثاني (ع): جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت تلك الكتب إلينا، فقال: حدثوا بها، فإنها حق(1) فإنه لولا المفروغية عن حجية ما يرويه المشايخ في مقام العمل لم يحتج إلى الاستئذان من الإمام (ع) في رواية الكتب المذكورة، إذ روايتها لمجرد إثبات الرواية وحفظها، لتكون بعض السبب الموجب للعلم لا يحتاج إلى الاستئذان المذكور، كما لا يخفى.

بل لا يبعد أن يكون قوله (ع): فإنها حق أنها كتبهم فلا تحتاج رواية ما فيها عنهم إلى أن يحدّثوا بها، لا أن ما تضمنته حق واقعاً، ليكون شهادة الإمام بحقيقة الكتب المذكورة قرينة قطعية على صحتها، فتخرج عن محل الكلام.

ومثلها في ذلك ما عن الحسين بن روح (رضوان الله عليه)، حيث سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني فقال: أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضّال، حيث قالوا له: ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاءً. قال: خذوا

ص: 282


1- الوسائل ج 18، باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث 27.

ما رووا وذروا ما رأوا (1) ، فإن الظاهر أن الأمر بالأخذ بروايات المذكورين ليس شهادة بصحتها، بل لبيان عدم مانعية مخالفتهم للحق في أصول الدين عن قبول رواياتهم مع وثاقتهم في أنفسهم، فإن ذلك هو المناسب للسؤال، وهو الجهة المشتركة عرفاً بين كتب بني فضّال والشلمغاني المصححة لتعدي الحسين بن روح (رضوان الله عليه) عن مورد كلام الإمام (ع)، بخلاف العلم بإصابتها للواقع، فإنه من الجهات الخفية التي لا خصوصية فيها لكتب بني فضّال. كما لا مجال للتعدي فيها لكتب غيرهم.

نعم، لا مجال للاستدلال بما تضمن من الروايات الكثيرة الإرجاع لكتاب يوم وليلة تصنيف يونس بن عبد الرحمن وتصحيحه، وتصحيح كتاب سليم بن قيس، والحلبي، والفضل بن شاذان، وظريف، وكتاب الفرائض عن أمير المؤمنين (ع) وغيرها(2)، لأن التصحيح شهادة من الإمام، وقرينة قطعية مخرجة للكتاب عن محل الكلام.

وأما الاستدلال بعمل الشيعة بالكتب المذكورة فهو - مع أنه ليس استدلالاً بالسنة، بل بسيرة المتشرعة الذي يأتي الكلام فيه - في غير محله، إذ قد يكون العمل بها مبنياً على تصحيحها منهم (عليهم السلام) الذي هو قرينة قطعية.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال بإقرار بعض الروايات للعمل المذكور، لإمكان ابتناء العمل على التصحيح قبله.

ومثله في ذلك ما تضمن الإرجاع لآحاد الرواة والفقهاء كزرارة

ص: 283


1- روى في الوسائل ج 18:72، كلام الإمام (ع)، وذكر تمام الرواية شيخنا الأعظم (قدس سره) في الرسائل.
2- تراجع النصوص المتضمنة لذلك في الوسائل ج 18، باب 8 من أبواب صفات القاضي.

ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، وزكريا بن آدم، ويونس بن عبد الرحمن، والعمري وابنه(1)، لاحتمال خصوصيتهم عندهم (عليهم السلام) واطلاعهم على عدم خطئهم أو ندرته بنحوٍ يمتازون به عن غيرهم من الرواة، وإن كانوا مثلهم بنظر الناس في الوثاقة. ومجرد التعبير عنهم بأنهم ثقات، أو السؤال من الأئمة (عليهم السلام) عن وثاقتهم لأجل العمل بروايتهم، لا يشهد بعموم حجيته خبر الثقة، لأن الثقة من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص، فرب رجل ثقة عند شخص غير ثقة عند آخر، والروايات المذكورة إنما تدل على حجية خبر من هو ثقة عند الأئمة (عليهم السلام) لا من هو ثقة عند المكلف الذي هو محل الكلام.

ولذا كانت الشهادات المذكورة رافعة للأشخاص المشهود لهم إلى مراتب عالية تقارب العصمة في التبليغ، وليست كشهادة سائر الناس بالوثاقة.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستشهاد بما في التوقيع الشريف: فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم(2)، فإنه وارد في ثقاتهم (عليهم السلام) كسفرائهم وخواصهم، لا مطلق من يثق به الإنسان.

ومثله في ذلك ما عن تفسير العسكري (ع) في بيان التمسك بالقرآن: هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا(3)، لعدم وضوح كون المراد بالسفراء مطلق ثقات الرواة من الشيعة،

ص: 284


1- تراجع النصوص المتضمنة لذلك باب 11 من أبواب صفات القاضي من الوسائل.
2- الوسائل باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 4.
3- الوسائل ج 18 باب: 5 من أبواب صفات القاضي، حديث: 8.

بل لعلهم خصوص المنصوبين من قبلهم (عليهم السلام).

نعم، لو ورد ما يدل على جواز الأخذ من الثقة كان ظاهراً في إيكال تشخيصه إلى المكلف نفسه كما هو الحال في بعض نصوص الطائفة الأولى.

الطائفة الثالثة: ما تضمن المفروغية عن حجية الخبر

الطائفة الثالثة: ما يدل بنفسه على المفروغية عن حجية خبر الواحد في الجملة، مثل خبر العلل المتقدم عند الكلام في آية النفر، وصحيح حريز، ومرسلة العياشي، ورواية عمر بن يزيد المتقدمة عند الكلام في آية الإيذاء، وما عن روضة الواعظين للفتال عن النبي (ص): من تعلم باباً من العلم (عمل به أو لم يعمل) عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة(1) وخبر جميل عن أبي عبد الله (ع)، سمعته يقول: المؤمنون خدم بعضهم لبعض، قلت: وكيف يكونون خدم بعضهم لبعض؟ فقال: يفيد بعضهم بعضاً الحديث وخبر يزيد بن عبد الملك عنه (ع): قال: تزاوروا، فإن في زيارتكم إحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم وفي حديث خطبة رسول الله (ص) في مسجد الخيف المروية في الصحيح أو الموثق وغيرهما: فقال: نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومرفوعة الكناسي عن أبي عبد الله (ع)، في قول الله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ قال: هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء، ليس عندهم ما يتحملون به إلينا، فيسمعون كلامنا، ويقتبسون من علمنا، فيرحل

ص: 285


1- الوسائل ج 18، باب: 4 من أبواب صفات القاضي، حديث: 22.

قوم فوقهم، وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعون حديثنا فينقلوه إليهم، فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء، فأولئك الذين يجعل الله لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وخبر عبد السلام الهروي عن الرضا (ع)، قال: رحم الله من أحيا أمرنا. قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا وما روي بطرق متعددة عن النبي (ص) أنه قال: رحم الله خلفائي - ثلاث مرات - فقيل له: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي، فيعلمونها الناس من بعدي(1)، بناءً على عدم اختصاصه بالأئمة (عليهم السلام)، ورواية معاوية بن عمار أو حسنته عن أبي عبد الله (ع) وفيها: الراوية لحديثنا يشد به [يسدده في خ. ل] في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد وما ورد في تفسير قوله (ص): اختلاف أمتي رحمة من قول الصادق (ع): إنما أراد قول الله عز وجل: فَلَوْلَا نَفَرَ... فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (ص) فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم وخبر حمزة بن حمران، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: من استأكل بعلمه افتقر. قلت: إن في شيعتك قوماً يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام، فقال: ليس أولئك بمستأكلين...، وما عن أبي حمزة عن أبي جعفر (ع) في حديث أنه قال للحسن البصري: نحن القرى التي بارك الله فيها... فقال: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً...، والقرى الظاهرة الرسل، والنقلة عنا إلى شيعتنا،

ص: 286


1- تراجع النصوص المذكورة من خبر جميل إلى هنا في الوسائل ج 18، باب: 8 من أبواب صفات القاضي، حديث: 37 و 38 و 43، 44 و 45، 52، و 53.

و [فقهاء] شيعتنا إلى شيعتنا...(1).

فإن النصوص المذكورة وإن لم يصرح في أكثرها بحجية الرواية إلا أن ما تضمنته من الاستفادة بالحديث بسبب النقل وإفادته به تبليغه للفقيه وتعليمه للناس، وتعلمهم له، وشد قلوب الشيعة به ونحو ذلك ظاهر في المفروغية عن حجيته بسبب النقل وصلوحه للعمل، إذ بدون ذلك لا تتحقق الاستفادة بالحديث ولا ينفع تبليغه للفقيه ولا يصدق تعليم الناس ولا علمهم به، وإنما يكونون عالمين بنقله من دون علمٍ به.

نعم، لا إطلاق لأكثرها في ذلك، إلا أن حملها على خصوص صورة التواتر ونحوه مما يفيد العلم بعيد جداً. بل هو لا يناسب ذكر الوثوق في رواية الفتال، وما في خطبة النبي (ص) في مسجد الخيف من ظهوره في كون المبلغ للفقيه واحداً، فإنه ظاهر في إعمال الفقيه فقهه في ما بلغ به ليترتب عليه العمل.

ومثلها ما عن تفسير العسكري (ع) الوارد في التقليد(2)، فإنه وإن كان وارداً في التقليد، إلا أن التأمل في فقراته قد يشهد بعمومه للرواية. وكذا ما عن مجالس المفيد: لحديثٍ واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها، وقريب منه ما عن المحاسن(3)، بناءً على أن المراد بالصادق الثقة، لا الصادق الواقعي المعلوم الصدق، وأن استحباب الأخذ بلحاظ ترتب

ص: 287


1- تراجع النصوص المذكورة من رواية معاوية بن عمار إلى هنا في الوسائل ج 18، باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 2 و 10 و 12، و 47.
2- الوسائل ج 18، باب: 10 أبواب صفات القاضي حديث: 20.
3- تراجع الأحاديث.. في الوسائل ج 18، باب من أبواب صفات القاضي حديث: 67 و 68 و 69، 70.

الفائدة وهي العمل.

وأوضح من ذلك ما عن العدة عن الصادق (ع): قال إذ نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها في ما ورد عنا، فانظروا إلى ما رووه عن علي (ع) فاعملوا به(1).

الطائفة الرابعة: ما يستفاد من مجموعها حجية الخبر

الطائفة الرابعة: ما يستفاد من مجموعها حجية الخبر وإن كان في دلالة كل واحد على ذلك نظر، مثل المستفيض أو المتواتر المتضمن أنه: من حفظ أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً(2)، فإنه وإن أمكن حمله على الحفظ لأجل تكثير طرق الرواية حتى يحصل العلم بها لا لحجية خبر الواحد،

إلا أنه بعيد جداً، لاحتياج التواتر إلى شروط خاصة يصعب المحافظة عليها فلو توقف الانتفاع بالرواية على حصول العلم بها قلّت فائدة الحفظ، وهو خلاف ظاهر الروايات، خصوصاً مثل ما في بعض طرق الحديث من قوله (ص): من حفظ من أمتي أربعين حديثاً ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً(3) وفي آخر: من حفظ من أمتي أربعين حديثاً مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً(4)، لظهورهما في أن تحمل الرواية وبيانها كافٍ في حصول الانتفاع وسد الحاجة، ومن ثم لا يبعد اختصاصها بما إذا كان المتحمل للرواية محافظاً على شروط الحجية والانتفاع من الثقة والعدالة وغيرهما. ولذا لا يبعد كون هذين الحديثين من الطائفة السابقة لا من هذه الطائفة.

ص: 288


1- الوسائل ج 18 باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 47.
2- ذكره في الوسائل في طرق مختلفة متقاربة في المتون باب: 8 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل ج 18، باب: 8 من أبواب صفات القاضي حديث: 54، 72.
4- الوسائل ج 18، باب: 8 من صفات القاضي حديث 60.

ومن هذه الطائفة ما تضمن الأمر بكتابة الحديث وروايته ومذاكرته ومدارسته ومنه قولهم (عليهم السلام): اعرفوا منازل الرجال منا بقدر روايتهم عنا وما ورد من الترخيص في النقل بالمعنى والتحذير من الكذابين ونحو ذلك(1) مما يشعر بحجية الخبر وإن لم يفد العلم، وإلا قلّت الفائدة في ذلك، كما نبّه لذلك شيخنا الأعظم (قدس سره).

وبالجملة: هذه الطائفة لو لم تصلح للاستدلال فهي صالحة للتأييد، ويكون الاستدلال بالطوائف الثلاث الأول، واستيعابها يورث القطع بحجية الخبر في الجملة، لتواترها إجمالاً. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

الثالث: من الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر: الإجماع، ويراد به..

الثالث: الإجماع

تارةً: الإجماع القولي، الراجع إلى تصريح العلماء بحجية خبر الواحد.

وأخرى: الإجماع العملي، الراجع إلى الاتفاق في مقام العمل على الرجوع إليه في معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه.

أما الأول فلا مجال للاستدلال به لعدم ثبوته تحصيلاً ولا نقلاً، حيث لم ينقل التصريح بالقول المذكور إلا عن الشيخ (قدس سره) وبعض من تأخر عنه ممن تعرض للمسائل الأصولية وألف فيها. وهم قليلون لا يكشف اتفاقهم عن الحكم الشرعي، وأما الباقون فما كانوا يهتمون بتحرير المسائل

الأصولية، بل صرح بعض من حررها بعدم الحجية كالمرتضى (قدس سره)، بل بامتناعها كابن قبة، فلا مجال للاستدلال بالوجه المذكور.

والعمدة الوجه الثاني، وهو الإجماع العملي.

ص: 289


1- تراجع النصوص المذكورة في الوسائل ج 18، في أوائل أبواب كتاب القضاء.

وتقريبه بأحد وجوه..

وجوه تقريب الإجماع العملي

الأول: إجماع العلماء على العمل به في مقام الفتوى واستنباط الحكم الشرعي.

الثاني: إجماع المسلمين بما هم مسلمون متدينون على العمل به والرجوع إليه في معرفة الحكم، وهو المعبر عنه في كلامهم بسيرة المتشرعة.

الثالث: إجماع العقلاء بما هم عقلاء على العمل به.

والفرق بين الوجوه الثلاثة: أن الوجه الثالث لا ينهض بالاستدلال إلا بضميمة الإمضاء، أو عدم الردع من قبل الشارع الأقدس على ما يأتي الكلام فيه.

أما الوجهان الأولان فهما ينهضان للاستدلال بأنفسهما، لكشفهما عن رضا الشارع الأقدس، لامتناع حصولهما عادةً مع عدم رضاه بالحكم، حيث يمتنع جهل المسلمين بأجمعهم بمراده، وخصوصاً العلماء منهم، لامتناع خفاء مراده عليهم مع بذلهم الجهد في معرفة الأحكام عن المعصومين (عليهم السلام) ومخالطة كثير منهم لهم (عليهم السلام) وأخذهم عنهم خصوصاً في مثل هذه المسألة المهمة التي يكثر الابتلاء بها، وبها نظم الفقه وعليها أساس الاستنباط.

كما أنه لا مجال لرفع اليد عن الوجهين المذكورين بظهور بعض الأدلة في الردع لأنهما قطعيان يكشفان عن خلل في الدليل الرادع مانع من الاعتماد عليه.

ومن ثم أشرنا في ذيل الأخبار التي استدل بها على عدم حجية الخبر إلى عدم نهوضها في مقابل الإجماع والتسالم على الحجية بين الأصحاب.

أما الوجه الثالث فليس هو إلا مقتضياً للحجية فيتعين رفع اليد عنه

ص: 290

بظهور الأدلة الرادعة، لأن الظهور حجة فعلية صالحة للردع، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

أما الوجه الأول: فيمكن تحصيله بتتبع طريقة العلماء في مقام الاستدلال من زماننا إلى زمان الشيخين بل ما قبلهما من أرباب الفتاوى، سواءً كانوا في مقام تحرير الفتاوى مجردة، أم في مقام بيانها بطريق إيداع الرواية - كما هو حال مثل الصدوق (قدس سره) في الفقيه - فإنا نجدهم متسالمين على الاستدلال بأخبار الآحاد، والفتوى في فروع ليس فيها إلا خبر واحد لا يوجب العلم، لا يتناكرون ذلك، ولا يتوقفون فيه.

ويقطع بأنهم في ذلك قد جروا على سنن من كان قبلهم من معاصري الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم. لامتناع الابتداع في مثل ذلك، لتعذر اتفاقهم عليه دفعةً واحدةً في عصر واحد عادة. وانفراد بعضهم في بعض العصور - ثم شيوع طريقته بين المتأخرين عنه - مثار الإنكار والتشنيع من معاصريه وأتباعهم، ولو كان لوصل، لأهميته وتوفر الدواعي لنقله، كما هو ظاهر.

وأما احتمال استناد عمل القدماء للقرائن القطعية المحتفة بالأخبار لحجيتها في أنفسها، وقد اشتبه ذلك على المتأخرين عنهم فظنوا اتفاقهم على حجيتها، فعملوا بها لذلك بعد ضياع القرائن عليهم.

فلا مجال له، لأن تحري القرائن القطعية في جميع الفروع الفقهية محتاج إلى عناية خاصة لو كان بناء القدماء عليها لما خفي على المتأخرين مع تقارب العصور واتصال بعضهم ببعض وأخذ كل عمن قبله.

والإنصاف: أن التأمل في ذلك يوجب وضوح الحال بنحوٍ يغني عن تجشم الاستدلال عليه وتكلف البحث والنظر.

ص: 291

هذا، وقد صرح بالإجماع بالوجه المذكور الشيخ (قدس سره) في العدة، حيث قال في مقام الاستدلال على مختاره: والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإن أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور، وكان راويه ثقةً لا ينكر حديثه سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. هذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (ص) ومن بعده من الأئمة، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (ع) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو(1).

ثم أطال في تعقيب ذلك إلى أن قال:

«فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجردها، بل عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها لأجلها عملوا بها، ولو تجردت لما عملوا بها، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها.

قيل له: القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة نذكرها في ما بعد من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك، لأنها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم، لأنه ليس في جميعها

ص: 292


1- العدة ج 1 ص 42.

يمكن الاستدلال بالقرائن، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه، ودليله ومعناه، ولا في السنة المتواترة، لعدم ذلك في أكثر الأحكام، بل لوجودها [وجودها خ. ل] في مسائل معدودة، ولا في الإجماع، لوجود الاختلاف في ذلك، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة.

ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولاً على ما يعلم ضرورة خلافه، مدافعاً لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إني متى عدمت شيئاً من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولاً على ما يعلم من الشرع خلافه(1).

وقد وافقه في نقل إجماع الأصحاب غير واحد، منهم السيد رضي الدين ابن طاوس (قدس سره) ففي محكي كلامه الذي رد به على السيد (قدس سره): ولا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة (لا) يعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية، ومن اطلع على التواريخ والأخبار، وشاهد عمل ذوي الاعتبار،

وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهةٍ عند العارفين، كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدة وغيره من المشغولين بتصفح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين.

ومنهم العلامة (قدس سره)، ففي محكي النهاية: إن الأخباريين منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد، والأصوليون منهم، كأبي

ص: 293


1- العدة: ج 1 ص 51.

جعفر الطوسي عمل بها، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهةٍ حصلت لهم.

ومنهم المجلسي، حيث ادعى - كما عن بعض رسائله - تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد.

بل قد يظهر من السيد المرتضى (قدس سره) الاعتراف بعمل الأصحاب بخبر الواحد، إلا أنه لا يعول عليه، لأنه من الأمور المشتبهة، فعن محكي كلامه في الموصليات أنه قال: إن قيل: أليس شيوخ هذه الطائفة عولوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم، وجعلوها العمدة والحجة في الأحكام؟! حتى رووا عن أئمتهم (عليهم السلام) في ما يجيء مختلفاً من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة، وهذا يناقض ما قدمتموه.

قلنا: ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل، وقد علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم، وكذلك نقول في أخبار الآحاد.

ويؤيد ذلك ما عن ابن إدريس في مقام تقريب الإجماع على المضايقة أنه قال: إن ابني بابويه والأشعريين - كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب - والقميين أجمع - كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد - عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة، لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق بروايته.

فإن اتفاق من ذكر مع معاصرتهم للأئمة (عليهم السلام)، وجلالتهم، ورفعة

ص: 294

مقامهم مؤيد للاتفاق المدعى في كلام من عرفت. بل عن المجلسي (قدس سره): إن عمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بالخبر غير العلمي متواتر بالمعنى.

ويشهد بصحة الإجماع المذكور أمور..

منها: تصدي الأصحاب قديماً وحديثاً للجرح والتعديل، وتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون لروايته، أو أنه مقبول الرواية أو صحيح الحديث، أو لا يعمل بما ينفرد به، وتصريحهم بتصحيح ما يصح عن جماعة، وقبول مراسيل بعض الرواة، لأنه لا يرسل إلا عن ثقة، إلى غير ذلك مما يشهد بالمفروغية عن قبول الخبر غير العلمي في الجملة بينهم. وقد نبه لذلك الشيخ (قدس سره) في العدة، فقال: إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذموا المذموم، وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي وغير ذلك من الطعون التي ذكروها، وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم، حتى أن واحداً منهم إذ أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعفه بروايته... فلولا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز لما كان بينه وبين غيره فرق، وكأن يكون خبره مطرحاً مثل خبرغيره، فلا يكون فائدةً لشروعهم في ما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق، وترجيح الأخبار بعضها على بعض. وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترناه(1).

ص: 295


1- العدة: ج 1 ص 53.

ومنها: تصريح جمع من قدماء الأصحاب ومتأخريهم بما يظهر منه المفروغية والتسالم على العمل بخبر الواحد في الجملة، فعن الصدوق (قدس سره) في الفقيه في ذيل أخبار سهو النبي (ص) أنه قال: فلو جاز رد هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز رد جميع الأخبار، وفيه إبطال الدين والشريعة.

وعن المحقق في المعتبر أنه قال في مسألة خبر الواحد: أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر... واقتصر بعضهم من هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يصدق، ولم يتنبه على أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ ما من مصنف إلا وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل....

وعن الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي: أن الأصحاب قد عملوا بشرايع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص تنزيلاً لفتاواه منزلة رواياته. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): ولولا عمل الأصحاب برواياته غير العلمية لم يكن وجه للعمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته، إلى غير ذلك مما يجده الباحث المتتبع مما يشهد بوضوح الحكم بين الأصحاب وتسالمهم عليه ومفروغيتهم عنه، وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره).

ومن جميع ذلك يظهر وهن الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى (قدس سره) على المنع من العمل بخبر الواحد، فلابد إما من تنزيله على أخبار المخالفين، كما قد يناسبه ذكره لذلك في تعقيب حديث عدم توريث الأنبياء (عليهم السلام)، ويكون قد تجنن بالإجماع الذي ادعاه دفعاً للخصوم، حيث لا يمكنه الطعن في رواياتهم بفسق راويها، كما يظهر ذلك من الشيخ (قدس سره) في العدة، حيث

ص: 296

قال: فإن قيل: أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أن الخبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك؟... قيل له: الذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون هم خلافها. وذلك صحيح على ما قدمنا. ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه...(1).

أو يكون مراده بالعلم ما يعم الوثوق، بناءً على ما حكي عنه من تفسير العلم بأنه ما يوجب سكون النفس، أو غير ذلك مما يمكن به توجيه كلامه، وإن كان على خلاف ظاهره، وإلا فمن البعيد جداً خفاء عمل الأصحاب بالخبر عليه، مع وضوحه واشتهاره بينهم.

وكيف كان، فلا مجال للالتفات إلى ما ذكره بعد ما عرفت.

وما ذكرناه في تقرير الإجماع العملي يغني عن تقريره ببعض الوجوه الأخر، كدعوى الإجماع حتى من السيد وأتباعه على العمل بأخبار الآحاد في مثل زماننا الذي ينسد فيه باب العلم، لتصريحه بانفتاح باب العلم. أو على العمل بالأخبار التي بأيدينا المودعة في أصولنا، لدعواه احتفافها بالقرائن القطعية، مع الإشكال في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه، وإن تعرض لبعضه شيخنا الأعظم (قدس سره).

وأما الوجه الثاني: - وهو سيرة المتشرعة على العمل بالخبر غير العلمي - فهو مما لا يظن بأحدٍ إنكاره، إذ لولا ذلك لاختل نظامهم في أمور معاشهم ومعادهم، ومنها أحكام المفتين الذين يأخذون منهم دينهم، لعدم

ص: 297


1- العدة ج: 1 ص 48.
الاستدلال بالسيرة على العمل بخبر الواحد غير العلمي

تيسر العلم في جميع ما يبتلون به، وتحري طرقه وأسبابه يوجب توقفهم عن العمل في كثير من الموارد، بل أكثرها، وهو مخل بنظامهم. ولا مجال لاحتمال سلوكهم طريقاً آخر في الشرعيات، فإن ذلك لو كان لظهر وبان.

بل لا ينبغي الريب في أن عملهم بالخبر المذكور مستند إلى ارتكازياتهم الأولية من دون حاجة منهم إلى بيانٍ خاص من الشارع، وإلا لظهر، لكثرة الحاجة إلى السؤال عن ذلك لولا الارتكازيات المذكورة. فسيرتهم متفرعة على سيرة العقلاء ومن مظاهرها وإن كانت أولى بالاستدلال، لعدم الحاجة معها إلى الإمضاء أو عدم الردع، وعدم الاعتناء بظهور بعض الأدلة في الردع، كما تقدم عند الكلام في أقسام الإجماع العملي.

وأما الوجه الثالث - وهو سيرة العقلاء - فتوضيح الكلام فيه: أن سيرة عامة الناس وتعارفهم على العمل بطريق..

الوجه الثالث: سيرة العقلاء

تارةً: تكون مستندة إلى أمر خارج عنهم طارئ عليهم، كحاجتهم إليه في خصوص زمان أو مكان، أو حملهم عليه من جهة خاصة، كسلطان قاهر أو عالم ناصح.

وأخرى: يكون ناشئاً من مرتكزاتهم التي أودعها الله عز وجل فيهم، وغرائزهم التي فطرهم تعالى عليها.

أما الوجه الأول فلا مقتضي فيه للكشف عن الحجية الشرعية في مورده، إذ لا وجه لحمل الشارع على الجهة الخارجية المذكورة، كما لا وجه لحمل غيره من الموالي على ذلك بنحوٍ يستكشف حكمهم.

بل لابد معه من إحراز الإمضاء من المولى، ويكون الإمضاء تمام المقتضي للحجية من قبله، لا أن السيرة تكون تامة الاقتضاء بحيث تحتاج

ص: 298

إلى الردع الذي هو من سنخ المانع والرافع، فلا يكفي في البناء عليها عدم الردع فضلاً عن عدم ثبوته.

نعم، لو فرض استحكام السيرة بنحوٍ يغفل عن إرادة خلافها والتفات المولى إلى ذلك، وتيسر الردع عليه كان عدم صدور الردع منه ظاهراً في إمضائه لها، الذي عرفت أنه تمام المقتضي لمتابعتها.

وأما الوجه الثاني فالظاهر أنه هو المراد بسيرة العقلاء في كلامهم، إذ الظاهر من نسبتها لهم جريهم عليها بما هم عقلاء لا بجهة أخرى.

والظاهر أن السيرة بالوجه المذكور بنفسها مقتضية للعمل على طبقها، بنحوٍ يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها، لأن الارتكازيات التابعة للإدراك والفطرة مما يحسن الاحتجاج به عقلاً ما لم يثبت الردع عنه من المولى، فمورد السيرة يشترك مع العلم في ثبوت مقتضي الحجية فيه بذاته وإن فارقه بأنه صالح للردع عنه، بخلاف العلم فإنه علة تامة للحجية لا تقبل الردع.

وعلى هذا لا يحتاج العمل بذلك إلى إثبات الإمضاء، كما تجشمه غير واحد، بل ولا إلى عدم الردع واقعاً، بل يكفي عدم ثبوت الردع، لحكم العقل بلزوم متابعة المقتضي في مثل ذلك ما لم يثبت الردع عنه حتى لو احتمل كون عدم الردع لعدم تيسره للمولى، كما يشهد به التأمل في المرتكزات العقلائية القطعية.

ومن ثم لا يظن من أحد التشكيك في الإلزام والالتزام بظاهر كلام المولى لو احتمل كون عدم ردعه عن العمل بالظهور لعدم تيسر الردع له.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من عدم ثبوت هذا

ص: 299

الوجه وإن كان من أحسن الوجوه في الاستدلال بالسيرة.

إذ يكفي في ثبوته ما عرفت من المرتكزات القطعية الراجعة إلى حكم العقل القطعي بالتعذير والتنجيز على طبق السيرة المذكورة.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني (قدس سره) من قوله في الكفاية: ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة عن الواقع يكون عقلاً في الشرع متبعاً ما لم ينهض دليل على المنع على اتباعه في الشرعيات.

كما ظهر أن الحجية حينئذٍ لا يصح نسبتها للشارع الأقدس أو غيره من الموالي، لعدم استنادها إليه، بل هو ملزم عقلاً بها.

نعم، لو لم يردع مع تمكنه من الردع تكون الحجية مستندة إليه لاستناد بقائها إليه.

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي الإشكال في بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في الجملة وسيرتهم على ذلك. كما لا إشكال في أنها من القسم الثاني المستند لارتكازياتهم القاضية بصلوحه للاعتماد والعمل، وذلك كاف في حجيته مع عدم ثبوت الردع عنه، كما ذكرنا.

بل ذكر غير واحد أن عدم ثبوت الردع كاشف عن الإمضاء، فإن السيرة المذكورة بمرأى من الشارع الأقدس ومسمع، فلو لم يكن راضياً عنها لردع عنها، كما ردع عن القياس، ولو ردع عنها لوصل الردع، كما وصلنا الردع عن القياس، لتوفر الدواعي على نقله. بل لا ينبغي الإشكال في ظهور أكثر الأدلة المتقدمة في الإمضاء، وإن كان هذا رجوعاً عن الاستدلال بالسيرة

ص: 300

إلى الاستدلال بها كما لا يخفى.

وجوه دعوى صلوح أدلة المنع للردع

نعم، قد يدعى صلوح العمومات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عن السيرة المذكورة. وقد تصدى غير واحد للمنع عن ذلك لوجوه ذكروها في المقام..

الأول: ما ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره)

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن مرجع حرمة العمل بما عدا العلم أمران..

الأول: أن التعبد بغير العلم مستلزم للتشريع المحرم بالأدلة الأربعة.

الثاني: أن فيه طرحاً للأصول اللفظية والعملية المعتبرة شرعاً.

وكلا الوجهين غير جارٍ في العمل بالخبر بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل به، لانتفاء التشريع مع بنائهم على العمل به، ولذا يعولون عليه في أوامرهم العرفية مع قبح التشريع فيها عندهم، كالأحكام الشرعية.

وأما الأصول فهي لا تجري مع الخبر. أما اللفظية منها فلعدم بناء العقلاء على اعتبارها مع وجود الخبر في مقابلها.

وكذا العملية العقلية - وهي البراءة والاحتياط والتخيير - لأن نسبة حكم العقل بالعمل بها إلى الأحكام العرفية والشرعية سواء، وحيث كان الخبر بعد فرض بناء العقلاء على العمل به مانعاً من حكم العقل بمقتضاها في الأحكام العرفية كان مانعاً منه في الأحكام الشرعية.

وأما الاستصحاب فإن أُخذ من العقل فلا إشكال في أنه لا يفيد الظن في المقام، وإن أُخذ من الأخبار فهي آحاد لا تقتضي إلا الوثوق.

وفيه: أن عدم صدق التشريع مع الخبر في الأحكام العرفية إنما هو

ص: 301

لبنائهم على حجيته وعدم الرادع في أحكامهم عنه، فلا وجه لقياس الأحكام الشرعية بها مع فرض عموم دليل حرمة العمل بغير العلم للخبر، وصلوحه للردع الشرعي عن حجيته، الموجب لكون التعبد به في الأحكام الشرعية تعبداً بغير الحجة وتشريعاً محرماً.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره في الأصول اللفظية والعملية العقلية، فإن عدم جريانها مع الخبر في الأحكام العرفية لكونه حجةً عند العرف رافعاً لموضوعها، وهو لا ينافي جريانها معه في الأحكام الشرعية لو فرض ردع الشارع عنه بالعمومات المذكورة.

على أن اختصاص الأصول الشرعية بالاستصحاب لا وجه له، بل البراءة والاحتياط قد يكونان شرعيين مستندين إلى أدلة قطعية غير أخبار الآحاد، فلا مانع من رادعيتها عن حجية الخبر. كما أن المراد بابتناء الاستصحاب العقلي على إفادة الظن - لو سُلِّم - إنما هو بمعنى كونه مفيداً للظن نوعاً، فلا يرتفع موضوعه مع الخبر، كما لا يرتفع مع غيره من الأمارات التي لم تثبت حجيتها أو ثبت الردع عنها.

نعم، إذا كان دليل الاستصحاب منحصراً بأخبار الآحاد لم يصلح للردع عن خبر الواحد، كما ذكره (قدس سره) كما أن الأصول اللفظية الثابتة ببناء العقلاء لا تنهض بالمنع عن العمل بالخبر الثابت ببناء العقلاء أيضاً، لأن نسبة أدلة حرمة العمل - بما عدا العلم - إلى الأصول المذكورة والخبر واحدة، فإن صلحت للردع كانت رادعة عنهما معاً، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعاً لليد عن غير الحجة بغير الحجة، وإلا لم تصلح للردع عنهما معاً، فيكون رفع اليد عن الأصول بالخبر رفعاً لليد عن الحجة بالحجة.

ص: 302

اللهم إلا أن يفرض القطع بعدم الردع عن الأصول المذكورة تخصيصاً لعمومات الأدلة المذكورة، فتصلح الأصول المذكورة للمنع من العمل بالخبر بعد فرض حجيتها وصلوح العمومات للردع عنه.

وبالجملة: لا وجه لقياس العمل بالخبر في الأحكام الشرعية بالعمل به في الأحكام العرفية، بعد فرض عدم الردع عنه من قبل الموالي العرفيين الموجب لحجيته في أحكامهم، وفرض كون مقتضى عموم أدلة حرمة العمل بغير العلم الردع عنه الموجب لعدم حجيته شرعاً، فيكون التعبد به في الأحكام الشرعية تشريعاً محرماً، ومخالفاً للأصول الجارية فيها المفروض اعتبارها.

الثاني: ما ذكره الخراساني (قدس سره)

الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من استحالة الردع عن السيرة بالعمومات المذكورة، للزوم الدور منه، لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة، وهو يتوقف على الردع بها عنها، إذ مع عدم الردع بها عنها تكون حجةً صالحةً للتخصيص.

وفيه: أن صلوح العمومات للردع عن السيرة فعلي ناشئ من فعلية ظهورها المفروض الحجية، وصلوح السيرة لتخصيص العمومات موقوف على حجيتها الموقوفة على عدم الردع عنها بالعمومات، ولا مجال للتوقف عن المقتضي التنجيزي بالمقتضي التعليقي، بل يجب البناء على المقتضي التنجيزي ورفع اليد به عن المقتضي التعليقي، لعدم فعلية تأثيره في مرتبة المقتضي التنجيزي، ففي مرتبة ظهور العمومات المفروضة الحجية تكون رادعةً عن السيرة مانعةً من حجيتها ومن صلوحها للتخصيص.

الثالث: ما يظهر من النائيني (قدس سره)

الثالث: ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) وصرح به بعض الأعيان

ص: 303

المحققين (قدس سره) من أن عمل العقلاء بالخبر لما كان مبنياً على بنائهم على أن حاله حال العلم وعلى تتميم كاشفيته وإلغاء احتمال الخلاف معه كان خارجاً عن موضوع العمومات، فلا تصلح للردع عنه. وكأن ما ذكره بعض مشايخنا من حكومة السيرة على العمومات المذكورة راجع إلى ذلك.

وفيه: أنه لو سلم ابتناء حجية الخبر على تتميم كاشفيته فلا يكفي في خروجه عن العمومات تتميم كشفه بنظر العقلاء، بل لابد من تتميم كشفه عند الشارع، ولا مجال لإحراز ذلك مع ظهور العمومات في الردع عنه.

هذا، ولو فرض ثبوت الإمضاء للسيرة من قبل الشارع كان الخبر خارجاً عن موضوع العمومات، إلا أن ذلك لا يستند إلى السيرة، بل إلى دليل الإمضاء الحاكم على العمومات أو المخصص لها، وهو خروج عن محل الكلام.

نعم، قد يكون استحكام السيرة على العمل بالخبر وبناء العقلاء على صلوحه له بما هم عقلاء موجباً للغفلة عن شمول العمومات له، فلا يترتب على العمومات الارتداع عنه ولا يتأدى بها الغرض، ويحتاج ذلك إلى ردع خاص رافع للعلة، بل ردع كثير يناسب استحكام العمل بالخبر وعمومه أكثر من الردع عن القياس الذي عمل به طائفة خاصة من الناس، فعدم ورود ذلك من الشارع واقتصاره على العمومات المذكورة كاشف عن عدم تصديه بها للردع عن السيرة، كما أشير إليه في كلام بعض أفاضل العصر.

لكن هذا - لو تم - لا يحتاج إلى فرض ابتناء عملهم على تتميم الكشف.

هذا كله مع قطع النظر عما عرفت من الأدلة الكثيرة ومنها سيرة العلماء والمتشرعة على إمضاء السيرة المذكورة الكاشف عن تخصيص العمومات

ص: 304

على تقدير تماميتها.

مع أنه تقدم منّا في تحقيق مقتضى الأصل عند الشك في الحجية المناقشة في ثبوت العمومات المذكورة. فلا ينبغي الإشكال في الرجوع للسيرة في المقام وصحة الاستدلال بها.

بل هي من أهم الأدلة، لنهوضها بتحديد ما هو الحجة، بخلاف بقية الأدلة، فإنه لا إطلاق لها ينهض بذلك غالباً.

الرابع من أدلة حجية الخبر: العقل

الرابع: من الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر: دليل العقل وهو من وجوه..

بعضها يختص باثبات حجية خبر الواحد، وبعضها يقتضي حجية الظن مطلقاً أو في الجملة، ليدخل فيه الخبر، أو يختص به بضميمة مقدمة خارجية، وهو كونه متيقن الحجية من بين الظنون على تفصيل يذكر في محله. ونحن نقتصر هنا على القسم الأول، ونخص القسم الثاني بفصل مستقل، لعدم كون المقصود به خصوص الخبر وإن أفاد حجيته.

فاعلم أنه قد قرب دليل العقل في المقام بوجوه عمدتها: أن التأمل في طريقة أصحابنا (رضي الله عنهم) في حفظ الأخبار وشدة احتياطهم في جمعها يوجب العلم بصدور بعضها، بل أكثرها، كما أوضحه شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل هو أظهر من أن يحتاج إلى توضيح.

كما أنه لا ريب في اشتمال الصادر على أحكام إلزامية، ولا يحتمل كون الصادر خصوص ما يتضمن الأحكام غير الإلزامية كي لا يكون أثر للعلم الإجمالي المذكور في التنجيز، وحينئذٍ فالعلم الإجمالي المذكور يقتضي العمل بجميع الأخبار المتضمنة للأحكام الإلزامية.

ص: 305

إلا أن يفرض امتناع الجمع بينها عملاً، كما في الدوران بين المحذورين، فيتعين حينئذٍ التخيير أو ترجيح المظنون الصدور أو المطابقة للواقع، على الكلام في ذلك في مبحث الدوران بين محذورين.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من لزوم العمل بكل خبر والترجيح بالظن عند التعارض مطلقاً وإن كان التعارض بين الخبر المتضمن لحكم إلزامي و الخبر المتضمن لحكم ترخيصي.

فلا وجه له، لعدم اقتضاء العلم الإجمالي المذكور لزوم العمل بالخبر المتضمن للحكم الترخيصي بنحوٍ يتوقف لأجله عن العمل بالخبر المتضمن للحكم الإلزامي، لإمكان الجمع بينهما عملاً، فيتعين عملاً بالعلم الإجمالي المذكور.

نعم، لو فرض لزوم العسر من العمل بجميع الأخبار المتضمنة لأحكام إلزامية لكثرتها فقد يتجه الاقتصار على خصوص مظنون الصدور أو المطابقة للواقع منها، لما يأتي في دليل الانسداد. إلا أن الفرض المذكور غير ظاهر، لعدم وضوح كثرة الأخبار بالنحو المذكور.

وجوه الإشكال على الدليل العقلي:

ثم إنه قد يستشكل في الدليل المذكور بوجوه:

الوجه الأول

الأول: أن وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنما هو من حيثية وجوب العمل بالتكاليف الواقعية الحاصلة في مواردها، وحينئذٍ فالتكاليف المعلومة بالإجمال لا تختص بموارد الأخبار، بل تسع جميع موارد الطرق الظنية غير المعتبرة في أنفسها، كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية وغيرها، بل جميع الشبهات الحكمية وإن لم تكن مورداً للطرق الظنية، وهو يستلزم الاحتياط فيها إلا أن يستلزم العسر أو اختلال النظام، على ما يأتي الكلام

ص: 306

فيه في دليل الانسداد، ولا خصوصية في ذلك لموارد الطرق، فضلاً عن خصوص موارد الأخبار.

نعم، قد يدعى انحلال العلم الإجمالي الكبير المذكور بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في خصوص موارد الطرق، لأنه أخص منه مورداً وداخل في ضمنه، فلا تتنجز إلا موارد الطرق من دون فرق بين الأخبار وغيرها.

وهو مبني على ما هو الظاهر من عدم العلم بوجود أحكام أُخر في غير موارد الطرق، وإلا لزم وجوب الاحتياط فيها حتى مع فرض حجية الطرق، ومن المعلوم عدم الالتزام بذلك، بل لا ريب في عدم وجوب الاحتياط في غير موارد الأخبار لو فرض حجيتها وحدها بالخصوص، لوفائها بالمقدار المعلوم بالإجمال حينئذٍ وإن كانت أقل من الطرق.

إن قلت: لا ريب في عدم انحلال العلم الإجمالي بالظن بالتكليف في بعض أطرافه إذا لم يكن حجة صالحاً لتمييز المعلوم بالإجمال، فإذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين لم ينفع الظن بكون النجس أحدهما في جواز ارتكاب الآخر.

قلت: هذا إنما يكون لو لم يتنجز مورد الظن بعلم إجمالي، كما في المقام، حيث فرض العلم الإجمالي بإصابة بعض الطرق للتكاليف الواقعية، إذ مع تنجز أطرافه به ينحل العلم الإجمالي الكبير لا محالة.

نعم، لو فرض في المقام احتمال خطأ جميع الطرق الظنية، وانحصار التكاليف في الشبهات الخالية عنها اتجه عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير، ويكون حينئذٍ نظير مثال الإنائين المتقدم. لكن لا يظن بأحد دعوى ذلك.

إن قلت: على هذا يتجه انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في

ص: 307

ضمن جميع الطرق بالعلم الإجمالي بوجودها في ضمن خصوص موارد الأخبار، لما تقدم من وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال، فلا يجب الاحتياط في الموارد التي تنفرد بها بقية الطرق عن الأخبار، ولا يتم أصل الإشكال.

قلت: وفاء الأخبار بالمعلوم بالإجمال إنما يوجب الانحلال لو كانت موارد الأخبار أخص مطلقاً من موارد بقية الطرق لتنجز موارد الأخبار بالعلم الإجمالي الحاصل فيها على كل حال، فيمنع من تنجز بقية الأطراف بالعلم الإجمالي الشامل لها، أما حيث كان بين موارد الأخبار وموارد بقية الطرق عموم من وجه فلا مجال للانحلال، إذ وفاء موارد الأخبار بالمعلوم بالإجمال لكون بعضها، بل كثير منها، مورداً لبقية الطرق، لا لخصوصية للأخبار في العلم الإجمالي المذكور، ولذا لا يبعد وفاء موارد بقية الطرق - التي منها موارد الاشتراك بينها وبين الأخبار - بالمعلوم بالإجمال، فلو كان ذلك كافياً في انحلال العلم الإجمالي لزم الاحتياط في خصوص موارد بقية الطرق، دون الموارد التي تنفرد بها الأخبار.

نعم، لو كان مورد اجتماع الأخبار مع بقية الطرق وافياً بالمعلوم بالإجمال كان اللازم تنجزه وحده وانحلال العلم الإجمالي به. فيلزم عدم وجوب متابعة بقية الطرق في مورد انفرادها عن الأخبار، ولا الأخبار في مورد انفرادها عن بقية الطرق. إلا أن وفاءه بالمعلوم بالإجمال غير ظاهر.

وبالجملة: بعد فرض عدم حجية الأخبار بالخصوص وكون النسبة بين مواردها وموارد بقية الطرق العموم من وجه يتعين عدم خصوصيتها من بين أطراف العلم الإجمالي بنحوٍ تقتضي انحلاله ولزوم العمل بجميعها.

نظير ما لو كان هناك عشر أوانٍ، سبعة منها خزف، وسبعة بيض،

ص: 308

تجتمع البيض والخزف في أربعة منها، وعلم إجمالاً بنجاسة ستة من العشر، فإن كلاً من البيض والخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال، إلا أنها لا تقتضي انحلال العلم الإجمالي، لعدم المرجح لأحد الصنفين في التنجز.

نعم، لو قامت البينة على نجاسة الخزف كان تنجزها بالبينة موجباً لانحلال العلم الإجمالي، لترجحها بسبب البينة في التنجز على بقية الأواني وإن احتمل خطأ البينة.

ومنه يظهر الوجه في انحلال العلم الإجمالي بالأخبار لو فرض ثبوت حجيتها بالخصوص، لأن حجيتها كافية في ترجيحها على بقية الطرق، وتنجيز مواردها، وحل العلم الإجمالي بها وإن احتمل خطؤها.

نعم قد يقال: الأخبار وإن لم تفرض حجيتها بالخصوص إلا أن العلم الإجمالي بصدور بعضها يقتضي خصوصيتها في التنجز، إذ ليست هي كبقية الطرق، لأن صدور الخبر مقتض للعمل به وإن لم يعلم بمطابقة ظهوره للواقع، لاحتمال احتفافه بالقرينة، أو صدوره تقية أو نحوهما، بخلاف بقية الطرق، فإنها لا تقتضي العمل بأنفسها، بل من جهة العلم بإصابتها للواقع.

وحينئذٍ فالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار المتضمنة للتكاليف الإلزامية موجب لخصوصية موارد الأخبار في التنجز، لرجوعه إلى العلم بقيام الحجة على التكاليف الواقعية في ضمن موارد الأخبار، الموجب لتنجزها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي بوجود تكاليف في جميع موارد الشبهات الحكمية، أو في خصوص موارد الطرق غير المعتبرة، فيصلح لحل العلم الإجمالي المذكور، ولا يتنجز حينئذٍ إلا موارد الأخبار.

وأما المنع من الانحلال من جهة أن الأخبار وإن كانت وافية بالمعلوم

ص: 309

بالإجمال، إلا أن التكاليف المعلومة في ضمنها لما كانت أقل من التكاليف المعلومة في ضمن مطلق الطرق لم تصلح لحل العلم الإجمالي بالأكثر، فالمقام نظير ما لو علم إجمالاً بنجاسة ست من عشر أوانٍ فيها سبع خزف علم بنجاسة أربع منها، فإن الخزف وإن كانت وافية بالمعلوم بالإجمال، إلا أن المحرمات المعلومة فيها لما لم تكن بقدر المحرمات المعلومة في ضمن تمام العشر لم تصلح لحل العلم الإجمالي القائم بتمام العشر.

ففيه.. أولاً: أن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار ليست أقل من التكاليف المعلومة في ضمن جميع الطرق، إذ لا طريق لإحراز وجود تكاليف في موارد بقية الطرق لا تدل عليها الأخبار.

وثانياً: أن ذلك لو سلم لا يكون مانعاً من الانحلال، لأن التكاليف المعلومة في ضمن الأخبار وإن كانت قليلة، إلا أنها لما كانت منجزة لجميع موارد الأخبار لزم الاحتياط في موارد الأخبار مع قطع النظر عن العلم الإجمالي القائم بجميع موارد الطرق، فلا يكون للعلم الإجمالي القائم بجميع موارد

الطرق أثر بالإضافة إلى موارد الأخبار. وحينئذٍ لا يؤثر في بقية أطرافه، لأنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي كونه منجزاً لتمام أطرافه، فلو كان بعضها منجزاً في نفسه امتنع الرجوع فيه للأصول الترخيصية، فلا يصلح العلم الإجمالي للتنجيز، ولا يكون مانعاً من الرجوع للأصول الترخيصية في بقية الأطراف، لعدم معارضتها بمثلها في الأطراف الأُخر المنجزة في نفسها.

وبالجملة: الظاهر أن ما ذكر من انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن جميع الشبهات الحكمية، أو في ضمن خصوص موارد

ص: 310

الطرق غير العلمية بالعلم الإجمالي بوجود التكاليف في ضمن خصوص الأخبار متجه في نفسه، ولازمه وجوب الاحتياط في خصوص الأخبار، وجواز الرجوع في بقية الشبهات للأصول الترخيصية. فلاحظ.

الوجه الثاني

الوجه الثاني: مما يستشكل به في الدليل العقلي المذكور: أنه لا ينهض بإثبات حجية الأخبار ليرفع به اليد عن العمومات والإطلاقات وغيرها من الظواهر الواردة في الكتاب المجيد والسنة المتواترة، وعن الأصول العقلية والشرعية.

ويندفع بأن الأخبار حينئذٍ وإن لم تنهض بالخروج عن الظهورات والحكومة على الأصول بعد فرض حجيتها، إلا أن العلم الإجمالي بصدور الأخبار المتضمنة للأخبار الإلزامية يكون مانعاً عن حجية الظهورات والأصول المذكورة، لأن العمل بها معه يكون مؤدياً إلى المخالفة الإجمالية للتكاليف المنجزة في ضمن الأخبار، وذلك موجب لسقوط الظهور والأصل عن الحجية.

الوجه الثالث

الوجه الثالث: أن الوجه المذكور لما كان مختصاً بالأخبار المتضمنة للأحكام الإلزامية فلا مجال للعمل بالأخبار المتضمنة للأحكام الترخيصية، والخروج بها عن الظواهر المشتملة على التكاليف وعن الأصول الإلزامية، بل يلزم حينئذٍ الاحتياط بالعمل على طبق الظواهر والأصول المذكورة، لأنه وإن علم بالخروج عنها إجمالاً، إلا أنه لا يكفي في إهمالها بعد العلم إجمالاً بعدم الخروج عنها في كثير من الموارد، بل يجب الاحتياط في جميع الموارد التي لم يعلم بالخروج عنها فيها تفصيلاً.

وهذا بالإضافة إلى لزوم الاحتياط في جميع الأخبار الإلزامية قد

ص: 311

يستوجب الحرج الملزم بالرجوع للظن على التفصيل الآتي في دليل الانسداد.

على أن الوجه المذكور إنما يقتضي العمل بالخبر احتياطاً، لا لحجيته في نفسه الذي هو محل الكلام، والذي تقتضيه بقية الأدلة المتقدمة من الكتاب والسنة والإجماع، فلا ينبغي التعويل عليه معها، لأنها في رتبة متقدمة عليه، إذ هي تقتضي تشخيص ما هو الحجة من الأخبار وحل العلم الإجمالي المذكور بنحو يسقط عن اقتضاء الاحتياط.

ومنه يظهر الإشكال في بقية الوجوه لتقرير الدليل العقلي في المقام مما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، وأطالوا الكلام فيها، ولا يسعنا استقصاء ذلك مع ما عرفت.

هذا ما وسعنا ذكره من حجج المثبتين، وقد عرفت أن عمدتها الأخبار والإجماع. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

المقام الثالث: في تحديد ما هو الحجة من أقسام خبر الواحد بعد الفراغ عن حجيته في الجملة حسبما استفيد مما تقدم في المقام الثاني.

تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر

اعلم أنه اشتهر بين المتأخرين تقسيم أخبار الآحاد إلى أقسام أربعة..

الأول: الصحيح، وهو ما كان الرواة في سنده عدولاً إماميين.

الثاني: الموثق، وهو ما كان الرواة في سنده ثقات وفيهم غير إمامي.

الثالث: الحسن، وهو ما كان في رواته ممدوح بالخير والصلاح ولم ينص على عدالته، والظاهر لزوم كون المدح بنحو يوجب الوثوق به والأمن من كذبه. كما لابد أن لا يشتمل سنده على ضعيف بالمعنى الآتي.

ص: 312

الرابع: الضعيف، ويدخل فيه ما كان بعض رواته مجروحاً، أو مجهول الحال، إما مع معرفة اسمه، أو بدونه، كما في المرفوع والمرسل.

هذا، وقد عرفت أن عمدة الأدلة التي يستفاد منها حجية الخبر هي الأخبار والإجماع العملي، بوجوهه الثلاثة الراجعة إلى إجماع العلماء والمتشرعة والعقلاء.

أما الأخبار فحيث لم تكن متواترة لفظاً ولا معنى، بل إجمالاً، كان اللازم الاقتصار فيها على المتيقن المستفاد من جميعها، ولا يتضح إمكان استفادة حجية قسم منها متفق عليه لعدم تعرضها غالباً

لبيان حجية الخبر، وإنما استفيد منها حجيته في الجملة لظهورها في المفروغية عن حجيته، فاللازم الاقتصار على المتيقن من الكل، وقد قيل: إنه الخبر الصحيح.

ولكن قد يستفاد من ذلك حجية خبر الثقة وإن لم يكن عدلاً بدعوى: أنه حيث كان في الأخبار الصحيحة ما يدل على حجية خبر الثقة مطلقاً، لزم البناء على حجيته وإن لم يتواتر ما دل على حجيته، كما ذكر ذلك بعض مشايخنا، ونسبه للمحقق الخراساني (قدس سره).

وفيه: أنه لم يتضح وجود خبر صحيح يدل على حجية خبر الثقة مطلقاً، فإن ما سيأتي من الأخبار ليس فيها ما هو الصحيح اصطلاحاً. ولاسيما مع أن المتيقن ليس كل صحيح، بل خصوص من علم أو قامت البينة على تزكية جميع رجال سنده، فإن قبول خبر العدل الواحد في التزكية لا يمكن استفادته من الأخبار، لاختصاصها بالروايات، وإنما يستفاد من السيرة التي لسنا بصدد الاستدلال بها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال بصحيح حريز المتقدم في آية

ص: 313

الإيذاء، المتضمن لقوله (ع): فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، بدعوى: دخوله في المتيقن من النصوص، لأنه صحيح، ودلالته على حجية خبر كل مؤمن وإن لم يكن عادلاً، غاية الأمر تخصيصه بخبر الثقة، أو بمطلق ما يوثق بصدوره من الأخبار ولو لقرائن خارجية فيتعدى منه لخبر غير المؤمن الثقة، أو الموثوق بصدوره، لعدم القول بالفصل بين خبر المؤمن غير العادل وخبر غيره.

إذ فيه: أن الصحيح المذكور غير داخل في المتيقن، إذ لم يوثق حريزاً إلا الشيخ (قدس سره) في الفهرست، بل قد يدعى أن الثابت به كونه ثقةً لا عادلاً. وربما يقال ذلك أو غيره في غيره من رجال سند الحديث. وتمام الكلام في محله.

على أن الاستدلال المذكور - مع ابتنائه على رجوع عدم الفصل في المقام إلى الإجماع على عدمه - مبني على عموم المؤمن في الحديث لغير العادل، وهو لا يخلو عن إشكال فإن كثيراً من النصوص ظاهرة في كون العمل من شروط الإيمان أو متمماته. وهو المناسب للاستشهاد في الحديث بالآية الكريمة الواردة في مقام مدح المؤمنين في قبال المنافقين، بل هو المناسب لمورد الحديث، وهو الإخبار عن الموضوع الخارجي - وهو شرب الخمر - الذي يعتبر فيه العدالة بلا إشكال.

بل قد يدعى كون ذلك مانعاً من إطلاق الحديث بنحو يقتضي عدم اعتبار التعدد، ولاسيما مع التعبير فيه بالشهادة. فلاحظ.

هذا، وقد يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) دعوى تواتر ما دل على حجية الخبر الموثوق به صدوراً أو مضموناً وإن لم

ص: 314

يكن راويه ثقة، فضلاً عما لو لم يكن عادلاً، حيث يستفاد حجيته مما دل على الترجيح بشهرة الرواية ووثاقة الراوي وعدالته، والترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، فإنهما يوجبان الوثوق بالمضمون. وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة بنحوٍ يظهر منه كون منشئه الوثوق بخبرهم. وما دل على جواز الرجوع لكتب بني فضّال.

وفيه: أن الترجيح بما يوجب الوثوق الشخصي من شهرة الرواية ونحوها أو غيره لا ينافي اعتبار قيود تعبدية في أصل الحجية كالعدالة.

وما دل على الترجيح بوثاقة الراوي أو عدالته لا يقتضي الاكتفاء بالوثوق بالخبر ولو لم يكن الراوي ثقة، أو عادلاً.

وموافقة الكتاب لا توجب الوثوق بمضمون الخبر، لكثرة تخصيص الكتاب المانع من الوثوق الشخصي بعمومه.

ومخالفة العامة من القريب أن تكون من المرجحات الجهتية الخارجة عما نحن فيه.

وما دل على الإرجاع لآحاد الرواة قد تقدم عند التعرض لأخبار المسألة الإشكال في الاستدلال به للمقام.

وما دل على جواز الرجوع لكتب (بني فضّال) إنما يدل على الاكتفاء بالوثوق في الراوي وإن لم يكن عادلاً، ولا يدل على الاكتفاء بالوثوق بالخبر مع عدم الوثوق بالراوي. مع أنه خبر واحد.

وأما استفادة ذلك من بقية الأخبار فهو غير ظاهر. فإن حملها على ذلك وإن كان قريباً جداً، بلحاظ كونه ارتكازياً يناسب عمل الأصحاب، إلا أنه لا مجال لاستفادته من النصوص ودعوى

ظهورها فيه، ولاسيما مع عدم صدور أكثرها لبيان الحجية، بل لبيان أمر آخر يستفاد منه المفروغية عن

ص: 315

الحجية في الجملة. خصوصاً مع لزوم كون المضمون متواتراً ولو إجمالاً ليمكن البناء عليه في هذه المسألة.

نعم، لا يبعد دعوى أن النظر في النصوص يوجب العلم بحجية خبر الثقة، لدلالة نصوص كثيرة عليه، مثل ما ورد في كتب (بني فضّال)، وخبر الحسن بن الجهم عن الرضا (ع)، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق قال: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت، وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (ع)، إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم، فترد إليه(1)، وما في رواية عمر بن يزيد المتقدمة في آية الإيذاء من قوله (ع): إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر...، وما تقدم في الاستدلال بالسنة عن روضة الواعظين من قوله (ص): من تعلم باباً من العلم عمن يثق به... وما ورد في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً... حيث يظهر منه جواز الاعتماد على خبر المضيع للحديث الذي هو غير عادل غالباً، وما عن الكاظم (ع) في كتابه لعلي بن سويد: لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم... فإن تعليل عدم القبول من غير الشيعة بخيانتهم ظاهر في كون منشئه عدم الوثوق به، فيدل على أن المدار على الوثوق. وقريب منه ما عن تفسير العسكري (ع) الوارد في التقليد، بناءً على عمومه للرواية، كما تقدم عند التعرض للنصوص، وعلى أن ظاهر التعليل فيه كون اعتبار ما اعتبر فيه من الشروط لأجل ملازمتها للوثوق، لا

ص: 316


1- الوسائل ج 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 40، 41.

تعبداً. مضافاً إلى ما تقدم بطرق متعددة من قولهم (عليهم السلام): لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها، بناءً على أن المراد بالصادق من له ملكة الصدق الذي هو الثقة، لا من هو صادق بالفعل في الخبر الشخصي، لندرة الاطلاع على ذلك في غير المعصوم. فتأمل.

فإن النصوص المذكورة ظاهرة في حجية خبر الثقة وإن لم يكن عادلاً، بل ظاهر كثير منها المفروغية عن ذلك، مع اعتضادها ببعض المطلقات، وبما تقدم من أن هذا حيث كان ارتكازياً كان حمل

بقية النصوص عليه قريباً جداً، وإن لم يمكن دعوى دلالتها عليه، لعدم ورودها في مقام البيان. والتأمل في جميع ذلك يوجب القطع بحجية خبر الثقة.

بل قد يدعى أن أخذ الوثوق في الراوي إنما هو لأجل حصول الوثوق بروايته، لمناسبته للارتكاز العقلائي، فلو فرض حصول الوثوق برواية من ليس ثقة في نفسه دخل في الأدلة المذكورة.

وهو لا يخلو عن إشكال، لأن الظاهر كون الوثوق بالراوي موجباً لحجية روايته وإن لم يحصل الوثوق بها ما لم تقم القرائن الموجبة لاستبعاد صدقها.

بل قد يقال: إن المتيقن من النصوص المتقدمة حجية رواية الثقة لا كل خبر له، وحينئذٍ فلا يجتزأ في توثيق الراوي بخبر الواحد، بل لابد من العلم به أو قيام البينة. وهو موجب لسقوط كثير من الروايات.

اللهم إلا أن يتعدى عن مورد النصوص إلى مطلق خبر الثقة لفهم عدم الخصوصية، ولاسيما مع كون خصوصية خبر الثقة ارتكازية يصعب التفكيك فيها بين الموارد. فلاحظ.

ص: 317

هذا كله في مقتضى الأخبار، وأما الإجماع فقد عرفت أن الاستدلال منه بالإجماع العملي، من العلماء والمتشرعة والعقلاء.

ولا ينبغي الريب في عموم إجماع قدماء الأصحاب العملي لخبر الثقة وإن لم يكن إمامياً عدلاً، وكذا خبر الضعيف المحتف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره، مثل أخذه من الأصول المعتمدة عند الأصحاب، واعتماد قدمائهم عليه في مقام الفتوى، وغير ذلك مما يذكر في محله.

وقد صرح الشيخ (قدس سره) في العدة بذلك في غير موضع من كلامه، قال (قدس سره) في حال ما يرويه المخالف الثقة: أما إذ كان مخالفاً في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة (عليهم السلام) نظر في ما يرويه، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره... وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه، ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضاً العمل به، لما روي عن الصادق (ع) أنه قال: إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها في ما روي عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي (ع) فاعملوا به، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن

كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني، وغيرهم من العامة، عن أئمتنا (عليهم السلام) في ما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.

ص: 318

ثم ذكر نظير ذلك في فرق الشيعة غير الاثني عشرية، وقال: فلأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية، مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة، مثل سماعة بن مهران، وعلي بن حمزة، وعثمان بن عيسى، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال، وبنو سماعة، والطاطريون وغيرهم في ما لم يكن عندهم فيه خلافه.

ثم ذكر الغلاة وأن أخبارهم ترد في حال تخليطهم، ثم قال: وكذلك القول في ما يرويه المتهمون والمضعفون. وإن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به... فأما من كان مخطئاً في بعض الأفعال أو فاسقاً بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزاً فيها فإن ذلك لا يوجب رد خبره، ويجوز العمل به، لأن العدالة في الرواية حاصلة فيه، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانعٍ من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم.

ثم استطرد في ذكر اختلاف الأخبار إلى أن قال: وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوت [ميزت خ. ل] الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم. ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم. فأما إذا لم يكن كذلك، ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنه يقدم خبر غيره عليه، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به. فأما إذا انفردت المراسيل فجواز العمل بها على الشرط [الوجه خ. ل] ذكرناه (كذا). ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل، فما يطعن في واحد منها يطعن في الآخر، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر، فلا فرق بينهما على حال...(1).

ص: 319


1- العدة ج: 1 ص 56، 57، 58.

وقال في مقدمة الفهرست: فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلابد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يعول على روايته أو لا؟ وأبين عن اعتقاده وهل هو موافق للحق أو هو مخالف له، لأن كثيراً من مصنفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم معتمدة، وهو صريح في الاعتماد على كتب ذوي المذاهب الفاسدة، ولا وجه لاعتمادهم عليها إلا ثقتهم في أنفسهم أو احتفافها بما يوجب الوثوق بها، وإلا فمن البعيد جداً احتفافها بما يوجب العلم بثبوت جميع ما فيها. كيف وقد صرح نفسه في ما تقدم نقله عنه في العدة بعدم تيسر القرائن القطعية؟!.

وقد أطال في خاتمة الوسائل في ذكر القرائن التي تشهد بصحة الأخبار الموجودة في الكتب، والظاهر أنه يريد ما يوجب الوثوق بها، لا العلم التفصيلي بصحة كل خبر فيها، وعلى كل حال فما ذكره شاهد بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات غير العدول، بل أخبار الضعاف مع احتفافها بقرائن توجب الوثوق بصدورها.

وأدنى سبر لكتب الأصحاب بما فيها الكتب الأربعة شاهد بذلك، لاشتمالها على كثير من الأخبار غير الصحيحة بالاصطلاح المتقدم، مع العلم بأن إثباتهم لها لركونهم إليها واستدلالهم بها، لا لمحض التدوين والحفظ، كما يشهد به تصاريحهم والنظر في طريقتهم في الاستنباط، مع ما هو المعلوم عندهم من حال رواتها، فإنهم أخبر منّا بهم، فما أكثر من جرحوه أو ضعفوه في كتب الرجال وأودعوا رواياته في كتب الاستدلال من غير غمز فيها.

ص: 320

ولم يعرف الغمز في أسانيد الروايات المذكورة في كتب الأصحاب المشهورة إلا من ابن إدريس والمحقق ومن تأخر عنهما عند اشتمال الرواية على بعض الأحكام المستبعدة في نظرهم، مع عدم طعنهم في نظائرها من حيثية السند، بل يعملون بها متسالمين على قبولها، مما يشهد بأن طعنهم ناشئ عن الاستبعاد المذكور الذي قد يجر للتشبث بما لا يصح التشبث به، لعدم إمكان الالتزام بلوازمه.

كيف ومن المعلوم أن تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المتقدمة قد حدث متأخراً؟! فقد قيل: إن أول من قام بذلك السيد جمال الدين أحمد ابن طاووس، وتبعه تلميذه العلامة I ، ولم تكن طريقة من تقدم على ذلك، ولا التعويل عليه أو التقيد به، بل كان الصحيح عندهم - كما عن البهائي في مشرق الشمسين - ما كان محفوفاً بما يوجب ركون النفس إليه. على أنه لا يظهر من العلمين المذكورين - خصوصاً العلامة - الالتزام عملاً بما يناسب هذا التقسيم، وكذا من بعدهما، كما يأتي.

وأي إجماع أقوى من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة تزيد على ثلاثة قرون، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك حتى اشتهر تعبيرهم بانجبار الرواية بعمل الأصحاب وقبولهم لها.

ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن قبلهم من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وجريهم على طريقتهم، لامتناع الابتداع في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها، لعدم خفاء طريقة الطائفة فيها، خصوصاً بعد ما تقدم من الشيخ (قدس سره).

ص: 321

بل الظاهر أن ابتناء طريقة الأصحاب في أوائل الغيبة على التشدد في الرواية والاحتياط لها أكثر مما كان عليه الأصحاب قبل ذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام) لتنبههم إلى بعض الجهات الموجبة للتشكيك في الروايات، وقد اهتموا بتنقيحها، لشعورهم بمسيس الحاجة لها بسبب انقطاعهم عن المعصومين (عليهم السلام)، وعدم تيسر الرجوع لهم في كشف تلك الشبه عنها، كما يشهد به ما ينقل عنهم من استثناء بعض الروايات من الكتب، وتوقفهم عن الرواية عن الضعفاء، وغمزهم في بعض الرواة بما لا ينافي وثاقته، مثل كونه يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل، ولا يبالي عمن أخذ... إلى غير ذلك.

والإنصاف: أن التأمل في جميع ذلك يورث القطع بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات، وأخبار غيرهم إذا احتفت بما يوجب الوثوق بها والركون إليها، وعمدة ذلك عمل الأصحاب بالرواية وتدوينهم لها في أصولهم التي هي المرجع في أخذ الأحكام، وعدم طعنهم في سندها. والتوقف في ذلك من سنخ الوساوس التي لا ينبغي الركون إليها والاعتماد عليها. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

وأما سيرة المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض، فإن دعوى استنكارهم أخذ معالم الدين من غير العادل وإن لم تكن بعيدة، إلا أنه لا يبعد كون منشئها عدم الوثوق به بنحوٍ يغفل عن فرض الوثوق

بخبره لتحرزه عن الكذب أو لقرائن خارجية، فلا مجال لجعل سيرتهم من أدلة المنع في المقام، فضلاً عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء المشار إليها.

هذا، وأما سيرة العقلاء، فهي عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر، لأنها تابعة للمرتكزات الوجدانية، ولسيرتهم الخارجية

ص: 322

الظاهرة، ولا ريب في عدم أخذ العدالة في موضوعها، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر. بل الظاهر أنها أعم من ذلك أيضاً، فهم يعملون بخبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدوره من القرائن الخارجية، فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها، إلا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في موضوع السيرة، بحيث لا يكون العمل به تفريطاً عند العقلاء.

ومن ثم أشرنا في آية النبأ إلى أن التبين الرافع للندم عرفاً ليس خصوص ما يوجب العلم. والظاهر أن سيرة الأصحاب التي تقدمت الإشارة إليها مبنية على سيرة العقلاء المذكورة ومتفرعة عليها، فهي كاشفة عن إمضائها شرعاً، لا أنها مبنية على محض التعبد في قبالها.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما هو الحجة من أقسام الخبر أربعة..

الأول: الخبر الصحيح.

الثاني: الموثق.

الثالث: الحسن.

الرابع: الضعيف المحفوف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره، مثل تسالم الأصحاب على العمل به، وعدم طعنهم فيه من جهة السند، وتدوينهم له في أصولهم المعدة لأخذ الأحكام، خصوصاً مع تعدد طرقهم إليه وغير ذلك.

وأن حجية القسم الأول هي المتيقن من الأدلة. وأن الأخبار قد تنهض بإثبات الثاني والثالث أيضاً. وأما سيرة الأصحاب والعقلاء فهما ينهضان بإثبات حجية الأقسام الأربعة كلها.

ص: 323

ومن هنا فقد يستدل على حجية القسم الرابع بمنطوق آية النبأ، بدعوى: أن المراد من التبين فيها ليس خصوص التبين الموجب للعلم، بل ما يعم الموجب للوثوق، بقرينة التعليل بالندم المختص بما إذا

كان العمل مخالفاً للطريق العقلائي، دون المقام، لما عرفت من اكتفاء العرف في مقام العمل بخبر غير الثقة بوجود القرائن الموجبة للوثوق بصدقه ولو في خصوص ذلك الخبر.

بل قد يتمسك لأجل ذلك بالآية لإثبات حجية بقية الأقسام كما ذكرناه عند الكلام في وجوه الاستدلال بالآية.

لكنه يشكل: بأن الإطلاق المذكور لا مجال له في خصوص مورد الآية الشريفة، وهو الشبهة الموضوعية، خصوصاً ما يوجب القتل، كالارتداد.

والالتزام بكون التقييد فيه مستفاداً من أدلة خارجية ولا يمنع من التمسك بالإطلاق في سائر الموارد - كما في المقام - بعيد جداً عن المرتكزات العرفية في مقام فهم الكلام.

فلا يبعد سوق التعليل لمحض التبكيت والتأنيب للمخاطبين، لأن خروجهم عن الطريق العقلائي ادعى للاستنكار وأوقع فيه، لا لبيان المعيار في الحجية، ليمكن التمسك بإطلاقه، لإثبات الاكتفاء بالتبين غير العلمي تبعاً لسيرة العقلاء.

وقد تقدم عند الكلام في مفاد التعليل في الآية ما ينفع في المقام. فتأمل جيداً.

بقي في المقام أمران

بقي في المقام أمران..

الأول: أنه لا يبعد اختصاص بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة بما إذا

ص: 324

لم تقم قرائن تشهد بكذبه، وعدم صدوره بحيث توجب الريب فيه عرفاً، وقد تقدم نظير ذلك في مبحث حجية الظواهر.

وربما يبنى على ذلك ما اشتهر من وهن خبر الثقة بإعراض الأصحاب عنه، حتى قيل: إنه كلما ازداد السند قوة زاد وهناً بإعراضهم.

لكن الظاهر أن إعراض الأصحاب لا يوجب الوهن في السند بحيث يرتفع الوثوق معه بصدور الخبر، بل هو موجب لارتفاع الوثوق بظهوره، كما تقدم في مبحث حجية الظواهر.

وإلا فمن الصعب جداً التشكيك في صدور الروايات التي يرويها أعاظم الأصحاب بأسانيد عالية، خصوصاً مع إيداعها في الأصول المعدة لأخذ الأحكام ونحوها مما يعلم من حال مؤلفيها تحري خصوص ما يوثق بصدوره.

الثاني: أنه حيث كان من عمدة أدلة المقام هو سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة فمن الظاهر أنه لا يفرق في السيرة المذكورة بين الروايات وغيرها، وذلك يقتضي عموم حجية خبر الثقة ما لم يثبت الردع عنه في خصوص مقام.

وعليه يبتني الاكتفاء في توثيق رجال السند بتزكية الواحد إذا كان ثقة أو قامت القرائن على صدقه. ولا يعتبر فيه العدالة، فضلاً عن التعدد.

هذا تمام ما تيسر من الكلام في حجية خبر الواحد. ونسأله تعالى أن يكون وافياً بالمقصود، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل. والحمد لله رب العالمين.

ص: 325

ص: 326

الفصل السادس: في حجية مطلق الظن

والظاهر أن الكلام هنا مختص بحال انسداد باب العلم في المسألة وانحصار الأمر بغيره، لأن الوجوه الآتية في الاستدلال لا تقتضي لزوم الاكتفاء بالظن وعدم وجوب تحصيل العلم لو أمكن.

ومنه يظهر أنه لا مجال لمنع الوجوه الآتية وإبطالها بما تظافرت الأدلة به من عموم حرمة العمل بالظن وعدم حجيته في نفسه، وخصوص ما ورد في بعض الظنون كالقياس، بدعوى: أنها تكشف إجمالاً عن خلل في الوجوه العقلية التي أقيمت على الحجية لو فرض عدم تيسر الجواب عنها تفصيلاً.

إذ يمكن حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة تيسر العلم بحكم المسألة، فلا تنافي الوجوه المستدل بها في المقام لتكشف عن بطلانها.

اللهم إلا أن يدعى امتناع حمل الأدلة المذكورة على خصوص صورة انفتاح باب العلم بحكم المسألة، خصوصاً ما ورد في الظن الممنوع عنه بالخصوص كالقياس. وغاية ما يمكن حملها على صورة انفتاح باب العلم أو العلمي بمعظم المسائل، وإن فرض انسداده في خصوص المسألة،

ص: 327

وحينئذٍ فالأدلة المذكورة تلائم دليل الانسداد، دون الوجهين الأولين، لوضوح أنه يكفي فيهما انسداد باب العلم بحكم المسألة وإن لم ينسد في المعظم، فتكون الأدلة المذكورة كاشفة عن خلل فيهما إجمالاً، فيكونان كالشبهة في مقابل البديهة.

وجوه الاستدلال بحجية مطلق الظن

وكيف كان، فقد استدل على حجية مطلق الظن بوجوه..

الأول: مظنة الضرر في المخالفة

الأول: أن في مخالفة الظن بالحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة الضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.

وفيه: - مع أن لازمه وجوب مراعاة مطلق احتمال التكليف وإن لم يكن ظناً، بل وإن كان على خلافه حجة، بناءً على ما هو التحقيق من لزوم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنوناً. ووجوب مراعاة الظن حتى بالموضوع، لا خصوص الظن بالحكم الكلي، ولا قائل بهما - أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب فهو ليس من لوازم التكليف الواقعية، ليلزم من الظن بالتكليف الظن به، بل هو من لوازم تنجز التكليف - بحجة أو بإيجاب الاحتياط فيه - فيتوقف ظن العقاب على تنجز التكليف بالظن في مرتبة سابقة، ولا يكون بنفسه موجباً لتنجزه به ومقتضياً لحجيته.

وإن كان هو الأضرار الواقعية الملازمة للتكليف، لما عليه العدلية من تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد الملزمة، فيلزم من مخالفتها الوقوع في المفاسد وتفويت المصالح المذكورة، وهو نحو من الضرر.

ففيه: - مع ابتنائه على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، لا للمصالح في الأحكام أنفسها - أن وجوب دفع الضرر المظنون والمحتمل عقلاً حكم طريقي، لتجنب الضرر الواقعي، فلا يلزم من

ص: 328

مخالفته إلا الوقوع في الضرر الواقعي على تقدير إصابة الظن أو الاحتمال، وليس الواجب إلا دفع الضرر الواقعي.

وحينئذٍ نقول: وجوب دفع الضرر الواقعي عقلاً ليس كوجوب الإطاعة يرجع إلى حكم العقل باستحقاق العقاب بالإقدام عليه ولا كوجوب العدل، وحرمة الظلم يبتني على التحسين والتقبيح العقليين، ليكون مستلزماً لوجوبه شرعاً، بناءً على الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي، كي يكون الظن بالضرر مستلزماً للظن بالعقاب.

بل هو راجع إلى أن حب الإنسان لنفسه يقتضي دفع الضرر عنها، كما قد يهتم بدفع الضرر عن غيره لاهتمامه به وحبه له. ومن ثم قيل: إن دفع الضرر من الأمور الفطرية، لا الواجبات العقلية. وليس وراء الضرر المترتب أمر آخر من عقاب ونحوه يلزم بدفعه.

وما قيل: من استحقاق الذم بارتكاب الضرر الكاشف عن وجوب دفعه عقلاً من باب التحسين والتقبيح، نظير استحقاق الذم بالظلم.

غير ظاهر، بل الظاهر أنه لا يستتبع إلا اللوم بسبب التفريط المنافي للحكمة الملزمة بحفظ ما يتعلق الغرض بحفظه.

وعلى هذا يكون مرجع الدليل المذكور إلى أن مخالفة الظن بالتكاليف في معرض الوقوع في المفاسد، وتفويت المصالح الموجبة للتكليف، وليس وراء ذلك أمر آخر.

وهو مسلم بناءً على التخطئة، لكنه لا يصلح للإلزام بمتابعة الظن، لأن المصالح والمفاسد المذكورة قد لا تكفي في الداعوية، إما لعدم كونها من سنخ الأضرار الشخصية الراجعة إلى المكلف نفسه، بل من الأضرار العامة

ص: 329

التي لا يهتم بدفعها من لا يهتم بالصالح العام. أو لأن الإنسان قد يقدم على بعض الأضرار، لعدم كونه حكيماً، أو لابتلائه ببعض المزاحمات ولو كانت هي صعوبة الاحتياط.

ولاسيما مع إمكان تدارك الأضرار المذكورة من قبل الشارع الأقدس، فإنه وإن لم يقم الدليل على ذلك - خلافاً لمن ادعى امتناع جعل الطرق غير العلمية والأصول بدونه - إلا أن احتماله كافٍ في ضعف احتمال الضرر وصلوحه لأن يزاحم.

وهذا بخلاف ما لو كان الوقوع في الضرر مظنة العقاب، فإن العقاب لأهميته صالح للداعوية العقلية مطلقاً وإن ضعف احتماله، ولا يزاحم بشيء أبداً.

وأما وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل شرعاً المستتبع للعقاب بدونه فهو مختص ببعض الأضرار، كتلف النفس والطرف، ولا يعم كل ضرر، خصوصاً الأضرار النوعية، فلو فرض ملازمة الظن بالتكليف للظن بالأضرار المذكورة تعين وجوب مراعاة الظن المذكور، بل يجب في مثله مراعاة مطلق الاحتمال وإن لم يكن ظناً، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية. إلا أن هذا فرض نادر خارج عن محل الكلام، ولا ينفع في جعل مقتضى القاعدة العمل بالظن.

هذا، مع أن الوجه المذكور - لو تم - إنما يقتضي لزوم العمل بظن التكليف، لا الظن بعدمه، ولا الظن بالأحكام الوضعية، إلا من حيث استتباعهما للظن بالتكليف. فلو ظن بملكية قدر الاستطاعة - مثلاً - لم يقتض الوجه المذكور إلا وجوب الحج، دون جواز التصرف فيه، بل مقتضى أصالة

ص: 330

عدم تملكه حرمة التصرف، وهذا قد يوجب الحرج.

الثاني: لزوم ترجيح المرجوح على الراجح

الثاني: أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

وفيه: - مع أن مقتضاه الرجوع للظن حتى في الشبهة الموضوعية، بل امتناع نصب الحجة على خلافه - أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يقتضي العمل بالظن إذا تعلق الغرض بتحصيل الواقع.

فإن كان المراد بالوجه المذكور استكشاف حكم الشارع بحجية الظن فهو موقوف على كون ظن المكلف هو الأقرب والأرجح بنظر الشارع، وعلى تعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية وتحصيلها.

ولا طريق لإثبات الأول، لإمكان علمه بكثرة خطأ المكلف في ظنه، كما يشهد به في الجملة ما ورد في القياس من أن ما يفسده أكثر مما يصلحه.

كما أنه تقدم في مبحث جواز نصب الطرق غير العلمية إنكار الثاني، وأنه قد لا يتعلق غرض الشارع بتحصيل التكاليف الواقعية لأجل بعض المزاحمات المانعة منه.

وإن كان المراد به إلزام المكلف بالعمل به تحصيلاً للتكاليف الواقعية وإن لم يكن حجة شرعاً، فهو موقوف على تعلق غرضه بتحصيل الواقع، ولا وجه له بعد جعل الأصول المؤمنة له مع فرض عدم الحجة.

نعم، لو فرض تنجز الواقع عليه على كل حال - كما لو قصر في الفحص في موارد الدوران بين محذورين، أو اضطر بسوء الاختيار إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة التحريمية المحصورة - لزمه عقلاً متابعة الظن بالتكليف، لما ذكر من قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ص: 331

ومنه يظهر أن الوجه المذكور لا ينهض بجواز متابعة الظن بعدم التكليف، إذ لا غرض في متابعة عدم التكليف، لا للشارع ولا للمكلف، بل يتجه الرجوع فيه للأصول أو الأدلة، وقد يلزم من ذلك الحرج، كما تقدم في الوجه الأول.

هذا، مع أن الاجتزاء بالراجح في فرض تعلق الغرض بتحصيل الواقع موقوف على تعذر العلم بتحصيل الواقع ولو بالاحتياط كما تقدم في المثالين السابقين، وهو مبني على ما يأتي في دليل الانسداد.

ومن ثم قيل إن هذا الوجه مقدمة من مقدمات الدليل المذكور. فلاحظ.

الثالث: دليل الانسداد

الثالث: هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وهو مركب من مقدمات اختلف الأعيان في تعدادها، والظاهر أن عمدتها ثلاث..

الأولى: انسداد باب العلم والعلمي والعمل بالحكم الشرعي.

الثانية: عدم إمكان الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة للجاهل بالأحكام من البراءة والاحتياط وغيرهما وعدم ثبوت غيرها من الشارع الأقدس.

الثالثة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح. فإنه مع فرض تمامية المقدمات المذكورة ليس هناك إلا العمل بالظن.

والظاهر أنه لا حاجة إلى إضافة مقدمة أخرى للمقدمات المذكورة، وهي عدم جواز إهمال الأحكام المذكورة، كما صنعه غير واحد كشيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تأخر عنه.

إذ الإهمال إن كان على خلاف القاعدة فلا وجه لتوهم جوازه حتى

ص: 332

يحتاج إلى فرض عدم جوازه في مقدمات الدليل. وإن كان على طبق القاعدة فهو عبارة أخرى عن امتناع الرجوع للبراءة المفروض في المقدمة الثانية.

اللهم إلا أن يراد بإهمال الأحكام هو إهمالها تبعاً لسقوطها واقعاً بسبب الجهل بها، فيكون أمراً آخر غير ما يأتي في المقدمة الثانية.

لكنه بعيد عن ظاهر بعض كلماتهم. ويأتي الكلام فيه تبعاً للكلام في الاحتياط إن شاء الله تعالى.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أخذ مقدمة خامسة، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف شرعية، إذ لا يحتاج إلى العلم المذكور لو فرض تمامية المقدمات الثلاث.

نعم، قد يكون العلم المذكور دخيلاً في إثبات المقدمة الثانية، لا أنه يؤخذ في قبالها، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم (قدس سره).

وكيف كان، فيقع الكلام في المقدمات الثلاث، فنقول:

مقدمات دليل الانسداد

أما المقدمة الأولى: فقد جعلت في كلامهم عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في معظم المسائل.

والظاهر أنه مع فرض تمامية المقدمتين الأخريين يكفي انسداد باب العلم ولو في مسألة واحدة، كما في موارد التقصير في الفحص وتعذر الاحتياط، إلا أن تمامية المقدمة الثانية في محل الكلام - وهو ما لم يكن المكلف مقصراً - موقوفة على فرض الانسداد في المعظم، حيث يلزم من الاحتياط والبراءة المحاذير الآتية.

فخصوصية الانسداد في المعظم ليست دخيلة في أصل الدليل، بل في تمامية مقدماته في محل الكلام.

ص: 333

وكيف كان، فانسداد باب العلم بالمعظم وإن كان ظاهراً، إلا أن انسداد باب العلمي مبني على عدم حجية قسم يفي بالمعظم من أخبار الآحاد التي بين أيدينا، لعدم ثبوت التعبد بسندها أو بدلالتها، بناءً على ما ذكره المحقق القمي (قدس سره) من عدم حجية الظواهر في حق غير المقصودين بالإفهام.

لكن الظاهر حجية المقدار الوافي من الأخبار الذي لا محذور من الرجوع للأصول في مورد عدمه. لما تقدم في الفصل الأول من حجية ظواهر الأخبار، وفي الفصل السابق من ثبوت التعبد شرعاً بصدورها مع الوثوق بها، أو برواتها. فالمقدمة المذكورة غير تامة.

الكلام في المقدمة الأولى

وأما المقدمة الثانية: فالظاهر تماميتها في الجملة، إذ لا إشكال في عدم الرجوع للبراءة لو فرض انسداد باب العلم في معظم المسائل - كما هو مفاد المقدمة الأولى في كلامهم - للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في موارد الانسداد فيلزم من الرجوع للبراءة المخالفة الإجمالية الكثيرة.

بل لو فرض عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للبراءة فهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً واحداً أو أحكاماً قليلة يمكن تسامح الشارع فيها، دون المقام، حيث كان المعلوم بالإجمال أحكاماً كثيرة، بل معظم الأحكام فلو بني فيها على مقتضى البراءة لزم إهمال تلك الأحكام بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به. وهو الذي عبر عنه شيخنا الأعظم (قدس سره) بمحذور الخروج عن الدين.

كما أنه لو فرض كون تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي موجباً لسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية، بنحو يجوز المخالفة في جميعها، ولا يجب التبعيض في الاحتياط فلا مجال لذلك في المقام أيضاً،

ص: 334

لأجل المحذور المذكور.

فلابد من الالتزام ببقاء الأحكام الواقعية ولزوم حفظها في مقام الامتثال في الجملة. وقد عرفت احتمال رجوع عدم جواز الإهمال الذي جعل مقدمة مستقلة في كلماتهم إلى هذا المعنى.

وأما الاحتياط فهو وإن كان مقتضى القاعدة في العلم الإجمالي، إلا أنهم ذكروا امتناعه في المقام لأمور..

الأول: الإجماع القطعي الارتكازي على عدم كون الاحتياط هو المرجع على تقدير انسداد باب العلم. قال شيخنا الأعظم (قدس سره): وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلة المعلومات.

ولا يخفى أنه بعد الاعتراف بكون المسألة من المستحدثات، لبناء الأصحاب سابقاً على انفتاح باب العلم، فالإجماع المذكور لا أثر له في استكشاف الحكم الشرعي، بل استكشاف الإجماع بالوجه المذكور ناشئ عن دعوى وضوح الحكم ارتكازاً، بنحو لو بنى الأصحاب على الانسداد لبنوا عليه.

فلا وجه لإرجاع الوجه المذكور للإجماع إلا المحافظة على عدم الخروج في الاستدلال عن الأدلة الأربعة.

وكيف كان، ففي تمامية الدعوى المذكورة مع قطع النظر عن الوجوه الأخر إشكال، بل منع، فلا مجال للخروج بها عن القواعد المقتضية للاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

ودعوى القطع بعدم رضا الشارع بابتناء الامتثال في معظم الفقه على الاحتياط، وأنه لابد من سلوك طريق الجزم بالامتثال. غير ظاهرة.

ص: 335

الثاني: لزوم اختلال النظام من الاحتياط، لكثرة موارد الجهل وابتناء العمل في كثير من المسائل التي هي مورد الجهل على مسائل أُخَر هي مورد للجهل أيضاً، وهو موجب لتعدد جهات الاحتياط في العمل الواحد، والمحافظة على الاحتياط في جميع ذلك وتحقيق ما ينبغي سلوكه عند تزاحم جهات الاحتياط خصوصاً في حق العامي المحتاج إلى تعلم المسائل وضبطها مستلزم لاختلال النظام واضطراب أمر المعاش والمعاد، بنحوٍ يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به.

بل قيل بقبحه عقلاً، لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات في كثير من الموارد. وإن كان لا يخلو عن إشكال، لرجوعه إلى دعوى تعذر الاحتياط.

مع أن قبح ترك الواجبات مختص بصورة القدرة عليها وتنجزها، ولا يشمل ما لو تعذر الإتيان بها لمزاحمتها للاحتياط في تكاليف أُخَر.

نعم، قد يدعى أهمية حفظ النظام العام من جميع الملاكات الواقعية للأحكام المقتضية لحفظها بالاحتياط، الكاشف عن عدم وصول النوبة للاحتياط لو استلزم اختلال النظام.

وهو غير بعيد، وإن كان لا حاجة إليه بعد العلم بعدم ابتناء الشريعة السهلة على ما يخل بالنظام بنحوٍ يقطع بعدم لزوم الاحتياط معه.

الثالث: أنه يلزم من الاحتياط العسر والحرج المرفوعان في الشريعة.

والاستدلال بذلك يبتني على مفاد قاعدة نفي الحرج. فالذي ذهب إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) أن مفادها نفي الأحكام المستلزمة للحرج، من باب نفي المسبب بلسان نفي السبب.

والذي ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) أن مفادها نفي الأحكام الواردة

ص: 336

على الموضوع الحرجي، من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، نظير: لا شك لكثير الشك.

والظاهر هو الوجه الأول، لأن الثاني إنما يتجه في ما إذا سلط النفي على نفس الموضوع الذي يراد رفع حكمه، كالشك في المثال المتقدم. وليس الحرج بعنوانه موضوعاً للأحكام الأولية، التي يراد رفعها، بل الموضوع له هو الأفعال بعناوينها الخاصة كالوضوء والكذب، ولم يسلط النفي عليها، بل على الحرج، فلا وجه له إلا كون الأحكام المذكورة سبباً للحرج، كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، وهو الظاهر من مثل قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

مع أن لازمه عدم صلوح القاعدة لرفع الأحكام التحريمية، إذ لا تكون موضوعاتها حرجية، بل الحرجي تركها.

نعم، لو سلط النفي على نفس الأفعال اتجه ما ذكره (قدس سره) كما لو قيل: لا كذب مع الحرج. كما لعله ظاهر.

وكيف كان، فعلى ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) قد يتجه الاستدلال بقاعدة نفي الحرج لنفي وجوب الاحتياط لو كان حرجياً، لأن الحكم الواقعي وإن لم يكن حرجياً بنفسه، إلا أنه بسبب اشتباه متعلقه وتردده بين المحتملات يكون حرجياً، إذ هو حينئذٍ يقتضي الجمع بينها، فيستلزم الحرج.

أما بناءً على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) فلا مجال للاستدلال المذكور، إذ لا مجال لتطبيق القاعدة على نفس الاحتياط الذي هو حرجي لعدم كون وجوبه شرعياً قابلاً للرفع الشرعي، ولا على متعلق الحكم الواقعي كالصلاة للقبلة الواقعية، لفرض عدم كونه حرجياً، وإنما يلزم الحرج من

ص: 337

الجمع بين المحتملات.

ومن ثم منع المحقق الخراساني (قدس سره) من الاستدلال بالوجه المذكور.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم الفرق بين المبنيين في أمثال المقام مما كانت أطراف الشبهة من التدريجيات، فإن المحتملات الأولى لا تكون حرجية، فيجب مراعاتها حتى على ما ذكره شيخنا

الأعظم (قدس سره)، والمحتملات الأخيرة هي التي تكون حرجية، فلا يجب مراعاتها حتى على ما ذكره المحقق الخراساني، إما لعدم التكليف بها واقعاً أو لكونها حرجية.

ففيه: - مع ابتناء ذلك على لزوم تبعيض الاحتياط عند تعذر الاحتياط التام، ولا يقول به المحقق الخراساني (قدس سره) - أن الحرج لا ينشأ من الجمع بين المحتملات فقط، بل ينشأ أيضاً من صعوبة ضبط موارد الاحتياط وتحديد مقداره عند تعدد جهات الشك، ولاسيما مع عدم انضباط الأحكام التي يُبتلى بها المكلف، فبناءً على ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) يتعين سقوط الاحتياط من أول الأمر، وعلى ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) يتجه الاحتياط حتى تصل النوبة إلى المحتملات الحرجية.

هذا، مع أن إيكال الأمر إلى لزوم الحرج الشخصي من نفس المحتملات لا يكفي في رفع الحرج، لعدم الضابط لذلك مع ما أشرنا إليه من عدم انضباط الأحكام التي يُبتلى بها المكلف، بل لا يرتفع الحرج إلا بتشريع طريق مضبوط لا يلزم منه الحرج، أو برفع الأحكام كلية. فتأمل. فالظاهر اختلاف المبنيين فيما هو محل الكلام.

ثم إنه حيث عرفت أن الظاهر هو ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) فالذي ينبغي أن يقال: إنه بناءً على أن تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي، أو

ص: 338

لزوم الحرج منه موجب لسقوط الاحتياط كلية، لأن الاضطرار أو الحرج مانع من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال الذي هو منشأ الاحتياط، فلا مجال للتمسك بقاعدة نفي الحرج في المقام، لما أشرنا إليه من أنه لا مجال لإهمال التكاليف في المسائل التي انسد فيها باب العلم، فإن ذلك مستلزم لفعليتها وقصور قاعدة نفي الحرج عن رفعها تخصيصاً.

ودعوى: أن إعمال القاعدة ليس بلحاظ رفع الأحكام المذكورة المستلزم لإهمالها، بل بلحاظ استكشاف وجوب تحصيلها بطريق آخر غير الاحتياط لا يلزم منه الحرج.

مدفوعة: بعدم نهوض القاعدة بتشريع الأحكام التي يرتفع بها الحرج، بل هي مختصة برفع الأحكام الحرجية، والمفروض امتناعه في المقام، الموجب لتخصيص القاعدة فيه.

نعم، لو فرض العلم في المقام بعدم رضا الشارع الأقدس بلزوم الحرج كشف ذلك عن تشريع طريقٍ آخر غير الاحتياط.

إلا أنه ليس راجعاً إلى قاعدة نفي الحرج القابلة للتخصيص، بل إلى العلم الذي هو حجة ذاتية نظير العلم بعدم رضا الشارع باختلال النظام.

أما بناءً على أن تعذر الاحتياط التام أو لزوم الحرج منه لا ينافي فعلية التكليف المعلوم بالإجمال، بل يتنزل للتبعيض في الاحتياط، فيمكن الاستدلال بالقاعدة، لعدم منافاتها لما تقدم من عدم جواز الإهمال.

هذا، والظاهر أنه لا مجال للبناء على تبعيض الاحتياط، خصوصاً فيما إذا لم يكن منشأ سقوط الاحتياط التام هو التعذر، بل التعبد الشرعي من جهة الحرج ونحوه. وتمام الكلام في مباحث الشبهة المحصورة.

ص: 339

ومن هنا لا مجال لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من لزوم الاحتياط في موارد الظن بالتكليف، بل في موارد الشك أيضاً، لاندفاع العسر بترك الاحتياط في موارد الظن بعدم التكليف، وكذا اختلال النظام(1).

نعم، قد يدعى لزوم العمل بالظن بالتكليف للعلم الإجمالي بإصابة بعض الظنون للواقع، فينحل به العلم الإجمالي الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات، لوفاء أطراف الأول بالمعلوم في الثاني، فإنه لا مجال لدعوى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في غير موارد الظن، وحينئذٍ فالعمل بالظن ليس من باب التبعيض في الاحتياط، بل من باب الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي الذي اختصت المنجزية به بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير به.

لكن ذلك - لو تم - لا يختص بالظن، بل يجري في جميع موارد الطرق غير العلمية، وإن لم تفد الظن الشخصي وقد سبق في الوجه العقلي لحجية الخبر انحلال العلم المذكور بالعلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار، ومقتضى ذلك اختصاص الاحتياط بها، دون بقية موارد الطرق غير العلمية.

نعم، هذا موقوف على عدم لزوم محذور اختلال النظام أو الحرج من الاحتياط فيها. وهو في غاية الإشكال، بل المنع، كما أشرنا إليه هناك.

ومن ثم لا مجال لإبطال هذه المقدمة من هذه الجهة.

غاية الأمر أنه يتعين لأجل ذلك البناء على اختصاص دليل الانسداد بموارد الأخبار، بحيث لو فرض تماميته بحيث يقتضي الرجوع للظن

ص: 340


1- هذا ما جرينا عليه سابقاً. لكن يأتي في مباحث الشبهة المحصورة تقريب تبعيض الاحتياط وعليه يتم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره). منه عفي عنه.

بالتكليف لكان مختصاً بموارد الأخبار، فيرجع فيها إلى الظن بصدور الخبر أو بثبوت التكليف في مورده، مع الرجوع في غيرها إلى الأدلة الأُخر، كظهور الكتاب، أو السنة القطعية، أو الأصول، وإن ظن بخلافها.

وليس هذا من باب تقديم الأصل على الدليل، بل من باب ارتفاع موضوع دليلية الدليل بالأصل، وإنما يتعين تقديم الدليل على الأصل فيما لو كان عموم دليليته شاملاً لمورد الأصل، بخلاف المقام.

هذا كله في الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة، أو من العلم باهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يرضى بإهمالها لمحذور الخروج عن الدين، الناشئ من انسداد باب العلم في معظم المسائل، أما الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكليف في خصوص مورد لانسداد العلم فيه، كما في الدوران بين القصر والتمام، فسقوطه مبني على كثرة موارد العلم الإجمالي المذكور بنحو يلزم من الاحتياط فيها المحاذير المتقدمة، وهو محتاج إلى تأمل واستقصاء لا يسعه المقام.

وكيف كان، فهو لا يخل بهذه المقدمة، لعدم وفائه بمعظم المسائل. هذا كله في الاحتياط.

وأما الاستصحاب فلا مجال للرجوع إليه لو كان نافياً للتكليف، للعلم الإجمالي بمخالفته للواقع في كثير من الموارد، لكثرة موارد الاستصحاب المذكور، حيث إنه يجري في أكثر موارد الرجوع للبراءة، فيمتنع الرجوع إليه، إما لقصور دليله عن شمول صورة العلم الإجمالي، أو لسقوطه بالمعارضة، أو للزوم المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال، على ما يذكر في مبحث الاستصحاب.

ص: 341

وكذا لو كان مثبتاً للتكليف لو فرض كثرة موارده بسبب انسداد باب العلم بنحو يعلم إجمالاً بمخالفته في بعضها للواقع بناءً على أن العلم الإجمالي مانع من الرجوع للاستصحاب مطلقاً.

أما لو فرض عدم العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات المثبتة للتكليف للواقع لقلتها، أو عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للاستصحاب المثبت فالمتجه الرجوع إليه.

وليست كثرة موارده بنحو يفي بمعظم المسائل ليمنع من تمامية هذه المقدمة، كما أنها ليست بنحو يلزم من الرجوع إليه محذور اختلال النظام أو العسر والحرج بنحو يكشف عن تخصيص دليله، وليس هو كالاستصحاب النافي للتكليف.

ومنه يظهر أنه لو فرض تمامية دليل الانسداد واقتضاؤه حجية الظن فلا مجال لرفع اليد به عن الاستصحاب المذكور، بل هو متأخر عنه رتبة. وليس هذا من باب رفع اليد بالأصل عن الدليل، بل من باب ارتفاع موضوع الدليل بالأصل، كما تقدم نظيره في الاحتياط.

وأما أصالة التخيير فالعقل إنما يحكم بها في الدوران بين محذورين كالوجوب والحرمة، أما مع تعذر الاحتياط لجهة أخرى فلم يتعرضوا للرجوع إليها. ويأتي في المقدمة الثالثة تمام الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في الأصول المعروفة التي يرجع إليها في الشبهات الحكمية.

ومن الظاهر أنه لم يثبت من قبل الشارع الأقدس طريق أو أصل آخر متبع في خصوص حال الانسداد. فلابد من الرجوع للعقل في تشخيص مما

ص: 342

ينبغي العمل عليه لو فرض عدم الرجوع للأصول المتقدمة.

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) تعرض في هذه المقدمة لامتناع الرجوع للتقليد، للإجماع، وقصور أدلة مشروعية التقليد عنه، لاختصاصها بالجاهل العاجز عن الفحص، دون المجتهد الذي استكمل الفحص وخطّأ المفتي في دعواه الانفتاح.

فإن كان مراده منع كونه من الطرق المجعولة بالخصوص كالخبر، فما ذكره في وجهه وإن كان متيناً، إلا أن امتناعه ينبغي أن يكون مفروضاً في المقدمة السابقة المتضمنة لانسداد باب العلم والعلمي.

وإن كان مراده منع الرجوع إليه في فرض الانسداد وتعذر الرجوع للطرق المعروفة، فدليله لا ينهض بذلك إذ هو كأدلة المنع من الرجوع للظن لا ينافي الرجوع إليه في فرض الانسداد.

فالأولى أن يقال: إنه لم يثبت من الشارع جعله في حال الانسداد، كما أشرنا إليه. وهو كاف في هذه المقدمة. هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية.

الكلام في المقدمة الثانية

وأما المقدمة الثالثة: فتشكل بما تقدم في الوجه الثاني من الوجوه العقلية لحجية مطلق الظن من أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح مختص بما إذا تعلق الغرض بإصابة الواقع، وهو غير ظاهر في المقام، فإن غرض الشارع بمقتضى عدم جواز الإهمال وإن كان هو امتثال الحكم الواقعي، إلا أنه في مقابل الإهمال المطلق، لا الاهتمام به على كل حال بنحو يقتضي تحصيله مهما أمكن وبأقرب الطرق.

مع أنه إنما يقتضي تعيين الظن إذا كان ظن المكلف أرجح وأقرب بنظر الشارع، وهو ممنوع، كما تقدم أيضاً.

ص: 343

وأما المكلف فلا غرض له بإصابة الواقع إلا من حيثية تنجزه بالعلم الإجمالي أو بالعلم باهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية بنحو لا يجوز إهمالها، ومن الظاهر أن ذلك لا يقتضي تنجزه مطلقاً بعد فرض تعذر الاحتياط التام أو عدم وجوبه، بل هو راجع إلى تنجزه في الجملة، وذلك لا يكفي في التمسك بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح لإثبات لزوم الرجوع للظن.

بل لابد فيه من تنجزه مطلقاً بحيث يكون فوته سبباً للعقاب على كل حال، إذ يحكم العقل حينئذٍ بلزوم اختيار أبعد الطرق عن الخطر، كما في مورد التقصير في الفحص على ما تقدم، فالظاهر أن القاعدة أجنبية عما نحن فيه.

ما ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: الكلام..

تارةً: يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام اللازم بمقتضى العلم الإجمالي لا يقتضي سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية والرجوع إلى طريق آخر، بل يقتضي التنزل للتبعيض في الاحتياط بالمقدار الذي لا يلزم منه محذور من حرج أو غيره.

وأخرى: يكون على القول بأن سقوط الاحتياط التام يقتضي سقوطه كلية لمانعيته من فعلية التكليف الواقعي، الموجب لعدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيزه.

أما على الأول فظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) و غيره المفروغية عن أن المدار في التبعيض على ما هو الأبعد احتمالاً فالأبعد، فيترك الاحتياط فيما كان عدم التكليف فيه مظنوناً بالظن القوي، فإن لم يف بدفع الحرج ترك فيما

ص: 344

كان عدم التكليف فيه مظنوناً بالظن الضعيف، فإن لم يف بدفع الحرج أيضاً ترك فيما كان التكليف فيه مشكوكاً، وهكذا. لكنه غير ظاهر.

وما قيل: من أنه لا يجوز التنزل للامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني، كما لا يجوز، التنزل للامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال العلمي.

إنما يتم مع فرض تنجز التكليف الواقعي مطلقاً، كما في موارد التقصير في الفحص، كما تقدم، لا في مثل المقام مما تقدم عدم تنجزه فيه إلا في الجملة. وإلا كان اللازم الترجيح بالظن في مثل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، ولم يذكره شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل صرح بعض الأعاظم (قدس سره) بعدمه.

وبالجملة: لزوم مراعاة الأقرب احتمالاً بناء على تبعيض الاحتياط مما لا يتضح منشؤه بعد فرض عدم ثبوت حجية الظن في نفسه وعدم تنجز التكليف الواقعي مطلقاً وعلى كل حال.

وأما على الثاني فالمعروف منهم تقريب لزوم الرجوع للظن بأحد وجهين:

الأول: الحكومة، بدعوى: أنه مع تعذر العلم التفصيلي وعدم منجزية العلم الإجمالي وفرض اهتمام الشارع بالأحكام بنحو لا يجوز إهمالها يحكم العقل بلزوم الرجوع إلى الظن في تشخيص الأحكام الشرعية.

الثاني: الكشف، بدعوى أن العقل يستكشف بذلك حجية الظن شرعاً بنحو يكون هو المنجز للأحكام الواقعية، كسائر الحجج الشرعية. وكلا الوجهين لا يخلو عن إشكال.

ص: 345

أما الأول: فلأنه إن كان المدعى أن المنجز للأحكام هو اهتمام الشارع بها المفروض في المقام، بنحو يكون حكم العقل بالرجوع للظن وارداً في مقام الإطاعة بعد الفراغ عن مقام التنجيز.

ففيه: أن الاهتمام بالأحكام إن كان هو المنجز لها كان كالعلم الإجمالي مقتضياً للامتثال العلمي، نظير الأمر بالاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص، فيكون الاكتفاء بمتابعة الظن مبنياً على تبعيض الاحتياط، وهو راجع إلى ما قيل من أن تعذر الامتثال العلمي يقتضي التنزل إلى الامتثال الظني.

ولكنه يشكل.. تارةً: من حيثية أصله، لعدم وضوح تنجز الحكم بالعلم الإجمالي أو غيره مع عدم لزوم الاحتياط التام فيه، كما أشرنا إليه آنفاً.

وأخرى: من حيث عدم الوجه في جعل المعيار فيه قوة الاحتمال، كما تقدم في الوجه الأول.

وثالثة: من حيثية أن مراعاة قوة الاحتمال تقتضي عدم الاكتفاء بمتابعة الظن بالتكليف، بل لابد من مراعاة الاحتياط في موارد الشك في التكليف لو فرض عدم لزوم العسر منه، نظير ما تقدم على الوجه الأول، فإن الظن بالامتثال موقوف على ذلك، ولا يكون بالاقتصار في الاحتياط على المظنونات، كما نبه له في الجملة بعض الأعاظم (قدس سره).

ودعوى: أن اهتمام الشارع بالتكاليف المنجز لها ليس بنحو يقتضي امتثالها القطعي، ليكون الاقتصار فيها على بعض المحتملات مبنياً على تبعيض الاحتياط، فيجري ما تقدم. بل بنحو يقتضي امتثالها في خصوص موارد الظن، فالاقتصار على الظن لأنه هو الواجب ابتداءً، لا تنزلاً بعد تعذر

ص: 346

العلم.

مدفوعة: بأن تحديد مقدار الامتثال تابع للعقل لا للشارع، وليس للشارع إلا جعل الأحكام وتنجيزها بنصب الحجة عليها أو إيجاب الاحتياط فيها، مع إيكال كيفية الامتثال للعقل، وهو يحكم بلزوم الامتثال القطعي والتنزل لغيره مبني على تبعيض الاحتياط كما ذكرنا.

مع أنه لو فرض كون تحديد الامتثال بيد الشارع بحيث يكون له التنجيز بنحو خاص، فكما يمكن تنزله للظن يمكن تنزله للشك، ولا معين للأول. ومجرد أقربيته بنظر المكلف لا يقتضي تعينه، لما تقدم عند الكلام في قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وإن كان المدعى أن المنجز للأحكام ليس هو اهتمام الشارع بها، بل العقل بعد اطلاعه على الاهتمام المذكور يحكم بحجية الظن ومنجزيته للأحكام لأقربيته، ومن ثم يكون الظن حجة عقلية ومرجعاً في تنجيز التكليف وإثباته عقلاً، وليس مرجعاً في مقام الامتثال.

ففيه: أنه لا غرض للعقل في حفظ التكاليف ومنجزيته لها، بل هو من أغراض الشارع الأقدس، وإنما يهتم العقل بحفظها في مقام الامتثال بعد الفراغ عن فعليتها وتنجزها دفعاً لخطر العقاب.

وأما ما قيل من امتناع حكم العقل بالحجية، بل هو من الوظائف المختصة بالشارع الأقدس.

فهو غير ظاهر، إذ لا يراد بحكم العقل بحجية الظن إلا إدراكه جهة في الظن تقتضي منجزيته للتكليف بنحو يحسن العقاب بمخالفته ويقبح مع موافقته فإن الإدراك والتحسين والتقبيح من وظائف العقل بلا إشكال.

ص: 347

نعم، لو أريد بحجيته هو اعتبار الحجية عقلاً للظن والتعبد بمؤداه كما هو مفاد الحجية الشرعية كان منعه في محله، كما تقدم في أول مباحث الحجج، لكنه لا يحتاج إليه في المقام، بل يكفي تنجيز الظن للتكليف عقلاً، الذي يشبه وجوب الاحتياط عقلاً معه، فلاحظ.

وأما الثاني فلأن غاية ما يقال في وجهه: أن الشارع بعد فرض اهتمامه بالأحكام، وعدم تنجزها بمنجز ٍ عقليٍ أو شرعيٍ، لابد من حفظه لها في مقام الإثبات والتنجيز بنصب الحجة الواصلة عليها، ليتحصل غرضه في حفظ الأحكام الواقعية في الجملة، وحيث لم يصل غير الظن كانت أقربية الظن صالحة للاتكال عليه في مقام بيان حجيته شرعاً، فإنه الطريق الذي يجري عليه العقلاء عند تعذر العلم والاهتمام بإصابة الواقع.

ومنه يظهر أنه لا مجال للتوقف عن حجيته لاحتمال نصب الشارع غيره في حال الانسداد، كالتقليد، والقرعة وغيرهما، فإن عدم وصول طريق آخر مانع من اعتماد الشارع عليه في أداء الغرض المذكور، والمتعين لذلك هو الظن للجهة المذكورة فيه.

وفيه: أن الأقربية في الظن لا تصلح للاتكال عليه في بيان حجيته، لأن الأقربية إنما تقتضي العمل حيث يتعلق الغرض بتحصيل الواقع على كل حال، كما تقدم، وهو لا يقتضي الحجية المبتنية على الإلزام والالتزام، والتعذير والتنجيز.

وبعبارةٍ أخرى: الرجوع إلى شيءٍ عند تعذر العلم..

تارةً: يكون من أجل الاهتمام بتحصيل الواقع على كل حال المقتضي لسلوك أقرب الطرق إليه.

ص: 348

وأخرى: يكون لصلوحه بنظر العقل أو العقلاء للاحتجاج والتعذير والتنجيز وترتب المدح والذم.

والمناسب للحجية هو الثاني، فهو الذي يمكن الاتكال على حاله في بيان حجيته، لأن للجهة المذكورة نحواً من الاقتضاء صالحاً للاتكال عليه في مقام البيان. بل الظاهر أنه لا يحتاج معه إلى مقدمات الانسداد، لأن الأصل الجري على المقتضي المذكور الثابت بحكم العقل أو ببناء العقلاء، ومن ثم سبق في الفصل الأول والخامس الاعتماد في الحجية على السيرة بمجرد عدم ثبوت الردع.

نعم، لو فرض اختصاص الاقتضاء المذكور في الطريق بصورة تمامية المقدمات اتجه تقييد الحجية الشرعية به أيضاً.

هذا، والظاهر أن الأقربية في الظن إنما تقتضي العمل به على الوجه الأول، لا الثاني، فلا مجال لاستكشاف حجيته من مجرد اهتمام الشارع بحفظ التكاليف وسكوته عن جعل غيره.

اللهم إلا أن يدعى بناء العقلاء عند الانسداد وعدم طرق أخرى هي من سنخ الحجج بنظرهم على العمل بالظن بما هو حجة صالح للاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز لكنه ممنوع.

والظاهر أن تسالم من تعرض لدليل الانسداد على الرجوع للظن عند تمامية المقدمات بأحد الوجوه المتقدمة مبني على إغفال الفرق بين الوجهين الذين أشرنا إليهما واختلاطهما عليهم. ومثله الاحتجاج له بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ثم إنه ربما يقرب الكشف بوجهٍ آخر لا يرجع إلى حجية الظن وإحراز

ص: 349

الواقع به شرعاً، بل إلى إيجاب الاحتياط في مورد الظن شرعاً، فإنه كما يمكن إيجابه في مطلق الاحتمال، كما في الشبهة التحريمية عند الأخباريين، يمكن جعله في خصوص مورد الظن، وهو يكفي في حفظ الأحكام المفروض اهتمام الشارع بها في الجملة.

ومنه يظهر أنه لا مجال لإحراز الحجية بالوجه المتقدم - مع قطع النظر عما أوردنا عليه سابقاً - لإمكان الاستغناء عنها في حفظ الأحكام بإيجاب الاحتياط، فلا مجال لترتيب آثار الحجية على الظن حينئذٍ، كاستصحاب مؤداه مثلاً، كما لا مجال له على الحكومة أو تبعيض الاحتياط.

إلا أن يدعى القطع بعدم ابتناء الامتثال في معظم الأحكام على الاحتياط، لمجانبته لطريقة الشارع، وأنه لابد من الامتثال بطريق شرعي جزمي، فيتعين استكشاف حجية الظن بالوجه المتقدم لو تم في نفسه، وبطلان بقية الوجوه المذكورة في المقام.

لكنه غير ظاهر، كما أشرنا إليه في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على امتناع الرجوع للاحتياط. فلا ينهض الوجه المذكور بإثبات حجية الظن، والمتيقن هو وجوب الاحتياط شرعاً مع الظن.

نعم، يشكل هذا التقريب بعدم الدليل عليه، إذ لا معين للظن في تشخيص مورد الاحتياط إلا قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح التي عرفت الإشكال في التمسك بها في المقام.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن مقدمات الانسداد لا تقتضي العمل بالظن في مثل المقام مما لم تتنجز فيه التكاليف على كل حال، بل تقتضي الرجوع إليه مع تنجز التكليف على كل حال وتعلق غرض المكلف بتحصيل

ص: 350

الواقع، كما في موارد التقصير في الفحص.

بل لا يبعد في مثل ذلك عدم اعتماد العقلاء على ما هو من سنخ الحجج بنظرهم لو فرض عدم إفادته الظن أو مخالفته له، كما لا يعتمدون عليها مع التمكن من العلم بحصول الغرض، وإنما يرجعون إليها مع التمكن من العلم أو بدونه في مقام التعذير والتنجيز المختص بباب التكاليف، لأن قيام ما هو الحجة موجب لعدم تنجز التكليف لو فرض مخالفته للحجة، فلا يتعلق الغرض بإصابته على كل حال، ليرجع إلى الظن. فتأمل جيداً.

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) قد أطال في تنبيهات المسألة بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما عرفت من عدم تمامية أصل الدليل، فإنه تطويل من غير طائل.

انتهى الكلام في مباحث الحجج، والحمد لله تعالى على أن وفقنا لذلك، وله الشكر كثيراً.

وكان الفراغ منه - قبل إلحاق الفصل السابع - ضحى الخميس، الرابع من شهر جمادى الثانية، سنة ألف و ثلاثمائة وثلاث وتسعين، لهجرة سيد المرسلين (ص) تسليماً كثيراً، في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف، على مشرِّفه أفضل الصلوات وأزكى التحيات. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

ونسأله تعالى صلاح الحال، وخير المآل إنه أرحم الراحمين.

وقد انتهى تبييضه بيمنى مؤلفه الفقير ليلة الأربعاء، العاشر من الشهر المذكور، من السنة المذكورة. ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.

ص: 351

كما انتهى الكلام في الفصل السابع - بعد إعادة النظر فيه وتحقيقه - صباح الاثنين الرابع من شهر جمادى الثانية سنة 1434 للهجرة.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 352

الفصل السابع: في حجية الاطمئنان

وقدرأينا عند تدريسنا لمباحث الحجج في دورة متأخرة عن تأليف الكتاب إلحاق هذه المسألة به، وبحثها بتفصيل وتنظيم حسبما يتيسر لنا، تتميماً للفائدة، بعد أن تعرض لها جماعة في إشارات عابرة ومواضع متفرقة من المسائل الفقهية من دون أن يستوفوا الكلام فيها. كما جعلنا ذلك في آخر فصول هذا المقصد، لئلا يضطرب علينا نظم الفصول عند الإرجاع إليها.

الاستدلال على حجية الاطمئنان بوجهين..

وكيف كان فيظهر البناء على حجية الاطمئنان من غير واحد ممن تيسر لنا عاجلاً الاطلاع على كلامه - كصاحب الجواهر في غير موضع وغيره - وممن حكي عنه ذلك. ويظهر منهم الاستدلال على ذلك بأحد وجهين:

الأول: أنه يقين أو علم عادي

الأول: أنه علم عادي، أو عرفي. بل في تقرير درس بعض مشايخنا (قدس سره) في مسألة اعتبار العلم بعدم الحاجب في الوضوء أنه يقين عقلائي، ويطلق عليه اليقين في لسان أهل المحاورة والعامة. كما أنه يقين لغة، لأن اليقين من يقن بمعنى سكن وثبت، كما أن الاطمئنان بمعنى سكن واستقر. فهو يقين لغة وعرفاً وإن لم يطلق عليه اليقين اصطلاحاً.

دفع الاستدلال بأنه يقين

وفيه أولاً: أن عموم اليقين لغة وعرفاً للاطمئنان الذي هو محل الكلام

ص: 353

- لو تم - لا يقتضي حجيته ذاتا، بحيث يستغني عن الجعل، بل يمتنع جعله كما يمتنع الردع عنه، على ما ذكرناه - تبعاً لهم - في مبحث القطع.

فإن ما هو الحجة الذاتية خصوص اليقين الاصطلاحي المساوق للعلم والقطع ونحوهما، والذي هو عبارة عن الوصول للواقع بنحو لا يجتمع مع احتمال الخلاف وحجية غيره تحتاج للدليل وإن تم صدق اليقين عليه.

غاية الأمر أن صدق اليقين عليه حقيقة يقتضي عموم الأحكام التي أخذ في موضوعها عنوان اليقين. وهو أمر آخر غير حجيته ذاتاً بنحو يستغني عن الاستدلال.

وثانياً: أنه حيث كان المراد بالاطمئنان في المقام ما يجتمع مع احتمال الخلاف ولو كان ضعيفاً فهو مباين لليقين والعلم قطعاً. والاطمئنان المفسر بالسكون لغة مرتبة تزيد على محض اليقين والعلم بتجلي المعلوم للنفس.

قال في لسان العرب: وقوله عز وجل: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي: ليسكن إلى المعاينة بعد الإيمان بالغيب.

فهو نظير قولهم: ليس الخبر كالعيان. وما في الحديث عن أبي عبد الله (ع): قال: إن الله تبارك وتعالى لما أخبر موسى أن قومه اتخذوا عجلاً له خوار لم يقع منه موقع العيان. فلما رآهم اشتد، فألقى الألواح من يده. فقال أبو عبد الله (ع): وللرؤية فضل على الخبر(1).

فالاطمئنان المذكور مرتبة عالية من اليقين. وعليها يجري ما عن أمير المؤمنين (ع) من قوله: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً(2).

ص: 354


1- بحار الأنوار ج: 13 ص: 230.
2- مناقب آل أبي طالب ج: 1 ص: 317. شرح نهج البلاغة ج: 11 ص: 202.

وبالجملة: لا إشكال في مباينة الاطمئنان الذي هو محل الكلام للعلم واليقين، كما هو صريح غير واحد، وأنه عبارة عن مرتبة عالية من الظن تركن إليها النفس لضعف احتمال الخلاف، بحيث قد لا يعتد به عملاً. وقد يرجع إلى ذلك دعوى: أنه علم عادي.

دفع الاستدلال بأن الاطمئنان علم عادي

لكن ذلك راجع إلى أنه من أفراد العلم التسامحية، ومن المعلوم عدم التعويل على التوسع والتسامح في تطبيقات العرف وتشخيص الموضوعات.

على أنه لوفرض التعويل على ذلك فهو إنما ينفع في أحكام العلم الموضوعي المأخوذة من إطلاقات الأدلة اللفظية، دون المأخوذة من أدلة لبية أولفظية لاإطلاق لها، للزوم الاقتصار فيها عليا لمتيقن.

ولو فرض دخوله في المتيقن من تلك الأدلة كفى ذلك في ثبوت الحكم له بلاحاجة إلى تكلف دعوى: أنه علم عادي.

كمالاينهض ذلك بإلحاقه بالعلم الطريقي ف ي الحجية بعدعدم مشاركته له في الحجية الذاتية غير القابلة للردع. ومن هنا لاأثر للدعوى المذكورة في الاستدلال على حجية الاطمئنان.

الثاني: الاستدلال ببناء العقلاء على حجية الاطمئنان

الثاني: أنه حجة عقلائية، كما تكرر في كلام كثير منهم، ومنهم بعض مشايخنا (قدس سره) في كلام آخر له، وزاد غير واحد أن الشارع لم يردع عنه. وهو يبتني على ما سبق منّا في الاستدلال على حجية خبر الواحد من كفاية عدم ثبوت الردع في حجية سيرة العقلاء الارتكازية، من دون حاجة لثبوت الإمضاء.

لكنه لا يخلو من خفاء، إذلم يتضح من العقلاء حجية الاطمئنان بنفسه مطلقاً بماهووإن كان ابتدائياً أومستتبعاً إلى ماليس حجة بنفسه، كالرؤيا

ص: 355

والفأل ونحوهما. غاية الأمر أنه كثيراً ما يكتفى به - بل بما دونه من مراتب الاحتمال - في الاحتياط للواقع. وهو أمر آخر غير حجيته، المستلزمة لجواز متابعته حتى فيما لا يحسن الاحتياط فيه، كاستيفاء الحقوق ممن يطمأن بثبوتها عليه بالقصاص في النفس والطرف، والمقاصة في المال، وغير ذلك.

نعم لايبعد كفاية الاطمئنان بل الوثوق في حجية خبر غير الثقة، على ما سبق في محله من م بحث ح جية خبر الواحد. كما يمكن استفادة حجية الاطمئنان من خصوص بعض الأسباب، أو

فيخصوص بعض الموارد، لأدلة تعبدية لفظية أولبية، وهوموكول للفقه. ومحل الكلام إنما هوعموم حجيته ببنا ءالعقلاء.

ما يمكن استفادة الردع به عن حجية الاطمئنان

على أنه لوتمت الدعوى المذكورة أمكن استفادة الردع عنه من أمرين:

الأول: عموم أدلة الأصول

الأول: عموم أدلة الأصول المتضمنة عدم رفع اليدعن مقتضى الأصل إلابالعلم أواليقين أو الاستبانة أونحو ذلك ممايظهرمنه عدم كفاية الاطمئنان المقارن لاحتمال الخلاف في رفع اليد عنمقتضى الأصل.

إن قلت: تقدم في ذيل الكلام في أصالة عدم حجية غيرالعلم أن العلم في تلك الأدلة ليس مأخوذ اًبم ا هوصفة خاصة، بل بما هوطريق، فيقوم مقامه سائرالطرق، لأن الموضوع ف ي الحقيقة هومطلق الطريق، ولاتنهض حينئذٍتلك الأدلة ببيان عدم طريقية غير العلم، لتصلح للردع في المقام.

قلت: هذا إنمايتم في الطرق الخارجية غير القائمة بالنفس - كخبر الثقة واليددون الطرق القائمة بالنفس، فإن الاقتصار في بيان ماهو الطريق منها على العلم الذي هوأتم مراتب الانكشا فظاهر جداًفي عدم حجية مادونه من المراتب، ومنها الاطمئنان.

ص: 356

نظير عطف البينة على العلم في حديث مسعدة بن صدقة ونحوه، فإنه ظاهر في عدم حجية خبر الثقة الواحد، لأن الاقتصار في بيان ماهوالحجة م ن الخبر الحسي بما هوخبر على خبر العدلينظا هر في ع دم حجية مادونه، كخبر العدل الواحد، فضلاً عن خبر الثقة غير العدل.

نعم لاتنهض بالردع عن حجية مثل خبر صاحب اليد مطلقاً، أو الخبر الحدسي من أهل الخبرة في حق الجاهل، أوغير هما مماكانت حجيته لخصوصية زائدة على كونه خبراً، لعدم أخذ العلمو البينة فيها بخصوصيتهما، بل بماهما طريق، نظير ماسبق.

ونظير ذلك جميع ماتضمن الردع ع ن القول و العمل بغيرعلم واستنكار ذلك من الكتاب المجيد والنصوص الكثيرة.

بل ورودكثير منها في مقام الاحتجاج والتشنيع على الآخرين يوجب ظهور ها في كون ذلك من المستنكرات العقلائية الارتكازية. وقد يكون شاهداً على عدم بناء العقلاء على حجية ما دون العلم من مراتب الانكشاف للنفس، ومنه الاطمئنان. فلاحظ.

الثاني: النصوص الخاصة الظاهرة في عدم حجية الاطمئنان

الثاني: النصوص الخاصة الظاهرة في عدم حجية الاطمئنان بخصوصه، كالنصوص المتضمنة للبناء على الطهارة بالتنبيه لاحتمالات بعيدة.

مثل قوله (ع) في موثق عمار في من وجدفي إنائه فأرة وقداستعمل ماءه: وإن كان إنمار آهابعد مافرغ من ذلك وفعله فلايمس من ذلك الماء شيئاً، وليس عليه شيء، لأنه لايعلم متى سقطتفيه. ثم قال: لعله أن

ص: 357

يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها (1) .

وقوله (ع) في صحيح زرارة فيمن رأى في ثوبه دماًأومنياً في أثناءالصلاة: تنقض الصلاة وتعيدإذاشككت في موضع منه ثم رأيته. وإن لم تشك ثم رأيته رطباًقطعت و غسلته ثم بنيت عليالصلاة، لأنك لاتدري لعله شيء أوقع عليك(2). بل الاقتصار على التنبيه للاحتمال الضعيف مشعر أوظاهر في المفروغية عن الاكتفاء به في الرجوع للأصل.

وفي صحيح عبدالرحمن بن الحجاج: سألت أبا إبراهيم (ع) عن رجل يبول بالليل، فيحسب أن البول أصابه فلايستيقن، فهل يجزيه أن يصب على ذكره الماء، ولايستنشف؟ قال: يغسل ما استبان أنه قدأصابه، وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه، ويتنشف قبل أن يتوضأ(3) فإن الاطمئنان داخل في الحسبان في مورد الحديث إن لم يكن متيقناًمنه، فالحكم ب عدم وجوب الغسل في غيرمورد الاستبانة ظاهر في عدم حجية الاطمئنان.

ومثلها مايظهرمنه التأكيد على اليقين، كصحيح محمدبن مسلم عن أحدهما (ع): في الذي يذكرأنه لم يكبرفي أول صلاته. فقال: إذااستيقن أنه لم يكبرفليعد، ولكن كيف يستيقن؟(4).

وصحيح زرارة وبكيرعن أبي جعفر (ع): قال: إذااستيقن أنه زادفي صلاته المكتوبة ركعة لم يعتدبها واستقبل صلاته استقبالاً، إذاكان قد

ص: 358


1- وسائل الشيعة ج: 1 ب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.
2- وسائل الشيعة ج: 2 باب: 44 من أبواب النجاسات حديث: 1.
3- وسائل الشيعة ج: 2 باب 37 من أبواب النجاسات حديث: 2.
4- وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب تكبيرة الإحرام من كتاب الصلاة حديث: 2.

استيقن يقيناً (1) .

وصحيح محمدبن مسلم: سألت أباجعفر (ع) عن رجل استيقن بعدماصلى الظهرأنه صلى خمساً. قال: وكيف استيقن؟ قلت: علم...(2).

بل ملاحظة النصوص الواردة في الجري على أصالة الطهارة وأصالة الحل قدتوجب القطع بالعموم لصورة الاطمئنان بالخلاف.

كماأنه لوكان المدعى الخروج بالاطمئنان عن الأمارات كيدالمسلم التي هي أمارة على التذكية، ومطلق اليد التي هي أمارة على الملكية - فالنصوص الواردة فيها والسيرة قدتأ بى ذلك، كما يظهر بملاحظة كثرة الابتلاء بخطئها.

وقد يستأنس لما ذكرنا بمادل على لزوم الاحتياط في الشهادة، مثل ما عن النبي (ص) أنه قال: هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أودع(3)، و ماعن الصادق (ع): لاتشهدن بشهادة حتيتعرفها كماتعرف كفك(4).

ومن هنالامجال للبناءعلى عموم حجية الاطمئنان. وهو الذي يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في غير موضع من حاشيته على العروة الوثقى. وإن نسب له ما قد يظهر منه الخلاف في موضع آخر.

نعم يمكن البناءعلى حجية الاطمئنان في خصوص بعض الموارد، لأدلة خاصة لفظية أولبية، من دون أن تنهض بإثبات عموم حجيته، الذي هومحل الكلام في المقام.

ص: 359


1- وسائل الشيعة ج: 5 باب: 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.
2- وسائل الشيعة ج: 5 باب: 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 5.
3- وسائل الشيعة ج: 18 باب: 20 من أبواب الشهادات حديث: 3.
4- وسائل الشيعة ج: 18 باب: 20 من أبواب الشهادات حديث: 1.

كما لا إشكال في حجية القطع وعدم التوقف عن العمل عليه من أجل الفروض الممكنة عقلاً إذا لم تكن مورداً للاحتمال، أو كان عدم الركون للقطع بسبب الوساوس التي هي نحو من المرض

النفسي المستلزم لسلب ثقة الإنسان بنفسه وبحساباته اليقينية، أو بسبب التراكمات أو التعصب أو نحو ذلك مما يمنع النفس من الركون للعلم والإذعان للدليل، نظير قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ (1).

لكن ذلك لا يخرج العلم عن حقيقته، الذي هو وصول الواقع وانكشافه، ولا يرجع إلى حجية الاطمئنان الذي لا ينفك عن احتمال الخلاف وجداناً وإن ضعف. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

ص: 360


1- سورة النمل الآية: 14.

المحتويات

الصورة

ص: 361

الصورة

ص: 362

الصورة

ص: 363

الصورة

ص: 364

الصورة

ص: 365

الصورة

ص: 366

الصورة

ص: 367

الصورة

ص: 368

الصورة

ص: 369

الصورة

ص: 370

الصورة

ص: 371

الصورة

ص: 372

الصورة

ص: 373

الصورة

ص: 374

الصورة

ص: 375

الصورة

ص: 376

المجلد 4

هویة الکتاب

سرشناسه: طباطبایی حکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان و نام پديدآور: المحکم في اصول الفقه/ تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

مشخصات نشر: دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

تعداد المجلدات 6ج

وضعیت فهرست نویسی: فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

يادداشت:این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است

یادداشت:کتابنامه

موضوع:اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/ط2م3 1376

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي ونعم الوكيل، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 5

ص: 6

المقصد الثاني

في الأصول العملية

ص: 7

ص: 8

المقصد الثاني

في الأصول العملية

اشارة

وهي الوظائف المقررة عقلاً أو شرعاً للجاهل بالأحكام الذي لا حجه له عليها.

وقد تقدم في التمهيد لهذا القسم أن الرجوع إليها مع عدم الحجة مشروط بأن لا يدل دليل على وجوب الفحص عن الحجة أو الواقع، وإلا كان اللازم الفحص أولاً ثم الرجوع إليها بعد اليأس عن الظفر بهما، لأن دليل وجوب الفحص يكون وارداً على الأصل العقلي ومخصصاً لدليل الأصل الشرعي، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

تمهيد وفيه أمور..

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بتقديم أمور..

الأمر الأول: حقيقة الأصول العقلية

الأمر الأول: أنه تقدم في الفصل الثالث من مباحث القطع التعرض لحقيقة الأصول الشرعية.

وأما الأصول العقلية فهي متقومة بحكم العقل بالتنجيز والتعذير، ومرجع الأول إلى تحسين العقاب على مخالفة التكليف الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لاحتمال الضرر المقتضي للحذر، ومرجع الثاني إلى تقبيح العقاب عليه المستلزم للأمن منه بضميمة العلم بعدم خروج الشارع عن مقتضى الحكم المذكور، فلا يبقى معه موضوع للحذر.

ص: 9

نعم، حكم العقل بالتعذير والتنجيز..

تارةً: يكون بسبب الجعل الشرعي لما يستتبعهما من الحجة أو الأصل.

وأخرى: يكون استقلالاً منه لمحض الشك وعدم البيان الشرعي.

والمراد بالأصل العقلي هو الثاني. ومن ثم كان الأصل الشرعي وارداً على الأصل العقلي رافعاً لموضوعه.

هذا، ولو كان مفاد البيان الشرعي محض الإرشاد لحكم العقل والجري عليه كان مؤكداً له، لا رافعاً لموضوعه. ولا يكون البيان الشرعي حينئذٍٍ متعرضاً لأصلٍ شرعي، لينافي ما ذكرنا من ورود الأصل الشرعي على العقلي.

الأمر الثاني: وجه تقديم الحج على الأصول

الأمر الثاني: أنه لا ريب عندهم في تقديم الطرق والأمارات على الأصول عقلية كانت أو شرعية، وأن الرجوع للأصول مختص بصورة عدم الحجة في الواقعة.

كما لا إشكال في أن تقديم الحجج على الأصول العقلية بالورود الراجع إلى ارتفاع موضوعها بها، كما أشرنا إليه في الأمر الأول.

والكلام إنما هو في أن تقديم الحجج على الأصول الشرعية بالورود أو الحكومة أو التخصيص. والكلام في ذلك موقوف على النظر في أدلة الأصول، ومن ثم كان المناسب التعرض لذلك بعد الكلام في الأصول والنظر في أدلتها.

وأما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن مؤديات الطرق والحجج لما كانت هي الاحكام الواقعية، ومؤديات الأصول هي الاحكام الظاهرية، فحيث تقدم في أول مباحث الحجج عدم التنافي بين الأحكام الواقعية

ص: 10

والظاهرية، لتقدم الأولى رتبة على الثانية، لأن موضوع الأحكام الظاهرية هو الجهل بالأحكام الواقعية تعين تقديم الطرق على الأصول، لارتفاع موضوع الأصول بالطرق.

فهو لا يخلو عن إشكال، لأن مدعي التعارض والتنافي بين الأصول والطرق لا يدّعي التنافي بين الأصل ونفس الطريق، الذي يكون مؤداه حكماً واقعياً، بل التنافي بين دليل الأصل ودليل حجية الطريق، ومن الظاهر أن مفاد دليل حجية الطريق ليس حكماً واقعياً، بل ظاهري، كمؤدى دليل الأصل.

وبالجملة: عدم التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية لا يستلزم تقديم الطرق على الأصول، إذ المعيار في تقديم الطريق على الأصل تقديم دليل حجية الطريق على دليل الأصل، ومن الظاهر أن مفاد الدليلين معاً حكم ظاهري لا واقعي. ولذا لو فرض أخذ عدم جريان الأصل في موضوع حجية الطريق، بحيث يكون جريان الأصل رافعاً لموضوعها لزم تقديم الأصل عليه، وإن كان مؤدى الأصل حكماً ظاهرياً ومؤدى الطريق حكماً واقعياً، كما تقدم في أواخر الكلام في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد.

الأمر الثالث: تعداد الأصول العملية

الأمر الثالث: الأصول العملية التي اهتم المتأخرون بتنقيح مجاريها وتبويبها أربعة: البراءة، والاشتغال، والتخيير، والاستصحاب. وهي تشترك في الجريان في الأحكام التكليفية. ولم يتعرضوا لأصالة الطهارة، مع أنها تجري في الشبهات الحكمية أيضاً، فهي من المسائل الأصولية..

أما لما قيل من أنها من الأصول المتفق عليها، فلا تحتاج إلى الاستدلال.

أو لانصراف اهتمامهم بالشك في الأحكام التكليفية، لأهميتها وكثرة

ص: 11

الابتلاء بها، بخلاف الطهارة ونحوها من الأحكام الوضعية، فإنه يقل الابتلاء بها.

أو لتخيل كون الطهارة كسائر الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، فهي راجعة إليها، فيكون الشك فيها شكاً في الأحكام التكليفية، التي هي مجرى الأصول المتقدمة. ولعله إليه يرجع ما عن شيخنا الأعظم قدس سرة من رجوع أصالة الطهارة إلى أصالة البراءة.

أو لتخيل كونها من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، لا من الأحكام الشرعية، فالشبهة فيها موضوعية لا حكمية.

ولعل الأقرب في وجه إعراضهم هو الثاني.

هذا، والمقصود بيان وجه إعراضهم عن تحريرها، لا تصحيح الإعراض المذكور، فلا يهم كون هذا الوجه كأكثر الوجوه أو كلها مورداً للإشكال، كما تعرض لذلك غير واحد بما لا يسعنا إطالة الكلام تيه.

ثم إن قاعدة: «ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده»، وإن كانت تنفع في كثير من الشبهات الحكمية وتقع في طريق الاستنباط، إلا أنها إما أن تكون قاعدة اجتهادية واقعية، أو ظاهرية راجعة إلى استصحاب عدم الضمان، وليست أصلاً برأسه، وكذا أصالة اللزوم قي العقود.

الأمر الرابع: عموم الحكم الظاهري لحال الجهل

الأمر الرابع: تقدم في أوائل الفصل الثالث من مباحث القطع أن عموم الأحكام الواقعية لحال الجهل بها هو مقتضى إطلاق أدلتها أو عمومها، خلافاً لما عن بعض الأعاظم قدس سرة من قصور إطلاقها عن ذلك، وان ثبوتها أو ارتفاعها محتاج إلى جعل آخر متمم للجعل الأول تابع لعموم ملاكها وقصوره.

ص: 12

هذا كله في ثبوتها واقعاً.

وأما الحكم الظاهري الثابت في حال الجهل بها، الذي هو مفاد الأصل فهو حكم آخر أجنبي عن الحكم الواقعي، محتاج إلى جعل آخر غير جعله، لا دخل له به، وليس متمماً له، لأنه من سنخ آخر غير سنخه، ومجرد تبعيته لأهمية ملاكه في الجملة - كما في الاحتياط والبراءة - إنما يقتضي كونه حكماً طريقياً.

لا أنه مجعول بجعل متمم لجعل الحكم الواقعي بعد ما أشرنا إليه من اختلاف سنخهما.

فما يظهر من بعض الأعاظم قدس سرة من أن امتناع عموم جعل الأحكام الواقعية لحال الجهل بها يقتضي جعل الحكم الظاهري بجعل آخر متمم للجعل الأول، نظير جعل الأمر بقصد التقرب، بناء على مسلكه، خلط بين ثبوت الحكم الواقعي حال الجهل وجعل الحكم الظاهري حاله. فراجع ما ذكره في حديث الرفع وتأمل جيداً.

الأمر الخامس: الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة

الأمر الخامس: أشار غير واحد إلى مسألة: «الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة»، ولا يخلو المراد بها عن إجمال، ويستفاد منهم حملها على أحد وجوه..

الأول: أن يكون النزاع في أنه مع قطع النظر عن جعل الحكم الشرعي، فهل يحكم العقل بإباحة الأفعال أو المنع عنها؟ بمعنى: أن الفعل هل يكون منشأ لاستحقاق العقاب عقلاً ما لم يرخص فيه الشارع، أو لا يكون كذلك ما لم يمنع عنه الشارع.

الثاني: أنه بعد فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة فهل الأصل

ص: 13

كون الحكم هو الإباحة أو الحظر، على أن يكون المراد بالأصل هو الوجه الواقعي الذي يكون عليه الشيء لو خلي وطبعه، فتكون هذه القاعدة من القواعد الاجتهادية الواقعية. وربما يظهر هذا مما عن المحقق القمي قدس سرة.

الثالث: أنه مع فرض ورود الأحكام من الشارع والجهل بها فهل يحكم العقل بجواز الإقدام على الفعل ما لم يثبت المنع الشرعي، أو بالمنع ما لم يثبت الترخيص الشرعي؟ فتكون من القواعد الظاهرية العقلية الجارية مع الجهل بالحكم الشرعي. وهذا هو الظاهر من الفصول.

أما على الأول، فتكون القاعدة أجنبية عما نحن فيه من النزاع في البراءة والاشتغال، لكون موضوع النزاع المذكور الشك في الحكم الشرعي، والقاعدة واردة في ظرف عدمه.

إلا أنه لا يبعد حينئذٍٍ ملازمة القول بالحظر للقول بالاشتغال العقلي، إذ من البعيد جداً الالتزام بعدم جواز الإقدام مع فرض عدم الحكم الشرعي، وجوازه مع فرض الشك، بل منع الإقدام مع عدم الترخيص الشرعي يناسب المنع منه مع الشك فيه جداً.

نعم، لا ينافي القول بالحظر الالتزام بالبراءة الشرعية، كما أن القول بالإباحة في القاعدة المذكورة لا يلازم البراءة العقلية، فضلاً عن الشرعية في المقام بعد فرض ورود الحكم الشرعي، إذ لا بعد في الالتزام بالاحتياط فيه شرعاً أو عقلاً، مع الإباحة والسعة في فرض عدم وروده.

وأما على الثاني، فالتباين بين المسألتين ظاهر جداً، لكون الأولى واقعية والثانية ظاهرية، إلا أنه لا يبقى للثانية موضوع مع الأولى إذ لا موضوع للأصل مع الدليل الاجتهادي، فيكون النزاع في الثانية مع البناء على

ص: 14

أحد الوجهين في الأولى علمياً محضاً، من دون فرق بين الاحتياط والبراءة الشرعيين والعقليين.

نعم، لو فرض اختصاص القاعدة الأولى بالشبهة التحريمية يظهر أثر الثانية في غيرها.

وأما على الثالث، فالمسألة المذكورة عين مسألة البراءة والاحتياط العقليين، وإنما تباين مسألة البراءة والاحتياط الشرعيين لا غير. كما أنه لو فرض اختصاصها بالشبهة التحريمية كانت مسألة البراءة والاحتياط العقليين أعم منها.

هذا، وحيث كانت هذه المسألة على الوجهين الأولين مما له الدخل في ما نحن فيه كان المناسب التعرض لما هو الحق عليهما.

فنقول: لا ينبغي الريب في أن الحق على الوجه الأول هو الإباحة، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع الشرعي.

ومجرد ملكه تعالى للمكلف ولأفعاله لا يقتضي عقلاً إلا سلطانه على منعه ونفوذ تشريعه في حقه، لا امتناعه عما لم يرخصه فيه. ومن ثم كان المرتكز عرفاً احتياج المنع إلى الجعل والبيان.

ولا مجال لقياس ذلك بالملكية الاعتبارية، حيث إنها تقتضي ارتكازاً حرمة التصرف في المملوك ما لم يرخص فيه المالك، بل ما لم يثبت الترخيص منه. لأن مصحح اعتبار الملكية عرفاً ترتب أحكام الملك الارتكازية شأناً، ومنها استقلال المالك بالتصرف في الملك وتوقف تصرف غيره فيه على إذنه، كما هو الحال في جميع الأحكام الوضعية، فإنها وإن كانت مستقلةً بالجعل غير منتزعة من الأحكام التكليفية، إلا أن مصحح اعتبارها ترتب

ص: 15

بعض الأحكام المناسبة لها شأناً واقتضاء، وهذا بخلاف الملكية الثابتة له تعالى، فإنها سنخ آخر لا تقتضي عقلاً إلا ما ذكرنا من سلطانه تعالى على المنع.

على أن الوجه المذكور مبتن على فرض خلو الواقعة عن الحكم، وهو فرض لا واقع له.

وأما على الوجه الثاني، فالظاهر هو التوقف، ولا طريق لإثبات أحد الحكمين.

ومجرد ملكه تعالى للعبد وأفعاله لا يقتضي الحرمة الواقعية الشرعية..

أولاً: لعدم الدليل على حرمة التصرف شرعاً مع مثل هذه الملكية الحقيقية منه تعالى، وإنما ثبتت حرمة التصرف من غير إذن المالك مع الملكية الاعتبارية بدليل خاص.

وثانياً: لاحتمال ترخيصه تعالى واقعاً.

كما لا مجال للاستدلال على الإباحة بأنها منفعة خالية عن أمارات المفسدة، كما عن القوانين. لعدم كفاية ذلك - لو تمَّ - في إثبات الإباحة الواقعية.

وأما الوجه الثالث، فحيث كان راجعاً إلى محل الكلام فيظهر الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.

الأمر السادس: منهجية البحث في المقام

الأمر السادس: عرفت أن المهم في المقام هو الكلام في الأصول الأربعة.

وقد اهتم غير واحد بتحديد مجاريها قبل البحث عنها، وهو تكلف

ص: 16

لا داعي له، إلا أن التحديد المذكور يبتني على الكلام فيها وفي أدلتها، وهو يختلف باختلاف الأنظار، فالأنسب الإعراض عن ذلك، وإيكاله إلى ما يظهر بعد الكلام فيها والانتهاء منها، إن شاء الله تعالى.

نعم، ينبغي التعرض هنا لمنهج البحث وتبويبه..

فنقول: بعد فرض عدم قيام الحجة في الواقعة..

فتارةً: لا تؤخذ الحالة السابقة في الوظيفة العملية، بل لا يلحظ فيها إلا الشك المفروض.

وأخرى: تؤخذ الحالة السابقة زيادةً على الشك. فالقسم الأول هو مجرى البراءة أو الاحتياط أو التخيير، والثاني هو مجرى الاستصحاب.

ثم الشك في القسم الأول..

تارةً: يكون في أصل التكليف الإلزامي، أعني الوجوب أو الحرمة.

وأخرى: يكون في تعيينه مع وحدة المتعلق، وهو الدوران بين وجوب شيء وحرمته.

وثالثةً: في تعيينه مع اختلاف المتعلق، سواء اتحد سنخه، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام، أم اختلف، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.

فهذه صور ثلاث للقسم الأول.

وهناك صورة وقع الكلام في رجوعها للصورة الأولى أو الثالثة، وهي الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فالمناسب إفرادها بالكلام، فتكون صور هذا القسم أربعة.

ص: 17

هذا، وشيخنا الأعظم قدس سرة قد جرى في البحث في كل من هذه الصور على تقسيم البحث..

تارةً: من حيثية اختلاف موضوع الشك بلحاظ خصوصيتي الوجوب والحرمة.

وأخرى: من حيثية اختلاف منشأ الشك، حيث إنه قد ينشأ من عدم النص، أو إجماله، أو تعارض النصين، أو اشتباه الموضوع الخارجي. ولذا تكثرت المسائل في كلامه حتى بلغت أربعاً وعشرين.

لكن الجهة الأولى لا تقتضي تكثير الأقسام بعد اتحاد الخصوصيتين في ملاك البحث، وفي أهم أدلة المسألة، ومجرد شيوع الخلاف في الشبهة التحريمية لا يكفي في ذلك.

نعم، قد يختلفان في بعض الجهات الأخرى الخارجة عما هو المهم في المقام، لكن ذلك يقتضي التعرض لها استطراداً من دون حاجة إلى تكثير المسائل.

وكذا الحال في الجهة الأخرى، فإن عدم النص وإجماله وتعارض النصين تشترك في ما هو المهم في المقام بعد فرض تحقق موضوع الأصل، وما يمتاز به تعارض النصين من احتمال حجية أحدهما المانع من جريان الأصل ينبغي إيكاله إلى مباحث التعارض، ولا وجه لذكره هنا، كي يحتاج لتكثير الأقسام.

وأما الاشتباه في الموضوع فمن الظاهر خروجه عن محل الكلام، إذ هم الأصولي تشخيص الوظيفة في الشبهة الحكمية الراجعة إلى الشك في الحكم الشرعي الكلي، حيث إنها هي التي تقع في طريق استنباط الأحكام

ص: 18

الفرعية.

نعم، ملاك البحث غالباً يعم الشبهات الموضوعية، وإن كانت قد تنفرد ببعض الخصوصيات، فينبغي التعرض لها استطراداً تتميماً للفائدة من دون حاجة لتكثير الأقسام.

ومن ثم كان ما صنعه المحقق الخراساني قدس سرة من اختصار أقسام البحث هو الأولى.

ولذا فسيكون البحث في كل صورة من صور هذا القسم الأربعة في فصلٍ واحد إن شاء الله تعالى.

هذا، والكلام في هذا القسم بفصوله الأربعة مختص بالشك في التكليف الإلزامي، أعني الوجوب أو الحرمة، دون بقية الأحكام التكليفية، وإن كان ربما يلحقها الكلام في بعض الجهات الاستطرادية، على ما قد ننبه عليه إن شاء الله تعالى.

أما الكلام في القسم الثاني وهو ما يؤخذ فيه الحالة السابقة فإنه يجري في جميع الأحكام التكليفية، بل الوضعية أيضاً، بل الموضوعات الخارجية، وإن لم تكن مورد البحث بالأصالة.

وحيث عرفت هذا، فيقع الكلام في القسمين..

ص: 19

ص: 20

القسم الأول: في البراءة والاحتياط والتخيير

وفصوله أربعة..

الفصل الأول: في الشك في أصل التكليف

اشارة

والمشهور المعروف الرجوع فيه للبراءة، ونسب لقاطبة الأصوليين.

وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية

وعن معظم الأخباريين أو قاطبتهم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية، وعن المحدث الاسترآبادي وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية أيضاً، وفي المقدمة الرابعة من مقدمات الحدائق موافقته فيها مع إجمال النص.

لكن في كلام آخر له في المقدمة إطلاق الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، ونفى عنه الخلاف في الوسائل(1).

عدم لزوم الاحتياط في الشبهات الموضوعية

كما أن الظاهر عدم الخلاف في الرجوع للبراءة في الشبهة الموضوعية

ص: 21


1- ج 18، في ذيل الحديث: 28 من باب: 12 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

مطلقاً تحريمية كانت أو وجوبية، وإن ذهب غير واحد إلى وجوب الاحتياط في بعض الموارد، مثل الشك في عدد الفوائت، لتخيل كون الشك فيها في الفراغ، لا في أصل التكليف.

وكيف كان، فالحق الرجوع للبراءة العقلية والشرعية مطلقاً.

ما هو الحق في المقام

وينبغي الكلام هنا في مقامين..

الأول: في مقتضى الأصل الأولي مع فرض عدم البيان الشرعي حتى بالإضافة للوظيفة العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.

الثاني: في الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي.

ولا ينبغي الخلط بينهما مع اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام.

أما الأول: فلا ينبغي الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام، الراجع إلى حكمه بقبح العقاب من غير بيان، وهو المراد بالبراءة العقلية، فإن هذا يقتضي السعة في باب التكاليف المبنية على الإلزام والاحتجاج والمؤاخذة وهو لا ينافي لزوم الاحتياط مع الاحتمال فيما لو تعلق الغرض بإصابة الواقع، كما في الأضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.

هذا، ولا يبعد كون الحكم المذكور مسلماً عند الكل.

نعم، لو فرض كون مراد القائلين بأن الأصل في الأشياء الحظر هو الأصل الظاهري، بعد ورود الحكم الشرعي - الذي هو مرجع الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة عند الكلام في الأصل المذكور - كان ذلك منهم إنكاراً للحكم العقلي المذكور.

لكنه في غير محله قطعاً، لأن الحكم العقلي المذكور قطعي ارتكازي.

ص: 22

توجيه الاستدلال للحظر

والاستدلال للحظر: بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدمتصرف العبد مع الشك في إذنه، إذ لا يجوز التصرف بملك الغير بمجرد احتمال إذنه.

في غير محله، كما يظهر مما سبق من أن ملكيته تعالى الحقيقية لا تقاس بالملكية الاعتبارية، بل هي لا تقتضي إلا سلطانه تعالى على العبد بتكليفه له، ولابد في تنجز التكليف عقلاً من بيان شرعي، وإن كان بوجوب الاحتياط، ومع عدمه فالعبد في سعةٍ من أمره، يقبح عقابه ومؤاخذته بمجرد الاحتمال.

ومثله ما عن شيخ الطائفة قدس سرة من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الحظر، أو الوقف: بأن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من مفسدته، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته.

لاندفاعه: بأن الحكم المذكور إن رجع إلى حكمه بقبح الإقدام على احتمال الضرر، فهو لا يقتضي احتمال العقاب، لينافي حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. وإن رجع إلى التقبيح المستلزم للحكم الشرعي المستتبع للعقاب فهو ممنوع. وقد تقدم في الوجه الأول للاستدلال على حجية مطلق الظن ما ينفع في المقام.

وكيف كان، فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الإخباريين، وأن نزاعهم في المقام لا يبتني على إنكاره، بل على دعوى المخرج عنه، من بيان شرعي وارد عليه، رافع لموضوعه، على ما يأتي الكلام فيه(1).

ص: 23


1- الإنصاف أن كلمات بعضهم في غاية الاضطراب والخلط بين البراءة الواقعية والظاهرية كما يظهر بمراحعة المقدمة الثالثة من مقدمات الحد (منه عفي عنه).

ومن ثم استدل شيخنا الأعظم قدس سرة بالإجماع من المجتهدين والإخباريين على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ولا من حيث أنه مجهول الحكم هو البراءة، وعدم العقاب على الفعل.

وإن كان الاستدلال على الأحكام العقلية بالأدلة الشرعية لا مجال له، إلا أن يكون لمجرد الاستظهار لسوق الأدلة الشرعية مساق الإرشاد للحكم العقلي المذكور.

أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور، كأصلٍ شرعي أولي، فلا يكون مرجع الإجماع إلى قبح العقاب، ليكون إرشاداً لحكم العقل، بل إلى مجرد تأمين الشارع منه.

لكن الاستدلال بالإجماع لا يخلو عن إشكال، لقرب استناد المجمعين لحكم العقل المذكور، أو لغيره مما يأتي الكلام فيه، فلا يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن الحكم الشرعي.

وأما ما يأتي من الاستدلال بسيرتهم في مقام الاستدلال على الرجوع للبراءة فلعله إجماع منهم على الأصل الثانوي، لمثل حديث الرفع، لا على الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.

الاستدلال بالكتاب على البراءة

ثم إنه قد يستدل على الأصل المذكور - بعد حكم العقل والإجماع المتقدمين - بالكتاب والسنة. أما الكتاب المجيد فبآيات (منها) قوله تعالى:

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (1) بناءً على أن بعث الرسول كناية عن وصول البيان، لا مجرد البعث وإن لم يصل البيان، فإن ذلك هو المناسب

ص: 24


1- سورة الإسراء: 15.

لظهور كون القضية ارتكازية - كما هو المناسب لسياقها - لما هو المرتكز عرفاً من توقف العقاب على البيان.

نعم، لو كانت بصدد بيان لزوم بعث الرسل على الله تعالى لحفظ الملاكات الواقعية وإيصالها للمكلفين، من باب اللطف الذي لا ينافي اختفاء البيان لطوارئ خارجية ناشئة من المكلفين أنفسهم، كانت أجنبية عما نحن فيه، إلا أنه لا يناسب إناطة العقاب به ارتكازاً.

فالإنصاف ظهورها في عدم العقاب من دون بيان، كما هو مفاد حكم العقل في المقام.

ما أورده الشيخ الأعظم قدس سرة على الاستدلال

وقد أورد شيخنا الأعظم قدس سرة على الاستدلال المذكور: بأن ظاهر الآية الشريفة الإخبار بوقوع التعذيب، سابقاً بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة.

وكأنه لما اشتهر من دلالة (كان) على النسبة في الزمان الماضي. لكن الظاهر انسلاخها في المقام ونحوه عن ذلك، وتمحضها لبيان أصل النسبة، فيدل هذا التركيب على نفي النسبة المذكورة، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع، نظير قوله تعالى: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً(1)، وقوله سبحانه: وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (2)، وقوله عز وجل: وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً(3)، وقوله جل شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً(4)، إلى غير ذلك مما سلط فيه النفي على (كان) وأريد به بيان لزوم النفي،

ص: 25


1- سورة الكهف: 51.
2- سورة الأنفال: 33.
3- سورة الإسراء: 20.
4- سورة مريم: 64.

فيناسب المقام.

نعم، لو سلطت (كان) على النفي كانت ظاهرة في الزمان الماضي، كما في قوله تعالى: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ (1)، وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً(2)، ومنه لو قيل في المقام: «كنا لا نعذب حتى...».

كما أنه لو سلط النفي على (كان) فقد تتمحض في بيان سبق النفي في موارد الحصر الحقيقي والاستدراك الذي هو نحو من الحصر الإضافي كما في قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا...(3)، وقوله تعالى: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (4)، وقوله عز وجل: فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (5).

وكذا إذا كان في سياق نفي النسبة، كما في قوله تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (6) أو تأكيد النسبة كما في قوله تعالى: قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (7).

بل قد يرد في غير ذلك كما في مثل قوله عز وجل: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا

ص: 26


1- سورة المائدة: 79.
2- سورة النباء: 27.
3- سورة آل عمران: 147.
4- سورة آل عمران: 67.
5- سورة آل عمران: 95.
6- سورة البقرة: 16.
7- سورة الأنعام: 140.

كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (1) ، وقوله تعالى: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (2)... إلى غير ذلك مما يظهر بالاستقصاء.

إلا أن ذلك لا ينافي ما ذكرناه من ظهور الآية الكريمة في نفي النسبة مطلقاً، بل في أنه ليس من شأنها الوقوع. ولعله الشايع في مثل هذا التركيب لو لم يكن هو الأكثر، كما يظهر في بالاستقصاء.

هذا، مع ظهور العذاب في الآية المذكورة في ما يعم العذاب الأخروي أو يخصه، ولاسيما بملاحظة سوقها في سياق آيات استحقاق العذاب الأخروي، لبيان قضايا ارتكازية، قال تعالى: َوَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا...(3).

على أنه لو تم ما ذكره قدس سرة فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الإخبار، بل لبيان جريانه تعالى في العذاب على طبق الموازين العقلائية العامة الراجحة أو اللازمة من توقفه على إقامة الحجة، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الأخروي بتنقيح المناط، بل بالأولوية، لأهمية العقاب الأخروي، بلحاظ شدته، وتمحضه في الجزاء، الذي هو أولى بالاحتياج للحجة، بخلاف العذاب الدنيوي، حيث أنه قد يكون من سنخ الآثار الوضعية للأفعال وإن

ص: 27


1- سورة القصص: 63.
2- سورة آل عمران: 44.
3- سورة الإسراء: 13-16

كانت عن عذر، أو يكون للامتحان، أو نحوهما مما لا يكون من سنخ الجزاء ولا يتوقف على إقامة الحجة ارتكازاً. فالإنصاف أن دلالة الآية وافية جداً.

ثم إنه ربما يقرب دلالتها على نفي الاستحقاق بما أشرنا إليه من ظهور التركيب المذكور في أنه ليس من شأن النسبة الوقوع، بل هي لازمة الانتفاء.

لكنه أعم من عدم الاستحقاق، لإمكان أن يكون اللزوم بلحاظ التزامه تعالى بمقتضى اللطف وإن لم يكن واجباً، نظير قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1) مع وضوح الاستحقاق، كما يشهد به قوله تعالى بعد ذلك: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...(2) وكيف كان، فيكفي في الاستدلال بالآية دلالتها على نفي فعلية العقاب وإن لم تدل على نفي استحقاقه لكونها حينئذٍ مؤمنة من العقاب، فلا يحتمل الضرر المقتضي للحذر والمستلزم لتنجز التكليف المحتمل.

غايته أنها إن دلت على نفي الاستحقاق كانت إرشاداً لحكم العقل المتقدم بقبح العقاب من غير بيان، وإلا كانت دليلاً على الأصل الأولي المذكور في قباله.

بقي شيء: عدم تنافي دلالة الآية على الأصل الأولي مع وجوب الاحتياط

بقي شيء، وهو أنها حيث كانت دالة على الأصل الأولي، فلا تنافي وجوب الاحتياط في التكليف المجهول لو فرض دلالة الأدلة الشرعية عليه، لأن العقاب على التكاليف حينئذٍ يكون بعد إرسال الرسول، فيكون دليل وجوب الاحتياط رافعاً لموضوعها.

نعم، لو كان مفادها توقف العقاب على إرسال الرسول ببيان نفس

ص: 28


1- سورة الأنفال: 33.
2- سورة الأنفال: 34.

التكليف المعاقب عليه كانت منافيةً لذلك، لأن دليل وجوب الاحتياط وإن كان بياناً لوجوب الاحتياط إلا أن العقاب ليس عليه، لأنه حكم طريقي، وليس العقاب إلا على التكليف الواقعي المجهول ودليل وجوب الاحتياط لا يكون بياناً له، فينافي الآية. إلا أنها غير دالة على ذلك، بل على اشتراط العقاب بالبيان في الجملة وإن كان على وجوب الاحتياط.

الاستدلال بآية: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح...

ومنها قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ... رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(1).

حيث دل على أنه لولا بعث الرسل لكانت الحجة للناس على الله عزّ وجل، وأنه يحق لهم الاعتذار بعد بعثهم. وذلك راجع إلى أن مقتضى الأصل الأولي البراءة، إذ لو كان هو الاحتياط لم تكن لهم الحجة عند عدم إرسال الرسل، بل لله عزّ وجل، حيث يجب عليهم التحفظ والحذر، والاستقصاء فيهما جهد الإمكان، ويحق له سبحانه عقابهم بترك ذلك.

ودعوى: أن وجوب إرسال الرسل عليه تعالى أعم من جريان البراءة، إذ قد يجب اللطف عليه تعالى ببعث الرسل من أجل هداية الناس لما يصلحهم، وتنبيه الغافلين منهم، ورفع العلة من قبله جلّ شأنه، وإن لزم على الناس الاحتياط مع الشك في التكليف لو لم يصلهم بسبب الموانع الخارجية، بعد أن يكون عزّ وجل قد لطف بعباده، وأرسل لهم رسله، ليبلغوهم بدينه.

نعم لو ثبتت الحجة للناس مع عدم بعث الرسل في خصوص مر

ص: 29


1- سورة النساء: 163-165.

العقاب رجع ذلك إلى قبح العقاب بلا بيان الذي هو مرجع البراءة العقلية، ونفع في محل الكلام، لكن الآية الشريفة لا تدل على ذلك، بل على مجرد ثبوت الحجة الذي هو أعم، كما سبق.

مدفوعة: بأن إضافة الحجة للناس في الآية الكريمة موجبة لظهورها في كون جهة الاحتجاج تخص الناس، وذلك إنما يكون بلحاظ عقابه تعالى لهم من دون بعث الرسل. وأما وجوب اللطف المذكور عليه عزّ وجل فهو - لو تم - أمر يخصه - كسائر مقتضيات الحكمة - من دون أن يكون منشأ لثبوت الحجة للناس عليه سبحانه. ولاسيما مع وصف الرسل (صلى الله على نبينا وآله وعليهم) بأنهم مبشرين ومنذرين، الراجع لتبليغهم بالثواب والعقاب زائداً على التبليغ بالدين. ومع نسبته له تعالى المناسبة لعقابه على المخالفة.

فهي تناسب جداً قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى(1)، غايته أنه قد اقتصر فيه على بيان قولهم ذلك من دون أن تتضمن أن لهم الاحتجاج به، أما الآية المستدل بها فقد تضمنت أن لهم الحجة بذلك. ومن هنا يقرب جداً دلالتها على المطلوب.

ثم إنه لو تم ذلك كانت الآية الكريمة دالة على نفي استحقاق العقاب، لا على مجرد عدم العقاب والتأمين منه، كما تقدم في الآية الأولى، أن صحة الاحتجاج ملازمة لعدم الاستحقاق، ولا يكفي فيها حسن التفضل بعدم العقاب مع استحقاقه.

نعم يجري فيها ما سبق في ألآية الأولى من أنها إنما تدل على الأصل

ص: 30


1- سورة طه: 134.

الأولي، إذ يكفي في ارتفاع الحجة للناس إرسال الرسول وتبليغه بوجوب الاحتياط مع الشك في التكليف، كما لعله ظاهر.

ثم إن هناك بعض الآيات الأُخَر ذكرها شيخنا الأعظم قدس سرة، ويظهر ضعف الاستدلال بها مما ذكره قدس سرة وذكرناه في تعقيب كلامه، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها، وإن كانت هي لا تخلو عن إشعارٍ وتأييد للمطلب، ككثير من الآيات الواردة في إقامة الحجة على العباد، يضيق المقام عن استقصائها.

الاستدلال بالسنة على البراءة:

وأما السنة فقد يستدل منها بأحاديث..

الرواية الأولى

الأول: ما روي من قوله: «الناس في سعة ما لا يعلمون»(1)، بناءً على أن (ما) مصدرية ظرفية. إذ تكون الرواية حينئذٍٍ مسوقة لبيان الأصل الأولي المذكور، الذي لا ينافي وجوب الاحتياط لدليلٍ شرعي موجب للعلم، لإطلاق العلم فيها لما يشمل ذلك، ولا تدل على عدم ارتفاع السعة إلا بالعلم بخصوص الحكم الواقعي الذي هو مورد العقاب.

نعم، لو كانت (ما) موصولة قد أضيفت إليها السعة كانت دالة على ثبوت السعة بلحاظ نفس التكليف المجهول، الذي هو مورد الأصل الثانوي، فينافي وجوب الاحتياط المقتضي لعدم السعة بالإضافة إلى التكليف المجهول، ولا يصلح دليل وجوب الاحتياط لرفع موضوعه، لعدم كونه موجباً للعلم بالتكليف الواقعي، كما تقدم قريباً عند الكلام في الآية.

ولعل هذا هو الأقرب، لما ذكره بعض مشايخنا من أن (ما) الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل المضارع، وانما تدخل

ص: 31


1- لم نعثر عليه، سوى ما في عوالي اللئالي ج 1، ص 424، وقال النبي (ص): إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

على الماضي، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الأول وجه متين لكنه خلاف الواقع.

ولو سلم دخولها على فعل المضارع أحياناً فلا ريب في ندرته، فلا يصار إليه في غير الضرورة، فحمل (ما) على الموصولة هو الأنسب. وإن كان في بلوغ ذلك حد الظهور إشكال.

ولاسيما مع عدم خلو إضافة السعة للموصول عن تكلّف، بل نحو من الركاكة. فإجمال الرواية ودورانها بين الأصل الأولي والثانوي هو المتعين.

نعم، ورد في بعض نسخ الرسائل المطبوعة التي لا تخلو عن ضبط ذكر الحديث هكذا: «الناس في سعة ما لم يعلموا» وهو المحكي عن عوالي اللآلئ أيضاً(1) ومن الظاهر أن مدخول (لم) بمنزلة الفعل الماضي، فيتعين معه كون (ما) زمانية مثلها في قولهم عليهم السلام: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»(2)، وغيره مما هو كثير.

ومنه يظهر قصوره عن مقام الاستدلال لضعف السند. نعم، في معتبر السكوني عن أبي عبد الله (ع) الواردة في سفرة وجدت مطروحة في الطريق كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها قال (ع): فقيل يا أمير المؤمنين (ع): لا يُدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال: هم في سعةٍ حتى يعلموا»(3)، لكنه مختص بمورد خاص من الشبهة الموضوعية، ولعله راجع إلى أمارية أرض المسلمين على تذكية اللحم، فيكون أجنبياً عما نحن فيه.

ص: 32


1- مستدرك الوسائل ج 18، باب: 12 من أبواب مقدمات الحدود حديث: 4.
2- الوسائل: ج 12، الباب 5 من أبواب الخيار.
3- الوسائل، ج 17، باب: 23 من أبواب اللقطة ح: 1

الرواية الثانية

الثاني: قوله (ع): - كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة -: أيما امرءٍ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه»(1)، فإنه ظاهر في الجهالة من جميع الجهات التي هي موضوع الأصل الأولي فلا ينافي وجوب الاحتياط لدليلٍ رافع للجهل به.

نعم، استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سرة بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام.

وكأن وجهه ظهور الباء في قوله (ع): «بجهالةٍ» في السببية لا محض المصاحبة، ولا يكون الجهل سبباً للعمل إلا مع الغفلة أو اعتقاد الصواب، أما مع الشك والتردد فالجهل لا يقتضي الإقدام، بل التوقف، والإقدام يستند إلى أمر آخر من أصل أو نحوه مما يعتمد عليه الشاك في مقام العمل.

مضافاً إلى الإشكال في استعمال الجهالة بمعنى محض عدم العلم، بل هي تناسب القصور الحاصل من الغفلة أو اعتقاد الخلاف، كما تقدم التنبيه له في آية النبأ. فتأمل.

الرواية الثالثة

الثالث: ما رواه في الكافي عن حمزة بن الطيار، بسندٍ لا يخلو عن اعتبار، عن أبي عبد الله (ع): «إن من قولنا: ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرَّفهم، ثم أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى...»(2)، فإن المنسبق منه الحصر الراجع إلى عدم الاحتجاج عليهم بما لم يعرفهم. وهو لا يدل إلا على الأصل الأولي، إذ لو فرض دلالة الدليل على وجوب الاحتياط، كان مما آتاهم وعرفهم، فيكون مورداً للاحتجاج منه تعالى عليهم بمقتضى الحديث.

ص: 33


1- في الوسائل: «أي رجل...» ج 5، باب: 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- الكافي ج: 1 ص 164.

الرواية الرابعة

الرابع: ما عن كتاب التوحيد بسنده عن عبد الأعلى، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عمن لم يعر ف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: «لا»، فإنه ظاهر في بيان الأصل الأولي المذكور الذي ينافي وجوب الاحتياط للدليل الموجب لمعرفته. من دون فرق بين كون المراد بالشيء الأول فرداً مردداً أو فرداً معيناً مفروضاً في الخارج، وكون المراد به العموم لأنه نكرة في سياق النفي.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من أنه على الثاني يكون ظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئاً.

مدفوع: بأن ظاهر الحديث السؤال عمن لم تتحق له المعرفة، لا عمن لا قابلية له للمعرفة.

نعم، من لا يعرف شيئاً أصلاً قاصر غالباً، إلا أن ظاهر الحديث كون الجهة المسؤول عنها هي عدم معرفته لا قصوره.

الرواية الخامسة

الخامس: ما في ثواب الأعمال(1)، وعن كتاب التوحيد، بسنده عن حفص بن غياث، سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم»(2)، فإنه صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم.

نعم، يكفي العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه الحديث، كما هو مفاد الأصل الأولي المذكور.

هذا حاصل ما تيسر لنا عاجلاً من الأدلة على كون مقتضى الأصل الأولي البراءة وقد عرفت أن عمدتها - بعد حكم العقل - الآية الشريفة والأحاديث الثلاثة الأخيرة.

ص: 34


1- باب ثواب من عمل بما علم ص: 133، طبع النجف.
2- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبوا ب صفات القاضي حديث: 30.

المقام الثاني: مقتضى الأصل الثانوي

وأما المقام الثاني: وهو مقتضى الأصل الثانوي، فالظاهر أنه لا حكم للعقل فيه، بل هو مما يختص به الشارع، فكما يمكن عقلا ًجعل الشارع للبراءة يمكن جعله لوجوب الاحتياط.

ولو تم وجوب الاحتياط كان رافعاً لموضوع حكم العقل في المقام الأول.

لا لكون العقاب معه عقاباً على ما يعلم وورد به البيان، إما من حيث كون دليله موجباً للعلم بوجوب شيء بعنوان كونه مجهول الحكم - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة - أو من حيث كونه بياناً للتكليف المجهول في ظرف وجوده - كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة -.

لاندفاع الأول: بأن وجوب الاحتياط طريقي لا يكون موضوعاً للعقاب والثواب، بل مصححاً للعقاب على التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده، وما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من كونه نفسياً تكلف مخالف لظاهر أدلته جداً.

واندفاع الثاني: بعدم صلوح دليل الاحتياط لبيان الواقع، بل الوجه في ارتفاع موضوع حكم العقل بدليل وجوب الاحتياط أن حكم العقل مختص بما إذا لم يهتم الشارع الأقدس بحفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به بإيجاب الاحتياط.

وقد تقدم تمام الكلام في ذلك في مبحث قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع. فراجع.

وكيف كان، فالأصل في المقام شرعي محض لا دخل للعقل به.

الاستدلال على البراءة الشرعية

ومن ثم ينبغي أن يستدل عليه بالأدلة الشرعية، وقد استدل على البراءة

ص: 35

بالأدلة الثلاثة..

الاستدلال بالكتاب

أما الكتاب، فبقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا(1)، حيث قد يستدل به على البراءة بناءً على أن المراد بالإيتاء في التكاليف الإعلام بها وإيصالها للمكلف فتدل على عدم التكليف بما لم يصل للمكلف، وتكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية للتكليف بالواقع والمؤاخذة به مع الجهل به، من دون أن توجب العلم به ليخرج عن موضوع الآية.

ومجرد اقتضائها العلم بوجوب الاحتياط لا ينفع بعد عدم كونه مورداً للمؤاخذة، لكونه طريقياً، كما تقدم.

نعم، لو كانت بصدد بيان توقف المؤاخذ ة على قيام الحجة في الجملة وإن لم تتعلق بنفس التكليف المؤاخذ به كانت مساوقة للآية المتقدمة في الأصل الأولي، كما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة.

لكنها بعيدة عن ذلك ظاهرة في لزوم إيتاء نفس التكليف المؤاخذ به.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أن مفاد الآية إنما هو نفي الكلفة من قِبَل التكاليف المجهولة، بمعنى عدم صلوحها بنفسها لإيجاب المؤاخذة، لا نفي الكلفة عليها مطلقاً ولو من قِبَل جعل إيجاب الاحتياط.

لإندفاعه: بأن ظاهر الآية ليس مجرد عدم صلوح التكاليف المجهولة لتسبيب الكلفة، كي لا تنافي تسبيب إيجاب الاحتياط لها، بل عدم تحقق الكلفة بالإضافة إلى التكاليف المجهولة مطلقاً، فينافي مقتضى أدلة الاحتياط من تحقق الكلفة بالإضافة إليها.

ص: 36


1- سورة الطلاق: 7.

ما أورده العراقي قدس سرة على الآية

وأشكل منه ما ذكره قدس سرة من أن إيتاء ه تعالى لما كان عبارة عن إعلامه، وكان المراد منه إعلامه بالطرق المتعارفة التي هي عبارة عن إرسال الرسل وأمرهم بتبليغ الأحكام، كان مقتضى الآية عدم ثبوت مسؤولية التكليف مع عدم أمر الرسل بتبليغه الراجع إلى كونه مما سكت الله عنه الملازم لعدم فعليته، ولا تدل على عدم المسؤولية بالتكليف لو فرض فعليته والأمر بتبليغه، وإنما كان اختفاؤه بسبب الطوارئ الموجبة للضياع كظلم الظالمين ونحوه.

المناقشة فيه

إذ فيه: أنه مخالف للظاهر جداً، فإن ظاهر الإعلام - المفروض كونه المراد من الإيتاء - هو الإعلام الفعلي، ولاسيما مع إضافته لكل مكلف بشخصه، لا لنوع المكلفين. ومجرد كون ذلك هو المراد بوجوب الإعلام على الله تعالى من باب اللطف، لا يقتضي الحمل عليه في المقام.

فالإنصاف قوة دلالة الآية بناءً على أن المراد من الإيتاء هو الإعلام في المقام.

توجيه المراد بالآية وأن المراد بالإيتاء الإعطاء

لكنه غير ظاهر، لأن حقيقة الإيتاء الإعطاء، فلابد إما من حمله على حقيقته مع حمل الموصول على المال ويكون التكليف به بمعنى التكليف بإنفاقه. أو حمله على الأقدار مجازاً مع حمل الموصول على الفعل ويكون التكليف به حقيقياً. وكلاهما مناسب لورود القضية مورد التعليل لقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ.

ولعل الأول أقرب، لما يستلزمه الثاني من اختلاف معنى الإيتاء ومتعلقه في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي ظهور القضية فيه مع كون الأول ارتكازياً مثله.

ص: 37

نعم، الظاهر أن منشأ اشتراط التكليف بإنفاق المال بإعطائه هو عدم التكليف بغير المقدور، بقرينة وروده مورد التعليل الظاهر في كونه ارتكازياً، فيكون عدم التكليف بغير المقدور علةً للقضية المذكورة، لا أنه مؤدى بها.

وكيف كان، فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم التكليف بما لا يعلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن إيتاء كل شيء بحسبه، فإيتاء المال بإعطائه، وإيتاء الشيء فعلاً أو تركاً بالإقدار عليه، وإيتاء التكليف بإيصاله والإعلام به.

فيندفع: بأن الإيتاء لغةً وعرفاً الإعطاء، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من الأمور المذكورة موجب لحمله على غير معناه فيها، فلا وجه للحمل عليها من دون قرينة ملزمة.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من صدق الإعطاء - الذي هو معنى الإيتاء - في الفعل والترك بالإقدار، وفي التكليف بالإعلام.

فإن أدنى تدبر في معنى الإعطاء شاهد ببطلانه.

عدم ملائمة معنى: الإعلام للمقام

هذا، مع أنه لو فرض إمكان شمول الإيتاء للإعلام بالتكليف فلا مجال له في المقام، فإن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول ليس كعدم تعلقه بالمال أو الفعل غير المقدور، إذ المراد بالأول عدم التعلق ظاهراً بلحاظ المؤاخذة، لوضوح عدم كون الجهل رافعاً للتكاليف واقعاً، وبالثاني عدم التعلق واقعاً لامتناع التكليف بغير المقدور.

مع أن الأول شرعي تعبدي، والثاني إرشادي عقلي، وحيث لا إشكال في شمول القضية للثاني بقرينة المورد كانت منصرفة عن الأول الذي هو محل الكلام.

ص: 38

نعم لو أريد بعدم التكليف عدم المسؤولية والتبعة - كما يأتي في حديث الرفع - أمكن عمومه لرفع التكليف واقعاً في مورد العجز ورفعه ظاهراً في مورد الجهل. إلا أن ذلك إن لم يكن مخالفاً لظاهر نفي التكليف في الآية الكريمة، فلا أقل من عدم القرينة عليه، بخلاف ما يأتي في حديث الرفع من وجود الملزم بذلك. فلاحظ.

وأما ما قيل في وجه امتناع العموم: من أن تعلق التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول المطلق، لأنه عينه، وتعلق التكليف بالمال أو الفعل من باب تعلق الفعل بالمفعول به، ولا جامع بين النسبتين، ليمكن العموم لها.

فقد يندفع: بإمكان تصور التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول به، بأن يراد بالتكليف في الآية محض الكلفة المتقومة بالمسؤولية والعقاب - التي ذكرنا أنها ظاهرية - وبالتكليف المجهول هو الحكم الواقعي الذي يتعلق به الجعل، ويكون موضوعاً للعقاب والثواب. فتأمل جيداً.

الاستدلال بالآية بضميمة رواية عبد الأعلى مولى آل سام

ثم إنه قد يتوهم صحة الاستدلال بالآية لما نحن فيه بضميمة رواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله (ع)، قلت له: «هل كُلِّف الناس بالمعرفة؟ قال: لا، على الله البيان، لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَالَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا».

ويندفع: بأن المعرفة بنفسها غير مقدورة للإنسان قبل تعريف الله سبحانه، فلا يحتاج إلى إرادة الإعلام من الإيتاء، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة.

فالمراد من البيان ليس بيان وجوب المعرفة، بل بيان ما يراد معرفته

ص: 39

بنصب الأدلة الكافية عليه، لتتيسر المعرفة لمن يريدها، ويكون مراد السائل أنه هل يحتاج التكليف بالمعرفة إلى نصب الأدلة من قبله تعالى على ما يراد معرفته؟ لا أنه هل كلف الناس بالمعرفة من دون أن يعلمهم بوجوبها، ليكون مما نحن فيه، إذ لا شاهد على ذلك، بل المناسبة تقتضي الأول.

نعم، الرواية تقتضي سوق الآية لبيان عدم التكليف بغير المقدر مطلقاً ولو في غير المال، إما لدلالتها عليه بالمطابقة، أو لاستفادته منها بضميمة كون التعليل ارتكازياً، كما ذكرناه آنفاً.

هذا، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة آيات أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، لوضوح قصور دلالتها، كما يظهر بمراجعة ما ذكره قدس سرة وذكرناه في تعقيب كلامه، فالاقتصار على ما سبق هو الأنسب بالمقام.

الاستدلال بالسنة على البراءة الشرعية

وأما السنة، فقد استدل منها بأحاديث..

الأول: حديث الرفع المروي بطرق مختلفة، ومتون مختلفة - أيضاً - زيادة ونقصاناً.

الكلام في حديث الرفع

منها: الصحيح المروي عن الخصال، عن حريز عن أبي عبد الله (ع)، قال: «قال رسول الله (ص): رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق «الخلوة خ. ل» ما لم ينطقوا «بنطق» بشفة».

وعن التوحيد روايته بنفس السند مع اختلاف في المتن يسير، وعن الفقيه روايته مرسلاً بتفاوت لا يضر في ما نحن فيه، ونحوه ما عن محمد بن عيسى في نوادره عن إسماعيل الجعفي.

ص: 40

وروي بمتون أخر لا شاهد فيها(1).

ووجه الاستدلال به: أن ظاهره بدواً كون الجهل والخطأ والنسيان سبباً في رفع التكليف واقعاً، حيث تقدم في أوائل الفصل الأول من مباحث القطع إمكان ذلك في الجملة، ولاسيما مع كون الرفع في بقية الفقرات واقعياً، إلا أنه حيث كان ذلك منافياً لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، فلابد من صرفه عن ظاهره بحمله على الرفع الظاهري الراجع إلى عدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لعدم وجوب الاحتياط فيه.

بل قد يقال: إنه حيث كان الحديث وارداً مورد الامتنان، ولا امتنان في رفع التكليف الواقعي في حال الجهل أو النسيان أو الخطأ، بل يكفي فيه الرفع الظاهري بالوجه المذكور، فلا ظهور له في نفسه في الرفع الواقعي، بخلاف الرفع في بقية الفقرات المذكورة، إذ بعد عمومها للعلم بالحكم لا يتم الامتنان فيها إلا برفعه واقعاً.

نعم، قد يشكل ذلك بصعوبة التفكيك بين الفقرات عرفاً، بل امتناعه، لإسناد الرفع في صدر الحديث إلى التسعة بإسناد واحد، فإما أن يراد به الواقعي أو الظاهري.

فالأولى أن يقال: مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة الحاصلة بسببها، والثقل الناشئ منها من العقاب ونحوه مما يترتب فعلاً على الحكم ولو بضميمة وصوله، وبيان خلاص المكلف من التبعة في

ص: 41


1- راجع الوسائل: ج 5، باب: 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، و ج: 11، باب: 56 من أبواب أبواب جهاد النفس، و ج: 16، باب: 16 من كتاب الايمان.

الأمور المذكورة.

إلا أن ذلك مع العلم بالتكليف الواقعي أو موضوعه مستلزم عرفاً لارتفاعه، لأن بيان عدم العقاب على الشيء وعدم التبعة فيه صالح عرفاً لبيان عدم التكليف واقعاً، لما هو المعلوم من تقوم التكليف بالتبعة المذكورة الراجعة إلى استحقاق العقاب ونحوه، لتقوم التكليف بذلك وعدم صحة انتزاعه بدونه.

أما مع فرض الجهل أو الخطأ أو النسيان فالرفع المذكور لا يستلزم عرفاً ارتفاع الحكم الواقعي، بل يقتضي التأمين من التبعة لا غير، المستلزم لعدم وجوب الاحتياط مع الشك، وعدم وجوب التحفظ من الخطأ والنسيان والغفلة، ولا ملزم برفع الحكم الواقعي، إذ لا يلغو بقاؤه في عالمه، فإن عدم ترتب البعث والزجر عليه حينئذٍٍ لعدم الشرط وهو المنجز، لا لقصور في الحكم.

ودعوى: أن الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، بلا حاجة إلى رفع شرعي وراء ذلك، وظاهر الحديث هو الرفع شرعاً.

مدفوعة: بأن سلطان الشارع على رفع موضوع حكم العقل بإيجاب الاحتياط والتحفظ من الغفلة عن التكليف الواقعي بالفحص مصحح لنسبة الرفع إليه، فإن الرفع بالمعنى المذكور وإن لم يستند للشارع في المرتبة الأولى، إلا أنه يستند إليه في المرتبة الثانية بعد فرض سلطانه عليه بقاءً.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا حاجة إلى إضمار المؤاخذة أو بقية الآثار، لما في الإضمار من العناية والتعسف، فلا مجال لتكلفه من دون ملزم به، بل

ص: 42

الظاهر أن ارتفاعها مصحح لإسناد الرفع للتسعة المذكورة من دون حاجة للتقدير.

كما لا حاجة إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط، وأن نسبة الرفع إلى الحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز، بلحاظ كون منشأ رفع وجوب الاحتياط دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيره، لأن وجوب الاحتياط هو الذي يكون رفعه ووضعه بيد الشارع، دون المؤاخذة ونحوها من اللوازم العقلية.

إذ فيه: أن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم الواقعي عرفاً ولو مجازاً، بل ما ذكرناه هو الأظهر في وجه النسبة وإن كان يلزمه عدم وجوب الاحتياط، وعدم وجوب التحفظ عن الغفلة بالفحص، كما تقدم.

دعوى اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية لوجوه

ثم إنه قد يستشكل في الاستدلال بالحديث بدعوى: اختصاصه بالشبهة الموضوعية لوجوه..

أولها: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من أن الظاهر من الموصول في مَا لاَ يَعْلَمُونَ بقرينة بقية الموصولات هو الموضوع، وهو فعل المكلف غير المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل فلا يشمل الحكم غير المعلوم، كحرمة شرب التتن.

المناقشة فيه

وفيه: أن تعلق الاضطرار وأخويه بالموضوع ليس كتعلق العلم والنسيان به، فإن تعلق الأولين بالموضوع من حيث هو بذاته، من دون دخل للعنوان أصلاً، غاية الأمر أنه قد يكون جهةً تعليليةً له، بخلاف العلم والجهل والنسيان ونحوها، فإنها لا تتعلق بالذوات بأنفسها، بل بها من حيثية كونها ذات عناوين، فالعلم إنما يتعلق بأن الشيء خمر، أو حرام، أو مضر، أو

ص: 43

نحوها مما هو مفاد القضية.

وحينئذٍٍ فاللازم ملاحظة العنوان المناسب للرفع في المقام، وهو خصوص العنوان المنتزع من التكليف، لأنه هو الذي يكون منشأ الضيق والتبعة، وبقية العناوين الموضوعية - كالخمرية والميتة ونحوهما - لا تكون منشأً للضيق إلا من حيث ملازمتها له، فلا مجال لملاحظتها بأنفسها، خصوصاً مع كون العناوين الموضوعية لا جامع لها عرفاً إلا من حيث اشتراكها في كونها منشأ للتكليف، فملاحظة عنوان التكليف بنفسه أظهر وأشمل.

فالمراد حينئذٍٍ ما لا يعلمون التكليف به إيجاباً أو تحريماً، فيشمل الشبهة الحكمية، إذ كما يصدق مجهول الحرمة على السائل الخاص المجهول الخمرية، كذلك يصدق على الكلي - كالتبغ ولحم الأرنب - بل على أفراده الجزئية أيضاً، وإن اختلف منشأ الجهل، فهو في الشبهة الموضوعية ناشئ من اشتباه الأمور الخارجية وفي الشبهة الحكمية ناشئ من عدم البيان الشرعي.

بل حيث عرفت اختلاف الأمور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا مجال للاعتماد على قرينة السياق، بل الأقرب حمل الموصول في مَا لاَ يَعْلَمُونَ على العنوان ابتداء، لأنه الذي يصح أن يسند إليه العلم والجهل عرفاً، وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد القضية، وحينئذٍٍ يتعين لحاظ العنوان المنتزع من التكليف، لأنه المناسب للرفع كما تقدم، وهو راجع إلى حمل الموصول على الحكم. فتأمل جيداً.

ثانيها: ما ذكره هو قدس سرة بوجه آخر

الثاني: ما ذكره هو قدس سرة من أنه لو فرض تقدير المؤاخذة فالظاهر نسبتها

ص: 44

للمذكورات بأنفسها، كما هو مقتضى قرينة السياق مع بقية الموصولات، فكما يقدر المؤاخذة على ما لا يطيقون يقدر المؤاخذة على ما لا يعلمون، فيكون المراد بما لا يعلمون الموضوعات التي لا تعلم، لأنها هي التي تكون المؤاخذة عليها، أما الأحكام فليست المؤاخذة عليها، بل على متعلقاتها، وهي الموضوعات الخارجية، فيختص الرفع بالشبهة الموضوعية.

ويظهر حاله مما تقدم، حيث سبق عدم ابتناء الكلام على التقدير والإضمار، وأن رفع المؤاخذة مصحح لنسبة الرفع لنفس المذكورات من دون حاجة إلى إضمارها، ليتعين تقدير نسبتها إلى نفس المذكورات. مضافاً إلى ما تقدم من أن تعلق العلم بالموضوعات إنما هو من حيثية كونها ذات عناوين، وأن ملاحظة عنوان التكليف حينئذٍٍ أظهر وأشمل. على أنه لا يبعد صحة نسبة المؤاخذة لنفس التكاليف بلحاظ كونها منشأً لها. فافهم.

ثالثها: ما ذكره غير واحد من عدم الجامع بين الشبهتين

الثالث: ما أشار إليه غير واحدٍ من أنه لا جامع بين الشبهة الموضوعية والحكمية، لكون الجهل في الأولى متعلقاً بالموضوع، وفي الثانية بالحكم، وإسناد الرفع إلى الأول من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له، والى الثاني من قبيل الإسناد إلى ما هو له، والثاني في نفسه وإن كان أظهر، إلا أن قرينة السياق تقتضي الأول.

ويظهر الجواب عنه - أيضاً - مما تقدم من أن الجهل في الشبهة الموضوعية - أيضاً - يرجع إلى الجهل بالحكم وإن اختلفت مع الشبهة الحكمية في منشأ الجهل، فهما يرجعان إلى جامع واحد.

مضافاً إلى أن الرفع حتى لو أسند إلى الحكم لا يكون حقيقياً، لما عرفت من أن رفعه منافٍ لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين

ص: 45

الجاهل والعالم، وليس رفعه إلا ادعائياً بلحاظ رفع التبعة الناشئة منه، وبلحاظ ذلك يصح نسبة الرفع للموضوع في بقية الفقرات.

الكلام في أمور..

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالحديث الشريف. وقد تصدى غير واحد في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطراداً، ولا بأس بمتابعتهم في ذلك، فيقع الكلام في أمور..

الأمر الأول: كون الرفع تشريعي

الأمر الأول: ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى تنزيل الأمور المذكورة منزلة العدم شرعاً، لعدم ترتب الأحكام والآثار الشرعية.

وهو غير ظاهر من الحديث الشريف، بل الظاهر ما تقدم من أن مصحح إسناد الرفع رفع تبعة الفعل أو التكليف وما يكون من شؤون المسؤولية المترتبة عليهما، فيختص بالآثار التي هي من سنخ التبعة والكلفة المترتبة على الفعل أو التكليف، كالمؤاخذة في الأحكام التكليفية، وكوجوب الكفارة، والحد، ونفوذ العقد، والإقرار ونحوها، دون بقية الآثار، كالنجاسة، وتحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية ونحوهما. من دون فرق بين الفقرات.

غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة يستلزم في الجهل والخطأ والنسيان عدم وجوب التحفظ وعدم وجوب الاحتياط ظاهراً مع بقاء الحكم الواقعي، أما في بقية الفقرات فهو مستلزم لرفع الحكم واقعاً كما تقدم، بخلاف رفع غير المؤاخذة من التبعات الشرعية، فإن رفعه في الحديث مستلزم لتخصيص دليله واقعاً، وان كان بلسان الحكومة، لكون الأمور المذكورة من الأمور الثانوية الطارئة، فهي من سنخ الرافع، وعلى كل حال فهي لا تثبت واقعاً من

ص: 46

دون فرق بين الفقرات، فكما لا يجب الحد واقعاً على من أكره على الزنا، كذلك لا يجب على من وقع منه الزنا خطأً أو نسياناً أو جهلاً.

ومنه يظهر أنه لا فرق بين الجهل والخطأ والنسيان، خلافاً لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سرة من أن الرفع في الأول ظاهري وفي الأخيرين واقعي، بل هي مشتركة في ارتفاع التبعات الشرعية واقعاً، وفي ارتفاع التبعة العقلية المستلزمة لارتفاع حكم نفس الفعل ظاهراً مع بقائه واقعاً، كما تقدم.

وعلى ما ذكرنا تنزّل صحيحة صفوان بن يحيى والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عيه السلام، في الرجل يستكره على اليمين، فيحلف بالطلاق، والعتاق، وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال: «لا، قال رسول الله (ص): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا»(1)، فإن نفوذ اليمين المذكورة لما كان من سنخ التبعات الشرعية كان مرفوعاً بالإكراه بمقتضى الحديث.

قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «فإن الحلف بالطلاق، والعتق، والصدقة وإن كان باطلاً عندنا مع الاختيار أيضاً، إلا أن استشهاد الإمام (ع) على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة له.

وبما ذكرنا يظهر الوجه في عدم سقوط الإعادة والقضاء بالإخلال ببعض الأجزاء أو الشروط جهلاً أو نسياناً أو خطأً، فإن وجوبهما ليس من سنخ التبعة المترتبة على الإتيان بالناقص، بل هو من باب لزوم امتثال التكليف الواقعي بوجهه الواقعي، وعدم سقوطه بدونه عقلاً أو شرعاً. وقد

ص: 47


1- الوسائل ج: 16 باب: 12 من كتاب الايمان حديت: 12.

أطال غير واحد في المقام بما لا حاجة إليه بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل.

الأمر الثاني: اختصاص الرفع بما إذا كان امتنانياً

الأمر الثاني: الظاهر اختصاص الحديث بما إذا كان الرفع امتنانياً، لأنه المنصرف منه، خصوصاً مع ظهوره في الاختصاص بالأمة المرحومة، فلا يشمل ما لو كان منافياً للامتنان في حق بعض الأمة، كما لو أكره على الإضرار بالغير، بل يبقى التحريم في مثله.

ولعله لأجل ذلك لا يرتفع الضمان بالإتلاف مع الخطأ، بناءً على أن الضمان من سنخ التبعات الشرعية، فإن رفعه عن المتلف حيث كان منافياً للامتنان في حق المالك، تعين قصور الحديث عنه. أما لو لم يكن من سنخ التبعة فالأمر أظهر.

الأمر الثالث: قبول الحديث للتخصيص

الأمر الثالث: الظاهر أن الحديث قابل للتخصيص، فلا مانع من عدم الرفع في بعض الموارد للدليل الخاص، كما ثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص في الشبهة الحكمية، ووجوب التحفظ عن النسيان في الأحكام الكلية، ووجوب الكفارة في بعض موارد الخطأ، كالقتل، فإن أدلة الأحكام المذكورة تكون مخصصة لعموم الحديث الشريف.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة من قصور الحديث عن الرفع مع التقصير في الجهل والنسيان، لعدم منافاة فعلية التكليف للامتنان، إذ لا يأبى العقل حينئذٍٍ عن ذلك. نعم، لو كان التحفظ حرجياً كان مقتضى الحديث الشريف الرفع، لأن الوضع حينئذٍٍ خلاف الامتنان.

فهو كما ترى! لأن عدم إباء العقل حينئذٍٍ عن فعلية التكليف لا ينافي كون رفعه امتنانياً لما فيه من السعة، كما هو الحال فيما لو كان التحفظ حرجياً، لأن العقل لا يمنع من التكليف الحرجي أيضاً.

ص: 48

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من أن مثل وجوب كفارة الخطأ خارج عن موضوع الحديث الشريف، لاختصاصه بالآثار الثابتة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الخطأ والنسيان ونحوهما مما تضمنه الحديث، دون ما ثبت بتوسط أحد العناوين المذكورة بحيث تكون دخيلة فيه، كما هو الحال في المقام، وفي مثل وجوب سجود السهو.

لاندفاعه: بأن ثبوت الكفارة المذكورة مناف للحديث، بناء على ما تقدم من دلالته على عدم التبعة مع الخطأ.

نعم، بناء على دلالته على رفع الفعل تعبداً بلحاظ آثاره الثابتة له، يتعين اختصاصه بالآثار الثابتة له بذاته في رتبة سابقة على طروء العناوين المذكورة، لأن العناوين المذكورة تكون من سنخ الرافع، فلا ترفع إلا ما تم مقتضيه مع قطع النظر عنها، ويقصر عما كانت العناوين المذكورة دخيلة فيه.

لكن عرفت الإشكال في حمل الحديث على المعنى المذكور، فالمتعين ما ذكرنا من أن خروج هذه الموارد بالتخصيص.

هذا، وأما وجوب سجود السهو فالظاهر أن الوجه في خروجه تخصصاً عدم كونه من سنخ التبعة الشرعية، بل يظهر من دليله كون الإتيان به لإرغام الشيطان، فهو حكم تعبدي، كالنجاسة والتذكية.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الحديث الشريف. والله سبحانه ولي العون والتوفيق.

الثاني: حديث الحجب

الثاني من النصوص المستدل بها في المقام: خبر زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (ع) قال: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»(1)،

ص: 49


1- الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 28.

فإنه ظاهر في أن الحكم الواقعي المجهول موضوع عن المكلفين، فيدل على عدم وجوب الاحتياط الراجع إلى تنجز الحكم الواقعي المجهول، كما تقدم.

نعم، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينه وبينها بحمله على الأصل الأولي، بأن يحمل حجب العلم على حجب العلم بما يعم الوظيفة الفعلية الظاهرية، فتكون أدلة الاحتياط واردة عليه. اللهم إلا أن يقال: إنما يتعين الجمع المذكور إذا دل على وجوب الاحتياط مطلقاً. أما إذا كان مختصاً ببعض الشبهات، كالشبهة الحكمية أو خصوص التحريمية منها والجمع المذكور ليس بأولى من الجمع بالتخصيص. بل لعل الأقرب الثاني. فتأمل جيداً.

هذا، ومما تقدم في حديث الرفع يظهر عمومه للشبهة الحكمية والموضوعية.

ما استشكله الشيخ الأعظم قدس سرة في الحديث

وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سرة بأن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد، لا ما بينه واختفى عليهم من معصية من عصى في كتمان الحق، فهو مساوق لما عن أمير المؤمنين (ع): «إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلفوها، رحمةً من الله لكم فاقبلوها»(1).

وفيه: أن منشأ الظهور المذكور..

المناقشة فيه

إن كان هو نسبة الحجب إلى الله تعالى، فيكون كناية عن عدم إيصال الحكم للرسل أو عدم أمرهم بتبليغه، فالظاهر أنه يكفي في النسبة المذكورة

ص: 50


1- الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 61.

استناد الفعل إليه سبحانه تكويناً بتقدير أسبابه ولو بطريق الناس، كما هو الحال في نسبة الرزق والابتلاء إليه تعالى، فهو نظير قولهم عليهم السلام: «ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر».

وإن كان منشؤه نسبة الحجب للعباد الظاهر في إرادة جميعهم المستلزم لعدم تصدي الشارع الأقدس لبيانه، فالظاهر أن العموم في «العباد» ليس مجموعياً، بل انحلالياً راجعاً إلى وضع التكليف عن كل من حجب عنه، نظير العموم في حديث الرفع والسعة، فان ذلك هو المناسب لكون القضية ارتكازية.

على أن ظاهر الحديث كون الحكم المحجوب تام الفعلية وصالحاً للمحركية لولا الحجب المقتضي لوضعه، فلا يناسب حمله على الأحكام المسكوت عنها، لقصوره عن مرتبة الفعلية وعدم صلوحها للمحركية في أنفسها.

ما ذكره العراقي قدس سرة في دفع الإشكال

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة في دفع الإشكال المذكور من شمول الحديث للأحكام الواصلة للنبي (ص) التي لم يؤمر بتبليغها، لاستناد الحجب فيها إلى الله تعالى، فيمكن تعميم الحكم لغيرها مما بلغ به النبي (ص) أو الأئمة عليهم السلام واختفى بسبب المكلفين أنفسهم بعدم الفصل، لاشتراكها في الفعلية.

المناقشة فيه

ففيه: أن الظاهر عدم بلوغ الاحكام التي لم يؤمر النبي (ص) بتبليغها مرتبة الفعلية، ولذا لا تتنجز لو فرض العلم بها إجمالاً.

ولو فرض بلوغها المرتبة المذكورة بمعنى فلا طريق لإثبات عدم الفصل بينها وبين الأحكام التي بلغها واختفت.

ص: 51

كيف! ولا يظن من الإخباريين أو غيرهم الالتزام بوجوب الاحتياط مع العلم بعدم تبليغ النبي (ص) للحكم.

ومن ثم كان ظاهر المحدث الاسترآبادي عدم وجوب الاحتياط في ما تعم به البلوى، بحيث لو كان هناك حكم مخالف للأصل لظهر، لأن عدم الدليل دليل العدم، على ما حكاه عنه شيخنا الأعظم قدس سرة في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الأولى من مسائل الشبهة التحريمية، وهو ظاهر الحر العاملي في الوسائل في تعقيب الحديث الستين من الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، مع ظهور أن الاستدلال المذكور إنما يتم في ما فرض تبليغ النبي (ص) أو الأئمة عليهم السلام له على تقدير وجوده، لا في ما لم يؤمروا بتبليغه.

الثالث: مرسل الفقيه

الثالث: المرسل عن الفقيه: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»(1).

وعن أمالي الشيخ قدس سرة روايته مسنداً عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر أو نهي»(2)، وعن العوالي: «قال الصادق (ع): كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص»(3).

قال شيخنا الأعظم قدس سرة بعد ذكر مرسل الفقيه: «ودلالته على المطلوب أوضح من الكل، وظاهره عدم وجوب الاحتياط، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو، لا من حيث كونه مجهول الحكم. فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسنداً وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها...».

ص: 52


1- الوسائل ج 18: باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 60.
2- الوسائل ج 17: باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.
3- الوسائل ج: 17، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 8.

وما ذكره قريب جداً.

نعم، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينها وبين الروايات المذكورة بحمل هذه الروايات على ما يعم ورود النهي الثانوي، على نحو ما سبق في حديث الحجب.

ما ورد على الاستدلال بالحديث

هذا، وقد يستشكل في دلالة الرواية بوجهين:

الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سرة من أنه يكفي في ورود النهي وروده إلى بعض المكلفين وإن خفي على غيرهم، وحينئذٍٍ لا مجال للاستدلال بالحديث لاحتمال ذلك في مورد الشك بالتكليف، إلا في الأمور المستحدثة التي يعلم بعدم ابتلاء المكلفين المعاصرين لدور تبليغ الأحكام بها، بحيث يعلم بعدم ورود النهي لأحد من المكلفين فيها.

ولو أريد من المكلفين ما يعم المعصومين عليهم السلام امتنع الاستدلال حتى في المسائل المذكورة. نعم، قد يستدل بضميمة أصالة عدم ورود النهي، وهو أمر آخر.

وفيه: أن الورود والإطلاق لما كانا أمرين إضافيين فالظاهر من إطلاقهما كون غاية الإطلاق في حق كل شخص ورود النهي له، واحتمال كون ورود النهي لبعض المكلفين رافعاً للإطلاق في حق غيره، خلاف الظاهر جداً، خصوصاً في مثل هذه القضية الارتكازية.

هذا، مع أن ظهور القضية في ضرب القاعدة العملية ظاهر في تيسر الاطلاع على موضوعها، والمتيسر لكل شخص هو إدراك ورود النهي له لا لغيره.

الثاني: أن ورود النهي لا يتوقف على وصوله للمكلف، بل يكفي

ص: 53

صدوره واقعاً، لا لأن الورود بمعنى الصدور - كما قد يوهمه كلام المحقق الخراساني قدس سرة - لوضوح التقابل بينهما، بل لأن التكليف لما كان أمراً قائماً بين المولى والعبد، فهو بالإضافة إلى المولى صادر منه، وبالإضافة إلى العبد وارد عليه، فصدق وروده على العبد لا يتوقف على وصوله إليه، بل يكفي فيه صدوره من المولى وجعله في ذمة العبد، حتى كأنه أمر حمل عليه.

ولعلَّه إلى هذا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة من صدق الورود على الصدور، وما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من إمكان كونه مقابل السكوت. وحينئذٍٍ فيكون مفاد الحديث أن الأشياء في أنفسها على السعة ما لم يرد فيها نهي شرعي رافع لها.

نعم، لو كان المراد من الورود الورود للمكلف لا الورود عليه كان المتعين حمله على الوصول له، لأن مجرد ثبوت النهي في ذمة المكلف لا يصحح نسبة وروده له ما لم يصل.

ولعل هذا هو المتعين في مرسل العوالي، لأن النص مما لا ثبوت له في ذمة المكلف، ليصدق وروده عليه قبل العلم به ووصوله.

إلا أنه لا مجال له في مرسل الفقيه، لحذف المتعلق وصلوح التكليف للأمرين، فبلحاظ كونه أمراً ثابتاً في ذمة المكلف وموجباً لمسؤوليته والتثقيل عليه يصدق وروده وطروؤه عليه بمجرد صدوره، وبلحاظ كونه حادثاً من الحوادث الخارجية يصدق وروده بالعلم به ووصوله للمكلف، نظير قولنا: وردني موت زيد.

هذا، وقد يرجح إرادة الوصول من الورود في المقام بأنه لو كان المراد من الورود ما يلازم الصدور كان الإطلاق قبله عقلياً، فيكون حكم الشارع

ص: 54

به إرشادياً، وهو خلاف الأصل في الحكم الشرعي، إذ الأصل فيه كونه مولوياً، فيتعين حمله على إرادة الإطلاق الظاهري الشرعي عند الشك في ورود النهي، وهو لا يرتفع إلا بوصول النهي، فيكون قرينة على أن المراد من الورود الوصول.

وكأن هذا هو مراد بعض مشايخنا في مناقشة بعض الأعاظم قدس سرة في المقام. فراجع.

وفيه.. أولاً: أن أصالة كون الحكم الشرعي مولوياً مختصة بما إذا انعقد للكلام ظهور في معنى ودار الأمر فيه بين الوجهين، بخلاف ما إذا تردد الكلام بين معنيين أحدهما لا يصلح إلا للمولوية، والآخر لا يصلح إلا للإرشاد - كما في المقام - فإن إثبات الظهور بالأصل المذكور حينئذٍٍ لا يخلو عن إشكال أو منع.

نعم، لو فرض كون الحكم العقلي جلياً لا يحتاج إلى بيان وإرشاد كان ذلك قرينة على صرف الكلام عن الإرشاد إليه، إلا أنه لم يتضح بعد كون الحكم العقلي بالإطلاق في المقام بالنحو المذكور.

كيف وقد وقع الكلام فيه؟! كما سبق عند الكلام في أصالة الحظر أو الإباحة.

اللهم إلا أن يدعى عدم الفائدة ببيانه بعد فرض ورود الشرع وعدم خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية، فلا ينبغي الحمل عليه، كما نبه له غير واحد من مشايخنا. فلاحظ.

وثانياً: أن ثبوت الإطلاق العقلي قبل البيان الشرعي لا يستلزم كون حكم الشارع بالإطلاق إرشادياً، لإمكان كونه مولوياً راجعاً إلى الحكم

ص: 55

بعموم إباحة الأشياء شرعاً ما لم يرد النهي عنها، فيكون مؤكداً لحكم العقل، بل مغنياً عنه لا إرشاداً له، كسائر موارد الحكم بالإباحة.

إن قلت: لا يمكن جعل النهي الواقعي غاية للإباحة الواقعية، لاستلزامه جعل أحد الضدين رافعاً للآخر، نظير أن يقال: كل شيء ساكن إلى أن يتحرك.

قلت: أولاً: جعل الشيء غاية لشيء لا يستلزم كونه رافعاً له، وقبح جعل أحد الضدين غاية للآخر إنما هو لوضوح التنافر بينهما الموجب لوضوح ارتفاع أحدهما عند حدوث الآخر بنحوٍ يكون بيانه لغواً، أما إذا كان المقصود بيان أن أحد الضدين هو مقتضى الطبع الأولي والآخر هو المحتاج إلى علة تقتضيه فلا قبح، لأنه مزيد فائدة تحتاج إلى البيان، والمقام من ذلك، فإن المقصود بيان أن إباحة الأشياء هي مقتضى طبعها الأولي. فتأمل.

وثانياً: ورود النهي من سنخ العلة للحرمة والضيق، التي هي ضد للإباحة والإطلاق، وليس بنفسه ضداً للإباحة والإطلاق، فهو نظير أن يقال: كل شيء ساكن حتى يحرك، ولا بأس به.

فالإنصاف: أن البناء على إجمال الرواية من هذه الجهة لا يخلو عن قرب. نعم لا يبعد ظهور حديث الأمالي في إرادة وصول النهي دون أصل جعله، لأن ذلك هو المناسب لجعل الغاية الورود لشخص المكلف، أما أصل الجعل فهو في حق عامة المكلفين. فلاحظ.

هذا، وقد تقدم عند الكلام في مقتضى الأصل الأولي إجمال حديث السعة أيضاً وتردده بين الأصل الأولي والثانوي الذي هو محل الكلام، فلا مجال للاستدلال به ولا بمرسل الفقيه في المقام.

ص: 56

نعم، قد يستدل بالمرسل بضميمة الاستصحاب، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

صحيحة ابن الحجاج

الرابع: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (ع): «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت: بأي الجهالتين يعذر بجهالته أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت: وهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها...»(1)، بناءً على أن قوله (ع): «فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» إشارة إلى القضية الارتكازية المقتضية لعموم العذر حتى بالإضافة إلى العقاب وعدم اختصاص العذر بعدم الحرمة المؤبدة، فيكون وارداً لبيان الأصل الثانوي ودليلاً على عدم وجوب الاحتياط، لوضوح كون الجهالة المفروضة فيه هي الجهالة بالحكم الواقعي، وهو حرمة التزويج بالمرأة، لا ما يعم الحكم الظاهري ليكون لبيان الأصل الأولي الذي يكون دليل وجوب الاحتياط رافعاً لموضوعه.

كما أنه لا ريب في عمومه للشبهة الموضوعية والحكمية معاً.

وفيه: أنه منصرف إلى الجهالة بمعنى الغفلة أو اعتقاد الحل خطأً - كما ذكرناه في الحديث الثاني الذي تقدم الاستدلال به للأصل الأولي - ولاسيما مع التعليل فيه بأنه لا يقدر على الاحتياط، ضرورة القدرة على الاحتياط مع

ص: 57


1- الوسائل: ج 14 باب: 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة حديث: 4.

الالتفات والشك.

ثم إن الصحيحة لم تتضمن تخصيص التعليل المذكور بالجهالة بحرمة التزويج في العدة دون الجهالة بأنها في العدة، ليستشكل في الرواية بلزوم التفكيك بين الجهالتين - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة - بل مجرد ذكره في الأولى دون الثانية، وهو لا يدل على عدم وروده في الثانية.

بل لعل التنبيه على التعليل في الأولى لكون المعذورية فيها أخفى، لما هو المرتكز من أهمية الشبهة الحكمية، فيكون ذكر التعليل فيها دفعاً لذلك، وتأكيداً لقوله (ع): «إحدى الجهالتين أهون من الأخرى» الظاهر في أنهما معاً غير مهمتين.

نعم، لو كان التعليل مسوقاً لبيان أن الشبهة الحكمية أهون من الشبهة الموضوعية كان ظاهراً في الاختصاص ولزم محذور التفكيك بين الجهالتين.

لكنه لا قرينة عليه، بل هو منافٍ لقوله: «إحدى الجهالتين أهون من الأخرى». فلاحظ.

الخامس: صحيح ابن سنان الآخر

الخامس: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1)، ونحوه خبر عبد الله بن سليمان الوارد في الجبن، ومرسل معاوية بن عمار(2).

وعن الشهيد في الذكرى الاستدلال بذلك على ما نحن فيه.

إشكال الشيخ الأعظم قدس سرة على الاستدلال بالصحيح

وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سرة بأن ظاهر صدره فرض انقسام

ص: 58


1- الوسائل، ج 12 باب 4، من أبواب ما يكتسب به حديث 1.
2- الوسائل، ج 17 باب 61، من أبواب الأطعمة المباحة حديث 1، 7.

الشيء فعلاً إلى الحلال والحرام، وأن الانقسام هو منشأ الاشتباه الذي هو موضوع الحكم بالحلية الظاهرية، وهو إنما يتم في الشبهات الموضوعية، حيث قد يكون الانقسام فيها سبباً للاشتباه، كالجبن الذي يعلم أن قسما منه محرم، لأن فيه ميتة، وقسماً منه حلال لا ميتة فيه، فيشتبه حال بعض أفراده بسبب ذلك.

أما الشبهات الحكمية فلا يتصور فيها ذلك، إذ الشك فيها ناشئ عن فقد الدليل، لا عن الانقسام المذكور.

فالحيوان وإن كان منقسماً إلى ما هو حلال وحرام، كالضأن والخنزير، إلا أن الانقسام المذكور لا يكون سبباً للاشتباه في المشكوك كالأرنب، بل الشك فيه ناشئ من فقد الدليل عليه ولو مع فرض عدم الانقسام المذكور.

ولا مجال لتوهم أن ذكر الانقسام في الخبر ليس لكونه منشأ للاشتباه، بل هو مقارن صرف.

لاستهجان ذكره حينئذٍٍ جداً، ولاسيمامع كون ذكره موجباً لقصور الحديث عن بعض أفراد الشبهة وهو ما لا يدخل تحت كلي منقسم للقسمين، كشرب التتن، فيحتاج تعميم الحكم له للتمسك بعدم الفصل، كما أوضحه شيخنا الأعظم قدس سرة.

وأوهن منه توهم كون المراد بالتقسيم المذكور في الخبر هو الترديد والشك، فمرجع قوله (ع): «كل شيء فيه حلال وحرام فهو...» إلى قولنا: كل شيء مشتبه الحال مردد بين الحلال والحرام فهو....

لأنه خروج عن ظاهر الخبر، بل صريحه المستفاد من صدره وذيله، كما أطال شيخنا الأعظم قدس سرة في توضيحه. فراجع.

ص: 59

ما يمكن به دفع الإشكال

نعم، يندفع ما ذكره قدس سرة بما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أن الاشتباه في الشبهة الحكمية قد يكون ناشئاً من الانقسام المفروض لو فرض إجمال القسمين، لإجمال دليلهما، كما لو فرض العلم بأن بعض أجزاء الذبيحة محرم شرعاً، وشك في مقدار الحرام وأنه يشمل الكبد مثلاً أولاً، فإن انقسام الذبيحة إلى الحرام والحلال هو السبب في اشتباه حكم الكبد حينئذٍٍ، ومقتضى إطلاق الحديث كونه حلالاً ظاهراً، لعدم العلم بأنه الحرام بعينه، فيعم الحكم غير ذلك من موارد الاشتباه - كالتبغ - بعدم الفصل.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من ظهور قوله (ع): «بعينه» في هذا الحديث وغيره - مما يأتي الكلام فيه - في الشبهة الموضوعية، إذ لا معنى لأن يقال: حتى تعرف الحكم بعينه.

وجه الاندفاع: أن كلمة: «بعينه» لو فرض ظهورها في إرادة التمييز بعد الاشتباه فهو مما يمكن فرضه في الشبهة الحكمية، كما في ما تقدم من المثال على أنها إنما يؤتى بها لمحض التأكيد لدفع توهم عدم ثبوت الحكم لموضوعه، وهو يجري في الشبهة البدوية، ولا يتوقف على الاشتباه والترديد في ما هو معلوم الثبوت، واستفادة التمييز بعد الاشتباه في خصوص الحديث المتقدم إنما هو من جهة فرض التقسيم، ومن اللام في «الحرام» الظاهرة في العهد، والإشارة إلى الحرام المفروض المشتبه.

العمدة في الخدشة في الاستدلال بالحديث

فالعمدة في الخدشة في الاستدلال بالحديث في الشبهة الحكمية: أنه في نفسه ظاهر في عدم منجزية العلم الإجمالي، فمن القريب جداً حمله على الشبهة غير المحصورة التي تخرج بعض أطرافها بسبب كثرتها عن محل الابتلاء، كما يشير إليه خبر أبي الجارود، سألت أبا جعفر (ع) عن الجبن،

ص: 60

فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل...»(1)، وذلك إنما يكون خارجاً في الشبهات الموضوعية، حيث تكون العناوين المشتملة على الحرام - كالجبن واللحم - ذات أفراد كثيرة لا يبتلى بجميعها عادة، بخلاف الشبهات الحكمية. فلاحظ.

السادس: موثق مسعدة بن صدقة

السادس: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع): «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حرٌّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»(2). ودلالتها على الأصل الثانوي ظاهرة، ولاسيما بملاحظة الأمثلة.

عدم عموم الحديث للشبهة الحكمية

ولكن لا عموم فيها للشبهة الحكمية، لا من جهة كلمة «بعينه» لما تقدم، بل من جهة الأمثلة، لإمكان سوقها مساق الشرح للقاعدة لا لمجرد التمثيل، خصوصاً مع قوله (ع): «وذلك مثل...» الظاهر في حصر مفاد القاعدة بما يكون مثل هذه الأمور، وحينئذٍٍ فيمكن أن يكون الاشتباه في الموضوع مأخوذاً في المماثلة الملحوظة في المقام، واحتفاف مثل ذلك بالكلام مانع من ظهوره في العموم للشبهة الحكمية.

بل ذكر البينة في ذيل الرواية ظاهر في اختصاصها بالشبهة الموضوعية، لوضوح كونها المرجع فيها، لا في الشبهة الحكمية، فإن المرجع فيها هو

ص: 61


1- الوسائل، ج 17 باب 61، من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 5.
2- الوسائل، ج 12 باب 4، من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.

خبر الثقة الذي يلغو معه ذكر البينة، كما أشرنا إليه في مسألة عدم حجية خبر الثقة في الموضوعات من الفقه. ومنه يظهر إجمال حديث عبد الله بن سليمان عنه (ع) في الجبن قال: «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة»(1) وأنه مختص بالشبهة الموضوعية.

استشكال الشيخ الأعظم قدس سرة في الأمثلة

ثم إنه قد أشار شيخنا الأعظم قدس سرة إلى الإشكال في الأمثلة المذكورة في الموثقة: بأن الحل فيها ليس مستنداً إلى أصالة الحلية، بل إلى اليد في الأولين، وإلى أصالة عدم تحقق النسب والرضاع في الثالث، ومع قطع النظر عنها فالأصل يقتضي الحرمة، لأصالة عدم التملك في الثوب، والحرية في الإنسان، وعدم تحقق الزوجية في المرأة.

دفع الإشكال

ويندفع: بأن نسبة الأمارة أو الأصل الحاكم إلى الأصل المحكوم نسبة الحكم الثانوي إلى الحكم الأولي، فإن الحكم الثانوي وإن كان هو الحكم الفعلي الذي يكون مورد العمل، إلا أنه لا يوجب قصور موضوع الحكم الأولي ذاتاً عن شمول المورد، بل هو حافظ لحيثيته، فهو ثابت من الحيثية المذكورة وإن لم يكن فعلياً بسب طروء حيثية الحكم الثانوي، التي هي من سنخ المانع عن تأثير الحيثية الأولية للحكم الأولي.

ففي المقام التصرف في الثوب - مثلاً - من جهة كونه أمراً مشكوك الحرمة يكون مجرى لأصالة الحل، ومن جهة كون الثوب مجرى لاستصحاب عدم التملك يكون محكوماً ظاهراً بالحرمة، ومن جهة كونه مورد اليد يكون محكوماً ظاهراً بالحل.

وحينئذٍٍ فلا مانع من إغفال الأمارة أو الأصل الحاكم والتنبيه للأصل

ص: 62


1- الوسائل، ج 17 باب 6 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 2.

المحكوم، لكونه مورد الحاجة، أو لكون تفهيمه للمخاطب أيسر أو لنحو ذلك من الأغراض، وفي المقام حيث كان المطلوب توضيح أصالة الحل بالتمثيل احتيج للتنبيه في مورد الأمثلة المذكورة على الأصل المذكور، دون الأمارات أو الأصول الحاكمة عليه. خصوصاً مع صعوبة فرض مثال لا يكون مجرى لأمارة أو أصل حاكم موافق أو مخالف.

نعم، إذا كانت الأمارة أو الأصل جاريين فعلاً، ومخالفين عملاً للأصل المحكوم امتنع إغفالهما والاقتصار في التنبيه على الأصل المحكوم لئلا يلزم الإغراء بالجهل والإيقاع في خلاف الوظيفة الفعلية، وذلك لا يجري في المقام، لأن الأصل الحاكم على أصالة الحل المخالف لها عملاً محكوم لأصول وقواعد أُخَر جارية فعلاً موافقة لأصالة الحل عملاً، فلا يلزم من عدم التنبيه عليها الإغراء بالجهل، كما لا يخفى.

ثم إنه لو فرض عدم نهوض ما ذكرنا بدفع الإشكال المذكور عن الرواية فهو لا يمنع من الاستدلال بها، لقوة ظهورها في إرادة أصالة الحل، بنحوٍ لا توجب الأمثلة ظهورها في غيره ولا إجمالها، وغاية ما يلزم إجمال الأمثلة.

دعوى انصراف الحديث في إرادة الحلية المستندة للإمارة ونحوها

وأما دعوى أنها تكون بقرينة الأمثلة المذكورة ظاهرة في إرادة الحلية المستندة لليد أو الاستصحاب، لا المستندة لأصالة الحل.

دفع الدعوى المذكورة

فيدفعها.. أولاً: أنه لا جامع عرفي بين الأمرين، فلا مجال لحمل القاعدة المضروبة في صدر الرواية والمشار إليها في ذيلها عليه.

وثانياً: أن الرواية إن حملت على الإرجاع للاستصحاب واليد بعد الفراغ من جريانهما وتحقق موضوعهما كانت واردة مورد الإرشاد، وهو

ص: 63

خلاف ظاهرها جداً، إذ لا منشأ ولا إشارة للمفروغية المذكورة ولقوة ظهورها في التأسيس وضرب القاعدة الشرعية التي يرجع إليها في مقام العمل، وذلك يقتضي تحديد موضوع القاعدة، ولا إشارة في القاعدة إلى موضوع قاعدتي الاستصحاب واليد، بل ظاهرها كون الموضوع صرف الشك، وليس هو إلا موضوع قاعدة الحل، كما لا يخفى.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سرة من حملها على الحل الناشئ من اليد ونحوها

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن ظهور الذيل فيها في انحصار المخرج عن الحل بالعلم الوجداني والبينة موجب لحملها على إرادة الحل الناشئ من اليد والاستصحاب ونحوهما، لأن الحل الناشئ من أصالة الحل لا ينحصر المخرج عنه بذلك، بل يخرج عنه أيضاً باليد، والإقرار، وحكم الحاكم وغيرها.

دفع ما ذكره قدس سرة

إذ فيه.. أولاً: أن الحصر ليس حقيقياً في مورد اليد والاستصحاب أيضاً، لوضوح الخروج عنهما بغيرهما، كحكم الحاكم والإقرار وغيرهما، ومجرد كون الحصر حقيقياً في الأمثلة المذكورة - لو تم - لا ينفع مع ظهور الرواية في جعل القاعدة العامة التي لا تختص بها. والتعميم لخصوص مشابهاتها لا مجال له بعد عدم الإشارة في الرواية إلى المعيار في المشابهة.

وثانياً: أن ظهور الحصر لا ينهض في قبال ما عرفت، فلابد من حمل الحصر على الإضافي أو حمل العلم والبينة على عدم خصوصيتهما. بل بما هما طريق إلى الواقع فيقوم مقامهما سائر الطرق. ولعل الوجه في الاقتصار عليهما عموم حجية العلم الوجداني والبينة وإمكان حصولهما في كل مورد، بخلاف بقية الأمور، فإنها مختصة ببعض الموارد ولا يخرج بها عن أصالة الحل في كل شيء، ليناسب ذكرها في مقام ضرب القاعدة العامة. فلاحظ.

ص: 64

هذا تمام ما عثرنا عليه من النصوص العامة التي يستدل بها في المقام، وقد عرفت عدم تمامية الدلالة في غير حديثي الرفع والحجب، وأن حديث الإطلاق لا يخلو عن إجمال، وأن صحيح عبد الله بن سنان وما بلسانه وموثقة مسعدة وحديث عبد الله بن سليمان إنما يصح الاستدلال بهما في الشبهة الموضوعية لا غير. كما أن ضعف سند حديث الحجب موجب لكون عمدة النصوص في المقام هو حديث الرفع.

بقي شيء: مع تمامية أدلة الاحتياط لابد من تقديمها على الأدلة المذكورة

بقي في المقام شيء، وهو أنه قد أشرنا إلى أن نصوص المقام دالة على الأصل الثانوي، وأنها معارضة لأدلة الاحتياط لا مورودة لها، إلا أنه لو فرض تمامية أدلة الاحتياط فلا يبعد تقديمها على الأدلة المذكورة، أما حديث الرفع فلأنه أعم منها، لعمومه لصورتي الغفلة والجهل المركب واختصاص أدلة الاحتياط بالشبهة، بل لو كانت مختصة بالشبهة التحريمية فالأمر أظهر.

وأما حديثا الحجب والإطلاق فقد سبق أنه لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد حملهما بقرينتها على الأصل الأولي جمعاً أو تخصيصهما بأدلة الاحتياط لو اختصت ببعض الشبهات، وإن كانا في أنفسهما ظاهرين في الأصل الثانوي وبنحو العموم. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

تذنيب: الاستدلال بالاستصحاب.

تذنيب..

قد يستدل في المقام بالاستصحاب، بلحاظ أن التكليف المشكوك أمر حادث مسبوق بالعدم، للقطع بعدم التكليف عند فقد شروطه العامة - كالبلوغ - أو الخاصة - كالوقت - فيستصحب بعد ذلك، بناءً على ما هو

ص: 65

الإشكال عليه بوجوه

التحقيق من جريان الاستصحاب في الأمور العدمية.

وقد يستشكل فيه بوجوه..

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرة من عدم بقاء الموضوع، لأن عنوان الصبا ونحوه مما أُخذ في أدلة الرفع مما يقوم الموضوع عرفاً، فيمتنع الاستصحاب مع ارتفاعه.

وفيه: أن الموضوع المعتبر في الاستصحاب ليس إلا المعروض الذي يحمل عليه المستصحب، وهو ذات المكلف في المقام، حيث أنه طرف نسبة التكليف، وليس الصبا أو الجنون إلا من حالاته غير المقومة له. ومجرد أخذها في عنوان الموضوع في أدلة رفع القلم لا يوجب كونها مقومة له بعد كونه جزئياً لا يقبل التقييد، على ما يأتي في محله توضيحه إن شاء الله تعالى.

وأظهر من ذلك حال العناوين الخاصة المأخوذة في التكليف، كالوقت، فإنها خارجة عن الموضوع المعتبر في الاستصحاب بلا إشكال.

الثاني: ما يظهر من النائيني قدس سرة

الثاني: ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سرة من أن عدم التكليف الثابت في حال الصبا، ليس إلا عبارة عن عدم وضع قلم التكليف على الصبي، بمعنى كونه مرخى العنان من دون أن يكون الشارع قد أطلق عنانه ورفع قلم التكليف والحرج عنه، بل هو كالبهائم خارج عن قابلية التكليف.

وفيه - مع عدم جريانه بلحاظ حال عدم تمامية الشروط الخاصة، كالوقت، حيث لا إشكال في حكم الشارع في حق المكلف بعدم التكليف، كسائر موارد الترخيص الشرعي - أنه إن كان المراد أن العدم المستصحب هو العدم المقارن لعدم الموضوع، لا العدم النعتي المقارن لوجود الموضوع.

فهو - مع ابتنائه على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي - لا مجال

ص: 66

له بلحاظ حال التمييز قبل البلوغ، لوضوح أن الصبي حينئذٍٍ قابل للتكليف كالبالغ، وإنما الرفع في حقه بحكم الشارع امتناناً.

على أن عدم قابلية غير المميز أو المجنون للتكليف ليس لتقوم الموضوع المعتبر في الاستصحاب - الذي هو بمعنى المعروض - بالتمييز والعقل، بحيث يكون عدم التكليف قبلهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بل لكونهما شرطين عقليين زائدين عليه، مع كون الموضوع هو ذات الإنسان المعروضة لهما، ولذا يصدق على من سبق له الجنون - مثلاً - أنه كان غير مكلف شرعاً بنحو القضية الموجبة المعدولة المحمول، فلا يكون استصحاب عدم التكليف في حقه من استصحاب العدم الأزلي.

وإن كان المراد أن عدم التكليف في حق الصبي والمجنون لا يرجع إلى خطابهما بعدم التكليف، بل إلى مجرد عدم خطابهما به، لخروجهما عن موضوعه، ويعلم بانقلاب العدم المذكور بعد البلوغ والعقل إلى الخطاب بالتكليف أو عدمه، فلا مجال لاستصحاب العدم السابق.

فهو - لو تم حتى في حق المميز - لا يضر في ما نحن فيه، لوضوح أن العلم بخطابهما بالتكليف أو بعدمه لا ينافي احتمال استمرار عدم خطابهما بالتكليف المتيقن سابقاً، فيصح استصحابه، وهو كاف في ترتب الأثر بلا حاجة إلى إحراز خطابهما بعدم التكليف، بناء على ما هو التحقيق من أصالة الإباحة عقلاً، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع والخطاب بالتكليف شرعاً، كما تقدم في الأمر الخامس من الأمور التي ذكرناها تمهيداً للكلام في الأصول العملية.

ومنه يظهر اندفاع ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن استصحاب

ص: 67

عدم المنع لا يجدي في إحراز الإذن والترخيص، إلا بناء على الأصل المثبت.

إذ فيه: أنه لا حاجة إلى، إحراز الإذن والترخيص بناءً على ذلك، بل يكفي إحراز عدم المنع في ترتب العمل.

الثالث

الثالث: أن ما يترتب على الاستصحاب المذكور من السعة في مقام العمل وعدم المسؤولية بالتكليف وعدم استحقاق العقاب عليه ثابت بنفس الشك عقلاً وشرعاً، بلا حاجة إلى الاستصحاب، لما تقدم من الأدلة الشرعية والعقلية على عدم العقاب من غير بيان، فيكون التعبد بالاستصحاب لغواً، لعدم الفائدة فيه.

وفيه: أن عدم المسؤولية والعقاب مع الشك بملاك عدم تحق شرط العقاب، وهو تنجيز التكليف، أما عدم المنع الشرعي فهو بملاك عدم المقتضي له، فالتعبد به بالاستصحاب تعبد بعدم المقتضي، ومثل هذا كاف في رفع لغوية التعبد باستصحاب عدم المنع عرفاً وإن كانا مشتركين في الأثر، وإلا امتنع استصحاب الحل والإباحة التي هي مقتض لعدم الاستحقاق، بل التعبد بالطرق والحجج المثبتة لهما، بل امتنع جعل الإباحة والترخيص ثبوتاً، لعدم الأثر العملي للجميع إلا السعة عقلاً وعدم العقاب الذي يترتب بمجرد الشك وعدم وصول المنع الشرعي.

ولا رافع للغوية إلا ما ذكرنا من اختلاف نحو ترتب عدم استحقاق العقاب، حيث أن ترتبه مع جعل الترخيص والإباحة لتحقق مقتضي عدم الاستحقاق ثبوتاً، ومع التعبد بهما بالأصل أو الأمارة لثبوته تعبداً، ومع عدم المنع واقعاً لعدم المقتضي للاستحقاق ثبوتاً، ومع التعبد به بالأصل أو

ص: 68

الأمارة للتعبد بعدمه.

أما مجرد الشك في المنع وعدم تنجزه فعدم العقاب معه لعدم تحقق شرطه مع احتمال وجود مقتضيه. وقد ذكرنا نظير ذلك عند الكلام في أصالة عدم الحجية في أوائل مباحث الحجج.

وما ذكرنا هو العمدة في المقام، لا ما قد يستفاد من غير واحد من أن الأثر في ظرف جريان الاستصحاب يكون مستنداً إليه لا للشك، حيث يكون الاستصحاب رافعاً للشك الذي هو موضوع قاعدة قبح العقاب حقيقة، وللشك الذي هو موضوع البراءة الشرعية تعبداً.

إذ فيه: أنه لا يرفع محذور لغوية التعبد بالاستصحاب بعد كون الأثر المترتب عليه مترتباً مع عدمه. مضافاً إلى ما تقدم عند الكلام في موثقة مسعدة بن صدقة من أن جريان الأصل الحاكم لا ينافي جريان الأصل المحكوم مع اتفاقهما عملاً.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أنه يكفي في فائدة الاستصحاب في المقام كونه حاكماً على أدلة الاحتياط أو معارضاً لها، ليرجع بعد المعارضة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلو لم يجر كان المعول على أدلة الاحتياط، لورودها على قاعدة قبح العقاب.

إذ فيه: أن المعارضة وإن كانت من الآثار المترتبة على الدليل، إلا أنها ليست من الأغراض الملحوظة للحاكم المصححة لورود الدليل عرفاً، إذ لو كان غرضه عدم العمل بالاحتياط كان الأنسب له عدم نصب الأدلة عليه، أو التنبيه على عدم إرادة ظاهرها. إلا أن يفرض تعذر ذلك عليه، للزوم محذور منه. لكنه في المقام بعيد جداً.

ص: 69

على أن الظاهر في المقام تقديم أدلة الاحتياط لأنها أخص، إذ لو فرض تقديم الاستصحاب لم يبق لها مورد إلا مع تعارض الاستصحابين، وهو إنما يكون مع العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي، الذي يجب معه الاحتياط بحكم العقل، ولا أثر للأدلة المذكورة، بخلاف ما لو فرض تقديم أدلة الاحتياط، فإنه يمكن الرجوع للاستصحابات الموضوعية الحاكمة، ولاستصحاب التكليف ونحوها.

الرابع: اقتضاء الاستصحاب للغوية أدلة البراءة

الرابع: أن الاستصحاب المذكور موجب للغوية أدلة البراءة الشرعية المتقدمة، لجريانه في غالب مواردها أو كلها، فيكون حاكماً عليها مغنياً عنها.

دفعه

ويندفع.. أولاً: بأنه لو سلم عدم عموم أدلة البراءة - ولو من حيثية شمولها للغفلة أو الجهل المركب - فقد يجمع بينها وبين أدلة الاستصحاب بحملها على مجرد ثبوت السعة مع الشك ولو من جهة الحالة السابقة، لا لمحض الشك، لتنافي الاستصحاب. ولعل هذا هو مراد بعض مشايخنا في المقام.

وثانياً: بأنه قد يكون الغرض من أدلة البراءة بيان صلوح الشك لإثبات السعة مع قطع النظر عن الحالة السابقة، وإن كانت الحالة السابقة أيضاً صالحة لذلك. ويكون التنبيه على ذلك لأنه أيسر وأقرب للذهن، نظير ما ذكرناه في موثقة مسعدة بن صدقة في وجه التنبيه على الأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم. فلاحظ.

وبالجملة: لا مخرج عن عموم أدلة الاستصحاب في المقام، فلا بأس بالرجوع إليه.

ص: 70

الاستدلال باستصحاب عدم جعل التكليف

ثم إنه قد يتمسك في المقام باستصحاب عدم جعل التكليف في عالم التشريع، لأن الجعل المذكور أمر حادث مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل التشريع.

دفع الاستدلال المذكور

ويندفع: بأن العمل إنما يترتب على التكليف المجعول لا على نفس الجعل، فالاستصحاب المذكور مثبت.

بل لعل عنوان الجعل عنوان انتزاعي، فلا يكون موضوعاً للآثار.

ولو أريد استصحاب عدم التكليف المجعول بنحو القضية الحقيقية الكلية، وهو العدم المتيقن قبل التشريع أيضاً، أشكل: بأن الأثر إنما يترتب على التكليف الفعلي، لا الإنشائي الذي هو مفاد القضية الحقيقية، فلابد من استصحاب عدمه، كما تقدم منا تقريبه، وتمام الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب التعليقي واستصحاب عدم النسخ.

هذا، وقد يقرب الاستصحاب بوجوه أخر ظاهرة الوهن، لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا، تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

الكلام في أدلة الاحتياط

وحيث انتهى الكلام هنا فينبغي الكلام في أدلة الاحتياط.

وقد يستدل بالأدلة الثلاثة، وهي: الكتاب، والسنة، والعقل.

الاستدلال بالكتاب على الاحتياط وتقريبه

أما الكتاب، فقد استدل منه بآيات كثيرة، لعل عمدتها ما تضمن النهي عن القول بغير علم، وما تضمن الأمر بالتقوى.

وتقريب الاستدلال بالأولى أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل

ص: 71

الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء لم يؤذن فيه.

قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط، لأنهم لا يحكمون بالحرمة، وإنما يتركون لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الارتكاب، فإنه لا يكون إلا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة».

أقول: الترك لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو - مع ابتنائه على ما يأتي الكلام فيه، وخروجه عن فرض الاستدلال بالكتاب - قد يجري مثله من القائلين بالبراءة، إذ يمكن استنادهم لحكم العقل من دون نسبة القول به للشارع، ليلزم القول عليه من غير علم.

وإن كان لدعوى حكم الشارع به - كما هو ظاهر أكثر استدلالاتهم - فهو يتضمن نسبة الحكم به للشارع، فلابد من الاستناد فيه للعلم، كالقول بالبراءة الشرعية.

مع أن القائل بالبراءة قد سبق منه الاستدلال بأدلة علمية شرعية أو عقلية، فلا يكون قوله بها قولاً بغير علم.

وتقريب الاستدلال بالثانية: أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله تعالى.

وفيه: أن التقوى عبارة عن التحرز والتوقي عن عقابه تعالى، فيختص بالشبهة التي يحتمل معها العقاب، والقائل بالبراءة مع الشك في التكليف يدعي الامن منه، لأدلة عقلية وشرعية، فلا موضوع معه للتقوى.

هذا، مع النقض في الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية، وما هو المشهور بين الإخباريين أنفسهم من عدم وجوبه في الشبهة الوجوبية الحكمية، فإنه

ص: 72

لا مجال لالتزام تخصيص أدلة البراءة فيهما للأدلة المتقدمة، لإبائها عن التخصيص جداً، فلابد من التزام ورودها عليها، وكونها رافعة لموضوعها، ومثله يجري في الشبهة التحريمية الحكمية، كما لا يخفى.

الاستدلال بالسنة على الاحتياط وهي طوائف

وهناك بعض الآيات الأخر بألسنة أخر قد يستدل بها في المقام بوجه ظاهر الوهن، خصوصاً بعد ما عرفت.

وأما السنة، فقد يستدل منها بطوائف..

الطائفة الأولى: ما تضمن النهي عن القول بغير علم

الأولى: ما تضمن النهي عن القول والعمل بغير علم.

ويظهر الجواب عنها مما تقدم في الطائفة الأولى من الآيات.

الطائفة الثانية: ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة

الثانية: ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة والتورط فيها، والأمر بالتوقف والكف عنها، وهي كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها، تعرض شيخنا الأعظم قدس سرة لجملة منها، وذكر كثيراً منها في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل. فراجع.

الإشكال على الاستدلال بهذه الطائفة وانصرافها إلى أحد أمرين

قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل، وهو محصل قوله (ع): في بعض تلك الأخبار: «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين، والافتاء بالحكم الظاهري منعاً أو ترخيصاً مشترك كذلك، والتوقف في العمل لا معنى له».

ويشكل الاستدلال المذكور: بأن ظاهر كثير من النصوص بعد التأمل فيها أن المراد بالشبهة ليس مجرد احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه، لينفع في ما نحن فيه، بل أحد أمرين..

ص: 73

الأول: ما يعتمد عليه وهو ليس بحجة

الأول: ما قد يعتمد عليه ويؤخذ به مما ليس بحجة، كالقياس والاستحسان، كما هو الظاهر مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل: «فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعملوا الشبهات لما عجزوا من عرفان إصابة الحكم...»(1)، ومرسل البرقي، قال أبو جعفر (ع): «لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإن كل سبب، ونسب، وقرابة، ووليجة، وبدعة وشبهة باطل مضمحل، إلا ما أثبته القرآن»(2)، ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع)، قال: «قال رسول الله (ص): حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات...»(3)، وخبر سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: «قال جدي رسول الله: أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة.

ألا وقد بينهما الله عز وجل في الكتاب، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع من بعدي، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته وعرضه، ومن تلبس بها [و] وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى...»(4)، وما عن تفسير العياشي عن الرضا (ع):

«إن هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم..»(5).

ص: 74


1- الوسائل ج: 18، باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 38.
2- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 6
3- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 9.
4- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 47.
5- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 49.

وما عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر (ع)، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ... قال: «هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات...» وقريب منه خبره الآخر(1)، فان الظاهر من أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها وترويجها، كالبدع، وكأنه إلى هذا المعنى يشير ما عن أمير المؤمنين (ع): «وانما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى»(2).

الثاني: مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية

الثاني: مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية، في مقابل كون الإنسان على بصيرة من أمره، نظير ما عن أبي عبد الله (ع): «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً»(3).

ويستفاد هذا المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر: «فإن كنت على بينة من ربك، ويقين من أمرك، وتبيان من شأنك فشأنك، وإلا فلا ترو من أمرٍ أنت منه في شك وشبهة»(4)، ومقابلتها بالحجة في كتاب أمير المؤمنين (ع) للأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك... أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج...»(5).

هذا، ولا يخفى التناسب بين المعنيين، وعلى أحدهما يمكن حمل

ص: 75


1- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 52 و 53.
2- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي ح: 20.
3- الوسائل، ج 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 11.
4- الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
5- الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 18.

بقية نصوص المقام، بجعل الشبهة فيها كناية عن عدم البصيرة في الأمر في مقابل البينة التي يكفي فيها تشخيص الوظيفة الفعلية الظاهرية.

وإرادة خصوص الجهل بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر للأصوليين من أصحابنا لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه.

ومجرد مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين، لا يقتضيه، لقرب حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية، ليطابق النصوص الكثيرة المتقدمة ويناسبها.

ويشهد بما ذكرنا - مضافاً إلى ذلك - أمران:

الأول: أن المنسبق من النصوص المستدل بها هو التنبيه إلى أمر ارتكازي إرشادي، ومن الظاهر أن الأمر الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي ذكرناه، لا بالمعنى الذي يريده المستدل، بل هو أمر تعبدي شرعي بعيد عن مفاد النصوص جداً.

ثم إنه لأجل ذلك يكون عموم النهي عن ارتكاب الشبهة آبياً عن التخصيص بالإضافة إلى الشبهات الموضوعية التي لا خلاف في الرجوع فيها للبراءة، والوجوبية الحكمية التي اشتهر بين الأخباريين فيها ذلك.

وحينئذٍٍ يتعين التزام ورود أدلة البراءة عليها وكونها رافعة لموضوعها - نظير ما تقدم في الاستدلال بالكتاب - وهو موقوف على حملها على ما ذكرناه من المعنى.

نعم، قد يدعى قصور العموم المذكور عن شمول الشبهة الوجوبية، إما لما سبق من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن ظاهر الوقوف السكون المطلق وعدم المضي، فإن الاحتياط بذلك إنما يناسب الشبهة التحريمية لا الوجوبية، أو

ص: 76

لما تضمنه بعض النصوص - كحديث التثليث - من أن الاقتحام في معرض الوقوع في الحرام الواقعي.

اللهم إلا أن تعمها لعموم التعليل الارتكازي في النصوص بلزوم الهلكة، فلابد أن يراد من الوقوف في الشبهة عدم الاقتحام في احتمال المخالفة الواقعية معها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف نوعي الشبهة، ففي الشبهة التحريمية بالفعل، وفي الشبهة الوجوبية بالترك. فتأمل.

الثاني: أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية الشبهة، لا الحكم بمنجزيتها تعبداً وتأسيساً، فإن الظاهر من مثل قولهم عليهم السلام في غير واحد من النصوص: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، وقولهم عليهم السلام: «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» المفروغية عن ترتب الهلكة على تقدير الوقوع في الحرام الواقعي، وأن النهي وارد للإرشاد إلى ذلك، لبيان أن تحمل كلفة الاحتياط أهون من الوقوع في الهلكة المحتملة، لا لبيان ترتب الهلكة، تأسيساً، ليقتضي منجزية الشبهة تعبداً، نظير بيان ترتب العقاب على بعض الأمور لبيان حرمتها تعبداً.

نعم، لو قيل: الأخذ بالشبهة موجب للهلكة كان مسوقاً لبيان ذلك، لا المفروغية عنه.

فالمقام نظير قول القائل في مقام الأمر بالحمية: ترك الأكل أهون من علاج المرض، فإنه ظاهر في المفروغية عن كون الأكل معرضاً للمرض، وليس كقولنا: الأكل يوجب المرض، في كونه مسوقاً لبيان ذلك.

وحينئذٍٍ حيث لا مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى الذي يريده المستدل، لما هو المعلوم المتفق عليه ظاهراً من أن مقتضى الأصل العقلي

ص: 77

عدم منجزية الشبهة بالمعنى المذكور، فلا مجال لحمل النصوص عليه، بل على المعنى الذي ذكرناه، الذي هو مفروغ عن تنجز التكليف معه.

ولأجل ما ذكرنا لو فرض حمل الشبهة في النصوص المذكورة على المعنى الذي يريده المستدل تعين اختصاصها بما ثبت من الخارج تنجز التكليف معه، ولم تنهض هذه النصوص بإثبات منجزيتها مطلقاً، إذ ليست مسوقة لبيان المنجزية تعبداً، بل للإرشاد للتوقف عن الشبهة المفروض منجزيتها، والتعرض للهلكة بالإقدام عليها.

ونظير ذلك ما تقدم من المثال، فإنه لا إطلاق للأكل المنهي عنه في المثال الأول يقتضي المنع عن كل أكل، بل لا منع إلا مما كان منه مضراً، ولابد من إثباته من الخارج، بخلاف المثال الثاني، فإن الإطلاق فيه مستحكم، كما هو ظاهر.

المتحصل مما ذكر

وقد تحصَّل من جميع ما ذكرنا: أن النصوص المذكورة واردة للإرشاد إلى لزوم التوقف في الشبهات التي يتنجز فيها التكليف الواقعي، من دون فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية التحريمية والوجوبية، لعموم التعليل فيها لو فرض قصورها لفظاً عن شمول الشبهات الوجوبية، ولا تنهض بإثبات منجزية التكليف الواقعي بمجرد الشك فيه، لينفع في ما نحن فيه في معارضة أدلة البراءة، أو الورود عليها، بل أدلة البراءة هي المقدمة لورودها على المضمون المذكور، لأنها موجبة للعلم بالوظيفة الفعلية والأمن من العقاب والهلكة.

موثق مسعدة الوارد في النهي عن الجماع على الشبهة ومعارضته لموثق مسعدة المتقدم

نعم، في موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق (ع) عن النبي (ص)، قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة.

ص: 78

يقول: إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(1). وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة، وأن المراد بالشبهة ذلك.

إلا أنها - مع معارضتها بموثقة مسعدة بن صدقة التي تقدمت في أدلة القول بالبراءة، حيث تعرضت لموردها نصاً. وأنها واردة في الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة حتى عند الأخباريين، فلا يبعد حملها لأجل ذلك على الكراهة. فتأمل - محمولة على أن المراد بالهلكة فيها ليس هو العقاب، بل المفسدة والملاك الواقعي المقتضي للتحريم، الذي يكون ارتكاب الشبهة معرضاً للوقوع فيه، لاهتمام الشارع به في باب النكاح، فيكون الوقوع فيه من المحاذير التي يصح إطلاق الهلكة عليها توسعاً. أو تحمل على الإرشاد بلحاظ المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال.

على أنها لو تمت فليست ظاهرة في منجزية الشبهة تأسيساً وتعبداً، ليتعدى عن موردها بعموم التعليل - لما عرفت من عدم ظهور اللسان المذكور في ذلك - بل في الإرشاد بعد المفروغية عن منجزية الشبهة ولو لأدلة أُخر، فلا يمكن التعدي لغير موردها بعد عدم ثبوت المنجزية فيه من دليل آخر. فتأمل جيداً.

ومما ذكرنا يظهر حال كثير من النصوص المذكورة في الباب الثاني عشر من باب صفات القاضي من الوسائل، التي لم تتضمن عنوان الشبهة إلا أنها قد سيقت مساق نصوصها، في لزوم السكوت، والكف عند عدم العلم والحيرة والريب، والنهي عن التفريط، وعن الإقامة على الظن والشك، إلى

ص: 79


1- التهذيب ج: 7 باب الزيادات في فقه النكاح، ح: 112 ص 474 والوسائل، ج 18، ص 116.

غير ذلك من المضامين الراجعة إلى لزوم التوقف في القول والعمل عند عدم وضوح الحجة وتخوف الهلاك. فلاحظها.

الطائفة الثالثة: ما تضمن الأمر بالاحتياط

الطائفة الثالثة: ما تضمن الأمر بالاحتياط، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج، سألت أبا الحسن (ع) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال: «لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد» قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا»(1)، وموثقة عبد الله بن وضاح، كتبت إلى العبد الصالح (ع): يتوارى القرص ويقبل الليل، ثم يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، أفأصلي حينئذٍٍ، أو أفطر إن كنت صائماً، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك»(2)، وخبر الجعفري عن الرضا (ع): «إن أمير المؤمنين (ع) قال لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(3).

وما أرسله الشهيد قدس سرة عن الصادق (ع): «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك»(4)، وخبر عنوان البصري عن أبي عبد الله (ع): «سل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجربة، وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا

ص: 80


1- الكافي ج 4، كتاب الحج، ص 391.
2- التهذيب ج 2، ص 259.
3- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 41.
4- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 58.

هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس»(1)، وما أرسل عنهم عليهم السلام: «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط»(2).

الجواب عن النصوص

والجواب: أما عن الصحيح فبأنه لا إطلاق له، ولا عموم فيه، ينفع في ما نحن فيه، بل هو مختص بمورده. ولعل الأمر فيه بالاحتياط لكون المراد بقوله (ع): «بمثل هذا» هو السؤال عما لا يعلم الذي يجب فيه الاحتياط بترك الجواب، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع التمكن من الفحص، الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيه عملاً قبل الفحص.

ومثله في ذلك الموثقة، لظهورها في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية في دخول الليل الحاصلة من تواري القرص وظهور ظلام الليل وأذان المؤذنين، ولا إشكال في أن مقتضى استصحاب النهار وجوب الانتظار.

كما أنه لو فُرِض بعيداً كون السؤال للشبهة الحكمية الراجعة إلى احتمال كفاية سقوط القرص في دخول الليل وعدم اعتبار غيبوبة الحمرة، فحيث لم يكن الجواب بالاحتياط وظيفة الإمام (ع) بل وظيفته رفع الشبهة، فلعل التعبير بالاحتياط لأجل التقية لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم بغيبوبة القرص، لا أن المغرب لا يدخل مع غيبوبته، كما نبه له شيخنا الأعظم قدس سرة. أو لأجل أن حكمة الأمر بالتأخير - وجوباً أو استحباباً - هو التحفظ نوعاً من الخطأ في اعتقاد غيبوبتة القرص والاحتياط في ذلك، كما هو غير بعيد.

ص: 81


1- الوسائل، ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 54.
2- جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 332.

وبالجملة: لا إطلاق في الموثقة ليتعدى به عن موردها.

ودعوى: أن قوله (ع): «وتأخذ بالحائطة لدينك» مسوقة مساق التعليل الموجب لعموم الحكم لجميع موارد الشبهة.

مدفوعة: - مضافاً إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة، وغايته الإشعار. وأن مورده الشبهة الموضوعية التي لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط فيها - بأن ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين للخطر، بحيث يكون الملف به مفرطاًبدينه وهو مختص بما إذا تنجز الواقع، فهو نظير أخبار الشبهة ظاهر في عموم لزوم الاحتياط مع تنجز الواقع إرشاداً، ولا ينهض بإثبات منجزية الاحتمال تعبداً، لينفع في ما نحن فيه.

ومنه يظهر الجواب عن خبر الجعفري.

وكذا مرسل الشهيد قدس سرة مضافاً إلى أنه لا ظهور لهما في الوجوب، خصوصاً الثاني، بل هو لا يخلو عن إجمال، بل لعله مشتمل على التصحيف.

وأما خبر عنوان البصري فهو - مع ضعف سنده - ظاهر في وجوب الاحتياط في كل شيء، ولا ريب في عدم كون القضية المذكورة شرعية تعبدية إلزامية، فلابد من حملها على الإرشاد إلى لزوم الضبط والإتقان في مقام تحصيل الواقع الذي يهتم بتحصيله وعدم التفريط فيه، وهو متفرع على فرض الاهتمام بالواقع، ولا ينهض بإثبات اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية غير الواصلة بنحو يقتضي لزوم الاحتياط فيها مع عدم قيام الحجة عليها، بل يحتاج إلى دليل آخر، نظير ما تقدم.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجوه الوهن في الاستدلال بالمرسل

ص: 82

الأخير.

وهناك روايات أُخر قد ذكرها في الوسائل لا مجال لإطالة الكلام فيها، لظهور قصور دلالتها جداً.

الاستدلال بالعقل على الاحتياط

وأما العقل، فقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين:

الأول: أصالة الحظر في الأفعال

الأول: إن الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر.

لكن ذكرنا في الأمر الخامس من التمهيد الذي قدمناه لمباحث الأصول العملية أن المراد بالأصل المذكور..

تارةً: حكم العقل بالحظر قبل ورود الأحكام الشرعية.

وأخرى: أنه بعد فرض ورود الأحكام الشرعية فالعقل يحكم بأن الأصل في مورد الشك في نوع الحكم كون الحكم الواقعي هو الحظر لا الإباحة.

وثالثة: أنه بعد فرض ورودها والشك في نوع الحكم فالعقل يلزم ظاهراً بالاحتياط في مقام العمل، مراعاة لاحتمال التكليف من دون تعرض للحكم الواقعي، وذكرنا - أيضاً - أنه على الأولين فالأصل المذكور - مع أنه غير تام في نفسه - أجنبي عن محل الكلام.

كما ذكرنا في أول الكلام في حكم الشك في التكليف أنه لا مجال لتقرير الأصل بالوجه الثالث، بل المرجع أصالة البراءة الراجعة إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

هذا، مع أنه لو تم الأصل المذكور كانت أدلة البراءة الشرعية واردة عليه رافعة لموضوعه.

ص: 83

الثاني: العلم الإجمالي

الثاني: حصول العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في الوقائع التي هي محل ابتلاء المكلف، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه، بناء على ما هو الحق من كون العلم الإجمالي منجزاً لجميع أطرافه ومقتضياً للاحتياط فيها.

ولا يخفى أن هذا الوجه - لو تم - لا يقتضي إنكار جريان البراءة في محل الكلام - وهو الشك في أصل التكليف - بل إنكار الصغرى لذلك، بدعوى أن الشك دائماً في تعيين التكليف، الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.

وإنما ينبغي التعرض له هنا لكمال مناسبته له، لرجوعه إلى عدم ترتب العمل على محل الكلام لعدم الصغرى له.

وجوه الجواب عن العلم الإجمالي

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد يجاب عن العلم الإجمالي بوجوه..

الأول: عدم أثر العلم بعد قيام الطرق على التكليف

الأول: أن العلم المذكور لا أثر له بعد قيام الطرق المعتبرة على ثبوت التكاليف في كثير من الوقائع بنحو لا يعلم بثبوتها في غيرها من الوقائع المشتبهة الحكم، لأن الطرق المذكورة موجبة للتعبد بثبوت التكاليف في مواردها المستلزم لتمييز المعلوم بالإجمال وارتفاع العلم الإجمالي.

وفيه: أن الطرق المذكورة لا تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال، لعدم تعرضها لتعيين التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال وحصرها بمواردها ونفيها عن غيرها، بل ليس مفادها إلا ثبوت التكاليف في مواردها بنحو لا ينافي احتمال ثبوتها في غيرها الذي هو مقتضى العلم الإجمالي.

وهذا هو العمدة، لا ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن احتمال خطأ الطريق مانع من صلوحه لرفع العلم الإجمالي.

ص: 84

المناقشة فيه

إذ فيه: أن الاحتمال المذكور لا أثر له بعد فرض حجية الطريق، ولذا لا إشكال في ارتفاع أثر العلم الإجمالي معه لو كان شارحاً للمعلوم بالإجمال، ومعينا لمورده.

الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم بغير ما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق، لا بالواقع من حيث هو، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو، حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه، لأن ذلك هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق.

المناقشة فيه

وفيه: أن الجمع بين أدلة الاحكام الواقعية وأدلة الطرق إنما هو بحمل الأولى على جعل الأحكام ثبوتاً، والثانية على جعل الطريق لإحرازها إثباتاً، المستلزم لتنجيزها أو التعذير منها، فلا ينافي تنجزها بالعلم الإجمالي أيضاً بعد كونها أحكاماً فعلية حقيقية.

ولا مجال لتقييد الأولى بالثانية، بحيث لا يكون الحكم الواقعي فعلياً عند عدم قيام طريق عليه، فلا يتنجز بالعلم الإجمالي، إذ لا ظهور لأدلة الطرق إلا في لزوم العمل بها، لا في حصر العمل بها لتصلح للتقييد.

بل يمتنع الحكم الواقعي بقيام الطريق عليه إلا بتكلف لا مجال له في المقام، أشرنا إليه في مبحث القطع الموضوعي.

مع أن لازم ذلك عدم ثبوت الحكم في حق من لم يقم عنده طريق، وهو خلاف الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، الذي لأجله التزم قدس سرة ببطلان التصويب في موارد الطرق.

ص: 85

بل لازم ذلك ارتفاع موضوع الأصول العملية، للعلم بعدم التكليف الفعلي في غير موارد الطرق، فلا وجه للاهتمام بها.

بل يلزم من ذلك عدم وجوب العمل بالحكم الواقعي لو فرض العلم به تفصيلاً من دون قيام طريق عليه. إلى غير ذلك مما لا مجال للالتزام به.

الثالث: النقض بالشبهة الوجوبية

الثالث: النقض بالشبهات الوجوبية، فإن ما سبق من العلم الإجمالي جار فيها، مع أن المعروف عند الإخباريين عدم وجوب الاحتياط فيها.

وزاد بعض مشايخنا فنقض بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط فيها.

المناقشة فيه

لكنه غير ظاهر، لعدم العلم الإجمالي بالتكليف في الشبهات الموضوعية التي هي محل ابتلاء المكلف. ولو فرض وجوده خرج عن محل الكلام.

نعم، قد يعلم المكلف قبل الابتلاء بالشبهات بأن ما سوف يبتلى به من الشبهات يشتمل على تكاليف واقعية يلزم من الرجوع للأصول الترخيصية مخالفتها.

إلا أن العلم المذكور لا أثر له، بل هو كالعلم إجمالاً بخطأ بعض الطرق أو الأصول المنصوبة التي تقوم تدريجاً في الشبهات الموضوعية التي يبتلى بها المكلف تدريجاً، لان الشبهات المذكورة لما لم يلتفت إليها بأنفسها حين العلم المذكور فلا تصلح للخطاب، والالتفات إليها بعنوان الشبهة لا أثر له في التنجيز، إذ موضوع التنجيز هو مصداق الشبهة المتوقفة على فعلية الالتفات. وليست الشبهة إلا عنواناً تعليلياً لا تقييدياً. فتأمل.

وبالجملة: لا إشكال في أن العلم الإجمالي المذكور ليس كالعلم

ص: 86

الإجمالي المدعى في المقام، فلا مجال للنقض به.

الرابع: انحلال العلم ألإجمالي بسبب قيام الطرق

الرابع: انحلال العلم الإجمالي المذكور بسبب قيام الطرق المعتبرة، لعدم العلم بوجود التكاليف في غير موارد الطرق المذكورة، ويمكن انطباق المعلوم بالإجمال على مواردها، كما تقدم نظيره عند الاستدلال بحكم العقل على حجية خبر الواحد.

وقد أطال غير واحد في المقام في أن الانحلال حقيقي أو حكمي، وهو مبني على ضابط أحد الأمرين، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك في الفصل الثاني، ولا ينبغي الكلام فيه هنا.

هذا تمام الكلام في حجج القائلين بالاحتياط، وقد عرفت وهنها، وأن المرجع في المقام أدلة البراءة.

ولا فرق في جميع ذلك بين عدم النص وإجماله، لعدم صلوح النص المجمل للبيان، فلا ينهض برفع اليد عن أدلة البراءة المتقدمة.

والظاهر أنه لا إشكال في ذلك لو كان إجمال النص ناشئاً من إجمال ما يدل على الحكم، كما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب، أو دار النهي بين الحرمة والكراهة.

أما لو كان ناشئاً من إجمال ما يدل على الموضوع - كما لو فرض إجمال الغناء بالإضافة إلى بعض الأفراد، أو إجمال العموم الأفرادي وتردده بين الأقل والأكثر - فقد يتوهم لزوم الاحتياط، لصلوح الدليل لإثبات التكليف بالعنوان المجمل على ما هو عليه، فيجب عقلاً إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

وفيه: أن أخذ العنوان اللفظي في التكليف ليس الا بلحاظ حكايته عن

ص: 87

معناه، فالمكلف به ليس إلا المعنى، وحيث فرض إجمال العنوان اللفظي فهو وإن احتمل حكايته عن مورد الشك، إلا أنه لا يكون بياناً له قطعاً، بل للقدر المتيقن، فلا يتنجز مورد الشك حتى يجب الفراغ عنه، ولا مجال لتنجز المعنى على ما هو عليه بعد فرض اختصاص البيان بالمتيقن.

نعم، لو فرض ظهور العنوان المكلف به في نفسه والشك في محققه الخارجي لزم الفراغ عنه، كما في موارد الشك في المحصل.

ولعله يأتي في التنبيه الثاني ما ينفع في المقام.

هذا وأما موارد تعارض النصين، فإن بني فيها على التخيير أو الترجيح كانت من موراد النص، ولم تكن متمحضة في الشك، الذي هو موضوع الأصول، وإن بني على فيها التساقط، كانت من موارد عدم النص الذي تقدم جريان البراءة معه. وتحقيق الحق من المباني المذكورة موكول لمبحث التعارض.

تنبيهات الاحتياط

تنبيهات..

الأول: الاحتياط في الشبهة الموضوعية

التنبيه الأول: في الشبهة الموضوعية.

تقدم أن هم الأصولي البحث عن حكم الشبهات الحكمية التحريمية أو الوجوبية، وأن الشبهات الموضوعية خارجة عنه، إلا أنها داخلة في ملاك البحث، لشمول أكثر الوجوه المتقدمة للبراءة والاحتياط لها، كما أشرنا إليه. ولأجل ذلك يتعين البناء فيها على البراءة. بل بعض النصوص صريح في إرادتها، كموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة، ولعله لذا حكي الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.

نعم، قد يتوهم وجوب الاحتياط فيها، لأنه مع فرض البيان الشرعي

ص: 88

على التكليف لا تجري أدلة البراءة منه، بل يتنجز، فيجب الفراغ عنه بالاحتياط في جميع موارد الشبهات الموضوعية.

وفيه: أن الجعل الشرعي للحكم الكلي لا يقتضي فعلية التكليف الصالح للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية موضوعه، فمع فرض الشك في ذلك لا يعلم بثبوت التكليف كي يجب إحراز الفراغ عنه.

وبعبارة أخرى: الأدلة الشرعية إنما تقتضي العلم بالكبريات الشرعية، وهي لا تقتضي العلم بالنتيجة - وهي الحكم الفعلي الموضوع للطاعة والمعصية - إلا بعد إحراز الصغرى، فمع فرض عدم إحرازها لا يكون التكليف الفعلي معلوماً، كي يمتنع جريان أدلة البراءة منه.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض العلم بفعلية التكليف للعلم بتحقق بعض مصاديق الموضوع لزم الاحتياط في موارد الاشتباه، للزوم الفراغ عن التكليف المعلوم، كما لو كان هناك خمر معلوم تنجز التكليف بسببه وسائل مشتبه الخمرية.

لاندفاعه: بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الموضوعات الخارجية، فالعلم بثبوت بعضها بسبب العلم بتحقق موضوعه لا ينافي الشك في غيره، ليمنع من جريان البراءة فيه.

وبعبارة أخرى: العلم بالصغرى إنما يوجب العلم بالنتيجة بالإضافة إليها، دون بقية الصغريات المجهولة، بل المرجع فيها البراءة.

ثم إنه لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية بالأصول الموضوعية المنقحة لموضوع الحكم بالتحريم، كاستصحاب النجاسة في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة شربه، على ما هو

ص: 89

الشرط في التمسك بجميع الأصول الحكمية، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

دعوى: عدم الرجوع للبراءة مع الشك في المانع

أما لو فرض عدم جريان أصل كذلك فمقتضى ما عرفت هو الرجوع لأصالة البراءة، إلا أنه يظهر من بعضهم في موارد متفرقة عدم الرجوع لأصالة البراءة فيما لو أُحرز مقتضي التحريم وشك في وجود المانع، بدعوى: بناء العقلاء على العمل بالمقتضي وعدم التعويل على احتمال المانع وإن لم يحرز عدمه. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام بعضهم.

تمامية البناء المذكور مع كون المانع من سنخ العذر عرفاً

لكن البناء المذكور لم يثبت بنحوٍ معتد به في الخروج عن مقتضى أدلة الأصول، بل لابد في البناء على التحريم في المقام من إحراز عدم المانع ولو بالأصل. نعم لا يبعد ذلك فيما إذا كان المانع من سنخ العذر عرفاً، سواء كان عذراً عقلياً كالتعذر، أم عذراً شرعياً كالضرر والحرج، حيث يقرب جداً بناء العرف على الاحتياط حتى يثبت تحقق العذر، وسقوط التكليف، ولا يكفي احتماله في الرجوع، للبراءة وإن كان التكليف مشكوكاً حينئذٍ. فلاحظ.

استثناء النائيني قدس سرة من الرجوع للبراءة

كما أن بعض الأعاظم قدس سرة قد استثنى من الرجوع للبراءة ما لو كان الحكم الترخيصي التكليفي أو الوضعي - كالطهارة - معلقاً على عنوان وجودي، فقد ذكر قدس سرة أن إناطة الترخيص بالعنوان الوجودي ملازمة عرفاً للبناء على عدمه عند عدم إحرازه ولو بالأصل.

مناقشته

ولم يتضح الوجه في ما ذكره، لوضوح أن الحكم الواقعي المجعول على العنوان في ظاهر الدليل مما لا مجال لإثباته مع عدم إحراز موضوعه، كما هو الحال في سائر موارد الشك في موضوع الحكم المأخوذ في دليله، من دون فرق بين الأحكام الترخيصية والإلزامية، ولا بين الموضوعات

ص: 90

الوجودية والعدمية، لامتناع التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام بلا كلام، وليس المدعى إلا البناء على الرخصة الظاهرية، لأنها الأصل مع الشك.

وحينئذٍٍ فإن كان المدعى أن إناطة الترخيص الواقعي بالعنوان الوجودي تستلزم عرفاً إيجاب الشارع للاحتياط مع عدم إحراز موضوعه، تخصيصاً لأدلة البراءة.

فهو ممنوع جداً، لعدم المنشأ للتلازم المذكور بين الحكمين، ولاسيما مع عدم السنخية بينهما، لأن مؤدى الدليل حكم واقعي، ووجوب الاحتياط حكم ظاهري، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدس سرة.

ومثله دعوى: أن جعل الحكم بالنحو المذكور مستلزم عرفاً لتعبد الشارع بعدمه أو بعدم موضوعه ظاهراً عند عدم إحرازه، فالتعبد المذكور عبارة عن أصل شرعي حكمي أو موضوعي خاص حاكم على أصل البراءة أو أصالة الطهارة ونحوهما من الأصول الترخيصية التكليفية أو الموضوعية.

وإن كان المدعى بناء العرف على عدم الرجوع للبراءة حينئذٍ، فيكون البناء المذكور مخصصاً لأدلتها.

فهو غير ثابت، مع أنه لو تم لم يبعد صلوح عموم أدلة البراءة الشرعية للردع عنه، نظير ردعها عن بنائهم على الفحص في الشبهات الموضوعية لو تم، لا أنه يكون مخصصاً لها.

وإن كان المدعى بناءهم على أصالة عدم الترخيص الواقعي حينئذٍ عند عدم إحراز موضوعه، نظير بنائهم على أصالة عدم القرينة، ويكون الأصل المذكور حاكماً على أصالة البراءة كحكومة الأدلة الاجتهادية عليها.

ص: 91

فهو ممنوع جداً، وغاية ما يلزم من عدم إحراز الموضوع هو عدم إحراز حكمه، لا البناء على عدمه.

وإن كان المدعى بناء هم على أصالة عدم الأمر الوجودي المأخوذ في موضوع الحكم - لو فرض عدم إحرازه ولو بالأصل - بدعوى: أن الأمر الوجودي محتاج إلى عناية، وليس كالعدم، فالأصل عدمه ولو لم يجر الاستصحاب.

فهو غير ثابت، ولا مجال للبناء على ذلك إلا إذا كان العدم مورداً للاستصحاب الذي ثبت من الشارع التعبد بمفاده.

على أنه لو تم فالفرق فيه بين الحكم الإلزامي والترخيصي بعيد جداً، ولاسيما مع استلزامه التفكيك في أحكام العنوان الواحد لو فرض كون العنوان الواحد مورداً للحكمين.

الأصل في الدماء والفروج والأموال

ثم إنه قدس سرة فرّع على ذلك أصالة الحرمة في الدماء والفروج والأموال..

قال الكاظمي في تقريره لدرسه: «فإن الحكم بجواز الوطئ - مثلاً - قد علّق على الزوجة وملك اليمين، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون المال مما قد أحله الله، كما في الخبر: لا يحل مال إلا من حيث أحله الله. فلا يجوز الوطئ أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين، أو الشك في كون المال مما قد أحله الله».

وما ذكره قدس سرة وإن تم في الفروج لقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (1). إلا أنه لا يتم في الدماء ولا في

ص: 92


1- سورة المؤمنون: 5-7.

الأموال.

أما في الدماء فلظهور ما دل على أن الإسلام يحقن به الدم من النصوص(1) في أن الحكم الإلزامي هو المنوط بالعنوان الوجودي، وهو الإسلام، وحينئذٍ فمقتضى استصحاب عدم الإسلام جواز الإهراق على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وأما هدر الدم في موارد الحدود ونحوها فهو غالباً ليس حكماً ترخيصياً، بل إلزامي، لرجوعه غالباً إلى وجوب إهراقه، فهو خارج عما نحن فيه.

مع أنه غالباً مجرى للأصل الموضوعي المقتضي لحرمة الاهراق، فلا موضوع معه للأصل الذي أصله.

وأما الأموال فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم حلها وضعاً الذي هو بمعنى تملكها وترتيب آثار الملك عليها، لأن التملك وآثاره حوادث مسبوقة بالعدم، فينفيها الاستصحاب في غير مورد اليقين، ولا حاجة فيها للأصل الذي أصله.

وأما إباحة التصرف الخارجي في مقابل المنع التكليفي فلم يتضح من الأدلة إناطتها بعنوان وجودي، كالحيازة والإذن من المالك.

وأما الحديث الذي أشار إليه فهو خبر محمد بن زيد الطبري: «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (ع) يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، إن الله واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهم، لا يحل مال إلا من وجه

ص: 93


1- راجع بعض هذه النصوص في الكافي ج 2 ص: 24 و 25.

أحله الله، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا، وعلى أموالنا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا...»(1).

وهو ظاهر في التحليل الوضعي المسؤول عنه، الذي عرفت أنه خلاف الأصل، لا حل التصرف الخارجي في مقابل تحريمه تكليفاً.

مع أن العنوان المذكور فيه ليس موضوعاً للحلية شرعاً، كي ينفع في ما نحن فيه، بلحاظ كونه عنواناً وجودياً، مخالفاً للأصل، بل هو منتزع من كون الشيء سبباً للحلية، فهو مسوق للحكاية عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة كالإذن من المالك والحيازة ونحوهما، ولا دلالة فيه على كون جميع العناوين المحكية به وجودية، لينفع في ما نحن فيه.

بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة لعنوان وجودي يقتضي التحليل، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها، وهو يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالأمر الوجودي، بل هو الظاهر من بعض النصوص الظاهرة في حقن الإسلام للمال.

نعم، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه، فلو فرض العلم بأن المال مملوك للمسلم، ولم يحرز بالأصل أو غيره طيب نفسه ولا عدمه كان من صغريات الأصل الذي أصًّله.

فالإنصاف: أن الأصل الذي ذكره لا ينفع في الثمرة المذكورة بوجهٍ معتدٍ به، بل هي لو تمت تبتني على أمر آخر.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة من انقلاب الأصل

هذا، والذي يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة: أن عدم الرجوع للبراءة ليس لانقلاب الأصل فيها، بل لأن الحل فيها منوط بالعنوان الوجودي كالزوجية

ص: 94


1- الوسائل ج: 6، باب: 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام من كتاب الخمس، حديث: 2.

التي هي مجرى لاستصحاب العدم الحاكم على أصل البراءة.

كما أن الأمر في الأموال يبتني على أن الحل فيها هو المحتاج إلى السبب فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل، أو أن التحريم هو المحتاج إلى السبب، فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل. وعلى الأول يكون الأصل في الأموال التحريم، وعلى الثاني يكون الأصل فيها الحل.

وقد استدل على الأول بخبر محمد بن زيد الطبري المتقدم والاستقراء. وهو صريح في أن الحل والتحريم مقتضى الأصل الموضوعي الحاكم على أصالة البراءة.

ولا يخفى أن ما ذكره في الفروج وإن كان متيناً، إلا أنه إنما ينفع مع جريان استصحاب عدم الزوجية أو ملك اليمين، أما مع عدمه - كما في تعاقب الحالتين والجهل بالتاريخ - فمقتضى أصالة البراءة جواز الاستمتاع وإن لم يحرز عنوان الزوجية أو ملك اليمين، ومن البعيد جداً التزامه بذلك.

وكذا ما ذكره في الأموال، فإنه لو تم في نفسه لا ينفع مع عدم جريان الأصل الموضوعي كما في مورد تعاقب الحالتين، كما لو فرض العلم بسبق رضا المالك بالتصرف وعدم رضاه به مع الجهل بالتاريخ.

مع أنه إن أريد بتعليق الحل على السبب تعليقه على عنوان وجودي. فقد عرفت أن الخبر لا ينهض به. والاستقراء - مع أنه لا يصلح للاستدلال - غير تام، لما أشرنا إليه من أن التصرف في المباحات الأصلية منوط ارتكازاً بأمر عدمي، وهو عدم ما يمنع من التصرف.

وإن أريد به تعليقه على السبب الأعم من الوجودي والعدمي. فهو - مع أنه ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال بالاستقراء أو الخبر - لا ينفع، لأن

ص: 95

الأصل قد لا يحرز نفيه، بل قد يكون عدمياً محرزاً بالأصل.

وأما استصحاب عدم تحقق السبب بعنوان كونه سبباً، فلا مجال له، لأن عنوان السبب من العناوين الانتزاعية المتأخرة رتبة عن جعل الحكم الشرعي على موضوعه، وليس هو من العناوين التقييدية المأخوذة في موضوع الحكم، ليكون مجرى للأصل الموضوعي.

والذي تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما في كلام شيخنا الأعظم قدس سرة وبعض الأعاظم قدس سرة لا ينهض بإثبات انقلاب عموم الأصل في الدماء والفروج والأموال.

صور جريان الأصل في الفروج والدماء

والظاهر أن الأصل يختلف في كل منها باختلاف الصور ولا بأس بالتعرض لما يناسب المقام ويساعده الوقت، فنقول:

أما الدماء فالشك في جواز إهراقها..

الأصل في الدماء

تارةً: يكون للشك في احترام الدم ذاتاً، كما لو دار الأمر بين إسلام الشخص وكفره.

وأخرى: يكون للشك في ما يوجب احترام الدم بعد هدره ذاتاً، كما لو شك في دخول الكافر في الذمة.

وثالثةً: يكون للشك في طروء ما يوجب هدر الدم بعد احترامه ذاتاً، كما لو احتمل ارتداد المسلم، أو شتمه للنبي (ص).

أما في الصورة الأولى فإن كان الكفر متيقناً سابقاً كان مقتضى استصحابه هدر الدم ولا إشكال في العمل بمقتضاه، حتى على ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة أو على قاعدة المقتضي المتقدمة لها الإشارة آنفاً.

ص: 96

وإلا فقد يدعى أن مقتضى الأصل هو احترام الدم، لمثل صحيح زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: «قال رسول الله (ص): كل مولود يولد على الفطرة. يعني: المعرفة بأن الله عز وجل خالقه...»(1)، وصحيح فضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه...»(2) وغيرهما مما يظهر منه أن الكفر طارئ فالأصل عدمه.

ويشكل: بأنها لا تتضمن أصالة الإسلام، لوضوح أن الإسلام كسائر الأديان يحتاج إلى تعليم، بل المراد من الفطرة معرفة الله تعالى والتوحيد، كما صرح به في غير واحد من النصوص(3)، ومنها صحيح زرارة السابق وهي لا تكفي في احترام الدم بلا إشكال، بل حيث كان ظاهر بعض النصوص اعتبار الإسلام في حقن الدم كان استصحاب عدم الإسلام ولو من حال الصغر أو العدم الأزلي كافياً في إثبات هدر الدم.

اللهم إلا أن يدعى أن المستفاد مما تضمن وجوب عرض الإسلام قبل قتال الكفار هو أن هدر الدم لا يكون بمحض عدم الإسلام، بل برفضه وعدم الدخول فيه بعد وصول حجته، وهذا مما لا مجال لاستصحابه، بل الأصل عدمه. وتمام الكلام في الفقه.

وكيف كان، فإن استفيد من الأدلة توقف هدر الدم على الكفر أو رفض الإسلام ونحوهما من الأمور الوجودية كان مقتضى أصالة عدمها هو الاحترام، وإن استفيد منها توقف الاحترام وحقن الدم على الإسلام كان

ص: 97


1- الكافي ج: 2 ص: 13.
2- الوسائل، ج 11، باب: 48 من أبواب جهاد العدو ح: 3.
3- الكافي ج: 2 ص 12.

مقتضى أصالة عدم الإسلام عدم الاحترام وجواز إهراقه.

وإن فرض إجمال الأدلة كان مقتضى أصل البراءة جواز الإهراق أيضاً.

إلا أن يفرض قيام الإجماع على وجوب الاحتياط مع احتمال الإسلام، فيخصص به عموم دليل الاستصحاب أو أصل البراءة.

ومنه يظهر الحال في الصورة الثانية، فإن استصحاب عدم دخول الشخص في الذمة يقتضي جواز قتله.

إلا أن يفرض الإجماع على وجوب الاحتياط حينئذٍ مراعاة لاحتمال الذمة، وهو المناسب لما يعلم من اهتمام الشارع بحفظ الذمة.

وأما في الثالثة فاستصحاب عدم ما يوجب الهدر - كشتم النبي (ص) ونحوه - يقتضي الاحترام.

نعم، قد يحرز بالأصل موضوع الهدر، كما لو فرض العلم بشتم شخصٍ للنبي (ص)، وكان مقتضى الاستصحاب عدم جنونه، فاللازم العمل عليه حينئذٍٍ.

الأصل في الفروج

وأما الفروج فالأمر فيها ظاهر مع الشك في حدوث السبب المحلل المقتضي لاستصحاب عدمه، كما تقدم، من دون فرق بين الشك في حدوث زوجية امرأة والشك في كون امرأة خاصة هي الزوجة، للشك في الثاني في حدوث زوجية المرأة الخاصة، فيستصحب عدمه.

وأما مع تعاقب الحالتين في المرأة الواحدة فربما يدعى لزوم الاجتناب، لا لما تقدم من بعض الأعاظم، ولا القاعدة المقتضي المشار إليها آنفاً، بل للتمسك بعموم وجوب حفظ الفرج، كما قد يظهر من بعضهم.

ص: 98

ويشكل: بأن العموم المذكور قد خصص بالزوجة وملك اليمين، فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي هو خلاف التحقيق، خصوصاً في المخصص المتصل.

فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام للارتكازيات المتشرعية الكاشفة عن اهتمام الشارع الأقدس به بنحو لا يرضى بالإقدام من دون إحراز السبب المحلل، ويكون هذا مخصصاً لعموم أدلة أصل البراءة.

بل قد يقال: المستفاد من قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ...(1) وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين، وحفظه ليس عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع واقعاً، بل هو عبارة عن المحافظة عليه والتوقي الراجع إلى الاحتياط فيه، فالآية بنفسها ظاهرة في وجوب الاحتياط تخصيصاً لأدلة البراءة، ولا مخرج عنه إلا أن تحرز الزوجية بالاستصحاب أو غيره.

ونظير ذلك يقال في وجوب حفظ الفرج من النظر، بناءً على ما في بعض النصوص من أنه المراد بحفظ الفرج في قوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ (2).

ومن ثم لا يبعد القول - بل قد قيل - بوجوب الاحتياط بالتستر على من لم يأمن الناظر وإن لم يعلم بوجوده، وهذا بخلاف غض النظر عن الجسد المحرم، فإنه لا يجب الا مع العلم به، لعدم تضمن دليله الحفظ ونحوه مما

ص: 99


1- سورة المؤمنون: 5، سورة المعارج: 29.
2- سورة النور: 30-31.

يقتضي الاحتياط.

وربما يستفاد ذلك أيضاً من بعض النصوص الخاصة الواردة في المقامين، وإن كان محتاجاً إلى مزيد فحص وتتبع.

الأصل في الأموال

وأما الأموال فإن شك في طروء الملك عليها في قبال احتمال عدم تملك أحد لها أصلاً، بأن بقيت على الإباحة الأصلية فلا ينبغي الإشكال في جواز التصرف فيها، لاستصحاب عدم تملك أحد لها وعدم سبق أحد إليها، ولو من باب العدم الأزلي.

بل قد يجوز لأجله تملكها بالحيازة الذي عرف أنه خلاف الأمل، فضلاً عن التصرف الخارجي الذي هو مقتضى أصالة البراءة.

وإن علم بطروء الملك عليها وشك في جواز التصرف للشك في المالك..

فتارةً: يكون لدورانه بين الآذن في التصرف وغيره.

وأخرى: يكون لدورانه بين الشخص الشاك والأجنبي.

وثالثة: يكون لدورانه بين محترم المال وغيره.

ورابعة: يكون للشك في احترام المالك مع تعيينه.

وخامسة: يكون للشك في إذن المالك مع تعيينه.

وهناك صور أخرى قد يعرف حكمها من الكلام في هذه الصور.

أما الصورة الأولى فالظاهر لزوم الرجوع فيها لاستصحاب عدم إذن مالك العين وعدم طيب نفسه، المقتضي لحرمة التصرف فيها.

ودعوى: أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الفرد المردد،

ص: 100

لدورانه بين من يعلم بتحقق الإذن منه ومن يعلم بعدم تحققها منه.

مدفوعة: بأن تردد الفرد لا يمنع من استصحاب إذا أمكنت الإشارة إليه بالعنوان الذي هو موضوع الأثر شرعاً، كالمالك في المقام، لأنه بذلك يحرز موضوع الأثر بعنوانه المقتضي لترتب الأثر عليه، وإنما يمنع منه مع امتناع الإشارة إليه بالعنوان المذكور، على ما يذكر في محله. فتأمل.

وأما الصورة الثانية فإن جرى فيها استصحاب ملكية المكلف أو الغير فهو، وإلا فقد يقال: إن المتيقن من الأدلة عدم جواز التصرف في ملك الغير، وحينئذٍ فمقتضى استصحاب عدم تملك الغير - وإن كان أزلياً - جواز التصرف فيه للمكلف وإن لم يحرز كونه ملكاً له.

وأما احتمال توقف جواز التصرف على تملك المتصرف للعين، بنحو يكفي أصالة عدم تملكه لها في حرمة التصرف ظاهراً فلم يثبت بنحو معتد به.

ولا أقل من إجمال الموضوع الذي يمنع من جريان الاستصحاب، فيرجع لأصالة البراءة.

وأما الاستدلال على الحرمة بصحيح جميل بن صالح، قلت لأبي عبد الله (ع): «رجل وجد في منزله ديناراً.

قال: يدخل منزله أحد؟ قلت: نعم، كثير.

قال: هذا لقطة.

قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟ قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا، قال: فهو له»(1)، لظهور صدره

ص: 101


1- الوسائل، ج 17 باب 3، من أبواب اللقطة، حديث: 1.

في احتمال كون الدينار له، ومع ذلك لم يحكم فيه بالحل.

ففيه: أن الظاهر منه كون الجهة الملحوظة في السؤال والجواب هي الحل الوضعي الذي هو عبارة عن الملكية، لترتيب آثارها، وقد عرفت أنها خلاف الأصل، لا الحل التكليفي الذي هو محل الكلام وهو المطابق للأصل.

مع أن الدينار مسبوق بملكية الغير، فيحرم التصرف فيه بمقتضى استصحاب ملكية الغير له وعدم ملكية الواجد له، فلا ينفع في محل الكلام، وهو ما لم يجر فيه الاستصحاب المذكور.

ومنه يظهر الحال في الصورة الثالثة، فإن مقتضى استصحاب عدم ملك المحترم له فيها جواز التصرف فيه، بلا حاجة إلى إحراز كونه ملكاً لغير المحترم، ولا أقل من إجمال الموضوع المقتضي للرجوع للبراءة، نظير ما تقدم.

كما أن الحال في الصورة الرابعة يظهر مما تقدم في الدماء، لأنهما بملاك واحد.

وأما الصورة الخامسة فمقتضى أصالة عدم طيب نفس المالك وعدم إذنه حرمة التصرف فيها.

نعم، قد يشكل جريان الأصل المذكور فيما لو علم بصدور الإذن منه وبصدور المنع منه، وشك في المتأخر منهما، لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ، إما ذاتاً أو من جهة التعارض، فيتعين الرجوع لأصالة البراءة من حرمة التصرف الخارجي، وإن امتنع التصرف الاعتباري، لأصالة عدم ترتب الأثر.

ص: 102

ما تقتضيه المرتكزات العقلائية في التصرف في الأموال

اللهم إلا أن يقال: إن المرتكزات العقلائية تقتضي اعتبار طيب نفس المالك في جواز التصرف في ماله، والاكتفاء بالإذن إنما هو من حيث كاشفيته عنه، وهو مقتضى الجمع العرفي بين ما دل على اعتبار كلا الأمرين. كما أن الاكتفاء بالإذن السابق إنما هو من جهة أصالة عدم عدول الإنسان عن رأيه الذي هو من الأصول العقلائية المعول عليها في المقام وغيره، وحينئذٍ فمع تعاقب الحالتين لا مجال للأصل المذكور، بل يجري استصحاب عدم وقوع التصرف عن طيب النفس المقتضي لتحريمه. فافهم.

أو يقال: إن بناء العقلاء في باب الحقوق على لزوم إحراز رضا صاحب الحق في التصرف في الحق والتجاوز عليه، ولا يعتنى باحتمال رضاه وإن لم يحرز عدمه.

والظاهر أن البناء المذكور مطابق للمرتكزات المتشرعية، فهو ممضى شرعاً صالح لتخصيص عموم أدلة البراءة.

ولو غض النظر عن ذلك فالظاهر أن التصرف في المقام مما تأباه المرتكزات المتشرعية جداً، وتكون هي المخصصة لأدلة البراءة. وبها يكون انقلاب الأصل في المقام. هذا ما تيسر ذكره في المقام. فتأمل فيه جيداً. وبه سبحانه الاعتصام.

التنبيه الثاني: في قاعدة الاشتغال

التنبيه الثاني: في قاعدة الاشتغال.

ما تقدم إنما هو مع الشك في ثبوت التكليف، أما مع تنجز التكليف - بعلم تفصيلي أو إجمالي - والشك في الفراغ عنه للشك في امتثاله، فلا خلاف ظاهراً في لزوم الاحتياط عقلاً، وكذا لو فرض تنجز التكليف بطريق معتبر أو أصل أو غيرهما مما يقتضي منجزية الاحتمال، كما في موارد الشك

ص: 103

في التكليف قبل الفحص.

وهو المراد بما اشتهر من أن «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني»، فلا يراد بالاشتغال اليقيني إلا تنجز التكليف بأحد الوجوه المتقدمة.

كما أن المراد بالفراغ اليقيني مطلق إحراز الامتثال ولو كان بتعبد شرعي لا يوجب العلم.

ومن ثم كان التعبد الشرعي بثبوت التكليف أو الامتثال منقحاً لموضوع القاعدة.

هذا، ولا يبعد البناء على أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد تنجز التكليف من دون تعبد بتحقق الامتثال، وأن حكم العقل بلزوم الامتثال اليقيني إنما هو مع عدم اكتفاء الشارع بما دونه، لا بنحو يمتنع الاكتفاء بما دونه شرعاً، لأن الدليل على القاعدة ليس إلا الارتكازيات العقلية القطعية، وهي مختصة بذلك.

نظير ما ذكرناه آنفاً من أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في مورد الشك مانع من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وإن لم يكن الحكم المذكور بيانا للتكليف الواقعي الذي هو موضوع العقاب.

وقد يشهد بما ذكرنا أنه حيث لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد بالامتثال في موارد الاحتمال فليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي إلا بمحض الجعل والاعتبار من دون فرق حقيقي أصلاً، ومن البعيد جداً دخل الاعتبار في حكم العقل المذكور.

ودعوى: أن العقل يختص بمقام الامتثال ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم بالإضافة إلى أصل وجوب الامتثال ثبوتاً، لا بالإضافة إلى مقام

ص: 104

الإثبات عند الشك فيه، فكما يكون للشارع التعبد به مع الشك المذكور له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي.

وبالجملة: لا ملزم بمنع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي بنحو يتعين رد ظواهر الأدلة لو وردت به أو تأويلها.

ومن هنا فلا ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في مقام الامتثال، كقاعدة الفراغ والقرعة، من الطرق أو الأصول المتضمنة للتعبد بالامتثال شرعاً، بل لا مانع من الالتزام برجوع أدلتها إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مواردها. إلا أن يفرض ظهور أدلتها في التعبد المذكور. وربما يأتي في الفصل الثالث ما ينفع في المقام.

وجوه الشك في الامتثال

ثم إن الشك في الامتثال..

تارة: يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوماً ومصداقاً، كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أولا.

وأخرى: يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الأمور، إما لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية - كالتردد بين الظهر والجمعة - أو الموضوعية - كتردد النجس بين الثوبين - أو لاحتمال توقف تحققه على خصوصية زائدة، بحيث لا يتحقق بدونها.

أما الأول فهو أظهر موارد قاعدة الاشتغال.

وأما الثاني فما كان التردد فيه بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية العلم الإجمالي التي يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث.

وأما ما احتمل اعتبار خصوصية فيه فهو..

ص: 105

تارة: يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في المكلف به بحسب أصل التكليف، كاحتمال اعتبار الاستغفار في الصلاة.

وأخرى: يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في تحقق المكلف به خارجاً، من دون أن تكون معتبرة في المكلف به بنفسه.

أما الأول فالتحقيق الرجوع فيه للبراءة، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف بالخصوصية، على ما يأتي الكلام فيه في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فاللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال، لأن المفروض تنجز التكليف وعدم الإجمال فيه، وليس الشك إلا في امتثاله، الذي عرفت عدم الإشكال بينهم في لزوم تحصيل القطع به.

الكلام في تشخيص بعض الصغريات

وربما يقع الكلام في تشخيص حال بعض الصغريات وأنها راجعة لهذا القسم أو للقسم الأول - أعني الشك في التكليف بالخصوصية - والمهم من ذلك موردان..

الأول: أن يكون المكلف به مسبباً توليدياً لا يكون مورداً لاختيار المكلف إلا بتوسط سببه ويحتمل اعتبار الخصوصية في سببه، كالطهارة المسببة عن الوضوء الذي قد يحتمل اعتبار مرتبة من الموالاة فيه.

الثاني: أن يؤخذ في المكلف به عنوان زائد على ذاته، ويحتمل توقف انطباق العنوان على ما في الخارج على الخصوصية المشكوكة.

أما الأول فهو المعبر عنه بالشك في المحصل.

والمعروف فيه الرجوع لقاعدة الاشتغال، لأن المسبب التوليدي قد انشغلت الذمة به بسبب ورود البيان بالتكليف به، فلا مجال لإجراء البراءة

ص: 106

منه، كما لا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة في سببه، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها، وإنما يؤتى بها لإحراز الفراغ عن المسبب الذي أحرز التكلف وانشغال الذمة به.

ودعوى: أنه لا مجال للتكليف بالمسبب لعدم تعلق القدرة به، فلابد من صرف القدرة لما هو المقدور، وهو السبب، وحينئذٍ فاحتمال دخل شيء في السبب راجع إلى احتمال اعتبار خصوصية في المكلف به، وفي مثله يكون المرجع البراءة، بناءً على ما هو الحق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

مدفوعة.. أولاً: بأن المسبب وإن لم يكن مورداً للقدرة بالمباشرة، إلا أن تعلق القدرة به بتوسط سببه كافٍ عقلاً في صحة التكليف به شرعاً، فتنشغل الذمة به ويجب إحراز الفراغ عنه.

وثانياً: بأن رجوع التكليف للسبب ليس بنحوٍ يكون بذاته مورداً للتكليف، ليكون تردده بين الأقل والأكثر راجعاً إلى الشك في التكليف بالخصوصية الزائدة فيرجع فيها للبراءة - كما أشرنا إليها في القسم الأول - بل هو راجع إلى التكليف به بعنوان كونه سبباً، فلابد من إحراز العنوان المذكور في مقام الامتثال على ما يأتي في المورد الثاني.

نعم لو كان الشك في اعتبار الخصوصية في السبب ناشئاً من الشك في كمية المسبب المكلف به كما لو شك في مرتبة الحرارة المطلوبة فإن المرجع حينئذٍٍ هو البراءة من التكليف بالزيادة فيه، وذلك يقتضي الاكتفاء بالمسبب الفاقد للخصوصية المحتملة.

وأما الثاني فظاهر جماعة الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال أيضاً، منهم

ص: 107

شيخنا الأعظم قدس سرة، فيلزم مراعاة الخصوصية المحتملة ليحرز تحقق العنوان الذي أُخذ في المكلف به.

وظاهر المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم قدس سرة في مبحث الصحيح والأعم الرجوع فيه للبراءة.

وحاصل ما يقال في وجهه: أن العنوان المكلف به إذا كان متحداً مع فعل المكلف بحيث يصح حمله عليه - كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع الأفعال الصلاتية - يكون حاكياً عنه، فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقدها موجب لإجمال العنوان الحاكي عنه من هذه الجهة، فلا يصلح للبيان إلا بالإضافة إلى المتيقن، دون الخصوصية المحتملة، ومرجع الشك حينئذٍٍ إلى الشك في التكليف بالخصوصية، فيكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر التي عرفت الرجوع فيها للبراءة.

نعم، إذا كان العنوان المكلف به لا يحكي عن فعل المكلف بنفسه، بل عن أثره المسبب عنه - كما في الشك في المحصل - لم يكن احتمال دخل الخصوصية موجباً لإجمال المكلف به، بل يجب الفراغ عنه، كما تقدم.

والذي ينبغي أن يقال: العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه..

تارةً: يحكي عنه بنفسه، كما لو تردد البضع بين السبع وما بين الثلاث والعشر.

وأخرى: يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه، منتزعة من ترتب شيء عليه، كما في العناوين التسبيبية - كالناهي عن الفحشاء، والمطهر، والدواء، والمحرق - أو من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره - كالأكبر،

ص: 108

والمماثل، والأصغر - أو غير ذلك.

أما الأول فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لإجماله، لتردد ما يحكي عنه العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه، فلا يصلح العنوان للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة، ويتجه حينئذٍٍ الرجوع في الخصوصية إلى البراءة، بناءً على أنها المرجع في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأما الثاني فاحتمال اعتبار الخصوصية في تحققه لا يوجب إجماله، لأن العنوان متقوم بجهة انتزاعه وحاكٍ عنها، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية إجمال تلك الجهة المحكية بالعنوان، بل قد تكون واضحة جلية مفهوماً، فيصلح العنوان المأخوذ في الدليل للحكاية عنها وبيان التكليف بها، الموجب لانشغال الذمة بها، فيجب إحراز الفراغ عنها حينئذٍ بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله في تحققها.

ولا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة، لأن عدم وجوبها بنفسها من حيث هي لا ينافي لزوم الإتيان بها لإحراز الفراغ عن العنوان الذي انشغلت الذمة به تبعاً لقيام الدليل عليه.

إن قلت: هذا القسم من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن الذات المعنونة به، وهي في المقام فعل المكلف بنفسه، فإذا فرض تردد الفعل الواجب بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال العنوان الحاكي عنه، كما في القسم الأول.

قلت: حكاية هذا القسم من العنوان عن الذات بنحو الإبهام المطلق، بحيث لا يكون للزيادة والنقيصة دخل في مفهوم العنوان، وإنما يحكى عنها

ص: 109

من حيثية منشأ انتزاع العنوان لا غير، فلا يلزم من الشك في اعتبار الخصوصية إجمال العنوان المكلف به، بل هو على ظهوره صالح لتنجيز الذات الواجدة لمنشأ انتزاع العنوان على إبهامها، فيلزم إحرازها في مقام الامتثال بالمحافظة على تمام ما يحتمل اعتباره في تحقق منشأ انتزاع العنوان.

نعم، لو فرض أن أخذ العنوان في التكليف ليس لكونه بمنشأ انتزاعه موضوعاً له، بل لمحض حكايته عن الأفعال الخارجية بأنفسها كان الشك في اعتبار الخصوصية موجباً لإجمال المكلف به، الموجب للرجوع لأصالة البراءة. لكنه خروج عن الفرض.

ومن هنا ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة أن الموضوع له في الحقائق الشرعية - كالصلاة والحج وغيرهما - إن كان هو الأجزاء والشرائط بشخصها اتجه الرجوع مع الشك في اعتبار الخصوصية إلى البراءة، وإن كان هو العنوان البسيط المنتزع منها - كعنوان الناهي عن الفحشاء - لزم الرجوع في ذلك إلى الاشتغال.

وكأن المراد ببساطته ما أشرنا إليه من عدم حكايته عن الفعل إلا بنحو الإبهام لا تغير فيه الزيادة والنقيصة والكثرة والقلة. فلاحظ.

تذنيب: من كانت عليه فوائت لا تحصى

تذنيب:

حيث عرفت المعيار في الرجوع لقاعدتي البراءة والاشتغال فينبغي الكلام تبعاً لغير واحد من الأعاظم في الفرع المشهور، وهو من عليه فوائت لا يحصى عددها، فقد حكي عن غير واحد وجوب الاحتياط حتى يعلم أو يظن بالفراغ، ونسب إلى المشهور، قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «بل المقطوع

ص: 110

توجيه البراءة

به من المفيد إلى الشهيد الثاني أنه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها، وظاهر ذلك - خصوصاً بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظن رخصة وأن القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ - كون الحكم على القاعدة».

ومما ذكره يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الأصل في الحكم صحيح مرازم: «سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله (ع) فقال: أصلحك الله إنّ عليَّ نوافل كثيرة فكيف أصنع؟ فقال: اقضها، فقال له: إنها أكثر من ذلك. فقال: اقضها. قلت: [قال: خ. ل]: لا أُحصيها، قال: توخ»(1).

إذ لو تم ذلك اقتضى وجوب تحصيل الظن ابتداءً، لا الترخيص في الاكتفاء به مع كون مقتضى القاعدة لزوم العلم.

مضافاً إلى وهن الاستدلال في نفسه بأن الصحيح المذكور وارد في النافلة، ولا مجال للتعدي منها للفريضة، ولاسيما مع كون الأمر المذكور استحبابياً فالتعدي منه للمقام لا يجدي إلا بدعوى: أن المستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء تابع له، فيجب بوجوبه ويستحب باستحبابه، وهو تحكم لا شاهد له، خصوصاً مع الفرق بين الواجب والمستحب بجريان البراءة من الأول دون الثاني.

بل لا يبعد أيضاً عدم جريان قاعدة الشك بعد خروج الوقت في الثاني لمن لم يبن على الامتثال ولم يتعود عليه. فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر وهن الاستدلال بالأولوية في الفرائض، فإنها إنما تقتضي الاستحباب لا الوجوب، بل هو فيها يبتني على ما ذكرنا.

ص: 111


1- الوسائل ج: 3، باب: 19، من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 1.

وأما الاستدلال لوجوب تحصيل الظن في الفريضة بصحيح إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (ع) سألته عن الصلاة تجتمع عليَّ؟ قال: «تحرَّ واقضها»(1).

فلا مجال له، إذ لا يبعد حمله على النافلة بقرينة ما في صحيح مرازم المتقدم، لقرب حكايتهما عن واقعة واحدة، ولبعد تجمع الفرائض، لعدم معروفية ترك الصلاة في تلك العصور، خصوصاً من مثل إسماعيل بن جابر، ولاسيما مع إشعار السؤال بتكرر ذلك أو توقعه من دون استنكار، كما أشار لبعض ذلك في الجواهر.

مع أنه لو عم الفرائض لم ينفع، لمعلومية امتناع حمله على الوجوب مع عمومه للنوافل، والتفكيك في الأمر الواحد بحمله على الوجوب والاستحباب تبعاً لاختلاف الموارد ممتنع.

فالاستدلال به موقوف على أن يستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء تابع له في الوجوب والاستحباب.

أو حمله على خصوص الفرائض، فيتمسك فيه بظهور الأمر في الوجوب.

وقد عرفت أن الأول تحكُّم لا شاهد له.

كما أن الثاني بعيد جداً، خصوصاً في مورد الرواية، لما تقدم.

توجيه الاحتياط في المسألة بوجوه

وكيف كان، فقد يوجه اقتضاء القاعدة لزوم اليقين بالفراغ بالاحتياط بوجوه..

ص: 112


1- الوسائل ج: 3 باب 19 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 2.

الأول: مقتضى القاعدة لمن كانت عليه فوائت

الأول: أن ذلك مقتضى قاعدة الاشتغال بالفوائت الواقعية المعلومة إجمالاً، فإنه يجب الفراغ عنها بعد العلم بتعلق التكليف بها.

وفيه: أن التكليف بقضاء الفوائت انحلالي بقدرها، فلكل فائتة تكليفها المستقل المتعلق بها، فالشك في فوت كل فريضة مساوق للشك في وجوب قضائها، كما هو الحال في سائر الشبهات الموضوعية التي تقدم جريان البراءة فيها.

قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه، أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر، وكذا فيما لو تردد فيما فات عن أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل والأكثر».

الثاني: مقتضى القاعدة في كل فريضة

الثاني: أنه مقتضى قاعدة الاشتغال في كل فريضة بنفسها، للعلم بالاشتغال بها في الوقت، والشك في الخروج عن عهدة التكليف المذكور بالأداء، فيجب إحراز الفراغ عنها.

ودعوى: أن التكليف المتيقن ثبوته في الوقت هو التكليف بالأداء المقيد بالوقت، ومن المعلوم سقوطه بالامتثال أو بخروج الوقت، وإنما المحتمل حدوث التكليف بالقضاء بعد ذلك، والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.

مدفوعة: بأن ظاهر الأمر بالأداء وإن كان هو كون الوقت قيداً في المكلف به، فيتعذر ويسقط بخروجه، ومن ثم احتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد، إلا أنه لابد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد ورود الأمر بالقضاء، لأنه كاشف عن كون الوقت مأخوذاً بنحو تعدد المطلوب، لا في أصله، كما هو الحال في سائر القيود التي تسقط بالتعذر، فالأمر بالقضاء بعد

ص: 113

الأمر بالأداء كاشف عن أن المورد كالأمر بالدين والأمر بتعجيله، وليس القضاء عرفاً أجنبياً عن الأداء مترتباً على تركه، كالأمر بالكفارة المترتب على عصيان بعض التكاليف، كما أوضحناه في مبحث الواجب الموقت.

وحينئذٍ ففي المقام تكليفان الأول التكليف بأصل الفريضة، والآخر التكليف بأدائه في الوقت، والذي علم بسقوطه بخروج الوقت هو الثاني، أما الأول فهو مما يحتمل بقاؤه ويشك في امتثاله، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

مع أنه لو فرض كون القضاء مبايناً للأداء فمقتضى أصالة عدم الإتيان بالواجب في وقته هو وجوب القضاء، بناء على ما هو غير بعيد من أن موضوعه مجرد عدم الإتيان الذي هو مقتضى الأصل، لا الفوت الذي هو أمر وجودي على خلاف الأصل.

نعم، لو كان الشك في مقدار الفائت مسبباً عن الشك في أصل وجوبه في الوقت كما لو شك في تقدم البلوغ وتأخره، أو في استمرار الحيض مثلاً اتجه الرجوع لأصالة البراءة بل للاستصحاب الموضوعي المقتضي لها. إلا أن الظاهر خروجه عن محل الكلام.

وفيه: أنه لابد من رفع اليد عن ذلك بما تضمن من النصوص عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت، ولولا ذلك لزم بمقتضى الوجه المتقدم القضاء مع الشك في فوت فريضة واحدة.

بل مقتضى أصالة عدم الإتيان لزوم الاحتياط في المحتمل في قضاء الولي عن الميت.

وما في الجواهر من ظهور النصوص المذكورة في الشك في أصل الفوت، دون المقام مما علم فيه بالفوت وشك في مقدار الفائت.

ص: 114

ممنوع جداً، إذ لا منشأ معتد به للظهور المذكور، فإن كل فريضة بنفسها يشك في أصل فوتها.

نعم، لو فرض كون الشك في كل فريضة حادثاً في الوقت ومستمراً إلى ما بعده اتجه وجوب القضاء لقصور النص المذكور حينئذٍٍ، بل التصريح فيه بوجوب الصلاة بالشك قبل خروج الوقت وتحقق الحائل.

لكن هذا لا يتوقف على العلم بتحقق الفوت في الجملة، بل يجري حتى مع الشك في أصل الفوت، وهو خارج عن محل الكلام، كما لا يخفى.

ثم إنه لا يبعد الخروج بالنص المذكور عن الوجه الأول لو فرض تماميته في نفسه، لأن التعبد بالفراغ رافع لموضوع قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى المقدار المشكوك. فتأمل.

الثالث: ما عن الاصفهاني قدس سرة

الثالث: ما عن بعض المحققين قدس سرة في حاشيته على المعالم من أن أدلة البراءة لما كانت مغياة بحصول العلم، وكان الغالب تحقق العلم بالفوت في وقته، وإنما يشك فيه لو فرض وقوعه لنسيانه بعد العلم به، امتنع الرجوع لأدلة البراءة فيه، لاحتمال تحقق الفوت واقعاً وحصول العلم به في حينه، فيكون التمسك بعموم الأدلة فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وكذا الحال في قاعدة الشك بعد خروج الوقت، فإنها أيضاً من الأصول العملية المضروبة في حال الشك، فلا تجري مع العلم.

وأما البراءة العقلية فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان، وحينئذٍٍ فلابد من الاحتياط، لعدم المؤمّن.

نعم، لو فرض اليقين بعدم سبق العلم بالفوت لو فرض تحققه اتجه الرجوع حينئذٍٍ للبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الشك بعد خروج الوقت،

ص: 115

للعلم بشمول أدلتها وتحقق موضوعاتها.

الإشكال فيما ذكره قدس سرة

وفيه: - كما ذكره غير واحد - أن العلم لا يصلح لتنجيز متعلقه إلّا مع بقائه، أما مع فرض ارتفاعه بالنسيان فلا يصلح للتنجيز حتى يكون بياناً رافعاً لموضوع البراءة العقلية.

كما أنه لا يراد بمانعية العلم من التمسك بالقواعد الظاهرية - كقاعدتي البراءة والشك بعد خروج الوقت - إلا مانعيته في ظرف بقائه، لا مطلقاً، ولذا لا ريب في الرجوع إليها لو فرض تزلزل القطع بالتكليف وانقلابه إلى الشك، فإن ذلك ملازم لاحتمال كون القطع السابق علماً.

مع أن ذلك لو تم جرى في غير الفوائت أيضاً مما يحتمل العلم به، كالدين ونحوه، ولا يظن منهم البناء على لزوم الاحتياط فيها، وإن حكي عنه الجزم به فيها أيضاً حينئذٍ.

ومنه يظهر وهن ما في الجواهر من عدم الإشكال في الرجوع للاشتغال لو فرض سبق العلم بكمية الفائت ثم طرأ النسيان له، لبقاء الخطاب واقعاً بذلك المنسي ولو من جهة الاستصحاب، فلا مجال للرجوع للبراءة.

لظهور اندفاعه: بأن الخطاب بالواقع التابع للعلم به هو عبارة عن تنجزه، وبارتفاع العلم يعلم بارتفاعه، فلا مجال لاستصحابه. مع أنه من الأمور العقلية التي يمتنع استصحابها.

وأما الخطاب الشرعي الواقعي بالفائت الواقعي فيعلم ببقائه بلا حاجة للاستصحاب، إلا أنه لا يتنجز إلا بالإضافة إلى المعلوم، وهو الأقل، ولا يجدي في وجوب الأكثر بعد عدم العلم به حتى يستصحب. فلاحظ.

الرابع: ما أشار إليه الشيخ الحلي قدس سرة

الرابع: ما أشار إليه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) من أن الرجوع

ص: 116

للقواعد الظاهرية إنما هو حيث يكون جريانها موجباً للأمان من العقاب، ولا مجال لذلك في المقام لو احتمل التفويت العمدي، لأن تعمد الفوت موجب لاستحقاق العقاب، ولا يرتفع بجريان البراءة بعد ذلك لو فرض طروء النسيان.

نعم، لو علم بعدم تعمد التفويت، وإنما احتمل حصوله عن عذر فلا مانع من التمسك بالأصل، للأمن معه من العقاب.

ويندفع: بما أشار إليه أيضاً من أن البراءة ونحوها من الطرق الظاهرية، إنما ترفع عقاب ترك القضاء المفروض تحقق الشك في وجوبه، وأما تفويت الفريضة عمداً فلا يرتفع عقابه حتى لو فرض الاحتياط بالقضاء، بل لا يرفعه إلا التوبة ونحوها من ماحيات الذنوب التي يمكن فرض تحققها في المقام بالتوبة من كل ذنب إجمالاً. مع ترك القضاء، اعتماداً على الطرق الظاهرية.

وبالجملة: لا يتضح الوجه في فتوى المشهور بوجوب الاحتياط في المقام، بل مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت هو عدم وجوب القضاء إلا لما يتيقن فوته.

لتنبيه الثالث: في حكم الشك في حلية اللحوم

التنبيه الثالث: في حكم الشك في حلية اللحوم.

لا ريب في أن أصل البراءة والحل كسائر الأصول إنما يكون مرجعاً في مقام العمل إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه موضوعي كاستصحاب النجاسة في الطعام المقتضي لحرمة أكله، أو حكمي كاستصحاب الحرمة.

والكلام في ضابط حكومة الأصول بعضها على بعض موكول إلى مباحث الخاتمة للأصول، حيث يأتي الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.

ص: 117

وقد رتب على ذلك شيخنا الأعظم قدس سرة استصحاب عدم التذكية في الحيوان مقدم على أصالة البراءة والحل في أكله، كما أشار إلى بعض ما يتفرع على ذلك.

وقد أطال غير واحد ممن تأخر عنه في صور ذلك، وفصلوا الكلام في أحكامها، كما تعرضوا لأحكام الشك في حلية اللحوم من غير جهة التذكية.

وذلك وإن كان خارجاً عن محل الكلام، إلا أن أهمية الآثار المرتبة عليه ألزمنا بمتابعتهم فيه، فنقول بعد الاستعانة به تعالى وطلب التوفيق منه:

تفضيل الكلام بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية

الشك في حلية الحيوان.. إما أن يكون بنحو الشبهة الحكمية، أو بنحو الشبهة الموضوعية، وحيث كان ملاك الكلام مختلفاً فيهما فالمناسب الكلام فيهما في مقامين..

المقام الأول: في الشبهة الحكمية

المقام الأول: في الشبهة الحكمية

اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الحكمية..

تارة: يكون للشك في حل الحيوان المأخوذ منه من غير جهة التذكية، كالشك في حلية لحم الأرنب.

وأخرى: يكون للشك في تذكيته، إما للشك في ما يعتبر في التذكية شرعاً، كما لو شك في اعتبار كون آلة الذبح حديداً، أو للشك في قابلية الحيوان لها، كما في الحيوان المتولد من طاهر العين ونجس العين، ولا يلحق عرفاً بحيوان خاص معلوم الحال، إذ لو ألحق بحيوان معلوم الحال كان مشمولاً لأدلته المقتضية لقابليته للتذكية أو لعدمها فيستغنى به عن النظر في مقتضى الأصل.

أما الأولى فالظاهر أنه لا مانع فيها من أكل اللحم عملاً بأصالة البراءة

ص: 118

والحل.

دعوى: استصحاب حرمة الأكل

ودعوى: أنه يمكن الرجوع لاستصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة، لبقاء الموضوع عرفاً، وهو اللحم، وليست الحياة إلا من حالاته الخارجة عنه..

هذا، بناء على حرمة الحيوان حال الحياة، فيحرم ابتلاع العصفور حياً مثلاً، أما لو قيل بجوازه أمكن استصحاب الحرمة الثابتة قبل أن يشعر أو يوبر، كما ذكره سيدنا الأعظم قدس سرة.

مدفوعة: بأن موضوع الحرمة هو الأكل لا اللحم، ومن الظاهر اختلاف الأكل باختلاف قيوده من الحياة والموت وغيرهما، لأنه أمر كلي قابل للتقييد، فلا مجال للاستصحاب حينئذٍٍ لتبدل الموضوع، كما هو الحال في غالب الأحكام التكليفية، بخلاف النجاسة والطهارة ونحوهما مما يكون متعلقاً بنفس الأمر الخارجي الخاص ومحمولاً عليه، كاللحم الذي لا يتبدل عرفاً باختلاف العوارض المذكورة، فإنه يجري الاستصحاب فيها على ما يأتي توضيحه في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

دعوى حكومة عمومات الحلّ على الاستصحاب

هذا، وقد يدعى أن عمومات الحل حاكمة على استصحاب الحرمة لو كان جارياً، وعلى أصالة الحل والبراءة لو لم يجر، مثل قوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً...(1)، وقوله تعالى:

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (2) ، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (3)، وما في الصحيحين: «وإنما الحرام ما حرم الله في

ص: 119


1- سورة الأنعام: 145.
2- سورة المائدة: 4.
3- سورة المائدة: 5.

القرآن»(1)، وقريب منهما غيرهما(2).

وفيه: أن العمومات المذكورة لا تنهض بالاستدلال، لما هو المعلوم من كثرة التخصيص في الآية الأولى بنحو قد يلزم بحملها على الحصر الإضافي.

وإن كان قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع): «أنه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمر والبغال والخيل، فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله (ص) يوم خيبر عنها، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه، وليست الحمر بحرام، ثم قال: اقرأ هذه الآية: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً...»(3).

لكن لابد من رفع اليد عنه، لمنافاته للنصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب الدالة على تحريم كثير من الأمور، بنحوٍ يلزم كثرة التخصيص المستهجن، كما ذكرناه في الآية، فلابد من حمله على المحرمات المغلظة - كما عن الشيخ قدس سرة وذكره الطبرسي في الآية - أو على التقية في الجواب والاستدلال.

دعوى الجمع بالنسخ

نعم، ربما يجمع بين الآية وأدلة المحرمات بالنسخ، لأن سورة الأنعام مكية - كما في مجمع البيان - وحينئذٍٍ لا مانع من الاستدلال بها في غير مورد ثبوت النسخ.

لكنه لا يناسب النصوص المشار إليها إذ هي كالصريحة في عدم نسخ

ص: 120


1- الوسائل، ج 16 باب 4، من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 7.
2- الوسائل، ج 16 باب 5، من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.
3- الوسائل، ج 16 باب 5، من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

الآية. ومن ثم لا يخلو الأمر فيها عن إشكال. وأما الآية الثانية فسيأتي الكلام فيها.

وأما الآية الثالثة فالاستدلال بها موقوف على كون الطيب أمراً يدركه العرف، وأنه عبارة عما لا يستقذر ويستخبث عندهم. وحينئذٍٍ يشكل الحل فيها بكثرة التخصيص أيضاً.

فلابد من حملها على الإشارة إلى طيبات معهودة، فتكون مجملة، أو على أن الطيب أمر لا يدركه إلا الشارع، بحيث يكون تحريم شيء كاشفاً عن عدم كونه طيباً، لا أنه مخصص للعموم المذكور، أو على ما يأتي في الآية الثانية. فتأمل جيداً.

والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة عموم حل الحيوانات، ليكون حاكماً على الأصول الجارية في المقام، من استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، أو أصالة الحل التي عرفت التعويل عليها.

دعوى: انحصار الحيوان المحلل

ومثل ذلك ما عن شارح الروضة من أن اللازم البناء على الحرمة، لأن المحللات محصورة، فإذا لم يدخل الحيوان في المحصور منها كان الأصل حرمة لحمه.

للإشكال فيه بأنه..

إن أريد من عدم دخوله في المحصور العلم بعدم دخوله فيه، بأن يفرض كون الحل محصوراً بعناوين خاصة، كالبقر، والغنم ونحوهما، ويعلم بعدم دخول الحيوان الخاص فيها، فيعلم بحرمته، ويراد من الأصل حينئذٍٍ هو عموم الحرمة المستفاد من الحصر المذكور، لا الأصل المقابل للدليل الجاري مع الشك.

ص: 121

ففيه: أنه لا دليل على الحصر بالنحو المذكور، وأدلة تحليل الأمور المذكورة لا ظهور لها فيه، بل ظاهر أدلة تحريم كثير من الأمور أن تحريمها لجهة تخصها - كالمسخ - لا لعدم دخولها في العناوين التي حصر بها التحليل.

وإن أريد من عدم دخوله في المحصور الشك في دخوله فيه، فقد يوجه بأن ظاهر قوله تعالى اسمه: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ... حصر المحلل في الطيبات، فالشك في حلية الحيوان راجع إلى الشك في كونه طيباً، فيحرم ظاهراً.

لكنه يندفع..

أولاً: بأن عطف صيد الجوارح على الطيبات شاهد بعدم كون المراد بالطيب الطيب بذاته في مقابل الخبيث بذاته - كالخنزير - ليمكن الشك في صدقه على بعض الحيوانات - كالأرنب - بل الطيب العرضي، وهو المذكى بالذبح، كما يشهد به ما في مجمع البيان قال: «وعن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله (ص) فقالا: إن فينا رجلين لهما ستة أكلب، تأخذ بقرة الوحش والظباء، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا من هذا؟ فأنزل الله: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ....

ولا أقل من إجمال الطيبات على ذلك المانع من الاستدلال بالآية، ولاسيما مع ما أشرنا إليه من الإشكال في عموم حل الطيبات.

وثانياً: بأن الشك في صدق الطيب - لو تم الحصر - لا يقتضي البناء على التحريم ظاهراً، بل على الحل، لأنه مقتضى الأصل.

ص: 122

ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم كون الحيوان طيباً، إذ لا يبعد كون الطيب من لوازم الماهية، فلا يحرز سبق عدمه في الحيوان ولو كان أزلياً. فتأمل.

نعم، بناء على أن تعليق الحل على أمر وجودي يقتضي البناء على عدمه عند عدم إحرازه، كما تقدم في التنبيه الأول من بعض الأعاظم قدس سرة فقد يتجه البناء على الحرمة.

وإن استشكل فيه بعض الأعاظم على ذلك أيضاً بوجه لا يهم الكلام فيه بعد ما تقدم من ضعف المبنى المذكور.

وثالثاً: بأن ذلك لو تم اقتضى البناء على الحرمة في غير اللحوم، ولا يظن من أحد الالتزام به.

ودعوى: اختصاص الحصر في الآية باللحوم. غير ظاهرة المأخذ.

وبالجملة: كما لا مجال للرجوع إلى عموم الحل في اللحوم لا مجال للرجوع إلى عموم الحرمة فيها، بل المرجع فيها أصالة الحل بعد ما تقدم من عدم جريان استصحاب الحرمة. فلاحظ.

الكلام في الشك في التذكية

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

وأما الثانية، فالكلام فيها يبتني على أمور ينبغي التعرض لها في المقام..

ما ذهب إليه الأخوند قدس سرة في حقيقة التذكية

الأمر الأول: اختلفوا في حقيقة التذكية، فذهب المحقق الخراساني وبعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين J إلى أنها أمر مركب من الذبح والتسمية وغيرهما مما يجب شرعاً، فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها وتردد مفهومها بين الأقل والأكثر.

ص: 123

ما ذهب إليه السيد الحكيم قدس سرة في حقيقة التذكية

وذهب سيدنا الأعظم قدس سرة وشيخنا الأستاذ وبعض مشايخنا إلى أنها أمر بسيط مترتب على فعل المكلف المذكور، فالذبح وغيره مقدمة توليدية، وليس متحداً مع التذكية مفهوماً، فلا يكون الشك في اعتبار شيء فيها موجباً لإجمالها بل لإجمال سببها.

وقد استدل بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين J على ما ذكراه بقوله تعالى: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ، لأن نسبة التذكية للفاعلين تدل على أنها من فعلهم.

وفيه: أن ذلك إنما يدل على أن التذكية مصدر فعل متعد مستند للمكلف، وهو مما لا يظن بأحدٍ إنكاره بملاحظة هيئتها، لكنه لا ينفع في كون مفهومها مركباً، لإمكان كونها فعلاً توليدياً للمكلف ينطبق على الذبح ونحوه مما يكون فعلاً له بالمباشرة بلحاظ ترتب أثره وهو الذكاة، فيكون مفهومهاً بسيطاً منتزعاً من الأثر المذكور، نظير: التطهير، والإحراق، والتحسين.

وبعبارة أخرى: لا إشكال في أن التذكية فعل للمكلف يقتضي استناد الذكاة إليه، وإنما الإشكال في أنها متحدة مفهوماً مع الذبح ونحوه بحيث تكون الذكاة هي الإنذباح، وهو فعل المكلف بالمباشرة، فتكون أمراً مركباً، كغسل الثوب من البول مرتين، أو أن صدقها على الذبح ونحوه بلحاظ كونه سبباً للذكاة فهي فعل المكلف بالتسبيب، وتكون أمراً بسيطاً مفهوماً، كالتطهير المترتب على غسل الثوب، والآية الكريمة ونحوها من الاستعمالات الشرعية لا تنهض بإثبات الأول، لصحة النسبة في الثاني أيضاً بلا تجوز.

ص: 124

نعم، قد يستشهد لما ذكروه بما في كلام غير واحد من اللغويين من أنها الذبح، كما في الصحاح، ولسان العرب، والقاموس وغيرها، أو الذبح والنحر، كما في نهاية ابن الأثير، ومجمع البحرين.

لكن من القريب تسامحهم في التعريف المذكور بأن يكون ذكرهم الذبح والنحر من حيثية كونهما موجبين للتذكية وسبباً لها، لا لاتحادهما معها مفهوماً، كما يشهد به ما في مفردات الراغب: «وذكيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه، دون وجه» فإنه صريح في أن إطلاق التذكية على الذبح بلحاظ كونه سبباً لها.

ويؤيده عدم مناسبة الذبح والنحر مفهوماً لبقية المعاني المذكورة لمادة التذكية، من ذكاء النار، وذكاء الفهم وذكاء الرائحة ونحوها، لبعد الاشتراك جداً.

ويشهد بما ذكرنا أيضاً ما في لسان العرب عن بعضهم: «وأصل الذكاة في اللغة كلها إتمام الشيء، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم، وهو تمام السن. قال: وقال الخليل: الذكاء في السن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استتمام القوة...»، وقريب منه في مجمع البيان.

وكأن إطلاق التذكية على الذبح والنحر بلحاظ ذلك، كما يشهد به ما في لسان العرب: «يقال: ذكيت النار إذا أتممت إشعالها. وكذلك قوله تعالى:

إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ذبحه على التمام»، وقريب منه ما عن ابن الأنباري، وحيث إنه لا معنى لتمامية الذبح إلا بلحاظ ترتب الأثر المطلوب عليه، تعين كون إطلاق التذكية عليه بلحاظ ترتب أثره المطلوب منه من رفع خباثة الموت

ص: 125

وقذارته المرتكزة في أذهان العرف والمتشرعة.

وبالجملة: لا مجال للاستشهاد بما ذكره اللغويون على أن التذكية مفهوماً نفس الذبح والنحر مع تمام ما يعتبر شرعاً، بل تنزيل كلامهم على كون هذه الأمور سبباً لها قريب جداً.

بل مقتضى الجمود على ما تقدم منهم كون جميع ما اعتبر شرعاً من القيود زيادة على الذبح والنحر خارجاً عن التذكية زائداً عليها، لا مقوماً لها، كما ادعاه. من عرفت. بل يلزم كون إطلاق التذكية والذكاة في غير مورد الذبح والنحر - كما في صيد البر والبحر والجراد وقتل الحيوان الممتنع - شرعياً تنزيلياً لا حقيقياً، ولا يمكن الالتزام بذلك.

فلابد إما من تنزيل كلام اللغوين على ما تقدم، أو البناء على تصرف الشارع في معنى التذكية والخروج بها عما ذكروه.

المختار في حقيقة التذكية

فالذي ينبغي أن يقال: الظاهر أن الذكاة عند الشارع نحو من الطهارة، كما يشهد به التأمل في الاستعمالات الشرعية الكثيرة، مثل ما في غير واحدٍ من النصوص من إطلاق الذكي على ما لا تحله الحياة من أجزاء الحيوان(1)، وما عن الإمام الباقر (ع): «ذكاة الأرض يبسها»(2)، وما عن أمير المؤمنين (ع):

«غسل الصوف الميت ذكاته»(3)، وما في صحيح الحلبي، سألته عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال: «إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون ذكية»(4)، وما في غير واحد من النصوص من إطلاق

ص: 126


1- الوسائل، ج 16 باب 33، من أبواب الأطعمة المحرمة
2- راجع نهاية ابن الأثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة «ذكا».
3- الوسائل، ج 2 باب 56، من أبواب النجاسات حديث: 5.
4- الوسائل، ج 2 باب 68، من أبواب النجاسات حديث: 5.

الذكي على الجلد، مثل ما ورد في الكيمخت والخفاف والفراء المأخوذة من المسلمين(1)، وما ورد من إنكار ما عليه بعض العامة من أن دباغ جلد الميتة ذكاته(2)، ومثلها ما تضمن إطلاقه على المسك(3)، وغير ذلك مما يظهر منه أن الذكاة نحو من الطهارة والنظافة.

وكأن إطلاق الذكاة على المعنى المذكور بلحاظ تشبيهه بالنور الذي هو كالنار يوصف لغة بالذكاء، ومن ثم سميت الشمس (ذكاء)، كما أشار إليه في الجملة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)، أو بلحاظ ملازمة الطهارة للنمو والبركة، فيناسب التمام الذي تقدم رجوع الذكاة إليه في أصل اللغة.

نعم، ليست الذكاة خصوص الطهارة المقابلة للنجاسة المعروفة، بل قد يراد بها الطهارة المذكورة، كما في ما تقدم في الصوف والسن، ولعله إليه يرجع ما تقدم في اليبس. ولو مجازاً من حيث مشابهة اليابس للطاهر في عدم التنجيس.

كما قد يراد بها عند مقابلتها بالموت أمر آخر، وهو الخلوص من خبث الموت وقذره المرتكز في أذهان العرف والمتشرعة، وهو يختلف باختلاف الحيوانات، فحيث كان الموت في ما له نفس سائله موجباً لنحو من الخبث يستلزم تنجسه كانت ذكاته ملازمة لخلوصه من التنجس، وحيث كان في غيره موجباً لنحوٍ آخر من الخبث يقتضي الاجتناب عنه في بعض الأمور - كالأكل أو اللبس أو الصلاة أو نحوها - كانت ذكاته ملازمة لعدم ترتب الآثار المذكورة، وليس هذا لاختلاف مفهوم الذكاة، بل لاختلاف خصوصياتها،

ص: 127


1- الوسائل، ج 2 باب 50، من أبواب النجاسات وباب: 55 من أبواب لباس المصلي.
2- راجع الوسائل، ج 2 باب 61، من أبواب النجاسات.
3- الوسائل، ج 3 باب 41، من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

وليست هي إلا الطهارة والنظافة، كما ذكرنا.

الكلام في الحيوان القابل للتذكية وأصالة قبول كل حيوان لها

الأمر الثاني: اختلفوا في قبول بعض الحيوانات للتذكية، كالمسوخ والحشرات، وربما قيل: إن الأصل قبول كل حيوان لها إلا ما خرج بالدليل، كالإنسان ونجس العين، بل عن الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب P في ما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة يقع عليه الذكاة».

وقد يستدل عليه..

تارةً: بما دل على حلية ما أمسك الكلاب أو ذكر اسم الله عليه وما يصطاد بالسيف أو الرمح أو نحوهما، وغير ذلك مما ورد في بيان كيفية التذكية، فإن مقتضى إطلاقها تأثيرها للتذكية في كل حيوان.

وأخرى: بعموم حلية الحيوانات، كقوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً...(1) لتوقف الحلية على التذكية.

لكن الإجماع لم يثبت بنحوٍ معتد به بعد معروفية الخلاف في كثير من الحيوانات، فقد ذهب في الشرايع إلى عدم وقوع التذكية على المسوخ - كالفيل والدب والقرد - والحشرات - كابن عرس والفأرة - وحكى في الجواهر الثاني عن المشهور، بل ربما حكي الأول عنهم أيضاً، وعن المفيد والشيخ في الخلاف وسلاّر وابن حمزة عدم وقوعها على السباع، كالأسد والنمر.

وأما ما ورد في شرح التذكية فلا ينهض بإثبات المطلوب، إذ لم أعثر على دليل شارح لكيفية التذكية من جميع الجهات، ليكون إطلاقه

ص: 128


1- سورة الأنعام: 145.

نافياً لخصوصية بعض الحيوانات، بل غالب الأدلة وارد لبيان اعتبار بعض الأمور فيها، كالتسمية وفري الأوداج ونحوها، وهو إنما يقتضي عدم تحقق التذكية بدونها لا تحققها معها في كل حيوان.

بل ما تضمن جواز الأكل مما ورد عليه بعض الأسباب - كالأدلة المشار إليها - وارد في كيفية التذكية بعد الفراغ عن حلية الحيوان، فضلاً عن قبوله للتذكية، فلا يدل على قابلية شيء من غير المأكول لها، فضلاً عن عموم قابلية الحيوانات لها.

وأما عموم حلية الحيوانات فقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سرة بأنه مقيد بما دل على اعتبار التذكية في حل الحيوان، مع أن الآية الشريفة قد استثني فيها الميتة، وهي غير المذكى، كما يفهم من جملة من النصوص، فلا ينهض العموم بإحراز التذكية مع الشك في القابلية، لأن العام لا يحرز عنوان الخاص.

ويندفع: بظهور العموم في المفروغية عن قبول جميع الحيوانات للتذكية، وأن صيرورتها ميتة من حالاتها غير اللازمة، ولذا احتاج الخنزير إلى الاستثناء بالخصوص.

وبعبارة أخرى: المستفاد بعد الجمع بين العموم المذكور وأدلة التقييد أن التخصيص بالتذكية من سنخ التخصيص الأحوالي لا الإفرادي بلحاظ بعض أنواع الحيوان. فتأمل.

فالعمدة في الإشكال ما تقدم من أن كثرة التخصيص في العموم المذكور مانعة من الاستدلال به.

مع أنه لا ينفع في غير المأكول، لخروجه عن العموم تخصيصاً، فكما

ص: 129

لا يكون العموم حجة في حلية أكله لا يكون حجة في إثبات قابليته للتذكية، إلا بناءً على أن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية - بسبب التخصيص أو غيره - لا يوجب سقوط الدلالة الالتزامية عنها، وهو خلاف التحقيق.

هذا، وقد يستدل ببعض النصوص في المقام..

الاستدلال بالنصوص الشريفة: موثق ابن بكير

منها: موثق ابن بكير عن أبي عبد الله (ع): «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره، وبوله، وشعره، وروثه، وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه»، لظهوره في قابلية ما لا يؤكل لحمه للتذكية وأنه قد يتصف بها بالفعل وقد لا يتصف.

ما استشكله السيد الحكيم قدس سرة على الموثق

وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سرة: بأن الجمود على العبارة يقتضي أن يكون الذبح موجباً للذكاة تارةً وغير موجب له أخرى، وهو ملازم لعدم قابلية بعض الحيوانات للتذكية.

بل ذكر شيخنا الأستاذ أنه ظاهر في ذلك، لظهوره في أن الذبح مفروض الوجود في حالي التذكية وعدمها.

مناقشته

وفيه: أن ظاهر الحديث كون حصول التذكية بالذبح وعدم حصولها به حالتين متبادلتين على الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كتبادلهما على الحيوان الذي يؤكل لحمه، وذلك إنما يكون بأن يراد من عدم التذكية بالذبح عدم ذبحه بالوجه الشرعي بل يموت بوجه آخر، لا عدم تذكية الذبح له مع حصوله، وإلا كان ذلك لازماً في بعض الحيوانات، وكان المناسب أن يقال: كان مما يذكّيه الذبح أو لا، أو يقال: كان الذبح مذكياً له أولاً.

ص: 130

وبعبارةٍ أخرى: الظاهر أن المقابلة بين فعلية التذكية في الحيوان وعدمها، المستلزم للمفروغية عن قابليته لها، لا بين قابلية التذكية وعدمها، الراجع إلى عدم قابلية بعض الحيوانات لها.

هذا، ولا يفرق في دلالة الحديث بين النسخة المتقدمة والنسخة الأخرى المتضمنة لإبدال (الذبح) ب - (بالذابح)، لأن فرض الذابح ملازم لفرض الذبح، فالتفريق بينهما - كما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سرة وصرح به شيخنا الأستاذ (دامت بركاته)(1) - في غير محله فراجع وتأمل.

نعم، يشكل الاستدلال بالحديث بأنه وإن كان ظاهراً في المفروغية عن قابلية غير المأكول للتذكية، إلا أنه لا ينهض بالعموم، لعدم وروده في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما ذكرت عرضاً، وليس المقصود بالبيان إلا مانعية غير المأكول للصلاة وتعميمها لحال التذكية.

مع أنه مختص بما يكون له لحم، دون غيره كالحشرات. فلاحظ.

صحيح علي بن يقطين

ومنها: صحيح علي بن يقطين، سألت أبا الحسن (ع) عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود. قال: «لا بأس بذ لك»(2)، ونحوه صحيح الريان بن الصلت عن الرضا (ع)(3)، فإن جواز لبس جميع الجلود ملازم لقابليتها للتذكية بناءً على ما هو المشهور من عدم جواز لبس

ص: 131


1- كما ذكره في أصوله - على ما في تقريرنا لدرسه - فقد صرح بأنه يمكن الاستدلال بالحديث على العموم المدعى بناء على نسخة «الذابح» بخلاف نسخة «الذبح» لما تقدم. لكن يظهر منه العدول عن ذلك في الفقه - في تقرير درسه شرحاً للعروة الوثقى في فروع مسألة نجاسة البول والغائط المطبوع - فقد صرح بإمكان الاستدلال حتى على نسخة «الذبح» بل عليها أولى. وإن ظهر منه في آخر كلامه التردد فيه. فراجع (منه، عفي عنه).
2- الوسائل، ج: 3 باب: 5 من أبواب لباس المصلي ح: 1 و 2.
3- الوسائل، ج: 3 باب: 5 من أبواب لباس المصلي ح: 1 و 2.

الميتة مطلقاً.

ما استشكله السيد الحكيم قدس سرة على الصحيح

وقد استشكل سيدنا الأعظم قدس سرة في ذلك: بأنه لو ثبت عدم جواز لبس الميتة كان ذلك مخصصاً للصحيحين بالمذكى، فلا يصح التمسك بهما في مورد الشك في التذكية - ولو للشك في القابلية - بناءً على ما هو التحقيق من عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

دفع الإشكال

ويندفع: بظهور الصحيحين بقرينة الأمثلة في العموم الإفرادي بلحاظ أنواع الحيوانات، وهو يقتضي جواز لبسها في الجملة. واستفادة التعميم من حيث التذكية وعدمها لو تمت فهي بالإطلاق. وحينئذٍٍ فلو دل الدليل على عدم جواز لبس الميتة فالمتيقن رفع اليد به عن الإطلاق المذكور - ويكشف عن عدم صدور الكلام للبيان من هذه الجهة - لا عن العموم الإفرادي، بل مقتضى الجمع بينهما هو قابلية جميع الجلود للتذكية، لظهور العموم في جواز لبسها في الجملة المستلزم لذلك بعد فرض اعتبار التذكية فيه. فتأمل جيداً.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال - مع اختصاصه بالحيوانات ذات الجلد القابل للبس - عدم ثبوت حرمة لبس الميتة وغيره من الاستعمالات والانتفاعات غير المشروطة بالطهارة، بل الظاهر عدمها.

نعم، من القريب جداً كون السؤال عن اللبس بالنحو المتعارف المستلزم للمساورة والمترتب على الشراء المختص بالمذكى، فعدم التنبيه على نجاسة بعض الجلود وعدم جواز شرائها لعدم قابليتها للتذكية ظاهر في قابلية الجميع للتذكية. إلا أن في بلوغ ذلك حد الاستدلال إشكالاً.

خبر علي بن أبي حمزة

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، سألت أبا عبد الله وأبا الحسن C عن

ص: 132

لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: «لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكياً». قلت: أو ليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال: «بلى، إذا كان مما يؤكل لحمه». قلت: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال: «لا بأس بالسنجاب، فإنه دابة لا تأكل اللحم، وليس هو مما نهى عنه رسول الله (ص)، إذ نهى عن كل ذي نابٍ ومخلبٍ»(1).

الإشكال فيه

وفيه: أن ظاهره الإشارة إلى ما هو المعهود من سبب التذكية وتقريره من دون تعرض لشرحه، ولذا قال: «ما ذكي بالحديد» ولم يقل: ما ذبح به، كما لم يتعرض لبقية ما يعتبر في التذكية، فلا إطلاق له من حيثية السبب، فضلاً عن أن يكون له إطلاق من حيثية الحيوان المذكى، ليكشف عن قابلية كل حيوان لها. مضافاً إلى ضعف سنده بجهالة عبد الله بن إسحاق العلوي ومحمد بن سليمان الديلمي.

هذا ما عثرنا عليه في كلماتهم في الاستدلال على العموم المذكور.

وقد عرفت عدم نهوض دليل يعتد به في إثباته.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سرة من الوجه

نعم، ذكر سيدنا الأعظم قدس سرة وجهاً لا يخلو عن قوة، وحاصله: أن التذكية ليست من مخترعات الشارع الأقدس، بل هي من المفاهيم العرفية، وهي عبارة عما يرفع قذر الموت وخبثه المرتكز في أذهان العرف، وقد جرى الشارع على المفهوم المذكور، كما تقدم. ومخالفته للعرف فيها ليست لمخالفته لهم في مفهومها، بل لمخالفته لهم في بعض مصاديقها.

وحينئذٍٍ فحيث كان للعرف طرق خاصة لتحقيق مصاديقها من حيثية الموضوع القابل لها والأفعال المحصلة لها - من الذبح ونحوه - ولم

ص: 133


1- الوسائل، ج 3 باب 3، من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

يصدر من الشارع الأقدس شرح تام وتحديد كامل لمصاديقها، فمقتضى الإطلاقات المقامية جري الشارع فيها على ما عند العرف، إلا في المورد الذي يثبت خلافه منه وردعه عنه.

ويشهد بجميع ذلك عدم تعرض أدلة أحكام التذكية من الآيات والروايات على كثرتها لشرح مفهومها ولا لتحديد مصاديقها تحديداً كاملاً، بل التحديد من خصوص بعض الجهات، إما لخروج الشارع عما عند العرف فيها، كما في اعتبار التسمية والاستقبال ونحوهما، أو لعدم وضوح ما عند العرف، أو لاحتمال ردعه عما عندهم وغير ذلك.

بل التعبير بالتذكية في الآية الكريمة ظاهر في المفروغية عن التذكية مفهوماً ومصداقاً، ولا يكون ذلك إلا بالجري على ما عند العرف، ومتابعتهم.

والظاهر أن العرف يرى قابلية كل حيوان ذي نفس سائلة قابل للذبح للتذكية. وخروج نجس العين إنما هو لأن التذكية بنظر العرف والشرع مختصة برفع القذارة العرضية والخبث المسبب عن الموت، دون الخبث الذاتي.

نعم، لازم ذلك تخفيف التذكية لقذارته، بحيث يكون الميت منه أشد نجاسة وخبثاً من المذبوح، فيلزم ترجيح المذبوح منه عند الاضطرار، ولا بأس بالالتزام بذلك. إلا أن يقوم الإجماع على خلافه، فيكون رادعاً عما عند العرف. فتأمل جيداً.

الأمر الثالث: في الشك في التذكية للشك في قبول الحيوان لها

الأمر الثالث: لو شك في التذكية للشك في قابلية الحيوان لها، أو للشك في سببها بعد الفراغ عن قابلية الحيوان لها، فإن كان هناك دليل يقتضي حصولها عمل به وإن كان هو الإطلاق المقامي المتقدم، بناء على

ص: 134

تماميته. وإلا تعين الرجوع للأصول.

وحينئذٍ فحيث تقدم في الأمر الأول أن إطلاق التذكية على الذبح ونحوه بلحاظ ترتب الأثر الخاص عليه فلا يكون الشك في السبب أو القابلية موجباً لإجمال التذكية، لأنها منتزعة من أمر بسيط لا إجمال فيه، وهو الأثر الخاص، فلا مانع من الرجوع لاستصحاب عدم التذكية، لليقين به حال حياة الحيوان، فيستصحب بعد موته.

ودعوى: أنه ان قيل بطهارة الحيوان قبل الذبح تعين استصحابها وأحرزت الذكاة حينئذٍ، لما تقدم من أنها عبارة عن الطهارة.

مدفوعة: بما تقدم أيضاً من أن الذكاة ليست هي الطهارة المصطلحة المقابلة للنجاسة، بل هي طهارة خاصة لا موضوع لها حال الحياة كي تستصحب، بل لا تحصل في الحيوان إلا بعدها، فمقتضى الاستصحاب عدمها.

هذا، وأما على القول الآخر الراجع إلى كون التذكية أمراً مركباً من فعل الذابح مع الشرائط المعتبرة فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها المانع من جريان الاستصحاب فيها نفياً وإثباتاً، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع.

من دون فرق بين الشك في ما يعتبر في السبب - كالحديد - والشك في القابلية، لرجوعهما معاً إلى إجمال مفهوم التذكية المانع من الاستصحاب.

التمسك بأصالة عدم التذكية

وأما ما قد يظهر من سيدنا الأعظم قدس سرة في حقائقه من التمسك عند الشك في القابلية بأصالة عدم التذكية، بمعنى عدم الذبح في المحل القابل، نظير استصحاب عدم الغسل بالكر عند الغسل بماء مشكوك الكرية.

ص: 135

فهو مندفع: بأن القابلية ليست أمراً معتبراً في التذكية شرعاً كسائر شروطها، بل هي منتزعة من حكم الشارع بأن ذبح الحيوان ذكاته، فما حكم الشارع عليه بأن ذبحه ذكاته يكون قابلاً لها، وما لم يحكم عليه بذلك لا يكون قابلاً لها.

وإلا فعنوان قابلية الحيوان للتذكية - كقابلية الذابح والآلة لها - متفرع على التذكية ومتأخر عنها رتبة، فكيف يكون مأخوذاً في موضوعها شرعاً؟! وحينئذٍٍ فمرجع الشك في قابلية الحيوان للتذكية إلى إجمال التذكية، وأنها الذبح المطلق الصادق على ذبحه أو المقيد بغيره، ولا مجال مع ذلك للاستصحاب.

ومنه يظهر أن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في نفس القابلية وعدمها هو عدم جريان الاستصحاب في الأمور الانتزاعية غير المجعولة، لا ما ذكره غير واحد من عدم العلم بالحالة السابقة للقابلية وعدمها، لعدم جريان استصحاب العدم الأزلي إما مطلقاً أو في خصوص المقام. لأن القابلية من لوازم الماهية، كالكلبية والكرية، فتأمل جيداً.

نعم، لو أريد بالقابلية معنى في الحيوان زائد على ذاته - كطهارة العين - أمكن أخذه شرعاً في التذكية.

فلو علم بأخذه كان الشك في وجوده في الحيوان شكاً في مصداق التذكية لا يوجب إجمال مفهومها، وأمكن جريان استصحاب عدم التذكية حينئذٍ بالتقريب الذي ذكره قدس سرة.

بل قد يجري استصحاب عدم القابلية ولو بنحو العدم الأزلي لو فرض كون الأمر المذكور من لوازم الوجود - كالبياض - لا من لوازم الماهية التي

ص: 136

لا يحرز عدمها في الحيوان حتى بلحاظ ما قبل وجوده - كالسبعية -.

ما لو علم بقابلية الحيوان للتذكية ثم طرأ عليه ما يشك في بقائها

كما أنه قد تحرز القابلية بالأصل، كما لو فرض أنها عبارة عن طهارة العين التي هي مقتضى الأصل.

لكن لا يخفى أنه لا مجال للوجه المذكور لتوقفه على العلم بتقييد موضوع التذكية بقيد ما والشك في وجود القيد بنحو الشبهة الموضوعية، نظير ما لو علم بتقييد آلة التذكية بكونها حديداً مع الشك في كون السكينة حديداً، وهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في الشبهة الحكمية.

ومما ذكرنا يظهر حال ما لو علم بقابلية حيوان للتذكية ثم طرأ عليه ما يوجب الشك في بقاء قابليته لها كالجلل، فإنه لو فرض رجوع القابلية إلى أمر خاص معتبر شرعاً أمكن التمسك باستصحاب القابلية، لأنها مأخوذة شرعاً في موضوع التذكية، وكان حاكماً على استصحاب عدم التذكية.

أما على ما ذكرنا فلا مجال لاستصحاب القابلية، لأنها أمر انتزاعي، ولا لاستصحاب عدم التذكية لإجمال المستصحب.

نعم، لو قيل باعتبار الاستصحاب التعليقي أمكن التمسك به في المقام، فيقال: كان لو ذبح لذكي فهو باقٍ على ما كان. لكن التحقيق عدم اعتباره.

هذا كله بناء على أن التذكية أمر مركب، وقد عرفت أن التحقيق أنها أمر بسيط منتزع من الأثر المترتب على الأفعال الخارجية، وأنه مع ذلك يجري استصحاب عدم التذكية مطلقاً.

ثم إنه لو فرض عدم جريان استصحاب عدم التذكية تعين الرجوع للأصول الحكمية الأخرى، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الحيوان،

ص: 137

وأصالة الحل في أكله، وغير ذلك.

الأمر الرابع: ترتب أحكام الميتة مع فرض احراز عدم التذكية

الأمر الرابع: لو فرض إحراز عدم التذكية بالدليل فلا إشكال ظاهراً في ترتب حرمة الأكل والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة، إذ لا إشكال في أن كل ما لم يذك فهو متحد مع الميتة مفهوماً أو مصداقاً.

وأما لو أحرز عدم التذكية بالأصل ففي ثبوت حرمة الأكل والنجاسة معاً به، أو عدم ثبوتهما معاً به، أو ثبوت الحرمة دون النجاسة وجوه أو أقوال. فذهب شيخنا الأعظم قدس سرة وجماعة إلى الأول.

إما لأن موضوع الحرمة والنجاسة ليس خصوص الميتة، بل غير المذكى، كما يشهد به قوله تعالى: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ، بل الإجماع على كون غير المذكى بحكم الميتة والنصوص به متظافرة.

أو لأن المراد من الميتة، في لسان الشارع الأقدس هو ما لم يذك - كما يشهد به مقابلة الميتة بالمذكى في النصوص الكثيرة - فهي أمر عدمي يكفي في إحرازه أصالة عدم التذكية، ولا تكون من الأصل المثبت.

ولو تم هذا فلا مجال لدعوى معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت، والرجوع بعد تساقطهما لأصالة الحل والطهارة، كما هو مبنى القول الثاني على ما قيل.

لاندفاعها: بأن الميتة بمعنى غير المذكى مقتضى الأصل، وبمعنى آخر ليست موضوعاً للأثر ليجري الأصل فيها وينهض بمعارضة أصالة عدم التذكية المفروض اقتضاؤها الحرمة والنجاسة.

بل لا مجال لفرض المعارضة المذكورة أصلاً، لأن موضوع الحرمة أو النجاسة أو غيرهما إن كان هو الميتة بما هي عنوان وجودي جرى أصالة

ص: 138

عدم كون الحيوان ميتة ولم تجر أصالة عدم التذكية، لعدم الأثر لها، وإن كان هو غير المذكى - ولو لرجوع الميتة إليه - جرى أصالة عدم التذكية لا غير. فتأمل.

ما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سرة من البناء على الحرمة والطهارة

وذهب بعض مشايخنا إلى الثالث بدعوى: أن موضوع الحرمة هو غير المذكى، كما يشهد به الاستثناء المشار إليه، وكذا عدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان(1).

أما النجاسة فليس موضوعها غير المذكى بما هو أمر عدمي، بل الميتة، وليست هي خصوص ما مات حتف أنفه، ولا مطلق ما لم يذك - لتكون أمراً عدمياً محرزاً بالأصل، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة - بل هي في عرف المتشرعة مطلق ما استند موته إلى سبب غير شرعي. فهي أمر وجودي مضاد للمذكى، فلا تنهض بإثباته أصالة عدم التذكية، بل مقتضى الأصل عدمه.

ولعله نزّل المقابلة في النصوص، المشار إليها بين المذكى والميتة على مجرد التضاد من دون أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة.

كما أن الإجماع الذي تقدمت دعواه على أن غير المذكى بحكم الميتة

ص: 139


1- لم يذكر هنا الوجه فيه. وكأنه لما في غير واحد من النصوص من أخذ الذكاة في جواز اللبس في الصلاة، كموثق ابن بكير وخبر علي بن أبي حمزة المتقد مين في الأمر الثاني وغيرهما. ويشهد به النصوص المتضمنة عدم جواز الصلاة في ما لم يحرز تذكيته، مع أن الأصل إنما يحرز عدم تذكيته لا الموت بالمعنى الذي ذكره هنا. لكن هذا موقوف على رفع اليد عن النصوص الكثيرة الظاهرة في مانعية الموت، وتنزيلها على أن مانعيته بالعرض لملازمته لعدم التذكية، وهو صعب جدا. وكفى بهذا موهنا لما ذكره من الفرق بين الأمرين، ومقربا لما ذكره غيره من رجوع أحدهما للآخر، كما سيأتي الكلام فيه. (منه، عفي عنه).

لا يراد به إلا عدم اختصاص أحكام الميتة بما مات حتف أنفه، وهو لا ينافي كون موضوع الأحكام هو الميتة بالمعنى المتقدم، ولا مجال لاستفادة عنوان الحكم من الإجماع ونحوه من الأدلة اللبية غالباً.

وأما النصوص - المشار إليها أيضاً - المتضمنة لإلحاق غير المذكى بالميتة فهي مختصة بحرمة الأكل واللبس في الصلاة ولم ترد في النجاسة.

مناقشته

هذا، ويشكل ما ذكره: بأنه لا مجال لأخذ الوجه الشرعي للموت في مفهوم الميتة، لأنه إن كان المراد بالوجه الشرعي ما يحل إحداث الموت به ويحرم بغيره تكليفاً، فمن الواضح أنه يجوز إحداث الموت للحيوان بأكثر الطرق التي يجري معها حكم الميتة، كالجرح في غير المذبح.

وإن كان المراد بالوجه الشرعي هو الوجه المصحح لترتيب الغرض من الحيوان كالأكل، واللبس، والبيع ونحوها كان عنوان الميتة من العناوين المنتزعة من الأحكام الشرعية، المتأخرة عنها رتبة، وامتنع أخذها في موضوعها، مع وضوح أخذها في أكثر الأحكام المذكورة، وهو كاشف عن كون عنوان الميتة من العناوين المتقررة في أذهان العرف المتشرعي مع قطع النظر عن الأحكام المذكورة، ولا يناسب المعنى الذي ذكره.

فالظاهر أن المأخوذ في الميتة التي هي موضوع الأحكام هو عدم التذكية. وحينئذٍ يقع الكلام في أن أخذه بنحو يقتضي كون الميتة من العناوين الوجودية المضادة للتذكية؟ بأن يكون الميتة ما مات بسبب لا يوجب التذكية، أو بنحو يقتضي كونها من العناوين العدمية؟ بأن تكون عبارة عما مات ولم يذك، فيكون التقابل بين الميتة والمذكى من تقابل العدم والملكة، كما صرح به سيدنا الأعظم قدس سرة في مبحث لباس المصلي.

ص: 140

الذي ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في أن الميتة بحسب أصل اللغة ما اتصف بالموت المقابل للحياة، فيصدق على المذكى وغيره، كما أنه قد يستعمل في خصوص ما مات حتف أنفه، إلا أنه لا ريب عندهم في قصور أحكامها عن المذكى وشمولها لكل ما لم يذك.

وكأنه لما ارتكز عندهم من أن الأحكام المذكورة إنما ثبتت للميتة بلحاظ خبث الموت وقذره، وذلك يقتضي اختصاصها بصورة عدم التذكية الرافعة لقذر الموت، كما تقدم.

وهذا مناسب لكون التذكية من سنخ الرافع للأحكام المذكورة أو المانع منها، فالأحكام المذكورة ثابتة لولاها.

وهو يقتضي أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة أو في أحكامها - كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره - فموضوع الأحكام هو الميتة بمعنى ما لم يذك، على أن يكون التقابل بين الموت - الذي هو موضوع الأحكام - والتذكية تقابل العدم والملكة، لا الضدين.

ما يؤيد المختار في المقام أمور..

ويؤيد ذلك أمور..

الأول

الأول: أن أخذ أحد الضدين الوجوديين في مفهوم الآخر غير مألوف ولا معهود، بل المعهود أخذ عدم أحد المتقابلين في الآخر كالعمى والبصر والغنى والفقر.

الثاني

الثاني: ما في كلام غير واحد من اللغويين، ففي الصحاح والقاموس: «الميتة ما لم تلحقه الذكاة»، وفي لسان العرب: «والميتة ما لم تدرك ذكاته»، وفي مفردات الراغب: «والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية»، وفي مجمع البيان: «حرمت عليكم الميتة: أي حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع

ص: 141

بها، وهو كل ما له نفس سائلة... فارقه روحه من غير تذكية. وقيل: الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية...» وقريب منه ما في تفسير الطبري. فإن هذه الكلمات - كما ترى - متفقة على أخذ عدم التذكية في الميتة، إما بنفسها أو من حيث كونها موضوعاً للأحكام الشرعية.

نعم، نسب بعض مشايخنا التصريح بالمعنى الذي ذكره إلى مجمع البحرين تارة، وإلى المصباح أخرى(1).

لكن لم أعثر في مجمع البحرين على تعرض لشرح مفهوم الميتة. كما أن ما في المصباح لا ينهض به، لأنه قال: «والميتة من الحيوان ما مات حتف أنفه... والمراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة»، وهو ظاهر في بيان مصاديقها، وأنها أعم من المعنى اللغوي الذي ذكره، لا في شرح مفهومها، لينافي ما ذكرنا، لما سبق من امتناع أخذ عدم المشروعية في مفهوم الميتة ذات الأحكام.

الثالث

الثالث: أن التفكيك بين الأحكام المذكورة بعيد جداً عن مساق أدلتها، لجريها على نسق واحد، إذ من الصعب جداً الالتزام بأن أخذ الميتة في أدلة النجاسة من أجل كونها بنفسها موضوعاً لها، ولا دخل لعدم التذكية فيها، أما في أدلة حرمة الأكل والمانعية من الصلاة فأخذها بلحاظ كونها ملازمة لعدم التذكية الذي هو الموضوع في الحقيقة.

وكيف يمكن ذلك، في مثل صحيح الحلبي، سألت أبا عبد الله (ع) عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال: «اشتر وصلّ فيها حتى تعلم أنه ميتة

ص: 142


1- نسب إلى مجمع البحرين في تقرير درسه الأصولي المسمى بكتاب «الدراسات»، ونسبه إلى المصباح في تقرير درسه الفقهي المسمى بكتاب «التنقيح» في شرح العروة الوثقى ج 1، من كتاب الطهارة، ص: 34 من الطبعة الثانية، فراجع. (منه عفي عنه).

بعينه»(1) وكذا في أدلة تحريم أكل الميتة الكثيرة، لظهور جميع ذلك في دخل عنوان الميتة بنفسه، وهو لا يلائم ما يظهر منه من كون الدخيل عدم التذكية إلا بإرجاع أحدهما للآخر، كما ذكرناه.

الرابع

الرابع: أنه قد وردت نصوص كثيرة(2) في الصيد والذباحة قد تضمنت لزوم العلم باستناد الموت للسبب المذكي.

والظاهر المفروغية عند الأصحاب على ترتيب جميع أحكام الميتة، ومنها النجاسة، لا خصوص حرمة الأكل والمانعية من الصلاة، مع أن الأصل لا يحرز استناد الموت لغير سبب التذكية، وهو شاهد بالمفروغية عما ذكره من عرفت من كفاية أصالة عدم التذكية في إثبات جميع الأحكام المذكورة.

الخامس

الخامس: أن عدم جواز البيع في ظاهر الأدلة من أحكام الميتة، لا من أحكام عدم التذكية، وبناءً على ما ذكره بعض مشايخنا يجوز بيع ما يشك في تذكيته، لأصالة عدم كونه ميتة، الحاكمة على أصالة فساد البيع، وهو لا يناسب ما تضمنته النصوص الكثيرة من جعل سوق المسلمين أمارة على التذكية بنحوٍ يجوز ترتيب أحكامها من الشراء والأكل واللبس في الصلاة وغيرهما.

فالإنصاف: أن التأمل في جميع ما ذكرنا شاهد برجوع الميتة لغير المذكى ونهوض الأصل المحرز لأحدهما في إثبات الآخر وفي ترتيب الأحكام المذكورة. فلاحظ وتأمل جيداً.

ص: 143


1- الوسائل، ج 2 باب 5، من أبواب النجاسات حديث: 2.
2- الوسائل، ج 16 باب 5، 14، 18، 19، 22 من أبواب الصيد وباب 13 من أبواب الذبح.

المقام الثاني: الشبهة الموضوعية

المقام الثاني: في الشبهة الموضوعية

اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الموضوعية يكون..

تارةً: للشك في حليته بعد العلم بوقوع التذكية عليه، كما لو دار الأمر بين كونه من الأرنب وكونه من الغنم.

وأخرى: للشك في قبوله للتذكية، كما لو تردد بين كونه من الكلب وكونه من الغنم.

وثالثةً: يكون للشك في وقوع التذكية عليه، كما لو شك في ذبح الحيوان، أو كون الذابح مسلماً.

أما في الأولى فالمرجع أصالة الحل، بناءً على ما تقدم في المقام الأول من عدم جريان استصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة.

ولا مجال هنا لتوهم الرجوع لعموم الحل أو الحرمة، لأنه لو فرض تماميته في نفسه وجواز الرجوع إليه في الشبهة الحكمية فلا مجال للرجوع إليه في الشبهة الموضوعية، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف المخصص على التحقيق.

الكلام في الرجوع لعموم الحل أو الحرمة

وأما الرجوع لأصالة عدم كونه من القسم المحرَّم، - كي يبقى تحت عموم الحل لو تم - أو أصالة عدم كونه من القسم المحلل، كالغنم - كي يبقى تحت عموم التحريم لو تم - فهو إنما يتجه إذا كان المعيار في التحريم والتحليل خصوصية عرضية زائدة على الذات، مثل كونه ذا فلس في السمك، وكونه ذا صيصية في الطير، حيث يمكن استصحاب عدم اتصاف الحيوان بالخصوصية بلحاظ حال ما قبل وجوده بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي. أما إذا كان المعيار في التحريم والتحليل الخصوصية النوعية

ص: 144

كالأرنب والغنم فلا مجال لاستصحاب عدم اتصاف الحيوان بها لأن الخصوصية النوعية من شؤون الذات التي ليست لها حالة سابقة معلومة في الحيوان حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي.

كما أنه لو كان احتمال التحريم ناشئاً من احتمال طروء سببه في الحيوان بعد العدم - كالوطئ - أمكن استصحاب عدم حصول سببه، فيحرز به حل الحيوان، ويكون حاكماً على أصالة الحل ومغنياً عنها.

كما أنه لو فرض انقلاب الأصل في اللحوم بدعوى تعليق الحل فيها على عنوان وجودي - كالطيب - ومع عدم إحرازه يبنى على الحرمة امتنع الرجوع هنا لأصالة الحل.

لكن أشرنا في المقام الأول إلى منع ذلك صغرى وكبرى.

أصالة عدم التذكية مع الشك في قبول التذكية

وأما في الثانية فالمرجع أصالة عدم التذكية التي تقدم في المقام الأول جريانها حتى مع الشك في القابلية، بناء على ما هو التحقيق من أن التذكية متقومة بالأثر المسبب عن الذبح.

ولا مجال هنا للرجوع إلى عموم قابلية الحيوانات للتذكية - لو فرض تماميته في نفسه - لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، كما لا مجال للرجوع لأصالة عدم كونه من النوع الذي لا يقبل التذكية - كالكلب، نظير ما سبق في الصورة الأولى.

نعم، بناء على ما تقدم احتماله من قابلية كل حيوان للتذكية حتى نجس العين، وأن عدم طهارته لأن التذكية ترفع خبث الموت دون النجاسة الذاتية يتجه البناء على تذكية الحيوان في المقام، والرجوع إلى أصالة الطهارة فيه

ص: 145

عن النجاسة الذاتية. فتأمل.

كما أنه لو كان احتمال عدم قابلية الحيوان للتذكية لاحتمال طروء ما يمنع عنها - كالجلل - اتجه استصحاب عدمه، ليحرز وقوع التذكية عليه.

ولا مجال لاستصحاب القابلية بنفسها، لما تقدم من أنها من الأمور الانتزاعية، وليست هي موضوعاً لأثر شرعي.

الرجوع لأصالة عدم التذكية مع الشك في وقوع التذكية

وأما في الثالثة فلا إشكال في الرجوع لأصالة عدم التذكية حتى بناءً على كون التذكية أمرا ًمركباً من الذبح والتسمية ونحوهما مما يؤخذ فيها، إذ لا إجمال في المستصحب حينئذٍٍ حتى يمتنع استصحابه.

بل قد تظافرت النصوص بترتيب آثار عدم التذكية عند الشك فيها، كما لو شك في استناد الموت إلى سبب التذكية من الصيد والذبح - على ما تقدمت الإشارة إليه - وكما لو أخذ من غير المسلم.

نعم، قد يظهر من بعض النصوص البناء على الحل مع الشك، وهو محمول على صورة وجود الأمارة على التذكية، كسوق المسلمين ونحوه على ما يذكر في الفقه مفصلاً.

هذا، وقد تقدم أن أصالة عدم التذكية لو جرت أُحرز بها حرمة الأكل والبيع والمانعية من الصلاة والنجاسة، خلافاً لما تقدم من بعض مشايخنا من عدم ترتيب النجاسة، بل عرفت ان لازم ما ذكره جواز البيع أيضاً. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. وله الحمد. ومنه نستمد العون والتوفيق.

التنبيه الرابع: حسن الاحتياط

التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط.

لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية عقلاً - وإن لم يكن

ص: 146

لازماً، لما تقدم - لأنه نحو من الانقياد للمولى ومظهر من مظاهر العبودية له، كما تشهد بذلك المرتكزات العقلية والعرفية. وهو موجب لاستحقاق الثواب، لا بمعنى لزومه على المولى، لأنه لا يجب حتى مع الإطاعة الحقيقية، بل بمعنى أهلية المحتاط والمنقاد للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء، وليس ثوابه ابتداءً تفضل كالابتداء به على من لم يعمل شيئاً أو كان عاصياً. كما تقدم في آخر مبحث التجري.

إن قلت: هذا إنما يتم بناءً على أن الإرادة التشريعية التي تنتزع منها الأحكام الشرعية من سنخ الإرادة التكوينية، لوضوح أن تحصيل ما يحتمل إرادة المولى له كتحصيل ما يعلم بإرادته له من مظاهر العبودية والفناء في ذاته والاهتمام بشأنه.

أما بناءً على ما هو التحقيق من أنها سنخ آخر متقوم بجعل السبيل على المكلف وتحميله المسؤولية فلا موضوع لها مع فرض عدم المنجز، لأن جعل الحكم ليس علة تامة لتحقق السبيل، بل هو مشروط بوجود المنجز له، فمع فرض عدم المنجز لا يتحقق السبيل على المكلف قطعاً، فلا موضوع للاحتياط.

وليس معنى فعلية الأحكام الواقعية في ظرف عدم المنجز لها إلا فعلية ملاكاتها، ومن الظاهر أن مجرد الاهتمام بتحصيل الملاك والسعي له لا يكون انقياداً للمولى، ولا يحسن بملاك حسن إطاعته، ما لم يكن مضافاً إلى المولى لتكليفه به.

قلت: عدم فعلية السبيل لفرض عدم المنجز لا ينافي تحقق موضوع الانقياد، بلحاظ احتمال جعل الحكم الذي هو المقتضي في جعل السبيل،

ص: 147

وهو معنى فعلية الحكم، وبه يكون الملاك مضافاً للمولى، وليس معنى فعليته مجرد كون ملاكه فعلياً من دون أن يكون مضافاً للمولى.

ولا مجال لدعوى اختصاص موضوع الانقياد بفعلية السبيل الموقوفة على المنجز، فإنها مدفوعة: بالمرتكزات العقلائية والمتشرعية على حسن الاحتياط لاحتمال التكليف غير المنجز، المؤيد بمثل نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في الإرشاد إلى حسن الاحتياط.

بل ذكرنا في مسألة الضد في تقريب إمكان التقرب بالملاك أن الملاك إذا بلغ مرتبة جعل الحكم بسببه كان صالحاً للمقربية وإن ارتفع واقعاً بسبب المزاحم، فصلوحه للمقربية والانقياد في المقام أولى بلحاظ احتمال وجوده وفعلية الحكم الواقعي على طبقه. فتأمل جيداً.

وبالجملة: لا إشكال ظاهراً في حسن الاحتياط عقلاً في مورد البراءة، بل في مطلق احتمال التكليف الواقعي وإن قامت الحجة على خلافه، ولذا جرت سيرة الفقهاء - خصوصاً في العصور المتأخرة - على التنبيه للاحتياط،

ينبغي التعرض لأمور.

بل الحث عليه في موارد الفتوى بخلافه، وحيث عرفت ذلك ينبغي التعرض لأمور متعلقة بالمقام..

الأمر الأول: مزاحمة حسن الاحتياط بما هو أهم

الأمر الأول: الاحتياط وإن كان حسناً في نفسه عقلاً، لما فيه من الانقياد للمولى، كما تقدم، إلا أنه قد يزاحم بما هو الأهم عقلاً، كالإطاعة الحقيقية في التكاليف المنجزة الإلزامية أو غيرها، فيلزم تركه عقلاً، أو يرجح وإن لم يخرج عن كونه حسناً في نفسه، كما هو الحال في تزاحم الاحتياطين غير اللازمين أو تزاحم التكليفين المنجزين. إلزاميين كانا أو غير إلزاميين فإن المرجوح يلزم تركه أو يرجح وإن لم يخرج عن كونه حسناً في نفسه.

ص: 148

كما أنه قد يردع عنه شرعاً، لعدم وفائه بالغرض لتوقف الغرض على الجزم بالتكليف، أو لاستلزامه محذوراً لازم الدفع، كما أشرنا إليه في أواخر مبحث التجري.

لكن الظاهر أن الردع المذكور راجع إلى تقييد التكليف الواقعي أو المكلف به، بغير صورة الاحتياط فلا يكون الاحتياط إطاعة له، كي يكون انقياداً وحسناً، فالردع عن الاحتياط مخرج له عن الانقياد وعن موضوع الحسن، لا أنه ردع عن بعض أفراد الانقياد، بل هو في الحقيقة موجب لسد باب الاحتياط.

وتوضيح ذلك: أن قوام التكليف باقتضائه للعمل وداعويته له، وحينئذٍٍ فإن تنجز صار مورداً للمسؤولية ولزم عقلاً إطاعته بملاك أهلية المولى لها، أو بملاك دفع الضرر، وامتنع ردع الشارع عن إطاعته، لمنافاته لمقتضى التكليف، إلا أن يرجع إلى رفع التكليف نفسه.

وإن لم يتنجز قصر عن مقام المسؤولية لكن حسن عقلاً الاهتمام بموافقته بالاحتياط انقياداً للمولى بملاك أهليته وإن لم يترتب الضرر.

وحينئذٍٍ كما يمتنع الردع عن الإطاعة في فرض تنجز التكليف إلا برفع التكليف نفسه، كذلك يمتنع الردع عن الاحتياط في فرض عدم تنجزه إلا بتقييد التكليف أو المكلف به بنحوٍ لا يشمل حال الاحتياط، ليخرج عن مورد التكليف، فلا يكون احتياطاً ولا انقياداً. وإلا فمع فرض شمول التكليف له وفعلية التكليف به يكون الاحتياط انقياداً للمولى، فيمتنع الردع عنه، لأنه علة تامة في الحسن كالإطاعة، وإن افترقا باللزوم وعدمه.

نعم، قصور التكليف الواقعي عن شمول الاحتياط لابد أن يكون

ص: 149

بنتيجة التقييد، وإلا فالاحتياط متفرع عن التكليف ومتأخر عنه رتبة، فلا يعقل أخذه قيداً في موضوعه.

كما أن خروج مورد الاحتياط عن التكليف إن كان لخروجه ملاكاً كان مقتضياً لعدم الإجزاء لو فرض مصادفته لثبوت التكليف واقعاً، وإن كان لأجل محذور خارج مع كونه واجداً لملاك التكليف الواقعي اتجه الإجزاء، إلا أن يكون عبادة، ويكون الردع بنحو التحريم، فيمتنع التقرب معه، وينسد باب الاحتياط حتى بلحاظ الملاك، ولا يتصور الإجزاء إلا مع الغفلة عن النهي، كما يذكر نظيره في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

إذا عرفت هذا، فربما يستظهر من بعض النصوص عدم حسن الاحتياط، ففي خبر الحسن بن الجهم، قلت لأبي الحسن (ع): اعترض السوق فأشتري خفاً لا أدري أذكي هو أم لا.

قال: «صل فيه»، قلت: فالنعل؟ قال: «مثل ذلك».

قلت: اني أضيق من هذا، قال: «أترغب عما كان أبو الحسن (ع) يفعله؟!»(1)، وفي صحيح البزنطي: «سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية.

أيصلي فيها؟ فقال: «نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر (ع) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك»(2)، ونحوه غيره مما تضمن النهي عن السؤال، ومرسل الفقيه، سئل علي (ع): أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ

ص: 150


1- الوسائل، ج 2 باب 50، من أبواب النجاسات حديث: 9.
2- الوسائل، ج 2 باب 5، من أبواب النجاسات حديث: 3.

من ركو أبيض مخمر؟ فقال: «لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة»(1)، وما عن تفسير النعماني باسناده عن علي (ع): «قال رسول الله (ص): إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(2)، فإن النصوص المذكورة ونحوها مما يتضمن الحث على التيسير ظاهرة في عدم رجحان الاحتياط، بل بعضها ظاهر في مرجوحيته. لكنها - مع ضعف سند أكثرها - لا تدل على ذلك.

لظهور الأول في الردع عن ضيق النفس عن العمل بأمارية السوق، وهو راجع إلى عدم سكون النفس للحكم الشرعي، المنافي للتسليم الكامل به، وهو لا ينافي رجحان الاحتياط برجاء إدراك الواقع لمحض الانقياد مع التسليم والاطمئنان بالرخصة، كما قد يشهد به خبر أبي بصير، سألت أبا عبد الله (ع) عن الصلاة في الفراء؟، فقال: كان علي بن الحسين (ع) رجلاً صرداً...

فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك فقال: إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته»(3).

كما أن صحيح البزنطي وأمثاله بصدد التأكيد على حجية السوق والردع عن التزام التضييق كالخوارج، فلا ينافي حسن الانقياد بالاحتياط.

وأما مرسل الفقيه فلا ظهور له في مرجوحية الاحتياط بتجنب احتمال النجاسة في فضل وضوء جماعة المسلمين، إذ لعل السؤال فيه من حيثية

ص: 151


1- الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث 3.
2- الوسائل ج 1، باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 1.
3- الوسائل ج 1، باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

استعمال الماء لتوهم كراهة الوضوء من فضل وضوء الغير، فهو مسوق لبيان عدم كراهة الوضوء فيه، بل استحبابه بلحاظ مصلحة التيسير.

مع أنه لو كان رادعاً عن الاحتياط في مورد احتمال النجاسة، فلا يدل على الردع عنه ذاتاً، بنحوٍ ينافي حسنه عقلاً، بل عرضاً لمنافاته لمصلحة التيسير، لظهوره في أن مصلحة التيسير المقتضية للسعة عملاً مما يهتم الشارع به، بحيث تكون أهم من مصلحة المحافظة على طهارة الماء في ظرف الجهل، وحيث إنه لا إشكال في لزوم الوضوء بالماء الطاهر واقعاً المستلزم لحسن الانقياد عقلاً بالاحتياط فيه كان المقام من مزاحمة حسن الانقياد بحسن الطاعة بالإضافة إلى مصلحة التيسير الاستحبابية، وحيث كان الثاني أهم كان هو الأرجح عقلاً وإن كان الاحتياط باقياً على حسنه، فيكون مرجع الردع الشرعي في المقام إلى إحداث حكم شرعي تكون طاعته مزاحمة للاحتياط عقلاً من دون أن ترفع حسنه، كما تقدم في أول الكلام في هذا الأمر.

ومنه يظهر الحال في ما عن تفسير النعماني ونحوه مما تضمن الأمر بالتيسير، فإنه راجع إلى استحباب الإتيان بالرخص، ويكون الحكم المذكور مزاحماً لحسن الاحتياط، لا رافعاً لحسنه.

دلالة النصوص على أمرين..

فتحصل أن النصوص المذكورة لا تنافي حسن الاحتياط ذاتاً، بملاك الانقياد، وإنما تدل على أمرين لا ينبغي الاستهانة بهما..

الأول: إمكان مرجوحية الاحتياط بالعرض

الأول: أن الاحتياط قد يكون مرجوحاً بالعرض لو كان ناشئاً من عدم سكون النفس للترخيص الشرعي وعدم ركونها للعمل به، لمنافاة ذلك للتسليم الكامل به.

ص: 152

الثاني

الثاني: أنه ينطبق على ترك الاحتياط عنوان راجح شرعاً يحسن عقلاً الإتيان به بداعي إطاعة الشارع وانقياداً له، كما يحسن الانقياد له بالاحتياط، وهو عنوان التيسير واستعمال الرخصة. فتأمل جيداً.

الأمر الثاني: الكلام في حسن الاحتياط شرعاً

الأمر الثاني: حيث عرفت حسن الاحتياط عقلاً فقد وقع الكلام بينهم في حسنه شرعاً والأمر به مولوياً. فقد استفاضت النصوص المتقدمة التي استدل بها الإخباريون على وجوب الاحتياط بالأمر به والحث عليه، وبعد فرض عدم حملها على الوجوب وتحكيم أدلة البراءة، فهل تحمل على الإرشاد لحسنه عقلاً بملاك الانقياد، أو على الاستحباب المولوي، كما هو الأصل في الأوامر الشرعية؟

ولا يخفى أن نصوص الاحتياط على قسمين:

الأول: ما تضمن الأمر به بملاك تحصيل الواقع المحتمل من دون أن يتضمن أثراً زائداً على ذلك، كما هو مفاد التعليل بمثل قولهم عليهم السلام: «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم»(1).

الثاني: ما تضمن الأمر به بملاك أمر آخر غير تحصيل الواقع المشتبه، مثل قولهم عليهم السلام «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك»(2).

أما الأول فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره أنه ظاهر في الإرشاد لحسن الاحتياط عقلاً، بملاك الانقياد تحصيلاً لمصلحة الحكم الواقعي.

واستشكل فيه بعض مشايخنا بأن حكم العقل بحسن الانقياد لما لم يكن إلزامياً فهو لا يوجب رفع اليد عن ظهور الأوامر الشرعية في المولوية.

ص: 153


1- الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.
2- الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 22.

وكأنه لأن حكم العقل بحسن الاحتياط قد لا يكون موجباً لانبعاث المكلف، ويكون الأمر الشرعي المولوي موجباً له، فلا يكون لاغياً.

وهذا بخلاف أوامر الطاعة فقد ذكر أنه يمتنع حملها على المولوية، للزوم لغويتها وإن لم نقل باستحالة التسلسل، لأن الأوامر الشرعية لا تقتضي الانبعاث ما لم تنته إلى الإلزام من جهة العقل بجعل وجوب الطاعة، فلابد من صرف أوامر الطاعة الشرعية إلى الإرشاد لذلك.

وفيه: أن مجرد عدم محركية الأحكام الشرعية إلا بانتهائها إلى الدافع العقلي المقتضي للزوم الطاعة عقلاً، لا يلزم بحمل أوامر الشارع بالطاعة على الإرشاد، لإمكان وجوب الطاعة بحكم العقل والشرع معاً، نظير ما التزم به هنا من حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً.

على أن عدم صلوح الأحكام الشرعية للمحركية إلا بضميمة حكم العقل كما يتوجه في الإحكام المنجزة التي يحكم العقل بلزوم طاعتها، كذلك يتوجه في الأحكام غير المنجزة التي يحكم العقل بحسن الانقياد بموافقتها، فإنها لا تقتضي الانبعاث لولا الحكم العقلي المذكور.

ومجرد الاختلاف بين الحكمين بالإلزام وعدمه لا يصلح فارقاً، ولاسيما مع كون إطاعة الأمر الاستحبابي والنهي التنزيهي مع تنجزهما حسنة عقلاً غير واجبة، مع عدم الإشكال بينهم في كون أوامر الشارع بإطاعتها للإرشاد.

فاللازم النظر في الفرق بين الأمر المولوي والإرشادي ذاتاً ثم تحديد مصاديقهما..

فنقول: الأمر والنهي إن صدرا بداعي جعل السبيل على المخاطب

ص: 154

بهما، بنحو يقتضي إضافة الفعل والترك للآمر والناهي وحسابها عليه، انتزع منهما الحكم المولوي الذي يكون موضوعاً للطاعة والمعصية ومورداً لأهلية المخاطب للثواب والعقاب من قبل الآمر.

وإن صدرا لمحض إرشاد المخاطب لآثار الأفعال الثابتة لها مع قطع النظر عن الأمر والنهي من دون أن يقتضيا إضافة الفعل للآمر وحسابه عليه، لم يكونا منشأً لانتزاع الحكم، ولا يكون الداعي العقلي لموافقتهما إلا بحسب داعويته للأثر المستكشف بهما.

فإذا أمر الأب ولده بالتدثر مثلاً، فإن كان أمره لمحض إرشاده لحاجته إليه كان إرشادياً ولا يتحقق الداعي العقلي لموافقته إلا بتبع داعويته لسد الحاجة المفروضة. وإن كان أمره مبنياً على جعله مسؤولاً من قبله بحيث يأتي به لحسابه استحباباً أو وجوباً كان مولوياً وصار موضوعاً للداعي العقلي بنفسه - مع قطع النظر عن الملاك الموجب له - على حسب قوة الداعي لطاعته وضعفه.

ومنه يظهر الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي المنجز في مقام المحركية عن الداعي العقلي، فإن الانبعاث عن الأمر المولوي فعل اختياري للمكلف، فلا يعقل صدوره إلا لغرض دافع له، من حب موافقة الآمر - لأهليته ذاتاً أو بالعرض - أو خوف عقابه أو رجاء ثوابه.

والداعوية المذكورة هي مرجع حكم العقل بحسن الإطاعة أو وجوبها في الأحكام الشرعية.

كما ظهر أيضاً الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي غير المنجز في مقام المحركية عن الداعي العقلي، فإنه لولا حكم العقل بحسن

ص: 155

الانقياد لا داعي للمكلف في الاندفاع عن احتمال الحكم المذكور.

ثم إنه حيث كان الحكم المولوي من أفعال المولى الاختيارية فلابد من صدوره عن داع وغرض له فيه، من حفظ ملاك أو غيره على الكلام في ذلك.

إذا عرفت هذا يقع الكلام في أوامر الطاعة والاحتياط.

الكلام في أوامر الطاعة والاحتياط

فاعلم: أن الأمر بالطاعة إن كان ناشئاً عن ملاك آخر غير ملاك ذات الفعل كان مولوياً، كما لو فرض أن تعلق التكليف بالفعل وصدق عنوان الطاعة عليه موجب لحدوث ملاك آخر فيه غير ملاكه الذي أوجب حدوث أمره، فان اهتمام الشارع بالملاك المذكور موجب لأمره به مولوياً بعنوانه المذكور، بحيث يكون مضافاً للمولى ومحسوباً عليه، ويكون مؤكداً للأمر المولوي الأول المتعلق بذات الفعل.

ولا مجال معه لتوهم لغوية الأمر الثاني، لأن تأكد الأمر موجب لتأكيد الداعوية المولوية، الموجب لتأكد الداعوية العقلية، فكما يكون الفعل موضوعاً لحكمين شرعيين أحدهما متعلق بذاته، والآخر متعلق به بعنوان كونه إطاعة، كذلك يكون موضوعاً لحكمين عقليين في طول الحكمين الشرعيين المذكورين يقتضيان إطاعة كل منهما، وإن اتحد الحكم الشرعي الثاني والحكم العقلي الأول موضوعاً.

وإن لم يكن ناشئاً عن ملاك مستقل، بل ليس إلا ملاك الأمر الأول امتنع كونه مولوياً، لعدم الغرض فيه بعد قيام الأمر الأول به، وتعين كونه إرشادياً لا يبتني على جعل السبيل، ولا على إضافة الفعل للمولى، فلا يكون حكماً حقيقة، ولا موضوعاً للطاعة والمعصية، ولا يستتبع عقاباً ولا ثواباً

ص: 156

غير ما يقتضيه الأمر الأول.

ومن هنا تعين حمل أوامر الشارع بالإطاعة على الإرشاد، لما هو المفروغ عنه من عدم كون منشئها ملاكاً مستقلاً، وعدم استتباعها ثواباً ولا عقاباً غير ما يقتضيه الأمر الأول.

مضافاً إلى أن ظاهرها الأمر بإطاعة كل حكم ولو كان غير إلزامي، فلو كان الأمر المذكور مولوياً كان ظاهره الوجوب المقتضي لوجوب إطاعة الأوامر الاستحبابية، وهو مقطوع ببطلانه، وحمل الأمر بالإطاعة على الاستحباب، أو على مطلق الطلب ليس بأولى من حمله على الإرشاد بعد كون كل منهما خلاف الأصل في الأمر، بل الثاني أقرب ارتكازاً.

كما أن ظاهر الأمر بالإطاعة عمومه لكل أمر يفرض حتى نفس وجوب الإطاعة كما هو مقتضى كون القضية حقيقية، وهو مستلزم للتسلسل، فحمله على ما عدا أمر الإطاعة دفعاً للتسلسل ليس بأولى من حمله على الإرشاد، بل الإرشاد أقرب ارتكازاً أيضاً. فتأمل جيداً.

وأما الأمر بالاحتياط فإن كان وارداً بلحاظ حفظ الواقع والانقياد له، للتنبيه على أهمية الواقع بنحو ينبغي للمكلف حفظه والاهتمام به كان إرشادياً مطابقاً لحكم العقل، ولا يترتب على موافقته إلا ما يترتب بحكم العقل على الانقياد.

وإن كان وارداً بلحاظ غرض خاص قائم بعنوان الاحتياط وإن كان هو حفظ الواقع من جهة الشارع، لاهتمامه به الموجب لخطابه به، بنحوٍ يقتضي إضافة الفعل إليه وحسابه عليه، كان مولوياً واقتضى تأكد الداعي العقلي للاحتياط من حيث كونه انقياداً للواقع المحتمل وطاعة للأمر بالاحتياط

ص: 157

المعلوم، كما أنه يقتضي شدة الثواب لتأكد الجهة المقتضية له. فتأمل.

ولعل منه ما ورد في كراهة مساورة الحائض المتهمة، وكراهة كسب الغلام، لأنه إن لم يجد سرق، وكراهة كسب الجارية لأنها إن لم تجد زنت.

هذا، والتأمل في نصوص الاحتياط المذكورة يشهد بالأول، لظهورها في أهمية الواقع بنحو يقتضي اهتمام المكلف به، كما هو مقتضى التعليل بعدم الوقوع في الهلكة، لا بنحو يهتم الشارع بحفظه فيكون ملاكاً لتشريع الاحتياط مولوياً.

فليس الاحتياط مرغوباً للشارع تبعاً لاهتمامه بالواقع، بل مما ينبغي للمكلف تبعاً لأهمية الواقع في حقه.

إن قلت: حكم العقل بحسن الانقياد ليس كأمر الشارع بالاحتياط، لكشف الثاني عن أهمية الواقع.

قلت: هذا لا يستلزم كون حفظ الواقع ملاكاً يهتم الشارع به، ليستلزم المولوية، وإنما يكشف عن أهمية الواقع في حق المكلف، الموجب لتأكد حسن الانقياد به عقلاً.

نظير ما في بعض الأدلة الشرعية من بيان أهمية بعض التكاليف الموجبة لتأكد حكم العقل بإطاعتها من دون أن تقتضي الأمر المولوي بها.

وبعبارة أخرى: ظاهر الأمر بالاحتياط - سواء كان وجوبياً، كما يقوله الأخباريون، أم استحبابياً كما يقوله غيرهم - ليس إلا حكماً طريقياً لإحراز الواقع كاشفاً عن أهمية الواقع في حق المكلف، من دون أن يقتضى حكماً نفسياً في قباله موضوعاً للإطاعة والمعصية ومنشأ للعقاب والثواب.

غايته أنه إن كان وجوبياً كان مستلزماً لتنجز الواقع، وصار الواقع

ص: 158

به موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً، وإن كان استحبابياً كان إرشاداً لحكم العقل بحسن الانقياد بتحصيل الواقع رجاء.

ومنه يظهر الحال في ما تضمن الأمر بالاحتياط من دون تعليل، فإن المنسبق من الأمر بالاحتياط ليس إلا الحكم الطريقي بالوجه المذكور.

وأما القسم الثاني من الأخبار: فقد ذكروا أنه ظاهر في المولوية، لأن الملاك المذكور فيه لا دخل له بملاك الواقع المحتمل، ليكون إرشاداً إلى حسن الانقياد بتحصيله.

لكن الإنصاف: أن الملاك المذكور مناسب للإرشاد جداً.

فإن البعد عن الحرام مما يحسن عقلاً احتياطاً للنفس بملاك حسن الطاعة.

ومعه يشكل ظهور الأوامر المذكورة في المولوية الراجعة إلى ابتناء خطاب الشارع على جعل السبيل وإضافة الفعل له وحسابه عليه ليكون موضوعاً للطاعة والمعصية ومنشأ للثواب زائداً على الفائدة المذكورة، بل لا يبعد كونه نظير أمر الطبيب.

ومن ثم لا يبعد حمل كثير من النصوص المتعرضة لآثار بعض الأفعال المرغوب فيها أو عنها على الإرشاد للآثار المذكورة، من دون أن تقتضي الاستحباب أو الكراهة المولويين.

إلا أن يفرض ظهورها في تبني الشارع للحكم، فيكون الأثر المذكور ملاكاً للحكم الشرعي ومنشأ لتشريعه، ولا تكون مسوقة لمحض الإرشاد. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

هذا كله بناء على شمول النصوص المتقدمة للاحتياط في موارد عدم

ص: 159

تنجز التكليف، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره، لكنه خلاف الظاهر، لما تقدم عند الكلام في استدلال الإخباريين بها من أن القسم الأول من النصوص ظاهر في وجوب الاحتياط في خصوص موارد منجزية الشبهة، وليس شاملاً لصورة عدم تنجز التكليف، ليحمل على استحباب الاحتياط، ولاسيما بملاحظة التعليل فيه باحتمال الهلكة فإنه آب عن الحمل على الاستحباب.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من حمل الهلكة فيه على مطلق ما يترتب على الاقتحام في الشبهة ومخالفة احتمال التكليف وإن لم يكن لازم الدفع عقلاً، فإن كان التكليف منجزاً كان هو ضرر العقاب اللازم الدفع، وإن لم يكن منجزاً كان هو ضرر فوت الواقع الذي يحسن دفعه ولا يلزم.

فهو خلاف الظاهر جداً، لظهور الهلكة في أهمية الضرر بنحو يجب دفعه - كالعقاب - دون ما لا يجب دفعه كفوت الملاك الواقعي، الذي قد يكون عرفاً من سنخ فوت النفع، لا الوقوع في الضرر، فضلاً عن أن يكون وقوعاً في الهلكة ليكون مشمولاً للتعليل المذكور.

نعم، تقدم في موثقة مسعدة بن زياد تطبيق التعليل المذكور على النكاح في مورد الشبهة الموضوعية التي لا يجب فيها الاحتياط.

لكنها مختصة بموردها، ولا مجال للتعدي عنه، كما يظهر مما ذكرنا هنا وهناك.

وأما القسم الثاني فالتعليل فيه وإن كان لا ينافي الاستحباب، إلا أن ظاهر الشبهة فيه خصوص موارد تنجيز الاحتمال، ولا أقل من كون المتيقن منه ذلك.

ص: 160

وكذا ما تضمن الأمر بالاحتياط ونحوه، كما يظهر بما تقدم في استدلال الإخباريين بالنصوص المذكورة. فراجع.

بل شمول نصوص الاحتياط للشبهة غير المنجزة لا يناسب أدلة الأصول والقواعد الترخيصية، بل أدلة الحجج من اليد والسوق ونحوهما، لظهورها في الحث على العمل بمؤداها بالنحو الذي لا يناسب نصوص الاحتياط، ولاسيما ما تضمن منها إطلاق الهلكة.

بل التأمل في الأدلة المذكورة شاهد بمباينتها مورداً لأخبار الاحتياط، بل هي رافعة لموضوعها عرفاً، لاختصاصها بالشبهات المنجزة، كما ذكرنا.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا طريق لإثبات حسن الاحتياط شرعاً، وليس حسنه إلا عقلياً.

ويأتي في الأمر الثالث ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: قاعدة التسامح في أدلة السنن

الأمر الثالث: قد تضمنت كثير من النصوص الحث على العمل الذي ورد عليه الثواب. كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)، قال: «من بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (ص) لم يقله»(1)، وصحيحه الآخر عنه (ع)، قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه»(2)، وخبر محمد بن مروان عنه (ع)، قال: «من بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي (ص) كان له ذلك الثواب وإن كان النبي (ص) لم يقله»(3)

ص: 161


1- الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 3.
2- الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 6.
3- الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 4.

وغيرها.

الكلام في مفاد النصوص على وجوه

وقد وقع الخلاف في مفاد النصوص المذكورة، والمحتمل منها بدواً وجوه..

الأول: حجية الخبر الدال على الثواب مطلقاً وإن كان ضعيفاً في نفسه. وهو ظاهر التعبير عن مؤدى النصوص في كلماتهم بالتسامح في أدلة السنن لظهوره في أن ما ليس حجة في نفسه فهو حجة في السنن.

الثاني: عِلّية بلوغ الثواب على العمل لاستحبابه شرعاً بعنوانه الأولي الذي أخذ في موضوع الثواب.

الثالث: عِلّيته لاستحباب العمل شرعاً أيضاً، لكن بقيد الإتيان به رجاء إدراك الواقع وترتب الثواب، لا مطلقاً، كما في الوجه السابق.

الرابع: مجرد ترتب الثواب على العمل الذي ورد عليه الثواب لمن جاء به برجاء إدراك الواقع من دون أن يقتضي استحبابه شرعاً والأمر به مولوياً، بل غاية ما يقتضي الحث على الانقياد والإرشاد لحسنه بملاك ترتب الثواب عليه. وعليه فلا تكون النصوص المذكورة دالة على حكم شرعي أصلاً، بخلاف الوجوه السابقة، حيث تكون على الأول، دالة على حكم أصولي، وعلى الثاني والثالث دالة على حكم فرعي.

وينبغي الكلام..

تارةً: في الثمرة بين الأقوال.

وأخرى: في تحقيق الحق منها.

وثالثةً: في فروع ذلك ولواحقه.

ص: 162

الكلام في مقامات:

المقام الأول: في الثمرة بين الأقوال..

الأول: في الثمرة بين الأقوال

لا يخفى أن الوجوه المذكورة تختلف في مقام العمل، فعلى الأول يشرع الإتيان بالعمل لداعي أمره الواقعي الذي تضمنه الخبر المتضمن لثبوت الثواب عليه، لفرض حجيته في مضمونه بنحوٍ يصح الجزم به تعبداً، ولا مجال لذلك على بقية الوجوه، لعدم ثبوت الأمر المذكور شرعاً، بل لا مجال لقصده إلا رجاءً.

نعم، على الثاني والثالث يتجه الجزم باستحبابه من جهة النصوص المتقدمة، أما على الرابع فلا مجال للجزم بالأمر الشرعي مطلقاً.

كما أنه على الأولين يكفي الإتيان بالفعل الذي بلغ عليه الثواب بقصد عنوانه الذي أُخذ في ترتب الثواب - كعنوان الصلاة والدعاء - ولولا بداعي بلوغ الثواب عليه، وورود الأمر الواقعي المحتمل به، لثبوت استحبابه بعنوانه المذكور بهذه الأخبار على الثاني، وبالخبر المتضمن للثواب - المفروض حجيته بهذه الأخبار - على الأول.

أما على الأخيرين فلابد من قصد بلوغ الثواب والأمر المحتمل داعياً للعمل، لفرض أخذ ذلك قيداً في ما هو المستحب شرعاً على الثالث، ولتوقف ترتب الثواب وتحقق الانقياد عليه على الرابع.

توجيه الثمرة بوجهين آخرين

هذا وربما توجه الثمرة بوجهين آخرين..

الأول: أنه على الأول يتجه للفقيه الفتوى باستحباب العمل بعنوانه بمجرد عثوره على خبر يدل على استحبابه من دون أن ينبه العامي على ورود الخبر المذكور، إذ بعد فرض حجية الخبر يكون كسائر الحجج التي يصح للفقيه الاعتماد عليها. ولعله لذا جرى الأصحاب على ذلك. وعن شيخنا

ص: 163

الأعظم قدس سرة أن ذلك منهم ظاهر في اختيار الوجه المذكور.

أما على الثاني والثالث فلا مجال لفتواه بالاستحباب اعتماداً على الخبر الذي دل على الثواب، لعدم حجيته، ولا على أخبار المقام، لأن وظيفته بيان الأحكام الفرعية الكلية، واستحباب العمل الخاص حكم فرعي جزئي مستفاد من الأخبار المذكورة، وليس الحكم الكلي إلا نفس ما تضمنته هذه الأخبار من استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب، فله الفتوى به على عمومه، كما له الأخبار بموضوعه - وهو ورود الثواب على العمل - كما يخبر عن سائر الموضوعات الخارجية التي يطلع عليها، كمسجدية المسجد.

بل يكون إخباره بذلك محققاً للموضوع، لصدق البلوغ به حقيقة، وليس كإخباره بسائر الموضوعات متمحضاً في الكشف عنها.

أما على الرابع فليس له إلا التنبيه على ورود الخبر، ليتحقق البلوغ الذي هو موضوع النصوص، من دون إخبار بحكمٍ شرعيٍ كلي، ولا بموضوعٍ شرعي.

الإشكال على الثمرة المذكورة

لكن تشكل الثمرة المذكورة: بأن ظاهر نصوص المقام اختصاص مؤداها بمن بلغه الثواب، فلو فرض دلالتها على حجية الخبر الدال على الثواب فهي لا تدل على حجيته في نفسه مطلقاً، كما اقتضت السيرة حجية خبر الواحد في نفسه، بل على حجيته في حق خصوص من بلغه، وهو المجتهد المطلع عليه، دون العامي، وحينئذٍٍ لا مجال لفتوى المجتهد للعامي بمؤداه، ليرتب عمله عليه، لأن وظيفة العامي الرجوع للمجتهد في تشخيص مؤدى الحجج الثابتة في حقه، لا الثابتة في حق المجتهد نفسه دونه.

ص: 164

فلو فرض أن الخبر الموثق حجة على الرجال دون النساء، لم يكن لهن الرجوع للمجتهد الرجل في تشخيص أحكامهن التي يتضمنها الموثق، وإن جاز للمجتهد نفسه الرجوع إليه في تشخيص أحكامهن المتعلقة به، فله أن يطأ المرأة التي دل الموثق على نقائها، وإن لم يكن لها تطبيق عملها على ذلك، فلا يجوز لها أن تمكنها من نفسها في الفرض المذكور.

ودعوى: أن الحجج لا تكون حججاً في حق العامي بعد تعذر أخذ حكمه منها عليه، وليس الحجة في حقه إلا فتوى المجتهد، واللازم على المجتهد الفتوى اعتماداً على ما هو الحجة في حقه.

مدفوعة: بأنه ليس المتعذر على العامي إلا أخذ حكمه من الحجج بلا واسطة. أما أخذ حكمه منها بتوسط المجتهد فلا يكون متعذراً عليه، ومعه لا وجه لسقوط حجيتها في حقه، كما لا وجه لرجوعه لفتوى المجتهد المبنية على ما هو حجة في حق المجتهد دونه، لقصور بناء العقلاء - الذي هو عمدة أدلة التقليد - عن ذلك.

وعلى ذلك فاللازم على المجتهد تحقيق موضوع الحجية في حق العامي بنقل الخبر له، ثم الفتوى له بمضمونه، كما هو الحال على الوجه الثاني والثالث.

وقد ذكرنا نظير ذلك في أخبار التخيير، فإن مقتضاها لو كان هو حجية الخبر الذي يختاره المكلف فلا وجه لعمل العامي بالحكم المستنبط من الخبر الذي يختاره المجتهد.

ودعوى: أن المجتهد يقوم مقام العامي في الفحص عن الأدلة، وينوب عنه فيه، فيتعين الاكتفاء ببلوغ الخبر للمجتهد في حجيته في حق العامي، كما

ص: 165

يتعين الاكتفاء باختيار المجتهد له عند تعارض الأخبار.

مدفوعة: بأن المجتهد إنما يقوم مقام العامي في تشخيص الأدلة الثابتة في حق العامي بملاك كونه من أهل الخبرة، لا في تحقق موضوع الحجية من البلوغ والاختيار ونحوهما.

نعم، لو استفيد من نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب في نفسه، بحمل البلوغ فيه على محض الطريقية من دون أن يؤخذ في موضوع الحجية كان للمجتهد الفتوى بمضمونه في حق من لم يطلع عليه.

لكنه - مع مخالفته لظاهر التقييد بالبلوغ، ولاسيما مع دخله ارتكازاً - يقتضي جواز الفتوى على الوجه الثاني أيضاً، غايته أنه يكون منه بيانا للحكم الجزئي لا الكلي، وهو مما لا بأس به بعد تشخيص موضوعه، نظير فتواه بنجاسة الكحول بعد تشخيص كونه مسكراً.

نعم، لا مجال لذلك على الوجه الثالث، لاختصاص الاستحباب بما يكون بداعي حصول الثواب الوارد، المتوقف على التفات المكلف لورود الثواب على العمل.

وكذا الحال على الرابع، بل هو أولى، لعدم الاستحباب الشرعي، كي يفتي به المجتهد.

الثاني

الثاني: أنه بناء على الوجوه الثلاثة الأول يتجه البناء على مشروعية العمل الذي بلغ عليه الثواب بالوجه الذي دل عليه الخبر المتضمن للثواب وترتيب آثار ذلك.

فلو ورد خبر باستحباب غسل مسترسل اللحية في الوضوء جاز المسح ببلله، لأنه - كبلل الحاجبين - من بلة الوضوء بمقتضى نصوص

ص: 166

المقام المقتضية لاستحبابه، أو لحجية الخبر الدال على استحبابه، ولو ورد خبر باستحباب غسل خاص اجتزئ به عن الوضوء، بناء على إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء، إلى غير ذلك.

أما بناء على الوجه الرابع فلا مجال لشيء من ذلك لعدم ثبوت المشروعية، فلا تترتب آثارها.

وفيه: أنه بناء على الوجه الأول فنصوص المقام وإن اقتضت حجية الخبر الدال على الاستحباب والمشروعية، إلا أنه لا إطلاق لها يقتضي حجيته في تمام مدلوله وآثاره، بل من حيثية الاستحباب وترتب الثواب لا غير، ولذا لو دل الخبر الضعيف على وجوب الشيء الذي تضمن الثواب عليه لا يكون حجة في إثبات الوجوب بلا إشكال، بل في أصل الطلب المستلزم للثواب.

والتفكيك في الحجية بين أجزاء المدلول وآثاره غير عزيز، وإنما يلتزم بعموم الحجية مع عموم دليلها وإن كان هو بناء العقلاء، كما في خبر الثقة، لا في مثل المقام مما كان دليل الحجية فيه تعبدياً لا عموم فيه.

وأما بناء على الوجه الثاني والثالث فنصوص المقام وإن اقتضت استحباب الفعل ومشروعيته إلا أنها حيث لم تثبت مشروعيته بالعنوان الأولي، بل بالعنوان الثانوي، وهو عنوان البلوغ، فلابد من الاقتصار على الآثار الثابتة لمطلق الفعل المشروع، دون خصوص ما ثبت لما كان مشروعاً بالعنوان الأولي، كما هو الظاهر في الأثرين المشار إليهما، فإن المسح إنما يجوز ببلة الوضوء المشروع بعنوان كونه وضوء، لا بعنوان كونه قد بلغ عليه الثواب، وكذا الحال في إجزاء الغسل عن الوضوء. فتأمل جيداً.

ص: 167

المقام الثاني: تحقيق ما هو الحق من الأقوال

المقام الثاني: في تحقيق ما هو الحق من الأقوال..

قد يقرب دلالة النصوص المتقدمة على الوجه الأول بظهور ذكر ترتب الثواب الموعود به في الحث على العمل بالخبر المتضمن للثواب ومتابعته عملاً، والأمر بمتابعة الطريق والعمل به كناية عن حجيته في نفسه.

ودعوى: أن نصوص المقام بصدد بيان ترتب الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب، لا بيان ما يتحقق به البلوغ، فلا إطلاق لها ينهض بعدم اعتبار شرائط الحجية في الخبر الذي يتحقق به البلوغ، بنحو يقتضي حجية الخبر الضعيف، بل مقتضى أدلة اعتبار تلك الشروط اعتبارها في الخبر المتضمن للثواب أيضاً.

مدفوعة: بأن البلوغ ليس أمراً شرعياً، بل هو أمر وجداني يتحقق بالخبر الضعيف وغيره، ومقتضى إطلاق نصوص المقام الحث على العمل بجميع أفراد البلوغ. وما دل على عدم حجية الخبر الضعيف لا ينافي تحقق البلوغ به الذي هو الموضوع في هذه النصوص.

نعم، قد يقال: على ذلك تكون النسبة بين نصوص المقام وما دل على اعتبار شروط الحجية من الثقة أو العدالة أو غيرهما العموم من وجه لا العموم المطلق، لأن نصوص المقام وإن اختصت بالاستحباب ونحوه مما يتضمن بلوغ الثواب، إلا أنها تعم الخبر الواجد لشرائط الحجية، فيرجع في مورد التعارض إلى أصالة عدم الحجية.

لكنه يندفع: بأن عمدة الدليل على اعتبار الشروط المذكورة هي الإجماع الذي لا يشمل المستحبات، وسيرة العقلاء التي تنهض نصوص المقام - لو تمت دلالتها - بالردع عنها في المستحبات.

ص: 168

نعم، لا يبعد ثبوت الإطلاق لبعض النصوص بنحو يشمل المستحبات، مثل ما عن الكاظم (ع): «لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله...»(1).

إلا أنه لو تم سنده فنصوص المقام أرجح منه، لأنها أكثر عدداً وأصح سنداً وأشهر رواية.

هذا، مع أنه لا يبعد كون نصوص المقام أقوى دلالة من الإطلاق المذكور، لأن حملها على خصوص الخبر الواجد لشرائط الحجية عملاً بالإطلاق المذكور مستلزم لإلغاء خصوصية موردها، بخلاف حمل الإطلاق على غير المستحبات عملا بالنصوص المذكور. وذلك من أهم المرجحات الدلالية بين العامين من وجه.

هذا حاصل ما يوجه به دلالة نصوص المقام على الوجه الأول.

ويندفع: بأن الأخبار المذكورة لا ظهور لها في الحث على العمل بالخبر المتضمن للثواب الذي هو بمعنى الاعتماد عليه لتكون ظاهرة في حجيته، بل غاية ما تضمنته الحث على موافقته عملاً ولو لرجاء إصابة الواقع، ولا ظهور لذلك في الحجية، بل ما تضمنته من التنبيه على احتمال خطأ الخبر لا يناسب لسان الحجية المبنية على إلغاء احتمال الخلاف وغض النظر عنه.

وأما مجرد ترتب الثواب فهو ليس من لوازم الحجية، بل هو من لوازم الإطاعة الحقيقية أو الحكمية، والأولى منوطة بإصابة الواقع لا بقيام الحجة، والثانية منوطة بالانقياد الحاصل بالموافقة الاحتمالية وإن لم يكن

ص: 169


1- الوسائل، ج 18، باب: 11 من أبواب صفات القاضي ح: 42.

هناك حجة.

توجيه الوجه الثاني

وأما الوجه الثاني فقد يوجه حمل النصوص عليه بأن الوعد بالثواب فيها على العمل الذي بلغ عليه الثواب ظاهر في الأمر به واستحبابه، كما يستفاد الأمر في سائر الموارد المتضمنة للوعد بالثواب على العمل، كالحج وزيارة المعصومين عليهم السلام والإحسان للمؤمنين ونحوها.

لكن من الظاهر أن هذا - لو تم - لا يقتضي الوجه الثاني، بل الثالث، لوضوح أن الوعد بالثواب لم يترتب على ذات الفعل الذي بلغ عليه الثواب، ليكشف عن استحبابه مطلقاً، بل المتيقن منه خصوص الفعل المأتي به بداعي تحقق الأمر الواقعي وتحصيل الثواب البالغ، كما هو مقتضى التفريع في مثل صحيحي هشام المتقدمين، لظهوره في تفرع العمل على البلوغ الظاهر في كون البلوغ علة له، بلحاظ داعويته له، بل هو صريح مثل خبر محمد بن مروان المتقدم.

على أن الوجه المذكور غير تام في نفسه، لأن الوعد بالثواب إنما يكشف عن الأمر المولوي إذا لم يكن للثواب منشأ غيره، كما في الموارد المشار إليها، بخلاف المقام، لقرب كون ترتب الثواب بلحاظ الانقياد الناشئ من بلوغ الثواب ورجاء تحصيله، نظير الوعد بالثواب على الطاعة، من دون أن يكون لازماً للأمر المولوي، ولا كاشفاً عنه.

بل لو كان الثواب الموعود به في هذه النصوص ناشئاً عن أمر مولوي سيقت هذه النصوص لبيانه لزم عدم ترتبه في حق من لم يلتفت لمفاد هذه النصوص - لجهله بها أو لغفلته عنها - وأتى بالفعل الذي بلغ عليه الثواب لمحض الانقياد رجاء تحقق الأمر الواقعي وترتب الثواب البالغ، لوضوح

ص: 170

عدم قصده امتثال الأمر الثانوي المستفاد من هذه النصوص، كي يستحق ثوابه، بل ليس منه إلا الانقياد الحاصل في سائر موارد الاحتمال. كما يلزم أيضاً تعدد منشأ استحقاق الثواب لو كان المكلف في مقام الانقياد مع قطع النظر عن مفاد هذه النصوص، وتأكد ذلك في نفسه نتيجة الإطلاع عليها، فأتى بالعمل الموعود عليه الثواب برجاء الأمر الواقعي به وامتثالاً للأمر المستفاد من هذه النصوص. نظير ما إذا احتمل المكلف وجوب الغسل عليه، وثبت عنده استحباب الغسل بماء الفرات، فاغتسل بماء الفرات امتثالاً للأمر بالغسل به ولرجاء تحقيق الغُسل الواجب.

ولا يظن من أحد الالتزام بشيء من الأمرين. وما ذلك إلا لظهور هذه النصوص في أن منشأ الثواب الموعود به مجرد الإتيان بالعمل برجاء تحصيل الثواب الذي بلغ، لا لأجل كونه إطاعة لأمر مولوي آخر، وذلك حاصل في حق من غفل عن مفاد هذه النصوص، ولا يحصل غيره في حق من التفت إليها. وهو راجع إلى أن مفاد هذه النصوص الإرشاد لحكم العقل بحسن الانقياد، كما هو مقتضى الوجه الرابع. ولا أقل من كونه المتيقن بعد عدم القرينة على إرادة الوجوه الأخرى.

الإشكال على الحمل المذكور بوجوه

نعم، قد يشكل الحمل على ذلك..

تارةً: بأن أمر الشارع هنا بالاحتياط يكشف عن أهمية الواقع بنحوٍ لا يدركه العقل، فلا مجال لحمله على الإرشاد.

وأخرى: بأن الحمل على الإرشاد موقوف على حكم العقل باستحقاق الثواب على الانقياد، والتحقيق عدمه، وأن الثواب معه تفضل من المولى غير لازم عليه، وحينئذٍ يكون وعد الشارع بفعلية الثواب راجعاً إلى أمره به،

ص: 171

لتضمنه أمراً زائداً على ما يحكم به العقل، فهو كالوعد بالثواب على سائر المستحبات المولوية.

وثالثةً: بأن تحديد الثواب بخصوص ما بلغ أمر زائد على ما يحكم به العقل، فيدل على الأمر المولوي.

ورابعةً: بأن البناء على الإرشاد يستلزم إلغاء خصوصية البلوغ، لأن الانقياد لا يختص به، بل يجري في كل احتمال وإن كان حدسياً في الشبهة الموضوعية.

لكن الجميع في غير محله..

مناقشة الوجوه المذكورة

أما الأول فلما تقدم في أوامر الاحتياط من أن أمر الشارع بالاحتياط وإن كشف عن أهمية الواقع بنحوٍ لا يدركه العقل، إلا أنه لا يقتضي المولوية، بل يقتضي حكم العقل بتأكد حسن الانقياد به.

بل لا يبعد عدم سوق نصوص المقام لبيان أهمية الملاك الواقعي المحتمل في مورد بلوغ الثواب، بل لمحض الإرشاد لحسن الانقياد والحث عليه من حيث هو، لظهورها في أن منشأ الحث والثواب ليس إلا اهتمام المكلف بالحكم الشرعي وطلب قول النبي (ص) الذي هو عين الانقياد الحسن بحكم العقل بملاك شكر المنعم.

وأما الثاني فلأن العقل وإن لم يستقل باستحقاق الثواب على الانقياد إلا أنه يحكم بأهلية الفاعل له، كما هو الحال في الإطاعة الحقيقية، وحينئذٍٍ لعل الوعد بالثواب في هذه النصوص بلحاظ ذلك، كما هو الحال في الوعد به على الإطاعة الحقيقية.

مع أنه لو تم ما ذكر في هذا الوجه فالنصوص وإن لم تصلح للإرشاد،

ص: 172

إلا أنها لا تقتضي الأمر المولوي، لإمكان أن يكون الوعد بالثواب محض تفضل، لا يستتبع الأمر، ولا قرينة على كونه ناشئاً عن أمر بحيث يقتضي إضافة الفعل للمولى وحسابه عليه زائداً على ما يحكم به العقل من حسن الانقياد.

وأما الثالث فلأن تحديد الثواب ليس من وظيفة العقل حتى في الإطاعة الحقيقية، فتعرض الشارع له هنا كتعرضه له في بعض موارد الإطاعة الحقيقية لا ينافي الإرشاد في أصل الحث على الانقياد المستفاد من ذلك.

ومنه يظهر اندفاع الرابع، إذ لا مانع من اختلاف مراتب الانقياد في الأهمية وفي مقدار الثواب بالنحو الذي يدركه الشارع، فلا مانع من اختصاص الانقياد في مورد بلوغ الثواب بمزية تقتضي الوعد بتمام الثواب البالغ بأن لم يتم ذلك في سائر موارد الانقياد.

وبالجملة: الوجوه المذكورة لا تنهض بإثبات الأمر المولوي الثانوي، لملاك خاص بنحو يقتضى إضافة الفعل للمولى وحسابه عليه مع قطع النظر عن حسن الانقياد ذاتاً بلحاظ الأمر الأولي المحتمل، بل يتعين الحمل على الإرشاد، كما هو مفاد الوجه الرابع.

دعوى انصراف النصوص إلى مقدار الثواب مع المفروغية عن أصل الاستحباب

بقي شيء، وهو أنه قد يدعى صرف نصوص المقام إلى ما لو كان البالغ بالخبر الضعيف مقدار الثواب، مع كون أصل الاستحباب والمشروعية معلوماً، لامتناع التقرب بالعبادة مع عدم إحراز الأمر، ولا مجال لحملها على التوصليات مع كون الشايع من موارد بلوغ الثواب هو العبادات.

ويقتضيه أيضاً ما يأتي من ظهور نصوص المقام في فرض تحديد الثواب الموعود على العمل، لا في بلوغ أصل ترتب الثواب على العمل.

ص: 173

وعليه فتكون النصوص واردة للإرشاد إلى حسن الطاعة في فرض إحراز الأمر، لا إلى حسن الانقياد في فرض احتماله.

وفيه: أن التقرب مع احتمال الأمر غير متعذر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد الفراغ من هذه القاعدة، وكفى بنصوص المقام شاهداً على ذلك.

وظهور هذه النصوص في فرض تحديد الثواب - لو تم - لا ينافي شمولها لما إذا لم يكن أصل الاستحباب والأمر مفروغاً عنه، لإمكان انحصار دليل الاستحباب بالخبر الضعيف المحدد للثواب.

بل هو المناسب لتفريع العمل على البلوغ الظاهر في عدم ترتبه لولاه.

ولاسيما مع قوله (ع) في بعضها: «ففعل ذلك طلب قول النبي (ص)» الظاهر في أن منشأ الاستحقاق ليس إلا الرغبة في إصابة قول النبي (ص) وطلب سنته الحاصل مع الشك في أصل المشروعية، فلا موجب للخروج عما ذكرنا.

المقام الثالث: في فروع القاعدة وفيه أمور

المقام الثالث: في فروع هذه القاعدة ولواحقها.

المهم في هذا المقام هو الكلام في عموم نصوص المقام لبعض الموارد وعدمه، تبعاً لما يستفاد من ظواهرها، ومن قرائن المقام، وحيث كان ذلك لا يوجب اليقين غالباً فهو إنما ينفع بناءً على تضمن النصوص المذكورة حكماً شرعياً أصولياً أو فرعياً - كما هو مقتضى الوجوه الثلاثة الأُوَل - لأن الظاهر لما كان حجة أمكن الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي والتعبد به.

وهذا بخلاف الحال على الوجه الرابع، فإن حسن الانقياد عقلي قطعي لا يختص بمورد النصوص، فلا أثر لعموم مفادها أو خصوصه فيه،

ص: 174

ولا تمتاز إلا بالوعد بفعلية الثواب في موردها، وليس هو حكماً شرعياً، كي تنهض الحجة بإثباته وتحديده، بل هو أمر واقعي لا دخل لقيام الحجة فيه بوجه، حتى ينفع تحديد مؤداها.

ولا مجال لدعوى: أن قيام الحجة على الوعد بالثواب ملزم للمولى بتنفيذه وإن كانت مخطئة.

لأن أدلة الحجية منصرفة إلى التعبد بمضمون الحجة في مقام العمل، المقتضي لمعذريتها ومنجزيتها، لا إلى التعهد بتنفيذ مؤداها وتحقيقه على كل حال وإن كانت مخطئة.

بل ليس ملاك لزوم تنفيذ الوعد بالثواب في ظرف قيام الحجة عليه إلا حسن الوفاء من المولى بوعده، فلو فرض خطأ الحجة وعدم صدور الوعد منه واقعاً فلا ملزم له بالتنفيذ.

ومن ثَمَّ كان ما تضمنته نصوص المقام من ثبوت نفس الثواب الموعود به في الأخبار وإن كانت كاذبة تفضلاً غير لازم عليه تعالى حتى لو كانت تلك الأخبار حجة في نفسها، ولا يلزم بمقتضى حجيتها.

نعم، قد ينفع تشخيص الظهور في قوة احتمال الوعد بالثواب الموجب لقوة الداعي للانقياد وإن لم يتيقن بترتب الثواب، كما قد يقوى الاحتمال المذكور لأسباب أُخَر غير الظهور، بل قد يقوى الداعي المذكور مع ضعف الاحتمال، لأهمية نفس الثواب البالغ.

وحيث عرفت هذا، يقع الكلام في أمور..

أولها: اختصاص النصوص في الخبر المتضمن لتحديد الثواب

أحدها: أنه تقدم في آخر الكلام في المقام الثاني الإشارة إلى اختصاص نصوص المقام بما إذا تضمن الخبر تحديد ثواب العمل، لا أصل

ص: 175

ترتب الثواب عليه من دون تعيين له.

وهو ظاهر قولهمعليهم السلام: «من بلغه شيء من الثواب»، وقولهمعليهم السلام: «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك التماس ذلك الثواب» ونحوهما.

وحمل (مَنْ) في الأول على أنها بيانية خلاف الظاهر جداً.

لكن ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة في صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله (ع): «من بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (ص) لم يقله»(1) أن المراد من: «شيء من الثواب» بقرينة ضمير: «فعمله» وإضافة الأجر إليه هو الفعل المشتمل على الثواب. وحينئذٍٍ يمكن فرض الإطلاق له بنحو يشمل العمل الذي بلغ ترتب الثواب عليه من دون تحديد. ويجري نحوه ذلك في خبر محمد بن مروان أيضاً.

ويعضده إطلاق ما عن الإقبال عن الصادق (ع): «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه»(2).

لكن صحيح هشام كما يمكن توجيهه بما تقدم يمكن إبقاء الثواب فيه على حقيقته، وحمل ضمير: «فعمله» على الاستخدام، بأن يراد منه فَعَمِل ما يوجبه، ويتجه حينئذٍٍ إضافة الأجر إليه، ولعله الأنسب ولو بملاحظة نصوص الباب. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال. ويجري نحو ذلك في خبر محمد بن مروان، بحمل اسم الإشارة فيه على العمل المستفاد من ذكر

ص: 176


1- الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 3.
2- الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 9.

الثواب، من دون أن يكون المراد من بلوغ الثواب في صدره بلوغ ترتبه على العمل.

وأما ما عن الإقبال فإرساله مانع من الاستدلال به، ولاسيما مع قرب رجوعه إلى بعض النصوص المسندة وأنه منقول بالمعنى.

والحاصل: أنه لا مجال لاستفادة التعميم من نصوص المقام.

نعم، قد تلغى خصوصية تحديد الثواب لعدم دخلها عرفاً بعد ظهور ورود النصوص مورد الامتنان والحث على فعل الخير والتأسي بالنبي (ص) وطلب قوله، إذ الفرق حينئذٍ بين بلوغ أصل الثواب وبلوغ مقدار خاص منه بعيد جداً، بل الأول أولى بالامتنان، لأن الانقياد فيه آكد.

لكنه مبني على حمل النصوص على الإرشاد لحسن الانقياد، أما بناءً على حملها على بيان حكم أصولي أو فرعي فحيث يكون مضمونها تعبدياً محضاً فلا مجال لإعمال القرينة الارتكازية المذكورة فيه.

وإن كان عمل الأصحاب على التعميم. وعليه يبتني الكلام في جل الفروع الآتية أو كلها. ولعله لفهم عدم الخصوصية. فتأمل جيداً.

ثانيها: عموم البلوغ للبلوغ ضمناً والتزاماً

ثانيها: أنه لما كان الموضوع في نصوص المقام هو بلوغ الثواب فلا فرق بين بلوغه صريحاً وبلوغه ضمنا والتزاماً - كما يظهر من بعض عبائرهم المفروغية عنه - لإطلاق النصوص في ذلك، ولاسيما بملاحظة الارتكاز المشار إليه في الأمر الأول.

ومن هنا يتجه الاكتفاء بالأخبار المتضمنة للأحكام وإن لم يصرح فيها بالثواب، لما هو المفروغ عنه من ملازمة امتثال الحكم الشرعي للثواب.

كما أن مقتضى إطلاق النصوص العموم لجميع الأحكام الاقتضائية

ص: 177

التي يترتب الثواب بامتثالها حتى الحرمة والكراهة، ولا وجه لتخصيصها بالوجوب والاستحباب، فضلاً عن خصوص الاستحباب.

وأما ما يظهر من غير واحد من اختصاص الأخبار بهما، لاختصاصها بالخير والعمل الذي بلغ عليه الثواب، وهو ظاهر في الأمر الوجودي، كما يشهد له التفريع بقولهم عليهم السلام: «فعمله» و «فصنعه» فلا يشمل بلوغ الثواب على الترك.

فهو غير ظاهر، لأن المراد بالعمل هنا مطلق فعل المكلف وإن كان عدمياً، نظير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ...(1) خصوصاً بلحاظ أن فعله هنا بمعنى حمل النفس عليه، لا بمعنى محض تحققه، لأن ذلك هو الذي يكون موضوع الثواب.

ولذا لا ريب ظاهراً في شمولها لما إذا دل الخبر على استحباب الترك وترتب الثواب عليه صريحاً، وذلك هو المناسب للارتكاز المشار إليه آنفاً.

نعم، أشرنا في المقام الأول إلى أن القول بحجية الخبر المذكور لا يستلزم حجيته في تمام مدلوله، لعدم الإطلاق في دليل الحجية، بل المتيقن منها حجيته في ترتب الثواب بالنحو المستلزم للرجحان من دون أن تحرز خصوصية الإلزام أو الندب.

وحيث كان هذا متفقاً عملاً مع الاستحباب اتجه منهم التسامح والتعبير بحجية الخبر في الاستحباب في مثل ذلك. وإلا فلا معنى لحجية الخبر الظاهر في الوجوب أو الحرمة أو الكراهة في الاستحباب، كيف وقد

ص: 178


1- سورة البقرة: 278، 279.

يقطع بعدم الاستحباب لدوران الأمر بين أحد الأحكام المذكورة والإباحة.

ومنه يظهر أنه لا مجال للإيراد عليهم: بأن ضعف الخبر الدال على الوجوب لا يكون قرينة عرفاً على حمله على الاستحباب.

هذا كله بناءً على دلالة نصوص المقام على حجية الخبر المتضمن للثواب.

أما بناءً على دلالتها على استحباب متابعته - كما هو مفاد الوجه الثاني والثالث - فالمتعين البناء في الجميع على الاستحباب الثانوي بسبب البلوغ، وليس هو من باب مخالفة الحكم الظاهري للواقعي - كما يظهر من الآشتياني في حاشية الرسائل - بل من باب ارتفاع الحكم الواقعي الأولي بالحكم الواقعي الثانوي، كما لعله ظاهر.

ثالثها: اختصاص البلوغ بالخبر المبني على الحكاية

ثالثها: أن موضوع النصوص لما كان هو بلوغ الثواب وسماعه كان مختصاً بالخبر المبني على الحكاية دون سائر الطرق الكاشفة، كالأولوية، وتنقيح المناط، ونحوهما. كما أن الظاهر عمومها للخبر الحسي والحدسي - كفتوى المفتي - ولا يختص بالأول، لإطلاق بعض النصوص المتقدمة.

ولا مجال لدعوى انصرافها للخبر الحسي قياساً على أدلة حجية الخبر، للفرق بينها: بأن أدلة الحجية لما كانت ظاهرة في إمضاء سيرة العقلاء المختصة بالخبر الحسي كانت تابعة لها، بخلاف نصوص المقام، لأنها إن حملت على الانقياد فهو يناسب العموم، وإن حملت على حجية الخبر المتضمن للثواب أو استحباب العمل على مقتضاه كانت أدلة تعبدية لا تصلح السيرة لتقييدها.

نعم، ما تضمن من النصوص تقييد البلوغ بكونه عن النبي (ص) قد

ص: 179

يوهم الاختصاص بالحسي، لإشعاره بالإشارة إلى الروايات المتعارفة، إلا أن مناسبة العموم للارتكاز تقتضي إلغاء خصوصيتها عرفاً.

على أنه يكفي إطلاق النصوص الأُخَر الخالية عن التقييد، التي لا مجال لرفع اليد عنها بنصوص التقييد، لعدم التنافي بينها.

ولذا لا ريب - ظاهراً - في شمولها لفتوى الفقيه في حق من يجب عليه تقليده، ولا فرق بينه وبين غيره من العوام والمجتهدين إلا بقصور دليل الحجية، الذي لا يضر في شمول نصوص المقام، كما شملت الخبر الضعيف.

نعم، لو فرض الاطلاع على مستند الخبر الحدسي كانت النصوص منصرفة عنه، لظهورها بقرينة التفريع في صلوح الخبر لإحداث الداعي من حيثية كونه مثيراً لاحتمال التكليف، والخبر الحدسي بعد الاطلاع على مستنده لا أثر له في إثارة الاحتمال، ولا في إحداث الداعي على طبقه، بل الأثر لمستنده، فإن صدق على مستنده البلوغ شملته نصوص المقام، وإلا خرج عنها.

ومنه يظهر قصورها عن الخبر الحسي المعلوم كذبه وإن فرض احتمال تحقق الأمر وترتب الثواب في مورده، كما لو فرض العلم بكذب الراوي في النقل عن الإمام (ع) واحتمل ثبوت مضمون الرواية في الواقع، لأن الخبر المذكور لا أثر له في إثارة الاحتمال ولا في تحقق الداعي، بل المحدث للداعي هو الاحتمال الذي لا يستند للخبر ولا يصدق معه البلوغ.

رابعها: وجوه البلوغ

رابعها: أن بلوغ الثواب..

تارةً: يكون مشفوعاً باحتمال الحرمة أو الكراهة.

ص: 180

وأخرى: لا يكون مشفوعاً بذلك.

أما الثاني فهو المتيقن من نصوص المقام، وأما الأول فهو محل كلام بينهم.

والذي ينبغي أن يقال: إنه مع تنجز احتمال الحرمة - بحجة أو غيرها - لا مجال للبناء على شمول نصوص المقام، لقرب انصرافها عنه، لظهورها في كون البلوغ صالحاً للداعوية في نفسه مع قطع النظر عن مفاد هذه النصوص، كما هو مقتضى التفريع الظاهر في علية البلوغ للعمل، فهي ظاهرة في إمضاء عمل العامل وبيان فائدته، لا في تشريعه والحث عليه ابتداءً، ومن الظاهر أن البلوغ إنما يكون صالحاً للداعوية في ظرف عدم تنجز احتمال ما ينافيه بنحوٍ يوجب كونه مورداً للحظر.

بل بناءً على ما ذكرنا من ظهور النصوص للإرشاد لحسن الانقياد لا ينبغي الإشكال في ذلك، لخروج المورد عنه.

أما قيام الحجة على الكراهة فلا يمنع من شمول الأخبار، لأنها لما لم تكن حكماً إلزامياً، فلا تكون مخالفتها في ظرف قيام الحجة عليها تمرداً، لينافي الانقياد الحاصل بموافقة احتمال الاستحباب ويمنع من تحقق الداعي به، ليوجب انصراف النصوص عنه، كما في الحرمة.

ودعوى: أن قيام الحجة على الكراهة موجب للعلم بها تعبداً، فتنصرف نصوص المقام عنه.

غير ظاهرة، إذ لا منشأ للانصراف مع صدق البلوغ المثير للاحتمال والصالح للداعوية، وعليه يكون المقام من تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى الحجة مع الاحتياط، بناءً على أن مفاد نصوص المقام الإرشاد، ومن تعارض

ص: 181

الحجتين الموجب لتساقطهما، بناءً على أن مفادها حجية الخبر الدال على الثواب.

وأما بناءً على أن مفادها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب فيكون المقام من تزاحم الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي - الذي هو مؤدى الحجة - مع الحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي - الذي هو مؤدى نصوص المقام - الذي هو من موارد التزاحم، نظير ما إذا دعا المؤمن أخاه إلى طعام مكروه.

نعم، لو فرض صدق البلوغ على الحجة القائمة على الكراهة كان من تزاحم الحكمين الثانويين، فلو فرض عدم المرجح لأحدهما تعين الرجوع للحكم الأولي الذي هو مؤدى الحجة، وهو الكراهة. فلاحظ.

وأما مع عدم تنجز احتمال الحرمة أو عدم قيام الحجة على الكراهة، فإن كان احتمال الحرمة أو الكراهة مجرداً عما يصدق معه بلوغ الثواب فالظاهر شمول النصوص وترتب مضمونها أيضاً، كما عن شيخنا الأعظم قدس سرة في رسالته في المقام، لإطلاق النصوص المذكورة حتى ما تضمن منها التقييد بطلب قول النبي (ص) وتحصيل الثواب، لأن الاحتمال المذكور لا ينافي ذلك.

وحينئذٍ فإن قلنا بورود هذه النصوص للإرشاد لحسن الانقياد كان المقام من تزاحم الاحتياطين.

كما أنه لو قيل بدلالتها على حجية الخبر المتضمن للثواب يكون من تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى الخبر مع الانقياد بالاحتياط في احتمال الحرمة أو الكراهة، لأن حجية الخبر في الرجحان وترتب الثواب لا يمنع من تحقق الانقياد بلحاظ احتمال الحرمة. لحسن الاحتياط مع الاحتمال

ص: 182

مطلقاً حتى مع قيام الحجة على عدم التكليف في مورده. بل ذكرنا أن حجية الخبر المتضمن للثواب - لو قيل بها - تختص بحيثية الرجحان المستلزم للثواب، لا في تمام مدلوله بنحوٍٍ ينهض بنفي احتمال الحرمة والكراهة في المقام، فيكون المؤمّن من الحرمة هو الأصل، لا الخبر المتضمن للثواب وإن فرض كونه حجة بمقتضى هذه النصوص.

وأما بناءً على دلالتها على استحباب الفعل الذي دل الخبر على ترتب الثواب عليه فيكون الاستحباب الثانوي الثابت للفعل بعنوان البلوغ محتمل المزاحمة للحرمة والكراهة المحتملين، نظير ما إذا دعا المؤمن أخاه إلى طعام محتمل الحرمة أو الكراهة غير المنجزتين.

وإن كان احتمال الحرمة أو الكراهة مشفوعاً بخبر يصدق معه بلوغ الثواب - بناء على ما سبق من شمول نصوص المقام لما دل على الحرمة أو الكراهة - كان المقام من تزاحم الاحتياطين، أو الاستحبابين الثانويين، أو تعارض الحجتين على الكلام في مفاد نصوص المقام، كما لعله ظاهر.

خامسها: لابد من عدم قصور الدلالة

خامسها: أن قصور سند الخبر لا يمنع من عموم النصوص له - كما تقدم - بخلاف قصور دلالته، لعدم صدق البلوغ والسماع معه، وإن تحقق معه الاحتمال الصالح لإحداث الداعي للعمل.

أما لو انعقد ظهور الخبر في ترتب الثواب، إلا أنه عُورِض بما هو أقوى دلالة، بحيث يكون قرينة عرفية على صرفه عن ظاهره - كما في العام والخاص، والحاكم والمحكوم - فالظاهر أنه لا يوجب قصور النصوص عنه، لصدق البلوغ معه، وليس قصوره عن الحجية في غير المقام إلا كقصور السند لا يوجب الخروج عن موضوع النصوص، إلا أن يفرض كونه موجباً

ص: 183

للعلم بذلك أو الاطمئنان بكذب الظاهر بنحوٍ لا يصلح لإحداث الداعي نظير ما تقدم في الأمر الثالث.

نعم، بناءً على أن مفاد نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب يكون المقام من تعارض الحجتين.

وكذا الحال لو فرض التعارض بين المثبت للثواب والنافي له من دون ترجيح يقتضي الجمع العرفي. فلاحظ.

سادسها: الكلام في اختصاص النصوص بما تضمن للحكم الشرعي

سادسها: أنه ربما نسب للمشهور اختصاص نصوص المقام بالإخبار عن الحكم الشرعي الكلي، دون الموضوع الخارجي، مثل ما ورد عنهم عليهم السلام من تعيين بعض المساجد والمراقد ونحوها مما يترتب عليها أحكام شرعية جزئية تستلزم الثواب.

وهو الذي أصر عليه بعض مشايخنا، بدعوى انصراف النصوص إلى ما يكون بيانه من وظيفة الشارع، وهو الكبريات الشرعية.

وفيه: أنه لم يتضح المنشأ في الانصراف المدعى، لأن وظيفة النبي (ص) والأئمة عليهم السلام لا تختص ببيان الأحكام الكلية، بل تعم بيان موضوعاتها الخفية، وإن لم يكونوا ببيانها مشرعين، وأخذ خصوصية التشريع في نصوص المقام لا شاهد له.

نعم، مقتضى ذلك شمول النصوص للاخبار بالموضوعات وإن لم يستند للنبي (ص) والأئمة عليهم السلام كأخبار المؤرخين ونحوهم.

اللهم إلا أن يقال أكثر نصوص المقام مختص بالأخبار عن النبي (ص) للتقييد فيها بذلك، والمطلق منها وإن كان بعضه معتبراً سنداً كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع): «قال: من سمع شيئاً من الثواب على

ص: 184

شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه»(1)، إلا أن من القريب حمله على النصوص المقيدة وإن لم يكن بينها تناف، لارتكاز أن منشأ الحكم في نصوص المقام هو الاهتمام بسنة النبي (ص) والاحتياط فيها بمتابعة الاحتمال، فلا يشمل الأخبار عن غيره.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لقرب أن يكون منشأ الحكم المذكور هو الاهتمام بالواقع، والحث على الانقياد فيه، فيعم الاخبار الذي لا ينتهي إليه (ص)، عملاً بإطلاق النصوص المذكورة.

سابعها: أدلة التسامح في القصص والمواعظ

سابعها: قال الآشتياني قدس سرة في حاشيته على الرسائل: «ذكر غير واحد أنه كما يتسامح في السنن يتسامح في القصص والمواعظ والفضائل. بل استظهر مما عرفت عن الشهيد قدس سرة في الذكرى أن أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، كونه مسلماً عن القائلين بالتسامح، وعن ثاني الشهيدين في الدراية التصريح به، حيث قال: جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام. وهو حسن حيث لم يبلغ الضعف حد الوضع والاختلاق».

أقول: لا يبعد أن يكون المراد بالتسامح فيها هو التسامح في نقلها من دون نسبتها إلى الرواية، فلا يتقيد بثبوتها بطرق معتبرة، كما عليه ديدن الوعاظ وخطباء المنبر الحسيني في عصورنا هذه.

ولكن الوجه فيه غير ظاهر مع ما هو المفروغ عنه ظاهراً من حرمة الإخبار من دون علم.

وأما الاستدلال عليه بنصوص المقام - كما يظهر من الآشتياني -

ص: 185


1- الوسائل ج 1، باب: 8 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 6.

بتقريب: أن الإخبار بها إخبار عن ترتب الثواب على نقلها، بضميمة استحباب نقل ما هو الحق منها، لما فيه من حفظ الحق وإشاعته وترويجه وتأييده.

ففيه: - مع ابتنائه على شمول النصوص للإخبار عن الموضوعات الخارجية التي يترتب الثواب عليها. واختصاصه بما يستحب حفظه وإشاعته وتدوينه لو كان حقاً، كفضائل أهل البيت عليهم السلام ومصائبهم ومخازي أعدائهم ونحوها، دون مطلق القصص والفضائل - أن نصوص المقام - كما تقدم في الأمر الرابع - لا تشمل مورد تنجز احتمال الحرمة، كما في المقام، لما عرفت من عموم حرمة الإخبار من دون علم.

ومثله في الضعف ما عن النراقي قدس سرة من الاستدلال بما دل على رجحان الإبكاء على أهل البيت عليهم السلام وترتب الثواب عليه.

لاندفاعه: بأنه مختص بما إذا كان السبب مباحاً في نفسه، وإلا لم يصلح الرجحان لمزاحمة حرمة السبب.

والذي ينبغي أن يقال: ذكر الأمور المذكورة ونحوها إن كان مبنياً على الإخبار بها والتعهد بوقوع مضمونها على كل حال فالظاهر أنه لا مجال له حتى مع قيام الطريق المعتبر عليها، لعدم وضوح جواز الاعتماد على الحجة في الحكاية عن الواقع، ودليل الحجية منصرف إلى مقام العمل بمؤداها، لا الإخبار به ونحوه مما هو من شؤون العلم به.

وإن كان مبنياً على الإخبار بها من حيث قيام الطريق عليها، بأن يكون راجعاً لباً إلى بيان مؤدى الطريق وإن لم يصرح به، لانصراف مقام الإخبار إليه وقصده ضمناً، فهو تابع لعموم الطريق المفروض وخصوصه، فإن اختص بالطريق المعتبر لم يجز التعدي عنه، كما هو الحال في أخبار المفتي

ص: 186

بالأحكام الشرعية، وإن عم مطلق النقل لم وإن لم يكن معتبراً جاز الإخبار اعتماداً عليه، ولا يلزم الكذب المحرم، كما لعله الظاهر من حال الخطباء والوعاظ والقصاصين.

هذا، ولو كان المراد بالتسامح في الأمور المذكورة نقلها مع التصريح بنسبتها إلى الرواية التي اطلع عليها الناقل فلا ينبغي الإشكال في جوازه حتى مع العلم بالاختلاق، وحتى في صفات الله تعالى، وأحكام الحلال والحرام، ولا وجه لاستثنائهما في كلام الشهيد الثاني المتقدم.

كما أنه لو أريد بالتسامح فيها ترتيب الآثار الاعتقادية عليها، كاعتقاد تقديم من وردت الرواية بثبوت بعض الفضائل له، كما قد يظهر من بعض العامة، فهو غير جائز حتى مع قيام الطريق المعتبر، لما أشرنا إليه آنفاً من انصراف دليل الحجية إلى مقام العمل بالحجة، دون مثل الاخبار والاعتقاد، ولعله إليه يرجع ما اشتهر بينهم من عدم جواز الاعتماد على الظن في أصول الدين.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في النصوص المتقدمة التي استدل بها لقاعدة التسامح في أدلة السنن. وإن بقيت بعض الأمور غير المهمة لا مجال لإطالة الكلام فيها، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق، وهو أرحم الراحمين.

الأمر الرابع: منافاة الاحتياط لنية الوجه

الأمر الرابع: لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلابد فيه من تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل المحتمل ورود التكليف عليه.

وهو واضح في الأمور التوصلية.

وأما في العبادات فقد يستشكل فيه بتوقفها على قصد امتثال الأمر

ص: 187

المتوقف على إحراز الأمر، فمع فرض عدم إحرازه يتعذر الاحتياط، لتعذر الفعل الذي يحتمل التكليف به بتعذر شرطه.

بل لو فرض إحراز الأمر وتردده بين الوجوب والندب فقد يشكل الاحتياط بتعذر نية الوجه التي قيل باعتبارها في العبادات.

وإن كان الظاهر اندفاعه بعدم الدليل على اعتبارها، بل قيام الدليل على عدمه، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع.

بل لعله مورد اتفاق بينهم في فرض تعذر قصد الوجه لتعذر الاطلاع على حال الأمر. فالعمدة الإشكال من الجهة الأولى.

وقد يدفع: بأنه يمكن قصد الأمر الوارد عليها من قبل أوامر الشارع بالاحتياط، ويتحقق بذلك الشرط المقوم لعبادية العبادة.

لكن قد يستشكل فيه بوجهين..

الأول: أن أوامر الشارع بالاحتياط ليست عبادية، بل توصلية - وإن كان الأمر المحتاط فيه قد يكون عبادياً - فلا تجعل متعلقها عبادياً، بل لابد في عباديته من قصد أمر آخر وارد عليه.

ودعوى: أن الأمر بالاحتياط في العبادات تعبدي وفي غيرها توصلي، كالأمر بالوفاء بالنذر.

مدفوعة: بأنه لا وجه للتفكيك المذكور مع وحدة الدليل لا في الاحتياط، ولا في الوفاء بالنذر ونحوه، بل الظاهر أن الأوامر المذكورة توصلية لا غير، واعتبار التقرب فيما لو كان المنذور عبادة ليس من جهة أمر النذر، بل من جهة الأمر الأولي وإن تأكد بالأمر النذري، ولذا يكون التقرب بقصده.

ص: 188

ولو فرض قصد الأمر النذري أيضاً كان من باب داعي الداعي.

وفيه: أن أوامر الاحتياط وإن كانت توصلية، إلا أنها قابلة لأن يتقرب بها وتصير منشأ للعبادية، لوضوح أن الأمر التوصلي ليس إلا ما لا يعتبر في امتثاله قصد التقرب به، لا أنه غير قابل لان يتقرب به، بل ترتب الثواب على امتثاله موقوف على قصد التقرب به، فلا مانع من صيرورته منشأ لعبادية الفعل التي فرض أن تحقق المأمور به المحتمل وتحصيل ملاكه موقوف عليها، ولزوم التقرب بالأمر المذكور ليس لخصوصية فيه، لينافي فرض كونه توصلياً، بل لخصوصية في متعلقه في المقام، فالتقرب به لتحصيل المتعلق الذي لابد منه في الأمر التوصلي.

الثاني: أن ما يحتمل الأمر به لما كان هو العبادة، فلابد في صدق الاحتياط عليه ودخوله في أوامره من فرض تحقق التقرب فيه في مرتبة سابقة، إذ ما لم يكن كذلك لا يكون احتياطا، كي تشمله أدلته، فلا تكون أوامر الاحتياط هي الموجبة لعباديته وصدق الاحتياط عليه.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن أوامر الاحتياط تتعلق بذات الفعل العبادي دون نية القربة، فإذا تعلقت به كان للمكلف قصد امتثالها به، وتكون عبادية الفعل مسببة عنها.

لا مجال له بعد وضوح أن الاحتياط لا يكون إلا بتحقيق المأمور به الواقعي وسقوط أمره بتحصيل تمام ما هو الدخيل في غرضه، فإذا فرض أن متعلق الأمر المحتمل وموضوع الغرض هو العبادة المعتبر فيها التقرب، فلا مجال لصدق الاحتياط على الذات المجردة عن القيد المذكور.

وفيه: أن عنوان الاحتياط المأمور به وإن كان لا ينطبق في المقام على

ص: 189

الفعل بذاته، بل على خصوص المقيد بقصد التقرب منه، إلا أنه لا مانع من كون تحقق القيد المذكور خارجاً مبنياً على ورود الأمر بالاحتياط على الفعل وناشئاً منه، لأن ما هو السابق رتبة على الأمر ليس إلا أخذ قيود المأمور به فيه، لا تحقق القيود خارجاً، بل تحققها تابع للامتثال الخارجي المتأخر عن الأمر والمتفرع عليه.

وبعبارة أخرى: ما ينشأ من الأمر بالاحتياط ليس هو تقيد المأمور به بالعبادية، بل تحقق القيد المذكور خارجاً بعد أن كان متعذراً، لعدم إحراز الأمر، فغاية ما يلزم هو توقف القدرة على الاحتياط في المقام على الأمر به، ولا محذور فيه.

فالعمدة في الإشكال في الوجه المذكور أمران..

عدم كون أوامر الشارع مولوية

الأول: أن أوامر الشارع بالاحتياط - كما تقدم في الأمر الثاني - ليست مولوية، لتكون صالحة للمقربية، بل إرشادية بلحاظ حسن الاحتياط عقلاً، فلا تصلح للمقربية.

ودعوى: أن أوامر الاحتياط لما كانت شاملة للعبادات غير مختصة بالتوصليات، وكان الاحتياط في العبادات موقوفاً على إحراز الأمر، كانت كاشفة عن تعلق الأمر العبادي بها، ليكون الاحتياط فيها ممكناً.

مدفوعة: بأن عمومات الاحتياط إنما تقتضي الأمر به في ظرف القدرة عليه، ولا تنهض ببيان القدرة عليه، لتكون كاشفة عن الأمر بالوجه المذكور، فلا مانع من الالتزام بتعذر الاحتياط في العبادات المانع من فعلية الأمر به فيها، وإن كان شاملاً لها ذاتاً، كما هو الحال في سائر موارد تعذر المكلف به.

ص: 190

نعم، لو فرض العلم بمشروعية الاحتياط في العبادات تعين البناء على القدرة عليه فيها، إما باستكشاف الأمر بالوجه المذكور، أو بوجه آخر، كما سيأتي.

الثاني: أن الفراغ عن الأمر العبادي إنما يكون بقصده أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به، ولا يكون بقصد امتثال أمر آخر، فلا يفرغ المكلف عن أمر الزكاة إذا دفعها بداعي امتثال أمر إعانة المؤمن، لا بداعي امتثال أمرها، إلا أن يقصد إعانة المؤمن بنحو داعي الداعي، كما تقدم في النذر.

فلو سلم أن الأمر بالاحتياط مولوي أو كاشف عن أمر مولوي، إلا أن قصده لا يكفي في امتثال أمر العبادة الواقعي، ولا يكون امتثاله إلا بقصده، والمفروض أنه لا مجال لقصده مع عدم إحرازه.

نعم، لو فرض تقييد العبادة المأمور بها بالأمر الواقعي المحتمل بقصد الأمر بنحو الطبيعة الصادقة على كل أمر فرض اتجه كون شمول الأمر بالاحتياط أو غيره لها موجباً للقدرة عليه، وكفى قصده، فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو صدق بلوغ الثواب في بعض العبادات، لورود خبر غير معتبر باستحبابها، فإنه لا مجال لتصحيح الاحتياط فيها لأجل النصوص المتقدمة، بناء على ما تقدم من سوقها مساق أوامر الاحتياط للإرشاد إلى حسن الانقياد.

وكذا بناء على تضمنها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب، لمباينة الأمر المذكور للأمر الواقعي العبادي الذي لابد من قصد امتثاله في صحة الفعل العبادي الذي يراد الاحتياط فيه، فلا يكفي قصد الأمر الذي تضمنته

ص: 191

النصوص المذكورة، ولا يكون فعلاً للأمر الذي بلغ عليه الثواب.

نعم، بناء على تضمنها حجية الخبر المذكور أمكن قصد امتثال الأمر الواقعي الذي تضمنه للجزم به حينئذٍٍ من جهة الخبر، وخرج عن باب الاحتياط الذي نحن بصدده.

فالأولى في دفع شبهة تعذر الاحتياط في العبادات البناء على الاكتفاء في امتثال الأمر العبادي بالاندفاع عن الأمر المحتمل، ولا يتوقف امتثاله على قصده بنحو يستلزم العلم به، كما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع، فقد ذكرنا هناك الاجتزاء بالوجه المذكور مع إمكان العلم بالحال فضلاً عما لو كان متعذراً، فراجع.

الأمر الخامس: مع تعدد جهات الاحتياط

الأمر الخامس: إذا تعددت جهات الاحتياط، فإن اختار المكلف المحافظة على تمامها فهو، وإلا فالظاهر الترجيح بين الاحتياطين ارتكازاً بأحد أمرين:

الأول: أهمية التكليف المحتمل، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط فيه أولى.

الثاني: قوة احتمال التكليف، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى بالمراعاة.

ومنه يظهر الحال لو لزم من الاحتياط التام محذور مانع منه، كاختلال النظام، فإن المتعين حينئذٍ الاكتفاء بالتبعيض، والأولى ملاحظة المرجحين المذكورين.

وأما اختيار المكلف للاحتياط التام حتى إذا لزم المحذور ترك الاحتياط بالمرة، فإن لزم منه مخالفة المرجحين المذكورين كان مرجوحاً،

ص: 192

وإن لم يلزم منه مخالفتهما - بأن فرض تساوي جهات الاحتياط من حيث الأهمية، وقوة الاحتمال - فلا موجب لمرجوحيته.

وأما ما يظهر من بعض مشايخنا من أن الأولى اختيار التبعيض من أول الأمر والاستمرار عليه حينئذٍ، لما ورد عنهم عليهم السلام من أن القليل المدوم عليه خير من الكثير الذي لا يدوم(1).

ففيه: - مع أنه يبتني على كون الاحتياط مستحباً مولوياً - أنه لا يبعد ظهور النصوص المذكورة في أولوية القليل من الكثير الذي ينقطع ضجراً ويهمل مللاً، لا لأجل تعذره أو لزوم المحذور منه.

بل لعل استحباب التعجيل بالخير يقتضي أولوية الكثير حينئذٍ. فتأمل جيداً.

التنبيه الخامس: في حكم الشك في القدرة

التنبيه الخامس: في حكم الشك في القدرة.

تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية يتجه في الشبهات الموضوعية.

ويخرج عن ذلك ما لو كان الشك في التكليف للشك في قيده العقلي، وهو القدرة، فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط للتكليف، والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.

وربما يستدل عليه: - كما في بعض كلمات سيدنا الأعظم قدس سرة(2) - بعموم دليل التكليف، بناءً على أن العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان التخصيص لبياً، كالتخصيص مع التعذر في المقام.

ص: 193


1- الوسائل ج 1، باب: 21 من أبواب مقدمة العبادات، وحديث 10 باب 29 من الأبواب المذكورة.
2- راجع مستمسك العروة الوثقى في شرح المسألة السابعة والعشرين من فصل مسوغات التيمم.

وفيه: - مع عدم تمامية المبنى المذكور، واختصاصه بما إذا كان الخاص خفياً محتاجاً للبحث، لا في مثل المقام مما كان التخصيص من الوضوح بحدّ يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من ظهور العام في العموم، فتكون الشبهة فيه من طرف العام التي لا يكون العام فيها حجة بلا كلام - أن التخصيص بالقدرة وإن كان عقلياً، إلا أنه قد تظافرت به الأدلة اللفظية، كحديث الرفع المتضمن لرفع ما اضطروا إليه وما لا يطيقون وغيره. فتأمل.

فلا يبعد أن يكون الوجه فيه بناء العقلاء على لزوم الاحتياط فيه، نظير بنائهم على لزومه مع الشك في الفراغ، لأنه بعد فرض ثبوت الملاك فليس التعذر إلا من سنخ الأعذار والموانع التي لا يصح الاتكال عليها إلا بعد إحرازها، ولا يكتفى باحتمالها عندهم في قبح العقاب ورفع مسؤولية الخطاب.

ومنه يظهر الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية، لارتكاز ورودها على غرار ما عند العقلاء من قبح العقاب بلا بيانٍ وتأكيداً لذلك عملاً بتشريع البراءة، فتنصرف عن المورد المذكور الذي ليس بناؤهم على السعة فيه.

هذا، ولا يبعد جريان ذلك مع الشك في الأعذار الشرعية، كالحرج والضرر ونحوهما مما يظهر من أدلة عدم ارتفاع الملاك الأولي معه، وأن ارتفاع التكليف معه تخفيف من الشارع الأقدس، توسيعاً للقدرة المعتبرة، فيكون عذراً شرعياً كالتعذر الذي هو عذر عقلي، فلا يسوغ الاكتفاء باحتماله بحسب مرتكزات المتشرعة. فلاحظ.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الشك في أصل التكليف. وهناك

ص: 194

بعض الجهات التي قد يتضح حالها مما يأتي في بعض الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 195

ص: 196

الفصل الثاني: في الشك في تعيين التكليف مع وحدة المتعلق

اشارة

وهو مختص بالدوران بين وجوب شيء وحرمته الذي اشتهر في كلماتهم بالدوران بين المحذورين.

ويقع الكلام فيه في مقامين..

المقام الأول: في مقتضى الأصل العقلي

المقام الأول: في مقتضى الأصل العقلي الأولي مع قطع النظر عن الجعل الشرعي.

والظاهر حكم العقل في المقام بالسعة وعدم الحرج في كل من الفعل والترك، الراجع إلى عدم منجزية احتمال كل منهما وإن علم إجمالاً بثبوت أحدهما، لعدم الأثر للعلم المذكور بعد فرض تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين، ولزوم مخالفته وموافقته الاحتماليتين، فلا يصلح للمنجزية.

والظاهر أنه إليه يرجع ما قيل من جريان البراءة العقلية من كل من الحكمين، بمعنى قبح العقاب على كل من الأمرين، لأنه من غير بيان، بعد فرض المانع من منجزية العلم الإجمالي.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من منع جريان البراءة العقلية، لأن مدركها قبح العقاب بلا بيان الذي لا مجال له في المقام، للقطع بعدم العقاب

ص: 197

بعد فرض امتناع منجزية العلم الإجمالي، فلا يحتاج إلى حكم العقل بالقبح المذكور.

فهو مندفع: بأن عدم منجزية العلم الإجمالي إنما يقتضي القطع بعدم العقاب من جهته، أما عدم العقاب بلحاظ كل من الاحتمالين في نفسه، فهو كعدم العقاب في مورد الشك في التكليف لا مجال للقطع به لولا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أن امتناع خلو المكلف عن الفعل والترك واضطراره لأحدهما موجب لحصول الترخيص في رتبة سابقة على الترخيص الظاهري الناشئ من عدم البيان الذي هو مفاد البراءة العقلية.

لاندفاعه: بأن الاضطرار المذكور إنما يمنع من منجزية العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط في الاحتمالين معاً، ولا يلزم بالترخيص في كل من الأمرين، بل لا منشأ للترخيص في كل منهما إلا عدم البيان المفروض، لعدم صلوح كل من الاحتمالين له.

ودعوى: أن كلا من الاحتمالين وإن كان من صغريات عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية، إلا أن عدم منجزيته في المقام ليس بالملاك المذكور، بل لتعارضهما الموجب لاستحالة منجزيتهما معاً تعيينا لتعذر الاحتياط فيهما معا، ولا تخييراً للزوم اللغوية لامتناع خلو المكلف عن أحدهما، كما سيأتي، كما لا يمكن منجزية أحدهما بخصوصه، لعدم المرجح.

مدفوعة: بأن استلزام التعارض للمحذور المذكور موقوف على

ص: 198

كون كل منهما مما يقتضي في نفسه التنجيز والاحتياط وإذا كان كل من الاحتمالين في نفسه من صغريات عدم البيان لم يكن صالحاً لذلك بمقتضى البراءة العقلية مع قطع النظر عن التعارض وفي رتبة سابقة عليه، فالوجه المذكور لا ينافي جريان البراءة العقلية بالإضافة إلى كل من الاحتمالين، وإنما ينهض ببيان عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام. فلاحظ.

اللهم إلا أن يكون مراده قدس سرة الإشارة إلى ما يأتي في مسألة الاضطرار إلى بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي من احتمال كونه موجباً لسقوط التكليف المعلوم بالإجمال ثبوتاً، لا لسقوط العلم الإجمالي عن تنجيزه مع فعليته واقعا، إذ بناء على ذلك لا مجال للرجوع للبراءة بملاك عدم البيان، لأنه فرع احتمال التكليف الفعلي، كما لا يخفى.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى. ولو تم هناك فلا مجال له هنا، لأن المفروض هناك إمكان الموافقة القطعية، وإلزام العقل بها، وانحصار رفع الاضطرار برفع الشارع للتكليف الواقعي الذي هو المنشأ لإلزام العقل بالموافقة القطعية. أما هنا فحيث لا يلزم العقل بالموافقة القطعية لتعذرها لا ملزم للشارع برفع التكليف الواقعي، بل يتعين بقاؤه، المستلزم لاحتمال التكليف الواقعي في كل من الطرفين. ومن هنا لا رافع لموضوع البراءة في كل منهما، على أن حمل كلامه قدس سرة على ذلك بعيد، لظهوره في إرادة الترخيص العقلي بملاك الاضطرار، لا الترخيص الشرعي الراجع إلى عدم فعلية التكليف. فراجع وتأمل.

وأما ما يقال من أن المرجع في المقام هو التخيير، فإن أُريد به إلزام العقل بأحدهما تخييراً، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري،

ص: 199

والتخيير بين المتزاحمين، فضعفه ظاهر، لعدم الأثر للإلزام المذكور بعد فرض امتناع خلو المكلف عن أحد طرفي التخيير، كما لا يخفى.

ومن ثم لا مجال للتخيير في مثل ذلك حتى مع فرض تزاحم التكليفين - الذي لا ريب أن مقتضى الأصل فيه التخيير - كما لو فرض انطباق عنوان واجب وآخر محرم على كل من الفعل والترك.

وإن أُريد به مجرد عدم الحرج في كل من الفعل والترك، المستلزم لاختيار المكلف لأحدهما بعد فرض، امتناع خلوّه منهما، لعدم الداعي العقلي لأحد الطرفين بخصوصه، نظير تخييره مع الإباحة الواقعية، فهو راجع إلى ما ذكرناه، وعرفت وجهه. ولا يبعد كون ذلك هو مراد القائلين بالتخيير.

هذا، وربما يدعى أن مقتضى الأصل العقلي الأولي، هو مراعاة احتمال الحرمة دون الوجوب، لأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، لما قيل من أن الوجوب ناشئ عن المصلحة، والحرمة ناشئة عن المفسدة.

وفيه.. أولاً: أن الوجوب لما كان ناشئاً عن المصلحة الملزمة كان فوتها ملازماً للمفسدة أو من سنخها، قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله في ما قبل الفوت عليه لا يصلح وجهاً لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حداً يكون في فواته مفسدة...».

وعليه لابد من توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي للمفاسد بعد اشتراكها في الحفاظ على المقدار اللازم، بأن الواجب ما يكون له دخل في تحقق المرتبة اللازمة من الكمال، أو في حفظها، والحرام

ص: 200

ما يكون له دخل في منع تحقق المرتبة المذكورة، أو رفعها، فمثلاً لو فرض أن مرتبة من نشاط المزاج لازمة الحفظ، فالواجب ما كان محققاً لها من دواء أو مبقياً لها من غذاء، والحرام ما كان مانعاً منها أو رافعاً لها.

وما لا دخل له في المرتبة المذكورة، بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة عليها يكون مستحباً أو مكروهاً.

ولا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بالمصلحة في القاعدة المشار إليها، حيث لا ريب في عدم نهوضه مهما كان مهماً بمزاحمة المرتبة اللازمة المذكورة.

وعليه ترجع القاعدة إلى ترجيح التكاليف الإلزامية على غيرها، لا ترجيح التحريم على الوجوب.

وثانياً: أن القاعدة المذكورة لو تمت فهي من القواعد الواقعية الراجعة إلى ترجيح دفع المفسدة على تحصيل المصلحة في فرض التزاحم بينهما، وليست من القواعد الظاهرية الراجعة إلى تقديم احتمال المفسدة على احتمال المصلحة عند الدوران بينهما، لتنفع في ما نحن فيه، لما هو المرتكز من أن منشأ الأولوية أهمية المفسدة من المصلحة، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما تقتضي ترجيح الأهم عند التزاحم، لا تقديم احتماله على احتمال المهم في ظرف الدوران بينهما.

بل لما كان في احتماله زيادة كلفة لم يبعد جريان الأصل لنفيها، كما هو المناسب لجريان الأصل في نفيه من رأس لو لم يعارض باحتمال تكليف آخر، كما في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب، كما نبه له بعض مشايخنا.

ص: 201

نعم، لو كان ملاك الترجيح راجعاً للمكلف من حيث أن دفعه للضرر عن نفسه أولى من جلب النفع له فهو ينفع في المقام، لوضوح أن أهمية دفع الضرر من جلب النفع كما تقتضي ترجيح الأول عند التزاحم تقتضي الاحتياط فيه عند الدوران بينه وبين النفع، بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل.

لكنه موقوف على كون احتمال الحرمة مستلزماً لاحتمال الضرر بنحو يقتضي تنجيزه، وهو لو تم يقتضي الاحتياط في الشبهة البدوية، ولا مجال له، كما يتضح بمراجعة ما تقدم منا في الفصل السادس من مباحث التعبد بغير العلم.

المقام الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي

المقام الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي.

ربما يدعى أن مقتضى الأصل الشرعي الإباحة، لعموم أدلتها.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالإباحة ما هو أحد الأحكام الخمسة، أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية كما يظهر من المحقق الخراساني، فلا مجال للبناء عليه، لامتناع التعبد ظاهراً بما يعلم بعدم ثبوته واقعاً، بل لابد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.

مع أنه لا دليل على الأصل المذكور في غير المقام من موارد الشك في أصل التكليف، لأن حديث الرفع والسعة والاطلاق ونحوها ظاهرة في رفع الحرج وجعل السعة من حيث احتمال التكليف، من دون أن تقتضي التعبد بالحل بأحد المعنيين المذكورين.

وأما مثل قوله (ع): «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو وإن كان ظاهراً في التعبد بالحل، إلا أنه - مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية، كما تقدم - ظاهر في إرادة الحل بالمعنى المقابل للحرمة

ص: 202

المتقوم بالترخيص والإذن، فيعم الوجوب ولا يضاده، كما يناسبه المقابلة بين الحل والحرمة وظهور كون القضية ارتكازية، لبيان عدم صلوح احتمال الحرمة للتنجيز، والبناء على المعنى المذكور في المقام لا بأس به، كما يصح البناء عليه أيضاً في الترك الملازم لعدم الوجوب، فيبنى على جواز كل من الفعل والترك، وهو يطابق الإباحة بالمعنى الثاني عملاً.

هذا، وأما الاشكال في الإباحة ظاهراً من جهة المخالفة الالتزامية.

فلا يهم في المقام، لأن الالتزام بالأحكام، إنما يجب تبعاً لوجوب الالتزام بالشريعة والانقياد لها، وهو إنما يقتضي الالتزام بها على حسب وصولها، فإذا فرض وصولها إجمالاً كفى الالتزام بها كذلك، وهو لا ينافي التعبد بالإباحة ظاهراً في مقام العمل لو فرض إمكان جعلها.

نعم، لو أريد الالتزام بها على أنها الحكم الواقعي اتجه المنع عنه، كما يتجه المنع عنه مع دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب، لأن أصالة الحل وإن كانت جارية حينئذٍ بلا كلام إلا أنها إنما تقتضي الالتزام بالحل على أنه الحكم الظاهري العملي، لا الحكم الواقعي المجعول على الموضوع بعنوانه الأولي.

بل لا يجوز ذلك حتى في مؤديات الحجج، لأنه قول بغير علم وتشريع محرم، كما أشرنا إليه عند الكلام في أصالة عدم الحجية.

وإن كان المراد بالإباحة مجرد البراءة الشرعية من التكليفين المعلومين بالإجمال، الراجع إلى جعل السعة ورفع الحرج شرعاً فهو في محله، لتحقق موضوعها - وهو الشك - بالإضافة إلى كل منهما، والعلم الإجمالي بثبوت أحدهما لا يكون مانعاً من جريانها بعد عدم صلوحه للتنجيز.

ص: 203

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة في منع جريان البراءة الشرعية من أن إمكان رفع الحكم شرعاً فرع إمكان وضعه، وحيث امتنع جعل الحكمين تعييناً أو تخييراً - لما تقدم - امتنع رفعهما بمقتضى البراءة.

ففيه: أنه يكفي في تصحيح رفعهما معاً إمكان وضع أحدهما، حيث لا إشكال في سلطان الشارع عليه، ولا يعتبر إمكان وضعهما معاً، لأن نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية.

ومن هنا أمكن للشارع رفع الحكمين واقعاً بجعل الإباحة الواقعية، مع تعذر جعلهما معاً واقعاً تعييناً أو تخييراً.

مع أنه لو تم مختص بما إذا ادعي رفع كلا الحكمين بتطبيق واحد، أما لو ادعي رفع كل منهما بتطبيق خاص، لتمامية موضوع البراءة وهو الشك من حيثيته، فلا إشكال، لأن ما يرفع بكل من التطبيقين حكم واحد قابل للوضع بإيجاب الاحتياط فيه، كما لعله ظاهر.

ومثله في الإشكال ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من اختصاص جريان البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان، لرجوعه إلى ما تقدم منه في منع جريان البراءة العقلية، وتقدم دفعه.

هذا، وقد أشار شيخنا الأعظم قدس سرة إلى القول بوجوب مراعاة احتمال الحرمة شرعاً، لبعض الوجوه الظاهرة الوهن كما يظهر بملاحظة كلامه قدس سرة.

نعم، قد يقال: الوجوه المذكورة ونحوها وإن لم تنهض بإثبات ترجيح احتمال الحرمة شرعاً، إلا أنها تكفي في احتمال ذلك، وهو مانع من الرجوع فيه للبراءة. لكون المقام من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.

ص: 204

وفيه: - بعد تسليم الرجوع لأصالة تعيين في الشك المذكور - أنه مختص بما إذا كان هناك تكليف شرعي مردد بين الوجهين، ولا يجري في مثل المقام مما كان التخيير فيه راجعاً إلى مجرد رفع الحرج في كل من الطرفين من دون أن يستتبع خطاباً تخييرياً بهما، لرجوع الشك حينئذٍ إلى الشك في جعل الشارع لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى احتمال الحرمة، والمرجع فيه البراءة العقلية وعموم أدلة البراءة الشرعية، ومن ثم كان الاحتياط الذي ادعاه الإخباريون محتاجاً إلى دليل.

هذا كله لو أريد احتمال ترجيحه شرعاً، وأما لو أريد احتمال ترجيحه عقلاً، فهو مندفع باستحالة تردد الحاكم في حكمه. ومن ثم لم نتعرض لذلك في المقام الأول.

ثم إنه قد يدعى لزوم ترجيح احتمال الحرمة لاحتمال أهمية الحرمة من الوجوب ثبوتاً بلحاظ ما سبق من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ونحوه مما لو لم يوجب اليقين بأهمية الحرمة فلا أقل من كونه موجباً لاحتمالها.

وهو مبني على مرجحية احتمال أهمية أحد التكليفين في المقام، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن كلا من الاحتمالين في نفسه مورد للبراءة العقلية والشرعية بعد عدم صلوح العلم الإجمالي للمنع عن الرجوع إليهما.

هذا، وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في

ص: 205

أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

ينبغي التنبيه على أمور

وينبغي التنبيه على أمور..

الأول: عدم جريان البراءة مع وجود المنجز

الأول: أن الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من الاحتمالين في نفسه، فلو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما، لوجود المنجز المانع من جريانها فلا ريب في لزوم متابعة المنجز المذكور عملاً بدليله.

والرجوع في الاحتمال الثاني للبراءة لعموم دليلها، سواء كان المنجز دليلاً اجتهادياً أم أصلاً إحرازياً - كالاستصحاب - أو غيره، كالاحتياط الواجب عقلاً بمقتضى العلم الإجمالي أو غيره، أو شرعاً في موارد انقلاب الأصل التي سبقت الإشارة إليها أو غيرها.

ولعله لذا حكى شيخنا الأعظم قدس سرة عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط في المقام، إذ لا يبعد ابتناؤه على ما عليه الأخباريون من دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية دون الوجوبية المقتضي للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام.

أما لو كان المراد به الاحتياط من جميع الجهات فلا مجال له مع فرض الدوران بين محذورين.

هذا، وقد استشكل شيخنا الأعظم قدس سرة في الاستدلال لترجيح احتمال الحرمة بأخبار التوقف عن الشبهة بأنها ظاهرة في ما لا يحتمل الضرر بتركه، فلا يشمل ما لو احتمل الوجوب، كما في المقام.

وهو - لو تم - لا ينافي ما ذكرنا لرجوعه إلى قصور أدلة الاحتياط التي

ص: 206

استند إليها الإخباريون عن شمول المقام، والكلام إنما هو بعد فرض لزومه في نفسه على أنه غير تام، على مسلك الإخباريين، لأن احتمال الوجوب مورد لأدلة السعة المؤمنة اتفاقاً، فلا يحتمل من جهته الضرر، لتنصرف عنه أخبار الاحتياط المنجزة لاحتمال الحرمة عند الإخباريين.

إلا أن يدعى قصورها عن شمول صورة احتمال الوجوب مع احتمال الحرمة، لا من جهة ملازمته للضرر.

لكنه غير ظاهر بعد فرض كونها واردة لتنجيز احتمال الحرمة لخصوصيته تعبداً.

وأما على مسلكنا من ورود الأخبار المذكورة للإرشاد إلى اجتناب الشبهات المنجزة في أنفسها دفعاً للضرر المحتمل فالأولى الجواب بقصورها عن شمول المقام لعدم منجزية كل من الاحتمالين في نفسه.

نعم، لو فرض منجزيتهما كما في مورد التقصير في الفحص تم ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من عدم شمولها للمقام، للوجه الذي ذكره. فتأمل جيداً.

الثاني: مع احتمال أهمية أحد التكليفين

الثاني: لو فرض احتمال أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الأمر بينهما فظاهر المحقق الخراساني قدس سرة لزوم ترجيحه، وربما يحمل كلامه على قياسه بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم بين التكليفين.

وعن بعض الأعاظم في قدس سرة عدم صحة القياس المذكور، وهو الذي صرح به غير واحد من مشايخنا.

والوجه فيه: أن احتمال أهمية التكليف في باب التزاحم، مستلزم للعلم بثبوته ملاكاً والشك في سقوطه خطاباً بالمزاحمة، والمرجع فيه الاحتياط،

ص: 207

ولا يرفع اليد عنه بالتكليف الآخر، للعلم بسقوطه خطاباً بالمزاحمة بالمساوي أو الأهم.

أما في المقام فالشك في أصل وجود الأهم ملاكاً وخطاباً، والمرجع فيه البراءة، كما يرجع إليها لو شك فيه بدواً من دون علم بثبوت أحد التكليفين.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا ملزم بالترجيح مع العلم بأهمية أحد التكليفين المحتملين في نفسه ثبوتاً، إذ العلم بأهميته لا ينفع مع الشك في أصل وجوده، كما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة عقلاً.

نعم، لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بجعل الاحتياط وانقلاب الأصل اتجه الترجيح بها، لما تقدم في التنبيه الأول.

كما أنه لا مجال لتوهم ترجيح الأهم أو محتمل الأهمية، لأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير، لما تقدم عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة شرعاً من خروج المقام عن ذلك.

الثالث: الكلام في مرجحية الظن وعدمه

الثالث: هل يكون الظن في المقام مرجحاً يلزم اتباعه، أو لا بل يبقى التخيير بحاله؟

مقتضى ما ذكروه في دليل الانسداد هو ترجيح الظن لو تمت مقدماته في المقام، وحيث كان من أهمها امتناع الإهمال بعد فرض تعذر معرفة الحكم تفصيلاً فاللازم النظر في منشأ امتناع الإهمال.

فإن كان هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، لعدم سقوطه عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام كان لازمه عدم جواز الإهمال في المقام، والتنزل للظن بعد تعذر العلم بالامتثال لأقربيته.

ص: 208

وإن كان هو العلم باهتمام الشارع بالأحكام لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام، لما في الإهمال حينئذٍ من الخروج عن الدين بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به، فلا مجال له في المقام، لقلة الأحكام المجهولة بالنحو المذكور، فلا يلزم من إهمالها محذور الخروج عن الدين، ولاسيما مع تعذر المخالفة القطعية في المقام.

هذا، وحيث تقدم عدم نهوض مقدمات الانسداد بتعيين الظن إلا في مورد تعلق غرض المكلف بحفظ التكليف الواقعي، لتنجزه على كل حال، بحيث يكون فوته موجباً لاستحقاق العقاب ولو مع تعذر تحصيله، اختص الرجوع إليه في المقام بذلك، كما لو كان اشتباه الحال بسبب تقصيره في الفحص اللازم عليه.

أما في غير ذلك فلا دليل على لزوم مراعاة الظن، بل مقتضى ما عرفت من عموم أدلة البراءة العقلية والشرعية عدمه.

ثم إنه لو فرض لزوم مراعاة الظن بالتكليف فالمراد به الظن بتعيين المعلوم بالاجمال بأحد الطرفين.

لتكون متابعته امتثالاً ظنياً للمعلوم بالإجمال، لا الظن بثبوت التكليف في أحد الطرفين من غير جهة العلم الإجمالي، كما لو تردد متعلق اليمين بين دخول المسجد وعدمه من دون ظن بأحد الأمرين، وظن بوجوب الدخول لإزالة النجاسة المظنونة الوجود فيه، فإن متابعة الظن في المقام حيث لا تستلزم الظن بالخروج عن التكليف المنجز بالعلم الإجمالي لم ينهض العلم الإجمالي بالإلزام بها، وكان الظن المذكور كسائر موارد الظن البدوي بالتكليف غير منجز لمورده.

ص: 209

الرابع: لو تعددت الوقائع مع الدوران بين محذورين

الرابع: لو تعددت الوقائع مع الدوران في كل واقعة بين المحذورين فهل يكون التخيير استمرارياً وفي كل واقعة، بحيث يجوز المخالفة بين الوقائع في العمل وإن استلزم المخالفة القطعية الإجمالية فيها، أو ابتدائياً وفي خصوص الواقعة الأولى مع لزوم العمل في بقية الوقائع على طبقها حذراً من لزوم المخالفة القطعية؟.

صرح شيخنا الأعظم قدس سرة هنا بالأول، لعدم الدليل على حرمة المخالفة القطعية في المقام، ووافقه على ذلك غير واحد من أعيان من تأخر عنه، على اختلاف مسالكهم في الاستدلال عليه.

فقد ذكر بعض الأعاظم في وجه ذلك أن المخالفة القطعية ليست محرمة شرعاً، بل قبيحة عقلاً، وحكم العقل بقبحها فرع تنجز التكليف، والمفروض أنه لا منجز له في المقام، لعدم صلوح العلم الإجمالي في كل واقعة للمنجزية، لا بلحاظ الموافقة القطعية، لتعذرها، ولا بلحاظ الموافقة الاحتمالية، للزومها، ولا وجه لضم بعض الوقائع إلى بعض، كي يدعى تنجز العلم الإجمالي فيها بلحاظ المخالفة القطعية في بعضها إجمالاً.

وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا: بأن العلم الإجمالي في كل من الواقعتين وإن لم يكن منجزاً إلا أنه يتولد منهما علم إجمالي آخر لا مانع من تنجيزه بنحو يمنع من المخالفة القطعية، مثلاً لو دار الأمر بين وجوب الدخول للمسجد وحرمته في كل جمعة من الشهر فالعلم الإجمالي المذكور الحاصل في كل جمعة يتولد منه علوم إجمالية أخر، حيث يعلم إجمالاً مثلاً بحرمة الدخول في الجمعة الأولى أو وجوبه في الثانية، وبوجوبه في الأولى أو حرمته في الثانية.

ص: 210

والعلم المذكور وإن امتنعت موافقته القطعية، إلا أنه يمكن موافقته الاحتمالية بالفعل في الجمعتين معاً أو الترك فيهما معا، فلا وجه لسقوطه عن التنجيز بالكلية بنحو تجوز مخالفته القطعية بالمخالفة بين الجمعتين في العمل.

لكن لا يخفى أن ما ذكره وإن رجع إلى القدرة على المخالفة القطعية لأحد العلمين المتولدين، إلا أن من الظاهر أن المخالفة القطعية المذكورة مستلزمة للموافقة القطعية للعلم الآخر منهما، ففي المقام علمان إجماليان يتمكن من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية لكل منهما، إلا أن موافقته أحدهما تستلزم مخالفة الآخر، وحيث كان كل منهما مقتضياً للموافقة ومانعاً من المخالفة، كانا متزاحمين في تمام مقتضاهما وسقطاً عن التأثير بالإضافة إلى كل من الأمرين، وليس الجمع بينهما بالتنزل للموافقة الاحتمالية في كل منهما بأولى من موافقة أحدهما في تمام مقتضاه وإهمال الآخر في تمام مقتضاه.

وبعبارة أخرى: إن العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا يصلح للتنجيز، لامتناع موافقته ومخالفته القطعيتين، وكذا العلم الإجمالي المتولد منه، لأنه وإن أمكنت موافقته ومخالفته القطعيتان إلا أنه من مزاحم بمثله.

والحاصل: أن التخيير الابتدائي سالم عن محذور المخالفة القطعية، إلا أنه خال عن الموافقة القطعية أيضاً، والتخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الإجمالية المتولدة في المقام، إلا أنه يستلزم الموافقة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم

ص: 211

الإجمالية المتولدة الأخر، وليس الأول أولى من الثاني بنظر العقل، بل هما من حيث موافقة الغرض الذي يقتضيه التكليف سواء.

نعم، قد يقال: إنه بناء على اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية ليس كاقتضائه لترك المخالفة القطعية، وأن الأول بنحو يقبل الردع، والثاني بنحو لا يقبله، لأنه بنحو العلية التامة، فاللازم ترجيح ترك الموافقة القطعية على المخالفة القطعية لأهميتها.

وقد أجاب عن ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سرة: بأن ذلك إنما يتم لو كان الترخيص ظاهرياً بمناط عدم البيان. أما لو كان بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق فلا مجال لمنجزية العلم التفصيلي فضلاً عن الإجمالي، لقصور المعلوم عن مقام الفعلية المانع من صلوح العلم لتنجيزه، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية كي يقع التزاحم بينهما في المقام، وينظر في الأولى منهما.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في المقام الأول، فإنه إن كان المراد بالترخيص لأجل الاضطرار سقوط التكليف الواقعي عن الفعلية بسبب عدم إمكان الجمع بين المحتملات، على ما قد يدعى في الاضطرار إلى بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي، فهو - مع عدم مناسبته لمختاره في تلك المسألة - غير تام في نفسه، على ما أشرنا إليه آنفاً.

وإن كان المراد به الترخيص العقلي بسبب امتناع خلو المكلف عن الفعل والترك، فهو إنما يقتضي امتناع منجزية العلم الإجمالي في كل واقعة بالإضافة إلى الموافقة القطعية ولا يمنع من منجزيته بالإضافة إلى المخالفة القطعية بنحوٍ لا يجوز ارتكابها في البعض لأجل الموافقة القطعية في الآخر،

ص: 212

لفرض كونها أهم، كما هو المدعى للخصم.

وبالجملة: كلامه قدس سرة لا يخلو عن غموض وإشكال، وربما نوفق في مناسبة أخرى للتعرض لما ذكره.

ولعل الأولى الجواب عن الدعوى المذكورة: بأنه ليس الفرق بين العلية التامة والاقتضاء إلا بإمكان الردع الشرعي على الثاني دون الأول، وذلك خارج عن محل الكلام، لفرض عدم البيان الشرعي في المقام، وبقاء العقل على ما يستقل به، وهو لا يفرّق في المقام بين الأمرين لو خلي ونفسه، كما ذكرنا.

إن قلت: إذا تم كون العلم الإجمالي علة تامة لمنع المخالفة القطعية دون لزوم الموافقة القطعية فلابد أن يكون لأهمية تجنب المخالفة القطعية من تحصيل الموافقة القطعية بنظر العقل، وهو مستلزم لترجيحه عند المزاحمة.

قلت: ليس ملاك العلية التامة هو الأهمية، بل إنَّ الترخيص في المخالفة القطعية بعد فرض فعلية التكليف يستلزم الردع عن تنجيز العلم الإجمالي وعدم ترتب العمل عليه، أو عن وجوب إطاعة التكليف، وكلاهما ممتنع مع كون منجزية العلم ذاتية ووجوب الإطاعة من المستقلات العقلية، بخلاف الترخيص في ترك الموافقة القطعية، وهذا لا يقتضي الترجيح بينهما في المقام، لأن جواز المخالفة القطعية في بعض الوقائع ليس لعدم منجزية العلم الإجمالي في نفسه، ولا لعدم وجوب إطاعة التكليف، بل لمزاحمتها بالموافقة القطعية في الواقعة الأخرى.

مع أنه لو فرض أن ملاك ذلك هو الأهمية فهو أجنبي عما نحن فيه،

ص: 213

لوضوح أن مخالفة العلم الإجمالي القطعية مستلزمة لفوت موافقته أيضاً، فالموافقة القطعية فائتة على كل حال، وليس الممنوع منه إلا المخالفة القطعية زائداً عليها. أما في المقام فالمخالفة القطعية في بعض الوقائع مستلزمة لحصول الموافقة القطعية في الأخرى وليست الموافقة القطعية فائتة على كل حال. ولعله يأتي في الفصل الآتي ما ينفع في المقام.

ثم إنه كما يكون التخيير استمرارياً إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع الطولية بحسب أجزاء الزمان، كذلك يكون التخيير انحلالياً إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع العرضية، كما لو تردد الأمر في يوم بين وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرامهم، فإنه كما يتخير المكلف بين إكرام الكل وترك إكرامهم فلا يلزم إلا المخالفة الاحتمالية في الكل، كذلك له التفريق بينهم، المستلزم للمخالفة القطعية في بعضهم والموافقة القطعية في بعض، لعين ما تقدم.

الخامس: اختصاص الكلام في ورود الحرمة والوجوب المحتملين على موضوع واحد

الخامس: ما تقدم من تعذر الموافقة والمخالفة القطعيتين في المقام إنما هو فيما إذا كان الوجوب والحرمة المحتملان واردين على موضوع واحد، لا اختلاف في قيوده، لتكون موافقة أحدهما مخالفة للآخر، سواء كان توصلياً، كدخول المسجد، أم تعبدياً، كصوم يوم الشك لو قيل بحرمة صوم يوم العيد ولو برجاء أن لا يكون عيداً، بخلاف ما لو اختلف الموضوع ولو بلحاظ القيود المعتبرة فيه، كما لو كان أحدهما المعين أو كلاهما تعبدياً لا يمكن امتثاله إلا بقصد التقرب به، كما لو دار الأمر بين كون الماء مملوكاً يجب التقرب بالوضوء به، ومغصوباً يحرم التصرف فيه مطلقاً، أو بين وجوب فعل شيء بقصد القربة وتركه كذلك، فإن الموافقة القطعية في مثل

ص: 214

ذلك وإن كانت متعذرة، إلا أن المخالفة القطعية ممكنة، حيث يمكن في المثال الأول استعمال الماء في غير الوضوء القربي.

وفي الثاني الترك أو الفعل لا بقصد القربة، ونظير ذلك جميع موارد دوران الوجوب بين الضدين اللذين لهما ثالث.

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره في مثل ذلك حرمة المخالفة القطعية، لمنجزية العلم الإجمالي بالإضافة إليها، وإن لم يكن منجزاً بالإضافة إلى الموافقة القطعية، لفرض تعذرها، بناء منهم على أن تعذر الموافقة القطعية لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالإضافة إلى المخالفة القطعية.

وقد لا يتم ذلك على مذهب المحقق الخراساني قدس سرة من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالكلية.

ومن ثم استشكل عليه غير واحد حيث وافق شيخنا الأعظم قدس سرة في المقام.

وتمام الكلام في ذلك في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي من الفصل الآتي.

السادس: في دوران الأمر بين جزئية شيء ومانعيته

السادس: لو دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته فهو وإن رجع إلى الدوران بين محذورين بالإضافة إلى المركب الخارجي من حيث صحته وفساده، إلا أنه خارج عن محل الكلام، لعدم كون إبطال المركب بالإتيان بالمانع منه محرماً، فمرجع الشك في المقام إلى الدوران بين وجوب المركب الواجد للأمر المذكور والفاقد له، واللازم فيه الاحتياط بالجمع بينهما، كما يأتي في الفصل الآتي.

ولو فرض تعذره كان من تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي الذي

ص: 215

يأتي الكلام فيه هناك أيضاً.

نعم، لو فرض حرمة إبطال المركب - كما هو المعروف في الصلاة - كان من هذه الجهة من الدوران بين محذورين، وإن كان من حيثية الأمر بالمركب داخلاً في الدوران بين المتباينين المقتضي للاحتياط فيهما بالتكرار.

على أنه يلزم تجنب ذلك بالدخول في كلتا الصورتين برجاء مشروعيتها، فلا يحرم إبطالها من هذه الجهة، لعدم قصد الامتثال بها مطلقاً، بل معلقاً على مشروعيتها، ولا تبطل في ظرف مشروعيتها.

نعم، لو حدث له التردد في الأثناء بعد الجزم بالامتثال حين الدخول في العمل تعذر عليه تجنب احتمال حرمة الإبطال بكل من الفعل والترك.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من ابتناء المقام على مسأله الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا فيها بالبراءة كان المكلف مخيراً بين الوجهين، وإن قلنا فيها بالاحتياط كان اللازم الجمع بالتكرار.

فلا يكاد يتضح وجهه، ضرورة أنه إن كان المقام من دوران الأمر بين المتباينين - كما ذكرنا - كان العلم الإجمالي مقتضياً للاحتياط خروجاً عن مقتضى البراءة، حتى لو فرض أنها الأصل الأولي في تلك المسألة، وإن كان من دوران الأمر بين المحذورين الذي يتعذر معه الاحتياط لزم التخيير حتى بناء على لزوم الاحتياط في تلك المسألة، إذ لا مجال له في فرض التعذر.

وقد أطال قدس سرة الكلام بما لا مجال لتعقيبه، فراجع ما ذكره في التنبيه الرابع من تنبيهات مسائل الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الدوران بين الوجوب والحرمة

الدوران بين الوجوب والحرمة

الدوران بين الوجوب والحرمة

الدوران بين الوجوب والحرمة

الدوران بين الوجوب والحرمة

الدوران بين المحذورين

الدوران بين المحذورين

الدوران بين المحذورين

الدوران بين المحذورين

ص: 216

الفصل الثالث: في الشك في تعيين التكليف مع اختلاف المتعلق

اشارة

وهو المعروف بينهم بدوران الأمر بين المتباينين.

وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام، واختلافه، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.

والكلام في المقام إنما هو في أنه هل يلزم في ذلك الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلاً للموافقة القطعية، أو يكفي الاقتصار على بعضها بنحو يخرج به عن المخالفة القطعية، أو يجوز ترك تمام الأطراف وإن حصلت المخالفة القطعية، كل ذلك من جهة العلم الإجمالي المفروض في المقام وتحديد مقتضاه.

الكلام في منشأ حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين

وينبغي التعرض لمنشأ حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في سائر موارد تنجيز التكليف تمهيداً لمحل الكلام، فنقول: اندفاع المكلف للعمل يبتني على أمور مترتبة في أنفسها..

الأول: جعل التكليف.

ص: 217

الثاني: تنجزه.

الثالث: حدوث الداعي لامتثاله.

أما الأول فهو مما يستقل به المولى، ولا يشركه فيه غيره، حتى في المستقلات العقلية بناءً على التحسين والتقبيح، لظهور أن وظيفة العقل ليست إلا إدراك الحسن والقبح غاية الأمر أن ذلك ملزم بنظر العقل للمولى بجعل الحكم على طبقهما أو كاشف عنه، وليس عمل المكلف مترتباً على استقلال العقل بالحسن والقبح إلا بضميمة استكشاف الحكم الشرعي المقتضي لحفظ الملاك من قبل الشارع بما يستتبعه من الثواب والعقاب الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر، الذي هو أمر فطري، وإلا فالحكم العقلي بمجرده لا يكفي في الداعوية وحفظ الملاك، كما تقدم تفصيل الكلام في ذلك في بحث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

وأما الثاني فهو قد يستند لجعل المولى للحجج والأصول المنجزة لمؤداها بحكم العقل، كما قد يستقل به العقل، كما في موارد الظن الانسدادي بناءً على الحكومة. وقد يستند إلى السبب التكويني، وهو العلم، بناءً على ما سبق منا في مباحث القطع من كون ترتب العمل عليه ذاتياً لا يستند لحكم عقلي أو شرعي.

وأما الثالث فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى بملاك شكر المنعم، أو ثبوت الحق له، بالنحو المقتضي لاستحقاق العقاب، الصالح للداعوية، وليس الحكم المذكور مما يمكن الردع عنه شرعاً، إلا أن يرجع إلى رفع موضوعه، وهو التكليف الشرعي، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستنداً له.

ص: 218

هذا كله في فرض كون عمل المكلف إطاعة للتكليف ثبوتاً، فلو فرض الشك في ذلك لم ينهض ما سبق بإحداث الداعي للمكلف نحو العمل، لأن ما سبق إنما يقتضي لزوم الإطاعة الواقعية ثبوتاً في رتبةٍ سابقةٍ على الشك.

بل لابد في فرض الشك من أمر آخر مترتب على ما سبق، وهو حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز، وعدم الأمان من مسؤولية التكليف بدونه، وهو مفاد قاعدة الاشتغال المسلمة عند الكل، ومن الظاهر أن حكم العقل المذكور طريقي في طول حكمه بوجوب الإطاعة الواقعية، وليس عينه.

ولا ريب عندهم في اختصاص العقل بالحكم المذكور، والاستغناء به عن الرجوع للشارع، كما لا ريب في سلطان الشارع على تحقيق مقتضاه بأن يتعبد بتحقق الامتثال بجعل الطريق إليه، أو الأصل العملي المحرز له، إذ لا يراد بإحراز الامتثال اللازم عقلاً إحرازه وجداناً، بالقطع، بل ما يعم الإحراز التعبدي.

وإنما الإشكال في سلطان الشارع على الردع عن الحكم المذكور بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي من دون إحراز له.

وقد تقدم منا في التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة تقريب ذلك وإن كان على خلاف ظاهرهم، كما تقدم بقية الكلام في القاعدة المذكورة.

إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن منع العقل عن المخالفة القطعية في مورد تنجز التكليف بعلم أو علمي أو غيرهما يرجع إلى حكمه بوجوب الطاعة.

كما أن إلزامه بالموافقة القطعية راجع إلى حكمه بلزوم إحراز الفراغ

ص: 219

الذي هو مفاد قاعدة الاشتغال.

وقد عرفت امتناع ردع الشارع عن الأول، إلا برفع موضوعه، وهو التكليف، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستنداً له.

كما عرفت إمكان ردعه عن الثاني، كما أنه مسلط على رفع موضوعه برفع التكليف أو منشأ التنجيز، وعلى تحقيق مقتضاه بجعل ما يوجب إحراز الامتثال تعبداً بنصب الطريق إليه، أو جعل الأصل العملي فيه.

وحيث كان المعيار في المخالفة والموافقة القطعيتين ذلك في سائر موارد التنجيز، فلندخل في ما هو المقصود بالمقام.

ويقع الكلام فيه في مقامين..

المقام الأول: في المخالفة القطعية

المقام الأول: في المخالفة القطعية.

والمعروف المشهور عدم جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المفروض في المقام.

وربما قيل بجوازها إما لقصور العلم الإجمالي عن اقتضاء المنع عنها، أو لوجود المانع بعد فرض تمامية المقتضي.

أما الأول فيدفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز المقتضي - كما عرفت هنا - للمنع من المخالفة القطعية، لاشتراكهما في الجهة المقتضية للعمل.

ومجرد ابتلاء العلم الإجمالي بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف لا أثر له في الجهة المذكورة.

ولا مجال للاستدلال على منجزية العلم الإجمالي المانعة من

ص: 220

الترخيص في المخالفة بلزوم التناقض بين الترخيص والحكم المعلوم بالإجمال، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة.

لما سبق من عدم صحة الاستدلال بلزوم التناقض بالوجه المذكور حتى في العلم التفصيلي.

كما لا مجال للاستدلال على امتناع الترخيص في المخالفة القطعية بعموم دليل التكليف الواقعي للمعلوم بالإجمال - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة -.

إذ ليس الاشكال في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم الإجمالي، كيف ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي، لما هو المعلوم من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، وإنما الاشكال في تنجز التكليف المذكور بالعلم الإجمالي، والمتعين فيه ما ذكرنا.

وأما الثاني فلا منشأ له إلا توهم أن مقتضى عموم أدلة الأصول الترخيصية من البراءة وغيرها جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن استلزم المخالفة القطعية.

وحيث كان الكلام في ذلك مهماً جداً، لما يترتب عليه من الفوائد في هذا المقام وغيره فاللازم النظر..

أولاً: في عموم أدلة الأصول ذاتاً لأطراف العلم الإجمالي.

الكلام في أمرين:

وثانياً: في إمكان جريانها في المقام بنحوٍ تسوغ المخالفة القطعية وتمنع من حرمتها، فيقع الكلام في أمرين:

الأمر الأول: في عموم أدلة الأصول ذاتاًَ لأطراف العلم الإجمالي

الأمر الأول: في عموم أدلة الأصول ذاتاً لأطراف العلم الإجمالي.

ص: 221

وقد وقع الكلام في ذلك بينهم..

ولا يخفى أن الكلام هنا مختص بالأصول أما الطرق والأمارات فلا ريب في قصور أدلتها عن شمول أطراف العلم الإجمالي المستلزم للعلم بكذب أحدها، من دون فرق بين ترتب الأثر عليها في جميع الأطراف وترتبه في بعضها، كما لا فرق بين العلم الإجمالي بثبوت الترخيص والعلم بثبوت التكليف المنجز وغيره، لأنها لما كانت حجة في لوازم مؤدياتها كانت متكاذبة في ما بينها بلحاظ مداليلها الإلتزامية، فيمتنع حجيتها في تمام الأطراف، لاستحالة التعبد بالمتعارضين المستلزم للتعبد بالنقيضين، ولا في خصوص بعضها معيناً، لعدم المرجح، ولا مخيراً، لعدم الدليل عليه.

ومن ثم كان الأصل في المتعارضين التساقط، على ما يأتي مفصلاً في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.

نعم، لو لم تكن الأمارة حجة في لازم مؤداها لم يلزم المحذور المذكور، بل تكون نظير الأصل الإحرازي الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه اختلف المتأخرون في أن الأصول هل تجري ذاتاً في أطراف العلم الإجمالي، وينحصر المانع من جريانها بالمحذور المتقدم، أو لا تجري ذاتاً لقصور أدلتها عن شمولها؟ وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة الثاني، حيث قال في مبحث الشبهة المحصورة، في دفع توهم اقتضاء أدلة قاعدة الحل لجواز المخالفة القطعية: «ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع، لأنها كما تدل على حلية كل واحد من الشبهتين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالاً، لأنه أيضاً شيء علم حرمته له.

ص: 222

وقال في مسألة تعارض الاستصحابين إذا لم يكن أحدهما سببياً: «فالحق التساقط...

لأن قوله: «لا تنقض اليقين بالشك، ولكن تنقضه بيقين مثله»، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله،...

وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة، وأن قوله (ع): «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام»، لا يشمل شيئاً من المشتبهين».

وجوه حمل كلام الشيخ الأعظم قدس سرة

وما ذكره قدس سرة لا يخلو عن غموض، وقد يحمل على وجوه ينبغي التعرض لها حتى لو فرض عدم ظهور كلامه فيها لتوقف الكلام في المقام على النظر فيها..

الأول: اتحاد المعلوم بالإجمال مع أحد الأطراف واقعاً

الأول: أن المعلوم بالإجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة الصالحة للانطباق على كل من الطرفين بنفسه، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعاً، فيكون أحد الأطراف بواقعه موضوعاً لليقين الرافع للأصل، ولا مجال لجريان الأصل في كليهما للزوم التناقض.

وفيه: أن انطباق المعلوم بالإجمال على أحد الطرفين بخصوصه واقعاً لا ينافي صدق موضوع الأصل - وهو الشك - فيه بعنوانه التفصيلي، لأن طروء العلم والشك على الموضوع إنما يكون بلحاظ عنوانه لا بنحو يكون دخل العنوان فيهما لمحض الحكاية - كما في قولنا: جاء العالم - ولا لكونه محض علة فيه - كما في قولنا: أكرم العالم - بل لكونه جهة تقييدية بنحو تكون صفتا العلم والجهل طارئتين على المعنون من حيثية العنوان،

ص: 223

لا مطلقاً، فلا مانع من اجتماعهما في الموضوع الواحد بلحاظ العناوين المختلفة المنطبقة عليه، وعليه لا مانع من كون أحد الطرفين موضوعاً للعلم بعنوان كونه أحد الأمرين اللذين يقوم العلم الإجمالي بهما، وموضوعاً للشك بعنوانه الخاص به، ولا يكون العلم الإجمالي موجباً لخروجه عن موضوع الأصل واقعاً.

فالأصل يجري في كل منهما بخصوصه ذاتاً تبعاً لتحقق موضوعه، وإن كان لا يجري في الأمر المبهم على إبهامه، لارتفاع موضوعه فيه بسبب العلم الإجمالي المفروض، ولازم ذلك ترتيب أثر كل من الخصوصيتين تبعاً لجريان الأصل فيهما، دون أثر المعلوم بالإجمال المنطبق على أحدهما على ما هو عليه من الإبهام، لارتفاع موضوع الأصل فيه.

نعم، هذا الوجه يبعد عن كلام شيخنا الأعظم قدس سرة المتقدم، لأن مقتضاه قصور دليل الأصل واقعاً عن أحد الطرفين على إجماله، لا عن كليهما، مع ظهور كلامه قدس سرة في خروج كلا الطرفين بسبب الغاية في أدلة قاعدة الحل، والذيل في أخبار الاستصحاب عن عموم الأصل.

بل هو الذي صرح به في بقية كلامه، حيث قال: «فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فرداً معيناً في الواقع غير معين عندنا. ليكون الفرد الآخر الغير المعين باقياً تحت العام...

إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر...».

الثاني: شمول إطلاق العلم لليقين الإجمالي

الثاني: أن إطلاق العلم المجعول غاية في أخبار قاعدة الحل، واليقين في ذيل أخبار الاستصحاب شامل للعلم واليقين الإجمالي، فيرتفع تبعاً له

ص: 224

الحكم بالحل وبالاستصحاب في كل من الطرفين، وإن لم يعلم الحال فيهما تفصيلاً.

وهذا الوجه وإن كان بعيداً عن ظاهر كلاميه المتقدمين، خصوصاً الأول، إلا أنه قد يتعين حملهما عليه بملاحظة تتمة كلامه في الاستصحاب، حيث قال في رد احتمال التخيير: «وقد عرفت أن عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوغها العجز، لأنه نقض اليقين بالمقين، فلم يخرج من عموم: «لا تنقض» عنوان ينطبق على الواحد التخييري»، فإنه صريح في أن عدم جريان الاستصحاب فيهما لتحقق اليقين الرافع له، لا لقصور عموم دليل الاستصحاب عن شمول الشك المفروض فيهما.

وكيف كان، فيندفع الوجه بأن المستفاد من أخبار قاعدة الحل كون الرافع للحل الظاهري هو العلم بالتكليف المنافي للشك فيه، فالعلم الإجمالي وإن نهض برفع الحل بالإضافة إلى الواحد المردد على ما هو عليه من الإبهام والترديد بين الأطراف، لعدم الشك فيه، إلا أنه لا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصيته بعد فرض الشك فيه.

كما أن ظاهر أخبار الاستصحاب وجوب نقض اليقين باليقين المنافي له، ولا يتنافى اليقينان إلا مع اتحاد متعلقهما، لا مع اختلافه ولو بالإجمال والتفصيل، كما اعترف قدس سرة بذلك في الجملة في رد القول العاشر من أقوال الاستصحاب.

الثالث: عموم موضوع الأصل يقتضي التنافي بين التعبدين

الثالث: أنه لما كان العلم واليقين في أدلة الأصول يعم العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي وإن لم يناف الشك - الذي هو موضوع الأصل -

ص: 225

في كل طرف بخصوصه، وإنما ينافيه في الأمر المردد على إجماله، إلا أن عموم موضوع الأصل لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض بين التعبدين، وهما التعبد بمؤدى الأصل في كل من الطرفين بلحاظ حصول الشك فيه، والتعبد بمقتضى العلم الرافع للأصل في المعلوم بالإجمال على إجماله، للتناقض بين مفادي الموجبة الكلية والسالبة الجزئية، فيمتنع التعبد بهما معاً، ويتعين البناء على قصور الأصول عن شمول الأطراف دفعاً لذلك، ولا طريق مع ذلك لإحراز تحقق موضوع الأصول ذاتاً في الأطراف.

ولعل هذا الوجه هو الظاهر من كلامه قدس سرة المتقدم في الاستصحاب.

إن قلت: التناقض المذكور كما يندفع بتقييد الشك في الأدلة بغير صورة العلم الإجمالي، كذلك يندفع بتقييد العلم الذي يجب العمل به بغير العلم الإجمالي، وليس الأول أولى من الثاني.

قلت: لما كان مفاد الأصل أمراً تعبدياً كان التقييد فيه أهون من التقييد لقضية لزوم العمل بالعلم الارتكازية، بل هي آبية عن ذلك جداً.

ولاسيما مع كون عموم الأصل للأطراف لا يقتضي فعلية العمل بها، من أجل المحذور الآتي، فتحمل على الحكم الاقتضائي الذي هو خلاف الظاهر في نفسه.

ويندفع الوجه المذكور: بأن وجوب العمل بالعلم وارتفاع موضوع الأصل معه وإن ذكر في أدلة الأصول، إلا أنه ليس أمراً تعبدياً شرعياً، لما هو المعلوم من أن حجية العلم ذاتية لا تقبل الإمضاء والردع الشرعي، فليس في المقام إلا تعبد شرعي واحد، وهو مفاد الأصل، وليس موضوعه إلا الشك المفروض تحققه في الأطراف، ولا يلزم من جريان الأصل فيها التناقض،

ص: 226

لتعدد الموضوع، بل غاية ما في المقام هو العلم بكذب أحد الأصلين، وليس هو محذوراً ما لم يستلزم المخالفة العملية، على ما يأتي توضيحه.

نعم، قد يقال: وجوب العمل بالعلم وإن لم يكن تعبداً شرعياً، بل أمر تكويني أو عقلي، إلا أن التنبيه في أدلة الأصول له على أنه أمر مفروغ عنه مانع من عمومها لأطراف العلم الإجمالي، لأن العلم الإجمالي لما كان منافياً عملاً للأصول الجارية في أطرافه كان عموم أدلة الأصول لها مع التنبيه فيها للعمل بالعلم مستلزماً للتناقض في دليل التعبد الواحد، وإن لم يلزم التناقض بين التعبدين، فيتعين البناء على قصور الأدلة المذكورة عن أطراف العلم الإجمالي دفعاً لذلك.

وفيه..

أولاً: أن القرينة المذكورة لو تمت فهي مختصة بما إذا كان العلم الإجمالي مقتضياً للعمل بنحوٍ ينافي مقتضى الأصل في الأطراف، كما لو علم إجمالاً بحرمة أحد الإنائين ولم يعلم حرمتهما سابقاً. أما لو لم يترتب عليه العمل فلا وجه لمنعه من جعل الأصل، ليكون التعرض له في الأدلة المذكورة مانعاً من عمومها للأطراف، كما لو علم إجمالاً بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقاً، لوضوح أن العلم المذكور وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال، إلا أن اشتباه المعلوم بالإجمال بالنجس مانع من ترتب العمل على العلم المذكور، فلا يصلح للمنع من جعل الأصل الذي يترتب عليه العمل، مع أن شيخنا الأعظم قدس سرة صرح بعموم مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل.

وثانياً: أن هذا المقدار من التنافي لا يوجب قصور موضوع الأصول

ص: 227

عن شمول الأطراف تخصيصاً بحيث تخرج عنه ذاتاً، بل يكفي في رفعه البناء على عدم فعليتها في مورد المنافاة لوجوب العمل بالعلم مع تحقق موضوعها ذاتاً، لما هو المرتكز عرفاً من أن موضوع الأصول ليس إلا الشك الذي تضمنته الأدلة، وهو حاصل في الأطراف، وليس منافاة مفاد الأصل عملاً لمقتضى العلم إلا من سنخ المانع عن فعليتها، فإن ذلك كافٍ في القرينة الارتكازية على حمل الأدلة على ذلك في مقام الجمع بين الغاية والمغيّى في أخبار قاعدة الحل، والصدر والذيل في أخبار الاستصحاب، لأنه أقرب ارتكازاً من التزام التخصيص بالوجه المذكور.

ولاسيما مع خلو كثير من أدلة الأصول - كبعض نصوص الاستصحاب والبراءة وقاعدة الفراغ وغيرها - عن التنبيه لحجية العلم، فلا مخرج عن ظهورها في كون موضوع الأصول محض الشك، لعدم ابتلائها بالقرينة المذكورة، غاية الأمر أن العموم المذكور مما لا مجال للعمل به في مورد المنافاة للعلم الإجمالي، إلا أن هذا من سنخ المانع ارتكازاً وليس من سنخ المخصص.

وتوضيح ذلك: أن المرتكز في رفع المنافاة بين عموم أدلة الأصول وحجية العلم الإجمالي هو الالتزام بتعدد الحيثية والجهة، بنحو تؤثر كل جهة لمقتضاها في نفسها مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين المختلفتين في مقام العمل، فدليل الأصل لا يقتضي ترتيب مضمونه مطلقاً ومن جمع الجهات، بل من حيثية الشك المأخوذ في موضوعه، كما أن العمل بالعلم إنما يقتضي متابعته في مورده لا غير، فمع اجتماع الجهتين واختلاف مقتضاهما عملاً - كما في مورد العلم الإجمالي - يرجع لقواعد

ص: 228

التزاحم بين الجهتين، فتختص فعلية التأثير في مقام العمل بإحدى الجهتين دون الأخرى، وإن تم المقتضي في كلتيهما.

مثلاً: لو علم إجمالاً بحرمة أحد الإنائين، فمقتضى الأصل في كل من الطرفين إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك، وهو لا ينافي تنجز المعلوم بالإجمال الملزم بالاحتياط في كل منهما، لأن الاحتياط المذكور ليس لمحض الشك، لينافي الأصل الجاري فيهما، بل لأجل العلم الذي هو أمر زائد على الشك كاف في التنجيز.

كما أنه لو علم إجمالاً بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقاً فالعلم الإجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال، إلا أنه لا ينافي تنجز احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين بلحاظ سبق اليقين بنجاسته والشك في طهارته المقتضي لاستصحاب النجاسة.

وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سرة في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة، فإنه بعد أن أشار لنظير ما تقدم منه في الشبهة التحريمية في وجه امتناع الرجوع للأصول قال: «فلابد إما من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام مما علم وجوب الشيء إجمالاً وإما من الحكم بأن شمولها للواحد المعين وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعاً عن العباد وكونه محمولاً عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه دليل علمي - بضميمة حكم العقل بوجوب المقدمة العلمية - على وجوب الإتيان بكل من الخصوصيتين.

فالعلم بوجوب كل منهما لنفسه لم إن كان محجوباً عنا، إلا أن العلم بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوباً عنا، ولا منافاة بين عدم وجوب

ص: 229

الشيء ظاهراً لذاته ووجوبه ظاهراً من باب المقدمة، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعاً وثبوت الوجوب الغيري كذلك».

وقد أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدس سرة أيضاً في أول الكلام في الدوران بين المتباينين من حقائقه.

هذا، ويشهد لما ذكرنا من تحقق موضوع الأصل ذاتاً في أطراف العلم الإجمالي ما هو المفروغ عنه بينهم من إمكان التفكيك في الأصول بين الأمور المتلازمة، فمن توضأ أو اغتسل بمايع مردد بين البول والماء، يستصحب الحدث وطهارة الأعضاء من الخبث مع العلم إجمالاً بانتقاض إحدى الحالتين، وهو مستلزم لعدم مانعية العلم المذكور من شمول الأصل للأطراف ذاتاً، وليس عدم جريان الأصل إلا لمحذور المخالفة العملية غير اللازم في المقام. فلاحظ.

ثم إن بعض الأعاظم قدس سرة مع اعترافه بتحقق موضوع الأصل في أطراف العلم الإجمالي ادعى امتناع جريان الأصول التنزيلية الإحرازية فيها، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرهما، لخصوصية في مفادها.

وحاصل ما ذكره: أن الأصول المذكورة وإن لم تكن من سنخ الأمارات متضمنة للحكاية عن الواقع، إلا أنها تتضمن التعبد بمؤداها على أنه الواقع فهي متضمنة لإحراز الواقع لا بتوسط جعل الطريق إليه، وحينئذٍ يمتنع جريانها في أطراف العلم الإجمالي، لمناقضتها معه، إذ كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلاً في كل واحد من الإنائين مع العلم بتطهير أحدهما؟ وهو مستلزم للتناقض بين مفاد الأصل والواقع المعلوم.

وهذا بخلاف الأصول غير الإحرازية - كأصالة البراءة والحل

ص: 230

والطهارة - فإنها لا تتضمن إلا بيان الوظيفة العملية وتطبيق العمل على مقتضى الأصل من دون تعبد بالواقع، فلا ينافي العلم الإجمالي بمخالفة الواقع في أحد الطرفين، لأن الأصل يجري في كل طرف بخصوصه، ولا يعلم بكذبه ومخالفته للعلم الإجمالي المذكور.

وفيه: أن الأصل الإحرازي لما كان يجري في كل من الطرفين بخصوصه مع قطع النظر عن الطرف الآخر فلا يناقض العلم الإجمالي، لعدم العلم بانطباق المعلوم بالإجمال عليه، والجمع بين التعبدين لا يستلزم المناقضة للعلم الإجمالي وإن رجعا إلى دليل واحد، لوضوح أن الدليل المذكور يتضمن أحكاماً انحلالية بحسب الموضوعات المتكثرة، ولا يتضمن تعبداً واحداً بمجموع الأمرين ليكون مناقضاً للعلم المذكور، فلا فرق بين الأصل الإحرازي وغيره في ذلك.

على أن ما ذكره قدس سرة لو تم لامتنع جريان الاستصحاب في من توضأ بمايع مردد بين البول والماء ونحوه من موارد التفكيك بين الأمور المتلازمة بسبب الأصل الإحرازي، مع عدم الإشكال عندهم في جواز الرجوع له، كما تقدم.

وقد حاول قدس سرة بيان الفرق بين ذلك وما نحن فيه، وحاصل ما ذكره: أن جريان الأصول في ذلك لا يوجب إلا العلم الإجمالي بكذب الأصلين، لاختلافهما في المؤدى، وعدم رجوعهما إلى أمر واحد يعلم بكذبه تفصيلاً، أما في ما نحن فيه فيلزم العلم التفصيلي بكذب ما يؤدي إليه الأصلان، لرجوعهما إلى أمر واحد يعلم بعدم ثبوته، ففي استصحاب نجاسة الإنائين المعلوم طهارة أحدهما يعلم تفصيلاً بكذب ما يؤدي إليه الأصلان، لأنهما

ص: 231

ينفيان طهارة أحدهما المعلوم ثبوتها تفصيلاً.

وقد أطال في تقريب ذلك بما لا يرجع إلى محصل ظاهر، لوضوح أن ما ذكره من الوجه في المنع - لو تم - لا يختص بالعلم التفصيلي بكذب الأصل، بل يجرى في العلم الإجمالي أيضاً، إذ ليس ملاكه إلا امتناع إحراز ما يعلم خلافه، ولا يفرق فيه بين العلم الإجمالي والتفصيلي.

مع أنه إن أريد بالمعلوم بالتفصيل المتميز في الذهن بخصوصيته - كما هو الظاهر منه - فالمفروض أنه لا معلوم بالتفصيل في المقام.

وإن أريد به ما يشار إليه بعنوان واحد وإن كان مبنياً على الإبهام والترديد - كعنوان أحد الأمرين - فهو متحقق في مورد النقض أيضاً، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأمرين من الحدث وطهارة الأعضاء في الفرض السابق.

ومجرد اتفاق مؤدى الأصلين في ما نحن فيه في السنخ والعنوان - كالطهارة والنجاسة - بخلاف مورد النقض، لا يصلح فارقاً بعد كون مجرى الأصل هو الأمر الخاص المباين للأمر الآخر وإن اتحد معه سنخاً.

على أن الظاهر أن المنع عنده لا يختص بما إذا اتحد مجرى الأصلين سنخاً، بل يجرى في مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة آخر، أو بين نجاسة شيء وغصبية آخر، وكان مقتضى الاستصحاب فيهما مخالفاً لمقتضى العلم الإجمالي.

نعم، لو كانت نجاسة كلا الطرفين في ما نحن فه مقتضى أصل واحد، بنحو يكون الاستصحاب مثلاً مقتضياً لنجاستهما بنحو الارتباطية، لقيام الأثر بهما معاً، مع العلم بطهارة أحدهما لزم العلم التفصيلي بكذب الأصل.

ص: 232

لكنه خلاف الفرض، مع أنه جار في الأصل غير الإحرازي أيضاً.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن العلم الإجمالي لا يوجب خروج أطرافه عن الأصول ذاتاً، وغاية ما يدعى أنه من سنخ المانع عنها بعد تمامية مقتضيها.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الأمر الثاني: في نهوض أدلة الأصول بالمنع من حرمة المخالفة القطعية

الأمر الثاني: أنه بعد الفراغ عن شمول أدلة الأصول ذاتاً لأطراف العلم الإجمالي يقع الكلام في نهوضها بالمنع من حرمة المخالفة القطعية، التي تقدم اقتضاء العلم الإجمالي لها ذاتاً.

ومما تقدم في أول الكلام في هذا الفصل يظهر امتناع ذلك، لما تقدم من أن ترخيص الشارع في المخالفة القطعية في مورد تنجزه.

ولا مجال للثاني في المقام بعد كون تنجيز العلم الإجمالي كالتفصيلي من شؤون التي لا تنالها يد التشريع رفعاً ووضعاً، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع ولاسيما مع ظهور بعض أدلة الأصول في المفروغية، عن حجية العلم، كما تقدم.

كما لا مجال للأول، لأنه وإن كان في نفسه ممكناً، بأن يكون العلم الإجمالي رافعاً لفعلية الحكم الواقعي المعلوم، حيث تقدم إمكان ذلك في الفصل الثالث من مباحث القطع، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به، لظهورها في النظر لمقام تنجز التكليف، وجعل الوظيفة العملية فيه في ظرف الشك فيه إثباتاً بعد الفراغ عن فعليته ثبوتاً وصلوحه لترتب العمل عليه في نفسه لو فرض وجوده، فلا تنهض بتقييد أدلة الواقع.

بل هو المقطوع به بعد فرض كون مفاد الأصول أحكاماً ظاهرية غير

ص: 233

رافعة للأحكام الواقعية ولا منافية لها.

ودعوى: لزوم البناء في المقام على ذلك تصحيحاً لجريانها، فتكون أدلتها دالة عليه بدلالة الاقتضاء.

مدفوعة..

أولاً: بأن البناء على ذلك لا يصحح جريانها، بل يمنع منه، إذ فرض عدم فعلية الواقع مانع من تحقق موضوعها وهو الشك في التكليف.

وثانياً: بأن دلالة الاقتضاء على شيء موقوفة على انحصار رفع لغوية الدليل بالحمل عليه، وليس الأمر هنا كذلك لإمكان حمل عموم دليل الأصل على ما أشرنا إليه آنفاً من عدم فعلية مؤداه في مورد العلم الإجمالي، لكونه من سنخ المانع، بل الحمل على ذلك أقرب عرفاً من حمل دليل الأصل على رفع، فعلية الواقع، لو فرض إمكانه في نفسه وغض النظر عن الوجه الأول.

نعم، لو ورد الترخيص في خصوص مورد العلم الإجمالي المنجز كان، حمله على رفع فعلية التكليف الواقعي بدلالة الاقتضاء متعيناً.

ولكنه يكون ترخيصاً واقعياً لا ظاهرياً كما هو مفاد الأصل.

هذا، وقد يشكل ما ذكرنا في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع): «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1)، فإن فرض التقسيم فيه للحلال والحرام، الظاهر في كونه منشأ الاشتباه، ثم جعل الغاية للحل معرفة الحرام المفروض اشتباهه ظاهر في إرادة العلم الإجمالي، وفي فعلية الترخيص في أطرافه، وتوقف التنجيز

ص: 234


1- الوسائل، ج 12، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به، ح: 1.

على العلم التفصيلي بالحرام.

لكنه حيث كان بإطلاقه منافياً لما عرفت من فعلية الواقع في حال الجهل به ومنجزية العلم الإجمالي الذاتية تعين حمله على خصوص العلم الإجمالي غير المنجز، لعدم انحصار الشبهة، المستلزم لعدم الابتلاء ببعض، الأطراف.

كما يشير إليه ورود المضمون المذكور في خبر عبد الله بن سليمان الوارد في الجبن، ومرسل معاوية بن عمار الوارد في الجبن وغيره(1)، لوضوح أن المراد بهما إهمال احتمال حرمة بعض أفراد النوع، مع وضوح عدم الابتلاء بتمام أفراد النوع.

بل ذلك كالصريح من معتبر أبي الجارود: «سألت أبا جعفر (ع) عن الجبن فقلت له: أخبرني من رآى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل.

والله إني لأعترض السوق فاشترى بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان»(2).

ويناسبه ما تضمن منجزية الشبهة المحصورة، كالنصوص الواردة في الإنائين المشتبهين(3) والثوبين المشتبهين(4) والشاة الموطوءة المشتبهة في

ص: 235


1- الوسائل، ج 17، باب: 4 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 1 و 7.
2- الوسائل ج 17، باب: 61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 5.
3- الوسائل، ج 1 باب: 8 من أبواب الماء المطلق، ح: 2 و 14.
4- الوسائل ج 2، باب: 64 من أبوال النجاسات، ح: 1.

الغنم(1).

وكيف كان، فلا مجال للخروج عما عرفت من القاعدة، ولو ورد ما ينافيها لزم طرحه، أو حمله على رفع فعلية الحكم الواقعي في حال الجهل، لخصوصية في مورده، لانحصار الأمر بذلك بعد فرض حجية العلم ذاتاً.

وأما توهم: أن العمل بالأصل لا ينافي منجزية العلم الإجمالي لو كان ارتكاب الأطراف تدريجياً، لعدم العلم بحرمة كل طرف حين ارتكابه، ليكون تنجزه مانعاً من جريان الأصل فيه، وغاية ما يلزم هو العلم بالمخالفة بعد ارتكاب كلا الطرفين، ولا محذور فيه مادام التكليف غير منجز حينها.

فمندفع: بأن المحذور ليس في الارتكاب نفسه بعد فرض الترخيص الظاهري، بل في نفس الترخيص الظاهري، لفرض أن الترخيص في تمام الأطراف غير تدريجي، لدخولها في أدلة الأصول في عرض واحد، ومن الظاهر منافاة الترخيص الفعلي الظاهري في تمام الأطراف لتنجز التكليف المعلوم بالإجمال المقتضي لحرمة مخالفته القطعية، فلابد من الالتزام بعدم فعلية مفاد الأصول في الأطراف حينئذٍ.

نعم، لو فرض كون الترخيص تدريجياً، لاختلاف زمان الابتلاء بالأطراف، بحيث لا يبتلى بكل طرف إلا بعد المخالفة في غيره، أو قبل الابتلاء بغيره لم يمتنع جريان الأصول في الجميع بنحو التدريج، لعدم منافاة للعلم الإجمالي، بل لا يكون العلم الإجمالي حينئذٍ منجزاً، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

هذا، وإلى ما ذكرنا من المحذور يرجع ما قيل في وجه عدم جريان

ص: 236


1- الوسائل، ج 16، باب: 30 من أبواب الأطعمة المباحة، ح: 1 و 4.

الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف من لزوم الترخيص في المعصية، إذ لا يراد بالمعصية إلا مخالفة التكليف المنجز.

الضابط العام في امتناع جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي

ثم إن ما ذكرنا وإن كفى في محل الكلام، إلا أن المناسب التعرض للضابط العام في امتناع جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

فنقول: المحذور المذكور وإن اختص بالعلم الإجمالي بالتكليف، إلا أنه لما كان الملاك فيه هو حجية العلم الذاتية غير القابلة للرفع، كان اللازم تعميم المنع من جريان الأصول لكل مورد ينافي حجيته، بنحو يمتنع فعلية جريانها معها، سواء وافقته عملاً أم خالفته، وسواء تعلق العلم بالتكليف أم بغيره من الأحكام.

فمثلاً: لو علم إجمالاً باستحباب أحد أمرين، امتنع جريان الأصل النافي للاستحباب فيهما معاً، وإن لم يلزم منه ترخيص في المعصية، لأن العلم باستحباب أحدهما لما كان يترتب عليه العمل بالإضافة للاستحباب المعلوم بالإجمال بمقتضى ذاته، فهو ينقح موضوع حسن الطاعة بملاك تنقيح العلم بالوجوب لموضوع وجوبها، لم تنهض الأصول برفع ذلك.

ومن ثم حكموا بأنه لو عالم ببطلان إحدى النافلتين لم تجر قاعدة الفراغ فيهما.

كما أنه لو علم بإباحة أحد أمرين وحرمة الآخر فكما يمتنع جريان الأصل النافي للحرمة فيهما معاً، للزوم الترخيص في المعصية، كذلك يمتنع جريان الأصل المثبت للحرمة فيهما معاً، لأن مفاد الأصل المذكور ليس هو محض لزوم اجتنابهما كما يلزم عقلاً بسبب العلم بحرمة أحدهما إجمالاً - بناء على لزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي، كما سيأتي إن شاء الله

ص: 237

تعالى - بل تنجيز احتمال التكليف في كل منهما، بحيث يكون تركه بملاك المعصية، لا لمحض الاحتياط في التكليف الواحد الذي يقتضيه العلم الإجمالي بنفسه. وذلك منافٍ للعلم الإجمالي بإباحة أحدهما، وأنه ليس الحرام إلا أحدهما ولا عقاب إلا عليه.

وبعبارة أخرى: لما كان الحكم الظاهري طريقياً في طول الحكم الواقعي فأطاعته لا تجب إلا من حيثية كونها إطاعة للحكم الواقعي المحتمل في مورده، فمع فرض العلم بوحدة التكليف الواقعي لا مجال لحكم العقل بإطاعة التكليف الظاهري في كل منهما بملاك كونها إطاعة للتكليف المحتمل في مورده، بل ليس له إلا حكم واحد بإطاعة التكليف الواقعي الواحد المردد بين الطرفين، وهو يرجع إلى لزوم الإتيان بكل من الطرفين احتياطاً الذي هو مقتضى العلم الإجمالي، ويمتنع حينئذٍ جعل الأصل المحرز لكون كل منهما مورداً للتكليف الواقعي.

نعم، لو فرض عدم العلم بإباحة أحد الطرفين، بل دار الأمر بين حرمتهما معاً وحرمة أحدهما، كان الأصل المثبت للتكليف في كل منهما مورداً للأثر، لاقتضائه الاجتناب عنه من حيث كونه بنفسه إطاعة للتكليف المنجز فيه، لا من حيثية كونه احتياطاً في التكليف الواحد الذي اقتضاه العلم الإجمالي المفروض، وليس الأثر المذكور منافياً لعلم في المقام حجة بالذات.

وكذا لو فرض ترتب الأثر على الأصل الجاري في بعض الأطراف بالنحو الذي لا يقتضيه العلم الإجمالي، كما لو كان لأحد الإنائين المعلوم طهارة أحدهما ونجاسة الآخر ملاقٍ، فإن العلم الإجمالي لما لم يقتض

ص: 238

الاجتناب عنه كان لاستصحاب نجاسة الملاقي أثر عملي مصحح لجريانه، وليس الأثر المذكور منافياً للعلم الإجمالي ليمنع من جريانه، بخلاف ما لو كان لكلٍ منهما ملاقٍ، لأن العلم الإجمالي بطهارة أحد الملاقيين مانع من جريان الأصل في الطرفين لعين الملاك المتقدم.

نعم، يجري الأصل في الطرفين معاً في مثل من توضأ بمايع مردد بين الماء والبول، فإن أثر الأصل في كل طرف لا ينافي العلم الإجمالي عملاً، ليمنع من جريانه.

لابد في جريان الأصل من ترتب العمل

وبالجملة: لابد في جريان الأصل من ترتب العمل عليه بنحوٍ لا ينافي العلم، وإلا كان العلم مانعاً منه لحجيته ذاتاً، ولا يختص ذلك بما إذا لزم الترخيص في المعصية، بل ليس محذور الترخيص في المعصية إلا من صغريات ذلك.

ما رتبه السيد الحكيم قدس سرة على ذلك

ثم إن سيدنا الأعظم قدس سرة قد رتب على ذلك أنه لو علم إجمالاً بوجوب شيء أو واستحباب آخر، امتنع الرجوع لأصالة البراءة في محتمل الحرمة وسائر القواعد النافية للتكليف عقلية كانت أو شرعية، لأن العلم الإجمالي بيان على الواقع مصحح للعقاب على مخالفته.

وقد ذكر ذلك في مباحث خلل الوضوء من مستمسكه(1).

توجيه ما ذكره السيد الحكيم قدس سرة

وكأن الوجه في ذلك: أن حجية العلم الإجمالي في المقام تقتضي تنجيز المعلوم بالإجمال على إجماله، فيجب الفراغ عن الحرمة التي يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها، لتنجزها بذلك، ويمتنع مع ذلك الرجوع للقواعد الظاهرية المرخصة فيها.

ص: 239


1- راجع ج: 2 المسألة: 42 و 44 من فصل شرائط الوضوء.

وفيه: أن العلم الإجمالي وإن كان حجة ومقتضياً للعمل - كما تقدم - إلا أنه مع فرض وجود جهة مشتركة في مقام العمل بين الأطراف فهو إنما يقتضي العمل بالنحو المشترك بينها، لأنه المتيقن، لا بالنحو المختص ببعضها، ليمنع من الأصل المنافي له.

فحيث كان وجوب الإطاعة عقلاً من شؤون الحكم الإلزامي المعبر عنه بالتكليف، ورجحانها من شؤون الحكم الاقتضائي وإن لم يكن إلزامياً فالعلم الإجمالي إن تعلق بوجوب أحد أمرين أو حرمته اقتضى وجوب الإطاعة لإحراز موضوعها، وإن تعلق باستحباب أحد أمرين أو كراهته اقتضى رجحانها، وإن تعلق بوجوب أمر أو حرمته واستحباب آخر أو كراهته لم يكن وجه لاقتضائه وجوب الإطاعة، لعدم العلم بموضوعه - وهو التكليف - بل ينبغي الاقتصار على رجحانها، للعلم بتحقق موضوعه، وهو الحكم الاقتضائي الأعم، وحينئذٍ لا وجه لمنع العلم الإجمالي المذكور من الرجوع للقواعد الظاهرية الشرعية والعقلية المقتضية للترخيص ورفع الحرج بالإضافة لاحتمال التكليف بعد فرض تحقق موضوعها وهو الشك. ولذا لا إشكال في الرجوع إليها مع العلم بوجوب شيء أو استحبابه، وليس هو كالعلم بوجوب شيء أو حرمته الذي قد يكون منجزاً ولو بلحاظ بوجوب الفحص حتى في الشبهة الموضوعية لو أمكن، ولا يسقط عن التخيير إلا بتعذر ترتب الأثر عليه. وما ذكره قدس سرة في وجه الفرق بين وبين الفرضين السابقين غير ظاهر، كما يظهر بمراجعة كلامه والتأمل فيه.

ولذا لا إشكال في الرجوع إليها مع العلم بوجوب شيء أو استحبابه، وليس هو كالعلم بوجوب شيء أو حرمته الذي قد يكون منجزاً ولو بلحاظ

ص: 240

وجوب الفحص حتى في الشبهة الموضوعية لو أمكن، ولا يسقط عن التنجيز إلا بتعذر ترتب الأثر عليه. وما ذكره قدس سرة في وجه الفرق بينه وبين الفرضين السابقين غير ظاهر، كما يظهر بمراجعة كلامه والتأمل فيه.

هذا، وقد صرح قدس سرة في مباحث خلل الصلاة(1) بأن العلم الإجمالي في الفرض المذكور لا يكون بياناً على التكليف فلا يمنع من الرجوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، إلا أنه يمتنع معه الرجوع للأصل الشرعي - كأصالة الحل - لأن مفاده حكم طريقي، والعلم الإجمالي - كالعلم التفصيلي - رافع لموضوع الحكم الطريقي، للزوم التناقض ونقض الغرض وغير ذلك مما يمنع من جعل الحكم الظاهري مع العلم.

وفيه: أن العلم الإجمالي إن كان منجزاً لاحتمال التكليف في الفرض كان رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما ذكره قدس سرة أولاً.

وإلا لم يمنع من الرجوع للأصل الشرعي النافي له، كما في سائر موارد جعل الحكم الظاهري الملازم لاحتمال مخالفة الحكم الواقعي غير المنجز.

والحاصل: أن عموم حجية العلم الإجمالي في الأحكام التكليفية وغيرها إنما يمنع من الرجوع للأصول الشرعية والعقلية مع منافاتها عملاً لمقتضى العلم الإجمالي، لا في مثل المقام مما كان العلم الإجمالي قاصراً عن اقتضاء العمل بنحو ينافي الأصل.

ومن هنا قد يتجه ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سرة في العروة الوثقى من

ص: 241


1- راجع المسألة: 21 من ختام خلل الصلاة ومقتضى ما حكى عن نسخته المخطوطة إن هذا الوجه هو الذي بنى عليه أولاً، وانه قد عدل عنه إلى ما سبق. «منه، عفى عنه».

أنه لو توضأ المكلف وضوئين، وصلى بعد أحدهما فريضة وبعد الآخر نافلة، وعلم إجمالاً بالحدث بعد أحد الوضوئين بالنحو المستلزم لبطلان إحدى صلاتيه، فلا تجري قاعدة الفراغ، لا في الفريضة ولا في النافلة، بل تجب إعادة الفريضة وتستحب إعادة النافلة.

وأقره على ذلك جماعة من المحشين المعاصرين.

للفرق بأن قاعدة الفراغ لا تختص بالفريضة، بل هي كما تقتضي عدم وجوب الإعادة فيها تقتضي عدم استحبابها في النافلة، فتنافي العلم الإجمالي المذكور عملاً، وكذا الحال في سائر الأصول المنافية عملاً لمقتضى العلم الإجمالي، سواء كانت من سنخ واحد - كالاستصحابين - أم من سنخين إذا فرض التعارض بينها في الأطراف.

بخلاف أصل البراءة فإنه مختص بنفي التكليف، فلا ينافي العلم الإجمالي في الفرض المتقدم، لأنه لا يقتضي الإلزام، كما ذكرنا.

لكن الفرق المذكور إنما يمنع من جريان قاعدة الفراغ بناء على أن مفاد الأصول والقواعد الترخيصية الظاهرية - ومنها قاعدة الفراغ - إثبات الرخصة مطلقاً ومن جميع الجهات، بنحو تنافي العلم الإجمالي المقتضي للعمل، حيث لابد حينئذٍ من قصور أدلتها تخصيصاً أو تخصصاً عن شمول الأطراف، أما بناء على ما سبق من أن مقتضى أدلة الأصول جعل مضمونها من ترخيص أو غيره من حيثية موضوعها وهو الشك، لا مطلقاً، فلا تنافي العمل بالعلم الإجمالي، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في المقام.

وتوضيحه: أن المقتضي للإعادة أمران:

الأول: قاعدة الاشتغال في كل من الصلاتين، لأن الشك إنما هو في

ص: 242

امتثال التكليف والفراغ عنه بعد إحرازه.

الثاني: العلم الإجمالي ببطلان إحدى الصلاتين المستلزم للعلم بثبوت أحد الحكمين.

وليس مفاد قاعدة الفراغ إلا إهمال الشك من الحيثية الأولى، وأن الشك في الامتثال لا يعتنى به من حيثية كونه شكا بعد الفراغ، وهو لا ينافي الإعادة من الحيثية الثانية، وهي حيثية العلم الإجمالي.

وحيث عرفت أن العلم الإجمالي بثبوت الوجوب أو الاستحباب لا يقتضى تنجيز احتمال الوجوب بنحو يلزم بالعمل، بل هو حجة في إثبات أصل المشروعية والحكم الاقتضائي بالمعنى الأعم، المقتضي لرجحان العمل وحسن الاحتياط، فلا مجال للبناء في المقام على لزوم إعادة الفريضة، بل غاية الأمر رجحان إعادة كل من الصلاتين.

وبعبارة أخرى: وجوب إعادة الفريضة في المقام إن كان من جهة العلم الإجمالي، فقد عرفت أنه لا ينجز احتمال الوجوب في مثل ذلك.

وإن كان من جهة قاعدة الاشتغال للشك في الامتثال مع إحراز التكليف، فلا مجال لها مع عموم أدلة قاعدة الفراغ المقتضية لإلغاء الشك المذكور في كل من الصلاتين وعدم وجوب الإعادة من حيثيته، وقد تقدم أن ذلك لا ينافي العمل بالعلم الإجمالي من حيثيته. فتأمل جيداً.

المقام الثاني: في الموافقة القطعية

المقام الثاني: في الموافقة القطعية.

والمعروف المشهور وجوبها في المقام، وعن بعض دعوى الإجماع عليه، وإن كان القول بجواز تركها والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية محكياً عن بعض، وليس هو شاذاً كإنكار حرمة المخالفة القطعية.

ص: 243

توجيه جواز ترك الموافقة القطعية

وكيف كان، فجواز ترك الموافقة القطعية..

إما أن يكون لدعوى: قصور العلم الإجمالي عن اقتضائها.

أو لدعوى وجود المانع بعد فرض تمامية اقتضائه لها في نفسه.

دفع التوجيه المذكور

أما الأولى فيظهر اندفاعها مما تقدم في مباحث القطع، من أن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز، وما تقدم في التمهيد لمحل الكلام من أن تنجيز التكليف يقتضي بحكم العقل لزوم إحراز الفراغ عنه المساوق لوجوب الموافقة القطعية، وهو المراد بقاعدة: (إن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني).

وقد يظهر خلاف ذلك، مما حكاه شيخنا الأعظم قدس سرة عن المحققين الخونساري والقمي قدس سرة حيث ذكرا في دوران الواجب بين أمرين أن الدليل إذا دل على وجوب شيء معين في الواقع مردد عندنا - كما في اختلاف الأمة على قولين - حرم ترك كلا الأمرين، للعلم بحصول العقاب به، وجاز الاكتفاء بأحدهما في الخروج عن العقاب، لعدم الدليل على وجوب الجمع بينهما حينئذٍ.

بل ذكر المحقق القمي قدس سرة أن التكليف بالأمر المجمل على إجماله مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهل العدل على استحالته.

نعم، ذكرا أنه لو فرض دلالة الدليل على وجوب الشيء المعين في الواقع من دون اشتراطه بشيء من العلم كان الواجب الاحتياط بالجمع بين المحتملين.

إلا أن المحقق القمي قدس سرة قال: «ولكن من أين هذا الفرض، وأنّى يمكن إثباته؟».

ص: 244

وظاهرهما أن وجوب الموافقة القطعية هو المحتاج إلى الدليل، وأن مجرد التكليف إجمالاً لا يقتضيه، بل غاية ما يقتضي المنع عن المخالفة القطعية.

ولا يخفى اضطراب كلامهما، كما أطال شيخنا الأعظم قدس سرة في تعقيبه، فإنه إن كان مرادهما أن الأصل في الواجب أن يكون مشروطاً شرعاً بالعلم، وأن التكليف به على إجماله محتاج إلى دليل.

فيدفعه: أن أخذ العلم في الواجب وإن كان ممكناً في الجملة، ولو بنحو نتيجة التقييد، إلا أنه خلاف إطلاق الأدلة، وخلاف ظاهر أدلة الأصول، كما أشرنا إليه في المقام الأول، بل هو خلاف الإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

وعليه يكون الأصل في الواجب عدم الاشتراط بالعلم، من دون حاجة إلى دليل خاص، ليتسنى إنكاره من المحقق القمي قدس سرة.

وإن كان المدعى أن الواجب شرعاً وإن كان مطلقاً، إلا أن العلم به على إجماله لا يقتضي تنجيزه عقلاً بالنحو المقتضي لوجوب الفراغ عنه.

فهو مخالف لما عرفت من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز بالنحو المقتضي لوجوب الامتثال، ووجوب إحرازه عند الشك فيه عقلاً.

ودعوى: أنه لما كان العلم الإجمالي عبارة عن العلم بوجوب أحدهما فهو لا يقتضي إلا تنجيز أحدهما بالنحو المقتضي لعدم تركهما معاً، دون ما زاد عليه من الخصوصية، لعدم المنجز لها بعد الجهل بها، فالامتثال بأحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز، وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف

ص: 245

الواقعي.

مدفوعة: بأن تنجيز العلم على حسب الواقع المعلوم، والمفروض أن التكليف المعلوم مشتمل على إحدى الخصوصيتين، فالخصوصية معلومة على إبهامها إجمالاً، فيلزم إحراز الفراغ عنها.

وليس التكليف المعلوم وارداً على أحدهما، ليتنجز أحدهما معرى عن الخصوصية، وإلا كان علماً تفصيلياً بوجوب أحد الأمرين، كما في الواجب التخييري، لا علماً إجمالياً، كما هو المفروض.

ما ذكره المحقق القمي قدس سرة من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة

هذا، مضافاً إلى أن ما ذكره المحقق القمي قدس سرة في وجه امتناع التكليف بالأمر المجمل من استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة مناف لما ذ كراه من فرض دلالة الدليل على وجوب الشيء المعين من دون اشتراطه بالعلم، الظاهر في إمكانه ثبوتاً وإن احتاج في مقام الإثبات إلى الدليل.

مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة - لو فرض كونه علة تامة في القبح بحيث لا يرتفع قبحه بالمزاحمة - مختص بالإجمال الناشئ من قبل الشارع، دون ما ينشأ من الطوارئ الخارجية، كظلم الظالمين، وكذب المفترين، وخطأ الرواة والمجتهدين.

بل لا يبعد اختصاصه بما يوجب توهم خلاف الواقع في مقام العمل، كالعام المراد به الخصوص، دون ما لا يوجب إلا إجمال الحال، الموجب للتخير بدواً، ثم الرجوع للقواعد العقلية أو الشرعية إذا كانت مقتضية للاحتياط، كما في المقام.

اللهم إلا أن يكون المراد بتأخير البيان عن وقت الحاجة الإشارة إلى قبح العقاب من غير بيان، فيراد بوقت الحاجة ما يساوق التنجيز المصحح

ص: 246

للعقاب.

لكن يشكل حينئذٍ: بأنه يكفي في البيان الرافع للقبح المذكور العلم الإجمالي، بعد ما عرفت من منجزيته عقلاً بالنحو المقتضي لوجوب الموافقة القطعية.

وبالجملة: ما ذكراه لا يرجع إلى محصل ظاهر يمكن الركون إليه في الخروج عما ذكرنا من تمامية المقتضي لوجوب الموافقة القطعية في المقام.

وأما الثانية، فلا منشأ لها إلا توهم كون ذلك مقتضى أدلة الأصول بعد امتناع جريانها في تمام الأطراف، فاللازم النظر في صلوح أدلة الأصول لذلك وعدمه.

حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية

وتوضيحه: أنه تقدم في التمهيد لمحل الكلام أن وجوب الموافقة القطعية راجع إلى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني،

توقف الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية على أمور

المعبر عنه ب «قاعدة الاشتغال»، وأن رفع اليد عنه بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية يتوقف على أحد أمور..

الأول: رفع موضوع القاعدة الفعلية

الأول: رفع موضوع القاعدة المذكورة، إما برفع فعلية التكليف في فرض الشك في امتثاله، بحيث يكون الشك المذكور رافعاً للتكليف على تقدير عدم امتثاله، أو برفع تنجيزه حينئذٍ.

الثاني: تحقيق مقتضاها بنصب الطريق

الثاني: تحقيق مقتضاها بالتعبد بما يحرز الامتثال، بنصب الطريق إليه أو جعل الأصل العملي فيه.

وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من جواز الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي بنحو جعل البدل الظاهري، بأن يكون مراده به التعبد بأنه الحرام المعلوم بالإجمال الذي يكون امتثاله بمراعاته،

ص: 247

وأن الطرف المرخص فيه غيره.

وإلا فلا معنى لجعل البدل الظاهري بمجرد تحريم أحد الطرفين والترخيص في الآخر، مع المحافظة على لزوم إحراز الفراغ الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال، بل لازمه عدم لزوم إحراز الفراغ اليقيني، مع أن ظاهره المفروغية عن لزومه وعدم جواز الخروج عنه.

وبعبارة أخرى: تفسير جعل البدل بما ذكرنا وإن كان هو صريح كلام بعضهم، إلا أن كلام شيخنا الأعظم قدس سرة غير صريح فيه(1)، بل قد يظهر منه أنه عبارة عن مجرد المنع من بعض الأطراف والترخيص في بعضها، وإنما يتعين حمل كلامه على ما ذكرنا بضميمة ظهور كلامه في لزوم إحراز الفراغ، وهو لا يحرز بمجرد المنع عن بعض الأطراف، بل لابد من ابتنائه على ما ذكرنا.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن الترخيص في بعض الأطراف - ولو لاختصاص الأصل الشرعي المرخص لبعضها - يستلزم بدلية الآخر قهراً، وانه كاف في تحقق الفراغ التعبدي الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال نظير الفراغ التعبدي بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ.

فيندفع: بأن مجرد الترخيص من دون نظر للمعلوم بالإجمال لا يرجع إلى التعبد بالفراغ عنه، لوضوح أن الفراغ عن التكليف متفرع عنه ووارد عليه، فلابد من نظر دليل التعبد بالفراغ للتكليف الذي يراد الفراغ عنه وامتثاله، كما ذكره شيخنا الأستاذ.

أما مجرد الترخيص من دون نظر للتكليف المنجز ولا شرح لإجماله

ص: 248


1- ربما يستظهر هذا من بعض كلماته قدس سرة فراجع. «منه عفي عنه».

فهو عبارة أخرى عن الترخيص في المخالفة الاحتمالية، والردع عن وجوب الموافقة القطعية الذي يأتي الكلام فيه، وهو راجع إلى رفع اليد عن مقتضى قاعدة الاشتغال لا تحقيق مقتضاها. فلاحظ.

الثالث: الردع عن الوجوب

الثالث: الردع عن وجوب إحراز الامتثال والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، بناء على ما تقدم منا من أن حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال اقتضائي قابل للردع.

أما الأول فلا مجال لاستفادته من أدلة الأصول، لما تقدم في المقام الأول، من أنها واردة في مقام تنجز التكليف وجعل الوظيفة العملية فيه بعد الفراغ عن فعليته ثبوتاً.

كما تقدم أيضاً امتناع الردع عن منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي، لأنها من شؤون حجيته الذاتية.

ولاسيما مع ظهور بعض أدلة الأصول في المفروغية عن حجية العلم.

وكذا الحال في الثاني، لوضوح أن أدلة الأصول ظاهرة في رفع التكليف الواقعي في مقام التنجيز، وهو يقتضي رفع التكليف في تمام الأطراف بمقتضى عموم أدلتها، بعد فرض تحقق موضوعها فيها، وهو يستلزم جواز المخالفة القطعية، ولا نظر فيها للمعلوم بالإجمال والتعبد بتعيينه في بعض الأطراف لتكون مراعاته امتثالاً تعبدياً للمعلوم بالإجمال محققاً لمقتضى قاعدة الاشتغال، بل ذلك محتاج إلى بيان آخر نظير أدلة القرعة الظاهرة في رفع الإجمال لها.

وأين ذلك من مفاد أدلة الأصول الظاهرية؟!.

إن قلت: احتمال الحلية في أطراف العلم الإجمالي ليس كاحتمالها

ص: 249

في موارد الشبهة البدوية، فإن احتمالها في موارد الشبهة البدوية في عرض واحد، فيكون مفاد أدلة الحل والبراءة الترخيص فيها كذلك.

أما احتمالها في أطراف العلم الإجمالي فهو بنحو آخر، لأن احتمال الحلية في كل منها راجع إلى احتمال الحرمة في الآخر، فإعمال أدلة البراءة والحل في كل منها كما يقتضي الترخيص فيه يقتضي البناء على الحرمة في الآخر، ولا يقتضي الترخيص في الجميع ليستلزم المخالفة القطعية.

بل يكون المحصل من ذلك هو البناء على حرمة أحد الأطراف تخييراً.

وربما يكون ذلك هو مراد شيخنا الأعظم قدس سرة في تقريب جعل البدل الظاهري في المقام.

قلت: هذا الوجه لو تم لا يقتضي دلالة أدلة الأصول على جعل البدل الظاهري في أطراف العلم الإجمالي، لما عرفت من لزوم ابتنائه على التعبد بتعيين المعلوم بالإجمال المستلزم للتعبد بتحقق الامتثال بمراعاة بعض الأطراف، كي لا يكون التعبد به منافياً للزوم إحراز الفراغ، وهذا الوجه لا يتضمن إلا مجرد الترخيص في بعض الأطراف والمنع عن بعضها، من دون أن يتضمن تعيين المعلوم بالإجمال، لعدم النظر في أدلة الأصول إلى تعيين الواقع المجهول وشرحه، كما أشرنا إليه.

توهم انحلال العلم الإجمالي بالتعبد بالحرمة في بعض الأطراف

وتوهم: أن التعبد بالحرمة ظاهراً في بعض الأطراف تخييراً وإن لم يوجب تعيين المعلوم بالإجمال، إلا أنه موجب لانحلال العلم الإجمالي وعدم تنجيزه، وهو كاف في المقام.

مدفوع: بأن العلم الإجمالي إنما ينحل بالتعبد بالتكليف في بعض الأطراف تعييناً، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مورد التعبد

ص: 250

الموجب لعدم الأثر للتكليف المعلوم بالإجمال.

أما التعبد بالحرمة تخييراً فلا يكفي في حل العلم الإجمالي، للعلم بعدم انطباق موضوع التعبد على المعلوم بالإجمال بعد فرض قيام المعلوم بالإجمال بإحدى الخصوصيتين بعينها.

بل الترخيص الظاهري في كل منهما تخييراً مناف للتكليف المعلوم بالإجمال فيمتنع، ولذا لا يكون التحريم التخييري الواقعي مانعاً من منجزية العلم الإجمالي، ولا يوجب انحلاله، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد إنائي زيد، وكان زيد قد منع من شرب أحدهما وأجاز شرب الآخر تخييراً.

هذا بناء على رجوع الوجه المذكور إلى التعبد بالترخيص والمنع التخييريين، أما بناء على ما يأتي من أنه لابد من رجوعه إلى المنع عن أحدهما والترخيص في الآخر تعييناً لكن بشرط الاختيار، فيكون الاختيار بين الشكين شرطاً في المنع التعييني لا من آثار المنع التخييري، فالتعبد بالمنع المذكور وإن كان صالحاً لحل العلم الإجمالي، إلا أنه لا يصلح لحل العلم الإجمالي في المقام، لتأخره عن العلم الإجمالي رتبة ً وزماناً، لوضوح أن اختيار إعمال دليل الأصل في أحد الشكين متأخر عن حدوث الشك، وحيث أن الشك بالوجه المذكور من لوازم العلم الإجمالي، يكون التعبد متأخراً عن العلم الإجمالي ولا يصلح لحله. فتأمل جيداً.

عدم تمامية الوجه المذكور في نفسه

هذا كله مع أن الوجه المذكور غير تام في نفسه..

أولاً: لأنه إن أريد به التلازم بين احتمال الحل في بعض الأطراف واحتمال الحرمة في بعضها الآخر، فهو مسلَّم، للتلازم بين المحتملين، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل المثبت.

ص: 251

وإن أريد به وحدة الاحتمال، فيد فعه: أن المعيار في وحدة الاحتمال وحدة المحتمل، ومن الظاهر تعدد المحتملين، وهما الحل والحرمة، وتعدد متعلقيهما.

مع أن وحدة الاحتمال لا تكفي في إثبات حرمة الطرف الآخر بعد أن كان مفاد أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة لا غير، فإن اللازم الاقتصار على مفاد دليل التعبد، ولا إطلاق له يقتضي التعبد بمؤدى الاحتمال المذكور من جميع الجهات حتى جهة الحرمة في الطرف الآخر.

وثانياً: لأن ظاهر أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة مع احتمالها في جميع مواردهما بنحو العموم الاستغراقي، وهو يقتضي في المقام التعبد في كل طرف بالضدين، فيتعين سقوط العموم فيهما معاً.

وحمله في المقام على التخيير بين الاحتمالين لا دليل عليه، ولا يناسبه لسان دليل الجعل. ومجرد امتناع الاستغراق هنا لا يعينه ما لم يكن أقرب عرفاً من غيره بنحو يعين العرف حمل الإطلاق عليه، وليس الحال كذلك في المقام.

وتوهم قياسه على ما إذا علم بعدم وجوب الجمع بين فردين من أفراد العام ودار الأمر بين خروجهما معاً وخروج أحدهما تخييراً، كما لو وجب إكرام العلماء، وعلم بعدم وجوب الجمع بين إكرام زيد وعمرو، واحتمل وجوب إكرام أحدهما تخييراً، فإنه يجب البناء عليه، اقتصاراً في مخالفة العموم على المتيقن.

مدفوع: بالفرق بين المقامين، فإن الأمر في المقيس عليه يدور بين خروج الفردين عن العموم رأساً وبقائهما معاً مع تقييداً الحكم فيهما بما

ص: 252

يناسب التكليف التخييري، والثاني أقرب إلى العمل بالعام.

أما في المقام فلا مجال للحكم التخييري، لوضوح أنه يلزم في الحكم الظاهري أن يكون قابلاً للانطباق على الحكم الواقعي، بنحو يحتمل إصابته له، وحيث كان المعلوم بالإجمال هو التكليف التعييني فلابد من كون التعبد المفروض بحكم تعييني أيضاً، وحيث كان التعبد في كلا الطرفين كذلك مستلزماً للتعبد بالضدين - كما ذكرنا - وتطبيق العام على أحدهما بخصوصه ترجيحاً بلا مرجح، تعين خروج كلا الفردين عن عموم العام بدواً.

ولابد أن يكون مرجع التخيير في المقام إلى كون اختيار المكلف لأحد الطرفين شرطاً لانطباق العموم عليه، فلا يكون الموضوع محض الشك، بل الشك مع الاختيار.

ومن الظاهر أن أخذ الاختيار في موضوع الحكم محتاج إلى مؤنة زائدة غير عرفية.

فالمقام نظير عموم الحكم الوضعي - كالنجاسة ونحو ها مما لا يقبل الوجود التخييري - لو فرض تعذر عمومه لفردين، فإن إمكان العمل به في أحدهما مشروطاً باختياره وإن كان ممكناً، إلا أنه ليس عرفياً، فلا يحمل عليه العموم.

بل الأقرب عرفاً البناء في مثل ذلك على شمول العام لكل منهما اقتضاء مع عدم فعلية حكمه لأجل المحذور المذكور.

نعم، لو دل الدليل الخاص على الرجوع للتخيير كان متعيناً، كما ورد في من تزوج أختين أو خمساً في عقد واحد(1)، على كلام لا مجال

ص: 253


1- الوسائل، ج 14، باب: 4 من أبواب ما يحرم المصاهرة، حديث: 1 و 2.

لاستقصائه.

إن قلت: أدلة الأصول وإن لم تنهض بتعيين المعلوم بالإجمال، وجعل البدل فيه، لعدم النظر فيها إلى الواقع، إلا أنه لما كان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ممتنعاً إلا بجعل البدل، الراجع إلى تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ولو بسبب بناء المكلف عليه واختياره له، كان مقتضى عموم أدلة الأصول للأطراف ثبوت اللازم المذكور شرعاً، وجعل البدل وإن لم يكن مقتضى أدلة الأصول مطابقة، إلا أنها تدل عليه بدلالة الاقتضاء تصحيحاً لجريانها في الأطراف الذي هو مقتضى عمومها.

وربما يحمل كلام شيخنا الأعظم قدس سرة في تقريب جعل البدل على ذلك. فراجع.

قلت: جعل البدل بالنحو المذكور لا يصحح جريان الأصل، بل يمنع عنه، لأنه مع فرض إحراز المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يتعبد بعدم التكليف في الآخر، فلا يحتاج معه للأصل الظاهري الترخيصي، بل هو نظير الأصل المسببي الذي لا يحتاج إليه مع الأصل السببي.

نعم، لو فرض الشك في ثبوت التكليف فيه زائداً على المعلوم بالإجمال احتيج للأصل. لكنه لا يتوقف على جعل البدل، بل يجري بدونه وإن لم يترتب عليه جواز ارتكاب بعض الأطراف بسبب لزوم الاجتناب من جهة العلم الإجمالي.

هذا، مع أنه إذا توقف عموم العام لفرد على إعمال عناية زائدة على حكم العام فلا تنهض أصالة العموم بإثبات العناية المذكورة تصحيحاً لعمومه له.

ص: 254

خصوصاً مع كون مقتضى ذلك في المقام هو الترخيص التخييري بالوجه المتقدم، وظاهر العام هو الشمول لتمام الأطراف بنحو الاستغراق، إذ لا منشأ لحجية أصالة العموم إلا بناء العقلاء، وهو غير ثابت في مثل ذلك.

بل الأقرب عندهم البناء على تحقق مقتضي حكم العام مع عدم فعليته، لأجل المانع المفروض، كما تقدم.

نعم، لو فرض ورود الترخيص في خصوص بعض أطراف العلم الإجمالي تعين حمله على جعل البدل بالوجه المذكور لو فرض انحصار إمكان الترخيص به، رفعاً للغوية، ويكون مفاده مبايناً لمفاد الأصل، بل يكون نظير القرعة الرافعة لإجمال المعلوم.

وبالجملة، لا مجال لاستفادة جعل البدل من أدلة الأصول، كما لا مجال لحملها على التعبد بتحقق الامتثال المعلوم بالإجمال، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال.

الكلام في استفادة الردع من أدلة الأصول

وأما الثالث - وهو الردع عن وجوب الموافقة القطعية والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي - فهو وإن كان ممكنا بناء على ما سبق منا، إلا أنه لا مجال لحمل أدلة الأصول الترخيصية عليه لانصرافها لبيان رفع التكليف عملاً، الراجع إلى عدم منجزية الاحتمال له، لا الترخيص في مخالفته الاحتمالية بعد فرض المنجز له من علم ونحوه.

إن قلت: هذا قد يتم في مثل التكليف التحريمي لو فرض بقاء الابتلاء بجميع أطرافه، للعلم حينئذٍ ببقائه، أما التكليف الوجوبي مع الامتثال الاحتمالي ببعض أطرافه، أو التحريمي لو طرأ ما يوجب سقوط التكليف

ص: 255

عن بعض أطرافه لخروجه عن محل الابتلاء أو انعدامه - كما لو أريق أحد الإنائين - فلا يعلم ببقائه حينئذٍ، بل يكون مشكوكاً، ومقتضى أدلة البراءة رفعه ظاهراً وإن لم يقطع بموافقته، وهو مستلزم لعدم وجوب إحراز الفراغ عنه والترخيص في مخالفته الاحتمالية على خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال.

قلت: المنصرف من الشك في أدلة الحل والبراءة وغيرهما هو الشك في أصل ثبوت التكليف الذي لا منجز معه عقلاً، لا الشك في ثبوت التكليف الناشئ من احتمال امتثاله أو سقوط التكليف عنه بعد فرض المنجز له، فإن تنجيزه حينئذٍ بالعلم السابق الذي لا يمكن الردع عنه، لا بالشك لتنهض الأصول برفع تنجيزه.

نعم، يمكن للشارع الردع عن امتثاله اليقيني بعد فرض تنجزه بالعلم وقد ذكرنا عدم نهوض أدلة الأصول بذلك.

وبالجملة: أدلة الأصول المذكورة مسوقة مساق قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا بنحو تنافي قاعدة الاشتغال، ولذا لا يتوهم اقتضاؤها نفي التكليف المحتمل امتثاله مع العلم التفصيلي به، كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سرة.

ومن ثم لا يكون ما دل على الاعتناء بالشك قبل تجاوز المحل أو قبل خروج الوقت من سنخ المخصص لأدلة الأصول المذكورة.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما يصحح الاكتفاء بترك الموافقة القطعية بين ما يمتنع جعله في المقام وما لا تنهض أدلة الأصول به، فيتعين لذلك البناء على وجوبها، كما في العلم التفصيلي.

بقي الكلام في ثمرة ذلك، فاعلم: أن حرمة المخالفة القطعية إنما

ص: 256

تمنع من العمل بالأصل الترخيصي مع تحقق موضوعه في جميع الأطراف، لامتناع العمل به في جميعها، لأنه مستلزم للمخالفة القطعية، وفي البعض المعين، لأنه ترجيح من غير مرجح، وفي البعض المخير، لامتناع التخيير في الحكم الظاهري مع عدمه في الحكم الواقعي، وعدم الدليل على أخذ الاختيار زائداً على الشك في موضوع الأصل، كما تقدم عند الكلام في الوجه الأول من وجهي استفادة جعل البدل من أدلة الأصول.

جريان الأصل في بعض الأطراف

أما لو اختص موضوع الأصل الترخيصي ببعض الأطراف مع عدم جريان أصل آخر لا ترخيصي ولا إلزامي فلا تصلح حرمة المخالفة القطعية للمنع من العمل به، لعدم لزوم شيء من المحاذير السابقة، وإنما يمتنع ذلك بناء على وجوب الموافقة القطعية.

ومن ثم صرح غير واحد بامتناع جريان الأصل في الفرض - لو وقع - خلافاً لبعض الأعاظم قدس سرة وبعض مشايخنا.

ودعوى: أن أدلة الأصول وإن لم تنهض بالترخيص في المخالفة الاحتمالية والردع عن وجوب الموافقة القطعية، إلا أن ذلك لما كان ممكناً عقلاً - كما تقدم - لم يصلح وجوب الموافقة القطعية للمنع من جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف معيناً في الفرض المذكور، بل مقتضى عموم دليل الأصل جواز الرجوع إليه وإن لزم منه المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالإجمال، فهو وإن لم يكن مسوقاً للردع عن وجوب الموافقة القطعية إلا أنه يستفاد منه ذلك تبعاً.

مدفوعة: بأن مفاد الأصل ليس إلا رفع منجزية الاحتمال وجعل السعة من حيثية الشك، فهو لا يقتضي إلا الترخيص في الطرف بخصوصيته

ص: 257

من الحيثية المذكورة، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه من حيثية وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال بعد فرض عدم ثبوت الردع عنه.

نعم، لو كان مفاد الأصل الترخيص مع الشك مطلقاً ومن جميع الجهات بنحو ينافي وجوب الموافقة القطعية تم ما ذكر.

إلا أنه تقدم عند الكلام في المخالفة القطعية أنه لا مجال لحمل أدلة الأصول على ذلك.

وبعبارة أخرى: المستفاد من الأدلة كون موضوع الأصل حيثية تقتضي الترخيص، كما أن العلم الإجمالي حيثية تقتضي الإلزام، وعند اجتماعهما تقدم الحيثية الثانية في مقام العمل، ولا وجه لكون حيثية الأصل رادعة عن مقتضى حيثية العلم الإجمالي بعد عدم كون مفاد الأصل الترخيص من جميع الجهات بنحو يمنع من تأثير الحيثيات الأخرى.

نعم، لو فرض كون مقتضى الأصل الشرعي أو العقلي في بعض الأطراف معينا هو تنجز احتمال التكليف، كان موجباً لانحلال العلم الإجمالي - كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى - فلا يكون منجزاً للمعلوم بالإجمال بنحو يمنع عن المخالفة القطعية، فضلاً عن المخالفة الاحتمالية، فيتجه العمل بالأصل الترخيصي في بعض الأطراف بلا إشكال.

ومنه يظهر حال ما ذكره بعض مشايخنا من النقض على من يدعي امتناع جريان الأصل في بعض الأطراف..

تارة: بما إذا علم إجمالاً بملاقاة النجاسة لأحد إنائين أحدهما متيقن النجاسة سابقاً.

ص: 258

وأخرى: بما إذا علم المكلف إجمالاً بأنه لم يأت بإحدى الصلاتين، إما صاحبة الوقت أو التي مضى وقتها، حيث إنه في الأول لا إشكال في جريان أصالة الطهارة أو استصحابها في الإناء الذي لا يعلم نجاسته سابقاً، وفي الثاني لا ريب في جريان قاعدة الحيلولة في التي مضى وقتها، وإن لزم منهما المخالفة الاحتمالية.

فإنه يندفع: بانحلال العلم الإجمالي في الأول باستصحاب النجاسة في متيقنها سابقاً، وفي الثاني بقاعدة لزوم الاعتناء بالشك قبل خروج الوقت بالإضافة إلى صاحبة الوقت، فلا منجز فيهما للمعلوم بالإجمال حتى يجب الفراغ عنه.

ونظير ذلك: ما لو كان ثبوت التكليف في بعض الأطراف من آثار نفيه في الطرف الآخر شرعاً، بحيث يكون الأصل النافي فيه صالحاً للتعبد بالتكليف في صاحبه، كما لو احتمل واجد مقدار الاستطاعة ثبوت دين في ذمته يمنع منها، حيث يعلم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين من الحج ووفاء الدين، إلا أن استصحاب عدم تحقق الدين لما كان منقحاً للاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج كان موجباً لانحلال العلم الإجمالي المذكور.

هذا، وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة في وجه إمكان جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف معيناً لو اختص به موضوعه..

تارة: من كونه موجباً لكون الطرف الآخر بدلاً قهرياً عن المعلوم بالإجمال وبه يحصل الفراغ التعبدي عنه.

وأخرى: من كونه موجباً لانحلال العلم الإجمالي، لأن العلم الإجمالي كما ينحل بالمنع من بعض الأطراف، ينحل بالترخيص في بعضها،

ص: 259

لأن الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه، ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمن.

فيندفع بكلا وجهيه..

أما الأول، فلأن الترخيص في بعض الأطراف لا يكفي في كون الآخر بدلاً عن المعلوم بالإجمال، ولا في حصول الفراغ التعبدي، ما لم يكن ناظراً للمعلوم بالإجمال وشارحاً له، كما تقدم في أول الكلام في جعل البدل.

وأما الثاني فلأن الأصل الجاري في بعض الأطراف إنما يوجب التأمين عنه من حيثية كونه مشكوكاً، ولا يوجب التأمين عن التكليف المعلوم بالإجمال المنجز في نفسه بعد عدم نظره إليه ولا شرحه لإجماله.

بل الطرف المذكور من ناحية المعلوم بالإجمال كالطرف الآخر الذي لا يجري فيه الأصل، فإن الإقدام على كل منهما موجب لاحتمال الوقوع في مخالفته، فمع فرض تنجز المعلوم بالإجمال، ولزوم إحراز الفراغ عنه يتعين الاجتناب عن كلا الطرفين، المستلزم لعدم العمل بالأصل الترخيصي الجاري في بعض الأطراف.

هذا، مضافاً إلى اختلاف مبنى الوجهين، لابتناء الأول على منجزية العلم الإجمالي مع اقتضاء الأصل التعبد بالامتثال الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال، وابتناء الثاني على عدم منجزية العلم الإجمالي بسبب انحلاله، فلا موضوع للقاعد ة.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن العلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي، فكما يجوز أن يكتفي الشارع مع العلم التفصيلي بالامتثال الاحتمالي - كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز - كذلك يجوز له الاكتفاء

ص: 260

به مع العلم الإجمالي بطريق أولى.

لاندفاعه: بأنه إن أريد من الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي التعبد بالفراغ في ظرف الاحتمال - كما يظهر منهم في مورد قاعدة الفراغ - فقد تقدم عدم صلوح الأصل له.

وإن أريد به الاكتفاء به مطلقاً ولو مع عدم التعبد بالفراغ فهو وإن كان ممكنا - كما تقدم منا - إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به، كما عرفت.

هذا، مضافاً إلى النقض على ذلك بما أشار إليه بعض الأعاظم قدس سرة، وهو ما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد إنائين أحدهما متيقن الطهارة سابقاً دون الآخر، فإن استصحاب الطهارة في متيقنها يعارض بأصالة الطهارة في الآخر، وبعد تساقطهما تتعارض أصالة الطهارة في الأول مع أصالة الحل في الآخر، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول بلا معارض، فيلزم جواز ارتكابه، مع أنه لا مجال للالتزام به.

وقد أجاب قدس سرة عن ذلك: بأن ملاك التعارض بين الأصول لما كان هو تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها وكان مفاد استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة واحداً لزم سقوطهما معاً بالمعارضة لأصالة الطهارة في الإناء الآخر.

ومجرد حكومة الاستصحاب في مورد ه على قاعدة الطهارة لا يوجب سقوط استصحاب الطهارة أولاً، ثم انفراد أصالة الطهارة فيه بالجريان.

ومن ثم ذكر قدس سرة أنه لم يعثر على مورد لجريان الأصل في بعض الأطراف دون الآخر.

لكن ما ذكره قدس سرة لا يناسب مسلكه في تقدم الأصول الحاكمة على

ص: 261

المحكومة، كما ذكره شيخنا الأستاذ (دامت بركاته).

ولا ينبغي تطويل الكلام في ذلك بعد ما تقدم مما يقتضي المنع عن العمل بالأصل في الفرض.

الكلام في الرجوع للقرعة

بقي الكلام في ما نقله شيخنا الأعظم قدس سرة عن بعضهم من الرجوع للقرعة في المقام.

فاعلم: أنه لا ريب في صلوح القرعة لتمييز المعلوم بالإجمال وشرحه بنحو يرجع إلى التعبد بالامتثال في بعض الأطراف، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال، والذي تقدم أن جعل البدل راجع إليه.

ولا فرق في ذلك بين كونها من الطرق وكونها من الأصول، لأن الأصل إنما لا يصلح لتشخيص المعلوم بالإجمال إذا تمحض في تشخيص الوظيفة العملية من دون نظر للواقع، أما إذا كان ناظراً إليه ووارداً لشرحه فاللازم العمل به على حسب مقتضاه.

ولعله لذا ورد الإرجاع للقرعة في مورد العلم الإجمالي في ما روي عن محمد بن عيسى عن الرجل (ع)، أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة، قال: «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سايرها»(1).

هذا، ولم ينقل شيخنا الأعظم قدس سرة القول بالرجوع للقرعة إلا في الشبهة الموضوعية التحريمية، وربما يتعدى عنها للشبهة الموضوعية الوجوبية، وأما الشبهة الحكمية فقد ادعى المحقق الخراساني قدس سرة الإجماع على عدم الرجوع فيها للقرعة، وظاهر غير واحد ممن تأخر عنه التسالم على ذلك.

ص: 262


1- الوسائل، ج 16، باب: 30 من أبواب الأطعمة المحرمة، حديث: 1.

ويشهد به المعلوم من سيرة الأصحاب في الأصول والفقه من عدم كون القرعة من أدلة الأحكام.

وحينئذٍ يقع الكلام في وجه الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية خروجاً عما عرفت من القاعدة المقتضية للاحتياط، وهو موقوف على النظر في عموم أدلة القرعة ونهوضها بالحجية في المقام فنقول:

طوائف نصوص القرعة

نصوص القرعة على طوائف ثلاث..

الأولى: ما تضمن الإرجاع لها في موارد خاصة، هي بين ما لا تعين فيه للواقع، مثل من أوصى بعتق ثلث مماليكه(1)، أو نذر عتق أول مملوك يملكه فملك أكثر من واحد(2)، وما يكون الواقع فيه متعيناً في نفسه، إلا أنه لا تجري فيه الأصول الشرعية أو العقلية، مثل ما لو وطأ الجارية جماعة فجاءت بولد(3)، وما لو انهدمت الدار وبقي صبيان اشتبه الحر منهما بالعبد(4) وما يكون مجرى لأصالة الاحتياط، كالرواية المتقدمة.

الثانية: ما تضمن تشريعها في موارد التنازع كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع): «ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق»(5) وغيره.

الثالثة: ما تضمن تشريعها في المجهول، ولم أعثر له إلا على معتبر

ص: 263


1- الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 10 و 16.
2- الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 2 و 15. وباب: 57 من أبواب العتق.
3- الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 10 و 14.
4- الوسائل، ج 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 7 و 8 و ج: 17، باب 4 من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليه.
5- الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 6.

محمد بن حكيم «حكم. خ. ل»، سألت أبا الحسن (ع) عن شيءٍ، فقال لي: «كل مجهول ففيه القرعة»، فقلت له: إن القرعة تخطىء وتصيب قال: «كلما حكم الله به فليس بمخطئ»(1).

وأما ما في بعض كلماتهم من ورود تشريعها في كل مشكل فلم أعثر عليه في النصوص، ولعله متصيد من النصوص المتقدمة.

مفاد الطائفة الأولى

أما الطائفة الأولى، فهي مختصة بمواردها، ومجرد ورود بعضها في مورد أصل الاحتياط لا يكفي في عموم الرجوع إليها في موارده والخروج عن القاعدة المتقدمة، ولاسيما مع اختصاصها بصورة لزوم الضرر المالي المعتد به من الاحتياط.

بل ما ورد في الإنائين والثوبين المشتبهين(2) كالصريح في عدم الرجوع.

مفاد الطائفة الثانية

وأما الطائفة الثانية، فهي أجنبية عما نحن فيه، لوضوح عدم الرجوع في شيء من موارد التنازع لقاعدة الاحتياط في فصل الدعوى ليتوهم منافاة تشريع القرعة لذلك، لعدم جواز المطالبة ممن له الحق فيما لو اشتبه حقه بين أمرين بمقتضى الاحتياط، لأنه أكثر من حقه.

دعوى معارضة أدلة الأصول للطائقة الثانية

وأما بقية الأصول - كالاستصحاب ونحوه - بل الأمارات - كاليد والبينة ونحوهما - فقد يدعى أن إطلاق أدلتها معارض لإطلاق هذه الطائفة، لأن النسبة بينها العموم من وجه، لاختصاص أدلة الأصول والأمارات بخصوصيات موضوعاتها - كالحالة السابقة في الاستصحاب والشك في

ص: 264


1- الوسائل، ج: 18، باب: 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء، حديث: 11.
2- الوسائل، ج 1، باب: 8 من أبواب الماء المطلق، حديث: 2 و 14 و ج: 2، باب 64 من أبواب النجاسات، حديث: 1.

التكليف في البراءة وغيرهما - واختصاص هذه الطائفة بموارد التازع.

وربما يدفع: بأن ذكر تفويض الأمر إلى الله تعالى في هذه الطائفة يوجب اختصاصها بما إذا رضي الخصمان بالرجوع إليها، فهي نظير الصلح لا تشرع بنحو الإلزام حتى تكون في عرض الحجج والأصول، بل في ظرف رضا صاحب الحق، فلو لم يرض وكان له أصل أو حجة تعضده لم يصلح دليلها لرفع اليد عنه وإلزامه بها.

وفيه: أن ورود هذا المضمون من النبي (ص) في مقام إمضاء ما فعله أمير المؤمنين (ع) من إجراء القرعة بين المتنازعين، الظاهر في عدم استئذانه (ع) منهم وعدم اصطلاحهم عليها، يوجب ظهوره في عدم اعتبار رضا الخصمين بها، وأنها مشرعة بنحو يلزمان بها ولو لكون الحاكم قائماً مقامها.

نعم، ذكر التفويض إلى الله تعالى ظاهر في أن الرجوع إليها في ظرف الاحتياج إلى حكمه لعدم حكم له في الواقعة، فلا يشمل ما لو كان له تعالى حكم فيها ظاهري أو واقعي مغن عن الرجوع إليها.

وإن شئت قلت: لا إطلاق لهذا اللسان يقتضي مشروعية القرعة في مطلق صورة جهل الحق، بل هو منصرف إلى ما إذا لم يكن لمعرفته طريق شرعي ظاهري أو واقعي، حتى يحتاج إلى تفويض الأمر إليه تعالى وطلب كشف الحال منه، فأدلة الطرق والأصول تكون واردة على العموم المذكور لا معارضة له، ولاسيما مع عدم تضمن العموم المذكور الإلزام بتفويض الأمر إليه تعالى بالاقراع، بل مجرد مشروعية ذلك، فلا ينهض بمعارضة أدلة الطرق والأصول الظاهرة في الإلزام بمؤدياتها. فلاحظ.

ص: 265

مضافاً إلى ما هو المعلوم من ظهور أدلة أحكام المدعي والمنكر في عدم الرجوع للقرعة مع فرضهما في مورد النزاع، لمطابقة قول أحدهما للحجة ومخالفة الآخر لها، فلابد من اختصاص عموم القرعة بما إذا لم يكن هناك مدع ومنكر، لمخالفة كلا المتنازعين للحجة، وهذا كاف في تقديم عمومات أدلة الطرق والأصول على العموم المذكور. تأمل جيداً.

مفاد الطائفة الثالثة

وأما الطائفة الثالثة، فهي وإن كانت شاملة لما نحن فيه، إلا أن عمومها لكل مجهول موجب لكثرة تخصيصها، لوجوب الخروج عنها في جميع موارد الأصول الشرعية، لأنها أخص منها، وفي الشبهات الحكمية من موارد الأصول العقلية، لما تقدم من تسالمهم على عدم الرجوع إليها في الشبهات الحكمية، وفي كثير من موارد الاشتباه الأخر، كاشتباه درهم الودعي بين شخصين، وميراث الغرقى والمهدوم عليهم والخنثى المشكل، واشتباه القبلة، والثوبين، والإنائين المشتبهين وغير ذلك مما دل الدليل الخاص على عدم الرجوع فيه للقرعة، وذلك يوجب طروء الإجمال على العموم المذكور بنحو يسقطه عن الحجية، فلا يمكن الاستدلال به في ما نحن فيه.

ولاسيما مع إعراض الأصحاب عن العموم المذكور، واشتهار القول بوجوب الاحتياط بينهم، وورود بعض النصوص به في بعض الموارد، مثل ما ورد في الإنائين المشتبهين، والثوبين المشتبهين، واشتباه القبلة، فإن ذلك كله موهن للعموم المذكور ومانع من الخروج به عن مقتضى القاعدة التي عرفتها(1).

ص: 266


1- تعرضنا لمفاد أدلة القرعة بوجه أوسع عند الكلام في حكم مجهول المالك من المسألة التاسعة والثلاثين من مقدمة كتاب التجارة من كتاب مصباح المنهاج. وقد خرجنا فيه عن بعض ما ذكرناه هنا. فراجع.

هذا تمام الكلام في مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف. والحمد لله رب العالمين.

تنبيهات

تنبيهات..

التنبيه الأول: لو ثبت التكليف الإجمالي بتعبد شرعي

التنبيه الأول: فيما لو ثبت التكليف إجمالاً بتعبدٍ شرعي

إن من أهم المقدمات التي ابتنى عليها ما سبق من حرمه المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وامتناع جريان الأصول الترخيصية في الأطراف هو حجية العلم الإجمالي الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي، وذلك مختص بالعلم الإجمالي الحقيقي، ولا يجري في العلم الإجمالي التعبدي الراجع إلى التعبد الشرعي بالتكليف ظاهراً في بعض الأطراف إجمالاً، كما في موارد قيام الطريق الشرعي على ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالاً، أو قيام الأصل عليه، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين ثم احتمل تطهيره، حيث يقتضي الاستصحاب نجاسته.

فإن التعارض هنا بين الأصول الترخيصية الجارية في الأطراف بخصوصياتها والطريق أو الأصل الإلزامي الجاري في البعض الإجمالي منها، حيث قد يدعى أن رفع اليد عن عموم الأصل الترخيصي في بعض الأطراف ليس بأولى من رفع اليد عن عموم حجية الطريق أو الأصل الإلزامي في بعضها الإجمالي بعد فرض إمكانه لكونه تابعاً للشارع، بل قد يدعى أولوية الثاني، لأنه أقل تخصيصاً.

ص: 267

وتوهم لزوم تقديم الطريق أو الأصل الإلزامي الجاري في الطرف الإجمالي بملاك التقدم الرتبي المقرر في سائر الموارد من جهة الحكومة أو الورود، فكما يقدم الطريق أو الاستصحاب على أصل البراءة، مع الاتفاق في الإجمال والتفصيل يقدم عليه في المقام، وإن اختلفا من هذه الجهة.

مدفوع: بأنه مع الاتفاق في الإجمال والتفصيل يتحد موضوع الطريق أو الاستصحاب مع موضوع أصل البراءة مثلاً، فيتجه تقديمهما عليه بملاك الحكومة أو الورود، لدعوى ارتفاع موضوعه بسببه حقيقة أو تعبداً، على ما يذكر في محله مفصلاً.

ولا مجال لذلك مع الاختلاف في الإجمال والتفصيل، لاختلاف الموضوع بسبب ذلك، فارتفاع موضوع الأصل الترخيصي بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال لا يستلزم ارتفاعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصه، كيف وقد تقدم أن العلم الإجمالي الحقيقي لا يوجب ارتفاع موضوع الأصل في الأطراف بخصوصيتها، فلابد أن يكون عدم جريان الأصل الترخيصي فيها لتخصيص عموم دليلها، وليس هو بأولى من تخصيص عموم دليل حجية الطريق أو الاستصحاب أو غيرهما مما يقتضي التعبد بالتكليف إجمالاً، لاشتراكهما في أصالة العموم.

على أن ذلك لو تم فلا مجال له لو كان الأصلان من سنخ واحد، كما لو كان مقتضى الاستصحاب ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالاً، وعدمه في كل طرف بخصوصه، إذ لا مجال لتوهم التقدم الرتبي حينئذٍ.

هذا، وقد حاول سيدنا الأعظم قدس سرة توجيه تقديم دليل التكليف الإجمالي على دليل الأصل الترخيصي في الأطراف لدعوى حكومته عليه،

ص: 268

لأن أصالة الظهور إنما تجري في مورد يحتمل مطابقة مؤداها للواقع، ومع العلم بعدم مطابقته للواقع يرتفع موضوعها، وإعمال أصالة الظهور في دليل التكليف يوجب العلم بعدم مطابقة أصالة الظهور في دليل الأصل للواقع، لأنه يوجب تنجيز التكليف عند العقل فيمتنع الترخيص في مخالفته، فيعلم بعدم مطابقة ظهور دليل الأصل الترخيصي للواقع، فيرتفع موضوع حجيته.

أما إعمال أصالة الظهور في دليل الأصل الترخيصي فلا يوجب العلم بعدم مطابقة دليل التكليف للواقع، وإنما يوجب سقوط ظهوره عن الحجية مع بقاء موضوعه، وهو الشك، إذ المصحح للترخيص الظاهري عدم الحجة على التكليف لا عدم التكليف واقعاً.

وفيه: أن التنافي إن فرض بين نفس التعبدين فمن الظاهر أن كلاً منهما لا يوجب العلم بكذب الآخر، فكما لا يكون التعبد بالترخيص في كل طرف بخصوصه موجباً للعلم بعدم التكليف الإجمالي، ولا مستلزماً للعلم بكذب التعبد به، كذلك لا يكون التعبد بالتكليف الإجمالي موجباً للعلم بثبوت التكليف في كل طرف بخصوصه، ولا مستلزماً للعلم بكذب التعبد بالترخيص فيه، بل غاية الأمر التنافي بين التعبدين عملاً.

وإن فرض التنافي بين عمومي دليلي التعبدين، وهو عموم دليل حجية الطريق أو دليل الأصل الإلزامي المقتضي للتعبد بالتكليف الإلزامي، وعموم دليل الأصل الترخيصي، فمن الظاهر أن التنافي بين التعبدين يوجب امتناع الجمع بينهما، فإعمال أصالة العموم في كل منهما مستلزم للعلم بكذب أصالة العموم في الآخر، بلا فرق بينهما في ذلك. فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.

ص: 269

وكلامه قدس سرة مبني على فرض التنافي بين عموم التعبد بالأصل الترخيصي ونفس مؤدى الطريق الدال على التكليف، حيث يكون إعماله موجباً لتنجيز التكليف المانع من الترخيص في الأطراف، والموجب للعلم بكذب عموم دليله فيها، فيرتفع موضوع أصالة العموم فيه، وهو الشك، ولا عكس، لأن إعمال عموم دليل الأصل الترخيصي لا يوجب العلم بكذب الطريق الدال على التكليف.

ولكنه ليس بأولى من العكس، فيفرض التنافي بين عموم دليل التعبد بالطريق - وهو دليل حجيته - ونفس مؤدى الأصل الترخيصي، فإن الترخيص في الأطراف لما كان منافياً لتنجز التكليف الإجمالي فهو يوجب العلم بكذب عموم دليل حجية الطريق الموجب له، فيرتفع به موضوع أصالة العموم فيه، أما عموم حجية الطريق فهو لا يوجب العلم بكذب الترخيص في كل طرف بخصوصه، بل يمنع منه مع تحقق موضوعه، وهو الشك، كما لعله يظهر بالتأمل.

هذا، ويتضح الوجه في تقديم التعبد بالتكليف الإجمالي بملاحظة ما ذكرناه في وجه الجمع بين منجزية العلم الإجمالي وعموم الأصل الترخيصي للأطراف، من أن الأصل إنما يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصيته من حيثية موضوعه، وهو الشك المفروض فيه، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه لحيثية أخرى، وهي حيثية تنجز المعلوم بالإجمال، فتنجز المعلوم بالإجمال لا يوجب خروج الأطراف عن عموم دليل الأصل تخصيصاً، بل يمنع من فعلية الترخيص مع تحقق مقتضيه، فإن هذا نحو من الجمع بين دليل الأصل ومنجزية العلم أولى من تخصيص عموم دليل الأصل وإهماله بالمرة.

ص: 270

فإنه بلحاظ هذا الوجه يتعين في المقام تقديم عموم دليل التعبد بالتكليف إجمالا ًفي مقام العمل على عموم دليل الأصل الترخيصي في الأطراف، لأن إعمال عموم دليل التعبد بالتكليف لا يوجب إهمال دليل الأصل في الأطراف رأساً والخروج عنه تخصيصاً، بل يوجب عدم فعلية العمل بالأصل الترخيصي تحقق مقتضيه، أما العمل بعموم دليل الأصل الترخيصي في الأطراف والبناء على فعلية مؤداه فهو مستلزم لإهمال دليل التعبد بالتكليف الإجمالي رأساً والخروج عنه تخصيصاً، إذ لو فرض تحقق مقتضيه كان مقدماً عملاً على مقتضي الأصل الترخيصي عند اجتماعهما، والأول أقرب عرفاً، لأنه نحو من العمل بالدليلين، بخلاف الثاني.

التنبيه الثاني: في اختلاف الأطراف حقيقة وخطاباً

التنبيه الثاني: فيما لو اختلفت الأطراف حقيقة أو خطاباً

لا فرق في منجزية العلم الإجمالي ومانعيته من الرجوع للأصول الترخيصية بين اندراج الأطراف تحت حقيقة واحدة وعدمه، فكما يكون العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائين منجزاً، كذلك يكون العلم الإجمالي بنجاسة الثوب أو البدن منجزاً.

خلافاً لما في الحدائق مما ظاهره عدم التنجز مع اختلاف الحقيقة، إذ لا وجه له بعد ما تقدم في وجه منجزية العلم الإجمالي.

وقد أشار شيخنا الأعظم قدس سرة إلى تفصيل آخر ربما يرجع ما تقدم عن صاحب الحدائق إليه، وهو أنه لابد من رجوع التكليف في جميع الأطراف إلى خطاب واحد معلوم تفصيلاً - ولو مع اختلاف حقيقة الأطراف - كما في التردد بين القصر والتمام الراجع إلى العلم بوجوب الصلاة، والتردد بين

ص: 271

نجاسة الثوب أو البدن الراجع إلى العلم بحرمة الصلاة في النجس.

أما لو دار الأمر بين خطابين فلا يكون العلم منجزاً، كما لو دار الأمر بين غصبية أحد الإنائين ونجاسة الآخر، أو بين كون المايع الخاص خمراً وكون الزوجة حائضاً، بل وكذا لو علم بنجاسة الثوب أو الطعام، لأن المعلوم بالإجمال وإن كان أمراً واحداً - وهو النجاسة - إلا أنه في الثوب لا يكون موضوعاً إلا لحرمة الصلاة في النجس، وفي الطعام لا يكون موضوعاً إلا لحرمة أكل النجس.

وربما يوجه: بأن منشأ تنجيز العلم الإجمالي هو شمول إطلاق دليل التكليف للواحد المعلوم بالإجمال المردد بين الأطراف، وهو إنما يتم مع اندراجهما تحت خطاب واحد، إذ مع التردد بين خطابين لا يعلم شمول إطلاق كل منهما للمعلوم بالإجمال.

وفيه: أن إطلاق الخطاب إنما ينفع لإحراز التكليف المعلوم بالإجمال، وهو مع تعدد الخطاب محرز أيضاً، للعلم بشمول أحد الإطلاقين له، وذلك وحده لا يكفي ما لم نقل بمنجزية العلم الإجمالي بالتكليف، فإن قلنا بذلك كفى مطلقاً، وإلا لم يتنجز التكليف حتى مع وحدة الخطاب، لوضوح أن الخطاب الواحد ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الأفراد.

فالعلم بأحد فردين لخطاب واحد راجع إلى العلم الإجمالي بأحد تكليفين، ولا يكون علماً تفصيلياً بتكليف واحد.

وبالجملة: لا أثر لتعدد الخطاب ووحدته في منجزية العلم، ولذا لا ريب في منجزية العلم التفصيلي بالتكليف وإن تردد المكلف به بين خطابين، كما لو علم تفصيلاً بحرمة أكل طعام خاص إما لكونه نجساً أو

ص: 272

لكونه مغصوباً.

فالتفصيل المذكور لا يرجع إلى محصل ظاهر يخرج به عما عرفت من القاعدة المقتضية للاحتياط في جميع موارد العلم الإجمالي بالتكليف.

التنبيه الثالث: في المعيار لترتب الآثار

التنبيه الثالث: في المعيار لترتيب الآثار

لما كان معيار منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف المستتبع للعمل فلابد من الاقتصار على الآثار التكليفية المتيقنة إجمالاً، سواء كانت من سنخ واحد كما في العلم بنجاسة أحد المائين، حيث يكون أثر كل منهما حرمة شربه وبطلان الوضوء به وغيرهما، أم من سنخين، كما لو علم بغصبية الطعام أو نجاسة الثوب، حيث يكون أثر الأول حرمة التصرف فيه، وأثر الثاني بطلان الصلاة به.

وأما الأثر الوضعي فإن كان منتزعاً من الأثر التكليفي كان طرفاً للتنجيز، كمانعية النجاسة من الوضوء أو الصلاة المنتزعة من تقييد الواجب بغير النجس، لأنه يقتضي نحواً من العمل لا يترتب بدونه.

وإن كان مجعولاً بنفسه - كنجاسة الملاقي وطلاق الزوجة ونحوهما - لم يكن طرفاً للتنجيز بنفسه، بل يكون التنجيز بلحاظ أثره التكليفي إن كان له أثر فعلي، فلو لم يكن له أثر فعلي لم يصلح العلم للتنجيز، لعدم ترتب العمل عليه.

ومنه يظهر عدم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة أحد الدرهمين مثلاً، لعدم الأثر لنجاستهما فعلاً، ومجرد استلزامهما نجاسة اليد الملاقية برطوبة المستلزم لبطلان الصلاة معها - مثلاً - لا يكفي ما لم يكن ذلك فعلياً.

ص: 273

وكذا لو دار الأمر بين نجاسة أحد الأمرين من اليد والدرهم، فإن الأثر التكليفي وهو حرمة الصلاة في النجس لما كان مختصاً باليد لم يكن معلوماً إجمالاً ولم يصلح العلم للتنجيز، بل يجوز الرجوع لأصالة الطهارة في اليد.

هذا، ولاريب ظاهراً في أنه لو اشتركت الأطراف في أثر واحد، أو امتاز كل منها بأثر وجب الاحتياط في الجميع، للعلم بثبوت ما به الاشتراك أو الامتياز إجمالاً.

وإنما الإشكال فيما لو اشتركت في بعض الآثار، وامتاز أحدها بخصوص أثر له، كما لو علم الرجل إجمالاً بأن أحد الثوبين حرير، أوالآخر من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فإنهما يشتركان في المانعية من الصلاة، ويمتاز الحرير بحرمة اللبس في غير الصلاة، فهل يتنجز الأثر المذكور أولا؟

ظاهر شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) عدم تنجزه، لأن منجزية العلم الإجمالي إنما هي بلحاظ الآثار التكليفية المتيقنة إجمالًا، والمتيقن في المقام من الآثار خصوص المشترك بين الأطراف، أما ما يختص به أحدها فحيث لا يختص الآخر بما يقابله لا يكون طرفاً لعلمٍ إجمالي، بل يكون مشكوكاً بالشك البدوي، فلا مانع من الرجوع فيه للأصل.

وفيه: أن الأثر المشترك ليس عبارة عن تكليف تفصيلي يصلح لحل العلم الإجمالي، كي يرجع في الزائد للبراءة، بل هو عبارة عن تكليف إجمالي مردد بين الطرفين، لما هو المعلوم من انحلال التكاليف الكلية إلى تكاليف جزئية متباينة في أنفسها حسب تباين أفراد موضوعاتها، فالأمر في الحقيقة يدور بين تكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين في الطرف الآخر أحدهما من سنخ التكليف المحتمل في الطرف الأول والثاني مباين

ص: 274

له سنخاً، فكلا التكليفين المحتملين في الطرف الآخر في عرض واحد من حيثية كونهما طرفاً للعلم الإجمالي.

ومجرد سنخية أحدهما مع التكليف المحتمل في الطرف الأول لا يوجب خصوصيته في كونه طرفاً للعلم الإجمالي المفروض، بحيث يكون التكليف الآخر - الذي به الامتياز - خارجاً عن العلم الإجمالي ومشكوكاً بالشك البدوي، ليرجع فيه إلى الأصل.

فالمقام نظير ما لو علم إجمالاً بتكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين في الطرف الآخر، كلاهما مباين سنخاً للتكليف المحتمل في الطرف الأول، كما لو علم إجمالاً بنجاسة المسجد أو الماء، حيث لا أثر للأول إلا وجوب التطهير، وأثر الثاني بطلان الوضوء به وحرمة شربه، فكما يكون بطلان الوضوء وحرمة الشرب في ذلك معاً طرفاً للعلم الإجمالي لعدم المرجح بينهما، كذلك يكون مانعية الصلاة وحرمة اللبس معاً في المثال المتقدم طرفاً للعلم الإجمالي.

ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون دليل الأثر المشترك بين الأطراف مختلفاً، كالمثال المتقدم - حيث كان دليل مانعية لبس الحرير من الصلاة مبايناً لدليل مانعية ما لا يؤكل لحمه منها - وأن يكون واحداً كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائين المضاف والمطلق، حيث يمتاز المطلق ببطلان الوضوء به مع اشتراكهما في عموم دليل واحد، وهو دليل حرمة فناول النجس.

وكذا لا فرق بين كون ما به الامتياز في بعض الأطراف مختلفاً مع ما به الاشتراك فيه دليلاً، كالمثال المتقدم - لأن دليل مانعية لبس الحرير في

ص: 275

الصلاة مباين لدليل حرمة لبسه على الرجل - وكونه متحداً معه دليلاً، كما لو علم المكلف بغصبية أحد الطعامين أو نجاسة الآخر، حيث يشتركان في حرمة الأكل، ويمتاز الغصب بحرمة بقية التصرفات كالبذل للحيوانات، لوضوح أن دليل حرمة أكل المغصوب هو دليل حرمة بقية التصرفات.

كل ذلك لعموم ما ذكرنا من الوجه، وهو كون الأثر المشترك معلوماً بالإجمال لا بالتفصيل، وطرف الترديد في الواجد للأثرين كلا الأثرين، لا خصوص ما به الاشتراك منهما.

نعم، لو كان الأثر المشترك بين الاحتمالات التي هي طرف العلم الإجمالي معلوماً بالتفصيل لاتحاد المتعلق لم يتنجز إلا الأثر المشترك، وجاز الرجوع للأصل الترخيصي في الأثر المختص ببعض الاحتمالات، لكون الشك فيه بدوياً بعد انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، كما لو علم إجمالاً بأن ثوباً معيناً إما حرير أو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فإن مانعيته من الصلاة معلومة تفصيلاً وليست طرفاً لعلم إجمالي، فلا مانع من الرجوع لأصالة الحل في لبسه في غير الصلاة.

وربما يحمل ما ذكره شيخنا الأستاذ على ذلك، لاختصاص أمثلته به، وإن كان عنوان كلامه شاملاً لما سبق أيضاً.

هذا كله بناء على أن العلم الإجمالي يمنع من العمل بالأصول الترخيصية حتى في بعض الأطراف بملاك اقتضائية الموافقة القطعية، كما تقدم، وأما بناء على أنه لا يمنع من جريان الأصول إلا في تمام الأطراف، لاستلزامه المخالفة القطعية. وأنه لا مانع من جريانها في بعض الأطراف لو فرض اختصاص موضوعها به - كما تقدم من بعض الأعاظم وبعض

ص: 276

مشايخنا - فالأمر يختلف عما ذكرنا كثيراً.

ففيما لو علم المحدث بنجاسة الثوب أو الماء لا أثر لنجاسة الثوب إلا المانعية من الصلاة، وأثر نجاسة الماء المانعية من الوضوء وحرمة الشرب، والمتعين تنجز جميع الآثار، للعلم إجمالاً بامتناع الصلاة في الثوب، أو امتناع الوضوء وحرمة الشرب للماء معاً.

أما بناءً على المبنى المشار إليه فلا تتنجز حرمة شرب الماء، لأن العلم الإجمالي وإن أوجب سقوط أصالة الطهارة في كلا الطرفين بالمعارضة، إلا أنه لا يمنع من جريان أصالة الحل من شرب الماء، لعدم معارضتها بمثلها في الثوب، إذ لا يحرم لبس النجس.

لكن بعض الأعاظم قدس سرة مع جريه على المبنى المذكور منع - في ما حكي عنه - من الرجوع لأصالة الحل في الفرض. وهو مبني على ما سبق منه في آخر الكلام في الموافقة القطعية من دعوى سقوط جميع الأصول المترتبة في بعض الأطراف بالمعارضة للأصل الجاري في الطرف الآخر وإن كان واحداً، فتسقط أصالة الطهارة والحل معاً في الماء بالمعارضة لأصالة الطهارة في الثوب.

وقد أشرنا هناك إلى عدم مناسبة ذلك لمسلكه في تقدم الأصول الحاكمة على الأصول المحكومة. فراجع.

أما بعض مشايخنا فهو وإن أنكر على بعض الأعاظم قدس سرة ذلك، وحكم بجواز شرب الماء، لما ذكرنا، إلا أنه التزم بنظيره فيما لو كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايراً سنخاً للأصل الجاري في الطرف الآخر، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائين أو غصبية الآخر، فإن الأصل الجاري في الأول

ص: 277

هو أصالة الطهارة، وفي الثاني أصالة الحل، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول، دون الثاني.

لكنه منع من الرجوع لأصالة الحل في الأول، بدعوى: أنه لما كان المانع من جريان الأصول في الأطراف منافاتها للعلم الإجمالي بالتكليف، فالعلم الإجمالي كما ينافي مفاد أصالة الطهارة في الأول في ظرف اجتماعها مع أصالة الحل في الثاني، كذلك ينافي مفاد أصالة الحل في الأول في ظرف اجتماعها مع أصالة الحل في الثاني، لأن الترخيص في كليهما ترخيص في المعصية، وفي أحدهما بلا مرجح، سواء كان الترخيص بلسان أصالة الطهارة أم بلسان أصالة الحل.

ولا يخفى أن ما ذكره من محذور اجتماع أصالة الحل في الأول مع أصالة الحل في الثاني وإن كان تاماً، إلا أن اجتماعهما لا وجه له، لسقوط أصالة الحل في الثاني بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الأول، المفروض جريانها في رتبة سابقة على أصالة الحل في الأول، فلا يجري بعد ذلك إلا أصالة الحل في الأول ولا يلزم منها المخالفة القطعية، ولا الترجيح من غير مرجح.

نعم، لو غض النظر في هذا المقام عن الترتب بين الأصلين - كما جرى عليه بعض الأعاظم قدس سرة - اتجه ما ذكره.

لكن يلزمه موافقة بعض الأعاظم قدس سرة في الفرع السابق، لوضوح أنه يعلم إجمالاً فيه بامتناع الصلاة في الثوب أو امتناع الوضوء بالماء مع حرمة شربه، وحينئذٍ كما يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الماء والثوب منافياً للعلم الإجمالي، كذلك يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الثوب وأصالة

ص: 278

الحل في الماء منافياً له، فلولا الترتب بين الأصلين في الماء وسقوط أصالة الطهارة في مرتبة سابقة لم يكن وجه لما التزم به من جواز شرب الماء عملاً بأصالة الحل.

وقد أطال في المقام بما لا حاجة إلى الإطالة فيه بعد ما تقدم من الضابط على المبنيين، وضعف المبنى الثاني، فراجع وتأمل.

التنبيه الرابع: لابدية فعلية التكليف

التنبيه الرابع: في أنه لابد من فعلية التكليف على كل حال

لما كان ملاك منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف الذي هو صغرى لكبرى وجوب الإطاعة عقلاً، فلابد من صحة الخطاب بالتكليف على كل حال من دون فرق بين طرف وآخر، بنحو يستتبع وجوب العمل والإطاعة عقلاً.

فلو كان بعض الأطراف مبتلى بالمانع من فعلية التكليف - كالاضطرار والتعذر والإكراه والحرج ونحوها - لم يصلح العلم الإجمالي لتنجيز التكليف بالإضافة إلى الأطراف الأخر، لعدم العلم في الحقيقة بالتكليف الفعلي، بل بمقتضي التكليف الذي هو لا يستتبع العمل ولا يكون منشأ للطاعة والمعصية، وليس التكليف الفعلي في الطرف الخالي عن المانع إلا مشكوكاً بالشك البدوي غير المنجز، فيصح الرجوع فيه للأصل المرخص، لو فرض تحقق موضوعه.

إن قلت: لا مجال لذلك في مثل التعذر، لأن الشك في التكليف راجع إلى الشك في القدرة على امتثاله مع إحراز موضوعه ولو إجمالاً، والمرجع مع الشك في القدرة هو الاحتياط، وكذا الحال في الإكراه والحرج

ص: 279

ونحوهما مما يلحق بالتعذر شرعاً، ويكون من سنخ العذر عرفاً، حيث لا يصح الاعتماد على احتمال العذر في إهمال التكليف، بل لابد من إحرازه، وهو غير محرز في المقام، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على غير مورده.

قلت: المتيقن من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة ونحوها من الأعذار هو وجوب السعي لتحصيل ما يحرز تحقق الامتثال به في ظرف الشك في القدرة عليه، لا تحصيل ما يعلم بالقدرة عليه في ظرف الشك في تحقق الامتثال به، كما في المقام، فإن الطرف غير الواجد لعنوان العذر يعلم بالقدرة عليه ويشك في كونه محققاً للامتثال.

وإن شئت قلت: وجوب الاحتياط إنما هو مع الشك في سعة القدرة، ولاشك في ذلك في المقام، بل في حال المقدور.

هذا كله لو كان الشك في امتثال التكليف الواحد، كما لو وجب على المكلف عتق رقبة مؤمنة، وعلم بأن إحدى الرقبتين اللتين يتعذر عليه عتق إحداهما ويتيسر له عتق الأخرى مؤمنة، فإن التكليف وارد على العنوان المردد طريق امتثاله بين المقدور وغيره.

أما لو تردد الأمر بين تكليفين فالأمر أظهر، كما لو علم بنجاسة أحد الطعامين المكره على استعمال أحدهما، لوضوح أن حرمة استعمال النجس تكليف انحلالي إلى تكاليف متعددة متباينة تبعاً لتباين أفراد النجس، وليس تكليفاً واحداً قائماً بالعنوان، فليس الشك في القدرة على امتثال التكليف، بل في التكليف بالمقدور من الأطراف، والمرجع فيه البراءة بلا إشكال.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة مما يمنع من فعلية التكليف

ثم إن شيخنا الأعظم قدس سرة ذكر أن من جملة ما يمنع من فعلية التكليف

ص: 280

عدم الابتلاء بمتعلقه، بحيث يعد أجنبياً عن المكلف عرفاً ويستهجن توجيه الخطاب إليه به.

ورتب على ذلك عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجاً عن الابتلاء لما سبق في الحرج ونحوه.

الكلام فيما ذكره قدس سرة من الأمثلة

وكلامه قدس سرة في تحديد عدم الابتلاء لا يخلو عن غموض، لاختلاف سنخ الأمثلة التي ذكرها له، لرجوعها إلى أقسام أربعة:

الأول: ما لا يكون فيه للأمر المعلوم أثر تكليفي أصلاً ولو تعليقياً، كوقوع قطرة بول على ظهر حيوان، فإنه لا أثر لذلك حتى بالإضافة إلى الملاقي، لما هو المعلوم من عدم نجاسة الحيوان مطلقاً أو بعد زوال عين النجاسة، فالملاقي لا ينجس إلا مع بقاء عين النجاسة، فيستند التنجيس لملاقاتها، لا لملاقاة ظهر الحيوان.

الثاني: ما يكون له أثر تعليقي لا تنجيزي، كنجاسة ظهر الإناء، حيث لا توجب تكليفاً فعلياً إلا أن يلاقي ما لنجاسته أثر تكليفي، كالثوب.

الثالث: ما لا يكون من شأن المكلف التعرض له، لوجود صوارف خارجية عنه، وإن لم يخرج بذلك عن القدرة عقلاً ولا شرعاً، كنجاسة الأرض التي ليس من شأن المكلف بحسب وضعه المتعارف التعرض للسجود عليها.

الرابع: ما يكون مورداً لتكليفٍ فعليٍ مخرج له عن قدرة المكلف شرعاً، كتنجس إناء الغير، حيث يحرم استعماله مع قطع النظر عن ارتكابه.

ومن الظاهر أن الأول خارج عن محل الكلام، لأن عدم التكليف فيه لعدم الموضوع، لا لعدم الابتلاء.

ص: 281

وكذا الثاني، إذ التكليف التعليقي ليس مورداً لانشغال الذمة، وفعلية النجاسة ليست بنفسها مورداً للتكليف.

نعم، لو علم بتحقق ما يوجب فعلية التكليف لم يبعد دخوله في محل الكلام، ويبتني الكلام في منجزية العلم الإجمالي معه على ما يأتي في التدريجيات إن شاء الله تعالى.

وأما الثالث فلا يبعد كونه المراد بعدم الابتلاء في كلام شيخنا الأعظم قدس سرة وأن ذكر غيره بناء منه على رجوعه إليه، وهو الظاهر من المحقق الخراساني قدس سرة.

توجيه الخراساني قدس سرة لعدم فعلية التكليف

وقد وجه المحقق الخراساني قدس سرة عدم فعلية التكليف معه: بأن الغرض من النهي لما كان هو داعويته للمكلف نحو الترك فلا موقع له مع تحقق الترك من المكلف بسبب عدم الابتلاء بالفعل عادة، لأنه يكون بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل.

ومن هنا فقد عمم الحكم للأمر، فاعتبر في فعليته إمكان ترك المكلف للمأمور به عادة عدم تعلق الداعي له إليه، فلو لم يكن من شأنه تركه لاستحكام الداعي إليه كان الأمر به عبثاً، كالنهي في الفرض السابق.

وبعبارةٍ أخرى: لابد في صحة التكليف من صلوحه لإحداث الداعي في نفس المكلف عادة نحو مقتضاه، فعلاً كان أو تركاً، فلو لم يصلح لذلك لتحقق مقتضاه بحسب طبع المكلف وظروفه المحيطة به ولم يصلح التكليف لأن يحدث فيه شيئاً كان التكليف مستهجناً عرفاً، لعدم تحقق غرضه.

هذا، وقد ذكر بعض مشايخنا أن الغرض من التكاليف الشرعية ليس مجرد حصول متعلقها في الخارج، بل هو مع صلوح الأمر للداعوية،

ص: 282

ليكون مقرباً للعبد، فتكمل نفسه، ولذا صح الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله دائماً أو غالباً، كنكاح الأمهات، وأكل لحوم الإنسان والقاذورات، ومن الظاهر أن عدم الابتلاء بالمعنى المتقدم لا يمنع من صلوح التكليف للداعوية، بترويض النفس على التعبد بالنهي المولوي وجعله داعياً ولو في عرض الدواعي الأخرى.

نعم، يتجه ذلك في التكاليف العرفية، إذ ليس الغرض منها إلا حصول متعلقها في الخارج.

لكن لا يخفى أن ما ذكره من الغرض ليس مقوماً للتكليف الذي يكون به موضوعاً لحكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية، ومن ثم كان التقرب المعتبر في العبادة قيداً في المأمور به مخالفاً لإطلاقه، لا مقوماً للتكليف.

نعم، هو أثر مناسب لمطلق المشروعية غير المختصة بالتكليف، بل لا تختص بالتكاليف الشرعية، فإن انفتاح باب التقرب يجري حتى في التكاليف العرفية، وإن امتازت التكاليف الشرعية بحكم العقل بحسن التقرب والتعبد بالتكليف، لمناسبته لمقام العبودية، وكونه سبباً لتطهير النفس ورقيها في درجات الكمال.

وكيف كان، فهو لا ينفع في ما نحن فيه من منجزية العلم الإجمالي ولزوم الخروج عنه بالاحتياط في أطرافه دفعاً لضرر العقاب.

وأما الزجر عن الأمور المشار إليها فمن الظاهر أنه لم يرد الخطاب الشخصي بها من الشارع الأقدس في حق من استحكم الداعي في نفسه لتحقيق مقتضاها مع قطع النظر عنها، بل ورود الخطاب بها بنحو القضية

ص: 283

الحقيقية، لبيان الضوابط الشرعية العامة في حق جميع الناس، بمن فيهم من لم يستحكم في نفسه الداعي المذكور، فلا تنافي عدم فعلية التكليف في مورد عدم الابتلاء، كما لا تنافي عدم فعليته في حق العاجز.

ولاسيما مع أن استحكام الداعي في النفس قد يكون مسبباً عن استهجان العرف العام للفعل المسبب عن التكليف، ولولاه لم يستهجن الفعل حتى يستحكم الداعي في نفس ذوي الشرف والمروءة إلى تركه، فإن مثل هذا مما يوجب حسن الخطاب بالتحريم بوجه العموم، وإن امتنع فعليته في حق من استحكم في نفسه الداعي.

على أن كثيراً من هذه الأمور لم يرد خطاب لفظي بها بالخصوص، بل هي بين ما ورد الخطاب به في ضمن غيره مما لا يستحكم الداعي لتركه، وما دلت الأدلة اللبية من الإجماع ونحوه على تحريمه، وهي لا تقتضي فعليته في حق من استحكم الداعي في نفسه.

ما استشكله العراقي على الخراساني

أما بعض الأعيان المحققين قدس سرة فقد استشكل في ما سبق من المحقق الخراساني قدس سرة: بأن لازمه لغوية النهي في كل مورد يكون حصول الترك من جهة تنفّر الطبع على الإقدام على الفعل، ككشف العورة بمنظر من الناس، خصوصاً بالنسبة إلى أرباب المروءة، والكذب بالنسبة إلى أهل الشرف، وشرب الخمر بالنسبة إلى كثير من الأشخاص، مع عدم إمكان الالتزام بذلك.

لكن لم يتضح الوجه في امتناع الالتزام بذلك، خصوصاً مع عدم الأثر العملي له إلا في مورد العلم الإجمالي، حيث يظهر الأثر بالإضافة إلى الأطراف الواقعة تحت الابتلاء، ولم يتضح من المرتكزات العقلائية لزوم

ص: 284

الاحتياط.

إلا أن يريد استهجان الخطابات العامة بالأحكام المذكورة، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا، وتقدم الجواب عنه.

فالأولى الإشكال في ما تقدم من المحقق الخراساني قدس سرة بأن الغرض من التكليف ليس هو إحداث الداعي في نفس المكلف، ولا تحصيل المتعلق في الخارج، ولذا يحسن مع العلم بعدمهما بسبب المزاحمة بالقوى الشهوية والغضبية المستحكمة في نفس المكلف المانعة من تأثير التكليف.

فما ذكره قدس سرة في توجيه مدعاه غير تام.

العمدة في وجه الإشكال على الخراساني قدس سرة

والعمدة في وجهه: أن الغرض من التكليف هو جعل السبيل على المكلف من قبل المكلف، بحيث يكون طرفاً لمسؤوليته وتحميله كما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية، وفي مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، ولا يتضح بعد ملاحظة المرتكزات العقلائية صلوح الخطاب لأحداث المسؤولية المذكورة مع استحكام الداعي في نفس المكلف، بحيث يكون مخالفته لمقتضى التكليف على خلاف طبيعته الثانوية، وإن كانت ناشئة من بعض الأسباب الخارجية، كصعوبة الفعل واستهجانه ونحوهما من الصوارف في النهي، وشدة عادته له أو استحكام الداعي له في الأمر، بل الظاهر مع ذلك عدم انتزاع المسؤولية المقومة للتكليف، وبها يكون موضوعاً لحكم العقل بالطاعة والمعصية.

نعم، لا يكفي في ذلك مجرد تعلق الإرادة الفعلية على مقتضى التكليف، لأسباب موقتة طارئة، فإن مجرد تعلق الإرادة لا ينافي السعة بالإضافة إليه، فيصلح التكليف لرفع السعة المذكورة وإحداث المسؤولية.

ص: 285

فتأمل جيداً.

ثم إن بعض الأعاظم قدس سرة جعل المعيار في عدم الابتلاء هو كون الفعل غير مقدور عادة لبعد مقدماته وصعوبتها الموجبة لصعوبته، لدعوى اعتبار القدرة العادية في المنهي عنه زائداً على القدرة العقلية، لأن الغرض من النهي لما كان هو ترك الفعل المنهي عنه لم يحسن الخطاب بترك ما يكون متروكاً عادة، بل كان مستهجناً للغويته.

ومن هنا خص اعتبار القدرة العادية بالمنهي عنه دون المأمور به، حيث يصح التكليف بتحصيل ما لا يكون مقدوراً عادة مع القدرة عليه عقلاً لأهمية ملاكه، بنحو يلزم تحصيله ولو مع صعوبته، نعم، يمكن التفضل شرعاً برفعه، كما في موارد الحرج ونحوه.

وفيه: - مع الغض عما عرفت من أن الغرض من التكليف ليس هو حصول متعلقه في الخارج، بل جعل السبيل على المكلف - أن ذلك يقتضي اعتبار عدم حصول الترك عادة لوجود الصارف النفسي ولو مع القدرة العادية وسهولة تحصيل الفعل(1).

بل لو فرض عدم القدرة العادية على الفعل إلا أنه لم يوجب انصراف المكلف عنه، بل تعلق له الغرض بتحصيل الفعل وتحصيل مشقته فلا إشكال في حسن النهي عنه، لعدم تحقق الترك عادة لولا النهي.

على أن نظير ما ذكره في النهي ليس هو اعتبار القدرة العادية في فعل المأمور به، ليصح الفرق بينهما بما تقدم، بل هو اعتبار القدرة العادية على

ص: 286


1- يظهر مما حكاه عنه مقرر درسه عنه في آخر كلامه عدوله عما ذكره أولاً من الضابط الذي أشرنا إليه، وتعميمه الحكم لما إذا كان الفعل أجنبياً عن المكلف ولو مع القدرة العادية. فراجع. (منه، عفي عنه).

ترك المأمور به، فلو لم يكن تركه مقدوراً عادة كان الفعل حاصلاً مع قطع النظر عن الأمر به، فيكون الأمر به عبثاً مستهجناً كالنهي مع عدم القدرة العادية على الفعل.

ما ذكره العراقي قدس سرة

وأضعف منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من اعتبار القدرة العادية على الفعل في كل من الأمر والنهي، لا لأجل لزوم العبث واللغوية، بل لأجل استهجان العرف للخطاب بالأمر بالشيء أو النهي عنه مع كون المكلف أجنبياً عنه عرفاً، لعدم قدرته عليه بحسب العادة، ولذا يستهجن تكليف الفقير المعدم تنجيزاً بوجوب تزوج بنات الملوك وأكل طعامهم، كما يستهجن تحريمهما عليه، بل لا يحسن التكليف بهما تحريماً أو إيجاباً إلا معلقاً على الابتلاء.

الإيراد عليه

إذ فيه: - مع ما عرفت من عموم ملاك الاستهجان وعدم إناطته بالتعذر العادي - أنه لا مجال لتوهم امتناع الأمر بما لا يقدر عليه عادة مع القدرة عليه عقلاً بتهيئة مقدماته له إن كانت بعيدة شاقه، وليس الحج في حق النائي إلا من ذلك، خصوصاً في العصور السابقة التي كانت وسائط النقل فيها غير مريحة.

إلا أن يريد من عدم القدرة العادية ما يساوق عدم القدرة الفعلية لانسداد طرق التحصيل وإن كان الفعل ممكناً ذاتاً.

لكن عدم التكليف حينئذٍ ليس هو للاستهجان العرفي، بل للامتناع العقلي، لاعتبار القدرة الفعلية بحكم العقل، ولا دخل لذلك بعدم الابتلاء الذي هو محل الكلام.

ومنه يظهر أن تكليف الفقير المعدم بتزويج بنات الملوك وأكل

ص: 287

طعامهم إن كان مع قدرته عليهما فعلاً ولو مع صعوبة المقدمات وكثرتها فهو غير مستهجن، غاية ما في الأمر أنه قد يكون حرجياً، وإن كان مع تعذرهما عليه فعلاً لانسداد المقدمات فهو ممتنع عقلاً، كتكليفه بالجمع بين الضدين، والطيران في الجو، وقلع الجبال الرواسي.

المعيار في عدم الابتلاء

وقد تحصل: أن المعيار في عدم الابتلاء هو ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة، والوجه في عدم فعلية التكليف معه هو ما أشرنا إليه من عدم قابلية الخطاب معه، لانتزاع المسؤولية عقلاً بالنحو المقوم للتكليف، الذي هو موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية.

وعليه يترتب عدم منجزية العلم الإجمالي في ظرف عدم الابتلاء ببعض الأطراف، لأن ملاك التكليف وموضوعه وإن أحرز إجمالاً، إلا أنه لا يحرز فعليته بالنحو الذي ينتزع منه المسؤولية وانشغال الذمة عقلاً الذي هو الموضوع لوجوب الطاعة وقبح المعصية، لعدم فعلية التكليف بالنحو المذكور على تقدير مصادفته لمورد عدم الابتلاء، فلا مانع من الرجوع في الطرف المبتلى به للأصل الترخيصي، وهذا قريب جداً للمرتكزات العقلائية في التنجيز والتعذير.

ولعل سيرة المتشرعة شاهدة به، لعدم اعتنائهم ارتكازاً بالتكليف الإجمالي في المورد المذكور، ومن القريب جداً استنادهم في ذلك للمرتكزات العقلائية المشار إليها.

هذا، ولو فرض الشك في ذلك فمن الظاهر أن الأمر المذكور لما كان من الأمور الوجدانية، فالشك فيه لا يكون إلا لاضطراب الوجدان، نظير شك المصلي في أن العارض له شك أو ظن، وحينئذٍ لا يبعد البناء على

ص: 288

عدم تنجز التكليف، لأن الشك في المقام ليس في تقييد موضوع التكليف والخطاب بالبعث والزجر بالابتلاء، ليرجع في نفيه للإطلاق، بل في انتزاع التكليف من الخطاب مع عدم الابتلاء، بنحو يدخل في كبرى حكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية، وصلوحه لإحداث الداعي العقلي للعمل على طبقه، أو لا، بل لابد في تنجز الداعي العقلي نحو العمل من الابتلاء.

ومن الظاهر أن ذلك أجنبي عن الشارع، ولا دخل له بالإطلاق، إذ ليس مفاد الإطلاق إلا البعث أو الزجر التشريعيين على تقدير تحقق الموضوع، وهو لا ينافي عدم انتزاع التكليف منه بالنحو المتقدم على تقدير عدم الابتلاء.

نعم، لما كان الغرض من الخطاب الفعلي هو تحقيق موضوع الداعي العقلي كان مستهجناً في مورد لا يصلح لحكم العقل المذكور، فلو ورد في خصوص مورد كشف عن صلوحه لإحداث الداعي العقلي دفعاً له عن اللغوية لو فرض عدم إمكان حمله على الخطاب التعليقي.

أما لو كان مطلقاً شاملاً لبعض الموارد الصالحة لحدوث الداعي العقلي بنحو يكفي في رفع لغويته لم ينهض بالكشف عن صلوح بقية الموارد المشمولة للإطلاق لحدوث الداعي العقلي مع الشك فيها - لعدم الابتلاء مثلاً - لعدم توقف رفع اللغوية على ذلك.

إن قلت: إطلاق الخطاب يقتضي فعلية التكليف تبعاً لتحقق موضوعه في موارد الشك في حدوث الداعي العقلي، وحيث كانت فعليته مستلزمة لصلوحه لإحداث الداعي العقلي وإلا كان لغواً، كان الإطلاق حجة في اللازم المذكور.

ص: 289

قلت: الإطلاق إنما يكون حجة في نفي ما يحتمل دخله في موضوع الحكم المجعول مما يكون من شأن الجاعل بيانه، وصلوح المورد لحدوث الداعي العقلي ليس دخيلاً في موضوع التكليف، ولا من شأن الشارع بيانه، وإنما هو شرط في رفع لغويته، ولا ظهور للإطلاق في رفع اللغوية، وإنما هو من لوازم الخطاب القطعية بضميمة حكمة المخاطب التي يكفي فيها ترتب الأثر عليه في الجملة ولو بلحاظ بعض موارده، ولذا لا يكون الخطاب ظاهراً في صلوح المورد لحدوث الداعي العقلي لو فرض عدم كون المخاطب حكيماً، مع كون الإطلاق ظاهراً في عموم موضوع الحكم وحجة له وعليه في ذلك.

وبعبارة أخرى: الشك في فعلية الحكم إن كان للشك في سعة موضوعه أو نحوه مما يكون من شأن الشارع بيانه، كان المرجع فيه الإطلاق، وإن كان لجهات أخر راجعة للعقل فلا دخل للإطلاق فيه، بل الإطلاق إنما يقتضي الفعلية من حيثية الموضوع، لا من جميع الجهات ولو كانت خارجة عن وظيفة الشارع.

إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات حتى الخارجة عن وظيفته، فيكون الإطلاق ظاهراً حينئذٍ في ما يعم محل الكلام، لكنه محتاج إلى قرينة خاصة ومؤنة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام.

ولعل نظير ذلك ما ذكروه في مبحث الأصول المثبتة من أنه لو ورد التعبد في مورد خاص بالأصل في أمر لا أثر له عملي إلا بواسطة عقلية، كشف عن التعبد بالأثر المذكور دفعاً للغوية، للغوية التعبد الظاهري مع عدم الأثر العملي.

ص: 290

ولا مجال لاستكشاف ذلك من إطلاق دليل الأصل لو فرض تحقق موضوعه - كاليقين والشك في الاستصحاب - في ما لا أثر له إلا بواسطة عقلية، إذ يكفي في رفع لغوية الإطلاق شموله لموارد كثيرة يكون فيها مجرى الأصل مورداً للأثر العملي بلا واسطة، أو بواسطة شرعية.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو فرض العلم بشرطية الابتلاء في تنجز التكليف لكن شك في تحديد المرتبة المعتبرة منه.

فإنه لا مجال للرجوع في مورد الشك إلى إطلاق التكليف، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة، لعين ما ذكرناه في فرض الشك في أصل شرطية الابتلاء.

ما ذكره الأخوند قدس سرة في حاشيته على الرسائل

ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة في حاشية الرسائل في وجه امتناع التمسك بالإطلاق مع الشك في تحديد الابتلاء المعبر.

قال قدس سرة: «إنما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته، بأن يكون من أحوال ما أطلق وأطواره، لا في دفع ما لا يكون كذلك، وقيد الابتلاء من هذا القبيل، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه، فكيف يرجع إلى الإطلاقات الواردة في مقام أصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟!».

الإيراد عليه

فلا مجال للإيراد عليه..

تارة: بمنع كون الابتلاء بمتعلق التكليف - كالطعام والأرض ونحوهما - من الانقسامات الثانوية اللاحقة له، بل هو من الانقسامات

ص: 291

السابقة عليه التي يمكن تقييده بها في الخطاب.

وأخرى: بعدم كونه من شروط تنجيز التكليف، لانحصار المنجز بما يوصل التكليف علماً أو تعبداً كالطريق والأصول، فراجع ما ذكره بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرة في المقام.

دفع الإيراد المذكور

لاندفاع الأول: بأنه لا يريد كون الابتلاء من الانقسامات الثانوية وعدمه، إذ لا إشكال في عدم ترتبه مفهوماً على التكليف كالعلم به، بل هو كالقدرة مما يمكن لحاظه في رتبة سابقة على التكليف.

بل يريد أن الشك ليس في تقييد موضوع التكليف الذي هو من وظيفة الشارع، بل في توقف التنجيز على الابتلاء، ولما كان ذلك خارجاً عن وظيفة الشارع، بل هو من شؤون التكليف المتأخرة رتبة عن الخطاب، والثابتة له بحكم العقل والعرف، فلا يكون الإطلاق حجة في نفيه، بل يمتنع الإطلاق والتقييد معاً بالإضافة إليه، لعدم كونه من شؤون الحكم الشرعية، بل من لواحقه العقلية، كوجوب إطاعته.

واندفاع الثاني بأنه لا يريد بالتنجز ما يساوق الوصول وقيام الحجة، بل ما يساوق صلوح الخطاب لإحداث الداعي العقلي وانتزاع التكليف المستتبع لحكم العقل منجزاً بوجوب إطاعته وقبح معصيته.

وكذا الحال في ما ذكره في الكفاية «من أن التمسك بالإطلاق إنما هو فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه، لا في ما شك في اعتباره في صحة الإطلاق».

فإن من القريب جداً رجوعه إلى ما ذكرنا من أن الشك في المقام في لغوية الخطاب في مورد عدم الابتلاء، لعدم صلوحه لإحداث التكليف، لا

ص: 292

في تقييد التكليف مع صلوح المورد للإطلاق.

ما ذكره النائيني قدس سرة

وحينئذٍ لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن الإطلاق بنفسه يكشف عن إمكان عموم الحكم لمورد الشك، وإلا لا نسد باب التمسك بالإطلاقات في جميع موارد الشك، لاحتمال عدم ثبوت الملاك فيها المستلزم لامتناع عموم الحكم لها.

فإنه إنما يتم لو كان مراد المحقق الخراساني قدس سرة من امتناع الإطلاق امتناعه بالغرض بسبب قصور الملاك المستلزم لوجوب التقييد عقلاً.

أما لو كان مراده امتناعه لقصور المورد عن جعل الحكم المستلزم للغوية الخطاب به من دون أن يحتمل التقييد - كما ذكرنا - فلا يرد عليه ذلك، لما تقدم من أن الإطلاق إنما يكون حجة في نفي التقييد الذي هو من شؤون الشارع، لا في تحديد اللغوية الذي يكون المرجع فيه العقل في مرتبة متأخرة عن الخطاب.

هذا، وقد أطال بعض الأعيان المحققين قدس سرة في توجيه مراده ودفعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.

وكيف كان، فلا مجال للتمسك بالإطلاق لا مع الشك في أصل اعتبار الابتلاء في التنجيز ولا مع الشك في تحديد الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره في الجملة.

لزوم االرجوع للبراءة

بل اللازم الرجوع للبراءة في الطرف الذي هو محل الابتلاء، لعدم ثبوت المانع عنه، بعد توقف العقل عن الحكم بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال، بنحو يقتضي إيجاب الطاعة والمنع عن المعصية منجزاً.

ما ذكره العراقي قدس سرة من لزوم الاحتياط

هذا، ولكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سرة لزوم الاحتياط في المقام،

ص: 293

لرجوع الشك في المقام إلى الشك في القدرة التي يجب فيها الاحتياط عقلاً، لعدم دخل الابتلاء في ملاك التكليف، وبعد فرض تمامية الملاك وعدم دخل القدرة العقلية والعادية فيه يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال حتى يتحقق العجز، ولا مجال في مثله لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لاختصاصها بما إذا احتمل قصور المورد عن ملاك التكليف رأساً.

وقد ذكر ذلك بعض الأعاظم قدس سرة أيضاً. إلا أن مقرر درسه حكى عنه العدول عنه، لاستلزامه وجوب الاحتياط حتى فيما لو علم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء، لأن ذلك لا يوجب العلم بتحقق المسقط في مورد الملاك، لاحتمال تحقق الملاك في الطرف المبتلى به.

فلابد من الالتزام بأن الشك في الخروج عن الابتلاء لا يكفي في وجوب الاحتياط، لأن مجرد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل لزوم رعايته ما لم يكن تام الملاكية.

وهذا راجع إلى ما أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه من توهم أن احتمال إنطباق المعلوم بالإجمال على مورد الاضطرار أو التعذر يوجب دخوله في الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط، وقد تقدم دفعه بما لا مزيد عليه وأن القياس في غير محله. فراجع.

الجواب عن الوجه المذكور بوجهين

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور وجهان:

الأول: رجوع الشك إلى الشك في مانعية الموجود

الأول: أن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في تحقق القدرة بنحو الشبهة الموضوعية والعلم بسقوط التكليف معها، لا في مثل المقام مما فرض فيه العلم بتحقق الابتلاء في الجملة والشك في

ص: 294

مسقطيته، فإن الشك المذكور نظير الشك في مانعية الموجود، لا نظير الشك في وجود المانع، فإن أمكن الرجوع فيه لإطلاق التكليف - كما لو شك في مقدار الحرج المسقط - فهو، وإلا كان المرجع البراءة، كما في المقام.

الثاني: أن القدرة المعتبرة على وجهين

الثاني: أن القدرة المعتبرة في التكليف..

تارة: تكون بمعنى القدرة على موافقته، في مقابل العجز عنها المستلزم لفوت ملاكه.

وأخرى: تكون بمعنى القدرة على مخالفته في مقابل العجز عنها، المستلزم لعدم الأثر العملي للتكليف من دون أن يفوت ملاكه.

ووجوب الاحتياط إنما يسلم مع الشك في القدرة بالمعنى الأول، حذراً من تفويت الملاك المفروض التمامية مع عدم إحراز العذر المسوغ له.

أما الشك في القدرة بالمعنى الثاني فلا وجه لوجوب الاحتياط فيه، إذ لا يحرز قابلية المورد للتكليف بسبب اللغوية المحتملة، كما لا يحرز فوت الواقع حينئذٍ، أما مع العلم التفصيلي بالتكليف فواضح لموافقة المكلف للتكليف عملاً، وأما مع العلم الإجمالي فلاحتمال كون مورد التكليف غير المقدور فلا يفوت، واحتمال كون مورده المقدور ليلزم من عدم الاحتياط فيه فوته مدفوع بالأصل.

وبعبارة أخرى: الشك في المقام ليس في المسقط مع تمامية المقتضي للتكليف، بل في صلوح المقتضي للتأثير، للشك في تحقق شرط اقتضائه، فالفرق بينهما يشبه الفرق بين الشك في تحقق المانع مع العلم بالمقتضي، والشك في تحقق شرط تأثير المقتضي، ووجوب الاحتياط في الأول لا

ص: 295

يستلزم وجوبه في الثاني.

ومن الظاهر أن الشك في الابتلاء نظير الشك في القدرة بالمعنى الثاني، لا بالمعنى الأول الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط معه.

الشك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية

ومنه يظهر الحال في الشك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية لو فرض، فإنه لا وجه لما يظهر من غير واحد من وجوب الاحتياط فيه، كما لا وجه لما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة من قياسه على الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط.

بل اللازم الرجوع معه للبراءة في الطرف الذي يعلم بالابتلاء به، لعدم حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي فيه بعد عدم إحراز الابتلاء بالمعلوم بالإجمال.

كما لا مجال لتوهم التمسك بإطلاق التكليف حينئذٍ، لما سبق. مضافاًً إلى أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

إلا أن يدعى جوازه مع كون المخصص لبياً، كما في المقام. لكنه في غير محله، كما حقق في مباحث العموم والخصوص.

القسم الرابع من الأمثلة التي ذكرها الشيخ الأعظم قدس سرة

وأما القسم الرابع من الأمثلة التي ذكرها شيخنا الأعظم قدس سرة لعدم الابتلاء، وهو ما يكون مورداً لتكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعاً، كتنجس طعام الغير، حيث يحرم ارتكابه مع قطع النظر عن نجاسته، فقد وقع الكلام فيه بين الأعلام.

تفصيل النائيني قدس سرة

وقد فصل فيه بعض الأعاظم قدس سرة بين ما إذا كان المانع الشرعي في معرض الزوال، كما لو كان المالك في مقام بيع العين وكان المكلف بصدد شرائها، وما إذا لم يكن كذلك، فقرب منجزية العلم الإجمالي في الأول،

ص: 296

لعدم قبح توجيه التكليف بحرمة النجس - مثلاً - في مثل ذلك، بخلاف الثاني، لقبح توجيه التكليف مع عدم القدرة الشرعية وإن فرض تحقق القدرة العادية، لإمكان مثل السرقة، كما لا يجري الأصل الترخيصي فيه بعد عدم إمكان تطبيق العمل عليه بسبب التكليف المعلوم بالتفصيل، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر، بل يكون العمل عليه.

لكن لا يخفى أنه لو فرض كون القدرة الشرعية كالقدرة العادية شرطاً في فعلية التكليف لا يكون التكليف فعلياً، بل تعليقياً، وقد تقدم في القسم الثاني أنه لا يوجب انشغال الذمة فعلاً، فلا مجال معه لمنجزية العلم الإجمالي، بل يمكن الرجوع للأصل الترخيصي في الطرف الآخر.

ولعله لذا أطلق بعض مشايخنا مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي.

نعم، لو علم بزوال المانع الشرعي اتجه البناء على منجزية العلم الإجمالي، كما أشرنا إليه آنفاً، ولا يكفي مجرد التوقع.

إنكار العراقي قدس سرة مانعية التكليف في بعض الأطراف من التنجز

هذا، وقد أنكر بعض الأعيان المحققين قدس سرة مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي مطلقاً.

وتوضيح ما أفاده: أن التكليف بشيء بعنوان لا يمنع من التكليف به بعنوان آخر، بل يتعين تأكد التكليف الموجب لتأكد الداعي العقلي الذي هو الملاك في منجزية العلم الإجمالي.

وما اشتهر من اعتبار القدرة الشرعية في متعلق التكليف كالقدرة العادية لا دخل له بما ذكرنا، فإن ذلك إنما هو بمعنى لزوم القدرة الشرعية على موافقة التكليف، فيمتنع تحريم ما هو واجب مثلاً، لئلا يلزم التكليف

ص: 297

بما لا يطاق، أما بمعنى لزوم القدرة الشرعية على مخالفة التكليف، بأن يمتنع تحريم ما هو حرام من جهة أخرى، فلاوجه له.

ولا مجال لقياسه على القدرة العادية، لأن الوجه في اعتبار القدرة العادية إنما هو لغوية التكليف بدونها، لعدم الأثر له في الداعوية العقلية، وذلك لا يجري في القدرة الشرعية، إذ مع عدمها بسبب تكليف سابق لا يلغو جعل التكليف الآخر، لصلوحه لتأكيد الداعوية بسبب تأكد ملاكها العقلي.

وهو ضرر العقاب المترتب على المخالفة.

كما أنه يمكن أن تجري الأصول الترخيصية والإلزامية بالإضافة إلى الجهة المشكوكة، ويترتب على ذلك استحقاق العقاب زائداً على عقاب الجهة المعلومة وعدمه بالإضافة إليها.

وعليه لا مانع من جريان الأصول الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي في المقام، ووقوع المعارضة بينها، خلافاً لما تقدم من بعض الأعاظم قدس سرة إذ ليس مفاد الأصل الترخيصي الترخيص من جميع الجهات، لينافي فرض العلم التفصيلي بالتكليف في بعض الأطراف، بل الترخيص من حيثية التكليف المشكوك لا غير، ومن الظاهر أن الأصل المذكور يترتب عليه الأثر في الطرف المذكور، لاقتضائه المعذرية بالإضافة إلى التكليف الزائد وعدم استحقاق العقاب من جهته، وهو كاف في رفع لغويته وصلوحه للمعارضة.

وبالجملة: مجرد كون أحد الأطراف مورداً لتكليف تفصيلي لا يمنع من كونه طرفاً لعلم إجمالي صالح للداعوية العقلية مانع من جريان الأصول

ص: 298

في الأطراف.

نعم، لو لم يكن التكليف قابلاً للتأكيد - كما قد يدعى في باب التنجس - كان ابتلاء أحد الأطراف بالتكليف تفصيلاً مانعاً من منجزية العلم الإجمالي، بل كان مانعاً في الحقيقة من تحقق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي - نظير ما تقدم في القسم الأول - وأما المعلوم بالإجمال فليس هو إلا تحقق مقتضي التكليف زائداً على التكليف المعلوم بالتفصيل في أحدهما.

لكن لا يبعد خروجه عن محل كلامهم. ولا أقل من عموم كلامهم لغيره، كما يشهد به تمثيلهم بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين المغصوب أحدهما.

الوجه في المقام

هذا، والذي ينبغي أن يقال: التكليف بأحد الأطراف بخصوصه إن كان مؤثراً في داعوية المكلف نحو امتثاله، لقيام الحجة عليه وخضوع المكلف للتشريع المقدس اتجهت مانعيته من منجزية العلم الإجمالي، لعين ما تقدم في القسم السابق، من عدم الأثر للتكليف الآخر بنحو يصحح انتزاع الكلفة، وجعل السبيل الذي هو الملاك في تنجز التكليف المتقومة بداعوية العقل لامتثاله.

ومجرد تحقق مقتضيه وملاكه لا يكفي مع فرض عدم إحداثه الكلفة بسبب تأثير التكليف الأول في فعلية الداعي في نفس المكلف وصرفه إلى موافقته، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.

أما لو فرض قصور التكليف التفصيلي عن التأثير في صرف المكلف لتمرده وعصيانه فاللازم منجزية العلم الإجمالي.

وما تقدم من بعض الأعاظم قدس سرة قد عرفت عدم نهوضه بالمنع.

ص: 299

ومثله ما لو كان قصوره عن الداعوية لعدم قيام الحجة عليه. وإن لم يبعد خروجه عن محل كلامهم.

ومن هنا لاريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في أن المُقْدِم على تمام أطراف العلم الإجمالي التي يكون بعضها مورداً لعلم تفصيلي مستحق للعقاب من الجهتين، لا من خصوص جهة التكليف التفصيلي، وليس كالمُقْدِم. على مخالفة التكليف التفصيلي وحده في غير مورد العلم الإجمالي. وما ذلك إلا لتنجيز التكليف الإجمالي بالعلم المفروض.

تنجز التكليف الإجمالي في ظرف عدم داعوية التكليف

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي تنجز التكليف الإجمالي في ظرف عدم داعوية التكليف التفصيلي بنحو يمنع من المخالفة القطعية بارتكاب كلا الطرفين، ولا يقتضي منجزيته بنحو يقتضي الموافقة القطعية باجتناب تمام أطرافه بما فيها الطرف الذي لا يكون مورداً للتكليف التفصيلي.

كيف! ولازم ذلك أنه لو فرض عدم كون المكلف ممن يهتم بموافقة التكليف التفصيلي لخصوصية فيه، إلا أنه وافقه من دون استحكام الداعي لموافقته، لم يكفه ذلك في الخروج عن عهدة التكليف الإجمالي، بل يلزمه مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر، خروجاً عن العلم الإجمالي، وهو مما لا تناسبه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جداً، بل هي حاكمة بكفاية موافقة التكليف التفصيلي وإهمال العلم الإجمالي معه، بل هو مما يغفل عنه حينئذٍ.

فمن لم يكن في مقام الإطاعة ولم يعتن بكل من التكليفين التفصيلي والإجمالي لو وعظه الواعظ حتى أقنعه بالإقلاع عما هو فيه يكتفى منه بموافقة المعلوم بالتفصيل، كغيره ممن استحكم تدينه من أول الأمر، ولا

ص: 300

يفرق بينهما بتنجز العلم الإجمالي في حق الأول بنحو يقتضي الموافقة القطعية، بخلاف الثاني.

ولعله لأن التكليف الجديد وإن أوجب تأكد التكليف السابق، وشدة العقاب لو صادف مورده، إلا أن الأثر المذكور لما كان راجعاً للمولى، ولا دخل له في عمل المكلف لم يصلح لتنجيز العلم الإجمالي في مقام العمل بنحو يقتضي الموافقة القطعية، بل غاية ما يقتضيه هو تنجزه في مقام المسؤولية بالنحو الذي لا يستتبع العمل زائداً على ما يقتضي التكليف التفصيلي.

ومرجع ذلك إلى تنجز مورد التكليف التفصيلي من جهتين، جهة التكليف التفصيلي المعلوم، وجهة التكليف الإجمالي المحتمل تحققه فيه، فيتنجز على ما هو عليه من الملاك، ولا يتنجز الطرف الآخر، لعدم صلوح العلم الإجمالي للتنجيز العملي بعد عدم العلم بترتب العمل على المعلوم زائداً على ما يقتضيه التكليف التفصيلي.

وبعبارة أخرى: وجود القدر المتيقن يمنع عن منجزية العلم الإجمالي لما زاد عليه، سواء كان المتيقن المذكور من حيثية الأمر المعلوم، أم من حيثية العمل المترتب عليه، فالأول كما لو دار الأمر بين وجوب شيء واستحباب آخر، حيث لا يتنجز إلا القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، وهو الرجحان في كل منهما، لأنه المتيقن من المعلوم، ولا يتنجز كل من الطرفين على إجماله، ليلزم تنجز احتمال الوجوب كما سبق في آخر الكلام في حرمة المخالفة القطعية، والثاني كما في المقام، حيث لا يكون العلم التفصيلي موجباً لوجود المتيقن في المعلوم، للعلم بثبوت تكليفين، أحدهما معلوم

ص: 301

بالتفصيل والآخر معلوم بالإجمال، وإنما يوجب وجود المتيقن في مقام العمل، حيث يلزم العمل في الطرف الذي يعلم التكليف فيه تفصيلاً على كل حال، مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي لا يقتضي العلم بترتب عمل زائد على مقتضاه، بل يقتضي احتمال ذلك في الطرف الآخر، فلا يكون منجزاً للعمل المذكور، بل يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي بعد عدم المانع منه.

ولا يعارض الأصل المذكور بالأصل الجاري في الطرف المعلوم بالتفصيل، والمقتضي للسعة من حيثية احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه، لعدم ترتب العمل على الأصل الجاري فيه بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف الآخر فيه، وإنما يكون مقتضى الأصل - وهو السعة - اقتضائياً لا غير، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر المقتضي للسعة فعلاً.

هذا، غاية ما يقرب به سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في مقام العمل بالنحو المستتبع للموافقة القطعية، وهو مناسب للمرتكزات المتشرعية والعقلائية في مقام العمل.

ولو فرض التشكيك في ذلك، فالأمر قد يهون بملاحظة ما تقدم في القسم السابق من أن المرجع مع الشك هو الأصل الجاري في الطرف المبتلى به المقتضي للسعة فيه. فتأمل جيداً. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم وهو ولي التوفيق والتسديد.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو كان بعض الأطراف مورداً لعلم إجمالي بتكليف آخر، أو طرفاً لعلم إجمالي كذلك. فالأول كما لو علم

ص: 302

بنجاسة واحد من عشرة أوانٍ منها خمسة بيض يعلم بوجود مغصوب بينها والثاني كما لو عُلِم بنجاسة واحد من عشرة أوانٍ، منها ثلاثة بيض قد عُلِم بوجود مغصوب بينها أو بين ثلاثة بيض أخرى خارجة عن العلم الإجمالي بالنجاسة.

فإن العلم الإجمالي القائم ببعض للأطراف في الأول، والشامل لها في الثاني إذا كان منجزاً مقتضياً للعمل بالإضافة إلى تلك الأطراف، منع من منجزية العلم الإجمالي الآخر الشامل للأطراف المذكورة، فلا يصلح لتنجيز بقية أطرافه، فيجوز الرجوع في غير البيض من العشرة في المثالين إلى الأصول الترخيصية الجارية فيها.

من دون فرقٍ بين احتمال اتحاد التكليفين المعلومين بالإجمال مورداً، وعدمه، كما لو علم بأن النجس على تقدير وجوده في البيض من العشرة فهو في غير المغصوب منها.

وذلك لأن المانع من منجزية العلم الإجمالي ليس هو اتحاد التكليفين المعلومين بالإجمال مورداً، بل هو كون أحد التكليفين مقتضياً لعمل المكلف بنحو لا يكون المعلوم بالإجمال مما يعلم بترتب العمل عليه بنحوٍ زائدٍ على ما اقتضاه التكليف المذكور، ولا يفرق في ذلك بين كون العمل ناشئاً من كون الطرف مورداً لذلك التكليف عيناً وكونه طرفاً للعلم الإجمالي به.

تفصيل الكلام في عروض ما يمنع من فعلية التكليف

بقي في المقام أمر ينبغي الكلام فيه وهو أن عروض ما يمنع من فعلية التكليف في بعض الأطراف..

تارة: يكون قبل طروء التكليف الإجمالي أو مقارناً له.

ص: 303

وأخرى: يكون متأخراً عنه.

كما أن العلم به..

تارة: يكون قبل حصول العلم الإجمالي، أو مقارناً له.

وأخرى: يكون متأخراً عنه.

صور المقام..

فالصور أربع..

الصورة الأولى: كون المانع سابقاً على التكليف

الأولى: أن يكون المانع سابقاً على التكليف الإجمالي أو مقارناً له، كما أن العلم به سابق أو مقارن للعلم الإجمالي.

ولاريب هنا في عدم منجزية العلم الإجمالي، لما تقدم، بل هذه الصورة هي المتيقن من جميع الصور المفروضة في المقام بالإضافة للوجه المتقدم لعدم المنجزية.

نعم، ما تقدم من عدم منجزية العلم الإجمالي مع كون بعض أطرافه طرفاً لعلم إجمالي آخر مفارق له في بعض الأطراف مختص بما إذا كان العلم الإجمالي المانع متقدماً، أما مع تقارن العلمين فلا مجال لمانعية أحدهما من منجزية الآخر، لعدم المرجح لأحدهما في التنجز، كي يصلح لمنع الآخر منه، بل حيث كان كل منهما مقتضياً في نفسه للتنجز في تمام أطرافه لزم تأثيره.

ومجرد اشتراكهما في بعض الأطراف لا ينفع بعد عدم كون مراعاة احتمال التكليف فيه موجبة للموافقة القطعية لأحد العلمين، ليتنجز على كل حال بنحو يمنع من منجزية كل منهما لبقية أطرافه، بل حال الطرف المذكور حال بقية الأطراف في احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه، فلا يتنجز إلا تبعاً لمنجزية العلم الإجمالي في تمام أطرافه، وحيث لا مرجح

ص: 304

لأحد العلمين اتجه منجزيتهما معاً في تمام أطرافهما، غايته أن الطرف المشترك يتنجز من جهتين.

وهذا بخلاف ما لو كان أحد العلمين أسبق، فإنه لما كان منجزاً في نفسه، ومقتضياً للعمل في تمام أطرافه كان مانعاً من منجزية العلم الثاني المتأخر، إذ لا يعلم معه بترتب العمل على الثاني بنحو زائد على ما اقتضاه الأول.

وهل المعيار على سبق العلم أو المعلوم؟ يظهر الكلام فيه مما يأتي في الصورتين الأخيرتين.

وكذا لو كان بعض الأطراف مورداً لعلم تفصيلي أو إجمالي أخص، فإنه يتنجز على كل حال ويمنع من منجزية العلم الإجمالي الأكثر أطرافاً، وإن كان مقارناً له. فلاحظ.

الصورة الثانية: كون المانع متأخراً عن العلم الإجمالي

الصورة الثانية: أن يكون المانع متأخراً عن التكليف الإجمالي حدوثاً، والعلم به متأخراً عن العلم الإجمالي به.

والظاهر عدم الاشكال بينهم هنا في عدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.

وقد اختلفت كلماتهم في توجيهه في مسألة الاضطرار إلى بعض معين من الأطراف.

والظاهر عدم الفرق بين الاضطرار وغيره مما يسقط التكليف ويمنع من منجزية العلم الإجمالي.

توجيه عدم سقوط العلم الإجمالي بوجوه

وكيف كان فقد يوجه بوجوه..

ص: 305

الأول

الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من تحقق العلم الإجمالي التدريجي بالتكليف في الطرف المبتلى بالمانع قبل طروئه، أو في الطرف الآخر مطلقاً، وهو كاف في المنجزية.

وفيه: - بعد إصلاحه بأنه كالتدريجي من حيثية تحقق بعض الأطراف بعد ارتفاع بعضها، لا من حيثية تحقق بعض الأطراف قبل تحقق بعضها، لفرض اجتماع الأطراف سابقاً قبل طروء المانع في المقام - أن العلم الإجمالي التدريجي إنما يوجب تنجيز التكليف إذا علم الابتلاء بتمام الأطراف، ومن الظاهر في المقام أن العلم بالتكليف في كل طرف مشروط بعدم طروء المانع فيه، فلا يعلم به إلا حين العلم بعدم طروء المانع، أما مع الشك في طروئه في الزمان اللاحق فيشك في التكليف، وينحصر العلم به بحال العلم بفقد المانع في الطرفين فهو المنجز لا غير.

نعم، بعد طروء المانع يعلم بالتكليف إما في طرف المانع سابقاً أو في الطرف الآخر فعلاً. لكن مثل هذا العلم الإجمالي التدريجي لا أثر له، لأنه حادث بعد خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بانتهاء أمده.

كما أنه لو فرض العلم قبل طروء المانع بطروئه في ما بعد في بعض الأطراف دون بعض اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي المذكور. فتأمل جيداً.

على أن منجزية العلم الإجمالي التدريجي قبل خروج الطرف الأول عن الابتلاء بنحو تمنع من الإقدام عليه مبنية على ما يأتي من كفاية العلم بالابتلاء بالتكليف في وقته في تنجزه قبل وقته، ولا دخل لذلك في المقام.

أما منجزيته بعد خروج الطرف الأول عن الابتلاء بمضي وقته، فهو

ص: 306

مبني على الكلام هنا في وجه منجزية العلم الإجمالي، لوضوح أنه مع العلم بعدم التكليف ببعض الأطراف لخروج وقته أو وجود المانع فيه لا يعلم بالتكليف إجمالاً. فما وجه تنجز بقية الأطراف؟! فافهم.

الثاني

الثاني: أن الشك في المقام في انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على مورد المانع راجع إلى الشك في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته وانشغال الذمة به، والمرجع فيه الاشتغال، بخلاف الصورة الأولى، حيث كان مرجع الشك المذكور فيها إلى الشك في أصل ثبوت التكليف، والمرجع فيه البراءة.

وفيه: أن المانع لما كان من حدود التكليف العقلية أو الشرعية، فالشك فيه شك في التكليف، فهو يوجب ارتفاع العلم الإجمالي المفروض كونه هو المنجز، ومعه لا مجال لقاعدة الاشتغال، لأنها فرع وجود المنجز للتكليف.

ومن ثم لو شك في طروء المانع في فرض العلم التفصيلي بالتكليف لم تنفع قاعدة الاشتغال في لزوم مراعاة احتمال التكليف، بعد فرض ارتفاع العلم به، بل لابد من منجز للتكليف، من أصل موضوعي، كاستصحاب نجاسة الماء، المحرز لحرمة شربه، أو حكمي إحرازي، كاستصحاب حرمة شرب الماء - لو تم في نفسه - أو غير إحرازي، كما في موارد انقلاب الأصل، كالشك في القدرة وغيره. ولولا ذلك لتعين الرجوع للبراءة من التكليف بعد فرض ارتفاع العلم به.

الثالث

الثالث: استصحاب بقاء التكليف أو عدم طروء المانع منه، فلو علم بنجاسة أحد الإنائين - مثلاً - ثم علم بتطهير أحدهما معيناً، فاستصحاب

ص: 307

نجاسة ما كان منهما نجساً سابقاً يقتضي وجوب اجتنابه بترك الفرد الآخر.

وفيه: أن استصحاب بقاء التكليف لا ينفع في اجتناب لطرف الآخر الخالي عن المانع، إلا بناء على الأصل المثبت، لملازمة بقاء التكليف الإجمالي لتحققه فيه.

إن قلت: مراعاة احتمال التكليف في الطرف الخالي عن المانع ليس لإحراز كونه هو مورد التكليف المستصحب، ليبتني على الأصل المثبت، بل لاحتمال تحققه فيه وتوقف الفراغ عنه عليه، فيجب مراعاة ذلك بمقتضى قاعدة الاشتغال بعد فرض تنجز التكليف بالاستصحاب، فالاستصحاب بالإضافة إلى الطرف المذكور كالعلم الإجمالي بالإضافة إليه، لا يقتضي تنجزه إلا بضميمة قاعدة الاشتغال، ولا فائدة فيه إلا تنجيز التكليف على إجماله بدلاً عن العلم به المفروض ارتفاعه بسبب طروء المانع.

قلت: لا مجال لجريان الاستصحاب بنحو يقتضي التعبد بالتكليف المعلوم بالإجمال، لأن مقتضاه التعبد بالمستصحب ظاهراً وتنجيزه على كل حال، كما هو الحال في سائر موارد التعبد بالمضمون شرعاً، وهو لا يجتمع مع اليقين بثبوت الحكم الواقعي في مورده على تقدير اتحاد متعلقه مع الطرف المبتلى بالمانع.

مثلاً: لو علم بنجاسة إناء زيد، واشتبه بين الخزف والنحاس، ثم طهر الخزف، فاستصحاب نجاسة إناء زيد يقتضي التعبد بنجاسته وحرمة شربه على كل حال حتى لو كان هو الخزف، وهو لا يجتمع مع العلم بطهارة الخزف وجواز شربه، فالحكم الظاهري بإطلاقه مناف للعلم الذي يترتب عليه العمل لحجيته ذاتاً وأما ما هو المعروف من عدم التنافي بين الحكم

ص: 308

الظاهري والواقعي، فهو مختص بما إذا لم يكن الحكم الواقعي بنحو يترتب عليه العمل، لعدم وصوله للمكلف، لا في مثل المقام مما فرض فيه وصول الحكم الواقعي وترتب العمل عليه بنحو يمتنع معه جعل الحكم الظاهري عقلاً وإن فرض تحقق موضوعه.

وبعبارة أخرى: التنافي بين الحكم الواقعي الواصل والحكم الظاهري يوجب امتناع جعل الحكم الظاهري في المقام، لأنه يؤدي إلى احتمال اجتماع المتنافيين، وهو ممتنع كاليقين به.

ويشهد بما ذكرنا أنه لو فرض خطأ القطع التفصيلي بعدم التكليف في بعض الأطراف، وبقاء التكليف الذي كان معلوماً بالإجمال فيه لزم من جريان الاستصحاب المذكور استحقاق العقاب بارتكابه، لمخالفة التكليف الواقعي والظاهري معاً فيه، مع أنه لا مجال له قطعاً، لمنافاته لحجية القطع التفصيلي وإن كان خطأ.

ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع ما يطرأ على بعض الأطراف مما يمنع من بقاء العلم الإجمالي، سواء كان رافعاً شرعياً للتكليف الفعلي - كالاضطرار والحرج - أو لموضوعه - كالتطهير في المثال السابق - أم عقلياً - كالامتثال، والمعصية، والخروج عن الابتلاء، وتنجيس أحد الأطراف معيناً، وغير ذلك - وذلك لامتناع جعل الحكم الظاهري معها، فيمتنع التعبد به بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال المحتمل انطباقه على الطرف الواجد للمانع قطعاً، فيلزم منافاة الحكم الظاهري بإطلاقه للعلم.

نعم، لو رجع مفاد الاستصحاب إلى تنجيز مضمونه على تقدير انطباقه على خصوص الطرف الخالي عن المانع لا مطلقاً، أمكن جريانه في المقام،

ص: 309

لعدم منافاته للعلم المفروض.

لكن هذا خلاف مقتضى أدلة الاستصحاب وجميع أدلة الأحكام الظاهرية التعبدية، فإن مقتضى التعبد بالتكليف تنجزه على كل حال بحكم العقل.

وإنما يمكن تنجز التكليف على خصوص بعض التقادير إذا كان مفاد الجعل الشرعي مجرد وجوب الاحتياط فيه، من دون تعبد به وإحراز له، وهو خارج عن مفاد دليل الاستصحاب محتاج إلى دليل خاص مفقود في المقام. ويأتي إن شاء الله تعالى في الجواب عن الشبهة العبائية في ذيل الكلام في استصحاب الفرد المردد ما ينفع في المقام.

ابتناء منجزية العلم السابق بعد ارتفاعه بسبب المانع

إذا عرفت هذا، فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام يبتني على منجزية العلم السابق بعد ارتفاعه بسبب طروء المانع.

ولا ينبغي الريب فيه لو كان ارتفاعه ناشئاً عن امتثال بعض الأطراف، لما هو المعلوم من أن وجوب الموافقة القطعية لا يختص بالحكم التحريمي، بل يجري في الحكم الوجوبي، الذي يكون الشك في امتثاله ملازماً للشك في بقاء التكليف وارتفاع العلم به، فلو ارتفعت منجزية العلم تبعاً لارتفاعه بذلك لم يبق موضوع لوجوب الموافقة القطعية ولا لقاعدة الاشتغال بالتكليف، من دون فرق في ذلك بين العلم التفصيلي والإجمالي، ففرض اقتضاء العلم للموافقة القطعية ارتكازاً ملازم لفرض منجزيته بعد ارتفاعه في المقام.

ومثل ذلك ما لو كان المانع هو العصيان في بعض الأطراف، كما لو أخر الصلاة حتى ضاق الوقت عن الجمع بين الصلاتين، فإن العصيان وإن

ص: 310

كان مسقطاً للتكليف على تقدير انطباقه على مورده، إلا أن ملاك الحكم بوجوب الموافقة القطعية، وهو دفع الضرر المحتمل يقتضي تجنب المعصية في الطرف الآخر، المحتمل كونها معصية للتكليف المعلوم المنجز حذراً من العقاب.

وأما في غير ذلك من الموانع مما يمنع من استمرار التكليف مع اليقين بإطاعة التكليف في الزمان الأول الذي يعلم بتحقق التكليف فيه إجمالاً، فقد يصعب توجيه وجوب الاحتياط بعد فرض ارتفاع العلم الإجمالي من غير جهة الشك في المعصية والامتثال، ولذا لاريب في عدم وجوبه مع العلم التفصيلي لو فرض معه احتمال طروء المانع، إلا بضميمة أصول أخر إحرازية، كالاستصحاب الذي عرفت عدم جريانه في المقام، أو غيرها، كما في موارد الشك في طروء التعذر، حيث تقدم غير مرة انقلاب الأصل معه، وتقدم في أول الكلام في هذا التنبيه أنه لا مجال له في المقام، لاختصاصه بما إذا شك في سعة القدرة لا في حال المقدور.

لكن الإنصاف: أن المرتكزات قاضية بعدم كفاية إعدام موضوع التكليف في بعض الأطراف في جواز ارتكاب بقيتها، فلا يكفي إراقة أحد الإنائين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما في جواز استعمال الآخر، ومن ثم كان وجوب إهراق الإنائين المشتبهين معاً، والتيمم ارتكازياً لا تعبدياً محضاً.

ولا منشأ لذلك إلا أن العلم الإجمالي لما فرض تنجيزه للمعلوم بالإجمال على ما هو عليه، وجب إحراز الفراغ عنه على ما هو عليه.

ومجرد العلم بطروء المانع في بعض الأطراف لا يرفع ذلك، وإن

ص: 311

ارتفع معه العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي، فيجب مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال السابق عليه، فهو نظير ارتفاع العلم بسبب الشك في الامتثال لا يمنع من منجزيته.

ولا فرق في ذلك ارتكازاً بين إعدام الموضوع، وانعدامه بنفسه، وفقد شرط التكليف وغير ذلك من الموانع. فتأمل جيداً.

هذا كله بناء على منجزية العلم الإجمالي ذاتاً بنحو يقتضي الموافقة القطعية.

وأما لو كان منشأ منجزيته في ذلك تساقط الأصول الترخيصية في الأطراف بالمعارضة، فالأمر أشكل، فإن طروء المانع من التكليف في بعض الأطراف مانع من جريان الأصل فيه، لأن ما هو الشرط لجريانه حدوثاً شرط لجريانه بقاء، وبعد سقوط الأصل فيه لا يبقى معارض للأصل في الطرف الآخر، فلا مانع من جريانه عملاً بعموم دليله.

ودعوى: أن عروض المانع من التكليف في بعض الأطراف وامتناع جريان الأصل فيه لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الآخر بعد سقوطه، بل التعارض بينهما في الزمان السابق موجب لسقوطهما إلى الأبد.

مدفوعة: بأن المانع من جريان الأصل لما كان هو التعارض بين الأصلين فلا معنى لبقائه في ظرف سقوط أحدهما، مهما كان منشأ السقوط.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن المحذور العقلي - وهو لزوم الترخيص في المعصية - كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكل من الطرفين في زمان واحد يقتضي عدم شموله لهما في زمانين، فالعلم بحرمة أحدهما لا بعينه يقتضي سقوط الأصول في جميع الأزمنة، كان كلاهما

ص: 312

موجوداً أو كان أحدهما معدوماً.

ففيه: أنه مع فرض سقوط أحدهما لا يلزم من جريان الآخر وحده الترخيص في المعصية، كما لا يلزم الوقوع فيها إلا بناء على منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى الموافقة القطعية مطلقاً مع قطع النظر عن تعارض الأصول، حيث يتنجز المعلوم بالإجمال في الزمان السابق حينئذٍ على كل حال، فجريان الأصل في بعض أطرافه بعد سقوط الآخر مما يحتمل معه الترخيص في المعصية، الذي هو قبيح كالعلم به.

وبالجملة: توجيه منجزية العلم الإجمالي على المبنى المذكور في غاية الإشكال، لكن هذا مما يخدش به المبنى المذكور في منجزية العلم الإجمالي، وإلا فعدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في المقام مسلم بين الكل ومطابق للمرتكزات، كما ذكرنا.

الصورة الثالثة: أن يكون حدوث المانع متأخراً

الصورة الثالثة: أن يكون حدوث المانع متأخراً عن التكليف المعلوم بالإجمال، إلا أن العلم به مقارن للعلم الإجمالي أو متقدم عليه.

كما لو اضطر عند الزوال إلى إناء معين، وعلم بعده إجمالاً بتحريم ذلك الإناء أو إناء آخر من قبل الزوال.

وعن شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره عدم منجزية العلم الإجمالي حينئذٍ.

وهو متجه بناء على أن المعيار في منجزية العلم الإجمالي تساقط الأصول الترخيصية في الأطراف بالمعارضة، لوضوح أن الأصل في الطرف المبتلى بالمانع لو جرى قبل حدوث المانع لم يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر، لعدم العلم الإجمالي حينئذٍ بالتكليف، كما أنه حين حدوث العلم الإجمالي حيث لا يجري الأصل في الطرف المذكور، لفرض سبق

ص: 313

حدوث المانع فيه، فلا معارض للأصل الجاري في الطرف الآخر، ولا منجز للعلم الإجمالي المذكور.

لكن تقدم ضعف المبنى المذكور، وأنه لو تم لزم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الصورة السابقة أيضاً.

وأما الفرق بينهما: بأن الأصل في هذه الصورة يجري في الطرف غير المبتلى بالمانع من أول الأمر، بخلاف تلك الصورة، حيث لا يجرى الأصل في الطرف المذكور من أول الأمر، لفرض سقوطه بالمعارضة قبل عروض المانع.

فهو غير فارق، بعد ما أشرنا إليه آنفاً من أن عروض المانع في تلك الصورة على بعض الأطراف لما كان مسقطاً للأصل فيه فهو يوجب ارتفاع المانع عن جريان الأصل في الطرف الآخر، لعدم المعارض له حينئذٍ.

وعليه يشكل الأمر بناء على منجزية العلم الإجمالي في نفسه بنحو يقتضي الموافقة القطعية مع قطع النظر عن تعارض الأصول - كما هو المختار - لأن العلم في المقام صالح للتنجيز بعد فرض كون المعلوم إجمالاً هو التكليف الفعلي الخالي عن المانع، أن المانع المحتمل طروؤه في مورد التكليف لا يمنع من حدوث التكليف، لفرض تأخره عنه، بل غاية ما يقتضي سقوطه بعد حدوثه، كما في الصورة الثانية.

ودعوى: أنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين العلم، فلو لم يعلم بترتيب الأثر عليه ولو لاحتمال سقوطه بعد ثبوته لم يصلح العلم لتنجيزه، كي يجب إحراز الفراغ عنه.

وبه يفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية، حيث كان المفروض في

ص: 314

تلك الصورة عدم حدوث المسقط حين العلم بالتكليف، بل يعلم بترتب الأثر على التكليف حينئذٍ.

مدفوعة: بأنه لا مجال لاعتبار ذلك في منجزية العلم الإجمالي، إذ لا فرق بينه وبين العلم التفصيلي في المنجزية، ومن الظاهر أنه يكفي في منجزية العلم التفصيلي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين حدوثه وإن احتمل سقوطه حين العلم بطروء المانع من الامتثال، أو الاضطرار أو غير هما.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يتم مع الشك في الامتثال، أما مع كون المانع المحتمل أمراً آخر كالاضطرار ونحوه فليس المنجز مع العلم التفصيلي هو العلم السابق، بل استصحاب التكليف أو موضوعه، أو انقلاب الأصل في مورده، كما تقدم في الصورة الثانية، وقد تقدم فيها عدم جريان الاستصحاب ولا غيره في مورد العلم الإجمالي، وأنه لا موجب لمراعاة احتمال التكليف إلا قاعدة الاشتغال، التي هي فرع تنجز التكليف، والعلم الإجمالي لا يصلح للتنجيز في المقام، بخلاف الصورة الثانية، لما ذكرناه هنا من الفرق بينهما.

وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

الصورة الرابعة: تقدم حدوث المانع

الصورة الرابعة: أن يكون حدوث المانع متقدماً على المعلوم بالإجمال، أو مقارناً له إلا أن حدوث العلم به بعد حدوث العلم الإجمالي، كما لو علم المكلف بنجاسة أحد الإنائين حين الزوال، ثم علم بتعذر استعمال أحدهما من قبل الزوال.

والظاهر هنا عدم منجزية العلم الإجمالي، فيجوز ارتكاب الإناء الآخر، لأن العلم بسبق حدوث المانع مستلزم لانكشاف خطأ العلم

ص: 315

الإجمالي بالتكليف الذي يترتب عليه العمل، وإن كان العلم بتحقق مقتضيه مصيباً، ولا مجال مع ذلك لمنجزية العلم المذكور، لأنها مختصة بما إذا لم يرتفع وينقلب إلى الشك البدوي في بعض الأطراف.

وما سبق في الصورة الثانية من تنجيز العلم السابق بعد ارتفاعه مختص بما إذا كان ارتفاعه لتبدل حال المعلوم مع عدم ارتفاع العلم بحدوثه، ولا يجري في مثل المقام مما كان المرتفع هو العلم بالحدوث وأن الواقع ليس على النحو الذي قطع به سابقاً.

فالمقام نظير ما لو علم المكلف بملاقاة النجاسة لأحد مائين كان يعتقد قلتهما، فاعتقد بنجاسة أحدهما، ثم علم بسبق كرية أحدهما، حيث لا ينبغي الريب في عدم المنجز لاحتمال التكليف في الآخر، بل لا مانع من الرجوع فيه لاستصحاب الطهارة.

ولا فرق في هذا بين جميع الموانع المفروضة في المقام، لأنها بأجمعها تقتضي قصوراً في المعلوم، فبانكشافها يظهر خطأ العلم السابق بوجود تكليف يترتب عليه العمل على كل تقدير، الذي هو المدار في التنجز، كما سبق.

التنبيه الخامس: لو كانت الأطراف تدريجية

التنبيه الخامس: فيها لو كانت الأطراف تدريجية

لا ريب في منجزية العلم الإجمالي لو كانت أطرافه في عرض واحد بحيث يبتلى المكلف بها دفعة واحدة، سواء أمكن مخالفتها في زمان واحد، كما لو علم بحرمة لبس أحد ثوبين، حيث يمكن لبسهما معاً، أم لم يمكن، كما لو علم وهو جنب، بمسجدية أحد المكانين، حيث لا يمكن المكث

ص: 316

فيهما في وقتٍ واحد.

لأن فعلية الأطراف في الزمان الواحد تستلزم العلم بفعلية التكليف الإجمالي الموجب للموافقة وعدم المخالفة.

وأما لو كانت الأطراف تدريجية الحصول، كما لو علم المكلف بأنه نذر زيارة الحسين (ع) في إحدى ليلتين، أو علم بحيض امرأته في خمسة أيام من أول الشهر أو آخره، فقد وقع الكلام بينهم في منجزية العلم، وظاهر شيخنا الأعظم قدس سرة التفصيل بين المثالين المتقدمين بالتنجيز في الأول دون الثاني، على إشكال منه في وجه الفرق، وظاهر المحقق الخراساني قدس سرة في حاشيته على الرسائل موافقته في التفصيل المذكور للوجه الآتي في الفرق، وجزم بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرة وغيرهما بالمنجزية مطلقاً.

ما ينبغي أن يقال: في صلوح الطرف المتأخر للداعوية وعدمه

والذي ينبغي أن يقال: حيث تقدم غير مرة أنه لابد في منجزية العلم الإجمالي من كون المعلوم أمراً يترتب عليه العمل على كل حال، بحيث يكون مورداً للمسؤولية وصالحاً لإحداث الداعي العقلي، ليجب الفراغ عنه بعد تنجزه بالعلم، فالكلام في المقام يبتني على تحقيق حال الطرف المتأخر، وأنه صالح للداعوية وموضوع للمسؤولية، أولاً، بعد الفراغ عن صلوح المتقدم لذلك.

ولا ينبغي التأمل في ذلك بعد الرجوع للمرتكزات العقلية، إذ لاريب في قبح تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف المتأخر، بحيث يلزم منه تفويت التكليف التام الملاك في وقته.

وعليه يبتني وجوب المحافظة على مقدمات المكلف به المفوتة، وهي التي لا يمكن تحصيلها إلا قبل الوقت، حيث يظهر منهم الاتفاق عليه

ص: 317

تبعاً للمرتكزات العقلائية والمتشرعية، وإن اختلفوا في وجهه.

فإن ذلك كاشف عن صلوح التكليف بالأمر المتأخر للداعوية العقلية قبل الوقت، فيصلح لأن يكون طرفاً لعلم إجمالي منجز.

ولا يهم مع ذلك تحقيق أن خصوصية التأخير دخيلة في المكلَّف به مع فعلية التكليف والملاك قبلهما، لإمكان التكليف الفعلي بالأمر المتأخر - كما في الواجب المعلق عند صاحب الفصول قدس سرة - أو هي دخيلة في التكليف عقلاً أيضاً، لاستحالة التكليف بالأمر المتأخر، إما مع فعلية ملاكه لتمامية موضوعه الشرعي، كالنذر في المثال الأول، أو مع عدم فعليته لأخذ خصوصية التأخير في موضوعه شرعاً، كالحيض في المثال الثاني.

نعم، لو كانت المنجزية موقوفة على فعلية التكليف أو فعلية الملاك، كان تحقيق ذلك مهماً جداً، وابتنى على الكلام في الواجب المشروط والمعلق.

ما ذكره الخراساني قدس سرة في وجه التفصيل

وكأنه إلى ذلك نظر المحقق الخراساني قدس سرة في وجه التفصيل بين المثالين المتقدمين، فإنه حيث ذهب إلى إمكان كل من الواجب المعلق الذي يكون فيه التكليف فعلياً والمكلف به استقبالياً، والواجب المشروط بالمعنى المشهور، وهو الذي يكون الشرط فيه شرطاً للتكليف، ولا يكون التكليف قبله فعلياً، اتجه منه التفصيل بين المثالين، لظهور كون النذر الذي هو موضوع وجوب الوفاء فعلياً، وإن احتمل كون المنذور أمراً استقبالياً، أما الحيض الذي هو موضوع حرمة الوطء فحيث لم يكن محرزاً لم يحرز فعلية التكليف المعلوم بالإجمال معه، فلا يكون منجزاً بناء على أن المدار في منجزيته العلم بالتكليف الفعلي، ولا يكفي العلم بأحد تكليفين تدريجيين

ص: 318

كل منهما فعلي في وقته، كما يظهر منه في حاشية الرسائل.

عدم توجه التفصيل على بناء الشيخ الأعظم قدس سرة في الواجب المشروط

أما شيخنا الأعظم قدس سرة فلا يتجه منه التفصيل المذكور، بناء على ما سلكه في الواجب المشروط من لزوم رجوع جميع الشروط للمادة لبا، وامتناع رجوعها للهيئة عقلاً، حيث يلزمه فعلية التكليف في المثالين معاً المستلزم لمنجزية العلم الإجمالي بلا إشكال.

وأما ما ذكره قدس سرة في وجه عدم المنجزية في الثاني من امتناع التكليف الفعلي قبل الحيض بترك وطئ الحائض، لأن تركه ناشئ من عدم الابتلاء به، فلا يطلب بالخطاب الشرعي إلا أن يعون الخطاب به تعليقياً.

فهو - مع جريانه في المثال الأول، ولذ استشكل قدس سرة في الفرق بينهما - رجوع عما ذكره في الواجب المشروط من لزوم فعلية التكليف وامتناع تعليقيته. فراجع وتأمل.

وكيف كان، فبعد ما عرفت من أن التكليف الفعلي التام الملاك في وقته صالح للتنجيز والداعوية العقلية، ولا تتوقف داعويته على فعليته حينها يتعين البناء على المنجزية في جميع موارد العلم الإجمالي التدريجي الأطراف.

إن قلت: هذا مناف لما تقدم في التنبيه السابق من أن عدم الابتلاء ببعض الأطراف مانع من منجزية العلم الإجمالي، حيث لاريب في خروج الأمر المتأخر عن الابتلاء الفعلي.

قلت: عدم الابتلاء المانع من المنجزية هو الموجب للغوية التكليف وعدم صلوحه لإحداث المسؤولية عرفاً، بسبب استحكام الدواعي لموافقة التكليف وشدة الصوارف عن مخالفته، لا مجرد عدم الابتلاء الفعلي الناشئ

ص: 319

من الفاصل الزمني مع تحقق الابتلاء بالتكليف في وقته، فإنه لا يمنع من إحداث المسؤولية عرفاً وعقلاً، ولذا يكون منشأ للسعي نحو المقدمات وفعلية الداعي العقلي لتحصيلها.

هذا، ولا يخفى أن ما ذكرنا مشروط بالعلم بالابتلاء بالطرف المتأخر في وقته، بنحو صالح للتنجيز لو فرض انطباق المعلوم بالإجمال عليه، لاجتماع شرائط التنجيز وفقد الموانع المتقدمة. فلو لم يعلم بذلك لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي.

نعم، لو كان عدم العلم ناشئاً من احتمال الموت أو العجز المسقط للتكليف فالظاهر منجزية العلم لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء، وأصالة الاحتياط مع الشك في القدرة، إذ الشك في المقام في سعة القدرة، لا في حال المقدور، كي لا يجب معه الاحتياط، لما تقدم.

والظاهر أنه لا يكفي الاستصحاب - بناء على جريانه في الأمور المستقبلة - لو فرض كون منشأ الشك في الابتلاء هو احتمال ارتفاع ما هو الشرط فيه.

مثلاً: لو علم الرجل إجمالاً بحيض امرأته في أول الشهر أو آخره، واحتمل خروجها في آخره بطلاق أو نحوه لم يكف استصحاب زوجيتها إلى آخر الشهر في تنجيز العلم المذكور، لأن الابتلاء ليس من آثار الزوجية شرعاً، ليمكن التعبد به تبعاً للتعبد بها، كما لا مجال لاستصحاب الابتلاء نفسه، لعدم كونه حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي، وإنما هو شرط في منجزية العلم الإجمالي عقلاً.

نعم، لو علم المكلف بالابتلاء في الوقت بسبب الاستصحاب أو غيره

ص: 320

من الأصول لزم منجزية العلم الإجمالي التدريجي المذكور، كما لو احتمل الرجل في المثال المتقدم أن يكون قد حلف على ترك وطء زوجته في آخر الشهر، فإن استصحاب عدم الحلف المذكور لما كان مقتضياً لجواز وطئه لها ظاهراً، وقدرته على ذلك عقلاً أوجب العلم بالابتلاء في الوقت، فيتنجز التكليف المعلوم بالإجمال تبعاً للعلم بالحيض.

فهو كما لو علم إجمالاً بحيض إحدى زوجيته، وكانت إحداهما مستصحبة الزوجية، حيث يكفي استصحاب زوجيتها في منجزية العلم الإجمالي، لكونه محققاً للابتلاء بها فعلاً.

والفرق بينه وبين المثال الأول أن الاستصحاب لا يوجب اليقين بالقدرة على ارتكاب الطرف المتأخر في المثال الأول، لإمكان انكشاف الخلاف في وقته الرافع للحكم الظاهري، وللقدرة العقلية المقومة للابتلاء المعتبر في المنجزية، أما في هذا المثال فالاستصحاب يوجب اليقين بالقدرة، إذ ليس المانع إلا احتمال اليمين، والمفروض أن الاستصحاب مؤمن منه في وقته. إلا أن يحتمل معه انكشاف الخلاف في وقته أيضاً، بأن احتمل تذكره لليمين حينئذٍ، فيتجه عدم منجزية العلم الإجمالي، لعدم كون الاستصحاب موجباً لليقين بالابتلاء في وقته.

ففي الحقيقة أن الموجوب للعلم بالابتلاء هو العلم بجريان الأصل في وقته وصلوحه للعمل حينئذٍ، فلو احتمل ارتفاع موضوعه في وقته بنحو لا يصلح للعمل لانكشاف الحال لم يعلم بالابتلاء من مجرد إجراء الأصل في الأول، بل لا يجري حينئذٍ لعدم الأثر. فتأمل جيداً.

ثم إن الظاهر أنه لابد في منجزية العلم الإجمالي التدريجي من

ص: 321

الالتفات للأطراف وتحديدها ولو إجمالاً. لتكون مورداً للتنجيز، حيث لا يدفع العقل للعمل إلا بعد تحديد موضوعه، ولا يكفي مجرد العلم بالابتلاء بالحرام والوقوع فيه من دون تحديد للأطراف، كما يكثر من المكلف العامل بالأصول الترخيصية، حيث يتعرض للمخالفة الواقعية، ويعلم إجمالاً بحصولها في ما يبتلى به من الوقائع التدريجية في شهره أو سنته أو مدة عمره، خصوصاً في الأموال والطهارة والنجاسة وغيرهما مما يكثر فيه مخالفة الأصول الترخيصية للواقع. ولولا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد، وقلت الفائدة في جعل الأصول المذكورة.

فالعلم المذكور نظير العلم بالخطأ في ما يحصل من العلوم التفصيلية في الوقائع التدريجية، حيث قد يحصل العلم المذكور بسبب الالتفات لتحقق الخطأ في كثير من العلوم السابقة، مع عدم الإشكال في عدم منجزية العلم المذكور بنحو يمنع من التعرض للفحص في الوقائع وتحصيل العلم التفصيلي مقدمة للتحرز من المخالفة فيها. فافهم.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من التمثيل للعلم الإجمالي التدريجي بما إذا علم المكلف أنه يبتلى في يومه أو شهره بمعاملة ربوية، فإن المعاملات المذكورة حيث لم تكن حين العلم الإجمالي محددة لم يصلح العلم المذكور لتنجيز التكليف فيها بحيث يجب الاحتياط فيها.

نعم، احتمال كون المعاملة ربوية بنحو الشبهة الحكمية منجز بنفسه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور، لوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية بنحو يمنع من الرجوع للأصول الترخيصية، وهذا بخلاف ما إذا

ص: 322

كان الاحتمال المذكور بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو شك في كون العوضين من المكيل والموزون، حيث لا مانع من الرجوع لأصالة عدم كونهما كذلك، المقتضية لصحة المعاملة.

ومجرد العلم بالابتلاء بالمعاملة الربوية في طول الشهر أو السنة من دون تحديد لها لا يصبح للتنجيز بل هو كالعلم بالابتلاء بشرب النجس كذلك. والأمر محتاج إلى مزيد من التأمل. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

التنبيه السادس: في اقتران العلم الإجمالي بما يمنع من الموافقة القطعية

التنبيه السادس: فيما لو اقترن العلم الإجمالي بما يمنع من الموافقة القطعية

اعلم أن طروء ما يوجب الترخيص في مورد العلم الإجمالي..

تارة: بأن يكون العنوان المقتضي للترخيص منطبقاً على كل طرف بخصوصه.

وأخرى: بأن يكون منطبقاً على أحدهما المعين في نفسه.

وثالثة: بأن يكون منطبقاً على الجامع بينهما المقتضي للتخيير بينهما في مقام العمل.

أما الأول فهو يوجب القطع بعدم التكليف، كما لو اضطر إلى ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي بالحرمة.

ولا موضوع معه للاحتياط.

وأما الثاني فهو يوجب احتمال ارتفاع التكليف، لاحتمال انطباقه على

ص: 323

المعلوم بالإجمال، سواء كان ذلك الطرف معلوماً للمكلف تفصيلاً، كما لو علم إجمالاً بنجاسة ماء الرمان أو القراح، فاضطر لاستعمال ماء الرمان، أم كان مشتبهاً عنده بين الأطراف، كما لو علم إجمالاً بملاقاة أحد المائين للنجاسة، وباتصال أحدهما بالمادة.

والكلام في وجوب الاحتياط في الصورة الأولى بالإضافة إلى الأطراف الخالية عن المانع يظهر مما تقدم في التنبيه الرابع، حيث تقدم اختلاف ذلك باختلاف الصور من حيث سبق المانع وتأخره عن العلم.

وأما في الصورة الثانية فيختلف الكلام باختلاف الصور المذكورة على تفصيل لا مجال له هنا، وقد يظهر بالتأمل في ما سبق، كما يختلف باختلاف العناوين الموجبة للترخيص بما لا مجال للكلام فيه فعلاً.

وأما الثالث فهو محل الكلام في المقام، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد المائين، واضطر لرفع عطشه بأحدهما، بلا دخل لخصوصية كل منهما في رفع اضطراره.

ومثل ذلك يتصور في الحرج، واختلال النظام، والمزاحمة لتكليف آخر أهم أو مساو للتكليف المعلوم بالإجمال وغير ذلك، مما قد لا يكون مانعاً إلا من الموافقة القطعية.

وقد جعل شيخنا الأعظم قدس سرة موضوع الكلام خصوص الاضطرار، وتبعه على ذلك من تأخر عنه، ولا وجه لتخصيص الكلام به إلا محض التمثيل، كما يظهر منه قدس سرة.

نعم، قد يختص ببعض الجهات التي قد تظهر في ما يأتي من الكلام إن شاء الله تعالى.

ص: 324

الكلام في استتباع سقوط الموافقة القطعية للموافقة الاحتمالية

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم في أن سقوط الموافقة القطعية هل يستتبع سقوط الموافقة الاحتمالية أيضاً، أو لا بل لابد من التنزل إليها وتحريم المخالفة القطعية؟ صرح شيخنا الأعظم قدس سرة بالثاني بدعوى: أن المانع المذكور لما لم يقتض الترخيص في كلا الطرفين، بل في أحدهما على البدل فهو لا ينافي إلا وجوب الموافقة القطعية، ولا يصلح لرفع التكليف رأساً، بل يقتضي التنزل إلى الموافقة الاحتمالية بامتثال التكليف المذكور من الطريق الذي رخص الشارع بامتثاله به، وهو الأطراف الباقية بعد العمل بالترخيص البدلي.

وقد نظَّر لذلك بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال التكاليف الواقعية، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع بمؤدياتها والاكتفاء في امتثاله بمتابعتها، من دون أن يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالاً وإهماله رأساً، وإن احتمل عدم إصابتها له.

ولا يخفى ما في التنظير، لوضوح أن الطرق الشرعية إن كانت ناظرة للمعلوم بالإجمال وشارحة له فهي محرزة للفراغ عنه، فتكون متابعتها موافقة قطعية له.

وإن لم تكن ناظرة له فحيث كانت منجزة لمؤدياتها كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي، لما تقدم ويأتي في مباحث الانحلال من أنه يعتبر في منجزيته صلوحه للتأثير في جميع أطرافه، فالشارع وإن لم يرفع اليد عن الواقع على تقدير المخالفة إلا أن الواقع لا منجز له حتى يجب امتثاله.

ولا مجال لذلك في المقام، لوضوح أن دليل الترخيص في المقام لا نظر له للمعلوم بالإجمال، ليصلح لشرحه وللتعبد بامتثاله.

ص: 325

كما أنه لا يقتضي المنع من بقية الأطراف، ليكون هو المنجز لها لو فرض سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية، إذ المفروض أن مفاده الترخيص على البدل لا المنع على البدل، فتنجيز بقية الأطراف موقوف على منجزية العلم الإجمالي، فلابد من توجيه صلوحه للمنجزية مع الترخيص المذكور.

وهو مورد الإشكال في المقام، لما هو المعلوم من أن تنجيز العلم الإجمالي موقوف على فعلية المعلوم بالإجمال بحيث يثبت على كل حال، ولا مجال لذلك مع الترخيص المذكور.

نعم، لو رجع كلامه قدس سرة إلى تصرف الشارع في مقام الإطاعة بحيث يكتفي بالإطاعة الاحتمالية من دون تعبد بتحققها في مورد الاحتمال كفى في دفع الإشكال، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

إلا أنه قد سبق منه قدس سرة الإصرار على امتناع ذلك، وأنه لا مجال للترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي إلا مع المنع عن بقيتها، ليرجع إلى تعيين الامتثال به وإحرازها معه اللازم بحكم العقل، كما هو الحال في جعل الطرق الشرعية، الذي جعله نظيراً للمقام، وعرفت ما فيه.

كما أن ظاهر غيره المفروغية عن ذلك، لأن وجوب الموافقة القطعية من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص.

ومن ثم ذكر المحقق الخراساني قدس سرة أن الترخيص بالنحو المذكور مناف للتكليف المعلوم بالإجمال، المقتضي لاجتناب متعلقه على كل حال، فلابد من ارتفاع التكليف المذكور حين الترخيص المذكور.

نعم، بعد العمل بمقتضى الترخيص، وارتكاب بعض الأطراف، وسقوط دليل الترخيص بذلك، يحتمل كون الطرف الباقي هو الحرام.

ص: 326

لكن لا منجز للاحتمال المذكور بعد ارتفاع العلم الإجمالي، بل يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي.

في توجيه منجزية العلم الإجمالي

وقد تصدى غير واحد لدفع ذلك وتوجيه منجزية العلم الإجمالي في المقام، والمتحصل من كلماتهم وجوه..

الأول: ما يظهر من العراقي قدس سرة

الأول: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أن الاضطرار ونحوه وإن كان مقتضياً للترخيص، إلا أنه لا يقتضي ارتفاع التكليف الواقعي رأساً، ليكون كلا الطرفين حلالاً لا موضوع معه للاحتياط، بل يقتضي الاقتصار في تقييد التكليف الواقعي الذي يقتضيه الاضطرار.

وتوضيحه: أن الاضطرار حيث لا يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصه، بل يقتضي الترخيص في بعضها لاغير بنحو البدلية، فهو لا يقتضي رفع التكليف الواقعي القائم بأحد الأطراف رأساً، بل يقتضي تقييده بما إذا لم يرتكب غيره من الأطراف، فأي منها كان مورداً للتكليف الواقعي فالتكليف به مشروط بذلك، ولا يرتفع التكليف عنه إلا إذا لم يرتكب غيره، أما إذا ارتكب غيره فحيث كان ذلك الغير كافياً في تحقق مقتضى الترخيص فلا ملزم برفع التكليف عن مورده.

فإذا ارتكب جميع الأطراف فقد خالف التكليف الواقعي الفعلي قطعاً، حيث ارتكب الحرام الواقعي مع ارتكاب غيره الذي هو شرط في فعلية التكليف به.

وفيه: أن التكليف الإجمالي القائم ببعض الأطراف المعين في نفسه إنما يكون فعلياً في ظرف ارتكاب غيره إذا كان ارتكاب الغير هو الرافع للاضطرار، أما إذا كان الرافع للاضطرار هو الطرف الذي هو مورد للتكليف

ص: 327

الإجمالي، فالتكليف فيه لا يكون فعلياً سواء ارتكب غيره بعد ذلك أم لا، فمن اضطر لشرب أحد الإنائين المعلوم بنجاسة أحدهما، فشرب النجس الواقعي أولا، ورفع اضطراره به كان حلالاً له وإن شرب غيره بعد ذلك، وحينئذٍ فالعلم بفعلية التكليف موقوف على العلم برفع الاضطرار بغير الحرام، والمفروض عدم حصول العلم المذكور.

نعم، ذكر سيدنا الأعظم قدس سرة أن ذلك إنما يقتضي جواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجاً، أما ارتكابها دفعة فلا مجال له، للعلم معه برفع الاضطرار بغير مورد التكليف، الملازم لفعلية التكليف في مورده المانعة من مخالفته.

ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية، كالدوران بين القصر والتمام، لأن مخالفة احتمال التكليف في جميع أطرافها دفعية، إلا أن يكون العلم الإجمالي تدريجياً، كما لو علم بوجوب إكرام زيد يوم الجمعة أو عمرو يوم السبت واضطر لترك أحدهما.

لكن يشكل ما ذكره قدس سرة: بأن التكليف قبل رفع الاضطرار إن كان فعلياً وقد انشغلت به الذمة وجب إحراز الفراغ عنه وامتنع رفع الاضطرار، وإن لم يكن فعلياً لم يجب الفراغ عنه.

التحقيق في المقام

فالتحقيق: أنه بعد فرض أن الاضطرار ونحوه في المقام من قيود نفس التكليف لمنافاته له يتعين البناء على ارتفاع التكليف مادام الاضطرار موجوداً، لوضوح التنافي بين التكليف بأحد الطرفين المعين في نفسه مع الترخيص في مخالفته ورفع الاضطرار به، ومن الظاهر أن الترخيص المذكور مستمر إلى آخر أزمنة ارتفاع الاضطرار حتى مع المخالفة في جميع الأطراف دفعة واحدة.

ص: 328

نعم، بعد سقوط الترخيص المذكور والعمل بمقتضاه في رفع الاضطرار ونحوه يتعين رجوع التكليف لو فرض بقاء موضوعه، إلا أنه غير معلوم في المقام مع الارتكاب التدريجي، ومعلوم العدم مع الارتكاب الدفعي، فلا منجز للتكليف حتى يجب الفراغ عنه بالاحتياط.

الثاني ما في كلام النائيني قدس سرة

الثاني: ما في كلام بعض الأعاظم قدس سرة ونسب إليه الجزم به من أن العنوان الموجب للترخيص - كالاضطرار - لما لم ينطبق على مورد التكليف الإجمالي بخصوصه لم يكن صالحاً لرفعه، فالحرام غير مضطر إليه في المقام حتى ترتفع حرمته، ومجرد الاضطرار للجامع بينه وبين الحلال لا يوجب رفع التكليف عنه، ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو المذكور رافعاً للتكليف عنه مع العلم به تفصيلاً، فالاضطرار في المقام لا يرفع التكليف الواقعي، كما لا يمنع من منجزية العلم الإجمالي، وغاية ما يقتضيه جواز رفعه بأحد الأطراف وإن صادف الحرام الواقعي، ولا وجه لجواز ارتكاب غيره بعد كونه طرفاً للعلم الإجمالي المنجز.

وفيه.. أولاً: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سرة من أنه لو تم عدم صلوح الاضطرار المذكور لرفع التكليف الواقعي لم يجز رفعه في المقام بأحد الأطراف، لامتناع الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي.

بل عليه يمتنع ارتفاع التكليف لو كان لكل من الخصوصيتين دخل في التكليف، كما لو اضطر إلى أكل الميتة أو الدم. لعدم الاضطرار إلى كل منهما بخصوصيته ليرتفع التكليف به، وليس الجامع بينهما موضوعاً للتكليف، ليرتفع بالاضطرار إليه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن ما يختاره المكلف يكون

ص: 329

مصداقاً للمضطر إليه فيرتفع التكليف به حين اختياره، لا حين حدوث الاضطرار للجامع.

فهو كما ترى! لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تغيير نحو الاضطرار، فالاضطرار للجامع لا ينقلب اضطراراً للفرد بخصوصيته بمجرد اختياره.

وثانياً: أن ما ذكره وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان دليل الاضطرار، لأن مقتضى قوله (ص): «رفع عن أمتي... ما اضطروا إليه»(1)، وقوله (ع): «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله الله لمن اضطر إليه»(2)، هو ارتفاع حكم المضطر إليه، والمفروض في المقام عدم الاضطرار لمورد التكليف، إلا أنه لا مجال له في مثل دليل العسر والحرج، لأن ظاهره رفع الحكم الموجب لهما، ومن الظاهر أن التكليف في المقام بسبب اشتباه مورده المستلزم للاحتياط عقلاً موجب للعسر وإن كان لا يوجبه لو فرض العلم التفصيلي، حيث لا يقتضي إلا موافقته في مورده والمفروض عدم لزوم العسر منها.

وكذا الحال في مثل المزاحمة للتكليف الأهم، لأن التكليف المهم بسبب تردد متعلقه المقتضي للاحتياط يكون بنفسه مزاحماً للأهم، فيسقط وإن كان لا يزاحمه لو علم به تفصيلاً.

بل لما كان المستفاد من دليل الاضطرار اهتمام الشارع بسد ضرورة المكلف ورفع اضطراره كان الاضطرار في المقام منافياً للتكليف وإن لم

ص: 330


1- تقدم في أدلة البراءة ص: 35.
2- الوسائل، ج: 16 باب: 12 من كتاب الإيمان، ح: 18.

ينطبق عنوان الاضطرار على مورده.

كيف! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من الاضطرار.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين المقام وما إذا كان مورد التكليف معلوماً بالتفصيل، لأن الاضطرار في المقامين وإن كان إلى الجامع بين الحلال والحرام، لا إلى الحرام بخصوصه، إلا أن التكليف لما كان يقتضي الموافقة القطعية عقلاً، فالاضطرار إن كان منافياً لها كان منافياً للتكليف عملاً، فيقتضي رفعه، وإلا فلا وجه لرفعه له، لعدم التنافي بينهما، ومن الواضح الفرق في ذلك بين صورتي العلم التفصيلي والإجمالي.

ومنه يظهر الوجه في إعماله بالإضافة إلى أحد التكليفين لو كان لكل من الخصوصيتين دخل في التكليف بها، كما لو اضطر إلى الميتة أو الدم، فإنه لما كان الاضطرار منافياً للعمل بكلا التكليفين جمعاً بينهما تعين رفع اليد عن أحدهما فقط تخييراً، ورجع ذلك إلى تقييد كل منهما بما إذا لم يعمل على طبق الآخر، كما في تزاحم التكليفين. فتأمل جيداً.

الثالث: ما في كلامه أيضاً قدس سرة

الثالث: ما في كلامه أيضاً ونسب إليه أيضاً الجزم به، واختاره غير واحد من تلامذته، وهو يبتني على ما تقدم في الوجه السابق من عدم صلوح الاضطرار لرفع التكليف، إلا أنه يفترق عنه بأن ما يختاره المكلف لرفع الاضطرار لا يكون مرخصاً فيه واقعاً - كما في الوجه المذكور - بل حيث يشك في انطباق التكليف عليه يكون مرخصاً فيه ظاهراً مع بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه، لفرض عدم صلوح الاضطرار لرفعه.

وفيه: - مع ما تقدم من الإشكال في المبنى المذكور - أنه لا مجال للبناء على الترخيص الظاهري في المقام بعد كون الاضطرار معلوماً وكونه

ص: 331

موجباً للترخيص الواقعي، وليس كالشك موجباً للترخيص الظاهري.

وحينئذٍ إن فرض صلوحه لرفع التكليف في المقام لزم البناء على الرفع والترخيص الواقعي، وإلا لزم البناء على بقاء التكليف الواقعي على كل تقدير المستلزم لعدم جواز رفع الاضطرار، لما تقدم.

ما ذكره النائيني قدس سرة من رجوع الترخيص في المقام ظاهرياً

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن العلة الموجبة للترخيص لما كانت هي الجهل بمورد التكليف لا الاضطرار، ولذا لو علم بمورد التكليف تفصيلاً تعين رفع الاضطرار بغيره، كان الترخيص في المقام ظاهرياً لا واقعياً.

منافشته

ففيه: - مع ما تقدم في الوجه السابق - أن الجهل إنما يوجب الترخيص الظاهري إذا رجع إلى الجهل بموضوع التكليف الواقعي أو ببعض حدوده وقيوده، المستلزم للجهل بالتكليف نفسه، كما لو جهل بأصل الاضطرار لمورد التكليف وكان مقتضى الأصل تحققه مثلاً، أو جهل مورده مع العلم بوجوده، كما لو اشتبه ماء الرمان بماء العنب واضطر المكلف لشرب ماء الرمان وقامت البينة - مثلاً - على تعيينه بينهما، أما في المقام فحيث فرض العلم بالتكليف بأحد الأطراف بخصوصه، وفرض العلم بعدم صلوح الاضطرار إلى الجامع لرفعه، فلا معنى للترخيص الظاهري.

غاية الأمر أن المكلف يحتمل كون ما يختاره هو الحلال الواقعي مع قطع النظر عن الاضطرار.

لكن المفروض أن هذا الاحتمال لا أثر له مع العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي، ولا يكون مصححاً لجريان الأصل الترخيصي في الطرف المذكور.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من

ص: 332

أنه بناء على عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا يكون الترخيص الناشئ من الاضطرار منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال، بل يكون ترخيصاً ظاهرياً، كسائر الأحكام الظاهرية غير المنافية للأحكام الواقعية.

وغاية ما يلزم رفع اليد به عن وجوب الموافقة القطعية لا غير، كما هو الحال فيما لو اختص بعض الأطراف بأصل ترخيصي.

وجه الإشكال: أن الاضطرار لا يقتضي الترخيص الظاهري، بل الواقعي، فلا وجه لقياس المقام بمسألة اختلاف الأحكام الواقعية والظاهرية، ولا جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف.

المتحصل من مجموع ما تقدم

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه بناء على ما يظهر منهم من المفروغية عن عدم جواز الترخيص الشرعي في ترك الموافقة القطعية لوجوبها عقلاً فلا ينهض شيء مما تقدم بدفع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة من منافاة الترخيص الناشئ من الاضطرار، للتكليف المعلوم بالإجمال، المستلزم لارتفاعه قبل رفع الاضطرار وجواز رفع الاضطرار بجميع الأطراف دفعة فضلاً عن ارتكابها تدريجاً.

غايته أنه مع الارتكاب التدريجي يحتمل حدوث التكليف بعد ارتكاب الطرف الأول وفعليته بعد رفع الاضطرار به، وهو مدفوع بالأصل.

نعم، لازم ذلك أنه لو دار الأمر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم بالإجمال ورفعه بما يعلم التكليف به تفصيلاً كان المكلف مخيراً بينهما، فلو علم المكلف بنجاسة أحد إنائين إجمالاً، وبنجاسة ثالث تفصيلاً، واضطر لشرب أحدها، فكما يجوز له رفع اضطراره بأحد المشتبهين يجوز رفعه بالثالث، لعدم الفرق بين التكليفين في المنافاة للترخيص الناشئ من

ص: 333

قبل الاضطرار، المستلزم لرفع أحدهما تخييراً، كما لو اضطر لأحد الإنائين النجسين، وهو مما تأباه المرتكزات العقلائية جداً، ولا يظن من أحد الالتزام به.

بل يلزم في كثير من الفروع ما يصعب الالتزام به جداً، مثلاً لو دار الأمر بين القصر والتمام، وضاق الوقت عن الجمع بينهما يجوز ترك المبادرة إلى كل منهما وانتظار خروج الوقت، لتعذر الموافقة القطعية بالإضافة إلى الأمر الأدائي، إلى غير ذلك.

ومن ثم كان الأمر في غاية الإشكال.

اختصاص الإشكال بما إذا قيل بامتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية

لكن الإشكال مختص بما إذا قيل بامتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية والتنزل للموافقة الاحتمالية.

أما بناء على ما تقدم منا في صدر الكلام في هذا الفصل من إمكان ذلك فلا مورد للإشكال المذكور، إذ الترخيص حينئذٍ في ارتكاب بعض الأطراف بنحو البدل لا ينافي التكليف، كي يمنع من بقائه وتنجزه بالعلم، وإنما ينافي وجوب موافقته القطعية لا غير، فلا يقتضي إلا رفعها شرعاً مع بقاء التكليف بحاله، وإن لم يعاقب عليه على تقدير رفع الاضطرار به عملاً بمقتضى الترخيص.

فالترخيص الناشئ من قبل الاضطرار واقعي لا ظاهري، إلا أنه ليس ترخيصاً في مورد التكليف بخصوصه، ليكون منافياً له مستلزماً لرفعه، بل في ترك موافقته القطعية مع بقائه بنحو يقتضي الموافقة الاحتمالية في الطرف الآخر.

نعم، بعد رفع الاضطرار يحتمل سقوط التكليف لارتفاع موضوعه

ص: 334

بعد ثبوته وتنجزه، وهو يقتضي الاحتياط.

إن قلت: مقتضى أدلة الرفع سقوط التكليف الواقعي وحلية الفعل واقعاً، لإبقائه على الحرمة مع جواز مخالفته الاحتمالية وعدم العقاب عليها لا غير.

قلت: لا ملزم بذلك، بل ظاهر الأدلة عدم جعل الأحكام الشرعية بنحو تستلزم الضرر والحرج وتنافي الاضطرار ونحوه، فهي لا تقتضي إلا اهتمام الشارع الأقدس برفع الأمور المذكورة وترخيصه في التخلص منها، وهو كما يكون برفع التكليف رأساً - كما في الاضطرار إلى المعين - يكون برفع وجوب موافقته القطعية والاكتفاء بموافقته الاحتمالية في مثل المقام، لأنه نحو من التصرف الشرعي المحقق للغرض.

نعم، الجمود على لسان دليل الاضطرار ونحوه قد يقتضي ذلك، لتضمنه تحليل الفعل المضطر إليه واقعاً المنافي لحرمته.

إلا أنه لا ينفع في المقام الذي فرض فيه الاضطرار للجامع لا لمورد التكليف بخصوصه، ولا مجال لتعميمه له إلا بضميمة أن المستفاد منه اهتمام الشارع برفع الاضطرار على كل حال، كما تقدم في مناقشة الوجه الثاني، ويكفي في ذلك رفع وجوب الموافقة القطعية في المقام.

هذا، في الروافع الشرعية كالحرج والضرر، وأما العقلية كالتعذر، والمزاحمة لتكليف أهم فهي كذلك، لما أشرنا إليه في صدر الكلام في هذا الفصل من أن وجوب الموافقة القطعية عقلاً حكم طريقي في طول وجوب الإطاعة الواقعية، فتعذرها لا يقتضي بحكم العقل إلا سقوطها واكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية، لا سقوط أصل وجوب الإطاعة المساوق

ص: 335

لسقوط التكليف رأساً، بل مقتضى إطلاق دليل التكليف ثبوته.

وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سرة، وهو الذي ارتكز في ذهن غيره ممن تقدم، إلا أنه لما لم يلائم مبانيهم اضطربت كلماتهم في المقام، ولم تنهض بتوجيه مرادهم.

بقي في المقام أمران

بقي في المقام أمران:

الأول: عدم الفرق في الاحتياط بين سبقه ولحوقه

الأول: أنه لا فرق في وجوب الاحتياط مع الاضطرار إلى غير المعين بين سبق الاضطرار على التكليف المعلوم بالإجمال أو على العلم الإجمالي نفسه ولحوقه لهما، لأن الترخيص الناشئ من الاضطرار لما لم يناف التكليف فهو لا يمنع من تنجزه بالعلم وإن كان الاضطرار سابقاً، فيجب لأجله الاحتياط في بقية الأطراف.

كما أنه بناء على عدم وجوب الاحتياط لا يفرق أيضاً بين الصور المذكورة، لابتنائه على منافاة الترخيص المذكور للتكليف ورفعه له، ولا فرق بين سبق الاضطرار ولحوقه في كونه موجباً للترخيص المذكور.

غايته أن سبقه مانع من حدوث التكليف ولحوقه رافع له بعد ثبوته وتنجيزه، ولا أثر لذلك في وجوب الاحتياط، إذ ليس المحتمل بعد رفع الاضطرار إلا رجوع التكليف بعد ارتفاعه، ولا إشكال في كونه مجرى البراءة.

الثاني: مراحل التكليف

الثاني: تقدم في صدر هذا الفصل أن للتكليف مراحل ثلاثاً مترتبة في نفسها: جعله، وتنجزه، ووجوب إطاعته.

ومرجع القول بعدم وجوب الاحتياط إلى كون الاضطرار مانعاً من جعل التكليف، فلا يبقى موضوع لتنجزه وإطاعته.

ص: 336

أما القول بوجوب الاحتياط فهو يرجع إلى نحو من التصرف في بعض هذه المراحل حسب اختلاف الوجوه المتقدمة.

فمقتضى الوجهين الأولين كون الاضطرار موجباً لثبوت التكليف في حال دون حال، لا في جميع الأحوال، وهو المعبر عنه بالتوسط في التكليف، غايته أنه على الوجه الأول يكون التوسط في التكليف من حين حدوث الاضطرار المقتضي للترخيص، أما على الوجه الثاني فالتوسط إنما يكون حين رفع الاضطرار والعمل بمقتضى الترخيص، مع كون التكليف قبله ثابتاً مطلقاً وفي جميع الأحوال.

أما على الوجه الثالث فلا توسط في التكليف، بل هو ثابت على كل حال، والتوسط إنما هو في تنجيزه، حيث يكون الترخيص عليه ظاهرياً مانعاً من تنجز التكليف الواقعي في ظرف رفع الاضطرار به، لامن ثبوته واقعاً.

وأما على ما ذكرنا فلا توسط لا في التكليف ولا في التنجيز، بل في وجوب الإطاعة، حيث تجب الإطاعة الاحتمالية دون القطعية. والله سبحانه وتعالى العالم وهو ولي التوفيق والتسديد.

التنبيه السابع: في ملاقي بعض الأطراف

التنبيه السابع: في ملاقي بعض الأطراف

لزوم مراعاة احتمال التكليف..

تارة: يكون راجعاً إلى إحرازه تبعاً للتعبد بموضوعه.

وأخرى: يكون لمحض وجوب الاحتياط شرعاً أو عقلاً لتنجز التكليف معه.

ص: 337

ففي الأول تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به، كما قد يقال في البلل المشتبه قبل الاستبراء، لأن المستفاد من أدلة الاستبراء أن وجوب التطهر بدونه مبني على التعبد شرعاً بكون الخارج منياً أو بولاً، فتترتب جميع آثارهما، لا خصوص التطهر الذي تضمنته النصوص.

نعم، لو فرض عدم إطلاق دليل التعبد واختصاصه ببعض الآثار تعين عدم التعدي لغيرها، إذ لا مانع من التفكيك بين الآثار في التعبد بالموضوع، نظير ما في بعض النصوص من أن المقر بالسرقة مرة واحدة لا يقطع(1)، مع أنه يضمن المال إلزاماً له بإقراره.

أما في الثاني فلا مجال لترتيب الآثار الآخر، لعدم إحراز موضوعها.

وعليه يبتني ما لعله المشهور بينهم من عدم نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة وعدم وجوب الاجتناب عنه، لأن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة ملاقيه، وهو غير ثابت بالعلم الإجمالي، وإن وجب اجتنابه احتياطاً بحكم العقل، بل مقتضى استصحاب طهارة الملاقى الحكم بطهارة الملاقي.

ومما ذكرنا يظهر حال ما عن الحدائق، حيث تعجب من حكمهم بعدم النجاسة في ما نحن فيه وحكمهم بها في البلل، مع كون كل منهما مشتبهاً حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

في مباني البناء على طهارة الملاقي

هذا، وقد أطال شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره ممن تأخر عنه في بيان مباني الكلام في ذلك، وينبغي التعرض لذلك في ضمن أمور..

الأول ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

الأمر الأول: قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟

ص: 338


1- راجع الوسائل، ج: 18 باب: 3 من أبواب حد السرقة.

وجهان، بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس، بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(1) ويدل عليه أيضاً ما في بعض الأخبار من استدلاله على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة بأن الله حرم الميتة(2)، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر ما لاقاه، وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سرة في المنتهى على ذلك بأن الشارع أعطاهما حكم النجس، وإلا فلم يقل أحد إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.

أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات، نظير وجوب الحد للخمر، فإذا شك في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة. والأقوى هو الثاني...».

هذا، ولا يخفى أن البناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه إن رجع إلى ظهور دليل الاجتناب في كونه كناية عن الانفعال، نظير ظهور بعض النصوص الناهية عن إدخال اليد النجسة في

ص: 339


1- سورة المدثر: 5.
2- وهو خبر جابر عن أبي جعفر (ع): «أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال أبو جعفر (ع): لا تأكله، فقال له الرجل: الفارة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر (ع): إنك لم تستخف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شيء» الوسائل ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف ح: 2.

الإناء في تنجسه بها - كما لعله المناسب لما نقله عن الغنية من الاستدلال - فهولا ينفع في المقام، ضرورة أن وجوب الاجتناب عن الأطراف - مع عدم كونه مستفاداً من خطاب شرعي لفظي، بل هو ثابت بحكم العقل - ليس كناية عن نجاسة الملاقى فضلاً عن الملاقي، بل للاحتياط، ولذا يختص بما يصلح للتكليف، كالماء الذي يحرم شربه إذا كان نجساً، والثوب الذي تمتنع الصلاة به إذا كان كذلك، دون مثل القلنسوة والخاتم.

وإن رجع إلى دعوى: أن تحريم الشيء يستلزم تحريم ملاقيه عقلاً أو عرفاً أو شرعاً، كما لعله المناسب لوجه الاستدلال بالحديث المشار إليه.

فهو - مع عدم صلوحه لإثبات النجاسة، بل لوجوب الاجتناب لا غير - لا ينفع أيضاً، لأن الملزوم هو وجوب الاجتناب الشرعي الواقعي - كما في الميتة - لا العقلي الظاهري، كما في المقام.

وكذا الحال لو رجع إلى دعوى: ملازمة وجوب الاجتناب عن الشيء أو نجاسته لنجاسة ملاقيه، لعين ما ذكر.

وكأن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة في فوائده وحاشيته على الرسائل راجع إلى بعض ما ذكرنا. فراجع.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في قوله قدس سرة: «فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين...» وفي ما حكاه عن المنتهى من أن الشارع أعطاهما حكم النجس.

بل ما يظهر منه قدس سرة في صدر كلامه من وجود القول بتنجس الملاقي بعيد جداً، فإن العلم الإجمالي لا يقتضي نجاسة الملاقى فضلاً عن الملاقي، بل غاية ما يدعى في المقام هو وجوب الاحتياط باجتناب الملاقي كالملاقى

ص: 340

من دون تعبدٍ بنجاسته، وإن كان لا يبعد عموم ذلك لملاقي الملاقي وإن تعدد الوسائط، لعين ما يذكر فيه مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.

نعم، لو أمكن دعوى: أن امتثال الاجتناب عن الملاقى لا يكون إلا باجتناب ملاقيه، نظير إكرام زيد الذي لا يتم إلا بإكرام ولده، فيكون اجتناب الملاقي محققاً لامتثال التكليف بالملاقى، اتجه البناء على وجوبه في المقام، فإنه وإن لم يعلم بنجاسته ولا بملاقاته للنجس، إلا أن احتمال ذلك كاف في لزومه بمقتضى لزوم الإطاعة اليقينية للمعلوم بالإجمال، الذي يحتمل انطباقه على الملاقى الذي لا يتحقق الفراغ عنه إلا باجتناب الملاقي.

إلا أن ذلك - مع كونه بعيداً عن كلام شيخنا الأعظم قدس سرة جداً - مما لا يظن من أحد الالتزام به، لوضوح أن الملاقي النجس تكليفاً مبايناً لتكليف الملاقى، له إطاعته ومعصيته، فلابد من تنجزه بنفسه بعلم ونحوه، ولا يكفي تنجز الملاقى في تنجيزه. على أنه لا يبعد كون مقتضى أصالة عدم ملاقاة النجس الواقعي للملاقي عدم توقف اطاعته على اجتنابه، ولولا ذلك لزم البناء على اجتناب ما يحتمل ملاقاته للنجس.

ومجرد الفرق بين ما نحن فيه وبينه بعدم العلم بتحقق الملاقاة فيه بخلاف ما نحن فيه - حيث يعلم بتحققها - ليس فارقاً بعد كون المعلوم في ما نحن فيه مطلق الملاقاة لا ملاقاة النجس. فتأمل.

الأمر الثاني: المتصور في تنجس الملاقي وجهان

الأمر الثاني: المتصور بدواً في تنجس الملاقي وجهان:

الأول: أن يكون من باب السراية والانبساط في نجاسة الملاقى، بمعنى أن نجاسة الملاقى بنفسها تتسع بنحو تشمل الملاقي وتعرض عليه، نظير الحرارة الشديدة في الماء التي تسري إلى ما يختلط به.

ص: 341

الثاني: أن يكون من باب التسبيب بحيث تكون للملاقي نجاسة أخرى غير نجاسة الملاقي ناشئة منها ومسببة عنها شرعاً.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من فرض وجه ثالث، وهو محض التعبد من دون تسبيب ولا سراية، بأن يكون الملاقي موضوعاً مستقلاً في عرض الملاقى قد حكم الشارع عليه بالنجاسة بشرط الملاقاة.

فالظاهر رجوعه إلى الثاني، إذ لا يراد بالتسبيب إلا السببية الشرعية الراجعة إلى موضوعية الملاقاة للنجاسة.

إلا أن يفرق بينهما بابتناء الثاني على مقايسة الانفعال الشرعي في المقام بالانفعال العرفي في القذارات العرفية، فكما أن العرف يستقذر الملاقي ويرى حمله القذارة من الملاقى كذلك الشارع، وابتناء الثالث على إهمال ذلك ومحض التعبد نظير الحكم بنجاسة الكافر.

وكيف كان، فلا إشكال على الوجهين الأخيرين، وأما على الأول فقد يدعى أن اللازم اجتناب الملاقي، لأن نجاسته تكون عين نجاسة الملاقى التي هي طرف العلم الإجمالي ومن مراتبها، فيكون العلم الإجمالي منجزاً لهما معاً.

نظير: ما إذا علم إجمالاً بتكليف في طرف أو تكليفين في طرف آخر، حيث لاريب في لزوم الاحتياط بلحاظ كلا التكليفين، لا خصوص أحدهما، لعدم المرجح.

ومثله ما لو قسم أحد الإنائين قسمين، حيث لاريب في وجوب الاجتناب عنهما معاً، لتنجزهما بالعلم الإجمالي السابق على القسمة.

وفيه: أن النجاسة بنفسها ليست موضوعاً للتنجيز، لعدم كونها حكماً

ص: 342

تكليفياً عملياً، وإنما يكون التنجيز للحكم التكليفي المترتب عليها، ومن الظاهر أن سعة النجاسة الواحدة وسريانها من الملاقى للملاقي يوجب تجدد التكليف تبعاً لتجدد موضوعه، وهو المتنجس، وإن اتحدت النجاسة، والمفروض أن المنجز بالعلم الإجمالي هو التكليف المحتمل في الملاقى، دون التكليف المحتمل في الملاقي.

ومنه يظهر الفرق بين ذلك وبين مورد التنظير، لأن المتنجز بالعلم سابقاً هو كلا التكليفين رأساً في الأول، ومتحداً مع كلاً القسمين في الثاني، من دون أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.

وقد أشار لذلك بعض الأعيان المحققين قدس سرة على اضطراب في كلامه، حيث يظهر من صدره إقرار الوجه المذكور، ومن آخره الجواب عنه بذلك. فراجع.

أما بعض الأعاظم قدس سرة فقد بنى الكلام على الفرق بين الوجهين بنحو آخر يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: ما ذكره النائيني قدس سرة

الأمر الثالث: ذكر بعض الأعاظم قدس سرة أن كل ما للمعلوم بالإجمال من الآثار والأحكام يجب ترتيبه على كل طرف، سواء كان حكماً تكليفياً كحرمة الأكل والشرب للنجس أم وضعياً، كمانعية الغصب من البيع، فإن العلم الإجمالي بغصبية أحد المالين، كما يقتضي تنجز احتمال حرمة التصرف تكليفاً في كل منهما، كذلك يقتضي تنجز احتمال الحرمة الوضعية الراجعة إلى مانعية الغصب من البيع، ولا يعتبر في ذلك فعلية الابتلاء بالحكم في كل من الطرفين، فلو فرض تلف أحد المالين بعد العلم إجمالاً بغصبية أحدهما وقبل بيع كل منهما لم يجز بيع الثاني، لتنجز احتمال مانعية الغصب من البيع

ص: 343

فيه بالعلم الإجمالي السابق، وإن لم يكن مورداً للابتلاء حينه.

وقد رتب على ذلك وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المنفصلة والمتصلة كالنماءات، فلو علم بمغصوبيّة إحدى الشجرتين أو إحدى الدارين، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين والدارين يجب الاجتناب عن ثمرة كلتا الشجرتين ومنافع كلتا الدارين المتجددة بعد ذلك، وإن فرض تجدد الثمرة والمنفعة لإحدى الشجرتين والدارين بعد تلف الأخرى منهما، لأن النهي عن التصرف في الشجرة أو الدار بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة أو المنفعة.

إذا عرفت هذا، فإن قلنا بأن نجاسة الملاقي مباينة لنجاسة الملاقى، والملاقي فرد آخر للنجس في عرض الملاقى فلا مجال لتنجزه بالعلم الإجمالي المفروض في المقام، لقيام العلم الإجمالي بالملاقى وصاحبه لاغير.

وأما لو قلنا بأن نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى، لاتساع نجاسة الملاقى وسريانها للملاقي وانبساطها فيه - على ما تقدم الكلام فيه في الأمر الثاني - تعين تنجز الملاقي بالعلم الإجمالي المذكور، لأن نجاسة الملاقى تكون تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي، وقد ذكرنا أنه يجب ترتيب جميع أحكام المعلوم بالإجمال على تمام الأطراف، لتنجزها بالعلم الإجمالي، فكما يتنجز بالعلم الإجمالي حرمة شرب الملاقى يتنجز حرمة أكل الطعام الملاقي له، لأنهما معاً من أحكامه التي هي طرف للعلم الإجمالي، ويكون هو تمام الموضوع لها.

ثم إنه بعد أن قرَّب الوجه الأول ذكر أن رواية جابر المشار إليها في

ص: 344

كلام شيخنا الأعظم قدس سرة السابق مشعرة بالوجه الثاني بدعوى: أنه (ع) جعل أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافاً بالدين، وفسره بتحريم الميتة، ولولا كون نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها، لم يكن موقع للجواب بذلك، إذ لو كان فرداً آخر من النجاسة لكان أكله استخفافاً بحرمته، لا بحرمة الميتة.

وجوه الإشكال على ما ذكره قدس سرة

هذا حاصل ما ذكره.

ويشكل بوجوه..

الوجه الأول

الأول: أن ما ذكره أولاً من تنجز الحكم الوضعي بالعلم الإجمالي مما لم يتضح وجهه بعد عدم كون الحكم الوضعي بنفسه عملياً، ولا موضوعاً لحكم العقل بالطاعة والمعصية، فلا معنى لتنجزه إلا تنجز التكليف المترتب عليه، كحرمة شرب النجس وحرمة التصرف في المغصوب ونحو ذلك.

فمع فرض عدم فعلية الحكم التكليفي المترتب عليه، لعدم كونه تمام الموضوع له، بل جزءه لا وجه لمنجزية العلم الإجمالي، بل لابد في منجزيته من تمامية الموضوع الموجب للابتلاء بالتكليف بالإجمال، وما ذكره قدس سرة من عدم اعتبار فعلية الابتلاء في غير محله جداً.

نعم، تقدم في التدريجيات الاكتفاء بالابتلاء الاستقبالي في تنجز العلم الإجمالي، لكن بشرط العلم به، ولا يكفي احتماله.

وأما عدم نفوذ البيع ظاهراً في الفرض الذي ذكره فلأنه لا مجال لبقاء قاعدة السلطنة بالإضافة إلى كل من المالين، لاستلزامها المخالفة القطعية، لأنها تقتضي مشروعية بيع كل من المالين وأكل ثمنهما، مع أنه يعلم بعدم جواز أكل ثمن أحد المالين تكليفاً، وسقوط قاعدة السلطنة فيهما راجع إلى

ص: 345

تنجز احتمال المانعية، إذ ليست المانعية إلا منتزعة من قصور قاعدة السلطنة.

ودعوى: أنه لا موضوع لذلك قبل البيع، إذ لا ثمن قبله.

مدفوعة: بأن التصرف وإن لم يتحقق بعد، إلا أن الحكم بالسلطنة عليه، بحيث يترتب أثره مناف ارتكازاً للعلم الإجمالي المفروض، فهو نظير العلم بنجاسة أحد الثوبين المستلزم لامتناع الصلاة فيه، حيث يكون جريان قاعدة الطهارة في كل منهما مستلزماً لمشروعية الصلاة بكل منهما والاجتزاء بها في امتثال الأمر، وهو منافٍ للعلم الإجمالي بالنجاسة.

وهذا بخلاف مثل مسببية الإتلاف للضمان، فإن الضمان وإن كان راجعاً إلى وجوب أداء الثمن تكليفاً، وهو مشروط بكون المال التالف غير مملوك للمتلف، إلا أن العلم بخروج أحد المالين عن ملكه لا يستلزم فعلية التكليف قبل حصول الإتلاف، فاستصحاب الملكية في كل منهما لا يستلزم مخالفة عملية بالإضافة إلى الضمان قبل حصول الإتلاف، كي يتنجز احتمال سببية إتلاف كل منهما لضمانه.

نعم، بعد حصول الإتلاف لأحدهما يحتمل سببيته لضمانه، إلا أنه ليس طرفاً لعلم إجمالي، بل الأصل البراءة منه نظير ملاقاة أحد أطراف العلم الإجمالي، الذي هو محل الكلام، حيث لا مجال قبلها لتنجز احتمال التكليف، لعدم تحقق موضوعه، كي يلزم من جريان الأصل على خلافه مخالفة عملية، فلا موضوع للأصل بالإضافة إلى الأثر المذكور.

مضافاً إلى أن العلم بعدم ملكية أحد المالين موجب لتنجز احتمال حرمة تسليمه بنحو يمنع من بيعه، لعدم القدرة معه على التسليم. فتأمل.

هذا كله مع سبق ملكية كلا المالين أما مع عدمهما فاستصحاب عدم

ص: 346

الملكية في كل منهما ولو بنحو العدم الأزلي كاف في امتناع بيعه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور، فهو نظير ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي مع سبق نجاسة كل منهما، حيث يتعين معه البناء على نجاسته.

بل لا أقل حينئذٍ من أصالة فساد البيع وعدم ترتب أثره. فلاحظ.

الوجه الثاني

الثاني: أن تنجز الأحكام الوضعية لو تم لا دخل له بما فرعه عليه من وجوب الاجتناب عن المنافع والنماءات المتصلة والمنفصلة، لوضوح أن حرمة التصرف في الأمور المذكورة ليس من أحكام غصبية الأصل الفعلية التكليفية أو الوضعية، بل هو حكم آخر وارد على موضوعه، ولذا لا يكون فعلياً إلا تبعاً لفعلية موضوعه، وهو تحقق الأمور المذكورة كما اعترف به قدس سرة، ولا موقع بعد ذلك لما ذكره من أن النهي عن التصرف في المغصوب بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في توابعه عند تحققها، فإنه إن كان المراد به وحدة الحكم أو أن الثاني من شؤون امتثال الأول، فلا مجال له مع فرض تعدد الموضوع المستلزم لتعدد الحكم بحيث يختص كل حكم بإطاعته ومعصيته، بل يمكن التفكيك بين الحكمين في الإطاعة والمعصية، فقد يكون الغصب للشجرة دون الثمرة، كما قد يكون العكس.

وإن كان المراد التلازم بين الحكمين فليس هو إلا لكون كل منهما فرداً من أفراد الغصب، كالسفينة والشجرة.

ومجرد الفرق بأن الثمرة من شؤون الشجرة وتوابعها في الوجود أو الحكم، بخلاف السفينة، ليس فارقاً بعد عدم التبعية بينهما في الامتثال، كي يكون تنجز حكم الشجرة بالعلم الإجمالي كافياً في تنجز حكم الثمرة. ودعوى: أن ملك المنفعة والثمرة مترتب على ملك العين والأصل، فهو من

ص: 347

أحكامهما الوضعية ومرجع ذلك إلى أن من أحكام المغصوب الوضعية غصبية منفعته وثمرته، كامتناع بيعه وحرمة التصرف فيه.

مدفوعة بأن غصبية المنفعة والثمرة من أحكام المنفعة والثمرة، لا من أحكام العين والأصل بأنفسهما، ونسبتهما للعين والأصل من باب وصف الشيء بحال متعلقه، فلا يتنجز قبل تحقق المتعلق، وليس هو من أحكام نفس المغصوب التي تكون نسبتها إليه من باب وصف الشيء بحال نفسه. فتأمل جيداً.

وعليه يلزم الرجوع في الثمرة والمنفعة إلى مقتضى القواعد، فإن فرض كونها طرفاً لعلم إجمالي آخر - كما لو كان لكلا الأصلين منفعة أو ثمرة - كان منجزاً كالعلم الإجمالي بحرمة الأصل.

أما لو اختصت المنفعة أو الثمرة بأحد الطرفين، فإن علم بالابتلاء بها حين العلم الإجمالي بغصبية الأصلين كانت طرفاً للعلم الإجمالي، ويكون العلم الإجمالي تدريجياً بالإضافة إليها، فينجز تمام أطرافه، كما سبق.

وإلا فإن كان الأصلان مسبوقين بالملكية ثم خرج أحدهما عنها واشتبه، كان استصحاب ملكية الأصل المثمر محرزاً لملكية الثمرة.

وعدم ترتب العمل على الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى الأصل لتنجزه بالعلم الإجمالي لا ينافي ترتب العمل عليه بالإضافة إلى الثمرة لعدم كونها طرفاً له.

كما أنه لو كانا مسبوقين بملكية الغير كان مقتضى استصحاب ملكيته للمثمر ملكيته للثمرة وعدم جواز تصرف غيره فيها.

وأما مع عدم الوجهين فمقتضى استصحاب عدم ملكية الأصل أو

ص: 348

الثمرة بنحو العدم الأزلي عدم ترتيب أحكام الملك من البيع ونحوه على الثمرة، وأما التصرف الخارجي فهو مبني على الكلام في أن جوازه موقوف على إحراز ملك المتصرف، أو أن حرمته موقوفة على إحراز ملك الغير، وتقدم الكلام في ذلك عند الكلام في انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال في التنبيه الأول من تنبيهات الفصل الأول في البراءة.

نعم، لو فرض توقف التصرف في الثمرة أو المنفعة على التصرف في الأصل - كما هو الغالب أو اللازم في المنفعة - امتنع التصرف فيها، لفرض تنجز وجوب الاجتناب عن الأصل بالعلم الإجمالي المفروض.

لكن ذلك لا يستلزم ضمانها، بل هو موقوف على إحراز ملكية الغير للأصل بالوجه المتقدم.

الوجه الثالث

الثالث: أن ما ذكره في تفريع حكم الملاقي لا ربط له بالمقدمة التي قدمها، فإن السراية بالمعنى المذكور لا أثر لها في وحدة التكليف، لما هو الظاهر من أن الحكم الوضعي لو فرض تنجزه بالعلم الإجمالي بنفسه إلا أن تنجزه باعتبار إضافته لموضوعه، فتنجز النجاسة ليس إلا بمعنى تنجز نسبتها للنجس. لا تنجزها في نفسها مع قطع النظر عن معروضها، لعدم الأثر لها حينئذٍ أصلاً حتى بنحو التعليق، ومن الظاهر أن العلم الإجمالي إنما يقتضي تنجز النجاسة في كل من الطرفين، أما الملاقي فحيث كان موضوعاً آخر فلا مجال لتنجز نجاسته حتى لو كانت من مراتب نجاسة الملاقي.

نعم، لو تم ما ذكره من تنجز حكم المنفعة والثمرة تبعاً لحكم الأصل فقد يتجه تنجز حكم الملاقي حتى لو كانت نجاسته مباينة لنجاسة الملاقى مسببة عنها، إذ كما تكون ملكية الثمرة والمنفعة تابعة لملكية الأصل، كذلك

ص: 349

تكون نجاسة الملاقي تابعة لنجاسة الملاقى، والتفريق بينهما بلا فارق.

الوجه الرابع

الرابع: أن ما ذكره في وجه إشعار رواية جابر بالسراية غير ظاهر، إذ هي لم تتضمن تفسير الاستخفاف بالدين الحاصل من أكل الطعام بالاستخفاف بتحريم الميتة الراجع إلى عصيانه، كيف! ولاريب في عدم كونه معصية له مع تعدد الموضوع المستلزم لتعدد التكليف وتعدد الطاعة والمعصية، بل تضمنت تعليل الاستخفاف بالدين بتحريم الميتة، ويكفي في ذلك التلازم بين تحريم الميتة وتحريم الملاقي، ولو لأجل الفراغ عن أن حرمة الميتة راجعة إلى نجاستها المستلزمة لنجاسة الملاقي وحرمته.

على أنه لو فرض تمامية ما ذكره من التفسير فهو لا يقتضي السراية بالمعنى المذكور، لما عرفت من أن السراية لا تقتضي وحدة التكليف الموجب لتوقف إطاعة حكم الميتة على اجتناب ملاقيها، فالرواية أجنبية عما ذكره على كل حال.

وبالجملة: ما ذكره من المقدمات غير تام في نفسه، ولا صالح لأن يبتني عليه القول بالتنجيز في المقام.

الأمر الرابع: الكلام في منجزية العلم الإجمالي الثاني بسبب الملاقاة

الأمر الرابع: لاريب في أن الملاقي يكون طرفاً لعلم إجمالي كالملاقى، فإذا علم إجمالاً بنجاسة إحدى اليدين، ولاقى الثوب اليمنى منهما، فكما يعلم بنجاسة إحدى اليدين يعلم أيضاً بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب.

وحينئذٍ قد يدعى أن العلم الثاني منجز لأطرافه كالأول، فيلزم اجتناب الملاقي لذلك.

وقد تصدى غير واحد للكلام في حال العلم الإجمالي المذكور

ص: 350

وتوجيه عدم منجزيته مطلقاً أو في بعض الصور.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة في عدم المنجزية

وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة أنه لا مجال للبناء على منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي، لعدم المعارض لاستصحاب الطهارة فيه بعد سقوط الأصل في الملاقى وطرفه بالمعارضة في مرتبة سابقة على جريانه فيه، إذ في مرتبة جريان الأصل في الملاقى لا يجري الأصل في الملاقي، لأنه مسبب عنه، فيتعارض الأصل الجاري في الملاقى والأصل الجاري في طرفه بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدهما ولزوم المخالفة القطعية منهما، وبعد سقوطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

وأما ما أشار إليه بعض مشايخنا من أن الأصل الجاري في الملاقي وإن كان متأخراً رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى، إلا أن كلا الأصلين في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر، بلا ترتب بينهما، لأن ملاك الترتب بين الأصول الشرعية هو التسبب وكون مؤدى أحد الأصلين موضوعاً لمؤدى الآخر، ولا تسبب هنا بين الأصل الجاري في الطرف الآخر وكلا الأصلين الجاريين في الملاقى والملاقي، وليس المراد باتحاد رتبة الأصلين إلا محض عدم المقتضي لتقدم أحدهما على الآخر، لا وجود المقتضي للاتحاد ليمتنع اتحاد الشيء رتبة مع كلا الأمرين المترتبين.

فهو مندفع: بأن عدم الترتب بين الأصل الجاري في الطرف الآخر والأصل الجاري في الملاقي لا يقتضي التعارض بينهما، لتوقف التعارض على جريانهما في عرض واحد، والمفروض سقوط الأصل الجاري في الطرف الآخر بمعارضة الأصل الجاري في الملاقى المفروض كونه في عرضه أيضاً، وحيث كان الأصل في الملاقي متأخراً رتبة عن الأصل في

ص: 351

الملاقى تعين عدم المعارض له في مرتبة جريانه، لسقوط معارضه في المرتبة السابقة عليه وإن لم يكن متأخراً عنه رتبة.

وأشكل من ذلك ما ذكره من أن السبق والتأخر الرتبي إنما يترتب عليهما الأثر في الأحكام العقلية المترتبة على الرتبة، وأما الأحكام الشرعية فهي مترتبة على الموجودات الخارجية، ولا أثر فيها للتقدم والتأخر الرتبي، ولذا لو علم إما ببطلان صلاة الصبح لبطلان وضوئها، أو ببطلان صلاة الظهر لخلل فيها، وجب إعادة الصلاتين معاً، وإن كان بطلان الصبح متأخراً رتبة عن بطلان الوضوء الذي هو طرف العلم الإجمالي.

لاندفاعه: بأن ذلك إنما يتم في ما إذا كان الترتب في أحد الأطراف لا يوجب الترتب بين الأصول الجارية فيها، كما لو علم إجمالاً إما بترك الوضوء لصلاة الصبح أو بترك السلام من صلاة الظهر، فإن الوضوء وإن كان سابقاً رتبة على صلاة الصبح، إلا أن الأصل الذي يرجع إليه في الشك فيه هو قاعدة الفراغ في الصبح، وهي في مرتبة قاعدة الفراغ في الظهر، فيتساقطان.

أما إذا كان الترتب في نفس الأصول الجارية في الأطراف فالمتجه البناء على سقوط الأصول المتقدمة رتبة بالمعارضة، وانفراد الأصل المتأخر رتبة بالجريان في بعض الأطراف.

كما هو الحال في المقام.

ومثله مورد النقض، لأن قاعدة الفراغ من الوضوء للصبح سابقة رتبة على قاعدة الفراغ من الصبح نفسها، وبعد سقوط الأولى بالمعارضة لقاعدة الفراغ من الظهر تجري قاعدة الفراغ من الصبح بلا معارض.

ثم انه قد استثنى شيخنا الأعظم قدس سرة مما تقدم ما لو فرض حين العلم

ص: 352

الإجمالي عدم جريان الأصل في الملاقى لتلف ونحوه مما يوجب خروجه عن الابتلاء، فذكر أنه يتعين حينئذٍ لسقوط الأصل الجاري في الملاقي بالمعارضة بالأصل الجاري في الطرف الآخر، لعدم المسقط للأصل في الطرف المذكور في مرتبة سابقة على جريان الأصل في الملاقي، بل يجريان معاً ويسقطان بالمعارضة.

هذا حاصل ما اعتمده شيخنا الأعظم قدس سرة في المقام، وتابعه فيه بعض الأعاظم قدس سرة.

لكنه لا يناسب ما تقدم منه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية وجريان الأصول في الأطراف، من أنه لا أثر للترتب بين الأصول وحكومة بعضها على بعض في رفع التعارض، بل تسقط الأصول المترتبة جميعها بالمعارضة.

وكيف كان، فهو مبني على أن منشأ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي تعارض الأصول فيها بنحو لو اختص بعضها بالأصل لجاز ارتكابه.

الكلام بناء على منجزية العلم الإجمالي للزوم الموافقة القطعية لا تعارض الأصول

أما بناء على ما تقدم من منجزيته ذاتاً بنحو يقتضي الموافقة القطعية فلا ينفع عدم المعارض للأصل في الملاقي في مرتبة جريانه في جواز ارتكابه.

على أن لازم ذلك جواز ارتكاب الملاقي حتى مع فرض خروج الملاقى عن الابتلاء حين العلم الإجمالي، ولا وجه لاستثنائه، لأن الأصل في الملاقى وإن لم يترتب عليه الأثر بالإضافة إليه، إلا أنه يترتب عليه الأثر بالإضافة إلى الملاقي، فيجري بلحاظه ويعارض الأصل في الطرف الآخر، وبعد تساقطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض، ويتعين اجتناب

ص: 353

الطرف الآخر وحده لسقوط الأصل فيه بالمعارضة في الرتبة السابقة.

بل يلزم من ذلك عدم جواز ترتيب الطهارة على الملاقي في الفرض الأول، إذ في مرتبة جريان أصالة الطهارة فيه تجري أصالة الحل في الملاقى وطرفه، وبعد تساقط الأصول الثلاثة تجري أصالة الحل في الملاقي لا غير من دون أن يترتب عليه آثار الطهارة، إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل في الموارد على اختلاف سنخ الأصول الجارية فيها.

ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

وقد تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية. فراجع.

تقديم العلم الإجمالي الأسبق وتعيينه للمنجزية

وعليه يلزم الرجوع في المقام إلى القواعد المدعية في العلوم الإجمالية المتداخلة من لزوم تقديم الأسبق منها وتعينه للمنجزية.

وتوضيح ذلك: أن في المقام علوماً إجمالية ثلاثة..

الأول: العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو نجاسة صاحب الملاقى.

الثاني: العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه.

الثالث: العلم بنجاسة الملاقي أو صاحب الملاقى.

والأخيران أخص أطرافاً من الأول، فمع عدم المرجح لأحدهما على الآخر يتعين منجزيتهما معاً، الراجعة إلى وجوب موافقة الأول، ومع ترجح أحدهما في المنجزية يتعين منجزيته وعدم الأثر للآخر، ولا للأول، لما تقدم في التنبيه الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من منجزيته في الأطراف الآخر.

ص: 354

إذا عرفت هذا، فاعلم: أن المعلومات في هذه العلوم الثلاثة إما أن تتقارن، بأن تكون الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة المعلومة بالإجمال بين الملاقي وصاحبه. وإما أن يكون المعلوم بالعلم الثاني أسبق، بأن تتأخر الملاقاة عن حدوث النجاسة المعلومة، ولا يعقل العكس، لاستحالة تنجس الملاقي قبل الملاقى.

الكلام في مقامين: الأول: في مقارنة الملاقاة لحدوث النجاسة وله صور ثلاث

فالكلام في مقامين:

الأول: في ما لو كانت الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة، وله صور..

إذ.. تارة: تكون العلوم الثلاثة متقارنة حدوثاً أيضاً، بأن يعلم بالنجاسة والملاقاة في وقت واحد، أو يسبق العلم بالملاقاة.

وأخرى: يكون العلم الثاني أسبق، بأن يعلم بنجاسة أحد الطرفين، ثم يعلم بسبق ملاقاة ثالث لأحدهما.

وثالثة: يكون العلم الثالث أسبق، بأن يعلم بنجاسة الملاقي أو صاحب الملاقى، ثم يعلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه، وأنه لا منشأ لنجاسة الملاقي المحتملة التي هي طرف العلم الإجمالي السابق إلا الملاقاة.

الكلام في الصورة الأولى

أما الأولى: فالظاهر فيها عدم ترجح أحد العلمين الأخيرين في المنجزية، بل يكون كل منهما منجزاً، لاتحادهما زماناً علماً ومعلوماً، فهو كما لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في الإناء النحاس أو الإنائين الخزف، حيث يجب اجتناب الجميع بلا إشكال.

لكن ذكر بعض الأعاظم أن التنجيز يختص بالثاني، لأنه أسبق رتبة بلحاظ سبق معلومه، لفرض أن نجاسة الملاقي متأخرة رتبة عن نجاسة الملاقى.

ص: 355

ومن ثم بنى على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي مطلقاً.

ويشكل: بأن التنجز ليس للنجاستين المترتبتين، بل لأحكامهما التكليفية العملية، كوجوب الاجتناب، وترتب موضوعي التكليفين لا يوجب الترتب بين التكليفين نفسهما، بعد عدم كون أحدهما موضوعاً للآخر، لما تقدم من أن المترتب على أمرٍ مقارنٍ لشيءٍ لا يكون مترتباً على ذلك الشيء.

على أنه لو فرض الترتب بين الحكمين فلا يتضح مرجحيته في التنجيز بعد عدم الترتب بينهما زماناً لا بنفسيهما ولا بلحاظ العلم الإجمالي بهما.

نعم، لو كان الترتب موجباً للترتب في الأصول الجارية في الأطراف كان له الدخل في التنجيز، بناء على أن المعيار فيه تعارض الأصول وتساقطها، كما تقدم.

لكنه خارج عن محل الكلام.

الكلام في الصورة الثانية

وأما الثانية: فظاهر المحقق الخراساني قدس سرة فيها اختصاص المنجزية بالعلم الثاني، لأنه أسبق حدوثاً، فينجز أطرافه، ويمنع من منجزية العلم الثالث والأول المتأخرين عنه حدوثاً، وتابعه على ذلك غير واحد.

وربما يقال(1): إن العبرة في مرجحية أحد العلمين المتداخلين في المنجزية، والمانعية من منجزية الآخر هو سبق معلومه زماناً، والمفروض عدم ذلك في المقام، ولا أثر لسبق حدوث العلم بنفسه، لأن العلم اللاحق بالمعلوم السابق يوجب انقلاب العلم السابق وتبدله بالعلم الكبير، وهو العلم الأول، فيتعين منجزيته ولزوم إحراز الفراغ عنه باجتناب تمام الأطراف.

ص: 356


1- ذكر ذلك بعض مشايخنا. ثم بعد ذلك ظهر عدوله عنه وجوابه عنه بما ذكرناه في الجواب عنه. (منه عفي عنه).

لكن لا يخفى أن انقلاب العلم السابق إنما يوجب ارتفاع منجزيته إذا رجع إلى ارتفاعه، كما لو قطع المكلف بنجاسة أحد إنائين، ثم تردد في النجاسة بينهما وبين إناء ثالث، أما إذا رجع إلى زيادة المعلوم، كما لو علم بنجاسة أحد إنائين ثم علم بنجاسة إناء ثالث معه فلا وجه لارتفاع منجزيته، ومن الظاهر أن انقلاب العلم المدعى في المقام من الثاني، فهو لا يوجب سقوط العلم الثاني عن المنجزية.

وإنما الإشكال في أن تنجيزه لطرفيه هل يمنع من منجزية العلم الثالث الحاصل حين العلم بالملاقاة، لاشتراكه معه في بعض الأطراف، أو لا؟

ومن الظاهر أن الكلام لا يختص بالمقام، بل يجري في كل علمين إجماليين بينهما عموم من وجه، تأخر أحدهما عن الآخر حدوثاً، وقارنه معلوماً، فهل يكون تأخر العلم المذكور مستلزماً لعدم تنجيزه، لتنجز بعض أطرافه بالعلم السابق، الموجب لعدم العلم بالتكليف الذي يترتب عليه العمل على كل حال، أو لا؟ بل يكون سبق معلومه وصلوحه لأن يترتب عليه العمل حينئذٍ كافياً في منجزية العلم به وإن كان حدوث العلم متأخراً؟

لا يبعد الثاني، لأن المنجز وإن كان هو العلم، إلا أن منجزيته باعتبار معلومه، فإذا كان المعلوم من شأنه التنجز تنجز مطلقاً، وإن كان العلم به متأخراً.

وحيث فرض أن كلاً من المعلومين يتنجز على ما هو عليه ولا يصلح كل منهما لأن يتقدم على الآخر تعين تنجزهما معاً، وتأخر العلم بأحدهما لا أثر له وبعبارة أخرى: حدوث العلم الإجمالي لا يقتضي تنجز المعلوم مطلقاً، بل في خصوص آن حدوثه، وليس المنجز في كل آن لاحق إلا بقاء

ص: 357

العلم فيه، ففي آن حدوث العلم اللاحق واجتماع العلمين لا وجه لاختصاص التنجيز بالعلم الأسبق حدوثاً بعد عدم المرجح لأحد المعلومين، إذ ليس العلم السابق باستمراره إلا كالعلم اللاحق بحدوثه فيشتركان في التنجيز في زمان اجتماعهما، وسبق الأول إنما يقتضي انفراده بالتنجيز في زمان انفراده لا غير.

ومنه يظهر اندفاع ما في بعض كلماتهم من أن التكليف إنما يتنجز بوجوده العلمي المفروض تأخره في المقام، لا بوجوده الواقعي المفروض مقارنته لوجود التكليف الآخر.

وجه الاندفاع: أن التأخر إنما يوجب قصور العلم عن التنجيز في الزمان السابق، أما الزمان اللاحق فلا مرجح للعلم السابق فيه بعد كون تنجيز العلم فيه باستمراره المقارن لحدوث العلم المتأخر لا بحدوثه المتقدم عليه. فتأمل جيداً.

إن قلت: تقدم في التنبيه الرابع أنه لو حصل المانع من منجزية العلم الإجمالي في بعض الأطراف، ثم علم إجمالاً بحدوث التكليف بينها قبل حدوث المانع اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي، فلو خرج أحد الإنائين عن ابتلاء المكلف يوم الجمعة، وعلم يوم السبت بسبق النجاسة من يوم الخميس فيه أو في صاحبه الذي هو محل الابتلاء، لم يكن العلم المذكور منجزاً للطرف المبتلى به، لأن المتيقن من منجزية العلم الإجمالي العلم بترتب الأثر على العلم حين حدوثه، لا حين حدوث الأمر المعلوم، ولازمه عدم منجزية العلم اللاحق، لعدم العلم بترتب الأثر عليه حين حدوثه، لاحتمال انطباق المعلوم على الطرف المتنجز بالعلم السابق، وإن كان

ص: 358

يترتب الأثر عليه لو فرض سبقه أو مقارنته للعلم الآخر، لعدم المرجح لأحدهما حينئذٍ.

قلت: ذلك يختص بما إذا كان المانع موجباً للخلل في المعلوم وعدم صلوحه للداعوية، كعدم الابتلاء الخارجي والاضطرار، إذ لا يعلم معه بصلوح التكليف لأن يترتب عليه العمل.

وأما في المقام فليس المانع إلا تنجز بعض الأطراف الناشئ من العلم بالتكليف، وحيث كانت منجزية العلم في طول منجزية التكليف، والمفروض عدم المرجح للتكليف المذكور على التكليف المعلوم بالعلم اللاحق لتقارنهما فمجرد سبق العلم به لا يوجب تعينه للمرجحية، لما سبق.

وبعبارة أخرى: سبق العلم في أحد المعلومين لا يوجد تبدل المعلوم الآخر وعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل، بل الجهة المقتضية للعمل به حين حدوثه باقية على ما هي عليه، فيتعين تنجزهما معاً في ظرف حصول العلم بكل منهما وإن تأخر أحد العلمين.

كيف! ولازم اختصاص التنجيز بالمتقدم في المقام أنه لو ارتفع العلمان بنسيان أو غفلة أو نوم، ثم رجعا معاً، لكانا سعا منجزين، إذ لا أثر للعلم السابق بعد ارتفاعه، بل لو فرض سبق رجوع اللاحق لاختص التنجيز به وهكذا، ولا مجال للبناء على ذلك ارتكازاً، بل لا يظن من أحد البناء عليه.

الكلام في الصورة الثالثة

وأما الثالثة: فيظهر الكلام فيها مما تقدم، إذ لو كان تقدم أحد العلمين رتبة موجباً لاختصاص التنجز به - كما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة - اختصت المنجزية بالعلم الثاني وإن كان متأخراً حدوثاً، وإن كان تقدمه حدوثاً هو الموجب لذلك اختصت بالعلم الثالث، كما هو ظاهر المحقق الخراساني قدس سرة

ص: 359

وغيره، وأما بناء على ما عرفت منا فالمتعين البناء على منجزية العلمين معاً، لفرض تقارن المعلومين.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن اللازم في الصور الثلاث البناء على منجزية العلمين معاً واجتناب جمع الأطراف.

هذا، ولو فرض طروء بعض موانع فعلية التكليف في بعض الأطراف - كالاضطرار والخروج عن الابتلاء - فلاريب في جواز ارتكابه، بل يجوز ارتكاب بقية الأطراف لو كان طروء المانع رافعاً للعلم الإجمالي - كما لو طرأ على صاحب الملاقى أو على المتلاقيين معاً - وكان قبل حصول العلم، بناء على ما تقدم الكلام فيه في التنبيه الرابع.

أما لو لم يرفع العلم الإجمالي - كما لو اختص بأحد المتلاقيين - أو كان بعد حصول العلم، فلا مجال لارتكاب بقية الأطراف، لتنجزها بالعلم الفعلي أو السابق، كما تقدم في التنبيه المذكور.

ولو ارتفع المانع منه بعد ذلك - كما لو لم يرفع المكلف اضطراره حتى فات الوقت - فله صور، وملخص الكلام فيها: أن المانع إن كان مانعاً من منجزية العلمين معاً - كما لو كان في صاحب الملاقى - لزم تنجزهما معاً بارتفاعه، وإن كان مانعاًمن منجزية أحدهما فليس المنجز إلا العلم الأسبق تنجزاً، إما لعدم حصول المانع في أطرافه، أو لسبق ارتفاعه عنها، أو لطروء المانع بعد تنجيزه، ولا يكون اللاحق منجزاً وإن ارتفع المانع من أطرافه بعد ذلك.

المقام الثاني: فيما لو كانت الملاقاة متأخرة

ولعل ذلك يتضح مما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني: فيما لو كانت الملاقاة متأخرة عن النجاسة، وصوره

ص: 360

أيضاً ثلاثة على النحو المتقدم في المقام الأول.

أما الأولى: فمقتضى إطلاق من تقدم منه أن المدار في اختصاص التنجيز بأحد العلمين الإجماليين سبق حدوثه هو منجزية كلا العلمين فيها، لعدم ترجح أحدهما.

لكن الظاهر هنا منجزية العلم الثاني، لسبق المعلوم فيه، الموجب لتنجزه بالعلم به، لرجوعه إلى العلم بحدوث تكليف صالح للتنجيز، وأما العلم الثالث فهو وإن كان علما بالنجاسة إجمالاً، إلا أنه لا يرجع إلى العلم بحدوث تكليف زائد على المعلوم بالعلم الثاني المفروض تنجزه، لإمكان انطباق المعلوم بالعلم المذكور على المعلوم بالعلم الثاني، فليس في المقام إلا العلم بحدوث التكليف الأول الموجب لانشغال الذمة به، والشك في حدوث تكليف جديد مدفوع بالأصل.

وبعبارة أخرى: إن أريد بتنجيز العلم الثالث منجزيته لمؤداه سواء كان هو التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به أم غيره، فلا مجال لذلك، لاستحالة انشغال الذمة بما انشغلت به سابقاً، وإن أريد به تنجيزه لتكليف آخر غير المتنجز بالعلم الثاني، فلا علم بحدوث التكليف المذكور، ليكون منجزاً له.

ومنه يظهر الفرق بينه وبين المقام الأول الذي فرضت فيه الملاقاة مقارنة للنجاسة الحادثة المعلومة إجمالاً، لأنه لا مجال هناك لدعوى اليقين بشيء معين والشك في ما عداه، بل المتيقن بالإجمال مردد رأساً بين تكليف واحد في طرف واحد وتكليفين في طرفين من دون مرجح لأحد الطرفين يقتضي تميزه في طرفية العلم الإجمالي وانشغال الذمة المفروض.

ص: 361

وأما الثانية: فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني قطعاً، لأنه الأسبق حدوثاً ومعلوماً ورتبة، فيتعين للتنجيز على جميع مباني المسألة المتقدمة.

ولا يبعد كون ذلك هو مورد ما نسب للمشهور من عدم وجوب اجتناب الملاقي لأحد المشتبهين.

بل المتيقن من محل كلامهم ما إذا وردت الملاقاة على المشتبه بما هو مشتبه بنحو تكون متأخرة عن العلم الإجمالي بالنجاسة الموجب لصدق عنوان المشتبه على الملاقى، ولا يكفي تأخرها عن النجاسة ثبوتاً فقط.

وأما الثالثة: فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني أيضاً، بناء على ما تقدم في الصورة الثانية من المقام الأول، والأولى من الثاني، من أنه لا أثر لسبق حدوث العلم في التنجز، بل لسبق المعلوم، فإن العلم الثالث وإن كان أسبق حدوثاً، إلا أنه بحدوث العلم الثاني قد تبدل إلى الشك البدوي بحدوث تكليف زائد على التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به.

وإن شئت قلت: قبل حصول العلم الثاني كان المعلوم بالعلم الثالث هو التكليف المردد بين الملاقي وصاحب الملاقى، أما بعده فقد انكشف سبق حدوث التكليف بالملاقى أو صاحبه وانشغال الذمة به، وانقلب العلم الثالث بسببه إلى الشك في حدوث تكليف زائد على ذلك بالملاقاة، فإن العلم بوجود التكليف بين الملاقي وصاحب الملاقى وإن لم يرتفع، إلا أنه خرج عن كونه علماً بتكليف مستقل صالح للتنجز، بل هو تكليف مردد بين ما انشغلت به الذمة سابقاً وتنجز بالعلم الثاني، غير الصالح لأن تنشغل به الذمة بعد ذلك، وتكليف آخر مشكوك الحدوث، ومع ذلك لا مجال لمنجزية العلم المذكور.

ص: 362

وقد تقدم في الصورة الثانية من المقام الأول ما له نفع في المقام. فراجع.

وقد تحصل أن اللازم في الصور الثلاث منجزية العلم الثاني لا غير، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

والعمدة فيه: ما هو المرتكز من مرجحية تقدم المعلوم في تنجيز العلم، وأن التنجيز وإن كان مستنداً للعلم إلا أن منجزيته بلحاظ كشفه عن الواقع المعلوم وفي طول تنجزه. فلاحظ.

طروء بعض موانع التنجيز في الملاقي كالاضطرا ونحوه وفيه صورتان

هذا، ولو فرض طروء بعض موانع التنجز في الملاقى أو صاحبه - كالاضطرار والخروج عن الابتلاء -.

فتارةً: يكون بعد حصول العلم الثاني وتنجزه.

وأخرى: يكون قبله.

الكلام في الصورة الأولى

أما في الصورة الأولى فلا أثر له في ما تقدم، بل يبقى الطرف الآخر منجزاً بمقتضى العلم المذكور، ويبقى الملاقي مجرى للأصل، لعدم المنجز له بعد فرض كون العلم الثالث لا يصلح لتنجيز طرفه الآخر، إما لتنجزه بالعلم الثاني أو لطروء المانع من تنجزه.

ولو فرض ارتفاع المانع بعد ذلك رجع مورده طرفاً للعلم الإجمالي، إذ ينكشف بذلك أن طروء المانع لم يوجب خروجه عن حيز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقاً، بل في خصوص وقت وجود المانع، فيعلم بالتكليف في أحد الطرفين مطلقاً، وفي الآخر بعد ارتفاع المانع، نظير العلم الإجمالي التدريجي، الذي يجب معه الاحتياط.

ولو فرض الالتفات لارتفاع المانع حين وجوده فالأمر أظهر.

ص: 363

الكلام في الصورة الثانية والمتصور وجهان..

وأما في الثانية فالمتصور وجهان:

الأول: أن يكون المانع في صاحب الملاقي

الأول: أن يكون المانع في صاحب الملاقى.

والظاهر مانعيته من منجزية العلم الثاني بالإضافة إلى الملاقى، والثالث بالإضافة إلى الملاقي، لعدم العلم معه بالتكليف الفعلي، فلا مانع من الرجوع فيهما للأصل. وكذا الحال لو لم تكن نجاسة صاحب الملاقى مورداً لأثر تكليفي، كما لو كان خاتماً أو كتاباً أو نحوهما.

هذا، ولو ارتفع المانع المذكور بعد ذلك كان كلا العلمين منجزاً، نظير ما تقدم في المقام الأول، لتقارنهما معلوماً، لأن المعلوم المنجز هو التكليف الفعلي المفروض توقف العلم بحصوله على ارتفاع المانع، لا النجاسة، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوماً، كما سيأتي نظيره.

الثاني: أن يكون المانع في الملاقي

الثاني: أن يكون المانع في الملاقى.

ولا ينبغي الإشكال في أنه يمنع من منجزية العلم الثاني، والظاهر منجزية العلم الثالث حينئذٍ، لعدم المانع من تنجيزه. فإن ارتفع بعد ذلك من الملاقى لم يجب اجتنابه، كما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة، لأن منجزية العلم الثالث قبله مانعة من منجزية العلم الثاني به، نظير ما تقدم في الصورة الثانية، إذ يكون العلم الثالث هو الأسبق معلوماً، إذ ليس المعلوم المنجز هو حدوث النجاسة، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوماً، بل التكليف الفعلي المسبب عنهما، وفي ظرف وجود المانع لا يرجع العلم الثاني إلى العلم بالتكليف الفعلي، بل العلم الثالث راجع إلى ذلك، فيكون هو الأسبق معلوماً، وبعد ارتفاع المانع لا يعلم بحدوث التكليف الفعلي، بل هو محتمل لا غير، فلا مجال لتنجيزه.

ص: 364

وما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من إباء الذوق عن اجتناب الملاقي دون الملاقى، غير ظاهر بنحو يمكن الخروج به عما تقدم.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم الابتلاء لا يمنع من جريان الأصل في الملاقى، لترتب الأثر عليه في الملاقي، حيث يقتضي طهارته، فيعارض الأصل الجاري في صاحب الملاقى، وبعد تساقطهما لا مجال للرجوع إلى الأصل في الملاقى بعد رجوع الابتلاء به.

لاندفاعه: بأن منشأ التعارض بين الأصلين لما كان هو العلم الإجمالي الثالث القائم بالملاقي وصاحب الملاقى فهو لا يقتضي سقوط الأصل الجاري في الملاقى رأساً، بل سقوطه بالإضافة إلى خصوص ما يترتب عليه من العمل في الملاقي فلا مانع من الرجوع إليه في الملاقى بلحاظ العمل المتعلق به لو رجع الابتلاء به.

وأشكل منه ما ذكره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لو فرض تأخر العلم بالملاقاة عن العلم الإجمالي بالنجاسة، كما لو لم يكن الملاقى خارجاً عن الابتلاء.

لاندفاعه: بأن الملاقي طرف لعلم إجمالي لا قصور فيه، ولا مانع من تنجيزه، وإنما يلتزم بعدم منجزيته مع الابتلاء بالملاقى لوجود المانع منه، وهو منجزية العلم الإجمالي الثاني، القائم بالملاقي وبصاحبه، فمع فرض ارتفاع المانع المذكور بسبب خروج الملاقى عن الابتلاء يتعين البناء على منجزية العلم المذكور.

هذا تمام الكلام في حال العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي، حسب ما تيسر لنا بعد النظر في كلمات مشايخنا. ومنه سبحانه نستمد العون

ص: 365

والتسديد.

بقي أمور

بقي أمور:

الأول: في اشتباه حال الملاقي

الأول: أن اشتباه حال الملاقي يكون..

تارةً: لاشتباه النجس مع العلم بالملاقى تفصيلاً.

وأخرى: لاشتباه الملاقى مع العلم بالنجس تفصيلاً.

وثالثة: لاشتباههما معاً.

وكلامهم مختص بالصورة الأولى.

وأما الصورة الثانية فلا مجال لتوهم وجوب الاجتناب عن الملاقي فيها، إذ لا مجال لتصوير علم إجمالي قائم بأحد الطرفين بعينه مع الملاقي ليكون بينه وبين العلم الإجمالي الآخر عموم من وجه، وينظر في المرجحات السابقة.

وأما الصورة الثالثة فهي كالصورة الأولى، للعلم الإجمالي القائم بالملاقي وغير الملاقي من الطرفين على إجماله، المقتضي لاجتنابهما معاً، وبينه وبين العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي وصاحبه عموم من وجه. وهما معاً أخص من العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى والملاقي أو صاحب الملاقي، فيجري ما سبق. ومجرد إجمال الملاقى وتردده لا أثر له في كيفية التنجيز.

الثاني: لابدية منجزية العلم الإجمالي في المقام

الثاني: لما كان منشأ اجتناب الملاقي العلم الإجمالي بالوجه المتقدم فلابد من كونه منجزاً في نفسه، لكون كلا طرفيه - وهما الملاقي وصاحب الملاقى - مما يترتب الأثر التكليفي على نجاسته، كالثوب والماء، فلو كانت

ص: 366

نجاسة أحدهما غير مستتبعة للتكليف - كما لو كان خاتماً أو كتاباً - فلا مجال لمنجزية العلم الإجمالي المذكور بل هو نظير الخروج عن الابتلاء.

نعم، بناء على أن منشأ اجتناب الملاقي هو البناء على السراية بالوجه المتقدم اتجه وجوب اجتناب الملاقي بمقتضى العلم الإجمالي القائم بالطرفين وإن لم يترتب الأثر التكليفي عليهما معاً، لأن عدم ترتبه عليهما لا ينافي التكليف بهما بلحاظ حكم الملاقي الذي قد يترتب عليه التكليف.

الثالث: جريان حكم الملاقي في كل تكليف

الثالث: ما ذكرناه في حكم الملاقي يجري في كل تكليف مترتب على الأمر المعلوم بالإجمال، كالضمان المترتب على الغصب المعلوم بالإجمال، فيتنجز إذا كان حكماً تكليفياً بالوجه الذي يتنجز به الملاقي.

كما أن ما سبق في الملاقي لما يتنجز حكم نجاسته يجري وإن لم يكن المعلوم بالإجمال هو النجاسة، بل مردداً بينها وبين غيرها، فلو علم إجمالاً بغصبية الإناء أو نجاسة الثوب جرى في ملاقي الثوب ما تقدم من الكلام.

وربما تكون هناك فروع أخرى قد يظهر حكمها مما تقدم، لا مجال لإطالة الكلام فيها.

ص: 367

التنبيه الثامن: في انحلال العلم الإجمالي

التنبيه الثامن: في الانحلال

ومرادنا به سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه في خصوص بعض الأطراف.

وبه يفترق عما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الإجمالي بتنجز التكليف في بعض أطرافه، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف المعلوم بالإجمال لا نفسه.

وجوه تنجز التكليف المعلوم بالإجمال

ثم إن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال في خصوص بعض الأطراف..

تارة: يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال فيه، وخلو الأطراف الأُخَر عنه.

وأخرى: لا يقتضي ذلك، لتردد التكليف المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر، على ما يأتي الكلام فيه.

أما الأول فكما لو علم تنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب، ثم عثر على الثوبين بالفحص.

فإنه لا إشكال هنا في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف الأخر، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف آخر غير التكليف الذي كان معلوماً بالإجمال، لارتفاعه حقيقة وتبدله بالعلم التفصيلي والشك البدوي، لأن مرجع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المذكور.

نعم، لو كان التنجز في بعض الأطراف بطريق تعبدي غير العلم اتجه

ص: 368

عدم ارتفاع العلم الإجمالي حقيقة، بل حكماً، كما لو قامت البينة في الفرض على تعيين الثوبين الملاقيين للدم، فإن احتمال خطأ البينة مستلزم لبقاء العلم الإجمالي، إلا أن مقتضى حجيتها الاكتفاء بمتابعتها في الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال، كما لا يخفى.

لكن هذا مختص بالأمارات والطرق التعبدية، حيث قد يكون لسانها تعيين المعلوم بالإجمال، ولا مجال فيه في الأصول التعبدية، لعدم النظر فيها للمعلوم بالإجمال، لتكون صالحة لتعيينه تعبداً.

وأما الثاني فكما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب، ثم علم بالفحص بثوبين منها، ولم يعلم بأنها تمام المعلوم بالإجمال أو بعضه، لتردد المتنجس بين الأقل والأكثر.

إن قلت: لا معنى لتردد المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر، لوضوح أن المعلوم حينئذٍٍ خصوص الأقل، والزائد مشكوك لا غير مدفوع بالأصل، فيرجع إلى الوجه الأول.

قلت: هذا مسلم، إلا أن الأقل لما لم يكن محدوداً بحدود ذهنية خاصة منطبقة على المعلوم بالتفصيل، بل مبهماً مردداً بين الأطراف، لم يصلح العلم التفصيلي لتعيين المعلوم بالإجمال، ولذا لو فرض كون النجس في الواقع أربعة كان نسبة كل منها إلى العلم الإجمالي واحدة، لعدم المرجح، ولا مجال مع ذلك لتعيين المعلوم بالإجمال بالمعلوم بالتفصيل، وهذا بخلاف الوجه الأول، لأن المفروض فيه كون المعلوم بالإجمال محدوداً بحدود ذهنية منطبقة على المعلوم بالتفصيل، كالمتنجس بالدم مثلاً.

والظاهر هنا عدم وجوب مراعاة احتمال التكليف في بقية الأطراف،

ص: 369

لارتفاع العلم الإجمالي حقيقة، كما في الوجه الأول، لما تقدم من أن مرجعه إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المفروض.

إن قلت: لما كان العلم الإجمالي منجزا للمعلوم بالإجمال على ما هو عليه من الإبهام والترديد فلا بد من إحراز الفراغ عنه، وهو لا يحرز بمراعاة العلم التفصيلي بعد فرض عدم إحراز التطابق بينهما، وأن نسبة العلم الإجمالي لتمام الأفراد الواقعية واحدة لو فرض زيادتها على المعلوم بالتفصيل.

قلت: وجوب إحراز الفراغ فرع انشغال الذمة بالمعلوم بالإجمال الموقوف على بقاء العلم الإجمالي، فمع فرض ارتفاعه لا مجال لانشغال الذمة ليجب إحراز الفراغ، لوضوح أن بقاء انشغال الذمة مشروط ببقاء العلم، ولا يكفي فيه حدوثه مع ارتفاعه. وإن شئت قلت: العلم الإجمالي السابق بالمبهم انقلب بعد العثور على المقدار الصالح لانطباق المبهم عليه إلى علم تفصيلي وشك بدوي.

وقد تقدم نظير هذا في التنبيه الرابع، عند الكلام في طروء بعض موانع التنجيز في خصوص بعض الأطراف، كالاضطرار ونحوه، وذكرنا هناك أن وجه البناء على منجزيه العلم الإجمالي في بقية الأطراف منحصر بالمرتكزات العقلائية، التي لا مجال لها هنا، للفرق بين المقامين بأن المانع المفروض هناك من سنخ الطوارئ الثبوتية الرافعة للتكليف المعلوم بالإجمال، مع عدم التبدل في مقام الإثبات، لبقاء العلم الإجمالي على ما هو عليه، بخلاف العلم التفصيلي هنا، فإنه من سنخ الطوارئ الإثباتية، الموجبة لارتفاع العلم الإجمالي الذي به قوام التنجيز، مع عدم تبدل التكليف المعلوم ثبوتاً، بل

ص: 370

عدم تبدل شيء في مقام الثبوت أصلاً، فقياس أحد المقامين بالآخر في غير محله، بل المرتكزات هنا لا تمنع من الرجوع للأصول الترخيصية في بقية الأطراف.

هذا، ولو فرض قياس أحد المقامين بالآخر فحيث تقدم في التنبيه السابق أن المعيار في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء المانع على بعض الأطراف على مقارنة المانع للتكليف المعلوم بالإجمال أو تقدمه عليه، وإن تأخر العلم به عن حصول العلم الإجمالي، وأن عدم تأثير المانع مشروط بتأخره تعين في المقام البناء على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية، لأن المفروض كون المعلوم بالتفصيل متحداً مع المعلوم بالإجمال غير مباين له، فهو في حكم المقارن، وإن تأخر العلم به عن العلم الإجمالي.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان المنجز في بعض الأطراف التفصيلية طريقاً شرعياً لا يوجب العلم، فإنه وإن لم يوجب ارتفاع العلم الإجمالي، لفرض احتمال الخطأ، كما لا يوجب الفراغ اليقيني عن المعلوم بالإجمال، لفرض عدم تضمنه تعيينه في ضمن الأطراف التفصيلية، إلا أنه لما كان مفاد الطريق المذكور ثبوت مؤداه من حين حصول المعلوم بالإجمال، لفرض كونه عينه أو منه، اتجه البناء على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بقيامه بالملاك المذكور هناك.

بل لا يبعد إلحاق ذلك بما ذكرناه هنا في العلم التفصيلي من تبدل الحال في مقام الإثبات، لأن العلم الإجمالي الراجع إلى القضية المنفصلة المشار إليها وإن كان موجوداً حقيقةً إلا أن قيام الطريق يوجب إلغاءه

ص: 371

عملاً والتعبد بقضية حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق وإن لم تكن معلومة حقيقة، وحيث لا يكون التعبد بالوجه المذكور منافياً للعلم المفروض، لإمكان صدقهما معاً، فلا مانع منه، ويتعين لأجله رفع اليد عملاً عن خصوصية الترديد المقتضية عقلاً للاحتياط، والتي هي خارجة عن الانكشاف الذي به قوام المنجزية في العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي متقوم بانكشاف تحقق المعلوم، وبإجماله وتردده، والأول هو المعيار في المنجزية ووجوب العمل عقلاً، والثاني منشأ لوجوب الاحتياط في مقام الامتثال.

ومن الظاهر أن الأول لا ينافي التعبد بالطريق المفروض في المقام، ليكون مانعاً منه، والثاني وإن نافاه، إلا أن التعبد بالطريق يقتضي إلغاءه عملاً، كإلغاء الطرق للجهل في سائر الموارد التي يكون فيها مورداً للأصول الترخيصية أو الإلزامية، فتلحق الطرق بالعلم التفصيلي في ذلك. فتأمل.

كما تلحق به الأصول الإحرازية التعبدية، كالاستصحاب ونحوه، بخلاف أصل الاحتياط، حيث لا مجال لرافعيته للإجمال تعبداً، لعدم تعرضه لإثبات التكليف في مورده بوجه، وينحصر الوجه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية بما ذكرناه في الطرق أولاً، من ابتنائه على ما تقدم في التنبيه الرابع في وجه سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء بعض موانع التنجيز في بعض الأطراف.

وقد تحصل مما ذكرنا: أن العلم التفصيلي في المقام موجب لرفع العلم الإجمالي حقيقةً، فلا موضوع معه للاحتياط في الأطراف الأُخَر. كما أن الطرق والأصول التعبدية رافعة له حكماً.

ص: 372

وأما الأصول غير الإحرازية - كالاحتياط - فهي لا تصلح لشيء منهما، وإنما تكون مانعة من منجزية العلم الإجمالي بملاك طروء بعض موانع التنجيز في بعض الأطراف، الذي تقدم في التنبيه الرابع.

وعلى ما ذكرنا يبتني الكلام في كثير من المباحث المتقدمة، كالعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص، والدليل العقلي على حجية الخبر، ودليل الانسداد، والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، وربما تقدم منا خلاف ذلك، ويظهر حاله مما ذكرناه هنا. فراجع.

بقي شيء: مباينة التكليف التفصيل للتكليف الإجمالي

بقي في المقام شيء، وهو أن المفروض في ما تقدم في التنبيه الرابع أن التكليف المعلوم بالتفصيل مباين للمعلوم بالإجمال، كما أن المفروض هنا عدم التباين بينهما، بل المعلوم بالتفصيل هنا عين المعلوم بالإجمال وإن لم يحرز أنه تمامه.

وهناك صورة ثالثة ينبغي التعرض لها هنا إلحاقاً بهذا التنبيه، وهي ما إذا تردد المعلوم بالتفصيل بين الأمرين، بأن يكون للمعلوم بالإجمال حد واقعي، وعنوان ذهني، لا يعلم انطباقه على المعلوم بالتفصيل، كما لو علم إجمالاً بنجاسة ثوبين من عشرة ثياب، وأنهما ثوبا زيد مثلاً، وبعد الفحص علم تفصيلاً بنجاسة ثوبين لا يعلم أنهما ثوبا زيدٍ أو غيرهما قد تنجساً بنجاسة أخرى غير النجاسة المعلومة بالإجمال.

والظاهر أنه لا مجال لما تقدم هنا، لبقاء العلم الإجمالي بالمعلوم الخاص على ما هو عليه من حدود واقعية وذهنية لا يعلم انطباقها على المعلوم بالتفصيل، فتصدق بالإضافة إليه القضية المنفصلة المشار إليها،

ص: 373

فثوبا زيد في المثال مرددان بين المعلوم بالتفصيل وغيره.

إن قلت: مثل عنوان ثوب زيد لا أثر له في التكليف، بل هو معّرف محض، فلا أثر للعلم الإجمالي المتعلق به، وليس موضوع التكليف والتنجيز إلا المصاديق الخارجية على ما هي عليه من الحدود الواقعية، لأنها التي يتعلق بها العمل، وتكون مورداً للإطاعة والمعصية، ومن الظاهر أنه لا مجال لفرض العلم الإجمالي في المصاديق المذكورة بما هي بعد فرض العلم التفصيلي المذكور، بل الحال كما تقدم في الصورة السابقة.

قلت: لما كان العنوان المذكور معرفاً كان دخيلاً في التنجيز، إذ ليس المنجز إلا المحكي به، وهو المصداق الخاص المحدود بحدوده الواقعية، المردد بين المعلوم بالتفصيل وغيره، ولا وجه لارتفاع العلم الإجمالي به مع بقاء تردده، وهذا بخلاف ما إذا كان المعلوم بالإجمال مردداً بين الأقل والأكثر فإن الأقل مبهم في الأكثر، وليس له حد واقعي يميزه فيه، ليمكن فرض الترديد فيه، كما تقدم.

فالظاهر أن المقام مبني على ما تقدم في التنبيه الرابع من الكلام في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية مع ابتلاء بعض أطرافه بتكليف تفصيلي، حيث يتعين حينئذٍ التفصيل بين تأخر المعلوم التفصيلي وعدمه، فلا يمنع من منجزية العلم الإجمالي في الصورة الأولى، على التفصيل والكلام المتقدمين هناك.

ومجرد الفرق بينه وبين ما سبق بالعلم هناك بالتباين بين المعلومين الإجمالي والتفصيلي، والشك فيه هنا، ليس فارقاً بعد بقاء العلم الإجمالي والشك في الفراغ عنه بامتثال المعلوم بالتفصيل.

ص: 374

نعم، لا يبعد البناء على إلحاق صورة الشك في التأخر بصورة العلم بعدمه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية، لعدم اليقين معه بكون المعلوم بالإجمال حين حدوثه تكليفاً فعلياً صالحاً لترتب العمل عليه، كما لعله يظهر بالتأمل في ما ذكرناه في التنبيه الرابع، والتنبيه السابع في وجه كون المعيار في التقدم والتأخر على حال المعلوم، لا العلم. ولا يسع المقام تفصيل ذلك. فراجع وتأمل.

التنبيه التاسع: في الشبهة غير المحصورة

التنبيه التاسع: في الشبهة غير المحصورة

وقد وقع الكلام بينهم في ضابطها.

ومن الظاهر أن ما يناسب المعنى اللغوي لغير المحصور هو الذي لا يعلم عدده(1) ولو لتردده بين عددين، ولا يبعد أن يختص عرفاً بما إذا كانت أطراف الترديد بحد لا يسهل تشخيصها دقة، بحيث لا تشخص في طرف القلة إلا بما يعلم بوجود ما زاد عليه، ولا في طرف الكثرة إلا بما يعلم بنقص الموجود عنه، فلو تردد أهل البلد بين الألف والتسعمائة يكون من المحصور عرفاً، وإن كان من غيره لغة، ولا يكون من غير المحصور عرفاً إلا إذا لم يسهل تشخيص الحد بين الشك واليقين.

بل لا يبعد مع ذلك اعتبار البعد بين الحدين.

هذا، ولكن لا أثر لتشخيص المعنى اللغوي أو العرفي لغير المحصور، لعدم وروده في النصوص - كما ذ كره في الجواهر - ولا غيرها من الأدلة

ص: 375


1- هذا بناء على أن عدم الحصر بلحاظ العدد، أما لو كان بحسب المكان فالمعيار فيه تردد المكان بالوجه المذكور في العدد. «منه عفي عنه».

الشرعية اللفظية، وإنما ورد في كلمات بعض الأصحاب، ومن القريب جداً أن لا يكون مرادهم دخله في موضوع الحكم تعبداً، بل سيق في كلامهم لمحض الإشارة لمصاديقه، بلحاظ ما اشتملت عليه من خصوصيات دخيلة في الحكم، كالحرج ونحوه، كما قد يناسبه تعليلهم بها، فالعنوان المذكور منتزع من الأفراد التي ثبت لها الحكم بحسب الأدلة، فيكون تحديده متفرعاً على تحديد تلك الأفراد، وهو متفرع على تعيين دليل الحكم، لينظر في سعته وضيقه.

نعم، المتيقن من أفرادها التكاليف الإجمالية في الأمور العامة المنتشرة الأفراد، كالعلم بوجود متنجس في الماء أو الخبز أو الجبن، ووجود المغصوب في الأسواق والبيوت.

الاستدلال مع عدم وجوب اجتناب الشبهة غير المحصورة بوجوه

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد استدل على عدم وجوب اجتناب أطراف الشبهة غير المحصورة بأمور..

الأول: الإجماع

الأول: الإجماع، ففي جامع المقاصد: «الظاهر أنه اتفاقي» وعن الروض التصريح به، وعن الوحيد في فوائده: «عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل، ولاريب فيه، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك». وفي الجواهر: «للإجماع بقسميه، وللسيرة المستقيمة»، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وكأن ذلك بلحاظ السيرة التي أشير إليها في كلام الوحيد والجواهر، حيث لا مجال لإنكارها، لوضوحها، كما لا مجال لتخطئتها لعمومها للمتدينين، بل ينسب مخالفها للوسواس، بل لولا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد.

ص: 376

ولعل دعوى الإجماع مبنية على السيرة المذكورة أيضاً، لقلة المتعرضين للعنوان المذكور وتأخر عصورهم، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأن الإجماع المدعى ارتكازي مستند للسيرة المشار إليها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للإشكال في الاستدلال المذكور بعدم كون الإجماع تعبدياً، لقرب استناده لأحد الوجوه الآتية أو غيرها، فيلزم النظر في دليله.

لاندفاعه: بأن استناد الإجماع والسيرة والضرورة لأحد الوجوه المذكورة وإن كان قريباً، إلا أنه لا مجال لاحتمال خطئها لو فرض عدم تمامية الوجوه المذكورة عندنا، لوضوحها وارتكازيتها، حيث لا إشكال في اتصالها بعصر المعصومين عليهم السلام، لما هو المعلوم لكل أحد في العصور المذكورة من كثرة ابتلاء الناس بالمحرمات الواقعية ووجودها في ما يتعرضون له من حوائجهم وأعمالهم، بنحو يستلزم العلم الإجمالي لكل أحد غالباً، فلو كان الاحتياط واجباً لحصل التنبه له، أو التنبيه عليه، بنحو يمنع من وقوع السيرة وجري النظام عليها.

ومثله الإشكال: بأن وجوب الاحتياط مع العلم الإجمالي لما كان عقلياً فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة الشرعية التعبدية، كالإجماع ونحوه، بل لابد من النظر في الوجوه العقلية الموجبة لذلك.

لاندفاعه أيضاً بما ذكرناه في أول الكلام في العلم الإجمالي من إمكان رفع الشارع لموضوع حكم العقل المذكور بالتصرف في بعض الجهات التي يبتني عليها، فلو فرض عدم تمامية الأدلة المستدل بها كان الإجماع والسيرة والضرورة وافية بإثبات مقتضاها، لكشفها عن التصرف الشرعي المذكور.

ص: 377

نعم، لما كانت هي أدلة لبية لم تنهض بتحديد موضوعها، فيلزم الاقتصار على المتيقن من موردها، وضبطه في غاية الإشكال، فيلزم النظر في بقية الوجوه، ليعول عليها في التحديد، بل قد يظهر بها مورد السيرة، لقرب استنادها إليها، كما ذكرنا.

الثاني: النصوص

الثاني: النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة فضلاً عن غيرها من موارد العلم الإجمالي، كصحيح عبد الله بن سنان وغيره مما تقدم التعرض له في أدلة البراءة، وعند الكلام في حرمة المخالفة القطعية الإجمالية، حيث ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير المحصورة، خروجاً عن محذور مخالفة العلم الإجمالي المنجز.

لكن لا يخفى أن تخصيص النصوص المذكورة بغير المحصور لما لم يكن مستفاداً من دليل لفظي، بل من حكم العقل بامتناع مخالفة العلم الإجمالي مع فرض فعلية التكليف المعلوم بالإجمال، فهو متفرع على تشخيص موارد عدم حكم العقل بالاحتياط مع العلم الإجمالي.

فالنصوص المذكورة لا تكون دليلاً على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة، بل شمولها لها متفرع على قيام دليل غيرها فيها.

الثالث: دفع المشقة

الثالث: ما أشار إليه في الشرايع، ونسبه في مفتاح الكرامة إليهم من التعليل بدفع المشقة.

وفيه - كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرة -: أن المراد بذلك إن كان هو المشقة الشخصية، ليكون مرجعه إلى الاستدلال بقاعدة نفي الحرج - بناء على ما هو الظاهر من جريانها في المقام بلحاظ لزوم الحرج من امتثال التكليف بسبب الاشتباه المستلزم للاحتياط الحرجي وإن لم يكن التكليف

ص: 378

بنفسه حرجياً - فمن الظاهر أن بينه وبين المدعى عموماً من وجه.

وإن كان هو المشقة النوعية بمعنى لزوم الحرج من الاحتياط في الشبهة غير المحصورة نوعاً على نوع المكلفين، بأن يكون الحرج حكمة لا علة، فهو - مع عدم الضابط له - لا ينهض بالاستدلال، لأن ظاهر أدلة رفع الحرج هو الحرج الشخصي، لا النوعي.

وأما ما دل من النصوص على أن التشريع لا يتضمن حكما يستلزم الحرج نوعاً، مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول وغيره(1).

فالمراد به - لو تم عمومه - عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج نوعاً - كالمثال المذكور - ولا يمنع من فرض كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج نوعاً، متفرعة على كبرى، أو كبريات، شرعية لا يلزم الحرج نوعاً من كل منها، كلزوم القيام بالواجبات البدنية الأولية على المريض، المنتزع من إطلاق أدلة الأحكام الأولية الشاملة للمريض وغيره، المتضمنة للكبريات الشرعية التي لا يلزم الحرج نوعاً من كل منها، كوجوب الصلاة، والصوم، والحج، وتطهير المسجد، وتغسيل الميت وغيرها، بل غاية ما يلتزم به هو ارتفاع الأحكام المذكورة في مورد الحرج الشخصي، تحكيما لقاعدة نفي الحرج على الكبريات المشار إليها، لا على الكبرى الانتزاعية المذكورة.

ومن الظاهر أن وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد كبرى شرعية، بل هو منتزع من الكبريات الشرعية التي لا يلزم منها الحرج نوعاً، كحرمة أكل النجس وشربه، واعتبار الطهارة في الوضوء

ص: 379


1- وسائل الشيعة، ج: 1 باب: 9 من أبواب الماء المضاف، حديث: 1، 5 وباب: 2 من أبواب الجنابة، حديث: 1، 4.

والصلاة، وحرمة الغصب ونحوها من الأحكام التي تعم موارد الشبهة غير المحصورة وغيرها، فإن عموم تلك الأحكام لموارد الشبهة غير المحصورة مقتضى لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها، الذي ينتزع منه كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة، من دون أن يكون ذلك كبرى شرعية، ليلزم محذور تشريع حكم يلزم منه الحرج نوعاً.

هذا، ولعل من ذكر المشقة في المقام لا يريد الاستدلال بأحد الوجهين المذكورين، بل التنبيه على أن الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لما كان يستلزم الحرج نوعاً فلو كان لازماً لحصل الحرج المذكور، ولاضطرب أمر الناس، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن وضوح عدم لزومه، فهو مشير إلى السيرة والارتكاز المشار إليهما آنفاً. فلاحظ.

الرابع: ما يستفاد من الشيخ الأعظم قدس سرة

الرابع: ما قد يستفاد من شيخنا الأعظم قدس سرة من أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال التكليف في كل منها بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل، ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل.

قال: «ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السم في أحد الإنائين أو واحد من ألفي إناء».

وفيه: - مع أن الظاهر عدم اختصاص جواز الإرتكاب في الشبهة غير المحصورة عندهم بما إذا ضعف احتمال الحرام، بل يعم ما إذا قوي لكون التكليف المشتبه من الكثير في الكثير، أو لقرائن خارجية تقتضي انطباق المعلوم بالإجمال على خصوص بعض الأطراف - أنه لاريب في أن ضعف الإحتمال في خصوص بعض أطراف العلم الإجمالي المنجز لا يصحح ارتكابه والخروج عن احتمال التكليف، ولذا يجب الاحتياط مع حصر

ص: 380

الشبهة مطلقاً.

وذلك لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل تجري مع ضعف الإحتمال إذا كان مهماً، كضرر العقاب وعدم الاحتياط في المثال المتقدم - لو تم - إنما هو لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم بالإجمال، حيث يكون الاحتياط مع كثرة الأطراف مستلزماً لنحو من المشقة والمشاكل التي هي محذور يزاحم بها الضرر المعلوم بالإجمال، ولا مجال لذلك في ضرر العقاب، لأهميته.

على أن فرض تجويز العقل الإقدام على الضرر لا يقتضي الأمان منه بنحو لا يقع في العقاب لو صادف التكليف الواقعي في المقام، نظير الحال في الأضرار التكوينية في مثل المثال المتقدم، ومثله التزاحم بين المحذورين بسوء اختيار المكلف، حيث يلزم العقل باختيار المحذور الأقل والوقوع في ضرر عقابه من دون أن يحكم بالأمان منه.

وليس في الوجه المذكور ما يقتضي حكم العقل بقبح العقاب المستلزم للأمان منه.

ما ذكره العراقي قدس سرة من أن ضعف التكليف في طرف مستلزم لقوته في الآخر

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أن ضعف احتمال التكليف في كل طرف بنفسه مستلزم لقوة احتماله في بقية الأطراف بنحو البدلية، بحيث يظن بوجوده فيها، ومرجع بناء العقلاء المدعى على عدم الاعتناء بالإحتمال الضعيف إلى أخذهم بالظن المذكور، فيرتفع به الإجمال تعبداً، كما في سائر موارد قيام الطريق على تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، فلا موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل، للأمان من العقاب بسبب الطريق المذكور، لأنه يوجب حكم العقل بقبحه.

ص: 381

ففيه.. أولاً: أن لازمه تبعيض الاحتياط في الشبهة غير المحصورة، بالاقتصار في مخالفته على المقدار الذي يكون احتمال التكليف فيه ضعيفاً جداً لا يعتني به العقلاء، لأن العمل بظن التكليف في الباقي يجعله حجة تعييناً، فينجز جميع أطرافه، ولا يظن من أحد الالتزام به، إذ غاية ما قيل في المقام هو لزوم ترك ماعدا مقدار الحرام وحرمة المخالفة القطعية.

وثانياً: أن الحجية التخييرية بعيدة عن بناء العقلاء، بل المرتكز عندهم تساقط الحجج المتعارضة مع ثبوت مقتضي الحجية فيها، كخبر الواحد، فضلاً عن مثل هذا الظن الذي لم يتضح ثبوت مقتضي الحجية فيه.

فالظاهر أن عدم التزام العقلاء بالاحتياط مع الكثرة ناشئ من إهمال احتمال التكليف في الطرف، لما أشرنا إليه من المزاحمة التي لا مجال لها في ضرر العقاب، من دون بناء على حجية شيء ينحل به العلم الإجمالي، ليكون مؤمّناً من الضرر المفروض في المقام.

الخامس: ما يحمل عليه كلام الشيخ الأعظم قدس سرة بدلاً عن الوجه الرابع

الخامس: ما ربما يحمل عليه كلام شيخنا الأعظم قدس سرة بدلاً عن الوجه السابق، من أن كثرة الأطراف مانعة من منجزية العلم الإجمالي بنحو يكون بياناً على التكليف ليرتفع به موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وفيه: أنه لا يفرق في منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها، كما يتضح مما تقدم في وجهها، وعدم المحركية في بعض الموارد ناشئ من المزاحمة، كما تقدم.

السادس: ما ذكره النائيني قدس سرة

السادس: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة ويبتني على كون الضابط في الشبهة غير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بنحو لا يمكن عادة جمعها في الارتكاب، كالعلم بتنجس بعض خبز البلد أو غصبيته، أما لو أمكن

ص: 382

جمعها في الارتكاب - كما لو علم بتنجس حبة حنطة بين ألف حبة - فهي من الشبهة المحصورة.

وعليه لا يكون العلم منجزاً، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية، لفرض تعذرها، ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية، لتفرع وجوبها على حرمة المخالفة، لأنها الأصل في منجزية العلم الإجمالي، لتفرع وجوب الموافقة - كما سبق منه قدس سرة - على تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف، وهو يتوقف على حرمة المخالفة القطعية، اللازمة من جريان الأصول في تمام الأطراف بعد فرض عدم المرجح لبعضها في جريان الأصل، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع التعارض بين الأصول، فلا تجب الموافقة القطعية المتفرعة عليه.

وفيه: أن جريان الأصول في جميع الأطراف وتعارضها الملزم بالموافقة القطعية غير مشروط بالقدرة على الجمع بينها، بل يكفي فيه القدرة على كل منها ولو بدلاً، لكفاية ذلك في فعلية التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير انطباقه على كل منها، فيصلح العلم الإجمالي لتنجيزه بنحو يمنع من جريان الأصول في كل طرف بنفسه.

ولذا لا ريب في منجزية العلم الإجمالي مع ذلك في الشبهة المحصورة، كما لو علم المكلف بحرمة السفر عليه عصر الجمعة إما إلى الموصل أو إلى البصرة، أو نذر أن لا يصلي الظهر في دار زيد واشتبهت بين دارين أو نحوهما.

نعم، لو كان تعذر الجمع بين الأطراف راجعاً إلى تعذر بعضها معيناً كان مانعاً من منجزية العلم الإجمالي، لعدم العلم معه بفعلية التكليف

ص: 383

المعلوم بالإجمال، لاحتمال انطباقه على المتعذر، كما لا يجري الأصل حينئذٍٍ في المتعذر، لعدم الأثر، فلا معارض للأصل الجاري في غير المتعذر.

وليس هذا نظيراً لمحل الكلام، لأن منع كثرة الأطراف من تعذر الجمع في الشبهة غير المحصورة إنما يكون بالوجه الأول.

وكأن ما ذكره قدس سرة مبني على اختلاط ذلك بما نحن فيه، حيث مثل به. مضافاً إلى أن المراد من تعذر الجمع بين الأطراف في الارتكاب إن كان هو تعذر الجمع ولو تدريجاً بمدة طويلة خرجت عن ذلك كثير من الشبهات غير المحصورة عندهم.

وإن كان هو تعذره في زمان قصير فهو - مع عدم الضابط له - يستلزم عدم المنجزية في كثير من الشبهات المحصورة - خصوصاً التدريجية منها - التي لا مجال للبناء على عدم التنجيز فيها.

وقد أشار إلى بعض ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سرة. فراجع.

السابع: ما ذكره آغا رضا الهمداني قدس سرة

السابع: ما ذكره الفقيه الهمداني قدس سرة من أن المعيار في عدم الانحصار ليس كثرة أطراف الشبهة، بل عدم الإحاطة بتمام أطرافها، بحيث كل ما يفرض طرفاً لها يحتمل وجود غيره، سواء قلت الأطراف أم كثرت، كما لو علم بوقوع قطرة بول وإصابتها لبعض الأواني الموضوعة في الدار، لكن كل ما يحيط به المكلف من أواني الدار يحتمل وجود غيره وإصابته بالنجاسة دونه.

وحينئذٍ يكون الوجه في عدم وجوب الاحتياط في الأطراف المعلومة عدم معارضة الأصول الجارية فيها بأصول أخر، لعدم جريان الأصول في الأطراف المحتملة الوجود التي لا يحيط بها المكلف، لعدم الأثر للأصل ما

ص: 384

لم يحرز كون موضوعه مما يعلمه المكلف ويبتلي به.

وفيه: أن الشك في وجود فرد آخر لا يحيط به المكلف لا ينافي الشك في التكليف الذي هو موضوع الأصل، لعدم أخذ العلم بوجود المتعلق بشخصه في موضوع التكليف زائداً على الشك في التكليف، فدليل أصل الطهارة مثلاً يشمل بدواً جميع ما في الدار على ما هو عليه من العدد.

نعم، عدم الإحاطة بالطرف إن رجع إلى عدم الابتلاء به على تقدير وجوده أو الشك فيه، أو نحوهما مما يمنع من منجزية العلم وترتب الأثر على الأصل، اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصل في الطرف المذكور، لذلك، لا لعدم الانحصار.

وإن لم يرجع إلى ذلك، بل علم بالابتلاء بتمام الأطراف على ما هي عليه من التردد بين الأقل والأكثر، كان العلم الإجمالي منجزاً، للعلم بتحقق التكليف الصالح لترتب العمل عليه، كما لو فرض العلم في المثال السابق بأن الإناء المشكوك يعثر عليه لو كان موجوداً عند ارتفاع ضوء النهار ويكون فعلاً مورداً للابتلاء المصحح للتكليف، وحينئذٍ يمتنع جريان الأصول في تمام الأطراف، لاستلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم، كما لا تجري في بعضها لعدم المرجح، وهو معنى تعارض الأصول في المقام.

وكأن نظره قدس سرة إلى الصورة الأولى، مع تخيل أن المانع من جريان الأصل فيها عدم الانحصار، لا ما ذكرنا.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد عرفت عدم نهوضها بتحديد غير المحصور بنحو يتجه جواز الارتكاب فيه.

فالظاهر أنه لا أثر لعدم الانحصار بنفسه في رفع منجزية العلم

ص: 385

الإجمالي.

الوجه المختار

نعم، كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها مستلزم غالباً لابتلاء العلم الإجمالي بما يسقطه عن المنجزية، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء أو نحوهما، فيتجه البناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المذكورة لأجل ذلك، لا لخصوصية في عدم الانحصار.

ولعل هذا هو مرجع الإجماع والنصوص المتقدمة إليها الإشارة، لما عرفت من عدم أخذ عدم الانحصار في النصوص، وأن أخذه في بعض كلماتهم لا يستلزم دخل عنوانه في الحكم، ولاسيما بعد اختصاص الأمثلة التي يذكرونها والتي هي مورد السيرة الارتكازية الشاهدة للإجماع بما ذكرنا.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة، وأن محل الكلام فيها ما إذا لم يبتل العلم الإجمالي بمانع آخر من المنجزية غير عدم الانحصار.

إذ فيه: أن تخصيص محل كلامه هو بذلك تابع له، ولا ضير فيه، إلا أنه لا مجال لجعل ذلك محل كلامهم، فضلاً عن حمل الإجماع عليه.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور..

الأول: جواز المخالفة القطعية في الشيهة غير المحصورة وعدمه

الأول: الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة، لو فرض الابتلاء التدريجي بالأطراف، لعدم منجزية العلم الإجمالي عند ارتكاب كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ولو لارتكابها سابقاً، فالمخالفة في أي طرف فرض مورد للعذر الظاهري.

والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب تمام الأطراف ليس محذوراً بعد

ص: 386

فرض عدم المنجز حينه.

وهو لا يستلزم طرح دليل التكليف الواقعي، لأن مخالفة التكليف مع وجود المؤمن ظاهراً لا تكون طرحاً له، كما تقدم في وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.

عدم الفرق بين العزم على الترك من أو ل الأمر وعدمه

ولا يفرق في ذلك بين العزم عليه من أول الأمر وعدمه.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من صدق المعصية عند مصادفة الحرام الواقعي مع العزم المذكور.

غير ظاهر، لتوقف المعصية على تنجز التكليف والمفروض عدمه، وأن العزم إنما هو على الأطراف لو فرض تحقق الابتلاء بها تدريجاً بنحو لا يوجب التنجز.

بل لا ضير في الارتكاب برجاء تحصيل الحرام، كما هو الحال في سائر موارد احتمال الحرام عند المؤمن منه، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعاً أو عقلاً.

واختصاص الترخيص الشرعي أو العقلي بصورة عدم العزم، لا دليل عليه، بل الدليل على عدمه.

فما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من صدق التجري حينئذٍ في ارتكاب أول الأطراف وإن لم يصادف الحرام الواقعي، غير ظاهر.

نعم، لو لم يستند الإقدام للعذر للجهل بكونه عذراً، أو لعدم الاهتمام بالتكليف وتحصيل العذر فيه لم يبعد صدق التجري، كما تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث التجري من مباحث القطع.

ص: 387

ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع الوجوه المتقدمة حتى الإجماع، لظهور كلامهم تبعاً للارتكاز المشار إليه في عدم منجزية العلم الإجمالي مع عدم الانحصار.

نعم، تقدم أن مقتضى الوجه الخامس بناء على ما ذكره بعض الأعيان المحققين من ابتنائه على جعل البدل عدم جواز ارتكاب ما يعتد معه باحتمال الحرام، فضلاً عن المخالفة القطعية.

ثم إن الكلام هنا في ارتكاب تمام الأطراف من حيثية التكليف المعلوم بالإجمال.

وأما ما قد يترتب على ذلك من حدوث تكليف تفصيلي أو إجمالي، كالضمان المترتب على استعمال المغصوب.

فهو خارج عن محل الكلام.

والمرجع فيه القواعد المقررة لمثله.

الثاني: عدم الفرق في الشبهة بين ضعف احتمال الحرام وقوته

الثاني: لا يفرق في حكم الشبهة غير المحصورة بين ضعف احتمال الحرام في الطرف وقوته، إما لاشتباه الكثير في الكثير - لفرض كثرة التكاليف المعلومة بالإجمال - أو لقرائن خاصة توجب قوة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف، وهو ظاهر على الوجه الذي ذكرناه وماعدا الوجه الرابع والخامس من الوجوه المتقدمة حتى الإجماع، فإنه وإن كان دليلاً لبياً، إلا أنه لا مجال لاخراج هذه الصورة عنه مع كثرة الابتلاء بها الكاشف عن عموم السيرة الارتكازية لها.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من إلحاق صورة اشتباه الكثير في الكثير بالمحصور، لمشابهته له في نسبة مجموع التكاليف المعلومة

ص: 388

بالإجمال لمجموع الأطراف، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوءة في ضمن ألف وخمسمائة كانت نسبة المعلوم بالإجمال إلى الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة، لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة، ومحتملاته ثلاثة، وماعداها لا ينفك عن الاشتمال على الحرام.

فهو إنما يتم مع الارتباطية بين مجموعات الأطراف في احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها، كما لو كان كل خمسمائة منها بلون وعلم أن الخمسمائة الحرام بلون واحد، حيث يكون أطراف الترديد ثلاثة لا غير، أما مع عدم الارتباطية بينها فأطراف الترديد تمام الألف والخمسمائة.

نعم، بناء على الوجه الرابع يتجه البناء على وجوب الاحتياط، كما تقدم التعرض له هناك.

كما لا يبعد ذلك أيضاً بناء على الوجه الخامس، وإن كان لا يخلو عن كلام.

الثالث: لزوم الاقتصار على المتيقن في الشبهة غير المحصورة

الثالث: ضابط الشبهة غير المحصورة يبتني على الوجوه المتقدمة، ويختلف باختلافها، بنحو يظهر بالتأمل فيها.

نعم، لا يصلح بعضها لتحديده، لابتنائه على الإجمال، فيلزم الاقتصار فيه على المتيقن، كما تقدم في الإجماع، والاخبار، ودليل العسر ولو أريد به النوعي.

الرابع: لو شك في منجزية الشبهة بنحو الشبهة الموضوعية

الرابع: لو شك في منجزية الشبهة للشك في تحقق الضابط المتقدم لغير المحصورة فيها بنحو الشبهة الموضوعية ابتنى الكلام فيها على الكلام في حكم الشك في تحقق موانع التنجيز، وقد تقدم أن الشك في الابتلاء كالعلم بعدمه في عدم التنجيز، كما أن الشك في تعذر الامتثال أو لزوم

ص: 389

العسر منه ونحوهما كالعلم بعدمها في التنجيز.

ومنه يظهر أنه بناء على الوجه الثالث في الاستدلال على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة يتعين البناء على وجوب الاحتياط لو شك في تحقق ضابطها.

وأما على الوجه الأول والثاني فحيث كان الاستدلال بهما موقوفاً على كشفهما عن جعل البدل أو رفع التكليف الواقعي، فعلى الأول يجب الاحتياط مع الشك، وعلى الثاني لا يجب، ولا يبعد ترجح الأول. فتأمل.

كما أنه لا يبعد البناء على جواز الارتكاب على الوجه السابع لعدم إحراز سقوط الأصل بالمعارضة.

وكذا على السادس، لكونه حينئذٍٍ نظير الشك في الابتلاء الذي عرفت عدم وجوب الاحتياط معه.

وأما الشك في القدرة على المخالفة، الذي يجب الاحتياط معه فهو الشك في القدرة على الامتثال، لا الشك في القدرة على المخالفة، الذي هو مبنى الوجه السادس المذكور، كما ذكرناه في التنبيه الرابع عند الكلام في عدم الابتلاء.

وأما على الوجه الرابع والخامس فيشكل تحقق الشك المذكور، لأن أطراف الشك ومرتبته من الأمور الوجدانية غير القابلة للشك.

وإن كان صريح بعض الأعيان المحققين إمكان الشك على الوجهين المذكورين، وأنه على الرابع يتعين إلحاقه بالمحصور، لرجوعه إلى الشك في جعل البدل، كما تقدم منه، وعلى الخامس يلحق بغير المحصور للشك في بيانية العلم، ومع عدم إحراز البيان فالمرجع البراءة. فتأمل جيداً.

ص: 390

الخامس: اقتضاء عدم منجزية العلم الإجمالي لعدم وجوب الاحتياط

الخامس: عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة إنما يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض.

ولا ينافي وجوب الاحتياط في الأطراف لأجل الشك لو فرض كونه مجرى للاحتياط في نفسه، لانقلاب الأصل أو نحوه، لأن الوجه المصحح لترك الاحتياط لا يقتضي إلغاء الشك.

فما يظهر من بعض الأعاظم قدس سرة من التشكيك في ذلك، أو الميل إلى إلغاء الشك، غير ظاهر.

نعم، بناء على الوجه الرابع قد يدعى أن عدم اعتداد العقلاء بالاحتمال الضعيف في كل طرف لا يختص بحيثية العلم الإجمالي، خصوصاً بناء على رجوعه إلى جعل البدل.

إلا أن الالتزام بلوازم ذلك صعب جداً.

إلا أن يلحق الشك بالوسواس الذي لاريب في عدم اعتداد العقلاء به، وخروجه عن عموم الشك الذي هو موضوع الأصول.

هذا تمام الكلام في الشبهة غير المحصورة.

والحمد لله على ما سهل ويسر، ونسأله العون والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 391

التنبيه العاشر: في الشبهة الوجوبية

التنبيه العاشر: في الشبهة الوجوبية

لا فرق في ما تقدم في العلم الإجمالي بالتكليف بين الشبهة الوجوبية والتحريمية، كما يظهر بالتأمل فيه.

إلا أنه ينبغي الكلام تبعاً لهم في أمور ذكروها في خصوص الشبهة الوجوبية..

الكلام في أمور: الأمر الأول: دعوى وجوب الموافقة بالاستصحاب

الأول: قد يدعى التمسك لوجوب الموافقة القطعية في الشبهة الوجوبية بالاستصحاب، فإنه بعد الإتيان ببعض الأطراف يكون مقتضى الاستصحاب الموضوعي - وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب - أو الحكمي - وهو استصحاب بقاء وجوب الواجب - لزوم الخروج عن عهدة التكليف بالإتيان ببقية الأطراف.

وقد يورد عليه بوجوه..

أورد عليه بوجوه أولها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرة

أولها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرة من أن الغرض من الاستصحاب المذكور إن كان هو إثبات وجوب الباقي شرعاً فهو من الأصل المثبت، وإن كان هو إثبات وجوبه عقلاً تحصيلاً للفراغ اليقيني عن التكليف الإجمالي المستصحب، فهو مبني على حكم العقل بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني، وهو لو تم يغني عن الاستصحاب، لفرض اليقين بالاشتغال وجداناً قبل الإتيان بشيء من المحتملين.

ولا مجال لتوهم ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال في المقام.

لأن المعتبر في ورود الاستصحاب على القاعدة أن يتضمن التعبد بالتكليف في موردها، كاستصحاب نجاسة الثوب الوارد على قاعدة

ص: 392

الاشتغال بالصلاة لمن صلى به، والاستصحاب لا ينهض بالتعبد بالتكليف بالباقي، لابتنائه على الأصل المثبت، كما ذكرنا، وإنما يتضمن التعبد بالتكليف الإجمالي، وهو لا يصلح للعمل إلا بلحاظ الطرف الباقي، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه، وهو متفرع على قاعدة الاشتغال، والمفروض تحقق موضوعها مع قطع النظر عن الاستصحاب، فلا يبقى له أثر معها.

وفيه: أن أثر الاستصحاب المذكور هو جعل مخالفة الطرف الباقي مخالفة قطعية بعد أن كانت بدونه مخالفة احتمالية، فإن مقتضى الاستصحاب التعبد بالتكليف ووجوب العمل على طبقه بموافقة الطرف الباقي، أو بوجه آخر يقطع أو يحتمل معه بالموافقة، فعدم العمل بمقتضى ذلك مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب، وإن كانت مخالفة احتمالية للواقع، ولا إشكال في عدم جواز المخالفة القطعية لدليل التعبد، كما لا تجوز لدليل الواقع، وإن فرض جواز المخالفة الاحتمالية لهما.

نعم، الموافقة الاحتمالية للتكليف المستصحب في باقي الأطراف قد تستلزم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، كما لو فرض بقاء طرف واحد.

وهو أجنبي عما ذكره من ابتناء العمل بالاستصحاب في المقام على وجوب الموافقة القطعية.

فهو نظير ما لو علم المكلف إجمالاً بإضافة أحد المائين وإطلاق الآخر، ثم توضأ بأحدهما، فإن مقتضى استصحاب الحدث هو وجوب الوضوء بغيره، وترك الوضوء حينئذٍ مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب،

ص: 393

والوضوء بالآخر وإن كان موافقة احتمالية له، إلا أنه موجب للقطع بموافقة التكليف الواقعي.

فالتحقيق: أن ما ذكره قدس سرة من عدم الأثر للاستصحاب لا يتم بناء على عدم وجوب الموافقة القطعية عقلاً - الذي هو محل الكلام في المقام - وإنما يتم بناء على وجوبها عقلاً - كما هو التحقيق - لأن حكم العقل بوجوبها ملزم بالإتيان بالطرف الباقي مع قطع النظر عن الاستصحاب، وحيث لم ينهض الاستصحاب بالورود على القاعدة - لما تقدم - كان التعبد به لاغياً.

ومنه يظهر الفرق بين الاستصحاب في ما نحن فيه واستصحاب عدم الإتيان بالظهر لمن شك في الإتيان بها، لأن الاستصحاب هناك بيان على بقاء التكليف بالظهر، بنحو يكون الإتيان بها امتثالاً قطعياً، فيكون وارداً على قاعدة الاشتغال، أما في المقام فالمفروض عدم إحراز انطباق المستصحب على الطرف الباقي، ليحرز كونه امتثالاً له بمقتضى الاستصحاب، بل ليس الإتيان به إلا لاحتمال انطباقه عليه، الذي هو مفاد القاعدة.

نعم، لو كان لعدم الإتيان بالواجب أثر آخر غير الامتثال لا تقتضيه قاعدة الاشتغال - كوجوب القضاء أو الكفارة - كان جريان الاستصحاب في محله، لترتب العمل عليه. فتأمل.

ثانيها: أن الاستصحاب استصحاب للفرد الإجمالي

ثانيها: أن الاستصحاب المذكور استصحاب للفرد الإجمالي المردد بين معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث، وهو لا يجري على التحقيق، لوجوه وقع الكلام فيها من غير واحد، عمدتها منافاة إطلاق لسان التعبد بالاستصحاب في المردد للعلم التفصيلي في الفرد المعلوم الارتفاع، بالوجه الذي تقدم في الصورة الثانية من صور عروض المانع من منجزية

ص: 394

العلم الإجمالي، التي سبق الكلام فيها في التنبيه الرابع، ويأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

نعم، ذلك مختص بالشبهة الحكمية، ولا يجري في الشبهة الموضوعية، كما لو صلى المكلف بأحد ثوبين يعلم نجاسة أحدهما إجمالاً، فإن استصحاب عدم الإتيان بالصلاة بالثوب الطاهر، أو استصحاب وجوب الصلاة فيه ليس من استصحاب الفرد الإجمالي المردد، وإنما هو استصحاب للأمر المعين في نفسه، المترتب عليه العمل، الواجد لركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وإنما التردد في امتثاله وهو لا يجعله من استصحاب الفرد المردد.

لكنه مثله في الجهة المتقدمة المانعة من جريان الاستصحاب، فإن التعبد في المثال بعدم الصلاة في الثوب الطاهر أو ببقاء وجوبها يقتضي بإطلاقه تنجيز الصلاة المذكورة ولو في ضمن الثوب الذي صلى فيه لو فرض كونه الطاهر واقعاً، مع العلم التفصيلي بعدم وجوب الصلاة في الثوب المذكور، إما لنجاسته أو لصحة الصلاة الواقعة به أولاً، فلا مجال حينئذٍ للتعبد بوجوب الصلاة المذكورة مطلقاً وعلى كل حال، الذي هو مفاد الاستصحاب، لمنافاة الإطلاق المذكور للعلم التفصيلي المذكور.

وغاية ما يمكن هو التعبد بوجوبها معلقاً على بطلان الصلاة المذكورة لنجاسة الثوب المذكور، أو الأمر فعلاً في غير الثوب المذكور احتياطاً، لاحتمال بطلان الصلاة الواقعة به، أو التعبد بوجوبها في ضمن غير الثوب المذكور.

والجميع أجنبي عن مؤدى الاستصحاب الذي هو عبارة عن التعبد

ص: 395

بالكبرى الشرعية الواقعية ابتداءً، أو بتوسط التعبد بالموضوع المقتضي للعمل بها مطلقاً وعلى كل حال.

بل الأول مفاد الجعل الواقعي غير الصالح للتنجيز، لعدم إحراز موضوعه، وهو بطلان الصلاة الأولى.

والثاني مفاد دليل الاحتياط، لا الاستصحاب.

والثالث مفاد قضية أخرى غير المتيقنة سابقاً، لوضوح أن المتيقن سابقاً هو وجوب الصلاة بمطلق الثوب الطاهر الشامل للثوب المذكور، فالتعبد بوجوبها في غيره لا يكون إبقاء ظاهرياً للمتيقن.

ودعوى: أن امتناع الإطلاق في القضية عقلاً يقتضي تقييدها، لا إلغاءها رأساً.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في تقييد عموم الدليل وإخراج بعض أفراده، وحيث كان العموم في المقام هو عموم دليل الاستصحاب ففرده الذي يمتنع شموله له هو استصحاب الموضوع أو الحكم في محل الكلام، لا الثوب المذكور، بل الثوب المذكور فرد لمتعلق القضية المستصحبة، التي يكون تقييدها مستلزماً لمباينة المستصحب للمتيقن وفقده لركن الاستصحاب، لا لتقييد دليل الاستصحاب. فلاحظ.

بل لو فرض انحصار طريق الامتثال بالطرف الباقي - بأن لم يكن عند المكلف في المثال إلا الثوب الذي لم يصل فيه من الثوبين المعلومين بالإجمال - كان امتناع التعبد بمقتضى الاستصحاب من جهة عدم إحراز متعلق الامتثال الموجب لامتناع إطلاق التعبد به بنحو يقتضي العمل عليه على كل حال.

ص: 396

وما قيل: من عدم الاعتناء باحتمال التعذر ولزوم ترتيب أثر القدرة معه.

مختص بما إذا شك في مقدار القدرة، لا في حال المقدور، كما أشرنا إليه في أول التنبيه الرابع. فراجع.

نعم، لا يبعد جريان الاستصحاب لو فرض خروج الطرف الذي احتاط به المكلف أولاً عن الابتلاء - بتلف أو نحوه - بنحو لا يكون إطلاق القضية المستصحبة عملياً بالإضافة إليه، وكان لمتعلقها فرد متيقن غير الطرف الآخر، إذ لا محذور حينئذٍ في التعبد بالقضية المتيقنة على إطلاقها بعد فرض إحراز متعلقها وعدم ترتب العمل المنافي للعلم التفصيلي عليها، كما لو كان للمكلف ثوب طاهر تفصيلاً من الصوف، وآخر مردد بين ثوبين من القطن، فصلى المكلف في أحد ثوبي القطن، ثم تلف وبقي الآخر منهما مع الثوب الصوف، فإن مقتضى الاستصحاب هو الصلاة في الثوب الطاهر الصالح للانطباق عليهما، غاية الأمر أنه إن صلى بالقطن أجزأه وإن لم تحرز طهارته، للعلم بامتثال الأمر الواقعي حينئذٍ الرافع لموضوع الاستصحاب.

هذا، وربما يستشكل في خصوص الاستصحاب الموضوعي: - وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب - بأن الغرض من ذلك إن كان هو إثبات بقاء التكليف ووجوب الفراغ عنه، فليس ذلك أثراً شرعياً له، بل هو أثر عقلي راجع إلى مقام الامتثال.

وإن كان أمراً آخر، كوجوب القضاء أو الكفارة أو نحوهما مما يترتب شرعاً، فهو خارج عن محل الكلام.

ويندفع: بأنه لما كان ارتفاع التكليف عقلاً بامتثاله، وبقاؤه مع عدمه من شؤون داعويته ومما يترتب عليه من العمل بلا واسطة صح الاستصحاب

ص: 397

وغيره من أنحاء التعبد المولوي بلحاظها وجوداً وعدماً، ولذا لاريب في إمكان التعبد بالامتثال بالاستصحاب وغيره، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الثوب المحرزة لصحة الصلاة فيه، وحصول الفراغ من التكليف بها.

بل لا إشكال في جواز الرجوع للأصول المحرزة لحصول الموانع أو فقد الشروط للمكلف به، الراجعة للتعبد بعدم الامتثال في مواردها، الذي هو نظير المقام.

الأمر الثاني: عدم الفرق بين العبادات والتوصليات

الأمر الثاني: لا فرق في ما ذكرنا من وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية والاكتفاء به بين العباديات والتوصليات.

لكن قد يشكل الأمر في العباديات بتعذر التقرب المعتبر فيها في كل طرف، لعدم إحراز انطباق المأمور به عليه.

مراتب الامتثال وما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

وعلى ذلك ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة - على اضطراب في كلامه - أن مراتب الامتثال أربعة: التفصيلي، ثم الإجمالي، ثم الظني، ثم الاحتمالي، ولا يجوز التنزل للمرتبة اللاحقة مع التمكن من السابقة.

ويترتب عليه أمران

ويترتب على ذلك أمران:

الأول: لو تمكن من الفحص لم يجز له الاكتفاء بالإجمالي

الأول: أنه لو تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي بالفحص أو غيره لم يجز له الاكتفاء بالإجمالي. بل قد يجب عليه تقليل الإجمال لو فرض تعذر رفعه كلية، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر تفصيلاً وعجز عن تعيين القبلة، الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات.

بل قد يلتزم بأنه لو كان المشتبه واجبين مترتبين شرعاً، كالظهر والعصر المترددين بين القصر والتمام لم يجز الدخول في محتملات اللاحق إلا بعد الفراغ من محتملات السابق، محافظة على المقدار الممكن

ص: 398

من مراتب الجزم بالامتثال، ولا يجوز في مثل ذلك الإتيان بالصلاتين معاً قصراً ثم تماماً، لأن الدخول في العصر قصراً قبل الإتيان بالظهر تماما موجب لاحتمال عدم مشروعيتها لكونها قصراً، ولعدم تحقق الظهر قبلها، وإن كانت الجهتان متلازمتين خارجاً ولم توجب الثانية زيادة التكرار، أما الدخول في العصر بعد الفراغ من محتملات الظهر فهو موجب لعدم إحراز مشروعيتها من الجهة الأولى لا غير.

الثاني: لو تعذر الامتثال التفصيلي لا مجال للامتثال الاحتمالي

الثاني: أنه لو تعذر الامتثال التفصيلي فلا مجال للاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، بل يتعين التنزل للامتثال الإجمالي، الراجع إلى قصد امتثال الأمر الإجمالي بكل من الأطراف على أن يكون الداعي في كل طرف هو امتثال الأمر الإجمالي به أو بصاحبه.

ولازم ذلك هو العزم على استيفاء تمام الأطراف، إذ لو عزم على الاقتصار على بعضها لم يتحقق منه الجزم بامتثال الأمر الإجمالي، فلا يصح العمل حتى لو صادف الواقع، للإخلال بالتقرب المعتبر.

لكن لا وقع للإشكال من أصله بعد ما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع وغيره من الاكتفاء في التقرب المعتبر في العبادة بالاندفاع عن الأمر المحتمل حتى مع التمكن من الامتثال التفصيلي، فلا يجب رفع الإجمال، فضلاً عن تقليله، كما يصح العمل مع الإجمال لو فرض مصادفته للواقع حتى مع عدم العزم على استيفاء الأطراف.

ومبنى المسألة أنه لو كان العمل في التقرب وفروعه مع الشك على السعة - كما هو الظاهر، عملاً بالاطلاق اللفظي، أو المقامي، أو أصل البراءة - كان الالتزام بكل قيد محتاجاً إلى الدليل.

ص: 399

وإن كان العمل على الاحتياط - لقاعدة الاشتغال - كان نفي كل قيد محتمل هو المحتاج إلى الدليل.

الأمر الثالث: عدم الفرق فيها بين الاشتباه في أصل الواجب أو في بعض قيوده

الأمر الثالث: لا فرق في وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية المحصورة بين أن يكون الاشتباه في أصل الواجب - كالظهر والجمعة - وأن يكون في بعض ما يعتبر فيه - كاشتباه القبلة بين جهتين، والتردد بين الجهر والاخفات - لعموم ما تقدم من الوجه لذلك.

ودعوى: أنه لابد من رفع اليد في الثاني عن اعتبار الأمر المشتبه محافظة على الجزم بالامتثال حين العمل في العبادة.

مدفوعة: بما أشرنا إليه آنفاً من عدم اعتبار الجزم المذكور.

على أنه لو تم اعتباره جرى في الاشتباه في أصل المركب، حيث يمكن فيه المحافظة على الجزم المذكور بالبناء على التخيير بين الأمرين المشتبهين، ففرض وجوب الاحتياط فيه مبني على التنزل عن الجزم المذكور محافظة على الواجب الأولي المعلوم بالإجمال، وذلك يجري في المقام أيضاً، لعدم الفرق بينهما ارتكازاً.

نعم، قد يدل الدليل الخاص على سقوط الأمر المعتبر في حال الاشتباه، فيرتفع موضوع وجوب الاحتياط، كما هو الحال بناء على أن المتحير يصلي إلى أي جهة شاء صلاة واحدة، المستلزم لسقوط شرطية الاستقبال في حقه.

كما قد يدل الدليل على الترخيص في المخالفة الاحتمالية مع بقاء أصل الاشتراط فيه، كما لا يبعد البناء على ذلك في من يعسر عليه الصلاة إلى جهتين عند اشتباه القبلة بينهما، حيث لا يبعد البناء على التخيير بينهما

ص: 400

من دون أن يسقط أصل الاستقبال في حقه، فلا يجوز له الصلاة إلى جهة غيرهما.

وتمام الكلام في الفقه.

الأمر الرابع: فرض الشبهة غير محصورة

الأمر الرابع: لو فرض كون الشبهة الوجوبية غير محصورة فالظاهر جريان ما تقدم فيها من أن رافعية عدم الانحصار فيها لتنجيز العلم الإجمالي ليس لخصوصيته في ذلك، بل بلحاظ ما قد يصاحبه من حرج أو تعذر أو نحوهما، وحينئذٍ فإن كان المانع المفروض مختصاً ببعض الأطراف معيناً كان مانعاً من تنجز التكليف الإجمالي مطلقاً حتى بلحاظ الموافقة الاحتمالية، فيجوز المخالفة القطعية.

وإن لم يختص ببعض الأطراف معيناً بل مخيراً جرى فيه ما تقدم في التنبيه السادس، وكان نظير الاضطرار إلى بعض غير معين من الأطراف، الذي تقدم أن الظاهر فيه سقوط العلم الإجمالي فيه عن المنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية لا غير، فيجب الاقتصار فيه على مالا يلزم منه المحذور المانع من حرج ونحوه.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

هذا تمام الكلام في مباحث العلم الإجمالي، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

ص: 401

ص: 402

الفصل الرابع: في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

اشارة

أشرنا في أول الكلام في الأصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم هذه المسألة كبروياً - كما هو الحال في الفصول السابقة - بل هو نزاع صغروي راجع إلى أن محل الكلام من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف، التي عقدنا لها الفصل الأول، والتي كان التحقيق فيها البراءة، أو من صغريات مسألة الشك في تعيين التكليف، التي عقدنا لها الفصل الثالث، والتي كان التحقيق فيها وجوب الاحتياط، فالكلام فيها مبني على الفراغ عن حكم المسألتين المذكورتين.

ولو فرض وقوع الكلام في بعض الجهات الأُخر فهو غير مقصود بالأصل.

ومن هنا ينبغي تقديم أمور تمهيداً للكلام في المقام..

لابد من تقديم أمور الأول: وجوه الدوران بين الأقل والأكثر

الأول: أن دوران التكليف بين الأقل والأكثر يكون..

تارة: مع فرض أن الزائد المحتمل مورد لتكليف مستقل غير التكليف المتيقن، ناشئ عن غرض آخر في قباله، بحيث يمكن التفكيك بينهما في الإطاعة والمعصية، سواء كان أمراً مقابلاً للمتيقن ومورداً للعمل في عرضه،

ص: 403

كما لو دار في الدين الأمر بين الدرهم والدرهمين، أم من شؤونه القائمة به، كما لو احتمل وجوب إيقاع الفريضة في المسجد، لتعلق النذر به.

وأخرى: يكون مع فرض وحدة التكليف للارتباطية بين أجزاء متعلقه، بحيث لا تكون له إلا إطاعة أو معصية واحدة.

والأول خارج عن محل الكلام داخل في الشك في أصل التكليف، ولا وجه لتوهم دخوله في الشك في تعيين التكليف بعد فرض امتياز المتيقن عن المشكوك عملاً، وكون إطاعة المتيقن غير متوقفة على المشكوك.

وليس الكلام إلا في الثاني، لأن الارتباطية المفروضة فيه قد توهم كون الشك فيه راجعاً إلى الشك في تعيين التكليف المعلوم، المقتضي لوجوب إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

الثاني: وجوه احتمال دخل شيء في الواجب

الثاني: أن احتمال دخل شيءٍ في الواجب يكون..

تارة: مع التردد بين دخله فيه وعدمه من دون أن يحتمل قادحيته فيه.

وأخرى: مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه.

وثالثة: مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه وعدمهما. ومحل الكلام في المقام هو الصورة الأولى.

أما الثانية فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين، للتباين بين مفاد بشرط شيء وبشرط لا، فيجري حكمه بلا كلام.

وأما الثالثة فالكلام فيها يبتني على الكلام في الصورة الأولى، فإن قيل فيها بوجوب الاحتياط للشك في تعيين الواجب وجب الاحتياط في هذه الصورة بالجمع بين الواجد والفاقد، وإن قيل بجريان البراءة فيها للشك في

ص: 404

زيادة التكليف كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضاً.

الثالث: المعيار في الارتباطية

الثالث: الظاهر أن المعيار في الارتباطية بين المشكوك والمتيقن - التي عرفت في الأمر الأول اعتبارها في محل الكلام - على وحدة التكليف لباً، وعدم انحلاله إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد الماهية، بأن ينشأ من غرض واحد وله إطاعة ومعصية واحدة، كي يكون تردده بين الأقل والأكثر موجباً لتردد إطاعته بينهما.

أما لو كان انحلالياً مستغرقاً لتمام أفراد الماهية، بأن يكون لكل منها غرض وإطاعة ومعصية مختصة به، مع قطع النظر عن بقية الأفراد، فلا مجال لفرض الارتباطية فيه مع تردده بين الأقل والأكثر، إذ يكون للمتيقن من الأفراد تكاليف مستقلة مباينة للتكاليف بالأفراد المشكوكة ذاتاً، وغرضاً، وطاعة، ومعصية.

ومنه يظهر أن فرض الارتباطية في الشبهة الوجوبية يختص بما إذا كان التردد بين الأقل والأكثر في العموم البدلي، دون الاستغراقي، فإذا وجب إكرام علماء البلد يوم الجمعة فالشك في إطلاق الإكرام مما نحن فيه، والشك في عموم العلماء خارج عنه.

كما أن فرض الارتباطية في الشبهة التحريمية يختص بما إذا كان ورود النهي على الماهية بلحاظ مجموع أفرادها، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك تمام الأفراد، كما لو حرم قتل الحيوان وتردد بين مطلق القتل، وخصوص ما يحرم اللحم بنحو لا يشمل التذكية.

أما لو كان النهي انحلالياً بلحاظ كل فرد فرد - كما هو الغالب في النواهي الشرعية - فلا مجال لفرض الارتباطية فيه.

ص: 405

ولعل الغلبة المذكورة هي الوجه في تخصيص شيخنا الأعظم قدس سرة الكلام في المقام بالشبهة الوجوبية، وإلا فهو غير مختص بها.

غايته أن الاحتياط في الشبهة التحريمية بالبناء على حرمة الأقل الذي هو المطلق عكس الشبهة الوجوبية.

هذا، وأما احتمال أخذ خصوصية في الترك المطلوب بحيث لا يمتثل التكليف إلا بها - كالطهارة والتقرب - فهو راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر في الواجب، لرجوعه إلى احتمال طلب الترك المقيد، فيكون القيد كالترك مطلوب الحصول، لا محرماً ليكون من دوران الحرام بين الأقل والأكثر أو المطلق والمقيد.

ومما سبق يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من التمثيل للشبهة التحريمية بما إذا تردد التصوير المحرم بين أن يعم بعض الصورة، وأن يختص بتمامها لكن بحيث يحرم الشروع في الصورة في ظرف الإتمام، بأن يكون للبعض حظ من الحرمة النفسية الواردة على التام، لأن قوام الارتباطية انبساط الحرمة على تمام الاجزاء، كما هو الحال في الواجب الارتباطي.

لاندفاعه: بأن عموم تحريم التصوير حيث كان استغراقياً انحلالياً لا مجموعياً لم يكن مما نحن فيه، بل التصوير التام متيقن الحرمة، وتصوير البعض مشكوكها.

وحديث انبساط الحرمة على الأجزاء لا دخل له في الارتباطية بين الأقل والأكثر الذي هو محل لكلام، بل هو لازم للارتباطية بين أجزاء الأكثر على تقدير حرمته، فالحرام هو الأجزاء بمجموعها، لا كل جزء، ولا عنوان الا الإتمام الذي تكون الاجزاء مقدمة له.

ص: 406

الرابع: وجوه الدوران بين الأقل والأكثر

الرابع: الدوران بين الأقل والأكثر..

تارة: يكون في نفس المكلف به، كما لو احتمل اعتبار الاستعاذة في الصلاة.

وأخرى: يكون في سببه المحصل له من دون أن يستلزم الإجمال فيه، كما لو وجب تطهير المسجد واحتمل اعتبار تعدد الغسلة فيه.

ومحل الكلام هنا الأول.

وأما الثاني فقد تعرض له غير واحد هنا، وتقدم منا تفصيل الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول، وربما يأتي هنا ما ينفع فيه.

الخامس: لزوم وجوه المتيقن في مقام الامتثال

الخامس: بعد ما تقدم في الأمر الثاني اختصاص محل الكلام بما إذا احتمل اعتبار شيء في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي يقطع بالفراغ عن التكليف الواقعي على تقدير سلوكه وإن لم يعلم بالتكليف به، وذلك بالمحافظة على الأمر المحتمل اعتباره المفروض عدم قادحيته.

ولا يخفى أن وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك في حال متعلق التكليف مع العلم بنحو تعلقه - كما هو المفروض في محل الكلام - كذلك يكون مع الشك في نحو التكليف نفسه بأن يتردد التكليف بين التعييني والتخييري، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.

وعمدة كلام شيخنا الأعظم قدس سرة ومن بعده في الأول، وربما تعرض بعضهم للثاني استطراداً.

وحيث كان الكلام فيه مهماً كان المناسب التعرض له هنا.

ص: 407

كما أنه حيث كان مختصاً ببعض الفروع والتنبيهات المهمة كان المناسب تخصيص بحث له وفصله عن الأول، فيكون الكلام في هذا الفصل في مقامين، ليختص كل منهما بما يناسبه من الفروع والتنبيهات. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

الأقل والأكثر الارتباطيان

الأقل والأكثر الارتباطيان

ص: 408

المقام الأول: في الشك في دخل شيء في المكلف به

اشارة

وقد ذكروا له صوراً ثلاثة، لأن الشيء المشكوك..

تارة: يكون جزءاً خارجياً متحداً مع الواجب، كالاستعاذة في الصلاة.

وأخرى: يكون جزءاً ذهنياً منتزعاً من خصوصية زائدة على الواجب كالطمأنينة في الصلاة، والإيمان في الرقبة.

وثالثة: يكون جزءاً ذهنياً منتزعاً من خصوصية متحدة مع الواجب عقلاً، كما لو تردد الأمر بين الجنس والنوع أو الطبيعي والفرد.

ويعبر عن الشك في الأول بالشك في الجزئية، وفي الثاني بالشك في الشرطية أو القيدية، وفي الثالث بالدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

لكن الشك في الجزئية يرجع إلى الشك في الشرطية في الجهة المهمة في محل الكلام، لأن اعتبار الجزء في المركب الارتباطي راجع إلى تقييده به لباً، كتقييده بالشرط الخارج عنه، والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب خارجاً، لا بعض منه، وإنما يكون الجزء بعضاً من المركب الواجب في ظرف تماميته.

غايته أن الجزء ليس قيداً في تمام المركب كالشرط، بل في ماعداه من

ص: 409

الأجزاء كما أن أخذه فيها ليس بصريح التقييد، بل بنتيجة التقييد.

كما أنه في ظرف أخذه داخل في المركب ومتحد معه، بخلاف الشرط، فإنه خارج عنه.

لكن لا أثر لهذه الفروق في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام.

ومن هنا لا وجه لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر، بل المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.

ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان المشروط أمراً متعلقاً لفعل المكلف، كالطهارة في الصلاة، وما إذا كان عرضاً قائماً بالموضوع، كالإيمان في الرقبة.

بدعوى: ان الأول لما كان فعلاً خارجياً كان مورداً لتكليف زائد مدفوع بالأصل، بخلاف الثاني.

لاندفاعها: بأن المعيار لما كان على التقييد، فهو مشترك فيهما، ولا أثر معه لاختصاص الأول بكونه عملاً خارجياً، لأن وجوبه مقدمي ناشئ من التقييد. على أن الثاني قد يكون مورداً للعمل، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته من غير المؤمنين، فإنه يجب هدايته تحصيلاً للقيد المعتبر في الواجب.

نعم، لو كان ملازماً لا يمكن اتصاف كل فرد به كالهاشمية والرجولة فقد يدعى إلحاقه بالدوران بين التعيين والتخيير العقلي، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

نعم، الشك في أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع الذات يختص بجهات ينبغي الكلام فيها مستقلاً. ولا وجه لما صرح به

ص: 410

بعض الأعيان المحققين في صدر كلامه من خروجه عن محل النزاع، بعد ترتب غرض النزاع عليه وعموم بعض كلماتهم له، ولعله لذا تعرض له عند الكلام في تحقيق المختار والاستدلال عليه. ومن ثم كان كلامه مضطرباً.

الكلام في مسألتين

وكيف كان، فيقع الكلام في مسألتين..

المسألة الأولى: في الشك في أخذ شيء جزءاً أو شرطاً في المكلف به

المسألة الأولى: في الشك في أخذ شيء في المكلف به جزءاً كان أو شرطاً.

قال شيخنا الأعظم قدس سرة: «وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا، فصرح بعض متأخري المتأخرين بوجوبه، وربما يظهر من كلام بعض القدماء، كالسيد والشيخ.

لكن لم يعلم كونه مذهباً لهما، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه.

وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط، والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين، كما يظهر من تتبع كتب القوم، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم.

بل الإنصاف: أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك، كالسيد والشيخ بل الشهيدين J ».

وهو وإن ذكر ذلك في الشك في الجزئية، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين الشك في الشرطية عندهم، كما قد يظهر منه قدس سرة ذلك.

وكيف كان، فيقع الكلام..

ص: 411

تارة: في مقتضى الأصل العقلي الأولي.

وأخرى: في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف، فقد اختلفت كلمات القوم في المقامين.

مقتضى الأصل العقلي في المقام

أما الأول، فالظاهر حكم العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك، بملاك قبح العقاب بلا بيان الذي تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف، لعدم الفرق في الملاك المذكور بين التكليف الاستقلالي والضمني بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز المبنيين على المسؤولية بالتكليف والعقاب عليه الذي هو المهم في المقام والدائر مدار البيان بلا كلام.

نعم، لو تعلق الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه إما للاهتمام بأثره الوضعي - كما في الأوامر الإرشادية - أو لتنجزه من جهة أخرى - كما في موارد التقصير في الفحص - أو للاهتمام بتحصيل غرض المولى قياماً ببعض حقوقه، أو مداراة له في دفع شره وجوره - كما في بعض الموالي العرفيين - زائداً على ما تقتضيه المسؤولية التابعة للتنجيز عقلاً، تعين الاحتياط فيه ولو مع عدم البيان الواصل، كما هو الحال في الشك في أصل الواجب أيضاً.

إلا أنه خارج عن محل الكلام، إذ المفروض عدم المنجز الخارجي، وأن الغرض لم يتعلق إلا بالخروج عن تبعة التكليف والمسؤولية به عقلاً، التي هي منوطة بالبيان المفروض عدمه بالإضافة إلى المشكوك.

ولاريب في ما ذكرناه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة

ص: 412

أهل الاستدلال الارتكازية، فإن المرتكز أن خصوصيات التكليف كأصله هي المحتاجة إلى البيان.

إشكال الرجوع للبراءة من وجوه

هذا، وربما يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه..

الأول: أن تنجز التكليف الواقعي ملزم بالاحتياط

الأول: دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحد الواقعي المردد بين الأقل والأكثر الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط، وذلك من جهة العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين المنجز لاحتمال كل منهما، والملزم بالقطع بالفراغ عنه على ما هو عليه من الترديد والإجمال.

وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما لنفسه أو مقدمة للأكثر، بنحو يقتضي تنجزه على كل حال.

لكن يظهر من المحقق الخراساني قدس سرة استحالة الانحلال في المقام، لأن تنجز التكليف المقدمي موقوف على تنجز التكليف النفسي لأن داعويته في طول داعويته، فلا مجال لتنجيزه دونه.

وعليه يكون تنجز التكليف بالأقل على كل حال حتى لو كان مقدمياً موقوفاً على تنجز التكليف النفسي بالأكثر، ولا منجز له إلا العلم الإجمالي المفروض، فكيف يكون تنجز الأقل على كل حال موجباً لانحلال العلم الإجمالي ومانعاً من تنجز الأكثر على تقدير وجوبه.

هذا، ومن الظاهر أن ما ذكراه قدس سرة مبني على مقدمية الجزء للمركب، وعلى تعلق التكليف المقدمي الغيري به تبعاً له.

والتحقيق - تبعاً لبعضهم - منع كلا الأمرين، كما أوضحناه في مسألة مقدمة الواجب.

ص: 413

بل صرح المحقق الخراساني قدس سرة في المسألة المذكورة بمنع الثاني منهما، وربما نسب ذلك لشيخنا الأعظم قدس سرة أيضاً وإن لم أتحققه.

انحلال التنجز المذكور

على أنه لاريب ظاهراً في انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء، وجبت بالوجوب الغيري أيضاً، أم لم تجب، فيكفي في تقريب الانحلال وجوب الأجزاء نفسياً على كل حال، كما ذكره بعض مشايخنا.

ولعله لذا جزم بعض الأعاظم قدس سرة بعدم إرادة شيخنا الأعظم قدس سرة لظاهر كلامه، وأن مراده من وجوب الأقل تفصيلاً هو وجوبه النفسي.

بل لا يبعد كون ذلك هو مراد المحقق الخراساني قدس سرة أيضا، فيرجع ما تقدم منه في منع الانحلال إلى دعوى الملازمة بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في مقام التنجز، كما هي متلازمة في الملاك والجعل والامتثال، فلا يعقل تنجز الأقل على كل حال إلا مع تنجز الأكثر، فلا يكون تنجزه مانعاً من تنجزه وموجباً لحل العلم الإجمالي المفروض.

لكنه يندفع: بأن التكليف الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف الضمنية بأجزائه، فداعويته عين داعويتها، وتنجزه عين تنجزها، لأنها من حدوده، ولا موضوع للملازمة بينه وبينها.

وعليه لا يلزم في المقام التفكيك بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في التنجز، بل اختصاص التنجز للتكليف الاستقلالي بحدوده التي صارت مورداً للبيان وعدم التنجز له بحده الذي لم يتعلق به البيان، وهو عبارة أخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف الضمنية.

نعم، استشكل بعض الأعاظم قدس سرة في الانحلال في المقام: بأن وجوب

ص: 414

الأقل المعلوم في البين ليس هو وجوبه على نحو الإطلاق واللابشرط، بل وجوبه المردد بين كونه بشرط شيء وكونه لا بشرط، وهو عبارة أخرى عن العلم الإجمالي المفروض في البين، وليس علماً آخر ملازماً له صالحاً لحله، فدعوى انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل بالنحو المذكور ترجع إلى دعوى حل العلم الإجمالي لنفسه، وهو غير معقول، بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ عن المعلوم بالإجمال وجوب الاحتياط فيه بالإتيان بالأكثر.

فلعل الأولى أن يقال: إن كان المراد بالعلم الإجمالي هو العلم بالأقل أو الأكثر، فليس هذا علماً إجمالياً، إذ لابد في العلم الإجمالي من أن ينحل إلى قضية منفصلة يتباين طرفاها، وحيث كان التكليف بالأقل داخلاً في التكليف بالأكثر لا مبايناً له لم تصدق القضية المنفصلة المذكورة، بل مرجع العلم المذكور إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد، كما نبه له سيدنا الأعظم قدس سرة، فلا علم إجمالي حتى يحتاج إلى الانحلال.

وإن كان المراد به أنه بعد العلم بوجوب الأقل تفصيلاً فهو مردد بين أن يكون بنحو اللابشرط وأن يكون بشرط شيء، لوضوح التباين بين المفادين، فليس هذا العلم الإجمالي منجزاً، لعدم كونه علما بالتكليف، لوضوح كون أحد طرفيه السعة، ولا يقتضي الإلزام على كل حال، نظير دوران الأمر بين وجوب شيء وإباحته، كما نبه له شيخنا الأستاذ قدس سرة.

الثاني: ما يظهر من الفصول

الثاني: ما قد يظهر من الفصول من أن المنجز وإن كان هو خصوص الأقل، إلا أن مقتضى لزوم الفراغ اليقيني عنه هو الإتيان بالأكثر، لعدم إحراز الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر، لأن سقوط التكليف منوط بتمامية المركب.

ص: 415

نعم، لو أحرز كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في الفراغ عنه.

لكن الأصل لا ينهض بشرح المعلوم بالإجمال، إلا أن يكون مثبتاً.

ويندفع: بأن اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان الشك فيه ناشئاً من عدم البيان مع العلم بحال المأتي به ومطابقته لما ورد البيان على التكليف به، وإنما يجب اليقين بالفراغ في ما إذا كان الشك فيه ناشئاً من الشك في حال المأتي به وفي مطابقته لما ورد البيان بالتكليف به، وهو مورد قاعدة الاشتغال.

الثالث: أنه بناء على البقية يكون المكلف به مورداً لغرض المولى

الثالث: أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به مورداً لغرض المولى، وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل تعين الاحتياط بالأكثر، لوجوب إحراز غرض المولى.

نعم، بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها لا في متعلقاتها - كما عن بعض العدلية - لا يجب الاحتياط، لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف، وتعلق غرض آخر له بنفس الفعل غير معلوم، ليجب إحرازه.

وكذا بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلاً.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة في الجواب عن ذلك من تعذر العلم بحصول غرض المولى حتى مع الإتيان بالأكثر، لاحتمال توقفه على معرفة الأجزاء تفصيلاً غير المتيسرة في المقام.

فهو - مع اختصاصه بالعبادات - مدفوع: بأن التأمل في مرتكزات العقلاء والمتشرعة قاض بعدم دخل ذلك، كما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع.

ص: 416

ولاسيما مع تعذره لانسداد باب العلم - كما في المقام - حيث اعترف قدس سرة غير مرة بإمكان الاحتياط وعدم اعتبار المعرفة التفصيلية حينئذٍ.

ومثله ما قد يقال من عدم وجوب إحراز الغرض إلا مع قيام الحجة عليه، ولا يكون التكليف في المقام حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.

لاندفاعه: بأن التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف حصوله على الأقل، لا على تعلق الغرض به بنحو يعلم بحصوله معه، بل لا يعلم بحصول الغرض المستكشف بالتكليف في المقام بعد فرض الارتباطية إلا بالإتيان بالأكثر، لأن الملاك أمر بسيط مترتب على مجموع أجزاء المركب، فلا يحرز حصول شيء منه إلا بتمامية المركب.

وأشكل من ذلك إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتاً وقصر موضوع وجوب الإطاعة عقلاً على خصوص تكليف المولى المتقوم بجعل السبيل من قبله.

فإنه مناف للمرتكزات العقلائية جداً، إذ لا فرق بنظرهم بين التكليف بالشيء وتعلق الغرض به بالنحو الذي يبلغ مرتبة التكليف، فيلزمون بتحصيل الغرض المذكور في مورد تعذر التكليف على طبقه لعجز المولى عن جعله، لموانع خارجية من خرس أو خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب أو نحوها - وإن استحال ذلك في حق الشارع الأقدس - بل يكتفون في الإلزام بالعمل بوجود مقتضي الغرض ولو مع غفلة المولى عنه للجهل بموضوعه، كما لو تعرض المولى للخطر الذي من شأنه الاهتمام بدفعه، وكان غافلاً عنه أو عن تمكن المكلف من دفعه، مع تمكن المكلف منه والتفاته، فلا يصح للمكلف حينئذٍٍ الاعتذار عن العمل بما يناسب الغرض المذكور بعدم صدور التكليف

ص: 417

من المولى على طبقه.

بل الظاهر أن وجوب إطاعة التكليف في طول وجوب موافقة الغرض بلحاظ كشفه عنه وملازمته له، ولا دخل للتكليف بنفسه في ذلك.

ولذا لو علم بغرض المولى، وبعدم وفاء تكليفه به لغفلته، كان حفظ غرضه منجزاً بنحو يحسن العقاب بتعمد تخلفه بالاقتصار على مورد التكليف.

وهذا لا ينافي ما تقدم غير مرة من تقوم التكليف بجعل السبيل، لا بالإرادة والكراهة، والمحبوبية والمبغوضية، لأن المراد بالغرض هنا ما يكون من شأنه جعل السبيل الذي هو منشأ انتزاع التكليف، لا ما يكون منشأ للإرادة والكراهة.

ودعوى: أن مقتضى ذلك الاستغناء عن مسألة الملازمة بين الأحكام العقلية والشرعية، إذ لو فرض وجوب تحصيل الملاكات على المكلف عقلاً، بنحو يقتضي العمل ويستحق معه العقاب من دون حاجة إلى الحكم الشرعي لم تكن للملازمة المذكورة أثر عملي يصحح الاهتمام بها.

مدفوعة: بأن وجوب تحصيل غرض المولى لا يرجع إلى وجوب تحصيل الملاكات الواقعية بمجرد إدراك العقل لها، بل بعد تعلق غرض المولى بها بحيث تكون مضافة له بالنحو المقتضي لجعل الحكم، فأثر الملازمة المذكورة هو استكشاف تعلق غرض المولى بها الذي هو الموضوع لوجوب الإطاعة، ولا طريق بدونها لإحراز كون الملاك مضافاً للمولى ومورداً لغرضه ليجب تحصيله.

العمدة في الجواب

فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور: أن تنجز الغرض إنما هو

ص: 418

بمقدار وصوله، فكما كان بيان خصوصيات التكليف من وظيفة المولى، وبدونه فالمكلف في سعة منها، ولا يعتنى باحتمال دخل شيء فيه وإن كان واحداً ارتباطياً، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى، وليس على المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه، فلو فرض فوت الغرض بسبب قصور بيان المولى فالمكلف آمن منه، كما يأمن من فوت التكليف لذلك.

نعم، لو لم يتصد المولى لتحصيل الغرض - لغفلته أو عجزه عن التكليف، وإن امتنع ذلك في حق الشارع - وعلم به المكلف لم يبعد البناء على وجوب إحرازه، بخلاف ما إذا تصدى لذلك وشك في وفاء بيانه بغرضه، كما هو محل الكلام في المقام.

كما أنه لو كان الأثر المترتب على الفعل مورداً للتكليف المولوي، لا غاية وغرضاً منه اتجه لزوم إحرازه وكان من الشك في المحصل.

لكنه خروج عن محل الكلام، إذ الكلام في ما لو كان المكلف به مردداً بين الأقل والأكثر بنفسه، لا بمحصله مع عدم الإجمال فيه.

هذا، ولا يخفى أن منشأ هذه الوجوه الثلاثة المفروضة للاحتياط هو ملاحظة الارتباطية المفروضة في المقام، والموجبة لوحدة التكليف والغرض، وإنا وإن أطلنا الكلام في دفعها تبعاً للأصحاب، إلا أنا في غنى عن ذلك، لأن ما سبق آنفاً في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف الضمني والاستقلالي إن تم ارتكازاً فهو واف بدفعها، لأن فرض كون المشكوك تكليفاً ضمنياً مستلزم لفرض العلم الإجمالي - بالصورة المتقدمة - ولفرض الشك في امتثال التكليف المتيقن، وفي حصول الغرض.

ص: 419

ومرجع تسليم البراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة بنحو يكشف عن خلل في تصويرها إجمالا أو تفصيلاً، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية لم يمكن عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازاً.

وإن لم يتم لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان من العقاب بدونه، كما لعله ظاهر.

ثم إنه قد يستثنى مما ذكرنا ما لو كان التردد ناشئاً من إجمال عنوان المكلف، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل، لدعوى: أن التكليف بالعنوان يقتضي تنجيزه في ذمة المكلف، فيجب إحرازه في مقام الامتثال، بخلاف ما إذا شك في مقدار المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه، فإن المتيقن منه خصوص الأقل، فهو المتنجز لا غير، كما تقدم.

لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول أن ذلك إنما يتم فيما إذا كان العنوان حاكياً عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه، مترتبة عليه - كعنوان الدواء الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلاً أو اقتضاء - أو قائمة به - كعنوان الأكبر والمطلوب - لرجوع التكليف بالعنوان حينئذٍ إلى التكليف بمنشأ انتزاعه، المفروض عدم الإجمال فيه والشك في حصوله، فيتنجز ويجب إحرازه، نظير حال الشك في المحصل.

أما إذا كان حاكياً عن المركب بنفسه - كعنوان السكنجبين الصادق على الخل والسكر بشرط الغليان أو مطلق الامتزاج - فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه، لأن التكليف بالعنوان إنما هو بلحاظ حكايته عن المعنون، والمفروض التردد فيه بين الأقل والأكثر، فلا يكون بياناً على الأكثر. فراجع ما تقدم هناك وتأمل.

ص: 420

هذا تمام الكلام في الأصل العقلي.

الثاني: في الأصل الشرعي الثانوي والكلام فيه من وجوه

وأما الثاني، وهو الأصل الشرعي الثانوي فقد اختلف فيه كما تقدم، والكلام فيه..

تارةً: بناء على المختار من جريان البراءة العقلية.

وأخرى: بناء على عدمه، وأن الأصل الأولي الاحتياط.

أما على الأول، فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالأكثر، لتحقق موضوع الأصل فيه، وهو الشك، ولا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل، للعلم بوجوبه على كل حال، المقتضي للإتيان به ولزوم امتثاله.

وربما يدعى جريان البراءة أيضاً بالإضافة إلى خصوص الزائد للشك في التكليف به ضمناً، فيرفع بالأصل.

وهو لا يخلو عن إشكال، لانصراف الأدلة إلى التكليف الاستقلالي، دون التكليف الضمني، لعدم كونه في الحقيقة تكليفاً مجعولاً، وانحلال التكليف الاستقلالي إليه ليس حقيقياً، بل هو من باب التحليل العقلي، فينصرف عنه إطلاق الرفع.

ولذا كان الظاهر قصور حديث الرفع عنه في بقية الفقرات، فمن استكره على ترك بعض أجزاء الواجب الارتباطي كان المرتكز في تطبيق الحديث في حقه هو تطبيقه في التكليف بتمام الواجب المقتضي لسقوطه ابتداء، لا سقوط خصوص أمر الجزء المكره عليه وسقوط غيره بتبعه بسبب الملازمة.

ومن ثَمَّ كان المرتكز مع الشك في أصل التكليف - كوجوب ركعتي الوتيرة - تطبيق الحديث على التكليف التام، لا التكاليف الضمنية التي ينحل

ص: 421

إليها.

نعم، لو كان في أدلة البراءة ما يختص بالأقل والأكثر لم يبعد انصرافه إلى خصوص الزيادة، لانصراف الشك إليها والغفلة عن فرضه بالإضافة إلى المركب الواجد لها، كما هو الحال في البراءة العقلية أيضاً لأنها ليست من سنخ العام العنواني، ليتوجه دعوى انصرافه، بل هي دليل لبي وارد في كل مصداق بنفسه.

ولا يهم مع ذلك عدم كون التكليف الضمني مجعولاً، لأن المراد بالرفع في أدلة البراءة محض السعة في مقام العمل من حيثية المشكوك، ولا مانع من جعلها شرعاً بالإضافة إلى الجزء وإن لم يكن التكليف به مجعولاً.

لكن لا مجال لذلك في الأدلة العامة لما عرفت من انصرافها عن الجزء.

التمسك باستصحاب عدم الأكثر

هذا، وقد يتمسك في المقام بالاستصحاب، لأن مقتضاه عدم وجوب الأكثر، لأنه حادث مسبوق بالعدم، كما تقدم نظيره في أدلة البراءة.

وهذا هو العمدة من وجوه الاستصحاب، دون مثل استصحاب عدم وجوب الزائد، أو عدم جزئيته.

للإشكال في الأول بما عرفت من عدم كون وجوب الجزء مجعولاً بنفسه، ليصح نفيه بالاستصحاب، بل هو هنا أظهر، إذ لا إشكال في اختصاص الاستصحاب بالمجعول الشرعي وموضوعه.

وفي الثاني بأن جزئية الجزء منتزعة من وجوب المركب المشتمل عليه، فلا مجال لجريان الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعها، وهو يرجع إلى الوجه الذي ذكرناه.

ص: 422

وهناك بعض الوجوه الأخرى للاستصحاب لا ينبغي إطالة الكلام فيها بعد وضوح إشكالها.

وأما على الثاني - وهو القول بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط - فقد عرفت أن منشأه إما العلم الإجمالي المدعى، أو قاعدة الاشتغال بالأقل المتيقن، للشك في الفراغ عنه بدون الزائد، أو لزوم إحراز غرض المولى.

امتناع البراءة الشرعية على جميع الوجوه

والظاهر امتناع جريان البراءة الشرعية على جميع الوجوه المذكورة.

أما على الأول، فلأن مبنى منجزية العلم الإجمالي المذكور أحد أمرين..

ما ذكره الخراساني قدس سرة

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة من أن العلم بوجوب الأقل لنفسه أو في ضمن الأكثر لا يصلح لحل العلم الإجمالي، لتوقف منجزيته على كل حال على تنجز الأكثر، فلا تكون مانعة من تنجزه.

ما ذكره النائيني قدس سرة

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن العلم بوجوب الأقل لما كان بنحو الإهمال مردداً بين لا بشرط وبشرط شيء فهو عين العلم الإجمالي، وليس علما آخر صالحاً لحله.

ولا يخفى أن أدلة البراءة من الأكثر لما لم تنهض بتعيين حال وجوب الأقل المعلوم، وأنه لنفسه وبنحو اللابشرط، لا في ضمن الأكثر وبشرط شيء، فهي لا تنفع في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.

من دون فرق بين القول بوجوب موافقة العلم الإجمالي القطعية لذاته والقول بوجوبها لتعارض الأصول.

لأن أصالة البراءة من وجوب الأقل إنما لا تجري ولا تعارض أصالة

ص: 423

البراءة من وجوب الأكثر إذا كان وجوب الأقل المردد بين الوجهين صالحاً للعمل بنفسه، ليكون العلم به صالحاً لتنجيزه على كل حال ورافعاً لموضوع الأصل فيه.

أما بناء على أن الصالح للعمل والتنجيز هو العلم بوجوبه لنفسه بنحو اللّابشرط، فحيث لم يكن ذلك معلوماً كان الأقل مشمولاً لأدلة الأصول، فيكون الأصل فيه معارضاً للأصل الجاري في الأكثر.

ما ذكره النائيني قدس سرة من رفع القيدية

لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سرة أن أدلة البراءة - كحديث الرفع - تقتضي رفع القيدية برفع منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر الواجد للقيد، فتصلح لرفع الإجمال عن الأقل ويثبت بها إطلاقه، إذ ليس الإطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد وعدم أخذه.

وهو لا يخلو عن غموض، إذ بعد الاعتراف بأن القيدية لا ترتفع بنفسها، بل بمنشأ انتزاعها - وهو التكليف بالأكثر - كيف يمكن إثبات الإطلاق، مع وضوح أن الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد في الأقل في فرض الأمر به، وهو أمر مباين لعدم وجوب الأكثر.

بل لو فرض تطبيق دليل البراءة بالإضافة إلى خصوص التكليف الضمني بالزيادة - وغض النظر عما تقدم منا - لم ينفع في إثبات الإطلاق أيضاً، فإن الإطلاق غير متقوم بعدم وجوب الزيادة، بل بعدم أخذها في الواجب، الذي هو عبارة عن عدم التقييد بها، ولا مجال لتطبيق أدلة البراءة عليه بعد عدم كونه مجعولاً بنفسه، ولا مورداً للعمل، بل هو أمر انتزاعي لا مجال لتطبيق أدلة البراءة إلا على منشأ انتزاعه، كما اعترف به قدس سرة.

ونظيره ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة في الكفاية، فإنه بعد الاعتراف

ص: 424

بان الجزئية منتزعة من وجوب الأكثر ورفعها يكون برفعه، ذكر أن نسبة حديث الرفع الناظر إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء من تلك الأدلة، فيكون مفاد تلك الأدلة معه جزئية الجزء إلا مع الجهل، ولازم ذلك اختصاص الأمر بالأجزاء المعلومة، وهي الأقل.

إذ فيه: أن ذلك موقوف على تطبيق الحديث على نفس جزئية المشكوك، لا على منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر، إذ رفع وجوب الأكثر ظاهراً لا يقتضي الأمر بماعداه إلا بالملازمة، الموجبة لكون الأصل مثبتاً غير حجة.

نعم، لو كان رفعه واقعياً كان حجة في لوازمه، كسائر الأدلة الاجتهادية.

لكن لا يظن منه البناء على ذلك وإن أوهمته بعض كلماته في نظائر المقام.

على أنه بعد فرض كون الوجوب الصالح للتنجيز والعمل هو خصوص الوجوب النفسي الاستقلالي فتطبيق دليل البراءة على الأكثر معارض بمثله في الأقل.

وبالجملة: لا مجال للجمع بين كون الجزئية أمراً انتزاعياً لا يرتفع بنفسه، بل بمنشأ انتزاعه، وكون رفعها محرزاً لوجوب الأقل.

نعم، يظهر منه قدس سرة في حاشية الرسائل أن الجزئية مجعولة حقيقة تبعاً لمنشأ انتزاعها، وينالها الرفع كذلك تبعاً له، وليس الجعل والرفع مختصاً بمنشأ الانتزاع.

وعليه يكون رفع الأكثر المشكوك مستلزماً لرفع الجزئية المشكوكة، دون الجزئية المعلومة لامتناع شمول الحكم الظاهري للمعلوم، ومقتضى

ص: 425

الجمع بين وجوب الأقل المعلوم على كل حال ورفع جزئية المشكوك التعبد بكون الأقل تمام الواجب وكونه بنحو اللّابشرط مورداً للتكليف.

لكن هذا رجوع عن كون الجزئية أمراً منتزعاً من التكليف بالمركب إلى كونها أمراً حقيقياً مسبباً عنه مجعولاً مثله بتبعه.

ولا مجال للبناء عليه، كما حقق في محله.

ولعله لذا عدل في هامش الكفاية عن جريان البراءة الشرعية، حيث قال: «لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي الأمر الواقعي، وهو واضح البطلان».

ومما ذكرنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في المقام، لأن استصحاب عدم وجوب الأكثر أو الزيادة لو تم لا يحرز إطلاق الأمر بالأقل، وكون التكليف به استقلالياً، واستصحاب عدم قيدية الزائد أو جزئيته لا يجري في نفسه بعد عدم كونهما مجعولتين، بل منتزعتان من وجوب الأكثر.

وأما على الثاني، فعن الفصول توجيه عدم جريان البراءة الشرعية بأن أصالة الاشتغال في الأكثر رافعة لموضوع الأصل، لعدم صدق حجب العلم معها، نظير الأدلة الظنية، كخبر الواحد والبينة.

لكن يشكل: بأن موضوع أدلة البراءة الشرعية هو الشك في التكليف الشرعي، وأصالة الاشتغال ليست كالأدلة الظنية بياناً على التكليف الشرعي، بل هي عبارة عن حكم عقلي طريقي وارد في مورد الجهل، فهي لا ترفع موضوع أصل البراءة.

فالعمدة في ذلك: أن دليل البراءة أو الاستصحاب إنما يقتضي عدم

ص: 426

التكليف شرعاً بالأكثر من حيثية كونه محتمل التكليف، وهو لا ينافي لزوم الإتيان به عقلاً لإحراز الفراغ عن الأقل المتيقن التكليف.

ومنه يظهر الحال على الثالث، لوضوح أن عدم التكليف بالأكثر شرعاً بأدلة البراءة أو الاستصحاب من حيثية كونه مشكوكاً لا يفي بتعيين الغرض، ولا يحرز حصوله بفعل الأقل، كما لا ينافي لزوم الإتيان به عقلاً لذلك.

نعم، لو كان مفاد أدلة البراءة أو الاستصحاب رفع القيدية أو الجزئية كانت رافعة لموضوع قاعدة الاشتغال على الثاني ومحرزة لحصول الغرض على الثالث، لصلوحها لشرح التكليف المجمل وإحراز الفراغ عنه وحصول غرضه بالاقتصار على الأقل.

ولذا حكي عن الفصول سلوك ذلك في تقريب جريان البراءة.

لكن ذكرنا عدم تماميته لعدم جعل الجزئية والقيدية.

المتحصل مما تقدم

والمتحصل: أنه لما كان مبنى القول بوجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة العقلية عدم كفاية العلم بوجوب الأقل على كل حال في تنجيزه والاكتفاء به في مقام الفراغ، ولم تكن الأصول الشرعية من براءة واستصحاب وافية بشرح حال التكليف المعلوم، ولا محرزة لوجوب الأقل لا بشرط بنحو يكون تمام الواجب، ليكون الاقتصار عليه محرزاً للفراغ والغرض، لم تنهض برفع اليد عن مقتضى الأصل العقلي المذكور، ولا تصلح لرفع موضوعه، كما هو الحال في المتباينين.

هذا، وقد يدعى أن مقتضى الاستصحاب الإتيان بالأكثر، لاستصحاب بقاء التكليف بعد الإتيان بالأقل، فيلزم العقل بالإتيان بالأكثر تحصيلاً للفراغ اليقيني، لا لإحراز وجوبه بالاستصحاب، ليدعى أنه مثبت.

ص: 427

والاستصحاب المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية، لا من جهة كونه بياناً رافعاً لموضوعها، بل لكونه حكماً ثابتاً لجهة اقتضائية مقدماً عملاً على الحكم الأولى الثابت من جهة غير اقتضائية، إذ البراءة إنما تقتضي عدم لزوم الإتيان بالأكثر من حيثية الشك في تعلق التكليف به، والاستصحاب يقتضي لزوم الإتيان به من حيثية كونه محرزاً للفراغ عن التكليف المستصحب.

وقد جعل بعض مشايخنا الاستصحاب المذكور من القسم الثاني من استصحاب الكلي، لتردد التكليف المستصحب بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع.

وأورد عليه.. تارةً: بأن الرجوع لاستصحاب الكلي في القسم الثاني موقوف على عدم إحراز حال الفرد ولو بضم الأصل إلى الوجدان، وإلا كان الأصل المحرز لحال الفرد حاكماً على استصحاب الكلي، كما لو علم المكلف بالحدث الأصغر واحتمل حدوث الجنابة، فإن استصحاب عدم الجنابة حاكم على استصحاب كلي الحدث، وفي المقام حيث كان الأقل متيقناً والأكثر مشكوكاً فاستصحاب عدم وجوب الأكثر حاكم على استصحاب الكلي بالإضافة إلى التكليف.

وأخرى: بمعارضته باستصحاب عدم تعلق جعل التكليف بالأكثر لو لم نقل بكونه محكوماً له.

لكن يندفع الأول: بأنه لو تم ما ذكره من الشرط في استصحاب الكلي وفي مثال الحدث فالمقام ليس نظيراً لذلك، لمنع ما ذكره من أن الأقل متيقن سابقاً والأكثر مشكوك، بل المتيقن هو التكليف بالأقل في الجملة ولو في

ص: 428

ضمن الأكثر، وهو لا يقتضي سقوطه بفعل الأقل، كما في الحدث الأصغر الذي يعلم بارتفاعه بالوضوء، بل ذلك من لوازم التكليف بالأقل استقلالاً بنحو اللابشرط، ومن المعلوم عدم إحرازه، غاية الأمر أن اليقين المذكور لا يصلح إلا لتنجيز الأقل.

نعم، لو علم سابقاً بالتكليف بالأقل استقلالاً، ثم احتمل تبدله بالتكليف بالأكثر، كان نظيراً لمثال الحدث.

وأما استصحاب عدم كون التكليف المتيقن تكليفاً بالأكثر، فهو - لو جرى في نفسه - معارض بمثله.

ويندفع الثاني: بعدم التعارض بين الأصلين المذكورين، لعدم التناقض بين مؤدييهما، فإن عدم التكليف بالأكثر شرعاً بعنوانه الخاص لا يناقض بقاء التكليف الكلي، وإنما يلازم عدمه، والتفكيك بين المتلازمات بسبب الاستصحاب غير عزيز.

كما لا تنافي بين الأصلين عملاً، لأن استصحاب عدم التكليف بالأكثر إنما يقتضي عدم الإتيان به امتثالاً للتكليف به شرعاً، وهو لا ينافي الإتيان به لإحراز الفراغ عن التكليف الكلي المستصحب.

كون الاستصحاب المذكور من استصحاب الفرد المردد

فالعمدة في المقام: أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الكلي، لعدم الأثر العملي لكلي التكليف، بل العمل مترتب على كل تكليف بشخصه، حيث يلزم موافقته عقلاً، والموافقة الإجمالية عند العلم الإجمالي إنما هي لكون العمل قائماً بالفرد المردد بين الفردين، لا لقيامه بالكلي الجامع بينهما.

فالاستصحاب في المقام من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع

ص: 429

البقاء ومقطوع الارتفاع، وقد تقدم في التنبيه العاشر من تنبيهات الفصل السابق أنه لا مجال لجريانه.

بل يزيد هنا أنه إذا كان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي إلا تنجز الأقل - كما تقدم - فاستصحاب التكليف المذكور لا يزيد على ذلك وحيث يمتنع تنجيز الأقل بعد فرض الإتيان به للعلم التفصيلي بعدم وجوبه يمتنع الاستصحاب.

وحاصل محذور الاستصحاب هنا: أنه بنفسه ينافي العلم التفصيلي، بخلافه هناك، فإنه لا ينافيه بنفسه، بل بإطلاقه.

نعم، لو فرض ترتب الأثر على كلي التكليف، كما لو نذر المكلف أن يتصدق بدرهم إن بقيت ذمته مشغولة ساعة مثلاً، جرى الاستصحاب المذكور، وكان من القسم الثاني من استصحاب الكلي، لو كان مراده الانشغال الواقعي. وإن كان مراده الانشغال العقلي المتفرع على التنجز فلا مجال للاستصحاب، لورود أصالة البراءة الشرعية، بل العقلية عليه، لارتفاع الشك معها حقيقةً.

المسألة الثانية: في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين

المسألة الثانية: في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

لا يخفى أن مرادهم بالتخيير العقلي هو التخيير في مقام الامتثال عقلاً بين أفراد الماهية التي تكون مورداً للتكليف التعييني الشرعي، فكلما كان المكلف به مردداً بين الماهية المطلقة - التي هي مورد التخيير العقلي - والمقيدة بالخصوصية - الملزم بتعينها في مقام الامتثال - كان من الدوران بين التعيين والتخيير العقليين، سواء كانت الخصوصية جزءاً خارجياً متحداً مع الواجب مأخوذاً فيه - كالاستعاذة في الصلاة - أم قيداً مبايناً للماهية مورداً

ص: 430

لفعل المكلف في مقابلها - كالطمأنينة والطهارة في الصلاة - أم عرضاً قائماً بالموضوع قابلاً للزوال عنه - كالإيمان في الرقبة - أم عرضاً ليس من شأنه الارتفاع عن الموضوع - كالرجولية والهاشمية في الإنسان - أم خصوصية مقومة للذات والماهية - كالإنسانية في الحيوان - أم خصوصية مقومة للفرد - كخصوصية زيد في الإنسان - لعدم الفرق بين هذه الصور في الجهة المذكورة.

لكن الموضوع في هذه المسألة ليس ذلك على إطلاقه، وإلا دخلت فيها المسألة الأولى، ولم تكن مقابلة لها، بل المراد خصوص قسم منه يمتاز عن موضوع تلك المسألة، وإنما أطلقنا العنوان المذكور عليه لضيق التعبير، لعدم عنوان يخصه.

والملاك في التمايز بين الموضوعين اشتمال أحدهما على خصوصية تقتضي أولويته بجريان الاحتياط.

وقد سبق منا عدم الفارق بين الأقسام الثلاثة الأولى، وأن تخيل تميز الأول عن الثاني والثالث في غير محله، كتخيل الفرق بين الثاني والثالث بعد اشتراكها في احتمال التقييد وأخذ خصوصية زائدة في المتيقن.

ومن ثَمَّ كان موضوع المسألة الأولى شاملاً للأقسام الثلاثة المذكورة، كما يقتضيه عموم عنوانه.

وأما موضوع هذه المسألة فالمتيقن منه القسمان الأخيران، وربما يعمم إلى القسم الرابع، على كلام يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

ويقع الكلام في موردين

إذا عرفت هذا فيقع الكلام..

تارة: في مقتضى الأصل العقلي.

ص: 431

وأخرى: في مقتضى الأصل الشرعي.

الكلام في مقتضى الأصل العقلي

أما الأصل العقلي فلا ريب في أن مقتضاه الاحتياط، بناء على أن ذلك مقتضاه في المسألة الأولى، لاشتراكهما في الجهة المقتضية لذلك، من فرض العلم الإجمالي، أو الشك في الفراغ، أو في حصول الغرض.

أما بناء على أن مقتضاه هناك البراءة فقد صرح غير واحد بجريانها هنا أيضاً، لعين الوجه المتقدم هناك من أن الخصوصية كلفة زائدة، والمرجع فيها البراءة عقلاً بملاك قبح العقاب بلا بيان، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف وخصوصياته.

وما تقدم هناك من دفع شبهة العلم الإجمالي والشك في الامتثال وفي حصول الغرض جار هنا.

مخالفة العراقي قدس سرة بالتزام الاحتياط

وقد خالف في ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سرة فالتزم بالاحتياط، مدعياً عدم تحقق ملاك الأقل والأكثر حتى بحسب التحليل العقلي، إذ الملاك في ذلك أن يكون الأقل بذاته - لا بحده - محفوظاً في الأكثر، نظير الكليات المشككة المحفوظ ضعيفها بذاته - لا بحد ضعفه - في ضمن شديدها.

ولا مجال لذلك في المقام، لأن الأقل - وهو الماهية المعراة عن قيد الخصوصية - كسائر الكليات المتواطئة تتحصص إلى حصص متعددة متباينة في ضمن أفرادها المتباينة بحيث تكون الحصة المتحققة منها في ضمن كل فرد مباينة للحصة المتحققة في ضمن الفرد الآخر، فالحيوانية المتحققة في ضمن الإنسان مباينة للحيوانية الموجودة في ضمن غيره من الأنواع، كما أن الإنسانية المتحققة في ضمن زيد مباينة للإنسانية المتحققة في ضمن غيره

ص: 432

من الأفراد.

وعليه لا تكون الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن الخصوصية، ليمكن دعوى وجوبها على كل حال، وينحل بها العلم الإجمالي، بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية المباينة للحصص الأخرى، فلا يمكن دعوى اندراج ما نحن فيه في الأقل والأكثر، بل ليس في المقام إلا العلم الإجمالي بتعلق التكليف إما بالحصة الخاصة أو الجامع المطلق بين الحصص المنطبق عليها وعلى غيرها، ومرجعه إلى العلم إما بوجوب الحصة الخاصة وحرمة تركها مطلقاً، أو وجوب غيرها في ظرف تركها.

وبعد عدم انطباق أحد التركين على الآخر، وعدم قدر متيقن في البين مشمول للتكليف النفسي الأعم من الضمني والاستقلالي، يرجع الأمر إلى المتباينين، ويجب الاحتياط بالإتيان بالخصوصية، للقطع بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين.

هذا ما ذكره فيما إذا كانت الخصوصية المحتملة منوعة أو مشخصة.

وقد ألحق بذلك ما إذا كانت عرضية ولم يكن كل فرد قابلاً للاتصاف بها، بحيث يمكن تعاقبها، وجوداً وعدماً على الفرد الواحد - وهي القسم الرابع من الأقسام الستة المتقدمة - كالهاشمية في الإنسان.

بدعوى: رجوع الشك فيها إلى الشك في كون المكلف به خصوص الحصة الواجدة للخصوصية، أو المطلق الجامع بينها وبين الفاقد لها، بخلاف ما إذا كانت الخصوصية العرضية مما يمكن اتصاف كل فرد بها، كالقيام والقعود، حيث يرجع الشك حينئذٍ إلى الشك في اعتبار الخصوصية

ص: 433

زائداً على الحصة، مع اليقين بالتكليف بأصل الحصة إما ضمناً أو استقلالاً.

هذا حاصل ما ذكره في المقام، وقد أطلنا في بيانه محافظة على الخصوصيات والنكات التي اعتمدها في استدلاله.

مناقشته من وجهين..

لكنه يشكل..

أولاً: بأنه لما كان الملاك في الأقل والأكثر أن يكون الأقل محفوظاً في الأكثر بذاته لا بحده، فلا مجال لتوجيه إخراج محل الكلام عنه بعدم كون واجد الخصوصية واجداً للماهية المطلقة، ضرورة أن الماهية المطلقة هي الأقل بحده، ولاريب في عدم اعتبار حفظها في الأكثر في جميع الأقسام المذكورة في المقام، بل ليس المحفوظ فيه إلا حصة منها وهي الماهية الخاصة، المحفوظة في المقام أيضاً في ضمن الأكثر الواجد للخصوصية.

وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي - الأعم من الاستقلالي والضمني - إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة والمقيدة، وهو موجود في المقام، ضرورة أن التكليف بالأكثر الواجد للخصوصية - في محل الكلام - راجع إلى وجوب الماهية الخاصة في ضمنه، والتكليف بالأقل راجع إلى التكليف بالماهية المطلقة، ومع التردد بينهما يعلم بالتكليف الضمني أو الاستقلالي بالماهية في الجملة الصالحة للانطباق عليهما.

وغاية ما يتصور من الفرق بين محل الكلام وما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع عن الفرد أمران..

الأول: مباينة الذات الواجدة للخصوصية للذات الفاقدة لها في محل الكلام، والاتحاد بينهما فيما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع.

ص: 434

الثاني: غلبة بساطة مفهوم الواجد للخصوصية في محل الكلام، بسبب كون العنوان الحاكي جامداً، وتركبه من الذات بمفهومها العام والخصوصية، في ما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع، لإفادتهما بعنوان اشتقاقي مركب من مفاد الهيئة والمادة، أو بطريق التقييد الذي هو نحو نسبة قائمة بين القيد والمقيد.

لكن الأول ممنوع، فإن الاتحاد مع قابلية الخصوصية للارتفاع إنما هو بين القابل للخصوصية والقابل لعدمها، ولا أثر له، لعدم دخل القابلية قطعاً، وإنما يحتمل أخذ فعلية الخصوصية، والتباين بين واجد الخصوصية وفاقدها فعلاً حين فعلية التكليف ظاهر، فلا يكون الإتيان بالفاقد محصلاً لشيء من المكلف به على تقدير أخذ الخصوصية فيه.

غايته أن منشأ التباين ليس هو الخصوصية، بل ما يقارنها مما يقوم الذات، بخلاف ما لو كانت الخصوصية نوعية أو شخصية، فإنها بنفسها تكون منشأ للتباين بين الحصتين، ولا أثر لذلك في حكم العقل، ولذا التزم قدس سرة بالاحتياط في الخصوصية العرضية غير القابلة للارتفاع، مع أنها ليست بنفسها منشأ للتباين بين الحصص.

وأما الثاني فلا أثر له، لأن إفادة الذات بعنوانها العام بعد فرض تقييدها راجع إلى كون الموضوع خصوص الحصة المصاحبة للقيد، كما هو الحال في ما لو أريدت الحصة بعنوان جامد يختص بها، وليس الفرق بينهما إلا في طريق البيان، ولا أثر له في حكم العقل الصرف، وإن كان قد يحتمل دخله في الأمور العرفية المبنية على الاستظهار من الإطلاق ونحوه، على ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في الأصل الشرعي إن شاء الله تعالى.

ص: 435

وثانياً: بأنه حيث كان المكلف به هو فعل المكلف المتعلق بواجد الخصوصية وفاقدها فهو في جميع فروض المسألة من القسم الرابع، لامتناع اتصاف كل فرد بالخصوصية، بل الفرد الواجد للخصوصية لا ينفك عنها، لاستحالة انقلاب الشيء عما يقع عليه، فالعتق المتعلق بالرقبة المؤمنة لا يتعلق بغيرها، كما أن الصلاة الواجدة للطهارة أو الاستعاذة يمتنع خلوها عنهما، كما يمتنع اتصاف غير الهاشمي بالهاشمية.

والفرق الذي ذكره إنما يتصور في المتعلق نفسه، كالإنسان المعتق، فإن الخصوصية المأخوذة فيه قد تقبل الارتفاع كالإيمان، وقد لا تقبله، كالذكورة، ولا أثر لذلك بعد عدم كونه بنفسه مكلفاً به، بل هو متعلق للمكلف به.

التحليل العقلي أخفى من التحليل في الشك في الشرطية

وبالجملة: ما ذكره قدس سرة لا ينهض بإخراج ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر، بل التحليل العقلي قاض بدخوله فيه.

نعم، التحليل المذكور أخفى من التحليل في الشك في الشرطية، لما عرفت من غلبة التركيب في المفهوم هناك والبساطة هنا، كما أن التركيب في الشك في الجزئية أظهر منه في الشك في الشرطية، لمقارنته للتركب الخارجي بين الأجزاء، وإن كان بعضها قيداً في الآخر بمقتضي الارتباطية المفروضة، كما في الشرط.

إلا أن هذا لا ينافي جريان البراءة العقلية في الجميع بعد فرض وجود القدر المتيقن بحسب التحليل العقلي، وبعد أن كان ملاك قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعم الخصوصيات المأخوذة في التكليف الواحد، بمقتضى الارتباطية المفروضة، كما تقدم في المسألة الأولى. هذا كله فيما يرتبط

ص: 436

بالأصل العقلي.

الكلام في الأصل الشرعي

وأما الأصل الشرعي فإنما يتوقف الاستدلال عليه إذا قيل بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط، كما هو مختار المحقق الخراساني وبعض الأعاظم قدس سرة في جميع صور الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، ومختار بعض الأعيان المحققين قدس سرة في خصوص هذه المسألة.

منع النائيني قدس سرة من جريان البراءة الشرعية

وقد منع بعض الأعاظم قدس سرة من جريان البراءة الشرعية هنا مع التزامه بجريانها في المسألة الأولى، وسبقه إلى ذلك المحقق الخراساني، وإن أشرنا إلى اضطراب كلامه هناك.. لإلحاق الشك هنا بالمتباينين، فقد ادعى بعض الأعاظم قدس سرة للتباين عرفاً بين العام والخاص في المقام، بنحو تكون نسبة أدلة البراءة الشرعية إلى كل منهما سواء، فتسقط بالمعارضة.

وما ذكره قدس سرة قريب جداً بناء على مسلكه في تلك المسألة من عدم كفاية العلم بالتكليف بالأقل في تنجيزه بنفسه، بل لابد من إثبات إطلاق الأمر به، وأنه يتم برفع التكليف بالأكثر بالأصل، لرجوعه إلى رفع قيدية الزائد وإطلاق الأمر بالأقل.

فإنّ إحراز إطلاق الأقل من نفي التكليف بالأكثر بالأصل بالوجه المتقدم موقوف على كون الخصوصية من سنخ القيد الزائد المعتبر في الأقل، ولا يجري في مثل المقام مما كانت الخصوصية متحدة مع الذات، بنحو تكون مباينة للماهية مفهوما، لا أمراً زائداً معتبراً فيه.

وبالجملة: لما كان مبنى البراءة الشرعية على الظهورات التي يكون المرجع في تطبيقها العرف أشكل نفي اعتبار الخصوصية في المقام بعد أن لم تكن من سنخ القيد الزائد عرفاً، بل مقوماً لأحد طرفي الترديد مع بساطة

ص: 437

مفهومه، ولا يكفي في ذلك التحليل العقلي المغفول عنه عرفاً، لعدم ابتناء الأدلة الشرعية عليه، بل على التطبيق العرفي، وإنما ينفع في الحكم العقلي المحض.

وعلى هذا لا يفرق بين القول بلزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بنحو يمتنع جريان الأصل في بعض الأطراف لو فرض اختصاص موضوعه به وعدم سقوطه بالمعارضة، والقول بإمكان جريان الأصل في بعض الأطراف، للاكتفاء بعدم لزوم المخالفة القطعية.

أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلمعارضة الأصل في الأكثر بالأصل في الأقل بعد فرض التباين بينهما وعدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل على كل حال، لفرض عدم جريان البراءة العقلية.

ما يظهر من العراقي قدس سرة من جريان البراءة الشرعية

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة من جريان البراءة الشرعية على القول الثاني في الأكثر، لعدم لزوم المخالفة القطعية بتركه في ظرف الإتيان بالأقل بفرد آخر.

فهو مبني على إغفال تحقق موضوع الأصل في الأقل ومعارضته للأصل في الأكثر المستلزم للمخالفة القطعية.

هذا، كله بناء على أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط، وأما بناء على أن مقتضاه البراءة من الأكثر، ولزوم الإتيان بالأقل، بعد فرض العلم بالتكليف به على كل حال إما ضمناً أو استقلالاً، فلا مانع من جريان البراءة الشرعية من الأكثر، وإن لم يحرز بها إطلاق الأمر بالأقل، لعدم معارضته بمثله في طرف الأقل بعد فرض العلم بالتكليف به في الجملة، كما تقدم نظيره في المسألة الأولى.

ص: 438

تنبيهات..

تنبيهات: التنبيه الأول في الشبهة التحريمية

التنبيه الأول: في الشبهة التحريمية.

تقدم أن الشبهة التحريمية يمكن فيها فرض التردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وأنه مختص بما إذا كان عموم النهي لافراد الماهية مجموعياً، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك جميع الأفراد، أو معصية واحدة بفعل بعضها، فإنه إذا احتمل أخذ شيء في الحرام كان مما نحن فيه، وكان الضيق بالبناء على الأقل وهو الإطلاق، والسعة بالبناء على الأكثر وهو ذو الخصوصية، عكس الشبهة الوجوبية.

وحيث لم يكن الضيق ناشئاً من أخذ الخصوصية في المنهي عنه، فلا مجال فيه لفرض الأقسام السابقة، التي عرفت اختلاف الحال فيها وضوحاً وخفاء لاختلاف سنخ الخصوصية المحتملة.

بل حيث كان ناشئاً من أخذ الأفراد الفاقدة للخصوصية منضمة للأفراد الواجدة لها في المنهي عنه، فلابد أن يكون انبساط التكليف عليها من سنخ انبساطه على الأجزاء المتباينة في أنفسها، ويتعين رجوع الشك في المقام إلى الشك في الجزئية، الذي تقدم أن جريان البراءة فيه متيقن بالإضافة إلى بقية الأقسام.

التنبيه الثاني: في الشبهة الموضوعية

التنبيه الثاني: في الشبهة الموضوعية.

تقدم في أول الكلام في الأصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن الغرض المهم في المقام، وإن حسن التعرض لها استطراداً لو اختصت

ص: 439

ببعض الجهات في تنبيه مستقل.

ومن ثم عقدنا هذا التنبيه.

وجوه الكلام في الشبهة الموضوعية

وحيث كان المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الأمور الخارجية والمصاديق مع تحديد الكبرى الشرعية وعدم الإجمال فيها، لوضوح عنوان المكلف به، فالشك في المقام في دخل شيء في المكلف به..

تارة: لعدم تحقق عنوان المكلف به

تارة: يكون لعدم إحراز تحقق عنوان المكلف به بدونه، بأن يكون للمكلف به عنوان منتزع من جهة زائدة على ذاته احتمل، توقفها على الأمر المحتمل، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء، وشك في كميته، أو وجب تهيئة سكين يصلح للذبح، وشك في توقف صلوح السكين له على صقلها.

وأخرى: لعدم إحراز انطباق عنوان التكيلف

وأخرى: يكون لعدم إحراز انطباق عنوان التكليف عليه، بأن يؤخذ العنوان فيه بماله من الأفراد على نحو العموم المجموعي، ويشك في مقدار تلك الأفراد، كما لو وجب إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.

أما لو كان بنحو العموم الاستغراقي كان مرجع الشك المذكور إلى الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، الذي لا إشكال في جريان البراءة فيه.

كما أنه لو كان بنحو العموم البدلي كان مرجع الشك المذكور إلى الشك في تحقق المكلف به من دون إجمال فيه، الذي لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.

ومثله ما لو علم مقدار المكلف به وشك في مقدار المأتي به، كما لو وجب إكرام عشرة، وشك في بلوغ الجماعة الذين أكرمهم العدد المذكور.

ص: 440

فمحل الكلام مختص بالصورتين الأوليين.

أما الصورة الأولى، فقد تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة أن المرجع فيها الاشتغال، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض عدم إجماله، فيجب إحراز الفراغ عنه، فهو ملحق بالشك في المحصل حكماً، وإن اختلفا موضوعاً، بلزوم كون مورد التكليف في الشك في المحصل هو المسبب المترتب على فعل المكلف، كالتذكية، وفي ما نحن فيه هو نفس فعل المكلف المردد بين الأقل والأكثر.

وأما الصورة الثانية، فالظاهر جريان البراءة فيها، لأن تحقق العنوان وسعة انطباقه مأخوذ في موضوع التكليف، لا في المكلف به، ولذا لا يجب السعي لتحقيق العنوان لو كان ممكناً، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا بضميمة انطباق العنوان، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لإجمال التكليف الفعلي وتردده بين الأقل والأكثر، كسائر موارد الدوران بينهما، التي عرفت أنه لا مجال فيها لتنجز التكليف بحده الواقعي، بل لا يتنجز منه الا المتيقن، وإن كان ارتباطياً.

فلا فرق بين هذه الصورة وما لو كان العموم استغراقياً إلا الارتباطية التي عرفت أنها لا تكون فارقاً في جريان البراءة.

بخلاف الصورة الأولى، لأن التكليف فيها بنفسه يقتضي تحصيل العنوان، فهو صالح لتنجيزه بحده الواقعي بعد فرض عدم الإجمال فيه وصلوحه للبيان، نظير: ما لو علم بمقدار المكلف به، وشك في مقدار المأتي به، الذي تقدم أنه لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.

ولا يفرق في ما ذكرنا بين الشبهة الوجوبية والتحريمية، فلو فرض

ص: 441

ورود النهي عن الطبيعة بنحو يقتضي ترك مجموع الأفراد، ولو ارتكب بعضها فلا إطاعة له أصلاً جرت البراءة في فردية شيء لها، للشك في فعلية التكليف وسعته بالإضافة إليه، خلافاً للمحقق الخراساني قدس سرة حيث ذكر في بعض تنبيهات البراءة أن اللازم في ذلك الاحتياط.

ما مثل به الشيخ الأعظم قدس سرة للشبهة الموضوعية

هذا، وقد مثل شيخنا الأعظم قدس سرة للشبهة الموضوعية في المقام بمثالين:

الأول: ما لو وجب الطهور وهو الفعل الرافع أو المبيح للصلاة، وشك في جزئية شيء للوضوء أو الغسل.

الثاني: ما لو وجب صوم شهر هلالي - وهو ما بين الهلالين - فشك في أنه ثلاثون أو ناقص.

رجوع مثاله إلى الشك في المحصل

ويظهر من غير واحد أن الأول راجع إلى الشك في المحصل.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من اختصاص الشك في المحصل بما إذا كان المكلف به هو المسبب الذي هو فعل المكلف بالتسبيب، لا السبب الذي هو فعله بالمباشرة، كما هو الحال في المثال المذكور.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة في الشك في المحصل - بعد فرض كون المثال منه - من أنه بالنسبة إلى السبب تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.

فقد يدفع: بأن منشأ إلحاق المثال بالشبهة الموضوعية هو كون الاشتباه في المصداق، وإن كان تشخيص المصداق وإحرازه بالرجوع إلى الشارع.

على أن كلامه يعم ما تقدم منا التمثيل به، وهو الشك في المقدار الذي يغلي الماء من الحطب - وإن لم يمثل به شيخنا الأعظم قدس سرة - مع وضوح عدم

ص: 442

الرجوع في تشخيصه له للشارع أصلاً.

ما ذكره النائيني قدس سرة من رجوع المثال الثاني إلى الشك في المحصل أيضاً

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سرة من كون المثال الثاني - أيضاً - من الشك في المحصل، حيث ذكر أن شيخنا الأعظم قدس سرة أرجع الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر إلى الشك في المحصل، كما يظهر من تمثيله بالطهور، وأن المناسب للمقام فصلهما والكلام في كل منهما على حدة، وكأنه غفل عن ذلك، أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.

لوضوح كون المثال المذكور أجنبياً عن الشك في المحصل جداً.

نعم، يشكل المثال المذكور: بأنه - بعد حمله على كون الوجوب ارتباطياً لا انحلالياً - إن أريد بوجوب صوم ما بين الهلالين وجوب صوم شهر كلي يتخير المكلف في تطبيقه على ما يشاء من الشهور، فلزوم الاحتياط فيه وإن كان متيناً، لانشغال الذمة بالعنوان المذكور بما له من المفهوم الظاهر، فيجب إحراز الفراغ عنه بتحقيق ما يقطع بانطباقه عليه.

إلا أن هذا ليس من الدوران في المكلف به بين الأقل والأكثر، لفرض صلوح المكلف به للانطباق على كل منهما، فهو نظير: ما لو وجب إشباع الفقير واختلف الفقراء في مقدار ما يشبعهم، وجهل حال فقير خاص.

وإن أريد به وجوب شهر معين مردد بين المقدارين، كشهر رمضان المعين، فهو وإن كان مردداً بين الأقل والأكثر بنفسه، إلا أن الظاهر جريان البراءة فيه، لرجوعه إلى وجوب صوم كل يوم واقع بين الهلالين، بنحو يكون وقوع اليوم بين الهلالين شرطاً في وجوب صومه، فيرجع إلى الشك في عنوان التكليف، نظير ما تقدم في الصورة الثانية.

ص: 443

إن قلت: ما الفرق بين الوجهين بعد فرض أخذ حد واحد فيهما؟

قلت: لما كان الحد مبينا بمفهومه مجملاً بمصداقه، فإن ورد التكليف على الكلي القائم بالمفهوم كان صالحاً لتنجيز المفهوم، فيجب إحراز الفراغ عنه بالفرد المتيقن انطباقه عليه.

وإن ورد على الشخصي المعين لم يتنجز المفهوم لعدم ورود التكليف عليه، ولا المصداق بحده الواقعي، لفرض الإجمال فيه وعدم صلوح المفهوم لبيانه، بل يتعين تنجيز خصوص المتيقن دخوله في الحد من المصداق.

وبعبارة أخرى: انطباق العنوان في الأول شرط في صلوح الفرد للامتثال مع فعلية التكليف، واللازم مع الشك في الامتثال الاحتياط، وفي الثاني شرط لفعلية التكليف الضمني والمرجع مع الشك فيه البراءة.

ومن هنا يتعين الفرق بين مثل وجوب إكرام علماء بلد بنحو يختار المكلف أي بلد شاء في مقام الامتثال، ووجوب إكرام علماء بلد خاص، فيجب الاحتياط بإحراز الاستيعاب في الأول، دون الثاني، بل يقتصر فيه على المتيقن الفردية.

ما جعله النائيني قدس سرة من أمثلة الشبهة الموضوعية تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره

ثم إنه قد جعل بعض الأعاظم قدس سرة من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره.

بدعوى: أنه بناء على ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة، فالمانعية تختلف سعة وضيقاً على حسب ما لغير المأكول من الأفراد، ويكون كل فرد منه مانعاً برأسه، لأن الأصل في باب النواهي النفسية

ص: 444

والغيرية هي الانحلالية، فالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الأفراد خارجاً، ويكون عدم كل فرد قيداً للصلاة، فإذا شك في فردية اللباس الخاص له فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيداً للصلاة، فيؤول الأمر إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية، الذي تقدم منه جريان البراءة الشرعية فيه دون العقلية.

ووافقه على ذلك في الجملة سيدنا الأعظم قدس سرة في مبحث اللباس المشكوك.

مناقشته

وفيه: أن مانعية غير المأكول ليست مجعولة شرعاً، بل هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدم استصحابه، فلابد من إحراز الصلاة المذكورة، ولو بالأصل، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازها.

وليس الشك في سعة التكليف، لعدم الإجمال في حدوده.

وما ذكر من الشك في سعة المانعية لا يرجع إلى معنى محصل.

إذ لو أريد بذلك نفس المانعية، فهي غير مجعولة، لتكون مورداً للأصل.

وإن أريد بها النهي عن الصلاة في غير المأكول، بدعوى كونه انحلالياً مشكوك الشمول للفرد المشكوك، فالنهي المذكور ليس مولوياً، لا نفسياً ولا غيرياً، بل هو للإرشاد إلى تقييد الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير المأكول.

وأما النهي الغيري فهو النهي عن استصحاب ما لا يؤكل لحمه تجنباً لمقارنة الصلاة له، نظير الأمر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها، وعدم العلم بالنهي المذكور بالإضافة إلى الفرد المشكوك، لعدم إحراز

ص: 445

موضوعه، لا يكون مورداً لأدلة البراءة، لعدم كونه بنفسه مورداً للعمل والتنجيز والتعذير، بل ليس موضوعها إلا التكليف النفسي، وهو الأمر بالصلاة المقيدة، والمفروض تنجزه ولزوم إحراز الفراغ عنه، ولذا لا تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط - كالطهارة - الرافع لموضوع الأمر الغيري به، وإن استلزم الشك في فعلية الأمر الغيري المذكور.

وإن أريد بها تقييد الصلاة بعدم استصحاب غير المأكول الذي منه تنتزع المانعية، فلا إجمال في التقييد المذكور بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.

دعوى: انحلالية التقييد

ودعوى: أن التقييد المذكور انحلالي ويشك في شموله للمشكوك.

مدفوعة: بأن الشك المذكور لا يكفي في جريان الأصل، لأن القيد بنفسه ليس مورداً للتكليف الحقيقي الضمني أو الاستقلالي، لفرض خروجه عن المكلف به، وإنما يجب تبعاً لوجوب المقيد، وهو الحصة الخاصة المقارنة له.

فإجمال القيد وتردده بين الأقل والأكثر إن رجع إلى إجمال الخصوصية المعتبرة في المكلف به، فحيث لا منجز للخصوصية المشكوكة لم يتنجز المشكوك من القيد بتبعها، كما لو فرض إجمال الاستقبال المعتبر في الصلاة وتردده بين استقبال الجهة العرفية واستقبال الكعبة الشريفة.

أما إذا لم يوجب إجمال الخصوصية، فحيث تكون الخصوصية في الواجب منجزة في نفسها، لفرض بيان التكليف بها، فلا نجد من إحراز الفراغ عنها ولو بالمحافظة على مشكوك القيدية، كما في المقام، لوضوح أن الصلاة غير مقيدة بالافراد بخصوصياتها المفهومية، ليكون إجمال الفرد

ص: 446

مستلزماً لإجمالها، بل هي مقيدة بالافراد بلحاظ الجهة العنوانية المشتركة بينها، على ما هي عليه من الشيوع وعدم الحصر، وحيث كانت الجهة العنوانية المذكورة مبينة في نفسها كانت صالحة لبيان الحصة المطلوبة من الصلاة وتنجيزها، فيحب إحراز الفراغ عنها بتحصيل ما يشك في فرديته للقيد من جهة الشبهة الموضوعية، نظير ما تقدم في النهي الغيري.

وهذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة الموضوعية في نفس المكلف به، كما لو شك في كون المايع خمراً، فإن الشك المذكور مساوق للشك في كون شربه شرباً للخمر المحرم، فيشك في سعة التكليف الضمني أو الاستقلالي به، أو شك في وجود الساتر على بدن الأجنبية، فيشك في كون النظر إليها من النظر المحرم، وبيان عنوان التكليف الكلي في مثل ذلك لا يرفع الإجمال في مصداقه الذي هو التكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل، فيجري فيه أصل البراءة.

ولا يفرق في ما ذكرنا بين رجوع التقييد بعدم استصحاب ما لا يؤكل لحمه إلى التقييد بالعدم المطلق المقابل لصرف الوجود، بنحو لو اضطر إلى نقض العدم في بعض الأفراد لم يجب حفظه في غيرها، ورجوعه إلى التقييد بالعدم الساري، بنحو يجب المحافظة على كل مرتبة منه عند تعذر غيرها.

لعدم رجوع الثاني إلى التقييد بالخصوصيات الفردية بمفاهيمها المتباينة، ليلزم إجمال المكلف به تبعاً لإجمال الأفراد، بل ليس التقييد إلا بالعنوان الجامع الذي لا إجمال فيه، غايته أن القيد هو تمام المراتب المقدورة، والتقييد بكل مرتبة منوط بتعذر ما فوقها على نحو الترتيب بين التقييدين، فمع الشك في فردية بعض الخصوصيات المقدورة لا يحرز

ص: 447

امتثال المأمور به - وهو الحصة المقارنة للمرتبة المقدورة - إلا بالمحافظة عليها.

هذا، حاصل ما تيسر لنا في توجيه عدم الرجوع للبراءة في المقام ونحوه، خلافاً لما ذكره العلمان I ، ولا مجال لتعقيب كلماتهما، لظهور حالها بما ذكرناه. فتأمل جيداً.

ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

التنبيه الثالث: في الشك في القاطعية

التنبيه الثالث: في الشك في القاطعية.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة من الفرق بين القاطع والمانع

ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة في الفرق بين المانع والقاطع أن المانع هو الذي يكون عدمه معتبراً في المركب، فيكون وجوده بنفسه مخلاً به، كالإخلال بسائر ما يعتبر فيه من الأجزاء والشروط، والقاطع هو الذي لا يكون مخلاً بنفسه، بل بلحاظ قطعه للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الأجزاء، بحيث يسقط به الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للأجزاء اللاحقة بعد سبق قابليتها لذلك.

مناقشته

هذا، ولا يخفى أن مجرد سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للأجزاء اللاحقة بسبب حدوث بعض الأمور لا يكشف عن اعتبار الهيئة المذكورة زائداً على الأجزاء والشروط، بحيث يكون الأمر الحادث قاطعاً لا مانعاً، بل يجري ذلك في حدوث المانع وغيره من موارد الإخلال بما يعتبر في المركب من الأجزاء والشروط، فإنه مقتضى الارتباطية المفروضة، حيث يكون كل جزء بنفسه صالحاً للانضمام لغيره ليحصل منها المركب ويتحقق الامتثال به، إلا أنه يعتبر في فعلية ذلك حصول تمام ما يعتبر في

ص: 448

المركب من الأمور الوجودية والعدمية.

نعم، للشارع أن يعتبر الهيئة الاتصالية بين الأجزاء بجعل زائد عليها، بحيث يكون المكلف متلبساً شرعاً بالعمل وإن لم ينشغل بشيء من أجزائه، لتخلل سكون أو نحوه، نظير اعتبار الاعتكاف مع خروج المعتكف عن المسجد لقضاء حاجة معتادة، ونظير اعتبار الإئتمام في الصلاة مع السكون وعدم الانشغال بشيء من أجزائها.

وحينئذٍ يمكن للشارع جعل شيء قاطعاً للهيئة المذكورة، فيخرج به المكلف عن كونه منشغلاً بالمركب بنظر الشارع، وإن لم يكن للقاطع بنفسه دخل في نفس المركب، فالقاطع بهذا المعنى مباين للمانع.

وحيث لا مصحح للاعتبار الشرعي لأمر إلا فرض الآثار العملية الشرعية له في الجملة فلابد من كون الهيئة المذكورة موضوعاً لبعض الأحكام، بحيث لو فرض انقطاعها لم يترتب الحكم المذكور، نظير حرمة شم الطيب على المعتكف حال خروجه عن المسجد لقضاء حاجة معتادة.

ولا يلزم من عروض القاطع بهذا المعنى سقوط ما وقع من الأجزاء عن قابلية الانضمام لبقيتها، بل يمكن بقاؤها على قابلية الانضمام، بأن يكتفي الشارع برجوع المكلف للانشغال بالمركب وإتمامه بعد الخروج عنه وانقطاعه، بل هو مقتضى الأصل، الذي لابد في الخروج عنه من دليل يدل على أخذ الهيئة الاتصالية المذكورة وعدم انقطاعها قيداً في المركب، ليكون القاطع مخلاً بالمركب تبعاً لإخلاله بها.

المتحصل من معنى القاطع

وقد تحصل: أن القاطع بمعنى ما يسقط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاحقة ليس مقابلاً للمانع، بل أعم منه، ولا يتوقف على فرض

ص: 449

الهيئة الاتصالية، بل هو من لوازم الارتباطية المفروضة، وبمعنى ما يقطع الهيئة الاتصالية موقوف على اعتبار الهيئة المذكورة شرعاً، ولا يستلزم سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاحقة، إلا أن يكون المركب المكلف به مقيداً بوحدة الهيئة المذكورة، وفي مثل ذلك يكون القاطع مخلاً بالعمل كالمانع، وإن كان مبايناً له.

ما ذكره النائيني قدس سرة من الفرق بينهما

ثم إن بعض الأعاظم قدس سرة فرق بين المانع والقاطع: بأن المانع ما يكون حصوله حين الانشغال بالأجزاء مخلاً بالمركب، والقاطع هو الذي يخل مطلقاً وإن وقع في حال عدم الاشتغال بالأجزاء، لكشفه عن الهيئة الاتصالية زائداً على الأجزاء الخارجية.

وما ذكره غير ظاهر، إذ لا وجه لتخصيص المانع بذلك، بل هو تابع لعموم دليله وخصوصه، كما قد تختص قاطعية القاطع بخصوص حال تبعاً لاعتبار من بيده الاعتبار.

هذا، وقد ظهر مما ذكرنا: أن بين القاطع بالمعنى الأول والقاطع بالمعنى الثاني عموماً من وجه، حيث كان المعيار في الأول بطلان العمل وإن لم تفرض له هيئة إتصالية اعتبارية، والمعيار في الثاني قطع الهيئة الاتصالية الاعتبارية وإن لم يبطل به العمل، لإمكان إتمامه بعد انقطاعه.

كما أن الانقطاع في كليهما ليس حقيقياً، لتوقفه على فعلية الاتصال الحقيقي، ولم يؤخذ في الأول الاتصال أصلاً، والمأخوذ في الثاني هو الاتصال الاعتباري لا الحقيقي.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

الأول: عدم المرجح لأحد المعنيين إثباتاً

الأول: الظاهر أنه لا مرجح لأحد المعنيين إثباتاً، فكما يمكن إطلاق

ص: 450

القاطع بلحاظ سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاحقة لتكوين المركب الارتباطي المحقق للامتثال، كذلك يمكن إطلاقه بلحاظ رفع الهيئة الاتصالية في فرض اعتبارها، لأن كلاً من الارتباطية والهيئة الاتصالية منشأ لفرض الوحدة في العمل المصححة لفرض انقطاعه وعدم إتمامه.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من أن إطلاق القاطع يكشف عن أن لأجزاء المركب هيئة إتصالية في نظر الشارع.

غير ظاهر، إن أراد به الهيئة الاعتبارية.

بل إن ورد ذلك في مقام بيان عدم الاجتزاء بالعمل فالمتيقن منه المعنى الأول، ولا طريق معه لإثبات اعتبار الهيئة زائداً على المركب الارتباطي.

ومن ثم أطلق القاطع في النصوص على ما يعم المانع، وفقد الشرط ونحوهما مما يخل بالمركب الارتباطي، ولو مع عدم اعتبار الهيئة الاتصالية فيه، حيث أطلق في الصلاة على القهقهة، والكلام، ونواقض الوضوء، وخروج الدم الرافع للطهارة الخبثية، والالتفات المنافي للاستقبال.

بل أطلق على بعض المكروهات - كعبث الرجل بلحيته - بلحاظ منافاته لكمالها.

فراجع النصوص المذكورة في أبواب قواطع الصلاة من الوسائل، فإن التأمل فيها شاهد بأن المراد بالقاطع فيها ما ينافي العمل ويفسده، وهو الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.

الثاني: إن رجع الشك في القاطعية إلى الشك في اعتبار شيء

الثاني: الشك في قاطعية شيء بالمعنى الأول إن رجع إلى الشك في اعتبار شيء في المكلف به كان المرجع ما تقدم في أصل المسألة.

ولا مجال معه لاستصحاب عدم قاطعيته، لعدم جعل القاطعية بالمعنى

ص: 451

المذكور، بل هي منتزعة من التكليف بالمقيد، فلابد من الرجوع للأصل فيه.

ومثله استصحاب صحة العمل، لعدم كون الصحة مجعولة أيضاً، ولا موضوعاً للأثر الشرعي، فإن موضوع التكليف نفس الفعل، والمفروض تردده بين المطلق والمقيد، وليست الصحة إلا منتزعة من مطابقة المأتي به للمأمور به، وهي - مع عدم الأثر لها إلا الإجزاء العقلي - بالإضافة إلى المركب التام لا تحصل إلا بعد تمامه، وبالإضافة إلى الأجزاء السابقة على حدوث مشكوك القاطعية مراعاة بتمامية المركب، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الأجزاء، فلا يعلم حصولها قبله كي تستصحب.

نعم، لو كان منشأ الشك في قاطعية شيء للمركب احتمال رافعيته لشرطه المتيقن الحصول أمكن استصحاب الشرط نفسه، كما لو شك في قاطعية المذي للصلاة لاحتمال نقضه لشرطها وهو الطهارة.

في الشك في قاطعية شيء للمركب

وأما الشك في قاطعية شيء للمركب بالمعنى الثاني المبني على فرض اعتبار الشارع لهيئته الاتصالية فيمكن معه استصحاب الهيئة المذكورة بعد كونها أمراً مجعولاً، كالطهارة، فيترتب أثرها، سواء كان هو صحة العمل والاجتزاء به، كما لو فرض تقييد المكلف به ببقاء الهيئة المذكورة، أم أمراً آخر.

نعم، الكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الأمور التدريجية التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، كالكلام والمشي ونحوهما، الذي يأتي في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وقد أطال غير واحد في المقام بما لا مجال لتعقيبه، لاتضاح الحال فيه بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل جيداً.

ص: 452

التنبيه الرابع: في الشك في الركنية

التنبيه الرابع: في الشك في الركنية

إذا علم بأخذ شيء في المركب الارتباطي وشك في ركنيته فيه، فهل الأصل ركنيته أو لا؟

مقدمة في توضيح محل الكلام

وينبغي ذكر مقدمة يتضح بها محل الكلام في المقام.

فاعلم: أن عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة، وإنما ذكر في كلمات الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام بتحقيق مفهومه، وأنه هل يراد به ما يبطل العمل بنقصه عمداً فقط، أو مطلقاً ولو سهواً، أو ما يعم بطلان العمل بزيادته عمداً فقط أو مطلقاً ولو سهواً، بل ينبغي الكلام في الجهات المذكورة بنفسها، للاهتمام بها في مقام العمل، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدس سرة.

ينبغي التنبيه لأمرين

نعم، ينبغي التنبيه لأمرين:

الأول: عدم اختصاص الكلام بالجزء

الأول: أن الكلام في ذلك لا يختص بالجزء، وإن خصوه بالذكر في تحرير محل الكلام، بل يعم الشرط الوجودي والعدمي، لاختلاف الشروط في بعض هذه الجهات، حيث لا يكون الإخلال ببعضها سهواً مبطلاً للعمل، كالطمأنينة.

بل يمكن فرض الزيادة فيها، وإن كان الظاهر عدم الإشكال عندهم في عدم بطلان المركب بها في ما هو محل الكلام، وهو ما إذا كان المأخوذ الماهية بنفسها لا بشرط من حيثية الزيادة، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص الكلام بالجزء.

الثاني جعل الشيخ الأعظم قدس سرة الكلام في جهات ثلاث

وشيخنا الأعظم قدس سرة وإن حرر النزاع في الجزء، إلا أن ظاهر ما ذكره في مسألتي الزيادة العمدية والسهوية المفروغية عن عموم جهة الكلام للشرط.

الثاني: جعل شيخنا الأعظم قدس سرة، الكلام في جهات ثلاث: النقيصة

ص: 453

السهوية، والزيادة السهوية والعمدية.

وظاهره خروج النقيصة العمدية عن محل الكلام، لما صرح به من أن عدم بطلان المركب بنقص الجزء عمداً مناف لفرض جزئيته، وتبعه في ذلك بعض الأعاظم قدس سرة.

لكن لا يخفى أن المعيار في جزئية الجزء وشرطية الشرط على أخذهما في المكلف به، لدخلهما في الغرض الداعي للتكليف، ولا يلزم من ذلك إلا عدم تحقق الامتثال ولإتمام الغرض بدونهما، وهو لا يستلزم بطلان العمل، إذ لا يراد ببطلانه في محل الكلام إلا عدم إجزائه بنحو تسقط معه الإعادة والقضاء، ويكفي في الاجزاء بالمعنى المذكور تعذر تدارك الغرض، التام أو قصوره عن جعل التكليف لحدوث المزاحم، بسبب فعل الناقص وإن لم يف بشيء من الغرض، فضلاً عما إذا كان وافياً ببعض مراتبه، ولا يختص الإجزاء بحصول الامتثال وتحقق تمام الغرض، ليمتنع مع فرض نقص الجزء عمداً.

نعم، لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل، فإن التكليف يدعو إلى متعلقه بتمام ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط، وسقوط التكليف بغير الامتثال محتاج إلى دليل خاص.

ومن ثم لا ينبغي إطالة الكلام في النقيصة العمدية.

كما لا ينبغي إطالة الكلام في الزيادة السهوية، إذ لا خصوصية لها في البطلان، بل الزيادة في نفسها إن لم تخل بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخل به مع السهو بالأولوية، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة وإن كانت مخلة به، لفرض أخذ عدمها فيه، كان الإتيان بها سهواً راجعاً إلى الاخلال بالشرط

ص: 454

سهواً، فيلحقه حكم النقيصة.

فالكلام في مسألتين

فينبغي قصر الكلام على مسألتين..

المسألة الأولى: في الإخلال ببعض ما يعتبر سهواً

المسألة الأولى: في الإخلال ببعض ما يعتبر في المركب سهواً.

ولا إشكال في إمكان صحة العمل معها بمعنى إجزائه عن الإعادة والقضاء، كما وقع في كثير من أجزاء الصلاة وشروطها.

في تنقيح مقتضى الأصل

ولتنقيح مقتضى الأصل في ذلك يقع الكلام في أمور..

الأول: أن دخل الجزء في المركب لما كان متفرعاً على دخله في ملاك التكليف به فلدخله بالوجه المذكور صورتان:

الأولى: أن لا يكون للنسيان دخل في الملاك، بل يكون اقتضاء الملاك للتكليف بالتام مشتركاً بين الملتفت والناسي.

وهي على وجهين:

الأول: أن لا يكون للإتيان بالناقص من الناسي أثر في الملاك بوجه، بل يبقى على ما هو عليه من فعلية التأثير في التكليف.

الثاني: أن يكون الإتيان بالناقص من الناسي مانعاً من بقاء التكليف بالتام وموجباً لسقوطه وإن لم يستوف ملاكه، إما لكونه مانعاً من استيفاء الملاك، أو لكونه موجباً لحدوث جهة مزاحمة للملاك مانعة من تأثيره في التكليف، وإن أمكن استيفاؤه بالإتيان بالتام، نظير ما تقدم في العامد.

الثانية: أن يكون الملاك مختصاً بحال الالتفات لباً، بحيث يختلف الملاك في حق الملتفت عنه في حق الناسي، إما لتبدل الملاك في حقه، أو لعدم توقفه على الجزء المنسي، بل يحصل تمام الملاك منه بالفاقد له.

ص: 455

والفرق بينها وبين الوجه الثاني من الصورة الأولى أن قصور الملاك عن تأثير التكليف بالتام في هذه الصورة يكون بمجرد عروض النسيان، وفي الوجه المذكور لا يكون إلا بعد فعل الناسي للناقص.

وإن كانا يشتركان في إجزاء الناقص من الناسي، بخلاف الوجه الأول، فإنه يتعين معه عدم الإجزاء، كما لعله ظاهر.

فرض عموم الملاك لحال النسيان

الثاني: إذا فرض عموم الملاك لحال النسيان تعين عموم التكليف للناسي لباً، وليس النسيان كالاضطرار مانعاً من فعلية التكليف مع فرض عموم ملاكه، بل هو كالجهل مانع من منجزيته، لظهور كونه من شؤون مقام الإثبات الدخيل في التنجيز، لا من الأمور الثبوتية الدخيلة في فعلية التكليف.

فما تردد في بعض كلماتهم من قبح تكليف الناسي بالأمر المنسي إنما يتم إن رجع إلى قبح عقابه مع عدم تقصيره، كما قد يعبر بذلك مع الجهل أيضاً، وهو المناسب للإجماع المدعى على التخطئة، واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرة من عدم توجه التكليف بالتام في حق الناسي، غير ظاهر.

وأشكل منه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من تعليله بعدم القدرة عليه في هذا الحال.

دعوى رافعية النسيان شرعاً بمقتضى حديث الرفع

إذ لا ينبغي التأمل في عدم دخل الالتفات في القدرة، لعدم السنخية بينهما بوجه.

وأما دعوى: رافعية النسيان شرعاً، بمقتضى حديث رفع النسيان،

ص: 456

لحكومته على الإطلاقات الأولية، وظهوره في الرفع الواقعي، لأنه الأصل.

دفع الدعوى المذكورة

فهي مدفوعة: بأن ذلك وإن كان ممكناً، إلا أن المناسبات تمنع من حمل الحديث عليه، إذ بعد ما ذكرنا من كون النسيان من الجهات الإثباتية الدخيلة في التنجيز والمؤاخذة، كالجهل ارتكازاً فظاهر الحديث إرادة ذلك بالإضافة إلى الحكم المنسي، كما هو الحال في الخطأ أيضاً جرياً على الارتكاز المذكور، بل يتعين ذلك بلحاظ ما أشرنا إليه من الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

نعم، قد يكون الرفع واقعياً بالإضافة إلى الآثار المترتبة على التنجز التي هي من سنخ الإلزام والمؤاخذة، كالكفارات والحدود، كما هو الحال بالإضافة إلى رفع ما لا يعلم أيضاً، بخلاف مثل القضاء والإعادة المترتبين عقلاً وشرعاً على مجرد عدم الامتثال، من دون أن يردا مورد الإلزام والمؤاخذة، وقد تقدم في الاستدلال للبراءة بحديث الرفع ما ينفع في المقام.

على أنه لو فرض كونه كالاضطرار مانعاً من فعلية التكليف فمقتضى فرض عموم الملاك للناسي عدم الاجتزاء بالناقص منه، كعدم الاجتزاء بالناقص من المضطر، بل يجب عليه التدارك بالإعادة بعد ارتفاع نسيانه في الوقت، لفرض عدم استيفائه الملاك، كما يجب عليه التدارك لو نسي أصل الواجب.

بل ذلك هو مقتضى إطلاق الخطاب، لأن ثبوت التكليف في كل جزء من أجزاء الوقت ليس بعناية البقاء والاستمرار من السابق للاحق، نظير الحكم الاستصحابي، ليكون سقوطه في حال النسيان مانعاً من فرض الاستمرار في ما بعده، بل من أجل تمامية الموضوع فيه، فامتناع ثبوته في

ص: 457

بعض الأجزاء من جهة النسيان لا ينافي ثبوته في ما بعده، لتحقق الموضوع فيه.

وأما لو ارتفع النسيان بعد الوقت فوجوب القضاء مبني على إطلاق دليله، فإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف تمامية ملاكه كان واجباً مطلقاً، وإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف فعلية وجوبه كان واجباً إن قلنا بعدم رافعية النسيان للتكليف، وإلا لم يكن واجباً، كما هو الحال في الاضطرار.

نعم، لو فرض كون المأتي به مانعاً من استيفاء الملاك، أو موجباً لحدوث المزاحم المانع من فعلية تأثيره في التكليف - على ما تقدم في الوجه الثاني من الصورة الأولى - تعيَّن الإجتزاء به، كما سبق.

إلا أنه لاريب في كون ذلك خلاف الأصل، لأن سقوط التكليف بغير الامتثال محتاج إلى دليل، كما أشرنا إليه في المخالفة العمدية.

أما لو فرض تبدل حال الملاك في حق الناسي، بحيث يكون الناقص منه وافياً بالملاك الثابت في حقه - كما تقدم في الصورة الثانية - تعين الإجزاء، كما هو الحال في سائر موارد الامتثال الذي يكون الإجزاء فيه عقلياً.

وقد ظهر بما ذكرنا أن الإجزاء في الصورة الأولى وإن كان ممكناً إلا أنه خلاف الأصل، أما في الصورة الثانية فهو المتعين.

مقتضى إطلاق الخطاب بالمركب ثبوت التكليف في حق الناس

الثالث: مقتضى إطلاق الخطاب بالمركب الواجد للجزء ثبوت التكليف به في حق الناسي واشتراكه فيه مع الملتفت، المستلزم لاشتراكهما في الملاك المقتضي للتكليف، فيرجع إلى الصورة الأولى التي عرفت أن إجزاء الناقص فيها من الناسي خلاف الأصل.

ص: 458

دعوى: قصور الإطلاق

وربما يدعى قصور الإطلاق عن شمول حال النسيان لأن النسيان من الجهات الثانوية المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة، وأنه لابد في تعميم الحكم للنسيان أو قصوره عنه من جعلٍ آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم له. كما التزم بعض الأعاظم قدس سرة بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به.

لكن تقدم منا دفع ذلك عند الكلام في مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق وفي مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي، وذكرنا هناك، أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق لعموم الحكم.

على أنه لا ريب ظاهراً في أنه لو فرض قصور الإطلاق اللفظي عن إثبات عموم الحكم لحال النسيان كفى الإطلاق المقامي في ذلك، لبناء العرف في تكاليفهم وخطاباتهم على العموم، واحتياج التقييد بحال الالتفات فيها إلى عناية زائدة.

ما ذكره النائيني قدس سرة من التمسك للعموم بالإجماع على الاشتراك

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة في المقام المذكور من التمسك للعموم بالإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

فهو لا يتم بناء على ما يظهر منه من التمسك بالإجماع على العموم مع دعوى تخصيصه في بعض الموارد، إذ لا معنى لتخصيص العموم القطعي، إلا أن يرجع إلى الإجماع على العموم الظاهري، الذي يكون الدليل على خلافه وارداً عليه لا مخصصاً له.

وهو بعيد جداً عن حال نقلة الإجماع.

نعم، لو ثبت عموم الإجماع - كما هو غير بعيد - أو خصوصه في

ص: 459

بعض الموارد كان التمسك به في محله.

وكيف كان، فلا إشكال في البناء على عموم التكليف بالمركب التام للنسيان مع إطلاق دليله اللفظي أو المقامي.

وقد ذكرنا أن إجزاء الناقص من الناسي حينئذٍ مخالف للأصل ومحتاج إلى دليل مخرج عنه.

وأما إذا لم يكن لدليل الحكم إطلاق قاض بشموله لحال النسيان، كما لو قام إجماع على التكليف بالمركب التام، وفرض الشك في عمومه لحال النسيان، فقد وقع الكلام في إمكان الاختلاف بين الملتفت والناسي في المكلف به، بحيث يختص التكليف بالتام بالملتفت، ويكلف الناسي بالناقص الذي يأتي به.

ولا يخفى أن الكلام في ذلك فرع إمكان اختلافهما في الملاك، كما تقدم فرضه في الصورة الثانية، ولا ينبغي التأمل فيه، وقد تقدم في مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي توجيه نظيره في الجهل، حيث ذكرنا إمكان رافعية الجهل لفعلية الحكم. فراجع.

منع الشيخ الأعظم قدس سرة من اختلاف التكليف بين الناسي وغيره

إذا عرفت هذا، فقد منع شيخنا الأعظم قدس سرة من اختلاف التكليف بالنحو المذكور، بدعوى: أن الناسي غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المنسي إيجاباً أو إسقاطاً.

وكأنه راجع إلى أن الخطاب بالتكليف إنما يحسن مع إمكان الاندفاع عنه، ليكون داعياً للمكلف نحو العمل ومنشأ للسبيل عليه، وذلك إنما يتم مع إمكان التفات المكلف إلى تحقق موضوع التكليف في حقه، وحيث يمتنع التفات الناسي إلى نسيانه إلا بعد ارتفاعه لم يصلح التكليف للداعوية

ص: 460

نحو العمل في حقه، فيكون الخطاب به لغواً.

توجيه تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي بوجوه

وقد حاول غير واحد توجيه تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي، بحيث يكون الناقص منه امتثالاً، بأحد وجوه..

الأول: ما حكاه النائيني قدس سرة

الأول: ما حكاه بعض الأعاظم قدس سرة عن بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم قدس سرة من أن امتثال التكليف لا يتوقف على قصده تفصيلاً، بل يكفي قصده إجمالاً ولو مع الخطأ في التطبيق، ويتسنى للناسي قصد الأمر الفعلي المتوجه إليه الذي أخذ فيه النسيان، وإن تخيل أنه الأمر المتوجه للملتفت، لغفلته عن نسيانه.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من عدم كفاية ذلك بناء على أن الدعوة والانبعاث عن الأمر من لوازم وجوده العلمي، ومع فرض الغفلة عن النسيان وعدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه ولو إجمالاً لا يكون الداعي والباعث إلا أمر الملتفت، الذي لم يتوجه إليه حقيقة.

ففيه - مع الغض عن عدم وضوح دخل المبنى المذكور في ذلك -: أن الغفلة عن النسيان إنما تستلزم عدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه تفصيلاً، ولا تنافي الالتفات إليه إجمالاً بعنوان كونه الأمر الفعلي المتوجه إليه، نظير الغفلة عن خروج الوقت المستلزمة لعدم الالتفات إلى أمر القضاء تفصيلاً، وإن أمكن الالتفات إليه إجمالاً بالوجه المذكور.

نعم، قصد الأمر الواقعي بالوجه المذكور وإن كان ممكناً إلا أنه ليس بناؤهم ظاهراً على دوران الصحة مداره، ودعوى تحققه دائماً لا تخلو عن خفاء.

على أن الكلام ليس في كيفية تحقق الامتثال بعد الفراغ عن إمكان

ص: 461

الأمر بالوجه المذكور ووقوعه، بل في أصل إمكان الأمر، لعدم صلوحه للداعوية بعد فرض امتناع الالتفات إلى موضوعه، ولذا يجري الإشكال في الأوامر التوصلية التي لا يعتبر في امتثالها القصد، ومن الظاهر أنه لا يكفي في دفعه إمكان الالتفات بالوجه المذكور - كما ذكر ذلك بعض الأعاظم قدس سرة - ضرورة أن توجيه التكليف للناسي بالناقص لغو بعد فرض وقوعه منه على كل حال، وإن لم يلتفت للتكليف أصلاً.

الثاني: ما ذكره الخراساني قدس سرة

الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة وارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه من توجيه خطاب واحد مشترك بين الذاكر والناسي بالأركان التي يبطل العمل بالإخلال بها حتى من الناسي، ثم توجيه خطاب يخص الذاكر لباً ببقية الأجزاء التي لا يبطل الإخلال بها من الناسي.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك إنما يتم مع عدم الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر، حيث يكون في المقام أمران: الأمر بالأركان المشترك بين الملتفت والناسي، والصالح للداعوية في حق كل منهما بعد التفاتهما إلى موضوعه.

والأمر بالزائد عليها المختص بالذاكر والصالح للداعوية في حقه، لفرض التفاته إلى موضوعه أيضاً.

أما مع فرض الارتباطية ووحدة الأمر في حق الذاكر فالمتعين اختصاص الأمر بالمطلق بالناسي، فيعود الإشكال.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من عدم دخل الارتباطية بوحدة الخطاب، بل هي منوطة بوحدة الملاك، فرب ملاك واحد لا يستوفى إلا بخطابين.

بل الذي يظهر من جملة من النصوص أن التكليف بالصلاة إنما كان

ص: 462

بخطابين: خطاب من الله تعالى بما فرضه، وخطاب من النبي (ص) بما سنه وفرضه.

ففيه: أنه إن أريد من الخطاب مطلق بيان ما هو الدخيل في المكلف به أمكن تعدده مع وحدة الملاك، كما في الأوامر الإرشادية المسوقة لبيان الجزئية والشرطية، بل أمكن الاستغناء عنه بالإخبار عن حال الأجزاء والشروط مثل قوله (ع): «لا صلاة إلا بطهور»(1) وقوله (ص): «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»(2).

إلا أن مثل ذلك لا يكون منشأً لانتزاع الأمر، ولا دخل له بالداعوية.

وإن أريد من الخطاب الأمر المولوي الناشئ عن الإرادة التشريعية والصالح للداعوية، فلا ينبغي الإشكال في وحدته تبعاً لوحدة الملاك.

وما ذكره في بعض الموارد من عدم استيفاء الملاك الواحد بجعل واحد، بل لابد من جعل آخر متمم للجعل الأول لا يرجع إلى محصل ظاهر، كما ذكرنا ذلك في مبحثي التعبدي والتوصلي، والقطع الموضوعي.

وظهور بعض النصوص في تعدد الخطاب والجعل من الله سبحانه والنبي (ص) لابد أن يحمل على إرادة الجعول والخطابات الاقتضائية مع وحدة الجعل والخطاب الفعلي المفروض فيه الارتباطية.

إن قلت: لا بأس بإنكار الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر، بل لا مانع من تعدد التكليف، نظير الواجب في الواجب، وعدم صحة امتثال أمر الأركان وحده إنما هو لكونه مفوتاً لامتثال الأمر الثاني ومعجزاً منه،

ص: 463


1- الوسائل، ج: 1 باب: 1 من ابواب الوضوء، حديث: 1.
2- الوسائل، ج: 4 باب: 1 من ابواب أفعال الصلاة، حديث: 10.

فيكون مبعداً يمتنع التقرب به، نظير من نذر الصلاة في المسجد، فصلى في غيره.

قلت: لازم ذلك صحة امتثال أمر الأركان من المتردد في وجوب ما زاد عليها برجاء عدم وجوبه، إذا غفل عن احتمال التفويت، حيث لا يكون قاصداً للتفويت المبعد المانع من التقرب.

على أن ذلك مختص بالعباديات، ولا يجري في التوصليات التي تصح وتجزي وإن وقعت بوجهٍ مبعد.

فلا ينبغي الإشكال في الارتباطية بعد التأمل في ذلك، وهي مستلزمة لاختلاف التكليفين، واختصاص الناسي بالتكليف بالمطلق، الذي هو مورد الإشكال.

اندفاع ما ذكره العراقي قدس سرة من عدم الاختلاف بين التكليفين ذاتاً

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من أنه لا اختلاف بين التكليفين الثابتين في حالي الذكر والنسيان بالذات، بل بالحدود فقط، فالتكليف المتوجه إلى المكلف حال نسيانه هو بعينه المتوجه إليه حال ذكره، غير أنه في حال النسيان بحد لا يشمل الجزء المنسي، فلا قصور في داعوية ذات التكليف المحفوظة بين الحدين التي عليها مدار الدعوة والإطاعة عقلاً، لعدم الغفلة بالإضافة إليها.

وجه الاندفاع: أن اختلاف حد الواجب موجب لتعدده، ومع تعدده يتعدد التكليف الذي هو موضوع الداعوية، لتقوم التكليف بالمكلف به كما يتقوم بالمكلِّف والمكلَّف، لأنه نحو نسبة قائمة بالأمور الثلاثة، وتعدد موضوع النسبة يوجب تعددها، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بما عدا المنسي، فيعود الإشكال.

ص: 464

الثالث: ما ذكره الخراساني قدس سرة أيضاً

الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سرة أيضاً من إمكان تخصيص الناسي بتكليف من دون أخذ عنوانه في الخطاب، بل بأخذ عنوان آخر ملازم للنسيان صالح لأن يلتفت إليه الناسي حال نسيانه، كي يندفع عن التكليف المنوط به، ولا يلزم لغوية الخطاب المذكور.

وأورد عليه بعض الأعاظم قدس سرة بوجهين:

إيراد النائيني قدس سرة عليه بوجهين

أحدهما: أن ذلك مجرد فرض لا واقع له، بداهة أنه ليس في البين عنوان يلازم نسيان الجزء دائماً، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر، خصوصاً مع تبادل النسيان في الأجزاء.

ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة أن العنوان المذكور هو عنوان المتذكر لمقدار من الاجزاء الجامع بين البعض والتمام.

وهو كما ترى! ضرورة أن العنوان المذكور لا يستلزم نسيان الجزء ولا يقتضي سقوط ما زاد على الأركان، بل هو أعم من ذلك ضرورة أن المتذكر للبعض يشمل المتذكر للكل، الذي يجب عليه التام لا غير.

ثانيهما: أن العنوان المذكور حيث لم يكن هو الدخيل في التكليف حقيقة، بل كان أخذه بلحاظ كونه معرفاً وملازماً لما هو الدخيل - وهو عنوان الناسي - لم ينفع إمكان الالتفات إليه، بل المعتبر هو إمكان الالتفات لما هو العنوان الحقيقي للموضوع.

المناقشة فيه

لكنه يشكل..

أولاً: بعدم الملزم بكون العنوان المذكور معرفاً، بل يمكن فرض كونه هو الموضوع حقيقة، إذ الكلام في تخصيص الناسي بتكليف خاص ولو من جهة أمر يستلزم النسيان.

ص: 465

وثانياً: بأن اعتبار إمكان الالتفات للعنوان إنما هو من جهة مقدميته للالتفات للتكليف، ليمكن داعويته، ويكفي في ذلك الالتفات للعنوان المعرف الذي لا دخل له حقيقة.

ولعله لذا أمر قدس سرة بالتأمل.

الرابع: ما ذكره العراقي قدس سرة

الرابع: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة من إمكان وحدة التكليف في حالي النسيان والذكر، بأن يكون المكلف به هو الطبيعة الجامعة بين التام في حق الذاكر والناقص في حق الناسي، التي هي الجامع الصحيحي، فيكون الفرق بينهما في المصاديق، التي هي ليست موضوع الأمر، ولا مورد الداعوية، بل ليس الداعي إلا التكليف المشترك المذكور، الذي يكون داعياً للناسي، لالتفاته إليه، وإن غفل عن خصوصية المصداق المأتي به منه.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك - مع اختصاصه بما يكون من المركبات معنوناً بعنوان شرعي خاص، كالصلاة والحج - مبني على وجود الجامع الصحيحي وكونه مورداً للأمر، والجامع المنتزع من ترتب الأثر الواحد الذي اختاره هو قدس سرة - مع عدم تماميته في نفسه - لو كان موضوعاً للأمر لزم الرجوع مع الشك في اعتبار شيء في المأمور به إلى الاشتغال، وهو خلاف مبناهم هنا، على ما ذكر في محله.

وتحصيل جامع غيره بين تمام أفراد الصحيح لا يخلو عن إشكال، بل نعم، ذكرنا في محله إمكان تصوره في بعض مراتب الصحيح، وهو خصوص ما يعتبر في تمام الأفراد الصحيحة، كالتكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والتشهد، والتسليم في الصلاة.

وهو مستلزم لكون الفاقد لشيء منها لو فرض إجزاؤه فهو فرد ناقص

ص: 466

مخالف بالحد للجامع المذكور، فتكليف الناسي به مباين لتكليف الذاكر بالتام.

كما أن ما زاد عليها من الخصوصيات قيود زائدة في الجامع المذكور، فتخصيصها بالذاكر مستلزم لاختلاف الواجب في حق الذاكر والناسي بالحدود، الموجب لتعدد الأمر، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بالجامع المذكور لا بشرط الزيادة، فيعود الاشكال.

هذا، تمام ما تيسر لي العثور عليه في كلماتهم في توجيه اختصاص الناسي بالتكليف، وقد ظهر عدم تمامية شيء مما ذكروه.

العمدة في المقام

فالعمدة في المقام أن ما هو الثمرة لاختصاصه بالتكليف، وهو لزوم الاجتزاء بالناقص في حقه لا يتوقف على فعلية تكليفه بالناقص، بل يكفي فيه قصور ملاك التام في حقه واختصاص الملاك في حقه بالناقص، وإن امتنع تكليفه فعلاً به، لوضوح أن تحصيل الملاك كاف في الاجزاء وإن لم يكن التكليف فعلياً، لامتناع الخطاب به عقلاً، كما في موارد المزاحمة.

ومن هنا لو فرض عدم الإطلاق للخطاب بالتام الكاشف عن عموم ملاكه لحال النسيان، فالمتيقن ثبوته في حال الذكر، والبناء في حال النسيان على عدم الملاك له، والاكتفاء بالناقص لو فرض تحقق ملاكه في حقه المستلزم للاجزاء.

هذا، ولكن حيث كان اختلاف الملاك بسبب النسيان منافياً للتخطئة وللإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل فلا مجال للبناء عليه.

وما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من تخصيص ذلك في بعض الموارد

ص: 467

كالجهر والإخفات والقصر والإتمام.

غير ظاهر، بل ليس الثابت فيها إلا الإجزاء الذي هو أعم من تبدل الملاك، كما يظهر مما تقدم.

ودعوى: أن الإجماع مختص بما إذا أحرز المقتضي للملاك من إطلاق الخطاب، في قبال تصويب المعتزلة الراجع إلى رفع اليد عن إطلاق الأحكام الواقعية بأدلة الطرق، فمرجعه إلى أن النسيان لا يكون رافعاً للملاك في فرض ثبوت المقتضي له، فلا يعم ما لو لم يثبت المقتضي له، لعدم الإطلاق، كما هو محل الكلام.

مدفوعة: بأن قصور المقتضي للملاك عن حال النسيان ممتنع، لتأخر النسيان رتبة عن التكليف المنسي، فلا يكون مأخوذاً في موضوعه وملاكه، فلابد في إمكان قصور الملاك في حال النسيان من فرض كونه رافعاً للملاك في فرض ثبوت مقتضيه، على ما أشرنا إليه هنا، وأطلنا الكلام في نظيره في مبحث القطع الموضوعي. فراجع.

ثم إن الظاهر من حال المجمعين عدم الفرق بين الجهل والنسيان للحكم والموضوع، فكما لا ترتفع الجزئية والشرطية بنسيانهما أو الجهل بهما، كذلك لا يرتفعان بنسيان الجزء أو الشرط أو الجهل بعدم تحققهما، بل الظاهر أن عدم ارتفاعه مع الجهل بالموضوع ونسيانه اتفاقي حتى من المصوّبة.

وكأن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عن شيخنا الأعظم قدس سرة من إمكان اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي مبني على كون النسيان من الجهات الثبوتية الرافعة للتكليف الواقعي، كالاضطرار، لامن الجهات الإثباتية

ص: 468

كالجهل، وقد تقدم الكلام في ذلك.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سرة في توجيه اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي من أن مقتضى الجمع بين أدلة الجزئية والشرطية ومثل حديث: «لا تعاد الصلاة...»(1) مما دل على صحة صلاة الناسي هو عموم التكليف بالأركان وجزئيتها من المركب لحال النسيان، واختصاص جزئية ماعداها بحال الذكر.

فهو - لو تم - يقتضي الاختلاف بينهما حتى مع إطلاق دليل الجزئية والشرطية لحال النسيان، مثل ما تضمن أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة.

لكنه غير تام، لأن مثل حديث: «لا تعاد...» إنما يدل على إجزاء الناقص من الناسي، وهو أعم من تكليفه به وعدم تكليفه بالتام، كما تقدم.

كيف! والظاهر شمول الحديث للجهل بالحكم، بل هو صريح بعض النصوص الأُخَر، مع أنه لا ريب في عدم تغير التكليف به.

وبالجملة: الظاهر عدم اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي حتى مع عدم الإطلاق لدليل التكليف بالتام، فإجزاء الناقص من الناسي يكون على خلاف الأصل، لابتنائه على إجزاء غير الواجب عن الواجب، على ما تقدم.

الرابع: في تشخيص الوظيفة العملية

الرابع: حيث تقدم ممن عرفت إمكان الشك في اختصاص الجزئية والشرطية بحال الذكر وقصورها عن حال النسيان، فاللازم الكلام في تشخيص الوظيفة العملية في ذلك في مقامين..

ص: 469


1- الوسائل ج: 4، باب: 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 4.
المقام الأول: في مقتضى الأدلة الاجتهادية

المقام الأول: في مقتضى الأدلة الاجتهادية

فاعلم أنه إن كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان فلا إشكال في العموم، نظير قوله (ع) في من لم يقرأ الفاتحة: «لا صلاة له إلا أن يقرأ بها»(1)، وقوله (ع): «لا صلاة إلا بطهور»(2)، سواء كان لدليل أصل الواجب عموم أو إطلاق أم لم يكن، وسواء قلنا بأن النسيان من الروافع الواقعية للتكليف أم لم نقل.

ولا مجال لتوهم أنه على الأول يستحيل جزئية الجزء حال النسيان فلابد من تقييد الإطلاق المفروض.

لاندفاعه: بأن مرجع الإطلاق المذكور إلى عدم مشروعية المركب بدون الجزء، المستلزم لسقوطه تبعاً لسقوط الجزء بالنسيان، فيكون نسيان الجزء راجعاً إلى نسيان المركب المستلزم لسقوط التكليف به فعلاً، وعوده بعد ارتفاع النسيان، لعدم امتثاله، كما لو نسي أصل الواجب ولم يتصد لامتثاله.

ولذا يصح التمسك بمثل هذا الإطلاق لإثبات عموم الجزئية لمثل حال الاضطرار إلى ترك الجزء، الذي لا ريب في كونه من الروافع الواقعية.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: حكومة حديث رفع النسيان على العموم المفروض بنحو يقتضي سقوط جزئية الجزء في حال النسيان، والتكليف بماعداه.

لاندفاعها: بأن الحديث المذكور لا ينهض برفع الجزئية وحدها،

ص: 470


1- الوسائل ج: 4، باب: 1 من أبواب القراءة حديث: 1.
2- الوسائل ج: 1، باب 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.

بل يقتضي رفع التكليف بالمركب التام، لما ذكرناه غير مرة من عدم جعل الجزئية والشرطية ونحوهما بنفسها، بل هي منتزعة من التكليف الاستقلالي بالمركب، فيكون هو مورد الرفع، من دون أن يثبت التكليف بالناقص.

وبعبارة أخرى: مقتضى عموم الجزئية لحال النسيان عموم وجوب التام وعدم وجوب الناقص، ونسيان الجزئية راجع إلى نسيان وجوب التام وتخيل وجوب الناقص. كما أن نسيان الجزء في مقام الامتثال راجع إلى نسيان التام والإتيان بالناقص.

وحينئذٍٍ إن حمل الحديث رفع نفس الجزئية مع بقاء أصل وجوب المركب للالتفات إليه في الجملة وعدم نسيانه رأساً، فيستلزم وجوب الناقص.

فيدفعه: أن الجزئية ليست مجعولة، لتصلح للرفع بنفسها.

وإن حمل على رفع منشأ انتزاعها وهو وجوب التام.

فهو لا يقتضي وجوب الناقص، بل يكون الحال كما لو نسي التكليف رأساً.

وإن حمل على إثبات التكليف بالناقص المتخيل تبعاً لنسيان الجزئية، أو المأتي به حين ترك الجزء.

فهو خارج عن مفاد دليل رفع النسيان، لتمحضه في الرفع، وليس فيه شائبة الوضع.

هذا كله مع ما تقدم في الأمر الثاني من أن رفع النسيان في الحديث الشريف ظاهري راجع إلى عدم المؤاخذة على المنسي، من دون أن يقتضي رفعاً واقعياً، لينافي الإطلاق، ويكون حاكماً عليه. فراجع.

ص: 471

عدم الفرق في استفادة الإطلاق بين أنحاء البيان

ثم إنه لا يفرق في استفادة الإطلاق بين بيان الجزئية ونحوها باللسان المتقدم وبيانها بلسان الأمر أو النهي، كقوله (ع) في الميتة: «لا تصل في شيء منه ولا شسع»(1).

وأما دعوى: أن الأمر والنهي حيث كان مفادهما التكليف القاصر عن حال النسيان تعين قصور الجزئية والشرطية والمانعية المسببة عنهما عنه.

فهي - مع ابتنائها على كون النسيان رافعاً واقعياً - مدفوعة: بأن الأوامر والنواهي المذكورة إنما تقتضي الجزئية ونحوها إذا كانت للإرشاد وبيان ماهية المركب، ولا مانع من إطلاق مثلها لحال النسيان والاضطرار ونحوهما، وأما إذا كانت واردة للتكليف النفسي فهي لا تدل على دخل متعلقها في المركب وجوداً وعدماً، لتكون مما نحن فيه.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سرة

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سرة من أن الأوامر والنواهي المذكورة حيث كانت غيرية فهي مسببة عن الجزئية، فسقوطها في حق الغافل لا يقتضي سقوط الجزئية، وليست الجزئية مسببة عنها.

لتسقط في حال الغفلة تبعاً لها.

فهو - مع ابتنائه على كون الأمر الضمني بالجزء غيرياً - مدفوع: بأن سقوط التكليف الغيري وإن لم يستلزم سقوط الجزئية التي هي منشأ له، إلا أنه لا طريق لإثبات عموم الجزئية لحال النسيان بعد فرض قصور دليلها عنه.

فالعمدة: أن الأوامر والنواهي المذكورة ليست متمحضة في الغيرية، بل هي مسوقة للإرشاد للجزئية ونحوها والكناية عنها، فلا مانع من إطلاقها لحال النسيان والاضطرار ونحوهما، وإن كانت المقدمية للواجب هي

ص: 472


1- الوسائل: ج 3 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

المنشأ في المناسبة المصححة للكناية.

بل الظاهر تمحض الأوامر والنواهي المذكورة في الإرشاد وليست غيرية، ولذا وردت في ما لا يجب غيرياً، لكونه مقدمة لغير الواجب، كقوله (ع): «استقبل بذبيحتك القبلة»(1)، مع وضوح عدم وجوب التذكية.

نعم، لو كانت المانعية متفرعة على التكليف بوجوده الواقعي - كما لو فرض مانعية الحرير بما هو حرام لا بنفسه - تعين ارتفاعها بنسيان التكليف، بناء على كونه رافعاً واقعياً له.

كما أنها لو كانت متفرعة على تنجز التكليف - كما في مانعية النهي من التقرب المعتبر في العبادة - تعين ارتفاعها بنسيان التكليف حتى بناء على ما ذكرناه في رافعيته.

لكن هذا من نسيان التكليف الرافع للمانعية، لا من نسيان المانعية أو المانع، الذي هو محل الكلام، ولذا لو التفت للتكليف وعصاه عامداً تحققت المانعية وإن نسيها المكلف حين امتثال المركب. فلاحظ.

وأما إذا لم يكن لدليل الجزئية ونحوها إطلاق يشمل حال النسيان، فإن كان لدليل بقية الأجزاء إطلاق أو عموم يقتضي عدم تقييدها بالجزء المشكوك، تعين البناء على التكليف بالناقص في حق الناسي، المقتضي للاجتزاء به منه، للزوم الاقتصار في تقييد إطلاق التكليف بماعدا الجزء المنسي على المتيقن المفروض عدم شموله لحال النسيان، وإلا لزم الرجوع للأصول العملية التي يأتي الكلام فيها في المقام الثاني.

المقام الثاني: في مقتضى الأصول العملية

المقام الثاني: في مقتضى الأصول العملية وحيث كان المفروض

ص: 473


1- الوسائل ج: 16، باب: 14 من أبواب الذبايح كتاب الصيد والذبايح، ح: 1.

الشك في مقدار التكليف حين النسيان فمقتضى أدلة البراءة الاكتفاء بالمتيقن، وهو ماعدا الجزء المنسي، بناء على ما تقدم من جريان البراءة في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وهو ظاهر بناء على عدم ارتفاع التكليف واقعاً بالنسيان، للعلم حينئذٍ بالتكليف حين النسيان ودورانه بين الأقل والأكثر.

أما بناء على سقوطه واقعاً، فيدور الأمر بين عدم التكليف رأساً، لسقوط المركب بنسيان جزئه، والتكليف بالناقص، فلا يعلم بتكليف مردد بين الأقل والأكثر، ليعلم بكون الناقص امتثالاً للمتيقن المنجز منه.

والأصل وإن لم يحرز الأول، لمنافاته للامتنان، إذ لا أثر لرفع التكليف حين النسيان إلا عدم الاجتزاء بالناقص المأتي به ووجوب الإتيان بالتام، وهو ضيق على المكلف، إلا أنه لا يحرز الثاني، لتمحض دليله في الرفع، وليس فيه شائبة الوضع.

في بناء العقلاء على الرجوع في الزائد للبراءة

اللهم إلا أن يقال: سقوط التكليف لما لم يكن ملاكياً، بل خطابياً مع بقاء الملاك بالنحو اللازم الاستيفاء ولو بعد الذكر، فلا يبعد بناء العقلاء على الرجوع في الشك في الزائد إلى البراءة في مثل ذلك بنحو لا يحتاج إلى التدارك بالتام. فتأمل.

أو يقال: الأصل وإن لم يحرز أحد الوجهين إلا أن رجوع التكليف بالتام بعد الالتفات لا دليل عليه بعد فرض احتمال إجزاء الناقص من الناسي، لعدم اقتضاء الملاك في حقه لما زاد عليه، بل الأصل عدمه.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في الاكتفاء بالناقص من الناسي في الفرض المذكور، سواء كان النسيان رافعاً واقعياً أم ظاهرياً.

ص: 474

ما ذكره النائيني قدس سرة في الإشكال على الرجوع للبراءة

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سرة من أن أصل البراءة إنما يقتضي رفع الجزئية في حال النسيان، لا في تمام الوقت، إلا مع استيعاب النسيان له، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت وجب عليه الإتيان بالتام، عملاً بإطلاق دليله، لأن الواجب هو صرف وجود الطبيعة التامة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت، ويكفي في وجوبها القدرة عليها في جزء منه، لا في تمامه، كما هو الحال في غير النسيان من سائر الأعذار، حيث لا يجوز الاكتفاء بالناقص معها إلا مع استيعابها لتمام الوقت.

المناقشة فيه

ففيه: أن فرض الإطلاق لوجوب التام بنحو يكفي تجدد القدرة عليه بعد النسيان، خارج عن محل الكلام، بل المفروض إجمال الخطاب بالواجب من هذه الجهة، والمتيقن حال النسيان وجوب الناقص المفروض امتثاله، فيكون كما لو امتثل المسافر أمر الصلاة بالقصر، ثم دخل بلده في الوقت.

وعدم الاكتفاء بالناقص في سائر الأعذار مع عدم استيعابها لتمام الوقت موقوف على فرض الإطلاق المذكور، لا مع عدمه، كما يأتي في التنبيه الخامس إن شاء الله تعالى.

ما ذكره قدس سرة أيضاً من أن مقتضى الاستصحاب وجوب التام

ومثله ما ذكره أيضاً من أنه لو طرأ النسيان في أثناء الوقت فمقتضى الاستصحاب وجوب التام الثابت في أول الوقت، للشك في سقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت.

دفعه

لاندفاعه.. أولاً: بأنه لا مجال له بناء على ما يظهر منه قدس سرة من كون النسيان رافعاً واقعياً للتكليف بالتام، للعلم معه بانتقاض الحالة السابقة، المقتضي للرجوع بعد الذكر لاستصحاب عدم التكليف، أو لأصل البراءة

ص: 475

منه.

وثانياً: بأنه لا مجال للاستصحاب مع احتمال أخذ الذكر في موضوع التكليف بالتام لدخله في ملاكه، لرجوع ذلك إلى عدم اليقين من أول الأمر بوجوب التام تعييناً، بل يحتمل التخيير من أول الأمر بين التام الحاصل حين الذكر، والناقص الحاصل حين النسيان. فلاحظ.

هذا، وقد ذكر بعض مشايخنا أنه لو فرض انحصار الامتثال بالعمل الذي وقع النقص فيه كان لازم عموم الجزئية لحال النسيان بطلانه وتعذر الامتثال المسقط للتكليف، ولازم اختصاصها بحال الذكر صحته ووجوب إتمامه، وحينئذٍ مقتضى الأصل الأول، لأصالة البراءة من وجوب الإتمام، فلو وجب صوم يوم معين، فنسي المكلف وأكل فيه، ثم التفت وشك في اختصاص الإمساك المنسي بحال الذكر المستلزم لوجوب إتمام صوم ذلك اليوم، وعموم جزئيته المستلزم لبطلانه وجواز تركه كان له البناء على الثاني.

التحقيق في المقام

أقول: بناء على ما ذكرنا من عدم كون النسيان مسقطاً واقعياً للتكليف التام الملاك، فالمكلف بعد الالتفات يعلم بثبوت التكليف في حقه حين النسيان قبل ترك الجزء إما بالتام أو بالناقص، الراجع إلى العلم بالتكليف بالناقص مردداً بين كونه بشرط التمامية وكونه لا بشرط، ويحتمل سقوط التكليف المذكور بفوت الجزء، لاحتمال كون التكليف بالتام المتعذر به، فمقتضى الاستصحاب بقاء التكليف المذكور على ما هو عليه من التردد، وإن استلزم التكليف بالناقص بنحو اللابشرط الذي هو مشكوك الحدوث، لأن تنجيز الناقص لا يعتبر فيه إحراز التكليف به بنحو اللابشرط، ليكون الأصل مثبتاً، بل يكفي فيه إحراز التكليف به في الجملة مردداً بين الوجهين،

ص: 476

الذي هو عين المستصحب، ولذا تقدم في أصل مسألة الدوران بين الأقل والأكثر أن العلم بالأقل على ما هو عليه من الترديد صالح لتنجيزه.

نعم، بناء على أن النسيان مسقط للتكليف بالتام واقعاً لا مجال للاستصحاب، فإن المتيقن قبل النسيان هو وجوب التام، الذي لا يدعو للأقل إلا في ضمن التام، وهو معلوم السقوط، غاية الأمر أنه يحتمل تعقبه بالتكليف بالناقص بسبب النسيان، والأصل عدمه، ولا مجال لاستصحابه، فتأمل.

إلا أن يفرض وجوب القضاء على تقدير الفوت، حيث يعلم حينئذٍ إجمالاً بوجوب المضي في الناقص أو قضاء التام، فيلزم الاحتياط بالجمع بينهما.

وربما يأتي في التنبيه الخامس توضيح ذلك.

حاصل ما تقدم

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن الأصل عدم إجزاء الناقص من الناسي فيما إذا كان لدليل الجزئية إطلاق يشمل حال النسيان، بل مطلقاً بناء على ما ذكرناه في الأمر الثالث من عدم اختلاف الملاك بين الناسي والذاكر.

فلابد في الإجزاء من دلالة الدليل المخرج عن مقتضى الأصل المذكور، من باب إجزاء غير الواجب عن الواجب، كما دل الدليل عليه في الصلاة في مثل موارد: «لا تعاد...» وفي الصوم والحج وغيرهما مما يوكل تفصيله إلى الفقه.

تنبيه: عموم الحديث المتقدم للجهل بالحكم أو الموضوع

تنبيه..

لا يختص ما ذكرناه بالنسيان، بل يأتي في الجهل بالحكم أو الموضوع، بل الظاهر منهم عدم احتمال الاختلاف بين العالم والجاهل

ص: 477

في الحكم الواقعي، فلا يحتاج تعميم الجزئية لحال الجهل إلى الإطلاق، ولازمه أصالة عدم إجزاء الناقص من الجاهل إلا بدليل خاص، وقد ورد في بعض الموارد، كما ورد في النسيان.

وتخصيص محل الكلام بالنسيان إنما كان تبعاً لشيخنا الأعظم قدس سرة ولاختصاص بعض مبانيهم به، وإلا فاحتمال خصوصيته في صدق الركن عندهم بعيد. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

المسألة الثانية: في الزيادة تمهيد وفيه أمران

المسألة الثانية: في الزيادة.

وينبغي تمهيد محل الكلام بأمرين..

الأول: الزيادة والنقيصة من المعاني الإضافية

الأول: من الظاهر أن الزيادة والنقيصة من العناوين الإضافية، فلا تصدقان إلا بلحاظ جهة متقومة بالحد، ليكون ما زاد عليه زيادة وما نقص عنه نقيصة، فالإنسان ذو الأصابع الأربع أو الست مثلاً لا يكون ناقصاً أو زائداً بالإضافة إلى طبيعة الإنسان لوقوعها بالوجهين، بل بالإضافة إلى خصوص الإنسان الشايع المتعارف، وصلاة الثلاث ركعات زائدة بالإضافة إلى صلاة الصبح، وناقصة بالإضافة إلى صلاة العشاء، وتامة بالإضافة إلى صلاة المغرب.

هذا، وحيث كان الكلام هنا في الزيادة في الامتثال على المأمور به، فمنشأ الإضافة هو الأمر بلحاظ تعلقه بالمركب ذي الأجزاء التي يمكن الامتثال بما زاد عليها أو نقص عنها.

تفرع الزيادة على اعتبار وحدة الشيء

كما أن الظاهر أن انتزاع الزيادة متفرع على وحدة الشيء المزيد فيه، بحيث تكون الزيادة جزءاً منه، لا خارجة عنه، فلابد من فرض جهة مصححة لانتزاع الوحدة بينها وبين العمل الذي به الامتثال، كالوحدة الخارجية

ص: 478

المنتزعة من اتصال الأجزاء في مثل الماء الواحد والدرهم الواحد، والوحدة العرفية المنتزعة من اجتماع الأجزاء بوجه خاص، كوحدة الدار والبستان والبدرة.

الوحدة في الماهيات الشرعية

وأما الماهيات الشرعية، كالصلاة والحج، فحيث لا وحدة لها حقيقية ولا عرفية، فلابد من كون منشأ الوحدة فيها هو قصد الامتثال بالعمل، المستلزم لعدم صدق الزيادة فيه إلا بقصد الجزئية في الزائد، ولا يكفي فيه مجرد مقارنة الشيء الخارج عن المأمور به للامتثال، سواء كان الزائد من سنخ الأجزاء كسجود الشكر في أثناء الصلاة، أم من سنخ آخر كوضع اليدين على الفخذين، والنظر إلى السماء، والإشارة، لعدم كون المقارنة بنفسها منشأ لانتزاع الوحدة المذكورة، وإلا لزم صدقها على مثل النفس ولحظ العين وغيرهما، بل لم يمكن خلو الامتثال عن الزيادة بالمعنى المذكور، وهو مما يقطع بعدم إرادته في المقام.

نعم، إذا كان الفعل الخارج عن المأمور به من سنخ الأجزاء المأمور بها وكان له وجود معتد به، وكان للمركب هيئة إتصالية ولو من جهة التعارف فقد يصح إطلاق الزيادة عليه توسعاً بلحاظ الوحدة الحاصلة من الهيئة المذكورة.

وعليه قد يحمل ما في خبر زرارة عن أحدهما C قال: «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم، فإن السجود زيادة في المكتوبة»(1)، لوضوح أن سجود العزيمة لامتثال أمره لا لامتثال أمر الصلاة، ليكون زيادة فيها. وإن كان الظاهر أن تطبيق الزيادة في الخبر تعبدي محض.

ص: 479


1- الوسائل ج: 4، باب: 4 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.

وأما ما في خبر علي بن جعفر عن أخيه (ع) سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم أيركع بها أو يسجد ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال: «يسجد ثم يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع، وذلك زيادة في الفريضة، ولا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة»(1).

فلعل المراد بالزيادة فيه نفس سورة العزيمة، لقصد الامتثال بها مع خروجها عن المأمور به، لا سجدتها.

ثم إن الاقتصار في الخبرين على موردهما أو تعميمه لغيره عملاً بعموم التعليل موكول إلى الفقه، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

الثاني: صدق الزيادة فيما لا يكون من سنخ أجزاء المركب

الثاني: لا إشكال في صدق الزيادة في ما لا يكون من سنخ أجزاء المركب لو نوى به الجزئية، وكذا ما يكون من سنخها إذا جيء به في غير محله أو على غير وجهه المشروع، كما لو قرأ السورة قبل الفاتحة في الصلاة، أو جهر في موضع الإخفات، بناء على أن الجهر شرط في جزئية الجزء لا في أصل المركب.

وأما إذا جيء به مع ما هو المشروع من سنخه وفي محله، كما لو ركع مرتين أو سجد ثلاثاً في ركعة واحدة، فيختلف الحال باختلاف صور أخذ الجزء في المركب، إذ الجزء..

تارةً: يكون هو الطبيعة الصادقة على القليل والكثير، بحيث يكون كل منهما بحده تمام الجزء، نظير ما يذكر في تقريب التخيير بين الأقل والأكثر.

وأخرى: يكون هو الأكثر بحده.

ص: 480


1- الوسائل ج: 4، باب: 4 من أبواب القراءة في الصلاة، ح: 4.

وثالثةً: يكون هو الأقل بحده بشرط لا، بحيث لو زاد وأخلّ بالحد خرج الكل عن الجزئية.

ورابعةً: يكون هو الأقل بحده لا بشرط، فالزيادة وإن خرجت عن الجزء لا تخل بجزئيته.

ولا مجال لفرض الزيادة في الصورتين الأوليين، بل تختص بالأخيرتين، غايته أنها في الثالثة تستلزم النقيصة، لتعذر الجزء وهو الأقل بحده بسببها.

إلا أن يفرض بطلان الجزء ببعض مراتب الزيادة بخصوصها، فيمكن حينئذٍ استئنافه بعدها. نظير ما ورد في من زاد في تسبيح الزهراء D على أربع وثلاثين تكبيرة من لزوم استئناف الرابعة والثلاثين(1).

في أصالة البطلان بالزيادة فيم لو رجعت إلى الإخلال بالواجب

إذا عرفت هذا، فلا ريب في أصالة البطلان بالزيادة فيما لو رجعت إلى الإخلال بما يعتبر في الواجب، لأخذ عدم الزيادة شرطاً في جزئية الجزء، مع تعذر تداركه، أو مع إمكانه وتركه، وإن كان البطلان في الثاني لا يستند للزيادة، بل لترك التدارك بعدها الراجع إلى النقيصة، بل هو في الأول وإن استند للزيادة، إلا أنه من جهة استلزامها النقيصة، لا بعنوان كونها زيادة.

وأما في غير ذلك فلابد في قادحية الزيادة من دليل، وبدونه فالأصل عدمها، لرجوع الشك فيها إلى الشك في المانعية الذي هو مورد البراءة، كالشك في الشرطية، بل هو راجع إليه، لأن مانعية شيء من المركب ترجع إلى اعتبار عدمه فيه.

الاستلال على مبطلية الزيادة بأنها تغيير لهيئة العبادة

وأما الاستدلال على مبطلية الزيادة: بأنها تغيير لهيئة العبادة الموظفة،

ص: 481


1- الوسائل ج: 4، باب: 21 من أبواب التعقيب من كتاب الصلاة حديث: 4.

فتكون مبطلة، كما أشار إليه في المعتبر.

ما أجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سرة

فقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس سرة: بأنه إن أريد تغيير الهيئة المعتبرة في المركب فالصغرى ممنوعة، لأن اعتبار الهيئة الخاصة التي تخل بها الزيادة أول الدعوى. وإن أريد أنه تغيير للهيئة المتعارفة فالكبرى ممنوعة، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلاً.

الإشكال في الزيادة لابتنائها على قصد الجزئية

نعم، قد يستشكل في الزيادة بأنها بعد أن كانت موقوفة على قصد الجزئية كانت مبتنية على قصد أمر آخر غير الأمر الواقعي مشتمل على الزيادة المذكورة، فلا يتحقق امتثال الأمر الواقعي، بل امتثال الأمر الاختراعي المفروض، فلا يصح العمل لا من حيثية الزيادة، بل من حيثية التشريع وعدم قصد امتثال الأمر.

لكنه - مع اختصاصه بالعبادة - إنما يتم لو رجع إلى قصد امتثال أمر آخر غير الأمر الواقعي، تشريعاً، أو سهواً في أصل الأمر، كما لو اعتقد وجوب الظهر عليه، فصلى أربعاً وكان الواجب عليه في الواقع الجمعة، أو غفلة في امتثاله، كما لو صلى المسافر ثلاث ركعات بنية امتثال أمر المغرب غفلة عن أنه قد صلاها، وأنه لا يجب عليه إلا ركعتين للعشاء.

وأما مع قصد الأمر الواقعي ولو إجمالاً والتصرف فيه تشريعاً أو سهواً، بأن اعتقد اشتماله على الزيادة، أو في امتثاله بأن قصد بالزيادة الامتثال، لاعتقاد عدم سقوط أمر الجزء غفلة عن الإتيان به، أو لتخيل إمكان تبديل الامتثال، فلا وجه للبطلان، لعدم منافاة الضميمة المذكورة للتقرب المعتبر.

إلا أن يفرض أخذ الضميمة قيداً في الامتثال، بأن يكون امتثال الأمر الواقعي بالأجزاء الواقعية معلقاً على الامتثال بالزيادة ومقيداً به، فيتعين

ص: 482

بطلان العمل، لعدم وقوع الامتثال تبعاً لعدم وقوع قيده الذي أنيط به.

ودعوى: أن الامتثال من الأفعال الخارجية الجزئية غير القابلة للتقييد، كالضرب والقيام، فلابد من كون الضمائم المذكورة من سنخ الداعي أو محض المقارن، فلا تكون مضرة بفعلية الامتثال.

مدفوعة: بأن الأفعال الخارجية الجزئية التي لا تقبل التعليق هي الأفعال الخارجية المستندة لأسبابها التكوينية، إذ مع تحقق أسبابها يستحيل انفكاكها عنها، فلا معنى لتعليقها.

وأما إذا كانت قصدية - كالامتثال - فتمام علتها بالقصد القابل لأن يتعلق بالأمر التنجيزي، كما يقبل أن يتعلق بالأمر التعليقي، ولذا لا إشكال في قابلية العقود والإيقاعات للتعليق، بمعنى تعليق الأمر المنشأ.

نعم، التقييد والتعليق بالوجه المذكور محتاج إلى مؤنة وعناية لا يجري الإنسان عليها بحسب طبعه وارتكازياته في مقام الامتثال، بل لا تخرج الضمائم المذكورة عن الداعي أو الاعتقاد المقارن المحض الذي لا يخل بفعلية الامتثال.

ودعوى: أنه مع التشريع يحرم العمل، فيمتنع التقرب به.

مدفوعة: بأن التشريع إنما يقتضي حرمة الزيادة التي يؤتى بها بداعي الأمر الضمني التشريعي، لا حرمة غيرها مما لا دخل للتشريع في الداعوية له، بل لا يؤتى به إلا بداعي الأمر الواقعي ويكون امتثالاً.

ومجرد مقارنته للتشريع في الأمر الواقعي وفرضه على خلاف واقعه لا يقتضي حرمة بقية الأجزاء وامتناع التقرب بها بعد عدم دخله في الداعوية لها.

ص: 483

وبالجملة: لا يكفي في حرمة العمل ومبعديته مقارنته للتشريع، بل لابد من استناده إليه، وهو مختص بالزيادة، وحرمتها لا تمنع من التقرب ببقية أجزاء المركب، كي تبطله.

ما يتمسك به لعدم قادحية الزيادة

هذا، وربما يتمسك لعدم قادحية الزيادة، بل غيرها مما يحتمل قادحيته - مضافاً إلى الأصل المذكور -..

تارة: باستصحاب صحة العمل.

وأخرى: بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (1) فإن وجوب المضي في العمل يستلزم صحته وعدم بطلانه بالزيادة.

وقد أطال شيخنا الأعظم قدس سرة الكلام في الوجهين بما لا مجال لتعقيبه.

لكن أشرنا إلى اندفاع الأول في التنبيه السابق عند الكلام في الشك في القاطعية.

ويندفع الثاني: بظهور الآية الكريمة في أن المراد من الإبطال الإحباط بالنفاق والشقاق لله تعالى ولرسوله ونحوهما، كما يناسبه صدرها وسياقها مع قوله تعالى قبلها: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (2)، واستشهاده (ص) بها لذلك في معتبر أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) قال: «قال رسول الله (ص):

من قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له

ص: 484


1- سورة محمد: 33.
2- سورة محمد: 32.

بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال: رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. فقال: نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(1).

مضافاً إلى أن الشك في المقام في تحقق البطلان بالزيادة الرافع لموضوع الإبطال بعدها، فلا يحرز شمول الآية له، لا في جواز الإبطال بعد فرض الصحة، كما لا يخفى. فالعمدة في تقريب الأصل ما ذكرناه.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

الأول: إشكال جريان الأصل في الصلاة ونحوها

الأول: ان الأصل وإن كان يقتضي عدم مبطلية الزيادة ونحوها مما لم يقم دليل على قادحيته في العمل - كما تقدم في أصل المسألة - إلا أن ذلك قد يشكل في الصلاة ونحوها مما يحرم قطعه على تقدير صحته بحدوث علم إجمالي في المقام ينجز احتمال القادحية، للعلم إجمالاً معه إما بصحة العمل المقتضية لوجوب إتمامه أو ببطلانه المقتضي لوجوب استئنافه، ومنجزية العلم الإجمالي المذكور تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من المانعية المقتضية للاستئناف كما تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من وجوب الإتمام، فيتعين الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة.

ودعوى: أن أصالة البراءة من قادحية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل ووجوب إتمامه، فينحل بذلك العلم الإجمالي.

مدفوعة: بأن أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي وصحته الذي هو موضوع وجوب الإتمام، وإنما تقتضي المعذورية من

ص: 485


1- الوسائل ج: 4، باب: 31 من أبواب الذكر حديث: 5.

احتمال البطلان، وليس هو موضوع وجوب الإتمام.

ومثلها دعوى التمسك لذلك باستصحاب الصحة.

لما تقدم من الإشكال في الاستصحاب المذكور.

المختار عدم منجزية العلم الإجمالي في احتمال قادحية الزيادة

فلعل الأولى أن يقال: إن العلم الإجمالي المذكور - لو تم - لا يقتضي المنع من الزيادة، ولا ينجز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها، بل هو مترتب على الإتيان بها، فالزيادة شرط في حدوث العلم الإجمالي المذكور، وحيث كان الظاهر عموم حديث: «لا تعاد...» في الصلاة للجهل ونحوه من الأعذار، ولا يختص بالسهو، فهو يقتضي عدم قادحية الزيادة في المقام، للإتيان بها جهلاً بعد فرض عدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها، فيعلم بصحة الصلاة معها ووجوب المضي فيها، إما لعدم قادحيتها ذاتاً، أو من جهة تحقق العذر فيها، ولا مجال مع ذلك لفرض العلم الإجمالي المذكور.

نعم، لو كان احتمال قادحية الزيادة قبل الإتيان بها منجزاً - كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص - لم يبعد قصور حديث: «لا تعاد...» عنه، واتجه فرض العلم الإجمالي المذكور.

كما يتجه بناء على اختصاص الحديث بالسهو وعدم شموله للجهل.

هذا كله بناء على عموم حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو يقتضي الاحتياط، وأنه لا مجال للاحتياط إلا بالإتمام ثم الاستئناف.

وأما بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك، لأن تجنب صعوبة التكرار مع الرغبة في الاحتياط من جملة الأغراض العقلائية المسوغة للقطع، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي حتى في الموردين المذكورين،

ص: 486

بل غاية ما يحصل في المقام هو احتمال بطلان العمل بما يحتمل قادحيته، فلا مانع من الرجوع فيه للأصل. فتأمل جيداً.

الثاني: خروج بعض الموارد عن الأصل المذكور

الثاني: بعد أن عرفت عدم قادحية الزيادة بمقتضى الأصل فاعلم أنه قد خرج عن الأصل المذكور بعض الموارد، كالصلاة والطواف، حيث ثبت قادحية الزيادة فيهما نصاً وفتوى، على تفصيل وكلام أطال فيه غير واحد هنا. ولا يسعنا ذلك، لخروجه عن محل الكلام، إذ الكلام هنا في مقتضى القواعد العامة والأصول، وأما تشخيص مفاد الأدلة الخاصة فهو موكول إلى الفقه. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

التنبيه الخامس: في تعذر ما يعتبر في الواجب الارتباطي

التنبيه الخامس: في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي.

إذا تعذر بعض ما يعتبر في الواجب، ودار الأمر بين عموم اعتباره لحال تعذره المستلزم لسقوط التكليف بالواجب رأساً، تبعاً لتعذر قيده، واختصاصه بحال القدرة عليه، المستلزم لبقاء التكليف بما عدا المتعذر، فهل الأصل يقتضي الأول أو الثاني؟

الكلام في مقامين

والكلام في ذلك في مقامين..

الأول: في مقتضى القاعدة الأولية

الأول: في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر إلى الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.

فاعلم أن في المقام صورتين..

وفي المقام صورتان الأولى أن يكون لدليله إطلاق

الأولى: أن يكون لدليل اعتبار الأمر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر. ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق المفروض سقوط الواجب بتعذره، بمقتضى فرض الارتباطية لتعذر المقيد بتعذر قيده.

ولا مجال معه لاستصحاب التكليف بالوجه الذي يأتي الكلام فيه،

ص: 487

لكونه محكوماً للإطلاق المذكور.

ودعوى: أن سقوط وجوب المركب بمقتضى الإطلاق لا ينافي وجوب الناقص بدلاً عنه أو لكونه الميسور منه، فإن قوله (ع): «لا صلاة إلا بطهور» مثلاً إنما يقتضي توقف الصلاة على الطهور المستلزم لسقوط وجوبها بتعذره، وهو لا ينافي وجوب المركب الخالي عنه لكونه الميسور من الصلاة أو لكونه بدلاً عنها، واحتمال ذلك مصحح للاستصحاب.

مدفوعة: بأن الإطلاق المفروض في محل الكلام هو إطلاق اعتبار الشيء في الواجب، المستلزم لسقوط الواجب بتعذره، لا إطلاق اعتباره في المركب الذي يجب في بعض الأحوال، بنحو قد يخلفه غيره، فإن ذلك خارج عن محل الكلام، لعدم استلزامه إطلاق اعتباره في الواجب. وبعبارة أخرى: بعد فرض إطلاق أخذ الجزء أو الشرط في العنوان الواجب - كالصلاة - فوجوب الخالي عنهما عند تعذرهما إن رجع إلى وجوب العنوان المذكور فهو مخالف للإطلاق، وإن رجع إلى وجوب أمر آخر بدلاً عنه فهو خارج عن محل الكلام، ولا ينهض به الاستصحاب. فلاحظ.

هذا، وقد تقدم في النقيصة السهوية من التنبيه السابق الكلام في بعض ما يستفاد منه الإطلاق بما لا حاجة معه لإطالة الكلام فيه هنا، لأن المقامين من باب واحد.

الثانية: أن لا يكون لدليله إطلاق

الثانية: أن لا يكون لدليله إطلاق، وحينئذٍ فإن كان للتكليف بباقي الأجزاء إطلاق يشمل صورة تعذر الأمر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على حال القدرة عليه والبناء على عدم جزئيته في حال تعذره، المستلزم لعدم سقوط المركب حينئذٍ.

ص: 488

وإلا لزم البناء على الإجمال والرجوع للأصل العملي، من الاستصحاب أو البراءة.

دفع احتمال التمسك بالاستصحاب لإحراز وجوب الباقي

أما الاستصحاب فقد يتمسك به لإحراز وجوب الباقي للعلم بوجوبه سابقاً حين القدرة على التام ويحتمل بقاء التكليف به بعد التعذر.

وفيه: أن المعلوم سابقاً هو وجوبه ضمناً في ضمن التكليف بالتام، وهو معلوم الارتفاع بسقوط التام، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي له بعده، والأصل عدمه.

ما ذكره العراقي قدس سرة من أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن

ودعوى: أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن سابقاً، لوجوده في ضمنه، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود، وهو لا يوجب تعدد المحدود، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سرة.

دفع ما ذكره قدس سرة

مدفوعة: بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إن رجع إلى اختلاف مرتبة الوجود الواحد، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد الشديد والتحريم بسبب واحد الموجود في ضمن التحريم المؤكد الذي يستند لأكثر من سبب، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما، فإن كلاً من الوجوبين محتاج إلى جعل مستقل يباين جعل الآخر، وليس أحدهما بقاء للآخر، لتقوم التكليف بمتعلقه على ما هو عليه من الحد الملحوظ للجاعل، فلابد مع اختلاف الحدين من اختلاف الجعل، الموجب لتعدد المجعول. فلاحظ.

استصحاب كلي الوجوب

وأما استصحاب كلي الوجوب الجامع بين الوجوب الضمني والاستقلالي، الثابت سابقاً للباقي والمشكوك في بقائه بعد التعذر فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي، وهو لا يجري على التحقيق.

ص: 489

على أنه لو كان يجري في نفسه لكان مختصاً بما إذا كان الأثر للكلي، والأثر في المقام للفرد، وهو الوجوب الاستقلالي، والاندفاع إنما يكون عنه، لا عن كلي الوجوب، بل ليس الاندفاع مع الوجوب الضمني إلا عن الوجوب الاستقلالي، إذ ليس الوجوب الضمني إلا تحليلياً، لا يكون مورداً للأثر بنظر العقلاء.

وإحراز كون الوجوب استقلالياً باستصحاب الكلي مبني على الأصل المثبت.

ومثله في ذلك استصحاب الوجوب الاستقلالي للعنوان - كالصلاة - لإحراز تحققه بالناقص وكونه فرداً اضطرارياً له.

استصحاب الوجوب الاستقلالي للناقص

نعم، قد يتمسك باستصحاب الوجوب الاستقلالي للناقص فيما إذا كان متحداً مع التام عرفاً، بأن يكون المتعذر لقلته من سنخ الحالات المتبادلة على الموضوع الواحد غير الموجبة لتعدده، لا مقوماً له عرفاً، بناء على الاكتفاء بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب، كما جرى عليه غير واحد في مثل استصحاب كرية الماء.

لكن المبنى المذكور غير تام في نفسه، على ما يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

الكلام مع احتمال التكليف به من أول الأمر تخييراً

هذا كله مع العلم بسبق التكليف بالتام تعييناً، بحيث لا يجوز تعجيز النفس عنه، أما لو احتمل التكليف به من أول الأمر تخييراً، بحيث يجوز التعجيز عنه، لاختصاص ملاكه بحال القدرة عليه، فليس المتيقن سابقاً هو التكليف بالتام بنحو يسقط بالتعذر، ويحتمل حدوث تكليف آخر بالناقص، بل التكليف بالباقي في الجملة إما مقيداً بالمتعذر لا غير فيسقط بالتعذر، أو

ص: 490

مخيراً بينه وبين المطلق في حال التعذر، فيبقى مع التعذر، ولا يبعد حينئذٍ جريان استصحاب التكليف بالميسور على ما هو عليه من الترديد والإجمال، لصلوحه للداعوية ظاهراً، نظير ما تقدم في مناقشة بعض مشايخنا في آخر الكلام في النقيصة السهوية، وإن لم يكن عينه.

لكنه محتاج إلى كثير تأمل.

اختصاص الاستصحاب - لو جرى - بما إذا كان مسبوقاً بالقدرة

ثم انه لو جرى الاستصحاب في نفسه اختص بما إذا كان مسبوقاً بالقدرة في الوقت وتجدد العجز في أثنائه، بحيث يعلم معه بفعلية التكليف سابقاً في حقه.

لكن عن بعض الأعاظم الاكتفاء بسبق القدرة ولو قبل الوقت، بدعوى: أن الاستصحاب في الأحكام الكلية الذي هو وظيفة المجتهد لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجاً، ومن ثم يتمسك الفقيه في حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب، مع عدم تحقق الموضوع خارجاً.

وفيه: أنه مع عدم فعلية الموضوع يعلم بعدم التكليف، فلا معنى لاستصحابه بعد الوقت مع الشك، بل المتعين استصحاب عدمه وإجراء المجتهد للاستصحاب في الأحكام الكلية إنما هو بمعنى حكمه بأن وظيفة من يفرض في حقه فعلية الموضوع والقطع بالتكليف هو البناء على بقائه، لا الحكم فعلاً بالبقاء في حقه مع عدم فعلية الموضوع في حقه، كما في المقام، فإنه خارج عن مفاد الاستصحاب، كما أطال في توضيح ذلك بعض مشايخنا. فراجع.

نعم، بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي يتجه الرجوع له في المقام، فيقال: كان الباقي حين القدرة على الجزء لو دخل الوقت لوجب،

ص: 491

فهو بعد التعذر كذلك.

وكذا بناء على كون الوقت شرطاً للواجب لا للوجوب، لفعلية الوجوب حينئذٍ قبله، فيتجه استصحابه.

وعلى أحد هذين الوجهين يتجه التعميم من شيخنا الأعظم قدس سرة.

لكن الوجهين ضعيفان في نفسيهما، مخالفان لمذهب بعض الأعاظم قدس سرة.

التمسك باستصحاب جزئية المتعذر

هذا، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرة التمسك باستصحاب جزئية المتعذر في حال التعذر، المقتضي لسقوط التكليف رأساً بالتعذر، وحكومته على استصحاب التكليف لو فرض جريانه في نفسه.

وقد أطال في ذلك بما لا مجال لمتابعته فيه، لضعفه. فراجع.

وأما أصل البراءة فقد يتمسك له لنفي جزئية المتعذر أو شرطيته حال تعذره، بدعوى: أن المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

دفعه

ويندفع بأن الجزئية والشرطية ليستا من الأحكام المجعولة، بل هما منتزعتان من وجوب المركب الذي أخذ فيه المشكوك، وهو مما يقطع بارتفاعه بسبب التعذر، فلا معنى لجريان البراءة منه، وإنما الشك في حدوث وجوب الباقي، ودليل البراءة لا يثبته، بل ينفيه.

بل لو فرض جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسها فلا مجال له في مثل المقام مما لا يكون له أثر إلا الإلزام بالناقص، لمنافاته للامتنان الذي هو مساق أدلة البراءة.

ص: 492

نعم، لو فرض العلم بتجدد القدرة في الوقت تعين البناء على الاكتفاء بالناقص حال التعذر، للعلم بالتكليف حينئذٍ، إما بالأكثر الذي لا يحصل إلا في آخر الوقت، أو بالأقل الميسور في تمامه، ومقتضى الأصل الاكتفاء بالأقل.

وكذا لو فرض حصول العلم الإجمالي بالتكليف بسبب وجوب القضاء أو الكفارة، حيث يعلم إجمالاً إما بوجوب الأقل في الوقت، أو بوجوب الكفارة أو القضاء في خارجه.

وفي ماعدا ذلك حيث يشك في التكليف بالناقص فالأصل البراءة منه.

إلا أن يكون محكوماً لقاعدة الميسور الآتية، أو للاستصحاب الذي تقدم الكلام فيه.

هذا، ولا يخفى أن ذلك لا يختص بمحل الكلام، وهو الشك في عموم الجزئية لحال التعذر، بل يجري في ما يشك في أصل جزئيته - كالاستعاذة في الصلاة - لو فرض تعذره، فإن الشك في أصل جزئيته إنما يكون مجرى للبراءة مع العلم بفعلية التكليف في الجملة، أما مع الشك في أصل التكليف لتعذر ما يحتمل دخله فيه فالمتعين جريان البراءة منه.

إلا أن يكون محكوماً لقاعدة الميسور - لو فرض جريانها فيه على تقدير اعتباره - أو لاستصحاب التكليف لو فرض تجدد العجز في أثناء الوقت، حيث يمكن معه استصحاب التكليف على ما هو عليه من الإجمال والتردد بين الأقل والأكثر الذي عرفت أنه صالح للداعوية للأقل، أو يكون طرفاً لعلم إجمالي منجز، كما لو فرض وجوب القضاء أو الكفارة، على

ص: 493

ما أشرنا إليه، أو فرض تجدد التكليف بتعدد الوقائع، حيث يعلم حينئذٍ إما بالتكليف بالأقل في الواقعة المقارنة للتعذر، أو بالتام في الوقائع الأخرى، إلى غير ذلك مما يجب الخروج فيه عن مقتضى أصل البراءة، ولولاه لكان هو المرجع في ذلك وفي ما نحن فيه. فلاحظ.

المقام الثاني: في مقتضى القاعدة الثانوية

المقام الثاني: في مقتضى القاعدة الثانوية. بعد الفراغ عما تقدم من التفصيل في المقام الأول.

قاعدة الميسور

ولا إشكال في الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الصلاة والحج وغيرهما، وإنما الإشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو المرجع عند الشك، وهو ما يسمى بقاعدة الميسور، التي وقع الكلام فيها بين الأصحاب.

عمدة ما يستدل أمران

وعمدة ما يستدل به لها أمران:

الأول: دليل رفع الاضطرار

الأول: دليل رفع الاضطرار، وما لا يطيقون ونحوهما، بدعوى: أن مقتضاه سقوط جزئية المتعذر، المستلزم لبقاء التكليف بماعداه بعد فرض ثبوت مقتضيه لولا التعذر.

لكن تقدم في الأمر الثاني من الكلام في النقيصة السهوية أنه لا مجال لاستفادة ذلك من حديث الرفع، وأن مفاده رفع التكليف بالتام، لا تشريع التكليف بالناقص. فراجع، فإن المقامين من باب واحد.

ومنه يظهر ضعف الاستدلال بما دل على الحلية بالاضطرار والتقية، بناء على عمومها للحلية الوضعية.

الثاني بعض النصوص المتضمنة لوجوب الإتيان بالميسور

الثاني: بعض النصوص المتضمنة لوجوب الإتيان بالميسور، وهي ما

ص: 494

في عوالي اللآلي عن النبي (ص): «إذا أمرتم بأمر فأتوا منه بما استطعتم»(1)، وعن أمير المؤمنين (ع): «لا يترك الميسور بالمعسور»(2)، وعنه (ع) أيضاً: «ما لا يدرك كله لا يترك كله»(3).

بدعوى: ظهورها في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من أجزائه وشرائطه، فتكون حاكمة على إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر الشامل لحال تعذره لو فرض ثبوته.

الكلام في النصوص تارة في السند وأخرى في الدلالة

وينبغي الكلام في هذه النصوص..

تارة: في السند.

وأخرى: في الدلالة.

أما السند فلا إشكال في ضعفه في جميعها، لعدم ذكر أصحابنا لها في كتب الحديث المعروفة، وإنما ذكرت مرسلة في محكي عوالي اللآلي الذي هو من الكتب المتأخرة عصراً غير المعروفة بالضبط وانتقاء الحديث المعتبر، بل طعن فيه صاحب الحدائق مع ما هو المعلوم من حاله من عدم شدة اهتمامه بإسناد الأخبار.

قال في رد مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين: «مع ما هي عليه من الرفع والإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال، وخلط غثها بسمينها، وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور»، وإنما ورد الأول مسنداً في كتب العامة على اختلاف مضامينه بما يأتي الإشارة إليه.

ص: 495


1- عوالي اللآلئ ج: 4 ص: 58.
2- عوالي اللآلئ ج: 4 ص: 58.
3- عوالي اللآلئ ج: 4 ص: 58.

نعم، قال شيخنا الأعظم قدس سرة في توجيه حجية هذه النصوص: «وضعف إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات، كما لا يخفى على المتتبع».

وفيه: أن تمسك الأصحاب بها غير ثابت، وغاية الأمر موافقتهم لها، وهي لا تصلح للجبر ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع إليها، ولا مجال له بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال في ما أعلم، وإلا لما اقتصر على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.

بل لم يجروا عليها في كثير من فروع العبادات فضلاً عن غيرها، كما يشهد به تتبع حالهم في الصوم، والخمس، والزكاة، وكثير من فروع الحج والصلاة، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد عن بعض المراتب، كاستبدال القيام بالجلوس في الصلاة، واستبدال المشي أو الركوب بالحمل في الطواف والسعي، بل وعن بعض الأجزاء والشرائط رأساً كالسورة والطمأنينة، إلا أنهم لم يتنزلوا عن كثير من الأجزاء والشروط، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات الصلاة أو بعض مناسك الحج، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد الطهورين.

الاجتزاء بالناقص لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر

فمن القريب جداً أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من فروع الطهارة والصلاة، والحج لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر، أو لقرائن خاصة كالإجماع، والسيرة، والأخبار الكثيرة الواردة في كثير من تلك الفروع، والتي قد يتعدى الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها، أو لنحو ذلك مما لا مجال معه لدعوى انجبار الأخبار المذكورة بعمل المشهور.

الكلام في الدلالة

وأما الدلالة فهي لا تخلو عن قصور في الجميع.

ص: 496

أما الأول فلأن «من» وإن كانت ظاهرة في التبعيض، إلا أن التبعيض قد يكون بلحاظ الوحدة النوعية، فيكون البعض هو الفرد من الكلي، وقد يكون بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأمور الخارجية، فيكون البعض هو الجزء من الكل، والأول راجع إلى التكرار في المأمور به، والثاني هو الذي ينفع في ما نحن فيه، ولا مجال لحمل الإطلاق عليهما معاً، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد اختلاف الجهة المصححة للتبعيض، كما لا مجال للحمل على الثاني ولاسيما بعد احتياجه إلى نحو من العناية في فرض الشيء مركباً ذا أجزاء من دون إشعار للكلام به، فإطلاق الشيء يناسب إرادة الأول.

قرب أخذه مما رواه العامة

هذا، مع أن قرب أخذه مما رواه العامة يناسب الحمل على الأول، فعن مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: خطبنا رسول الله (ص) فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا.

فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت (ص) حتى قالها ثلاثاً.

فقال رسول الله (ص): لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»(1).

بل رواه النسائي بالسياق المذكور هكذا: «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم»(2) فيكون أجنبياً عما نحن فيه جداً وصريحاً في المعنى الأول.

ودعوى: أن الحمل على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ولا

ص: 497


1- صحيح مسلم ج: 4 ص: 102.
2- سنن النسائي ج: 5 ص: 110.

سيرة المسلمين في الاكتفاء بالمرة، بل هو خلاف المقطوع به في المورد.

مدفوعة: بأن ذلك لا يصلح قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه، بل لعل الأولى الحمل على الاستحباب.

بل هو الظاهر في نفسه مما سبق في رواية العامة، كما يناسبه ظهور كونه تخفيفاً في مقابل الأمر بوجوب الحج في كل عام، وظهور الاستطاعة فيه في العرفية التي لا تسوغ ترك الواجب.

مقتضى الجمع بينه وبين ما رواه موالي اللآلي

كما أنه مقتضى الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللآلي عن الشهيد عن ابن عباس قال: «لما خطبنا رسول الله (ص) بالحج قام إليه الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت لوجب، ولو وجب لم تفعلوا، إنما الحج في العمر مرة واحدة، فمن زاد فتطوع»(1) وحكي نحوه عن أبي داود والنسائي وأحمد والحاكم في صحاحهم.

نعم، لابد من تقييده بما يكون مشروعاً في نفسه بنحو الاستغراق، كالحج والصدقة، فيكون مسوقاً لبيان معنى ارتكازي عقلي، وهو حسن الاستزادة من الخير والاكثار منه بحسب المستطاع، بعد فرض كونه خيراً لكونه انحلالياً، لا لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض.

بل هذا هو الظاهر منه عرفاً، ولذا يصدق بلا تكلف على مثل الصدقة بالمقدار الميسور، ومساعدة المؤمن ونحوهما. فتأمل جيداً.

وما ذكرناه أولى من دفع الاستدلال باحتمال كون «من» في المقام

ص: 498


1- مستدرك الوسائل ج: 8 باب: 3 من أبواب وجوب الحج حديث: 4.

بمعنى الباء، أو بيانية، أو زائدة.

ورود (من) بمعنى الباء والكلام فيه

لأن ورود (من) بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهداً عليه بقوله تعالى: ينظرون من طرف خفي(1)، لكن من القريب جداً كونها في الآية ابتدائية لبيان المنشأ، نظير: جرى الماء من الميزاب، فكأن الطرف منشأ للنظر ومصدره.

مع أنه لو سلم فهي بمعنى باء الاستعانة أو الآلة، لا باء التعدية، كما هو المدعى في المقام.

كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها جنس ما قبلها، نظير: خاتم من حديد، إلى الابتدائية - التي لا مجال لها في المقام - أو التبعيضية، فكأن المراد خاتم ناشئ من حديد، أو بعض منه.

مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنساً لما قبلها - كالمثال المتقدم - دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه، إذ لم يعهد إرادة الجنس منها حينئذٍٍ، كي يكون المراد هنا: إذا أمرتكم بشيء فحققوا نوعه ما استطعتم.

زيادة (من)

وأما زيادة (من) في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي، فهو وإن قيل في مثل قوله: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (2) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية، وأن المراد الأمر بإنقاص النظر، إما بلحاظ المرتبة في مقابل الإشباع وملء العين، أو بلحاظ المنظور، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأشياء كالأجنبية.

ص: 499


1- سورة الشورى: 45.
2- سورة النور: 30.

وربما احتمل كونها لابتداء الغاية، وإن كان لا يخلو عن بعد.

وكيف كان، فزيادتها في الآية بعيدة، وفي الحديث أبعد، لأن «أتى» لا تتعدى للمأتي به بنفسها.

فالظاهر أنها في الحديث للتبعيض، وأن التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية، كما ذكرنا.

دلالة الحديث الثاني

وأما الثاني فلظهوره في رفع احتمال سقوط الميسور بعد فرض ثبوت مقتضيه، لبيان قضية ارتكازية عقلائية، لا التصرف في أصل الجعل، بنحو يكون ناظراً لأدلته الأولية وشارحاً لها، ومبيناً لحال الأجزاء وأنها ناشئة عن مقتضيات متعددة لا يوجب سقوط بعضها بالتعذر سقوط الآخر، ليكون حاكماً على الأدلة الأولية الظاهرة في الارتباطية في مقام السقوط.

وبعبارة أخرى: وجوب الناقص بعد سقوط التام.

تارة: يكون بملاك كونه بدلاً عنه وتداركاً له، نظير وجوب الفدية مع تعذر الصوم.

وأخرى: لقيام الملاك بالكل بنحو الانحلال وتعدد المطلوب، بحيث يكون كل جزء منه وافياً بمرتبة من الملاك القابلة للاستيفاء عند تعذر الباقي.

والأول لا يناسب التعبير بالسقوط الظاهر في تحقق مقتضي الثبوت للميسور مع قطع النظر عن تعسر المعسور.

والثاني وإن كان مناسباً للتعبير المذكور، إلا أن الظاهر من الحديث الإشارة إلى الكبرى الارتكازية إرشاداً لها، لا لبيان تحقق صغراها تعبداً، لشرح حال التكاليف بالمركبات على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية.

ص: 500

نعم، لو كان وارداً في خصوص مورد المركبات الظاهرة أو الموهمة للارتباطية كان ظاهراً في شرح حالها.

لكن المفروض عدم المورد للحديث بنحو يكون صارفاً لظهوره في محض بيان الكبرى المذكورة، نظير ما تقدم في الجواب عن الاستدلال لوجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بروايات النهي عن ارتكاب الشبهة. فراجع.

هذا، وربما يقال: فرض السقوط في الميسور ليس بلحاظ سبق ثبوت الملاك له - وإلا لامتنع تطبيقه على الجزء بعد فرض الارتباطية في حال تيسر التام، لقيام الملاك بالتام حين تيسره، لا بكل جزء جزء، وقيام الملاك بالناقص إنما يكون بعد التعسر - بل بلحاظ سبق التكليف به، وهو كما يصح بلحاظ سبق التكليف الاستقلالي به، كالصلاة مع تعسر الصوم، كذلك يصح بلحاظ سبق التكليف الضمني به في ضمن التكليف بالمركب، حيث يصح أن يقال: لا يسقط التكليف بالجزء بسبب تعذر بقية الأجزاء.

لكن فيه.. أولاً: أن فرض السقوط بلحاظ سبق التكليف وإن كان مقبولاً غير مستهجن، إلا أن الأظهر مع عدم القرينة حمله على كونه بلحاظ ثبوت المقتضي له لدفع توهم المانع عن تأثيره، كما ذكرناه آنفاً.

وثانياً: أن الأمر حينئذٍ يدور بين الحمل على سقوط التكليف بالميسور بعد سبق التكليف الاستقلالي به، لاستقلاله بالملاك، فيكون إرشاداً إلى الكبرى الارتكازية التي هي أجنبية عما نحن فيه، والحمل على سقوط التكليف به بعد سبق التكليف الضمني به لبيان قضية تعبدية محضة تنفع في ما نحن فيه، وتحكم على الأدلة الأولوية المقتضية للسقوط. ولا

ص: 501

جامع بينهما، لعدم الجامع بين الأمر الإرشادي والتعبدي المولوي، كما نبه له بعض مشايخنا.

بل يتعين الحمل على الأول، لأن أنس الذهن بالقضية الارتكازية يوجب انصرافه إليها من الكلام بنحو يحتاج خلافه إلى تنبيه وقرينة، فترك المتكلم لذلك قرينة عامة على إرادة ما ينصرف إليه الذهن بطبعه. بل لعل ذلك موجب للانصراف حتى مع فرض إمكان شمول الإطلاق للأمرين.

وما قيل: من أن الأصل في بيانات الشارع المولوية لا الإرشاد.

إنما هو في ما إذا علم المراد من الكلام، وشك في صدوره بداعي الإرشاد أو المولوية، كما لو دار الأمر بينهما في بعض الأوامر والنواهي في بعض الأمور التي يحتمل صدورها للإرشاد إلى آثارها الوضعية، لا للمولوية، وكما قيل في أوامر الاحتياط في الشبهة البدوية.

أما مع تردد معنى الكلام بين أمرين أحدهما ارتكازي قد أنس به الذهن فالمتعين الحمل عليه، وإن لزم منه الإرشاد.

هذا، مضافاً إلى أن المنصرف من عدم السقوط هو البقاء بالنحو الذي كان ثابتاً سابقاً، فكما يكون بقاؤه بالتكليف به استقلالاً يكون المفروض ثبوته سابقاً بالوجه المذكور، لا في ضمن التكليف بالكل، كما لعله ظاهر بالتأمل.

ودعوى: إشعار الحديث بالارتباطية بين المعسور والميسور، بنحو يصح الردع عن توهم سقوط الثاني تبعاً للأول، إذ مع عدم الارتباطية بينهما لا منشأ للتوهم المذكور، ليحسن الردع عنه.

مدفوعة: بأن ذلك لا يتوقف على الارتباطية بينهما شرعاً، بل يكفي فيه

ص: 502

الارتباط بينهما في مقام العمل، بسبب الارتباط بينهما في حدوث الداعي لهما في نفس الفاعل، لكون أحدهما من شؤون الآخر الموجبة لكماله واعتداده به، وإن لم يكن قيداً فيه شرعاً، فلا يصلح ذلك للخروج عما ذكرنا.

حمل الحديث بلحاظ إرادة التكاليف المفروغ عن كونها انحلالية

فالمتعين حمل، الحديث الشريف على إرادة التكاليف المفروغ عن كونها انحلالية بلحاظ الميسور، من مراتبها الفاقد لبعض الاجزاء أو الخصوصيات الكمالية، ردعاً عما قد يقع من كثير من الناس، بل أكثرهم، من التسامح عن الميسور حينئذٍ لعدم الاعتداد به، كما نشاهده في كثير من أعمال الخير التي يتركها الناس رأساً، لعدم تيسرها بالمراتب المعتد بها بنظرهم، فمن لا يستطيع إشباع جائع لا يعينه بتمرة، ومن لا يستطيع صلاة النافلة من قيام لا يغتنمها في حال الجلوس أو المشي، معتذراً بالمعسور غافلاً عن اغتنام الميسور.

دلالة الحديث الثالث

ومنه يظهر الحال في الثالث، فإن من القريب جداً حمله على الإرشاد للقضية الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال التكليف، لا على بيان حال التكاليف الواقعية تعبداً وشرحها على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية، لتكون حاكمة على تلك الأدلة.

ولذا كان المرتكز شموله - كالثاني - للمرتبة القليلة بعد فرض الانحلالية، كشق التمرة بالإضافة إلى إشباع الفقير، مع أن قاعدة الميسور مختصة عندهم بما إذا كان الميسور معتداً به من المركب، فلولا كون الحديثين لبيان قضية ارتكازية آبية عن التخصيص لكان اللازم البناء على قصورهما عن ذلك بعد فرض الإجماع على قصور القاعدة التي هي تعبدية محضة. فتأمل.

ص: 503

وقد تحصل: أنه لا مجال لإثبات عموم قاعدة الميسور من حديث الرفع ونحوه، ولا من النصوص المتقدمة، بعد قصورها دلالة وسنداً.

فلا مجال بعد ذلك للكلام في عمومها للمستحبات، وللشروط، وغير ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سرة وغيره.

نعم، المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا إجمال فيه، وهو شامل للأمرين.

والله سبحانه وتعالى العالم، والحمد لله رب العالمين.

ص: 504

المقام الثاني: في دوران التكليف بين التعييني والتخييري

اشارة

والمراد التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف التخيير في المكلف به شرعاً، كما في الكفارة المخيرة، لا التخيير العقلي، الراجع إلى التكليف شرعاً بالماهية، المقتضي لتخيير العقل بين أفرادها، لعدم الفرق بينها في تحصيل الغرض، لأن الكلام في ذلك قد سبق في المسألة الثانية من المقام الأول.

تمهيد وفيه أمور

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمور..

الأول: وجوه التخيير

الأول: أن التخيير..

تارة: يكون في الحكم الواقعي في مقام الجعل والتشريع، لقصور الملاك عن اقتضاء كل طرف معيناً، كالتخيير في خصال الكفارة.

وأخرى: يكون في الحكم الواقعي، لكن في مقام الامتثال، للتزاحم بين التكليفين، المقتضي لتعيين الأهم منهما، والتخيير بينهما مع عدم الأهمية.

وثالثة: يكون في الحكم الظاهري، كالتخيير بين الحجج في مقام التعارض لو فرض قيام الدليل عليه.

ص: 505

ومحل الكلام هو الأول، لمناسبته لباب الأقل والأكثر الارتباطيين، الذي فرض فيه الشك في اعتبار خصوصية في المكلف به بنحو لا يعلم بالامتثال وتحقق شيء من الغرض إلا مع المحافظة عليها، فما هو المتيقن في مقام الامتثال لا يعلم بأخذه في مقام الجعل.

أما الثاني فمرجع الدوران بين التعيين والتخيير فيه إلى الشك في حال نفس التكليفين لاحتمال أهمية أحدهما بعينه من دون إجمال في المكلف به، مع العلم بأن موافقة كل منهما محصلة لغرضه، لعدم الارتباطية بينهما.

كما أن الدوران بينهما في الثالث لا يرجع إلى الشك في خصوصية التكليف بوجهٍ، بل في حال طريقه.

نعم، يحسن التعرض لهما استطراداً بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيه يعقد لذلك إن شاء الله تعالى.

الثاني: صور الدوران والمناسب منها

الثاني: صور الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي كثيرة، إلا أن ما يناسب المقام هو ما لو علم بفعلية التكليف بشيء وشك في كون التكليف به تعيينياً فلا يتحقق الامتثال إلا به، أو تخييرياً لأن له عدلاً يمكن امتثال التكليف به، كما لو دار الأمر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة، لاشتراكه مع مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين في وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي يشك في اعتباره في مقام الجعل.

بخلاف بقية الصور، فمثلاً لو دار الأمر بين التكليف التخييري بأحد أمور والتكليف التعييني بكل منهما - كما لو دار الأمر بين كفارة الجمع والمخيرة - يكون كل منها صالحاً للامتثال ومحصلاً للغرض في الجملة وإن لم يحرز به تمام الغرض، نظير الدوران بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين،

ص: 506

وكذا الحال في غيرها من الصور التي يأتي التعرض لها بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

الثالث: مباني حقيقة الوجوب التخييري

الثالث: الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف المباني في حقيقة الوجوب التخييري حيث اختلف في ذلك على أقوال..

الأول: التكليف بالجامع بين الخصوصيات تعييناً، إلا أن الجامع المذكور لما لم يكن عرفياً تعينت الإشارة إليه بأفراده في مقام بيان التكليف به.

الثاني: التكليف بكل منها تعييناً مع كون امتثال أحدها مسقطاً للباقي، لتعذر استيفاء ملاكها معه وإن كان فعلياً.

الثالث: التكليف بكل منها تعييناً لكن مشروطاً بعدم فعل الآخر، فهو يرجع إلى تكاليف مشروطة، لا تكليف واحد مطلق.

الرابع: التكليف التعييني بأحد الأطراف المعين عند الله تعالى.

الخامس: سنخ خاص من التكليف، مخالف للتكليف التعييني يتعلق بكل طرف طرف، لا يقتضي الإتيان به إلا في ظرف عدم الاتيان بغيره، فهو يتعدد بتعدد الأطراف.

وإليه قد يرجع ما قيل من أنه طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة.

السادس: التكليف بأحد الأطراف، على تفصيل يأتي الكلام فيه، لابتناء الكلام عليه، لأنه المختار دون الوجوه السابقة.

صور الشك بلحاظ المباني المذكورة

هذا، ولا ريب في رجوع الشك في المقام على الأول إلى الدوران بين التعيين والتخيير العقلي، الذي تقدم في المسألة الثانية في المقام الأول أن

ص: 507

المرجع فيه البراءة.

ومجرد الجهل بحدود العنوان المفهومية وانحصار معرفته بأفراده لا يصلح فارقاًً بعد صلوحه بنفسه للتكليف.

كما أنه يرجع على الثاني إلى الشك في المسقط الذي يكون المرجع فيه الاشتغال.

وعلى الثالث إلى الشك في التكليف الاستقلالي في حال الاتيان بالطرف المشكوك، الذي يكون المرجع فيه البراءة.

وعلى الرابع إلى الشك في الامتثال، الذي هو مورد الاشتغال.

وأما على الخامس فمقتضى العلم الإجمالي بثبوت تكليف تعييني واحد في المتيقن، أو تكاليف تخييرية بعدد الأطراف هو الاحتياط والعمل على التعيين، لعدم إحراز الفراغ بدونه.

ودعوى: أن وجود المتيقن في البين، وهو عدم جواز ترك المتيقن لا إلى بدل اللازم لكلا طرفي العلم الإجمالي، يقتضي حل العلم الإجمالي المذكور، والاقتصار على ذلك الراجع إلى التخيير.

مدفوعة: بأن المتيقن المذكور ليس متيقناً في مقام الجعل بنحو تكون موافقته موافقة قطعية للتكليف المتيقن، لينهض بحل العلم الإجمالي، بل هو من شؤون إطاعة التكليف، وليس المجعول إلا الطلب بأحد الوجهين من دون متيقن في البين، فالاقتصار على عدم ترك المتيقن لا إلى بدل لا يوجب إلا ترك المخالفة القطعية للعلم الإجمالي، من دون أن يستوجب الموافقة القطعية لتكليف متنجزٍ ينحل به العلم الإجمالي.

نعم، بناء على رجوع الوجه المذكور إلى أن التكليف التخييري طلب

ص: 508

ناقص ناشئ عن إرادةٍ ناقصةٍ قد يتجه الانحلال، للعلم التفصيلي بالمرتبة الناقصة في المتيقن التي يكفي في إطاعتها وعدم مخالفتها عدم تركه لا إلى بدل، والشك البدوي في المرتبة الزائدة التي يتم بها الطلب ويكون تعيينياً، وهي مدفوعة بالأصل.

ودعوى: حصول العلم الإجمالي إما بتحقق المرتبة التامة من الطلب في المتيقن، أو بتحقق المرتبة الناقصة منه في بقية الأطراف، فتحقق المرتبة الناقصة في المتيقن ليس تمام المتيقن، لينهض بحلّ العلم الإجمالي، بل بعضه، نظير ما لو علم إجمالاً إما بوجوب إكرام كل من زيد وعمرو بدرهم، أو بوجوب إكرام زيد بدرهمين، فإن وجوب إكرام زيد بدرهم وإن كان متيقناً، لكنه لما لم يكن تمام المتيقن لم ينهض بحل العلم الإجمالي.

مدفوعة: بعدم الأثر للتكليف الناقص في بقية الأطراف زائداً على ما يقتضيه المعلوم بالتفصيل، وهو المرتبة الناقصة في المتيقن، وذلك مانع من منجزية العلم الإجمالي المذكور.

جزم العراقي قدس سرة بوجوب الاحتياط مع اختيار للوجه الخامس

هذا، ولكن بعض الأعيان المحققين قدس سرة مع اختياره لهذا الوجه في حقيقة الوجوب التخييري جزم بوجوب الاحتياط هنا، للعلم الإجمالي إما بوجوب المتيقن تعييناً بنحو لا يجوز الاكتفاء بالعدل أو وجوب العدل تخييراً، بنحو يجب الإتيان به عند تعذر المتيقن لاضطرار ونحوه.

الإشكال فيما ذكره قدس سرة

وهو كما ترى! إنما يتم إذا فرض تعدد الواقعة وعلم بالابتلاء بتعذر المتيقن في بعضها، حيث يحصل العلم الإجمالي التدريجي بأحد الأمرين، أما مع وحدة الواقعة أو تعددها مع عدم العلم بالتعذر في بعضها، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي المذكور، ليخرج به عن أصل البراءة. فلاحظ.

ص: 509

والأمر غير مهم بعد ما أشرنا إليه من عدم تمامية الوجه المذكور، وأن التحقيق هو الوجه الأخير، فاللازم ابتناء الكلام في المقام عليه، كما جرى عليه غير واحد.

ما ذكره النائيني قدس سرة من المرجع في المقام

إذا تمهد ذلك فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سرة أن المرجع في المقام هو الاحتياط، لأن التعيينية وإن كانت موجبة للضيق، إلا أنها ليست أمراً وجودياً مجعولاً ولو بالتبع، بل هي منتزعة من عدم جعل العدل، ومن الظاهر أن جعل العدل محتاج إلى مؤنة زائدة لا يقتضيها دليل البراءة، فكما يكون التخيير محتاجاً إلى مؤنة بيان العدل في مقام الإثبات، ولذا كان خلاف إطلاق الأمر، كذلك هو محتاج إلى مؤنة جعل العدل في مقام الثبوت، ولا مجال مع ذلك لإثباته بأدلة البراءة، كحديث الرفع ونحوه، بل لولا ورودها في مقام الامتنان لنهضت برفعه، بل يتعين العمل على التعيين، لوجوب إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم في البين.

المناقشة فيه

وفيه: أن كون التخيير محتاجاً إلى مؤنة بيان العدل في مقام الإثبات، ولذا كان منفياً بالإطلاق، لا يستلزم احتياجه إلى مؤنة زائدة في مقام الثبوت، بنحو لا ينهض به الأصل، للفرق بين المقامين بأن التخيير مبني على نحو من التقييد في الأمر بالإضافة إلى أحد الطرفين بخصوصه، وهو خلاف ظاهر الإطلاق في مقام الإثبات، أما في مقام الثبوت والجعل فكل من التعيين والتخيير مبني على نحو من الجعل في قبال الآخر، وليس التخيير متقوماً بقيد وجودي زائد على التعيين، ليكون مبنياً على كلفة زائدة في مقام الثبوت، فلو فرض كون أحد الجعلين مستلزماً لزيادة في التكليف أمكن دفعه بالأصل.

ص: 510

نظير تقييد التكليف بقيد خاص كالوقت، حيث يكون احتماله مطابقاً للأصل مخالفاً للإطلاق.

ومنه يظهر ضعف التمسك لإثبات التعيينية بأصالة عدم جعل العدل، لتوقفه على تركب الوجوب التخييري من التكليف وجعل العدل، وتركب الوجوب التعييني مفهوماً من التكليف وعدم جعل العدل، لتكون أصالة عدم جعل العدل نافية للأول محرزة للثاني، وقد أشرنا إلى منع ذلك، فالأصل المذكور - مع معارضته بأصالة عدم الوجوب التعييني - من صغريات الأصل المثبت.

التحقيق في المقام

فالذي ينبغي أن يقال: إن المدار في المقام على وجود المتيقن في مقام الجعل الصالح للتنجيز والموافقة القطعية، لينحل به العلم الإجمالي، وعدمه.

وقد ادعى بعض مشايخنا وجود المتيقن في البين، وهو التكليف بأحدهما بعنوانه الانتزاعي الذي يقطع بموافقته بكل طرف، وأن الشك إنما هو في التقييد بالخصوصية، والمرجع فيه البراءة، كما هو الحال في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي، الذي يكون الشك فيه في أخذ الخصوصية زائداً على العنوان المتيقن التكليف.

أقول: من الظاهر أن عنوان أحد الأمرين ليس منتزعاً من خصوصية فيهما مشتركة بينهما تصلح للتكليف، بل من نفس الخصوصيتين على ما هما عليه من التباين، فهو لا يحكي عنهما إلا كذلك، ولذا لا يكون الإتيان بكل منهما مصاحباً لخصوصية زائدة على المطلوب خارجة عنه، كما هو الحال في مورد التخيير العقلي، حيث تكون الخصوصية خارجة عن المطلوب.

ص: 511

ومن ثم ذكرنا في محله أن الوجوب التخييري عبارة عن التكليف بمصداق أحد الأمرين بنحو الترديد والبدلية، وليس العنوان إلا حاكياً محضاً عنهما ولذا قد يستبد ل - بل هو الشايع - بالعطف بأو التي لا تحكي إلا عن معنى حرفي لا يكون مورداً للتكليف.

بل قربنا هناك أن ذلك هو مراد القائل بتعلقه بمفهوم أحدهما، وأن الخلاف بين القولين أشبه بالخلاف اللفظي.

وعليه ليس الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلا في كيفية تعلق كل منهما بمتعلقه، فالتعييني متعلق بالجامع الصالح للامتثال بالأفراد المتكثرة، والتخييري متعلق بالأطراف رأساً على ما هي عليه من التباين.

دعوى وجود المتيقن وظهور اندفاعها

إذا عرفت هذا، ظهر أنه لا مجال لدعوى وجود المتيقن في المقام، وهو التكليف بالجامع الذي هو عنوان أحد الأمرين، إذ لا معنى لتعلقه به مع فرض التعيين، لعدم كون الخصوصية قيداً زائداً في العنوان المذكور بل هي بنفسها مورد للتكليف التعييني.

كما أن الجامع المذكور ليس منتزعاً من أمر في الخصوصية يجب ضمناً بتبعها، ليدعى وجوبه على كل حال في فرض التردد بين التعيين والتخيير، بل لا يؤخذ الجامع المذكور إلا في ظرف الحاجة إليه، للحكاية عن كلتا الخصوصيتين اللتين هما موضوع التكليف التخييري، بل لم يؤخذ في الغالب، حيث أشير للخصوصيتين بوجه آخر، كالعطف بأو، وغيره.

وبالجملة: لا مجال لدعوى وجود المتيقن في مقام الجعل الصالح للموافقة القطعية، لينحل به العلم الإجمالي المفروض، ويتجه الرجوع للبراءة من التعيين.

ص: 512

نعم، لو أمكن دعوى: أن وجود المتيقن في مقام العمل كاف في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية وإن لم ينحل بذلك، لعدم المتيقن في مقام الجعل، اتجه الرجوع للبراءة في المقام، لكون ترك المتيقن - كالعتق - لا إلى بدل معصية تفصيلية للتكليف المعلوم بالإجمال يقتضي كلا طرفي الترديد المنع عنها، فهي متنجزة بحكم العقل على كل حال، وإن لم يلزم من تجنبها بفعل البدل موافقة قطعية لتكليف متيقن يصلح لحل العلم الإجمالي.

إن قلت: لازم ذلك الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي في المتباينين، فإن ترك امتثال كلا الطرفين - كترك القصر والتمام - معصية قطعاً يلزم تجنبه في مقام العمل على كلا وجهي التريد، فلو كان ذلك مسقطاً للعلم الإجمالي عن المنجزية في غير المتيقن لزم جواز المخالفة الاحتمالية بترك أحدهما لاغير.

قلت: ترك كلا الطرفين في ذلك مخالفة إجمالية لا تفصيلية، للعلم بإنطباق المعصية على خصوص أحدهما المردد، فتنجزهما معاً فرع منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي على ما هو عليه، المستلزم لوجوب الموافقة القطعية، بخلاف المقام، فإن ترك المتيقن لا إلى بدل بنفسه مخالفة تفصيلية للمعلوم بالإجمال لابد من تجنبها على كل حال - حتى لو قيل بعدم منجزية العلم الإجمالي رأساً - فلو تمت دعوى مانعيته من منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي على ما هو عليه لم يبق منجز لاحتمال المخالفة بتركه إلى بدل التي هي مقتضى التعيين، وتعين الاكتفاء بالعمل على التخيير، ولا مجال لقياس الدوران بين المتباينين عليه.

لكن الدعوى المذكورة في المقام لا تخلو عن خفاء، فالأمر في غاية

ص: 513

الإشكال.

وإن كان مقتضى الأصل مع الشك في منجزية العلم الإجمالي في مثل ذلك هو عدم المنجزية، كما تقدم في مسألة الشك في الابتلاء. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم، وهو ولي العصمة والسداد.

وينبغي التنبيه على أمور

وينبغي التنبيه على أمور..

الأول: لو تعذر المتيقن

الأول: لو تعذر المتيقن عند الدوران بين التعيين والتخيير فهل الأصل يقتضى البراءة وعدم وجوب ما يحتمل كونه عدلاً، أو الاحتياط بالإتيان به؟ كما لو تعذر العتق، وقد تردد بين أن يكون واجباً تخييرياً عدله الصدقة، فتتعين بتعذره وأن يكون واجباً تعيينياً يسقط التكليف بتعذره ولا يقوم مقامه شيء.

وفي المقام صورتان

لا يخفى أن في المقام صورتين..

الأولى: التعذر قبل فعلية التكليف

الأولى: أن يكون التعذر قبل فعلية التكليف المردد.

ولا ينبغي الإشكال في جريان البراءة من التكليف بما يحتمل كونه عدلاً، من دون فرق بين المباني في حقيقة التكليف التخييري، وفي مقتضى الأصل عند الدوران بينه وبين التعييني، لرجوع الشك حينئذٍ إلى الشك في حدوث التكليف رأساً.

نعم، لو فرض كونه طرفاً لعلم إجمالي منجز امتنع الرجوع للبراءة، على ما تقدم في نظيره عند الكلام في تعذر الجزء، كما لو كان لازم الوجوب التعييني وجوب القضاء أو الكفارة أو البدل الاضطراري أو نحوها، حيث يعلم حينئذٍ إما بوجوب أحدها أو وجوب ما يحتمل كونه عدلاً.

ص: 514

وكذا لو فرض تعدد الواقعة مع القدرة على المتيقن في بعضها، بناء على أن المرجع عند الدوران بين التعيين والتخيير مع القدرة البراءة، حيث يعلم إجمالاً إما بوجوب المتيقن تعييناً في مورد القدرة عليه أو بوجوب العدل في مورد تعذره.

وأما بناء على أن المرجع عند الدوران بينهما الاحتياط بالعمل على التعيين فلا أثر للعلم الإجمالي المذكور، لتنجز بعض أطرافه على كل حال.

الثانية: التعذر بعد فعلية التكليف

الثانية: أن يكون التعذر بعد فعلية التكليف المردد.

وربما يدعى هنا وجوب الاحتياط بالإتيان بما يحتمل كونه عدلاً بناء على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير، لفرض عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه، فيلحقه حكم تعذر البعض المعين من أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بعد حصوله، الذي تقدم في التنبيه الرابع من الفصل الثالث أن اللازم فيه الاحتياط.

وفيه أنه لا معنى لتنجز احتمال الوجوب التخييري حين العلم بالتكليف بناء على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير، ليلحقه حكم تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي بعد تنجزه، لأن مفاده السعة غير القابلة للتنجز.

بل ليس المنجز إلا احتمال الوجوب التعييني المفروض سقوطه بطروء التعذر، ووجوب ما يحتمل كونه عدلاً بعد التعذر محتاج إلى منجز جديد، وهو مفقود في المقام.

نعم، لو فرض علم المكلف بطروء التعذر قبل طروئه تحقق له علم إجمالي تدريجي إما بوجوب المبادرة إلى المتيقن قبل تعذره، أو بوجوب

ص: 515

فعل البدل بعد التعذر، فيلزم الخروج عن العلم الإجمالي المذكور، بخلاف ما إذا كان غافلاً عن التعذر، إذ لا يحصل له العلم الإجمالي إلا بعد التعذر، فلا يصلح للتنجيز، لخروج أحد طرفيه بالتعذر عن الابتلاء.

وأما بناء على الرجوع للبراءة من التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير، فإن كان الوجه في ذلك دعوى انحلال العلم الإجمالي بوجود المتيقن في مقام الجعل لرجوعه إلى الدوران بين الأقل والأكثر - كما تقدم من بعض مشايخنا - اتجه إلحاق المقام بالمسألة المذكورة، وقد تقدم عند الكلام في تعذر الجزء الإشارة إلى أن طروء تعذر ما يشك في جزئيته في أثناء الوقت لا يرفع وجوب الناقص، عملاً باستصحاب وجوبه على ما هو عليه من الترديد والإجمال الصالح لتنجيزه.

وإن كان الوجه في ذلك ما أشرنا إليه من احتمال كون وجود المتيقن تفصيلاً في مقام العمل - وهو حرمة ترك المتيقن لا إلى بدل - مسقطاً للعلم الإجمالي عن المنجزية اتجه الرجوع للبراءة إذ لا مجال لاستصحاب المتيقن في مقام العمل لعدم كونه حكماً شرعياً مجعولاً، لفرض كونه متيقناً في مقام الامتثال، لا في مقام الجعل، فهو قبيح عقلاً بملاك كونه معصية تفصيلية، فمع فرض احتمال سقوط التكليف بسبب التعذر يتوقف وجوب المتيقن المذكور عقلاً على فرض منجز للتكليف، ولا منجز له في المقام، لعدم جريان استصحاب التكليف المعلوم بالإجمال مع العلم بسقوط بعض أطرافه تفصيلاً. على ما تقدم نظيره في التنبيه الرابع من الفصل الثالث، كما لا يصلح العلم الإجمالي في المقام لتنجيزه، لما ذكرناه آنفاً من ابتنائه على السعة غير القابلة للتنجيز. فتأمل جيداً.

ص: 516

الثاني: إذا علم بوجوب شيء و بسقوطه بالآخر وتردد بين العدل أو كونه مسقطاً

الثاني: إذا علم بوجوب شيء وبسقوطه بفعل آخر، وتردد ذلك الآخر بين أن يكون عدلاً له، لوجوبهما تخييراً، وأن يكون مسقطاً له مع كون وجوبه تعيينياً، كالطلاق المسقط لوجوب الإنفاق، فمن الظاهر أنه لا أثر للشك المذكور مع القدرة على ما هو معلوم الوجوب، للعلم بإجزائه وإجزاء الآخر عنه على كل حال، وإنما يظهر أثره فيما لو فرض تعذره، حيث يجب الآخر على تقدير كونه عدلاً في الوجوب التخييري، دون ما إذا كان مسقطاً له، إذ لا يجب فعل المسقط.

ومن الظاهر أن المرجع في ذلك البراءة، لعدم المنجز لوجوب ما يشك في كونه عدلاً.

هذا، وربما يدعى وجوب فعل المسقط عند تعذر امتثال التكليف عقلاً، لأن رفع موضوع الملاك بفعل المسقط أولى عقلاً من فوته بالتعذر بعد تحقق موضوعه، ومقتضى ذلك وجوب فعل ما يحتمل كونه عدلاً في المقام، لتردده بين الواجب والمسقط.

وفيه: أن فوته بالتعذر حيث لم يكن باختيار المكلف، فلا موضوع معه للأولوية المذكورة، لسقوط التكليف المانع من تحقق المخالفة، بل ليس المدعى إلا وجوب فعل المسقط فراراً عن فوت الملاك بالتعذر، وهو غير ظاهر.

احتمال وجوب المسقط فراراً من المخالفة االاحتمالية

نعم، لو فرض عدم سقوط التكليف رأساً، لعدم تعذره، وإنما يتعذر موافقته القطعية، للدوران بين محذورين ونحوه، لم يبعد وجوب فعل المسقط فراراً من المخالفة الاحتمالية، كما في موارد الاحتياط الوجوبي في النكاح حيث لا يبعد وجوب الطلاق فراراً عن المخالفة الاحتمالية بالإضافة إلى

ص: 517

الأحكام الإلزامية للزوجية وعدمها، التي لا يمكن فيها الاحتياط، كوجوب الوطئ كل أربعة أشهر، كما أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدس سرة في المسألة الثانية عشرة من فصل العقد وأحكامه من كتاب النكاح من المستمسك.

لأن المخالفة الاحتمالية اختيارية للمكلف، فمن القريب جداً منع العقل منها عند تيسر فعل المسقط من جهة الأولوية المذكورة.

ما لو كان التعذر مستنداً إلى المكلف

وأظهر من ذلك ما لو كان التعذر مستنداً لاختيار المكلف، لتعجيزه لنفسه، بنحو يكون مؤاخذاً بالمخالفة، كما لو عجز الجنب نفسه عن الغسل ليلاً في شهر رمضان، واستطاع السفر قبل الفجر، حيث لا ينبغي الريب في وجوبه عليه عقلاً، دفعاً لضرر العقاب. فتأمل جيداً.

هذا، وقد يبنى على ما نحن فيه مسألة وجوب الإتمام على من عجز عن القراءة، بدعوى الشك في كون الإئتمام مستحباً مسقطاً للقراءة مع وجوبها تعييناً، فلا يجب بتعذرها، أو واجباً مخيراً بينه وبين الصلاة فرادى مع القراءة، فيجب بتعذرها.

اختصاص المبنى بالواجبات الاستقلالية

لكن لا يخفى أن المبنى المذكور يختص بالواجبات الاستقلالية التي يكون تعذرها موجباً لسقوط التكليف التعييني بها، بحيث يحتمل عدم تحقق الامتثال مع الإتيان بالمسقط، كالإنفاق والطلاق، دون مثل القراءة مما يجب ضمناً، ولا يكون تعذره موجباً لسقوط التكليف بالمركب، بل لا إشكال في إمكان امتثاله مع الإئتمام، فإن إسقاط الإئتمام للقراءة - إما لكونه رافعاً لموضوعها، أو لتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم - لا ينافي كون الصلاة الواقعة حال الإئتمام من أفراد الصلاة التامة الصالحة للامتثال، ولذا لو فرض عدم مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة فلا ريب في وجوب

ص: 518

الصلاة جماعة، كما تجب لو فرض تعذر صلاة الفرادى مع القدرة على القراءة.

فالذي ينبغي أن يقال: لا إشكال في مشروعية الصلاة بلا قراءة للمنفرد في حال تعذر القراءة وفرديتها للصلاة الواجبة في الجملة، كفردية الصلاة جماعة أو الصلاة فرادى مع القراءة من القادر.

وحينئذٍ فإن كان موضوع مشروعيتها مجرد تعذر القراءة منه اتجه عدم وجوب الإئتمام، لفرديتها في الحال المذكور في عرض صلاة الجماعة، فيتعين التخيير بينهما.

وإن كان موضوعها تعذر الصلاة التامة عليه اتجه وجوب الإئتمام، لتحقق الصلاة التامة به، فمع القدرة عليه لا تشرع الصلاة المذكورة، بل ينحصر الامتثال بالجماعة.

إذا عرفت هذا، فحيث كان لدليل جزئية القراءة إطلاق يشمل حال التعذر، فلو كان دليل مشروعية الصلاة فرادى بدونها مع التعذر منحصراً بالإجماع، لزم البناء على الثاني، لأنه المتيقن من معقد الإجماع وكذا لو كان الدليل قاعدة الميسور، بناء على تماميتها في نفسها، لظهور كونها قاعدة اضطرارية يختص موضوعها بصورة تعذر التام.

إلا أن الظاهر أن مقتضى النصوص الخاصة والسيرة هو الأول، وتمام الكلام في الفقه.

الثالث: إذا علم بوجوب أمور متعددة

الثالث: إذا علم بوجوب أمور متعددة، وشك في كون وجوبها تخييرياً يغني معه فعل واحد منها، أو تعيينياً لابد معه من الجمع بينها.

فإن قلنا بوجود المتيقن في مقام الجعل عند الدوران بين التعيين

ص: 519

والتخيير، بنحو ينحل به العلم الإجمالي، فلاريب في الرجوع للبراءة من التكليف بالخصوصيات، والبناء على وحدة التكليف بالجامع المقتضي للاكتفاء بفعل أحدها، لليقين معه بالبراءة من التكليف المتيقن.

لكن عرفت الإشكال في ذلك، ومن ثم جزم بعض الأعاظم قدس سرة بوجوب الاحتياط هنا.

نعم، تقدم منا احتمال سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بسبب وجود المتيقن التفصيلي في مقام العمل، فلو تم جرى هنا.

بل هو هنا أولى، لأن المتيقن التفصيلي هنا هو الإطاعة بفعل أحدها، للعلم بكونه امتثالاً للتكليف به تعييناً أو تخييراً، والشك في وجود تكليف آخر يحتاج معه للامتثال بفعل بقية الأطراف.

بل قد يدعى الانحلال في المقام بوجود المتيقن في مقام الجعل، وهو التكليف الواحد المردد بين التعيين والتخيير، الذي يعلم بامتثاله بأي طرف، ومجرد تردد متعلق التكليف المذكور بين أحد الأطراف المعين وأحدها على نحو البدل لا يمنع من الانحلال بعد صلوحه للعمل على كل حال، فلا يتنجز الأكثر.

ولذا كان جريان البراءة هنا من الزائد والاكتفاء بفعل أحد الأطراف قريباً للمرتكزات جداً، فلتكن هي المرجع في ذلك لو فرض عدم وضوح حال التقريبات المتقدمة.

هذا، والظاهر عدم الفرق في ما نحن فيه بين احتمال التكليف التعييني بكل من الأطراف بنحو يكون لكل طرف تكليفه الخاص به، واحتمال التكليف التعييني بمجموع الأطراف بنحو يكون مجموعها مورداً لتكليف

ص: 520

واحد بنحو الارتباطية بينها، فيجوز الاقتصار على أحد الأطراف عملاً باحتمال التخيير، والرجوع للبراءة من التكليف التعييني بكل منها.

غايته أن الأول يكون نظيراً لجريان البراءة مع الشك في التكليف الاستقلالي، والثاني يكون نظيراً لجريانها مع الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

الرابع: محل الكلام التخيير في الحكم الواقعي في مقام الجعل

الرابع: أشرنا في صدر الكلام في هذا المقام إلى أقسام التخيير، وذكرنا أن محل الكلام هو التخيير في الحكم الواقعي في مقام الجعل، وأن التخيير في الحكم الظاهري - وهو التخيير بين الحجج - والتخيير في الحكم الواقعي في مقام الامتثال للتزاحم، خارجان عن محل الكلام، وإن كان المناسب هو التعرض لهما استطراداً، فنقول:

الأصل في الدوران الحمل على التعيين

لا ينبغي الإشكال في أن الأصل مع الدوران بين التعيين والتخيير في الحجج هو التعيين، للعلم معه بحجية المتيقن، والشك في حجية الآخر، الذي يكون المرجع فيه أصالة عدم الحجية على ما تقدم في تمهيد الكلام في مباحث الحجج.

وكذا الحال مع الدوران بينهما في مقام الامتثال لأجل التزاحم، فلو فرض تزاحم تكليفين ودار الأمر بين تساويهما المقتضي للتخيير بينهما، وأهمية أحدهما المعين المقتضي لتعينه، لزم العمل على الثاني.

مقدمة يتضح فيها الوجه في ذلك

وينبغي التمهيد بمقدمة يتضح بها الوجه في ذلك..

وهي أن جهة الكلام في ذلك تختلف عن جهة الكلام في ما سبق، للاختلاف بينهما في مقام الجعل والامتثال.

أما مقام الجعل فلفرض أن التخيير هناك على تقديره ناشئ عن غرض

ص: 521

واحد، كما هو ظاهر الخطاب، فليس هناك إلا تكليف واحد تخييري ناشئ عن ملاك واحد قائم بكلتا الخصوصيتين، ومن ثم أمكن هناك فرض تعلق التكليف بالقدر المشترك بينهما، وهو الأمر المنتزع منهما المعبر عنه بعنوان أحدهما وإن كان هو خلاف التحقيق.

بخلاف المقام، إذ لا إشكال في تعدد التكليف ذاتاً، لتعدد الغرض الناشئ منهما، وحينئذٍ لاوجه لصرف التكليف التخييري إلى القدر المشترك، بل ليس المكلف به إلا كلا منهما، لاختصاص غرضه به.

فلا مجال هنا لما تقدم من بعض مشايخنا هناك من توجيه العمل على التخيير بلزوم المتيقن والبراءة من التقييد بالخصوصية.

غايته أنه لابد من الالتزام بتقييد التكليف بكل منهما بصورة عدم الإتيان بالآخر.

وربما قيل بسقوط التكليفين معاً والتخيير بين الطرفين عقلاً، وإن كان الظاهر عدم تمامية ذلك، لعدم الموجب لسقوط التكليفين رأساً بعد إمكان الجمع بينهما بالوجه المذكور.

بل لو فرض سقوطهما لم يبق مجال لحكم العقل بالتخيير، لاختصاصه بتشخيص الوظيفة في مقام امتثال التكليف بعد الفراغ عن جعله، فالظاهر أن تخيير العقل بين الطرفين متفرع على التكليف بهما بالوجه المذكور، ليكون راجعاً إلى مقام الامتثال.

وأما مقام الامتثال فلأنه مع الخروج هناك عن مقتضى التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير لا يعلم بحصول شيء من الغرض، فلا يعلم بالامتثال، نظير مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين عند الاقتصار

ص: 522

على الأقل، أما هنا فمع الخروج عن مقتضى التعيين يعلم بحصول أحد الغرضين، بل امتثال تكليفه بناء على الترتب، غاية الأمر أنه يحتمل مرجوحيته وكون الآخر الذي لم يمتثل هو الأهم الذي يجب امتثاله دونه.

فلا مجال لما تقدم في توجيه وجوب الاحتياط هناك من الشك في تحقق امتثال التكليف المعلوم، لأن الشك هنا في وجوب امتثال التكليف الآخر المحتمل الأهمية، لا في تحقق امتثاله، كما هو الحال هناك.

ما يظهر من العراقي قدس سرة من أن الأصل البراءة

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه يظهر من بعض المحققين قدس سرة أن الأصل عند الدوران بين التعيين والتخيير في باب التزاحم يقتضي البراءة وعدم التعيين، لأن ذلك إنما يكون مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين بخصوصه، وحيث كان ذلك مساوقاً لاحتمال مساواة الطرف الآخر له ومانعيته من فعلية التكليف فيه، كان راجعاً إلى الشك في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة.

المناقشة فيه

وفيه: أن عدم فعلية التكليف في أحد المتزاحمين بسبب الآخر ليس لقصور في ملاكه وجعله، ليرجع فيه للبراءة، بل لكون المزاحم عذراً مسوغاً لتفويته، كتعذره، وحيث كان ذلك مختصاً بصورة مساواة المزاحم أو أهميته، فمع احتمال مرجوحية المزاحم وعدم احتمال أهميته لا يعلم بكونه عذراً رافعاً لفعلية المزاحم فيجب الاحتياط في المزاحم، لعدم إحراز العذر عنه، كما يجب الاحتياط مع الشك في القدرة، أو في أصل المزاحمة، أو في تحقق المزاحم، لما هو المعلوم من أنه لا يجوز الاتكال على احتمال العذر، بل لابد من اليقين بوجوده، بخلاف الطرف الآخر، فإنه يعلم بمزاحمته بما يمنع من فعليته، لكونه أهم منه أو مساوياً له، فيقطع بوجود العذر المسوغ

ص: 523

له، فلا محذور في تركه.

وجوب المحافظة على محتمل الأهمية دون الآخر

وبالجملة: يجب المحافظة على محتمل الأهمية دون الآخر، للشك في العذر المسوغ للترك في الأول، والعلم به في الثاني، ولا يصح الاتكال على احتمال العذر، بل لابد من العلم به، ويأتي إن شاء الله تعالى في خاتمة مباحث التعارض ما ينفع في المقام.

تذنيب: في مجرى الأصل في التكليف الكفائي

تذنيب..

حيث اتضح الكلام في الوجوب التخييري فالمناسب إلحاق ذلك بالكلام في الوجوب الكفائي.

فنقول: لا ينبغي التأمل في أن الشك في أصل التكليف الكفائي مجرى للبراءة، كما هو الحال في الشك في أصل الوجوب العيني التعييني أو التخييري. ومنه ما إذا علم الشخص بثبوت التكليف على غيره، واحتمل كونه كفائياً بحيث يكون هو مسؤولاً به أيضاً.

وأما مع دوران التكليف المعلوم بين كونه عينياً يجب على كل مكلف تحصيله وكونه كفائياً يغني فيه فعل أحدهم، فالظاهر أنه يجوز الرجوع للبراءة للعمل على الثاني، لرجوع الشك المذكور إلى الشك في كون الواجب هو صرف الوجود المتحقق بفعل واحد أو الوجود الخاص الذي لا يتحقق إلا بفعل المكلف نفسه، فالشك في الحقيقة في أخذ الخصوصية التي هي زيادة في التكليف مدفوعة بالأصل.

نعم، لو كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي متمحضاً في مقام الامتثال، حيث لا يسقط العيني إلا بامتثال المكلف نفسه ويسقط الكفائي بامتثال غيره، مع اتحادهما في متعلق التكليف اتجه الرجوع للاشتغال،

ص: 524

القاضي بالعمل على ما يطابق العيني، لأن الأصل عدم سقوط التكليف إلا بتحقق المكلف به.

لكن المبنى المذكور ضعيف، كما تعرضنا لذلك في محله من مباحث تقسيمات الواجب. فراجع وتأمل جيداً.

خاتمة: في لزوم الفحص وعدمه

خاتمة

ذكر شيخنا الأعظم قدس سرة في خاتمة هذا القسم من الأصول، وهي التي لم يؤخذ فيها الحالة السابقة شروط العمل بالأصول المذكورة، وأهمها الفحص، واستطرد بعد ذلك إلى الكلام في قاعدة نفي الضرر.

لكن اشتراط الفحص لما لم يختص بالأصول المذكورة، بل يجري في غيرها كالاستصحاب، بل في الطرق أيضاً، كان المناسب ذكره بعد الكلام في التعادل والتراجيح.

وقد رأينا ذكره في خاتمة مباحث الاجتهاد والتقليد لرجوعه إلى بيان وظيفة المكلف عند الشك في وجود الدليل.

كما أن قاعدة نفي الضرر لما كانت أجنبية عن محل الكلام، بل لا مناسبة بينهما، كسائر القواعد الفقهية، كقاعدة نفي الحرج والطهارة وغيرهما، كان المناسب إهمالها هنا، وإن كان في ذلك خروج عما جرى عليه التبويب لهذه المباحث تبعاً لشيخنا الأعظم قدس سرة.

جريان الأصول في الاستحباب والكراهة

نعم، المناسب هنا التعرض لجريان الأصول المذكورة في غير الحكم التكليفي من الأحكام الاقتضائية، وهي منحصرة بالاستحباب والكراهة.

ص: 525

فنقول: - ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد -

أما مع الشك في الحكم الاستقلالي - كما لو شك في استحباب الغسل لقتل الوزغ، أو كراهة سؤر البقر - فلا مجال للتمسك بالأدلة المتقدمة العقلية والنقلية للبراءة والاحتياط.

لوضوح أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة وجوب د فع الضرر المحتمل مختصتان باحتمال العقاب والضرر اللازمين للتكليف.

وكذا الأدلة الشرعية، لوضوح أن مساق الرفع والوضع والسعة ونحوها مما اشتملت عليه أدلة البراءة رفع الحرج والضيق المختص بالتكليف، ولا يشمل ما لا حرج في ثبوته، ولاسيما مع وضوح سوق الأدلة المذكورة مساق الامتنان الذي يختص برفع التكليف.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سرة بأوجه قصور الأدلة

وأما ما ذكره بعض مشايخنا في وجه قصور تلك الأدلة عن الأحكام المذكورة من أن مفادها الرفع الظاهري الذي من لوازمه عدم وجوب الاحتياط، مع أنه لا إشكال في استحباب الاحتياط في الأحكام المذكورة، فلا مجال لفرض الرفع فيها.

المناقشة فيه

ففيه: أن رفع الأحكام المذكورة ظاهراً لا ينافي حسن الاحتياط عقلاً لإحراز الواقع، ولذا لا يكون التعبد بعدمها ظاهراً بمثل الاستصحاب - لو تمت أركانه في مورد - منافياً لحسن الاحتياط قطعاً.

فالعمدة ما ذكرنا.

ومثل الأدلة المذكورة ما دل على التعبد بالحل عند الشك في الحرمة، فإنه مسوق لبيان الحل المساوق للإذن المقابل للتكليف والمنع، لا الحل بمعنى الإباحة المقابلة للأحكام الأربعة الاقتضائية، لعدم ثبوت اصطلاح

ص: 526

شرعي للحل في المعنى المذكور.

ولاسيما مع كون الغاية في الأدلة المذكورة هو العلم بالحرمة الكاشف عن اختصاص موضوعها باحتمالها وسوقها لرفعها.

كما أن أدلة الاحتياط التي استدل بها الأخباريون هناك لما كانت تعبدية محضة، وكانت مختصة باحتمال الهلكة والحرمة كانت قاصرة عن شمول الأحكام المذكورة.

نعم، تقدم منا أن الاستصحاب مطابق عملاً للبراءة، ويصح التمسك به في مورد ها.

والظاهر أنه لا مانع من التمسك به في الأحكام المذكورة بعد كونها أحكاماً شرعية مجعولة، كالأحكام الإلزامية.

هذا، وقد يدعى أن إهمال الأحكام المذكورة وعدم العمل عليها لا يرجع إلى مجرد عدم استحقاق ثوابها وقرب المكلف بامتثالها، بل يقتضي زائداً على ذلك نحواً من الحزازة والبعد عن حظيرة المولى، التي هي أشبه بالعتاب وإن لم تبلغ مرتبة العقاب، كما قد يشير إليه بعض النصوص المتضمنة أن النبي (ص) يطالب بالسنة، كما يطالب الله تعالى بالفرض.

بل قد يترتب على ذلك بعض العقوبات الدنيوية، كما قد يشير إليه ما تضمن أن الرجل يترك صلاة الليل، فيحبس عنه الرزق.

فإن تم هذا لم يبعد جريان نظير قاعدة قبح العقاب، لأن الحزازة المذكورة من سنخ المؤاخذة والجزاء، الذي لا يحسن إلا مع قيام الحجة الكافية.

بل قد يصحح ذلك جريان مثل حديث الرفع، لأن في ثبوت الأثر

ص: 527

المذكور نحواً من الضيق يصدق بلحاظه الرفع ويتحقق برفعه الامتنان. لكن ذلك إنما يقتضي رفع الآثار المذكورة لا رفع الحكم الاقتضائي غير الإلزامي الذي هو المنشأ لها.

الكلام في الشك في الحكم الضمني في المستحبات

وأما مع الشك في الحكم الضمني، للدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين - كما لو شك في جزئية السورة للنافلة - فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا مانع من الرجوع فيه إلى حديث الرفع لرفع شرطية المشكوك في المركب في مقام الظاهر.

لكنه لا يخلو عن غموض، لأن المراد بذلك إن كان إثبات مجرد عدم استحباب الجزء ضمناً، فقد عرفت منه عدم نهوض الحديث برفع الاستحباب.

وإن كان إثبات مشروعية العمل وصحته بدونه، فمن الظاهر أن حديث الرفع لا يقتضي ذلك في الأحكام التكليفية، فضلاً عن غيرها، لأن ذلك من لوازم كون المأتي به تمام المركب، وأن الطلب قد تعلق بالأقل لا بشرط الزيادة المشكوكة، وقد تقدم في تقريب الأصل الشرعي في الأقل والأكثر الارتباطيين عدم نهوض أدلة البراءة بذلك.

نعم، لو أريد بالتمامية مجرد حصول تمام ما هو المتنجز الواصل وإن لم يحرز أنه تمام المطلوب لم يحتج في ذلك إلى أدلة البراءة، للعلم بحصوله بمجرد الشك في جزئية الزائد أو شرطيته وفرض عدم تنجزه.

كما أن الظاهر كفاية ذلك في مقام التقرب والامتثال، فلا يعتبر إحراز كون المأتي به تمام المطلوب، ولذا أمكن التقرب في الواجب المردد بين الأقل والأكثر مع الاقتصار على الأقل، والتفريق بين الواجب والمستحب

ص: 528

بلا فارق.

بالجملة: لا مجال للفرق في شمول أدلة البراءة للأحكام غير الإلزامية بين الأحكام الاستقلالية والضمنية بعد اشتراكها في الجهات المقتضية للجريان وعدمه مما تقدمت الإشارة إليه.

أما العلم الإجمالي بالحكم الاقتضائي غير الإلزامي مع إمكان الاحتياط فالظاهر أن ما تقدم في وجه منجزية العلم الإجمالي جار فيه، وإنما يختلف الحكم الإلزامي عن غيره بأن ترتب العقاب على معصيته موجب لمنع العقل من الإقدام على احتمال مخالفته مهما زوحم بالجهات الخارجية الموجبة لصعوبة إحراز امتثاله في فرض جعله، ومنها صعوبة الاحتياط الناشئة من تكثر الأطراف في فرض العلم الإجمالي، لأهمية العقاب بنحو لا يصلح شيء منها لمزاحمته.

أما غيره من الأحكام فكما يصح للمخاطب بها الإقدام على مخالفتها لقطعية يصح الإقدام على مخالفتها الاحتمالية بسبب صعوبة الاحتياط الناشئة عن تعدد الأطراف في ظرف العلم الإجمالي.

نعم، لا مجال لارتفاع حسن الاحتياط فيها ذاتاً مع العلم الإجمالي، كما لا يرتفع حسن إطاعتها مع العلم التفصيلي، وإن كان قد يزاحم بما هو أهم.

ثم إن الظاهر جريان ما تقدم في تنبيهات مباحث العلم الإجمالي من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في بعض الأطراف أو انحلاله في الأحكام غير الإلزامية.

نعم، في فرض عدم منجزية العلم الإجمالي في بعض الأطراف يلحقه

ص: 529

حكم الشك البدوي، الذي تقدم الكلام في جريان البراءة معه.

شمول ما تقدم في ضابط عدم جريان الأصول للاستحباب والكراهة

كما أنه تقدم منا في أوائل الكلام في العلم الإجمالي التعرض للضابط في عدم جريان الأصول في الأطراف بنحو يشمل الأحكام غير الإلزامية، كما ذكرنا هناك حكم العلم الإجمالي بأحد الحكمين الاقتضائيين الإلزامي وغيره من حيثية جريان الأصول وعدمه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا. فراجع.

ومنه يظهر الحال فيما لو تعذر الاحتياط للدوران بين محذورين، كما لو دار الأمر بين استحباب الشيء وكراهته، فإن ما ذكر هناك من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية جار فيه.

لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب الترجيح هنا، بل غاية الأمر حسنه، فيلحقه حكم التزاحم بين الاحتياطين، وقد سبق في آخر التنبيه الرابع من تنبيهات الفصل الأول أن الترجيح يكون بأهمية التكليف، وبقوة الاحتمال. فراجع وتأمل جيداً.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في القسم الأول من الوظيفة العملية عند فقد الحجة، وهو الذي لم تؤخذ فيه الحالة السابقة، والتي ينحصر الأصل لجاري فيها بالبراءة والاحتياط والتخيير.

والحمد لله رب العالمين على تيسير ذلك وتسهيله، ونسأله أن يتم علينا نعمته بتوفيقنا لإتمام الأقسام، كما نسأله أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، أن يوفقنا لشكر نعمه وآلائه، ويمدنا بعونه ورعايته، إنه أرحم الرحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وكان الفراغ من ذلك عصر الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر شعبان

ص: 530

المعظم، سنة ألف وثلاثمائة وخمس وتسعين لهجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.

في النجف الأشرف ببركة المرقد المشرف على مشرفه أفضل الصلاة والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).

والحمد لله في البدء والختام، وبه الاعتصام.

قد انتهى تبييضه بقلم مؤلفه الفقير ليلة الأحد، التاسع والعشرين من الشهر المذكور، من السنة المذكورة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً.

ص: 531

ص: 532

المحتويات

الصورة

ص: 533

الصورة

ص: 534

الصورة

ص: 535

الصورة

ص: 536

الصورة

ص: 537

الصورة

ص: 538

الصورة

ص: 539

الصورة

ص: 540

الصورة

ص: 541

الصورة

ص: 542

الصورة

ص: 543

الصورة

ص: 544

الصورة

ص: 545

الصورة

ص: 546

الصورة

ص: 547

الصورة

ص: 548

الصورة

ص: 549

الصورة

ص: 550

الصورة

ص: 551

الصورة

ص: 552

المجلد 5

هویة الکتاب

سرشناسه: طباطبایی حکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان و نام پديدآور: المحکم في اصول الفقه/ تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

مشخصات نشر: دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

تعداد المجلدات 6ج

وضعیت فهرست نویسی: فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

يادداشت:این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است

یادداشت:کتابنامه

موضوع:اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/ط2م3 1376

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.(1)

ص: 5


1- الابتداء بتحرير هذه المطالب عصر الجمعة الرابع من شهر شوال سنة 1395.

ص: 6

القسم الثاني: في الاستصحاب

اشارة

ص: 7

ص: 8

القسم الثاني: في الاستصحاب

تمهيد بذكر أمور:

وينبغي التمهيد له بذكر أمور..

الأمر الأول: الاستصحاب لغة

الأمر الأول: الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة.

ومن الظاهر مناسبة البقاء والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب للمادة وهي الصحبة، بنحوٍ يصحح إطلاقها في المقام.

وأما هيئة الاستفعال فهي..

تارةً: تفيد طلب المادة، كما في الاستغفار، والاستشارة، والاسترفاد.

وأخرى: تفيد جعلها وتحقيقها خارجاً بوجه، كما في استعمال الشيء والاستكثار من الخير.

وثالثةً: تفيد ادعاءها والحكم بها والبناء عليها، كما في الاستكبار والاستحسان والاستقذار.

ولا يبعد كون إطلاق الهيئة المذكورة في المقام بلحاظ المعنى الثالث، لرجوع الاستصحاب إلى البناء والحكم بمصاحبة المتيقن السابق في الزمان اللاحق وبقائه فيه، خلافاً لما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من ابتنائه على المعنى الثاني.

ص: 9

نعم، لا يبعد رجوع المعنى الثالث للثاني بتكلف تنزيل الوجود الادعائي منزلة الوجود الحقيقي.

الاستصحاب اصطلاحاً

وأما بحسب الاصطلاح فقد كثرت تعريفاته منهم، حتى قيل: إنها بلغت إلى نيف وعشرة، ولعل الأنسب بمؤدى الأخبار تعريفه بأنه: التعبد الظاهري ببقاء الشيء في زمان الشك فيه للعلم بثبوته في الزمان السابق.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنه إبقاء ما كان، مبني على إغفال موضوعية اليقين في الحكم بالبقاء، وجعل العلة فيه مجرد سبق الوجود، وهو خلاف ظاهر النصوص.

وحمل اليقين فيها على محض الطريقية للموضوع من دون أن يكون دخيلاً فيه، بلا وجه. ولعله يأتي الكلام في بعض الثمرات المترتبة على ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق بلحاظ الجري العملي بالشك في بقاء المتيقن، لأن ذلك أنسب بمفاد الأخبار.

ففيه: أن الظاهر من عبارة النصوص الكناية عما ذكرنا، فلا معنى للجمود عليها في مقام التعريف. ولاسيما مع عدم انحصار الدليل عندهم بالنصوص.

ومثله ما ذكره - وسبقه إليه المحقق الخراساني قدس سره - من تقييد متعلق اليقين بالحكم أو الموضوع ذي الحكم.

لوضوح أنّ ذلك ليس مقوماً لمفهوم الاستصحاب، بل شرط في جريانه، كما هو الشرط في جميع التعبدات الشرعية في موارد الطرق

ص: 10

والأصول.

هذا، وأما بناءً على عدم أخذ الاستصحاب من الأخبار، بل من حكم العقل أو بناء العقلاء، فكما يمكن تعريفه بما ذكرنا يمكن تعريفه بما هو المنشأ له، وهو كون الشيء متيقناً سابقاً مشكوكاً في بقائه لاحقاً.

والأول أنسب بإطلاق لفظ الاستصحاب، لما تقدّم من إطلاق هيئة الاستفعال بلحاظ ادعاء وجود المادة والبناء عليها. بل هو المناسب لعدّ بعضهم الاستصحاب من أقسام حكم العقل.

والثاني هو المناسب لعدّ بعضهم له من الطرق والأمارات، ولإطلاق الحجة عليه. فتأمل.

والأمر سهل، لعدم الأثر لتحديد المعنى الاصطلاحي، بل يلزم النظر في مفاد الأدلة، ولم يؤخذ في شيءٍ منها عنوان الاستصحاب.

الأمر الثاني: في دخول الاستصحاب في المسائل الأصولية وعدمه

الأمر الثاني: اشتهر في كلماتهم تعريف المسألة الأصولية بأنها المسألة الممهدة لاستنباط الحكم الكلي. والظاهر من الحكم الكلي هو الكبرى الشرعية العملية، كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر.

وعليه يشكل دخول مسألة الاستصحاب في المسألة الأصولية، فإنه وإن جرى في الشبهات الحكمية، كنجاسة الماء الذي زال تغيره من قبل نفسه، إلّا أن فعلية موضوعه التي يتوقف عليها استنباط الحكم منه إنما تكون في الوقائع الشخصية ذات الحكم الشخصي، ففعلية الشك في بقاء نجاسة الماء بعد اليقين بطهارته إنما تكون في فرض فعلية الماء الذي سبق تغيره بالنجاسة وزال تغيره بها، والاستصحاب الجاري فيه لا يحرز حكماً كلياً، بل جزئياً، كالاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية، كما لو فرض احتمال

ص: 11

ملاقاة الماء الطاهر للنجاسة. ومجرد اختلاف منشأ الشك لا يكون فارقاً.

وليست فتوى المجتهد بالحكم الكلي في ذلك إلّا لوجود الضابط العام لتحقق موضوع الاستصحاب في الجزئيات الكثيرة عند الابتلاء بها، نظير فتواه بطهارة الماء لو شك في ملاقاته للنجاسة، الذي له جزئيات كثيرة، لا لفعلية جريانه بالإضافة إلى القضية الكلية قبل الابتلاء بوقائعها الشخصية.

وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الاكتفاء فيه بفرض الموضوع، وأنه لا يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجاً.

غير ظاهر، فإن فرض الموضوع إنما يصحح فرض جريان الاستصحاب، لا فعلية جريانه، كما لعله ظاهر بالتأمل.

وهذا بخلاف مثل مسألة حجية خبر الواحد، فإن فعلية موضوعها - وهو قيام الخبر على الحكم - لا تكون في الواقعة الشخصية، بل يقوم الخبر على الحكم الكلي ولو مع عدم الابتلاء بموضوعه، فيستنبط منه مفاده - وهو الحكم الكلي - ويفتي به المجتهد للعامي.

بل كذا الحال في مثل أصل البراءة، فإنّ موضوعه وهو الشك قد يتعلق بالحكم الكلي كحرمة لحم الأرنب. فتأمل.

إن قلت: على هذا لا يتجه للمجتهد الفتوى بمؤدى الاستصحاب في الشبهات الحكمية، لعدم تحقق موضوعه في حق العامي، وهو اليقين والشك، لأنه يأخذه من المجتهد ابتداءً، لا بتوسط الموضوع المذكور، وإنما يتحقق في حق المجتهد الفاحص عن الأدلة، وهو لا يكفي في عمل العامي بمؤداه، بخلاف الشبهة الموضوعية، لأخذ اليقين والشك في موضوع الفتوى الموجب لتنبّه العامي لهما وتحقق موضوع الاستصحاب في حقه.

ص: 12

قلت: أما اليقين بالحدوث فيكفي في تحققه في حق العامي رجوعه للمجتهد، وأما الشك في البقاء فهو لازم لفرض جهل العامي واحتياجه للرجوع للغير، وتمام الكلام في ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد عند الكلام في وجه فتوى المجتهد بمؤدى الأدلة والأصول إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا يفرق في ما ذكرنا بين كون الاستصحاب أصلاً عملياً مأخوذاً من الأخبار أو سيرة العقلاء وكونه أمارة معتبرة، فإن البحث على الثاني وإن كان في الحجية، إلّا أنها كحجية اليد لا تنفع في استنباط الحكم الكلي، بل الجزئي وإن كان مسبباً عن الشبهة الحكمية، لما ذكرنا من عدم فعلية موضوعه إلّا بالإضافة إلى الموارد الجزئية.

هذا، وقد ذكر غير واحد في وجه كون الاستصحاب في الشبهات الحكمية من المسائل الأصولية كون الرجوع إليه من وظيفة المجتهد دون العامي، بخلافه في الشبهات الموضوعية، حيث يتسنى للعامي الرجوع إليه بعد أخذ كبراه من المجتهد، كسائر المسائل الفرعية.

لكن الظاهر عدم صلوح ذلك ضابطاً للمسألة الأصولية، إذ لا وجه لاختصاص المسألة بالمجتهد بعد فرض عموم الشريعة إلّا اختصاصه بالقدرة على تشخيص موضوعها، لاحتياجه إلى النظر في الأدلة الذي لا يتيسر للعامي، فالعامي في الحقيقة يعمل بالمسألة بعد رجوعه للمجتهد فيها وفي تشخيص صغراها، وذلك جار في كثير من المسائل الفرعية، كمانعية ما لا يؤكل لحمه من الصلاة، حيث لابدّ للعامي من الرجوع للمجتهد في تشخيص موضوعها، وهو ما لا يؤكل لحمه من جهة الشبهة الحكمية.

وتمام الكلام في ضابط المسألة الأصولية في مقدمة هذا العلم.

ص: 13

وبالجملة: يشكل عدّ الاستصحاب من المسائل الأصولية على التعريف المتقدم حتى ما يجري منه في الشبهة الحكمية.

نعم، يتجه ذلك في استصحاب عدم النسخ، لتحقق موضوعه بالإضافة إلى الحكم الكلي. إلّا أن الإشكال في جريانه في نفسه على ما يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب التعليقي، إن شاء الله تعالى.

وإن كان الأمر غير مهم بعد أهمية المسألة وترتب كثير من الفروع عليها، ووفائها بغرض المسألة الأصولية وهو إمكان الرجوع إليها في الشبهات الحكمية، ولا سيما مع مناسبتها لمباحث الأصول العملية التي نحن بصددها، فإن ذلك ملزم بتحريرها ولو استطراداً، أو تحوير تعريف المسألة الأصولية بنحوٍ يشملها.

ومن هنا كان المناسب عموم الكلام في حجية الاستصحاب للشبهات الموضوعية، لأنها وإن لم تناسب غرض الأصولي، إلّا أن أهميتها وكثرة الفروع المترتبة عليها وعدم خصوصية الشبهات الحكمية في كثير من جهات الكلام يقتضى التعميم المذكور. فلاحظ.

الأمر الثالث: في كون الاستصحاب أمارة أو أصلاً وفي حجيته وعدمها

الأمر الثالث: اختلف في الاستصحاب..

تارةً: في كونه أمارةً، أو أصلاً عقلائياً، أو تعبدياً شرعياً.

وأخرى: في حجيته وعدمه مطلقاً، أو على تفصيل ناشئ من الاختلاف في عموم دليله وخصوصه، أو من الاختلاف في تحقق أركانه وشروطه في بعض الموارد.

وقد كثرت الأقوال في ذلك حتى حكي عن بعضهم أنها تبلغ نيفاً وخمسين قولاً.

ص: 14

وحيث لا مجال لإطالة الكلام في تفاصيل ذلك فاللازم النظر في الأدلة، ليتضح منها حال تلك الأقوال إجمالاً، مع إهمال ما احتج به لكل قول على تفاصيله، ونقضه وإبرامه، وإن أطال شيخنا الأعظم في كثير منها، لضيق المجال عن ذلك، ثم ينظر بعد ذلك في الموارد المهمة التي وقع الكلام في تحقق أركانه فيها.

منهجية البحث

ومن هنا يناسب حصر الكلام بمقامات ثلاثة...

يبحث في الأول منها عن أدلة المسألة وعن سعة مدلولها، ليظهر حاله من حيثية كونه أمارة، أو أصلاً عاماً أو خاصاً. وفي الثاني عن أركانه وشروطه العامة وما يناسب ذلك.

وفي الثالث عن الموارد التي وقع الكلام في تحقق الأركان والشروط المذكورة فيها.

وهذا أولى مما صنعه شيخنا الأعظم قدس سره وجرى عليه غيره من تأخير الكلام في الأركان عن التنبيهات التي عقدها لبيان الموارد التي وقع الكلام في جريان الاستصحاب فيها للكلام في تحقق أركانه.

لوضوح ابتناء الكلام في تلك الموارد على الكلام في الأركان ابتناء الصغرى على الكبرى الملزم بتأخيره عنه.

وأشكل من ذلك جعله الكلام في الأركان في الخاتمة وعدم ذكره له في أصل المسألة، مع كونه من أهم مباحثها ومقوماتها.

نعم، جعله الكلام في الموارد المذكورة في ضمن تنبيهات خارجة عن محل الكلام هو المناسب لكونها من سنخ الصغريات لكبرى الاستصحاب، إلّا أن أهمية البحث في تلك الموارد وطوله أوجبا عدولنا عن ذلك، وجعله

ص: 15

في مقام مستقل في مقابل المقامين الآخرين، على أنه من أركان البحث.

ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره استطرد في الخاتمة إلى ذكر حال الاستصحاب مع بعض القواعد من حيثية تقديمها عليه أو تقديمه عليها، وأسهب في تحقيق تلك القواعد.

ويحسن منّا متابعته في ذلك، لأن أهمية تلك القواعد، وخروجها عن صلب الكلام في الاستصحاب، ومناسبتها له في الجملة يناسب ذكرها في خاتمته جداً.

وسوف نجري على هذا المنهج إن شاء الله تعالى، مستمدين منه العون والتوفيق، والتأييد والتسديد، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 16

المقام الأول: في أدلة الاستصحاب

اشارة

وقد استدل عليه بوجوهٍ كثيرةٍ حسب اختلاف الأقوال، وما ينبغي التعرض له أمور..

الأول: الإجماع

الأمر الأول: الإجماع المدعى من بعضهم عليه في الجملة، فعن المبادي دعوى إجماع الفقهاء على البناء على بقاء الحكم عند الشك في طروء رافعه، وعن النهاية دعواه على البناء على بقاء كل شيءٍ عند اليقين بثبوته والشك في رافعه.

بل قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره وجود مدعي الإجماع على حجية الاستصحاب مطلقاً.

لكن لا مجال للتعويل على مثل هذه الدعاوى في مثل هذه المسألة التي كثرت فيها الأقوال واختلفت فيها مباني الاستدلال.

نعم، الظاهر تحقق الإجماع على الرجوع إليه في خصوص بعض الفروع في الشبهات الموضوعية التي هي غالباً مورد النصوص، كالشك في الوضوء بعد الحدث أو العكس، إلّا أنه لا يناسب اهتمام الأصولي به، ولا سيما مع الاكتفاء بالنصوص الواردة في تلك الموارد غالباً.

ص: 17

الثاني: سيرة العقلاء

الأمر الثاني: بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم، كما ادعاه العلامة قدس سره في محكي كلامه. وربما ادعي اختلال النظام بدونه. بل قد يقال: إنه أمر فطري لكل ذي شعور، ولا يختص بالانسان، كما يشاهد في الطيور وغيرها من رجوعها لأوكارها، وطلب الماء والكلاء من مواضعها المعهودة لها.

هذا، وقد اختلفت كلماتهم..

تارةً: في ثبوت بناء العقلاء وسيرتهم وعدمه مطلقاً، أو على تفصيل.

وأخرى: في حجيته على تقدير ثبوته.

أما الأول فهو غير ظاهر، لأن المهم في المقام هو السيرة الارتكازية على العمل عليه على أنه أمر يصح الاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز - المستتبعين للعقاب والثواب - في مورد الالتفات والشك، نظير أصالة عدم القرينة أو عدم الغفلة.

ولا يكفي العمل عليه غفلةً عن احتمال تبدل الحال، لعدم ما يثيره، أو للاطمئنان بعدم تبدله لغلبة أو نحوها، أو للاحتياط في موافقة احتمال الواقع ورجاء تحصيله، والمتيقن من سيرة العقلاء إنما هو العمل على طبق الحالة السابقة لأحد الوجوه المذكورة، لا البناء عليها بالوجه الذي هو محل الكلام، بل لا طريق لنا لتحصيل اليقين به.

ما ذكره النائيني قدس سره من عدم الوجه لحصول الاطمئنان مع فرض الشك

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا وجه لحصول الاطمئنان مع فرض الشك في البقاء، والعمل برجائه إنما يصح فيما لو لم يلزم من العمل بدونه فوت المنافع أو حصول المضار المهمة، وقريب منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.

ص: 18

دفعه

فيندفع: بأنه مع فرض كون العمل مع عدم البقاء سبباً في فوت المنافع ووقوع المضار لا يصح العمل بالاستصحاب حتى لو فرض كونه حجة عندهم، لأن العمل بالحجة إنما يصح في مقام التعذير والتنجيز غير التابعين للواقع، لا مع الاهتمام بتحصيل الواقع لإناطة الأثر المقصود به، لعدم صلوح الحجية للتأمين عن الآثار الواقعية، كما لعله ظاهر، بل في مثل ذلك إنما يصح العمل مع الوثوق بالواقع، وكلما زاد الأثر الواقعي أهمية كان التحرز عن مخالفة الواقع والتوثق من حصوله ألزم، وإلاّ كان تفريطاً منافياً للحكمة في تحصيل الغرض ومورداً للوم العقلاء.

ولا مجال لما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من إنكار لومهم في محل الكلام، وأن المداقة لتحصيل الوثوق والاطمئنان لمحض الاحتياط غير اللازم بنظرهم.

نعم، لو فرض مزاحمة احتمال محذور فوت الواقع بمحذور الاحتياط، لما يتوقف عليه من خسارة أو نحوها، لحقه حكم التزاحم من اختيار الأهم حسب اختلاف الموارد والأنظار.

ولا فرق في ما ذكرنا بين الشك في المقتضي والغاية والرافع، فإن بناء العقلاء على البقاء في الأخيرين، أو خصوص الأخير في مقام التعذير والتنجيز غير ظاهر ٍبنحوٍ يتحصل لهم سيرة معتد بها صالحة للاحتجاج.

بناء العرف على البقاء في الجملة والكلام فيه

نعم، لا يبعد بناؤهم على أولوية البقاء في الجملة بنحوٍ يرجِّحون العمل عليه عند الدوران بين محذورين مع فقد مرجح غيره وتعذر الاحتياط، من دون أن يبلغ مرتبة الإلزام والاحتجاج التي نحن بصددها. وإلى هذا ونحوه يرجع مايأتي عند الاستدلال بالنصوص من ارتكازية كبرى الاستصحاب

ص: 19

وهي عدم نقض اليقين بالشك.

كما أنه لا إشكال في بنائهم عليه في الجملة في مقام التعذير والتنجيز في خصوص بعض الموارد، كموارد الشك في السلامة، إلّا أنه ليس لأجل الاستصحاب، بل لخصوصية فيها ربما تقتضي البناء عليها حتى مع، الشك البدوي.

عموم الكلام لبعض الأصول العقلائية الخاصة

ومثله بعض الأصول العقلائية الخاصة، كأصالة عدم النسخ، وبقاء ذي الرأي على رأيه، وعدم القرينة الصارفة عن ظاهر الكلام، وغير ذلك، فإن بناء العقلاء على الرجوع إليها لا يكشف عن عموم بنائهم على الاستصحاب، وإن وافقته في الجملة.

حجية السيرة ومناطها

وأما الثاني - وهو حجية السيرة على تقدير ثبوتها - فيظهر الكلام فيه مما تقدم في خبر الواحد، فقد ذكرنا هناك أن سيرة العقلاء إن كانت ناشئة عن أمرٍ خارجٍ عنهم من حاجةٍ ملحةٍ أو إرشاد مرشد أو نحوهما كانت حجيتها موقوفة على إمضاء الشارع لها، فيكون الإمضاء تمام المقتضي للحجية، وإن كانت ناشئةً عن مرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وغرائزهم التي فطرهم عليها كانت تمام المقتضي للحجية من دون حاجة للإمضاء، بل لابد في رفع اليد عنها من ثبوت ردع الشارع عنها.

ومن الظاهر أن السيرة المدعاة في المقام من القسم الثاني.

وقد وقع الكلام بينهم في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع عنها وقد ذكرنا في خبر الواحد ما قيل في وجه عدم صلوح العموم المذكور للردع، وأجبنا عنه بما يجري هنا.

كما أشرنا هناك إلى ما تقدم منا في تأسيس الأصل في الحجية من

ص: 20

عدم ثبوت العموم المذكور بنحوٍ يصلح للاحتجاج، ليستفاد منه الردع هنا أو هناك. فراجع وتأمل جيداً.

الثالث: أن الثابت في الزمان الأول لازم البقاء في الزمان الثاني والكلام فيه

الأمر الثالث: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره في عرض استدلالهم من أن الثابت في الزمان الأول لازم البقاء في الزمان الثاني ما لم يتجدد مؤثر العدم، فإذا لم يعلم بتحقق مؤثر العدم فالراجح بقاؤه، فيجب العمل عليه.

ولا يخفى اختصاص ذلك بصورة الشك في طروء الغاية والرافع، ولا يجري مع الشك في المقتضي، لعدم احتياج الارتفاع فيه إلى حدوث مؤثر العدم، بل يكفي فيه انتهاء أمد المقتضي.

إلّا أن يراد من مؤثر العدم ما يعم ذلك، فيرجع إلى ما عن العضدي وغيره من أن ما تحقق وجوده ولم يعلم أو يظن عدمه فهو مظنون البقاء.

وكيف كان، فهو يندفع..

أولاً: بمنع حصول الظن الشخصي في المقام من الحيثية المذكورة، بل يختلف حصوله باختلاف الموارد جداً. وعدم الجهة الارتكازية المقتضية لإفادته الظن نوعاً.

وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم قدس سره بما لا مجال لمتابعته فيه بعد وضوح الحال.

وثانياً: بأنه لا مجال لإثبات حجية الظن المذكور، لا ببناء العقلاء، لما تقدم، ولا بحكم العقل، إلّا بناء على تمامية دليل الانسداد، الخارج عن محل الكلام.

الرابع: الأخبار

الأمر الرابع: الأخبار. قال شيخنا الأعظم قدس سره: «وأول من تمسك بهذه الأخبار - في ما وجدته - والد الشيخ البهائي - في ما حكي عنه - في العقد

ص: 21

الطهماسي، وتبعه صاحب الذخيرة، وشارح الدروس، وشاع بين من تأخر عنهم...».

وهي جملة من النصوص..

صحيحة زرارة الأولى

الأول: صحيحة زرارة: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرك على [إلى. يب(1)] جنبه شيء ولم يعلم به؟. قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بَيِّن، وإلّا فإنه على يقين من وضوئه ولا تنقض [ينقض اليقين. يب] اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه [ولكن ينقضه. يب] بيقينٍ آخر»(2) وإضمارها لا يمنع من الاستدلال بها بعد ذكر الأصحاب لها في كتب أخبار الأئمة عليهم السلام، ولا سيما بعد كون الراوي لها زرارة، حيث لا يحتمل أن يأخذ هذه الخصوصيات من غير الإمام عليه السلام.

على أنه قد رواها عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في الحدائق، ومحكي الفوائد للسيد بحر العلوم، والفوائد المدنية للاسترآبادي. وإن لم يظهر لنا مأخذ ذلك بعد روايتها مضمرة في التهذيب والوسائل.

ولا ريب في دلالتها على الرجوع للاستصحاب في موردها، وإنما الكلام في دلالتها على الرجوع إليه في جميع الموارد، كما استدل بها عليه غير واحد.

وتوضيح ذلك: أن قوله عليه السلام: «وإلا...» لما كان راجعاً إلى جملة

ص: 22


1- هذه وما بعدها إشارة إلى نسخة التهذيب.
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 1.

شرطية تقديرها: وإن لم يجيء من ذلك أمر بَيِّن... فقد وقع الكلام في جزاء الشرطية المذكورة، وقد ذكر في كلماتهم ثلاثة وجوه..

وجوه الاستثناء في الصحيحة

الأول: أن يكون محذوفاً مقدراً أقيمت علته مقامه، والتقدير: وإلا لا يجب الوضوء. فإنه على يقين من وضوئه....

الثاني: أن يكون هو قوله عليه السلام: «فإنه على يقينٍ من وضوئه» بأن تكون جملة إنشائية قصد بها بيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء في فرض الشك المذكور.

وربما قيل: إنها على ظاهرها في الإخبار، على ما يأتي الكلام فيه.

الثالث: أن يكون هو قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشك أبدا» ويكون قوله عليه السلام: «فإنه على يقين من وضوئه» توطئة لذلك.

تقريب الشيخ الأعظم قدس سره للوجه الأول

وظاهر شيخنا الأعظم قدس سره تقريب الوجه الأول، بل هو الذي أصرَّ عليه جماعة ممن تأخر عنه.

ونَظَّرَ له شيخنا الأعظم قدس سره ببعض الآيات، كقوله تعالى: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1)، وقوله تعالى: «إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ»(2) واستشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره: - على ما في تقرير درسه - بأن لازمه التكرار في الجواب، وبيان حكم المسؤول عنه مرتين، لأن الحكم بعدم إعادة الوضوء قد ذكر أولاً بقوله: «لا حتى يستيقن...»، وهو لا يخلو عن حزازة.

ودعوى: أنه لا تكرار مع فرض حذفه وإقامة العلة مقامه.

ص: 23


1- سورة آل عمران: 97.
2- سورة يوسف: 77.

مدفوعة: بأن المحذور ليس في تكرار ذكره، بل في تكرار بيانه، فإن حذفه وإقامة العلة مقامه لا ينفك عن قصده بالبيان.

ما أجاب عنه الشيخ الحلي قدس سره

هذا، وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره: بأن تكرار الحكم بعدم إعادة الوضوء ليس مقصوداً بنفسه، كي يكون بلا فائدة، بل هو تمهيد لبيان علته والاستدلال عليه.

وما ذكره قدس سره وإن كان كافياً في الجواب عن الإشكال، إلّا أن الظاهر أن دعوى الحذف لا تخلو عن تسامحٍ، للمحافظة على القواعد العربية في فرض الجزاء جملةً واحدةً.

والتأمل في هذا النحو من الاستعمالات قاضٍ بكون العلة بنفسها هي الجزاء، وأن المراد بذكرها التنبيه إليها - لكون الشرط بنفسه سبباً في الحاجة إليها - ليتوصل إلى مقتضاها، ويتضح تحقق الحكم بسببها. فكأنه قيل: وإن لم يجئ من ذلك أمر بَيِّن فليلتفت إلى أنه على يقين من وضوئه ولا...، فالجزاء هو علة الحكم بنفسها، والمقصود من ذكرها استيضاح الحكم المحتاج له حال حصول الشرط، وليس الجزاء هو الحكم نفسه، ليلزم التكرار.

وهذا هو الظاهر في جميع النظائر لكون العلة رافعة إلى ما قد يتوهم حصوله بسبب الشرط. فلاحظ.

اختيار النائيني قدس سره

أما بعض الأعاظم قدس سره فقد اختار الوجه الثاني، بتأويل الجملة الخبرية بجملةٍ إنشائية، وكأن مراده بذلك أن المراد بقوله عليه السلام: «فإنه على يقينٍ من وضوئه» ليس هو الإخبار عن سبق اليقين منه بالوضوء، بل تنزيله شرعاً منزلة المتيقن في لزوم البناء على بقاء الوضوء.

ص: 24

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن حمل الجملة المذكورة على الإنشاء بعيد عن ظاهرها جداً، إذ لم يعهد جعل اليقين بنفسه وادعائه بمثل هذه الجملة.

وثانياً: أن مرجع ذلك إلى عدم وجوب الوضوء المبين أولاً من دون زيادة فائدة، فيلزم التكرار الذي فرَّ منه.

وثالثاً: أن ذلك لا يناسب قوله عليه السلام بعد ذلك: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك».

إذ المراد باليقين فيه إن كان هو التعبدي، بجعل هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، فعدم نقضه بالشك لازم لفرضه. مضافاً إلى ما فيه من التفكيك بين اليقين ومقابله، وهو الشك، الذي لا إشكال في كون المراد منه الحقيقي.

وإن كان هو اليقين الحقيقي السابق، بجعلها مفسرة لما قبلها، فهو لا يخلو عن تكلفٍ ظاهرٍ مع ما فيه التفكيك بين اليقينين في الجملتين.

بل الوجه المذكور لا يناسب ما ذكره في صدر كلامه، من كون الجملتين قياساً من الشكل الأول، لوضوح أن ذلك موقوف على اتحاد المراد باليقين في الجملتين - وهو اليقين الحقيقي السابق - الملزم بكون الجملة الأولى خبرية محضة، وإلّا كانت الصغرى عين النتيجة، كما نبه له شيخنا الأستاذ قدس سره.

احتمال العراقي قدس سره كون الفقرة هي الجزاء

هذا، وقد احتمل بعض الأعيان المحققين قدس سره إبقاء الفقرة المذكورة على ظاهرها في الإخبار، مع كونها هي الجزاء بنفسها.

قال مقرر درسه: «فيكون المستفاد منه بدلالة الاقتضاء أنه إن لم يستيقن بالنوم فهو متيقن بالوضوء، ولا ينقض اليقين بالشك، وإلّا فلا ترتب بين كونه شاكاً في النوم وكونه متيقناً بالوضوء».

ص: 25

المناقشة فيه

وفيه: أن ما استفاده بدلالة الاقتضاء مصرح به في الحديث الشريف دون أن يتضح وجه تركيب الكلام.

ومثله ما عن بعض الأعاظم قدس سره(1) - وإن لم أتحققه - من أن الجملة المذكورة خبرية وكلتا الجملتين جزاء.

إذ لم يعهد جعل الجزاء جملتين، إلّا أن يرجع إلى ما سبق منا من ورودهما مورد التعليل.

الكلام في الوجه الثالث

وأما الوجه الثالث فلم أعثر عاجلاً على من التزم به، وإنما ذكر احتمالاً في كلامهم.

ولا مجال له، لأن توطئة الحكم راجعة إلى تعليله أوبيان موضوعه، نظير قولنا: إن جاء زيد فحيث كان عالماً يجب إكرامه، وهو لا يناسب عطف الجملة الثانية على الأولى، بل ربطهما بما يقتضي التفريع، كما في المثال المذكور.

ما يقتضيه الوجه الثالث واستبعاده

إذا عرفت هذا، فاعلم أن الوجه الثالث يقتضي عموم الرجوع للاستصحاب في جميع موارد الشك في انتقاض الوضوء، لأن الحكم في الجزاء - على هذا الوجه - وإن اختص بالشك في انتقاض الوضوء من جهة النوم، لأنه الموضوع في جملة الشرط، فيلزم حمل الشك في الجزاء عليه، كما يلزم حمل اليقين على خصوص يقين المورد، إلّا أن العلة المشار إليها في التمهيد تقتضي التعميم لجميع الموارد المذكورة، لاشتراكها في العلة، وهي سبق اليقين بالوضوء.

وأما التعميم لغير الوضوء فلا طريق له إلّا دعوى: أن المناسبات

ص: 26


1- نسب إلى بعض الأعاظم في تقرير درس شيخنا المعاصر الميرزا باقر الزنجاني قدس سره. (منه عفي عنه).

الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصيته، لعدم دخلها عرفاً، ولا سيما مع إشعار قوله: «أبداً» في عدم شأنية اليقين للانتقاض بالشك.

إلّا أن في بلوغ ذلك مرتبة الظهور الحجة إشكالاً.

وأما دعوى: أنه مقتضى ظهور التعليل في كونه ارتكازياً، لعدم خصوصية الوضوء ارتكازاً في منشأ الحكم.

فمدفوعة: بعدم وضوح ظهور التركيب المذكور في التعليل المقصود به تقريب الحكم إلى ذهن السامع ليتقبله، بل مجرد التفريع الذي يكفي فيه تفرع الحكم على موضوعه، ولا يعتبر في الموضوع أن يكون ارتكازياً.

ما يقتضيه الوجه الثاني واستبعاده

وأما الوجه الثاني فهو يقتضي الرجوع للاستصحاب في خصوص مورد الشك في النوم، لأنه الموضوع في الشرطية، دون مطلق الشك في انتقاض الوضوء، فضلاً عن مطلق الشك في انتقاض الحالة السابقة.

نعم، الفقرة الثانية تقتضي عموم الرجوع للاستصحاب لو كانت جملة مستقلة غير مرتبطة بما قبلها، قد أريد بها اليقين بالحدوث والشك في البقاء.

إلّا أن الوجه المذكور لا يقتضي ذلك، بل يقتضي كونها مؤكدة أو مفسرة لما قبلها، فلابد من الاقتصار على مقداره ولو لأنه المتيقن.

لكن أصر بعض الأعاظم قدس سره على استفادة عموم جريان الاستصحاب مع التزامه بالوجه المذكور، بدعوى: عدم دخل التقييد بالوضوء في الحكم، وإنما ذكر لخصوصية مورد السؤال. بل ذكر أنه لا مجال لاحتمال دخل الخصوصية، كي يقال: إنه يكفي الاحتمال في سقوط الاستدلال.

ولا يرجع ما ذكره إلى محصل ظاهر، فإن اليقين بالوضوء - على الوجه المذكور - ليس موضوعاً للحكم ليمكن إلغاء خصوصية الوضوء،

ص: 27

بل هو بنفسه محكوم به، فعمومه تابع لعموم موضوعه، وحيث كان موضوع الجزاء تابعاً لموضوع الشرط تعين اختصاص الحكم بالشك في النوم، كما ذكرنا.

والقطع بعدم دخل الخصوصية ما لم يستند إلى ظهور الكلام حجة على القاطع، ولا يكون حجة له في الخصام كما لا يكون مورداً للنقض والإبرام.

النظر في مقتضى الوجه الأول وما يترتب عليه

هذا، وحيث ظهر مما تقدم ضعف هذين الوجهين فلا أهمية لقصور مقتضاهما، بل يلزم النظر في مقتضى الوجه الأول الراجع إلى كون ذكر الجملتين لتعليل الحكم بعدم وجوب الوضوء، إما لكون التعليل بنفسه جزاءً للشرط - كما ذكرنا - أو لقيامه مقام الجزاء بعد حذفه، كما ذكره مشايخنا العظام، نفعنا الله تعالى بإفاداتهم.

ومن الظاهر أن صلوح الجملتين للتعليل بلحاظ كونهما قياساً من الشكل الأول منتجاً للمطلوب، ومقتضى عموم كبرى القياس المذكور، وهي قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك» جريان الاستصحاب مطلقاً من دون خصوصية للشك في الوضوء، فضلاً عن خصوصية الشك في النوم.

إن قلت: هذا موقوف على كون اللام في (اليقين) الذي تضمنته الكبرى للجنس لا للعهد، وإلّا كان مختصاً باليقين بالوضوء.

قلت: لا مجال للعهد في المقام، لأن اليقين في الصغرى قد أخذ محكوماً به، ومن الظاهر أن الحكم تابع لموضوعه سعةً وضيقاً، وحيث كان موضوع الصغرى هو موضوع جملة الشرط، وهو الشك في النوم، فاليقين المحكوم به هو اليقين بالوضوء في مورد الشك في النوم، لا مطلقاً، فلو

ص: 28

كانت اللام للعهد كان موضوع القضية الثانية هو خصوص اليقين المذكور، وخرجت عن كونها كبرى عامة واردة مورد الاستدلال، بل تكون عين الدعوى وكانت تكراراً لها من دون فائدة.

فغاية ما يمكن في توجيه دعوى اختصاص الكبرى باليقين بالوضوء هو كون اليقين في الكبرى مقيداً بالوضوء بقرينة تقييده به في الصغرى، مع كون اللّام جنسية، ليشمل الشك من غير جهة النوم، كما هو شأن الكبرى.

إلّا أنه لا مجال له، لأنه تقييد للإطلاق بلا ملزم، ومجرد تقييده في الصغرى لا يقتضيه.

إن قلت: شرط القياس تكرر الأوسط في القضيتين، وحيث كان المتكرر هنا هو اليقين فلابد إما من إلغاء القيد المذكور في الصغرى أو المحافظة عليه وجعلها قرينة على التقييد في الكبرى، وليس الأول بأولى من الثاني، بل لا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

قلت: التكرار المعتبر في إنتاج القياس يعم ما إذا كان موضوع الكبرى أعم، ولا ملزم بمطابقتهما في مثل ذلك، كي يصلح التقييد في الصغرى للقرينية على التقييد في الكبرى، ويخرج به عن مقتضى الإطلاق.

وما التزم به المناطقة من تحليل القياس في مثل ذلك إلى قياسين محض اصطلاح لا أثر له في الاستدلال ولا في ظهور الكلام، لينافي ما ذكرنا.

فغاية ما يلزم في المقام كون التقييد في الصغرى غير دخيل في الاستدلال، وليس هو محذوراً، لعدم لزوم لغويته بعد كونه مفيداً لمضمونه مراداً بالبيان، فلا مخرج عن الإطلاق.

ص: 29

ومن ثم كان الظاهر في أمثال هذا التركيب عموم الكبرى، كما في قولنا: زيد عالم بالنحو، والعالم في هذا الزمان يجب إكرامه، وعمرو أخوك الأوسط، والأخ ينبغي الإحسان إليه، وهذا الكتاب مفيد للمبتدئ، والكتاب المفيد يلزم نشره، إلى غير ذلك.

مناسبة التعميم لكون التعليل ارتكازياً

مضافاً إلى ما أشار إليه غير واحد من أن التعميم هو المناسب لكون التعليل ارتكازياً، لعدم خصوصية الوضوء في الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق، فلو أخذت فيه كان التعليل تعبدياً، وهو خلاف ظاهر التعليل، لأنه مسوق لتقريب الحكم إلى ذهن السامع، خصوصاً من مثل الإمام عليه السلام الذي لا يكلف بالاستدلال.

إن قلت: هذا لا يناسب ما تقدم من إنكار السيرة على الاستصحاب، إذ وجود الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق يستلزم جري العقلاء عليها في أمورهم.

قلت: لا تتوقف ارتكازية التعليل على بلوغ الارتكاز حداً يقتضي العمل بنفسه، ليكون ملازماً للسيرة، بل يكفي فيه إدراك العقلاء للجهة المناسبة للجعل الشرعي، بحيث يكون الجعل مألوفاً لهم مقبولاً عندهم بسبب التعليل.

فمثلاً: تعليل اعتصام ماء البئر وطهارته بزوال التغير بأن له مادة وإن كان ارتكازياً، إلّا أن الارتكاز المذكور لولا التعليل لا يكفي في استكشاف الحكمين بنحو يخرج بهما عن عمومات الانفعال واستصحاب النجاسة.

ومن ثم لا نلتزم بأن مفاد التعليل في المقام إمضاء بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب، ليكون قاصراً عما لو علم بعدم عمل العقلاء به، كما

ص: 30

لو ظن بانتقاض الحالة السابقة، بل هو حكم تعبدي للشارع يتمسك بإطلاقه في المورد المذكور، وإن كان ارتكازياً في الجملة، بلحاظ أن في الجري على مقتضى اليقين السابق جهة ارتكازية تناسب جعله في مقام ضرب القاعدة العملية عند الشك.

حاصل البحث في الصحيحة

والمتحصل: أنه لا ينبغي التأمل في ظهور الكبرى المذكورة في عموم الرجوع للاستصحاب من دون خصوصية للشك في انتقاض الوضوء، كما هو مقتضى الإطلاق المناسب للارتكاز، ولا يصلح التقييد في الصغرى لرفع اليد عن ذلك.

وأما احتمال كون مفاد الحديث الشريف عدم نقض اليقين بالشك في الجملة على نحو سلب العموم لا عموم السلب، كي ينفع في الرجوع للقاعدة.

فهو موقوف على كون اللام استغراقية، بمعنى أنها بنفسها موضوعة للعموم، ليكون تسليط النفي عليها راجعاً إلى نفي مفادها، وهو العموم، لا جنسية لتعريف الماهية التي لا يكون نفيها إلّا بنفي تمام أفرادها.

والظاهر خلافه وأن اللّام للتعريف الشخصي أو الجنسي لا غير. مع أن الحمل على سلب العموم لا يناسب التأبيد الذي تضمنه الكلام، كما لا يناسب مقام التعليل والاستدلال، لتوقف إنتاج الشكل الأول على كلية الكبرى، ولا ينتج مع إهمالها أو جزئيتها.

هذا، وقد تعرض غير واحد للكلام في فقه الحديث، وفي وجه التمثيل باستصحاب الوضوء، دون استصحاب عدم النوم الذي هو سببي حاكم.

والأول - مع وضوحه ظاهراً - ليس وظيفةً للأصولي.

ص: 31

والثاني لا دخل له بما نحن فيه من الاستدلال على الاستصحاب، بل يتعلق ببعض المباحث الآتية، كالاستصحاب في العدميات، وحكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي. ولعله يأتي الكلام في ذلك هناك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

صحيحة زرارة الثانية

الثاني: صحيحة أخرى لزرارة، «قلت [لأبي جعفر عليه السلام: إنه. ع(1)] أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من مني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت [الماء. ع] وحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئاً، وصليت، ثم إني ذكرت بعد [ذلك. يب] قال: تعيد الصلاة وتغسله.

قلت: [فاني. يب] فإن لم أكن رأيت موضعه و [قد. ع] علمت أنه أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته. قال: تغسله وتعيد.

[قال:. ع] قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر [فيه. يب] شيئاً، ثم صليت فرأيت [فرأيته. ع] فيه [بعد الصلاة. ع] قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت: لم ذلك [ولم ذاك. ع]؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت [نظافتك ثم شككت. ع] فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً.

قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله، قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد. يب] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته قال. ع] قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن أنظر فيه [فأقلبه. ع]؟ قال: لا، ولكنك إنما تريد [بذلك. ع] أن تذهب

ص: 32


1- هذه وما بعدها إشارة إلى نسخة العلل.

الشك الذي وقع في نفسك [قال:. ع] قلت: إن [فأن. ع] رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة. قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته [فيه. ع] وإن لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت [الصلاة. يب] وغسلته، ثم بنيت على الصلاة [فإنك. ع] لأنك لا تدري لعله شيءٍ أوقع [وقع. ع] عليك، فليس ينبغي [لك. ع] أن تنقض اليقين بالشك [بالشك اليقين. ع]»(1).

ولا يهم إضمارها في التهذيب بعد ما تقدم في الصحيحة الأولى، وبعد روايتها في العلل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام بطريقٍ صحيحٍ أيضاً.

ثم لا يخفى أن الاستدلال بها بلحاظ التعليل في صدرها وذيلها بالقياس المتضمن للكبرى الاستصحابية الظاهرة في العموم بالتقريب المتقدم في الصحيحة الأولى.

وأما قوله عليه السلام: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» فهو وإن كان دالاً على الاستصحاب، إلّا أنه مختص بمورده، والتعدي عنه لا يكون إلّا بالمناسبات الارتكازية التي يغني عنها عموم التعليل المذكور.

إشكال الاستدلال بصدرها من وجهين..

هذا، وقد يستشكل في الاستدلال بصدرها من وجهين..

الأول

الأول: أنه لا ملزم بحمل اليقين فيه على اليقين قبل ظن إصابة النجاسة المفروض بقاؤه وكون الشك في استمرار المتيقن، ليكون من موارد الاستصحاب، بل قد يكون المراد باليقين فيه هو اليقين الحاصل بسبب

ص: 33


1- أخذناها بتمامها من التهذيب ج 1 ص: 421 طبع النجف الأشرف، ومن العلل باب: 80 ص: 36 طبع النجف الأشرف، وخرجها في الوسائل متفرقة في ج 2، باب 7 حديث: 2، وباب: 37 حديث: 1، وباب: 41 حديث: 1، وباب: 42 حديث: 2، كل ذلك في أبواب النجاسات.

الفحص وعدم الوجدان عند ظن الإصابة، ومن الشك هو الشك في وجوده حين الصلاة، الحاصل من رؤيته بعدها، حيث يحتمل كونه موجوداً حين الصلاة، لعدم استيعاب الفحص، المستلزم لخطأ اليقين المسبب عنه، كما يحتمل كونه واقعاً بعدهاً - نظير ما تضمنه الذيل - مع عدم خطأ اليقين فيكون وارداً مورد قاعدة اليقين، فتحمل الكبرى عليها لا على الاستصحاب.

دفعه

ويندفع: بأن حصول اليقين من الفحص محتاج إلى عناية لم يشر إليها في السؤال، والمنسبق منه بقاء الشك، وإلّا فاليقين المسبب عن الفحص المستوعب لا يتزلزل غالباً بالرؤية بعد الصلاة مع فرض إمكان تجدد النجاسة بعدها. فتأمل.

كما أن كون رؤيته بعد الصلاة مثيراً لاحتمال وقوعه بعدها بنحو يقتضي تزلزل اليقين وتبدله بالشك ليكون من صغريات قاعدة اليقين محتاج إلى عناية أيضاً، ولذا نبّه له الإمام عليه السلام في الذيل، فعدم التنبيه عليه من السائل ظاهر في عدمه.

بل ظاهر سؤال زرارة عن العلة لعدم الإعادة في الفرض المذكور هو مشاركته للفرضين السابقين اللذين حكم فيهما بالإعادة في حصول النجاسة حين الصلاة، إذ لو كان المفروض فيه الشك في ذلك لم يكن بينه وبين الفرضين السابقين جهة مشتركة، ليسأل عن وجه تخصيصه من بينها بعدم الإعادة، بل كان عدم الإعادة واضح الوجه.

فالظاهر أن المراد باليقين بالطهارة هو اليقين السابق على ظن الإصابة، وبالشك هو الشك حين الصلاة الحاصل من عدم استيعاب الفحص، فيكون من موارد الاستصحاب.

ص: 34

بل هو المتعين بناء على ما في العلل من روايته هكذا: «فرأيته فيه» لظهوره في كون المرئي هو الذي ظن بإصابته أولاً. والظاهر حجيته، لأن نسبته إلى الرواية الأخرى نسبة المبين إلى المجمل، وليسا من سنخ المتعارضين بعد الالتفات للنقل بالمعنى.

الثاني:

الثاني: أن عدم نقض اليقين بالشك إنما يصلح لأن يكون تعليلاً لجواز الدخول في الصلاة ظاهراً، لفرض الشك حينه في النجاسة، لا لعدم وجوب الإعادة واقعاً بعد فرض انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة وفقدها للشرط، لما قيل من أن الإعادة حينئذ تكون نقضاً لليقين باليقين. فلابد من توجيه التعليل.

هذا، ومن الظاهر أن خفاء وجه التعليل وانطباق الكبرى الاستصحابية على المورد لا يمنع من التمسك بها في غيره بعد وفاء الكلام بالدلالة عليها.

نعم، لو كان حمل الصحيحة على قاعدة اليقين رافعاً للإشكال لكان مانعاً من الاستدلال بها في المقام.

لكنها تشترك مع الاستصحاب في الإشكال المذكور، فلا أثر للإشكال المذكور في ما هو المهم هنا، وهو الاستدلال بالصحيحة، وإنما تعرضنا لذلك متابعةً لمشايخنا العظام نفعنا الله تعالى بإفاداتهم.

الجواب عنه بوجوه..

وكيف كان، فقد يجاب عنه بوجوه..

الأول: ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره

أولها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من احتمال أن يراد من الشك هو الحاصل بعد الصلاة عند رؤية النجاسة، لفرض أن رؤيتها لم توجب اليقين بحصولها حين الصلاة، بل يحتمل وقوعها بعدها، نظير ما ذكر في الوجه الأول.

ص: 35

لكنه قدس سره ذكر أن ذلك خلاف ظاهر السؤال.

ويظهر وجهه مما تقدّم، مضافاً إلى أن مقتضى التعليل حينئذٍ هو الصحة الظاهرية المستندة للاستصحاب، ولا وجه للتنبيه لذلك والعدول عن التنبيه لصحة الصلاة واقعاً مع النجاسة جهلاً كما نطقت به النصوص والفتاوى.

الثاني: ما ذكره الخراساني قدس سره

ثانيها: ما ذكره المحقّق الخراساني من أن الشرط في الصلاة ليس هو الطهارة الواقعية، كي تكون الإعادة مع انكشاف عدمها نقضاً لليقين باليقين ولا تنافي الاستصحاب.

بل الشرط في حال الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولذا تصح الصلاة مع النجاسة جهلاً بها، والإحراز هنا موقوف على جريان الاستصحاب حين الصلاة، المفروض تحقق موضوعه وهو الشك، فالاستصحاب محقق للشرط واقعاً، ومقتض ٍلعدم الإعادة حتى في فرض انكشاف عدم حصول الطهارة واقعاً. وبهذا صح التعليل بعدم نقض اليقين بالشك، حيث تكون العلة هي إحراز الطهارة التي هي العلة لعدم الإعادة.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك خلاف ظاهر الأدلة الأولية الدالة على شرطية الطهارة للصلاة أو مانعية النجاسة منها، وخلاف ما دل على أن ناسي النجاسة يعيد مع أنه قد يحرز الطهارة ظاهراً. وما هو المعلوم من أن مَن عَلِمَ إجمالاً بنجاسة أحد ثوبين، فصلى في أحدهما برجاء طهارته، صحت صلاته إذا صادفت طهارته واقعاً مع أنه لم يحرز طهارته حين الصلاة.

ومجرد صحة الصلاة مع النجاسة جهلاً لا يقتضيه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. بل لا وجه مع ذلك لاستصحاب الطهارة، لفرض عدم

ص: 36

كونها موضوعاً للحكم الشرعي، إلّا بناء على كفاية ترتب الأثر على نفس الاستصحاب، لا على المستصحب، الذي هو خلاف مختاره قدس سره.

وأما ما ذكره قدس سره من توجيه جريان استصحابها..

ما ذكره الخراساني قدس سره من توجيه استصحاب الصلاة

تارة: بعدم انعزالها عن الشرطية رأساً، بل هي بمقتضى الأدلة الأولية شرط واقعي اقتضائي.

وأخرى: بأنها من قيود الشرط، لفرض أن الشرط إحرازها، لا إحراز أمر آخر.

دفعه

فهو كما ترى! لاندفاع لأول: بأن المعتبر في الاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد ترتب العمل التابع للحكم الفعلي، لا الاقتضائي.

واندفاع الثاني: بأنه بعد فرض صحة العمل بدونها لا معنى لكونها قيداً للشرط، إذ ليس المراد من قيد الشرط الذي يصح استصحابه إلّا ما يكون قيداً بوجوده الواقعي، كعدم حرمة أكل اللحم الذي هو قيد في الساتر الذي هو شرط في الصلاة، لا مجرد ما يضاف إليه الشرط لفظاً.

ما ذكره النائيني قدس سره من التوجيه

وأضعف من ذلك ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في توجيه التعليل من أن تنجز النجاسة مانع من الصلاة، فذكر الاستصحاب لبيان عدم تحقق المانع.

دفعه

لظهور اندفاعه بمنافاته لظاهر الأدلة الأولية، على ما تقدم

كيف! ولا ينبغي الإشكال في صحة الصلاة واقعاً مع إحراز النجاسة ظاهراً خطأ مع تأتي قصد القربة إما رجاء أو للغفلة عن مانعية تلك النجاسة من الصلاة.

بل هو خلاف ظاهر التعليل، لظهوره في كون علة عدم الإعادة هو

ص: 37

استصحاب الطهارة بنفسه، لا بلحاظ استلزامه عدم إحراز النجاسة، إذ يكفي في ذلك فرض الشك بلا حاجة إلى كبرى الاستصحاب.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

ثالثها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من حسن التعليل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، فيكون التعليل المذكور دليلاً على قاعدة الإجزاء المذكورة وكاشفاً عنها.

وقد استشكل فيه قدس سره: بأن ظاهر التعليل كون الإعادة بنفسها نقضاً لليقين بالشك، لا أن عدم الإعادة مسبب عن عدم نقض اليقين بالشك بتوسط إجزاء الأمر الظاهري الناشئ منه.

لكن ما ذكره قدس سره غير ظاهر، بل يكفي في حسن التعليل ابتناء عدم الإعادة على عدم نقض اليقين بالشك ولو بتوسط الإجزاء المذكور، فرقاً بين هذا الفرض والفرضين السابقين اللّذين لا يجري فيهما الاستصحاب الذي يتحقق به الأمر الظاهري، وإن شاركهما في وقوع الصلاة مع النجاسة.

وقد يناسب إرادة ذلك التعبير بقوله عليه السلام: «لأنك كنت على يقين...» لظهوره في ملاحظة تمامية موضوع الاستصحاب سابقاً حين الدخول في الصلاة لا فعلاً حين انكشاف الحال والسؤال عن حكم الإعادة، وإلّا فالأنسب أن يقول: «لأنك على يقين...»، كما عبر بذلك في الصحيحة الأولى.

وبالجملة: ابتناء التعليل على الوجه المذكور قريب جداً، وهو المناسب لما أشرنا إليه آنفاً من معروفية صحة الصلاة مع النجاسة جهلاً، كما هو مقتضى النصوص والفتاوى، ولذا كان هو المنصرف من الحديث بدواً.

ص: 38

بقي أمران

بقي في المقام أمران:

الأول

الأول: أن ما ذكر في تقريب هذا الوجه من كون التعليل دليلاً على قاعدة إجزاء الأمر الظاهري، إن أريد به كونه دليلاً عليها في خصوص المورد، فهو في محله، وإن كان يغني عنه النصوص الأخرى.

وإن أريد به كونه دليلاً عليها على العموم ولو في غير المورد، فهو موقوف على إلغاء خصوصية المورد، ولا يخلو عن إشكال.

ومجرد التعليل لا يصلح لذلك بعد عدم كون عموم إجزاء الأمر الظاهري أمراً ارتكازياً، ليتعين إرادته محافظة على ارتكازية التعليل، بل هو أمر تعبدي محض، فلعل التعليل مبني على تعبد خاص معلوم للسائل مختص بالمورد لا يجري في غيره.

بل حيث كان الاجتزاء بالصلاة مع النجاسة لعذرٍ من غفلةٍ، أو جهلٍ مركب، أو تعبدٍ شرعيٍ مما يقرب وضوحه، خصوصاً عند مثل زرارة، لكثرة نصوصه واشتهاره عند الأصحاب، فلا مجال للبناء على عموم إجزاء الحكم الظاهري، حتى لو كان ارتكازياً، لأن الملزم بالبناء على ارتكازية التعليل عدم تأتي الغرض من التعليل - وهو تقريب الحكم إلى ذهن السامع - إلّا بذلك، وهو مختص بما إذا كانت الجهة التعبدية خفية، أما إذا كانت واضحة جلية، فيكون الاعتماد عليها وافياً بغرض التعليل أيضاً، ولا ملزم بالحمل على الجهة الارتكازية.

بل لا يبعد كون مرادهم بارتكازية التعليل ما يعم ذلك، وهو كونه مشيراً إلى أمرٍ واضح مرتكز في ذهن السامع لمناسبات عرفية، أو لتعبد واصل.

ص: 39

وعلى هذا يكون المتيقن في المقام التنبيه إلى تحقق الجهة المذكورة، وهي العذر في الصلاة مع النجاسة بسبب الاستصحاب، دفعاً لتوهم مانعية الظن بالإصابة قبل الدخول في الصلاة من تحقق العذر المسوغ للدخول فيها، لقياس الظن على العلم الحاصل في الصورتين الأوليين، مع الفراغ عن أن تحقق العذر كاف في صحة العمل ولو في خصوص المورد تعبداً. فلاحظ.

الثاني:

الثاني: ظاهر المحقق الخراساني قدس سره وغيره أن هذا الوجه مباين للوجه السابق، وأن إجزاء الأمر الظاهري لا ينافي كون موضوع الحكم واقعاً هو الطهارة الواقعية، لا ما يعمها وإحراز الطهارة، ولا خصوص الإحراز، كما هو مقتضى الوجه السابق.

ما استشكله السيد الخوئي قدس سره

وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا بأنه لا يعقل إجزاء الأمر الظاهري إلّا بتوسعة الواقع، وجعل الشرط أعم من الواقع والظاهر.

وفيه: أنه ليس المراد بإجزاء الأمر الظاهري كون متابعته محققة لامتثال التكليف الواقعي - بمعنى مطابقة أمره - بل سقوط الإعادة والقضاء، وهو كما يكون مع الامتثال يكون مع تبدل الملاك، أو تعذر استيفائه، ولذا يمكن فيه سقوط القضاء دون الإعادة، ولا يعقل ذلك مع الامتثال الحقيقي.

بل فرض كون الأمر ظاهرياً يستلزم فرض إناطة التكليف بالواقع المجهول، ليكون إحرازه ظاهراً مستلزماً لإحراز الأمر ظاهراً الذي هو المراد من الأمر الظاهري.

إذ لو كان منوطاً بما يعم الواقع والظاهر كان الإحراز الظاهري للواقع مستلزماً للأمر الواقعي، فيكون إجزاؤه مبنياً على كبرى إجزاء الأمر الواقعي

ص: 40

الضرورية.

ولذا لا إشكال ظاهراً في بقاء موضوع الاحتياط مع الإحراز الظاهري، وإن لم يكن لازماً، فمع استصحاب طهارة الثوب يبقى الموضوع للاحتياط بالصلاة في ثوب آخر معلوم الطهارة، مع وضوح أنه لا موضوع له مع فرض تبدل موضوع التكليف، بل يكون ذلك عدولاً من أحد فردي الموضوع لفرد آخر، نظير: ترك الثوب الذي طهر بماء المطر إلى الثوب الذي طهر بماء الفرات.

عدم الفرق بين المبنيين ثبوتاً

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بملاحظة ما ذكرنا في الفرق بين المبنيين ثبوتاً، كما هو الحال في الفرق بينهما إثباتاً، فإن لسان تعميم الموضوع في مقام التشريع مباين للسان إجزاء المأتي به عما هو المشروع بعد الفراغ عن مباينته له.

ومن ثم تقدم منا في مناقشة المحقق الخراساني أن إجزاء الصلاة في النجس مع إحراز طهارته خطأ لا يستلزم التصرف في الأدلة الأولية الظاهرة في كون الشرط هو الطهارة الواقعية.

هذا كله في الاستدلال بالتعليل، الذي تضمنه الصدر، وأما التعليل الذي تضمنه الذيل فقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سره بأن تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخر الوقوع يأبى عن حمل اللام على الجنس.

والعمدة في ذلك: أن التفريع ظاهر في نحو ترتب بين المتفرع والمتفرع عليه، نظير ترتب المعلول على العلة والحكم على الموضوع، ومن الظاهر أنه لا ترتب بين الصغرى والكبرى، بل ليس المترتب على الصغرى إلّا النتيجة التي يكون موضوعها مطابقاً لموضوع الصغرى.

ص: 41

نعم، قد يكون الترتب بين الصغرى والكبرى بلحاظ ترتبهما في مقام الذكر والبيان، حيث يمكن تقديم كل منهما، لكنه خلاف الظاهر جداً.

وكأن ما ذكرنا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره مما حكي عن مجلس درسه في توجيه ما سبق منه، من أن شرط التفريع أن يكون المتفرع أخص من المتفرع عليه ومن أفراده، كي يصح تفريعه عليه، ضرورة أن تفريع العام على الخاص من المستهجنات.

وإلّا فما ذكره من لزوم كون المتفرع أخص من المتفرع عليه غير ظاهر الوجه.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل بملاحظة التفريع في عدم إرادة الجنس، بل العهد لبيان عدم جواز نقض اليقين الحاصل في المورد بالشك الحاصل فيه، الذي هو مفاد نتيجة القياس لا كبراه.

إلّا أن المنسبق منها عدم خصوصية المورد، وأن الشك ليس من شأنه أن ينقض اليقين، لمناسبة ذاتيهما لذلك.

بل ورود القضية مورد التعليل ملزم بذلك محافظة على ارتكازية التعليل، على ما سبق توضيحه في الصحيحة الأولى، فيرجع التعليل المذكور إلى طي كبرى الاستصحاب العامة، لوضوحها، بل الإشارة إليها في النتيجة التي أُخذ في الناقض والمنقوض فيها عنوان الشك واليقين.

عدم ورود الإشكال المذكور على صدر الصحيح

ثم إن هذا الإشكال لا يرد في الصدر بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من روايته بالواو لا بالفاء.

لكن تقدم منا روايته بالفاء تبعاً للتهذيب والعلل المطبوعين في النجف الأشرف، والوسائل المطبوعة - بعشرين جزء - في إيران.

ص: 42

وحينئذٍ فقد يتوجه الإشكال المذكور فيه أيضاً.

لكن حمله على العهد وبيان حكم خصوص مورد السؤال لا يناسب التأبيد جداً.

فإما أن يكون الصحيح هو العطف بالواو، أو يكون ذكر الفاء بلحاظ الترتب الذكري، وإن كان هو خلاف الظاهر في نفسه.

ومن ثم لا يبعد كون ذلك صالحاً للقرينية على إرادة العموم من الذيل، لأن الظاهر منه الإشارة إلى ما تقدم في الصدر، فلاحظ.

وقد تحصَّل من جميع ما ذكرنا: أن الصحيحة بصدرها وذيلها وافية ببيان عموم الاستصحاب والتعبد بمضمونه.

الثالث: صحيحة زرارة الثالثة

الثالث: صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام، قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهد، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات»(1).

قال شيخنا الأعظم قدس سره: «وقد تمسك بها في الوافية، وقرره الشارح، وتبعه جماعة ممن تأخر عنه».

ص: 43


1- الكافي في باب السهو في الثلاث والأربع من كتاب الصلاة، حديث 3، ج 3 ص: 351 وقد أخرج صدر الحديث في الوسائل ج 5، في، باب: 11 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3، وذيله باب: 10 من الأبواب المذكورة: حديث: 3.

والاستدلال إنما هو بقوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشك»، المتضمن لكبري الاستصحاب المشار إليها.

وجوه الإشكال في الاستدلال بها

وقد استشكل فيه بوجوهٍ عمدتها ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أن قوله عليه السلام: «قام فأضاف إليها أخرى» إن أريد به الإتيان بالركعة متصلة بما قبلها كان مطابقاً للاستصحاب، حيث يحمل اليقين فيه على اليقين سابقاً بعدم الإتيان بالركعة الرابعة الذي يكون مقتضى الاستصحاب معه الإتيان بها وعدم الاعتناء بالشك المتجدد.

إلّا أنه جار على مذهب العامة، ومخالف لما عليه الإمامية من علاج الشك المذكور بركعة الاحتياط المفصولة، ولظاهر الفقرة الأولى المتضمنة للإتيان بالركعتين بفاتحة الكتاب، لوضوح عدم تعينها في الركعة الرابعة المتصلة. بل التعبير فيها بقوله عليه السلام: «يركع...» ظاهر في إرادة أنه يصلي صلاة مستقلة بركعتين، وإلّا كان المناسب أن يقول: يأتي بركعتين.

كما أنه لا يناسب بقية الفقرات الناهية عن إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.

ومن هنا كان الأقرب حمله على الإتيان بالركعة مفصولة، ويراد باليقين، اليقين ببراءة الذمة الحاصل من علاج الشك بصلاة الاحتياط - كما أشير إليه في موثقة عمار(1) - أو اليقين بمشروعية المأتي به، وهي الثلاث،

ص: 44


1- قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شيءٍ من السهو في الصلاة؟ فقال: ألا أعلمك شيئاً إذا فعلته ثم إنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت: بلى. قال: إذا سهوت فابن على الأكثر، فإذا فرغت وسلمت فقم، فصل ما ظننت أنك نقصت، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء وإن ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت». (الوسائل ج 5، باب: 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. حديث: 3).

مع حمل النقض على النقض الحقيقي لليقين بإحداث ما يوجب الشك في صحة العمل ومشروعيته، وهو وصل الركعة المشكوكة به.

ما أجيب عن الإشكال على الصحيحة

أو يراد نقض المتيقن بإبطاله واستئناف الصلاة، كما أشار إليه في محكي الوافي(1). فتكون أجنبية عن الاستصحاب.

هذا، وقد أجيب عن ذلك بوجوه..

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أن أصل الإتيان بالركعة مقتضى الاستصحاب. ووجوب فصلها حكم آخر مستفاد من دليل آخر مقيد لإطلاق الاستصحاب، المقتضي لترتيب تمام الآثار، ومنها وصل الركعة، فلا يلزم في المقام إلّا تقييد إطلاق الاستصحاب، دون إلغائه بالمرة.

ولا يخفى أن هذا الوجه مبني على كون وجوب الإتيان بالركعة ظاهرياً، وهو منوط واقعاً بعدم الإتيان بها، بحيث لو لم يأت بها واكتفى بالسلام على ما تيقن به برجاء إتيانه بأربع ركعات وصادف الواقع صحت صلاته.

أما لو كان واقعياً ثانوياً، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك، امتنع ابتناؤه على الاستصحاب الذي هو أصل عملي.

كما أن كون دليل فصل الركعة مقيداً لعموم الاستصحاب مبني على أن وجوب الفصل ظاهري، بحيث لو وصل برجاء كونه قد صلى ثلاثاً،

ص: 45


1- قال: «قوله: «لا ينقض اليقين بالشك» يعني: لا يبطل الثلاث المتيقن فيها بسبب الشك في الرابعة بأن يستأنف الصلاة، بل يعتد بالثلاث: «ولا يدخل الشك في اليقين» يعني: لا يعتد بالرابعة المشكوك فيها بأن يضمها إلى الثلاث ويتم بها الصلاة من غير تدارك، «ولا يخلط أحدهما بالآخر» عطف تفسيري بيان للنهي عن الإدخال، «ولكنه ينقض الشك» يعني: في الرابعة بأن لا يعتد بها، «باليقين» يعني: بالإتيان بركعة أخرى على الإيقان، «ويتم على اليقين» يعني: يبني على الثلاث المتيقن فيها.

وصادف الواقع، صحت صلاته، أما بناء على كونه واقعياً ثانوياً، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك، فوجوب الفصل مقيد لإطلاق وجوب وصل الركعات واقعاً، لا لعموم دليل الاستصحاب.

الإشكال على الوجه المذكور

إذا ظهر هذا فاعلم: أنه يشكل هذا الوجه بعدم ظهور الحديث في مجرد بيان أصل الإتيان بالركعة، بل هو ظاهر في بيان وجوب خصوص الركعة المنفصلة، كما هو مقتضى السياق مع الصدر والتعقيب بعدم إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.

بل لا حاجة مع ذلك للتأكيد الشديد والاهتمام بتوضيح الحكم مع كون أصل الإتيان بالركعة ارتكازياً لمطابقته لقاعدة الاشتغال والاستصحاب.

بل تأكيد قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشك» بقوله: «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» لا يناسب تخصيصه في وجوب فصل الركعة جداً.

وأضعف من ذلك دعوى أن دليل التقييد المذكور هو قوله عليه السلام: «ولا يدخل الشك...» لظهور الفقرات المذكورة في تأكيد قوله عليه السلام: «ولا ينقض...» والجري على ما يطابقه، لا في بيان حكمٍ آخر منافٍ له ومقيد لإطلاقه.

على أن ما في روايات عمار(1)، وكلام الفقهاء من لزوم البناء على الأكثر مع الشك، ثم التدارك بصلاة الاحتياط، ينافي ابتناء صلاة الاحتياط على الاستصحاب، لأن مقتضاه البناء على الأقل، فالمناسب أن يكون وجوب الإتيان بصلاة الاحتياط تقييداً لوجوب البناء على الأكثر، لا أن

ص: 46


1- راجع الوسائل ج 5، باب: 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

فصلها تقييد للاستصحاب. فلاحظ.

الثاني: ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره

الثاني: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره واعتمده بعض الأعيان المحققين قدس سره من حمل تطبيق كبرى الاستصحاب في المقام المقتضي لوصل الركعة على التقية، من دون أن يخل ذلك بالاستدلال بها على الاستصحاب لأصالة الجهة فيه، نظير ما ورد في قول الصادق عليه السلام للسفاح في الصوم: «ذاك إلى الإمام إن صِمْت صِمْنا وإن أَفْطرت أفطرنا»(1)، حيث استدل به على حجية حكم الحاكم في الهلال، وإن كان تطبيقه في المورد تقية.

ويظهر اندفاعه مما تقدم من ظهور الحديث في إرادة فصل الركعة المخالف للعامة ولمقتضى الاستصحاب.

بل تأكيد الحكم المذكور بالفقرات المتتالية ظاهر في تبني الإمام عليه السلام له واهتمامه به، المناسب لسوقه مساق الرد على العامة، لا لمجاراتهم.

الثالث: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

الثالث: ما ذكره بعض مشايخنا من أن موضوع صلاة الاحتياط التي يكون بها علاج الشك عند الإمامية مركب من أمرين: الشك الوجداني، وعدم الإتيان واقعاً بالركعة المشكوك فيها، فمع الدوران بين الثلاث والأربع يكون الجزء الأول ثابتاً بالوجدان، والثاني محرزاً بالاستصحاب، فالاستصحاب منقح لموضوع الوظيفة التي يكون بها علاج الشك لا منافٍ لها.

وفيه - مع ابتنائه على كون وجوب الركعة ظاهرياً. وعدم مناسبة ابتناء صلاة الاحتياط على الاستصحاب لما في روايات عمار من التعبير بالبناء على الأكثر، نظير ما تقدم في الوجه الأول. وإن الأدلة لم تتضمن أخذ عدم الإتيان بالركعة في موضوع صلاة الاحتياط -: أنَّ أخذ الشك في موضوع

ص: 47


1- الوسائل ج 7، باب: 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك حديث: 5.

الوظيفة المذكورة ينافي عرفاً أخذ عدم الإتيان واقعاً بالركعة بنحو يحتاج إلى إحرازه بالاستصحاب، لوضوح أنّ الإحراز يبتني على إلغاء الشك عملاً، فلا يصلح عرفاً لأن يكون مأخوذاً جزءاً من موضوع الوظيفة مع الشك وفي عرضه.

وغاية ما يدعى في المقام هو كون موضوع صلاة الاحتياط هو الشك، وأن وجوبها ظاهري طريقي لإحراز الواقع، لا واقعي ثانوي يرجع إلى تقييد الواقع بغير حال الشك، وعليه لا يحتاج إحراز موضوعها إلى إحراز عدم الإتيان بالركعة بالاستصحاب زائداً على الشك.

بل جعْل قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشك» لبيان إحراز موضوع قاعدة الاحتياط، وقوله عليه السلام: «ولا يدخل الشك...» لبيان كيفيتها، ثم تأكيد الأول بقوله عليه السلام: «ولكنه ينقض» تكلّف يوجب انحلال الكلام وعدم تناسقه.

وقد ظهر بما ذكرناه بعد توجيه الحديث على ما يطابق الاستصحاب.

على أنه لو غض النظر عما ذكرنا في دفع هذه الوجوه فهي إنما تنهض ببيان إمكان إرادة الاستصحاب من الفقرة المذكورة، ولا تنهض بتقريب ظهورها فيه بنحوٍ يصلح الحديث للاستدلال عليه لو لم يكن عليه دليل آخر.

ومجرد اشتمال بعض نصوص الاستصحاب على العبارة المذكورة لا يكفي في ذلك، ولا سيما بعد احتفافها في هذا الحديث بما لا يشعر بإرادته. ويأتي في رواية الخصال ما ينفع في ذلك إن شاء الله تعالى.

الإشكال في الاستدلال بالصحيحة من وجهين الأول: عدم ظهورها في عموم حجية الاستصحاب

ثم إنه قد استشكل في الاستدلال بهذه الصحيحة بوجهين آخرين..

الأول: أنه لا ظهور لها في عموم حجية الاستصحاب، لعدم ظهور الفقرة المذكورة في ضرب القاعدة العامة، بل لتأكيد وجوب الإتيان بالركعة

ص: 48

في موردها، الملزم بالحمل على العهد، ولا مجال معه لظهور اللام في الجنس، إلّا أن تلغى خصوصية المورد للمناسبات الارتكازية، المشار إليها في الصحيحة الأولى، وفي بلوغ الكلام معها مرتبة الظهور الحجة إشكال، كما تقدم.

ما أجاب عنه السيد الخوئي قدس سره

وقد أجاب بعض مشايخنا عن ذلك: بأن تأكيد الحكم في الذيل بقوله عليه السلام: «ولا يعتد بالشك في حالٍ من الحالات» ظاهر في أن طبيعي الشك لا ينبغي الاعتداد به في قبال اليقين.

وما ذكره لا يخلو عن قرب، لأن عدم الاعتداد بالشك وإن كان أعم من العمل باليقين السابق، إلّا أن تأكيد عدم نقض اليقين بذلك ظاهر في إرادة العمل باليقين، الذي هو مفاد الاستصحاب.

الثاني: عدم إحراز الركعة السابعة باستصحابها

الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن أصالة عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يحرز كون الركعة المأتي بها رابعة، ليترتب عليها آثارها من وجوب التشهد والتسليم بعدها إلّا بناءً على الأصل المثبت.

دفعه

ويندفع: بعدم الدليل على وجوب إيقاع التشهد والتسليم بعد الرابعة بعنوان كونها رابعةً بمفاد كان الناقصة، بل يكفي تحقق الرابعة ثم الإتيان بهما بعدها، وهو حاصل في الفرض على تقدير الإتيان بالركعة المشكوكة. وغاية ما يحتمل هو بطلان الصلاة بزيادة ركعة، وهو مدفوع بالاستصحاب.

على أنه لو فرض كون الأصل المذكور مثبتاً أمكن تصحيحه بنفس هذه الصحيحة لو فرض ظهورها في الاستصحاب، حيث لا مانع من حجية الأصل المثبت لو دلَّ عليه الدليل في خصوص مورد.

وقد أطال قدس سره في دفع ذلك بما لا يسعنا عاجلاً، كما لا يهمنا تعقيبه.

ص: 49

كما تعرض لوجه آخر للإشكال في الاستدلال لا يسعنا التعرض له. فراجع.

الرابع: صحيحة إسحاق بن عمار

الرابع: صحيحة إسحاق بن عمار، قال لي أبو الحسن الأول عليه السلام: إذا شككت فابن على اليقين. قلت: هذا أصل؟ قال: نعم»(1).

وقد تعرض غير واحدٍ للاستدلال بها بتقريب: أنها تقتضي لزوم العمل باليقين عند الشك الذي هو مقتضى الاستصحاب.

وليست مختصة بالشك في الركعات، ليرد عليها ما سبق.

غاية ما يلزم تخصيصها في الشك في الركعات، كما يلزم تخصيص سائر عمومات الاستصحاب، لوجوب التسليم فيه على المتيقن، على خلاف مقتضاه، وهو غير مهم.

وفيه: أن البناء على اليقين لا يخلو في نفسه عن إجمال.

ولعل الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو لزوم ابتناء العمل على اليقين وعدم الاعتناء بما لا يوصل إليه، فيكون مساوقاً لما تضمن لزوم العمل بالعلم وعدم التعويل على غيره.

ولو فرض عدم تعينه فكما يمكن حمله على الاستصحاب بتنزيل اليقين فيه على اليقين بالحدوث في ظرف الشك في البقاء، كذلك يمكن حمله على قاعدة اليقين بتنزيل اليقين فيه على اليقين الزائل المتبدل بالشك، أو على قاعدة الشك في الركعات بتنزيل اليقين على اليقين بما يوجب براءة الذمة من الوظيفة المعهودة أو الركعات المتيقنة المشروعية، على ما تقدم شرحه في الصحيحة السابقة.

ص: 50


1- الوسائل ج 5، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث: 2.

ولا طريق لتعيين الاستصحاب من قرينة حالية أو مقالية. بل ظاهر مثل الصدوق ممن ذكر الحديث في شكوك الصلاة كون ذلك هو المتيقن من مورده وهو مانع من حمله على الاستصحاب.

ولا سيما بملاحظة ورود المضمون المذكور في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج وعلي عن أبي إبراهيم عليه السلام، في السهو في الصلاة. فقال: «تبني على اليقين، وتأخذ بالجزم، وتحتاط بالصلوات كلها»(1)، ولا يخفى بعد حمله على الاستصحاب جداً. فلاحظ.

الخامس: رواية الخصال

الخامس: ما في الخصال بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: - في حديث الأربعمائة - «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين»(2).

الإشكال في سند الحديث

وسند الحديث لا يخلو عن إشكال، لاشتماله على القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد مولى المنصور، وقد ضعَّفهما العلامة قدس سره وابن الغضائري في ما حكي عنه، وضعف النجاشي الحسن بن راشد الطفاوي الذي يحتمل اتحاده مع مولى المنصور، لعدم تعرضه له مع اشتهاره.

وبهذا يعارض توثيق ابن قولويه للرجلين المستفاد من روايته عنهما في كتابه، وتوثيق علي بن إبراهيم القمي للحسن بن راشد المستفاد من روايته عنه في تفسيره.

توجيه البناء على السيند

اللهم إلّا أن يقال: لا اعتماد على تضعيف ابن الغضائري مع ما هو

ص: 51


1- الوسائل: باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث: 2.
2- الوسائل ج 1، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 6، وقد رواه في ضمن فقرات ذكرها في الخصال متفرقة، ونقل هذه الفقرة في أول صفحة 584، طبع النجف الأشرف.

المعروف من تسرعه في الطعن، أو لعدم ثبوت نسبة الكتاب له، كما تعرض لذلك بعض مشايخنا قدس سره ولا على تضعيف العلامة قدس سره مع تأخر عصره وأخذه عمن سبقه، حيث يقرب متابعته لابن الغضائري.

كما لا طريق لإثبات اتحاد الطفاوي الذي ضعفه النجاشي مع مولى المنصور، ولا سيما مع اختلاف النسبة، لأن الطفاويين بطن من العرب، والأول منهم بالنسب أو الولاء فكيف يكون مولى المنصور العباسي. ومع اختلاف الطبقة، لأن مولى المنصور من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام والطفاوي في طبقة أصحاب الإمام الرضا عليه السلام كما نبه له بعض مشايخنا قدس سره.

وأما اقتصار النجاشي قدس سره على الطفاوي فلعله لعدم اطلاعه على كتاب لمولى المنصور، وقد التزم هو بذكر أصحاب الكتب.

فلا معارض لتوثيق ابن قولويه لهما وتوثيق القمي للحسن، يقول الصدوق قدس سره بعد ذكر زيارة للحسين عليه السلام وقعا في طريقها: «وقد أخرجت في كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب، لأنها أصح الروايات عندي من طريق الرواية. وفيها بلاغ وهداية»(1). كما يؤيد أيضاً أو يعتضد رواية ابن أبي عمير وإبراهيم بن هاشم عن الحسن بن راشد، وإفراد الصدوق قدس سره طريقاً إليه، وبرواية غير واحد من الأجلاء عن القاسم بن يحيى ولاسيما أحمد بن محمد بن عيسى، الذي روي عنه أنه أخرج البرقي من قم لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل. فاعتبار سند الحديث لا يخلو عن قوة.

تقريب دلالة الحديث

وأما الدلالة فيمكن تقريبها بعد الرجوع لما ذكره غير واحد بأن

ص: 52


1- من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 360، 361 في أواخر باب موضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

الحديث وإن اشتمل على الترتيب بين اليقين والشك، فهو مردد بدواً بين قاعدة اليقين التي يكون فيها الترتب بين نفس الوصفين مع اتحاد متعلقهما بحسب الزمان، والاستصحاب الذي يكون الترتب فيه بين متعلقي الوصفين مع اتحاد زمان نفس الوصفين واجتماعهما في الوجود، بل الأول هو الأنسب بدواً بمفاد الحديث.

إلّا أن الثاني هو الأقرب، بل المتعين بعد كونه هو الأمر الارتكازي الصالح للتعليل، وتداول التعبير عنه بنظير العبارة المذكورة في النصوص الأخر، وظهور الكلام في فرض وجود اليقين حين المضي والعمل، الذي هو مختص بالاستصحاب ولا مجال له في قاعدة اليقين، لأن المفروض فيها تزلزل اليقين وتبدله بالشك لاتحاد متعلقهما فيها حقيقةً، فلابد من تنزيل الترتيب بين اليقين والشك في الحديث على الترتيب بين متعلقيهما، أو على الغالب من كون اليقين بالحدوث أسبق حدوثاً من الشك في البقاء.

عدم ظهور الحديث في المطلوب

لكن الانصاف أن ذلك لا ينهض بإثبات ظهور الحديث بنحوٍ يصلح للاستدلال.

توضيح معنى النهي عن نقض شيء

وتوضيح ذلك: أن ظاهر النهي عن نقض شيءٍ بشيء - كالنهي عن نقض خبر زيدٍ بخبر عمروٍ - اعتبار أمرين..

الأول: تنافي مضمونيهما، وهو موقوف على اتحاد موضوعهما ومتعلقهما من جميع الجهات.

الثاني: تحقق المنقوض في زمان الناقض، وعدم ارتفاعه معه، إذ نقض الطريق فرع تمامية اقتضائه للعمل، ولا اقتضاء له مع ارتفاعه، ولذا لا يصدق نقض خبر زيد بخبر عمرو إذا عدل زيد عن خبره حين إخبار عمرو.

ص: 53

إلّا أنه لا مجال لاعتبار الأمرين معاً في النهي عن نقض اليقين بالشك، لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد في زمان واحد، بل لابد من رفع اليد عن أحدهما.

ومن الظاهر أن رفع اليد عن الأول إنما يصح مع فرض جهة اتحاد بين المتعلقين تصحح التوسع بإطلاق النقض، إذ مع فرض التباين بينهما من جميع الجهات يكون إطلاق النقض مستهجناً.

وحينئذٍ فكما يمكن حمله على الاستصحاب بلحاظ اتحاد متعلق الوصفين ذاتاً واختلافهما زماناً، كذلك يمكن حمله على قاعدة المقتضي والمانع، بتنزيل العلم بالمقتضي منزلة العلم بالمعلول، وتنزيل الشك في المانع منزلة الشك فيه لما بينهما من المناسبة والملابسة، أو بإرجاع اليقين والشك إلى نفس المعلول مع ملاحظة اختلافهما من حيثية الاقتضاء والفعلية، وربما يكون منه ما في حديث الإمام السجاد عليه السلام مع الزهري في ردع الإنسان عن تخيل الرفعة على غيره، حيث قال عليه السلام:

«فقل: أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره، فما لي أدع يقيني لشكي؟!»(1).

كما يمكن حمله على بيان عدم رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، فإن متعلق اليقين فيها والشك في ذلك وإن كان مختلفاً ذاتاً، لتعلق اليقين بالوظيفة العملية والشك بالواقع، إلّا أن ذلك لا يمنع من إطلاق النقض توسعاً بتنزيل العلم بالحجة على الشيء منزلة العلم به.

وربما يحمل على غير ذلك مما يفرض فيه جهة اتحاد تصحح إطلاق

ص: 54


1- مجموعة ورّام ج: 2 ص 89.

النقض، وجهة اختلاف يمكن معها اجتماع الوصفين المتضادين.

أما رفع اليد عن الثاني مع المحافظة على الأول فهو يقتضي الحمل على قاعدة اليقين لا غير.

وبهذا يكون التعبير المذكور صالحاً لجميع الوجوه، وليس مردداً بين الاستصحاب وقاعدة اليقين فقط، لاشتراك جميع هذه الوجوه في الاحتياج إلى العناية المصححة للاستعمال وحسن إرادته من العبارة المذكورة بعد إعمال العناية.

وحمله على الاستصحاب في نصوصه لقرينة المورد لا يقتضي ظهوره فيه في مثل هذا الحديث المجرد عن القرينة، حتى مثل فهم الأصحاب الذي هو من القرائن الخارجية، لعدم ثبوت فهمهم الاستصحاب من الحديث المذكور، وإن بنوا عليه في الجملة، للنصوص الأُخَر أو غيرها.

واشتهار التعبير عن الاستصحاب بنحو العبارة المذكورة في العصور المتأخرة لاشتهار التمسك فيها بالنصوص المتضمنة لذلك لا يكشف عن ظهور مثل هذه العبارة فيه في عصر صدور الحديث.

كيف! وفي السرائر إطلاق العبارة المذكورة على ما يناسب قاعدة اليقين، حيث استدل على عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه بأنه لا يخرج عن حال الطهارة إلّا على يقين من كمالها، وليس ينقض الشك اليقين، وقريب منه في النهاية والغنية. بل قال شيخنا الأعظم قدس سره: «ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء».

بل قلَّ من عبرَّ من القدماء عن الاستصحاب بالعبارة المذكورة، لعدم توجههم للاستدلال عليه بالنصوص، كما تقدم، وإنما توجه له المتأخرون.

ص: 55

وصاحب الذخيرة الذي هو من أوائل من توجه لذلك، استدل بصحيحة زرارة على نظير ما تقدم من السرائر، فإن ظاهر ذلك أنه فهم منها العموم لقاعدة اليقين.

بل إطلاق العبارة المذكورة وما يقرب منها في صحيحة زرارة الثالثة وصحيحة ابن الحجاج اللتين عرفت صعوبة تنزيلهما على الاستصحاب، بل في حديث السجاد عليه السلام الذي لا ريب في عدم إرادته منه موجب للريب في ظهورها في نفسها في خصوص الاستصحاب مع قطع النظر عن القرائن.

قرينة ارتكازية التعليل

وأما قرينة ارتكازية التعليل فهي إنما تنفع في تعيين المراد من التعليل بعد الفراغ عن تشخيص الحكم المعلل، لا في مثل المقام مما شك في نفس الحكم المعلل.

على أنه لا ريب في ارتكازية عدم نقض الحجة بغير الحجة بوجه أقوى من ارتكازية الاستصحاب، لأنه أمر عقلي قطعي يكثر تسامح الناس فيه وخروجهم عنه باعتمادهم على الشبه والظنون بنحو يحسن الردع عنه بالإرشاد لذلك والتنبيه عليه.

كما أن قاعدة المقتضي والمانع لا تقصر في الارتكازية عن الاستصحاب.

بل لا مجال لإنكار ارتكازية قاعدة اليقين في ما لو لم يكن ارتفاع اليقين ناشئاً من انكشاف خطأ مستنده، بل من الجهل بحال المستند، لنسيانه، فإن البناء على مقتضى اليقين حينئذٍ ارتكازي لمشابهته لقاعدة الصحة.

وأما ما تقدم من ظهور الحديث في فعلية اليقين حين المضي والعمل.

فهو إنما يمنع من الحمل على قاعدة اليقين، ولا يعين الاستصحاب،

ص: 56

لاشتراك بقية القواعد المتقدمة معه في ذلك.

على أن ظهوره في ذلك لا يقصر عن ظهوره في تنافي الشك واليقين لاتحاد موضوعهما من جميع الجهات، حتى الزمان الملزم بالحمل على قاعدة اليقين.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الظهور المذكور - لو سلم - بدوي لا ينهض بمعارضة ظهور الكلام في فعلية اليقين حين العمل.

فهو غير ظاهر لنا.

وأشكل منه إنكاره للظهور المذكور من أصله، وأنه يكفي الاتحاد التسامحي العرفي المبني على إلغاء خصوصية الزمان. فإنه من الغرابة بمكانٍ!

وكأن الذي أوجب ذلك استحكام انصراف الاستصحاب من العبارة المذكورة عند المتأخرين، كما تقدم. وإلّا فلا يظن به ولا بغيره إنكار ذلك في نظائر المقام، كما لو قيل: لا تنقض البينة الإقرار، حيث لا يتوهم أن مقتضاه أن من أقر بالاقتراض لا تسمع بينته بالوفاء.

حاصل البحث في الحديث الشريف

والمتحصل: أن الحديث الشريف لا ينهض بالاستدلال في المقام، لعدم انطباق المعنى الحقيقي على الاستصحاب، وعدم القرينة المعينة له من بين المعاني التي يصلح الكلام لبيانها توسعاً.

توجيه منع ظهور الحديث في إرادة قاعدة المقتضي والمانع

اللهم إلّا أن يقال: الوجوه المشار إليها وإن أمكن إرادة كل منها بالقرينة، إلّا أن الترتيب بين اليقين والشك مانع بظاهره من حمل الحديث على قاعدة المقتضي والمانع، وعدم رفع اليد عن الحجة باللاحجة، ونحوهما، لعدم الترتيب فيها بينهما، لا حقيقةً ولا بلحاظ المتعلق، بل يتردد

ص: 57

الأمر بين قاعدة اليقين والاستصحاب، وحيث يعلم بعدم حجية القاعدة، لعدم بناء الأصحاب عليها، إلّا في موارد قاعدة الفراغ التي لا يكون المعيار فيها على اليقين، بل على مضي العمل، تعين الحمل على الاستصحاب، الذي يناسبه قوة الظهور في فعلية اليقين حين العمل.

لكن الإنصاف: أن في بلوغ ذلك حداً يوجب الظهور العرفي الصالح للاستدلال إشكالا، ولا سيما مع عدم أخذ الترتيب في الكبرى المعلل بها، بل في موردها - وهو الحكم المعلل - فإن الترتيب في مورد القاعدتين الأخريين غير عزيز، وإن لم يكن لازماً لهما ولا دخيلاً في كبراهما.

وخصوصاً مع ما أشرنا إليه من ورود المضمون المذكور وما يشبهه في صحيحة زرارة الثالثة، وصحيح ابن الحجاج الذي يصعب حملهما على الاستصحاب.

دعوى: الحمل على جميع الوجوه

هذا، وربما يدعى في المقام أن عدم القرينة على تعيين شيءٍ من هذه الوجوه يقتضي الحمل على جميعها أخذاً بعموم المجاز بعد تعذر الحقيقة.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: إن الحمل على عموم المجاز إنما يتعين بعد العلم بإرادة معنىً مجازيٍ وتحديده ثم الشك في تقييده، لأن التقييد خلاف الأصل، كما في المعنى الحقيقي، بخلاف ما إذا كان الكلام صالحاً لكلٍ من المعاني المجازية وحده والشك في إرادة الجامع بينها، لأن الجامع بحده معنى مستقل بنفسه في قبال خصوصيات المعاني يحتاج إلى قرينة تعينه، وبدونها فالمتيقن إرادة معنى واحد منها على إجماله.

إلّا أن يفرض كون الجامع أقرب المجازات عرفاً للمعنى الحقيقي، ولا مجال لدعوى ذلك في المقام.

ص: 58

بل هو هنا أبعدها، لما فيه من التسامح في كلتا الجهتين اللتين تقدم ظهور الاستعمال الحقيقي فيهما، وهما التنافي بين الناقض والمنقوض لاتحاد متعلقهما، وفعلية المنقوض حين العمل، بخلاف أحد المعاني بخصوصه، فإنه لا يستلزم إلّا التسامح في إحدى الجهتين.

وثانياً: أن ذلك موقوف على وجود جامع عرفي بين المعاني، ومن الظاهر أنه لا جامع في المقام بين الوجوه الأربعة المتقدمة.

كما لا جامع بين الاستصحاب وقاعدة اليقين لو فرض انحصار الأمر بهما، لفرض الاتحاد الحقيقي بين المتيقن والمشكوك في القاعدة، والاتحاد الادعائي بينهما في الاستصحاب، لابتنائه على إلغاء خصوصية الزمان، ولا جامع بينهما عرفاً.

ودعوى: أن الجامع بينهما هو تعاقب اليقين والشك على الموضوع المتحد ذاتاً سواء اتحد زماناً أم اختلف.

مدفوعة: بأن ذلك يقتضي أيضاً عدم نقض اليقين اللاحق بالشك السابق الذي هو مفاد الاستصحاب القهقري، وحيث لا إشكال في عدم إرادته كشف عن عدم لحاظ الجامع المذكور.

ودعوى: خروج الاستصحاب القهقري بمقتضى فرض تأخر الشك عن اليقين وترتبه عليه.

مدفوعة: بأن الترتب المذكورة لم يؤخذ في الكبرى، بل في الصغرى، وهو لا يقتضي تقييد الكبرى، كما أشرنا إليه آنفا.

مع أن ترتب الشك على اليقين في القاعدة حقيقي بلحاظ ذاتيهما، وفي الاستصحاب تسامحي بلحاظ متعلقيهما، ولا جامع بينهما عرفاً.

ص: 59

فلابد في فرض عموم الحديث لهما معاً من رفع اليد عن الترتب المذكور، وعدم الاكتفاء بالجامع المذكور.

بل يفرض الجامع بنحو يختص بصورة اتحاد المتيقن والمشكوك زماناً وصورة تأخر المشكوك عن المتيقن، وليس هو جامعاً عرفياً ليحمل الكلام عليه بإطلاقه.

على أنه لو كان عرفياً لم يكف في شمول القاعدتين، لاختلافهما بفعلية اليقين في الاستصحاب، وزواله في قاعدة اليقين، فلابد في الشمول لهما من التعميم من هذه الجهة، ولازمه الاكتفاء في الاستصحاب باليقين بالحدوث وإن زال، ولا يظن من أحد الالتزام به، لظهور أن مفاد الاستصحاب التعبد بالبقاء بعد الفراغ من الحدوث لإحرازه وجداناً باليقين الفعلي أو تعبداً بالطريق أو الأصل الشرعي - وإن كان بقاعدة اليقين لو فرض حجيتها - لا مع الشك في أصل الحدوث من دون إحرازٍ له أصلاً.

فلابد من أخذ بقاء اليقين في خصوص أحد فردي الجامع المذكور، وهو صورة تأخر المشكوك عن المتيقن، وهو محتاج إلى تكلفٍ يمتنع حمل الكلام عليه.

وقد تحصل أن الحمل على العموم متعذر، بل لابد من اختصاص الحديث بأحد المعاني، وحيث لا قرينة على تعيينه لزم البناء على الإجمال.

وقد أطال غير واحدٍ في ذكر الوجوه المانعة من الجمع بين قاعدة اليقين والاستصحاب بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.

ظهور عدم إمكان استفادة قاعدة اليقين من أدلة الاستصحاب

وقد ظهر بذلك امتناع استفادة قاعدة اليقين من نصوص الاستصحاب المتقدمة والآتية، إذ بعد قيام قرينة المورد على إرادته منها يمتنع عمومها

ص: 60

للقاعدة المذكورة، لما تقدم.

فلا وجه لما تقدم عن الذخيرة من الاستدلال عليها بصحيحة زرارة مع استدلاله بها على الاستصحاب.

بل لابد في القاعدة المذكورة من قيام الدليل عليها بالخصوص غير هذه النصوص.

وهو مفقود إلّا في مورد قاعدة الفراغ التي يكون المدار فيها على مضي العمل، ولو مع عدم سبق اليقين بصحته للغفلة، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر الحال في ما رواه المفيد في الإرشاد مرسلاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك»(1)، فإن ما تقدم من جهات الكلام جارٍ فيه. على أنه ضعيف بالإرسال.

السادس: مكاتبة القاساني

السادس: ما رواه الصفار عن علي بن محمد القاساني - على ما في التهذيب والوسائل - قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك. صم للرؤية وأفطر للرؤية»(2).

الإشكال في السند

أما السند فقد يشكل بعلي بن محمد، لتردده بين علي بن محمد القاشاني الذي ضعفه الشيخ، وعلي بن محمد بن شيرة القاساني الذي يظهر

ص: 61


1- الإرشاد في الفصل الذي عقده لكلامه عليه السلام في الحكمة والموعظة، ص 159 طبع النجف الأشرف سنة 1381 ه -.
2- الوسائل ج 7، باب: 3 من أبواب أحكام شهر رمضان حديت: 13.

من النجاشي توثيقه، والذي يحتمل اتحاده مع علي بن شيرة الذي وثقه الشيخ أيضاً.

ودعوى: أن المراد به في هذا الحديث الثاني، لأنه بالسين المهملة.

مدفوعة: بالإشكال في ثبوت الفرق المذكور، لقرب التصحيف، كما يظهر من التباس الأمر على الأصحاب. مع أن الموجود في الاستبصار المطبوع في النجف الأشرف القاشاني بالشين المعجمة.

مضافاً إلى ما قيل من أنه هو الذي يروي عنه الصفار.

وأما دعوى: اتحاد الجميع، وأن تضعيف الشيخ للأول مبني على تخيل التعدد، واعتماداً على ما عن أحمد بن محمد بن عيسى من طعنه بأن له مذاهب منكرة. وحيث كان واحداً وقد أنكر النجاشي على أحمد بن محمد بن عيسى طعنه بذلك ظهر بطلان تضعيف الشيخ أو اضطرابه فيه، ويتعين الاعتماد على توثيق النجاشي المستفاد من قوله فيه: «كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً».

ولاسيما مع تأيده بعدم استثنائه من رجال نوادر الحكمة.

فهي مدفوعة: بعدم الشاهد على الاتحاد، بل هو خلاف الأصل. ولعلَّ الذي هو من رجال نوادر الحكمة هو الذي وثقه النجاشي والشيخ. فلا طريق لإثبات وثاقة الرجل وتصحيح سند المكاتبة. فلاحظ.

الإشكال في الدلالة

وأما الدلالة فقد قربها غير واحد. بل قال شيخنا الأعظم قدس سره: «والإنصاف أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب».

وكأن وجه أظهريتها من الصحيحتين الأوليين أن الكبرى ظاهرة في العموم لظهور اللام في الجنس، لعدم سبق ما يقتضي العهد، بخلاف

ص: 62

الصحيحتين على ما سبق.

لكنه موقوف على حمل اليقين على اليقين بالحالة السابقة، والشك على الشك في الحالة اللاحقة، وعدم الدخول على عدم الانتقاض.

ولا ملزم بذلك بعد عدم كونه هو المعنى الحقيقي المتعين بنفسه، وعدم القرينة له. بل كما يمكن الكناية عن ذلك يمكن الكناية عن أن ما يعتبر فيه اليقين لا ينبغي الاكتفاء فيه بالشك، فيكون مساوقاً لما ورد في كثير من النصوص من النهي عن صوم يوم الشك، بل لعل ذلك هو الأنسب بالتعبير بالدخول.

وليس ذلك راجعاً إلى أخذ العلم بالشهر في موضوع وجوب الصوم والإفطار، بل إلى الردع عن توهم وجوب صوم يوم الشك واقعاً أو احتياطاً، وعن التسامح في إثبات الشهر، كما هو مفاد ما استفاض من إناطة الصوم والإفطار بالرؤية، الذي هو مطابق لمفاد الاستصحاب، وإن أمكن أن لا يبتني عليه.

السابع: صحيح بن اسنان

السابع: صحيح عبد الله بن سنان: «سأل أبي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، فيرده علي، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: صل فيه، ولا تغسله من أجل ذلك. فإنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نَجَّسه»(1).

ولا ريب في ظهوره في الاستصحاب، لعدم الاقتصار في التعليل فيه على الشك الذي هو موضوع قاعدة الطهارة، بل أخذت فيه الحالة السابقة،

ص: 63


1- الوسائل ج 2، باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

التي هي المتمم لموضوع الاستصحاب، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره.

نعم، قال قدس سره: «الرواية مختصة باستصحاب الطهارة، دون غيرها، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع».

لكن لا مجال لدعوى عدم الفصل بعد ما نقله قدس سره من التفصيل منهم بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي الكلي والجزئي، بل التفصيل بين أقسام الشك في الرافع.

وإلّا فالظاهر أن استصحاب الطهارة والنجاسة إجماعي مستغنى فيه عن هذه الرواية.

على أنه لا يكفي مجرد عدم القول بالفصل، بل لابد معه من القول بعدم الفصل الراجع إلى الإجماع على الملازمة بين المورد وغيره، ولا مجال لإثبات ذلك.

تقريب دلالته على العموم

هذا، وقد تقرب دلالته على العموم: بأنه مقتضى ورود مضمون الاستصحاب فيه مورد التعليل، لأنه المناسب لارتكازيته، لما أشرنا إليه في الصحيحتين الأوليين من عدم دخل الطهارة في الجهة الارتكازية التي يبتني عليها الاستصحاب، وإن كانت مختصةً بكونها مقتضى القاعدة بمجرد الشك.

توجيه عدم استفادة العموم منه لعدم عموم التعليل

اللهم إلّا أن يقال: لا يظهر من التعليل الإشارة لقضية عدم نقض اليقين الارتكازية، المقتضية لإحراز بقاء المتيقن واستمراره، ليلزم البناء على عمومها بقرينة الارتكاز، كما تقدم في الصحيحتين الأوليين، بل مجرد ترتيب أثر الطهارة عند الشك في تنجيس ما هو الطاهر، الذي هو متفرع على البناء على البقاء والاستمرار، وليس هو ارتكازياً، بل هو تعبدي.

ص: 64

ولعل التعليل به بلحاظ اشتهار تعبد الشارع بذلك ووضوحه، بنحو يكفي الإحالة إليه في استيضاح الحكم، نظير ما تقدم في توجيه التعليل في الصحيحة الثانية بابتنائه على إجزاء الحكم الظاهري. ولعله لذا لم يبلغ ظهور هذا الصحيح مبلغ ظهور الصحيحتين المذكورتين. وإن كان صالحاً للتأييد. فتأمل جيداً.

الثامن: بعض النصوص المتضمنة للتعبد بقاعدتي الحل والطهارة

الثامن: بعض ما تضمن من النصوص من التعبد بقاعدتي الحل والطهارة، وحيث كان الكلام فيها على وجه واحد تقريباً كان المناسب جمعها في مقام واحد.

موثق مسعدة

وهي موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: «سمعته يقول: كل شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك...»(1).

موثق عمار

وموثق عمار عنه عليه السلام في حديث قال: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(2).

حديث حماد

وحديث حمّاد عنه عليه السلام: «الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر»(3).

وقد اختلفوا في مفاد هذه النصوص على أقوالٍ كثيرة، لترددها - بعد النظر في كلماتهم - بين قاعدة الحلية أو الطهارة الواقعية للأشياء بعنوانها الأولي، وقاعدة الحلية أو الطهارة الظاهرية للأشياء بعنوان كونها مشكوكة الحكم، واستصحابهما، حيث اختلفوا بين من جمع بين القواعد الثلاث، ومن جمع بين اثنتين منها، ومن خصها بواحدة منها، على اختلاف بينهم في

ص: 65


1- الوسائل ج 13، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.
2- الوسائل ج 2، باب: 37 من أبواب النجاسات، حديث: 4.
3- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 5.

الأقول في تعيين المراد من الأحاديث.

تعيين المراد منها من غير المراد على أقوال..

الأول: ما ذهب إليه الخراساني قدس سره

الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل من الجمع بين القواعد الثلاث، بدعوى: أن النصوص بصدرها قد تضمنت الحكم على الأشياء والماء بالحلية والطهارة، وظاهر ذلك كون موضوع الحكم هو الشيء والماء بعنوانهما الأولي، لا بعنوان ثانوي آخر، كالمشكوك، لأنه خلاف ظاهر أخذ العنوان، وبعمومها الافرادي تكون دالة على قاعدتي الطهارة والحلية الواقعيتين. كما أن مقتضى الإطلاق الأحوالي هو سراية الحكم بالحلية والطهارة في جميع الأحوال، ومنها حالة الشك فيهما، وهو مفاد قاعدتي الحلية و الطهارة الظاهريتين.

هذا كله في الصدر الذي تضمن الحكم المغيىَّ.

وأما الذيل الذي تضمن الغاية فهو ظاهر في استمرار الحكم المذكور إلى حين العلم بالنجاسة والحرمة، الذي هو مفاد استصحاب الحلية والطهارة.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن مجرد ثبوت الحكم في حال الشك بمقتضى الإطلاق لا يجعله ظاهرياً، لما هو المعلوم من اشتراك جميع الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، ولا يجعلها ذلك ظاهرية، بل الحكم الظاهري متقوم بالتعبد بالحكم الواقعي في مقام العمل الراجع إلى البناء عليه في رتبة متأخرة عن جعله ثبوتاً، نظير إحرازه عند الشك فيه بقيام الحجة عليه، وإن افترق عنه بعدم توسط الكشف في البين.

فهو في طول الحكم الواقعي ومباين له سنخاً، فلا مجال لاستفادته من إطلاقه الأحوالي. كما أن إرادتهما معاً تبتني على جواز الاستعمال في

ص: 66

معنيين، الذي منع منه قدس سره، وهو الحق في الجملة، على ما يذكر في محله.

ولا سيما في مثل المقام مما كان أحدهما في طول الآخر ومترتباً عليه، نظير ترتب مقام الإثبات على مقام الثبوت، فإنّ المنع هنا آكد، لاستحالة جعل المترتبين في عرضٍ واحد.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم تكفل الكلام بجعل الحكم، بل بإبراز الاعتبار النفسي الذي يمكن تعلقه بالمترتبين.

فهو مبني على ما سلكه في حقيقة الخبر والانشاء وكيفية استعمال الكلام معهما بما لا مجال لتفصيله هنا، بل يوكل إلى ما يناسبه من مباحث الألفاظ، لئلّا يضطرب نظم الكلام في المقام.

وثانياً: أن الغاية لا تقتضي الاستصحاب، لأن الغاية لما كانت راجعةً إلى تقييد المغيىَّ فهي لا تقتضي إلّا استمرار الحكم المذكور في الصدر، لا الحكم بالاستمرار زائداً على الحكم المغيىَّ الذي هو مفاد الاستصحاب. فإنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم بالبقاء بعد الفراغ عن الثبوت، على أن يكون البقاء والاستمرار محكوماً به استقلالاً زائداً على الثبوت المفروض، لا على أن يكون الحكم بالبقاء من شؤون الحكم المغيىَّ لبيان أمده. كما هو الحال في مفاد النصوص المتقدمة، وإلّا فكل حكمٍ مغيىَّ ببقاء موضوعه. ومن ثَمَّ كانت الغاية في النصوص مناسبة لأصالتي الحل والطهارة وظاهرة فيهما، لا في الاستصحاب، على ما يأتي توضيحه عند الكلام في القول الثاني إن شاء الله تعالى.

تقريب الشيخ الأعظم قدس سره دلالة حديث حماد

نعم، قرَّب شيخنا الأعظم قدس سره دلالة حديث حماد على الاستصحاب، لأن الاشتباه فيه غالباً يكون من جهة احتمال عروض النجاسة عليه، وإلّا فهو

ص: 67

بحسب الأصل طاهر في نفسه، فيلزم لأجل ذلك حمل الحكم بالطهارة في الصدر على الحكم باستمرارها بعد الفراغ عن ثبوتها، لا بأصل ثبوتها.

قال قدس سره: «والمعنى: أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم. أي: تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بحصول القذارة له».

المناقشة فيه

وفيه: أن مجرد غلبة كون منشأ الشك هو الشك في استمرار الطهارة بعد اليقين بحصولها سابقاً لا يكشف عن تعبد الشارع بالاستمرار بعناية الفراغ عن أصل الحدوث. بل يمكن تعبده بأصل ثبوت الطهارة، من دون نظر إلى سبق اليقين به، وهو الظاهر من الحديث الملزم بحمله على أصالة الطهارة.

وكونها محكومة لاستصحابها المفروض جريانه غالباً - مع توقفه على قيام الدليل عليه، فلا مجال لفرضه في مقام الاستدلال عليه - لا يمنع من إرادتها لبيان جريانها من هذه الحيثية، لأن الأصل الحاكم لا يمنع من جريان المحكوم ذاتاً، بل هو نظير الحكم الأولي والثانوي، فإن الثاني لا يوجب قصور الأول ذاتاً، بل يمنع من فعليته مع منافاته له عملاً، لا مع توافقهما، كما في المقام.

فلا مانع من إرادة قاعدة الطهارة وبيان حيثيتها ولو لينتفع بها في الموارد القليلة التي لا يجري فيها الاستصحاب، وهي موارد تعاقب الحالتين مع الجهل بالتاريخ.

الثاني: ما ذكره الخراساني قدس سره في الكفاية

الثاني: ما ذكره المحقق المذكور في الكفاية من اختصاص الصدر بقاعدة الطهارة أو الحلية للأشياء بعناوينها الأولية، كما هو الأصل في

ص: 68

جعل الحكم، من دون أن يدل على قاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، وليس المراد بالغاية إلّا بيان استمرار الحكم المذكور في الصدر، كما هو مفاد الاستصحاب، لا أنها تكون قرينة على اختصاص موضوع الحكم بما شك في طهارته أو حليته، ليختص الصدر بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية.

مناقشته

ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم ظهور الغاية في الحكم بالاستمرار زائداً على الحكم المغيىَّ المذكور في الصدر، لتدل على الاستصحاب، بل ليست مسوقة إلّا لتقييد الحكم المذكور في الصدر، لكونها رافعة لموضوعه، فتكشف عن أخذ الشك في موضوعه، وحيث يمتنع أخذ الشك بالحكم في موضوعه، كانت الغاية قرينة على كون الصدر مسوقاً للحكم الظاهري، وإن كان مخالفاً لظهوره البدوي، فتختص بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، دون الواقعية.

نعم، لا يبعد التفكيك بين الصدر والذيل بحمل الأول على الحكم الواقعي، والثاني على الحكم الظاهري في خصوص حديث حماد المختص بالماء، كما ذكرناه في مباحث المياه.

بتقريب: أن حمل الصدر فيها على بيان الحكم الظاهري موجب لإلغاء خصوصية الماء، وتقييده بخصوص الماء المشكوك، مع كون خصوصيته كعمومه الأفرادي ارتكازياً، فاُّنس الذهن بذلك موجب لاستحكام ظهور الصدر في بيان عموم طهارة الماء بحسب أصله واقعاً، الملزم برفع اليد عن ظهور الغاية في كونها غاية للحكم المذكور في الصدر، وتنزيلها على كونها غاية للعمل على الحكم المذكور وترتيب الأثر عليه، فكأنه قيل: الماء كله طاهر فليعمل على ذلك حتى يعلم أنه قذر.

ص: 69

ولابد أن يكون العلم بكونه قذراً لطروء ما ينجسه، لا لكونه بحسب أصله نجساً، لأنه خلاف فرض العموم الأفرادي الارتكازي في الصدر، ولا يلزم من ذلك إلّا رفع اليد عن إطلاق الصدر الأحوالي، وحمله على بيان الطهارة بحسب أصل الماء، مع المحافظة على عمومه الأفرادي، وخصوصيته.

وهذا بخلاف الموثقين، فإن الحكم بالحل والطهارة فيهما وارد على عنوان الشيء، وليس لعنوانه خصوصية ارتكازية تقتضي الحل أو الطهارة الواقعيين.

كما لا يكون عمومهما لجميع أفراده ارتكازياً، بل هو مما يقطع بعدمه، لما هو المعلوم من اشتمال الأشياء على الحرام والنجس. كما لا يناسب فرض العلم بالحرمة والنجاسة في الذيل.

وحمله على خصوص الحرمة والنجاسة الطارئة بسبب ثانوي لا يوجب المحافظة على عمومه الأفرادي، لأن العناوين الثانوية داخلة في عنوان الشيء بعين دخول العناوين الذاتية، فيشملها العموم الأفرادي المفروض، بخلاف مثل عنوان الماء، فإن تبادل العناوين العرضية على الفرد الواحد منه لا يوجب تعدد فرديته، بل تعدد حال الفرد الواحد.

حاصل البحث: حمل الصدر على بيان الحكم الظاهري

والحاصل: أن حمل الصدر في الموثَّقين على الحكم الواقعي لا يناسب عمومه الأفرادي، فيلزم لأجل ذلك حمله على بيان الحكم الظاهري الوارد في مقام العمل وترتيب الأثر في فرض الجهل بالحكم الواقعي محافظةً على العموم المذكور، وبذلك يكون العموم ارتكازياً.

ولا سيما بعد ظهور إضافة الحل للمكلف في موثق مسعدة في كونه

ص: 70

إرفاقاً به في مقام الإحراز والعمل، لا حكماً واقعياً تابعاً لملاكه الواقعي.

الثالث: ما نسبه الشيخ الأعظم قدس سره لصاحب الفصول

الثالث: ما نسبه شيخنا الأعظم قدس سره لصاحب الفصول في موثق عمار وحديث حماد من ظهور الصدر في بيان الطهارة الظاهرية والذيل في بقاء تلك الطهارة الذي هو مفاد الاستصحاب.

المناقشة فيه

وفيه: ما عرفت من أن مفاد الغاية بقاء الحكم بالطهارة الذي تضمنه الصدر، لا الحكم ببقائها الذي هو مفاد الاستصحاب على أن مفاد الاستصحاب ليس هو الحكم ببقاء الطهارة الظاهرية، بل لا معنى للتعبد ببقائها، إذ مع بقاء موضوعها - وهو الشك - يقطع ببقائها، ومع عدمه يقطع بعدمها، بل ليس مفاد الاستصحاب إلّا الحكم الظاهري ببقاء الطهارة الواقعية المتيقنة.

نعم، لا ظهور لعبارة - الفصول في حمل الصدر على خصوص قاعدة الطهارة الظاهرية، ليكون مفاد الذيل استصحابها، بل الأعم منها ومن الطهارة الواقعية، حيث قال: «الأول: أن الحكم الأولي للمياه أو الأشياء هو الطهارة ولو ظاهراً...»، فربما يرجع إلى الوجه الأول الذي تقدم عن المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل.

الرابع: دلالة النصوص على قاعدتي الطهارة والحل الواقعيتين

الرابع: دلالة النصوص على قاعدة الحل أو الطهارة الواقعية دون الظاهرية ومن دون أن يدل الذيل على الاستصحاب.

ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم مناسبته للغاية.

المناقشة فيه

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الحمل على ذلك يتوقف على أمرين..

أولهما: كون العلم في الغاية طريقاً محضاً عما هو الغاية، وليس

ص: 71

بنفسه غاية، لاستحالة إناطة الحكم الواقعي بعدم العلم بخلافه.

ثانيهما: كون القذارة والحرمة في الغاية كناية عن سببهما، كانقلاب الخل خمراً، فيكون المعنى: كل شيء حلال أو طاهر حتى يطرأ عليه سبب الحرمة أو النجاسة، وحيث كان كلا الأمرين مخالفاً للظاهر، بل الظاهر كون العلم بنفسه غاية لزم الحمل على قاعدة الطهارة الظاهرية لا غير.

أقول: ما ذكره في الأمر الثاني من جعل الحرمة والقذارة كناية عن سببهما إن أريد به كونهما كناية عن السبب بعنوانه الأولي الذي أخذ في موضوع سببيته - كالخمرية والموت والملاقاة للنجاسة - فمن الظاهر تعذر ذلك. لاختلاف العناوين المذكورة مفهوماً ومورداً، بنحو يمتنع الكناية عنها بأجمعها، ليصلح الكلام لضرب القاعدة العملية.

وإن أريد به كونهما كناية عن السبب بعنوان كونه سبباً، فكأنه قيل: كل شيءٍ حلال أو طاهر حتى يتحقق سبب الحرمة أو النجاسة فيه، فمن الظاهر أن القضية المذكورة واقعية عقلية بديهية، وليست شرعية قابلة للجعل، وإنما تصلح للجعل لو أريد منها بيان غاية الحكم الظاهري لبيان الوظيفة العملية عند الشك، والتي لابد من أخذ العلم فيها غاية بنفسه على نحو الموضوعية، لا طريقاً لما هو الغاية، فالوجه المذكور في غاية الضعف.

وأضعف منه كون النصوص واردة لبيان ما يعم القاعدة الواقعية والظاهرية لا غير، حيث يرد عليه ما تقدم في الوجه الأول مضافاً إلى ملائمة الغاية لخصوص الظاهرية.

الخامس: ما عن بعض الأخباريين

الخامس: ما عن بعض الأخباريين، وهو الظاهر من صاحب الحدائق في موثق عمار وحديث حماد ونحوهما من نصوص الطهارة، من ظهورها

ص: 72

في إناطة النجاسة الواقعية بعلم المكلف، فهي لبيان قاعدة الطهارة الواقعية مع الشك.

المناقشة فيه

وفيه: - مع منافاته لظهور أدلة أسباب النجاسة بل صراحة كثير منها في تأثيرها واقعاً ولو مع الجهل بها - أن العلم بالنجاسة لا يكون غاية للطهارة الواقعية، لسبق النجاسة على العلم بها رتبة، المستلزم لاجتماع الطهارة والنجاسة في الرتبة السابقة على العلم. بل لا يكون العلم بالنجاسة إلّا غاية للطهارة الظاهرية، فيكون الذيل قرينة على إرادة الطهارة الظاهرية لا غير.

وقد تحصَّل من جميع ما ذكرنا: أن النصوص المذكورة أجنبية عن الاستصحاب، بل هي مختصة بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، عدا حديث حماد، حيث لا يبعد دلالته على قاعدة الطهارة الواقعية والظاهرية معاً في الماء.

هذه هي النصوص المستدل بها في المقام.

العمدة صحيحتا زرارة المتقدمتين

وقد ظهر بما تقدم أن عمدتها صحيحتا زرارة الأوليان المؤيدتان بصحيحة عبد الله بن سنان، بل ربما تؤيدان بصحيحة إسحاق بن عمار، ومكاتبة القاساني، وروايتي الخصال والإرشاد.

كما قد يؤيد مضمونهما بتسالم الأصحاب على الرجوع إلى الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الموضوعية بنحو لا يبعد كشفه عن نحو من التسالم على العموم.

وهو وإن اختص بالشبهات الموضوعية، إلّا أن الجهة الارتكازية المقتضية له لا تختص بها.

بل لعل استحكام الخلاف في الشبهة الحكمية ناشئ عن شبهة عدم

ص: 73

اتحاد المشكوك مع المتيقن التي هي في الأحكام الكلية أقوى منها في الموضوعات الخارجية، لتعليقها في لسان الأدلة بالعناوين القائمة بنفسها والمتباينة مفهوماً في ما بينها.

ويأتي إن شاء الله تعالى دفع ذلك ببيان الضابط في الاتحاد الذي يشترك بين الشبهات الموضوعية والحكمية. وإن كنا في غنى عن التشبث بذلك بعد تمامية دلالة الصحيحتين وصلوحهما للاستدلال بلا حاجةٍ إلى عاضدٍ أو مؤيدٍ.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران..

الأول: اختلاف مفاد النصوص

الأمر الأول: أن الأدلة المتقدمة مختلفة المفاد، فمقتضى الثالث كون الاستصحاب من سنخ الطرق والأمارات المبنية على نحو من الكشف عن بقاء المستصحب لا مجرد التعبد ببقائه، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في تقريره.

وأما الوجوه الثلاثة الباقية فهي لا تتضمن إلّا مجرد التعبد ببقاء المستصحب وترتيب الأثر عليه.

وهو قد يبتني على فرض الطريقية والكشف عنه، وقد لا يبتني على ذلك، فيكون أصلاً شرعياً تأسيسياً أو إمضائياً.

وحيث كان فرض الطريقية والكاشفية محتاجاً إلى عناية فلا مجال للبناء عليها من دون قرينة. ولا سيما بعد كون عمدة الدليل هو الأخبار الظاهرة في الإشارة إلى أمر ارتكازي، فإن الارتكاز لا يقتضى الطريقية. وبهذا يكون الاستصحاب من الأصول العملية لا الطرق.

كون الاستصحاب من الأصول التعبدية

نعم، الظاهر أنه من الأصول التعبدية، لأنه لا يقتضي العمل ابتداء،

ص: 74

بل بتوسط تعبد الشارع بالحكم الذي يقتضيه، والبناء عليه، إما لاستصحاب الحكم بنفسه أو لاستصحاب موضوعه، لأن ذلك هو المناسب للسيرة الارتكازية المدعاة، وللإجماع لو تم، بل لا ينبغي الإشكال فيه بملاحظة الأخبار التي هي عمدة أدلته، لأنها لما تضمنت عدم نقض اليقين بالشك كان مرجعها إلى أن اليقين بالحدوث صالح شرعاً لأن يكون منشأ للبناء على البقاء عند الشك، كما هو صالح ذاتاً للبناء على الحدوث، ولذا يكون عدم ترتيب أثر البقاء نقضاً له، فكما يكون عمل المتيقِّن مبنياً على البناء على الواقع الذي تيقن به والبناء عليه، كذلك يكون عمل المستصحِب، فاجتناب مستصحب الحرمة أو النجاسة لا يكون إلّا بتوسط البناء على الحرمة، لاستصحابها أو استصحاب موضوعها، كما هو الحال في سائر الأصول والقواعد التعبدية، كقاعدة الفراغ، وأصالتي الحل والطهارة.

وهذا بخلاف الأصول والقواعد غير التعبدية، الشرعية أو العقلية، كأصالة البراءة، وأصالة الاحتياط عند الأخباريين، وقاعدة الاشتغال، فإنها تقتضي العمل على ما يطابق احتمال السعة أو الضيق من دون تعبد بالمحتمل الذي يقتضيه.

بل يختلف الاستصحاب عن مثل قاعدة الحل والطهارة من القواعد والأصول التعبدية بما أشرنا إليه من أن التعبد بالمؤدى فيه بتوسط اليقين السابق به، بحيث يكون اليقين محرزاً له، وإن لم يكن صالحاً للكشف عنه، أما التعبد بالمؤدى في القواعد المذكورة فهو تعبد ابتدائي لا يبتني على وجود المحرز له.

ومن ثَمَّ كان ترتب العمل على الاستصحاب أشبه بترتبه على

ص: 75

الأمارات، وإن اختلفا في كون الإحراز فيها مبنياً على طريقية المحرز وكاشفيته، أما الإحراز فيه فلا يبتني على ذلك، كما ذكرنا.

وكأنه إلى ذلك نظر من ذكر أن مفاد أدلة الاستصحاب أن العمل في حال الشك هو العمل حال اليقين. وإلّا فلا مجال للجمود على ذلك لما أشرنا إليه من أن مفادها ليس بيان لزوم العمل ابتداء، بل بتوسط إحراز مقتضي العمل بالمحرز، وهو اليقين.

إن قلت: فرض محرزية اليقين للاستمرار راجع إلى كونه أمارة عليه شرعاً، وإن لم يكن بنفسه كاشفاً عنه، إذ لا يعتبر في أمارية الأمارة كشفها وإفادتها الظن بنفسها ولو نوعاً، على ما تقدم في أول الكلام في الظن.

قلت: الذي لا يعتبر في الأمارة هو إدراك الجهة الموجبة لكشفها، حيث قد تكون خفية على العرف، ولا يطلع عليها إلّا الشارع، أما أصل كاشفيتها فلابد منها، وليس المجعول في الأمارة إلّا الحجية بعد فرض الكاشفية، أما في الاستصحاب فليس المجعول والمدعى إلّا المحرزية، من دون فرض الكاشفية.

وقد تحصَّل: أن الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات المبنية على الكشف، بل هو أصل تعبدي إحرازي يقتضي العمل بتوسط فرض محرزية اليقين السابق لبقاء المتيقن تعبداً. فلاحظ.

الأمر الثاني: التفصيل بين الشك والرافع

الأمر الثاني: أشرنا آنفاً إلى كثرة الأقوال في الاستصحاب وتعدد التفصيلات فيه، إلّا أن التفصيلات المذكورة على قسمين..

الأول: ما يبتني على الكلام في مفاد كبرى الاستصحاب المستفادة من أدلته المتقدمة.

ص: 76

الثاني: ما يبتني على الكلام في تحقق أركان الاستصحاب وشروطه - التي يأتي الكلام فيها في المقام الثاني - في بعض الموارد.

أما الثاني فقد سبق أن أهميته تقتضي بحثه في مقامٍ مستقلٍ، وقد خصصنا له المقام الثالث.

وأما الأول فالمناسب بحثه قي هذا المقام، لأنه من شؤونه، لرجوعه إلى تنقيح سعة مدلول الأدلة التي اختص هذا المقام بالبحث عنها.

وهو ينحصر بالتفصيل بين صورتي الشك في الرافع والشك في المقتضي، فيجري في الأول دون الثاني، كما اختاره شيخنا الأعظم قدس سره وتبعه غير واحد، بدعوى اختصاص كبرى الاستصحاب المستفادة من نصوصه بذلك، وذكر قدس سره أن الذي فتح باب ذلك هو المحقق الخونساري في شرح الدروس.

وينبغي الكلام أولاً في موضوع التفصيل المذكور، ثم في وجهه..

موضوع التفصيل المذكور

فاعلم: أن ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره كون المعيار في التفصيل المذكور إحراز استعداد المستصحب للبقاء لولا الرافع، بحيث يستند احتمال ارتفاع المتيقن لاحتمال وجود الرافع، سواءً أحرز المقتضي له، كما لو علم بعزم الفاعل على الاستمرار في الفعل، واحتمل المزاحم المانع منه، أم لم يكن محتاجاً للمقتضي، كالعدم الذي له استعداد الاستمرار في نفسه لولا حدوث مقتضي الوجود، كما يشهد بذلك تعبيره عن التفصيل المذكور بالتفصيل بين الشك في الرافع وغيره، وظهور مفروغيته عن جريان الاستصحاب في العدميات، وفي الأحكام الوضعية، كالملكية والطهارة والنجاسة، مع وضوح كونها كالأعدام في أن شأنها البقاء لولا الرافع، بلا حاجةٍ إلى مقتضي البقاء.

ص: 77

ولعله لذا حمل بعض الأعاظم قدس سره كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخونساري قدس سره عليه واختاره هو أيضاً.

نعم، هو لا يناسب ما تكرر في كلماتهم من لزوم إحراز المقتضي في جريان الاستصحاب، بل ما يظهر من بعض وجوه استدلالهم على التفصيل المذكور، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

بل ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أن حصول ملاك التفصيل في العدميات محتاج إلى تأمل وإن لم يستبعد حصوله، مع ظهور حصول الملاك الذي ذكرناه، فإن هذا قد ينافي ما ذكرنا. لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم. بل لابد من حمل المقتضي في كلامهم على ما يعم القابلية المذكورة.

الاستدلال على التفصيل بوجوه

إذا عرفت هذا، فاعلم: أنه قد يستدل على التفصيل المذكور بوجوه..

الأول ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن حقيقة النقض رفع الهيئة الاتصالية، كما في نقض الحبل وحيث يعلم بعدم إرادة المعنى المذكور، لعدم فرض الاستمرار في اليقين لا بنفسه ولا بلحاظ المتيقن، تعين حمله إما على رفع اليد عن الأمر الذي من شأنه الثبوت والاستمرار، لثبوت مقتضيه، أو على مجرد رفع اليد عما كان ثابتاً ولو مع عدم المقتضي له.

والأظهر الأول، لأنه أقرب إلى المعنى الحقيقي، فيلزم لأجله رفع اليد عن إطلاق اليقين وتقييده بصورة وجود المقتضي.

مناقشته

وفيه.. أولاً: أن النقض رفع الأمر المستحكم، ففي لسان العرب: «النقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء. وفي الصحاح: النقض نقض البناء والحبل والعهد. غيره: النقض ضد الإبرام» وقريب منه في إصلاح المنطق لابن السكيت والقرطين ومفردات الراغب والقاموس وغيرها. وعليه جرى

ص: 78

قوله تعالى: «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً»(1)، وغيره من موارد استعماله في الكتاب العزيز.

وإطلاقه في الحبل بلحاظ إبرامه وتماسكه لا محض اتصاله، ولذا لا يصدق مع عدم تماسكه. وعليه لا يكفي كون الشيء من شأنه البقاء لولا الرافع، كالعدم، بل لا يكفي وجود مقتضي البقاء له، كجاذبية الأرض المقتضية لبقاء الحجر في مكانه، بل لابد من استحكامه وإبرامه، وهو أخص من المدعى.

وأما استعماله في النصوص في مثل نقض الوضوء مما يكون من شأنه البقاء من دون استحكام، فهو لا يشهد بالاكتفاء بذلك في المعنى الحقيقي، بل لابد من حمله على نحو من التوسع، نظير استعماله فيها في مثل نقض الصلاة مما ليس من شأنه البقاء، بل لابد فيه من الإبقاء. فلاحظ.

وثانياً: أن النقض لما كان متعلقاً في النصوص باليقين فلابد من ملاحظة الاستحكام فيه، لا في المتيقن.

ودعوى: أن إضافة النقض إلى اليقين باعتبار ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل عليه بترتيب أحكامه لا أحكام اليقين نفسه، فهو ملحوظ في المقام طريقاً للمتيقن، لا موضوعاً للعمل بنفسه، فلابد من صلوح المتيقن بنفسه للنقض، لان من شأنه البقاء لولا الرافع.

مدفوعة: بأن النهي عن النقض في المقام لما كان طريقياً لبيان تنجز المتيقن باليقين السابق ولزوم الجري عليه ظاهراً لا واقعاً، فهو من شؤون الطريق، وهو اليقين بنفسه، لا من شؤون ذي الطريق، وهو المتيقن.

ص: 79


1- سورة النحل: 92.

وبعبارةٍ أخرى: عدم ترتيب أحكام المتيقن واقعاً انتقاض له بنفسه، وعدم ترتيبها ظاهراً في مقام العمل نقض لليقين الذي هو طريق للمتيقن وموجب للجري على أحكامه، وحيث كان المراد هو الثاني لزم كون الصالح للنقض هو اليقين لا المتيقن.

المصحح لاستناد النقض لليقين

فالتحقيق: أن المصحح لإسناد النقض لليقين ما فيه من الاستحكام في النفس، وفي ترتب العمل عليه، لكون حجيته ذاتية، فهو كالإرادة والعزم مما يصح إسناد النقض إليه بنفسه، لا بلحاظ استحكام متعلقه. ولا يفرق في ذلك بين أفراد اليقين عرفاً.

ودعوى: أن استحكام اليقين المصحح لإسناد النقض إليه إنما يكون باستحكام المتيقن لتحقق مقتضي البقاء فيه المستلزم لتحقق مقتضي البقاء في اليقين به.

مدفوعة: بأن تحقق مقتضي بقاء المتيقن لا دخل له باليقين به، لعدم السنخية بين مقامي الثبوت والإثبات، بل مقتضي اليقين هو الطرق المثبتة للمتيقن ومانعهُ هو المعارضات للطرق المذكورة، وهي أجنبية عن مقتضي بقاء المتيقن بالمرة.

على أن موضوع النهي عن النقض في أدلة الاستصحاب هو اليقين بالحدوث، والمفروض بقاؤه واستحكامه حتى مع اليقين بعدم المقتضي لبقاء المتيقن.

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من توقف صدق نقض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك قد تعلق به اليقين في زمان حدوثه، لكون المتيقن مرسلاً بحسب الزمان، بحيث يكون من شأنه البقاء لولا الرافع. أما لو كان

ص: 80

محدوداً بحد خاص فلا يقين في ما بعد ذلك الحد حتى ينتقض بالشك.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن مرجع، ذلك بظاهره إلى الحمل على انتقاض اليقين حقيقة، الذي هو بمعنى ارتفاعه بعد وجوده، والذي هو خارج عن اختيار المكلف، ولا يستند للشك، بل إلى علته، لأن الرافع لأحد الضدين علة ضده لا نفس الضد، ومن المعلوم عدم إرادة ذلك، بل المراد هو النقض العملي بعدم البناء على مقتضى اليقين وعدم ترتيب الأثر عليه، الذي هو من شؤون المكلف ويستند إلى شكه، حيث يرتفع به الإحراز.

وقد عرفت أن صدق النقض العملي في المقام ادعائي، لأن اليقين إنما يقتضي العمل في مورده حين حدوثه، لا في غير مورده بعد ارتفاعه.

وثانياً: أن هذا لا يقتضي اعتبار تحقق مقتضي البقاء، بل سبق اليقين بالبقاء، لليقين بعلته التامة ولو خطأ، فلو اعتقد المكلف في أول الأمر باستمرار المتيقن ثم تزلزل قطعه وشك في المقتضي جرى الاستصحاب، وإن شك من أول الأمر بالاستمرار ولو لاحتمال طروء الرافع مع القطع بالمقتضي لم يجر الاستصحاب.

وهذا في الحقيقة خروج عن الاستصحاب، ورجوع إلى قاعدة اليقين بحمل اليقين على اليقين المنتقض بالشك والزائل معه، المتفق معه موضوعاً حتى بحسب الزمان. لكن مع تقييدها بخصوص الشك في البقاء مع استحكام اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب.

وهو - كما ترى - مما لا يلتزم به، ولا مجال لحمل النصوص عليه، إذ ليس فيها إلّا يقين واحد، فإما أن يحمل على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق حتى بحسب الزمان، والذي يزول معه، فيفيد قاعدة اليقين على

ص: 81

إطلاقها ولو مع الشك في أصل الحدوث، أو على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق من حيثية الذات دون الزمان والذي يبقى معه، فيفيد الاستصحاب على إطلاقه، ولو مع عدم سبق اليقين بالبقاء، ولا ريب في تعين الثاني، كما يظهر مما تقدم في رواية الخصال.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا مجال لاصلاح الوجه المذكور بحمله على لزوم كون زمان الشك متعلقاً لليقين تسامحاً بسبب إحراز المقتضي، لا حقيقةً ليتوجه عليه ما تقدم.

لاندفاعه: بأن متعلق النقض في النصوص هو اليقين السابق، وهو اليقين بالحدوث المفروض وجوده فعلاً حين الشك، لا اليقين بالبقاء، ليكون تعذر وجوده الحقيقي مع الشك ملزماً بالتنزل لوجوده التسامحي الناشئ من فرض المقتضي حينه. مع أن كون وجود المقتضي مصححاً للتسامح في وجود اليقين لا يخلو عن خفاء بعد كون المقتضي دخيلاً في وجود المستصحب ثبوتاً، ولا سنخية بينه وبين اليقين به، لأنه من شؤون مقام الإثبات، كما تقدم في الوجه الأول.

الثالث: ما يظهر من الشيخ الحلي قدس سره اعتماده

الثالث: أن المصحح لإسناد النقض في أدلة الاستصحاب إلى اليقين مع ارتفاعه حقيقة هو الملازمة الادعائية بين اليقين بالحدوث واليقين بالبقاء المتفرعة على ادعاء الملازمة بين نفس الحدوث والبقاء، فعدم ترتيب أثر البقاء نقض لليقين بالبقاء حقيقة ولليقين بالحدوث ادعاء، ولا يصح عرفاً ادعاء الملازمة المذكورة مع عدم إحراز مقتضي البقاء، لعدم المنشأ لها، وإنما صح ادعاؤها مع إحرازه لعدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع.

وقد يظهر من شيخنا الأستاذ قدس سره اعتماد هذا الوجه مع اختصاره.

ص: 82

المناقشة فيه

وفيه: أن ابتناء إسناد النقض لليقين على الملازمة الادعائية المذكورة لا يخلو عن خفاء، لإمكان ابتنائه على ادعاء أن اليقين كما يقتضي العمل حينه يقتضي العمل بعده، فيكون عدم ترتيب الأثر بعده نقضاً له.

كما لم يتضح أيضاً ابتناء تلك الملازمة - لو تمت - على عدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع الملزم بفرض المقتضي.

لوضوح أن عدم الاعتداد باحتمال الرافع يقتضي حجية قاعدة المقتضي ولو مع عدم اليقين بالحدوث الذي هو مورد الاستصحاب، لعدم خصوصية ذلك في الجهة الارتكازية المذكورة، بل ظاهر أدلة الاستصحاب ابتناؤه على جهة ارتكازية أخرى، وهي عدم رفع اليد عما علم ثبوته بمجرد الاحتمال، بل لابد من البناء على بقائه مطلقاً. ولا أقل من كون ذلك مقتضى إطلاق أدلته، لعدم صلوح الجهة المذكورة للمنع منه بعد عدم التنبيه إليها في الأدلة.

ومجرد صلوحها لتصحيح ادعاء النقض - لو تمَّ - لا يمنع من الحمل على الإطلاق، لعدم انتقال الذهن إليها بمجرد ذلك، بل لابد من وضوح ابتناء الكلام عليها، بنحو تكون من سنخ القرائن المحتفة به المانعة من انعقاد ظهوره في الإطلاق، ولا مجال لإثبات ذلك.

وبعبارةٍ أخرى: لو ثبت اختصاص الاستصحاب بصورة الشك في الرافع دون المقتضي كانت الجهة المذكورة صالحة للتفريق بينهما.

أما بعد إطلاق أدلته وعدم التنبيه فيها إليها فهي لا تمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق، لعدم بلوغها في الوضوح حداً يجعلها مما يحتف بالكلام ويصح الاتكال عليه في بيان المراد منه.

ص: 83

وهذا جارٍ في الوجهين الأولين لو غض النظر عما تقدم في مناقشتهما.

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم أن المتعين هو البناء على عموم الاستصحاب، لإطلاق أدلته من النصوص المتقدمة التي عرفت أنها عمدة الدليل عليه.

نعم، لو كان الدليل عليه السيرة أو الإجماع تعين البناء على التفصيل المذكور، لأنه المتيقن منهما في الجملة.

تنبيه

تنبيه:

أشرنا في الأمر السابق إلى أن مفاد الاستصحاب هو إحراز المستصحب والتعبد به بادّعاء كون المحرز له هو اليقين السابق.

وقد تعرضنا في الفصل الثالث من مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي إلى اختلاف كلماتهم في مفاده ومفاد الطرق والأمارات وبقية الأصول، وأنه قد وقع الكلام بينهم في ذلك، حيث ذهب بعضهم إلى أن مفاده تنزيل المستصحب منزلة الواقع، وآخر إلى أن مفاده تنزيل الشك به منزلة العلم، وثالث إلى أن مفاده جعل العلم بالمستصحب تعبداً، وغير ذلك مما أطلنا الكلام في مناقشته هناك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ذلك، كما تعرضنا هناك لمفاد الطرق والأمارات، وبقية الأصول. فراجع.

ص: 84

المقام الثاني: في أركان الاستصحاب وشروطه

اشارة

والكلام في ذلك يقع في فصلين..

يبحث في الأول منهما عن أركانه المقومة لمفهومه، حسبما استفيد من الأدلة المتقدمة.

وفي الثاني عما يعتبر في جريانه من الشروط الخارجة عن مفهومه.

الفصل الأول: في أركان الاستصحاب

اشارة

ومما تقدم في تعريفه وأدلته يتضح أن للاستصحاب ركنين يتقوم بهما..

الكلام في أمور: الأمر الأول: استصحاب مؤدى الطرق والأمارات

الأول: اليقين بتحقق المستصحب سابقاً.

الثاني: الشك في بقائه واستمراره. والكلام في ما يتعلق بهما يقع في ضمن أمور..

الأمر الأول: لا إشكال في أن ظاهر اليقين بدواً في تعريف

ص: 85

الاستصحاب ونصوصه وكلمات الأصحاب هو اليقين الحقيقي، الذي هو صفة نفسية تقابل الشك والظن والوهم، إلّا أنه لا إشكال عندهم ظاهراً في استصحاب مؤدى الطرق والأمارات، وقد يستشكل في ذلك بعدم تحقق أحد ركني الاستصحاب فيه، وهو اليقين.

ما استشكله الخراساني قدس سره واندفاعه

بل قد استشكل المحقق الخراساني قدس سره وغير واحد ممن تأخر عنه في تمامية كلا ركنيه، لأن الشك في البقاء متفرع على اليقين بالحدوث، المفروض عدم تحققه، فلا يكون الشك في المقام إلّا تقديرياً.

لكن الظاهر اندفاعه، بأن عنوان البقاء وإن كان متفرعاً ثبوتاً على الحدوث، إلّا أنه لا وجه لتفرع الشك في البقاء على اليقين بالحدوث، بل هو يجتمع معه ومع الشك فيه، على ما هو الحال في جميع الأمور المترتبة خارجاً أو مفهوماً، كما لعله ظاهر.

العمدة الإشكال من جهة اليقين

فالعمدة الإشكال من جهة اليقين. وقد حاول غير واحد دفعه وتوجيه جريان الاستصحاب.

والمذكور في كلماتهم وجوه..

الأول: أخذ اليقين على أن يكون طريقاً محضاً

الأول: أن مفاد الاستصحاب ليس إلّا التعبد ببقاء الأمر الحادث في فرض الشك فيه، فيكون الحكم بالبقاء مترتباً على الثبوت الواقعي وملازماً له وإن لم يتيقن به، نظير حجية الخبر المنوطة بعدالة المخبر.

وليس أخذ اليقين بالثبوت في أدلته إلّا لكونه طريقاً محضاً يحرز معه موضوع الحكم بالبقاء والتعبد الظاهري به، لا لكونه دخيلاً في الموضوع ثبوتاً، فتقوم مقامه الطرق، كما تقوم مقام القطع الطريقي في سائر الموارد.

وهذا هو الظاهر من شيخنا الأعظم قدس سره حيث عرف الاستصحاب بأنه

ص: 86

إبقاء ما كان، وصرح بأن موضوعه ثبوت الشيء، فلابد من إحرازه بالعلم أو الظن المعتبر.

بل الظاهر أنه مراد المحقق الخراساني قدس سره، وإن كانت بعض فقرات كلامه قد توهم إرادة أن مفاد الاستصحاب نفس الملازمة بين الثبوت والبقاء، وموضوعها الشك في البقاء على تقدير الثبوت، فمع الشك المذكور يكون الاستصحاب فعلياً، وإن لم يكن هناك ثبوت واقعي أو إحراز له، لعدم توقف الملازمة على وجود طرفيها.

قال: «هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شيءٍ على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته في ما رتب عليه أثر شرعاً أو عقلاً... فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا التقدير، فيترتب عليه الأثر فعلاً في ما كان هناك أثر... فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبداً للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً...».

ومن ثَمَّ أورد عليه بعض الأعاظم قدس سره: بأنه لا معنى للتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث، فإن الملازمة كالسببية لا تنالها يد الجعل، بل ما يقبل الجعل هو التعبد بوجود شيء فعلاً في فرض وجود شيء آخر كذلك، فتنتزع منه السببية والملازمة.

لكن من البعيد جداً إرادة المحقق الخراساني قدس سره لذلك، لما هو المعلوم من مذهبه في مثل السببية والملازمة من كونها منتزعةً لا مجعولةً.

بل من القريب جداً إرادته ما ذكرنا من أن مفاد الاستصحاب نفس التعبد بالبقاء في فرض الثبوت الواقعي، الذي هو منشأ انتزاع الملازمة المذكورة، فلا يكون فعلياً إلّا مع فعلية الثبوت، وإن لم يمكن العمل عليه

ص: 87

إلّا بعد إحراز الثبوت، لتوقف العمل بالحكم وتنجزه على إحراز موضوعه، وعمدة ما يريد التنبيه عليه أن اليقين ليس دخيلاً في الموضوع، بل طريقاً له.

وكيف كان، فالظاهر أن الوجه المذكور ممكن في نفسه، وكان المناسب لبعض الأعاظم قدس سره التنبيه له وعدم الاقتصار على منع جعل الملازمة.

نعم، الوجه المذكور مخالف لظاهر الأدلة، لظهورها في موضوعية نفس اليقين للاستصحاب، وحملها على كون ذكره لمحض الطريقية وأن الموضوع نفس الثبوت مخالف لظاهرها.

وثبوت ذلك في أدلة الأحكام الواقعية التي تقتضي المناسبات الارتكازية أو الجمع بين الأدلة تبعيتها للواقع، نظير قوله تعالى: «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ...»(1)، لا يقتضي البناء عليه في ما نحن فيه ونحوه من موارد الأحكام الظاهرية الراجعة إلى مقام الإحراز والتابعة للعلم ونحوه ارتكازاً.

بل نصوص المقام تأبى ذلك بعد تضمنها التعبد بالاستصحاب بلسان عدم نقض اليقين بالشك، الظاهر في دخل اليقين بنفسه في الإحراز، كما سبق.

ومن ثَم تقدم في التمهيد أنه لابد من أخذ اليقين في تعريف الاستصحاب، ولا مجال لتعريفه بأنه إبقاء ما كان. فراجع.

الثاني

الثاني: أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم شرعاً، فتشاركه في أحكامه الشرعية، ومنها عدم النقض بالشك، الذي هو

ص: 88


1- البقرة: 187.

مفاد الاستصحاب.

ونحوه دعوى ظهورها في جعلها علماً تعبداً فتلحقها أحكامه.

ويظهر الجواب عن ذلك بمراجعة ما تقدم منا في الفصل الثالث من مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي، حيث أطلنا الكلام هناك في حال المبنيين المذكورين وغيرهما.

الثالث

الثالث: أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع، فتجري عليها أحكامه، ومنها حرمة النقض، بناء على أن حرمة النقض في الاستصحاب من أحكام نفس المتيقن لا اليقين.

وفيه: - مع أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور، نظير ما تقدم في الوجهين السابقين، وأن حرمة النقض من آثار اليقين لا المتيقن، كما تقدم في رد القول باختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ويناسبه ماسبق في رد الوجه الأول - أن الواقع التنزيلي وهو مؤدى الطريق يقطع بانتقاضه بانتهاء أمد الطريق، وما يحتمل انتقاضه بالشك هو الواقع الحقيقي المفروض كونه مظنوناً لا مقطوعاً به.

الرابع

الرابع: أن مؤديات الطرق أحكام ظاهرية متحدة مع الواقع على تقدير الإصابة، ومباينة له على تقدير الخطأ، وحيث كانت الطرق محتملة الإصابة للواقع المفروض احتمال بقائه جرى الاستصحاب، لتمامية ركنيه، للقطع بثبوت الحكم المردد بين الواقعي والظاهري حين قيام الطريق.

غايته أنه يكون من استصحاب الكلي الذي يتردد بين فردين مقطوع الزوال ومحتمل البقاء، الذي هو ملحق بالقسم الثاني في الجريان، لأن المؤدى إن كان مخالفاً للواقع كان ظاهرياً محضاً ينتهي بانتهاء أمد الطريق،

ص: 89

وإن كان موافقاً له كان عينه، والمفروض احتمال بقائه.

نعم، لو كان الحكم الظاهري مبايناً للحكم الواقعي حتى في فرض الإصابة، كان استصحابه من القسم الثالث، للقطع بانتهاء الحكم الظاهري المقطوع تحققه سابقاً، والشك في ثبوت الواقع المطابق له من أول الأمر.

وفيه - مع أنه لا يجري في الموضوع الخارجي، لأن قيام الطريق عليه لا يوجب جعله ظاهراً بلا إشكال -: أن التحقيق عدم كون مؤدى الأمارة حكماً ظاهرياً، لا متحداً مع الواقع، ولا مبايناً له، على ما تقدم منا في مبحث القطع الموضوعي ومبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. فراجع.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد ظهر عدم نهوض شيءٍ منها بإثبات المدعى.

فالعمدة في توجيهه: أن اليقين وإن كان دخيلاً في موضوع الاستصحاب، كما هو ظاهر أدلته، إلّا أنه تقدم منا في مبحث القطع الموضوعي أن الطرق تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية، لرجوعه إلى عدم خصوصية القطع في موضوعيته للحكم والتعدي منه لجميع الطرق الإحرازية، فثبوت الحكم لها في عرض ثبوته له، لأنها مثله من أفراد المحرز، لا في طوله بتوسط جعلها من أفراده تعبداً، أو تنزيلها منزلته شرعاً، أو تنزيل مؤداها منزلة مؤداه.

وقد تقدم منا في ذلك المبحث تفصيل الكلام فيه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

عدم أخذ اليقين بما هو صفة خاصة

والمهم هنا هو التنبيه إلى أنَّ اليقين لم يؤخذ بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق محرز لمؤداه مقتضٍ للعمل عليه. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه

ص: 90

غير مرة من كون قضية عدم نقض اليقين المشار إليها في الأدلة ارتكازية لا تعبدية محضة، ولا خصوصية لليقين فيها ارتكازاً.

كما يؤيده تسالم الأصحاب على جريان الاستصحاب في المقام، بنحوٍ يظهر منه كون ذلك هو مقتضى ارتكازاتهم الأولية غير المبتنية على الاستدلال والتدقيق، لعدم تحرير المسألة إلّا في العهود المتأخرة.

هذا كله في الاستصحاب مؤدى الطرق والأمارات.

استصحاب مؤدى الأصول الإحرازية

ومنه يظهر الحال في استصحاب مؤدى الأصول الإحرازية، حيث تقدم منا هناك قيام الأصول المذكورة مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية، لما أشرنا إليه من أن العلم ليس طريقاً إلى الواقع، كي تختص الطرق بمشاركته، لعدم الطريقية في الأصول، بل هو عبارة عن نفس الوصول للواقع وإحرازه، فإلغاء خصوصيته تقتضي عموم الحكم لكل إحراز ولو كان بسبب الأصل.

ولا حاجة مع ذلك للتشبث بدعوى ظهور أدلة الأصول في تنزيلها منزلة العلم، أو جعلها علماً تعبداً، أو تنزيل مؤدياتها منزلة المعلوم، أو جعل الحكم الظاهري في موردها.

على أن ذلك كله غير تام، نظير ما تقدم في الطرق.

ثم إنه بناء على ذلك لا إشكال في استصحاب مؤدى الأصل مع تكفل دليله بإحراز مؤداه في الزمان الأول دون الثاني، لعدم تحقق موضوعه بالإضافة إليه، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الماء حيث يحرز بهما حدوث طهارة الثوب المغسول به، دون بقائها، فلو احتمل طروء النجاسة على الثوب بعد غسله بالماء المذكور أمكن استصحاب طهارته.

لو كان الأصل الإحرازي متكفل بالإحراز في الزمان الثاني

أما لو كان الأصل بنفسه متكفلاً بإحراز مؤداه في الزمان الثاني أيضاً،

ص: 91

لتحقق موضوعه بالإضافة إليه، فقد ذكر غير واحد أنه لا مجال لاستصحاب مؤداه، للقطع ببقائه، كما لو احتمل نجاسة الثوب في زمان خاص، كيوم الجمعة، فجرت فيه أصالة الطهارة أو استصحابها بالإضافة إليه، ثم شك في طروء النجاسة عليه بعده، لوضوح أن موضوع الأصل المحرز للطهارة في ذلك الزمان متحقق بنفسه في الزمان اللاحق، فيقطع معه ببقاء مؤدى الأصل بلا حاجة إلى الاستصحاب.

وتوهم: أن الإحراز إن كان بقاعدة الطهارة لم يمنع عن جريان الاستصحاب لحكومته عليها.

مدفوع: بأن ذلك إنما يتم في استصحاب الطهارة الواقعية، لا استصحاب الطهارة الظاهرية التي هي مؤدى قاعدة الطهارة، للقطع - مع تحقق موضوع قاعدة الطهارة - ببقاء المتيقن السابق الذي هو مؤدى الأصل، ولا شك فيه حتى يجري استصحابه.

لكنه يندفع: بأن بقاء موضوع الأصل الإحرازي لا يوجب القطع ببقاء مؤداه، ليرتفع به موضوع استصحابه، ويكون تعبداً بما هو محرز بالوجدان، لما أشرنا إليه آنفاً من عدم كون مفاد الأصل حكماً ظاهرياً قابلاً للبقاء، بل لا أثر له إلّا إحراز الحكم الواقعي تعبداً، وحينئذ فتحقق موضوع الأصل في الزمان الثاني وجريانه لا يقتضي إلّا إحراز الحكم الواقعي تعبداً فيه كإحرازه في الزمان الأول، ولا يرتفع به موضوع الاستصحاب، بل يشترك هو والاستصحاب في الإحراز التعبدي لا غير.

ودعوى: أن الأصل المحرز المفروض تحقق موضوعه وإن لم يكن رافعاً للشك حقيقة، إلّا أنه رافع له تعبداً، فلا يبقى معه مجال للاستصحاب.

ص: 92

مبنية على فرض تقدم الأصل المحرز رتبة على الاستصحاب، وهو غير تام، لأن المتقدم على الاستصحاب رتبةً هو جريان الأصل المحرز بالإضافة إلى الزمان السابق، لتوقف تحقق موضوعه - وهو الإحراز السابق - عليه، أما جريانه في الزمان الثاني - الذي يراد الرجوع للاستصحاب فيه - فلا وجه لتقدمه عليه رتبةً كي يرتفع موضوعه به تعبداً، بل ليس ارتفاع موضوع الاستصحاب به بأولى من ارتفاع موضوعه بالاستصحاب.

وكذا دعوى: لغوية الاستصحاب للاستغناء عنه بالأصل المحرز بعد فرض بقاء موضوعه، لارتفاع التحير به وترتب الأثر عليه.

فإن ذلك كله مبني على تخيل جريان الأصل المحرز في تمام الأزمنة ذات الشكوك المتعددة بتطبيق واحد، مع الغفلة عن أن تطبيقه في كل زمان بلحاظ شكه الخاص به لإطلاق الشك في دليله، الذي هو كإطلاق اليقين في دليل الاستصحاب شامل للإحراز التعبدي المتفرع على تطبيق دليل الأصل المحرز على الشك الأول والمتأخر عنه رتبة من دون أن يتأخر رتبة عن تطبيقه على بقية الشكوك، بل هو في عرضه.

الذي ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: لا مجال لجريان الاستصحاب مع وحدة الشك وعدم تجدده، لعدم احتمال ارتفاع الحال المحرز سابقاً على تقدير ثبوته، وإنما يشك في أصل تحققه في الزمان السابق ويختص بعلاج الشك المذكور الأصل المحرز الجاري فرضاً.

وأما مع تجدد الشك في ارتفاع الحال السابق. الذي هو مقتضى الأصل المحرز، فالأصل المحرز إن كان هو الاستصحاب فالظاهر جريانه بنفسه في الزمان الثاني لدفع الشك الحادث، لظهور قضية عدم نقض اليقين بالشك

ص: 93

في تقديم اليقين السابق على كل شك يفرض لا على شك واحد، ولا يترتب استصحاب آخر عليه بلحاظ جريانه في الزمان الأول، لا لعدم الموضوع له، بل لغفلة العرف عن تطبيق عموم الاستصحاب عليه مع تطبيقه الأول، ولو التفت إلى ذلك فهو يرى أن تطبيق دليل الاستصحاب في الشك المتجدد مرة أخرى لاغٍ وإن لم يكن لاغياً عقلاً، لإمكان إحراز المشكوك بأكثر من تعبد واحد لا ترتب بينها، وذلك يوجب انصراف عموم الاستصحاب عن مثل هذا التطبيق، فلا يكون حجة فيه.

وبالجملة: لا يرى العرف بعد اطلاعه على عموم الاستصحاب في مقام علاج الشك المتجدد إلّا تعبداً واحداً موضوعه اليقين الأول، ويغفل عن التعبد الآخر المبتني على إعمال العموم في الشك الأول، وذلك كاشف عن انصراف العموم وعدم صلوحه لبيان مثل هذه الأفراد حسب المتفاهم العرفي.

وإن كان المحرز أصلاً آخر غير الاستصحاب - كأصالة الطهارة - فالظاهر أنه لا مانع من تطبيق عموم الاستصحاب في الشك المتجدد، لعموم دليله وعدم غفلة العرف عنه، بل يكون من حيثية الشك المتجدد مقدماً على قاعدة الطهارة، كما يقدم عليها في سائر الموارد، وإن كانت تنفرد بالجريان من حيثية الشك الأول، حتى في الزمان الثاني، لعدم الموضوع للاستصحاب بالإضافة إليها، كما تقدم.

مثلاً: إذا شك في الثوب أنه من شعر الكلب أو الماعز، فجرت أصالة الطهارة، ثم احتمل ملاقاته للنجاسة بعد خياطته، فالشك في طهارته بعد خياطته من حيثية احتمال كونه من شعر الكلب مجرى لقاعدة الطهارة، ومن حيثية احتمال ملاقاته للنجاسة مجرى للاستصحاب المقدم على القاعدة،

ص: 94

فيجتمع الاستصحاب مع القاعدة بلحاظ اختلاف الحيثية لإطلاق دليلهما، وإن كان مقدماً عليها في الحيثية الواحدة، ولذا يقدم عليها في الحيثية الثانية، نظير اجتماع قاعدة الطهارة أو الاستصحاب مع البينة في الفرض لو قامت البينة على كون الثوب من شعر الماعز، أو على عدم تنجسه بنجاسةٍ عرضية.

هذا هو الظاهر من أدلة الأصول بعد تحكيم المرتكزات في الجمع بين مؤدياتها.

الكلام في الأصول غير الإحرازية

بقي الكلام في الأصول غير الإحرازية، كأصالة البراءة والاحتياط الشرعيين والعقليين، ومن الظاهر أن ما تقدم من الوجوه المصححة للاستصحاب لا يجري فيها، بل حيث كانت مؤدياتها أحكاماً طريقية مباينة للحكم الواقعي، فلا مجال لفرض الشك في ارتفاعها بما يحتمل معه ارتفاع الحكم الواقعي، لينظر في الاستصحاب حينئذ.

نعم، قد يشك في ارتفاعها لاحتمال انتهاء موضوعها أو طروء الرافع لها لو كانت شرعية، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية، فيجري فيها ما يجري فيها من الكلام، وهو خارج عما نحن فيه.

الأمر الثاني: المراد بالشك

الأمر الثاني: الظاهر أن المراد بالشك ما يقابل اليقين، فيعم الظن والوهم لأنه معناه لغةً كما في جمهرة اللغة ومختار الصحاح ولسان العرب، والقاموس، ومجمع البحرين، بل في الأخير أنه المنقول عن أئمة اللغة.

بل هو المنسبق منه عرفاً، المؤيد بظهور بعض نصوص قاعدة التجاوز(1)، والشك في ركعات الصلاة(2) في إرادته، لمقابلته باليقين وفرض

ص: 95


1- الوسائل ج 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 8.
2- الوسائل ج 5، باب: 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

صورة الظن معه فيها، بل هو الظاهر من موارد استعماله في الكتاب المجيد، كما يناسبه مقابلته بالإيمان في قوله تعالى: «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ»(1)، وتعقيبه بالبيان في قوله تعالى: «إن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ»(2)، وجعله موضوعاً للسؤال في قوله تعالى: «فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ»(3)، ووصفه بالريب في مثل قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ»(4).

منه يظهر ضعفها في مفردات الراغب من أنه اعتدال النقيضين وتساويهما والظاهر أن ذلك اصطلاح متأخر اشتبه عليه بالمعنى اللغوي، نظير جعل الوهم مقابلا للظن. ومن هنا لا مجال لحمل نصوص المقام وغيرها عليه.

ولا سيما مع ما في نصوص المقام من مقابلته باليقين بنحوٍ يظهر منه الانحصار بهما واستيفاء الأقسام، وتضمنها حصر الناقض لليقين باليقين، وعدم الاعتناء باحتمال الشخص للنوم بمثل تحريك شيءٍ، إلى جنبه وهو لا يعلم، الذي هو من سنخ الأمارة الموجبة غالباً للظن به، والاكتفاء في العمل على اليقين السابق بمثل احتمال وقوع الدم على المصلي في أثناء الصلاة الذي هو ضعيف جداً، كما أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره، بل صرح بتطبيق الشك على الظن بإصابة الدم للثوب في صحيحة زرارة الثانية.

ص: 96


1- سورة سبأ: 21.
2- سورة يونس: 104.
3- سورة يونس: 94.
4- سورة هود: 110.

ومنه يظهر جريانه مع الوثوق والاطمئنان بانتقاض الحالة السابقة، بل ذلك يصلح للردع عنه لو فرض حجيته في نفسه ببناء العقلاء - كما قد يدعى - كما يمكن استفادة الردع عنه من نصوص أخر واردة في قاعدة التجاوز وطهارة الماء وغيرها، كما تقدم في الفصل السابع من مباحث الحجج.

ما استدل به الشيخ الأعظم قدس سره

هذا، وقد استدل شيخنا الأعظم قدس سره - مضافاً إلى ذلك - بالإجماع على عدم الفرق بين الظن وغيره، بناء على أخذ الاستصحاب من الأخبار.

وبأن عدم اعتبار الظن إن كان لقيام الدليل على عدم اعتباره كان مفاد الدليل المذكور تنزيله منزلة العدم عند الشارع، وأن كل ما يترتب على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده، وإن كان لعدم الدليل على اعتباره كان نقض اليقين به نقضاً بالشك.

الإشكال فيما ذكره قدس سره

ويشكل ما ذكره: بأن الإجماع لا ينفع بعد قرب استناده إلى فهمهم من الأخبار، فلا يكون دليلاً آخر غيرها. إلّا أن يدعى كشفه عن وجود قرائن ملزمة بالحمل على العموم خفيت علينا. وهو ممنوع.

ودليل عدم اعتبار الظن إنما يقتضي عدم حجيته، لا إلغاءه شرعاً بمعنى عدم ترتب أحكامه، فضلاً عن ترتب أحكام الشك - بالمعنى الأخص - عليه، لعدم تضمنه تنزيله منزلة الشك شرعاً، ولذا لا تترتب أحكام الشك المذكور عليه غير عدم نقض اليقين.

والشك في حجية ظنٍ لا يوجب كون نقض اليقين به نقضاً بالشك، لوضوح أن ظاهر الشك في نصوص الاستصحاب هو الشك في نفس الواقع المتيقن، لا ما يعم الشك في حجية الطريق عليه.

دعوى كون المراد بالشك هو الكفاية عن عدم الحجية

ثم إنه ربما يدعى أن ذكر الشك في النصوص كناية عن عدم الحجية

ص: 97

والتحير في مقام العمل، فيرتفع موضوع الاستصحاب بقيام الطريق المعتبر المطابق للحالة السابقة والمخالف لها، لارتفاع التحير العملي معه.

ويترتب على ذلك ورود دليل حجية الطريق على عموم الاستصحاب.

وقد يقرب: بأن قضية عدم نقض اليقين بالشك لما كانت ارتكازية واردة مورد التعليل فهي قاصرة عن صورة وجود الطريق المعتبر على خلاف الحالة السابقة أو على وفقها، لعدم بناء العرف على العمل بالحالة السابقة مع قيام الطريق المعتبر على انتقاضها، ولبنائهم على العمل بالطريق وإن بقي الشك معهما، نظير ما تقدم في تقريب استصحاب مؤدى الطريق.

الإشكال فيها

لكنه يشكل: بأن مجرد عدم بناء العرف على العمل بالاستصحاب مع قيام الطريق المعتبر على خلافه وعملهم بالطريق الموافق له لا ينافي بناءهم على تحقق موضوعه، وهو الشك، وجريانه ذاتاً لولا الطريق، بحيث يكون قيام الطريق من سنخ المانع عن الرجوع للاستصحاب مع تحقق موضوعه ذاتاً لا من سنخ الرافع لموضوعه ذاتاً.

دعوى حمل الشك على عدم المحرز

ودعوى: أن البناء على إلغاء خصوصية اليقين وتعميم الموضوع لكل محرز - كما تقدم في الأمر السابق - يقتضي حمل الشك على فرض عدم المحرز، لأنه مقتضى المقابلة بين الأمرين.

اندفاعها

مدفوعة: بأن الشك لما كان بتمام أفراده غير صالح للإحراز، فإبقاؤه على إطلاقه لا ينافي المقابلة بوجه، غاية ما يلزم هو البناء على عدم نقض اليقين وكل محرز بكل ما لا يكون محرزاً وإن كان أمراً آخر غير الشك، وهو أمر آخر غير تقييد الشك بصورة عدم وجود المحرز بنحوٍ يكون وجود المحرز رافعاً لموضوع الاستصحاب ذاتاً.

ص: 98

وأضعف من ذلك دعوى: أن المراد بالشك ليس مطلق ما يقابل اليقين بالواقع، ليجتمع مع قيام الطريق المعتبر، بل ما يقابل اليقين بالواقع أو بالحجية المستتبع لليقين بالوظيفة العملية الظاهرية، وقيام الطريق المعلوم الحجية رافع له حقيقةً.

لاندفاعها: بأن ذلك تكلف لا شاهد له، فإن ظاهر المقابلة بين الشك واليقين اتحاد متعلقهما، وهو الواقع لا غير.

وبالجملة: إن كان المدعى ارتفاع موضوع الاستصحاب ذاتاً بقيام الطريق المعتبر، بحيث يكون دليل حجيته وارداً عليه، لاختصاص موضوعه بالشك الذي لا حجة معه، فلا مجال لإثباته بالوجهين المذكورين.

وإن كان المدعى عدم الرجوع للاستصحاب مع قيام الطريق المعتبر، إما لتخصيص عمومه بدليل حجية الطريق، أو لمانعية قيام الطريق من العمل به مع تحقق موضوعه ذاتاً، أو لغير ذلك فهو حق على ما يتضح الكلام فيه في محله من مبحث تعارض الأدلة إن شاء الله تعالى. وربما يأتي تتمة للكلام هناك.

الأمر الثالث: فعلية اليقين والشك

الأمر الثالث: ظاهر الأدلة المتقدمة كون موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك الفعليين المتفرعين على الالتفات للواقعة، لا التقديريين الراجعين إلى كون المكلف بحيث لو التفت لتيقن أو شك، كما هو الحال في سائر العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام الواقعية والظاهرية، التي يكون مفاد كبرياتها قضايا حقيقية تقتضي فعلية الحكم في فرض فعلية الموضوع.

بل لا ضابط لوجود الموضوع تقديراً، حيث يمكن ترتبه على أمور

ص: 99

كثيرة لا تحقق لها، فلو فرض الحمل عليه في المقام لم يكن وجه لتخصيص محل الكلام باليقين والشك الحاصلين على تقدير الالتفات، بل ينبغي تعميمه لفرض وجودهما على تقدير إخبار زيد أو نزول المطر أو غيرهما مما يمكن ترتبهما عليه ولا تحقق له، ولا يظن من أحدٍ البناء على ذلك.

ومن ثم أُخذ في بعض النصوص المتقدمة فعلية اليقين والشك في صغرى الاستصحاب، لقوله عليه السلام في الصحيحة الأولى: «وإلّا فإنه على يقين من وضوئه»، وقوله عليه السلام في الثانية: «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت...»، وقوله عليه السلام في رواية الخصال: «من كان على يقين فشك...» وقوله عليه السلام في رواية الإرشاد: «من كان على يقين فأصابه شك».

هذا، وقد تعرض غير واحدٍ لتوجيه عدم جريان الاستصحاب مع عدم فعليته اليقين والشك - مضافاً إلى بعض ما تقدم - بأن الاستصحاب لما كان حكماً طريقياً راجعاً إلى بيان الوظيفة العملية، المستتبعة للجري العملي، والتعذير والتنجيز توقفت فعليته على الالتفات لموضوعه، لاستحالة ترتب شيءٍ من ذلك مع الغفلة، وكذا الحال في سائر الأصول والطرق الظاهرية، بخلاف الأحكام الواقعية، فإن فعليتها تابعة لفعلية موضوعاتها ولو مع الغفلة عنها.

ومن ثَمَّ يتعين البناء على توقف فعلية الأحكام الظاهرية على الالتفات إليها أيضاً، وإن شاركت الأحكام الواقعية في استحالة أخذ الالتفات إليها في موضوعها.

اقتضاء سنخية الحكم الظاهري على فعلية الالتفات

وبالجملة: سنخية الحكم الظاهري تقتضي توقف فعليته على الالتفات إليه موضوعاً وحكماً، وإن كان موضوعه مطلقاً، ولا يعقل ثبوته

ص: 100

واقعاً مع الغفلة عنه، بسب الغفلة عن صغراه أو كبراه، بخلاف الحكم الواقعي، حيث يمكن الغفلة عنه مع فعليته لفعلية موضوعه وجعله.

مناقشة ما ذكر

لكن ما ذكروه لا يرجع إلى محصل ظاهر، فإن الوظيفة العملية الظاهرية كالتكليف الواقعي تقتضي في نفسها حركة المكلف والعمل بمقتضى التكليف. ولو مع الغفلة عنها، وهما يشتركان في توقف فعلية تأثيرهما في الحركة على الالتفات. والمعذرية والمنجزية من آثار وصول الحكم الظاهري والواقعي أو التقصير في الفحص عنهما، وليستا مقومتين للحكم الظاهري بنحو لا يترتب مضمونه بدونهما.

وبعبارةٍ أخرى: لا وجه للفرق بين الحكم الواقعي والوظيفة الظاهرية بإمكان ثبوت الحكم الواقعي مع الغفلة عنه، وامتناع ثبوت الوظيفة الظاهرية معها، بل الظاهر اشتراكهما في تبعيتهما لفعلية موضوعهما ولو مع الغفلة عنهما حكماً أو موضوعاً، تبعاً لإطلاق دليلهما، وفراراً من محذور التصويب.

ولذا لو فرض استكمال المكلف الفحص عن الحكم الواقعي وتقصيره في الفحص عن الوظيفة الظاهرية كان مؤاخذاً بمخالفتها، مع أنه لا وجه لذلك إلّا ثبوتها واقعاً مع غفلة المكلف عنها.

كما أنه لو فرض ترتب الأثر لوجودها حين الغفلة يتعين ترتب الأثر المذكور، كما هو الحال بناء على إجزاء الأمر الظاهري، ولعله عليه يبتني ما تضمنته صحيحة زرارة الثانية من صحة الصلاة لأجل جريان الاستصحاب حينها، لظهورها في عدم توقف الصحة على سبق التفات المكلف لجريان الاستصحاب، بل يجري الاستصحاب وتصح لأجله الصلاة ولو مع جهل المكلف بجريانه.

ص: 101

كما يبتني عليه - أيضاً - ما أشرنا إليه في الأمر الثاني من جواز اعتماد المجتهد على الاستصحاب الجاري في حق العامي والفتوى له بمضمونه وإن كان العامي غافلاً عن جريان الاستصحاب، فلاحظ.

ما رتبه الشيخ الأعظم قدس سره على فعلية اليقين والشك

ثم إنه قد رتَّب شيخنا الأعظم قدس سره على ما تقدم من عدم جريان الاستصحاب إلّا مع فعلية اليقين والشك صحة صلاة من كان متيقناً بالحدث لو علم من نفسه أنه لو التفت قبل الصلاة لشك في الطهارة واستصحب الحدث، بخلاف ما لو تحقق منه الشك بالفعل قبل الصلاة، ثم غفل وصلّى وعلم من نفسه أنه لم يتوضأ بعد الشك.

وقد تبعه على ذلك المحقق الخراساني قدس سره.

بدعوى: أنه حيث لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة في الفرض الأول لعدم فعلية الشك، فلا مانع من الرجوع لقاعدة الفراغ المقدمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ، كما في سائر مواردها.

أما في الفرض الثاني فحيث فرض جريانه، لفعلية الشك امتنع جريان قاعدة الفراغ، إما لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ، لا الشك الموجود قبله، أو لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من القطع بعدم رفع الحدث الاستصحابي، الذي لا مجال معه لقاعدة الفراغ، لعدم منافاتها للاستصحاب، وعدم جريانها مع القطع.

مناقشة ما ذكره قدس سره

لكن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره أجنبي عما نحن فيه من عدم جريان الاستصحاب مع الغفلة وجريانه مع الالتفات، كيف! والاستصحاب الجاري مع الالتفات في الفرض الثاني قد ارتفع تبعاً لعروض الغفلة حين الصلاة، فلا أثر له، بل مرجع ما ذكره قدس سره إلى دعوى قصور قاعدة الفراغ عن شمول

ص: 102

الشك في الفرض الأول وشمولها له في الفرض الثاني، فإن ذلك هو العمدة في الفرق بين الفرضين لا جريان الاستصحاب وعدمه قبل الصلاة، لوضوح أنه لو فرض قصور قاعدة الفراغ عن شمول الشك في الفرض الأول فلابد من الإعادة وإن لم يجر الاستصحاب قبل الصلاة، لكفاية جريانه بعدها، بل جريان قاعدة الاشتغال في لزوم الإعادة.

كما أنه لو فرض جريان القاعدة في الفرض الثاني لم تجب الإعادة وإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة، لأن الإعادة تابعة للوظيفة العملية الجارية بعد الصلاة.

كما أن جريان قاعدة الفراغ وعدمه في الفرضين لا يبتني على جريان الاستصحاب قبل الصلاة وعدمه، لعدم أخذ الاستصحاب في موضوع القاعدة، بل ليس موضوعها إلّا الشك، فيبتني جريانها في الفرضين على شمول موضوعها للشك الخاص المتحقق فيهما.

ابتناء ما ذكره الخراساني قدس سره

على تنزيل المشكوك منزلة المتيقن

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فهو وإن كان متفرعاً على ما نحن فيه، لأن الحدث الاستصحابي متفرع على جريان الاستصحاب، فلو فرض جريانه مع الشك التقديري قبل الصلاة فالمفروض عدم انتقاضه بتجديد الوضوء بعده، فقد يتجه إعادة الصلاة في الفرض الأول أيضاً.

إلّا أنه مبتن على أن مفاد الاستصحاب تنزيل المشكوك منزله المتيقن أو جعل المستصحب ظاهرا، بنحو يكون هناك حدث تنزيلي أو ظاهري غير الحدث المشكوك يقطع بعدم رفعه بطهارة جديدة.

الإشكال فيه

وقد تقدم في استصحاب مؤدى الطرق والأصول إنكار ذلك وأنه ليس مفاد الاستصحاب إلّا الإحراز الظاهري للحدث، كما هو الحال في الفرض

ص: 103

الثاني أيضاً، وهو لا يوجب اليقين ببطلانها بنحو يمتنع جريان القاعدة، بل تبتني صحة الصلاة في الفرضين على عموم موضوع القاعدة وعدمه، على ما تقدم في كلام شيخنا الأعظم قدس سره.

على أنه لو سلم المبنى المذكور إلّا أنه بعد فرض الغفلة حين الصلاة يشترك الفرضان في توقف تحقق الحدث الاستصحابي حين الصلاة على جريان الاستصحاب مع الغفلة.

ومجرد اختصاص الفرض الثاني بالالتفات قبل الصلاة الموجب لليقين بالحدث الاستصحابي قبلها، لا يصلح فارقاً في ما نحن فيه بعد كون سبب بطلان الصلاة هو الحدث حينها لا قبلها.

ما ذكره العراقي قدس سره

والمناقشة فيه

وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الغفلة في الفرض الثاني حين الصلاة عن الشك الحاصل قبلها لا تمنع من بقاء الشك حينها، بل من الالتفات إليه مع بقائه في أفق النفس.

فيدفعه: أنه لا موطن للشك إلّا الذهن، ولا مجال لفرض بقائه فيه مع الغفلة.

على أن الشك المغفول عنه هو الشك في تحقق الطهارة قبل الصلاة، وليس هو موضوعاً للاستصحاب حينها المانع من الدخول حينها، بل ليس موضوع الاستصحاب حينها المصحح للدخول فيها إلّا الشك في تحقق الطهارة حينها، والمفروض عدم حصوله من أول الأمر بسبب الغفلة.

توجيه الشيخ الأعظم قدس سره عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض الثاني ومناقشته

هذا، وحيث عرفت ابتناء الصحة في الفرضين المتقدمين على جريان قاعدة الفراغ وعدمه، فقد تقدم من شيخنا الأعظم قدس سره توجيه عدم جريانها في الفرض الثاني بأن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ، لا الموجود قبله.

ص: 104

وهو كما ترى! لارتفاع الشك الأول، لفرض الغفلة حين الصلاة. والشك الحاصل بعدها ليس بقاء لذلك الشك، بل هو شك آخر، وإن اتحد سببهما.

ومثله ما تقدم من بعض المحققين من بقاء الشك السابق حين الغفلة، كما تقدم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من اتحادهما عرفاً وإن اختلفا حقيقةً.

فهو غير ظاهر، بل ليس الاتحاد إلّا في موضوع الشكين. إلّا أن يرجع إلى دعوى انصراف عموم القاعدة عن مثل الشك المذكور مما سبق مثيله قبل العمل.

وكأنه يبتني ارتكازاً على دعوى اختصاص القاعدة بما إذا لم يعلم المكلف من نفسه الغفلة عن منشأ الشك اللاحق، الذي لو تم جرى في الفرضين معاً. ولذا لا ريب ظاهراً في جريان القاعدة في الفرض لو احتمل المكلف بعد الفراغ أن يكون دخوله في الصلاة ناشئاً عن تذكره لسبق الطهارة، وخطأ الاستصحاب الذي جرى في حقه أولا، مع وضوح المماثلة بين الشك الأول والشك الحادث بعد الصلاة.

فالبناء على جريان القاعدة في الفرض الثاني بناء على عمومها لصورة العلم بالغفلة حين العمل قريب جداً. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال. ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في المسألة الثانية من المقام الثالث من الفصل الثاني من خاتمة الاستصحاب عند الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ.

الأمر الرابع: لابدية كون المشكوك بقاء للمتيقن

الأمر الرابع: أن المنساق من دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء

ص: 105

المتيقن، لا محض وجوده في زمان الشك بعد سبق اليقين به.

فإن الجهة الارتكازية التي أشير إليها في التعليل المتقدم في الصحيحتين تناسب ذلك جداً.

بل هو المناسب لفرض النقض، فإن صدقه حقيقة موقوف على اتحاد موضوع الناقض مع موضوع المنقوض من جميع الجهات حتى الخصوصية الزمانية، وقرينة المقام إنما تقتضي التسامح في الخصوصية الزمانية بإرادة الشك في البقاء بعد اليقين بالحدوث، مع المحافظة على وحدة الوجود، لعدم الملزم بالخروج عنها. ومن هنا لابد من أمرين..

الأول: اتصال زمان الشك بزمان اليقين

الأول: اتصال زمان الشك بزمان اليقين، ولا يكفي مجرد تأخره عنه، نظير الطفرة، لعدم صدق البقاء معه، بل لعله مقتضى تعقيب الشك لليقين بالفاء في صحيحة زرارة الثانية، وروايتي الخصال والإرشاد، لظهورها في اتصال الشك باليقين.

بل لازم العموم جريان استصحاب الحالتين المتضادتين المعلومتي التاريخ في زمان الشك المتأخر عنهما، وتعارضهما، فلو كان زيد عادلاً يوم الجمعة وفسق يوم السبت، وشك في حاله يوم الأحد، جرى استصحاب عدالته وفسقه، لا خصوص الفسق، لمشاركة العدالة له في اليقين بها سابقاً والشك فيها لاحقاً.

ومنه يظهر لزوم إحراز الاتصال في جريان الاستصحاب، ولا يكفي احتماله لتردد زمان الشك بين المتصل بزمان اليقين والمنفصل عنه، لأن التمسك فيه بعموم الاستصحاب يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يصح بلا كلام، ويأتي ما يتعلق بذلك في

ص: 106

مجهولي التاريخ إن شاء الله تعالى.

الثاني: اتحاد المشكوك مع المتيقن

الثاني: اتحاد المشكوك مع المتيقن في جميع الخصوصيات المقومة له، وحيث كان موضوع اليقين والشك هو النسبة لزم اتحاد القضية المشكوكة التي هي موضوع الأثر ومورد العمل مع القضية المتيقنة في تمام الخصوصيات المقومة لها من موضوعٍ ومحمولٍ وغيرهما، بل لابد من إحراز الاتحاد، ولا يكفي الشك فيه لما تقدم في نظيره.

تفرع الأمرين على إحراز الموضوع

وهذا في الجملة ظاهر لاخفاء فيه، إلّا أن من الظاهر أن إحراز اتحاد القضيتين في الخصوصيات المذكورة متفرع على تشخيص ما تقوم به النسبة المذكورة وتحديده كي يكون معياراً في الاتحاد المذكور، وهي المسألة المهمة في المقام التي يبتني عليها الكلام في الاستصحاب في كثير من الموارد، والتي عنونت في كلماتهم بمسألة موضوع الاستصحاب.

والعنوان المذكور وإن كان مختصاً بالموضوع المقابل للمحمول الذي يكون نسبته إليه نسبة الموضوع إلى عرضه، إلّا أن ملاك الكلام لا يختص به، بل يجري في جميع ما يقوّم النسبة.

ولعلّ وجه تخصيصهم الكلام به كثرة الفروع المبتنية عليه، بنحو أوجب انصرافهم إليه وغفلتهم عن غيره مما تقوم به النسبة.

وقد يشهد بما ذكرنا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من جريان القسم الثالث من استصحاب الكلي في ما يتسامح فيه العرف فيعدون الفرد اللّاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد، حيث رجع إلى العرف في تشخيص اتحاد المحمول المستصحب كالسواد للثوب، كما رجع إليه في الموضوع.

وكيف كان، فملاك الكلام لا يختص بالموضوع، بل يجري في غيره

ص: 107

مما تقوم به النسبة، إلّا أن المناسب تحرير الكلام في الموضوع تبعاً لهم، لينتظم كلامنا مع كلامهم، والاكتفاء في التعميم بما ذكرناه هنا من عموم الملاك.

الكلام في موضوع الاستصحاب

إذا عرفت هذا، فالمهم هو تشخيص الموضوع وتحديده، لابتناء الاتحاد فيه على ذلك. وقد ذكروا أن تحديده يختلف باختلاف المعيار فيه، إذ ما يمكن أن يكون معياراً فيه أحد أمور..

الأول: النظر العقلي الدقي

الأول: النظر العقلي الدقي، الذي لو كان هو المرجع لامتنع استصحاب الأحكام مع الشك فيها من غير جهة النسخ، لأن الشك في بقائها لا يكون إلّا للشك في بقاء بعض ما يعتبر في موضوعها، لامتناع ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه بتمام ما يعتبر فيه دقة.

كما يجرى الاستصحاب الموضوعي في موارد الاستحالة، كما لو شك في بياض الدود المستحيل من الطعام الأبيض، لأن موضوع البياض هو الجسم الباقي مع الاستحالة دقة وإن لم يبق عرفاً.

الثاني: لسان الدليل

الثاني: لسان الدليل، فكلما أخذ في الأدلة في عنوان موضوع الحكم لابد في جريان استصحاب الحكم من إحراز بقائه، كالزوجية في استصحاب جواز الاستمتاع أو وجوب الإنفاق والاستطاعة في استصحاب وجوب الحج، والخمرية في استصحاب النجاسة والحرمة.

ويختص جريان الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم مستنداً لاحتمال اعتبار أمر فيه لم يؤخذ عنواناً في موضوعه، كما لو شك في وجوب الإنفاق على الزوجة عند خروجها بغير إذن زوجها، فيفرق في استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره بين كون دليل النجاسة بلسان: الماء

ص: 108

المتغير نجس، وكونه بلسان: إذا تغير الماء نجس.

النظر العرفي التسامحي

الثالث: النظر العرفي التسامحي، فإن العرف قد يدرك بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع عدم دخل بعض الأمور في الموضوع وإن أخذت عنواناً فيه، كعنوان التغير الذي يرى العرف أنه علة لثبوت النجاسة للماء، وأن موضوعها ليس الا الماء بذاته، فيصح الاستصحاب مع بقائه وإن ذهب التغير.

كما قد يدرك تقوم الموضوع ببعض الأمور وإن لم تؤخذ في الأدلة عنواناً له، كالخشبية التي لم تؤخذ في عنوان نجاسة الملاقي للنجاسة، بل لم يؤخذ فيها إلّا عنوان الملاقاة، مع أنها بنظر العرف مقومة للموضوع، فلو صار الخشب المتنجس فحماً أو رماداً تعدد الموضوع وامتنع الاستصحاب.

وقد يتسامح في ما هو مقوم للموضوع دقة وعقلاً، كما هو مبنى استصحاب كرية الماء بعد أخذ شيءٍ منه فإن موضوع الكرية - دقة - هو الماء بتمام أجزائه، فلا يبقى بأخذ شيءٍ منه، إلّا بنظر العرف تسامحاً تنزيلاً لذلك منزلة الحالات الطارئة. كما قد ينعكس الحال، وعليه يبتني امتناع الاستصحاب الموضوعي مع الاستحالة، مع بقاء الموضوع فيها دقة، كما تقدم.

وقد ظهر بذلك اختلاف الضوابط المذكورة في كل من استصحاب الأحكام الشرعية واستصحاب الأمور الخارجية، ولا يختص الاختلاف بينها بالأول، كما يظهر من بعض مشايخنا.

نعم، لا موضوع للضابط الثاني في استصحاب الأمور الخارجية التي لا دخل للشارع بها، كي يؤخذ موضوعها منه، فيتردد الضابط فيها بالأول

ص: 109

والثالث.

هذا، وقد ذكروا أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى الإطلاق الاكتفاء في جريان الاستصحاب بوحدة الموضوع بلحاظ أحد هذه الضوابط، إن كان متعدداً بلحاظ الباقي.

لاندفاعها - مضافاً إلى عدم الجامع العرفي بين الجهات - بأن المرجع في وحدة الموضوع لم تتعرض له الأدلة بعنوانه وبما هو معنى اسمي، ليتجه إطلاقه بنحو يشمل جميع الوجوه المحتملة، بل ليس مفاد الأدلة إلّا الحكم بالبقاء بعد الفراغ عن وحدة الموضوع، وحيث كانت إضافية فلابد من كونها بلحاظ جهة خاصة، فتلك الجهة ملحوظة بخصوصيتها، ولا إطلاق يشمل غيرها، ولا مجال للحاظ أكثر من جهة واحدة، لامتناع تعدد اللحاظ في الاستعمال الواحد.

الكلام في الرجوع إلى العرف وتوجيهه بأمور

ثم إن المعروف من شيخنا الأعظم قدس سره ومن تأخر عنه هو الرجوع للعرف في تحديد موضوع الاستصحاب على اضطراب منهم في صغريات ذلك، كاضطراب من تقدمهم فيها من دون أن يتعرضوا لتعيين المرجع.

وكيف كان، فما يستفاد من كلماتهم في توجيه الرجوع للعرف وجوه..

الأول: ما يظهر من الخراساني قدس سره

الأول: ما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن ذلك هو المنساق من النقض في أخبار الاستصحاب بمقتضى الإطلاق المقامي، لأنه بعد أن كان المعيار في صدقه مختلفاً كان عدم تنبيه الشارع الأقدس على معيار خاص فيه موجباً لظهور كلامه في الإيكال إلى العرف في فهمه وتطبيقه.

المناقشة فيه

ويشكل: بأنه لا إجمال في مفهوم النقض، وليس الاختلاف في تطبيقه ناشئاً من الاختلاف في مفهومه، كي يرجع في تحديده للعرف، ولو بتطبيقهم

ص: 110

له في بعض موارد الشك، لكون تطبيقهم كاشفاً عن إدراكهم تحقق المفهوم، وإن لم يتسن لهم تحديده بحدود مفهومية.

بل ليس النقض حسبما يستفاد من أدلة الاستصحاب إلّا رفع اليد عن الأمر المتيقن وعدم البناء على استمراره المتفرع على كون المشكوك الذي هو مورد للعمل بقاء للمتيقن، لاتحاده معه في الموضوع، فلابد فيه من تحديد موضوع القضية المتيقنة أولا، بالوجدان أو بالدليل، ثم العلم باتحاد القضية المشكوكة معها فيه حقيقة، ولا معنى للاكتفاء في صدق النقض بالنظر العرفي التسامحي، لعدم التعويل عليه في تطبيق مفاد الدليل بعد وضوح معناه وحدوده في سائر الموارد.

الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي قدس سره

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن أدلة الأحكام الواقعية المستصحبة إنما تنهض ببيان موضوع الحكم الواقعي ابتداء، وليس هو محل الكلام، وإنما الكلام في ما هو الموضوع بقاء، الذي هو موضوع الاستصحاب، وبه قوام النقض، فلابد من أخذه من العرف بالرجوع إليهم في تطبيق النقض.

لاندفاعه: بما ذكرناه من عدم الإجمال في مفهوم النقض ولا في ما يقومه، لوضوح أنه متقوم باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما، غاية الأمر أن ذلك متفرع على تحديد موضوع القضية المتيقنة الذي هو موضوع الحكم الواقعي ابتداء، فمع فرض تكفل الدليل ببيانه لا مجال للرجوع فيه ولا في تطبيق النقض للعرف.

وبالجملة: ليس للاستصحاب موضوع آخر في قبال موضوع القضية المتيقنة، بل لابد فيه من بقاء موضوعها، الذي فرض شرح الأدلة له.

ص: 111

ما يظهر من النائيني قدس سره

الثاني: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا مجال للرجوع للعقل، إذ لا مسرح له في مفاهيم الألفاظ وما يستفاد من دليل الحكم وخطاب: «لا تنقض»، كما لا مجال للرجوع لظاهر الدليل، إذ بعد الالتفات للمناسبات الارتكازية العرفية لا يبقى للدليل ظهور على خلافها، بل يستقر ظهوره على طبقها، لأنها من سنخ القرائن المتصلة به.

المناقشة فيه

وفيه: أن الرجوع للعقل ليس في مفهوم عدم النقض، بل في بقاء ما يعلم أنه الموضوع للقضية المتيقنة، ليعلم صدق النقض حقيقة، وقد تقدم أن لازمه عدم الاكتفاء في جريان الاستصحاب بالبقاء التسامحي في مثل استصحاب الكرية، وفي عدم جريانه بالارتفاع في مثل الاستحالة.

كما أن الرجوع للدليل ليس بالنظر لظهوره البدوي، بل ظهوره المستقر الثابت بعد ملاحظة جميع القرائن، ومنها المناسبات الارتكازية مما لا يبتني على التسامح المحتاج للعناية.

الثالث: ما يظهر من العراقي قدس سره

الثالث: ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره - على طول كلامه - من أن المستفاد من نصوص الاستصحاب، بلحاظ التطبيقات الواردة فيها كون فرض اتحاد المتيقن والمشكوك مبنياً على التسامح العرفي، لأنه بعد لزوم المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى المتيقنة بإلغاء خصوصية الزمان لتنطبق الأخبار على الاستصحاب يستكشف ابتناء الاتحاد فيها على التسامح بالوجه المذكور.

المناقشة فيه

وفيه: أن التسامح في الاتحاد بإلغاء خصوصية الزمان وإرادة البقاء لا يستلزم عقلاً ولا عرفاً إرادة التسامح في صدق البقاء.

نعم، مقتضى تطبيق كبرى الاستصحاب في النصوص على

ص: 112

استصحاب الطهارة عند الشك في النوم وإصابة النجاسة عدم الاعتبار بالدقة العقلية بنحو يمنع من جريان الاستصحاب في الأحكام.

كما أن تطبيقها في مكاتبة القاساني على استصحاب الشهر - لو تم - كاشف عن الاكتفاء بالاستمرار في الأمور المتصرمة التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود.

إلّا أن هذا لا يقتضي الرجوع للعرف بالنحو الذي هو محل الكلام.

هذا ما وسعنا التعرض له من كلماتهم في المقام، وهي - كما عرفت - لا تنهض بإثبات المدعى.

المختار في موضوع الاستصحاب

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن مرادهم من الموضوع لا يخلو عن اضطراب، حيث يريدون منه..

تارةً: ما هو الدخيل في ترتب الحكم وفعليته، الذي يكون نسبته له نسبة المعلول لعلته كالاستطاعة لوجوب الحج، والتغير لنجاسة الماء والزوجية لوجوب الإنفاق.

وأخرى: ما هو المعروض للحكم، الذي يقوم الحكم به ويحمل عليه، كالماء المعروض للنجاسة والصلاة المعروضة للوجوب، وهو الذي يقابل المحمول في القضية.

فإن ما تقدم عند الكلام في الرجوع للنظر العقلي الدقي من ملازمة الشك في الحكم للشك في موضوعه يبتني على المعنى الأول للموضوع، وما تقدم عند الكلام في الرجوع لمفاد الدليل أو النظر العرفي مبني على المعنى الثاني له، غايته أن الرجوع لمفاد الدليل مبني على ملاحظة الموضوع العنواني في الكبرى الشرعية الواردة في مقام الجعل، والرجوع للنظر العرفي

ص: 113

مبني على ملاحظة الموضوع في الصغرى الجزئية في مقام فعلية الحكم.

ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق بالوجه المتقدم في جريان الاستصحابات الحكمية بين كون المرجع في الموضوع هو العقل، والدليل، والعرف، لأن النجاسة - مثلاً - لما كانت من العوارض الاعتبارية الموجودة فعلاً فهي إنما تعرض الجسم الخارجي الخاص من ماء أو ثوب أو غيرهما، وليست الملاقاة ولا التغير إلّا علة في ذلك، فإن أريد بالموضوع المعنى الأول فالملاقاة والتغير مقومان للموضوع، وإن أريد به المعنى الثاني فهما خارجان عنه، من دون خلاف في ذلك بين العقل والعرف والدليل، ولا بين كون أخذهما في الدليل بلسان التقييد للماء وأخذهما بلسان الشرط أو التعليل، لأن التقييد إنما يتعقل في الكلي، وهو الماء المأخوذ في القضية الكلية، دون الماء الخارجي الجزئي الذي يتصف فعلاً بالنجاسة، ويراد بالاستصحاب البناء على بقائها له لعدم قابلية الجزئي للتقييد.

هذا، وحيث كان الغرض من تحديد الموضوع تحصيل الضابط لاتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بحيث تكون بقاء لها تعين كون المعيار على الموضوع بالمعنى الثاني، لأنه المقوم للقضية الذي يكون تعدده موجباً لتعددها ووحدته مستلزمة لوحدتها واستمرارها، ولا أثر لاختلاف العلة في ذلك.

نعم، للحكم في عالم التشريع ومقام جعل الكبرى الشرعية شرطية كانت أو حملية - مع قطع النظر عن فعليته بفعلية صغراه - نحو من الوجود الإنشائي قائم بتمام ما هو الدخيل فيه مما هو مأخوذ في القضية المجعولة من شرط، أو ظرف، أو وصف، أو حال أو غيرها من قيود الموضوع أو

ص: 114

النسبة، بحيث يكون تبدل أي شيءٍ منها موجباً لتبدل الحكم الإنشائي.

إلّا أن الشك في بقاء الحكم الإنشائي المذكور لا يكون إلّا للشك في نسخه، وهو خارج عن محل الكلام.

وليس محل الكلام إلّا استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي تحكي عنه القضية الفعلية الشخصية التي لا تقبل التقييد، لأن التقييد والإناطة إنما يكونان في القضايا الإنشائية، لا الفعلية، وليست القيود المأخوذة في الكبريات إلّا عللاً للقضايا الجزئية، خارجة عنها غير مقومة لها.

توضيح المعيار في الموضوع

ولتوضيح المعيار في موضوع الحكم المذكور وجريان استصحاب القضية المذكورة ينبغي التعرض لأمور يبتني بعضها على بعض..

الأول: وجوه الشك في العنوان المأخوذ في القضايا الشرعية

الأول: أن الشك في العنوان المأخوذ في القضايا الشرعية التي تقع، مورداً لعمل المكلف..

تارةً: يتعلق بمفهومه، كالشك في مفهوم الحج، والصلاة، والصعيد، والغناء.

وأخرى: بتطبيقه مع وضوح مفهومه كالشك في تحقق البيع، والإقالة، والطلاق ببعض الألفاظ الخاصة.

وفي كليهما إن أمكن الرجوع للشارع، لتعرضه للجهة المشكوك فيها فهو، وإلّا كان مقتضى الإطلاقات المقامية الإيكال للعرف فيهما، لأنه بعد فرض كون القضية عملية وتوقف العمل بها على تطبيق العناوين المأخوذة فيها، وفرض عدم تعرضه لذلك، فالظاهر منه إيكال تطبيقها للعرف المخاطبين بها بحسب ما يتيسر لهم ويصلون إليه بالوجه المتعارف لهم. وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى عناية وتنبيه ولا مجال للبناء عليها بدونه.

ص: 115

نعم، لابد من كون التطبيق حقيقياً بنظر العرف، ولا مجال للاكتفاء بتطبيقاتهم التسامحية المبنية على نحو من المجاز وإعمال العناية، لخروجها عن ظاهر الإطلاق، حيث لا يعولون عليها في خطاباتهم وأحكامهم وامتثالاتهم. ومن هنا أفتى الفقهاء بعدم التسامح في موارد التحديد، كالأوزان أو المسافات ونحوها.

كما لا مجال للبناء على أن المعيار هي التطبيقات العقلية المبنية على البحث والتدقيق المغفول عنه عند العرف بحسب طبعهم المتعارف لهم، لخروجه عن مقتضى الإطلاق المقامي المشار إليه، لأن الغفلة المذكورة لا تمنع من التطبيق الحقيقي على خلاف التطبيق الدقي، بخلاف التسامح، فإن التطبيق معه مجازي.

ومن ثم لا إشكال ظاهراً في جواز امتثال التكليف بصاع الحنطة - مثلاً - بما يكون منها مخلوطاً بقليل من التراب أو التبن بالوجه المتعارف، وإن كان دون الصاع دقة، وكذا الحال في سائر موارد الاستهلاك.

ولو فرض عدم تيسر تشخيص المفهوم أو المصداق للعرف لخفاء الحال عليهم في مورد لزم التوقف عن العمل بالدليل فيه والرجوع لمقتضى الأصول والقواعد الأُخَر.

الثاني: عدم الإجمال في مفهوم النقض

الثاني: من الظاهر أنه لا إجمال في مفهوم النقض في أدلة الاستصحاب، بعد ما تقدم من لزوم حملها على إرادة الاستمرار، فليس المراد به إلّا رفع اليد عن استمرار الشيء عند الشك فيه.

إلّا أنه حيث كان ذلك موقوفاً على اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما المتفرع على تعيين القضية

ص: 116

المتيقنة كان صدق النقض موقوفاً..

أولاً: على تعيين موضوع القضية المتيقنة.

وثانياً: على إحراز اتحاد القضية المشكوكة في ذلك، وبقائه حين الشك.

تعين الجري على تعيين الموضوع مما يستفاد من الأدلة الشرعية

وعلى هذا يتعين الجري في كلا الأمرين على ما ذكرناه في الأمر السابق، فيرجع في تعيين موضوع القضية المتيقنة إلى ما يستفاد من الأدلة الشرعية بحسب ما يفهمه العرف منها، فإن لم تف ببيانه أو لم تكن القضية شرعية، بل خارجية، كما في استصحاب كرية الماء، تعين الرجوع في تحديد الموضوع للعرف بحسب ما يدركونه بطبعهم، وإن لم يتيسر لهم في مورد تعيينه لزم الوقف ولم يجر الاستصحاب، لعدم إحراز موضوعه.

وكذا الحال في اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع موضوع القضية المتيقنة إلّا أنه حيث لم يتصد الشارع لبيان الاتحاد، لتكفل الأدلة الاجتهادية بتشريع الأحكام ثبوتاً من دون نظر لمقام الشك، وتكفل دليل الاستصحاب بحكم الشك بعد الفراغ عن الاتحاد وصدق البقاء، تعين الرجوع فيه للعرف لا غير.

فإن فرض توقفهم عن الجزم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب، والمتبع في المقامين التطبيق الحقيقي بنظرهم، دون التسامحي أو الدقي، كما ذكرنا.

الثالث: الموضوع بمعنى المعروض

الثالث: أن الموضوع بمعنى المعروض يختلف باختلاف القضايا المستصحبة، فقد يكون جزئياً، كالماء في استصحاب طهارته وكريته، وقد يكون كلياً، كالدينار في استصحاب انشغال الذمة به، والصلاة في استصحاب وجوبها وغيرها من موضوعات الأحكام التكليفية، لوضوح أن

ص: 117

التكليف يرد على الماهيات الكلية ذات الأفراد الكثيرة، وليس وجود الفرد في مقام الامتثال إلّا مسقطاً للتكليف، كما يكون تسليم الفرد في مقام الوفاء مسقطاً للدين.

وحمل التكليف على بعض الأمور الجزئية كنسبة التحريم للمرأة، ووجوب الإكرام لزيد لا يخلو عن تسامحٍ، بل الأمور الجزئية في ذلك قيود لموضوع التكليف، وهو فعل المكلف المتعلق بها.

كما أن الموضوع قد يكون أمراً واحداً، لكون العرض المحمول في القضية من الأمور الحقيقية، كالكرية والطهارة القائمتين بالماء، والعدالة والفسق القائمين بزيد، وقد يكون متعدداً، لكون العرض أمراً إضافياً لا يقوم بشيءٍ واحد، كالمجاورة القائمة بالمتجاورين، والزوجية القائمة بالزوجين، والتكليف القائم بالمكلف والمكلف والمكلف به، والدين القائم بالدائن والمدين والمال المستحق.

في القضية الفعلية التي يراد استصحابها

إذا عرفت ذلك، وعرفت الضوابط العامة في جريان الاستصحاب فاللازم النظر في القضية الفعلية المتيقنة التي يراد استصحابها، فإن كانت شرعية، كزوجية المرأة، ونجاسة الماء المتغير، ووجوب الصلاة، لزم النظر في موضوعها واحداً كان أو متعدداً، فإن كان جزئياً - كالإنسان المعروض للتكليف، والمرأة المعروضة للزوجية، والماء المعروض للنجاسة - فاختلاف حالاته لا يمنع من الاستصحاب، لأنه لا يوجب تعدده، وإن احتمل دخلها في التكليف، لما ذكرناه آنفاً من امتناع تقييد الجزئي، وعدم تقومه بالحالات الطارئة عليه، فلو كانت دخيلة في التكليف كانت من سنخ العلل، التي لا يوجب تعددها تعدد الموضوع ولا الحكم حقيقة بنظر العرف،

ص: 118

وإن كان قد يوجب تعددهما تسامحاً ومجازاً، لعدم الاعتداد بذلك.

إلّا أن يكون الطارئ موجباً لانعدامه عرفاً، وإن كان باقياً دقة، كصيرورة البخار ماء، والثوب رماداً، لعدم الاعتداد بالبقاء الدقي، كما لا يعتد بالبقاء، التسامحي.

وإن كان الموضوع كلياً - كالمال الذي تنشغل به الذمة في الدين، والفعل الذي يكون مورداً للتكليف - فمن الظاهر أن الكلي يقبل الإطلاق والتقييد، وأن تقييد موضوع الحكم موجب لمباينته لفاقد القيد.

فإن علم بتقييد الموضوع بقيد مفقود حين الشك، واحتمل التكليف بالفاقد حينئذ - ولو لأنه الميسور - فلا مجال للاستصحاب، لتعدد الموضوع حقيقة، خلافاً لما يظهر منهم في بعض الموارد من الرجوع له، اكتفاء منهم بالتسامح العرفي، إما في نفس موضوع القضية المتيقنة، بفرضه الأعم من واجد القيد وفاقده، تغافلاً عن أخذ القيد، أو في اتحاد فاقد القيد مع الواجد، تنزيلاً له منزلته. وقد ذكرنا أنه لا تعويل على التسامح في المقامين.

احتمال تقييد الموضوع بقيد مفقود

وإن احتمل تقييد الموضوع بالقيد المفقود لزم الرجوع لأدلة الحكم الشرعي، ونحوها، كسبب انشغال الذمة في الدين، فإن أحرز منها الإطلاق فهو، وإلّا فحيث لا مجال للرجوع للعرف، لعدم الطريق لهم لمعرفة مثل ذلك، يتعين التوقف وعدم الرجوع للاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع. وإن علم بإطلاق الموضوع وعدم تقييده بالخصوصية التي أوجب تبدلها الشك في بقاء الحكم، وإنما يحتمل دخل الخصوصية في الحكم نفسه، فلا مانع من جريان الاستصحاب، كما في موارد الشك في رافعية الموجود، بأن احتمل مثلاً سقوط الدَّين بتعسر وفائه

ص: 119

هذا كله إذا كانت القضية المتيقنة شرعية.

لو كانت القضية المتيقنة خارجية

ومنه يظهر حال ما لو كانت خارجية، ككرية الماء، وبياض الثوب ونحوهما، فإنه حيث لم يكن للشارع دخل فيها يتعين الرجوع في تعيين موضوعها واتحاده مع موضوع القضية المشكوكة للعرف، ويكون المعيار على تطبيقه الحقيقي، دون التسامحي، كما لا اعتماد على النظر العقلي الدقي. فإن لم يتسن للعرف تحديد الموضوع أو الحكم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في المعيار في الموضوع الذي يبتني عليه الكلام في الاستصحاب في كثير من الموارد، وقد خرجنا فيه عن كثير مما ذكروه. ويتلخص الفرق بيننا وبينهم بملاحظة أمور..

الأول: أن المراد بالموضوع المعروض، لا مطلق ما له دخل في الحكم.

ملخص الفرق بين ما ذكروا بين المختار في موضوع الاستصحاب

وقد وقع الخلط منهم في ذلك.

الثاني: أن الكلام في معيار الاستصحاب من نظر عقلي أو عرفي أو دليل شرعي ليس بالإضافة إلى نفس النقض، لعدم الشك في مفهومه، بل ولا في مصداقه، بل في منشأ صدقه، وهو تحديد موضوع القضية المتيقنة، واتحاده مع موضوع القضية المشكوكة.

الثالث: أنه لا يعتد بالتسامح العرفي، بل المعيار على ما يفهمه العرف من دليل الحكم، أو بنفسه في مورد فقد الدليل مع ملاحظة تطبيقه الحقيقي.

كما لا يعتد بالنظر الدقي، وما يظهر منهم من التقابل بين النظر التسامحي، والتدقيق العقلي، ومفاد الدليل في غير محله، بل هناك واسطة

ص: 120

بين الجميع، وهو النظر الحقيقي العرفي بعد الرجوع للدليل أو للارتكازيات عند فقده، كما هو الحال في تطبيق سائر العناوين الشرعية.

الرابع: أن محل الكلام هو الموضوع في القضية الفعلية المتيقنة، لا ما يكون عنواناً للموضوع في القضية الكلية الإنشائية.

الخامس: أن التقييد إنما يتعقل في الموضوعات الكلية، دون الموضوعات الجزئية، بل كل ما يكون دخيلاً في ثبوت الحكم لها يكون خارجاً عن الموضوع بمعنى المعروض، الذي هو محل الكلام.

وهذه الأمور وإن كان من القريب بناؤهم عليها، إلّا أن إغفالها في المقام أوجب كثيراً من الاضطراب. ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل،.

تذنيب: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من اعتبار إحراز بقاء المعروض

تذنيب..

ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أنه لابد في جريان الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع - الذي هو بمعنى معروض المستصحب - على النحو الذي كان معروضاً في السابق من تقرره ذهنا أو وجوده خارجاً، قال: «فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي، وللوجود بوصف تقرره ذهناً، لا وجوده الخارجي».

واستدل على اعتبار هذا الشرط بأنه لو لم يعلم لاحقاً بتحقق الموضوع بالوجه المذكور فإذا أريد بقاء المستصحب العارض له، فإما أن يبقى في غير محل وموضوع، وهو محال، لاستحالة قيام العرض بنفسه، أو يبقى في موضوع آخر ولا مجال له إما لامتناع انتقال العرض عن محله، أو لعدم

ص: 121

كونه مورد الأثر، لأن الأثر قائم بوجوده في الموضوع الأول، بل وجوده في الموضوع الثاني أمر حادث مسبوق بالعدم فلا مجال لاستصحابه، بل يتعين استصحاب عدمه.

ما استشكله الخراساني قدس سره

وقد أستشكل في ذلك المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية بما أوضحه في حاشيته على الرسائل بقوله: «فإن المحال إنما هو الانتقال والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة، لا بحسب، وجوده تعبداً، كما هو قضية الاستصحاب، ولا حقيقة لوجوده كذلك إلّا ترتيب آثاره الشرعية وأحكامه العملية، ومن المعلوم أن مؤنة هذا الوجود خفيفة...».

وهو بظاهره كما ترى! ضرورة أن التعبد إنما يكون بالوجود الحقيقي في ظرف الشك فيه، فما هو موضوع الأثر واقعاً - وهو الوجود الحقيقي - يكون موضوعاً للتعبد وهو مورد الأثر والعمل، لا أمر آخر غيره، فمع فرض امتناع استمرار الوجود الحقيقي - لعدم الموضوع - يقطع بعدمه، فكيف يمكن التعبد به ظاهراً؟!.

نعم، يمكن التعبد بوجود آخر ليس بقاء للوجود الأول، وهو خارج عن محل الكلام.

الجواب عما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

فالأولى في الجواب عما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره: أنه إنما يقتضي امتناع التعبد ببقاء المستصحب إذا علم بارتفاع الموضوع، وليس هو مورداً للشك من أحد.

كما أنه ليس مورداً للاستدلال المذكور، بل محل الكلام - كما يظهر من صدر كلامه وذيله - هو صورة الشك في بقاء الموضوع، والدليل المذكور لا ينهض به، إذ مع الشك المذكور يحتمل بقاء المتيقن سابقاً، ولو لاحتمال

ص: 122

بقاء موضوعه، وهو كاف في الاستصحاب.

ولذا لا إشكال ظاهراً في أن الأثر لو كان مترتباً على بقاء العرض بمفاد كان التامة من دون أخذ انتسابه للموضوع الخاص أمكن استصحابه مع الشك في بقاء موضوعه، فيقال: كان البياض موجوداً فهو كما كان، وإن احتمل انعدام موضوعه الذي علم سابقاً وجوده فيه.

نعم، لو علم بانعدامه علم بانعدام العرض، بناء على امتناع قيام العرض بنفسه وانتقاله عن محله، فيمتنع استصحابه.

لزوم إحزاء الموضوع لو تعلق أثر المستصحب به

هذا، ولا ينبغي الإشكال في لزوم إحراز بقاء الموضوع لو كان أثر المستصحب متعلقاً عملاً به، كما في استصحاب عدالة زيد لإثبات جواز الائتمام به، واستصحاب طهارة الماء لإثبات جواز شربه، فإنه ما لم يحرز بقاء زيد والماء لم ينفع استصحاب الطهارة والعدالة في ترتيب الأثرين المذكورين، بل لابد فيه أيضاً من إحراز اتحادهما مع مورد العمل، كالشخص الذي يؤتم به، والماء الذي يشرب، ولا يكفي إحراز بقائهما، إلّا أن لزوم إحراز البقاء والاتحاد ناشئ من خصوصية في الأثر، وإن تمت أركان الاستصحاب وشروطه بدونه.

والمهم في المقام هو الكلام في لزوم وجود الموضوع مع قطع النظر عن خصوصية الأثر، كما لو ورد: إن كان ماء الكوز طاهراً فتصدق بدرهم، وأريد استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز، وحاصل الكلام في ذلك: أن القضية الحملية وإن كانت مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة، إلّا أن مفادها لما كان هو الحكم بثبوت المحمول للموضوع فهي تقتضي المفروغية عن وجود الموضوع بنحو

ص: 123

يصلح لانتساب المحمول إليه وحمله عليه، فليس حال الموضوع فيها حال المحمول في كون وجوده جزءاً من مضمونها، بل هو خارج عنه يستفاد منه التزاماً، لتوقفه عليه عقلاً.

من دون فرق في ذلك بين القضية الخبرية في مثل زيد قائم، والإنشائية في مثل هند طالق، والتعبدية الظاهرية كمفاد الاستصحاب، لأن اختلاف سنخ الحكم في القضية لا أثر له في اختلاف مفادها.

ومن ثم لا يكون مفاد قولنا في مقام الإنشاء: جعلت زيداً ولياً على هذا الوقف، إلّا جعل الولاية بعد المفروغية عن ثبوت الوقف، لا جعل الشيء وقفاً وجعل الولاية عليه معاً.

وعلى هذا يكون وجود الموضوع بالنحو المصحح لانتساب المحمول إليه شرطاً في جريان استصحاب القضية الحملية، فلابد من فرضه في رتبةٍ سابقةٍ عليه.

إن قلت: النسبة لما كانت قائمة بالموضوع موقوفة عليه فالتعبد بها يستلزم التعبد به ولو تبعاً، ولذا كانت القضية الخبرية كاشفة عن تحقق موضوعها.

قلت: التعبد بالموضوع تبعاً لا دليل عليه. وأدلة الاستصحاب لا تقتضي إلّا التعبد بانتساب المحمول إليه - الذي هو مفاد القضية الحملية وموضوع الأثر العملي - في ظرف تحقق الموضوع وبعد المفروغية عنه، فمع عدم ذلك لا مجال للتعبد بالقضية، لعدم تحقق شرطه، ولا بالموضوع، لعدم سوق الاستصحاب له.

ومجرد ملازمة التعبد بالمستصحب له لا يقتضيه مع الشك في فعلية

ص: 124

التعبد لعدم إحراز شرطه.

لورود دليل خاص يقتضي جريان الاستصحاب

نعم، لو ورد دليل خاص يقتضي جريان الاستصحاب في مثل ذلك كان كاشفاً عن التعبد بالموضوع تبعاً، دفعاً للغوية، بخلاف ما لو كان الدليل هو الإطلاق، حيث يكفي في رفع لغويته إعماله في الموارد التي يحرز فيها الموضوع.

وكذا الحال في الجملة الخبرية، فإنها وإن كانت تكشف عن وجود الموضوع للملازمة المفروضة، إلّا أن مفادها - وهو الإخبار والحكاية - لا يتعلق به حتى تبعاً، إلّا مع عناية خاصة من المخبر.

إن قلت: لم لا يجري الاستصحاب في نفس الموضوع المفروض سبق اليقين به، ليكون محرزاً بنفسه تمهيداً لجريان استصحاب القضية، فيقال في مثل استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز: كان ماء الكوز موجوداً فهو كما كان، أو: كان في الكوز ماء فهو كما كان.

قلت: الموضوع بنفسه وإن كان مما له الدخل في الأثر الشرعي، إلّا أن أخذه فيه ليس شرعياً مستنداً إلى أخذه في كبرى شرعية، لفرض عدم تعرض الكبرى الشرعية في مقام جعل الأثر إلّا لمفاد القضية الحملية التي يراد استصحابها، وإنما هو عقلي ناشئ من تفرع القضية على موضوعها، وترتب الحكم فيها عليه، وهو لا يكفي في جريان الأصل، لما يأتي في مبحث الأصل المثبت من انصراف أدلة التعبد إلى النظر للكبريات الشرعية.

نعم، لو فرض أخذ ذلك في الكبرى الشرعية اتجه الرجوع للاستصحاب، كما لو ورد: إن كان في الكوز ماء وكان طاهراً فتصدق

ص: 125

بدرهم، تعين جريان الاستصحاب في الموضوع، كما يجري في المحمول، إذ يكون موضوع الأثر مركباً من جزئين يجري الاستصحاب في كل منهما.

وهو خارج عن محل الكلام.

عدم الاختصاص بالموضوع بمعنى المبتدأ

ثم إن هذا لا يختص بالموضوع الذي هو بمعنى المبتدأ، بل يجري في جميع ما يقوم به المحمول مما لا يصح حمله بنفسه، وإن أخذ في لسان القضية قيداً في المحمول، فقولنا: زيد أعلم من عمرو، كما يقتضي في رتبة سابقة المفروغية عن زيد يقتضي المفروغية عن عمرو.

وحيث كانت النسب في القضايا مختلفة في ذلك لزم النظر فيها على اختلافها والاستعانة بالمرتكزات في التفريق بينها.

عدم لزوم إحراز الموضوع لو كان له تقرر يصح الحمل عليه

لكن هذا كله إنما يقتضي لزوم إحراز وجود الموضوع في ما إذا كان تقرره وقيامه بحدوده بنحوٍ يصح الحمل عليه موقوفاً على وجوده، أما لو لم يتوقف تقرره عليه، بل كان له نحو من التقرر المصحح للحمل عليه بدونه، فلا ملزم بإحراز الوجود وإن توقفت فعلية الاتصاف بالمحمول عليه.

توضيح ذلك

وتوضيح ذلك: أن الأعراض المحمولة في القضايا مختلفة في شرائط عروضها على الموضوع وصحة نسبتها إليه، فيكفي في صحة انتساب بعضها تقرر الذات بما لها من حد وماهية كلية أو شخصية، كالوجود والعدم والإمكان والامتناع، ويتوقف بعضها - زائداً على ذلك - على وجود الموضوع خارجاً، كالثقل والهيئة، وبعضها يتوقف مع ذلك على أمور أخر، من شؤون الموضوع، كالتعجب الذي يتوقف اتصاف الإنسان به على التفاته، أو خارجة عنه، كالحرارة التي يتوقف اتصاف الجسم بها على النار.

إلّا أن الاختلاف في ذلك لا يوجب الاختلاف في موضوع القضية،

ص: 126

بل ليس موضوعها في الجميع إلّا الذات المتقررة في نفسها المتميزة عن غيرها بحدودها، وليست الأمور الزائدة على ذلك من وجود وغيره إلّا شرطاً في فعلية النسبة وصدق القضية، من دون أن تكون مقومة للموضوع المعتبر في القضية.

ولذا لا إشكال في أن موضوع القضية الاستقبالية هو موضوع القضية الحالية مع وضوح صدق بعض القضايا الاستقبالية قبل وجود الموضوع في ما لو كان محدد الذات حين صدور القضية، كما في إخبار النبي (ص) والأئمة عليهم السلام بكثير من القضايا المستقبلة قبل وجود موضوعها، كولادة الحجة عليه السلام وقيام الدول الظالمة والملاحم وغيرها.

وعليه لا يكون الحكم في القضية متفرعاً على وجود الموضوع أو غيره مما تقدم، بل يكفي فيه تقرره في نفسه، وقيامه بحدوده الماهوية الخاصة به.

غاية ما في الأمر أن صدق القضية وفعلية النسبة يتوقف على تحقق الأمور المذكورة، وذلك لا يقتضي لزوم إحرازها، فإن اللازم هو إحراز شرط التعبد، لا شرط الأمر المتعبد به.

فبعد فرض تحديد الموضوع في نفسه لو شك في وجوده لا مانع من استصحاب القضية المتيقنة التي كانت صادقة حين وجوده كما لا مانع من استصحابها عند الشك في تحقق سائر ما له الدخل في اتصاف الموضوع بالمحمول، فكما يصح استصحاب التعجب لزيد مع احتمال غفلته، واستصحاب الحرارة للماء عند الشك في النار، يصح استصحابهما عند الشك في وجود زيد والماء رأساً.

ص: 127

لو كان الموضوع هو العنوان بما له من الوجود الخارجي

نعم، لو كان تقرر الموضوع وقيامه بحدوده موقوفاً على وجوده لزم إحراز الوجود، كما لو كان الموضوع هو العنوان بما له من الوجود الخارجي، وما هو بالحمل الشايع، من دون أن تؤخذ فيه خصوصية خاصة شخصية محدودة، فإن الموضوع حينئذ لا يتقوم إلّا بوجوده، ولاحد له قائم به مستغن عن الوجود، بخلاف ما إذا قام بحد شخصي خاص، كالأعلام الشخصية، والمعهودات الخارجية الجزئية، فإن حدودها لا تناط بوجودها، بل الوجود طارئ على الحد.

ومن هنا يظهر أن استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجوده إنما يجري إذا كان موضوع الأثر هو طهارة الماء الخاص الذي كان موجوداً في الكوز سابقاً، فإنه قائم بحدوده الشخصية التي كان عليها حين وجوده سابقاً، وانعدامه لا يمنع من الإشارة للحدود المذكورة في القضية المستصحبة.

أما إذا كان موضوعه هو طهارة الماء المقيد بكونه في الكوز بما هو أمر كلي قابل للانطباق على كثيرين، والذي يكون بالحمل الشايع معروضاً للطهارة، فهو قائم بالوجود الخارجي، إذ هو بدونه مفهوم لا يكون معروضاً للطهارة، ولا موضوعاً لها، فمع عدم إحراز الوجود الخارجي لا يحرز الموضوع الذي تتفرع عليه القضية، فلا مجال للاستصحاب.

إلّا أن يفهم من الأدلة أن كونه في الكوز أمر زائد على الموضوع دخيل في الحكم، كالطهارة، فيتجه حينئذ استصحابه مثلها، للعلم به سابقاً، فيقال: كان في الكوز ماء، وكان طاهراً، فهو كما كان.

الإشكال فيما سبق

هذا ولكن الإنصاف عدم خلو ما سبق عن الإشكال، وأن استصحاب مثل الطهارة والبرودة وغيرهما من عوارض الوجود لا يجري حتى فيما إذا

ص: 128

كان الموضوع في القضية المتيقنة جزئياً موجوداً سابقاً، واحتمل انعدامه بمثل التبخر أو الاستحالة أو نحوهما، لقضاء المرتكزات العقلائية بأن موضوع العوارض المذكورة ليس هو الجسم الخاص بما له من تقرر في نفسه متميز عن غيره في حدوده، كموضوع الوجود والعدم، بل هو الجسم بوجوده الخارجي.

تحقيق حال القضايا المستقبلة

وأما ما سبق من عدم الفرق في الموضوع بين القضية الحالية والاستقبالية. فهو وإن كان مسلماً. كما أن صحة الإخبار بالقضايا المستقبلة التي لم يوجد موضوعها بعد، بل وقوعه، وإن كان مسلماً أيضاً، إلا أنه لم يتضح كون القضايا المستقبلة المذكورة فعلية مطلقة، بل من القريب جداً كونها قضايا حينية لباً، يراد بها الإخبار بالحدث في ظرف وجود الموضوع، بنحو يكون الظرف المذكور قيداً تقتضي القضية تحققه والإخبار عنه، كسائر القيود، لا شرطاً يرجع إلى كون القضية تعليقية لا تقتضي تحققه، لما هو المعلوم من أن صدق الشرطية لا يقتضي صدق طرفيها.

كما أن ذلك هو الحال في القضايا الماضية أيضاً، إذا انعدم موضوعها عرفاً، كما في مثل: شربنا ماء الكوز، وأكلت طعام زيد. فهي ترجع إلى قضايا مقيدة بزمان وجود الموضوع، فيراد بالمثالين المتقدمين شربت ماء الكوز وأكلت طعام زيد حين وجودهما.

وإلا فمن البعيد جداً اختلاف الموضوع في القضية بين ما إذا كان جزئياً متشخصاً في الخارج وما إذا كان كلياً مقيداً بقيد يستلزم وجوده الخارجي، ككونه في الكوز، كما هو مقتضى ما سبق. فتأمل جيداً. ومن الله سبحانه وتعالى نستمد العون و التسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 129

ص: 130

الفصل الثاني: في شروط الاستصحاب

الفصل الثاني: في شروط الاستصحاب
اشارة

والمراد بالشرط هنا كل ما هو دخيل في جريان الاستصحاب وفعلية ترتب العمل عليه مع خروجه عن أركانه المقومة لمفهومه، سواء كان وجودياً - وهو الذي يختص اصطلاحاً باسم الشرط - أم عدمياً - وهو عدم المانع - فإنهما معاً محل الكلام في المقام.

الكلام في مبحثين

والكلام في ذلك يقع في مبحثين..

المبحث الأول: في أثر الاستصحاب
اشارة

المبحث الأول: في أثر الاستصحاب

(الأصل المثبت)

الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية في الحجج والأصول العملية إنما يصح مع ترتب العمل عليه، فلا يجري مع عدم ترتب العمل، لخروج الواقعة عن ابتلاء المكلف، سواء كان المتعبد به موضوعاً خارجياً أم حكماً شرعياً وضعياً أو تكليفياً، إذ ما لم ينته إلى مقام العمل يكون التعبد لاغياً عرفاً وعقلاً.

ص: 131

مضافاً إلى ظهور عدم النقض في ذلك بعد تعذر حمله على النقض الحقيقي، كما لعلَّه ظاهر.

نعم، لا إشكال في أنه لا يعتبر ترتب العمل على المستصحب بلا واسطة، بل يكفي ترتبه بواسطة مترتبة على المستصحب، لوضوح أن ما يترتب عليه العمل بلا واسطة هو الحكم التكليفي، حيث يكون موضوعاً للإطاعة والمعصية.

جريان الاستصحاب في الموضوع الجاري

أما الموضوع الخارجي - كالخمرية - والحكم الوضعي - كالزوجية والطهارة - فترتب العمل عليهما إنما يكون بتوسط ما يترتب عليهما من حكم تكليفي ولو بواسطة، مع وضوح تضمن صحيحتي زرارة جريان الاستصحاب في الطهارة الحدثية والخبثية.

بل لا، إشكال في أن ذلك هو مقتضى إطلاق النقض في أدلة الاستصحاب، لصدقه مع الواسطة عرفاً كما يصدق بدونها.

هذا، ولا يخفى أن المراد بالواسطة ما يكون وجوده لازماً لوجود المستصحب.

أنواع الملازمة

ومن الظاهر أن الملازمة قد تكون اتفاقية، كما لو علم إجمالاً بوجود أحد رجلين في الدار، حيث يكون انتفاء أحدهما مستلزماً لوجود الآخر.

وقد تكون حقيقيةً ناشئة عن علاقة بين الأمرين، إما لكون المستصحب سبباً للازمه، كاستصحاب السفر المستلزم لوجوب القصر في الصلاة، واستصحاب وجود النار المستلزم لتلف المضمون ووجوب تداركه بدفع بدله، أو مسبباً عن ملزومه، كاستصحاب حرمة وَطء المرأة عند بلوغها تسع سنين، المستلزم لحيضها حينئذ، واستصحاب عدم حيض الجارية،

ص: 132

المستلزم لكونها معيبة يجوز فسخ بيعها.

أو لكونهما مسببين عن سبب واحد أو سببين متلازمين، كاستصحاب وجوب الصلاة على المرأة عند احتمال حيضها حين العقد عليها، المستلزم لجواز وطئها، واستصحاب عدم تلف الحطب عند احتمال طبخ اللحم المستلزم لتعفنه، حيث يشترك تعفن اللحم وعدم تلف الحطب في علةٍ واحدة وهي عدم النار.

منشأ الملازمة

كما أن منشأ الملازمة قد يكون شرعياً، كالمثال الأول والثالث والخامس، وقد لا يكون كذلك كبقية الأمثلة.

وقد تردد في كلماتهم نهوض الأمارة بإثبات الأثر العملي مع الواسطة في جميع موارد الملازمة المتقدمة، أما الاستصحاب وسائر الأصول فقد وقع الكلام منهم فيها، فالمعروف بين المتأخرين عدم نهوضها إلّا بإثبات الأثر العملي المترتب مع الملازمة الشرعية في مورد تكون الواسطة مسببة عن مجرى الأصل، فلا يحرز بالأصل إلّا مجراه أو ما يترتب على مجراه شرعاً من أحكام وآثار ولو مع تعدد الوسائط، دون ما يكون سبباً لمجراه شرعاً، أو يترتب عليه بملازمة غير شرعية، وهي المسألة المعبر عنها في كلماتهم بعدم حجية الأصل المثبت.

أما القدماء فقد يظهر منهم التوسع في العمل بالأصل والتمسك به في بعض موارد الملازمات غير الشرعية.

ولعله ناشئ عن الغفلة عن حالها، حيث لم يتوجهوا لذلك ولا اهتموا بضبط موارده، وإلّا فمن البعيد جداً ذهابهم إلى عموم العمل بالأصل مع الملازمة، بل لا ريب في عدم بنائهم على العموم المذكور على سعته بعد

ص: 133

النظر في طريقتهم في الرجوع للأصول.

وجه عدم الرجوع للأصل المثبت

وكيف كان فالكلام في توجيه عدم الرجوع للأصل المثبت قد يبتني على الكلام في مفاد الاستصحاب ونحوه من الأصول الإحرازية.

ولهم في ذلك مبان مختلفة ينبغي التعرض لها، مع الكلام في توجيه المطلوب عليها..

الأول: مفاد الاستصحاب تنزيل المؤدى

الأول: أن مفاد الاستصحاب تنزيل مؤداه منزلة الواقع حيث قد يدعى أن مقتضى إطلاق التنزيل ترتب جميع آثار الواقع الشرعية المقتضي لترتب آثارها وآثار آثارها، وهكذا مهما تسلسلت الآثار الشرعية، لتبعية الأثر لموضوعه.

أما الآثار واللوازم غير الشرعية فلا مجال لترتبها، لقصور التنزيل الشرعي عنها.

كما لا مجال لترتب الآثار الشرعية المترتبة بواسطتها، لأن استفادة جعل الآثار إنما هو في طول جعل موضوعاتها، فمع فرض قصور التنزيل عن جعل تلك الموضوعات لا مجال لاستفادة جعل آثارها.

دفعه

ويشكل: بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية، لعدم الأثر الشرعي لها غالباً، بل يختص أثرها بوجوب الإطاعة وترك المعصية، الذي هو أمر عقلي، وحيث لا إشكال في جريانها فيها، فلابد أن يكون مبنياً على التوسع في الأثر الملحوظ في التنزيل وتعميمه لمثل هذا الأثر العقلي. ويبقى سؤال الفرق بين مثل هذا الأثر وغيره من الآثار غير الشرعية.

الثاني: مفاده جعل المؤدى

الثاني: أن مفاد الاستصحاب جعل المؤدى بنفسه ظاهراً لا غير.

ص: 134

حيث قد يقال حينئذٍ: أن ترتب آثار المؤدى الشرعية ولو مع تعدد الواسطة إنما هو لتبعية الحكم لموضوعه، حتى مثل وجوب الإطاعة، لأن موضوعه عقلاً أعم من التكليف الواقعي والظاهري، أما غير ذلك من اللوازم غير الشرعية فحيث كانت لازمة للوجود الواقعي فلا مجال لترتبها، كما لا مجال لترتب آثارها الشرعية، لعدم تعرض الأصل للأثر ابتداء، بل بتبع موضوعه. والمفروض عدم جعله هنا.

دفعه

ويشكل: بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية، كالخمرية، لعدم قابليتها للجعل الشرعي، وحيث لا إشكال في جريانه فيها، فلابد من كون جعل الأثر هو المصحح لنسبة الجعل إليها بعلاقة الملازمة، وذلك كما يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بواسطة اللازم غير الشرعي، لاشتراكهما في الملازمة المصححة للنسبة مجازاً.

ما ذكره الخراساني قدس سره

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في توجيه قصور الدليل عن شمول الأثر المترتب بواسطة غير شرعية من أنه خارج عن المتيقن من الإطلاق، لأن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه المقتضي لترتيب آثارها الشرعية، دون آثار لوازمه.

دفعه

فيندفع: بأن المتيقن بسبب مورد الصحيحين اللذين هما عمدة الدليل في المقام هو ترتيب آثار المستصحب فيما إذا كان المستصحب بنفسه حكماً قابلاً للجعل، وهو الطهارة الحدثية والخبثية، ولا طريق لإثبات عمومه لكل من الموضوع الخارجي بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة، والحكم التكليفي الذي يختص بالأثر العقلي، بل إن كان مفاد الاستصحاب

ص: 135

جعل المؤدى كان قاصراً عن الموضوع الخارجي، وإن كان مفاده التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية كان قاصراً عن الحكم التكليفي، كما ذكرنا.

ابتناء الوجهين على جعل الأصل والأثر

ثم إن هذين الوجهين مبنيان على كون مجرى الأصل مجعولاً إن كان قابلاً للجعل، وكذا أثره بتبعه أو بمقتضى التنزيل.

إشكال العراقي والسيد الحكيم قدس سرهما

وقد يستشكل في ذلك بما ذكره بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدس سرهما: من أنه يمنع جعل الأثر أو مجرى الأصل حقيقة لانعدام موضوعه، كما لو شك في نجاسة الماء المغسول به الثوب بعد تلف الماء، وكما لو نذر المكلف أن يصوم يوم الخميس إن بقي ولده حياً، وأن يتصدق بدرهم على تقدير وجوب صوم يوم الخميس عليه، فغفل عن ذلك إلى يوم الجمعة، حيث لا مجال لجعل طهارة الماء بعد تلفه، ولا لجعل وجوب صوم يوم الخميس بعد انقضائه، مع وضوح جريان الاستصحابين، بنحو يترتب عليهما طهارة الثوب ووجوب الصدقة.

دفعه

لكنه يندفع: بأن جعل مجرى الأصل أو الأثر مع انعدام الموضوع إنما يمتنع إذا كان انعدام الموضوع ظرفاً للمجعول، أما إذا كان ظرفاً للجعل مع كون ظرف المجعول هو حال وجود الموضوع، نظير الكشف الانقلابي، فلا مانع منه ولا محذور فيه بعد فرض ترتب الأثر الفعلي عليه.

الثالث: مفاده تنزيل الشك منزلة اليقين

الثالث: أن مفاد الاستصحاب، تنزيل الشك منزلة العلم في وجوب العمل معه على، طبق اليقين السابق.

ولعله مراد بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن مفاده وجوب العمل حال الشك عمل المتيقن من دون أن يستتبع جعلاً لشيءٍ من المؤدى أو الأثر.

ص: 136

بل قد يرجع إليه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن مفاده - كسائر الأصول الإحرازية - مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل، للبناء على أحد طرفي الشك.

وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن وجوب العمل حال الشك عمل المتيقن يمكن شموله في نفسه للآثار غير الشرعية بلحاظ العمل بآثارها الشرعية، وأنه لا وجه حينئذٍ لقصور الدليل عنها إلّا انصرافه إلى تطبيق القضايا الشرعية، فهو وارد لإحراز صغرى تلك الكبريات، دون غيرها من الكبريات والملازمات غير الشرعية.

دفعه

ويشكل: بما تقدم في الوجه الأول من أن الاستصحاب الجاري في الأحكام التكليفية لا يكون غالباً بلحاظ تطبيق الكبريات الشرعية، لأن وجوب العمل عليها وإطاعتها عقلي، فلابد من بيان الفارق بين مثل هذا الأثر وغيره من الآثار غير الشرعية.

وأما ما ذكره قدس سره من أن منشأ ترتب مثل ذلك كون موضوعه العقلي هو الأعم من الواقع والظاهر.

فهو - لو تم - متفرع على جريان الاستصحاب في موضوع الأثر، ومقتضى الانصراف المدعى عدم جريانه، لعدم الكبرى الشرعية، فليس في المقام ظاهر يكون موضوعاً للحكم العقلي.

ما ذكره النائيني قدس سره

في وجه عدم حجية الأصل المثبت

أما بعض الأعاظم قدس سره فقد وجه عدم حجية الأصل المثبت: بأن مفاد الأصل الإحرازي هو تطبيق العمل على مؤدى الأصل للبناء على أحد طرفي الشك، فالمؤدى إن كان حكماً شرعياً فهو المتعبد به، وإن كان موضوعاً خارجياً فالمتعبد به إنما هو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي، فإن الموضوع

ص: 137

الخارجي - بما هو - غير قابل للتعبد. وحينئذٍ لا مجال للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية، لعدم التعبد بموضوعه.

ودعوى: أنه أثر لمجرى الأصل، لأن أثر الأثر أثر، فيترتب تبعاً للتعبد بمجرى الأصل.

مدفوعة: بأن التعبد بمجرى الأصل لا يقتضي التعبد بكل أثر له، ولو كان بواسطة غير شرعية، بل يختص بما يترتب بلا واسطة أو بواسطة شرعية.

لكن التأمل في ما ذكره يشهد بأنه عين المدعى، وليس توجيهاً له، لأن اختصاص التعبد بالشيء بالتعبد بأثره الشرعي ولو بواسطة شرعية عبارة أخرى عن عدم صلوحه للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية الذي هو المدَّعى. فالمهم هو توجيه الاختصاص المذكور، ولم يتعرض له.

مع أن امتناع التعبد بالموضوع الخارجي بنفسه إنما يلزم بحمله على التعبد بأثره الشرعي إذا ورد الدليل فيه بالخصوص، صوناً للدليل المذكور عن اللغوية، نظير ما اعترف به من لزوم حجية الأصل المثبت في ما لو اختص دليل التعبد بمورد ينحصر فيه الأثر الشرعي بما يترتب بالواسطة غير الشرعية.

أما إذا كان الدليل هو الإطلاق الشامل له وللحكم القابل للتعبد بنفسه، فلا مجال للبناء عليه، لأنه يكفي في تصحيح الإطلاق إعماله في الحكم، ولا يكون الإطلاق حجةً في الموضوع بعد توقف شموله له على العناية المذكورة.

وإلّا كان حجّةً في ما لو انحصر الأثر بما يترتب بالواسطة غير الشرعية، لتوقف تصحيح شموله للمورد المذكور على التعبد بالأثر المذكور.

ص: 138

ما هو التحقيق في المسألة

والتحقيق: أنه كما يمكن التعبد الظاهري بالحكم الشرعي يمكن التعبد بالموضوع الخارجي، إذ ليس المراد بالتعبد جعل الأمر المتعبد به ثبوتاً شرعاً، ليكون امتناع جعل الأمر الخارجي راجعاً إلى امتناع التعبد به، بل المراد به جعله إثباتاً، الراجع إلى إحرازه شرعاً، المقتضي للبناء عليه عملاً، وذلك كما يمكن في الأحكام الشرعية يمكن في الموضوعات الخارجية، بل هو مقتضى إطلاق دليل التعبد بعد تمامية أركانه فيه.

نعم، لابد من ترتب العمل عليه بنحوٍ يصحح الجعل عقلاً ولا يكون لغواً، ولو بلحاظ أثره. وقد تقدم في مباحث القطع الموضوعي ما له نفع تام في المقام.

وحينئذٍ فإن كان المستصحب حكماً تكليفياً، فحيث كان الإحراز التعبدي كافياً في المنجزية والمعذرية المستتبعتين للعمل عقلاً، تحقق شرط التعبد، وليس العمل المذكور مورداًًًً للتعبد الظاهري، بل هو مما يقطع به تبعاً للقطع بموضوعه العقلي، وهو تعبد الشارع بالحكم.

وإن كان حكماً وضعياً أو موضوعاً خارجياً كان الاستصحاب مقتضياً للتعبد بأثره الشرعي المستتبع للتعبد بأثر الأثر، حتى ينتهي إلى الحكم التكليفي العملي، لتنقيح صغرى كبريات الآثار الشرعية بسبب الاستصحاب، لأن إحراز الموضوع مستتبع لإحراز أثره، لتبعية التعبد بالأثر للتعبد بموضوعه عرفاً.

اللوازم غير الشرعية

وأما اللوازم غير الشرعية فلا مجال لإحرازها، لعدم الملازمة العقلية ولا العرفية بين التعبد الشرعي بالشيء والتعبد بأثره ولوازمه غير الشرعية، بل استفادة التعبد بها تبعاً له محتاج إلى عناية لا يقتضيها الإطلاق.

ص: 139

كما لا مجال لإحراز آثار تلك اللوازم بعد عدم إحراز موضوعاتها، لأنها وإن كانت آثاراً للمستصحب في الجملة، من باب أن أثر الأثر أثر، إلّا أن الانتقال من المستصحب لآثاره مهما تسلسلت إنما هو بتبع إحراز موضوعاتها من جهة الملازمة المذكورة، لا ابتداء، فمع فرض عدم إحراز موضوعات تلك الآثار، لكونها لازمة غير شرعية للمستصحب، لا مجال لإحراز تلك الآثار. وترتبها على المستصحب في الجملة لا يجعله موضوعاً لها، لأن موضوعية الموضوع للأثر منوطة بأخذه في دليل جعله، ولا يكفي ترتبه عليه في الجملة، ولذا كان إحراز الآثار المترتبة بالوسائط الشرعية في طول إحراز موضوعاتها على تسلسلها، لا بسبب إحراز المستصحب والتعبد به رأساً.

كما لا مجال أيضاً لترتب السبب الشرعي للمستصحب - كالحيض في استصحاب حرمة الوطء - لعدم تبعية التعبد بالسبب للتعبد بالمسبب، ولا ملازمة بينهما لا عرفاً ولا عقلاً. ولا أقل من خروجه عن المتيقن. فلاحظ.

ما يستدل به على عدم حجيته بسقوطه للمعارضة

هذا وقد يستدل على عدم حجية الأصل المثبت بأنه لا ثمرة للنزاع في حجيته في مورد تكون الواسطة غير الشرعية التي هي موضوع الأثر شرعاً بنفسها مورداً لاستصحاب موافق له عملا، لتمامية أركانه فيها، للاستغناء باستصحابها عن استصحاب ملزومها، كما لو شك في وجود النار المستلزم للتلف الموجب للضمان، فإن استصحاب عدم التلف لاثبات عدم الضمان يغني عن استصحاب عدم النار لإثباته.

وكذا لو كان الأثر الشرعي المترتب بالواسطة غير الشرعية بنفسه مورداً للاستصحاب المذكور. كاستصحاب عدم الضمان في الفرض

ص: 140

المذكور.

وإنما تظهر الثمرة في ما لو لم يكن هو ولا الواسطة مجرى له، والالتزام بحجية الأصل المثبت في مثل ذلك مستلزم لسقوطه غالباً بالمعارضة، لجريان الاستصحاب المعارض في الواسطة أو الأثر، فكما يكون مقتضى استصحاب وجود النار - بناءً على الأصل المثبت - ثبوت الضمان، كذلك يكون مقتضى استصحاب عدم التلف هو عدم الضمان، فلا أثر لحجية الأصل المثبت.

بل بناءً على ذلك كما يكون الاستصحاب المذكور معارضاً للاستصحاب في الأثر المترتب بالواسطة غير الشرعية، فإنه يكون معارضاً له في الأثر المترتب بلا واسطة، أو بواسطة شرعية، للملازمة الواقعية بين مفاد الاستصحاب المذكور وانتفاء الأثر المذكور، فيكون حجة بناء على الأصل المثبت، ويعارض مفاد الأصل فيه، فكما يكون استصحاب وجود النار المستلزم للتلف والضمان حجة في إثبات الضمان يكون استصحاب عدم الضمان أو عدم التلف المستلزم لعدم وجود النار حجة في إثبات عدم وجود النار وعدم ترتب آثاره الشرعية المترتبة باستصحابه، وذلك يوجب قلة الفائدة في الاستصحاب، بل ندرتها لاختصاصها بما إذا لم تتم أركان الاستصحاب المعارض في شيءٍ من الأثر ولوازمه.

ولعله إلى هذا نظر من استدل على عدم حجية الأصل المثبت - تبعاً لكاشف الغطاء - بلزوم التعارض في جانب الثابت والمثبت، كما حكاه شيخنا الأعظم قدس سره.

مبنى دعوى المعارضة

لكن هذا كله مبني على كون مرجع القول بالأصل المثبت إلى حجية

ص: 141

الأصل في جميع لوازم مجراه على اختلاف أقسامها المشار إليها في صدر المبحث، على نحو حجية بعض الأمارات، كالبينة، لدعوى: أن التلازم بين الشيئين يقتضي التلازم بينهما في التعبد، كما قد يناسب بعض موارد تمسكهم بالأصل المثبت.

توجيه مبنى القول بحجية الأصل المثبت و حكومة الأصل السببي

أما لو كان مبنى القول بحجية الأصل المثبت أن تبعية التعبد بالشيء للتعبد بآثاره تشمل الآثار غير الشرعية، أو الآثار الشرعية المترتبة بوسائط غير شرعية، فإن ذلك يقتضي اختصاص حجية الأصل المثبت بما إذا كان اللازم مسبباً عن مجرى الأصل وأثراً له، كالتلف المسبب عن وجود النار المستصحب، دون غيره، بأن كانت الملازمة اتفاقية، أو حقيقية ناشئة عن كون مجرى الأصل مسبباً عن اللازم، أو كونهما مسببين عن سبب واحد.

وحينئذ فإشكال المعارضة كما يجري في الأصل المثبت يجري في غيره، لأن الأثر الشرعي أيضاً قد يكون مجرى لأصل معارض للأصل الجاري في موضوعه.

وينحصر دفعه في المقامين بما تقرر في محله من أن الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب.

فكما يكون استصحاب طهارة الماء حاكماً على استصحاب نجاسة الثوب، للسببية بينهما شرعاً، فليكن استصحاب وجود النار حاكماً على استصحاب عدم التلف، للسببية بينهما واقعاً. فلاحظ.

بقي في المقام أمور..

الأمر الأول: موارد استثناء عدم حجية الأصل المثبت

الأمر الأول: قد يستثنى من عدم ترتب الأثر المترتب على المستصحب بواسطةٍ أو بملازمةٍ غير شرعية موارد..

ص: 142

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من خفاء الواسطة

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وتبعه غير واحد من أن الواسطة التي يترتب عليها الأثر حقيقة إذا كانت خفية بحيث يعد الأثر عرفاً من آثار المستصحب، إغفالاً للواسطة فلا يبعد صلوح الاستصحاب للتعبد بالأثر المذكور، ويكون ذلك مستثنى من عدم حجية الأصل المثبت..

وقد مثل قدس سره لذلك بأمرين..

الأول: استصحاب بقاء رطوبة أحد المتلاقيين إذا كان أحدهما نجساً، لإحراز تنجس الآخر، مع أن تنجسه من آثار سراية النجاسة الملازمة لبقاء الرطوبة.

الثاني: استصحاب عدم دخول شوال يوم الشك لإحراز كون غده عيداً، ليترتب عليه أحكامه من الصلاة والفطرة وغيرهما، مع كون التلازم بين الأمرين خارجياً لا شرعياً.

مناقشته: أولاً: عدم الضابط لخفاء الواسطة

ويشكل.. أولاً: بأنه لا ضابط لخفاء الواسطة، إذ لا يتضح الفرق بين الاستصحابين المذكورين واستصحاب بقاء الماء في الحوض لإثبات طهارة ما وقع فيه، التي هي من آثار لازمه الخارجي، وهو إصابة الماء له، واستصحاب بقاء حياة المورث إلى حين إسلام الوارث، لإثبات إرثه منه، الذي هو من آثار لازمه، وهو موته بعد إسلامه، مع اعترافه قدس سره بأن الاستصحابين المذكورين من الأصل المثبت الذي لا يجري.

بل لا يحتمل من أحد توهم خفاء الواسطة في مثل آثار العيد، حيث لا ريب في نسبتها عرفاً لموضوعها الشرعي، وهو العيد، لا للمستصحب، وهو بقاء رمضان في اليوم السابق، فلابد من كون منشأ التمسك بالأصل المذكور أمراً آخر غير خفاء الواسطة.

ص: 143

ثانياً: ملاحظة النظر العرفي مانع مما ذكره قدس سره

وثانياً: بما يستفاد من غير واحد. وحاصله: أن النظر العرفي إن رجع إلى فهم العرف من الكبرى الشرعية أن الموضوع هو المستصحب لا الواسطة فلا إشكال في العمل عليه، لأن المرجع في فهم القضايا والكبريات الشرعية هو العرف، ويخرج عن الأصل المثبت، كما لا يخفى.

وإن رجع إلى التسامح في نسبة الأثر بعد فرض كون موضوع الأثر هو الواسطة فلا وجه له بعد خروجه عما يستفاد من كبرى الاستصحاب من التعبد بالمستصحب المستتبع للتعبد بآثاره لا غير، ولا عبرة بالتسامح العرفي في نسبة الأثر، الراجع إلى التسامح في تطبيق كبرى الاستصحاب، كما تقدم منا نظيره في بحث موضوع الاستصحاب.

ما أجاب عنه الخراساني قدس سره

وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل: بأن المستفاد من كبرى الاستصحاب هو لزوم ترتيب ما يعد عرفاً من آثار المستصحب وإن لم يكن كذلك حقيقة، لأن حمل التنزيل في دليل الاستصحاب على كونه بلحاظ الأثر إنما هو بمقدمات الحكمة، ولا تفاوت بحسبها بين آثار المستصحب وآثار الواسطة إذ عدت من آثار المستصحب عرفاً.

فالتسامح العرفي في نسبة الأثر للمستصحب موجب لكونه من الصغريات الحقيقية لكبرى الاستصحاب، لا التسامحية، ليتوجه الإشكال فيه بعدم العبرة بالتسامح العرفي في التطبيق.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن إطلاق التنزيل في هذا المورد - لو تم - كإطلاقه في سائر الموارد ينصرف لخصوص آثار المنزل عليه الشرعية الحقيقية، ولا وجه لتميزه من بينها بالعموم للآثار التسامحية.

ص: 144

وثانياً: أنه تقدم أن أدلة الاستصحاب لا تتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، بل التعبد بالمشكوك. وحينئذٍ لا يكون الأثر مأخوذاً في كبرى الاستصحاب، كي ينظر في إطلاقه بضميمة مقدمات الحكمة، بل ليس مفاد كبرى الاستصحاب إلّا التعبد بالمستصحب، والانتقال للأثر إنما هو بضميمة ما أشرنا إليه من تبعية التعبد بالأثر للتعبد بموضوعه بنحو لا يمكن التفكيك بينهما عرفاً، ولا إطلاق لذلك يعم جميع الآثار، بل هو مختص بالآثار الشرعية الحقيقية التي تضمنتها الكبريات الشرعية، ولا أقل من كونه المتيقن من الملازمة المذكورة، فالتسامح العرفي في نسبة الأثر للمستصحب لا يوجب إلّا صحة تطبيق المورد بلحاظ الملازمة المذكورة تسامحاً.

اندفاع ما ذكره العراقي قدس سره

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الانصراف الموجب لقصور كبرى الاستصحاب عن الآثار المترتبة بواسطة غير شرعية مختص بصورة عدم خفاء الواسطة، بنحو يعد الأثر أثراً لها، لا للمستصحب.

وجه الاندفاع: أن الانصراف فرع الإطلاق، وقد عرفت منعه.

مع أن الانصراف الذي ادعاه هناك هو انصراف التنزيل في دليل الاستصحاب إلى تطبيق الكبريات الشرعية، ومن الظاهر أن التسامح في نسبة الأثر للمستصحب لا يجعله مفاد الكبرى الشرعية.

إلّا أن يرجع إلى دعوى أن المراد بالكبريات الشرعية ما يعم الكبريات التساحية. وهو ممنوع.

الثاني: ما ذكره الخراساني قدس سره

الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره: وهو أن يكون وضوح التلازم

ص: 145

بين الواسطة والمستصحب بنحو يعد معه أثر الواسطة أثراً للمستصحب.

وقد استدل عليه بما تقدم منه في خفاء الواسطة من عموم الإطلاق له، حسبما يستفاد منه عرفاً.

مناقشته

ويظهر الجواب عنه مما تقدم في خفاء الواسطة، بل هو أولى بالإشكال منه، لأن فرض وضوح الملازمة ملازم لفرض عدم الغفلة عن الواسطة، فتتمحض نسبة أثرها للمستصحب في المجاز الذي لا إشكال في عدم العبرة به في أمثال المقام.

الثالث: ما ذكره هو قدس سره أيضاً

الثالث: ما ذكره هو قدس سره أيضاً، وهو أن يكون التلازم من الوضوح بحيث يوجب التلازم بينهما في مقام التنزيل عرفاً، فيكون الدليل على التنزيل في المستصحب دليلاً على التنزيل في الواسطة، فترتب أثر الواسطة في ذلك ليس ناشئاً من التنزيل في المستصحب ابتداء - كما هو المدعى في الموردين السابقين - بل من جهة استلزام التنزيل فيه للتنزيل في الواسطة الموجب لترتب أثرها.

ولا يخفى ابتناء ما ذكره على أن مفاد الاستصحاب التنزيل بلحاظ الأثر.

ومن ثم استشكل في ذلك: بأنه موقوف على فرض الأثر للمستصحب بنفسه، كي يمكن فرض التنزيل فيه بلحاظه ويستفاد بتبعه التنزيل في الواسطة أما مع عدم الأثر له، فلا موضوع للتنزيل فيه، كي يستلزم التنزيل في الواسطة.

دفع ما ذكره قدس سره

وقد دفع ذلك - مضافاً إلى عدم الفصل - بإمكان دعوى: أن التلازم بين الشيئين بالنحو الموجب للتلازم بينهما في مقام التنزيل يورث أن يلاحظا شيئاً واحداً ذا وجهين كان له الأثر بأحدهما، أو شيئين لهما أثر واحد، فيصح

ص: 146

تنزيل كليهما بلحاظ هذا الأثر.

المناقشة فيه

لكنه كما ترى! إذ لا يجدي عدم الفصل، ولا سيما في مثل هذه المسألة مما هو حديث التحرير لا مجال لمعرفة رأي القدماء فيه.

واقتضاء التلازم بين الشيئين لملاحظتهما شيئاً واحداً ذا وجهين، أو شيئين لهما أثر واحد، مبتنٍ على التسامح الذي تقدم غير مرة عدم التعويل عليه في العمل بالأدلة.

المختار في دفع ما ذكره قدس سره

نعم، قد يندفع الإشكال المذكور بناءً على ما تقدم من أن مفاد الاستصحاب - كسائر الأصول الإحرازية - ليس هو التنزيل، بل التعبد الذي لا يبتني على ملاحظة الأثر، وإنما يلزم ترتب العمل عليه دفعاً للغويته، حيث قد يدعى حينئذ أنه يكفي في رفع لغويته ترتب العمل عليه بلحاظ أثر لازمه المذكور، ويأتي تمام الكلام فيه.

هذا، ولكن الملازمة المدعاة في المقام إن كانت عرفية واقعية مع قطع النظر عن شخص الدليل في المسألة، بمعنى: أن العرف بمرتكزاته يرى أن التعبد بالشيء كما يقتضي بطبعه التعبد بأثره الشرعي يقتضي التعبد بلازمه مع وضوح الملازمة.

فهي ممنوعة جداً، بل وضوح الملازمة من الجهات الإثباتية، والتبعية المذكورة من الجهات الثبوتية، فلا سنخية بينهما ارتكازاً.

وإن كانت قائمة بمفاد الدليل، بمعنى: أن وضوح الملازمة لما كان موجباً لانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم فهو يستتبع ظهور دليل التعبد بالملزوم في التعبد باللازم، فهي لا تنفع مع كون دليل التعبد بالملزوم هو الإطلاق، كما هو الحال في استصحابه المستفاد من إطلاق عدم نقض اليقين

ص: 147

بالشك، لعدم ظهور الملزوم في خصوصية الملزوم بعنوانه، كي ينتقل بسبب وضوح الملازمة إلى لازمه المذكور، وإنما تنفع مع اختصاص دليل التعبد بالملزوم بعنوانه الذي تقوم به الملازمة.

ومنه استفادة التعبد بعدم النجاسة، وعدم الحرمة من دليل قاعدتي الطهارة والحل، فإن الدليلين وإن تضمنا بالمطابقة التعبد بالطهارة والحل، إلّا أن ظهور ملازمتهما للعدمين المذكورين يوجب ظهورهما بدلالتهما الالتزامية في التعبد بهما، بنحوٍ يترتب الأثر المعلق عليهما.

لكن هذا راجع في الحقيقة إلى سعة مفاد دليل الأصل وحجية دلالته الالتزامية التي لا إشكال فيها، لا حجية الأصل المثبت.

ومنه يظهر حال ما ذكرنا من الجواب عن إشكال اختصاص ذلك بما إذا كان للملزوم أثر يصح التعبد بلحاظه. فإن ارتفاع لغوية التعبد بالملزوم بلحاظ أثر لازمه المذكور إنما يصلح للاستدلال مع اختصاص الدليل بالملزوم المذكور، لانحصار ارتفاع اللغوية به حينئذ، أما إذا كان الدليل هو الإطلاق فيكفي في رفع لغويته تنزيله على غير المورد المذكور.

هذا كله مع أن عدم التفكيك بين المستصحب والواسطة في التعبد لوضوح الملازمة بينهما - كما في المتضايفين - ملازم لعدم التفكيك بينهما في اليقين والشك، فيجري الاستصحاب في نفس الواسطة ويغني عن استصحاب ملزومها.

ولو فرض عدم التلازم بين الأمرين في اليقين، لتوقف التلازم بينهما على أمرٍ خارجٍ عنهما غير موجود حال اليقين بالملزوم موجود حال الشك فيه، فلا وجه لعدم التفكيك بينهما عرفاً في التعبد، لأن الملازمة الاتفاقية بين

ص: 148

الشيئين بسبب بعض الطوارئ الخارجية لا توجب ذلك، وإلّا كان الأصل المثبت حجة مطلقاً.

نعم، قد يكون ملاك التلازم بين الأمرين موجباً للتلازم بينهما في التعبد عقلاً، فثبوت التعبد بأحدهما ولو بإطلاق الدليل كاشف عقلاً عن التعبد بالآخر.

ولا مانع من إثبات مثل هذه العناية بالإطلاق.

وليس نظيراً لما سبق في ما لو انحصر الأثر بلازم المستصحب، فإن العناية هناك شرط في شمول الإطلاق للمورد، فلا يصلح الإطلاق لإثباتها. أما هنا فهي تابعة لشموله له، فمع فرض شموله لحجية الإطلاق يتعين البناء عليها.

وليس المعيار في الملازمة المذكورة بين التعبدين وضوح الملازمة بين الأمرين المتعبد بهما - كما ذكره قدس سره - بل يكفي ما ذكرنا من كون منشأ الملازمة بينهما ثبوتاً يقتضي الملازمة بينهما تعبداً، وإن كانت الملازمة خفيةً.

ولعل منه التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده، وفعلية التكليف بالأهم وسقوط التكليف بالمهم، ونحوها. لقرب أن تكون الجهات العقلية الارتكازية التي قيل لأجلها بالملازمة بينهما ثبوتاً تقتضي الملازمة بينهما في التعبد. فتأمل جيداً.

لكن ذكر المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل في توجيه ترتب مثل هذه الآثار ومثل وجوب الإطاعة مع أن ترتبها ليس شرعياً: أن موضوع الملازمة عقلاً هو الأعم من الوجود الواقعي والتعبدي الظاهري،

ص: 149

فيكون الاستصحاب محققاً للملزوم واقعاً المستتبع لتحقق اللازم واقعاً أيضاً، لا تعبداً.

وهو كما ترى! إذ كيف يمكن دعوى وجوب المقدمة أو حرمة الضد شرعاً واقعاً، مع عدم وجوب ذي المقدمة أو الضد شرعاً إلّا ظاهراً؟! بل حتى وجوب الإطاعة الذي هو من الأمور العقلية الثابتة بملاك شكر المنعم تابع للتكليف الواقعي.

نعم، فعلية العمل على طبق التكليف ووجوب إطاعته بملاك دفع الضرر المحتمل تابعان لتنجزه، والمعيار في التنجز مطلق الإحراز وجدانياً كان بالقطع، أو تعبدياً بالاستصحاب أو غيره، فتأمل جيداً.

الأمر الثاني: في استتباع التعبد للتعبد بالأثر الشرعي

الأمر الثاني: قد تضمنت بعض الأدلة الشرعية بيان التلازم بين أمرين من دون أن يكون أحدهما أثراً للآخر، بل قد يكونان أثرين لموضوعٍ واحد، مثل قوله عليه السلام «إذا قصرت أفطرت، وإذا أفطرت قصرت»(1).

والظاهر أن استصحاب أحد اللازمين في مثل ذلك يقتضي ترتب الآخر، فإن الملازمة المذكورة سيقت لبيان التعبد بأحدهما عند ثبوت الآخر، فأحدهما وإن لم يكن موضوعاً للآخر، إلّا أنه موضوع للتعبد به، فاستصحاب أحدهما كما يقتضي التعبد به يقتضي التعبد بالتعبد بالآخر، لأنه أثر له، فهو كاستصحاب عدالة الشاهدين المقتضي للتعبد بالتعبد بالمشهود به.

وبالجملة: المقام لا يخرج عما سبق من استتباع التعبد بالشيء للتعبد بأثره الشرعي، غايته أن الأثر في المقام ليس هو اللازم، بل التعبد به.

ص: 150


1- الوسائل ج: 5، باب: 15 من أبواب صلاة المسافر حديث: 17 و ج: 7، باب: 4 من أبواب من يصح منه الصوم حديث: ا، وقريب منه في حديث: 2 من الباب المذكور.

نعم، لو استفيد من الأدلة محض التلازم بين الشيئين من دون أن يساق مساق أمارية أحدهما على الآخر شرعاً فلا مجال للتمسك باستصحاب أحدهما في إثبات الآخر.

الأمر الثالث: استصحاب الفرد بلحاظ أثره الكلي

الأمر الثالث: من الظاهر أن الأمور الدخيلة في موضوع الأثر الشرعي قد أخذت في لسان الأدلة بعناوينها العامة الكلية، كالبلوغ المأخوذ في موضوع التكليف، والاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج، والطهارة المأخوذة في المكلف به، والنجاسة المأخوذة في حرمة الأكل.

ومن الظاهر أن الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما يكون للأفراد الخاصة التي ينطبق عليها الكلي، ويكون ترتب الأثر عليها بتوسطه. إلّا أن هذا ليس من الأصل المثبت، لوضوح أن أخذ الكلي في موضوع الأثر إنما هو بلحاظ حكايته عن أفراده الخارجية، فهي الموضوع في الحقيقة.

نعم، لابد في استصحاب الفرد من استصحابه بحيثيته العنوانية المأخوذة في موضوع الحكم، فلابد من سبق اليقين به بالحيثية المذكورة، ولا يكفي استصحابه بذاته مع قطع النظر عن الجهة المذكورة وإن كانت ملازمة له، فلو كان موضوع الأثر هو الإنسان أو الأبيض اعتبر استصحاب الإنسان الخاص أو الأبيض الخاص، ولا يكفي استصحاب زيد بمفهومه الخاص، وإن كان ملازماً للإنسان أو الأبيض.

وعليه لابد من إحراز منشأ انتزاع العنوان، لتوقف اليقين بخصوصية العنوان عليه. من دون فرق في ذلك بين العنوان الذاتي، كالإنسان، والعرضي الحقيقي، كالأبيض، أو الاعتباري، كالزوج، أو الانتزاعي كالجزء والشرط.

والظاهر عدم الإشكال في شيءٍ مما ذكرنا بعد التأمل في المباني

ص: 151

المتقدمة، والنظر في حال الأدلة.

ما ذكره الخراساني قدس سره من عموم الأثر

لكن قال المحقق الخراساني قدس سره في كفايته: «لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتباً عليه بلا وساطة شيء، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق عليه، ويحمل عليه بالحمل الشايع ويتحد معه وجوداً، كان منتزعاً عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه، مما هو خارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لا لغيره مما كان مبائناً معه أو من أعراضه مما كان محمولاً عليه بالضميمة، كسواده - مثلاً - أو بياضه. وذلك لأن الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي - كالملكية والغصبية ونحوهما - لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر، لا شيء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت، كما توهم».

فإنه قد يظهر منه خصوصية العناوين الذاتية والعرضية الاعتبارية المنتزعة مما هو خارج المحمول من بين العناوين المذكورة. بل يظهر من صدر كلامه إمكان ترتب الأثر على المستصحب من دون توسط عنوان كلي، مع وضوح امتناع ذلك بعد النظر في حال أدلة الأحكام، لوضوح كون المأخوذ فيها هو العناوين الكلية ولذا كان كلامه في غاية الغموض والإشكال.

ومن ثم لم يبعد كون مراده من توسط العنوان ليس هو العنوان المستصحب، بل عنوان آخر يلازم المستصحب وينتزع منه، ويكون قد أشار بكلامه هذا - على قصورٍ فيه - إلى ما ذكره في حاشية الرسائل في توجيه

ص: 152

جريان بعض الأصول التي قد يدعى أنها مثبته. قال قدس سره: «أحدها: ما لو نذر التصدق بدرهم ما دام ولده حياً، حيث توهم أن استصحاب حياته في يوم شك فيها لإثبات وجوب التصدق مثبت، فإنه يكون أثر الالتزام به في يوم كان ولده حياً فيه، فإن نذره كذلك مع حياته في يوم يلازم الالتزام بوجوبه فيه عقلاً، فلا يحكم بوجوب التصدق باستصحابها إلّا بواسطة ما لازمها عقلاً، وهو نذره والالتزام به من باب وجوب الوفاء بالنذر، وإلّا فوجوب التصدق ما كان مرتباً على حياة الولد في خطاب، فيترتب عليها مع الشك بالاستصحاب...».

وعبارته وإن كانت لا تخلو عن غموض - لعل بعضه ناشئ عن خطأ النسخة التي بأيدينا - إلّا أن الظاهر منها الإشارة إلى ما إذا لم يكن المستصحب بعنوانه موضوعاً للأثر في الكبرى الشرعية، بل كان موجباً لتحقق عنوان آخر هو الموضوع للأثر في الكبرى، كما في المثال الذي ذكره، فإن حياة الولد ليست موضوعاً لوجوب التصدق في كبرى شرعية، بل هي موجبة عقلاً لكون الصدقة حينها داخلة في المنذور ووفاء بالنذر الذي هو موضوع الكبرى، وليس بنفسه مستصحباً.

ونظير النذر في ذلك اليمين والعهد. وكذا الشرط والعقد، كما لو ملك على زيد منفعة يوم الجمعة بإجارة أو شرط، فشك في بقاء يوم الجمعة في ساعة، فاستصحاب بقائه فيها لإثبات ملكية منفعتها لا يكون إلّا بتوسط صدق عنوان الوفاء بالعقد أو الشرط، من دون أن يكون يوم الجمعة بنفسه موضوعاً لملكية المنفعة في كبرى شرعية.

بل يجري ذلك في مثل إطاعة المولى أو الأب أو الزوج - لو وجبت

ص: 153

شرعاً - في ما لو كان الاستصحاب منقحاً لموضوعها، كما لو أمر الأب بالصدقة على زيد ما دام فقيراً، فشك في بقاء فقره، فإن استصحاب فقره لا يقتضي وجوب الصدقة عليه إلّا بتوسط صدق عنوان إطاعة الأب عليها الذي هو لازم عقلي لبقاء الفقر، من دون أن يكون الفقر موضوعاً لوجوب الصدقة شرعاً.

بل عمم قدس سره ذلك لمثل استصحاب حياة زيد لإثبات، وجوب الإنفاق من ماله على زوجته واستحقاقه من الوقف، مع أن الأثرين المذكورين لا يثبتان بالاستصحاب المذكور إلّا بتوسط ما يلازم الحياة عقلاً من العنوان، وهو عنوان كونه زوجاً أو موقوفاً عليه.

اندفاع ما ذكره قدس سره من الأمثلة

لكن الظاهر اندفاع ذلك: بأن الموضوع في المثالين مركب من الحياة والزوجية أو الدخول في الموقوف عليهم، فمع القطع بالأخيرين يكفي استصحاب الحياة. مع إمكان استصحاب الحياة للفرد بخصوصيته وعنوانه المأخوذ في الموضوع، فيستصحب حياة زيد، لا بذاته، بل بما هو زوج أو موقوف عليه، أو يستصحب حياته المقيدة بزوجيته أو الوقف عليه، لسبق اليقين بذلك.

ولذا لا يكفي استصحاب حياته بذاته مع عدم إحراز الخصوصية المذكور لا بالوجدان ولا بالأصل لو فرض ملازمتها لبقاء الحياة، كما لو علم من الخارج أن زيداً لو بقي حياً لتزوج هنداً.

وكيف كان، فيكفي في محل الكلام الأمثلة المتقدمة المبنية على كون دخل الأمر المستصحب في الأثر غير مستفاد من الكبريات الشرعية، بل من صغرياتها المجعولة للمكلف.

ص: 154

عدم مانعية توسط العناوين من العمل بالأصل

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على مانعية توسط العناوين المذكورة فيها من العمل بالأصل، كيف! ولازمه عدم الرجوع لاستصحاب الطهارة لإحراز وقوع الصلاة وفاء عن النذر أو الإجارة أو نحوهما، فإن ترتب صحة الصلاة على الطهارة مثلاً، وإن كان مستفاداً من كبرى شرعية، مثل: «لا صلاة إلّا بطهور»، إلّا أن ترتب سقوط الأمر بالوفاء عليها ليس إلّا بتوسط صدق عنوان الوفاء بها عقلاً بعد فرض كون المنذور أو نحوه هو الصلاة المشروعة المشروطة بالطهارة.

اللهم إلا أن يقال: الوفاء والطاعة عبارة عن الإتيان لعمل المجعول على المكلف وحيث كان استصحاب الطهارة محرزاً لتمامية الصلاة، فهو يحرز تحقق الأمر المجعول بها.

وهذا بخلاف قيود النذر ونحوه مما يجعل على المكلف، كما لو نذر أن يتصدق كل يوم مادام ولده حياً أو آجر الدار في شهر رجب، فإن استصحاب حياة الولد وبقاء شهر رجب من أجل إحراز وجوب التصدق وملكية منفعة الدار للمستأجر إنما يكون بتوسط صدق عنوان الوفاء بالنذر والعقد عقلاً من دون ترتب بينهما وبين المستصحب شرعاً.

فلابد من النظر في وجه عدم إخلال توسط مثل هذه العناوين في العمل بالأصل، وخروجه عما تقدم في الأصل المثبت.

وقد ذكر قدس سره في وجهه أن الحكم في الكبريات الشرعية لم يرد على العنوان المذكور إلّا لمحض الحكاية عن الأفراد الخاصة التي هي مجرى الأصل، من دون أن يكون دخيلاً في الحكم.

قال قدس سره: «والتحقيق في دفع هذه الغائلة أن يقال: أن مثل الولد في

ص: 155

المثال وإن لم يترتب على حياته أثر في خصوص خطاب، إلّا أن وجوب التصدق قد رتب عليه، لعموم الخطاب الدال على وجوب الوفاء بالنذر، فإنه يدل على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصياته، فإنه لا يكون وفاء لنذره في إلّا ذلك.

وبالجملة: إنما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشايع، وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس إلّا ما التزم به بعنوانه الخاص على ما التزم به بعنوانه بخصوصياته، فيكون وجوب التصدق بالدرهم ما دام الولد حياً في المثال مدلولاً عليه بالخطاب، لأجل كون التصدق به كذلك وفاء لنذره، فاستصحاب الحياة لإثبات وجوب التصدق به غير مثبت.

ووجه ذلك - أي سراية الحكم من عنوان الوفاء... إلى تلك العناوين الخاصة... - هو أن الوفاء ليس إلّا منتزعاً عنها، وتحققه يكون بتحققها، وإنما أُخذ في موضوع الخطاب مع ذلك دونها لأنه جامع مع شتاتها وعدم انضباطها، بحيث لا يكاد أن يندرج تحت ميزان أو يحكى عنها بعنوان غيره جامعاً ومانعاً، كما لا يخفى.

وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها، كالمقدمية والضدية ونحوهما...».

الإشكال على ما ذكره قدس سره

وهو كما ترى! فإن جميع العناوين المذكورة في الكبريات الشرعية إنما يراد بها الحكاية عن المصاديق ولا خصوصية لعنوان الوفاء في ذلك، وهو لا ينافي دخلها في الحكم بنحو يلزم إحرازها بالأصل، حيث لابد من جريان الأصل في المصداق من حيثيتها.

وأما ما ذكره من كون عنوان الوفاء منتزعاً من الأفراد المذكورة،

ص: 156

فإن أراد به كون تعلق الحكم به بلحاظ وجوده الخارجي الذي لا يكون إلّا بوجود الفرد، فهو يجري في كل عنوان يؤخذ في كبريات الأحكام العملية.

وإن أراد به عدم دخله في الحكم لسوقه لمحض الحكاية عن الأفراد مع كون موضوع الحكم هو الأفراد بخصوصيتها لا بحيثية العنوان، فلا يكون، واسطة في ثبوت الحكم الذي يراد إحرازه بالأصل، كما يناسبه تنظيره بالمقدمية والضدية. فهو خروج عن ظواهر الأدلة، بل عما هو المقطوع به منها من دخله كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الشرعية، بل مطلق القضايا الحقيقية.

كيف! ولازمه عدم جريان الأصل في نفس وجوب الوفاء أو شرطه أو مانعه، كوقوع النذر وبلوغ الناذر وحل الأب أو الزوج له ونحوها مما يرجع إلى كبرى وجوب الوفاء ولا مجال لقياسه بعنوان المقدمية والضدية، لوضوح عدم أخذهما في موضوع الحكم في أدلة شرعية، وإنما استفيد ثبوت الحكم الشرعي لهما بحكم العقل الذي لا نظر له إلّا إلى المصداق بنفسه، وليست المقدمية أو الضدية إلّا جهة تعليلية أو انتزاعية.

على أن مصداق الوفاء وما يصح حمله عليه بالحمل الشايع ليس هو ما التزم به الناذر بعنوانه وخصوصياته القابلة للاستصحاب، وهو عنوان التصدق على تقدير الحياة، بل هو فعل المكلف وهو ذات التصدق الخاص المقارن للخصوصيات الخاصة الفردية، وليس مثل الحياة قيداً فيه، بل دخيل في فرديته كسائر ما يتوقف عليه فردية الفرد، ومن الظاهر أن الفرد المذكور لا مجال لاستصحابه بنفسه، لعدم سبق اليقين به، والاستصحاب إنما هو للحياة الملازمة لفرديته لعنوان الوفاء، وهو أجنبي عما ذكره قدس سره.

ص: 157

إلّا أن يرجع كلامه إلى أن قضية وجوب الوفاء بالنذر مثلاً قضية منتزعة من القضايا المنذورة المتفرقة، قد سيقت لمحض الحكاية عنها، وليس المجعول شرعاً إلّا تلك القضايا على ما هي عليه من الخصوصيات والقيود والشروط، نظير قضية وجوب أداء الواجبات التي لا يراد بها إلّا الإشارة إلى القضايا التشريعية المتفرقة المتضمنة للواجبات الشرعية، كوجوب الصلاة عند الزوال، والحج عند الاستطاعة، الخمس في الغنيمة، والزكاة في النصاب.

فإن لازم ذلك جريان الأصل في الخصوصيات المأخوذة في القضايا المنذورة بأشخاصها، من حياة الولد ونحوها، لأنها هي الكبريات الشرعية المجعولة للشارع، دون قضية وجوب الوفاء الانتزاعية، كما يجري في خصوصيات القضايا الشرعية المتضمنة للواجبات، كالزوال والاستطاعة والغنيمة، والنصاب، دون قضية وجوب أداء الواجبات الانتزاعية.

لكنه - مع قصور كلامه عنه - واضح البطلان في نفسه، حيث يقطع بعدم كون القضايا المنذورة كبريات شرعية، بل صغريات لكبرى وجوب الوفاء بالنذر، التي هي ليست انتزاعية - ككبرى وجوب أداء الواجبات التي لو وردت في كلام الشارع لكانت إرشادية - بل هي قضية شرعية سيقت لبيان حكم شرعي كسائر القضايا الشرعية، فيصح استصحابها واستصحاب قيودها وشروطها وسائر ما أخذ فيها. فما ذكره قدس سره لا يرجع إلى محصل صالح لتوجيه المدَّعى.

عدم اعتبار كون مجرى الأصل مأخوذاً في كبرى شرعية

فلعل الأولى أن يقال: لا يلزم أن يكون مجرى الأصل مأخوذاً في كبرى شرعية، بل يكفي كونه موضوعاً للأثر الشرعي، ليدخل في ما تقدم

ص: 158

من أن التعبد بالموضوع يستتبع التعبد بأثره، سواء كان ذلك مفاد الكبرى الشرعية، كاستصحاب زوجية المرأة لإثبات وجوب الإنفاق عليها أو عدم حل الزوج لليمين لإثبات نفوذه، أم مستفاداً من انطباق الكبرى على الصغرى، كما في المقام ونحوه مما كان موضوع الصغرى فيه مفاد القضية، وكان المستفاد من الكبرى نفوذها وجعل مضمونها شرعاً، حيث يستلزم ذلك قيام الأثر بالموضوع المأخوذ في القضية المذكورة بخصوصياته العنوانية فإذا جرى الأصل فيه ترتب أثره.

توضيح ذلك

وتوضيح ذلك: أن مفاد كبرى نفوذ العقد والنذر هو إمضاء مفاد العقود والنذور الواقعة من المكلفين وجعل مضمونها شرعاً تبعاً لإنشائه من المكلف.

بعض الموارد التي تجري فيها القاعدة

فإذا آجر المكلف نفسه يوم الجمعة بدينار فقد ملك منفعة اليوم المذكور بإزاء الدينار، ومقتضى إمضاء الشارع لذلك هو ملكية الأجير للدينار وملكية المستأجر للمنفعة المذكورة شرعاً، فيكون يوم الجمعة بعنوانه موضوعاً لملكية المنفعة شرعاً، فتحرز باستصحابه، كما تحرز لو استفيد ملكية منفعة اليوم المذكور بعنوانه من كبرى شرعية مجعولة تأسيساً لا إمضاء.

وإذا نذر الأب الصدقة ما دام ولده حياً، فحيث كان مفاد النذر هو تمليك الله سبحانه للمنذور كان مقتضى عموم نفوذ النذر إمضاء الشارع للتمليك المذكور بجعل ملكيته تعالى تبعاً لجعل المكلف لها، فتكون الحياة بعنوانها شرطاً شرعياً للصدقة المملوكة، فاستصحابها يحرز المشروط شرعاً بمقتضى ما أشير إليه من التبعية في مقام التعبد بين المستصحب وأثره

ص: 159

الشرعي.

ومنه يظهر أنه لا حاجة إلى توسط عنوان الوفاء بين المستصحب والأثر، بل المستصحب بنفسه موضوع للأثر شرعاً، بسبب انطباق عموم الوفاء على مورده، فيخرج عن الأصل المثبت.

نعم، لابد في ما ذكرنا من أن تنطبق الكبرى الشرعية على مفاد القضية على ما هي عليه من خصوصيات عنوانية، بحيث تقتضي جعل الشارع لمضمونها مع قطع النظر عن عمل المكلف في مقام الامتثال، بل يكون عمل المكلف تابعاً للجعل المذكور، كما هو ظاهر مثل وجوب الوفاء بالعقد والعهد والنذر واليمين، لأن الوفاء هو أداء ما ثبت على المكلف وتوفيته، فهو ظاهر في ثبوت مضمون القضية المجعولة للمكلف لإمضائها من قبل الشارع، بخلاف مثل عموم وجوب الفدية بالإفطار، فإن انطباقه على مورده لا يقتضي إلّا جعل نفس الوجوب الذي هو مفاد الكبرى، والذي يتعلق به العمل.

الإشكال على بعض الأمثلة المتوهم جريان القاعدة فيها

ومنه يظهر الإشكال في جريان ما ذكرنا في وجوب إطاعة الأب ونحوه، لأن الإطاعة عنوان ثانوي لفعل المكلف منتزع من متابعة أمر الآمر، ووجوبها لا يقتضي وجوب الفعل بالعنوان الذي وقع في لسان الآمر أو بالخصوصيات المأخوذة منه، ليكون إحرازها بالأصل مجدياً في ترتب الأثر، بل تحققها مستلزم عقلاً لصدق عنوان الإطاعة، الذي هو موضوع الأثر، فيكون توسطه في ترتب الأثر على المستصحب موجباً لكون الأصل مثبتاً، بل وجوب إطاعة المولى منتزع من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، ولا طريق لإثبات التكليف بعنوان الإطاعة، فضلاً عن العنوان المأخوذ

ص: 160

في لسان المولى بالخصوصيات المأخوذة في القضية.

ومن هنا يشكل الاكتفاء بإحراز تحقق قيود الأمر أو عدمها بالأصل الشرعي، كما لو قال: تصدق ما دام ولدي حياً، أو إن مرض، أو في شهر رجب. وشك في بقاء ولده حياً أو في عروض المرض عليه، أو في بقاء شهر رجب، لعدم إحراز وجوب التصدق أو عدمه باستصحاب الأمور المذكورة إلا بتوسط صدق الإطاعة على التصدق أو عدم صدقها عليه عقلاً من دون ترتب شرعي بين المستصحب وبينهما.

وحينئذٍ يتعين الرجوع للآمر نفسه في الوظيفة عند الشك في مثل ذلك.

نعم لا يبعد انصراف أوامر الموالي العرفيين وأمثالهم بالأمور المشروعة - كالصلاة والصوم - إلى الاكتفاء في إحراز امتثالها بالوجه الشرعي - كاستصحاب الطهارة وقاعدة الفراغ، فيجتزأ به ما لم ينكشف الخطأ، بحيث لا تجزي شرعاً. فتأمل جيداً.

الأمر الرابع: في الاستصحاب العدمي

الأمر الرابع: تقدم أن استصحاب الحكم التكليفي إنما ينفع بلحاظ ترتب العمل عليه بلا واسطة. كما أن استصحاب الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي إنما ينفع بلحاظ ترتب أثره الشرعي، بضميمة الملازمة العرفية بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره.

ومن هنا فقد يستشكل في الاستصحابات العدمية في موردين..

المورد الأول: استصحاب عدم التكليف ويشكل في موردين

المورد الأول: استصحاب عدم التكليف.

وقد يستشكل فيه بوجهين..

الأول: عدم جعل التكليف

الأول: أن عدم التكليف ليس أمراً مجعولاً للشارع، فإن المجعول هو الأحكام الخمسة لا عدمها، وإلّا كانت الأحكام عشرة لا خمسة.

ص: 161

وقد دفع ذلك المحقق الخراساني قدس سره بأن عدم التكليف وإن لم يكن حكماً شرعياً إلّا أن رفعه ووضعه تابع للشارع، لأن سلطان الشارع على الحكم مستلزم لسلطانه على عدمه، وذلك كاف في جريان الاستصحاب، ولا يعتبر فيه كون المستصحب حكماً شرعياً، لعدم الملزم بذلك بعد صدق نقض اليقين بالشك.

هذا، ولا يخفى أن مبنى الإشكال والدفع على ما هو مذهب غير واحد من أن مفاد الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهراً.

وقد أشرنا عند الكلام في استصحاب مؤدى الطرق والأصول، وفي أوائل هذا الفصل، إلى بطلان المبنى المذكور، وأن مفاد الاستصحاب - كسائر الطرق والأصول الإحرازية - هو التعبد بالمؤدى ولزوم البناء عليه، وهو لا يختص بالأحكام الشرعية، ولا بما يكون تحت سلطان الشارع، بل يجري في الأمور الخارجية التي لا دخل للشارع بها.

غايته أنه لابد من ترتب العمل عليه، وقد تقدم تقريب ترتبه على استصحاب التكليف بأن إحراز التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المنجزية المستتبعة للموافقة عقلاً، ويجري نظير ذلك في استصحاب عدم التكليف، فإن إحراز عدم التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المعذرية المستتبعة للعمل.

نعم، قد يقال: يكفي في المعذرية عن التكليف عدم المنجز له، كما هو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو مقطوع به بلا حاجة للاستصحاب المذكور، فيكون الاستصحاب لغواً، لعدم الأثر العملي له.

دفع

الخراساني قدس سره لما ذكر

لكنه يندفع: بأن عدم استحقاق العقاب مع عدم التكليف لعدم المقتضي للعقاب، ومع عدم تنجزه لعدم شرطه، فإحراز عدم التكليف

ص: 162

بالأصل إحراز لعدم المقتضي، وبدونه لا يكون عدم العقاب إلّا لعدم الشرط، ومثل هذا كاف في رفع لغوية التعبد عرفاً وإن كان عدم العقاب مقطوعاً به على كل حال.

وقد تقدم توضيح ذلك عند الكلام في الاستدلال على البراءة بالاستصحاب.

الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

الثاني: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره حيث ذكر في آخر أدلة البراءة أنه استدل عليها بوجوه غير ناهضة، وذكر في جملتها استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر، وذكر له وجوهاً..

منها: استصحاب عدم المنع من الفعل، ثم قال: «وأما الأذن والترخيص في الفعل فهو وإن كان أمراً قابلاً للجعل، ويستلزم انتفاء العقاب واقعاً، إلّا أن الأذن الشرعي ليس لازماً شرعياً للمستصحبات المذكورة، بل هو من المقارنات، حيث إن عدم المنع عن الفعل بعد العلم إجمالاً بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام الخمسة لا ينفك عن كونه مرخصاً فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم».

وقد حمله تلميذه الآشتياني قدس سره على إرادة ما سبق من أن العدم ليس حكماً شرعياً. وحمله بعض مشايخنا على ما سبق من عدم الأثر له في مقام العمل بعد القطع بعدم العقاب بقاعدة قبح العقاب.

وكلاهما مخالف لظاهره، بل هو ظاهر في أن الأثر ليس للمنع، لينفع استصحاب عدمه، بل هو لضده، وهو الترخيص والإذن اللازم للمستصحب، فهو ظاهر في المفروغية عن جريان أصالة العدم لو كان الأثر لنفس الوجود الناقض لذلك العدم.

ص: 163

فالعمدة في رده: أنه لا يتم بناء على أصالة الإباحة عقلاً، وأن استحقاق العقاب مشروط بمنع الشارع، كما هو الظاهر، وإنما يتم بناء على أصالة الحظر عقلاً وأن الرافع لاستحقاق العقاب هو الترخيص، الذي هو خلاف التحقيق، على ما أشرنا إليه عند الكلام في استصحاب البراءة في رد الوجه الثاني من وجوه الإشكال فيه. فراجع.

المورد الثاني: استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي

المورد الثاني: استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي، سواء كان أمراً خارجياً - كالخمرية - أم شرعياً - كالزوجية - لأن الأثر ليس للعدم المستصحب، بل للوجود، غاية الأمر أن عدم الموضوع ملازم واقعاً لعدم ترتب حكمه، فيبتني على الأصل المثبت. نعم، لو كان العدم بنفسه مأخوذاً في موضوع الحكم الشرعي أمكن استصحابه لترتيب حكمه.

ويندفع: بأنه كما يكون التعبد بوجود الموضوع مستتبعاً عرفاً للتعبد بحكمه، كذلك يكون التعبد بعدم الموضوع مستتبعاً عرفاً للتعبد بعدم حكمه.

على أن استصحاب عدم الموضوع إنما يجري إذا استفيد من الأدلة دخل عنوانه في ثبوت الحكم، وهو راجع إلى حكم الشارع بعدم ثبوت الحكم عند ارتفاع الموضوع بعنوانه تبعاً لحكمه بثبوته عند ثبوته، وهو كاف في صحة الاستصحاب، إذ لا يراد من الملازمة بين الحكم وموضوعه في مقام التعبد خصوص الأحكام الخمسة، بل مطلق ما يستفاد من الشارع ويكون مرجعاً فيه، نظير ما تقدم من المحقق الخراساني قدس سره في استصحاب عدم الحكم التكليفي.

وأما الإشكال في ذلك بمنافاته لظاهر صحيحتي زرارة، حيث تضمنتا الرجوع لاستصحاب الطهارة عند الشك في النوم وإصابة الدم، مع أنه لو

ص: 164

جرى الاستصحاب العدمي لكان المناسب التمسك باستصحاب عدم النوم وعدم إصابة الدم، لحكومته على استصحاب الطهارة، لأنه سببي بالإضافة إليه.

فيندفع: بأنه لا مانع من التنبيه للأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم إذا لم يكن منافياً له عملاً، كما تقدم توضيحه في أدلة البراءة عند التعرض للاستدلال بموثقة مسعدة بن صدقة. فراجع.

بقي شيء: فيما يستفاد من الأدلة في أخذ الموصوع في الحكم

بقي شيء، وهو أن المستفاد من الأدلة..

تارة: انحصار الحكم بالموضوع، كما هو الحال في مثل نواقض الوضوء.

وأخرى: مجرد دخل عنوانه فيه دون الانحصار، كما هو الحال في أدلة النجاسات.

ففي الأول يكون استصحاب عدم الموضوع محرزاً لعدم ثبوت الحكم مطلقاً، وفي الثاني لا يحرز باستصحاب عدم الموضوع إلّا عدم ثبوت الحكم من حيثيته، فلا ينافي ثبوته من حيثية أخرى، بل يتعين الرجوع في ذلك إلى أصلٍ آخر في الشبهة الحكمية، كأصالة الطهارة أو استصحابها. فلاحظ.

الأمر الخامس: تعميم خروج الأصل عن كونه مثبتاً

الأمر الخامس: لا يعتبر في خروج الأصل عن كونه مثبتاً كون مجراه تمام الموضوع للأثر الشرعي، أو تمام المنشأ للعمل عقلاً، بل يكفي دخله فيه بعنوانه بنحو من أنحاء الدخل جزءاً كان، أو شرطاً، أو مانعاً أو غير ذلك.

ويكفي في ذلك تطبيق كبرى الاستصحاب في صحيحتي زرارة على الطهارة الحدثية والخبثية، مع وضوح أن المستصحب لا يكفي في ترتب

ص: 165

الأثر المهم وهو صحة الصلاة، بل لابد معه من شروط وأجزاء أخر لا يحرزها الاستصحاب المذكور، بل لابد من إحرازها بأصل آخر أو وجدان.

ومن هنا تكرر في كلامهم أنه لا بأس بضم الوجدان للأصل في إحراز موضوع الأثر، ولا يكون الأصل مثبتاً بعد كون المستصحب بعنوانه دخيلاً في الأثر.

وإنما يكون مثبتاً في ما لو كان الدخيل في الأثر هو العنوان اللازم أو المنتزع من جملة أمور بعضها مجرى الأصل، كما لو كان موضوع الأثر هو وجود عشرة رجال في الدار، وعلم بدخول تسعة، وشك في وجود زيد معهم بعد العلم بسبق وجوده فيها، فإن استصحاب بقائه لا ينفع في ترتيب الأثر المذكور بعد عدم دخله بعنوانه فيه.

وجوه جزئية المستصحب للموضوع

ثم إن المستصحب الذي يكون جزءاً للموضوع..

تارة: يكون دخيلاً في ترتب الأثر الشرعي، كما هو الحال في قيود الحكم وشروطه وموانعه ونحوها، كطهارة الماء الموجبة لطهارة ما يغسل به والحيض المانع من وجوب الصلاة.

وأخرى: يكون أمراً شرعياً دخيلاً في ترتب العمل عقلاً بلا واسطة شرعية، كما هو الحال في شروط الواجب وقيوده وموانعه، كطهارة البدن الموجبة لصحة الصلاة، ونجاسة الثوب الموجبة لبطلانها، لوضوح أن الصحة والبطلان ليسا مجعولين شرعا، بل هما منتزعان من تمامية العمل وعدمها، فلا يترتب على مثل ذلك إلّا مقام الامتثال الذي هو من الواجبات العقلية، وهو المعيار في العمل المصحح للجعل الشرعي.

وكما يجري الأصل في الأول بلحاظ الأثر الشرعي يجري في الثاني

ص: 166

بلحاظ ترتب العمل عقلاً، لنظير ما تقدم في استصحاب التكليف وعدمه، فكما كان المصحح له هو ترتب العمل عليه بلحاظ أن التعبد بالتكليف وعدمه كاف في المنجزية والمعذرية المستتبعتين للعمل عقلاً، فليكن المصحح لاستصحاب الشرط ونحوه في المقام هو ترتب العمل عليه، بلحاظ كونه موجباً للتعبد بالامتثال الرافع لموضوع قاعدة الاشتغال.

كما أن المصحح لاستصحاب المانع ونحوه هو ترتب العمل عليه بلحاظ كونه محرزاً لعدم الامتثال المقتضي لحكم العقل بوجوبه.

ولذا أمكن تعبد الشارع بأصل الامتثال وبخصوصياته في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، كما أمكن تعبده بعدمه في مورد قاعدة الشك قبل خروج الوقت، أو الحكم بنجاسة وناقضية البلل الخارج قبل الاستبراء.

بل يكفي في خصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة، لوضوح أن الأثر المهم لاستصحاب الطهارة الحدثية والخبثية هو التعبد بامتثال أمر الصلاة.

تعرض الخراساني قدس سره لإشكالهم في الشرط والمانع

إذا عرفت هذا، فاعلم أن المحقق الخراساني قدس سره تعرض لإشكال بعضهم في استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطية والمانعية، بدعوى: أن الشرطية والمانعية ليستا من المجعولات الشرعية، بل هما من الأمور الانتزاعية، فلا يصح الاستصحاب بلحاظهما إلّا بناء على الأصل المثبت، حيث يكون الشرط مستلزماً لوجود المشروط، والمانع مستلزماً لعدم ما يمنع منه.

ما دفعه قدس سره به

وقد دفع قدس سره ذلك: بأن الشرطية والمانعية والجزئية وإن كانت من الأمور الانتزاعية، إلّا أنها مما تناله يد الجعل شرعاً تبعاً، ويكون أمره بيد

ص: 167

الشارع وضعاً ورفعاً تبعاً لوضع منشأ انتزاعه ورفعه، ولا ملزم بأن يكون المستصحب أو الأثر المترتب عليه مجعولاً مستقلاً.

وهو مبني على ما ذكره قدس سره عند الكلام في الأحكام الوضعية من أن السببية والشرطية والمانعية ونحوها مجعولة تبعاً لجعل منشأ انتزاعها، فيصح الاستصحاب بلحاظها.

ومن ثَمَّ لزم حمل ما ذكره قدس سره على الشرط والمانع للمأمور به، دون الشرط والمانع للتكليف، لما ذكره هناك من عدم جعل الشرطية والمانعية للتكليف، لا أصلاً ولا تبعاً، فلا يجري الاستصحاب فيهما، كما لا يجري في الموضوع بلحاظهما.

بل لابد في تصحيح الاستصحاب في الشرط والمانع للتكليف من جريانه بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية، وهو التكليف المترتب وجوداً وعدماً على الشرط والمانع، فالمصحح لاستصحاب السفر ليس هو شرطيته لوجوب القصر، بل نفس وجوب القصر، كما أن المصحح لاستصحاب النشوز هو نفس عدم وجوب الإنفاق لا مانعيته من الوجوب المذكور، لأنهما أثر للمستصحب شرعاً.

لكن ما ذكره قدس سره بين القسمين غير تام في نفسه، بل الظاهر أن الشرطية والمانعية في القسمين معاً من الأمور الانتزاعية التي لا تنالها يد الجعل لا أصلاً ولا تبعاً، فليست هي من الآثار المصححة لاستصحاب موضوعها، كما لا مجال لتصحيح الاستصحاب المذكور بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية، وهو وجوب المقيد بالشرط وعدم المانع، لأنه وإن كان مجعولاً شرعياً إلّا أنه ليس من آثار وجود شرط المكلف به ومانعه، فوجوب الصلاة

ص: 168

المقيدة بالطهارة أو عدم الحدث ليس من آثار الطهارة أو عدم الحدث، بل هو تابع لتحقق سببه وشرطه كالبلوغ والوقت وغيرهما، فقد يكون متيقناً تبعاً لها مع العلم بعدم الطهارة أو الحدث، فضلاً عن الشك فيهما.

تصحيح استصحاب الشرط والمانع بما تقدم

فالأولى تصحيح استصحاب الشروط والموانع ونحوها بما ذكرناه آنفاً من أنه لا يعتبر في صحة الاستصحاب كون المستصحب تمام الموضوع للأثر شرعاً أو للعمل عقلاً، بل يكفي كونه بعنوانه دخيلاً في ترتب الأثر الشرعي، أو في منشأ العمل عقلاً، وإن توقف على انضمام غيره إليه.

ولا يفرق في ذلك بين الشرط والمانع للتكليف والشرط والمانع للمكلف به.

غايته أن ما يتعلق بالتكليف دخيل في الأثر الشرعي، وما يتعلق بالمكلف به دخيل في مقام العمل عقلاً، لرجوعه إلى إحراز قيود الامتثال، على ما تقدم توضيحه.

الأمر السادس: ما يكفي في جريان الاستصحاب

الأمر السادس: يكفي في جريان الاستصحاب أن يكون لبقاء المستصحب أثر في مقام العمل سواء كان تعلق العمل به حين الشك في البقاء - كما في استصحاب طهارة الثوب لإ ثبات مشروعية الدخول في الصلاة به - أم بعده - كما في موارد الشك في تأخر الحادث - أم حين اليقين بالحدوث - كما في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام لترتيب آثار الحيض بمجرد رؤيته - أم قبله - كما لو وجب تهيئة الطعام للضيف إن كان يبقى إلى الظهر، وعلم يوم الخميس بمجيئه يوم الجمعة وشك في بقائه إلى الظهر، فإن استصحاب بقائه للظهر موجب لتنجز وجوب تهيئة الطعام، ولو بالمحافظة على مقدماته المفوتة - كل ذلك لعموم دليل الاستصحاب بعد تحقق أركانه

ص: 169

من اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وترتب العمل الرافع للغوية.

ومن هنا ذهب غير واحد لجريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة.

ودعوى: انصرافه لصورة احتمال فعلية المشكوك ولو من جهة المورد.

مدفوعة: بأنه لا وجه للانصراف المذكور، ولا سيما بعد كون القضية ارتكازية شاملة للجميع. كيف! ولازم ذلك اختصاصه بالصورة الأولى وعدم جريانه في الصورة الثانية، لفرض العلم بارتفاع المشكوك فيها.

وإلحاقها بالصورة الأولى دون الأخيرتين، تحكم بعد اختصاص المورد بالصورة الأولى، واشتراك الجميع في الدخول تحت العموم الارتكازي.

الأمر السابع: في الفرق بين الأمارة والأصل

الأمر السابع: اشتهر في كلام المتأخرين الفرق بين الأمارة والأصل في الحجية في لازم المؤدى كما أشرنا إليه آنفاً.

ما ذكره النائيني قدس سره

من الفرق

وقد تصدى غير واحد لبيان الفرق بينهما في ذلك، فذكر بعض الأعاظم قدس سره لذلك وجهاً طويلاً أسهب في ذكر مقدماته..

وحاصله: أن مفاد أدلة إعتبار الأمارة تتميم كشفها وجعلها علماً تعبداً بالإضافة إلى المؤدى، فتترتب عليها آثار العلم به، فكما كان العلم الحقيقي بشيءٍ مثبتاً لآثاره ولوازمه وملزوماته مهما تعددت الوسائط، فكذلك قيام الأمارة عليه، بخلاف الأصول، فإن أدلة اعتبارها لا تقتضي الا التعبد بمؤدياتها من دون أن تقتضي تتميم كشفها وجعلها علماً، لتشارك العلم في ذلك.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أنه ليس مفاد أدلة اعتبار الأمارة تتميم كشفها ولا جعلها

ص: 170

علماً تعبداً، بل مجرد جعل حجيتها، كما تقدم غير مرة، وأوضحناه في مبحث القطع الموضوعي. فراجع.

وثانياً: أن إثبات العلم بالشيء لجميع أطرافه إنما هو بضميمة التلازم بين العلم بالشيء والعلم بلازمه بعد فرض الالتفات للملازمة. فالمثبت للازم هو العلم به تبعاً للعلم بالملزوم، لا العلم بالملزوم ابتداءً. والتلازم المذكور مختص بالعلم الوجداني، دون العلم التعبدي المفروض، بل هو تابع لدليل التعبد، فمع فرض اختصاصه بالمؤدى لا وجه للتعدي للازم.

ولذا لا إشكال في إمكان التفكيك في حجية الأمارة بين المتلازمات، لاختصاص دليل الحجية ببعضها، كما في الظن بالقبلة الذي لا يلزم من حجيته حجية الظن بالوقت وإن استلزمه، وكما في الإقرار، بل يمكن التفكيك في الحجية حتى في اللوازم الشرعية، كما في البينة التي قد يثبت بها حق الناس دون حق الله تعالى. ولا مجال لشيء من ذلك في العلم الوجداني.

ما ذكره الخراساني قدس سره من وجه إثبات لوازم الأمارة

أما المحقق الخراساني قدس سره فقد ذكر أن الأمارة لما كانت مبنية على الحكاية فهي كما تحكي عن المؤدى تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه، ومقتضى إطلاق دليل حجيتها لزوم تصديقها في تمام ما تحكي عنه، بخلاف الأصل، فإنه لا يبتني إلّا على محض التعبد الملزم بالاقتصار على مورده، وهو المؤدى، والتعدي إلى أثره الشرعي إنما هو بضميمة الملازمة بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره - كما تقدم - فيلزم الاقتصار على مورد الملازمة المذكورة، وهو الأثر الشرعي.

وما ذكره قدس سره راجع إلى إمكان حجية الأمارة في لازم مؤداها تبعاً

ص: 171

لإطلاق دليل حجيتها.

وهو في محله لو فرض تمامية الإطلاق، بأن يستفاد منه حجية الأمارة في تمام ما تكشف عنه ولو بضميمة الملازمة بين الظن بالشيء والظن بلازمه، فإن الأمارة إنما تحكي بالذات عن نفس المؤدى، لأنها مسوقة له، وإنما يستفاد منها اللازم بضميمة التلازم بين الظن بالشيء والظن بلازمه، فلو فرض إطلاق حجية الأمارة بالنحو الشامل لهذه الإفادة تعين البناء على حجيتها في اللازم.

الكلام في إحراز تمامية ما ذكره قدس سره

لكن لا طريق لتمامية ذلك..

أولاً: لأن مبنى حجية الأمارة غالباً على إفادتها للظن نوعاً لا شخصاً، واللوازم المذكورة غالباً لوازم اتفاقية شخصية، فلا تكشف الأمارة عنها نوعاً.

وثانياً: لأنه لو فرض كاشفيتها عنها بالوجه المعتبر فيها، إما لكون مبنى حجية الأمارة على إفادتها للظن الشخصي، المستلزم للظن باللازم وإن كان لزومه اتفاقياً شخصياً، أو لكون اللازم نوعياً فيتبع الملزوم في حصول الظن نوعاً به من الأمارة، إلّا أنه قد لا يكون لدليل الأمارة إطلاق يقتضي حجيتها في تمام ما هي كاشفة عنه وموجبة للظن به شخصاً أو نوعاً، بل تختص حجيتها بعناوين وجهات خاصة لا تنطبق على اللوازم، فحجية الإقرار تختص بالحق الثابت على المقر، وحجية اليد تختص بالملكية، وحجية الفتوى تختص بالحكم الشرعي، إلى غير ذلك مما يختص بالمؤدى دون اللازم.

ولو فرض عموم دليل الحجية للازم في مورد كان حجة بلا كلام،

ص: 172

وخرج عما نحن فيه، إذ لا يراد بالمؤدى إلّا ما قام الدليل الخاص على حجية الأمارة فيه، وإلّا فلا معنى لكون الملكية مؤدى لليد لولا حجيتها عليها، ومحل الكلام إنما هو في استفادة حجية الأمارة في اللازم لمحض ملازمتها لما هي حجة فيه، لا لقيام الدليل على حجيته فيه بالخصوص. وإثبات ذلك في غاية الإشكال، بل المنع.

نعم، مؤدى الكلام والخبر هو مضمونه المحكي به والمسوق له وإن لم يكن حجة فيه.

تنزيل ما ذكره قدس سره

على ما كان من الطرق حاكياً للمراد

ومن هنا فقد ينزل ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره على خصوص ما كان مبنى طريقيته على حكايته وأدائه للمراد وإبرازه له، كالخبر ونحوه، دون ما يبتني على محض الكاشفية، كاليد بالإضافة إلى الملكية.

بدعوى: أن مثل ذلك كما يحكي عن المؤدى يحكي عن لازمه، فإطلاق دليل وجوب التصديق فيها يقتضي وجوب تصديقها في تمام ما تحكي عنه وإن كان مدلولاً التزامياً.

المناقشة فيه

ويشكل.. أولاً: بأنه قد لا يكون لدليل الحجية إطلاق في وجوب التصديق، لأخذ عنوان خاص فيه لا ينطبق على تمام ما يحكى عنه كالإقرار الذي كان مفاد دليل حجيته جوازه على المقر، وهو لا يقتضي إلّا تصديقه في ثبوت الحق عليه، دون غيره مما يحكي عنه الخبر، وإن كان هو المؤدى المطابقي له.

وثانياً: بأن موضوع التصديق لما كان هو الخبر والنبأ والشهادة ونحوها، اختص بما يكون مخبراً عنه، مما هو مؤدى الكلام وقد ساق المتكلم الكلام لبيانه وأبرزه به، سواء كان مدلولاً مطابقياً أم التزامياً، دون

ص: 173

غيره من اللوازم الواقعية التي لم يقصد المتكلم إبرازها بالكلام.

ما ذكره العراقي قدس سره

من توجيه العموم

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من توجيه العموم لذلك..

تارة: بأن القصد إنما يعتبر في الدلالة التصديقية الموجبة للإذعان بكون المؤدى مراداً للمتكلم، دون الدلالة التصورية التي هي عبارة عن محض استفادة الشيء من الخبر وإن لم يقصده المخبر.

وأخرى: بأنه يكفي في تحقق الدلالة التصديقية بالإضافة إلى اللوازم والملزومات مجرد التفات المتكلم والمخبر إلى أن لكلامه لوازم وملزومات ولو إجمالاً، ولا يحتاج إلى قصد كل منها تفصيلاً، حيث يكون كل منها مخبراً عنه بعنوانه الإجمالي المذكور.

اندفاع ما ذكره قدس سره

فهو مندفع بكلا وجهيه.

أما الأول، فلأن الدلالة التصورية المذكورة لا تكفي في صدق العناوين التي اشتملت عليها الأدلة، كعنوان النبأ والخبر والتصديق ونحوهما مما لا يصدق بالإضافة إلى ما لم يقصد المخبر إفادته بالخبر.

وأما الثاني، فلأن مجرد العلم بوجود اللوازم ولو تفصيلاً لا يكفي في صدق الخبر بالإضافة إليها، بل لابد من قصد الإخبار عنها وإفادتها بالكلام، كما في موارد الكناية.

على أنه لو تم ذلك فإنما يكون الإخبار عنها بعنوان كونها لازم المؤدى، لا بعناوينها المأخوذة في الأثر الشرعي، فترتيب الأثر مبني على حجية الخبر في اللازم الذي لم يخبر عنه، التي هي محل الكلام.

المختار في وجه العموم

فالعمدة في وجه ذلك، أن الأدلة وإن اشتملت على عنوان التصديق والنبأ والخبر ونحوها مما يختص بما يقصد الإخبار عنه، إلّا أن المستفاد منها

ص: 174

لما كان هو إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على العمل بخبر الثقة والجري معهم على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب أو الخطأ، كان اللازم هو الرجوع في سعة موضوع الحجية إلى العقلاء، وحيث كان بناؤهم على التعويل على الخبر في اللوازم والملزومات وإن لم يقصد المتكلم الإخبار عنها، تبعاً للتعويل عليه في المؤدى، كان اللازم البناء على عموم حجيتها شرعاً أيضاً وعدم الجمود على عنوان التصديق.

لكن ذلك مختص بخبر الثقة ونحوه، دون غيره مما لا يبتني على إمضاء سيرة العقلاء، بل على حكم الشارع تعبداً بتصديق الخبر في خصوص موردٍ، كتصديق المرأة في العدة والحيض(1) وتصديق البايع في الكيل(2).

فضلاً عما لم يشتمل دليله على عنوان التصديق، كالإقرار، أو كانت حجيته ببناء العقلاء في خصوص مورد كاليد التي هي أمارة على الملكية، والظواهر التي هي حجة فيما هي ظاهرة فيه. فإن اللازم في جميع ذلك الرجوع لمقتضى الأدلة سعة وضيقاً، ولا ضابط لذلك.

ومن هنا ذكرنا في محله أن العام وإن كان حجة في العموم، إلّا أنه ليس حجة في لازمه، وهو انتفاء عنوانه في مورد انتفاء حكمه، وإن كان حجة في إثبات لازم الحكم في مورده، كوجوب مقدمته - بناء على الملازمة - لأن المتيقن من بناء العقلاء على العمل بالعام الذي هو الدليل على حجية العموم هو رجوعهم إليه في إثبات حكم العام ولوازمه في مورد تحقق عنوانه، لا في نفي عنوان العام في مورد انتفاء حكمه.

ص: 175


1- يراجع الوسائل ج: 15، باب 24 من أبواب العدد من كتاب الطلاق.
2- راجع الوسائل ج: 13، باب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه.

وبهذا ظهر أن البناء على حجية الاستصحاب من باب الظن النوعي بنحو يلحق بالأمارات لا يستلزم حجيته في لازم مجراه، لإمكان اقتصار العقلاء في العمل بالظن المذكور على خصوص مؤداه دون لوازمه.

وما يظهر من بعضهم من استلزام ذلك لحجيته في اللوازم، لأن الظن بالملزوم مستلزم للظن باللازم في غير محله.

تميم

تتميم وتلخيص

قد ظهر من جميع ما تقدم أن التعبد بالشيء بنفسه بالأمارة أو الأصل لا يقتضي التعبد بلوازمه غير الشرعية ولا بما يترتب عليها من الآثار الشرعية. إلّا أن يدل عليه الدليل بالخصوص، إما لعموم دليل الحجية للوازم، كما تقدم في بعض الأمارات، أو لورود التعبد في خصوص مورد ينحصر فيه الأثر بذلك، حيث يتعين الالتزام به رفعاً للغوية، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الإطلاق، حيث ترتفع اللغوية فيه بتنزيله على خصوص الموارد التي يكون للأمر المتعبد به أثر شرعي بلا واسطة.

كما أن إطلاق التعبد بالشيء يقتضي التعبد بجميع آثاره الشرعية، بضميمة الملازمة العرفية التي تقدم التعرض لها آنفاً.

إلّا أن هذا لا ينافي قيام الدليل الخاص على التفكيك بين الآثار المذكورة وعدم التعبد ببعضها، مثل ما قيل من ثبوت الضمان بشهادة رجل وامرأتين بالسرقة دون الحد. فلاحظ.

ص: 176

المبحث الثاني: في عدم المعارض
اشارة

من الظاهر أن فعلية التعبد بمقتضى الأصل أو الأمارة مشروطة بعد تحقق موضوعها بعدم ما يكون مقدماً عليه رتبة في مقام العمل، كما أنها مشروطة بعدم المعارض الراجح أو المكافئ، على ما يأتي تفصيله في مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

وحيث كان الاستصحاب يشارك بقية أنحاء التعبد في ذلك كان المهم النظر في نسبته إلى بقية أنحاء التعبد. إلّا أنه حيث كان الكلام في ذلك يبتني..

تارة: على كبريات عامة يشارك الاستصحاب فيها غيره، كتقديم السببي على المسببي، والتعبد الشرعي على الأصل العقلي.

وأخرى: على ما يخص الاستصحاب، لخصوصية في موضوعه ودليله.

كان المناسب إيكال الجهة الأولى إلى ما يأتي في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى، للاستغناء به في المقام، ويخص الكلام في هذا المبحث بالجهة الثانية.

فاعلم أنه اشتهر بين متأخري الأصحاب تأخر الاستصحاب عن

ص: 177

سائر الأمارات والطرق، وتقدمه على سائر الأصول التي أخذ في موضوعها محض الشك، كأصالتي البراءة والطهارة وغيرهما.

ولا يبعد بناء القدماء بحسب ارتكازاتهم على ذلك أيضاً، وإن لم يتوجهوا لضبطه، حيث أوجب ذلك غفلتهم واضطرابهم في مقام العمل والاستدلال في المسائل الفرعية، حيث قد يعارضون الدليل بالاستصحاب أو يرجحونه عليه، كما قد يعارضون الاستصحاب بغيره من الأصول أو يرجحونها عليه، وإلّا فمن البعيد خروجهم عن الضابط المذكور والتزامهم بلوازم ذلك.

يقع الكلام في أمرين

وكيف كان، فالكلام يقع في أمرين..

الأمر الأول تقديم الأمارة والطريق على الاستصحاب

الأمر الأول: في تقديم الأمارة والطريق على الاستصحاب.

ولهم في ذلك مبان ثلاثة..

الأول: التقديم بمعيار الورود

المبنى الأول: الورود الراجع إلى أن دليل حجية الأمارة موجب لورودها على الاستصحاب، ورفعها لموضوعه حقيقة.

توجيهه

وقد يُوجَّه ذلك بدعوى: أن المراد بالشك الذي تضمن الاستصحاب عدم نقضه لليقين ليس هو الحالة النفسية المقابلة لليقين التي لا ترتفع، بقيام الحجة، بل إما خصوص التحير وعدم الدليل، أو ما يقابل اليقين ولو بالحكم الظاهري. وحينئذٍ يكفي في ارتفاع الشك حقيقة قيام الحجة، لأنها دليل رافع للتحير موجب لليقين بالحكم الظاهري.

اندفاعه

وتندفع: بأن حمل الشك على ذلك مخالف للظاهر، لظهور مقابلته لليقين في كبرى الاستصحاب في كون المراد به الحالة النفسية المقابلة لليقين المتحدة معه موضوعاً، كما هو معناه لغة وعرفاً، على ما تقدم في

ص: 178

الأمر الثاني من الفصل الأول في أركان الاستصحاب.

أخذ اليقين في الاستصحاب بما هو طريق لا صفة

وأما ما تقدم في الأمر الأول من الفصل المذكور من أن اليقين لم يؤخذ في موضوع الاستصحاب بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق صالح لأن يعتمد عليه، ومن ثم يتعين التعدي لسائر الطرق، وبه تم توجيه استصحاب مؤدى الطرق.

فهو انما يقتضي حمل الشك بمقتضى المقابلة على كونه مأخوذاً لا بخصوصه وبما هو صفة خاصة، بل بما هو أمر غير حجة ولا يعتمد عليه في نفسه، ومن الظاهر أن الشك بتمام أفراده كذلك، وليس منه ما هو حجة في نفسه، لينصرف عنه الشك بمقتضى القرينة المذكورة. وقيام الطريق المعتبر لا ينافي ذلك ليرتفع به موضوع الاستصحاب، بل الاعتماد - في ظرف قيام الطريق - على الطريق، لا على الشك المقارن له.

وغاية ما يقتضيه الوجه المشار إليه هو التعدي لغير الشك - كالقياس - مما لا يصلح لأن يعتمد عليه في نفسه، فلا يصلح لنقض اليقين، كالشك المقارن له، وليس هو مورداً للإشكال.

بل لو فرض كون مفاد الدليل جعل حجية نفس الشك - مثل ما دل على حجية الظن بالركعات - فهو مخصص لكبرى الاستصحاب، لأن عدم نقض اليقين بالشك مستلزم لعدم حجيته، فدليل حجية بعض أفراده مخصص لذلك.

نعم، لو فرض هناك شك يكون عند العقلاء حجةً بنفسه وليس حجة تعبدية كان مقتضى ما تقدم انصراف الشك في المقام عنه. فلاحظ.

وبالجملة: لا مجال لدعوى: ارتفاع موضوع الاستصحاب حقيقةً

ص: 179

بقيام الطريق المعتبر، ليكون الطريق وارداً على الاستصحاب، لفرض بقاء الشك وعدم اعتباره معه، فلا مجال لنقض اليقين به، بل يلزم العمل معه على مقتضى اليقين بالسابق، لإطلاق دليل الاستصحاب، فيعارض الطريق المذكور.

الإشكال فيما ذكره الخراساني قدس سره

في توجيه الورود

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في توجيه الورود في المقام من أن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب قيام أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك، بل باليقين.

فإنه إن رجع إلى أن المراد بالشك صورة عدم اليقين ولو بالحكم الظاهري، فقد عرفت الإشكال فيه.

وإن رجع إلى أن النقض ليس بالشك، بل باليقين بالحكم الظاهري المسبب عن قيام الأمارة والمقارن للشك.

فهو - مع عدم صلوحه لتوجيه الورود، لعدم منافاته لبقاء موضوع الاستصحاب، وهو الشك - موقوف على فعلية حجية الأمارة، الموقوفة على عدم جريان الاستصحاب، ولا وجه له مع فرض بقاء موضوع الاستصحاب، وهو الشك وعموم دليله.

المختار في تقديم الأمارات على الأصول بالورود

فلعل الأولى توجيه تقديم الطرق والأمارات على الاستصحاب بوجه يرجع إلى الورود بالتأمل..

وحاصله: أن مقتضى أخبار الاستصحاب النهي عن نقض اليقين بالشك، لا عن نقضه مع الشك ولو كان بأمرٍ آخر غيره، ومن الظاهر أن مقتضى دليل حجية الأمارة ليس هو نقض اليقين بالشك المقارن لها لينافي عموم الاستصحاب، بل نقصه بالأمارة بخصوصيتها، فلا تنافي أخبار

ص: 180

الاستصحاب بوجه.

فهو نظير قولنا: لا تنقض خبر زيد بخبر عمرو، الذي لا يمنع من نقض خبر زيدٍ بخبر بكرٍ وإن قارن خبر عمروٍ.

إن قلت: هذا ينافي ما في ذيل صحيحة زرارة الأولى من قوله عليه السلام: «وإنما تنقضه [ولكن ينقضه خ. ل] بيقين آخر» لظهوره في حصر الناقض لليقين باليقين وعدم انتقاضه بغيره وإن كان أمارة.

قلت: تقدم أن أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب ليس بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق تقوم مقامه سائر الطرق المعتبرة، وذلك جار في اليقين الذي تضمنه الذيل المذكور، لوضوح بعد التفكيك بينهما فيه.

على أنه لو غض النظر عن ذلك تعين حمل الحصر المذكور على كونه حصراً إضافياً بلحاظ حالتي المكلف النفسية من اليقين والشك، لا حقيقياً، ليعم الأمارة الخارجة عن حالات المكلف، فهو أمر ارتكازي وارد مورد التأكيد لما تضمنه الصدر من عدم نقض اليقين بالشك، لا لبيان أمر زائد على ذلك، هو عدم صلوح غير اليقين والشك لنقض اليقين، ليكون أمراً تعبدياً رادعاً عما عليه العقلاء من حجية بعض الأمارات وناقضيتها لليقين. ولا سيما مع ورود ذلك في النوم الذي لا يتيسر غالباً قيام الأمارة المعتبرة عليه.

إن قلت: لازم ذلك عدم البناء على المتيقن السابق في ظرف وجود غير الشك مما هو خارج عن حالات المكلف النفسية وغير معتبر في نفسه - كالقياس - لعدم الدليل على عدم نقض اليقين به - بعد فرض كون الحصر إضافياً - لا بمعنى البناء على مؤداه لفرض عدم حجيته فيه، بل بمعنى

ص: 181

التوقف وعدم البناء على مقتضى المتيقن السابق والرجوع إلى أصلٍ آخرٍ غير الاستصحاب.

قلت: لما كان المستفاد من عدم نقض اليقين بالشك اقتضاء اليقين السابق للبناء على البقاء واحتياجه للناقض، فما لم تثبت ناقضيته - لعدم ثبوت حجيته - لا طريق لرفع اليد به عن المقتضي المذكور ارتكازاً، ولولا ذلك لم يترتب الأثر على عدم نقض اليقين بالشك، إذ لابد من مقارنة الشك لغيره مما لا يكون حجة بنفسه ويمكن عقلاً ناقضيته لليقين، بمعنى التوقف وعدم البناء على بقاء المتيقن معه.

لكن الإنصاف: أن الارتكاز المذكور راجع إلى ما ذكرناه أولاً من ارتكاز أن ذكر اليقين في الذيل ليس لخصوصيته، بل بما هو طريق يقوم مقامه سائر الطرق مع كون الحصر حقيقياً ومقتضاه إلحاق كل ما ليس طريقاً معتبراً بالشك في عدم نقض اليقين السابق به.

ومن هنا يتضح أن مقتضى الذيل المذكور ناقضية الأمارة المعتبرة لليقين السابق وإن لم تكن يقيناً، بل يبقى معها الشك الذي لا يصلح لنقض اليقين، فيكون مؤكداً لما ذكرناه من عدم منافاة دليل الاستصحاب لدليل حجية الأمارة.

إن قلت: النقض في المقام وإن لم يكن بالشك، بل بالأمارة، إلّا أنه بعد فرض تحقق موضوع الاستصحاب ببقاء الشك يلزم التعبد ببقاء المتيقن السابق، فينافي مفاد الأمارة ويتعارضان، ولا وجه لتقديم الأمارة.

قلت: التعبد بالمتيقن في الاستصحاب فرع عدم نقض اليقين، لعدم صلوح الشك له، فمع فرض انتقاض اليقين بالأمارة - بمقتضى إطلاق دليلها -

ص: 182

لا مجال للتعبد بالمتيقن، فالاستصحاب مع الأمارة، كاللامقتضي مع المقتضي، حيث لاشك في تأثير المقتضي مع اجتماعهما.

ولذا لا إشكال في أنه لو ثبت عدم نقض خبر زيد بخبر عمرو ونقضه بخبر بكر، لزم العمل بخبر بكر ونقض خبر زيد به، وأن اجتمع مع خبر عمرو.

فالاستصحاب مع الأمارة كحكم العنوان الأولي مع حكم العنوان الثانوي، الذي يكون عليه العمل به عند اجتماعهما.

إن قلت: هذا إنما يقتضي تقديم الأمارة على الاستصحاب مع اختلافهما، أما مع اتفاقهما فهو لا يقتضي تقديمها، بل جريانهما معاً، لاجتماع موضوعيهما، مع أن المرتكز تقدم الأمارة رتبة، كيف! ولازم جريانهما معاً سقوطه مع الأمارة الموافقة له لو فرض تعارض الأمارتين، مع ظهور اتفاقهم - تبعاً للمرتكزات - على كونه مرجعاً بعد تعارض الأمارتين.

قلت: مرجع المرتكزات العقلائية في المقام على تقدم الأمارة على الاستصحاب رتبة ليس إلى ارتفاع موضوعه معها، بل إلى كونها الأولى بأن يعول عليها عند اجتماعهما بملاك أن الاعتماد في البناء على بقاء الشيء على المقتضي إثباتاً لبقائه المستقل بالتأثير أولى من الاعتماد فيه على عدم المقتضي إثباتاً لارتفاعه بلحاظ أن من شأنه البقاء، لأن مبنى الاستصحاب على البناء على بقاء الشيء لعدم الدليل على ارتفاعه، ومبنى الأمارة الموافقة له على البناء على البقاء لكونها دليلاً عليه.

واختلافهما في ذلك هو الموجب لكونه مرجعاً بعد تساقط الأمارتين المتعارضتين، لوضوح أن التزاحم إنما هو بين الجهتين الاقتضائيتين، ولا دخل للجهة غير الاقتضائية فيه، بل تكون هي المرجع بعد سقوط الجهتين

ص: 183

الاقتضائيتين معا.

وإن شئت قلت: لا يكفي في فعلية التعبد ببقاء المتيقن عدم نقض اليقين بالشك المفروض حصوله في المقام، ليكون الاستصحاب في عرض الأمارتين المتعارضتين اللتين كان مقتضى كل منهما التعبد بمؤداها، كي يسقط معهما بالمعارضة، بل تتوقف فعلية التعبد بالمتيقن مع ذلك على عدم انتقاض اليقين بأمر آخر غير الشك، كما سبق، وهو موقوف على سقوط الأمارة المخالفة بالمعارضة للأمارة الموافقة له.

فهو وإن لم يكن متأخراً رتبة عن الأمارة الموافقة له، لعدم ارتفاع موضوعه بسببها، فلا تكون واردة عليه، إلّا أن فعلية التعبد بالمتيقن بمقتضى الاستصحاب في ظرف تعارض الأمارتين موقوفة على سقوطهما معاً بالمعارضة، فلا يكون في عرضهما ليسقط معهما.

الفرق بين عدم نقض اليقين وبين التعبد بالمتيقن

وبالتأمل في جميع ما ذكرنا يظهر أن لنا في المقام أمرين..

الأول: عدم نقض اليقين بالشك، وهو مفاد الكبرى المصرح بها في النصوص.

الثاني: التعبد بالمتيقن السابق، وهو مترتب على الأول.

ولأجله سيقت الكبرى المتقدمة، والاستصحاب عبارة عنه لا عن الأول، لما تقدم من أنه الحكم بالبقاء.

وموضوع الأول محض اليقين والشك، وهو لا يرتفع بالأمارة المخالفة له ولا الموافقة، فلا تكونان واردتين عليه، بل يكون في رتبتهما.

أما الثاني فلابد فيه - مع عدم نقض اليقين بالشك - من عدم انتقاض اليقين السابق بأمر آخر غير الشك، لما تقدم من أنه مع اجتماع المقتضي

ص: 184

واللامقتضي يكون التأثير للمقتضي، فالأمر المذكور مأخوذ في موضوع الاستصحاب لُباً، وإن لم يصرح به لفظاً.

ومن الظاهر أن ذلك يرتفع حقيقةً بقيام الأمارة المخالفة، فهي من سنخ المانع منه الرافع لموضوعه المتقدم عليه رتبة، فيصح دعوى ورودها عليه بلحاظ ذلك، لا بلحاظ رفعها للشك، كما هو مدعى القائلين بالورود.

أما الأمارة الموافقة فلا مجال لدعوى ورودها على الاستصحاب، لتمامية موضوعه معها.

كما لا وجه لتقدمها عليه رتبة، إلّا بلحاظ ما أشرنا إليه من ارتكاز أولوية الاستناد في البقاء إلى وجود ما يقتضيه من الاستناد إلى عدم المقتضي لارتفاعه.

وبذلك يتجه كون الاستصحاب مرجعاً بعد تساقط الامارتين، لعدم فعليته إلّا في رتبة متأخرة عن سقوط الأمارة المخالفة بالمعارضة، وإن لم يكن متأخراً رتبة عن الأمارة الموافقة. فتأمل جيداً.

ما أشار إليه الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل

ثم إن هذا الوجه قد أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل، لكنه ساقه لبيان ورود الأمارة على الاستصحاب مجيباً عن إشكال منافاة حجية الأمارة لما تضمنه الذيل من حصر الناقض باليقين بأن نقض اليقين بالأمارة نقض له باليقين، بلحاظ العناوين الثانوية الناشئة من قيام الأمارة الموجبة لليقين بالحكم الفعلي الظاهري على خلاف الحالة السابقة.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم.

وكان الأولى له الجواب عن ذلك: بأنه وإن لم يكن نقضاً له باليقين، إلّا أنه ملحق به بلحاظ ما ذكرناه من أخذ اليقين بما هو طريق لا بما هو صفة.

ص: 185

فلاحظ.

هذا، وربما يوجه الورود بوجه آخر يبتني على كون عموم الاستصحاب ارتكازياً، تأتي الإشارة إليه في الوجه الأول من وجهي الجمع العرفي. ولا بأس به في نفسه. وإن كان الوجه الذي ذكرناه مغنياً عنه. فلاحظ.

الثاني: التقديم بمعيار الحكومة وكلام الشيخ الأعظم قدس سره

المبنى الثاني: أن دليل حجية الأمارة موجب لحكومتها على الاستصحاب. وهو مبني على غض النظر عن دعوى الورود المتقدمة.

وقد ذهب إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره بدعوى: أن دليل حجية الأمارة في ظرف الشك يقتضي رفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف، ومنها الاستصحاب. قال: - بعد بيان ضابط الحكومة - «ففيما نحن فيه إذا قال الشارع: اعمل بالبينة في نجاسة ثوبك، والمفروض أن الشك موجود مع قيام البينة على نجاسة الثوب، فإن الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبينة برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبينة التي منها استصحاب الطهارة».

مناقشته

لكن لا يخفى أن مجرد حكم الشارع بوجوب العمل بالبينة لا يقتضي رفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف - ومنها الاستصحاب - إلّا بلحاظ منافاة العمل بالبينة لتلك الآثار، فلو فرض عدم التنافي لم ينهض برفعها.

وهذا وحده لا يكفي في الحكومة قطعاً، لجريانه في جميع موارد تعارض الأدلة، لوضوح أن دليل حجية كل دليل لما كان مقتضياً للعمل به كان منافياً للعمل بالدليل المعارض له، فيستلزم رفع اليد عن وجوب العمل به الذي هو من آثار قيامه، فإذا حكم الشارع بمقتضى عدم نقض اليقين بالشك بوجوب البناء على طهارة الثوب، فحيث كان ذلك منافياً لوجوب

ص: 186

البناء على نجاسته، الذي هو من آثار قيام البينة لزم منه رفع اليد عن الوجوب المذكور.

توجيه الحكومة المدعاة

نعم، إذا كان مفاد دليل البينة إلغاء احتمال الخلاف ادعاء، وتنزيله منزلة العدم، لتنزيلها منزلة العلم اتجهت دعوى الحكومة في المقام، لأن ارتفاع موضوع أحد الدليلين أو تحققه تنزيلاً بسبب الآخر موجب عندهم لحكومة الثاني على الأول، كما يقتضي تقدمه عليه في الجملة - على ما يأتي الكلام فيه في محله من مباحث التعارض إن شاء الله تعالى - كما هو الحال في مثل: لا شك لكثير الشك، والمطلقة رجعياً زوجة وعلى هذا جرى بعض الأعيان المحققين قدس سره في المقام.

وربما كان هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره في المقام، كما قد يومئ إليه تفسيره للحكومة بما يلائم ما ذكرناه في ضابطها. بل هو صريح ما في بعض النسخ الأخر، لقوله فيها: - بعد تفسير الحكومة بما ذكرناه صريحاً - «فإن الشارع جعل الاحتمال المخالف للبينة كالعدم».

لكن عدوله عن النسخة المذكورة - كما هو الظاهر - وإجمال كلامه في مبحث التعارض أو ظهوره في ما نقلناه عنه أولاً موجب للريب في إرادته لذلك.

وكيف كان، فالتوجيه المذكور يبتني على ما تقدم التعرض له غير مرة من الكلام في استفادة التنزيل المذكور من أدلة اعتبار الأمارات، وأنه لا أصل له. وقد تقدم تفصيله في مبحث القطع الموضوعي.

ما استشكله الخراساني قدس سره في تقريب الحكومة

هذا، وقد استشكل المحقق الخراساني قدس سره في تقريب الحكومة في

ص: 187

المقام بما يرجع إلى الكلام في ضابط الحكومة.

ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، بل يوكل لمبحث التعارض.

تقريب النائيني قدس سره للحكومة

أما بعض الأعاظم قدس سره فقد قرب حكومة الأمارة على الاستصحاب وغيره من الأصول بناء على مسلكه في أدلة الحجية من أن مفادها إلغاء احتمال الخلاف تشريعاً، للحكم فيها بإحراز الواقع بسبب الأمارة، بأنه حيث كان الشك مأخوذاً في موضوع الأصول كانت الأمارة رافعة لموضوعها تشريعاً، وإن كان باقياً حقيقةً، وذلك هو المعيار في الحكومة.

وهو مبني على مسلكه في مفاد أدلة الأمارات، وفي تفسير الحكومة، وقد تقدم الكلام في الأول في مبحث القطع الموضوعي، ويأتي الكلام في الثاني في مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

الثالث: أنه مقتضى الجمع العرفي

المبنى الثالث: أن مقتضى الجمع العرفي بين عموم الاستصحاب وعمومات حجية الأمارات هو تقديم الأمارة لو غض النظر عما سبق من دعوى الورود أو الحكومة.

تقديم عموم حجية الأمارة لوجهين:

وذلك لأنه وإن كان بين عموم حجية كل أمارة وعموم الاستصحاب عموم من وجه بدواً، إلّا أن عموم الحجية مقدم لوجهين..

الأول: مانعية الارتكاز من انعقاد ظهور كبرى الاستصحاب

الأول: أن كبرى الاستصحاب في الأدلة لما كانت ارتكازية، كما تقدم غير مرة، وكان المرتكز عرفاً عدم الرجوع للقضية المذكورة مع الدليل، فالارتكاز المذكور إن كان من الوضوح بحيث يكون من القرائن المحيطة بالكلام كان مانعاً من انعقاد ظهور كبرى الاستصحاب في ما يعم قيام الأمارة المعتبرة وكان مرجع ذلك إلى الورود، فيجري فيه ما سبق.

وإلّا كان قرينةً عرفيةً على تقديم عمومها على عمومه وترجيحه في

ص: 188

مورد التنافي.

الثاني: لزومه كثرة التخصيص المستهجن

الثاني: أن تقديم أدلة الحجج على الاستصحاب لا يوجب كثرة التخصيص المستهجن أو الموجب للغوية عموم الاستصحاب عرفاً، لكثرة موارد فقد الأمارة المعتبرة، بخلاف العكس، وهو تقديم دليل الاستصحاب على أدلة الحجج، فإنه موجب لكثرة تخصيصها، إذ لا يبقى تحتها إلّا مورد اتفاق الاستصحاب معها، ومورد عدم جريان الاستصحاب لمعارضة أو جهل بالحالة السابقة أو نحوهما، والأول لا يصحح عرفاً جعل الأمارة، للاستغناء فيه بالاستصحاب عنها، والثاني نادر يبعد عرفاً كونه غرضاً مصححاً لعمومهاً.

وأما التفكيك بين الموارد، فتقدم الأمارة على الاستصحاب في بعض وتؤخر عنه في بعض، فلا مجال له، لعدم الفرق عرفاً بين الموارد من هذه الجهة، ليتوجه الجمع به عرفاً بين الدليلين، بل لابد إما من تقديمه عليها في الجميع أو تقديمها عليه كذلك، والمتعين الثاني، لما ذكرنا.

كون الاستصحاب مرجعاً بعد تساقط الحجية

ثم إن هذين الوجهين يشركان في كون الاستصحاب مرجعاً بعد تساقط الأمارتين المتعارضتين، لأن قصور عمومه عن شمول مورد الأمارة المخالفة موجب لعدم فعلية جريانه إلّا بعد سقوطها بالمعارضة، كما تقدم نظيره في أواخر الكلام في توجيه الورود. كما يشتركان في جريانه مع الأمارة الموافقة له، لعدم التنافي بين العمومين، ليمتنع حجيتهما معاً.

هذا، ولا يخفى أن المبنى المذكور وإن كان متجها في نفسه إلّا أنه مختص بما إذا كان لدليل حجية الأمارة عموم في نفسه.

لو كان دليل الحجية لبياً

أما إذا كان دليله لُبياً، كحجية الظواهر ونحوها مما كان حجة ببناء

ص: 189

العقلاء أو الإجماع، فلا معنى للجمع العرفي حينئذ.

التفصيل بين ما كان حجة تعبداً وبين ما كان حجة ببناء العقلاء

بل ينبغي التفصيل بين ما كان من الأمارات حجة بدليل تعبدي - كالإجماع والأدلة اللفظية التي لا عموم فيها - وما كان منها حجة ببناء العقلاء الذي لابد في حجيته من عدم الردع عنه.

أما الأول فإن قطع بشمول دليله لمورد معارضته بالاستصحاب وجب العمل به لتخصيص عموم الاستصحاب بدليله، وإلّا لزم العمل بالاستصحاب، لا لتقديمه على الأمارة، بل لانفراده بالحجية بعد عدم حجية الأمارة في نفسها، لفرض قصور دليلها.

ولذا يعمل بالاستصحاب في مثل ذلك حتى بناء على ما تقدم من ورود الأمارة على الاستصحاب وارتفاع موضوعه بها.

وأما الثاني فالظاهر أن عموم الاستصحاب بعد فرض حجيته صالح للردع عنه، على ما تقدم نظيره في مبحث خبر الواحد عند الكلام في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

إلّا أن يثبت إمضاؤه في مورد الاستصحاب، فيكون دليل الإمضاء مخصصاً لعموم الاستصحاب، نظير ما يأتي في اليد ونحوها.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بورود الأمارة المعتبرة على الاستصحاب، فإن الاستصحاب حينئذٍ لا يصلح للردع عنها، لتأخره رتبة، بل مقتضى أصالة عدم الردع حجيتها ورفعها لموضوعه. فلاحظ.

الأمر الثاني: في تقديم الاستصحاب على بقية الأصول

الأمر الثاني: في تقدم الاستصحاب على بقية الأصول الشرعية التي لم يؤخذ في موضوعها إلّا الشك.

والظاهر أن المباني الثلاثة التي تقدم التعرض لها في الأمر الأول

ص: 190

تجري هنا، كما يظهر بالنظر في كلماتهم وأدلة الاستصحاب وبقية الأصول.

فالمناسب النظر في كل منها على حدة..

المبنى الأول: ورود الاستصحاب عليها وتقريبه بوجهين

المبنى الأول: أن أدلة الاستصحاب واردة على أدلة الأصول المذكورة، كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره وقد يقرب بوجهين:

الأول:

الأول: ما ذكره قدس سره في حاشيته على الرسائل فإنه - بعد أن وجه ورود أدلة الأمارات على الاستصحاب بما تقدم من أن نقض اليقين في مورد الأمارة بالأمارة لا بالشك، وأنه يرجع إلى نقض اليقين باليقين بوجه - قال: «ثم إن وجه تقديم الاستصحاب على سائر الأصول هو بعينه وجه تقديم الأمارات عليه، فإن المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان مما علم حكمه وإن شك فيه بعنوان آخر، وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات».

مناقشته

وفيه.. أولاً: أن ما ذكره من أن موضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات إن أراد به الشك في الحكم الواقعي مطلقاً وإن كان ثانوياً - كحرمة الغصب - فهو مسلَّم، إلّا أن الاستصحاب لا يوجب العلم بالحكم بالمعنى المذكور، ليصلح لرفع موضوع الأصول، بل يوجب العلم بالوظيفة العملية الظاهرية غير المنافية للشك في الحكم الواقعي.

وإن أراد به الشك الموجب للتحير، الراجع إلى عدم العلم حتى بالوظيفة العملية، المرتفع بالاستصحاب، فهو غير مسلَّم في الأصول الشرعية، بل الظاهر اختصاص موضوعها بالشك في الحكم الواقعي، وإنما يسلَّم في الأصول العقلية، وما جرى مجراها من البيانات الشرعية، كقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»(1)، على ما تقدم في مبحث

ص: 191


1- سورة الاسراء: 15.

البراءة توضيحه، وهي خارجة عن محل الكلام، كما سبق.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لما ذكره في موضعٍ آخرٍ من حاشيته(1) من مقايسة المقام بما إذا كان الشيء مشكوك الحرمة بعنوانه الأولي، معلوم الحرمة بالعنوان الثانوي، كالتبغ المغصوب، حيث لا إشكال في خروجه بسبب العلم بالحرمة الثانوية عن عموم دليل الأصول.

للفرق بأن الحرمة الثانوية تكليف واقعي والاستصحاب لا يقتضيها، كما ذكرنا.

وثانياً: أنه لا وجه للفرق بين موضوع الاستصحاب وموضوع غيره من الأصول، بل لو كان موضوع تلك الأصول هو المشكوك من جميع الجهات، فليكن موضوع الاستصحاب كذلك، بل هو مقتضى الوجه الذي ذكره لتقديم الأمارة عليه، حيث فرضها موجبةً لليقين بوجه، وعليه يكون العلم بالوظيفة الفعلية بمقتضى الأصول المذكورة رافعاً لموضوع الاستصحاب.

وأما ما قد يستفاد مما ذكره في الموضع الآخر من حاشيته من أن الأصول المذكورة لا تقتضي الحكم على الشيء بالحرمة أو الإباحة بعنوان خاص، بل بلا عنوان أصلاً، وهو لا يكفي في رفع موضوع الاستصحاب.

فهو مندفع: بأن الأصول المذكورة قد أخذ في أدلتها عناوين خاصة، كعنوان الجهل بالتكليف في الحكم بالبراءة، أو شبهة الحرمة في الحكم بالاحتياط عند الأخباريين. مع أنه يكفي في رفع موضوع الاستصحاب

ص: 192


1- تعرض لذلك في تعقيب كلام شيخنا الأعظم قدس سره في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول. (منه عفي عنه).

اليقين بالحكم ولو كان بلا عنوان. فلاحظ.

ولا مجال لمقايسة المقام بالأمارة، لوضوح أنه لم يؤخذ في موضوع الأمارة الشك شرعاً، ليمكن دعوى أن المراد به الشك من جميع الجهات، المرتفع بمقتضى الأصل.

غاية الأمر استحالة جعلها مع العلم بالحكم الواقعي، للزوم اللغوية، ومن الظاهر عدم كون الأصل موجباً له، كي يتوهم مانعيته عن حجيتها.

الثاني:

الثاني: أن العلم المجعول غايةً في بعض أدلة الأصول والرافع لموضوعها حسبما يستفاد عرفاً من أدلتها لم يؤخذ بما هو صفة خاصة، بل، بنحو الطريقية بلحاظ كونه منشأ للبناء على متعلقه وإحرازه، والاستصحاب يقوم مقامه في ذلك، لأنه أصل إحرازي، على ما أشرنا إليه في استصحاب مؤدى الأصل وأوضحناه في مباحث القطع الموضوعي. فراجع.

مناقشته

ويشكل.. أولاً: بأن هذا - لو تمَّ - لم ينفع في تقديمه على مثل أصالتي الحل والطهارة مما يتضمن التعبد بالحكم كالاستصحاب، لما تقدم من أن اليقين الرافع للاستصحاب لم يؤخذ بنحو الصفتية، بل بنحو الطريقية أيضاً، فيقوم مقامه الطرق والأصول الإحرازية والتعبدية، فكما يصلح الاستصحاب لرفع موضوع مثل هذين الأصلين يصلحان هما لرفع موضوعه، فلابد في تقديمه من وجه آخر.

نعم، ينفع في مثل أصل البراءة والاحتياط عند الأخباريين مما لم يتضمن إلّا الرفع والسعة، أو الضيق بالاحتياط، في مقام العمل، من دون أن يقتضي التعبد والإحراز المستتبعين للبناء العملي على التكليف أو عدمه، فلا ينهض برفع موضوع الاستصحاب، بل يتعين العكس لا غير.

ص: 193

وثانياً: بأنه يصعب إثبات كون العلم الرافع لموضوع الأصول المذكورة مأخوذاً بنحو الطريقية، لا بنحو الصفتية، لمخالفته لمقتضى الجمود على لفظ العلم من دون قرينة واضحة على ذلك.

ومجرد اختصاص القضية الارتكازية بذلك - مع أنه لا ينفع في احتياط الأخباريين الذي هو تعبدي محض لا ارتكازي - لا يكفي فيه بعد عدم الإشارة في أدلة هذه الأصول إلى القضية المذكورة، وإنما استفيد ذلك في الاستصحاب لسوق كبرى عدم نقض اليقين بالشك مساق التعليل بالأمر الارتكازي.

نعم، لو ثبت تقديم الطرق والأصول الإحرازية على هذه الأصول فربما يكون وجه الجمع العرفي حينئذٍ الحمل على ذلك بعد فرض التنافي بدواً.

إن قلت: لازم ذلك تقديم الأصول التعبدية، كأصالتي الحل والطهارة على الاستصحاب، لصلوحها لرفع موضوعه بعد فرض كون اليقين مأخوذاً فيه على نحو الطريقية، دون العكس، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك.

قلت: لما كان موضوع هذه الأصول محض الشك، فإطلاقها بنحو يشمل مورد الاستصحاب يقتضي ترتب الأثر على الشك الخاص ونقض اليقين السابق به، فينافي دليل الاستصحاب المتضمن لعدم نقض اليقين بالشك، وإنما لم ينافه دليل الأمارة، لأنه يقتضي نقض اليقين بها، لا بالشك المقارن لها. وقد تقدم في توجيه تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب ما له نفع في المقام. فراجع(1).

هذا تمام الكلام في توجيه الورود في المقام. ولم يتضح حتى الآن ما

ص: 194


1- تقدم في صفحة: 160.

ينهض بتوجيهه، فلا مجال للبناء عليه.

المبنى الثاني: حكومة الاستصحاب عليها

المبنى الثاني: أن الاستصحاب حاكم على الأصول المذكورة، كما يظهر من جملة من الأعاظم، وقد سبقهم لذلك شيخنا الأعظم قدس سره فإنه بعد اعترافه دفعاً لتوهم الورود بظهور أدلة البراءة - ومنها حديث الإطلاق - في كون موضوعها الشك في النهي الواقعي بلحاظ عنوانه الذاتي، لا ما يعم الظاهري الوارد عليه بعنوان كونه مشكوك الحكم، قال: «إن دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» يدل على أن النهي الوارد لابد من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللّاحق، وفرض الشيء في الزمان اللّاحق مما ورد فيه النهي أيضاً.

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وكل نهي ورد في شيءٍ فلابد من تعميمه لجميع أزمنة احتماله، فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيىّ بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي. وهذا معنى الحكومة، كما سيجيء في باب التعارض».

أقول: من الظاهر أن مفاد الاستصحاب ليس هو الحكم بعموم النهي - المتيقن سابقاً - واستمراره واقعاً، ليكون متمماً لدلالة دليل النهي وكاشفاً بضميمته عن النهي في مورد الشك، كي يحكم على الأصل بملاك حكومة الأمارة عليه - على ما يأتي في مبحث التعارض - لعدم كون الاستصحاب دليلاً اجتهادياً متعرضاً للأحكام الواقعية، بل لا يتضمن إلّا بقاء النهي والتعبد

ص: 195

به ظاهراً بعنوان كونه مشكوك البقاء، فلا وجه لحكومته على الأصل بعد كون - موضوعه كموضوع الاستصحاب - الشك في الحكم الواقعي، الذي لا يرتفع بالاستصحاب، على ما اعترف به في صدر كلامه.

بل حيث كان كل منهما متعرضاً للوظيفة الظاهرية على خلاف ما يقتضيه الآخر كان اللازم التعارض بينهما من دون مرجح لأحدهما يقتضي حكومته على الآخر.

ودعوى: أن ما أُخذ في موضوع البراءة بحسب ظاهر أدلتها وإن كان هو النهي الواقعي الوارد على الشيء بعنوانه الأولي، إلّا أن دليل الاستصحاب صالح لتفسيره وحمله على ما يعم النهي الظاهري الوارد على الشيء بعنوان كونه نقضاً لليقين بالشك، كما هو الحال في موارد التنزيل، حيث يدل دليل التنزيل على عموم حكم المنزل عليه للمنزل، وإن كان على خلاف ظاهر دليله في نفسه، مثل ما تضمن وجوب الإنفاق على الزوجة مع ما تضمن أن المطلقة رجعياً زوجة.

مدفوعة: بأن التنزيل متقوم بأحكام المنزل عليه وخواصه، فدليله ناظر لتلك الأحكام وشارح لموضوعها عموماً أو خصوصاً، فيكون حاكماً على أدلتها بوجه يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في مبحث التعارض.

أما التعبد فهو راجع إلى إحراز الأمر المتعبد به المقتضي لترتب العمل عليه بلا واسطة أو بواسطة التعبد بأثره الشرعي، كما تقدم، فالتعبد ببقاء النهي إنما ينفع في ترتب العمل عليه، وحيث كان التعبد منافياً عملاً لمفاد الأصول الأخر لزم التعارض بينها من دون مرجح له يقتضي حكومته عليها، لعدم نظره إليها، ليكون مفسراً لموضوعها.

ص: 196

وأما ما فرضه من ورود مفاد الاستصحاب عقيب مفاد البراءة في كلامٍ واحد، فالوجه في صلوح مفاد الاستصحاب معه لتفسير مفاد البراءة أن الكلام بعضه قرينة على المراد ببعض بنحوٍ يصرفه عما يكون ظاهراً فيه لولاه، ويكفي فيه أقوائية دلالة القرينة من دلالة ذي القرينة، وإن لم يكن مفاد القرينة حاكماً على مفاد ذيها لو ورداً في كلامين، بل يكونان متنافيين يجمع بينهما عرفاً بتقدم الأظهر على الظاهر.

توجيه الحكومة بوجوه أخرى

هذا، وقد توجه الحكومة بوجوهٍ أخرى مبتنية على مبانٍ خاصة للقائلين بها في مفاد الاستصحاب أو في مناط الحكومة..

الأول: ما ذكره العراقي قدس سره

الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن مفاد الاستصحاب الحكم ببقاء اليقين ادعاء وتنزيلاً في ظرف الشك بلحاظ ترتب العمل عليه، فيترتب عليه آثاره، ومنها رافعيته لمفاد الأصول الأخرى، لأنه أخذ غاية فيها، ويكون حاكماً على أدلتها على غرار حكومة سائر أدلة التنزيل على أدلة أحكام المنزل عليه.

وفيه: أن دليل الاستصحاب لا يتضمن ادعاء بقاء اليقين في حال الشك، بل النهي عن نقض اليقين السابق عملاً حاله، لادعاء أن عدم ترتيب آثار المتيقن حين الشك نقص لليقين السابق عملاً، فالادعاء والتوسع إنما هو في مقتضى اليقين السابق عملاً، لا في نفس اليقين.

نعم، يتجه ما ذكره قدس سره لو كان التعبير بمفاد الجملة الخبرية المحضة، بأن قيل: اليقين لا ينتقض بالشك.

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الاستصحاب لما كان من الأصول المحرزة كان حاكماً على الأصول الأخرى بملاك حكومة

ص: 197

الأمارات عليه، الذي تقدم التعرض له، لأنه يقتضي إحراز الأمر المتعبد به، فيرفع موضوع الأصول الأخرى - وهو الشك - تعبداً وإن لم يرتفع به حقيقةً.

ما ذكره مبنى على مسلكه في مؤدى الطرق والأمارات

وقد تقدم أن ما ذكره مبني على مسلكه في مؤدى الطرق والأصول، وفي معنى الحكومة، وأن الكلام في الأول تقدم في مبحث القطع الموضوعي، وفي الثاني يأتي في مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

مضافاً إلى أن ما ذكره لا ينهض إلّا بتقديم الاستصحاب على مثل أصل البراءة مما لا يقتضي التعبد بالمؤدى حيث يكون رافعاً لموضوعه دون العكس.

أما تقديمه على مثل قاعدة الحل والطهارة مما يتضمن التعبد بالمؤدى فلا وجه له، لاشتراكها معه في التعبد بالمؤدى الرافع لموضع الأصل - وهو الشك - تعبداً، فكما يصلح لرفع موضوعها تعبداً تصلح لرفع موضوعه كذلك، ولذا لا إشكال عنده في حكومة السببي على المسببي منه، بل صرح قدس سره بجواز استصحاب مؤدى الأصول المذكورة ذاتاً، لأن المراد من اليقين في دليل الاستصحاب ما يشمل التعبد الحاصل بها.

وخصوصية الإحراز لا أثر لها بعد فرض كون الموضوع، - وهو اليقين - مأخوذاً من حيثية البناء العملي المشترك بين الطرق والأصول التعبدية والإحرازية وغيرها، ولذا أمكن قيامها مقامه.

وتقديم الطرق على الأصول إنما هو لأخذ الشك في موضوع الأصول دون الطرق المستلزم لرفع الطرق لموضوع الأصول تعبداً، دون العكس، فمع فرض اشتراك جميع الأصول الإحرازية التعبدية في كون موضوعها الشك يكون كل منها صالحاً لرفع موضوع الآخر تعبداً، ولا يبقى

ص: 198

وجه لتخصيص الأصول الإحرازية بالحكومة.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره بناء على مختاره في مفاد الاستصحاب، وأنه هو وجوب العمل حال الشك عمل حال اليقين، من أن المراد بالعمل هو العمل المترتب على آثار نفس اليقين وآثار متعلقه، ولذا يقوم مقام القطع الطريقي والموضوعي المأخوذ بنحو الطريقية، ولما كان من آثار نفسه ارتفاع الأصول المغياة بالعلم عقلاً أو شرعاً به، كان ناظراً لتلك الأصول ومقدماً عليها عرفاً.

جعل الحكومة بمناط النظر لا التنزيل

وقد جعل قدس سره الحكومة في المقام بمناط النظر، لا بمناط التنزيل، لعدم تضمن الاستصحاب رفع موضوع الأصول - وهو الشك - تنزيلاً.

لكن الظاهر رجوع ما ذكره للتنزيل، لوضوح أن قوام التنزيل هو الحكم بمشاركة المنزل للمنزل عليه في أحكامه وآثاره، وتبعيته له فيها إثباتاً. إلّا أن بيانه..

تارةً: يكون بحمل العنوان على المنزل وإسناده إليه أو نفيه عنه مجازاً، كما في زيدٍ أسد، و: «يا أشباه الرجال ولا رجال»، و: «المطلقة رجعياً زوجة»، و: «لا شك لكثير الشك».

وأخرى: بالتصريح بالتشبيه والتنزيل كما في: زيد كالأسد، وقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب»(1).

وثالثة: بالتصريح بثبوت أحكام المنزل عليه، كقولهم عليهم السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(2).

ص: 199


1- النهاية لابن الأثير ج: 4 ص: 240.
2- راجع الوسائل ج: 14، باب: 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح.

والكل يشترك في التنزيل وإثبات حكم المنزل عليه للمنزل، المستلزم للنظر لتلك الأحكام، الذي هو مناط الحكومة عندهم.

على أن ما ذكره قدس سره في مفاد الاستصحاب غير ظاهرٍ، ضرورة أن دليله لم يتضمن وجوب العمل حال الشك عمل حال اليقين، وإنما استفيد ذلك من الحكم فيه بعدم نقض اليقين بالشك، الراجع إلى ادعاء أن اليقين السابق كما يقتضي العمل على المتيقن حينه ذاتاً يقتضي العمل عليه حين الشك شرعاً - كما تقدم في تعقيب الوجه الأول - فهو لا يقتضي إلّا ترتيب آثار المتيقن حين الشك بسبب اليقين السابق، من دون أن يقتضي ثبوت حكم اليقين نفسه حين الشك، ليستلزم النظر لأحكام اليقين الثابتة له بنفسه، ومنها كونه رافعاً لموضوع الأصول.

وبعبارة أخرى: نقض اليقين ليس إلّا بعدم متابعته وترتيب أثر كاشفيته عن متعلقة، فلا ينفع جواز النقض إلّا في ترتيب آثار المتيقن، لا ترتيب آثار اليقين نفسه، وليس مقتضى الارتكاز الذي حملت عليه كبرى الاستصحاب إلّا ذلك.

وقيامه مقام القطع الموضوعي المأخوذ بنحو الطريقية ليس ناشئاً من وجوب ترتيب آثار نفس اليقين عليه، بل لعموم موضوع الأثر له ابتداء، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في مبحث القطع الموضوعي.

الرابع: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

الرابع: ما ذكره بعض مشايخنا من أن الاستصحاب كاشف عن الواقع مثبت له في ظرف الشك فيه، لأن مفاد دليله جعل الطريقية وتتميم جهة الكاشفية، لظهور قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشك» وقوله عليه السلام: «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» في إلغاء احتمال الخلاف، كما هو الحال

ص: 200

في الأمارات، فهو أمارة حيث لا أمارة، فيقدم على بقية الأصول بملاك رفعه لموضوعها، الذي هو الملاك في تقدم الأمارات عليها.

وفيه: أنه تقدم في ذيل الكلام في أخبار الاستصحاب عدم كون الاستصحاب من الأمارات. كما أن عدم الاعتداد بالشك وعدم نقضه لليقين لا يرجع إلى إلغائه، بل إلى عدم صلوحه للمنع من مقتضى اليقين السابق.

وفرض كونه أمارة حيث لا أمارة مما لا نظير له عرفاً، بل المألوف عرفاً تقديم بعض الأمارات على بعض، وإن تمت جهة كشفها، كتقديم البينة على اليد. فلاحظ.

المبنى الثالث: في تقديم الاستصحاب

المبنى الثالث: أن مقتضى الجمع العرفي بين دليل الاستصحاب وأدلة الأصول المذكورة هو تقديم الاستصحاب، وإن لم يكن رافعاً لموضوعها ولا ناظراً إليها، لخصوصية في نفس الدليلين ولو بلحاظ مدلوليهما تقتضي عرفاً تحكيم أحدهما على الآخر، وإن كان بينهما عموم من وجه، وذلك لأن أدلة الأصول وإن اقتضت بإطلاقها فعلية العمل بمقتضاها ولو مع سبق اليقين على خلافه، إلّا أن المناسبات الارتكازية في مقام الجمع بينها وبين دليل الاستصحاب يقتضي حملها على السعة والاحتياط من حيثية موضوعها - وهو الشك - فلا ينافي عدم فعلية مقتضاها لأمر زائد على موضوعها مانع من تأثيره وهو اليقين السابق.

فالحكم في الأصول ناشئ من عدم الاكتفاء بالشك في التعذير أو التنجيز، وأن ثبوت مقتضاها لعدم المقتضي لخلافه، وأما الحكم في الاستصحاب فهو ناشئ عما هو من سنخ المقتضي له شرعاً، لرجوعه إلى أن لليقين السابق نحو اقتضاء في البناء على استمرار المتيقن وعدم رفع اليد

ص: 201

عنه، فنسبة الاستصحاب إلى الأصول المذكورة نسبة الأمارة إليه عرفاً.

فكما أن البناء على مقتضى اليقين في الاستصحاب لعدم صلوح الشك لنقضه، فلا يزاحم الأمارة الصالحة لنقضه، كذلك البناء على البراءة أو الطهارة للشك في التكليف أو النجاسة، فإنه ناشئ عن عدم صلوح الشك لتنجيز التكليف أو النجاسة، فلا يزاحم الاستصحاب الحاكم بصلوح اليقين السابق للتنجيز واقتضائه له لولا المانع.

فهو معها من سنخ حكم العنوان الثانوي مع حكم العنوان الأولي، كما كانت الأمارة معه كذلك. وليس الفرق بين النسبتين إلّا في عدم منافاة دليل حجيتها لإطلاق دليله أصلاً، لما تقدم من أن دليله لم يتضمن عدم نقض اليقين مع الشك، بل عدم نقضه بالشك، فلا ينافي نقضه بالأمارة.

أما دليل الاستصحاب فهو منافٍ بدواً لإطلاق أدلة الأصول، لأنها لم تتضمن الحكم بمجرد عدم منجزية الشك أو معذريته، كي لا ينافي منجزية اليقين السابق أو معذريته، بل بثبوت السعة أو الاحتياط مع الشك الشامل لحال سبق اليقين بالتكليف، فيكون الاستصحاب منافياً لإطلاقه، ومن ثم احتيج للجمع العرفي بالوجه المذكور - الذي هو فرع التنافي البدوي - بحمل الإطلاق المذكور على بيان الحكم الأولي الثابت للشك بنفسه مع قطع النظر عما هو زائد عليه.

وبما ذكرنا يظهر وجه حسن تعليل البناء على الطهارة في صحيحة زرارة الثانية وفي صحيح عبد الله بن سنان(1) الوارد في الثوب الذي يستعيره الذمي، بعد انتقاض الحالة السابقة، مع كفاية نفس الشك في جواز البناء

ص: 202


1- الوسائل ج: 2، باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.

على الطهارة، فإن الاستناد في بقاء الشيء إلى وجود المقتضي أولى عرفاً من الاستناد فيه إلى محض عدم المقتضي لخلافه.

ثم إن هذا الوجه كما يقتضي تقديم الاستصحاب على الأصول المذكورة يقتضي تقديم سائر التعبدات الإحرازية عليها، من الأصول والطرق والأمارات، لظهور أدلتها في أن ثبوت مقتضاها لأمر زائد على الشك صالح للإحراز. وربما يأتي في مبحث التعارض ما له نفع، في المقام.

إن قلت: هذا راجع إلى الحكومة، لأنها هي النسبة بين دليل الحكم الأولي ودليل الحكم الثانوي.

قلت: إنما يكون دليل الحكم الثانوي حاكماً إذا كان ناظراً للحكم الأولي، كعموم رفع الاضطرار والإكراه، لوضوح أن الرفع فرع ثبوت شيءٍ ولو اقتضاءً، فدليله ناظر للمرفوع، ولا وجه له في مثل المقام، حيث لا قرينة على نظر دليل الاستصحاب للأصول الأخرى.

وبعبارةٍ أخرى: كون الحكم ثانوياً إن استفيد من نفس دليله كان حاكماً على دليل الحكم الأولي، لاستلزامه نظره إليه، وإن استفيد بمقتضى النظر العرفي في الجمع بين الدليلين - كما في المقام - فلا وجه لحكومته، لعدم استلزامه النظر بوجهٍ.

اقتضاء الوجه لتقديم سائر التعبدات الإحرازية على الأصول

ثم إن هذا الوجه إنما يقتضي تقديم الاستصحاب على الأصول عند الاختلاف عملاً بينه وبينها، أما مع اتفاقه معها فلا وجه لتقديمه عليها إلّا بلحاظ ما أشرنا إليه هنا من أولوية الاستناد ارتكازاً في ثبوت الشيء إلى ثبوت المقتضي له من الاستناد فيه إلى عدم المقتضي لخلافه، نظير ما سبق في وجه تقدم الأمارة على الاستصحاب من أولوية الاستناد في ثبوت الشيء

ص: 203

إلى ثبوت المقتضي له من الاستناد إلى عدم الرافع، من دون أن يكون هناك تقدم رتبي مانع من الاستناد لهما معاً في عرضٍ واحد.

تنبيه: الكلام بالنسبة للاستصحاب إلى الأصول الأخرى

تنبيه:

ما سبق إنما هو في نسبة الاستصحاب إلى الأصول التي لم يؤخذ في موضوعها إلّا الشك في الحكم الذي تجري فيه، وهي البراءة والاحتياط - عند الأخباريين - وقاعدتا الحل والطهارة، وأما نسبته إلى الأصول والقواعد الأخر التي أخذ فيها أمر زائد على الشك، كالفراغ والتجاوز ونحوهما، فلا إشكال في تقدم ما كان منها أخص منه مورداً، كقاعدتي الصحة والفراغ، كما لا إشكال في تقدم الاستصحاب على ما اختص موضوعه بصورة عدم التعبد الشرعي - كالقرعة، بناء على كلام تقدم في أوائل الكلام في العلم الإجمالي - لوروده عليه.

وأما ما كان بينه وبينها عموم من وجه - لو فرض وجوده - فيلزم الرجوع فيه للمرجحات الدلالية، ثم الرجوع إلى قواعد التعارض، ولا ضابط لذلك، ليتسنى لنا الكلام فيه هنا.

ويأتي بعض الكلام في ذلك في الخاتمة إن شاء الله تعالى. والله سبحانه ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 204

المقام الثالث "في الموارد التي وقع الكلام في تمامية

المقام الثالث" في الموارد التي وقع الكلام في تمامية

أركان الاستصحاب وشروطه فيها

بعد أن تعرضنا في المقامين الأولين إلى أدلة الاستصحاب ومفاده وتحديد كبراه وأركانه والشروط العامة والخاصة للعمل به يقع الكلام في هذا المقام في تمامية هذه الأمور في خصوص بعض الموارد لجهات خاصة فيها أوجبت غموض حالها. وهو في ضمن فصول..

الفصل الأول: في استصحاب العدم الأزلي

اشارة

تقدم في ذيل الكلام في الأصل المثبت أنه لا مانع من استصحاب الأمور العدمية لإثبات أثر العدم أو لنفي أثر الوجود.

ويقع الكلام هنا في إمكان استصحابه بلحاظ اليقين بالعدم الأزلي حين عدم الموضوع، حيث قد يمنع جريان الاستصحاب فيه.

ص: 205

تمهيد وفيه أمران

وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بأمرين..

الأول: ما يحمل على الموضوع وله صور

الأول: ما يحمل على الموضوع..

تارةً: يكون من شؤون ماهيته أو لوازمها مع قطع النظر عن وجوده، كزوجية الأربعة.

وأخرى: يكون من لوازم وجوده أو مقارناته، بحيث لا يعلم بانفكاكه عنه حين وجوده، كقرشية المرأة.

وثالثةً: يكون من طوارئه بعد الوجود، كالبلوغ.

أما الأول فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب العدمي فيه لو فرض الشك في حال الموضوع وتردده بين الواجد والفاقد، إذ لو فرض اتصاف الموضوع به واقعاً لم يصح سلبه عنه، وصح حمله عليه في فرض تقرره الذي هو لازم موضوعيته في القضية وإن كانت سالبة، فلا يقين بسلبه عنه حتى بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع، كي يستصحب.

والمعيار في ذلك على كون المحمول لازم ماهية الموضوع بماله من الحدود ولو كانت جزئية، لا خصوص لازم الماهية النوعية.

ومن ثم استشكل غير واحد في استصحاب عدم الكرية أزلاً..

بدعوى: أن الكرية وإن لم تكن من لوازم ماهية الماء النوعية، لعدم أخذ كم خاص في ماهية الماء، إلّا أنها لما كانت من سنخ المقادير المنتزعة من نفس الأجزاء المجتمعة في الوجود فهي لو ثبتت للفرد كانت من لوازم ماهيته المقومة له، ولم تكن متيقنة العدم فيه حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده.

وإن كان الظاهر اندفاع ذلك: بأن الكرية لما كانت متقومة بالوزن

ص: 206

والمساحة فهي من عوارض الوجود القابلة للانفكاك عنه لمؤثرات خارجية، كضعف الجاذبية الموجب لخفة الوزن، والبرودة الموجبة للتقلص وقلة المساحة. وقد أطلنا الكلام في ذلك في مسألة الشك في الكرية من الفقه.

وأما الثالث فلا إشكال في جريان الاستصحاب العدمي فيه، ولا يبتني على استصحاب العدم الأزلي.

وإنما الإشكال في الثاني، حيث وقع الكلام في صحة استصحاب عدمه الثابت للموضوع قبل وجوده، لترتيب آثار العدم المقارن لوجود الموضوع، وعدمها، وهو محل الكلام في المقام.

الثاني: في موضوع الأثر وله وجوه

الثاني: أن موضوع الأثر..

تارة: يكون هو وجود الذات بمفاد كان التامة، كما لو قيل: إن وجد المطر فتصدق بدرهم.

وأخرى: يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة أيضاً من دون أخذ خصوصية الموضوع فيه وإن استحال تحققه بدونه، لافتقاره إليه، كما لو قيل: إن وجد البياض فتصدق بدرهم.

وثالثةً: يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة مع أخذ خصوصية الموضوع فيه قيداً، كما لو قيل: إن وجد بياض زيد فتصدق بدرهم.

ورابعةً: يكون هو وجود العرض للموضوع واتصافه به وانتسابه له بمفاد كان الناقصة الذي هو مفاد القضية الحملية في مثل قولنا: إن كان ولدك أبيض فتصدق بدرهم، أو التوصيف في مثل: أكرم الرجل العادل.

والظاهر خروج الصور الثلاث الأُوَلْ عن محل الكلام، لأن موضوع

ص: 207

الأثر فيها لما كان هو الوجود المنتسب لموضوعه - من ذات أو عرض - فليس موضوعه خارجاً هو الموجود، بل الماهية المتقررة في عالمها مع قطع النظر عن الوجود، ومن الظاهر أن تقررها أزلي، فلا يتصور معه فرض العدم لعدم الموضوع، بل الموضوع بنفسه أزلي.

ومجرد توقف وجود العرض في الصورة الثانية والثالثة على وجود موضوعه لا يوجب كون استصحاب عدمه بلحاظ حال ما قبل وجود موضوعه من استصحاب العدم الأزلي، لأن موضوع الأثر ليس هو سلب العرض عن موضوعه، بل سلب الوجود عن العرض بمفاد ليس التامة في مقابل كان التامة.

ويختص الكلام في المقام بالصورة الرابعة، فيقع الكلام في إمكان استصحاب سلب العرض عن الموضوع بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع، الذي هو مفاد السالبة بانتفاء الموضوع، أو لا؟ بل لابد من إحراز السلب بلحاظ حال ما بعد وجود الموضوع.

المختار في جريان استصحاب العدم الأزلي

إذا عرفت هذا، فالظاهر أنه لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي في مثل ذلك إما لنفي آثار الوجود، أو لإثبات آثار العدم نفسه، لتمامية أركان الاستصحاب وشروطه.

فإن الأثر إن كان لثبوت الوصف للموضوع بمفاد كان الناقصة، الذي هو مفاد الحملية الموجبة فإحراز نقيض موضوع الأثر كاف في إحراز عدم ترتبه، وحيث كان نقيض الحملية الموجبة الحملية السالبة كفى إحرازها في المقام في عدم ترتب الأثر المذكور، وحيث كانت السالبة متيقنة بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع مشكوكه بلحاظ حال وجوده تعين استصحابها،

ص: 208

لتمامية ركنيه من اليقين والشك، وتحقق شرطه وهو ترتب الأثر العملي، فإذا قيل: إن كان زيد أبيض فأكرمه، فموضوع الأثر مفاد: كان زيد أبيض، ونقيضه مفاد: لم يكن زيد أبيض، المتيقن بلحاظ حال ما قبل وجود زيد المشكوك حال وجوده، فيستصحب، ويترتب عليه عدم وجوب إكرامه، وليس نقيضه مفاد: كان زيد غير أبيض، ليستشكل بعدم صدقه بلحاظ حال ما قبل وجود زيد.

وإن كان الأثر للعدم المذكور، كما لو قال: إن لم يكن زيد أبيض فأكرمه، فترتبه بالاستصحاب المذكور أظهر.

ما استدل به على المنع من جريان الاستصحاب

هذا، وقد منع غير واحدٍ من جريان الاستصحاب المذكور. وما يمكن أن يستدل لهم به وجوه..

الأول: اختلاف الموضوع المتيقن والمشكوك

الأول: أن العدم الأزلي المتيقن مغاير للعدم المشكوك المقارن لوجود الموضوع والذي هو مورد العمل، لاستناد الأول لعدم الموضوع، والثاني لأمرٍ آخر.

وفيه: أن تعدد المنشأ والعلة لا يوجب تعدد المعلول لا حقيقةً ولا عرفاً.

الثاني: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الثاني: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه(1) من أن عدم العارض لما كان نقيضاً لوجود العارض، ولابد من وحدة الرتبة بين النقيضين، ومن المعلوم أن وجود العارض متأخر رتبةً عن وجود المعروض، فعدم العارض الدخيل في الأثر الشرعي لابد أن يكون متأخراً عن وجود المعروض، وليس

ص: 209


1- ذكر ذلك في عرض حجة المنع، ودفعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه. وربما يظهر حاله بالتأمل في ما ذكرناه فراجع المسألة الثانية من فصل الماء الجاري من بحث المياه (منه عفي عنه).

العدم الأزلي كذلك، لأنه سابق عليه.

المناقشة فيه

وفيه: أنه عدم العارض الأزلي متأخر رتبةً عن وجود الموضوع كالعدم المقارن لوجود الموضوع، لأن ملاك اختلاف الرتبة بين الشيئين كون أحدهما في مرتبة العلة للآخر - كالمقتضي - أو لعدمه - كالمانع - ومن الظاهر أن وجود الموضوع لما كان شرطاً في وجود العارض كان من أجزاء علة ارتفاع نقيضه وهو عدمه ولو كان أزلياً، فالعدم الأزلي يستند إلى جملة من الأمور، منها عدم الموضوع، ووجود الموضوع من جملة ما يكون دخيلاً في رفعه، فهو في رتبة سابقة عليه وإن تأخر عنه زماناً.

وبعبارةٍ أخرى: التقدم الرتبي كما يكون بين تمام أجزاء العلة والمعلول يكون بينها وبين عدمه، لأنها من سنخ الرافع له، وحيث كان الموضوع من أجزاء علة العارض ومتقدماً عليه رتبةً كان من سنخ الرافع لعدمه ومتقدماً عليه رتبةً ولو كان أزلياً.

نعم، ما هو العلة لوجود العارض والمتقدم عليه في كل آنٍ هو وجود الموضوع في ذلك الآن، لا في آنٍ آخرٍ، فالعدم الأزلي متأخر رتبةً عن وجود الموضوع حينه، لا عن وجود الموضوع بعد ذلك، والمتأخر رتبةً عن وجود الموضوع بعد ذلك هو عدم العرض حينئذٍ لا العدم الأزلي.

لكن هذا يرجع إلى اختلاف العدم الأزلي عن العدم المقارن لوجود الموضوع في العلة، وهو لا يوجب تعددهما، كما تقدم، ولا سيما مع عدم كون الاختلاف في سنخ العلة، بل في خصوصيتها الزمانية، وإلّا امتنع استصحاب العدم حتى بلحاظ حال وجود الموضوع، لأن وجود العرض في كل آن متفرع على وجود الموضوع في ذلك الآن، لا على وجوده في

ص: 210

الآن السابق عليه الذي هو زمان اليقين.

بل امتنع الاستصحاب مطلقاً، لتفرع بقاء المستصحب على بقاء علته، لا على حدوثها وتفرع حدوثه على حدوثها لا على بقائها. فلاحظ.

الثالث: استلزامه للأصل المثبت

الثالث: أن العنوان الملحوظ قيداً وجودياً كان أو عدمياً لما كان موضوعه المقيد به حاكياً عن الوجود الخارجي كان التقييد به في عالم الاعتبار ملحوظاً في الرتبة اللاحقة للوجود، فالعدم المأخوذ قيداً في موضوع الأثر هو العدم الخاص المتفرع على وجود الموضوع، ولا مجال لاستصحابه، لعدم اليقين به سابقاً، واستصحاب مطلق عدم ثبوت العنوان للموضوع لا يجدي في إحراز العدم الخاص المتفرع على وجود الموضوع إلّا بناء على الأصل المثبت.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن هذا إنما يجدي لو أريد بالاستصحاب إثبات الآثار المأخوذ في أدلتها التقييد بالعدم، كما لو قيل: أكرم العالم الذي ليس أبيض، أو الذي لم يكن أبيض.

أما لو أريد نفي الآثار التي أخذ في أدلتها التقييد بالوجود، كما لو قيل: أكرم الرجل الأبيض، فلا يجدي ذلك، ضرورة أن ملاك انتفاء الأثر في مثل ذلك هو أن التعبد بنقيض موضوع الأثر يستلزم عرفاً التعبد بعدمه، ومن الظاهر أن نقيض ثبوت العرض المتفرع على وجود الموضوع هو عدم ذلك العرض الراجع لمطلق سلبه ولو كان أزلياً، لا عدمه المتفرع على وجود الموضوع، بل العدم المذكور مقابل للثبوت المذكور تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين.

وثانياً: أن حكاية المقيد عن الموجود الخارجي وإن كانت مسلمة، إلّا

ص: 211

أنها ناشئة عن نفس التقييد، لكون القيد أمراً خارجياً لا يعرض إلّا الموجود الخارجي، أو نفس الحكم، لاقتضائه العمل المتعلق بالموجود الخارجي، وليست ناشئة عن أخذ الوجود في مرتبة سابقة على التقييد بالقيد، بل في مرتبة التقييد لم تلحظ إلّا الذات بنفسها.

ودعوى: أن قولنا: أكرم الرجل الأبيض، أو الذي لا يكون أسود، يرجع إلى مفاد قولنا: يجب إكرام الرجل الذي إن وجد كان أبيض، أو الذي إن وجد لم يكن أسود، لا شاهد لها، لاختلاف المفهومين عرفاً.

على أن القيد قد لا يكون قيداً للموضوع، بل للحكم، كما لو قيل: أكرم الرجل إن كان عالماً، أو إن لم يكن جاهلاً، فالتقييد بالعلم مستفاد من الشرطية التي كان شرطها جملة حملية موجبة أو سالبة، لا من التوصيف.

إلّا أن يُراد من التقييد في توجيه مُدّعى الخصم ما يعم ذلك.

وثالثاً: أن ما ذكر - لو تم - إنما يقتضي تأخر التقييد بالعنوان عن التقييد بالوجود رتبة، كما لو أخذ الموجود عنواناً للمقيد، كما لو قيل: أكرم الموجود الأبيض، أو الذي ليس بأسود، لا كون العنوان المقيد به خصوص ما قارن الوجود، بحيث يكون وجود الموضوع قيداً في نفس العنوان كي لا يتحد مع ما سبق الوجود ولا يصح استصحابه بلحاظه، فإن ذلك مخالف لإطلاق العنوان.

ولذا لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي لو كان الخطاب بلسان: أكرم الموجود الذي ليس بأسود، فيحرز به أن زيداً الموجود ليس أسود، وإن كان المتيقن هو السواد السابق على الوجود، مع أخذ الوجود في موضوع التقييد بعدم السواد.

ص: 212

المعيار في مباينة العدم الأزلي للعدم الذي هو موضوع الأثر

وبالجملة: المعيار في مباينة العدم الأزلي للعدم الذي هو موضوع الأثر أخذ وجود الموضوع قيداً في نفس العدم الذي هو موضوع الأثر، ولا يكفي فيه أخذه في مرتبةً سابقةً على التقييد به، كما هو المدعى في هذا الوجه.

والفرق بينهما هو الفرق بين ما إذا قال: أكرم العادل عدالة حاصلة حين الدخول في الدار، وما إذا قال: أكرم داخل الدار العادل، فحيث كان دخول الدار قيداً في العدالة في الأول لابد من إحرازه فيها بالاستصحاب، ولا يكفي استصحاب العدالة المتيقنة في الشخص قبل دخوله الدار إلى حين دخوله لها، لعدم الأثر للمستصحب، أما في الثاني فحيث كانت العدالة على إطلاقها كفى اليقين بها قبل دخول الدار في استصحابها بعده وترتب الأثر عليها، وإن كان التقييد بها متأخراً عن التقييد بالدخول لأخذه في موضوع التقييد بها.

وأما اعتبار وجود المعنون في صدق العنوان الوجودي المأخوذ في القضية، فليس هو لتقييد العنوان الوجودي بذلك، بل لتوقف صدق النسبة عليه، فلا يصدق على الرجل أنه عالم إلّا مع وجوده خارجاً، بخلاف العنوان العدمي المحض الراجع إلى مفاد السلب، لفرض صدقه مع انتفاء الموضوع.

نعم، لو أريد من العنوان العدمي ما ينتزع من مفاد السلب ويكون وصفاً للموضوع بمفاد الموجبة المعدولة كان كالعنوان الوجودي في توقف صدقه على وجود الموضوع. لكنه خارج عن محل الكلام هنا، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 213

الرابع: ما ذكره النائيني قدس سره

الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن المعتبر في موارد التقييد بالعدم هو العدم النعتي المأخوذ وصفاً للموضوع، والذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول، التي لا تصدق إلّا بعد وجود الموضوع، ولا يكفي في إحرازها استصحاب مفاد السالبة بانتفاء الموضوع إلّا بناء على الأصل المثبت.

وقد أطال في تقريب ذلك بذكر مقدمات بعضها يتعلق بمسألة تعنون العام المخصص.

ملخص ما ذكره قدس سره

وعمدة ما ذكره: أن تقييد موضوع الحكم بالعرض - ومنه الأمر العدمي - لا يراد به محض تقارنهما في الزمان، ليكفي استصحاب العرض بمفاد كان التامة إلى حين وجود الموضوع، بل يرجع إلى تخصيص الموضوع بخصوص الحصة المتصفة بالعرض، لاستحالة إطلاق الموضوع مع التقييد بوجود عرضه، للتدافع بين الإطلاق والتقييد المذكورين، وحيث كان الاتصاف بالأمور العدمية متفرعاً على وجود الموضوع لم ينفع في إحرازه استصحاب مفاد السلب بلحاظ حال ما قبل وجوده إلّا بناء على الأصل المثبت.

ولا يخفى أنه ذكر ذلك لبيان أن تخصيص العام بالعنوان الوجودي - كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بما يتضمن عدم إكرام فاسقهم - موجب لتعنون الباقي بالعنوان العدمي المناقض له، لما سبق منه من استحالة إطلاق موضوع الحكم مع التقييد المذكور، وأنه لا ينفع استصحاب عدم الخاص الأزلي لإثبات حكم العام، لأنه لا يحرز اتصاف المورد بعدم الخاص.

ص: 214

فلو تمَّ ما ذكره لم ينفع فيما لو ورد الحكم ابتداء على العنوان الوجودي، وأريد باستصحاب عدمه نفي الحكم، كما لو قيل: إن كان ولدك مختوناً فتصدق بدرهم، لما أشرنا إليه - في ذيل الكلام في الأصل المثبت، وفي الجواب الأول عن الوجه السابق - من أن الملاك فيه كون إحراز نقيض الموضوع موجباً لإحراز نقيض الحكم، ومن الظاهر أن نقيض ثبوت العنوان للموضوع عدم ثبوته له الذي هو مفاد السالبة المحصلة الصادقة بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع، لا اتصافه بعدمه الذي هو مفاد المعدولة المحمول، بل ليس التقابل بين ثبوت العنوان والاتصاف بعدمه إلّا تقابل العدم والملكة.

وأوضح من ذلك ما لو جعل الحكم ابتداء على مفاد السالبة، كما لو قيل: إن لم يكن ولدك أسود فتصدق بدرهم، لاتحادها مع السالبة بانتفاء الموضوع، ولا وجه لتنزيلها على مفاد المعدولة، مع أن الظاهر من مسلكه قدس سره امتناع التمسك باستصحاب العدم الأزلي مطلقاً حتى في مثل ذلك.

دفعه

ومع الغض عن ذلك يتوجه الإشكال على ما ذكره بأن تخصيص العام بالعنوان الوجودي - كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بنحو لا يشمل الفاسق منهم - وإن كان يكشف عن عدم إطلاق موضوع الحكم، إلّا أن إضافة قيد لموضوع الحكم يمكن ثبوتاً بأحد وجوهٍ ثلاثة..

وجوه إضافة قيد لموضوع الحكم

الأول: أن يكون القيد محض عدم وجود عنوان الخاص بمفاد ليس التامة، فيكون موضوع الحكم مركباً من أمرين: عنوان العام - كالعالم - والعدم المذكور - كعدم فسقه - من دون أخذ النسبة بينهما.

ص: 215

ويكفي في مثل ذلك استصحاب العدم المذكور، ليتم موضوع الحكم بضم مفاد الأصل للوجدان، كما في سائر موارد الموضوعات المركبة، وقد تقدم في المقدمة الأولى خروج استصحاب العدم في مثل ذلك عن استصحاب العدم الأزلي، وجريانه بلا إشكالٍ.

الثاني: أن يكون القيد هو عدم اتصاف المعنون بعنوان العام بعنوان الخاص، الراجع إلى سلبه عنه بمفاد ليس الناقصة، الذي هو نقيض مفاد كان الناقصة، والذي يكون العدم فيه ملحوظاً بما هو معنى حرفي مناقض للحمل، فيكون الموضوع في المثال المذكور العالم الذي لم يكن فاسقاً، أو ليس فاسقاً. وحيث كان مفاد السلب صادقاً بلحاظ حال قبل وجود الموضوع أمكن استصحابه بلحاظ اليقين به حينئذ، وكان من استصحاب العدم الأزلي الذي هو محل الكلام في المقام.

الثالث: أن يكون القيد هو اتصاف المعنون بعنوان العام بعدم العنوان الخاص، الذي هو المراد بالعدم النعتي، والذي يكون العدم فيه ملحوظاً بما هو معنى اسمي من طوارئ الموضوع وصفاته، والذي هو مفاد المعدولة التي لا تصدق إلّا بعد وجود الموضوع، ولا مجال لاستصحابها بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع، لعدم اليقين بها، بل اليقين بعدمها حينئذ، كما لا مجال لإحرازها باستصحاب عدم العرض بمفاد ليس التامة أو الناقصة إلّا بناء على الأصل المثبت.

وجوه الاضطراب في كلامه قدس سره

ومما ذكرنا يظهر اضطراب كلامه، حيث يظهر منه..

أولاً: انحصار الأمر بالوجه الأول والثالث، مع وضوح أن الثالث مقابل لمفاد حمل العنوان الوجودي الذي هو مفاد الموجبة تقابل العدم والملكة

ص: 216

- كما اعترف به قدس سره - والأول لا تعرض فيه لنسبة العرض للموضوع ليقابل مفاد الموجبة، وليس المقابل لمفاد الموجبة تقابل التناقض إلّا الثاني.

وثانياً: أن مفاد السالبة بانتفاء الموضوع راجع إلى الأول، ومفاد ليس الناقصة راجع إلى الثالث.

مع وضوح أن الأول لما كان مفاد ليس التامة كان مبايناً للسالبة المتضمنة لنسبة العرض للموضوع، والثالث مفاد المعدولة الموجبة التي هي مفاد كان الناقصة، وليس مفاد ليس الناقصة إلّا الثاني. فكأنَّ ذلك منه مبني على الخلط بين الثاني والثالث.

إذا عرفت هذا، فالوجوه الثلاثة ممكنة في أنفسها، ولا معين لأحدها ثبوتاً، وما يظهر منه قدس سره من امتناع الأول إذا كان القيد من سنخ العرض الطارئ على الموضوع، لأن انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته، مما لم يتضح وجهه، بل كيفية التقييد تابعة ثبوتاً لغرض الآمر، وإثباتاً لظهور الدليل، ولا ملزم بأحد الوجوه.

نعم، التقييد بالوجه الأول راجع إلى تقييد نفس الحكم ورفع إطلاقه الأحوالي، وإناطته بالقيد المفروض زائداً على عنوان العام، مع إبقاء العام على عمومه الأفرادي، ولذا يكون الموضوع معه مركباً من عنوان العام والقيد من دون ملاحظة النسبة بينهما، فلا يعتبر إحرازها، بل يكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان.

أما التقييد بالوجهين الأخيرين فهو راجع إلى تخصيص العام، ورفع عمومه الأفرادي وقصره على خصوص واجد القيد، ولذا يلزم إحراز النسبة بين عنوان العام والقيد، ولا يكفي إحراز القيد بنفسه معرى عنها، وحيث كان

ص: 217

محل الكلام هو تخصيص العام الراجع إلى قصر عمومه الأفرادي فلا مجال لاحتمال الوجه الأول وإن كان ممكناً في نفسه، وتردد الأمر بين الوجهين الأخيرين.

وحينئذٍ نقول: ذكر قدس سره أن التخصيص كاشف عن تقييد موضوع حكم العام بعدم العنوان الخاص، فيكون موضوع حكم العام مقابلاً لموضوع الخاص تقابل بشرط لا مع بشرط شيء، ويكون المأخوذ في موضوع العام عنواناً مناقضاً لعنوان الخاص.

ولازم ذلك الحمل على الوجه الثاني الذي هو مفاد السلب، لأنه المناقض لمفاد الحمل - المأخوذ في الخاص - ولا وجه للحمل على الثالث الراجع إلى اعتبار الاتصاف بالعدم، والذي يكون التقابل بينه وبين عنوان الخاص تقابل العدم والملكة، لا النقيضين، كما اعترف به قدس سره. مع أنه مبني على ملاحظة العدم بما هو معنى اسمي يتصف به الموضوع ويحمل عليه، وهو محتاج إلى عناية لا شاهد عليها ولا يقتضيها الجمع بين العام والخاص.

وعليه يتجه التمسك باستصحاب العدم الأزلي.

كما يتجه بناء على ما ذكرناه نحن من أن العام حتى لو لم يكن مقيداً بالوجه المذكور، إلّا أنه يكفي في ترتب حكمه إحراز عدم كون الفرد من أفراد الخاص، لوضوح أن مفاد السلب محرز لذلك.

هذا، ولو فرض التصريح في دليل الخاص بأخذ مفاد السلب قيداً في موضوع الخاص فالأمر أظهر، بأن قيل مثلاً: إنما يجب إكرام العالم إذا لم يكن فاسقاً، فإن إرجاعه لمفاد المعدولة خروج عن مفاده بلا وجه، نظير ما تقدم فيما لو جعل مفاد السلب موضوعاً للحكم ابتداء، كما لو قيل: إن لم

ص: 218

يكن ولدك أسود فتصدق بدرهم.

وبالجملة: رجوع التخصيص إلى أخذ الاتصاف بعدم الخاص قيداً في موضوع حكم العام لا وجه له، فضلاً عن إرجاع جميع موارد أخذ العنوان العدمي إلى ذلك، بل هو موقوف على أخذ العدم بما هو معنى اسمي يتصف به الموضوع قيداً، وهو محتاج إلى عناية لا شاهد لها، بل هي خلاف ظاهر الأدلة في كثير من الموارد، وليس الظاهر منها إلّا أخذ السلب بما هو معنى حرفي مقابل للحمل في موضوع الحكم، وحيث كان مفاده متحداً مع مفاد السالبة بانتفاء الموضوع، تعين إحرازه باستصحابها، كما ذكرنا.

ما ذكره السيد ميرزا حسن البجنوردي قدس سره

وأما ما ذكره بعض السادة المعاصرين قدس سره من أن التقييد نحو من التوصيف، إذ ليس المراد من الاتصاف إلّا عروض خصوصية خارجة عن الذات وطروءها عليها.

ففيه: أن التقييد نحو نسبة تلحظ في مقام الجعل بين الحكم والقيد، وهو أجنبي عن التوصيف القائم بين الصفة والموصوف.

نعم، نفس القيد قد يكون هو الاتصاف الذي هو مفاد بشرط شيء، وقد يكون عدمه الذي هو مفاد بشرط لا، كما قد يكون أمراً آخر، فليس التقييد متحداً مع التوصيف ولا ملازماً له، بل التوصيف قد يكون موضوعاً للتقييد.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام، وربما كان هناك وجوه أخرى لا يهم الكلام فيها بعد ما تقدم.

وقد تحصل أنه لا مانع من الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان المهم هو إحراز مفاد السلب، إما لكونه موضوعاً للأثر أو قيداً فيه،

ص: 219

أو نقيضاً لموضوع الأثر أو لقيده. وهو المطابق للمرتكزات العرفية، لما هو المرتكز من أن العدم هو الأصل، وإن كان في صلوح ذلك للاستدلال مع قطع النظر عن عموم الاستصحاب إشكالاً. فلاحظ.

ص: 220

الفصل الثاني: في استصحاب الأحكام الوضعية

ذهب الفاضل التوني قدس سره إلى عدم جريان الاستصحاب إلّا في الأحكام الوضعية، لكن لا بمعنى جريانه في نفس الحكم الوضعي، كالسببية والمانعية ونحوهما، بل بمعنى جريانه في نفس الأسباب والشروط والموانع، كالبلوغ الذي هو سبب للتكليف، والطهارة التي هي شرط للصلاة، والحيض المانع منها، فليس التفصيل في الحقيقة بين الأحكام الوضعية وغيرها، بل بين موضوعاتها وغيرها.

وعمدة ما ذكره في وجهه - على طول كلامه - هو عدم عروض الإجمال والشك في بقاء الحكم التكليفي - الذي هو مورد العمل - إلّا من جهة الشك في حدوث سببه أو شرطه أو مانعه أو بقائها، لوفاء الأدلة بالجهات الأخرى.

وهو كما ترى! لإمكان الشك من جهات أخرى، لإجمال الأدلة، كما لو شك في حال السبب، وأنه سبب حدوثاً وبقاء أو حدوثاً فقط، أو في مفهومه، أو نحو ذلك مما لا مجال معه لاستصحاب نفس السبب، فيحتاج لاستصحاب نفس الحكم.

ص: 221

وقد تصدى شيخنا الأعظم قدس سره لتعقيب كلامه بما لا حاجة لمتابعته فيه.

نعم، هنا نزاع آخر في جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الوضعية، كالسببية، والشرطية، والمانعية، والملكية، والحجية وغيرها، ومنشؤه النزاع في أن الأحكام الوضعية مجعولة بأنفسها أو منتزعة من الأحكام التكليفية.

وقد تعرض شيخنا الأعظم قدس سره ومن تبعه للكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب، وأطالوا الكلام فيه وفي تفصيلاته.

لكن لا مناسبة بين ذلك وبين الاستصحاب، بل ينبغي التعرض له في مقدمة علم الأصول(1)، كما يتعرض لحقيقة الحكم التكليفي أيضاً، لأنه من مبادئه المهمة.

والذي يهمنا هنا هو أن الأحكام الوضعية إذا كانت منتزعة لا تنالها يد الجعل يمتنع جريان الاستصحاب فيها، إذ لا حقيقة لها، لتكون مورداً للعمل الذي هو الشرط المهم في جريان الاستصحاب وغيره من التعبدات الشرعية. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ص: 222


1- راجع أوائل الجزء الأول من هذا الكتاب.

الفصل الثالث: في استصحاب الكلي والمردد

الفصل الثالث: في استصحاب الكلي والمردد
اشارة

تقدم أنه لابد من كون المستصحب بعنوانه مورداً للعمل ولو بتوسط ما يترتب عليه من الأثر الشرعي.

وحينئذٍ إن كانت الخصوصية الفردية دخيلةً في موضوع الأثر لزم إحرازها بنفسها في الاستصحاب، ولا يجدي استصحاب الكلي الجامع بينها وبين غيرها.

وإن لم تكن دخيلةً فيه، بل كان الأثر للكلي تعين استصحابه، ولا يجدي استصحاب الخصوصية إلّا بلحاظ ملازمته لاستصحاب الكلي، لأن اليقين بالفرد مستلزم لليقين بالكلي.

وقد تقدم في الأمر الثالث في ذيل الكلام في الأصل المثبت توضيح ذلك.

الكلام في مقامين

ويقع الكلام هنا في بعض أقسام استصحاب الكلي والفرد لخصوصية فيها مع قطع النظر عما تقدم.

والكلام في ذلك في مقامين..

ص: 223

المقام الأول: في استصحاب الكلي
اشارة

واعلم أن للشك في بقاء الكلي أقساماً ينبغي التعرض لها ولحكمها..

الأول: الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء فرده المعين الذي علم بوجوده في ضمنه سابقاً.

ولا إشكال هنا في جريان الاستصحاب في الكلي وترتيب أثره.

الثاني: الشك في بقاء الكلي، لتردد الفرد الذي علم بوجوده في ضمنه بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء، كما لو تردد الحدث الواقع بين الأصغر الذي يرتفع بالوضوء والأكبر الذي يبقى معه.

ويلحق به ما لو كان التردد بين معلوم الارتفاع ومشكوك البقاء، لعدم الفرق بينهما في أكثر جهات كلام الآتي.

والظاهر هنا جريان استصحاب الكلي أيضاً - كما ذكر غير واحد - وترتب أثره، وإن لم يحرز به أثر خصوص الفرد الطويل، لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه.

نعم، قد يتنجز أثره لو كان طرفاً لعلمٍ إجمالي منجز مسبب عن العلم بوجود أحد الفردين.

ص: 224

ما يستشكل في جريان استصحاب الكلي

وقد يستشكل في جريان استصحاب الكلي في الفرض بوجوه..

أولها: أن الكلي الطبيعي الذي هو موضوع الأثر الشرعي لا وجود له إلّا بعين وجود أفراده، فمع فرض عدم جريان الاستصحاب في الفرد، لعدم تمامية أركانه فيه لا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.

ويندفع: بأن اتحاد الكلي مع فرده في الخارج لا ينافي كونه بمفهومه مجرداً عن الخصوصية الفردية موضوعاً للأثر ومحطاً للغرض، فيجري الاستصحاب فيه بلحاظ ذلك.

وبعبارة أخرى: ليس المستصحب هو الكلي لا في ضمن الفرد، بل المستصحب هو الفرد لكن لا بخصوصيته الفردية، بل من حيثية فرديته للكلي، فإن اليقين والشك بالإضافة إلى الفرد يختلفان باختلاف حيثيته وعنوانه، فقد يكون ببعض عناوينه مورداً لليقين وبآخر مورداً للشك، فمع فرض اجتماع ركني الاستصحاب فيه بالإضافة إلى عنوانه الكلي يتعين جريان الاستصحاب فيه بلحاظ ذلك العنوان لترتيب أثره، وإن لم يجر الاستصحاب فيه بلحاظ عنوانه الشخصي، لعدم تمامية أركانه فيه، أو لعدم كونه مورداً للأثر.

ثانيها: أن الشك في بقاء الكلي لما كان مسبباً عن الشك في حدوث الفرد الطويل كان استصحاب عدم حدوث الفرد المذكور حاكماً على استصحاب الكلي ومانعاً من ترتب العمل عليه.

ويدفع.. أولاً: بأن الشك في بقاء الكلي ليس ناشئاً عن الشك في حدوث الفرد الطويل فقط، بل هو ناشئ عن التردد بين كون الحادث هو الفرد الطويل والقصير، فارتفاع الكلي ملازم لحدوثه في ضمن القصير،

ص: 225

حيث يرتفع بارتفاعه، وبقاؤه ملازم لحدوثه في ضمن الطويل، حيث يبقى ببقائه، ولا أصل يعين أحدهما.

وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل معارضة لأصالة عدم حدوث الفرد القصير بالإضافة إلى اللازم المذكور، وهو بقاء الكلي وارتفاعه، وإن فرض عدم تعارضهما بالإضافة إلى أثر كل منهما المختص به، ولو لعدم الأثر لأحدهما، وبعد تساقط الأصلين بالإضافة إلى اللازم المذكور يتعين الرجوع للأصل الجاري فيه المحرز لبقائه.

ودعوى: أن أصالة عدم حدوث الفرد القصير لا تجري مع خروجه عن الابتلاء، لفرض العلم بارتفاعه على تقدير حدوثه، فلا تعارض أصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

مدفوعة: بأن خروج الفرد القصير عن الابتلاء بالإضافة إلى آثاره المختصة به لا تنافي كونه مورداً للابتلاء بالإضافة إلى اللازم المذكور، وهو بقاء الكلي، بنحو يصلح لمعارضة الأصل الجاري في الفرد الطويل، ويمنع من حكومته على الأصل الجاري في الكلي.

وثانياً: بأن الفرد والكلي متحدان حقيقة ومختلفان عنواناً، فليس مجرى الأصل في كل منهما إلّا ملازماً لمجرى الأصل في الآخر، من دون سببية بينهما تقتضي حكومة الأصل الجاري في الفرد على الأصل الجاري في الكلي، بل يعمل بكل منهما في مورده بالإضافة إلى خصوص أثره لو كان له أثر، كما هو الحال في سائر الموارد التي يكون مقتضى الأصل فيها التفكيك بين المتلازمين من دون سببية بينهما.

وثالثاً: بأن مجرد السببية بين مجرى الأصلين لا تكفي في حكومة

ص: 226

أحدهما على الآخر ما لم تكن شرعية، ومن الظاهر أن السببية بين الفرد والكلي - لو تمت - ليست شرعية، بل خارجية، وحكومة الأصل السببي في مثل ذلك مبنية على الأصل المثبت، كما تقدم التنبيه عليه في الجملة في الاستدلال على عدم حجية الأصل المثبت بلزوم المعارضة في جانب الثابت والمثبت. فراجع وتأمل.

ثالثها: أن وجود الكلي لما كان بوجود فرد من أفراده كان عدمه بعدم تمام الأفراد، فإذا عُلِمَ بعدم جميع أفراد الكلي غير الطويل، فبضميمة أصالة عدم الفرد الطويل يحرز عدم الكلي، كما في سائر موارد انضمام الأصل للوجدان.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من عدم الترتب الخارجي بين وجود الفرد والكلي، فضلاً عن الشرعي، فإحراز عدم الفرد بالأصل لا يقتضي إحراز عدم الكلي إلّا بناء على الأصل المثبت.

بل لا يبعد رجوع هذا الوجه إلى الوجه السابق، ضرورة أن مبنى حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الكلي في الوجه السابق على انضمامه لإحراز عدم بقية الأفراد بالوجدان. فعده في كلام غير واحدٍ وجهاً آخر في قباله لا يخلو عن إشكال. فلاحظ.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

الأول: التردد إنما يجري معه الاستصحاب إذا كان من أول الأمر

الأول: التردد بين الفرد الطويل والقصير إنما يجري معه استصحاب الكلي ويكون من هذا القسم إذا كان حاصلاً من أول الأمر، أما لو حصل بعد اليقين بحدوث القصير فيخرج عن هذا القسم، كما لو علم بدخول زيدٍ الدار يوم الجمعة، وعلم بوجود الإنسان فيها يوم السبت، وتردد بين

ص: 227

كونه زيداً فلا يبقى يوم الأحد وكونه عمراً فيبقى يوم الأحد، فبالإضافة إلى يوم السبت والأحد وإن كان الشك في الكلي من هذا القسم، إلّا أنه لما كان الفرد المتيقن سابقاً من الكلي - وهو زيد - قد علم يوم الأحد بارتفاعه يكون احتمال وجود الكلي في ذلك اليوم في ضمن عمرو ملحقاًَََ بالقسم الثالث الآتي ويخرج عن هذا القسم. لليقين بارتفاع الفرد المتيقن الحدوث، والشك في حدوث غيره

ومنه يظهر أن المحدث بالأصغر إذا احتمل طروء الجنابة عليه، فإن قيل بعدم اجتماع الحدث الأصغر مع الأكبر، بل يرتفع به لا يكون استصحاب بقاء كلي الحدث بعد الوضوء من هذا القسم، للقطع بارتفاع الفرد المتيقن والشك في حدوث غيره، وإنما يكون من هذا القسم إذا تردد الحدث من أول الأمر بين الأصغر والأكبر، كما لو خرج البلل المردد بين البول والمني من المتطهر من كلا الحدثين.

وأظهر من ذلك ما لو قيل باجتماع الحدثين، لعدم التردد بينهما أصلاً، كما لا يخفى.

الثاني: لو أخذ عدم أحد الفردين في موضوع تحقق الآخر

الثاني: لو أُخذ عدم أحد الفردين في موضوع تحقق الفرد الآخر فقد يكون استصحاب عدم الفرد المذكور مخرجاً للشك عن هذا القسم، كما هو الحال بناء على أن الحدث الأصغر لا يجتمع، مع الحدث الأكبر، لو حدث سبب الأصغر مع احتمال سبق الأكبر، فإنه بعد طروء سبب الأصغر يعلم إجمالاً بوجود أحد الحدثين، إلّا أن استصحاب عدم الأكبر يقتضي سببية السبب للأصغر وارتفاعه بالوضوء، فلا يكون احتمال وجود الأكبر سبباً لتردد الفرد المعلوم بين الطويل والقصير، بل بل هو راجع لاحتمال حدوث

ص: 228

ما يبقى، ويكون الأصل عدم حدوثه، فيخرج عن هذا القسم، ويلحقه ما يأتي في القسم الثالث، وإن لم يكن مثله، لعدم احتمال تعدد الفرد، إلّا أنه بناء على ما يأتي فيه من امتناع جريان استصحاب الكلي مع القطع بارتفاع الفرد المعلوم يتجه امتناع جريان الاستصحاب هنا.

ونظير ذلك: ما لو احتمل كون الملاقي للنجاسة من الأعيان النجسة، بناء على عدم تنجس النجس، فإن أصالة طهارته ذاتاً تحرز كون نجاسته عرضية تزول بالغسل.

القسم الثالث: ما يكون مسبباً عن وجود فرد آخر وله صور

القسم الثالث: من أقسام الشك في الكلي: ما يكون مسبباً عن احتمال وجود فردٍ آخر غير المتيقن موجود بعد ارتفاعه.

وقد ذكر له شيخنا الأعظم قدس سره صوراً ثلاثاً..

الصورة الأولى: احتمال حدو ث فرد مقارناً لارتفاع الفرد المتيقن

الصورة الأولى: إن يحتمل حدوث الفرد المشكوك مقارناً لارتفاع الفرد المتيقن مع تباين الفردين عرفاً، كما لو علم بدخول زيد الدار وخروجه منها، واحتمل دخول عمرو لها مقارناً لخروجه، فبقي الإنسان في ضمن عمرو، بعد أن كان حدوثه في ضمن زيد.

وقد منع قدس سره هنا من جريان استصحاب الكلي، وهو المعروف بين من تأخر عنه.

وقد يحتج لذلك بإنكار وجود الكلي رأساً، فلا يكون هو موضوعاً للأثر، بل ليس الموجود وموضوع الأثر إلّا الأفراد، وحيث كانت متباينة في أنفسها، فلا يكون المشكوك في المقام بقاء للمتيقن، ليتجه الاستصحاب. وربما ينسب ذلك لبعض الأعاظم قدس سره.

لكن لا يخفى أن المراد بوجود الكلي الذي يكون موضوعاً للأثر

ص: 229

ليس هو وجوده بما هو أمر بسيط مباين لللأفراد مقارن لها، لوضوح أنه ليس في الخارج إلّا الفرد، بل لما كان الكلي وجها من وجوه الفرد وحيثية من حيثياته كان وجود الفرد وجوداً له، فإنكار وجود الكلي لا وجه له بلحاظ ذلك، إلّا أن يكون النزاع لفظياً.

المنسوب للنائيني قدس سره

التصريح بوجود الكلي

ولعله لذا نسب لبعض الأعاظم قدس سره التصريح في الدورة الثانية بوجود الكلي، وتقريب وجه المنع بما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن وجود الكلي الطبيعي وإن كان بوجود فرده، إلّا أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس وجوداً واحداً له، بل تتعدد وجوداته بتعدد أفراده، فلا يكون المشكوك بقاء للمتيقن، بل يكون مبايناً له ويمتنع الاستصحاب.

ومن هنا افترق ذلك عن القسم الثاني، لأن المفروض في ذلك القسم الشك في بقاء نفس الحصة المتيقنة من الكلي، لفرض الشك في حال الفرد الواحد المتيقن، وأنه الطويل أو القصير، من دون أن يحتمل وجود فرد غيره.

وجود الكلي بتعدد أفراده

هذا، ومن الظاهر أن تعدد وجود الكلي بتعدد أفراده إنما يتم بالإضافة إلى الوجود الحقيقي المستند للعلل التكوينية الخارجية.

أما بالإضافة إلى الوجود الانتزاعي المنسوب للكلي بما هو على سعته، من دون نظر إلى تحصصه، وهو صرف الطبيعة المتحقق بصرف الوجود فلا تعدد فيه، بل يصح نسبة الوجود للكلي بوجود الفرد الواحد بعين نسبته له بوجود الأفراد المتعددة المتعاقبة أو المجتمعة.

ومن هنا كان للكلي نحو من الوجود يعبر عنه بالوجود السعي، وهو الذي يقتضيه الإطلاق، دون المرة أو التكرار، كما صرحوا به، فإذا انتقض عدم الكلي بتحقق صرف الطبيعة لا ينتقض مرة بعد أخرى بوجود الفرد

ص: 230

اللّاحق، بل يستمر وجوده بتعاقب الأفراد ما لم يتخللها العدم المطلق بعدم جميع الأفراد، فيصح أن يقال: - مثلاً - وجد الجسم ملوناً وبقي ملوناً حتى تلف، وإن تعاقبت الألوان عليه واختلفت أفرادها.

فوجود الفرد اللّاحق وإن صدق عليه الحدوث بالإضافة إلى خصوصيته، وبالإضافة إلى الحصة الخاصة من الكلي الموجودة في ضمنه، إلّا أنه يصدق معه البقاء بالإضافة إلى الكلي بما له من الوجود السعي المقابل لعدمه المطلق والناقض له.

ما ذكره العراقي قدس سره

من أن وجود الفرد لا يكون ناقضاً للعدم

وأما ما عن بعض المحققين قدس سره من أن وجود الفرد لا يكون ناقضاً للعدم المطلق، بل ناقض لعدمه الخاص، فارتفاعه موجب لرجوع عدمه، أما العدم المطلق فهو لا ينتقض دائما.

دفعه

فهو في غاية الإشكال، لاستلزامه اجتماع العدم المطلق للماهية مع وجود فردها، وهو بديهي البطلان، بل وجود الفرد كما يقتضي انتقاض عدمه يقتضي انتقاض العدم المطلق، وإن كان عدمه يرجع بارتفاع وجوده الخاص، والعدم المطلق لا يرجع إلّا بارتفاع جميع ما وجد من أفراد الماهية.

ما ذكره النائيني قدس سره وكذا ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه لو فرض وحدة وجود الكلي مع تعدد أفراده فهي وحدة عقلية دقية لا تكفي في جريان الاستصحاب، بل لابد فيه من الوحدة العرفية غير المتحققة في المقام، لوضوح التباين بين حصص الكلي.

دفعه

لاندفاعه: بأن وضوح التباين بين الحصص عقلاً وعرفاً لا ينافي صدق البقاء عرفاً بالإضافة إلى الوجود السعي للكلي، وعليه يبتني التناقض بين وجود الكلي والعدم المطلق، كما ذكرنا.

ص: 231

ما ذكره الحلي قدس سره

هذا، وقد ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره أن ذلك لا يتم في هذه الصورة، حيث فرض وجود الفرد اللاحق بعد ارتفاع السابق من دون أن يجتمعا في الوجود - كما يأتي فرضه في الصورة الثالثة - لأنه بارتفاع الفرد الأول ينعدم جميع الأفراد، فينتقض وجود الكلي بالعدم المطلق، ويكون احتمال وجود الكلي احتمالا لوجود الكلي بعد العدم.

دفعه

وفيه: أنه خروج عن مفروض الكلام، لأن المفروض في هذه الصورة احتمال مقارنة الفرد اللاحق لارتفاع السابق، بحيث لا يتخلل العدم المطلق بينهما.

ما ذكره الحائري اليزدي قدس سره

ولأجل هذا ذهب المحقق اليزدي قدس سره في درره إلى جريان الاستصحاب في هذه الصورة. وقد جرينا عليه في ما سبق، وهو في محله لو استفيد من الأدلة كون الكلي بما له من الوجود السعي مورداً للعمل عقلاً، أو موضوعاً للأثر شرعاً.

دفعه

لكن يشكل استفادة ذلك بعد كون الوجود المذكور أمراً انتزاعياً ليس له ما بإزاء في الخارج، وليس الأمر الحقيقي إلّا الوجود المحدود المتكثر بتكثر الأفراد، والذي يكون هو المحط للأغراض والمورد للملاكات، لا الوجود السعي الذي لا تكثر فيه ويقبل الاستمرار.

فإن ذلك قرينة عرفية على كون موضوع الأحكام الشرعية هو الوجود المذكور، ولذا كان المرتكز عرفاً أن كل فرد موضوع مستقل، فلو تكثرت الأفراد كان السبب متكثراً، لا واحداً وهو الوجود السعي غير القابل للتكثر، كما عرفت.

وهو لا ينافي ما قيل من حمل الاطلإق على الطبيعة الصادقة على

ص: 232

القليل والكثير. لأن الغرض من ذلك بيان شمول الحكم لتمام الأفراد، لا كيفية تعلقه بالموضوع، فمقتضى الإطلاق سعة الانطباق، لا كون الموضوع هو الوجود السعي الانتزاعي.

المتحصل في المقام امتناع التمسك باستصحاب الكلي

وعلى هذا يتجه امتناع التمسك باستصحاب الكلي في المقام، لأن ما يقبل البقاء - وهو الوجود السعي - ليس موضوعاً للأثر، ولا مورداً للعمل، وما هو موضوع الأثر ومورد العمل - وهو الوجودات المتكثرة - لا يقبل البقاء والاستمرار بتعاقب الأفراد، كما قرر في وجه المنع المتقدم.

ما إذا كان الموضوع بسيطاً

نعم، قد يكون الموضوع معنى بسيطاً قائماً بالأفراد، أو ملازماً لها كعنوان القبيلة، كما إذا قيل: إذا كان الحكم لآل فلان وجبت الصدقة في كل جمعة بدرهم، على أن يراد بذلك استحقاقهم الحكم، أو خضوع الناس لهم وعدم منازعتهم فيه، ومن الظاهر أن المعنى المذكور لا يتوقف على فعلية قيام الحاكم منهم، بل يصدق لو مات الحاكم منهم قبل تعيين غيره، فيصح استصحاب كون الحكم لهم بلحاظ استمرار هذا المعنى فيهم، ولو مع تعاقب الحكام منهم، وعدم بقاء الحاكم المتيقن سابقاً.

ولعل منه أيضاً عنوان الرقيّة المقابل للحرية، والمنتزع من كون الإنسان مالاً كسائر الأموال المملوكة، الذي هو معنى قابل للاستمرار عرفاً وإن تعاقبت الملكيات عليه، وتعددت أفرادها بتعدد المالكين له، بحيث لو أمكن كون المال غير مملوك فعلاً لم يرتفع العنوان المذكور عنه، فيصح استصحاب هذا المعنى في الشخص لو احتمل بقاؤه، ولو مع العلم بارتفاع ما علم ثبوته سابقاً فيه من ملكية خاصة لشخص خاص.

لكن هذا ليس في الحقيقة من استصحاب الكلي، لعدم كون

ص: 233

المستصحب هو العنوان الكلي المتحد خارجاً مع الأفراد، بل العنوان الشخصي الذي له نحو من الوجود الحقيقي الاستمراري، المقارن لوجود الأفراد، وليس كبقاء الكلي بتعاقب أفراده الذي هو انتزاعي محض لا يكون عرفاً مورداً للأثر ولا محطاً للغرض.

ما يستفاد من الأدلة كون الموضوع هو الكلي بوجوده السعي

نعم، قد يستفاد من الأدلة كون الموضوع الشرعي هو الكلي بما له من الوجود السعي لمناسبات وقرائن خاصة تخرج عن مقتضى الأصل المذكور، كعنوان الجدة واليسار الموضوع لبعض الأحكام، فإنه متقوم بملكية الشخص للمال، من دون ملاحظة خصوصية الأموال، فيستمر عرفاً مع تعاقبها لان المناسبات الارتكازية تقتضي بأن اعتباره لأجل كونه منشأ للقدرة والمكنة التي لا تتقوم بخصوصيات الأموال، ولا تتكرر بتعددها، بل تستمر بتعاقبها، وفي مثل ذلك لا مانع من استصحاب الكلي، فتستصحب ملكية الانسان وجدته للمال بما لها من الوجود السعي المستمر بتعاقب الأموال، وإن علم بخروج شخص المال الذي كان عنده سابقاً عن ملكيته.

لكن هذا راجع إلى أن موضوع الأثر ليس هو الكلي بعنوانه، بل بلحاظ ما يترتب عليه - كالقدرة والمكنة في المثال المتقدم - وهو محتاج لقرينة خاصة ولطف قريحة، والغالب الأول، الذي عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه، ككلي الحدث والخبث ونحوهما مما يظهر من أدلته - ولو بمعونة الجهة الارتكازية العامة المتقدمة - كون الموضوع خصوصيات أفراده بما لها من الوجود المتكثر المحدود، لا الكلي بما له من الوجود الواحد السعي القابل للاستمرار. ولابد من التأمل التام في خصوصيات المسائل الفرعية والنظر في أدلتها والله سبحانه وتعالى ولي

ص: 234

التسديد والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إنه لو فُرض جريان استصحاب الكلي في هذه الصورة فلا مجال لرفع اليد عنه باستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك، لفرض عدم كون الأثر للفرد، لا بخصوصيته، ولا من حيثية كونه حصة من الكلي. وملازمة عدم حدوثه لارتفاع الكلي بارتفاع الفرد المتيقن لا يقتضي حكومته على استصحاب الكلي، لما تقدم في القسم الثاني من عدم السببية بين الفرد والكلي لا حقيقةً ولا شرعاً.

من ثمرات الاستصحاب المذكور

ومن هنا قد يجعل من ثمرات جريان الاستصحاب في هذه الصورة جريان استصحاب الحدث بعد الوضوء للمحدث بالأصغر إذا احتمل طروء الحدث الأكبر عليه قبل الوضوء، بناء على التضاد بين الحدثين وعدم اجتماعهما.

واستصحاب عدم الأكبر لا ينفع في البناء على ارتفاع كلي الحدث وعدم ترتب آثاره، وإن كان ينفع في عدم ترتب أثر خصوص الأكبر، كحرمة المكث في المساجد.

لكن لا يبعد عدم ترتب الثمرة المذكورة، لأن المستفاد من نصوص الأحداث كون الحكم وارداً عليها بخصوصياتها، لا على العنوان الكلي، لعدم أخذ كلي الحدث في الأدلة بعنوانه موضوعاً للمانعية، بل أخذت الطهارة موضوعاً للشرطية، ومن الظاهر أن الطهارة أمر إضافي يختلف بالإضافة إلى كل حدثٍ بنفسه، والمراد بها الطهارة من جميع الأحداث، فيكون كل حدثٍ بنفسه موضوعاً للمانعية على نحو العموم الاستغراقي.

وهو الظاهر من مثل قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ

ص: 235

وُجُوهَكُمْ... وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ» (1) ، فإن المراد القيام من النوم، كما في موثق ابن بكير(2)، وبعض نصوص الأحداث، كقوله عليه السلام: - في صحيح يونس، في بيان الوضوء المفترض لمن جاء من الغائط أو بال - «يغسل ذكره، ويذهب الغائط، ويتوضأ مرتين مرتين»(3)، وغيره.

وهو راجع إلى أن موضوع المانعية مركب من كل حدثٍ بنفسه، فإذا أحرز عدم بعضها بالأصل، وعدم الآخر بالوجدان أمكن ترتيب أثر ارتفاعها، وليس موضوعها كلي الحدث، ليبتني على جريان استصحاب الكلي في هذه الصورة. فلاحظ.

الصورة الثانية: إذا احتمل حدوث الفرد مقارناً لارتفاع المعلوم

الصورة الثانية: من الصور التي ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره لهذا القسم من الشك في الكلي ما إذا احتمل حدوث الفرد المشكوك مقارناً لارتفاع الفرد المعلوم ولم يحتمل اجتماعهما مع عدم التباين بين الفردين عرفاً، بل يتسامح العرف، فيعد الفرد اللّاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد.

وقد اختار قدس سره جريان الاستصحاب في ذلك على ما هو مسلكه من الاكتفاء بالتسامح العرفي في الوحدة بين المشكوك والمتيقن.

مختار الشيخ الأعظم قدس سره فيه

وقد مثل لذلك بما إذا كان المشكوك اللّاحق من مراتب المتيقن السابق، كما لو علم بوجود السواد الشديد وعلم بارتفاعه إما بجميع مراتبه أو ببعضها، أو علم بارتفاع المرتبة الشديدة من كثرة الشك واحتمل بقاء مرتبة ضعيفة منها.

ص: 236


1- سورة المائدة: 6.
2- الوسائل ج: 1، باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 7.
3- الوسائل، ج: 1، باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 5.

هذا، وقد تقدم منا عند الكلام في موضوع الاستصحاب المنع من الاعتماد على التسامح العرفي، وأنه لابد من الاتحاد الحقيقي بنظر العرف.

إلّا أن ما ذكره من الأمثلة خارج عنه، لأن المرتبة الضعيفة موجودة في ضمن المرتبة الشديدة بذاتها، وإن اختلفت عنها بحدها، فذهاب بعض حدود الأمور التشكيكية لا يوجب تبدل ذواتها، ليكون من تبادل الفردين، بل هو من سنخ تبدل الحالات الزائدة على الذات لا ينافي صدق البقاء عليها حقيقة، لبقاء ما به الاشتراك بعينه.

فالمورد من موارد القسم الأول للشك في بقاء الكلي الذي تقدم عدم الإشكال في جريان الاستصحاب فيه.

نعم، عمَّمَ قدس سره جريان الاستصحاب في ذلك لما إذا كان الشك في البقاء مسبباً عن الشبهة المفهومية. وهو مبني على جريان الاستصحاب في المفهوم المردد، ويأتي في المقام الثاني المنع منه.

ثم إنه قد يُدَّعى ظهور ثمرة جريان الاستصحاب في هذه الصورة فيما لو علم بنسخ الوجوب واحتمل تبدله بالاستحباب، فيستصحب الطلب، لأن الوجوب مرتبة شديدة منه والاستحباب مرتبة ضعيفة منه.

ما استشكله الخراساني قدس سره

وقد استشكل في ذلك المحقق الخراساني قدس سره: بأن الاستحباب وإن كان من مراتب الوجوب حقيقة، إلّا أنهما متباينان عرفاً، فيمتنع الاستصحاب.

لكن عرفت عدم الاعتداد بالتسامح العرفي في أمثال المقام.

نعم، الظاهر أن الاستحباب ليس من مراتب الوجوب، وليس هو مرتبة ضعيفة من الطلب، بل هما فردان منه بينهما كمال المباينة، والوجوب منتزع من الطلب مع المنع من الترك ولو مع ضعف الطلب لضعف ملاكه،

ص: 237

والاستحباب منتزع من الطلب مع الترخيص فيه لوجود المانع من الإلزام ولو مع قوته لقوة ملاكه، أو هما منتزعان من نحوين من الإرادة التشريعية، وإن كان يجمعهما تشريع الفعل ونسبته للمولى على ما يذكر في محله.

لكن هذا إنما يقتضي تباين الوجوب والاستحباب بما أنهما حكمان منتزعان من الطلب في حالتيه المختلفتين، أو التشريع بخصوصيتيه المتباينتين، ولا يمنع من استصحاب الأمر المشترك بينهما وهو نفس الطلب، أو تشريعه ونسبته للمولى الذي هو موضوع حسن الطاعة عقلاً مع قطع النظر عن مقارنته للخصوصيتين المذكورتين، وإنما يناط بالمنع من الترك وجوب الطاعة وبالترخيص فيه جواز تركها، ومن الظاهر أن الأمر المشترك متيقن حين الوجوب، ولا يكون التبدل بالاستحباب تبدلاً في فرده، بل يكون تبدلاً في حالته ومقارنه، فالمستصحب هو الطلب بما له من الوجود الخاص المتيقن، ويكون من القسم الأول لاستصحاب الكلي، لا من هذا القسم، فلا مجال لجعله ثمرة لجريان الاستصحاب في هذه الصورة.

الصورة الثالثة: إذا احتمل مقارنة المشكوك وبقاؤه بعده

الصورة الثالثة: ما إذا احتمل مقارنة الفرد المشكوك للفرد المتيقن وبقاؤه بعده، كما لو علم بدخول زيد الدار يوم الجمعة وخروجه منها يوم السبت، واحتمل وجود عمرو فيها معه وبقاؤه بعده.

ما قربه الشيخ الأعظم قدس سره

وقد قرب شيخنا الأعظم قدس سره جريان الاستصحاب في هذه الصورة مفرقاً بينها وبين الصورة الأولى، قال: «لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الوجود سابقاً، فيتردد الكلي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك حقيقةً إنما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي».

ص: 238

وظاهره أن الوجه في التفصيل المذكور هو اختصاص هذه الصورة باحتمال كون الموجود اللاحق المحتمل عين الموجود السابق المتيقن، لاحتمال كون الوجود المتيقن سابقاً للكلي في ضمن فردين أحدهما المشكوك الذي يحتمل بقاؤه، بخلاف الصورة الأولى، للعلم بمباينة الوجود السابق للاحق.

المناقشة فيه

وفيه: أن فرض اليقين سابقاً بوجود الكلي إن كان بلحاظ وجوده السعي، فهو كما لا يتكثر بتعدد الأفراد، بل يوجد مع تعددها بعين وجوده مع الفرد الواحد، ويصدق عليه الاستمرار حينئذ، كذلك لا يتعدد مع تبادل الأفراد، كما في الصورة الأولى، بل يصدق عليه البقاء حينئذٍ، ولازم ذلك جريان الاستصحاب في الصورة الأولى أيضاً، كما تقدم.

وإن كان بلحاظ وجوده المتكثر الذي هو عبارة عن وجود حصصه، فلا يحتمل في هذه الصورة اتحاد المشكوك مع المتيقن، لعدم اليقين سابقاً بكلا الفردين، بل بأحدهما المعلوم الارتفاع، ولا يحتمل اتحاد المشكوك لاحقاً معه، بل مع الفرد الآخر المشكوك الحدوث، فلا مجال للاستصحاب في هذه الصورة أيضاً.

ما يتراءى من كلامه السابق

هذا، وقد يُتراءى من كلامه السابق أنه ناظر لتفصيله بين الشك في المقتضي والشك في الرافع بعد فرض كون موضوع الأثر هو الكلي بوجوده السعي لا المتكثر.

تقريبه

وقد يقرب: بأن اقتضاء الكلي بما له من الوجود السعي للبقاء تابع لاقتضاء أفراده، ففي الصورة الأولى حيث كان وجود الكلي سابقاً منحصراً بالفرد المتيقن المعلوم الارتفاع، فاحتمال بقائه يستند لاحتمال

ص: 239

تجدد الاقتضاء له في ضمن فرد آخر بعد القطع بعدم استناد بقائه لاقتضائه السابق الثابت له تبعاً للفرد السابق، فإنه لا أثر ارتكازاً لمثل هذا الاقتضاء في استحكام المستصحب حتى، يلحق بصورة إحراز المقتضي والشك في الرافع، فهو نظير ما لو علم بوجود الزيت في السراج بمقدار إنارته إلى الفجر، ثم علم بإراقة ذلك الزيت واحتمل بقاء السراج منيراً لوضع زيتٍ آخر فيه بعد ذلك، حيث لا يظن منهم إلحاق ذلك بصورة العلم بالمقتضي.

أما في الصورة الثالثة فحيث يحتمل وجود الكلي في ضمن فردين فهو مما يحرز اقتضاء البقاء له، وإنما يشك في ارتفاعه للشك في أن رافع الفرد المتيقن رافع له، لانحصاره به، أولا، لاستغنائه باقتضاء الفرد الآخر للبقاء، فهو راجع للشك في حال الاقتضاء الأول وأنه يرتفع بالرافع المذكور أو لا؟.

دعوى العلم بعدم استناد بقائه لمقتضيه

ودعوى: أنه يعلم بعدم استناد بقائه لما علم من مقتضيه السابق، وهو الفرد المتيقن، وإنما يحتمل استناد بقائه للمقتضي الآخر المشكوك ثبوته، فيكون الشك في بقائه مستنداً للشك في المقتضي.

دفعها

مدفوعة: بأنه لا نظر لخصوصيات المقتضي في التفصيل المذكور، بل المعيار كون المستصحب من شأنه البقاء، ويستند الشك في بقائه للشك في رافعه، لا لاحتمال تجدد المقتضي له، وهو حاصل في الفرض.

فهو نظير ما لو تردد الفرد في القسم الثاني بين ما يرتفع بالرافع الطارئ وما لا يرتفع، كالحدث المردد بين الأكبر غير المرتفع بالوضوء والأصغر المرتفع به.

نعم، لو كان ارتفاع الفرد المتيقن في هذه الصورة لانتهاء مقتضيه لا

ص: 240

لوجود الرافع له كان الشك في بقاء الكلي للشك في المقتضي، إذ لا يعلم من أول الأمر بوجود المقتضي لبقائه، بل المتيقن ثبوت شأنية البقاء له إلى زمان ارتفاع الفرد المتيقن، واحتمال بقائه بعده لاحتمال ثبوت مقتض آخر يقتضي بقاءه في ضمن الفرد الآخر.

ولا يبعد عدم بناء شيخنا الأعظم قدس سره على جريان استصحاب الكلي في هذا الفرض، حيث كان تفصيله بين الشك في المقتضي والرافع.

ما ذكره النائيني قدس سره

من الإشكال على الشيخ الأعظم قدس سره

ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الإشكال على شيخنا الأعظم قدس سره بأن جريان الاستصحاب في هذه الصورة لا يناسب ما ذهب إليه من عدم جريان الاستصحاب مع الشك في المقتضي.

العمدة في دفع ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

فالعمدة في دفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى هو ما سبق من عدم تمامية التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع، فلو جرى الاستصحاب في هذه الصورة بلحاظ الوجود السعي جرى في الصورة الأولى أيضاً، إلّا أنه لما كان الغالب عدم كون موضوع الأثر هو الوجود المذكور، بل الوجود المتكثر المحدود فالشك في كلتا الصورتين في حدوثه لا بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيهما معاً.

دعوى ظهور الثمرة في موارد

ثم إنه ربما يدعى ظهور ثمرة جريان الاستصحاب في هذه الصورة في موارد..

الأول: الدوران بين الواحد والمتعدد في الشبهة الحكمية

الأول: ما لو دار الواجب بين الواحد والمتعدد للشبهة الحكمية - كما لو ترددت الكفارة بين المد والمدين - أو الموضوعية - كما لو تردد فوت الفريضة بين المرة والمرتين - فبإتيان فرد واحد يشك في بقاء التكليف بالكلي على نحو الشك المفروض في هذه الصورة، فيستصحب التكليف

ص: 241

بالماهية الثابت قبل الإتيان بها.

وقد ذكر ذلك سيدنا الأعظم قدس سره في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ثمرةً لاستصحاب الكلي. فراجع.

ويشكل: بأن الأثر في المقام للفرد، لا للكلي، فان وجوب الامتثال عقلاً من آثار التكليف الشخصي، لأن جميع، القضايا العقلية والخارجية - كإحراق النار - ليست عنوانية قائمة بالكلي، بل انحلالية قائمة بالأفراد، والقضايا العنوانية التي تؤدى بها انتزاعية محضة، وليست القضايا العنوانية الحقيقية إلّا القضايا الشرعية الكلية.

فالمقام من تشابه الفردين في الأثر، لا من استناد الأثر للكلي، فلا مجال لاستصحاب الكلي، بل يجري الاستصحاب في الفرد بلا إشكال، ولا مجال له في المقام، لليقين بسقوط التكليف المتيقن بامتثاله.

الثاني: احتمال طروء الحدث الأكبر على المحدث بالأصغر

الثاني: ما لو احتمل طروء الحدث الأكبر على المحدث بالأصغر، فإنه بناء على اجتماع الحدثين يعلم بعد الوضوء بارتفاع الحدث الأصغر، ويحتمل بقاء كلي الحدث في ضمن الحدث الأكبر الذي يحتمل وجوده مقارناً للأصغر.

لكن هذا مبني..

أولاً: على أن الأثر لكلي الحدث، لا لأفراده، وإلّا خرج عن استصحاب الكلي، كما تقدم في ثمرة جريان الاستصحاب في الصورة الثانية.

وثانياً: على ارتفاع الأصغر المقارن للأكبر بالوضوء، وهو محل إشكال خصوصاً في الجنابة. وحينئذٍ يشك بعد الوضوء في ارتفاع الأصغر،

ص: 242

ولا إشكال حينئذٍ في استصحاب الكلي، لأنه من القسم الأول.

اللهم إلّا أن يقال: مقتضى ذلك اشتراط رافعية الوضوء للأصغر بعدم الحدث الأكبر، فاستصحاب عدم الحدث الأكبر يكون محرزاً لارتفاع الأصغر المتيقن بالوضوء، ويكون احتمال بقاء الكلي مستنداً لاحتمال حدوث فردٍ آخر غير المتيقن الذي أحرز ارتفاعه، فيخرج عن القسم الأول، ويدخل في هذا القسم. فلاحظ.

الثالث: لو احتمل ملاقي النجاسة من الأعيان النجسة

الثالث: ما لو احتمل كون ملاقي النجاسة من الأعيان النجسة، فإنه بناء على اجتماع النجاسة الذاتية والعرضية في العين الواحدة يكون الشك في بقاء النجاسة بعد غسل الملاقي نظيراً لهذه الصورة، فيبتني جريان استصحاب النجاسة على جريان استصحاب الكلي فيها.

لكنه يختص بما إذا أخذ في موضوعه النجاسة، كحرمة الأكل والشرب، حيث يمكن دعوى كون المأخوذ فيه كلي النجاسة لا أفرادها.

أما ما أخذ في موضوعه الطهارة - كالوضوء الذي يجب أن يكون بالماء الطاهر - فالظاهر كون الموضوع فيه مركباً من أفرادها بنحو العموم الاستغراقي، فإحراز عدم بعضها بالأصل وعدم الآخر بالوجدان يكفي في ترتب الأثر، كما تقدم نظيره في ثمرة الصورة الأولى.

هذا ولو فرض عدم اجتماع النجاستين الذاتية والعرضية كان المقام نظير ما لو طرء سبب الحدث الأصغر مع احتمال سبق الأكبر، حيث تقدم في ذيل الكلام في القسم الثاني أنه وإن لم يكن من القسم الثالث إلّا أنه نظير له بناء على أن الأثر للكلي.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

ص: 243

الأول: عدم جريان الاستصحاب بالإضافة إلى نفس الكلي لا مسببه

الأول: أن ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم إنما هو بالإضافة إلى نفس الكلي المتحد مع الفرد، أما بالإضافة إلى مسببه وأثره فلا مانع من الاستصحاب لو فرض الشك في بقاء المسبب لاحتمال وجود فرد آخر من السبب غير ما علم وجوده سابقاً، كما يجري لو احتمل تجدد سبب آخر مباين ماهيته للسبب المتيقن، كما لو احتمل بقاء الحرارة بعد غروب الشمس من جهة الحركة، لأن تعدد السبب لا ينافي وحدة المسبب بحيث يصدق البقاء بالإضافة إليه.

نعم، كثيراً ما يكون الشك في تجدد السبب راجعاً إلى الشك في اقتضاء المسبب للبقاء، وهو أمر آخر خارج عن محل البحث، بل لا أثر له في جريان الاستصحاب بناء على ما تقدم من عمومه للشك المذكور.

ودعوى: أن لازم ذلك جريان الاستصحاب في المسببات الشرعية مع الشك المذكور، كما لو شك في بقاء الزوجية للشك في حدوث العقد الدائم عند انتهاء أمد المنقطع.

مدفوعة: بأنه يجري ذاتاً، إلا أنه محكوم لاستصحاب عدم حدوث السبب الآخر، المقتضي لانتهاء المسبب بانتهاء أمد السبب الأول. بخلاف المسببات غير الشرعية، كالحرارة المسببة عن الحركة، فإن الاستصحاب في أسبابها لا ينهض بإثباتها أو نفيها إلّا من باب الأصل المثبت، فلا حاكم على الاستصحاب الجاري فيها.

مضافاً - في خصوص مثال الزوجية - إلى قرب عدم صحة العقد على المتمتع بها إلّا بعد انقضاء المدة المستلزم لتخلل العدم بين الزوجيتين بمقدار العقد.

ص: 244

نعم، لا مجال لذلك لو فرض احتمال تجديد المدة.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الشك في مثل ذلك في تجدد فرد آخر من المسبب - كالزوجية الدائمة - لا في بقاء الفرد المتيقن لتعاقب السببين الذي هو محل الكلام.

ففيه: أن حقيقة الزوجية الدائمة ليست مباينة لحقيقة الزوجية المنقطعة، كما أن أفراد الزوجية الدائمة أو المنقطعة ليست متباينة في حقائقها، ومع اتحاد سنخ العرض وعدم تخلل العدم بين أجزائه يكون فرداً واحداً مستمراً بنفسه، لا أفراداً متعددة متباينة لا يكون أحدها بقاء للآخر، كي يمتنع الاستصحاب، فالمقام نظير الحركة والحرارة المستمرتين بتعاقب أسبابهما.

الثاني: القسم الرابع لاستصحاب الكلي الذي ذكره السيد الخوئي قدس سره

الثاني: ذكر بعض مشايخنا لاستصحاب الكلي قسماً رابعاً لم يمنع منه، وهو ما إذا علم بتحقق كليين وارتفاع أحدهما بارتفاع فرده، واحتمل بقاء الآخر لاحتمال وجوده في ضمن الفرد المرتفع لكونه مجمعاً للعنوانين، أو وجوده في ضمن فردٍ آخر باقٍ.

كما إذا علم بوجود العالم والقرشي في الدار، ثم علم بخروج العالم منها واحتمل بقاء القرشي، لاحتمال كونه هو العالم الخارج، أو غيره الباقي، فيستصحب القرشي.

وما ذكره في محله، لاجتماع ركني الاستصحاب في العنوان الكلي المشكوك الذي هو مورد الأثر مع احتمال بقاء الحصة المتيقنة منه.

إلّا أنه لا وجه لجعله قسماً في قبال القسمين الأولين، بل هو من أفرادهما، فيكون من أفراد القسم الأول إن كان الفرد الذي حصل الكلي

ص: 245

في ضمنه معيناً كزيد القرشي، وكان الشك في كونه مجمعاً للعنوانين، كي يشك في ارتفاعه بارتفاع العنوان الآخر، وهو العالم، ومن أفراد القسم الثاني إن تردد الفرد الذي حصل الكلي في ضمنه بين ما ينفرد بالعنوان المحتمل البقاء، كزيد القرشي غير العالم وما يكون مجمعاً لهما، كعمرو القرشي العالم، حيث يتردد حينئذٍ بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء.

ومجرد العلم بوجود الكلي الآخر وتردد الموجود بين الفرد والفردين لا أثر له بعد كون الفرد الآخر المحتمل فرداً لكليٍ آخر غير الكلي المستصحب مع احتمال بقاء الكلي المستصحب ببقاء نفس الفرد المتيقن لا غيره.

وإنما امتاز القسم الثالث باحتمال وجود فرد آخر من نفس الكلي المستصحب مع القطع بزوال الفرد المتيقن منه.

ولو أُريد تكثير الأقسام من دون نكتة توجب اختلاف ملاك الكلام فيها لم تكن متناهية.

ما فرعه قدس سره على جريان الاستصحاب في هذا القسم

ثم إنه قد فرَّع على جريان الاستصحاب في هذا القسم جريان الاستصحاب ذاتاً في موردين وإن كان مبتلىً بالمعارض..

التفريع الأول

الأول: ما لو كان المكلف متوضئاً، ثم صدر منه وضوء وحدث، واشتبه عليه المتقدم منهما، واحتمل كون وضوئه الثاني تجديدياً قد انتقض مع الوضوء الأول بالحدث المعلوم، فيجري استصحاب كلي الطهارة المتيقن ثبوتها بعد الوضوء الثاني، حيث يحتمل أن تكون هي الطهارة الأولى فهي مرتفعة، وأن تكون طهارة أخرى فهي باقية.

وقد يستشكل فيه: بأن المستصحب ليس هو الكلي، بل الطهارة

ص: 246

الشخصية الثابتة حين الوضوء الثاني.

ويندفع: بأن وحده الشخص لا تنافي استصحاب الكلي فيما لو كان الأثر له، وكان الشك في بقائه للشك في ذلك الفرد - كما في القسم الأول - أو في حاله، لتردده بين ما هو الباقي والمرتفع - كما في القسم الثاني - كما لعله ظاهر.

نعم، تفريعه على القسم الذي ذكره من استصحاب الكلي لا يخلو عن إشكال، لعدم احتمال كون المتيقن سابقاً مجمعاً لعنوانين أحدهما موضوع الأثر - وهو الطهارة - بل ليس هو إلّا فرداً لعنوان واحد.

غاية الأمر احتمال كونه مجمعاً لفردين منها بينهما نحو من الاتحاد لتأكد أحدهما بالآخر واندكاكه، ولا يعلم وجود العنوان الآخر حتى مثل عنوان الطهارة التجديدية، بل هو مشكوك.

والأمر في ذلك سهل بعد جريان الاستصحاب ذاتاً لولا إشكال الاستصحاب مع تعاقب الحالتين المتضادتين الذي يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

التفريع الثاني

الثاني: ما لو رأى المكلف في ثوبه منياً وتردد بين أن يكون من جنابة قد اغتسل منها وأن يكون من غيرها، فيجري استصحاب كلي الجنابة من حين خروج ذلك المني المردد بين الفرد السابق المعلوم الانتقاض والجديد المشكوك الحدوث، بدعوى: أن عدم جريان الاستصحاب في كل من الفردين بخصوصيته للقطع بارتفاع الأول والشك في حدوث الثاني، لا ينافي جريانه في الكلي المعنون بما حدث عند خروج المني، المعلوم الحدوث والمشكوك الارتفاع.

ص: 247

ويشكل: بأن هذا الفرع لا ينطبق على القسم المذكور أيضاً، لوضوح أنه ليس في المقام عنوانان قطع بارتفاع أحدهما واحتمل بقاء الآخر، بل ليس المتيقن إلّا عنوان الجنابة على إطلاقه، وعنوان جنابة المني الخاص، والأول قد تردد بين أن يكون قد وجد في ضمن فرد واحد، فزال بزواله وأن يكون قد وجد بعد ذلك في ضمن فرد آخر، فهو باق ببقائه، والثاني معلوم الحدوث مشكوك الزوال.

مضافاً إلى الإشكال في أصل جريان الاستصحاب في المقام بأن العنوان المذكور - وهو عنوان الجنابة الحاصلة حين خروج المني الخاص - إن أُخذ قيداً في المستصحب فمن الظاهر عدم دخله في الأثر المفروض في المقام، لوضوح أن الأثر الشرعي إنما هو للجنابة بما هي، ولا دخل للخصوصية المذكورة فيها، واستصحاب الكلي مشروط بأن يكون مأخوذاً بعنوانه في موضوع الأثر.

وإن أُخذ حاكياً معرّفاً عما حدث من الجنابة فمن الظاهر أن المحكي به مردد بين الفرد المعلوم حدوثه، وهو الجنابة الأولى المعلومة الارتفاع، والفرد المشكوك حدوثه، فهو من استصحاب الفرد المردد بين المعلوم وغيره، فلا يكون المعلوم إلّا الفرد الأول، والمفروض العلم بارتفاعه.

وهذا بخلاف مثال الوضوء المتقدم، لوضوح أن زمان الوضوء المعلوم حدوثه زمان يعلم فيه بوجود الطهارة غير الزمان الأول الذي علم بوجود الطهارة الأولى المنتقضة فيه وإن احتمل اتصالهما.

ولو بني على جريان الاستصحاب في مثل ذلك انتقض بجميع موارد الشك في تجدد العارض بعد العلم بارتفاعه، فإن استصحاب عدمه على

ص: 248

هذا معارض دائماً باستصحاب آخر وجود له يعلمه الله تعالى، وإن كان ذلك الحدوث مردداً بين الحدوث المعلوم المتعقب بالارتفاع، والمشكوك المتأخر عنه، كما لعلَّه يظهر بالتأمل.

على أنه لا مجال لاستصحاب الفرد في المقام أيضاً، لعدم دخل خصوصيته في الأثر، بل الأثر لكلي الجنابة معرّى عن كل خصوصية.

نعم، يمكن أن يؤخذ حدوث المني الخاص ظرفاً لزمان العلم بالجنابة بأن يراد استصحابها من حينه - لا قيداً في المستصحب، ولا حاكياً معرّفاً له - فيأتي فيه ما يأتي في تعاقب الحالتين المتضادتين إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.

ص: 249

المقام الثاني: في استصحاب المردد

لابد في استصحاب الكلي بما له من الأقسام المتقدمة من كون موضوع الأثر هو الجهة الجامعة بين الأفراد بما لها من الحدود المفهومية، مع اجتماع ركني الاستصحاب فيها من اليقين والشك فيها بتلك الحدود.

عدم جريان الاستصحاب في موردين

وعليه يبتني عدم جريان الاستصحاب في موردين..

الأول: في المفهوم المردد

الأول: في المفهوم المردد بأن كان الشك في بقاء المفهوم - الذي هو موضوع الأثر - ناشئاً من تردده وإجماله، كما إذا تردد مفهوم العادل بين مجتنب الكبيرة فقط ومجتنب جميع الذنوب وكان زيد مجتنب الجميع ثم ارتكب الصغيرة، حيث لا مجال لاستصحاب عدالته حينئذ، وإن اجتمع اليقين والشك في صدق عنوان العدالة، لأن موضوع الأثر ليس هو صدق العنوان وصحة إطلاقه، بل الواقع الذي يحكي عنه العنوان وينتزع منه، فلابد من اجتماع ركني الاستصحاب في منشأ انتزاعه، والمفروض عدمه في المقام، لأن المعنى الأول معلوم البقاء، والثاني معلوم الارتفاع.

نعم، لا يعتبر اليقين والشك التفصيليان، بل يكتفي بالإجمالي منهما، لإطلاق دليلهما، كما لو علم بوجود منشأ انتزاع العنوان وشك في بقائه بنفسه على ما هو عليه من الإجمال، من دون أن يكون إجماله دخيلاً في

ص: 250

الشك. ولعله ظاهر.

الثاني: في الفرد المردد

الثاني: في الفرد المردد، بأن لا يكون الأثر للكلي الجامع بين الفردين، بل للفرد بما له من الحدود الواقعية المميزة له عن غيره، ولا يكون بتلك الحدود مورداً لليقين والشك التفصيليين، ولا الإجماليين، وإن أمكن فرضه بالإضافة إلى العنوان المردد الحاكي عن كل منهما بما له من الخصوصية، كعنوان (أحدهما).

فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين، ثم احتمل تطهيره، ولاقى الثوب أحدهما، فلا مجال لاستصحاب نجاسة أحدهما لإثبات تنجس الثوب، لأن الموجب لنجاسة الثوب هو نجاسة الملاقى بخصوصيته، ولا دخل للعنوان المذكور في ذلك، ومن ثَمَّ لا ينفع العلم ببقاء نجاسة أحدهما في إثبات تنجس الثوب، وإنما ينفع الاستصحاب المذكور لو كان الأثر لتنجس أحدهما على ما هو عليه من الترديد.

بل لابد في إثبات تنجس الثوب من كون الملاقى بخصوصيته مورداً لليقين والشك ولو إجمالاً، بأن علم بملاقاته لما كان نجساً سابقاً ولو لم يتميز لنا، إما صدفة أو لملاقاته لهما معاً، لما أشرنا إليه آنفاً من عموم دليل الاستصحاب لليقين والشك الإجماليين.

وكذا لو اشترك الفردان بخصوصيتهما في أثر واحد واجتمع ركنا الاستصحاب في العنوان الترديدي دون كل منهما بخصوصيته، كما لو نذر شخص أن يتصدق كلما بقي زيد في الدار يوماً، وحلف أن يتصدق أيضاً كلما بقي عمرو في الدار، فعلم بدخول أحدهما واحتمل بقاءه لتردده بينهما فإن كان زيداً فهو باق قطعاً، وإن كان عمراً فهو خارج قطعاً.

ص: 251

فإنه لا مجال لاستصحاب أحدهما بخصوصيته، لعدم كونه مورداً لليقين والشك ولو إجمالاً، كما لا مجال لاستصحاب أحدهما على ما هو عليه من الترديد، لعدم كونه بالوجه المذكور موضوعاً للأثر، بل استصحاب عدم دخول زيد بضميمة العلم بعدم بقاء عمرو يقضي بعدم وجوب الصدقة.

نعم، لو علم بدخول أحدهما إجمالاً، ولم يكن تردده بينهما منشأ للشك في البقاء اتجه استصحاب بقائه على ما هو عليه من إجمال، لما تقدم من عموم اليقين والشك للإجمالين، فيجري عليه حكم العلم الإجمالي بثبوت أحد الأمرين.

حاصل الحديث في استصحاب الكلي

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن الاستصحاب يجري في الكلي، وفي الفرد الإجمالي، دون الفرد المردد.

وأن المعيار في الأول أن يتعلق اليقين والشك بالعنوان الكلي، الذي هو موضوع الأثر.

وفي الثاني أن يتعلق اليقين والشك بالفرد بذاته أو بعنوانه الخاص على ما هو عليه من إجمالٍ، ويكون الأثر متعلقاً به كذلك من دون دخل للعنوان المعلوم بالتفصيل فيه.

أما الثالث فالمعيار فيه أن يتعلق اليقين والشك بالعنوان الترديدي، ويكون موضوع الأثر هو الفرد بذاته أو بعنوانه من دون أن يكون مورداً لليقين والشك حتى الإجماليين.

ولا ينبغي الإشكال في شيءٍمن ذلك بعد ملاحظة ما تقدم في أركان الاستصحاب وشروطه.

الشبهة العبائية

وأما خلافهم في الشبهة العبائية فهو وإن ابتنى في الجملة على ذلك،

ص: 252

إلّا أنه لا يبعد كون مرجعه إلى الخلاف في الصغرى لا في الكبرى المذكورة.

ومن هنا ناسب التعرض لها في المقام، تبعاً لغير واحد من الأعلام.

حقيقة الشبهة العبائية

وهي أنه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباءة، ثم طهر الجانب الأيمن منها، ثم لاقت اليد كلا الجانبين برطوبة، فقد يدعى أن مقتضى استصحاب نجاسة النجس نجاسة اليد، مع أنها لو لاقت الأيسر فقط لم يحكم بنجاستها - بناء على ما هو المعروف من عدم الحكم بانفعال أحد أطراف الشبهة المحصورة - وملاقاتها للجانب الأيمن الطاهر لا أثر لها في الانفعال.

بناء السيد الخوئي قدس سره على الاستصحاب

وقد التزم بعضهم بمقتضى الاستصحاب المذكور، ومنهم بعض مشايخنا، مدعياً: أن ملاقاة الجانب الطاهر وإن لم يكن لها الأثر ثبوتاً في تنجس الملاقي، إلّا أنها لما كانت موجبة للعلم بملاقاة مستصحب النجاسة كانت سبباً في إحراز انفعال الملاقي وحكومة الاستصحاب المذكور على استصحاب طهارة الملاقي. وبهذا يفترق المقام عن سائر موارد ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة، حيث لا حاكم فيها على استصحاب طهارة الملاقي، لعدم إحراز نجاسة الملاقى.

وصريح تقرير درسه أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الكلي، ومقتضى مساق كلامه أنه من القسم الثاني منه.

وفيه: أنه إن أراد استصحاب الكلي بالإضافة إلى نفس النجاسة فهو إنما يكون من القسم الثاني لو كان منشأ الشك هو اختلاف أفراد النجاسة بالطول والقصر، بأن ترددت بين نجاسة الولوغ ونجاسة غيره، ومن الظاهر خروج ذلك عن مفروض الكلام، وأن الشك في بقاء النجاسة ناشئ من التردد في النجس، فهو بالإضافة إلى النجاسة من القسم الأول، لا الثاني.

ص: 253

وإن أراد استصحاب الكلي بالإضافة إلى النجس الراجع إلى نجاسة الأمر الكلي المحتمل الانطباق على كل من الطرفين، وهو عنوان ما لاقى النجاسة سابقاً مثلاً، فمن الظاهر أن العنوان المذكور ونحوه من العناوين المفروضة لا دخل لها في الأثر الشرعي، وهو الانفعال، لوضوح أن موضوعه هو النجس فعلاً بذاته وخصوصيته، لا بعنوان كونه النجس سابقاً، وليس العنوان المذكور إلّا حاكياً محضاً عما هو موضوع الاستصحاب، لا قيداً فيه ليكون من استصحاب الكلي. على نسبة العنوان المذكور للطرفين ليست نسبة الكلي للفردين، لأن الكلي يعلم انطباقه على كلا فرديه، وعنوان ماتنجس سابقاً يعلم بعدم انطباقه إلّا على أحد طرفي العباءة فهو من العنوان الإجمالي المردد.

الكلام في جريان الاستصحاب في الفرد بخصوصيته الإجمالية

فلابد من الكلام في أنه هل يجري الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى الفرد بخصوصيته ولو مع إجماله، أو لا؟.

وجوه المنع

وقد منع من ذلك غير واحدٍ لأحد وجوهٍ..

الأول: ما عن النائيني قدس سره

الأول: ما عن بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الأولى من درسه من أن محل الكلام في القسم الثاني لاستصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته مردداً بين مقطوع البقاء والارتفاع، دون ما إذا كان الإجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته، بل يمتنع فيه حينئذٍ جريان الاستصحاب، كما يمتنع جريانه في الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد محله بين أحد جانبيها، وانهدم الجانب الغربي، واحتمل تلفه بانهدامه، أو علم بوجود درهم خاص لزيد بين مجموعة دراهم ثم ضاع أحدها، ومنه المقام،

ص: 254

حيث يتردد محل النجاسة بين الطرفين مع العلم بارتفاعها عن أحدهما على تقدير وجودها فيه.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا ينهض ببيان الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الموارد المذكورة لو فرض ترتب الأثر على المستصحب بنفسه، كما تقدم تقريبه في المقام.

غايته أنه لا يكون من القسم الثاني لاستصحاب الكلي، بل من استصحاب الفرد، لفرض قيام الأثر به لا بالكلي.

نعم، لا يحرز بالاستصحاب في الموارد المذكورة أن المشكوك في المحل الباقي، كما لم يحرز باستصحاب الكلي وجوده في ضمن الفرد الطويل، لأنه من أوضح أفراد الأصل المثبت.

لكن ترتب الأثر في المقام لا يتوقف على ذلك، إذ يكفي في إثبات نجاسة الملاقي استصحاب نجاسة الملاقى وإن لم يتعين أنه في الجانب الأيسر.

ومنه يظهر حال ما أورده على استصحاب الفرد المردد من أن الاستصحاب إنما يحرز بقاء المشكوك، من دون أن يحرز أنه الفرد الباقي. فراجع وتأمل.

هذا، مع أن الشك في المقام وإن كان في محل المستصحب وهو النجاسة، إلّا أنه راجع إلى الشك في هويته وحقيقته، لوضوح أن المراد بالمحل ليس هو ظرف المستصحب، كأحد جانبي الدار بالإضافة للحيوان الخاص، بل موضوعه، لأن النجاسة من الأعراض التي تقوم بموضوعها لا بنفسها، ومن الظاهر تقوم العرض بموضوعه وتبدله بتبدله. بل لا ريب في

ص: 255

أن تردد درهم زيد بين الدراهم ليس من التردد في محل المستصحب، بل في هويته وحقيقته، لاحتمال اتحاده مع كل منها مع تباينها في أنفسها، والتعبير بوجوده في ضمنها مجازي بلا إشكال.

الثاني: عنه أيضاً

الثاني: ما عنه أيضاً في الدورة الثانية من عدم الأثر للاستصحاب، في المقام.

أما بالإضافة إلى ما يعتبر فيه إحراز الطهارة - كالصلاة - فلأن عدم جواز الدخول فيه يترتب على نفس الشك في الطهارة بلا حاجة إلى استصحاب النجاسة.

وأما بالإضافة إلى نجاسة الملاقي فلأن الاستصحاب المذكور لا يحرز إلّا بقاء نجاسة الملاقى، وهو لا يكفي في الحكم بنجاسة الملاقي، بل لابد فيه من إحراز ملاقاة النجس، والاستصحاب لا يحرزه.

دفعه

ويندفع: أما بالإضافة إلى ما يعتبر فيه إحراز الطهارة فبأنه إنما يتم لو كان الإحراز هو الشرط ثبوتاً، وهو فرض لا يظهر له واقع، وليس الشرط في الصلاة إلّا الطهارة الواقعية، ولزوم إحرازها إنما هو لقاعدة الاشتغال، وهي مورودة لاستصحاب النجاسة وعدم الطهارة، ولا تمنع منه.

وأما بالإضافة إلى نجاسة الملاقي فبأن الملاقاة لما كان نجساً محرزة بالوجدان، فيتم بها موضوع الانفعال بضميمة الاستصحاب المذكور، كما هو الحال في سائر موارد مستصحب النجاسة.

الثالث: ما ذكره العراقي قدس سره

الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره وغيره من أن استصحاب نجاسة ما كان نجساً - المفروض ملاقاته في المقام - من استصحاب الفرد المردد الذي تقدم عدم جريانه.

ص: 256

توجيهه

وكأن الوجه فيه: أن موضوع الانفعال هو ملاقاة الجسم النجس بخصوصيته الخارجية من دون دخلٍ لعنوانٍ خاص فيه، فكل عنوان يفرض للطرف المعلوم سبق النجاسة له لا دخل له في الأثر، ليمكن أخذه في المستصحب، ويكون من استصحاب الكلي، بل ليس العنوان المفروض إلّا حاكياً محضاً عن الذات على ما هي عليه من الحدود الواقعية، وحيث كانت الذات المذكورة مرددة بين ما هو معلوم الطهارة - وهو الجانب الأيمن في المثال - وما هو مشكوك النجاسة من أول الأمر، لم يجر الاستصحاب فيها، لعدم تمامية ركنيه في كلا طرفي الترديد.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك إنما يخرج الاستصحاب المذكور عن استصحاب الكلي، ولا يجعله من استصحاب الفرد المردد، بل هو من استصحاب الفرد الإجمالي، الذي تقدم جريانه، لوضوح تعلق اليقين والشك بالفرد بخصوصيته الواقعية على ما هو عليه من إجمال، وهو بذلك يكون موضوعاً للأثر، ولا دخل للخصوصيتين التفصيليتين فيه، ليكون عدم تمامية ركني الاستصحاب فيهما مانعاً من الاستصحاب، فهو نظير استصحاب نجاسة أحد الإنائين عند احتمال تطهيره، مع تردده بين طرفين كل منهما بخصوصيته التفصيلية مشكوك النجاسة من أول الأمر، فالفرد الذي هو موضوع الأثر في المقام مورد لليقين والشك الإجماليين، فلا يكون من استصحاب الفرد المردد، على ما تقدم بيان الضابط له ولاستصحاب الكلي والفرد الإجمالي. فراجع.

المختار في منع جريان الاستصحاب

ولعل الأولى في منع جريان الاستصحاب في المقام ما تقدم منا في التنبيه الرابع من تنبيهات مبحث العلم الإجمالي من امتناع التعبد بالتكليف الإجمالي بين طرفين يعلم بعدم التكليف تفصيلاً في أحدهما، لما أشرنا

ص: 257

إليه هناك من أن مقتضى الاستصحاب وسائر الأصول، القواعد التعبدية هو التعبد بمؤدياتها وتنجيزها على كل حال، بنحوٍ يقتضي العمل على طبقها مطلقاً، سواء كان مؤداها تفصيلياً أم إجمالياً، فكما يكون جريانها في مورد تفصيلي مقتضياً لمتابعتها فيه بالخصوص، كذلك يكون جريانها في مورد إجمالي مقتضياً لمتابعتها فيه وتنجيزه على ما هو عليه من إجمال، فيلزمه ترتيب الأثر عليه وإن انطبق على أي طرف من أطراف الإجمال.

ويمتنع التعبد بالوجه المذكور مع العلم التفصيلي بعدم ترتب الأثر في خصوص أحد الطرفين - الذي هو حجة ذاتية وعلة تامة في التنجيز والتعذير صالحة للعمل - لامتناع جعل الحكم الظاهري على خلاف العلم التفصيلي، سواء كان الحكم الظاهري إجمالياً أم تفصيلياً.

وغاية الفرق بينهما: أن امتناع التعبد الظاهري التفصيلي معه لاستلزامه التعبد بالمتنافيين قطعاً، وامتناع التعبد الظاهري الإجمالي لاستلزامه اجتماع المتنافيين احتمالاً، وهو ممتنع كالقطع باجتماع المتنافيين.

وما هو المعروف من عدم التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري مختص بما إذا لم يكن الحكم الواقعي بنحو يترتب عليه العمل، كما إذا كمان مشكوكاً بدواً، أو كان ترخيصاً معلوماً بالإجمال، حيث لا يكون العلم الإجمالي بالترخيص مصححاً للعمل في كل طرف بخصوصه، فلا يمنع من التعبد الظاهري بالتكليف في أحدهما بالخصوص.

لا في مثل المقام، حيث فرض العلم التفصيلي بعدم التكليف في بعض الأطراف بخصوصه، فإنه حجة ذاتية مؤمنة من التكليف صالحة لترتب العمل فعلاً فيه، ولا مجال معه للتعبد الاجمالي بالتكليف في موضوع قابل

ص: 258

لأن ينطبق عليه.

وقد استشهدنا لذلك هناك: بأنه لو فرض خطأ القطع التفصيلي بعدم التكليف في بعض الأطراف وبقاء التكليف الذي كان معلوماً بالإجمال فيه لزم من جريان الاستصحاب المذكور استحقاق العقاب بارتكابه، لمخالفته للتكليف الواقعي والظاهري معاً، ولا مجال له قطعاً، لمنافاته لحجية القطع التفصيلي وإن كان خطأ.

نعم، لو كان مفاد دليل التعبد بالمضمون الإجمالي على تقدير انطباقه على الطرف الخالي عن المانع لا مطلقاً وعلى كل حال أمكن جريانه في المقام، لعدم منافاته عملاً للعلم المفروض.

لكن التعبد الاستصحابي وغيره من التعبدات التي بأيدينا ليست من هذا القبيل، بل مقتضاها التعبد بالمضمون على كل حال. بل كثيراً ما يكون هذا مقتضى العلم الإجمالي بلا حاجة إلى التعبد، حيث كثيراً ما يعلم بأن عدم انطباق المعلوم بالإجمال السابق على مورد العلم التفصيلي بعدم التكليف مستلزم لبقائه في الطرف الآخر.

نعم، قد يفرض الشك في ذلك بأن يحتمل ارتفاعه عن كلا الطرفين، فيحتاج إحراز بقائه كذلك للتعبد الظاهري.

إن قلت: بعد فرض وجود المانع عن التعبد بنحو الإطلاق يتعين الحمل على الوجه المذكور، فإنه أقرب لإطلاق دليل التعبد من إلغائه في المورد رأساً، لأجل المانع المفروض. فهو نظير ما إذا امتنع التعبد ببعض آثار المستصحب، حيث لا يلغى دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الآثار الأُخر التي لا مانع من التعبد بها.

ص: 259

قلت: إن كان المراد تقييد التعبد بما إذا انطبق الموضوع على الطرف المشكوك، فهو - مع أنه كثيراً ما يستغنى عنه بالعلم كما تقدم - لا ينفع في ترتيب أثر الأمر المتعبد به، لعدم إحراز قيد التعبد.

وإن كان المراد تنجيز احتمال وجوده في الطرف المشكوك، وإن لم يحرز أنه فيه، فهو خارج عن مفاد التعبد، راجع إلى مفاد الاحتياط، فلا مجال لحمل دليل التعبد عليه، لمباينته لمفاده وعدم رجوعه إلى تقييد دليله والتفكيك فيه بين المداليل أو الموارد، فليس الحمل عليه مقتضى الجمع العرفي، ليتعين في مقام العمل، بل تقييد إطلاق دليل التعبد بالإضافة إلى المورد المذكور رأساً هو المتعين.

منافاة التعبد بالتكليف الإجمالي للعلم بعدم ثبوت التكليف

والمتحصل: أن التعبد بالتكليف الإجمالي لما كان مقتضياً لتنجيز مؤداه على كل حال فهو منافٍ للعلم التفصيلي بعدم ثبوت التكليف في بعض الموارد، فيمتنع جعله حينئذٍ. من دون فرق في ذلك بين التعبد الاستصحابي وغيره، ولا بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلي لو فرض جريانه في المقام.

هذا، ولو كان عدم التكليف في بعض الأطراف معلوماً بالإجمال، كما لو علم بتطهير أحد الطرفين في الفرض إجمالاً فالوجه المتقدم لا يمنع من التعبد ببقاء التكليف المعلوم بالإجمال المقتضي لتنجزه على كل حال، لأن العلم الإجمالي بعدم التكليف في بعض الأطراف لا يصلح للتأمين والعمل في كلٍ منها بخصوصه للشك في انطباقه عليه.

ولازم ذلك أنه لو فرض اشتباه الطرف الذي طهر بعد العلم به تفصيلاً يرتفع المانع من استصحاب نجاسة النجس، ويحكم بانفعال ملاقي كلا الطرفين، كما يحكم به لو فرض اشتباه ما طهر من أول الأمر.

ص: 260

بل لازم ذلك الحكم بعد حدوث التردد بانفعال ملاقي كلا الطرفين حين وجود العلم التفصيلي، لأن عدم جريان الاستصحاب حين الملاقاة لوجود المانع لا ينافي جريانه بعدها والحكم بترتب الأثر لأجله لارتفاع المانع منه.

وكلامهم في تحرير الشبهة قاصر عن صورة تردد ما طهر، والالتزام بجريان الاستصحاب فيه مما تأباه المرتكزات جداً، ولا سيما بعد الالتفات للازم المذكور.

عدم جريان الاستصحاب لوجهين

ومن هنا لم يبعد عدم جريان الاستصحاب فيه أيضاً كما في صورة العلم تفصيلاً بما ظهر لوجهين..

الأول: جريان الاستصحاب المعارض

الأول: جريان الاستصحاب المعارض له، فإنه كما يكون مقتضى استصحاب نجاسة ما كان نجساً هو نجاسة الملاقي، كذلك يكون مقتضى استصحاب طهارة الطرف الذي لم يطهر بضميمة العلم بطهارة الطرف الذي طهر عدم نجاسته، لوضوح أن نجاسة الملاقي لما كانت تستند لملاقاة الطرف النجس بخصوصيته على ما هو عليه من حدود واقعية فالأصل الجاري في كل طرف بخصوصيته يترتب عليه الأثر، سواء أشير للطرف تفصيلاً أم إجمالاً.

فإذا أحرز طهارة أحد الطرفين تفصيلاً أو إجمالاً بالوجدان وعدم نجاسة الأخر بالتعبد يتعين البناء على طهارة ملاقيهما معاً، وعدم تأثير ملاقاة كل منهما في نجاسته، على خلاف مقتضى استصحاب النجاسة الإجمالي المدعى، بل يتعارضان ويتساقطان ويرجع لاستصحاب الطهارة في الملاقي.

إن قلت: لا مجال لمعارضة استصحاب النجاسة باستصحاب

ص: 261

الطهارة في المقام، بل يتعين تقديم استصحاب النجاسة، كما يقدم فيما لو علم بتنجس أحد الطرفين واحتمل تطهيره ثم لاقاهما جسم واحد، حيث لا إشكال في البناء على نجاسة الملاقي، مع أن مقتضى استصحاب طهارة كل منهما بخصوصه طهارته، بناء على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ذاتاً، وإنما يسقط بالمعارضة للزوم المخالفة القطعية للتكليف الإجمالي غير الحاصل في المقام، لاحتمال طهارة الملاقي لهما تبعاً لاحتمال تطهير ما تنجس منهما، فلولا تقديم استصحاب نجاسة النجس لم يكن وجه للبناء على نجاسة الملاقي، فكذا في المقام.

قلت: جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ذاتاً يختص بما إذا انفرد كل منها بأثر، كما لو كان لكل منها ملاقٍ خاصٍ به، لأن كلًّا من الأثرين المتعبد بهما مشكوك قابل للتعبد، أما إذا اشتركا في أثر واحد، فلا مجال لجريانهما، للعلم بكذب التعبد بذلك الأثر بعد فرض كذب أحدهما إجمالا، ومنه استصحاب طهارة كل منهما لإثبات طهارة الجسم الواحد الملاقي لهما معاً حيث يعلم بكذب التعبد بطهارته من حيثية بقاء طهارة كل منهما بعد فرض العلم بتنجس أحدهما، كما هو الحال في المثال المفروض.

نعم، يمكن طهارته بسبب بقاء طهارة أحدهما المعلومة سابقاً وارتفاع نجاسة الآخر الحادثة. إلّا أنه ليس مفاد الاستصحاب المذكور، فالعمل باستصحاب النجاسة في المثال المذكور لإحراز نجاسة الملاقي لهما معاً ليس لتقديمه على استصحاب طهارة كل منهما، بل لعدم جريان استصحاب طهارة كل منهما لإحراز طهارة الملاقي المذكور.

بخلاف المقام لاحتمال طهارة الملاقي بسبب طهارة أحد الطرفين

ص: 262

المحرزة بالوجدان وبقاء طهارة الآخر المعلومة سابقاً الذي هو مقتضى الاستصحاب، فلا مانع من التعبد بها تبعاً له ومعارضة استصحاب نجاسة النجس بذلك، ولا وجه معه لتقديم استصحاب النجاسة.

بل لا مانع من التمسك بأصالة الطهارة في الطرف الآخر - لو في فرض الجهل بحالته السابقة - ولا مجال لحكومة استصحاب نجاسة النجس عليها بعد عدم إحراز اتحاد موضوعهما، لفرض إجمال موضوع أحدهما أو كليهما.

وهذا الوجه بنفسه صالح للجواب عن الشبهة العبائية على عمومها، بلا حاجة إلى ما سبق من تكلف المنع من جريان الاستصحاب الإجمالي المفروض.

الثاني: مانعية العلم عن جعل الحكم الظاهري بلحاظ وصول الواقع

الثاني: أن مانعية العلم عن جعل الحكم الظاهري ليست بلحاظ التنافي العملي بينهما، بل بلحاظ وصول الواقع مع العلم بنحو لا مجال معه للتعبد الظاهري، ولذا كان العلم مانعاً من جعل الحكم الظاهري على طبقه، كما كان العلم الإجمالي بعدم التكليف مانعاً عن جعل فعلية الحكم الظاهري في جميع الأطراف على خلافه، على ما تقدم في مبحث حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي.

وإنما يصح التعبد بالتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي بعدمه، لعدم التنافي بينهما، لعدم ابتناء الجعل الظاهري في الطرف الواحد على فرض احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه، بل على رفع اليد عن الاحتمال المذكور وإلغائه عملاً، فإذا علم بطهارة أحد الإنائين وكان الخزف منهما مستصحب، النجاسة، فمقتضى الاستصحاب المذكور إلغاء احتمال

ص: 263

انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

غاية الأمر أنه يحتمل خطأ الحكم الظاهري، وهو لا يمنع من جعله، بل لابد منه فيه، لأن موضوعه الشك.

أما في المقام فحيث كان اليقين الإجمالي أو التفصيلي بتحقق الطهارة لأحد الأطراف في ظرف الحكم الظاهري بالنجاسة الذي ينقحه الاستصحاب، لفرض اتحاد سببهما، فاستصحاب النجاسة لا يبتني على إلغاء احتمال انطباق موضوع النجاسة الظاهرية على موضوع الطهارة الواقعية المعلوم إجمالاً أو تفصيلاً، بل يبقى التردد على ما هو عليه، فيمتنع جعل الحكم الظاهري حينئذٍ، لاستلزامه احتمال اجتماع المتنافيين، كما ذكرناه آنفاً، ولا خصوصية للعلم التفصيلي في ذلك.

ومجرد عدم صلوح العلم الإجمالي للعمل في كل طرف بخصوصه ليس فارقاً، بل قد يدعى أنه يكفي في العمل المترتب على معلوم التطهير بالإجمال عدم سببية ملاقاته للتنجيس، حيث يترتب الأثر عليه بضميمة استصحاب طهارة الطرف الآخر - كما تقدم في الوجه الأول - ومثل هذا الأثر العملي الضمني كاف في احتمال التنافي العملي بين العلم واستصحاب نجاسة النجس، فيمنع من جريان الاستصحاب المذكور.

وينبغي التأمل التام في هذا الوجه، لأهميته جداً بعد مطابقته للمرتكزات، ونهوضه بدفع الشبهة على عمومها، وإن أمكن الاستغناء عنه بالوجه الأول. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 264

الفصل الرابع: في استصحاب الأمور التدريجية

موضوع النسبة

من الظاهر أن المستصحب هو النسبة القائمة بأطرافها، سواءً كانت بمفاد (كان) التامة أم بمفاد (كان) الناقصة أم غيرهما. وعليه فموضوع النسبة..

تارةً: لا يكون له أجزاء خارجية، كالعدالة المحمولة على زيدٍ.

وأخرى: يكون له أجزاء خارجية، ويكون قيام النسبة به بلحاظ قيامها بأجزائه.

ولا كلام في الأول.

أما الثاني فقيام النسبة بأجزائه..

تارةً: يكون بقيامها بمجموع الأجزاء دفعة واحدة، لكونه أمراً قاراً تجتمع أجزاؤه في الوجود، كالثوب الذي يحمل عليه الوجود أو البياض بلحاظ قيامهما بتمام أجزائه.

وأخرى: يكون بقيامها بأجزائه تدريجاً، فهي لا تقوم إلّا بجزءٍ واحد على نحو التعاقب بين الأجزاء، إما لأنه أمر تدريجي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود، كالكلام والحركة، أو لأن قيام العرض به على هذا النحو وإن كان

ص: 265

هو أمراً قاراً مجتمع الأجزاء، كمس الجسم المدور من طرفٍ واحد حال دورانه. بل هو بلحاظ نفس العرض - كالمس - يكون تدريجياً أيضاً، لتباين أجزائه وتعاقبها بلحاظ تباين أجزاء المعروض حقيقة وتعاقبها في الاتصاف بالعرض خارجاً.

والكلام في استصحاب الأمور التدريجية يختص بهذا القسم، ويقابل استصحاب الأمور القارة التي يراد منها الأعم مما ليس له أجزاء خارجية - كالعدالة - ومن القسم الأول لذي الأجزاء.

إشكال عدم جريان الاستصحاب لعدم اجتماع ركنيه

إذا عرفت هذا، فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية بعدم اجتماع ركنيه فيها، لأن ما علم وجوده سابقاً من أجزائها معلوم الارتفاع، وغيره مشكوك الحدوث، فالأصل عدمه، وليس هناك أمر واحد معلوم الحدوث مشكوك البقاء.

ما دفعه غير واحد

وقد دفع غير واحدٍ الإشكال المذكور بما يرجع إلى أن بقاء كل شيءٍ بحسبه، وبقاء الأمور التدريجية إنما هو بتعاقب أجزائها، وهو لا يخل بوحدتها، ولا بصدق اليقين والشك فيها.

فإذا فرض أن موضوع الأثر هو النسبة الواحدة القائمة بالمجموع بهذا النحو، لا النسب المتعددة القائمة بالأجزاء المتكثرة، تعين جريان الاستصحاب، لتمامية ركنيه فيها. وليس ذلك مبنياً على التسامح العرفي في البقاء - كما يظهر من بعض كلماتهم - بل هو مبني على البقاء الحقيقي لما يفرض كونه موضوع الأثر بعد النظر في الأدلة، ولو بتوسط ما يفهمه العرف منها، وقد تقدم في محله أن ذلك هو المعيار في جريان الاستصحاب.

ومنه يظهر عدم الفرق بين ما تكون وحدته باتصال أجزائه حقيقة

ص: 266

وعدم تخلل العدم بينها أصلاً، كجريان الماء من الميزاب، وما تكون وحدته بتعاقب أجزائه مع تخلل العدم بينها، كتقاطر الماء، والكلام، ونحوهما مما لا اتصال حقيقةً بين أجزائه، لأن المعيار احتمال بقاء موضوع الأثر على ما هو عليه، وهو حاصل في الفرض.

نعم، لو لم يكن البقاء حقيقياً، بل كان تسامحياً بنظر العرف لم يجر الاستصحاب، كما لو فرض العلم بالعدم في أمد قليل في ما تكون وحدته باتصال أجزائه، أو في أمد أكثر مما يغتفر في وحدة ما تكون وحدته بتعاقب أجزائه. والظاهر خروجه عن محل كلامهم.

ما أشار إليه الخراساني قدس سره في دفع الإشكال

هذا، وقد أشار المحقق الخراساني قدس سره إلى وجه آخر في دفع الإشكال، وحاصله: أن الانصرام والتدرج في التدريجيات إنما هو في الحركة القطعية، وهي كون الشيء في مكان أو حال غير ما كان فيه في الآن السابق، فهو في خلع ولبس مستمر.

أما الحركة التوسطية، وهي كونه بين المبدأ والمنتهى، الملازم لقطعه المسافة بينهما، فلا تدرج ولا تصرم فيها، بل هي من الأمور القارة لأنها أمر بسيط منتزع من سيره بين الحدين.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن ما هو الأمر الحقيقي هو كون الشيء في كل آنٍ في حال أو مكان مباين لما كان عليه في الآن السابق، وهو عبارة عن تباين الحالات المتعاقبة عليه. وليست الوحدة المصححة للاستصحاب إلّا وحدة اعتبارية، إما بلحاظ الوحدة بين الحالات المتعاقبة، بفرضها أمراً واحداً مستمراً، الذي هو قوام الحركة القطعية، أو بلحاظ ما ينتزع منها من كونه حال سيره بين الحدين، الذي هو قوام الحركة التوسطية.

ص: 267

فإن لم تكن الوحدة الاعتبارية مصححة لجريان الاستصحاب لم ينفع ملاحظة الحركة التوسطية في البين، وإن كانت مصححة له أمكن جريانه بلحاظ كلتا الحركتين، ويكون المدار على ما يفهم من الأدلة في تعيين موضوع الأثر منهما.

بقي تفصيلان

بقي في المقام تفصيلان ينبغي الإشارة إليهما..

الأول: تفصيل الخراساني قدس سره

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره، وتوضيحه: أن الشك في استمرار العرض التدريجي - كالسيلان والجريان والتقاطر -..

تارةً: يكون للشك في انتهاء العرض مع إحراز الموضوع، كما لو احتمل توقف الماء عن الجريان مع العلم بكميته وأنه بنحو قابل لاستمرار الجريان.

وأخرى: يكون لاحتمال انتهاء الموضوع المعلوم للشك في كميته.

وثالثةً: لاحتمال قيام موضوع آخر مقام الموضوع السابق مع العلم بانتهائه، كما لو احتمل تولد ماء آخر غير ما كان أولاً مع العلم بانتهاء ما كان أولاً.

وظاهره قدس سره جريان الاستصحاب في الصورة الأولى، مع الإشكال في جريانه في الثانية، فضلاً عن الثالثة، لأن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه. وكأنه راجع إلى دعوى أنه راجع إلى القسم الثالث لاستصحاب الكلي.

ما يمكن أن يستشكل فيه

وقد يستشكل فيه: بأن مبنى الاستصحاب في التدريجيات لما كان على الوحدة الاعتبارية المتقومة باتصال الأجزاء، فالشك في كمية الماء مع

ص: 268

اتصال أجزائه لا يوجب تعدد فرده، فليس الشك إلّا في وجود الفرد الواحد. فهو نظير القسم الثاني لاستصحاب الكلي.

ومنه يظهر أنه لا مجال لذلك حتى في الصورة الثالثة، لأن استمرار الجريان موقوف على اتصال الماء الجديد المحتمل بالماء السابق المعلوم المساوق لاحتمال وحدتهما ولو في آخر أزمنة جريان الماء السابق.

نعم، قد يتجه ذلك في مثل التقاطر الذي لا يستلزم استمراره وحدة الماء المتقاطر واتصال أجزائه.

دفعه

إلّا أن يقال: لما كان موضوع الأثر هو التقاطر أو السيلان أو نحوهما من الأعراض التدريجية، فالمعيار في الاستصحاب على وحدتها عرفاً، وحيث لم تكن وحدتها موقوفة على وحدة المعروض، بل كان المعيار فيها التعاقب والاتصال، تعين مع الوحدة بالوجه المذكور جريان الاستصحاب فيها وكونه من القسم الأول لاستصحاب الكلي وإن تعدد معروضها بالوجه المذكور، ولا يكون من القسم الثاني، فضلاً عن الثالث.

الثاني: تفصيل الشيخ الأعظم قدس سره

الثاني: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وغيره، وتوضيحه: أن الشك في بقاء الأمر التدريجي..

تارةً: يكون للشك في عروض المانع من استمراره مع إحراز المقتضي له، كما لو علم بشروع القارئ في القراءة لداع يقتضي استمراره ساعة، ثم احتمل عروض ما يمنعه من الاستمرار المذكور.

وأخرى: يكون للشك في مقدار اقتضاء المقتضي الأول.

وثالثة: يكون لاحتمال تجدد مقتض آخر للاستمرار مع القطع بانتهاء أمد اقتضاء المقتضي الأول.

ص: 269

ولا إشكال في تحقق الوحدة العرفية في الصورتين الأوليين، فيجري الاستصحاب فيها معاً بناء على عموم حجيته، وفي الأولى فقط بناء على اختصاصه بالشك في الرافع، كما أشار إليه بعض الأعاظم.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من جريانه فيها لا يناسب مبناه في الاختصاص المذكور، إلّا أن يكون نظره لجريانه من حيثية الوحدة المعتبرة فيه مع قطع النظر عن التفصيل المذكور.

كما أنه قد يظهر منه جريان الاستصحاب مع الشك في مقدار اقتضاء المقتضي ولو مع العلم بالانقطاع إذا احتمل ارتفاع ما أوجبه وعود المعلول..

قال قدس سره: «وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضية أم لا، فيمكن إجراء الاستصحاب، نظراً إلى أن الشك في اقتضاء طبيعة الرحم لقذف الدم في أي مقدار من الزمان، فالأصل عدم انقطاعه. وكذا لو شك في اليأس فرأت الدم، فإنه قد يقال باستصحاب الحيض، نظراً إلى كون الشك في اقتضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كل شهر».

المناقشة فيه

وفيه: أنه بعد فرض الانقطاع لا معنى لاستصحاب عدمه في المثال، ولا لاستصحاب نفس الأمر المنقطع - كالحيض - في المثال الثاني، بل المتعين استصحاب عدم الأمر المنقطع. ومجرد احتمال سعة اقتضاء المقتضي الأول لا يمنع منه بعد تمامية ركنيه.

نعم، لو جرى الاستصحاب في نفس الاقتضاء كان حاكماً على الاستصحاب المذكور في المثال الثاني، لأنه سببي بالإضافة إليه، دون المثال الأول، لأن الاقتضاء بنفسه لا يستلزم فعلية المعلول فيه إلّا بضميمة

ص: 270

عدم المانع، والمفروض سبق اليقين بوجوده.

كما أنه بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي، أو استصحاب عدم بلوغ سن اليأس، يمكن الرجوع إليهما في المثال الثاني أيضاً، لأن الدم كان لو خرج يحكم عليه بالحيضية، والمرأة لم تكن في سن اليأس.

إلّا أن استصحاب الاقتضاء مثبت، لأن الأثر للمقتضي - وهو الحيض - وترتبه على الاقتضاء خارجي لا شرعي. والاستصحابان الأخيران خارجان عن محل الكلام. فما ذكره قدس سره غير ظاهر الوجه، وإن لم يظهر منه الجزم به.

الصورة الثالثة: في تفصيل الشيخ الأعظم قدس سره

وأما الصورة الثالثة فقد منع شيخنا الأعظم قدس سره من جريان الاستصحاب فيها ووافقه بعض الأعاظم قدس سره بدعوى: أن اختلاف المقتضي يوجب تعدد الوجود والفرد عرفاً، فيمتنع الاستصحاب، لأنه يكون من الصورة الأولى للقسم الثالث لاستصحاب الكلي.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن المعيار في الوحدة ليس إلّا على اتصال الأجزاء وتعاقبها بالنحو الخاص، واختلاف المقتضي لا أثر له في تعدد الوجود ولا يمنع من صدق البقاء، كما لا يمنع منه في الأمور القارة، فالبناء على جريان الاستصحاب من حيثية الوحدة المعتبرة فيه متعين.

وأما استصحاب عدم حدوث المقتضي الآخر - الذي يحكى عن بعضهم التمسك به في المقام - فهو إنما يحكم على الاستصحاب المذكور لو كان الترتب بين المقتضي والمقتضى شرعياً، حيث يكون من صغريات حكومة الأصل السببي على المسببي، أما لو لم يكن شرعياً كان الأصل مثبتاً ليس بحجة كي يصلح للحكومة.

ص: 271

ص: 272

الفصل الخامس: في استصحاب الزمان والزمانيات

الفصل الخامس: في استصحاب الزمان والزمانيات
اشارة

لما كان الزمان بنفسه وبما له من عناوين خاصة - كالليل والنهار والشهر - ظرفاً للأحكام الشرعية ولمتعلقاتها - كالواجبات والمحرمات - وشروطها..

وجوه أخذ الزمان قيداً في الأحكام الشرعية

فتارة: يعلم بعدم أخذه قيداً فيها.

وأخرى: يعلم بأخذه قيداً فيها، ويشك فيها تبعاً للشك فيه بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو علم بوجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال، وبوجوب الصلاة أداء، والإمساك قبل الغروب، وبأن الاستطاعة التي تكون شرطاً لوجوب الحج هي الاستطاعة في أشهر الحج، ثم شك في شيءٍ من ذلك للشك في حصول الزوال أو الغروب أو أشهر الحج.

وثالثةً: يشك في تقييدها به من جهة الشبهة الحكمية مع العلم بحال الزمان وتحقق عنوانه.

أما في الصورة الأولى فلا إشكال في جريان الاستصحاب في الحكم أو متعلقه أو شرطه لو تمت أركانه فيها.

وأما الثانية فهي التي يحتاج فيها لاستصحاب الزمان، لفرض

ص: 273

الشك فيه.

وأما الثالثة فلا مجال إلّا لاستصحاب نفس الحكم أو الموضوع، وهو المراد باستصحاب الزمانيات، ولا معنى لاستصحاب نفس الزمان بعد فرض العلم به، بل حتى لو فرض الشك فيه، لعدم إحراز دخله في الأثر.

يقع الكلام في مقامين

فيقع الكلام في مقامين..

ص: 274

المقام الأول: في استصحاب الزمان
المقام الأول: في استصحاب الزمان
اشارة

وحيث كان الزمان من الأمور التدريجية المتصرمة جرى فيه ما تقدم في الفصل السابق من الكلام.

وقد اتضح به إمكان استصحاب نفس العنوان الزماني المتصرم، كاليوم والشهر. كما يمكن جريانه في نفس الحد الزماني، كعدم طلوع الهلال وعدم زوال الشمس، لأنه كسائر الحوادث الواقعة في الزمان.

وكذا يمكن استصحاب ما ينتزع من الحدين الزمانيين، كاستصحاب بقاء الشمس في القوس النهاري، نظير ما تقدم في استصحاب الحركة التوسطية.

ويخرج على الأخيرين عن استصحاب الأمور التدريجية.

وتعيين أحد هذه الوجوه تابع لتعيين موضوع الأثر الشرعي منها، حسبما يستفاد من الأدلة، كما تقدم نظيره. وليس شيء من ذلك محلاً للكلام بعد ما تقدم في الفصل السابق وغيره.

وإنما المهم هنا الكلام في أمرين..

الأمر الأول: ما ذكره الشيخ الأغظم قدس سره من أخذ الزمان

الأمر الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أن استصحاب الزمان

ص: 275

إنما ينفع في ما إذا كان الدخيل في الأثر هو وجوده بمفاد كان التامة، دون ما إذا كان المعتبر ظرفيته زائداً على وجوده بمفاد كان الناقصة.

فإذا كان الواجب - مثلاً - هو الصوم والنهار موجود، أمكن استصحاب النهار لإحراز الامتثال بالصوم المقارن له.

أما إذا كان الواجب هو الصوم في النهار، فاستصحاب النهار لا يحرز ظرفيته للصوم الواقع في الزمان المشكوك، لأن الظرفية أمر زائد على وجود النهار قائم به وبالصوم لا وجود له قبل وجودهما معاً، فالاستصحاب المذكور لا ينفع فيها إلّا بناء على الأصل المثبت، لاستلزام بقاء النهار لوقوع الصوم فيه. فهو نظير استصحاب بقاء الغرفة لو شك في انهدامها لإحراز كون الصلاة على أرضها صلاة في الغرفة.

كما أن استصحاب النهار لا يحرز كون الزمان الخاص الذي يقع فيه الصوم نهاراً، بل هو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض، حيث لا يحرز به كرية الماء الموجود فيه.

ومن هنا يشكل الأمر في استصحاب الموقتات مما كان ظاهر دليله أخذ الزمان ظرفاً في الواجب، لا التقييد بمحض وجوده حينه.

الإشكال في استصحاب المؤقتات

هذا، وظاهر بعضهم وصريح آخرين اختصاص الإشكال بما إذا أخذ الزمان قيداً في الواجب - كالصوم - دون ما إذا أخذ قيداً في نفس الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي، وأن مرجع تقييد الحكم بالزمان ليس إلّا إلى اعتبار وجوده بمفاد كان التامة.

ولم يتضح وجه الفرق بينهما بعد وحدة لسان الدليل في المقامين، لأن محل الكلام فيهما ما إذا تضمن لسان الدليل التوقيت بمثل أداة الظرف،

ص: 276

نحو (عند) و (في) ونحوهما.

ما تصدى به غير واحد للتخلص عن الإشكال

وكيف كان، فقد تصدى غير واحد للتخلص عن الإشكال المذكور، وما يستفاد منهم أو ينبغي ذكره وجوه..

الأول: ما اعتمده النائيني قدس سره

الأول: ما اعتمده بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الثانية.

وحاصله: أن تقييد الفعل بالزمان كما يمكن أن يكون بمفاد كان الناقصة الراجع إلى اعتبار ظرفيته له، يمكن أن يكون بمفاد كان التامة الراجع إلى محض وجوده حينه، إذ ليس الزمان والفعل من قبيل العرض ومحله، حتى يدعى أن التركيب فيهما يرجع إلى مفاد كان الناقصة، وحينئذٍ لا يستفاد من التقييد به إلّا مجرد اجتماعهما في الوجود، لأن إرادة الظرفية تحتاج إلى عناية أخرى زائدة على التقييد.

دفعه

ويشكل: بأن مجرد التقييد وإن لم يستلزم اعتبار الظرفية ومفاد كان الناقصة لا في المقام ولا في العرض ومحله، لإمكان أن يكون الدخيل هو وجود العرض دون ارتباطه بالموضوع وإن كان لازماً لوجوده، إلّا أن محل الكلام هو التقييد في الموقتات التي كان ظاهر أدلتها لحاظ الظرفية المبنية على نحو من الارتباط بين طرفيها زائداً على وجودهما.

فالظرفية وإن كانت محتاجةً إلى عنايةٍ زائدةٍ إلّا أن ظهور الأدلة فيها كافٍ في البناء على مقتضى العناية المذكورة.

وقد نبه قدس سره في الدورة الأولى لذلك ودفع به الوجه المذكور، ولم يتضح منشأ إغفاله في الدورة الأخيرة واعتماده على هذا الوجه.

ما ذكره العراقي قدس سره الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه يمكن استصحاب العنوان الزماني للزمان بلحاظ اليقين بثبوته سابقاً لبعض أجزائه المتصرمة،

ص: 277

نظير استصحاب وجود الزمان ونحوه من الأمور التدريجية، فكما يصح استصحاب وجود الليل أو النهار لليقين بوجود بعض أجزائهما بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأجزاء المتعاقبة، كذلك يصح استصحاب كون الزمان ليلاً أو نهاراً مع اليقين باتصاف بعض أجزائه بأحدهما بلحاظ الوحدة المذكورة في نفس الزمان بمجموعه، فيلحظ الزمان أمراً واحداً يتصف تارة بالليلية وأخرى بالنهارية، ويستصحب له أحدهما بعد اليقين بحدوثه والشك في بقائه، فإذا أحرز ليلية الزمان أو نهاريته أحرز ظرفية الليل أو النهار لما يقع فيه من الأفعال، كما يحرز باستصحاب ملكية الأرض كون ما يقع فيها واقعاً في الملك.

دفعه

ويشكل: بأن الاستصحاب بلحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة موقوف على ملاحظة الشارع لها في مقام جعل الأثر، ولا يكفي التسامح العرفي بملاحظتها في مقام إجراء الاستصحاب، لما ذكرناه آنفاً من عدم التعويل على التسامح العرفي، ومن الظاهر عدم نهوض الأدلة الشرعية بإثبات ملاحظة الوحدة المذكورة، بل الظاهر منها ملاحظة القطع الزمانية متباينة في أنفسها، وأن المعتبر هو اتصاف الزمان الخاص الذي يقع فيه الفعل بالعنوان الزماني من ليل أو نهار أو غيرهما، وهو أمر غير قابل للإحراز بالاستصحاب، لعدم الحالة السابقة.

وهذا بخلاف استصحاب وجود الأمر التدريجي من زمان أو غيره، لوضوح أن فرض الوجود للأمر التدريجي لا يكون إلّا بلحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة، فأخذه في موضوع الأثر شرعاً لابد أن يبتني عليها، وبها يصح الاستصحاب بلا حاجة للتسامح العرفي.

ص: 278

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن العناوين الزمانية لما كانت منتزعة من حوادث خاصة، كوجود الشمس في القوس النهاري الذي ينتزع منه النهار، ووجود الهلال في الدور الخاص الذي ينتزع منه الشهر ونحوهما، فمن الظاهر أن الحوادث المذكورة كسائر الحوادث التدريجية كسير زيد وسيلان النهر لا معنى لكونها ظرفاً لفعل المكلف الذي هو حادث مثلها، بل لابد من رجوع التقييد بها إلى أخذ محض وجودها بمفاد كان التامة، من دون نظر لظرفيتها.

نعم، الأمد الموهوم ظرف لجميع الحوادث حتى ما كان منشأ للعناوين الخاصة كحركة الشمس، لكن لم يؤخذ التقييد به في شيءٍ من الأدلة.

المناقشة فيه

وفيه: أن العناوين المذكورة وإن كانت منتزعة من حوادث خاصة واقعة في الأمد الموهوم، إلّا أنها ليست حاكية عن نفس الحوادث، بل عما وقعت فيه من الأمد الموهوم المفروض كونه ظرفاً، فليس النهار مثلاً شروق الشمس، بل الأمد الموهوم الذي وقع فيه الشروق، فيعود الإشكال.

ما ذكره الحلي قدس سره في دفع الوجه

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في دفع هذا الوجه من أن المدار في الاستصحاب على النظر العرفي، والظرفية وإن لم يكن لها واقع حقيقي، إلّا أنها لما كانت دخيلةً عرفاً فالمعيار عليها في جريان الاستصحاب.

المناقشة فيه

فهو كما ترى! إذ بعد فرض امتناع الظرفية لا معنى للتعويل في دخلها على نظر العرف للقطع بخطئه، وقد تقدم أن الرجوع للعرف إنما هو لاستكشاف موضوع المستصحب ومعروضه مع لزوم البقاء الحقيقي بنظر العرف لذلك الموضوع، لا التعويل على تخيلاته في موضوع الحكم

ص: 279

الشرعي مع ثبوت خطئه فيها.

الرابع: ما ذكره الحلي قدس سره

الرابع: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من إرجاع تقييد الفعل بالزمان إلى تقييد نفس التكليف به مع إطلاق متعلقه، لأن إطلاق التكليف مع تقييد المكلف به ممتنع بناء على مختاره من امتناع الواجب المعلق، وتقييد المتعلق مع تقييد التكليف لغو، فيتعين إرجاع القيد الزماني للتكليف وحده، ولا معنى لتقييد التكليف بالزمان إلّا وجوده معه مقارناً له، فيكفي في ترتب أثره استصحابه بمفاد كان التامة.

المناقشة فيه

وفيه: أنه - مع ابتنائه على امتناع الواجب المعلق، وهو محل الكلام، وعلى اختصاص الإشكال بما إذا كان الزمان قيداً للواجب دون التكليف، وقد أشرنا آنفاً إلى عدم وضوح الفرق بينهما - مختص بما إذا كان الفعل المقيد بالزمان متعلقاً للتكليف، دون ما لو كان موضوعاً للتكليف أو لغيره من الأحكام، حيث لا مانع من تقييده حينئذٍ بالزمان، كالإفطار في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة، والتزويج في العدة الذي هو موضوع للتحريم المؤبد ونحوهما، مع جريان ما تقدم فيها، حيث يقع الكلام في جريان الاستصحاب لإحراز القيد الزماني حينئذٍ.

الخامس: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا وحاصله: أن الموضوع المركب من الأمور المتقارنة التي لا ربط بينها مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية - كالطهارة والصلاة - يكفي في إحرازه إحراز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل بمفاد كان التامة، بلا حاجة إلى إحراز نفس انضمام أحد الجزئين للآخر وتقيده به بالوجدان أو الأصل، إذ ليس الانضمام أمراً زائداً على تحقق نفس الجزئين. والتقييد بالزمان من هذا القبيل، ضرورة أن الزمان ليس

ص: 280

عرضاً لما يعتبر فيه - كالصلاة - ولا قائماً به، وإنما المعتبر وقوع الفعل فيه، بحيث يكون مقارناً له، فلو استصحب الوقت وتحقق الفعل تم الموضوع وأحرز الامتثال بضم التعبد للوجدان في جزئيه.

نعم، لو كان الموضوع مركباً من العرض ومحله القائم به منتزعاً منهما - كالعالم - لم يكف إحراز أحد جزئيه - كالعلمية - بمفاد كان التامة، لأنه لا يحرز العنوان المنتزع إلّا بناء على الأصل المثبت.

دفعه

ويندفع: بأن الزمان وإن لم يكن عرضاً قائماً بما قيد به، إلّا أن ظرفيته له أمر زائد على محض وجوده، وهي من سنخ العرض القائم بمحله، فلا وجه لترتيب آثارها بمجرد استصحاب الزمان، وهل يتوهم جريان ما ذكره في الظرفية المكانية، فيقال - مثلاً - في ما إذا كان الواجب هو الصلاة في الغرفة: إن استصحاب بقاء الغرفة - لو شك في انهدامها - يكفي في تصحيح الصلاة، لعدم كون الغرفة عرضاً قائماً بالصلاة؟

وهذا بخلاف مثل الصلاة والطهارة، فإن القيد ليس إلّا الطهارة، فيكفي استصحابها بمفاد كان التامة في إحراز الموضوع المركب من الأمرين.

إلّا أن يرجع ما ذكره إلى ما سبق من بعض الأعاظم من أن مجرد التقييد بالزمان لا يستلزم اعتبار ظرفيته. فيجري فيه ما تقدم.

السادس: ما ذكره بعض المشايخ المعاصرين

السادس: ما نقله بعض المشايخ المعاصرين رحمة الله واستجوده وعبر عنه بخفاء الواسطة، وحاصله: أن التلازم بين بقاء الزمان الخاص ووقوع الفعل فيه من الوضوح بحد يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد عرفاً ويوجب ظهور دليل التعبد بأحدهما في إرادة ترتيب كل مالهما من الآثار.

وهو مبني على ما تقدم في المستثنى الثالث من الأصل المثبت، وتقدم

ص: 281

دفعه. بل مما تقدم هناك يظهر أن ما نحن فيه ليس من موارد خفاء الواسطة.

السابع: ما اعتمده قدس سره

السابع: ما اعتمده قدس سره من أنه لا ملزم بإحراز القيد الزماني بالاستصحاب، للأمن من العقاب مع متابعة احتمال وجوده والإتيان بالواجب المقيد به، إذ على تقدير وجوده فقد حصل بذلك الامتثال بفعل المقيد، وعلى تقدير عدمه لا تكليف حتى يلزم مخالفته.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن هذا إنما يقتضي جواز الإتيان بالفعل لاحتمال تحقق الامتثال به، لا وجوبه، بل حيث يشك في فعلية التكليف، لاحتمال انتهاء أمد المكلف به، فالأصل البراءة منه.

ودعوى: أن اللازم الاحتياط، للشك في القدرة.

مدفوعة: بأنه يختص بما إذا كان التعذر موجباً لسقوط فعلية التكليف مع بقاء ملاكه، فلا يجري في مثل سقوط التكليف بأداء الصوم لخروج وقته، كما يختص بالشك في سعة قدرة المكلف، لا في حال الفعل المقدور له، كما في المقام.

وثانياً: بأنه مختص بما إذا كان الشك في بقاء القيد الزماني ملازماً للشك في بقاء التكليف، كما لو شك في بقاء النهار ليترتب وجوب الإمساك على الصائم فيه، ولا يجري في ما إذا علم بالتكليف وشك في الامتثال مع وجود فرد آخر يعلم بتحقق القيد فيه، كما لو نذر صوم يوم من رجب وشك في آخر رجب، فإن مقتضى قاعدة الاشتغال بالنذر وجوب الانتظار إلى رجب الثاني وعدم الاكتفاء بصوم يوم الشك مع عدم إحراز كونه من رجب.

وكذا لو وجب القضاء أو الفدية بترك امتثال التكليف بالمقيد، فإن مقتضى استصحاب عدم الإتيان به وجوبهما، إلّا أن يحرز القيد الزماني،

ص: 282

أو لم يكن القيد متعلقاً للتكليف، بل موضوعاً للحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي، كالإفطار في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة، فإنه لولا إحراز القيد الزماني لا مجال لترتيب الأثر في ذلك، كما لا يخفى. فلا مجال للاستغناء عن الاستصحاب المذكور.

هذا ما تيسر لنا الاطلاع عليه من كلماتهم في المقام، وقد ظهر عدم نهوضه بدفع الإشكال.

المختار في دفع الإشكال

ولعل الأولى أن يقال: إنه لا حقيقة للظرفية الزمانية إلّا وجود الحادث مقارناً للزمان، وليست هي كالظرفية المكانية مبنية زائداً على ذلك على اشتمال الظرف على المظروف، ودخول المظروف في الظرف، الذي هو أمر حقيقي زائد على وجودهما واقترانهما.

ولذا لا إشكال في أن تقييد الحادث بحصة من الزمان كالنهار أو الشهر لا يراد به كون الحصة المذكورة أوسع منه ومشتملة عليه، فإذا وجب إيقاع الصوم في النهار وجب استيعاب الصوم له ولا يكتفي بصوم ما عدا طَرَفَيه، وإذا وجب إيقاع الصلاة في نصف النهار الثاني كفى البدء بها عند أول جزء منه، كما يكفي الانتهاء منها عند آخر جزء منه.

كما لا فرق عرفاً بين التقييد بالعنوان الزماني بما يظهر في الظرفية، بمثل: صم في النهار، والتقييد بحديه بما يقتضي محض المقارنة، بمثل قوله تعالى:

«وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ» (1) .

ومما يشهد بذلك ما تقدم من تسالمهم على أن تقييد الحكم بالزمان

ص: 283


1- سورة البقرة: 187.

لا يقتضي إلّا إناطته به بمفاد كان التامة، من دون أن تؤخذ ظرفيته له، مع ما أشرنا إليه من عدم الفرق بين الحكم ومتعلقه الذي هو فعل المكلف، وأنهما كسائر الحوادث الواقعة في الزمان.

وأما المقارنة الزمانية فليس لها ما بإزاء في الخارج زائداً على اجتماع الطرفين في الوجود، وليست هي كالمقارنة المكانية منتزعة من نحو نسبة خاصة موقوفة على ملاحظة جهة خاصة غير الاجتماع في الوجود، ومن الظاهر أن الاجتماع في الوجود يحرز بالاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد.

وبالجملة: دليل التوقيت وإن كان متضمنا لظرفية الوقت للموقت، إلّا أنه لا يراد به إلّا محض التحديد وبيان الأمد الذي يقارنه الموقت، ولا يعتبر إلّا محض اجتماعهما في الوجود، المحرز بضم الوجدان للأصل، من دون أن يحتاج إلى معنى زائد على ذلك يراد بالظرفية، ولا مجال لقياس ذلك بالظرفية المكانية التي هي منتزعة من أمر حقيقي زائد على وجود الطرفين قائم بهما لا يحرز بالأصل. فلاحظ.

بقي شيء: توجيه الرجوع للاستصحاب بوجه آخر

بقي في المقام شيء، وهو أنه قد تصدى غير واحد لتوجيه الرجوع للاستصحاب بوجه آخر غير استصحاب نفس العنوان الزماني يستغنى به عنه.

والمذكور في كلماتهم وجوه..

الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من التمسك بالاستصحاب الحكمي بعد تعذر الرجوع للاستصحاب الموضوعي، فيحرز وجوب الصوم أو الإمساك أو نحوهما، وإن لم يحرز الزمان الذي قيد به المتعلق.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن المستصحب إن كان هو التكليف بالمقيد بالوقت، فهو لا ينفع في إحراز انطباق المأتي به عليه، بل لابد فيه من إحراز القيد

ص: 284

الزماني.

مناقشة ما ذكره النائيني قدس سره من أن المستصحب هو مع خصوصية القيد

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الأخيرة من درسه، من أن المستصحب هو التكليف بجميع ما يعتبر فيه، ومنه خصوصية القيد، فهي مستصحبة في ضمن استصحاب الحكم.

فيندفع: بأن استصحاب التكليف بالمقيد لا يحرز تحقق المقيد خارجاً، بل يدعو إليه. إلّا أن يرجع إلى استصحاب الحكم والقيد معاً، فيأتي فيه ما سبق في استصحاب القيد الزماني.

وإن كان المستصحب هو التكليف بالمطلق المنطبق على ما يشك في وجود القيد الزماني له، فهو غير متيقن سابقاً، كي يتجه استصحابه، بل متيقن العدم.

نعم، قد يتجه ما ذكره قدس سره بناء على التسامح العرفي في موضوع الاستصحاب، فيستصحب التكليف بالفعل في الجملة لا بنحو الإطلاق ولا التقييد، نظير استصحاب التكليف بالواجب الارتباطي عند تعذر بعض أجزائه.

لكن تكرر غير مرة أنه لا عبرة بذلك.

وثانياً: أنه لا يَطَّرد في جميع الأحكام، إذ قد يتخلل العدم بين أجزاء الوقت، كوجوب الصوم في رمضان الذي يتخلل عدمه ليلاً، ووجوب صوم اليوم الثاني تكليف حادث لا مجال لاستصحابه، كما اعترف قدس سره به في الجملة.

كما أنه لا يفي بجميع آثار الاستصحاب الموضوعي فهو لا يحرز وجوب الكفارة لو تناول المفطر ونحوه من آثار المقيد المترتبة عليه الحادثة

ص: 285

بعد سبق عدمها.

الثاني: ما ذكره الخراساني قدس سره

الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من استصحاب وجود القيد للفعل بمفاد كان الناقصة، فتستصحب مثلاً النهارية للإمساك، ويقال: كان الإمساك في النهار فهو كما كان. ويحرز بذلك الامتثال به، كما تستصحب الطهارة للماء لإحراز الامتثال بالوضوء به.

وفيه: - مع اختصاصه بما إذا كان الفعل أمراً مستمراً قد اتصف بالقيد حين حدوثه كالإمساك في النهار، دون ما لم يقع بعد، كالصلاة التي يراد إيقاعها ويشك في بقاء وقتها، وتناول المفطر الذي يراد إيقاعه مع الشك في بقاء النهار، أو وقع وانقطع، كالصوم عند الشك في بقاء رمضان - أن الاستصحاب المذكور لا يصح بالإضافة إلى الحصة الخاصة من الفعل الاستمراري، كالإمساك الحاصل في الزمان المشكوك، لعدم الحالة السابقة له، وإنما يتجه بالإضافة إلى أصل الفعل بلحاظ وحدته الاعتبارية، بان يلاحظ آمراً واحداً تطرؤه النهارية تارة والليلية أخرى، لا أنه قطع متباينة بعضها ليلي وبعضها نهاري.

وهو موقوف على ملاحظة الشارع للوحدة الاعتبارية المذكورة في مقام جعل الأثر. وهي خلاف ظاهر الأدلة، كما تقدم نظير ذلك في رد الوجه الثاني لاستصحاب الزمان الذي يشبه هذا الوجه.

نعم، لو كان لسان الجعل هكذا: يجب الإمساك ما دام نهارياً، تم ما ذكره، لكنه خلاف ظاهر الأدلة.

الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من استصحاب وجود القيد للفعل تقديراً، فيقال: هذا الإمساك أو الأكل لو اتي به سابقاً لكان نهارياً

ص: 286

فهو الآن كما كان، وهذا الصوم لو أُتي به سابقاً لكان في رمضان فهو الآن كما كان.

وكأنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي، الذي هو محل إشكال، بل منع في القضايا الشرعية الجعلية - كما يأتي - فضلاً عن القضايا الخارجية الانتزاعية، كما في المقام، لوضوح أن كون الإمساك نهارياً أمر خارجي تكويني، والحكم به بنحو التعليق انتزاعي، وليس الأمر الحقيقي إلّا الاتصاف به فعلاً.

الأمر الثاني: عدم نفع استصحاب الشهر السابق في إحراز اليوم

الأمر الثاني: ما تعرض له غير واحد من أن استصحاب الشهر السابق وعدم الشهر اللاحق في يوم الشك لا ينفع في إحراز كون اليوم المذكور آخر الشهر السابق، ولا كون اليوم الآتي أول الشهر اللاحق، ولا ما بعده من الأيام معنونة بعنوانها العددي فيه، فاستصحاب بقاء رمضان يوم السبت لا يحرز كونه آخره، ولا كون يوم الأحد أول شوال، أو يوم الاثنين ثانيه، وهكذا: فلا مجال لترتيب أحكام خصوصيات الأيام، كيوم عيد الفطر الذي هو أول شوال، ويوم عرفة الذي هو تاسع ذي الحجة، وغيرهما مما هو كثير جدا، ومبنى المتشرعة على ترتيبه، لوضوح أن هذه عناوين وجودية، ليست من آثار المستصحب شرعاً، بل من لوازمه الخارجية، فلا تحرز إلّا بناءً على الأصل المثبت.

نعم، لو كانت العناوين المذكورة مركبة مفهوماً من بقاء الشهر السابق في يوم الشك ووجود الشهر اللاحق بعده اتجه إحرازها، فمثلاً لو كان آخر رمضان هو اليوم الذي يكون منه وليس بعده منه يوم آخر اتجه إحرازه يوم السبت باستصحاب بقاء رمضان فيه بضميمة اليقين بعدم وجود رمضان يوم الأحد.

ص: 287

كما أنه لو كان أول شوال هو اليوم الذي يوجد شوال فيه ولا يوجد قبله كان استصحاب بقاء رمضان وعدم وجود شوال يوم السبت محرزاً لكون يوم الأحد أول شوال بضميمة اليقين بوجود شوال فيه، وكذا لو كان ثاني شوال هو اليوم الذي يوجد فيه شوال، ولا يوجد قبل يومين منه، وهكذا بقية الأيام.

بساطة العناوين كالشهر والأسبوع

لكن لا مجال لدعوى ذلك، بل الظاهر أن العناوين المذكورة بسيطة منتزعةٍ من نحو نسب خاصة لأجزاء المركبات كالشهر والأسبوع، وليست مركبة بالنحو المذكور.

توجيه إحراز العناوين المذكورة

ومن هنا تصدى غير واحدٍ لتوجيه إحراز العناوين المذكورة..

وقد سبق من شيخنا الأعظم قدس سره في المستثنى الأول من مستثنيات الأصل المثبت بناء ذلك على الرجوع للأصل المثبت مع خفاء الواسطة.

كما سبق الإشكال في ذلك صغرى وكبرى.

ومثله ما ذكره بعض المشايخ المعاصرين رحمة الله من أن التلازم بين المستصحب وموضوع الأثر بحد من الوضوح لا يمكن معه التفكيك بينهما عرفاً في مقام التعبد.

فإنه - لو تم في المقام - مبني على ما سبق في المستثنى الثالث من مستثنيات الأصل المثبت، وسبق دفعه. فراجع.

فلابد من التعرض للوجوه الأخرى التي اعتمد عليها غير واحد في خصوص المقام..

ما اعتمده النائيني والعراقي قدس سرهما

الأول: ما يظهر من بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما من أن أول الشهر وإن كان هو اليوم الذي يوجد الهلال في ليلته واقعاً، إلّا أنه

ص: 288

بهذا المعنى ليس موضوعاً للأحكام الخاصة من وجوب الصوم والإفطار وغيرهما، والذي هو الموضوع لها - حسبما يستفاد من الأدلة - هو الأول بمعنى يوم ليلة الرؤية أو ما يكون بعد مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق، فمع عدم الرؤية يتعين ترتيب آثار الأول والثاني ونحوهما على ما يطابق تمامية الشهر السابق بلا حاجةٍ للاستصحاب.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا مجال للخروج في مفهوم الأول ونحوه من خصوصيات أيام الشهر مما هو موضوع الأحكام الخاصة عن معناه العرفي التابع لوجود الهلال واقعاً، لعدم الدليل على ذلك، بل هو خلاف ظاهر ما دل على وجوب القضاء بالتخلف عن الهلال واقعاً.

كيف! ولازمه عدم مشروعية الاحتياط في الأحكام المذكورة لو احتمل وجود الهلال من دون رؤية، ولا يظن التزام أحد به. والانصاف أن وضوح بطلان ذلك مغن عن الاستدلال عليه.

نعم، لا ريب في أن الرؤية طريق لثبوت الشهر، ومن دونها يجب البناء على عدمه وإكمال الشهر السابق ثلاثين يوماً، لما دل على إناطة الصيام والإفطار بذلك ظاهراً، وهو بالإضافة إلى وجوب الصوم والإفطار - اللذين هما من أحكام أصل وجود الشهر ومورد النصوص - مطابق للاستصحاب، وبالإضافة إلى غيرهما من أحكام خصوصيات أيام الشهر مورد الكلام في المقام، فلابد من توجيهه.

الثاني: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بعد مضي آنٍ من ثاني يَوَمي الترديد في أول الشهر يقطع بتحقق أول الشهر ويشك في انتهائه، لتردده بين الأول المنقضي واللاحق الباقي، فيستصحب وتترتب أحكامه، وهكذا بقية

ص: 289

أيام الشهر.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن ذلك لا ينهض إلّا بإثبات أحكام محض وجود اليوم الأول، دون إثبات استيعابه لو فرض كونه مورداً للأثر، كوجوب الصوم أو استحبابه، لوضوح أن الصوم الواجب أو المستحب هو المستوعب لليوم الأول، ومن الظاهر أن استصحاب اليوم الأول في ثاني يومي الترديد لا يثبت كون صومه صوماً لتمام اليوم الأول، بعد احتمال انطباقه على أول يومي الترديد.

كما لا ينهض بإثبات أحكام العناوين غير القابلة للبقاء، كما لو فرض استحباب الجلوس عند ظهر اليوم الأول في المسجد، فإن الظهر لا يحتمل فيه البقاء، بل ليس في البين إلّا التردد فيه بين ظهري اليومين، وبتحقق ظهر اليوم الثاني يعلم بتحققه سابقاً أو لاحقاً، من دون أن يشك في بقائه، كي يستصحب.

وثانياً: أنه لا مجال للاستصحاب من الان الأول من اليوم المذكور، لأن الآن المذكور زمان للعلم بتحقق اليوم الأول، لا زمان للمعلوم، وهو نفس اليوم الأول، الذي يراد استصحابه، بل هو متردد بين اليومين المعلوم انقضاء أحدهما وابتداء الآخر، فالعلم في الآن المذكور بوجود اليوم الأول ليس بمعنى العلم بفعلية وجوده في الآن المذكور، والشك في استمراره وامتداده بعده، بل بمعنى العلم بوجوده في الجملة إما سابقاً مع انقضائه، أو فعلاً حين الشك فيه.

واحتمال بقاء اليوم الأول في اليوم المذكور إنما هو بمعنى احتمال انطباق اليوم المعلوم الوجود عليه، لا بمعنى احتمال امتداده إليه واستمراره

ص: 290

فيه الذي هو موضوع الاستصحاب.

وبعبارةٍ أخرى: يعتبر في الاستصحاب أن يكون هناك متيقن ومشكوك متحد معه ذاتاً، ومباين له زماناً، ومتصل به، ليكون بقاء له - كما تقدم - والمشكوك في المقام لا يعلم بمباينته للمتيقن، بل لا يحتمل كونه بقاء له، بل يحتمل اتحاده معه، لتردد المتيقن بين اليومين، وفي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب، إذ ليس مفاده تعيين المعلوم بالإجمال، بل التعبد ببقاء المعلوم واستمراره وطول أمده عند الشك فيه. فلاحظ.

وثالثاً: أن فصل الليل بين يومي الترديد موجب لكون المقام من تعاقب الحالتين المتضادتين مع العلم بتاريخ إحداهما والجهل بتاريخ الأخرى، وهي اليوم الأول في المقام، ويأتي في محله عدم جريان الاستصحاب في مجهولة التاريخ منهما إما ذاتاً، أو للمعارضة بالاستصحاب الجاري في معلومة التاريخ، وهو في المقام استصحاب عدم وجود اليوم الأول، للعلم به في الليلة المتوسطة.

الثالث: ما ذكره السيد البجنوردي قدس سره

الثالث: ما ذكره بعض الأفاضل من السادة المعاصرين رحمة الله من أن المستفاد من أدلة إناطة الصوم والإفطار بالرؤية كون عدمها أمارة على تمامية الشهر وكونه ثلاثين يوماً، وكأنه مبني على ما في كلماتهم من حجية الأمارة في لازم مؤداها، بخلاف الأصل.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أنه لا إشعار في النصوص المذكورة بأمارية عدم الرؤية على تمامية الشهر، بل المتيقن منها بضميمة ارتكاز كون الرؤية دليلاً على النقض أن البناء على التمامية مع عدمها لعدم الدليل على الخلاف، حيث يكون مقتضى الأصل البناء على البقاء، لما هو المعلوم من احتياج الأمارية

ص: 291

إلى عناية زائدة لا إشعار في النصوص بها.

وثانياً: أنه تقدم إنكار عموم حجية الأمارة في لازم مؤداها، وأنها كالأصل تحتاج في ذلك إلى دليل خاص، فمع فرض عدم قيام الدليل على ذلك لا تنفع الأمارية في الحجية في لازم المؤدى، ومع قيام الدليل عليه لا يضر فيه كون التعبد بمفاد الأصل. فاللازم بعد الاعتراف بكون العناوين المذكورة ملازمة لمفاد التعبد هو النظر في عموم دليل التعبد لها أمارة كان أو أصلاً.

المختار في دليل المقام

إذا عرفت هذا، فالدليل في المقام لا ينحصر بعمومات الاستصحاب، ليدعى اختصاصه بإحراز بقاء الشهر في يوم الشك، دون لوازمه من خصوصيات الأيام للشهر اللاحق.

بل من الظاهر من بناء العرف والمتشرعة كون الأصل في الشهر الهلالي التمامية، بنحو تحرز جميع العناوين المذكورة، لا خصوص بقاء الشهر، فتترتب آثار أول الشهر، وثانيه، وآخره ونحوها من خصوصيات أيامه ولياليه.

والمستفاد عرفاً من نصوص إناطة الصوم والإفطار وصلاة العيد وموقف عرفة وغيرها بالرؤية الجري على ذلك، فهي واردة لبيان ما يخرج به عن مقتضى الأصل المذكور.

ولذا لا ريب عندهم في ترتيب أحكام العيد والحج وعاشوراء ونحوها من المواسم الدينية والمناسبات الشرعية والعرفية المنوطة بخصوصيات أيام الشهر، فهو من موارد الأصل المثبت التي دل الدليل عليها بالخصوص، وقد تقدم أنه أمر ممكن في نفسه. وهذا هو العمدة في المقام.

ص: 292

المقام الثاني: في استصحاب الزمانيات
اشارة

وهي التي يشك في بقائها مع فرض عدم الرجوع لاستصحاب الزمان فيها.

إما مع العلم بأخذه فيها مع عدم جريان الاستصحاب فيه، إما مع الشبهة الموضوعية، للشبهة المتقدمة في الأمر الأول من المقام السابق، أو لإجمال العنوان الزماني وتردده بين ما هو مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، كتردد اليوم بين ما ينتهي بسقوط القرص وما ينتهي بزوال الحمرة المشرقية، حيث يمتنع استصحابه بعد سقوط القرص، لما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد.

وإما مع الشك في أخذه أو أخذ بعض ما يقع فيه من الحوادث فيها، لترددها بين الإطلاق المستلزم للاستمرار والتقييد المستلزم للانقطاع.

ومنه ما إذا احتمل كون القيد مأخوذاً بنحو تعدد المطلوب، حيث يحتمل معه كون أصل المطلوب مطلقاً باقياً بتعذر القيد، كما في موارد وجوب القضاء.

ولا إشكال عندهم في جريان الاستصحاب في نفس الموضوعات

ص: 293

الخارجية لتمامية أركانه فيها، وإنما الإشكال في الأحكام القابلة للإطلاق والتقييد تكليفية كانت أو وضعية.

وقد استشكل فيها من وجهين..

استشكل فيها بوجهين الأول: عدم اتحاد المتيقن مع المشكوك

الأول: عدم اتحاد المتيقن مع المشكوك، لتباينهما، لأن المتيقن هو المقيد بالزمان المفروض انقضاؤه، فإثبات الحكم لما بعده نقل الحكم إلى موضوع آخر غير المتيقن، وليس هو من الاستصحاب في شيء.

ومن هنا رجع شيخنا الأعظم قدس سره في توجيه الاستصحاب في المقام إلى ما جرى عليه في غير المقام من الاكتفاء بالتسامح العرفي في صدق البقاء، فذكر أنَّ ما كان الزمان فيه بنظر العرف مقوماً للموضوع وقيداً فيه لا يجري فيه الاستصحاب، وما كان الزمان فيه غير مقوم له، بل كان ظرفاً له يجري فيه الاستصحاب، وإن كان قد يشك في ذلك في بعض الموارد، فيلزم التأمل التام، فإنه أعظم المزال في المقام.

ومنه يظهر أنه لا مجال لما استشكله بعض مشايخنا من عدم اختلاف التقييد والظرفية إلّا بالعبارة، ورجوع الظرفية للتقييد، إذ لابد في كل ما يؤخذ في الحكم أن يكون مأخوذاً قيداً فيه، إذ لابد من دخله فيه ثبوتاً.

لاندفاعه: بأن تفريقه قدس سره بينهما بلحاظ النظر العرفي التسامحي، لا الجعل الشرعي.

نعم، تقدم منّا في تحقيق موضوع الاستصحاب أنه لا مجال للتعويل على التسامح العرفي فيه، بل يلزم إحراز البقاء الحقيقي للموضوع بعد الرجوع للأدلة في تعيينه وتحديده.

ويظهر الضابط المصحح لجريان الاستصحاب هنا بملاحظة ما

ص: 294

ذكرناه هناك.

وحاصله: أن الموضوع المعروض للحكم إن كان جزئياً خارجياً - كالثوب المعروض للنجاسة - امتنع تقييده بالزمان أو غيره، فلابد من كون الزمان ظرفاً محضاً له ولحكمه.

وإن كان كلياً - كفعل المكلف الموضوع للأحكام التكليفية والكليات الذمية كالدين والعمل المستأجر عليه - كان قابلاً للتقييد، فإن احتمل أو أحرز تقييده بالخصوصية الزمانية أو نحوها امتنع الاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع. وإن أحرز إطلاقه تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم، ويكون الزمان ظرفاً له - كما في موارد الشك في الرافع - فيشك في استمرار الحكم مع إحراز الموضوع، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم.

ومن الظاهر أنه لا مجال لذلك في الأحكام التكليفية بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من رجوع جميع القيود إلى المادة التي هي متعلق الحكم لا للهيئة، ومن ثم ينحصر مبنى الاستصحاب فيها على التسامح العرفي، كما تقدم منه.

لكن المبنى المذكور في غير مَحَلِّه، والتحقيق إمكان تقييد الهيئة، فالمتعين ما ذكرنا من التفصيل.

وربما يشير إليه ما في كلام المحقق الخراساني قدس سره من فرض التقييد راجعاً للموضوع، والظرفية راجعة للحكم.

دعوى رجوع الظرفية للتقييد

ودعوى: أنه لابد من رجوع الظرفية للتقييد، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا.

ص: 295

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في قيود الموضوع والمتعلق، وأما في نفس الحكم المتيقن في المقام فظرفية الزمان له أعم من تقييده به، لأن التقييد مستلزم لانتفائه بانتفاء القيد، فلا يحتمل معه البقاء بدونه، بخلاف ظرفيته له، إذ يحتمل معها بقاؤه بعده، ولذا كان للقضية الشرطية مفهوم، دون الظرفية.

استلزام دخل الخصوصية في الحكم لاحتمال تقييده

إن قلت: احتمال دخل الخصوصية في الحكم مستلزم لاحتمال تقييده بها، فكيف يستصحب بعدها؟! لأن الحكم المقيد لا يقبل الاستصحاب والمطلق غير متيقن من أول الأمر.

قلت: الإطلاق والتقييد إنما يحتمل في الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية، وهي لا تستصحب إلّا مع الشك في النسخ - على كلام يأتي في محله - ولو استصحبت تعين استصحابها على الوجه المتيقن عليه من إطلاقٍ أو تقييد.

أما المستصحب في المقام فهو الحكم الفعلي، وهو حكم جزئي شخصي لا يقبل الإطلاق والتقييد، بل كل خصوصية تؤخذ في الكبرى الشرعية تكون علة له لا يضر عدم إحرازها بوحدته المقومة للاستمرار الذي يحرز بالاستصحاب.

إن قلت: تقييد الحكم مانع من إطلاق الموضوع، بل لابد من اختصاصه بحصة من الذات مقارنة لوجود القيد - وهو في المقام الزمان - ولو بنحو نتيجة التقييد، فلا يتحد مع فاقده.

قلت: تقييد الحكم إنما يمنع من الإطلاق الراجع إلى ملاحظة الذات ساريةً في تمام الأفراد حتى الفاقد للقيد، بحيث يكون فقد القيد ملحوظاً

ص: 296

للمتكلم، ولا يمنع من ملاحظة الماهية بنفسها وحدودها الذاتية بنحو تنطبق قهراً على جميع الأفراد ومنها الفاقد للقيد، بل هذا هو المتعين، وهو كافٍ في وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب.

ما ذكره النائيني قدس سره

من كون الزمان من قيود الموضوع

وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الزمان وإن كان ظرفاً للحكم لابد أن يكون من قيود الموضوع، لكونه دخيلاً في ما هو مناط الحكم. فيدفعه أن المراد بالموضوع الذي يعتبر اتحاده في الاستصحاب هو المعروض للحكم ويحمل الحكم عليه، لا كُل ما هو الدخيل في الحكم وإن كان من سنخ العلة، لدخله في مناطه، كما تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب.

الوحه الثاني: ما عن النراقي قدس سره من معارضته الاستصحاب الوحودي بالعدمي

الوجه الثاني: ما عن الفاضل النراقي في المناهج، ونسب لبعض الأخباريين من معارضة استصحاب التكليف المتيقن باستصحاب عدمه الأزلي في الحصة المشكوكة من الزمان، لأن المتيقن إنما هو وجود التكليف في الجملة مردداً بين الاستمرار والانقطاع، فبالإضافة إلى الزمان الثاني المشكوك يحتمل استمرار عدم التكليف الأزلي الثابت قبل الجعل، فيستصحب، ويعارض به استصحاب التكليف من زمان اليقين إلى زمان الشك المذكور.

ما دفعه به الشيخ الأعظم قدس سره

وقد دفعه شيخنا الأعظم قدس سره بأنه مع التقييد لا يجري الاستصحاب الوجودي، لمباينة المقيد بالخصوصية لفاقدها، فاليقين بثبوت الحكم للأول لا يصحح استصحابه للثاني، بل يجري فيه الاستصحاب العدمي لا غير. ومع الظرفية لا يجري الاستصحاب العدمي، لانخرام العدم الأزلي بثبوت حكم للماهية في الزمان المتيقن، فلا معارض للاستصحاب الوجودي.

ص: 297

وحيث كان مبنى ما ذكره قدس سره على أن المناط في الظرفية على النظر العرفي، وإلّا فمقتضى النظر الدقي التقييد لا غير، نبَّه المحقق الخراساني قدس سره على أنه لا مجال للجمع بين النظرين، كي يجري الاستصحاب الوجودي بلحاظ الظرفية التي هي مقتضى النظر العرفي، والعدمي بلحاظ التقييد، الذي هو مقتضى النظر الدقي، ويتعارض الاستصحابان.

وقد تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب توضيح امتناع الجمع بين النظرين.

أما بناء على ما ذكرنا من عدم التعويل على التسامح العرفي، وأن الفرق بين الظرفية والتقييد ثبوتي، فلا موقع لاحتمال الجمع بين النظرين. كما لا يخفى.

إصرار السيد الخوئي قدس سره على تحقق المعارضة

هذا، ولكن بعض مشايخنا أصرَّ على تحقق المعارضة، وشيد ما ذكره النراقي.

توجيهه

وعمدة ما ذكره من الوجه: أن الحكم في الزمن الثاني المشكوك بقاؤه فيه وإن فرض اتحاد المشكوك فيه مع المتيقن موضوعاً، بنحو يجري فيه استصحابه، إلّا أنه لما كان حادثاً تابعاً للجعل الشرعي مسبوقاً بالعدم الأزلي قبل التشريع يجري استصحاب عدمه، فيتعارض الاستصحابان.

مناقشته

ويظهر حاله مما تقدم، فإنّ جريان الاستصحاب الوجودي موقوف على عدم دخل الزمان في موضوع الحكم، إما لامتناع تقييده لكونه جزئياً خارجياً - كالثوب الذي يكون موضوعاً للنجاسة - أو مع إمكان تقييده لكونه كلياً، لكن ثبت من الخارج أنه أريد به الماهية غير المقيدة بالخصوصية الزمانية، المنطبقة على فاقدها.

ص: 298

وحينئذٍ إن أريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم للذات المحفوظة في كلا الزمانين، فالمفروض العلم بانتقاض العدم المذكور بثبوت الحكم للذات المذكورة في الزمان الأول، لاتحاد الوجود والعدم المذكورين موضوعاً ومحمولاً، الذي هو المعيار في انتقاض أحدهما بالآخر.

ومجرد بقاء الشك في العدم في الزمان الثاني مع اليقين بالوجود في الزمان الأول لا ينافي النقض المذكور، لأن كل حادث يشك في استمراره كذلك. وعليه فالعدم في الزمان الثاني لو كان متحققاً واقعاً ليس بقاء للعدم الأزلي المفروض، ليمكن إحرازه باستصحابه، بل هو طارئ ناقض للوجود المفروض انتقاض العدم الأزلي به، والاستصحاب ينفيه.

وإن أريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم للذات المقيدة بالزمان الثاني، فلا مانع من جريانه ذاتاً، لظهور مباينته للحكم المتيقن سابقاً الثابت للذات المطلقة، لاختلاف متعلقهما، فلا يعلم انتقاض العدم المذكور بالحكم المتيقن.

إلّا أنه - مع عدم جريانه لو لم يقبل المتعلق التقييد، كالثوب الذي تتعلق به النجاسة - لا يعارض الاستصحاب الوجودي المذكور ولا ينافيه، لأن عدم ثبوت الحكم للماهية المقيدة بخصوصيتها لا ينافي ثبوته للماهية بما لها من مفهوم عام ينطبق قهراً على الماهية المقيدة المذكورة.

فيجري كلا الاستصحابين، ويكون العمل على الوجودي منهما، لأن اللامقتضي لا يصلح لمزاحمة المقتضي، فمثلاً استصحاب عدم وجوب الجلوس الحاصل بعد الزوال بخصوصيته وإن اقتضى عدم لزوم الإتيان به،

ص: 299

إلّا أنه لا ينافي الإتيان به لاستصحاب وجوب مطلق الجلوس المنطبق عليه قهراً، لأن الاستصحاب العدمي يرجع للتعبد بعدم المقتضي له من الحيثية الخاصة، فلا ينافي التعبد بالمقتضي له من الحيثية الأخرى، كما لا يخفى.

ما يظهر منه قدس سره من التمسك باستصحاب عدم الجعل

هذا، ويظهر منه في مطاوي كلماته التمسك في المقام باستصحاب عدم الجعل للحكم في الزمان الثاني، ومعارضته للاستصحاب الوجودي المفروض.

بدعوى: أن الجعل بالإضافة إلى زمان الشك حادث مسبوق بالعدم الأزلي قبل التشريع، فيستصحب العدم المذكور بعده، فيقال: لم يكن وجوب الجلوس بعد الزوال مجعولاً بلحاظ حال ما قبل التشريع، فهو غير مجعول بعده، ولم تكن نجاسة الماء بعد زوال تغيره مجعولةً آنذاك، فهي غير مجعولة، فيعارض بذلك الاستصحاب الوجودي.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن الأثر العملي إنما يترتب على المجعولات الشرعية، دون جعلها، كما هو مقتضى تعليق الآثار الشرعية بنفس العناوين الاعتبارية كالزوجية والرقية والطهارة والنجاسة. بل لو لم يكن الأثر للمجعول - تكليفاً كان أو وضعاً - كان جعله لغواً بعد كونه اعتبارياً محضاً لا مصحح لجعله إلّا ترتب الأثر عليه.

دعوى: اتحاد الجعل مع المجعول حقيقة وعرفاً

وعليه لا يجري استصحاب عدم الجعل إلّا بناءً على الأصل المثبت.

ودعوى: أن الجعل عين المجعول حقيقةً أو عرفاً، وليس اختلافهما إلّا بالاعتبار.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن الاختلاف بينهما حقيقي، كاختلاف الإيجاد والموجود، فإن الجعل أمر حقيقي من مقولة الفعل، والمجعول أمر اعتباري مباين له

ص: 300

ناشئ منه، كما أن الإيجاد من مقولة الفعل، والموجود من مقولة أخرى، عرض أو جوهر.

دعوى: توقف الحكم على الجعل

ومثلها دعوى: أن توقف الحكم الفعلي المجعول على الجعل كتوقفه على موضوعه، فكما يصح استصحاب الموضوع أو عدمه، لإحراز ترتب حكمه أو عدمه، كذلك يصح استصحاب عدم الجعل لإحراز عدم الحكم المجعول.

دفعها

لاندفاعها: بأن إحراز الأصل الجاري في الموضوع لحكمه إنما هو لكون التلازم بينهما شرعياً، ولذا يكون حاكماً على الأصل الجاري في الحكم، بخلاف التلازم بين الجعل والمجعول، فإنه عقلي، ولذا اعترف بعدم حكومته على الأصل الجاري فيه، فالتمسك به فيه مبني على الأصل المثبت.

وثانياً: أن المراد بالجعل إن كان هو الجعل الكبروي المعلق على وجود الموضوع، فهو ليس مورداً للأثر، لا بنفسه ولا بمجعوله، كما يأتي في مبحث الاستصحاب التعليقي إن شاء الله تعالى.

وإن كان هو الجعل الفعلي التابع لفعلية الموضوع، فهو قابل للاستمرار تبعاً لاستمرار الموضوع، فمع فرض عدم أخذ الزمان قيداً في الموضوع مكثراً له، بل هو ظرف محض للحكم يتعين كونه ظرفاً للجعل أيضاً، فيجري استصحاب الجعل، لا استصحاب عدمه، لعين ما تقدم في الجواب عن استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم.

وثالثاً: أنه ينتقض في الأمور التكوينية، كعدالة زيدٍ وبياض الثوب، حيث يدعى حينئذٍ جريان استصحاب عدم جعلها تكويناً في زمان الشك

ص: 301

بلحاظ اليقين به من الأزل، ويعارض استصحابها الوجودي، مع تصريحه بانفراد الأصل الوجودي بالجريان فيها. فلاحظ.

ثم إنه صرح بعموم ما ذكره للشك في النسخ والشك في الموضوع الخارجي.

والأول مبني على كون النسخ راجعاً إلى قصور جعل الحكم عن شمول زمان النسخ رأساً، وهو محل كلام يأتي في مبحث استصحاب أحكام الشرايع السابقة إن شاء الله تعالى، وعلى أن المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الكبروي.

والثاني مبني على كون المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الفعلي الخاص التابع لفعلية الموضوع، لفرض عدم الشك في جعل الكبرى وعدم كون إحرازها دخيلاً في إحراز الصغرى.

ما تضمنه تقريره في مصباح الأصول

هذا كله ما تضمنه تقرير درسه في كتاب (مباني الاستنباط)، أما تقريره الآخر في (مصباح الأصول) فقد ادعى فيه المعارضة في خصوص صورة الشك في سعة المجعول، كما لو احتمل طهارة الماء المتغير بزوال تغيره، أو حل وطئ الحائض بطهرها قبل اغتسالها.

وصرّح بانفراد الاستصحاب الوجودي بالجريان مع الشك في النسخ، وفي الشبهة الموضوعية، وإن كان ظاهر بعض فقرات كلامه أن الجاري في الشبهات الموضوعية هو الاستصحاب الموضوعي، لا الحكمي، فيخرج عن محل الكلام.

ولم يذكر استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم المجعول، وإنما اقتصر على استصحاب العدم الأزلي في نفس الجعل

ص: 302

وعارض به الاستصحاب الوجودي مع الشك في سعة المجعول.

وكأن مراده بالجعل هو الجعل الكبروي الذي لا أثر لاستصحابه بالإضافة إلى الشبهة الموضوعية، ولا مجال له مع الشك في النسخ بناء على عموم الجعل الأول لزمان الشك، وأن النسخ رفع للحكم بعد ثبوته، ولا يرجع لانتهاء أمده.

نعم، عرفت الإشكال في استصحاب عدم الجعل.

ما استثناه في التقرير الأول

ثم إنه قد استثنى في التقرير الأول الأحكام الترخيصية كالإباحة، بدعوى: عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فيها، لأن الأشياء قبل الشريعة كانت مطلقة غير ممنوعة، كما عليه سيرة الناس الممضاة شرعاً بقوله تعالى: «وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا» وقوله عليه السلام: «اسكتوا عما سكت الله عنه»، وقوله عليه السلام: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»، ونحوها.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن عدم احتياج الترخيص للبيان لا يجعله أزلياً، كي يستصحب بنفسه، ولا يستصحب عدمه، لأن عدم المنع قبل التشريع ومن الأزل لا يرجع للترخيص الذي هو حكم شرعي.

ما تضمنه التقرير الثاني من اختصاص المعارضة بالأحكام الإلزامية

وأشكل من ذلك ما تضمنه التقرير الثاني من اختصاص المعارضة بالأحكام الإلزامية، فإن مقتضى الجمود عليه عدم تأتي المعارضة في الحكم الاقتضائي غير الإلزامي، كالاستحباب والكراهة.

وهو كما ترى لعدم الريب في تبعيتها للتشريع وعدم كونها أزلية. فلو تم ما ذكره من المعارضة لجرى في جميع الأحكام الخمسة. غاية الأمر أنه بعد تساقط الاستصحابين في الترخيص يجري استصحاب عدم المنع الشرعي الأزلي، وهو كاف في السعة عقلاً وإن لم يحرز الترخيص. ومن ثم

ص: 303

استدل به على البراءة، كما سبق في محله.

ومثله ما في التقرير المذكور من عدم المعارضة في استصحاب الطهارة من الخبث، لأنها نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، بل الأشياء كلها على الطهارة ما لم تعتبر النجاسة فيها شرعاً، وكذا الطهارة من الحدث لو فرض الشك في انتقاضها بمثل المذي، لأن النقض هو المحتاج إلى الجعل، بل استصحاب عدم جعل المذي ناقضاً موافق لاستصحاب الطهارة.

لاندفاعه: بوضوح أن الطهارة بقسميها حكم شرعي مجعول كالنجاسة، وعدم احتياج الطهارة الخبثية للبيان، لموافقتها للأصل لا يستلزم كونها أزلية. وكون النقض محتاجاً للبيان لا ينافي كون بقاء الطهارة بحكم شرعي مجعول. وإلّا فأكثر الأحكام الوضعية من الملكية والزوجية والنجاسة مبنية على البقاء ونقضها محتاج للجعل والبيان.

واستصحاب عدم جعل المذي ناقضاً مثبت، لأن ترتب بقاء الطهارة على عدم جعل الشيء ناقضاً ليس شرعياً، بل خارجي. مع أنه لو تم كان حاكماً على استصحاب الطهارة، لأنه سببي.

وكذا الحال في ما تضمنه تقريره الأول من أن الأحكام الوضعية بنفسها لا توجب الكلفة ولا السعة، وإنما توجبهما باعتبار الأحكام التكليفية المترتبة عليها، فكل حكم وضعي يوجب الكلفة يكون الاستصحاب الوجودي فيه معارضاً بالاستصحاب العدمي، وكل حكم وضعي يوجب السعة لا يكون الاستصحاب الوجودي فيه معارضاً بشيء.

إذ فيه: أنه إن رجع إلى عدم المعارضة في نفس الحكم الوضعي المستوجب للسعة توجه عليه ما تقدم من عدم كون الأحكام المذكورة أزلية.

ص: 304

كيف والحكم الواحد قد يوجب السعة من جهة والكلفة من جهة أخرى، كالملكية الموجبة لجواز تصرف المالك في المملوك ووجوب الحج عليه.

وإن رجع إلى أنه بعد سقوط الاستصحاب في الحكم الوضعي بالمعارضة يجري في الأحكام الترخيصية المترتبة عليه من دون معارض، أشكل: بأن السعة قد لا تكون مجرى للاستصحاب الوجودي، لمخالفتها للأصل، كما لو شك في طهارة الثوب، فان مقتضى قاعدة الاشتغال بالصلاة عدم إجزاء الصلاة به ما لم تحرز طهارته.

فالانصاف: أن ما ذكره من معارضة الاستصحاب الوجودي بالعدمي غير ظاهر في نفسه، ولا بلحاظ الخصوصيات التي بناها عليه، وزاد الامر إشكالا تدافع التقريرين في بيانه فلاحظ. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتوفيق.

ص: 305

ص: 306

الفصل السادس: في استصحاب الحكم لو احتمل نسخه

اشارة

تعرض غير واحد للكلام في استصحاب أحكام الشرايع السابقة بنحو يظهر من بعضهم المفروغية عن جريان الاستصحاب في حكم هذه الشريعة لو احتمل نسخه. بل عن المحدث الاسترآبادي أنه من الضروريات.

لكن الذي ينبغي عده من الضروريات هو البناء على عدم النسخ واستمرار الحكم وإن لم يكن من جهة الاستصحاب، إذ جريان الاستصحاب في ذلك مورد للكلام.

وتوضيح حاله يبتني على الكلام في حقيقة النسخ، فينبغي الكلام فيه بإيجاز يناسب المقام، لأنه بالمبادي التي تذكر في مقدمة العلم أنسب.

وقد ذكرنا في محله أنه وإن تردد في كلام غير واحد أن النسخ تخصيص في الأزمان، فيكون مخالفاً لأصالة العموم والظهور، إلّا أنه لا مجال للبناء على ذلك.

كيف! وقد يختص الحكم المنسوخ بواقعة واحدة لا استمرار لها، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وقد لا يكون له دليل لفظي قابل لأصالة العموم، بأن يكون دليله لبياً، أو لفظياً نصاً في العموم، بل كثيراً ما يلزم تخصيص الأكثر،

ص: 307

لقلة أمد بقاء الحكم بالإضافة إلى زمان النسخ، إلى غير ذلك، مما لا مجال معه لإرجاع النسخ للتخصيص.

دعوى مخالفة النسخ لأصالة الجهة

وقد يدعى مخالفة النسخ لأصالة الجهة في الحكم المنسوخ، لرجوعه إلى كون الحكم المنسوخ من أصله أو باستمراره صورياً لا حقيقياً، لعدم كونه ناشئاً عن ملاك في متعلقه، إذ مع فرض الملاك يمتنع نسخ الحكم، ومع عدمه يمتنع جعل حكم حقيقي إلّا لخطأ الحاكم في تخيل ثبوته، ومع وضوح امتناع الخطأ على الشارع لابد من كون الحكم المجعول صورياً خالياً عن المصلحة في المتعلق وإن كان هناك مصلحة في نفس جعله من امتحان أو نحوه، وهو خلاف أصالة الجهة في الكلام المعَوَّل عليها في كل مقام.

لكن أصالة الجهة مختصة بالأدلة اللفظية، وقد يكون دليل الحكم الذي يطرؤه النسخ لبياً.

مع أنا ذكرنا في محله أن كون الحكم خالياً عن الملاك في المتعلق لا ينافي أصالة الجهة ولا يجعله صورياً، لأن أصالة الجهة إنما تنهض بإثبات كون الكلام مسوقاً لبيان المراد الجدي الحقيقي لا بداعٍ آخر من هزل أو خوف أو نحوهما مما لا يصلح لإحداث الداعي للعمل، ولا تقتضي صدور الحكم عن ملاك في متعلقه.

كما أن المعيار في كون الحكم حقيقياً صالحاً لإحداث الداعي للعمل صدوره بداعي جعل السبيل - الذي هو نحو من الاعتبار من الحاكم خفيف المؤنة عليه - وإن لم يكن عن ملاكٍ في المتعلق.

ولزوم صدور الحكم عن ملاك فيه أو في متعلقه مما يحكم به العقل

ص: 308

تنزيهاً للمولى عن العبث، ولا دخل لظهور الكلام ولا لأصالة الجهة به، ولذا لا تسقط أصالة الظهور أو الجهة في الكلام لو علم تعرض الحكم للنسخ ولم يعلم وقته.

كون الحكم المنسوخ حقيقي جدي

ومن هنا كان التحقيق أن الحكم المنسوخ كغيره حقيقي جدي صادر بداعي جعل السبيل وإن لم يكن عن ملاك في المتعلق، بل عن مصلحة في نفس جعله كسهولة البيان، أو الامتحان، أو غيرهما.

وليس النسخ إلّا رفعاً للحكم بعد ثبوته، نظير الإبراء من الدين بعد انشغال الذمة به، وفسخ العقد بعد نفوذه. ولا ينهض الكلام بنفيه لا بمقتضى أصالة العموم والظهور فيه، ولا بمقتضى أصالة الجهة.

فلابد من وجهٍ آخر للبناء على بقاء الحكم عند الشك في نسخه.

وقد يوجه بأنه مقتضى الاستصحاب، كما تقدم.

دعوى: بقاء الحكم المشكوك بالاستصحاب ودفعها

ويشكل: بأنه إن كان المراد استصحاب عدم النسخ، بلحاظ أنه أمر حادث مسبوق بالعدم، فهو مثبت، لأن ترتب بقاء الحكم على عدم نسخه كترتب حدوثه على جعله وارتفاعه على نسخه ليس شرعياً، بل خارجي.

وإن أريد استصحاب نفس الحكم بلحاظ اليقين به سابقاً تبعاً لليقين بجعله والشك في بقائه تبعاً للشك في نسخه. فهو قليل الفائدة، لأنه إنما ينفع في الوقائع التي فرض فيها فعلية الحكم المتيقن قبل احتمال نسخه، كما لو احتمل نسخ الحكم بنجاسة الميتة في فرض وجود ميتة قد علم بفعلية الحكم بنجاستها للقطع بعدم نسخ الحكم المذكور حين طروء الموت عليها، أو احتمل نسخ الحكم بوجوب الصلاة بعد العلم بفعليته، للعلم بعدم نسخه حين اجتماع شرائطه من البلوغ والوقت وغيرهما.

ص: 309

وأما بالإضافة إلى الوقائع التي لم يتيقن فيها بفعلية الحكم، لاحتمال طروء النسخ قبل تمامية شرائطه، فلا مجال لاستصحاب الحكم، لعدم اليقين به سابقاً، بل المتيقن عدمه ولو لعدم تمامية موضوعه وشروطه، فيكون هو المستصحب.

دعوى البقاء الحكم الفعلي في الوقائع لاتحادها ودفعها

ودعوى: أن جريان استصحاب الحكم في الوقائع التي تمت فيها شرائطه وعلم بفعليته مستتبع للبناء على ثبوته في الوقائع الأخرى بعد تمامية الشرائط فيها، للقطع باتحاد الوقائع في الحكم.

مدفوعة: بأن اتحاد الوقائع في الحكم راجع إلى التلازم بين أحكامها الواقعية، ومن الظاهر أن الاستصحاب - كغيره من الأصول - لا ينهض بإثبات لازم مجراه، كي يكون جريانه في بعض الوقائع كافياً في إحراز الحكم في الوقائع الأخرى بعد عدم تمامية موضوع الاستصحاب فيها.

نعم، لو ثبت التلازم بينها في الحكم حتى في مقام الظاهر، بحيث يكون إحراز الحكم في بعضها لتمامية موضوع التعبد الظاهري فيه مستلزماً لإحرازه في الباقي وإن لم يتم فيه موضوع التعبد فيه، اتجه البناء على ثبوت الحكم في الجميع وإن اختص جريان الاستصحاب ببعضها. لكن لا مجال لدعوى ذلك، لعدم الدليل عليه.

على أن الدعوى المذكورة لو تمت لزم سقوط الاستصحاب بالمعارضة، لوضوح أنه كما كان مقتضى الاستصحاب في الوقائع التي سبقت فعلية الحكم فيها هو ثبوت الحكم المحتمل نسخه، كذلك مقتضاه في الوقائع الأخرى عدم ثبوته، وليس إشراك الثانية مع الأولى في ثبوته بأولى من إشراك الأولى مع الثانية في عدمه.

ص: 310

هذا، ولا يخفى أن أصل الإشكال يبتني على أن الحكم بمجرد إنشائه كبروياً قبل فعليته بفعلية موضوعه ليس له ما بإزاء حقيقي مورد للأثر صالح للاستصحاب، وهو الذي وقع الكلام فيه بينهم، وعليه يبتني الكلام في المقام وفي الاستصحاب التعليقي وغيرهما.

ومن ثم ينبغي الكلام في ذلك مستمداً منه تعالى العون والتسديد..

وجوه تقريب الاستصحاب

فاعلم: أنه قد تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب بوجوه ذكرت في الاستصحاب التعليقي جارية في المقام بتحرير يناسبه..

الأول: ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره

الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من استصحاب نفس السببية والملازمة بين الموضوع والحكم، فإن لها نحواً من التحقق وإن لم يوجد طرفاها، نظير ما قيل من أن صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.

المناقشة فيه

وفيه: أن السببية والملازمة ونحوهما - بل جميع الأحكام الوضعية على مختاره قدس سره - منتزعة من ترتب الأحكام على موضوعاتها، وليس لها حقائق وراء ذلك. ومجرد وجود منشأ انتزاعها لا يصحح استصحابها بأنفسها.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه يكفي كون المستصحب مما أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسط منشأ انتزاعه.

فهو - لو تمَّ - لا ينفع في المقام، إذ ليس معنى كون السببية ونحوها انتزاعية أن لها واقعاً مسبباً عن منشأ انتزاعها الذي هو بيد الشارع، نظير الوجوب الغيري التابع للوجوب النفسي المجعول له، بل المراد أنه لا حقيقةً ولا واقع لها في قبال منشأ انتزاعها، وأن التعبير عنها مبني على ملاحظة منشأ انتزاعها بنحو يوهم وجود واقع لها.

ص: 311

على أنه لو فرض أن لها حقائق مجعولة فليست هي موضوعاً للعمل إلّا بتوسط لازمها، وهو فعلية الحكم تبعاً لفعلية موضوعه، ومن الظاهر أن التلازم بينهما ليس شرعياً، بل خارجي، فيكون الأصل الجاري فيها مثبتاً.

نعم، لو كان المدعى ترتب العمل عليها بنفسها لا بتوسط ترتب الحكم وفعليته اتجه استصحابها. لكن لا يظن من أحد الالتزام بذلك.

الثاني: ما يظهر من العراقي قدس سره من أن الحكم شرط بوجود الشرط لحاظاً

الثاني: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره في مبحث الواجب المشروط، فإنه مع اعترافه برجوع الشرط للهيئة ذكر أن مفاد الكبريات الشرعية بحسب ظهورها اللفظي وإن كان هو إناطة الأحكام بالقيد والموضوع بوجودهما الخارجي المستلزم لعدم فعلية الحكم إلّا بفعلية موضوعه وشرطه في الخارج، إلّا أنه لابد من رفع اليد عن هذا الظهور وتنزيلها على الإناطة بوجود الموضوع والقيد ذهناً في فرض الآمر ولحاظه.

لأن الأحكام التكليفية منتزعة من تعلق الإرادة والكراهة التشريعيتين بأفعال المكلفين المبرزتين بالخطاب، وحيث كان موطن الإرادة والكراهة - كغيرهما من الأمور النفسية، كالحب والبغض - ليس هو الخارج بل الذهن، امتنع اشتراطهما بالأمور الخارجية، ولزم كون الشرط لهما هو لحاظ الموضوع والشرط، لأن مبادي وجود كل شيءٍ من سنخ وجوده، فإن كان ذهنياً كانت ذهنيةً، وإن كان خارجياً كانت خارجية.

وحيث كان لحاظ الشرط والموضوع فعلياً كان الحكم فعلياً، غايته أن إناطته بلحاظ الشرط والموضوع موجبة لعدم محركيته عقلاً إلّا بفعليتهما في الخارج، فالوجود الخارجي ليس شرطاً في فعلية الحكم بل في محركيته عقلاً، كالعلم به.

ص: 312

وقد تعرض لذلك في الجملة في مبحث الاستصحاب التعليقي، وخصه بالأحكام التكليفية، لبنائه على انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين، وليست من الجعليات الاعتبارية.

أما الأحكام الوضعية المتقومة بالجعل والاعتبار فلا مانع من دعوى إناطتها بوجود الموضوع خارجاً، على غرار القضايا الحقيقية، فلا تكون فعلية إلّا في ظرف فعلية موضوعاتها، ولابد من توجيه الاستصحاب التعليقي فيها من طريقٍ آخرٍ، وقد اعتمد فيها على الوجه السابق، الذي عرفت حاله.

المختار في حديث السنخية

أقول: حديث السنخية إنما يقتضي كون إرادة المولى الحاصلة حين الخطاب بالكبرى مسببة تكويناً عن لحاظ الموضوع، كما هي مسببة عن لحاظ الملاك والمصلحة الداعية للخطاب ونحو ذلك من متعلق التكليف وغيره، وهو الحال في الأحكام الوضعية الجعلية، لأن الاعتبار لما كان مبنياً على الادعاء الذي هو أمر ذهني، فهو مسبب تكويناً عما هو من سنخه من لحاظ الموضوع والمصلحة ونحوهما، فلا وجه للفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية من هذه الجهة.

لكن هذا لا يقتضي كون الأمر المنوط به بحسب قصد الآمر وجعله هو لحاظ الموضوع، كيف واللحاظ وسيلة وآلة للملحوظ، فلا يكون طرفاً للإناطة، بل ليس طرفها إلّا الملحوظ الاستقلالي، وهو الموضوع بوجوده الخارجي الذي هو موطن الغرض ومحط الأثر.

فاللحاظ شرط تكويني لتحقق الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى التكليفية، ولإنشاء الكبرى الجعلية الاعتبارية، والملحوظ بوجوده الخارجي شرط شرعي للنسبة البعثية والزجرية الإنشائية، كما هو شرط

ص: 313

للاعتبار الإنشائي، فيكون شرطاً في فعلية الحكم التكليفي والوضعي تبعاً لذلك، كما هو مقتضى الظاهر الذي اعترف به قدس سره.

فحديث السنخية لا ينافي الظهور المذكور، كي يلزم رفع اليد به عنه، وتكلف تنزيل الخطاب على إناطة الحكم الشرعي بالوجود اللحاظي، أو إناطة المحركية العقلية - لا نفس الحكم الشرعي - بالوجود الخارجي، بل كيف يمكن رفع اليد عن مثل هذا الظهور الارتكازي العام بمثل هذا الوجه المبني على نحو من الاجتهاد، بل لو فرض التنافي بينهما كان كالشبهة في مقابل البديهة.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أن اللحاظ شرط للجعل، والملحوظ بوجوده الخارجي شرط للمجعول، وهو الحكم، فقبله لا وجود للحكم.

وأما دعوى: أن الجعل عين المجعول، وليس الفرق بينهما إلّا اعتبارياً.

فقد تقدم منعها عند الكلام في استصحاب عدم الجعل في أواخر الفصل السابق.

ثم إن المنوط بالوجود الخارجي ليس هو الإرادة الحاصلة حين الخطاب، لأن الإرادة المذكورة فعلية خارجية لا تقبل الإناطة لا بالوجود الخارجي ولا الذهني، بل النسبة البعثية والزجرية الكاشفة عن الحكم التكليفي، أو النسبة الحملية المسوقة للحكم الوضعي، فهي تدل على إناطة الأحكام وعدم فعليتها إلّا بفعلية الموضوع والشرط كما ذكرنا.

وهو لا ينافي انتزاع الأحكام التكليفية من الإرادة والكراهة التشريعيتين، إذ ليس المراد بهما ما يقارن الخطاب بالكبرى السابق على

ص: 314

فعلية الموضوع والشرط والمقارن للحاظهما بل الإرادة والكراهة الفعليتان التابعتان لفعلية الموضوع وتمامية ملاكه، المستكشفتان بالخطاب المذكور، فالخطاب كما يدل على إناطة الحكم يدل على إناطة منشأ انتزاعه وعدم فعليته إلّا بفعلية ما أنيط به، وليس الخطاب بالكبرى التعليقية إلّا لبيان الضابط العام في حصول الإرادة وحصول الأحكام بتبعها.

ما ذكره الشيخ الحكيم تبعاً لشيخه قدس سرهما

أما سيدنا الأعظم قدس سره فقد أصرَّ على ما ذكره شيخه المذكور من أن الحكم منوط بوجود الشرط لحاظاً، لا خارجاً، وذكر أن الوجود الفرضي هو الذي يكون موضوع الإرادة والكراهة وغيرهما، لأنها لا تتعلق بالخارج، إذ قد لا يكون للمستعمل فيه وجود خارجي، ولأن الوجود الخارجي في الإرادة والكراهة ملازم لسقوطهما، لا مقوِّم لهما، بل موضوع هذه الأمور نفس الوجود اللحاظي الذي يرى خارجياً غير ملتفت إلى كونه لحاظياً، فهو فانٍ فيه فناء الحاكي في المحكي.

ويظهر منه في مبحث الاستصحاب التعليقي عدم اختصاص ذلك بالأحكام التكليفية.

ويقتضيه - أيضاً - ما ذكره في وجهه من امتناع التفكيك بين الجعل والمجعول، وأنه أوضح فساداً من التفكيك بين العلة والمعلول، لأن الجعل عين المجعول حقيقةً، وإنما يختلف معه اعتباراً.

المناقشة فيه

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من أن متعلق الإرادة والكراهة وطرف الإناطة ليس إلّا الملحوظ الاستقلالي، وهو الوجود الخارجي، واللحاظ شرط في تعلقها به.

وفرضه فانياً في الملحوظ فناء الحاكي في المحكي أولى بتفنيد ما

ص: 315

ذكره منه بتأييده.

ومعنى تعلق الإرادة والكراهة بالوجود الخارجي ليس هو عروضهما عليه عروض البياض على الجسم، والوقفية على العين الخارجية كي يستحيل تحققه دون موضوعه، بل نحو من التعلق راجع إلى داعوية الإرادة إليه واقتضائها لتحقيقه، ودافعية الكراهة له واقتضائها لعدمه، فلا ينافي كون تحققه ظرفاً لسقوطهما، لكونه رافعاً لموضوع اقتضائهما.

على أن ذلك مختص بمتعلق الإرادة والكراهة الذي هو المأمور به والمنهي عنه، ولا يجري في شروطهما التي هي شروط التكليف، والتي يكون وجودها الخارجي ظرف ثبوته لا سقوطه.

حديث التفكيك بين الجعل والمجعول وتوضيحه

وأما حديث التفكيك بين الجعل والمجعول، فقد ذكرنا آنفاً أن الجعل مباين للمجعول وليس عينه.

كما أن المنفك عن الجعل الإنشائي في المقام لما كان هو الحكم الشرعي الذي هو موضوع الإطاعة والمعصية فلا يلزم التفكيك بين الجعل والمجعول حقيقةً.

وتوضيح ذلك: أن للأمور الإنشائية وجوداً ادعائياً استعمالياً تابعاً لإنشائها الذي هو فعل المنشئ غير منفك عنه، لأنه علته التامة، وهو في المقام الطلب التعليقي في التكليفيات والمضمون الإنشائي التعليقي في الجعليات، لأن المضامين التعليقية المبنية على الإناطة كسائر النسب لها نحو من الوجود قائم بها، إلّا أنها ليست عين الحكم الشرعي - التكليفي أو الوضعي - ليمتنع انفكاكه عن الجعل، بل هي كاشفة عنه وحجة عليه، فلا محذور في انفكاكها عنه، فالنسبة البعثية أو الزجرية التعليقية تكشف عن

ص: 316

فعلية الإرادة أو الكراهة التشريعية تبعاً لفعلية ما علقت عليه النسبة، وحيث كانتا منشأ انتزاع الحكم كان الحكم مستكشفاً بالنسبة المذكورة على النحو المذكور. كما أن النسبة التعليقية في الجعليات تكشف عن فعلية اعتبار الشارع الأقدس للأمر الإنشائي تبعاً لفعلية ما علق عليه أو تكون من سنخ المعد لتحقق الأمر الاعتباري بنظر العقلاء وتمام علته بتحقق ما علق عليه، فلا يعتبر عندهم إلّا حينئذ، ولعل هذا هو الأظهر.

فهو نظير انفكاك المسببات التوليدية عن أسبابها الاختيارية لتوسط الأسباب غير الاختيارية بينها، فالإحراق الذي هو فعل الإنسان ليس إلّا إلقاء الثوب في النار، والإحتراق قد ينفك عنه بزمان يتوقف عليه تأثير النار فيه، وليس هذا في الحقيقة من انفكاك الجعل عن المجعول، وإن أوهمه.

الثالث: ما يظهر من العراقي قدس سره

في مبحث الاستصحاب التعليقي

الثالث: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره في مبحث الاستصحاب التعليقي، ولعله هو مراده من الوجه السابق، وإن لم يساعد عليه ما قرر به كلامه.

وحاصله: أن الأحكام التكليفية المستفادة من الكبريات الشرعية لا تنتزع من إرادة تشريعية فعلية، تبعاً لفعلية الموضوع والشرط، كي لا يكون لها واقع قبل فعليتهما، بل من الإرادة التشريعية المبنية على الإناطة، الحاصلة حين الخطاب بالكبرى، لوضوح أن الخطاب بالكبرى لابد أن يقارن نحواً من توجه نفس المولى للمراد والمكروه مبنياً على إرادته منوطاً بموضوعه وشرطه، وإن كان المنوط به هو الوجود الخارجي، لا اللحاظي، وحيث كانت الإرادة المذكورة فعلية كان الحكم المنتزع منها فعلياً، وليس أثر الإناطة إلّا توقف محركية التكليف عقلاً على فعلية الموضوع والشرط

ص: 317

ووجودهما في الخارج، من دون أن يكون التكليف منوطاً بهما.

وبهذا يختلف التكليف المشروط الذي هو مفاد الكبريات عن التكليف المطلق سنخاً، لانتزاع الثاني من الإرادة التشريعية المطلقة الحاصلة حين الخطاب به، تبعاً لفعلية موضوعه وتمام ما هو الدخيل في ملاكه، كما يختلف عنه أثراً، لفعلية محركيته عقلاً، بمجرد الخطاب به.

المناقشة فيه

وفيه: أن المرتكزات العرفية والعقلائية قاضية باتحاد الواجب المشروط والمطلق سنخاً وانتزاعهما معاً عن الإرادة الفعلية الحاصلة حين فعلية تمام ما هو الدخيل في ملاك التكليف.

ولذا لو فرض التفات الحاكم المخاطب بالكبرى التعليقية للصغرى حين فعليتها لم يجد من نفسه إلّا ما يجده حين الخطاب بالحكم الفعلي المطلق لو التفت إليه رأساً من دون أن يسبق منه الالتفات لكبراه، بل قد يؤكد الخطاب الكبروي بالخطاب الخاص في مورد فعلية التكليف، ولا يكون منه ذلك إرشاداً بسبب فعلية محركية التكليف التعليقي، ولا تبدلاً في سنخ للتكليف.

ولذا كان المرتكز انحلال الحكم الكبروي إلى أحكام فعلية متعددة بعدد الموضوعات الفعلية، مع وضوح أن الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى لا تقبل الانحلال بنفسها، وإنما التعدد في الإرادات الخاصة الفعلية، تبعاً لتعدد الموضوعات الفعلية، فلو تم ما ذكره لم يكن هناك إلّا تكليف واحد، تتعدد مظاهر إطاعته ومعصيته، لصلوحه للمحركية عقلاً بفعلية ما أنيط به خارجاً، ولا يصح إضافة التكليف المذكور للموضوعات الخارجية، لعدم كونها موضوعاً للإرادة المذكورة، بل ليس موضوعها إلّا العنوان الكلي، فلا

ص: 318

يصح أن يقال: هذا الخمر حرام، فيجب اجتنابه عقلاً، إلّا بتأويل راجع إلى حرمة عنوان الخمر، فيجب عقلاً إطاعتها باجتناب الخمر الخارجي.

بل كيف ينتزع التكليف الشرعي الذي هو موضوع الإطاعة والمعصية عقلاً من الإرادة المذكورة؟! مع أنها قد تحصل قبل حصول مكلف به قابل للخطاب، بأن يكون المنوط به هو وجود المكلف، مع وضوح أنّ التكليف ارتكازاً نحو نسبة بين المكلِّف والمكلَّف والمكلَّف به متقومة بأطرافها.

على أن ذلك هو ظاهر الكبرى الشرعية بلحاظ ما تقدم من ظهورها في إناطة النسبة البعثية والزجرية بوجود الشرط خارجاً، إذ حيث كانت النسبة المذكورة هي المبرز للتكليف كان ظاهرها إناطة التكليف بذلك أيضاً، كما يكون ظاهر النسبة المطلقة إطلاق التكليف، وحيث كان الموجود حين وجود الشرط خارجاً هو الإرادة الفعلية كان التكليف منتزعاً منها، لا من الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى.

وبالجملة: التأمل في المرتكزات العقلائية التي يبتني عليها تحديد التكليف ثبوتاً وبيانه إثباتاً يوجب وضوح كون التكليف منتزعاً من الإرادة والكراهة الفعليتين التابعتين لفعليه الموضوع خارجاً، فلا يكون التكليف فعلياً إلّا حينئذ، من دون فرق بين التكليف المطلق، الذي يخاطب به حين فعلية موضوعه والمشروط الذي يخاطب به قبل فعليته بنحو الكبرى التعليقية المنوطة بالموضوع والشرط، وليست الإرادة الحاصلة حين الخطاب بالكبرى إلّا لازماً من لوازم مبادئ تحقق الإرادة الفعلية، دون أن تكون منشأ لانتزاع التكليف، وإنما هي حجة على تعيين موارد الإرادات الفعلية التي ينتزع منها التكليف وضبطها.

ص: 319

إن قلت: إذا كان منشأ انتزاع التكليف هو الإرادة الفعلية، لا التعليقية لزم عدم تحقق التكليف لو غفل المولى عن تحقق الشرط أو الموضوع حين فعليتهما، لعدم تحقق منشأ انتزاعه، وهو الإرادة العفلية حينئذ.

قلت: هذا كاشف عن انتزاع الحكم من ملاك المحبوبية أو المبغوضية، المستتبع لهما بمجرد الالتفات إليه، وإن لم يتحققا بسبب الغفلة، فإذا كانت الكبرى صالحة لبيان الملاك المذكور كانت صالحة لبيان التكليف بالنحو المستتبع لحكم العقل بوجوب الإطاعة.

وهذا جارٍ على مدعى الخصم أيضاً، إذ قد يغفل المولى عن الكبرى، فلا تكون الإرادة المستتبعة لها فعلية حين فعلية الموضوع والشرط، مع وضوح أن محركية التكليف ووجوب إطاعته تابع لفعليته، ولا يكفي في فعلية التكليف سبق تحقق منشأ انتزاعه مع ارتفاعه رأساً، بل لابد من تحققه حينه.

التحقيق في المقام

بل التحقيق: أن موضوع وجوب الإطاعة عقلاً ليس خصوص التكليف المنتزع من الإرادة والكراهة أو ملاكهما في ظرف إبراز المولى له ببيان منه، بل يكفي الملاك المذكور، ولو مع غفلة المولى عنه رأساً، أو عجزه عن بيانه بإبراز التكليف، لو فرض اطلاع المكلف عليه من غير طريق المولى. ولذا يجب عقلاً بملاك وجوب امتثال التكليف مثل دفع الضرر عن المولى أو عمن يهمه أمره، وإن غفل المولى عن توجهه إليه، أو عجز عن بيان التكليف به، وإن لم ينتزع التكليف بنظر العقلاء حينئذ.

هذا كله بناءً على انتزاع التكليف من الإرادة والكراهة أو ملاكهما، أما بناء على كونه من الاعتبارات فيجري فيه ما تقدم عند الكلام في محذور

ص: 320

التفكيك بين الجعل والمجعول، من أن الجعل الكبروي ليس تمام العلة للأمر الاعتباري، بل هو مقدمة إعدادية له، وتمام علته عرفاً بفعلية ما علق عليه، فلا وجود له قبله حتى يستصحب.

ومن جميع ما تقدم ظهر أن النسخ إنما يكون رفعاً للحكم الكبروي الذي هو مقدمة إعدادية للحكم الوضعي الفعلي، وكاشف عن الحكم التكليفي، بناء على انتزاعه عن الإرادة.

أما بالإضافة إلى الحكم الفعلي الحقيقي الذي هو مورد العمل فلا يكون رفعاً له إلّا إذا كان بعد فعليته وتمامية موضوعه، وأما قبل ذلك فهو دفع ثبوتاً أو إثباتاً.

الرابع ما يظهر من الخراساني قدس سره

الرابع: ما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن الاستصحاب لما كان متضمناً للحكم بالبقاء كان متمماً لدلالة الدليل لو فرض إجمال أمد الحكم فيه، فالجمع بين الدليل الدال على الثبوت والاستصحاب يقتضي البناء على البقاء، كما لو كان هناك دليل آخر متمم لدليل الثبوت وحاكم ببقاء مضمونه.

الإشكال عليه

وهو لا يخلو عن إجمال، لأنه إن كان المراد أنه شارح للمراد من دليل الثبوت ومبين لأمد مضمونه، بنحو يكون حاكماً عليه. فهو ممنوع جداً، لامتناع شرح الاستصحاب لمفاد الدليل بعد اختلافهما سنخا، لان مفاد الدليل الحكم الواقعي، ومفاد الاستصحاب هو الحكم الظاهري.

وإن كان المراد أنه يتضمن التعبد الظاهري ببقاء مضمون الدليل. فهو موقوف على تمامية أركانه بالإضافة إلى مضمون الدليل، وهو القضية الكبروية وقد سبق الإشكال في ذلك بعدم كون المضمون المذكور حكماً

ص: 321

فعلياً مورداً للعمل.

الخامس: كفاية استصحاب كبرى الحكم في إحرازه

الخامس: أن فعلية الحكم الشخصي الذي هو مورد للعمل كما تتوقف على تحقق موضوعه تتوقف على وجود كبراه، وكما كان استصحاب الموضوع كافياً في إحراز الحكم الشخصي بضميمة إحراز الكبرى فليكن استصحاب الكبرى كافياً في إحرازه بضميمة إحراز الموضوع.

وفيه: أن توقف الحكم الشخصي على الكبرى ليس ثبوتياً، لكونها أحد جزئي علته، بل إثباتي لانحلالها إلى أحكام متعددة بعدد أفراد العنوان المأخوذ فيها، فكل فرد موضوع للحكم، فمع إحراز موضوعية الفرد بسبب إحراز الكبرى يتجه إحراز حكمه تبعاً لإحرازه بالأصل، بضميمة ما تقدم من ملازمة التعبد بالموضوع للتعبد بحكمه عرفاً.

أما مع احتمال نسخ الحكم الكبروي المستلزم لخروج الفرد عن كونه موضوعاً للحكم فلا أثر لاستصحاب الكبرى، لعدم دخلها بنفسها في الحكم الشخصي، وليست هي موضوعاً للعمل، كما لا مجال لاستصحاب الحكم، لليقين بعدمه قبل تحقق موضوعه، ولا لاستصحاب موضوعية الموضوع وسببيته، لما تقدم من كونها انتزاعية غير مجعولة.

بقي شيء: معارضة الاستصحاب الكبروي باستصحاب الحكم الفعلي

بقي شيء، وهو أنه لو تم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ بالإضافة إلى الوقائع المتجددة فقد يدعى معارضته باستصحاب الأحكام المضادة لها الثابتة قبل تجدد موضوعاتها، كما ذكروا نظير ذلك في الاستصحاب التعليقي، فإنه يشارك المقام في أكثر جهات الكلام.

فكما يجري استصحاب نجاسة الميتة لإثبات نجاسة الحيوان الخاص عند موته، يجري استصحاب طهارته الثابتة له حين حياته، فلا فائدة

ص: 322

في جريان الاستصحاب المذكور.

مسالك التخلص من المعارضة المدعاة

وقد تصدى غير واحد للتخلص من محذور المعارضة في المقام. ولهم في ذلك مسالك..

الأول: عدم جريان الاستصحاب الفعلي

الأول: أن استصحاب الحكم الفعلي المضاد لا يجري في نفسه، كي يعارض استصحاب الحكم الكلي الكبروي المنوط.

توجيه الحلي قدس سره له بأنه من القسم الثالث

وقد وجه ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره بأنه من القسم الثالث لاستصحاب الكلي، وذلك لأن الحكم المضاد كان قبل احتمال النسخ مغيى بوجود موضوع الحكم المحتمل النسخ بنحوٍ يقطع بارتفاعه بعده، واحتمال بقاء الحكم المذكور إنما هو لاحتمال تجدد فردٍ آخر منه، وهو المطلق، فالطهارة المتيقنة للحيوان قبل طروء احتمال النسخ إنما هي الطهارة المغياة بالموت، وهي معلومة الارتفاع به أو بالنسخ، واحتمال بقاء كلي الطهارة - بعد الموت واحتمال النسخ - إنما هو لاحتمال حدوث الطهارة المطلقة بدلاً عن الطهارة المغياة، لنسخ الحكم بنجاسة الموت.

المناقشة فيه

وفيه: أن الإطلاق والتقييد إنما يتصوران في الحكم الكلي الكبروي الذي هو مضمون الخطاب أما الحكم الشخصي الفعلي فهو لا يقبل الإطلاق ولا التقييد، فتبدل حال الحكم الكبروي من التقييد إلى الإطلاق لا يوجب تبدل الفرد ليكون استصحابه من القسم المذكور، بل المحتمل بقاؤه بشخصه، فيكون من القسم الأول لاستصحاب الكلي، أو من استصحاب الفرد.

على أنه لو سلم تبدل الفرد في المقام، فالمستصحب ليس هو الحكم الثابت قبل احتمال النسخ، كيف وقد لا يكون للموضوع وجود حينئذٍ،

ص: 323

بل هو الحكم الثابت بعده، قبل تجدد موضوع الحكم المحتمل نسخه - كالموت في المثال - لأن الاستصحاب إبقاء للمستصحب من آخر أزمنة اليقين بدلاً من أولها، والحكم حينئذٍ مردد بين المغيىَّ المقطوع الارتفاع والمطلق المقطوع البقاء، فيكون من القسم الثاني، لا الثالث.

الثاني: حكومة الاستصحاب الفعلي لاستصحاب الحكم الكبروي

الثاني: أن استصحاب الحكم الفعلي المضاد وإن كان جارياً في نفسه، إلّا أنه محكوم لاستصحاب الحكم الكبروي المنوط.

تقريب الحكومة بوجوه

وقد ادعى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره دون أن يوضح الوجه في الحكومة، وكأنه يبتني على الوجه الذي تقدم منه لتقريب جريان الاستصحاب عند اشك في النسخ، كما يأتي في آخر الكلام في المقام التنبيه له. وكيف كان فقد قرب الحكومة من تأخر عنه بوجوه..

أولها: ما ذكره النائيني قدس سره

أولها: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الحكمين الفعليين - كالطهارة والنجاسة والحلية والحرمة - وإن كانا متضادين من دون ترتب بينهما فوجود أحدهما ملازم لعدم الآخر، والأصول العملية لا تثبت اللوازم العقلية، إلّا أن هذا فيما إذا لم يكن التعبد بأحد الضدين بنفسه مقتضياً للتعبد بعدم الآخر، كما في المقام، إذ لا معنى للتعبد بحدوث النجاسة والحرمة المنوطتين إلّا التعبد بفعليتهما حين وجود ما أنيطتا به، وإلغاء احتمال الحلية والطهارة المضادتين لهما حينئذ الذي هو موضوع استصحابهما، وإلّا لغى استصحاب الحكم المنوط.

فالترتب بين المستصحبين الذي هو ملاك الحكومة لم يستفد من دليل خارج - كالترتب بين الحكم والموضوع - بل من نفس دليل الأصل الحاكم، إذ لولا حكومته كان لاغياً.

ص: 324

وفيه: أن هذا لا يخرج عن الأصل المثبت، فإن التعبد بالضد لا يقتضي التعبد بعدم ضده إلّا للتلازم بينهما خارجاً من دون ترتب شرعي، بل ولا عقلي بينهما، كما نبَّه لذلك المحقق الخراساني قدس سره في هامش الكفاية.

وليس نفي الحكم المضاد باستصحاب الحكم الكبروي بأولى من نفي فعلية الحكم الكبروي باستصحاب الحكم المضاد، إذ لا معنى للتعبد بالحكم المضاد إلّا إلغاء احتمال تجدد ضده تبعاً لتجدد موضوعه، بعين التقريب الذي ذكره.

نعم، لو كان أحد الاستصحابين مستفاداً من دليل خاص به لزم البناء على حجيته في اللازم المذكور، فراراً عن محذور لغويته، فيكشف عن إلغاء عموم الاستصحاب بالإضافة إلى الضد، فلا يعارضه، لأنه أخص.

أما حيث كان، كل منهما مستفاداً من عموم الاستصحاب فليس إعماله بالإضافة إلى أحدهما بأولى من إعماله بالإضافة إلى الآخر، بل يقصر في كل منهما عن إثبات لازم مجراه، لما تقدم.

ثانيها: ما ذكره العراقي قدس سره

ثانيها: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الشك في بقاء الحكم الفعلي المضاد ناشئ من الشك في بقاء الموضوع المتجدد - كالموت في المثال - غاية له بسبب الشك في نسخ الحكم الكبروي المفروض، فاستصحاب كونه غاية له قاض بارتفاعه بحدوثه.

فالشك في بقاء طهارة الحيوان بعد موته ناشئ من الشك في بقاء الموت غاية للطهارة كما كان سابقاً قبل احتمال النسخ، فيستصحب له ذلك.

وهو مبني على جريان استصحاب الغائية التي هي كالشرطية والسببية ونحوهما منتزعة غير مجعولة، وقد سبق الكلام في ذلك.

ص: 325

ثالثها: أن الحكم الفعلي أولي والحكم المشكوك النسخ ثانوي

ثالثها: أن الحكم الفعلي المضاد حكم أولي ثابت للذات بما هي، والحكم الكبروي المشكوك النسخ ثانوي ثابت لها بما أنها واجدة لخصوصيةٍ زائدةٍ، كالموت في المثال، وكما يكون الحكم الثانوي حاكماً على الأولي لو كانا واقعيين ثابتين بالعلم أو الدليل الاجتهادي كذلك يكون حاكماً عليه لو كانا ظاهريين محرزين بالأصل، كما في المقام.

وقد ذكر ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره وذكر أنه محتاج لشيءٍ من التأمل.

والظاهر أن التأمل قاضٍ باندفاعه، لأن التحاكم ليس بين الحكم الأولي والثانوي لذاتيهما، بل بين دليلهما الاجتهاديين في ظرف اجتماعهما مورداً.

بتقريب: أن دليل الحكم الوارد على الذات بعنوانها الأولي وإن كان ظاهراً في الحكم الفعلي مطلقاً، إلّا أنه يتعين عرفاً تنزيله بقرينة دليل الحكم الوارد على الذات بعنوانٍ زائدٍ عليها على عدم كونه فعلياً في مورده، بل كونه اقتضائياً، وليس الفعلي إلّا الحكم الآخر، وبهذا ينتزع عنوان الأولي والثانوي للحكمين المذكورين. كما كانت الحكومة من وجوه الجمع بين الأدلة في مقام الإثبات.

أما الحكمان المدلولان للدليلين فلا معنى للتحكام بينهما بنفسهما ثبوتاً بل ليس الثابت في مورد الاجتماع إلّا أحدهما، وهو الثانوي، لكون موضوعه بمقتضى الجمع المذكورة علة تامة له، بخلاف موضوع الأولي فإنه مقتض لا يؤثر مع وجود المانع.

ولا مجال لجريان ذلك في الاستصحابين، لأن مقتضى كلٍ منهما أن الحكم المستصحب فعلي في ظرف الشك، كما كان فعلياً في ظرف اليقين،

ص: 326

وانقلاب أحدهما إلى حكم اقتضائي مرتفع ينافي استصحابه، فيتعارض الاستصحابان.

الثالث: عدم منافاة استصحاب الحكم المضاد لاستصحاب الحكم المحتمل

الثالث: أن استصحاب الحكم المضاد لا ينافي استصحاب الحكم المحتمل النسخ ولا يعارضه، كما ذكره المحقق الخراساني.

وتقريبه في المقام: أن موضوع الحكم الكبروي الذي يحتمل نسخه كما يناط به الحكم المذكور كذلك يكون غاية لكبرى الحكم المضاد الثابت قبل فعلية الموضوع، لاستحالة إطلاقه معه، فكما تكون النجاسة منوطة بالموت تكون الطهارة مغياة به، ومن الظاهر أنه لا تنافي بين الطهارة المغياة بالموت والنجاسة المنوطة به، وإنما المنافي للنجاسة المنوطة بالموت هو الطهارة المطلقة، وليست هي مستصحبة، لعدم اليقين بها سابقاً، بل المتيقن عدمها، وليس الثابت سابقاً إلاّ الطهارة المغياة، واستصحابها لا يعارض استصحاب النجاسة المنوطة، بل يجتمعان، كما كانتا سابقاً معلومتين معاً.

وحينئذٍ كما كان استصحاب النجاسة المنوطة بالموت مقتضياً لفعلية النجاسة وحدوثها بسببه، يكون استصحاب الطهارة المغياة بالموت مقتضياً لارتفاعها بعده، وكما لا تعارض بين استصحابي الطهارة المغياة والنجاسة المنوطة، لا تعارض بين مقتضاهما، وهو فعلية النجاسة وارتفاع الطهارة بالموت.

وبعبارةٍ أخرى: استصحاب الحكم المقيد يقتضي التعبد بالحكم تبعاً لقيده على نحو تقييده به، فإذا كان القيد شرطاً للحكم كان مقتضياً لوجوده، وإذا كان غايةً له كان مقتضياً لعدمه، فالموت في المقام شرط للنجاسة وغاية للطهارة المستصحبتين، فلابد من حدوث النجاسة وارتفاع الطهارة بسببه.

ص: 327

وبهذا لا يحتاج لدعوى حكومة استصحاب الحكم المنوط على استصحاب الحكم الفعلي المضاد، كما سلكه شيخنا الأعظم قدس سره وتقدم تقريبه بوجوه تقدم الإشكال فيها، لأن استصحاب الحكم الفعلي محكوم لاستصحاب الحكم المغيىَّ، كما كان استصحاب الحكم المنوط حاكماً على استصحاب عدم فعليته، حيث لم يحتمل أحد معارضة استصحاب نجاسة الميتة باستصحاب عدم نجاسة الحيوان.

نعم، يبقى الإشكال في وجه إحراز وجود الحكم الفعلي أو ارتفاعه تبعاً لاستصحاب الحكم الكبروي المنوط أو المغيىَّ، مع وضوح تباينهما وعدم الترتب بينهما لا شرعاً ولا عقلاً، بل بينهما محض التلازم خارجاً، فلا يحرز بالاستصحاب، فضلاً عن حكومته على الاستصحاب الجاري في الحكم الفعلي العدمي أو الوجودي.

وهذا لا يختص بحديث المعارضة، بل يجري في أصل استصحاب الحكم الكبروي المنوط، الذي هو محل الكلام، إذ يشكل التمسك باستصحاب الحكم الكبروي المنوط حتى بالإضافة إلى استصحاب عدم فعلية حكمه، فكما يعارض استصحاب نجاسة الميتة باستصحاب طهارة الحيوان الثابتة في حياته، يعارض باستصحاب عدم نجاسته.

بل ترتب فعلية النجاسة على الاستصحاب المذكور مع قطع النظر عن معارضته بعد فرض عدم الترتب الشرعي بينهما مورد للإشكال.

وقد دفع ذلك في الكفاية بأنه قضية نحو ثبوت الحكم، كان بدليله أو بدليل الاستصحاب.

فإن أراد أن نفس المضمون المستصحب مقتض، لذلك، إذ لا معنى

ص: 328

للتعبد بالقضية المنوطة أو المغياة إلّا التعبد بفعلية الحكم بالنحو المذكور، سواء كان التعبد بالدليل أم بالأصل، وإلّا كان التعبد بهما لاغياً، لعدم الأثر له بدون ذلك.

فهو إنما ينفع لو كان دليل التعبد بالقضية المنوطة أو المغياة وارداً فيهما بالخصوص، حيث يدل بدلالة الاقتضاء على ذلك، دفعاً لمحذور لغويته، أما حيث كان الدليل فيهما عموم الاستصحاب، الذي فرض عدم نهوضه بإثبات اللوازم غير الشرعية فيمكن دفع محذور لغوية التعبد بهما بحمل العموم على غيرهما مما لا يحتاج فيه للعناية المذكورة.

وإن أراد أن اللازم المذكور وإن كان عقلياً، إلّا أنه لازم لما هو الأعم من الوجود الواقعي والظاهري للملزوم، كما هو ظاهره في حاشية الرسائل.

أشكل بما هو المعلوم من أن فعلية الحكم واقعاً إنما تلزم بقاء الكبرى الشرعية وعدم نسخها واقعاً، وثبوت الكبرى ظاهراً إنما يقتضي البناء على الفعلية ظاهراً، فلابد من عموم دليل التعبد الظاهري بالكبرى لِلازِمِها المذكور، وهو يتم في الدليل الاجتهادي، دون الاستصحاب ونحوه من الأصول.

وأما ما في حاشية الرسائل من قياس ذلك بوجوب المقدمة وحرمة الضد، حيث يكون موضوع الملازمة فيهما الأعم من الوجود الواقعي والظاهري.

فهو ممنوع في المقيس عليه، فضلاً عن المقيس، كما تقدم في المستثنى الثالث من مستثنيات الأصل المثبت، وذكرنا هناك أنه ربما يكون منشأ البناء عليهما هو أن ملاك التلازم فيهما كما يقتضي التلازم بينهما ثبوتاً

ص: 329

يقتضي التلازم بينهما إثباتاً، بنحو يكون التعبد بالملزوم مستلزم للتعبد باللازم، ولا طريق لدعوى ذلك هنا.

ومن هنا أشكل الأمر في أصل جريان استصحاب الكبريات الشرعية، مضافاً إلى الإشكال السابق، وإلى حديث المعارضة الذي هو محل الكلام هنا.

التحقيق في المسألة

فالذي ينبغي أن يقال: لا مجال للبناء على جعل الأحكام الكبروية والفعلية معاً، للغوية أحد الجعلين والاستغناء به عن الآخر، لوضوح عدم الترتب بينهما الراجع إلى أخذ أحدهما في موضوع الآخر، كي يكون جعل المتقدم لتنقيح موضوع المتأخر، نظير الأحكام الوضعية والتكليفية المترتبة عليها، حيث يكون جعل الأولى لتنقيح موضوع الثانية، وإنما بينهما محض التلازم الخارجي، الراجع إلى استحالة انفكاك جعل الكبرى عن فعلية حكمها في ظرف تحقق موضوعه، فلابد من الاكتفاء بجعلٍ واحد.

وحينئذٍ إن كان موضوع الأثر العملي هو الكبرى كانت هي المجعولة لا غير، ولم يكن الحكم الفعلي إلّا انتزاعياً راجعاً إلى بلوغ الحكم مرتبة الباعثية والمحركية العقلية، من دون أن يكون مورداً للجعل الشرعي زائداً على جعل الكبرى.

وعليه يبتني الوجه الثاني والثالث المتقدمان لتوجيه جريان استصحاب الحكم الكبروي.

كما يمنع استصحاب الحكم الفعلي للزوم كون المستصحب هو المجعول الذي يكون مورداً للعمل ومحطاً للغرض، فلا معارض لاستصحاب الحكم الكبروي، ويتعين العمل عليه لا غير.

ص: 330

كما يتوجه عليه البناء على بلوغ الحكم مرتبة الفعلية تبعاً لفعلية موضوعه، لأن بلوغ الحكم المرتبة المذكورة ليس لازماً خارجياً للمستصحب، بل هو راجع إلى حكم العقل بوصول الحكم مرتبة الإطاعة والعمل، الذي هو كأصل حكمه بوجوب الإطاعة مما يترتب على استصحاب الحكم وغيره من طرق إحرازه، ولا يعتبر فيه العلم الوجداني به، نظير ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في توجيه الترتب المذكور.

وإن كان موضوع الأثر العملي هو الحكم الفعلي كان هو المجعول، وجرى استصحابه.

وهذا هو الظاهر، كما تقدم في رد الوجه الثاني والثالث.

ولا يخفى أن بقية الوجوه المتقدمة لتوجيه جريان الاستصحاب عند الشك في نسخ الحكم الكبروي وإن لم تناف ذلك إلّا أنها مبنية على جريان الاستصحاب بوجه حاكم على استصحاب الحكم الفعلي، لأن المستصحب في الوجه الأول هو السببية، وهي في مرتبة العلة للحكم الفعلي، وفي الوجه الرابع هو الكبرى نفسها بلحاظ شرح الاستصحاب لحال الجعل، فيكون حاكماً على دليله الحاكم على استصحاب الحكم الفعلي، وفي الخامس هو الكبرى أيضاً بلحاظ توقف الحكم الفعلي عليها كتوقفه على موضوعه.

حاصل ما ذكره قدس سره

وبالجملة: مبنى جريان الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم الكبروي إما على عدم جريان الاستصحاب في الحكم الفعلي، لعدم كونه مجعولاً ولا مورداً للأثر، أو على حكومته عليه، فلا مجال لفرض معارضته له. كما لا مجال لفرض كون إثبات الفعلية به مبتنية على الأصل المثبت.

هذا كله في الاستصحاب، وقد تقدم قلة فائدته، لعدم جريانه في

ص: 331

الوقائع المتجددة، وعليه فالمرجع المهم في المقام هو أصالة عدم النسخ، وهي أصل قائم بنفسه لا يبتني على الاستصحاب، ولذا يجري مع الشك في نسخ كبرى الاستصحاب.

والوجه فيها: بناء العقلاء عليها في أمور معاشهم ومعادهم، لابتناء الأمور لتشريعية قانونية كانت أو شخصية على البقاء ما لم ترفع، وإلّا لاضطرب نظم التشريع، لعدم الضابط لاحتمال النسخ، فقد يتوجه المكلف له، فيتوقف عن العمل بالحكم، ولا يتوجه له المشرع، كي يتصدى لرفعه، بل قد لا يتسنى له رفعه لو توجه له، فيفوت الغرض من التشريع. وأدنى نظر في سيرة العقلاء الارتكازية في القوانين الوضعية الدنيوية، والتشريعات الدينية - على اختلاف الأديان - يوجب وضوح ذلك، بنحو لا يحتاج إلى تكثير الشواهد وإقامة البرهان.

وكفى بهذه السيرة حجة بعد وضوح كونها ارتكازية عامة لم يثبت الردع عنها، بل يعلم بإمضاء الشارع لها وجريه على مقتضاها بملاحظة اتفاق العلماء قولاً وعملاً وسيرة المتشرعة بما هم أهل دين على ذلك. من دون أن يبتني ذلك على الاستصحاب، لعدم توجههم للاستدلال به إلّا في العصور المتأخرة.

هذا كله في احتمال نسخ الحكم بما هو من غير نظر لخصوصيات الأحكام..

وربما يدعى خصوصية أحكام شريعتنا المطهرة، أو أحكام الشرايع السابقة في ذلك.

أما أحكام شريعتنا فقد يدعى استغناؤها عن أصالة عدم النسخ

ص: 332

والاستصحاب بالحديث المشهور: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» فإن مقتضى عمومه عدم نسخ جميع الأحكام، وثبوت النسخ في الجملة لا ينافي حجيته في مورد الشك.

لكن لا يبعد حمله - بقرينة المفروغية عن وقوع النسخ، وإباء لسانه عن التخصيص - على إرادة عدم نسخ أحكام هذه الشريعة بشريعة أخرى، فهو لبيان استمرار الشريعة، لأنها خاتمة الشرايع، وصاحبها (ص) خاتم الأنبياء، فلا ينافي نسخ أحكامها بها. والأمر سهل.

الكلام في أحكام الشرائع السابقة

وأما أحكام الشرايع السابقة فقد وقع الكلام بينهم في جواز البناء عليها والتعبد بها عند الشك في بقائها في هذه الشريعة، كما يجوز في أحكام هذه الشريعة، إما للاستصحاب أو لأصالة عدم النسخ، بل سبق أن عنوان البحث في كلامهم مختص بذلك.

الذي ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: أما الاستصحاب فقد سبق قلة الفائدة فيه، لعدم تمامية أركانه بالإضافة إلى الوقائع المتجددة. ولو غض النظر عن ذلك لجرى في المقام، كما يجري في غيره من موارد الشك في النسخ.

وجوه عدم جواز الرجع للاستصحاب وأصالة عدم النسخ

وأما أصالة عدم النسخ فالظاهر عدم المانع من الرجوع إليها.

وقد يدعى خصوصية المقام بما يمنع من الرجوع للاستصحاب وأصالة عدم النسخ معاً، لوجوه..

الأول: تعدد الموضوع

الأول: تعدد الموضوع، لاختلاف المكلفين بالشرايع السابقة مع المكلفين بهذه الشريعة، فأهل هذه الشريعة غير مشمولين بدواً بتلك الأحكام، كي يكون رفعها في حقهم نسخاً مدفوعاً بأصالة عدمه، أو بالاستصحاب، وإنما يحتمل ثبوت مثلها في حقهم بجعلٍ آخرٍ مدفوع بالأصل.

ص: 333

دفعه

ويندفع، بأن الظاهر أخذ عناوين المكلفين في تلك الأحكام بنحو القضية الحقيقية المنطبقة على أهل هذه الشريعة النافذة عليهم لو لم يطرأ في حقهم النسخ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وغيره، وإلّا لامتنع النسخ، لأنه رفع الحكم مع بقاء موضوعه، لا انتهاء أمده لارتفاع موضوعه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم دخل خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم لا ينافي الاختصاص ببعض الحصص بسبب ضيق الجعل عن شمول الزمان اللاحق، فلا يجري الاستصحاب.

فهو مبني على رجوع النسخ إلى قصور جعل الحكم بدواً عن شمول الزمان اللاحق، وهو خلاف الظاهر، لما تقدم من أن النسخ هو رفع الحكم الذي من شأنه البقاء.

فلا يبقى إلّا حديث المعارضة، الذي تقدم منا الكلام فيه آنفاً.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره ودفعه

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في الجواب عن الوجه المذكور من أنّا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشريعتين، فيبقى الحكم في حقه بالاستصحاب، وفي حق معاصريه ممن كلف بعد نسخ الشريعة بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة.

فهو إنما يقتضي اشتراك الكل في أحكام الشريعة اللاحقة، واستصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة في زمان الشريعة اللاحقة لا يحرز كونه من أحكامها إلّا بناء على الأصل المثبت، وأما القطع بعدم الفرق بين المتعاصرين في الحكم فهو لا ينفع إلّا بناءً على الأصل المثبت أيضاً، لأن التلازم بين حكمي الشخصين واقعي لا ظاهري، وقد تقدم نظيره عند التعرض لعدم الجدوى في الاستصحاب بالإضافة إلى الوقائع المتجددة في

ص: 334

أول الفصل.

الثاني: ما ذكره الحلي قدس سره ودفعه

الثاني: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أنه لا مجال للبناء على بقاء أحكام تلك الشرايع، للعلم بنسخها بشريعتنا المقدسة بجميع أحكامها حتى ما وافقها، وليس بيان الحكم الموافق لأحكام الشريعة السابقة إمضاء لها، كي يتنازع في معنى الإمضاء، بل تشريع حكم مماثل للحكم السابق بعد انتهاء أمد جعله في الشريعة السابقة، كما يقتضيه ما دل على نسخ هذه الشريعة لتلك.

وهو كما ترى! إذ لا معنى لنسخ الحكم الإلهي بمثله.

ومجرد اختلاف الشريعتين لا يصححه بعد رجوعهما إلى مقام الكشف والتبليغ مع وحدة الحاكم.

وما تضمن نسخ شريعتنا لما قبلها لا يراد به نسخ جميع أحكامها بها، بل ليس إلّا منافاتها لها في الجملة وتقديمها في مورد المنافاة، فأحكام تلك الشرايع خاضعة للتبديل بهذه الشريعة وإن لم تتبدل بها كلها لعدم منافاة بعضها لها.

كما قد يشهد به قوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً...»(1).

ومن الغريب ما ذكره من انتهاء أمد جعل الحكم الأول.

إذ لا معنى لنسخ الحكم مع انتهاء أمده، فان النسخ رفع الحكم الثابت.

ص: 335


1- سورة المائدة: 48.

ومنه يظهر أنه لا حاجة للإمضاء حينئذٍ، كي يكون مقتضى الأصل عدمه - خلافاً لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره -.

إذ هو إنما يصح مع اختلاف الحاكم، كإمضاء الشارع للأحكام العرفية، دون مثل المقام مما اتحد فيه الحاكم واختلف المبلغ، بل الحكم المحتاج للإمضاء لا يقبل النسخ، فإن الحكم الذي من شأنه المضي بنفسه يقبل النسخ دون الإمضاء، والذي ليس من شأنه المضي بنفسه يقبل الإمضاء دون النسخ، فلو أحرز الحكم الإلهي بأصالة عدم النسخ أو الاستصحاب ترتب الأثر عليه وإن لم يحرز إمضاؤه بذلك.

نعم، لا بأس بدعوى الإمضاء في مقام الإثبات، الراجع إلى استناد جميع الأحكام لهذه الشريعة باعتبار تضمنها إبلاغ بقائها المستفاد من التصريح بذلك أو من السكوت عن نسخه، وهو المناسب لقوله (ص) في موثق أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام: «يا أيها الناس ما من شيءٍ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيءٍ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه»(1).

ما يظهر من العراقي قدس سره من إحراز الإمضاء بالاستصحاب ودفعه

لوضوح أن أوامره (ص) واردة مورد التبليغ عنه تعالى، ويكفي فيه تبليغ بقاء الأحكام، ولا يتوقف على بيان حدوثها، فلا يقتضي تعدد الحكم ثبوتاً، كي لا يكفي إحراز استمرار الحكم الأول بمقتضى الاستصحاب أو أصالة عدم النسخ، بل لابد من إحراز الإمضاء الذي هو خلاف الأصل.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من إحراز الإمضاء

ص: 336


1- الوسائل ج: 13، باب: 12 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 2، ورواه في تحف العقول عنه (ص) مرسلاً بلفظ قريب من ذلك، ص: 28، طبع النجف الأشرف.

في المقام بالاستصحاب، لأن بقاء الحكم مساوق لتمامية ملاكه الملازم لإمضائه في الشريعة اللاحقة.

فهو كما ترى! مبني على الأصل المثبت، إلّا أن يريد الإمضاء في مقام الإثبات ويرجع كلامه إلى أن الحاجة للإمضاء لأجل معرفة بقاء الحكم الإلهي، فإذا أحرز بالاستصحاب أو أصالة عدم النسخ كفى في تحقق الغرض من الإمضاء.

نعم، لو كان مرجع أصالة عدم النسخ إلى أصالة الجهة أشكل البناء عليه في أحكام الشرايع السابقة مع ابتناء تلك الشرايع على التبشير بشريعتنا، لعدم جريان أصالة الجهة مع تنبيه المتكلم على ما ينافيها فيكون جعل الحكم مجملاً من هذه الجهة، ولا دافع لاحتمال عدم استمراره.

لكن تقدم النسخ لا ينافي أصالة الجهة، كيف ولازمه رجوع النسخ إلى محض الكشف عن حال جعل الحكم في فرض إجماله وعدم ظهوره في شيءٍ، وهو خلاف ظاهر النسخ، بل خلاف ظاهر قوله تعالى في حكاية خطابه لموسى مبشراً بشريعتنا المقدسة وصاحبها الكريم (ص): «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1)، لظهوره في استناد وضع الإصر

ص: 337


1- الأعراف: 157/156.

والأغلال لنبي الرحمة (ص) ولو باعتبار تبليغه للشريعة السمحة، لا أن شريعتهم متضمنة لوضعها عنهم في الوقت المذكور مع جهلهم بذلك وليس منه (ص) إلّا إعلامهم به.

ما ذكره الحلي قدس سره

من عدم نفوذ أحكام الشرائع الأخرى ودفعه

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أن سيرة الفقهاء من الصدر الأول على عدم ملاحظة مصادر التشريع للأديان السماوية الأخرى واقتصارهم على مصادر التشريع الإسلامي من الكتاب المجيد والسنة الشريفة، فيكشف عن عدم نفوذ أحكامها في هذه الشريعة لنسخها وإن احتمل ثبوت مثلها في هذا الدين.

فيندفع: بقرب كون منشئه عدم الوثوق بمصادر التشريع المعروفة للأديان المذكورة، لمعلومية التحريف والابتداع فيها، ولا بحملتها للعلم بتعمدهم إخفاء الحق.

نعم، ما ثبت من أحكامهم في الكتاب والسنة لا يبعد البناء على العمل عليه لو فرض جهل حاله عندنا، وإن كان نادراً، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره عدة فروع وقع الكلام في وجوب البناء عليها.

بل ادعى قدس سره استمرار سيرة المسلمين في أول البعثة على ما كانوا عليه حتى يطلعوا على الخلاف، وإن لم يكن ذلك منه خالياً عن الإشكال، لعدم اطلاعهم غالباً على أحكام تلك الشرايع، لعدم سبق تدينهم بها وعدم اختلاطهم بأهلها وعدم تيسر مصادرها لهم.

نعم، كان لهم بعض الالتزامات من دين إبراهيم عليه السلام تبعاً لقومهم كالحج، وبعض، الأغسال، والختان، ولعل وجه جريهم عليها مع العلم بنسخ شريعة إبراهيم عليه السلام بما بعدها من الشرايع التي لم يلتزم أهلها بهذه

ص: 338

الأمور، هو العلم برجحانها شرعاً، أو إعلام النبي (ص) لهم بعدم نسخها في الشرايع المذكورة وإن ضيعها أهل تلك الشرايع تمرداً عليها أو لتحريفها عندهم.

الثالث: ما نعية العلم الإجمالي من الرجوع للاستصحاب

الثالث: أن العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشرايع مانع من الرجوع في مورد الشك فيه للاستصحاب أو أصالة عدم النسخ.

وقد أجاب عن ذلك غير واحد بانحلال العلم الإجمالي بالظفر بأحكامٍ منسوخة من تلك الشرايع بقدر المعلوم بالإجمال، ويرجع في الباقي للأصل.

المناقشة فيه

وهو كما ترى! فرض لا واقع له، لعدم الاطلاع على أحكام تلك الشرايع كي يعلم بنسخ قسم منها بمقدار المعلوم بالإجمال، لفقد المصادر المعتمدة لها، وما اطلع على نسخه منها قليل جداً لا يصلح لحل العلم الإجمالي المفروض.

العمدة في الجواب

فالعمدة في الجواب عن ذلك: أنه لا أثر للشك في النسخ في مورد العلم بالحكم الفعلي مع الجهل بحكم الشريعة السابقة، لوجوب العمل على الحكم المعلوم، سواء كان باقياً من الشريعة السابقة، أم حادثاً بهذه الشريعة بعد نسخ، الحكم المخالف له في تلك الشريعة ولا في مورد الجهل بالحكمين معاً، وينحصر الأثر له بمورد الجهل بالحكم الفعلي مع العلم بحكم الشريعة السابقة، ومن الظاهر قلة الموارد المذكورة فلا يعلم إجمالا بتحقق النسخ في بعضها، ليمتنع الرجوع في مورد الشك لأصالة عدم النسخ أو الاستصحاب. وقد ذكر ذلك في الجملة شيخنا الأعظم قدس سره.

هذه هي الوجوه المذكورة في كلماتهم، وهي - كما ترى - لا تنهض

ص: 339

بالمنع عن جريان الاستصحاب وأصالة عدم النسخ.

نعم، روى في الكافي عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل أنه قال: إن الله عز وجل بعث نوحاً إلى قومه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» ثم دعاهم إلى الله وحده، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم بعث الأنبياء عليهم السلام على ذلك إلى أن بلغوا محمدا (ص) فدعاهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وقال: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...» فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله الا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، فمن آمن مخلصاً ومات على ذلك أدخله الله الجنة بذلك... فلما استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين جعل لكل نبي منهم شرعةً ومنهاجاً، والشرعة والمنهاج سبيل وسنة... ثم بعث الله محمداً (ص) وهو بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله الا الله، وأن محمدا (ص) رسول الله إلّا أدخله الله الجنة بإقراره، وهو إيمان التصديق، ولم يعذب الله أحداً ممن مات وهو متبع لمحمد (ص) على ذلك إلّا من أشرك بالرحمن. وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً...» إلى قوله تعالى: «إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» أدب، وعظة، وتعليم، ونهي خفيف، ولم يعد عليه، ولم يتواعد على اجتراح شيءٍ مما نهى عنه، وأنزل نهياً عن أشياء وحذر عليها ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها... فلما أذن الله لمحمد (ص) في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً (ص) عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان،

ص: 340

وأنزل عليه الحدود، وقسمة الفرائض، وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها، وأنزل في بيان القاتل...»(1).

وهذا الحديث - كما ترى صريح - في عدم تشريع الأحكام الفرعية إلّا بعد الهجرة تدريجاً، وأن الدين في أوائل البعثة لم يكن إلّا الشهادتين، ولا يلزم المسلم بسواهما، وإنما يندب لمكارم الأخلاق الارتكازية، وهو مستلزم لنسخ جميع أحكام الشرايع السابقة الإلزامية ونحوها من الأمور التعبدية، وليس تشريع الأحكام الموافقة لها أو المخالفة إلّا بعد فترةٍ طويلة.

ما رواه في الكافي من عدم تشريع الأحكام الفرعية قبل الهجرة

وهو وإن كان ضعيفاً سنداً، إلّا أنه مؤيد بما ورد في صحيح أبي بصير ومرسل اللؤلؤي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث إسلام أبي ذر رضى الله بعد تكليم الذئب له وبحثه عن النبي (ص) في مكة ووعده بتصديقه وطاعته في كل ما يأمره به، وأنه دخل عليه (ص) وشهد الشهادتين أمامه ووعده الطاعة له، فقال (ص): «أنا رسول الله يا أبا ذر انطلق إلى بلادك... وكن بها حتى يظهر أمري» قال أبو ذر: «فانطلقت... وبقيت ببلادي حتى ظهر رسول الله (ص) فأتيته»(2)، فإن الظاهر من الحديثين أن تمام الدين الذي أمر (ص) بتبليغه هو الشهادتان.

على أن ذلك هو الموافق للاعتبار، لابتداء الدعوة الإسلامية بين قوم يجهلون أحكام الشريعة السابقة - وهي المسيحية - ولم يألفوا العمل بها، وظروف الدعوة حينئذٍ ٍٍلا تناسب فرض ذلك، ولاسيما مع ضياع أحكامها

ص: 341


1- الكافي 2:28، باب 17 من كتاب الإيمان والكفر حديث: 1.
2- روى الحديثين في البحار باب: إسلام أبي ذر بعد بيان أحوال النبي (ص)، آخر المجلد: 6، طبع كمپاني، وروى الحديث الأول في أمالي الصدوق المجلس الثالث والسبعين، ص: 432، طبع النجف الأشرف، وروي الثاني في روضة الكافي حديث: 457، ص: 297.

حتى على المنتسبين لها سبب التحريف الذي طرأ عليها. بل لابد من تركز الدين كعقيدة واستحكام أصوله في النفوس والمجتمع والاعتراف به كحقيقة ثابتة قبل فرض سيطرته العملية في الحياة بتشريع أحكام العبادات والمعاملات. ولذا كانت التشريعات بلسان التأسيس لا بلسان النسخ والتعديل لأحكام تلك الشريعة.

بل لا إشكال ظاهراً في تأخر تشريع كثير من مهمات الفرائض كالصلاة والزكاة والصوم مع وجود نظائرها في الشرايع السابقة ولم يعرف عن المسلمين العمل عليها في أول البعثة.

بل النظر في كيفية تشريع كثيرٍ من الأحكام - كتحريم الخمر والربا والفرائض والعدد - شاهد بابتناء التشريع على التدرج حتى تكامل، لا على التعديل لما سبق، بنحو يكون في جميع الأوقات تشريع متكامل، بعضه من الشريعة السابقة وبعضه من الإسلام.

تأييده بصحيح أبي بصير وغيره

فمن القريب جداً نسخ الشرايع السابقة بتمام أحكامها العملية ببعثة النبي (ص) ثم تأسيس الشريعة من جديد بعد مرور فترة خالية من الأحكام، قد ترك فيها الناس على ما كانوا عليه في الجاهلية من أعراف وعادات في نظام الحياة. وإن كان بعضها له جذور دينية ممضاة ثبوتاً وإثباتاً من صلى الله عليه وآله.

وإن كان أهل تلك الشرايع ملزمين بأحكامها في الفترة المذكورة إما ظاهراً بمقتضى أصالة عدم النسخ قبل قيام الحجة عندهم على الدين الجديد، أو واقعاً لقاعدة الالزام التي هي قاعدة ثانوية ترجع إلى ثبوت الحكم بعنوان طارئ، لا بمقتضى تشريعه الأولي.

ص: 342

ومن هنا يشكل البناء على بقائها في حق المسلمين وغيرهم ممن لم يتدين بتلك الشرايع أو ثبت عنده نسخها بالإسلام.

ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره تعرض لبعض الموارد التي يبتني الحكم فيها على هذه المسألة وتكون ثمرةً لها، وقد أطال الكلام في مفاد أدلتها بما لا مجال للتعرض، له هنا، بل يوكل للفقه.

ص: 343

ص: 344

الفصل السابع: في الاستصحاب التعليقي

اشارة

من الظاهر أن الشك في بقاء الحكم الفعلي بنحو يقبل الاستصحاب موقوف على سبق اليقين بتحقق تمام ما يحتمل دخله فيه من موضوع وشروط وقيود، إذ مع الشك في تحقق شيءٍ منها رأساً يشك في حدوث الحكم لا في بقائه، فيجري استصحاب عدم الحكم.

نعم، العلم بتحقق بعض ما هو الدخيل في الحكم مستلزم للعلم بالحكم معلقاً على تحقق بقية ما يحتمل دخله فيه، كما هو مفاد القضية الشرطية، فإذا اعتبر في زكاة الذهب والفضة سكهما بسكة المعاملة ومضي الحول عليهما، فمع سكهما بسكة المعاملة قبل مضي الحول يصدق أنه يجب الزكاة فيهما بمضي الحول عليهما.

وحينئذ إذا شك في استمرار مفاد القضية الشرطية المذكورة، لاحتمال دخل أمرٍ كان متحققاً ثم زال، فمع حفظ الموضوع المقوم للاستصحاب، يمكن فرض تحقق موضوع الاستصحاب، بالإضافة إلى القضية التعليقية المتيقنة سابقاً، فإذا احتمل اعتبار تداول السكة فعلاً في وجوب الزكاة في المسكوك، وهجرت السكة بعد التعامل بها، أمكن أن يقال: كان هذا المال

ص: 345

لو حال عليه الحول لوجبت فيه الزكاة فهو كما كان، وإن لم يمكن ذلك بالإضافة إلى القضية الفعلية، لعدم سبق حول الحول المعتبر في فعلية وجوب الزكاة.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بين الأصحاب في جريان الاستصحاب في القضية التعليقية، بنحو يحرز فعلية الحكم في ظرف فعلية الشرط، فيحرز في المثال السابق وجوب الزكاة في المال المذكور بعد حول الحول عليه.

وقد منعه غير واحدٍ لدعوى: أن الحكم في القضية التعليقية لا وجود له قبل وجود ما علق عليه كي يستصحب، بل المستصحب عدمه، لسبق اليقين به قبل وجود الشرط المعلق.

تصدي غير واحد للاستدلال على جريان الاستصحاب بما تقدم من الوجوه

وقد تصدى غير واحدٍ لتقريب جريان الاستصحاب في ذلك للوجوه المتقدمة في الفصل السابق في تقريب جريان الاستصحاب مع الشك في نسخ الحكم بالإضافة إلى الوقائع المتجددة.

بل قد أشرنا هناك إلى أنهم تعرضوا لأكثر تلك الوجوه هنا، وإنما قدمناها هناك للحاجة إليها.

كما أن تقدم ذلك البحث طبعاً - لصلوح الكلام فيه لأن يكون مبنى للكلام هنا - هو الذي دعانا لتقديمه.

وكيف كان، فقد سبق منا أن المجعول حقيقة هو الحكم الفعلي، الذي لا تحقق له قبل تحقق ما علق عليه، وأن العمل يستند إليه، دون الحكم التعليقي الكبروي، أو السببية المنتزعة من ترتب الحكم المسبب على السبب، أو نحوهما مما له نحو من الوجود قبل تحقق المعلق عليه، ولذلك لا مجال لجريان الاستصحاب في المقام.

ص: 346

ما ذكر من أن مبنى الكلام في هذه المسألة ما تقدم في المسألة السابعة

هذا، وظاهر غير واحد أن مبنى الكلام في هذه المسألة هو ما تقدم في تلك المسألة من الكلام في جريان الاستصحاب قبل فعلية الحكم، فإن قيل بجريانه جرى في المقام، وإلّا لم يجر، حتى أنَّ سيدنا الأعظم قدس سره قال في تقريب جريان الاستصحاب في المقام: «وحيث أن صحة الاستصحاب ارتكازية في مثل هذه الأحكام، ولا سيما إذا كان الشك فيها من جهة الشك في النسخ لابد أن يستكشف صحة مبناها أعني: كونه منوطاً بالوجود الذهني».

عدم استلزام جريان الاستصحاب هناك جريانه هنا لوجهين

لكن الظاهر اختلاف المقام عما سبق، وأن عدم جريان الاستصحاب هناك - للزوم كون الحكم المستصحب فعلياً - وإن كان مستلزماً لعدم جريانه هنا - لعدم الفعلية أيضاً - إلّا أن جريانه هناك لا يستلزم جريانه هنا لوجهين..

الأول: مرجع الوجوه هناك إلى جريان الاستصحاب في السببية

الأول: أن مرجع الوجوه المذكورة هناك إلى جريان الاستصحاب في السببية المنتزعة من الحكم - كما هو مفاد الوجه الأول - أو في نفس القضية الإنشائية الكبروية المجعولة، وكلاهما لا ينفع هنا، ضرورة أنه لم يحرز سابقاً أن تمام السبب هو الشرط المتحقق حال الشك - كمضي الحول في مثال الزكاة - بل يحتمل كونه جزء السبب وجزؤه الآخر هو الخصوصية المفقودة - كفعلية التعامل بالمال - كما أن موضوع القضية الإنشائية المتيقنة ليس هو الموضوع الخارجي المحفوظ في حالتي اليقين والشك، كالذهب والفضة الخارجيين، بل هو العنوان الكلي، مع احتمال كون الخصوصية المفقودة قيداً في القضية المذكورة، فلا يجري استصحاب القضية المطلقة، لعدم اليقين بثبوتها ولا المقيدة، لعدم الأثر لها في ظرف فقد القيد.

وبعبارةٍ أخرى: الحكم الإنشائي قبل فعلية تمام ما يؤخذ فيه من موضوع

ص: 347

وقيود وشروط يبقى على إناطته بموضوعه الكلي، وما له من قيود وشروط من دون أن يحمل على الموضوع الخارجي، ولا يكون وصفاً له فعلاً، كي يكون الشك في استمرار الحكم الثابت له، ويكون الشرط خصوص الأمر الزائد عليه، وتكون الخصوصية المحتملة غير مقومة له، بل هو لا يحمل على الموضوع الخارجي إلّا بفعلية تمام ما أُخذ فيه، والمفروض عدم تحقق ذلك في المقام.

ودعوى: أنه مع فعلية الموضوع الواجد للخصوصية المحتملة الاعتبار يكون الحكم فعلياً من جهته ولا يبقى الحكم منوطاً إلّا بالشرط المفقود، فيكون ذلك الموضوع معروضاً لحكمٍ جزئي منوط بذلك الشرط، فمع بقائه يستصحب له الحكم المنوط به وإن تبدلت حاله، كما يستصحب له الحكم الجزئي المنجز.

فإذا كان هناك ذهب مسكوك كان بنفسه موضوعاً بالفعل لوجوب الزكاة المعلق على مضي الحول، كما يكون موضوعاً للملكية المنجزة، فيستصحب الوجوب المذكور له، كما تستصحب الملكية المذكورة.

مدفوعة: بأنه لا معنى للتبعيض في الفعلية، بل فعلية الحكم منوطة بتمام ما أُخذ فيه، وبدونها ليس هناك إلّا حكم إنشائي وارد على العناوين الكلية منوط بتمام ما يكون دخيلاً فيه.

دعوى استصحاب المضمون التعليقي ودفعه

ودعوى: أنه يصدق قولنا: كان هذا المال إن مر عليه الحول وجبت فيه الزكاة مثلاً، فيستصحب المضمون المذكور.

مدفوعة.. أولاً: بعدم إحراز صدق ذلك، إذ مع احتمال دخل رواج المعاملة به في الحكم فالمتيقن صدق القضية المنوطة بذلك أيضا، فالذي

ص: 348

يصدق هو قولنا: كان هذا المال إن مرّ عليه الحول وبقي التعامل به رائجاً، وجبت فيه الزكاة. ومن الظاهر أنه لا أثر لاستصحاب ذلك، بل لو علم بالقضية المطلقة لم يحتج للاستصحاب، للعلم حينئذٍ بوجوب الزكاة في فرض عدم النسخ.

وثانياً: بأن القضية المذكورة ليست شرعية جعلية فعلية أو إنشائية، بل منتزعة من ترتب الحكم على تمام ما أُخذ فيه.

ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض المحققين(1) قدس سره من أنه إن قلنا بأن الشروط المأخوذة في الحكم - كمضي الحول في المثال - قيود مقومة للموضوع، وأن موضوع وجوب الزكاة هو النقد الذي مضى عليه الحول مثلاً امتنع جريان الاستصحاب، لعدم الشك في بقاء الحكم الإنشائي الوارد على الموضوع المقيد بعد فرض عدم النسخ، وعدم إمكان استصحاب الحكم الفعلي، لفرض عدم سبق اليقين به قبل فعلية موضوعه.

وإن قلنا بأنها خارجة عن الموضوع، وقد أنيط بها الحكم زيادة على إناطته به، فموضوع وجوب الزكاة هو النقد، وإن كان مضي الحول عليه شرطاً في ثبوت الحكم له، جرى الاستصحاب بلحاظ الحكم الإنشائي الخاص المتعلق بالموضوع الخاص، للشك في بقائه بعد اليقين بثبوته تبعاً لفعلية موضوعه، وإن لم يجر بلحاظ الحكم الفعلي، ولا بلحاظ الحكم الإنشائي الكلي، لعدم سبق اليقين بالأول وعدم الشك في بقاء الثاني بعد فرض عدم النسخ.

وجه الاندفاع: أنه ليس للشارع إلّا حكم إنشائي واحد وارد على

ص: 349


1- المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سره.

الموضوع الكلي بتمام ما اعتبر فيه، من شروط وقيود، سواء كانت قيوداً للموضوع أم شروطاً في قباله، وليس انحلاله على الموضوعات الخارجية إلّا فرضياً بفرض فعلية تمام ما هو الدخيل في الحكم من شروط وقيود، فمع عدم فعلية شيء منها لا يكون للموضوع حكم إنشائي ثابت له بالفعل، ليستصحب. على أنه لو ثبت له لثبت مشروطاً بتمام ما يعتبر في الحكم، ولعل منه الحالة الزائلة، ولا يعلم ثبوته مطلقاً من جهتها، لينفع استصحابه.

الثاني: قضية معارضة الاستصحاب الفعلي للحكم المشكوك

الثاني: أنه سبق الإشكال في استصحاب الحكم مع الشك في نسخه بمعارضته باستصحاب الحكم الفعلي المضاد.

وقد سبق منّا في دفع المعارضة أن الحكم العملي المجعول إن كان هو الحكم الإنشائي الكبروي والفعلية من شؤون محركيته عقلاً، فاستصحاب الحكم الفعلي المضاد لا يجري في نفسه - لعدم كونه عملياً مجعولاً - كي يعارض الاستصحاب المذكور.

وإن كان هو الحكم الفعلي، والحكم الإنشائي الكبروي كاشف عنه أو مقدمة اعدادية له، فهو المستصحب دون الحكم الإنشائي الكبروي، فلا معارضة على كلا الحالين.

ولا مجال لذلك في المقام، لأن مبنى جريان الاستصحاب هنا ليس على استصحاب الحكم الكبروي، بل على استصحاب الحكم المتوسط في الفعلية، وليس هو بأولى بالاستصحاب من الحكم التام الفعليه فيجريان معاً ويتعارضان، ولا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.

عدم جريان ذلك في القضية التعليقية

نعم بناء على الرجوع في المقام لاستصحاب السببية - وغض النظر عما تقدم من عدم اليقين سابقاً بكون الشرط تمام السبب - يتجه حكومته

ص: 350

على استصحاب الحكم الفعلي المضاد، كما تقدم هناك أيضاً.

تنبيهات: الأول: وجوه الشك في استمرار القضية الشرطية

تنبيهات:

الأول: الشك في استمرار القضية الشرطية للموضوع الخاص..

تارةً: يكون للشبهة الحكمية، كما تقدم في مثال الزكاة.

وأخرى: يكون للشبهة الموضوعية، كما لو ثبت أن هجر السكة مانع من ثبوت الزكاة، وشك في هجر سكة بعد رواجها.

والظاهر عدم الفرق بين القسمين في جريان الاستصحاب، بعد كون الشرطية منحلة من كبرى شرعية.

وإن كان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة الموضوعية - كاستصحاب عدم هجر السكة - مغنياً عن الاستصحاب التعليقي الحكمي، لحكومته عليه.

الثاني: اختلاف موضوع الحكم التعليقي

الثاني: موضوع الحكم التعليقي ومعروضه قد يكون جزئياً مستمراً بنفسه، كالذهب والفضة في المثال المتقدم، وقد يكون كلياً قابلاً للتقييد، كما لو فرض وجوب إنفاق الأب على زوجة ولده الصغير فتزوج الولد برضا أبيه مع الشك في بلوغه، حيث يصدق حينئذٍ قولنا: كان هذا الولد لو تزوج لوجب على أبيه الإنفاق على زوجته.

وفي جريان الاستصحاب هنا - لو فُرض جريانه في القسم الأول - إشكال، لتقييد المتعلق، كالإنفاق، بعدم بلوغ الولد، فمع الشك في بلوغه لا يحرز الموضوع.

نعم، قد يتجه بناءً على ما جروا عليه من التسامح العرفي في موضوع

ص: 351

الاستصحاب، الذي تقدم عدم التعويل عليه.

الثالث: اختصاص الاستصحاب بالأحكام القابلة للجعل

الثالث: لما كان مبنى جريان الاستصحاب التعليقي على أن للحكم المعلق نحواً من الوجود تابعاً للإنشاء قبل وجود ما علق عليه اختص جوازه بالأحكام القابلة للجعل والإنشاء في الجملة في ظرف عدم فعلية موضوعاتها، دون الموضوعات الخارجية، التي لا إشكال ظاهراً في أنه لا واقع لها إلّا بفعلية تمام أجزاء علتها، فلو علم بوجود النار وعدم احتراق الثوب لرطوبته، ثم علم بجفافه، واحتُمِلَ خمود النار حينئذٍ لا مجال لاستصحاب الاحتراق على تقدير الجفاف، لإثبات فعليته حينئذٍ.

وكذا الحال في الأحكام العقلية كالإجزاء ونحوه، أو الأمور الانتزاعية - كالسببية ونحوها - لو لم يكن لها إلّا وجود تعليقي، لو فرض جريان الاستصحاب فيها ذاتاً.

الرابع: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الرابع: ذكر سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه أنه لا ريب في جريان الاستصحاب مع أخذ الخصوصية قيداً في الموضوع، كما لو قيل: الذهب والفضة اللذان مضى عليهما الحول تجب فيهما الزكاة، حتى جعل ذلك مقرباً لجريان الاستصحاب التعليقي، لكشفه عن صحة مبناه، وهو إناطة الحكم بالوجود اللحاظي، الذي تقدم الكلام فيه في الفصل السابق.

وفيه: أن الذي لا ريب فيه عندهم جريان الاستصحاب مع فعلية الحكم لفعلية الموضوع بتمام ما أخذ فيه، أو لكون القضية خارجية، لا فيما إذا لم يوجد الموضوع، أو وجد فاقداً لقيده مع أخذه بنحو القضية الحقيقية التي هي في قوة الشرطية.

وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في تقريب عدم

ص: 352

جريان الاستصحاب التعليقي من عدم الفرق بين أخذ الخصوصية قيداً في الموضوع وأخذها شرطاً للحكم، لرجوع الشرط للموضوع، فيكون من قيوده لا محالة، فمع عدمه لا موضوع للحكم، كي يكون له نحو من الوجود. حيث يظهر منه المفروغية عن عدم جريان الاستصحاب التعليقي مع أخذ الخصوصية قيداً في الموضوع، وأن عدم جريانه مع أخذها شرطاً في الحكم لرجوعه إليه.

هذا، ومن الظاهر أن ما تقدم من بعض المحققين قدس سره في مبنى الكلام في المسألة راجع إلى ثبوت الفرق بينهما، وهو الذي أصر عليه سيدنا الأعظم قدس سره في مسألة العصير الزبيبي.

فقد ذكر في بيان الفرق بينهما أن دخل قيد الموضوع في الحكم من قبيل دخل المعروض في العارض، ودخل الشرط في الحكم من قبيل دخل المقتضي في الأثر.

لكن الفرق المذكور إنما يتم في الأحكام العارضة على الأمور الكلية القابلة للتقييد، كالأحكام التكليفية العارضة لفعل المكلف.

أما الأحكام العارضة للموجودات الخارجية، كالطهارة والنجاسة وحق الزكاة فليس معروضها ارتكازاً إلّا الذات غير المتقومة بالوصف، وليس دخل الوصف في الحكم إلّا لكونه علة له، ولذا تقدم إمكان الاستصحاب بتخلفه مع حفظ الذات. فالقيد في ذلك راجع في الحقيقة للشرط، دون العكس.

نعم، لو أريد من الموضوع مطلق ما له الدخل في الحكم وإن لم يكن معروضاً اتجه القول بدخل الشرط والقيد معاً في الموضوع. ولعله هو مراد

ص: 353

بعض الأعاظم قدس سره.

على أن الفرق الذي ذكره قدس سره بين الشرط والقيد لا أثر له في جريان الاستصحاب، إذ كما لا يكون للعرض وجود قبل وجود موضوعه، كذلك لا وجود للمعلول قبل وجود المقتضي، فلابد في توجيه جريان الاستصحاب من الرجوع لما تقدم من أن للحكم بمجرد جعله نحواً من الوجود وإن لم يكن فعلياً، لعدم فعلية ما أُخذ فيه.

وهو لو تمَّ لم يفرق فيه بين عدم وجود الموضوع - بمعنى المعروض - رأساً، وعدم وجود قيده، وعدم وجود شرط الحكم، لعدم توقف إنشاء الحكم على وجود شيء منها، بل يكفي فيه لحاظها للحاكم. ومن هنا سبق منا إنكار ما ذكره بعض المحققين قدس سره في مبنى المسألة.

وبالجملة: لا فرق بين الشرط وغيره مما يؤخذ في الحكم شرعاً بحيث لا يكون الحكم بدونه فعلياً، بل ليس له إلّا وجود تقديري.

الخامس: ما ذكره الخراساني قدس سره

الخامس: ذكر المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل أن الإشكال في جريان الاستصحاب التعليقي يختص بما إذا كان عدم فعلية الحكم لتعليقه على أمرٍ زائدٍ على الموضوع، كمضي الحول في الزكاة، دون ما إذا كان لعدم وجود الموضوع، حيث لا إشكال في جريان الاستصحاب لإحراز فعلية الحكم بفعلية موضوعه.

لدعوى: أن منشأ الإشكال توهم ثبوت حكم آخر لهذا الموضوع في السابق، فهو المستصحب له دون الحكم التقديري، أما إذا كان الحكم معلقاً على وجود الموضوع، فليس للموضوع حكم آخر ليستصحب.

وفيه: أن منشأ الإشكال في الاستصحاب التعليقي هو أن الحكم

ص: 354

المعلق ليس له وجود حقيقي مورد للأثر قابل للاستصحاب، ولا يفرق في ذلك بين تعليقه على الموضوع وتعليقه على أمرٍ آخرٍ زائد عليه.

وما ذكره في منشأ الإشكال لا أثر له في كلماتهم، وإنما قد يذكر في تقريب معارضة استصحاب الحكم الفعلي المضاد للاستصحاب التعليقي بعد الفراغ عن جريانه في نفسه، لا للمنع من أصل جريانه الذي هو المهم في المقام.

على أنه يمكن جريان نظير ما ذكره في فرض التعليق على الموضوع بلحاظ استصحاب العدم الأزلي، لوضوح أن الموضوع قبل وجوده وإن لم يكن محكوماً بضد الحكم التعليقي، إلّا أنه ليس محكوماً بالحكم التعليقي، فيستصحب عدمه له.

فالذي ينبغي أن يقال: المراد بالموضوع في محل كلامه إن كان هو معروض الحكم، والشك في بقاء الحكم التعليقي لتبدل حاله بما يحتمل دخله، كما لو شك في نجاسة عرق الحيوان الذي كان جلالاً لاحتمال ارتفاع جلله بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية، حيث كان شرط النجاسة - وهو الجلل - محرزاً سابقاً، وإنما لم تكن فعلية لعدم وجود الموضوع - وهو العرق - دخل في ما تقدم في التنبيه الثاني.

الذي ينبغي

أن يقال وإن كان عبارة عن كل ما له الدخل في الحكم، والشك في بقاء الحكم لاحتمال النسخ، فقد تقدم الكلام فيه في الفصل السابق، حيث ظهر بما ذكرناه هناك أن الإشكال في الاستصحاب التعليقي أشد من الإشكال فيه. فلاحظ.

ص: 355

ص: 356

الفصل الثامن: في أصالة تأخر الحادث

الفصل الثامن: في أصالة تأخر الحادث
اشارة

لما كان مفاد الاستصحاب هو التعبد ببقاء الحالة السابقة في زمان الشك واستمرارها فيه فلا يفرق فيه بين الشك في أصل انتقاضها والعلم به في الجملة مع احتمال تأخره، فكما يجري استصحاب حياة زيد لو احتمل حياته يجري استصحابها لو علم موته وشك في تقدمه وتأخره، فيحكم بحياته في زمان الشك، ومجرد العلم بالانتقاض في الجملة لا يمنع من الاستصحاب في زمان الشك، لعموم عدم نقض اليقين بالشك، ولخصوص صحيحة زرارة الثانية الواردة في الشك في حال الدم الذي علم بإصابته للثوب، وأنه هل أصابه قبل الصلاة أو في أثنائها.

نعم، الاستصحاب المذكور لا ينهض بإثبات الانتقاض في الزمان المتأخر، فلو أسلم الوارث يوم الجمعة، وعلم بموت المورث إما يوم الخميس أو السبت، فاستصحاب عدم موته يوم الجمعة لا ينهض بإثبات موته يوم السبت ليترتب أثر موته حين إسلام الوارث.

لأن المتيقن هو كون الحادث - كالموت - في الزمان اللاحق - كيوم السبت - موجوداً، والمستصحب هو عدم حدوثه قبله، وليسا هما متحدين

ص: 357

مع حدوثه في الزمان

دعوى خفاء الواسطة ودفعها

اللاحق، بل ملازمان له، فإثباته بالاستصحاب المذكور يبتني على الأصل المثبت.

ودعوى: خفاء الواسطة، أو عدم التفكيك عرفاً بين التعبد بعدم الحدوث في الزمان السابق والتعبد بالحدوث في الزمان اللاحق.

ممنوعة صغروياً، بل كبروياً أيضاً، كما تقدم في محله مفصلاً.

دعوى تركب الحدوث في الزمان ودفعها

ومثلها دعوى: تركب الحدوث في الزمان اللاحق من الوجود فيه وعدم الوجود في ما قبله، فمع إحراز الأول بالوجدان والثاني بالاستصحاب يتعين ترتيب الأثر، كما هو الحال في سائر موارد ضم الوجدان للأصل في الموضوعات المركبة.

لاندفاعها: بأن ذلك إنما يتم لو كان التركيب مفهومياً، بحيث يكون الموضوع كلا المفهومين بما لهما من الحدود المميزة، أما لو كان التركيب عقلياً تحليلياً مع بساطة الموضوع عرفاً، فلا مجال له، لعدم دخل المستصحب بما له من حدود مفهومية في الأثر حينئذ.

ولا يظن بأحد دعوى التركيب المفهومي في المقام، بل لا مجال لدعوى التركيب بحسب التحليل العقلي أيضاً، بل الظاهر أنه ليس في المقام إلّا محض الملازمة بين موضوع الأثر - وهو الحدوث في الزمان اللاحق - والمفهومين المحرزين بالوجدان والأصل، فيكون الأصل مثبتاً، كما ذكرنا.

وكذا الحال في عنوان التأخر عن زمان الشك أو عن الحادث الآخر - كيوم الجمعة أو موت المورث في الفرض - فإن التأخر كالتقدم والتقارن من العناوين الوجودية الإضافية المنتزعة من نحو حدوث الحادث مع طرف الإضافة، وليس هو متحداً مفهوماً مع عدم حدوثه في زمان الشك - الذي

ص: 358

هو مفاد الاستصحاب - ولا مركباً مفهوماً منه ومن وجوده في الجملة بل هو ملازم لهما، فلا يخرج الاستصحاب بالإضافة إليه عن كونه مثبتاً.

ولا مجال للتعويل عليه بدعوى خفاء الواسطة أو التلازم بين التعبد بمجرى الأصل والتعبد بموضوع الأثر. لما تقدم.

بل لما كان الحدوث في الزمان اللاحق حادثاً مسبوقاً بالعدم أمكن استصحاب عدمه بمفاد ليس التامة - لو فرض كونه مورداً للأثر - لأن اليقين بأصل الحدوث لا ينافي الشك في الحدوث الخاص.

ما ذكره العراقي قدس سره

من المنع

وما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من المنع منه، لأنه لما كان أصل الوجود متيقناً، فالشك في خصوصية الوجود المتأخر ناشئ من حده المنتزع من سبق وجوده بالعدم، وليس الحد المزبور معلوم العدم سابقاً، ليجري فيه الأصل.

دفعه

كما ترى! لأن عدم اليقين سابقاً بعدم الحد المذكور لا ينافي اليقين بعدم المحدود، وهو الوجود الخاص - المفروض كونه موضوعاً للأثر - وهو كاف في استصحابه، لأن المعتبر في استصحاب عدم الشيء اليقين سابقاً بعدمه، والشك لا حقاً في وجوده للشك وجود بعض حدوده - وهو في المقام عدم سبق وجوده بالعدم - وإن لم يحرز عدم ذلك الحد.

على أن الظاهر أن سبق الوجود بالعدم ليس من حدود الوجود المتأخر، بل من لوازمه.

ومنه يظهر إمكان استصحاب عدم كون الحدوث المعلوم، في الزمان اللاحق بمفاد ليس الناقصة، لو فرض كونه مورداً للأثر. غايته أنه يبتني على استصحاب العدم الأزلي الذي تقدم جريانه.

ص: 359

وكذا الحال في عنوان التأخر عن زمان الشك أو عن الحادث الآخر، فيجري استصحاب عدمه بمفاد ليس التامة.

كما يجري استصحابه بمفاد ليس الناقصة من باب استصحاب العدم الأزلي، فيقال: الأصل عدم كون الموت متأخراً عن كذا.

لوضوح أن التأخر منتزع من خصوصيةٍ زائدة على ذات الحادث يحتمل مقارنتها لوجوده، وليس من لوازم ماهيته، ليمتنع استصحاب عدمه بلحاظ حال ما قبل وجوده.

وهذا كله ظاهر، وإن أطال بعضهم فيه نقضاً وإبراماً بما لا مجال لمتابعتهم فيه.

وإنما المهم في المقام هو الكلام فيما لو علم بحدوث حادثين وشك في المتقدم منهما.

إما مع عدم تضادهما وإمكان اجتماعهما في الوجود، كإسلام الوارث وموت المورث.

أو مع تضادهما، كالطهارة والحدث، حيث يعلم بارتفاع المتقدم منهما وعدم ترتب أثره، وأن المتأخر منهما هو الباقي الذي يترتب أثره.

في المقام مبحثان

ففي المقام مبحثان..

ص: 360

المبحث الأول: في الحادثين غير المتضادين
اشارة

ومن الظاهر جريان استصحاب عدم كل منهما في زمان الشك ذاتاً بلحاظ عمود الزمان مع قطع النظر عن إضافة زمان الشك للحادث الآخر، لو فرض ترتب الأثر بمحض ذلك، لتمامية أركان الاستصحاب فيهما معاً، فإذا علم بموت زيد وعمرو، وتردد الأمر بين موت زيد يوم الخميس وعمرو يوم السبت، والعكس، كان مقتضى الاستصحاب حياة كل منهما وعدم موته إلى يوم الجمعة لو كان له أثر.

غاية الأمر أنه يعلم إجمالاً بكذب أحد الأصلين. وهو إنما يقتضي سقوطهما بالمعارضة لو لزم مخالفة علم إجمالي أو تفصيلي بتكليف منجز، كما تقدم تفصيل الكلام فيه في أوائل مباحث الشك في تعيين المكلف به.

والذي ينبغي الكلام فيه هو استصحاب عدم أحدهما في زمان حدوث الاخر الذي هو من أزمنة الشك. ويفترق عما سبق بدخل إضافة زمان الشك للحادث الآخر في الأثر وله صورتان..

الأولى: في العدم النعتي

الأولى: أن يكون موضوع الأثر هو العدم النعتي، الذي هو مفاد القضية الموجبة المعدولة المحمول، كما لو كان موضوع الأثر هو موت

ص: 361

الابن غير الحاصل عند موت الأب.

والظاهر عدم جريان الاستصحاب لإحرازه، كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره إذ استصحاب عدم موت الابن عند موت الأب لا يحرز اتصاف موت الابن بعدم الحصول عند موت الأب إلّا بناء على الأصل المثبت.

ما استشكله السيد الأعظم قدس سره

كما لا مجال لإجراء الاستصحاب في نفس اتصاف موت الابن بعدم الحصول عند موت الأب، لتوقفه على اليقين به سابقاً، وهو غير متيقن لا بعد حصول موت الابن، لعدم العلم بحاله حينئذ، ولا قبله، لأن اتصافه بذلك فرع وجوده، فإن الذي لا يتوقف على وجود الموضوع هو مفاد السالبة المحصلة - ولذا أمكن استصحاب العدم الأزلي - لا مفاد الموجبة المعدولة، وإن كانا متلازمين في ظرف وجود الموضوع. بل يتعين في محل الكلام استصحاب عدم الاتصاف الثابت أزلاً بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع.

واستشكل في ذلك سيدنا الأعظم قدس سره..

تارةً: بأن اختلاف السلب المحصل والايجاب المعدول في المفهوم لا يوجب الفرق في ما نحن فيه.

وتوقف الإيجاب على وجود الموضوع خارجاً ممنوع، بل يعتبر وجود الموضوع في ظرف الاتصاف ولو كان ذهناً، ضرورة صدق قولنا: شريك الباري ممتنع، ونحوه من القضايا الموجبة التي يمتنع وجود موضوعاتها خارجاً.

وأخرى: بأن الفرق بين السلب المحصل والإيجاب المعدول إنما هو بمحض الاعتبار، مع كونهما متلازمين، فكلما صدق قولنا: زيد ليس

ص: 362

بقائم، صدق قولنا: زيد لا قائم، فمتى كان الأول له حالة سابقة مصححة للاستصحاب كان الثاني كذلك. غاية الأمر أن النسبة السلبية تلحظ في الأول بمعناها الحرفي، وفي الثاني بمعناها الاسمي.

دفع الإشكال المذكور

ويندفع الأول: بأن صدق الموجبة مع عدم وجود الموضوع خارجاً إنما يمكن في القضايا الذهنية التي يكون موضوعها ذهنياً، دون القضايا التي يكون ظرفها الخارج، ويكون موضوعها خارجياً كما في غالب القضايا الشرعية، لوضوح أن الموت الذي هو سبب الإرث مثلاً هو الموت الخارجي المتصف خارجاً بالعدم الخاص، وليس ظرف الاتصاف به هو الذهن.

نعم، إذا علق الحكم الشرعي على مفاد قضية ذهنية ظرفها الذهن تم ما ذكره قدس سره، كما لو قيل: إذا كان غسل ما تحت الجبيرة متعذراً أجزأ المسح عليها، فإن استصحاب تعذر غسل ما تحت الجبيرة كاف في إثبات الحكم وإن لم يكن للغسل وجود خارجي.

وبذلك يندفع الثاني، فإن الموجبة المعدولة إنما تلازم السالبة المحصلة فيما لو كانتا ذهنيتين، وكان موضوعهما ذهنياً، أما لو كانتا خارجيتين وكان موضوعهما خارجياً - كما هو حال غالب القضايا المستصحبة التي تنقح موضوع الأحكام الشرعية - فالمعدولة أخص، لعدم صدقها مع عدم وجود الموضوع، لأن اتصافه خارجاً بالعدم الخاص، الذي هو موضوع الأثر، فرع وجوده خارجاً بخلاف السالبة المحصلة، حيث تصدق مع عدم وجود الموضوع.

في العدم المحمولي

الثانية: أن يكون موضوع الأثر هو العدم المحمولي الذي هو مفاد القضية السالبة المحصلة الذي يكون مقارناً لحدوث الحادث الآخر لا

ص: 363

وصفاً له، كما لو ترتب الأثر على عدم إسلام الوارث حين موت المورث. وقد وقع الكلام في جريان الاستصحاب لإحراز العدم المذكور وعدمه، وأنه هل يصح استصحاب عدم إسلام الوارث إلى حين موت المورث مثلاً أولا؟

ومن الظاهر أن الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر ينشأ..

تارة: من الجهل بتاريخهما معاً.

وأخرى: من الجهل بتاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الآخر.

الكلام في مقامين

فالكلام في مقامين..

الأول: في الجهل بالتاريخين معاً

الأول: في الجهل بالتاريخين معاً، كما لو تردد الأمر بين إسلام الوارث يوم الخميس مع موت المورث يوم الجمعة وبالعكس.

وظاهر شيخنا الأعظم قدس سره تمامية أركان الاستصحاب في كل من الحادثين، فيستصحب عدمه في زمان الآخر. فمع اختصاص أحدهما بالأثر يجري استصحابه، ومع ترتبه على كلٍ منهما يسقط الاستصحاب فيهما معاً بالمعارضة.

وهو مبني على قصور دليل الاستصحاب عن شمول أطراف العلم الإجمالي، للزوم التناقض ونحوه.

أما بناء على عدم قصوره عنها، وأن المانع هو لزوم المخالفة العملية للتكليف المنجز - كما تقدم منا في أوائل مبحث الشك في المكلف به - فيختص سقوطهما في المقام بما إذا لزم ذلك، دون ما إذا لم يستلزم ترتيب أثر كلٍ منهما مخالفة عملية، كما في موت المتوارثين، فإن مقتضى استصحاب عدم موت كلٍ منهما حين موت الآخر تورثيه منه، ولا يلزم من توريث كلٍ

ص: 364

منهما من الآخر مخالفة عملية في حق وارث كلٍ منهما.

وجها المنع من جريان الاستصحاب

هذا، وقد تصدى غير واحد للمنع من جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ، لدعوى قصور دليله ذاتاً عن شمول المقام.

والمذكور في كلامهم وجهان..

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ونسب لغير واحد من مشايخه من دعوى: عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

توضيح ما ذكره قدس سره وتوضيح ذلك: أنه تقدم عند الكلام في أركان الاستصحاب أنه لابد من اتصال زمان الشك بزمان اليقين، بحيث يكون المشكوك استمراراً للمتيقن، ولا يكفي تقدم زمان اليقين على زمان الشك مع انفصالهما بزمانٍ آخر، نظير الطفرة. وعليه لابد من إحراز الاتصال، إذ مع عدم إحرازه يكون الرجوع للاستصحاب تمسكاً بالعموم في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي هو غير جائزٍ بلا كلام.

وهو غير محرز في المقام، لأن عدم أحد الحادثين حين حدوث الآخر وإن كان مشكوكاً فيه بعد اليقين به سابقاً، إلّا أنه لما كان الشيء معلوم الحدوث في الجملة - قبل الحادث الآخر أو بعده - فمن المحتمل أن يكون زمان حدوثه فاصلاً بين زمان الشك المذكور وزمان اليقين المفروض.

مثلاً لما فرض تردد زمان كل من موت الوارث وإسلام المورث بين الخميس والجمعة، فزمان اليقين بعدم إسلام الوارث هو يوم الأربعاء، وهو إنما يكون متصلاً بزمان الشك المفروض - أعني زمان موت المورث - إذا كان الزمان المذكور هو يوم الخميس، أما إذا كان هو يوم الجمعة كان منفصلاً عنه بزمان حدوثه وهو يوم الخميس، فلا يحرز اتصال أحدهما بالآخر.

ص: 365

ومنه يظهر أن ما ذكره في عنوان هذا الوجه أولى مما ذكره معاصره السيد الطباطبائي قدس سره في العروة الوثقى من دعوى عدم الاتصال بين الزمانين.

لوضوح أن الاتصال محتمل، لا مقطوع العدم.

إن قلت: زمان موت الوارث إن كان هو يوم الخميس كان متصلاً بزمان اليقين، وإن كان هو يوم الجمعة كان متصلاً بيوم الخميس المتصل بزمان اليقين، وذلك كاف في صحة الاستصحاب فيه، إذ لا يعتبر في الاستصحاب في زمان ليترتب عليه الأثر اتصاله بنفسه بزمان اليقين، بل يكفي اتصاله بزمان شك مثله متصل بزمان اليقين، فإذا علم بالطهارة صباحاً، وشك في انتقاضها ضحىً أمكن استصحابها إلى وقت صلاة الظهر، لاتصال الوقت المذكور بالضحى الذي هو متصل بزمان اليقين. فالمقام نظير ما لو علم بنجاسة الجسم صباحاً، وعلم بملاقاته برطوبة ضحىً أو ظهراً فتستصحب نجاسته إلى زمان الملاقاة المردد بين الضحى المتصل بنفسه بزمان اليقين والظهر المتصل بالضحى المتصل بزمان اليقين.

قلت: إنما يكفي اتصال زمان الشك الذي هو مورد الأثر بزمان شك متصل بزمان اليقين إذا أريد بالاستصحاب جره منه إليه، لا من زمان اليقين ابتداءً إليه، كما في مثال الطهارة المتقدم، حيث يكون الغرض من استصحابها إلى وقت الظهر البناء على استصحابها من الصبح إلى الضحى إلى الظهر، لا استصحابها من الصبح إلى الظهر رأساً نظير الطفرة.

وعليه يصح الاستصحاب في مثال الملاقاة المذكور، لوضوح أن زمان الملاقاة لو كان هو الظهر كان المقصود بالاستصحاب التعبد ببقاء النجاسة إليه من الصبح بعد عبورها على الضحى.

ص: 366

أما في المقام فلا يراد باستصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث المردد بين الخميس والجمعة إلّا البناء على عدم الإسلام في الزمان المذكور بعنوانه على ما هو عليه من التردد من دون أن يتضمن البناء على بقائه إلى زمان الموت حتى أنه لو كان هو يوم الجمعة كان عابراً إليه من يوم الخميس، للقطع بعدم بقاء عدم الإسلام ليوم الجمعة، بل هو منتقض في أحد اليومين.

ومنه يظهر أن عدم الاتصال بين زماني اليقين والشك لا يتوقف على فصل زمان يقين بانتقاض الحالة السابقة بينهما، ليتجه المنع من تحقق ذلك في المقام، بل يكفي فيه عدم اتصال الزمان المتعبد بوجود المتيقن فيه مع الزمان المتيقن وجوده فيه، لفصل زمان لا يتعبد بوجود المتيقن فيه، وإن كان زمان شك أيضاً فلا يكون التعبد بالمتيقن في مورد الأثر تعبداً بالبقاء، وهذا محتمل في المقام.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في رده الخراساني قدس سره

وبهذا التقريب يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا من الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره بأنه لا يعتبر في الاستصحاب سبق صفة اليقين على الشك، فضلاً عن اتصالهما، بل المعتبر سبق المتيقن على المشكوك، وهو في المقام حاصل، وإن انفصلت صفة الشك ولم تحصل إلّا بعد مضي الزمانين الإجماليين المعلوم حدوث الحادث الآخر في أحدهما.

ما قرر به مراد الخراساني قدس سره

إذ فيه: أنه لا يظهر من المحقق الخراساني قدس سره إرادة اعتبار اتصال زمان حدوث الشك بزمان تحقق اليقين، بل اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن، الذي تقدم عدم الإشكال في اعتباره، وهو غير محرزٍ بالتقريب المتقدم.

هذا، وقد ذكر غير واحدٍ في تقرير مراد المحقق الخراساني قدس سره أن عدم

ص: 367

إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين إنما هو لاحتمال الانفصال بينهما بزمان اليقين بانتقاض الحالة السابقة، لفرض العلم بانتقاض العدم السابق بالوجود إما سابقاً على وجود الحادث الآخر أو لاحقاً له.

ففي المثال المذكور لما كان من المحتمل وقوع إسلام الوارث المعلوم يوم الخميس قبل موت المورث احتمل كونه فاصلاً بين زمان الشك في إسلام الوارث - وهو زمان موت المورث - وزمان اليقين بالعدم - وهو يوم الأربعاء - فلا يصح استصحاب عدم الإسلام في زمان موت المورث، لعدم إحراز كون البناء على الإسلام فيه نقضاً لليقين بالشك، بل يحتمل كونه نقضاً لليقين باليقين.

ما أورد عليه من الوجوه

وقد أورد عليه غير واحدٍ بوجوهٍ متعددةٍ تبتني على تقرير كلامه بالوجه المذكور.

عمدتها: أنه مبني على قيام العلم بالخارج بنحو يقبل التردد والشك، وهو خلاف التحقيق، بل هو كالشك من الصفات الوجدانية التابعة للصور الذهنية، وليس لها وجود واقعي محفوظ يقبل الشك، فإن كانت موجودة كانت معلومة، وإلّا فهي معلومة العدم.

فزمان إسلام الوارث المعلوم بالإجمال وإن احتمل انطباقه على يوم الخميس، إلّا أنه لا يحتمل انطباقه عليه، بما هو زمان اليقين بالإسلام، بل ليس هو إلّا زمان الشك فيه، وليس المعلوم إلّا الزمان الإجمالي على ما هو عليه من تردد، فلا يكون البناء على إسلام الوارث حين موت المورث من نقص اليقين قطعاً، بل ليس هو إلّا من نقض اليقين بالشك.

لكن لم يتضح من كلام المحقق الخراساني قدس سره إرادة ما ذكروه في

ص: 368

تقرير كلامه، إذ هو لم يذكر إلّا عدم إحراز الاتصال بين الزمانين، دون احتمال الانفصال بينهما بزمان اليقين بانتقاض الحالة السابقة بالوجه الذي ذكروه، كي يرد عليه ما سبق. ولعله اعتمد في وجه احتمال الانفصال على ما ذكرنا، وهو أجنبي عن ذلك جداً، ولا يبتني على قيام العلم بالخارج وقابليته للوجود الواقعي المشكوك.

الثاني: وجوه الشك في بقاء شيء في زمان الآخر

الثاني: أن الشك في بقاء شيءٍ في زمان الآخر..

تارةً: يكون للشك في امتداد ذلك الشيء، كما لو علم بموت المورث يوم الجمعة وشك في أن إسلام الوارث كان ليلة الجمعة أو السبت.

وأخرى: يكون للشك في تقدم ذلك الشيء الآخر وتأخره، كما لو علم بإسلام الوارث ليلة الجمعة، وشك في أن موت المورث كان يوم الخميس أو الجمعة.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الصورة الأولى.

وأما الثانية، فالظاهر عدم جريان الاستصحاب فيها، لأن المنساق من أدلة الاستصحاب المناسب لارتكازية مضمونه هو التعبد ببقاء المشكوك واستمراره وطول أمده، لا محض وجوده في زمان الشك بما له من عنوان، وإنما يحرز في الصورة الأولى كونه مستمراً حين الحادث الآخر لأجل تعيين أمد ذلك الحادث لا لوفاء الاستصحاب بذلك، بل ليس مفاد الاستصحاب إلّا التعبد ببقاء المستصحب في الزمان الخاص بذاته لا بعنوانه المذكور.

وعليه لو كان منشأ الشك هو الجهتين معاً، كما هو الحال في المقام، فالظاهر أن الاستصحاب إنما ينفع في إبقاء المشكوك وإثبات امتداده تعبداً، ولا ينهض بإحراز خصوصية وجوده في زمان الحادث الآخر إذا لم تكن من

ص: 369

شؤون امتداده، ففي المثال المتقدم يحكم بعدم إسلام الوارث يوم الخميس، للشك في امتداده إليه، ويترتب عليه أثره، إلّا أنه لا ينفع في إحراز عدمه حين موت المورث، لعدم إحراز موت المورث في اليوم المذكور.

بل الخصوصية المذكورة تنشأ من الشك في امتداد عدم الإسلام والشك في تقدم موت المورث معاً، والاستصحاب أجنبي عن الجهة الثانية.

والظاهر أن هذا الوجه متين في نفسه، مطابق للمرتكزات في مفاد الاستصحاب، وقد نسب لبعض الأعيان المحققين قدس سره وما تضمنه تقرير درسه قريب منه، وإن تضمن الإشارة لما ذكرناه في الدفاع عن الوجه السابق. فراجع وتأمل جيداً.

المقام الثاني: في الجهل بتأريخ أحد الحادثين

المقام الثاني: في الجهل بتاريخ أحد الحادثين دون الآخر، ولا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب بالإضافة إلى مجهول التاريخ، فيستصحب عدمه في زمان الآخر، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه، وعدم توجه أحد الوجهين السابقين عليه، كما يظهر بالتأمل فيهما.

نعم، بناءً على أن مرجع دعوى عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين إلى احتمال انفصالهما بالزمان الإجمالي المعلوم وقوع الحادث فيه بنحوٍ يحتمل الفصل بزمان اليقين بالانتقاض، فيكون النقض باليقين لا بالشك، يتعين جريان ذلك في المقام، لفرض العلم بوقوع مجهول التاريخ إما قبل زمان الحادث الآخر المعلوم التاريخ أو بعده، كما في مجهولي التاريخ.

لكن تقدم عدم تمامية التقرير المذكور لهذا الوجه، وأن الذي يتم هناك هو التقرير الأول الذي لا يجري هنا.

ص: 370

وأما بالإضافة إلى معلوم التاريخ فلا يجري استصحاب عدمه في زمان الآخر المجهول، فإذا علم بإسلام الوارث ليلة الجمعة وبموت المورث إما يوم الخميس أو الجمعة، لم يجر استصحاب عدم إسلام الوارث إلى حين موت المورث، لجريان الوجهين السابقين فيه.

أما الأول فلاحتمال كون زمان الشك المذكور - وهو زمان موت المورث - يوم الجمعة، فينفصل عن زمان اليقين بعدم الإسلام - وهو يوم الأربعاء - بيوم الخميس، ولا يراد بالاستصحاب جره من زمان اليقين المذكور إلى زمان الشك - وهو يوم الجمعة - عابراً بالزمان الفاصل بينهما لو كان، للعلم بعدم استمراره كذلك وانتقاضه ليلة الجمعة.

وأما الثاني فلوضوح عدم الشك في امتداد عدم الإسلام، للعلم بتاريخه، وإنما الشك في وجوده حين موت المورث، لاحتمال تقدم موت المورث لا غير.

فالمقام أولى بجريان الوجه المذكور من المقام السابق، كما يظهر بملاحظة ما سبق في تقريره.

ولولا هذان الوجهان أشكل المنع من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ مع فرض سبق اليقين بعدمه، مع الشك في وجوده حين حدوث مجهول التاريخ.

ومنه يظهر الإشكال في كلام شيخنا الأعظم قدس سره وغيره ممن حكم بجريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ، ومنع منه في معلوم التاريخ.

إذ بملاحظة الوجهين المذكورين يتعين المنع من الاستصحاب في المقامين، ومع الغض عنهما يتعين جريانه فيهما معاً.

ص: 371

ولعله لذا ذهب بعض مشايخنا إلى جريانه في معلوم التاريخ، فيستصحب عدمه في زمان الآخر، وإن لم يمكن استصحاب عدمه في عمود الزمان، لفرض العلم بتاريخه. فراجع كلامهم وتأمل جيداً.

ص: 372

المبحث الثاني: في الحالتين المتضادتين
اشارة

كالطهارة والحدث، والطهارة والنجاسة.

وليس الغرض هنا إحراز عدم أحدهما حين حدوث الآخر، للقطع به بعد فرض التضاد، بل تشخيص الوظيفة الفعلية، للعلم باستمرار كل منهما لولا الرافع المستلزم للعلم ببقاء المتأخر منهما ولزوم العمل عليه، والجهل بالمتأخر منهما هو الذي أوجب الجهل بالباقي منهما.

وله صورتان..

الصورة الأولى: جهل تأريخ كل منها

الأولى: أن يجهل تاريخ كل منهما، كما لو علم بإصابة البول للأرض، إما في يوم الخميس أو الجمعة، وبإصابة المطر لها في أحد اليومين أيضاً قبل إصابة البول أو بعدها.

والمعروف - كما قيل - جريان الاستصحاب في كلٍ منهما ذاتاً، وسقوطه بالمعارضة، لاستلزامه التعبد ظاهراً بالضدين الراجع إلى التعبد بالنقيضين، وهو ممتنع، كجعلهما واقعاً.

وجوه عدم جريان الاستصحاب ذاتاً فيه

لكن ذهب غير واحدٍ إلى عدم جريان الاستصحاب ذاتاً، والمذكور في كلامهم وجوه..

ص: 373

الأول ما سبق من العراقي قدس سره

الأول: ما سبق من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الاستصحاب إنما يجري بلحاظ الشك في امتداد المستصحب، لا بلحاظ جهات أخر، والشك في المقام ليس من هذه الجهة، لأن المستصحب إن كان حادثاً في الزمان الأول فهو مرتفع في الثاني قطعاً، وإن كان حادثاً في الثاني فهو باقٍ قطعاً، وعلى كلا التقديرين لا شك في امتداده، وإنما الشك في تقدمه وتأخره، والاستصحاب لا ينفع في ذلك.

وق * ما ستشكله السيد الحكيم قدس سره فيه

د استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه بقوله: «لا ريب في حصول الشك في امتداد المجهول التاريخ، وإن كان السبب فيه الشك في التقدم والتأخر. وكون السبب ذلك لا يضر في حصول شرط الاستصحاب وقوامه».

وهذا بخلاف ما سبق، لأن الغرض من الاستصحاب هناك ليس إحراز الامتداد فقط، بل إحراز نحو نسبة المستصحب للحادث الآخر، وهي لا تتقوم بالامتداد، بل تنشأ منه ومن نحو وقوع الحادث الآخر، ولا دخل للاستصحاب بذلك. فالمقام نظير ما تقدم منه من جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في عمود الزمان.

الثاني: ما ذكره العراقي قدس سره أيضاً

الثاني: ما ذكره قدس سره أيضاً من أن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المستصحب وارتفاعه في الزمان المتصل بزمان اليقين بحدوثه، بحيث يكون هناك زمان متصل بزمان اليقين بالحدوث يدور الأمر فيه بين البقاء والارتفاع، ولا مجال لذلك في المقام، إذ في يوم الجمعة يدور الأمر بين الحدوث والارتفاع، وفي يوم السبت يدور الأمر بين البقاء وعدم الوجود، لعدم الارتفاع فيه، بل في يوم الجمعة.

ص: 374

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا شاهد على الدعوى المذكورة، بل يكفي الشك في البقاء ولو مع اختلاف زمانه عن زمان الارتفاع المحتمل، كما في المقام، لإطلاق قولهم عليهم السلام: «لأنك كنت على يقين فشككت..».

وأما ما استشهد به سيدنا الأعظم قدس سره لمنع الدعوى المذكورة من أن لازمها عدم جريان الاستصحاب في ثاني أزمنة احتمال الارتفاع في سائر الموارد، فلو علم بنجاسة الأرض يوم الخميس واحتمل تطهيرها يوم الجمعة، لا مجال لاستصحابها يوم السبت، لعدم احتمال الارتفاع فيه، بل في ما قبله.

فيمكن الجواب عنه: بأن مراد المدعي اعتبار كون مبدأ زمان الشك المتصل بزمان اليقين مردداً بين البقاء والارتفاع، لا أنه بتمام أجزائه مردد بينهما، وهو حاصل في المثال المذكور، للتردد بين البقاء والارتفاع يوم الجمعة، بخلاف المقام، حيث لا يمكن فيه فرض زمان محتمل للأمرين.

الثالث: عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين

الثالث: أن الظاهر من دليل الاستصحاب أن لو رجعنا القهقرى من زمان الشك في وجود المستصحب لوصلنا إلى زمان تفصيلي يعلم بوجود المستصحب فيه، وهذا المعنى غير حاصل في مجهول التاريخ بالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية، كيوم الخميس والجمعة والسبت في المثال.

وأما بالنسبة إلى الزمان الإجمالي المتصل بزمان الحدوث على إجماله فالاتصال وإن كان حاصلاً، إلّا أنه إنما يقتضي صحة الاستصحاب بالإضافة إليه على إجماله، من دون أن ينطبق على زمان تفصيلي بعينه.

وحينئذٍ لا يترتب إلّا أثر الوجود في الزمان الإجمالي لو فرض، دون مثل صحة الصلاة وجواز الدخول في المسجد وعدمهما في استصحاب

ص: 375

الطهارة أو الحدث أو النجاسة، فإنها من آثار وجود أحد هذه الأمور في الزمان التفصيلي الخاص الذي تقع فيه الصلاة والدخول.

قال المقرر في نهاية الأفكار: - بعد أن أطال في بيان ذلك - «وقال الأستاذ قدس سره: إن المحقق الخراساني قدس سره في سالف الزمان في مجلس بحثه قرر شبهة الانفصال بمثل ما ذكرناه، ولكنه قررها في الكفاية من جهة شبهة الفصل باليقين الناقض».

ما أورده العراقي على الخراساني قدس سره في ذلك

ويرد عليه ما أورد على سابقه من منافاته لإطلاق الأدلة.

مضافاً إلى النقض عليه: بأن لازمه امتناع الاستصحاب في الزمان التفصيلي فيما لو تردد حدوث المستصحب بين زمانين، واحتمل انعدامه في ثاني أزمنة حدوثه، بحيث لو كان قد حدث في أول زماني التردد لم يبق إلى الثاني منهما، كما لو علم بتطهير الأرض يوم الخميس أو الجمعة مع احتمال تنجسها في مساء يوم تطهيرها، فلا مجال بناء على ذلك لاستصحاب الطهارة في زمان الشك التفصيلي، كيوم السبت، لعدم اتصاله بزمان شك تفصيلي، وإنما يستصحب في زمان الشك الإجمالي، كاليوم الثاني من وقوع النجاسة أو الثالث منه، وقد فرض عدم انطباقه على الزمان التفصيلي.

محاولته دفع النقض المذكور

وقد حاول قدس سره دفع النقض المذكور بوجهين..

أولهما: أن بناءهم على جريان الاستصحاب في مثله ليس باعتبار الأزمنة التفصيلية، بل باعتبار الأزمنة الإجمالية، ففي الزمان التفصيلي الثاني الذي يحتمل حدوثه فيه يعلم بحصول الأمر المستصحب إما وجداناً أو تعبداً، ويستصحب منه إلى بقية الأزمنة التفصيلية، ففي المثال المذكور يعلم بالطهارة يوم الجمعة إما وجداناً أو تعبداً، فيستصحب إلى يوم السبت وما

ص: 376

بعده.

المناقشة فيه

وفيه - مع أنه مبني على نحو من التكلف في تطبيق دليل الاستصحاب -:

أن مبنى كلامه قدس سره على عدم انطباق الأزمنة الإجمالية على التفصيلية، فلا مجال لفرض العلم في الزمان التفصيلي الثاني بحصول الأمر المستصحب إما وجداناً أو تعبداً.

وإلّا أمكن في المقام دعوى: أنه يكفي الاستصحاب بلحاظ اليوم الثاني والثالث لحدوث المستصحب على إجماله، فيعلم حينئذٍ بوجوده تعبداً في يوم السبت - في المثال السابق - لأنه إما ثالث زمان الحدوث أو ثانيه.

والعلم بارتفاع المستصحب على تقدير كونه الثالث واقعاً لا ينافي الشك في بقائه في الثالث على إجماله، ولذا لا إشكال ظاهراً في جواز استصحابه في الثالث على إجماله لو فرض ترتب الأثر على ذلك.

ومنه يظهر حال ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في دفع النقض المذكور على نظير الوجه المذكور من أن الزمان الثالث - كيوم السبت - يعلم بصحة الاستصحاب إليه، إما لانطباق ثالث زمان الحدوث الإجمالي عليه، أو لانطباق ثاني زمان الحدوث عليه.

دعوى إمكان الاستصحاب في مفروض النقض

ثانيهما: أنه يمكن دعوى جريان الاستصحاب التقديري في مفروض النقض بالإضافة إلى الزمان التفصيلي الأول الذي يحتمل حدوثه فيه، فيقال في المثال المذكور: إن كانت الطهارة حاصلة يوم الخميس فهي باقية ليوم الجمعة بالاستصحاب، فيعلم بالطهارة يوم الجمعة إما وجداناً أو تعبداً، ويستصحب منه إلى ما بعده من الأزمنة التفصيلية.

ولا مجال لذلك في المقام، إذ على تقدير وقوع المتيقن في الزمان

ص: 377

الأول يعلم بارتفاعه في الزمان الثاني.

المناقشة فيه

وفيه: - مع أنه كالسابق في ابتنائه على نحو من التكلف - يبتني على أن موضوع الاستصحاب ثبوت المستصحب واقعاً، لأنه أمر قابل للجهل، فيناط الاستصحاب بوجوده، إذ لو كان موضوعه اليقين به - كما تقدم تقريبه في أول الكلام في أركان الاستصحاب - امتنع الاستصحاب التقديري، لعدم اليقين بالمستصحب.

ودعوى: حصول اليقين المنوط، كما يظهر من كلامه..

غريبة، لوضوح أن اليقين المأخوذ في الاستصحاب هو اليقين الخارجي الحقيقي، وهو لا يقبل وجوداً منوطاً غير فعلي، ولا مجال لقياسه بالأحكام الشرعية التي قيل: إن لها وجوداً منوطاً، لأنها أمور جعلية خاضعة لسلطان الجاعل، بخلاف الأمور الخارجية التابعة لأسبابها الفعلية.

الرابع: ما ذكره المشكيني قدس سره

الرابع: ما ذكره بعض محشي الكفاية من أن ظاهر أخبار الاستصحاب تعلق الشك بالمتيقن على كل تقدير، وكل من الحالتين ليس كذلك، للقطع بارتفاعه على تقدير وقوعه أولاً، وببقائه على تقدير وقوعه متأخراً.

المناقشة فيه

وفيه: - مع أن مقتضاه عدم تعلق الشك أصلاً، وجريانه فيما لو علم بتاريخ إحداهما - أن ذلك إنما يجري في العناوين التي تتحمل وجوداً واقعياً تابعاً لوجود الشرط واقعاً، كالاحتراق التابع لوجود النار، دون مثل اليقين والشك من الأمور الوجدانية المنوطة بالوجود العلمي للشرط، لا الواقعي، فاليقين بالارتفاع أو البقاء في المقام ليس منوطاً بالسبق أو اللحوق الواقعي، بل بالعلم بأحد الأمرين بعينه، فمع فرض التردد بينهما لا يقين بشيء منهما، بل ليس إلّا الشك الذي هو موضوع الاستصحاب، وإلّا لم يبق للاستصحاب

ص: 378

مورد، لأنه على تقدير تحقق منشأ الشك يقطع بالارتفاع، وعلى تقدير عدمه يقطع بالبقاء، ولا يتحقق الشك على كل تقدير بالمعنى المذكور.

الخامس: ما حكاه المشكيني عن الخراساني قدس سرهما

الخامس: ما حكاه المحشي المذكور عن المحقق الخراساني قدس سره قال: «وهو أن الاستصحاب إنما هو في ما يمكن الإبقاء، وفي المقام ليس كذلك، لكون إحدى الحالتين رافعة للأخرى. لا يقال: أنه كذلك في كل ما علم إجمالاً بارتفاع أحد المستصحبين. فإنه يقال: إنه فرق بينه وبين المقام، حيث أن الرفع لأحد الأمرين بواسطة أمر خارج، وفي المقام بواسطة أحدهما».

المناقشة فيه

وفيه - مع جريانه فيما لو علم بتاريخ أحدهما -: أن الفرق المذكور ليس فارقاً في ما نحن فيه، حيث يكون المعيار على الشك في البقاء.

مضافاً إلى أن الرافع في المقام لإحدى الحالتين المستصحبتين ليس هو الحالة الأخرى، بل سببها، وهو أمر خارج.

السادس: ما ذكره الخراساني قدس سره

السادس: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وقد تقدم منه أيضاً في المقام السابق، وإن اختلف عنه بأن منشأ عدم إحراز الاتصال هناك هو تردد زمان الشك مع تعيين زمان اليقين ومنشؤه هنا هو تردد زمان اليقين مع تعيين زمان الشك، ففي المثال السابق لا تردد في زمان الشك في الطهارة، فإنه يوم السبت لا غير، أما زمان اليقين بها فهو مردد بين يومي الخميس والجمعة، فإن كان هو الأول كان منفصلاً عن زمان الشك بالثاني الذي هو في الواقع زمان النجاسة وارتفاع الطهارة، وكذا الحال في النجاسة. فيوم السبت مردد بين أن يكون بنفسه متصلاً بزمان اليقين وأن يكون متصلاً بزمان شك متصل بزمان اليقين، وعلى الثاني لا يراد بالاستصحاب جر المستصحب وسحبه في كلا

ص: 379

الزمانين، للقطع بعدم بقائه كذلك، وأن زمان المتيقن لو كان يوم الخميس فهو منتقض، غير باقٍ منه ليوم السبت، بل المراد البناء على وجود المتيقن في زمان الشك تبعاً لوجوده في زمان اليقين على ما هو عليه من إجمال ولو كان منفصلاً عنه، وقد تقدم عدم نهوض الاستصحاب بذلك.

اختيار الوجه المذكور

ولعل هذا أمتن الوجوه، ولا يظهر لي عاجلاً ما يوجب وهنه ويلزم برفع اليد عنه، وليس الأمر هنا بمهم، لوضوح عدم الأثر العملي بعد عدم جريان الاستصحاب على كل حال إما لقصوره ذاتاً أو للمعارضة، وإنما يظهر مع العلم بتاريخ أحد الحادثين، كما لا يخفى.

بقي الكلام في قولين آخرين للأصحاب

بقي الكلام في قولين آخرين للأصحاب في مسألة العلم بالحدث والطهارة..

الأول: البناء: على ضد الحالة السابقة

الأول: ما في المعتبر وجامع المقاصد وعن حاشية الشرايع من أنه مع العلم بالحالة السابقة عليهما يبني على ضدها.

قال في الثاني: «لأنه إن كان محدثاً فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة المتيقنة مع الحدث الآخر، لأنها إن كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفع الأول بها، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم، للشك في تأخره عنها، ففي الحقيقة هو متيقن بالطهارة شاك في الحدث...» ثم ذكر وجه الحكم في صورة تيقن الطهارة سابقاً.

وكأنه راجع إلى دعوى: عدم جريان استصحاب نفس الحالة السابقة، للعلم بانتقاضها، ولا استصحاب مثلها، للشك في ثبوته، لاحتمال تعاقب المتجانسين.

المناقشة فيه

وفيه: أنه لا دخل لخصوصية الاتحاد مع الحالة السابقة والمماثلة لها في

ص: 380

موضوع الأثر، بل موضوعه نفس الحالة - من الطهارة أو الحدث أو غيرهما - من حيث هي، فلا مانع من استصحابها من حين حدوث السبب، فيعارض استصحاب الضد.

دعوى كونه من استصحاب الكلي لا الفرد

ودعوى: أنه ليس من استصحاب الفرد، لعدم الأثر له بل للكلي، ولا مجال لجريان استصحاب الكلي، لتردد حال الفرد حين وجود السبب بين أن يكون بقاء للحالة السابقة، وأن يكون مماثلاً لها، فلا يجري استصحابه، للعلم بارتفاع الفرد الأول المتيقن، والشك في حدوث آخر منفصل عنه بالضد، فهو أشد من القسم الثالث الذي يفرض فيه عدم انفصال الفرد المحتمل الحدوث عن الفرد المتيقن المعلوم الزوال.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأنه كذلك لو أريد الاستصحاب من زمان اليقين بالحالة السابقة قبل طروء الحالين، وليس كذلك، بل المدعى الاستصحاب من حين حدوث السبب المتيقن لكلٍ منهما، ومن المعلوم عدم العلم بارتفاع ذلك الفرد الموجود حينه، ولا ضير في تردده بالوجه المذكور بعد الشك في بقائه بنفسه.

نعم، هو مردد حينئذ بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء، فهو ملحق بالقسم الثاني من استصحاب الكلي، الذي لا إشكال في جريانه.

وبالجملة: لا فرق بين الحادثين بالإضافة إلى زمان اليقين بهما إجمالاً في تحقق ركني الاستصحاب وشروطه.

الثاني: استصحاب المعلوم

الثاني: ما ذكره العلامة قدس سره في القواعد وعن غيره من كتبه من أنه مع العلم بالحالة السابقة عليهما يستصحبها.

وهو بظاهره ظاهر الضعف، إذ لا معنى لاستصحابها مع العلم

ص: 381

بانتقاضها وإنما يحتمل بقاء مثلها.

وحمله على ما إذا علم بكون كل من الحدث والطهارة المعلومي الحدوث ناقضاً لما قبله - كما يظهر من المختلف - مخرج له عن محل الكلام، للقطع حينئذ بثبوت مثل الحالة السابقة، فلا استصحاب، كما حكي عنه قدس سره في بعض تصريحاته. وكذا حمله على ما إذا احتمل طروء الناقض للحالة الأخيرة منهما - كما قد يظهر من المختلف - لخروجه عن فرض اليقين بكل من الحدث والطهارة - الذي هو محل الكلام - إلى احتمال انتقاض الحالة الأخيرة المعلومة منهما، ولا إشكال معه في الاستصحاب.

وبالجملة: لا مجال للبناء على ذلك في محل الكلام من العلم بطروء الحالتين المتضادتين المتعاقبتين مع الجهل بالمتقدمة منهما الزائلة والأخرى الباقية.

الصورة الثانية: العلم بتاريخ احدهما دون الأخرى

الصورة الثانية: ما إذا علم تاريخ إحداهما دون الأخرى.

ويعلم حكمها مما تقدم، حيث لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ، لعدم جريان ما تقدم فيه.

وأما مجهول التاريخ، فإن كان الجهل بالتاريخ في الصورة السابقة مانعاً من جريان الاستصحاب ذاتاً امتنع جريان الاستصحاب فيه هنا، فلا معارض للاستصحاب في معلوم التاريخ، وإلّا تعين جريانه فيه ذاتاً ومعارضته لاستصحاب معلوم التاريخ، كما جرى عليه بعض مشايخنا.

وهو بعيد عن الأذواق العرفية، وإن كان أقرب للتدقيق بناء على جريان الاستصحاب ذاتاً في مجهولي التاريخ وسقوطه بالمعارضة، وهو مؤيد لبطلان المبنى المذكور. فلاحظ.

ص: 382

الفصل التاسع: في استصحاب حكم المخصص

اشارة

إذا ورد عام وورد مخصص له في بعض الأفراد بالإضافة إلى بعض الأزمنة، فبعد انتهاء أمد التخصيص لو شك في حكم الفرد هل يرجع لعموم العام، أو لاستصحاب حكم المخصص؟

مثلاً: بعد تخصيص عموم نفوذ العقود بدليل خيار الغبن، وخيار الزوجة في فسخ النكاح بجنون الزوج ونحوهما، لو شك في أن الخيار على الفور أو التراخي، لإجمال دليله، فهل المرجع في الزمان الثاني هو عموم نفوذ العقود المقتضي لسقوط الخيار، والمستلزم لكونه فورياً، أو استصحاب الخيار الموافق عملاً للتراخي؟

ومن الظاهر أن الكلام ليس في رفع اليد عن العموم بالاستصحاب كبروياً، لما تقدم في المقام السابق من تقديم الدليل - ومنه العموم - على الاستصحاب، بل في حجية العموم بعد انتهاء أمد التخصيص، لترفع به اليد عن الاستصحاب، فهو نزاع صغروي، كما هو حال النزاع المحرر في كل الفصول المتقدمة.

تمهيد وفيه أمران

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمرين..

ص: 383

الأول: محل الكلام في العام المتكفل بإثبات الحكم في جميع الأزمنة

الأول: أن محل الكلام ما إذا كان العام متكفلاً بإثبات الحكم في جميع الأزمنة، دون ما لو لم يتعرض إلّا للحدوث، وكان الحكم بالبقاء لأمر خارج عنه، كاستعداد الحكم للبقاء لذاته، أو الاستصحاب، فإنه خارج عن محل الكلام، لعدم كون انتفاء الحكم في الزمان اللاحق عن تمام الأفراد، فضلاً عن بعضها منافياً للعام بوجه، كما هو الحال في عموم ما دل على تنجس الجسم بملاقاة النجاسة وما دل على تحقق الزوجية بالعقد على المرأة، فإن بقاء النجاسة والزوجية بعد الملاقاة والعقد وعدم ارتفاعهما برافع ليس مقتضى العمومين المذكورين، ولذا لا يكون ما دل على ارتفاع النجاسة بالغسل والزوجية بالطلاق منافياً لهما بوجه، كي يكون مخصصاً.

فلو فرض إجمال الدليل المتكفل لارتفاع حكم العام عن بعض الأفراد، بحيث شك في أمد ارتفاعه، فلا مجال للرجوع لعموم العام، بل لابد فيه من مرجعٍ آخر من دليلٍ أو أصلٍ.

نعم، لو تضمن الدليل عدم ثبوت حكم العام في بعض الأفراد من أول الأمر كان منافياً له في الدلالة على الحدوث، فيكون مخصصاً له، مثل ما دل على عدم تنجس الكر بالملاقاة، وعدم صحة العقد على ابنة أخ الزوجة أو ابنة أختها مع عدم إذنها، بالإضافة إلى العمومين المذكورين.

فلو فرض إجمال المخصص المذكور والشك في أمد الحكم الذي تضمنه - كما لو احتمل صحة العقد برضا العمة والخالة بعده - لم يصلح العموم لبيان الحكم في زمان الشك، لفرض قصوره عن بيان حال الحكم في الزمان الثاني.

إلّا أن يجمع عرفاً بين دليلي العام والخاص بحمل العام على أن

ص: 384

عنوانه من سنخ المقدمة الاعدادية لحكمه في مورد الخاص، وأن تمام علته بارتفاع عنوان الخاص، وهو محتاج لعناية خاصة خارجة عن محل الكلام موكولة لنظر الفقيه، لعدم الضابط لها.

الثاني: الكلام بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب ذاتاً في حكم الخاص

الثاني: أن الكلام في المقام إنما هو بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب في حكم الخاص ذاتاً، لبقاء الموضوع.

وقد تقدم عند الكلام في موضوع الاستصحاب وفي استصحاب الزمانيات التعرض لضابط ذلك، وأنه لابد من إحراز عدم دخل الخصوصية الزمانية في متعلقه، بأن لا يكون موضوعه مقيداً بالزمان الأول بل هو الذات المحفوظة في كلا الزمانين، إما لكون المتعلق جزئياً غير قابل للتقييد بالزمان فلا يتكثر بتعدده، أو لكونه كلياً يعلم بعدم أخذ الزمان قيداً فيه، بل أخذه ظرفاً لا يضر تعدده بوحدته.

ما يظهر من الشيخ الأعظم قدس سره

وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره أن ذلك مستلزم لكون الزمان ظرفاً لحكم العام أيضاً، فلا يكون للعام أفراد طولية متعددة بعدد الخصوصيات الزمانية، بل ليس له إلّا أفراد عرضية مستمرة الحكم في عمود الزمان.

كما أن كون الزمان قيداً في موضوع حكم الخاص بنحو يمتنع معه استصحابه، مستلزم لكون عموم العام بالإضافة إلى الخصوصيات الزمانية إفرادياً، بحيث يكون كل جزء من إجزاء الزمان مقوماً لموضوع مستقل ذي حكم مستقل، فكما يكون للعام أفراد عرضية يكون له أفراد طولية.

لكن الظاهر عدم تمامية الملازمة من الطرفين، لوضوح أن لكل من العام والخاص دليلاً يخصه، وظهور أحدهما في أحد الوجهين - من كون الخصوصيات الزمانية قيداً في متعلق الحكم ومقومة له، فيتعدد بتعددها، أو

ص: 385

ظرفاً له لا تنافي وحدته - لا يستلزم ظهور الثاني في ذلك.

نعم، لو كان المتعلق جزئياً غير قابل للتقييد تعين كون الزمان ظرفاً له في كل من العام والخاص. لكنه قد يكون كلياً قابلاً للأمرين، فالمتبع فيه ظهور الدليلين اللذين عرفت إمكان اختلافهما في ذلك.

وتوهم ابتناء ما ذكره قدس سره من الملازمة على مبناه من الاعتماد على التسامح العرفي، حيث لا يفرق فيه بين حكمي العام والخاص.

مدفوع: بأن المبنى المذكور - لو تم - مختص بموضوع الاستصحاب الذي هو مورد الخاص، ولا يجري في العموم، بل المتبع فيه ظهور دليله في أحد الأمرين، كما يظهر منه قدس سره في المقام فراجع.

صور العام المتكفل بحال الزمان اللاحق

ومن ثم فرض المحقق الخراساني قدس سره الصور في المقام أربعاً ناشئة من تردد كل من العام والخاص بين الوجهين.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن للعام المتكفل بحال الزمان اللاحق صوراً..

الأولى: أن الاستمرار مأخوذاً في متعلق الحكم

الأولى: أن يكون الاستمرار مأخوذاً في متعلق الحكم، لأخذ مجموع الزمان قيداً فيه مع وحدة الحكم في كل فرد بلحاظ تمام أجزاء الزمان كوجوب الصوم في تمام النهار بنحو الارتباطية والمجموعية، مع وحدة التكليف والمكلف به في اليوم الواحد.

الثانية: أن يكون مبنى الحكم على الاستمرار

الثانية: أن يكون مبنى الحكم على الاستمرار مع وحدة متعلقه، فلكل فردٍ حكم واحد مستمر، كوجوب الوفاء بالعقود الذي هو كنايةً عن نفوذها، لوضوح أن نفوذ كل عقدٍ مستمر له بتعاقب أجزاء الزمان وليس له في كل آن نفوذ مباين لنفوذه في الآن الآخر.

الثالثة: أن لكل فرد حكم خاص

الثالثة: أن يكون لكل فردٍ في كل جزءٍ من أجزاء الزمان حكم خاص

ص: 386

كما لو قيل: يجب في كل يوم إكرام كل عالم، حيث يكون تعدد الأيام موجباً لتعدد الأحكام، ولكل حكم طاعته ومعصيته فهو مبني على تكرر حكم الفرد لا استمرار حكمه. وبهذا اختلفت هذه الصورة عن الصورة السابقة.

والمعيار في الفرق المذكور هو تخلل العدم بين الأحكام المتعاقبة في هذه الصورة، دون الصورة السابقة.

الكلام في الصورة الأولى

هذا، ولا ينبغي الإشكال في عدم حجية العام في الفرد بعد انتهاء أمد المخصص في الصورة الأولى، فلو علم في المثال السابق بجواز الأكل لشخص من أفراد العام عند زوال يوم من الأيام التي كان مقتضى العموم وجوب صومها وشك في وجوب الإمساك عليه بعد ذلك فلا مجال لإثباته بالعام المذكور، لأن فرد العام ليس إلّا الإمساك المستمر في تمام اليوم بمقتضى فرض الارتباطية، فمع فرض عدم وجوبه يعلم بخروج الفرد عن العموم، وليس وجوب الإمساك في بعض اليوم مدلولاً للعام، ليلزم من عدمه زيادة في التخصيص وينهض العام بإثباته، ليرفع به اليد عن الاستصحاب لو فرض تمامية أركانه.

ولا فرق في ذلك بين ثبوت حكم الخاص في أي جزءٍ من أجزاء الزمان الذي هو مورد حكم العام، فلا فرق بين أن يكون زمان جواز الأكل في المثال هو الفجر والظهر وآخر النهار، لخروج الفرد عن الفردية في الجميع.

بل مقتضى ذلك عدم حجية العام في الفرد في تمام أجزاء الزمان حتى ما كان منها قبل زمان الخاص، فلا يحرم الأكل من أول النهار في جميع الفروض المذكورة.

ص: 387

نعم، لو فرض الجمع بين العام والخاص عرفاً برفع اليد عن الارتباطية - التي هي مقتضى العام - بالإضافة إلى مورد التخصيص، تعين حجية العام في الباقي مطلقاً، كما في مورد قاعدة الميسور.

لكنه محتاج إلى عناية خاصة خارجة عن محل الكلام.

الكلام في الصورة الثالثة

كما لا ينبغي الإشكال في حجية العام في مورد الخاص بعد انتهاء أمد المخصص في الصورة الثالثة، إذ بعد فرض أن لكل زمان فرداً طولياً مبايناً لغيره فكلما استمر حكم الخاص لزم زيادة في التخصيص، فيلزم الاقتصار على المتيقن منه والرجوع في الباقي للعموم، الذي عرفت المفروغية عن تقديمه على الاستصحاب لو فرض تمامية أركانه.

الإشكال في الصورة الثانية

فالإشكال إنما هو في الصورة الثانية. والذي يظهر منهم أنها هي محل كلامهم، ولم يتعرضوا للثالثة المبنية على تكرر الحكم له، وإن كان بعض أمثلتهم يناسبها(1).

ما يظهر من الشيخ الأعظم قدس سره

من عدم حجية العام

وكيف كان، فقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره عدم حجية العموم في الفرد بعد انتهاء أمد التخصيص في الصورة الثانية، لأن عدم ثبوت حكمه حينئذٍ لا يستلزم زيادة في التخصيص، إذ بعد فرض عدم انحلال العام إلى أفراد طولية وأنه ليس للعام إلّا فرد واحد مستمر الحكم، فإذا فرض خروجه بمقتضى الدليل الخاص في الزمن المتيقن، فخروجه بعده ليس خروجاً لفرد آخر، كي يستلزم زيادةً في التخصيص.

ووافقه على ذلك المحقق الخراساني قدس سره وإن استثنى من ذلك ما إذا

ص: 388


1- فقد مثّل شيخنا الأعظم قدس سره بقولنا: أكرم العلماء دائماً. مع وضوح أن المراد به ليس هو استمرار وجوب إكرامهم، بل تكرره في كل يومٍ أو كل ما اقتضت الحاجة لذلك.

لم يكن الخاص قاطعاً لحكم العام في الفرد بعد ثبوته، بل كان مانعاً منه من أول الأمر، بأن كان زمان التخصيص أول أزمنة العام، كما في مثل خيار الغبن بالإضافة إلى عموم نفوذ العقود.

بدعوى: أن للعام في الفرض ظهوراً في أمرين، أحدهما: ثبوت الحكم للفرد مستمراً. ثانيهما: كون مبدئه عند تحقق عنوان العام، والخاص إنما يعارضه في الثاني منهما، فيقتصر عليه في الخروج عن العام، ويبقى العام حجةً في الثاني منهما.

مناقشته

لكن ما ذكراه من عدم حجية العام في الصورة المذكورة لا يخلو عن إشكال، بل منع، لأنه إذا فرض دلالة العام على ثبوت حكمه في تمام الأزمنة كان له عموم أو إطلاق أزماني غير عمومه الأفرادي، فعدم رجوع حكم العام للفرد في الزمن الثاني يستلزم زيادة التخصيص أو التقييد للعموم أو الإطلاق الأزماني، الذي هو حجة كالعموم الأفرادي.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره في المكاسب

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في مكاسبه من تبعية العموم الأزماني للعموم الأفرادي، فإذا فرض سقوط العموم الأفرادي تعين سقوط العموم الأزماني.

مناقشته

ففيه: أن الخاص في الحقيقة لا ينافي العموم الأفرادي، لإمكان إعماله في الفرد بالإضافة إلى غير زمان التخصيص، بل ينافي العموم الأزماني الوارد على الفرد، فيلزم الاقتصار على المتيقن منه والرجوع في غيره للعموم المذكور.

ولذا لا ريب ظاهراً في حجية العام في الفرد بالإضافة إلى ما قبل زمان التخصيص، مع وضوح أنه لو كان الخاص مخرجاً للفرد عن العموم

ص: 389

الأفرادي رأساً لم يكن حجة فيه مطلقاً، كما تقدم في الصورة الأولى.

المختار في التفصيل

نعم، ينبغي التفصيل بوجهٍ آخر، فإن دلالة العام على ثبوت الحكم في جميع الأزمنة..

تارةً: تكون بنحو تتساوى أجزاء الزمان فيه بالنسبة للحكم، فلا يتفرع ثبوته في بعضها على ثبوته في الآخر، كما في عموم نفوذ العقود الظاهر في كون النفوذ من لوازم العقد التي لا تتخلف عنه، من دون أولوية في ذلك لزمان على زمان.

وأخرى: يكون بنحو يتفرع ثبوته في الزمان اللاحق على ثبوته في الزمان السابق، لابتنائه على البقاء والاستمرار منه إليه، فلا يتضمن العام محض ثبوت الحكم في جميع الأزمنة، بل عبوره من السابق للّاحق.

والفرق بين الصورتين - بعد اشتراكهما في ثبوت الحكم في جميع أجزاء الزمان - هو أن البقاء والاستمرار لازم لمفاد العام في الأولى، مع كون المقصود بالأصل فيه محض ثبوته في كل زمان في عرض ثبوته في الزمان الآخر، أما في الثانية فالبقاء والاستمرار هو المقصود بالأصل زائداً على ثبوت الحكم في كل زمان.

هذا، ولا ينبغي الإشكال في حجية العام بعد انتهاء أمد المخصص في الصورة الأولى، لما ذكرنا.

الإشكال في حجية العام بعد انتهاء أمد التخصيص في الصورة الثانية

وأما في الثانية فلا مجال لذلك، لأن مفاده وإن كان هو ثبوت الحكم في الزمان المذكور، إلّا أنه بعناية كونه بقاء له واستمراراً من الزمان السابق، فمع فرض انقطاع الحكم في مورد التخصيص لا ينهض العام بإثباته في الزمان اللاحق، بل لو ثبت كان حكماً مستأنفاً غير حكم العام المفروض

ص: 390

أخذ الاستمرار فيه.

نعم، ينهض بإثبات الحكم في موضوع الخاص بالإضافة إلى ما قبل زمان التخصيص، لعدم منافاة انقطاعه بعد ذلك لمفاد العام.

لكن الشأن في إحراز هذه الصورة إثباتاً، لابتنائها على عنايةٍ خاصة، والغالب هو الصورة الأولى.

ومجرد التعميم بمثل: «دائماً» و «أبداً» أو ذكر الغاية بمثل: «إلى» و «حتى» لا يكفي في الحمل على الثانية، لأن الاستمرار وإن كان هو المدلول المطابقي لها، إلّا أنه كثيراً ما يساق الإرادة بيان الثبوت في تمام الأزمنة، من دون أخذه بمفهومه قيداً في ثبوت الحكم زائداً على ذلك، فترجع إلى الصورة الأولى.

وإن كان ذلك خارجاً عما نحن فيه، إذ الكلام إنما هو في حكم الصورتين ثبوتاً، مع إيكال التمييز بينهما إثباتا إلى الفقه.

الكلام في تفصيل الخراساني قدس سره

هذا، وأما التفصيل المتقدم من المحقق الخراساني قدس سره بين كون زمان الخاص أول أزمنة حكم العام وكونه بعده، وأنه في الأول يكون العام حجة بعد زمان التخصيص، لإمكان المحافظة على ظهوره في الاستمرار وإن لزم رفع اليد عن ظهوره في مبدأ الحكم لأجل الخاص، بخلاف الثاني لانقطاع الاستمرار، فلا مورد له فيما لو تمحض العام في استيعاب حكمه لإجزاء الزمان، بل يتعين حجية العام مطلقاً، لما سبق.

وأما لو تضمن أخذ الاستمرار زائداً على ذلك فحيث كان التفصيل المذكور يبتني على التصرف في العام برفع اليد عن ظهوره في تعيين مبدأ الحكم دون الاستمرار، فهو يبتني على مقدار قوة ظهوره في الأمرين

ص: 391

بالإضافة إلى ظهوره في شمول مورد الخاص، ولا ضابط لذلك. بل هو موكول لنظر الفقيه.

ص: 392

الفصل العاشر: في جريان استصحاب الأمور اللغوية والاعتقادية

تقدم في المقام الثاني أنه لابد من ترتب العمل على الأمر المستصحب بلا واسطة، كما في استصحاب الأحكام التكليفية، أو بواسطة آثارها الشرعية، كما في استصحاب موضوعاتها من الأحكام الوضعية والموضوعات الصرفة، كالحياة والموت.

وقد أشير في كلام بعضهم إلى جريان الاستصحاب في الموضوعات اللغوية، كما أطالوا الكلام في الأمور الاعتقادية.

والمناسب التعرض بإيجاز للأمرين.

الموضوعات اللغوية

أما الموضوعات اللغوية فلعل المراد بها مثل الشك في المعنى الموضوع له، والقرينة، والنقل، ونحوها مما يترتب عليها تشخيص الظهور الحجة الذي يجب العمل عليه.

ويشكل ابتناؤها على الاستصحاب التعبدي الذي هو محل الكلام، لعدم كونها مورداً للأثر الشرعي.

ومجرد ملازمه الظهور لها لا ينفع بعد عدم كونها شرعية.

ص: 393

ما ذكره المشكيني قدس سره

لكن قال بعض محشي الكفاية(1): «الأقرب تحققه في ما كان للفظ ظهور في معنى ثم شك في بقائه، لاحتمال النقل أو لغير ذلك. فحينئذٍ لا مانع من استصحاب الظهور، لكونه موضوعاً للحجية التي هي من المجعولات على التحقيق».

المناقشة فيه

وفيه: أن احتمال انسلاخ الكلام عن الظهور في ما كان ظاهراً فيه بنحو ينفع في مقام العمل إنما هو بمعنى الشك في قضية شأنية كلية، وهي شأنية نوع ذلك الكلام لذلك الظهور، ولا يترتب العمل على ذلك، بل على الظهور الفعلي للكلام الخاص، وترتبه على إحراز القضية الكلية المذكورة يبتني على الأصل المثبت.

وأما مع إحراز الظهور الفعلي سابقاً للكلام الخاص حين صدوره، فلا أثر لاحتمال انسلاخه عنه، بل يجب العمل بالظهور المذكور.

نعم، لو أحرز الظهور الفعلي للكلام الخاص وشك في سبقه حين صدوره، كان الشك المذكور مورداً للعمل، حيث يجب العمل على الظهور لو أحرز سبقه.

لكن إحراز سبقه مبني على الاستصحاب القهقري، وهو خارج عن محل الكلام، ولا دليل عليه في نفسه، بل دليل الاستصحاب ينفيه.

ومثله دعوى: تمامية ذلك في مثل الشك في التخصيص ونحوه من القرائن المنفصلة عن الكلام مع تمامية ظهوره، حيث يترتب على استصحاب العدم في ذلك حجية الظهور شرعاً.

لاندفاعها: بأن ترتب حجية الظهور على ذلك لما لم يكن بأدلة

ص: 394


1- المرحوم المشكيني.

لفظية، بل لبية - كسيرة العقلاء - أشكل نهوض الاستصحاب بالبناء عليها، لعدم تعرض الأدلة اللبية غالباً لتحديد موضوعاتها مفهوما كي ينفع الأصل في إحرازها وخروجها عن الأصل المثبت. فلاحظ.

المرجع في الأمور اللغوية الأصول العقلائية

فالظاهر انحصار المرجع في الأمور اللغوية بالأصول العقلائية التي ثبتت حجيتها شرعاً ولو بإمضاء طريقة العقلاء مع قطع النظر عن الاستصحاب، ولذا كان الرجوع إليها إجماعياً من أهل الشرع وغيرهم مع وضوح الخلاف في الاستصحاب.

بل لا ريب في جريانها لو فرض الشك في نفس أدلة الاستصحاب، فلو ابتنت حجيتها عليه لزم الدور.

وبها يستغنى عن استصحاب الظهور لو فرض جريانه في نفسه. فلاحظ.

الأمور الاعتقادية

وأما الأمور الاعتقادية فجريان الاستصحاب فيها إما أن يكون بلحاظ وجوب الاعتقاد بها أو عدمه، أو بلحاظ فعلية الأحكام الفرعية المبتنية عليها.

أما الأول فهو يبتني..

أولاً: على كون المراد من الاعتقاد الواجب ما يعم صورة الشك في الأمر المعتقد به - بناء على ما هو الظاهر من عدم توقف الاعتقاد بالشيء على اليقين به - إذ لا يقين مع الاستصحاب.

لكن الظاهر بعد ملاحظة الآيات والروايات أن الاعتقاد الواجب خصوص ما يكون عن يقين بالأمر المعتقد، فلا فائدة في الاستصحاب. ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك.

وثانياً: على كون وجوب الاعتقاد التفصيلي من الأحكام الشرعية

ص: 395

للوجود الواقعي للأمر المستصحب، بحيث يكون منوطاً به إناطة الحكم بموضوعه، كما لو ورد: إن كانت نبوة عيسى موجودة وجب الاعتقاد بها، كي يكون التعبد بالمستصحب تعبداً بموضوع الحكم الشرعي.

وهو غير ظاهر، بل من القريب أن يكون وجوب الاعتقاد فعلياً، مقارناً لفعلية الأمر المعتقد به، فيكون مجعولاً بنحو الحكم الشخصي الفعلي في القضية الخارجية، ويكون تحقق الأمر المعتقد به من سنخ الداعي لجعل الحكم لا موضوعاً له منوطاً به شرعاً، فهو شرط تكويني للجعل، لا شرط شرعي للحكم المجعول، فمع الشك في الأمر الاعتقادي يشك في إنشاء وجوب الاعتقاد، لا في موضوعه مع اليقين بجعله وإنشائه منوطاً بموضوعه.

في كيفية وجوب الأمور الاعتقادية

وعلى هذا فالظاهر أن الأمور الاعتقادية بين ما يجب الاعتقاد به فعلاً تفصيلاً بعد تحصيل العلم به، فيجب الفحص عنه، كالأصول الخمسة ونحوها، وما يكون الاعتقاد به من شؤون الاعتقاد بالشريعة وتصديقها، فيجب الاعتقاد به على حسب وصوله إجمالاً أو تفصيلاً، فمع فرض عدم وصوله تفصيلاً يكفي الاعتقاد به إجمالاً، لكفايته في تصديق الشريعة.

فيما لو شك في حدوث شريعة جديدة

وأما الثاني فكما لو شك في حدوث شريعة جديدة وارتفاع الشريعة السابقة، فيكون المرجع استصحاب حكم الشريعة السابقة وعدم أحكام الشريعة اللاحقة، على النحو الذي سبق عند الكلام في الاستصحابات العدمية واستصحاب عدم النسخ.

دعوى حكومة استصحاب الشريعة السابقة

ودعوى: أن استصحاب الشريعة السابقة وعدم اللاحقة يكون حاكماً على الاستصحابين المذكورين، لأنه سببي بالإضافة إليهما.

اختلاف الاستصحاب هنا عن استصحاب أحكام الشرائع السابقة من جهات

مدفوعة: بأن الشريعة ليست إلّا نفس الأحكام، وليست موضوعاً لها،

ص: 396

فلا يكون استصحاب الشريعة سببيا.

نعم، يختلف الاستصحاب في المقام عن استصحاب أحكام الشرايع السابقة من جهات..

الجهة الأولى

الأولى: أن ما تقدم منا في وجه منع الاستصحاب المذكور من العلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة في صدر البعثة لا يجري هنا، لفرض الشك في حَقيَّة هذه الشريعة.

الجهة الثانية

الثانية: أن جريان الاستصحاب مبني على حجيته في الشريعة السابقة أيضا، ولا يكفي حجيته في هذه الشريعة، لتوقف حجيته فيها على ثبوتها، فلا يكون محرزاً لعدمها، بل لا موضوع له في ظرف ثبوتها وحجيته فيها، بخلاف ما سبق، حيث يكفي فيه حجية الاستصحاب في هذه الشريعة، لأن الغرض منه تعبد أهلها بأحكام تلك الشرايع.

ودعوى: أن حجيته في هذه الشريعة يكفي في العمل به لأهل تلك الشرايع بأحكامها فيما لو كان احتمال نسخها لا ينشأ إلّا من احتمال صحة هذه الشريعة، للعلم معه ببقاء تلك الأحكام واقعاً أو ظاهراً بالاستصحاب المذكور.

مدفوعة: بأن جواز العمل به في هذه الشريعة مشروط بعدم قيام ما تضمنته من الطرق والقواعد على خلافه، فالرجوع إليه في فرض قيام الحجج المذكورة على خلافه ليس عملاً بمقتضى هذه الشريعة، ولا يحرز معه براءة الذمة ولو ظاهراً. ومع عدم قيامها على خلافه لا يختص بالشك في بقاء الشريعة السابقة، بل يجري مع العلم بنسخها بالشريعة اللاحقة لولا ما تقدم في الجهة الأولى. فلاحظ.

ص: 397

الجهة الثالثة

الثالثة: أن جريان الاستصحاب في ما سبق مشروط بالفحص، لما يأتي من توقف جريان الأصول الترخيصية في الشبهات الحكمية عليه، ولا مجال لذلك هنا لو فرض كون أدلة وجوب الفحص مختصة بهذه الشريعة، إما لأخذه من أدلة نقلية أو لكونه مقتضى العلم الإجمالي، لتفرع حجية الأدلة النقلية على ثبوت هذه الشريعة والاستصحاب ينفيه، كما أن العلم الإجمالي مبني على ملاحظة هذه الشريعة والمفروغية عن ثبوتها.

اللهم إلّا أن يقال: احتمال حقية هذه الشريعة مستلزم لاحتمال نسخ عموم الاستصحاب في تلك الشريعة وتخصيصه بصورة الفحص، فلا يجري استصحاب عمومه، لاستلزامه الدور، بل يتعين في مثله الرجوع لأصالة عدم النسخ فيه، والظاهر كونها مشروطة بالفحص، فلا يتجه الفرق المذكور.

والأمر أظهر لو كان دليل وجوب الفحص قبل الرجوع للأصول الترخيصية غير مختص بهذه الشريعة، إما لكونه عقلياً محضاً أو لكونه سمعياً وارداً في الشريعة السابقة أيضاً، حيث لا إشكال في وجوب الفحص حينئذٍ المستلزم لوضوح الحق، لقوة آياته وكثرة بيناته، إذ: «فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ»، «وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا».

استصحاب نبوة الأنبياء

ومن جميع، ذلك يظهر الكلام في استصحاب نبوة أنبياء الشرايع السابقة، إذ لا يحتمل ارتفاع نبوتهم بنحو لا يجب الاعتقاد بهم رأساً، بل بنحو يجب فعلا الاعتقاد بعدم إناطة أمر التبليغ بهم، أو بنحو لا يجب الالتزام بأحكامهم، لنسخها بهذه الشريعة. والأول لا يجري فيه الاستصحاب، والثاني يبتني على ما ذكرنا. فتأمل جيداً.

ولنكتف بهذا المقدار في محل الكلام، لعدم ترتب ثمرة مهمة

ص: 398

عليه. وبه ينتهي المقام الثالث من المقامات الثلاثة التي يبتني عليها كلامنا في الاستصحاب. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله الكرام.

خاتمة

خاتمة: في القواعد التي تقدم على الاستصحاب عملاً

اشارة

ألحق شيخنا الأعظم قدس سره ومن تأخر عنه البحث في الاستصحاب بخاتمة تعرضوا فيها لكثير مما ينبغي التعرض له في أصل الكلام في الاستصحاب، كتحديد أركانه وموضوعه ونسبته مع الطرق والأصول الأخرى وغير ذلك مما تقدم منا التعرض له في المحل المناسب من المقامين الأولين.

والذي ينبغي له التعرض له هنا تبعاً لهم القواعد التي تقدم عملاً على الاستصحاب، لأهمية الكلام فيها، مع تحقق شيءٍ من المناسبة بينها وبين الاستصحاب.

وقد تقدم منا في أواخر المقام الثاني أن الاستصحاب متأخر في مقام العمل عن الطرق والأمارات، كما أنه مقدم على غيره من الأصول التي موضوعها الشك، كالبراءة والاحتياط.

وقد أشرنا في أواخر الكلام المذكور إلى اختصاص ذلك بما إذا لم يؤخذ في موضوع الأصل إلّا محض الشك، دون ما إذا أُخذ فيه أمر زائد عليه، كالفراغ والتجاوز واليد وغيرها، بل يلزم تقديم تلك الأصول لو كانت أخص والنظر في المرجحات الدلالية لو كان بينها وبينه عموم من وجهٍ.

ومن هنا اتفقوا على تقديم القواعد على الاستصحاب وإن لم يتفقوا

ص: 399

على كونها أمارةً.

وقد تعرض شيخنا الأعظم قدس سره وبعض من تأخر عنه لبعض تلك القواعد، والمناسب متابعتهم بذكرها في ضمن فصول..

ص: 400

الفصل الأول: في قاعدة اليد

اشارة

وهي من القواعد الظاهرية المشهورة، ومرجعها إلى أن اليد تنهض بإحراز ملكية صاحبها لما تحت يده. وحيث كانت تجري في الشبهات الموضوعية من دون أن تنهض بإثبات حكم كلي لم تكن مسألة أصولية، بل قاعدة فقهية ظاهرية.

وجوه الكلام في قاعدة اليد

والكلام فيها..

تارةً: في دليلها.

وأخرى: في تحديد مفهومها تفصيلاً.

وثالثةً: في سعة كبراها.

وتأخر الثالث عن الأولين ظاهر.

وأما الأولان فالثاني منهما وإن كان مقدماً على الأول رتبة، إلّا أن تأخره عنه إثباتاً ملزم بتأخيره عنه في نظم الكلام وتبويبه.

فالبحث في مقاماتٍ ثلاثة..

المقام الأول: في دليل قاعدة اليد

المقام الأول: في دليل القاعدة، وهو أمور..

الأول: النصوص وهي طوائف

الأول: النصوص الكثيرة. وهي على طوائف..

ص: 401

الطائفة الأولى

الأولى: ما تضمن أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه(1)، مع ما هو المعلوم، بل المصرح به في بعض النصوص(2) من أن صاحب اليد هو المدعى عليه، لوضوح أن تكليف المدعى عليه باليمين لخصوصية الدعوى، حيث لابد من حسمها، فتكون ظاهرةً في حجية اليد لولا الدعوى، ولذا لا يكون مكلفاً بها قَبلها، أو بعد عدول المدعي عنها ولو بإعراضه.

وكذا ما تضمن أن المنكر إذا رد اليمين على المدعي فنكل فلا حق له(3).

وقد يؤيد بما ورد في بعض نصوص تعارض البينتين من تقديم قول صاحب اليد(4). فتأمل.

فإن المستفاد من هذه النصوص ونحوها كون اليد في نفسها محرزة للملكية، وإن احتيج معها لليمين في خصوص مورد التخاصم.

بل هو كالمصرح به في صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث فدك - «إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد في المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال: إياك كنتُ أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول

ص: 402


1- راجع الوسائل ج: 18، باب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى وغيرها.
2- الوسائل ج: 18، باب: 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء حديث: 4. وباب: 12 من الأبواب المذكورة حديث: 14، وباب: 25 منها حديث: 3.
3- راجع الوسائل ج: 18، باب: 7، 8 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
4- الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2، 3.

الله (ص) وبعده... وقد قال رسول الله (ص) البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»(1).

لظهوره في إرادة الملكية الظاهرية تبعاً لليد، لأنها التي يمكن مع فرضها الدعوى وطلب البينة.

الطائفة الثانية

الثانية: ما تضمن حلية جوائز السلطان والعمال ومعاملتهم إلّا أن يعلم حرمة المال بعينه(2).

ومثلها ما تضمن جواز النزول على وكيل الوقف المستحل لما في يده إذا كان له مال آخر(3) غير الوقف وإن لم يكن بناء الأصحاب على الالتزام بالقيد المذكور.

فإن الظاهر سوقها للتنبيه على عدم صلوح تعرضهم للحرام وغلبة ابتلائهم به لإسقاط حجية اليد، مع المفروغية عن حجيتها في نفسها.

وكذا ما تضمن جواز المقاصة من أموال العمال، بل مطلق المقاصة(4).

الطائفة الثالثة

الثالثة: صحيحا محمد بن مسلم المتضمنان أن ما يوجد من الورق في الدار المعمورة فهو لأهلها(5)، وصحيح جميل بن صالح المتضمن أن من وجد ديناراً في صندوقه الذي لا يدخل يده فيه غيره فهو له(6)، لوضوح أن عدم إدخال غيره يده فيه لا يوجب العلم بملكيته للدينار، لاحتمال أخذه

ص: 403


1- الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى: حديث 6.
2- راجع الوسائل ج: 18، باب: 51، 52، 53، من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل ج: 12، باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.
4- راجع الوسائل باب: 83 من أبواب ما يكتسب به.
5- الوسائل ج: 17، باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 1، 2.
6- الوسائل ج: 17، باب: 3 من أبواب اللقطة حديث: 1.

له بلا حقٍ أو نسيانه لصاحبه أو غير ذلك.

وقد يؤيد بصحيحي الحميري المتضمنين أن ما يوجد في جوف الدابة يعرف به البايع، فإن عرفه وإلّا فهو لواجده(1)، وصحيح إسحاق بن عمار المتضمن أن ما يوجد في الدار يعرف به أهلها، فإن عرفوه وإلّا تصدق به(2).

وإن كان قد يستشكل في دلالتها بأن سؤال بايع الدابة وصاحب الدار لا يستلزم حجية يدهما السابقة، بل قد يكون نظير التعريف باللقطة لاحتمال ملكيته، وإنما امتاز عن غيره بوجود منشأ للاحتمال المذكور. وقبول خبره قد يكون من باب قبول قول المدعي للمال من دون منازع، الذي دل عليه صحيح منصور بن حازم(3). اللهم إلّا أن يقال: قبول قول مدعي المال بلا منازع يختص - على الظاهر - بما إذا لم يكن المال تحت يد الغير، وإلّا لم يقبل صاحب اليد قول المدعي إلّا بالتعريف ونحوه مما يكون أمارة على ملكيته للمال، وظاهر الصحاح المذكورة قبول قول صاحب اليد السابقة إذا ادعى معرفة المال وإن لم تكن هناك أمارة أخرى على ملكيته له، ولا يظهر وجه لذلك إلّا حجية يده السابقة. فلاحظ.

الطائفة الرابعة

الرابعة: صحيح العيص ومعتبر حمزة بن حمران المتضمنان جواز شراء المملوك من السوق وإن ادعى الحرية(4). فإنه لولا حجية يد البايع عليه لم يتجه رفع اليد عن دعوى المملوك المطابقة لأصالة الحرية التي

ص: 404


1- الوسائل ج: 17، باب: 9 من أبواب اللقطة حديث.
2- الوسائل ج: 17، باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 3.
3- الوسائل باب: 17 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 1.
4- الوسائل ج: 13، باب: 5 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.

عليها العمل وتضمنتها بعض النصوص(1).

الطائفة الخامسة

الخامسة: بعض النصوص المتفرقة التي قد يستدل بها..

كموثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام: «في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة. قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيءٍ منه فهو له»(2).

وحديث حفص بن غياث عنه عليه السلام: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(3).

ودعوى: مخالفتها لما هو الظاهر من عدم جواز الشهادة اعتماداً على الحجة وأنه لابد فيها من العلم.

مدفوعة: بأن ظاهر الموثقة هو الشهادة بالملكية الظاهرية بقرينة التعليل والتنظير بالشراء، والذي لا يجوز هو الاعتماد على الحجة في الشهادة بالوجود الواقعي لمؤدى الحجة الذي هو مؤدى العلم.

على أن اشتمالها على ذلك لا يمنع من حجيتها في ما تضمنته من

ص: 405


1- راجع الوسائل ج: 16، باب: 24 من كتاب العتق.
2- الوسائل ج: 17، باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 3.
3- الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2.

حجية اليد على الملكية، حيث يظهر منها المفروغية عن ذلك.

وموثقة مسعدة بن صدقه عنه عليه السلام: «كل شيءٍ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً...»(1).

فإنه وإن كان ظاهراً في بيان قاعدة الحل، إلّا أن تطبيقها في المثالين المذكورين بنحوٍ صالح ٍللعمل لا مجال له مع جريان استصحاب عدم انتقال المبيع للبايع، فلولا كون الاستصحاب المذكور محكوماً لليد لم يتجه التنبيه لأصالة الحل.

ومعتبر العباس بن هلال عن الرضا عليه السلام: «ذكر أنه لو أفضى إليه الحكم لأقر الناس على ما في أيديهم ولم ينظر في شيءٍ إلّا بما حدث في سلطانه، وذكر أن النبي (ص) لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وأن من أسلم أقره على ما في يده»(2).

لكن يشكل الاستدلال به لقرب كون المراد به الإقرار والإمضاء الواقعي لمقتضى اليد بحسب الولاية العامة، وإن علم بكونها عدوانية، كإقرار النبي (ص) أحكام الجاهلية، وليس المراد الإقرار الظاهري لأجل حجية اليد.

كما أن موثقة مسعدة لا تخلو عن إجمال من هذه الجهة، إذ لعل رفع اليد عن مقتضى استصحاب عدم انتقال المبيع للبايع بأمرٍ غير اليد، كأصالة

ص: 406


1- الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.
2- الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 1.

الصحة في المعاملة المفروضة أو غيرها.

فالعمدة من هذه النصوص موثقة يونس وحديث حفص، لوفاء دلالتهما جداً كالطوائف الأربع الأُوَلْ.

بل ظاهر كثير من هذه النصوص المفروغية عن الاعتماد على اليد لإحراز الملكية، وأنها واردة لدفع توهم وجود المانع من حجيتها، كنصوص جوائز السلطان ووكيل الوقف وشراء المملوك المدعي للحرية، أو لدفع توهم عدم جواز الشهادة اعتماداً عليها، كموثقة حفص.

بل سبر كثيرٍ من النصوص الواردة في أبواب المعاملات - كالبيع والوديعة والوصية وغيرها - شاهد بالمفروغية عن ذلك، بترتيب آثار هذه الأمور الموقوفة على الملكية بمجرد تصدي صاحب اليد لها.

عدم نهوض النصوص في إثبات العموم

هذا، وأكثر هذه النصوص لا ينهض بإثبات عموم يرجع إليه في مورد الشك، إما لخصوص مورده، أو لكونه في مقام البيان من جهة أخرى.

وما يمكن أن يستفاد منه العموم صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان وحديث حفص بن غياث المتقدمان، لظهورهما في التصدي لبيان حكم اليد، خصوصاً حديث حفص، لأن الصحيح قد فرض فيه مملكية اليد بنحو يظهر في المفروغية عن أمارية اليد على الملكية من دون أن يتضمن بيان ذلك، ليكون له إطلاق من هذه الجهة، وإنما هو وارد لبيان عدم تكليف صاحب اليد المملكة بالبينة. فلاحظ.

نعم، قد يستفاد العموم من بعض الجهات من بعض النصوص الأخرى، والكلام في ذلك موكول للمقام الثالث.

الثاني: الإجماع

الثاني من أدلة المسألة: الإجماع.

ص: 407

أما القولي منه فلم أعثر على من ادعاه من الأصحاب، لعدم تحريرهم للمسألة، وإنما يستفاد من كلماتهم المفروغية عن الحكم، كما قد يظهر مما ذكروه في مبحث التداعي من أنه لو اختلف المتداعيان في عينٍ وكانت في يد أحدهما كلف الآخر بالبينة، وغير ذلك مما يحتاج لاستيعاب لا يسعه الوقت.

وأما الإجماع العملي الذي هو عبارة عن سيرة المتشرعة الملتزمين بالدين فهو أوضح من أن يحتاج للإثبات، كاتصاله بعصر المعصومين عليهم السلام حيث لا إشكال في بناء المسلمين على ترتيب آثار الملكية ظاهراً باليد، يشترك في ذلك صالحهم وطالحهم، من دون أن يبتني بنظرهم على نحو من التسامح والتساهل، بل لولا ذلك لاختل نظامهم، كما أشير إليه في حديث حفص بن غياث المتقدمة.

وهذه السيرة صالحة للاستدلال في المقام.

ولا يقدح ابتناؤها على سيرة العقلاء الآتية، وأن بناء المسلمين على ذلك للجري على مرتكزاتهم العقلائية، لا التعبدية الدينية.

لكشفها مع ذلك عن رضى الشارع بها، وإلّا لزمه النكير عليها والردع عنها، ولو صدر ذلك منه لشاع وذاع بسبب كثرة الابتلاء بالحكم فارتدع عن ذلك المتدينون المحافظون على تعاليم الشرع الأقدس ولم تتم السيرة بالوجه الذي تمت به.

الثالث: سيرة العقلاء

الثالث: سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اختلاف مللهم ونحلهم وأمصارهم وعصورهم، وهي سيرة ارتكازية عامة ناشئة عن إدراكهم بحسب فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها نحواً من المناسبة بين اليد والحكم

ص: 408

بالملكية، وليست ناشئة عن محض التباني والاصطلاح.

ومن ثم لا يبعد عدم احتياجها للإمضاء، بل يكفي عدم ثبوت الردع عنها.

على ما تقدم نظيره في مبحث حجية خبر الواحد.

على أنه لا ينبغي الريب في الإمضاء بالنظر لما تقدم من النصوص الكثيرة والإجماع القولي والعملي.

ومن هنا كانت هذه القاعدة من الضروريات المسلمة المستغنية عن تكلف الاستدلال لولا بعض النكات والخصوصيات التي قد ينفع فيها سطر الأدلة واستيعابها، على ما قد يتضح بما يأتي إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة.

وحيث كان مضمونها الاعتماد على اليد في البناء على الملكية، كانت متقومة باليد، والملكية، والنسبة بينهما المصححة للاعتماد المذكور.

فينبغي الكلام في تحديد كل منها بذكر أمور..

الأمر الأول: المعيار في اليد

الأمر الأول: قد أخذت اليد بعنوانها في بعض النصوص المتقدمة، وهي لغة الجارحة، وقد استعيرت للنعمة والقدرة والجاه والحوزة وغير ذلك.

والظاهر أن المعيار فيها في المقام كون الشيء في حوزة الشخص بنحو يكون من توابعه الملحقة به.

لا كونه تحت يده الحقيقية كالدرهم المقبوض باليد، لتحققها في ما يمتنع الاستيلاء عليه بها، كالضياع والعقار وقطعان الماشية، وعدم صدقها

ص: 409

بمجرد قبض الإنسان الشيء بيده، كما لو قبض ثوب غيره الذي قد لبسه، فإن صاحب اليد عرفاً هو اللابس وحده، لا مع القابض ولا القابض وحده.

كما لا يكفي فيها القدرة والقوة على الشيء، لوضوح عدم كون الملك صاحب يد على أموال رعيته وإن كان أقدر عليها منهم.

وكذا لا يكفي مجرد كون الشيء في حوزة الإنسان إذا كان استيلاؤه مبنياً على تسليط الغير له عليه، مع عدم كونه عرفاً من توابعه، بل من توابع من سلطه، لكون سلطنته عليه في طول سلطنته.

ولهذا لا تنسب اليد للوكيل على المال وإن كان في حوزته، بل تنسب للموكل المسلط، حيث يكون المال من توابعه عرفاً.

وإن شئت قلت: الجهة الارتكازية المقتضية لحجية اليد على أن صاحبها هو المالك هي الجهة الجامعة بين يد الأصيل المباشر ويد الموكل المستولي بالواسطة، لا بين يد الأصيل المباشر ويد الوكيل المستولي بالمباشرة، فصاحب اليد هو المتسلط على الشيء استقلالاً، لا المسلط عليه من غيره في طول سلطنته.

نعم، لا يبعد كون الأصل في الحيازة أن تكون مبنية على الاستقلال لا التبعية، بنحو يكون المحاز من توابع الحائز، لا من توابع غيره، لتفرع حيازته على حيازة غيره، لابتناء ذلك على عنايةٍ ليس بناء العقلاء عليها في مقام ترتيب الأثر.

ويناسب ما ذكرنا في معيار اليد ما في صحيح عثمان وحماد المتقدم، فإنه عليه السلام قد فرض نفسه صاحب يد على فدك - ولو بلحاظ كونه ممثلاً عن سيدة النساء عليها السلام في الخصومة - من دون أن يقبضها بيده، ولا مستولياً عليها

ص: 410

بنفسه، بل بواسطة وكيله - كما هو المعروف تاريخياً ويناسبه الأعتبار مع كون الغلبة والسلطان لغيره، كما تعرض عليه السلام لفرض كون اليد للمسلمين مع وضوح أن فعلية يدهم على الشيء بصيرورته في حوزة وليهم الذي يقوم مقامهم، حيث لا يبتني استيلاؤه على الشيء على كونه من توابعه، بل من توابع المسلمين. بل هو المناسب لجميع أدلة المقام، بعد تنزيل بعضها على بعض، وتحكيم سيرتي العقلاء والمتشرعة عليها. وعليه يلزم تنزيل الاستيلاء في موثقة يونس المتضمنة لحكم متاع البيت.

هذا، والمرجع في تحقق اليد وتشخيص صغرياتها هو العرف، لاختلاف الأموال والموارد في ذلك اختلافاً فاحشاً. والمعيار فيها أن تكون مبنية على التصرف في العين استقلالاً تصرف المالك في ملكه، كسكنى الدار وحفظ المتاع وقبض المال ونحوها.

وربما يكون الشيء الواحد محققاً اليد في حالة دون أخرى، كالاستيلاء على مفتاح الدار، فإنه يكفي في حصول اليد مع عدم وجود من يسكنها أو يتصرف فيها، ولا يكفي مع أحدهما، بل يكون صاحب اليد هو الساكن والمتصرف، لتبعية الدار له في هذا الحال، لا للمستولي على المفتاح.

أقسام اليد

ثم إن اليد..

تارةً: تكون شخصيةً.

وأخرى: تكون نوعيةً، لأن الحائز للمال الذي يكون ذلك المال من توابعه ولواحقه قد يكون شخصاً معيناً يتصرف فيه بنفسه أو بتوسط وكيله أو وليه، وقد يكون عنواناً يشتمل على أفراد كثيرة، كالحجاج والزوار والفقراء

ص: 411

وغيرهم، سواءً كان استيلاؤهم بتوسط الولي، أم بلا واسطة، كما لو تصرف أفراد العنوان بأنفسهم في العين تصرف المستحق غير المختص.

ومن ثم ذكرنا في فروع أحكام الخلوة والوضوء أنه يجوز التصرف في الموقوفات العامة التي لم يعلم كيفية وقفها مع جريان العادة بالتصرف فيها إذا كشفت عن يد نوعية، لابتنائها على استحقاق المتصرفين، لا محض الإباحة لهم باذن الولي أو غفلتهم عن ذلك.

تقسيم اليد بلحاظ الاختصاص والاشتراك

كما أنها.. تارةً: تكون مختصةً.

وأخرى: تكون مشتركةً.

لأن المعيار في اليد لما كان هو تبعية ما تحتها لصاحب اليد، بحيث يكون من لواحقه، فقد يكون الشيء تابعاً لمستول واحد، كما قد يكون تابعاً لأكثر، وهو يقتضي ملكيته ظاهراً لهم كلهم الراجع إلى ملكية كل منهم لشقص منه بالنسبة، فليس في المقام إلّا يد واحدة للكل على الكل مقتضية لملكيتهم ظاهراً للكل المستلزم للتوزيع والشركة نظير البينة الواحدة المتضمنة لملكيتهم للمال.

ونظير اشتراك أكثر من واحد في حيازة شيء واحد من المباحات الأصلية، فإنه حيازة واحد من الجميع لذلك الشيء سبب لملكيتهم له واقعاً كما تكون يدهم على الشيء الواحد وصيرورته في حوزتهم سبباً للحكم بملكيتهم له ظاهراً في المقام.

ولا مجال في ذلك لدعوى تعدد الأيدي على الكل مع كون كل منها حجةً على ملكيته لكلٍ منهم استقلالاً، لتتعارض مقتضياتها، كالبينات المتعددة المتضمنة لملكية كل منهم.

ص: 412

أو دعوى: تعددها مع كون كلٍ منها أمارةً على الملكية الناقصة الذي مرجعها إلى ملكية الشقص.

أو دعوى: ثبوت كل يد على الشقص التي هي أمارة على ملكيته لا غير، كما لو أقام كل منهم بينة على ملكيته للشقص.

لاندفاع الأولى بعدم لحوق الشيء عرفاً بكل منهم، بل بمجموعهم، وعدم تعارض الأيدي المذكورة ارتكازاً، لقصورها عن إثبات الملكية الاستقلالية الذي هو منشأ التعارض.

واندفاع الثانية - مضافاً إلى ما ذكرناه من عدم لحوق الشيء عرفاً بكلٍ منهم، بل بمجموعهم المناسب لوحدة اليد - بأن ملكية الشقص لا ترجع إلى نقص في الملكية، بل في المملوك.

وأما الثالثة فتشكل: بأن التشقيص أمر اعتباري صرف، واليد منتزعة من نحو من الاستيلاء الحقيقي الخارجي، ولا سنخية بينهما، فلا مجال لفرض اليد على الشقص. فما ذكرنا هو الأقرب ارتكازاً.

ومن هنا يظهر أنه لو ادعى كل من أصحاب اليد ملكية العين استقلالاً فالتعارض بين الدعاوى لا بين الأيدي، فمع سقوط الدعاوى بالتعارض يرجع إلى مقتضى اليد من الشركة، ويكون مدعي خلافها مدعياً بالإضافة إلى ما زاد عن مقتضى الشركة، فتكون قسمتها بينهم عملاً بمقتضى اليد، لا بمقتضى قاعدة العدل والانصاف أو نحوها.

وقد أطال غير واحدٍ الكلام في المقام بما لا مجال لمتابعتهم فيه. فراجع وتأمل جيداً.

الأمر الثاني: في الملكية المحرزة باليد

الأمر الثاني: الظاهر أن الملكية المحرزة باليد هي ملكية المال، لا

ص: 413

محض السلطنة على التصرف فيه ولو بولايةٍ أو وكالةٍ أو إباحةٍ.

ويقتضيه - مضافاً إلى المرتكزات العقلائية التي هي المنشأ لسيرتهم - ظاهر كثير من النصوص المتقدمة، لأن ظاهر إضافة المال للشخص باللام هو الملكية، لا محض السلطنة على التصرف، بل هو كالصريح من صحيح عثمان وحماد وحديث حفص، للحكم فيهما بالملكية، وأظهر منهما موثقة يونس إذ لا معنى لملكية التصرف مع موت صاحب اليد.

وعليه لا يتوقف البناء على ملكية صاحب اليد على دعواه لها بل يبني عليها مع عدم دعواه لها أيضاً، لموتٍ أو نحوه، كما هو مقتضى إطلاق صحيحي محمد بن مسلم الواردين في المال المدفون في الدار العامرة، بل هو صريح صحيح جميل الوارد في ما يوجد في الصندوق المختص، المفروض فيه شك صاحب اليد، وموثق يونس المفروض فيه موته.

وعليه لو فرض العلم بعدم ملكية صاحب اليد لما تحت يده لا مجال للبناء على سلطنته على التصرف فيه.

نعم، الظاهر قبول خبر صاحب اليد الفعلية حينئذٍ في سلطنته على التصرف، كما يقبل خبره في كثير من الأمور المتعلقة بما تحت اليد، كطهارته ونجاسته وثبوت الحق فيه - كحق الرهانة - أو سقوطه عنه أو غير ذلك.

لسيرة العقلاء بل المتشرعة على ترتيب الأثر بمجرد دعوى ذلك منه، بل يكفي ظهور حاله في البناء على ذلك بترتيب الأثر من قبله وإن لم يخبر به صريحاً، فإذا عرض الدلال المتاع في السوق يشتري منه من دون أن يطالب بالبينة على وكالته من قبل المالك، وكذا إذا عرض الراهن أو المرتهن العين المرهونة للبيع.

ص: 414

وإنما يتعمد المشتري الاستيثاق في بعض الموارد احتياطاً منه لما له، كما قد يستوثق من ملكية صاحب اليد، لا لعدم الاعتماد عليه بنظرهم.

لكن هذا لا يرجع إلى حجية اليد، إذ الكلام في حجيتها بنفسها لا بضميمة دعوى صاحبها أو ظهور حاله، ولذا كانت حجةً على ملكيته للعين مع عدم ادعائه لها لموتٍ ونحوه، كما تقدم.

كما أن الظاهر تقديم قول المالك عليه لو اختلف معه، لنظير ما يأتي إن شاء الله تعالى في اليد المسبوقة بيد أخرى.

بقي في المقام شيء: المتيقن من اليد إحراز ملكية الأعيان

بقي في المقام شيء، وهو أن المتيقن من الاعتماد على اليد في البناء على الملكية إنما هو الأعيان، وأما المنافع فيشكل عموم ذلك لها، لعدم تحقق اليد بالإضافة إليها - كما عن المستند - لعدم تقررها في الوجود، وإنما توجد عند استيفائها، فإذا علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين واحتمل ملكيته للمنفعة بإجارة أو نحوها لم يحكم له بها، وإنما يحكم بملكيتها لصاحب اليد الذي يحتمل كونه مالكاً لها، لتبعيتها للعين المفروض حجية يده عليها في ملكيتها، لا لكونه صاحب يد على المنفعة رأساً.

ودعوى: تحقق اليد عليها، للاستيلاء عليها بتبع الاستيلاء على العين.

ممنوعة، لأن مجرد الاستيلاء على المنفعة، بمعنى إناطة تحققها باختيار المستولي على العين، لا يكفي في تحقق اليد التي هي محل الكلام بالإضافة إليها عرفاً. كيف وقد يتحقق هذا المعنى بالإضافة إلى غير صاحب اليد على العين لو فرض منعه لصاحب اليد من استيفائها، مع أنه لا يكون صاحب يد على المنفعة قطعاً.

ما ذكره العراقي: من التعميم للمنافع

وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن للمنفعة نحواً من الوجود،

ص: 415

لأن منافع الأعيان حيثيات وشؤون قائمة بها موجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل، وليست هي عبارة عن استيفاء المنفعة بالمعنى الفاعلي، كسكنى الدار وركوب الدابة، الذي ليس له وجود متقرر، بل ذلك من أعراض المنتفع.

مناقشته

ففيه.. أولاً: أن المقبول لا يوجد فعلاً بمحض وجود القابل، بل هو موقوف على تمامية أجزاء علته، بل ليس الفعلي إلّا القابلية، وهي أمر انتزاعي لا يتحد مع المنفعة ولا يقبل الملكية، بل ليس المملوك إلّا المعنى الحدثي القائم بالعين حين الانتفاع، فان المنفعة أمر إضافي قائم بالمنتفع والمنتفع به، ومرجع ملكيته إلى ملكية صدوره من المنتفع به المقابل لاستيفائه من المنتفع بالمعنى الفاعلي، ومن الظاهر أن الأمر المذكور تدريجي ليس له وجود متقرر قابل لأن يكون تحت اليد.

وثانياً: أنه لو فرض أن للمنفعة نحواً من الوجود القار القابل للاستيلاء في الجملة إلّا أن ذلك لا يستلزم صدق اليد - التي هي محل الكلام - بالإضافة إليها عرفاً زائداً على صدقها على العين، لإمكان أخذ نحو خاص من الاستيلاء في مفهومها، فيلزم الاقتصار على الأعيان، لأنها المتيقن من الإجماع والسيرة. بل النصوص، لاختصاص موارد أكثرها بها.

وكذا حديث حفص، إذ مجال للتعويل على متعلق اليد فيه مع الشك في صدق اليد، لقصور الإطلاق عن غير مورد متعلقه.

ولا سيما مع اشتماله على فرض شراء ما تحت اليد، المنصرف لخصوص الأعيان.

وأشكل من ذلك إمكان فرض اليد على المنفعة استقلالاً، لا بتبع

ص: 416

العين، وذلك بالتصرف الاعتباري فيها بمثل التصدي لإجارة العين والصلح على منفعتها.

إذ فيه أن التصدي للتصرف، بل التصرف بنفسه من دون أن يكون المتصرف به تحت اليد لا يكون منشأ لصدق اليد، لا في الأعيان ولا في المنافع، حقيقياً كان - كهدم الدار، واستيفاء منفعتها بالسكنى - أو اعتبارياً - كبيع الدار وتمليك منفعتها بإجارة ونحوها - وليس التصرف الاعتباري بأولى من التصرف الحقيقي، ولا التصرف في المنفعة بأولى من التصرف في العين، مع أنه لا ريب في عدم كون التصرف الحقيقي في العين - كخرق الثوب وكسر الإناء - منشأ لصدق اليد إذا لم يكن متفرعاً على الاستيلاء بالنحو الخاص الذي سبق تحديده.

نعم، مع كون العين تحت اليد ينفذ التصرف في المنفعة، لما سبق من نفوذ تصرف صاحب اليد الفعلية في ما تحت يده وقبول قوله فيه وإن لم يكن مالكاً.

لكن التصرف المذكور إنما يحرز السلطنة على المنفعة، ولا يحرز ملكيتها، إلّا أن يدعيها زائداً على ذلك. وهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في حجية اليد بنفسها على الملكية مع قطع النظر عن ادعائها.

ما ذكره اليزدي قدس سره

في كتاب القضاء

وأما ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره في كتاب القضاء من فرض اليد على المنفعة استقلالا في مثل ثمرة الوقف لو قبضها الموقوف عليها ولم يكن الوقف تحت يده.

فهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في المنافع المقابلة للأعيان، لا في العين التي هي نماء عين أخرى، لعموم دخول الأعيان تحت اليد لها

ص: 417

بلا إشكال.

ثم إن لازم دخول المنافع تحت اليد تبعاً لدخول العين هو دخول تمام المنافع في جميع أزمنة وجود العين، لا خصوص منفعة يوم أو شهر أو سنة، لعدم المعين، فلصاحب اليد دعوى أي مقدار شاء منها، وهو لا يخلو من غرابة.

هذا، ولا يبعد قبول قول صاحب اليد الفعلية في ملكية المنفعة، لكونه صاحب يد على العين، فيقبل قوله في شؤونها المتعلقة بها، كما تقدم نظيره في دعوى السلطنة على التصرف، لا بملاك كونه صاحب يد على المنفعة، ولذا لابد في البناء على ملكيته للمنفعة من دعواه ذلك زائداً على يده.

نعم، الظاهر تقديم قول مالك العين لو اختلفا، كما تقدم ويأتي نظيره في اليد المسبوقة بيدٍ أخرى.

ثمرة النزاع

ومن هنا تظهر ثمرة النزاع المذكور، فإنه على القول بعدم ثبوت اليد على المنفعة يقدم قول المالك لتبعية المنفعة للعين في الملكية بحسب الأصل، أما على القول بثبوت اليد على المنفعة زائداً على ثبوتها على العين فالمتعين تقديم قول صاحب اليد على قول المالك، إذا لم ترجع دعواه إلى تملكه المنفعة منه بإجارة ونحوها، كما لو ادعى أنه استأجر العين من المالك السابق، وأن المالك اشتراها مسلوبة المنفعة. نعم، لو رجعت دعواه إلى أخذها منه قدّم قول المالك.

وقد ذكر ذلك السيد الطباطبائي من دون أن ينبّه إلى كونه ثمرة للنزاع في المقام.

كما تظهر ثمرة النزاع أيضاً لو علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين،

ص: 418

واحتمل ملكيته للمنفعة من دون أن يدعي ذلك.

الكلام في الحقوق

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الحال في الحقوق المتعلقة بالعين، كحق الرهانة والجناية وغيرها، فان الظاهر عدم دخولها تحت اليد، لا استقلالاً ولا تبعاً، ولا تكون اليد حجة على ثبوتها لصاحبها، وإنما يقبل قول صاحب اليد الفعلية عليها، لما تقدم.

نعم، الظاهر ثبوت حق الاختصاص باليد لو علم بعدم ملكية العين، كالخمر المتخذ للتخليل، بناء على عدم قابليتها للملكية وكالأرض المحجرة للإحياء قبل أن يتم إحياؤها، لأن الظاهر كون الحق المذكور مرتبة من مراتب الملكية ونحواً من أنحائها.

والتفكيك بينهما عرفاً مما تأباه المرتكزات جداً، فلا يتوقف الحكم بثبوت حق الاختصاص لصاحب اليد على دعواه له أو ترتيب آثاره.

كما أن المعيار فيه ليس على اليد الفعلية ولو كانت متفرعة على يد أخرى وفي طولها، كيد الوكيل، بل على اليد المستقلة، على ما ذكرناه في تحديد اليد في محل الكلام.

تعقيب وتلخيص

تعقيب وتلخيص:

قد ظهر من جميع ما ذكرنا أن اليد تطلق..

تارةً: بلحاظ الاستيلاء ودخول الشيء في الحوزة المبني على كون المستولى عليه من توابع المستولي ولواحقه.

وأخرى: بلحاظ الاستيلاء الفعلي والحوزة وإن لم يكن المستولى عليه من توابع المستولى، إما لكونه تابعاً لشخص آخر، لتفرع الاستيلاء

ص: 419

المذكور على تسليط ذلك الشخص، بحيث يكون مظهراً له أو بدون ذلك، كما في يد الغاصب. وباللحاظ الأول تكون يد الوكيل يد الموكل، وباللحاظ الثاني تكون يداً له بنفسه.

واليد الأولى مصححة للبناء على ملكية صاحبها أو ثبوت حق الاختصاص له، من دون حاجة إلى دعواهما أو ترتيب آثارهما من قبله.

وهي المرادة في محل الكلام، ولا تكون بنفسها حجة على غير الملكية من شؤون ما تحت اليد، وإنما تترتب آثار الملكية من السلطنة وملكية المنفعة تبعاً لإحراز ملكية العين، لا لنهوض اليد بنفسها لإحرازها.

واليد الثانية مصححة للبناء مع الشك على نفوذ تصرف صاحبها في ما تحت يده وقبول قوله فيه وفي شؤونه من السلطنة على التصرف والحقوق والمنافع وغيرها، وليست هي حجةً بنفسها مع قطع النظر عن التصرف والقول المذكورين.

ولا يفرق فيها بين يد المالك والوكيل والأمين والولي وغيرها حتى من يعلم بكونه غاصباً، فيقبل قوله في تعيين مالك العين وصاحب الحق فيها ونحو ذلك. وإن كان يقدم قول المالك عليه لو اختلفا.

وهي أعم من الأولى، لانفرادها عنها في المستولي بالفعل الذي يعلم بعدم ملكيته، ويجتمعان في المستولي بنفسه أو بوكيله إذا احتمل ملكيته، فيحكم بملكيته لما تحت يده وإن لم يدعها، ويقبل قوله وينفذ تصرفه فيه.

وكلاهما يختص بالأعيان ولا يجري في المنافع، وإنما يبنى على ملكية المنفعة في الأولى تبعاً لإحراز ملكية العين، ويقبل قول صاحب اليد الثانية فيها لأنها من شؤون العين.

ص: 420

وكأن ذلك هو منشأ الخلاف المتقدم في دخول المنافع تحت اليد. ومحل الكلام بالأصل هو اليد الأولى، والتعرض للثانية بتبعها.

الأمر الثالث: كون اليد مصححة للبناء على الملكية لا محض ترتيب الآثار

الأمر الثالث: لا إشكال ظاهراً في أن اليد مصححة للبناء عملاً على الملكية والتعبد بها، وليست متمحضة في ترتيب آثار الملكية عملاً الراجع إلى مقام التعذير والتنجيز، من دون تعبدٍ بها. بل الظاهر أنها منشأ لإحراز الملكية، لا لمحض التعبد بها من دون توسط المحرز - كما في أصالتي الحل والطهارة - لأن النصوص بنفسها وإن كانت قاصرة عن إثبات ذلك، إلّا أنه يكفي في إثباته المرتكزات التي هي المنشأ في سيرة العقلاء والمتشرعة، بل التي يظهر من بعض النصوص الجري عليها، كصحيح عثمان وحماد وحديث حفص، كما أشرنا إليه آنفاً.

وقد أشرنا إلى الفرق بين الأصول التعبدية والإحرازية في ذيل الكلام في أدلة الاستصحاب، وربما يأتي في أوائل مبحث التعارض.

أمارية اليد وكونها أصلاً إحرازياً

وإنما الكلام في أن إحراز اليد للملكية هل يرجع إلى أماريتها عليها، أو لا، بل هي أصل إحرازي؟.

وحيث كان الفرق بين الأصل والأمارة متمحضاً في ابتناء اعتبار الأمارة على فرض كاشفيتها زائداً على كونها مصححة للتعبد بالمؤدى، كانت الأمارية محتاجة إلى عناية زائدة على أصل التعبد بالمؤدى لابد من إثباتها من دليل الاعتبار.

ومن الظاهر أن النصوص غير صالحة في نفسها لإثبات ذلك، إذ لم يتعرض فيها إلّا للتعبد بملكية صاحب اليد.

كما أن مجرد بناء العقلاء على الملكية من جهة اليد لا يستلزم أماريتها،

ص: 421

حيث قد تكون أصلاً عقلائياً، كأصالة عدم المانع التي يبني العقلاء عليها في بعض الموارد، فلابد في إثبات أمارية اليد من دعوى ابتناء المرتكزات العقلائية التي هي المنشأ للسيرة عليه.

وقد يقرب بما ادعاه غير واحد من أن منشأ بناء العقلاء على العمل باليد هو غلبة كون ما تحتها ملكاً لصاحبها.

وقد استشكل فيه بعض المحققين قدس سره: بأن المسلم غلبة كون اليد غير عادية، لا غلبة كونها مالكية، لكثرة أيدي الأولياء الوكلاء ونحوهم من غير المالكين الذين لهم الحق في وضع اليد. فراجع كلامه.

بل الانصاف: أن ملاحظة حال الناس وشدة تسامحهم في الأموال، وجهلهم قصوراً أو تقصيراً بطرق حلها، مانع من دعوى غلبة كون اليد غير عادية، لكثرة الابتلاء بالغصب، والعقود الفاسدة المستلزم لحرمة المال وحرمة نمائه ونماء نمائه مهما تعاقب، وهو كما يوجب عدوان يد الأصيل يوجب عدوان اليد المتفرعة عليها بوكالة أو ولاية أو نحوهما. فالغالب في اليد العدوان ولو مع الجهل أو الغفلة الموجبين للعذر.

اللهم إلّا أن يقال: هذا بالنظر إلى الملكية شرعاً، لكثرة قيودها وشروطها، أما بالنظر إلى أسباب الملكية السائدة بين الناس بلحاظ أعرافهم أو قوانين دولهم قبل الشريعة فغلبة اليد المالكة غير بعيدة، لتسامحهم في أسباب الانتقال.

ومخالفة الشارع للعرف في أسباب الملكية ثبوتاً لا ينافي إمضاءه لما جروا عليه من أمارية اليد على الملكية إثباتاً بالنظر للغلبة المذكورة عندهم.

هذا، مضافاً إلى أن أمارية اليد ارتكازية وإن لم تبتن على الغلبة

ص: 422

المدعاة، فيتعين البناء عليها وإن لم يعلم منشؤها. فلاحظ.

ثم إنه لا ينافي أماريتها المفروغية عن تقديم بعض الأمارات عليها كالبينة، إذ لا مانع من تقديم بعض الأمارات على بعض، تبعاً لأدلتها، كما يقدم الإقرار على البينة.

بل قد يدعى أن حجية اليد قد تكون سبباً في تحقق موضوع بعض الأمارات، وحجيتها بنحو تقدم على اليد في الرتبة اللاحقة، كما هو الحال في إقرار صاحب اليد بملكية الغير. فإن حجية اليد على ملكية صاحبها توجب صدق الإقرار على إخباره بملكية الغير المقتضي لقبوله على خلاف مقتضى اليد في الرتبة الثانية، وحيث كان الإقرار من الأمارات تعين كون ما ابتنى عليه من اليد أمارة أيضاً.

لكن الظاهر اندفاعه: بأن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير راجع إلى عدم ملكيته لما تحت يده، وملكية المقر له به. والإخبار بالأول هو الذي يصدق عليه عنوان الاقرار، وهو لا يتوقف على حجية اليد، بل يصدق حتى من غير صاحبها. والإخبار الثاني ليس إقراراً منه، بل شهادة صرفة، وقبوله منه ليس بملاك حجية الإقرار، بل بملاك حجية خبر صاحب اليد الفعلية، كقبول خبر الوكيل والأمين. فهو من سنخ اليد ويجري فيه الكلام الذي سبق في أماريتها.

ينبغي التنبيه على أمور الأول: أمارة اليد الفعلية على نفوذ التصرف

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول: تقدم أن اليد الفعلية مصححة للبناء على صحة تصرف صاحبها وقبول خبره في ما تحت يده.

والظاهر أنها أمارة على نفوذ التصرف، كأمارية اليد على الملكية في

ص: 423

محل الكلام، لاشتراكهما في الجهات الارتكازية المناسبة للأمارية.

كما لا ينبغي الإشكال في أمارية خبر صاحب اليد، بناء على أمارية اليد، حيث يكون كسائر الأخبار المبنية على الحكاية والكشف والتي يبتني قبولها على التصديق والمتابعة.

الثاني: في تقديم اليد على الاستصحاب

الثاني: لا ريب في تقديم اليد على الاستصحاب، سواء كانت أمارة أم أصلاً، لأن مورد اليد..

تارة: لا يكون مجرى لاستصحاب الملكية ولا عدمها، كما لو علم بسبق الملكية وعدمها مع الجهل بالتاريخ.

وأخرى: يكون مجرى لاستصحاب الملكية، بأن علم بسبقها.

وثالثةً: يكون مجرى لاستصحاب عدم الملكية، للعلم بسبقه ولو أزلاً، كما هو الغالب.

فلو فرض انحصار دليل اليد بعموم يقتضيه، فالنسبة بينه وبين عموم دليل الاستصحاب وإن كانت هي العموم من وجه، ويتنافيان في الصورة الثالثة، إلّا أنه يلزم تقديم عموم اليد في الصورة المذكورة، إذ لو قدم عموم الاستصحاب انحصر العمل بعموم اليد بالصورتين الأوليين، وهو في معنى إلغائه عرفاً، لإغناء الاستصحاب عن اليد في الصورة الثانية، وندرة الأولى.

أما بلحاظ الأدلة الخاصة فلا ينبغي التأمل في تقديم اليد، لأن أكثر النصوص المتقدمة، بل كلها واردة في مورد استصحاب عدم الملكية ولو كان هو العدم الأزلي. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بلحاظ السيرة.

ومنه يظهر تقديم اليد على استصحاب عدم تحقق سبب الملكية، كالبيع ونحوه، لأن المتيقن من عموم أدلتها وخصوصها حجيتها في مورده.

ص: 424

ثم إن ما تقدم في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب من ورودها عليه بنحوٍ من أنحاء الورود جارٍ هنا حتى بناءً على عدم أمارية اليد، لأنه لا يختص بالأمارة، بل يجري في الأصل الإحرازي الذي أُخذ في موضوعه أمر زائد على الشك، كاليد في المقام، حيث عرفت أن اليد محرزة للملكية وإن لم تكن أمارةً عليها.

نعم، ذلك إنما يتم بالإضافة إلى استصحاب عدم الملكية، أما بالإضافة إلى استصحاب عدم تحقق سببها من البيع ونحوه الذي هو حاكم على استصحاب الملكية فلا مجال لدعوى الورود، لما يأتي من أن اليد لا تنهض بإحراز لوازم الملكية وملزوماتها، فتقديم اليد لا يكون إلّا لإهمال دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الملكية التي هي أثر الاستصحاب المذكور، الذي هو نحو من التخصيص، حتى بناء على كون اليد من الأمارات.

الثالث: عدم حجية اليد في غير الملكية

الثالث: الظاهر عدم حجية اليد في غير الملكية وآثارها الشرعية من لوازمها وملزوماتها، كموت المورث، وبيع المالك السابق، ونحوهما، لاختصاص النصوص بالملكية، وهو المتيقن من السيرة.

وهو لا ينافي ما تقدم من أماريتها، لما تقدم في مبحث الأصل المثبت من عدم استلزام الأمارية للحجية في لازم المؤدى، وأنه محتاج إلى دليل خاص. ومعه يبنى على ذلك في الأمارة والأصل معاً.

المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة

المقام الثالث: في سعة كبرى قاعدة اليد.

والكلام فيه في ضمن مسائل..

المسألة الأولى: في إقرار ذو اليد بملكية غيره سابقاً

المسألة الأولى: لا إشكال في حجية اليد على ملكية صاحبها وإن كانت الملكية متوقفة على تجدد سبب، كالشراء من الغير والاتهاب منه،

ص: 425

سواء كان ذلك الغير معلوماً بالتفصيل أم بالإجمال، وسواء ادعى صاحب اليد تحقق السبب المذكور أم لم يتعرض له، لدخوله في إطلاق بعض النصوص المتقدمة، بل في المتيقن من موارد بعضها، كصحيح حمّاد وعثمان وغيره.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم ينكر المالك السابق ملكية صاحب اليد، لإنكاره لسبب الانتقال.

أما إذا أنكر ذلك فربما يستشكل في حجية اليد حينئذ، ويدعى انقلاب صاحبها مدعياً، ويكون المنكر هو المالك السابق، لموافقة قوله لاستصحاب عدم تحقق سبب الانتقال، فقد ذهب إلى ذلك جماعة، ونسب في كلام غير واحد للمشهور، على كلام بينهم..

تارةً: في اختصاص ذلك بما إذا كان المثبت لملكية السابق هو إقرار صاحب اليد، أو يعم ما إذا ثبت بالبينة، أو يعم أيضاً ما إذا ثبت بعلم الحاكم.

وأخرى: في اختصاصه بما إذا ادعى صاحب اليد تحقق السبب المذكور، أو يعم ما إذا أغفل ذلك. قال في الجواهر: «صرح غير واحد بانتزاع العين من يد من أقر بأنها ملك المدعي أمس، بل في الكفاية: وفي كلامهم القطع بأن صاحب اليد لو أقر أمس أنّ الملك له، أو شهدت البينة بإقراره له أمس، أو أقر بأن هذا له أمس، قضي له به، وإن استشكل هو في إطلاق ذلك. ودعوى: ظهور الفرق بين ثبوت الملك بالإقرار وبين ثبوته بالبينة... كما ترى!».

كما أنه وقع الكلام منهم في أن إنكار من يترتب ملكه على بقاء ملكية المالك السابق كالوارث والموصى له، هل يقوم مقام إنكار المالك السابق

ص: 426

أو لا؟.

لكن نسب في المستند والعروة الوثقى إلى الأكثر تقديم اليد.

وقد أطالوا الكلام في ذلك نقضاً وإبراماً بما لا مجال لمتابعتهم في خصوصياته.

ولتوضيح محل الكلام لابد من التعرض لأمور

وينبغي لتوضيح حال محل الكلام التعرض لأمور..

الأول

الأول: أن إنكار المالك الأول لسبب الانتقال واستصحاب عدم تحقق السبب المذكور لا أثر له في موارد التداعي إلّا بلحاظ ثبوت ملكيته حين اليد وعدم ملكية صاحبها حينها، وأما سبق الملكية فهو بنفسه خارج عن مورد التداعي، فلا يكون مورداً للأثر.

وحينئذ فإن فرض عموم دليل حجية اليد للمورد لم ينهض الاستصحاب لمعارضته ولزم البناء على تخصيص عمومه في الفرض، كما هو الحال في سائر موارد اليد، ومنها ما لو ادعى صاحب اليد الشراء من غير المدعي، أما لو فرض جريان الاستصحاب المذكور، بحيث يكون المالك الأول المنكر للانتقال منكراً وصاحب اليد المدعي له مدعياً، لموافقة الحجة للأول دون الثاني، لزم عدم حجية اليد وقصور دليلها في الفرض تخصيصاً أو تخصصاً.

فلا مجال لما ذكره غير واحد من الجمع بين انقلاب الدعوى وصيرورة المالك الأول منكراً، وحجية اليد، مع حكومتها على الاستصحاب أو التساقط، كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سره.

وأشكل منه ما في المستند من دعوى التعارض بين مقتضى اليد والاستصحاب المذكور المقتضي للتساقط، إلّا أن اليد المشاهدة الموجودة

ص: 427

بالعيان باقية بلا معارض، والأصل عدم التسلط على انتزاع العين من يد ذيها وعدم جواز منعه من التصرفات حتى مثل البيع والإجارة، إذ غاية الأمر عدم الدليل على ملكيته، ولكن لا دليل على عدمها أيضاً.

إذ فيه: أنه بعد فرض سقوط اليد بالمعارضة مع الاستصحاب لا معنى لملاحظتها.

كما أن مقتضى الأصل جواز انتزاع العين من يد ذيها بعد عدم ثبوت استحقاقه لها بسبب سقوط يده عن الحجية، إلّا أن يستلزم التصرف في نفس صاحب اليد أو مال آخر له، لحرمته ذاتاً، وعدم ثبوت اعتدائه بالاستيلاء على العين لتسقط حرمته.

وأصالة عدم جواز منعه عن التصرف لا تقتضي نفوذ تصرفه، بل هو مخالف للأصل.

الثاني:

الثاني: أن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير سابقاً ودعواه الملكية مع وضوح امتناع انتقال الملك من دون سببٍ ناقلٍ ظاهر عرفاً في دعواه تحقق السبب الناقل ضمناً وإن لم يذكره صريحاً.

نعم، لو صرح بعدم دعواه لذلك وإعراضه عنه أو قامت قرينة خاصة عليه منع ذلك من الظهور العرفي المذكور.

ولا يكون بمجرد ذلك مكذباً لدعواه الملكية الفعلية، ولا مسقطاً ليده لو فرض حجيتها ذاتاً، خلافاً لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره، لأن امتناع ملكيته فعلاً بعد ملكية السابق من دون سبب ناقل إنما يوجب توقفها على وجود السبب الناقل واقعاً، لا على دعواه.

نعم، لو ادعى عدم السبب الناقل كان مكذباً لدعواه ومسقطاً ليده عن

ص: 428

الحجية، لمنافاة مقتضاها لإقراره.

ثم إنه لو فرض التنافي بين دعوى الملكية الفعلية التي هي مقتضى اليد والإقرار بملكية الغير سابقاً من دون دعوى السبب الناقل، فحيث كان منشأ التنافي هو امتناع انتقال المال من دون سبب ناقل، فلا فرق بين الإقرار والبينة وعلم الحاكم بسبق ملكية الغير، وحيث كانت كلها مقدمة على اليد، ولا يختص الإقرار بينها بذلك، فالفرق بينه وبينها لا تقتضيه القواعد المعول عليها، بل يحتاج لدليل خاص.

ما ذكره النائيني قدس سره

في المقام ومناقشته

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في وجه الفرق من أن انقلاب الدعوى(1) ليس من آثار الواقع، بل من آثار نفس الإقرار، حيث يؤخذ المرء بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع، كما لو أقر بعينٍ لاثنين على التعاقب.

فهو كما ترى لا يرجع إلى محصّلٍ ظاهر، فإن الإقرار من الطرق الظاهرية، فلا يقدم على العلم.

والإقرار بعين واحدة لاثنين على التعاقب إنما يكون نافذاً في حق كل منهما، لعدم الأثر للعلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين في حق كل منهما، كي يمنع من نفوذ الإقرار في حقه، فلو كان له أثر لم ينفذ إلّا أحد الإقرارين، كما كما لو ورث أحد الشخصين المقر لهما الآخر.

على أن المفروض في المقام أن تقديم الإقرار ليس مع العلم بكذبه، كي يتجه الاعتماد على الفرق المذكور، بل لمنافاة المقر به لليد، وتقديم

ص: 429


1- مصب كلامه هنا وإن كان في انقلاب الدعوى لا في تكذيب اليد، إلّا أنه ذكر انقلاب الدعوى فراراً عن محذور التكذيب، بزعم أن دعوى الملكية الفعلية لابد أن ترجع إلى دعوى حصول السبب الناقل، إذ لو لم ترجع لذلك لزم تكذيب اليد وسقوط الدعوى رأساً، لاستحالة انتقال المال من دون سبب، وهذا جارٍ - كما عرفت - في غير الإقرار، ولابد في الفرق من فارق، فلاحظ.

الإقرار عليها، والمفروض مشاركة البينة وعلم الحاكم له في ذلك.

الثالث:

الثالث: أن صاحب اليد في المقام إن ادعى تحقق السبب الناقل صريحاً أو ضمناً - تبعاً لإقراره بسبق الملكية، على ما سبق - لا يكون مدعياً إلّا مع فرض عدم حجية يده على الملكية الفعلية، لأن وجود السبب الناقل ليس بنفسه مورداً للدعوى، وإنما يتوجه ذكره بلحاظ ترتب فعلية الملكية عليه، فمع فرض حجية اليد في ثبوت الملكية يبقى مدعيه منكراً وإن لم يثبت ما ادعاه بخصوصيته، نظير ما لو ادعى الشراء من شخص آخر غير المدعي.

ومع فرض عدم حجية اليد تنقلب الدعوى وإن لم يدع السبب الناقل، لاستصحاب الملكية السابقة.

فما يظهر من بعضهم من الفرق في محل الكلام بين دعواه السبب الناقل وعدمها، وأن انقلاب الدعوى مختص بالأول، في غير محله.

تقريب حجية اليد في المقام وتقديمه على الاستحصاب

إذا عرفت هذا، فنقول: حيث ظهر مما تقدم أن الحكم في المقام يبتني على حجية اليد في صورة إنكار المالك السابق للسبب الناقل وادعائه بقاء الملكية السابقة، وعدمها، فقد تصدى بعضهم لتقريب حجيتها بعموم الأدلة السابقة المقدم على عموم الاستصحاب.

ولازم ذلك عدم انقلاب الدعوى ولا سقوطها مطلقاً.

وأما دعوى: سقوطها لو شهدت البينة بالملكية السابقة وببقائها استناداً للاستصحاب، لتقديم البينة على اليد في فرض التنافي بينهما.

فهي مدفوعة: بأنه لا يجوز للبينة الشهادة اعتماداً على الاستصحاب بعد فرض حجية اليد وتقديمها عليه، بل تكون مدلسة بذلك، كما نبه له

ص: 430

بعض الأعاظم قدس سره.

بل لو فرض خلل اليد بنظر البينة فليس لها الاعتماد على الاستصحاب في الشهادة ببقاء الملكية، إذ الظاهر عدم جواز الشهادة اعتماداً على الحجة إلّا في فرض ابتناء المقام على ما يعم مؤداها، لا في مثل المقام، حيث يكون المطلوب للحاكم الشهادة بالأمر الواقعي التي تصلح لنقض اليد مع حجيتها ذاتاً وتقديمها على الاستصحاب بنظره، فإن الشهادة حينئذٍ بالأمر الظاهري استناداً للاستصحاب المبني على قصور اليد ذاتاً بنظر الشاهد يكون تدليساً محرماً.

منع السيد الخوئي قدس سره

لحجية اليد

هذا، وقد منع بعض مشايخنا من حجية اليد في المقام لقصور دليل حجيتها عنه.

توضيح ما أفاده قدس سره وتوضيح ما أفاده: أن مقتضى التعليل في حديث حفص بقوله عليه السلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» كون حجيتها دفعاً لمحذور اختلال السوق، فتقصر عما لو لم يلزم ذلك من عدم حجيتها، لدوران الحكم مدار التعليل وجوداً وعدماً، ومن الظاهر أن عدم حجيتها في مورد إقرار صاحب اليد بملكية غيره سابقاً لا يستلزم المحذور المذكور، لقلة ذلك وغلبة احتياط صاحب الملكية المتجددة بما يثبتها من بينة ونحوها، وعدم اكتفائه باليد المتجددة إلّا في مورد الوثوق بالمالك السابق، فثبوت اليد المالكية المحقة في مورد إنكار المالك السابق وعدم حجة للمالك اللاحق غير اليد ليس من الكثرة بنحو يلزم من عدم حجية اليد اختلال نظام السوق. ومن ثم لا مجال لدعوى عموم السيرة على حجيتها للمقام.

المناقشة فيه

وفيه.. أولاً: أن المراد باسم الإشارة في قوله عليه السلام: «لو لم يجز هذا...»

ص: 431

ليس هو حجية اليد على الملكية، الذي هو محل الكلام، بل جواز الشهادة بالملكية اعتماداً على اليد الذي هو مورد السؤال والاستدلال في صدر الحديث، ولا مانع من عدم جواز الشهادة في مورد لقصور التعليل المدعى عنه مع حجية اليد فيه لعموم دليلها.

اللهم إلّا أن يستفاد التلازم بين الأمرين من استنكار الإمام عليه السلام قبل ذلك جواز الشراء من صاحب اليد وعدم جواز الشهادة له.

عدم صلوح التعليل بالفوائد النوعية لبيان ملاك الحكم

وثانياً: أن التنبيه للزوم اختلال السوق لولا حجية اليد غير ظاهر في التعليل الذي يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً، لعدم اقترانه بأداة التعليل الظاهرة في كون مدخولها غرضاً وداعياً لجعل الحكم، بل هو ظاهر إما في التنبيه للسيرة لبيان وضوح الحكم ردعاً للسائل عن التوقف فيه وتأكيداً للاستدلال الإنكاري عليه بالوجه المذكور في صدر الحديث، أو في التنبيه للفائدة المترتبة على الحكم التي يكون التنبيه عليها موجباً لوضوح الحكم بضميمة ارتكاز الاهتمام بها، المستلزم لحفظها بتشريع ما يوصل إليها، وإن كان ملاك الحكم الداعي له أوسع منها.

وثالثاً: أن التعليل بمثل هذه الفوائد النوعية لا يصلح لبيان ملاك الحكم الذي يدور مداره وجوداً وعدماً، بل لابد من تنزيله على بيان الفائدة والحكمة.

وتوضيح ذلك: أن ترتب نظام السوق على حجية اليد مثلاً واختلاله على عدم حجيتها ليس بنحو الانحلال الراجع إلى العموم الاستغراقي، نظير ترتب نجاسة المايع على إسكاره، كي يمكن تشخيصه للمكلف، بل بنحو المجموعية النوعية، بمعنى توقف الحفظ على حجية اليد بمقدار معتد به

ص: 432

يستغني به الناس في إدارة شؤونهم، ومن الظاهر أن خصوصية موارد الحجية مما لا طريق لإحراز دخلها في ذلك، بل كما يمكن حفظ نظام السوق بحجية اليد في جملة من الموارد يمكن حفظه بإبدالها بغيرها من الموارد، فلابد من كون ذلك حكمة لا علة.

ولذا لا ريب في حجية اليد في كثير من الموارد ولا يتوقف حفظ نظامه عليها، كما في موارد تعارف الاستيثاق لصاحب اليد بحجة أخرى، حيث لو لم تكن اليد حجة حينئذ بأن يحكم بعدم ملكه عند عدم الحجة الأخرى لا يلزم اختلال السوق، بل لو أنيطت الحجية سعة وضيقاً بحفظ نظام السوق لزم خروج بعض الموارد عن الحجية بعد دخولها فيها لو فرض استغناء حفظ النظام عنها بعد توقفه عليها، لتبدل العرف والسيرة.

نعم، ربما يناقش في عموم الأدلة المتقدمة بأن حديث حفص لما لم يكن وارداً لبيان حجية اليد على الملكية، بل لبيان جواز الشهادة اعتماداً على اليد مع المفروغية عن حجيتها على الملكية، فلا ينهض بإثبات عموم حجية اليد على الملكية.

بل لما كان منشأ المفروغية هو السيرة الارتكازية لم ينهض بإثبات حجية اليد في غير موردها.

وكذا الحال في صحيح عثمان وحماد، لوروده - كما تقدم - لبيان عدم تكليف صاحب اليد الحجة - المفروض كونه منكراً - بالبينة، لا لبيان حجيتها، ليكون له عموم أو إطلاق من هذه الجهة، وإن كانت هي مفروغاً عنها في الجملة.

الكلام في باقي النصوص

وأما بقية النصوص فعدم العموم فيها ظاهر، لورودها في موارد

ص: 433

خاصة، أو لبيان أحكام خاصة وقد استفيد منها حجية اليد على الملكية تبعاً.

وفيه: أن حديث حفص وإن كان وارداً لبيان جواز الشهادة بالملكية اعتماداً على اليد» إلّا أن وضوح تفرع جواز الشهادة على حجيتها موجب لدلالتها على ذلك بالملازمة العرفية، بل بمقتضى التعرض فيها بعد ذلك لجواز الشراء، فكما ينهض إطلاقه بإثبات جواز الشهادة ينهض بإثبات حجية اليد.

وليست المفروغية عن التلازم بين الحكمين قرينةً على تقييد موضوع السؤال باليد الحجة، ليقصر الإطلاق عن إثبات جواز الشهادة في مورد الشك في الحجية، فضلاً عن إثبات الحجية نفسها، بل هي تقتضي استفادة الحجية تبعاً لجواز الشهادة في مورد السؤال على إطلاقه.

فهو نظير ما لو ورد السؤال عن جواز لعن بني أمية، فأجيب بجوازه، فإنه كما يستفاد منه عموم جواز لعنهم يستفاد منه عموم عدم إيمانهم، للمفروغية عن عدم جواز لعن المؤمن.

ولا يتوهم كون المفروغية المذكورة قرينة على تقييد مورد السؤال بغير المؤمن، ليقصر عن إثبات جواز لعن من شك في إيمانه، فضلاً عن إثبات إيمانه.

وإن شئت قلت: وضوح التلازم بين الحكمين يقتضي..

تارةً: صرف بيان أحدهما إلى بيان الآخر، كما هو الحال في جواز لعن بني أمية.

وأخرى: أخذ أحدهما في موضوع الآخر وصفاً محرز الوجود من قبل الحاكم، كما لو أمر باستعمال لحم مطروح حيث يكشف عن إحرازه

ص: 434

لطهارته أو تذكيته.

وثالثةً: أخذ أحدهما في موضوع الآخر قيداً لابد من إحراز المكلف له، كما في عموم جواز أكل لحم الشاة الذي لابد من تقييده بصورة تذكيتها.

وفي الأولين يكون دليل عموم الحكم اللازم دليلاً على عموم الحكم الملزوم، دون الثالث.

ولا إشكال في عدم مناسبة الأول للمقام، لظهور مفروغية السائل والإمام عليه السلام عن حجية اليد على الملكية، فيتعين الثاني، لأنه المناسب للإطلاق، دون الثالث.

وعليه يجوز التمسك لحجية اليد على الملكية بعموم الحديث حتى في مورد الشك في قيام السيرة على حجيتها.

نعم، قد يتوجه البناء على قصوره عن إثبات الحجية في مورد قيام السيرة على عدم حجيتها، لقرب كون منشأ المفروغية عن الحجية في ظاهر الموثقة، هو السيرة الارتكازية، فهي واردة مورد إمضائها، لا للردع عنها بتوسيع الحكم على خلاف مقتضاها.

وأما صحيح عثمان وحماد فهو وإن كان وارداً في اليد المفروغ عن حجيتها على الملكية، إلّا أنه ظاهر في أن اليد الحجة لولا الدعوى لا تسقط حجيتها بالدعوى، للحكم فيه بأن صاحب اليد الحجة إذا ادعي عليه لا يطالب بالبينة، بل يكون منكراً عليه اليمين، فيدل بإطلاقه على أن اليد في المقام لا تسقط عن الحجية بدعوى المقر له للملكية الفعلية وإنكاره للسبب الناقل، كما هو المدعى لهم، إذ ليس المدعى لهم سقوط اليد عن الحجية بمجرد الإقرار بسبق ملكية الغير، لعدم الإشكال في حجية اليد مع عدم

ص: 435

الدعوى مطلقاً، بل المدعى كون دعوى المقر له مسقطة لها عن الحجية، مع حجيتها لولاها، فينافي إطلاق الصحيح المذكور، بالتقريب الذي ذكرنا، فيتعين التمسك به حتى بناء على قيام السيرة على عدم حجية اليد وانقلاب الدعوى، لصلوحه للردع عنها.

اللهم إلّا أن يقال: الصحيح المذكور وإن كان ظاهراً في عدم سقوط حجية اليد بدعوى الخصم، بل المفروغية عن ذلك، إلّا أنه لا إطلاق له فيه، لعدم وروده للبيان من هذه الجهة، بل لبيان أن صاحب اليد الحجة الذي يصدق عليه المنكر لا يكلف بالبينة، كما هو مقتضى السؤال والاستشهاد بالنبوي الشريف، وليس وارداً لتحديد المنكر والمدعي، وبيان أن الدعوى لا تسقط اليد عن الحجية ولا انقلاب الدعوى.

وإن شئت قلت: الصحيح وارد لبيان أحكام اليد الحجة، لا لبيان سعة حجية اليد.

إن قلت: مقتضى الملازمة بين الاكتفاء باليمين من صاحب اليد وحجيتها كون عموم الاكتفاء باليمين بعد الدعوى كاشفاً عن عموم حجية اليد بعد الدعوى، ومقتضاه حجيتها وإن كانت الدعوى ممن أقر صاحب اليد بسبق ملكيته.

قلت: لا طريق لإثبات العموم المذكور، إلّا أن يكون موضوع السؤال مطلق اليد الحجة قبل الدعوى، لا خصوص اليد الحجة مطلقاً، ولا مجال لإثبات ذلك بعد ما ذكرنا، لأنه إنما يناسب بيان سعة حجية اليد، لا أحكام الحجية، كما هو ظاهر الحديث.

وعلى هذا لو فرض قيام السيرة الارتكازية على عدم حجية اليد وعلى

ص: 436

انقلاب الدعوى في المقام لم يصلح الصحيح للردع عنها، كما لا يصلح حديث حفص لذلك على ما تقدم.

إذا ظهر هذا فمن القريب جداً قيام السيرة على ذلك، كما يشهد ذلك الرجوع للمرتكزات العقلائية بل المتشرعية.

وأما الاستدلال بالإجماع فلا مجال له، بعد نقل الخلاف منهم، وعدم تحريرهم المسألة استقلالاً، وإنما يستفاد من بعضهم ضمنا في مسائل تعارض البينات أو نحوها، مع اضطراب مبانيهم، حيث يظهر من بعضهم الاعتماد على وجوه غير ناهضة في نفسها. وذلك كله مانع من تحصيل الإجماع المعتد به الصالح لرفع اليد عن مقتضى الأدلة لو فرض اقتضاؤها حجية اليد.

ولابد من التأمل التام واستيعاب النصوص وكلمات الأصحاب في المقام. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، وهو ولي التوفيق والتسديد.

بقي أمران:

بقي في المقام أمور:

الأول: فرض الكلام مع إقرار صاحب اليد دون غيره من طرق الإثبات

الأول: أن المتيقن من كلماتهم في سقوط حجية اليد بإنكار المالك السابق ما إذا أقر صاحب اليد بسبق ملكيتة، دون غيره من طرق ثبوتها. فلو كان الدليل في المسألة هو الإجماع لأمكن التفريق بين الإقرار وغيره، للفرق بينهما فيه، وإن لم يكن بينهما فرق بحسب القواعد العامة، كما سبق.

لكن عرفت أن الدليل ليس هو الإجماع، بل المرتكزات العقلائية، وهي تقضي بعدم الفرق بين الإقرار وغيره، وأنه بعد ثبوت ملكية السابق وتوقف الانتقال منه لصاحب اليد على صدور السبب الناقل منه يسمع إنكاره للسبب الناقل ولا تنهض اليد بإثبات الملكية المتجددة في مقابلة،

ص: 437

من دون خصوصية للإقرار.

الثاني: اختصاص سقوط الحجية إذا استندت دعوى السابق للعلم

الثاني: أن الظاهر اختصاص سقوط حجية اليد بما إذا استندت دعوى المالك السابق لعلمه، دون ما لو استندت للاستصحاب من جهة شكه، لان الظاهر حجية اليد في إثبات ملكية صاحبها في مرتبة سابقة على دعوى المالك السابق حتى في حقه، فلا تشرع له الدعوى مع احتمال صدق اليد، لتقديمها على الاستصحاب، فلا يصح منه الاعتماد عليه في الدعوى. ولا أقل من خروج ذلك عن المتيقن من المرتكزات القاضية بسقوط اليد عن الحجية، فيرجع في حجيتها لعموم حديث حفص.

وكذا لو ادعى صاحب اليد حصول السبب الناقل من غير المالك ممن ينفذ عليه تصرفه، كالولي والوكيل، فأنكر المالك ولو عن علم، لأن المتيقن من المرتكزات العقلائية في وجه سقوط اليد عن الحجية بدعوى المقر له أن انتقال المال عن المقر له لما كان موقوفاً على صدور السبب الناقل منه، فإنكاره له مسموع منه.

أما إذا كان المدعى لصاحب اليد صدوره من غيره فلعل إنكاره له كإنكار الأجنبي لا يسمع منه. ومجرد ترتب نفعه عليه لا يكفي في قبول دعواه وسماع إنكاره للسبب الناقل.

نعم، لا يبعد سماع إنكار السبب الناقل ممن ادعى صاحب اليد وقوعه منه في مقام إثبات دعوى المقر له.

كما لا يبعد قبول إنكار المقر له توكيل موقع السبب المدعى، لأنه فعله، ويتوقف عليه الانتقال.

وأولى من ذلك في عدم إسقاط اليد عن الحجية ما لو كان المنكر

ص: 438

للسبب الناقل غير المالك السابق ممن تترتب ملكيته على بقاء ملكيته، كالوارث والموصى له وغيرهما.

ما ذكره النائيني قدس سره في قبول دعوى الوارث دون غيره

لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره قبول دعوى الوارث، دون غيره، لأن انتقال المال إليه من المورث يرجع إلى تبدل المالك مع بقاء إضافة الملكية، فالإقرار للمورث إقرار للوارث، بخلاف غيره من أسباب الانتقال، إذ هي بين ما يتضمن تبدل المملوك مع بقاء إضافة الملكية كما في المعاوضات، وما يتضمن تبدل نفس إضافة الملكية، كالهبة والوصية ونحوهما، فلا يكون الإقرار للمالك السابق إقراراً لمن يترتب ملكه على بقاء ملكيته فيها.

وكأن نظره في الفرق إلى أنه مع فرض وحدة ملكية الوارث والمورث فالمعترف به ملكية واحدة من شأنها البقاء، ولا تسمع دعوى انقطاعها قبل قيام الوارث مقام المورث.

وأما مع فرض التعدد في مثل ملكية الموصي والموصى له فالمعترف به ملكية مباينة لملكية المدعي، لانقطاع الملكية المقر بها إما بملكية المدعي أو بملكية صاحب اليد، وكل منهما خلاف الأصل، وترجّح الثانية باليد.

وكذا الحال مع التبدل في المملوك كما في المعاوضات، لأن بقاء الملكية المقر بها إنما يقتضي ملكية المقر له لعوض المال المقر به، وهو خارج عن موضوع الدعوى، أما ملكية المدعي للمال المقر به فهي بقاء لملكيته للعوض سابقاً، وهي مباينة للملكية المقر بها، ولا يدعي صاحب اليد انقطاعها، بل بقاءها على المملوك الأول، وهو العوض.

مناقشته

لكن فيه.. أولاً: أن قيام الملكية ونحوها من الإضافات بطرفيها راجع إلى تقومها بهما، المستلزم لتبدلها بتبدل أحدهما، فيمتنع بقاؤها في الجميع.

ص: 439

وثانياً: أن بقاء إضافة الملكية وحده لا يكفي في الفرق، لأن المقر به ليس هو الإضافة الخاصة على سعتها، بل الإضافة حال كون طرفها المورث، فتسريتها لحال صيرورتها للوارث المدعي ليس مقتضى الإقرار، بل مقتضى الاستصحاب بلحاظ ترتب قيام الوارث مقام المورث على بقائها، وهو مشترك بين الجميع لفرض ترتب ملكيتهم على بقاء ملكية المقر له.

وثالثاً: أن الملاك في انقلاب الدعوى ليس وحدة الأمر المقر به، بل عموم دليل الانقلاب.

وقد تقدم منا أن المتيقن منه ما إذا كان المقر له هو المدعي بنفسه، حيث يتعلق به السبب الناقل الذي يتوقف عليه ملكية صاحب اليد، ولا يعم الوارث.

ولو كان الوجه فيه ما أشار إليه هو قدس سره من رجوع دعوى صاحب اليد الملكية الفعلية مع إقراره بسبق ملكية المدعي إلى دعوى تحقق السبب الناقل الذي هو خلاف الأصل، لجرى في كل من تترتب ملكيته على بقاء ملكية المقر له أيضاً.

هذا، وبما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لدعوى: منافاة انقلاب الدعوى بالإقرار لما تضمنه صحيح عثمان وحماد من حجية يد الصديقة عليها السلام مع إقرارها بسبق ملكية أبيها النبي (ص) لها وعدم انقلاب الدعوى بذلك.

ووجه عدم المنافاة أن الخصم المدعي معها ليس هو المقر له (ص) بل المسلمون الذين تترتب ملكيتهم على بقاء ملكيته، بناء على ما ادعاه أبو بكر من عدم توريث الأنبياء.

مع أن مطالبتهم لها عليها السلام بالبينة وكتابتهم في أول الأمر لها كتاباً بفدك

ص: 440

- كما تضمنه صدر الحديث(1) - إن لم يكونا موجبين لظهور ابتناء دعواهم على الشك اعتماداً على استصحاب عدم النحلة - التي ادعتها عليها السلام - لا على اليقين بعدمها، لإمكان ابتنائها على عدم جواز حكم الحاكم بعلمه، فلا أقل من كونها موجبة لاحتمال ذلك، ولا سيما مع سبق يدها عليها السلام حيث يصعب جداً دعواهم العلم بكذبها، وقد عرفت عدم جواز الدعوى حينئذٍ من المقر له، فضلاً عمن تترتب ملكيته على بقاء ملكيته.

الثالث: مع إنكار السابق للسبب المملك

الثالث: أشرنا آنفاً إلى أن صاحب اليد الفعلية يقبل قوله وينفذ تصرفه في ما تحت يده ظاهراً وإن لم يكن مالكاً.

والظاهر اختصاص ذلك بما إذا لم ينكر المالك إيقاع السبب الموجب لسلطنته كالتوكيل ونحوه، وإلّا سقط قوله عن الحجية ولزم الرجوع للأصل الجاري في المقام، الذي هو..

تارةً: يوافق قول المالك، كما لو ادعى صاحب اليد التوكيل أو المضاربة بالمال فأنكرهما المالك.

وأخرى: يوافق قول صاحب اليد، كما لو ادعى المالك إبلاغ الوكيل بالعزل أو اشتراط شيءٍ على عامل المضاربة، مع الاعتراف بسبق إطلاقها فأنكر الوكيل والعامل.

وكأنه لا إشكال بينهم في ذلك، كما يشهد به الفروع التي حرروها للتنازع في كثير من العقود، ويكفي فيه قصور السيرة - التي هي عمدة الدليل على قبول قول صاحب اليد الفعلية ونفوذ تصرفه - عن الصورة المذكورة. وقد تشهد به بعض النصوص التي قد يعثر عليها الفاحص المتتبع.

ص: 441


1- تفسير القمي ج 2 ص: 155 تفسير سورة الروم أية: 38.
المسألة الثانية: فيها لو علم بسبق عدم ملكية اليد

المسألة الثانية: من الظاهر أن حجية اليد على الملكية تختص بما إذا كانت مجهولة الحال ولم يعلم أنها مالكية أو غيرها.

وحينئذٍ لو أُحرز أن صاحب اليد قد أخذ الشيء سابقاً لا على وجه الملك، بل غصباً أو أمانةً واحتمل ملكه له بعد ذلك فقد صرح غير واحد بعدم حجيته يده.

قال في المبسوط: «إذا علمت سبب يد المدعى عليه، فقالت البينة: نشهد أنه كان في يده وأن الذي هو في يده أخذه منه أو غصبه إياها أو قهره عليها، فحينئذ يقضى للمدعي بالبينة، لأنها شهدت له بالملك وسبب يد الثاني...».

وقال في الشرايع: «لو شهدت بينة المدعي أن صاحب اليد غصبها أو استأجرها منه حكم بها، لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني». ونفى في المسالك والجواهر الخلاف في الحكم.

وكلام المبسوط مختص بما إذا علم اتحاد اليد واستنادها حدوثاً للسبب المذكور بمقتضى البينة، أما كلام الشرايع فإطلاق صدره يشمل ما لو احتمل تبدل اليد، بأن أرجع صاحب اليد العين بعد الغصب أو الإجارة ثم أخذها بالملك، إلّا أنه يلزم الخروج عنه بالتعليل في ذيله، المختص بما إذا علم اتحاد اليد، إذ في غير ذلك لا تصلح البينة لبيان سبب اليد، كي تسقطها عن الحجية.

لكن ظاهر الجواهر أنه فهم منه العموم، لاستدلاله بأن الأصل عدم تجدد يد أخرى غير الأولى، وعدم تجدد ما يوجب انقلاب اليد الأولى من غير المالكية للمالكية.

ص: 442

ومن الظاهر أن جريان الأصل الأول مختص باحتمال تعدد اليد، والثاني مختص باحتمال انقلاب حال اليد مع، فرض وحدتها.

عدم إمكان التمسك بالأصل لإثبات الملك

وكيف كان، فيشكل التمسك بالأصل الأول بأنه لا يحرز كون اليد الحالية بقاء لليد الأولى غير المالكية إلّا بناء على الأصل المثبت، فلا يخرج به عن أصالة كون اليد الفعلية مالكية، الذي هو عبارة أخرى عن حجية اليد على الملكية.

كما استشكل في الثاني بأنه محكوم لليد الفعلية، لأن مقتضى أماريتها على الملكية صيرورتها مالكية وتبدلها عما كانت عليه.

ما ذكره النائيني قدس سره من الحكومة

وقد دفعه بعض الأعاظم قدس سره بأن موضوع الحجية هو اليد المجهولة الحال غير المعلومة العنوان من كونها يد إجارة أو أمانة أو غصب، واستصحاب حال اليد محرز لتعنونها بأحد العناوين المذكورة، فتخرج بسببه عن موضوع الحجية تعبداً ويكون حاكماً عليها.

مناقشة

العراقي قدس سره له

لكن أورد عليه بعض الأعيان المحققين قدس سره بأن اليد كسائر الأمارات ليس الجهل مأخوذاً في موضوعها، كما في الأصول التعبدية، بل هو مورد لحجيتها، فلا ينهض الاستصحاب المذكور بالحكومة عليها، لأن ارتفاع الجهل به تعبداً لا يوجب ارتفاع موضوع الحجية فيها، بل لو تم عموم حجيتها كانت هي الحاكمة على الاستصحاب.

دفعها

وفيه: أن الفرق بين أخذ الجهل في موضوع الحجية وكونه مورداً لها لا يرجع إلى محصل، بل إن كانت الحجية منوطة به كان جزءاً لموضوعها، وإلّا لم يكن مورداً لها.

نعم، قد يستفاد ذلك من كلماتهم في توجيه الفرق بين الأمارة والأصل

ص: 443

التعبدي، لتوجيه حكومتها عليه ورفعها لموضوعه تعبداً دون العكس، مع كون كل منهما رافعاً للجهل تعبداً، جرياً على مبانيهم في توجيه الجمع بين الأمارة والأصل.

ولابد من رجوعه إلى أن دليل الأصل لما كان متضمناً لأخذ الجهل بعنوانه في موضوع الأصل كان دليل الأمارة المتضمن لرفع الجهل تعبداً ناظراً إليه وحاكماً عليه لتصرفه في موضوعه ورفعه له بعنوانه تعبداً.

أما الأمارة فحيث لم يتضمن دليلها أخذ الجهل بعنوانه في موضوع حجيتها فدليل الأصل وإن كان رافعاً للجهل تعبداً لا يكون ناظراً إليها ولا حاكماً عليها، لعدم تصرفه في موضوعها بعنوانه.

غاية الأمر أن استحالة جعل الحجية مع العلم موجب لتخصيص حجيتها لباً بصورة الجهل الحقيقي، وهو باق في فرض التعبد بالأصل.

وهذا - كما ترى - مختص بفرض إطلاق دليل حجية الأمارة، ولا يمنع من أخذ الجهل في موضوع بعض الأمارات، ولا يخرجها ذلك عن الأمارية، كما هو الحال في الظن الانسدادي بناء على الكشف وفي القرعة على بعض الاحتمالات.

ولعل ذلك هو المدعى لبعض الأعاظم في المقام، ولا تهافت في كلامه.

الإشكال فيما ذكره النائيني قدس سره من وجوه

نعم، يشكل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من وجوه..

الأول:

الأول: أن لازمه حكومة استصحاب كون اليد مالكية في فرض العلم بسبق ذلك على حجية اليد، لارتفاع الجهل بحال اليد تعبداً بسببه، فلا تكون اليد حجة، بل الحجة هو استصحاب الملكية لا غير، ولا يظن به ولا بغيره

ص: 444

الالتزام بذلك، لمنافاته للمرتكزات جداً.

الثاني:

الثاني: أن مقتضاه التعارض بين الاستصحاب المذكور وحجية اليد، لأخذ الجهل في موضوع كل منهما وصلوحهما معاً لرفع الجهل تعبداً على مبانيهم، فكما أن حجية اليد مشروطة بالجهل بحالها والاستصحاب يحرز أنها غير مالكية، كذلك استصحاب كون اليد مالكية مشروط بالجهل ببقاء حال اليد السابقة، ومقتضى إحراز اليد للملكية أنها مالكية فعلاً وقد انقلبت عما كانت عليه.

نعم، لا مجال للإشكال المذكور - لو تم ما ذكره من أن إحرازها للمالكية متفرع على إحرازها للملكية ومتأخر عنه رتبة - لأن الاستصحاب لما كان رافعاً لموضوع حجيتها على الملكية كان جارياً في الرتبة السابقة لإحرازها للمالكية، فيمنع منه، ولا رافع لموضوع الاستصحاب حينئذٍ.

لكن الظاهر عدم تماميته، إذ ليس المراد بمالكية اليد إلّا مالكية صاحبها، مع وضوح التضايف بين ملكية الشيء لصاحب اليد ومالكية صاحبها له بنحو يكون التعبد بأحدهما تعبداً بالآخر عرفاً، لا ملازماً له ومتفرعاً عليه.

ولولا ذلك أشكل إحراز مالكية اليد حتى في فرض إحرازها للملكية، لما تقدم من عدم حجية اليد في لوازم الملكية وإن كانت أمارة.

ومنه يظهر أن مرجع دعوى أخذ الجهل بحال اليد في موضوع حجيتها إلى دعوى أخذ الجهل بالملكية في موضوع حجيتها، لكن بنحو يكون من شؤونها المحمولة عليها، فلا يكفي في الحكومة عليها استصحاب عدم الملكية بمفاد ليس الناقصة الذي هو مفاد السالبة المحصلة - والذي

ص: 445

يجري ذاتاً في أغلب موارد اليد، كما تقدم - بل لابد من استصحابه بمفاد كان الناقصة، الذي هو مفاد الموجبة المعدولة.

الثالث

الثالث: أن إطلاق موضوع الحجية تابع لدليلها، فإن كان هو النصوص السابقة فمن الظاهر عدم تضمنها أخذ الجهل بعنوانه قيداً في الموضوع.

وإن كان هو الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة ونحوهما فهي لا تتعرض غالباً لأخذ الخصوصيات العنوانية، بل المدار فيها على المعنون، فإن استفيد منها اعتبار الجهل الحقيقي، لاستحالة جعل الحجية مع العلم، كانت اليد كسائر الأمارات حاكمة على الاستصحاب لا محكومة له، وإن استفيد منها اعتبار الجهل بمعنى فقد الحجة لم يكن الاستصحاب حاكماً على اليد، بل كان وارداً عليها، لرفعه لموضوع حجيتها حقيقةً، كوروده على الأصول العقلية.

الرابع: أن ما ذكره مبني على ما ذكره غير واحد من نهوض أدلة التعبد الشرعي في الأمارة والأصل برفع الجهل تنزيلاً أو تعبداً، وهو مخالف للتحقيق، وليس تقديم الأمارة على الأصل لذلك، بل لجهات أخرى تجري في اليد أيضاً لو فرض عموم حجيتها.

التحقيق في المقام

فالتحقيق: أن عدم حجية اليد في المقام ليس لحكومة الاستصحاب أو وروده عليها، بل لعدم المقتضي لها رأساً، لقصور دليل حجيتها عن صورة العلم بعدم مالكية صاحب اليد حين حدوث يده، لنظير ما تقدم في المسألة الأولى من قصور السيرة الارتكازية عنه بعد عدم الإطلاق في دليل حجيتها عدا ما تضمنه موثق حفص، وهو لا ينهض في مورد قصور السيرة، ولذا لا تكون حجة حتى لو فرض عدم جريان الاستصحاب.

ص: 446

والظاهر أن ذلك لا يختص بصورة العلم بوحدة اليد، بل يجري مع احتمال تعددها، فلا يعتنى بالاحتمال المذكور، لا لأجل استصحاب عدم تجدد يد أخرى - كما تقدم من الجواهر - بل لعموم بناء العقلاء على عدم الحجية.

نعم، مع العلم بتعاقب اليدين المالكية وغيرها والجهل بتاريخهما لا يبعد حجية اليد، بل هو المطابق للمرتكزات العقلائية.

عدم حجية اليد في محل الكلام لا يتوقف على الدعوى

ثم إن الظاهر أن عدم حجية اليد في محل الكلام لا يتوقف على الدعوى، بل يجري في حق كل من علم بسبق عدم ملكية صاحب اليد حين وضع يده أو قامت عنده الحجة عليه.

وبهذا كان بين موضوع هذه المسألة وموضوع المسألة السابقة عموم من وجه، فيجتمعان فيما لو علم بسبق ملكية المدعي وعدم ملكية صاحب اليد حين وضع يده، وتفترق تلك فيما لو علم بسبق ملكية المدعي واحتمل مالكية صاحب اليد حين وضع يده، وتفترق هذه فيما لو علم بعدم ملكية صاحب اليد حين وضع يده من دون أن يدعي عليه المالك السابق.

ولولا هذا لكان الحكم بعدم الحجية في هذه المسألة أولى منه في المسألة الأولى، وكان الأنسب تقديمها عليها.

نعم، لا يبعد قبول قول صاحب اليد لو ادعى تجدد ملكيته بعد وضع يده، أو مع تجدد اليد في غير مورد الدعوى، ولا سيما إذا لم يسبق منه العدوان، بل كانت يده أمانية.

كما لا ينبغي الإشكال في البناء ظاهراً على نفوذ تصرف من سبقت منه اليد الأمانية وإن لم يدع الملكية، ولابد من التأمل في أطراف المسألة.

ص: 447

والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

المسألة الثالثة: عدم اختصاص حجية اليد بالغير بل تشمل صاحبها

المسألة الثالثة: الظاهر أن حجية اليد على ملكية صاحبها لا تختص بالغير، بل تجري في حق صاحب اليد نفسه لو شك في ملكيته لما تحت يده. لعموم الجهات الارتكازية المقتضية لحجية اليد. ولا سيما بعد ما تقدم في المقام الأول من عدم توقف حجية اليد على دعوى صاحبها للملكية، إذ لا يحرز بناؤه على الملكية مع عدم دعواه، فينحصر المصحح للبناء عليها باليد، وخصوصية الغير في ذلك ملغية ارتكازاً.

وأما النصوص فأكثرها وارد لبيان حكم الغير، ولا إطلاق له يشمل الحجية في حق صاحب اليد نفسه لظهور نصوص التداعي في حجية اليد في فرض التخاصم من صاحبها، بنحو تجعله منكراً، ولا تدل على جواز اعتماد صاحبها عليها في التخاصم.

ومثلها في ذلك نصوص جوائز السلطان، وشراء العبد من السوق، لظهورها في حجية اليد في فرض دفع الجائزة وتعريض العبد للبيع من صاحب اليد، ولا تدل على جواز اعتماده عليها فيهما. واختصاص حديثي حفص ويونس بمن يشهد لصاحب اليد وبوارثه، دون صاحب اليد نفسه.

نعم، تستفاد حجية اليد في حق صاحبها من صحيح جميل بن صالح، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «رجل وجد في منزله ديناراً. قال يدخل منزله غيره؟ قلت: نعم، كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا. قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا. قال: فهو له»(1) فإن اختصاص الصندوق بالإنسان لا يوجب العلم بملكية ما فيه - خلافاً لما

ص: 448


1- الوسائل، ج 17 باب: 3 من أبواب اللقطة حديث: 1.

عن المستند - لإمكان كونه أمانة أو نحوها.

هذا، وفي الرياض أن مقتضى إطلاق النص - يعني هذا الصحيح - والفتوى عموم الحكم لصورة العلم بأنه ليس له سابقاً، وأن الأولى العمل بالإطلاق المذكور ولو لاحتمال كونه رزقاً بعثه الله إليه، وعليه يخرج عما نحن فيه، لعدم ابتناء الإطلاق المذكور على حجية اليد، ليكون دليلاً عليها في المقام.

لكنه في غاية الإشكال، لأن الغفلة عن كونه رزقاً بعثه الله تعالى إليه، وعدم الاعتداد باحتماله في فرض الالتفات إليه يوجب انصراف إطلاق السؤال عنه، واختصاصه باحتمال كونه له سابقاً، وهو كافٍ في تقييد الجواب، والمرتكز حينئذٍ ابتناؤه على حجية اليد، بل هو كالمقطوع به من إطلاق الفتوى.

ويدل أيضاً على عموم حجية اليد إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «سألته عن الدار يوجد فيها الورق. فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحق به»(1) ونحوه صحيحه الآخر(2)، لشمول إطلاقهما لما لو لم يعلم أهل الدار أن الورق لهم، فيكون ظاهرهما جواز ترتيبهم آثار الملكية بمجرد اليد.

هذا، وقد يستشكل في ذلك بلزوم تقييد الصحيحين بصحيح إسحاق بن عمار: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجلٍ نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة

ص: 449


1- الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 1.
2- الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 2.

كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها»(1) ونحوه صحيحا الحميري في الصرة التي توجد في جوف الدابة من تعريف البايع، فإن عرفها وإلّا فهي للواجد(2).

لظهورها في توقف الحكم بملكية صاحب اليد السابقة على معرفته للمال.

وأما صحيح جميل فصدره منافٍ لظاهر ذيله، فإن دخول الكثير للدار لا يمنع من تحقق يد صاحبها عليها وعلى ما فيها.

وما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره في العروة الوثقى من ظهوره في فرض العلم بأن الدينار ليس لصاحب الدار غير ظاهر المأخذ.

بل ظاهر استفسار الإمام عليه السلام في الذيل عن وضع الغير في الصندوق أنه لا يحكم معه بملكية صاحب الصندوق للدينار معه، فيطابق الصدر.

ومن هنا فقد استدل في محكي المستند بالصحيح على عدم حجية اليد في حق صاحبها بعد ما تقدم منه من حمل الحكم بملكية الدينار لصاحب الصندوق المختص على العلم بأنه له.

لكنه في غير محله، لما تقدم من عدم ملازمة الاختصاص للعلم بذلك.

فالأولى الاقتصار في الصحيح على مورده أو الالتزام بإجماله مع كون وجه البناء على عدم حجية اليد في حق صاحبها هو صحاح إسحاق والحميري التي يجب رفع اليد بها عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم.

ص: 450


1- الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 3.
2- الوسائل، ج 17 باب: 9 من أبواب اللقطة حديث: 1، 2.

اللهم إلّا أن يقال: إدخال الغير يده في الصندوق ووضعه المال فيه مانع من تحقق اليد لصاحبه على ما فيه، لرجوعه إلى كونه معداً لإيداع الكل، فلا يكون تابعاً عرفاً لصاحب الصندوق وحده، لتثبت يده عليه.

ولأجل ذلك يقرب كون الذيل قرينة على حمل الصدر على كون دخول الكثير للمنزل بنحو يمنع أيضاً من صدق اليد في حق صاحبه على الدينار الموجود فيه، بأن يكون معداً للدخول العام، كبعض الدواوين والبرانيات، فإن صاحبه لا يكون صاحب يد على مثل الدينار مما ليس من شأنه أن يطرح فيه، ولا يكون من توابعه عرفاً، بل تختص بمثل الأثاث ونحوه من لواحق المنزل التي من شأنها أن توضع فيه، وذلك هو المحتاج للسؤال، وأما مجرد دخول الغير للمنزل مع تحجيبه فهو مما لا يخلو عنه منزل غالباً، فيبعد السؤال عنه.

ومن هنا يشكل رفع اليد عن ظهور الصحيح في حجية اليد في حق صاحبها.

كما لا مجال لرفع اليد عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم بصحاح إسحاق والحميري، لعدم وضوح تحقق اليد التي هي المعيار ارتكازاً في الأمارية على الملكية بالإضافة إلى مورد الصحاح المذكورة.

المعيار في صدق اليد مع التبعية

وتوضيح ذلك: أن مجرد تبعية الشيء خارجاً لما تحت اليد لا يكفي في صدق اليد التي هي محل الكلام بالإضافة إليه، بل لابد فيه إما من كون وضعه بنحو التبعية طبيعياً متعارفاً، كحافر الدابة وسرجها وأخشاب بناء الدار الظاهرة أو المدفونة فيها، أو كونه مقصوداً لصاحب اليد، بحيث يجعل استيلاءه عليه بطريق تبعيته لما في يده، كما لو دفن الشخص ماله في داره أو

ص: 451

جعله في جوف دابته.

أما إذا لم يكن وضعه طبيعياً ولم يكن مقصوداً لصاحب اليد فلا تصدق اليد التي هي محل الكلام، وإن تحقق الاستيلاء الخارجي تبعاً من دون قصد، كالمال الذي يلتصق بحافر الدابة عند مشيها، والطائر الذي ينحبس في الدار صدفةً ونحوهما.

فإذا احتمل في مثل ذلك استناده للمالك لم تحرز اليد، ومنه مورد الصحاح المذكورة.

وحينئذٍ إذا لم يعرف صاحب اليد على الدار والدابة المال قطع بعدم استناده إليه، إذ ليس من شأنه أن يجهله لو استند وضعه إليه، فيقطع بعدم ثبوت اليد له عليه، وإن احتمل كونه ملكاً له.

على أنه لو فرض تحقق اليد في مورد هذه الصحاح فمقتضاها عدم حجية اليد حتى بالإضافة إلى الغير بل هو متيقن منها وهو خلاف صريح موثق يونس بن يعقوب المتضمن حجية اليد مع موت صاحبها، بل لعله لا يقول به الخصم.

فلابد من الاقتصار على مورد الصحاح المذكورة وعدم التعدي عنها، كي يخرج بها عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم وصحيح جميل المعتضدة بعموم السيرة الارتكازية، كما ذكرنا.

المسألة الرابعة: لو علم بسبق الوقفية على اليد

المسألة الرابعة: ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن اليد لا تكون حجة على الملكية مع العلم بسبق كون ما تحتها وقفاً غير قابل للانتقال إلّا بطروء مسوغ، لأنها أمارة على تحقق سبب الانتقال في ظرف قابلية المحل له، لا على تحقق القابلية المذكورة، بل لابد من إثباتها من الخارج، فمع عدمه

ص: 452

يكون مقتضى استصحاب عدم طروء ما يسوغ بيع الوقف خروج المورد عن موضوع حجية اليد، فيكون حاكماً عليها.

وبه يفترق عن استصحاب عدم تحقق البيع، فإنه لما لم يوجب خروج المورد عن عموم حجية اليد لم يصلح للحكومة عليها، بل تكون اليد هي الحاكمة عليه، كما تحكم عليه سائر الأمارات.

ونظير الاستصحاب المذكور في المقام استصحاب خمرية الخمر، فإنه مخرج للمال تعبداً عن قابلية التملك، فيرتفع به موضوع حجية اليد، ولا تنهض اليد بإثبات ملكية المايع، فضلاً عن ارتفاع خمريته.

لكن ما ذكره من أخذ قابلية المال للانتقال في موضوع حجية اليد غير ظاهر الوجه بعد عموم بعض أدلة الحجية، كموثق حفص، المناسب لعموم السيرة الارتكازية.

ودعوى: اختصاصها بما إذا أحرزت القابلية المذكورة.

ممنوعة جداً، ولا سيما بملاحظة أن عدم قابلية المال للانتقال بسبب الوقفية ونحوها أمر تعبدي محض، وليس ارتكازياً عقلائياً، فلا معنى لأن يناط به مثل حجية اليد من الأمور العقلائية الارتكازية، لعدم السنخية.

وأما توقف بعض المتحرجين عن شراء المال حينئذٍ وترتيب آثار الملكية عليه فمن القريب أن يكون احتياطاً محضاً ناشئاً عن التورع أو عن الاطمئنان في كثير من الموارد بعدم المسوغ مع سهولة الاحتياط، ولم يتضح تفرعه على البناء على عدم حجية اليد.

على أنه يكفي في بطلان ما ذكره النصوص الكثيرة والسيرة القطعية على ترتيب آثار الرق على ما تحت اليد، وإن احتمل حريته، بل وإن ادعاها،

ص: 453

مع أن الحرية هي مقتضى الأصل، والحر لا يقبل الملكية، بل هو أشد من الوقف.

ما فرق قدس سره به بين الوقفية والحرية

وقد فرق قدس سره بينهما بأن المفروض في المقام العلم بسبق الوقفية، ولا يعلم بسبق الحرية لمن هو تحت اليد، بل ليس فيه إلّا أصالة الحرية المختصة بغير ما يكون تحت اليد، ولا تجري في ما يكون تحت اليد، بل اليد أمارة على رقيته.

لكنه مخدوش..

مناقشته

أولاً: بأن مقتضى ما ذكره لزوم إحراز قابلية المال للتملك في حجية اليد على ملكيته، لا مجرد عدم إحراز خروجه عن القابلية المذكورة، ومن الظاهر أنه لا محرز للرقية لولا اليد. ومنه يظهر النقض عليه ايضاً بالمال المحتمل الوقفية مع الجهل بحالته السابقة، كما لو احتمل كونه نماء وقف تابعاً له في الوقفية، بناءً على مختاره قدس سره من عدم جريان استصحاب عدم الوقفية الأزلي.

وثانياً: بأن اختصاص أصالة الحرية بغير ما يكون تحت اليد ليس لقصورها ذاتاً عن مورد اليد، لإطلاق نصوصها، بل لتقديم اليد عليها، الكاشف عن نهوض اليد بإثبات قابلية المال للتملك.

ولذا لا ريب في أنه لو سقطت اليد عن الحجية ولو بالمعارضة لكان الأصل الحرية، كما تضمنه صحيح حمران: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادعى الرجل أنها مملوكة له، وادعت المرأة أنها ابنتها. فقال: قد قضى في هذا علي عليه السلام... كان يقول: الناس كلهم أحرار إلّا من أقر على نفسه بالرق وهو مدرك، ومن أقام بينة

ص: 454

على من ادعى - من عبدٍ أو أمةٍ - فإنه يُدفع إليه...»(1).

وأما ما ذكره قدس سره من أن استصحاب الخمرية مانع من البناء على ملكية ما تحت اليد.

فليس الوجه فيه قصور اليد عن إثبات الملكية عند الشك في قابلية المال للتملك، بل لأن اليد لا تحرز الملكية بخصوصيتها، ولذا لا تكون اليد على مثل الخمر القابل للتخليل كاذبة، بل تحرز أحد الأمرين من الملكية وحق الاختصاص، الذي هو نحو من الملكية عرفاً ومن مراتبها - كما تقدم - وتعيين أحد الأمرين تابع لحال المال الذي تحت اليد، لا لليد، فإذا كان هناك أصل يحرز عدم قابلية المال للتملك لم يكن البناء على ثبوت حق الاختصاص فيه دون الملكية منافياً لليد، كي يرجع إلى تقديم الأصل على اليد، بل هو شارح لحال موضوعها، بخلاف المقام، لأن بقاء الوقفية مناف لمؤدى اليد، لرجوعه إلى كونها أجنبية وبلا حق.

وبالجملة: لا مجال في المقام لدعوى قصور اليد عن إحراز الملكية، بل هي تنهض بذلك. ومجرد كون منشأ الشك في الملكية الشك في قابلية المال للتملك - بالمعنى المذكور - غير ضائر، لعموم حجية اليد لمثل ذلك.

حجية اليد في محل الكلام مع عدم دعوى الموقوف عليهم بقاء الوقف

نعم، لابد في حجية اليد في محل الكلام من عدم دعوى الموقوف عليهم بقاء الوقف، وعدم سبق استيلاء صاحب اليد بوجه غير مملك من أمانة أو عدوان بنحو يحتمل كون يده الفعلية بقاء لتلك اليد، وإلّا جرى ما تقدم في المسألة الأولى والثانية، لعدم اختصاص ملاكهما بفرض ملكية العين للغير سابقاً، بل يعم مثل المقام، مما كان المال فيه مورداً لحق الغير.

ص: 455


1- الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 9.

خاتمة..

خاتمة

تعرض غير واحدٍ ممن كتب في هذه القاعدة لأمور خارجة عن حجية اليد على الملكية، كجواز الشهادة اعتماداً على اليد، وحكم اليد في التداعي من حيثية تعيين المدعي من المنكر، وحجية اليد في غير الملكية كالولاية والعرض والنسب، وحجية يد المسلم على التذكية، وحجية إقرار ذي اليد للغير، وقبول قوله في شؤون ما تحت يده من طهارته ونجاسته ونحوهما، وسببية اليد للضمان.

والبحث عن هذه الأمور وإن كان مورداً للفائدة، إلّا أن خروجها عما هو محل الكلام في هذه القاعدة، وعدم مسانختها له في الأدلة، وطول الكلام فيها، وتحرير كثير منها في محالها من أبواب الفقه، دعانا لإهمالها في المقام.

كما أنهم تعرضوا أيضاً لأحكام التعارض بينها وبين غيرها، كالاستصحاب والبينة والاستفاضة.

وذلك وان كان من المهمات المتعلقة بما نحن فيه، إلّا أن البحث في تقديمها على الاستصحاب قد تقدم في المقام الثاني.

وتقديم البينة عليها من الوضوح بحد يستغنى معه عن البحث، كتقديم الاستفاضة العلمية عليها.

وأما الاستفاضة غير العلمية فالبحث في حالها معها مبني على حجيتها مطلقاً أو في خصوص بعض الموارد، وهو أجنبي عن محل الكلام،

ص: 456

فلا مجال للبحث عنه هنا.

نعم، لو لم يكن هناك عموم يقتضي حجية اليد، بل المتيقن حجيتها في الجملة لم يكن البحث المذكور مبنياً على حجية الاستفاضة، لرجوعه إلى حجية اليد في مورد الاستفاضة ذاتاً، لا سقوط إحداهما بالمعارضة.

لكن ما تقدم من الأدلة واف بالعموم من هذه الجهة، فلابد من البناء على عدم الخروج عنها إلّا في مورد يعلم بتقديم الاستفاضة عليها، لأن دليل حجية الاستفاضة لو تم في مورد فهو لبي يقتصر فيه على المتيقن، فعمومه لمورد اليد مساوق للعلم بعدم حجية اليد على خلافها لقصور عمومها أو تخصيصه.

وهذا جارٍ في جميع الحجج التي لا عموم في دليلها إذا عارضت اليد. أما لو كان لدليلها عموم كما لدليل اليد عموم لزم النظر في ما يعين أحد العمومين للعمل في مورد التنافي من المميزات الدلالية والخارجية ولا ضابط لذلك، كما لا يسعنا تحرِّي الموارد وتشخيص حالها، بل يوكل لوقت الابتلاء بذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، والحمد له وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 457

ص: 458

الفصل الثاني: في قاعدة التجاوز والفراغ

اشارة

إنما جعلنا هذا العنوان لهذه القاعدة لوقوع الكلام بينهم في أن مفاد الأدلة قاعدتان موضوع إحداهما الفراغ وموضوع الأخرى التجاوز، أو قاعدة واحدة موضوعها الجامع بين الأمرين. ويأتي الكلام في ذلك في المقام الثاني عند الكلام في مفهوم القاعدة.

مجرى القاعدة الشيهة الموضوعية

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل الراجعة إلى أنه لا يعتنى بالشك في العمل إلّا أن يكون في المحل قبل صدق التجاوز والفراغ.

وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي فهي تجري في الشبهة الموضوعية، دون الحكمية، فلا تكون مسألة أصولية، بل قاعدة فقهية ظاهرية.

والكلام فيها..

تارةً: في دليلها.

وأخرى: في تحديد مفهومها تفصيلاً.

وثالثةً: في سعة كبراها. فالبحث في مقاماتٍ ثلاثةٍ، على نحو ما جرينا

ص: 459

عليه في قاعدة اليد.

المقام الأول: في دليل القاعدة

المقام الأول: في دليل القاعدة، وقد يستدل عليها بأمور..

الأول: النصوص الكثيرة

الأول: النصوص الكثيرة العامة والخاصة ببعض الموارد. فمن النصوص العامة موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: كل ما شككت فيه مما قد، مضى فأمضه كما هو»(1)، وصحيح زرارة: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة. قال: يمضي. قلت: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبَّر. قال: يمضي... ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شيءٍ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيءٍ»(2) وصحيح إسماعيل بن جابر: «قال أبو جعفر عليه السلام: إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض. كل شيءٍ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه»(3).

ولا يصلح الصدر في الأخيرين لتخصيص عموم الذيل فيهما بأفعال الصلاة، لأن المورد لا يخصص الوارد، ولا سيما مع كون العموم ارتكازياً.

وفي موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال: إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيءٍ، إنما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه»(4).

لكنه يشكل: بأنه لا مجال للعمل به في مورده، وهو الوضوء، لوجوب الاعتناء بالشك في أجزائه قبل الفراغ منه، كما يأتي إن شاء الله تعالى، ولا

ص: 460


1- الوسائل، ج 5 باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.
2- الوسائل باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.
3- الوسائل باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 4.
4- الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.

يكفي مضي محل الجزء ما دام مشغولاً بالوضوء، والعام المخصص في مورده ليس بحجة.

اللهم إلّا أن يحمل التبعيض في قوله عليه السلام: «من الوضوء» على التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية، لا بلحاظ الوحدة الاعتبارية، فيكون البعض هو الفرد من الكلي، لا الجزء من الكل، ويكون مفاد الصدر الذي هو مورد العموم الذي في الذيل عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه، وهو مما اتفق فيه النص والفتوى، لا عدم الاعتناء بالشك في بعض أجزائه عند الدخول في ما بعده منها، كي يستلزم البناء على الاعتناء بالشك فيه خروج المورد.

نعم، لما كان هذا من أفراد العام أيضاً لزم تخصيص العام في فرد غير المورد، وليس هو محذوراً مسقطاً للعموم عن الحجية.

لكن لابد من كون الحمل المذكور عرفياً ولو للجمع بينه وبين ما دل على الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء، ولا يكفي الالتجاء إليه لأنه أولى من الطرح، ولا يخلو عن إشكال.

ومما يستفاد منه العموم ما عن مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين، ويقضي الحائل والشك جميعاً، فإن شك في الظهر فيما بينه وبين أن يصلي العصر قضاها، وإن دخله الشك بعد أن يصلي العصر فقد مضت إلّا أن يستيقن، لأن العصر حائل فيها بينه وبين الظهر، فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلّا بيقين»(1) وصحيح زرارة والفضيل عنه عليه السلام:

ص: 461


1- الوسائل، ج 3 باب: 6 من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة حديث: 2.

«فإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل، فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن»(1). لظهورهما - ولا سيما الأول - في أن الحائل علة لعدم التدارك، فيتعدى عن مورده لكل حائل يتحقق معه مضي محل الشك، أو التجاوز عنه، على ما يأتي توضيحه.

هذا ما عثرنا عليه من النصوص العامة.

وهناك جملة من النصوص المختصة ببعض الموارد الصالحة لتأييد العموم، كموثق بكير أو صحيحه: «قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال: هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك»(2) وغيره مما ورد في الشك في الوضوء وفي أفعال الصلاة(3).

الثاني: الإجماع

الثاني: الإجماع.

ولا يخفى أنه لا مجال لدعوى الإجماع الفتوائي، لعدم تحرير القاعدة في كلامهم، إلّا أن ملاحظة كلماتهم في أبواب الفقه قد تشهد بالإجماع الارتكازي منهم، فقد صرحوا بعدم الاعتناء بالشك في عدد الأشواط بعد الفراغ من الطواف، بل نفي الخلاف في ذلك مع عدم النص المعتد به فيه.

كما أن الظاهر رجوع قاعدة الصحة في العقود والإيقاعات التي ينحصر دليلها بالإجماع والسيرة إليها.

لكن المتيقن من ذلك الشك بعد الفراغ من العمل الارتباطي، ولا طريق لتحصيل الإجماع على عدم الاعتناء بالشك في حصول الجزء بعد

ص: 462


1- الوسائل، ج 3 باب: 6 من أبواب المواقيت حديث: 1.
2- الوسائل، ج 1 باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.
3- راجع الوسائل، ج 1 باب: 42 من أبواب الوضوء. و ج 4 باب: 13 من أبواب الركوع و ج 5 باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

الدخول في غيره قبل الفراغ من المركب الارتباطي الذي هو مورد قاعدة التجاوز بناء على تعدد القاعدتين، لعدم تصريح لهم بذلك معتد به إلّا في الصلاة التي هي مورد النصوص الخاصة.

نعم، قد يتجه ذلك بناء على اتحاد القاعدتين ورجوعهما لجامع ارتكازي واحد.

لكنه لا يبلغ مرتبة الاستدلال بعد فرض قصور تصريحاتهم، بل في صلوح الإجماع للاستدلال حتى بالإضافة إلى ما بعد الفراغ إشكال.

الثالث: سيرة العقلاء

الثالث: سيرة العقلاء الارتكازية على عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محل المشكوك.

ولا مجال لإنكارها بعد التأمل في المرتكزات وملاحظة مبانيهم في موارد قاعدة الصحة التي يجمعها معها جامع ارتكازي واحد، فإن الظاهر ابتناء الإجماع على قاعدة الصحة على الارتكازيات العقلائية، فهي قاعدة إمضائية لا تأسيسية، ولا سيما مع فقد الأدلة النقلية التعبدية فيكشف عن قوة الجهة الارتكازية المذكورة ووضوحها بنحو أوجب تسالم الفقهاء عليها في مقام العمل.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به للقاعدة، وعمدته النصوص العامة التامة السند والدلالة، وإنما تعرضنا لما عداها لتأييد عمومها وتقريب مضمونها.

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة تفصيلاً.

والكلام في ذلك يبتني على الكلام في أن المستفاد من نصوص المقام قاعدتان مختلفتان بالحدود المفهومية، أو قاعدة واحدة تعم بمفهومها كلا

ص: 463

القاعدتين، أو تختص بإحداهما مع إهمال الأخرى، أو مع رجوعها إليها، لكونها من جملة صغرياتها الحقيقية، أو التنزيلية التعبدية.

الكلام في وحدة القاعدة وتعددها

وقد اختلفت كلماتهم في ذلك أشد الاختلاف، وكثر منهم النقض والإبرام.

ومدعى القائل بالتعدد أن بعض النصوص قد تضمن قاعدة التجاوز التي مفادها التعبد بوجود المشكوك بمفاد كان التامة بعد التجاوز عنه، وبعضها قد تضمن قاعدة الفراغ التي مفادها التعبد بصحة الموجود وتماميته بمفاد كان الناقصة بعد الفراغ عنه ومضيه، فهما مختلفان موضوعاً ومفاداً.

كما أنه حيث كان الشك في تمامية الموجود وصحته بمفاد كان الناقصة مسبباً عن الشك في وجود جزئه وشرطه بمفاد كان التامة فالتعبد بالثاني مغن عن التعبد بالأول.

ومن ثم لزم حكومة قاعدة التجاوز في مورد جريانها في الأجزاء والشرائط على قاعدة الفراغ في المركب، فتختص قاعدة الفراغ بما إذا لم تجر قاعدة التجاوز.

أما الاتحاد فيمكن تصويره بوجوه..

تصوير وحدة القاعدة من وجوه الوجه الأول:

الوجه الأول: أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة عامة لكلتا القاعدتين لعموم موضوعها ومفادها، بأن يراد بالشك الذي تضمنته بعض النصوص أو الشك في الشيء الذي تضمنه أكثرها هو الشك في الشأن الذي يهتم به لترتيب العمل عليه واقتضائه التدارك، من دون فرق بين وجوده وتماميته، فيعم موضوعي كلتا القاعدتين، ويكون المضي في كل شيءٍ بحسبه، فمضي العمل الخارجي الذي علم بتحققه وشك في صحته بالفراغ

ص: 464

عنه، ومضي العمل الكلي الذي شك في أصل وجوده بمضي محله.

أما مفاد هذه القاعدة فهو عدم الاعتناء بالشك، بل يبنى على تحقق الجهة المشكوك فيها المتعلقة بالشيء ولا يحتاج للرجوع والتدارك.

ما ذكره النائيني قدس سره

من وجوه الإشكال في ذلك

وقد تعرض غير واحد للإشكال في ذلك وأفاض بعض الأعاظم قدس سره فيه بذكر خمسة وجوه اقتصرنا على أربعة منها مع نحو من الاختلاف في تقرير بعضها..

الأول

الأول: أنه لا جامع بين مفاد (كان) التامة ومفاد (كان) الناقصة، لترتبهما تبعاً لترتب موضوعيهما، لكون الوجود محكوماً به في الأول، وقيداً للمحكوم عليه في الثاني.

ويندفع: بأن الترتب بين موضوعي المفادين إنما يمنع من جمعهما بلحاظ واحد بحدودهما المفهومية، ولا يمنع من فرض جامع بينهما مبني على الغاء مميزاتهما، وهو عنوان الشيء الذي أُخذ في الأدلة، إذ لا ترتب بينهما في صدق عنوان الشيء عليهما، ولا مانع من عمومه لها.

وحيث لا تصح إضافة الشك للشيء إلّا بلحاظ نحو نسبة متعلقة به أمكن عموم النسبة المصححة للإضافة المذكورة في المقام لكلتا النسبتين المناسبتين لكلا الموضوعين.

غايته أن قرينة المقام تقتضي تخصيص النسب المذكورة بخصوص ما يترتب عليه العمل ويكون منشأ للرجوع والتدارك، وهو جامع عرفي مناسب للمقام.

الثاني

الثاني: أن متعلق الشك في قاعدة الفراغ هو المركب وفي قاعدة التجاوز أجزاؤه، ولا يمكن إرادة الكل والجزء من لفظ الشيء في الاستعمال

ص: 465

الواحد، إذ في ظرف لحاظ الكل يكون الجزء بعض الشيء، وفي ظرف لحاظ الجزء يكون الكل أشياء متعددة، لا شيئاً واحداً.

ويظهر اندفاعه مما تقدم، فإن خصوصية الكل والجزء ملغية في مقام إطلاق الشيء، وانطباقه على كل منهما تابع لتعلق الشك به بالنحو الذي يترتب عليه العمل.

كيف! والظاهر عموم كلتا القاعدتين لو فرض التعدد للجزء والكل معاً، فتجري قاعدة الفراغ في الجزء مع العلم بوجوده والشك في صحته، كما تجري قاعدة التجاوز في المركب لو شك في أصل، وجوده وفرض صدق التجاوز عنه بالدخول في غيره أو مضي وقته.

الثالث

الثالث: أنه يلزم التناقض في تطبيق القاعدة بالإضافة إلى الشك في الجزء بعد مضي محله قبل الفراغ من المركب، إذ مقتضى تطبيقها على الجزء عدم الاعتناء بالشك لمضيه، ومقتضى تطبيقها على الكل الاعتناء به، لعدم مضيه.

وفيه: أنه لو تم لم يندفع التنافي بتعدد القاعدة، لوضوح أن قاعدة الشك في المحل مباينة لهذه القاعدة اتحدت أم تعددت، وتطبيق تلك على الكل ينافي عملاً تطبيق هذه على الجزء اتحدت لأم تعددت، فلابد في رفع التنافي من دعوى حكومة تطبيق هذه القاعدة على الجزء على تطبيق تلك على الكل، لأن الشك في الكل مسبب عن الشك في الجزء.

الرابع

الرابع: أن تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقي، لمضي العمل حقيقة بالفراغ عنه، وفي مورد قاعدة التجاوز ادعائي بلحاظ مضي محله، حيث لم يعلم بوجوده ليحرز مضيه حقيقة.

ص: 466

وفيه: أنه لو سلم كون تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقياً، إلّا أنه لا مانع من إرادة الجامع بينه وبين مضي المحل، بلحاظ مضي محل الشك فيهما معاً، ويكون إطلاقه ادعائياً، لأن الإطلاق على الجامع بين المعنى الحقيقي والإدعائي ادعائي، غايته أنه محتاج إلى قرينة، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه عند التعرض لمفاد النصوص إن شاء الله تعالى.

وبالجملة: الظاهر أنه لا محذور في هذا الوجه ثبوتاً. والكلام في إثباته يأتي بعد النظر في بقية الوجوه، وبيان حالها ثبوتاً ولوازمها، كي يتضح ما ينبغي النظر في دلالة النصوص عليه من غيره.

الوجه الثاني من وجوه الوحدة

الوجه الثاني: أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة مفادها التعبد بوجود الشيء المشكوك بمفاد كان التامة بعد مضيه ولو لمضي محله.

وأما الشك في صحة الموجود فهو ملحق بذلك، لرجوعه إلى الشك في وجود الصحيح.

وهو الذي يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره في صدر كلامه، وإن ظهر منه التشكيك فيه بعد ذلك.

وقد استشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره وغيره: بأن مجرد وجود الصحيح وإن كان موضوعاً للأثر في التكاليف، لكفايته في براءة الذمة، إلّا أن القاعدة لا تختص بها، بل تجري في الوضعيات من العقود والإيقاعات، حيث يترب الأثر فيها على صحة العقد أو الإيقاع بمفاد (كان) الناقصة، لا على وجود الصحيح منها بمفاد (كان) التامة.

وزاد بعض الأعيان المحققين قدس سره قضاء السجدة، وسجدتي السهو، وما لو كان الشك في صحة الموجود ناشئاً من الشك في الترتيب والموالاة

ص: 467

مما لا يصدق عليه الشيء عرفاً، حيث لا يصدق على الكل أنه شيءٍ مشكوك، لأنه بلحاظ الأجزاء الحقيقية المقومة لشيئيته عرفاً مقطوع الوجود، وبلحاظ الترتيب والموالاة لا يصدق عليه الشيء عرفاً.

ويندفع: بأن الأثر في جميع ذلك لوجود الصحيح بمفاد كان التامة، لأن مقتضى سببية الأسباب الخاصة في الوضعيات تبعية الآثار لوجودها بمفاد كان التامة، ولا أهمية لإحراز صحة الموجود منها إلّا لإحراز وجود الصحيح.

نعم، لما لم يكن التلازم بين الأمرين شرعياً كان الانتقال من التعبد بالأول للثاني مبنياً على الأصل المثبت، ولا مانع منه في قاعدة الفراغ رفعاً للغوية دليلها، لانحصار العمل المترتب عليها بذلك على ما يأتي في ذيل الكلام في مفاد القاعدة، بخلاف مثل الاستصحاب مما يمكن حمل دليله على موارد أخرى.

ومن ثم كان هذا من وجوه الإشكال في استصحاب الصحة وعدمها.

كما أن الترتيب والموالاة لا يبعد صدق الشيء عليهما عرفاً. ولو سلم عدم صدقه عليها فهو يصدق على المقيد بهما الذي هو موضوع الأثر، وحيث كان الشك فيهما مستلزماً للشك فيه أمكن تطبيق القاعدة عليه، وإن علم بوجود الأجزاء الحقيقية، لأن المعلوم ليس هو المقيد.

وأما قضاء السجدة وسجود السهو فهما وإن توقفا على صحة الصلاة، إذ لا يكفي تحقق موضوعهما في الصلاة الباطلة، إلّا أنه يمكن إحراز صحة الصلاة بإحراز وجود الأجزاء والشرائط بمفاد كان التامة بلا حاجة إلى تطبيق القاعدة على نفس الصلاة، كي يتوقف على نهوضها بإحراز صحة الموجود

ص: 468

بمفاد كان الناقصة.

نعم، لو فرض عدم انطباقها على بعض الشرائط، كما سبق منه قدس سره في الترتيب والموالاة احتيج إلى ذلك.

ولعله هو مراده في المقام، بأن يكون مقصوده توجيه نقض واحد مبتن على الأمثلة المذكورة، كما قد يشهد به كلامه في بيان ثمرة النزاع في الوحدة والتعدد، لا النقض بكلٍ منها، كما يظهر منه عند التعرض لهذا الوجه، وجرينا عليه في بيان مراده. فراجع.

ولعل الأولى الإشكال على الوجه المذكور: بأن لازمه عدم انطباق القاعدة بمجرد الفراغ عن العمل الذي يشك في صحته مع بقاء الوقت وعدم الدخول في ما يترتب عليه، إذ لا تنطبق على كلي العمل الصحيح لإثبات وجوده بمفاد كان التامة، لعدم صدق المضي والتجاوز بالإضافة إليه بعد فرض بقاء وقته، ولا على العمل الخاص وإن صدق عليه المضي، لفرض اليقين بوجوده وليس الشك إلّا في صحته.

الوجه الثالث من وجوه الوحدة

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره فراراً عن محذور الجمع بين إرادة الكل والجزء من عموم الشيء - الذي تقدم منه الإيراد به على الوجه الأول - من أن مفاد النصوص قاعدة واحدة هي عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة، إلّا أن لهذه القاعدة فردين: حقيقي، وهو الشك في المركب بعد تماميته، وتعبدي تنزيلي وهو الشك في الجزء، حيث يستفاد من صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر التعبد بتنزيل الجزء منزلة الكل بلحاظ ذاته مع قطع النظر عن التركيب.

ويرد عليه ما أورد على الوجه السابق من أن لازمه عدم انطباق القاعدة

ص: 469

على العمل بمجرد الفراغ عنه قبل خروج وقته.

وما ذكره من صدق التجاوز فيه عن محل المشكوك فيه وهو الجزء، الذي كان الشك فيه سبباً للشك في وجود الكل، راجع إلى تطبيق القاعدة على الجزء، لا على الكل، وإن لزم منه التعبد بصحة الكل، لأنها مسببة عنه.

مضافاً إلى أن الصحيحين لم يتضمنا التعبد بشيئية الجزء ولا تنزيله منزلة الكل، بل تطبيق عنوان الشيء عليه والحكم عليه بمفاد القاعدة.

فإن كان المراد بالنصوص الأخرى ما يعم الجزء رجع إلى إمكان إرادة الكل والجزء من إطلاق لفظ الشيء فيها، وإن أريد بها خصوص الكل كان مفادها مبايناً لمفاد الصحيحين لتباين موضوعيهما، ولزم تعدد القاعدة.

الوحه الرابع من وجوه الوحدة

الوجه الرابع: ما يظهر من بعض مشايخنا من إمكان وحدة القاعدة، وهي قاعدة التجاوز، مع رجوع قاعدة الفراغ إليها، بلحاظ أن الشك في صحة العمل لابد أن يكون ناشئاً من الشك في تحقق جزئه أو شرطه، فالتعبد إنما هو بوجود المشكوك، لمضي محله، لا بصحة العمل لمضيه بنفسه.

وفيه: أن مجرد كون منشأ الشك في صحة المركب ذلك لا ينافي التعبد بصحته في قبال التعبد بوجود الجزء أو الشرط، لا بسبب التعبد المذكور وفي طوله.

فإن أراد عدم سوق الأدلة لبيان التعبد بصحة المركب ابتداء لمضيه بنفسه، بل التعبد بصحته بسبب التعبد بمنشئها، وهو وجود الجزء، لمضي محله، فهو راجع إلى إنكار قاعدة الفراغ، وهو - مع خروجه عن مفروض كلامه في تقريب الجامع بين القاعدتين، لا في إغناء إحداهما عن الأخرى - لا يناسب النصوص الآتية الظاهرة في التعبد بصحة المركب رأساً، لا بسبب

ص: 470

التعبد بوجود الجزء، فإن المهم هو النظر في وحدة القاعدة التي تعرضت لها جميع نصوص المقام، لا بعضها.

مع أن لازمه عدم تحقق موضوع القاعدة بعد الفراغ من العمل قبل خروج الوقت لو كان الشك في الصحة ناشئاً من الشك في الشرط، بناء على ما ذكره من أن التعبد معه ليس بوجود الشرط، بل بوجود المشروط، لوضوح أن المشروط لم يمض محله قبل خروج الوقت، نظير ما سبق في الوجهين السابقين.

وإن أراد أن التعبد بصحة العمل رأساً عند الشك فيها وإن كان ثابتاً - كما هو مفاد قاعدة الفراغ - إلّا أن الشك المذكور ناشئ دائماً عن الشك في وجود الجزء أو الشرط، الذي هو موضوع قاعدة التجاوز، فليس معنى هذا وحدة القاعدة ولا رجوع قاعدة الفراغ لقاعدة التجاوز، بل تلازم موضوعيهما، وهو أجنبي عما نحن فيه.

الوجه الخامس من وجوه الوحدة

الوجه الخامس: ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من احتمال اختصاص نصوص المقام بقاعدة التجاوز المتضمنة للتعبد بوجود الشيء بمفاد كان التامة، وأن البناء على صحة العمل الواقع عند الشك في حاله مبني على أصل آخر أجنبي عن مفاد هذه النصوص، وهو أصالة الصحة في فعل الفاعل القاصد للصحيح.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من ظهور بعض نصوص المقام في التعبد بصحة العمل رأساً.

وقد تحصَّل من جميع ما ذكرنا: أنه لا مجال لتخصيص مفاد النصوص بإحدى القاعدتين، وأن الاتحاد لابد أن يرجع إلى فرض دلالتها على قاعدة

ص: 471

تعمهما، معاً، كما هو مفاد الوجه الأول، الذي تقدم إمكانه ثبوتاً، فلابد من النظر في حاله إثباتا، وأن النصوص تفي به، أو بتعدد القاعدة.

تقريب القول بالتعدد

وقد يقرب القول بالتعدد بأن ظاهر الشك في الشيء هو الشك في وجوده، لأنه المنصرف عند حذف المتعلق بعد امتناع تعلق الشك بمفاد المفرد، بل لابد من تعلقه بالنسبة، ولا سيما في صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر لما في صدرهما من فرض الشك في الأجزاء الظاهر منه الشك في وجودها لا في صحتها مع فرض وجودها، ولا سيما مثل الركوع والسجود، حيث لا يحتمل فيهما البطلان، لإجزاء مسماّهما، فلابد من حمل الخروج والتجاوز فيهما على التجاوز عن محل المشكوك، لا عن نفسه.

وكذا ما ورد في الشك بعد الحائل، لأن الحائل المذكور فيه إنما يحتاج له عند الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة، وأما الشك في صحة الموجود فيكفي فيه الفراغ عنه، ولأجل ذلك يتعين حمل هذه الصحاح وغيرها من النصوص الخاصة على التعبد بتحقق المشكوك بمفاد كان التامة، الذي هو مفاد قاعدة التجاوز.

كما أن ظاهر بعض النصوص فرض مضي العمل بنفسه مع وجوده، فلابد من حمل الشك فيه على الشك في صحته، كموثق محمد بن مسلم المتقدم، فإن فرض مضي الأمر المشكوك، والأمر بإمضائه كما هو، ظاهر في المفروغية عن وقوعه والتردد في حاله.

ومثله موثق ابن أبي يعفور، بناء على حمله على الشك في نفس الوضوء، لا في أجزائه، كما تقدم، وكذا جملة من النصوص الخاصة، كخبر بكير المتقدم، وصحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل

ص: 472

شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة قال: يمض [يمضي ظ] على صلاته ولا يعيد»(1)، وصحيحه الآخر عنه عليه السلام: «في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته. قال: فقال: لا يعيد ولا شيء عليه»(2) وغيرها.

هذا، ولكن ظهور الشك في الشيء في الشك في خصوص وجوده إنما يتجه لو تردد الأمر بينه وبين غيره وامتنع إرادة الجامع بينهما، لا في مثل المقام مما أمكن فيه إرادة الجامع المناسب للمقام، وهو الشك في ما يتعلق بالشيء من شؤونه التي يهتم بها، الذي يقتضي الرجوع والتدارك، فإن الحمل عليه ليس بعيداً عن ظاهر التركيب.

كما أن فرض مضي الشيء في موثق محمد بن مسلم لا يمتنع أن يراد منه الأعم من مضي الشيء ينفسه ومضي محله، والأمر بإمضائه كما هو لا يعين الأول، لأنه وإن كان صريحاً في التردد في حال الشيء الذي مضى، إلّا أن التردد في وجود ما مضى محله وعدمه تردد في حاله بمعنى، فهو كناية عن إلغاء الشك المتعلق به عملاً، فإذا أمكن عموم الشك للشك في الوجود والشك في الصحة، أمكن عموم الإمضاء فيه لإلغاء كلا الشكين.

فما سبق لا ينهض بإثبات صراحة النصوص العامة في تعدد القاعدة وتباين مؤدى كل طائفة مع مؤدى الأخرى.

نعم، لا يبعد صلوحه لإثبات أن المتيقن من كل طائفة مباين للمتيقن من الأخرى، بحيث يمنع من دعوى ظهور كل منها في نفسه في العموم، ويوجب انصرافه لخصوص أحد المفادين، بل قد يكون صالحاً لإثبات نحو

ص: 473


1- الوسائل ج: 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.
2- الوسائل ج: 5، باب: 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.

من الظهور البدوي في تعدد القاعدة بمقتضى الجمود على مدلول كل منها في نفسه.

إلّا أن الظاهر الخروج عن ذلك بعد سبر جميع نصوص المقام العامة والخاصة، والالتفات لوجود الجامع الارتكازي بين القاعدتين، فإن تعددهما مع وجود الجامع المذكور يحتاج إلى عناية في البيان، وهو لا يناسب تشابه ألسنة النصوص، بسبب اشتمال كلتا الطائفتين على عنوان الشك في الشيء، وعلى ما يقتضي مضي محل الشك، من المضي، والتجاوز، والخروج، والفراغ، ونحوها.

فلو أريد بكل طائفة منها إحدى القاعدتين بخصوصيتها لكان المناسب التعرض لموضوعها بوجه مميز له عن موضوع الأخرى، ولا يتكل على القرائن المتصيدة من المورد ونحوه لتحديده.

بل قد لا تنهض قرينة بتحديده، كما في صحيح محمد بن مسلم الثاني المتقدم قريباً، حيث لم يبين فيه أن المراد من الشك بعد الانصراف من الصلاة، هو الشك في وجود جزئها أو شرطها، أو الشك في صحتها.

كما قد اشتمل بعض النصوص على أحد جزئي موضوع كلتا القاعدتين، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: كل ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد»(1)، لظهور الشك فيه في الشك في وجود الجزء أو الشرط، الذي هو أحد جزئي موضوع قاعدة التجاوز لا الشك في صحة الصلاة المأخوذ في قاعدة الفراغ، مع أن الفراغ من الصلاة أحد جزئي موضوع قاعدة الفراغ، فلو أريد إعمال قاعدة التجاوز بخصوصيتها لكان

ص: 474


1- الوسائل ج: 5، باب: 28 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.

المناسب ذكر مضي محل الجزء المشكوك، ولو أريد إعمال قاعدة الفراغ لكان المناسب فرض الشك في صحة الصلاة، وكذا الحال في الدخول في الغير الذي اشتملت عليه بعض نصوص كلتا الطائفتين، حيث يأتي أن الجهة الارتكازية المذكورة ملزمة باعتباره في مورد يتوقف عليه فيه مضي محل الشك، دون غيره، ولابد من تنزيل النصوص المتضمنة له في المورد الذي لا يتوقف عليه فيه المضي على كون ذكره لتأكيد اعتبار المضي، لا للتقييد به زائداً عليه، إلى غير ذلك مما يظهر منه عدم الاهتمام في النصوص بتحديد إحدى القاعدتين وتمييزها عن الأخرى، بل كلها تشير للجامع بينهما، الذي هو أمر ارتكازي، وليس الاختلاف بينها إلّا في الخصوصيات الفردية.

إذا عرفت هذا، فاللازم النظر في تحديد القاعدة المستفادة من النصوص، وهو إنما يكون بتحديد موضوعها ثم مفادها.

الكلام في تحديد القاعدة

فالكلام في جهتين..

الجهة الأولى: في موضوع القاعدة

الجهة الأولى: في موضوع القاعدة

وقد ظهر من جميع ما سبق أنه لابد فيه من أمرين:

الأمر الأول: الشك في الشيء

الأول: الشك في الشيء، بمعنى الشك في شؤونه التي يهتم بها من حيثية العمل والتدارك، سواءً كانت وجوداً أم غيره.

وقد عرفت تضمن جميع نصوص المقام لعنوان الشك أو الشك في الشيء، وأن الجهة الارتكازية تقضي بحمله على العموم المذكور.

الأمر الثاني: مضي محل الشك

الثاني: مضي محل الشك، بحيث يكون الاعتناء به رجوعاً وتداركاً بعد الفوت، وهذا المعنى وإن لم يصرح به في النصوص، وإنما أخذ فيها مضي الشيء والتجاوز عنه والخروج منه والدخول في الغير والفراغ من

ص: 475

العمل ووجود الحائل ونحوها، إلّا أنه الجامع الارتكازي بين جميع هذه العناوين عرفاً، فيحمل ذكرها على كونها محققةً له في مواردها، ففي ما شك في صحته مع العلم بوجوده يكون مضي محل الشك بالفراغ منه، وفي ما شك في أصل وجوده يكون مضي الشك بالدخول في ما يترتب على المشكوك، أو بخروج وقته، وبهما يتحقق التجاوز ويصدق الحائل.

أما بناء على التعدد فهما يختلفان في الأمر المشكوك فيه، كما يختلفان في مضيه، على ما سبق. وهذا كله ظاهر، وإنما وقع الكلام في أمور تتعلق بذلك ينبغي التعرض لها تبعاً لهم وتوضيحاً لمحل الكلام.

وينبغي التعرض لأمور..

الأمر الأول: اعتبار الترتب حيث يتوقف عليه مضي المحل

الأمر الأول: أشرنا إلى أن الدخول في الغير المترتب على العمل إنما يعتبر حيث يتوقف عليه مضي المحل، فلا يحتاج له إلّا عند الشك في وجود الشيء مع بقاء الوقت.

فلو شك في وجوده بعد خروج الوقت لا يعتنى بالشك وإن لم يدخل في الغير المترتب عليه، وكذا لو شك في صحة العمل وتماميته بعد الفراغ منه، لكفاية خروج الوقت والفراغ في تحقق المضي بالمعنى المذكور.

ويشهد بالأول صحيح زرارة والفضيل المتقدم في أدلة القاعدة، وبالثاني إطلاق موثق محمد بن مسلم وخبر بكير المتقدمين هناك أيضاً وغيرهما من النصوص الخاصة.

ولأجلها ترفع اليد عما قد يظهر منه اعتبار الدخول في الغير، كموثق ابن أبي يعفور، المتقدم هناك، وصحيح زرارة الوارد في الوضوء، المتضمن لقوله عليه السلام: «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك

ص: 476

فيه وضوءه، لا شيءٍ عليك فيه»(1).

فإن الجهة الارتكازية تقضي بأن المدار على صدق المضي بالمعنى المذكور، فتكون قرينة على أن ذكره فيهما لتأكيد اعتباره، لا للتقييد به زائداً عليه، بخلاف ما إذا كان الشك في وجود الشيء مع بقاء الوقت، حيث يتوقف صدق المضي بالمعنى المذكور على الدخول في الغير، فلابد من اعتباره، كما هو ظاهر صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر وما عن مستطرفات السرائر، المتقدمة في أدلة القاعدة، بل لابد من كون الغير مترتباً على المشكوك، إذ مع عدم ترتبه لا يصدق مضي محله، وعليه ينزل إطلاق الصحيحين، لصلوح الجهة الارتكازية قرينةً على ذلك.

وقد جرى على ذلك أيضاً غير واحدٍ ممن بنى على تعدد القاعدة، محاولين في ذلك إعمال الجمع العرفي بين النصوص، وكأنه لاستحكام الجهة الارتكازية التي أشرنا إليها الملزمة بتنزيل جميع النصوص على ما يطابقها، مضافاً إلى بعض القرائن في النصوص قد تناسب ذلك.

الأمر الثاني: ترتب الغير لو كان المضي موقوفاً على الدخول فيه

الأمر الثاني: أشرنا إلى أنه لو كان المضي موقوفاً على الدخول في الغير فلابد من كون ذلك الغير مترتباً على المشكوك.

والظاهر أن المعيار في المقام الترتب الشرعي، كالترتب بين الأذان والصلاة، وبين الركوع والسجود، وبين الظهر والعصر، دون الترتب العادي أو العقلي، فلا يكفي في صدق المضي على الاستبراء تحقق الاستنجاء، بلحاظ تعود تقديم الاستبراء عليه، كما لا يصدق المضي على السجود بالشروع في النهوض للقيام بلحاظ عدم كونه عقلا مقدمة للقيام الصلاتي

ص: 477


1- الوسائل ج: باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.

إلّا بعد تحقق السجود، إذ بدونه يكون مقدمة لقيام غير صلاتي ولا مشروع.

والوجه في ذلك: أن كون شيءٍ محلاً لشيءٍ ليس تابعاً لعلاقة حقيقية بينهما لا تقبل الاختلاف والتبدل، بل هو أمر إضافي يختلف وجوداً وعدماً باختلاف جهة الإضافة، من اعتبار شرعي، أو عرفي، أو عادة، أو عقل، أو نحوها، فلابد من ملاحظة خصوص جهة تصلح لانتزاع النسبة المذكورة، والمناسب للشارع إرادة ما يتعلق به ويرجع إليه، وهو خصوص المحل الشرعي.

وتوهم: أن مقتضى الإطلاق الاكتفاء بكل جهة صالحة لانتزاع عنوان المحل شرعية كانت أم غيرها.

مدفوع: بأن الإطلاق إنما ينهض بإلغاء القيود الزائدة على المفهوم، وخصوصية الجهات المختلفة ليست مقيدة لمفهوم المحل، بل معيار في صدقه ومصحح لانتزاعه، وإطلاق العنوان لا يتكفل بذلك، بل المتكفل به الإطلاق المقامي، وهو يقتضي كون المعيار المحل العرفي لو لم يكن هناك محل شرعي، وإلّا كان هو المتعين، كما ذكرنا.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن القاعدة في المقام لما لم تكن تعبدية محضة بل ارتكازية عقلائية فالجهة الارتكازية المقتضية لها تقتضي الاكتفاء بالمحل العادي ونحوه مما يصدق معه المضي عرفاً، والاكتفاء بالمحل الشرعي إنما هو لرجوعه إليه، بسبب بناء المكلف على متابعة الجعل الشرعي، فيكون إتيانه بالشيء في المحل المذكور مقتضى قصده الارتكازي تبعاً لقصد الامتثال، الذي هو كالقصد الارتكازي التابع للعادة مصحح لصدق المضي عرفاً.

ص: 478

ولا مجال مع ذلك للجمود على خصوص المحل الشرعي التعبدي، لأن الجهات الارتكازية لا تناط بالأمور التعبدية.

لاندفاعها: بأن موضوع الجهة الارتكازية ليس إلّا المضي، وجري الشارع عليها إنما يقتضي جعل كبرى مطابقةً لها من قبله، وإناطة صدق المضي بجهة خاصة لا دخل له بالكبرى المذكورة، ولا يستلزم التصرف فيها، بل هو راجع لتنقيح الصغرى لها، كما تقدم، وتقدم أنه أمر لا يتكفل به دليل جعل الكبرى بنفسه، بل بإطلاقه المقامي، وأنه يقتضي الحمل على المضي الشرعي لا غير.

نعم، قد يستدل على إرادة المحل العادي بموثق بكير أو صحيحه المتقدم في أدلة القاعدة، لمناسبته للتعليل فيه بالأذكرية، لما هو الظاهر من أن الانسان لمقتضى عادته أذكر منه لما يخالفها.

وقريب منه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: «أنه قال: إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً، وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم، لم يعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك»(1).

ويشكل: بعدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، لعدم اقترانهما بأداة التعليل ونحوها مما يظهر منه بيان الغرض من الحكم والداعي له، أو موضوعه.

بل لعل ذكره للتنبيه إلى بعض الجهات التي تردع عن الاعتناء بالشك المذكور، فهو أشبه بالحكمة التي يوجب الالتفات إليها وضوح الحكم في

ص: 479


1- الوسائل ج: 5، باب: 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. حديث: 3.

نفس المخاطب، نظير ما ورد في تقريب جواز الشهادة اعتماداً على اليد من قوله عليه السلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» على ما تقدم التنبيه له في المسألة الأولى من مسائل المقام الثالث في قاعدة اليد.

كيف! ولو استظهر التعليل بالنحو المذكور في المقام لزم التعدي عنه لكل مورد يكون الإنسان فيه أذكر وأقرب للحق وإن لم يكن الشك في صحة المركب أو أجزائه، بل في أصل الإتيان بالعمل أو غيره، لعدم خصوصية المورد في ذلك ارتكازاً، ولا يظن بأحد الالتزام ذلك، لرجوعه إلى حجية كل ظن ولو كان نوعياً.

بل لزم قصور القاعدة من غير مورد العادة، فمن لم يتعود الأذان والإقامة لو شك في الإتيان بهما بعد الدخول في الصلاة لا يبني على الإتيان بهما، بل له قطع الصلاة لأجلهما، لعدم تحقق الأذكرية في المقام.

فلابد من الاقتصار على مورد التعليل وعدم التعدي عنه.

بل لا يظن بأحد الالتزام بعموم الاكتفاء بمضي المحل العادي - كما نبه لذلك شيخنا الأعظم قدس سره - وإنما حكي عن جماعة التعرض لمسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شك في الجزء الأخير، وأنه لا يعتني بالشك.

ولعله يمكن توجيهه بأمرٍ آخر راجع إلى صدق المضي حقيقة، على ما يأتي التعرض له.

هذا، وفي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام:

رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع. قال: قد ركع»(1) وقد يستظهر منه الاكتفاء في المضي بالدخول في مقدمات ما يترتب شرعاً على

ص: 480


1- الوسائل ج: 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 6.

المشكوك.

ولكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره أنه لابد من تقييده وحمله على آخر مراتب الهوي الذي يتحقق به السجود، جمعاً بينه وبين صحيح إسماعيل بن جابر المتضمن لفرض التجاوز عن الركوع بنفس السجود، لا بالهوي إليه.

وفيه: أن دلالة صحيح إسماعيل إن كانت بلحاظ مفهوم الشرطية فيه، فلا مفهوم للشرطية، لسوقها لتحقيق الموضوع.

وإن كانت بلحاظ أن سوق المثالين في الصحيح قبل ضرب القاعدة إنما هو للتوطئة والتمهيد لها، فيكونان واردين مورد التحديد للغير المذكور فيها، وذلك يقتضي عدم صدقه بالهوي قبل صدق السجود لأجل مفهوم التحديد لا الشرط.

ففيه: أنه لا ظهور لسوق الصغريات قبل الكبرى في تحديد موضوعها، بل في محض التمهيد لها.

وإن كانت بلحاظ أن التخطي للسجود وإهمال الهوي مع أنه أقرب للركوع ظاهر في عدم الاعتداد به.

ففيه: أن التخطي عن الهوي لعله لندرة الشك حينه، لعدم الاستقرار فيه بحال يتوجه فيه المكلف للشك.

على أن ذلك لو تم لا يخرج عن الإشعار الذي لا يبلغ مرتبة الحجية، ليصلح لتقييد الإطلاق.

مع أن المقام أجنبي عن التقييد، بل هو في الحقيقة إلغاء لموضوعية الهوي وجعل الموضوع هو السجود لا غير.

ص: 481

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من ظهور صحيح عبد الرحمن بنفسه في إرادة الوصول لحد السجود، لأن التعبير فيه عن الهوي بالفعل الماضي ظاهر في مضيه حين الشك في الركوع، وهو إنما يكون بالوصول لحد السجود.

لاندفاعه: بأنه يكفي في صدق نسبة الفعل الماضي على الهوي تحقق أول مراتبه، ولذا يصح أن يقال: أهوى إلى السجود فلم يستطعه.

فالعمدة في المقام: أن الصحيح معارض بصحيح عبد الرحمن الآخر: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال: يسجد. قلت: فرجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال: يسجد»(1). وهو نص في عدم الاكتفاء بحال النهوض قبل الوصول لحد القيام.

فإما أن يجمع بينهما بجعل الهوي للسجود في الصحيح الأول عبرة لنفس السجود.

وإما أن يقتصر فيه على مورده، ويرجع في غيره للقاعدة التي عرفتها المطابقة للصحيح الآخر.

هذا، بناء على أن الهوي للسجود والنهوض للقيام ونحوهما مقدمات للأفعال الواجبة، أما بناء على أنها بأنفسها من الواجب، وأن مرجع وجوب السجود مثلاً إلى وجوب الهوي له من مبدأ التقوس انقلب تطبيق القاعدة. وتنقيح ذلك في محله، ولا دخل له بتنقيح القاعدة الذي هو محل الكلام.

ص: 482


1- الوسائل ج: 4، باب: 15 من أبواب السجود حديث: 6.
الأمر الثالث: في عموم الغير وخصوصه

الأمر الثالث: قد يتبادر من مضي محل المشكوك بسبب الدخول في الغير هو فوته، بحيث يتعذر تدارك المشكوك مع المحافظة على خصوصية محله، وذلك في مثل أجزاء الصلاة إنما يكون بالدخول في الركن اللاحق، حيث يلزم من تدارك المشكوك والمحافظة على خصوصية محله - بإعادة ما جاء به مما يكون بعده - زيادة الركن المبطلة للصلاة.

نعم، لو أمكن تداركه بعد الإتيان بالغير مع الإخلال بخصوصية محله، كما في قضاء الأجزاء المنسية في محلها بعد الصلاة، أو في قضاء القنوت بعد الركوع لم يناف صدق مضي المحل بالمعنى المذكور، لأن المشكوك هو الفعل الموظف. ولعلَّه لذا حكي عن بعضهم الاقتصار في الغير على الركن.

لكنه - كما ترى - مخالف لصريح نصوص المقام، فقد تضمن صحيح زرارة عدم الاعتداد بالشك في الأذان وهو في الإقامة، كما تضمن هو وغيره عدم الاعتداد بالشك في الركوع وهو في السجود الشامل لسجدة واحدة، كما تضمن صحيح إسماعيل عدم الاعتداد بالشك في السجود بعد القيام، وتضمن ما تقدم عن مستطرفات السرائر عدم الاعتداد بالشك في الظهر بعد فعل العصر، مع وضوح عدم فوت محل الظهر بالمعنى المذكور بمجرد ذلك مع بقاء الوقت.

فإن بني على العمل بنصوص المقام لم يتجه الاقتصار على الركن، وإن بني على إهمالها والرجوع لأصالة عدم الإتيان بالمشكوك لزم عدم إجراء، القاعدة حتى بعد الدخول في الركن، بل يعتنى بالشك حينئذٍ، باستئناف الصلاة لو كان المشكوك ركناً، وقضائه لو كان مما يقضى، وسجود السهو

ص: 483

- بناء على وجوبه لكل زيادة ونقيصة - لو كان غيره، كما هو الحال لو بان نسيانه بعد الدخول في الركن اللاحق.

ومنه يتضح أنه لا مجال لما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره حيث قال في توجيه القول المذكور: «وكأنه ناش عن إهمال أدلة القاعدة والرجوع إلى أصالة عدم الإتيان بالمشكوك، فيكون الحكم فيه حكم النسيان».

مضافاً إلى أن أدلة القاعدة لم تتضمن عنوان مضي المحل - كما نبه له سيدنا الأعظم قدس سره - كي يحمل على فوته بالوجه المذكور، وإنما تضمنت الدخول في الغير، وحيث لا يمكن إبقاؤه على إطلاقه - إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء بالدخول في ما لا يترتب على المشكوك من الأفعال المشروعة في المركب كالتكبير المستحب، أو الخارجة عنه كالذكر المطلق - تعين حمله على خصوص ما يترتب عليه مما يصدق بالدخول فيه ما تضمنته النصوص من عنوان التجاوز والخروج عن المشكوك، والدخول في الحائل، ولو بلحاظ الوضع الطبيعي، لا الحقيقي.

وإليه يرجع ما تقدم منا من اعتبار مضي محل الشك، بحيث يكون الاعتناء به رجوعاً وتداركاً عرفاً. ومقتضاه الاكتفاء في الغير بكل ما يترتب على المشكوك بأن يكون مقتضى الوظيفة الشرعية الإتيان بالمشكوك قبله وعدم تأخيره عنه، ولا خصوصية للركن في ذلك.

ومنه يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعضهم من اختصاص الغير المحقق للتجاوز بالأجزاء المفردة بالتبويب من الفقهاء، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود، دون أجزائها، فإنه تخصيص لعموم صحيحي زرارة وإسماعيل والتعليل في ما عن مستطرفات السرائر من دون وجه.

ص: 484

ومجرد اختصاص الأمثلة التي تضمنها الصحيحان بذلك لا يصلح له، ولا سيما مع قرب إلغاء خصوصيتها عرفاً بملاحظة الجامع الارتكازي الذي يستفاد من مجموع النصوص، كما تقدم.

ودعوى: أن الأمثلة المذكورة تمنع من عموم الغير في ذيل الصحيحين وتقتضي تضيق مصبه، لسوقها للتمهيد والتوطئة له.

كما ترى! إذ شأن ضرب العموم بعد عد الأمثلة رفع الخصوصية المتوهمة منها.

ولا سيما بعد اشتمال صدر صحيح زرارة على أكثر الأجزاء المذكورة، إذ من البعيد جداً كون ضرب العموم لأجل خصوص القليل المتبقي منها.

ومثلها دعوى: امتناع تطبيق العموم بلحاظ كل من الأجزاء المذكورة وأجزائها، لعدم الجامع بين الكل والجزء، ولاستلزامه التدافع في تطبيق القاعدة عند الشك في جزء الجزء حين الانشغال بجزئه الآخر، إذ بلحاظ مجموع الجزء يكون من الشك قبل الدخول في الغير، وبلحاظ جزئه يكون من الشك بعد الدخول في الغير.

لظهور اندفاعها بمراجعة ما تقدم في الوجه الأول من وجوه وحدة القاعدة.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن لازمه التعميم لأول الكلمة وآخرها، ولا قائل به ظاهراً.

فهو - لو تم - ناشئ من انصراف الشيء عنه، لعدم تقرر الكلمة عرفاً إلّا بمجموعها، ولا استقلال لأجزائها عرفاً، لينطبق عليها عنوانه، ولا يكشف عن اختصاص الغير بالأجزاء المختصة بالتبويب.

ص: 485

بل لا مجال لاحتمال ذلك بعد كون تبويب الأجزاء بالنحو المذكور غير مستفاد من أدلة التشريع، بل جرى عليه الفقهاء بعد تصيّده منها.

هذا، وقد ذكر بعض مشايخنا أن المعيار في الترتب الموجب لصدق مضي محل السابق بالدخول في اللاحق أخذ كل منهما شرطاً في صحة الآخر، فلا يصح السابق لو لم يترتب اللّاحق، ولا يصح اللّاحق لو لم يسبق السابق، كما هو الحال في أجزاء الصلاة المترتبة.

ولا يكفي مجرد كون ظرف الأخير متأخراً عن السابق، لترتبه عليه، من دون أن يكون دخيلاً في صحة السابق لترتبه عليه، كالقنوت بالإضافة للقراءة، سواء كان مستحباً مستقلاً في ضمنها، أم جزءاً مستحباً في الصلاة، وجميع الأجزاء المستحبة، والتعقيب بالإضافة للتسليم، وصلاة العصر بالإضافة للتسليم في صلاة الظهر.

وكأن مراده من توقف صحة أحد المترتبين على الآخر هو التوقف بملاحظة الجعل الأولي، وإن أمكنت صحة أحدهما بدون الآخر لجهةٍ ثانوية، كما في موارد حديث: «لا تعاد...»، وإلّا لم ينطبق على مثل القراءة مما لا يكون الإخلال به سهواً مبطلاً للعمل، مع أنه مورد صحيح زرارة.

وفيه.. أولاً: أنه لم يتضح وجه التقييد بذلك، فإن مضي المحل حقيقةً لا يتحقق إلّا بتعذر التدارك بمثل الدخول في الركن اللاحق، كما تقدم، ومضي المحل بالمعنى المستفاد من النصوص، الراجع إلى العبور عن الشيء والتجاوز عنه بمقتضى الجعل الشرعي، لأجل الدخول في ما لحقه، حاصل في جميع ما تقدم ونحوه مما يكون مترتباً على المشكوك.

وثانياً: أن الترتب في أجزاء الصلاة التي هي مورد النصوص ليس

ص: 486

بالنحو الذي ذكره، بل هو مبني على توقف صحة اللاحق على السابق - ولذا يبطل لو وقع بدونه، ويجب تكراره في مورد إمكان التدارك - دون العكس، لأن ذلك هو الظاهر من دليل الترتيب في سائر الموارد، وإنما يبطل تمام العمل بفقد الجزء عمداً مثلاً لأجل الارتباطية في نفس العمل، لا لأخذه في صحة الأجزاء السابقة عليه، فمع فقد الجزء يكون بطلان العمل مستنداً لفقده وفقد ما بعده، لوقوعه في غير محله، لا لفقد الكل.

بل صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات السرائر قد صرح فيه بجريان القاعدة بالإضافة إلى صلاة الظهر بعد صلاة العصر، مع وضوح عدم توقف صحة الظهر عليها.

ودعوى: أن مفاده مباين لقاعدة التجاوز التي هي محل الكلام.

لا تناسب عموم التعليل، حيث كان مقتضى ارتكازيته حمله على ما يساوق قاعدة التجاوز، بل يعمها ويعم قاعدة الفراغ وقاعدة الشك بعد الوقت، كما هو المناسب لما سبق منا في تقريب وحدة القاعدة.

وثالثاً: أنه ذكر أنه يكفي الترتب بالوجه المذكور بلحاظ الوظيفة الاستحبابية، لأجل توجيه جريان القاعدة في الأذان والإقامة، ومن الظاهر أن مقتضى ذلك الاكتفاء بجميع ما يكون مبنى تشريعه على دخله في العمل بلحاظ بعض مراتب فضيلته، كبعض أفراد التعقيب أو كلها، فضلاً عن الأجزاء المستحبة التي هي دخيلة في الفرد الأكمل، حيث يكون الجزء المستحب دخيلاً في صحة المركب بلحاظ الوظيفة الاستحبابية، وإن لم يكن دخيلاً فيه بلحاظ الوظيفة الوجوبية.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن المعيار في الغير الذي يكون

ص: 487

الدخول فيه محققاً لموضوع قاعدة التجاوز بناء على تعدد القاعدة، ولمضي محل الشك بناء على وحدتها هو مطلق ما يترتب على المشكوك، سواء كان جزءاً من المركب واجباً أو مستحباً، أم مطلوباً في ضمنه كذلك، أم أمراً مستقلاً عن المشكوك، كالظهر والعصر، فيكون العمل على ذلك ما لم يدل الدليل على خلافه في خصوص مورد.

عدم العبرة بالدخول في أمور

نعم، لا عبرة بالدخول في أمور..

أحدهما: ما لا يترتب على المشكوك

أحدها: ما لا يترتب على المشكوك بمقتضى دليل جعله، بل يكون محله ما يترتب عليه، كما لو شك المصلي في أنه في السجدة الأولى أو الثانية، وقد انشغل بدعاء السجدة الثانية، فإن الدعاء المفروض لم يؤخذ فيه الترتيب بينه وبين السجدة الأولى، ليتحقق به مضي محلها والتجاوز عنها، بل غاية الأمر أن محله السجدة الثانية، ولا طريق لإحراز وقوعه في محله بنحو يحرز به أن السجدة التي بيده هي الثانية وأن الأولى قد تحققت قبلها، بل مقتضى قاعدة الالتفات للشك في المحل لزوم البناء على عدم الإتيان بها، وأن التي بيده هي الأولى.

ومنه يظهر عدم تحقق المضي والتجاوز بالمنافي المبطل للعمل، كالكلام والحدث بالإضافة للسلام، لأنه وإن كان مقتضى مبطليته عدم إيقاعه قبل الإتيان بالجزء الأخير ممن هو في مقام الامتثال والإتيان بالعمل التام، إلّا أنه لما لم يكن مترتباً شرعاً على الجزء الأخير لم يصدق به التجاوز عنه ومضي محله إلّا بناء على أن المراد بمضي محل المشكوك تعذر تداركه، أو مضي المحل العادي، وقد عرفت ضعف المبنيين، غاية ما يلزم في المقام هو إيقاع المنافي في غير محله، وقد ذكرنا أنه لا طريق لإحراز وقوع الشيء

ص: 488

في محله، بنحوٍ يحرز به تمامية العمل وتحقق المشكوك.

ثانيها: ما كان الترتيب بينه وبين المشكوك أفضل

ثانيها: ما كان الترتيب بينه وبين المشكوك هو الأفضل من دون أن يؤخذ في أصل مشروعيته كما هو الحال في ما لو شك في قضاء الفائتة عند الانشغال بالحاضرة، بناء على استحباب الترتيب بينهما.

لعدم صدق المضي بالإضافة إلى الفعل المشروع، لفرض عدم أخذ الترتيب في مشروعيته، بل في المطلوبية الزائدة عليها.

وما تقدم من الاكتفاء بالمترتب بمقتضى الوظيفة الاستحبابية إنما هو في ما لو ابتنى تشريع الفعل الدخيل في الوظيفة الاستحبابية على الترتيب بينه وبين المشكوك، بحيث لا يشرع بدونه، كالقنوت بالإضافة للقراءة، ولا يعم محل الكلام.

ومنه يظهر الوجه في عدم تحقق المضي بمضي وقت الفضيلة، وأنه لابد فيه من وقت الفوت، كما تضمنه صحيح زرارة والفُضَيل المتقدم(1).

ثالثها: ما كان الترتيب بينه وبين المشكوك واجب

ثالثها: ما يكون الترتيب بينه وبين المشكوك واجباً تكليفاً من دون أن يكون شرطاً فيه، حيث لا يكون الإتيان به قبله إتياناً به في غير محله، بنحو يصدق الخروج عن محل المشكوك بالدخول فيه، إذ لا محل لكل منهما بمقتضى تشريعه، وإن لزم تقديمه بمقتضى التكليف بالترتيب زائداً على أصل التشريع، ولا محرز لامتثال التكليف المذكور.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: تحقق التجاوز بفعل المنافي في ما يحرم قطعه، كالصلاة، خلافاً لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره.

ص: 489


1- الوسائل: ج 3، باب: 6 من أبواب المواقيت حديث: 1.
الأمر الرابع: المعيار في الفراغ عن العمل

الأمر الرابع: تقدم أنّ مضي محل الشك بناء على وحدة القاعدة قد يكون بالفراغ عن العمل، وذلك في ما لو كان الشك في تمامية العمل المفروض الحصول، لأن تمامية العمل قائمة به، فبالفراغ عنه يصدق مضيه ومضي جميع شؤونه القائمة به. وهو موضوع قاعدة الفراغ بناءً على تعدد القاعدة.

والمعيار في تحقق الفراغ عن العمل ومضيه الذي تضمنته النصوص ليس على الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف. إذ لا يجتمع فرضه مع فرض الشك في تمامية العمل.

ولا على الفراغ البنائي الاعتقادي وإن احتمل خطؤه - كما يظهر من غير واحد - لمخالفته لظاهر إطلاق الفراغ والمضي من دون قرينة. بل ظاهر صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الأمر الثاني أنه أمر زائد على الفراغ، لأخذه قيداً فيه.

ولا على فعل معظم الأجزاء وإن كان من عادة المكلف التتابع والموالاة بين الأجزاء - خلافاً لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره - لأنه فراغ منها، لا من تمام العمل الذي هو الموضوع في نصوص المقام. مع أنه لم يعهد منهم تقييد القاعدة بصورة إحراز تحقق المعظم.

ولا على صيرورة الشيء بحيث لا يمكن تداركه، للدخول في المنافي ونحوه - كما يظهر من بعض مشايخنا - لعدم المناسبة بينه وبين المضي والفراغ، ليصح حملهما عليه فضلاً عن أن يكونا ظاهرين فيه.

ولا على فعل الجزء الأخير - كما يظهر من كلام له آخر - لأنه إنما يكون فراغاً حقيقياً عن العمل المطلوب في ظرف فعل بقية الأجزاء، ومع

ص: 490

قطع النظر عن ذلك لا تميز له عن غيره من الأجزاء.

بل الظاهر أن المعيار فيه هو الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها. وذلك لأن موضوع الشك في الصحة هو العمل الخارجي، لا كلي العمل، كما أن المضي والفراغ قد طبقاً في النصوص عليه، فيلزم صدقهما بالإضافة إليه حقيقة، بالمعنى المقابل للانشغال به ولقطعه.

لوضوح أن من يشرع في العمل لا يخرج عن إحدى حالات ثلاث: الانشغال به، وقطعه معرضاً عنه، والفراغ عنه منصرفاً منه، وما هو موضوع القاعدة الأخير المقابل للأولين.

فليس التسامح إلّا في صدق العنوان على العمل المأتي به بلحاظ قصده منه بناء على الصحيح، وهو تسامح شايع، أما بناء على الأعم فلا تسامح حتى في ذلك. وهو يجتمع مع احتمال نقصه، بل مع العلم به، لأن نقصه عما يجب لا ينافي وحدته والفراغ منه بعد الانشغال به بقصد تحقيق الفعل المشروع به لتخيل انطباقه عليه، وإن كان القصد المذكور في غير محله. ولذا كان صريح بعض النصوص فرض تحقق العمل من المكلف مع فرض العلم ببطلانه.

نعم، احتمال النقص لا يجتمع مع إحراز الفراغ عن العمل المشروع. وهو غير مهم لعدم اتصافه بالصحة والبطلان، بل بالوجود والعدم، فهو خارج عن محل الكلام والنصوص.

وعليه لابد في الاكتفاء بأحد الأمور المتقدمة في كلماتهم من رجوعه لما ذكرنا وملازمته له، ومع تحققه لا ملزم بتحقق شيءٍ مما ذكروه، فالمدار

ص: 491

عليه لا عليها.

فلو لم يحرز المكلف الفراغ عن عمله الذي شرع فيه بعنوانه الخاص، بل احتمل قطعه له وإعراضه عنه، لم تجر القاعدة، وإن أحرز من نفسه سبق البناء منه على الفراغ والاعتقاد بإكمال العمل واحتمل خطأ البناء المذكور، أو جاء بمعظم الأجزاء وكان من عادته التتابع فيها، أو تعذر منه التدارك، لتحقق المنافي، أو أحرز الإتيان بالجزء الأخير - كالسلام - ولو لتخيل عدم جواز القطع بدونه، وقد نبه لذلك في غير واحد على اختلاف مبانيهم.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سره من الفراغ البنائي

وبناه سيدنا الأعظم قدس سره على اعتبار الفراغ البنائي مدعياً أنه غير محرز في الفرض.

لكنه غير ظاهر، لإمكان اعتقاد المكلف بعد مدة من تركه للعمل فراغه منه، ويتحدد احتمال القطع عنده بعد ذلك. إلّا أن يريد من الفراغ البنائي هو الاعتقاد بالفراغ حين الإعراض عن العمل وترك الانشغال به، فيلازم الفراغ الحقيقي بالمعنى الذي ذكرناه.

كما أنه لو أحرز من نفسه الفراغ عنه بالمعنى المذكور جرت القاعدة وإن لم يحرز الإتيان بمعظم الأجزاء، أو لم يكن من عادته التتابع فيها، أو لم يتعذر في حقه التدارك، أو لم يحرز الإتيان بالجزء الأخير.

نعم، الفراغ بالمعنى المذكور ملازم للفراغ البنائي. لكن المدار على الملزوم لا اللازم.

ومن ذلك يظهر الحال في ما لو شك في الإتيان بالجزء الأخير في المترتبات، أو ببعض الإجزاء في ما لا ترتيب فيه، ولم يمكن إحرازه بالدخول في ما يترتب عليه - كالتعقيب - سواء تحقق المنافي المانع من تتميم العمل

ص: 492

أم لا، حيث يكون المدار في جريان القاعدة فيه على إحراز الفراغ بالمعنى المتقدم، بأن يحرز الانشغال بالعمل بعنوانه الخاص، ثم إنهاؤه والفراغ منه بذلك العنوان، وإن احتمل نقصه عما يجب فيه.

أما لو لم يحرز ذلك فلا تجري القاعدة، لعدم إحراز موضوعها.

وذلك في ما تعتبر فيه الموالاة إنما يكون لاحتمال الإعراض عن العمل بعد الشروع فيه.

وفي ما لا تعتبر فيه - كالغسل - قد يكون لذلك، بأن يعلم المكلف من نفسه أنه قصد مجموع العمل حين الشروع فيه موالياً، وقد يكون لعدم القصد من أول الأمر لمجموع العمل، بل قصد بعضه عازماً على إكماله بعد ذلك بقصد استقلالي آخر، فيحتمل الغفلة عن الإكمال، حيث لا يحرز حينئذ الانشغال بتمام العمل، بل ببعضه، فلا يحرز الفراغ إلّا عن البعض المذكور، ويحتمل الشروع في غيره والأصل عدمه.

ولعل هذا هو مراد من بنى على جريان القاعدة في الغسل إذا كان من عادة المكلف الموالاة فيه، كما أشرنا لذلك عند الكلام في وجه عدم الاعتداد بالمحل العادي في صدق المضي والتجاوز.

نعم، لو علم بالفراغ عن كل الأجزاء ولو مع قصدها متفرقاً صدق الفراغ عن المجموع وإن احتمل الإخلال ببعض ما قصده وانشغل به من الأجزاء، كما لو علم بأنه قد اغتسل مفرقاً للأعضاء وأكمل غسله ذلك، ثم احتمل إخلاله ببعض عضو عند إرادة غسله.

وهذا هو المعيار في الأمور غير الارتباطية، كالتطهير من الخبث، ووفاء الدين لو شك في تحقق بعض أجزائها، فإنه إن كان مع إحراز الفراغ

ص: 493

من الكل، إما للانشغال بالمجموع ابتداء، أو للانشغال بالأجزاء بنحو التعاقب حتى استوفيت وفرغ من المجموع، وكان مرجع احتمال النقص إلى احتمال الغفلة منه عن تحقيق بعض ما قصده، حين الانشغال بما قصده، جرت القاعدة، وإلّا لم تجر، كما لو احتمل إعراضه عن الكل بعد شروعه فيه، أو علم بعدم القصد من أول الأمر للكل، وإنما قصد الأجزاء بنحو التفريق، واحتمل الغفلة عن الإتيان ببعضها.

الجهة الثانية: في مفاد القاعدة

الجهة الثانية: في مفاد القاعدة.

اقتصر في أكثر النصوص العامة والخاصة على عدم الاعتناء بالشك في مورد القاعدة وعدم وجوب الرجوع والتدارك بسببه، مثل ما تضمن أن الشك ليس بشيء، وأنه لا شيءٍ بسببه على الشاك، وأنه يمضي ولا يعيد.

وهو بنفسه لا يقتضي التعبد بالمشكوك، فضلاً عن إحرازه أو فرض قيام الأمارة عليه، بل غايته تطبيق العمل في مقام الفراغ والامتثال على ما يناسب أحد طرفي الشك، نظير تطبيقه في مقام الاشتغال ووصول التكليف على ما يناسب أحد طرفي الشك في أدلة البراءة والاحتياط فيكون مضمون القاعدة أصلاً عملياً محضاً، لا تعبدياً، أو إحرازياً، فضلاً عن أن يبتني على أمارية شيءٍ.

نعم، بناء على امتناع اكتفاء الشارع بالفراغ الاحتمالي، لأن قاعدة وجوب الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني عقلية غير قابلة للتخصيص، بل له التعبد بالفراغ مع الشك ليتحقق موضوع القاعدة المذكورة، يتعين حمل المضامين المذكورة على التعبد بالفراغ، صوناً لها عن اللغوية، فتكون قاعدة تعبدية.

ص: 494

لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة إمكان اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي، وأن حكم العقل بلزوم إحرازه إنما هو مع عدم ثبوت اكتفاء الشارع بذلك.

هذا، كله بالنظر لمفاد هذه النصوص، أما بالنظر لغيرها فقد يستفاد التعبد بالمشكوك من بعض ما ورد في الشك في الركوع حال الهوي للسجود، أو حال السجود، كقوله عليه السلام في صحيح عبد الرحمن المتقدم: «قد ركع»(1)، وفي صحيح حماد: «قد ركعت أمضه»(2)، وغيرهما. بل قد يستفاد من صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات السرائر كون وجود الحائل من سنخ المحرز، فتكون القاعدة إحرازية، لا تعبدية محضة، لأن قوله: «فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلّا بيقين» ظاهر في كون الحائل محرزاً للمشكوك كاليقين السابق في الاستصحاب، بحيث يكون الاعتناء بالشك والتدارك لأجله تركاً للحائل وإعراضاً عن مقتضاه، لا تركاً لحكم الشارع معه بالتعبد بالمشكوك لا غير.

تقريب أمارية القاعدة

بل قد تقرب أمارية القاعدة لما فيها من الكاشفية بلحاظ غلبة جري المكلف في مقام العمل على طبق ما قصده ارتكازاً، بالإتيان بالعمل تام الأجزاء والشرائط، لأن مخالفته لذلك عمداً ينافي كونه في مقام الامتثال، وسهواً مخالف لظهور حال المدرك الملتفت، فالقصد الارتكازي للعمل التام من سنخ الأمارة بنظر العقلاء على مطابقة العمل الخارجي له.

الإشكال في التقريب المذكور

لكنه يشكل: بأنه ليس في النصوص العامة على كثرتها إشارة للارتكاز

ص: 495


1- الوسائل ج: 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 6. وقد تقدم ذكره في الأمر الثاني من الجهة الأولى.
2- الوسائل ج: 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 2.

المذكور، بل ظاهرها إرادة عدم الاعتناء بالشك الذي مضى محله من حيث هو، ولذا ورد بعضها في مورد الشك في أصل الامتثال لا في كيفيته، كصحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك بعد خروج وقت الفوت، ومن الظاهر أن الأمر المذكور ارتكازي أيضاً قد يبتني على مراعاة مصلحة التسهيل وحفظ النظام، لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله، مع كثرة تجدد الشك فيه لو توجه له المكلف.

نعم، قد يظهر ابتناء الحكم على الارتكاز المشار إليه من حديث بكير المتقدم في أدلة المسألة، المتضمن أنه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك وصحيح محمد بن مسلم المتقدم في الأمر الثاني من الجهة الأولى المتضمن أنه حين ينصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك.

لكن تقدم في الأمر المذكور عدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة، التي هي بمنزلة موضوع الحكم والتي تكشف عن سنخه ومنشئه.

ومن هنا يشكل البناء على الأمارية في المقام، بل غايته البناء على كون القاعدة إحرازية لصحيح زرارة المشار إليه بعد إلغاء خصوصية مورده والتعدي لجميع صغريات القاعدة، بناءً على وحدتها.

بقي أمران

بقي في المقام أمران..

الأول: في تقديم القاعدة على الاستصحاب

الأول: أنه لا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب، سواء كانت أصلاً عملياً محضاً، أم تعبدياً، أم إحرازياً، أم أمارةً. وإلّا لزم إلغاؤها وإهمال دليلها رأساً، لأنها أخص من الاستصحاب مورداً، ومخالفة له عملاً دائماً، لأن وجود المشكوك على خلاف الحالة السابقة. وأما صحته فهي وإن كانت على خلاف الحالة السابقة أيضاً بلحاظ العدم الأزلي، إلّا أن الأثر ليس لها،

ص: 496

بل للازمها وهو وجود الصحيح، والاستصحاب يقتضي عدمه، وحيث لا يكون التلازم بين الأمرين شرعياً يكون الاستصحاب معارضاً للقاعدة، لا محكوماً لها، كي يتوهم انفرادها بالجريان. فالأمر في المقام أظهر منه في اليد. لأنها قد تطابق الاستصحاب عملاً، كما أنه قد لا يجري في موردها لتعاقب الحالتين مع الجهل بتاريخهما، على ما تقدم.

أما في المقام فلا يتصور الجهل بالتاريخ في نفس مورد القاعدة، غاية الأمر أنه قد يتم في نفس الشرط المجهول - كالطهارة - وهو إنما يمنع من الاستصحاب السببي الجاري في الشرط، دون المسببي الجاري في المشروط، الذي مقتضاه مخالف لمقتضى القاعدة دائماً.

اللهم إلّا أن يقال: لا مجال لجريان الاستصحاب في المشروط، للعلم بتحقق ذاته، والشك إنما هو في شرطه، وليس مرجع الاشتراط إلى أخذ التقييد في المأمور به، بنحوٍ يكون المطلوب مفهوماً بسيطاً منتزعاً عن وجود الذات والقيد، كي لا يكون العلم بتحقق الذات منافياً للشك فيه، وإلّا لامتنع إحرازه بإحراز القيد، بل إلى كون المطلوب هو الفعل حال وجود القيد، بنحو التركب المفهومي، فمع إحراز أحد الأمرين بالوجدان لا مجال لاستصحاب عدم المركب.

مضافاً إلى أن الاستصحاب قد يوافق القاعدة عملاً، كما في مورد استصحاب الشرط. نعم لا مجال لحمل أدلة القاعدة على خصوص هذا المورد، لأنه في معنى إلغائها، نظير ما تقدم في اليد.

وكيف كان، فلا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب، ولا أثر لاختلاف الوجوه المتقدمة في ذلك.

ص: 497

غاية الأمر اختلاف وجه التقديم باختلاف الوجوه المذكورة..

فعلى القول بأماريتها يجري ما تقدم من الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب، وقد سبق منا تقريب نحو من الورود لها عليه يجري هنا، بل يجري بناء على كونها أصلاً إحرازياً أيضاً، كما يظهر بملاحظته والتأمل فيه.

تقريب حكومة القاعدة على الاستصحاب بوجهين

وأما بناءً على كونها أصلاً تعبدياً أو عملياً محضاً فقد تقرب حكومة القاعدة على الاستصحاب بوجهين..

أحدهما: ما ذكره النائيني قدس سره

أحدهما: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن موضوع الاستصحاب لما كان هو الشك في بقاء الحالة السابقة المسبب عن الشك في حدوث ما يرفعها، ومفاد القاعدة حدوث ما يوجب رفعها، كانت رافعةً لموضوعه.

وفيه: أن التعبد بحدوث ما يرفع الحالة السابقة وإن كان موجباً للحكومة عندهم، وعليه جروا في تقديم الأصل السببي على المسببي، إلّا أن المراد ما يرفعها ثبوتاً، كطهارة الماء الذي يغسل به الثوب بالإضافة إلى نجاسة الثوب، والقاعدة في المقام لا تقتضي التعبد بالرافع للحالة السابقة بالمعنى المذكور، بل تقتضي التعبد بنقيض الحالة السابقة، وهو مضاد للتعبد بنفس الحالة السابقة - الذي هو مفاد الاستصحاب - لا حاكم عليه.

نعم، لو كان التعبد المذكور مستنداً لطريق يؤدي لارتفاع الحالة السابقة إثباتاً كان ذلك الطريق حاكماً على التعبد الاستصحابي عندهم، على ما فصل الكلام فيه في وجه حكومة الأمارة، لكن المفروض في محل الكلام عدم أمارية القاعدة.

ثانيهما: ما ذكره العراقي قدس سره

ثانيهما: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن أدلة القاعدة لما كانت ناظرة إلى نفي الشك وأنه ليس بشيءٍ صالحٍ للعمل على وفق احتمال

ص: 498

بقاء الحالة السابقة، كانت رافعة لموضوع الاستصحاب، فتكون حاكمة عليه، بخلاف دليل الاستصحاب، فإنه لا يقتضي نفي الشك، بل التعبد بالمتيقن في ظرفه، فلا يرفع موضوع القاعدة.

وفيه: أن مفاد أدلة القاعدة ليس هو نفي الشك، وإلّا كانت بلسان الأمارة أشبه، بل عدم الاعتناء به في مقام العمل، وهو مفاد دليل الاستصحاب أيضاً، غايته أن عدم الاعتناء بالشك مسوق في دليل الاستصحاب لبيان وجوب العمل على طبق الحالة السابقة، وفي دليل القاعدة لبيان وجوب العمل على خلافها، فيتنافيان، ولا يرفع أحدهما موضوع الآخر، ليحكم عليه.

ومن هنا كان الظاهر انحصار وجه التقديم حينئذ بالتخصيص(1).

الثاني: عدم حجية القاعدة في اللازم

الثاني: الظاهر أن القاعدة ليست حجة في لازم مؤداها، سواء كانت أمارة أم أصلاً إحرازياً أم غيره، لعدم الدليل على ذلك.

وقد تقدم في مبحث الأصل المثبت أنه لا ملزم بحجية الأمارة في لازم مؤداها، بل لابد فيه من دليلٍ خاصٍ، ومعه يبنى على ذلك في الأمارة والأصل معاً.

نعم، تطبيق القاعدة في مورد الشك في صحة الموجود الذي هو مورد قاعدة الفراغ عندهم يبتني على الانتقال للازم غير الشرعي، لأن الأثر لوجود

ص: 499


1- اختلف تقريرا درس بعض مشايخنا (مصباح الأصول) و (مباني الاستنباط) في مبنى تقديم القاعدة على الاستصحاب، بعد اتفاقهما في لزومه دفعاً للغوية دليلها، وفي عدم حكومتها، فقد جرى في الأول على ما ذكرناه من التخصيص، وأنكره في الثاني، لدعوى إباء أدلة الاستصحاب عنه. وهو كما ترى! فإن الآبي عنه هو عدم نقض اليقين الفعلي بالشك، لامتناع رفع حجية القطع، أما عدم رفع اليقين السابق بالشك فهو قابل للتخصيص دون محذور، بل قد ثبت في كثير من الموارد تخصيصه بالتعبد بارتفاع الحالة السابقة، كما في البلل الخارج قبل الاستبراء، أو بالاحتياط، كما في موارد وجوب الفحص. بل لما اعترف بعدم الحكومة في المقام انحصر وجه التقديم بالتخصيص. (منه. عفي عنه).

الصحيح بمفاد كان التامة، وليس التلازم بينه وبين صحة الموجود شرعيا، بل عقلي، ومن ثم لا يجري الاستصحاب في صحة الموجود أو عدمها، كما أشرنا لذلك عند الكلام في الوجه الأول من وجوه وحدة القاعدة.

وإنما يرجع للاستصحاب في مورد الشك في صحة الموجود لإحراز منشأ انتزاع الصحة، وهو وجود الجزء أو الشرط، أو عدمه، حيث يحرز به تحقق الصحيح وهو المركب التام - بمفاد كان التامة - لإحراز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل، أو إحراز عدمه، فيكون موضوع الاستصحاب هو الجزء أو الشرط لإتمام المركب.

ولا مجال لذلك في المقام، لما تقدم عند الكلام في الوجه الرابع من وجوه وحدة القاعدة من ظهور بعض النصوص في تطبيق القاعدة على نفس المركب الخارجي لإحراز صحته، فلابد أن يبتني على الانتقال منه إلى لازمه غير الشرعي، وهو وجود الصحيح، الذي هو موضوع الأثر العملي، دفعاً للغوية، سواء كانت القاعدة أصلاً أم أمارةً، ولا مجال للتعدي لغير ذلك من اللوازم.

ومن هنا يتضح أنه لا ثمرة عملية للنزاع في أمارية القاعدة. فلاحظ.

المقام الثالث: في كبرى القاعدة

المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة.

والظاهر ثبوت العموم في أدلة القاعدة بلحاظ جميع الأبواب في فرض وجود الموضوع المتقدم، بنحوٍ يكون الخروج عنه في بعضها محتاجاً لدليل مخصص.

وهو المصرَّح به في كلام غير واحد ممن ادعى تعدد القاعدة أيضاً، فحكموا بعموم كلتا القاعدتين.

ص: 500

لكن بعض الأعاظم ادعى اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة.

وكأنه لاختصاص مورد صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر بها بلحاظ الأمثلة المذكورة في صدرهما، لسوقها للتمهيد والتوطئة للقاعدة.

لكن المورد لا يخصص الوارد، ولا سيما في مثل المقام ما كان العموم فيه ارتكازياً، لارتكازية القاعدة، ولا دخل للمورد في الجهة الارتكازية المبتنية عليها.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر للتعليل بالحائل في صحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك في الصلاة بعد خروج وقت الفوت، وفي صحيح زرارة المروي عن مستطرفات السرائر الوارد في الشك في الظهر بعد العصر.

فالبناء على العموم من هذه الحيثية متعين.

نعم، لا إشكال في خروج الوضوء عنها، كما وقع الكلام في إلحاق غيره من الطهارات به. والبحث في ذلك بمسائل الفقه أنسب.

ومن هنا ينبغي النظر في بعض الموارد التي وقع أو يقع الكلام في جريان القاعدة فيها لدعوى قصوره عنها رأساً أو انصرافاً، لأنها ترجع لحيثيات أُخر غير الحيثية المتقدمة.

مسائل جريان القاعدة فيها ويتم استقصاؤها بذكر مسائل..

المسألة الأولى: في منشأ الشك

المسألة الأولى: في منشأ الشك.

الشك في صحة العمل يكون من إحدى جهتين.

الأولى: الشبهة الحكمية

الأولى: الشبهة الحكمية، كما لو توضأ بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ثم شك في مانعية الاستعمال المذكور من الوضوء بالماء.

ص: 501

ومحل الكلام هنا ما إذا حصل الشك المذكور بعد الفراغ من العمل أو مضي محل المشكوك.

أما لو حصل قبله خرج عن موضوع القاعدة. ولذا تقدم أن القاعدة ليست من المسائل الأصولية التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الذي يتفرع عليه العمل، بل هي متفرعة على العمل الشخصي.

إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم جريان القاعدة حينئذٍ، لاختصاص دليلها بالشك في الجريان على مقتضى التشريع مع تعيين مقتضاه، ولا يعم الشك في مطابقة التشريع لما وقع مع تعيين ما وقع، لأن ذلك هو المتيقن من الجهة الارتكازية التي أشير إليها في نصوص القاعدة.

كما أن النصوص المذكورة مختصة بذلك.

أما نصوص الشك في وجود المشكوك - الذي هو مجرى قاعدة التجاوز عندهم - فلابتناء فرض الشك في وجود الشيء فيها على الجهل بحال العمل. وأما نصوص الشك في صحة الموجود - الذي هو مجرى قاعدة الفراغ عندهم - فلأن صحة العمل وفساده وإن أمكن فرضهما من جهة الشبهة الحكمية، إلّا أن الأدلة لم تتضمن عنوان الشك في الصحة، بل الشك في نفس العمل الخارجي، وظاهره إرادة الشك في الخصوصية التي وقع عليها مما يهتم به لكونه مورداً للأثر ومأخوذاً في التشريع، لا ما يعم الشك في الخصوصية المأخوذة في الحكم الشرعي، فإنها أجنبية عن العمل.

وأما المطابقة للمشروع فهي وإن كانت من خصوصيات العمل، إلّا أنها أمر انتزاعي متفرع على التشريع ليست مورداً للأثر، فينصرف إطلاق الشك في العمل عنها.

ص: 502

نعم، لو لم ترجع الشبهة الحكمية للشك في أخذ شيءٍ في الفعل - كأخذ الترتيب في غسل الجنابة - بل للشك في تحقق الأمر المأخوذ فيه، كما لو شك بعد الوضوء بالماء الذي زال تغيره من قبل نفسه في طهارته لم يمنع الوجه المذكور من جريان القاعدة فيها، لأن الشك حينئذٍ في خصوصيةٍ في فعل المكلف مورد للأثر ومحط للغرض، وهي طهارة الماء المتوضأ به فلابد في توجيه قصور القاعدة حينئذٍ من دعوى انصراف أدلتها عن الشبهة الحكمية واختصاصها بالشبهة الموضوعية، والظاهر تسالمهم على ذلك. فلاحظ.

الثانية: الشبهة الموضوعية والشك معها من وجوه

الثانية: الشبهة الموضوعية، وللشك معها وجوه، لأنه يرجع..

تارةً: للشك في صورة العمل مع العلم بما هو المشروع.

وأخرى: للشك في انطباق العمل على المشروع مع العلم بصورة العمل.

وثالثة: للشك في أصل مشروعية العمل.

أما الأول فكما لو شك المكلف في موالاته في الوضوء، أو في طهارته حين الصلاة. وهو المتيقن من أدلة القاعدة.

وأما الثاني فكما لو علم المكلف أنه صلى لجهةٍ معينةٍ وشك في أنها القبلة أولا. ومقتضى إطلاق النصوص جريان القاعدة، لأن الشك في ذلك راجع للشك في خصوصية راجعة للعمل مقارنة له، كخصوصية الوقوع للقبلة في المثال.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الشك المذكور لا يتمحض في جهة انطباق المأتي به، لأن كون الجهة التي صلى إليها القبلة لا دخل لها

ص: 503

بعمله الذي هو موضوع القاعدة وهو الصلاة.

ففيه: أنه وإن لم يتمحض في ذلك إلّا أنه راجع إليه، لأن الشك في كون الجهة الخاصة قبلةً يستلزم الشك في وقوع صلاته للقبلة على مقتضى الأمر، وبلحاظه تجري القاعدة، فيبنى على صحة العمل، وإن لم تجر بلحاظ الأول، فلا يحرز كون الجهة المذكورة قبلةً تجوز الصلاة إليها.

ومجرد كون منشأ الشك في الانطباق شكاً أجنبياً عنه، لا يمنع من دخوله تحت القاعدة، إذ قد يتأتى ذلك مع الشك في صورة العمل.

بل الشك في المقام لا يخرج عن الشك في صورة العمل، إذ لا يراد بصورة العمل خصوص مادته - وهي الأجزاء - وهيئته - وهي الموالاة والترتيب - بل ما يعم قيوده المقارنة له، كطهارة المصلي وتستره، وهي بالمعنى المذكور مجهولة في المقام. وليس الشك هنا إلّا كالشك في صحة الوضوء بالماء الخاص للشك في طهارته أو إطلاقه، حيث لاإشكال ظاهراً في جريان القاعدة فيه، ولايختص جريانها مع الشك في طهارة الماء أو إطلاقه بما إذا تردد الوضوء بين مائين أحدهما واجد للشرط والآخر فاقد له.

ثم إنه لا يفرق في ما نحن فيه بين كون الخصوصية المشكوكة - تبعاً للشك الخارج عن العمل - دخيلة في نوع العمل، كالاستقبال في الصلاة، وكونها دخيلة في صنفه، كالحضر الدخيل في صحة التمام، بأن علم المكلف بأنه صلى تماماً، وشك في أنه كان حاضراً أو مسافراً حين الصلاة.

كمالا يفرق بين كون الصنف الذي يعلم بدخل الخصوصية المشكوكة فيه اختياراً - كالتمام في المثال - وكونه اضطرارياً، كالوضوء الجبيري، بأن علم المتوضئ أنه مسح على العصابة وشك في مشروعيته، لاحتمال عدم

ص: 504

الجرح الذي هو موضوع الوضوء الجبيري. كل ذلك لإطلاق أدلة القاعدة.

هذا، وقد عد غير واحد مما نحن فيه ما لو علم المتوضئ أنه لم يحرك خاتمه وشك في وصول الماء لما تحته.

وهو في غير محله، لأن عمل المكلف الذي هو المشروع والمجزي ليس هو صب الماء على العضو المعلوم الصورة، بل إيصال الماء له المسبب عن ذلك، وهو مجرى القاعدة، ومن الظاهر أن إيصاله لما تحت الخاتم جزء من العمل المذكور، فالشك فيه شك في صورة العمل، لأن المراد منها ما يعم الجزء قطعاً، فيدخل في الوجه الأول الذي عرفت أنه المتيقن من القاعدة.

نعم، كلا الوجهين، بل الوجه الثالث أيضاً، قد تكون مع احتمال الالتفات لجهة الشك ومنشئه، بحيث يستند الإتيان بالمشكوك لقصد المكلف، وقد تكون مع القطع بالغفلة بحيث يكون حصول المشكوك اتفاقياً، وربما يشكل عموم القاعدة للثاني.

وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في المسألة الثانية.

وكأن إشكال شيخنا الأعظم قدس سره في عموم القاعدة مع انحفاظ صورة العمل مبني على القطع بالغفلة، كما يناسبه استدلاله، فمراده انحفاظ صورة العمل الملتفت إليه.

بل من القريب ابتناء منع بعض الأعاظم قدس سره من جريان القاعدة في هذا القسم على ملاحظة هذه الصورة، وإلّا فالالتزام بعدم جريانها في صورة احتمال الالتفات بعيد عن مرتكزات المتشرعة جداً.

وأما الثالث فكما إذا احتمل بطلان الصلاة لاحتمال عدم دخول الوقت، أو احتمل بطلان غسل الجنابة لاحتمال عدم الجنابة.

ص: 505

وقد جزم سيدنا الأعظم قدس سره بعدم جريان القاعدة فيه، لخروجه عن مورد أدلتها.

وكأنه لأن الخصوصية المشكوكة ليست مطلوبة لنفسها ولا يتعلق بها الغرض، بل هي علة لتعلق الغرض بالعمل ومشروعيته. واهتمام المكلف بحصولها إنما هو بلحاظ ترتب الأجزاء عليها، وليس هو أثراً شرعياً، بل عقلي، فينصرف عنه إطلاق الأدلة.

لكن لم يتضح الوجه في تقييد الخصوصية المشكوكة بما إذا كانت مورداً للطلب، وعدم عمومها لما إذا كانت علة للطلب والمشروعية، بعد أن كانت عليتها شرعية، وبعد أن كانت مما يهتم المكلف بها لأجل إحراز صحة العمل ومشروعيته، فالبناء على العموم هو الأوفق بالإطلاق والمناسب للارتكازيات المتشرعية.

نعم، لو حصل الشك المذكور قبل اليقين بدخول الوقت فمقتضى الاستصحاب عدم الموضوع للقاعدة، لعدم انشغال الذمة بالعمل بعد، كي يحرز بها الفراغ عنه، فلا مجال لجريانها لعدم الأثر، فبعد تجدد اليقين بالوقت يعلم بانشغال الذمة بالتكليف، فلابد من إحراز الفراغ عنه، ولا تنفع القاعدة في ذلك بعد عدم جريانها من أول الأمر حين حدوث الشك. والمسألة محتاجة للتأمل.

المسألة الثانية: في عموم القاعدة من حيثية وقت الشك

المسألة الثانية: في عموم القاعدة من حيثية وقت الشك.

تكرر منا أن موضوع القاعدة هو الشك الذي مضى محله، إما للشك في الوجود بعد مضي محل المشكوك، أو للشك في الصحة بعد الفراغ من العمل.

ص: 506

فلو حدث الشك في المحل أو قبل الوصول إليه فلا موضوع للقاعدة ولزم الاعتناء بالشك - بمقتضى الاستصحاب، أو قاعدة الاشتغال - فلو لم يعتن به ومضى عليه لم يجتزئ بالعمل سواء كان عدم الاعتناء مع الالتفات للشك - عمداً أو للجهل بحكمه - أم مع الغفلة عنه، فإن الغفلة عنه كالجهل بحكمه لا ينافي عدم مضي محل الشك الموجب لقصور القاعدة عنه.

غاية الأمر أن الغفلة عن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب والجهل العذري بحكمه يوجب عدم تنجز الحكم حين العمل، وهو لا يهم مع تنجزه حين الالتفات بعد الفراغ عنه بعد فرض عدم جريان القاعدة المانعة من الرجوع إليه.

وأما لو غفل عن المشكوك، فأتى بالعمل ومضى فيه ثم التفت فتجدد له الشك بعد مضي محله، فإن احتمل الإتيان بالمشكوك بعد الشك الأول فلا ريب في جريان القاعدة بلحاظ الشك المتجدد، لمباينة الشك المذكور للشك السابق، لفرض تعدد موضوعهما.

وما ذكره بعض الأعيان المحققين من عدم جريان القاعدة، لاختصاصها بالشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق بالشك قبل العمل.

غريب جداً، إذ لا يزيد الشك قبل العمل عن اليقين بعدم الإتيان بالمشكوك، مع جريان القاعدة معه لو فرض احتمال الإتيان به بعد ذلك، والتقييد المذكور في كلامه مما لا يمكن الالتزام به مع فرض تباين الشكين بسبب تعدد موضوعيهما.

وإن علم بعدم الإتيان بالمشكوك بعد الشك الأول، بحيث يستند احتمال صحة العمل لما استند له الشك الأول لا غير، فربما يدعى جريان

ص: 507

القاعدة أيضاً بلحاظ الشك المتجدد، لأنه وإن اتحد مع الشك السابق موضوعاً، إلّا أنه مباين له بسبب فصل الغفلة المفروضة بينهما، فلا يكون الثاني بقاء للأول، بل هو شك جديد حاصل بعد مضي محله، فتشمله القاعدة وإن لم تشمل الشك الأول.

لكن ذكر غير واحد أن الشك المذكور غير مشمول لأدلة القاعدة، بل ظاهر غير واحد المفروغية عن ذلك، وظاهر بعض الأعيان المحققين تسالم الأصحاب عليه.

ويظهر من سيدنا الأعظم قدس سره أن الوجه فيه قصور دليل القاعدة عن الشك المسبوق بمثله قبل العمل. وذكر بعض مشايخنا في توجيه ذلك أن تباين الشكين لتخلل الغفلة بينهما إنما هو دقي، وإلّا فهما بنظر العرف شك واحد سابق على الفراغ من العمل ومضيه، خارج عن موضوع القاعدة.

بل قد يقال: ان الشك عرفاً كالعلم يصدق بمجرد حصوله، ولا يضر بصدقه طروء الغفلة، فكما أن العالم لو غفل عما علمه لا يصح عرفاً سلب العلم عنه، بل يصدق عليه الذاهل أو الناسي، دون الجاهل، كذلك الشاك لو غفل عما شك فيه لا يصح سلب الشك عنه.

والفرق بينه وبين ما ذكره بعض مشايخنا أن وحدة الشك على ما ذكرنا حقيقية مستلزمة لقصور إطلاق دليل القاعدة عن المورد حقيقة، وعلى ما ذكره تسامحية فلابد من دعوى انصراف إطلاق الدليل، لا قصوره.

لكن لا يخلو كلا الوجهين عن الإشكال، خصوصاً في مثل الشك الحاصل قبل الشروع في العمل، كالشك في الطهارة قبل الصلاة، لوضوح أن المشكوك فيه هو الطهارة قبل الصلاة، وليست هي موضوعاً للأثر، بل

ص: 508

ليس موضوعه إلّا الطهارة حين الصلاة التي هي شرط في صحتها، والتي هي موضوع الشك الثاني الحادث بعد الفراغ، فالشكان متباينان تبعاً لتباين موضوعيهما، وإن كانا متلازمين. ومنه يظهر عدم تمامية ما تقدم من سيدنا الأعظم قدس سره.

نعم، قد يقال: إن بقاء اليقين والشك وعدم ارتفاعهما بالغفلة مستلزم لبقاء حكمهما، وهو الاستصحاب وإن لم يتنجز بسبب الغفلة عن موضوعه، وإنما يتنجز بعد الالتفات، والمتيقن من تقديم القاعدة على الاستصحاب هو تقديمها عليه بلحاظ تطبيقه على الشك الحاصل بعد مضي المحل، أما بلحاظ الشك الحاصل قبله فلا ملزم بتقديمها عليه، لعدم لزوم لغويتها لو قدم عليها، فالمتيقن هو منع القاعدة من الاستصحاب الذي يكون موضوعه مقارناً لموضوعها، لا رفعها للاستصحاب الجاري قبلها، لسبق موضوعه على موضوعها زماناً.

بل يتعين تقديمه عليها لو كان سببياً بالإضافة إليها، لكون مجراه منشأ للشك الذي هو موضوعها، بملاك تقديم الأصل السببي على المسببي، فيكون استصحاب عدم الوضوء الجاري قبل الدخول في الصلاة في المثال المتقدم مقدماً على قاعدة الفراغ الجارية بعدها.

ومن هنا يتعين تقديم الاستصحاب السببي الجاري سابقاً وإن لم يكن المشكوك بعد مضي المحل ملتفتاً إليه قبله، بل كان مبايناً للمشكوك فيه سابقاً مسبباً عنه، كما لو شك المكلف في تطهير الإناء، فاستصحب نجاسته، ثم غفل ووضع فيه الماء وتوضأ به ثم التفت بعد الفراغ واحتمل صحة وضوئه لاحتمال تطهير الإناء من أول الأمر، فإن ما هو الشرط لصحة الوضوء هو

ص: 509

طهارة الماء، ولم يسبق الشك فيه قبل الوضوء، كي يتمسك لعدم جريان القاعدة بوحدة الشك عرفاً أو حقيقة، وإنما سبق الشك بتطهير الإناء.

فإذا تم ما ذكرنا من حكومة الاستصحاب الجاري سابقاً فيه على القاعدة اتجه عدم جريانها في الفرض، كما هو المناسب للمرتكزات، وإلّا تعين جريانها لتحقق موضوعها بلا إشكال، وهو الشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق بمثله.

وحيث كان جريانها فيه بعيداً عن المرتكزات كشف عن قرب ما ذكرناه من الوجه.

لكن الوجه المذكور لا ينفع لو لم يكن الشك الحاصل قبل مضي المحل سببياً بالإضافة للشك الحاصل بعده الذي يكون مجرى للقاعدة، لعدم الترتب بين موضوعيهما، كما لو شك في الركوع قبل السجود، فوجب عليه ظاهراً الإتيان به، ثم غفل وسجد، وقطع بعد الالتفات بعدم الإتيان بالركوع بعد الشك المذكور، حيث لا وجه لحكومة استصحاب عدم الإتيان بالركوع على القاعدة، بل يتعين حكومتها عليه، بناء على كونها إحرازية، كما تقدم.

فلابد من التشبث في منع جريان القاعدة فيه إما بما تقدم من وحدة الشك عرفاً أو حقيقةً، أو بدعوى انصراف دليل القاعدة عما لو أحرز كون المضي في العمل على خلاف الوظيفة التي خوطب بها ولو ظاهراً، وإن كانت المخالفة عن عذر بسبب الغفلة.

وهذا بخلاف ما لو لم يلتفت إلّا بعد الفراغ، لفرض عدم إحراز المخالفة للوظيفة الواقعية، وعدم تحقق موضوع الوظيفة الظاهرية قبل

ص: 510

الفراغ، كي يكون المضي مخالفةً لها.

هذا، والظاهر أن منع الارتكاز عن جريان القاعدة كاف في البناء على عدمه، والمهم إنما هو معرفة منشأ الارتكاز المذكور، ولا يبعد صلوح ما ذكرنا له.

نعم، لابد من إحراز أن جري المكلف على خلاف مقتضى الوظيفة الظاهرية لمحض الغفلة عن المشكوك، أما لو احتمل تبدل الحال في نفس المكلف، بحيث يكون عدم فعلية الشك منه لتبدل الشك في نفسه باليقين حين العمل، وإن غفل بعده أيضاً، فالظاهر جريان القاعدة بسبب الشك الحاصل بعد الفراغ والالتفات، لعدم إحراز المانع منها، وهو الوظيفة الظاهرية المنافية للقاعدة، كالاستصحاب الحاكم عليها أو الموجب لانصراف دليلها، لأن بقاء الوظيفة المذكورة مشروط بعدم تبدل الشك باليقين، كما لا يحرز مع ذلك وحدة الشك عرفاً أو حقيقةً بالتقريب المتقدم.

وأما احتمال بقاء الحال السابق وعدم التبدل، فهو شك متجدد بعد المضي، ومبنى القاعدة على إهماله، كما يهمل الشك بالإضافة إلى الواقع الذي يحتمل مخالفته وإن كان موافقاً للأصل الأولي.

وأوضح من ذلك ما لو احتمل الإتيان بالمشكوك بعد الشك السابق. ولذا تقدم منهم الجزم بجريان القاعدة معه. فتأمل جيداً.

المسألة الثالثة: في عموم القاعدة من حيثية الالتفات

المسألة الثالثة: في عموم القاعدة من حيثية الالتفات حين العمل وعدمه.

أشرنا في المسألة الأولى إلى أن شيخنا الأعظم قدس سره استشكل في جريان القاعدة مع حفظ صورة العمل، وذكرنا أن التأمل في دليله قاضٍ بأن نظره في

ص: 511

ذلك لفرض غفلة المكلف عن جهة الشك حين العمل، فمرجع ذلك منه إلى اعتبار احتمال التفات المكلف لجهة الشك حين العمل في جريان القاعدة. وهو الذي أصر عليه بعض مشايخنا ونسبه لجملة من الأصحاب.

وغاية ما يوجه به ذلك: أن مبنى القاعدة ارتكازاً على ملاحظة ظهور حال الممتثل في مطابقته للأمر الذي يريد امتثاله بالمحافظة على جميع الخصوصيات المعتبرة في العمل، وذلك إنما يكون مع التفاته لجهة الشك، ولو ارتكازاً، حيث يكون إخلاله معه عمداً منافياً لكونه في مقام الامتثال، وسهواً مخالفاً للظهور الأولي في كل فاعل.

أما مع غفلته عن جهة الشك فإخلاله بالخصوصية المطلوبة لا ينحصر بالوجهين المذكورين بل يستند لغفلته، وحصول الخصوصية المطلوبة معها إنما يكون اتفاقياً، ولا ظهور لحال الممتثل فيه.

مضافاً إلى التعليل بقوله عليه السلام في حديث بكير المتقدم في أدلة القاعدة: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» وفي صحيح محمد بن مسلم المتقدم في مبحث عدم الاعتداد بمضي المحل العادي: «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك».

لكن تقدم عند الكلام في أمارية القاعدة الإشكال في ابتناء القاعدة على الجري على الجهة الارتكازية المذكورة، وقوة احتمال ابتنائها على جهة أخرى ارتكازية أيضاً لا تقتضي اعتبار الالتفات.

كما تقدم في مبحث الاكتفاء بمضي المحل العادي الإشكال في التعليل المذكور في الموثق والصحيح بعدم ظهوره في بيان العلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجوداًوعدماً. فراجع.

ص: 512

مضافاً إلى صحيح الحسين بن أبي العلاء: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوله عن مكانه. وقال في الوضوء تدره، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة»(1). لظهوره في إهمال احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم، والبناء على صحة الوضوء بعد الفراغ منه والالتفات لذلك.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وارد لبيان عدم شرطية تحويل الخاتم وإدارته بعنوانهما في الطهارة، ودفع توهم بطلانها بتركهما ولو مع وصول الماء، لا بلحاظ احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم، لينفع في ما نحن فيه.

فهو بعيد جداً، لعدم المنشأ الارتكازي للاحتمال المذكور كي ينصرف إطلاق السؤال إليه، بخلاف وجوبهما طريقياً لإحراز وصول الماء.

ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام: «سألته عن المرأة عليها السوار أو الدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال: تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. وعن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف تصنع؟ قال: إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ»(2).

ودعوى: أن ذلك لا يناسب خصوصية التحويل والإدارة اللتين تضمنهما صحيح الحسين، بل يقتضي الاكتفاء بإيصال الماء بأي وجهٍ كان.

مدفوعة: بإلغاء خصوصيتهما عرفاً، لفهم أن ذكرهما بلحاظ

ص: 513


1- الوسائل ج: 1، باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.
2- الوسائل ج: 1، باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ملازمتهما لإحراز وصول الماء، ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر.

كيف! وإلّا لزم البناء على شرطية التحويل والإدارة ذاتاً، وإن لم يخل تركهما نسياناً، المستلزم للبطلان مع تركهما عمداً وإن أحرز وصول الماء، فإن الذيل لا يدل على عدم الشرطية ذاتاً، ليجب رفع اليد به عن ظاهر الصدر المدعي، بل على العفو مع النسيان المجامع لها.

بل هو مختص بالإدارة في الوضوء، فلا موجب للبناء على العفو عن ترك النزع في الغسل حتى مع النسيان، بعد كون الحكم تعبدياً محضاً يصعب إلغاء خصوصية مورده.

على أنه لو سلم ما ذكره فاستفادة ما نحن فيه من الصحيح تبعاً قريبة جداً، لملازمة نسيان النزع والتحريك لاحتمال عدم وصول الماء بعد الفراغ غالباً، فعدم التنبيه على وجوب الإعادة من الحيثية المذكورة مستلزم لظهور الكلام تبعاً في عدم الاعتناء بالاحتمال المذكور.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيح في ما نحن فيه ودلالته على عموم القاعدة من حيثية عدم الالتفات لجهة الشك.

هذا كله مع أنه يصعب البناء على التقييد بصورة الالتفات، إذ كثيراً ما يتم المكلف عمله على نحو خاص قد تعوده مدة طويلة ويعتقد بتماميته، ثم يلتفت لبعض الاحتمالات القريبة أو البعيدة، الراجعة لخلل في عمله مما كان غافلاً عنه حينه، بحيث لو توجه إليه حينئذ لزمه الفحص عنه، لاقتضاء الأصل عدم التمامية معه، كعدم وصول الماء في الغسل لبعض المواضع، لاحتياجه للدلك على غير الوجه الذي تعوده، أو لوجود المانع، أو مانعية الموجود، ونحو ذلك مما ليس بناء المتشرعة على إعادة ما مضى بعد

ص: 514

الالتفات إليه. فلا ينبغي مع ذلك التشكيك في عموم القاعدة.

ثم إن الاقتصار على ظهور حال الممتثل في تحقيق تمام ما هو الدخيل في المطلوب، والتعليل المتقدم كما يقتضيان اعتبار الالتفات لجهة الشك كذلك يقتضيان اعتبار عدم ظهور كون الاعتقاد بالتمامية المقارن للالتفات السابق في غير محله، لابتنائه على مقدمات غير صالحة للإثبات، وإن احتمل مصادفته للواقع، فلو فرض علم المكلف من نفسه أنه حين الوضوء كان يعتقد وصول الماء للبشرة مع وجود الخاتم وإن لم يحركه، وبعد الفراغ شك في ذلك، وظهر له أن اعتقاده السابق في غير محله، لابتنائه على مقدمات غير منتجة، كان بحكم غير الملتفت، إذ لا أثر لمثل هذا الالتفات في ظهور حاله في إيصاله الماء للبشرة، ولا في أذكريته وأقربيته للحق.

نعم، لو خفي عليه وجه الاعتقاد ولم يظهر له صحة مقدماته ولا خطؤها، كان ظاهر حاله حين الامتثال أنه أتم عمله، كما هو مقتضى الأذكرية والأقربية للحق المعلل بهما، بضميمة أصالة عدم الخطأ، غير الجارية في الفرض الأول المبتني على العلم بخطأ الاستناد بوجه الاعتقاد.

وهذا هو المعيار في كل جهة للشك، سواء كانت حكمية وتقدم عدم جريان القاعدة معها - كما لو مسح بإصبع باعتقاد الإجزاء - أم موضوعية راجعة للشك في الإتيان بالمطلوب - كما لو شك في الإتيان بالركوع قبل السجود، ثم اعتقد الإتيان به ومضى، ثم تجدد له الشك في الإتيان به - أو للشك في مطابقة المأتي به للمطلوب - كما لو صلى تماماً باعتقاد كونه حاضراً، وبعد الفراغ احتمل كونه مسافراً - أو للشك في التوظيف به، للشك في تحقق شرط مشروعيته - كالوقت - على ما أشرنا إليه في المسألة الأولى.

ص: 515

فلو ابتنى المنع في بعضها على اعتبار الالتفات كان اللازم التفصيل بين ظهور مستند الخطأ في الاستناد لوجه الاعتقاد وعدمه.

كما لا يفرق في ذلك بين القطع وغيره من الطرق الظاهرية، فإذا قامت البينة على تطهير الماء، فتوضأ به، ثم شك في عدالة الشاهدين، فإن خفي عليه وجه البناء منه سابقاً على عدالتهما لحقه حكم الملتفت، وإن علم بفسقهما، أو احتمل ذلك لكن ظهر له أن وجه البناء منه على عدالتهما غير صالح لأن يعتمد عليه، فلا أثر لمثل هذا الالتفات.

ومنه يظهر حال كثير من الفروع التي ذكروها في المقام مما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد معرفة الضابط المذكور.

المسألة الرابعة: في عموم القاعدة لاحتمال الترك العمدي وعدمه

المسألة الرابعة: في عموم القاعدة لاحتمال الترك العمدي وعدمه.

والظاهر أن احتمال الترك العمدي إن كان مانعاً من إحراز موضوع القاعدة فلا ينبغي الإشكال في عدم جريانها، كما لو احتمل تعمد الإعراض عن إكمال العمل، بنحو لا يتحقق معه المضي فيه والفراغ عنه، على ما تقدم عند الكلام في المعيار في الفراغ.

وإن لم يناف ذلك، بل أحرز المكلف من نفسه أنه في مقام الامتثال وقد مضى في عمله وفرغ منه، فإن احتمل تعمد ترك الجزء بسبب بنائه على عدم اعتباره في العمل وإن احتمل الإتيان به صدفة أو برجاء المطلوبية ابتنى جريان القاعدة وعدمه على ما تقدم في المسألة السابقة، فإن قيل باعتبار احتمال الالتفات لجهة الشك حين العمل تعين عدم جريانها، وإلّا تعين جريانها، لعموم دليلها.

وإن احتمل تعمد تركه للإعراض عن العمل ثم العدول عن ذلك

ص: 516

قبل فعل المنافي والغفلة عن الجزء، فلا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة، لتحقق موضوعها، حتى بناء على اعتبار الالتفات، لابتناء القاعدة على ظهور حال الممتثل، والتعليل بالأذكرية والأقربية للحق، لوضوح شمول الوجهين المذكورين للمورد.

وكذا لو احتمل تعمد ترك الجزء تشريعاً، لمنافاته لظهور حال الممتثل.

نعم، لا يشمله التعليل بالأذكرية، لظهور أن ذكره في مقابل النسيان، لا في مقابل التعمد، إلّا أن استفادته منه بالأولوية قريبة جداً. فلاحظ.

المسألة الخامسة: في عموم القاعدة للشك في الشروط

المسألة الخامسة: في عموم القاعدة للشك في الشروط.

وظاهر غير واحد وصريح آخرين العموم.

لكن ظاهر كشف اللثام في مسألة الشك في الطهارة في الطواف الاختصاص بالأجزاء، لأنه بعد أن حكى عن العلامة في غير واحد من كتبه الحكم بعدم الالتفات للشك فيها بعد الفراغ منه قال: «والوجه: أنه إن شك في الطهارة بعد يقين الحدث فهو محدث يبطل طوافه، شك قبله أو بعده أو فيه... وليس ذلك من الشك في شيءٍ من الأفعال».

ويحتمله أيضاً ما في المدارك، حيث وافقه في الحكم المذكور، وإن لم يتعرض إلى أن الوجه فيه قصور القاعدة عن مثل الطواف واختصاصها بالطهارة والصلاة، أو قصورها عن الشك في الشروط.

لكن تقدم عدم اختصاص القاعدة بالطهارة والصلاة.

كما لا ينبغي الإشكال في عمومها للشك في الشروط، لعموم أدلتها المتقدمة، وخصوص صحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام:

ص: 517

رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال: يمضي على صلاته، ولا يعيد»(1)، وقد يستفاد من غيره.

ثم إنه لا يفرق في جريان القاعدة في الشروط بين ما كان منها سابقاً على العمل بها - كالأذان والإقامة بناء على شرطيتهما محضاً - وما كان منها مقارناً له، سواء كان قائماً بتمام المركب، بحيث يجب المحافظة عليه من حين الشروع فيه إلى الفراغ منه - كالاستقبال والطهارة - على المشهور، أم كان قائماً بكل جزءٍ جزءٍ منه، دون الأكوان المتخللة بينها - كالطمأنينة والترتيب والموالاة بين الأجزاء - أم كان قائماً بخصوص بعض الأجزاء - كالجهر والإخفات في القراءة -

غاية الأمر أنه قد يظهر الفرق بينها عند الالتفات في أثناء العمل، حيث يبتني إحراز صحة العمل في الأول على ما يأتي في الأمر الأول في كيفية تطبيق القاعدة على الشروط. وقد يتعذر إحرازها في الثاني بالإضافة إلى حال الشك، وإن أمكن إحرازه بالإضافة إلى ما قبله بالقاعدة، وبالإضافة إلى ما بعده بالوجدان، بتحديد الوضوء مثلاً أثناء الصلاة بخلاف الأخيرين، حيث لا يحتاج إلى إحرازه حال الشك لو فرض عدم الانشغال بالعمل حينه. وهو أمر يختلف باختلاف الشروط، خارج عما ذكرنا من جريان القاعدة عند الشك في الشرط، لعموم دليلها.

نعم، لا مجال لجريانه في خصوص بعض الشروط مما كان مقوماً للمشروط غير زائدٍ عليه عرفاً، كالموالاة بين أجزاء الكلمة، وكالنية التي هي بمعنى تعيين نوع الفعل، كنية كون الأنحناء ركوعاً أو سجوداً، ونية كون

ص: 518


1- الوسائل ج: 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.

الصلاة ظهراً أو عصراً، ونية كون المال المدفوع زكاةً أو هديةً.

لوضوح أن الشرط المذكور لما كان راجعاً للشك في تحقق عنوان العمل الخارجي لم يحرز معه موضوع القاعدة وهو الفراغ عن العمل ذي العنوان الخاص ومضيه، ليمكن معه إحراز صحته بها، كما لا مجال معه لإحراز مضي محل الشرط، لأن محله هو حال المشروط ذي العنوان الخاص، فمع عدم إحراز العنوان لما وقع لا يحرز مضي محله، فيرجع الشك في الشرط المذكور للشك في وجود المشروط من المركب أو جزئه، فلابد من تطبيق القاعدة بالإضافة إليه لو فرض مضي محله بخروج وقته، أو الدخول في ما يترتب عليه ويتحقق به التجاوز عنه.

فمن شك في أن انحناءه كان بقصد الركوع أو لتناول شيءٍ من الأرض لا مجال لإحرازه القصد للركوع بمضي محله تبعاً لمضي الركوع المعتبر فيه، لعدم إحراز الركوع مع الشك المذكور، وإنما يتجه في حقه جريان القاعدة في نفس الركوع لو فرض مضي محله بالدخول في السجود.

هذا، مضافاً إلى ما قيل من أن شرطية مثل ذلك عقلية، لتوقف العنوان عليها، لا شرعية، لتكون منشأ لصدق موضوع القاعدة من مضي المشكوك بنفسه أو بمحله.

وأما ما ذكره العلامة والشهيد وغيرهما من عدم الاعتناء بالشك في النية بعد تجاوز محلها.

فهو مبني على وجوب النية بمعنى إخطار صورة العمل متصلةً بأوله أو مقارنة له، ومن الظاهر أن الإخطار المذكور ليس مقوماً لعنوان العمل، بل يكفي في صدقه القصد الإجمالي الارتكازي الذي لا إشكال في كفايته حال

ص: 519

الاستمرار في العمل، ولابد من فرض تحققه في المقام، فلو كان الإخطار معتبراً فليس هو إلّا جزءاً من العمل أو شرطاً زائداً عليه له محل خاص، يمكن فرض التجاوز عنه بمضي محله والدخول في ما بعده.

وكذا الحال في النية بمعنى قصد التقرب داعياً، فإنها أمر زائد على العمل لا يتوقف عليه صدق عنوانه، بل هي كسائر الشروط تجري فيها القاعدة، بناء على ما هو التحقيق من أن شرطيتها شرعية لا عقلية.

بقي أمران

بقي في المقام أمران..

الأول: الكلام في تطبيق القاعدة على الشروط بمفاد كان التامة

الأول: أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط هل يكون بتطبيقها على نفس الشرط، لإثبات وجوده بمفاد كان التامة، بلحاظ مضي محله وهو المشروط، أو على المشروط لإثبات صحته وواجديته للخصوصية المطلوبة بمفاد كان الناقصة، بلحاظ مضيه بنفسه، لفرض الفراغ عنه.

والفرق بين الوجهين: أنه على الثاني لا يكفي مضي الجزء الذي يجب تحقق الشرط حينه إلّا أن يكون هو المشروط بالشرط.

أما لو كان محلاً للشرط مع كون المشروط هو المركب فلابد من مضي المركب بتمامه لأن مفاد القاعدة على الوجه المذكور هو إحراز الخصوصية المطلوبة في الفعل الذي مضى، فإذا كانت الخصوصية مطلوبة في الكل لا في الجزء لم يكف مضي الجزء.

أما على الأول فيكفي مضي الجزء الذي هو محل الشرط مطلقاً، إذ المعيار فيه على مضي محل المشكوك. وتحقيق أن الشرط الذي محله الجزء شرط فيه أو في تمام المركب مما لا مجال له هنا، بل يوكل للفقه حسبما يستفاد من الأدلة في كل موردٍ مورد.

ص: 520

نعم، لازم كونه شرطاً في الجزء أن الإخلال به في محله لا يبطل المركب، بل يبطل الجزء لا غير، فيصح المركب بتداركه واجداً لشرطه إذا لم يلزم الخلل من جهة أخرى - كالزيادة ونحوها - أما لو كان شرطاً في المركب فلا مجال لتداركه، لبطلان المركب رأساً بالإخلال به.

ولو فرض الشك في ذلك وعدم ثبوت أحد الوجهين لزم الاقتصار على المتيقن في الوجه الثاني من تطبيق القاعدة، وهو خصوص حال ما بعد الفراغ من المركب.

ويظهر نظير الفرق المذكور بين التطبيقين في شرط المركب الذي محله قبل الدخول فيه - كالأذان والإقامة لو قيل بشرطيتهما للصلاة - فإنه على الأول يكفي في جريان القاعدة الدخول في المركب، لمضي محله به، وعلى الثاني لابد فيه من الفراغ منه.

هذا، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره أن الوجه الأول من تطبيق القاعدة لما كان مبنياً على فرض المحل للشرط، فلا يجري في الشروط المعتبر إيقاع المركب حينها، كالطهارة والتستر، بل يختص بما إذا كان للشرط محل خاص، كالأذان والإقامة - بناء على شرطيتهما - حيث يجب إيقاعهما قبل الصلاة.

ويشكل: بأن للشرط محلاً خاصاً يصدق المضي بالإضافة إليه، فكما يصدق مع الترتب بالإضافة إلى المتقدم بالدخول في المتأخر، يصدق في المتقارنين بالإضافة إلى أحدهما بالخروج عن الآخر، ولا يظهر وجه للتفكيك بينهما.

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي الريب في صحة التطبيق الثاني، لأن الشرط

ص: 521

خصوصية في الفعل دخيلة في ترتب أثره الثابت له بعنوانه المقصود حين الامتثال والجري على مقتضى التشريع، فيشملها إطلاق الشك في الشيء.

وأما الأول فقد يشكل: بأن الشرط بنفسه غير مطلوب ولا مرغوب فيه ولا مورد الأثر، وليس المطلوب ومورد الأثر إلّا الذات الواجدة له، فهو مطلوب تبعاً، لمطلوبيتها لا بنفسه، ولذا قد يكون أمراً خارجاً عن اختيار المكلف، كالخصوصيات الزمانية التي تكون قيداً في الواجب من الليل والنهار والظهر والعصر ونحوها، إذ ليس الأمر الاختياري إلّا إيقاع الفعل المطلوب حينه.

ومنه يظهر أن فرض المحل له ليس باعتبار أخذه فيه - كما في الواجبات المترتبة - لعدم تشريعه بنفسه، فضلاً عن تشريع المحل له، بل باعتبار تقييد ما هو المشروع به، فيتعين عقلاً حفظ الشرط في المحل الخاص.

ولأجل ذلك كله يقرب قصور الإطلاق عنه، ولا أقل من انصرافه عنه، أو خروجه عن المتيقن منه، فيلزم الاقتصار على التطبيق الأول.

الثاني: جريان القاعدة لا يقتضي إحراز المشكوك من الشرط

الثاني: أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط لا يقتضي إحرازه مطلقاً ومن جميع الجهات بنحو يترتب عليه جميع آثاره، حتى ما لم يصدق مضي محل الشك بالإضافة إليه، لأن المنصرف من أدلة التعبد بها مع الشك في الشرط أو الجزء هو التعبد بالمشكوك من حيثية الجهة التي يصدق المضي بالإضافة إليها، دون غيرها، فمن شك في الركوع بعد السجود مثلاً إنما يبني على تحقق الركوع لإحراز تمامية الصلاة التي بيده التي أخذ فيها الترتيب بين الركوع والسجود، لا لإحراز جميع آثار الركوع حتى ما ثبت له بعنوانه المطلق، كما لو نذر أن يتصدق شكراً لكل ركوع يركعه. وهو لا ينافي ما

ص: 522

تقدم من كون القاعدة إحرازية، إذ لا مانع من اختصاص الإحراز بجهة دون أخرى.

وعلى هذا لا يكون جريان القاعدة مع الشك في الشرط وإحرازه بها مصححاً للدخول في بقية ما يعتبر فيه مما لا يصدق بالإضافة إليه مضي محل الشك مما كان به تمام المركب - لو فرض الشك في الأثناء - فضلاً عن الدخول في مركبٍ آخرٍ.

اختلاف حال الشرط

وقد أشرنا في أول المسألة إلى اختلاف حال الشرط، حيث يكون..

تارةً: متقدماً على العمل.

وأخرى: مقارناً له مستوعباً لحال الانشغال به، حتى الأكوان المتخللة بين أجزائه، كالطهارة.

وثالثةً: مختصاً بحال الانشغال بالأجزاء، كالطمأنينة.

ورابعةً: مختصاً بحال الانشغال ببعض الأجزاء، كالجهر والإخفات.

كما ذكرنا في الأمر السابق أنه لو كان شرطاً لتمام المركب فلا تجري القاعدة فيه مع الشك فيه في أثناء العمل حتى بالإضافة لما مضى منه، بناء على التطبيق الثاني، الذي عرفت أنه المتعين في المقام.

أما لو كان شرطاً للجزء فيكفي مضي المشروط به في جريانها فيه، ولابد من إحرازه حينئذٍ لباقي العمل لو كان معتبراً فيه أيضاً بالوجدان لعدم المضي بالإضافة إليه، لما ذكرنا.

أما على التطبيق الأول فيكفي مضي محله مطلقاً بالدخول في ما بعده أو بالفراغ مما يقارنه، لكن لا يتعدى لبقية الآثار، كما ذكرنا.

ص: 523

إن قلت: لازم ذلك وجوب تدارك الصلاة السابقة لو شك فيها بعد الفراغ من اللاحقة كما لو شك في الظهر بعد الفراغ من العصر، لأن مقتضى الترتيب بينهما شرطية الأولى في الثانية، ومقتضى جريان القاعدة في الثانية هو البناء على وجود الأولى من حيثية شرطيتها فيها لتصحيحها، لا مطلقاً ليبنى على فراغ الذمة منها بامتثالها.

بل حيث كان الترتيب بينهما شرطاً ذكرياً لم تجر القاعدة، لعدم الأثر لها بعد العلم بصحة الثانية وعدم نهوضها بإثبات امتثال الأولى، مع أن صريح صحيح زرارة المتقدم المنقول عن مستطرفات السرائر عدم وجوب إعادة الظهر لمن شك فيها بعد العصر.

قلت: جريان القاعدة في الصلاة السابقة ليس بلحاظ شرطيتها للاحقة، ليقتصر فيه على تصحيحها، بل بلحاظ الترتيب بين الصلاتين بحسب جعلهما، الموجب لمضي محل الأولى بفعل الثانية، وإن لم تكن الثانية شرطاً فيها، فتجري القاعدة في الاولى لإثبات وجودها بما أنها مأمور بها بمفاد (كان) التامة و يترتب عليه أثر وجودها، وهو سقوط أمرها، لكفاية ذلك في تحقيق مضي المحل، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في معيار الغير الذي يكون الدخول فيه محققاً للتجاوز ومضي المحل.

ولا مجال لقياس ذلك بالشرط المتمحض في الشرطية الذي يكون المحل له منتزعاً من شرطيته، من دون أن يكون مبنياً على ملاحظة مشروعيته، كالطهارة التي هي بحسب أصل تشريعها مستحبة بنفسها، قبل الصلاة وحينها وبعدها. وكون محلها الصلاة ليس بلحاظ تشريعها المذكور، ولذا بقي على عمومه، بل لأجل شرطيتها للصلاة يلزم وجودها حينها.

ص: 524

وكذا الحال لو قيل بأن الشرط في الصلاة هو الوضوء قبلها، لا الطهارة المسببة عنه حينها.

بل مقتضى ما ذكرنا هو جريان القاعدة في السابقة بمجرد الدخول في اللاحقة قبل الفراغ منها، وهو المناسب لارتكازية التعليل بالحائل في الصحيح المذكور.

خاتمة وفيها أمران

خاتمة فيها أمران:

الأول: كون المضي عزيمة لا رخصة وعدمه

الأول: أن الظاهر من أدلة القاعدة أن المضي عزيمة لا رخصة، لا بمعنى عدم مشروعية الاحتياط، لأن الاحتياط من آثار الاحتمال غير المرتفع مع جريان القاعدة، كما لا يرتفع مع جريان جميع القواعد الظاهرية، حتى الطرق، وليس مفادها حكماً واقعياً ليصلح لمزاحمة حسن الاحتياط الثابت مع الاحتمال.

بل بمعنى التعبد بآثار تحقق المشكوك الإلزامية، فلا يجوز الإتيان به إذا كان زيادة مبطلة مثلاً، لأن ذلك هو مقتضى إطلاق التعبد.

وهو ظاهر بناءً على كون القاعدة تعبدية، فضلاً عن كونها إحرازية، أما بناء على أنها عملية محضة فلأنها وإن لم تتضمن التعبد بالمشكوك ولا بآثاره، إلّا أنها تمنع من جريان استصحاب عدم الإتيان به، فلا محرز لصحة العمل، ولا مؤمن من احتمال بطلانه من جهة الزيادة على تقدير تدارك المشكوك بل مقتضى قاعدة الاشتغال عدم الاجتزاء به.

نعم، لا منجّز لاحتمال حرمة الإتيان به تكليفاً لو فرض حرمة قطع العمل، كالصلاة، بل مقتضى الأصل البراءة، لأن الشك في التكليف لا في

ص: 525

سقوطه.

اللهم إلّا أن يُستفاد من الأمر بالمضي في النصوص تنجيز آثار الإتيان بالمشكوك الإلزامية أيضاً، المستلزم لوجوب المضي عقلاً، لا مجرد السعة والتعذير من آثار عدم الإتيان به فقط، المستلزم لجواز المضي وعدم وجوب الإتيان بالمشكوك عقلاً لا غير. فتأمل.

الثاني: عدم منع القاعدة من منجزية العلم الإجمالي

الثاني: لما كانت القاعدة من القواعد الظاهرية، التي يكون حكمها طريقياً في طول الواقع لا ثانوياً مستلزماً لتبدل الواقع فهي لا تمنع من منجزية العلم الإجمالي لو فرض حصوله على خلافها بلحاظ أحد تطبيقين، ولازم ذلك سقوطها بالمعارضة على الوجه المقرر في مورد مخالفة الأصل للعلم الإجمالي، فاللازم النظر في حال العلم الإجمالي من حيثية منجزيته ذاتاً وعدمها، والنظر في حال كل من التطبيقين من حيثية ترتب الأثر عليه، وكونه في عرض الآخر أو حاكماً عليه، وحيث لا ضابط لذلك، لعدم انحصار فروعه بنحو خاص، فلا مجال للبحث فيه هنا، بل يوكل لمباحث الفقه عند الابتلاء بكل فرع بنفسه، حيث يلزم مراعاة الضوابط المتقدمة في مباحث العلم الإجمالي، مع مراعاة ما ذكرناه هنا في شروط جريان القاعدة وتحقيق موضوعها.

وهو الحال أيضاً عند معارضة القاعدة بغيرها من القواعد والأصول، حيث يتعين سقوط كلا المتعارضين أو حكومة أحدهما، حسبما يقتضيه المقام.

والله سبحانه تعالى العالم وبه الاعتصام، وله الحمد والمجد، والصلاة والسلام على محمد وآل محمد، أولياء الحل والعقد.

ص: 526

الفصل الثالث: في قاعدة الصحة

اشارة

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل، الراجعة إلى عدم الاعتناء باحتمال الفساد في عمل الغير، بل يبنى على صحته وترتب الأثر المطلوب منه عليه. وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي الذي يكون حكمه جزئياً فهي قاعدة فقهية ظاهرية، وليست مسألة أصولية لعدم وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي.

والكلام فيها..

تارةً: في دليلها.

وأخرى: في تحديد موضوعاً ومفهومها تفصيلاً.

وثالثةً: في سعة كبراها.

فالبحث في مقاماتٍ ثلاثةٍ، على نحو ما جرينا عليه في القاعدتين المتقدمتين.

المقام الأول: في دليل القاعدة

المقام الأول: في دليل القاعدة.

تعرض شيخنا الأعظم قدس سره وغيره للاستدلال ببعض الآيات والنصوص الآمرة بالقول الحسن في الناس، وحسن الظن بهم، وحمل فعل المؤمن على

ص: 527

الأحسن، والناهية عن اتهامه، ونحو ذلك.

وهو أجنبي عن المقام، لظهوره في الحمل على ما يناسب إيمان الفاعل من الحسن الفاعلي الراجع لنية الفاعل الخير والحسن، دون الشر والقبيح، دون الحسن الفعلي الراجع لحسن عمله واقعاً، فضلاً عن الصحيح التام الذي يترتب أثره المطلوب منه المقابل للفاسد، وإن لم يكن حسناً كالطلاق.

وأدنى تأملٍ في الأدلة المذكورة شاهد بذلك، فلا حاجة لإطالة الكلام فيها، بل يتعين صرفه لغيرها مما يناسب محل الكلام، وهو أمور..

الأول: عموم وجوب الوفاء بالعقد

الأول: عموم وجوب الوفاء بالعقود وصحة التجارة عن تراضٍ ونحوهما.

فقد استدل في جامع المقاصد على صحة بيع العين المرهونة في ما لو اختلف الراهن والمرتهن في وقوعه قبل رجوع المرتهن عن الإذن أو بعده، بأن الأصل في البيع الصحة واللزوم ووجوب الوفاء بالعقد.

وفيه: - مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما ثبت صحته بإطلاق دليله - أن العموم المذكور لما كان مخصصاً، وكان الشك في صحة العقد الخاص مسبباً عن الشك في دخوله في عنوان المخصص لم يصح التمسك بالعموم فيه، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية على التحقيق، بل لا يبعد الاتفاق عليه لو كان مقتضى الأصل دخول موردها في عنوان الخاص، مع أنه قد يقال بحجية أصالة الصحة في مورد يكون فقد العمل لبعض ما يعتبر فيه مطابقاً للأصل.

ودعوى: أن الخارج عن عمومه ليس إلّا ما علم فساده.

ص: 528

كما ترى! لوضوح أن عنوان الفساد منتزع من مخالفة العقد للمشروع، فهو في رتبة متأخرة عن فرض التخصيص بالإضافة للعقد، فلا يمكن أن يكون هو موضوع التخصيص، فضلاً عن أن يكون الموضوع له هو ما علم فساده، بل ليس موضوع التخصيص إلّا العقد بعنوان آخر، كالفارسي والفضولي ونحوهما. ومن الظاهر أن المأخوذ في الأدلة ليس إلّا العناوين الواقعية لا المعلومة.

غاية ما يدعى أن العام حجة في المورد المشكوك دخوله في الخاص. وقد عرفت أنه خلاف التحقيق.

الثاني: التعليل الوارد في موثق حفص بن غياث

الثاني: ما تضمنه موثق حفص من تعليل جواز الشهادة بالملك اعتماداً على اليد بقوله عليه السلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»(1).

بدعوى: ظهوره في أن كل ما يلزم من عدم الاعتماد عليه اختلال سوق المسلمين فالاعتماد عليه حق، وهو حجة. بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بأصالة الصحة أشد مما يحصل من عدم الاعتماد على اليد.

المناقشة فيه

وفيه: - مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما له دخل بنظام السوق، دون غيرها من العبادات والمعاملات ونحوهما - أنه لا ظهور لذلك في التعليل الذي يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً. بل التعليل بمثل هذه الفوائد النوعية لا يصلح لبيان ملاك الحكم، ليتعدى عن مورده، بل لابد من تنزيله على بيان الفائدة والحكمة، كما أوضحناه في المسألة الأولى من مسائل المقام الثالث من الكلام في قاعدة اليد.

ص: 529


1- الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2، وقد تقدم الحديث بتمامه في أدلة قاعدة اليد.

على أن توقف حفظ نظام السوق على قاعدة الصحة في غير موارد اليد لا يخلو عن خفاء، إذ لا يظهر أثره إلّا في ما لو شك في صحة المعاملة مع عدم استيلاء من يملك بسببها على المال، إما لكونه ذمياً، أو لضياعه - كما في الآبق - أو لدعوى المالك الأول بطلان المعاملة، وليس هو من الكثرة بحد يتضح أثره في اختلال السوق.

وأما في موارد اليد فتغني حجيتها في حفظ نظام السوق عن حجية أصالة الصحة.

الثالث: سيرة العقلاء

الثالث - وهو عمدة الوجوه في المقام -: سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم بمقتضى ارتكازياتهم على ترتيب آثار الصحة على عمل الغير وعدم الفحص عن حاله، المستكشف إمضاؤها من الإجماع وسيرة المتشرعة.

المناقشة في الإجماع

أما الإجماع فيظهر من تتبع فتاواهم في أبواب الفقه، خصوصاً في مسائل التنازع والقضاء، حيث يظهر منهم التسالم على الرجوع لهذا الأصل على أنه أمر ارتكازي، بنحو يمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به في جميع العصور.

ما استشكل فيه السيد الخوئي قدس سره

لكن استشكل فيه بعض مشايخنا..

تارةً: بأنه يتعذر عادة الاطلاع على فتاوى العلماء في جميع موارد جريان أصالة الصحة من العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم.

وأخرى: بأنه لا يحرز كونه إجماعاً تعبدياً. ليكشف عن رأي المعصوم، لاحتمال كون مدركه بعض الوجوه المستدل بها في المقام، فاللازم النظر فيها، فإن تمت كانت هي الدليل دون الإجماع، وإلّا لم ينفع

ص: 530

الإجماع في تماميتها.

ويندفع الأول: بأن عدم الاطلاع على فتاواهم في كل مورد مورد لا ينافي استفادة الكلية منهم من تصريحهم بها في بعض الموارد، بنحو يظهر منه عدم الخصوصية لتلك الموارد وإرادة القاعدة الارتكازية التي هي مورد السيرة، بنحو يكشف عن إمضاء السيرة على عمومها، لإثبات الأصل المذكور، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى دليل.

والثاني: بأن كثرة الابتلاء بالمسألة وظهور التسالم فيها مع مطابقة الحكم للمرتكزات العقلائية كاشف عن جري الشارع على مقتضى المرتكزات المذكورة وعدم إعراضه عنها، تمت الوجوه المذكورة في كلماتهم أو لم تتم، ولا سيما مع إرسالهم الأصل المذكور إرسال المسلمات وعدم اهتمامهم بالاستدلال له إلّا عابراً ببعض الوجوه التي ليست من القوة بنحوٍ يناسب التسالم المذكور، فهي من سنخ التعليل بعد الورود.

وأما سيرة المتشرعة فيكفي في وضوحها ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ومعادهم، حيث لا يرتابون في ترتيب آثار الصحة على فعل الغير عند تعلق عملهم به، ولولا ذلك لا ختل نظامهم واضطربت أمورهم، إذ لا يتسنى للإنسان أن يحيط بفعل الغير وبما يقع عليه من خصوصيات.

وبهذا يمكن توجيه الاستدلال بالحرج في المقام، بأن لا يراد به الاستدلال بكبرى نفي الحرج لوضوح أنها - مع اختصاصها بنفي الأحكام الحرجية، ولا تنهض بتشريع الأحكام التي يتدارك بها الحرج - مختصة بالحرج الشخصي، الذي يتسنى للمكلف تشخيصه، دون النوعي الذي لا ضابط له، والذي يلزم من عدم حجية قاعدة الصحة.

ص: 531

بل يراد أن سدّ باب قاعدة الصحة عند المتشرعة لما كان مستلزماً للحرج، بل لاختلال النظام، فعدم لزومه خارجاً كاشف عن جريهم عليها ووضوح حجيتها عندهم، فيكون الاستدلال بسيرتهم المستكشفة من عدم لزوم الحرج خارجاً، لا بدليل نفي الحرج.

ما ذكره النائيني قدس سره

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي في غير موارد اليد، وليس إهمالها فيها مستلزماً للحرج.

فكأنه مبني على النظر لأصالة الصحة في العقود ونحوها مما يتعلق بالأموال التي تكون تحت اليد. مع وضوح عدم اختصاصها بذلك، بل تجري في غيرها من العقود والإيقاعات - كالنكاح والطلاق - والواجبات الكفائية - كأحكام الأموات - والأفعال التسبيبية - كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية - وموارد النيابة والتبرع، وصلاة الإمام بالإضافة للمأمومين، بل صلاة بعض المأمومين لبعض ممن يتوقف عليه اتصاله بالإمام، وصلاة الأب وصيامه بالإضافة لوليه الذي يجب عليه القضاء عنه، ونحو ذلك مما ليس هو مورداً لليد، مع وضوح لزوم الحرج، بل الهرج والمرج واختلال النظام من إهمال قاعدة الصحة في جميع ذلك.

مقتضى الإجماع وسيرة المتشرعة إمضاء السيرة العقلائية

ثم إنه حيث كان ظاهر الإجماع وسيرة المتشرعة في بنائهم على الأصل المذكور ليس على محض التعبد الشرعي، بل الجري على مقتضي السيرة العقلائية الارتكازية كان مقتضاهما إمضاءها، فيكون المتبع في عموم الحكم وخصوصه على مقتضاها، نظير جريهم على حجية الظواهر اللفظية، فلا يقدح خلافهم في بعض الموارد مع ثبوت السيرة المذكورة فيها، لشبهة ترجع إلى دعوى قصور السيرة أو المانع من العمل بها كالردع الشرعي عنها،

ص: 532

نظير خلاف بعضهم في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالافهام، أو في حجية ظواهر الكتاب المجيد. إلّا أن يخرج المورد عن المتيقن من السيرة المذكورة.

دعوى عدم إمكان استفادة العموم من السيرة ودفعها

ودعوى: أن إمضاء سيرة العقلاء إذا كان مستفاداً من الإجماع وسيرة المتشرعة فلا مجال لاستفادة عمومه لبعض الموارد مع فرض عدم إحرازهما فيها.

مدفوعة: بأن المستفاد من الإجماع وسيرة المتشرعة كون المعنى الارتكازي الذي تبتني عليه سيرة العقلاء مما من شأنه أن يعمل عليه لولا المانع، فموضوعه مقتض للحجية حتى عند المخالف في بعض الموارد، وليس مرجع الخلاف إلّا دعوى قصور الارتكاز المذكور عن ذلك المورد أو ثبوت المانع عنه، فمع ثبوت عموم الارتكاز وعدم ثبوت المانع من العمل عليه لا مجال للخروج عن مقتضاه، الذي استفيد إمضاؤه.

ولذا لم يكن البناء في استفادة الإمضاء للقضايا الارتكازية على ثبوت الدليل عليه في كل موردٍ مورد.

هذا كله بناء على أن السيرة في المقام تحتاج للإمضاء، أما بناء على أنه يكفي في حجيتها عدم ثبوت الردع عنها فالأمر أظهر. وهو غير بعيد لنظير ما تقدم في حجية اليد.

نعم، لو غض النظر عن سيرة العقلاء الارتكازية، وكان مفاد الإجماع وسيرة المتشرعة الرجوع للأصل المذكور تعبداً فلا مجال للعمل به في مورد الخلاف وعدم ثبوت سيرة المتشرعة، بل يلزم الاقتصار على المتيقن من موردهما.

ص: 533

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه مع عموم معقد الإجماع لا يضر الخلاف في بعض الموارد الجزئية، بل يكون الإجماع المذكور حجةً فيها.

فهو غير ظاهرٍ، إذ لا يجتمع الإجماع على الكبرى الكلية مع الخلاف في بعض الموارد، بل هو راجع إلى تناقض كلمات بعض المجمعين المانع من تحصيل الإجماع منها.

إلّا أن يُفرض انعقاد الإجماع بالمقدار الكافي في استكشاف الحكم، فيكشف عن بطلان الخلاف حتى لو كان في أصل الكبرى، كما هو الحال في كثير من الموارد التي يشذ فيها المخالف.

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها

المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها تفصيلاً.

وهو يتم ببيان أمور..

الأمر الأول: افتراق القاعدة عن قاعدة التجاوز والفراغ

الأمر الأول: أن موضوع القاعدة هو عمل الغير، في مقابل عمل النفس الذي هو موضوع قاعدة الفراغ والتجاوز المتقدمة.

كما يفترقان في توقف تلك القاعدة على مضي محل الشك، بخلاف هذه القاعدة، حيث لا يعتبر فيها حدوث الشك بعد مضي محله، فتجري وإن حدث الشك في أثناء العمل.

بل لا يعتبر مضي محل الشك حتى في ترتيب الأثر، فلو تعلق العمل بفعل الغير في أثنائه جاز ترتيب أثر الصحة عليه حينئذ، كما في الائتمام، حيث يرتب كل من الإمام والمأموم آثار الصحة على صلاة الآخر.

بل لا يبعد جواز البناء على صحة عمل العامل قبل تحققه، فيجوز استنابته ونحوها، ولا يعتنى باحتمال بطلان عمله.

ص: 534

لمناسبته للسيرة الارتكازية، بل لسيرة المتشرعة، حيث يرون أن الاهتمام بالفحص عن معرفة النائب لشروط العمل احتياط محض لا ملزم به.

قرب رجوع القاعدة إلى قاعدة الفراغ والتجاوز

ومن هنا افترقت القاعدتان، وإن لم يبعد رجوعهما لجامع ارتكازي واحد، كما سبق التنبيه له عند الاستدلال بسيرة العقلاء على تلك القاعدة، بأن يكون مرجع القاعدتين إلى أن الشك الذي يُعتنى به هو الشك الذي يكون من أهله في محله، بحيث يكون مرجع الاعتناء به إلى تحصيل المشكوك بالنحو الطبيعي، لا بنحوٍ يقتضي الرجوع - كما في مورد تلك القاعدة - ولا بنحوٍ يقتضي البناء على بطلان العمل، لعدم كون تحصيل المشكوك من وظيفة الشاك، لكونه شاكاً في عمل غيره، كما في مورد هذه القاعدة، فكما لا يُعتنى بالشك في تلك القاعدة لكونه في غير محله، لا يعتنى به في هذه، لكونه ممن ليس من شأنه تحصيل المشكوك.

وإن لم يبعد كون الجهة الارتكازية المقتضية لإهمال الشك في هذه القاعدة أقوى منها في تلك القاعدة. ومن ثم كانت السيرة دليلاً في المقام ومؤيداً هناك.

ثم إنه لا ريب بعد النظر في سيرتي العقلاء والمتشرعة في عموم الغير في المقام لغير المؤمن، بل لغير المسلم، لعدم ابتناء الحكم فيه عليه ملاحظة احترام الغير، بل على إيكال إحراز خصوصيات العمل لمن يقوم به، نظير البناء على نفوذ تصرف الإنسان في ما تحت يده، وهو جارٍ في كل من يقوم بعمل يمتاز بخصوصيات ينبغي منه المحافظة عليها، ولذا يعم غير البالغ أيضاً إذا كان مميزاً متلفتاً لنوع عمله.

الأمر الثاني: معنى الصحة

الأمر الثاني: الصحة قد تطلق في كلماتهم ويراد بها ما يساوق الحسن

ص: 535

الفاعلي الراجع إلى حمل الفاعل على القصد الحسن، وعدم نيته الشر والقبيح.

وهو يختص بالمؤمن المكلف الذي يكون مقتضى حرمته حسن الظن به كما أنه أجنبي عن المقام على ما أشرنا إليه وإلى دليله في أول المقام السابق.

وليس المراد بها في المقام إلّا صحة نفس العمل بالنحو الملازم لترتب الأثر، التي يقابلها الفساد الملازم لعدم ترتبه.

والظاهر أن الصحة بالمعنى المذكور منتزعة من مطابقة العمل الخارجي للماهية الخاصة ذات الآثار الخاصة المقصودة به. فهي راجعة لاستجماع العمل للأجزاء والشرائط المعتبرة في الماهية المذكورة، سواء كانت تلك الماهية مطلوبة بنفسها شرعاً - كما في العبادات وبعض المعاملات، كوفاء الدين - أم لا، بل كان الإتيان بها لأجل آثارها المترتبة عليها - كالتذكية وكثير من العقود والإيقاعات - بل وإن كانت مبغوضةً شرعاً كالطلاق والظهار.

والصحة بهذا المعنى وإن كانت ملازمة في الجملة لترتب الأثر العقلي - كالإجزاء في العبادات - أو الشرعي - كالملكية في البيع، وجواز الاستمتاع في النكاح، وحرمته في الطلاق والظهار - إلّا أنها ليست عبارة عنه، بحيث تكون منتزعةً منه، ويكون التبعد بها تعبداً به.

لوضوح أن مبنى التعبد بالصحة في القاعدة أنها مقتضى الأصل في فعل الفاعل، وهو إنما يكون بلحاظ أن القصد إلى الشيء يقتضي تحقيقه، بتحقيق تمام ما يعتبر فيه، مع أن الفاعل قد يجهل الأثر المترتب على الفعل،

ص: 536

ليكون قاصداً له عند فعله ويحقق تمام ما يعتبر في تحققه، بل لا يقصد إلّا الماهية، وقصدها لا يقتضي إلّا تحقيق ما يعتبر فيها، وترتب الأثر لازماً لذلك.

ما ذكره العراقي قدس سره

من كون الصحة من الأمور الواقعية

وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الصحة بهذا المعنى من الأمور الواقعية غير القابلة للتعبد، وليس القابل له إلّا الأثر الشرعي، وهو في المعاملات ظاهر، وأما العبادات فحيث كانت آثارها واقعية غير جعلية فلابد من إرجاع التعبد بالصحة فيها إلى التعبد بعدم وجوب الإعادة.

فهو مبني على أن مفاد التعبد بالشيء هو الحكم به ظاهراً في قبال الحكم به واقعاً، حيث لابد حينئذٍ من كون الشيء جعلياً قابلاً لأن يحكم به.

وقد ذكرنا في محله أنه ليس كذلك، بل ليس مفاده إلّا التعبد بوجوده بنحو يقتضي البناء عليه، فهو متفرع على وجوده الواقعي تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت، وهو ممكن في الأمور الحقيقية والجعلية.

على أن التفكيك بين العبادات والمعاملات في مفاد التعبد في المقام بعيد جداً.

ولا سيما بعد ابتناء التعبد على إمضاء السيرة العقلائية الارتكازية التي لا إشكال في عدم التفكيك فيها بين الموردين. بل لا إشكال في أن عدم وجوب الإعادة في العبادات إنما هو بملاك الإجزاء الذي هو من آثار الصحة فيها عقلاً، لا حكم شرعي تأسيسي راجع إلى إسقاط التكليف ظاهراً، نظير سقوطه بالحرج واقعاً، ليكون حكماً شرعياً.

فالظاهر أن التعبد في جميع موارد القاعدة إنما هو بالصحة بمعنى تمامية الأجزاء والشرائط. ويترتب عليه العمل عقلاً بلا واسطة، كما في

ص: 537

موارد الإجزاء، نظير سائر موارد التعبد بالامتثال، أو بواسطة آثارها الشرعية، كالملكية في المعاملات، التي يترتب عليها التكليف أو عدمه شرعاً، فتكون موضوعاً للعمل عقلاً.

ثم إن ما ذكره من أن آثار العبادات واقعية مبني على إرادة الملاكات الواقعية أو الفوائد النوعية المترتبة عليها، كالنهي عن الفحشاء، حيث لا تكون قابلة للجعل الشرعي، كالحكم بالإجزاء، لأنه عقلي محض.

وهو إنما يتم في حق الفاعل نفسه، بناء على ما قربه من شمول القاعدة لعمل النفس بعد الفراغ، أما في حق غيره فقد يكون الأثر شرعياً محضاً قابلاً للجعل، كجواز الائتمام به وعدم قضاء الولي عنه ونحوهما.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره في توجيه الصحة

هذا، ومما تقدم يظهر أنه لا حاجة لما تكلفه شيخنا الأعظم قدس سره - في تقريب توجيه الصحة بمعنى ترتب الأثر بنحو ينطبق على الإيجاب من دون أن يحرز بها القبول مع وضوح عدم ترتب الأثر على الإيجاب إلّا بالقبول - من دعوى: أن ترتب الأثر على الإيجاب لما كان معلقاً على القبول كانت صحته عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر لو تعقبه القبول، لأن ذلك هو الأثر المقصود منه، لا ترتب الأثر الفعلي عليه المتوقف على تمامية العقد، ليحرز بأصالة الصحة تعقبه بالقبول.

ولا يخفى ما فيه من التكلف، لأن العقد لما كان مركباً من الإيجاب والقبول، فأثره الفعلي هو أثر كل منهما بشرط انضمامه للآخر، لأن أثر الجزء هو أثر الكل، فأثر الإيجاب المقصود منه ليس هو الإعداد لأثر العقد الفعلي، المستغني عن القبول بل هو نفس أثر العقد المتوقف على القبول، فعدم ترتب أثر العقد لعدم القبول راجع لعدم ترتب أثر الإيجاب. وإلّا

ص: 538

لجرى ذلك مع الشرط، كالعلم بالعوضين، فيدعى أن أثر العقد المطلوب منه ليس هو الملكية الفعلية، بل الملكية على تقدير العلم بالعوضين، فلا يخل بصحته عدم فعلية الملكية لعدم العلم بهما.

أما على ما ذكرنا فالصحة المتعبد بها في الإيجاب الخاص هي مطابقته للإيجاب المعتبر في العقد المقصود للموجب، بأن يكون واجداً للأجزاء والشرائط المعتبرة فيه لا في العقد، ومن الظاهر أن القبول ليس دخيلاً فيه، بل في تحقق العقد الذي يستند له الأثر، والشك في وجوده لا في صحته.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن المراد بالصحة في المقام هي الصحة الواقعية، لأنها موضوع الأثر ومحط الغرض، لا الصحة بنظر الفاعل، لعدم الأثر لها، ليصح التعبد بها.

ومن ثم كان مرجع النزاع في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة بنظر الفاعل إلى النزاع في عموم القاعدة لما إذا أخطأ الفاعل في ما يعتبر في الصحة الواقعية، وهو من شؤون المقام الثالث الذي يكون البحث فيه في سعة كبرى القاعدة، ولا يناسب محل الكلام في هذا المقام المتضمن للبحث في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها.

وما يظهر من بعض المحققين قدس سره من الجمود على ظاهر تحرير النزاع المذكور، بعيد جدا.

الأمر الثالث: تحديد العمل الذي يكون موضوعاً للقاعدة

الأمر الثالث: أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد عرفاً هو الماهيات الاعتبارية، الشرعية أو العرفية، وهي الأمور التي لها وحدة اعتبارية بما لها من أجزاء وشرائط مأخوذة بنحو الارتباطية، إما بلحاظ الأمر

ص: 539

بها - كالصلاة - أو بلحاظ سببيتها اعتباراً لبعض الآثار - كالعقود والإيقاعات والتطهير من الحدث والخبث ونحوها - فتنتزع صحتها من تمامية أجزائها وشرائطها وفسادها من عدمها.

أما الأمور البسيطة، كالمسببات التوليدية الشرعية - كالطهارة - أو العرفية - كالملكية - أو الحقيقية - كالموت - فإنها لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود والعدم.

وكذا الأمور المتكثرة التي لم تلحظ فيها الوحدة الاعتبارية لعدم أخذ الارتباطية فيها، سواء اشتركت في مسبب واحد حقيقي لا دخل للاعتبار فيه - كأجزاء علة الحرارة والغليان ونحوهما - أم استقل كل منها بأثره الحقيقي أو الاعتباري، كصلوات اليوم الواحد، وصوم الشهر، فإنها عرفاً لا تتصف بالصحة والفساد أيضاً، بل بالنقص والتمام.

نعم، لا يبعد عموم القاعدة لها وإن عبّر عنها بقاعدة الصحة، لعدم كون القاعدة لفظية عنوانية، ليقتصر على مفاد العناوين المأخوذة فيها، بل هي لبية ارتكازية، والجهة الارتكازية تقتضي التعميم للأمور المذكورة.

فإذا أُحرز من شخص أنه قام بعمل بعنوان كونه قتلاً وكانت وظيفته القيام به لم يلتفت لاحتمال خطئه فيه، لنقصه عما يتحقق به القتل. كما أنه إذا أحرز من المكلف أنه قضى جملة من الصلوات بعنوان كونها تمام الفوائت التي عليه أو على غيره ممن ينوب عنه، لم يلتفت لاحتمال نقص ما أتى به عما قصده.

لكن يختص ذلك بما إذا شك في مقدار المأتي به، لا في مقدار الفائت، فلو علم بأنه أتى بخمس صلوات، واحتمل زيادة الفائت على ذلك،

ص: 540

لم تنهض القاعدة بما لها من جهةٍ ارتكازية بإهمال الاحتمال المذكور، بل لابد فيه من الرجوع لأصلٍ آخر مؤمّنٍ أو منجزٍ.

لأمر الرابع: الصحة والفساد بلحاظ العمل الخارجي

الأمر الرابع: لما كان المقصود بإثبات الصحة والتمامية له بالقاعدة هو العمل الخارجي بلحاظ مطابقته للماهية الكلية المقصودة، ففرض الصحة والتمامية والفساد والنقص فيه لا يكون إلّا بلحاظ قصد الماهية منه، فلو لم تقصد منه لا يكون عدم مطابقته لها منشأ لانتزاع الفساد والنقص له عرفاً، ليكون مقتضى القاعدة صحته وتماميته مع الشك، فصب الماء على العضو للتبريد لو فرض عدم تحقق الغسل المعتبر في التطهير به لا يكون تطهيراً فاسداً، ليكون مقتضى القاعدة صحته عند الشك في تحقق الغسل المذكور به، كما لا تكون صلاة الصبح صلاة ظهر فاسدة، لعدم قصدها منها.

ولو غض النظر عن ذلك فلا ينبغي التأمل بملاحظة المرتكزات التي تبتني عليها القاعدة في أن جريانها مشروط بما إذا أتى بالعمل بقصد العنوان الخاص الذي يحتمل مطابقته لها وعدمها، ولا يكفي احتمال انطباق العنوان عليه من دون أن يكون مقصوداً منه، لرجوع المرتكزات المذكورة إلى أن إحراز خصوصيات العمل من شؤون القائم به، وهو إنما يتم مع قصده له، أما مع عدمه فلا وجه لاهتمامه به وإيكاله إليه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن قصد الفاعل للعنوان معتبر في موضوع القاعدة، إما لأن صدق الصحة والفساد والتمامية والنقص إنما هو بلحاظ خصوص الماهية المقصودة، أو لاختصاص التعبد بالصحة ارتكازاً بصورة القصد.

من دون فرق في ذلك بين ما يعتبر فيه القصد ثبوتاً، كالوضوء والصلاة،

ص: 541

وما لا يعتبر فيه ذلك، كالتطهير من الخبث فلابد من إحرازه بالقطع أو بالطرق العرفية المعول عليها عند المتشرعة، كظهور حال الفاعل.

ومن ذلك يظهر أنها لا تجري لو كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في النية بمعنى القصد للعنوان المعتبر في كثير من الأمور العبادية وغيرها كالتذكية.

نعم، تجري لو كان منشؤه الشك في النية بمعنى التقرب المعتبر في العبادات، لو احتمل الرياء ونحوه مما يبطلها، لأنها كسائر الشروط لا يتوقف عليها صدق العنوان على العمل، نظير ما تقدم في جريان القاعدة المتقدمة عند الشك في الشروط.

كما ظهر بذلك أنه لو تردد نوع الفعل المقصود بين الصحيح والفاسد لم تنهض القاعدة بإحراز الصحيح، كما لو اختلف المتعاقدان في إجارة الوقف وبيعه لو فرض عدم المسوغ للبيع، أو ترددت الصلاة المأتي بها بين فريضةٍ قد صلّاها المكلّف وأخرى لم يصلّها، فإنه لا تنهض القاعدة بإحراز الإجارة في الأول، والصلاة التي لم يصلها في الثاني، لأنها إنما تحرز صحة الفعل ذي العنوان الخاص في فرض قصده منه، ولا تحرز قصده له.

نعم، لو كان الأثر لصحة العمل من دون خصوصية النوع نهضت القاعدة بإثبات صحته وإن لم يحرز بها النوع، فيجوز الائتمام بالمصلي في المثال الثاني، لعدم أخذ خصوصية العصر فيه، والمفروض إحراز القصد للفريضة في الجملة، ومجرد التلازم في الفرض ونحوه بين الصحة والنوع الخاص لا يقتضي إحرازه، بناء على ما هو الظاهر من عدم حجية القاعدة في لازم مؤداها.

ص: 542

وكذا الحال لو أحرز نوع الفعل وكان الشك في بعض أركانه المقومة له، والتي لابد من قصدها بقصده، كالثمن والمثمن، والزوج والزوجة وغيرها، وإن توقفت الصحة على بعض خصوصياتها، فإذا اختلف المتعاقدان في أن الثمن هو الحر أو العبد، فأصالة الصحة لا تنهض بإحراز أنه العبد، بنحوٍ يترتب عليه جواز المطالبة به، لعدم إحراز القصد إلى البيع به، ليكون مقتضى صحته ترتب أثره المذكور، وإنما يحرز القصد إلى البيع في الجملة، وأصالة الصحة فيه لا تعين حاله إلّا بناء على الأصل المثبت.

نعم، بناءً على عموم القاعدة لما إذا شك في شروطه العوضين يحرز بها في المقام صحته من حيثية المثمن فيترتب آثار انتقاله للبايع، كانعتاقه عليه لو كان أباه، وأما الثمن فلا طريق لتعيينه، بل يجري فيه ما يذكر في ما لو تردد بين أمرين كل منهما يصح جعله ثمناً، كالعبد والحمار.

لأمر الخامس: جريان الاتصاف بالصحة والفساد في جميع الموضوعات المقيدة

الأمر الخامس: تقدم أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد هو الماهيات الاعتبارية بلحاظ الارتباطية فيها بين أجزائها وشرائطها.

ولا يخفى أن الارتباطية لما كانت ناشئة من تقييد بعض الأمور ببعض فهي تجري في جميع الموضوعات المقيدة إما بلحاظ دخولها في حيز الطلب، كالعبادات، وإما بلحاظ موضوعيتها للأثر، كالعقود والإيقاعات وسائر الأسباب الشرعية ذات الآثار الخاصة، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية، وأسباب القصاص والضمان. والرضاع المحرم وغيرها.

وفي كلٍ منهما..

تارة: يكون العمل الخارجي مطابقاً لموضوع الأثر، لتمامية أجزائه وشروطه فيه.

ص: 543

وأخرى: يكون مخالفاً له، إلّا أن المطابقة والمخالفة لا يكونان في الجميع منشأ لانتزاع الصحة والفساد عرفاً، بل يختص ذلك بالقسم الأول - وهو ما يقع في حيز الطلب - وبعض أفراد القسم الثاني، وهو خصوص ما شرع بلحاظ الأثر الخاص له، لتعلق غرض الشارع أو العرف بتحقيق أثره، حتى يكون الأثر عنواناً له ووجهاً من وجوهه. سواءً ابتنى على جعل الأثر المذكور، لتضمنه الانشاء، بحيث يكون ترتب أثره مقتضى نفوذه ومضيه، كالعقود والإيقاعات، أم لا، بل كان ترتب أثره عليه تعبدياً، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ونحوها، مما يكون الغرض منه ترتب الأثر المعهود له.

دون بقية الموضوعات ذات الآثار المختلفة مما لم يشرع لأجل تحصيل أثره، لعدم تعلق الغرض به، كالقتل الموجب للقصاص والاتلاف الموجب للضمان والرضاع المحرم ونحوها.

وكأن الوجه في ذلك: أن تشريع الموضوع لأجل الأثر الخاص مستلزم لكونه الغرض النوعي منه، بحيث يكون لاغياً بدونه عرفاً، فينتزع بلحاظه وصف الصحة والفساد له، أما الأثر الذي لم يشرع موضوعه لأجله فلا يستلزم تخلفه لغوية موضوعه عرفاً، ليكون منشأ لانتزاع وصف الصحة والفساد.

ومجرد تقييد الحكم بترتبه عليه بتمامية الأجزاء والشروط لا يكفي في ذلك، بل هو كتقييد الحكم بترتب بعض الآثار على بعض الحوادث الخارجية التي لا تستند للمكلف ببعض القيود، كتقييد ترتب الميراث على الموت بعدم كفر الوارث، وتقييد وجوب صلاة الآيات على الظلمة بترتب

ص: 544

الخوف النوعي. فكما لا يوصف الموت الذي يترتب عليه الميراث بالصحة لا يوصف الرضاع الذي يترتب عليه التحريم بها وكما لا يوصف الموت الذي لا يترتب عليه الميراث بالفساد لا يوصف الرضاع الذي لا يترتب عليه التحريم به.

ومن هذا القسم العهد واليمين والإيلاء فإنها لم تشرع لآثارها المعهودة، لعدم تعلق الغرض بترتبها، وإنما حكم بها تبعاً لتمامية موضوعاتها، بخلاف الطلاق، لتضمنه الجعل والانشاء، وكذا النذر بناء على تضمنه تمليك الله سبحانه وتعالى للمنذور، حيث يكون عدم وجوب الوفاء به مساوقاً لعدم ترتب ما جعل به، لا محض الالتزام به، كي يكون وجوب الوفاء به حكماً مبايناً لمؤداه المجعول به ثابتاً له في حالة دون أخرى، كما في العهد.

وأما الظهار فهو مبني على الجعل والانشاء بالنظر لحقيقته العرفية، فيقبل الإمضاء وعدمه المساوقين للصحة والفساد، إلّا أن ظاهر الأدلة الشرعية بطلانه وعدم ترتب ما جعل به مطلقاً، وأن ترتب التحريم عليه من باب العقوبة والإلزام، لا من باب التنفيذ، فيكون كسائر الأحكام المترتبة على موضوعاتها ليست منشأً للصحة والفساد.

المعيار في الصحة والفساد الارتباطية

وكيف كان، فالمعيار في الصحة والفساد هو الارتباطية بلحاظ الدخول في حيز الطلب، أو في ترتب الأثر الذي شرع لأجله العمل، بحيث كان هو الغرض من تشريعه، دون الارتباطية في بقية موضوعات الآثار التي لم تشرع لأجلها ولم تكن غرضاً منها.

نعم، عدم اتصاف الموضوعات المذكورة بالصحة والفساد بلحاظ تمامية الأجزاء والشرائط الدخيلة في ترتب الأثر وعدم تماميتها لا ينافي

ص: 545

جريان القاعدة فيها لإحراز تماميتها لو فرض قصد الفاعل للتام منها، لكون غرضه من الفعل هو ترتب الأثر المذكور، كما لو أحرز قصده للرضاع المحرم، أو لليمين الذي يجب الوفاء به، ثم شك في تمامية شروط الموضوع المقصود، لما تقدم في الأمر الثالث من أن القاعدة ليست لفظية، ليقتصر على مفاد العناوين، المأخوذة فيها عرفاً، بل هي ارتكازية لبية مبنية على أن إحراز خصوصيات العمل من شؤون القائم به، ولا يختص ذلك بما إذا كان العمل موضوعاً للصحة والفساد عرفاً.

ومنه يظهر أنه لا يكفي في جريان القاعدة في مثل اليمين العلم بتحقق صيغته المقصود بها معناه، لعدم ملازمته لقصد موضوع الأثر، بل لابد من إحراز القصد لخصوص ما يجب القيام بمقتضاه، بخلاف مثل البيع والطلاق، فإن العلم بتحقق صيغها المقصود بها الإنشاء مساوق للعلم بالقصد لموضوع الأثر، فتجري فيها القاعدة.

ثم إن ما تقدم في تحديد موضوع الصحة والفساد وتحديد مجرى القاعدة كما يجري هنا يجري في القاعدة المتقدمة، لعدم الفرق بينهما إلّا في أن الموضوع هنا فعل الغير ولو قبل مضي محل الشك، وهناك فعل النفس بعد مضي محله، كما تقدم في الأمر الأول.

الأمر السادس: أن مفاد القاعدة التعبد بصحة الموجود

الأمر السادس: الظاهر أن مفاد القاعدة بالنظر للجهات الارتكازية المبتنية عليها هو التعبد بصحة الموجود وتماميته، فتتنقح بسببها صغريات الكبريات الشرعية التكليفية والوضعية، لا مجرد عدم الالتفات للشك في مقام العمل والعمل بما يطابق احتمال الصحة من دون بناء عليها وتعبد بها، فليست هي قاعدة عملية محضة، بل تعبدية. بل ربما يدعى أنها من

ص: 546

الأمارات، بلحاظ غلبة الصحة في فعل الفاعل وظهور حاله في تعمد الصحيح والاهتمام به.

لكن لم يتضح ابتناء القاعدة على الغلبة والظهور المذكورين - لو تما في أنفسهما - بل لعلها مبتنية على محض التعبد لأجل التسهيل وحفظ النظام، كما تقدم في القاعدة السابقة، بل هو المتعين بناءً على عمومها لما إذا أخطأ الفاعل في تشخيص الصحيح، على ما يأتي الكلام فيه.

بل يشكل كونها أصلاً إحرازياً لعدم ظهور المحرز للصحة إلّا الغلبة والظهور المذكورين، اللذين عرفت الإشكال في ابتنائها عليهما، فالمتيقين كونها قاعدة تعبدية.

وبهذا افترقت عن القاعدة المتقدمة، لما تقدم من ظهور بعض نصوصها في كونها قاعدةً إحرازيةً. فراجع.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران..

الأول: في تقديم القاعدة على الاستصحاب

الأول: لا ريب في تقدم القاعدة على الاستصحاب، وإلّا لزم إلغاؤها وإهمال دليلها رأساً، لأنها أخص منه مورداً، على ما تقدم نظيره في القاعدة السابقة.

وأما الكلام في تقديمها على بعض الاستصحابات الموضوعية الجارية في المتعاقدين والعوضين، كاستصحاب عدم البلوغ أو عدم إذن المالك أو عدم المسوغ لبيع الوقف من خراب ونحوه.

فهو راجع إلى الكلام في عموم القاعدة للشك من الجهات التي تجري فيها الاستصحابات المذكورة، لا في تقديم تلك الاستصحابات عليها في فرض حجيتها ذاتاً، ولذا لو فرض عدم جريان الاستصحاب من

ص: 547

بعض تلك الجهات، لعدم تمامية موضوعه أو لمانعٍ خارجيٍ لوقع الكلام في جريان القاعدة من تلك الجهات أيضاً.

ومن ثم كان التعرض لذلك موكولاً للمقام الثالث، الذي يكون البحث فيه عن سعة كبرى القاعدة.

الثاني: عدم حجية القاعدة في لوازمها

الثاني: الظاهر عدم حجية القاعدة في لازم مؤداها وإن كانت أمارة، لما تكرر منّا من عدم نهوض التعبد بالمؤدى بإثبات لازمه حتى في الأمارات، إلّا بدليل، ومعه يتعين البناء عليه حتى في الأصول، ولا دليل في المقام، لقصور السيرة التي هي عمدة دليل القاعدة عنه.

وقد تقدم في القاعدة السابقة ما له نفع في المقام.

المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة

المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة.

لما كانت القاعدة لبيةً لا عموم لفظي لها، ليكون ضابطاً في عمومها، لزم الاقتصار على المتيقن من دليلها.

فيتعين النظر في ما وقع الكلام فيه من جهات التعميم جهة جهة بعقد مسائل.

المسألة الأولى: اقتضاء القاعدة عموم الصحة الواقعية

المسألة الأولى: أشرنا آنفاً للنزاع في أن القاعدة هل تقتضي الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة بنظر الفاعل، وذكرنا أنه لا معنى للحمل على الصحة بنظر الفاعل، لعدم ترتب الآثار عليها، بل على الصحة الواقعية، فلابد من رجوع النزاع المذكور إلى النزاع في عموم الحمل على الصحة الواقعية لما إذا أخطأ الفاعل في تشخيص الصحيح.

وتوضيح محل الكلام في ذلك: أن الشك في صحة عمل الغير يكون..

ص: 548

تارةً: مع الشك في تشخيصه بحسب اجتهاده أو تقليده للصحيح من الفاسد، بل يحتمل غفلته عن ذلك، أو عمله من دون بصيرةٍ فيه، بل اكتفاء باحتمال إصابته للواقع، أو جرياً على ميزان غير شرعي، كقانون دولة أو تعارف عشائري.

وأخرى: مع العلم بجهله به وعدم تشخيصه له.

وثالثةً: مع العلم بتشخيصه له، واعتقاده بنحوٍ خاص فيه.

أما الأولى فالظاهر البناء على الصحة فيها بالنظر لحال السيرة، لما هو المعلوم من عدم تيسر معرفة حال الفاعل من هذه الجهة في كثير من الموارد، فلو بني على إهمال قاعدة الصحة فيها لزم الهرج والمرج واختلال النظام بالنحو المتقدم في الاستدلال على أصل القاعدة.

اللهم إلّا أن يقال: ظاهر حال من يتصدى لعمل تشخيصه لما يعتبر فيه. فالبناء على الصحة في عمله في فرض الشك في تشخيصه للصحيح مبني على هذا الظهور، لا على التعبد بها مع الشك المذكور ابتداء، غايته أنه لا يعلم كيفية تشخيصه وأنه معذور فيه أو لا، كما لا يعلم بكونه مصيباً في تشخيصه أو مخطئاً فيه، فيدخل في الصورة الثالثة.

وكذا الحال في الصورة الثانية لو أريد منها العلم بعدم استناده لطريق يعذر فيه.

وإن أريد بها العلم بتعمده للعمل من دون بصيرةٍ وجهلاً بالصحيح الشرعي، إما اتكالاً على المصادفات في إصابته أو لتعمد ميزان آخر غير الميزان الشرعي، خروجاً عن مقتضى وظيفته من إحراز الخصوصيات المعتبرة في صحة عمله فلا يتضح من سيرة العقلاء والمتشرعة البناء على

ص: 549

صحة العمل لو احتمل مصادفته للصحيح شرعاً، بل الظاهر منهم التوقف فيه، ولا أقل من الشك في بنائهم على الصحة الملزم بالتوقف عن جريان القاعدة، والرجوع لمقتضى الأصول الأخرى القاضية بالصحة أو البطلان.

وأما الصورة الثالثة فهي على أنحاء..

الأول: أن يعلم بإصابته في تشخيصه.

الثاني: أن يشك في ذلك.

الثالث: أن يقطع بخطئه فيه.

والأول متيقن من مورد القاعدة، وأما الثاني فالظاهر عموم القاعدة له بالنظر للسيرة المشار إليها، لغلبة عدم تيسر المعرفة بحال الفاعل وكيفية تشخيصه، نظير ما ذكرناه آنفاً.

نعم، أشار شيخنا الأعظم قدس سره إلى دعوى: أن مقتضى القاعدة البناء على صحة تشخيصه وعدم خطئه في اعتقاده، فيكون نظير الوجه الأول الذي فرض فيه العلم بإصابة تشخيصه، ويكون البناء على صحة عمله متفرعاً على ذلك، لا لجريان قاعدة الصحة في العمل مع الجهل بحال تشخيص حال الفاعل رأساً.

لكن أصالة الصحة في الاعتقاد وعدم الخطأ فيه قد تتم في الأمور الحسية أو القريبة من الحس، دون الأمور الحدسية، لعدم وضوح جريان أصالة عدم الخطأ في الحدسيات، سواء شك في مطابقة مقتضى الحدس المعلوم للواقع المجهول - كما في الاجتهاد في الحكم الشرعي - أم في مطابقة مقتضى الحدس المجهول للواقع المعلوم، كما في المقام، لو فرض تشخيص المكلف المبتلى بعمل الغير لما يعتبر في صحة العمل، أم في

ص: 550

مطابقة مقتضى الحدس المجهول للواقع المجهول، كما في المقام لو فرض جهل المكلف المبتلى بعمل الغير بما يعتبر فيه.

ولا سيما مع العلم باختلاف طريق صاحب الحدس مع طريق المكلف في الوصول للواقع، كما هو الحال في كثير من فروض المقام، إذ كثيراً ما يبتلى المكلف بعمل شخص يعلم بعدم اعتماده على ما يعتمد هو عليه من طريق الاجتهاد أو التقليد، وإن احتمل اتفاق الطريقين في النتيجة.

غاية الأمر أنه دل الدليل على رجوع الجاهل للعالم في الحدسيات في الجملة.

لكنه لا يبتني على أصالة عدم الخطأ في الحدس، بل على حجية حدس العالم في حق الجاهل، وهو أجبني عن محل الكلام.

ومن هنا كان الظاهر عدم ابتناء جريان قاعدة الصحة في عمل الغير في هذا الفرض على أصالة الصحة في اعتقاده.

وأما الفرض الثالث فقد وقع الكلام فيه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقد جزم غير واحدٍ بعدم جريان القاعدة فيه، كما قد يظهر ذلك من كل من استدل على القاعدة بالغلبة وظهور حال المسلم، لاختصاصهما بصورة علم الفاعل بالصحيح وعدم خطئه فيه.

وقد يُستدل عليه: - مضافاً إلى ذلك - بعدم وضوح ثبوت السيرة - التي هي عمدة الدليل على القاعدة - في الفرض المذكور.

لكن تقدم الإشكال في ابتناء القاعدة على الغلبة وظهور حال المسلم، فلا يهم قصورهما عن الفرض.

ص: 551

وأما السيرة فالظاهر ثبوتها في المقام، كيف وإلّا لزم عدم جريان القاعدة في حق المخالفين، لكثرة مخالفتهم لنا في الفروع، وهو مقطوع البطلان، لكثرة الابتلاء بأعمالهم في عصور المعصومين عليهم السلام فلو لم تجر القاعدة فيها لظهر ذلك وكثر السؤال عنه والتنبيه عليه، بل لا ختل نظام أمر المؤمنين ووقعوا في أعظم الحرج، وحيث لم يقع شيءٍ من ذلك كشف عن عموم سيرتهم. كما هو الحال في السيرة الفعلية، بين المؤمنين أنفسهم حيث لا إشكال في جريهم على القاعدة من دون توقف أو فحص، مع وضوح اختلاف أفراد الطائفة الحقة في الاجتهاد والتقليد اختلافاً فاحشاً.

بل لولا ذلك لم تجر القاعدة في الفرض الثاني بعد ما عرفت من عدم جريان أصالة الصحة في الاعتقاد معه، لاشتراكه مع هذا الفرض في عدم المحرز لصحة العمل، بل هي تبتني فيهما على الصدفة، وقد عرفت وضوح جريانها في الفرض المذكور.

نعم، مع العلم بمخالفة اعتقاد الفاعل للواقع بنحو يلزم من جريه على اعتقاده فوته، لعدم الجامع بينهما في مقام العمل، كما لو وجب العقد بالعربية، وكان موقع العقد فارسياً يعتقد وجوب إيقاع العقد بلغة الموقع، أشكل جريان أصالة الصحة في عمله لو احتمل صحته، لمخالفته في عمله لاعتقاده عمداً أو غفلة.

لأن ندرة الفرض المذكور مانعة من إحراز السيرة فيه، كما أن ظهور حاله في متابعة اعتقاده مانع من إحراز عموم الارتكاز الذي تبتني السيرة عليه، فيتعين التوقف فيه.

وإن لم يبعد الاقتصار على ما إذا كان ظاهر حال الفاعل جريه على

ص: 552

معتقده واقتصاره عليه، دون ما إذا احتمل احتمالاً معتداً به خروجه عنه، أو جمعه بين مقتضاه ومقتضى الواقع احتياطاً.

ثم إنه لا يفرق في جميع فروض المسألة بين العلم بمعذورية الفاعل في اعتقاده، والعلم بتقصيره فيه والشك في ذلك، لعدم دخل المعذورية في الاعتقاد في الجهات الارتكازية التي تبتني عليها القاعدة، لابتنائها على التعبد بالواقع لاحتمال إصابته، ولا دخل في ذلك للمعذرية التي هي المعيار في الحسن والقبح الفاعلي.

بقي في المقام شيء وهو أنه لو علم من حال الفاعل عدم اهتمامه بمطابقة الجعل الشرعي، بل بمطابقة شريعته لو لم يكن مسلماً، أو القانون، أو المصطلح العرفي، أو نحوها، واحتمل مطابقة عمله لمقتضى الجعل الشرعي، فهل نجري القاعدة لإحراز صحة ما أتى به شرعاً أو لا؟ لا يبعد جريانها بالنظر للجهات الارتكازية التي تبتني عليها القاعدة من حفظ النظام ونحوه، ولا سيما بملاحظة ما تقدم من جريانها فيما لو علم بخطئه في تشخيص الصحيح، لعدم الفرق بينهما في الجهات الارتكازية بل الظاهر قيام السيرة في المقام، بلحاظ كثرة الابتلاء بمعاملات غير المسلمين. فلاحظ.

المسألة الثانية: عموم القاعدة من حيثية الشروط

المسألة الثانية: الظاهر جريان القاعدة مع احتمال المخالفة العمدية، ولا تختص باحتمال المخالفة الخطئية، لعموم الجهة الارتكازية الكاشفة عن عموم السيرة.

ويشهد به بعض الفروع المحررة في كلماتهم التي يفرض فيها الشك في الشروط المفسدة ونحوها مما من شأنه أن يقع عمداً، وحمل كلماتهم

ص: 553

على خصوص فرض الجهل بالإفساد بعيد عن مساقها جداً، بل يظهر من بعض كلماتهم أن جريان القاعدة مع العلم بالإفساد فيها أولى منه مع الجهل به وتخيل عدمه، ولذا ذهب بعضهم إلى عدم جريانها مع خطأ الفاعل في تشخيص الحكم الشرعي، كما سبق.

المسألة الثالثة: الشك في صحة العمل وفساده

المسألة الثالثة: الشك في صحة العمل وفساده.

تارةً: يكون مسبباً عن الشك في ما يعتبر فيه مع إحراز قابلية الموضوع والفاعل، كما لو شك في صحة الصلاة للشك في الاستقبال أو في صحة البيع للشك في وقوع العقد بالعربي.

وأخرى: يكون مسبباً عن الشك في قابلية الموضوع، كما لو شك في صحة البيع للشك في كون المبيع خمراً أو ميتةً.

وثالثةً: يكون مسبباً عن الشك في أهلية الفاعل للقيام به، كما لو شك في صحة صلاة الميت لاحتمال عدم إيمان المصلي أو عدم إذن الولي له، أو شك في صحة البيع لاحتمال الحجر على البائع.

أما الأول فهو المتيقن عندهم من جريان قاعدة الصحة.

وبها ترفع اليد عن الأصول الموضوعية المقتضية للبطلان، الجارية في الأسباب، كاستصحاب الحدث، وأصالة عدم وقوع العقد العربي، أو في المسببات، كاستصحاب عدم الانتقال أو عدم ترتب الأثر، التي هي مرجع أصالة الفساد.

وأما الثاني فقد أنكر غير واحد جريان قاعدة الصحة فيه، لدعوى خروجه عن السيرة التي هي عمدة الدليل في المقام لكن لم يتضح تحديد شرط قابلية الموضوع، فقد مثلوا له بما لو احتمل كون المبيع خمراً أو ميتةً

ص: 554

أو وقفاً.

ولا يخفى أن المراد به إن كان هو الأمر الذي يمتنع طروءه على الموضوع بعد فقده له، اختص بالميتة، لعدم إمكان طروء التذكية عليها، بخلاف الخمر والوقف، لإمكان انقلاب الخمر خلاً، فيجوز بيعه، كما يمكن طروء مسوغات البيع على الوقف.

وإن كان مطلق الشرط المعتبر في الموضوع - كما يظهر من بعض مشايخنا - لزم عدم جريان القاعدة في البيع لو شك في العلم بالعوضين حينه، أو في التساوي بين الربويين.

ولا يمكن منهم البناء على ذلك، لدخوله في مورد السيرة الفعلية أو الارتكازية، لعدم الخصوصية له ارتكازاً في المنع من جريان القاعدة من بين الشروط.

بل تحديد نوع الشرط قد يبتني على محض اصطلاح للفقهاء حسب تبويبهم للمسائل، فمثل العلم بالعوضين يمكن جعله شرطاً في العقد باعتبار لزوم مقارنته له، كالطهارة في الصلاة، كما يمكن جعله شرطاً في العاقد باعتبار قيامه به، وفي العوضين باعتبار تعلقه بهما، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون مناطاً للسيرة المبتنية على الارتكازيات.

وقد جعل بعض الأعاظم قدس سره المعيار في المنع على كون الشرط شرطاً في مالية العوضين عرفاً أو شرعاً أو قابليتهما للنقل والانتقال، فيخرج مثل العلم بالعوضين والتساوي في الربويين.

لكن لما كان العقد المفروض الشك في صحة وفساده هو البيع لا مطلق النقل، فلا وجه للاكتفاء بإحراز القابلية لأصل النقل والانتقال دون

ص: 555

خصوص البيع لو كان المعيار على إحراز القابلية، ولو كان ذلك لخصوصية في الشرطين المذكورين ناسب التعرض لوجه خصوصيتهما من بين سائر الشروط من حيثية الجهات الارتكازية الكاشفة عن عدم السيرة.

ومجرد عدم إحراز السيرة الفعلية لا يكفي، لأن إحرازه السيرة في كل شرط شرط متعذر غالباً، وإنما يستفاد الحكم في عموم الشروط بضميمة عدم ظهور الخصوصية لبعضها ارتكازاً.

على أن هذا مختص بالبيع، ولا يصلح لبيان الضابط العام في جميع المعاملات - كما هو بصدده - فضلاً عن أن يكون ضابطاً لجميع موارد قاعدة الصحة.

نعم، ذكر في جامع المقاصد في توجيه قبول دعوى الضامن صدور الضمان منه حين الصبا أن قاعدة الصحة إنما تجري بعد استكمال الأركان.

قال: «لأن الأصل براءة الذمة فيستصحب. وكذا الأصل عدم البلوغ. وليس لمدعي أهليته للضمان حين وقوعه - وهو المضمون له - أصل يستند إليه، ولا ظاهر يرجع إليه يكون معارضاً للأصلين السابقين.

فإن قيل: له أصالة الصحة في العقود، وظاهر حال العاقد الآخر أنه لا يتصرف باطلاً.

قلنا: الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها، ليتحقق وجود العقد، أما قبله فلا وجود للعقد، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحر أم العبد، حلف منكر وقوع العقد على العبد. وكذا الظاهر إنما يثبت مع الاستكمال المذكور، لا مطلقاً».

بل قد يظهر ذلك من العلامة في القواعد، حيث ذكر أنه ليس لمدعي

ص: 556

أهليته أصل يستند إليه ولا ظاهر يرجع إليه، بخلاف ما لو ادعي شرط أمرٍ مفسد، لأن ظاهر حال المتعاقدين أنهما لا يتصرفان باطلاً.

ولعله راجع إلى أنه لابد في جريان القاعدة في العمل من إحراز أركانه المقومة له بنوعه، كالإيجاب والقبول والقصد، وبشخصه، كالثمن والمثمن الخاص لو تعلق الغرض به، فلا تجري في بيع العبد إلّا بعد إحراز وقوع العقد عليه، لأن صحة الخاص فرع ثبوته، وصحة أصل العقد لا تثبت خصوصيته، ليترتب أثرها.

نظير ما تقدم من أن كل ما يكون مقوماً للعمل المقصود، بحيث يتوقف صدق عنوانه على قصده لا تحرز القاعدة قصده، بل لا تجري إلّا بعد إحراز قصده.

ولعل جعله البلوغ من الأركان لأجل سقوط قصد الصبي وعبارته عندهم، ولذا حكم في القواعد بعدم صحة ضمانه حتى بإذن الولي، فمع احتمال الصبا لا يحرز الإيجاب أو القبول الذي هو من أهم أركان العقد.

وهذا وإن كان متيناً بحسب الكبرى، إلّا أنه يختص بما يتوقف عليه صدق عنوان العمل المشكوك في صحته وفساده، لكونه مقوماً له، سواء كان راجعاً للفاعل، كالقصد، أم للفعل، كالقبول، أم للموضوع كالزوجية في المطلقة، والمالية في البيع، بناء على أخذها في مفهوم البيع، دون بقية الشروط، من دون فرق بين ما يكون شرطاً في أصل الانتقال، كالطلقية في مثل الشك في كون المبيع رهناً أو وقفاً، وما يكون شرطاً في خصوص البيع، كالتساوي في الربويين.

بل لا يجري ذلك في ما يكون شرطاً في المالية شرعاً، كعدم الخمرية،

ص: 557

لأن سلب المالية شرعاً إنما يقتضي عدم ترتب أحكامها، المستلزم لعدم نفوذ البيع شرعاً، مع صدقه عرفاً، فيكون موضوعاً للصحة والفساد، ويتحقق به موضوع القاعدة.

بل يتعين في جميع ذلك جريان القاعدة، لعدم الفرق بين أفراد الشرط المذكورة في الجهة الارتكازية، التي تبتني عليها القاعدة.

نعم، القاعدة إنما تقتضي تحقق الشرط من حيثية تصحيح العقد، لا مطلقاً ومن سائر الجهات، نظير ما تقدم في القاعدة السابقة، فلو شك في خمرية أحد العوضين لم تنهض بنفي خمريته بلحاظ جميع آثار الخمرية حتى ما لم يكن منها دخيلاً في صحة العقد، كنجاسته وحرمة شربه.

وهو أمر آخر خارج عن محل الكلام.

ثم إن مرجع توقف جريان القاعدة على إحراز الأركان إلى لزوم إحرازها بالنحو الذي يحرز معه عنوان العمل، ففي مثل القبول والقصد لابد من إحراز وجوده الواقعي، أما في مثل المالية في البيع والرقية في العتق والزوجية في الطلاق، فيكفي إحراز القصد إليه، لاعتقاد الفاعل تحققه حين العمل، إذ مع عدم إحراز القصد إليه لا يحرز القصد لعنوان العمل، الذي تقدم توقف جريان القاعدة عليه، أما مع إحراز القصد إليه لاعتقاد وجوده، فيتم موضوع القاعدة، ولا مجال لعدم جريانها.

ولذا لا يظن من سيرة المتشرعة عدم إجراء الوارث قاعدة الصحة في عتق المورث لكفارة ونحوها لو احتمل بطلانه، لاحتمال وقوعه بعد انعتاق العبد بتنكيل أو جذام أو نحوهما.

هذا، ويؤيد ما ذكرنا من جريان القاعدة مع الشك في الشروط إذا أحرز

ص: 558

عنوان العمل للقصد إليه بأركانه، بل يشهد به أنه لا ريب ظاهراً في جريان قاعدة الفراغ لو تحقق الشك بعد الفراغ من العمل، لعموم أدلتها المتقدمة، ومن البعيد جداً بالنظر للمرتكزات عدم تكليف الفاعل نفسه بالتدارك لأجل تلك القاعدة، وتكليف الغير به، لعدم جريان قاعدة الصحة في حقة، لرجوع القاعدتين لجامع ارتكازي واحد، كما سبق.

ومما تقدم يظهر الحال في شرائط الفاعل، وأن ما كان منها بوجوده الواقعي مقوماً للعمل، لركنيته فيه، أو دخله في ما هو الركن فيه، لا تجري القاعدة مع عدم إحرازه، كالقصد، والبلوغ بناء على سلب عبارة الصبي عرفاً.

وما كان منها بوجوده العلمي مقوماً للعمل لابد من إحراز القصد إليه وإن لم يحرز وجوده واقعاً، كزوجية المطلق للمطلقة.

وما لم يكن كذلك لا يعتبر إحرازه ولا إحراز القصد إليه في جريانها، كبلوغ العاقد بناء على بطلان عقد الصبي شرعاً حتى بإذن الولي، وإن لم يكن مسلوب العبارة عرفاً، وإيمان المصلي على الميت، ونحوهما.

وإلّا فلم يتضح الفرق بين إيمان المصلي وطهارته، مع عدم الإشكال ظاهراً في جريانها مع الشك في الطهارة.

وجعل الطهارة من شروط الفعل والإيمان من شروط الفاعل، تحكّم. ولو تمّ كان محض اصطلاح لا معنى لدخله في جريان القاعدة المبنية على الارتكازيات، كما سبق نظيره.

قصور القاعدة عما لو كان الشك في الصحة مسبباً عن الشك في السلطنة

نعم، الظاهر قصور القاعدة عما لو كان الشك في الصحة والفساد مسبباً عن الشك في السلطنة، سواء كان في المعاملات - كالبيع - أم في العبادات، كصلاة الميت التي يعتبر فيها إذن الولي - بناءً على تفرع اعتباره

ص: 559

على حقٍ له، لا أنه شرط محض - لقصور السيرة عن ذلك. لما أشرنا إليه آنفاً من اختصاص عدم الاعتناء بالشك ارتكازاً بما إذا صدر العمل من أهله في محله، فمع عدم إحراز أهلية الفاعل لا يحرز تحقق موضوع القاعدة.

وبناؤهم على الصحة مع الشك في السلطنة مختص بما إذا أحرزت ظاهراً بمثل اليد ونحوها، حيث تقدم في قاعدة اليد نفوذ تصرف الإنسان في ما تحت يده ظاهراً وقبول قوله فيه، ولا يبنى على الصحة بدونها.

بل لو فرض سقوط حجية اليد، كما لو أنكر المالك التوكيل - حيث تقدم أن إنكاره مقدم على دعوى صاحب اليد الفعلية - تعين بمقتضى سيرتهم الارتكازية البناء على عدمه، ولا يظن من أحد التشكيك في ذلك بعد النظر في المرتكزات، وفي كلمات الأصحاب في الفروع المختلفة المناسبة لذلك.

ولعله عليه يحمل كلام بعض من صرح بعدم جريان القاعدة مع الشك في البلوغ.

نعم، هو مختص ببلوغ من له العقد لو احتمل عدم سلطنته، لعدم إذن الولي له. أما بلوغ موقع الصيغة فاعتباره مبني على سقوط عبارة الصبي شرعاً وعدم ترتب الأثر عليها حتى بإذن الولي، ولا دخل له بالسلطنة، فهو كسائر الشروط تجري قاعدة الصحة مع الشك فيه لو أُحرزت السلطنة، ولو لإذن من له السلطنة على العقد، وإن لم تحرز صحة وكالته عنه، لأن الوكالة من العقود التي فرض البناء على عدم صحتها من الصبي. إلّا أن يُدَّعى سقوط قصده عرفاً فيكون البلوغ من أركان العقد التي يمتنع جريان قاعدة الصحة مع الشك فيها كما سبق.

ص: 560

استدلال الشيخ الأعظم قدس سره على جريان القاعدة مع الشك في البلوغ

هذا، وقد استشهد شيخنا الأعظم قدس سره على جريان القاعدة مع الشك في البلوغ بعموم أدلتها من السيرة ولزوم الاختلال قال: «ولذا لو شك المكلَّف أن هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره بنى على الصحة».

فإن أراد صورة الشك في ذلك مع إحراز السلطنة لإذن من له السلطنة - بناءً على بطلان عقد الصبي مطلقاً - فما ذكره في محله.

وإن أراد صورة الشك في السلطنة، للعلم بعدم إذن الولي، فلا مجال للبناء عليه بالنظر للسيرة، كما يظهر بقياسه على الشك في الوكالة لأنهما من بابٍ واحد. ولزوم الاختلال ممنوع لعدم شيوع الشك المذكور، ولا سيما مع كون جواز تصرفه في ما تحت يده والحكم بملكيته له مقتضى حجية اليد، ولا يحتاج فيها للقاعدة، كما لو احتمل كون ما تحت يده مسروقاً له حين صغره.

وإنما يظهر الأثر في فرض التداعي، حيث تسقط يده عن الحجية، لكونها مسبوقة بملكية الغير المنكر للسبب الناقل، فيحتاج للقاعدة.

وندرة ذلك مانعة من استكشاف السيرة الفعلية عليه، فضلاً عن لزوم محذور الاختلال، والسيرة الارتكازية مع ما عرفت ممنوعة. بل يصعب البناء على القاعدة فيما لو أودع ولي الصبي شخصاً وديعة للصبي بعلم من الصبي، ثم جاء صاحب الوديعة بعد مدة فباعها من الودعي، ثم شك الودعي المشتري في بلوغ الصبي أو إذن الولي له في البيع، حيث لا يد للبايع على الوديعة المبيعة تنهض بإحراز سلطنته على بيعها، بل مقتضى استصحاب الصبا وعدم إذن الولي عدم سلطنت البايع على البيع، وينحصر تصحيح البيع بقاعدة الصحة.

ص: 561

ومثله ما ذكره من إمكان أن يقال: إن الظاهر من حال الآخر المفروض بلوغه عدم تصرفه باطلاً.

إذ لو أراد بالظهور المذكور ما يساوق قاعدة الصحة في تصرفه لدعوى ابتناء القاعدة على ظهور حال الفاعل. فمن الظاهر أنه إنما يسلط على أحد طرفي العقد ويباشره، وصحته لا تستلزم صحة العقد، نظير ما سبق في الأمر الثاني من المقام الثاني.

وإن أراد به أمراً آخر يكون حجة على المدعي في المقام مكذبة لدعواه. فهو - مع اختصاصه بما إذا كان عالماً بالحكم - غير معلوم الحجية عليه في حق نفسه، بنحوٍ يمنع من سماع دعواه، كما لا ينبغي الإشكال في عدم حجيته في حق الطرف الآخر المحتمل الصبا لو ادعى إيقاع العقد حينه.

بقي شيء: منع الشيخ الأعظم قدس سره من البناء على الصحة الفعلية

بقي شيء، وهو أن شيخنا الأعظم قدس سره منع من البناء على الصحة الفعلية - بمعنى ترتب الأثر - في ما لو شك في القبض في الهبة والصرف والسلم، وفي إجازة المالك لعقد الفضولي، لدعوى: أن صحة العقد في جميع ذلك ليست بمعنى فعلية ترتب الأثر عليه، بل بمعنى كونه بحيث لو تعقبه القبض أو الإجازة لترتب عليه الأثر، لأن صحة كل شيءٍ بحسبه، فأصالة الصحة لا تحرز أكثر من ذلك.

ويشكل ما ذكره في القبض: بأن العقود المذكورة لما كانت مبنية على إنشاء مضامينها فعدم ترتب مضامينها لفقد بعض الشروط منافٍ لصحتها، ولا مجال لحمل الصحة فيها على الصحة التأهلية، وإلّا لجرى ذلك في جميع الشروط، كما سبق في الأمر الثاني من المقام الثاني. ومجرد كون الشرط متأخراً لا أثر له في ذلك.

ص: 562

نعم، لو كان القبض شرطاً في بقاء الأثر ولزومه مع كفاية العقد في حدوثه، أشكل البناء على تحققه بالقاعدة، لأن تخلفه لا يستلزم بطلان العقد ولا ينافي صحته، لأن البقاء ليس أثراً للعقد، بل هو مقتضى طبيعة الأثر، فهو نظير فسخ العقد الصحيح الذي لا تنهض القاعدة بنفيه.

إلّا أن يتمسك له بما تقدم في الأمر الثالث من المقام الثاني من عموم القاعدة للأمور غير الارتباطية إذا أحرز الإتيان بالفعل بعنوان كونه محققاً لمجموعها.

لكنه موقوف على إحراز قصد المتعاقدين للعقد بلحاظ بقاء أثره الموقوف على القبض، والبناء منهما على تحقيق القبض والفراغ عن العمل بذلك العنوان، ولا يكفي مجرد إيقاع العقد بلحاظ ترتب أثره من دون نظر لبقائه. فلاحظ.

نعم، يتجه ما ذكره قدس سره في إجازة عقد الفضولي، من دون فرق بين قصدهما للعقد فقط وقصدهما له بلحاظ ترتب الأثر عليه شرعاً، المستتبع للسعي في تحقيق الإجازة، لأن مضمون العقد التابع للإجازة لما كان خارجاً عن سلطانهما لم تنهض القاعدة بإحرازه، لما سبق من توقفها على إحراز سلطنة الفاعل.

ومنه يظهر الحال في ما ذكره بقوله: «وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلي وطبعه مبنياً على الفساد، بحيث يكون المصحح طارياً عليه، كما لو ادعى بايع الوقف وجود المصحح له، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي إجازة المرتهن أو المالك».

فإنه لا مجال لما ذكره في مثل بيع الوقف، لأن الوقفية كسائر الموانع

ص: 563

التي يكون وجودهاً موجباً لفساد العقد وعدم ترتب أثره، فلا وجه لعدم جريان أصالة الصحة في البيع لو فرض إحراز سلطنة البايع ولو لكونه صاحب يد، وقد سبق أنه لا مجال لدعوى قصور القاعدة عن شروط العوضين، كما لا مجال لدعوى لزوم إحراز قابلية المحل في جريانها، نظير ما تقدم في قاعدة الفراغ، لأنهما من باب واحد.

وإنما يتجه ما ذكره في الرهن وفي الفضولي لما تقدم من عدم إحراز السلطنة، ومثله سائر موارد الشك في الإذن إذا كان راجعاً للشك في السلطنة.

أما إذا لم يكن الإذن شرطاً في السلطنة، بل كان شرطاً في نفس الفعل فلا يبعد جريان قاعدة الصحة مع الشك فيه، كما لعله الحال في مثل إذن العمة والخالة والحرة في نكاح بنت الأخ والأخت والأمة، حيث لا يبعد كون شرطيته حكماً أدبياً لا يرجع إلى سلطنتهن على النكاح وحجز الزوجين عنه، لقصورهما عنه أو لمزاحمته لحقهن. وإن كان محتاجاً للتأمل.

المسألة الرابعة: إذا علم بناء العمل من جهة

المسألة الرابعة: إذا علم بفساد العمل من جهة، فهل تنهض القاعدة بإحراز صحته من سائر الجهات لو شك فيها؟.

ومحل الكلام ما إذا كان الأثر مترتباً على العمل الصحيح من تلك الجهات، كما قيل بذلك في التحريم المؤبد بين الزوجين إذا وقع العقد في العدة، فقد ذهب غير واحد إلى اختصاصه بالعقد الصحيح من غير جهة العدة، دون الفاقد لبعض الشروط الأُخَر، بخلاف ما إذا كان الأثر مترتباً على عنوان آخر يحصل مع فساد العمل، كما لو علم ببطلان الغسل الارتماسي لعدم الحدث، واحتمل عدم استيعاب الغسل للأعضاء، المستلزم لعدم طهارتها من الخبث، لوضوح أن الطهارة من الخبث ليست من آثار الغسل

ص: 564

الصحيح من غير حيثية وجود الحدث، بل من آثار غسل البشرة، فلا ينبغي التأمل في عدم جريان القاعدة حينئذ لإحراز الأثر المذكور، لأنها لا تحرز موضوعه إلّا بناء على الأصل المثبت.

ولا مجال لإجزائها في نفس موضوع الأثر، لفرض عدم الإتيان بالفعل بقصد عنوانه، الذي سبق في الأمر الرابع من المقام الثاني توقف جريان القاعدة عليه. نعم قد يدعى أن القصد للغسل الارتماسي قصد لاستيعاب الماء للبدن بتمامه، ومقتضى القاعدة البناء على وقوع ما قصد، وهو يكفي في ترتب تطهير تمام البدن من الخبث. لكنه قصد لسبب التطهير بذاته، لا بما أنه سبب للتطهير، وفي كفاية ذلك في جريان القاعدة لإحراز المسبب إشكال. فتأمل.

إذا عرفت هذا، فحيث كان الدليل على القاعدة منحصراً بالسيرة أشكل البناء على جريانها في محل الكلام، لقلة الابتلاء بذلك فلا يحرز حال السيرة الفعلية عليها.

كما لا يحرز عموم الارتكاز الذي تبتني عليه السيرة، لعدم وضوح ابتنائه على الانحلال بلحاظ كل جهةٍ جهة، كي لا يخل عدم جريانها بلحاظ بعض الشروط بجريانها بلحاظ الشروط الأخرى، بل من القريب ابتناؤه على المجموعية بلحاظ ترتب الأثر الفعلي للعمل التام، فمع فرض عدم تماميته من بعض الجهات لا تجري من بقيتها.

نعم، لو كان مبنى الارتكاز المذكور على الغلبة أو ظهور حال الفاعل اتجه البناء على جريانها، لابتنائهما على الانحلال وعمومهما لمحل الكلام. لكن تقدم الإشكال في ذلك.

ص: 565

خاتمة

خاتمة وفيها أمران

يبحث فيها في أمرين..

الأمر الأول: ترتيب عموم الآثار لا خصوص الشرعية منها

الأمر الأول: لما كانت قاعدة الصحة محرزة لصحة العمل الواقع من الغير فهي تقتضي ترتب جميع آثار صحة عمله شرعية كانت - كجواز الائتمام به واستحقاقه الأجرة لو كان أجيراً - أم عقلية، كسقوط الأمر الكفائي به، بناء على التحقيق من رجوعه لأمر الكل بأصل الماهية الحاصلة بصرف الوجود حيث يكون سقوط الأمر عنهم بفعل الواحد عقلياً، لأن الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه، وكذا سقوط الأمر العيني مع النيابة في مورد مشروعيتها، حيث يكون مقتضى أصالة الصحة عقلاً في فعل النائب سقوط أمر المنوب عنه به.

وأما ما عن المشهور من اعتبار العدالة في النائب فمن القريب أن يحمل على صورة الشك في الإتيان بالعمل، أو في قصد تفريغ ذمة المنوب عنه به، بناء منهم على عدم الاكتفاء بالوثوق في ذلك.

أما مع إحراز الإتيان بالعمل بنية تفريغ ذمة المنوب عنه والشك في صحته فالظاهر منهم جواز البناء منه ومن غيره على الصحة، عملاً بالقاعدة التي جروا عليها في سائر الموارد، ويترتب عليه فراغ ذمة المنوب عنه.

توقف الشيخ الأعظم قدس سره في فراغ ذمة المنوب عنه

لكن ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره التوقف في البناء على فراغ ذمة المنوب عنه، بدعوى: أن لفعل النائب حيثيتين.

الأولى: كونه فعلاً له بالمباشرة.

الثانية: كونه فعلاً للمنوب عنه بالتسبيب.

ص: 566

وقاعدة الصحة إنما تقتضي إحراز الصحة له من الحيثية الأولى، فتترتب آثار صدور الصحيح منه، من استحقاقه الأجرة، وجواز استئجاره ثانياً، بناء على اشتراط فراغ ذمة الأجير في صحة استئجاره ثانياً، ونحوهما.

أما من الحيثية الثانية فلا محرز للصحة، لعدم التلازم بين الحيثيتين في التعبد بها، فلا مجال للبناء على فراغ ذمة المنوب عنه، بل لابد من إحراز صحة العمل لأجل ذلك بطريق آخر، كإخبار الفاعل ونحوه من عدالته أو ثقته.

مناقشته

ولا يخلو ما ذكره عن غموض، لعدم تعرضه لوجه الفرق بين الحيثيتين في جريان قاعدة الصحة. إلّا أنه لا يبعد - بعد النظر في كلام بعض أعاظم شراح كلامه المؤيد ببعض فقرات منه - أن يكون نظره في الفرق إلى أنه لما كان موضوع قاعدة الصحة هو فعل الغير لا فعل الإنسان نفسه فلا مجال للمنوب عنه أن يجريها في حق نفسه لأجل إحراز فراغ ذمته، لأن فراغ ذمته بفعل النائب إنما هو بتوسط انتساب فعله له، لا للنائب، بخلاف استحقاق النائب الأُجرة، فإنه من آثار انتساب الفعل للنائب، فموضوع الأثر المذكور هو فعل الغير الذي هو مجري القاعدة. وكذا سقوط التكليف الكفائي عن ذمة المكلف بفعل غيره، فإنه لا يتوقف على انتسابه له، بل يكفي فيه انتسابه للمباشر.

ولعله لذا ذكر قدس سره أن الوجه المذكور لا يجري في استئجار الولي للعمل عن الميت، حيث لا يعتبر في براءة ذمة الميت انتساب الفعل للولي المكلف بإبراء ذمة الميت، بل يكفي فيه انتسابه للميت، فيكون موضوع الأثر في حق الولي هو فعل الغير من حيث هو فعل الغير، فتشمله القاعدة.

ص: 567

وعلى هذا، فغاية ما يمنع منه هذا الوجه هو رجوع المنوب عنه للقاعدة، لا رجوع غيره ممن يتعلق غرضه ببراءة ذمة المنوب عنه، كالولي والوصي والوارث.

لكنه يندفع..

أولاً: بأن أخذ خصوصية فعل الغير في موضوع القاعدة مستفاد من الارتكاز الذي تبتني عليه السيرة، والظاهر منه أن الموضوع هو فعل الغير بالمباشرة، وإن كان فعلاً للنفس بالتسبيب، وليس مستفاداً من دليل لفظي كي ينظر في مفاده وأنه يعم ذلك أو لا.

ولو فُرض قصورها عنه أمكن التمسك لبراءة الذمة بقاعدة الفراغ الجارية في فعل النفس. فتأمل.

وثانياً: بأن الجهة الثانية لفعل النائب متفرعة على الجهة الأولى، لوضوح أن فعل النائب ليس هو إلّا ما أُتي به لتفريغ ذمة المنوب عنه، فالتعبد بصحته ملازم عرفاً للتعبد بفراغ ذمة المنوب عنه، وإلّا فلا وجه لاستحقاقه الأجرة، لوضوح أن موضوع الإجارة هو فعله المفرغ لذمة المنوب عنه، لا مطلق فعله.

وبالجملة: التفكيك المذكور مما تأباه المرتكزات العرفية جداً، بنحو يكشف عن عدم التفكيك في مفاد القاعدة المبنية على المرتكزات المذكورة.

نعم، قد يدعى عدم جريان القاعدة في فعل الغير الذي لا يبتني تفريغ الذمة به على النيابة، بل على محض سقوط المباشرة، كما في توضئة الغير للعاجز عن المباشرة، فإن المباشر للعمل لا ينويه بعنوانه، بل تكون النية من المكلف لا غير، فلا يكون عمله واجداً للعنوان المعروض للصحة والفساد،

ص: 568

ليحرز بالقاعدة براءة الذمة به.

إلّا أن هذا - مع منعه من جريان القاعدة لاستحقاق الأجرة أيضاً فلا وجه للتفكيك بينهما - غير مهم بناء على ما تقدم في الأمر الثالث من المقام الثاني من عدم اختصاص القاعدة بما يكون معروضاً للصحة والفساد، بل تجري لإحراز تمامية ما قصده الفاعل بفعله، حيث يتجه جريانها في المقام لو فرض قصد الفاعل بعمله عنواناً جامعاً لتمام الأجزاء والشرائط، كما لو قصد توضئة العاجز، أو غسل تمام أعضاء وضوئه بنحو الترتيب أو نحوهما مما يطرؤه النقص والتمام ويكون مبرئاً للذمة على تقدير التمامية.

الأمر الثاني: أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات

الأمر الثاني: تعرض شيخنا الأعظم قدس سره وبعض من تأخر عنه لأصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات.

والذي ينبغي أن يقال فيها: إن الأقوال والاعتقادات لو فرض ترتب الأثر عليها بنفسها وكانت مقيدة بقيود خاصة، كانت كسائر الأفعال معروضة للصحة والفساد بلحاظ واجديتها للقيود المعتبرة في ترتب الأثر وفاقديتها لها، فتجري فيها أصالة الصحة لو فرض إحراز موضوعها، وهو الإتيان بالفعل بالعنوان الذي يؤخذ في موضوع الأثر، كما لو احتمل لحن القارئ في قراءته المفروضة عليه التي فرض قصده لها.

لكن لا يتضح الفرض المذكور في الاعتقادات، لأن الأمور التي يجب الاعتقاد بها لا يشك في صحة الاعتقاد بها، بل في تحققه، ولم يؤخذ في موضوع التكليف عنوان خاص يحرز من المكلف قصده ويشك في مطابقة ما وقع له، فإن مثل عنوان الاعتقاد بأصول الدين ليس مأخوذاً في موضوع التكليف الشرعي، ليتحقق موضوع القاعدة في فرض قصد المكلف له

ص: 569

والشك في خطئه فيه، وإنما هو من العناوين الانتزاعية مما يجب الاعتقاد بذاته - كالنبوة والإمامة - ويشك في تحققه، لا في صحته.

نعم، لو قيل بتوقف الإسلام مثلاً على الاعتقاد بأصوله عن برهان، وعلم من حال الشخص قصده الاعتقاد المحقق للإسلام، وتحقق منه الاعتقاد بأصوله، وشك في تحقق قيده المذكور، اتجه بمقتضى القاعدة البناء على تحققه والحكم باسلامه.

لكن الظاهر أنه يكفي في الإسلام الاعتقاد بأصوله، وإن لم يكن عن برهان، فلا يتحقق فيه موضوع القاعدة.

هذا، وفي ما عدا ذلك فالأقوال والاعتقادات..

تارةً: يشك في وقوعها على الوجه المباح أو المحظور، كما لو تردد الخبر بين الكذب الحرام والكذب المباح للإصلاح أو التقية، أو تردد الاعتقاد الخاطئ بين ما يكون عن تقصير وما يكون عن حجة معذرة.

وأخرى: يشك في مطابقتها للواقع وعدمها مع قطع النظر عن الإباحة والحظر.

أما في الأول فلا مجال للبناء على الصحة بالمعنى المقابل للفساد التي هي مفاد القاعدة، لعدم قابلية الموضوع للاتصاف بالصحة والفساد ولا بالتمامية والنقص بعد عدم القصد لمركب محط للغرض يطابقه الفعل الخارجي تارةً ولا يطابقه أُخرى.

كما لا مجال للبناء على الصحة بمعنى الحسن الفعلي المقابل للقبح الفعلي، التي هي عبارة عن إباحة الفعل واقعاً، لعدم الدليل على ذلك.

نعم، مقتضى ما تضمن الأمر بحسن الظن بالمؤمن، وحمل أمره على

ص: 570

الأحسن، وحرمة اتهامه(1) هو البناء على الصحة بمعنى الحسن الفاعلي المقابل للقبح الفاعلي الراجع لتعمد المعصية والاقدام على التمرد، فيبنى على عدم تعمده المعصية وإن صادف الحرام الواقعي. وإليه يرجع ما قيل من وجوب حمل المؤمن على الصحة.

لكنه مختص بالمؤمن، لاختصاص النصوص به، ولا يجري في غيره، كما لا يجري في من لم يحرز إيمانه ولو بالاستصحاب.

وأما في الثاني فلا مجال للبناء على المطابقة للواقع لو كانت موضوعاً لأثرٍ عملي، لعدم الدليل على ذلك.

نعم، قام الدليل على حجية خبر الثقة في الحسيات، وخبر المجتهد ونحوه من أهل الخبرة في الحدسيات، على تفصيلٍ في الأمرين يذكر في محله.

لكنه راجع إلى التعبد بالواقع الذي هو مؤدى الخبر والاعتقاد، لترتيب أثره، لا التعبد بمطابقة الخبر والاعتقاد للواقع، التي هي كالصحة معنى قائم بالخبر والرأي، ليكون من سنخ قاعدة الصحة التي هي محل الكلام.

وأما ما تضمنته بعض أدلة الحجية من لزوم تصديق المخبر ونحوه، فهو كنايةً عن التعبد بالمؤدى الذي هو مفاد الحجية، ولذا سيقت لبيان لزوم ترتيب أثر الواقع، وليس المراد به التعبد بعنوان الصدق بنفسه، ليترتب أثره، لو كان له أثر عملي.

ومجرد التلازم بين الأمرين لا يكفي في عموم التعبد للصدق بعنوانه، لإمكان التفكيك بين المتلازمين في التعبد، بل لابد من تمامية شروط التعبد

ص: 571


1- راجع الوسائل ج: 8 باب: 122، 161 من أبواب أحكام العشرة، وج: 11، باب: 33 من أبواب المعروف.

فيه، وحيث كان من الموضوعات الخارجية التي لا يترتب عليها الحكم الكلي بل الجزئي لزم فيه التعدد والإخبار عن حِس، ولا يكتفي بملازمته لما يكفي فيه خبر الواحد أو الخبر الحدسي وأولى بذلك البناء على تحقق الأمر المعتقد به أو المخبر عنه بنحوٍ يعتقد به وإن لم يترتب عليه العمل، فإنه تابع للعلم الحقيقي لاغير. فلا حظ.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

هذا، تمام الكلام في قاعدة الصحة تتمة للكلام في الاستصحاب. وبه ينتهي الكلام في الأصول العملية.

وكان الفراغ من ذلك عصر الأحد، الثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم، سنة ألف وثلاثمائة وسبع وتسعين للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلوات، وأزكى التحيات، في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف، على مشرفه الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة حجة الإسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، ونسأله قبول الأعمال، وصلاح النيات والأحوال بمنه وكرمه.

وانتهى تبييضه - بعد تدريسه - سحر الثلاثاء، آخر الشهر المذكور، بقلم مؤلفه عفي عنه، حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 572

المحتويات

الصورة

ص: 573

الصورة

ص: 574

الصورة

ص: 575

الصورة

ص: 576

الصورة

ص: 577

الصورة

ص: 578

الصورة

ص: 579

الصورة

ص: 580

الصورة

ص: 581

الصورة

ص: 582

الصورة

ص: 583

الصورة

ص: 584

الصورة

ص: 585

الصورة

ص: 586

الصورة

ص: 587

الصورة

ص: 588

الصورة

ص: 589

الصورة

ص: 590

الصورة

ص: 591

الصورة

ص: 592

الصورة

ص: 593

الصورة

ص: 594

الصورة

ص: 595

الصورة

ص: 596

الصورة

ص: 597

الصورة

ص: 598

الصورة

ص: 599

الصورة

ص: 600

المجلد 6

هویة الکتاب

سرشناسه: طباطبایی حکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان و نام پديدآور: المحکم في اصول الفقه/ تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

مشخصات نشر: دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

تعداد المجلدات 6ج

وضعیت فهرست نویسی: فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

يادداشت:این کتاب در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است

یادداشت:کتابنامه

موضوع:اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره:BP159/8/ط2م3 1376

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 5

ص: 6

المقصد الثالث: في التعارض

اشارة

ص: 7

ص: 8

المقصد الثالث: في التعارض

أشرنا في تمهيد الكلام في الوظائف العملية الظاهرية إلى أنه لاوجه لجعل مبحث التعارض خاتمةً لمباحث الأصول، أو لقسم الوظائف الظاهرية - كما صنعه شيخنا الأعظم (قدس سره) - لعدم خروجه عن المقصد المهم بعد تضمنه تنقيح الكبريات للوظائف الظاهرية التي تقع في طريق الاستنباط، الذي هو معيار المسألة الأصولية.

ومثله إلحاقه بمباحث الطرق - كما صنعه بعض المعاصرين في أصوله - لعدم اختصاص بعض مسائله بها، بل يجري في الأصول أيضاً، كمسألة مقتضى الأصل في المتعارضين.

ومن هنا كان الأنسب جعله مقصداً في قبال المقاصد السابقة، كما جرى عليه المحقق الخراساني (قدس سره).

كما أن ما جرى عليه من جعل عنوان البحث هو التعارض أنسب مما جرى عليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من جعل عنوانه التعادل والتراجيح، لأنه أخص.

ولاسيما مع عدم كون البحث في التراجيح عن أحكامها، بل عن

ص: 9

تشخيص مواردها التي هي من أحكام التعارض.

ومن ثم جرينا على ذلك، كما جرى عليه غير واحد ممن تأخر عنه.

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بذكر أمور..

تمهيد بذكر أمور..

الأمر الأول: معنى التعارض

الأول: التعارض تفاعل من العرض. وقد ورد في استعمالات كثيرة بأنحاء مختلفة، وذكر له معاني متعددة قد يرجع بعضها إلى بعض. ولعل الأصل لغير واحد من تلك المعاني هو العرض المقابل للطول، حيث قد يرجع إليه استعماله بمعنى السعة في مثل قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(1). وقوله سبحانه: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(2).

كما قد يرجع إليه استعماله بمعنى المنع، تشبيهاً للمانع بما يقف في عرض الطريق ويصد عن النفوذ والمضي، كالخشبة المعترضة في النهر المانعة من جريان الماء فيه، كما تضمنه حديث سراقة: أنه عرض لرسول الله (ص) وأبي بكر الفرس. قال ابن الأثير:

«أي اعترض به الطريق يمنعهما من المسير».

ولعله لذا سميت الخشبة التي تمسك عضادتي الباب عارضة، وسمي الإيراد على المطالب العلمية والاستشكال فيها اعتراضاً.

وهذا هو المناسب لإطلاق التعارض في المقام، بلحاظ أن كلاً من المتعارضين يمنع من العمل بالآخر، فكأنه مانع له من تأثيره لمقتضاه، وهو المطابق للمرتكزات العرفية في وجه إطلاق التعارض في أمثال المقام.

ص: 10


1- سورة الحديد: 21.
2- سورة فصلت: 51.

ولا وجه مع ذلك لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم المناسبة بين المعنى المقصود في المقام والمعنى اللغوي، حيث فسر المعنى اللغوي للعرض بالاظهار، ومثل له بعض الأعيان المحققين ب: عرض المتاع للبيع.

على أن تفسير العرض بالإظهار لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر أن المراد به نحو من الملابسة بين الشيئين ترجع إلى تهيئة أحدهما للآخر وإعداده له، كما في المثال وفى قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(1)، أو إلى نحو من الاتصال بينهما كما في قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا(2)، أو غير ذلك مما قد يستلزم الإظهار ولا يطابقه مفهوماً.

ولا يبعد رجوع ذلك المعنى للمعنى المذكور آنفا، لمناسبة ما يكون في عرض الطريق له جداً. والأمر سهل.

الأمر الثاني: تعريف التعارض
اشارة

الأمر الثاني: عرَّف شيخنا الأعظم (قدس سره) التعارض في الاصطلاح بأنه تنافي مدلول الدليلين على وجه التناقض والتضاد، وظاهره وصريح بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن ذلك هو المشهور في تعريفه.

وعرَّفه المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية بأنه: تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقةً أو عرضاً.

وعلى ضوء هذين التعريفين يقع الكلام في جهات..

الكلام في جهات
الأولى: في تحديد التعارض

الأولى: أنه حيث تقدم أن إطلاق العرف للتعارض في أمثال المقام مبني على ملاحظة التمانع بين المتعارضين، فالتنافي بالتناقض أو التضاد

ص: 11


1- سورة الأحزاب: 72.
2- سورة غافر: 46.

لا يطابق التعارض بما له من المفهوم العرفي، بل هو منشأ له بلحاظ امتناع حجية المتنافيين والتعبد بهما وعدم صلوحها للعمل، حيث يكون كل منهما بسبب ذلك مانعاً من ترتب مضمون الآخر والعمل به.

والظاهر أن إطلاقه في كلام أهل الفن مبني على الجري على المعنى العرفي المذكور، لا على اختراع معنى خاص له مباين لذلك المعنى مفهوماً مناسب له يكون هو المصطلح في المقام، لاحتياجه لعنايةٍ يبعد ارتكابها مع الاستغناء عنها. غايته أن محل الكلام مختص بالطرق الظاهرية من أدلة أو أصول، تبعاً لاختصاص الغرض بذلك.

فالتعريفان المذكوران مبنيان على التسامح من هذه الجهة، وهما بضبط موارد التعارض أنسب

الثانية: ذكر التناقض والتضاد في تعريفه

الثانية: ذكر التناقض والتضاد في التعريفين إن كان لأجل التعميم للتضاد بلحاظ ظهور التنافي بدواً في خصوص التناقض، لأن النقيض نفي لنقيضه، دون الضد وضده، فمن الظاهر أن العدم نفي الوجود دون العكس، فلابد أن يراد من التنافي محض التعاند، وهو حاصل في الضدين.

وإن كان لأجل تخصيص التنافي في محل الكلام بالقسمين المذكورين دون غيرهما من أنحاء التنافي فلا وجه له.

وإرادة مطلق التعاند من التضاد - كما هو ظاهرهم - مستلزم للاكتفاء بذكر التنافي. على أن جميع أنحاء التنافي مستلزمة للتناقض بلحاظ الدلالة الالتزامية لكل من الدليلين التي هي حجة كالدلالة المطابقية.

وأما في الأصول التي هي غير حجة في لازم مؤداها فلا يكفي التضاد في تحقق التعارض، لأن العلم بكذب أحد الأصلين لا يخرجهما عن الحجية

ص: 12

إلا لمحذور خارج كلزوم الترخيص في المعصية ونحوه.

وبالجملة: ذكر التناقض يكفي في المقام، بل يكفي ذكر التنافي.

الثالثة: معنى التنافي

الثالثة: ذكر غير واحد أن اختلاف التعريفين في نسبة التنافي، حيث نسب للمدلول في الأول وللدلالة في الثاني، يوجب كون وصف الدليلين بالتعارض على الثاني حقيقياً، وعلى الأول مجازياً، من باب وصف الشيء بحال متعلقه.

ويشكل: بأنه لا مانع من كون تنافي المدلولين منشأ لاتصاف الدليلين اصطلاحاً أو عرفاً بالتعارض. بل ليس هو بأبعد من كون تنافي الدلالتين علة لذلك، مع وضوح كونهما من شؤون الدليلين أيضاً لا عينهما.

كما أنه ذكر غير واحد أيضاً أن اختلافهما في ذلك يوجب الفرق بينهما في دخول موارد الحكومة والجمع العرفي في التعارض على الأول، لاستقرار ظهور كل منهما في مدلوله بنحو ينافي الآخر، وخروجها على الثاني، لعدم حجية أحدهما إلا فيما لا ينافي الآخر.

وهو كما ترى! لوضوح أن الدلالة من سنخ العرض للمدلول، ولا يعقل اختلاف العرض والمعروض سعةً وضيقاً فيمتنع تحقق التنافي بلحاظ المدلول دون الدلالة.

وحمل الدلالة في الثاني على خصوص مورد الحجية ليس بأولى من حمل المدلول في الأول عليه. ولذا كان ظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) كصريح المحقق الخراساني (قدس سره) خروج الموردين المذكورين عن التعارض، مع اختلافهما في تعريفه. ويأتي الكلام في ذلك.

ثم إن نسبة التنافي للدلالتين في الثاني إنما هو بلحاظ تنافي المدلولين،

ص: 13

وإلا فلا تنافي بين الدلالات المختلفة على المدلولات المتنافية، لتعدد الموضوع.

إلا أن يراد بالدلالة ما يساوق الحجية، فيتحقق التنافي بين الدلالتين، لاستحالة التعبد بالمتنافيين.

لكن التنافي حينئذ ليس بالتناقض، لكون طرفيه وجوديين، كما نبه له غير واحد.

الرابعة: تعميم الخراساني (قدس سره) بين أكثر من دليلين

الرابعة: عمم المحقق الخراساني (قدس سره) في تعريفه المتقدم التعارض لما يكون بين أكثر من دليلين، كما لو دل دليل على وجوب القصر والآخر على وجوب الصيام، وثالث على الملازمة بين الإتمام والصيام.

وهو المناسب للمعنى المتقدم للتعارض، ولعموم الغرض من البحث في المقام، وإن اختصت بعض نصوص التعارض بالخبرين.

غايته أنه لابد من الكلام في عموم الأحكام التي تضمنتها تلك النصوص لذلك وعدمه.

ثم إن فرض التعارض الذي هو محل الكلام والغرض بين أكثر من دليلين إنما يتم لو لم يكن أحدها قطعياً، وإلا كان التعارض مختصاً بغيره، لحجيته على كل حال، ويدخل حينئذ في التعارض لأمرٍ خارجٍ الذي يأتي الكلام فيه، كتعارض دليلي وجوب الظهر ووجوب الجمعة، بضميمة العلم بعدم وجوب الجمع بينهما.

كما أنه لو كان مفاد كل من الدليلين في الفرض تعيين الصلاة الواجبة المفروض وحدتها بكل من الظهر والجمعة، لا محض الأمر بكل منهما، كانا متعارضين ذاتاً، لامتناع اتحاد الصلاة الواحدة مع كل منهما. غايته أن

ص: 14

التنافي بينهما بنحو التضاد الذي تقدم الكلام فيه.

الخامسة: تعميم التنافي في تعريف الخراساني

الخامسة: تقدم في تعريف المحقق الخراساني تعميم التنافي الذي يكون منشأ للتعارض للحقيقي والعرضي.

وقد حمل بعض شرّاح كلامه الأول على ما إذا كان التنافي عقلياً، والثاني على ما إذا كان بواسطة مقدمة شرعية خارجية، كتنافي دليلي وجوب الظهر والجمعة بضميمة العلم بعدم وجوب الجمع بينهما.

أما سيدنا الأعظم (قدس سره) فقد جعل القسمين من التنافي الحقيقي، وخص التنافي العرضي بما إذا علم بعدم ثبوت أحدهما مع إمكان ثبوتهما معاً شرعاً وعقلاً.

ويناسبه قول المحقق الخراساني مفرِّعاً على ذلك:

«بأن علم بكذب أحدهما إجمالاً، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً»، كما يناسبه في الجملة ما في حاشيته على الرسائل، من دخول ذلك في التعارض وإن عبر عنه بالتعارض العلمي، لا العرضي.

وربما يحمل العرضي على التنافي لأمر خارج من مقدمة شرعية، أو علم إجمالي، ويخص الحقيقي بالتنافي الذاتي العقلي، وربما يناسبه ما في حاشيته على الرسائل، على اضطراب في كلامه. فراجع. ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: ما يعتبر في التعارض من تمامية موضوع الحجية في الدليلين

الأمر الثالث: لابد في تحقق التعارض في محل الكلام من تمامية موضوع الحجية في كلٍ من المتعارضين، فلو فقد في أحدهما أو في كليهما فلا تعارض.

وتوضيح ذلك: أنه حيث تقدم أن إطلاق التعارض مبني على فرض

ص: 15

التمانع بين الدليلين في ترتب مقتضاهما، ففرض التمانع مبني على المفروغية عن تمامية المقتضي في الممنوع للعمل، ومع فرض قصوره وعدم تحقق مقتضي العمل فيه لا تصل النوبة للمانع عرفاً، لتصدق المعارضة بما لها من المعنى المتقدم.

كما أن محل الكلام في المقام هو بيان حكم المتعارضين من حيثية التعارض، بعد الفراغ عن صلوحهما للعمل في أنفسهما، كما هو ظاهر الأدلة الخاصة الواردة في المقام.

نعم، لا يعتبر ذلك في تحقق التعارض من حيثية الكشف والبيان، لتمامية المقتضي في الكاشف والحاكي لذلك، وإن لم يكن حجة صالحة للعمل، ولذا يصدق التعارض بين مثل أخبار المؤرخين التي لا يراد منها إلا التعرف على الواقع والوصول إليه ولو ظنا، فالتعارض أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة المقصودة من المتعارضين.

إلا أن ذلك خارج عن محل الكلام في المقام، لاختصاص غرض الأصولي بتنقيح الأدلة وتشخيصها، فالمنظور له هو تعارضها من حيث هي أدلةٍ صالحة للعمل. ومن ثم اختص الكلام بتعارض الوظائف الظاهرية لا غير.

ودعوى: أن لازم ذلك عدم صدق التعارض في فرض علاجه بالتخيير أو الترجيح، لفرض عدم التمانع بين الدليلين حينئذٍ وإن كان بينهما تمانع وتناف في مقام الكشف والدلالة.

مدفوعة: بأن العلاج المذكور لما كان من أحكام التعارض، فلابد من كون التعارض الذي هو محل الكلام هو التعارض في الرتبة السابقة عليه،

ص: 16

لا اللاحقة له، وهو التعارض بالإضافة لعموم دليل الحجية، لا بالنظر للأدلة الخاصة.

ثم إنه لا يفرق بين كون ما فقد شرط الحجية معلوماً بالتفصيل وكونه معلوماً بالإجمال، وسقوط كل منهما عن الحجية في خصوص مؤداه في الثاني ليس بملاك التعارض، بل لاشتباه الحجة باللاحجة، ولذا لا يسقط ما هو الحجة منهما عن الحجية في خصوص في مؤداه الإجمالي لو كان لحجيته فيه أثر عملي، كما لو كانا تكليفين، حيث يتنجز كل منهما بملاك العلم الإجمالي.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا يتحقق التعارض الذي هو محل الكلام لو كان أحد الدليلين وارداً على دليل حجية الآخر، بأن يكون رافعاً لموضوع حجيته، وإن لم يكن رافعاً لموضوع الحكم الذي تكفله، كما هو الحال في موارد الجمع العرفي - كالجمع بين الظاهر والأظهر، ومنه بعض أقسام الحكومة، وهو ما لا يكون فيه أحد الدليلين ناظراً للدليل الآخر، بل لحكمه، على ما يأتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى - لأن مرجع الجمع بين الدليلين وتقديم أحدهما على الآخر حينئذٍ إلى أن حجية أحدهما في المورد مشروطة بعدم ورود الآخر، فمع وروده يسقط الأول عن موضوع الحجية، وإن انعقد ظهوره وبقي موضوع حكمه.

إذ التعارض بين الدليلين على هذا ليس في مرتبة حجيتهما، بل في مرتبة كشفهما وبيانيتهما لا غير، وقد عرفت خروج ذلك عن التعارض الذي هو محل الكلام.

ولا مجال لقياسه على ارتفاع التعارض بأدلة العلاج الذي تقدم أنه لا

ص: 17

يوجب خروج المورد عن التعارض الذي هو محل الكلام.

لأن ارتفاع التعارض هنا بالنظر لعموم دليل الحجية، لانحصار دليل حجية الظواهر ببناء العقلاء الذي يقصر في مورد الجمع العرفي، بخلافه هناك، حيث يكون المنشأ فيه الأدلة الخاصة، مع بقاء التعارض بالنظر لعموم دليل الحجية، كما سبق.

وعلى هذا جرى شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحدٍ ممن تأخر عنه، كما سبق.

ولازم ذلك كون البحث في شؤون الجمع العرفي وضوابطه وما يتعلق بذلك من مبادئ مبحث التعارض، لرجوعه إلى تشخيص مورده وتنقيح صغرياته، لا إلى بيان حكمه، فيناسب جعله مقدمة للبحث المذكور، لا من مقاصده.

إلا أن أهمية البحث المذكور ومناسبته للمقام ووقوع نتائجه في طريق الاستنباط ملزم بجعله من مقاصد هذا المبحث، لتبعية سعة البحث لسعة الغرض، وليس ذكر الموضوع إلا لتحديد الغرض، فإذا كان الموضوع قاصراً عن استيفائه لزم التخطي عنه محافظة على استيعاب الغرض.

ويأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكلام في تمهيد البحث في المقام التعرض لمنهج البحث وتعيين موضع الكلام في ذلك منه.

الأمر الرابع: توقف التعارض على تنافي المؤديين

الأمر الرابع: لا ريب في توقف التعارض على تنافي المؤديين، بحيث يمتنع التعبد بهما ظاهراً، كما يمتنع جعلهما واقعاً، ولا يكفي مجرد العلم بقصور دليل الحجية عن أحدهما لا من جهة تنافي مضمونيهما، كما في الماء النجس المتمم كراً بطاهر، بناء على أن مقتضى الاستصحاب في كل

ص: 18

منهما نجاسة الأول وطهارة الثاني وعدم اختلاف حكم أجزاء الماء الواحد ظاهراً، كما لا يختلف واقعاً، فإن مرجع ذلك إلى العلم بتخصيص عموم الاستصحاب بنحو لا يشملهما معاً، من دون أن يمتنع اجتماع مضمون كلا الاستصحابين، فإن أصالة العموم في دليل الاستصحاب وإن كانت تسقط في كل من الفردين، إلا أنه ليس بملاك التعارض بينهما، لعدم دخل كل منهما في سقوط الآخر، بل للعلم بكذبها الراجع للتخصيص وعدم تمامية موضوع الحجية الذي عرفت خروجه عن محل الكلام.

نعم، قد يصدق التعارض في إعمال أصالة العموم بالإضافة لكلٍ منهما، بخلاف فرض التنافي بين المؤديين المانع من التعبد بهما ظاهراً، لأن إثبات كل من المتنافيين مستند لدليله، وحيث كان التنافي مانعاً من التعبد بالمضمونين معاً كان سقوط كل منهما مستنداً للآخر، فصح نسبة المعارضة له عرفاً.

هذا، وعنوان التعارض وإن لم يؤخذ في أكثر أدلة الأحكام الخاصة من التخيير والترجيح، إلا أنه قد أخذت فيها عناوين مشابهة له كعنوان الاختلاف ونحوه مما هو كالتعارض لا يصدق إلا مع التنافي.

كما أنه ربما يشارك التخصيص بالنحو المذكور التعارض في بعض الأحكام كأصالة التساقط أو التخيير، على ما لعله يتضح في محله.

ثم إن كون التنافي بين المؤديين منشأ للتعارض حيث كان بسبب امتناع التعبد بالمتنافيين للتنافي بينهما عملاً، كان المعيار فيه تحقق التنافي العملي بين المؤديين، وحيث كان موضوع العمل عقلاً هو الأحكام التكليفية ثبوتاً، والتعبد بها - بقيام الحجة ونحوه - إثباتاً، توقف التنافي - الذي هو

ص: 19

منشأ للتعارض - على تنافي المؤديين في الحكم التكليفي أو في التعبد به، أو التضاد في ذلك، إما لكون المؤدى هو الحكم التكليفي أو التعبد رأساً، كما لو كان مفاد أحد التعبدين وجوب شيء، ومفاد الآخر عدم وجوبه أو حرمته، أو كان مفاد أحدهما حجية شيءٍ ومفاد الآخر عدم حجيته، أو لكون المؤدى موضوعاً لذلك، كما لو كان مفاد أحد التعبدين الملكية، المقتضية لجواز التصرف، ومفاد الآخر عدمها أو الوقفية، المقتضيين لحرمته، أو كان مفاد أحدهما عدالة الشاهد، المقتضية لحجية شهادته، ومفاد الآخر فسقه المقتضي لعدمها. من دون فرق في ذلك بين كون التعبدين مفاد طريق حاك عن الواقع وكونها مفاد أصل لا حكاية له.

أما إذا لم يكن بين المؤديين تناف في مقام العمل فلا يتحقق التعارض - الذي هو محل الكلام - وإن علم بكذب أحدهما وعدم مطابقة مؤداه للواقع. ومن ثم أمكن التفكيك بين المتلازمات في الأصول العملية - وان لم يسقطهما عن الحجية - إلا لمحذورٍ خارجي، كمخالفة

تكليف معلوم بالإجمال أو التفصيل، وإنما لم يمكن في الطرق كالبينات لأجل حجيتها في لازم المؤدى، فيلزم التناقض بين المؤديين، ولذا لا يجري ذلك في ما لا يكون حجة في اللازم، كاليد ونحوها.

وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني (قدس سره) من التنافي العرضي، فإن منشأ التنافي أمر خارجي، وهو العلم بعدم اجتماع المؤديين، المستلزم لتعارض الدليلين بلحاظ لازم المؤدى المفروض حجية الدليل فيه.

كما لعله هو المراد من التنافي الخارجي في كلام بعضهم، والتنافي الشرعي في كلام آخرين، بلحاظ أن عدم اجتماع المؤديين لمقدمة خارجية

ص: 20

مستفادة من الشارع.

وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) في حاشيته على الرسائل أن المراد بالتنافي الشرعي أمر آخر في قبال ذلك داخل في التنافي الحقيقي.

ولعل المراد به ما إذا كان مقتضى الدليلين التفكيك بين الموضوع وحكمه، حيث يكون التلازم بينهما شرعياً، كما لو قامت إحدى البينتين على طهارة الثوب والأخرى على ملاقاته للنجاسة، فإن التنافي بين الطهارة والملاقاة ليس إلا شرعياً تابعاً لملازمة شرعية مجعولة للشارع، وليس ناشئاً من مجرد العلم الإجمالي بعدم ثبوت أحد الأمرين.

لكنه راجع للتنافي العقلي، لأن التعبد بالملاقاة يستتبع التعبد بالنجاسة، لرجوع التعبد بالموضوع للتعبد بحكمه، وهي مضادة للطهارة، بلحاظ تضاد أحكامهما التكليفية، فيمتنع اجتماعهما عقلاً.

وكيف كان، ففي فرض حجية الدليل في لازم المؤدى يكفي العلم بعدم ثبوت أحد المؤديين في تحقق التنافي الذي هو معيار التعارض في المقام، لما تقدم.

ولا مجال لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من خروجه عن التعارض ودخوله في اشتباه الحجة باللاحجة، لعدم تحقق التنافي.

بل هو لا يجتمع مع ما اعترف به من تحقق التعارض بين دليلي الظهر والجمعة، لامتناع اجتماع مؤدييها لأمر خارج، وهو العلم بأن الواجب هو إحدى الصلاتين، لعدم تعقل الفرق بينه وبين ما مثل

به للأول، وهو ما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، ومؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر، وعلم بكذب مضمون أحدهما.

ص: 21

إلا أن يكون مراده بدليلي الظهر والجمعة ليس مجرد ما تضمن الأمر بكل منهما، بل ما تضمن تعيين الصلاة الواحدة الواجبة بكل منهما. لكنه يدخل في التنافي الذاتي، لاستحالة اتحاد الأمر الواحد بالمتباينين، كما أشرنا إليه في الجهة الرابعة من الأمر الثاني.

نعم، مجرد العلم بعدم صدور أحد الخبرين لا يكفي في تنافي مدلوليهما الموجب لتعارضهما، لأن مضمون كل منهما هو الحكم غير المنافي لصدور الآخر، ليكون بمدلوله الالتزامي مكذباً له.

إلا أن التعارض يكون بين دليلي صدور كلٍ منهما، وهو إخبار الراوي عن المعصوم (ع) بلحاظ الملازمة المذكورة، فلا يشملهما دليل الحجية، لما تقدم من تحقق التنافي العملي مع الاختلاف فيها.

لكن هذا كله إنما يقتضي جريان أحكام التعارض العامة العقلية، أما الأحكام الخاصة المستفادة من الأدلة اللفظية فالظاهر قصورها عن التعارض في الصدور، لظهور أدلتها في التعارض في المضمون، لما هو المعلوم من أن موضوعها التعارض في خصوص أخبار المعصومين (ع) المتضمنة للأحكام، فتعارضها بتنافي مضامينها، وليس التعارض في الصدور تعارضاً في أخبارهم بل في الأخبار عنهم. من دون تناف بين الحكمين المنقولين عنهم في كل من المتعارضين.

بل الظاهر انصراف عموم أدلة الأحكام المذكورة عن التعارض الناشئ عن العلم بكذب أحد المضمونين اتفاقاً لملازمة خفية، بل يختص بما يكون ناشئاً عن وضوح التنافي بين المضمونين، بأن يستفاد نفي أحدهما من دليل الآخر عرفاً، بسبب وضوح التلازم بينهما إما لكونه مسوقاً لنفيه،

ص: 22

لنظره للتلازم بينهما، فيكون مدلولاً التزامياً له، أو بدون ذلك.

وعليه يتجه الفرق بين المثالين اللّذين ذكرهما بعض الأعاظم (قدس سره).

ثم إنه مما ذكرنا من لزوم التنافي بين المؤديين في تحقق التعارض يظهر عدم تحققه أصلاً في موارد التخصص والورود وبعض أقسام الحكومة، وهي المبتنية على نظر الحاكم للدليل المحكوم وتعرضه لبعض جهاته المتوقفة عليها استفادة الحكم منه، لعدم التنافي بين الدليلين حينئذ حتى بحسب الظهور

الأولي لكل منهما، لعدم تعرض الدليل لتنقيح صغرياته ولا للجهات التي يبتني عليها استفادة الحكم منه، ليكون معارضاً للدليل الآخر المتكفل بذلك، ويحصل التنافي بين مضمونيهما.

ومجرد اختلاف العمل المترتب على الدليل المورود أو المحكوم بسبب الدليل الآخر لا يكفي في تحقق التعارض الذي هو محل الكلام.

وعلى هذا جرى شيخنا الأعظم (قدس سره) وغير واحد ممن تأخر عنه. والمناسب لذلك جعل البحث في ذلك من مبادئ مبحث التعارض، لولا أهمية البحث المذكور ومناسبته للمقام، حيث يلزم جعله من مقاصده، نظير ما تقدم في آخر الأمر السابق. فراجع.

الأمر الخامس: التعارض وإن كان يشارك التزاحم في التنافي بين الحكمين والمؤديين بنحو يمتنع الجمع بينهما في الفعلية، إلا أنه يفارقه في أمور..

الأمر الخامس: الفرق بين التعارض والتزاحم
الفارق الأول:

الأول: أن التعارض يبتني على فرض الدليل على كل من الحكمين، بحيث يستلزم التنافي بين الحكمين ثبوتاً التكاذب بين دليليهما إثباتاً، أما التزاحم فلا يبتني إلا على محض التنافي بين الحكمين ثبوتاً وإن لم يكن

ص: 23

تكاذب بين دليليهما، لعدم قيام الدليل على فعلية كل منهما في مورده، بل على محض تمامية ملاكيهما.

الفارق الثاني:

الثاني: أن التزاحم يبتني على فرض تمامية ملاك كل من الحكمين، بنحو يقتضي تشريع الحكم على طبق كل منهما، وفعليته في فرض القدرة عليه، بحيث يكون مورد التزاحم واجداً للجهة المقتضية لجعل كل من الحكمين الموجودة في غير مورده، المستلزم لفعلية كل من الحكمين لولا المزاحمة، ولا يمنع عن وجوب امتثالهما معاً إلا العجز عن الجمع بينهما، بخلاف التعارض، فإنه يجتمع مع فرض العلم بعدم ثبوت أحد الملاكين ولو من دليلٍ خارج، أو الشك في ثبوت أحدهما أو كليهما، لفقد الدليل عليه بعد فرض تكاذب الدليلين في الحكم الفعلي المسقط لهما عن الحجية فيه وفي الملاك - وإن لم يتكاذبا فيه - بناءً على ما هو التحقيق من عدم حجية الدليل في لازم مؤداه بعد سقوطه عن الحجية في نفس المؤدى.

نعم، لا يعتبر فيه التكاذب بينهما في ثبوت الملاك، بل يجتمع مع فرض احتمال وجود الملاكين بل مع العلم بوجودهما - لدليل آخر - وإن تكاذب الدليلان في تعيين الحكم الفعلي الذي هو المعيار في تحقق التعارض.

وما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من اعتبار التكاذب في المتعارضين حتى في مرحلة الملاك والمقتضي.

غير واضح الوجه، لتحقق التكاذب بينهما بمجرد التنافي بين الحكمين وإن أمكن اجتماع الملاكين. إلا أن يريد من الملاك العلة التامة للحكم. لكنه مستلزم لسد باب التزاحم، لاستلزام اجتماع الملاكين لقصور أحدهما عن

ص: 24

تأثير حكمه وخروجه عن كونه تمام العلة له.

الفارق الثالث:
اشارة

الثالث: أنه لا بد في التزاحم من فرض اقتضاء كل من الحكمين صرف القدرة لامتثاله بنحوٍ ينافي مقتضى الآخر، ولذا يختص بالأحكام الاقتضائية في فرض العجز عن الجمع بينهما في الامتثال على ما يتضح في محله.

أما التعارض فلا يعتبر فيه إلا التنافي بين الحكمين عملاً بنحوٍ يمنع من جعلهما معاً وإن لم يكن امتثال أحدهما منافياً لمقتضى الآخر، لعدم كونه اقتضائياً، كالوجوب وعدمه، أو الوجوب والإباحة، أو لعدم تنافي مقتضيهما، كما في الموسعين.

لكن ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن التزاحم لا يتوقف على العجز عن امتثال التكليفين، بل يتحقق في مورد العلم بعدم وجوب الجمع بينهما، وإن تحقق موضوعهما وأمكن امتثالهما، ومثل لذلك بما إذا ملك واجد النصاب في أثناء الحول ما يكمل به نصاب آخر، كما لو ملك في أول محرم خمساً وعشرين من الإبل، وملك في أول رجب السادسة والعشرين، وحيث كانت زكاة الخمس والعشرين خمس شياه، وزكاة الست والعشرين بنت مخاض، فامتثالهما ممكن بدفع الخمس شياه في أول محرم الثاني، ودفع بنت مخاض في أول رجب الثاني، إلا أن العلم بعدم وجوبهما معاً - لما دل على أن المال الواحد لا يزكى في العام الواحد مرتين - مستلزم لتزاحم التكليفين.

وهو كما ترى! لأن عدم وجوب الجمع بين التكليفين في فرض القدرة عليهما، إن رجع إلى حكم العقل بعدم وجوب الامتثال، فهو - مع عدم مناسبته للمثال الذي ذكره - غير متعقلٍ، لأن التكليف علة تامة لوجوب الامتثال، وإلا كان لاغياً. وإدراك العقل ما يمنع من وجوب الامتثال راجع

ص: 25

لإدراكه وجود المانع من جعل التكليف، كما في موارد العجز.

وإن رجع إلى تنازل الشارع عن الجمع بين التكليفين - كما في المثال الذي ذكره - خرج عن باب التزاحم ودخل في التعارض، لرجوعه إلى العلم بعدم جعل أحد التكليفين الموجب لتكاذب دليليهما وإن لم يكن بينهما تناف ذاتي، نظير التكليف بالظهر والجمعة.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن المثال المذكور إنما يكون من باب التعارض لو لم يحرز المقتضي لكلٍ منهما، ولو أحرز يكون المقام من باب التزاحم.

لوضوح أنه لا مجال لإحراز المقتضي لهما، وإلّا امتنع تنازل الشارع عن أحدهما بعد فرض القدرة عليهما، فتنازله مستلزم لعدم تمامية المقتضي بمعنى الملاك الملزم بجعل الحكم في ظرف القدرة الذي هو المعتبر في التزاحم، وإن أحرز المقتضي بالمعنى المقابل لفرض المزاحم المانع من جعل الحكم، والذي قد يقطع معه بعدم جعل كلا الحكمين، والذي يتحقق في موارد التزاحم الملاكي الخارج عن محل الكلام، لأن الكلام في تزاحم التكليفين. فلاحظ.

ومما ذكرنا يظهر أنه قد يجتمع التعارض والتزاحم، كما في فرض إحراز الملاكين بالنحو الخاص والعجز عن الجمع بينهما، واستحكام ظهور دليل كل منهما في فعلية حكمه في فرض العجز المذكور، حيث يتحقق التزاحم بلحاظ ثبوت الملاكين والعجز عن الجمع بينهما، كما يتحقق التعارض بين دليليهما بلحاظ تكاذبهما في فعلية الحكم في المورد المذكور للعلم بعدم فعلية أحدهما.

ص: 26

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من عدم اجتماعهما في مورد، لأن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين المدلولين للدليلين في مقام الجعل والتشريع، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافيهما في مقام الامتثال بعد الفراغ عن تشريعهما معاً، فمع إحراز جعل كل منهما وتشريعه ينحصر الأمر بالتزاحم، وبدونه ينحصر الأمر بالتعارض وإن امتنع الجمع بينهما في مقام الامتثال. ورتب على ذلك عدم الحاجة لتمييز موارد التعارض عن موارد التزاحم.

ففيه: أن المراد من إحراز تشريعهما معاً إن كان هو تشريعهما على عنوانيهما في الجملة، فهو يحرز حتى في مورد التعارض في مثل العام والخاص والعامين من وجه، وإن كان هو تشريعهما بنحو يشمل مورد التصادق وصورة الاجتماع الموردي، فهو ممتنع حتى في مورد التزاحم، لاستحالة جعل التكليفين معاً في مورد العجز عن امتثالهما، وليس فيه إلا اجتماع الملاكين بالنحو الخاص.

ومن ثم كان تمييز إحراز الملاكين المقتضي للتزاحم مع فرض امتناع الجمع بين إطلاقي الدليلين الظاهرين في فعلية الحكمين في غاية الأهمية.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره (قدس سره) من أنه يلزم في التزاحم كون التنافي بين كبريي الحكمين اتفاقياً لا دائمياً، وإلّا دخل في التعارض، لامتناع تشريع حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر دائماً.

لوضوح أنه لا أثر لكثرة الأفراد وقلتها في امتناع التشريع.

نعم، قد يكون دوام التنافي مانعاً من إحراز الملاك لكلا الحكمين، الذي عرفت لزومه في التزاحم، لاستحكام التعارض بين دليليهما بسبب قوة

ص: 27

ظهور كل منهما في غلبة فعلية حكمه وترتب العمل عليه، وهو يقتضي لزوم غلبة عدم التنافي، ولا يكفي فيه مجرد عدم دوام التنافي.

لكنه لا يمنع من فرض التزاحم لو أحرز الملاكان مع دوام التنافي بدليل آخرٍ، فيجري حكمه.

اللهم إلا أن يستفاد عدم صلوح أحد الملاكين حينئذ لجعل الحكم مما تضمن أن الأحكام قد جعلت بنحو يلائم طاقة غالبية الناس. إلا أنه أمر خاص بالأحكام الشرعية لا يرجع إلى امتناع الجعل.

ومثله تقريب عدم اجتماع التزاحم والتعارض في موردٍ بأن امتناع اجتماع الحكمين في باب التعارض ذاتي، لرجوعه إلى اجتماع النقيضين أو الضدين، لاتحاد الموضوع، وفي باب التزاحم عرضي بلحاظ قبح التكليف بما لا يطاق، مع الإمكان ذاتاً، لتعدد الموضوع، كما في مسألة الضد.

إذ فيه.. أولاً: أنه مع تعدد الموضوع ففي فرض ظهور كلٍ من الدليلين في فعلية مؤداه في مورد الاجتماع يتكاذب الدليلان بسبب امتناع فعلية كل منهما، فيلزم اجتماع النقيضين بلحاظ لزوم مؤدى كل منهما لعدم الآخر، ويكون المورد من موارد التعارض لأمرٍ خارج.

فلابد من دليل آخر لإحراز الملاكين بنحو ينحصر سبب عدم الفعلية لأحدهما بالتحذر والعجز عن الامتثال ليكون من باب التزاحم. ومعه يمكن فرض ذلك مع وحدة الموضوع، إذ مع فرض إحراز ملاك كلا الحكمين يتعين جريان حكم التزاحم في تقديم الأهم وإجزاء المجمع في مقام الامتثال ونحوهما.

ومن ثم كان المشهور صحة الصلاة في المغصوب جهلاً مع بنائهم

ص: 28

على امتناع اجتماع الأمر والنهي لمحذور اجتماع الضدين.

وثانياً: أن منشأ تضاد الأحكام وامتناع اجتماعها في الموضوع الواحد لما كان هو التنافي بينها في مقام العمل فهو جار مع تعدد الموضوع وتعذر الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال.

ولذا امتنع التكليف مع العجز ذاتاً، لتقوم التكليف بالعمل، فلا ينتزع عقلاً مع تعذره، لعدم الموضوع له، وليس امتناعه لأجل القبح المشار إليه مع إمكانه في نفسه، ولذا يمتنع انتزاع التكليف حتى مع جواز العقاب عقلاً لتقصير المكلف وتعجيزه لنفسه. فتأمل.

بقي في المقام أمران:

بقي أمران:

الأول: في معيار التزاحم
اشارة

الأول: أنه قد يتوهم أن ما ذكرناه في معيار التزاحم من الاكتفاء بإحراز الملاكين لا يناسب ما هو المعلوم من أن الملاك بنفسه لا يصلح للإلزام عقلاً ما لم يترتب عليه جعل التكليف من قبل المولى، ولذا لا يجب عقلاً إطاعة الأوامر والنواهي الواردة بداعي الإرشاد للمصالح والمفاسد الواقعية، وينحصر وجوب الإطاعة بالأوامر والنواهي المولوية التي ينتزع منها التكليف. ومن ثم قيل بوجوب اللطف منه تعالى بجعل التكاليف حفظاً للملاكات الواقعية.

ولذا لا ينبغي التأمل في أن اجتماع مقتضيات الأحكام المختلفة في الموضوع الواحد - المعبر عنه بالتزاحم الملاكي - لا يقتضي جريان أحكام التزاحم الذي نحن بصدده، فليس للمكلف النظر في

ترجيح أحدهما بالأهمية، فضلاً عن احتمالها، ولا التخيير مع عدمها، بل الأمر موكول للمولى، فمع إحراز جعله الحكم على طبق أحدهما لأهميته بنظره، أو جعله

ص: 29

حكماً آخر غيرهما يتعين العمل عليه، ومع الجهل بذلك يتعين التوقف.

نعم، قد يكون العلم بأهمية أحدهما موجباً للعلم بجعل المولى للحكم على طبقه، فيكون العمل تابعاً للحكم الشرعي، لا للملاك. ومع ذلك لا وجه للاكتفاء في التزاحم الحكمي - الذي هو محل الكلام ومورد ما أشير إليه من الأحكام - بإحراز الملاكين وعدم اعتبار جعل نفس الحكمين اللذين هما موضوع العمل. كيف! ويمكن فرض التزاحم بناء على عدم توقف الأحكام على الملاكات كما هو مختار الأشاعرة. هذا حاصل ما يقال في المقام.

ولدفع هذا التوهم وتوضيح الفرق بين التزاحم الحكمي والملاكي نقول: - بعد الاستعانة به تعالى والتوكل عليه - ليس المراد بالملاك المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام، أو المصالح في نفس جعل الحكم التي لابد منها بناء على التحسين والتقبيح العقليين - كما هو مختار العدلية - بل مطلق المقتضيات الموجبة لجعل الأحكام والأغراض الداعية له، التي لابد منها فيه، كسائر الأفعال الاختيارية، حيث لا تصدر عن فاعلها إلا لغرض يدعو إليها، ولا يظهر من الأشاعرة إنكار ذلك، فلا يمنع ما ذكرنا من فرض التزاحم على مختارهم.

وحينئذٍ فعدم جعل الحكم إن كان لعدم المقتضي له خرج عن محل الكلام، وإن كان في ظرف وجود المقتضي له فهو يكون..

تارة: لقصور المقتضي عن التأثير في جعل الحكم لوجود المزاحم له في مرتبة سابقة على جعله، ولو كان هو مصلحة التسهيل على المكلف.

وهو راجع في الحقيقة إلى عدم تمامية موضوع التكليف، لأن

ص: 30

موضوع التكليف هو موضوع الغرض الداعي لجعله، فكل ما هو الدخيل في تعلق الغرض يكون دخيلاً في التكليف ومقوماً لموضوعه.

وأخرى: لعجز المكلف عن الامتثال في مرتبةٍ لاحقةٍ لفرض الجعل، فإنه وإن كان مانعاً من الجعل عقلاً، لما تقدم من تقوم الأحكام التكليفية بالعمل، إلا أن مانعيته لا ترجع لقصور في المقتضي عن الداعوية لجعل الحكم ولا في تعلق الغرض به، بل لقصور المكلف في مقام الامتثال، مع تمامية موضوع التكليف تبعاً لتمامية ما هو الدخيل في تعلق الغرض، نظير قصور المولى لو فرض عجزه عن الكلام أو الإيصال، حيث قد لا يجعل التكليف حينئذ مع تعلق غرضه به.

ولذا يصدق الفوت في هذه الصورة بالإضافة لمتعلق التكليف، ولا يصدق في الصورة الأولى بالإضافة إليه، وإن كان قد يصدق بلحاظ الجهة المقتضية له.

نعم، لو كان العجز موجباً لقصور المقتضي عن التأثير في الجعل ومانعاً من تعلق الغرض به، كان من النحو الأول وكان مانعاً من تمامية موضوع التكليف، كما هو الحال في جميع موارد تقييد التكليف بالقدرة شرعاً، حيث تكون كسائر القيود الدخيلة فيه وفي تمامية ملاكه وتعلق الغرض به.

ومنه يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن القدرة دخيلة في موضوع التكليف.

فإنه إن أراد به دخلها في موضوع الغرض لتكون من قيود التكليف شرعاً. فهو ممنوع جداً في غير موارد التقييد الشرعي بها، كما يظهر بأدنى

ص: 31

تأمل في المرتكزات العرفية والشرعية، وكذا لو أراد به دخلها في متعلق الغرض، بحيث تكون قيداً في المكلف به لا في التكليف، كما يظهر منه في مسألة الضد. لما ذكرناه هناك من دفع ما تشبث به.

وإن أراد به توقف فعلية التكليف عليها، لامتناع جعله عقلاً بدونها وإن كان الغرض فعلياً لتمامية موضوعه، وإطلاق متعلقه.

فهو في محله، ورجع إلى محض الاصطلاح في معنى الموضوع، ولا مشاحة فيه.

وإن كان التفصيل الذي ذكرناه هو الأنسب بلحاظ اختلاف الآثار العملية بين القسمين - تبعاً للاختلاف بينهما ارتكازاً الموجب لصدق الفوت في الثاني دون الأول، كما سبق - حيث يختلفان..

أولاً: في عدم قابلية المقتضي في الصورة الأولى للتقرب، لعدم تعلق الغرض به، بخلاف الملاك في الثاني، حيث يكون قابلاً للتقرب به تبعاً لفعلية الغرض، كما يظهر مما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم حتى بناء على امتناع الترتب، لأنه نظير المقام.

وثانياً: في أنه يجوز للمكلف في الصورة الأولى إحداث ما يرفع التكليف - بتحقيق المزاحم للمقتضي - كما يجوز له الإخلال بسائر ما هو الدخيل في موضوع التكليف، لأن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه، أما في الصورة الثانية فلا يجوز له ذلك، لأن التكليف تبعاً للغرض يقتضي حفظ متعلقه، فيقتضي حفظ القدرة عليه، فلا يجوز للمكلف تعجيز نفسه عن الامتثال قبل الوقت، فضلاً عما بعده.

وثالثاً: في أن الشك في فعلية التكليف من الجهة الأولى للشبهة

ص: 32

الحكمية - الراجعة لاحتمال صلوح شيءٍ للمزاحمة - أو الموضوعية - الراجعة لاحتمال وجود المزاحم - مجرى للبراءة، أما الشك في فعلية التكليف من الجهة الثانية للشك في القدرة فلا بد معه من الاحتياط بمقتضى المرتكزات العقلائية المعوَّل عليها في أمثال المقام، على ما سبق التعرض له في مبحث البراءة.

ومن هنا كان الأنسب إطلاق موضوع الحكم على خصوص ما يكون دخيلاً في فعلية الغرض، دون القدرة غير الدخيلة فيه وإن كانت دخيلة في فعلية التكليف. ولا سيما مع كون بيان موضوع الغرض وظيفة للحاكم، بخلاف مثل القدرة مما يكون دخله في فعلية التكليف عقلياً لا يحتاج للبيان.

ولعله لذا أمكن إحراز عدم دخل القدرة في الغرض من إطلاق الخطاب، ولا يخرج عنه إلا ببيان الحاكم بمثل تقييد موضوع التكليف بها في دليل الخطاب به، كما في مثل الحج.

إن ثانيها لا مجال لإحراز عموم الملاك والغرض لحال العجز وعدم دخل القدرة فيهما من إطلاق الخطاب، إذ بعد ظهور الخطاب في فعلية التكليف والعلم بعدم فعليته مع العجز يكون الإطلاق مقيداً بالقدرة لباً، كما لو قيد بها لفظاً، وكما لو استفيد التقييد لفظاً أو لباً بدليل متصل أو منفصل بالإضافة إلى غير القدرة من القيود التعبدية، حيث يكون سقوط الإطلاق عن الحجية في الفعلية مانعاً من استفادة عموم الملاك والغرض منه، بناء على سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية تبعاً لسقوط الدلالة المطابقية عنها، كما هو التحقيق.

بل حتى بناءً على عدم سقوطها لا مجال لاستفادة عموم الغرض

ص: 33

من الإطلاق في المقام ونحوه مما كان وضوح التقييد فيه وارتكازيته بحد يلحق بالقرائن المحيطة بالكلام، حيث يكون مانعاً من انعقاد الإطلاق فلا يدل بالمطابقة على الفعلية في مورده، ليدل بالالتزام على الغرض فيه، إذ لا ريب في توقف الدلالة الالتزامية خارجاً على الدلالة المطابقية، وإن سلم التفكيك بينهما في الحجية في فرض العلم بكذب المطابقية.

نعم، لو بين الغرض بطريق آخرٍ غير الخطاب الظاهر في الفعلية أمكن إحراز عمومه لمورد العجز.

ثانيها رفع اليد عن الإطلاق بدليل التقييد إنما هو بلحاظ كونه قرينة عرفية على بيان المراد من الإطلاق وفهمه منه، فهو تابع للنظر العرفي في فهم الأدلة والجمع بينها.

ووضوح دخل القدرة في فعلية التكليف ارتكازاً إنما يكون قرينةً عرفاً على تقييد الإطلاق من حيثية الفعلية لا من حيثية الغرض والملاك، بل يكتفي العرف بالإطلاق في إحراز عدم دخل القدرة في الملاك والغرض، فيرتبون الآثار العملية الثلاثة المتقدمة، كما يظهر بأدنى ملاحظة لطريقتهم في فهم خطابات بعضهم لبعض وبالرجوع لمرتكزاتهم في فهم الخطابات الشرعية.

ولا يبتني على حجية الدلالة الالتزامية مع سقوط المطابقية بسبب العلم بكذبها، بل على تحكيم القرائن المحيطة بالكلام، حيث يلزم الرجوع للعرف في كيفية التحكيم.

كما لا مجال مع ذلك لقياسه بالتقييد اللفظي المتصل أو المنفصل أو اللبي في القيود التعبدية، لعدم خضوع المرتكزات العرفية للقياسات

ص: 34

والمحاسبات، وإنما يتشبث بها لتقريب المرتكزات فيما لو طرأ عليها الالتباس، لا في مثل المقام مما كانت فيه من الوضوح بحد يستغني عن ذلك.

على أنه قد يكون منشأ الفرق: أن ظاهر الخطاب وإن كان هو الفعلية، إلا أن ظاهر حال الحاكم أيضاً هو بيان موضوع غرضه بخطابه، فعدم تقييده بالقدرة اتكالاً على الارتكاز المذكور ظاهر في اعتماده على مفاده، وهو خصوص تقييد الفعلية، والا كان مخلاً ببيان غرضه.

أما مع التقييد بها فحيث كان تقييد الفعلية مستغنى عن بيانه فتصديه له ظاهر في الحاجة إليه لبيان موضوع غرضه.

وكذا بقية القيود أما المتصلة فلأنها لو لم تكن لبيان الغرض لزم الإخلال ببيان موضوع الغرض، لعدم انعقاد الإطلاق في بيانه معها. وأما المنفصلة فلأنها تكشف عن كذب الإطلاق وعدم وفائه ببيان ما سبق له من موضوع الفعلية، فيسقط عن الحجية في الفعلية والغرض معاً.

بل يمتنع تقييد الفعلية بقيد غير القدرة لا دخل له في الغرض، لاستلزام فعلية الغرض مع القدرة على تحصيله السعي له بجعل التكليف، ولا يكون التوقف عن جعله إلا مع عدم فعلية تعلق الغرض به.

غايته أنه قد يكون لعدم الغرض أصلاً، وقد يكون لعدم فعلية غرض الإلزام الذي سيق له الكلام، مع بقاء الرجحان، ولا معين للثاني إلا بقرينة من ارتكاز أو نحوه.

إن ثانيها لا ينعقد للكلام إطلاق في بيان موضوع الغرض، لأن البيان طريق لتحصيل الغرض، وهو إنما يكون ببيان الحكم الفعلي، لا

ص: 35

ببيان موضوع الغرض، فلا غرض في بيان عموم الغرض لمورد العجز، ليستكشف بالإطلاق.

ثانيها عموم موضوع الغرض من حيثية القدرة وتقييده بها لما كانا يختلفان عملاً بلحاظ وجوب حفظ القدرة في الأول دون الثاني ونحوه، كان بيان موضوع الغرض دخيلاً في تحصيله على أن الظهورات العرفية لا تناط بتعلق أغراض المتكلم ببيان مؤدياتها، بل هي تابعة للمرتكزات العرفية التي عرفت حالها.

ثم إنه قد أطال بعض الأعاظم (قدس سره) في مسألة الضد في تقريب استفادة عدم دخل القدرة في الملاك من الإطلاق مع التزامه بدخلها في الموضوع بوجهٍ هو أقرب للتدقيقات العقلية منه بالاستظهارات العرفية.

وهو - مع عدم وضوحه في نفسه - مستغنى عنه بما ذكرنا، فلا مجال لإطالة الكلام فيه.

هذا، والإنصاف أن غلبة عدم دخل القدرة في الغرض وكونها آلةً لتحصيله يوجب ضعف ظهور التقييد بها لفظاً في دخلها فيه، وقرب حمله على متابعة ما هو المرتكز من دخلها في الفعلية، بحيث قد يحتاج بيان دخلها في الغرض إلى مؤنة في البيان، وليست كسائر القيود التعبدية التي يفهم من مجرد التقييد بها دخلها في الغرض.

ولذا يكثر من العرف التسامح في التقييد بها مع عدم دخلها في الغرض، نظير تسامحهم في التقييد بالعلم، حيث يكثر ابتناؤه على ارتكاز طريقيته وتنجيز متعلقه الذي يتوقف عليه، من دون أن يكون دخيلاً في موضوع الحكم ثبوتاً.

ص: 36

إذا عرفت هذا كله ظهر لك حقيقة التزاحم الحكمي الذي هو محل الكلام والفرق بينه وبين

حقيقة التزاحم الحكمي

التزاحم الملاكي، فإن التزاحم الملاكي يكون في مورد الاجتماع والتزاحم بين المقتضيات المتنافية الآثار، التي لم يحرز في كل منها بلوغه مرتبةً يكون مورداً للغرض الفعلي المقتضي لجعل الحكم على طبقة، فلا تكون موضوعاً للطاعة ولا المعصية، فلا يجب موافقة أحدها تخييراً، ولا الترجيح بينها بالأهمية، لأن المقتضي بنفسه لا يقتضي الموافقة عقلاُ ما لم يحرز فعلية الغرض على طبقه، كما لا مجال لاستكشاف تعلق غرض المولى بالمقتضيين تخييراً أو تعييناً، لإمكان إدراكه المانع من جعل كلا الحكمين.

نعم، لو علم بعدم المانع من ذلك وبجعل الحكم على طبق أحدهما كشفت أهمية أحدهما عن تعلق الغرض به تعييناً وجعل الحكم على طبقه، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح، فيكون ملاك عمل المكلف هو الحكم المستكشف من فرض فعلية الغرض، لا نفس المقتضي في مرتبة اقتضائه.

وملاك التنافي بين المقتضيات في المرتبة المذكورة هو تنافيها في أثرها، وهو الحكم الذي تقتضيه، لاقتضاء كل منها حكما مضاداً للآخر غير قابل للاجتماع معه، ولا يعتبر التنافي بين الحكمين المقتضين في مقام الامتثال، بأن يكون كل منها اقتضائياً، فضلاً عن أن يكون إلزامياً.

بل قد يكون الغرض الفعلي على طبق مقتضي الإباحة لإقوائيته، وإن لم تصلح الإباحة لمزاحمة غيرها في مقام الامتثال، لأن التزاحم ليس بين الحكمين ولا بين الملاكين، لمساوقة الملاك للغرض - كما سبق - بل بين المقتضيين، ولا مانع من مزاحمة مقتضى الإباحة لمقتضي الإلزام وتأثيره

ص: 37

دونه، لقوته، كما في موارد الحرج.

أما التزاحم الحكمي فهو لا يكون إلّا للاجتماع والتزاحم بين الملاكات الفعلية المتنافية التي يكون كل منها مورداً للغرض الفعلي البالغ مرتبة جعل الحكم، وإن لم يجعل الحكم على طبق كلٍ منها، لتعذر استيفائها بسبب عجز المكلف.

فعدم الجعل فيها ليس لقصور في الملاك ولا لعدم فعلية الغرض، بل للعجز المانع عن استيفائه، نظير العجز المانع عن استيفاء الملاك الواحد المانع من جعل الحكم على طبقه، كما سبق.

وملاك التنافي بين الملاكات هنا هو تنافيها في مقام الامتثال، حيث لابد أن يكون كل منها مقتضياً صرف القدرة لامتثاله، أما ما لا اقتضاء فيه لذلك - وهو ملاك الإباحة - فلا يصلح للتعجيز عن امتثال الآخر كي يزاحمه.

ومن ذلك يظهر أن إطلاق التزاحم الملاكي والحكمي ليس بلحاظ التزاحم بين الملاكين في الأول وبين الحكمين في الثاني - كما يظهر من بعضهم - لامتناع اجتماع الملاكين في الأول، لمساوقة الملاك للغرض الفعلي، الذي لا يجتمع مع فرض المزاحم، وامتناع جعل الحكمين في الثاني، لما سبق من امتناع الجعل مع العجز.

بل هو في الأول بلحاظ التزاحم بين المقتضيات في مقام تأثيرها في فعلية الغرض، الذي هو الملاك في الحقيقة، وفي الثاني بلحاظ التزاحم بين الأغراض والملاكات في مقام تأثيرها في فعلية الحكم وجعله، بسبب تعذر امتثالها.

الوجه في لزوم ترجيح الأهم

ومما سبق يظهر الوجه في لزوم ترجيح الأهم والتخيير مع التساوي

ص: 38

في التزاحم الحكمي، فإنه حيث فرض فعلية الملاك والغرض على طبق كل منها، وكان الغرض الفعلي لازم الحفظ - ولذا لا يجوز التعجيز عنه كما سبق - كان في إهمالهما معاً تفويت كلا الغرضين في ظرف القدرة على حفظ أحدهما، وهو قبيح عقلاً بملاك قبح تفويت الغرض الواحد مع القدرة على حفظه المسانخ لقبح معصية التكليف، بل يلزم عقلاً حفظ أحدهما مخيراً مع التساوي، لقبح الترجيح بلا مرجح، ومعيناً مع الأهمية، لأن المرتبة الزائدة في مورد الأهم من الغرض اللازم الحفظ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

هذا كله مع غفلة المولى عن العجز الموجب للتزاحم، أما مع التفاته لذلك فلابد من جعله الحكم بالنحو المذكور، جرياً منه على غرضه وحفظاً منه له، فيكون العمل بالنحو المذكور امتثالاً للحكم المجعول تبعاً للغرض، نظير امتثال الحكم غير المزاحم.

إن ثانيها علم المولى بتعذر استيفاء كلا الغرضين بالامتثال مع أهمية أحدهما يستلزم عدم فعلية تعلق الغرض بالمهم تقديماً لأقوى المقتضيين، وليس الغرض الفعلي إلا بالأهم، نظير مزاحمة المقتضي بما يمنع من تعلق الغرض على طبقه في التزاحم الملاكي، لوضوح أن المزاحمة بالأهم لا توجب تعذر استيفاء المهم في حق المولى، بل العدول عنه. وكذا الحال مع التساوي، حيث يمنع التزاحم من تعلق الغرض بكلٍ منهما تعييناً، بل ليس في البين إلا غرض واحد بأحدهما تخييراً.

نعم، مع جهل المولى بالمزاحمة لتخيل سعة القدرة يبقى كل منهما مورداً للغرض الفعلي، وينحصر التزاحم بمقام الامتثال.

ص: 39

ثانيها عدم فعلية تعلق الغرض بكل منهما أو بأحدهما في المقام ليس لقصور الموضوع بل لتعذر استيفاء كلا الغرضين الملزم للمولى بتحصيل ما يمكن منهما، فالغرض الفعلي في المقام في طول الغرضين المتزاحمين، لا مناف لهما.

وليس هو كالمزاحمة بين المقتضيات في الموضوع الواحد، التي تستلزم قصور الموضوع عن تعلق الغرض على طبق المقتضي، إذ لا معنى لتعلق الغرض بكلٍ من وجود الشيء وعدمه، كما لا معنى لتعلق الغرض بالإلزام بالشيء مثلاً وبعدم الإلزام به أو الإلزام بعدمه.

وبعبارة أخرى: موضوع الغرض والتكليف هو أفعال المكلف، لا المقتضيات الموجودة فيها من المصالح والمفاسد، بل هي من سنخ العلة لتعلق الغرض بها، فمع تعدد أفعال المكلفين يمكن تعدد الغرض، وإن تزاحمت الأغراض المتعددة، أما مع وحدة الفعل فيمتنع تعدد الغرض وإن تعددت المقتضيات، بل تتزاحم المقتضيات في تأثيرها في كيفية تعلق الغرض به، فلا يكون فيه إلا غرض واحد مسبب عنها في فرض تزاحمها.

ومن هنا كان تفويت كلا الغرضين في المقام أشدّ قبحاً بمقتضى المرتكزات العقلائية من تفويت الأهم وحده، كما يكون المهم صالحاً للتقرب حال ترك الأهم. ويتعين التخيير مع العلم بوجود الأهم والجهل بتعيينه، مع احتمال كون ما يختاره المكلف هو الّّرجوح الذي لا يتعلق به الغرض والتكليف الفعليان.

وما ذلك إلّا لأن سقوط الغرض الأولي بكل منهما أو بالمرجوح منهما عن الفعلية ليس كسقوطه بسبب المزاحم للمقتضي في التزاحم

ص: 40

الملاكي.

هذا بناءً على امتناع الأمر الترتبي بالمهم، أما بناء على ثبوته فلا أثر للإشكال، إذ في ظرف ترك الأهم يكون المهم مورداً للغرض الفعلي المستتبع للأمر الفعلي. وتمام الكلام في ذلك في مسألة الضد.

هذا، وحيث ظهر أنه يلزم في التزاحم الملاكي وحدة الموضوع وكونه مجمعاً للمقتضيات المتزاحمة في كيفية تعلق الغرض الواحد به، وفي التزاحم الحكمي تعدد الموضوع تبعاً لتعدد الغرض، فلكل من تعدد الموضوع واتحاده صغريات واضحة وأخرى متشابهة يتضح الحال فيها مما يأتي عند الكلام في الفرق بين التعارض والتزاحم، إذ لا أثر للتزاحم الملاكي ليهتم بتشخيص موارده، وإنما ذكرناه هنا تبعاً لبيان حقيقة التزاحم الحكمي.

لكنه حيث كان راجعاً إلى عدم قابلية المورد إلا لأحد الحكمين المستلزم للتكاذب بين دليليهما كان من موارد التعارض، فما يأتي في الفرق بين التعارض والتزاحم الحكمي ينفع في الفرق بين التزاحم الملاكي والتزاحم الحكمي.

نعم، هو يمتاز عن بقية موارد التعارض بلزوم تحقق كلا المقتضيين المتنافيين في تعلق الغرض بالمورد، ولا مجال للبحث في ذلك بعد عدم الضابط له وعدم الأثر المهم في مقام العمل.

الأمر الثاني: في تحديد مورد التزاحم
اشارة

الأمر الثاني: الكبريان المتنافيان اللتان تتضمنها الأدلة الشرعية إن اتحد موضوعهما واختلف حكمهما فلا إشكال في كونهما مورداً للتعارض دون التزاحم الحكمي - الذي هو محل الكلام - لما سبق من توقف التزاحم على تعدد الموضوع ليمكن تعدد الغرض والملاك بتبعه.

ص: 41

وإن تعدد موضوعهما فتنافيهما إن كان لمقدمة شرعية خارجية كانا مورداً للتعارض أيضاً دون التزاحم، للتكاذب بينهما بضميمة المقدمة المذكورة، كما في دليلي وجوب القصر ووجوب التمام، وكذا إن كان لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال دائماً أو غالباً، لما سبق من ابتناء الأحكام الشرعية على ما يلائم طاقة غالب الناس.

وكذا مع قلة موارد تعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال لكن كان ظهور كل من الدليلين في فعلية حكمه في مورد الاجتماع مستحكماً، للتكاذب بينهما المسقط لهما عن الحجية في ثبوت الحكم، وفي لازمه وهو الملاك. إلا أن يحرز الملاك من الخارج، فيكون مورداً للتعارض والتزاحم معاً، كما سبق.

وإن لم يكن له ظهور في ذلك أو كان له ظهور بدوي فيه يمكن رفع اليد عنه بمقتضى الجمع العرفي بين الدليلين كان المورد من موارد التزاحم دون التعارض.

ومن هنا كان اللازم النظر في ضابط تعدد الموضوع، الذي يكون معياراً في التزاحم والتعارض.

وتوضيح ذلك: أن موضوعي الكبريين في دليليهما..

وجوه موضوعي الكبريين المتنافيين

تارة: يتحدان بحسب العنوان والمعنون، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب إكرام النحويين والآخر على حرمته.

وأخرى: يختلفان بحسبهما معاً، كما في دليلي حرمة التصرف في المغصوب، ووجوب إنقاذ الغريق.

وثالثة: يختلفان بحسب العنوان ويتحدان بحسب المعنون.

ص: 42

والأول من أوضح أفراد الاتحاد الموجب للتعارض، والثاني من أوضح أفراد التعدد المعتبر في التزاحم، والاشتباه إنما هو في الثالث، لاختلاف أنحاء العناوين.

فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف تكون..

تارة: عناوين أولية حاكية عنه بذاته، كعنوان المشي والنوم والتكلم والأكل والسب والمدح وغيرها.

وأخرى: عناوين ثانوية منتزعة عنه بلحاظ أمرٍ خارج عنه، كالعناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب بعض الأمور عليه، كعنوان الإحراق والإيذاء والتأديب والتكريم والإنقاذ وغيرها، والعناوين الإضافية المنتزعة من نحو إضافة بينه وبين غيره، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة والمشابهة وغيرها.

والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين المذكورة إلى كون موضوع الغرض والملاك هو منشأ انتزاعها الذي هو المعنى الاسمي الاستقلالي المفاد بمادة العنوان.

وليس التكليف بالفعل إلّا لكونه آلةً لذلك ومقدمةً له، لأنه الأمر المستند للمكلف في تحقيق منشأ الانتزاع، كما يناسبه استفادته من الهيئة التي تتكفل بالمعاني الحرفية الآلية التبعية.

وبعبارة أخرى: موطن الغرض والملاك هو المعنى الاسمي الاستقلالي الذي يتضمنه العنوان ويكون منشأً لانتزاعه، سواء كان هو فعل المكلف بذاته، كما في العناوين الأولية، أم الأمر الخارج عنه، كما في العناوين الثانوية.

ص: 43

ومن هنا يظهر أن اختلاف العنوانين مع وحدة المعنون الذي هو فعل المكلف إن كان لتعدد منشأ انتزاع العنوان في الخارج، بأن يكون أحدهما أولياً منتزعاً من الذات، والآخر ثانوياً منتزعاً من أمر خارج عنها، كعنواني المشي والإيذاء، أو كلاهما ثانويين مختلفين في منشأ الانتزاع، كعنواني الإيذاء

والإطاعة، كان راجعاً لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم، لأن فعل المكلف وإن كان واحداً، إلا أنه ليس متعلقاً لأحد التكليفين أو كليهما إلا تبعاً لتعلق الملاك والغرض بمنشأ انتزاع عنوانه.

ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن، أو قضاء حاجته، أو وجوب إنقاذه لا تعارض مثل عموم حرمة الغناء، أو الغيبة، أو الكذب، وإن كان نسبة كل واحدٍ من تلك العمومات مع كل واحد من هذه هي العموم من وجه، حيث قد يجتمع العنوانان في فعلٍ واحدٍ. بل يكون مجمع العنوانين مورداً للتزاحم، بسبب تحقق الملاكين معاً كل في موضوعه، فيرجح الأقوى ملاكاً، وإن كان أضعف دليلاً.

ومثله استحباب أو وجوب إطاعة الأب وإطاعة الأم لو فرض كون فعلٍ واحدٍ إطاعة لأحدهما ومعصيةً للآخر ونحو ذلك.

أما إذا كان منشأ اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة للخصوصيات الخارجة عن منشأ الانتزاع كخصوصيات الزمان والمكان والمتعلق وغيرها، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج، ولو لكون منشأ انتزاع أحدهما أخص من الآخر، كان المورد من موارد التعارض، سواء كان العنوانان أوليين، كعنوان الذكر وعنوان الكلام حال التخلي، وكعنواني النوم في المسجد والنوم بالليل، أم كانا ثانويين كعنواني إكرام العلماء وإكرام

ص: 44

الفساق.

لعدم سوق القيود والخصوصيات المذكورة إلا لتحديد موضوع الغرض ومورد الملاك مع قيام الغرض والملاك بمنشأ الانتزاع في ظرف تحقق القيد من دون أن تكون القيود مورداً للغرض، فمع اجتماع القيود والخصوصيات ذات الأحكام المتباينة في فرد واحد يمتنع شمول إطلاق حكم كلتا الخصوصيتين له، لامتناع تعدد الغرض فيه، ليكون من موارد التزاحم، بل لا بد من تكاذبهما المساوق لتعارضهما.

وهذا هو مورد ما اشتهر من تعارض العامين من وجه في مورد الاجتماع، وأن مرجع تقديم أحدهما فيه إلى إخراجه عن الآخر تخصيصاً بنحو لا يحرز بقاء ملاكه فيه.

نعم، إذا كانت خصوصية كلٍ من العنوانين دخيلةً في ثبوت حكمه ولو بمقتضى المناسبات العرفية بين الحكم والموضوع، كان مورد الاجتماع من موارد التزاحم الملاكي الذي تقدم أنه من موارد التعارض، لتنافي المقتضيين فيه، كما لعله يجري في مثل وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرام الفساق.

ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين، كما لو وجب إكرام العلماء، ووجب إكرام العدول، حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكداً، لتعدد المقتضي له. فتأمل.

هذا إذا كان مرجع التكليف بالعنوانين المتحدين في منشأ الانتزاع خارجاً المختلفين بالخصوصيات والقيود إلى التكليف بالذات الواجدة لأحد القيدين، بمفاد كان التامة.

أما إذا كان مرجعهما أو مرجع أحدهما إلى التكليف بنفس القيد في

ص: 45

ظرف وجود الذات - الذي هو مفاد كان الناقصة - من دون أن تكون الذات بنفسها مورداً للتكليف، خرج عن محل الكلام ودخل في تعدد العنوان والمعنون معاً الذي هو من أوضح أفراد التزاحم، لفرض عدم الاتحاد خارجاً بين العنوانين إلا في الذات المفروض خروجها عن موضوع أحد التكليفين أو كليهما، وليس الموضوع إلا تحقيق النسبة بين الذات والخصوصية، وهو أمر مباين مفهوماً وخارجاً للذات، ولتحقيق النسبة بينها وبين الخصوصية الأخرى، كما لو فرض ورود كراهة النوم في المسجد، واستحباب النوم على التراب، وكان مرجع الثاني إلى استحباب جعل النوم على التراب، من دون أن يدعو إلى تحقيق النوم، بل إلى تحقيق الخصوصية له في ظرف وجوده، ولا يقع التزاحم بينهما إلا في فرض انحصار التراب في المسجد، مع اضطرار المكلف للنوم، واختياره في الكون في المسجد.

ثم إن الظاهر أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي الذي فرض فيه تعدد العنوان ووحدة المعنون هو القسم الأول دون الثاني.

وبهذا كان موضوعها وسطاً بين التزاحم والتعارض، فهو بلحاظ تعدد موضوع الغرض والملاك يجري مجرى التزاحم، وبلحاظ وحدة المعنون خارجاً وهو فعل المكلف - قد يشتبه بسائر موارد العامين من وجه المفروغ ظاهراً عن تحقق التعارض فيها.

ولذا كان ظاهر المشهور القائلين بالامتناع وتقديم جانب النهي المفروغية عن تحقق ملاك الأمر في مورد اجتماع العنوانين، حيث يصح عندهم ويتحقق به الامتثال لو أتي به مع عدم تنجز النهي لغفلة ونحوها، مع ما هو المعلوم من أن العامين من وجه متعارضان لا طريق مع تقديم أحدهما

ص: 46

لإحراز ملاك الآخر.

بل مفروغيتهم عن تقديم جانب النهي لا وجه له إلا ما ذكرنا من إلحاق المورد بالتزاحم ارتكازاً. وإن وقع من غير واحد الكلام في وجه ذلك وأطالوا فيه بما لا مجال للتعرض له هنا، بل يوكل لمحلّه.

الأمر السادس: الكلام في قاعدة الجمع أولى من الطرح

الأمر السادس: تعرض شيخنا الأعظم (قدس سره) إلى الكلام في قاعدة: الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، المدعى عليها الإجماع من بعضهم.

وقد أطال الكلام فيها بما لا يسعنا متابعته فيه بعد إجمال المراد من القاعدة المذكورة وعدم الدليل عليها غير الأدلة العامة المحكمة في العمل بالأدلة.

والذي ينبغي أن يقال: إن الجمع إن كان راجعاً إلى تحكيم أحد الدليلين على الآخر وحمله عليه بالنحو الذي تقتضيه أدلة الحجية العامة، كما في موارد الجمع العرفي، فهو المتعين أخذاً بدليل الحجية المقتضي له، كما يؤخذ به في العمل بالدليل الواحد الذي لا معارض له. وهو في الحقيقة خارج عن التعارض بين الدليلين، كما تقدم في الأمر الثالث.

وإن كان راجعاً إلى محض تأويل أحدهما بما لا ينافي الآخر وإن لم تساعده أدلة الحجية. فإن أريد بذلك مجرد رفع التنافي بين الدليلين دفعاً لتوهم صدور المتنافيين عن المعصوم (ع). فهو مستغنى عنه في حق من يعتقد عصمته، وإنما يحتاج له لدفع النقض على عصمته ممن لا يعتقد بها. ولا أثر له إلا الإقناع بوجه خطابي غير علمي، دفعاً لشبهته بمثلها.

لأن دليل العصمة إن لم يكن أقوى من مثل هذه الشبهة المستندة لظهور الكلام لم يصلح التأويل غير المناسب لأدلة الحجية لدفع التنافي

ص: 47

بعد استناده لظاهر الكلام الذي هو حجة في كشف مراد المتكلم، وإن كان دليل العصمة قطعياً أقوى من الشبهة المذكورة كان مانعاً من ورودها علمياً، فإيرادها تهريج بخطابيات مردودة بمثلها.

نعم، قد ينفع التأويل في منع استحكام الشبهة في حق ضعيف البصيرة من المؤمنين، كما قد ينفع في استيضاح العمل بأحد المتعارضين إذا اقتضاه دليل الحجية، لأن طرح الآخر للجهل بحاله أثقل على النفس من تأويله بما يلائم مقتضى الحجية، لأن الناس أعداء ما جهلوا. وقد تعرض لأكثر ما ذكرنا الشيخ في مقدمة التهذيب.

لكن اللازم حينئذٍ ذكر التأويل احتمالاً تجنباً لمحذور القول بغير علم ولا حجة، الذي هو مورد للخطر، بل للهلاك إذا كان في كلام المعصومين (ع) الذين هم حجج الله تعالى على خلقه وبهم قوام دينه.

وأشكل من ذلك ما لو أريد بالتأويل العمل بمقتضاه، كما قد يناسبه المقابلة بالطرح، فإنه قول وعمل بغير علم. ومن ثم ورد الأمر بإرجاع ما اشتبه أمره إليهم (ع) والنهي عن القول فيه بالرأي.

الأمر السابع: في منهج البحث

الأمر السابع: ذكرنا في الأمر الثالث أن التعارض لا يتحقق إلا مع تمامية موضوع الحجية بحسب الأدلة العامة في كل من المتعارضين في ظرف اجتماعهما، حيث يكون كل منهما مانعاً عن العمل بالآخر في ظرف تمامية المقتضي له فيه. كما ذكرنا في الأمر الرابع أنه لابد فيه من التنافي بين المؤديين.

وأنه يترتب على الأول عدم تحقق التعارض في موارد الجمع العرفي بين الأدلة، لارتفاع موضوع الحجية في أحدهما بسبب الآخر. كما يترتب

ص: 48

على الثاني عدم تحققه في موارد التخصص والورود وبعض أقسام الحكومة.

ومن ثم كان البحث في الأمرين خارجاً عن التعارض الذي هو محل الكلام، إلا أن أهمية البحث فيهما وارتباطه بمحل الكلام ملزم بتعميم البحث بنحو يشملهما، كما سبق.

ومن هنا كان المناسب جعل موضوع البحث الأدلة التي يكون لبعضها أثر في العمل بالآخر بالنظر لعموم دليل الحجية، إما لكونه دخيلاً في كيفية العمل به من دون أن ينافيه في المؤدى - على ما سيأتي توضيحه - أو لكونه منافياً له بحسب المؤدى رافعاً لموضوع حجيته بالنظر لعموم أدلة الحجية،

أو لكونه مانعاً من العمل به مع بقاء موضوع حجيته بالنظر للعموم المذكور، حيث يستند قصوره عن الحجية حينئذ لاستحالة عمومها عقلاً، لا لعدم الموضوع، وهو ينحصر بالمتعارضين.

ولأجله يكون البحث في بابين، يبحث في الأول منهما عن الأدلة التي يكون بعضها دخيلاً في العمل بالآخر، من دون تمانع بينها في الحجية، إما لعدم التنافي بينها في المؤدى، أو لعدم بقاء موضوع الحجية في أحدها بسبب الآخر، وإنما جمعاً في باب واحد لتداخل جهات البحث فيهما. ويكون البحث في الباب الثاني عن الأدلة المتعارضة التي يكون بعضها مانعاً من حجية الآخر مع تمامية موضوع الحجية فيه.

كما أن المناسب إلحاق البحث في المقام بخاتمةٍ يبحث فيها عن الوظيفة في الحكمين المتزاحمين من حيثية التخيير والترجيح، وعلاج التزاحم من الناحيتين الثبوتية والإثباتية.

لأن خروج ذلك عن محل الكلام وعدم وضوح الجامع بينهما مانع

ص: 49

من جعله من مقاصد البحث. كما أن أهميته وشدة مناسبته للمقام وارتباطه به في بعض الجهات - كما يظهر مما تقدم ويأتي - مانع من إهماله وملزم بإلحاقه به تتميماً للفائدة. ونسأله سبحانه وتعالى العون والتوفيق والتأييد والتسديد إنه حميد مجيد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 50

الباب الأول: في الأدلة التي يكون لبعضها دخل في العمل بالآخر بلا تمانع في الحجية

اشارة

وقد أشرنا إلى شمول ذلك لما لو لم يكن بين الدليلين تناف في المؤدى، ولما لو كان بينهما تنافٍ في المؤدى مع ارتفاع موضوع الحجية في أحدهما بالآخر.

إذ من الظاهر أن ترتب العمل على الدليل المفروض حجيته في نفسه موقوف على أمور لا يتكفل هو بها، بل تحرز من جهات أخر، كتشخيص ظهوره وإحراز إرادة الظهور وصدور الكلام لبيان المراد الجدي وإحراز موضوع الحكم.

فإن كان الدليل الآخر الدخيل في العمل به غير متعرض لمضمونه، بل كان متكفلاً ببعض هذه الجهات ومتعرضً لها نفياً أو إثباتاً لم يكن منافياً له في المؤدى، وكان من القسم الأول.

أما لو تعرض لمضمونه فمع كونه منافياً له فيه إن كان وروده موجباً لارتفاع موضوع الحجية فيه كان من القسم الثاني. وإلّا خرج عن القسمين ودخل في التعارض، الذي يأتي الكلام فيه في الباب الثاني.

ص: 51

وقد أشرنا إلى أن تداخل جهات البحث في القسمين المذكورين هو الموجب لجمعهما في بابٍ واحدٍ.

والكلام في كلٍ من القسمين..

تارة: في أنحاء دخل بعض الأدلة في العمل بالآخر وأقسام النسب بين الأدلة غير المتعارضة حسبما هو مصطلح عليه بين أهل الفن، حيث يقع الكلام في تحديد تلك النسب وتوجيه تحكيم أحد الدليلين على الآخر في كلٍ منها.

وأخرى: في توجيه تقديم بعض أنواع الأدلة التي بأيدينا على بعض كالطرق على الأصول وبعض الأصول على بعض، وتحقيق نوع النسبة التي يبتني عليها ذلك من بين النسب المذكورة. ومن هنا يقع الكلام في مقامين..

ص: 52

المقام الأول: في أقسام النسب بين الأدلة غير المتعارضة
اشارة

حيث عرفت أن هذا النوع من الأدلة قد لا يكون بين أطرافه تناف في المؤدى، لتعرض أحدها للجهات الدخيلة في العمل بالآخر، وقد تتنافى مع ارتفاع موضوع الحجية في أحدها بسبب الآخر، فقد تكرر في كلماتهم بعض العناوين مصطلحين بها على بعض أنواع النسب في الأول، وهي التخصص والورود والحكومة.

ولعل الأخيرين من مصطلحات شيخنا الأعظم (قدس سره) التي جرى عليها من بعده، وإن وقعا في كلام بعض من تقدمه - كصاحب الجواهر - غير مراد بهما مصطلح خاص، بل مطلق تقديم أحد الدليلين على الآخر وتحكيمه عليه.

وأما الثاني فصغرياته كثيرة، كتقديم البينة على اليد، والإقرار على البينة، إلا أن الذي وقع مورداً للكلام بينهم من حيثية وجهه وصغرياته هو الجمع العرفي الراجع لتقديم أقوى الظهورين على الآخر في استكشاف الحكم والمراد الجدي.

ومن هنا يكون التعرض للنسب الأربع في ضمن فصولٍ ثلاثةٍ..

ص: 53

الفصل الأول: في التخصص والورود
اشارة

وإنما جمعناهما في فصلٍ واحد لأن معيار الفرق بينهما محتاج لبعض الكلام، بل قد يكون الأول منهما خارجاً عن محل الكلام وهو النسب بين الأدلة.

وقد سبق أن أشرنا إلى توقف العمل بالدليل على تحقق موضوع حكمه وإحرازه.

وبيان ذلك: أن الأحكام الشرعية التي تتكفلها الأدلة لما كانت مجعولةً كبروياً بنحو القضايا الحقيقية الفرضية الموضوع ففعليتها في الخارج تدور ثبوتاً مدار فعلية موضوعاتها في الخارج وجوداً وعدماً.

كما أن إحرازها بنحوٍ يصلح لإحداث الداعي العقلي للعمل - الذي هو تابع للتنجز - يدور وجوداً وعدماً مدار إحراز موضوعاتها وعدمه، ومن الظاهر عدم تكفل دليل الحكم بتحقيق موضوعه ثبوتاً، ولا بإحرازه إثباتاً، بل هما تابعان لأسبابهما التكوينية أو التشريعية.

وقد تنهض بعض الأدلة بتنقيح موضوعات بعض الأحكام..

تارة: لكون الدليل بنفسه محققاً لموضوع الحكم ثبوتاً - لا بلحاظ

ص: 54

مدلوله - كما في الأحكام التي يؤخذ في موضوعاتها قيام الحجة، كجواز القضاء والفتوى، حيث يكون قيام الدليل على الحكم محققاً لموضوعها بنفسه. وكما في الأصول العقلية التي يكون موضوعها عدم البيان كالبراءة والاشتغال، حيث يكون قيام الدليل على التكليف أو الامتثال رافعاً لموضوعها.

وأخرى: لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجود خارجي حقيقيٍ تابع لأسبابه التكوينية، كالبينة القائمة على عدالة إمام الجماعة أو عدمها، بالإضافة لجواز الائتمام.

وثالثة: لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجودٍ اعتباري، تابع للجعل والتشريع، مثل ما دل على أسباب التملك أو الخروج عن الملك، كالميراث والبيع والشراء، بالإضافة لأحكام الملك، كوجوب الزكاة، والحج.

للفرق بين التخصص والورود

إذا عرفت هذا فالمعروف أن التخصص عبارة عن قصور عموم الحكم في مورد لعدم تحقق عنوانه فيه، كقصور عموم وجوب إكرام العلماء عن الجاهل، في قبال التخصيص الذي هو عبارة عن

قصوره في موردٍ لدليلٍ مخرجٍ عنه مع تحقق عنوانه، كقصور العموم المذكور عن النحويين لقيام دليل على حرمة إكرامهم.

أما الورود اصطلاحاً فهو عبارة عن خروج المورد عن موضوع الحكم بسبب التعبد، كقيام الدليل على التكليف الموجب لخروج المورد عن موضوع البراءة العقلية، وهو عدم البيان، على ما تقدم في الصورة الأولى.

وقد تكرر في كلام غير واحدٍ أنه من سنخ التخصص وأنه ليس

ص: 55

الفارق بينهما بعد اشتراكهما في خروج المورد حقيقةً عن موضوع الحكم إلا في استناد الخروج في الورود للتعبد، لكون الموضوع أمراً قابلاً للجعل والاعتبار، وعدم استناد الخروج في التخصص له، لكون الموضوع أمراً حقيقياً تابعاً لسببه التكويني.

بحيث قد يبدو أن التقابل بينهما للفرق المذكور ناشئ عن التنبه أخيراً للورود وتحديده، لأن التخصص كمصطلح سابق لم يؤخذ فيه عدم دخل التعبد في الخروج عن الموضوع، وإنما أخذ فيه ذلك متأخراً للفرق بينه وبين الورود.

فالمقابل للورود هو التخصص بالمعنى الأخص، وأما التخصص كمصطلحٍ سابقٍ في قبال التخصيص فهو الجامع بين القسمين.

لكن الظاهر أن المقابلة بين الورود والتخصص والتفريق بينهما بذلك ناشئان عن الخلط بين قصور الحكم كبروياً في مقام الجعل عما عدا موضوعه، وقصور موضوع الحكم وعنوانه في الخارج صغروياً عن شمول الفرد.

توضيح الفرق بينهما

توضيح ذلك: أنه إذا حكم الشارع بوجوب إكرام العالم، وكان زيد جاهلاً، فهناك أمران..

الأول: قصور الحكم في مقام الجعل عن شمول زيد لكونه جاهلاً كما يقصر عن سائر الجهال.

الثاني: قصور العالم في الخارج عن شمول زيدٍ وصيرورته جاهلاً.

والتخصص عبارة عن الأول، لأنه الذي يصح جعله مقابلاً للتخصيص، ولا معنى للترديد فيه بين أن يكون للتعبد ولغيره، بل ليس

ص: 56

هو إلا عبارة عن عدم شمول الحكم لغير موضوعه، وما يقبل الترديد بين الأمرين هو الثاني، بلحاظ أن موضوع الحكم إن كان حقيقياً له ما بإزاء في الخارج استند تحققه للأسباب التكوينية، وإن كان اعتبارياً - كقيام الحجة - استند عدم تحققه للجعل والتعبد، الذي هو مورد الورود، فقيام الدليل على التكليف في المثال المتقدم إنما يوجب خروج المورد صغروياً عن عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية وبه يتحقق الورود، وأما التخصص فهو خروجه بذلك عن حكم البراءة، لقصور الحكم كبروياً عن صورة وجود البيان.

فالتخصص يجتمع خارجاً مع الورود، ويكون في طوله وإن باينه موضوعاً ومفهوماً، وليس مقابلاً له ولا أعم منه مفهوماً.

وليس المقابل للورود إلا الخروج عن عنوان موضوع الحكم بالسبب التكويني، كصيرورة زيد جاهلاً في المثال المتقدم لتركه التعلم ونسيانه ما تعلم، وهو أجنبي عن التخصص، وإن كان مجتمعاً معه كالورود.

إلا أن يخرج بالتخصص عن المصطلح المعهود المقابل للتخصيص، فيراد منه المعنى المقابل للورود، ولا مشاحة في الاصطلاح. إلا أنه لا يظهر منهم في المقام تبديل الاصطلاح فيه، بل الجريان على المعنى المعهود له، على أنه لا موجب لتبديله ولا ثمرة فيه.

ثم إن التخصص بالمعنى الذي ذكرناه لا يصلح لأن يكون نحو نسبةٍ بين الأدلة، لأن قصور الحكم عن غير أفراد العنوان المأخوذ في دليله معنى قائم بالحكم أو بدليله والأفراد المذكورة، ونحو نسبة بينها، ولا يتوقف على فرض دليل آخر، ليكون طرفاً لتلك النسبة.

ص: 57

ولو فرض ورود دليل فيه متضمن لحكم مضاد له فالنسبة بين الدليلين التباين، كما لو كان حكمه مماثلاً له، لعدم دخل أحدهما في العمل بالآخر. فما يظهر من بعضهم من كون ذلك من موارد التخصص بين الدليلين في غير محله.

وكذا لو أريد من التخصص المعنى المقابل للورود - الذي تقدم الكلام فيه - لأن خروج الفرد عن عنوان الموضوع نحو نسبة بينه وبين الموضوع قائمة بهما وليس الدليل طرفاً لها.

نعم، قد يكون سبباً له، كسائر الأسباب التكوينية، حيث قد يوجب الدليل تبدل حال المكلف من الشك لليقين، أو من القلق للاطمئنان، أو من الحب للبغض.

لكن هذا لا يجعله طرفاً للتخصص، ليكون التخصص من أقسام النسب بين الأدلة، كالورود.

ومنه يظهر أنه حتى لو فرض تعميم التخصص لإحراز انسلاخ عنوان الموضوع عن الفرد بتعبد ظاهري، نظير ما تقدم في الصورة الثانية ويأتي في الورود لم يصلح لأن يكون نسبةً بين الدليلين، لأن دليل التعبد سبب للتخصص لا طرف له.

وبالجملة: التخصص (تفعُّل) وهو نحوٍ نسبةٍ بين نفس الحكم أو دليله أو موضوعه، وبين الفرد، ولا يكون الدليل طرفاً له، وإن أمكن أن يكون سبباً وعلةً له. ومن هنا لم يبعد كون ذكر غير واحد له في المقام لتوضيح الورود وتحديده، للبناء على التقابل بينهما، لا لكونه من أقسام النسب بين الأدلة التي هي محل الكلام في المقام.

ص: 58

وأما الورود فكونه من النسب بين الأدلة ظاهر، لأن الدليل الوارد لما كان رافعاً لموضوع حكم الدليل المورود وكان الدليل مرتبطاً بحكمه صح جعله طرفاً للنسبة الاصطلاحية، لأن النسب متقومة باللحاظ ويكفي فيها أدنى مناسبة.

ومصحح الاصطلاح المذكور هو كون محل الكلام الأدلة التي يهتم بتعين ما يتعارض منها عن غيره.

ولا ينبغي التأمل في تقديم الدليل الوارد، لعدم منافاته للمورود، لأن حكم المورود إنما جعل في ظرف تحقق الموضوع من دون أن يقتضي تحققه، لينافي مضمون الوارد، بل يكون الوارد متقدماً عليه رتبةً تبعاً لتقدم مضمونه، ومقتضى عموم دليل الحجية العمل بكل منهما في مضمونه.

المراد من الموضوع في الورود

ومن هنا يتجه كون المراد بالموضوع الذي يكون رفعه محققاً للورود هو الموضوع الواقعي بما له من خصوصيات وقيود، سواء استفيدت من عموم دليل الحكم أم من التخصيصات والتقييدات المنفصلة، وليس هو كالتخصص الذي يكون المعيار فيه عدم تحقق عنوان العام، فإذا وجب إكرام العالم الذي لا حجة على فسقه كانت الحجة على فسق عالمٍ واردةً على دليل الحكم المذكور، سواء استفيد

دخل القيد المذكور في الحكم من عموم دليله أم من تخصيص منفصل، لعدم الفرق في الجهة المذكورة لوجه التقديم الملحوظة في اصطلاح عنوان الورود بين الوجهين، ولا موجب لتخصيصه بأحدهما وإن كان قد يناسبه مقابلتهم الورود بالتخصص.

كما أن الجهة المذكورة بعينها تقتضي تقديم الدليل المحقق لموضوع حكم الدليل الآخر، الذي هو أحد فرضي الصورة الأولى من الصورة

ص: 59

المتقدمة، لأن الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه لا يقتضي عدمه، فكما لا يكون الدليل الرافع للموضوع منافياً له لا يكون الدليل المحقق له منافياً له، بل يكونان معاً متقدمين عليه رتبةً. ومن ثم قد يحسن تعميم اصطلاح الورود لذلك أيضاً.

كما قد يحسن تعميمه للصورتين الأخيرتين من تلك الصور أيضاً اللتين فرض فيهما كون أحد الدليلين محرزاً لموضوع حكم الدليل الآخر أو لعدمه ظاهراً، لنظير الوجه المذكور، فإن دليل جعل الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه ولا عدمه، كذلك لا يقتضي إحراز أحد الأمرين، فلا ينافي الدليل المحرز لأحد الأمرين.

ولعل إلحاقهما بالورود أولى من إلحاقهما بالحكومة(1) - وإن كان لا مشاحة في الاصطلاح - لأن التعبد بالموضوع وإن كان مستلزماً للتعبد بحكمه، إلّا أنه لا يبتني على النظر للحكم ولا لدليله الذي هو المعيار في الحكومة بقسميها الآتيين.

ولا فرق في ذلك بين الصورتين، لأن أثر الدليل هو إحراز الموضوع أو عدمه ظاهراً المشترك بينهما، لا تحقيق الموضوع أو رفعه واقعاً، ليقصر عن الصورة الثانية، بلحاظ استناده فيها للسبب التكويني، ويتجه إلحاقها بالتخصص، بناء على مقابلته للورود، على ما سبق، بخلاف الثالثة التي فرض فيها كون موضوع الحكم خاضعاً للجعل والاعتبار.

وعلى هذا يكون الورود عبارة عن كون أحد الدليلين رافعاً لموضوع

ص: 60


1- كما قد يظهر من بعضهم. بل صريح بعض الأعاظم (قدس سره) أن الأصل المحرز لموضوع الحكم حاكم على دليله حكومة ظاهرية.

حكم الآخر أو محققاً له واقعاً في عالم الجعل والاعتبار، أو محرزاً ظاهراً لتحقق موضوع حكمه أو لعدمه في عالم التكوين أو الاعتبار.

ولنخص الثاني باسم الورود الظاهري، فرقاً بينه وبين الأول، الذي هو المتيقن في الجملة من مصطلحهم في الورود.

ثم إن ارتفاع الموضوع ظاهراً وإحراز عدمه في الصورة الثالثة وإن استند لدليل التعبد، إلا أنه لا بد أن يكون الرافع له واقعاً نفس المجعول المتعبد به، وهو الحكم الشرعي المحرز به، كالحكم بخروج المال عن الملك ببيعه الذي يكون رافعاً لوجوب الزكاة المأخوذ فيه الملكية. ومن هنا قد يتوسع وينسب الورود لنفس الحكم، ويراد منه الورود الواقعي، وإن كان الورود في مصطلحهم نسبته بين الدليلين لا بين الحكمين.

وقد يكون ذلك بين حكمين من الطرفين، بأن يكون كل منهما مقيداً بقيد يرفعه الآخر، ويعبر عنه بتوارد الحكمين، كما لو تعلق النذر ونهي الأم بشيءٍ واحدٍ، فإنه حيث يعتبر في انعقاد النذر رجحان المنذور يكون عموم مرجوحية معصية الأم محرزاً لارتفاع موضوع وجوب الوفاء بالنذر، كما أنه حيث يعتبر في مرجوحية معصية الأم أن لا يكون متعلق أمرها محرماً شرعاً يكون عموم وجوب الوفاء بالنذر محرزاً لارتفاع موضوع مرجوحية معصية الأم.

ولا مجال للترجيح بالأهمية وما يشبهها، ككون أحد الحكمين إلزامياً دون الآخر، لأنه مختص بتزاحم التكليفين في ظرف إحراز ملاك كل منهما تبعاً لتمامية موضوعه، ويتعذر ذلك في المقام، لأن التوارد بين الحكمين مستلزم لارتفاع موضوعيهما معاً في المرتبة اللاحقة لتحقق عنوانيهما،

ص: 61

فلا يحرز ملاكاهما، ليقع التزاحم بينهما، وأهمية أحدهما ثبوتاً لا تقتضي إحرازه إثباتاً مع عدم تحقق موضوعه.

إن ثانيها عدم تمامية موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما ومقتضييهما إنما يمنع من فعليتهما في هذه المرتبة، أما في المرتبة الثالثة اللاحقة لها، فيتم موضوع كل منهما، لفرض تحقق قيده بسبب سقوط كلٍ منهما عن الفعلية في المرتبة السابقة عليها، فلا يكون رافعاً لموضوع الآخر، ومع تمامية موضوعيهما يتم ملاكاهما، ويتعين إجراء أحكام التزاحم عليهما.

ثانيها بعد بطلان المقتضيين وامتناع تأثيرهما في المرتبة اللاحقة لحدوثهما لعدم تمامية موضوعيهما فلا مجال للبناء على فعلية أثريهما في المرتبة الثالثة، لظهور أدلتهما في اتصال أثريهما بهما، لا انفصالهما عنهما، بل هو محتاج لدليلٍ خاصٍ، نظير العقد الفضولي الذي يكون أثره فعلياً بالإجازة المنفصلة عنه.

على أن تحقق قيد كل منهما في المرتبة المذكورة - نظير تحققه في المرتبة السابقة على حدوث عنوانيهما ومقتضييهما - لا ينفع في تمامية موضوعيهما بنحوٍ يترتب عليه فعلية الغرض مع التوارد بينهما في جميع الموارد، لأن تمامية موضوعيهما في كل مرتبة تستلزم ارتفاعهما في المرتبة اللاحقة لها، فلا يصلح كل منهما لأن يكون موضوعاً للغرض الفعلي الصالح للداعوية، ليكون من صغريات التزاحم.

ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) في الترجيح بالسبق الزماني

هذا، وقد تكرر من سيدنا الأعظم (قدس سره) في مستمسكه الترجيح بالسبق الزماني، مدعياً أنه مقتضى الجمع العرفي قال:

«تنزيلاً للعلل الشرعية منزلة

ص: 62

العلل العقلية، فكما أن العلل العقلية يكون السابق منها رافعاً للاحق، كذلك العلل الشرعية، فيلغى احتمال كون اللاحق رافعاً لموضوع السابق، وإن كان احتمالاً معقولاً في العلل الشرعية، لكنه لا يُعتنى به في مقام الجمع بين الدليلين»(1).

أقول: احتمال كون اللاحق رافعاً لموضوع السابق وإن كان معقولاً - كما ذكره (قدس سره) - إلا أنه مخالف لفرض التوارد بين الحكمين وتوقف تمامية موضوع كلٍ منهما على عدم فعلية الآخر، لأن مقتضاه اعتبار عدم كل منهما في مرتبة سابقة على فعلية الآخر، كما هو الحال في سائر قيود الموضوع، بحيث لو كان موجوداً كان مانعاً منه، فلا يكون اللاحق فعلياً كي يرفع السابق في المرتبة اللاحقة لحدوثه.

ولو فرض رفع اللاحق للسابق لزم كون موضوع اللاحق مطلقاً بالإضافة إلى السابق غير مقيد بعدمه، كي يمكن فعليته مع وجوده ليرفعه في المرتبة اللاحقة، وهو خارج عن مفروض الكلام.

فالترجيح بالسبق الزماني لابد منه في مفروض الكلام من توارد الحكمين، وليس مبنياً على الجمع العرفي. ولا يظن من أحد التشكيك فيه.

وما وقع من بعضهم من المنع منه في بعض الموارد مبني على إنكار الصغرى بدعوى أن الورود فيه من أحد الطرفين، لا من كليهما.

وليس الكلام في المتواردين إلا في صورة التقارن التي يكون مقتضى القاعدة فيها التساقط، لعدم تمامية موضوع كلٍ من الحكمين في المرتبة

ص: 63


1- مستمسك العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة الثانية والثلاثون من فصل شرائط وجوب حجة الاسلام، ج: 10 ص: 119،

اللاحقة لتحقق مقتضييهما.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا تنافي بين الدليلين ليحتاج للجمع العرفي بينهما، لأن إطلاق كل منهما إنما يقتضي فعلية حكمه في المرتبة اللاحقة لتمامية موضوعه، لا مطلقاً، فعدم فعلية اللاحق لعدم تمامية موضوعه في المرتبة السابقة لحدوث عنوانه ومقتضيه لا ينافي إطلاقه، كما أن عدم فعليتهما معاً في صورة التقارن لارتفاع موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما بسبب مانعية كل منهما من الآخر ورفعه لموضوعه لا ينافي إطلاقيهما معاً.

ومن هنا يخرج المورد عن التعارض والتزاحم معاً، لعدم تحقق شرطهما، وهو التنافي بين الحكمين، لعدم تمامية موضوعيهما.

نعم، لو علم من الخارج بفعلية أحدهما إجمالاً فحيث كان مرجع ذلك إلى تقييد إطلاق شرطيته بالخصوصية المرتفعة بالآخر كان من صغريات التعارض لأمرٍ خارج، للعلم بكذب أحد الإطلاقين من دون تناف بينهما لذاتيهما.

كما أنه لو كان مرجع تقييد موضوع كل من الحكمين بالقيد المرتفع بالآخر هو اعتبار وجوده في مرتبة المقتضي له وإن ارتفع بعد ذلك، بأن يكون كل منهما مانعاً من تمامية موضوع الآخر لا رافعاً له بعد تماميته، لتمّ موضوع كل منهما في فرض تقارنهما المستلزم لتمامية ملاكه، ودخل المورد في التزاحم إن تحققت بقية شروطه، وإلّا دخل في التعارض.

لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام في توارد الحكمين بل لعلَّه لا وجود له في الخارج.

ص: 64

بقي في المقام أمران:
بقي أمران..
الأول: فيما لو كان أحد الحكمين مؤثراً حدوثاً وبقاءً

الأول: أنه لو كان أحد المقتضيين مؤثراً بحدوثه فقط، والآخر مؤثراً بحدوثه وبقائه تعين فعلية أثر الثاني مع تقارن حدوثهما، لأن عدم تمامية موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لاجتماعهما إنما يمنع من فعلية تأثير حدوثهما، فيؤثر الثاني ببقائه، لعدم الرافع لموضوعه بعد فرض سقوط تأثير الأول بحدوثه وعدم تأثير بقائه.

أما مع سبق أحد المقتضيين فالأثر له مطلقاً، لأن فعلية أثره تبعاً لحدوثه كما تمنع من تأثير الآخر بحدوثه لعدم تمامية موضوعه تمنع من تأثيره ببقائه لذلك أيضاً.

والظاهر أن مثل النذر والإجارة من الأمور المتقومة بالجعل والإنشاء من الأول، بل لا بقاء في الحقيقة للمقتضي فيها، كما أن مثل ملكية الزاد والراحلة في الاستطاعة للحج من الثاني، وكذا مثل أمر الوالدين ونهيهما، لأن ملاك رجحان المأمور به ومرجوحية المنهي عنه ارتكازاً هو موافقة الإرادة والكراهة القابلين للبقاء، وليس الأمر والنهي إلا كاشفين عنهما، ولذا لو حدثت ملكية الزاد والراحلة أو أمر الوالدين في حال فقد شرط تأثيرهما - كما في الصبي - ثم تحقق الشرط أثراً ببقائهما، بخلاف مثل النذر والإجارة.

الثاني: في توارد الحكمين

الثاني: أنه قد يتوهم أن توارد الحكمين مستلزم لتقدم كلٍ منهما على الآخر رتبة، بل للدور، حيث يكون وجود كل منهما رافعاً للآخر ومن أجزاء علة عدمه وعدمه شرطاً له ومن أجزاء علة وجوده.

ويندفع بأن الحكم ليس معلولاً للموضوع حقيقة، بل للجعل

ص: 65

والاعتبار الشرعي، واعتبار كلٍ من الحكمين مباين لاعتبار الآخر، وليس الموضوع إلا ظرفاً لاعتبار كل من الحكمين، ولا مانع من عدم جمع الشارع للحكمين بجعلهما في عرضٍ واحد، لعدم فعلية غرضيهما وملاكيهما كذلك، المستلزم لكون فعلية كلٍ من الحكمين ظرفاً لعدم الآخر وعدمها شرطاً في تحقق الآخر، وإذا لم يكن الحكم معلولاً للموضوع أمكن كونه علة له في المقام دون أن يلزم محذور الدور.

ص: 66

الفصل الثاني: في الحكومة
اشارة

سبق أن موضوع الكلام هو الدليلان الدخيل أحدهما في ترتب العمل على الآخر، وحيث تقدم في الفصل الأول الكلام فيما لو كان أحد الدليلين متكفلاً بتنقيح موضوع حكم الدليل الآخر ثبوتاً أو إثباتاً يبقى الكلام في بقية الأقسام في المقام، وهي ثلاثة..

في أقسام الحكومة:
الأول: الحكومة التفسيرية

الأول: أن يتكفل أحد الدليلين ببيان بعض الجهات التي يبتني عليها استفادة الحكم الذي يترتب عليه العمل من الآخر مما لا يتكفل هو به، بل يستند لجهات أخر، كتعيين معاني المفردات وظهور الكلام ومراد المتكلم منه أو بيان بعض القرائن المحيطة بالكلام الموجبة لتبدل ظهوره، أو جهة صدوره كالتقية، مثل ما في صحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع): «سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثاً. قال: يعيد. ثانيها أليس يقال: لا يعيد الصلاة فقيه؟ فقال:

إنما ذلك في الثلاث والأربع»(1).

وحديث علي بن المغيرة: «قلت لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا. ثانيها بلغنا أن رسول الله (ص) مرَّ بشاة

ص: 67


1- الوسائل، ج: 5، باب: 9 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، حديث: 3.

ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها [بجلدها. خ. ل]: قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي (ص) وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله (ص):

ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها. أي: تذكى»(1)، وغيرهما.

ومن الظاهر أن هذا السنخ من الأدلة متفرع على الدليل المتعرض له تفرع المفسِّر على المفسر.

كما أنه يكون ناظراً إليه من حيثية دليليته إما تفصيلاً - كما في الخبرين المتقدمين - أو إجمالاً، كما في ما يتضمن بيان معاني المفردات، كما ورد في تفسير المذي والوذي والودي(2)، لوضوح رجوعه إلى بيان ما هي ظاهرة فيه في جميع موارد استعمالها، وإن لم يرد لشرح دليل خاص.

ومن ثم لا يلزم تأخره عنه زماناً، بل يمكن تقدمه عليه مع نظره إليه إجمالا وتفسيره له على فرض وجوده بنحو القضية التعليقية.

كما أنه حيث كان ناظراً للدليل من حيثية دليليته فلا يلزم نظره للحكم المدلول له ولا تحديده وشرح حاله، بل غاية ما يقتضيه تحديد دلالة الدليل على الحكم ومدى استفادته منه، وإن كان الحكم في الواقع أوسع أو أضيق من مدلول الدليل. فمثلاً ما تضمنه الخبر المتقدم من شرح قصة الشاة الميتة إنما يمنع من استفادة حلية الانتفاع بجلد الميتة من كلام النبي (ص) ولا ينافي جواز الانتفاع بها لدليلٍ آخر.

ص: 68


1- الوسائل، ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 20.
2- الوسائل، ج: 1 باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.

نعم، قد يقتضي ذلك لخصوصية فيه زائدة على النظر للدليل وشرحه، كما هو الحال في الخبر المذكور، لوروده في مقام الردع عن جواز الانتفاع بالجلد.

الثاني: الحكومة البيانية

الثاني: أن يكون أحد الدليلين ناظراً للحكم الذي تضمنه الآخر ومبيناً لحاله بنحو خاص، كأدلة التنزيل الموسعة للموضوع، كالنبوي: «الطواف بالبيت صلاة»(1) أو المضيقة له، مثل قوله (ع):

«لا سهو في نافلة»(2) لوضوح ابتناء التزيل بين المتباينين على ملاحظة أحكام المنزل عليه والتشريك فيها، وابتناء نفي العنوان عن فرده على ملاحظة حكمه ونفيه عنه. وكذا أدلة الرفع الثانوية مع الأحكام الأولية، كأدلة رفع الضرر والحرج والإكراه ونحوها، لوضوح ابتناء الرفع على فرض ثبوت الحكم اقتضاء، فهو يبتني على النظر للحكم المذكور وبيان حاله وأنه ليس فعلياً في حال وجود العنوان الثانوي المذكور.

وهو كسابقه يكون نظره للحكم تفصيلياً تارة، وإجمالياً أخرى، كما يمكن تقدمه عليه زماناً لأجل ذلك، بأن يكون مبيناً لحاله على تقدير تشريعه، كما هو الحال في أدلة أحكام العناوين الثانوية الرافعة.

وإنما يختلف عنه في أنه حيث كان النظر فيه لنفس الحكم الذي تضمنه الدليل دون الدليل بما هو دليل فلا يكون متكفلاً ببيان المراد من الدليل وشرح مؤداه ولا يتصدى لذلك، وإن كان قد يستفاد منه تبعاً، بلحاظ أن كون الحكم بوجه خاص ثبوتاً مستلزم لعدم إرادته على خلاف

ص: 69


1- حكي عن سنن البيهقي: ج 5 ص 87 وعن كنز العمال ج 3 ص 10 رقم 206 وذكره في الخلاف والمسالك مرسلا في مسألة مس المحدث للقران.
2- الوسائل ج: 5 باب: 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 8.

ذلك الوجه من دليله بعد فرض عدم النسخ.

نعم، الاستفادة المذكورة مختصة بالأدلة المضيقة إما للموضوع كدليل نفي السهو في النافلة، أو للحكم كأدلة الرفع الثانوية، ولا تتم في أدلة التنزيل الموسعة، لوضوح أن ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل لا تستلزم عموم أدلة أحكام المنزل عليه له، فمشاركة الطواف للصلاة في وجوب الطهور مثلاً لا يستلزم كون المراد بالصلاة في قوله (ع): «لا صلاة إلا بطهور» ما يعم الطواف.

هذا، ولازم الفرق المذكور بين هذا القسم وما قبله في كيفية النظر رجوع هذا القسم إلى بيان قضية تشريعية تستند للحاكم بالحكم المنظور إليه، كجريان أحكام الصلاة على الطواف وعدم جريان أحكام السهو على السهو في النافلة ورفع الأحكام الضررية، ولا أثر لها لو استندت لغيره، بخلاف القسم الأول، فإن مرجعه إلى بيان أمرٍ واقعي يمكن أن يكشف عنه كل أحد من دون خصوصية للحاكم فيه.

الثالث: من أقسام الحكومة المتصورة

الثالث: أن يستقل كل من الدليلين في بيان ما يتكفله من دون نظر من أحدهما للآخر ولا للحكم الذي تضمنه، ويكون مدلول أحدهما منافياً لمدلول الآخر بدواً، وإن امتاز أحدهما بخصوصية تقتضي أقوائية دلالته بنحوٍ يكون قرينةً عرفاً على المراد من الآخر - وإن لم يسق لذلك - فيقدم عليه في مقام العمل، فيخرج الآخر معه عن الحجية في مورد التنافي، ليخرج بذلك عن التعارض على ما سيأتي توضيحه، كالعام والخاص وغيرهما من موارد تعارض الظاهر والأظهر.

وتقديم الأقوى وإن كان راجعاً إلى تفسير الأضعف به وتعيين المراد

ص: 70

الجدي منه بسببه، إلا أنه ليس لسوقه لتفسيره - كما في القسم الأول - ولا لنظره لمدلوله - كما في القسم الثاني - بل لمحض بناء العرف على ذلك، تبعاً لمرتكزاتهم المعوَّل عليها في فهم مراد المتكلم من كلامه والعمل عليه.

خروج القسم الثالث من الحكومة

إذا عرفت هذا، فلا إشكال في خروج القسم الثالث عن الحكومة، وإنما هي مرددة بين القسمين الأولين، لاضطراب كلماتهم في تحديدها ولا سيما شيخنا الأعظم الذي هو الأصل لهذا المصطلح، فقد قال (قدس سره) في مبحث التعارض:

«وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الدليل الآخر، ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله ومسوقاً لبيان حاله متفرعاً عليه».

وقد يظهر من ذلك اختصاصها بالقسم الأول، بل ببعض أفراده، وهو خصوص ما كان مسوقاً لشرح الموضوع وتفسيره، إلا أن تمثيله بأدلة أحكام الشكوك بالإضافة لما دل على أنه لا حكم للشك في النافلة، أو مع حفظ الإمام، أو المأموم، أو بعد الفراغ من العمل، وتعرضه لنظير ذلك في تقريب حكومة أدلة نفي الحرج والضرر على أدلة الأحكام الأولية، وجعله تقديم الأمارة على الأصل بملاك الحكومة يأبى ذلك جداً، بل يناسب كون القسم الثاني منها، كما هو الظاهر من كلام جمع ممن تأخر عنه بل صريح بعضهم.

توجيه النائيني (قدس سره)

وقد حاول بعض الأعاظم (قدس سره) توجيه العبارة بما يناسب ذلك بحمل التفسير فيها على نتيجة التفسير بلحاظ ما أشرنا إليه آنفاً من أن كون الحكم الذي تضمنه الدليل المحكوم بالوجه الخاص الذي بين في الحاكم يستلزم ارادته من الدليل المحكوم على ذلك الوجه، فيكون شارحاً له تبعاً وإن لم يسق لشرحه.

ص: 71

وربما استشهد لذلك بأنه (قدس سره) فرض التفسير بنحو يرجع إلى عدم ثبوت الحكم لبعض أفراد الموضوع - كما هو الحال في القسم الثاني - لا بنحوٍ يرجع إلى بيان المراد بالموضوع، كما هو الحال في القسم الأول، وبأنه (قدس سره) ذكر بعد ذلك أن مفاد الدليل الحاكم تخصيص بعبارة التفسير.

ومن هنا قد يدعى اختصاص الحكومة عنده بالقسم الثاني، كما يناسبه ما صرح به بعضهم وقد يظهر من آخرين من أن مبنى التقابل بين الورود والحكومة على فرض ارتفاع الموضوع فيه حقيقة، وفرض بقائه فيها، وإن كان مرتفعاً ادعاء أو تعبداً.

لكن كلامه (قدس سره) آبٍ عن ذلك جداً، لأن فرض كون الحاكم متعرضاً لحال المحكوم بمدلوله اللفظي ومسوقاً لبيان حاله صريح في إرادة القسم الأول.

ومجرد فرضه رافعاً لحكمه عن بعض أفراد موضوعه لا ينافيه، لأن التفسير قد يتضمن ذلك، حيث قد يتعرض المفسر صريحاً لإرادة الخاص من العام، على خلاف ظاهر الكلام.

ومن ثم ذكر بعض المحشين - في ما حكي عنه - أنه (قدس سره) ضرب في الدورة الأخيرة على العبارة الدالة على إرادة القسم الأول.

ولعل منشأ ما ذكره (قدس سره) من كون الحاكم مفسراً للمحكوم بمدلوله اللفظي ومسوقاً لذلك هو اختلاط ورود أحد الدليلين لتفسير الآخر بما إذا استفيد شرحه منه تبعاً، والخلط بين نظره إليه ونظره لمدلوله، كما اختلط ذلك على غيره، حيث يظهر منهم المفروغية عن لزوم نظر الحاكم للمحكوم، مع عدم النظر في الموارد المذكورة ونحوها من موارد التنزيل - التي هي من

ص: 72

أظهر موارد الحكومة عندهم - إلا لحكم أحد الدليلين، دون الدليل نفسه.

هذا، وحيث لا مشاحة في الاصطلاح فالمناسب تعميم الحكومة للقسمين معاً، لاشتراكهما في لزوم العمل بالحاكم، ولأنه أنسب بالجمع بين تحديد الحكومة وأمثلتها في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) الذي هو الأصل في الاصطلاح.

وعليه فالمعيار في الحكومة على كون أحد الدليلين ناظراً للدليل الآخر بنفسه أو بمدلوله، ومسوقاً لبيان حال أحدهما.

ولتخص الأولى باسم الحكومة البيانية، لسوق الحاكم فيها لبيان حال نفس الدليل المحكوم، والثانية باسم الحكومة العرفية، لأن منشأ التحكيم فيها هو العرف، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

وليس هذا بمهم بعد أن كان راجعاً لمحض الاصطلاح. وإنما المهم ما رتب عليه من الأثر العملي، وهو لزوم تقديم الدليل الحاكم على المحكوم من دون نظر للمرجحات، حيث ذكر ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) وتسالم عليه من بعده.

ولا ينبغي التأمل في ذلك في الحكومة البيانية، لعدم التنافي بين الحاكم والمحكوم في المضمون أصلاً، لفرض عدم تكفل المحكوم ببيان الجهة التي يبتني عليها استفادة الحكم منه، والتي فرض تعرض الحاكم لها، بل المتكفل بها طرق آخر من أصول عقلائية أو غيرها، فلا مانع من شمول إطلاق دليل الحجية لهما معا، مع تقديم الحاكم، لتقدمه رتبةً.

نعم، قد يكون مفاد الحاكم منافياً لمقتضى الطرق الأخرى التي يرجع إليها في استفادة الحكم من المحكوم لولا الحاكم، كأصالة عدم القرينة، أو

ص: 73

عدم النقل، أو الجهة، أو نحوها.

فإن كان وارداً عليها - كما هو الحال في الأصول المذكورة - فلا إشكال، وإلا كان معارضاً لها بدواً ولزم الرجوع للقواعد المرعية من الجمع بينها وبينه أو ترجيح أحدهما أو التساقط، كما هو الحال لو تضمن أحد الخبرين تكذيب الآخر وعدم صدوره عن المعصوم (ع) فإن الكلام وان لم يتضمن صدور نفسه، فلا ينافي الدليل المكذب لصدوره، إلا أن سنده لما كان متكفلاً بإثبات صدوره كان منافياً للدليل المكذب لذلك، ومن الظاهر أن الدليل المكذب لا ينهض برفع موضوع السند، ولا برفع موضوع حجيته، فيتعارضان.

وتوهم عدم التعارض بينهما، لأن التكذيب لما كان صادراً عن المعصوم الذي يقطع بصدقه، فلا مجال معه لحجية السند الحاكي عن الصدور.

مدفوع بأن القطع بصدق المعصوم لا يوجب القطع بكذب ما ورد تكذيبه عنه، لأن صدور التكذيب وإرادة ظاهره ليسا قطعيين، فينهض سند الخبر الذي ورد تكذيبه بمعارضتهما، ويتعين التساقط. فلاحظ.

الكلام في الحكومة العرفية

وأما الحكومة العرفية التي هي موضوع تمثيلهم ومحل كلامهم فقد وقع الكلام في وجه التقديم فيها في فرض اختلاف مقتضى الحاكم عن مقتضى المحكوم.

توجيه النائيني (قدس سره)

وقد وجهه بعض الأعاظم (قدس سره) بعدم التنافي بين مفاد الحاكم ومفاد المحكوم، لأن المحكوم إنما يثبت الحكم على تقدير وجود موضوعه - كما هو مفاد القضية الحقيقية - من دون أن يتكفل بإثبات الموضوع، لينافيه

ص: 74

الدليل الحاكم النافي للموضوع.

المناقشة فيه

لكنه - كما ترى - إنما يصلح أن يكون وجهاً للتقديم في الورود بقسميه المتقدمين، وهما الواقعي والظاهري، ولا يجري في ما نحن فيه مما فرض فيه رفع الموضوع ادعاء وتنزيلاً مع بقائه حقيقة، فإن مقتضى إطلاق الدليل المحكوم ثبوت الحكم حينئذٍ تبعاً لثبوت موضوعه حقيقة، فيكون الدليل الحاكم منافياً للإطلاق المذكور.

على أن ذلك مختص ببعض أفراد الحكومة، وهي المبنية على سلب عنوان الموضوع، دون حكومة مثل أدلة الرفع الثانوية على أدلة الأحكام الأولية، لوضوح عدم تكفل الحاكم برفع موضوع حكم الدليل المحكوم ادعاء فضلاً عن رفعه حقيقةً.

ومن ثم أكمل بعض مشايخنا وجه تقديم الحاكم - بعد ذكره لما سبق من بعض الأعاظم - بوجه التقديم في مثل ذلك، وهو أن الأدلة المذكورة لما كانت ناظرة للأدلة الأولية وشارحة للمراد بها وأن الأحكام الضررية والحرجية غير مجعولة في الشريعة المقدسة، فلا يقع التصادم بينهما أصلاً.

ويظهر الإشكال فيه مما سبق، من أن الأدلة المذكورة غير ناظرة لأدلة الأحكام الأولية، لتكون شارحة لها ورافعة لمقتضى أصالة الظهور فيها، بل هي ناظرة لما تضمنته من الأحكام وحاكمة بقصورها عن حال طروء العناوين المذكورة، فينافي إطلاق أدلة تلك الأحكام، ويقع التصادم بينها، وإنما يتم ذلك في الحكومة البيانية، كما لا يخفى.

ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في وجه الفرق بين التخصيص والحكومة، بنحوٍ يرجع لخصوصية الحكومة في التقديم. قال:

ص: 75

«والفرق بينه وبين التخصيص أن كون التخصيص بياناً للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص، وهذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير».

ولعله إليه يرجع ما قيل من أن تقديم الأظهر على الظاهر في موارد الجمع العرفي يبتني على كون الأظهرية قرينةً عرفيةً نوعية على تحديد المراد من الظاهر، من دون إعداد من المتكلم نفسه، بخلاف تقديم الحاكم، فإنه ناشئ من إعداد منه له للقرينية على المحكوم وبيان المراد الجدي منه، وللمتكلم تحديد مراده من كلامه متى شاء.

فإنه يظهر بما تقدم أن ذلك يتم في الحكومة البيانية، دون العرفية التي هي محل كلامهم.

هذا، وقد يدعى أن الملزم بتقديم الحاكم على المحكوم بعد اشتراكهما في التعرض للحكم والتنافي فيه هو اشتمال الحاكم على الخصوصية الزائدة، المقتضية لنظره للحكم الذي تضمنه المحكوم وتحديده وشرحه، ككونه بلسان رفعه في فرض وجود مقتضيه أو بلسان رفع موضوعه أو نحوهما.

لكنه لم يتضح صلوح الخصوصية المذكورة بنفسها للتقديم مع قطع النظر عن الأظهرية الملزمة بالتقديم في سائر موارد الجمع العرفي.

ودعوى: أن تقديم الحاكم لا يبتني على أظهريته، لأن النسبة بينه وبين المحكوم غالباً هي العموم من وجه الموجب للتعارض والتساقط.

وجه أظهرية الدليل الحاكم
اشارة

مدفوعة: بأن كون النسبة بين الدليلين هي العموم من وجه لا ينافي أظهرية أحدهما بنحو ملزم بتقديمه عرفاً. فالمناسب الكلام في وجه أظهرية الحاكم.

ولا يبعد أن يكون منشؤه أحد أمرين..

ص: 76

أولهما: كون ظهور الدليل الحاكم في خصوصية عنوانه أقوى من ظهور الدليل المحكوم.

أولهما: ظهوره في خصوصية عنوانه

وتوضيح ذلك: أن الألسنة التي تتضمنها الأدلة الحاكمة واردة غالباً في مورد خصوصيةٍ ارتكازيةٍ مناسبةٍ لمقتضاها، فإن لساني التنزيل والنفي اللذين هما من مورد الحكومة العرفية وإن كانا متقومين بالمشاركة في الحكم والمخالفة فيه، ولذا كانا مبنيين على النظر له - كما سبق - إلا أنهما كثيراً ما يردان في الأفراد المشتملة على خصوصية تناسب أحد الأمرين، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة المناسب لمسانخته لها في نحو العبادية، وتنزيل المطلقة رجعياً منزلة الزوجة، المناسب لبقاء العلقة فيها، ونفي العلم عن غير العامل بعلمه المناسب لانتفاء الأثر المقصود من العلم عنه، ونفي السهو في النافلة المناسب لعدم أهميتها، أو عن كثير الشك المناسب للزوم العسر من جريان أحكامه فيه، أو عن الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر، المناسب لوجود الأمارة المرجحة لأحد طرفي الشك وغير ذلك مما يشتمل مورده على خصوصية مناسبة لعموم الحكم أو قصوره.

وكذا الرفع في مثل الصبا والحرج والضرر والإكراه مما يكون مناسباً عرفاً للتخفيف، فإن الأدلة المذكورة حيث كانت منبهة للمناسبة المذكورة ولجري الشارع على مقتضاها كان ظهورها في خصوصية موردها أقوى من ظهور الدليل المحكوم في خصوصية عنوانه في فعلية الحكم، المستلزم لثبوته في مورد الدليل الحاكم.

ولو فرض ورود الألسنة المذكورة في مورد خال عن المناسبة العرفية، بحيث يكون مقتضاه تعبدياً متمحضاً في نفي الحكم أو ثبوته، فلا يبعد فقده

ص: 77

للخصوصية المقتضية للتقديم، بل يكون كسائر موارد التخصيص أو التقييد، كما لعله في مثل قولهم (ع):

«لا صلاة إلا بطهور»(1)، و:

«من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له»(2). بل لعله غير منظور لهم في اصطلاح الحكومة، ويختص نظرهم بالقسم السابق.

ثانيهما: عدم كونه طرفاً للنسبة

ثانيهما: أن الحاكم ليس طرفاً للنسبة مع دليل حكم واحد، بل مع أدلة أحكام متعددة، والنسبة بينه وبين كل منها وإن كانت العموم من وجه، إلا أن النسبة بينه وبين مجموعها هي العموم والخصوص المطلق، ولا مجال لتقديمه على بعضها دون بعض، لأنه بلا مرجح عرفي، ولا لتقديمها بأجمعها عليه، لأنه موجب لالغائه رأساً، فيتعين تقديمه عليها بأجمعها، وإعمالها في غير مورده من دون أن يلزم إلغاؤها، كما هو الحال في أدلة الرفع الثانوية.

وربما تكون هناك بعض الجهات الأخر الموجبة لأقوائية ظهوره غير ما ذكرنا تحتاج لاستقصاء الأدلة والنظر فيها بنحو لا يسعه المقام.

وبالجملة: الظاهر أن التقديم في مورد الحكومة العرفية مبني على الجمع العرفي بين الحاكم والمحكوم بلحاظ خصوصية في الحاكم تقتضي أقوائية دلالته وتقديمه، لا بلحاظ عدم التنافي بين

الحاكم والمحكوم ولا بلحاظ تقدم الحاكم رتبة، بخلاف الحكومة البيانية. ومن ثم أطلقنا على الحكومة المذكورة اسم الحكومة العرفية، كما أشرنا إليه آنفاً.

بقي في المقام أمور..

بقي أمور..

الأول: عدم توقف الحكومة البيانية على أقوائية الحاكم

الأول: أنه مما تقدم يتضح عدم توقف الحكومة البيانية على كون

ص: 78


1- الوسائل ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.
2- الوسائل ج: 4 باب: 2 من أبواب القيام من كتاب الصلاة حديث: 1.

الحاكم أقوى دلالةً من المحكوم، لعدم التعارض بينهما في مقام البيان، بسبب عدم التنافي بين مؤدييهما، كي يحتاج للمرجحات الدلالية، بخلاف الحكومة العرفية، فإنها حيث كانت مبنيةً على قرينية الحاكم عرفاً على المحكوم مع التنافي بينهما بدواً، بملاك الجمع العرفي، فلا بد من فرض أقوائية دلالة الحاكم، ليتعين للقرينة على المحكوم دون العكس.

الثاني: في إجمال الدليل الحاكم

الثاني: أنه قد أشير في كلماتهم إلى أن إجمال الحاكم هل يسري للمحكوم، فلا يعمل به في مورد الإجمال، أو لا، بل يقتصر في الخروج عنه على المتيقن الذي يكون الحاكم حجةً فيه، كما هو الحال في إجمال الخاص بالإضافة للعام؟

الظاهر اختلاف الحال باختلاف الموارد، من دون فرق بين قسمي الحكومة.

فإن كان مقتضى الحاكم انقلاب ظهور المحكوم إلى مقتضاه، إما لتبدل المفهوم أو لقرينة محتفة بالكلام، تعين سريان الإجمال للمحكوم، لعدم حجيته بسبب الحاكم في ما هو ظاهر فيه بدواً، ليكون متبعاً في مورد الإجمال، نظير حمل الرطل الذي يفرض ظهوره في العراقي على الرطل المكي، أو حمل الكلام الظاهر في الجنس على العهد.

وإن كان مقتضى الحاكم التفكيك بين مراتب الظهور في المراد الجدي، نظير العام والخاص، تعين عدم سريان الإجمال للمحكوم، بل يكون حجة في مورد الإجمال، ويقتصر في الخروج عنه على مورد اليقين الذي يكون الحاكم حجة فيه.

وأولى بذلك ما لو كان مرجع إجمال الحاكم إلى الشك في مقدار

ص: 79

الأدلة التي يحكم عليها وينظر إليها، حيث لا إشكال حينئذ في حجية أدلة تلك الأحكام، للشك في حكومته عليها.

نعم الظاهر عدم ارتفاع إجمال الحاكم في القسمين، بنحو ينفع في الأحكام الأخرى، لأن ترتب حكم المحكوم في مورد وإن كان مستلزماً لقصور الحاكم عنه ثبوتاً، إلا أن ملاك ترتبه إثباتاً في المقام خروج المورد عن المتيقن من دليل الحاكم، لا عن المراد الواقعي به، فهو لا ينهض بإثبات الخروج عنه واقعاً.

هذا كله فيما إذا كان الدليل الحاكم منفصلاً بعد انعقاد ظهور المحكوم، أما لو كان متصلاً به فهو يمنع من انعقاد ظهوره في مورد الإجمال، فلا يكون حجة فيه بلا إشكال، كما هو الحال في إجمال الخاص المتصل.

وكذا لو كان منفصلاً مع رجوع الإجمال للتردد بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر.

الثالث: اختصاص الحكومة بالأدلة اللفظية

الثالث: لما كانت الحكومة بقسميها مبنية على نظر أحد الدليلين للآخر أو للحكم الذي تضمنه، بنحو يقتضي تبدل مفاده، فهي تختص بالأدلة اللفظية المتميزة بلسان خاص يبتني على النظر والشرح، والتي تكون ظنية الدلالة بنحو تخضع للبيان والتفسير.

أما الأدلة اللبية فلا مجال لفرض الحاكم فيها، لأن المنظور فيها واقع الحكم، من دون أن تكون ذات لسان صالح للشرح والبيان بالإضافة للأدلة الأخرى.

كما لا مجال لفرض المحكوم فيها، لأنها قطعية المضمون. ومثلها في ذلك الأدلة اللفظية القطعية الدلالة.

ص: 80

نعم لو كان إحراز الموضوع ظاهراً من صغريات الحكومة - كما ذكره في الجملة بعض الأعاظم - اتجه وقوعها في الأدلة اللبية، لأن الدليل اللبي قد ينهض بالتعبد بموضوع حكم غيره وإحرازه ظاهراً. كما أن موضوعه قد يحرز ظاهراً بدليل آخر.

لكن سبق منا إلحاقه بالورود وتخصيصه باسم الورود الظاهري. فراجع.

الرابع: الحكومة العرفية من صغريات الجمع العرفي

الرابع: حيث كانت الحكومة العرفية مبنية على تحكيم العرف الحاكم على المحكوم، لأقوائية دلالته، فهي من صغريات الجمع العرفي، فيلحقها ما يأتي في الفصل الثالث من الكلام في وجه العمل

عليه وعدم لزوم التعارض بالنظر لعموم أدلة الحجية معه، فليس الكلام فيها إلا صغروياً بعد الفراغ عن حكمه كبروياً.

الخامس: تحقق الحكومة في موارد اعتبار الشارع للعنوان وعدمه

الخامس: أشرنا فيما سبق إلى تحقق النظر الذي هو المعيار في الحكومة في موارد التنزيل الشرعي الحاصل بحمل أحد المتباينين على الآخر، كالحكم بأن المطلقة رجعياً زوجة، أو نفي العنوان عن بعض أفراده، كنفي الشك عن النافلة لتقوم التنزيل بالأحكام المستلزم للنظر إليها وإثباتها أو نفيها.

ويظهر مما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في مفاد الطرق والأصول الإحرازية وفي وجه حكومتها على ما تأخر عنها من الأصول تحقق الحكومة أيضاً في مورد اعتبار الشارع للعنوان وجعله في مورد مباين له ذاتاً أو نفيه وإلغائه عن بعض أفراده تعبداً، كجعل الأمارة علماً وإلغاء الشك معها تعبداً بتتميم كشفها وطريقيتها للواقع، فتترتب عليها أحكام العلم وترتفع عنها أحكام

ص: 81

الشك.

لكنه إن رجع إلى جعل أحكام العنوان أو نفيها بلسان حمله أو نفيه رجع إلى التنزيل الذي سبق الكلام فيه. وليس مورد الجعل والتعبد في الحقيقة حينئذ هو العنوان بل أحكامه.

وإن رجع إلى جعله بنفسه أو نفيه اعتباراً، بحيث يكون المورد حقيقة من أفراده أو مباينا له حقيقة بسبب الجعل والتعبد. فهو - مع اختصاصه بالماهيات الجعلية غير المتأصلة، كالملكية، دون الحقيقية المتأصلة كالعلم والشك، كما سبق عند الكلام في مفاد الطرق - يكون من صغريات الورود، ويخرج عن الحكومة حيث لا يتوقف على النظر لأحكام العنوان الشرعية، بل لو فرض كون العنوان مما يترتب عليه الأثر بنفسه وإن لم يكن له أحكام شرعية - كالعلم والشك - صح جعله أو نفيه تعبداً ولم يكن لاغياً. فلاحظ.

ص: 82

الفصل الثالث: في الجمع العرفي
تمهيد
اشارة

من الظاهر أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن في مقام بيان مراده، وإن كانت على خلاف مقتضى الظهورات الأولية العامة المستندة للأوضاع أو الانصرافات الناشئة من كثرة الاستعمال أو نحوها، فتمنع من انعقاد الظهور الشخصي للكلام على طبقها، بل يكون على طبق القرائن التي اشتمل عليها الكلام.

من دون فرقٍ بين ما يعده المتكلم للقرينية كتوصيف المشترك بما يعين معناه، وما يعده لغرضٍ آخر ولو مع الغفلة عن قرينيته ودخله في بيان المراد، كالحكم عليه بما يناسب أحد معانيه، كالإخبار عن العين بأنها تدمع، الملزم بحملها على الباصرة.

فإذا فرغ المتكلم من كلامه انعقد ظهوره في بيان مراده الجدي على ما يناسب الجمع بين الظهورات الأولية العامة ومقتضى القرائن الخاصة المقالية والحالية التي يحتف بها الكلام، ويستقر الظهور المذكور ولا يرتفع بظهور المعارض له في المدلول وإن كان أقوى منه ظهوراً، فلا بد من النظر في مقتضى القاعدة عند تصادم الظهورات التي ينفصل بعضها عن بعض.

ص: 83

ما ذكره النائيني (قدس سره) من خروج الشارع عن الطريقة العرفية

هذا، ولكن يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) في غير موضع من كلامه المنع من ذلك في بيانات الشارع الأقدس، لدعوى: استقرار طريقته على إبراز مقاصده بالقرائن المنفصلة، كما يظهر بملاحظة النصوص المروية عن الأئمة (ع) لمصالح هم أعرف بها، فقبل الفحص عن القرائن المذكورة لا مجال للجزم بظهور الكلام التصديقي، وهو الظهور في المراد الجدي، وإن علم بظهور الكلام التصوري الذي هو مفاد حاق الكلام، والذي لا يكون موضوعاً للحجية، كظهور صدر الكلام قبل الفراغ منه. كما أنه بالعثور على القرائن المذكورة لا يلزم التعارض بين الظهورين، بل منع القرينة المنفصلة عن الظهور الأولي للكلام، كما هو الحال في القرائن المتصلة.

المناقشة فيه

ويشكل.. أولاً: بأن كثرة التخصيصات والقرائن المنفصلة لا تستلزم كون طريقة الشارع الاعتماد عليها، بنحو لا يتم الظهور التصديقي بدون الفحص عنها، لقرب رجوع ذلك إلى اختفاء القرائن المتصلة الكاشفة عن مراد المتكلم بكلامه، أو عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض

الجهات، أو نحو ذلك مما يوجب مخالفة الظاهر للمراد، فالقرائن المنفصلة تكشف عن ذلك لا عن قصور بيان المتكلم حين صدوره لاعتماده على القرائن المنفصلة.

وإلّا فمن البعيد جداً خروج الشارع عن الطريقة العرفية واعتماده في بيان مراده على القرائن المنفصلة مع عدم الضابط لها ثبوتاً وإثباتاً، لتوقف حصولها على تحقق الدواعي لبيانها، كسؤال السائل المتفرع على التفاته وحاجته لمعرفته حكم المسألة، وتحقق المناسبة المقتضية للبدء بالبيان، وعدم حصول الشبه الموجبة للخلاف في المسألة بنحو يستلزم وضوح

ص: 84

المراد وانعقاد الإجماع الصالح للخروج به عن مقتضى الظهور الأولي التصوري للكلام، ونحو ذلك مما لا ضابط له، وتوقف وصولها على تقدير حصولها على تحقق دواعي النقل، وضبط الناقل، وثبوت وثاقته ليكون نقله حجة صالحاً للبيان، وعدم ضياع الرواية بتلف الكتاب أو نحوه، وغير ذلك مما لا ضابط له أيضاً.

ومع ذلك كيف يخرج الشارع عن الطريقة العرفية في بيان مراده ويتكل على القرائن المنفصلة. ولاسيما مع انفصالها عن الكلام بعشرات السنين، إذ، قد يرد العام عن النبي (ص)، أو الوصي (ع)، ويرد الخاص عن الأئمة المتأخرين (ع) أو يستند للإجماع الحاصل من اتفاق العلماء بعد الغيبة.

وهل يمكن الالتزام بعدم البيان في تلك المدة الطويلة وأن الشارع قد تعمد بيان الحكم على خلاف الواقع؟!

نعم، لا إشكال في كثرة بيان المراد لتقية أو نحوها، إلا أنه ليس للخروج في البيان عن طريقة العرف والاعتماد على القرائن المنفصلة، بل لطروء المحذور المانع من بيان الواقع والملزم ببيان خلافه حتى مع تعذر إقامة القرينة المنفصلة، كما قد يتحقق ذلك في بيانات العرف من دون أن يمنع من انعقاد الظهور أو يسقطه عن الحجية.

ومجرد كثرة ذلك ونحوه مما يرجع لعدم إرادة الظاهر في بيانات الشارع الواصلة لنا.

لا يصلح للفرق بينها وبين بيانات العرف بنحو يمنع من انعقاد ظهورها، لعدم تبعية الظهور والحجية لموافقة الواقع، بل لموافقة الطرق

ص: 85

العقلائية في البيان الحاصلة بمجاراة أهل اللسان، أو بيان الخروج عن طريقتهم من قبل المتكلم نفسه، وحيث لم يثبت الثاني من الشارع، بل يعلم بعدم صدوره، وإلا لظهر وبان لتكثر الدواعي لحفظه وتوافر الأسباب لانتشاره، تعين الأول. على أن الكثرة بمجردها لو كانت مانعة من الظهور لزم توقفه على عدم المعارض المستحكم المعارضة والذي لو اجتمع معه في كلام واحد كان مجملاً، لأنه كثير في كلام الشارع أيضاً، فيلزم جريان حكم المجمل بالعثور عليه، لا حكم التعارض، ولا يظن من أحدٍ البناء على ذلك.

وثانياً: بأن لازم ذلك عدم حجية العموم ونحوه حتى بعد الفحص، لاحتمال ضياع القرائن التي اعتمد المتكلم عليها، فلا يحرز الظهور التصديقي للكلام إلّا بعد القطع بعدم القرينة المنفصلة.

وقد أطال (قدس سره) في تقريب اندفاع هذا الإشكال، حيث ادعى أنه بعد الفحص يصح للعبد أن يحتج على المولى بذلك الظهور، لأنه حجة ما لم يجد قرينة على خلافه، فلو لم يطابق الظهور المراد الواقعي كان ذلك ناشئاً من عدم إلقاء المولى كلامه بنحو يفي ببيان المراد، لا من تقصير العبد في فحصه عن بيان المولى لمراده.

لكنه كما ترى، لأن لازم ما ذكره من خروج الشارع عن الطريق العرفي احتمال استيفاء بيان الشارع لمراده بالوجه الآخر وعدم تقصيره في ذلك، وإن ضاعت علينا القرائن التي اعتمد عليها، ولا مجال للرجوع لما وصل من كلامه، لعدم إحراز ظهوره التصديقي بعد احتمال الضياع المذكور.

كما لا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة المنفصلة لإحراز الظهور

ص: 86

المذكور، لأن أهل اللسان إنما بنوا على الأصل المذكور في بياناتهم التي يتم ظهورها التصديقي، وتكون البيانات المنفصلة المنافية لها من سنخ المعارضات، ولم يثبت بناؤهم عليه في بيانات الشارع المفروض عدم إحراز ظهورها التصديقي، لكون البيان المنفصل المحتمل مقوماً لظهورها لا معارضاً له، بل هو نظير ما لو شك في فراغ المتكلم عن كلامه، أو صرح باعتماده على القرائن المنفصلة واحتمل عدم استيفائها بالفحص، حيث لا مجال للبناء على أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول والمنفصلة في الثاني، لإحراز الظهور التصديقي. فلاحظ.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أنه بعد فراغ المتكلم من كلامه ينعقد ظهوره التصديقي ويستحكم، ولا يكون ورود البيان المنفصل مانعاً من ظهوره ولا رافعاً له، إلا مع تصريح المتكلم باعتماده على القرائن المنفصلة وخروجه في كلامه عن طريقة العرف في استيفاء البيان بالظهور، وهو خارج عن محل الكلام.

ومن هنا يكون الكلامان المتنافيان بحسب ظهور كل منهما متعارضين بحسب الدلالة والبيان.

إذا عرفت هذا، فالظاهران وإن كانا متنافيين بحسب المؤدى ومتعارضين في مقام البيان، إلا أن العرف قد يجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر وتنزيله عليه، لكونه بنظرهم قرينة صارفة له عن ظاهره، وكاشفاً عن عدم مطابقة ظاهره لمراد المتكلم الجدي، لا بمعنى أنه معد للقرينية من قبل المتكلم نفسه، حيث قد يقطع بعدم إعداده له، لعدم نظره لذي القرينة، أو غفلته عنه، أو اعتقاده وفاءه بالبيان. بل بمعنى تعويل العرف وأهل اللسان

ص: 87

عليه في فهم المراد منه، كما يعولون على القرائن المتصلة المسوقة لغرضٍ آخر غير القرينية.

وحيث كان دليل العمل بالظهور واستكشاف المراد الجدي به منحصراً بسيرة العرف الارتكازية - كما تقدم في مبحث حجية الظواهر - كان توقفهم عن العمل به وتنزيله على ما يطابق الظهور الآخر في موارد الجمع العرفي مانعاً من حجيته وملزماً بحجية مجموع الكلامين على مقتضى الجمع المذكور.

ولازم ذلك عدم التعارض بينهما في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها. ومن ثم ذكرنا آنفاً خروج ذلك حقيقة عن التعارض، لأن المهم من التعارض ليس هو التعارض في مقام البيان، بل في مقام الحجية بالنظر لأدلتها العامة.

ومما ذكرنا يظهر أن القرينة الموجبة لرفع اليد عن الظاهر عرفاً وتنزيله على مقتضاها رافعة لموضوع حجية الظاهر حقيقة، لقصور دليل حجيته - وهو السيرة الارتكازية - عن صورة وجود القرينة، فتكون واردة عليه، لكون ارتفاع الموضوع بسبب التعبد بمؤداها.

نعم، لو كانت القرينة موجبة للقطع بعدم إرادة المتكلم للظاهر كان ارتفاع موضوع حجيته تكوينياً لا تعبدياً، فيكون من صغريات التخصص. كما أنه لو فرض كون دليل صدور القرينة ظنياً لا قطعياً كان وارداً على دليل حجية ظهور ذي القرينة وروداً ظاهرياً، لارتفاع موضوع الدليل به ظاهراً.

ولا مجال لتوهم حكومة دليل حجية القرينة على دليل حجية ذي القرينة، لما سبق من أن الحكومة لا تكون بين الأدلة اللبية القطعية المتعرضة

ص: 88

لواقع الحكم، من دون أن تتميز بلسان خاص يتضمن النظر والشرح.

ما ذكره العراقي (قدس سره)

هذا، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن تقديم القرينة في موارد الجمع العرفي ليس لارتفاع موضوع حجية ذي القرينة، لعموم حجيته لحال وجودها، بل من باب تقديم أقوى الحكمين ملاكاً اللازم عند تزاحمهما في فرض عموم دليليهما وتحقق ملاكيهما، وذلك لأن ملاك حجية كل من القرينة وذيها ليس إلا الكشف عن مراد المتكلم نوعاً، وحيث كانت القرينة أقوى كشفاً لزم تقديمها عند التزاحم.

وفيه: أن امتناع التعبد بالحجتين المتنافيتين مضموناً ليس من جهة تعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال مع تمامية ملاك الحجية في كلٍ منهما، ليكون من صغريات التزاحم، ولذا يمتنع وإن لم يكن أحدهما اقتضائياً، بل لاستحالة الجمع بين المتعارضين في الحجية، لاستلزامه التعبد بالنقيضين - كما يأتي إن شاء الله تعالى - ولازم ذلك قصور موضوع حجية أحدهما عن صورة فعلية حجية الأخر، المستلزم لوروده عليه، كما هو الحال في القرينة مع ذيها.

غاية ما يدعى أن قصور موضوع حجية ذي القرينة في مورد ورود القرينة ليس لعدم المقتضي رأسا، بل لوجود المانع، وهو لا ينافي الورود. ولعل ذلك هو مراده، بأن يريد بالتزاحم التزاحم الملاكي. والأمر سهل.

وحيث انتهى الكلام إلى هنا فالمناسب التعرض لأمور..

المناسب التعرض لأمور
الأمر الأول: المعيار في الجمع العرفي
اشارة

الأمر الأول: الظاهر أن المعيار في الجمع العرفي على تقديم الأظهر على الظاهر وتنزيله على ما يطابقه، فتعين أحد الدليلين للقرينية على الآخر عرفاً منوط بأظهريته منه دلالة، وما اشتهر من تقديم الخاص على العام

ص: 89

والمقيد على المطلق وغيرهما راجع إلى ذلك، فلو فرض أظهرية العام من الخاص لزم تنزيل الخاص عليه، مثلاً لو كان ظهور العام في عموم الرخصة أقوى من ظهور الخاص في الإلزام تعين تقديم العام وتنزيل الخاص عليه بحمله على الاستحباب أو نحوه.

ما ذكره النائيني (قدس سره) في تقديم الخاص

لكن صرَّح بعض الأعاظم (قدس سره) بلزوم تقديم الخاص مطلقاً وإن كان أضعف ظهوراً، لأن الخاص بمنزلة القرينة على العام، كما يتضح بفرض وقوعهما في مجلس واحد، وأصالة الظهور في القرينة حاكمة على أصالة الظهور في ذيها، فلا يحتاج تقديمها لملاحظة الترجيح الدلالي، كما يظهر من قياس ظهور «يرمي» في قولنا: «رأيت أسداً يرمي»، في رمي السهام على ظهور «أسد» في الحيوان المفترس، حيث لا إشكال في أقوائية الثاني من الأول، لأنه بالوضع وذاك بالإطلاق، مع أنه لا تأمل في حكومة أصالة الظهور في الأول على أصالة الظهور في الثاني، ولا وجه له إلّا كون الأول قرينةً على الثاني.

الإشكال عليه

ويشكل: بأن تعيّن أحد الكلامين للقرينية على الآخر إنما يتجه فيما لو كان ناظراً إليه ومسوقاً من قبل المتكلم لبيان المراد منه، فيكون حاكماً عليه حكومة بيانية، ولا يتوقف تقديمه عليه حينئذ على أقوائية ظهوره، كما ذكرناه في الفصل الثاني، وأما في سائر موارد تعارض الظاهرين في مقام البيان فلا يتعين أحدهما للقرينية على الآخر إلا بقوة ظهوره، حيث يكون رفع اليد عن الظاهر لأجل الأظهر متعيناً عرفاً.

بل ذلك هو المعيار في تعيين القرينة المتصلة أيضاً من أجزاء الكلام الواحد، حيث سبق في أول الفصل أن المراد بها ليس خصوص ما يعده

ص: 90

المتكلم للقرينية.

وخصوصية الخاص بدون ذلك في القرينيّة ممنوعة حتى مع ورودهما في مجلس واحد.

وكذا ما ذكره من تعين «يرمي» للقرينة، وتحكيم ظهوره على ظهور «أسد» مع أقوائية الثاني.

للمنع من عموم أقوائية الظهور الوضعي من الظهور الإطلاقي، بل يختلف الحال باختلاف الموارد، حيث قد يضعف الظهور الوضعي بمألوفية الخروج عن الوضع، كما يقوى الظهور الإطلاقي لو لم يرجع إلى لإرادة الشياع والسريان من الماهية، بل لإرادة خصوص بعض الأفراد لكون الفرد الظاهر المتعين عند حذف المتعلق، لوضوح أن إرادة الفرد الخفي الذي لا يشيع الاستعمال فيه حينئذ بعيدة جداً، ومنه المقام. بل حمل الرمي على نشر التراب أو الحصى وبعثرته حين إسراع الأسد في الجري يتبخر على نحو من التوسع والمجاز عرفاً.

على إن المثال المذكور ليس من الأمثلة العرفية، بل شاع بين أهل الفن التمثيل به للمجاز من دون إن يهتموا بتحديد ظهوره العرفي.

وبالجملة: لا وجه لتعيين الخاص للقرينة، بل هي تابعة إما لتعيين المتكلم، لخصوصية في كلامه - كما في موارد الحكومة البيانية - أو لأقوائية الظهور، حيث يكون الأقوى ظهوراً قرينةً عرفيةً صالحة لرفع اليد عن الأضعف، وإن لم تُعَد من قبل المتكلم لذلك.

نعم، الظاهر عدم الاكتفاء بمجرد الأظهرية في الجمع العرفي، بل لا بد معها من كون الأضعف ظهوراً صالحاً عرفاً للتأويل والتنزيل على طبق

ص: 91

الأظهر، بحيث يكون مفاد الجمع بينهما ملائماً لهما معاً عرفاً، ولو لم يصلح لذلك فليس بينهما جمع عرفي، بل يتعين التوقف وإجراء حكم التعارض لو لم يكشف الأظهر عرفاً عن خلل في الظاهر، وإلا تعين العمل بالأظهر وإهمال الظاهر، لصيرورته بحكم المجمل.

ويتوقف توضيح ذلك بالأمثلة على استيعاب الأدلة والنظر في خصوصياتها، ولا تسعه هذه العجالة، بل يوكل للفقه عند الابتلاء بذلك. والله سبحانه ولي التوفيق.

تتميم..

ذكرنا أن الأظهرية هي المعيار في تعيين الكلام للقرينة حتى في المتصلين.

أما مع تساوي الظهورين الأولين في الكلام الواحد وإمكان تنزيل كل منهما على الآخر فهل هناك مرجع آخر في تعيين القرينة، أو يلزم الإجمال لعدم المرجح؟

ربما يدعى تعيين ذيل الكلام وما يكون فضلة فيه للقرينية على صدره وما هو العمدة فيه، دون العكس، لمناسبته لشأن القرينة، لابتنائها على النظر لذي القرينة وبيان المراد منه، حيث يناسب تقرره قبل ورودها، لأن النظر لما لم يوجد بعد ولم يتجدد مخالف للطبع جداً.

وفيه - مع أن ذلك إنما ينهض ببيان وجه تعيين المتأخر للقرينيّة دون الفضلة -: أن المناسبة المذكورة لو كانت من الظهور بحد تصلح لأن تكون من القرائن المحيطة بالكلام، فهي إنما تقتضي تعيين المتأخر للقرينية في القرينة المبينة على النظر لذيها وشرحه - لو فرض

التردد فيها - دونما يستعين

ص: 92

به المتكلم لبيان مراده مما لا يبتني على النظر والشرح، لأن رفع مقتضى ظهور الكلام السابق بالكلام اللاحق ليس بأولى من منع تحقق ظهور الكلام اللاحق بالكلام السابق.

وأظهر من ذلك ما لا يعده المتكلم لبيان مراده من كلامه، بل لغرضٍ آخر، مع منافاة ظهوره الأولي لظهور كلامه الآخر، حيث تكون قرينته عرفية لمحض الجمع بين أجراء الكلام الواحد، فإن العرف لا يدرك أولوية الاعتماد على المتأخر في شرح المتقدم من العكس.

بل قد يدعى أن العكس هو الأولى، لأن سبق الصدر يوجب أُنس الذهن بظهوره، فيحتاج رفع اليد عنه لما هو الأقوى منه، وإلا كان مقتضى الطبع تنزيل ما لحقه عليه واستحكم ظهوره. وهو لا ينافي ما اشتهر من عدم استحكام ظهور الكلام إلا بعد الفراغ منه، فإن المراد منه توقف الظهور التصديقي النهائي للكلام على الفراغ منه، وأن تنافي الظهورات الأولية لأجزاء الكلام لا يرجع إلى تعارض الظهورين التصديقيين، بل إلى إجمال الكلام، أو حصول ظهور واحد من الجمع بينها، من دون نظر لكيفية الجمع، وأنه يبتني على ترجيح الصدر أو الذيل، أو انحصار المرجح بالأقوائية.

وإن كان اللازم التأمل في ذلك واستيعاب الأدلة.

الأمر الثاني: تحكيم أصالة الصدور على أصالة الظهور
اشارة

الأمر الثاني: التعارض بين الظهورين إنما يكون موضوعاً للجمع العرفي بينهما بلحاظ امتناع إرادة كل منهما، حيث يلزم تنزيل أحدهما على الآخر والحكم بإرادة مقتضاه، لامتناع إرادة المتنافيين، ويتعين التصرف في الأضعف ظهوراً، لأنه أهون من التصرف في الأقوى منهما.

ومرجع ذلك إلى رفع اليد عن الظهور الأضعف لقيام دليل أقوى منه

ص: 93

على عدم إرادة مقتضاه. وعلى هذا الملاك تتحدد مصاديق الجمع العرفي سعة وضيقاً. فهو كما يجري في كلامي متكلم واحد يجري في كلامي متكلمين يمتنع اختلافهما، كالمعصومين (ع)، وكذا لو علم بعدم اختلافهما في القضية الخاصة لسبب اتفاقي.

كما يتعين جريانه فيما لو لم تكن القرينة لفظية، بل لبية يعلم بعدم مخالفة المتكلم لمضمونها حيث يتعين رفع اليد عن ظاهر كلامه وتنزيله على ما لا ينافيها.

ومنه يظهر جريان الجمع العرفي في كلام علماء الرجال عند اختلاف ظواهر كلامهم لو كان ما ينقله أحدهم بنحو لو كان ثابتاً لم يخف على الآخر، ولا ينقل خلافه، حيث يلزم العمل بمن كان كلامه أظهر بعد فرض وثاقته في نفسه، عملاً بأصالتي الصدور والظهور، وتنزيل كلام الآخر عليه جمعاً، ولا يستحكم التعارض.

كما ظهر أن احتمال عدول المتكلم الواحد في الحدسيات - بل أخباره الحسية أيضاً - في أحد كلاميه عما كان عليه في الآخر - بحيث يمكن قصده لظاهر كل منهما عند صدوره وإن كانا متنافيين - مانع من الجمع العرفي بين كلاميه، لأن أصالة الظهور إنما تقتضي إرادته حين الكلام ولا تمنع من العدول عنه.

وأصالة عدم عدول صاحب الرأي عن رأيه وإن كانت من الأصول المعوّل عليها عند العقلاء، إلا أنها لا تصلح لرفع اليد بها عن أصالة الظهور في كل من الكلامين، بنحو تكشف عن عدم إرادة أحدهما الملزم بالجمع العرفي بينهما، بل هي مورودة لهما، حيث يصلح الكلامان بضميمة أصالة

ص: 94

الظهور فيهما دليلاً على عدول المتكلم رافعاً لموضوع أصالة عدمه.

ومن هنا لا مجال للجمع العرفي في كلامي المجتهد الواحد اللذين يتنافى ظهوراهما لو احتمل عدوله عن مفاد أحدهما ولو لغفلته عن مدركه من دون ظهور خطأ له فيه.

الجمع العرفي في كلام الجتهد الواحد

وكذا لو احتمل النسخ في الحكم الذي تعرض له المتكلم بنحو البداء الحقيقي، فإن أصالة عدم النسخ وإن كانت من الأصول العقلائية، إلا أنها لا تنهض برفع اليد عن أصالة الظهور في كل من الكلامين، نظير أصالة عدم العدول في الحدسيات، فلا تصل النوبة للجمع العرفي في الظهورات العرفية الصادرة، لبيان أحكامهم، إلا أن يعلم بعدم النسخ فيها من الخارج.

بل قد يشكل الأمر في الظهورات الشرعية، لورود احتمال النسخ فيها أيضاً وإن لم يكن بنحو البداء الحقيقي، لما تقدم في الفصل السادس من المقام الثالث في الاستصحاب من أن نسخ الحكم الشرعي لا يستلزم صدور دليله لا بداعي بيان المراد الجدي، ليكون مقتضى أصالة الجهة فيه نفيه الملزم بالجمع العرفي بين الظهورين، ولا مخالفاً لظهوره اللفظي، ليكون الظهور المذكور طرفاً للمعارضة مع الظهورين المفروض تعارضهما في المقام ويقع الكلام في تعيين الأقوى من الظهورات المذكورة - كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره في مسألة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص - بل لا دافع لاحتمال النسخ إلا الأصل، الذي لا ينهض برفع اليد عن ظهور كل من الكلامين في إرادة مضمونه، فلا تصل النوبة للجمع العرفي.

لكن البناء فيها على النسخ - مع بعده في نفسه، لاستلزامه كثرة النسخ، ومن المعلوم قلته، خصوصاً من الأئمة (ع) بناءً على ما هو الظاهر من إمكانه

ص: 95

منهم(1) - مستلزم لاضطراب نظام الفقه القائم وتأسيس فقه جديد، إذ كثيراً ما يكون الظهور الأقوى سابقاً زماناً على الظهور الأضعف، فلو بني على النسخ لزم البناء على مقتضى الظهور الأضعف لنسخ الأقوى به، ولو فرض الجهل بالتاريخ لزم التوقف عنهما معاً، للعلم الإجمالي بنسخ أحدهما بالآخر، ولا يظهر منهم البناء على ذلك، بل دأبهم على العمل بالأظهر مطلقاً وتنزيل الأضعف عليه للجمع العرفي بينهما، ولا يذكر النسخ إلا في نادر من كلماتهم احتمالاً لتوجيه النصوص التي يبنى على إهمالها.

توجيه النائيني (قدس سره) في مسألة الدوران بين النسخ والتخصيص

وقد حاول بعض الأعاظم (قدس سره) توجيه سيرتهم المشار إليها في مسألة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص بعدم جريان أصالة العموم في نفسها بسبب العثور على الخاص، لصلوح الخاص لأن يكون بياناً للعام وتخصيصاً له، سواء كان متقدماً أم متأخراً، إذ تقديم البيان على وقت الحاجة ليس قبيحاً ذاتاً، ويرتفع قبح تأخره عنه بوجود مصلحةٍ مزاحمةٍ للمصلحة الأولية المقتضية لتعجيله.

الإشكال عليه

وفيه: أن المانع من جريان أصالة العموم مطلقاً ليس هو مطلق البيان ولو كان منفصلاً، بل خصوص البيان المتصل المانع من انعقاد الظهور، وأما البيان المنفصل فحيث لا يمنع من انعقاد الظهور - كما تقدم في أول هذا الفصل - لا مجال لرفع اليد به عن أصالة الظهور والعموم، إلا أن يتعذر البناء على العموم معه للتنافي بينهما - كما سبق - ومع احتمال النسخ لا يحرز التنافي بينهما، كي يتعين رفع اليد عن أصالة العموم.

ص: 96


1- بمعنى تحققه منه تعالى في عصرهم وانما ينسب لهم بلحاظ علمهم به - ولو من طريق النبي (ص) وتبليغهم بالحكم الناسخ، كما هو الحال في نسبته للنبي (ص).

نعم، يتجه بناء على ما سبق منه (قدس سره) في أول هذا الفصل من أن البيان المنفصل مانع من انعقاد الظهور التصديقي لكلام الشارع، حيث يكثر اعتماده على القرائن المنفصلة، مخالفاً بذلك طريقة العرف من استيفاء بيان المراد والغرض بالكلام من دون اعتماد إلا على القرائن المتصلة.

لكن سبق أن كثرة القرائن المنفصلة في كلام الشارع لا تستلزم اعتماده عليها وخروجه عن طريقة العرف بنحو يمنع العثور عليها من انعقاد الظهور لكلامه.

بل كثرة القرائن المنفصلة في كلام الشارع فرع المفروغية عن عدم النسخ، الذي هو محل الكلام هنا، إذ لو كانت الخصوصات المنفصلة الكثيرة ونحوها من الظهورات القوية ناسخة للظهورات الضعيفة أو منسوخة بها لم تكن منافية لها ولا قرائن على التصرف فيها، ليتسنى البناء على اعتماده عليها وخروجه عن طريقة العرف في ذلك.

ولعل الأولى في دفع إشكال احتمال النسخ أن العمدة في البيانات الشرعية هي الأخبار الصادرة عن الأئمة المعصومين (ع)، وهي ظاهرة في كون مضمونها الأحكام الثابتة من عصر النبي (ص)، فإن ذلك هو الذي يقع مورداً للسؤال من السائلين، فإن النسخ منهم (ع) وإن كان ممكناً، إلا أنه مغفل في مقام السؤال والجواب، ولذا تضمن كثير من النصوص الاستشهاد بكلام النبي (ص) من الإمام أو استفسار السائل عن وجه الجمع بين الجواب وما روي عنه (ص) أو عن الأئمة المتقدمين، وتكذيب الإمام روايات العامة المخالفة لأحكامهم، أو التنبيه على عدم مخالفتها لها، حيث يظهر من ذلك ونحوه المفروغية عن كون الحكم الصادر منهم (ع) مشرعاً من عصر النبي (ص).

ص: 97

وقد يشير إليه ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في توجيه اختلاف الناس في الدين(1)، حيث لم يذكر فيه تحقق النسخ بعد النبي (ص)، فإن عدم بيانه لذلك وإن أمكن أن يكون لعدم تقبل الناس له، إلا أنه ظاهر في المفروغية عن ثبوت أحكامهم (ع) من عصر النبي (ص) وإن اختفت لبعض الأسباب.

كما قد يشهد به أيضاً نصوص العرض على الكتاب، وكذا النصوص الواردة في تعارض الأخبار، لأن فرض التعارض بينها والترجيح، من دون إشارة للنسخ والترجيح بما يناسبه من تأخر الزمان ظاهر في وحدة الحكم في الواقعة التي يرد فيها المتعارضان.

نعم، ورد في بعضها ترجيح الرواية عن الحي(2)، وترجيح المتأخر من أحاديث الإمام الواحد(3) المختلفة.

إلا أن ظاهر بعض هذه الأحاديث وصريح آخر عدم إحراز الحكم العام الأولي به، بل الحكم الفعلي - وإن كان ثانوياً ثابتاً بمقتضى التقية - لأن إمام الزمان أعرف بما يناسبه، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في المرجحات المنصوصة.

وأما ما تضمن تحليلهم الخمس ونحوه لشيعتهم، وإيكال صرف الزكاة للمكلف نفسه من دون أن يدفعها للإمام، وتجويز المعاملة مع ولاة الجور على أموال الخراج والمقاسمة ونحو ذلك فليس هو نسخاً للتحريم الثابت بالأصل، بل إعمال لسلطنتهم في ما لهم أو في مالهم الولاية عليه،

ص: 98


1- الوسائل ج: 18 باب: 14 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
2- الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8.
3- الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 7 و 17.

ولذا يختص بمن خصوه به، مع وضوح اشتراك الأحكام بين الكل.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص الواردة عنهم (ع) في سوقها لبيان الحكم الثابت في عصر النبي (ص)، وإن وقع خلاف ذلك فهو مبني على نحو من الخروج عن الظاهر المستند للقرينة العامة المعوَّل عليها.

ويؤيد ذلك خبر سليمان الديلمي: «سألت أبا عبد الله (ع)، فثانيها جعلت فداك سمعتك وأنت تقول غير مرة: لولا أنا نزاد لأنفدنا. فقال: أما الحلال والحرام فقد والله أنزله على نبيه (ص) بكماله. وما يزاد الإمام في حلال ولا حرام. قال: فثانيها فما هذه الزيادة؟ قال: في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام»(1). بل قد يعضده صحيح محمد بن مسلم: «قلت لأبي عبد الله (ع): كلام سمعته من أبي الخطاب. فقال: اعرضه علي: قال: إنكم تعلمون الحلال والحرام وفصل ما بين الناس. فلما أردت القيام أخذ بيدي فقال (ع): يا محمد كذا علم القرآن والحلال والحرام يسير في جنب العلم الذي يحدث بالليل والنهار»(2)، لظهوره في أن ما يحدث بالليل والنهار غير علم القرآن والحلال والحرام. ومن الظاهر أن النسخ إنما يكون بما يحدث بالليل والنهار، فإذا كان ما يحدث بالليل والنهار مبايناً لعلم الحلال والحرام لزوم عدم صدوره منهم (ع). إلا أن يحتمل كون النسخ في الوقت المحدد مما عهد لهم من النبي (ص) في حياته وتوارثوه عند إمام بعده إمام. فلاحظ.

نعم يشكل الأمر في الأحاديث النبوية، لعدم تمامية القرينة المذكورة فيها. ومجرد كون الخروج عن الظاهر أكثر وأشهر من النسخ - لو تم

ص: 99


1- بحار الأنوار ج: 26 ص: 92 باب: 3 من أبواب علومهم (ع) حديث: 18.
2- بحار الأنوار ج: 26 ص: 94 باب: 3 من أبواب علومهم (ع) حديث: 27.

فيها - ليس من القرائن العرفية المحيطة بالكلام الموجبة لاستفادة استمرار مضمونه.

ولعلَّه لذا ورد من الأئمة (ع) التعريض بالعامة حيث أخذوا بأحاديث النبي (ص) من دون تمييز للناسخ من المنسوخ(1) وتوجيه اختلافهم فيما بينهم ومخالفة حديثهم عنه (ص) لأحاديث الأئمة (ع) بأن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن(2).

لكن الإشكال المذكور مختص بما روي من غير طريق المعصومين (ع) أو من طريقهم في غير مقام بيان الحكم الشرعي، أما ما ورد من طريقهم في مقام بيان الحكم الشرعي فظاهر حكايتهم له استمراره وعدم نسخه، فيلحقه ما تقدم في أحاديثهم.

ومن هنا يهون الأمر في هذا الإشكال لندرة الأحاديث النبوية المعتبرة السند المروية من غير طريقهم (ع) والتي يحتمل فيها النسخ، بنحو يكون له الأثر في مقام العمل، بل لا يبعد عدم وجودها.

الأمر الثالث: البناء على الجمع العرفي مع عدم قطعية صدور الأظهر

الأمر الثالث: حيث ذكرنا أن ملاك الجمع العرفي الترجيح بقوة الظهور فهو متجه في فرض المفروغية عن إحراز صدور الأظهر لبيان الحكم الحقيقي والمراد الجدي بالقطع أو التعبد، من دون أن يتكفل ما تقدم ببيان وجه المفروغية عن ذلك.

وقد أشرنا آنفاً إلى أن وجه تقديم أصالة الصدور هو ورود دليله على

ص: 100


1- الوسائل ج: 18 باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث 23.
2- راجع الوسائل ج: 18 باب: 14 من أبواب صفات القاضي والكافي في باب اختلاف الحديث: ج 1 ص 62.

أصالة الظهور في الظاهر وروداً ظاهرياً، لرجوع بناء العرف على الجمع بين الظاهر والأظهر - بتنزيل الأول على الثاني - إلى عدم حجية الظاهر في ظرف ورود الأظهر، وارتفاع موضوعها به، فيكون دليل صدور الأظهر محرزاً لارتفاع موضوع حجية الظهور في الظاهر.

بل قد يدعى أن وروده عليه واقعي، لأن الشرط في حجية أصالة الظهور هو عدم وصول الأظهر، الذي يرتفع واقعاً بدليل الصدور، لا عدم وجوده واقعاً، الذي يحرز ظاهراً بالدليل المذكور، وإلا فمن المعلوم حجية الظهور مع عدم وصول الأظهر له وإن كان موجوداً واقعاً.

لكن الظاهر أن الرافع لحجية الظهور هو وجود الأظهر واقعاً، وأن البناء على حجيته مع عدم وصوله لأصالة عدمه، نظير أصالة عدم المعارض وأصالة عدم القرينة المعوّل عليها عند العقلاء، لا لتحقق موضوع الحجية واقعاً، فقيام الدليل على وجود الأظهر محرز لارتفاع موضوع حجية الظهور ظاهراً، كقيام الدليل على فسق الشاهد، وليس وروده إلا ظاهرياً. فتأمل.

وأما عدم التعويل على احتمال عدم صدور الأظهر لبيان المراد الجدي فلأن أصالة الجهة وإن كانت من الأصول العقلائية كأصالة الظهور، إلا أنها متقدمة عليها طبعاً بمقتضى المرتكزات، لأقوائيتها. إلا أن تقوم بعض الأمارات العرفية على خلافها فيشكل البناء عليها حينئذ، وهو خارج عن محل الكلام.

ولعل هذا هو الوجه في قيام سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال على الأخذ بمقتضى الجمع العرفي ولو مع عدم قطعية صدور الأظهر أو جهته، حيث لا يظهر منهم الرجوع في ذلك لأدلة خاصة تعبدية، بل الجري على

ص: 101

مقتضى المرتكزات العقلائية في الجمع بين الأدلة وتقديم بعضها على بعض.

الأمر الرابع: تعارض العموم والإطلاق
اشارة

الأمر الرابع: حيث سبق أن ملاك الجمع العرفي ترجيح أقوى الظهورين وتنزيل أضعفهما عليه، فتشخيص ذلك موكول لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة، لعدم انضباط القرائن الداخلية في ظهور الكلام بنحو يتيسر إعطاء الضوابط العامة المستوعبة، وقد تكفلت بعض مباحث الأصول اللفظية بيان القاعدة في خصوص بعض الظهورات كالعام والخاص، والمطلق والمقيد.

كما تعرض غير واحد في مباحث التعارض للكلام في بعض أخر وقواعد خاصة لم تُبوَّب هناك، لعدم اختصاصها ببعض تلك المباحث، بل هي ببحث الجمع العرفي أنسب..

منها: تعارض العموم الوضعي والإطلاقي

منها: تعارض العموم الوضعي والإطلاقي بنحو العموم من وجه، حيث يدور الأمر بين تقييد المطلق وتخصيص العموم.

فقد جزم شيخنا الأعظم (قدس سره) بترجيح التقييد، بناءً على عدم استلزامه المجاز في المطلق، لعدم إفادة الإطلاق العموم بالوضع، بل بمقدمات الحكمة، كما هو المعروف عند محققي المتأخرين.

ومرجع ما ذكره في توجيه ذلك إلى أن مقتضي البناء على العموم لما كان هو الوضع فلا مجال لرفع اليد عنه بالإطلاق الذي يكون مقتضي البناء على العموم فيه مقدمات الحكمة، لعدم تمامية المقدمات المذكورة مع العموم، لأن منها عدم البيان، والعموم - بعد تمامية مقتضيه وعدم ثبوت المانع منه - بيان، فلا يبقى معه مقتضي الإطلاق.

ص: 102

وقد دفعه المحقق الخراساني (قدس سره) بأن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب المفروض عدمه في المقام لا عدم البيان مطلقاً ولو منفصلاً، بل البيان المنفصل من سنخ المانع من الإطلاق بعد تمامية مقتضيه، كالتخصيص المنفصل للعام، فلا يكون العام في الفرض رافعاً لمقتضي الإطلاق، بل كل منهما مانع من تأثير مقتضي الآخر بعد تماميته، ولابد في الترجيح بينهما من مرجح.

ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) أنكر ذلك مشيراً إلى مبناه في مبحث الإطلاق من أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة هو مطلق عدم البيان ولو كان منفصلاً، فيتم ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن البيان المنفصل بيان رافع لمقتضى الإطلاق.

لكن ما ذكره (قدس سره) في مبحث المطلق والمقيد في وجه مانعية البيان المنفصل من استكشاف مراد المتكلم من الإطلاق راجع إلى ما تقدم عنه في أول هذا الفصل من عدم انعقاد ظهور الكلام التصديقي بالعثور على البيان المنفصل، وهو - لو تم - لا يفرق فيه بين العموم والإطلاق، ولا سيما بناء على ما ذكره (قدس سره) في مبحث العموم من أن استفادته موقوفة على تمامية مقدمات الحكمة في مدخول أدوات العموم، إذ يرجع العموم للإطلاق حينئذ، ويحتاج الفرق بينهما إلى وجهٍ آخر غير ما تقدم.

وكيف كان، فلا مجال لما ذكره (قدس سره) في البيان المنفصل، بل هو من سنخ المعارض للإطلاق.

أما بعض مشايخنا فهو مع اعترافه بعدم انقلاب ظهور المطلق بسبب العام المنفصل ادعى رفع العام لموضوع حجية الإطلاق في الكشف عن

ص: 103

المراد الجدي، لدعوى: أن نسبة العام إلى المطلق نسبة الإمارة إلى الأصل، فكما أن الأصل حجة ما لم تقم أمارة على خلافه، كذلك المطلق إنما يكون ظهوره حجة ما لم يرد العام على خلافه، لعدم جريان مقدمات الحكمة مع ورود العام، فإذا ورد العام سقط عن الحجية. وقد تقدم في مبحث مقدمات الحكمة من التقريرات ما قد يناسب ذلك.

لكن تقييد حجية المطلق بذلك غير ظاهر المأخذ بعد كونه كالعموم تام الظهور، غاية الأمر تقييد حجية الظهور بعدم ورود ظهور أقوى منه يتعين عرفاً للقرينية عليه، وهو مشترك بين العموم والإطلاق، ويحتاج تقديم العموم وتعيينه للقرينية لفرض ترجحه بالأقوائية أو نحوها ولم يشر في كلامه لذلك.

في وجوه ترجيح العموم الوضعي ودفعها

هذا، وقد استدل في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره على ترجيح العموم الوضعي على الإطلاقي بعد فرض تمامية مقتضي الحجية في كلٍ منهما..

تارة: بأن التقييد أغلب من التخصيص.

وأخرى: بأن دلالة العموم أقوى من دلالة الإطلاق وإن قلنا إنها بالوضع.

وثالثة: بأن ظهور العموم الوضعي لما كان مستنداً لوجود ما يدل عليه في الكلام فهو أقوى من ظهور العموم الإطلاقي المستند لسكوت المتكلم عن ذكر القيد.

ويندفع الأول: بأن الغلبة بنفسها - بعد تسليمها في المقام - لا توجب أقوائية الظهور ما لم يكن لها ظهور عرفي بحيث تكون من قرائن الأحوال

ص: 104

المحيطة بالكلام، ولم يتضح ذلك في المقام.

وأما الأخيران فهما وإن كانا قريبين في الجملة، إلا أن في بلوغهما حداً يصلح لضرب القاعدة العامة نحو خفاء، فلابد من الاستظهار لهما بالتأمل في خصوصيات الموارد، واستحصال ما يمكن من القرائن المؤيدة للترجيح المذكور.

بقي شيء، وهو أن ما سبق من احتمال كون ظهور الإطلاق أضعف من ظهور العموم إنما يتجه في الإطلاق المبني على نحو من الشياع والسريان المقابل للتقييد الراجع لتضييق الحكم أو الموضوع، حيث لا منشأ للظهور في مقتضى الإطلاق إلا مجرد عدم البيان.

أما الإطلاق المقتضي للحمل على خصوص بعض الوجوه، إما لأنه الوجه المناسب للموضوع، كحمل تحريم الأعيان على تحريم خصوص بعض المتعلقات كالنكاح في النساء، وإما لأنه الوجه

الظاهر ولو لخصوصية في المورد فلا مجال لجريان ما سبق فيه، لعدم استناد ظهوره لمجرد عدم البيان، بل للمناسبة والظهور المفروضين اللذين هما من قرائن الأحوال، حيث لا مجال لدعوى قصور القرائن الحالية عن مفاد العموم الوضعي في اقتضاء الظهور الكلامي، بل يختلف الحال باختلاف المقامات، ولا ضابط لذلك.

منها: تعارض الإطلاق البدلي والشمولي

ومنها: تعارض الإطلاق البدلي والشمولي، حيث يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) تقديم الشمولي على البدلي، وأصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره) لوجوه.

وجوه تقديم الشمولي الوجه الأول والمناقشة فيه

الأول: أن الإطلاق الشمولي لا يحتاج إلى أزيد من ورود الحكم

ص: 105

على الطبيعة غير المقيدة، حيث يسري الحكم إلى الأفراد قهراً، أما الإطلاق البدلي فهو يتوقف زائداً على ذلك إلى إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض حتى يحكم العقل بالتخيير بينها، ومع الإطلاق الشمولي لا مجال لإحراز ذلك، لصلوحه لبيان اختلافها، فيكون الإطلاق الشمولي حاكماً على الإطلاق البدلي، وإن كان ظهوره منعقداً في حد نفسه، لكون القرينة منفصلة.

وفيه: أن تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض المستتبع لحكم العقل بالتخيير إن استفيد من نفس الإطلاق، لكونه مقتضى مقدمات الحكمة كان الإطلاق - بعد فرض انعقاد ظهوره - معارضاً للإطلاق الشمولي المفروض، لا محكوماً له، وإن لم ينهض به الإطلاق فلا محرز له، ولزم التوقف في سائر موارد الإطلاق البدلي.

إلا أن يدعى إحراز العقل له بالأصل. ولو سلم ذلك كان الإطلاق الشمولي وارداً على الأصل المذكور، لا حاكماً على الإطلاق البدلي، الذي هو فرع التعارض البدوي بينهما.

ما ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: حكم العقل بالتخيير بين الأفراد في مورد الإطلاق البدلي، إن أريد به التخيير بلحاظ امتثال التكليف الذي تضمنه الإطلاق، لوفاء كل فرد بغرضه وملاكه، فهو لا يحتاج إلى أزيد من تعلق التكليف والغرض بالطبيعة غير المقيدة، كالإطلاق الشمولي، لوضوح تحقق الطبيعة التي هي موطن الغرض بكل فرد فرد، وهو مستلزم لتساوي الأفراد في الوفاء بالغرض، ولا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي عليه في فرض تعارضهما.

ص: 106

وإن أريد به التخيير بلحاظ الموانع الخارجية، حيث قد يمنع العقل من الامتثال ببعض الأفراد - مع وفائه بغرض التكليف - لابتلائه بتكليف آخر مزاحم، فهو لا يتوقف على إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض - الذي هو مقتضى الإطلاق - بل لا ينفع فيه ذلك، وإنما يتوقف على إحراز عدم المانع الخارجي المذكور - وهو التكليف المزاحم - في بعض الأفراد، والإطلاق الشمولي إنما يمنع من ذلك وينهض بإحراز المانع الخارجي المذكور في فرض حجيته، لعدم التكاذب بينه وبين الإطلاق البدلي، مع تحقق التزاحم بين حكميهما، حيث يتعين حينئذ متابعة حكم الإطلاق الشمولي لو كان إلزامياً وامتثال حكم الإطلاق البدلي بغير مورد المزاحمة.

لكنه خارج عن محل الكلام، لوضوح أن الكلام في تعارض الإطلاقين، لا تزاحم الحكمين.

بل هو لا يناسب فرض كون الإطلاق الشمولي قرينة على البدلي، لوضوح أنه لابد في القرينية من منافاة مفاد القرينة لمفاد ذي القرينة البدوي، بحيث توجب صرفه عن ظاهره.

وكأن ما ذكره مبني على اختلاط التزاحم بالتعارض.

ولعله هو المنشأ لما ذكره من أن الإطلاق الشمولي حاكم على البدلي، مع التسليم بانعقاد ظهوره في حد نفسه، لكون القرينة منفصلةً بأن يكون ناظراً للحكومة في مقام العمل والامتثال في فرض التزاحم، لا الحكومة بين الأدلة في التعارض البدوي، والا فهو مناف لما سبق منه من أن القرائن المنفصلة تمنع من تمامية مقتضي الإطلاق.

هذا، ولو أريد من تساوي الأفراد في الغرض المستتبع للتخيير

ص: 107

تساويها في مرتبة منه، بحيث لا يتأكد الغرض في بعضها فلا ينهض كلاالإطلاقين بإحرازه لعدم توقف التخيير والسعة في مقام الامتثال عليه، بل يبقى مع اختلاف الأفراد في مراتب الغرض بلحاظ اشتراكها في أصله، ولا أثر للتأكيد في بعض الأفراد إلا أفضليتها.

لكن الظاهر عدم إرادته له، وإن أوهمه كلام بعض من تعرض لما ذكره.

الثاني ودفعه

الثاني: أن الإطلاق البدلي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلول الإطلاق الشمولي، وهو حكمه الانحلالي الثابت في المجمع، أما الإطلاق الشمولي فهو لا يقتضي رفع اليد عن شيءٍ من مدلول

الإطلاق البدلي، إذ مدلوله حكم واحد ثابت في الأفراد على البدل، وهو لا ينافيه فيه، بل غاية ما يقتضي تضييق دائرته بعد سعتها.

وفيه أنه بعد فرض التنافي بين سعة دائرة حكم الإطلاق البدلي، وثبوت حكم الإطلاق الشمولي في مورد الاجتماع يتحقق التعارض بينهما، والمدار في تقديم أحد المتعارضين على قوة دلالته، لا سنخ مدلوله.

نعم، لو فُرض عدم استفادة سعة دائرة الحكم من نفس الإطلاق البدلي، بل من أمرٍ آخر، كان الإطلاق الشمولي مصادماً لذلك الأمر لا للإطلاق البدلي. لكن لا مجال لذلك، لأن فرض تعلق الحكم بالماهية غير المقيدة - الذي هو مفادالإطلاق - يقتضي سعة دائرته لتمام أفرادها، كما سبق.

كما أنه لو فرض عدم التنافي بينهما كان المورد من صغريات التزاحم لا التعارض، وقد سبق أنه خارج عن محل الكلام.

ص: 108

الثالث ودفعه

الثالث: أن حجية الإطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأفراد عن التخيير العقلي، والإطلاق الشمولي صالح للمانعية، فلو توقف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الإطلاق البدلي لدار.

وفيه: أن التخيير العقلي إذا كان متفرعاً على تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض، لتعلقه بالماهية غير المقيدة، الذي هو مقتضى الإطلاق، فلا يرتفع إلا بسقوط الإطلاق عن الحجية والإطلاق الشمولي إنما يصلح للمانعية من حجية الإطلاق البدلي بلحاظ التعارض بينهما، وهو يقتضي صلوح كل منهما للمنع من حجية الآخر.

نعم، لو كان التخيير العقلي مقتضى أصل آخر من دون أن يستند لمفاد الإطلاق تعين مانعية الشمولي عنه، لوروده عليه، كما سبق. لكن سبق المنع من ذلك.

كما أنه لو فرض عدم التعارض بين الإطلاقين، بل التزاحم بين حكميهما كان حكم الإطلاق الشمولي الإلزامي مانعاً من العمل على طبق حكم البدلي في مورد الاجتماع. وقد سبق أنه خارج عن محل الكلام.

وبذلك ظهر تقارب الوجوه الثلاثة التي ذكرها وابتناؤها على مباني غير تامةٍ في أنفسها.

وعليه لا يتضح وجه تقديم الإطلاق الشمولي بخصوصيته، بل المدار في التقديم على قوة الظهور والدلالة.

نعم، لا يبعد كون الإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق البدلي، لأن التسامح في نسبة الحكم البدلي للماهية بلحاظ ثبوته لها في الجملة أقرب من التسامح في نسبة الحكم الشمولي لها بلحاظ ثبوته لبعض أفرادها، لما

ص: 109

في الثاني من بيان المقتضي في غير مورده، بخلاف الأول، حيث لا يتضمن إلا بيان حال المقتضي على خلاف ما هو عليه من الضيق.

وبعبارة أخرى: ما سبق في الوجه الثاني من استلزام التصرف في الإطلاق البدلي رفع اليد عن سعة الحكم، واستلزام التصرف في الإطلاق الشمولي رفع اليد عن نفس الحكم في المجمع، وإن لم ينهض بترجيح التصرف في الإطلاق البدلي ذاتاً، إلا أن من القريب اقتضاءه قوة ظهور الإطلاق الشمولي، لصعوبة التصرف في مفاده جداً.

لكنه - لو تم - مختص بما إذا كان مفاد الشمولي اقتضائياً.

على أن إعطاء الضابط العام في باب الظهورات لا يخلو عن تكلف، فاللازم التأمل في خصوصيات الموارد، والاستظهار فيها بالقرائن.

ثم إنه بعد أن كان ملاك ترجيح الشمولي - لو تم - قوة دلالته لا خصوصية مدلوله فلا مجال للتعدي لتعارض العموم الشمولي والعموم البدلي، لعدم وضوح أقوائية العموم الشمولي من العموم البدلي بعد أن كان كل منهما مستنداً للوضع ومبنياً على ملاحظة الأفراد والتعميم لها رأساً، لا الاقتصار على الماهية بنفسها، واستفادة التعميم للأفراد تبعاً لذلك، كما في الإطلاق.

منها: انقلاب النسبة

ومنها: انقلاب النسبة الذي كثر النقض والإبرام فيه بينهم. وموضوعه التعارض بين الدليلين لا بلحاظ أنفسهما، بل بلحاظ دليل ثالث. ومرجعه إلى أن الجمع بين الدليلين هل يبتني على ملاحظة نسبة كل منهما للآخر في نفسه وبملاحظة مدلوله الظاهر فيه، من دون أن تنقلب النسبة بينهما بملاحظة الثالث، أو بعد ملاحظة النسبة بينه و

ص: 110

بين الثالث، بأن تلحظ النسبة بين الدليلين بلحاظ ما يكون كل منهما حجةً فيه من مدلوله بسبب الجمع بينه وبين الثالث، لا في مدلوله الظاهر فيه في نفسه، فتنقلب النسبة بينهما بسبب الثالث.

ويختلف الحال كثيراً بين الوجهين، كما يتضح في فرضين..

الأول: لو ورد عام وخاصان مخالفان له بينهما عموم من وجه، مثل أكرم العلماء،: لا تكرم العالم الفاسق، و: لا تكرم العالم الذي لا ينفع بعلمه.

الثاني: لو ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للآخر، مثل: ثمن العذرة سحت، و: لا بأس ببيع العذرة، و: لا يحل بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه.

فإن ملاحظة النسبة بين الدليلين في نفسيهما وبملاحظة مدلوليهما يقتضي في الأول تخصيص العام بكلا الخاصين وإن كان بينهما عموم من وجه، فيخرج أفرادهما على تداخلها عن حكمه، ويبقى حجة في الباقي، فلا يجب إلا إكرام العالم غير الفاسق الذي ينفع بعلمه.

ويقتضي في الثاني العمل بالخاص في مورده، وفي بقية الموارد طرح العامين معاً والرجوع للأصل أو التخيير بينهما على الكلام في حكم التعارض.

أما ملاحظة النسبة بين الدليلين بلحاظ ما يكون كل منهما حجةً فيه من مدلوله، فهو يقتضي في الأول ملاحظة النسبة بين أحد الخاصين والعام بعد تحكيم أحد الخاصين عليه، وقصره على غير مورده، حيث تكون النسبة العموم من وجه، وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق بالنظر لمدلول العام بنفسه، وفي الثاني تخصيص

ص: 111

العام المخالف للخاص به، ثم تخصيص العام الآخر بما يبقى العام المخصص حجة فيه بعد التخصيص، لأنه يكون أخص بعد التخصيص، وإن كان مبايناً له في نفسه.

عدم اختصاص انقلاب النسبة بالعام والخاص

هذا، وحيث كان مبنى الكلام في انقلاب النسبة على نحو من الجمع العرفي بين الأدلة المتعارضة بدواً لاستكشاف مراد المتكلم منها، فهو لا يختص بالعام والخاص، وإن كانت أمثلتهم تدور عليهما، بل يجري في غيرهما من الظهورات المتعارضة، كالمطلق والمقيد والمفاهيم وغيرها. مثلاً إذا ورد: أكرم زيداً إن حج، وورد: لا يجب إكرام الشخص لحجه، وفرض دوران الأمر في الجمع بينهما بين تخصيص الثاني بالأول، وحمل الأول على الاستحباب بقرينة الثاني من دون ترجيح لأحد الوجهين، نظير العامين من وجه، حيث يتردد الأمر في حمل كل منهما على الآخر، فبالعثور على دليل مرخص في ترك إكرام زيد عند حجه يرتفع التردد المذكور ويتعين الثاني على القول بانقلاب النسبة، لصلوح الدليل المذكور للقرينية على حمل الأول على الاستحباب، فلا يكون حجة في الوجوب، كي ينافي العموم المذكور، ويتردد في كيفية الجمع بينهما، وعلى القول بعدم انقلاب النسبة لا أثر لدليل الترخيص المذكور في رفع التردد المذكور، لفرض عدم المرجح لظهور كلٍ منهما في نفسه. فتأمل.

كيفية الجمع العرفي فيها

إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن كيفية الجمع العرفي في النسب المختلفة بين الدليلين، كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد وتنزيل الأمر على الاستحباب لأجل دليل الترخيص وغير ذلك، لا تبتني على خصوصية النسب بأنفسها، بل على تحكيم أحد الظهورين على الآخر، لأقوائيته وصلوحه للقرينية عليه عرفاً.

ص: 112

كما أن توقف العرف عن الجمع بين الدليلين في بعض النسب مبني على عدم إدراك العرف ذلك فيها، إما لعدم إمكان الجمع بينهما عرفاً - كما في بعض صور المتباينين - أو لصلوح كل منهما للقرينية على الآخر من دون مرجح، لعدم أقوائية أحدهما الملزمة بتحكيمه، كما في العامين من وجه.

وجميع ذلك راجع إلى تحكيم العرف في فهم الأدلة بمجموعها، كما يكون هو المحكم في فهم كل دليل بنفسه مع قطع النظر عن غيره.

وعلى ذلك فكما يكون للعرف الجمع بين الدليلين بالنظر لحالهما في أنفسهما يكون له الجمع بينهما بملاحظة الدليل الثالث، حسب المناسبات العرفية والخصوصيات الكلامية من دون تقيد بانقلاب النسبة ولا بعدمه، بل..

تارة: تبتني ملاحظة النسبة بين الدليلين والجمع بينهما على مفاد كل منهما بحسب ظهوره من دون نظر للدليل الثالث، لعدم صلوحه بنظر العرف للتحكم في نحو النسبة بينهما، فلا يكون دخيلاً في قرينية كل منهما على الآخر.

وأخرى: تبتني ملاحظة النسبة بينهما والجمع بينهما على ملاحظة الثالث، لدخله في قرينية أحدهما على الآخر عرفاً، ولا ضابط لأحد الوجهين، بسبب اختلاف النسب واختلاف خصوصيات

الألسنة، وليس هناك جهة ارتكازية ملزمة بأحد الأمرين، ليكون المعوَّل عليها بحسب الأصل في مقام الجمع بين الأدلة.

ومما ذكرنا يظهر ضعف تقريب انقلاب النسبة بأن التعارض والجمع العرفي بين الدليلين إنما يكون بعد فرض حجية كلٍ منهما لولا المعارضة،

ص: 113

فبعد سقوط ظهور أحدهما عن الحجية بسبب الدليل الثالث وحجيته في خصوص ما يقتضيه الجمع العرفي بينه وبين الدليل المذكور لا معنى لكون ظهوره طرفاً للنسبة مع الدليل الثاني، بل لابد من كون نسبته معه بلحاظ خصوص ما هو حجة فيه.

وجه الضعف: أن مرجع عدم انقلاب النسبة في بعض الموارد على ما ذكرنا ليس إلى ملاحظة الظهور طرفاً للنسبة مع الدليل الثاني بعد فرض عدم حجيته بسبب الدليل الثالث للجمع العرفي بينهما في مرتبة سابقة، بل إلى توقف العرف عن الجمع بينهما وتحصيل المراد الجدي من الظهور بسبب المعارض، وعدم الجمع إلا بملاحظة مجموع الأدلة، فإن أمكن الجمع عرفاً كان المجموع حجة في المتحصل منها بأجمعها، وإلّا لزم التوقف.

كما ظهر أيضاً اندفاع ما قد يقال في وجه عدم انقلاب النسبة من أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات، لأن معيار تقديم الدليل قوة ظهوره ومجرد سقوط الظهور في بعض الأفراد عن الحجية لا أثر له في قوته وضعفه، كما لا أثر فيها للدليل الثالث بعد فرض كونه منفصلاً.

وجه الاندفاع: أن انقلاب النسبة في بعض الموارد - على ما ذكرنا - راجع إلى دخل الدليل الثالث في قرينية أحد الدليلين على الآخر عرفآ، وإن لم يكن له أثر في مرتبة ظهور كل منهما، فهو يقتضي..

تارة: استحكام التعارض بينهما مع إمكان الجمع العرفي بدونه.

وأخرى: إمكان الجمع العرفي بينهما مع استحكام التعارض بدونه.

وثالثة: تبدل مقتضى الجمع العرفي بينهما، وكما يكون للعرف الجمع بين الدليلين بالنظر لأنفسهما يكون له الجمع بينهما بعد حمل أحدهما على

ص: 114

ما يناسب الدليل الثالث إذا كان دخيلاً بنظره في قرينية أحدهما على الآخر.

فروض انقلاب النسبة
اشارة

وحيث ظهر عدم الضابط لذلك فالمناسب التعرض لبعض الفروض المذكورة في كلماتهم، لأهميتها وإن لم يسع المجال التعرض لجميع ما ذكروه.

الفرض الأول

الأول: ما إذا ورد عام وخاصان بينهما عموم من وجه، وهو أول الفرضين المتقدمين في صدر المسألة.

ولا ينبغي التأمل في تخصيصه بهما معاً، لأن ظهوره في استيعاب أفراد كل منهما أضعف من ظهور كل منهما في استيعاب أفراده، وهو ملاك التقديم في سائر موارد التخصيص.

ولا يخل بذلك اجتماعهما في بعض الأفراد، أما مع عدم تنافيهما فيه لاتفاقهما في الحكم - كما في المثال المتقدم - فظاهر، وأما مع تنافيهما فيه لاختلافهما في الحكم - كما لو ورد: يجب إكرام العلماء، ويستحب إكرام العالم الذي لا ينتفع بعلمه، و: يحرم إكرام العالم الفاسق - فكذلك لو كان أحد الخاصين أقوى ظهوراً من الآخر ومقدماً عليه في مورد الاجتماع، لاستلزام ذلك أقوائيته من العام وتعينه لتخصيصه والحجية في مورده.

وأما لو تساويا وتساقطا في مورد الاجتماع فلأن سقوط كل منهما عن الحجية في مدلوله المطابقي لا ينافي حجيتهما معاً في نفي حكم العام المخالف لهما.

وما تكرر منّا من عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث مختص بالمتعارضين المتصادمين عرفاً، اللذين لا يصلح كل منهما عرفاً لبيان المراد من الآخر والقرينية عليه، ولا يجري في مثل العامين من وجه مما كان كل

ص: 115

منهما صالحاً للقرينية على الآخر وحمله على ما يناسبه، والتوقف عنهما لعدم تعين أحدهما للقرينية لعدم الأظهر في البين، إذ في مثل ذلك يصلحان عرفاً لبيان نفي الثالث، لأنه المتيقن من مدلولهما، كالكلام الواحد المجمل المردد بين وجهين الذي هو بيان على نفي الثالث. ولعله يأتي التعرض له في محله.

نعم، إذا لزم من تقديم كلا الخاصين على العام كثرة التخصيص المستهجن له كان التعارض بينه وبينهما مستحكماً، كما هو الحال في سائر موارد التخصيص ودخل في التعارض بين أكثر من دليلين، الذي يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا مجال لدعوى انقلاب النسبة في المقام، بدعوى: أنه بعد تخصيص العام بأحد الخاصين تكون النسبة بينه وبين الخاص الآخر العموم من وجه.

وذلك لعدم دخل أحد الخاصين في قرينية الآخر على العام بعد عدم صلوح كلٍ منهما لتفسير الآخر، لفرض كون النسبة بينهما العموم من وجه.

على أن ما سبق من الوجه لانقلاب النسبة إنما يقتضيه في فرض سقوط العام عن الحجية في مورد أحد الخاصين في رتبةٍ سابقة على ملاحظة النسبة بينه وبين الآخر، ولا مجال لذلك في المقام بعد عدم تقدم أحدهما على الآخر رتبة، ليكون التخصيص به سابقاً على التخصيص بالآخر، بل هما في رتبة واحدة في مقابل العام.

ولا وجه لترجيح مقطوع المضمون أو الصدور منهما بعد مشاركة المظنون له في الحجية، فإن القطعي إنما يقدم على الظني عند تعارضهما،

ص: 116

لا في مقام تأثيرهما في الدليل المعارض.

وكذا ترجيح الأسبق زماناً، لعدم الأثر لسبق الخاص زماناً في استكشاف مراد المتكلم من العام.

ولا فرق في ذلك بين ما صدر عن الأئمة (ع) وما صدر عن النبي (ص) بعد فرض كونه مخصصاً، خلافاً لما يظهر من بعض مشايخنا من توجه انقلاب النسبة في فرض اختلاف الزمان في ما صدر عنه (ص)، وأنه يتعين تخصيص العام أولاً بالخاص الأسبق فتنقلب النسبة بينه وبين الخاص المتأخر.

غاية الأمر البناء على النسخ في ما صدر عنه (ص) بالوجه المتقدم في الأمر الثاني، فيتعين العمل بالمتأخر على كل حال. فلاحظ.

نعم، لا إشكال في انقلاب النسبة إذا كان أحد الخاصين متصلاً، لمنعه من انعقاد ظهور العام في العموم، بل ليس هو من انقلاب النسبة حقيقة، إذ النسبة بين العام والخاص الآخر هي العموم من وجه من أول الأمر، إلا أنه لا يبعد غلبة أقوائية ظهور الخاص الآخر في شمول مورد الاجتماع من ظهور العام المخصص حينئذ، فيقدم عليه، كما لو كان أخص منه مطلقاً، ولا أثر لانقلاب النسبة.

الفرض الثاني

الثاني: ما إذا ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للآخر، وهو ثاني الفرضين المتقدمين في صدر المسألة.

والظاهر صلوح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين وقرينة على حمل الموافق له على مورده، والمخالف له على غير مورده، كما لو ورد دليل مفصل بين أفراد العامين، لأن الخاص وإن لم يوجب أقوائية ظهور

ص: 117

العام المخالف له في غير مورده من العام الموافق له فيه، إلا أن يكون قرينةً عرفاً على حمل العام المخالف على غير مورده، فيصلح العام المذكور بضميمته لأن يكون قرينة على حمل العام الموافق على مورد الخاص، فيرتفع التعارض بينهما بسببه ولا يستحكم.

وهو أولى عرفاً من سقوط العامين في تمام أفرادهما والرجوع للخاص في مورده، وللقواعد الأخر في بقية أفراد العامين، ولا سيما إذا كان الخاص مشعراً بخصوصية عنوانه في الحكم بمناسبة ارتكازية ونحوها حيث يسهل تنزيل كلا العامين عليه جداً.

وهذا من موارد انقلاب النسبة عندهم، لأن العام المخالف للخاص بعد أن كان في نفسه معارضاً للعام الموافق يصلح بسبب الخاص لأن يكون مخصصاً له. فتأمل.

نعم، إذا كان مقتضى الجمع المذكور كثرة التخصيص لأحد العامين بنحو مستهجن، إما لقلة أفراد الخاص، بنحو يلزم من الجمع المذكور كثرة التخصيص للعام الموافق، أو لكثرتها، بنحو يلزم كثرة التخصيص للعام المخالف، لم يصلح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين ويستحكم التعارض بينهما. بل في الثاني يكون الخاص معارضاً للعام المخالف له، كالعام الآخر، كما هو ظاهر.

هذا، ولو فرض مخالفة الخاص لكلا العامين في الفرض لم يصلح لأن يكون شاهد جمع بينهما، وتعين استحكام التعارض بينهما، فيرجح الأقوى أو يخير أو يتساقطان ويكون الخاص في مورده حجة على كل حال، لكونه مرجعاً بعد تساقطهما أو مخصصاً للحجة منهما، ويخرج عن محل

ص: 118

الكلام في انقلاب النسبة، لعدم الأثر للخاص في النسبة بين العامين، كما هو ظاهر.

الثالث: ما إذا وردت أدلة ثلاثة أحدها أخص من الآخر مطلقاً.

الفرض الثالث

والظاهر تخصيص الخاص منها لما فوقه مما خالفه في الحكم مطلقاً، سواء اختلفت كلها في أحكامها أم اتفق اثنان منها وخالفهما الثالث، كان المخالف هو الأعم أو المتوسط أو الأخص، كل ذلك لملاك التخصيص في سائر الموارد وعدم دخل تعدد الأدلة في ذلك. كما أن المتفقين لا تنافي بينهما ملزم بالتخصيص بل يتعين العمل بالأعم منهما إذا لم يخصص بمخالف.

وقد يتوهم انقلاب النسبة في بعض الصور المتقدمة، كما لو اتفق المتوسط والأخص في الحكم على خلاف الأعم، بدعوى: تخصيص الأعم بالأخص أولا، فتنقلب النسبة بينه وبين المتوسط للعموم من وجه.

ويندفع: بأن تخصيص الأخص للأعم لا أثر له عرفاً في قرينية المتوسط عليه بنحو لا يشمله ملاك التخصيص.

مضافاً إلى عدم الوجه لتخصيص الأعم بالأخص أولاً قبل تخصيصه بالمتوسط، بل هو مخصص بهما معاً في رتبة واحدة، نظير ما سبق في الفرض الأول.

نعم، إذا كان الأخص متصلاً بالأعم في الفرض تعين انقلاب النسبة بينه وبين المتوسط، نظير ما سبق، ويتوقف تقديم أحدهما في مورد الاجتماع على أقوائية ظهوره، ولا ضابط لذلك، بل هو موكول لخصوصيات الموارد حسبما يدركه الفقيه عند النظر في الأدلة.

ص: 119

كما أنه لو كان الأخص ظاهراً في الحصر كان بمنطوقه مخصصاً للأعم وبمفهومه مخصصاً للمتوسط أو معارضاً له، فيقتصر في الخروج عن الأعم على مورد الأخص، ولا يبقى للمتوسط أثر.

هذا كله إذا لم يلزم من التخصيص محذور مانع ككثرة التخصيص، وإلا تعين التوقف أو الجمع بوجهٍ آخر حسبما تقتضيه خصوصية المقام، وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا يسعنا مجاراتهم فيه بعد ما عرفت من الضابط في المقام.

الفرض الرابع

الرابع: ما إذا ورد عامان بينهما عموم من وجه، وخاص مخالف لهما معاً في محل الاجتماع.

ولا إشكال في تقديمه عليهما معاً والعمل بكل منهما في ما ينفرد فيه. وقد جعله غير واحد من موارد انقلاب النسبة، بدعوى انقلابها بينهما بسبب الخاص المذكور إلى التباين ويرتفع التعارض بينهما، لتعدد الموضوع، كما لو اختص كل منهما ابتداءً بما ينفرد فيه.

لكن الظاهر عدم توقف تقديمه في مورد الاجتماع والعمل بهما في مورد الإنفراد على ذلك، بل لو فُرض عدم انقلاب النسبة واستحكام التعارض بينهما للزم العمل بكل منهما في مورد الانفراد، لعدم المعارض، والعمل بالخاص في مورده، لكونه مخصصاً للأقوى منهما لو كان، ومرجعاً بعد تساقطهما لو تساوياً.

نعم، انقلاب النسبة هو الأقرب للمرتكزات العرفية في مقام الجمع بين الأدلة، لأن الخاص المذكور صالح للقرينية عرفاً عليهما بملاك التخصيص الجاري في كل عام وخاص ولا تصل النوبة للتعارض.

ص: 120

ومجرد كونه مخصصاً للعمومين لا لعامٍ واحدٍ لا أثر له في ذلك، نظير ما تقدم في الفرض الثاني.

ومنه يظهر الحال لو كان الخاص مخصصاً لأحد العامين المذكورين في مورد الافتراق، حيث يكون قرينة على حمل العام المذكور على مورد الاجتماع وتقديمه على العام الثاني فيه، لئلا يبقى بلا مورد، وحمل العام الثاني على مورد انفراده.

واليه يرجع ما قيل من أن الخاص المذكور سبب لانقلاب النسبة بين العامين إلى العموم المطلق، وهو أولى من بقاء العامين على ما هما عليه من التعارض في مورد الاجتماع والعمل بالخاص في مورده، وبالعام الآخر في مورد انفراده، المستلزم لسقوط العام المخصص عن الحجية مطلقاً في مورد انفراده لتخصيصه، وفي مورد الاجتماع لمعارضته بالعام الثاني.

وأما لو ورد خاصان في الفرض، كل منهما مخصص لأحد العامين في مورد الافتراق فمن الظاهر أنهما لا يصلحان للقرينية على العامين ورفع التعارض بينهما، لأن تخصيصهما بهما مستلزم لحملهما معاً على مورد الاجتماع، فيتعارضان فيه، كما هو الحال قبل ورود الخاصين، وإنما الكلام في أن التعارض يختص بالعامين مع حجية الخاصين في موردهما، أو يشاركهما الخاصان أيضاً، فتسقط الأدلة الأربعة؟

وجهان.. اختار أولهما بعض الأعاظم (قدس سره) في ما حكي عنه، لدعوى: أن الخاصين غير متعارضين، لا بأنفسهما، لتعدد موضوعيهما، ولا بالنظر للعامين، لفرض كونهما مخصصين لهما.

وفيه: أن كلاً من الخاصين وإن كان مخصصاً لأحد العامين وحمله

ص: 121

على مورد الاجتماع بالنظر لنفسه، إلا أنه لا مجال للبناء على ذلك فيهما معاً في المقام، لاستلزامه حمل كلا العامين على خصوص المورد المذكور، وهو ممتنع، فلا يكون تحكيم الخاصين عليهما جمعاً عرفياً.

وبعبارة أخرى: تقديم الخاص على العام لما لم يكن تعبدياً، بل بملاك الجمع العرفي وبيان الخاص للمراد من العام فلا مجال له في المقام، للعلم بكذب أحد الجمعين.

ودعوى: أن تعارض العامين في مورد الاجتماع لازم على كل حال عمل بالخاصين أم لم يعمل بهما، فهما ساقطان عن الحجية في نفسيهما، فلا ينهضان بمعارضة الخاصين.

مدفوعة: بأن مرجع تعارضهما في نفسيهما صلوح كل منهما للقرينية على الآخر وحمله على مورد الانفراد مع حجية كل منهما في مورد الانفراد، ولا مجال لذلك بالنظر للخاصين، لاقتضائهما إخراج موردي الانفراد عنهما وحملهما معاً على مورد الاجتماع، وهو ممتنع، كما ذكرنا.

فيتعين كون التعارض بين مجموع الأدلة، للعلم الإجمالي بكذب بعضها - كما ذكره بعض مشايخنا - من دون مجال للجمع العرفي بينها، ولا مرجح للخاصين.

اللهم إلا أن يقال: كل من الخاصين وإن اقتضى صرف العام المخالف له إلى مورد الاجتماع، إلا أنه لا يقتضي استيعابه له، وإنما هو مقتضى عموم العام، وكما يمكن التنزل عن عموم العام بالإضافة لمورد الانفراد لأجل الخاص يمكن التنزل عن ظهوره في استيعاب أفراد مورد الاجتماع بلحاظ مجموع الأدلة.

ص: 122

وعليه يمكن الجمع عرفاً بين مجموع الأدلة بحمل كلا العامين على مورد الاجتماع، مع التنزل عن ظهور كل منهما في استيعابه، وإن تعين سقوطهما معاً فيه، لعدم القرينة على تعيين ما يراد بكل منهما من أفراده.

نعم، ذلك - مع توقفه على إمكان التفكيك بين أفراد مورد الاجتماع في الحكم - مشروط بأن يكون مورد الاجتماع كثير الأفراد بحيث لا يلزم من حمل كل من العامين على خصوص بعض أفراده التخصيص المستهجن، بأن يكون ظهور كل من الخاصين في مورده أقوى من ظهور كل من العامين في الاستيعاب لمقدار أفراد مورد الاجتماع، بنحو يكون قرينة عرفاً على صرفهما عن الظهور المذكور.

هذه بعض الفروض المذكورة في كلماتهم لانقلاب النسبة، وهناك فروض أخرى لا مجال للتعرض لها، كما لا مجال للتعرض لغيرها مما يمكن فرضه في المقام، لتعذر استيعاب موارد انقلاب النسبة، ولا سيما بعد ما سبق من عدم اختصاصه بالعام والخاص، وأنه يجري في سائر موارد الجمع العرفي. بل يتعين الاكتفاء بما سبق من الضابط المتقدم له مع إيكال تشخيص صغرياته لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة المتنافية.

والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتسديد.

ص: 123

ص: 124

المقام الثاني : في مراتب الأدلة
اشارة

من الظاهر أن استنباط الحكم والوظيفة العملية عن الأدلة التفصيلية كما يتوقف على معرفة الأدلة والوظائف الظاهرية يتوقف على معرفة النسب، بينها وتعيين مراتبها في ما بينها كي لا يرجع للمتأخر مع وجود المتقدم، لرجوع ذلك لتشخيص دليليَّة الدليل ومعرفة موردها.

ومن هنا كان البحث عن ذلك من مقدمات الاستنباط المهمة، كالبحث عن نفس الأدلة.

وقد سبق تعيين الأدلة والوظائف الظاهرية في المباحث السابقة من دون بحث عن النسب بينها وتشخيص مرتبة كل منها، عدا الاستصحاب، حيث تقدم الكلام في مرتبته، لخصوصية في دليله لا تجري في أدلة غيره.

ولما كان البحث في المقام الأول عن أصول النسب الأربع - وهي التخصص والورود والحكومة والجمع العرفي - وتعيين ضوابطها، وبيان وجه العمل عليها كان المناسب إلحاق ذلك بالبحث عن تشخيص النسب بين الأدلة والوظائف الظاهرية على ضوء ما تقدم، وقد عقدنا هذا المقام لذلك.

ص: 125

هذا، وحيث لا ريب في تقدم الأدلة القطعية رتبة، للغوية جعل الحجة على طبق القطع، واستحالة جعلها على خلافه - على ما تقدم في مباحث القطع - فيقع الكلام في غيرها مما لا يقطع معه بالحكم الشرعي الواقعي، إما لعدم تعرضه له - كما في الأصول - أو لعدم إفادته القطع به وإن كان متعرضاً له، كالطرق والأمارات.

إذا عرفت هذا، فالظاهر لزوم الرجوع للطرق والأمارات في المرتبة الأولى، ثم للأصول والقواعد الشرعية الإحرازية - كالاستصحاب - ثم للأصول الشرعية غير الإحرازية تعبدية كانت كأصالة الطهارة أم غيرها كالبراءة والاحتياط، ثم للأصول العقلية العملية.

كما أن الظاهر تقدم الأصول التعبدية الموضوعية، التي يحرز بها الحكم بضميمة الكبريات الشرعية وإن لم تكن إحرازية، على الأصول الحكمية وإن كانت إحرازية، وهو مرادهم بتقدم الأصل السببي على المسببي.

وعلى هذا جرى الأصحاب في مقام الاستدلال، بنحو يظهر منهم المفروغية عنه، بل صرح بعضهم بذلك.

نعم، قد يظهر من بعضهم الخروج عن ذلك في بعض الموارد، حيث يجمع في مقام الاستدلال بين المترتبين أو يعارض بينهما.

إلا أن الظاهر كون منشئه الغفلة عن الحال أو محض الاستظهار في مقام الاستدلال، وإلا فمن البعيد جداً خلافهم في ذلك.

وكيف كان، فاللازم التعرض لوجه ما ذكرنا.

وحيث كانت الأصول الإحرازية الجارية في الشبهات الحكمية

ص: 126

منحصرة بالاستصحاب كان بيان نسبتها هنا مستغنى عنه بما تقدم في الاستصحاب في توجيه تقديم الطرق عليه وتقديمه على بقية الأصول المأخوذ في موضوعها محض الشك.

وأما بقية الأصول والقواعد الإحرازية - كقاعدة اليد والفراغ والفراش وغيرها - فهي قواعد فقهية لا تجري إلا في الشبهات الموضوعية، الخارجة عن محل الكلام، ولا يسعنا استقصاء حالها، وإنما تقدم في خاتمة الاستصحاب التعرض لبعضها، وتقدم أنها مقدمة على الاستصحاب، فتقدم على ما تأخر عنه من الأصول بالأولوية.

كما لا مجال للتعرض لنسبتها مع الطرق والأمارات والقواعد الأخر، بل يوكل للفقه.

كما لا ينبغي التأمل في تأخر الأصول العقلية عن الطرق والقواعد والأصول الشرعية، لورودها عليها، حيث لا يحكم العقل بالوظيفة الظاهرية إلا عند التحير وعدم تصدي الشارع لبيانها، وإلا استغنى ببيانه، فيرتفع به موضوع حكمه.

وعلى هذا لا يبقى في المقام إلا الكلام في وجه تقدم الطرق والأمارات على الأصول، وفي وجه تقدم الأصل السببي على المسببي، فيقع البحث في أمرين..

البحث في أمرين..
الأمر الأول: في تقديم الطرق والأمارات على الأصول
اشارة

الأمر الأول: في تقدم الطرق والأمارات على الأصول الشرعية.

من الظاهر أن إطلاق أدلة الأصول شامل لصورة قيام الطرق والأمارات بعد فرض عدم إفادتها العلم بالحكم الواقعي، فهي بنفسها مع قطع النظر عن دليل حجيتها لا ترفع موضوع الأصول، وإلا لزم قصورها

ص: 127

في فرض عدم حجية الطرق والأمارات أيضاً، وهو خارج عن محل الكلام.

كما أنه لا إشكال في أن مفاد الطريق والأمارة لا ينافي مفاد الأصل، لتعدد الموضوع، بسبب حكايتهما عن الواقع، وعدم تعرض الأصل له، بل للوظيفة الظاهرية في ظرف الجهل به لا غير، وإنما التنافي بين دليل حجية الطرق والإمارات ومفاد الأصول، لتعرض كل منهما للوظيفة الظاهرية الفعلية.

ومن هنا كان محل الكلام في المقام هو النسبة بينهما، لا بين الأصل ونفس الطريق والأمارة، وان أوهمه عنوان المسألة.

إذا عرفت هذا، فربما يدعى ورود أدلة الطرق والأمارات على أدلة الأصول..

إما لدعوى: أن المراد من الشك والجهل في موضوعها هو عدم الحجة، فيرتفع موضوعها بقيام الطرق أو الأمارات بضميمة دليل حجيتها.

أو لدعوى: أن المراد به ما يقابل العلم ولو بالوظيفة الظاهرية، فيرتفع موضوعها بقيامها بضميمة دليل حجيتها أيضاً. وكلاهما مخالف للظاهر جداً، بل ظاهر الجهل والشك في موضوع أدلة الأصول الشرعية هو الأمر النفسي المقابل للعلم بالواقع، الباقي حتى مع قيام الطرق والأمارات وحجيتها، كما سبق نظيره في الاستصحاب.

وإنما يتجه الثاني في ما سيق من الأدلة مساق الأصول العقلية ومؤكداً لمفادها وهو خارج عن محل الكلام. وقد تقدم توضيح الفرق بين المفادين في أول الكلام في أدلة البراءة. ويأتي تمام الكلام في توجيه الورود في آخر الكلام في وجوه الجمع العرفي إن شاء الله تعالى.

ص: 128

هذا، والذي ادعاه شيخنا الأعظم (قدس سره) وجملة ممن تأخر عنه هو حكومة أدلة الطرق والأمارات على أدلة الأصول، لرفعها لموضوعها تعبداً أو تنزيلاً، بسبب تقييد موضوع الأصول شرعاً بالشك والجهل، وإطلاق موضوع أدلة حجية الطرق والأمارات من هذه الجهة. وهي وإن كانت قاصرة عن صورة العلم، إلا أن قصورها لما كان عقلياً بملاك استحالة جعل الحجية معه، ومختصاً بالعلم الوجداني، فلا مجال لفرض الحكومة فيه، لما سبق من عدم جريانها في الأدلة اللبية لتحديد موضوعها بنحو لا يقبل البيان والتفسير، بخلاف تقييد أدلة الأصول بالجهل، فإنه لما كان مستفاداً من تقييدها به شرعاً في الأدلة اللفظية أمكنت حكومة أدلة الطرق والأمارات عليها وبيانها لمفادها.

وقد أشير في كلامهم لتقريب حكومة الطرق والأمارات، بدعوى: أنها بضميمة دليل حجيتها تكون رافعة لموضوع الأصول - وهو الجهل - تعبداً أو تنزيلاً وإن كان باقياً حقيقة، لفرض عدم إفادتها القطع.

وقد سبق أن ذلك موجب للحكومة عندهم، وذكرنا أنه لا يوجب الحكومة البيانية بل العرفية، التي هي من صغريات الجمع العرفي.

لكن ما ذكروه من ارتفاع الجهل تعبداً أو تنزيلاً مبني على مختارهم في مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من تنزيلها منزلة العلم، أو جعلها علماً تعبداً، وهو ممنوع، بل ليس مفادها إلا حجية الطرق والأمارات اعتباراً بنحو تصلح لأن يعتمد عليها في البناء على ثبوت مؤداها عملاً كالعلم، على ما سبق الكلام فيه مفصلاً في مباحث القطع. فراجع.

وأما مجرد حجية الطرق والأمارات من دون أن تكون بلسان تنزيلها

ص: 129

منزلة العلم أو جعلها علما تعبداً فهو لا يكفي في الحكومة العرفية، فضلاً عن البيانية، لأن الحجية وإن اقتضت متابعة الحجة في مقام العمل بنحو تكون معذرة أو منجزة على خلاف الأصل، إلا أن الأصل بإطلاق دليله يقتضي التعذير والتنجيز المستتبعين للعمل على خلافها، ولا أولوية لأحدهما بعد فرض تحقق موضوع كلٍ منهما. وقد سبق نظير ذلك في مبحث الاستصحاب.

وجوه تقريب تقديم الطرق والأمارات على الأصول..

ومن هنا فالظاهر أن تقديم الطرق والأمارات على الأصول مقتضى الجمع العرفي بين أدلتها والمناسبات الارتكازية، مع التنافي بينها بدواً، فإنه وإن كان بين إطلاق كل منها عموم من وجه، إلا أن المتعين تنزيل أدلة الأصول على ما لا ينافي أدلة الطرق والأمارات.

وتقريب ذلك بوجوه..

الوجه الأول

الأول: أن تقديم أدلة حجية الطرق والأمارات على الأصول لا يوجب إلغاء دليل الأصول عرفا، لكثرة موارد فقد الحجة، بخلاف العكس، فإنه موجب لإلغاء أدلة الحجية عرفاً، إذ لا يبقى تحتها إلا الموارد التي تطابق فيها الأصل فيستغنى به عنها، والموارد التي لا يجري فيها الأصل الترخيصي كالبراءة، أو الإلزامي، كالاحتياط في الشبهة التحريمية عند الإخباريين، وهي نادرة.

ولا مجال للتفكيك بين الموارد، فتقدم الحجج على الأصول في بعضها، وتقدم الأصول في بعض، لعدم الفرق عرفاً بين الموارد من هذه الجهة، وعدم المرجح لبعضها بالإضافة للإطلاقات، بل لابد إما من تقديم الأصول في الجميع أو تقديم الحجج كذلك.

ص: 130

ومثله التفكيك بين الأصول، فتقدم الحجج على البراءة دون الاحتياط، أو دون قاعدة الطهارة مثلا، لعدم الفرق بين أدلة الأصول في ذلك بعد كون موضوعها محض الشك.

الوجه الثاني

الثاني: أن النظر في مجموع أدلة حجية الطرق والأمارات وأدلة الأصول شاهد بتقديم أدلة الحجية، إما للتصريح بذلك في أدلتها - كموثق مسعدة بن صدقة المصرح باستثناء صورة قيام البينة من عموم قاعدة الحل وغيره - أو لأنه المتيقن من بعض مواردها، لورودها في مورد الأصول الترخيصية أو الإلزامية.

ولا مجال لاستقصاء ذلك في المقام بعد وضوحه وقضاء المرتكزات العرفية به وجري الأصحاب عليه بمقتضى طبعهم من دون تكلف أو تعمل. فلاحظ.

الوجه الثالث
اشارة

الثالث: ما سبق في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية، حيث يجري هنا - كما أشرنا إليه آنفاً - بتقريب أن مقتضى إطلاق أدلة الأصول هو فعلية مقتضاها والعمل عليه ولو مع قيام الطرق والأمارات المستلزم لعدم حجيتها، إلا أن مقتضى الجمع بينها وبين أدلة الحجية هو حملها على ثبوت مقتضاها من حيثية موضوعها وهو الشك، وإن لم يكن فعلياً لطروء أمرٍ زائد على ذلك مقتض لخلافه، وهو قيام الطرق والأمارات، كما هو الحال في سائر موارد الجمع بين أدلة الأحكام الأولية والثانوية.

وليس ذلك من مورد الحكومة البيانية ولا العرفية، لعدم نظر أدلة الحجية لأدلة الأصول ولا لمؤدياتها، ولذا لا تلغو حتى مع فرض عدم جعل الأصول شرعاً والبقاء على الأصول العقلية، كما فصلنا الكلام في نظيره

ص: 131

هناك.

إن ثانيها هذا لا يناسب ما تضمنه غير واحدً من نصوص الأصول من إناطتها بعدم العلم وجعله رافعاً لها، بعد ما سبق من ظهوره في العلم بالواقع لا بما يعم الوظيفة الظاهرية، ولا في مطلق قيام الحجة، ولذا لم تكن الطرق والأمارات واردة عليها.

ثانيها المتعين تنزيل ذلك بملاحظة الجمع المذكور على أن ذكر العلم ليس بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق كاشف عن الواقع ودليل عليه، فيقوم مقامه سائر الطرق والأمارات المعتبرة، وهو

راجع في الحقيقة إلى كون الرافع لموضوع الأصول هو ثبوت الواقع ولو بغير العلم، وأن ذكر العلم بما أنه الفرد الظاهر، كما سبق عند الكلام في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع.

ويناسبه ما في موثق مسعدة بن صدقة من الاقتصار على العلم في صدره ثم قوله (ع) في الذيل:

«والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة»(1). لكن ذلك في الحقيقة راجع إلى ورود الطرق على الأصول المخالفة لها، ورفعها لموضوعها حقيقة، لأنه إذا كان المراد بالعلم الرافع لمفاد الأصل ليس هو العلم بما هو صفة خاصة، بل بما أنه طريق للواقع المجهول، رجع ذلك الى كون الرافع لمفاد الأصل الذي به ينتهي موضوعه مطلق الطريق المخالف له وإن لم يكن علماً، فكما يرتفع موضوع الأصل بالعلم المخالف لمفاده يرتفع موضوعه بالطريق المخالف له، وهو عين الورود، وإن اختلف وجهه وتقريبه عما سبق. فلاحظ.

ص: 132


1- الوسائل ج: 12، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4.
تنبيهات..
الأول:

الأول: بناء على ورود أدلة الحجية على أدلة الأصول ورفعها لموضوعها - وهو الجهل - حقيقة - كما هو مقتضى ما تقدم منهم في تقريبه - لا مجال لجريان الأصل في مورد قيام الحجة حتى لو كان موافقاً لها، لعدم الموضوع له معها. أما بناء على ما تقدم منا في تقريبه من عموم الرافع لمفاد الأصل للطريق المخالف له عملاً، فهو لا يقتضي ارتفاعه مع قيام الطريق الموافق له عملاً، بل يتعين جريانهما معاً كما يأتي عند الكلام في مقتضى الوجه الثالث من وجوه الجمع العرفي.

وأما بناءً على الحكومة المبتنية على رفع الحجة لموضوع الأصل تعبداً أو تنزيلاً، فالمتعين عدم جريان الأصل مع الطريق له مطلقاً وإن كان موافقاً له عملاً. لرجوعها لباً إلى قصور موضوع الأصل عن صورة قيام الحجة وإن كان شاملاً لها لفظاً بمقتضى عموم دليله.

أما بناءً على ما ذكرنا من وجوه الجمع العرفي فقيام الحجة إنما يمنع من جريان الأصل المخالف لها دون الموافق. أما على الوجهين الأولين فظاهر، وأما على الثالث فلأن العنوان الثانوي الاقتضائي

إنما يمنع من تأثير العنوان الأولي غير الاقتضائي مع تنافي أثريهما، لا مع اتفاقهما، وإن كان الاستناد في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته أولى ارتكازاً من الاستناد فيه إلى مجرد عدم المقتضي لخلافه.

نعم، لو ابتلت الحجة الموافقة للأصل بمعارضة حجة أخرى مخالفة له لم يكن الأصل طرفاً للمعارضة بل يكون مرجعاً بعد تساقط الحجتين، لما هو المرتكز من أن اللامقتضي لا يكون طرفاً للمصادمة مع المقتضي وإن لم

ص: 133

يكن أثره فعلياً معه، بل ينحصر التصادم بالمقتضيين، وبعد سقوطهما يكون الأثر على طبق اللامقتضي لعدم المانع من فعليته.

وإن شئت ثانيها اللامقتضي وإن لم يكن متأخراً رتبة عن المقتضي الموافق له، إلا أنه متأخر عن المقتضي المخالف له لمانعيته من تأثيره، ففي مرتبة تعارض المقتضيين لا يكون اللامقتضي فعلي التأثير، لصلوح المقتضي المخالف له لمنعه، لعدم سقوطه في المرتبة المذكورة، وإنما يكون فعلي التأثير بعد سقوط المقتضيين في المرتبة الثانية للتعارض، لعدم المانع منه حينئذ.

الثاني:

الثاني: ما سبق من وجوه التقديم إنما يتجه فيما إذا كان لدليل الحجية عموم لفظي شامل لمورد الأصل، أما لو أخذ في موضوعها عدم الوظيفة الشرعية كان الأصل وارداً عليها. كما هو الحال في القرعة بناء على أنها من الأمارات وثبوت عموم أنها لكل أمر مشكل، لظهور أن الأصل رافع للإشكال.

كما أنه لو كان دليلها لفظياً لا عموم له أو لبياً، كحجية الظواهر ونحوها مما كان حجة ببناء العقلاء أو الإجماع فلا يجري فيه ما تقدم على إطلاقه، بل ينبغي التفصيل بين ما ثبتت حجيته بدليل تعبدي - كالإجماع والأدلة اللفظية التي لا عموم فيها - وما ثبتت حجيته ببناء العقلاء الذي لابد من عدم الردع عنه.

أما الأول فإن قطع بشمول دليله لمورد الأصل وجب العمل به وتقديمه إما بالورود - لو تم تقريبه المتقدم - أو بتنزيل عموم دليل الأصل عليه، نظير ما سبق في الجمع العرفي، ولا مجال لفرض الحكومة فيه إذا

ص: 134

كان لبياً، لما ذكرناه عند الكلام فيها من أنه لابد في الحاكم من أن يكون دليلاً لفظياً

متميزاً بلسان الشرح والنظر، ولا يتجه في اللبي الذي لا يفيد إلا واقع الحكم. نعم، قد يتجه فرضها في الأدلة اللفظية التي لا عموم فيها.

وإن لم يقطع بشموله لمورد الأصل لزم العمل بالأصل، لا لتقديمه عليه، بل لانفراده بالحجية بعد فرض الشك في حجية الطريق أو الأمارة، ولذا يعمل بالأصل حينئذ حتى بناء على ورود الطرق والأمارات - بلحاظ دليل حجيتها - على الأصول، لأن ورودها فرع الدليل على حجيتها.

وأما الثاني فإن قلنا بورود الطرق والأمارات على الأصل لم ينهض دليل الأصل للردع عن السيرة، لتأخره عن مفادها رتبةً لرفعها لموضوعه.

وإلا كان دليل الأصل صالحاً للردع عنها، على ما تقدم نظيره في مبحث حجية خبر الواحد عند الكلام في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر.

إلا أن يثبت إمضاء السيرة، فيكون دليل الإمضاء هو المقدم على دليل الأصل، ويلحقه ما سبق من التفصيل بين الدليل اللفظي واللبي، أو تكون السيرة من الوضوح بحد يغفل العرف عن شمول عموم دليل الأصل لموردها، على ما تقدم في مبحث حجية الظواهر وخبر الواحد. وقد تقدم نظير ذلك في الاستصحاب.

الثالث

الثالث: تقديم الطرق والأمارات على الأصول مختص بما إذا اتحد موضوعها، بحيث يكون الطريق أو الأمارة بياناً شرعياً في مورد الأصل، أما مع تعدد الموضوع وتباين الواقعتين مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الجعلين عملاً لمقتضى الواقع، فإن كان الطريق أو الأمارة حجة في لازم

ص: 135

المؤدى كان بياناً في مورد الأصل.

وإلا فإن لزم من العمل بكل منهما محذور في مخالفة العلم الإجمالي سقطاً معاً عن مقام العمل من دون مرجح للطريق أو الأمارة، لاختصاص الوجوه المتقدمة بما إذا كانا بياناً في مورد الأصل، وإلا لزم العمل بكلٍ منهما في مورده، نظير ما يذكر في الأصلين المعلوم كذب أحدهما إجمالاً.

الرابع

الرابع: الظاهر أنه لا فرق في الأصول غير الإحرازية بين التعبدية المبنية على التعبد بالمضمون والمقتضية للبناء عليه عملاً - كأصالة الطهارة والحل - وغيرها مما لا يتضمن إلا محض التعذير أو

التنجيز في مقام العمل - كالبراءة والاحتياط - ولا تتقدم الأولى على الثانية، لعدم الموجب لذلك بعد عدم تضمن الأولى إحراز المؤدى وبيانه، ليتوجه تقديمها بملاك تقديم الأصل الإحرازي الذي أشير إليه في وجه تقديم الاستصحاب على غيره من الأصول، بل هي مشتركة في أن موضوعها محض الشك.

الأمر الثاني: في تقديم الأصل السببي على المسببي
اشارة

الأمر الثاني: في تقديم الأصل السببي على المسببي.

والمراد بالأصل المسببي هو الأصل الجاري رأساً في الأثر الذي يترتب عليه العمل، أما السببي فهو الذي يقتضي التعبد بالأثر بتوسط التعبد بموضوعه وسببه الشرعي، لما سبق عند الكلام في الأصل المثبت من أن التعبد بالموضوع مستلزم للتعبد بأثره الشرعي عرفاً، فيتفرع التعبد بالأثر في مورد الأصل المسببي على ضم الصغرى المتعبد بها بمقتضى الأصل السببي للكبرى الشرعية المتضمنة للتلازم بين الموضوع والأثر.

ومنه يظهر أنه لابد في الأصل السببي من كونه أصلاً تعبدياً مقتضياً للبناء على مضمونه الذي هو موضوع الأثر، ليترتب عليه البناء على الأثر،

ص: 136

أما الأصل المتمحض في التعذير والتنجيز - كالبراءة والاحتياط - فهو لا يصلح للتعبد بالأثر بعد عدم تضمنه التعبد بموضوعه، ليكون مقدماً على الأصل المسببي الجاري في الأثر رأساً.

ولذا لا إشكال ظاهراً في أن جريان الاحتياط عند الشارع في التكليف قبل الفحص لا يقتضي ترتب آثار ذلك التكليف المنافية للاحتياط، بنحو يكون الاحتياط في التكليف منافياً للاحتياط في أثره، فلو وجب الاحتياط عند الشك في وجوب الإنفاق لم يسقط الاحتياط في التكليف المترتب على عدم وجوبه، كوجوب الحج.

فما ذكره بعض مشايخنا من فرض مثل أصل البراءة سببياً غير ظاهر.

نعم، لو كان للسعة أو الحرج في مقام العمل اللذين هما مقتضى الأصل التعذيري والتنجيزي لازم شرعي أو عقلي تعين ترتبه واقعاً، لتحقق موضوعه كذلك، كقابلية الفعل للتقرب مع جريان

البراءة فيه وإن كان محرماً واقعاً، وعدم قابليته له مع جريان الاحتياط فيه وإن لم يكن محرماً، وهو خارج عن محل الكلام.

وأما الأصل المسببي فلا يعتبر فيه شيء من ذلك، كما لا يعتبر في السببي أن يكون إحرازياً بل يقدم وإن لم يكن إحرازياً على المسببي وإن كان إحرازياً، كأصالة الطهارة في الماء التي يرفع اليد بها عن استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، كما يرفع بها اليد عن أصالة البراءة من وجوب تطهير المسجد به لو انحصر به الماء.

نعم، مفروض كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني I ما في السببي والمسببي هو الاستصحاب، ونظرهما في استدلالهما على تقديم

ص: 137

السببي لدليل الاستصحاب.

لكن الظاهر أنه ناشئ من تحريرهما للمسألة في الاستصحاب، لا من اختصاص ملاك التقديم عندهما به. ومن ثم صرح غير واحد ممن تأخر عنهما بالتعميم.

إذا عرفت هذا، فما يستفاد من كلماتهم في تقريب تقديم السببي وجوه..

وجوه التقديم المذكور
الأول: ما يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره)

الأول: ما يظهر من شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني I ما من أن تقديم السببي لا يستلزم تخصيص دليل الاستصحاب، بخلاف العكس، حيث يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) أن السببي وارد على المسببي، لارتفاع موضوعه معه، دون العكس.

فإن كان ذلك منه مبنياً على أن موضوع المسببي هو عدم الدليل على ما يعم الوظيفة الظاهرية، والسببي صالح لبيان الوظيفة الظاهرية في مورد المسببي، بخلاف العكس، لأن التعبد بالأثر لا يقتضي التعبد بموضوعه إلا بناء على الأصل المثبت.

فهو في غير محله، بل موضوع المسببي - بمقتضى ظاهر دليله - هو الشك بالواقع، كما سبق في الأمر الأول، وهو باقٍ مع جريان السببي.

وإن كان مبنياً على أن نقض اليقين السابق في مورد المسببي بالسببي ليس نقضاً بمحض الشك، بل بتعبدٍ زائدٍ عليه في مورده، فلا يشمله النهي عن نقض اليقين بالشك، الذي تضمنه دليل الاستصحاب. أما نقض اليقين في مورد السببي فهو نقض بمحض الشك، لعدم صلوح التعبد بالمسببي لنقض اليقين في مورد السببي، إلا بناء على الأصل المثبت.

ص: 138

فهو - مع عدم كونه وروداً بالمعنى المتقدم - مختص بما إذا كان المسببي استصحاباً، على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - توضيحه. على أن ما ذكره - لو تم - جرى في الطرق والأمارات، مع أنه (قدس سره) صرح ببقاء موضوع الأصل معها، وأن وجه تقديمها منحصر بالحكومة، كما سبق.

نعم، لا مجال للنقض بذلك على المحقق الخراساني (قدس سره) فإنه وإن ذكر أن نقض اليقين في مورد المسببي بالسببي ليس من نقض اليقين بالشك، بل باليقين، بخلاف العكس، إلا أنه التزم بذلك في الطرق والأمارات أيضاً، على ما تقدم في الاستصحاب. لكن تقدم الإشكال عليه هناك أيضاً. مضافاً إلى ما أشرنا إليه هنا من اختصاص الوجه المذكور بالاستصحاب.

الثاني: ما يظهر من غير واحد في وجوه تقريبها

الثاني: ما يظهر من غير واحد من تقريب حكومة الأصل السببي على المسببي على اختلاف منهم في وجوه تقريبها..

أولها ما يظهر من تقرير الكاظمي (قدس سره)

أولها: ما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي لكلام بعض الأعاظم I من دعوى: أن الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي - وهو الشك - في عالم التشريع، لأن التعبد بمؤدى السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك في مورد المسببي، لأن التعبد بالشيء يقتضي التعبد بأثره، ولا معنى له إلا ذلك، بخلاف التعبد بمؤدى المسببي، فإنه لا يقتضي ذلك مطابقة، بل بضميمة الملازمة بين الأثر وموضوعه، ولا أثر لها إلا بناء على حجية الأصل المثبت.

فارتفاع موضوع السببي بالمسببي - مع ابتنائه على حجية الأصل المثبت المعلوم عدمها - موقوف على بقاء موضوعه معه، وقد فرض عدمه وأن ارتفاعه به مقتضى مدلوله المطابقي، ولا يكفي فيه البناء على حجية

ص: 139

الأصل المثبت، لوضوح أن حجية الأصل في لازم مؤداه فرع جريانه في نفسه وتحقق موضوعه.

لكن لا يخفى أنه مبني..

المناقشة فثيه

أولاً: على كفاية الإلغاء والرفع الشرعي التعبدي في الحكومة.

وثانياً: على أن مفاد الأصول التعبدية والإحرازية إلغاء الشك شرعاً بمعنى رفعه تعبداً. وقد تقدم في آخر الكلام في الحكومة الكلام في الأول.

كما تقدم في مبحث القطع الموضوعي إنكار الثاني، وأنه ليس مفادها إلا عدم العمل بأحد طرفي الشك في ظرف وجوده، وهو لا يكفي في الحكومة، لوضوح أن كلا التعبدين السببي والمسببي يقتضي العمل على خلاف ما يقتضيه الآخر، من دون مرجح لأحدهما بعد تحقق موضوعهما، وهو الشك.

وبالجملة: بعد فرض بقاء موضوع كلا الأصلين - وهو الشك - كما ذكرنا يدور الأمر بين إلغاء السببي في بعض آثاره وإلغاء المسببي بالمرة، وتعيين الثاني يحتاج إلى مرجح.

على أن ما ذكره من عدم جريان المسببي حتى بناء على حجية الأصل المثبت في غاية المنع، إذ لو فرض حجية الأصل المثبت فكل من الأصلين متحقق الموضوع مع قطع النظر عن الآخر، فيجري في نفسه ويرفع موضوع الآخر، ويكون من موارد توارد الأصلين، ولا وجه لفرض جريان السببي أولاً ورفعه لموضوع المسببي، لعدم تعرضه لمرجح له.

وكون التعبد بالأثر مقتضى المدلول المطابقي للأصل السببي - مع عدم وضوحه في نفسه - لا يصلح مرجحاً بعد فرض حجية الأصل في

ص: 140

المدلول المطابقي والإلتزامي معاً.

كما أن مجرد الترتب شرعاً بين موردي الشك في السببي والمسببي لا يقتضي الترتب بينهما في الدخول تحت عموم دليل الأصل، لوضوح أن الترتب بين الشيئين لا يقتضي الترتب بين الشكين المتعلقين بهما اللذين هما الموضوعان للأصلين الجاريين في كل منهما، بحيث يكون الشك في السبب سابقاً رتبةً على الشك في المسبب ليكون سابقاً عليه في الدخول تحت عموم الأصل، بل هما متلازمان، كالعلم بكل منهما، بل قد يكون العلم بالمسبب علة للعلم بالسبب وسابقاً عليه رتبة. فلاحظ.

ثالثها: ما يظهر من العراقي (قدس سره)

ثانيها: ما يظهر من تقرير بعض مشايخنا لكلامه، من دعوى: أن الأصل السببي رافع حقيقةً لا تعبداً لما هو الموضوع للأصل المسببي في لب الأمر والواقع.

بدعوى: أن موضوع الأصل ليس هو الشك بما هو صفة خاصة، بل من حيثية كونه موجباً للتحير والتردد والوقفة، ومع التعبد بالمشكوك بمقتضى الأصل السببي تتعين الوظيفة العملية ويرتفع التحير الذي هو الملاك في موضوعية الشك، فالأصل السببي وإن لم يرفع الشك بذاته، إلا أنه يرفع قيده وملاك موضوعيته للأصل حقيقة.

وفيه: أنه إن رجع ذلك إلى كون موضوع الأصل حقيقةً هو التحير المسبب عن الشك والمصاحب له طبعاً، لا نفس الشك، فلا يبقى مع بيان الوظيفة العملية وارتفاع التحير بمقتضى الأصل السببي، وإن بقي الشك.

فهو خروج عن ظهور الأدلة في كون الموضوع هو مجرد الشك وعدم العلم، المستلزم لعدم حجية ما عداه، ولذا ذكرنا في محله أن مقتضى أدلة ا

ص: 141

لأصول عموم عدم حجية غير العلم، بل هو خلاف ما اعترف به في بعض كلماته من أن ظاهر دليل الاستصحاب انحصار الناقض لليقين باليقين، وأن المراد بالشك مطلق عدم اليقين.

وإن رجع إلى أن الموضوع هو الشك بنفسه، لكن لا بما هو صفة خاصة، بل من حيثية عدم صلوحه لرفع التحير، نظير ما يذكر في القطع الموضوعي من أنه قد يؤخذ بما هو طريق، لا بما هو صفة خاصة.

فمن الظاهر أن بيان الوظيفة العملية بالأصل السببي لا يوجب صلوح الشك في مورد المسببي لرفع التحير، لوضوح أن ارتفاع التحير حينئذ بدليل الأصل المذكور لا بمحض الشك المفروض بقاؤه.

على أن هذا خروج عن مصطلحهم في الحكومة، بل مخالف لضابط الحكومة في الأحكام الواقعية عنده، حيث اعتبر فيها ارتفاع الموضوع تعبداً لا حقيقةً، بل هو من الورود، بناء على ما سبق من أن المعيار فيه ارتفاع الموضوع اللبي، لا ارتفاع عنوانه الذي تضمنته الأدلة اللفظية، وإن حاول (قدس سره) الفرق بين ما ذكره هنا وبين الورود بما لا يهم التعرض له لعدم المشاحة في الاصطلاح.

ثالثها: ما يظهر من العراقي (قدس سره)

ثالثها: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الأصل السببي وإن لم يكن رافعاً لموضوع الأصل المسببي وهو الشك - لا حقيقةً، ولا تعبداً ولا تنزيلاً - إلا أنه حاكم عليه بملاك النظر، الذي هو المعيار في الحكومة مطلقاً، لأن التعبد بالموضوع بمقتضى الأصل السببي ناظر لإثبات آثاره التي هي مؤدى الأصل المسببي، بخلاف التعبد بالأثر بمقتضى الأصل المسببي، فإنه لا يتكفل بالنظر للتعبد بالموضوع، ولا ينفي نظر الأصل السببي لمؤداه.

ص: 142

وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا فيما إذا لم يكن الأصل السببي إحرازياً - كأصالة الطهارة - حيث لا إشكال عنده في عدم تكفله بإلغاء الشك تعبداً، له وإنما يختص ذلك عنده بما إذا كان إحرازياً، فيجري فيه ما تقدم في الوجه الأول.

دفعه

ويندفع: بأن ملاك الحكومة هو النظر للدليل أو لمؤداه، حيث يكون منشأً لحكومة الناظر على ذلك الدليل في الأول حكومة بيانية، وفي الثاني حكومة عرفية، كما سبق، والأصل السببي الجاري في الموضوع المقتضي للتعبد بآثاره لو كان ناظراً لتلك الآثار فهو حاكم على أدلتها الواقعية لا على دليل التعبد الظاهري بها، الذي هو مفاد الأصل المسببي، لعدم نظره لنفس التعبد ولا لدليله، وإنما يكون منافياً له، لامتناع التعبد بالمتنافيين، وهو لا يقتضي الحكومة، بل محض المعارضة.

وبعبارة أخرى: التعبد بالموضوع لو اقتضى النظر فهو يقتضي النظر لآثاره الواقعية - التي هي مفاد أدلتها الواقعية - والتعبد بها، لا النظر للتعبد الظاهري بالآثار المذكورة، الذي هو مفاد الأصل المسببي.

ولعل الأولى في وجه تقديم السببي على المسببي الرجوع إلى ما سبق في تقريب تقديم الطرق على الاستصحاب وغيره من الأصول.

توضيحه: أن المسببي إن كان استصحاباً فقد سبق في وجه تقديم الطرق والأمارات على الاستصحاب أن دليل الاستصحاب المتضمن عدم نقض اليقين بالشك إنما يقتضي عدم صلوح الشك بنفسه لرفع اليد عن مقتضى اليقين السابق، لا عدم نقض اليقين بغير الشك مما قارنه، ورفع اليد في مورد المسببي عن مقتضى اليقين السابق ليس بمحض الشك، بل

ص: 143

بالأصل السببي المبتني على خصوصية زائدة على الشك مقارنة له صالحة للعمل، وقد سبق هناك ما يتعلق بذلك من النقض والإبرام. فراجع.

ومن ذلك يظهر عدم الفرق في السببي بين الاستصحاب وغيره، كقاعدة الطهارة، لأن غير الاستصحاب - أيضاً - يبتني في مورد المسببي على خصوصية زائدة على الشك مقارنة له هي التي يكون بها نقض اليقين.

فهو وإن لم يكن إحرازياً بالإضافة لمضمونه، للحكم به بمجرد الشك الذي لا اقتضاء له في الإحراز إلا أنه إحرازي بالإضافة لأثره في مورد المسببي، لابتنائه على خصوصية زائدة على الشك صالحة للإحراز، وهي القياس الناشئ من ضم الصغرى المتعبد بها بالأصل السببي للكبرى الشرعية.

وإن لم يكن المسببي استصحاباً فمقتضى دليله وإن كان هو التعبد بمضمونه بمجرد الشك الشامل لحال تحقق موضوع الأصل السببي، إلا أن التعبد بمقتضى السببي في مورده لما كان مبنياً على خصوصية زائدة على الشك مقتضيةً له كانت نسبته للمسببي نسبة الحكم الثابت بالعنوان الثانوي الاقتضائي للحكم الثابت بالعنوان الأولي اللا اقتضائي، نظير ما سبق منا في الوجه الثالث للجمع العرفي في توجيه تقديم الطرق والأمارات على الأصول غير الإحرازية. وسبق منا أنه راجع إلى نحو من الورود.

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في ارتكاز تقديم السببي عرفاً في مقام إعمال الأدلة الواردة في مقام التعبد، حيث لا يلتفت العرف إلى تطبيق الأدلة المذكورة على نفس الأثر في مقابل تطبيقها على موضوعه، بل يكون تقدم الموضوع على أثره طبعاً في مقام الثبوت منشأً لتقدم التعبد به على التعبد به

ص: 144

في مقام الإثبات بحيث يستغني به عنه لو كان موافقاً، ويقدم عليه لو كان مخالفاً. ومن ثم كان مفروغاً عنه بينهم، بحيث لو خرج عنه لزم تأسيس فقه جديد.

ثم إنه لو كان ملاك تقدم السببي على المسببي وروده عليه أو حكومته عليه بملاك رفع الموضوع حقيقة أو تعبداً أو تنزيلاً فلا مجال لجريان المسببي حتى لو كان موافقاً للسببي، لعدم الموضوع له معه، نظير ما سبق في تقديم الطرق والأصول غير الإحرازية.

أما بناء على ما ذكرنا فاللازم الاقتصار في التقديم على صورة الاختلاف بينهما عملاً أما مع الاتفاق بينهما فيجريان معاً، لتحقق موضوعيها. وإن كان الاعتماد على السببي أولى ارتكازاً.

أما إذا كان المسببي استصحاباً فلأن الاعتماد في إحراز بقاء الشيء على ما يحرز عدم ارتفاعه - وهو السببي - أولى من الاعتماد فيه على عدم إحراز ارتفاعه في فرض أنه من شأنه البقاء - كما هو مفاد المسببي - لأن نسبة الأول للثاني نسبة المقتضي للّامقتضي.

وأما إذا لم يكن استصحاباً فلأن الاستناد في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته المحرز له - وهو السببي الذي عرفت أنه إحرازي في مورد المسببي مطلقاً - أولى من الاستناد فيه إلى عدم المقتضي لإحراز خلافه.

نعم، لو ابتلي الأصل السببي الموافق للمسببي بمعارض يمنع من جريانه لم يكن المسببي طرفاً للمعارضة معه، بل يكون مرجعاً بعد تساقط السببين، لما هو المرتكز من أن التصادم إنما يكون بين المقتضيين، ولا يكون اللّامقتضي الموافق لأحدهما عملا طرفاً للمصادمة معهما، كما ذكرنا

ص: 145

نظيره بتوضيح في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة تقديم الطرق والأمارات على الأصول غير الإحرازية. فراجع وتأمل.

تتميم..
اشارة

تتميم:

فرض الدليل الثالث تأخر رتبة عن المتعارضين

لا يخفى أن تعارض التعبدين الظاهريين الموجب لتساقطهما إنما يقتضي الرجوع للثالث إذا كان متأخراً عنهما رتبة، كالأصلين عند تعارض الأمارتين، والأصل غير الإحرازي عند تعارض الإحرازيين.

أما إذا كان في رتبتهما فالمتعين كونه طرفاً للمعارضة معهما، فإن كان موافقاً لأحدهما كان المورد من موارد معارضة الدليلين للدليل الواحد، وإن خالفهما معاً كان من موارد تعارض أكثر من دليلين، لمشاركته لهما في الدخول تحت عموم دليل التعبد لولا المعارضة، وفي كونه طرفاً لها بالنحو المانع من شمول دليل الحجية له معهما، بل يقصر عن الكل، فلابد من جريان حكم المعارضة من الترجيح أو

التخيير أو التساقط، والرجوع للتعبد المتأخر عنها رتبة. ولا وجه لانحصار التعارض بهما ويكون الثالث مرجعاً في فرض تساقطهما.

لكن لا إشكال ظاهراً بين أهل الاستدلال - تبعاً للمرتكزات - في كون العام مرجعاً مع تعارض الخاصين وتساقطهما، مع مشاركته لهما في ملاك الحجية وهي الظهور، وفي كونه من الطرق التي هي في مرتبةٍ واحدة، كما تقدم.

وربما علل ذلك بأقوائية ظهورهما من ظهوره، بأن يكون المعيار في خروج الثالث عن التعارض ومرجعيته بعد سقوط المتعارضين كونه أضعف ظهوراً منهما، فيكون متأخراً رتبة عنهما، حيث يلزم تنزيله على ما هو الأقوى

ص: 146

دلالة لو عارضه، فيكون ملاك الترتب في المقام أقوائية الظهور. فمثلاً: لو تعارض دليلان نصان في الوجوب وعدمه، وكان هناك دليل ظاهر فيه، كان هو المرجع بعد تساقطهما، لا طرفاً للمعارضة معهما.

ويشكل: بأن تأخر الأضعف دلالة عن الأقوى رتبةً ولزوم حمله عليه إنما يكون عرفاً من باب ترجيح أقوى الحجتين وقرينية الأظهر على الظاهر في الكشف عن مراد المتكلم، وهو إنما يكون مع حجية الأقوى في نفسه، ومع معارضته بمثله لا وجه للحكم بحجيته، بل هو كالأضعف داخل في عموم حجية الظهور لولا المعارضة، وخارج عنه بملاحظتها.

اللهم إلا أن يقال: الأضعف ظهوراً وإن لم يكن متأخراً رتبة عن الأقوى الموافق له، إلا أنه متأخر رتبة عن الأقوى المخالف له إذا كان ذلك المخالف صالحاً عرفاً لتفسيره وحمله عرفاً على خلاف ظاهره. وحينئذٍ لا يكون الأضعف حجة إلا أن يسقط المخالف له عن الحجية، وحيث لا يسقط في المقام إلا بمعارضة الأقوى الموافق للأضعف تعين حجية الأضعف فعلاً بعد سقوطهما معاً بالمعارضة، لعدم المانع من حجيته في المرتبة المذكورة. نظير ما تقدم في التنبيه الأول في ذيل الكلام في تقديم الطرق على الأصول. مضافاً إلى ما قد يقال من أن تميز الخاصين المتعارضين عن العام ليس بمحض أقوائية الظهور، بل بدلالتهما على خصوصيةٍ زائدة على مفاده، وهي خصوصية موردهما في ثبوت الحكم وعدمه، لا من حيثية كونه فرداً للعام، فمع تكاذبهما في ذلك وسقوطهما بالمعارضة لا يبقى مخرج عن مفاده، وهو ثبوت الحكم في موردهما من حيثية كونه فرداً للعام، بل يبقى على حجيته في ذلك. فلاحظ.

ص: 147

ثم إن الكلام في مرجعية العام أو غيره من الأدلة مع تعارض الدليلين المساويين لهما في الرتبة إنما هو في فرض اقتضاء التعارض التساقط - الذي يأتي أنه الأصل في المتعارضين - أما في فرض عدم اقتضائه لذلك، إما للبناء على التخيير، أو لكون الثالث مرجحاً لأحد المتعارضين، كموافقة الكتاب الشريف في تعارض الخبرين، فلا موقع لما سبق، حيث يكون أحد المتعارضين بنفسه مرجعاً في المورد.

ص: 148

الباب الثاني : في الأدلة المتعارضة

اشارة

وهي التي يكون تعارضها بلحاظ عموم دليل الحجية، لتنافي مفادي الدليلين مع تمامية عموم دليل التعبد في كلٍ منهما.

ولا يكفي فيه تنافي مضمونيهما إذا استلزم قصور عموم دليل الحجية عن أحدهما بخصوصه، كما في موارد الجمع العرفي، بل يدخل ذلك في الباب الأول، كما سبق.

وينبغي تقديم أمورٍ تنفع في المقام..

في تقديم أمور تنفع في المقام
الأمر الأول: جريان الكلام في كل تعبدين

الأمر الأول: أن الكلام يجري في كل تعبدين متنافيين في مقام العمل - كما سبق في الأمر الرابع من التمهيد لبحث التعارض - من دون فرق بين الأدلة الاجتهادية والأصول العملية، ولا يختص بالأولى، فضلاً عن أن يختص بالأخبار، وإن اختصت بها بعض الأحكام تبعاً لاختصاص أدلتها بها.

نعم، لما كان منشأ استفادة التعبد الظاهري من الأصل منحصراً بتطبيق عموم دليل التعبد به على المورد كان مرجع التعارض بين الأصلين إلى التعارض في تطبيق عموم دليل التعبد، وينحصر علاجه برفع اليد عن

ص: 149

أحد التطبيقين الراجع إلى تخصيص عموم دليل التعبد.

أما الدليل الاجتهادي فحيث كانت استفادة التعبد الظاهري منه مبتنية على كل من أصالة الصدور والظهور والجهة، كان مرجع التعارض بين الدليلين الاجتهاديين إلى التعارض بين الأصول المذكورة بمجموعها في كل منهما، ويمكن علاجه برفع اليد عن أحدها في أحد الدليلين.

ومن ثم اختلفت المرجحات المذكورة في النصوص سنخاً.

ومنه يظهر أنه يمكن فرض التعارض في الدليل المقطوع صدوراً أو دلالةً أو جهةً، فإن القطع من بعض الجهات إنما يمنع من جريان الأصل الجاري في تلك الجهة، فينحصر التعارض في الجهات الأُخَر.

نعم، يمتنع فرضه في الدليل القطعي المضمون، والذي يكون قطعياً من جميع الجهات المذكورة، لاستحالة جعل الحجة في قبال القطع، كما يستحيل القطع بالمتنافيين، ومن ثم لا تكون الأدلة اللبية معارضة بمثلها ولا بغيرها.

الأمر الثاني: كفاية عدم وضوح كيفية الجمع في تحقق التعارض
اشارة

الأمر الثاني: أنه لا يعتبر في دخول الأدلة اللفظية في محل الكلام تعذر الجمع بينها لكون كل منها نصاً في خلاف ما يكون الآخر نصاً فيه، بل يكفي عدم وضوح كيفية الجمع بينها للعرف وإن كان ممكناً بنظرهم، لإمكان حمل كل منهما بنظرهم على ما لا ينافي الآخر.

وجوه تعارض الدليلين

وبعبارة أخرى: تعارض الدليلين يكون..

تارة: مع وضوح كيفية الجمع بينهما للعرف، كالعام والخاص.

وأخرى: مع تعذره بنظرهم، لكون كلٍ منهما نصاً في خلاف مفاد الآخر.

ص: 150

وثالثة: مع إمكانه بنظرهم، من دون أن يتضح وجهه عندهم، بل يتردد بين وجهين أو أكثر، كالعامين من وجه.

ولا إشكال في خروج الأول عن محل الكلام ودخوله في الباب الأول، كما سبق في بحث الجمع العرفي.

كما لا إشكال في دخول الثاني في محل الكلام. وهو الظاهر في الثالث أيضاً، لأن توقف العرف عن الجمع راجع إلى عدم ارتفاع موضوع أصالة الظهور في كلٍ منهما بسبب الآخر، فيتعارض الظهوران.

وما قيل: من أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح، قد سبق الكلام فيه في الأمر السادس من التمهيد لبحث التعارض. فراجع.

نعم، قد يختلف هذا القسم عن القسم الثاني في بعض الخصوصيات، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: المناسب الكلام في مقامين

الأمر الثالث: الكلام في الأدلة المتعارضة لما كان من حيثية حجيتها بعد فرض التعارض، فالمناسب الكلام..

أولاً: في مقتضى الأصل في المتعارضين بلحاظ أدلة الحجية الأولية، وأنها هل تقتضي التساقط أو التخيير أو الترجيح.

وثانياً: في مقتضى الأدلة الخاصة الدالة على حكم التعارض بين الأدلة وفي تحقيق مفادها.

فيقع الكلام في مقامين..

ص: 151

المقام الأول : في مقتضى الأصل في المتعارضين
اشارة

والظاهر أن مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين التساقط، لا التخيير ولا الترجيح.

ووجهه ظاهر فيما إذا كان دليل حجيتهما لبياً أو لفظياً لا إطلاق له يشمل صورة التعارض، حيث يكون المرجع فيها أصالة عدم الحجية في كل منهما، سواء كان دليل الحجية تعبدياً كالإجماع، أم ارتكازياً كسيرة العقلاء على حجية الظواهر وأصالة الجهة، فإن الثاني وإن أمكن أن يحرز به تحقيق مقتضي الحجية في حال التعارض، إلا أن الغرض المهم في المقام لما كان هو إحراز الحجية الفعلية لزم الرجوع لدليلها فمع فرض عدم وفائه بها في فرض التعارض يلزم البناء على عدمها. وهذا في الحقيقة خارج عن محل الكلام، لما سبق من اختصاصه بما إذا كان دليل الحجية عاماً لكل منهما في مورد التعارض.

وكذا إذا كان مقتضى دليل الحجية في مورد التعارض التخيير أو الترجيح، حيث يكون نظيراً لما سبق في موارد الجمع العرفي من ترجيح أقوى الظهورين.

ص: 152

وأما إذا كان دليل الحجية لفظياً له عموم أو إطلاق يشمل صورة التعارض فلإمتناع حجية كلاً المتعارضين لاستلزامه التعبد الظاهري بالضدين، بل بالنقيضين بلحاظ المدلول الالتزامي لكل منهما، وهو ممتنع بملاك امتناع جعلهما واقعاً، لتقوم الأحكام التكليفية بنحو اقتضائها للعمل، وتضادها إنما هو بلحاظ اختلافها في ذلك، ومن الظاهر أن اقتضاء التعبد الظاهري بالحكم للعمل مماثل لاقتضاء نفس الحكم له، وإن كان في طوله بلحاظ طريقيته له، فيستحيل حجية كلا المتعارضين.

كما لا مجال لاختصاص الحجية بأحدهما، لعدم المرجح بالإضافة لعموم دليلها بعد فرض اشتراكهما في الدخول تحته لتحقق عنوانه في كل منهما، وفي الجهة المانعة من فعلية حكمه فيهما معاً، وهو التعبد بالضدين أو النقيضين، على ما يأتي توضيحه في التنبيه الثاني، فيتعين سقوطهما معاً عن الحجية الراجع لخروجهما عن عموم دليلها تخصيصاً.

وليس منشأ ذلك العلم الإجمالي بكذب أحد التعبدين، إذ هو لا يوجب ارتفاع موضوع التعبدين وهو الشك، ولا يمنع منهما إلا في ظرف لزوم مخالفة تكليف معلوم بالإجمال كما ذكر في محله.

وبالجملة: كما يمتنع جعل النقيضين أو الضدين في مقام الثبوت يمتنع التعبد بهما ظاهراً في مقام الإثبات.

إن ثانيها هذا إنما يمنع من حجية كلٍ منهما والتعبد بمضمونه تعييناً في فرض التعارض دون حجيتهما والتعبد بكلٍ منهما تخييراً، فيتعين البناء على ذلك أخذاً بعموم دليل الحجية والتعبد بالقدر الممكن، واقتصاراً في الخروج عنه على ما يتعذر البناء عليه وهو الحجية والتعبد التعيينيان.

ص: 153

ثانيها لما كان مفاد أدلة الحجية والتعبد هو الحجية والتعبد تعييناً، فالبناء على الحجية والتعبد التخييريين يبتني على أحد أمرين لا مجال للبناء عليهما..

ابتناء الحجية التخيرية على أمرين
الأول: كون التخيير شرعياً

الأول: كون التخيير في الحجية والتعبد شرعياً وفي مقام الجعل راجعاً إما إلى تقييد إطلاق الحجية في كل من المتعارضين بما إذا اختاره المكلف أو لم يختر الآخر، بحيث لا يكون حجةً مع عدم اختياره أو مع الأخذ بالآخر المعارض له.

وإما إلى جعل كل منهما حجة للمكلف في مقام التعذير ومجموعهما حجة عليه في مقام التنجيز، فله العمل على كلٍ منهما وليس له الخروج عنهما.

فإن التعبد والحجية وإن كانا نحو نسبةٍ اعتبارية بين المولى والعبد تقتضي التنجيز والتعذير معاً بمقتضى إطلاقها، إلا أنه لا يمتنع التفكيك بينهما في مقام الجعل، بأن تتمحض في التعذير فتكون حجة للعبد فقط، أو التنجيز فتكون حجة للمولى كذلك.

كما لا يمتنع الاختلاف بين الأمرين سعة وضيقاً، كما هو المدعى في المقام، بأن يكون التعذير منوطاً بكل من المتعارضين استقلالاً، فيجوز اعتماد المكلف عليه، والتنجيز منوطاً بمجموعهما فلا يجوز له الخروج عنهما معاً، وإن جاز له الخروج عن كل منهما مع متابعة الآخر، مع كون الحجية على هذا النحو من التفكيك فعلية غير منوطة باختيار المكلف للحجة ولا بعدم أخذه بغيرها.

ولعل هذا أقرب من الأول ارتكازاً في معنى الحجية التخييرية لو دل

ص: 154

الدليل عليها، لعدم مناسبة الحجية التي هي من شؤون المولى للتقييد باختيار المكلف ارتكازاً. بل الظاهر فعليتها وإن لم يختر لغفلته عن المتعارضين أو جهله بثبوت الحجية التخييرية لهما.

وربما يأتي عند الكلام في دلالة الأدلة الخاصة على الحجية التخييرية تمام الكلام في ذلك.

وكيف كان، فحيث كان عموم دليل الحجية ظاهراً في الحجية التعيينية كانت استفادة الحجية التخييرية في المتعارضين بأحد وجهيها منه موقوفة على كون امتناع حجيتهما تعيينا معاً قرينة عرفية غلى تنزيله على الحجية التخييرية فيهما، التي هي نحو من التقييد في الحجية.

لكنه غير ظاهر، بل الأقرب عرفاً خروج كلا المتعارضين عن الحجية الفعلية مع ثبوت الحجية الاقتضائية لكل منهما الراجعة إلى حجية كل منهما لولا المانع، لإن ذلك هو الأنسب بالقياس للحجج العرفية.

ومجرد كون الحجية التخييرية أقل تخصيصاً منه لما فيها من إعمال عموم الحجية الفعلية في المتعارضين في الجملة. لا يقتضي تعينها بعد أن لم يكن التنزيل عليها عرفياً، وإلا أمكن إعماله فيهما بوجوه أخرى، كإناطة تعيين الحجة منهما باختيار غير المكلف، أو بالقرعة، وإخراج أحدهما عن الإطلاقات وإبقاء الأُخَر تحتها بنحو يكون هو الحجة تعييناً، وإخراج أحدهما في بعض الأحوال والأُخر في أحوالٍ أُخر، إلى غير ذلك مما يرجع إلى إعمال العموم في المتعارضين في الجملة وعدم خروجهما معاً عنه رأساً، ولا معين للحمل على الحجية التخييرية من بينها مع اشتراكها في كون الحمل عليها غير عرفي، بل المتعين ما ذكرنا.

ص: 155

الثاني: كون التخيير عقلياً

الثاني: كون التخيير في العمل بالحجة عقلياً، بدعوى: أنه لما كان العمل بالحجة وإجباً وتعذر العمل بكلتا الحجتين المتعارضتين تعين عقلاً التخيير بين العمل بكل منهما ولم يجز إهمالهما معاً، كما هو الحال في سائر موارد التزاحم بين التكليفين.

وفيه: أن وجوب العمل بالحجة ليس شرعياً، بل هو عقلي طريقي تابع لمنجزيتها، متفرع على حجيتها، ولا مجال لثبوته في المتعارضين بعد ما سبق من امتناع حجيتهما معاً.

ولولا ذلك لزم اختصاص التخيير بما إذا تعذرت موافقة كلا المتعارضين، دون ما إذا أمكن الاحتياط بموافقتهما معاً، لكون أحدهما ترخيصياً لا يقتضي العمل، حيث لا يصلح إلا اقتضائي لمزاحمة الاقتضائي، بل يتعين فعلية الاقتضائي ومتابعة الحجة التي دلت عليه، وكذا لو كانا اقتضائيين

وكان أحدهما إلزامياً دون الآخر - كما لو دل أحدهما على حرمة شيءٍ والآخر على استحبابه - حيث يقدم الإلزامي عند التزاحم.

هذا، ولا يفرق في ما ذكرنا بين القول بالطريقية المحضة، والقول بالسببية بأنحائها من التصويب المنسوب للأشاعرة، والتصويب المنسوب للمعتزلة، والمصلحة السلوكية الراجعة إلى أن في متابعة الطريق مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في فرض الخطأ.

ومجرد كون قيام الطريق على السببية موجباً لحدوث ملاك مقتض للعمل على طبقه. لا يقتضي التزاحم - الموجب للتخيير عقلاً - عند تعارض الطريقين، لأن السببية بجميع وجوهها لا تقتضي لزوم متابعة الطريق بذاته، بل في فرض حجيته والتعبد الشرعي بمضمونه، فمع فرض استحالة حجية

ص: 156

المتعارضين وقصور دليل الحجية عن شمولهما لا مجال لفرض السببية التي يبتني عليها التزاحم المدعى.

ودعوى: أن الالتزام بالسببية إنما هو لتصحيح الأمر بسلوك الطريق والعمل على طبقه، إذ مع فرض حجية الطريق ووجوب العمل به في مرتبة سابقة على السببية لا يبقى ملزم بالسببية وموجب للبناء عليها، فلابد من كون موضوع السببية هو الطريق بذاته لا من حيثية حجيته، فامتناع حجية المتعارضين واستحالة التعبد بمضمونهما لا ينافي السببية في كلٍ منهما التي هي المنشأ لفرض التزاحم.

مدفوعة: بأن الالتزام بالسببية وإن كان لتصحيح حجية الطريق والأمر بسلوكه ومتابعته، إلا أنه لدفع محذور تفويت الواقع من العمل به مع فرض إمكان حجيته ثبوتاً وقيام الدليل عليها إثباتاً لولا ذلك، فمع فرض امتناع حجية المتعارضين مع قطع النظر عن محذور تفويت الواقع لا مجال لإحراز السببية ليحرز كون المورد من موارد التزاحم.

هذا، ولو غض النظر عن ذلك تعين كون المورد من موارد التزاحم الملاكي، بناء على السببية الراجعة لتصويب الأشاعرة أو المعتزلة المبنية على كون الملاكات والأحكام الواقعية على طبق الطرق. من دون فرق بين اتحاد موضوع المتعارضين - كما لو دل أحدهما على حرمة شيءٍ والآخر على وجوبه أو عدم حرمته - وتعدده - كما لو دل أحدهما على وجوب القصر والآخر على وجوب التمام - لرجوع

الثاني للأول - بلحاظ الدلالة الالتزامية لكل منهما، وقد سبق عند الكلام في التزاحم أنه مع اتحاد الموضوع يتعين كون التزاحم ملاكياً.

ص: 157

أما بناءً على السببية بمعنى المصلحة السلوكية فيكون التزاحم حكمياً مطلقاً، لأن موضوع الملاك هو متابعة الطريق والتعبد الشرعي، لا الواقع المحكي به، والمفروض تعدد الطريقين وإن اختلفا في حكم الموضوع الواحد.

ولازم ذلك تعين الطريق المؤدي للحكم الاقتضائي للعمل لو عورض بما يؤدي للحكم غير الاقتضائي، وتعين الطريق المؤدي للحكم الإلزامي لو عورض بما يؤدي للحكم غير الإلزامي، لأن متابعة الاقتضائي والإلزامي لا تنافي متابعة اللاقتضائي وغير الإلزامي. وينحصر التخيير بما إذا اشتركا في الاقتضاء والإلزام أو عدمهما.

هذا بناء على عموم المصلحة السلوكية واقتضائها العمل على طبق الطريق، أما بناء على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته، حيث يكون بها تداركه دون غيره مما لا يفوت به الواقع، لموافقته له أو لعدم متابعته، فالمتعين التخيير مطلقاً، لكن لا بملاك التزاحم، بل لأن متابعة كل من المتعارضين وإن لم يكن مضمونه اقتضائياً إما موجبة لتحصيل الواقع أو لتداركه، من دون أن تكون هناك مصلحة أخرى مزاحمةً له.

ودعوى: أن ذلك لازم حتى على فرض عموم المصلحة السلوكية واقتضائها العمل على طبق الطريق، فيتعين التخيير مطلقاً.

مدفوعة: بأن تدارك فوت الواقع بالطريق إنما يقتضي التخيير بين الطريقين من حيثية الواقع المفروض دوران الأمر بين تحصيله وتداركه.

أما من حيثية مصلحة السلوك المفروض تحققها في كلٍ من المتعارضين فالمتعين البناء على التزاحم المستلزم لترجيح الإلزامي

ص: 158

والاقتضائي، لما سبق.

ومن هنا لا يتجه البناء على التخيير العملي بين المتعارضين مطلقاً إلّا على الوجه الذي ذكرناه، المبتني..

وجه البناء على التخيير المبتني على وجوه باطلة

أولاً: على السببية الراجعة للمصلحة السلوكية.

وثانياً: على أن موضوعها ذات الطريق مع قطع النظر عن حجيته.

وثالثاً: على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته.

والأولان مخالفان للتحقيق، والثالث متفرع على الأول. ومن ثم لا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بتعقيب ما ذكروه في المقام.

وقد تحصل مما تقدم أن عموم الحجية يقصر عن المتعارضين، وأن مقتضى المرتكزات العرفية البناء على ثبوت مقتضي الحجية فيهما، لتحقق موضوعها بالنظر للعموم المذكور، وإن كان التعارض مانعاً عن فعليتها في كل منهما، لاشتراكهما في المانع المذكور من دون مرجح لأحدهما، وهو الحال فيما إذا كان دليله لبياً ارتكازياً، وأما إذا كان لبياً تعبدياً فلا طريق لإحراز المقتضي فيه، إلا أنه ليس منه شيء من الحجج التي بأيدينا. كما تقدم أنه كالارتكازي خارج عن محل الكلام من فرض التعارض بلحاظ عمود دليل الحجية.

هذا، وقد أشار المحقق الخراساني (قدس سره) لتقريب أصالة التساقط في المتعارضين بأنه حيث يمتنع حجية معلوم الكذب من الطرق، وكان تعارض الطريقين مستلزماً للعلم بكذب أحدهما إجمالاً، لزم العلم بقصور عموم الحجية عن أحدهما دون الآخر، وحيث كان معلوم الكذب مردداً بينهما كان المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة، الموجب لسقوط كل منهما

ص: 159

عن الحجية في خصوص مؤداه، وإن وجب ترتيب الأثر المشترك لحجية كل منهما، لفرض حجية أحدهما.

وبذلك يختلف عن الوجه الذي ذكرناه. كما يختلفان في أن عدم حجيتهما معاً على ما ذكرنا لوجود المانع مع تمامية المقتضي فيهما معاً، كما سبق، أما على ما ذكره فلعدم تمامية المقتضي في أحدهما، لخروجه موضوعاً عن عموم دليلها.

ويشكل: بأن مرجع العلم الإجمالي بكذب أحدهما إلى كون معلوم الكذب هو أحدهما على ما هو عليه من ترديد وإبهام من دون أن ينطبق على كل منهما بخصوصيته، بل كل منهما بخصوصيته محتمل الكذب لا غير.

وبعبارة أخرى: المتصف بالكذب وإن كان هو مصداق أحدهما بخصوصيته وواقعه، وهو قابل للجهل والاشتباه، إلا أن معلوم الكذب منهما ليس كذلك، بل هو لا ينطبق على كل منهما بخصوصيته لتعلق العلم الإجمالي بعنوان أحدهما على ما هو عليه من التردد والإبهام بنحو لا يقبل الإنطباق على كل من الخصوصيتين، كما اعترف (قدس سره) به في الجملة في مبحث الواجب التخييري، ومن الظاهر أن عموم الحجية إنما يقتضي حجية كل فرد من أفراد الطريق بخصوصيته من دون إبهام وترديد، فلا ينطبق معلوم الكذب إجمالاً على شيءٍ من أفراد العام ليمتنع شمول العموم له، وإنما ينطبق عليه الكاذب واقعاً.

ومجرد الكذب من دون أن يكون معلوماً لا يمنع عن الحجية، ليلزم تخصيص عموم الحجية وقصوره عن الفرد المذكور، ويكون المورد من موارد اشتباه الحجة باللّاحجة.

ص: 160

وإلا لزم قصور موضوع الاستصحاب عن بعض أطراف العلم الإجمالي وإن لم يكن منجزاً - لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء - مع أنه (قدس سره) اعترف بتحقق موضوعه فيها مطلقاً وإن كان منجزاً.

ثم إن ما ذكره (قدس سره) لو تم مختص بما إذا احتمل كذب كلا المتعارضين، أما إذا علم بصدق أحدهما وكذب الآخر فاللازم خروجهما معاً عن عموم دليل الحجية، إذ كما يمتنع حجية معلوم الكذب يمتنع حجية معلوم الصدق، فإذا فرض انطباق معلوم الكذب على أحدهما كان معلوم الصدق منطبقاً على الآخر، فلا يشملهما العموم معاً.

وربما يظهر الأثر لذلك في بعض التنبيهات الآتية، على ما نتعرض له إن شاء الله تعالى.

وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: منشأ التعارض بين أكثر من دليلين

وينبغي التنبيه على أمور..

الأول: التعارض بين أكثر من دليلين ينشأ..

تارة: من منافاة مؤدى كل منها لمؤدى غيره، كأدلة وجوب الشيء وحرمته وإباحته.

وأخرى: من منافاة مؤدى كل منها لمجموع مؤدى الباقي، كأدلة وجوب القصر ووجوب الصيام والتلازم بين القصر والإفطار.

أما الأول فلا ينبغي التأمل في جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم، بل هو راجع للتعارض بين دليلين، غايته أن عدم المرجح لأحدها بالنحو الموجب لملاحظة التعارض بين اثنين منها وتساقطهما، ثم الرجوع للثالث، موجب لسقوط الكل.

وأما الثاني فالظاهر جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم أيضاً..

ص: 161

أما على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في تقريبها فظاهر، للعلم إجمالاً بكذب أحدها، المستلزم لخروجه عن الحجية، واشتباه الحجة باللّاحجة في المورد.

وأما على ما ذكرنا فلأن المدلول الالتزامي لكلٍ منها كذب أحد الأدلة الباقية إجمالاً، كما أن المدلول الالتزامي لمجموع الأدلة الباقية كذبه بعينه، فالتعبد به معها تعبد بالنقيضين. وبهذا يفترق المقام عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، الذي تقدم في محله جوازه في الجملة، لعدم حجية الأصول في لازم مجراها، فلا تناقض بين المعلوم بالإجمال ومفاد الأصول.

ولو فرض حجيتها في لازم مجراها فالتناقض بينه وبين المعلوم بالإجمال وإن كان حاصلاً، إلا أن المعلوم بالإجمال ليس موضوعاً للتعبد الشرعي، ليلزم التعبد بالنقيضين. غاية ما يلزم هو العلم بكذب أحد الأصلين على ما هو عليه من الإبهام والترديد، من دون أن ينطبق على كل منهما بعينه، ليوجب خروجه عن موضوع الأصل.

نعم، بناءً على حجية الأصل في لازم مجراه قد يلزم في مورد العلم الإجمالي التكاذب بين الأصلين فيدخل في التعارض بين الدليلين.

هذا، ولو فرض ترجيح أحد الأدلة المتعارضة تمحض التعارض في الباقي، فلو فرض في المثال السابق ترجيح دليل التلازم بين القصر والإفطار كان دليل القصر بمدلوله الالتزامي مكذباً لدليل الصيام وبالعكس، إذ بعد فرض ثبوت الملازمة - بمقتضى فرض حجية الثالث - يكون الدليل على أحد المتلازمين دليلاً على الثاني ونافياً لضده.

ومن هنا يظهر أنه لا يعتبر في التعارض بين الأدلة كون مؤدى كل منها

ص: 162

مورداً للتعبد الشرعي، فلو فرض عدم كون بعضها مورداً للتعبد - إما لعدم وروده في أمر عملي، بل في قضية تاريخية تستلزم حكما شرعياً، أو لخروج مورده عن ابتلاء المكلف - كان طرفاً للمعارضة بلحاظ مدلوله الالتزامي المناقض لباقيها.

نعم، لابد من كونه حجةً في لازم مؤداه، وإلّا لم يجر الوجه المتقدم، لعدم التناقض ولا التضاد بين المؤديات، لوضوح أنهما إنما يقومان بطرفين لا أكثر، بخلاف التعارض بين دليلين، حيث يمكن تناقض مؤدييهما وإن لم يكونا حجةً في اللازم.

الثاني: تنافي التعبدين الظاهريين ينشأ..

الثاني: منشأ التنافي بين التعبدين

تارة: من تنافي مضمونيهما ثبوتاً، كما لو كانا متناقضين أو متضادين، ولو بلحاظ المدلول الالتزامي.

وأخرى: من مانع خارجي، كما في التعبد بالترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي، لوضوح أنه لا محذور في الترخيص في تمام الأطراف واقعاً، وإنما يمتنع ظاهراً بلحاظ منجزية العلم الإجمالي.

أما الأول فهو المتيقن من محل الكلام.

وأما الثاني فقد سبق في الأمر الرابع من التمهيد أنه لابد في صدق التعارض من تنافي المضمونين، ولازم ذلك عدم صدقه فيه، إلا أنه تكرر في كلماتهم إطلاقه. وكأنه بلحاظ تنافي الجعلين، لامتناع الجمع بينهما ولو بلحاظ المانع الخارجي المذكور.

وكيف كان، فالظاهر جريان ما سبق في وجه أصالة التساقط فيه، أما بناءً على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) فظاهر، للعلم بكذب أحدهما، كما

ص: 163

أشرنا إليه عند التعرض لكلامه، وذكرنا أن لازمه عدم تحقق موضوع أحد الأصلين مع العلم بكذب أحدهما إجمالاً مطلقاً وإن لم يكن منجزاً. فراجع.

وأما بناءً على ما ذكرنا فلأنه وإن لم يلزم من التعبد بهما معاً التعبد بالضدين أو النقيضين، إلا أن المفروض امتناع جعل كلا التعبدين، وحيث لا مرجح لأحدهما، لاشتراكهما في شمول عموم التعبد لهما ذاتاً، وفي الجهة المانعة من فعلية التعبد، وهي مخالفة العلم الإجمالي، تعين سقوط التعبد عن الفعلية فيهما معاً.

وقد سبق في أول الكلام في مباحث العلم الإجمالي تفصيل الكلام في قصور الأصول عن أطراف العلم الإجمالي. فراجع.

وهكذا الحال في سائر موارد عدم شمول العموم لكلا الفردين لجهة قائمة بهما معاً، فإن عدم المرجح لأحدهما يقتضي سقوط حكم العام عنهما معاً وإن كفى في رفع المحذور سقوطه عن أحدهما.

أما إذا كانت الجهة مانعةً من شمول أحدهما بعينه وخصوصيته وترددت بينهما، فإن مقتضى أصالة العموم بقاء أحدهما تحت العام، واقتصار التخصيص على أحدهما، ويكون من اشتباه الحجة باللّاحجة.

وكذا لو تردد حال الجهة الموجبة للتخصيص بين الوجهين، للزوم الاقتصار في التخصيص على المتيقن.

ولا مجال لتخيل أن عدم المرجح لأحدهما يقتضي قصور العموم عنهما معاً. لفرض المرجح لأحدهما يقينا في الأول، وبمقتضى أصالة العموم في الثاني.

غايته أنه لا طريق لتعيين الراجح، وهو لا يقتضي الحكم بالتخصيص

ص: 164

في كلا الفردين، بل عدم تعيين مورده منهما، الراجع لما ذكرناه. من اشتباه الحجة باللّاحجة.

بخلاف محل الكلام في المقام، لفرض العلم فيه بعدم المرجح لأحد الفردين في الجهة الموجبة للتخصيص، كما سبق.

نعم، قد يحتمل وجود مرجح لأحدهما خارج عن تلك الجهة قابل للاجتماع معها، بلحاظ أنها إنما تقتضي أولاً وبالذات عدم الجمع بين الفردين في الدخول في حكم العام، لا خروجهما معاً عنه، وحيث كان المرجح المذكور من سنخ المانع عن تأثير تلك الجهة، فلا مجال للتعويل عليه في الحكم بدخول أحد الفردين إجمالا تحت العام، بل يحكم بخروجهما معاً ما لم يثبت المرجح المذكور.

وإن شئت ثانيها حيث سبق أن المناسبات الارتكازية العرفية تقتضي البناء على حجية كل من المتعارضين اقتضاء لا فعلاً لمانعية الآخر له قياساً على الحجج العرفية، فترجيح أحدهما وثبوت الحجية الفعلية له لما كان مخالفاً للارتكاز المذكور احتاج لدليل.

وقد ظهر من ذلك: أن نفي المرجح في المقام لأحد الفردين إنما هو بلحاظ الجهة المانعة من العموم، لا مطلقاً ومن جميع الجهات، وإلا فهو محتمل لا محرز لعدمه. غاية الأمر أنه لا يعول على احتماله في البناء على دخول أحد الفردين إجمالاً تحت العام بعد اشتراكهما في الجهة المانعة من العموم لهما معاً. فلا حظ.

الثالث: عدم الفرق في التساقط بين التساوي في التخصيص والتفاضل فيه

الثالث: لا فرق في جريان أصالة التساقط في المتعارضين بين التساوي في التخصيص اللازم من سقوط كلٍ منهما عن الحجية والتفاضل فيه، لزيادة

ص: 165

أحد طرفي التعارض كميةً أو دليلاً، فكما يكون الأصل التساقط عند معارضة صحيحة لأخرى، يكون هو الأصل عند معارضة صحيحتين لصحيحة ثالثة، وعند معارضة صحيحة لموثقة، وإن كانت الصحيحة مشاركة للموثقة في أدلة الحجية وتزيد عليها بدليل حجية خبر العادل أو المؤمن.

لعدم وضوح مرجحية الكمية في نفس المتعارضين أو في دليل حجيتهما، وقد سبق في الأمر الثاني أن احتمال الترجيح ما لم يثبت لا يعتد به.

وما اشتهر من لزوم الاقتصار على أقل التخصيص عند الدوران بينه وبين الأكثر، إنما هو مع العلم بمورد التخصيص الأقل والشك في ما زاد عليه، حيث تسقط أصالة العموم بالإضافة للأقل بالعلم، ويشك في الخروج عنها في الزائد، لا مع الدوران بين تخصيصين أحدهما أكثر من الآخر، من دون مورد متيقن للتخصيص الأقل، كما هو نظير المقام.

نعم، إذا أوجبت الكثرة في أحد الطرفين ارتفاع موضوع الحجية في الآخر، للقطع بخطئه أو نحوه، تعين العمل بالأكثر. لكنه خارج عن فرض التعارض بين الحجتين.

الرابع: أصالة التساقط بين الأدلة المتعارضة على اختلافها

الرابع: لا فرق في جريان أصالة التساقط بالوجه المتقدم بين مقطوعي الصدور دون الدلالة، ومقطوعي الدلالة دون الصدور، ومظنوني الصدور والدلالة، والمختلفين.

غايته أن طرف المعارضة في المقطوع من إحدى الجهتين هو دليل الحجية في الجهة الأخرى، وفي المظنون منهما معاً هو دليل الحجية من الجهتين، وقد عرفت في الأمر الثالث عدم الترجيح بكمية أدلة الحجية.

ولا مجال لترجيح مقطوعي الصدور أو الدلالة على غيرهما بلحاظ

ص: 166

عدم صلوح المظنون لمعارضة المقطوع، لأن طرف التعارض في المقطوع لا يكون هو الجهة المقطوعة، من الدلالة أو الصدور، بل الجهة الأخرى غير المقطوعة.

نعم، يخرج عن ذلك موارد الجمع العرفي بالملاك المتقدم.

كما لا مجال لما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم التساقط في مقطوعي الصدور، مظنوني الدلالة، بل يجب الأخذ بهما معاً مع تأويلهما وصرفهما عن ظاهرهما، بل ظاهره الاتفاق على ذلك.

لأن صرفهما عن ظاهرهما إن كان بنحو الجمع العرفي خرج عن محل الكلام من فرض استحكام التعارض، ولم يختص بمقطوعي الصدور، وإن كان بنحو التأويل والجمع التبرعي، فلا دليل عليه، بل الدليل على عدمه، لما سبق عند الكلام في قاعدة: إن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

والاتفاق إنما هو على عدم العمل بظاهرهما، لفرض تعارضهما، وعدم الحكم بكذب أحدهما، لفرض القطع بصدورهما، لا على العمل بهما بعد التأويل بنحوٍ يستكشف منهما مراد المتكلم، بل يتعين تساقطهما وعدم صلوحهما لبيان مراده، بل يرجع فيه لدليلٍ آخر إن كان.

الخامس: حجية المتعارضين فيما يشتركان فيه وهو نفي الثالث وعدمها

الخامس: أصالة التساقط في المتعارضين هل ترجع إلى سقوطهما عن الحجية مطلقاً أو في خصوص ما ينفرد به كل منهما مع حجيتهما في ما يشتركان فيه، وهو نفي الثالث؟

لا ينبغي التأمل في الثاني بناء على ما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) في تقريب أصالة التساقط من كون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة، لوضوح أن اشتباه الحجة منهما لا يوجب سقوطه في القدر المشترك بينهما،

ص: 167

فيكون هو الحجة على نفي الثالث، كما صرح به (قدس سره). بل عن بعضهم أن كلاً منهما يكون حجة عليه حينئذ بمقتضى مدلولهما الالتزامي، بناء على ما يأتي الكلام فيه من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في المبنى المذكور.

وأما بناء على ما ذكرنا من سقوطهما معاً عن الحجية فلا ينبغي التأمل أيضاً في نفي الثالث لو علم إجمالا بصدق أحدهما. لكنه راجع للعلم بنفيه، لا لحجيتهما في ذلك.

فيما لو احتمل كذب الدليلين معاً

أما لو احتمل كذبهما معاً فقد اختلفت كلماتهم في ذلك فقد ذهب جماعة إلى حجيتهما في نفي الثالث، على اختلاف منهم في عموم ذلك والتفصيل فيه، على ما سيظهر.

ما استدل به السيد الحكيم (قدس سره)

قال سيدنا الأعظم (قدس سره): «لأنهما وإن سقطا عن الحجية معاً، لكن في خصوص ما يتكاذبان فيه... لا ما يتفقان عليه، لعدم تكاذبهما فيه فلا يسقطان عن الحجية فيه» وقد سبقه إلى ذلك بعض الأعيان المحققين (قدس سره).

وقد يستشكل في ذلك: بأن دلالتهما على ما يتفقان فيه وهو نفي الثالث فرع دلالة كلٍ منهما على ما ينفرد به، لكونه لازماً له، فإذا فرض تكاذبهما في ما ينفردان فيه وسقوطهما عن الحجية فيه تعيَّن سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث تبعاً لذلك. ومرجع ذلك إلى سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية تبعاً للدلالة المطابقية. وقد أشار (قدس سره) إلى المنع من ذلك، كما هو مبنى غير واحد.

الكلام في عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية

فقد ذكروا أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في

ص: 168

الوجود، إلا أنها غير تابعة لها في الحجية، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بسبب التكاذب لا يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية بعد فرض عدم التكاذب فيها، نعم، خصه (قدس سره) بما إذا ساعد عليه الجمع العرفي وجعل منه المقام. وحيث كان المبنى المذكور من أهم مباني المسألة التي تبتني عليها الأقوال فيها، كما يبتني عليه الكلام في غير مقام فالمناسب تحقيقه والنظر في المهم من كلماتهم فيه..

التحقيق في المقام

فاعلم أن عدم التلازم بين الدلالتين في السقوط عن الحجية هو الذي أصرّ عليه غير واحد، لدعوى: لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم الحجية على المورد الذي يقتضيه دليل التخصيص، فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية، أي: دلالته على المؤدى، وأما كون المؤدى مراداً فهو مما لا تتوقف عليه الدلالة الالتزامية، فسقوط المتعارضين عن الحجية في نسبة المؤدى للمتكلم لا يقتضي سقوطهما عن الحجية في الدلالة الالتزامية التي يبتني عليها نفي الثالث.

وقد استشكل في ذلك غير واحد من مشايخنا..

تارة: بالنقض.

وأخرى: بالحل.

أما الأول: فقد ذكر بعض مشايخنا جملة من النقوض التي لا مجال لإطالة الكلام فيها وفي خصوصياتها، إلا أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) ذكر أنهم لا يلتزمون بذلك في الموضوعات.

ولعل الأولى التمثيل لذلك بما يناسب ما ذكره هو وبعض مشايخنا وهو ما لو كان في يد زيد مال مدعياً ملكيته، وقامت بينة بأنه ملك عمرو،

ص: 169

وأخرى بأنه ملك بكر، حيث لا يظن منهم البناء على أنه بعد تساقط البينتين في إثبات ملكية من شهدت له يبقيان حجة في ما يتفقان فيه من المدلول الالتزامي وهو عدم ملكية زيد، فتسقط يده عن الحجية، ولا يجوز ترتيب أثر ملكيته له من جواز شرائه منه والتصرف فيه بإذنه. ويأتي في آخر الكلام في حجة القول الأول ما يتعلق بذلك.

وأما الثاني فبدعوى: أن المدلول الالتزامي لكل منهما ليس متحداً مع المدلول الالتزامي للآخر، إذ مدلول كل منهما ليس هو وجود اللازم مطلقاً، بل خصوص الحصة المقارنة للمدلول المطابقي، فهما يتكاذبان في المدلول الالتزامي كما يتكاذبان في المدلول المطابقي، فالمدلول الالتزامي لدليل الحرمة مثلاً هو عدم الإباحة المقارن للحرمة، لا مطلقاً، كما أن مدلول دليل الوجوب الالتزامي هو عدم الإباحة المقارن للوجوب، فمع فرض تكاذبهما في الوجوب والحرمة يتكاذبان في عدم الإباحة الملازم لكل منهما والمدلول لدليليهما. وكما يكون التكاذب مسقطاً لهما عن الحجية في الوجوب والحرمة يكون مسقطاً لهما عنها في الحصتين الخاصتين من عدم الإباحة.

هذا حاصل ما ذكره بعض مشايخنا وحكي عن شيخنا الأستاذ (قدس سره).

وأما دعوى: أن عدم الإباحة لا تحصص له في نفسه، وليس اللازم لكل من الوجوب والحرمة إلا ذاته، فيتفق فيها الدليلان معاً.

فهي ممنوعة، فإن عدم الإباحة متحصص في نفسه، ولذا لو صرح في كل من الدليلين بفرد منه لم يتفقا في مدلولٍ واحد.

والتلازم وإن كان نسبة بين الملزوم واللازم بذاتيهما، إلا أن ما يحكي

ص: 170

عنه الدليل على الملزوم هو خصوص ما يقارنه من أفراد اللازم.

نعم، قد يقال: التكاذب بين المتعارضين في كل من خصوصيتي اللازم لا أثر له، لعدم إناطة الآثار العملية بالخصوصيات، بل بذات اللازم - كعدم الإباحة - على ما هو عليه من سعة. وترتب أثر الذات على دليل الخصوصية، إنما هو لاستلزام الخصوصية للذات المطلقة.

وحينئذٍ إن بني على أن تكاذب الدليلين في الملزوم مانع من حجيتهما في اللازم لم يحتج لتحصص اللازم وإثبات تكاذبهما في حصصه. وإلّا لم ينفع تحصصه، لأنهما وإن تكاذبا في خصوصية حصصه متفقان في الحكاية عن ذاته التي هي موضوع الأثر على ما هي عليه من سعة.

ولذا لو صرح في دليل الحجية بحجية المتعارضين في نفي الثالث لم يكن ذلك راجعاً إلى حجيتهما في أمر خارج عن مؤداهما ولا في أمر يتكاذبان فيه، بل إلى التفكيك بين مؤدياتهما في الحجية وقصر حجيتهما على ما يتفقان فيه.

فلعل الأولى أن يقال: المدلول الالتزامي..

المراد من اختلاف حال المدلول الالتزامي

تارة: يراد به ما يساق الكلام لبيانه ببيان الملزوم، بأن يكون المتكلم في مقام الحكاية عنه، نظير الكنايات.

وأخرى: يراد به ما لا يستفاد من الكلام إلا لمحض الملازمة الواقعية بينه وبين مؤداه، من دون أن يكون المتكلم في مقام بيانه ولا بصدد الحكاية عنه، إما لاعتقاده عدم الملازمة، أو غفلته عنها أو عدم تعلق غرضه ببيان اللازم.

أما الأول فيصدق عليه عنوان الخبر والشهادة وظاهر الكلام ونحوها

ص: 171

من موضوعات الحجية، كما تصدق على المدلول المطابقي، ويشتركان معاً في الدخول تحت عموم الحجية.

فيتجه ما سبق، في توجيه التفكيك بينهما في السقوط عن الحجية من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي لاختصاص المانع عن الحجية به، ويبقى المدلول الالتزامي حجةً بمقتضى العموم بعد كونه فرداً آخر له في قبال المدلول المطابقي.

نعم لو لم يكن إخباره باللازم اعتماداً على الحس، بل على الحدس القريب من الحس، لوضوح التلازم بين الأمرين، أشكل عموم دليل الحجية له، بحيث يكون فرداً آخر للعموم في قبال الإخبار

بالملزوم، ليمكن التفكيك بينهما في الحجية، بل يأتي فيه التفصيل الآتي في القسم الثاني. لأن الإخبار عن اللازم اعتماداً على الملزوم لوضوح التلازم بينهما فرع ثبوت الملزوم، فمع عدم ثبوته للتعارض لا وجه للقبول بالخبر باللازم، فلاحظ.

وأما الثاني فلا تصدق عليه عناوين موضوعات الحجج من الخبر والشهادة ونحوهما، لتوقفها على قصد الحكاية وبيان المؤدى، وإنما بني على الحجية فيها توسعاً في إعمال عمومها في المدلول المطابقي وتبعاً له، بضميمة المرتكزات العقلائية التي يبتني عليها عموم الحجية، من دون أن يكون فرداً آخر للعموم في قبال المدلول المطابقي، على ما سبق التعرض له في لواحق مبحث الأصل المثبت في بيان الفرق بين الأمارة والأصل.

ومن هنا لا يتجه ما سبق من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي في السقوط عن الحجية، لاختصاص منشئه به، مع الرجوع في المدلول الالتزامي لعموم الحجية. لما عرفت من عدم كون المدلول الالتزامي فرداً

ص: 172

آخر للعموم، ليتعين الرجوع إليه فيه عند الشك في تخصيصه.

بل لابد من ملاحظة بناء العقلاء ومرتكزاتهم في عموم الحجية للازم أو قصورها عما إذا لم يكن الدليل حجة في المدلول المطابقي. والظاهر أنه يختلف باختلاف منشأ عدم الحجية فيه..

فإن كان ناشئاً من قصور في طريقية الطريق كان مستتبعاً لعدم حجيته في اللازم، لتفرع طريقيته عليه عندهم على طريقيته على الملزوم، سواء كان ذلك لعدم طريقيته رأساً، كما لو علم بكذبه فيه، وإن احتمل تحقق اللازم، أم لعدم طريقيته شرعاً، كما لو شهد كل من الشاهدين بأمر مباين لما شهد به الآخر، واشترك كلا الأمرين المشهود بهما في لازم واحد، أو شهدت البينة في الحسيات عن حدس، كالشهادة اعتماداً على الحساب بهلال شهر إذا استلزم تعيين هلال شهرٍ آخر، وغير ذلك.

أما إذا كان عدم حجية الطريق في المدلول المطابقي ناشئاً من خصوصية فيه يمتاز بها عن اللازم تمنع من ثبوته بالطريق من دون قصور في طريقية الطريق ولا في كاشفيته، فلا يكون مستتبعاً لعدم حجية الطريق في اللازم بعد فرض عدم اشتماله على الخصوصية المذكورة وصلوحه لأن يثبت بالطريق المذكور، كما لو أخذ في حجية الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي، كالإقرار المتقوم بكون موضوعه حقاً على المقر، حيث قد لا يتضمن الخبر حقاً على المخبر بمدلوله المطابقي، بل بلازمه.

أو فرق بين الموضوعات في حجية الطريق بنحو لا ينطبق على المدلول المطابقي، كما في السرقة التي هي موضوع الحد، حيث لا تثبت بالشاهد واليمين، لأن الحد من حقوق الله تعالى، فإنه حيث لا يرجع إلى

ص: 173

قصورٍ في طريقية الشاهد واليمين المتضمنين للسرقة، بل لخصوصيةٍ في السرقة تمنع من ثبوتها بهما، تعين ثبوت لازمها بها إذا كان حقاً للناس، كالضمان.

تحقيق حال التعارض بين الأدلة

إذا عرفت هذا، فالظاهر أن التعارض من القسم الأول، فإنه وإن كان سقوط الحجية معه لامتناع التعبد بالنقيضين المفروض اختصاصه بالمدلول المطابقي، إلا أنه موجب أيضاً لقصور طريقية الطريق عرفاً.

فهو من سنخ المانع من الطريقية وإن تم معه مقتضيها، فيتعين عدم حجية الطريق في اللازم تبعاً لسقوط حجيته في الملزوم. من دون فرق في ذلك بين اتفاقهما في لازمٍ واحد - كما في محل الكلام - وانفراد أحدهما بلازم لا ينافيه الآخر، كما لو قامت إحدى البينتين على مطر السماء المستلزم لوجود السحاب، ونفت الأخرى المطر من دون أن تنفي السحاب، أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء المستلزم لثبوت الملاك الصالح للتقرب والذي هو المعيار في الإجزاء، ودل الآخر على عدم وجوبه من دون أن ينفي الملاك المذكور.

وإن ذكر سيدنا الأعظم (قدس سره) في مبحث اجتماع الأمر والنهي لزوم البناء حينئذ على ثبوت الملاك لحجية الدلالة الالتزامية.

وأما ما يظهر منه (قدس سره) هناك من أن التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية في الحجية في ذلك وفي المقام مقتضى الجمع العرفي.

فهو كما ترى! لوضوح أن مرجع الجمع العرفي إلى صرف الكلام عن ظاهره واستكشاف مراد المتكلم منه بالنحو المناسب للقرينة، لا إلى عدم حجية الكلام رأساً تخصيصاً لعموم الحجية، ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل ا

ص: 174

لكلام في المقام ونحوه على إرادة بيان اللازم دون المدلول المطابقي، بل ليس المفروض فيه إلّا سقوطه عن الحجية رأساً في المدلول المطابقي، وقد ذكرنا أن ذلك مستلزم لسقوطه عنها في المدلول الالتزامي، وعليه يبتني عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث.

نعم، إذا كان منشأ التعارض خفاء وجه الجمع العرفي بين الدليلين مع صلوح كل منهما عرفاً للقرينية على الآخر، من دون أن يتعين أحدهما للقرينية، بحيث لا يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأساً، بل عن تعيينه مع تردده إجمالا بين وجهين، تعين حجيتهما في نفي الثالث، لخروجه عن طرفي الترديد، كما هو الظاهر في مثل العامين من وجه في مورد الاجتماع، لأن العرف وإن كان يتوقف عن تحصيل المراد منهما، إلا أنه لصلوح كل منهما بنظره لتخصيص الآخر والانفراد بمورد الاجتماع من دون أن يتعين المخصص منهما، لتساويهما في قوة الظهور، فمورد الاجتماع مردد بينهما، لا أنهما غير صالحين لبيان المراد رأساً.

ومرجع هذا في الحقيقة إلى عدم استحكام التعارض بينهما من جميع الجهات، بل إلى الجمع العرفي، الذي هو خارج عن محل الكلام، غايته أنه مردد بين الوجهين.

بقي شيء: تقريب الخراساني تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية

بقي في المقام شيء، وهو أنه يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) تقريب تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية بأن شمول دليل الحجية للمدلول الالتزامي إنما هو بتبع شموله للمدلول المطابقي، فمع قصوره عن المطابقي لا معنى لإعماله في الالتزامي.

بدعوى: أن دلالة وجوب تصديق العادل مثلاً على نفي ما ينافي ما

ص: 175

أخبر به لأجل دلالته على تصديقه في ما أخبر به، لا أنه يدل عليها في عرضٍ واحد.

ومن هنا ذهب إلى نفي الثالث بأحدهما فقط، بناء على ما سبق منه من أن التعارض يقتضي سقوط أحدهما عن الحجية لا غير.

لمناقشة فيه

ويشكل: بأن التصديق إن كان بترتيب أثر المدلول المطابقي فقط، فلا وجه لاستتباعه نفي ما ينافيه بعد عدم الإشكال في إمكان التفكيك بين المتلازمين في التعبد، وان كان بترتيب أثر المدلولين معاً، كانا في عرض واحد بالإضافة لدليل الحجية. فالعمدة ما ذكرنا.

ثم إن ظاهره أنه لولا الشبهة المذكورة لكان نفي الثالث بالدليلين معاً حتى بناء على ما سبق منه من أن الساقط عن الحجية أحد المتعارضين للعلم بكذبه.

وما عن بعضهم من أنه أنكر عليه دعوى استناد نفي الثالث إلى أحدهما فقط، بل يستند إليهما معاً، لعدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

إن رجع إلى إنكار التبعية التي سبق منه دعواها كان إشكالاً مبنائياً. وإن رجع إلى إنكار ذلك منه حتى بناء على عدم التبعية، فلا يظهر منه (قدس سره) دعوى استناد نفي الثالث إلى خصوص أحدهما بناء على عدم التبعية، بل ظاهره استناده إليهما معاً بناء على ذلك.

ما يظهر من العراقي (قدس سره)

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أنه بناءً على ما سبق منه من سقوط أحد المتعارضين عن الحجية للعلم بكذبه يتعين البناء على استناد نفي الثالث إلى أحدهما فقط حتى بناء على عدم تبعية الدلالة الالتزامية

ص: 176

للمطابقية في السقوط عن الحجية، إذ مع العلم بكذب أحدهما لا يدخل في عموم دليل الحجية رأساً حتى يفكك بين مدلوله المطابقي والالتزامي.

ففيه: أن ذلك يتم لو كان المدعى كذب أصالة الصدور في أحدهما، لوضوح أن ما لم يصدر ليس من السنة الحجة.

الإشكال فيه

لكن لا مجال لدعوى ذلك، بل ليس المعلوم إجمالاً إلا كذب أحدهما مضموناً، بمعنى عدم تحقق مضمون أحدهما المانع من قيام الحجة عليه والتعبد به، ومن الظاهر أن معلوم الكذب هو المضمون المطابقي دون الالتزامي، فبناء على التفكيك بينهما في السقوط عن الحجية يتعين البناء على عدم حجية أحدهما في خصوص مضمونه المطابقي، مع حجيتهما في المضمون الالتزامي الذي يستند إليه نفي الثالث.

اللهم إلا أن يفرق بين السقوط عن الحجية للعلم بالكذب، والسقوط عنها لمحذور آخر - كالتعبد بالنقيضين اللازم في المتعارضين - فيلتزم بتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية في الأول دون الثاني. فلابد من بيان الفارق بينهما. فلاحظ.

وكيف كان، فالمتحصل من جميع ما سبق: أن المتعارضين إن تصدى أحدهما أو كلاهما لنفي الثالث، بحيث يكون الكلام مسوقاً لبيانه، كان أحدهما أو كلاهما حجة في نفيه على التفصيل المتقدم، وإن استفيد نفيه منهما بمحض ملازمته لمضمون كل منهما، فإن كان تعارضهما بنحو يمكن الجمع بينهما عرفاً، لصلوح كل منهما لأن يكون قرينة على الآخر وإن لم يتعين أحدهما للقرينية، بل يكون المراد مردداً بينهما عرفاً، كانا حجةً في نفيه أيضاً.

ص: 177

وإن كان بنحوٍ يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأساً، لتعذر الجمع عرفاً بينهما، تعين عدم حجيتهما في نفي الثالث.

الأقوال في مسألة التبعية المذكورة
اشارة

إذا عرفت ما هو الحق في المقام، وما يبتني عليه الكلام من حديث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية، فلنشر لبقية الأقوال في المسألة مما يبتني على الحديث المذكور وعلى غيره مما يظهر عند عرضها، وهي جملة أقوالٍ..

الأول: الحجية مطلقاً

الأول: الحجية مطلقاً، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم I أخذاً بالمدلول الالتزامي، بناءً منهما على عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية. بتبع الدلالة المطابقية.

ويظهر ضعفه مما سبق من ضعف المبنى المذكور على عمومه، بل سقوط الدليل عن الحجية في المدلول المطابقي مستلزم لسقوطه عنها في المدلول الالتزامي إذا لم يكن المتكلم بصدد بيانه، بل يستفاد بمحض ملازمته لمضمونه. بل حتى إذا كان بصدد بيان اللازم إذا ابتنى إخباره به على محض الملازمة، لا على الاطلاع عليه من غير طريقها.

أما شيخنا الأستاذ (قدس سره) فقد بنى على عموم حجيتهما في نفي الثالث مع الاعتراف بما ذكرنا، فقد سبقنا إلى التنبيه على تقسيم المدلول الالتزامي إلى القسمين، أعني: ما يكون عليه دلالة مقصودة للمتكلم، وما لا يكون كذلك، بل يستفاد من الكلام بمحض ملازمته لمضمونه، وحكم بتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية في الثاني، وفي الأول أيضاً إذا لم تكن الدلالة الالتزامية حجة بنفسها، لكون اللازم أمراً حدسياً لا يرجع فيه للمتكلم، كما لو شهدت البينة بالملاقاة التي هي سبب النجاسة،

ص: 178

فإنه لو فرض قصد الشاهدين الإخبار عن النجاسة لا تقبل شهادتهما بها، لعدم حجيتها في الأحكام الشرعية، وإنما يبني عليها المشهود عنده - في فرض ثبوت الملازمة عنده باجتهاد أو تقليد - بتبع البناء على موضوعها - وهو الملاقاة - للتلازم بين التعبد بالموضوع والتعبد بالحكم، فمع معارضة البينة على الملاقاة بالبينة النافية لها وسقوطها عن الحجية في إثبات الملاقاة لا مجال للبناء على النجاسة، لعدم إحراز موضوعها.

أما إذا كان قول المتكلم مقبولاً في اللازم، وكان اللازم من القسم الأول - وهو الذي تكون عليه دلالة التزامية مقصودة للمتكلم - فقد ذكر (قدس سره) أن المتعين التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية في السقوط عن الحجية، نظير ما سبق منا، وجعل من ذلك دلالة النصين المتعارضين على نفي الثالث اللازم لثبوت كل من الحكمين اللذين تعرضاً لهما بمدلولهما المطابقي لإمكان قصد الإمام (ع) من بيان الحكم نفي غيره، فيكون له دلالة التزامية مقصودة، وحيث كانت الدلالة المذكورة حجةً في نفسها لقبول قوله (ع) في اللازم، تعين عدم سقوطها عن الحجية وإن سقطت الدلالة المطابقية بالمعارضة.

وهذا، بخلاف تعارض البينتين في الشبهات الموضوعية، لعدم قبول قول الشاهدين في نفي الحكم الثالث، فلا يتوجه ما سبق من النقض بعدم بنائهم على حجية الأمارات المتعارضة في الموضوعات في نفي الثالث.

لكنه كما ترى! إذ مجرد إمكان قصد الإمام (ع) من بيان الحكم نفي غيره لا يستلزم أن يكون لكلامه دلالة التزامية مقصودة، بل لابد في إحرازها من ثبوت تصديه لذلك وسوق كلامه لبيانه، وهو أمر زائد على مفاد الكلام

ص: 179

مبني على مزيد مؤنة لابد في البناء عليها من ظهور الكلام فيها بضميمة قرينة مقالية أو حالية محيطة به، ولعل الغالب عدمه، ولا وجه معه لإطلاق حجية المتعارضين في نفي الثالث. على أن ما ذكره (قدس سره) يختص بما إذا علم بصدور الكلامين من الإمام، ولا مورد له مع الشك فيه، كما لعله ظاهر.

كما أن عدم حجية قول الشاهدين في نفي الحكم الثالث إنما يمنع من الحجية فيه، لا في نفي الثالث إذا كان موضوعاً منافياً لما شهدا به، كما لو شهدت كل من البينتين باصطياد شخص للحيوان،

وكان في يد ثالث يدعي اصطياده، لوضوح حجية البينة في نفي اصطياد شخص المذكور، لأنه من الموضوعات الحسية، وإن ترتب عليه الحكم بعدم ملكيته، مع عدم بنائهم على حجية البينتين في مثل ذلك بعد تساقطهما في ما شهدا به، على ما سبق، فيتجه النقض المذكور.

الثاني: عدم الحجية مطلقاً

الثاني: عدم الحجية مطلقاً، كما يظهر من بعض مشايخنا، لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

لكن المتيقن من مساق كلامه واستدلاله ما إذا استفيد نفي الثالث من كل من الدليلين بمحض ملازمته لكل من الحكمين اللذين تكفلا بهما، أما لو تصدى المتكلم لبيانه بكلامه، من باب بيان اللازم بذكر الملزوم، فلا يبعد انصراف كلامه عنه في المقام وفي حديث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.

الثالث: التفصيل الذي ذكره النائيني (قدس سره)

الثالث: ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من أنهما إن كانا متعارضين في أنفسهما بالنظر لمدلوليهما كانا حجة في نفي الثالث، أخذا بالمدلول الالتزامي بناء منه على عدم سقوطهما عن الحجية فيه، على ما سبق الكلام فيه.

ص: 180

وإن كان تعارضهما لأمرٍ خارجٍ لم يكونا حجة في نفي الثالث فلو دل دليل على وجوب صلاة الظهر وآخر على وجوب صلاة الجمعة، وعلم من الخارج بعدم وجوب أكثر من صلاة واحدة تعارضاً وتساقطاً وجاز الرجوع لأصل البراءة والبناء على عدم وجوب كل من الصلاتين، إذ ليس لهما مدلول التزامي قاض بوجوب فريضة في اليوم، ليمتنع الرجوع للبراءة، بل كل منهما يقتضي وجوب كل من الفريضتين بخصوصها، ولا يدلان على وجوب القدر المشترك، فمع سقوطهما عن الحجية في الخصوصية لا وجه لحجيتهما في القدر المشترك، ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما في الجنس، فإن التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من الألفاظ.

نعم، لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها امتنع الرجوع للأصل، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة.

وفيه: (أولاً): أن ذلك راجع للإشكال في الصغرى، حيث يرجع إلى منع دلالتهما على وجوب القدر المشترك بينهما، لمنع كونه لازماً لهما بسبب الأمر الخارج المفروض، ولا ينهض بمنع دلالتهما على نفي وجوب الثالث الذي هو لازم لهما بسبب الأمر الخارج، كما لو احتمل في المقام وجوب صلاة ثالثة غير الظهر والجمعة. ويظهر الأثر العملي لذلك لو كان وجوب الثالث مقتضى عموم أو أصل.

(وثانياً): أن المراد بالمدلول الالتزامي في محل الكلام ليس خصوص ما يكون موضوعاً لدلالة عرفية للكلام، بحيث يكون مراداً بالبيان بمقتضى ظاهر الكلام، ليتجه ما ذكره من عدم العبرة بالتحليل العقلي في باب

ص: 181

الظهورات، بل مطلق لازم مؤدى الكلام ولو لم يكن المتكلم بصدد بيانه، ومن الظاهر أن لازم وجوب إحدى الفريضتين بخصوصيتها وجوب فريضة في الجملة، كما لو صرح به في أحد الدليلين أو كليهما وتصدى المتكلم لبيانه.

اللهم إلا أن يقال: وجوب إحدى الفريضتين ليس لازماً واقعياً لمفاد الدليلين المطابقي، ليجري فيه ما سبق في المدلول الالتزامي، بل هو متحد معه حقيقة، وإن باينه مفهوماً مباينة المجمل للمبين، فمع فرض سقوط الدليل عن الحجية في المدلول المطابقي لا مجال لحجيته فيه.

كما أن وجوب القدر المشترك بينهما الذي هو الجنس بحسب التحليل العقلي ليس لازماً له أيضا، بل هو وجوب ضمني متحد مع وجوب كل من الخصوصيتين استقلالاً، الذي هو المفاد المطابقي لكل من الدليلين، فخروج المورد عن حديث بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية ليس لعدم العبرة بالتحليل في باب الظهورات، كما ذكره (قدس سره) بل لرجوع التحليل للاتحاد، دون التلازم. نعم قد يدعى ابتناؤه على تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في السقوط، وهو خارج عن محل الكلام.

وأما التصريح في أحد الدليلين بوجوب فريضة في الجملة فليس هو تصريحاً باللازم، بل هو راجع إلى اشتمال الدليلين على مدلول إجمالي وآخر تفصيلي، وتكاذبهما في الثاني لا يوجب سقوطهما عن الحجية في الأول.

تذنيب..

تذنيب: في اختلاف النسخ

إذا تنجز أمر إجمالي إما بالعلم - كفريضة اليوم - أو بقيام دليلٍ خاص - كما في ما تقدم في تعقيب كلام بعض الأعاظم (قدس سره) - واختلف الدليلان في

ص: 182

تعيينه بوجهين مثلاً، فحيث يسقطان عن الحجية في تعيينه، فهما لا ينهضان بنفي طرف ثالث للإجمال لو فرض احتماله، بناء على ما سبق من عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث.

ومن هنا يشكل الحال في اختلاف النُّسخ، لوضوح أن الأخبار بكل نسخةٍ وإن كان مبنياً على المفروغية عن وجود مضمون الكتاب الذي تحكي عنه النسخ، فهي تصلح لتنجيز الأمر الإجمالي، إلا أن عدم صلوحها لتعيينه بسبب التعارض موجب لعدم حجيتها في القدر المشترك بينها، وهو مخالف لسيرة العلماء في مقام الاستدلال، حيث لا يخرجون عن مفاد كلتا النسختين.

ولا مجال لدعوى ابتناء ذلك منهم على الخروج عن أصالة التساقط والعمل بأخبار العلاج المتضمنة للترجيح والتخيير.

لما يأتي في محله إن شاء الله تعالى من قصور أخبار العلاج عن اختلاف النُّسَخ ولزوم الرجوع فيه للأصل.

فلا يبعد أن يكون ذلك منهم للاطمئنان بصدق إحدى النسخ ولو بلحاظ مساق الكلام ومناسباته.

أو يقال: لما كان منشأ اختلاف النسخ منحصراً بالخطأ في إثبات النسخة أو قراءتها أو سماعها، فأصالة عدم الخطأ بنظر العقلاء تقتضي عدمه في إحدى النسخ إجمالاً، اقتصاراً فيه على المتيقن.

وليس الخطأ كغيره من الأمور التي يبتني استحصال الواقع من الطرق على عدمها - كمخالفة ظاهر الكلام، وصدوره لبيان غير المراد الجدي، وتعمد الكذب من الناقل - مما يبتني الخروج عنه على العمد الذي لو جاز

ص: 183

في أحد الطريقين جاز في كليهما. ولولا ذلك لأشكل الحال.

نعم، لا إشكال مع عدم أداء اختلاف النُّسَخ إلى اختلاف المعنى لو أمكن عرفاً حمل بعضها على بيان النقل بالمعنى وعدم التقيد بالألفاظ، لثبوت جواز ذلك.

وكذا لو كان الاختلاف بالزيادة بنحو لا يخل بالمعنى، بل يوجب زيادته لو أمكن عرفاً حمل الناقص على عدم التصدي والاهتمام بضبط تمام المضمون، حيث يخرج عن التعارض حينئذ، لعدم التكاذب.

وأولى بعدم الإشكال ما لو كان مرجع النُّسَخ إلى بيان محتملات نسخة الأصل لاشتباهها وتشوشها، من دون جزم ببعضها، لرجوعها إلى الأخبار بعدم خروج نسخة الأصل عن المحتملات المذكورة. فلاحظ.

الأمر السادس: تعارض القطعي الصدور مع قطعي الدلالة

الأمر السادس: تقدم تقريب أصالة التساقط في المتعارضين بالإضافة إلى ما لم يكن لدليل حجيته إطلاق بقصور دليله عن شمول حال التعارض، وبالإضافة إلى ما كان لدليل حجيته إطلاق بمانعية التعارض من حجية المتعارضين المستلزم لتخصيص عموم الحجية فيهما.

ولازم ذلك أنه لو تعارض أحد أفراد القسم الأول مع أحد أفراد القسم الثاني تعين الثاني للحجية عملاً بإطلاق دليله بعد فرض قصور دليل الأول عن صورة التعارض.

فلو تعارض قطعي الصدور الذي هو ظني الدلالة أو الجهة، مع قطعي الدلالة والجهة الذي هو ظني الصدور، كان الترجيح للثاني، لاستناد أصالة الصدور فيه لعموم حجية خبر الثقة واستناد أصالة الظهور والجهة في الأول لبناء العقلاء الذي لا عموم له يشمل حال التعارض.

ص: 184

اللهم إلا أن يقال: لم يتضح الدليل على عموم حجية خبر الثقة تعبداً، وإنما يستفاد مما كان وارداً مورد الإمضاء لسيرة العقلاء، فيشكل عمومه لصورة معارضة أصالة الظهور له، بل الارتكازيات العرفية تقضي بتساقطهما لمانعية التعارض من حجيتهما، على ما سبق في تقريب أصالة التساقط.

نعم، يتجه ذلك في موارد الجمع العرفي، بحمل ظني الدلالة على ما لا ينافي قطعيها، حيث يكون قطعيها بضميمة أصالة الصدور قرينة على التصرف في ظنيها، ويخرج عن باب التعارض على ما سبق توضيحه.

وأما توهم العكس وهو لزوم تقديم الدليل القطعي الصدور وإن كان ظني الدلالة على ظني الصدور وإن كان قطعي الدلالة، لدعوى قصور بناء العقلاء على حجية خبر الثقة عن صورة

معارضته لمقطوع الصدور، بخلاف بنائهم على حجية الظهور، لعدم رفعهم اليد عن الدليل القطعي معه إلا بيقين.

فلا مجال له، لعدم وضوح أقوائية أصالة الظهور عندهم من خبر الثقة، ولا سيما مع ثبوت كثرة مخالفته وقوة احتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره، لعدم الإحاطة بظروف صدور الكلام وما يقارنه من قرائنٍ حاليةٍ ومقالية.

هذا، ونظير ما سبق ما ذكره بعض مشايخنا من أنه لو تعارض مقطوع الصدور - كالكتاب أو السنة المتواترة - مع مظنون الصدور، وهو خبر الواحد، تعين الأخذ بمقطوع الصدور لا للترجيح بينهما في ظرف حجية كلٍ منهما، بل لخروج مظنون الصدور عن موضوع الحجية بسبب التعارض لما استفاضت به الأخبار الكثيرة من عدم جواز الأخذ بالخبر المخالف للكتاب والسنة، وأنه زخرف وباطل لم يصدر عنهم (ع).

ص: 185

لكن ما ذكره إنما يتم إذا كان التعارض بنحو التباين الذي يتعذر معه الجمع العرفي، دون ما إذا كان بمجرد تصادم الظهورين، بنحو يمكن فيه تنزيل كل منهما على الآخر، كالعامين من وجه، إذ يخرج ذلك عن مفاد النصوص المشار إليها، كما سبق في أول الكلام في حجية خبر الواحد.

فلابد في توجيه تقديم قطعي الصدور بالترجيح المتأخر رتبة عن التعارض.

أما لو كان المعارض هو السنة فلدخوله في ما تضمن ترجيح المشهور روايةً معللاً بأن المشهور لا ريب فيه.

وأما لو كان هو الكتاب فلأن نصوص الترجيح وإن اختصت بتعارض الأخبار، إلا أن المستفاد عرفاً من الترجيح بينها بموافقة الكتاب هو ترجيح الكتاب عليها عند التعارض بينهما. بل قد يستفاد ذلك من التعليل المشار إليه في الترجيح بالشهرة في الرواية. فلاحظ.

ص: 186

المقام الثاني : في مقتضى الأدلة الخاصة في المتعارضين
اشارة

حيث سبق أن الأصل في المتعارضين التساقط فلا مخرج عنه إلا النصوص الواردة في تعارض الأخبار الواردة عن المعصومين (ع)، المتضمنة للترجيح والتخيير أو التوقف. بل ربما ادعي الإجماع على عدم الرجوع فيها لأصالة التساقط، على ما يأتي الكلام فيه.

ولا يخفى أن النصوص المذكورة - كالإجماع - مختصة بتعارض الأخبار، ولا تشمل معارضة غيرها لها، كما لا تشمل تعارض غيرها من الأدلة بعضها مع بعض، وإن أشرنا قريباً إلى إمكان استفادة ترجيح الكتاب على الأخبار في بعض الصور.

ويأتي في آخر الكلام في هذا المقام بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

والظاهر عموم تعارض الأخبار الذي هو مورد النصوص المذكورة لتعارض الخبرين المظنوني الصدور والمقطوعي الصدور والمختلفين.

وما سبق من بعض مشايخنا من قصوره عن المختلفين قد عرفت الإشكال فيه على عمومه.

ص: 187

كما أن ما يظهر منه من قصوره عن القطعيين أيضاً وتعين الرجوع فيهما لأصالة التساقط واختصاص نصوص المقام بالظنيين، غير ظاهر الوجه أيضاً مع إمكان تحقق التعارض بين القطعيين بلحاظ عدم قطعية الدلالة أو الجهة فيهما، ومع إطلاق نصوص المقام، ولا سيما مقبولة ابن حنظلة،

التي فرض فيها التعارض بين الخبرين المشهورين مع ما تضمنته من أن المشهور لا ريب فيه، فإن ذلك لو لم يختص بتعارض القطعيين فلا أقل من كونه من أظهر أفراده.

غاية الأمر أنه لا مجال لجريان المرجحات السندية فيه، وهو غير مهم في محل الكلام.

هذا، وأما عموم نصوص المقام وخصوصها من غير هذه الجهة فالأنسب التعرض له بعد الكلام في مفاد نصوص المقام وتعيين ما عليه المعوَّل منها.

إذا عرفت هذا، فالمعروف وجوب الترجيح في الجملة، عملاً بنصوصه، ثم التخيير أو التوقف أو الاحتياط على ما يأتي الكلام فيه.

لكن ذهب السيد الصدر - في ما حكي عنه - والمحقق الخراساني (قدس سره) إلى عموم التخيير بين الأخبار المتعارضة، تقديماً لنصوصه على نصوص التوقف والاحتياط، وتحكيما لعمومه على نصوص الترجيح التي هي أخص، مع حمل نصوص الترجيح على الاستحباب أو تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين الحجتين الذي هو محل الكلام.

والنظر في ذلك يستدعي الكلام في ثلاثة فصول، يتضمن الأول منها البحث في الترجيح دليلاً ومورداً، لتقدمه طبعاً، ويتضمن الثاني البحث في

ص: 188

حكم صورة عدمه، إما لعدم ثبوته أو لعدم تحقق المرجحات المعتبرة، وهو المراد بالتعادل في كلماتهم، ويتضمن الثالث البحث في مسائل تتعلق بمفاد الأدلة الخاصة الواردة في علاج التعارض لا يستغنى عنها. ونسأله سبحانه العون على ذلك والتسديد فيه.

ص: 189

ص: 190

الفصل الأول : في الترجيح
اشارة

والكلام فيه في مباحث..

المبحث الأول : في أدلته
اشارة

وحيث كان بعض الوجوه المستدل بها عليه ظاهر الوهن فلا ينبغي التعرض له وإطالة الكلام فيه.

وما ينبغي التعرض له وجهان..

الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من الإجماع المحقق، والسيرة القطعية.

ما أشار إليه الشيخ الأعظم (قدس سره)

وكأن المراد بالسيرة سيرة العلماء في مقام الاستدلال، في مقابل إجماعهم القولي المستفاد من تصريحهم بالحكم عند التعرض للمسألة الأصولية، ومن إيداعهم نصوصه في كتبهم المبنية على حفظ الأخبار المعتمدة. وإلا فسيرة المتشرعة في مقام العمل لا مجال لها في المسألة

ص: 191

الأصولية التي ليس من شأنهم الرجوع إليها.

وقد أنكر المحقق الخراساني (قدس سره) الإجماع المذكور، فذكر أنه لا مجال لدعواه مع ذهاب مثل الكليني (قدس سره) للتخيير، حيث قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير».

لكن ما نقله عن الكليني لا يناسب كلامه في ديباجة الكافي، حيث قال:

«فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحداً تمييز شيءٍ مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (ع) برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله (ع): اعرضوهما على كتاب الله، فما وافى كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (ع): دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم، وقوله (ع): خذوا بالمجمع عليه فإن المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله. ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (ع):

«بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم». وقد يسر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت...».

فإن ظاهره لزوم الترجيح مع الاطلاع على المرجحات وأن الرجوع للتخيير عند الجهل بها توسعة منهم (ع). ومن هنا لا مجال لإثبات الخلاف وإنكار دعوى الإجماع من شيخنا الأعظم (قدس سره) المؤيدة بارتكازية الحكم ومعروفيته عند الأصحاب، تبعاً للنصوص الواردة به التي يبعد فهمهم منها ما ذكره المحقق الخراساني.

ودعوى: أن موافقتهم للنصوص مانعة من الاحتجاج بإجماعهم لو تم، لكونه مدركياً، بل يجب النظر في مدركه.

مدفوعة: بأن موافقتهم للنصوص التي هي في نفسها قابلة للتشكيك -

ص: 192

لو فرض - لا يمنع من حصول القطع من إجماعهم في الحكم الذي يكثر الابتلاء به ويمتنع عادة الخطأ فيه، حيث يكشف عن أن ما فهموه من النصوص هو المراد الواقعي للشارع، فتكون قرينةً قطعيةً على مطابقة ما فهموه منها للواقع.

نعم، ثبوت الإجماع بالنحو الموجب للقطع بالحكم والصالح للاحتجاج بهذا المقدار وإن كان قريباً، إلا أنه لا يخلو عن إشكال، لعدم شيوع التعرض منهم للمسألة الأصولية وعدم تيسر الاستيعاب لكلماتهم في الفقه في مقام الاستدلال بالنحو الكافي في معرفة اتفاقهم.

الثاني: النصوص المشتملة على المرجحات على اختلاف في تعدادها..

النصوص المشتملة على المرجحات
مقبولة ابن حنظلة

منها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع) الواردة في الخصومة، حيث قال السائل فيها بعد أن أمر الإمام (ع) بالرجوع لرواية أحاديثهم (ع): «فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضياً أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلف في حديثكم [حديثنا. خ ل] فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فثانيها فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل [ليس يتفاضل] واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه... ثانيها فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق

ص: 193

حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.

ثانيها جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فثانيها جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً.

قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. ثانيها فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال:

إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

ما استشكله فيها السيد الخوئي (قدس سره) من ضعف السند ودفعه

وقد استشكل فيها بعض مشايخنا بضعف السند، لعدم النص على توثيق عمر بن حنظلة.

ولا مجال له بعد تلقي الأصحاب لها بالقبول، حتى عرفت بالمقبولة ورواها المشايخ الثلاثة معتمدين عليها، مع علو متنها واشتمالها على أحكام متعددة في القضاء والتعارض اعتمد عليها الأصحاب فيها.

مع أن عمر بن حنظلة وإن لم ينص على توثيقه في كتب الرجال، إلا أن القرائن تشهد بوثاقته وعلو مقامه..

منها: كثرة رواياته عنهم (ع) مع تلقي الأصحاب لها بالقبول وروايتهم لها في الأصول.

ومنها: رواية جماعة من الأعيان عنه فيهم غير واحد من أصحاب

ص: 194


1- الوسائل ج: 18 كتاب القضاء باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.

الإجماع، بل فيهم صفوان بن يحيى الذي قيل إنه لا يروي إلّا عن ثقة.

ومنها: بعض الروايات التي تشهد بوثاقته وعلو مقامه، وعمدتها معتبر يزيد بن خليفة - بناء على ما هو الظاهر من وثاقته، لرواية صفوان عنه -

«قلت لأبي عبد الله (ع): إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله (ع): إذاً لا يكذب علينا...»(1).

فإن ذلك بمجموعه موجب للركون إلى رواياته، بل بعضه حجة على ذلك، خصوصاً هذه الرواية المحتفة بما ذكرنا.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن موردها تعارض الحكمين في القضاء الذي لا مجال فيه للتخيير، لعدم فصل الخصومة به، ولذاأرجأ (ع) الأمر مع عدم الترجيح إلى لقاء الإمام، ولا وجه للتعدي عنه إلى الفتوى التي يمكن فيها التخيير من أول الأمر.

لاندفاعه: بأن لسان الترجيح فيها يأبى الجمود على مورد التخاصم، لظهوره في عدم صلوح المرجوح لأن يرجع إليه، كما هو المناسب لقوله (ع):

«فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، وقوله (ع):

«ما خالف العامة ففيه الرشاد»، لوضوح أن لزوم ترك ما فيه الريب لما لا ريب فيه، وما لا رشاد فيه إلى ما فيه الرشاد، من القضايا الارتكازية التي لا تختص بالقضاء.

ولذا كان المستفاد منها عرفاً خطأ الحكم على طبق المرجوح، بحيث لا ينبغي لصاحبه العود له في واقعةٍ أخرى وإن لم يكن له فيها مخالف في التحكيم، لا صدور الحكم في محله لحجية مستنده وإن لم يجب تنفيذه بسبب الاختلاف.

ص: 195


1- الوسائل ج: 3 باب: 5 من أبواب المواقيت حديث: 6.

على أنه لا مجال لذلك بناءً على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف أو التساقط، لأن خصوصية القضاء لا تمنع منهما، بل من التخيير، وإلا فلا يحتمل حجية الراجح في القضاء والتخاصم، دون الفتوى، بحيث لا يسوغ للمكلف ترتيب الأثر عليه في حكم نفسه إلا في فرض وجود الخصم المنازع له المستدعي للترافع والحكومة.

ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما استشكل به فيها أيضاً من اختصاصها بزمان الحضور، ولا تعم زمان الغيبة، بقرينة ما في ذيلها من الإرجاء مع التعادل إلى لقاء الإمام (ع) دون التخيير.

وجه الاندفاع: إباء لسان الترجيح عن الاختصاص بزمان الحضور، لما سبق، بل لا مجال له لإلغاء خصوصية المورد عرفاً - مع قطع النظر عما سبق - كما هو الحال في غيره من الأحكام التي تضمنتها، حيث كان بناء الأصحاب على شمولها لزمان الغيبة.

صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المروي في رسالة القطب الراوندي: «قال الصادق (ع): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

صحيح الحسن بن الجهم

ومنها: صحيح الحسن بن الجهم المروي في الرسالة المذكورة: «قلت للعبد الصالح: هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلّا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلّا التسليم لنا. ثانيها فيروى عن أبي عبد الله (ع) شيء

ص: 196


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 29.

ويروى عنه خلافه، فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه»(1).

هذا ما تيسر لي العثور عليه من النصوص المعتبرة السند. وهناك نصوص أخرى لا تبلغ درجة الاعتبار تصلح للتأييد.

خبر الحسين بن السري

منها: خبر الحسين بن السري المروي في الرسالة المذكورة بسند فيه إرسال:

«قال أبو عبد الله (ع): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(2).

صحيح محمد بن عبد الله

ومنها: الصحيح عن محمد بن عبد الله المروي في الرسالة المذكور:

«قلت للرضا (ع): كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه»(3).

مرفوعة زرارة

ومنها: مرفوعة زرارة: «سألت الباقر (ع) فثانيها جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فثانيها يا سيدي إنهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فثانيها إنهما معاً عدلان مرضيان موثقان. فقال: انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما خالف، فإن الحق فيما خالفهم. فثانيها ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. فثانيها إنهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف

ص: 197


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 31.
2- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 30.
3- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 34.

أصنع؟ فقال: إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(1).

وهناك نصوص أُخر ذكرها شيخنا الأعظم في نصوص الترجيح، بعضها ليس منها في الحقيقة، وبعضها مورد للكلام ربما يأتي التعرض له في محل آخر. والمهم ما ذكرنا وفيه الكفاية في إثبات الترجيح في الجملة.

ما استشكله الخراساني (قدس سره) في نصوص الترجيح

هذا، وقد استشكل المحقق الخراساني (قدس سره) في نصوص الترجيح..

تارة: بأن عمدتها المقبولة والمرفوعة وهما مختلفان في بيان المرجحات. مع ضعف سند الثانية، واختصاص الأولى بالقضاء وبعصر الحضور، فلا مجال للتعدي منهما للفتوى في عصر الغيبة.

وأخرى: بأنه لا مجال لتقييد إطلاقات التخيير الواردة من غير استفصال عن تعادل الخبرين وتفاضلهما بصورة تساوي الخبرين من جميع الجهات، لندرة ذلك بنحوٍ يستلزم التخصيص المستهجن.

دفع ما ذكره (قدس سره)

ويندفع الأول - مضافاً إلى ما سبق من إباء لسان المقبولة عن الجمود على المورد المذكور - بأن الأمر لا ينحصر بالمقبولة والمرفوعة، لوفاء غيرهما مما تقدم به مما هو تام دلالةً وسنداً.

وأما اختلاف المقبولة والمرفوعة فهو غير ضائر بعد ضعف المرفوعة.

على أنه يمكن الجمع عرفاً بينهما، كما يمكن الجمع بينهما وبين غيرهما على ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في المرجحات.

كما يندفع الثاني: بأن المرجحات المنصوصة ليست من الكثرة بنحوٍ يمتنع حمل مطلقات التخيير - لو تمت - على صورة عدم وجودها، فغاية ما

ص: 198


1- الحدائق: ج 1 ص 93 في المقدمة السادسة، طبع النجف الأشرف.

يلزم عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة، وليس هو محذوراً على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

على أن ذلك لا يقتضي تعين نصوص الترجيح للسقوط، بل تقتضي التعارض بينها وبين نصوص التخيير، المقتضي للتساقط والبناء على الترجيح لأنه المتيقن.

وتنزيل نصوص الترجيح على الاستحباب يأباه لسان بعضها، كالمقبولة، فليس هو جمعاً عرفياً.

ثم إنه (قدس سره) حاول تنزيل نصوص الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة على تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين الحجتين الذي هو محل الكلام. ويأتي الكلام في ذلك عند الكلام في المرجحين المذكورين إن شاء الله تعالى.

إلّا أن الظاهر أنه لا أثر لذلك في دفع إشكال تقييد إطلاقات التخيير، لأن حملها على صورة عدم التفاضل بين الخبرين في ذلك إن أمكن أمكن حتى مع تمامية موضوع الحجية في الخبرين المتعارضين، وإلا تعذر حتى مع فقد أحدهما لموضوع الحجية.

هذا، وربما يستشكل في نصوص الترجيح بمخالفتها لبعض النصوص، كصحيح ابن أبي يعفور أو موثقه:

«سألت أبا عبد الله (ع) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به. قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (ص) وإلّا فالذي جاءكم به أولى به»(1).

ص: 199


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 11.

وما عن مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد: «أن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك (ع) قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أو الرد إليك في ما اختلف فيه؟ فكتب (ع): ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه إلينا»(1)، ونحوه مكاتبة داود بن فرقد الفارسي(2).

ومرسل الاحتجاج عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (ع): «ثانيها يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه. قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. ثانيها لابد أن نعمل بواحدٍ منهما قال: خذ بما فيه خلاف العامة»(3).

لظهور الأول في لزوم تحصيل الشاهد من الكتاب والسنة، والمكاتبتين في التساقط وعدم حجية غير العلم، والمرسل في وجوب التوقف عن كلا الخبرين، واختصاص الترجيح بمخالفة العامة بحال الضرورة.

ويندفع: بظهور الأول في إناطة أصل الحجية بوجود الشاهد من الكتاب والسنة، لا الترجيح بذلك عند التعارض بين الخبرين الحجة، لأن المفروض فيه التعارض بين خبر الثقة وغيره، فلو كان خبر الثقة حجة لم يصلح الثاني لمعارضته، فهو كسائر النصوص المانعة من حجية خبر الواحد التي تقدم في أول الكلام في حجية خبر الواحد عدم التعويل عليها.

ص: 200


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديت: 36 والموجود في مستطرفات السرائر يخالف ما أثبتناه عن الوسائل قليلاً.
2- مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 10 وبصائر الدرجات ج: 10، باب: 2، حديث 26 في ص 534.
3- الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 42.

وأما المكاتبتان فهما وإن كانتا ظاهرتين في اختلاف الحجتين، لظهورهما في أن موجب التوقف والسؤال هو الاختلاف، لا احتمال قصور موضوع الحجية في أحدهما أو كليهما، إلا أنه لا مجال للتعويل عليهما - حتى لو تم سندهما - لظهور إعراض الأصحاب عنهما والعمل بنصوص الترجيح أو التخيير، وربما يحملان على صورة التحير لفقد المرجح، جمعاً مع نصوص الترجيح.

وأما الثالث فهو - مع ضعفه في نفسه - محمول على تيسير الوصول للإمام (ع) من دون حرج، أو على استحباب التوقف مع سهولته، جمعاً مع نصوص الترجيح التي يتعذر حملها على صورة الاضطرار للعمل، لندرتها، ولإباء بعضها عن ذلك كمقبولة ابن حنظلة الآتية الآمرة بالتوقف وإرجاء الأمر إلى لقاء الإمام عند فقد المرجحات. فلاحظ.

ص: 201

المبحث الثاني : في المرجحات المنصوصة
اشارة

النصوص المتقدمة مختلفة في تعيين المرجحات وتعدادها، كما أن هناك نصوصاً أخرى قد يستفاد منها مرجحات أخرى قد أهملت في هذه النصوص، فينبغي التعرض لكل مرجح تضمنته النصوص المتقدمة أو غيرها أو ادعي استفادته منها، والنظر في دليله وحدوده، وهي أمور..

الأول: صفات الراوي

الأول: صفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية والأوثقية.

فإن ظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) اعتبار الترجيح بها، بل معروفية الرجوع إليها بين الأصحاب، حتى أنه بعد أن ذكر كلام الكليني (قدس سره) السابق الخالي عنها، قال: «ولعله ترك الترجيح بالأعدلية والأوثقية لأن الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف».

لكن وضوح المرجح لا يصحح إهماله.

وكذا ما احتمله في الحدائق حاكياً له عن بعض مشايخه من توجيه إهمال الكليني لذلك بأن اخبار كتابه كلها صحيحة، إذ فيه: أن الصحة بمعنى القطع بالصدور مما يبعد بناؤه (قدس سره) عليها، وبمعنى الوثوق المصحح للعمل

ص: 202

- لو تم بناؤه عليها - لا تنافي التفاضل بينها. بل ليس هو (قدس سره) بصدد بيان حكم تعارض أخبار كتابه فقط، بل في مقام بيان حكم تعارض الأخبار مطلقاً، كما يظهر بمراجعة تمام كلامه.

كيف! ولو كان في غنى عن الترجيح بصفات الراوي التي هي من المرجحات الصدورية لم يكن وجه لذكره الترجيح بشهرة الرواية.

كما أن ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من معروفية الرجوع للمرجح المذكور بين الأصحاب لم أتحققه فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كلماتهم في أبواب الفقه عند الابتلاء بها.

مع أن الدليل على ذلك غير ظاهر، لعدم التعرض له في نصوص المقام عدا قوله في المقبولة: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر...» وقوله (ع) في المرفوعة: «خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك...»

لكن المقبولة ظاهرة في ترجيح الحكمين قبل الانتقال إلى ترجيح الروايتين اللتين استندا لهما، ولا وجه للتعدي من ذلك لترجيح نفس الروايتين.

ومثلها في ذلك موثق داوود بن الحصين، وخبر موسى بن أكيل(1)، الواردان في الترجيح بين الحكمين من دون تعرضٍ للترجيح بين الروايتين أصلاً.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لما كان منشأ اختلاف الحكمين هو اختلاف الروايتين فيستفاد من ذلك أن المناط في ترجيح أحد الحكمين

ص: 203


1- الوسائل ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 20، 45.

على الآخر بالصفات لكون مثل هذه الصفات مرجحة لمنشأ الحكم، وهو الرواية. ويؤيد ذلك أن الأصدقية إنما تناسب ترجيح الرواية لا نفس الحكم.

ففيه: أن ترجيح الحكمين بالصفات المذكورة قد يكون بلحاظ أنها تقتضي حسن الظن بالحاكم الأفضل في اختياره لمدرك حكمه وجريه فيه على أفضل الموازين التي يبتني الاستدلال عليها، فيستغنى بذلك عن تكلف النظر في مدركه، من دون أن يرجع إلى تصديقه في روايته. كيف وأصدقية أحد الحاكمين لا تستلزم أصدقية روايته، لإمكان ضعفها بلحاظ وسائط السند الأخرى أو القرائن المحيطة بها وبمعارضتها.

وأما المرفوعة فهي ضعيفة جداً، حيث لم يذكرها إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي عن العلامة مرفوعة إلى زرارة، وقيل إنه لم يعثر عليها في كتب العلامة قال في الحدائق: «لم نقف

عليها في غير كتاب عوالي اللآلي مع ما هي عليه من الرفع والإرسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور».

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى انجباره بعمل الأصحاب - بناء على ما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره) - لتوقف ذلك على اشتهار الحديث عندهم وتداوله بينهم، كي يرجعوا إليه في مقام العمل، ولا يكفي في انجباره موافقتهم له من دون ذلك.

هذا، وقد قرب، شيخنا الأستاذ (قدس سره) الاعتبار بصفات الراوي بأنه لا يبتني على الترجيح بين الحجتين، بل على اختصاص موضوع الحجية بالأرجح، لارتفاع موضوع الحجية عن خبر الثقة بمعارضة خبر الأوثق له،

ص: 204

حيث يرتفع الوثوق به ويختص به خبر الأوثق.

ومن ثم كانت سيرة العقلاء - التي هي عمدة أدلة حجية خبر الثقة - على العمل بخبر الأوثق عند التعارض، ولا يحتاج لأدلة الترجيح الخاصة.

وفيه.. أولاً: أن هذا قد يتم فيما إذا كان مرجع الأوثقية إلى قوة ضبط الشخص في مورد احتمال الخطأ والغفلة، حيث يبتني العمل بخبر الضابط على أصالة عدمهما المعوّل عليها في من لم تقم أمارة على خطئه وعدم ضبطه، ولا يبعد كون معارضة خبر الأضبط لخبر غيره أمارة على عدم ضبط غيره في ذلك الخبر فيرتفع موضوع الأصل المذكور فيه، نظير معارضة الأعلم لغيره في الاجتهاديات والحدسيات، ولا يجري في الأوثقية الراجعة إلى الأصدقية المستلزمة لشدة التورع وقوة الدين، مع قطع النظر عن الضبط.

فإن تقديم أحد الخبرين المتعارضين في ذلك حيث يرجع إلى تكذيب الآخر فلا مجال له مع فرض وثاقته وصدقه في نفسه، وإلا لم يعمل بسائر أخباره حتى مع عدم المعارضة، إذ ليس بناء العقلاء على تصديق من ثبت كذبه، فلا يكون الترجيح به عقلائياً عرفياً، بل يكون تعبدياً محضاً محتاجاً إلى دليل خاص.

ومن الظاهر أن رجوع التعارض بين الخبرين إلى عدم ضبط أحد الراويين إنما يتجه في مثل اختلاف النسخ واختلاف رجال السند في الخبر الواحد ونحوهما مما يرجع لاحتمال التصحيف والخطأ، دون غيرها من صور التعارض مما لا يستند عرفاً لخطأ أحد الراويين وغفلته.

وثانياً: أن هذا إنما يتم إذا كان التعارض مستلزماً للعلم بكذب أحد الخبرين المتعارضين وعدم صدوره، دون ما إذا احتمل صدور كل منهما

ص: 205

واستناد التعارض بينهما لأمر ٍ آخر من تقيةٍ أو نحوها، كما هو الشايع أو الغالب في تعارض أخبار الثقات، حيث لا وجه لارتفاع الوثوق بخبر الثقة بمجرد معارضته بخبر الأوثق.

كما لا يتعين حينئذٍ بنظر العقلاء اللجوء للمرجح الصدوري، من الأوثقية ونحوها، بل هو أمر تعبدي محض محتاج إلى دليلٍ خاص.

وقد ظهر مما ذكرنا قوة الرجوع للأضبطية في مثل اختلاف النسخ مما كان منشأ الاختلاف فيه منحصراً بخطأ النقل وغفلة الناقل. وهو لا يختص باختلاف الناقلين، بل يجري في اختلاف كتابي الشخص الواحد إذا ابتنى النقل في أحدهما على مزيد الضبط والاتقان وشدة المحافظة على المتن بخصوصياته.

نعم، المتيقن من ذلك ما إذا كان التفاوت في الضبط بنحو معتد به، ولا يكفي أدنى مرتبة من التفاوت في ذلك. فلاحظ.

الثاني: الشهرة

الثاني: الشهرة.

وقد انفردت بها من النصوص السابقة مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة، كما تضمنها مرسل المفيد الآتي في الترجيح بموافقة الكتاب، وحيث سبق عدم التعويل على المرفوعة، كما أن المرسل لا ينهض بالاستدلال ينحصر الدليل على الترجيح بها بالمقبولة.

ولا ينبغي التأمل في أن المراد بها الشهرة في الرواية، كما هو مقتضى إضافة الإجماع والشهرة إليها - لا إلى الحكم الذي تضمنته - في المقبولة والمرفوعة. بل ظاهر المقبولة أن المراد بالشهرة ما يساوق

الإجماع وإمكان تحققها في كلا المتعارضين مع وضوح امتناعه في الفتويين المتعارضتين

ص: 206

معاً، وإنما يمكن في الروايتين، بأن يكون كل منهما مجمعاً على روايته معروفاً عند الأصحاب مشهوراً بينهم.

ومن هنا استشكل بعض مشايخنا في كون الإرجاع إليها ترجيحاً بين الحجتين، بدعوى: أن شهرة الرواية توجب العلم بصدورها، فيكون المعارض لها مخالفاً للسنة القطعية ويسقط عن موضوع الحجية، لأن المراد بمخالفة السنة المسقطة للخبر عن الحجية مخالفة سنة المعصوم لا خصوص سنة النبي (ص) فالمقام من تعيين الحجة عن اللاحجة الخارج عن محل الكلام.

وفيه.. أولاً: أن حمل مخالفة السنة على مطلق سنة المعصوم لا يخلو عن إشكال بعد اختصاص النص بسنة النبي (ص)

وما تضمن أن كلامهم (ع) مأخوذ من كلامه (ص) وأنهم خلفاؤه المعبرون عنه والناطقون بعلمه، إنما ورد لبيان حجية كلامهم (ع) ووجوب الرجوع له ككلامه (ص)، ولا ينافي اختصاص العرض المقصود به جعل الضابط لحجية الأخبار بسنته (ص) التي لا يحتمل فيها التقية، والتي تمتاز بمكانة سامية في نفوس المسلمين تجعلها سببا للتشهير بمخالفها والتنفير عنه، بخلاف سنتهم (ع).

وثانياً: أن اللازم حمل ما تضمن بطلان الخبر المخالف لسنة النبي (ص) على المخالفة بنحو التباين، لتصادم الكلامين عرفاً، دون مثل العموم من وجه مما يرجع لتصادم الظهورين، لما سبق في أول الكلام في حجية خبر الواحد، وسبق نظيره في آخر المقام السابق، فيتعين كون الإرجاع للشهرة حينئذ ترجيحاً بين الحجتين، الذي هو محل الكلام.

ص: 207

وثالثاً: أن شهرة الخبر لا توجب القطع بصدوره، بل الاطمئنان به والركون إليه وإن كان خبر واحد في مقابل الشاذ النادر الذي أهمله الأصحاب، ولم تعرف روايته بينهم، حيث يرتاب فيه وإن كان راويه ثقةٌ في نفسه، لاحتمال دسه في كتابه أو نحوه.

ولا ينافي ذلك التعليل في المقبولة بأن المجمع عليه لا ريب فيه، لأن الريب كما يطلق على الشك المقابل للعلم يطلق على الظنة والتهمة، المقابلة للاطمئنان والركون، ولعل الثاني هو المعنى الأصلي له، وهو الأنسب بالمقابلة بالشاذ النادر.

ويؤيد ذلك الترجيح بصفات الراوي في مرفوعة زرارة بعد فرض كون الخبرين مشهورين، مع وضوح كون الصفات من المرجحات الصدورية التي لا موقع لها في القطعيين.

وحمل الشهرة في المرفوعة على الشهرة الفتوائية لأجل ذلك بعيد جداً عن ظاهرها.

نعم، لو كان شذوذ الخبر وندوره مساوقاً لهجر الأصحاب له عملاً خرج عن موضوع الحجية، على ما ذكرناه في محله، إلا أنه خارج عما نحن فيه إذ الكلام في شهرة الرواية بما هي مع قطع النظر عن العمل، ولذا لا يختص ذلك بالشاذ النادر، بل يجري في غيره.

هذا، وقد استشكل بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في الاستدلال على الترجيح بالشهرة بالمقبولة بأنها بالإضافة للمرجح المذكور مهجورة عند الأصحاب في موردها، وهو القضاء والخصومة، إذ ليس بناء الأصحاب على النظر في مدرك الحكمين، بل مع تعاقبهما ينفذ الأسبق منهما، ومع

ص: 208

تقارنهما يتساقطان ويرجع إلى حاكمٍ ثالث، ومع ذلك لا مجال للتعدي عن موردها في الترجيح بالشهرة في تعارض الخبرين.

ويندفع: بعدم وضوح وهن نصوص الترجيح بين الحكمين بإعراض الأصحاب المدعى. لقرب صدور الترجيح المذكور قبل جمع الأخبار ومعرفة الضوابط في التعامل معها حين كان الفقيه يكتفي بما وصل إليه منها. أما بعد جمع الأخبار وتيسر وصول جميع الفقهاء إليها، ومعرفة الضوابط في التعامل معها، فلا موضوع للترجيح بين الحكمين بلحاظ النصوص التي اعتمد عليها الحكمان، بل يكون الترجيح من وظيفة الحاكم نفسه، واختلاف الحكمين لا يبتني على إغفالهما الترجيح، بل على اختلافهما في الضوابط المعول عليها في التعامل بين النصوص، ولا مرجح حينئذٍ، بل يتعين تساقط الحكمين. ولو غض النظر عن ذلك، وفرض منافاة الإجماع لمفاد المقبولة أمكن كشفه عن تبدل الجعل، لأن ولاية الحاكم الشرعي على القضاء ليست حكماً شرعياً كلياً، بل هي حكم جزئي مستند لنصب الإمام له بجعل خاص، وهو قابل للتبديل، وحينئذٍ لا يمنع ارتفاع الترجيح بين الحكمين من العمل بالمقبولة في الترجيح بين الخبرين بعد ظهورها في عدم خصوصية موردها. فلا حظ.

ثم إن المعيار في هذا المرجح على ما تضمنته المقبولة والمرفوعة من كون أحد الخبرين مشهوراً معروفاً بين الأصحاب والآخر شاذاً نادراً.

وأما مجرد كون أحدهما أكثر رواة من الآخر من دون أن يبلغ ذلك، فلا دليل على الترجيح به، وإن كان هو الظاهر من الشيخ (قدس سره) في الاستبصار ومحكي العدة، بل ظاهر كل من عبر بأشهرية أحد الخبرين.

ص: 209

ولعله يبتني على التعدي عن المرجحات المنصوصة، الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.

الثالث: موافقة الكتاب
اشارة

الثالث: موافقة الكتاب.

وقد تضمنته مقبولة ابن حنظلة وصحيح عبد الرحمن المحكي عن رسالة القطب الراوندي المتقدمان في نصوص الترجيح، والمرسل الذي تضمنه كلام الكليني المتقدم عند الكلام في الإجماع على الترجيح ومرسل المفيد المحكي عن رسالة العدد قال: «والمعروف قول أبي عبد الله (ع): إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن، فإن لم تجدوا لهما شاهداً من القرآن فخذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، فإن كان فيه خلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة»(1).

وأما ما تضمن عرض الحديث على الكتاب والسنة وأنه لابد في العمل به من موافقته لهما أو وجود شاهد أو شاهدين منهما عليه، وأنه يطرح ما خالفهما.

فهو يقتضي عدم حجية غير الموافق ذاتاً لا بسبب المعارضة، وقد سبق في مبحث حجية خبر الواحد عدم التعويل على هذه النصوص.

كما أن ما تضمن أن المخالف لهما زخرف وباطل لم يصدر عنهم (ع) بل مكذوب عليهم، محمول على المخالف بنحو التباين، بحيث لا يمكن تنزيلهما عليه عرفاً بل يكون مصادماً لمضمون الكتاب والسنة لا لظهورهما، وإلا فيعلم بصدور المخالف بمثل العموم والخصوص والإطلاق والتقييد

ص: 210


1- مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث 11.

عنهم (ع) بنحو لا يناسب الألسنة المذكورة، على ما تقدم في مبحث حجية خبر الواحد، والمخالفة المذكورة موجبة لخروج المخالف عن موضوع الحجية ذاتاً، لا بسبب المعارضة.

ومن هنا يشكل الاستدلال بما في خبر العيون - الآتي عند الكلام في التخيير إن شاء الله تعالى - من قوله (ع): «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب موجوداً فاعرضوه على سنن رسول الله (ص) فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ومأموراً به عن رسول الله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (ص) وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة...»(1).

وذلك لما تضمنه صدره من عدم مخالفتهم (ع) لنهي الكتاب والسنة التحريمي، حيث قال (ع): «فما جاء في تحليل ما حرم الله أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك مالا يسع الأخذ به، لأن رسول الله (ص) لم يكن ليحرم ما أحل الله وليحلل ما حرم الله، ولا ليغير فرائض الله وأحكامه... وما جاء في النهي عن رسول الله (ص) نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك في ما أمر به، لأناّ لا نرخّص في ما لم يرخّص فيه رسول الله (ص) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (ص) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (ص) أو نحرم ما استحل رسول الله (ص) فلا يكون ذلك أبداً...».

ص: 211


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 21.

فإن ذلك قرينة على أن المراد بالمخالفة في الذيل المخالفة بنحو التباين الراجعة إلى تحريم ما أحلّ الله ورسوله (ص) أو تحليل ما حَرَّما.

ومثله في ذلك مرسلة الاحتجاج عن الحسن بن الجهم عن الرضا (ع):

«قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة. فقال: ما جاءك عنا فقس على كتاب الله عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا وإن لم يكن يشبههما فليس مناّ. ثانيها يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحقّ. قال: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(1).

لظهور عدم المشابهة في إرادة كمال المنافاة وعدم الملائمة، ومثلها في ذلك مرسلته الأخرى(2).

مضافاً إلى أن مقتضى السؤال في ذيلها عن حكم اختلاف الحديثين عدم ورود الصدر لبيانه، وذلك يوجب إجمال الصدر من هذه الجهة، أو يلزم بحمل اختلاف الأحاديث فيه على اختلافها في الخصوصيات من دون أن يفرض أداء ذلك للتعارض بينهما، كتباين مضامينها واختلاف خصوصيات رواتها ونحوهما، ويكون مسوقاً لبيان الضابط العام لأصل حجية الخبر مع قطع النظر عن التعارض، فيخرج عما نحن فيه.

المراد من إطلاق المخالفة

فالعمدة في الدليل على المرجح المذكور ما ذكرنا.

نعم، قد يستشكل في إطلاق المخالفة في النصوص المذكورة بنحو يشمل المخالفة لا بنحو التباين، وهي المخالفة لظاهر الكتاب بنحوٍ يمكن تنزيل الظاهر عليه، التي لا تسقط الخبر عن موضوع الحجية، لبعد التفكيك

ص: 212


1- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء حديث: 1.
2- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 48.

بين النصوص المذكورة ونصوص طرح ما خالف الكتاب في معنى المخالفة، بل من القريب تفسير النصوص المذكورة بتلك النصوص، فترجع نصوص الترجيح إلى تعيين الحجة عن اللاحجة، كما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) ووافقه شيخنا الأستاذ (قدس سره)..

ولازم ذلك عدم الترجيح بموافقة عموم الكتاب، بل بناء على التخيير يجوز اختيار المخالف المخصص له، وعلى التساقط يسقط الخبران معاً ويكون المرجع هو العموم، دون الخبر الموافق له، بل قد يشكل على ذلك ترجيح عموم الكتاب لو عارضه عموم الخبر لا بنحو التباين، لأن ما سبق في آخر المقام الأول في وجه ترجيح عموم الكتاب يبتني على مرجحيته عند تعارض الخبرين.

ويندفع: بأن الاستبعاد المذكور لا يكفي في الخروج عن إطلاق المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة.

ولاسيما مع مقابلة المخالفة بالموافقة في المقبولة والصحيح ومرسل الكليني، مع وضوح صدق الموافقة بموافقة العموم الكتابي، وعدم اختصاصها بالمطابقة، بل لم يعبر في مرسل المفيد بالمخالفة، بل اكتفي فيه بوجود الشاهد من الكتاب، ولا ريب في صدق الشاهد بموافقة العموم الكتابي.

على أن ذلك لا يناسب تأخير الترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح بالشهرة في الرواية، مع وضوح أن شهرة الرواية إنما تقتضي عدم الريب في الخبر من جهة الصدور فقط في مقابل الشاذ الذي يرتاب في صدوره، أما المخالفة للكتاب بنحو التباين فهي تقتضي القطع ببطلان مضمون الخبر

ص: 213

وإن كان مشهوراً، بل مقتضى نصوص العرض أنه زخرف باطل مكذوب عليهم (ع) فالترجيح به أسبق.

بل ما فرض فيها أيضاً من معرفة الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة لا يناسب المخالفة بنحو التباين، لعدم التباين بين مضامين الكتاب المجيد في أنفسهما، بل ولا بين مضامين السنة القطعية، ولا بين مضامين كل منهما على الظاهر.

كما أن ظاهر صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله أن المرجح المذكور إنما يرتفع موضوعه بعدم وجدان مضمون كل من الخبرين في الكتاب، وحمله على خصوص عدم الوجدان بنحو التنصيص بحيث يكون أحد الخبرين مخالفاً بنحو التباين بعيد جداً.

فالبناء على عموم نصوص الترجيح للمخالفة بنحو العموم والخصوص وأمثالها قريب جداً، بل هي كالمتيقن منها.

هذا، وفي المعارج: «إذا تعارض خبران وأحدهما موافق لعموم القرآن أو السنة المتواترة أو لإجماع الطائفة وجب العمل بالموافقة لوجهين، أحدهما: إن كل واحدة من هذه الأمور حجة في نفسه، فيكون دليلاً على صدق الخبر الموافق، الثاني: أن المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض، فما ظنك به معه!».

ويندفع الأول: بأن ما يوجب العلم بصدق مضمون الخبر من هذه الأمور هو الإجماع الموجب للعلم برأي المعصوم (ع) وما عداه لما كان قابلاً للتخصيص فليست دليليته على صدق الموافق إلاّ بلحاظ حجيته، وحيث كان الدليل المخالف حجةً أيضاً بمقتضى عموم دليل الحجية كان

ص: 214

تعيينه للسقوط ومرجحية الموافقة للعموم محتاجاً للدليل.

نعم، لو بني على تساقط المتعارضين تعين كون عموم الكتاب والسنة مرجعاً بعد تساقطهما، لا مرجحاً لموافقه منهما.

وأما الثاني فهو إنما يتم في الإجماع المذكور، حيث يعلم معه بكذب مضمون الخبر المخالف، وأما في عموم الكتاب والسنة فهو مبني على عدم تخصيصها بخبر الواحد، وهو خلاف التحقيق.

ثم إن مقتضى الجمود على قوله (ع) في المقبولة:

«ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به...» الاقتصار في مرجحية الكتاب على كون الموافق مخالفاً للعامة، دون ما إذا جهل حكمهم أو اختلف.

إلّا أن المناسبات الارتكازية تقتضي كون الكتاب مرجحاً مستقلاً، ولا سيما مع ما تضمنته بعد ذلك من مرجحية مخالفة العامة مستقلاً في فرض موافقتهما معاً للكتاب، إذ لو لم تكن موافقة الكتاب مرجحاً كذلك كان ضمها لمخالفة العامة لغواً.

كما قد يناسبه أيضاً اكتفاء الراوي وعدم سؤاله عن صورة موافقة أحد الخبرين للكتاب دون الآخر مع موافقتهما للعامة التي هي صورة شايعة.

فكأن منشأ السؤال عن مرجحية مخالفة العامة مستقلاً تخيل أن ضمها لموافقة الكتاب لمحض التأكيد بلحاظ معروفية مخالفتهم للكتاب بين الشيعة مع المفروغية عن مرجحية موافقة الكتاب مستقلاً.

كما أن الظاهر أن ضم السنة للكتاب مبني على الترجيح بكل منهما مستقلاً أيضاً، لما هو المرتكز من ابتناء الترجيح بهما على مرجعيتهما للأمة.

ص: 215

كما قد يناسبه فرض السائل بعد ذلك أخذ الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة، مع وضوح إرادة الرجوع إليهما في الجملة ولو بالأخذ من أحدهما للاستغناء به.

هذا كله مضافاً إلى وفاء بقية نصوص المقام باستقلال مرجحية موافقة الكتاب، وعمدتها صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله.

الرابع: موافقة السنة.

الرابع: موافقة السنة

وينحصر الدليل عليه بمقبولة ابن حنظلة، بناءً على ما ذكرناه قريباً من أن ضم السنة للكتاب فيها مبني على استقلال مرجحية كلٍ منهما.

والمنصرف منها وإن كان هو خصوص سنة النبي (ص) إلا أنه لا يبعد تعميمه لسنة الأئمة (ع) بعد ما تضمن رجوعها لسنة النبي (ص) بلحاظ قرب كون منشأ الترجيح بالكتاب والسنة هو مرجعيتهما للأمة.

كما أن الظاهر الاختصاص بالسنة المقطوع بها، التي هي نظير الكتاب، لأنها هي الصالحة ارتكازاً للفصل في مورد الاختلاف، دون غيرها مما يكون كأحد المتعارضين ولا يزيد عليه. فلاحظ.

الخامس: مخالفة العامة.

الخامس: مخالفة العامة
اشارة

ويدل عليه جميع نصوص الترجيح السابقة، ومنها مرسل الاحتجاج عن سماعة بن مهران، ومرسل الكليني المتقدم عند الكلام في الإجماع على الترجيح، ومرسل المفيد المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب.

مضافاً إلى موثق عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع):

«قال: ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية

ص: 216

فيه»(1) فإنه وإن كان مطلقاً شاملاً لصورة عدم التعارض، فيستلزم خروج الموافق لهم عن موضوع الحجية ذاتاً، إلا أن عدم إمكان البناء على عمومه لذلك ملزم بحمله على حال التعارض، فينفع في ما نحن فيه.

ومن هنا قد يستشهد أيضاً بمرفوع أبي إسحاق: «قال لي أبو عبد الله (ع): أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فثانيها لا أدري. فقال: إن علياً (ع) لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين (ع) عن الشيء الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلتبسوا على الناس»(2).

اللهم إلا أن يقال: المرفوع غير ظاهر في فرض وجود خبر مخالف لهم، وإلا فمن الظاهر أن مخالفتهم بنفسها ليست شرطاً في حجية الخبر، ولا دخل لها فيها، بل الأصل في خبر الثقة الحجية، وغاية ما قد يدعى مانعية موافقتهم منها، كما هو مقتضى إطلاق الموثق، ولا يقتضيه المرفوع، بل هو ظاهر في حجية نفس المخالفة.

نظير ما في خبر علي بن أسباط: «قلت للرضا (ع): يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك. قال: فقال: ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيءٍ فخذ بخلافه، فإن الحق فيه»(3).

فلابد من حمله - بعد فرض حجيته في نفسه - على حال الضرورة - كما تضمنه الخبر - ولا سيما مع عدم الإطلاق له، لعدم وروده لبيان وجوب

ص: 217


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 46.
2- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 24.
3- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.

الأخذ بخلافهم، بل لتعليله مع المفروغية عنه، أو تأويله بما يناسب ما هو المعلوم من عدم وجوب مخالفتهم في كل شيء» كما هو الحال في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع): «قال: ما أنتم والله على شيءٍ مما هم فيه، ولا هم على شيءٍ مما أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء»(1)، حيث لا يبعد حمله على الردع عن تهيب مخالفتهم بسبب كثرتهم وسيطرتهم ودعاواهم العريضة، إذ قد يوجب ذلك قدسية لهم يستبعد معها اجتماعهم على الخطأ ويغفل عن ابتناء مذهبهم على الأصول الفاسدة والضلال عن الحق.

وأما الموثق فيشكل الاستدلال به بعدم كون المشابهة واللا مشابهة عبارة عن محض الموافقة والمخالفة لينفع فيما نحن فيه، بل الظاهر منهما معنى آخر راجع إلى نحو من المناسبة والمشاكلة بين كلامه (ع) وقول العامة أو المباينة بينهما، حيث قد يدرك المعاشر للعامة والمطلع على مذاهبهم والممارس لكلامهم وطرق استدلالهم نحواً من المعالم والمباني المميزة لها مضموناً أو استدلالاً، كمتابعة ولاة الجور واحترامهم والتسامح معهم واعتماد الأقيسة والاستحسانات في الأحكام ونحو ذلك، ويكون جري كلامه (ع) على ذلك معياراً في المشابهة لقول الناس والبعد عنها معياراً في عدمها، ولا مانع من الالتزام بمانعية ذلك من حجية الكلام مع قطع النظر عن التعارض.

ومجرد صعوبة إدراك ذلك لنا، لعدم ألفتنا لكلام العامة وبعدنا عنهم، لا يمنع من حمل الموثق عليه مع قرب تيسره للمخاطب.

ص: 218


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.

وبالجملة: الموثق بظاهره أجبني عما نحن فيه، وليس هو من سنخ المطلق المنطبق عليه، ليمكن حمله وقصره عليه.

فالعمدة في المقام: نصوص الترجيح المشار إليها المعتضدة بمعروفية الترجيح المذكور بين الأصحاب وجريهم عليه بنحو يقرب تحقق الإجماع منهم، حيث يبعد جداً مخالفتهم لمفاد هذه النصوص مع كثرتها ومعروفيتها بينهم وقرب مضامينها لأذواقهم ولظروف صدور الروايات، حتى لا يبعد كون المرجح المذكور ارتكازياً عند الطائفة المحقة مستغنياً عن الأخبار.

لكن قال المحقق (قدس سره) في المعارج: «قال الشيخ (قدس سره): إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة. والظاهر أن احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق (ع) وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد، وما يخفى عليك ما فيه. مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة، كالمفيد وغيره».

وهو كما ترى، لاستفاضة النصوص بذلك بنحو يبعد احتمال عدم صدور شيءٍ منها، فهي أشبه بالمتواتر الإجمالي، مع اعتضادها بما ذكرنا.

وكون المسألة علمية لا تثبت بخبر الواحد، مبني على ما اشتهر من عدم ثبوت المسألة الأصولية بالأدلة الظنية، وهو مختص بأصول الدين دون أصول الفقه.

وأما طعن المفيد فإن أراد به طعنه في التمسك بخبر الواحد في المسائل العلمية فقد عرفت حاله، وإن أراد به طعنه في المرجح المذكور فلعله يشير إلى ما حكي عن رسالة العدد، حيث قال بعد ذكر المرسل المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب: «وإنما المعنى في قولهم (ع): خذوا بأبعدهما

ص: 219

من قول العامة يختص ما روي عنهم في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان، فقالوا (ع): إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان أحدهما في قول [تولي. ظ] المتقدمين على أمير المؤمنين (ع) والآخر في التبري منهم، فخذوا بأبعدهما من قول العامة، لأن التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون إليه من أئمتهم».

وهو كما ترى تكلّف لا مجال لحمل النصوص عليه، خصوصاً المقبولة، بل حتى المرسل، لوضوح الاستغناء بالترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح بمخالفة العامة في المسألة المذكورة.

على أنه لو تم إرادة ذلك منها فإلغاء خصوصية موردها والتعدي إلى ما نحن فيه هو الأنسب بالجهة الارتكازية التي أشار إليها. فلا ينبغي التأمل في المرجح المذكور.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من إرجاع المرجح المذكور إلى تمييز الحجة بلا حجة

هذا، وقد حاول المحقق الخراساني (قدس سره) تخريج المرجح المذكور على القاعدة بإرجاعه إلى تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين الحجتين، ليحتاج للنصوص الخاصة.

بتقريب: أن أصالة الجهة لا تجري في الخبر الموافق لهم بعد الوثوق بصدور الخبر المخالف، للوثوق حينئذٍ بصدوره تقيةً.

وأما ما ذكره المحقق (قدس سره) في المعارج من احتمال أن يكون المخالف قد أريد به خلاف ظاهره لحكمةٍ مصححةٍ لذلك.

الإشكال فيه

ففيه: أن الاحتمال المذكور غير معتد به بالإضافة لاحتمال التقية في الموافق. فما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) لا يخلو عن وجه - ولذا لم يبعد كون المرجح المذكور ارتكازياً عند الطائفة، كما سبق - إلا أنه لا يبلغ

ص: 220

من الوضوح حداً يستغنى معه عن الأخبار الخاصة أو الإجماع القولي أو العملي، أو نحوهما من الأدلة التعبدية. بل قد ينافيه في الجملة نصوص الترجيح، لظهورها في تأخر المرجح المذكور عن الترجيح بموافقة الكتاب.

وإن كان الأمر غير مهم بعد عدم ظهور أثر عملي، للنزاع المذكور، لوجوب العمل بمخالف العامة وسقوط الموافق لهم عن الحجية على كل حال، إما بمقتضى القاعدة، لعدم جريان أصالة الجهة فيه حال المعارضة، أو تعبداً لأدلة الترجيح المذكورة.

وأشكل من ذلك ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم حجية موافق العامة ذاتاً حتى مع عدم المعارض له، إلا إذا احتف بقرائن، كقبول الأصحاب له وعملهم به، كما قد يستدل عليه برواية ابن أسباط المتقدمة.

لوضوح غرابة ما ذكره ومنافاته لأصالة الجهة المعوّل عليها عند العقلاء، فإن مجرد ابتلاء المتكلم بمن قد يتقيه لا يقتضي سقوط كلامه عن الحجية ما لم تقم أمارة على تقيته منه، ولولا ذلك لم تتأد التقية بالموافقة.

وأغرب من ذلك استدلاله برواية ابن أسباط، فإنها - مع ضعف سندها، وعدم ظهور انجبارها بالعمل، واختصاصها بحال الضرورة في مقام العمل وانسداد باب العلم - أجنبية عن مدعاة، إذ لا تدل على عدم حجية الخبر الموافق لهم، بل على حجية مخالفتهم على إصابة الواقع، فغاية ما يلزم تعارض الحجتين في مورد الخبر الموافق لهم، فيلزم حملها على حال فقد الخبر الموافق لهم، إما لاختصاصها به - كما ذكرنا - أو لأنه المتيقن من موردها.

وأما بقية ما تضمن الأمر بمخالفتهم، كمعتبرة أبي بصير المتقدمة،

ص: 221

فهي وإن كانت مطلقة، إلا أن اشتمالها على نفي كونهم من الحنيفية على شيءٍ مع العلم بإصابتهم لكثير من الأحكام الفرعية مانع من حملها على جعل طريقية مخالفتهم في الفروع للواقع بل لابد من تنزيلها على ما سبق أو نحوه مما يلائم ذلك.

وكان الأولى له الاستدلال بموثق عبيد بن زرارة المتقدم لولا ما عرفت من الإشكال في دلالته.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في حجية الخبر الموافق لهم ذاتاً، وتعينه للسقوط عن الحجية بوجود المعارض المخالف، وإنما الكلام في أن تعينه للسقوط مقتضى القاعدة الأولية وقد جرت عليها النصوص - كما سبق من المحقق الخراساني - أو تعبدي مستفاد من تلك النصوص - كما لعله الأظهر - ولا أثر لذلك في مقام العمل.

بقي في المقام أمور..

بقي أمور..
أولها: كون الموافقة موافقة لفتاوى العامة

أولها: أن مقتضى أكثر نصوص المقام أن المعيار في المرجح المذكور على موافقة فتاوى العامة وآرائهم ومخالفتها، كما هو مقتضى إطلاق الموافقة والمخالفة. ومقتضى صحيح عبد الرحمن أن المعيار على موافقة أخبارهم ومخالفتها.

والظاهر رجوعه للأول، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن ذكر الأخبار بلحاظ كشفها عن رأيهم، لأنه المناسب للتقية التي يبتني عليها المرجح المذكور ارتكازاً، ولا تعم أخبارهم التي لا يعولون عليها ولا يعملون بها، كما يؤيده أنه كثيراً ما يوجد في رواياتهم ما يوافق مذهب الحق، وإن أهملوه.

وعلى هذا ينزل ما في خبر محمد بن عبد الله من قوله (ع):

«فانظروا

ص: 222

إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه».

ثانيها: لابد من صحة نسبته للعامة

ثانيها: أن موضوع النصوص لما كان هو موافقة العامة والقوم ومخالفتهم، فلابد فيه من صحة نسبة الحكم لهم على عمومهم، والمتيقن منه صورة اتفاقهم عليه.

وقد يلحق بذلك ما إذا كان الحكم شايعاً بينهم مشهوراً عندهم، بحيث يعد المخالف فيه منهم لقلته وندوره شاذاً ولا يخل بنسبة الحكم إليهم عرفاً، إذ لا يبعد شمول النصوص له ولو بقرينة عدم خلو المسائل غالباً من الأقوال الشاذة النادرة، فلو حملت على الإجماع الحقيقي كان العمل بها نادراً، ولا سيما مع عدم تيسر الاطلاع على الإجماع بالنحو المذكور، حيث لا طريق غالباً لنفي الأقوال النادرة التي ليس من شأنها الظهور.

أما لو كان الخلاف بينهم ظاهراً، لتكافؤ الأقوال أو تقاربها أشكل تحقق المرجح المذكور لو كان أحد الخبرين موافقاً لأحد القولين أو الأقوال منهم في المسألة والثاني مخالفاً لإجماعهم.

اللهم إلّا أن يستفاد عمومه له من فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة والمرفوعة، لظهوره في فهم السائل عموم الموافقة لموافقة بعضهم، لامتناع موافقتهما معاً لإجماعهم، وهو المناسب لارتكاز ابتناء المرجح المذكور على تحكيم احتمال التقية في الموافق دون المخالف، فإنه جار في الفرض المذكور، لعدم تأدي التقية مع اختلافهم إلا بموافقة بعض أقوالهم، فيتعين البناء على الترجيح فيه.

نعم، لا يعتد بموافقة الشاذ النادر، كما لا يخل موافقته بترجيح الخبر الموافق له المخالف للأقوال الشايعة على الموافق لها. فلاحظ.

ص: 223

ثالثها: عدم الفرق بين المعاصر لصدور الخبر والسابق عليها

ثالثها: حيث سبق أنه يكفي في الترجيح مخالفة الخبر لإجماع العامة وموافقة الآخر لبعضهم فلا يفرق في البعض بين أن يكون معاصراً لصدور الخبر وأن يكون سابقاً عليه ولا بين أن يكون منتسباً للسلطان بقضاءٍ ونحوه. وأن لا ينتسب له.

لإطلاق النص، بل مقتضى فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة ثم الأمر فيها بترك ما حكامهم إليه أميل كون المراد من موافقة بعضهم ما يعم موافقة غير الحكام والقضاة.

مضافاً إلى عموم الجهة الارتكازية المشار إليها، لما هو المعلوم من أن مذهبهم في العصور السابقة على فتح باب الاجتهاد والاختلاف بمصراعيه فتتأدى التقية بموافقة أي منهم، وإنما يخشى من الفتوى المخالفة لإجماعهم، حيث تكون سبباً للتشهير والتشنيع بمخالفة المسلمين والشذوذ عنهم الذي ابتليت به هذه الطائفة.

نعم، يقصر الإطلاق عن الأقوال الحادثة لهم بعد صدور الخبر، لعدم تأدي التقية بها.

ومنه يظهر عدم الخصوصية للمذاهب الأربعة، لأن الحصر بها قد فرض عليهم في العصور المتأخرة عن عصور حضور الأئمة (ع)، بل بعضها قد حدث في أواخر عصورهم (ع) وربما كان في ما قبل ذلك ما هو أكثر شيوعاً وأجل قائلاً عندهم.

رابعها: ترجيح مخالفة ما حكام العامة إليه أميل والمراد منه

رابعها: تضمنت مقبولة ابن حنظلة رجوع الترجيح المذكور إلى ترجيحين طوليين: ترجيح مخالف العامة على موافقهم - الذي عرفت أن المراد به ما يعم موافق البعض - ثم ترك ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل لو

ص: 224

وافقهم الخبران جميعاً.

وبه ترفع اليد عن إطلاق المرفوعة لو كانت حجة في نفسها. وحيث يختلف ميل الحكام باختلاف العصور فالمناسبات الارتكازية تقتضي ملاحظة عصر صدور الخبر، فلو وافق كل من الخبرين ما يميل إليه الحكام في عصر صدوره يسقط المرجح المذكور. وكذا لو جهل الحال. فلا حظ.

خامسها: الظاهر أن المراد بالعامة المخالفون الذين يتولون الشيخين ويرون شرعية خلافتهما على اختلاف فرقهم، لأن ذلك هو المنصرف إليه من العناوين المذكورة في النصوص.

نعم، يشكل شمولهم للخوارج، لأن تبرؤهم من سلاطين الجور المتأخرين وممن يدخل في جماعتهم ويمضي حكمهم على مر العصور أوجب نبذهم عند العامة ونظرتهم إليهم نظرة الشذوذ والمروق عن الجماعة، فينصرف عنهم الإطلاق، كما لا تتأدى التقية بموافقتهم.

ومثلهم في ذلك الزيدية البترية الذين يتولون الشيخين.

وكذا الفرق المخالفة للحق من الشيعة، لأن انتسابهم للشيعة أوجب عزلتهم عن جماعة المخالفين فلا يخشى جانبهم ولا يهتم بمجاملتهم، ولذا ورد الحث على مقاطعتهم ومباينتهم، بخلاف

العامة الذين لهم الحكم والسلطان. على أنه لم تسجل لهم غالباً آراء في الفروع يمتازون بها تكون معياراً في الموافقة والمخالفة في ما نحن فيه.

الساد س: الإجماع.

السادس: الإجماع

ففي الاحتجاج:

«وروي عنهم (ع) أيضاً أنهم قالوا: إذا اختلفت

ص: 225

أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فإنه لا ريب فيه»(1).

وظاهر الاجتماع هنا هو الاجتماع على العمل بالخبر والتعويل عليه الراجع إلى الإجماع في الفتوى، لا الإجماع على الرواية الذي قد يصاحب هجره عندهم ومفارقتهم له.

ولعلّه لذا لم يشر لاحتمال الاجتماع على الخبرين معاً، الذي هو ممكن في الإجماع على الرواية.

وحيث كان الإجماع على الفتوى من القرائن القطعية على مطابقة مضمون الخبر للواقع دون الآخر، فيخرج عن موضوع الحجية ذاتاً مع قطع النظر عن المعارضة فهو خارج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين.

ولعله إنما نبّه على ذلك في الخبر لعدم وضوح هذا المعنى في الصدر الأول، وتخيل إمكان اجتماع الشيعة على الخطأ بسبب اختلاف الأخبار وابتلائهم بالتقية ونحوهما مما يوجب خفاء الواقع عليهم، على أن ضعف الخبر مانع من التعويل عليه لو كان مخالفاً للقواعد.

السابع: الأحدثية
اشارة

السابع: الأحدثية.

فقد تضمنت جملة من النصوص لزوم الأخذ بالأحدث. كمعتبر المعلّى بن خنيس: «قلت لأبي عبد الله (ع): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله قال: ثم قال أبو عبد الله (ع): إنا والله لا

ص: 226


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث 43، والاحتجاج: ج: 2 ص 109. طبع النجف الأشرف.

ندخلكم إلا في ما يسعكم»(1).

وخبر أبي عمرو الكناني: «قال لي أبو عبد الله (ع): يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف

ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ ثانيها بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يُعبد سراً. أما والله لئن فعلتم إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا في دينه إلا التقية»(2).

ومرسل الحسين بن المختار عنه (ع): «قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير. فقال لي: رحمك الله»(3).

ومرسل الكليني:

«وفي حديثٍ آخر: خذوا بالأحدث»(4).

ولم يتعرض شيخنا الأعظم (قدس سره) للمرجح المذكور مع تعرضه لنصوصه، وكذا من بعده من مشايخنا.

بل في الحدائق: «ولم أقف على من عد ذلك في طرق الترجيحات، فضلاً عمن عمل عليه غير الصدوق طاب ثراه في الفقيه...».

وقد أشار إلى ما ذكره في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما، حيث ذكر حديثاً عن الإمام العسكري (ع) وآخر معارضاً له عن الإمام الصادق (ع) ثم قال: «لست أفتي بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي (ع).

ص: 227


1- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8.
2- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 17.
3- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 7.
4- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.

ولو صح الخبران جميعاً لكان الواجب الآخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق (ع) وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس. وبالله التوفيق».

وفي الوسائل بعد أن ذكر مرسل الحسين بن المختار، «أقول: يظهر من الصدوق أنه حمله على زمان الإمام خاصة، فإنه قال في توجيهه: إن كل إمام أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس. انتهى. وهو موافق لظاهر الحديث. وعلى هذا يضعف الترجيح به في زمان الغيبة وفي تطاول الأزمنة. ويأتي ما يدل على ذلك. والله أعلم».

لكن حمل كلام الصدوق على ذلك لا يلائم رجوعه للمرجح المذكور في صدر كلامه.

كما أنه لا وجه لاستظهاره من الحديث المذكور، فإن مقتضى إطلاق الخبر وجوب العمل على الأحدث حتى بعد وفاة الإمام، بل هو كالصريح من خبر المعلّى، المتضمن وجوب العمل بقول الإمام السابق حتى يبلغ خلافه عن الحي.

التحقيق في أقربية الأحدث وعدمه

فالذي ينبغي أن يقال: من الظاهر أن تأخر الزمان لا دخل له في أقربية الدليل المتأخر للواقع وقوة كاشفيته. ومن هنا لم يكن المستفاد من هذه النصوص الترجيح إثباتاً بين الحجتين بلحاظ طريقيتهما للواقع، بل الترجيح ثبوتاً بين الحكمين المحكيين بهما من دون قصور في حجيتهما، بلحاظ جريان الأحدث على طبق الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت، سواء كانت هي الحكم الواقعي الثانوي، لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبين بالدليل الأسبق، أو لتبدل مقتضى التقية، أم كانت هي الحكم

ص: 228

الأولي، لارتفاع سبب التقية التي كان الحكم الأسبق جارياً على مقتضاها.

كما هو مقتضى قوله (ع):

«إنا والله لا ندخلكم إلاّ في ما يسعكم...» قوله (ع):

«أبى الله إلا أن يعبد سراً...»، لمناسبتهما لتوجيه اختلاف نفس الحكمين المحكيين بالدليلين، لأنه هو الذي يسع الشيعة والذي يرجع إلى عبادة السر والتقية في مقام العمل، لا لتوجيه اختلاف نفس الدليلين في بيان الواقع، الراجع للتقية في الفتوى، التي هي من شؤون الإمام المختصة به.

كما يناسبه أيضاً ما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار من رجوع الراوي بطبعه للمرجح المذكور من دون أن ينبهه الإمام له، ومن الظاهر أن الأمر الارتكازي هو العمل على الحكم الأحدث الذي يدركه إمام الوقت، لا ترجيح الحجة الأحدث بلحاظ كاشفيتها.

وبالجملة: الترجيح بالأحدثية راجع للترجيح بين الحكمين ثبوتاً، لا بين الحجتين إثباتاً الذي هو محل الكلام، وعليه تجري المرجحات المتقدمة.

إذا عرفت هذا، فاختلاف الدليلين في الحكم إن كان مع وحدة الحكم الذي يكونان حجة عليه، وهو الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع غير القابل للتبدل في فرض عدم النسخ، فلا موضوع معه للترجيح بين الحكمين ثبوتاً، بل يتعين التكاذب بين الدليلين الذي هو منشأ للتعارض بين الدليلين وموضوع للترجيح إثباتاً بينهما، كما تضمنته أكثر نصوص المقام.

وإن كان مع تعدد الحكم الذي يكونان حجة عليه، للحكاية بهما عن الحكم الفعلي الثابت حين صدور كل منهما، ولو كان ثانوياً، فلا موضوع

ص: 229

معه للترجيح بينهما إثباتاً، لعدم التكاذب ولا التعارض بينهما، بل يتعين معه الترجيح بين الحكمين ثبوتاً بالأخذ بالأحدث، كما تضمنته النصوص المتقدمة، فلا يجري الترجيح بالأحدثية مجرى سائر المرجحات، بل هو مختلف معها سنخاً وموضوعاً.

هذا، وحيث لا ريب في ظهور النصوص الواردة عن المعصومين (ع) في بيان الحكم الواقعي الثابت في أصل التشريع غير القابل للتغيير في فرض عدم النسخ، دون الأحكام الفعلية الثابتة لأجل التقية ونحوها القابلة للتغير، كان اختلافها في الموضوع الواحد موجباً لتعارضها في أنفسها ومورداً للمرجحات الإثباتية المتقدمة، ولا مجال فيها للترجيح بالأحدثية، نظير ما سبق في مباحث الجمع العرفي من عدم التعويل على احتمال النسخ.

ويتعين حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتف الكلام بما يناسب حمله على بيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية، كالقطع بعدم كون مضمونه هو الحكم الأولي، مع ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل، نظير ما ورد من أمر الكاظم (ع) علي بن يقطين بوضوء العامة، حيث أدرك عليّ أن الأمر المذكور ثانوي لمخالفته لما عليه إجماع العصابة في كيفية الوضوء، كما صرح به في الخبر(1).

وربما يشير إليه ما في خبر الخثعمي: «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: من عرف أناّ لا نقول إلاّ حقاً فليكتف بما يعلم مناّ، فإن سمع مناّ خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع مناّ عنه»(2)، فإن الفتوى التي تدفع عن المكلف هي

ص: 230


1- الوسائل ج: 1، باب: 32 من أبواب الوضوء حديث: 3.
2- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 3.

الفتوى بالحكم الثانوي المطابق لمقتضى التقية في حقه، لا الفتوى الصورية تقية غير المستتبعة للعمل مع العلم بحالها، فإنها تدفع عن المفتي لا غير.

وذلك هو المناسب لما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار من ترجيح الراوي الأحدث بطبعه من دون أن ينبهه الإمام (ع)، له لاختصاص الجهة الارتكازية المقتضية لذلك بما إذا أحرز أن كلاً من الخطابين متكفل بالوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية، دون ما إذا كانا واردين لبيان الحكم الأولي غير القابل للتعدد، لعدم الفرق بين الأحدث وغيره في احتمال مخالفة الواقع.

بل ما تضمنه خبر الكناني من فرض تعدد الاستفتاء من الشخص الواحد في الواقعة الواحدة مناسب لكون المسؤول عنه هو الحكم الفعلي القابل للاختلاف في عامين، إذ لا داعي غالباً لتكرار السؤال عن الحكم الأولي الذي لا يختلف.

وأما ما تضمنه هو ومرسل الحسين بن المختار من فرض اختلاف الحديثين المسموعين من الإمام، مع ظهور الحديث في ما يحكيه الإمام عن النبي (ص) أو الوصي مما هو ظاهر في الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع.

فلابد من تنزيله لأجل ذلك على فرض قيام القرينة على كون نقل الإمام للحديث لبيان الوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية على خلاف ظاهره، لعدم المصلحة بالتصريح فيه بالتقية، فلا يمنع التعارض بين الحديثين من العمل بكل منهما بعد نقل الإمام له.

نعم، ذلك لا يناسب إطلاق خبر المعلى، لظهوره في اختلاف الحديثين المحكيين عن الإمامين الشامل لما إذا كان كل منهما ظاهراً في

ص: 231

بيان الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع، وقد سبق أن ذلك هو الظاهر في عموم الأحاديث، وهي التي تكون مورداً للابتلاء والعمل.

ولا سيما مع توقف الراوي وسؤاله عن الوظيفة فيه، مع أن العمل بالأحدث في فرض ظهور الحديث في بيان الوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية أمراً ارتكازياً لا يحتاج إلى سؤال، فلابد أن يكون منشأ السؤال ظهور الأحاديث المسؤول عنها في بيان الحكم الأولي الموجب للتعارض والتحير.

ويكون الجواب بوجوب العمل بالأحدث كاشفاً عن ورود تلك الأحاديث لبيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية، وإن كان ذلك خلاف ظهورها الأولي.

ولا مجال لحمله على الترجيح إثباتاً بالأحدثية بين الحجتين في فرض تعارضهما تعبداً، لعدم مناسبته لقوله (ع):

«إنا والله لا ندخلكم إلاّ في ما يسعكم».

فالخبر المذكور كاشف عن حال اختلاف الأخبار، وأنه ليس راجعاً إلى تعارض الحجتين إثباتاً في الحكم الواحد، كما هو مقتضى ظهورها البدوي، بل إلى تعدد الحكم ثبوتاً بلحاظ العناوين الثانوية

القابلة للتبدل، الذي يلزم معه الأخذ بالأحدث والجري عليه حتى يصدر خلافه، لأن إمام الوقت أعرف، بحكمه.

لكن ذلك مخالف للنصوص الكثيرة الظاهرة في حجية الأخبار في معرفة الحكم الشرعي الأولي ولزوم العمل عليها في ذلك، كما هو ظاهرها البدوي، كنصوص الترجيح والتوقف الظاهرة في رجوع اختلاف الأخبار

ص: 232

إلى تعارض الحجتين، ونصوص العرض على الكتاب والسنة الملزمة بطرح ما خالفهما، لوضوح أنه لو كان البناء على العمل بالخبر الأحدث لمطابقته للوظيفة الفعلية وإن كانت ثانوية لكان حكم المخالف مقدماً على حكم الكتاب والسنة.

مضافاً إلى ما هو المعلوم من سيرة الأئمة (ع) من عدم التصدي لبيان الوظيفة الفعلية الثانوية في حق جميع الشيعة، بنحو تتجدد البيانات العامة منهم (ع) باختلاف المناسبات والظروف، بل البناء على العمل بالأحكام الأولية بعد تشخيصها - كما هو مقتضى الوضع الطبيعي المناسب للأمر بالأخذ بخلاف العامة - وإيكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية التقية في حق كل شخص إليه - كما يشخصها من سائر الجهات، كالحرج والضرر - لاختلافها باختلاف الأشخاص والظروف غير المنضبطة عادة، ولذا ورد الحث على التقية مع وضوح الاستغناء عنه لو كان تشخيص مقتضاها من وظيفة الإمام (ع).

وإنما صدر منهم في مناسبات نادرة تشخيص الوظيفة الثانوية في حق بعض الأشخاص وخطابهم على طبقها، كقصة علي بن يقطين ونحوها.

ولا مجال مع ذلك للتعويل على خبر المعلى، ولا سيما مع معارضته لنصوص الترجيح والتخيير والتوقف التي يتعذر حملها على خصوص صورة الجهل بالأحدث، لندرتها في عصر حضور الأئمة (ع).

بل اللازم بناء عليه التوقف عن الترجيح حتى مع الجهل بالأحدث، لعدم صلوح المرجحات المذكورة فيها لتشخيص الوظيفة الثانوية المفروض اهتمام الأئمة (ع) ببيانها.

ص: 233

مضافاً إلى ظهور إعراض الأصحاب عنه في مقام العمل حتى في عصر ظهور الأئمة (ع)، لأن الجري عليه موجب لانقلاب مقياس الفقه بنحو لا يخفى عادة.

فلابد من حمله على ظروف خاصة أو بيانات خاصة نظير ما سبق في خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار، ولا يتخذ قاعدة عامة يعمل عليها، ولا سيما في عصر الغيبة المتطاول الذي يعلم بعدم بقاء مقتضي التقية فيه على النحو الذي بدأ.

ولعل هذا هو المنشأ الارتكازي لما تقدم من الوسائل من عدم الرجوع للمرجح المذكور في عصر الغيبة، ومن الحدائق من عدم تعرض الأصحاب له، فضلاً عن عملهم عليه. حتى أن الكليني مع روايته للنصوص المذكورة لم يعمل بها ولم يشر إليها في ما سبق من كلامه في ديباجة الكافي الذي يسجل رأيه في الترجيح.

هذا وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام:

«قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (ص) لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». وهو إن لم ينصرف إلى خصوص حديث النبي (ص)، فلا أقل من لزوم حمله عليه بلحاظ ما تقدم عند الكلام في الجمع العرفي من أن المستفاد من أحاديثهم (ع) أنهم بصدد الأحكام الثابتة في عصر النبي (ص).

الثامن: موافقة الاحتياط.

الثامن: موافقة الاحتياط

وقد انفردت بها مرفوعة زرارة، التي تقدم عدم صلوحها للاستدلال. فلا يهم مع ذلك تحقيق المعيار في الموافقة والمخالفة، وأنه كيف يمكن

ص: 234

فرضهما في الخبرين معاً، كما تضمنته المرفوعة. فإنه وإن كان قد يصور موافقتهما معاً له فيما لو كان كل منهما مقتضياً للتكليف بشيءٍ، كما لو دل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر، بلحاظ أن متابعة احتمال الوجوب في كل منهما أحوط عملاً من البناء على عدمه.

كما قد تصور مخالفتهما معاً له فيما لو كان نافياً للتكليف، كما لو دل أحدهما على عدم وجوب الظهر والآخر على عدم وجوب الجمعة.

إلا أنه يشكل بأن دلالة كل منهما على التكليف أو عدمه إن لم تكن مع دلالة التزامية مناقضة لدلالة الآخر، لإمكان ثبوت التكليف على طبقهما معاً أو عدمه كذلك، لم يكونا متعارضين، وإلا كان كل منهما موافقاً للاحتياط من جهة ومخالفاً له من جهة أخرى.

وتنزيل الموافقة للاحتياط والمخالفة له على ما يعم ذلك - مع مخالفته لإطلاقهما - لا يناسب الترديد بينهما للتلازم بينهما حينئذ. إلّا أن يكون الملحوظ فيهما المدلول المطابقي فقط. والأمر سهل بعد ما ذكرنا.

التاسع: ترجيح المحكم على المتشابه.

التاسع: ترجيح المحكم على المتشابه

ففي الصحيح عن أبي حيون مولى الرضا عنه (ع):

«قال: من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم. ثم قال: إن في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا(1)»، ولا يخفى أن المتشابه ليس حجة في عرض المحكم، سواء أريد به المجمل بدواً الذي لا يكون اتباعه إلا بالتأويل التحكمي الخالي عن القرينة، أم الظاهر الموهم

ص: 235


1- الوسائل ج: 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 22.

خلاف الواقع، والذي يعلم بعدم إرادة ظاهره بالنظر في القرائن العقلية أو النقلية، بحيث يكون النظر في القرائن موجباً لإجماله عرضاً بعد القطع بعدم إرادة ظاهره، أو لاستكشاف المراد الحقيقي به، كالظاهر مع الأظهر أو النص، ويكون اتباعه بالعمل بظهوره البدوي من دون تأمل في القرائن.

فليس العمل بالمحكم دون المتشابه من ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى الذي هو محل الكلام.

وإنما ذكرناه هنا - كما ذكرنا بعض ما سبق - لاستقصاء مفاد النصوص التي عدت من نصوص الترجيح في كلام شيخنا الأعظم وغيره.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن المرجحات المنصوصة تنحصر بالشهرة في الرواية، وموافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة، وهي التي اقتصر عليها الكليني (قدس سره) تقريباً في ما سبق من كلامه. وأن ما عداها مما تعرضت له النصوص إما لا تنهض نصوصه بإثباته، لضعفها سنداً أو دلالة، أو لا يرجع للترجيح بين الحجتين المتعارضتين، بل إلى وجوب العمل بالحجة منهما. فلاحظ.

ص: 236

المبحث الثالث: في التعدي عن المرجحات المنصوصة
اشارة

أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات المقام الأول في أصالة التساقط في المتعارضين إلى أن احتمال ترجيح أحد المتعارضين تعبداً لا يكفي في البناء على حجيته والخروج عن أصالة التساقط، بل لابد من إحراز ترجيحه وحجيته.

وأما بالنظر إلى الأدلة الخاصة فإن كان البناء على التساقط مع فقد المرجح ولو من جهة الأصل المذكور، فالأمر كذلك، للشك في حجية محتمل الرجحان.

وإن كان البناء على التخيير، فإن كان مبنياً على إطلاق يقتضي التخيير بين المتعارضين يصلح دليلاً على نفي الترجيح بينهما لزم الاقتصار في الخروج عنه على ما ثبت ترجيحه، والبناء على عدمه مع الشك وحجية محتمل المرجوحية أخذا بالإطلاق المذكور.

وإن لم يكن لدليل التخيير إطلاق، بل كان المتيقن عدم سقوط كلا المتعارضين، تعين الاقتصار في التخيير على صورة العلم بعدم المرجح لأحد الدليلين، لأنه المتيقن من مورد التخيير، ومع احتمال الترجيح يلزم

ص: 237

العمل عليه، للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية الآخر الملزم بالبناء على عدم حجيته.

هذا، وحيث لا دليل على التخيير - لو تم - إلا النصوص التي يأتي الكلام فيها، والتي لها إطلاق في نفسها، فلا فرق بين القول بالتساقط والقول بالتخيير في عدم التعويل على احتمال الترجيح.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في آخر تنبيهات دليل الانسداد من سقوط إطلاقات التخيير عن الحجية، للعلم بوجوب الترجيح إجمالاً وعدم وفاء المرجحات المنصوصة بالمقدار المعلوم بالإجمال، فيتعين الاكتفاء بالظن بالترجيح.

فهو كما ترى! إذ لو سلم العلم بوجوب الترجيح إجمالاً فالمرجحات المنصوصة وافية بالمعلوم بالإجمال، ولا يعلم بوجود غيرها، لتسقط إطلاقات التخيير عن الحجية.

ولو سلم ما ذكره لزم الاقتصار في التخيير على المتيقن، ووجب الترجيح بمجرد احتماله، للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية محتمل المرجوحية، ولا وجه للاقتصار على الظن بالترجيح، فضلاً عن الترجيح بالظن بمطابقة أحد المتعارضين للواقع، كما لعله عليه عملهم، ويأتي ما يناسبه.

وقد أطال (قدس سره) في النقض والإبرام بما لا مجال لمتابعته فيه، بل نكتفي بما علقناه على كلامه. ولا مخرج عما ذكرنا من لزوم الاقتصار في الترجيح على المتيقن من دون فرق بين القول بالتساقط والتخيير.

المبحث الثالث: في المرجحات غير المنصوصة

إذا عرفت هذا، فالمعروف من جماعة من الأصحاب التعدي عن

ص: 238

المرجحات المنصوصة لكل مزية، بل نسب شيخنا الأعظم (قدس سره) إلى جمهور المجتهدين عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة، وقد أشار في آخر تنبيهات الانسداد لبعض الكلمات الشاهدة منهم بذلك، بل نسب لبعض مشايخه استظهار الاتفاق على الترجيح بكل ظن، كما قال في مبحث الترجيح: «ادعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة».

وربما يستدل بذلك في المقام، فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) في آخر تنبيهات الانسداد: أن تتبع كلماتهم يوجب الظن القوي بل القطع بأن بناءهم على الأخذ بكل مزية، بنحوٍ يظهر منه قوة التعويل على ذلك من جهة الإجماع.

لكن لا مجال لدعوى الإجماع بعد ظهور كلام الكليني المتقدم في الاقتصار على المرجحات المنصوصة، بل لا يبعد استظهاره من جميع القدماء الذين لا طريق لمعرفة آرائهم إلا النصوص التي يروونها ويثبتونها في كتبهم، ولا أقل من عدم إمكان نسبة العموم إليهم. بل النظر في كلامهم في الفقه قد لا يناسب ذلك.

على أن بعض ما نقل عمن صرح بذلك منهم راجع إلى بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح للاستدلال، ولا يظهر منهم ابتناء ذلك على التعبد الشرعي الذي قد يخفى علينا ويستكشف من إجماعهم، حتى ظن بعض المتأخرين - في ما حكي عنه - ابتناء ذلك منهم على متابعة طريقة العامة.

وإن كان الأنسب حمل ذلك منهم على الاحتياط في تحري أقرب الدليلين للواقع إما لبنائهم على التخيير وعدم تساقط المتعارضين، مع

ص: 239

الغفلة - بسبب الأنس بارتكازية ذلك - عن ورود إطلاقات التخيير وعدم وجوب الاحتياط معها. وإما لبنائهم على التساقط، لكن مع الاقتصار على ما لابد منه، استيحاشاً من إهمال النصوص، مع الغفلة أيضاً عن أن مقتضى القاعدة عموم التساقط مع التعارض.

ولعله لبعض ما ذكرنا أنكر ذلك غير واحد من المتأخرين، خصوصاً المحدثين، قال في الحدائق: «وقد ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره إلى محصول، والمعتمد عندنا على ما ورد عن أهل بيت الرسول من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات...».

وبالجملة: لا مجال لدعوى الإجماع على التعدي عن المرجحات المنصوصة، فضلاً عن الاستدلال به للخروج عن مقتضى الأصل المتقدم مع الشك في مرجحية بعض الأمور.

هذا، وقد حاول شيخنا الأعظم (قدس سره) إثبات ذلك من نصوص الترجيح بدعوى ظهور بعض الفقرات فيها في التعدي بالنحو المذكور.

ما ذكره الشيخ الأعظم من التعدي لكل مزية

منها: الترجيح بالأصدقية في المقبولة، وبالأوثقية في المرفوعة، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن اعتبارهما ليس تعبدياً محضاً، كاعتبار الأعدلية والأفقهية، بل لأن الخبر الواجد لهما أقرب للواقع في نظر الناظر من دون خصوصية سبب فيتعدى منه لكل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين من الآخر.

وفيه: في - مع أن الترجيح بالصفات لم يثبت في نفسه، كما سبق -: أن المناسبات الارتكازية إنما تقتضي كون الملحوظ للشارع هو الأقربية النوعية بنظره، وهي العلة لمرجحيتها، لا أن موضوع الترجيح هو الأقربية

ص: 240

الشخصية أو النوعية بنظر المكلف ليتعدى عن موردها.

نظير ما تضمن حجية خبر الثقة والصادق، حيث تقتضي المناسبات الارتكازية كون القرب للواقع نوعاً بنظر الشارع علة لحجيته، لا أن موضوع الحجية هو القرب الشخصي أو النوعي بنظر المكلف، ولذا لا يتعدى عن مورده لكل ما يقتضي ذلك ولو لم يكن خبراً.

الترجيح بالأصدقية والأوثقية

ومنها: تعليل الترجيح بالشهرة في المقبولة بقوله (ع): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بدعوى: أن نفي الريب في المشهور ليس حقيقياً، إذ ليس المشهور قطعياً من جميع الجهات الصدور والدلالة والجهة، بل إضافي، بمعنى أن المشهور لا ريب فيه بالإضافة للشاذ، لأن الريب في الشاذ من حيثية الشذوذ غير وارد فيه، فيفيد الترجيح بكل مزية في أحد الخبرين، لأن في فاقد المزية منشأ لاحتمال مخالفة الواقع غير موجود في واجدها.

وفيه: أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي حمل نفي الريب على نفيه من حيثية الصدور فقط، فلا يمتنع البناء على كون نفيه حقيقياً، الراجع إلى الاطمئنان بالصدور والركون إليه، على ما سبق، في مقابل ما يكون مورداً للريب لشذوذه، فيدل على مرجحية عدم الريب في الصدور ولو بسبب غير الشهرة من القرائن المحيطة بالخبر، ولا يتعدى منه لكل احتمال ولو من غير جهة الصدور.

وإلا فإطلاق تقديم المشهور لذلك لا يحسن إذ كثيراً ما يكون الشاذ واجداً لمزية يفقدها المشهور، حيث يتعين حينئذ التوقف، لتعارض المرجحين.

استفادة ذلك من تعليل الترجيح بمخالفة العامة

ومنها: تعليل ترجيح الخبر المخالف للعامة بأن الحق والرشد في

ص: 241

خلافهم وأن ما وافقهم فيه التقية، فإن هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية، فيدل بحكم التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان معه أمارة الحق والرشد وترك ما فيه مظنة خلاف الحق والصواب.

وفيه: أن المقبولة لم تتضمن التعليل بذلك، بل الحكم به، وظاهره أنه دائمي واقعي في فرض التعارض الذي هو مورد التعليل، فإن ثبت خلافه تعين حمله على كونه دائمياً ظاهرياً، لأنه الصالح لأن يترتب عليه العمل، دون الغالبي الواقعي. وإنما استفيد التعليل بذلك من المرفوعة التي سبق عدم صلوحها للاستدلال.

مع أن التعليل المذكور لو لم يكن دائمياً في مورده وكان غالبياً فحيث لم يصرح بالغلبة في التعليل، بل كان لسانه قضية دائمية، فلا طريق للتعدي بمعيار الغلبة أو الظن، بل غاية الأمر كشف ذلك عن اكتفاء الشارع بالغلبة المذكورة علة للترجيح، وكونها مصححة بنظره لإطلاق القضية الظاهرة في الدوام، ولا طريق للتعدي عنها، للجهل بخصوصياتها المنظورة له. وهو راجع إلى كون التعليل حكمة، لا موضوعاً للحكم يطرد تبعاً له.

وأما ما تضمن أن ما وافقهم فيه التقية فقد سبق أنه ليس من نصوص المرجح المذكور، كما هو الحال في غير واحد من الألسنة التي تضمنتها بعض النصوص. فراجع.

استفادة ذلك من دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

ومنها: قوله (ع): «دع ما يريبك إلى مالا يريبك»(1)، قال (قدس سره): «دل على أنه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به، وليس المراد نفي مطلق الريب، كما لا يخفى».

ص: 242


1- الوسائل ج: 18 باب: 12 عن أبواب صفات القاضي حديث: 56.

وفيه: أن ذلك ليس من نصوص الترجيح بين الخبرين، ليتعين كون موضوع الريب فيه ونفيه هو الخبر، كما قد يتعين حمل نفي الريب فيه على الإضافي، بل هو عبارة عن مرسل مستقل ظاهر في وجوب الاحتياط في مقام العمل باجتناب ما فيه الريب، ولا مانع من إبقائه على ظاهره وحمل نفي الريب فيه على الحقيقي بنحو السالبة الكلية في مقابل ما فيه ريب ولو من جهة واحدة بنحو الموجبة الجزئية.

ولذا سبق منه (قدس سره) عدّه من أدلة الاحتياط التي يحتج بها للأخباريين، كما هو ظاهر الوسائل أيضاً.

وقد تعرض (قدس سره) في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد لبعض الوجوه الأخرى التي هي أوهن مما سبق لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا كله مضافاً إلى إباء نصوص الترجيح الحمل على ذلك بعد ما تضمنته من الترتيب بين المرجحات والاقتصار على قليل منها، واشتمالها على ما لا يوجب الأقربية للواقع، كموافقة الاحتياط التي تضمنتها المرفوعة وإن لم تكن معولاً عليها عملاً.

كما قد تأباه نصوص التخيير والتوقف، لندرة التساوي بين الخبرين من جميع الجهات، وليس هو كتقييدها بالمرجحات المنصوصة، لكثرة تساوي المرجحات فيها وقرب الاعتماد في الإطلاق على وضوح بعضها، لارتكازيته في الجملة.

وأشكل من ذلك ما استقربه شيخنا الأعظم (قدس سره) من اعتماد من ذهب إلى التعدي عن المرجحات المنصوصة على الوجوه المتقدمة، مع ما هي عليه من الخفاء وعدم الإشارة في كلماتهم إليها، بل ظهور بعضها في الاعتماد

ص: 243

على بعض الوجوه الاستحسانية التي لا دخل لها بمفاد النصوص، كما سبق.

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقضي باختصاصها بصورة تكافؤ المتعارضين من جميع الوجوه.

فلم يتضح المنشأ له بعد إطلاقها وعدم الاستفصال فيها، بل عدم الإشارة في بعضها إلى التكافؤ أصلاً، والاقتصار في بعضها على صورة التكافؤ في خصوص المرجحات المنصوصة، كمرفوعة زرارة المتقدمة.

ومثله الاستدلال على ذلك بما في كلام بعضهم في وجه لزوم الترجيح من لزوم الأخذ بأقوى الدليلين.

فإنه إنما يتم لو أريد به ما هو الأقوى منهما بنظر الشارع، الراجع للزوم ثبوت الترجيح من قبله.

وأما لو أريد به ما هو الأقوى بنظرنا، لمزيةٍ فيه توجب أقربية للواقع والظن بمطابقته له.

فهو نظير حجية الظن لا دليل عليه، بل الدليل على عدمه بعد فرض تساوي الدليلين بالنظر لأدلة الحجية الشرعية، وأدلة التخيير والتوقف.

فلا معدّل عما يظهر من النصوص من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم التعدي عنها، الذي سبق في صدر المبحث أنه المطابق للأصل والقاعدة المعوّل عليهما في المقام.

بقي في المقام أمران..

بقي أمران..
الأول: المعيار في التعدي عن المرجحات

الأول: أن المعيار في التعدي عن المرجحات غير المنصوصة على ما يوجب أقربية مضمون أحد الخبرين للواقع وأبعدية الآخر عنه، سواءً كان

ص: 244

داخلياً قائماً بالخبر - كالنقل باللفظ وقرب السند - أم خارجياً حجةً بنفسه كالعموم، أو لا كالشهرة. لأن ذلك هو الذي تقتضيه الوجوه المتقدمة لو تمّت.

أما ما لا دخل له بالأقربية للواقع، كموافقة الأصل، وأولوية الحرمة من الوجوب، فالوجوه المذكورة تقصر عنه، بل لابد في الترجيح به من دليل آخر، وهو غير ظاهر.

فإن دليل الأصل إنما يقتضي كونه مرجعاً بعد تساقط المتعارضين، لا مرجحاً لأحدهما. كما أن أولوية الحرمة من الوجوب - لو تمت - مختصة بما إذا علم بثبوت أحدهما من دون حجة على كل منهما، على ما سبق الكلام فيه في مبحث الدوران بين الوجوب والحرمة، وهو إنما يتم مع العلم بصدق أحد الخبرين مع البناء على تساقطها، فتكون القاعدة مرجعاً كالأصل، لا مرجحاً، أما مع احتمال كذبهما معاً فلا دوران بين الحكمين. كما أنه بناء على التخيير يكون دليل الوجوب حجة تخييراً مؤمناً من احتمال الحرمة، فلا يتنجز معه احتمالها، ليتعين العمل عليه.

ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من عدم تمامية قاعدة الأولوية المذكورة.

كما لا مجال للكلام في ما أطال فيه شيخنا الأعظم (قدس سره) من تعداد المرجحات وأقسامها، لابتنائه على التعدي عن المرجحات المنصوصة، الذي عرفت أنه خلاف التحقيق.

الثاني: لو كان كل من الخبرين واجداً لمزية أو أكثر

الثاني: أنه بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة فلو كان كل من المتعارضين واجداً لمزيةٍ أو أكثر، وكانت المزايا في مرتبة واحدة، فلا

ص: 245

إشكال في عدم الترجيح مع تساويهما في عدد المرجحات وعدم حصول الظن على طبق أحدهما، بل يكونان متكافئين.

وإلا ففي الترجيح بحصول الظن بأحد المتعارضين، أو بزيادة المزايا في أحدهما، أو عدم الترجيح وجوه..

لا يبعد الأول، كما قد يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد. لأن ذلك هو المناسب للوجوه المتقدمة للتعدي عن المرجحات المنصوصة، فإن الظن هو الملاك في الأقوائية العرفية التي تنزل عليها التعليلات المتقدمة، وليست مرجحية المزايا عرفاً إلا بلحاظ سببيتها له فلا أهمية لعددها.

نعم، لازم ذلك عدم الترجيح مع عدم حصول الظن من المرجحات حتى المنصوصة منها ولو انفرد بها أحد المتعارضين، وهو مما لا يناسب إطلاق الترجيح بها جداً. ومن ثم كان هذا موهناً آخر للقول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة. فلاحظ.

ص: 246

المبحث الرابع : في الترتيب بين المرجحات
اشارة

لا يخفى أن مقتضى القاعدة الأولية بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة هو الرجوع في الترتيب بينها لظاهر أدلتها، فلو اقتضاه لزم العمل عليه تعبداً به، فمع اشتمال كل من المتعارضين على فرد من تلك المرجحات فإن كان ما اشتملا عليه فردين لمرجح واحد، أو لمرجحين في مرتبة واحدة كانا متكافئين، وإن كان فردين لمرجحين في مرتبتين كان الواجد للمرجح المتقدم رتبةً هو الراجح المتعين للعمل ولا يُعتنى بالآخر.

أما بناءً على التعدي عن المرجحات المنصوصة فحيث كان مبنى التعدي إلغاء خصوصية المرجحات وأن المعيار على الظن بمضمون أحد المتعارضين وأقربيته للواقع عرفاً كان لازمه إلغاء خصوصية الترتيب بين المرجحات لو فرض ظهور النصوص فيه بدواً، فلا ترتيب بين المرجحات المنصوصة في أنفسها، ولا بينها وبين غيرها.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بين الأصحاب في الترتيب بين المرجحات طبعاً بنحوٍ يخرج به عن مقتضى القاعدة المتقدمة وعدمه.

وقد ذكروا أن المرجحات المنصوصة وغيرها على أقسام..

ص: 247

الأول: المرجح الصدوري، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الخبر، كالأوثقية والشهرة في الرواية وقلة الوسائط.

الثاني: المرجح الجهتي، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الكلام لبيان الحكم الواقعي والمراد الجدي، في مقابل صدوره لغرضٍ آخرٍ من تقيةٍ أو نحوها، كمخالفة العامة على بعض الوجوه.

الثالث: المرجح المضموني، وهو ما يوجب قوة الظن بتحقق مضمون الخبر مما هو خارج عنه، سواء كان معتبراً في نفسه كعموم الكتاب، أم لا كالشهرة في الفتوى.

وقد وقع الكلام في الترتيب بين الأقسام المذكورة.

تقديم المرجح الدلالي على المرجحات الباقية

وأما المرجح الدلالي الراجع إلى قوة دلالة أحد الخبرين فهو خارج عن محل الكلام، إذ لا إشكال في تقدمه طبعاً على سائر المرجحات في مورد الجمع العرفي، لخروج الدليلين عن التعارض بسببه. وأما في غير مورد الجمع العرفي فالظاهر أنه مرجح مستقل. لكنه خارج عن محل كلامهم، وليس الكلام إلا في الأقسام الثلاثة المتقدمة. ولعل الحال فيه يتضح من الكلام فيها.

وقد ادعى المحقق الخراساني (قدس سره) أن المرجحات المتقدمة وإن اختلف موضوعها في بدو النظر، إلا أن الظاهر رجوع الترجيح بها لباً إلى الترجيح الصدوري، فليس مقتضاها إلا التعبد بصدور الراجح دون المرجوح.

ولا مجال لتخيل رجوع المرجح الجهتي لترجيح جهة أحد المتعارضين دون الآخر مع حجية سندهما معاً والتعبد بصدورهما، لامتناع التعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته، بل يبنى على صدوره تقية، لعدم الأثر له.

ص: 248

ويظهر منه أنه رتب على ذلك عدم الترتب الطبعي بين أقسام المرجحات المتقدمة، لأنه فرع ترتب موضوعها، فمع رجوعها لموضوع واحد وهو الصدور تكون في رتبة واحدة، وإن اختلف منشأ الشك الذي تكون موضوعاً له.

لكن لا يخفى أن ترتب الأثر والعمل على الخبر لما كان موقوفاً على التعبد بصدوره ودلالته وجهته بنحو الارتباطية، وكان المصحح للتعبد الظاهري هو الأثر العملي، فلابد في جريان كل منها من جريان الباقي، فكما يمتنع التعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته لعدم الأثر، كذلك يمتنع التعبد بجهة ما لا يتعبد بصدوره، فلا وجه لإرجاع جميع المرجحات للمرجحات السندية، بل هي بلحاظ ذلك راجعة للمرجحات من جميع الجهات.

ومعنى رجوع المرجح لإحدى الجهات ليس إلى سقوط التعبد بالمرجوح من تلك الجهة مع بقاء التعبد به من بقية الجهات، بل إلى عدم التعبد به من تلك الجهة بالأصالة لأنها موضوع الترجيح ثم سقوط التعبد من بقية الجهات بالتبع، لعدم الأثر له بسبب الارتباطية المذكورة.

فالفرق بين المرجح الجهتي والصدوري - مثلاً - أن سقوط جهة المرجوح في المرجح الجهتي بالأصل وسقوط الصدور بالتبع، وفي المرجح الصدوري بالعكس.

ومن هنا أمكن فرض الترتب بين المرجحات طبعاً تبعاً للترتب بين موضوعاتها، فلابد من النظر في وجه ما ذكره القائلون بذلك.

وقد ادعى شيخنا الأعظم (قدس سره) تقدم المرجح المضموني غير المعتبر في نفسه - كالشهرة في الفتوى - على المرجح الصدوري والجهتي.

ص: 249

بدعوى: أن ترجيح السند والجهة إنما اعتبر لأجل الأقربية للواقع، فإذا فرض اعتضاد المرجوح بحسب السند أو الجهة بالمرجح المضموني الموجب لأقربيته للواقع تعين تقديمه على الراجح بحسبهما لفعلية ملاك الترجيح فيه، وهو الأقربية.

وفيه: أنه كما يكون الاعتضاد بالمرجح المضموني موجباً للأقربية للواقع كذلك يكون اشتمال الدليل على المرجح السندي أو الجهتي موجبا لأقربيته للواقع، ومع تصادم الجهتين يلزم تقديم ما يكون مناط الترجيح فيه أقوى ويكون تأثيره فعلياً، لا تقديم المرجح المضموني رتبة. وكأن مبنى كلامه على كون المرجحات المضمونية أقوى ملاكاً في الأقربية بحيث تكون فعلية التأثير لها.

بل قد يدعى تأخر المرجح المضموني طبعاً، بلحاظ أن الأقربية للواقع لما لم تكن هي المناط في الحجية إذ لا إشكال في عدم حجية الظن بنفسه فلا يناسب كونها هي المعيار في الترجيح، بل لما كان مناط الحجية هو دليلية الدليل كان المناسب كون معيار الترجيح مع تعارض الدليلين هو أقوائية الدليلية في أحدهما بلحاظ المرجحات الداخلية التي هي من شؤون دليلية الدليل من صدوره وظهوره وجهته، ولا أثر للمرجحات المضمونية الخارجية التي لا دخل لها بدليليته.

نظير موافقة رأي المفضول للشهرة، فإنها وإن كانت موجبة لأقربيته للواقع إلا أنها لما لم توجب أقوائيته في الدليلية من رأي الأفضل، بل كان رأي الأفضل هو الأقوى فيها كان الترجيح له.

نعم، لو تساويا في الدليلية مع دوران الأمر بينهما يتجه الرجوع

ص: 250

للمرجحات المضمونية الخارجية، لانسداد طريق الترجيح بلحاظ الطريقية، نظير الرجوع للظن عند فقد الأدلة وانسداد باب العلم.

لكن هذا التأخر الطبعي ليس بنحو يمنع جري الشارع على خلافه، بل يمكن الخروج عنه لو اقتضته أدلة الترجيح.

وأما المرجح المضموني المعتبر في نفسه كموافقة عموم الكتاب فقد فضل فيه (قدس سره) تفصيلا طويلاً لعله يبتني على ما هو خارج عن محل الكلام ولا مجال للإطالة فيه.

كما أنه (قدس سره) ادعى أيضاً تقدم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي، لدعوى: أن موضوع الترجيح الجهتي الخبران اللّذان لا يمكن رفع اليد عن صدور أحدهما بعينه لكونهما قطعيين أو متكافئين، وأما في فرض التعبد بصدور أحدهما دون الآخر لترجيحه سنداً فلا وجه لإعمال المرجح الجهتي فيه، لأن الجهة فرع الصدور، فمع عدم التعبد بصدور المرجوح لا معنى للتعبد بجهته وإن كان راجحاً بحسبها.

لكنه أيضاً لا يرجع إلى محصل، إذ لا وجه لاختصاص الترجيح الجهتي بصورة امتناع إلغاء التعبد بصدور أحد الخبرين دون الآخر، فإنه عبارة أخرى عن تقدم المرجح الصدوري رتبةً الذي هو المدعى في المقام، بل ليس ذلك بأولى من العكس، وهو اختصاص الترجيح السندي بصورة امتناع إلغاء الجهة في أحد الخبرين بعينه، لقطعيتهما أو تكافؤهما فيها.

وما ذكره (قدس سره) من أن مع عدم التعبد بصدور المرجوح سنداً لا معنى للتعبد بجهته، لتفرعها على الصدور، مبني على تسليم تقدم الترجيح الصدوري، حيث يكون أثره إلغاء التعبد بصدور المرجوح فيرتفع فيه

ص: 251

موضوع التعبد بالجهة، وإلا فلو فرض تقديم الترجيح الجهتي فمع عدم التعبد بالجهة في المرجوح لا مجال للتعبد بصدوره أيضا، لعدم الأثر له، كما سبق.

ما استدل على تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري
اشارة

ونظير ذلك ما عن الوحيد (قدس سره) وبعض المتأخرين عنه من تقدم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري. إذ ربما يستدل له بوجوه..

الاول: ترتب الصدر على الجهه و دفعه

الأول: أن الصدور لما كان متقدماً رتبة على الجهة، لأن الجهة من شؤون الكلام الصادر، وكان التعارض بين الخبرين مترتباً على جريان كل من أصالة الصدور وأصالة الجهة فيهما، فهو لا يستند لأصالة الصدور بالمباشرة، بل لأصالة الجهة، فيكون الترجيح في الجهة متقدماً طبعاً، ولا موجب للنظر في الترجيح الصدوري إلا بعد تعذره.

وفيه: أن استناد التعارض بالمباشرة لأصالة الجهة بالمعنى المتقدم لا يقتضي تقدم المرجح الجهتي طبعاً، لأن موضوع الترجيح هو موضوع التعارض، وحيث كان تكاذب المتعارضين موقوفاً على كل من صدورهما وظهورهما وجهتهما كان التعارض بين مجموع الأصول الجارية فيهما من دون ترتب بينها مستتبع لترتب الترجيح.

الثاني: إعمال المرجح الجهتي لا يستلزم إلغاء الصدور ودفعه

الثاني: أن إعمال المرجح الجهتي لا يستلزم إلغاء أصالة الصدور في المرجوح، بل الغاء أصالة الجهة فيه لا غير، أما إعمال المرجح الصدوري فهو كما يستلزم إلغاء أصالة الصدور في أحدهما يستلزم إلغاء أصالة الجهة فيه أيضاً، لعدم الموضوع لها معه، ورفع اليد عن أصالة الجهة وحدها أولى من رفع اليد عن الأصالتين معاً.

وفيه: أن سقوط أصالة الصدور بسبب إعمال المرجح الصدوري وإن

ص: 252

استلزم سقوط أصالة الجهة، إلا أنه ليس لعدم الموضوع لها، لأن الترجيح الصدوري لا يقتضي التعبد بعدم صدور المرجوح، وإنما يقتضي عدم التعبد بصدوره - كخبر الفاسق - من دون إلغاء لاحتمال صدوره الذي هو موضوع أصالة الجهة، بل لأجل عدم الأثر للتعبد بجهة ما لا يتعبد بصدوره، وهو جار في أصالة الجهة أيضاً، لعدم الأثر للتعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته.

على أن رفع اليد عن أصالة الجهة لعدم الموضوع لها مع إلغاء أصالة الصدور - لو تم - ليس مخالفاً للأصل، ليلزم تقديم المرجح الجهتي، لعدم منافاته لعموم دليلها، وإنما المخالف للأصل هو رفع اليد عنها مع تحقق موضوعها، كما لا يخفى.

الثالث: وجوب المحافظة على أصالة الصدور ودفعه

الثالث: أنه يجب المحافظة على أصالة الصدور مهما أمكن أخذاً بعموم دليلها، وإن لزم رفع اليد عن الجهة، نظير رفع اليد عن ظهور الظاهر مع معارضته بالأظهر، حيث يقدم على الترجيح الصدوري بينهما.

ويندفع: بأن المحافظة على أصالة الصدور ليست بأولى من المحافظة على أصالة الجهة مع عموم دليلهما وتحقق موضوعهما.

ولا مجال لقياسه بحمل الظاهر على الأظهر، لأن ذلك لما كان بمقتضى الجمع العرفي، لكون الأظهر قرينة على المراد من الظاهر، فرفع اليد عن ظهور الظاهر لا يبتني على طرح عموم حجية الظهور، بل على قصور دليله عن المورد المذكور، فهو خارج عن عموم حجية الظهور تخصصاً، بل لا يصدق معه التعارض عرفاً، كما سبق بخلاف المرجح الجهتي، فإنه لا يقتضي سقوط أصالة الجهة في المرجوح تخصصاً، بل سقوطهما تخصيصاً، كسقوط أصالة الصدور بالمرجح الصدوري، فلا وجه لتقديمه عليه.

ص: 253

ولذا لو لم يمكن الجمع العرفي بين الظاهر والأظهر استحكم التعارض بينهما، وكانت قوة الظهور في الأظهر مرجحاً ولا دلالياً كالمرجح الجهتي، كما أشرنا إليه عند تقسيم المرجحات.

وحينئذ يجري فيه ما يجري فيه من عدم الدليل على تقدمه على المرجح الصدوري.

نعم، لو كان أحد الدليلين قرينةً عرفيةً على حمل الآخر على التقية مثلاً أو قام دليل آخر على حمله عليها سقطت أصالة الجهة فيه تخصصاً، فلا يصلح لمعارضة الآخر، ليحتاج للمرجحات الصدورية أو غيرها.

لكنه خارج عن محل الكلام من فرض التعارض - لتمامية موضوع الحجية في كلٍ منهما - ووصول النوبة للترجيح. فلاحظ.

وقد ذكر بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين I ما وجوهاً للترتيب قد يرجع بعضها لما ذكرنا، ولا مجال لإطالة الكلام فيها.

حاصل ما تقدم عن وضوح لزوم الترتيب بين المرجحات

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لم يتضح الترتيب بين المرجحات، وانما يحتمل تأخر المرجح المضموني عن المرجحات الداخلية بوجه قابل لخروج الشارع عنه. ومن هنا لا يهم إثباته، بل المهم النظر في مفاد أدلة الترجيح، وحيث سبق أن البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة يستلزم إلغاء خصوصية الترتيب بينها.

فلو تم تأخر المرجح المضموني طبعاً لما سبق كان رفع اليد عنه موقوفاً على فهم إلغاء ترتبه وأن المعيار في الترجيح الأقربية - كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) - لا الأقوائية في الدليلية.

والظاهر أن استفادة الترجيح بالمرجح المضموني من النصوص

ص: 254

تستلزم ذلك، إذ هو لا يجتمع مع ظهورها في كون المعيار في الترجيح على الأقوائية في الدليلية.

وكيف كان، فلا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من لزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة تعبداً بظاهر أدلتها، حيث يلزمه التعبد به أيضاً في الترتيب وكيفيته.

ومن الظاهر أن أخص النصوص هي مقبولة ابن حنظلة، لاستيفائها جميع المرجحات، وهي تقتضي الترجيح أولاً بالشهرة، ثم بموافقة الكتاب والسنة - من دون ترتيب بينهما - ثم بمخالفة العامة، ثم بمخالفة ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل. فيلزم العمل عليها وتقييد إطلاق النصوص المقتصرة على بعض المرجحات بها.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الظاهر كون المقبولة كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان مرجحية المرجحات المذكورة فيها من دون نظر للترتيب بينها، لبعد تقييد جميع نصوص الترجيح على كثرتها بما فيها.

فهو كما ترى! لعدم كثرة نصوص الترجيح المعتبرة السند المقتصر فيها على بعض المرجحات.

مع أن ذلك لا يصحح الخروج عن ظاهر الترتيب في المقبولة، وليس تقييد نصوص الترجيح بها بالترتيب بأصعب من رفع اليد عن ظهور تلك النصوص في انحصار الترجيح بالمرجح الذي تضمنته، بحيث لا تزاحمه المرجحات الأخرى التي تضمنتها المقبولة وغيرها. بل ما ذكره (قدس سره) أصعب، لاستلزامه إهمال كلا المرجحين المترتبين عند التعارض، وهو أكثر تخصيصاً لأدلة الترجيح من إهمال أحدهما فقط.

ص: 255

ولا سيما مع اعتضاد المقبولة - في الجملة - بصحيح عبد الرحمن المتضمن تقديم موافقة الكتاب على مخالفة العامة، وتأيدها بمرفوعة زرارة المتضمنة تقديم الشهرة على مخالفة العامة، مع قرب كون إهمال بعض المرجحات في بعض النصوص لوضوح حالها، بنحو يكون كالقرينة على فرض التكافؤ فيها، واحتمال كون الاقتصار في بعضها على مخالفة العامة ناشئاً عن كونه المرجح المهم الذي يكثر الابتلاء به، ويغلب كونه منشأ الاختلاف بين النصوص.

وأما ما تضمنه مرسل المفيد - المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب - من تقديم موافقة الكتاب على الشهرة في الرواية، فلا مجال للتعويل عليه في قبال ما سبق.

ص: 256

المبحث الخامس: في الجهل بوجود المرجح
اشارة

سبق من الكليني (قدس سره) أنه بعد أن ذكر المرجحات قال: «ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (ع): بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم...».

وظاهره اختصاص فعلية الترجيح بصورة العلم بالراجح. وهو مخالف لإطلاق أدلة الترجيح، كما هو الحال في سائر أدلة الأحكام في دورانها مدار تحقق موضوعاتها واقعاً، فيكون التخيير معه مخالفاً للاحتياط، لاحتمال عدم حجية ما يختاره المكلف، لكونه المرجوح واقعاً، ويكون التمسك بعموم أدلة التخيير فيه تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص أو العام.

اللهم إلا أن يستفاد ذلك في المقام بضميمة كثرة موارد الجهل بوجود المرجح، خصوصاً مخالفة العامة، لعدم تيسر الاطلاع على أقوالهم والجهل بما هو الشايع منها عند صدور الروايات، أو بضميمة ارتكاز ابتناء التخيير على وجود مقتضي الحجية في كلا المتعارضين، وأن المرجح من سنخ

ص: 257

المانع عن حجية المرجوح، ومع الشك في وجود المانع لا يرفع اليد عن مقتضي الحجية.

وكلاهما لا يخلو من إشكال.

فلعل الأولى ابتناء ذلك على الرجوع لأصالة عدم وجود المرجح بعنوانه المأخوذ شرعاً، لأنه حادث مسبوق بالعدم ولو كان أزلياً.

نعم، قد يشكل الحال بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة لعدم وضوح كون موضوع التخيير حينئذ هو عدم وجود المرجح بعنوانه، بل قد يكون موضوعه المستحصل من مجموع الأدلة هو تكافؤ الدليلين الذي لا يحرز بالأصل.

ما لو علم بوجود المرجح إجمالاً

وأشكل من ذلك ما لو علم بوجود المرجح إجمالاً وتعذر تعيين الراجح، لاشتباه الحجة باللاحجة المقتضي لتساقطهما وعدم حجية كل منهما في إثبات خصوصية مؤداه، وإن كانا حجة في القدر المشترك كنفي الثالث.

هذا كله بناءً على التخيير مع التكافؤ، وأما بناء على التساقط فالأمر سهل، لوضوح عدم جواز البناء على حجية محتمل الرجحان، كما لو علم بعدمه وتكافؤ المتعارضين.

نعم، لو علم إجمالا برجحان أحدهما كانا حجة في القدر المشترك بينهما - كنفي الثالث - بخلاف ما لو لم يثبت الترجيح بينهما، حيث سبق أن الأصل عدم حجيتهما في ذلك. والحمد لله رب العالمين.

ص: 258

الفصل الثاني: في تعادل الدليلين
اشارة

وهو إنما يكون لعدم البناء على الترجيح أو لعدم المرجح لأحد الخبرين. وحيث سبق أن الأصل في المتعارضين التساقط والرجوع لما يقتضيه العموم أو الإطلاق أو الأصل الجاري في المسألة فقد وقع الكلام في وجود المخرج عن ذلك عند التعادل من الأدلة الخاصة.

تصريح الكليني (قدس سره) بالتخيير

وقد صرح غير واحد من الأصحاب - كالكليني في كلامه المتقدم والشيخ في الاستبصار والعلّامة. في المبادئ وغيرهم - بالتخيير، ولعله المشهور بين الأصحاب، كما ادعاه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره، ونسبه لجمهور المجتهدين، بل في المعالم وعن غيره: «لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفاً». وقد يظهر من المرتضى في الذريعة.

ولا يخفى أن المراد بالتخيير..

وجها التخيير

تارة: هو ثبوت الحجية التخييرية لكل منهما، التي هي عبارة عن حجيته المعلقة على اختياره - كما قد يظهر من العلامة في المبادئ - أو الحجية الفعلية لهما، بنحوٍ يكون كل منهما حجة للمكلف معذراً له، ومجموعهما عليه، على ما سبق الكلام فيه في أول مبحث تقريب الأصل

ص: 259

في المتعارضين.

وأخرى: هو السعة في مقام العمل، فيجوز موافقة أحدهما وإن لم يكن حجةً، بأن يكون ورودهما سبباً للخروج عن مقتضى العموم أو الإطلاق أو الأصل الجاري في المورد مع قطع النظر عنهما.

وكلماتهم قد تظهر في الأول، وبعض الأدلة قد يناسب الثاني، ولا يهم تحقيق أحد الوجهين بعد عدم الفرق العملي بينهما، وإنما المهم إقامة الدليل على التخيير بأحد المعنين.

وقد يظهر من المرتضى في الذريعة ابتناؤه على العمل بإطلاقات أدلة الحجية، ولعله لذا يظهر منه عدم الاختصاص بالأخبار، بل يجري في كل دليلين متعادلين.

ويظهر ضعفه مما تقدم في تقرب الأصل في المتعارضين.

وأشكل منه ما في الاستبصار، قال:

«ولأنه إذا ورد الخبران المتعارضان، وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين، ولا على إبطال الخبر الآخر، فكأنه إجماع على صحة الخبرين، وإذا كان [الإجماع. خ] على صحتهما كان العمل بهما جائزاً سائغاً».

لوضوح أن عدم الإجماع على إبطال أحد الخبرين بعينه لا ينافي الإجماع على بطلان أحدهما إجمالاً، فضلاً عن أن يرجع إلى الإجماع على صحتهما معاً، بل تمتنع صحتهما معاً مع تناقضهما ولو بلحاظ مدلولها الالتزامي، غاية الأمر إمكان حجيتهما معاً تخييراً، وهي تحتاج إلى دليل.

فالعمدة في المقام ما صرح به الكليني في كلامه المتقدم وذكره في الاستبصار وكذا جملة من المتأخرين من التمسك بالنصوص في ذلك، وقد

ص: 260

ادعى شيخنا الأعظم (قدس سره) استفاضتها، بل تواترها، فينبغي النظر فيها، وما يمكن الاستدلال به على ذلك جملة منها..

ما يستدل لما ذكره الكليني (قدس سره) من التخيير
الأول: موثق سماعة

الأول: موثق سماعة عن أبي عبد الله (ع):

«سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟، قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه»(1)، بدعوى: ظهور السعة في السعة في العمل بكل من الروايتين الراجعة لحجيتهما تخييراً، أو السعة في العمل على طبقهما وإن لم يكونا حجة، على ما سبق في معنى التخيير.

وفيه.. أولاً: أنه لو سلم عدم كون المراد بالسعة السعة في البقاء على الجهل - كما لعله المناسب لتعليل الأمر بالإرجاء - بل السعة في العمل لدعوى كون منشأ السؤال ارتكازاً هو التحير في العمل وأن طلب العلم لأجله، إلا أن مقتضى إطلاقها السعة في العمل من حيثية الخبرين، بمعنى أنهما لا

يصلحان للتنجيز، لعدم الأثر لهما، وهو لا يقتضي التخيير المستلزم لعدم جواز الخروج عنهما بل التساقط.

وثانياً: أن ظاهر الحديث كون المسؤول عنه اختلاف المجتهدين في حق العامي، لا اختلاف الروايتين في حق المجتهد، والتخيير في الأول لا يستلزم التخيير في الثاني.

ومجرد استناد كل من المجتهدين لروايته لا يستلزم تحقق موضوع التخيير بين الروايتين في حق العامي، لإمكان عجزه عن تنقيح موضوع الحجية فيهما أو عدم المرجح لإحداهما.

ص: 261


1- الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 5.

هذا، وأما اضطراب متن الحديث، لعدم وضوح مرجع الضمير في «بأخذه» لأن الاعتقاديات تبين بأنفسها، ولا يبين وجوب أخذها، والعمليات تقع بنفسها موضوعاً للأمر والنهي، ولا يقع أخذها موضوعاً لهما.

فهو لا يخل ظاهراً بالاستدلال به، لوضوح المقصود منه وهو التعارض المسبب عن الاختلاف. فتأمل.

وهناك بعض الوجوه الأخرى من الإشكال في الاستدلال تعرض لها غير واحد لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق.

الثاني: صحيح ابن مهزيار

الثاني: صحيح علي بن مهزيار:

«قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (ع): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (ع) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم أن صلهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلهما إلّا على الأرض، فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع (ع): موسع عليك بأية عملت»(1).

بدعوى ظهورها في الحجية التخييرية لكل من الروايتين، لأنها الظاهر من جواز العمل بكلٍ منهما.

وفيه: أنه لما كان وارداً في مورد خاص فلا مجال للتعدي عنه لغيره، لإمكان خصوصية الروايتين المذكورتين في عدم ابتناء اختلافهما على التكاذب والتعارض - كما يظهر من السائل توهمه - بل على الاختلاف في الفضل، المقتضي للسعة في العمل بكل منهما واقعاً، لا السعة الظاهرية الراجعة للحجية

التخييرية. بل ذلك هو الظاهر من الحديث، لصراحة كلام

ص: 262


1- الوسائل ج: 3 باب: 15 من أبواب القبلة حديث: 8 - ورواه أيضاً في ج: 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 44 ولكن أسقط منه قوله في السؤال «فاعلمني....».

السائل في السؤال عن الحكم الواقعي الذي عليه عمل الإمام (ع)، كما أنه المناسب لوظيفته (ع) بيان حكم الواقعة الخاصة العالم بحكمها الواقعي.

الثالث: مكاتبة الحميري

الثالث: مكاتبة الحميري التي رواها الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة عن جماعة فيهم غير واحد من الثقات عن محمد بن أحمد بن داوود الثقة قال: «وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن نوح [روح. ظ]... - إلى أن قال -: تسأل لي بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد.

الجواب: قال: إنّ فيه حديثين أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى فعليه التكبير، وأما الآخر فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً»(1).

وجهالة أحمد بن إبراهيم النوبختي كاتب التوقيع لا توجب التوقف في حجية الخبر بعد إخبار ابن داوود بأن التوقيع بخطه وإملاء الحسين بن روح (رضى الله عنه) الذي يحتمل بل يقرب استناده للحس أو إلى مقدمات تقرب منه.

وأما الدلالة فتقريبها بعين ما سبق في صحيح ابن مهزيار.

كما يظهر الجواب عنه بملاحظة ما سبق فيه، حيث يتضح به ظهور التخيير في المقام في السعة الواقعية، لعدم كون الحديث الثاني مخصصاً

ص: 263


1- الوسائل ج: 4، باب 13 من أبواب السجود حديث 8، وكتاب الغيبة ص 232 طبع النجف الأشرف.

للأول، بنحو يقتضي عدم مشروعية التكبير، بل هي باقية مع ضعف ملاكه المستلزم لضعف مطلوبيته عما هي عليه في سائر موارده.

الرابع: مرسل الحارث بن المغيرة

الرابع: مرسل الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (ع):

«قال: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه»(1).

بدعوى: ظهور التوسعة في التوسعة في العمل بكل من الأحاديث المتعارضة، أو على طبقها، على ما سبق الكلام فيه في معنى التخيير.

واستشكل فيه بعض مشايخنا: بأن مفاده حجية أخبار الثقات، من دون نظر إلى فرض تعارضها الذي هو محل الكلام.

وفيه: - مع أنه لا يحسن التعبير بالسعة عن أصل الحجية في غير فرض التعارض، لأن الحجية كما تقتضي التعذير تقتضي التنجيز المستتبع للضيق، بخلاف التخيير بين الخبرين في فرض حجيتهما ذاتاً، فإنه نحو من التوسعة - أن ذلك لا يناسب قوله (ع): «وكلهم ثقة» الظاهر في دخل وثاقة الكل بنحو المجموع في الحكم بالسعة، لأن حجية كل خبر منوطة بوثاقة راويه فقط، والذي يناط بوثاقة الكل هو السعة مع التعارض، إذ مع وثاقة البعض فقط يجب الاقتصار على روايته.

ومثله الإشكال بأن إطلاق السعة ظاهر في السعة من حيثية تلك الأخبار، وذلك يقتضي التساقط، لا التخيير المستلزم للضيق في الجملة بعدم جواز الخروج عنها عملاً، نظير ما سبق في موثق سماعة.

لاندفاعه: بأن التنبيه فيه على وثاقة الرواة لا يناسب عرفاً التساقط

ص: 264


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 41.

وإهمال الرواية، وإن لم ينافه عقلاً، بل هو قرينةً على تقييد إطلاق السعة وحمله على السعة في العمل بالرواية، لصلوحها لذلك بسبب وثاقة راويها، بخلاف موثق سماعة، حيث لم يتضمن إلا فرض التعارض والتكاذب بين الروايتين المناسب لتساقطهما. فدلالة المرسل على التخيير قريبة جداً، ولا أقل من إشعاره به بنحو يصلح للتأييد.

الخامس: مرسل الحسن بن الجهم

الخامس: مرسل الحسن بن الجهم عن الرضا (ع):

«ثانيها يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق. قال: إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت»(1).

ولعله أظهر نصوص التخيير دلالة، ولا سيما بلحاظ التقييد فيه بعدم العلم بالحق من الخبرين، حيث لا يكون بذلك منافياً لنصوص الترجيح الصالحة للتعبد بتعيين ما هو الحق منهما، بل يكون محكوماً لها حكومةً عرفية.

السادس: مرسل الكليني

السادس: ما أرسله الكليني في كلامه المتقدم، وفي ذيل موثق سماعة السابق، حيث قال: «وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»(2). ودلالته ظاهرة.

السابع: مرفوعة زرارة

السابع: مرفوعة زرارة المتقدمة في نصوص الترجيح، حيث تضمنت التخيير بعد فرض عدم الترجيح حتى بالاحتياط.

الثامن

الثامن: الرضوي: «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها، وهي عشرة أيام، ثم تغتسل، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة. وقد

ص: 265


1- الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 40.
2- الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.

روي ثمانية عشر يوما. وروي ثلاثة وعشرين يوما. وبأي هذه الأحاديث أخذه من جهة التسليم جاز»(1).

وهو وإن كان وارداً في مورد خاص، إلا أن إلغاء خصوصية مورده قريب جداً، لاشتمال المورد على أحكام إلزامية مهمة، وكونه مورداً للعمومات والأصول المتأخرة عن الروايات المذكورة رتبة. ً

فالعمدة في وهن الاستدلال به عدم ثبوت نسبته للإمام (ع)، بل الاطمئنان بعدم كونه له. كما أن ما دل من النصوص السابقة ضعيف أيضاً لا يصلح للاستدلال حتى بلحاظ التعاضد، لعدم كثرة النصوص المذكورة بنحو يمنع من احتمال عدم صدور مضامينها، أو احتفافها بما يمنع من استفادة التخيير منها من القرائن الحالية والمقالية.

معارضة نصوص التساقط لنصوص التخيير
اشارة

ولو فرض صلوحها للاستدلال فهي معارضة بنصوص أخر ظاهرة في التوقف والتساقط، فينبغي النظر فيها أولاً، ثم النظر في كيفية الجمع بينها وبين نصوص التخيير، وهي جملة من النصوص.

الأول: مقبولة بن حنظلة

الأول: مقبولة ابن حنظلة، حيث قال (ع) بعد استقصاء المرجحات وفرض السائل التعادل فيها: «إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2).

وقد يشكل الاستدلال بها..

تارة: بظهورها في زمان الحضور والتمكن من لقاء الإمام ولا تشمل عصر الغيبة.

ص: 266


1- مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 12 وقد حذف منه شيئاً.
2- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.

وأخرى: بأن موردها وهو الخصومة والقضاء لا يناسب التخيير، لأن كلاً من الخصمين يختار ما ينفعه فلا تفصل الخصومة، بل لابد فيه من الترجيح ومع تعذره يتعين التوقف، ولا ينافي التخيير في موارد إمكانه.

ويندفع الأول: بأن احتمال خصوصية زمن الحضور في وجوب التوقف عرفاً إنما هو بلحاظ قرب أمده الموجب لسهولته، وهو يختص بتمكن المكلف من لقاء الإمام، ولا تشعر به المقبولة، لأن مجرد جعل غاية التوقف لقاء الإمام لا يستلزم تمكن السائل منه، وإنما يستلزم صحة فرض وقوعه عرفاً المختص بزمان الحضور.

وبعبارة أخرى: المقبولة مختصة بزمان الحضور الذي لا دخل له عرفاً في الحكم بالتوقف، لا بحال التمكن من لقاء الإمام الذي يحتمل خصوصيته فيه عرفاً.

ولو فرض التشكيك عرفاً في ما ذكرنا وعدم استيضاح إلغاء خصوصية المورد المذكور لأجله أمكنت استفادة العموم لحال الغيبة من عموم التعليل فيها، لظهوره في عدم صلوح كل من الخبرين بسبب التعارض وعدم المرجح للحجية.

على أن الاختصاص بزمان الحضور إنما ينفع في ما إذا أمكن حمل نصوص التخيير على خصوص زمان الغيبة، ليتعين الجمع بينهما بذلك ويرتفع التعارض، ولا مجال له في النصوص المتقدمة، خصوصاً ما روي منهما عن الصادق والرضا (عليهما السلام) (لوضوح استلزام حملها على ذلك تخصيص المورد الممتنع.

ومما ذكرنا من عموم التعليل يظهر اندفاع الثاني، لأن خصوصية

ص: 267

الخصومة والقضاء إنما تناسب التعليل بتعذر التخيير، لا بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، الحاصلة ارتكازاً من العمل بغير حجة الراجع لعدم صلوح كل من المتعارضين ارتكازاً للحجية بسبب التعارض حتى في عصر الغيبة.

نعم، لو كان مصب السؤال والجواب هو الترجيح مع المفروغية عن حجية الروايتين في الجملة كان التعليل منصرفاً إليه، وكان المراد من الاقتحام في الهلكة الترجيح بلا دليل، فلا تدل إلا على تعذر الترجيح، ولا تنافي التخيير مع إمكانه، كما في غير مورد الخصومة.

لكن لا إشعار في السؤال ولا في الجواب بذلك، بل الظاهر السؤال عن الوظيفة العملية في فرض التعارض، ولو كانت هي التساقط. فلاحظ.

الثاني والثالث: مكاتبتا محمد بن علي وداوود بن فرقد

الثاني والثالث: مكاتبتا محمد بن علي بن عيسى وداوود بن فرقد اللتان تقدم الكلام فيهما في أخر نصوص الترجيح المسؤول فيهما عن العلم المنقول عنهم (ع) وأنه قد اختلف فيه فكيف العمل به على اختلافه، وقد تضمنتا أنه كتب (ع):

«ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا»(1).

فإن مقتضى إطلاقهما وإن كان هو التوقف حتى عن الترجيح، إلا أنه لا يبعد تقييدهما بنصوص الترجيح، وحملهما على التعادل، كما أشرنا إليه هناك.

ومما سبق في مقبولة ابن حنظلة يتضح أن اختصاصهما بزمن الحضور - لو تم - لا ينفع في رفع التعارض بينهما وبين نصوص التخيير.

ص: 268


1- تقدم تخريجهما في آخر الكلام في نصوص الترجيح.
الرابع: موثق سماعة

الرابع: موثق سماعة المتقدم في نصوص التخيير، حيث سبق تقريب دلالته على التساقط.

لكن سبق تقريب وروده في وظيفة العامي عند اختلاف المجتهدين لا في وظيفة المجتهد عند اختلاف الأخبار.

الخامس: مرسلة عوالي اللآلي

الخامس: مرسلة عوالي اللآلي، حيث قال بعد ذكر المرفوعة: «وفي رواية أنه (ع) قال: إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله»(1).

هذا، وقد وقع الكلام بينهم في الجمع بين هذه النصوص ونصوص التخيير.

ما تعرض له في الحدائق من وجوه الجمع بين الطوائف
اشارة

وقد تعرض في الحدائق لجملةٍ من الوجوه المذكورة في كلماتهم، والتي ينبغي التعرض لها استقصاء للأقوال..

أولها: حمل أخبار التوقف على الفتوى وأخبار التخيير على العمل

أولها: حمل أخبار الإرجاء على الفتوى والحكم وأخبار التخيير على العمل. قال في الحدائق: «وبه صرح جملة من مشايخنا المعاصرين». وحكى عن بعضهم الاستدلال عليه بالخبر الثاني والثالث المتقدمين في نصوص التخيير. وقد سبق خروجهما عما نحن فيه.

على أن المراد بالحكم والإفتاء إن كان هو تعيين الحكم الواقعي والافتاء به فلا مجال له حتى مع عدم التعارض إذا احتمل الخطأ، وإن كان هو البناء على الحكم الظاهري الذي هو مؤدى الحجة والافتاء به فالخبران المذكوران - بناء على حملهما على التخيير الظاهري - صريحان فيه، كما أن أكثر

نصوص الإرجاء والتوقف ظاهرة في التوقف حتى في مقام العمل، كما هو مقتضى التعليل في المقبولة والسؤال عن العمل في المكاتبتين.

ص: 269


1- مستدرك الوسائل ج:، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.

نعم، المتيقن منها النهي عن العمل بالخبرين المتعارضين والتعويل عليهما ولزوم التوقف من حيثيتهما، لعدم حجيتهما لأنه هو المنصرف من التعليل بالاقتحام في الهلكة في المقبولة ولأن موضوع السؤال في المكاتبتين العمل بالخبرين المتعارضين لا العمل في المسألة مع قطع النظر عنهما، فلا مجال للبناء على لزوم التوقف مطلقاً، لينافي العمل بالأدلة والأصول المتأخرة عنهما رتبة، بل يجوز الرجوع إليها، لتمامية موضوع حجيتها بعد فرض سقوط المتعارضين عن الحجية واليأس عن معرفة الواقع لتعذر الرجوع للإمام (ع).

ومنه يظهر أن مرجع التوقف والإرجاء إلى تساقط المتعارضين، لا انقلاب الأصل في موردهما إلى الاحتياط - كما قد يحكى في الجملة عن الأخباريين - بنحو لا يجوز الرجوع للبراءة أو عموم الرخصة لو كان، وإنما يتم ذلك بناء على ترجيح الموافق منهما للاحتياط، وقد سبق في مباحث الترجيح المنع من ذلك، كما سبق تحديده.

ثانيها: حمل أخبار التوقف على زمن الحضور وأخبار التخيير على زمن الغيبة

ثانيها: حمل خبر الإرجاء على زمن حضور الإمام وحمل خبر التخيير على زمن الغيبة وتعذر الوصول له (ع)، كما صرح به الطبرسي في الاحتجاج، وعن المجلسي في البحار استظهاره، وجرى عليه غير واحدٍ من المتأخرين.

فإن رجع إلى خصوصية زمن الحضور والغيبة - كما يقتضيه الجمود على ما حكي عن بعض الأعاظم - فيظهر ضعفه مما سبق في المقبولة من امتناع حمل نصوص التخيير على خصوص زمان الغيبة.

ومن الغريب ما يظهر من بعضهم من استيضاح عدم العمل بها في عصر الحضور ولزوم حملها على عصر الغيبة، فتكون أخص من نصوص

ص: 270

التوقف لو كان لها عموم.

لأن عدم العمل بها في عصر الحضور موجب لإجمالها، لا لحجيتها في عصر الغيبة.

وإن رجع إلى أن المعيار على التمكن من لقاء الإمام والاطلاع على الحكم الواقعي منه، وتعذر ذلك أو تعسره الذي قد يكون في عصر الحضور أيضاً - كما جرى عليه شيخنا الأعظم وقد يظهر من بعض الأعيان المحققين I ما - فهو جمع بلا شاهد، لأن اشتمال بعض نصوص التوقف على جعل الغاية لقاء الإمام لا يقتضي القدرة على لقائه، كما سبق في المقبولة، بل اشتملت بعض نصوص التخيير على ذلك أيضاً، كمرسل الحارث بن المغيرة المتقدم.

ثالثها: حمل أخبار التوقف على عدم الضرورة والأخرى على الضرورة

ثالثها: حمل خبر الإرجاء على عدم الضرورة للعمل بأحد الخبرين والتخيير على حال الاضطرار للعمل بأحدهما وقد حكاه في الحدائق عن ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي.

وهو جمع تبرعي بلا شاهد، بل يبعد حمل نصوص التخيير على ذلك لندرته.

نعم، قد يستدل له بمرسل سماعة بن مهران المتقدم في آخر الكلام في نصوص الترجيح، الظاهر في اختصاص الترجيح فضلاً عن التخيير بصورة الاضطرار للعمل بأحد الخبرين.

رابعها: حمل التخيير على العبادات والتوقف على غيرها

لكن تقدم الإشكال في التعويل عليه ولزوم حمله على الاستحباب.

رابعها: حمل أخبار التخيير على العبادات المحضة، وأخبار الإرجاء على غيرها من حقوق الآدميين من دين، أو ميراث، أو فرج، أو زكاة، أو

ص: 271

خمس، فيجب التوقف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. كذا ذكره في الحدائق، وحكاه عن الاسترآبادي في الفوائد المدنية، وهو الذي احتمله في الوسائل.

ولا يخفى أنه جمع تبرعي لا شاهد له.

نعم، مقبولة ابن حنظلة التي هي عمدة نصوص التوقف مختصة بالتخاصم والقضاء، وقد سبق أنه لابد من إلغاء خصوصية موردها.

خامسها: حمل التوقف على الاستحباب

خامسها: حمل نصوص الإرجاء على الاستحباب ونصوص التخيير على الرخصة، وقد حكى في الحدائق عن المجلسي في البحار احتماله، وهو المناسب للجمع العرفي بين الأمر أو النهي والترخيص.

لكنه لا يناسب التعليل في مقبولة ابن حنظلة، بل لسانه آب عن ذلك.

مع أن مرجع الإرجاء إلى التساقط وهو قد يكون أوسع عملاً من التخيير.

سادسها: حمل التوقف على النهي عن الترجيح

سادسها: حمل نصوص الإرجاء على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي وحمل نصوص التخيير على الأخذ من باب التسليم، حكى في الحدائق عن بعض مشايخه نقله احتمالاً.

لكن لا قرينة على صرف نصوص الإرجاء على الترجيح مع المفروغية عن الحجية، بل الظاهر منها بيان الوظيفة في المتعارضين مطلقاً، كنصوص التخيير، كما ذكرناه عند الكلام في المقبولة.

سابعها: حمل التوقف على غير المتناقضين

سابعها: حمل خبر الإرجاء على غير المتناقضين، وحمل خبر التخيير على المتناقضين. كذا ذكره في الحدائق، وقال: «نقله بعض شراح الأصول عن بعض الأفاضل».

ص: 272

وكأن مراده بالمتناقضين ما لا يمكن الجمع بينهما عملاً، كما لو تضمن أحدهما الأمر والآخر النهي، وإلا فالتعارض لابد فيه من التناقض ولو بلحاظ المدلول الالتزامي.

وكأن الوجه فيه: اختصاص موثق سماعة المتقدم في نصوص التخيير والآمر بالإرجاء بما إذا كان أحدهما آمراً والآخر ناهياً.

وفيه: - مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في الاستدلال بالموثق على التخيير - أن حمل نصوص التخيير على خصوص ذلك متعذر عرفاً لندرته.

ثامنها: حمل التخيير على المستحبات

ثامنها: حمل أخبار التخيير على أحاديث المندوبات والمكروهات وأخبار الإرجاء على غيرها. احتمله في الوسائل، واستدل عليه بخبر الميثمي الآتي. لكن الظاهر أن الخبر المذكور لا يدل على ذلك بل على الوجه التاسع.

نعم، قد يستدل عليه باختصاص الخبر الثاني والثالث من الأخبار المستدل بها على التخيير، بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بركعتي الفجر نافلته لا فريضته.

لكن سبق أنهما أجنبيان عما نحن فيه من التخيير الظاهري، بل هما متضمنان للسعة الواقعية، التي لا مجال لحمل نصوص التخيير عليها، لظهورها في السعة الظاهرية، بسبب اشتمال بعضها على أخذ الجهل في موضوعها، وآخر على الرد للإمام، وثالث على المرجحات المعلوم ورودها للترجيح الظاهري.

تاسعها: حمل التخيير على ما إذا كان النهي نهي إعافة

مضافاً إلى إباء عموم التعليل في المقبولة عن التخصيص.

تاسعها: حمل نصوص التخيير على ما إذا كان النهي في أحد الخبرين

ص: 273

المتعارضين نهي إعافة، فيحمل الإذن في الآخر على الرخصة ويتخير في العمل بينهما، وحمل نصوص التوقف على غير ذلك. وهو أحد الوجوه المذكورة في الحدائق.

ولا يخفى رجوعه إلى إهمال نصوص التخيير وعدم صلوحها للعمل، إذ مع إحراز كون النهي نهي إعافةٍ لا يحتاج إلى خبرٍ معارضٍ مرخص، فضلاً عن أن يحتاج لنصوص التخيير الموسعة في العمل بأيهما، ومع الشك فيه لا يحرز موضوع نصوص التخيير ليعمل بها، بل حيث كان ظاهر النهي الإلزام كان الظاهر عدم تحقق موضوعها.

مضافاً إلى أن التخيير يكون حينئذٍ واقعياً بين المؤديين لا ظاهرياً بين الحجتين، وقد سبق ظهور نصوص التخيير في التخيير الظاهري.

توجيه الحدائق الاستدلال المذكور بخبر الميثمي

نعم، يتجه ما في الحدائق من الاستدلال على الوجه المذكور بما في خبر الميثمي عن الرضا (ع) الوارد في اختلاف الحديث عن النبي (ص) والأئمة (ع) المتضمن في صدره تقسيم الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة إلى أمر إلزام وفرض ونهي تحريم، وأمر فضل وندب ونهي إعافة وكراهة، وأن الأولين لا يمكن الخروج عنهما ولا يقبل الحديث المخالف لهما، لأنهم (ع) لا يستحلون ما حرم رسول الله (ص) ولا يحرمون ما استحل، بل هم تابعون له، كما كان هو (ص) تابعاً لله تعالى، وأن الذي يسع استعمال الرخصة فيه هو الأخيران، ثم قال (ع): «إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعاً أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله (ص)

ص: 274

والرد إليه والينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله (ص) مشركاً بالله العظيم.

فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله (ص) فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ومأموراً به عن رسول الله (ص) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله (ص) وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة، أو كراهة ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة في ما عافه رسول الله (ص) وكرهه ولم يحرمه. فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله (ص)، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا»(1).

وسنده لا يخلو عن اعتبارٍ، لأن رجاله بين صحيح وموثق عدا محمد بن عبد الله المسمعي، الذي قال في حقه الصدوق بعد رواية هذا الخبر:

«كان شيخنا محمد بن الحسين بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سيء الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي».

وحيث كان سوء الرأي لا يخلو عن إجمال، لإمكان رجوعه لجهات

ص: 275


1- الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 21، عن عيون أخبار الرضا (ع).

لا تنافي الوثاقة كالغلو واعتماد المراسيل، فلا يخرج به عن ظاهر حال ابن الوليد في الاعتماد على حديثه، حيث لم يستثنه في ما حكي عنه من رجال كتاب نوادر الحكمة، ولاسيما مع ما صرح به الصدوق في كلامه المتقدم من رواية ابن الوليد للحديث المذكور الظاهر في اعتماده عليه، وأنه قد رواه من كتاب الرحمة الذي صرح في الفقيه بأنه من الكتب المشهورة التي عليها المعوَّل وإليها المرجع.

وأما دلالته فهو ظاهر في حصر المراد من أخبار التخيير في التخيير الواقعي في موارد الأمر والنهي غير الإلزاميين في مقابل الرخصة ولزوم التوقف في غير الموارد المذكورة. وهو راجع إلى تفسير حال التعارض وبيان منشئه فيها، لا إلى ضرب القاعدة العملية فيها، لما ذكرنا من عدم ترتب العمل على القاعدة المذكورة، للاستغناء عنها مع العلم بحال الأمر والنهي، وعدم إحراز موضوعها مع

الشك فيه، بل لابد من الرجوع للامام في تشخيص حالهما، فيكون تطبيق كبرى التخيير في مورد الشك من وظيفته، كما سبق في صحيح ابن مهزيار ومكاتبة الحميري، لا من وظيفة المكلف الشاك.

وحيث كان هذا الحديث متعرضاً لألسنة نصوص التخيير كان حاكماً عليها حكومة تفسيرية، فيتقدم عليها طبعاً ويكون كاشفاً عن خلل في ظهورها.

ومن ثم جعله شيخنا الأستاذ (قدس سره) مانعاً من البناء على التخيير والعمل بنصوصه.

اللهم إلا أن يقال: الحكومة المذكورة إنما تتم في مثل مرسل الكليني

ص: 276

القابل للحمل على السعة الواقعية، دون مثل مرسل الحسن بن الجهم الذي هو كالصريح في التخيير الظاهري، حيث فرض فيه سؤالاً وجواباً الجهل بالحق من الخبرين الظاهر في المفروغية عن مخالفة أحدهما له، ومرفوعة زرارة المفروض فيها لزوم الترجيح الذي لا مجال له في المورد المذكور.

فلا مجال لدعوى حكومة خبر الميثمي على الخبرين المذكورين ونحوهما حكومةً تفسيرية، ليتقدم عليها، بل هو معارض لها، كسائر أخبار التوقف.

على أنه ظاهر في أن الخبرين المشتمل أحدهما على الأمر أو النهي والآخر على الرخصة متعارضان يكونان مورداً للتخيير أو الرد مع العلم بحال الأمر أو النهي، وللتوقف مع الجهل بحالهما، مع وضوح بناء الأصحاب على الجمع بينهما مع الجهل بالحال بالحمل على الاستحباب أو الكراهة، وخروجهما بذلك عن المتعارضين عرفاً، فهو من هذه الجهة مهجور عند الأصحاب.

بل هو مناف لنصوص الترجيح، لقوة ظهوره في استيفاء حكم صور التعارض وفي عدم الوظيفة الظاهرية فيها، بل مع العلم بحال الأمر والنهي يتعين الرد أو السعة واقعاً، ومع الشك يتعين التوقف من دون إشارة للترجيح. وذلك موجب لوهن الخبر في نفسه ولزوم رد علمه لقائله (ع). ويبقى التعارض بين نصوص التخيير والتوقف مستحكماً.

ومن هنا فقد يدعى لزوم تقديم نصوص التخيير في المقام، لأنها وإن كانت ضعيفة السند مجبورة بعمل الأصحاب، ونصوص التوقف وإن كانت معتبرة السند مهجورة عندهم، حيث كان التخيير هو

المذكور في كلمات

ص: 277

قدماء الأصحاب ومتأخريهم، بل ادعي عدم الخلاف فيه، كما سبق، ولم يعرف التصريح بخلافه أو التفصيل فيه إلا من بعض المتأخرين.

لكن الإنصاف: أن الاكتفاء بذلك في البناء على حجية نصوص التخيير ولزوم البناء عليه في غاية الإشكال، لعدم وضوح عمل الأصحاب بالنحو الكافي في الجبر والوهن، لقلة تحرير المسائل الأصولية في كلامهم واضطراب عملهم فيها، ومنها هذه المسألة.

بل لا طريق لمعرفة رأي من دأبه الاقتصار على تدوين الأخبار من القدماء لأنهم دونوا نصوص التخيير والتوقف معاً، بل لعل نصوص التوقف أظهر تدويناً، لأن أظهر نصوص التخيير دلالة مرسل ابن الجهم ومرفوعة زرارة، ولم يدونا إلا في كتب المتأخرين.

بل يبعد بناء الأصحاب على التخيير في عصور الأئمة (ع) ومن القريب بناؤهم على الرجوع لهم (ع) في كشف الحال، لأنه مقتضى الطبع الأولي، وقد وردت به النصوص في كثير من الموارد، وقد سبق أن ذلك يوجب إجمال نصوص التخيير، لا حجيتها في عصر الغيبة.

بل لم يشر الشيخ (قدس سره) في التهذيب للتخيير، وإنما ذكر في آخر المرجحات ترجيح الخبر الموافق للأصل، وكأنه يرجع للعمل بالأصل بعد تساقط الخبرين، لما هو الظاهر من عدم صلوح الأصل للترجيح حتى بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة.

بل لعل بعض من صرح به قد اعتمد على بعض الوجوه الاعتبارية - نظير ما سبق من الشيخ في الاستبصار - أو على إطلاقات الحجية - كما سبق من المرتضى في الذريعة - أو على ما تضمن أنهم (ع) لا يدخلون

ص: 278

شيعتهم فيما لا يسعهم(1)، بتخيل دلالتها على ذلك، مع الغفلة عن أن المراد انه يسعهم واقعاً لعناوين ثانوية من تقية أو نحوها.

دعوى انجبار نصوص التخيير بعمل الأصحاب

وما أبعد ما بين دعوى: انجبار نصوص التخيير بعمل الأصحاب وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من وهنها بإعراضهم، فإنهم وإن ذكروا ذلك في الأصول إلا أنهم لم يجروا عليه في الفقه، بل مبناهم على الجمع بين النصوص أو ترجيح بعضها من دون إشارةٍ للتخيير.

وإن لم يبعد كون منشأ ذلك منهم التعدي عن المرجحات المنصوصة، ولو احتياطاً كما سبق، لا الإعراض عن التخيير بالنحو المانع من البناء عليه لو تمت نصوصه.

وكيف كان فلا مجال لإحراز اعتمادهم على نصوص التخيير المتقدمة وهجر نصوص التوقف بالنحو الموجب لانجبار الأولى ووهن الثانية.

ولذا لا مجال للبناء على التخيير، لضعف نصوصه دلالةً أو سنداً ومعارضتها بما هو أقوى منها.

هذا، وربما ينسب لبعضهم وجوب الاحتياط، لا بمعنى الأخذ بأحوط الخبرين، فإنه راجع لترجيح الخبر الموافق للاحتياط، الذي سبق الكلام فيه في بيان المرجحات، بل بمعنى التوقف المطلق في الفتوى المستلزم للاحتياط في مقام العمل، لعدم المؤمن، الراجع لتنجز احتمال التكليف على طبق كل من المتعارضين، بنحو يمنع من الرجوع للعموم والأصل المؤمن ونحوهما مما يكون متأخراً رتبةً عن كلا المتعارضين.

وكأن الوجه فيه: العمل بنصوص الإرجاء والتوقف بعد حملها على

ص: 279


1- الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8، 13.

التوقف المطلق.

وفيه: أن ظاهر النصوص المذكورة أو المتيقن منها هو التوقف من حيثية المتعارضين، بمعنى عدم التعويل عليهما لعدم حجيتهما، بل يرجأ معرفة الحق منهما إلى لقاء الإمام، ولا ينافي العمل في المسألة بما يكون متأخراً رتبة عن المتعارضين بعد اليأس عن معرفة الحق منهما، كما أشرنا إلى ذلك في الوجه الأول من وجوه الجمع بين نصوص التخيير والتوقف.

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أنه لا مجال للخروج عما تقتضيه القاعدة في المتعارضين من التساقط. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد العون والتوفيق، والحمد لله رب العالمين.

وينبغي التنبيه على أمور..

ينبغي التنبيه لأمور..
الأول: المراد من التخيير التخيير في المسألة الأصولية

الأول: أنه بناء على القول بالتخيير لا يراد به التخيير في المسألة الفرعية، بمعنى البناء على أن الحكم الشرعي الفرعي هو المطابق للسعة بين المؤديين، نظير التخيير بين القصر والتمام في المواطن الأربعة.

لأن التخيير في المسألة الفرعية إن كان واقعياً لزم انقلاب الحكم الواقعي بسبب التعارض، وهو خلاف ما تسالموا عليه من وحدة الحكم الواقعي في حق العالم والجاهل وإن كان ظاهرياً، فهو مخالف لكلا المتعارضين، بل يعلم بمخالفته للواقع فيما لو علم إجمالاً بصدق أحدهما، ولابد في الحكم الظاهري من احتمال مطابقته للواقع.

مع أن الحكم التخييري إنما يتجه مع تعدد المتعلق ووحدة الحكم، كما لو تعارض الدليلان في القصر والتمام أو الجهر والاخفات، ولا معنى له مع وحدة المتعلق وتعدد الحكم، كما لو تعارضاً في الوجوب والحرمة أو

ص: 280

غيرهما من الأحكام التكليفية أو الوضعية، إذ لا معنى للحكم بالتخيير بين الأحكام.

فلابد من كون المراد التخيير في المسألة الأصولية الراجع إما إلى محض السعة في مطابقة العمل لمفاد كل من الدليلين، نظير أصالة البراءة من كل من الوجوب والحرمة عند الدوران بينهما، أو إلى الحجية التخييرية لكل من الدليلين، على ما سبق في أول الفصل.

وإن كان ظاهر النصوص إرادة الثاني، لظهورها في السعة في العمل بكل من الدليلين والأخذ به، بحيث يكون طريقاً للواقع وحجة عليه في الجملة، وهو الذي يظهر من جماعة.

الثاني: هل التخيير للمفتي أو يعم المستفتي؟
اشارة

الثاني: هل التخيير وظيفة للمفتي الناظر في الأدلة، فإذا اختار أحد الخبرين المتعارضين لزمه الفتوى بمضمونه معيناً، وتعين على المستفتي العمل عليها، ولا موضوع للتخيير في حقه. أو للمستفتي أيضاً، فليس للمفتي إلا أن يخبر بوجود المتعارضين ويخير في العمل بأحدهما، ويكون الاختيار للمستفتي في مقام العمل؟

وجهان.. صرح بالأول بعض الأعاظم (قدس سره) مدعياً ابتناء ذلك على ما تقدم من كون التخيير في المسألة الأصولية.

لكنه غير ظاهر، لوضوح أنه لو كان المراد بالتخيير محض السعة في مقام العمل من دون حجية لأحد الخبرين فلا وجه لفتوى المجتهد بمضمون أحد الخبرين تعييناً، بل يلزمه الفتوى بالسعة الظاهرية نظير فتواه بها عند الدوران بين الوجوب والحرمة.

وكذا لو كان المراد به الحجية التخييرية، بناءً على ما سبق من تفسيرها

ص: 281

بكون كل من الخبرين حجة فعلاً للمكلف ومجموعهما حجة عليه، حيث لا وجه لإلزامه في مقام الفتوى بمضمون أحدهما مع عدم حجيته بعينه على المكلف، بل هو حجة له لا غير، وليس الحجة عليه إلا مجموعهما.

وأما لو كان المراد به حجية كل منهما تعييناً على تقدير اختياره، دون الآخر - كما هو الظاهر منهم - فما ذكره إنما يتم على أحد أمرين..

أولهما: كون وظيفة المجتهد الفتوى على طبق ما هو الحجة عليه، لا على المقلد، حيث لا إشكال في أن اختيار المجتهد لأحد المتعارضين موجب لحجيته عليه، فله الفتوى بمضمونه للعامي، وإن لم يكن حجة عليه، لعدم اختياره له.

ثانيهما: كون اختيار المجتهد لأحد المتعارضين موجباً لحجية ما يختاره حتى على المقلد، ففتواه على طبقه فتوى له بما هو الحجة في حقه أيضاً لا في حق نفسه فقط.

ويشكل الأول: بأنه لا وجه لعمل العامي بمقتضى الحجة الثابتة في حق المجتهد غير الثابتة في حقه، بل اللازم عليه العمل بمقتضى الحجة الثابتة عليه، غايته أن تعذر تشخيص مؤدى حجته عليه موجب لرجوعه للمجتهد فيه، ففتوى المجتهد بمقتضى سائر الحجج ليس لحجيتها عليه، بل لحجيتها على العامي أيضاً، بمقتضى إطلاق دليل الحجية الشامل لجميع المكلفين.

ولذا لو فرض اختلاف حجة المجتهد عن حجة العامي لم يجز للمجتهد الفتوى بمقتضى حجته، بل وجب عليه الفتوى بمقتضى حجة العامي. مثلاً لو كانت رواية المرأة حجة في حق النساء دون الرجال، وورد

ص: 282

عموم في رواية الرجل مخصص برواية المرأة، وجب على المجتهد الرجل العمل في حق نفسه والفتوى للرجال بمقتضى العموم، والفتوى للنساء بمقتضى الخاص.

ومجرد تعذر الرجوع للحجة على العامي لا يمنع من حجيتها عليه، لأن المتعذر الرجوع لها بالمباشرة والتعرف على مفادها، دون الرجوع لها بتوسط المجتهد وأخذ مفادها منه، وهو كافٍ في صحة جعلها عليه.

ومنه يظهر أن انفراد المجتهد بتعيين الحجج وتشخيصها ليس لاختصاصه بحجيتها، بل لاختصاصه بالقدرة على معرفتها، مع عموم الحجية التي يدركها للعامي، ولذا يفتي له بمؤداها.

وأما الثاني فهو مخالف لظاهر أدلة التخيير، لظهورها في كون الاختيار وظيفة للمكلف في مقام العمل بالمتعارضين، لا في مقام الفتوى على طبق أحدهما، فكما يكون للمجتهد الاختيار في مقام العمل يكون للمقلد. وقيام المجتهد مقام المقلد في الاختيار محتاج إلى دليلٍ مفقود.

وليس هو كقيامه مقامه في الفحص عن الأدلة وتعيينها، لأن الفحص عن الأدلة لا دخل له بحجيتها، بل هي حجة في حق الفاحص عنها وغيره، ولا أثر للفحص إلا إثبات موضوع الحجية، وتعذر الإثبات على العامي يقضي باتكاله على المجتهد فيه، بخلاف التخيير في المقام، حيث هو دخيل في حجية الخبر المختار ثبوتاً.

ودعوى: أن التقليد مختص بالأحكام الفرعية، لا بمقدمات استنباطها من المسائل الأصولية واللغوية وغيرها، والتخيير حكم أصولي فلا تقليد فيه، ولا في تنقيح موضوعه وهو التعارض.

ص: 283

ممنوعة، لعموم أدلة التقليد من السيرة العقلائية الارتكازية وغيرها.

ولذا لو فرض ظهور خطأ المقلد الأعلم لمقلده في بعض مقدمات الاستنباط، فحيث لا مجال لاعتماده على فتواه بالحكم الفرعي المبتنية على المقدمة المذكورة، لقصور أدلة التقليد عن صورة العلم بخطأ المستند، ولا على فتوى غيره ممن يخطئه هو في مقدمات اجتهاده ولم يظهر للمقلد إصابته فيها، لقصور الأدلة المذكورة أيضاً عن فتوى المفضول مع تخطئة الأفضل له، تعين للمقلد الاعتماد على ما توصل إليه من مقدمات الاجتهاد التي خطأ فيها الأعلم والرجوع له في بقيتها مما لم يظهر له خطؤه فيه من مسألة أصولية أو غيرها، ثم العمل على الحكم الفرعي المستنبط من المجموع وإن خالف ما استنبطه مقلده، كما استقربه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) في آخر الكلام في التجري.

وليس الرجوع للمجتهد في بعض مقدمات الاستنباط إلا كرجوع المجتهد لعلماء الرجال أو اللغة، بناءً على أنه من الرجوع لأهل الخبرة. وإنما يعمل بفتوى المجتهد بالحكم الفرعي المستنبط من مجموع المقدمات الثابتة بنظره غالب العوام ممن لا يتيسر له الاجتهاد في شيءٍ من المقدمات.

ففي المقام حيث يتعذر على المجتهد الفتوى للعامي بالحكم الفرعي، لتوقف حجية الدليل الذي يعتمد عليه في الفتوى في حق العامي على اختيار العامي نفسه، تعين له بيان مقدمات الاستنباط المتيسرة له وإيكال الاستنباط للعامي بعد أن يستقل بالاختيار المتمم لمقدماته، كما تقدم في الوجه الثاني، وهو الذي اختاره شيخنا الأعظم (قدس سره)، وذكر أنه المحكي عن جماعة، بل قيل إنه مما لا خلاف فيه هذا كله في الفتوى.

ص: 284

وأما الحكومة والقضاء فقد استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن التخيير فيها وظيفة للحاكم.

معنى التخيير في الحكومة والقضاء

وما ذكره في محله، لا لما قيل من أن تخيير المتخاصمين لا ترتفع معه الخصومة، لعدم وضوح الخروج بذلك عما تقتضيه القواعد.

بل لما ذكره (قدس سره) من أن القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخير. أما بالإضافة لكيفية الحكم وأحكام الدعوى فظاهر، إذ لا أثر لها بالإضافة لغيره من المتخاصمين أو غيرهما.

وأما بالإضافة للحق المتخاصم فيه فهو وإن كان مورداً لعمل المتخاصمين وغيرهما، إلا أن ذلك إنما يقتضي رجوع العامل لما هو الحجة في حقه في مقام العمل، فيتخير في المقام المذكور، لا في فصل الخصومة، الذي هو وظيفة للحاكم، بل اللازم فيه على الحاكم الرجوع لما هو الحجة في حقه، ولذا يجب عليه العمل بمقتضى الحجة الظاهرية في حقه من الطرق والأمارات والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية والحكمية وإن علم بعدم حجيتهما في حق أحد المتخاصمين أو كليهما، لانكشاف الواقع لهما بالعلم الذي لا مجال معه للحكم الظاهري.

ما لو لزم من حكم الحاكم مخالفة إجمالية

نعم، قد يستشكل فيه بالنظر لما ذكروه فيما لو لزم من حكمه في واقعتين مخالفة إجمالية، كما في من أقرّ بعين لشخص، ثم أقرّ بها لآخر، حيث يحكم عليه بها للأول وبقيمتها للثاني اعتماداً على الإقرارين المعلوم كذب أحدهما، فإن العلم الإجمالي المذكور يسقط حجية الإقرارين في حقه، كما يسقطهما في مقام العمل لو ابتلي الحاكم أو غيره بالعين والقيمة معاً بميراث أو غيره.

ص: 285

لكن ذلك لا يكشف عن كون المعيار في الحكم على الحجة في حق المتخاصمين، لما أشرنا إليه من عدم العبرة بعلمهما التفصيلي، فضلاً عن الإجمالي.

دفع الإشكال بوجهين

وربما يدفع الإشكال المذكور بأحد وجهين..

أولهما: أن ابتلاء الحاكم بكل من الطرفين، لا يكون بمجرد الإقرار، بل بالتخاصم فيهما إليه وإرادة الحكم فيهما، وحيث كان الحكم فيهما تدريجياً فلا ابتلاء حين الحكم في كل طرف إلا به، فلا يصلح العلم الإجمالي للتنجيز حينئذ ليسقط الإقرار عن الحجية فيه.

ثانيهما: أن موضوع الولاية على الحكم والقضاء ليس هو الحق الواقعي، بنحو يكون العلم والحجج طرقاً محضة، كما هو الحال في أحكام الحق الأخرى، ليمتنع الحكم على خلاف العلم التفصيلي أو الإجمالي الذي هو حجة ذاتية، كما يمتنع العمل في أحكامه الأخرى على خلافه، بل موضوعه شرعاً العلم أو قيام الحجة بنحو لا يكون الحكم بدونهما مشروعاً واقعاً ولا نافذاً وإن أصاب الواقع، وحينئذٍ للشارع الحكم بعدم مانعية العلم الإجمالي من القضاء على طبق الحجة في كل مورد بنفسه من إقرار أو غيره مع قطع النظر عن المورد الآخر. بل يمكن منه الحكم بعدم مانعية علمه التفصيلي بخطأ الحجة. فلاحظ.

هذا، وقد يستشكل في الرجوع للتخيير في خصوص القضاء لمقبولة ابن حنظلة الواردة فيه والحاكمة بالإرجاء والتوقف، فتصلح لتخصيص إطلاقات التخيير.

ويندفع: - مضافاً إلى ما سبق من أن مقتضى عموم التعليل في المقبولة

ص: 286

عدم اختصاصها بالقضاء، فتكون معارضة لنصوص التخيير، لا أخص منها - بأن مورد المقبولة اختلاف الحكمين الصادرين من حاكمين تبعاً لاختلاف روايتيهما، لا اختلاف الروايتين في حقّ حاكمٍ واحد، الذي هو محل الكلام، فلا مخرج فيه عن إطلاقات التخيير لو تمّت.

الثالث: هل التخيير ابتدائي أم استمراري

الثالث: هل التخيير لو قيل به في المقام ابتدائي، فيجب الجري في جميع الوقائع على طبق ما يختار في الواقعة الأولى، كما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس سره) وصرح به بعض الأعاظم (قدس سره) جاعلاً ذلك من ثمرات كون التخيير في المسألة الأصولية، أو استمراري، فيجوز الاختلاف بين الوقائع في ما يختار، كما صرح به المحقق الخراساني (قدس سره) ووافقه سيدنا الأعظم (قدس سره)، وقيل إنه المحكي عن العلامة، وأنه المحكي نسبته للمحقّقين.

والأول وإن كان هو مقتضى الاقتصار على المتيقن، للشك في حجية ما يختار في الوقائع اللاّحقة على خلاف ما اختير في الوقائع السابقة، إلا أنه قد استدل للثاني..

الاستدلال للتخيير الاستمراري

تارة: بإطلاقات نصوص التخيير.

وأخرى: بالاستصحاب.

والإشكال في الإطلاقات بأنها واردة لبيان حكم المتحير في الواقعة الأولى الذي لم يختر أحد الخبرين ولم يكن حجة رافعة لتحيره.

مدفوع: بأن التحير بالنحو المذكور لم يؤخذ في موضوع التخيير وإنما استفيد من فرض السؤال عن الوظيفة العملية فيهما، وحيث كانت الوظيفة قابلة للتخيير الابتدائي والاستمراري، فالتحير من هذه الجهة لا يرتفع بالاختيار في الواقعة الأولى، ولابد من الرجوع في تعيين الوظيفة

ص: 287

العملية من هذه الجهة إلى إطلاق السؤال والجواب، وهو تابع للعنوان المأخوذ في النصوص، وحيث كان هو تعارض الخبرين الباقي في جميع الوقائع من دون أن يرفعه الاختيار في الواقعة الأولى كان مقتضى الإطلاق هو التخيير الاستمراري.

ولاسيما مع مناسبته للتعبير في بعض النصوص بالأخذ من باب التسليم، لوضوح أن اختيار أحد الخبرين لا يخرج الآخر عن قابلية الأخذ من باب التسليم.

بل قوله (ع) في مرسل الحارث ابن المغيرة: «فموسع عليك حتى ترى القائم» صريح في استمرارية التخيير.

هذا كله بناء على رجوع التخيير للحجة المعلقة على الاختيار، أما بناء على رجوعه إلى كون كل منهما حجة فعلية للمكلف ومجموعهما حجة عليه - كما تقدم أنه الظاهر - أو إلى محض السعة في مقام العمل، فالأمر أظهر لوضوح أن اختيار العمل على طبق أحدهما في الواقعة الأولى لا يوجب تعين مضمونه فيها، فضلاً عن بقية الوقائع، فارتفاع التحير بنفس البيان القاضي بالسعة لا بالاختيار.

ومما سبق يظهر أنه لا مجال للإشكال في الاستصحاب بتبدل الموضوع، لارتفاع التحير بعد الاختيار. نعم، لما كان التمسك بالاستصحاب في فرض عدم الإطلاق فاحتمال اختصاص التخيير

بالواقعة الأولى مساوق لاحتمال تبدل الموضوع الذي هو مانع من التمسك بالاستصحاب كاليقين بتبدله.

ودعوى: التسامح العرفي في ذلك، قد سبق الإشكال فيها في مبحث

ص: 288

الاستصحاب. مضافاً إلى أنه بناء على رجوع الحجية التخييرية لحجية كل منهما معيناً على تقدير اختياره تكون الحجية التخييرية تعليقية لا محال لاستصحابها، لعدم جريان الاستصحاب التعليقي، بل الجاري الاستصحاب التخيري، وهو في المقام استصحاب حجية ما اختاره أولاً دون الآخر، بناء على جريان استصحاب الحجية كما هو غير بعيد. وهو يوافق التخيير الابتدائي عملاً.

نعم، بناء على ما سبق مناّ في معنى الحجية التخييرية تكون تنجيزية لا بأس باستصحابها لولا ما ذكرنا من احتمال تبدل الموضوع.

وقد تحصل من جميع ما سبق: أن التخيير استمراري عملاً بإطلاق النصوص.

نعم، قد ينشأ منه علم إجمالي منجز، كما في الموارد التي يلزم من فوت الواقع فيها تكليف بالتدارك قضاء أو إعادة، أو بمثل الفدية والكفارة، كما في القصر والإتمام، فإن اختلاف العمل فيهما في واقعتين مستلزم للعلم الإجمالي ببطلان أحد الفعلين المستلزم لتداركهما معاً.

إلا أن يبنى على عدم وجوب تدارك ما وقع عن اجتهاد أو تقليد مشروع مطلقاً، أو في خصوص المقام، لاستفادته من نصوص التخيير، كما هو غير بعيد.

ثم إن لازم كون التخيير ابتدائياً أن المكلف لو نسي ما اختاره أولا يلزمه التوقف، لاشتباه الحجة باللاحجة عليه المانع من العمل بكل منهما في خصوص مفاده، بل يعمل على القدر المشترك بينهما.

ودعوى: تحقق موضوع التخيير الابتدائي في حقه حينئذٍ، لرجوع

ص: 289

التحير له وفقده للحجة.

مدفوعة: بأن موضوع التخيير الابتدائي - بناء على ما سبق - هو التحير الناشيء من التعارض الموجب لعدم حجية كل منهما رأساً لولا الحكم بالتخيير، وهو لم يعد بسبب النسيان، لأن التحير فيه مسبب عن نسيان الحجة منهما المانع من العمل به في خصوص مؤداه، لا من حجيته رأساً، بل يعمل به في القدر المشترك.

ص: 290

الفصل الثالث : في لواحق الكلام في مفاد أدلَّة المتعارضين الخاصة
اشارة

تعرض الأصحاب لجملة من المباحث لا تخص أحد الفصلين السابقين لنلحقها به، بل هي تجري في كليهما، ولأجله جعلنا الكلام فيها في فصل يخصها.

وفيه مسائل..

وفيه مسائل:
المسألة الأولى
اشارة

المسألة الأولى: سبق في أوائل الكلام في التعارض أن الكلامين المتنافيين بظاهرهما مع الجمع العرفي بينهما، لكون أحدهما قرينة على الآخر عرفاً، وإن كانا متعارضين في مقام البيان والدلالة إلا أنهما غير متعارضين في مقام الحجية، لأن مرجع الجمع العرفي بينهما إلى ارتفاع موضوع حجية أحدهما بسبب الآخر، وتعين العمل على القرينة وإهمال ظهور ذي القرينة البدوي، ولا يشملهما حكم التعارض.

وهو ظاهر في أحكام التعارض الأولية مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة، وأما بالنظر إليها فهو موقوف على ظهورها في أن موضوعها التعارض في مقام الحجية المستتبعة للعمل.

ص: 291

أما لو كان هو التعارض في مقام البيان والدلالة تعين شمول أحكام التعارض التي تضمنتها - من الترجيح والتخيير أو التساقط - لموارد الجمع العرفي، وتكون الأدلة المذكورة رادعة عن الجمع العرفي، وكاشفة عن خصوصية في الأخبار مانعة منه.

ظاهر النصوص صدق التعارض بمجرد الاختلاف في الدلالة

إذا عرفت هذا، فأكثر النصوص الخاصة قد اشتمل على عنوان الاختلاف بين الأخبار، والظاهر صدقه بمجرد الاختلاف في مقام البيان والدلالة.

إلا أن ورودها مورد التحير في الوظيفة - كما يناسبه حال السائل في أكثرها - موجب لانصرافها عن موارد الجمع العرفي، لعدم التحير فيه بحسب الطبع الأولي، والاحتياج للسؤال فيها يتوقف على المفروغية مسبقاً عن ردع الشارع عن الجمع العرفي، ولا إشعار في النصوص المذكورة بالمفروغية عن ذلك. ومن ثم كانت منصرفة إلى ما يتوقف العرف معه عن العمل بطبعهم لعدم وضوح وجه الجمع فيه لهم.

وأولى بالاختصاص بذلك مرفوعة زرارة المتضمنة لعنوان التعارض، لما سبق في تعريفه من أن المناسبة المصححة لإطلاقه كون كل من المتعارضين مانعاً من العمل بالآخر.

وكذا ما استفيد منه فرض التعارض من دون تصريح بلفظه - كمرسل الحارث بن المغيرة المتقدم في نصوص التخيير - لأن المتيقن منه إرادة ذلك.

ولعل هذا هو الوجه في سيرة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في مقام الاستدلال على اعتماد الجمع العرفي، كما يظهر بأدنى نظر في كلماتهم في

ص: 292

أبواب الفقه. بل الظاهر الإجماع منهم في الفقه والأصول على بعض أنحاء الجمع العرفي، كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ونحوهما.

كما لا يظهر منهم الفرق في الجمع العرفي بين الأخبار التي هي موضوع نصوص التعارض، وبين غيرها، كالبيانين الكتابيين، أو البيان الكتابي والخبر.

وما ذلك إلا لعدم استظهارهم من نصوص التعارض الردع عن الجمع العرفي بين الأخبار، بل يجري فيها كما يجري في غيرها مما لم تتعرض له نصوص التعارض.

وكفى بهذه السيرة والإجماع دليلاً في المقام على جريان الجمع العرفي في الأخبار، وقرينة على عدم نهوض أخبار التعارض بالردع عنه لو فرض التشكيك في ما سبق في مفادها.

استظهار عموم التعارض لموارد الجمع العرفي ودفعه

هذا، وقد يستظهر من بعض الأخبار عموم التعارض لموارد الجمع العرفي، كصحيح علي بن مهزيار المتقدم في نصوص التخيير، لأن مقتضى الجمع العرفي حمل الأمر بصلاة ركعتي الفجر على

الأرض على الأفضلية، ولم يستغن السائل به عن السؤال عن تعارضهما، ونحوه صحيحه الآخر: «قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (ع): جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه إنما حرم شربها. وروى (عن) غير زرارة(1) عن أبي عبد الله (ع): أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت

ص: 293


1- كذا في الوسائل وفي الكافي والتهذيب والاستبصار: «وروى غير زرارة».

فيه فأعد صلاتك فأعلمني ما أخذ به. فوقّع (ع) بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (ع)»(1)، فإن مقتضى الجمع بين الخبرين حمل الثاني على الاستحباب.

ويندفع: بأن الصحيحين ونحوهما لما كانت واردةً في مواردٍ خاصة فربما كان السائل فيها قد خفي عليه وجه الجمع بين الخبرين، إذ لا يجب في الجمع العرفي أن يفهمه كل أحد، بل قد يكونان محفوفين عنده بقرائنٍ داخلية أو خارجية تمنع من الجمع المذكور، كما هو القريب في مورد الخبر الثاني، لعدم مناسبة الكراهة للاحتياط بغسل الثوب كله، ولا لإعادة الصلاة الواقعة به.

على أن مقتضى الجمع العرفي لما لم يكن واقعياً قطعياً، بل كان ظاهرياً ظنياً فهو لا يمنع من السؤال الموصل للحكم الواقعي، وليس هو كالسؤال في أخبار التعارض العامة، لأن الغرض منه لما كان هو معرفة الوظيفة الظاهرية كان منصرفاً عما إذا كانت معلومة بسبب الجمع العرفي.

ثم إنه قد يظهر الخروج عما ذكرنا من كلام غير واحد من الأصحاب، مثل ما ذكره الشيخ (قدس سره) في مقدمة الاستبصار من تقديم الترجيح بصفات الراوي من العدالة والعدد على الترجيح بقوة الدلالة بتقديم ما لا يمكن تأويله على ما يمكن تأويله، وما ذكره في (العدة)(2) من تأخر الترجيح بقوة الدلالة عن جميع المرجحات من موافقة الكتاب والسنة والإجماع وصفات الراوي وكثرة الرواة والمخالفة للعامة، وما ذكره في بعض الفروع الفقهية من

ص: 294


1- الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث 2.
2- العدة ج 1 ص: 55.

حمل الخاص على التقية وإهمال الجمع العرفي بينهما بتخصيص العام. وما في الحدائق من إنكار الجمع بين الأمر أو النهي مع الرخصة بالحمل على الاستحباب أو الكراهة، لدعوى خلو أخبار العلاج عنه. وما عن المحقق القمي من أن اللازم تقديم الخاص على العام من حيثيتهما مع قطع النظر عن المرجحات الخارجية التي قد تقتضي تقديم العام لموافقته للكتاب أو مخالفة للعامة، إلى غير ذلك مما قد يعثر عليه الناظر في كلماتهم وإن لم يسعنا استقصاؤها في هذه العجالة.

لكن من القريب حمل ما في الاستبصار والعدة على التأويل الخارج عن الجمع العرفي وإن كان مع قوة دلالة أحد الدليلين، لأن مجرد قوة الدلالة لا تكفي في الجمع العرفي ما لم تستلزم قرينية الأقوى عرفاً على المراد من الآخر، على ما تقدم في محله.

وإلاّ فتحكيم نصوص العلاج في موارد الجمع العرفي قاض بإلغائه رأساً وعدم كون قوة الدلالة مرجحاً لو بني على الاقتصار على المرجحات المنصوصة، وإن بني على التعدي عنها فلا وجه لتأخره عن بقية المرجحات، بل يكون في عرضها، أو مقدماً عليها، لتقدمه طبعاً بنظر العرف. فلاحظ.

كما أن ما سلكه في بعض المسائل الفقهية من حمل الخاص على التقية وتقديم العام قد يكون مبنياً على استفادة التقية في الخاص من قرائن خارجية - كفتوى الأصحاب ونحوها - مسقطة للخاص عن الحجية رأساً مع قطع النظر عن العام.

وإلا فقد خص في العدة(1) التعارض بالعامين وصرح بوجوب حمل

ص: 295


1- العدة ج 1 ص: 153.

العام على الخاص جمعاً، وأنه لا يجري عليهما حكم المتعارضين، وهو المطابق لسيرته في فقهه.

وأما ما ذكره في الحدائق وقد يستفاد من غيره من المحدثين فهو راجع إلى إنكار الجمع المذكور، لا إلى إنكار جميع أنحاء الجمع العرفي، كيف وكتابه مملوء بالجري على مقتضى الجمع العرفي بوجوهه المختلفة، كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد وغيرهما.

بل قد جرى في كثير من الموارد على استفادة الكراهة والاستحباب من الجمع بين النصوص، ككراهة الأكل والشرب والخضاب للجنب، واستحباب المضمضة والاستنشاق قبل الغسل، والاغتسال بصاع وغيرها. فكأن مراده مما تقدم ما إذا لم يكن الجمع بما تقدم عرفياً، لخصوصية في المورد أو أنه ناشئ عن الغفلة عن جمع العرف بالوجه المذكور.

كما أن ما ذكره المحقق القمي قد يتجه على مبناه من أن الرجوع للأخبار ليس لحجيتها بالخصوص، بل لإفادتها الظن بمقتضى دليل الانسداد، حيث قد يحصل الظن من العام الموافق للكتاب أو المخالف للعامة دون الخاص أو المخالف له أو الموافق لهم. على أن التزامه بذلك في فقهه بعيد جداً.

وكيف كان، فلا مجال للخروج بهذه الكلمات ونحوها عما هو المعلوم من رأيهم في الأصول وسيرتهم في الفقه على متابعة الجمع العرفي وخروج المورد به عن التعارض موضوعاً وحكماً.

وما أكثر ما خرجوا عن مبانيهم العامة في طرق الاستدلال بالأدلة أو الأصول العملية في خصوص بعض الموارد غفلة عن كبريات تلك

ص: 296

المباني أو عن صغرياتها، أو للاقتناع بالحكم بنحو يكون الاستدلال عليه للاستظهار على الدعوى، لا لتوقف معرفته عليه، حيث قد يوجب ذلك الغفلة أو التسامح في الاستدلال، من دون أن يخل ذلك بمعرفة مبانيهم العامة وقواعدهم المسلمة بينهم المعوَّل عليها عندهم. ونسأله سبحانه وتعالى العصمة من الزلل في القول والعمل.

المسألة الثانية: في العامين من وجه

المسألة الثانية: الدليلان المعارضان بظاهرهما إذا كان كل منهما صالحاً للقرينية على الآخر عرفاً من دون أن يتعين أحدهما لها - كالعامين من وجه والدليلين اللذين يكون أحدهما ظاهراً في الوجوب قابلاً للحمل على الاستحباب والآخر بالعكس - فقد سبق أنهما حجة في نفي الثالث، لأنهما بحكم المجمل المردد بين وجهين الذي له متيقن في البين، حيث لا يمنع إجماله من حجيته في المتيقن.

وأما بالإضافة إلى مورد التعارض فهو يبتني على شمول أخبار العلاج لمثل هذا التعارض، حيث قد يدعى قصورها عنه، لعدم التصادم عرفاً بين الخبرين، بل بين ظهوريهما، فلا مخرج عن أصالة الصدور في كل منهما، المقتضية للتساقط، حيث يكونان كالكلام الواحد الذي تصادم فيه ظاهران في البناء على الإجمال، غايته أن الإجمال في الكلام الواحد بدوي، وفي الكلامين من المذكورين عرضي.

لكنه يندفع بما سبق من أن أكثر نصوص العلاج قد تضمن عنوان الاختلاف الصادق في موارد الجمع العرفي، فضلاً عن محل الكلام، وإنما انصرفت عن موارد الجمع العرفي بقرينة ظهور السؤال فيها في التحير وعدم معرفة الوظيفة العملية من المتعارضين، وهذا لا يجري في محل الكلام،

ص: 297

فيلزم شمول الإطلاق له، خصوصاً مقبولة ابن حنظلة، لما يأتي.

وكون التصادم في المقام بين الظهورين لا يمنع من ذلك، لأن اختلاف النصوص وتعارضها حتى في المتباينين إنما هو بلحاظ ظهوراتها.

وظاهر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) خصوصية العامين من وجه ونحوهما مما لا يمنع التعارض فيه من العمل به في الجملة ولو في غير مورد المعارضة.

لدعوى: انصراف نصوص العلاج إلى ما إذا أوجب التعارض التوقف عن المتعارضين رأساً، دون ما إذا بقي التعبد بسنديهما لانفراد كل منهما بمورد يعمل به فيه.

وذكر أن ذلك هو الوجه في تسالم الأصحاب على البناء فيهما على التساقط في مورد الاجتماع، كما نقله غيره أيضاً عنهم، مع بنائهم في المتعارضين على التخيير.

لكن لا يتضح منشأ الانصراف المذكور بنحو يخرج به عما عرفت من الإطلاق، خصوصاً في مقبولة ابن حنظلة الواردة في اختلاف الروايتين الموجب لاختلاف الحكمين، لوضوح أن الحاكم كما يعتمد في مورد الخصومة على دليل يخصه يعتمد على دليل يعمه وغيره، فلا يبعد عن مورد السؤال اختلاف الروايتين بالعموم من وجه.

وبعبارة أخرى: ليس فرض اختلاف الروايتين في المقبولة ابتداء، ليدّعى انصرافه عن مثل العامين من وجه، بل بتبع فرض اختلاف الحكمين، ومن الظاهر أن اختلافهما قد يستند لاختلاف دليليهما بالعموم من وجه.

وأما تسالم الأصحاب على التساقط في العامين من وجه فليس هو إلا

ص: 298

في الفقه في مقام الاستدلال، وقد سبق عدم رجوعهم فيه للتخيير حتى في المتباينين وإن ذكره بعضهم في الأصول، وأما في الأصول فيقل تحريرهم لهذه المسألة، وقد صرح الشيخ في العدة ومقدمة الاستبصار بالرجوع للتخيير فيما لو أمكن تأويل كل من المتعارضين على ما يطابق الآخر من دون مرجح لأحد التأويلين، وهو شامل لما نحن فيه، ولعله لذا كان ظاهر شيخنا الأعظم (قدس سره) البناء فيه على التخيير.

وكيف كان، فلا مجال للبناء على قصور الأخبار العلاجية عن شمول مثل العامين من وجه.

في جريان المرجحات السندية

نعم، قد يستشكل في جريان المرجحات السندية - كالشهرة في الرواية وصفات الراوي - فيهما، لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه لا وجه لإعمالها على الإطلاق، لأنه يوجب طرح الخبر المرجوح في غير مورد التعارض، ولا لإعمالها في خصوص مورد التعارض مع العمل بالمرجوح في غيره، لأنه بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية، بل صرح بعض الأعاظم (قدس سره) بامتناعه، لأن الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في المدلول من حيثية الصدور، بأن يكون صادراً في بعض مدلوله دون بعض.

وانحلال العموم الذي تضمنه إلى أحكام متعددة لا يوجب تعدده.

وأما ما يظهر من بعض مشايخنا وأشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم رجوع المرجح الصدوري إلى ترجيح صدور أحد الخبرين على الآخر، بل إلى ترجيح مضمون أحدهما، ولا مانع من التعبد ببعض مضمون الخبر دون بعض، لرجوعه إلى إلغاء عموم الخبر دون صدوره.

ففيه: أن المنساق من الترجيح بحسب الصدور ليس هو التعبد

ص: 299

بالمضمون ابتداء، بل تبعاً لترجيح صدور نفس الخبر الذي تضمنه، لقيام المرجحات من الأوثقية والشهرة ونحوهما به، لا بالمضمون.

ما ينبغي ان يقال في مفاد المرجح الصدوري

فالأولى أن يقال: ليس مرجع الترجيح الصدوري إلى تكذيب المرجوح والحكم بعدم صدوره، ليمتنع التفكيك في الصدور بين أجزاء مضمون الخبر الواحد، بل إلى التعبد بمضمون الراجح لأقوائية احتمال صدوره دون مضمون المرجوح لضعف احتمال صدوره، تقديماً للأقوى في مقام التعارض، لأن ذلك هو المنسبق منه عرفاً في فرض بلوغ كل من المتعارضين مرتبة الحجية وعدم تكاذبهما في مقام الصدور، وهو المناسب لتعليل مرجحية الشهرة بأن المشهور لا ريب فيه، لأن المنساق من ذلك أن الآخر مورد للريب، واللاّزم ترك ما فيه الريب إلى ما لا ريب فيه عند التعارض والدوران بينهما، لا أن الآخر محكوم بعدم الصدور، وذلك لا يقتضي ترك المرجوح في غير مورد المعارضة، لأن ضعف الدليل إنما يناسب عدم حجيته في مورد معارضته بالأقوى، لا سقوطه عن الحجية رأساً.

نعم، لو كان مفاد الترجيح الصدوري الحكم بعدم صدور المرجوح أو كان الخبران متكاذبين في الصدور كان ما ذكره من امتناع التفكيك فيه بين أجزاء المضمون متيناً.

لكنه يقتضي جريان الترجيح الصدوري في العامين من وجه - بعد فرض شمول أخبار العلاج لهما - المستلزم لعدم حجية المرجوح حتى في غير مورد المعارضة، لأن دليل المرجح المذكور يكون مخصصاً لعموم الحجية، ولا وجه لعدم جريان المرجح المذكور بعد عموم دليله.

ولا مجال لقياسه على القطعيين، حيث يجري فيهما سائر المرجحات

ص: 300

دون المرجح الصدوري، لعدم الموضوع للمرجح المذكور في القطعيين وتحقق الموضوع له في العامين من وجه.

واستلزامه عدم حجية المرجوح في غير مورد المعارضة ليس محذوراً إذا اقتضاه الجمع بين أدلة الحجية وأدلة الترجيح، لأن عدم المانع من حجيته في غير مورد المعارضة إنما يستلزم حجيته إذا بقي مشمولاً لعموم دليل الحجية، دون ما إذا كان خارجاً عنه تخصيصاً بأدلة الترجيح.

كما أن ما ذكرناه من الجمع العرفي بينهما إنما هو بعد الفراغ عن عموم دليل الحجية لهما معاً.

وبالجملة: البناء على عموم الأخبار العلاجية للعامين من وجه وجريان المرجحات الصدورية بينهما كغيرها من المرجحات هو الأنسب بإطلاقها.

هذا كله لو كان عموم العامين مستفاداً من الوضع، أما لو كان أحدهما أو كلاهما مستفاداً من الإطلاق بمقدمات الحكمة فقد قرب بعض مشايخنا تعينه للسقوط، لعدم جريان مقدمات الحكمة مع معارضة الإطلاق للعموم، لصلوحه للبيان، كما لا تجري في المطلقين المتعارضين لاستلزامها اجتماع المتنافيين ومع عدم جريانها لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين، بل يقصر كل منهما عن مورد الاجتماع.

ويشكل: بأن البيان المعتبر في مقدمات الحكمة هو البيان المتصل بالكلام، فمع عدمه ينعقد الظهور في الإطلاق، ولذا اعترف بأن ورود البيان المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الإطلاق، كما لا يخل بظهور العام في العموم، فليس تعارض الإطلاقين وتعارض الإطلاق والعموم إلا كتعارض

ص: 301

العمومين في تنافي الكلامين بحسب ظهورهما المانع من حجيتهما معاً، ويجري فيه ما سبق. وقد سبق في ترجيح العموم على الإطلاق من مباحث الجمع العرفي ما يتعلق بالمقام.

وأما ما قد يلوح من كلامه أو ينسب إليه من أن الإطلاق والسريان لما لم يكن مستفاداً من اللفظ، بل من مقدمات الحكمة فهو خارج عن مدلول الخبر الذي هو موضوع الأخبار العلاجية، وليس مدلول كل من الخبرين بنفسه إلا ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة، ولا تعارض بينهما مع ذلك.

ففيه أنه بعد تمامية مقدمات الحكمة فهي من سنخ القرائن المحتفة بالكلام الموجبة لظهوره في الإطلاق والسريان، والمصححة لنسبته للخبر، وبلحاظ ذلك يصدق التعارض بين الخبرين الذي هو موضوع الأخبار العلاجية.

على أنه لو تم خروجه عن مدلول الخبر، الذي هو موضوع الأخبار العلاجية، فهو لا يقتضي تقديم العام على المطلق، بل جريان أحكام التعارض العامة، كما لعله ظاهر.

ثم إن لازم ما ذكره جريان التفصيل المذكور في المتباينين أيضاً. فإذا كان أحدهما عموماً والآخر إطلاقاً لا تجري مقدمات الحكمة في الإطلاق، فينقلب إلى قضية مهملة قابلة لتخصيص العموم عرفاً، من دون أن تجري عليهما أحكام التعارض، وحيث يكون مورد التخصيص مجملاً يكون العام بحكم المجمل. وإذا كانا معاً إطلاقين لا تجري مقدمات الحجة فيهما معاً وينقلبان إلى قضيتين مهملتين مجملتين لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين.

مع أنه لم يذكر التفصيل المذكور في المتباينين. فلاحظ.

ص: 302

المسألة الثالثة: التعارض بين أكثر من دليلين

المسألة الثالثة: سبق في مقدمات مبحث التعارض أن التعارض قد يتحقق بين أكثر من دليلين، فيشملها أحكام التعارض العامة.

أما أحكامه الخاصة التي تضمنتها نصوص العلاج فلا يبعد شمولها أيضا، لأن جملة من تلك النصوص وإن اختصت بتعارض الخبرين، إلا أن بعضها مطلق من هذه الجهة، كمقبولة ابن حنظلة المفروض فيها اختلاف الحكمين، لاختلافهما في الحديث، لوضوح أن كلاً من الحكمين قد يستند في حكمه للجمع بين مضموني حديثين أو أكثر.

كما أن اختلاف الحديث كما يصدق مع تنافي مضموني حديثين يصدق مع تنافي مضامين أكثر من حديثين. وكذا مرسل الحارث بن المغيرة المتقدم في نصوص التخيير.

على أن إلغاء خصوصية الحديثين في أكثر النصوص قريب عرفاً. ولا سيما مع مناسبته لنوع المرجحات ارتكازاً، ولما في بعض نصوص التخيير من كون الأخذ بكل منهما من باب التسليم.

هذا، ولو كان أحد النصوص المختلفة قطعي المضمون كان التعارض بين الباقي منها، فقد يرجع للتعارض بين الحديثين.

لكنه يكون من التعارض العرضي لأمر خارج، كما تقدم التنبيه عليه هناك.

فيلحقه ما سبق في التعارض العرضي - في الأمر الرابع من التمهيد عند الكلام في توقف التعارض على تنافي المؤديين - من توقف شمول الأخبار العلاجية له على وضوح التنافي بين المؤديين بحيث يصلح دليل كل منهما لنفي مفاد الآخر عرفاً، دون ما إذا استند إلى ملازمة اتفاقية خفية.

ص: 303

كما سبق هناك قصورها عما إذا علم بعدم صدور أحد الخبرين - وإن شملته أحكام التعارض العامة - لرجوعه إلى التعارض في الأخبار عنهم (ع)، من دون تناف في الحكم لا إلى التعارض بين أخبارهم، لتنافي الأحكام التي تضمنتها فراجع.

المسألة الرابعة: اختلاف النسخ

المسألة الرابعة: صرح بعض مشايخنا: بأن اختلاف النسخ في الأحاديث داخل في تعارض الأخبار. وظاهره جريان أحكامه الخاصة التي تضمنتها الأخبار العلاجية من التخيير وغيره.

لكن الظاهر قصور الأخبار العلاجية عن ذلك، لأنه وإن كان راجعاً إلى تعارض المخبرين عن واقع واحد، إلا أنه ليس من اختلاف أخبارهم بخفض الذي هو موضوع نصوص العلاج، بل من الاختلاف في الخبر المنقول عنهم (ع)، فإن الحديث والخبر والرواية في عرف المتشرعة الذي جرت عليه النصوص هي الأمر المنقول عن المعصوم (ع)، واختلافه إنما يكون بتنافي المضامين المنقولة، وبذلك يتحقق موضوع نصوص العلاج، وهو لا يصدق مع فرض اتحاد الأمر المنقول عنه من قبل الراوي الواحد مع الاختلاف في بيان ما ينقله من قبل الوسائط المتأخرة، كما هو الحال في اختلاف النسخ.

ومن هنا كان نسبة الاختلاف للأخبار ذات الأسانيد ليس باعتبار اختلاف الوسائط المتأخرة، لعدم التكاذب بينهم وعدم التنافي بين مضامين أخبارهم، بل باعتبار اختلاف المضامين التي يحكيها

الرواة عن المعصومين (ع) مباشرة وتنافيها مع كونها مورداً للأثر والعمل.

وليس السند في كل من الروايات المتعارضة إلا حجة في إثبات

ص: 304

نقل الرواة المذكورين، ونسبة الاختلاف والتعارض لرواية رجال السند المتأخرين - لو وقعت - لمحض الطريقية والحكاية عما هو موضوع الاختلاف والآثار.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض مشايخنا من قياس ذلك على ما إذا اختلف السامعان لكلام الإمام (ع) في مجلس واحد في حكايته، لوضوح صدق الحديث على ما ينقله السامع لكلام الإمام، فاختلافهما فيه اختلاف في حديثهم (ع)، بخلاف المقام، فإنه من الاختلاف في ما رواه الراوي من حديثهم.

على أنه لا يبعد انصراف النصوص العلاجية عنه أيضاً، وظهورها في فرض احتمال اختلاف الواقعتين، بنحو يمكن صدورهما معاً، ويرجع إلى الاختلاف بين أحاديثهم لا في حديثهم.

خصوصاً ما تضمن الترجيح بمخالفة العامة، لظهور أن مخالفتهم مرجح جهتي لأحد المضمونين المختلفين الصادرين عن الإمام (ع) لظهور الحال في أن الموافق منهما صادر للتقية، لا مرجح صدوري، ليمكن فرضه في ما لو علم بعدم صدور أحد الكلامين، لعدم غلبة مخالفتهم (ع) للعامة. بل لعل ما صدر عنهم (ع) موافقاً لهم أكثر. فتأمل.

وكيف كان، فلا مجال لإجراء الأحكام التي تضمنتها الأخبار العلاجية في اختلاف النسخ في متن الحديث، فضلاً عن سنده. إلا أن يتعدى عن مورد النصوص لغيرها من الطرق الخاصة، على ما يأتي الكلام فيه في المسألة الخامسة.

هذا، وعن الفقيه الهمداني أن اختلاف النسخ من اشتباه الحجة

ص: 305

باللاحجة، وهو غير ظاهر، لأنه وإن علم بعدم صدور أحد الكلامين وعدم كونه من أفراد الحجة واقعاً، إلا أن رواية كل منهما في فرض اعتبار سنده موجب لدخوله في قسم الحجة ظاهراً، ولتحقق التعارض بين السندين بلحاظ تنافي المضمونين المحكيين بهما عملاً، وإن لم يكن تعارض في كلام الإمام واقعاً، لفرض وحدته.

والعلم الإجمالي بكذب أحد السندين في المضمون المحكي به لا يخرجهما عن التعارض، كالعلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين المتعارضين في الحكاية عن الحكم الشرعي الواحد.

ومن هنا كان اللازم جريان حكم التعارض العام عليهما، وهو التساقط في فرض تكاذبهما. نعم لا يبعد حجيتهما في نفي الثالث، على ما سبق في آخر الكلام في المسألة المذكورة. وأما الترجيح بالأوثقية فهو موقوف..

إما على كونه من المرجحات المنصوصة في الأخبار العلاجية، مع التعدي عن موردها، وهو تعارض أخبارهم (ع)، لإلغاء خصوصيته عرفاً.

أو على كونه من المرجحات العقلانية العامة في تعارض المخبرين.

ويظهر ضعف الأول مما سبق في الترجيح بصفات الراوي من عدم كونها من المرجحات المنصوصة.

وأما الثاني فقد سبق هناك تقريبه فيما إذا رجعت الأوثقية إلى الأضبطية دون الأعدلية والأصدقية، وذكرنا توجيه الرجوع إليه في اختلاف النسخ بما يغني عن الإعادة.

كما أنه يأتي في المسألة الآتية تقريب الترجيح بالشهرة.

وأما ما يتردد في بعض الكلمات من ترجيح النسخة المتضمنة للزيادة،

ص: 306

لاحتياج الزيادة إلى عناية، بنحو يبعد الخطأ في إثباتها، بخلاف النقيصة.

فلم يتضح بناء العقلاء عليه بنحو يخرج به عما تقتضيه القاعدة، خصوصاً مع قلة الزيادة.

نعم، يشكل الترجيح بالأضبطية مع كون راوي الزيادة غير الأضبط، لأن احتياجها للعناية يبعد الخطأ فيها حتى من غير الأضبط، ولا سيما مع أهميتها وكثرتها.

هذا، ولو فرض عدم تكاذب النسختين خرج اختلافهما عن التعارض وكان الجميع حجة في فرض تمامية سنده. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في آخر الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث.

المسألة الخامسة: تعارض غير الأخبار

المسألة الخامسة: حيث سبق اختصاص النصوص العلاجية بتعارض أخبار الأئمة (ع) فلا مجال لإجراء الأحكام التي تضمنتها في تعارض غيرها من الطرق المعتبرة بخصوصها، بل يلزم الرجوع فيها لأصالة التساقط، كما سبق في أول الكلام في هذا المقام، أو يثبت الترجيح بينها بالخصوص.

لكن شيخنا الأعظم (قدس سره) مع اعترافه بقصور النصوص المذكورة عنها صرح بجريان جميع الترجيحات التي تضمنتها فيها، بلحاظ عموم التعليل المستفاد من قوله (ع): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، وقوله (ع): «

لأن الرشد في خلافهم» بدعوى: أن خصوص المورد لا يخصص الوارد.

وفيه.. أولاً: أن ذلك لا يقتضي عموم جميع المرجحات التي تضمنتها النصوص العلاجية، بل خصوص الترجيحين المعللين بالفقرتين المذكورتين. إلّا أن يبنى على التعدي عن المرجحات المنصوصة لأجل التعليلين المذكورين، حيث يتعين التعدي في جميع الترجيحات لذلك بعد

ص: 307

فرض التعدي عن مورد التعليلين، وهو تعارض الأخبار. لكن سبق ضعفه.

وثانياً: أن المراد بالتعليل الأول لما كان هو خصوص الإجماع على الرواية فهو مختص بالأخبار ولا موضوع له في غيرها.

نعم، قد يجري في اختلاف النسخ، لأنها من سنخ الخبر، إلا أنه ليس بملاك الترجيح بين الحجتين، لأن وحدة الواقع فيه بنحو يعلم بكذب إحدى النسختين موجب للقطع أو الاطمئنان بصحة النسخة المشهورة دون الشاذة، فتخرج الشاذة عن موضوع الحجية، وإن كان راويها ثقة، لقيام الأمارة على خطئه، فلا يكون من باب تعارض الحجتين، بل من باب معارضة غير الحجة لها.

ودعوى: أن المستفاد من التعليل المذكور ترجيح ما لا ريب فيه بالإضافة لبعض الجهات على ما فيه ريب بالإضافة إليها، من دون خصوصية للشهرة في الرواية، فيجري في غير الأخبار.

ممنوعة: لما تقدم في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة من أن المراد من نفي الريب عدم الريب في الصدور، دون غيره من الجهات، ولا موضوع له إلا في الخبر المبني على الحكاية.

وأما التعليل الثاني فهو إنما يستفاد من المرفوعة التي تكرر عدم صلوحها للاستدلال. على أنه سبق في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة أنه حكمة لا علة يدور الحكم مدارها.

هذا، وأما التخيير لو قيل به في تعادل الأخبار المتعارضة فلا ريب في عدم التعدي به عنها لغيرها من الحجج، لعدم الوجه له.

ولا سيما مع ما في بعضها من كون الأخذ بأحد الخبرين من باب التسليم

ص: 308

لهم (ع)، إذ لا موضوع للتسليم لهم في غير الأخبار المنقولة عنهم (ع).

نعم، قد يدعى صدق أخبارهم (ع) على الإجماع المنقول بناء على تضمنه نقل رأي المعصوم (ع) مع المجمعين، فتشمله الأخبار العلاجية ويجري على التعارض بين الإجماعين أو بين الإجماع والخبر ما تضمنته من الترجيح أو التخيير.

لكنه إنما يتم في نقل الإجماع المبتني على نقل رأي المعصوم عن حس، الذي يبعد وقوعه، وإلّا فنقله عن حدس مما ينصرف عنه عنوان الخبر الذي هو موضوع الحجية ومورد النصوص العلاجية.

ثم إن شيخنا الأعظم (قدس سره) جزم بجريان الترجيح الدلالي الراجع للجمع العرفي في الإجماع المنقول لو قيل بحجيته. وما ذكره يبتني على جريان الجمع العرفي في الكلام الصادر عن أكثر من متكلم واحد، أو الكلامين الصادرين عن متكلم واحد يمكن في حقه العدول عما يحكيه عن حس أو حدس، وقد سبق في الأمر الثاني من ملحقات الكلام في الجمع العرفي التعرض لمعيار ذلك. فراجع.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون والتوفيق.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 309

خاتمة: في مرجحات باب التزاحم
اشارة

سبق في الأمر الخامس من الأمور التي ذكرناها تمهيداً للكلام في التعارض الفرق بين التعارض والتزاحم ثبوتاً وإثباتاً.

وذكرنا أن المعيار في التزاحم تمامية موضوع كل من التكليفين المستلزم لتمامية ملاكه - الذي هو بمعنى الغرض الداعي لجعله - بنحو يقتضي صرف القدرة إليه مع العجز عن الجمع بينهما في مقام الامتثال وانحصار القدرة بأحدهما.

وحيث لابد من حفظ الغرض والملاك من قبل المولى بجعل التكليف فلابد من عدم رفع اليد عن كلا التكليفين، لما فيه من فوت أحد الملاكين في ظرف إمكان حصوله.

كما أنه حيث يمتنع التكليف مع العجز يمتنع عموم كلا التكليفين لحال التزاحم، بل لابد من قصور أحدهما بعينه، أو قصور كل منهما عن حال امتثال الآخر، كما سبق تفصيل الكلام في ذلك.

غايته أنه مع التفات المولى للتزاحم يكون مرجع القصور المذكور إلى رفعه اليد عن التكليف وتقييده بنحو لا يكون فعلياً وإن تم ملاكه، ومع غفلته يكون مرجعه إلى قصوره عن الفعلية عقلاً، بنحو لا يكون موضوعاً لوجوب الإطاعة وقبح المعصية، كما هو الحال لو عجز المكلف عن امتثال تكليف واحد معين.

ص: 310

إذا عرفت هذا، فلا ريب في التخيير في الامتثال بين التكليفين مع عدم المرجح لأحدهما، لامتناع الترجيح من غير مرجح في فرض تساوي الغرضين، بملاك امتناع تحقق التكليف الذي هو فعل اختياري للمولى من دون غرض.

ومرجعه إلى التخيير من قبل المولى مع التفاته للتزاحم، فيجعل كلا من التكليفين بنحو لا يمنع من امتثال الآخر، وحكم العقل به في فرض غفلة المولى عن التزاحم، فلا يلزم إلا باستيفاء أحد الغرضين تخييراً. كما لا ريب في لزوم حفظ الراجح منهما واستيفاء ملاكه، لاختصاص الفعلية به.

ومن هنا كان المناسب النظر في المرجحات الملزمة باختيار أحدهما والمعينة لفعليته على نحو الإطلاق. والمذكور في كلماتهم أمور..

الأول: الأهمية
اشارة

الأول: الأهمية ولا إشكال في كونها من المرجحات في المقام، لما في المحافظة على الأهم من تحصيل المرتبة الزائدة من الغرض. والترجيح بها عقلي بمعنى أن العقل يستكشف ترجيح المولى للأهم مع التفاته للتزاحم، ويحكم هو بوجوب امتثال الأهم مع غفلة المولى عنه.

ودعوى: أن ذلك إنما يتم مع حكمة المولى، إذ بدونها قد يعين غير الأهم، أو يخير بينهما.

مبنية على أن المراد من الملاك والغرض هو المصالح والمفاسد التي يكون مقتضى الحكمة جريان الأحكام عليها، وقد سبق في مبحث الفرق بين التعارض والتزاحم أنه لا يراد به ذلك، بل الجهة الداعية للحكم ولو لم تكن على طبق الحكمة، ومن الظاهر امتناع ترجيح غير الأهم بلحاظها حتى من غير الحكيم كامتناع التخيير بينهما، لأن التكليف فعل اختياري للمولى،

ص: 311

فكما لا يعقل صدوره منه مع عدم الداعي له وعدم صدوره مع فعلية الداعي له، لا يعقل عدم تعيينه ما يقتضي الداعي فعلية تعيينه، فضلاً عن تعيينه لغيره. إلا أن يفرض عدول المولى وتبدل الحال عنده، فيتجدد اهتمامه بما لم يهتم به سابقاً ويقوى الداعي لما ضعف داعيه له سابقاً، فيكون الترجيح للأهم الفعلي، ولا ينافي ما ذكرنا من الترجيح بالأهمية.

تحديد مقدار الأهمية

نعم، لابد من كون الأهمية بمرتبةٍ ملزمة، لكون المرتبة الزائدة من الغرض مقتضية للإلزام، وإلا كان الترجيح أولى ولم يكن لازماً.

هذا، ولو كان أحد التكليفين محتمل الأهمية دون غيره، بحيث يدور الأمر بين تساويهما أو أهمية أحدهما المعين فهل يجب اختياره في مقام الامتثال أو لا؟ صرّح بالأول غير واحد.

ولا يخفى أن وجوب اختياره - لو تم - ظاهري طريقي في طول ترجيح الأهم واقعاً، لا لعموم الجهة المقتضية لترجيح الأهم، لأن مرجع ترجيح الأهم إلى فعليته وعدم فعلية التكليف المهم واقعاً في حال التزاحم بينهما، فلو كان ترجيح محتمل الأهمية واقعياً بملاك ترجيح الأهم لزم اختلاف التكليف الواقعي باختلاف حالي العلم والجهل بالأهمية، بحيث يكون التكليف الواحد فعلياً واقعاً دون الآخر في حق من يعتقد بأهميته أو يحتملها، وغير فعلي كذلك في حق من يعتقد بأهمية الآخر منه أو يحتملها، مع التخيير بينهما في حق من لا يحتمل أهمية أحدهما أو يحتمل في كل منهما الأهمية، ولا مجال للالتزام بذلك، مع ما هو المعلوم من عدم دخل العلم والجهل في الأحكام الواقعية.

ومن هنا لابد في ترجيح محتمل الأهمية إما من إحراز أهميته ظاهراً،

ص: 312

أو البناء على وجوب اختياره في مقام الامتثال ظاهراً - إن لم تحرز أهميته - بمقتضى الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.

أما إحراز أهميته ظاهراً فربما يوجه فيما لو كان لأحدهما إطلاق دون الآخر بأن مقتضى إطلاق الأول فعليته في حال المزاحمة للآخر، فيكشف عن أهميته منه، ولا معارض لذلك في الآخر بعد فرض عدم الإطلاق له ولزوم الاقتصار فيه على المتيقن، وهو غير حال المزاحمة. ومثله ما لو كان إطلاق أحدهما أقوى من إطلاق الآخر، بأن يكون أظهر منه في شمول مورد المزاحمة.

نعم، لا مجال لذلك فيما لو كانا متساويين من هذه الجهة، أو لم يكن لكل منهما إطلاق.

وفيه: أن عدم الإطلاق في الآخر إن كان مع الشك في ثبوت ملاكه وتمامية موضوعه في ظرف المزاحمة للأول، خرج عن باب التزاحم، لما سبق من توقفه على تمامية ملاك الحكمين.

وإن لم يكن شك في ذلك، بل قطع بتمامية موضوع كلا التكليفين وفعلية ملاكهما، لم ينهض الإطلاق في أحدهما لإثبات فعليته من هذه الجهة، ليدل على أهميته، لانصراف الإطلاق إلى بيان فعلية الحكم من حيثية الموضوع والغرض، لأن ذلك هو الذي يناط بالمولى ويحتاج إلى بيانه فيه.

وأما الفعلية من حيثية عدم المزاحمة الراجعة إلى حيثية القدرة فلا ينصرف الإطلاق غالباً إليها، ولا يتكفل ببيانها، ليدل على عدم صلوح التكليف الآخر للمزاحمة، لعدم أهميته، بل هي مما يستفاد من العقل في

ص: 313

فرض إحراز القدرة وعدم المزاحمة.

نعم، لما كانت فائدة بيان الغرض عرفاً جعل المكلف مسؤولاً به ليسعى في تحصيله بامتثال التكليف، بحيث يلغو الخطاب مع تعذره، كان ظاهر الخطاب عرفاً بضميمة حكمة المخاطب فعلية التكليف من حيثية القدرة أيضاً.

إلا أنه لا يستلزم ظهور الإطلاق في عموم القدرة، إذ يكفي في رفع اللغوية وترتب الغرض المصحح للخطاب بالمطلق غلبة القدرة عليه أو توقعها.

إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات. وهو محتاج إلى قرينة خاصة ومؤنة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام، كما سبق نظيره عند الكلام في الشك في الابتلاء من مباحث العلم الإجمالي.

ولذا لو كان لكل من التكليفين إطلاق لم يكن اجتماعهما في مورد التزاحم موجباً لتكاذبهما ودخولهما في باب التعارض، المانع من إحراز ملاك كل منهما بل يبقى كل منهما ظاهراً في الفعلية من حيثية الغرض وتحقق موضوع التكليفين، فلا يتكاذبان، بل يدخلان في باب التزاحم، كما هو المطابق للمرتكزات العرفية في فهم الكلام. وقد سبق عند الكلام في الفرق بين التعارض والتزاحم ما ينفع في المقام.

ومنه يظهر أن قوة إطلاق أحد الحكمين لا تقتضي رجحانه، لعدم تصديه لهذه الجهة.

كما ظهر أنه لا مجال للبناء على وجوب اختيار محتمل الأهمية في مقام الامتثال ظاهراً وإن لم تحرز أهميته، بدعوى: أنه مقتضى إطلاق

ص: 314

التكليف به، حيث لم يعلم بتقييده في حال التزاحم، بخلاف الآخر، للعلم بعدم وجوب اختياره، المستلزم لتقييده في الجملة، إما لكونه مرجوحاً أو مساوياً له.

لوضوح أنه لا مجال للدعوى المذكورة مع عدم تكفل الإطلاق ببيان هذه الجهة، مضافاً إلى أن غير محتمل الأهمية وإن علم بتقييده إلا أنه إن كان مساوياً لمحتمل الأهمية يلزم تقييد إطلاقه بالإضافة لحال التزاحم في خصوص حال امتثال محتمل الأهمية، وإن كان مرجوحاً بالإضافة إليه يلزم تقييده بالإضافة لحال التزاحم، بنحو يستلزم خروج الحال المذكور عنه مطلقاً، فلا خطاب به فيه أصلاً، وحيث كان الثاني أكثر تقييداً كان مخالفاً للأصل كاحتمال التقييد في محتمل الأهمية، فلا مجال للرجوع لأصالة الإطلاق في محتمل الأهمية، لمعارضتها بأصالة عدم زيادة التقييد في الآخر.

نعم، قد يتجه ذلك بناء على ثبوت الأمر الترتبي بالمهم عند عصيان الأهم، أو بكل من الضدين مع تساويهما، كما قد يظهر بالتأمل، ولا مجال لإطالة الكلام فيه.

والأولى صرف النظر إلى مقتضى الأصل العملي في المقام.

في مقتضى الأصل العملي

وقد يقرب وجوب الاحتياط باختيار محتمل الأهمية بأنه مقتضى أصالة الاشتغال به، للعلم بالتكليف به تبعاً لتحقق موضوعه وتمامية غرضه، والشك في تحقق المسقط له، لتوقفه على مساواته للآخر، وهي غير محرزة في المقام، وهذا بخلاف الآخر، للعلم بجواز تركه والإتيان بمحتمل الأهمية على كل تقدير.

ص: 315

وبذلك يفترق المقام عن مسألة الدوران في مقام الجعل بين التعيين والتخيير، حيث قد يبنى على الرجوع فيه للبراءة، لأن التعيين كلفة زائدة يشك في جعلها، أما في المقام فجعل محتمل الأهمية تعييناً محرز، وإنما الشك في المسقط.

لكنه يشكل: بأن مرجع التخيير في المقام لما كان إلى تقييد التكليف ثبوتاً، لاستحالة إطلاق كل منهما مع العجز عن الجمع بينهما، فالشك فيه بالإضافة لمحتمل الأهمية شك في شمول التكليف به

لحال الاتيان بالآخر، والمرجع فيه البراءة، والاقتصار على مورده المتيقن، وهو حال عدم الإتيان بالآخر.

وبذلك يفترق عن مسألة الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل التي قد يقال بوجوب الاحتياط فيها لعدم رجوع الشك هناك إلى الشك في شمول التكليف، بل إلى كيفية جعل التكليف الواحد، من دون متيقن في البين، ليقتصر عليه في تنجز التكليف المعلوم.

ومن الغريب ما في تقرير درس بعض مشايخنا(1) من أن تفويت محتمل الأهمية لم يثبت جوازه، لتوقفه على عجز المكلف عن تحصيله تكويناً أو تشريعاً، والمفروض قدرته عليه تكويناً، كما هو قادر عليه تشريعاً، لعدم أمر المولى باتيان خصوص الطرف الآخر، ليوجب عجزه عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته.

إذ فيه - مع أن مقتضى ذلك ثبوت عدم جواز تفويت محتمل الأهمية، لا عدم ثبوت جوازه -: أن جواز تفويت محتمل الأهمية لا يتوقف على

ص: 316


1- مصباح الأصول ج 2: ص 408.

العجز عنه بخصوصه تكويناً أو تشريعاً، بل يكفي فيه العجز عن الجمع بينه وبين الآخر تكويناً مع تساويهما في الأهمية، حيث يجوز حينئذ تفويت كل منهما في ظرف الإتيان بالآخر ولو مع القدرة عليه بخصوصه، وهو محتمل في المقام، واحتماله مساوق للشك في التكليف، الذي يكون المرجع فيه عندهم البراءة، لا الاشتغال.

العمدة في وجه الاحتياط
اشارة

فالعمدة في وجه وجوب الاحتياط في المقام: أن سقوط التكليف في باب التزاحم وإن كان راجعاً إلى تقييده لباً، وعدم فعليته، إلا أن مرجع تقييده وعدم فعليته لما لم يكن إلى قصور موضوعه المستلزم لعدم فعلية غرضه وملاكه، بل إلى وجود العذر عنه عقلاً بملاك التعذر والعجز، فبناء العقلاء في مثل ذلك على الاحتياط حتى يثبت العذر المسوغ للتفويت، ولذا كان بناؤهم على الاحتياط مع الشك في القدرة، كما تقدم في التنبيه الخامس من تنبيهات مبحث الشك في التكليف.

وحيث يشك في مسوغية التزاحم لتفويت محتمل الأهمية وجب الاحتياط بتحصيله، وتعين تفويت الآخر الذي يعلم بمسوغية التزاحم لتفويته تعييناً أو تخييراً وكونه عذراً فيه. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في آخر الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.

هذا كله مع انحصار احتمال الأهمية بأحد الطرفين المعين، أما مع احتمالها في كل منهما فلا موضوع للترجيح به، بل يتعين التخيير عقلاً بينهما، لا بملاك التخيير مع التساوي في الأهمية المبني على تكافؤ الغرضين، بل لتعذر الاحتياط بتحصيل ما يحتمل أهميته المانع من إلزام العقل به، مع عدم جواز إهمالهما معاً، لإمكان تحصيل أحد الغرضين مع فعليته، فلا عذر في

ص: 317

تركه عقلاً بل يجب تحصيله شرعاً بناءً على ثبوت الأمر الترتبي.

ولا ينبغي التأمل في ذلك مع تساوي الاحتمالين، أما مع أقوائية أحدهما فهل يجب ترجيحه واختياره في مقام الامتثال أو لا؟

من الظاهر أنه لا مجال للبناء على وجوبه بملاك ترجيح محتمل الأهمية المتقدم، وهو اليقين بالامتثال عند الدوران بين التعيين والتخيير، لفرض احتمال أهمية الآخر أيضاً - وإن كان ضعيفاً - المستلزم لاحتمال كون تفويته مخالفة للتكليف الفعلي، فالمقام من الدوران بين التعيينين لا بين التعيين والتخيير.

بل غاية ما يدّعى توقف العقل عن الحكم بالتخيير - الراجع إلى معذريته في تفويت الأهم احتمالاً - وحكمه بالترجيح لمنجزية الاحتمال الأقوى بنظره. ولا أقل من الشك في ذلك - حيث قد يضطرب العقل ويشتبه عليه الحال - فيجب الاحتياط، لما سبق من لزومه في فرض العلم بتمامية موضوع التكليف وفعلية غرضه ما لم يعلم بتحقق العذر في تفويته، وهو غير محرز في المقام.

ومرجع ذلك إلى أن عدم وضوح التخيير عند العقل موجب لإلزامه بالترجيح مع تمامية الموضوع وفعلية الغرض.

وهذا بخلاف الترجيح بقوة الاحتمال عند الدوران بين الوجوب والحرمة، لأن عدم ثبوت منجزية الاحتمال الأقوى فيه موجب للرجوع للبراءة مع الشك في أصل التكليف من دون إحراز موضوعه ولا غرضه وملاكه. فتأمل جيداً.

ص: 318

تنبيهان..

تنبيهان..

أولهما: ترجيح الأهم مع اقتضائه صرف القدرة

أولهما: ترجيح الأهم إنما هو مع اقتضائه صرف القدرة إليه، بنحو ينافي تحصيل المهم، لكونه تعيينياً مضيقاً بالذات أو بالعرض، أما لو كان تخييرياً أو موسعاً بنحو يمكن الجمع بين الامتثالين وجب الجمع بينهما، عملاً بإطلاق دليليهما من غير مانع، وخرج عن باب التزاحم، وهو واضح.

ومثله ما لو أمكن رفع موضوع التكليف الأهم من دون محذور شرعي، كطلاق الزوجة الذي يرتفع به وجوب الإنفاق عليها، لأن إمكان رفع موضوع التكليف المانع من تعلق الغرض على طبقه مستلزم لعدم التزاحم بين الغرضين، لإمكان تجنب تفويتهما، وإن تعذر تحصيلهما، فيلزم عقلاً، دفعاً لتفويت الغرض الآخر المفروض فعليته.

نعم، مع عدم إطلاق التكليف الآخر بنحو يقتضي حفظ القدرة عليه من هذه الجهة يتجه جواز تفويته، ويخرج عن باب التزاحم، لأن مرجعه إلى عدم تمامية موضوع أحد التكليفين. وهو مما يشخصه الفقيه في كل موردٍ مورد.

ثانيهما: عدم جواز إيقاع التزاحم بينهما

ثانيهما: لما كان ترجيح الأهم غير موجب لسقوط غرض الآخر ولا لرفع موضوعه فلا يجوز للمكلف إيقاع التزاحم بينهما بمثل تضييق وقت الأهم، لأنه وإن أوجب رفع المولى اليد عن الآخر مع قدرة المكلف عليه بخصوصه، إلا أنه لما كان من جهة العجز عن استيفاء الغرضين مع فعليتهما لم يكن عذراً للمكلف عقلاً، كتعجيزه نفسه عن امتثال التكليف الواحد مع بقاء وقته وبقاء موضوعه وفعلية غرضه، الذي هو موجب لرفع المولى اليد عنه. ومثله الحال في التخيير بينهما مع التساوي.

ص: 319

الثاني: ما لو كان لأحدهما بدل اضطراري

الثاني: من المرجحات المذكورة في كلماتهم ما إذا كان لأحد التكليفين بدل اضطراري في طوله، دون الآخر، فيقدم ما لا بدل له على ما له البدل وينتقل إلى بدله، كما لو دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء للصلاة وصرفه في تطهير المسجد، فيجب الثاني ويتعين التيمم للصلاة، وقد ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من جملة مرجحات باب التزاحم.

لكن لا يخفى أن تشريع البدل الاضطراري إن كان بنحو يقتضي جواز إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار بأن لا يقتضي التكليف بالمبدل حفظ القدرة عليه، فيجوز في بدلية التيمم عن استعمال الماء

إراقة الماء، اتجه ما ذكره (قدس سره) ودخل في ما سبق في التنبيه الأول من المرجح السابق من أنه مع إمكان رفع موضوع أحد التكليفين يجب وإن كان أهم، ويخرج عن باب التزاحم.

وإن لم يكن كذلك، بأن كان المبدل مقتضياً لحفظ القدرة عليه كان من موارد التزاحم، ولا وجه حينئذ لتعجيز المكلف نفسه عن المبدل والانتقال إلى بدله بامتثال التكليف الآخر الذي لا بدل له مع عدم المرجح له من جهة أخرى.

إلا أن لا يراد بالاضطرار الرافع للتكليف بالمبدل خصوص الاضطرار الحقيقي، بل ما يعم الاضطرار الشرعي الناشئ من المنافاة للتكليف الفعلي، فيدخل في بعض صور المرجح الآتي، ويخرج عن باب التزاحم، حيث يكون التكليف الذي لا بدل له وارداً على التكليف الذي له بدل ورافعً لموضوعه فلا يكون غرضه فعلياً، وقد سبق اعتبار فعلية كلا الغرضين تبعاً لتمامية موضوع كلا التكليفين في باب التزاحم.

ص: 320

وبالجملة: لا وجه لعد هذا من مرجحات باب التزاحم، لعدم العمل عليه في مورد التزاحم، وعدم تحقق التزاحم في مورد العمل عليه.

الثالث: ترجيح ما تعتبر فيه القدرة عقلاً على ما تعتبر فيه شرعاً، كما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره).

الثالث: ترجح ما تعتبر فيه القدرة عقلاً

فإن فعلية التكليف وإن كانت مشروطة بالقدرة إلا أن القدرة..

تارة: تكون دخيلة في موضوعه شرعاً، بنحو لا يكون غرضه وملاكه فعلياً بدونها.

وأخرى: تكون خارجة عن موضوعه، فيتم ملاكه وغرضه بدونها، وإن تعذر استيفاؤه بالامتثال بنحو تمتنع فعليته عقلاً. ومرجع هذا المرجح إلى لزوم امتثال الثاني دون الأول مع التزاحم بينهما.

لكن المراد بالقدرة الدخيلة في موضوع التكليف والغرض شرعاً إن كان هو القدرة الخارجية والشرعية الراجعة إلى عدم لزوم محذور شرعي من تحقيق متعلقه، كان التكليف الآخر الذي تعتبر فيه القدرة عقلاً رافعاً لموضوعه ومانعاً من فعلية غرضه، لعدم القدرة عليه شرعاً معه، حيث يلزم من الإتيان بمتعلقه مخالفة التكليف المذكور، فيتجه تقديم التكليف المذكور التام الموضوع عليه وان كان

دونه في الأهمية. إلا أنه يخرج عن باب التزاحم، لما تكرر من لزوم تمامية موضوع كلا التكليفين فيه نظير ما أشرنا إليه في المرجح السابق.

وإن كان المراد بها القدرة الخارجية التكوينية فلا وجه لترجيح الآخر عليه بعد فرض تحقق موضوعه أيضاً، للقدرة عليه بخصوصه تكويناً، وليس المتعذر إلا الجمع بين التكليفين.

ص: 321

نعم، قد يمكن رفع القدرة المعتبرة في موضوع التكليف بتعجيز المكلف نفسه بنحو لا ينافي مقتضاه بلحاظ أن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه، كما سبق عند الكلام في حقيقة التزاحم، وحينئذٍ يجب محافظة على امتثال التكليف الآخر الذي لا تعتبر فيه القدرة شرعاً، لما سبق في التنبيه الأول من المرجح الأول من أنه مع إمكان رفع موضوع أحد التكليفين يتعين ويرتفع به التزاحم.

وبذلك ظهر أن المرجح المذكور - كسابقه - ليس من مرجحات باب التزاحم.

ثم إنه تقدم في مبحث الفرق بين التعارض والتزاحم أن مقتضى إطلاق التكليف عدم دخل القدرة في موضوعه، وإن كانت دخيلة في فعليته على كل حال. فلاحظ.

الرابع: سبق زمان الامتثال
اشارة

الرابع: سبق زمان الامتثال، فقد التزم بعض الأعاظم (قدس سره) بترجيح السابق زماناً، إلا أن يكون الآخر أهم منه، بدعوى: أن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الآخر الموجب للعجز عنه، فلا مسقط للتكليف المتقدم، لعدم امتثال المتأخر بعد فهو مقدور عليه، أما المتأخر فيسقط بامتثال المتقدم للعجز عنه به.

نعم، لو كان المتأخر أهم فوجوب حفظ القدرة عليه يكون مسقطاً للتكليف المتقدم. وقد تابعه على ذلك غير واحد من تلامذته.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في ترجيح محتمل الأهمية من أن المسقط لأحد التكليفين المتزاحمين ليس هو خصوص العجز عن امتثاله المسبب عن امتثال الآخر، ولذا يتخير بين التكليفين المتقارنين المتساويين

ص: 322

في الأهمية، مع القدرة على كل منهما بخصوصه، فيسقط كل منهما بنحو يجوز تفويته لأجل امتثال الآخر وإن كان مقدوراً حين تفويته، لتكافؤ الغرضين، وهو جارٍ في المقام في فرض مساواة المتقدم للمتأخر في الأهمية.

نعم، لو بني على عدم وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف قبل وقته لم يصلح المتأخر لمزاحمة المتقدم، لعدم داعويته حينه بنحو يقتضي صرف القدرة منه إليه.

لكن ذلك - مع أنه خلاف التحقيق، ولذا يلزم الإتيان بالمقدمات المفوتة - مستلزم لترجيح المتقدم، وإن كان دون المتأخر في الأهمية، لأن الأهمية إنما تقتضي قوة الداعوية بعد الفراغ عن أصل تحققها، ولم يلتزم بذلك.

ومن هنا أنكر سيدنا الأعظم (قدس سره) في المسألة السابعة عشرة من فصل القيام في الصلاة من مستمسكه الترجيح بالتقدم الزماني.

وأما الإشكال على ذلك باستلزامه أن لمن لا يطيق إلا صوم نصف شهر رمضان أن يفطر النصف الأول منه لإدراك النصف الثاني، ولا يظن الالتزام به من أحد.

فهو - لو تم - نقض كاشف عن مرجحية التقدم الزماني، لا عن صحة الوجه المتقدم في الاستدلال عليه.

على أنه لا يبعد ظهور أدلة وجوب الصوم في دخل القدرة والطاقة في موضوعه شرعاً، بنحو يكون التعذر رافعاً لملاك وجوبه ومانعاً من فعلية غرضه وإن كان مقتضيه باقياً، فيتعين ترجيح السابق لتمامية موضوعه ويكون امتثاله مانعاً من فعلية غرض اللاحق.

ص: 323

ما ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في عدم دخل التقدم الزماني في الترجيح بين الأغراض المتزاحمة المستتبعة للإرادة التكوينية فيما إذا لم يحتمل احتمالاً معتداً به تجدد القدرة على المتأخر مع حفظ المتقدم، أو تجدد العجز عن المتأخر مع تفويت المتقدم، ولذا قد يختار صاحب الغرض المتأخر لأدنى داعٍ للتأخير أما مع أحد الاحتمالين فلا إشكال في وجوب الاحتياط بالمحافظة على المتقدم لاحتمال تحصيل كلا الغرضين في الأول، وللحذر من فوتهما معاً في الثاني، لأن مرجع ذلك إلى الشك في مزاحمة المتأخر للمتقدم. إلا أن يكون اللاحق من الأهمية بمكان، بحيث يقتضي الاحتياط له بتفويت الغرض الأسبق بمجرد احتمال مزاحمته له، ويختلف ذلك باختلاف مراتب الأهمية ومراتب قوة الاحتمال.

ومقتضى الوضع الطبعي الجري على ذلك في الأغراض المستتبعة للإرادة التشريعية، لولا ما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح محتمل الأهمية من أن الشك في المقام في المسقط المعذر عن امتثال التكليف مع تنجز احتماله، بنحو يجب الاحتياط ما لم يعلم بالمعذرية.

وربما يكون التقدم منشأ للترجيح بنظر المولى تحفظاً على تحصيل ما يمكن تحصيله بالفعل، لأن احتمال تحصيل كلا الغرضين مع فعل الأول، أو فوتهما مع تفويته وإن فرض عدم حصوله أو كان غير معتد به عند العقلاء، ولذا لا يجرون عليه في الترجيح في إراداتهم التكوينية - كما سبق - إلا أن المولى قد يلزم بالترجيح تحفظاً من الطوارئ غير المحتسبة لهم، أو التي لا يعتدون باحتمالها، لأن عدم احتمالهم لذلك أو عدم اعتنائهم باحتماله لا ينافي تحفظ المولى منه، كما قد يتحفظ المولى من خطأ قطع المكلف، ولا

ص: 324

يتحفظ منه المكلف نفسه.

نعم، مع إحراز أهمية المتأخر بنحوٍ معتدٍ به فلا إشكال في لزوم ترجيحه.

وأما مع احتمال أهميته فالأمر لا يخلو عن إشكال، لتزاحم الاحتياطين المقتضي للتخيير. ولابد من التأمل التام في المقام، لأن الأمور الوجدانية لما لم تكن خاضعة للبرهان فقد يلتبس الأمر فيها بأدنى شبهة. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد.

تنبيه: التزاحم في مقام الامتثال إنما يتصور في التكاليف الاستقلالية، دون التكاليف الضمنية بالأجزاء والشرائط في المكلف به الارتباطي، كما لو تعذر الجمع بين السورة والطمأنينة في الصلاة، لوحدة الغرض الفعلي التي لا موضوع معها للتزاحم.

ولذا كان مقتضى القاعدة سقوط التكليف بالمركب بتعذر بعض ما يعتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط لو كان لدليل اعتباره إطلاق يشمل حال التعذر، سواء كان المتعذر أمراً بعينه أم الجمع بين أمرين مع القدرة على كل منهما بعينه، لرجوعهما معاً إلى تعذر المكلف به وهو الأمر الارتباطي. وإنما يكتفى بالناقص لدليل خاص من إجماع أو غيره، كما هو الحال في كثير مما يعتبر في الصلاة.

وحينئذٍ لو تعذر الجمع بين أمرين وعلم اكتفاء الشارع بالميسور ودار الأمر بين ترك أحدهما كان الاكتفاء بترك كل منهما منافياً لإطلاق دليله، لو كان لكل منهما إطلاق يخصه، فيتكاذب الإطلاقان،

ويكون من موارد التعارض العرضي لأمر خارج عن مفاد كل من الدليلين الموجب لسقوط

ص: 325

كل منها عن الحجية في خصوص مؤداه، مع عدم المرجح لأحدهما. ولو كانا مستفادين من دليل واحد علم بكذبه، فيسقط عن الحجية في إثباتهما معاً في الحال المذكور.

نعم، لو استفيد من الإجماع أو غيره ثبوت المقتضي لكل منهما بحيث يعلم بوجوب أحدهما كان المورد من صغريات التزاحم الملاكي، الذي سبق الكلام فيه في بحث الفرق بين التعارض والتزاحم.

وحينئذٍ لا إشكال في التخيير بينهما مع العلم بالتساوي في الأهمية، ومرجعه إلى التخيير في مقام الجعل لغرض وحدة الغرض المستلزم للتخيير في فرض تكافؤ المقتضيين.

كما لا إشكال في ترجيح الأهم منهما لفعلية الغرض على طبق أقوى المقتضيين عند تزاحمهما، كما سبق عند الكلام في التزاحم الملاكي.

ولو احتمل أهمية أحدهما بخصوصيته فالمورد من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل، الذي سبق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الكلام في أن المرجع فيه البراءة أو الاشتغال. وكذا مع احتمالها في كل منهما مع احتمال التساوي أيضاً.

وأما لو علم بأهمية أحدهما إجمالاً فالمورد من صغريات الدوران بين المتباينين في مقام الجعل فيلزم فيه الاحتياط بتكرار المركب مع كل من الأمرين مع تيسره، ومع تعذره يتعين البناء على التخيير الظاهري، بناء على ما سبق في مباحث العلم الإجمالي من وجوب الموافقة الاحتمالية عند الاضطرار لمخالفة أحد أطرافه غير المعين.

وأما الترجيح بتقدم المحل، كترجيح الركوع الاختياري على السجود

ص: 326

الاختياري، فلا مجال له، ولا يجري فيه ما سبق، لأن امتثال التكليف الضمني لا يكون إلا بتمامية المركب الذي يحصل به غرضه، فتقدم المحل لا يوجب سبق الامتثال، كما يوجبه في التكاليف الاستقلالية.

نعم، لو كان موضوع الاكتفاء بالميسور تعذر الجزء أو الشرط حين تركه تعين ترجيح السابق والمحافظة عليه، لعدم تعذره، ومع الإتيان به يتعذر اللاحق فيتحقق موضوع جواز تركه.

ومرجعه إلى رفع الإتيان بأحدهما لموضوع وجوب الآخر، الخارج عن مفروض الكلام وهو تمامية موضوع كل منهما وشمول إطلاقه. فتأمل جيداً.

هذا، ولو لم يحرز المقتضي لأحدهما فلا موضوع للترجيح بالأهمية. بل يكون المقام من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل أو بين المتباينين، ويجري فيه ما سبق.

نعم، لو كان التكليف بأحدهما رافعاً لموضوع الآخر، لأخذ القدرة الشرعية فيه التي هي بمعنى عدم لزوم محذور منه تعين ترجيح الأول، وخرج عن مفروض الكلام من تمامية إطلاق دليل اعتبار كل من الأمرين.

هذا ما تقتضيه القواعد العامة، وتنقيح الصغريات موكول للفقه، ولا يسع المقام التعرض لها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، وله الحمد وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.

إلى هنا انتهى الكلام في مبحث التعارض، ليلة السبت، الثالث من شهر ذي الحجة الحرام، سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وتسعين للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلوات، وأزكى التحيات.

ص: 327

في النجف الأشرف بيمن الحرم المطهر المشرف على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير محمد سعيد عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).

ونشكره تعالى على تسهيله وتيسيره، ونسأله أن يشفع أوائل مننه بأواخرها، وسوابقها بلواحقها، ويتم علينا نعمه بالتوفيق والتسديد، وقبول الأعمال، وصلاح الأحوال، إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا به عليه توكلت واليه أنيب.

وقد انتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأحد الرابع من الشهر المذكور بقلم مؤلفه حامداً، مصلياً، مسلماً.

ص: 328

خاتمة في الاجتهاد والتقليد

خاتمة علم الأصول في الاجتهاد والتقليد

اشارة

ص: 329

ص: 330

خاتمة علم الأصول في الاجتهاد والتقليد

وقد وعدنا في تمهيد مباحث الحجج بالتعرض لذلك، وذكرنا أن المناسب جعله خاتمة للمباحث الأصولية، لخروجه عنها، ومناسبته لها، لأن البحث فيه عن أقسام الاستنباط وأحكامه، لا عن مقدمات الاستنباط، التي هي مورد الكلام في المباحث الأصولية.

وكيف كان، فالكلام يقع في مقامين، وخاتمة، يبحث في أول المقامين عن الاجتهاد، وفي ثانيهما عن التقليد، وفي الخاتمة عن وجوب الفحص الذي يشترك بين المجتهد والمقلد.

ص: 331

ص: 332

المقام الأول : في الاجتهاد
اشارة

وهو لغة بذل الوسع، كما في الصحاح ومختاره والقاموس والنهاية ولسان العرب، وفي الأخيرين: «وهو افتعال من الجهد الطاقة».

المقام الأول: في الاجتهاد

وكأن ما في المعالم والفصول والكفاية وغيرها من أنه تحمل المشقة مبني على أنه افتعال من الجهد - بالفتح أو به وبالضم - بمعنى المشقة كما صرح به في المعالم.

لكنه خلاف المتبادر منه عرفاً. وكأنه بلحاظ ملازمة بذل الوسع للمشقة غالباً قال في مفردات الراغب: «والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة». والأمر سهل.

معنى الاجتهاد اصطلاحاً

وأما في الاصطلاح فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه وتحديده ففي المعالم وعن العلامة والحاجبي وجماعة: أنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، وعن البهائي (قدس سره): أنه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي، وقيل غير ذلك.

قال في تقرير درس بعض الأعيان المحققين (قدس سره): «ولكن الظاهر أن اختلاف عباراتهم في شرح معناه المصطلح ليس لأجل اختلافهم في

ص: 333

حقيقته، بل هو عند الجميع عبارة عن استفراغ الوسع في إعمال القواعد لتحصيل المعرفة بالوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية، وأن المقصود من تلك العبارات هو مجرد الإشارة إليه بوجه ما». وسبقه إليه في الجملة المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية.

البناء في معنى الاجتهاد
اشارة

أقول: التأمل في موارد إطلاق الاجتهاد في الصدر الأول في النصوص الواردة عن الأئمة (ع) وغيرها مما ورد عن العامة في كلماتهم ورواياتهم شاهد بأن الأصل له العامة، وأن مرادهم منه خصوص إعمال الرأي بالقياس والاستحسان ونحوهما للوصول للحكم الواقعي، في مقابل أخذه من الكتاب والسنة ونحوهما من الأدلة التعبدية، فضلاً عن معرفة الوظيفة الظاهرية، خصوصاً العقلية.

بل قد يعم تعيين مقتضى المصلحة بنظر الشخص - يقيناً أو ظناً - من دون نظر للحكم الشرعي، بل وإن كانت على خلافه.

وهو المناسب للتعريف الأول، وللمعنى اللغوي أيضاً، للزوم استفراغ الوسع في طلب الحكم والوصول إليه عند من يعتمد عليه.

كما قد يناسبه أيضاً ما هو المعلوم من طريقة كثير من العامة من الاعتماد على ذلك، بل قد يصدر من بعض أصحابنا كالفاضلين وغيرهما.

ولعله لذا شنّع الأخباريون على الاجتهاد ووقفوا منه الموقف المعلوم، حتى عقد في الوسائل بابا(1) ضمنها ما يزيد على خمسين حديثاً في الردع عنه وعن الرأي والقياس ونحوها من الاستنباطات الظنية في الأحكام الشرعية.

ولذا ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن الأولى تغيير هذا العنوان الذي سبب

ص: 334


1- هو الباب السادس من أبواب صفات القاضي، ج: 18.

الفتنة بين الطائفة المحقة وشق صفوفها ووقوع الفرقة بين علمائها فضلاً عن عوامها.

لكن ذلك ناشئ عن الجمود على ظاهر لفظ الاجتهاد من دون نظر إلى سيرة الأصحاب وتصريحاتهم في مباحثهم الكلامية والأصولية والفقهية، حيث لا إشكال في عدم بنائهم على التعويل على الاستنباطات الظنية، بل على الحجج المعتبرة شرعية كانت أو عقلية، وأن مرادهم من الاجتهاد هو تشخيص الوظيفة التي يترتب عليها العمل اعتماداً عليها.

وذكرهم لبعض الوجوه الاستحسانية في الاستدلال على الأحكام الشرعية إما أن يكون مجاراة للعامة أخذاً بما يلتزمون بنظيره - كما لعله الغالب - أو لحصول القطع بسببه من باب تنقيح المناط أو نحوه، ولو للغفلة عن الحال، حيث لابد من تأويل ما يقبل التأويل في مقابل المقطوع به من مذهبهم.

بل لا يبعد كون ذلك هو المراد لكثير من الأصوليين من العامة، وإن اختلفوا معنا في تعيين الحجج، وأن ذكر الظن في التعريف لأنه أقل ما يكتفي به المجتهد.

وربما كان ذلك هو الاجتهاد بالمعنى الأعم عندهم، وما قبله هو الاجتهاد بالمعنى الأخص، كما يظهر من بعضهم.

بل في نهاية ابن الأثير بعد الكلام المتقدم قال: «والمراد به ردّ القضية التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأي الذي رآه من قبل نفسه من غير حملٍ على كتاب أو

سنة»، ونحوه في لسان العرب. ومقتضاه مباينة الاجتهاد للمعنى المتقدم، لا أنه أعم منه. وإن كان

ص: 335

ذلك لا يناسب طريقتهم في الاستنباط. كما لا يناسب سيرة سلفهم، وإن حاولوا بذلك تبريرها.

إلا أن ينزل على الرد للكتاب والسنة ولو بلحاظ دلالتهما بنظرهم على حجية بعض أقسام الرأي، فيرجع إلى ما ذكرناه أولاً من كون المراد بالاجتهاد تشخيص الوظيفة اعتماداً على الحجة.

نعم، ذلك لا يناسب التعريف الأول، ويحتاج تنزيله عليه إلى تكلف. كما لا يناسب المعنى اللغوي، لوضوح أن مجرد بذل الوسع من دون وصول للوظيفة الفعلية ليس اجتهاداً بالمعنى المذكور، بخلاف المعنى الأول، لأن بذل الوسع عندهم كاف في تحقق الوظيفة، لحجية الظن الحاصل منه عندهم.

كما أن بذل الوسع مع تشخيص الوظيفة ليس دخيلاً في مفهوم الاجتهاد، بل في تحققه، لتوقف تشخيص الوظيفة على اليأس من الظفر بدليلٍ آخر ولو كان معارضاً.

وليس الأمر بمهم بعد عدم الأثر لتحديد مفهوم الاجتهاد، لعدم أخذ عنوانه في الأدلة الشرعية موضوعاً لشيءٍ من الأحكام، وإنما هو محض اصطلاح لا مشاحة فيه.

غاية الأمر أن المناسب مطابقته لموضوع الغرض.

وحيث لا يفرق في وظيفة المجتهد - التي يترتب عليها عمله وعمل غيره، والتي هي موضوع البحوث الآتية - بين تشخيص الحكم الواقعي وتشخيص الوظيفة الظاهرية شرعية كانت أو عقلية، كان المناسب تعميمه لمطلق تشخيص الوظيفة العملية الفعلية في الشبهة الحكمية، إما بتشخيص

ص: 336

الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، اعتماداً على الحجج ولو كانت ظنية أو على الأصول أو بتشخيص الوظيفة العقلية.

ومن هنا لا مجال لذكر استفراغ الوسع في تعريفه، لما فيه من الإشعار بكون موضوعه ذا واقع محفوظ قد لا يصل إليه الوسع، وهو إنما يتجه بالإضافة إلى الأحكام الواقعية، وأما الوظيفة الفعلية التي يترتب عليها العمل فلا يتصور فيها ذلك، لقطع المجتهد بها.

ثم إن تشخيص الوظيفة المذكورة حيث كان موقوفاً على الفراغ من مقدمات كثيرة، كالمسائل الأصولية واللغوية، وعلى أنس الذهن بالظهورات الشرعية والعرفية، كان مسبوقاً بملكة مكتسبة نتيجة لذلك.

ومن هنا قد يجعل الاجتهاد نفس الملكة المذكورة كما تقدم عن البهائي، وقد يجعل نفس الاستنباط والتشخيص للوظيفة، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين - في كلامه السابق - وغيره.

وحيث كان كل منهما مورداً للأثر من بعض الجهات، كان الأنسب تعريفه بالملكة، ليطابق موضوع الغرض.

ودعوى: عدم صدقه على ذي الملكة من دون أن يمارس عملية الاستنباط.

غير ظاهرة، لأن المفهوم المذكور غير عرفي، ليتضح حاله بعرضه على العرف، وإنما هو مصطلح خاص لم يتضح حدوده بعد عند أهله، كما لا مانع من توسيعه تبعاً لسعة الغرض.

وقد تلخص من جميع ما تقدم: أن الاجتهاد الذي هو محل الكلام. ملكة يقتدر بها على تشخيص الوظيفة الفعلية في الشبهات الحكمية.

ص: 337

المسألة الأولى: تجزي الاجتهاد
اشارة

إذا عرفت هذا فالكلام في الاجتهاد يقع في مسائل..

المسألة الأولى: وقع الكلام بين الأصوليين من العامة والخاصة في تجزي الاجتهاد وعدمه على أقوال.

ومحل الكلام إنما هو الملكة، أما العلم الفعلي المبتني على إعمال الملكة فلا ريب ظاهراً في إمكان التجزي فيه، بل وقوعه بالنظر في بعض المسائل الفقهية دون بعض، بل يمتنع عادة العلم بجميع المسائل دفعة، بل لابد من النظر فيها تدريجاً، الراجع إلى التجزي في بعض الأزمنة، بل حيث كانت بعض المسائل مغفولاً عنها، لعدم الابتلاء بها أصلاً، وعدم المنبه لموضوعاتها، كان اللازم التجزي دائماً.

ومن هنا ينحصر الكلام في التجزي بالملكة، ومرجعه إلى الكلام في أنه هل يكون الشخص قادراً على تشخيص الوظيفة في خصوص بعض المسائل، أو لابد إما من قدرته على تشخيصها في كل مسألة يفرض ابتلاؤه بها، أو عجزه عنه في الكل؟

والمعروف - كما قيل ويظهر بالنظر في كلماتهم - هو إمكان التجزي.

وربما نسب القول بامتناعه للشذوذ، وإن كان هو الظاهر من شيخنا الأستاذ (قدس سره) وبعض تلامذته.

الاستدلال على امتناعه
اشارة

وكيف كان، فقد يستدل على امتناعه بوجوه..

أولها:

أولها: عدم انضباط مدارك الأحكام وأدلتها، حيث قد يكون في مدارك بعض الأحكام ما ينفع في معرفة أحكامٍ أخرى، فما لم يطلع الشخص على مدارك تمام الأحكام، ويكون ذا خبرة بها، لا يستطيع تشخيص شيء منها، لاحتمال عدم استكمال الفحص عنه.

ص: 338

وفيه: أنه قد يقطع الناظر في كلمات الأصحاب في المسألة وبعد التأمل في خصوصياتها بعدم وجود دليل فيها قد خفي عليه يتوقف اطلاعه عليه على النظر في بقية المسائل، ولا أقل من اليأس عن ذلك بالنحو الكافي الذي يقطع معه بعدم وجوب الفحص. وإلا أمكن ورود ذلك في الناظر في تمام المسائل، لإمكان نسيانه لمفاد بعض الأدلة أو غفلته عن إفادته في بعض المسائل.

على أن النظر في جميع أدلة المسائل لا يستلزم القدرة على تشخيص الوظيفة فيها - الراجعة للاجتهاد المطلق - لإمكان ابتناء معرفة بعضها على مقدمات لم يفرغ منها، بخلاف بعضها الآخر الذي استكمل مقدمات المعرفة فيه.

ثانيها

ثانيها: أن ملكة الاجتهاد كسائر الملكات أمر بسيط غير قابل للتجزي.

وفيه: أن مرجع التجزي ليس إلى تجزي الملكة، بل إلى ضعفها وقصورها عن بعض الأحكام، لما أشرنا إليه آنفاً من أن الملكة متقومة بمعرفة المقدمات التي يبتني عليها تشخيص الوظيفة، وقد يكون الشخص عارفاً ببعض تلك المقدمات دون بعض، فلا يتسنى له إلا تشخيص الوظيفة في المسائل التي يكفي فيها تلك المقدمات، دون غيرها مما يحتاج للمقدمات الأخرى التي يجهلها.

ثالثها

ثالثها: أن مدارك الأحكام في الوقائع المختلفة ومقدمات الاستنباط متداخلة مترابطة، فليس تشخيص الوظيفة في الواقعة الواحدة موقوفاً على مقدمة أو مقدمتين، كي يمكن للعارف بهما تشخيصها فيها ولو مع العجز عن تشخيصها في غيرها للجهل بمقدماته.

ص: 339

مثلاً المسألة التي يكون المرجع فيها الأدلة اللفظية لا يكفي فيها البناء على أصالة حجية الظهور، بل لابد فيها من تشخيص الظهور، وتشخيص مقتضى الجمع العرفي بين الظهورات، ومقتضى القاعدة في المتعارضين بعد الفراغ عن حجية الخبر ذي الظهور الخاص الوارد فيها.

كما أن المسألة التي يكون المرجع فيها الأصل العملي مثلاً لا يكفي فيها ثبوت كبرى الأصل المذكور، بل لابد معها من الفراغ عن عدم الدليل في المسألة، لعدم ورود آية أو خبر فيها، أو عدم تمامية ظهور ما ورد فيها، أو معارضته بما يسقطه عن الحجية، وكل ذلك قد يبتني على قواعد أصولية متعددة.

بل الفراغ عن بعض مقدمات الاستنباط يتوقف على غيرها أيضاً، فالفراغ عن كبرى الاستصحاب مثلاً موقوف على الفراغ عن أصالة الظهور، وعن حجية خبر الواحد، ليمكن التمسك بأخباره، وعن قواعد الجمع بين الأدلة لمعارضة ظهور أخباره بما ينافيها بدواً، كعمومات البراءة أو الاحتياط، وعن حجية الإجماع المستدل به عليه، والسيرة التي وقع الكلام في حجيتها ذاتاً، وفي صلوح عمومات عدم حجية غير العلم للردع عنها. وهكذا الحال في جعل القواعد الأصولية أو جميعها.

ومن هنا لا يتسنى النظر في بعض المسائل الفقهية لمن لم يفرغ عن تمام مقدمات الاستنباط، التي يستلزم الفراغ عنها الاجتهاد المطلق.

وكأن هذا هو الوجه الذي اعتمده شيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام.

وفيه: أن عدم الاكتفاء في المسألة الواحدة بمقدمة واحدة أو مقدمتين، وابتناء بعض المقدمات على بعض وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه ليس

ص: 340

بالنحو الراجع إلى توقف تشخيص الوظيفة في المسألة الواحدة على الفراغ عن جميع المقدمات، حيث يلزم الاجتهاد المطلق، لوضوح أن كثيراً من الكبريات الأصولية يسهل إثباتها في الجملة، ولا يحتاج لقوة النظر إلا بعض خصوصياتها، ولا يتوقف على تلك الخصوصيات إلا قليل من الفروع الفقهية، فالجهل بها لا يوجب إلا العجز عن تشخيص الوظيفة في تلك الفروع، مع القدرة على تشخيصها في الفروع الآخر غير المبتنية على تلك الخصوصيات، كبعض خصوصيات مسألة اجتماعي الأمر والنهي، والجمع العرفي، وحجية العام في عكس نقيضه، وفي الشبهة المصداقية، وحجية بعض مراتب الإجماع، والخبر الصحيح المهجور بين الأصحاب والضعيف المعمول به عندهم، وانقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال، وجريان الاستصحاب التعليقي، أو استصحاب القسم الثالث من الكلي أو حكم المخصص أو العدم الأزلي، ومقتضى القاعدة في المتكافئين، وغير ذلك مما لا يلزم من عدم الفراغ عنه إلا التوقف في خصوص بعض الفروع.

كما لا ريب في اختلاف الفروع الفقهية في الاحتياج إلى دقة النظر وإعمال الذوق الفقهي، لابتناء بعضها على بعض الاستظهارات الخفية والالتفات للنكات الدقيقة أو بعض وجوه الجمع العرفي المحتاجة لحسن السليقة، أو ملاحظة بعض القرائن ككلمات الأصحاب ومقدار الابتلاء بالحكم، ونحو ذلك مما لا يتسنى إلا للممارس الماهر، ويعجز عنه كثير ممن تمت مبانيه الأصولية وسهل عليه كثير من المسائل الفقهية بسببها، فإن المباني الأصولية وحدها لا تكفي في القدرة على الاستنباط ما لم يتيسر لصاحبها تشخيص موضوعاتها بنحو تطمئن به النفس ويركن إليه في مقام

ص: 341

العمل، وهو لا يتسنى لكل أحد، خصوصاً في بعض الفروع.

وبذلك يظهر أن البناء على إمكان التجزي بل وقوعه هو المتعين.

بل ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أنه يستحيل عادة حصول اجتهاد مطلق غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة.

ما ذكره الخراساني (قدس سره) من استحالة الاجتهاد والمطلق

وما ذكره متين بلحاظ الوضع المتعارف من تدرج الباحث في المعلومات، وفي المهارة فيها وفي قوة النظر والذوق الفقهي باستمرار الممارسة، فلا يتسنى له في أول مراحله إلا تشخيص الوظيفة في الفروع الفقهية غير المعقدة، التي يسهل إثبات كبرياتها الأصولية وإحراز موضوع تلك الكبريات فيها، ثم يقوى على الأصعب فالأصعب بطول الزمن واستمرار الممارسة، وإعمال النظر والملاحقة.

وربما يبقى عاجزاً عن تشخيص الوظيفة في بعض الفروع، لشدة تعقدها واضطراب الوجدان عليه فيها، لتصادم جهات الكشف عن الوظيفة الفعلية، كما يبتلى به أعاظم المجتهدين في كثير من الموارد، فيتوقف عن الفتوى فيها، ويقتصر على بيان مقتضى الاحتياط، وهو الذي اصطلح عليه في عصورنا بالاحتياط الوجوبي ومن هنا لا يكون مجتهداً مطلقاً بالمعنى المتقدم. ولعله لذا اكتفى في الفصول في الاجتهاد المطلق بالقدرة على استنباط جملة معتد بها من الأحكام.

وأما ما ذكره غير واحد من أن تردد المجتهد في بعض المسائل إنما يكون بالإضافة للحكم الواقعي، لعدم الظفر بالدليل عليه مع استكمال الفحص، لا لقصور الباع أو قلة الإطلاع، من دون تردد في الوظيفة الفعلية.

فهو كما ترى! لوضوح عدم انحصار وظيفة المجتهد ببيان الحكم

ص: 342

الواقعي، بل يكفي تعيينه للوظيفة الفعلية مع وضوحها عنده، ويجب اتباعه فيها ولا يجب الاحتياط معها، كما لا يجوز للعامي الرجوع لغيره ممن هو دونه في الفضيلة، وإن أفتى بالحكم الواقعي اعتماداً على ما يراه حجة عليه.

نعم، يحسن الاحتياط لإصابة الواقع، أو لتجنب بعض الاحتمالات غير المعتد بها بعد معرفة الوظيفة الفعلية، وهو احتياط استحبابي بمصطلح العصر.

ودعوى: أنه بعد فراغ المجتهد عن وجوب العمل بالحجة الفعلية، والرجوع للأصل الشرعي أو العقلي مع فقدها ولو للشك فيها، بمقتضى مبانيه الأصولية، لا مجال لتردده في الوظيفة الفعلية في المسألة، إذ مع القطع بقيام الحجة يتعين العمل بها، ومع عدمه يتعين الرجوع للأصل، ويمتنع الشك في ذلك، لأنه لا يدخل الأمور الوجدانية.

مدفوعة: بأنه قد لا يتضح للمجتهد عدم وجود الحجة بالنحو المصحح للرجوع للأصل، لتصادم جهات الكشف عنده واضطراب الوجدان عليه، فلا يطمئن لشيء من الوجوه، ويكون كغير المجتهد من أهل العلم ممن قد يطلع على كلمات الأصحاب ووجوههم في المسألة ويفهمها، لكن يعجز عن تمييز الصحيح منها بنحو يركن إليه ويجري على مقتضاه، ولو لعدم قوة مبناه الأصولي.

وإن شئت ثانيها إن مجرد علم الباحث ببعض الكبريات وبتحقق موضوعاتها والإذعان بذلك لا يستلزم العمل عليها ما لم يحصل له القناعة الكافية بما حصله من معلومات والركون النفسي إليها، بنحو يتحمل لأجلها مسؤولية العمل، وبهذا يكون مجتهداً.

ص: 343

فتوقف المجتهد عن العمل ببعض القواعد التي أذعن بها في بعض الموارد كاشف عن ضعف ملكته وقصورها عن ذلك المورد.

نعم، ذلك لا يطّرد، بل قد يكون التوقف عن الفتوى لمحض التورع والاحتياط للواقع مع القدرة على تشخيص الوظيفة، ولذا قد يشخصها لو اضطر لذلك أو ترجح لديه لزوم الفتوى، لحاجة الناس أو نحوها.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في وجوب عمل المتجزي برأيه في ما وصل إليه - وإن قيل: إنه محل خلاف - لعموم أدلة الحجج له - بل تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الكلام في المتكافئين عمومها للعامي - فيقطع بمقتضاها بالوظيفة الفعلية، كما يقطع بها في موارد الأصول العقلية، ولا مجال لتخلف القاطع عن قطعه، فضلاً عن حجية رأي غيره عليه ممن يخالفه ويكون جاهلاً بنظره.

وأما في ما يعجز عن تشخيص الوظيفة فيه فلا مانع من البناء على جواز تقليده لغيره فيه، لدخوله في كبرى رجوع الجاهل للعالم. إلّا أن يخطئ الغير في مستنده، لقصور الكبرى المذكورة عن صورة ثبوت خطأ المستند.

بل لا يبعد ذلك فيما لو كان قادراً على تشخيص حال المستند لنضوجه العلمي وعدم لزوم الحرج منه، وإن لم ينظر فيه فعلاً.

هذا، وأما الرجوع للمتجزي وتقليده في ما وصل إليه فالكلام فيه موكول لمبحث التقليد.

تنبيه: الاجتهاد في بعض مقدمات الاستنباط

تنبيه: أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات الكلام في المتكافئين إلى أن المكلف لو كان قادراً على بعض مقدمات الاستنباط دون بعض كان عليه الاستقلال في ما علم والرجوع للغير في ما جهل ويكون تشخيص

ص: 344

الوظيفة تابعاً للمجموع وإن خالف فيها المجتهد الذي يرجع إليه، وهو نحو من

تجزي الاجتهاد، مرجعه للتجزي في المسألة الواحدة بلحاظ أدلتها لا بلحاظ مجموع المسائل الذي هو محل كلامهم في المقام.

المسألة الثانية: التخطئة والتصويب
اشارة

المسألة الثانية: اتفقت كلمتهم - كما قيل - على التخطئة في العقليات، من دون فرق بين العقليات المحضة التي لا دخل لها بالأحكام الشرعية، ككون الكل أعظم من الجزء، والمرتبطة بالأحكام الشرعية، كاستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده.

لأن وظيفة العقل ليس إلا إدراك الواقع، ولا مجال لتبعية الواقع للإدراك، لتفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت وتأخره عنه رتبة، فكيف يكون مقام الثبوت تابعاً لمقام الإثبات؟ بل ليس الواقع الذي يتناوله الادراك إلا أمراً واحداً يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه.

نعم، خصّ بعض الأعيان المحققين (قدس سره) ذلك بالعقل النظري المتمحض في الإدراك، دون العقل العملي الذي يكون في باب التحسين والتقبيح، لتقوم التحسين والتقبيح بملائمة الشيء للقوة العاقلة ومنافرتها له، ويمتنع تطرّق التخطئة في مثل هذه الإدراكيات الوجدانية، إذ ليس لها واقع محفوظ وراء حصول الانبساط والاشمئزاز.

وهو مبني على أن التحسين والتقبيح نفس الملائمة والمنافرة المستلزمين للمدح والذم، حيث يكونان من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف الأشخاص كالالتذاذ والتألم، أما لو كانا عبارة عن إدراك واقع في الفعل مقوم لحسنه أو قبحه، كان للحسن والقبح واقعٍ محفوظ، وكان التحسين والتقبيح متمحضين في الإدراك القابل للخطأ والصواب. والظاهر

ص: 345

الثاني. وتمام الكلام في محله.

وأما الشرعيات فقد تكرر نقل إجماع أصحابنا على التخطئة فيها، وأن لله تعالى في كل واقعة حكماً واحداً تابعاً لموضوعه الواقعي يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه.

بل الظاهر المفروغية عنه بينهم. وما قد ينافيه مما يظهر من بعض عباراتهم في حكم مفاد الأخبار المستفاد من دليل حجيتها وفي حقيقة الحكم الظاهري والجمع بينه وبين الحكم الواقعي ونحوها، ناشئ عن الغفلة عن منافاة ذلك للتخطئة، ولذا تكرر منهم النقض على بعض الوجوه المذكورة باستلزامها التصويب، حيث يناسب ذلك المفروغية عن بطلانه.

وكيف كان، فالتصويب يتردد في كلمات القائلين به والناقلين له بين وجوه ثلاثة..

وجوه التصويب الممتنع

الأول: أن الحكم في حق كل مجتهد تابع لاجتهاده، بحيث لا حكم لله تعالى في الواقعة قبل تحقق اجتهاده.

الثاني: أن له تعالى أحكاماً متعددة بعدد ما يعلم حصوله من آراء للمجتهدين، فكل مجتهد قد جعل في حقه الحكم الذي سوف يؤدي إليه اجتهاده.

وبأحد هذين الوجهين قد يفسر التصويب المنسوب للأشاعرة، وإن كان الأظهر من بعض الكلمات المنقولة عنهم الأول.

الثالث: أن له تعالى حكماً واحداً أولياً يشترك بين العالم والجاهل يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه، إلا أن من أدى اجتهاده لخلافه ينقلب الحكم في حقه وحق من يقلده على طبق اجتهاده، فالاجتهاد من سنخ

ص: 346

العنوان الثانوي الموجب لتبدل الحكم الأولي.

ولعل أهون الوجوه المذكورة وأبعدها عن الخطأ هو الوجه الثالث، لأن تبدل الأحكام الأولية بالعناوين الثانوية غير عزيزٍ.

إلا أنه لا مجال للبناء عليه مع منافاته لإطلاقات أدلة الأحكام الواقعية القاضية بفعليتها تبعاً لفعلية موضوعاتها.

مضافاً إلى النصوص الكثيرة الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي في صورة عدم إصابته.

النصوص الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي

منها: ما تضمن أن الحكم حكمان حكم الله عز وجل وحكم الجاهلية وأن من أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم الجاهلية(1).

ومنها: ما تضمن تفسير ما ورد في أن اختلاف الأمة رحمة بالاختلاف في طلب العلم، وأن الدين واحد(2).

ومنها: ما تضمن من النصوص الكثيرة الاهتمام بحفظ الأحاديث ومدح رواتها الأُمناء عليها(3)، حيث يظهر منه أن ضياعها المستلزم لضياع الواقع محذور لا يتدارك بتشخيص المجتهد

للوظيفة الفعلية خطأً.. إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة أو المشعرة بأن الأحكام الواقعية باقية على ما هي عليه من الفعلية، ولا تختلف باختلاف الاجتهادات والأنظار.

إشكال مقتضى الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية

ولا ملزم بالخروج عن ذلك إلا توهم أنه مقتضى الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، التي يختلف مفادها باختلاف الأنظار والاجتهادات.

ص: 347


1- الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 7، 8 وباب 5 منها حديث 6.
2- الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 10.
3- راجع الوسائل ج: 18 باب: 118 من أبواب صفات القاضي.

لكن ذلك إن رجع إلى دعوى: ظهور أدلة الحجج والأصول الظاهرية في تبعية الحكم الفعلي لها، بحيث تكون موضوعاتها عناوين ثانوية رافعة للحكم الأولي.

ففيه.. أولاً: أن ظاهر أدلتها محض الطريقية الظاهرية، التي هي في طول الأحكام الواقعية من دون أن تكون دخيلةً فيها.

دفعه

وثانياً: أن ذلك إنما يستلزم التصويب في مؤدى الأمارة الشرعية كفتوى المجتهد في حق العامي، وأدلة الأحكام في حق المجتهد، لا في تشخيص مؤدى الأمارة لو فرض الخطأ في تشخيصه، كما لو أخطأ العامي في تشخيص فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده، أو أخطأ المجتهد في تشخيص مؤدى أدلة الأحكام، لاستناد الخطأ في ذلك إلى القطع الذي هو طريق محض بحكم العقل، من دون أن يكون حجةً شرعيةً كي يكون ظاهر دليل حجيته تبدل الحكم الواقعي تبعاً له.

وإن رجع إلى دعوى: أن بقاء الأحكام الواقعية على ما هي عليه من الفعلية في حال خطأ الاجتهاد مستلزم لكون فتح باب الاجتهاد وترخيص الشارع فيه وتهيئة مقدماته ببيان الأحكام بالطرق الظنية القابلة للخطأ في نفسها وفي تشخيص مفادها، مفوتاً للواقع الذي هو قبيح منه تعالى، فلابد من البناء على تبدل الحكم الواقعي فراراً عن المحذور المذكور، وإن كان مخالفاً لظاهر أدلة الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها من الأخبار المذكورة.

فيظهر اندفاعه مما تقدم في أول مباحث الحجج في حقيقة الأحكام الظاهرية، ووجه عدم منافاتها للأحكام الواقعية، حيث يستغنى به عن التصويب بل مقتضى ما سبق هناك عن ابن قبة من استحالة التعبد بغير العلم

ص: 348

لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال، كون بطلان التصويب أظهر من نصب الطرق الظنية، لوضوح ابتناء المحذور المذكور على عدم التصويب.

على أن منافاة الحكم الظاهري لو كانت ملزمة بالتصويب للزم البناء عليه في التعبد الظاهري بموضوعات الأحكام، مع أن المحكي عن الفصول نفي الخلاف في عدمه فيها. فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر ضعف الوجه الثاني للتصويب، لصلوح ما سبق لرده، لأن مقتضى إطلاق أدلة الأحكام الواقعية اشتراكها بين جميع المكلفين وعدم اختصاصها بمن يؤدي اجتهاده إليها.

كما أن ذلك هو مقتضى النصوص الأخرى المشار إليها آنفاً. كما يظهر بأدنى تأمل.

بل هو مقتضى نصوص كثيرة أخرى..

نصوص أخرى دالة على ذلك

منها: ما تضمن أن من يقضي بالحق وهو لا يعلم فهو في النار(1)، وأن من قال برأيه فأصاب لم يؤجر(2)، وأن من أخذ بالقياس كان ما يفسده أكثر مما يصلحه(3)، حيث فرض فيها إصابة الحق مع عدم اجتهادٍ معذر.

ومنها: ما تضمن أن الدين كله مبين في الكتاب والسنة وأن علمهما عند الأئمة (ع)(4)، لوضوح أن مدعى القائل بالتصويب اختصاص أحكام

ص: 349


1- الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.
2- الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 6، 35.
3- لم أعثر على هذا المضمون عاجلاً في الوسائل، وإنما ذكره شيخنا الأعظم في أواخر التنبيه الثاني من شبهات دليل الانسداد عند الكلام في حكم القياس من الوجه السابع من وجوه الاستدلال عليه.
4- تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام ضبطها تفصيلاً.

الكتاب والسنة بمن يصل إلى مضامينهما، دون من أخطأها، بل له أحكام أخرى غير حكمهما، هي الدين المطلوب منه.

ومنها: ما تضمن أن العلم مخزون عند أهله وكل ما لم يخرج من أهل البيت فهو باطل وأنه يجب سؤالهم عنه وطلبه منهم(1)، لظهورها بمجموعها في وحدة التكليف الواقعي وعمومه لكل أحد، ولذا يجب طلبه من مظانه.

إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في وحدة التكليف الواقعي.

بل هو المطابق لارتكازيات المتشرعة القطعية، والملحقة لذلك بالبديهيات غير القابلة للأخذ والرد والنقض والإبرام، بحيث يقطع لأجلها بأن البناء على التصويب لشبهة ضاق على القائل به حلها.

وأما ما استشكل به غير واحد في الوجه المذكور من استلزامه اجتماع الظن واليقين بالحكم في زمان واحد، لأنه باعتبار ظنه بالواقع يكون مظنوناً، وباعتبار أن مؤدى ظنه هو حكم الله تعالى المجعول في حقه يكون متيقناً.

فيمكن دفعه بأن حصول الظن مع قطع النظر عن كبرى التصويب لا ينافي انقلابه لليقين بعد الالتفات للكبرى المذكورة. فالعمدة ما سبق.

وأضعف وجوه التصويب هو الوجه الأول، لمنافاته لجميع ما تقدم، ولما هو المعلوم من الكتاب والسنة وضرورات المتشرعة من جعل الأحكام الشرعية، بل إكمال الدين مع قطع النظر عن الاجتهاد فيها، ولذا يجب الفحص عن الأحكام بالاجتهاد أو التقليد، مع وضوح عدم وجوب شرط التكليف.

ص: 350


1- تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام ضبطها تفصيلاً.

كما يمكن حصول العلم الإجمالي بالتكليف، قبل تناول الاجتهاد له بخصوصيته، مع أن ثبوت أحد الأطراف بخصوصيته راجع إلى سبق التكليف للاجتهاد وإمكان خطأ الاجتهاد في تعيينه، إذ لا مجال للالتزام بثبوت أحدهما المردد لاستحالة جعل المردد، ولا التخييري للقطع بعدمه، بل قد يستحيل جعله، كالتخيير بين الوجوب والحرمة أو بين الاستحباب والوجوب.

هذا مضافاً إلى استحالة الوجه المذكور من التصويب في نفسه، لأن الاجتهاد لما كان راجعً إلى مقام إثبات الأحكام كان متأخراً عنها رتبة ومتفرعاً عليها تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت، فلا يتحقق موضوع الاجتهاد إلا في فرض احتمال جعل أحكام يجتهد فيها، لا مع العلم بعدم جعل حكم في الواقعة.

والرجوع إلى بعض ما ينقل من كلماتهم في وجه البناء على ذلك شاهد باختلاط مقام الإثبات عليهم بمقام الثبوت ومقام التنجيز بمقام الجعل، فحيث كان إثبات التكليف وتنجيزه متفرعاً على الاجتهاد في الجملة تخيلوا إناطة الجعل به. ووهنه ظاهر.

تنبيه: دعوى اختصاص التخطئة بالأحكام الوافعية

تنبيه: ربما يدعى اختصاص التخطئة بالأحكام الواقعية، مع لزوم التصويب في الأحكام الظاهرية، للعلم معها بالوظيفة الفعلية.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالوظيفة الفعلية ما يترتب عليه العمل بلا واسطة، وهو القطع بالحكم الواقعي أو الوظيفة الظاهرية العقلية أو الشرعية فلا ريب في عدم الخطأ فيه، لأنه أمر وجداني غير قابل للخطأ، وإن كان المراد بها الوظيفة الظاهرية المجعولة شرعاً كأصالة البراءة

ص: 351

والاستصحاب ونحوهما مما يترتب عليه العمل بواسطة وصوله أمكن الخطأ فيها، لتبعية الوظيفة

الشرعية لجعلها كبروياً ولتحقق موضوعها، وكلاهما أمر واقعي قابل للخطأ وجوداً وعدماً، كما لو اعتقد المجتهد جريان الاستصحاب التعليقي، وكان غير جار واقعاً، أو عدم جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي وكان جارياً واقعاً، أو اعتقد بتحقق موضوع الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث المستند لما يراه دليلاً، والشك في البقاء، وكان مخطئاً في اعتقاد دليلية دليل الحدوث، أو بعدم تحقق موضوع الاستصحاب، لخطئه في اعتقاد دليلية دليل الارتفاع، حيث يكون مع ذلك مخطئاً في تشخيص الوظيفة الظاهرية، وإن كان معذوراً في عمله عليها، لاعتقاده بتماميتها.

نعم، لا يبعد البناء على عدم الخطأ في تشخيص الوظائف العقلية، لأن موضوعها واقعاً عدم وصول الدليل، لا عدم الدليل المجعول واقعاً، وأن كبرياتها وجدانية غير قابلة للخطأ.

اللهم إلا أن يلتبس الأمر على الوجدان، ولذا يقع الاختلاف فيها. فلاحظ.

المسألة الثالثة: فتوى المجتهد بالحكم الواقعي اعتماداً على الحجة

المسألة الثالثة: لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد بالحكم الشرعي الواقعي مع العلم الحقيقي به، لضرورة أو إجماع أو غيرهما.

وكذا مع قيام الحجة عليه بناء على جواز الإخبار بالواقع اعتماداً على الحجة.

لكن الظاهر عدم جوازه، وأنه لابد معه من ابتناء الخبر على بيان مفاد الحجة، لا على التعهد بالمخبر به مطلقاً ومع قطع النظر عنها، وهو الظاهر

ص: 352

من حال أهل الفتوى، لعدم تعلق غرض المستفتي ببيان الحكم الواقعي، بل ببيان ما ينبغي العمل عليه، ولو كان هو مفاد الأصل الشرعي أو العقلي.

نعم، لما كان الغرض من الفتوى ترتب عمل المستفتي لزم تحقق موضوع الوظيفة العملية في حقه، ولا يكفي، بل لا يعتبر تحققها في حق المفتي، بخلاف ما لو كان المصحح للفتوى قيام الحجة على الحكم الواقعي، حيث يلزم تحقق موضوع الحجية في حق المفتي، لأن جواز الافتاء أثر عملي متعلق به، فيتبع قيام الحجة عنده، وإن كان ترتب عمل المستفتي على الفتوى مشروطاً بتحقق موضوع الحجية في حقه أيضاً. وتمام الكلام في ذلك في مباحث التقليد إن شاء الله تعالى.

ص: 353

ص: 354

المقام الثاني : في التقليد
اشارة

المستفاد من بعض كلمات اللغويين واستعمالات أهل اللغة أن التقليد عبارة عن جعل الشيء في عنق الغير، وبلحاظ ذلك يستعمل في إلزام الشخص بشيء وتحميله مسؤوليته، لأن العنق مورد لتحمل المسؤولية عرفاً.

ومنه قول الصديقة (عليها السلام):

«لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها».

قال في لسان العرب:

«والقلد إدارتك قُلباً على قُلب من الحلي، وكذلك ليّ الحديدة الدقيقة على مثلها... وكل ما لوي على شيءٍ فقد قلد. والقلادة ما جعل في العنق يكون للإنسان والفرس والكلب والبدنة التي تهدى ونحوها... ومنه التقليد في الدين، وتقليد الولاة الأعمال... وقلده الأمر ألزمه إياه... وتقلد الأمر احتمله، وكذلك تقلد السيف...».

وأطلق في العرف على متابعة الغير في العمل. ولعله بلحاظ أن التابع قد حمل المتبوع مسؤولية عمله، كأنه جعله في عنقه، لتحمل المفتي مسؤولية الفتوى ارتكازاً، كما يناسبه ما في صحيح ابن الحجاج: «كان أبو عبد الله (ع) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي

ص: 355

عن مسألة فأجابه فلما سكت قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئاً... فقال أبو عبد الله (ع) هو في عنقه قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن»(1) وخبر أبي بصير: «دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله (ع) وأنا عنده فقالت: جعلت فداك إنه يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق. فقال: ما يمنعك من شربه؟ فقالت: قد قلدتك ديني، فألقى الله عز وجل حين ألقاه فأخبره

أن جعفر بن محمد (ع) أمرني ونهاني. فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل. لا والله لا آذن لك في قطرة منه...»(2) وغيرهما.

لكن الظاهر أن الجهة المذكورة وإن كانت هي المنشأ في إطلاق التقليد على ذلك، إلا أن الاستعمال بعد ذلك قد جرد عنه ولحظ فيه محض المتابعة والمحاكاة مع قطع النظر عنها، ولذا صح إطلاقه في ما لا مسؤولية فيه من الأعمال، وعدي ب «في» فيقال: قلده في عمله، لا: قلده عمله.

وعليه جرى ظاهراً استعمال التقليد في غير واحد من الروايات، كخبر البزنطي: «قلت للرضا (ع): إن بعض أصحابنا يقولون: نسمع الأمر يحكى عنك وعن آبائك فنقيس عليه ونعمل به. فقال: سبحان الله ما هذا من دين جعفر... فأين التقليد الذي كانوا يقلدون جعفراً وأبا جعفر (عليهما السلام) قال جعفر: لا تحملوا على القياس...»(3) وخبر محمد بن عبيدة قال: «قال لي أبو الحسن (ع): يا محمد أنتم أشد قليداً أم المرجئة؟ قال: ثانيها قلدنا وقلدوا... فقال أبو الحسن (ع): إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته

ص: 356


1- الوسائل ج: 18 باب: 7 من أبواب آداب القاضي حديث: 2.
2- الوسائل باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2 مع ملحقه في الهامش.
3- الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.

وقلدوه، وإنكم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه، فهم أشد منكم تقليدا»(1) وغيرهما.

ولا يبعد جريان اصطلاحهم على ذلك في التقليد وعدم خروجهم عنه لمعنى آخر، فإنهم وإن عرفوه..

تارة: بالعمل بقول الغير.

وأخرى: بالأخذ به.

وثالثة: بقبوله، إلا أن من القريب رجوع الجميع لمعنى واحد، لعدم تعرضهم للخلاف من هذه الجهة، كما نبه له سيدنا الأعظم (قدس سره)، وذلك المعنى هو المتابعة في العمل، لمطابقته لما عرفت من المعنى العرفي المطابق لبعض الاستعمالات الشرعية، فهو في الأمور الشرعية كالتقليد في غيرها من الأعمال والأفعال، لاحتياج خروجهم عنه إلى عناية يبعد وقوعها.

وعليه يكون من العناوين المنتزعة من صدور العمل تبعاً لفتوى الغير وطبقاً لها.

لكن يظهر من غير واحد من المتأخرين أنه سابق على العمل، فهو..

إما الأخذ بقول الغير والالتزام به على أنه الحكم الظاهري اللازم المتابعة، كما قد يظهر من الفصول والمحقق الخراساني (قدس سره).

أو البناء على متابعته في مقام العمل، كما يظهر من العروة الوثقى.

وقد يناسب ذلك قولهم: عمل عن تقليد، لظهوره في سبق التقليد على العمل.

ص: 357


1- الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.

إلا أنه لا مجال للخروج به عما ذكرنا.

وكيف كان، فلا ثمرة في تحقيق مفهوم التقليد الاصطلاحي، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

كما لا ثمرة مهمة في تحقيق مفهومه العرفي واللغوي، لعدم أخذ عنوانه في أدلة أحكامه، وإنما أخذ في مرسل الاحتجاج(1)، المتضمن لاعتبار العدالة في مرجع التقليد التي كان وضوح اعتبارها مغنياً عن النظر في المرسل المذكور.

ومن هنا يتعين تحديد موضوع تلك الأحكام تبعاً لأدلتها، بلا حاجة إلى تحديد مفهوم التقليد.

فالمهم هو النظر في أحكام التقليد واستحصال الدليل عليها، وهو ما يتكفله البحث في المقام.

وقد تعارف في عصرنا وما قاربه تعرض الفقهاء لجملة من مسائل التقليد في مقدمة رسائلهم العملية وكتبهم الفتوائية، واستيفاء جملة وافية من فروعه الدقيقة التي هي مورد الابتلاء. وممن تعرض لذلك سيدنا الأعظم (قدس سره) في كتابه (منهاج الصالحين)، وقد سبق منا تحرير الاستدلال على الفروع التي ذكرها عند الشروع في تدريس الكتاب المذكور، حيث أفضنا في شرح كلامه والاستدلال له مع ما يناسبه من القواعد والفروع. وقد استغرق ذلك زمناً طويلاً.

ومن هنا لا نرى التعرض هنا لتلك الفروع، بل الأولى الانشغال بما لم يسبق منا التعرض له، لأن الوقت لا يسع الإعادة والصدر يضيق عنها.

ص: 358


1- الوسائل ج: 18 باب: 10 من أبواب صفات القاضي حديث: 20.

فنحاول الاقتصار على تنقيح مقتضى القواعد الأولية في التقليد والإشارة لأدلتها العامة، لأنه الأنسب بمباحث الأصول، والاكتفاء في الفروع والخصوصيات بما حرر في الفقه.

ونسأله تعالى أن يعيننا في ذلك ويسددنا فيه، حتى يكون البحث متناسقاً منتظماً مفيداً مثمراً.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن المعروف من مذهب الأصحاب اجتزاء العامي بالتقليد. بل الظاهر أنه مما أطبق عليه المسلمون في الجملة، كما تشهد به سيرتهم على اختلاف مذاهبهم.

الخلاف من بعض الأخباريين لفظي

والظاهر أن خلاف بعض الأخباريين فيه معنا لفظي، لأن المحكي عنهم الذي تشهد به في الجملة بعض كلماتهم دعوى أن ما صدر من معاصري الأئمة (ع) وجرت به سيرة الإمامية خلفاً عن سلف ليس من التقليد، بل هو نظير قبول الرواية المنقولة بالمعنى، الذي لا إشكال في جوازه، وأنه لا يجوز تقليد من يجتهد في استنباط الحكم برأيه، بل يجب أخذ أحكام الدين من المعصومين (ع) ونحن متفقون معهم في حرمة أخذ الحكم من غير المعصومين (ع) ممن يستنبطه بإعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مع الإعراض عنهم (ع) كما هو دأب العامة الذين استفاضت النصوص بالإنكار عليهم والردع عن طريقتهم، وأن مرجع التقليد الجائز هو الرجوع للعلماء في معرفة الحكم الصادر من أهل البيت (ع) الذي جعلوه نظير قبول الرواية بالمعنى الذي اعترفوا بجوازه.

نعم، مع تعذر معرفة حكمهم (ع) الواقعي والظاهري يجوز للعالم بيان الوظيفة العقلية الظاهرية القطعية. فإن أنكروا ذلك كنا مخالفين لهم.

ص: 359

إلا أن إنكارهم إن رجع إلى دعوى تعذر حصول القطع بالوظيفة المذكورة، خرج عما نحن فيه، ورجع للخلاف في الصغرى، كالخلاف في كثير من المباني الأصولية.

وإن رجع إلى دعوى عدم حجية القطع المذكور، فقد سبق ضعفها في مباحث القطع.

وإن رجع إلى دعوى عدم جواز التقليد فيها وإن جاز للمجتهد العمل بها، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى بعد الفراغ عن أصل جواز التقليد في الجملة.

أدلة جواز التقليد

هذا، وقد حكي عن الحلبيين وجوب الاجتهاد عيناً. وهو غريب.

وكيف كان، فقد أطالوا الكلام في دليل جواز التقليد من الكتاب والسنة والإجماع وسيرة المتشرعة والعقلاء وكثر منهم النقض والإبرام في ذلك.

لابدية انتهاء العامي فيه إلى حجة يدركها

وينبغي قبل ذلك تقديم أمر، وهو أن التقليد لما كان مورد عمل العامي فلابد من انتهاء العامي فيه إلى حجة يدركها، ولا يكفي قيام الدليل عليه عند المجتهد. وحينئذٍ إن غفل العامي عن الخلاف في

جوازه وقطع به فلا إشكال، حيث يستغني بقطعه عن الرجوع للمجتهد فيه. وكذا إن التفت للخلاف وقطع بخطأ أحد الطرفين. وإن شك فيه لم ينفع التقليد فيه، لعدم انتهاء جواز التقليد فيه للعلم.

ومن هنا قد يقال: إنه لا ينفع قيام الدليل على جوازه أو عدم جوازه عند المجتهد، بل لا أثر له، لعدم كونه مورداً لعمله وعدم رجوع العامي له فيه.

ص: 360

بل هو المتعين بناء على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن مشروعية التقليد للعامي من البديهيات الجبلية الفطرية المستغنية عن الدليل، ولولا ذلك لا - لانسدّ) باب الامتثال في حقه، لتعذر الرجوع عليه للأدلة الشرعية التفصيلية من الكتاب والسنة، وتعذر تقليده فيه، لما سبق.

إلا أنه كما ترى لا مجال للبناء عليه، لوضوح أن التقليد كسائر الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء الارتكازية القابلة للإمضاء والردع.

ولذا جرت سيرة الأصحاب على الاستدلال بالأدلة الشرعية الظاهرة في الإمضاء، وكثر النقض والإبرام منهم في ذلك، ولم يعهد منهم دعوى امتناع الردع عنه، ولا الإنكار على المخالف فيه بأنه خارج عن البداهة.

بل لا ريب في شيوع الخلاف في بعض خصوصياته، كتقليد الميت والأعلم، مع أنها مشاركة لأصل التقليد في طبيعة الحكم وملاكه، فلولا كونه أمراً محتاجاً للدليل غير مستغن عنه بالبداهة لما وقع ذلك.

وأما انسداد طريق الامتثال على العامي بدونه، فهو ممنوع، لإمكان جعل الشارع ما يخلفه على تقدير ردعه عنه، يصل إليه العامي بنفسه.

إلا أن يريد به انسداده في الواقع القائم، حيث يعلم بعدم جعل شيءٍ آخر يقوم مقامه، فيرجع إلى بيان أثر منع التقليد الخارجي لا محذوره العقلي فهو أشبه بالإشكال النقضي، الذي لا تنحل به الشبهة.

ومن ثم ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن ما هو البديهي الفطري هو التقليد في مسألة وجوب التقليد، وهو الذي يدركه العامي بنفسه من غير حاجة للدليل التفصيلي والتقليد، وأما التقليد في الأحكام الفرعية - الذي هو محل للكلام - فهو نظري محتاج للاستدلال، ويختص بمعرفته المجتهد بعد النظر

ص: 361

في الأدلة من الكتاب والسنة وغيرهما، ويرجع العامي إليه فيه.

لكنه يشكل: بأن المسألتين من باب واحد، لاتحاد الملاك فيهما واتحاد أدلتهما، وعمدة الدليل فيهما الذي يدركه كل أحد هو المرتكزات العقلائية وسيرتهم على رجوع الجاهل للعالم، التي هي كسائر سيرهم قابلة للإمضاء والردع.

الاكتفاء في الحجية بالسيرة من دون حاجة إلى إمضاء

فالعمدة في حل الإشكال: أنه سبق في الاستدلال بسيرة العقلاء على حجية خبر الواحد أن سيرة العقلاء إذا كانت من سيرهم الارتكازية التابعة لمرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وفطرهم عليها لا لمؤثرات خارجية، فهي تقتضي العمل على طبقها بنحو يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها من دون حاجة لإحراز عدم الردع، فضلاً عن إحراز الإمضاء.

وحيث كان التقليد مقتضى سيرة العقلاء، وكانت السيرة المذكورة ارتكازية، لابتناء نظام المعاد والمعاش على رجوع الجاهل للعالم في كل شيءٍ، كانت السيرة المذكورة حجة في إثبات مشروعية التقليد ما لم يثبت الردع عنها، وحيث لا يتيسر للعامي الاطلاع على الردع بنفسه كانت حجة له وعليه في إثبات مشروعيته، بالنظر الأول ولذا كان تقليده مقتضى طبعه الأولي.

ولو فرض تشكيكه في مشروعيته بعد التفاته للخلاف فيه، المثير لاحتمال الردع عنه، تعين عليه تقليده في جواز التقليد، لمشروعية التقليد المذكور له، لتعذر اطلاعه على الردع عليه، فإن أفتاه المجتهد بالجواز قلد في الأحكام الفرعية، وإن أفتاه بعدمه لم يجز له التقليد فيها، لوصول الردع

ص: 362

له عنه بتقليده المذكور.

وكذا لو غفل عن حرمة التقليد، فقلد في الأحكام الفرعية رأساً بمقتضى طبعه، وكان رأي المجتهد الذي قلده، والذي هو حجة عليه بالنظر الأولي، عدم جواز التقليد، حيث يجب عليه تنبيهه لذلك بمقتضى وجوب تعليم الأحكام، فتسقط فتاواه عن الحجية في حقه بعد ذلك.

إن ثانيها إذا كان المجتهد يرى عدم جواز التقليد، لنهوض الأدلة بنظره للردع عنه فلا فرق بين التقليد في جواز التقليد والتقليد في الأحكام الفرعية، فكما لا يجوز الثاني لا يجوز الأول.

ولازم ذلك عدم حجية فتواه بعدم جواز التقليد أيضاً، فلا تصلح لإحراز الردع عن السيرة على جوازه.

بل يعلم تفصيلاً بعدم حجيتها، إما لخطأ المجتهد فيها، أو لإصابته في عدم جواز التقليد.

ثانيها لا وجه لعدم الفرق بين التقليدين لإمكان الفرق بينهما في نظر الشارع، بل هو المتعين بعد انحصار وصول الردع عن التقليد الثاني للعامي بالتقليد الأول، حيث يستحيل معه اشتراكهما في ملاك الحجية أو عدمها، بل يتعين اختلافهما في ذلك، وحيث كان مقتضى الحجية حاصلاً في الأول بمقتضى السيرة، ولم يصل الردع عنه، لعدم صلوحه للردع عن حجية نفسه - حيث يلزم من حجيته وصلوحه للردع عدمهما - تعين حجيته وصلوحه للردع عن التقليد في الأحكام الفرعية.

وقد ظهر مما ذكرنا ترتب الثمرة على نظر المجتهد في أدلة التقليد، حيث يتسنى له تشخيص الوظيفة للعامي الذي يرجع إليه في ذلك بمقتضى

ص: 363

السيرة التي هي حجة في حقه، لعدم الردع عنها.

نعم، لو قلنا بتوقف حجية السيرة على ثبوت الإمضاء تعذر رجوع العامي للمجتهد في ذلك ولم يكن نظر المجتهد في الأدلة المذكورة مثمراً، كما قرر في الإشكال، إلا أن يوجب قدرته على إقناع العامي على خلاف ما يكون عليه بدواً، بحيث يوجب تشكيكه أو قطعه، كما قد يوجب قدرته على اقناع المجتهد المخالف له من دون أن يكون رأيه حجة على أحدهما. ولا ضابط لذلك.

عدم الطريق لإحراز الردع عن السيرة

إذا عرفت هذا، فالظاهر أنه لا طريق لإحراز الردع عن مقتضى السيرة المذكورة، لعدم الأدلة الخاصة على الردع عن التقليد، لاختصاص ما ورد بتقليد أهل الخلاف ونحوهم ممن لا يرجع في أحكامه لأهل البيت (ع)، بل يعتمد فيها على غيرهم، أو على إعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مما لم ينزل الله سبحانه وتعالى به من سلطان، أو بتقليد الجهال ممن لا داعي لتقليدهم إلا العصبية العمياء والحمية الجاهلية، كما أشير إليه في مثل قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(1).

وعدم صلوح ما دل على عدم حجية غير العلم له، لعدم ثبوت عموم له ينهض ببيان عدم الحجية لكل ما لا يفيد العلم، فضلاً عن أن ينهض بالردع عن مثل التقليد مما كان مورداً للسيرة العقلائية، ولا سيما مثل هذه السيرة الارتكازية المستحكمة التي ابتنى عليها نظام معاش العباد ومعادهم لاحتياج الردع عنها إلى بيان خاص ملفت للنظر، ولا يكتفى بمثل العموم

ص: 364


1- سورة المائدة: 104.

الذي ينصرف عن موردها بسبب استحكامها.

وقد سبق في أول الكلام في مباحث الحجج عند الكلام في أصالة عدم الحجية، وعند الاستدلال على حجية خبر الواحد بسيرة العقلاء ما ينفع في المقام. فراجع.

بل الظاهر استفادة إمضاء السيرة المذكورة من أمور..

ما يمكن أن يستفاد منه الإمضاء الأول سيرة المتشرعة
اشارة

الأول: سيرة المتشرعة خلفاً عن سلف وإجماعهم العملي على الاجتزاء بأخذ الأحكام من المجتهدين، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاجتهاد لغالب المسلمين، فلو لم يشرع لهم ذلك ولم يجر عملهم عليه لزم الهرج والمرج واختل نظام معاشهم ومعادهم.

قال في التقريرات: «وبالجملة: فجواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة للعامي وغيره، وليس علم العامي بوجوب الصلاة عليه في الجملة أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتحاد طريقهما في حصول العلم من مسيس الحاجة وتوفر الدواعي عليه واستقرار سيرة المعاصرين للأئمة (ع) والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا...».

والظاهر تفرع السيرة المذكورة على سيرة العقلاء المشار إليها، فتكشف عن إمضائها.

ولو فرض اشتباه الحال على بعض العوام لبعض الشبه والتشكيكات التي لا يحسنون دفعها فهو لا يشتبه على أهل العلم ممن يلتفت للسيرتين المذكورتين ويحسن دفع الشبه بالأدلة الضرورية.

الثاني: آية النفر

الثاني: قوله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

ص: 365

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1) ، فإن التفقه عبارة عن تعلم الأحكام وأخذها عن أدلتها، وظاهر الإنذار هو الإنذار بما تفقهوا فيه، فيدخل فيه بيان الأحكام الإلزامية المستتبعة للعقاب والفتوى بها، وحيث كان ظاهر جعل الحذر غاية للإنذار مطلوبيته تبعاً له كان ظاهراً في حجية الفتوى بالأحكام الإلزامية، ويتم في غيرها بعدم الفصل، بل بفهم عدم الخصوصية بسبب ظهورها في كون ترتب الحذر على الإنذار طبيعياً، لا تعبدياً محضاً، حيث لا يكون ذلك إلا بلحاظ سيرة العقلاء التي ارتكز مضمونها في الأذهان، حيث يكون ظاهراً في إمضاء السيرة المذكورة التي لا يفرق فيها بين الأحكام الإلزامية وغيرها.

بل ربما يدعى شمول الإنذار والحذر لبيان الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية، لما يتضمنه بيانها من بيان فوت الثواب بالتخلف عن متابعتها، فيحسن الحذر من ذلك. فتأمل.

وقد تقدم في الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد الكلام في بعض الجهات الراجعة للاستدلال بها مما ينفع في المقام.

كما تقدم الإشكال في الاستدلال بآيات أخر قد استدل بها على حجية الفتوى أيضاً، كآيتي الذكر والكتمان، حيث يظهر بمراجعة ذلك ضعف الاستدلال بها على حجية الفتوى.

الثالث: النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم ونحوها

الثالث: النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم وتعليمه وتعلمه والانتفاع به والرجوع للعلماء في القضاء وأخذ الأحكام منهم ونحو ذلك(2)، حيث يظهر من مجموعها المفروغية عن جواز الاعتماد على العلماء في

ص: 366


1- سورة التوبة: 122.
2- راجع الوسائل ج: 18 باب: 4، 5، 8، 9، 10، 11، 12، 13، من أبواب صفات القاضي.

معرفة الأحكام والعمل عليها، لكن لا عموم للنصوص المذكورة، لعدم التصدي فيها لبيان الحجية، وإنما استفيد منها المفروغية عنها تبعاً لسيرة العقلاء المشار إليها، فتدل على إمضائها، ويستفاد العموم من السيرة لا منها.

نعم، يستفاد العموم من قوله (ع) في التوقيع الشريف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(1)، وقوله (ع) في ما كتبه لأحمد بن حاتم وأخيه فاصمداً في دينكما على كل مسن في حبنا، وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»(2) وقول الصادق (ع) في مرسل الاحتجاج: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه»(3).

اللهم إلا أن يستشكل في الأول باحتمال الرجوع لأخذ الرواية، لا الفتوى، فتدل على حجية خبر الواحد. فتأمل.

وفي الثاني بوروده لبيان اشتراط الإيمان في المرجع، من دون تعرض لمن يرجع إليه، ليؤخذ بعمومه، فهو نظير ما في كتاب أبي الحسن (ع) لعلي بن سويد من قوله: «لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين...»(4).

مضافاً إلى الإشكال في الكل بضعف السند، وعدم وضوح انجبارها بعمل الأصحاب ومفروغيتهم عن الحكم، لقرب احتمال اعتمادهم على

ص: 367


1- الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.
2- الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 45.
3- الوسائل ج: 18 باب: 10 من أبواب صفات القاضي حديث: 20.
4- الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 42.

الأدلة الأخرى.

الرابع: ما تضمن الحث على الجلوس للفتوى
اشارة

الرابع: ما تضمن حث أبان بن تغلب على الجلوس للفتوى(1) وتقرير معاذ بن مسلم على ذلك(2) لوضوح أن مبنى استفتاء الناس لهما على العمل بما يفتيان لهم، كما هو مقتضى السيرة.

ولا يقدح في ذلك احتمال خصوصيتهما في نظرهم (ع).

لوضوح أن خصوصيتهما إنما تكون دخيلة في الأمر بالفتوى والتقرير عليها، لا في عمل المستفتي بفتواهما، لعدم ابتناء استفتائهم لهما على الاطلاع عليها رأساً ولا بتوسط اطلاعهم على أمر الإمام وتقريره، بل على الرجوع لهما لمحض ثقتهم بهما كسائر أهل العلم بمقتضى السيرة، فيدل على إمضائها. فتأمل جيداً.

وأما الاستدلال بالنصوص الكثيرة المتضمنة إرجاع الأئمة (ع) إلى آحاد أصحابهم كأبي بصير ومحمد بن مسلم والحارث بن المغيرة والمفضل بن عمر ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم والعمري وابنه(3).

بدعوى: أنها وان وردت في موارد خاصة، إلا أنه يقرب فهم عدم الخصوصية لمواردها والتعدي لجميع موارد السيرة الارتكازية. ولا سيما مع تضمن جملة منها التنبيه إلى أن ملاك الإرجاع الوثاقة والأمانة.

فيشكل: بأن ملاك الإرجاع الذي تضمنته هو وثوقهم (ع) بدين

ص: 368


1- ذكر في ترجمة ابان من كتاب النجاشي ص: 18 الطبعة الثانية والفهرست ص: 41 طبع النجف الأشرف، والخلاصة ص 21 طبع النجف الأشرف.
2- الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 36.
3- راجع الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي ولم يذكر فيه الارجاع للمفضل، وإنما ذكر في ترجمته من كتاب الكشي ص: 277 طبع النجف الأشرف.

الشخص وعلمه، وهو لا يستلزم جواز التقليد لكل من يثق به المكلف حسبما يسعه ويتوصل إليه، مع قطع النظر عن شهادتهم (ع) الذي هو محل الكلام ومورد السيرة، فليست تلك النصوص في مقام إمضاء سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة، ولا يستفاد منها تبعاً، بل هي متكفلة ببيان موارد ثقتهم (ع) التي يرتفع صاحبها إلى أسمى المراتب، لكشفها عن كماله بمرتبة عالية لا تحرز في غيره.

ولذا يمكن الإرجاع بالنحو المذكور مع الردع عن السيرة، لسد الخلل والتعويض عن النقص الحاصل بالردع عنها.

هذا، وقد استدل بعض مشايخنا بما دل على حرمة الفتوى بغير علم من النصوص الكثيرة(1)، حيث يقتضي مفهومها - ولو بقرينة الحكمة - جواز الفتوى عن علم الملازم عرفاً لجواز العمل به.

لكن لا يخفى أن المفهوم المذكور لما كان من سنخ مفهوم القيد فالأولى الاستدلال بالنصوص الدالة بالمنطوق على جواز الفتوى عن علم(2).

نعم، الاستدلال بكلتا الطائفتين على جواز التقليد إنما يتم في ما كان منها ظاهراً في الفتوى لأجل العمل، كما هو حال بعضها ولا يتم في كثير منها، لإمكان تحريم الفتوى بغير علم وجوازها عن علم بلحاظ حرمة

ص: 369


1- راجع الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حيث يوجد فيها كثير من النصوص المذكورة ويوجد في غيره من الأبواب بعض النصوص المتفرقة في ذلك.
2- الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 5، 6، 9، 10، 28، وباب 8 من الأبواب المذكورة حديث 18، 52، 82 وباب: 10 من الأبواب المذكورة حديث: 11، 15 وباب: 11 من الأبواب المذكورة حديث: 12، 11 وغيره.

القول في الدين بغير علم وإن لم يستتبع العمل، كما لو صدر ممن ليس أهلاً للتقليد بنظر السامع.

وقد ظهر من جميع ما تقدم: أن النصوص الظاهرة في جواز العمل اعتماداً على فتوى أهل العلم كثيرة جداً على اختلاف ألسنتها وتباين مضامينها.

وهي وافية بإحراز إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على ذلك كسيرة المتشرعة وآية النفر. ومن هنا كان جواز التقليد من الواضحات الملحقة بالضرورات الفقهية لو لم يكن من الضرورات الدينية.

وإنما أطلنا الكلام فيه واستقصينا أدلته للتنبيه على أن عموم الحجية تابع لعموم السيرة الارتكازية المذكورة. بمعنى أنه لا مجال للبناء عليه في غير موردها، لعدم نهوض الأدلة الشرعية بذلك، لأن المعتبر منها غير متكفل ببيان الحكم بوجه عام، ليؤخذ به وإن قصرت السيرة عنه، بل هو إما ظاهر في المفروغية عنه بسبب السيرة المذكورة أو غيرها من دون أن يتصدى لحدوده، أو مجمل من حيثية سعة الحكم، أو وارد في موارد خاصة لا مجال للتعدي عنها بفهم عدم الخصوصية في غير موارد السيرة.

كما أن الأصل عموم الحكم تبعاً للسيرة بعد ما سبق من الاكتفاء في حجيتها بعدم ثبوت الردع. وبعد ظهور الأدلة في إمضائها، حيث يفهم منها بسبب ارتكازية مورد السيرة إمضاء الأمر الارتكازي على سعته للغفلة عن خصوصية الموارد والتفريق بينها، بل هو محتاج للتنبيه.

نعم لو دل الدليل على عدم الحجية في بعض الموارد كان صالحاً للردع عن السيرة فيها ومخصصاً لعموم الحجية لو كان.

ص: 370

وحيث اتضح ذلك فلا مجال لتحقيق موارد الردع الخاصة في المقام، بل يتعين إيكاله للفقه، كما سبق عند بيان منهج البحث، وإنما المناسب للبحث هنا تحديد موارد السيرة وما يتعلق بذلك ويناسبه، وهو يكون في ضمن مسائل..

المسألة الأولى: في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة

المسألة الأولى: لا ريب في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة في جواز الرجوع إليهم بمقتضى السيرة، بأن يوثق بكونهم في مقام إعمال خبرتهم واجتهادهم وبيان ما انتهى إليه نظرهم من دون تسامح.

إلا أن المعروف من مذهب الأصحاب اعتبار الإيمان والعدالة في مرجع التقليد، وادعي عليه إجماعهم، بل الظاهر من حالهم ومن بعض كلماتهم المفروغية عنه، على خلاف ما هو المعروف منهم في الخبر الحسي، حيث يكتفي كثير منهم بالوثوق بالمخبر على مقتضى السيرة.

وتحقيق صلوح الإجماع المذكور للاستدلال كبعض الوجوه الخاصة الأخرى لا يناسب نهج البحث الذي التزمناه على أنفسنا، بل يوكل للفقه، لخروجه عن تحديد مورد السيرة، فالعمدة توجيهه على ما يطابق السيرة ويناسبها.

أما الإيمان فلما سبق من أن الرجوع للمجتهد لمعرفة مؤدى الحجج الثابتة في حق العامي مما هو مقتضى دينه الحق، وذلك لا يصدق في حق غير المؤمن إذا اعتمد الطرق والحجج التي يقتضيها مذهبه دون مذهبنا كأخبار العامة وقياساتهم واستحساناتهم، أو أهمل الطرق التي هي حجة عندنا، لأنه ليس من أهل الخبرة في ما يهم المكلف معرفته، بل في أمر آخر لا يترتب عليه عمله.

ص: 371

وأما لو أحرز كونه في مقام اعتماد الطرق التي يعتمدها أهل الحق والجري على ما يقتضيه مذهبهم في الاستنباط فهو وإن كان من أهل الخبرة بنظره في ما يهم المكلف معرفته ويترتب عليه عمله،

إلا أنه يشكل اعتماده عليه بلحاظ عدم انضباط الطرق المذكورة، لأن كثيراً من القرائن لا تتهيأ لغير المؤمن، كإجماعات الخاصة وشهرة الحكم بينهم، وهجرهم للأخبار وعملهم بها، وتوثيقهم للرواة وجرحهم لهم، وسيرة المتشرعة ومرتكزاتهم، ونحو ذلك مما يكون دخيلاً في استنباط المجتهد المؤمن بسبب حسن ظنه بالمؤمنين واعتقاده بعلمائهم وعوامهم، وبأنهم في مقام تلقي الأحكام وأخذها من أئمتهم (ع) والاحتياط لها وعدم التساهل فيها، ولا التعصب والعناد في قبال أدلتها الذي هو ديدن أهل الباطل، ولا يتهيأ ذلك للمخالف، لعدم قدسيتهم في نفسه ولا يحسن الظن بهم.

كما أنه لا ضابط لذلك ليمكن فرض جريه على قواعده وإن لم يحسن الظن فعلاً.

ومرجع ذلك إلى نقص خبرته، لعدم إحاطته بمقدمات الاستنباط المتيسرة للمؤمن، فلا يعتمد على استنباطه. وهذا بخلاف الرواية المستندة للطرق الحسية المنضبطة التي لا دخل للإيمان بها.

ونظير ذلك يجري في العدالة، إذ بسبب عدم انضباط مقدمات الاستنباط يكون تمييز موارد الحجة عن غيرها محتاجاً إلى مرتبة عالية من الدين والورع، ولا سيما في الأحكام المرتبطة ببعض العواطف والاعتبارات، حيث يكون للتدين والورع وشدة الخوف من الله تعالى والحذر من أليم عقابه أعظم الأثر في مراقبة النفس ومحاسبتها في أداء الوظيفة، كي يميز

ص: 372

المجتهد الحجج عن غيرها، فلا يركن للشبه ويسوق ما ليس دليلاً مساق الدليل، ولا يؤمن الفاسق على ذلك، وإن كان ثقة في نقله، بل لابد من العدالة بمرتبة عالية، نظير ما تضمنه مرسل الاحتجاج المتقدم، وارتكز في أذهان متشرعة الفرقة الناجية والطائفة المحقة، حتى امتازت بذلك بين فرق المسلمين كما امتاز أئمتها وأولياؤها (ع) بواقعيتهم وطهارتهم، فكان ذلك من شواهد حقيتها وواقعيتها ومتابعتها لأئمتها (ع) وتأثرها بهم.

ونسأله تعالى أن يثبتها على ذلك ويعينها عليه ويعيذها من مضلات الفتن، لتبقى علماً للحق، ومناراً للهدى، ومثالاً حياً للدين القويم، وحجةً على الأمم. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله، وله الشكر على توفيقه.

نعم، هذا إنما يقتضي اعتبار الإيمان والعدالة حين الاستنباط والفتوى، لإ بقاءهما حين التقليد بعد ذلك، بل يحتاج المنع من تقليد من عرضت له فتنة أزالته عن الإيمان أو العدالة بعد صدور الفتوى منه إلى دليل آخر لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، ويوكل للفقه.

ثم إن هذا الوجه لو تم كان صالحاً لإثبات اعتبار البلوغ في المفتي لو فرض توقف الورع عليه، وإن كان الفرض المذكور غير خال عن الإشكال، إذ لا يبعد عن بعض الأطفال من أهل التمييز والإدراك والتربية الدينية والرياضة النفسية التهيؤ للمراتب العالية من الورع والالتزام باللوازم الدينية والبعد عن مخالفتها، ولو مع الأمن من العقاب على المعصية، فيحتاج المنع من تقليدهم إلى دليل آخر مخرج عن مقتضى السيرة، من إجماع أو نحوه مما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.

ص: 373

المسألة الثانية: في اعتبار العقل

المسألة الثانية: لا إشكال في اعتبار العقل في مرجع التقليد بالمقدار الذي يتوقف عليه حصول الرأي الذي هو موضوع الحجية، كما لا يعتد بالرأي الحاصل للمجنون، لخروجه عن مورد السيرة الارتكازية في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة، ولو فرض حصول الظن بإصابته للواقع، فهو ظن مجرد لا يدخل في موضوع الحجية عندهم.

وأما مانعية الجنون من التقليد حدوثاً أو بقاء مع طروئه بعد حصول الرأي والفتوى فلا تقتضيه السيرة المذكورة في المجنون المطبق، فضلاً عن الأدواري، لما هو المرتكز عندهم من أن الاعتماد على الفتوى بملاك كاشفيتها نوعاً، ولا دخل لطروء الجنون في ذلك، كما هو الحال في الرواية.

وذهاب الرأي لا أثر له في بقاء حجيته كنسيان الرواية غير المانع من حجيتها، وإنما المانع من حجيته عندهم عدول صاحبه عنه، نظير عدول الراوي عن روايته. وهو غير لازم في الجنون، ولو فرض تحققه فحيث لا يعتد برأيه الأخير - كما سبق - لا يصلح للمنع من حجية رأيه الأول، نظير عدول المجنون عن روايته التي رواها حال عقله.

هذا، وربما يستدل على مانعية الجنون من التقليد حدوثاً، بل بقاء ببعض الوجوه الأخرى التي لا مجال لإطالة الكلام فيها، لضعفها، وقد تعرضنا لها في الفقه، كما يأتي التعرض عند الكلام في مانعية الموت لما ينفع في المقام.

نعم، الظاهر أن الجنون المطبق عندهم ليس أخف من الموت، فلو فرض الإجماع منهم على اعتبار الحياة في المفتي فليس المراد منها إلا الحياة الملازمة لفعلية الرأي عرفاً غير الحاصلة معه، فيلحقه ما يأتي في

ص: 374

تقليد الميت. بخلاف الجنون الأدواري، لأنه من سنخ المرض الذي لا ينافي نسبة الرأي لصاحبه عرفاً، بل لا يبعد شمول أدلة التقليد الشرعية له، لصدق عنوان العالم والفقيه ونحوهما مما أخذ فيها عرفاً عليه.

فالبناء على جواز تقليده هو الأنسب بالأدلة. ولعله لذا حكي القول به عن بعض متأخري المتأخرين، كصاحبي المفاتيح والإشارات.

المسألة الثالثة: بعض الشرائط المذكور في كلماتهم
اشارة

المسألة الثالثة: قد ذكروا جملةً من الشرائط في المفتي، كالرجولة وطهارة المولد والحرية والحياة والبلوغ وغيرها.

ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق من أَناّ هنا بصدد تحديد موارد سيرة العقلاء، التي لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الأمور المذكورة بحسبها، وأنه لابد في البناء على مانعيتها من أدلة خاصة صالحة للردع عن السيرة، ولا يسعنا استقصاؤها، بل توكل للفقه.

إلا أنه لابد من الكلام في وجه ما هو المعروف بين الأصحاب من اعتبار الحياة في المفتي، لشيوع الابتلاء بذلك وشدة الحاجة إليه، فلا ينبغي الاتكال فيه على ما ذكرناه في الفقه، ولو لملاحظة حال حضار درسنا، حيث لم يطلع جملة منهم على تلك المباحث.

فنقول: - بعد الاتكال على الله تعالى والاستعانة به - لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الموت من التقليد بمقتضى سيرة العقلاء الارتكازية على رجوع الجاهل للعالم في سائر الأمور النظرية، لعدم دخل الحياة في ما هو المناط في حجيته، وهو كاشفيته نوعاً.

ودعوى: أن موضوع الحجية هو الرأي، ولا رأي للميت.

مدفوعة - بعد تسليم عدم الرأي للميت -: بما تقدم في اعتبار العقل

ص: 375

من أن بقاء الرأي لا دخل له في حجيته، بل لابد من عدم العدول عنه.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني من أنه لا شبهة في اعتبار بقائه في جواز التقليد شرعاً، إذ لا إشكال في عدم جوازه لو زال الرأي بجنون أو هرم أو مرض أو تبدل رأي.

إذ لا مجال لقياس ما نحن فيه بتبدل الرأي بعد ما سبق. وعدم جواز التقليد مع الجنون والهرم ونحوهما - لو تم - مستند للإجماع ونحوه مما يختص بمورده، ولو تم نظيره في المقام كان الاستدلال به لا بالوجه المذكور.

إلا أن يريد قيام الإجماع على اعتبار القدر المشترك بين الجميع، نظير ما ذكرناه آنفاً، ويتضح حاله عند الاستدلال بالإجماع.

وبالجملة: لابد في عدم جواز تقليد الميت من دليل مخرج عن مقتضى السيرة المذكورة.

في أدلة المنع من تقليد الميت
اشارة

والمذكور في كلماتهم أمور..

الأول: اختصاص أدلة التقليد بفعلية الرأي

الأول: أن أدلة التقليد الشرعية مختصة بصورة فعلية الرأي، ولا تشمل صورة زواله بالموت ونحوه، فإن العناوين التي تضمنتها - كالإنذار والفقاهة والعلم والنظر في الحلال والحرام - لا تشمل مثل الميت، ولا تصدق عليه.

وفيه.. أولاً: أنه إن أريد بذلك أن الأدلة المذكورة رادعة عن السيرة في الميت ونحوه - كما قد يظهر من بعض مشايخنا - فمن الظاهر عدم ظهورها في حصر الحجية بمواردها ونفيها عن غيرها، لتنافي السيرة فيها وتصلح للردع عنها.

وإن أريد به أن اختصاصها بذلك ملزم بالاقتصار عليه، لعدم إحراز

ص: 376

إمضاء السيرة في غيره.

فيظهر اندفاعه مما سبق من عدم توقف حجية السيرة في المقام على إحراز الإمضاء بل يكفي عدم إحراز الردع.

بل تقدم أن المستفاد عرفاً من مجموع الأدلة الشرعية إمضاء السيرة الارتكازية على سعتها، وإن قصرت عن بعض مواردها لفظاً. فراجع.

وثانياً: أن ظهور الأدلة في الجري على مقتضى السيرة والمفروغية عن ذلك موجب لانصرافها إلى بيان حجية الرأي الصادر عن العالم وإن زال علمه بعد ذلك، على ما هو مقتضى السيرة، حيث لا مجال

مع ذلك للجمود على أخذ العناوين المذكورة الظاهر في لزوم بقائها حين العمل، كما هو الحال في نظائر المقام، كالرواية والشهادة والإقرار وغيرها، مما اعتبر فيه عناوين خاصة، كالوثاقة والعدالة والعقل وغيرها، حيث يكفي تحقق العناوين المذكورة حين صدورها، لا حين العمل بها، بقرينة ظهور أدلتها في الإشارة إلى موضوع السيرة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من الفرق بين أدلة الفتوى والرواية بظهور الأولى في كون المرجع هو الفقيه لا رأيه، فيلزم صدق العنوان عليه حين الرجوع إليه، لا حين انعقاد الرأي له، وظهور الثانية في حجية رواية الثقة، فيكفي وثاقته حين صدور الرواية.

فهو غير ظاهر، لظهور بعض أدلة التقليد في ترتب العمل على فتوى الفقيه، كآية النفر المتضمنة مطلوبية الحذر بعد إنذاره.

على أنه لافرق بينهما بعد ملاحظة ظهورهما معاً في إمضاء مؤدى السيرة الارتكازية التي يكون موضوع الحجية فيها هو الرأي والرواية

ص: 377

الصادرين من الفقيه والثقة وإن خرجاً عن ذلك وقت العمل.

ولولا ذلك أشكل الأمر في الرواية وإن تم ما ذكره في لسان أدلتها، لأن مقتضى الجمود على اللسان المذكور لزوم صدق النسبة بين الرواية والثقة حين العمل بالرواية، لا حين صدورها، نظير ما لو قيل: أطع أمر جارك وأجب التماس صديقك، فإنه ظاهر في لزوم بقاء نسبة الأمر والالتماس للجار والصديق حين إطاعة الأول وإجابة الثاني. فلاحظ.

الثاني: لزوم تقليده مع وجود أعلم الأحياء

الثاني: أنه لو جاز تقليد الميت لوجب لو كان أعلم - لما هو الظاهر من مرجحية الأعلمية - فيمتنع تقليد أعلم أهل العصر لو كان في الأموات من هو أعلم منه، وهو إلتزام شنيع، كما عن الشهيد في رسالته في المسألة.

وفيه: أنه لا موجب لشناعته مع إحراز أعلميته، بل هو عين الدعوى.

ومثل ما عن المحقق الثاني من تعسر الاطلاع على الأعلم في جميع العصور.

إذ هو كتعسر الاطلاع على الأعلم في العصر الواحد في كثير من الأزمنة، يلزم الرجوع معه إلى ما تقتضيه القواعد والأدلة في مثل ذلك مما هو محرر في محله.

ويقرب منهما ما ذكره بعض مشايخنا من أن لازم ذلك الفحص عن الأعلم من بين علماء جميع العصور، وهو ضروري البطلان في مذهب الإمامية.

لاندفاعه.. أولاً: بأنه إن أريد أنه ضروري المذهب، فهو كما ترى، لعدم الالتفات إليه.

وان أريد أنه من الضرورات الفقهية بعد النظر في الأدلة ولو بلحاظ

ص: 378

سيرة المتشرعة فلعل سيرتهم في العصور المتأخرة والمتوسطة مبنية على شيوع القول بعدم جواز تقليد الميت وشهرته بين الأصحاب، وفي العصور الأولى المقاربة لعصور المعصومين (ع) مبنية على غفلة العوام عن الاختلاف بين العلماء، أو عدم تيسر معرفة فتاواهم خصوصاً مع عدم تعارف تدوين الفتاوى، كما قد يغفلون عنه في العصور المتأخرة، والفحص عن الأعلم إنما يحتاج إليه مع العلم بالاختلاف.

كما قد تكون مبنية على عدم وجوب ترجيح الأعلم، لعدم كونه اتفاقياً.

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في عدم اهتمام كثير بالفحص عن الأعلم من العلماء المعاصرين لهم، بل يسألون كل من يبتلون به ويتيسر لهم سؤاله.

وثانياً: بأن عدم وجوب الفحص عن الأعلم من الأموات لا ينافي حجية فتوى الميت ووجوب تقليده مع العلم بأعلميته، إذ لعل عدم الفحص ناشيء من تعسر الاطلاع على الأعلم من الأموات ولو نوعاً، نظير تعسر الاطلاع على حال بعض الأحياء ممن لم يتصد للتقليد، ولم يظهر ما يكشف عن مرتبته العلمية، أو سكن البلاد النائية، حيث قد يدعى سقوط الفحص عنه حينئذ، ولو بضميمة السيرة الكاشفة عن عدم تكليف الشارع بذلك.

والذي ينبغي أن يقال: من كان من الأموات غير معلوم الفتوى لا أثر لأعلميته، لأن ترجيح الأعلم فرع الاختلاف، وهو غير معلوم، وما كان منهم معلوم الفتوى يتعسر بل يتعذر غالباً الاطلاع على حالهم حين صدور الفتوى منهم، لعدم الإحاطة بطريقتهم في الاستدلال وكيفية فهمهم الأدلة وجمعهم بينها، ليعلم بذلك مدى خبرتهم، فينبغي الرجوع فيه للقاعدة المذكورة

ص: 379

فيما إذا تعذرت معرفة الأعلم، فإن بني على التخيير، فحيث يحتمل مانعية الموت من أصل التقليد يدور الأمر بين التعيين

والتخيير في الحجية، فلا يجوز اختياره اقتصاراً على المتيقن فيها، وإن بني على الاحتياط كان طرفاً له.

إلا أن يعلم أو يطمأن بأنهم دون المتأخرين نوعاً، كما قد يشهد به التأمل في حال من تيسر الاطلاع على طريقتهم في الاستدلال، حيث تظهر متانة المتأخرين وضبطهم لقواعد الاستدلال وسيطرتهم على إعمالها، تبعاً لتطور العلم.

غاية الأمر أنه يعلم في الجملة تيسر بعض الأدلة والقرائن للقدماء، لقرب عصرهم من عصور المعصومين (ع) كمعرفة حال الرواة وصحة الكتب ونحو ذلك مما خفي بعضه على المتأخرين.

إلا أن عدم انضباط ذلك أوجب عدم تيسر إدراك حالهم فيه.

نعم، لو دار الأعلم بين أشخاص محصورين من الأحياء والأموات يتيسر الاطلاع على حالهم وعلى فتاواهم فوجوب الفحص عنه بينهم هو المتعين لو قيل بجواز تقليد الميت ووجوب تقليد الأعلم. وقيام السيرة على ذلك بالنحو الكاشف عن رأي المعصومين (ع) في حيز المنع.

الثالث: ما أشار إليه العلامة في المبادي من انعقاد الإجماع بموت المخالف المستلزم لعدم الاعتداد برأي الميت.

الثالث: انعقاد الإجماع بموت المخالف

وهو مبني على حجية إجماع أهل العصر الواحد، لقاعدة اللطف أو نحوها، وقد تحقق في محله عدم تمامية ذلك. على أنه قد لا يتيسر العلم بعدم موافقة بعض الأحياء للميت وإن لم يكن هو الأعلم من بينهم، ولم

ص: 380

يكن ظاهراً معروف الفتوى.

الرابع: الإجماع

الرابع: الإجماع، فإن المنع هو المعروف من مذهب الأصحاب، وفي الجواهر أنه مفروغ منه، وادعى الإجماع عليه غير واحد.

وقد تعرض في التقريرات لنقل كلمات غير واحد الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع، كابن أبي جمهور الأحسائي والمحقق الثاني في شرح الألفية والشهيد الثاني في المسالك وفي رسالته في المسألة والوحيد البهبهاني.

وفي المعالم: «العمل بفتوى الموتى... بعيد عن الاعتبار غالباً مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود المجتهد الحي، بل قد حكى الإجماع فيه صريحاً بعض الأصحاب».

وقال سيدنا الأعظم (قدس سره): «فإن الحاكين للإجماع وإن كانوا جماعةً خاصة لكن تلقي الأصحاب لنقلهم له بالقبول من دون تشكيك أو توقف من أحد وتسالمهم على العمل به يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة الإجماع المذكور من أعاظم علمائنا وأكابر فقهائنا ولهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان والتثبت. قدس الله تعالى أرواحهم ورفع منازل كرامتهم وجزاهم عناّ أفضل الجزاء».

لكن لا مجال للاعتماد على دعوى الإجماع في ذلك بنحو تنهض بالحجية، لصدورها من المتأخرين مع عدم تحرير المسألة في العصور الأولى المقاربة لعصور المعصومين (ع)، ليكشف عن أخذها خلفاً عن سلف منهم وعدم وضوح نحو الابتلاء بها في تلك العصور، لتستند دعوى الإجماع لوضوح الحكم بين الطائفة بسبب سيرتهم العملية، بل يحتمل

ص: 381

عملهم بآراء الموتى، كما يأتي تقريبه في الجملة.

ولو فرض عدم عملهم بها فلعله لغلبة عدم اطلاعهم عليها، لعدم تعارف تحرير الفتاوى وضبطها، بل تصدر الفتاوى مشافهة، فلا يتيسر الاطلاع عليها بعد موت المفتي لغير من شافهه بها ومن نقلها له إذا لم يطرأ عليهم النسيان والتضييع، بل قد تختلف فتوى الشخص الواحد في كتبه، إلى غير ذلك مما يمنع من الاطمئنان، بل من الظن، باستناد دعوى الإجماع من المتأخرين إلى تسالم العلماء على الحكم، أو سيرة المتشرعة بنحو يكشف عن رأي المعصوم (ع).

ولا سيما مع ظهور بعض كلماتهم في وجود الخلاف في المسألة أو عدم تحقق الإجماع بوجه قاطع، فقد نسب الشهيد الأول في الذكرى الخلاف للبعض.

وحمله على العامة - كما عن الشهيد الثاني - بعيد جداً، ولا سيما مع كونه المعروف بينهم، فلا يناسبه التعبير بالبعض.

ومثله قول المحقق الثاني في الجعفرية في بيان ما يجب على المكلف: «والرجوع إلى المجتهد - ولو بواسطة، وان تعددت - إن كان مقلداً. واشترط الأكثر كونه حياً...». وما عن الشهيد الثاني في المسالك

من دعوى عدم تحقق الخلاف له ممن يعتد بقوله، وفي رسالته في المسألة عدم العلم بمخالف ممن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه.

وأما تلقي الأصحاب لدعواهم بالقبول فهو قد يتم في جملة من متأخري المتأخرين الذين لا يكشف قبولهم عن ثبوت الإجماع، لإمكان استنادهم لحسن ظنهم بالناقلين له، أو لبنائهم على حجية الإجماع المنقول،

ص: 382

لا لاطلاعهم على قرائن تشهد بثبوته.

بل لعل استناد جملة منهم في المنع عن تقليد الميت لوجوه أخرى غير الإجماع المدعى.

على أن ظاهر كلام السلطان في حاشيته على المعالم التردد في ثبوت الإجماع. كما هو المناسب لخروج المحقق القمي عليه مدعياً أنه لا يوجب الظن فضلاً عن اليقين، لعدم تداول المسألة بين أصحاب الأئمة (ع)، بل هي مسألة حادثة.

كما خرج الأخباريون عليه، فإن خروجهم وإن كان مبنياً على دعوى أن الفتوى من سنخ الرواية المنقولة بالمعنى التي تقبل وإن كان الراوي ميتاً، إلا أن موضوع كلامهم لما كان هو التقليد بواقعه الخارجي - وإن خالفوا في توجيهه - فلو كان عدم حجية قول الميت واضحاً عند الشيعة متسالماً عليه بينهم لما وسعهم البناء على حجيته.

والمظنون أن الحكم قد ذكر في كلام بعض قدماء أصحابنا الأصوليين مستندين فيه إلى بعض الوجوه الاعتبارية التي تقدم بعضها حتى اشتهر بينهم من دون أن يبلغ مرتبة الإجماع، كما قد يشير إليه قول المحقق الثاني في شرح الشرايع: «وقد صرح جمع من الأصوليين والفقهاء باشتراط كون المجتهد حياً ليجوز العمل بفتواه، فلا يجوز العمل بقول المجتهد بعد موته. وهو متجه ويدل عليه وجوه....» ثم جاء بعدهم من حسب أن ذلك إجماع صالح للاحتجاج لقول المشهور، على ما هو المعلوم من طريقة جماعة في الاستدلال بالإجماع وتسامحهم فيه.

ولعل مما أوجب وضوح انعقاد الإجماع عندهم مخالفته لطريقة

ص: 383

العامة التي التزموا بها، حيث قد يتخيل بسببه كونه من مميزات الطائفة المحققة التي عرفت بها في قبالهم.

ولا سيما مع خروج الأخباريين عليه الذين عرفوا بالخروج عما عليه الأصحاب في بعض الموارد والتجاهل لأعاظمهم والاستهوان بأكابرهم، بنحو أوجب النفرة عما يتميزون به في قبال المشهور بين الأصحاب.

وكان نتيجة ذلك الركون لدعاوى الإجماع المذكورة، والغفلة عن تحقيق حالها والنظر في ما ينافيها.

وكيف كان، فلا مجال لدعوى الإجماع المتقدمة، ولا سيما مع قرب مخالفته لسيرة المتشرعة في العصور الأولى يوم لم يكن للتقليد عنوان يقتضي العناية به والاهتمام بأحكامه، بل تجري الناس فيه على مقتضى طبايعهم.

إذ يبعد جداً أن يكون أخذ المكلف الحكم من العالم والراوي ليعمل به هو وأهله ما دام حياً، فإذا مات رجع إلى غيره وسأله عن نفس الحكم الذي علمه، لما في ذلك من الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية، ولو كان لظَهَرَ وبان ولم يَخْفَ على إنسان.

ومثله احتمال أنه يعمل به بعد موته هو وأهله ومن يتبعه ممن عملوا به في حياة المفتي، دون من تجدد تكليفه منهم أو اتصل بهم بعد موته، بل يرجع هؤلاء إلى مفتٍ آخر حي، لئلاّ يكون عملهم بفتوى الأول تقليداً ابتدائياً منهم للميت، بحيث يعمل أهل البيت الواحد على وجهين، بعضهم على رأي الميت وبعضهم على رأي الحي، لما في ذلك من الكلفة الظاهرة والخروج عن الوضع المتعارف بالنحو الذي لو كان لظَهرَ وبان.

ص: 384

بل يبعد جداً تحقق ذلك من دون ورود أدلة تعبدية نقلية خاصة صالحة عندهم للردع عن مقتضى السيرة، ولو ورد شيء منها لم يَخْفَ عادة لتوفر الدواعي لنقله وحفظه عن الضياع.

ثم إنه ينبغي الكلام في مقتضى الأصل في المسألة ليرجع إليه لو فرض قصور الأدلة الاجتهادية عن إثبات الجواز أو المنع.

والكلام فيه في مقامين..

الكلام في مقتضى الأصل
اشارة

المقام الأول: في الأصل العقلي.

المقام الأول: في الأصل العقلي
اشارة

ولا إشكال في أن مقتضاه عدم جواز تقليد الميت وعدم حجية فتواه، لأصالة عدم الحجية في كل ما شك في حجيته.

لكن هذا إنما يقتضي تعين الحي للتقليد وإن كان مفضولاً لو كان لدليل تقليده إطلاق يشمل حال الاختلاف بينه وبين الميت، كما هو الحال بناء على اختصاص العناوين المأخوذة في أدلة التقليد الشرعية المطلقة بالحي.

وأما لو لم يكن كذلك، بل كان الدليل عليه الإجماع، أو كونه المتيقن من الأدلة اللفظية التي لا إطلاق لها، فإنما يتعين للتقليد لو كان أعلم من الميت، للقطع بحجيته.

وكذا لو كان مساوياً له، بناء على ما هو المعروف بينهم من التخيير مع تساوي المجتهدين، للقطع بحجيته تعييناً أو تخييراً.

أما بناء على سقوط قولهما معاً بالاختلاف ووجوب الاحتياط، فلا مجال لتقليده، لعدم إحراز حجيته بعد احتمال جواز تقليد الميت المستلزم لاحتمال صلوحه لمعارضة قول الحي وإسقاطه عن الحجية.

ص: 385

وكذا لو كان الميت أعلم، لأن احتمال جواز تقليده مستلزم لاحتمال وجوبه - بناء على ما هو الظاهر من مرجحية الأعلمية مع الاختلاف - فتتردد الحجية بين الحي والميت ولا متيقن في البين، فيتعين التخيير أو الاحتياط، على الكلام في الوظيفة عند عدم المرجح لأحد المجتهدين.

وجوه تعين الحي المفضول
أولها: عدم القول بالفصل

لكن أصر غير واحد على تعيين الحي المفضول حينئذٍ لوجوه..

أولها: ما في التقريرات من أن تعيين الحي مع التساوي - لما تقدم - مستلزم لتعيينه مع كونه مفضولاً، لعدم القول بالفصل.

وفيه: أن مجرد عدم القول بالفصل لا ينفع ما لم يرجع إلى الإجماع على عدم الفصل وعلى التلازم بين الأمرين، وهو غير ثابت في المقام. فتأمل.

مع أنه إنما ينفع لو كان الدليل على الملزوم اجتهادياً لفظياً أو نحوه مما يكون حجة في لازم مؤداه، ولا ينفع مع انحصار الدليل عليه بالأصل، لاختصاص موضوع الأصل بمورده، والتعدي منه للازم

مبني على الأصل المثبت الذي هو غير حجة. ولا سيما مع كون الأصل عقلياً لا يبتني على التعبد بالملزوم، كما في المقام.

وإلّا أمكن العكس، بأن يستدل بالأصل المقتضي - كما تقدم - لعدم جواز تقليد الحي المفضول على عدم وجوب تقليد الحي المساوي للميت.

ثانيها: عدم اليقين بالبراءة بتقليد الميت

ثانيها: ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن الاقتصار على الحي ليس لأقربيته للواقع، ليتخيل أن الميت الأفضل أقرب، بل لعدم اليقين بالبراءة بتقليد الميت ولو كان أعلم.

لكنه إنما يمنع من ترجيح الميت الأعلم، ولا يقتضي تعيين الحي

ص: 386

المفضول، لعدم اليقين بالبراءة معه أيضاً، لما سبق، فلا وجه لترجيحه على الميت الأعلم.

ثالثها: حكومة اعتبار الحياة على اعتبار الأعلمية

ثالثها: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن احتمال اعتبار الحياة حاكم على اعتبار الأعلمية ومضيق لموضوعه عن شمول الميت، لأن الشك في حجية قول الميت يوجب اليقين بعدم حجيته، كما هو الحال في سائر موارد الشك في الحجية، فتنحصر مرجحية الأعلمية بالأحياء.

وفيه: أنه لا معنى لكون الشك في الحجية موجباً لليقين بعدمها، غاية ما يدعى أنه بحكم اليقين بعدمها في عدم جواز ترتيب الأثر على محتمل الحجية، وهو قول الميت الأعلم في المقام، مع بقاء احتمال الحجية فيه المستلزم لاحتمال ترجيحه وعدم حجية قول الحي المفضول، فلا يكون الحي متيقن الحجية أيضاً، ليتعين العمل على قوله.

نعم، لو كان دليل اعتبار الحياة لفظياً كان حاكماً على دليل الترجيح بالأعلمية، لتوقف الترجيح بها على وجود مقتضي الحجية في أطراف الترجيح، وظاهر دليل اعتبار الحياة عدم وجود مقتضي الحجية في قول الميت، فيخرج عن موضوع الترجيح بالأعلمية، وينحصر الترجيح بها في غيره ممن هو واجد لمقتضي الحجية. وهذا لا يجري إذا استند عدم تقليد الميت للأصل مع احتمال وجود مقتضي الحجية فيه من دون إحراز لعدمه.

وبالجملة: لم يتحصل من كلماتهم ما يمكن الخروج به عما عرفت من تردد الحجة بين الميت الأفضل والحي المفضول، فاللازم البناء إما على التساقط والرجوع للأصول العملية من الاحتياط أو غيره في مورد الخلاف، أو على التخيير بينهما، لما هو المشهور من أنه المرجع عند الدوران بين

ص: 387

مجتهدين لا مرجح لأحدهما.

المقام الثاني: الأصل الشرعي

المقام الثاني: في الأصل الشرعي.

ومن الظاهر أنه لا مجال له بالإضافة للأحكام. التي أفتى بها الميت، لعدم تحقق ركني الاستصحاب فيها.

أما اليقين فظاهر، لعدم الحقيقي منه مع احتمال خطأ المفتي، ولا التعبدي، لعدم الحجة عليها، لانحصار الطريق إليه بفتوى الميت المفروض عدم ثبوت حجيتها.

وأما الشك فللعلم ببقائها على تقدير ثبوتها وعدم احتمال ارتفاعها بموت المفتي. فلابد من النظر في جريان الاستصحاب إما في الحكم الظاهري المترتب على الفتوى حين المفتي والمشكوك في بقائه بعد وفاته، أو في الحكم الوضعي، وهو الحجية الثابتة لرأي المفتي قبل موته.

أما استصحاب الحكم الظاهري فيبتني على جعل الأحكام الظاهرية المماثلة لمؤديات الطرق، والتحقيق عدمه وأنه ليس مفاد الطرق إلا جعل حجيتها، وليس الحكم الظاهري إلا منتزعاً من ذلك من دون أن يكون مجعولاً، ليمكن استصحابه، كما أوضحنا ذلك عند الكلام في مؤديات الطرق في مبحث قيامها مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع. فراجع.

مضافاً إلى أنه لا مجال له في الأحكام الكلية التي لم يتم موضوعها في حياة المفتي، وإنما يفتي بها بنحو القضية الحقيقية الراجعة للقضية التعليقية، حيث تحقق في محله عدم جريان الاستصحاب التعليقي ذاتاً لا بالمعارضة بالاستصحاب التنجيزي، ليختص المنع من جريانه بالأحكام الاقتضائية، كما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره).

ص: 388

نعم، قد يتم في الأحكام التنجيزية الثابتة في حياته، سواء كان موضوعها جزئياً خارجياً، كنفوذ العقود الواقعة في حياته ونجاسة الفقاع الموجود قبل وفاته، أم كلياً كالأحكام التكليفية الفعلية، كحرمة شرب الفقاع ووجوب الفريضة التي دخل وقتها قبل وفاته، فإن موضوعها - وهو فعل

المكلّف - كلي يتعلق الحكم به على شيوعه وعمومه، لا بأفراده بعد وجودها، كي لا تكون فعلية قبل وجودها، بل يكون وجودها مسقطاً للحكم مع فعليته قبله، فيمكن استصحابه.

ودعوى: أنه لا مجال لاستصحاب الأحكام التكليفية، لأن متعلقها وموضوعها كلي قابل للتقييد بحياة المفتي، ومع احتمال تقييده به لا يحرز بقاء الموضوع بعد موته ليستصحب، فمتيقن الحرمة هو شرب الفقاع حال حياة المفتي، لا مطلق شربه المنطبق على ما بعد وفاته، ليمكن استصحاب حرمته بعدها.

مدفوعة: بأن الحكم الظاهري لما كان هو المماثل لمؤدى الحجة كان تابعاً له في إطلاق الموضوع وتقييده، وحيث لم يؤخذ في موضوع الحكم الواقعي حياة المفتي لم يكن موضوع الحكم الظاهري مقيداً بها.

واحتمال ارتفاعه بعد موت المفتي ليس لارتفاع موضوعه، بل لانتهاء أمده لإناطة جعله بحياته، ومثله لا يمنع من الاستصحاب.

فالعمدة ما سبق من توقفه أولا على جعل الحكم الظاهري، الذي سبق المنع منه، وثانياً على فعلية الحكم، حيث يترتب على ذلك عدم جريانه في حق فاقد شرائط التكليف حال حياة المفتي، كالصبي والمجنون، فضلاً عن المعدوم.

ص: 389

وأما استصحاب الحجية فلا مانع منه ذاتاً، لأن الحجية من الأحكام المجعولة بمقتضى الارتكازيات العقلائية المطابقة لظاهر النصوص، كقوله (ع): «

فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(1).

وجها الإشكال على استصحاب الحجية
أولها: ما ذكره الخراساني

نعم،، قد يستشكل في استصحاب الحجية بوجهين..

أولهما: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من عدم بقاء الموضوع، لأن موضوع الحجية هو الرأي، ولا رأي للميت عرفاً، وإن فرض بقاؤه له حقيقة.

وفيه: أن موضوع الحجية المستصحبة هو الرأي بحدوثه لا ببقائه، كما يظهر مما تقدم في أول الكلام في المسألة.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أنه بناء على أن الحجة على المكلف قطع المجتهد بالحكم الظاهري لا مجال للاستصحاب، للعلم بانكشاف الواقع له نفياً وإثباتاً، ولا موضوع معه للحكم الظاهري، ليتحقق له القطع به، الذي هو موضوع الحجية في حق العامي.

نعم، لو كان موضوع الحجية هو ظنونه وإدراكاته للحكم الواقعي أمكن الاستصحاب، لإمكان بقائها بعد الموت ولو بمرتبة أقوى.

إذ فيه - مع ابتنائه على أمر في الميت مجهول لنا، وعدم وروده فيما إذا أفتى المجتهد بالحكم الواقعي قاطعاً به بسبب نظره في الأدلة -: أن ذلك إنما يتم لو كان موضوع الحجية هو الرأي ببقائه، أما لو كان هو الرأي بحدوثه فتبدله بالعلم بالحكم الواقعي لا يمنع من استصحاب الحجية له، لوحدة الموضوع وعدم ارتفاعه.

ص: 390


1- الوسائل ج 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.

فالمقام نظير ما لو علم المكلف بتبدل حال المجتهد الذي يقلده من الظن لليقين بعين ما ظن به أو بخلافه، ولم يتيسر معرفته تفصيلاً. حيث يتعين العمل على رأيه السابق ما لم يعلم بعدوله عنه.

مع أن ذلك مبني على أن وظيفة المفتي تشخيص الوظيفة الظاهرية الثابتة في حقه، أما بناء على ما سبق في آخر مباحث الاجتهاد وغيره من أن وظيفته تشخيص الوظيفة الظاهرية الثابتة في حق العامي بمقتضى الأدلة، فانكشاف الحكم الواقعي للمجتهد لا ينافي حصول القطع له بالحكم الظاهري الثابت في حق العامي بسبب عدم تيسر العلم بالحكم الواقعي له.

ثانيهما: وجود المتيقن من حجية رأي المفتي

ثانيهما: أن القدر المتيقن من حجية رأي المفتي في حق العامي حين حدوثه هو حجيته في الوقائع الحاصلة حين حياته، لا مطلقاً بنحو يعم الوقائع المتأخرة عنها، لعدم صحة انتزاع الحجية إلا بلحاظ مقام العمل، فمع عدم الابتلاء بالواقعة، لعدم تحقق موضوع الحكم فيها بعد لا يصح انتزاع الحجية بالإضافة إليها.

وليست حجيته بنحو الإطلاق إلا بنحو القضية الحقيقية التعليقية الراجعة إلى إناطة الحجية الفعلية في كل واقعة بفعليتها، فلا تكون حجيته في الوقائع المتأخرة إلا تعليقية، فيقال: كان رأي المفتي

حجة في هذه الواقعة لو تحققت وتمّ موضوع الحكم فيها، وقد سبق عدم جريان الاستصحاب في القضايا التعليقية.

ويندفع: بأن المرتكز عرفاً كون الحجية من الأمور البسيطة العارضة للرأي والمقتضية للعمل في جميع الوقائع وأن مصحح انتزاعها معرضية المكلف للابتلاء بمؤداها وصلوحه لأن يخاطب به، وليست من الأمور

ص: 391

الانحلالية ذات الأفراد المتعددة على حسب الوقائع الفعلية الطولية والعرضية، بحيث تكون لكل واقعة حجية قائمة بها مباينة للحجية في الوقائع الأخرى، ليكون المشكوك مبايناً للمتيقن، فلا يمكن استصحابه إلّا بنحو التعليق.

فهي نظير الولاية التي لا يصح انتزاعها إلا بلحاظ التصرف المتعلق بالمولى عليه، لكن بنحو يكفي في صحة انتزاعها معرضية التصرف لا فعليته، ولذا يصح استصحابها.

وأما تقييدها فليس هو إلا كتقييد الولاية إنما يوجب ضيقها في مقابل سعتها، لا قلة أفرادها في مقابل كثرتها. وإن كان الأمر محتاجاً إلى شيءٍ من التأمل.

نعم، لا يبعد اختصاص الاستصحاب المذكور - لو تم - بمن تمت في حقه شرائط التكليف في حياة المفتي، دون غيره ممن لم يوضع عليه القلم في حياته كالصبي والمجنون، فضلاً عمن كان معدوماً، لتوقف فعلية الحجية ارتكازاً على تمامية شروط التكليف وقابلية المكلف له، وليست الحجية في حق غيره إلا تعليقية لا يصح استصحابها.

تتميم..

تتميم: البقاء على تقليد الميت

المعروف من مذهب الأصحاب وإن كان هو عدم جواز تقليد الميت، كما سبق، إلا أن ذلك مختص بالتقليد الابتدائي، أما البقاء على تقليد الميت فقد وقع الخلاف فيه بين متأخري المتأخرين، وقد ذهب جمع منهم إلى جوازه، كما قرّبه السيد الصدر في محكي كلامه، وحكاه عن بعض معاصريه، بل يظهر من الجواهر شيوع الخلاف فيه، فقد ذكر في فرض أعلمية الميت أن

ص: 392

الأصحاب بين قائل بحرمة البقاء وقائل بجوازه وقائل بالتخيير، وهو الذي اختاره، ومن ثم ذكر غير واحد أن المتيقن من الإجماع هو التقليد الابتدائي.

لكن استظهر شيخنا الأعظم (قدس سره) عدم الفرق بين التقليد الابتدائي والاستمراري في أكثر الأدلة المتقدمة، ومنها الإجماع المدعى الذي هو عمدتها.

وما ذكره متين جداً، كما يظهر بملاحظتها وملاحظة كلام نقلة الإجماع، حيث يبعد جداً قصوره بنظرهم مع إطلاقهم لمعقده وشيوع الابتلاء بالتقليد الاستمراري بل هو مما يأباه كلام بعضهم جداً. فالبناء على خروج من جوز البقاء على الإجماع المذكور - ولو لغفلتهم عن ذلك - أولى من البناء على قصور دعاوى الإجماع عنه.

وأولى منه البناء على عدم بلوغ الإجماع بنظرهم مرتبة الحجية في مقابل الأدلة والأصول، بل يلزم الخروج عنه بها لو خالفته، كما تقدم منا تقريبه في التقليد الابتدائي، وهو في الاستمراري أولى مع شيوع الخلاف، وليست موافقتهم له في التقليد الابتدائي إلا للوجوه الأخرى التي استوضحوها.

ومن ثم يتعين البناء على جواز التقليد الاستمراري، لما سبق من سيرة العقلاء، واستصحاب الحجية، الذي سبق الكلام فيه.

بل سبق تقريب سيرة المتشرعة على كل من التقليد الابتدائي والاستمراري، كما اعترف بها سيدنا الأعظم (قدس سره) في الثاني وإن أنكرها في الأول.

ما استدل به السيد الخوئي (قدس سره) على عدم جواز التقليد

هذا، وقد سبق من بعض مشايخنا الاستدلال على عدم جواز تقليد الميت ابتداء بقصور الأدلة الشرعية عنه، لأنها تضمنت عناوين خاصة في

ص: 393

المرجع، كالفقيه والعالم وأهل الذكر، وهي لا تصدق على الميت، ومع ذلك التزم بجواز البقاء على تقليده في الجملة، بدعوى: أن إطلاق الأدلة المذكورة إنما يقتضي اعتبار تلك العناوين حين الرجوع للمجتهد لا حين العمل بقوله، بل مقتضى إطلاقها حجية قوله بعد الرجوع له ولو في ما يتجدد من الوقائع بعد موته.

التفصيل بين المسائل التي تذكرها وغيرها

نعم، فصّل في جواز البقاء بين تذكر المسألة ونسيانها. قال: «يكفي في جواز البقاء على التقليد أو وجوبه تعلّم الفتوى للعمل وكونه ذاكراً لها.

وكأنه لأن الرجوع عنده عبارة عن تعلم الفتوى للعمل، فمع النسيان يكون تعلمه لها رجوعاً جديداً، فلا يجوز مع موت المجتهد، لعدم صدق العناوين المذكورة عليه.

وجوه الإشكال فيه..
اشارة

ويشكل بوجوه..

الأول:

الأول: أنه لا إشكال في عدم أخذ عنوان الرجوع شرطاً في حجية فتوى المفتي، بل تكون فتواه حجة وإن لم يرجع إليه، ولذا يكون المكلف مقصراً لو لم يرجع لواجد الشرائط، وليس الرجوع إلا عنواناً منتزعاً من متابعة المجتهد في العمل التي يكون لزومها من آثار حجية فتواه المتفرعة عليها، ومثلها وجوب سؤاله والأخذ منه والعمل بقوله وتقليده وغير ذلك مما اشتملت عليه الأدلة الشرعية، فهي بأجمعها من آثار الحجية لا من شروطها.

وحينئذٍ إن استفيد من الأدلة اعتبار العناوين المذكورة - من العالم والفقيه ونحوهما - في الأحكام المذكورة حين صدور الفتوى - كما سبق تقريبه - تعين جواز الرجوع للميت ابتداءً.

ص: 394

وإلا كان اللازم الجمود على مفادها المطابقي، وحيث كان مقتضى تعليق الحكم على عنوان عدم تحققه مع فقده يتعين عدم وجوب تقليد المجتهد ولا الرجوع إليه ولا العمل بقوله بعد موته، لفرض انسلاخ العناوين المذكورة عنه، بل يختص ذلك بحياته.

غاية ما يدعى أن مقتضى إطلاق تلك الأدلة أن الواجب حين حياة المجتهد ليس خصوص الرجوع له في الوقائع المقارنة لحياته والعمل بقوله فيها، بل الرجوع والعمل في جميع الوقائع حتى المقارنة لموته، فيكشف عن عموم الحجية لها.

ولازم ذلك عدم اختصاص جواز تقليد الميت بمن رجع إليه وسأله في حياته، بل يعم كل من وجب عليه الرجوع إليه والعمل بقوله في حياته، سواء رجع إليه وعمل بقوله فعلاً أم لم يرجع إليه ولم يعمل بقوله قصوراً أو تقصيراً.

الثاني:

الثاني: أن وجوب الرجوع للمفتي وسؤاله وتقليده والعمل بقوله وغيرها مما تضمنته الأدلة لما كان طريقياً للفراغ عن التكليف الواقعي، ولذا كان كناية عن حجية الفتوى فلا إطلاق له يشمل الوقائع اللاحقة، بل المراد به الرجوع في الوقائع التي هي مورد ابتلاء المكلف والتي يحتاج لمعرفة حكمها، لأن حذف المتعلق إنما يقتضي العموم مع عدم القرينة على التخصيص.

وتعميم الحجية لغيرها من الوقائع التي يتجدد الابتلاء بها موقوف على أن يكون للأدلة إطلاق أحوالي، وهو إنما يتجه قبل فقد المرجع للعنوان المعتبر في الحجية، لا بعده للموت ونحوه.

ص: 395

ودعوى: أنه لا معنى للإطلاق الأحوالي في فرض العلم برأي المفتي بالسؤال منه في الواقعة الأولى، لعدم الموضوع معه للسؤال والرجوع والتعلم التي تضمنتها الأدلة، فلابد من كون منشأ حجية الفتوى في الوقائع اللاحقة هو شمول إطلاق الرجوع من أول الأمر لها.

وحينئذ لا يفرق بين الوقائع المتجددة حال حفظ المفتي للعنوان وحال فقده له.

مدفوعة: بأن عدم الموضوع للسؤال والرجوع والتعلم مع العلم بالمسألة لا ينافي في ثبوت الإطلاق الأحوالي للأدلة وشموله للوقائع المتجددة، لأن الأدلة وإن اشتملت على العناوين المذكورة التي لا موضوع لها مع العلم بالمسألة، إلا أنها كناية عن لزوم العمل بالفتوى من أجل العمل بها لحجيتها القابلة للبقاء في الوقائع اللاحقة، لتحقق موضوعها فيها، وهو الجهل بالواقع. فهو نظير وجوب لبس الثوب الطاهر. واستقبال القبلة حين الصلاة لكون الطهارة في ثوب المصلي ووقوعها الى القبلة شرطاً في الصلاة، مع عدم الموضوع للبس والاستقبال للابس والمستقبل عند حضور وقت الصلاة.

ولذا يجب على المكلف تقليد من تمت فيه الشرائط وإن سبق منه العلم برأيه لا لأجل العمل، أو مع عدم كونه أهلاً للتقليد حين حصول العلم برأيه، وما ذلك إلا لشمول أدلة الحجية له حين تمامية شروط التقليد فيه بلحاظ تحقق موضوع الحجية فيه حينئذ وإن ارتفع موضوع الرجوع له والسؤال منه بسبب سبق العلم برأيه.

ودعوى: أن وجوب الرجوع له ونحوه لما كان كناية عن الحجية فقد

ص: 396

تقدم أن إطلاق الحجية يقتضي سعتها بنحو يشمل جميع الوقائع وإن كان العمل عليها تدريجياً تبعاً لتدرج الوقائع.

مدفوعة: بأن إطلاق الحجية وسعتها بالنحو المذكور لا يكفي في جواز العمل في الوقائع اللاحقة، إذ لابد من إحراز الحجية حين العمل، ولا يكفي ثبوت الحجية المطلقة قبله، ويتوقف إحراز

الحجية في الوقائع اللاحقة على الإطلاق الأحوالي الذي عرفت امتناعه مع انسلاخ المجتهد بالموت عن العنوان المعتبر في الحجية.

ولولا ذلك لزم حجية فتوى الميت في جميع الوقائع المتأخرة حتى المقارنة لنسيانها، لسعة الحجية لها بمقتضى الإطلاق.

الثالث:

الثالث: أن ما سبق في تحديد الرجوع - الذي جعله المعيار في المقام - غير ظاهر، فإن ما اشتمل على عنوان الرجوع - كقوله (ع):

«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» لو سلم كونه من أدلة المسألة - ظاهر في إرادة الرجوع بمعنى الاعتماد على الفتوى في مقام العمل، لا تعلم المسائل بالنحو المتقدم في كلامه.

مع أنه ظاهر في كون الرجوع أمراً انحلالياً بحسب الوقائع، فلكل واقعة رجوع مستقل، فلو فرض اعتبار الحياة في المرجع امتنع البقاء على تقليد الميت.

نعم، قد يطلق الرجوع في عرف المتشرعة على الالتزام والبناء على متابعة المفتي - كما قد يطلق التقليد على ذلك، كما سبق - فيكون الرجوع في جميع المسائل والوقائع واحداً مستمراً بتعاقبها.

لكنه - مع عدم ظهور الأدلة فيه - لا يتوقف على تعلم المسائل ابتداء

ص: 397

أو بعد نسيانها.

وأما آية الذكر المتضمنة عنوان السؤال فهي - مع عدم كونها من أدلة المسألة، كما سبق، ويظهر من بعض مقرري درسه الاعتراف بذلك - لا تقتضي ما ذكره، لأن الأمر بالسؤال لما كان طريقياً لأجل العمل كان مختصاً بصورة الابتلاء بالمسألة والاحتياج لمعرفة حكمها، ولا تكليف قبله بالسؤال.

والاجتزاء حين العمل بتعلم الفتوى قبل ذلك إنما هو للاستغناء به عن السؤال حين الابتلاء، لا لأجل وجوب السؤال قبله. ولذا يستغنى بالتعلم لا لأجل العمل، وبالعلم صدفة ولو مع عدم أهلية المفتي حينه، مع أنه لم يكتف به في صدق الرجوع المصحح للبقاء.

ولازم ذلك التفصيل فالمسائل التي ابتلي بها وسأل عن حكمها لأجل العمل يجب البقاء فيها دون غيرها مما سأل عنه لتوقع الابتلاء به، أو لم يسأل عنه بل علمه صدفة وبنى بعد تقليده على العمل

به لو ابتلي به، لكن الأول داخل في إطلاق جواز البقاء في كلامه، والثاني وإن خرج عنه إلا أنه يبعد بناؤه على عدم جواز البقاء فيه.

وأما آية النفر فهي تقتضي حجية الفتوى والإنذار من الفقيه من دون تعرض للرجوع أو لتعلم المسائل أو غيرهما، فلو فرض كون صدق عنوان إنذار الفقيه كافياً في الحكم بالحجية ولو بالإضافة للوقائع اللاحقة لزم حجية فتوى الفقيه في حق من كانت فتواه حجة عليه حين حياته، بحيث كان يجب الحذر بإنذاره وإن لم يرجع إليه ولا تعلم فتاواه.

نعم، لابد من تخصيص ذلك بالمسائل التي ابتلي بها، لأن وجوب

ص: 398

الحذر طريقي كوجوب السؤال، فلا يكون فعلياً مع عدم الابتلاء بالمسألة، كما تقدم في آية الذكر.

الرابع

الرابع: أن التفصيل بالوجه المذكور مما يعلم بعدم مطابقته لسيرة المتشرعة، لما هو المعلوم من أنه لو كان بناؤهم على البقاء على تقليد الميت فلا يقدح فيه نسيان فتواه، بل للناسي أن يسأل من أهل بيته أو غيرهم ممن يتذكرها، لما هو الظاهر من مخالفة التفصيل المذكور للمرتكزات وخلوه عن الدليل الخاص المنبه له والموجب لجري المتشرعة عليه. وعليه إذا كان مقتضى الإطلاقات جواز البقاء في المسائل التي يتذكرها المكلف أمكن التعدي لغيرها بالملازمة التي هي مقتضى السيرة المشار إليها. ومن هنا لا مجال للتفصيل المذكور، ويتعين ما ذكرنا من عموم جواز البقاء على تقليد الميت.

تنبيهان..
الأول: وجوب تقليد الميت الأعلم بناء على جوازه

الأول: لا إشكال بناء على جواز البقاء على تقليد الميت في وجوبه مع أعلميته، بناء على ما يأتي من مرجحية الأعلمية.

كما لا إشكال في وجوب العدول منه للحي مع أعلميته، لصيرورته أعلم أو تمامية بقية شرائط التقليد فيه بعد موت الأول، لأن ما دل على وجوب تقليد الأعلم صالح للحكومة على استصحاب حجية فتوى الميت لو كان جارياً في نفسه.

وأما مع التساوي بينهما فحيث يأتي قصور إطلاقات الحجية عن

ص: 399

شمول المجتهدين المتساويين وأن الأصل يقتضي تساقطهما ما لم يثبت التخيير بإجماع أو نحوه، وأنه بناء على التخيير فهو ابتدائي ولا يجوز العدول من أحد المتساويين للآخر، يدور الأمر بين وجوب البقاء على تقليد الميت، لمشروعيته ذاتاً وعدم جواز العدول عن أحد المتساويين للآخر، ووجوب العدول للحي، لعدم جواز تقليد الميت مع التساوي لخروجه عن المتيقن من جواز التخيير، فإن قلنا بجريان استصحاب الحجية تعين البقاء على تقليد الميت، وإن قلنا بعدم جريانه تعين البناء على التساقط ووجوب الأخذ بأحوط القولين. إلا أن يقوم الإجماع على عدم تكليف العامي بالاحتياط، فيتعين التخيير بين البقاء والعدول، لعدم المتيقن في البين.

وكذا الحال لو علم إجمالاً بأعلمية أحدهما. فلاحظ.

الثاني: تقليد الميت في مسألة البقاء

الثاني: إذا قلّد مجتهداً يجوّز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد فقد صرح في العروة الوثقى بعدم جواز الاعتماد عليه في البقاء على تقليده، بل لابد من الرجوع للحي في ذلك، وأمضاه جماعة من شراحها ومحشيها.

وكأنه لعدم يقين العامي بحجية رأي الميت، فلا مجال للرجوع إليه، بل لابد من الرجوع للحي المتيقن الحجية في ذلك، للزوم انتهاء الحجة للعلم.

لكن هذا قد يتم مع أعلمية الحي من الميت، حيث يعلم بحجية فتواه دون فتوى الميت، بناء على مرجحية الأعلمية.

أما مع أعلمية الميت فلا وجه له، لعدم يقين العامي أيضاً بحجية فتوى الحي، لاحتمال وجوب البقاء على تقليد الميت لكونه أعلم مع عدم

ص: 400

مانعية الموت.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) عند مذاكرته في المسألة وحكي عن سيدنا الأعظم (قدس سره) من السيرة على سؤال الحي في ذلك.

فهو - لو تم - ناشيء عن الغفلة عن رأي الميت والجهل به، لما هو المعلوم من غلبة عدم اطلاع العوام على آراء الأموات قبل تحرير الفتاوى في الرسائل العملية، خصوصاً مسائل الاجتهاد والتقليد، أما بعد تحريرها في العصور المتأخرة فرجوعهم للحي لشيوع الفتوى بعدم التعويل على رأي الميت في ذلك.

وليس ذلك ناشئاً من ارتكاز مانعية الموت من التعويل على الفتوى المذكورة، لما سبق من عدم دخل الحياة بحسب المرتكزات العقلائية الأولية وعموم مرجحية الأعلمية، فيحتاج الخروج عن ذلك لأدلةٍ تعبدية شرعية لا يدركها العامي بنفسها.

ودعوى: امتناع حجية رأي الميت في البقاء على تقليده، لأنه دوري، لرجوعه إلى توقف حجية رأيه على حجيتها.

ممنوعة، لتعدد الموضوع، فإن حجيته في مسألة البقاء غير حجيته في المسائل الفرعية العملية الأخرى، فلا مانع من ابتناء الثانية على الأولى، نظير وجوب التقليد على العامي في مسألة وجوب التقليد، حيث ذكرنا في أول الكلام في جواز التقليد أن جوازه لما كان مقتضى السيرة العقلائية التي هي حجة ما لم يثبت الردع عنها فتعذر وصول الردع عنه للعامي من غير طريق التقليد مستلزم لجواز التقليد في مسألة جواز التقليد في المسائل الفرعية، فإذا قلد فيها تيسر له الاطلاع على الردع أو عدمه عن التقليد في المسائل

ص: 401

المذكورة.

وفي المقام حيث كان مقتضى السيرة لزوم تقليد الأعلم وإن كان ميتاً وعدم صلوح فتوى الحي المفضول لمعارضته، فلا طريق لإحراز الردع عن ذلك أو عدمه إلا بالتقليد في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت، فإذا فرض كون الميت أعلم كان هو المتعين للتقليد فيها بمقتضى السيرة التي لا طريق لإحراز الردع عنها ولم تصلح فتوى الحي المفضول لمعارضتها.

فإن أفتى بوجوب العدول للحي كان ذلك صالحاً للردع عن مقتضى السيرة ووجب تقليد الحي في المسائل الفرعية.

إن ثانيها إنما يجب الرجوع للحي في المسائل الفرعية إذا كان يرى عدم جواز البقاء على تقليد الميت الأعلم، وإلّا لزم تقليده في ذلك والرجوع للميت الأعلم في المسائل الفرعية وإن كان الميت هو يفتي بعدم جواز البقاء على تقليده، لسقوط فتواه المذكورة في المرتبة الثانية عن الحجية بسبب صلوحها في المرتبة الأولى للردع عن السيرة.

ثانيها لا وجه لسقوط فتواه المذكورة عن الحجية بعد انحصار طريق الردع عن حجية فتاواه في المسائل الفرعية بها، ولا تكون رادعة عن حجية نفسها، لئلا يلزم من حجيتها عدمها، نظير ما تقدم في التقليد في أصل جواز التقليد، حيث ذكرنا أن فتوى المجتهد بعدم جوازه تمنع من تقليده في المسائل الفرعية.

وحينئذٍ ينحصر التقليد للحي بالمسائل الفرعية التي يكون مقتضى فتوى الميت الأعلم بعدم جواز البقاء حجيتها.

وإن أفتى الميت الأعلم بوجوب البقاء كشف عن إمضاء السيرة وعدم

ص: 402

الردع عنها، فيجب البقاء على تقليده في المسائل الفرعية أيضاً.

هذا كله إذا اقتصر الميت على الفتوى بوجوب العدول أو بوجوب البقاء. أما لو أضاف إلى ذلك الفتوى بعدم جواز الاعتماد في البقاء أو العدول على فتوى الميت بأحدهما - كما سبق من العروة الوثقى وشراحها ومحشيها - وجب على العامي - بمقتضى السيرة التي لا طريق لإثبات الردع عنها في هذه المسألة - تقليده في الفتوى المذكورة، فيحرز بها الردع عن تقليده في وجوب العدول أو وجوب البقاء - وإن كان هو مقتضى السيرة، كما سبق - ويتعين تقليد الحي المفضول فيها، فإن أفتى بوجوب البقاء وجب البقاء على تقليد الميت في المسائل الفرعية وإن كان الميت يرى وجوب العدول عنه، وإن أفتى بوجوب العدول وجب العدول عن تقليد الميت في المسائل الفرعية، وإن كان الميت يرى وجوب البقاء على تقليده.

المسألة الرابعة: ما يشترط في استنباط الأحكام

المسألة الرابعة: حيث تقدم أن جواز التقليد يبتني على ما ارتكز عند العقلاء من الرجوع لأهل الخبرة في الحدسيات فلابد في جواز تقليد المجتهد من سلوكه الطرق العقلائية المتعارفة، أما لو سلك غيرها، كالرمل والجفر والرياضات التي قد توجب انكشاف الواقع لصاحبها ونحوها مما قد يوجب العلم وإن لم يعتمد عليه العقلاء بما هم عقلاء ولا دلت الأدلة على حجيته، فهو وإن كان عالماً بنظره، فيجب عليه العمل بقطعه، إلا أنه لا يجوز تقليده، لعدم كونه من أهل الخبرة بنظر العقلاء.

وهذا هو العمدة في المقام، لا ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم الرجوع إلى من استنبط الأحكام من الطرق المقررة شرعاً، لاختصاص أدلة التقليد الشرعية بأهل الذكر والناظر في الحلال والحرام ونحوهما مما

ص: 403

يختص بذلك.

إذ فيه - مع عدم انضباط الأدلة المقررة شرعاً، للاختلاف فيها - أن المراد بأهل الذكر والناظر في الحلال والحرام إن كان هو الباحث عن الأحكام الشرعية المحصل لها واقعاً فلا طريق لإحراز انطباقه على المجتهد مع احتمال خطئه، وإن كان هو المحصل لها بنظره شمل من قطع بها من الطرق غير المتعارفة، وإن كان هو المحصل لها بعد النظر في الكتاب المجيد والأحاديث الشريفة - كما قد يناسبه آية الذكر، وما تضمن الرجوع للرواة - قصر عمن أخذها من الإجماع والسيرة والمستقلات العقلية ونحوها.

فينحصر الوجه بما أشرنا إليه غير مرة من ورود أدلة التقليد الشرعية مورد الإمضاء للقضية الارتكازية المزبورة، فيكون المعيار عليها لا على خصوص العناوين المذكورة في تلك الأدلة، وهي تقتضي ما ذكرنا.

ومنه يظهر عدم جواز تقليد من خرج في قطعه أو استظهاره أو نحوهما عن المتعارف، لاعوجاج السليقة أو نحوه.

المسألة الخامسة: التقليد في موراد الطرق والأصول

المسألة الخامسة: حيث كان هم المكلّف الخروج من تبعة التكاليف الشرعية والأمان من العقاب فلا فرق في حقه بين معرفة الحكم الشرعي الواقعي ومعرفة مؤدى الحجة أو الأصل الشرعي أو العقلي.

ومن هنا كان مبنى سؤال العامي وجواب المجتهد على ما يعم الأمور المذكورة، ولا يختص ببيان الحكم الواقعي الذي يدركه المجتهد من الأدلة القطعية، كما تقدم التعرض له في آخر أحكام الاجتهاد، كما تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات فصل صورة عدم الترجيح بين الخبرين المتعارضين أن مبنى فتوى المجتهد بمؤديات الطرق على عموم أدلة حجيتها للعامي، وأن

ص: 404

عجز العامي عن تشخيص مؤدياتها بنفسه لا يمنع من حجيتها في حقه بعد تيسر رجوعه للمجتهد في ذلك.

نعم، قد تشكل الفتوى بمضمون الأصل الشرعي بأن كبرى الأصل وإن كانت مجعولة بنحو تشمل العامي كسائر الكبريات الشرعية، إلا أن فعلية مضمونها في حق العامي موقوف على فعلية موضوعاتها - كالشك ونحوه - في حقه، فمع غفلة العامي عنها لا وجه لفتوى المجتهد له بها.

وأشكل من ذلك الفتوى بمضمون الأصل العقلي، حيث يزيد عليه بأن كبراه علمية وجدانية لا تكون فعلية في حق المكلف ما لم يقطع بها، وليست واقعية يدرك المجتهد ثبوتها في حق العامي ليصح منه الفتوى له بمضمونها مع غفلته عنها.

ومن ثم قد يدعى أن وظيفة المجتهد تنبيه العامي إلى موضوع الأصل الشرعي ثم بيان كبراه التي حصلها بنظره، ويكون استنتاج الحكم في المسألة الفرعية وظيفة للعامي. أما في الأصل العقلي فليس له إلا التنبيه لموضوعه مع إيكال كبراه للعامي نفسه، فيرجع إلى ما يحكم به عقله ولو كان على خلاف ما ذهب إليه المجتهد.

لكنه مخالف لطريقة الفقهاء في مقام الفتوى، حيث جروا على بيان الوظيفة الفعلية في المسألة الفرعية في موارد الأصول الشرعية والعقلية، كما جروا عليه في موارد الأدلة الاجتهادية المفيدة للقطع أو الظن بالحكم الواقعي.

فلعل الأولى أن يقال: إن موضوع الأصل إن كان هو الشك فهو فعلي في حق العامي الملتفت لحكم للمسألة الفرعية الفاحص عن حكمها. ولا

ص: 405

ضرر في إطلاق المجتهد الفتوى بها بنحو يشمل الغافل عنها، لعدم ترتب العمل عليه إلا في حق الملتفت المعتمد على الفتوى.

وإن كان هو عدم الدليل - كما هو الظاهر الذي يقتضيه التأمل في أدلة الأصول - فهو من الأمور الواقعية التي يدركها المجتهد في حقه وحق العامي، كما أنه سبق في الاستصحاب أن المراد باليقين بالحدوث المأخوذ في موضوعه ما يعم قيام الحجة عليه، وهو حاصل في حق العامي بسبب رجوعه للمجتهد في حدوث الحكم، كما أشرنا إليه في الأمر الثاني من تمهيد الكلام في الاستصحاب.

بل لا يبعد ثبوته بمجرد قيام الدليل الشرعي عليه الذي يعثر عليه المجتهد ويدرك عمومه للعامي وإن لم يرجع العامي إليه أو غفل عن فتوى المجتهد على طبقه. وحينئذٍ يصح للمجتهد الفتوى بما يناسب كبرى الأصل الشرعي المذكور.

وأما الأصل العقلي فالظاهر أن كبراه واقعية، ولذا يقع الاختلاف والتخطئة فيها بين المجتهدين. كما أنه يغلب عجز العامي عنها وإن كانت وجدانية، لأنها مورد للشبه والنقض بالطرد والعكس التي يعجز العامي عن دفعها، فلابد من رجوعه للمجتهد فيها.

نعم، لو قدر على تشخيصها وخالف المجتهد فيها امتنع عليه الرجوع لفتواه في المسألة الفرعية المبتنية عليها، كما هو الحال في سائر موارد مخالفته للمجتهد في بعض مقدمات الاستنباط، على ما تقدم التنبيه عليه في آخر الكلام في تجزي الاجتهاد. فراجع.

وأما دعوى: أن تمامية موضوع الأصل في حق المجتهد، لعدم عثوره

ص: 406

على الدليل في المسألة لا يستلزم تماميته في حق العامي بعد إمكان رجوعه لمجتهد آخر يرى وجود الدليل الرافع لموضوع الأصل.

فهي مدفوعة بأن اختلاف المجتهدين في تحقق موضوع الأصل لا يمنع من عموم ما وصل إليه كل منهم بنظره لنفسه وغيره، فمن يرى تحقق موضوع الأصل في حقه يراه في حق العامي الذي قد يرجع للمجتهد الآخر، بل في حق ذلك المجتهد أيضاً، لخطئه بنظره في دعوى وجود الدليل الرافع لموضوع الأصل، فله إطلاق الفتوى المطابقة لمضمون الأصل.

وأما العامي فلا مجال له للرجوع للمجتهد الذي يرى وجود الدليل إلا إذا كان أعلم، أما لو كان مفضولاً فتصلح فتوى الأفضل لإثبات خطئه في حق العامي بمقتضى ما دل على ترجيح الأعلمية، فيكون فاقدً للدليل، ويتم في حقه موضوع الأصل.

وأما مع التساوي بينهما فليس رجوعه للثاني بأولى من رجوعه للأول، بل لابد إما من تساقطهما أو التخيير بينهما الراجع إلى جواز رجوعه للأول وتصديقه في عدم الدليل، فلا يكون الدليل الذي اعتقده الثاني ولا اعتقاده منجزاً في حق العامي، ليرتفع موضوع الأصل في حقه.

ومثلها دعوى: قصور أدلة التقليد الشرعية عن شمول التقليد في مورد الأصول العقلية، لقصور العناوين المأخوذة فيها عنه، كعنوان العالم والفقيه وأهل الذكر والراوي والناظر في الحلال والحرام ونحوها، بل هي مختصة أو منصرفة لخصوص التقليد في الأحكام الشرعية الواقعية أو الظاهرية الراجعة إلى الأحكام الطريقية بالحجية أو بمفاد الأصل العملي.

لاندفاعها: بما سبق من أن قصور أدلة التقليد الشرعية غير مهم بعد

ص: 407

عموم القضية الارتكازية العقلائية، وهي قضية رجوع الجاهل للعالم، فيكفي علمه بالوظيفة العقلية في الرجوع إليه بعد ما سبق من أن هم المكلف الخروج من تبعة التكليف والأمان من العقاب.

هذا، وقد يمنع من تقليد من يرى لزوم العمل بمطلق الظن، لتمامية مقدمات الانسداد بنظره، لدعوى اختصاص بعض مقدماته - وهو عدم جواز تقليد القائل بالانفتاح وعدم وجوب الاحتياط للزوم اختلال النظام أو العسر والحرج - بالمجتهد، دون العامي لإمكان تقليده القائل بالانفتاح، وعدم لزوم اختلال النظام - البديهي البطلان في الأحكام الشرعية - من احتياطه بنفسه، كي يقطع بعدم وجوبه، لأن الاختلال إنما يلزم من عمل الكل بالاحتياط، لا من احتياط شخص أو أشخاص معدودين، كما لا طريق له لإثبات عدم وجوبه من جهة الحرج، لأن قاعدة نفي الحرج ليست بديهية يدركها العامي، بل نظرية محتاجة لمؤنة استدلال لا يقوى عليه بنفسه.

ويزيد الإشكال لو كان يرى العمل بالظن من باب الحكومة الراجعة لحكم العقل بحجية الظن، أو بتبعيض الاحتياط على طبقه لأنه لا يكون عارفاً بالأحكام الشرعية الواقعية ولا الظاهرية، فتقصر عنه أدلة التقليد الشرعية.

لكن يظهر اندفاع ذلك مما تقدم في التقليد في موارد الأصول، لوضوح أن المجتهد الانسدادي يرى خطأ القائل بالانفتاح، وعموم الانسداد في حق جميع المكلفين، فيجب الرجوع إليه مع أعلميته، كما يجوز الرجوع له مع مساواته للقائل بالانفتاح - بناء على التخيير مع تساوي المجتهدين - فلا يصلح قول من يرى الانفتاح للتنجيز في حق العامي، ليمنع من تمامية

ص: 408

مقدمات الانسداد. كما أن المجتهد حيث يرى انسداد باب العلم في حق الجميع، وكان تشريع الاحتياط في حقهم مستلزماً لاختلال النظام، فهو يستكشف عدم تشريعه في حق الجميع أيضاً، ولا يمنع من ذلك انفتاح باب العلم للآخرين بنظرهم أو نظر مقلديهم مع فرض خطئهم في ذلك بنظره.

وعجز العامي عن إثبات قاعدة نفي الحرج بنفسه لا يقدح بعد ثبوتها في حقه بنظر المجتهد الذي يجب أو يجوز له الرجوع إليه.

وبالجملة: مقدمات الانسداد تامة في حق العامي بنظر المجتهد الذي يرجع إليه، فله الفتوى له بمقتضاها في المسائل الفرعية، وللعامي العمل بقوله حتى بناء على الحكومة، لأنه وإن خرج حينئذ عن موضوع أدلة التقليد الشرعية، إلا أنه داخل في كبراه العقلائية الارتكازية التي عرفت كفايتها في المقام بعد كون هم المكلف الخلاص من تبعة التكليف والأمان من العقاب، لا خصوص معرفة الحكم الشرعي.

نعم، قد يشكل ذلك بأن مقدمات الانسداد وإن تمت في حق العامي، إلا أن نتيجتها لما كانت هي عمل المكلف بظنه فلا يصح للعامي الاعتماد على ظن المجتهد بالأحكام الفرعية، بل غاية الأمر اعتماده على ظنه الحاصل له، ومع تعذر تحصيل الظن عليه يتعين عليه تقليد القائل بالانفتاح وإن كان مفضولاً، لجواز تقليد المفضول مع تعذر تقليد الأفضل.

إلا أنه يندفع أيضاً بأن جواز تقليد المفضول إنما يصح مع تعذر الاطلاع على رأي الأفضل، أما مع الاطلاع على رأيه وعلى تخطئته للمفضول في مقدمات الاستنباط فلا مجال للرجوع له.

بل بعد فرض عدم وجوب الاحتياط على العامي يتجه وجوب

ص: 409

تحصيل الظن عليه بالأحكام بالنظر في طرقها كالمجتهد، لولا لزوم العسر والحرج النوعي واختلال النظام منه، لاحتياجه إلى مؤنة شديدة كالتكليف بالاجتهاد عيناً على تقدير الانفتاح، لوضوح أن اللازم على تقدير الانسداد الاجتهاد في تحصيل الظن باستفراغ الوسع في مقدماته، لا الاكتفاء بما يحصل منه بلا كلفة.

ومن هنا يتعين عدم وجوب ذلك على العامي، بل يكتفي بأقرب الطرق، وهو ظن المجتهد الأعلم.

وعليه تكون نتيجة مقدمات الانسداد عمل المجتهد بظنه رأساً، وعمل العامي به بضميمة امتناع تكليفه بتحصيل الظن بنفسه. وهو معنى تقليده.

نعم، لو فرض حصول الظن للعامي بعد استفراغ الوسع على خلاف ظن المجتهد لم يبعد لزوم العمل عليه بظنه بضميمة تقليده للمجتهد في تمامية مقدمات الانسداد في حقه.

نظير ما سبق في آخر الكلام في التجزي من أن المكلف لو حصل بعض مقدمات الاستنباط بنفسه كان له الاستقلال فيها وضمها لبقية المقدمات التي يرجع فيها للمجتهد لعجزه عن تشخيصها، فيعمل في المسألة الفرعية على ما يستنتج من المجموع، وإن كان على خلاف ما يؤدي إليه نظر المجتهد في المسألة الفرعية، لاختلافهما في بعض المقدمات. فراجع.

غاية الأمر أن عموم الأسباب الموجبة للظن وخصوصها في حقه تابعان لنتيجة دليل الانسداد، فإن قلنا بعمومها من حيثية الأسباب كان كالمجتهد له الاتكال على الأسباب غير المتعارفة التي يكثر حصول الظن له منها، وإن قلنا باختصاصها بالأسباب المتعارفة كان عليه الاقتصار عليها

ص: 410

كالمجتهد. والأمر في ذلك موكول لمباحث الانسداد.

المسألة السادسة: إذا تعدد المجتهدون
اشارة

المسألة السادسة: إذا تعدد المجتهدون..

فتارة: يتَّفقون في الفتوى.

وأخرى: يختلفون فيها.

وثالثة: يجهل الحال.

وحيث كانت الصورة الثالثة متفرعة على الصورتين الأوليين، لتفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت، كما كان الكلام فيهما من مباني الكلام فيها، كان المناسب البحث فيها في تنبيه يعقد بعد الفراغ عن الكلام فيهما.

فالمهم فعلاً الكلام في الصورتين الأوليين.

ولا ينبغي الكلام في جواز تقليد كل من المجتهدين في الصورة الأولى، بمعنى قصد الاعتماد عليه ومتابعته، كما يجوز تقليد جميعهم، من دون فرقٍ بين اختلافهم في الفضيلة وتساويهم، بل يجوز

موافقتهم احتياطاً من دون تقليد، لأن مقتضى إطلاق أدلة التقليد من الآيات والروايات وسيرة العقلاء حجية الكل، ولا يجب عقلاً إلا موافقة الحجة في الخروج عن تبعة العقاب.

وأما إطلاق قولهم: لا يجوز تقليد المفضول فليس هو معقداً لإجماع واجب العمل، والمتيقن من الترجيح بالأفضلية - على تقدير البناء عليه - صورة الاختلاف، لصلوح رأي الأفضل لتخطئة المفضول، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

فالعمدة الكلام في الصورة الثانية، لشيوع الابتلاء بها وظهور

ص: 411

الكلام في التخيير مع الاختلاف

الخلاف فيها. ومن الظاهر أنه لا مجال لتخيل كون تقليد كل منهم مقتضى الإطلاقات، لما سبق في مباحث التعارض من قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين، وأنها لا تقتضي حجية أحدهما تعييناً ولا تخييراً.

فلابد في إثبات جواز تقليد أحد المجتهدين في المقام تعييناً أو تخييراً من دليلٍ خاصٍ مخرج عن ذلك.

والكلام يقع..

تارة: في صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة.

وأخرى: في صورة اختلافهم فيها.

المقام الأول: في صورة التساوي في الفضيلة.

والمعروف بين الأصحاب التخيير بينهم فيها، ولا يظهر الإشكال فيه بينهم، بل مقتضى ما يأتي في صورة التفاضل المفروغية عنه.

وهو مبتن على ما أشرنا إليه غير مرة وادعاه شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من الإجماع على جواز التقليد مطلقاً للعامي وعدم تكليفه بالاحتياط. وبه يخرج عن أصالة التساقط في المتعارضين بعد قصور الإطلاقات عن شمولهما - كما عرفت - وعدم نهوض سيرة العقلاء - التي هي عمدة أدلة المسألة - بالتخيير، بل بناؤهم في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة على التوقف والتساقط مع الاختلاف.

نعم، ناقش بعض مشايخنا في الإجماع بعدم كونه إجماعاً تعبديا، ليكشف عن رأي المعصومين (ع).

وقد يؤيده ظهور بعض كلماتهم في عدم الاعتماد عليه، بل على

ص: 412

بعض الوجوه الاجتهادية التي لا تعويل عليها.

وكذا ظهور بعض النصوص في الرجوع للإمام (ع) لمعرفة الحكم عند اختلاف الأصحاب فيه، حيث يدل على عدم وضوح البناء في الصدر الأول على التخيير.

وهو وإن اختص بصورة تيسر الاطلاع على الحق بالرجوع له (ع) إلا أنه يمنع من الوثوق بالإجماع المدعى، بنحو لا يستكشف منه وضوح التخيير في صورة عدم تيسر الرجوع له التي لم يعلم مقدار الابتلاء بها في عصورهم (ع) ولا طريق لمعرفة حكمهم (ع) فيها، ولا سيما مع مخالفة التخيير للسيرة الارتكازية. ومن ثم جزم (دامت بركاته) بوجوب الأخذ بأحوط القولين حينئذ، لأنه مقتضى الأصل الذي ادعاه هو وغيره في صورة التساقط.

لكن الظاهر اختصاصه بما إذا كان أحوط القولين موافقاً للأصل الشرعي أو العقلي الجاري في المسألة، كما في مورد استصحاب التكليف وموارد الشك في المحصل وتعيين المكلف به ونحوها، لحجية الأصول المذكورة في حق العامي بعد فرض سقوط الفتوى المخرجة عنه بالمعارضة، أما لو كان القول الآخر هو الموافق للأصل - كما في موارد الاستصحاب النافي للتكليف والشك في أصل التكليف والنجاسة - جاز موافقته عملا بالأصل المذكور بعد فرض سقوط أحوط القولين بالمعارضة.

وليس المانع من رجوع العامي للأصل المذكور بنحو يستغني به عن التقليد والنظر في أقوال المجتهدين إلا تنجز احتمال التكليف في مورده بالعلم الإجمالي الكبير بوجود تكاليف شرعية مسبب عن العلم بوجود

ص: 413

الشريعة، وبما دل على وجوب تعلم الأحكام، بنحو يمنع من الرجوع قبل الفحص عن الرجوع للأصول الترخيصية.

والظاهر انحلال العلم الإجمالي الكبير بموارد الأصول الإلزامية في مورد الاختلاف، وموارد اتفاق المجتهدين على ثبوت التكليف، لوفائها بالمقدار المعلوم بالإجمال، فلا يصلح العلم المذكور للتنجيز في غيرها.

كما أن ما دل على وجوب تعلم الأحكام إنما ينجز احتمال التكليف قبل الفحص والسؤال، أما بعد الفحص عن التكليف وعدم العثور على حجة عليه، لفرض سقوط الفتوى به بالمعارضة، فلا يصلح للمنجزية، نظير المجتهد، حيث يجوز له الرجوع للأصول الترخيصية بعد الفحص عن الأدلة وظهور تعارضها في حقه، وان لم يجز له الرجوع قبل الفحص.

وبالجملة: لا مجال لإطلاق الفتوى بوجوب الاحتياط على العامي في فرض تساقط فتاوى المجتهدين في حقه، بل يتعين التفصيل له بين الموارد على حسب ما ذكرناه.

نعم، لو عجز عن تشخيص الموارد المذكورة وتعذر عليه التمييز بينها، فحيث كان ذلك ناشئاً من جهله بالحكم الظاهري للشبهة الحكمية لا الموضوعية لزمه الرجوع للمجتهدين في تعيينه، وبدونه يلزمه الاحتياط بمتابعة أحوط القولين.

والانصاف أن التمييز بين الموردين يعسر على العامي غالباً، بل يتعذر خصوصاً مع اختلاف المجتهدين في تحديد كبريات الأصول.

كما أن الاحتياط عسر عليه غالباً، فإن تعلم مسائل الخلاف وكيفية الاحتياط والترجيح بين جهاته عند التزاحم مما لا يتهيأ لعامة الناس، ولا

ص: 414

سيما مع كثرة المجتهدين.

وخصوصاً مع أن البناء على التساقط مع التساوي للأصل يقتضي البناء عليه مع احتماله، لعدم إحراز المرجح، كما يقتضي البناء عليه مع العلم بالتفاضل وعدم تعيين الأفضل، ومع ما يأتي إن شاء الله تعالى من اختصاص مورد السيرة على ترجيح، الأعلم بما إذا كان التفاضل بوجه معتد به. فإن ملاحظة جميع ذلك توضح كثرة موارد الاحتياط ولزوم الحرج منه.

وحينئذٍ يكون مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم لزومه واكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية، بناء على ما سبق في تنبيهات البراءة من إمكان اكتفائه بها.

ولازم ذلك متابعة أحد المجتهدين تخييراً لتحقق مقتضى الحجية فيه، ولأنه المتيقن من صور الموافقة الاحتمالية.

بل الالتفات لجميع ما ذكرنا ولكثرة اختلاف العلماء بالوجه المذكور في جميع العصور وغلبة عدم سهولة تشخيص الأعلم يوجب الاطمئنان بعدم تشريع التقليد بالوجه المقتضي للتساقط غالباً، ويكشف عن تسامح الشارع في ذلك باكتفائه في جواز التقليد بالعلم والاقتصار في لزوم الترجيح بالأعلمية على صورة وجودها وتيسر تشخيص الأعلم، كما هو مفاد الإجماع المدعى.

وبعبارة أخرى: الالتفات للاختلاف بين المجتهدين في العصور السابقة وإن كان نادرا، لعدم تحرير الفتاوى، ولذا منعنا من السيرة على التخيير، إلا أنه لما كان كثيراً في نفسه، خصوصاً في عصور الأئمة (ع) بسبب الابتلاء بما يوجب خفاء الواقع، فلو كان مبنى تشريع التقليد على

ص: 415

التساقط بالتعارض لزم عدم وفاء تشريع التقليد واقعاً بمقدار الحاجة في مقام العمل، وإن تخيل وفاؤه به بسبب الغفلة عن الاختلاف.

فالإنصاف أن الإجماع في المقام بعد الالتفات إلى لزوم الحرج نوعاً من مخالفته بل الهرج والمرج يشرف بالمتأمل على القطع بالتخيير، وأن التضييق بإيجاب الاحتياط بعيد عن سليقة الشارع الأقدس.

وإن كان ينبغي الاقتصار على لزوم الحرج الفعلي بالوجه المعتد به، لأنه المتيقن. والله سبحانه ولي التوفيق.

المقام الثاني: في صورة التفاضل ووجوب تقليد الأعلم

المقام الثاني: في صورة التفاضل، ولا ريب في جواز الرجوع للأعلم، وإنما الإشكال في تعيينه أو التخيير بينه وبين المفضول.

فقد صرّح غير واحدٍ من الأعاظم بلزوم الرجوع للأعلم، وفي التقريرات أنه المعروف بين أصحابنا، وعن النهاية أنه قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليين، وفي المعالم: أن تعيين الأرجح في العلم والعدالة هو قول من وصل إلينا كلامهم من الأصحاب، وعن المحقق الثاني دعوى الإجماع عليه، وقد يستظهر من كلام البهائي، وعن ظاهر السيد في الذريعة أنه من مسلمات الشيعة.

ومع ذلك فقد ذكر السيد في الذريعة أن بعضهم ذهب إلى التخيير، ولعل مراده بهم بعض العامة. وفي التقريرات أنه حدث لجماعة ممن تأخر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير بين الأعلم وغيره،

ثم قال:

«وصار إليه جملة من متأخري أصحابنا حتى صار في هذا الزمان قولاً معتداً به»، وهو الذي أصر عليه في كتاب القضاء من الجواهر، وجعله في الفصول أوضح، واختاره بعض المحققين.

ص: 416

هذا، وحيث سبق قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين معاً، وكان الحمل على التخيير مع التساوي لأجل الإجماع ونحوه، فلا يبعد حملها مع التفاضل على حجية خصوص الأعلم، بقرينة ورودها مورد الإمضاء لسيرة العقلاء والمفروغية عنها، وحيث لا إشكال عندهم في تعيين الأعلم عند الاختلاف، لصلوح قوله للقرينية على خطأ المفضول وخروجه عن موضوع الحجية، لزم تنزيل الإطلاقات عليه.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن الرجوع إليه بمقتضى السيرة العقلائية التي لم يثبت الردع عنها، وإن سلم عدم صلوح الإطلاقات لإمضائها في ذلك، لقصورها عن المتعارضين.

وأما دعوى: استفادة إمضائها من الإجماع على حجية قوله، لعدم الإشكال بينهم في ذلك، وإنما الإشكال في أن حجيته تعيينية أو تخييرية.

فيشكل: بأن صلوح الإجماع للكشف عن إمضاء السيرة موقوف على مطابقته لها في إثبات الحجية التعيينية التي هي محل الكلام. بل يتعين التشبث بكفاية عدم الردع، كما سبق.

اللهم إلا أن يدعى الإجماع على الحجية التعيينية، لدعوى انعقاده إلى عصر الشهيد الثاني، ولا يعتد بالخلاف بعده. فتأمل.

ومثله دعوى: استفادة إمضاء السيرة المذكورة من صحيح عيص بن القاسم: «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم. فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل

ص: 417

بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها. ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم...» (1) .

بتقريب: أن المراد بالأعلم ليس هو الواصل للواقع المصيب له في مقابل المتخرص الذي قد لا يصيبه، ليرجع إلى ترجيح المعصوم على غيره، ويخرج عما نحن فيه، بل هو الأخبر في الاجتهاديات الذي قد يتعرض للخطأ، كما هو الحال في رعاة الغنم، فيدل على إمضاء كبرى ترجيح الأعلم في الاجتهاديات التي يجري عليها العقلاء بمرتكزاتهم كما تضمنه الصحيح في صاحب الغنم.

لاندفاعها بظهور الصحيح في التنبيه للقضية الفطرية من لزوم الاحتياط بالمقدار الممكن لكل ما من شأن الإنسان الاهتمام به والمحافظة عليه، كقوله (ع):

«أخوك دينك فاحفظ لدينك بما شئت»(2) ولا نظر له لتحديد الحجج الظاهرية في مقام التعذير والتنجيز مع احتمال الخطأ، ولاسيما بملاحظة قوله (ع):

«لو كانت لأحدكم نفسان...» فاختيار الراعي الأعلم، لأنه الأحوط في مقام حفظها، لا لترجيح قوله أو رأيه على قول غيره أو رأيه، بحيث يكون حجة تعيينية مخرجة عن مقتضى الأصل أو العموم وإن احتمل الخطأ في حقه، لينفع في إمضاء السيرة في المقام.

هذا، وقد يستدل على تعيين الأعلم بأنه مقتضى الأصل، بعد فرض الدوران في حجيته بين التعيين والتخيير، لأصالة عدم حجية فتوى

ص: 418


1- وسائل الشيعة ج: 11 باب: 13 من أبواب جهاد العدو حديث: 1.
2- وسائل الشيعة ج: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 41.

المفضول، فلا يجتزأ بمتابعة قوله في الفراغ عن عهدة التكليف، بل بمتابعة الأفضل للقطع بحجيته.

لكن الأصل وإن اقتضى عدم حجية فتوى المفضول ولو تخييراً إلا أنه لا يقتضي كون حجية فتوى الأفضل تعيينية مع فرض الشك واحتمال كونها تخييرية غير مقتضية وجوب المتابعة.

ولازم ذلك عدم وجوب متابعته مع مطابقة فتوى المفضول للأصل، بل يجوز موافقة المفضول عملاً بالأصل بعد فرض عدم وجوب الخروج عنه بفتوى الأفضل، لاحتمال كون حجيته تخييرية، وقد سبق في المقام الأول عدم المانع من رجوع العامي للأصل الترخيصي في مورد اختلاف المجتهدين بعد الفحص.

وإنما يجب متابعة الأفضل مع مخالفة فتوى المفضول للأصل، لأن عدم إحراز حجيته مانع من الاعتماد عليه في الخروج عن الأصل، كما لا يجوز العمل بالأصل لو كان مخالفاً لهما، للعلم بقيام الحجة على خلافه، بل يتعين موافقة الأفضل، للعلم بحجيته.

نعم، يختص التفصيل المذكور بما إذا تمكن العامي من تمييز موارد الأصول، وتعيين مفادها، وقد سبق ندرة ذلك، وأنه يلزم مع عدمه الاحتياط، الذي يقتضي في المقام متابعة الأفضل.

ثم إنه قد استدل لوجوب ترجيح الأعلم بوجوه أخر لا تخلو عن إشكال..

الأول: الإجماع المتقدمة دعواه صريحاً عن غير واحد.

وجوه الاستدلال لوجوب تقليد الأعلم..
الأول: الإجماع

ويشكل: بعدم وضوح قيام إجماع تعبدي صالح للاستدلال مع عدم

ص: 419

شيوع تحرير المسألة، وقرب استناد مدعيه للسيرة الموجبة لوضوح الحكم عنده بنحو يعتقد استيضاح الكل له.

ولا سيما مع أن عمدة من حكي عنه دعوى الإجماع السيد المرتضى والمحقق الثاني، وفي الجواهر: «لم نتحقق الإجماع على المحقق الثاني. وإجماع المرتضى مبني على مسألة تقليد المفضول في الإمامة العظمى مع وجود الأفضل، وهو غير ما نحن فيه. وظني - والله أعلم - اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك».

الثاني: مقبولة ابن حنظلة

الثاني: ما تضمن ترجيح قضاء الأفضل عند الاختلاف، كمقبولة ابن حنظلة وغيرها، حيث يتعدى به للمقام - كما في التقريرات - إما بالإجماع المركب، إذا لا قائل بالفصل بين تعيين الأعلم للقضاء وتعيينه للتقليد، أو بأن ظاهر المقبولة الترجيح في مورد الاختلاف بينهما في الحكم الشرعي الكلي الذي يرجع فيه للشارع، كما يشهد به بقية المرجحات المذكورة فيها، التي هي من مرجحات الروايات المتعارضة في الأحكام الكلية.

لكن عرفت الإشكال في الاعتماد على الإجماع البسيط فضلاً عن المركب في أمثال المقام.

مع أن عدم الفصل - لو تمّ - إنما هو بين تعيين الأعلم للقضاء بنحو لا يجوز نصب غيره أو الرجوع له وتعيينه للتقليد، ولا تدل المقبولة ولا غيرها على تعيينه للقضاء لو لم تدل على عدمه، والذي هو مدلولها هو ترجيح قضاء الأعلم عند تحكيم شخصين في واقعة واحدة واختلافهما في الحكم، وعدم الفصل بينه وبين تعيين الأعلم للتقليد غير معلوم.

كما أن ظهورها في الترجيح في الحكم الكلي لا يجدي بعد

ص: 420

اختصاصها بالقضاء الذي يمتنع فيه الحكم بالتخيير، ولا وجه للتعدي منه للتقليد ولاسيما أن تعيين الأعلم له لا يخلو من صعوبة.

مضافاً إلى أنها إنما تقتضي ترجيح الأعلم من الحَكَمين، لا الأعلم من جميع الناس، الذي هو المدعى في المقام، كما نبه له بعض مشايخنا.

إلا أن يتمم بعدم الفصل بين عدم جواز تقليد المفضول من الحكمين ولزوم تقليد الأعلم من جميع الناس، وأن إعمال الترجيح بالأعلمية في التقليد في الجملة يستلزم الترجيح بها مطلقاً، فيكون مرجع إلغاء خصوصية القضاء - لو تمت - إلى استفادة إعمال الترجيح بالأعلمية في التقليد في من هو أهل له من إعماله في القضاء في من صدر الحكم منه. فتأمل جيداً.

الثالث: أن فتوى الأعلم أقرب، فيجب اختيارها عند التعارض.

الثالث: أقربية فتواه للواقع
اشارة

وأورد عليه..

تارة: بمنع وجوب الترجيح بالأقربية عند التعارض.

وأخرى: بمنع الأقربية، لا مكان اعتضاد فتوى المفضول بالشهرة أو بفتوى الميت الأعلم أو غيرهما.

وأجاب في التقريرات عن الأول: بأنه ثابت بحكم العقل بعد كون اعتبار التقليد من باب الطريقية، لا من باب التعبد المحض في عرض الواقع.

وعن الثاني: بأن الأعلمية من المرجحات المنضبطة التي يمكن رجوع العامي لها، بخلاف المرجحات المذكورة، فإنها مرجحات خارجية لا مجال لرجوع العامي لها بالإجماع والضرورة، لعدم انضباطها.

وكلاهما كما ترى، للإشكال في الأول: بأن اعتبار الأمارة من باب

ص: 421

الطريقية لا يستلزم كون الأقربية بنظر المكلف أو العقلاء علة تامة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، بل كما يمكن أخذ قيود تعبدية، كالحياة، يمكن إهمال ما يقتضي الأقربية بنظرهم من دون أن يستلزم كون اعتبار الأمارة من باب الموضوعية، الراجعة إلى كون مؤداها في قبال الواقع، أو كون حجيتها بنحو الصفتية التي لم ينظر فيها الكشف أصلاً.

وفي الثاني: بأن المدار في عموم الترجيح وخصوصه على حال دليله، ولا يظهر الفرق بين المرجحات الداخلية والخارجية، ولا بين الانضباط وعدمه في حكم العقل المدعى، ولا مسرح معه للإجماع والضرورة الفقهية، إلا أن يكشفا عن بطلان دعوى حكم العقل.

هذا، وقد يستدل ببعض النصوص، إلا أنه لا مجال لا طالة الكلام فيها بعد ضعف سندها، وقصور دلالتها.

ولنكتف بما ذكرناه حولها في مباحث التقليد في الفقه.

وقد تحصذل من جميع ما تقدم: أن عمدة الدليل على تعيين الأعلم سيرة العقلاء الارتكازية التي يكفي عدم ثبوت الردع عنها، بل يمكن استفادة إمضائها من الإطلاقات بعد تنزيلها عليها. على أنه مقتضى الأصل الذي يلزم التعويل عليه غالباً، على ما سبق توضيحه.

هذا، ومما تقدم يظهر الإشكال في الاستدلال على التخيير بين الأعلم وغيره بالإطلاقات، فقد وقع الاستدلال في كلامهم بإطلاقات أدلة التقليد كتاباً وسنةً.

بل قال سيدنا الأعظم (قدس سره) في عرض استدلالهم بها: «بل حمل مثل آيتي النفر والسؤال على صورة تساوي النافرين والمسؤولين في الفضيلة

ص: 422

حمل على فرد نادر».

وجه الإشكال: أن الاستدلال بها موقوف على شمولها لصورة الاختلاف، ليتعين حملها على الحجية التخييرية، كي يكون مقتضى الإطلاق ثبوتها مع التفاضل، خصوصاً مع فرض ندرة التساوي، وقد عرفت عدم نهوضها بإثبات الحجية للمتعارضين، لظهورها في الحجية التعيينية الممتنعة فيهما.

نعم، لو فرض مع ذلك ندرة الاتفاق في الفتوى كان حمل الإطلاقات على خصوص الحجية التعيينية حملاً على الفرد النادر، إذ لا تصح إلا مع الاتفاق في الفتوى المفروض ندرته، ومع إضافة خصوص فتوى الأعلم مع الاختلاف، وهو نادر أيضاً بالإضافة لبقية أفراد العناوين المأخوذة في الأدلة.

فيتعين لأجل ذلك حملها على الحجية التخييرية، لتكون دليلاً على التخيير مع التفاضل أيضاً، ولا سيما بعد فرض ندرة التساوي.

لكن من الظاهر عدم ندرة الاتفاق في الفتوى، بل كثرته، خصوصاً في عصر صدور الآيتين، لمعاصرة العلماء لمصدر التشريع وسهولة مقدمات الاستنباط، وعدم ابتنائه على مقدمات حسية خفية يكثر الاختلاف فيها، فلا مانع من حمل الإطلاقات على الحجية التعيينية، إذ لا محذور في إخراج فتوى غير الأعلم مع مخالفتها لفتوى الأعلم من الإطلاقات رأساً، وكذا فتاوى المتساوين في الفضيلة مع اختلافهم بالبناء فيها على الحجية التخيرية أو التساقط، على ما سبق الكلام فيه.

وما سبق من كثرة الاختلاف بنحو يلزم من التساقط والاحتياط العسر والحرج، بل اختلال النظام، إنما هو بالإضافة إلى العصور المتأخرة التي

ص: 423

تعقد فيها الاجتهاد وشاع تحرير الفتاوى وضبطها. وهو إنما يكشف عن تشريع التقليد بنحو يقتضي التخيير مع عدم المرجح ثبوتاً أو إثباتاً، لا عن حمل الإطلاقات على الحجية التخييرية، لإمكان استفادة التخيير معه لباً للمحذور المذكور أو غيره، لا من الإطلاقات.

ومن هنا كان اللازم في البناء على التخيير بين الأعلم وغيره الاعتماد على أدلة خاصة غير الإطلاقات.

وجوه الاستدلال على التخيير بين الأعلم وغيره
أولها: سيرة المتشرعة

وقد استدل عليه بوجوه..

أولها: سيرة المتشرعة في عصر المعصومين (ع) على الأخذ بفتاوى العلماء المعاصرين لهم، من دون تقيد بالأعلم ولا فحص عنه، مع العلم بتفاضلهم.

وفيه - كما ذكره غير واحد - أن المتيقن من ذلك صورة عدم العلم بالاختلاف في الفتاوى المأخوذة منهم أو الغفلة عنه، ومحل الكلام صورة العلم بالاختلاف، وثبوت السيرة فيها غير معلوم.

بل يظهر من الأخبار المتضمنة للسؤال عن الحكم الذي اختلف فيه الأصحاب البناء على التوقف مع الاختلاف.

وهي وإن اختصت بصورة إمكان استعلام الحكم بالرجوع للإمام (ع)، ولم يتضح ورودها في مورد العلم بالتفاضل، إلا أنها كافية في منع إحراز السيرة المتصلة بعصر المعصومين (ع) على الأخذ بفتوى المفضول مع مخالفتها لفتوى الأفضل.

وأضعف منه الاستدلال بما دل على الرجوع لمعاصري الأئمة (ع) من علماء الشيعة مع كونهم (ع) أعلم منهم.

ص: 424

لوضوح أن الرجوع لهم لم يكن مع العلم بمخالفة فتاواهم لأحكام أئمتهم، بل مبنى الرجوع لهم على أخذ أحكامهم (ع) منهم، فهو في طول الرجوع للأئمة (ع)، ومقتضى كونهم من أهل الخبرة حجية فتاواهم وإحراز أحكام الأئمة (ع) بها، نظير أخذ فتاوى الأعلم من ناقليها.

فهو خارج عما نحن فيه من الرجوع لغير الأعلم في مقابل الأعلم، بل مع إحراز مخالفته له.

ثانيها: إرجاع الأئمة (ع) لبعض أصحابهم

ثانيها: إرجاع الأئمة (ع) لبعض أصحابهم، كأبي بصير ومحمد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن ادم والعمري وابنه وغيرهم، بدعوى: إن إطلاق الارجاع إليهم يشمل ما لو وجد من هو أعلم منهم.

ويظهر الجواب عنه مما سبق في أدلة التقليد من احتمال الخصوصية للأشخاص المذكورين، وعدم وضوح كون الإرجاع لهم بملاك كبرى التقليد.

على أن الإرجاع لهم لما كان قضية خارجية فلا إطلاق لها، لا مكان كونهم أعلم من يمكن رجوع المخاطبين لهم.

ولو تم الإطلاق له كان كسائر الإطلاقات قاصراً عن شمول صورة الاختلاف في الفتوى، لاستحالة حجية المتعارضين تعييناً، كما سبق. إلا أن يقدم عليها لأنه أخص، فيتعين تقديم الأشخاص المذكورين على غيرهم عند الاختلاف.

ثالثها: ما في الجواهر

ثالثها: ما في الجواهر من أنه لما كان مقتضى إطلاق أدلة القضاء نفوذ قضاء المفضول في الواقعة الشخصية يلزمه حجية رأيه في الحكم الكلي، وأنه من الحق والقسط والعدل وما أنزل الله تعالى، فيجوز الرجوع إليه فيه

ص: 425

تقليداً أيضاً.

ويندفع: بعدم الملازمة بين نفوذ قضاء المفضول وحجية رأيه، لعدم تكفل أدلة النفوذ بالتعبد بأن الكبريات التي يبتني عليها قضاء المجتهد حق في حق العامي.

غاية الأمر أن المجتهد يجب عليه أن يقضي بالحق والقسط والعدل وما أنزل الله تعالى، ولا يراد بذلك تحقق هذه العناوين واقعاً، بل بنظر الحاكم، وحصولها بنظره لا يستلزم حجيته في حق غيره.

ولذا لا إشكال عندهم في نفوذ حكم الحاكم في حق غيره من المجتهدين مع عدم حجية رأيه عليهم.

على أن نفوذ القضاء لو كان مستلزماً للحجية فهو غير مستلزم للحجية التخييرية، بل التعيينية التي يمتنع ثبوتها للمتعارضين معاً، كما تقدم في الإطلاقات.

رابعها: لزوم العسر والحرج مع اقتصار الحجية بالأعلم

رابعها: لزوم العسر والحرج من الاقتصار على تقليد الأعلم، لصعوبة تشخيصه وصعوبة رجوع جميع المسلمين له مع اختلاف أماكنهم وتباعد أوطانهم، فلا يتيسر لهم استفتاؤه ولا يتيسر له إفتاء جميعهم.

وكأن المراد بالحرج في المقام الحرج النوعي، حيث يظهر من جملة من النصوص أن الأحكام الشرعية ليست بنحو يلزم منها الحرج نوعاً، ومن هنا يمكن تمامية الاستدلال في حق من لا يلزم الحرج من رجوعه للأعلم.

وفيه: أن الترجيح بالأعلمية لما كان فرع الابتلاء بفتوى الفقيه والالتفات للاختلاف فهو لا يقتضي رجوع جميع المسلمين لشخص واحد، بل اكتفاء كل مكلف بالترجيح بها بين من يتيسر له معرفة رأيه كل في مكانه.

ص: 426

نعم، قد يلزم ذلك في عهودنا التي شاع فيها تسجيل الآراء وانتشار الرسائل العملية وكثرت فيها وسائط النقل والاتصال.

لكن في لزوم الحرج من رجوع الكل - للشخص الواحد إشكال، بل منع، لأن انتشار الرسائل العملية وتكثر نسخها بالطبع يسهل معرفة آراء الشخص في جميع الأقطار ولو بمعونة أهل العلم المنتشرين فيها الذين يتعارف منهم التصدي لبيان فتاوى المرجع.

غاية الأمر أنه قد يصعب تشخيص الأعلم، لكون المعلوم حدسياً ليس له أثر محسوس، وليس كالطب - مثلاً - الذي يظهر أثر الإصابة فيه بشفاء المريض.

إلا أنه لا يكشف عن عموم الحجية لغير الأعلم تخييراً، ولا سيما في حق من لا يلزم الحرج عليه.

لوضوح أن قاعدة نفي الحرج - مع أن المعيار فيها الحرج الشخصي لا النوعي - إنما تنهض بنفي الأحكام الحرجية، لا بتشريع أحكام يتدارك بها الحرج، ولا يكفي في رفع الحرج في المقام نفي حجية فتوى الأعلم تعييناً، بل لابد فيه من إثبات الحجية لغير الأعلم تخييراً.

وكذا الحال في ما تضمن أن الأحكام الشرعية ليست بنحو يلزم منه الحرج نوعاً لو فرض كون الحرج في المقام نوعياً غالبياً.

نعم، قد يقطع بعدم جعل الشارع للتقليد بنحو لا يفي بحاجة المكلفين ويحتاج معه للاحتياط الموجب الحرج، نظير ما تقدم في وجه التخيير مع التساوي، وذلك لا يقتضي عدم لزوم الترجيح بالأعلمية تبعاً للسيرة مع عدم لزوم الحرج من معرفة الأعلم، حيث لا يلزم الاحتياط حينئذ. وربما يأتي ما

ص: 427

يتعلق بالمقام عند الكلام في حكم الشك في الأعلمية.

وينبغي التنبيه على أمور..
اشارة

وينبغي التنبيه على أمور..

الأول: المعيار في الأعلمية

الأول: لما كان المعيار في العلمية في كبرى التقليد هو قوة الحدس المستند لمقدمات الاستنباط بمعرفة المباني الأصولية ونحوها مما يرجع إليه الفقيه، والقدرة على تشخيص صغرياتها، وفهم الأدلة، والاستظهار منها، ومعرفة الجمع بينها، كان المعيار في الأعلمية التفاضل في ذلك، فالأعلم هو الذي تكون مبانيه الأصولية أقوى وكبريات استدلاله أنسق، ويكون أقدر على تشخيص صغرياتها، وأقوى على فهم الأدلة، والاستظهار منها، والجمع بينها، فيكون أقوى استدلالاً.

وإليه يرجع ما قيل من رجوعها لقوة الملكة، قال سيدنا الأعظم (قدس سره):

«المراد به الأعرف في تحصيل الوظيفة الفعلية عقلية كانت أم شرعية، فلا بد أن يكون أعرف في أخذ كل فرع من أصله».

أما تشخيص ذلك فهو مما قد يقدر عليه بعض أهل العلم ممن يكون جيد النظر في نفسه خبيراً بآراء العلماء الذين يبحث عن التفاضل بينهم محيطاً بطرقهم في الاستدلال عارفاً بأساليبهم، بعيداً عن المؤثرات الخارجية من عاطفة غالبة أو انصهار بالشخص يقتضيان خضوعه لآرائه والغفلة عن جهات الضعف فيه، وإعراضه عن غيره. إلا أن وجود هذا الشخص وتمييز العامي له في غاية الندرة.

واللازم على العامي - مع إدراكه - بذل الجهد في ذلك احتياطاً لدينه، كما يلزم ذلك على المسؤول عن تعيين الأعلم احتياطاً في شهادته وأداء لأمانته. ولا يهم مع ذلك الخطأ والصواب، لأن الله لا يكلف نفساً إلا

ص: 428

وسعها، ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

ومما ذكرنا في معيار الأعلمية يظهر أنها قائمة بكل مسألة مسألة، فيمكن اختلاف الأشخاص في الأعلمية باختلاف آحاد المسائل أو أنواعها، لاختلاف المسائل في سنخ الأدلة، فربما يكون الشخص أعلم في بعض المسائل مفضولاً في بعضها، نظير ما سبق في التجزي.

ويلزم حينئذ تبعيض التقليد، كما صرح به غير واحد، لعموم سيرة العقلاء على تعيين الأعلم عند الاختلاف، وعدم ثبوت ما يمنع من العمل بمقتضاها.

نعم، لو وصلت النوبة للتخيير، للتساوي بين المجتهدين، أو العجز عن تشخيص الأعلم منهم، فحيث لم يكن هو مقتضى السيرة، ولم يكن لدليله إطلاق، وكان التبعيض في التقليد خارجاً عن المتيقن لزم الاقتصار على التقليد في تمام المسائل.

الثاني: اختصاص السيرة في تقليد الأعلم في موارد إمكان الاحتياط

الثاني: الظاهر أن سيرة العقلاء على تقديم الأعلم عند الاختلاف مختصة في موارد إمكان الاحتياط بما إذا كان الفرق معتداً به، ولا يكفي فيه الأفضلية بمرتبة ضعيفة، حيث يكون احتمال خطأ الأفضل معتداً به عند العقلاء.

نعم، مع تعذر الاحتياط لا يبعد عندهم الترجيح بذلك في فرض الاهتمام بتحصيل الواقع، لأنه الأقرب في الجملة، لا لحجيته في مقام التعذير والتنجيز.

فالبناء على تعيين الأعلم مع قلة الفارق في المقام مبني على الإجماع المدعى على جواز التقليد للعامي وعدم لزوم الاحتياط عليه، الذي تقدم

ص: 429

التعرض له في وجه التخيير مع التساوي، وتقريب عدم وجوب الاحتياط، ولو بلحاظ الحرج. حيث يكون الأعلم ولو بمرتبة ضعيفة هو المتيقن من ذلك.

أما بناء على التساقط ولزوم الاحتياط مع عدم المرجح فاللازم البناء عليه في الفرض بعد ما ذكرنا من قصور السيرة عن الترجيح. وكما ذكرنا ذلك في تقريب مقتضى الإجماع المذكور. فلاحظ.

الثالث: لو تردد الأعلم ووجوب الفحص عنه

الثالث: إن علم تساوي المجتهدين أو تفاضلهم مع تعيين الأفضل فالعمل على ما سبق.

أما لو احتمل كون بعضهم أفضل فإن كان معيناً وجب تقليده بناء على تمامية التخيير مع التساوي، للعلم بحجيته تعيينا أو تخييراً والشك في حجية غيره، نظير ما سبق في تقريب الأصل مع العلم بالأعلمية. أما بناء على التساقط مع التساوي فاللازم التوقف في المقام، لعدم ثبوت الأعلمية المرجحة، فلا يكون الشخص المذكور معلوم الحجية.

وإن كان محتمل الأعلمية مردداً لم يصلح للترجيح، كما هو الحال لو علم بالتفاضل وتردد الأفضل بين شخصين، بل يجب الفحص لتعيين الحجة والعمل عليها، لما دل على وجوب تعلم الأحكام.

واللازم الاحتياط في مدة الفحص، لعدم ثبوت التخيير فيه بعد ما سبق من عدم الدليل عليه إلا الإجماع المعتضد بأن الاقتصار في التقليد على موارد الاتفاق في الفتوى وإحراز الأعلمية في المعين مع الاختلاف مستلزم لقصور التقليد وعدم وفائه بحاجة المكلفين الرافعة للعسر والحرج واختلال النظام، لكثرة موارد وجوب الاحتياط حينئذ.

إذ من الظاهر أن ذلك لا ينهض بإثبات التخيير في مدة الفحص،

ص: 430

لقصرها غالباً.

نعم، لو طالت المدة ولزم المحذور المذكور لم يبعد جواز تقليد أحدهم تخييراً مع البقاء على الفحص بالمقدار الممكن.

وأما ما تقدم في فرض التساوي بين المجتهدين من أنه لو لم نقل بالتخيير فيختص وجوب الاحتياط مع الاختلاف بمن يتعذر عليه تمييز مقتضى الأصل في الواقعة التي يبتلى بها، وأنه مع القدرة على تمييزه يجوز العمل بالأصل الترخيصي. فهو مختص بفرض عدم حجية ما وصل إليه من فتاوى المجتهدين لسقوطها بالمعارضة، ولا يجري في المقام، حيث يعلم أو يحتمل أعلمية أحدهم المستلزم لحجيته وان لم يعلم بعينه، لأن ما دل على وجوب التعلم مانع من الرجوع للأصل الترخيصي في زمان الفحص، وإنما يجوز الرجوع إليه بعد اليأس عن الظفر بالدليل، ومعرفة مؤداه، حيث يسقط وجوب التعلم، لعدم الموضوع له.

ثم إنه مع اليأس عن معرفة الأعلم مع احتمال التفاضل أو العلم به فقد يدعى عدم جواز تقليد أحد المجتهدين تخييراً، بل يلزم التوقف والأخذ بأحوط القولين حتى بناء على التخيير مع التساوي. أما مع احتمال التفاضل فلعدم إحراز موضوع التخيير وهو التساوي.

وأما دعوى: أن موضوع التخيير هو عدم التفاضل، فمع إحرازه بالأصل يتوجه البناء عليه.

فهي ليست بأولى من دعوى: أن موضوعه التساوي الذي لا مجال لإحرازه بالأصل، إذ لا طريق لتحديد مفهوم موضوع الحكم، ولا ينهض بذلك دليل التخيير بعد كونه لبياً، وهو الإجماع المدعى ونحوه مما لا

ص: 431

تصدي فيه لذلك، وليس كالأدلة اللفظية التي كثيراً ما يؤخذ فيها عناوين محددة المفهوم.

وأما مع العلم بالتفاضل فللعلم بعدم التخيير وانحصار الحجة بالأعلم، فيكون المقام من موارد اشتباه الحجة باللاحجة، الذي يلزم معه الاحتياط بمتابعة جميعها فيما لو كان لكل من الأطراف فتاوى مطابقة للاحتياط يمتاز بها عن الباقين، للعلم الإجمالي بقيام الحجة على بعض ما يطابق الاحتياط من موارد الاختلاف.

نعم، لو انفرد بعضهم ببعض الفتاوى المطابقة للاحتياط دون غيره بحيث كان بين فتاواه الاحتياطية وفتاواهم الاحتياطية عموم مطلق اتجه عدم وجوب متابعته فيها لو كانت مخالفة للأصل، لعدم صلوحه لتنجيزها - لفرض عدم ثبوت حجيته - وعدم كونها طرفاً للعلم الإجمالي، بل يجوز الرجوع في مواردها للأصول الترخيصية لو أدركها العامي.

ولعله لذا توقف سيدنا الأعظم (قدس سره) في منهاجه عن البناء على التخيير عند تعذر تعيين معلوم الأعلمية أو محتملها مع بنائه على التخيير مع التساوي.

لكن توقفه عن التخيير مبني على عدم استيضاح عموم دليله، وهو الإجماع على جواز التقليد للعامي وعدم تكليفه بالاحتياط.

وهو خلاف ظاهر معقده في كلماتهم، بل خلاف ما صرح (قدس سره) به في مستمسكه في المسألة الواحدة والعشرين، والثامنة والثلاثين من مباحث التقليد.

بل قال في المسألة الثامنة، والثلاثين: «ولا تبعد دعوى السيرة أيضاً

ص: 432

على ذلك، لندرة تساوى المجتهدين وغلبة حصول التفاوت بينهم ولو يسيراً، وشيوع الجهل بالأفضل، وفقد أهل الخبرة في أكثر البلاد. وكون بنائهم على الاحتياط في مثل ذلك بعيد جداً».

وأنكر ذلك بعض مشايخنا مدعياً أن المورد من الموارد النادرة التي لا يمكن تحصيل السيرة فيها، لغلبة التمكن من تعيين الأعلم ولو بالأمارات الشرعية، كما عليه عمل الناس في عصرنا وما سبقه من الأعصار.

لكن الانصاف صعوبة الاطلاع على الأعلمية بوجه معتبر شرعاً، خصوصاً مع كثرة المجتهدين وتباعد أماكنهم وعدم ظهور أثر علمي لكثير منهم ليتسنى تمييز حاله، ولا سيما مع عدم الداعي لكثير ممن يمتلك قابلية التمييز للتصدي لذلك، لما فيه من الكلفة الزائدة وتحمل المسؤولية العظيمة بالشهادة.

وأما من هو متصل به من تلامذته ونحوهم فهم - بعد فرض حسن الظن بهم والثقة بتورعهم - كثيراً ما ينصهرون به، أو بمدرسته العلمية، بنحو لا تبتني شهاداتهم له على اختباره مع غيره بوجه كافٍ، بل على الإعجاب به حتى يعتقدون تفوقه وإن لم يختبروا غيره، أو على إلفة مطالبه العلمية والتنفر من مطالب غيره، لبعدها عن أذواقهم المكتسبة منه أو من غيره. ومن هنا نرى تضارب الشهادات كثيراً.

وليس عمل عامة الناس في عصورنا مبنياً على الالتفات لهذه النكات والتحفظ على الميزان الشرعي، بل على الغفلة أو التسامح، فكثيراً ما يعتمدون في تعيين المرجع على غير أهل الخبرة ممن لهم اتصال به من أهل العلم أو ممن يتزيى بزيهم، كما تتدخل أمور جانبية كالشهرة والعواطف

ص: 433

وغيرها في تصرفهم كثيراً.

لكن ليس مرجع ذلك إلى قيام السيرة من عامة الناس على التخيير مع العجز عن تعيين الأعلم، كما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره)، بل إلى الغفلة أو التسامح في تعيين المرجع مع عدم الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية على أهمية الأعلمية ومرجحيتها.

ولا يخلو عن ذلك إلا الخاصة الذين لا تنعقد بعملهم سيرة صالحة للاستدلال، لتبعية عملهم لفتاوى العلماء على اختلافها، فلا تكون دليلاً عليها.

بل لا تصلح سيرة العامة لذلك أيضاً - لو غض النظر عما مضى من ابتنائها على الغفلة أو التسامح - لعدم إحراز اتصالها بحضور المعصومين (ع)، للفرق بين عصرنا وتلك العصور، حيث لا يبعد قلة الالتفات فيها للاختلاف وبناؤهم معه على التوقف لتيسر معرفة الحكم بالرجوع للإمام (ع).

كما أنه سبق عند الكلام في التساوي الإشكال في الاستدلال بالإجماع المتقدم هناك فضلاً عنه هنا.

فالعمدة في وجه تعميم التخيير للمقام ما سبق ذكره عاضداً للإجماع في فرض التساوي من أن البناء على مقتضى القواعد في التقليد من التساقط مع الاختلاف مستلزم لكثرة موارد الاحتياط بسبب ظهور آراء المجتهدين وكثرة اختلافهم وعدم تحقق المرجح ثبوتاً أو إثباتاً، وهو مستلزم للحرج، بل اختلال النظام.

بل لازمه قصور تشريع التقليد عن الوفاء بحاجة المكلفين، وهو بعيد عن مذاق الشارع الأقدس في التسهيل عليهم والرفق بهم، بنحو يقطع معه

ص: 434

باكتفائه بالتخيير.

وإن كان المتيقن من ذلك ما إذا لزم من الاحتياط العسر بمقدار معتد به، كما ذكرناه هناك أيضاً.

ومنه يظهر أن الفحص اللازم عن الأعلم هو الفحص بالمقدار الذي لا يلزم منه الحرج أو اختلال النظام.

ثم إنه لا يبعد بناء على التخيير مع تعذر معرفة الأعلم ترجيح مظنون الأعلمية - كما جزم السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة الوثقى - لعدم القطع بالتخيير بينه وبين غيره، فيتعين اختياره، للدوران فيه بين التعيين والتخيير. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد العون والتوفيق.

الرابع: مع الجهل باختلاف المجتهدين في الفتوى

الرابع: سبق أنه مع إحراز اتفاق المجتهدين في الفتوى يجوز الرجوع لكل منهم وإن كان مفضولاً، ومع إحراز اختلافهم يلزم اختيار الأعلم مع معرفته والفحص عنه مع الجهل به، مع الكلام في التخيير مع التساوي أو تعذر معرفة الأعلم.

وجوه الاستدلال على جواز تقليد المفضول
أولها ما ذكره السيدة الحكيم (قدس سره)

أما مع الجهل بالاختلاف فقد صرح غير واحد بجواز الرجوع للمفضول وعدم وجوب الفحص عن الاختلاف. وقد استدل عليه بوجوه..

أولها: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من إطلاق أدلة الحجية. قال: «واحتمال الاختلاف بين الفتويين الموجب لسقوط الإطلاق عن الحجية لا يعتنى به في رفع اليد عن الإطلاق، كما في سائر موارد التخصيص اللبي».

وقد أشار بذلك إلى ما بنى عليه (قدس سره) من جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص، إذا كان المخصص لبياً، كما في المقام، إذ لا دليل على قصور الإطلاق عن شمول الفتويين المتعارضتين إلا حكم العقل

ص: 435

بامتناع حجيتهما معاً.

لكن المبنى المذكور - مع أنه غير تام في نفسه، على ما ذكرناه في مباحث العموم والخصوص - مختص عندهم بما إذا كان المخصص خفياً غير مانع من انعقاد ظهور العام في العموم، ولا يشمل ما لو كان جلياً مانعاً من انعقاده، كما في المقام، حيث يرجع للتمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام، الممتنع بلا كلام، كما نبه له شيخنا الأستاذ (قدس سره).

مضافاً إلى لزوم الاقتصار في ذلك على الشبهات الموضوعية التي لا يجب الفحص فيها، دون مثل المقام مما كان مرجع الشك فيه إلى الشك في الحكم الشرعي الكلي، لأن ما دل على وجوب الفحص صالح لتنجيز احتمال التخصيص، ومع تنجيزه تمتنع حجية العام، على ما سيأتي توضيحه.

ثانيها: ما في التقريرات من أصالة عدم المعارض. حيث يحرز بذلك بقاء الفتوى تحت دليل الحجية وعدم المانع منها.

ثانيها: ما في التقريرات

وهو راجع في الحقيقة إلى التمسك بإطلاق دليل الحجية، بضميمة الأصالة المذكورة.

لكن ذلك قد يتم مع عدم تنجز احتمال وجود المعارض في نفسه، دون مثل المقام مما كان مرجع الشك فيه إلى الشك في الحكم الشرعي الكلي، حيث يكون دليل وجوب الفحص منجزاً لاحتمال وجود المعارض ومانعاً من الرجوع للأصالة المذكورة.

على أن المراد بأصالة عدم المعارض إن كان هو الاستصحاب الشرعي - كما لعله الظاهر من التقريرات - كان راجعاً لما ذكره غير واحد من استصحاب عدم المعارض الأزلي، بلحاظ حال ما قبل وجود الفتوى.

ص: 436

وإلا فكثيراً ما يحتمل سبق المعارض لها، بحيث لم تخل حين حدوثها عن المعارض.

وأشكل: بأن التعارض لم يؤخذ بعنوانه في الأدلة مانعاً من الحجية، لينفع استصحاب عدمه في البناء عليها، لوضوح أن دليل عدم حجية المتعارضين ليس لفظياً عنوانياً، بل لبي راجع إلى استحالة حجية المتعارضين بواقعهما، بنحو تقصر عمومات الحجية في مورد التعارض بنتيجة التقييد، لا بالتقييد العنواني، ليكون موضوع الحجية مركباً من أمر وجودي محرز بالوجدان، وهو وجود الدليل أو الفتوى، وأمر عدمي محرز بالأصل، وهو عدم المعارض له.

وإن أريد بها الأصل العقلائي بدعوى: أن بناء العقلاء على العمل بالدليل الواصل، وعدم الاعتناء باحتمال وجود المعارض له، لتحقق مقتضي الحجية فيه، ولا يعتنى باحتمال المانع فالظاهر تماميته في نفسه.

وأما ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من عدم إحراز مقتضي الحجية في الفتوى الواصلة قبل الفحص، لأن بناء العقلاء على الرجوع للأفضل من غير فحص، ولغيره بعد الفحص وعدم العثور على معارضته بفتوى الأفضل.

فهو ممنوع، بل مقتضي الحجية تام في فتوى المفضول قبل الفحص عن المعارض، لكونه من أهل الخبرة، فتكشف فتواه نوعاً عن الواقع، ولا أثر لوجود الأفضل في ذلك.

وتقديم فتوى الأفضل عليه إنما هو بملاك كونه أقوى الحجتين، فيمنع من فعلية حجية أضعفهما. فلا يكون الفحص في المقام متمما لمقتضي الحجية في فتوى المفضول، بل هو فحص عما يمنع منها، فلا

ص: 437

يجب بمقتضى سيرة العقلاء المشار إليها.

وهو لا ينافي ما سبق منا من صلوح فتوى الأفضل بنظر العقلاء للكشف عن خطأ المفضول وعدم كونه من أهل الخبرة. إذ انكشاف خطئه بفتوى الأفضل لا ينافي دخوله في أهل الخبرة قبل ثبوت خطئه، بنحو يتم فيه مقتضي الحجية.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود المعارض وإن كان الواصل هو فتوى المفضول.

نعم، قد يدعى اختصاصه بما إذا لم يكن وجود المعارض متوقعاً، لعدم ظهور الخلاف بين أهل الخبرة أو ندرته بسبب قرب مقدمات الاجتهاد من الحس أو قلتها أو قلة الخطأ فيها.

وأما مع ظهوره في كثير من الموارد بسبب ابتناء الاجتهاد على مقدمات نظرية يكثر فيها الخطأ والاختلاف - كما في المقام - فلا يتضح بناؤهم على إهمال احتمال المعارض مع إمكان الفحص عنه، بل لعل بناءهم على الفحص عنه، وعدم العمل بالدليل الواصل إلا بعد اليأس عن العثور على المعارض نظير. ما قد يذكر في مبحث العموم والخصوص من أن معرضية العام للتخصيص مانعة من العمل به قبل الفحص عن المخصص.

وإن كان الأمر محتاجاً للتأمل.

ثالثها: سيرة المتشرعة

ثالثها: سيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة (ع) ومعاصريهم من الشيعة على أخذ الفتوى من دون فحص عن المعارض.

والتشكيك فيها من بعض المحققين (قدس سره) في غير محله، إذ لو كان مبناهم على الفحص لبان وظهر بعد كونه على خلاف سيرة العقلاء العامة

ص: 438

في جميع موارد الرجوع لأهل الخبرة، بل في جميع موارد الطرق المعتبرة، فإن مبناهم على عدم الفحص عن المعارض لها، لما سبق من بنائهم على أصالة عدمه.

ويشهد بعدم فحص المتشرعة عن المعارض ما سبق من عدم تقيدهم بالرجوع للأفضل، بل يرجعون لكل من يتهيأ لهم الرجوع إليه، حيث سبق ابتناء ذلك منهم على عدم ثبوت الاختلاف عندهم.

ويشكل: بأن سيرتهم لما كانت متفرعة على سيرة العقلاء فقد عرفت أن المتيقن من سيرة العقلاء صورة عدم توقع المعارض، لعدم ظهور الاختلاف بين أهل الخبرة أو ندرته بسبب قرب مقدمات المعرفة من الحس أو قلتها، وذلك جار في سيرة المتشرعة في العصور السابقة، حيث لم يتضح شيوع الخلاف بين العلماء لعامة الشيعة ليلتفتوا له، ولم يتضح إهمالهم الفحص عنه مع توقعه واحتماله بوجه معتد به كما هو الحال في هذه العصور التي اتضحت فيها كثرة الخلاف بسبب انتشار آراء العلماء في رسائلهم العملية وغيرها.

نعم، قد يتجه ذلك في عصورنا في حق جملة من العوام ممن لا يختلط بأهل العلم، حيث قد يغفل عن الاختلاف، لتخيل وضوح الأحكام تبعاً لأدلتها، وفي مثله لا مانع من الالتزام بحجية الفتوى الواصلة في حقه مع عدم الفحص عن المعارض.

فحص العامي عن الفتوى المعارضة كفحص المجتهد عن المعارض
اشارة

والذي ينبغي أن يقال: فحص العامي عن الفتوى المعارضة للفتوى الواصلة كفحص المجتهد عن الدليل المعارض أو المخصص أو المقيد للدليل الواصل، حيث يشتركان في دليل الوجوب، لأن الدليل على وجوب

ص: 439

الفحص على المجتهد أحد أمور..

الأول: معرضية الأدلة الواصلة للمعارضة والتخصيص والتقييد ونحوها. وهو حاصل في عصورنا بالإضافة لفتاوى المجتهدين في حق كثيرٍ من العوام ممن يخالط أهل العلم ويلتفت لاختلاف العلماء، كما ذكرنا.

الثاني: العلم الإجمالي بوجود المعارض والمخصص والمقيد ونحوها للأدلة الواصلة في المسائل التي هي محل ابتلاء المكلف. وهو حاصل أيضاً بالإضافة لفتاوى المجتهدين في حق كثيرٍ من العوام ممن ذكرنا.

نعم، يختص وجوب الفحص لأجله بما يكون طرفاً للعلم الإجمالي المذكور من فتاوى المجتهد، دون ما هو خارج عن أطرافه، لعدم عموم البلوى بالمسألة، أو لكونها من المسائل المستحدثة التي لم يحرز نظر المجتهدين الآخرين فيها، أو لتجدد اجتهاد المجتهد أو احتمال أعلميته بعد تنجز احتمال الخلاف بين غيره، بحيث لا يعلم إجمالا بحدوث الخلاف منه في غير الموارد التي هي محل الخلاف بين غيره.

ولعلّ ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من اختصاص وجوب الفحص عن رأي الأعلم بالمسائل التي تعم بها البلوى، مبني على هذا الوجه.

الثالث: ما دل على وجوب الفحص عن الأحكام وتعلم الحلال والحرام مما يأتي التعرض له في الخاتمة إن شاء الله تعالى، بناء على أنه كما يقتضى وجوب الفحص عن الأدلة في حق المجتهد يقتضي وجوب الفحص عن المعارض في حقه، فيجري ذلك في حق العامي، فكما يجب عليه الفحص عن فتوى المجتهد يجب عليه الفحص عن الفتوى المعارضة

ص: 440

لها.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من العلم بانتفاء الخطر من قبل الفتوى غير الواصلة، إما لموافقتها للفتوى الواصلة، أو لكونها معارضة لها، فتسقط عن الحجية لامتناع حجية المتعارضين، فلا يجب الفحص عنها عقلاً.

فيندفع: بأنه لا يتم مع أعلمية المفتي بها ومخالفتها للفتوى الواصلة، حيث تكون هي الحجة الفعلية، دون الفتوى الواصلة، فلا يجوز إهمالها. وكذا مع التساوي لو قلنا بالتساقط ولزوم الاحتياط، إذ الفتوى غير الواصلة وإن لم تكن مورداً للخطر، إلا أنها إذا كانت مخالفة للفتوى الواصلة كان الموجب للاحتياط بعد تساقط الفتويين هو المنجز الذي يجب الفحص عن شموله للمورد، نظير فحص المجتهد عن المعارض لدليل الإباحة في مورد يكون مقتضى تساقط الدليلين عدم البناء عليها.

هذا كله بناءً على شمول أدلة وجوب التعلم للفحص عن المعارض، لكن يأتي في الخاتمة الإشكال في شمول بعض أدلته للمعارض المعادل، كما لا مجال هنا للتعويل على الإجماع الذي يأتي الاستدلال به هناك، لعدم وضوح ثبوته في حق العامي. فالعمدة ما سبق.

ثم إنه مع العلم بحجية الفتوى الواصلة تعييناً أو تخييراً لا يجب الفحص عن الاختلاف قطعاً. ولعله خارج عن محل كلامهم، كما لو كانت الفتوى الواصلة للأعلم أو بني على التخيير مع التساوي. وكذا لو كانت موافقة للأصل الجاري بعد التساقط.

ص: 441

تتميم..

تتميم: عدم اكتفاء العامي بالعمل بالأصول الترخيصية مع عدم الفتوى بها

لو علم بعدم الفتوى للمجتهدين في المسألة، لعدم نظرهم فيها، للغفلة عنها أو لفقد الداعي للنظر فالظاهر وجوب سؤال العامي من أحدهم لينظر فيها ويعرفه حكمها، لعموم ما دل على وجوب الفحص عن الأحكام، ولا يجوز له العمل بالأصول الترخيصية، لاحتمال عدم تحقق موضوعها بسبب وجود الدليل المخرج عنها وإمكان وصوله إليه بالسؤال من المجتهد المذكور.

ودعوى: عدم صدق العناوين المأخوذة في أدلة التقليد الشرعية من العالم والفقيه ونحوهما على المجتهد المذكور بالإضافة إلى المسألة المذكورة، لعدم علمه بحكمها.

مدفوعة: بأن قصور أدلة التقليد الشرعية - لو سلم، لحمل العناوين المذكورة على الفعلية لا الملكة - لا يهم بعد عموم سيرة العقلاء له.

على أنها إنما تقصر عنه حين سؤاله الذي لا يجب بأدلة التقليد، بل بأدلة وجوب الفحص عن الأحكام، أما بعد سؤاله وصدور الفتوى منه فهي تعمه وتقتضي حجية فتواه، وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في وجوب السؤال من أحد المجتهدين المذكورين لو لم يصل للعامي فتوى تكون حجة له.

وإنما الإشكال في أنه لو أفتى المجتهد في مسألة وأمكن السؤال من غيره ممن لم ينظر فيها فهل يجب السؤال منه لاحتمال مخالفته للمفتي الأول لو كانت تمنع من حجية فتواه، أو لا، بل يجوز الاكتفاء بالفتوى الأولى، والعمل عليها، لانحصار الحجة بها فعلاً؟

ربما يقال بالثاني، لعدم المعارض الفعلي للفتوى الواصلة، فيعلم

ص: 442

بحجيتها فعلاً وإن كان صاحبها مفضولاً، ووجوب الفحص عنها مع عدم وجود غيرها - لأدلة وجوب تعلم الأحكام - لا تقتضي وجوبه مع وجود فتوى فعلية حجة في نفسها صالحة للعمل. وبقية الوجوه المتقدمة من العلم الإجمالي وغيره غير شاملة للمقام، فالبناء على الاكتفاء بالفتوى الواصلة هو المتعين.

المسألة السابعة: تقليد واجد الملكة

المسألة السابعة: ظاهر بعض الأصحاب وصريح آخرين منهم عدم جواز التقليد لواجد ملكة الاجتهاد، وأن عليه أن يستقل بالنظر، بل عن رسالة شيخنا الأعظم (قدس سره) في الاجتهاد والتقليد دعوى الإجماع على ذلك.

ويقتضيه الأصل بعد قصور أدلة التقليد عن شموله، لأن عمدتها سيرة العقلاء على رجوع الجاهل للعالم، وهي تقصر عن رجوع واجد الملكة القادر على الاستقلال بالنظر للغير في مورد احتمال الخطأ، بل الظاهر بناؤهم على استقلاله بالنظر.

وأما الأدلة الشرعية فهي بين ما هو قاصر عنه، كمرسل الاحتجاج المتقدم المتضمن جواز التقليد للعامي، الذي لا يصدق عرفاً على واجد الملكة، وما هو منصرف عنه، لوروده جرياً على السيرة العقلائية التي عرفت قصورها عنه، ولا يتضح هناك إطلاق شامل له.

وما قد يظهر من بعض مشايخنا من التشكيك في ذلك في غير محله.

نعم، لا يبعد بناء العقلاء على رجوع واجد الملكة لغيره في الاجتهاديات التي لا يتوقع الخطأ فيها، لقرب مقدمات الاجتهاد فيها من الحس، فتكون مورداً لأصالة عدم الخطأ كالحسيات، دون الاجتهاديات الدقيقة التي هي معترك الآراء ومورد النقض والإبرام والأخذ والرد، والتي

ص: 443

هي معرض للخطأ، كالاجتهاد في عصورنا في الأحكام الشرعية، حيث لا مجال للبناء على قيام سيرة العقلاء على تقليد واجد الملكة لغيره فيها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال على جواز تقليد واجد الملكة بسيرة المتشرعة في الصدر الأول عليه. بدعوى: قابلية كثير منهم في تلك العصور لتلقي الأحكام من المعصومين (ع) مع اكتفائهم بأخذ الحكم من الرواة ونحوهم من المتفقهين، لوضوح عدم اقتصار الأخذ من هؤلاء على من لا قابلية له لفهم الحكم من خطابهم (ع)، بل يعم من هو قابل لذلك، مع عدم الفرق بينه وبين من يأخذ عنه إلا في السماع منهم (ع) كالفرق بين واجد الملكة الذي لم ينظر في الأدلة وواجدها الناظر فيها والمستنبط منها.

لاندفاعها: بعدم توقع الخطأ في الاجتهاد سابقاً، لابتنائه غالباً أو دائماً على مقدمات قليلة قريبة من الحس، وقد عرفت أن رجوع واجد الملكة فيه للغير مقتضى السيرة العقلائية، ولم يتضح ابتلاؤهم

بالاجتهادات الخفية النظرية المعرضة للخطأ كما صار إليه الاجتهاد في عصورنا، ولو فرض ابتلاؤهم بها والتفاتهم إليها فلم يتضح بناؤهم على رجوع واجد الملكة للغير فيها لينفع دليلاً في محل الكلام.

وما هو النظير للمتيقن من سيرتهم في عصورنا هو الرجوع للمتفقهين في آراء المجتهدين المطلعين عليها بمخالطة أهل العلم والنظر في الرسائل العملية ونحوها حتى ممن له قابلية لمعرفتها بالمباشرة. وهو خارج عن محل الكلام.

المسألة الثامنة: الاجتزاء بالتقليد السابق وعدمه
اشارة

المسألة الثامنة: إذا عمل المكلف على فتوى المجتهد، ثم سقطت تلك الفتوى عن الحجية في حقه، ووجب العمل على وجه آخر، فهل ينتقض

ص: 444

التقليد السابق في الوقائع التي عمل فيها على طبقه، فيجب تدارك الأعمال الواقعة على طبقه - لو كانت قابلة للتدارك - على النحو الذي تقتضيه الحجة الجديدة، كما يجب ترتيب سائر آثار بطلانها، كالتطهير في النجاسات، والضمان في الماليات ونحوهما، أو لا ينتقض بل يجتزئ المكلف بما وقع؟.

لا ينبغي التأمل في عدم الانتقاض بناء على إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع، حيث لا يشك حينئذ في صحة الأعمال السابقة وترتب العمل عليها، ليجب الرجوع فيها للحجة الجديدة، إلا أن ينكشف عدم كون التقليد الأول مقتضى الوظيفة الظاهرية وإن أخطأ المكلف في تشخيصها للتقصير في مقدماته. والظاهر خروجه عن محل كلامهم.

كما أنه يقصر عن إثبات عدم وجوب ترتيب آثار البطلان مما لا يرجع للتدارك - كما لو كان مقتضى الفتوى السابقة تذكية الجلد - على ما يذكر في محله في تحقيق المبنى المذكور من مبحث الإجزاء.

ولا مجال لإ طالة الكلام فيه بعد ضعف المبنى، حيث لا مجال للتعويل عليه في هذه المسألة، بل يلزم الرجوع فيها للقواعد العامة أو الأدلة الخاصة بها، فالمهم تحقيق مفادها.

فاعلم: أن سقوط الفتوى السابقة عن الحجية يكون..

تارة: لثبوت خطئها للمقلد نفسه بالعلم أو باجتهاده لتأهله لذلك.

وأخرى: لظهور الخطأ للمفتي نفسه، لتبدل اجتهاده.

موارد سقوط الفتوى عن الحجية

وثالثة: يكون العدول المقلد عن تقليد المفتي بأحد أسباب العدول التخييرية أو الإلزامية، كالموت، والجنون، والفسق، على الكلام السابق.

ص: 445

ولا إشكال في أن مقتضى القاعدة انتقاض التقليد السابق في الصورة الأولى، أما مع العلم فظاهر، وأما مع الاجتهاد فلوضوح عموم حجية الأدلة التي استند إليها للوقائع السابقة، فكما تمنع من التقليد في الوقائع اللاحقة تمنع منه في الوقائع السابقة.

ومنه يظهر عدم الإجزاء في الصورة الثانية، لوضوح أن مستند الاجتهاد اللاحق لما كان هو الأدلة التي تعم الوقائع السابقة كان مقتضاها عاماً لها فيلزم رفع اليد به عن مقتضى الاجتهاد السابق فيها، لظهور خطئه، ومع ظهور الخطأ للمفتي نفسه لا يرى العقلاء جواز التعويل على فتواه، على ما سبق في المسألة الثانية.

بل لا يبعد ذلك فيما لو كان عدوله لنسيان المستند من دون أن ينكشف له الخطأ، بناء على ما هو الظاهر من عدم التعويل على الفتوى السابقة حينئذ، بل يتعين التعويل على الاجتهاد اللاحق، الذي يعم - تبعاً لأدلته - الوقائع السابقة.

ودعوى: قصور أدلة حجية الاجتهاد اللاحق في حق العامي عن الوقائع السابقة التي عمل فيها على طبق الفتوى الأولى، لأن وجوب الرجوع للمجتهد لما كان طريقياً كان مختصاً بالوقائع التي هي محل الابتلاء والتي يحتاج فيها للحجة، دون الوقائع السابقة التي عمل فيها على طبق الحجة وانتهى منها.

مدفوعة: بأن ترتب الأثر بالإضافة إلى الوقائع السابقة بمثل وجوب التدارك ونحوه كافٍ في الابتلاء الملزم بالرجوع للحجة الفعلية المطابقة للاجتهاد اللاحق، فكما يعمل عليه في وجوب التدارك مع عدم العمل

ص: 446

بالاجتهاد السابق، في الوقائع السابقة - عمداً أو خطأً - وفي كيفية التدارك يعمل به مع العمل بالاجتهاد السابق.

ومما تقدم يظهر الوجه في عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه.

كما يظهر الإشكال: في ما في الفصول من دعوى عدم تحمل الواقعة لاجتهادين ولو في زمانين، لعدم الدليل عليه.

إذ يكفي في الدليل عليه إطلاق أدلة الاجتهاد الثاني الشاملة للوقائع السابقة، كما تشمل الواقعة الحاضرة لو كان العدول قبل العمل فيها أو بعده مع بقاء الوقت.

وأما في الصورة الثالثة فلا يبعد البناء على عدم الإجزاء إذا كان العدول لأعلمية المعدول إليه، لعدم الفرق في بناء العقلاء على ترجيح الأعلم بين سبق الرجوع لغيره في الواقعة وعدمه، فيجب تدارك العمل في الوقائع السابقة على طبق رأي الأعلم، ولا يجتزأ برأي الأول فيها وإن كان تقليده فيها حين الابتلاء بها في محله، لانحصار الأمر به في وقته.

ولأ جله يخرج عن استصحاب حجية رأي الأول فيها الذي لولا ما سبق لجرى في نفسه من دون شبهة التعليقية التي تقدمت الإشارة إليها عند الكلام في تقليد الميت، لفعلية الابتلاء بالواقعة سابقاً.

لكن ذكر بعض المحققين (قدس سره) في تقريب الإجزاء أن حجية الفتوى بعنوان تنزيل نظر المفتي منزلة نظر المستفتي ونيابته عنه في استفادة ما يرجع إليه، لا بعنوان الطريقية للواقع، وإلا لزم تخصيص انتقاض التقليد بصورة كون المعدول إليه هو الأعلم، لاضمحلال الحجة السابقة بسبب أقوائية اللاحقة، مع أن القائل بانتقاض التقليد السابق لا يفرق بين العدول للأعلم

ص: 447

والعدول لغيره - لموت أو نحوه - فلابد من كون حجية فتوى المعدول إليه لانتهاء أمد حجية الأولى مثلاً، لا لاضمحلالها بقيام الثانية بسبب أقوائيتها منها.

فتكون الفتويان المتعاقبتان بمنزلة الفتويين المتعادلين الذين يؤخذ بأحدهما تارةً وبالآخر أخرى، حيث لا مجال لتوهم الانتقاض عند الأخذ بالمتأخرة.

وكأن الفرق بين اضمحلال الحجية وانتهاء أمدها أنه على الأول تسقط الفتوى عن الحجية رأساً، لخروجها عن قابلية الكشف، فلا يصح الاعتماد عليها في الوقائع السابقة، أما على الثاني فلا

تسقط عنها إلا في الوقائع اللاحقة مع بقائها على الحجية في الوقائع السابقة فيصح الاعتماد عليها في عدم التدارك، ولا ينتقض التقليد السابق.

نعم، يشكل ما ذكره (قدس سره): بأن كون حجية الفتوى بعنوان تنزيل نظر المفتي منزلة نظر المستفتي - لو تم - لا ينافي ابتناء العدول على اضمحلال حجية الفتوى الأولى، بأن يعم التنزيل النظر في حكم الوقائع السابقة بنحو يقتضي تداركها.

كما أن الطريقية لا تنافي ابتناء العدول على انتهاء أمد حجية الفتوى الأولى، مع بقاء حجيتها بالإضافة إلى الوقائع السابقة.

بل لا مجال لجعل حجية الفتوى بعنوان التنزيل في قبال حجيتها من باب الطريقية، لأن التنزيل من وجوه الطريقية، لوضوح أن نظر المكلف لنفسه ليس إلا لتحصيل الطريق للواقع، فتنزيل نظر الغير له منزلة نظره لا بد أن يكون لذلك أيضاً، لأنه في طوله.

ص: 448

غاية الأمر أن طريقية نظر المفتي لتكليف المستفتي تارةً لكونه طريقاً ابتدائياً - كالبينة - وأخرى يكون بعناية تنزيله منزلة نظر المستفتي.

فالمدار في كون العدول لانتهاء أمد الحجية وكونه لاضمحلالها على مفاد دليله، فإن اختص بالوقائع اللاحقة رجع للأول - نظير التخيير الاستمراري بين الخبرين المتعادلين لو تم - وإن كان يعم الوقائع السابقة رجع للثاني، وقد عرفت أن دليل العدول للأعلمية يقتضي الثاني.

وأما ما أورده عليه من لزوم تخصيص الانتقاض بصورة أعلمية المعدول إليه.

فهو - مع عدم كونه محذوراً - غير لازم، لإمكان استفادة عموم وجوب العدول للوقائع السابقة في غير مورد الأعلمية من أدلته اللفظية أو اللبية، ومع عدمه يكون انتقاض التقليد في المورد المذكور خالياً عن الدليل، لا أنه يستكشف بذلك كون جميع موارد العدول تبتني على انتهاء أمد الحجية دون اضمحلالها حتى العدول الناشئ من الأعلمية، ليخرج بذلك عما عرفت من ابتناء العدول للأعلمية على الاضمحلال. فلاحظ.

وأما إذا لم يكن العدول لأعلمية المعدول إليه، بل لأمر تعبدي من موت أو نحوه - على ما سبق الكلام فيه - فإن كان لدليله إطلاق يعم الوقائع السابقة بنحو ينافي بقاء حجية الأول فيها يتجه البناء على عدم الإجزاء أيضاً.

بخلاف ما إذا لم يكن لدليله إطلاق يعمها. إما لكونه لبياً من إجماع أو نحوه - كما قيل أنه العمدة في وجوب العدول مع الموت - حيث كان المتيقن منه الوقائع اللاحقة أو السابقة التي عمل فيها برأيه، إذ لا إجماع على حجيته في الوقائع السابقة. كيف وقد اشتهر القول بالإجزاء فيها، بل ادعي

ص: 449

عليه الإجماع.

أو لكونه لفظياً يختص بالوقائع اللاحقة، كما هو الحال بناء على ما ذكره بعض مشايخنا في وجه وجوب العدول مع الموت من لزوم تحقق العناوين المأخوذة في الأدلة الشرعية من الفقيه والعالم ونحوهما حين الرجوع للمفتي الذي هو وقت سؤاله، فلا يجوز تقليد الميت لو احتيج لسؤاله للجهل بفتواه وإن جاز العمل بفتواه مع العلم بها، لوضوح أن الجهل بفتواه إنما يقتضي السؤال بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة التي يراد العمل فيها وكذا السابقة التي لم يعمل فيها ويراد تدارك العمل فيها، دون السابقة التي عمل فيها على طبق فتوى الميت، حيث يعلم بمطابقة فتواه للعمل الواقع بنحو لا يحتاج للتدارك لو كانت حجة بلا حاجة إلى السؤال منه.

وحينئذ يتعين الإجزاء أما مع أعلمية المعدول عنه فظاهر، لعموم بناء العقلاء على حجية رأي الأعلم فيقتصر في الخروج عنه على المتيقن. وأما مع عدم أعلميته أو عدم ثبوتها فلإطلاق الأدلة المصححة لتقليده سابقاً ولو بضميمة استصحاب حجية فتواه بالإضافة إلى الوقائع السابقة الذي سبق جريانه في نفسه من دون شبهة التعليقية.

من دون فرق في الصحة والإجزاء بين العبادات والمعاملات وغيرهما، وإن قيل إن العبادات هي المتيقن من الإجماع المدعى، إذ ليس الدليل على الإجزاء الإجماع، بل القاعدة التي لا مخرج عنها من إجماع أو نحوه.

لكن لازم ذلك سقوط حجية كل من المعدول إليه والمعدول عنه لو كانا متبايني المضمون، بحيث يلزم من العلم بكذب أحدهما علم إجمالي

ص: 450

بالتكليف، كما لو عمل على فتوى القائل بالقصر مدة، ثم عدل منه إلى القائل بالتمام، حيث يعلم إجمالاً إما بوجوب تدارك ما مضى وقضائه تماماً، أو بوجوب القصر عليه في ما يأتي، ولا يخرج عن العلم المذكور إلا بالجمع بين الأمرين بقضاء ما سبق تماماً والجمع بين القصر والتمام في ما يأتي.

مع أن الظاهر عدم الإشكال بينهم في الاجتزاء بمقتضى التقليد اللاحق مطلقاً. فإن تم كشف إما عن سقوط حجية فتوى المعدول عنه حتى بالإضافة للوقائع السابقة وعموم حجية فتوى المعدول له لها، أو عن اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي المذكور بنحو يكفي موافقة فتوى المعدول إليه في الوقائع السابقة واللاحقة، أو عن الإجزاء الواقعي، بموافقة التقليد السابق على خلاف مقتضى الأصل في الحكم الظاهري، على ما سيأتي الكلام فيه.

الاستدلال بالأدلة الخاصة على الإجزاء

هذا كله بحسب القواعد العامة، وأما بحسب الأدلة الخاصة فقد يستدل للإجزاء..

تارة: بلزوم العسر والحرج، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأي واحد، كما في الفصول.

وأخرى: بما فيه أيضاً من أن حكمة تشريع الاجتهاد الوثوق في العمل على طبقه، ومع عدم الإجزاء ترتفع الحكمة المذكورة.

وثالثة: بالإجماع المدعى في كلام بعض، ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم أنه ظاهر المذهب، وعن المناهج نفي القول من أحد بعدم الإجزاء. وقال سيدنا الأعظم (قدس سره): «بل نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع بل الضرورة عليه».

ص: 451

نعم، عن بعض الأعاظم (قدس سره) أن المتيقن منه العبادات، وربما قيل: إن المتيقن منه الصلاة.

ورابعةً: بسيرة المتشرعة، لابتلائهم بذلك كثيراً، خصوصاً بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء لزم الهرج والمرج.

وهذه الوجوه - كما ترى - لا تختص بالعدول للأعلمية، بل الظاهر عمومها لعدول الفقيه عن فتواه - الذي تقدم في الصورة الثانية - بل هو صريح الأول.

لكن يندفع الأول: - مع عدم اطراده - بأنه لا يقتضي الإجزاء والحكم بصحة العمل واقعاً أو ظاهراً، بل عدم وجوب التدارك ولو مع بطلان العمل، كما لو كان قضاء الحج حرجياً. مضافاً إلى عدم جريانه في حقوق الناس، لمنافاته للامتنان في حقهم الذي هو مبنى قاعدة نفي الحرج.

نعم، قد يكون لزوم الحرج نوعاً كاشفاً أو مؤيداً لجعل التقليد بنحو يقتضي الإجزاء، كما سيأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

لكنه لا يرجع إلى قاعدة نفي الحرج التي ذكرنا وجوه الإشكال في الاستدلال بها.

كما يندفع الثاني بالنقض بغير واحد من موارد عدم الإجزاء في خطأ الطرق الظاهرية أو تبدل مفادها تبعاً لتبدل موضوعاتها، كما في كثير من الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية، وفيما لو قطع المجتهد بخطأ اجتهاده الأول، حيث اعترف في الفصول بعدم الإجزاء معه.

ودعوى: عدم صحة النقض به لندرته وشذوذه.

ص: 452

مدفوعة: بأن الندرة لا تصحح نقض الغرض. مع أنه لو تمت الندرة في عصورنا فمن الظاهر كثرة حصول القطع بالخطأ في عصور الأئمة (ع) لكثرة موارد تيسر العلم.

على أنه لا دليل على أن حكمة حجية الاجتهاد وغيره من الطرق الظاهرية هو الوثوق بعدم الاحتياج للتدارك، بل لعل حكمتها مجرد تشخيص الوظيفة عند الابتلاء بالواقعة. فهذا الوجه استحساني لا ينهض دليلاً كما اعترف به (قدس سره).

وأما الثالث فلا مجال له في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير، ولا سيما مع إنكار مثل شيخنا الأعظم (قدس سره) له. قال في التقريرات في بيان القول بعدم الإجزاء: «وفاقاً للنهاية، والتهذيب، والمختصر، وشروحه، وشرح المنهاج، على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم، بل وفي محكي النهاية الإجماع عليه، بل وادعى العميدي (قدس سره) الاتفاق على ذلك...»، ومع إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات والطرق الظاهرية.

وأما الرابع فقد استشكل فيه غير واحد بمنع السيرة، وذكر بعض مشايخنا أنها - لو تمت - مستندة في أمثال عصرنا إلى فتوى المجتهدين ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين (ع).

أقول: لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام في عصور الأئمة (ع) على الخطأ كثيراً، لعدم وضوح فتاواهم (ع) لشيعتهم بسبب انتشار فقهاء العامة وتعارف الأخذ منهم للغفلة قبل عصر الصادقين (عليهما السلام) عن امتياز الفرقتين واختلافهما في الفروع، كما يشهد به قلة روايات الشيعة عن من قبلهما من الأئمة (ع) وكثرة رواياتهم عنهما وعن من بعدهما منهم (ع) خصوصاً في

ص: 453

الفروع المهمة التي يكثر الابتلاء بها، كالطهارة الحدثية والخبثية والصلاة وغيرهما بنحو يظهر منه خفاء ما هو من الضروريات الفقهية اليوم عليهم.

وأما بعد تميز الفرقتين، والالتفات لاختلافهما في الفروع، وتنبه الشيعة لوجوب الأخذ منهم وعدم الركون لغيرهم، فقد كان وصول أحكامهم (ع) لشيعتهم تدريجياً مشفوعاً بأسباب الضياع والاشتباه من التقية والخطأ والكذب وضياع كثير من القرائن، ولذا اختلفت الأخبار كثيراً، مع عدم تيسر انتشار الروايات وعدم وصولها للكل في أول الأمر، بل كان وصولها وانتشارها بين الشيعة تدريجياً.

ولازم ذلك تعرض أصحاب الأئمة (ع) وشيعتهم للاطلاع على خطأ ما وصل إليهم كثيراً، إما بالسؤال منهم (ع) أو بوصول أحاديث أخر مخالفة لما وصل لهم.

فلو كان البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد انكشاف الخطأ ولزوم التدارك لوقع الهرج والمرج واضطرب نظامهم، ولكثر منهم السؤال عن حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها وما يتعلق بذلك من فروع، مع عدم الأثر لذلك فيما عثرت عليه من النصوص، حيث يظهر من ذلك المفروغية عن الإجزاء.

وهو المناسب لما ارتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج والضيق وعدم إيقاعهم (ع) لأوليائهم وشيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمةً لهم وتداركاً لما ابتلوا به نتيجة ظلم الظالمين من مشاكل أوجبت صعوبة القيام عليهم بالوظائف الشرعية الواقعية الأولية، ولذا أحلوا لهم الخمس ونحوه مما يكون لهم (ع) واكتفوا منهم في بعض الأحكام بما

ص: 454

يلزمهم به حكام الجور، وأمضوا أحكامهم في الخراج والمقاسمة ونحو ذلك.

كما قد يعتضد أو يتأيد بالنصوص المتضمنة تعمد الأئمة (ع) بيان خلاف الواقع للتقية، حيث قد يكون مقتضى إطلاقها المقامي الإجزاء. فتأمل.

والعمدة السيرة في المقام التي يقرب نهوضها بإثبات الإجزاء.

ودعوى: أن المتيقن منها ما لو لم يكن الخطأ موجباً لبطلان العمل، كما في موارد حديث:

«لا تعاد الصلاة...». ونحوها، ولم يعلم ابتلاؤهم بغير ذلك.

ممنوعة جداً، لكثرة اختلاف الفقهاء والأخبار في غير الموارد المذكورة، كتحديد الكر، والوضوء، والنجاسات، والقصر والإتمام، والتذكية وغيرها مما يكون الإخلال فيه مبطلاً له، وموجباً لترتب القضاء والضمان ونحوهما، فعدم اهتمام المتشرعة بتمييز الموارد المذكورة شاهد بالمفروغية عن عموم الإجزاء.

نعم، لا يبعد اختصاص السيرة بالعبادات ونحوها مما يقتضي البطلان فيه بعض الآثار التي هي من سنخ التدارك والتبعة، كالقضاء، والضمان، والكفارات ونحوها، أما ما لا يكون من سنخ التدارك، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق وترتيب آثار صحته فلا يتضح قيام السيرة عليه بعد انكشاف البطلان.

فمن ذكى بغير الحديد - مثلاً - لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل عنده على مشروعيته لم يبعد توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية بعد انكشاف البطلان ونحو

ص: 455

ذلك. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة.

ولعلّه إليه يرجع ما قيل من اختصاص الإجماع بالعبادات، وإلا فلم يتضح وجه خصوصيتها، ولا سيما بعد ملاحظة السيرة..

بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الإعادة في الوقت، لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة أيضاً، لعدم وضوح ابتلائهم بانكشاف الحال في الوقت، وعدم وضوح عملهم لو فرض ابتلاؤهم به بعد عدم أهميته وعدم لزوم الحرج من الإعادة ليحاول التخلص منه بالسؤال عن الإجزاء، فلا يكشف عدم السؤال عن المفروغية عنه.

كما أن المتيقن من السيرة أيضاً ما إذا كان خفاء الحكم لعدم وصول الدليل عليه، لا لخطأ المكلف في فهم الدليل الواصل، أو لنسيانه للدليل مع وصوله ونحو ذلك مما يعود للمكلف نفسه وإن كان معذوراً، لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور وعدم وضوح بنائهم على الإجزاء معه، لاحتمال ابتناء الإجزاء على الرفق بأهل الحق وعدم إلزامهم بتدارك ما ضاع عليهم بسبب أئمة الجور، دون ما يستند ضياعه للمكلف نفسه.

ومنه يظهر عدم الإجزاء في المقام في حق المجتهد في أمثال عصورنا، لاستناد تبدل رأيه إلى انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها، لا لعدم تيسر الوصول إليها، بخلاف العامي، لعدم استناد الخطأ له، بل للطريق الشرعي، وهو فتوى المجتهد مع عدم تيسر الوصول للواقع له.

نعم، لو كان ناشئاً من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه اتجه عدم الإجزاء حينئذٍ في حقه.

ص: 456

وهو خارج عن محل الكلام.

كما لا فرق في الإجزاء في حقه بين عدوله من أحد المجتهدين للآخر، وعدول المجتهد الذي قلده عن فتواه، وانكشاف خطأ الفتوى له بنفسه بحسب اجتهاده الظني أو القطعي، لعموم السيرة لجميع الصورة المذكورة بسبب شيوع الابتلاء بها، في العصور السابقة وعدم الفرق بينها في منشأ السيرة الارتكازي وعدم استناد ضياع الواقع للمكلف. ومنه يظهر أن الإجزاء في المقام واقعي لا ظاهري، فلا مجال معه لفرض العلم الإجمالي الذي سبق تقريب لزومه من مقتضى القاعدة مع عدم أعلمية المعدول إليه. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

ص: 457

خاتمة

خاتمة: وجوب الفحص عن الأدلة
اشارة

لابد للمجتهد في مقام الاستنباط وتشخيص وظيفته ووظيفة العامي العملية من استفراغ الوسع في الفحص عن الأدلة، وليس له الاكتفاء بما وصل إليه منها، فضلاً عن الرجوع للأصل من دون فحص عن الدليل لو لم يصل له، فكما يجب عليه الفحص عن الدليل يجب عليه الفحص عما يعارضه أو يتقدم عليه من الأدلة الأخرى، وعما يتحكم عليه من القرائن الصالحة لمعرفة المراد منه، كالمخصص والمقيد وقرينة المجاز وغير ذلك مما يكون دخيلاً في تشخيص الوظيفة، والظاهر عدم الإشكال بينهم في ذلك، كما يناسبه أخذ كثير منهم استفراغ الوسع في تعريف الاجتهاد وعدم صدقه بغير ذلك عليه، بل لعل إطلاق الاجتهاد من الكل في المقام بلحاظ ذلك، كما يظهر مما سبق في تعريفه.

وكيف كان، فمرجع لزوم استفراغ الوسع إلى عدم جريان الأصول قبل الفحص عن الأدلة الحاكمة عليها وعدم حجية الطرق الواصلة قبل الفحص عما يعارضها أو يتقدم عليها من الأدلة وما يتحكم عليها من القرائن، واختصاص فعلية جريان الأصول وحجية الطرق بصورة الفحص المذكور.

وهو ظاهر فيما إذا لم يكن لدليل الأصل أو الطريق إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص، كما قد يدعى في الظاهر الذي يحتمل وجود الصارف عنه من مخصص أو نحوه، بتقريب أن بناء العقلاء على العمل بالظهور من دون فحص عن الصارف فيما إذا لم يكن وجود الصارف متوقعاً، لقلة الابتلاء بالقرائن المنفصلة بحيث يغفل عن احتمال وجودها أو لا يعتد به، كما في

ص: 458

الظهورات العرفية، دون ما إذا كان متوقعاً متعارفاً لكثرته كما في الظهورات الشرعية، بل لا يتضح بناؤهم على العمل بالظهور من دون فحص.

ومثله الفحص عن الدليل المعارض، على ما سبق عند الكلام في صورة الشك في اختلاف الفقهاء من المسألة السادسة من مباحث التقليد.

وكذا الحال في البراءة العقلية بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من عدم حكم العقل بالمعذرية مع التقصير في الفحص إذا كان المولى قد أوصل التكليف بالطريق المتعارف. وقد يستفاد ذلك من صحيح مسعدة بن زياد على ما يأتي التنبيه له عند التعرض له إن شاء الله تعالى.

أما إذا كان لدليل الأصل أو الطريق إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص، كما هو الحال في كثير من الأصول الشرعية، وهي التي أخذ في موضوعها الشك المعلوم حصوله قبل الفحص فلا بد من إقامة الدليل المخرج عن مقتضى عموم أو إطلاق تلك الأدلة والمانع من الرجوع إليها قبل الفحص، فإن تم الدليل فيها تم في القسم الأول.

أدلة وجوب الفحص:
الأول: الإجماع

ومن هنا لا يهم تحقيق كل من القسمين والتمييز بينهما، بل المهم النظر في دليل وجوب الفحص، وهو أمور..

الأول: الإجماع، فإنه وإن لم أعثر على من ادعاه على عموم الدعوى المذكورة، إلا أنه قد يستفاد من مجموع كلماتهم، فقد ادعى شيخنا الأعظم (قدس سره) الإجماع القطعي على عدم جواز الرجوع للبراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة، وذكر بعض أعاظم تلامذته أنه لا ريب فيه، كما يظهر بأدنى فحص في كلماتهم، بل الحق إجماع علماء الإسلام عليه، كما حكى في المعالم عن جمع من المحققين أن العمل بالعموم قبل البحث عن

ص: 459

المخصص ممتنع إجماعاً.

ويقتضيه ما أشرنا إليه من أخذهم استفراغ الوسع في تعريف الاجتهاد، حيث يظهر منه المفروغية عن توقف استنباط الحكم العملي عليه، كما تظهر المفروغية عنه أيضاً مما استدل به في المعالم على وجوب الفحص عن المخصص من أن المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلة وكيفية دلالتها.

وهو المناسب لسيرة الفقهاء في مقام الاستنباط والفتوى، لاهتمامهم بضبط الأدلة واستيعابها بنحو يظهر من حالهم ولو بمعونة الارتكازيات وجوب ذلك.

ولذا كان المرتكز خطورة التصدي للاستنباط والفتوى ولزوم الحذر على من يزاولهما من التقصير.

وأما ما قد يظهر من صاحب المعالم من عدم وجوب الفحص عن قرينة المجاز وما نسب للعلامة من جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ونحوهما، فأما أن تؤول بما لا ينافي ذلك بأن تحمل على الخطابات العرفية دون الشرعية، أو تكون مستندة لشبهة مخرجة عما سبق، فلا تنافي عموم لزوم الفحص في غير مواردها، للإجماع الارتكازي المتقدم. فتأمل.

الثاني: العلم الإحمالي

الثاني: العلم الإجمالي بقيام الأدلة التي يمكن الاطلاع عليها بالفحص على التكاليف، حيث يكون العلم الإجمالي المذكور منجزاً لاحتمال التكليف في مورد احتمال العثور على الدليل بالفحص، ومع تنجز التكليف في الموارد المذكورة لا مجال للرجوع للطرق والأصول الترخيصية المعذرة، لما تقرر من مانعية العلم الإجمالي من فعلية مؤداها.

ص: 460

وقد أشرنا للعلم الإجمالي المذكور في الاحتجاج لوجوب الاحتياط في الشبهة البدوية الحكمية، وقد ذكرنا أنه موجب لانحلال العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف كثيرة، فراجع.

ثم إن هذا الوجه إنما ينفع مع عدم انحلال العلم الإجمالي بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال، دون ما إذا عثر على المقدار المذكور واحتمل وجود غيره، كما يظهر وجهه مما سبق في مبحث انحلال العلم الإجمالي.

كما أنه يمنع من الرجوع للطرق والأصول الترخيصية دون الإلزامية. بل لا إشكال في جواز العمل بالطرق والأصول الإلزامية قبل الفحص احتياطاً.

نعم، لا مجال للفتوى بمضمونها لو علم إجمالاً بوجود الأدلة الترخيصية المانعة من الرجوع إليها، للعلم حينئذ بعدم فعلية مضامين بعضها وحرمة الفتوى بمضمونه، بل ولو لم يعلم إجمالا بذلك لبقية الوجوه الآتية، على ما يتضح إن شاء الله تعالى

الثالث: بعض النصوص الخاصة

الثالث: ما تضمن من النصوص الإنكار على بعض العامة في استنباط الحكم والتصدي للفتوى من دون معرفة تامة بالكتاب المجيد ولا تمييز للناسخ والمنسوخ. والخاص والعام منه، مثل ما عن أبي عبد الله (ع) في حديث:

«قال لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال: نعم. قال: فبم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه (ص) قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم. قال يا أبا حنيفة لقد ادعيت علماً ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم...»(1).

ص: 461


1- الوسائل ج 18، باب: 16 من أبواب صفات القاضي حديث: 27.

وموثق مسعدة بن صدقة عنه (ع) في حديث احتجاجه على الصوفية لما احتجوا عليه بآيات من القرآن: «قال: ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الأمة؟... إلى أن قال: فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله... وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ،... إلى أن قال: وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه...»(1) ورواية إسماعيل ابن جابر عنه (ع) في ذم الناس قال:

«وذلك أنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في تأويلها...»(2).

ومرسل العياشي عن عبد الرحمن السلمي: «أن علياً (ع) مرّ على قاض فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت...»(3).

ومرسله الآخر عنه (ع) في الإنكار على عمر حين أفتى بالمسح على الخفين لدعوى أن النبي (ص) مسح، حيث قال (ع): «قبل المائدة أو بعدها؟ قال: «لا أدري. قال: فلم تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفين»(4).

لوضوح أن أصالة الظهور وعدم النسخ والتخصيص من الأصول العقلائية، فإنكار العمل بالكتاب من دون معرفة تامة به ولا معرفة المنسوخ والخاص ظاهر في لزوم استفراغ الوسع في مقام الاستنباط وعدم الجري

ص: 462


1- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.
2- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 62.
3- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 65.
4- تفسير العياشي تفسير سورة المائدة حديث: 46 ج 1 ص 297.

بدونه على مقتضى الدليل الواصل.

نعم، هذه النصوص مختصة بالكتاب فاستفادة حكم غيره مبني على إلغاء خصوصية موردها. فلتكن مؤيدة للمدعى. فلاحظ.

الرابع: ما تضمن الأمر بطلب العلم، كقوله تعالى: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(1).

ودعوى: أنه وارد لوجوب الاجتهاد كفائياً، لا لوجوب تعلم الأحكام عيناً الذي هو محل الكلام.

مدفوعة: بأن وجوب الاجتهاد كفائياً لأجل الإنذار راجع إلى تكليف الكل بتحصيل من يُعلِّم الجاهل منهم، وهو راجع إلى وجوب التعلم على الكل عيناً إما اجتهاداً أو تقليداً. فلاحظ.

ومثله في الدلالة على وجوب التعلم قوله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(2) والنصوص الكثيرة الواردة في تفسير الآيتين وغيرها مما تضمن وجوب طلب العلم، والحث على السؤال، والذم بتركه، والأمر بمذاكرة الروايات على اختلاف ألسنتها(3).

ومنها صحيح مسعدة بن زياد: «سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام وقد سئل عن قوله تعالى: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فقال: إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم. قال: أفلا عملت بما علمت؟!

ص: 463


1- سورة التوبة: 122.
2- سورة الأنبياء: 7.
3- راجع الوسائل ج: 18، باب: 4، 7، 8، 11 من أبواب صفات القاضي وأصول الكافي ج 1 كتاب العلم.

وإن قال: كنت جاهلاً. قال: أفلا تعلمت [حتى تعمل]؟! فيخصمه. فتلك الحجة البالغة لله عز وجل على خلقه»(1).

ومعتبر طلحة بن زيد عنه (ع): «قال: قرأت في كتاب علي (ع): إن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال، لأن العلم كان قبل الجهل»(2)، ونحوه خبر نجم الجزار في كلام سمعه من أمير المؤمنين(3) (ع).

وما ورد في المجدور والجريح يجنب فيغسل فيموت، من استنكار عدم السؤال، وفي بعضها: «قتلوه قتلهم الله إنما كان دواء العي السؤال»(4).

وما ورد في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء مستحلاً له لأنه لم يأته، وإنما سمعه، حيث أنكر (ع) عليه محتجاً بقوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(5)، ثم قال: «قم فاغتسل

ص: 464


1- أمالي المفيد المجلس الخامس والثلاثون حديث: 1 ورواه عنه في البحار ج: 2 ص: 29 باب: 9 من أبواب كتاب العلم حديث: 10. هذا والتأمل في الصحيح قاض بعدم جريان البراءة العقلية قبل استكمال الفحص، وعدم حجية الظواهر الأولية كذلك، لأنه تضمن أن العبد يخصم لمجرد تركه التعلم، من دون أن ينبّه فيه إلى أمر الشارع بالتعلم، وأنه هو السبب في خصمه. حيث يظهر من ذلك أن وجوب التعلم عقلي دفعاً لاحتمال العقاب، ولا تجري بدونه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما لا تنفع بدونه الظواهر الأولية المقتضية لعدم التكليف. وأما احتمال أن وضوح وجوب التعلم شرعاً أغنى عن التنبيه له في الصحيح. فهو مخالف لظاهر الصحيح. نعم حيث كان الشك في عموم القاعدة أو حجية الظهور يكفي في لزوم الاحتياط، لعدم المؤمن. فمع فرض الشك في ذلك لا أثر للظهور المذكور، ومع فرض اليقين بالعموم لا يصلح الظهور لرفع اليد عنه. فتأمل جيداً.
2- الكافي ج: 1 ص: 41 باب: بذل العلم حديث: 1.
3- بحار الأنوار ج: 1 ص: 81.
4- الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 6 وفي الباب نصوص أخر تتضمن له ذلك.
5- سورة الإسراء: 26.

وصل ما بدا لك، فإنك كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك»(1). فإن الظاهر من جميع ذلك وجوب التفقه في الدين، ومقتضى المناسبات الارتكازية وسياق جملة من هذه النصوص والنصوص المتقدمة في الوجه الثالث، بل صريح بعضها كون وجوبه طريقياً في طول التكاليف الواقعية، لأجل حفظها والقيام بمقتضاها.

ولذا لا يجب في غير الأحكام الإلزامية، ولا فيها مع عدم فوت الواقع، لعدم الابتلاء بها أو للاحتياط فيها، كما تختلف أهميته باختلاف مراتب أهمية التكاليف التي تفوت بترك الفحص.

ومرجع الوجوب الطريقي إلى أن الواقع مورد للمسؤولية ولا يكون الجهل به عذراً إذا استند للتقصير في الفحص.

وحيث كان مفادها وجوب الفحص المتعلق بعمل المكلف الدخيل في حفظ تكاليفه كان مقتضى إطلاقها وجوبه حتى في مورد الدليل المعتبر في نفسه إذا احتمل تبدل مقتضى الوظيفة بالفحص، ولا

يختص بصورة فقد الدليل. لصدق السؤال والتعلم والتفقه قي الدين ونحوها من العناوين المأخوذة في الأدلة عليه.

بل هو صريح ما ورد في المجدور، لوضوح كون التغسيل مقتضى عموم وجوب غسل الجنابة، ومشروعية التيمم مع المرض من سنخ المخصص له. كما هو المستفاد أيضاً من النصوص المتقدمة في الوجه الثالث، على ما تقدم.

ولازم ذلك قصور إطلاقات أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم

ص: 465


1- الوسائل ج: 2 باب: 18 من أبواب الأغسال المستحبة المسنونة حديث: 1.

الفحص.

نعم، قد يشكل شمولها للفحص عن المعارض المعادل للدليل الواصل. أما بناء على التخيير بين المتعارضين فظاهر، للعلم بجواز العمل بالدليل الواصل. وأما بناء على تساقطهما والرجوع لما يترتب عليهما من الأدلة أو الأصول فلعدم صدق التعلم والتفقه عليه بعد عدم صلوحه لتشخيص الوظيفة وإن كان العثور عليه موجباً لانقلابها. فتأمل.

كما أن ما تضمن الأمر بالسؤال ظاهر في إرادة السؤال الموجب للمعرفة، فلا موضوع له مع عدم صلوح ما يحصل بالسؤال لتحقيقها.

نعم يشكل صدور ما تضمن الأمر بمذاكرة الروايات وأخذها.

كما يتجه الاستدلال على وجوب الفحص عن الدليل المعارض بناءً على التساقط بالإجماع المتقدم، وبما تقدم في المسألة السادسة من أن التمسك بعموم حجية الدليل الواصل مع احتمال المعارض تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

هذا، إذا كان الفحص لعمل المكلف الفاحص، أما إذا كان للفتوى بمضمون الدليل الواصل أمكن الاستدلال عليه - مضافاً إلى ذلك - بالنصوص المتقدمة في الوجه الثالث، بل يمكن الاستدلال عليه أيضاً بذلك حتى بناء على التخيير مع التعادل، كما يظهر بالتأمل.

هذا، وقد يدعى امتناع حمل أدلة وجوب التعلم على الوجوب الطريقي الراجع إلى عدم معذرية الجهل، لشمولها لما إذا وقع العمل غفلة عن احتمال الحرمة، بل قد يكون هو المتيقن من مواردها، فتنافي

حكم العقل بقبح عقاب الغافل، كما أنها تشمل التكاليف الموقتة التي لا تكون فعلية قبل

ص: 466

الوقت، ليجب تعلمها طريقياً، ولا يمكن تعلمها بعد الوقت، لضيقه عنه.

ومن هنا يتعين حملها على الوجوب النفسي المطلق غير الموقت، فيكون العقاب على ترك التعلم بنفسه، لفعلية التكليف به والقدرة عليه قبل الوقت، كما حكي عن الأردبيلي وصاحب المدارك.

فلا ينافي معذرية الجهل من التكاليف الواقعية ولا تنهض أدلة وجوب التعلم بتقييد أدلة الطرق والأصول.

لكنه يندفع: بالمنع من حكم العقل بقبح العقاب مع الغفلة أو التعذر إذا كانا مستندين لاختيار المكلف وتقصيره ولو لعدم حفظه القدرة قبل دخول الوقت، نظير ما يذكر في موارد المقدمات المفوتة.

على أن حمل الأدلة المتقدمة على وجوب التعلم نفسياً - مع إباء سياقها عنه - مستلزم إما لحملها على الاكتفاء بمسمى التعلم ولو لحكم واحد، وهو خلاف المقطوع به منها، أو على تعلم جميع الأحكام الإلزامية ولو مع عدم توقف حفظ الواقع عليه للاحتياط في العمل، أو لعدم الابتلاء بالحكم، بل الأحكام غير الإلزامية أيضاً، لصدق التفقه في الدين بذلك.

كما أن لازمه كون اختلاف التكاليف الفائتة - بسبب ترك التعلم - في الأهمية غير دخيل في قدر العقاب، لفرض عدم كون العقاب عليها، ولا يظن من أحد البناء على شيء من ذلك.

ودعوى: أن عدم البناء عليه للإجماع لا لورود الأدلة للوجوب الطريقي.

مدفوعة: بأنه لا منشأ للإجماع - لو تم - إلا الارتكازات الصالحة للقرينية على حمل الأدلة على الوجوب الطريقي.

ص: 467

ومن هنا لا ينبغي التأمل في ما ذكرنا من كون وجوب التعلم طريقياً مانعاً من الرجوع للأصول والأدلة الواصلة، كما هو ظاهر الأصحاب.

بقي في المقام أمور:

بقي أمور:
الأول: عدم وجوب الفحص عن الدليل الموافق

الأول: الظاهر عدم وجوب الفحص عن الدليل الموافق للدليل الواصل، سواء كان في رتبته أم لا، كالأصل مع الدليل، لقصور جميع الوجوه المتقدمة عنه بعد عدم الأثر له في مقام العمل، فلا دخل له في حفظ الواقع، ليجب وجوباً طريقياً في طوله.

الثاني: مقدار الفحص

الثاني: الظاهر أن الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار الموجب لليأس من كون استمرار الفحص موجباً للظفر بالدليل، وإن أمكن حصوله صدفة بوجه غير محتسب، قد يحصل مع الفحص وبدونه.

أما فيما إذا لم يكن لدليل حجية الطريق الواصل إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص، كبعض الطرق العقلائية، فلاكتفاء العقلاء بالفحص بالمقدار المذكور بلا إشكال.

وأما فيما إذا كان له إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص فلقصور الوجوه السابقة عن إثبات وجوب ما زاد على ذلك. أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي فلما عرفت من أن المتيقن إجمالا هو وجود الأدلة التي يتوقف العثور عليها على الفحص، وأما ما زاد على ذلك مما لا يتوقف على الفحص فالعلم بوجوده في موارد الأدلة التي يعثر عليها بالفحص لو تم لا أثر له في المنجزية، والعلم بوجوده في غيرها غير حاصل، ليكون منجزاً في المقام ومانعاً من الرجوع للطرق والأصول الواصلة.

وأما النصوص فلورود جملة منها مورد الإنكار على ترك الفحص،

ص: 468

والمنصرف منه مورد التقصير العرفي في تركه للاعتداد باحتمال الاطلاع بسببه على الواقع، ولا يشمل فرض اليأس من ذلك.

وكذا الحال في ما أطلق فيه وجوب التعلم والتفقه والسؤال، لما هو المرتكز في أذهان العرف من عدم فعل هذه الأمور إلا برجاء تحصيل العلم، لا مع اليأس من حصوله بسببها، وإن احتمل حصوله بوجه غير محتسب.

والظاهر أن سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال والاستنباط على ذلك لا على حصول العلم أو الاطمئنان بعدم الدليل، إذ قد لا يتيسر ذلك. مع أنه لا دليل عليه.

نعم، لو أُريد الاطمئنان بعدم العثور على الدليل بالفحص كان راجعاً لما ذكرنا. فلاحظ.

الثالث: عدم جواز الرجوع للطرق والأصول مع تعذر الفحص

الثالث: لو تعذر الفحص لفقد المكلف لمقدماته فالظاهر عدم جواز الرجوع للطرق والأصول الترخيصية، للأدلة المتقدمة. أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي فلعدم دخل القدرة في أطرافه.

وأما النصوص وغيرها مما دل على وجوب طلب العلم فهي ظاهرة في توقف العمل على الفحص مع تحقق موضوعه، ولا يرتفع موضوعه بفقد مقدماته، بل باليأس من ترتب العثور على الدليل بسببه.

الرابع: عدم لزوم الفحص مع عدم فوت التكاليف

الرابع: أشرنا آنفاً إلى أن وجوب الفحص لما كان طريقياً لحفظ التكاليف الواقعية فلا مجال مع عدم فوتها، لعدم الابتلاء بالتكليف أو للاحتياط فيه عند الابتلاء به.

كما لا إشكال في وجوبه مع العلم بالابتلاء به، فإن علم بالقدرة عليه بعد الوقت جاز تأخيره، وإلا وجب تقديمه على الوقت لحفظ التكليف في

ص: 469

وقته، نظير المقدمات المفوتة، كما سبق.

أما مع احتمال الابتلاء فالظاهر وجوب الفحص، لا للعلم الإجمالي، لعدم صلوحه لتنجيز احتمال المخالفة مع عدم إحراز الابتلاء بالتكليف، بل لأدلة وجوب التعلم والتفقه، لشمول العناوين المأخوذة فيها من التعلم والتفقه والسؤال للتكليف المذكور مع عدم محذور من شموله، لأن وجوب التعلم لما كان طريقياً كفى في تحقق موضوعه وإمكانه الخوف من فوت الواقع بسبب الجهل، سواء أحرز الابتلاء أم لم يحرز.

وأما استصحاب عدم الابتلاء فالظاهر عدم جريانه في نفسه، لعدم أخذ الابتلاء في موضوع وجوب الفحص شرعاً، وإنما يقصر إطلاقه عن شمول صورة العلم بعدم الابتلاء لباً بنتيجة التقييد، لعدم الموضوع له معه، كما يقصر عن شمول العلم بعدم فوت الواقع بدونه، للاحتياط أو لمصادفة الموافقة، والمفروض عدم العلم به ودخوله في إطلاق الأدلة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (دامت بركاته) من أنه لا مانع من جريان استصحاب عدم الابتلاء، بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

فهو غير ظاهر، لأن المبنى المذكور إنما يقتضي جريان استصحاب عدم الابتلاء إذا كان العلم بعدم الابتلاء مأخوذاً بعنوانه وبما هو أمر وجودي في موضوع وجوب الفحص، لا ما إذا كان شرطاً فيه بنتيجة التقييد، نظير ما سبق عند الشك في الاختلاف من المسألة السادسة.

وإلا لجرى - مع العلم بالابتلاء - استصحاب عدم مخالفة التكاليف الواقعية، لما أشرنا إليه من عدم وجوب الفحص مع العلم بعدم مخالفتها.

ص: 470

ومثله ما ذكره من أن المانع من جريان الاستصحاب إطلاق أدلة وجوب التعلم. وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء مستهجن، لندرتها، فإن الغالب في مسائل الشكوك ونحوها احتمال الابتلاء.

للإشكال فيه: بأن مانعية الإطلاق من الاستصحاب إن كانت باعتبار حكومة الإطلاق على الأصل فلا مجال له بعد التسليم بجريان الاستصحاب، لقيامه مقام القطع الموضوعي، لوضوح أن القطع بعدم الابتلاء رافع لموضوع وجوب الفحص، كما سبق، فيكون الاستصحاب مثله.

وإن كان باعتبار تعذر تنزيل الإطلاق على صورة العلم بالابتلاء، لندرته - كما لعله الظاهر من كلامه - فيكون الإطلاق نصاً في صورة الشك، ومخصصاً لعموم دليل الاستصحاب. فهو في غاية المنع، لكثرة التكاليف التي يعلم بالابتلاء بها، والتي يجب الفحص عنها، وليس الإطلاق وارداً في خصوص الشكوك ونحوها مما ادعى ندرة العلم بالابتلاء بها.

ودعوى: أنه لا مجال للعلم بالابتلاء غالباً، لاحتمال الموت والمرض المانع من فعلية التكاليف ونحوهما.

مدفوعة: بعدم التعويل على احتمال ذلك، بل مقتضى أصالة السلامة المعوَّل عليها عند العقلاء إحراز الابتلاء.

ولو غض النظر عن ذلك فالمتيقن شمول الإطلاق للشك في الابتلاء من هذه الجهة، لا من جميع الجهات، بحيث يعم الشك في تحقق الموضوع، الذي هو محل الكلام ظاهراً.

الخامس: جريان ما تقدم في حق العامل

الخامس: أن أكثر الأدلة المتقدمة كما تجري في حق المجتهد في مقام الاستنباط لعمله وللفتوى، تجري في حق العامي، فليس له العمل

ص: 471

بمقتضى الأصول أو غيرها إذا احتمل قيام الأدلة على خلافها، بل يجب عليه الفحص عن مفاد الأدلة بالسؤال من المجتهد، لثبوت الإجماع في حقه، ولتحقق العلم الإجمالي بالإضافة إليه بوجود الأدلة التي يمكن الاطلاع على مفادها ولو بالرجوع للمجتهد. وإطلاق النصوص السابقة في الوجه الرابع، لوضوح صدق التفقه والتعلم والسؤال في حقه.

السادس: لزوم التجري مع ترك الاحتياط

السادس: لما كان مقتضى وجوب الفحص هو عدم جواز الرجوع للطرق والأصول الترخيصة مع عدمه، بل يلزم الاحتياط، كان ترك الاحتياط والاكتفاء بموافقتها من أفراد التجري، على ما سبق في التنبيه الثاني من مبحث التجري.

فيبطل العمل واقعاً لو كان عبادياً واحتمل تحريمه تكليفاً، لامتناع التقرب في مورد التجري.

وأما في غير ذلك فلا مجال للبناء على بطلانه واقعاً إلا في العبادات بناء على اعتبار الجزم بالنية فيها، الذي هو خلاف التحقيق. كما لا مجال للبناء على صحته ظاهراً، فضلاً عن صحته واقعاً، بل يلزم البناء على عدم إجزائه ظاهراً، لعدم إحراز صحته. فلو أحرز بعد ذلك مطابقته للواقع تعين البناء على صحته. وكذا لو انكشف مطابقته لمقتضى الحجة القائمة حين إرادة التدارك، كما لو كان مقلداً لمن يقول بصحته.

وأما مطابقته للحجة القائمة حين صدوره دون الحجة القائمة حين إرادة التدارك - كما لو قلد حين العمل من يقول بصحته من دون أن يعلم بفتواه وعدل بعد ذلك لمن يقول ببطلانه - فهل يجب التدارك أو لا؟

الظاهر ابتناؤه على ما تقدم في المسألة الثامنة من عموم حجية الحجة

ص: 472

المتأخرة للوقائع السابقة بنحو يستلزم سقوط حجية الحجة السابقة عنها وعدمه، فيتعين الإجزاء على الثاني، أما على الأول فاللازم التدارك.

ولا مجال لما تقدم من الاجتزاء بمتابعة فتوى من يجب الرجوع إليه مطلقاً وصحته معهاً واقعاً. لاختصاص الدليل عليه بالسيرة، والمتيقن منها صورة اعتماد المكلف على الحجة حين العمل، ولا يحرز ثبوتها فيما لو لم يعتمد عليها وإن طابقها.

ثم إنه لو دل الدليل على الاجتزاء بالعمل المخالف للواقع في حال الجهل ولو كان تقصيرياً تعين البناء على ذلك، وإن كان على خلاف الأصل، كما في الإتمام في موضع القصر والإخفات في موضع الجهر وعكسه، بل جميع موارد حديث: «لا تعاد الصلاة...»(1)، بناء على عمومه للجهل بالحكم، وغيرها.

نعم، وقع الإشكال بينهم في الجمع بين ذلك وبين وجوب الفحص عن الواقع في الأحكام المذكورة، الراجع لاستحقاق العقاب بفوته مع التقصير في الفحص.

بدعوى: أن المأتي به في حال الجهل إن كان وافياً بغرض الواقع الأولي كان مثله طرفاً للتكليف، ولا مجال لتعيين الواقع، لتبعية التكليف للغرض، فلا يفوت معه المكلف به، فضلاً عن ملاكه، ليستحق العقاب بفوته بسبب الجهل، ويجب الفحص فراراً عن ذلك، وإن لم يكن المأتي به وافياً بغرض التكليف، امتنع إجزاؤه.

وقد أطال شيخنا الأعظم (قدس سره) ومن تأخر عنه في حلّ الإشكال بما لا

ص: 473


1- الوسائل ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 8.

يسع المجال إطالة الكلام فيه بعد عدم التنافي بين الأمرين وإمكان الجمع بينهما، لأن الإجزاء كما يمكن أن يكون لوفاء المأتي به حال الجهل بملاك الواقع الأولي، أو لتبدل الملاك، المستلزم لعدم العقاب، كذلك يمكن أن يكون لمانعية المأتي به من استيفاء ملاك الواقع من دون أن يستوفى به، كما لو تعلق الغرض بإطعام اللحم، فأطعمه التمر حتى أشبعه، ولم يكن التمر مفيداً فائدة اللحم إلا أنه لما أوجب الامتلاء يتعذر إطعام اللحم واستيفاء فائدته.

وقد ذكرنا نظير ذلك في التنبيه الرابع من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.

ويلحق بذلك ما إذا لم يكن فعل الناقص مانعاً من استيفاء الملاك، إلا أنه لمزاحمة الملاك بما يمنع من فعليته وفعلية التكليف تبعاً له يتعين الإجزاء حينئذٍ مع استحقاق العقاب بترك التعلم، لأنه سبب في فوت ملاك الواقع بعد إمكان استيفائه حال عدم المزاحمة.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الإجزاء عن القضاء دون الإعادة، حيث يستحق العقاب لتفويت ملاك الأداء حتى خرج الوقت، وإن سقط القضاء تخفيفاً، أو لتعذر استيفاء ملاكه، أو لعدم فعلية الملاك بسبب المزاحمة.

السابع: اختصاص وجوب الفحص بالشبهات الحكمية

السابع: لا يخفى أن الأدلة المتقدمة على وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع بدونه للطرق والأصول الترخيصية مختصة بالشبهات الحكمية.

ولازم ذلك جواز الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية من دون فحص لو اقتضاه عموم أدلتها كما هو الظاهر فيها كلها أو جلها، بل بعضها صريح في ذلك، كصحيحة زرارة الثانية المذكورة في أدلة الاستصحاب

ص: 474

المتضمنة عدم وجوب النظر في الثوب الذي يحتمل إصابة النجاسة له(1)، وما دل على أن من تزوج امرأة ليس عليه الفحص عن أن لها زوج حتى بالسؤال منها(2)، وعدم وجوب السؤال عن ذكاة الجلود المأخوذة من المسلمين(3)، بل تضمن بعض النصوص إثارة الاحتمالات البعيدة ليتمسك بالأصل ظاهر في الاكتفاء بالاحتمال وعدم وجوب التروي لدفعه الذي هو أخف من الفحص الخارجي.

والظاهر عدم الخلاف فيه في الجملة، بل ربما ادعي الإجماع عليه. وإنما أوجب الفحص في بعض الموارد بعض القدماء والمتأخرين لدعوى توقف العلم بالحكم فيها على الفحص غالباً، كالشك في المسافة المقتضية للقصر والإفطار، والاستطاعة المقتضية للحج، والنصاب الزكوي والربح الذي يجب فيه الخمس.

إلا أنه يشكل: بأن الكاشف عن وجوب الفحص كون المورد مما يندر العلم بالحكم فيه من دون فحص عن الموضوع حيث يستفاد عرفاً من تشريع الحكم وجوب الفحص عن موضوعه تبعاً، وهو

غير لازم في الموارد المذكورة، وإنما اللازم فيها كثرة توقف العلم بالحكم على الفحص، وهو غير كاشف عن وجوبه، لعدم لغوية جعل الحكم بدونه بعد كثرة الموارد غير المحتاجة له أيضاً.

وإلا لوجب الفحص في كثير من موارد الطرق والأصول، كاليد التي هي أمارة على الملكية والسلطنة ويد المسلم التي هي أمارة على التذكية

ص: 475


1- الوسائل ج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: 1.
2- راجع الوسائل ج: 14 باب 25 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، وباب: 10 من أبواب المتعة.
3- راجع الوسائل ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات.

وأصالة الطهارة واستصحابها، ولا يمكن الالتزام بذلك بالنظر لأدلتها.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى اهتمام الشارع بالحكم عدم رضاه بكثرة مخالفته واقعاً ولو خطأ، وهو مستلزم لإيجابه الفحص في الأحكام التي تكثر مخالفتها بدونه.

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره): أنه إذا تمت مقدمات العلم بالواقع للمكلف ولم يحتج حصوله إلا لمثل النظر والسؤال ممن هو إلى جنبه فلابد منه ولا يجوز الرجوع للأصل الترخيصي بدونه، لعدم صدق الفحص عليه، واستثنى من ذلك باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيه. ووافقه على ذلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) من دون أن يشير للاستثناء المذكور.

وهو كما ترى! لعدم أخذ عنوان الفحص في أدلة الأصول، ليهتم بصدقه على مثل النظر، بل ليس موضوعها إلا الشك وعدم العلم، وهو حاصل مع عدم النظر أو نحوه. بل عرفت صراحة بعض النصوص في عدم وجوب النظر والسؤال.

وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من مناسبة ذلك للارتكاز، ممنوع، بل المرتكز كونه احتياطاً غير لازم.

فلا مخرج عما ذكرنا. فلا حظ. والله سبحانه وتعالى العالم، ومنه نستمد العون، والتوفيق، والعصمة، والتسديد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

إلى هنا انتهى الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد، خاتمةً لمباحث الأصول، عصر الجمعة، التاسع من شهر جمادي الأولى، سنة ألف وثلاثمائة وتسع وتسعين لهجرة سيد المرسلين، عليه وآله أفضل الصلوات، وأزكى

ص: 476

التحيات.

في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف، على مشرفه أفضل الصلاة والسلام.

بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى محمد سعيد عفي عنه، نجل العلامة الجليل، حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).

ونسأله سبحانه أن يوفقنا جميعاً لشكر نعمه، ويتمها بالتوفيق للجد والاجتهاد في العلم والعمل، مع القبول وخلوص النية، وترتب نفع المؤمنين، إنه أرحم الراحمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير.

كما انتهى تبييضه بعد إعادة النظر فيه، وتدريسه بقلم مؤلفه الفقير ليلة الأربعاء الرابع عشر من الشهر المذكور حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 477

ص: 478

المحتويات

ص: 479

ص: 480

الصورة

ص: 481

الصورة

ص: 482

الصورة

ص: 483

الصورة

ص: 484

الصورة

ص: 485

الصورة

ص: 486

الصورة

ص: 487

الصورة

ص: 488

الصورة

ص: 489

الصورة

ص: 490

الصورة

ص: 491

الصورة

ص: 492

الصورة

ص: 493

الصورة

ص: 494

الصورة

ص: 495

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.