موسوعة العتبات المقدسة

اشارة

‏سرشناسه : خلیلی، جعفر، ۱۹۰۴ - م.
‏عنوان و نام پدیدآور : موسوعه العتبات‌المقدسه/ تالیف جعفر الخلیلی.
‏مشخصات نشر : ‏بیروت‌‏: موسسه‌الاعلمی للمطبوعات‏، ۱۴ق .-‏‏‏= ۱۳‏-
‏مشخصات ظاهری : ‏ج.‏: مصور، عکس.
‏یادداشت : عربی.
‏یادداشت : فهرستنویسی بر اساس جلد ششم، قسمت اول: ۱۹۸۷م = ۱۴۰۷ق = [۱۳۶۶].
‏یادداشت : چاپ دوم.
‏یادداشت : ج.۱ (چاپ اول: ۱۳۸۷ق. = ۱۹۶۷م.= ۱۳۴۶).
‏یادداشت : ناشر جلد یکم کتاب حاضر دارالتعارف می باشد.
‏یادداشت : کتابنامه.
‏مندرجات : ج.۱. قسم کاظمین.- ج. ۶، ق. ۱، قسم‌النجف. - ج. ۷، ق. ۲، قسم‌النجف
‏موضوع : زیارتگاههای اسلامی -- تاریخ
‏موضوع : زیارتگاه‌های اسلامی -- عراق
‏رده بندی کنگره : ‏DS۷۹/۹ /ز۹‏خ۸ ۱۳۰۰ی
‏رده بندی دیویی : ‏۹۵۶/۷۵
‏شماره کتابشناسی ملی : ۱۲۵۹۱۵

الجزء الأول

اشارة

موسوعة العتبات المقدّسة المدخل- 1
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 3
المدخل الی موسوعة العتبات المقدّسة
ألفها و جمع بین بحوثها و علّق علیها
جعفر الخلیلی
منشورات مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- لبنان ص. ب. 712
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة الطبعة الثانیة 1407 ه- 1987 م
مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات:
بیروت- شارع المطار. قرب کلیّة الهندسة. ملک الاعلمی- ص. ب: 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 5
بسم اللّه الرّحمن الرّحیم

موسوعة العتبات المقدسة الموسوعة العربیة

اشارة

الموسوعة إصطلاح حدیث أطلق علی البحوث المستفیضة الواسعة تقابلها کلمة (الأنسکلوبیدیا) و هی کلمة یونانیة تعنی مجموعة العلوم و الفنون و قد عرّبت باسم (دائرة المعارف)، و اسم الموسوعة أعم و أکثر شمولا من اسم دائرة المعارف، سواء کانت الموسوعة أوسع فی حقیقتها مدی من (المعاجم) و من (دوائر المعارف) أم أقل منها إحاطة بالمواد و المواضیع، فکل دائرة معارف، و کل معجم، موسوعة فی الاصطلاح، و لکن لیس کل موسوعة- عند الکثیرین- معجما أو دائرة للمعارف، و الفرق بین الموسوعة، و المعجم، أو دائرة المعارف، فیما جری علیه الاصطلاح الحدیث هو أن نظام التألیف فی المعجم و فی دائرة المعارف قائم علی الحروف الهجائیة، مبتدئا بحرف الألف و منتهیا بحرف الیاء، کمعاجم الرجال، و معاجم المواد، و دوائر معارف العلوم و الفنون و الآداب و معاجم اللغة.
أما الموسوعة فلا تلتزم بحوثها بأی نظام فی طریقة التألیف غیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 6
نظام المواضیع التی تفرض سلیقة المؤلف و ذوقه و مقتضیات بحثه تقدیم أی موضوع منها أو تأخیره فی العرض، علی أن تکون واسعة الغرض، کثیرة الاحاطة، لیکون اطلاق اسم (الموسوعة) المصطلح علیها مطابقا للواقع، و هنالک نوع من الموسوعات ما یسمّی (بالتذکرة) و قد دأب العلماء العرب و غیرهم من الذین شملهم اسم (المسلمین) علی تألیف هذا النوع من الموسوعات یجمعون فیها جمهرة من العلوم کتذکرة (الصفدی) و تذکرة (ابن حمدون).

أول دائرة معارف فی التأریخ

هنالک اختلاف فی أول دائرة معارف کتبت فی التأریخ و قد ذهب أکثر المؤرخین علی أن (سیوسبیوس) الیونانی و هو ابن أخ أفلاطون و تلمیذه کان أول من قام بجمع البحوث العامة و وضع الانسکلوبیدیا، و لکن هذه المجموعة من الانسکلوبیدیا قد فقدت، و یری البعض: ان مجموعة (ستوبینوس) (وسویداس) و (کابلا) سنة 480 م هی من أهم الموسوعات التی کتبت فی ذلک الزمان، و هناک من یورد اسم الموسوعة الصینیة المسماة (کوکین سی فون لوی تسی) تألیف (شوهوفو) سنة 246 ضمن الموضوعات العامة القدیمة و مهما کان من أمر تلک الموسوعات و قیمتها العلمیة و قدمها فان (غایوس بلینوس)pliny المسمی بالکبیر (23- 79 م) هو أول کاتب موسوعی فی التأریخ، کان رومانیا ولد فی ایطالیة الشمالیة و مضی الی روما صفیرا و مارس المحاماة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 7
حقبة من الزمن ثم حارب فی المانیة و اسبانیة و بلاد الغال. فقد زار افریقیة و شغل ببعض المناصب الاداریة ثم کان قائدا للأسطول فی أحد الموانی‌ء البحریة حین استعر برکان فیزوف فمات حرقا بشواظ ناره، و لقد أهّلته تلک الحباة المتشعبة النواحی، الغنیة بالتجارب و الرحلات، لوضع موسوعته «التأریخ الطبیعی» التی رفعها الی الامبراطور تیطش (تیتوس)، و هی فی 37 کتابا. و یتناول الکتاب الأول المقدمة و الفهارس و المراجع، و الثانی وصف الأرض، و الشمس، و القمر، و الکواکب، و النجوم، و الثالث الی السادس فی الجغرافیة، و السابع الی الحادی عشر فی علم الحیوان، و الثانی عشر الی التاسع عشر فی النبات، و العشرون الی السابع و العشرین فی الطب النباتی، و الثامن و العشرون الی الثانی و الثلاثین فی سائر الأدویة. أما الکتب الباقیة فتبحث فی المعادن ثم النحت و التصویر و البناء الخ .
و علی أن أول دائرة معارف شاملة فی (التأریخ الطبیعی) المذکور الذی تناول کتابه کل العلوم المعروفة فی العالم القدیم و المحتوی علی نحو 2500 فصل فان صفة الموسوعیة قد لازمت الکتب العربیة الاسلامیة قبل ان تلازم أیة مجموعة من الکتب عند أیة أمة من الأمم، و ذلک منذ صدر التأریخ الاسلامی و منذ القرون الهجریة الاولی أی منذ تصدّی الکتاب و المؤلفون لتتبع السیرة النبویة و جمع أخبار الصحابة و الغزوات الاسلامیة و الفتوحات و ما کان یحدث و یقع، و ما کان یهمّ المسلم من دینه و أصوله و شرح الآیات القرآنیة و القصص التی تخص الأنبیاء مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 8
أوردها القرآن الکریم علی سبیل المثل و الاستشهاد، و منذ ان کانت الحیاة تتطلب من المثقف المسلم و غیر المسلم من العرب و المستعربین، من الوزیر و الکاتب و الحاجب و الرسول و الشاعر و الأدیب الإحاطة و الإلمام علی قدر الامکان بأمور الدین و تأریخ الأمم و أخبار المدن و القبائل و العادات و الاخلاق، و الشعر و الأدب و الفنون العامة، و ما یقتضیه العصر مما یقع تحت النظر، کان لا بد أن یتطرق الکثیر من الکتب العربیة الی کثیر من هذه الأغراض باتساع أو ایجاز سدا للحاجة، و تنویرا للاذهان التی حث الاسلام فی کثیر من المناسبات علی مثل هذه الثقافة و المعرفة و فضّل أهل العلم علی الزهّاد و النسّاک و العبّاد، و تطلبت الشریعة و مقتضیات الحیاة أن یعدّ الحکام و الامراء و القضاة انفسهم لذلک إعدادا وافیا و لهذا قالوا بأفضلیة القادة و الامراء و الحکام و اعتبروا الخلفاء و الائمة أفضل من الرعیة، و عامة الحکام أفضل من المحکوم علیهم، لانهم أفقه فی الدین، و اقوم بالحقوق، و أردّ علی المسلمین، و عملهم بهذا افضل من عبادة العبّاد، و لان نفع اولئک لا یعدو قمم رؤوسهم، و نفع هؤلاء یخص و یعم، و العبادة لا تدله، و لا تورث البله الا لمن آثر الوحدة، و ترک معاملة الناس و مجالسة أهل المعرفة، فمن هناک صاروا بلها، حتی صار لا یجی‌ء من أعبدهم حاکم و لا امام، و ما احسن ما قال ایوب السختیانی حیث یقول:
«فی اصحابی من أرجو دعوته و لا اقبل شهادته، فاذا لم یجز فی الشهادة کان من أن یکون حاکما أبعد».
و عاجز الرأی مضیاع لفرصته حتی اذا فات أمر عاتب القدرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 9

- صبغة الموسوعیة العربیة-

و کلما خطا الإسلام خطوة و تغلغل بین الأقوام و اتسعت رقعته، اشتدت الحاجة الی ثقافة اوسع و احاطة أکثر بما انصب فی الأقطار الاسلامیة من فنون و علوم و معارف فاتسعت رقعة التألیف علی نمط الموسوعیة و تعددت مواضیع الکتب، و تنوعت أهداف الثقافة و اغراضها و اشتدت الحاجة الی التزود بالعلوم و المعارف و الآداب جملة حتی صارت الموسوعیة صبغة ثابتة لأمهات الکتب العربیة و الاسلامیة، لذلک فضلا عن کونها من أقدم الموسوعات فی تأریخ الثقافة العامة فهی اکثر الموسوعات العالمیة شمولا لمختلف المواضیع من دین و علم و حکمة و أدب و تأریخ و فن، و حتی الکتب العربیة الخاصة المؤلفة لغرض الاختصاص قلّ منها من لم یصطبغ بصبغة الموسوعیة العامة، فکتاب الأغانی مثلا لم یقتصر علی الأغنیة و مغنیها، و انما هو موسوعة تأریخیة عامة أحاطت بالکثیر من أخبار العرب و الفرس و الرومان فی سیاق الحدیث، و هو موسوعة أدبیة شاملة استعرضت الشعر العربی و نثره و تراجم الشعراء و الخطباء و الکتاب و الحکام و الأمراء و القادة فی أغلب ادوارهم التأریخیة و الأدبیة و الفنیة، ثم هو بعد ذلک کتاب حکمة و أمثال و أخلاق لما حوی من القصص و الافکار و الشواهد.
و لقد رأینا هنا ان نعرض بإیجاز تأریخ الموسوعة العربیة الاسلامیة و طبیعتها و استعراض المؤلفین الذین اتصفت مؤلفاتهم بصفة الموسوعیة فکان لها و لهم قیمة کبیرة فی تأریخ الثقافة العامة التی خدمت البشریة جمعاء خدمة مشهودة کبیرة معتمدین فی هذا الاستعراض الموجز الشامل علی الدکتور حسین مؤنس مدیر معهد الدراسات الاسلامیة بمدرید. و علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 10
المصادر التأریخیة، و الموسوعات العربیة و الأجنبیة. و الدراسات المستفیضة الخاصة الواردة فی الصحف و المجلات

نشأة الموسوعیة

«نشأ الفکر العربی فی العصور الوسطی موسوعیا، نشأ علی أیدی رجال فتح الاسلام لهم أبواب العلم و المعرفة، و بسط الأرض أمامهم لیضربوا فی مناکبها، و یتوسعوا فی العلم بالأرض و ما علیها عن طریق المشاهدة و التجربة، و وضع فی أیدیهم تراث الماضین لیتمثلوه و یضیفوا خلاصته الی ثروة الفکر العربی الاسلامی الناهض ثم ینشئوا من ذلک کله أدبا و علما زاهرین یتناولان کل ما یرقی بالانسان و یوسع أفقه و یهذب خلقه، و یزید حظه من الرقی و الرخاء.
هؤلاء الرجال هم الذین أرسوا أسس الفکر العربی بجهدهم الدؤوب المخلص خلال القرن الهجری الثانی (الثامن المیلادی) و هم الذین طوروا مفهوم الادب من معنی التهذیب و السیر علی التقلید الخلقی الحمید الی معنی المعرفة الانسانیة الواسعة «و الإلمام من کل شی‌ء بطرف» کما قال عمید الموسوعیین خلال العصر الاول من تأریخنا الفکری ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (توفی 255 ه 869 م).
و خلال القرن الهجری الثانی کانت المعرفة فی نظر طلابها کلا واحدا لا یتجزأ یشمل علوم الدین و الدنیا، و یعتبر الکون کله مجالا للبحث و التفکیر و التألیف، و کان علی طالب الثقافة ان یحفظ القرآن و یحیط بمعانیه، و یلم بما تیسر له من الحدیث و یحفظ ما تیسر له من شعر الجاهلیین و المعاصرین، و یتمکن من اللغة و تأریخ العرب و ایامهم و علومهم الاولی کالطب الطبیعی و النبات، و الانواء و القیافة و ما الی ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 11

ابن المقفع و التراث الهندی الفارسی

و جاء ابن المقفع (توفی 143 ه 760 م) فوسع الأفق و أضاف الی ثروة العرب شیئا عظیما من تراث الهند و فارس، و نقل الی العربیة کتبا مثل (خدای نامه) أی کتاب السادة، و کلیلة و دمنة.
فأما الأول فقد دخل تراثنا تحت اسم (سیر ملوک العجم) و اتاح للناس الفرصة للاطلاع علی جانب من تأریخ البشر قبل الاسلام، و وضع بین أیدی طلاب التأریخ نموذجا أفادوا منه فی تطویر فکرة التألیف التاریخی.
و أما الثانی- کلیلة و دمنة- فکان نموذجا جمیلا للقصص الرفیع ذی المغزی البعید، و ثروة من الحکمة و تجارب البشر تلقاها الفکر العربی فی أجمل صورة و أکملها .
و فتح ابن المقفع للناس بکتابه (الصحابة) أبواب التفکیر السیاسی، و دعاهم الی التفکیر الموضوعی فی شؤون الدول و الحکومات و الشعوب و السلاطین، هذا الی ما تضمنته کتبه الأخری مثل (الدرة الیتیمة) و (الأدب الصغیر) من حکم و تأملات یعجب الانسان من صدورها عن شاب قام بذلک العمل کله قبل ان یبلغ السادسة و الثلاثین من عمره.

الجیل الاول من الموسوعیین

اشارة

فی هذا الطریق الواسع سارت الأجیال التالیة لجیل ابن المقفع، و اطلعت رجالا ملأوا القرن الهجری الثالث کله علما و ادبا، و قد تمیز اولئک الرجال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 12
قبل کل شی‌ء بالموسوعیة فی الاتجاه و الشمول فی العلم، قرأوا متوسعین فی کل فن، و کتبوا مکثرین فی کل باب من ابواب المعرفة.
فهشام بن محمد بن السائب الکلبی (توفی 204 أو 206 ه 819 أو 821 م) کتب فی علوم القرآن و السیرة النبویة و الشعر و عجائب البحر و الأصنام و التأریخ العام، بل له کتاب یسمی (منطق الطیر).
و أبو عبیدة معمر بن المثنی (توفی 210 ه 825 م) کتب فیما یقول ابن الندیم مائة کتاب و خمسة کتب تتناول کل موضوع تقریبا.
و الأصمعی عبد الملک بن قریب بن قیس (توفی 214 ه 829 م) الف بضعة و أربعین کتابا فی الشعر و اللغة و الطب و النبات.
و ابو زید سعید بن اوس الأنصاری (توفی 215 ه 830 م) کتب قریبا من هذا العدد من المؤلفات فی کل علوم العصر المعروفة، و من مؤلفاته واحد عن المطر و آخر عن اللبن.
و ابو عبید القاسم بن سلام (توفی 223 ه 838 م) الف فی علوم الاسلام و اللغة و التأریخ و الشؤون المالیة، و کتابه (الأموال) آیة فی التنسیق و العمق و حسن الفهم و الدقة، و کتابه الآخر المسمی (الغریب المصنف) أشبه بموسوعة تکلم فیها عن الانسان و الطعام و الشراب و الأبنیة، و المراکب، و السلاح، و الطیر، و الحشرات، و النار، و الشمس و القمر و ما الی ذلک، و قد أنفق فی تألیفه اربعین سنة فلا غرابة ان أصبح من غرر الکتب فی المکتبة العربیة الی الیوم.
هؤلاء جمیعا کانوا یقرأون فی کل موضوع ایضا، کان یدفعهم الی العمل ذلک النهم الی المعرفة الذی یمیز الأمم الحیة من غیرها من الأمم، و موسوعیتهم کانت مظهرا من مظاهر السیادة العربیة، لان العلم فی ذاته سیادة، و طلبه عزة، و علی طول التأریخ کانت الأمم العالمة هی الأمم السائدة، و لم یجتمع فی التأریخ ابدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 13
علم و ذلّ
و لکن موسوعیة هذا الجیل کانت موسوعیة اتجاه لا منهج، أی ان اولئک الرجال کانوا یقرأون دون نظام، و یکتبون دون نظام ایضا، و هم یتنقلون فی الفقرة الواحدة من علوم القرآن الی الشعر الجاهلی الی النبات الی الحیوان الی الفلک، و قارئهم یتعب اذا طلب عندهم موضوعا بعینه.
و لکنهم مهدوا الطریق للطبقة الاولی من الموسوعیین المنهجیین فی تأریخنا و أعمدتها خمسة من الاعلام، یعتبر کل واحد منهم دائرة معارف قائمة بذاتها.

1- قدامة بن جعفر الکاتب

أول هؤلاء قدامة بن جعفر بن قدامة الکاتب (237 ه 851 م) و هو أول عربی الف کتابا شاملا لکل المعارف التی یحتاج الیها المشتغل بالکتابة الدیوانیة و الانشائیة، و قد أطلق علی کتابه الجامع هذا اسم (الخراج) و المراد به الشؤون المالیة للدولة، و هی عصب الادارة و عماد الخلافة، و قد بقیت لنا من موسوعیته تلک قطع تدل علی علم مستبحر، واحدة فی الخراج بالذات، و ثانیة عن نقد النثر، و ثالثة عن نقد الشعر، و هناک قطع أخری لا تزال مخطوطة تنتظر من یخرج بها الی النور.

2- ابو عثمان الجاحظ

و ثانی هؤلاء أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ توفی (255 ه 869 م) أمیر هذا الطراز من الموسوعیین فی تأریخنا، فقد کان یکتب بنفس المستوی من الاجادة و العمق و الشمول و خفة الظل فی العقائد، و علوم الاسلام، و الادب، و التأریخ الطبیعی، و الطب، و الاجناس، و الحیوان، و اخلاق البشر، و هو مسهب متدفق، طویل النفس، یصوغ ما یکتب فی اسلوب سهل ممتنع، و یخاطب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 14
عقل القاری‌ء و یناقش معه الموضوعات و الآراء فی غیر أثقال او ادعاء أو تکلف، و من الاسف ان الجاحظیة لم تجد من یرثها و یسیر بها فی الطریق الذی کان کفیلا بأن یخرج بالفکر العربی من العصور الوسطی الی العصور الحدیثة.

3- ابن قتیبة الدینوری

و ثالثهم ابو عبد اللّه محمد بن مسلم بن قتیبة توفی (276 ه 879 م) و هو یکاد یضاهی الجاحظ فی سعة العلم، و حریة الفکر، و کثرة التألیف، و تنوع الکتب، و هو یشبهه ایضا فی ان معظم کتبه الرئیسیة سلم من عبث الایام و وصل الینا، و کتابه (أدب الکاتب) خزانة علم و أدب لو فسرت و بوبت لکانت دائرة معارف، أما کتابه (عیون الاخبار) فنموذج جمیل من کتب الادب بمعناه الواسع عن العرب و هو معنی یقابل ما نسمیه نحن الیوم بالادب او الانسانیات .

4- أبو حنیفة الدینوری

و رابعهم أبو حنیفة احمد بن داود الدینوری توفی (282 ه 895 م) و قد الف فی النحو و اللغة و التأریخ و الهندسة و الحساب، و لا یزال کتاباه الرئیسیان (الأخبار الطوال) و (الامامة و السیاسة) من معضلات التوالیف فی مکتبتنا العربیة، لان الخلاف طویل حول أصول مادتهما و نسبة بعض فصولهما الیه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 15

5- ابو العباس المبرد

و خامسهم أبو العباس محمد بن یزید المبرد توفی (285 ه 898 م) و کتابه (الکامل) موسوعة لعلوم العرب الی أیامه، تتناول کل فن من أدب الی تاریخ الی لغة الی دین الی طب، و هو یتنقل بقارئه من فن الی فن علی طریقة کانت تعجب الاقدمین و لکنها تجهد الباحث الحدیث، فقد کانوا یرون أن الاستطراد من موضوع لموضوع یعین القاری‌ء علی القراءة، و یبعد عن نفسه الملل، أما نحن فثری فیه تقسیما لوحدة الفکرة و الموضوع.
و یلحق بهذه الطبقة من الموسوعیین اثنان من أهل القرن الرابع الهجری هما أبو احمد بن محمد بن عبد ربّه توفی (328 ه 940 م)، و أبو الفرج علی بن الحسین الاصفهانی توفی (356 ه 967 م) و الاول مشهور بکتابه المسمی (العقد الفرید) و هو من اجمع الکتب عن العرب و انسابهم و شعرهم و نثرهم و علومهم، و تلمح فیه محاولة جادة لترتیب المادة الواسعة و تبویبها، و الثانی مشهور بکتابه الاغانی، و هو دائرة معارف فی الادب و التأریخ خاصة.

الموسوعیة عنوان الثقافة

و هولاء الموسوعیون هم الذین أعطوا الفکر العربی طابعه الموسوعی الانسانی الذی أصبح من ممیزاته الرئیسیة، و نحن لم نذکر منهم هنا إلا أکابرهم الذین حددوا مستوی الثقافة الذی کان لزاما علی کل من یطمح الی مکان محترم فی المجتمع ان یصل الیه أو یقترب منه علی الاقل، فبینما کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 16
شرلمان اکبر أباطرة الغرب فی العصور الوسطی لا یعرف من الکتابة الا رسم اسمه، کان المجتمع العربی لا یرضی عن حاکم بلد صغیر الا اذا کان علی حظ طیب من المعرفة بالتأریخ و الشعر و النثر و علوم الدین و الطب و الحکمة و احوال الدنیا، و قد یکون الرجل قائدا عظیما، او خلیفة واسع السلطان، أو امیرا عظیم الولایة، او تاجرا ذا مال عریض، و لکن المجتمع لم یکن یعترف بمکانه الا اذا تحلی بالثقافة الواسعة، و قرأ شیئا من الکتب التی أشرنا الیها، و جالس أهل العلم و الادب و شارکهم الحدیث و طارحهم الشعر، لان (الادب) أی الثقافة الانسانیة الواسعة کان شرطا من شروط الظهور و الریاسة فی ذلک العالم العربی المثقف .

ضعف الاتجاه الموسوعی بعد القرن الرابع

و نحن عندما نقول ان الفکر العربی أخذ فی الاضمحلال بعد القرن الرابع الهجری (العاشر المیلادی) لا نعنی بذلک ان البحث و التألیف فی هذا العلم او ذاک قد توقف و انقطع، و انما معناه ان الفکر فقد طابعه الموسوعی، و اقتصر کل باحث او عالم علی علمه و فنه، ذلک لان التألیف الجید فی شتی العلوم لم یتوقف خلال تأریخنا کله حتی خلال العصر الترکی لم یتوقف العلماء عن البحث و الدرس و التألیف، و لکن الذی یلاحظ بعد القرن الرابع هو هبوط الهمم عن القراءة الواسعة و التألیف الواسع أی التخلی عن الموسوعیة و لکل ثقافة من الثقافات طابعها الممیز و عنصرها الدافع المحرک، و بالنسبة للثقافة العربیة کانت الموسوعیة هی روحها و طابعها الممیز و قوتها الدافعة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 17

الفرق بین الطبری و ابن ایاس

و نوضح هذه الناحیة بمثال:
نحن نقول ان أبا جعفر محمد بن جریر الطبری توفی (310 ه 922 م) عمید مؤرخینا قبل ابن خلدون، و ان البون شاسع بینه و بین رجل مثل محمد بن احمد بن أیاس توفی (حوالی 932 ه 1528 م) مع ان ابن أیاس مؤرخ ممتاز متقن لفنه، و کتابه (بدائع الزهور) من الاصول التی لا یستغنی عنها باحث فی تاریخ دول الاسلام، و هو من حیث الطول و الاتساع لا یقل عن تاریخ (الرسل و الملوک) للطبری، و لکن الطبری لم یکن مجرد مؤرخ، انما کان بحرا من العلم، و قد کتب قبل ان یکتب التأریخ تفسیره المشهور، و هو دائرة معارف تجمع کل علم و فن، فما نمّر فیه بتفسیر آیة کریمة الا وجدناه یفیض فی الشرح و التفسیر غیر مغادر لمحة تاریخیة أو أدبیة او علمیة الا ذکرها.
اما ابن أیاس فمؤرخ فحسب، و هو یسرد الحوادث دون ان یدل علی اتساع وافق او تبحر علم او نظر الی ما وراء ما یکتب، و الفرق بینه و بین الطبری هی الموسوعیة و الشمول، و هما فی حساب الثقافة العربیة المقیاس الحقیقی لعلم العالم، و هی المیزة التی تمیز العالم العربی عن غیره.
فالطبری مؤرخ من مورخی عصر الازدهار لانه موسوعی، و ابن أیاس من رجال الاضمحلال لانه غیر موسوعی، و الطبری وحده یعدل فی تأریخنا الفکری کل مورخی القرن السادس الهجری من أمثال بهاء الدین بن شراد المتوفی (632 ه 1235 م) و ابن ظاهر الاسدی المتوفی (612 ه 1215 م) و سبط ابن الجوزی المتوفی (654 ه 1256 م) و شهاب الدین ابی شامه المتوفی (665 ه 1267 م) و هو اکبر مورخی القرن السادس تنقصه الموسوعیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 18
و یفتقد عنده اتساع الافق و شمول الثقافة الذی یمیز قادة العصور فی تاریخنا.
و قد ظل تقلید الموسوعیة قائما علی طول تأریخنا و لکن عدد الموسوعیین قلّ فی عصور الاضمحلال و القلیلون الذین ظهروا منهم خلال القرن الرابع و ما بعده هم الذین ساروا فی طریق الجاحظیة من التوسع فی العلم و الاحاطة بکل فن مضمنیه کتابا یضم اطرافا من علمهم الواسع.

المسعودی

ففی القرن الرابع حمل لواء الموسوعیة علی ابن الحسین بن علی المسعودی المتوفی (346 ه 957 م) و هو رجل وعی صدره من العلم ما یدهش له قارئه، فهو مورخ رحالة جغرافی متمکن من الریاضیات و الفلک، راویة للقصص، حافظ للشعر و النثر، و هو یکتب فی اسلوب جزل جمیل یعود بالذهن الی فحولة الجاحظ و ملکته فی النقد و الملاحظة، و هو مثل الجاحظ متوسع فی التألیف، و کتبه مترابطة الموضوعات یکمّل بعضها بعضا، و هو فی کل کتاب منها یحیل علی ما قاله فی کتبه السابقة او یقول انه سیستوفیه فی کتاب لاحق.

ابن مسکویه

و فی النصف الاول من القرن الخامس نجد أبا علی الخارف احمد بن محمد بن یعقوب المعروف بمسکویه المتوفی (421 ه 1030 م) و هو مورخ فیلسوف حکیم ریاضی کیمائی و ادیب کاتب شاعر، و کان معاصرا لابی حیان التوحیدی و امتاز علیه باتساع مدی العلم و النظرة الانسانیة للامور،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 19
و کتابه (تجارب الامم) من احسن ما کتب فی العربیة فی تاریخ الدنیا، و له فیه آراء و ملاحظات تصل به الی مستوی ابن خلدون کمؤرخ للحضارة البشریة و مفلسف للتأریخ، و الی مکانه کفیلسوف حکیم عارف بطبائع البشر و اصول الحکمة، تتجلی موهبته فی کتاب (تهذیب الاخلاق و تعطیر الاعراق) و هو یقوم علی اساس کتاب فارسی یسمی (جاویدان خرد) ای الحکمة الخالدة .

الکندی و الفارابی و ابن سینا

و هذا یصدق علی الظاهرین فی بقیة میادین النشاط الفکری الاسلامی، فالکندی، و الفارابی، و ابن سینا، یتربعون علی عرش الفلسفة بسبب تنوع معارفهم و عمقها و شمولها و توسیع مجال الفلسفة حتی تشمل العلوم الانسانیة کلها، و ابن سینا بالذات جعل کتابه (الشفاء) دائرة معارف کاملة.

المتنبی و البیرونی

و فی میدان الشعر یعتبر ابو الطیب المتنبی عمید شعراء العربیة لا بالشعر وحده، فان الکثیر من شعرائنا یضاهونه فی الشاعریة و لکن أبا الطیب کان موسوعة حافلة، و قارئه یعجب باتساع علمه کما یبهره شعره.
و فی میدان الریاضیات و الفلک یحتل ابو الریحان البیرونی مکان الصدارة لانه- الی جانب تمکنه من الریاضیات- أدیب فیلسوف ضم صدره التراث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 20
لفکری الاسلامی کله و أتقن الی جانب ذلک الفارسیة و الاردیة و اللاتینیة و الیونانیة و فی کتابه (الآثار الباقیة) دلائل علی ذلک کله.

غرض الموسوعیة الاکبر

و معنی ذلک ان الموسوعیة اصبحت من ایام الجاحظ هی مقیاس اهل العلم فی تأریخنا، فلا یکفی لکی یکون الرجل علما من اعلام ذلک التأریخ ان یکون متمکنا من فنه الذی تخصص فیه، بل لا بد ان یلمّ من کل شی‌ء بطرف.
و لا یتصور الانسان مقدار الجهد الذی کان اولئک الرجال یبذلونه للمحافظة علی تقلید الموسوعیة فقد کان علیهم ان یحفظوا الوفا بعد الوف من الصفحات التی یحتاج استیعابها الی الوف بعد الوف من الساعات، فعلاوة علی ما لا بد منه من القرآن الکریم و الحدیث الشریف، کان علیهم ان یدرسوا اربعة علی الاقل من کتب الادب الکبری و هی: ادب الکاتب لابن قتیبة، و الکامل للمبرد، و الاغانی لابی الفرج الاصفهانی، و العقد الفرید لابن عبد ربه، و تاریخا من تواریخ الاسلام (کالرسل و الملوک) للطبری، و السیرة لنبویة لابن اسحق، و دواوین کبار الشعراء الی ایامهم، و کتابا علی الاقل فی کل علم و فن الی جانب تخصصهم.
و هذا الذی ذکرناه کله کان جانبا من محفوظ رجال مثل و یاقوت بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 21
عبد اللّه الحموی المتوفی (626 ه 1229 م) و جمال الدین بن واصل المتوفی (697 ه 1298 م) و ابی الفداء اسماعیل بن محمود بن المظفر المتوفی (732 ه 1332 م) و شمس الدین الذهبی المتوفی (748 ه 1347 م) و اسماعیل بن عمر بن کثیر المتوفی (774 ه 1372 م)، و لسان الدین بن الخطیب المتوفی (776 ه 1374 م) و عبد الرحمن بن خلدون المتوفی (808 ه 1406 م) و تقی الدین المقریزی المتوفی (845 ه 1441 م) و شمس الدین السخاوی المتوفی (902 ه 1496 م) و غیرهم ممن یعتبرون عمد تأریخنا الفکری.
و هؤلاء الرجال لم یکونوا یتکلفون هذا الجهد لمطالب العیش، فان العیش لا یکسب بحفظ المجلدات و افناء العمر فی الدفاتر، و انما یکسب بالتجارة و عن طریق وظائف الدولة، و لا یعلل اجتهاد اولئک الرجال إلا بأنهم کانوا یشعرون انهم بعملهم هذا یحافظون علی کیان أمة و روح شعب و تقالید حضارة، و الانسان لا یبذل الجهد العظیم الا اذا کان دافعه الیه مثل أعلی و أعظم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 22

السیوطی

و نضرب لذلک مثلا بالسیوطی، و لا شک ان هذا الحافز العظیم هو الذی حرّک رجلا مثل جلال الدین السیوطی المتوفی (911 ه 1505 م) الی أن یضطلع وحده بتألیف مجموعة من الکتب یعد کل منها دائرة معارف قائمة بذاتها: واحدة فی علوم الدین، و اخری فی التأریخ، و ثالثة فی علوم اللغة و ما الی ذلک.
عاش جلال الدین عبد الرحمن السیوطی 62 سنة هجریة ألف خلالها نحو 350 کتابا بقی لنا منها 315، فلو قسمنا کتبه علی سنین حیاته من مولده الی وفاته لخص کل منها 6 کتب، و لو فرضنا انه بدأ التألیف فی سن الخامسة و العشرین لکان نصیب کل سنة 10 کتب.
و معظم کتب السیوطی کأنها مواد لدوائر المعارف مبوبة، منقبة، مختصرة قدر الامکان، فله کتاب طبقات الحافظ- أی تراجمهم- و هی مرتبة فی طبقات علی حسب العصور، و کتاب طبقات المفسرین، و کتاب طبقات النحویین و اللغویین، و له کتاب غایة فی الاختصار و الفائدة فی تأریخ الخلفاء، و اذا أردت ان تأخذ فکرة عن الطریقة المنهجیة الموسوعیة التی سار علیها فی التألیف فأنظر کتابه (المزهر فی علوم اللغة) و هو فی رأی الدارسین أوفی و اشمل ما لدینا من علوم لغتنا، و کذلک کتابه (الاتقان فی علوم القرآن) و ما اظن ان انسانا استطاع ان یکتب أحسن من هذا فی موضوع شاسع مثل علوم القرآن.
و لم یکتف السیوطی بهذا کله، بل أراد ان یکتب دائرة معارف مختصرة کهذه التی نسمیها نحن الیوم دائرة معارف (دیسک انسایکلوبیدیا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 23
فوضع کتابا سماه (الأصول المهمة فی علوم جمة) و یسمی ایضا (النقابة) و هو یضم الضروری من المعلومات عن 14 علما منها التفسیر و اصول الدین و التشریح و البدیع و البیان، و المعانی، و الطب و التصوف و الحدیث و أصول الفقه.
و إذن فالسیوطی رجل جعل نفسه جامعة کاملة و دار تألیف و نشر، و عاش عمره کله یقرأ و یدرس و یبوب و یرتب و یکتب. و قد خلف تراثا لا تقوم بمثله جماعات من الرجال.

الموسوعیة تخصص و فن

و فی مصر المملوکیة اصبحت الموسوعیة فنا و منهجا و موضوع تخصص و ظهرت فی ذلک العهد الموسوعات الکبری التی یعتز بها تاریخنا الفکری و هی (نهایة الأرب) للنویری و (مسالک الأبصار) للعمری، و (صبح الأعشی) للقلقشندی.
و هذه الموسوعات الثلاث الکبری تتشابه فی الفکرة و الهدف و ربما اختلفت فی المناهج التی قامت علیها، فأما من حیث الفکرة فهما شبیهان بما تقوم علیه أی دائرة معارف فی عصرنا هذا، و هو جمع المعلومات کلها فی کتاب واحد و ترتیبها علی احد أساسین: اساس المواد فترتب علی حروف المعجم، أو اساس الموضوعات فترتب علی النحو الذی یراه المؤلف.
و قد اختلفت المناهج التی سار علیها المؤلفون الثلاثة بعضها عن بعض، و لکن الحصیلة واحدة تقریبا، و لکل واحدة منهم میزة علی الاثنین الاخرین، فالنویری أکثر اسهابا فی التأریخ، و العمری طویل النفس فی الأدب، واسع المعلومات فی الجغرافیا و العلوم، و القلقشندی أوسع الثلاثة علما بشؤون الدولة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 24
و نظامها و تأریخ نظمها و ادارتها و اختصاص کل منها و مراتب العاملین فیها و نظم الجیوش و الاساطیل و أنواع السلاح و ملابس الضباط و الجنود و صنوف المراکب الحربیة و النقود و الموازین و المکاییل و ما الی ذلک.
و لا یتسع هنا المجال لتحلیل مواد هذه الموسوعات الکبری فذلک بحث قائم بنفسه، ثم ان اثنتین منهما، هما (نهایة الارب) و (صبح الاعشی) قد طبع معظمهما، و نرجو ان یأذن اللّه بالفراغ منهما، أما الثالثة (مسالک الابصار) فکانت اجزاؤها متفرقة فی مکاتب الدنیا حتی قیض اللّه لها شیخ العروبة أحمد زکی باشا طیب اللّه ثراه فبذل جهدا مضنیا حتی جمع أجزاءها فی دار الکتب المصریة و هی راقدة هناک باجزائها التی تربو علی الخمسین تنتظر من یکمل العمل الذی قام به ذلک العلامة الجلیل فقد نشر منها جزءا واحدا تطاول الزمن علیه و هش ورقه حتی اصبح لا یحتمل التصفح، و احمد زکی هو آخر من سار علی تقلید الموسوعیة من اهل الفکر عندنا، و لا غرابة ان سماه الناس بشیخ العروبة.
کان الثلاثة شهاب الدین احمد بن عبد الوهاب النویری المتوفی (732 ه 1332 م) و شهاب الدین احمد بن فضل اللّه یحیی العمری المتوفی (748 ه 1347 م) و شهاب الدین احمد بن علی بن احمد القلقشندی المتوفی (821 ه 1418 م) من موظفی الدولة المملوکیة، و قد ألفوا موسوعاتهم لخدمة امثالهم من الموظفین و الکتاب و لکن قارئهم یشعر ان هذا لا یمکن ان یکون دافعا کافیا للجهد الذی بذله کل منهم، فان رجلا کالنویری یکتب فی التأریخ وحده نحو ثمانیة مجلدات فی نحو 1200 صفحة من القطع الکبیرة لا یمکن ان یکون قد أضنی نفسه علی هذا النحو لمجرد ان یضع بین ایدی الموظفین کتابا یرجعون الیه، انما هو عالم متبحر جمع فأوفی، و شعر ان تراث العرب فی حاجة الی من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 25
یحفظه، و ان واجبه ان یقوم بذلک، و من هنا فأنت تشعر و انت تقرأ ای مجلد من مجلدات موسوعته بأنه عالم تخصص فی هذا العلم الذی یدور علیه المجلد وحده، و کذلک تشعر و انت تتصفح مجلدات العمری عن الجغرافیة و الادب، و القلقشندی فی نظم الدولة المملوکیة، و هم جمیعا یکتبون فی أسلوب عربی رصین جمیل لا یعرف تلاعب السجع و لا اضاعة الوقت فی محسنات البدیع، شأن العلماء الجادین الجدیرین بهذا الوصف .
و مثل هذا یقال فی أعظم معجمین فی لغتنا: (لسان العرب) لابی الفضل محمد بن مکرم علی الافریقی المصری المعروف بابن منظور المتوفی (711 ه 1311 م)، و (تاج العروس) لمحمد بن محمد بن عبد الرزاق المعروف بالمرتضی الزبیدی المتوفی (1205 ه 1790 م) فهما فی الحق دائرتا معارف اضطلع بتألیف کل منهم رجل واحد، و لکن اطلع علی مادة واحدة فی کل منهما لتشعر بمقدار الجهد الذی بذل فی وصفها، و سبحان من یسر لرجل واحد ان یضطلع وحده بما تحار فیه المجامع و اللجان.

رسائل أخوان الصفا

و لا بد فی هذا المجال من کلمة عن (رسائل اخوان الصفاء) انها دائرة معارف من طراز فرید فی بابه فی تأریخ الثقافة البشریة، الفتها جماعة من الاصدقاء، کلهم فلاسفة یدینون برأی واحد فی تفسیر الکون و حقیقته و ظواهره، و العقائد و اصولها، و ما الی هذه من مسائل الفلسفة التی شغلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 26
اذهان الناس فی العصور الوسطی.
کانوا جماعة سریة لم یفصحوا عن اسمائهم او عن حقیقة اتجاههم، و اکتفوا بأن سموا انفسهم (اخوان الصفاء و خلان الوفاء) و قد عاشوا خلال النصف الثانی من القرن الرابع الهجری، و الغالب انهم فرغوا من رسائلهم سنة 373 هجریة 983 میلادیة، و واضح من رسائلهم انهم کانوا شیعة اسماعیلیة، و ان هدفهم من تحریر هذه الرسائل هو الدعوة لمذهبهم هذا عن طریق العلم و الفلسفة.
و یبلغ عدد الرسائل احدی و خمسین کلها مکتوبة بطریقة واحدة تقوم علی التأویل و الرمز تتناول الکلام عن الموت و غایة النفس فی الحیاة الدنیا، و العقل، و النور و الظلمة، و الجوهر و العرض، و تحدید العالم، و مکان الانسان فیه، و النفس، و القوة الالهیة، و البعث و القیامة، و الحکمة، و الفلسفة و الخالق سبحانه، و العقل و ارکانه، و ما الی ذلک ما مسائل الفلسفة و الالهیات.
انها دائرة معارف فلسفیة لا تزال الی الآن مشکلة من مشاکل تأریخ الفلسفة عندنا، و لکنها علی أی حال أول دائرة معارف فلسفیة ظهرت فی التاریخ، و مهما یکن الرأی فی نظریات اصحابها فهی شی‌ء طریف فی مکتبتنا العربیة، و هی مظهر من مظاهر الموسوعیة فی ثقافتنا ».
و للدکتور مصطفی جواد ثمانیة استدراکات علی اشهر اسماء الموسوعیین و اشهر الموسوعات العربیة المتقدمة نثبتها هنا إتماما للفائدة و هی:
1- تذکرة ابن حمدون محمد بن الحسن من رجال القرن السادس للهجرة و هی أوسع موسوعة أدبیة فی أکثر من خمسین بابا من ابواب الادب، و منها أجزاء فی خزائن کتب (استانبول) کالمکتبة البایزیدیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 27
2- کتاب الفنون لعلی بن عقیل البغدادی المتوفی سنة 513 و هو فی اربعمایة مجلد و منه مجلد فی دار الکتب الوطنیة بباریس، و آخر فی المکتبة التیموریة الملحقة بدار الکتب المصریة.
3- و من کتّاب الموسوعیة الکبار الثعالبی عبد الملک مؤلف (الیتیمة) و (فقه اللغة) و عشرات الکتب الاخری فی جمیع العلوم تقریبا، و قد توفی سنة 428 هجریة.
4- و مفاتیح العلوم للخوارزمی من أهل القرن الرابع للهجرة، و هو دائرة معارف علی الاسلوب الموسوعی الکامل.
5- شرح المقامة الخطیبیة لابن الزبیر علی بن الحسن الغسانی فی العلوم حتی الموسیقی، منها نسخة بمکتبة الاوقاف ببغداد أرقامها 9606 و نسخة أخری فی مکتبة البلدیة بالاسکندریة.
6- و من کبار علماء الموسوعیة نصیر الدین الطوسی و هو مؤسس أول أکادیمیة اسلامیة فی (مراغه) و ان کانت علی عهد الملک هولاکو التتری.
7- و کتاب (شمس العلوم) لنشوان الحمیری، و هو دائرة معارف بل موسوعة علی الحقیقة.
8- و کتاب ألف باء البکوی علی ذلک الطراز ایضا.

الموسوعیة الاروبیة

اشارة

و فی الوقت الذی کانت الحرکة الفکریة فی أوج نشاطها فی الاقطار الاسلامیة و کانت الموسوعیة تطغی علی عدد کبیر من المؤلفات العربیة کانت الاقطار الاروبیة یسودها الخمول بسبب فقدان الامن و الاطمئنان علی رغم النشاط الکنسی فی علوم اللاهوت و الفلسفة و العلوم الاغریقیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 28
و فی خلال القرن الثانی عشر انصب فی اوروبا نهر عظیم من المعرفة الجدیدة مصطحبا معه ثورة فکریة مستمدة من العرب الذین کان المسیحیون یتصلون بهم فی صقلیة و اسبانیا ثم اتسعت مجاری هذا النهر مما خلفته الحروب الصلیبیة بین القرن الحادی عشر المیلادی و القرن الثالث عشر فکان لهذا الاتصال- اتصال الغرب بالشرق أثره العمیق فی بعث الحرکة الفکریة فی اوروبا.
و استقرت اوروبا بعض الشی‌ء و اصبح اقتصاد المدن الاوروبیة و الریف قادرا نوعا ما علی إعالة الناس الذین یهبون انفسهم للحیاة الفکریة و بدأ الافق الثقافی لاروبا یتفتح عن نهضة مشرقة فشهد القرنان الثانی عشر و الثالث عشر المیلادی تأسیس اول جامعة، فقد تأسست جامعة او کسفورد فی سنة 1200 میلادیة و تأسست جامعة کمبرج بعدها بقلیل، و ما کاد ینتهی القرن الثالث عشر حتی اصبح فی اوربا اللاتینیة اثنتا عشرة جامعة .
و حین تم اکتشاف امیرکا سنة 1492 زاد أفق اوربا العلمی اتساعا و کثر عدد الجامعات فی المدن الاوروبیة و کثرت التآلیف و تنوعت المواد التی تناولها العلماء و المکتشفون و الفلکیون بالبحث و الدراسة فزادت الحاجة الی الموسوعیة اکثر و اکثر، و اصبحت الاحاطة و الالمامة بالمعرفة العامة من مستلزمات العصر فضلا عن شدة الاحساس بالحاجة الی مصادر یعول علیها و یستعان بها علی فهم المواضیع و کنه الحیاة العامة فکان من نتائج ذلک ان اتجهت انظار المفکرین الی الموسوعیة فی تآلیفهم و الاهتمام بها یوما بعد یوم حتی تم تألیف (الجمعیة الملکیة فی لندن) سنة 1662 و حتی تم تألیف (أکادیمیة العلوم الفرنسیة) سنة 1666 حیث بدأ طبع الدوریات العلمیة فتیسر التبادل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 29
السریع بین الاراء فطبعت الکتب الواسعة و المقالات فی مختلف العلوم و الفنون لا فی العلوم الطبیعیة و الریاضیات فحسب بل فی فن معرفة الکتابات القدیمة و علم المسکوکات القدیمة، و علم التقاویم، و تأریخ القانون، و القانون الطبیعی اذ لم تکن اعمال العلماء یومذاک تخضع لمبدأ التخصص، فقد شعر الجمیع بوجوب مساهمتهم فی جمیع جهات العلم و المعرفة .

دائرة المعارف البریطانیة (أنسکلوبیدیا بریتانیکا)

و تعددت المعاجم و الموسوعات العلمیة و التأریخیة الأوروبیة بنسبة تقدم العالم و کثرت المراجع الواسعة فی العصور الحدیثة، و لکن اول معجم عام للفنون و العلوم المرتب علی الحروف الهجائیة لم یصدر قبل (دائرة المعارف البریطانیة) و لعل هذه الموسوعة من أشهر و اکمل الموسوعات العالمیة، و ستحتفل بعد سنوات ثلاث بمرور مائتی سنة علی طبعتها الاولی. فلقد صدرت تلک الطبعة فی کانون الأول 1768 علی شکل کراریس ثمن کل منها 6 بنسات (24) فلسا ثم استمرت علی الصدور منذ ذلک الحین فی اتساع یتناسب مع تقدم العلم، و توسع المعرفة، و انتشار الثقافة، و ازدهار الآداب و الفنون. و قد اصبحت طبعاتها فی القرن الاخیر دولیة یسهم فی کتابة مباحثها أدباء و علماء من مختلف الاقطار، کل فی موضوع اختصاصه.
و جدیر بالذکر ان الطبعة الاولی لدائرة المعارف البریطانیة صدرت فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 30
(أدنبره) و کملت فی سنة 1771 فی 3 أجزاء، أما الطبعة الاخیرة فتتألف من 24 جزءا ضخما فضلا عن الملاحق السنویة الضخمة التی تتضمن إضافات تاریخیة و علمیة و ثقافیة و احصائیة لکل عام.

دائرة المعارف الفرنسیة (الانسکلوبیدیا)

و تعتبر هذه الموسوعة من أهم المشاریع الثقافیة و لا سیما من ناحیة تحریر الأفکار و التمهید للثورة الفرنسیة. و قد عهد بالاشراف علیها الی المفکر الفرنسی دنیس دیدرو (1713- 1784). و قد قام دیدرو بتجنید نخبة من رجال الفکر و الأدب فی فرنسة لکتابة البحوث المختلفة و فی مقدمتهم فولتیر، و روسو، و دالمبرت. و فی هذه الاثناء سجن دیدرو لکتابته «رسالة فی العمیان». لکن الجزء الاول من دائرة المعارف صدر فی تموز 1751 و عقبه الجزء الثانی بعد ستة اشهر. لکن قرارا صدر فورا بحجز الجزئین لمسّهما بسلطة الملک و الدین و مع ذلک طبعت الاجزاء الأخری، ثم قررت الحکومة وقف الطبع سنة 1759 و الجزء الثامن آنذاک رهین المطبعة، و استمر طبع سائر الأجزاء بعد ذلک بین منع الحکومة و تشجیع عدد من کبار رجال الحکم انفسهم، حتی ان رئیس المحکمة التی قررت مصادرة مسودات الطبع أبلغ الناشرین سلفا بالقرار و نصحهم باخفاء المسودات لدیه (لان الشرطة لن یخطر ببالها البحث عنها هناک).
و أخیرا أنجز طبع أجزاء دائرة المعارف الکبری لکن نسخها حجزت بأمر الملک. و مضت سنوات حتی جرت مناقشة فی قصر الملک ذات مساء حول المواد التی یصنع منها البارود. و قالت (مدام دی بومبادور) صدیقة الملک انها لا تعلم کیف تصنع جواربها الحریر و لا أحمر الشفاه الذی تستعمله فی زینتها. فقال احد النبلاء الحاضرین ان من الامور المؤسفة حجز دائرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 31
المعارف التی تتضمن الاجوبة الصحیحة لکل تلک الاسئلة. فقال الملک انه ابلغ ان ذلک المؤلف مضرّ جدا، لکنه أمر یجلب الواحد و العشرین جزءا للأنسکلوبیدیا حیث وجد ضیوفه کل المعلومات التی یتوقون الی معرفتها.
و صدر الامر الملکی علی الاثر برفع الحجز و السماح بتداول دائرة المعارف الممنوعة .

الانسکلوبیدیا الامیرکیة

و فی أواخر القرن الثامن عشر صدرت نحو 23 او 27 دائرة معارف انکلیزیة امیرکیة، و من اهم و اوسع دوائر المعارف الامیرکیة المنسوبة «لا یلتون» التی صدرت فی سنة 1873- 1876 فی طبعة أنیقة مزودة بالصور، و غیر هذه الانسکلوبیدیا الامیرکیة صدر بعد ذلک و لم یزل یصدر فی امیرکا عدد غیر قلیل فی مختلف المواضیع العامة سواء ما یقتصر منها علی امیرکا وحدها او ما یشمل العالم کله فی مواضیع معینة او مواضیع عامة .
و کانت آخر دائرة معارف امیرکیة عامة حدیثة هی التی صدرت فی هذه السنة.

الانسکلوبیدیا الالمانیة

و تعتبر الأنسکلوبیدیا الألمانیة من أسهل دوائر المعارف و اکثرها تنسیقا و تیسیرا للمطالعة و هی المسماة (ارش و غرویر) و قد أنیط اخراجها و تکملتها ب (و ختر) و بنفقة (بروکهس) و صدرت فی 6 مجلدات بین سنة 1796 و 1810 و طبعت فی (لیبزیک) و (آمستردام) ثم طبعت بعد ذلک عدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 32
طبعات و ترجمت الی عدة لغات اوروبیة، و یرجحها الکثیر من حیث اسلوبها و سهولة مراجعتها علی الکثیر من دوائر المعارف الاخری، و أول مؤلف لهذه الأنسکلوبیدیا هو (لویل) و قد أتمسّها (بروکهوس) و انتهت طبعتها الاخیرة فی 15 مجلدا مطبوعا ب (لیبزیک) سنة 1864- 1868 و قد ألحقت بها مستدرکات و تمّات فی سنة 1872- 1873 و لا تزال الیوم و هی من اهم دوائر المعارف العالمیة .

الانسکلوبیدیا الایطالیة

و اشهر دائرة معارف ایطالیة عامة هی دائرة المعارف المسماة (بیفاتی) و یذهب البعض الی انها اقدم دوائر المعارف الاوروبیة، ثم دائرة المعارف الایطالیة التی بدأ طبعها سنة 1884.

الانسکلوبیدیا الیابانیة و الصینیة

و یقول المؤرخون ان الصین قد سبقت اوروبا فی تألیف الموسوعات فللیابانیین و الصینیین عدد من دوائر المعارف و لکن أهم هذه الدوائر هی الانسکلوبیدیا المعروفة ب (ینغ لوتاتین) و هی من أوسع دوائر المعارف احاطة، و قد اسهم فی تألیفها 2200 کاتب، و الی سنة 1407 کان مجموع مجلداتها 892 مجلدا و فی القرن السابع کانت هنالک عدة موسوعات قد صدرت باللغة الصینیة أما الانسکلوبیدیا الصینیة المعروفة ب (سان تسان تو فهی) فتقع فی 130 مجلدا، و قد قسمت العالم و قوی الکائنات الی ثلاثة اقسام، هی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 33
السماء، و الأرض، و الانسان، و بحثت کل موضوع منها بحثا موسوعیا شاملا.
و فی اوائل القرن التاسع عشر ترجمت هذه الموسوعة الی اللغة الیابانیة .
و لم یدخل القرن التاسع عشر و القرن العشرون حتی تکاثر عدد المعاجم و الموسوعات العالمیة و تنوعت اغراضها فی العلوم العامة، و التأریخ العام، و التراجم و الفنون و الآداب و الاصطلاحات العلمیة و قد سدت هذه الموسوعات الی جانب الموسوعة البریطانیة و الفرنسیة کل الفراغ فی حاجة الدنیا العامة و لا سیما الموسوعات الامیرکیة و لا یزال المتتبعون و المؤلفون الموسوعیون یستدرکون بین آن و آخر کل ما کان قد فاتهم او کل حدث جدید فی دنیا العلم و الفن و الأدب فیضیفونه الی تلک المعاجم.

فتور الموسوعیة العربیة

و فی الوقت الذی بزغ فجر النهضة الاروبیة بسبب زوال العوارض و بسبب الاکتشافات العلمیة و التأریخیة و ما کان لتماس الشعوب الاوروبیة بالشعوب العربیة و الحضارة الاسلامیة من اثر، اصاب الاقطار الاسلامیة شی‌ء من الفتور نتیجة اکتساح المغول للبلدان الاسلامیة مما ادی الی انقسام الشعوب و تضعضع ارکان الاستقرار و اختلال احوال الامم الاسلامیة اکثر مما کان مألوفا فعرا البلدان العربیة الاسلامیة ما کان قد عرا الاقطار الاوروبیة قبل بزوغ شمس الحضارة و قبل القرن العاشر المیلادی لا سیما ایام الحکم العثمانی و بعد القرن الخامس عشر المیلادی، فعلی رغم فتور حرکة الموسوعیة فی التألیف فقد کان یعوز تلک الموسوعات الصادرة بعد هذا التأریخ المعرفة العامة و الاحاطة التامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 34
بشؤون الدنیا و تقدم العلم و ما اصابت اوروبا منه من نصیب.

الموسوعیة العربیة الحدیثة

و کما کان للحروب الصلیبیة فضل انتقال الافکار العلمیة من الشرق الی الغرب فقد کان لحملة بونابرت علی مصر الفضل الاول فی انتقال الافکار الاوربیة الحدیثة الی الشرق و زاد تبشیر المبشرین بالدین و الرحالة الذین کانوا یطوفون بالبلدان الشرقیة هذه الصلة، ثم زادت الجامعة الامیرکیة ببیروت من توسیع آفاق المعرفة و نشر العلم ، ثم الاکثار من فتح المدارس الجدیدة و القیام بترجمة الکتب الفرنسیة و انتشار الصحف السیارة حتی وجد القاری‌ء العربی و الکاتب و الدارس و الباحث نفسه بحاجة ماسة الی موسوعة تأخذ بیده و تساعده علی فهم الکلیات العامة فی حیاة العلم و الثقافة و المعرفة، و من هنا، من هذا الاحساس بالحاجة الماسة تیقظت فکرة الموسوعیة فی الاذهان من جدید، و فی هذه المرة کان التفکیر فی سد الحاجة من الثقافة العامة بأی وجه من وجوهها العلمیة او التأریخیة او الفنیة، و حتی اللغویة من اشق الامور و اصعبها، علی رغم توفر کل الوسائل المطلوبة من الکتب بمختلف اصنافها و اغراضها و سهولة السفر و الانتقال و مقابلة الرجال التی لم تکن متیسرة فی القرون الاولی المؤلفی الموسوعات، ذلک لان میدان العلم و التأریخ و الفن و الاکتشاف قد اصبح من السعة بحیث یصعب کل الصعوبة علی فرد واحد او افراد قلیلین دخوله و الاحاطة بطرف من اطرافه فکیف اذا اراد الاحاطة بجمیع اطرافه و حدوده و مع ذلک فقد کان بطرس البستانی المتوفی سنة (1300 ه 1883 م) اول من فکر باصدار دائرة معارف حدیثة شاملة و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 35
شرع بها فعلا و انجز منها ستة اجزاء و بدأ بالسابع و توفی فاکمله ابنه سلیم و اردفه بالثامن و تعاون ابناء له آخرون مع ابن عمهم سلیمان خطار البستانی المتوفی سنة (1343 ه 1925 م) فاصدروا الجزء التاسع و العاشر، و الحادی عشر، و شرعوا فی الثانی عشر و توقف العمل اما طبع الجزء الاول من دائرة معارف البستانی فقد تم فی سنة 1876 م ای قبل وفاة المعلم بطرس بسبع سنین.
و تصدی فی السنوات العشر الاخیرة فواد افرام البستانی رئیس الجامعة اللبنانیة الی اعادة النظر فی دائرة معارف البستانی و الشروع بتکملة اجزائها علی نفقة امیل البستانی و قد صدر منها لحد الآن خمسة مجلدات، و یوشک ان یصدر المجلد السادس قریبا
و صدرت بعد ذلک کتب کثیرة فیها شی‌ء من صفة الموسوعیة کما صدر عدد من معاجم اللغة و لکن معجما عاما و دائرة معارف شاملة لم تصدر بعد دائرة معارف البستانی غیر دائرة معارف محمد فرید وجدی المتوفی سنة (1373 ه 1954 م) و قد صدرت فی عشرة اجزاء کاملة باسم (دائرة معارف القرن الرابع عشر- العشرین) و تم طبع الجزء الاول منها سنة 1923، ثم (دائرة المعارف الاسلامیة) التی نقلها الی العربیة محمد ثابت الفندی و احمد الشنتناوی و ابراهیم زکی خورشید، و عبد الحمید یونس، و قد طبع منها احد عشر مجلدا بمصر بین سنة 1933- 1957.

موسوعات عربیة اخری

و کلما خطا العالم العربی فی میدان الحضارة الحدیثة خطوة أحس بالحاجة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 36
الماسة الی سد النقص الهائل فی عالم التألیف ففی الخزانة العربیة فراغ و فی انفس قرائها حاجة، و للعصر اقتضاء یعوز الخرانة العربیة کتاب یضم شتات ما فیها من علم و معرفة من القدیم و الحدیث، و یقتضی العصر الذی نعیش فیه ان تکون لنا کتب یجتزی بها المعجل منا عن مطولات السیر و ضخام اسفارها کما یقول الزرکلی فی مقدمة الاعلام.
و لکن النهوض بهذا الحمل لیس شاقا من حیث تضافر العلماء و الادباء و البحث و التتبع و الاستقصاء فقط و انما النهوض به من حیث التمویل و الانفاق قد لا یقل صعوبة ان لم یکن اکثر صعوبة من التألیف و جمع المواد، و مع ذلک فقد بذلت جهود فردیة نجح بعضها نجاحا منقطع النظیر، و جانب بعضها التوفیق کله او بعضه لما لحق به من نقص فی الشمول و الاحاطة او التحقیق العلمی و التثبت من صحة الوقائع، و مع ذلک فلم تخرج تلک الجهود و ان کانت مختصرة و محدودة و ضیقة عن حدود المحاولات المفیدة فی عالم الموسوعیة.
و کثیر اولئک الذین تناولوا التراجم و المواضیع بمختلف اغراضها باسم (الاعلام) او اسم (المعاجم) او الاسماء الاخری الدالة علی الموسوعیة، و لکن الغالب فی تلک الموسوعات کان فی منتهی الایجاز و الاختصار و قلة عدد المترجم لهم او قلة المواضیع التی تحدثوا عنها. و قد کان للمؤلفین العراقیین نصیب مذکور فی هذه الموسوعات، و اذا استثنینا معاجم اللغة فمن اهم (الاعلام) و (المعاجم) التی صدرت فی الثلث الاول من هذا القرن هی:
(اعلام العراق) لمحمد بهجة الاثری المطبوع سنة 1345 هجریة، و (اعلام العرب فی السیاسة و الادب) لفائز سلامة المطبوع سنة 1935 م، و (الاعلام الشرقیة فی المائة الرابعة عشرة الهجریة) لزکی محمد مجاهد طبعت بین سنة 1368- 1374 هجریة. و (اعلام النساء) لعمر رضا کحالة و هو فی ثلاثة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 37
مجلدات طبعت فی 1359 هجریة. و (اعلام المقتطف) و (اعلام من الشرق و الغرب) و (اعلام الادب و الفن) و غیرها.
و من اشهر المعاجم الحدیثة (معجم المطبوعات العربیة و المعربة) لیوسف الیان سرکیس فی احد عشر جزءا بمجلدین طبع سنة 1928، و معجم (ادباء الاطباء) لمحمد الخلیلی فی ثلاثة اجزاء طبع الجزء الاول سنة 1949 و الجزء الثالث هو تحت الطبع الیوم، و (معجم قبائل العرب القدیمة و الحدیثة) لعمر رضا کحالة طبع سنة 1949، و (معجم الانساب و الاسر الحاکمة فی التأریخ الاسلامی) للمستشرق زامباور و قد اخرجه جماعة برئاسة زکی محمد حسن طبع فی سنة 1951، و (المعجم) و هو موسوعة لغویة علمیة فنیة لعبد اللّه العلایلی طبع المجلد الاول سنة 1954 و (معجم العراق) لعبد الرزاق الهلالی صدر منه جزءآن ینتهی الجزء الثانی بحرف الصاد و قد طبع الجزء الأول سنة 1953 و غیرها.
أما الکتب التی اتصفت بالموسوعیة و اطلقت علیها اسماء عامة مختلفة فهی کثیرة و من أشهرها:
(المسک الاذفر فی تراجم علماء القرن الثالث عشر) و (بلوغ الأرب فی أحوال العرب) و الکتابان لمحمود شکری الألوسی المتوفی سنة (1332 ه 1914 م) و یقع بلوغ الأرب فی ثلاثة أجزاء طبع الجزء الاول منه سنة: 192، و (الروائع) و هی سلسلة صدر منها ما یقرب الستین جزءا لحد الآن ألّفها فؤاد أفرام البستانی رئیس الجامعة اللبنانیة، و قد طبع الجزء الأول منها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 38
سنة 1932 مبتدئا بعلی ابن ابی طالب، و تعتبر (الروائع) أروع خلاصة لتاریخ الأدب العربی و کنوزه القدیمة و الحدیثة، (و مناهل الادب العربی) سلسلة أصدرتها مکتبة صادر ببیروت علی غرار (الروائع) و (تاریخ العراق بین احتلالین) و هو فی ثمانیة مجلدات لعباس العزاوی المحامی و قد طبع المجلد الاول سنة 1935 و (عشائر العراق) للعزاوی نفسه و هو فی أربعة مجلدات، طبع المجلد الاول منها سنة 1937 و (الکنی و الألقاب) للشیخ عباس القمی فی ثلاثة أجزاء و قد تم طبعها سنة 1939 بمطبعة العرفان و (الغدیر فی الکتاب و السنة و الأدب) للشیخ عبد الحسین الأمینی صدر منه أحد عشر مجلدا و قد طبع المجلد الاول فی سنة (1364 ه- 1945 م) و (أدب المقالة الصحفیة) للدکتور عبد اللطیف حمزة و قد صدرت منه ثمانیة مجلدات لحد الآن و قد تم طبع المجلد الأول سنة 1950.
و (البابلیات) للشیخ محمد علی الیعقوبی و هی ثلاثة مجلدات و قد طبع المجلد الأول سنة (1370 ه 1951 م) و (نفائس المخطوطات) لجامعها و محققها الشیخ محمد حسن آل یاسین صدر الجزء الاول منها سنة 1731 ه 1951 م، و عدد آخر مما اتصف بالموسوعیة (کمعارف الرجال فی تراجم العلماء و الادباء) للشیخ محمد حرز الدین و قد صدرت منه ثلاثة اجزاء، و (کشعراء الغری) و (شعراء الحلة) لعلی الخاقانی و طائفة أخری من الکتب ذات الصبغة الموسوعیة التی اکتفینا بایراد الأمثلة علیها نظرا لصعوبة التوسع فیها.

الموسوعة الکاملة

أما الکتب الحدیثة التی صدرت فی النصف الأول من القرن الاخیر و اتصفت بالموسوعیة اتصافا کاملا و التی قاربت اکثر من غیرها حدود الموسوعیة الکاملة فهی کثیرة منها (المنجد فی اللغة و الادب و العلوم) تألیف الأب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 39
لویس معلوف الیسوعی و قد صدرت الطبعة الاولی منه سنة 1908 مقتصرة علی اللغة ثم خرج اخیرا بمساعی الأب فردینان توتل کموسوعة جامعة للغة و الأدب و العلوم.
و (الأعلام) لخیر الدین الزرکلی الذی قضی فی جمع موسوعته و تألیفها أربعین سنة متواصلة بدأها منذ سنة (1330 ه 1912 م) و طبع الأجزاء الثلاثة الأولی لأول مرة سنة 1927 ثم نقحها و زاد علیها و طبعها فی عشرة أجزاء و هی الیوم من أهم بل أهم المصادر لتراجم الرجال المتقدمین و المتأخرین علی الاطلاق و ینتظر ان یصدر الجزء الحادی عشر من (الأعلام) فی المستقبل القریب.
و کتاب (تنقیح المقال فی أحوال الرجال) للشیخ عبد اللّه الماقمقانی المتوفی سنة (1351) ه و هو فی ثلاثة أجزاء و یحتوی علی 365، 13 ترجمة لرجال الأخبار و رواة الحدیث و أرباب السند و یعتبر (تنقیح المقال) من أوسع علوم الرجال و تراجمهم احاطة و بحثا، و قد تم تألیف الجزء الاول سنة (1348 ه 1930 م).
و کتاب (تأریخ الوزارات العراقیة) للسید عبد الرزاق الحسنی و قد صدر منه عشرة مجلدات و تم طبع الجزء الاول سنة 1934 و هو فی موضوعه موسوعة تامة کاملة.
و کتاب (اعیان الشیعة) للسید محسن الامین العاملی المتوفی سنة (1371 ه 1952 م) و هو فی 52 مجلدا یحتوی علی ما یقرب من 000، 12 ترجمة للعلماء و الادباء من رجال الشیعة و یعتبر اکبر موسوعة صدرت فی تأریخ الموسوعة العربیة فی موضوعها و قد تم طبع الجزء الاول منها فی سنة 1935 و بوشر الیوم باعادة طبع هذه الموسوعة و اضافة طائفة من التراجم المستدرکة علیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 40
و کتاب (الذریعة الی تصانیف الشیعة) و هی موسوعة کاملة فی بابها لمؤلفها الشیخ آغا بزرگ و قد طبع منها سبعة عشر مجلدا و تم طبع المجلد الاول سنة (1355 ه 1946 م).
و کتاب (تاریخ العرب قبل الاسلام) للدکتور جواد علی و هو فی عشرة اجزاء و قد طبع المجلد الاول منه سنة 1950 م و هو الآخر اوسع مجموعة صدرت عن العرب و تأریخهم قبل الاسلام. و غیر ذلک مما اکتفینا بضرب المثل عنه.
و علی کثرة المواضیع و النواحی التی تفتقر الثقافة العربیة الی وجود موسوعة ضافیة لها فان حرکة الموسوعیة الجماعیة منها و الفردیة لا تزال ضیقة و قلیلة بل و اقل من القلیل اذا أجاز هذا التعبیر.

موسوعة العتبات المقدسة

و العتبات المقدسة جمع، مفردها العتبة محرکة، و العتبة لغة: هی اسکفة الباب، و الاسکفّة: هی خشبة الباب التی یوطأ علیها کما تعرفها کتب اللغة و قد تشمل العتبة خشبة الباب العلیا و السفلی، من محل موطء القدم ثم ما لبث العرف ان منح هذه العتبة من ابواب قصور الملوک و مداخل بیوتهم شیئا من الاحترام ازدادت اهمیته بمرور الزمان و لم یزل للآن البعض من قبائل العراق حین یرید ان یلوذ لاجئا بزعیم او کبیر من رجال القوم یعمد الی باب مضیفه او داره فیشد نفسه الیه و یقبل عتبته.
و یذهب التاریخ الی ان تقبیل العتبة قد جری لاول مرة علی (باب النوبی) ببغداد و باب النوبی هذا من ابواب دار الخلافة العباسیة منذ سنة 447 ه- 1055 م فقد جاء فی اخبار الخلیفة القائم بامر اللّه العباسی: «و فی ایامه انقرضت دولة الدیلم ببغداد بعد طول مدتها و قامت دولة السلجوقیین، و کان آخرهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 41
الملک الرحیم من ولد عضد الدولة دخل علیه بغداد طغرلبک السلجوقی، و هو اول السلجوقیة فقبض علیه و قیده، فقال له الملک الرحیم:
ارحمنی ایها السلطان.
فقال له- لا یرحمک من نازعته فی اسمه المختص به- مشیرا للّه تعالی
فبلغ ذلک القائم فقال: قد کنت نهیته عن هذا الاسم فابی الالجاجا اورده عاقبة سوء اختیاره، و خلصه من بین یدی طغرلبک الی ان وصل عتبة (باب النوبی) فقبلها شکرا للّه و صارت سنة بعده» .
و قال یاقوت الحموی فی تعریف (الحریم) و ابوابه من دار الخلافة العباسیة «ثم باب البدریة ثم (باب النوبی) و عنده باب العتبة التی تقبلها الرسل و الملوک اذا قدموا بغداد» و قال یاقوت فی کتابه المشترک «ثم باب البدریة، ثم باب النوبة و فیه العتبة التی تقبلها الرسل و الملوک و غیرهم اذا قدموا بغداد و هی قطعة من رخام ابیض مطروحة امام هذا الباب طولا» .
و لما کانت أضرحة الائمة مقدسة و هم أنوار اللّه، و رسل الخیر، و صفوة الخلق طهارة، و عفة، و علما، و تقی، کانت أبوابهم و عتباتهم أحق بمثل هذه المراسیم التی اعتبرت فیما بعد کطقوس مقدسة فأقبل علیها الموالون و العارفون بقدسیتها علی ما نعتقد و أولوها عنایة أکبر و قدسیة انبعثت من أعماق نفوسهم و ایمانهم ثم توسّعوا فی عرفهم فسمّوا الاضرحة کلها باسم العتبات و اصبح اسم العتبة اکثر شمولا و أعم بمقتضی ما جری علیه الاصطلاح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 42
و العرف.
و العتبات المقدسة من المواضیع الخطیرة و النواحی ذات العلاقة بالاسلام و المسلمین، و العرب و العروبة، و الثقافة العامة التی کان یجب ان یعنی بها العلماء، و الادباء، عنایة کبیرة فیخصوها بموسوعة شاملة و ذلک لما لکل عتبة من هذه العتبات من الاثر الکبیر فی تأریخ الاسلام و العرب، و الفن، و العلوم، و الادب، فهی منذ صدر الاسلام و منذ ان اصبحت (عتبة) فی عرف المسلمین و اصطلاحهم لم تزل مصدرا من مصادر التأریخ الاسلامی و العربی الواسع اذ بفضلها و فضل مدارستها توسعت دائرة الفقه الاسلامی، و بفضلها کثرت الشروح و التفاسیر للقرآن الکریم، و النصوص الدینیة، و ترکزت الفلسفة اکثر و اکثر فی صلب الأسس القویمة حتی صار للعقل شأن کبیر فی استنباط الأحکام و فهم المغازی من قواعد الشریعة الاسلامیة و مرامیها.
و بفضل هذه المدارسات و المباحثات و التتبع- الذی کان للعتبات المقدسة منه النصیب الأکبر فی تأریخ الاسلام و العرب و احیاء العلوم و المعارف طوال هذه القرون- حفظ الأدب العربی فی العصور المظلمة الراکدة روعته، وجدته، و أصول لغته، و حفظ التأریخ العربی و الثقافة الاسلامیة العربیة کنوزه من المخطوطات، و الکتب التی احتفظت بها مدارس العتبات المقدسة و حرصت علیها فی خزائنها خوفا مما قد یصیبها مثلما أصاب الکتب الاسلامیة و العربیة فی غزوة المغول و فی الثورات و الغزوات التی کانت تجتاح البلدان الاسلامیة و البلدان العربیة فی العصور المظلمة، فضلا عما کان ینصب فی هذه العتبات من عصارة لمختلف الثمرات و الثقافات التی یحملها المسلمون من جمیع اقطار الارض و هم یحجون مکة المکرمة، و یطوفون بالمدینة المنورة، و یزورون النجف الاشرف، و کربلاء، و سائر العتبات، بل و یقیم الکثیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 43
منهم فی هذه العتبات دارسا، و باحثا، او مجاورا لیقضی بقیة عمره هناک.
و یقول علی الشرقی عن احدی هذه العتبات و هی النجف .
«و لأجل التلمذة علی منبر النجف هاجر و لا یزال یهاجر الجمع الغفیر من سائر الأقطار الشیعیة بالادب، و مواعین الادب، أجل لقد هاجروا باذواقهم، و میولهم، و عقولهم، و اسلوبهم الفکری، فأوجدوا فی النجف حرکة فکریة تمتاز عن الحرکة الفکریة فی امهات المدن العراقیة مثل البصرة، و الموصل، و بغداد، و هذه الفکرة نفعت النجف و انعشتها بأمور عدة: أدبیة، و اجتماعیة، و أوجدت لها مکانة عالمیة مرموقة، فالحرکة الفکریة القدیمة، و النهضة الحدیثة بما فیها من جهاد علمی، و عناد سیاسی، و تجدید أدبی و اتجاه اصلاحی، کلها کانت بنافخ من تلک الهجرة، فلقد کان لذلک الاحتکاک أثر أدبی فی الحرکة الذهنیة و قد أعان علی نشاط الحرکة الفکریة فی صفوف النجفیین ما کان للشیعة من مصادر ثریة للمعرفة، تزودهم بزاد للفضیلة من أدب النفس، و أدب اللسان، و صقال الذهن، و لطف الذوق، و الغور فی التفکیر و التحلیق فی التصور».
و من کل تلک العوامل من الهجرة الی مواصلة المدارسة و البحث و التحقیق، أخذت کل عتبة من العتبات المقدسة نصیبا ان اختلفت ألوانه و أغراضه فی کل (عتبة) فلم تختلف فی کثیر من جواهره التی دلّت علیها التآلیف و الدواوین، و التراجم، و البناء، و الریازة، و الخط، و فن النقش، بالاضافة الی ما انبعث من العتبات من قواعد للفلسفة الروحیة، و العلوم الاخلاقیة، و ما اختص بها من مکارم الاخلاق، و الحث علی الکمال فیما أثر عنها من أدعیة غایة فی الروعة و السحر، و أدب فی غایة السمو و الرفعة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 44
و ان هذه الکنوز التی احتواها تاریخ العتبات المقدسة من علم، و فن، و ادب، لم تکن جدیرة باتخاذها اساسا لموسوعة کبیرة فحسب، و انما کانت فی منتهی الضرورة للعالم الاسلامی و العالم العربی خاصة و للعلم المشاع، و الادب العام، و الفن الواسع عموما، و یبدو لی ان عدة محاولات قد بذلت فی هذا السبیل بمناهج مختلفة علی طریقة المعاجم، او التأریخ الواسع فیما مر من التأریخ القدیم و التأریخ الحدیث فطبع البعض من تلک الموسوعات و بقی البعض مخطوطا و لکن التوفیق کثیرا ما جانب تلک المحاولات سواء من حیث کثرة الاغلاط و عدم الدقة او من حیث ضیق المجال و الاختصار، هذا مضافا الی ن جل من کتب عن العتبات المقدسة و عن الشیعة و التشیع و معتقداتهم و تواریخهم و فنونهم و آدابهم کانت کتاباتهم محفوفة بالعواطف اما حبا للشیعة لانهم شیعة منهم، و اما کرها لهم لانهم لیسوا منهم، لذلک تبعثرت المصادر الصحیحة و تشوهت الحقیقة هنا و هناک، و صار استخلاص الواقع لتأریخ الشیعة العام و تأریخ العتبات المقدسة، لا یخلو من الصعوبة و العسر.
یقول الدکتور طه حسین فی کتابه (علی و بنوه) ص 89: «و خصوم الشیعة واقفون لهم بالمرصاد یحصون علیهم کل ما یقولون و یفعلون، و یضیفون الیهم اکثر مما قالوا و فعلوا. و یحملون علیهم الاعاجیب من الاقوال و الافعال ثم یتقدم الزمان و تکثر المقالات و یذهب اصحاب المقالات فی الجدال کل مذهب فیزیدون الامر تعقیدا و اشکالا».
کل هذا هو الذی حمل جمعا من افاضل رجالات العلم عندنا علی ان یولوا هذا المشروع اهتماما و ان یعنوا به عنایة خاصة، و لقد قیل من قبل ان لیس هنالک من امر عظیم الا و کان مبعثه فکرة صغیرة لا تلبث ان تنشط کما تنشط النبتة حین تشق الارض و تواجه نور الشمس، و کان مشروع (موسوعة العتبات المقدسة) مجرد فکرة انبعثت من ذهن احد رواد (دار التعارف)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 45
الذین اعتادوا ان یسمروا فی مساء کل احد بدار التعارف ببغداد و جلهم من رجال العلم و استاذة الجامعة، و اهل الادب، و ما کادت الفکرة تنطلق من الذهن عن طریق اللسان حتی تداولها الحاضرون و قلّبوها علی جمیع وجوهها فاذا بها بین عشیة و ضحاها تخرج الی حیز العمل باسم (موسوعة العتبات المقدسة).
و حصرت المواضیع، و قسمت الی اجزاء، و تناول کل عضو ما یلائم اختصاصه منها علی ان یستعین برهط آخر من ارباب الخبرة و الاختصاص اذا اقتضی ما یستوجب ذلک، فکثر عدد اعضاء المتصدین للتألیف و کثر عدد من یعاونهم، و جری تقسیم الموسوعة الی اقسام، خصت کل عتبة بقسم من البحوث فالقسم الذی یخص (المدینة المنوّرة) مثلا سیستقل باجزائه عن ای قسم آخر لایة عتبة اخری، و قد یصدر جزء او اجزاء من القسم الخاص (بسامراء) مثلا فی الوقت الذی یصدر جزء واحد او اکثر من القسم الخاص بالمدینة المنورة، او کربلاء، او النجف، او مکة. فقد جعلنا (الاقسام) غیر خاضعة لترتیب اجزاء الموسوعة العامة، فکل قسم من هذه الاقسام سیکون موسوعة مستقلة قائمة بنفسها ضمن الموسوعة الکبری، و ستکون (موسوعة العتبات المقدسة) بناء علی هذا عبارة عن مجموعة من الموسوعات.
و تشرفت انا بالقیام بتألیفها و تقسیم مواضیعها، و ربط بعضها ببعض و التعلیق علیها بالحرفین (ج. خ) و اسهمت فی التألیف مع المؤلفین علی قدر الامکان، و سیکون هذا الجزء بمثابة مقدمة الموسوعة العامة جهدنا ان نجعلها تحیط بما ینبغی الاحاطة به عن العتبات بصورة مجملة علی ان یأتی تفصیل هذا المجمل فی اقسامه الخاصة به، و فی اجزائه المتتابعة، و ننتظر ان یکون هذا الجزء او هذا المدخل بمثابة الفهرست المجمل لکل الموسوعة مما لا غنی عن ضمه للقسم الخاص باحدی العتبات او للمجموعة العامة من اقسام جمیع العتبات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 46
فهو المقدمة الاولی لموسوعة العتبات المقدسة جمعاء.
أما الی ای مدی سیحالفنا التوفیق، و کم هی (الاقسام) التی نستطیع ان نخرجها و کم هی أجزاء کل قسم مما نستطیع أن نجمعه و ندفع به الی المطبعة فان علم ذلک عند اللّه تعالی، و حسبنا أننا أقدمنا علی مشروع خطیر، مهیب، لیس من الهین النهوض به من حیث البحث و التألیف و الانفاق، و ان (دار التعارف) لتحس بثقل هذه المسؤولیة، و تتهیب المشروع، و لیس لها ما یبعث فیها الامل و یدفعها الی تحمّل المسؤولیة غیر الایمان بأن المرأ کثیر بأعوانه، و ان أی عجز و أی إخفاق یعترضها فی هذا السبیل، لا یمکن ان یفسر بغیر الفوز و النجاح الذی کان أقله أنها قد وضعت- او حاولت أن تضع لبنة فی بناء هذا الصرح، و الاعمال بالنبات کما یقولون، و من اللّه التوفیق.
دار التعارف- بغداد جعفر الخلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 47

لمحة تاریخیة مجملة عن مدن العتبات المقدسة کتبها الدکتور حسین أمین

اشارة

من أساتذة جامعة بغداد الحائز علی درجة دکتوراه الشرف الأولی من جامعة الاسکندریة، و السکرتیر لقسم التأریخ فی کلیة التربیة- و المقرر بدائرة التأریخ و الآثار بجامعة بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 49

مکة المکرمة

اشارة

تعتبر مدینة مکة من أقدم المدن فی الجزیرة العربیة و قد ورد ذکرها فی المصادر الیونانیة و الآثار الیمانیة و کثیرا ما یشار الیها باسم (مکرابا) و معناه بیت اللّه الحرام، و أقدم ذکر لهذه المدینة المقدسة ورد فی القرآن الکریم، فی قوله تعالی «إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ، فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ کانَ آمِناً ».

موقعها:

و تقع مکة فی تهامة و هی بلدة کبیرة و مستطیلة و لیس حولها أرض زراعیة، فهی فی واد غیر ذی زرع، و تبعد أربعین میلا عن الساحل، 300 میل عن المدینة و نحو 20 میلا عن الطائف، و وادیها یمتد من الشمال الی الجنوب، و هذا الوادی یتسع قلیلا فی نهایته، فیبلغ عرضه نحو کیلومتر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 50
و طول هذا الجزء المتسع نحو کیلومترین، و تقع فی هذه الفسحة منه مکة المکرمة، و فی جنوبها یضیق الوادی مرة أخری، و یتفرع منه واد آخر یتجه نحو الشمال الغربی و بذلک تصبح لمکة ثلاثة مخارج، مخرج شمالی الی عرفة و منها الی الطائف و نجد و یسمی شعب معبده، و جنوبی، و یسمی المسفلة و هو یفضی الی طریق الیمن، و فی الجنوبی الغربی حرّة الباب، الی طریق جدة و المدینة و تحیط الجبال العالیة بوادی مکة، ففی الشمال جبل قضا، و فی الغرب جبل لآلی‌ء و جیفان، و القنا، و بینها شارع المدینة الکبیر، و فی وسط الوادی ترتفع الارض، و هذه المرتفعات فی الوسط دون الجبال المحیطة بالوادی، و من مرتفعات الوسط جبل جیاد و کانت علیه قلعة، و جبل أبی قبیس المطل علی الحرم و کان علیه مسجد بلال، و یقابل جبل أبی قبیس جبل هندی و علیه قلعة، و الحرم الشریف فی السهل بین أبی قبیس و هندی، و وادی مکة لا ماء فیه إلا ماء زمزم و بالرغم من أن مکة فی مکان جدب فقد انتعشت بسبب وقوعها فی طریق القوافل التجاریة و قربها من میناء جدة و یبدو ان سکانها انصرف معظمهم الی الاستفادة من ذلک الموقع و اتخذوا من التجارة حرفة أعادت علیهم الأرباح الکثیرة و قد نجحت قریش نجاحا کبیرا فی توجیه نشاط المدینة توجیها تجاریا، و بذلک تکونت فی مکة قبیل ظهور محمد (ص) جمهوریة تجاریة تشبهها الجمهوریات التجاریة التی ظهرت فی القرون الوسطی فی ایطالیا کالبندقیة و جنوا و بیزا و غیرها من جمهوریات المدن التجاریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 52

القبائل التی سکنت مکة

و سکنت مکة قبائل عدیدة من أشهرها العمالیق، و جرهم، و کنانة و خزاعة، و دخلتها قریش و أول من عرف من رجالها المشهورین قصی بن کلاب بن مرّة و الذی تمکن بما أوتی من القوة و الکفایة من الاستحواذ علی مفاتیح البیت الحرام و انتزاعها من بنی خزاعة و کان ذلک بعد سنة 400 م و قد اشتهرت قریش بالتجارة، و قد ورد فی القرآن الکریم ان لقریش رحلتین «لِإِیلافِ قُرَیْشٍ إِیلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّیْفِ» و کانت رحلة الشتاء الی الیمن و بلاد الحبشة، و الثانیة کانت الی الشام، و کانت قوافلهم التجاریة اشبه بالحملات تکون بالاف الابل و اتخذت قریش حرسا خاصا لحمایة قوافلها، و قد اصطلح علی ذلک النفر اسم الاحابیش ، و قد اشتهرت فی مکة عوائل احترفت التجارة و کسبت منها ارباحا طائلة مثل بنی أمیة و بنی مخزوم و بنی نوفل و بنی هاشم .
و کانت قریش تتألف من عدة قبائل و تنقسم الی مجموعتین کبیرتین:
قریش الظواهر، قریش البطاح، فاما قریش الظواهر فهم الدین اقاموا فی ظاهر مکة، و منهم بنو بغیض و بنو الادوم و بنو محارب و کانت هذه القبائل کثیرة الغارات و الغزوات، اما الذین سکنوا حول البیت فی داخل مکة، فقد عرفوا بقریش البطاح و کان لرجالها الادارة و التجارة و الثروة و هم بنو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 53
عبد مناف، و بنو عبد الدار، و بنو عبد قصی، و بنو زهرة، و بنو تیم، و بنو مخزوم، و بنو جمح، و بنو عدی.

اهمیة مکة

و لمکة قدسیة عظیمة فی نفوس المسلمین، لوجود الکعبة الشریفة فیها، و الکعبة ای البیت الحرام الذی کان محجا للعرب قبل الاسلام و صارت کذلک لجمیع المسلمین بعد البعثة المحمدیة، و سمیت الکعبة بهذا الاسم لشکلها المکعب، و کان فی الکعبة قبل الاسلام معظم اصنام القبائل العربیة، و جاء فی الاخبار التاریخیة ان الرسول (ص) عند دخوله الکعبة یوم الفتح رأی فیها ستین و ثلاثمائة صنم، فامر فکسرت و لعل من اشهر اصنام الکعبة، (العزی) و کانت قریش تتعبد للعزی و تزورها و تهدی الیها و تتقرب الیها بالذبائح ، و من مشاهیر اصنام مکة اللات و مناة و هبل و یذکر المؤرخون ان هبل هو اول صنم اقیم فی جوف الکعبة، و انه من عقیق احمر علی صورة انسان مکسور الید الیمنی، ادرکته قریش فجعلت له یدا من ذهب ، و أول من وضع الکسوة فی البیت الحرام کان ملک الیمن اسعد ابو کرب و أصبح هذا العمل عادة فی کسوة البیت کل عام، و قد بذلت قریش عنایتها تنظیم الحج الیها لتقدیس العرب فیها و ترتب علی ذلک ظهور بعض الانظمة و التی لها مسیس بحرمة هذا المکان و قدسیته، و من تلک الانظمة الملأ، و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 54
مجلس قریش، و یتکون من رؤساء القبائل، و السدانة، و هی وظیفة العنایة ببناء الکعبة و بذل الخدمة لها، و السقایة و هی توفیر الماء للحجاج و الرفادة و هو مال تخرجه قریش لاطعام الحجاج الفقراء و الحجابة و عمل رئیس هذه الوظیفة حفظ مفاتیح الکعبة، و اللواء و هی رایة قریش و کانت من اختصاص بنی مخزوم، و السفارة، و کانت لبنی عدی و هی وظیفة مهمة یقوم صاحبها باجراء الاتصالات باسم قریش من النواحی السیاسیة و التجاریة و العسکریة، و کان العرب یحجون البیت الحرام فی الجاهلیة فی کل شهر ذی الحجة طبقا لمناسک ترجع الی وقت بنائها و کانوا یطوفون بالبیت الحرام و علیهم الا یجزّوا شعرهم و لا اظفارهم و لا یدهنوا و لا یتطیبوا و لا یمسوا النساء و لا یحملوا السلاح و لا یأکلوا اللحم و هم فی حالة طوافهم کانوا یتشابکون بالایدی و یصفقون و یصفرون و هم عراة الاجسام، و قد ورد فی القرآن الکریم ذکر هذه الحالة فی قوله تعالی:
«وَ ما کانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَیْتِ إِلَّا مُکاءً وَ تَصْدِیَةً » و عند دخول العرب الحجاج البیت الحرام یقبلون اولا الاله «آساف» و کذلک عند خروجهم و بعد ذلک یتجمهرون لاستلام الحجر الاسود الذی یعتبر اقدم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 55
الاحجار المقدسة و بعد زیارة الکعبة یسعی الحجاج الی الصفا و المروة و هما مرتفعان صخریان علیهما صنمان الاول یسمی مجاور الریح، و الآخر مطعم الطیر، و بعدها یتفرق الحجاج فی الاماکن المجاورة مثل عرفه و المزدلفة للنحر و کانت قریش تنصب لها فی ذلک الموسم قبابا حمرا من الادم اظهارا لزعامتها علی العرب، بینما کانت قباب القبائل الاخری من الشعر.

بناء البیت

ان القرآن الکریم أشار الی بناء ابراهیم (ع) للکعبة الشریفة فی قوله تعالی «وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ» و قد بنی الکعبة بعد ابراهیم العمالقة و جرهم، ثم بناها بعد ذلک قصی بن کلاب و قد سقفها بخشب الدوم الجید و بجرید النخل.
و یبدو ان الکعبة الشریفة فی عهد ابراهیم طولها 9 أذرع و طولها فی الارض 30 ذراعا و عرضها فی الارض 22 ذراعا ، و کانت بلا سقف ، ثم بنتها قریش فی الجاهلیة . و للکعبة الشریفة باب ارتفاعه 6 أذرع و عشرة أصابع و عرض ما بین جداریه 3 أذرع و ثمانیة عشر اصبعا ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 56
و کانت عتبة الباب ملبسة بصفائح من الذهب المنقوش، و فی کل جانب من عضادتی الباب اربع عشرة حلقة من حدید مموهة بالفضة متفرقة فی کل جانب سبع حلق یشد بها جوف الباب من استار الکعبة و تلاصق الکعبة بعض الاحجار تعرف بشذروان الکعبة و عدد حجارة الشذروان التی حول الکعبة 68 حجرا فی جوانب الکعبة الثلاثة:
الشرق و الغرب و الیمانی، و بعض حجارة الجانب الشرقی لا بناء علیه و یبدو ان الکعبة کانت محلات فی الجاهلیة و یذکر ان عبد المطلب کان أول من زینها بالغزالین الذهبیین اللذین وجدهما فی زمزم حین حفرها ، و ان عبد الملک بن مروان کان اول حاکم اسلامی ذهّب البیت الحرام فی العصور الاسلامیة ، و هناک اخبار تاریخیة تشیر الی ان عبد اللّه بن الزبیر اول من حلی الکعبة فی الاسلام، و انه جعل علی الکعبة و اساطینها صفائح الذهب کما جعل مفاتیحها من الذهب .
و ابرز بناء للکعبة ما تم زمن قریش فقد حضر ذلک النبی محمد (ص) و کان النبی فی الخامسة و الثلاثین من عمره، و کان السبب الذی دفع قریش الی تجدید بناء الکعبة، ان حریقا اصاب ستورها و اخشابها فاوهن ذلک من بنیانها و اعقب ذلک الحریق سیل اوهی البناء و صدع الجدران فاجمعت قریش امرها علی تجدیدها، و وصلت الی القوم انباء وجود سفینة عند ساحل جدة، فخرج الیها الولید بن المغیرة لیبتاع خشبها، و کانت السفینة لتاجر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 57
رومی یدعی «باقوم»، و اخبره الولید بما اعتزم علیه القوم، فأنبأه «باقوم» انه بناء نجار فاستصحبه الولید لیقوم بالبناء، و اول من بدأ فی هدمها الولید بن المغیرة، و قد ساهمت جمیع القبائل فی بناء الکعبة حتی بلغ البنیان موضع الرکن فاختصموا فیه، کل قبیلة ترید ان ترفعه الی موضعه دون الاخری و کادت ان تقع بینهم الحرب، فضرب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم و بنو عدی بن کعب بن لؤی علی الموت و ادخلوا ایدیهم فی ذلک الدم فسمی ذلک الحلف «لصقة الدم». ثم اجتمعت قریش فی المسجد الحرام تتشاور و کان ابو أمیة بن المغیرة بن عبد اللّه اکبر الحاضرین سنا فتقدم باقتراح و قال: «یا معشر قریش اجعلوا بینکم فیما تحتفلون فیه هو اول من یدخل من باب هذا المسجد یقضی بینکم فیه» ففعلوا، فکان اول داخل رسول اللّه (ص)، فلما رأوه قالوا: هذا الامین رضینا، هذا محمد، فلما انتهی الیهم و اخبروه الخبر قال (ص): هلم الیّ ثوبا فأتی به، فأخذ الرکن فوضعه فیه بیده، ثم قال لتأخذ کل قبیلة بناحیة من الثوب ثم ارفعوه جمیعا، ففعلوا حتی اذا بلغوا به موضعه وضعه هو بیده الشریفة ثم بنی علیه.
و جاءت عمارة قریش تلک زیادة تسعة أذرع علی ارتفاعها فی بناء الخلیل (ع)، و اقتصوا من عرضها أذرعا جعلوها فی الحجر لقصر النفقة الحلال التی أعدوها لعمارتها عن ادخال ذلک، و رفعوا باب الکعبة عن سطح الارض حوالی المترین، و جعلوا فی داخلها ست دعائم فی صفین فی کل صف ثلاث من الشمال الی الجنوب و جعلوا فی رکنها العراقی من الداخل سلما یصعد الی سطحها و جعلوا فیه میزابا یصب فی الحجر. و فی 64 ه أصاب الکعبة و هن من جراء اصابتها بحجارة المنجنیق حین حاصر مکة الحصین بن نمیر من قواد یزید بن معاویة و من الحریق الذی أصابها من نار أوقدها نفر من أصحاب ابن الزبیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 58
فی خیمة لهم، فحملت الریاح بلهب تلک النار الی الکعبة فاحرقت کسوتها و ما فیها من خشب الساج، فادی ذلک الی ان ینقض بناؤها و تتأثر حجارتها، فلما ارتحل عن مکة الجیش الأموی أثر وفاة یزید بن معاویة رأی ابن الزبیر ان یهدم الکعبة و یبنیها، و بناها علی قواعد ابراهیم و أدخل فیها ما أخرجته قریش منها من الحجر و زاد فی طولها علی بناء قریش نظیر ما زادته قریش فی طولها علی بناء الخلیل و ذلک تسعة أذرع، فصار ارتفاعها سبعة و عشرین ذراعا، و جعل لها بابین لاصقین بالارض احدهما بابها الموجود الیوم و الآخر مقابل له مسدود، و جعل فیها ثلاث دعائم فی صف واحد و جعل لها مدرجا فی زاویتها العراقیة من الداخل یصعد الیه الی ظهرها، و جعل لها میزابا علی سطحها یصب فی الحجر، و جعل فیها روازن توضع فیها المصابیح، و لما فرغ من بنائها خلقها بالطیب ظاهرا و باطنا و کان یجمرها کل یوم برطل من العود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 59
و فی یوم الجمعة برطلین.
و فی 74 ه و بعد ان انتهی الحجاج الثقفی من محاصرة مکة و قتله عبد اللّه بن الزبیر، کتب الی عبد الملک بن مروان یخبره ان ابن الزبیر زاد فی الکعبة ما لیس منها و أحدث فیها بابا آخر و استأذنه فی رد ذلک الی ما کان علیه فی الجاهلیة، و کتب الیه عبد الملک ان یسد بابها الغربی و یهدم ما زاده ابن الزبیر من الحجر و یکبسها علی ما کانت علیه، ففعل ذلک الحجاج.

ارکان الکعبة

و یقوم الحجر الاسود فی الرکن الجنوبی الشرقی، و هو مبدأ الطواف عند المسلمین فی موسم الحج، و ارتفاعه عن الارض متر و نصف المتر و الحجر هو أسود اللون ذو تجویف أشبه بطاس الشرب و حدث فیه بمرور الزمن تشقق، و فی سنة 189 ه اعتمر هرون الرشید و أمر بالحجارة التی یلیها الحجر الاسود فثقبت بالماس من فوقها و تحتها ثم أفرغ فیها الفضة . و فی سنة 1290 ه عمل للحجر الاسود غطاء من الفضة فی وسطه فتحة مستدیرة قطرها 37 سم لیری منها الحجر.
و الرکن الذی فیه الحجر الاسود یعرف برکن الحجر و یواجه هذا الجزء الجنوبی من بلاد الحجاز الی عدن و الحبشة و مدغسکر و استرالیا و جنوب الهند و الصین و اندنیسیا.
اما الرکن العراقی و یعرف بالشامی أیضا و هو الجزء الشمالی الشرقی من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 60
الکعبة الشریفة و یواجه هذا الرکن الجزء الاکبر من بلاد الحجاز و العراق و بلاد ایران و شمال الهند و شمال الصین و سیبیریا.
اما رکن الکعبة الشمالی الغربی و یسمی بالرکن الغربی فیواجه هذا الجزء جمیع اوربا و ترکیا و الجمهوریة العربیة المتحدة الی منطقة الشلال.
اما الرکن الیمانی فهو الواقع فی الجنوب الغربی من بناء الکعبة و یواجه الجزء الجنوبی من افریقیا و فی هذا الرکن أحادیث عن اهمیته و قدسیته، ففی حدیث عن مجاهد قال: کان رسول اللّه (ص) یستلم الرکن الیمانی و یضع خده علیه (1)، و قد بنیت الکعبة من الحجارة الصم ذات الحجم الکبیر و اللون الازرق، و بداخل البیت ثلاثة اعمدة من خشب العود الماوردی الجید قطر الواحد منها ربع المتر و هی علی صف واحد من الشمال الی الجنوب و علی یمین الداخل للکعبة فی زاویة الرکن الشمالی الشرقی باب یصعد منه علی مدرج الی اعلی الکعبة یقال له: باب التوبة، مسدولة علیه ستائر من الحریر المزرکش، و سقف الکعبة منقوش بالنقوش العربیة الجمیلة و معلق به هدایا ثمینة اهداها الیها الملوک و الامراء فی عصور مختلفة، و فی سنة 1295 ه فرش السطح بالواح المرمر، و فی اعلی منتصف الجدار الشمالی وضع المیزاب لتصریف میاه الامطار، و هو من الذهب، هدیة من السلطان عبد المجید سنة 1270 ه.

الحطیم:

و الی شمال الکعبة بقایا الحطیم، و هو بناء مستدیر علی شکل نصف دائرة ارتفاعه 31، 1 من الامتار و عرض جداره من الاعلی 52، 1 م و من اسفل 44، 1 و هذا البناء موزر بالرخام و أحد طرفیه محاذ للرکن الشامی و الآخر محاذ للرکن العربی، و قیل سمی بالحطیم لان العرب کانت تطرح فیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 61
ما طاقت فیه من الثیاب فیبقی حتی یتحطم من طول الزمن، و قیل انما سمی بالحطیم لأنه المکان الذی فیه المیزاب ، و المکان الذی بین باب الکعبة و الحجر الأسود یعرف بالملتزم، و هو المکان الذی یقف عنده المسلمون یطلبون الرحمة و المغفرة من اللّه عز و جل، و یعرف المکان الواقع ما بین الرکن الیمانی الی الباب المسدود بالمستجار و فی هذا المکان یستنجد المسلمون فی دعائهم من ذنوبهم.

المسجد الحرام:

و الکعبة الشریفة وسط المسجد الحرام و المسجد الحرام یقوم فی وسط مکة و شکله علی العموم مستطیل، ضلعه الشمالی 164 م و الضلع المقابل له 166 م و ضلعه الشرقی 108 م و الغربی 109 م و من الجدیر بالذکر أن المسجد الحرام لم یکن له جدار یحیط به إنما کانت البیوت محدقة به من کل جانب، و کانت بین تلک البیوت أبواب یدخل منها الناس، و أول من بدأ بوضع جدار للکعبة هو الخلیفة عمر بن الخطاب (رض) فانه اشتری دورا فهدّمها و هدّم الدور القریبة من المسجد، و رفض القوم أخذ اثمانها من البیع، فوضعت اثمانها فی خزانة الکعبة حتی أخذوها من بعد و کان الجدار الذی شیده عمر بن الخطاب قصیرا دون القامة فکانت المصابیح توضع علیه فلما استخلف عثمان بن عفان ابتاع المنازل و وسع المسجد بها و أخذ منازل أقوام و وضع الأثمان فضجوا به عند البیت فقال انما جرأکم علی حلمی عنکم و لینی لکم لقد فعل بکم عمر مثل هذا فأمرتم و رضیتم ثم أمر بهم الی الحبس حتی کلمه فیهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 62
عبد اللّه بن خالد بن أسید بن أبی العیص فخلی سبیلهم ، و عثمان بن عفان هو أول من أحدث رواقا مسقفا فی المسجد الحرام و کان ذلک فی السنة السادسة و العشرین للهجرة .
و یحیط بالمسجد الحرام من جهاته الاربع ثلاثة أروقة، یفصل بین کل رواق و آخر صف من الاعمدة مواز لجدار المسجد، و وصل بین کل عمودین بعقد من البناء المتین و أقیمت علی کل أربعة أعمدة قبّة، و بذلک تکونت قباب متجاورة منها تکون سقف تلک الاروقة، و عدد العقود فی الجهة الشمالیة من الجدار الشرقی الی الغربی 42 عقدا فی کل صف علی استقامة واحدة، أما العقود العرضیة فی هذه الجهة فثلاثة ثلاثة إلا فی الطرفین فان العرض عقدان، و عدد العقود طولا فی الجهة الجنوبیة 40 فی أطول صف من الجدار الشرقی الی الغربی، و عددها عرضا ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة فی الوسط و فی الطرف اثنان و واحد و عددها من الجهة الشرقیة طولا بطول الصحن فقط 24 عقدا فی کل صف، و العرضیة ثلاثة ثلاثة الا فی الطرف الجنوبی فاثنان لانحراف الجدار، و فی الجهة الغربیة قبالة الصحن فقط 24 طولا فی کل صف، و العقود العرضیة أربعة أربعة و قیل ثلاثة ثلاثة، و هناک عروض أخری من الجهة الشمالیة فی مدخل باب الزیارة و کذلک فی الجهة الغربیة فی مدخل باب ابراهیم و جملة الا عمدة المقامة علیها تلک العقود (545) عمودا منها 301 من الرخام و منها 244 من الحجر الاحمر، و معلق بین کل عمودین خمسة قنادیل کبار توضع فیها المصابیح، و فی صرة کل قبة قندیل و فی المسجد الحرام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 63
منبر جمیل بعث به السلطان سلیمان القانونی العثمانی سنة 966 ه و هو من الرخام و یمتاز هذا المنبر بزخارفه الاسلامیه الجمیلة و رونقه الرائع و بضاعته البدیعة الدقیقة، هذا و من الجدیر بالذکر ان معاویة بن ابی سفیان کان أول من عمل منبرا للمسجد الحرام سنة 44 ه و کان بثلاث درجات ثم أهدی عامل هرون الرشید علی مصر موسی بن عیسی منبرا للمسجد الحرام ذا درجات تسع و علیه نقش بدیع ثم أمر الواثق العباسی بعمل منبر جدید للمسجد الحرام و أمر لمنی و ثالث لعرفة کذلک عمل المنتصر بن المتوکل منبرا للمسجد و هکذا تعددت المنابر فی عصور تاریخیة مختلفة و کان آخرها المنبر القائم حالیا الذی أهداه السلطان سلیمان القانونی کما عرضنا سابقا و الی جنوب مقام ابراهیم و علی بعد 18 م من الحجر الاسود تقع بئر زمزم و بئر زمزم ذکرت کثیرا فی الاخبار التاریخیة و یرقی تاریخها الی عهد طفولة اسماعیل بن ابراهیم علیهما السلام.

أبواب المسجد الحرام:

و للمسجد الحرام تسعة عشر بابا ، هی باب السلام و یعرف بباب بنی شیبه و هو باب بنی عبد شمس و بهم کان یعرف من الجاهلیة، و باب الجنائز، و قد سمی بهذا الاسم لان الجنائز تخرج منه الی مقربة المعلّی و یعرف ایضا بباب النبی لان الرسول (ص) کان یخرج منه و یدخل الی منزله دار خدیجه علیها السلام ، و باب العباس بن عبد المطلب و باب علی و یعرف بباب بنی هاشم و باب بازان سمی بذلک الاسم لان عین مکة المعروفة ببازان کانت بالقرب منه، و باب البغلة و باب الصفا و سمی بذلک لانه یلی الصفا و یقال له
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 64
ایضا باب بنی مخزوم و باب جیاد الصغیر و باب المجاهدیة لان عنده مدرسة الملک المؤید المجاهد صاحب الیمن و یقال له باب الرحمة و باب مدرسة الشریف عجلان و باب أم هانی‌ء بنت أبی طالب و باب الحزورة و الحزورة اسم لسوق فی الجاهلیة کانت فی هذا المکان و دخلت فی المسجد الحرام عند توسیعه و یقال له بباب بنی حکیم بن خزام و الغالب علیه باب الخزامیة و یقال له باب الوداع لان الناس یخرجون منه عند سفرهم ، و باب ابراهیم و هو منسوب الی أحد الخیاطین و کان یجلس عنده و باب العمرة، و یسمی بهذا الاسم لان المعتمرین یخرجون و یدخلون منه فی الغالب و باب عمرو بن العاص و یقال له باب السدة لانه سد تم فتح و باب العجلة و باب القطبی و باب سویفه و باب المدرسة و قد أضیف باب حدیث بالتوسیعات الحدیثة سمی بباب الملک سعود. و للمسجد الحرام سبع مآذن هی مأذنة باب العمرة فی رکن المسجد الشمالی و قد بناها المنصور العباسی سنة 139 ه ، و مأذنة باب السلام و قد عمرها المهدی ابنه سنة 168 ه و مأذنة باب علی و عمرها المهدی أیضا فی السنة نفسها و مأذنة باب الحزورة التی تعرف بباب الوداع و عمرها المهدی ایضا ثم عمرت زمن الملک الاشرف صاحب مصر و کانت قد سقطت سنة 771 ه فعمرت فی السنة التالیة. و مأذنة باب الزیارة عمرها المعتضد العباسی لما بنی الزیارة سنة 284 ه ثم جددها الاشرف برسباس فی سنة 826 ه و مأذنة قاتیبای بالمدرسة المعروفة باسمه و هی مجاورة لباب السلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 65
و مأذنة السلیمانیة فی المدرسة المعروفة باسمها.

التطورات التی طرأت علی المسجد الحرام:

ان المسجد الحرام مرّ فی عهود تاریخیة مختلفة و کان عرضة للزیادة فی المساحة و العمران، و نحن نحاول بیان ذلک فیما یلی:
(1) التوسع الذی حصل زمن الخلیفة عمر بن الخطاب (رص) عام 17 ه ففی هذا العام قدم الخلیفة الی مکة فی غیر موسم الحج لما بلغه ان سیلا عظیما اقتحم المسجد الحرام من جهة المدعی و رأی حاجة المسجد الی التوسعة، فأمر بشراء دور و هدمها و ادخال أرضها فیه، کما حوّط المسجد بجدار قصیر جعل فیه ابوابا و أمر بوضع المصابیح فوقه للاضاءة.
(2) و لازدیاد عدد المسلمین، ضاق المسجد بهم، فرأی عثمان بن عفان ضرورة اجراء توسیع فی المسجد، فأمر سنة 26 ه بشراء بعض الدور القریبة و هدمها و اضافتها الی المسجد، و أحدث رواقا مسقفا کما أوضحنا سابقا.
(3) و فی سنة 26 ه رأی عبد اللّه بن الزبیر ضرورة توسیع المسجد الحرام فاشتری بعض الدور فهدمها و ادخلها ضمن المسجد.
(4) و فی سنة 91 ه زاد الولید بن عبد الملک فی مساحة المسجد کما أنه جدد عمارته فبناه بنایة محکمة و سقف أروقته بالساج المزخرف، و یعد الولید اول من جعل أعمدة المسجد من الرخام.
(5) و فی سنة 139 ه أمر المنصور بإجراء توسیع فی المسجد الحرام کما أمر بأن یضاف رواق جدید، و قد شیّل ذلک الرواق علی أعمدة رخام و زیّن بالنقوش.
(6) و فی سنة 161 ه أمر المهدی بن المنصور بتوسیع المسجد الحرام کذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 66
فأضاف توسیعا آخر سنة 164 ه و تعتبر الزیادات التی تمت فی عصر المهدی مهمة اذ وصلت مساحة المسجد فی عمارته القدیمة الی ما هی علیه حتی الآن.
(7) و فی سنة 284 ه کانت هناک بقیة من دار الندوة خارج المسجد الحرام فأمر المعتضد العباسی وزیره بإضافة ذلک القسم و اجراء ما ینبغی للحرم من الاصلاح و الترمیم.
(8) فی سنة 306 ه أمر المقتدر العباسی بزیادة مساحة المسجد الحرام المکان الذی یعرف الآن بباب ابراهیم و بهذا تکامل البناء القدیم.
أما العمران فی المسجد الحرام خلال العصور التاریخیة فان أهم تعمیرین کانا ما تمّ سنة 803 ه فی عهد السلطان ناصر فرج بن برقوق من سلاطین الممالیک الشراکسة المصریة فقد أجری تجدید بناء احد اروقة الحرم بمکة المکرمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 67
جانب المسجد الغربی کله من الجانب الشمالی علی أثر حریق شبّ فی السنة المذکورة فی أحد الاربطة المتصلة بالمسجد فیما بین باب الوداع و باب ابراهیم فامتدت النار منه الی جانب المسجد الغربی فأتت علی سقوفه و تساقطت مبانیه ثم وصلت النار الی الجانب الشمالی فالتهمت رواقین منه، و فی سنة 979 ه جدد السلطان سلیم الثانی عمارة المسجد الحرام تجدیدا کاملا فهدمت بعض الاروقة و اعید بناؤها و لکنها لم تسقف بالخشب بل جعلت سقوفها قبابا و هی الموجودة الآن و قد أتمّ عمارة المسجد بعد وفاة السلطان سلیم ولده السلطان مراد، و قد کمّل البناء سنة 984 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 68

المدینة المنورة

اشارة

مدینة مهمة من مدن الحجاز، اصبحت لها أهمیة کبیرة بعد هجرة الرسول (ص) الیها و اتخاذها سکنا و مقرا له. و کانت المدینة قبل دخول الرسول (ص) الیها تعرف باسم یثرب و قد سمّاها بطلیموس و ستیفان البیزنطی (یثربا)Yathrippa کما ظهر اسمها فی بعض النقوش القدیمة باسم (إثرب)Ithrib ، و یذکر ان یثرب کانت ناحیة من المدینة ثم أطلق علی المدینة کلها (من اطلاق البعض علی الکل).
و لما هاجر النبی (ص) الیها کره ان تسمی باسمها و سماها طیبة و طابة، و کانت لها اسماء أخری مختلفة مثل المسکینة و جابرة و المجبورة و المرجومة و العذراء و المحبة و المحبوبة و القاحمه ، و قد أورد السمهوری أربعة و تسعین اسما للمدینة . و تقع المدینة الی شمال مکة، و أرضها مستویة و الی شمالها جبل أحد و فی جنوبها جبل عیر علی مقربة من ذی الحلیفة، و هو جبل مستقیم شامخ، و الی غرب المدینة سهل فسیح خصب، یعرف بحرة و اقم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 69
و عندها وقعت موقعة الحرة سنة 63 ه، و فیها قال الشاعر عبد اللّه بن قیس الرقیات:
تذکّر من قتلی بحرة و اقم‌أصبن و أرحاما قطعن شوابکا
و الی شمال المدینة یقع جبل سلع، قال الشاعر البغدادی متشوقا الی سلع:
ألا لیت شعری هل ابیتن لیلةبسلع و لم تغلق علیّ دروب
و فی سهل المدینة أودیة کثیرة تجتمع فیها السیول و من اشهر تلک الاودیة:
قناة و مهروز و العقیق و بطحان و رانون و مذیقه، و من أهم هذه الاودیة وادی العقیق، و للرسول الکریم (ص) أحادیث کثیرة فی برکته و طیبه، و هو یقع الی غرب المدینة، و یبدو ان قصور أغنیاء المدینة کانت تقوم فی العقیق و قد ابتنی قوم منالصحابة بالعقیق و نزلوه . و من الذین شیدوا قصورهم بالعقیق عروة بن الزبیر و قصر عاصم بن عمرو و قصر المغیرة بن ابی العاص و قصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 70
عنبسة بن عمرو .
و العقیق فیه عیون و نخل ، و ماؤه عذب ، و کان لجماله الرائع و طبیعته الاخاذة و طیب هوائه، ما جعل الشعراء یتغنون بهذا الوادی الخصیب البدیع، فقد تشوق الیه من بغداد سعید بن سلیمان فقال:
و بعد المصلی و العقیق و أهله‌و بعد البلاط حیث یحلو التزاور
اذا أعشبت قریاته و تزینت‌عراض بها نبت أنیق و زاهر
و غنی بها التربان تغزو بناتهاکما واقعت أیدی القیان المزاهر
و قالت اعرابیة من العقیق تزوجت فی نجد:
اذا الریح من نحو العقیق تنسمت‌تجدد لی شوقا یضاعفن من وجدی
اذا رحلوا بی نحو نجد و أهله‌فحسبی من الدنیا رجوعی الی نجدی
و قال البحتری فی وادی العقیق:
وقفة بالعقیق تطرح ثقلامن دموع بوقفة فی العقیق
و من أجمل ما وصف به وادی العقیق ما کتبه سعید بن العاص الی عبد الأعلی بن عبدان و محمد بن صفوان الجمحی و هما ببغداد یذکرهما بطیب العقیق فی أیام الربیع:
ألا قل لعبد اللّه إما لقیته‌و قل لابن صفوان علی القرب و البعد
أ لم تعلما ان المصلی مکانه‌و ان العقیق ذو الاراک و ذو المرد
و ان ریاض العرصتین تزینت‌بنوارها المصفر و الا شکل الفرد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 71
اختلف فی الوقت الذی نزل فیه الیهود مدینة یثرب، فیقول ناس انهم نزلوا المدینة فی عهد موسی علیه السلام ، و یقول آخرون انهم بقایا العمالین ، و تدل الأبحاث التاریخیة ان الیهود کانوا أسبق من القبائل العربیة فی یثرب و بسبب عوامل جغرافیة و طبیعیة من أهمها انهیار سد مأرب و وقوع أزمة اقتصادیة کبیرة فی بلاد الیمن اضطرت بسببها اقوام القبائل الیمانیة الی ترک الیمن و الهجرة الی راضی أخری حیث الخصب و وفرة المیاه، و قد انتشرت تلک القبائل فی مناطق مختلفة من الجزیرة العربیة و من تلک المناطق التی اتجهت الیها القبائل المهاجرة مدینة یثرب فقدمت الاوس و الخزرج الیها و استقروا فیها من القبائل الیهودیة الساکنة فی یثرب و کانت الثروة فی بنی اسرائیل و کانوا ینیفون علی عشرین قبیلة، و لهم قری اعدوا بها الاطام فنزلت الاوس و الخزرج بینهم و حوالیهم .
و یبدو ان الاوس و الخزرج بعد سکناهم مع القبائل الیهودیة، سألوهم ان یعقدوا معهم جوارا و حلفا یأمن به بعضهم من بعض و یمتنعون ممن سواهم، فتعاقدوا و تحالفوا و اشترکوا و تعاملوا و لکن الیهود بعد ان وجدوا الأوس و الخزرج قد استقرت بهم الاحوال و صارت عندهم الأموال انقبلوا علیهم، و قطعت القبائل الیهودیة الحلف الذی عقد بینها و بین القبائل العربیة و جرت بین الاوس و الخزرج من جهة و بین القبائل الیهودیة منازعات و وقائع، انتهت بانتصار الاوس و الخزرج و سیادتهم المدینة، ثم اخذت المنافسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 72 و ان بها لو تعلمان اصائلاو لیلا رقیقا مثل حاشیة البرد
فهل منکما مستأنس فمسلم‌علی وطن أو زائر لذوی الود
فأجابه عبد الأعلی:
أتانی کتاب من سعید فشاقنی‌و زاد غرام القلب جهدا علی جهد
و أذری دموع العین حتی کأنهابها رمد عنه المراود لا تجدی
فان ریاض العرصتین تزینت‌و ان المصلی و البلاط علی العهد
و ان غدیر اللابتین و نبته‌له أرج کالمسک أو عنبر الهند
فکدت بما أضمرت من لاعج الهوی‌و وجد بما قد قال أقضی من الوجد

القبائل التی نزلت المدینة:

تذکر المصادر العربیة ان أول من نزل یثرب بعد الطوفان قبیلة عبیل ثم أخرجوا منها فنزلوا الجحفة فجاءهم سیل أجحفهم فیه فلهذا سمیت جحفة و قال ابو القاسم الزجاجی أول من سکن المدینة عند التفرق یثرب بن ثانیة ابن مهلائیل بن ارم بن عبیل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح علیه السلام، و به سمیت یثرب ، و ذکر یاقوت أن أول من زرع بالمدینة و اتخذ بها النخل و عمر بها الدور العمالین و جاء فی شفاء الغرام انه قد نزل المدینة قبل الاوس و الخزرج أحیاء من العرب .
و نزلت المدینة اقوام من القبائل الیهودیة مثل بنی القینقاع و بنی النضیر و بنی قریظه، و ابتنوا المنازل قبل نزول الاوس و الخزرج ، و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 73
مأخذها بین القبیلتین العربیتین، و جرت بینهما الحروب و کان آخرها یوم بعاث الذی اقتتل الطرفان قتالا عنیفا و فقدت الاوس و الخزرج نفوسا کثیرة، و بعدها حاول کبار رجال القبیلتین توحید جهودهما و تنظیم حیاة القبیلتین سیاسیا و اقترحوا علی تحکیم احد زعماء الخزرج من الذین عرفوا بتقدم السن و رجاحة العقل و الخبرة و الدرایة، و لکن تباشیر الحیاة الجدیدة التی انتظمت ببعث الاسلام وصلت الی المدینة فأیدت الدعوة الاسلامیة و آمنت بمبادئها، فکان الاسلام منقذا لجموع العرب فی یثرب و تخلیصهم من سیادة الیهودیة.

الاسلام فی یثرب:

و کانت بیعة العقبة الاولی 621 م حیث حج مکة اثنا عشر رجلا من أهل یثرب جرت مقابلتهم للرسول عند العقبة، و بایعوه علی ان لا یشرک أحدهم باللّه شیئا و لا یسرق و لا یزنی و لا یقتل اولاده و لا یأتی ببهتان یفتریه بین یدیه و رجلیه و لا یعصیه فی معروف. و فی سنة 622 م کانت بیعة العقبة الثانیة، و قد زار مکة ثلاثة و سبعون رجلا و امرأتان و بایعوا الرسول علی مناصرته و تأییده، و محاربة الأسود و الاحمر فی سبیله . و فی سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 74
622 م کانت هجرة الرسول (ص) الی یثرب و بدأت حیاة جدیدة للمسلمین فیها کما اصبحت المدینة مرکزا للدعوة الاسلامیة و عاصمة لحکومتها و بذلک تکون مکة قد فقدت نفوذها و مکانتها خاصة بعد الغلبات الرائعة التی أحرزها الرسول و المسلمون فی المواقع الاسلامیة التی تکللت بالنصر المؤرز فی یوم الفتح 20 رمضان سنة 8 ه، و فتحت مکة و حطمت أصنامها و أوثانها و انتشر الاسلام فی ربوعها واضحت مصرا من أمصار المسلمین المهمة و مراکزهم المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 75

البقیع

یقع البقیع شرق المدینة ، و البقیع فی اللغة، الموضع فیه أروم الشجر من ضروب شتی ، و قد عرف البقیع ببقیع الغرقد، و الغرقد: کبار للعوسجة ، و البقیع مقبرة أهل المدینة، و قد رویت عن النبی الکریم (ص) أحادیث فی فضل البقیع، و من تلک الاحادیث المشهورة قوله (ص) «یحشر من هذه المقبرة سبعون الفا یدخلون الجنة بغیر حساب و کأن وجوههم القمر لیلة البدر» .
و البقیع مکان مقدس مبجل عند المسلمین منذ اتخذ الرسول (ص) المدینة مرکزا للدعوة الاسلامیة، و فی هذا المکان الطیب الکریم، دفن من الأئمة الأطهار و الصحابة الأبرار و السادة الاجلاء اولئک الذین کانوا الطلیعة الاولی فی بناء صرح الاسلام و الباذلین ارواحهم فی سبیل اعلاء کلمة اللّه و نشر مبادی‌ء القرآن.
و أول من دفن فی البقیع من الصحابة الکرام عثمان بن مضعون، و مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 76
یذکر ان البقیع کان غرقدا، فلما دفن عثمان بالبقیع، قطع الغرقد عنه ، و لما توفی ابراهیم بن رسول اللّه (ص) أمر (ص) ان یدفن عند عثمان بن مضعون، فرغب الناس فی البقیع، و قطعوا الشجر فاختارت کل قبیلة ناحیة، فمن هنالک عرفت کل قبیلة مقابرها .
و تدل الأخبار التاریخیة ان قبر عثمان بن مضعون فی وسط البقیع فی المنطقة التی اطلق علیها الرسول اسم الروحاء، روی ابن شبة: کان البقیع غرقدا، فلما هلک عثمان بن مضعون دفن فی البقیع و قطع الغرقد عنه. و قال رسول اللّه (ص) للموضع الذی دفن فیه عثمان: هذه الروحاء و ذلک کل ما حازت الطریق من دار محمد بن زید الی زاویة دار عقیل الیمانیة، ثم قال النبی (ص):
هذه الروحاء، للناحیة الأخری، فذلک ما حازت الطریق من دار محمد بن زید الی أقصی البقیع یومئذ .
و البقیع فی الوقت الحاضر یقع شرق المدینة المنورة و هو علی شکل مستطیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 77
طوله 150 م و عرضه 100 م، و فی هذا المکان دفن ناس من الأئمة و کبار الصحابة (ع)، فمن الذین دفنوا فی البقیع السیدة فاطمة الزهراء (ع) و ابراهیم و رقیة من أولاد الرسول (ص)، و فاطمة بنت أسد أم الامام علی بن ابی طالب (ع) و الامام الحسن بن علی و علی بن الحسین زین العابدین (ع) و ابو جعفر محمد الباقر (ع) و جعفر الصادق (ع) و العباس بن عبد المطلب، و جمیع زوجات الرسول (ص) إلا السیدة الفاضلة خدیجة بنت خویلد (ع) فمدفنها بمکة. و من الصحابة المشهورین المدفونین فی البقیع عبد اللّه بن مسعود، و سعد بن معاذ، و ابو سعید الخدری، و عثمان بن عفان، و عبد الرحمن بن عوف، کذلک دفن فی البقیع مالک بن أنس الاصبحی.
و من الجدیر بالذکر ان تلک القبور جمیعا مندرسة و قد ضرب حولها سیاج و قد جرت محاولات لبناء مشاهد الائمة و آل البیت الکرام و لحد کتابة هذه السطور لم یجد شی‌ء جدید.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 78

الکوفة

ذکر اصحاب المعاجم اللغویة فی معنی الکوفة انه: کل رملة تخالطها حصباء، و انها سمیت بهذا الاسم لاستدارتها، و فی سنة 17 ه و بعد انتصار المسلمین بقیادة سعد ابن ابی وقاص فی موقعة القادسیة المشهورة فتح سواد العراق، و باشر بناء مدینة یتخذها معسکرا لجنده فاختار مکان الکوفة الحالیة، و قام بتخطیط المدینة ابو الهیاج الاسدی عمرو بن مالک بن جنادة و یصف البلاذری مبدأ التخطیط فیقول: ان عبد المسیح بن بقیلة اتی سعدا و قال له ادلک علی ارض انحدرت من الفلاة و ارتفعت عن المباق، فدله علی موضع الکوفة الیوم و کان یقال له سورستان، فلما انتهی الی موضع مسجدها امر رجلا فعلا بسهم قبل مهب القبلة فاعلم علی موقعه ثم علا بهم اخر قبل مهب الشمال و اعلم علی مواقعه ثم علا بهم قبل مهب الجنوب و اعلم علی موقعه ثم علا بهم قبل مهب الصبا فاعلم علی موقعه، ثم وضع مسجدها و دار امارتها فی مقام العال و ما حوله و اسهم لنزار و اهل الیمن بسهمین علی انه من خرج بسهمه اولا فله الجانب الایسر و هو خیرهما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 79
فخرج سهم اهل الیمن فصارت خططهم فی الجانب الشرقی و صارت خطط نزار فی الجانب الغربی، و من وراء تلک العلامات، و ترک ما دونها فناء للمسجد و دار الامارة .
و قد حرص المسلمون فی بدء الفتوحات الاسلامیة، ان یشیدوا معسکراتهم و مدنهم فی امکنة تتصل بمرکز الدولة الاسلامیة فی الحجاز، و ان تکون الصحراء العربیة طریقهم المباشر بذلک المرکز، و لا یجعلوا بحرا او نهرا او جبلا حاجزا بین ما یشیدون و بین مرکز انتشارهم و تحرکهم، و لا یبتعدوا مسافة عن المدینة التی کانت مشیدة قبل دخولهم البلاد المفتوحة، فلم یتخذوا الحیرة سکنا بل ابتنوا الکوفة التی تبعد حوالی ثمانیة کیلومترات عن مسجد الکوفة الی الجنوب، و ینطبق هذا التعلیل علی بنا المسلمین لمدینة البصرة القریبة من مدینة الأیلة و بنائهم لمدینة الفسطاط القریبة من عین شمس، و نعتقد ان المسلمین کانوا یریدون الابتعاد قدر الامکان عن السکان الاصلیین و عدم الاختلاط بهم کی لا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 80
یتأثروا بعاداتهم و تقالیدهم و افکارهم و حتی یبقی الجندی الاسلامی بعیدا عن کل ما تحوی تلک المدن من لهو و مشاغل نفسیة و فکریة و یظل دائما و ابدا تحت السلاح کی یؤدی واجبه بشکل صحیح.
و ارض الکوفة سهلة، عالیة فوق مستوی الفیضان، ترتفع عن مستوی سطح البحر بمقدار 22 م، و انها بعیدة عن مناطق الاهوار و المستنقعات، و من الجدیر بالذکر ان ضفة النهر الغربیة اعلی من الضفة الشرقیة بمقدار 5- 6 م، و فی بعض الاقسام الجنوبیة یقل ذلک الارتفاع، و الاراضی القریبة من النهر تکون رسوبیة خصبة صالحة للزراعة اما ما دون ذلک فارض رملیة حصباء تنحدر انحدارا تدریجیا من جهة الغرب فتؤلف ضفة کلسیة غیر مستنقعیة هی النجف، ترتفع بمقدار 60 م عن مستوی سطح البحر ثم تنخفض من جهة الغرب و الجنوب فتؤلف بحیرة ضحلة مالحة هی بحر النجف ارتفاعها عن مستوی سطح البحر 10 م.
و قد شیدت الکوفة علی ضفاف نهر الفرات و ترک المسلمون صحراءهم العربیة الی جانبهم، فکان الفرات الی شرق المدینة و الصحراء من جبهتها الغربیة و تقع الحیرة الی جبهتها الجنوبیة الغربیة و الکفل من جهتها الشمالیة الشرقیة.
و تحسن هنا الملاحظة ان الکوفة کانت اقرب الی الفرات من مدینة الحیرة، و هذا الامر ساعد فی سیطرة الکوفة علی الجسر القائم علی نهر الفرات الذی کان الرابط التجاری المهم الذی یربط العراق و ما یجاوره بالطریق التجاری الذی کانت تتبعه القوافل التجاریة نحو الحجاز و جنوبی الجزیرة العربیة. ذکر المسعودی:
ذکر عبد المسیح بن عمرو بن نفیلة النسائی حین خاطب خالد بن الولید ایام ابی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 81
قلیل العمق، و ان اثنین من تلک الاواوین ینفذان الی دهلیزین، و هذان یفضیان بکر بن قحافة (ر) حین قال له: ما تذکر؟ قال: اذکر سفن الصین وراء هذه الحصون (یقصد وراء الحیرة) فلما انقطع الماء عن ذلک الموضع انتقل البحر برّا. فصار من البحر فی هذا الوقت علی مسافة ایام کثیرة، و من اشرف من وراء النجف علیه تبین له ما وصفنا .
و من اهم النقاط الدالة علی مدینة الکوفة التاریخیة، مسجد الکوفة و قصر الامارة و مسجد السهلة و الاکام المتناثرة بین المسجد و الطریق المؤدی الی مدینة النجف.
و مسجد الکوفة مربع الشکل تقریبا، ذلک لان اضلاعه الاربعة مختلفة الطول اختلافا قلیلا فهی علی التوالی 110، 116، 109، 116. و من اهم مظاهر المسجد مشهد الامام علی (ع) الذی یقع فی رواق الضلع الجنوبی، و هناک محاریب منتثرة فی المسجد و قد تداولت بین الناس باسم المقامات، و منها باسم مقام الخضر و باسم مقام زین العابدین و باسم مقام جبرائیل و باسم مقام ابراهیم (ع).
و من مظاهر المسجد السفینة او التنوّر و یکاد یکون فی وسط المسجد، و ینزل الی السفینة بدرج منظم تعلوه عقادة مائلة، یفضی هذا الدرج الی ساحة مکشوفة مثمنة الاضلاع تعلو جدرانها الی ما فوق ارض المسجد قلیلا، فتظهر من الخارج علی هیئة حوض مثمن و فی کل ضلع من اضلاع هذا الصحن المثمن ایوان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 82
الی سردابین مسقوفین و یبدو ان لهذا المبنی الذی عرف بالسفینة فروعا داخلیة اخری، و واضح الجدار الذی سدت به، و ان هذا الجدار علی ما یبدو قد استحدث حدیثا. اما سبب تسمیته بالسفینة، فالناس یعتقدون ان سفینة نوح (ع) کان رسوها فی هذا المکان بعد الطوفان.
و من مظاهر المسجد ایضا بیت (الطشت) الذی یتکون من سرداب یمتد تحت الارض و ینتهی من طرفیه بدرجین یؤدیان الی مدخل و مخرج. و من الجدیر بالذکر ان مسجد الکوفة فی بنائه الحالی یختلف عما انشی‌ء فی بادی‌ء الامر، و قد طرأت علی بنائه توسیعات و ترمیمات فی عصور تاریخیة مختلفة.
اما قصر الامارة، فانه شید بمحاذاة الضلع الجنوبی لمسجد الکوفة، و من الثابث تاریخیا ان سعد بن ابی وقاص اول من شرع فی بناء هذا القصر، و قد ظهر من التنقیبات الاثریة التی اجرتها مدیریة الاثار العراقیة، ان المسجد کان یتصل بالقصر من باب مفتوح فی الجدار الجنوبی للمسجد، و ان طول ضلع القصر نحو 177 م و ان معدل سمک الجدران 60، 3 و معدل قطر الابراج 30، 3 م.
و الی جهة المسجد الجنوبیة الغربیة بحدود 85 م بنایة صغیرة تعرف بین مدینة الکوفة مصورة من الطائرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 83
الناس باسم بیت الامام علی (ع) و یذکرون ان الامام کان یسکنه و انه کان غسل فیه بعد استشهاده .
و یقوم قبر مسلم بن عقیل (ر) و قبر هانی بن عروة فی مشهدین فی مکان قریب ملاصق لجدار مسجد الکوفة الشرقی و یفضی الیهما من باب کبیرة فی ذلک الجدار، کما ان للمشهدین بابا من جبهة البناء الشمالیة، و الی مکان قریب من مشهد مسلم بن عقیل (ر) یقوم قبر المختار بن ابی عبید الثقفی زعیم التوابین.
و فی خارج مسجد الکوفة و الی القرب من بیت الامام علی (ع) یقوم قبر میثم التمّار و هو من انصار الامام علی (ع) الخلصاء.
و فی الکوفة مساجد، لها مکانة کریمة عند الشیعة، تلک المساجد هی مسجد السهلة و مسجد غنی، و مسجد بنی ظفر، و مسجد الحمراء، و مسجد جعفی، روی المجلسی عن محمد بن مسلم عن ابی جعفر علیه السلام انه قال: بالکوفة مساجد ملعونة و مساجد مبارکة فاما المبارکة فمسجد غنی و اللّه انّ قبلته لقاسطة، و ان طینته لطیبة و لقد بناه رجل مؤمن و لا تذهب الدنیا حتی تنفجر عنده عینان و یکون فیهما جنتان و اهله ملعونون و هو مسلوب منهم و مسجد بنی ظفر و مسجد السهلة و مسجد الحمراء و مسجد جعفی.
و اشهر هذه المساجد هو مسجد السهلة، و هو البقیة الباقیة من المساجد التی اختطتها القبائل بعد مسجد الجامع، و یقع المسجد الیوم فی ظاهر الکوفة فی الجهة الشمالیة الغربیة من المسجد الجامع علی نحو کیلومترین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 84
فی ارض خالیة من العمران و السکن.
و یرجع ان هذا المسجد شید قبل مجی‌ء الامام علی الی الکوفة، و یذکر ابن الفقیه ان الامام علیا (ع) قال: ان بالکوفة اربع بقاع قدس مقدسة فیها اربعة مساجد قیل سمّها یا امیر المؤمنین قال: احدها مسجد ظفر و هو مسجد السهلة .
مساحة المسجد 140* 125 م 2 و ترتفع جدرانه نحو 22 م و کل ضلع من اضلاعه الاربعة تدعمه ابراج نصف دائریة من الخارج علی ابعاد متساویة و ارضیة بیت الصلاة مفروشة بالاجر 24* 24 سم 2 علی طراز هندی مقسم بهیئة مستطیلات متساویة الابعاد، اما المحراب فیقع فی وسط بیت الصلاة و هو یخلو من آثار الزخرفة او الکتابة.
و من اشهر محلات الکوفة (الکناسة) الواقعة الی غرب مسجد الکوفة و هذه المحلة التی اصبحت مرکزا مهما فی المدینة ترکزت فیها التجارة خاصة تجارة بیع و شراء الجمال و البغال و الحمیر کما کانت فیها سوق لبیع و شراء العبید و سمیت بهذا الاسم لانها کانت مکانا لرمی الانقاض لبنی اسد، و من اشهر من سکنتها من القبائل العربیة، قبیلة عبس و ضبة و تمیم کما سکنتها بنو رباح و بنو دارم و بنو حمام و بنو الشیطان و بنو عوف و بنو حرام و بنو هالک و بنو الکاهل.
ان اهم القبائل التی سکنت الکوفة هی قبیلة کندة، و بجیله، و همدان، و ثقیف، و مذحج، و تمیم، و اسد، و بکر، و الازد، و طی، و قد اقطعت هذه القبائل الاماکن التی اتخذتها مستقرا و سکنا.
و کان اول الوافدین الیها بعد العرب الفرس و کان عددهم اربعة الاف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 85
ممن کانوا یعملون فی الجیش الفارسی و شهدوا القادسیة علی رستم، و قد فاوضوا سعدا علی ان ینزلوا الکوفة حیث احبوا و یحالفوا من احبوا، و یفرض لهم فی العطاء، فاعطوا الذی سألوه و انزلهم سعد بحیث اختاروا و فرض لهم فی الف الف و کان لهم نقیب منهم یقال له (دیلم) فاطلق علیهم حمراء دیلم، لان العرب کانت تسمی العجم الحمراء .
ثم سکن الکوفة بعد تمصیرها السریان الذین کانوا یسکنون الدیارات القائمة فی أطراف الحیرة و النجف، و کان فی الکوفة اسقفان احدهما نسطوری و الآخر یعقوبی، و کان نصاری الکوفة طائفتین (نساطرة) و هم الحضر و (یعاقبة) و هم البدو . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 86
و قدم الکوفة وافدین من نجران الیمن الیهود و النصاری و کان معظمهم صیارفة قاموا بالکوفة فی محلة عرفت بالنجرانیة ، ثم نمت الکوفة و ازدهرت و صارت قبلة انظار العرب، و وصلت أوج عظمتها و توسعها فی العصر الأموی، و بلغت مساحتها ستة عشر میلا و ثلثی المیل ، و قال عنها الاصطخری: انها اصبحت تضاهی البصرة من حیث السعة و العمران . و کان فیها خمسون الف دار للعرب من ربیعة و مضر و اربعة و عشرون الف دار لسائر العرب و ستة آلاف دار للیمن .
و فی سنة 132 ه 750 م أعلنت الخلافة العباسیة فی الکوفة و نودی بأبی العباس السفاح أول خلیفة عباسی، و قد تحول السفاح عنها الی مدینة الهاشمیة القریبة من الکوفة، و لما تولی ابو جعفر المنصور الحکم بعد وفاة ابی العباس السفاح سنة 136 ه 754 م بنی فی الکوفة (الرصافة) و أمر أبا لخصیب مرزوقا مولاه فبنی له القصر المعروف بأبی الخصیب علی أساس قدیم و یقال ان أبا الخصیب بناه لنفسه فکان المنصور یزوره فیه .
و یقع بالقرب من الکوفة خندق یعرف بخندق (کری سعده) و یعرف ایضا بخندق سابور، و یعتقد ان الفرس الساسانیین هم الذین انشأوا هذا المشروع الکبیر، و یبدأ من جنوب مدینة هیت علی الفرات بمسافة 17 کم و یخترق البادیة علی طول الحدود العراقیة لاراضی العراق السهلة و ینتهی البحر قرب مصب (بوبیان) علی بعد 20 میلا من شط العرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 87
غربا و یعرج هذا الخندق بعد ان یمر من غرب الحبانیة مارا بجبل سعدة ثم وادی (ابو فروج) ثم الی الجنوب الشرقی باتجاه (غدیر المالح) و یسلک وادی (الفضاوی) ثم هور ابی دبس الی بحر النجف ملازما الضفة الغربیة قرب الکوفة ثم یقطع المسافة الی هور الحمار حیث ینتهی بالقرب من جبل سنام .
و ترتبط الکوفة مع البلدان المختلفة بطرق متعددة، فالطریق الموصل من الکوفة الی مکة کان یسیر متجها نحو القادسیة ثم المغیثیة ثم القرعاء ثم واقصة ثم زبالة ثم الشقوق ثم بیطان و الاماکن الاربعة هی دیار بنی اسد و الثغلبیة و هی مدینة علیها سور و زرود و الاجفر منازل طی ثم مدینة فیسد و هی التی ینزلها عمال طریق مکة و اهلها من طیّ.
و توز و سمیراء و الحاجر و اهلها قیس و اکثرهم بنو عبس و النقرة و منها یعطف الطریق من اراد المدینة او اراد مکة و من اراد الاتجاه نحو البصرة فیسلک طریق بارق ثم القلع ثم سلمان ثم الی أقر ثم الی الاخادید ثم الی عین صید ثم الی عین جمل ثم الی البصرة .
و من اراد التوجه الی واسط فیسلک طریق البطائح و تقدر المسافة بست مراحل .
و اول ولاة الکوفة هو سعد بن ابی وقاص الزهری، الذی کان یقود حملة فتح العراق و تولاها بعده عمار بن یاسر ثم ابو موسی الاشعری، ثم تعاقب الولاة علیها حتی سنة 36 ه، فقد نزل بها الامام علی (ع) بعد انتصاره فی معرکة الجمل، و اقام فیها و قتل و اصبحت مرکزا للخلافة الاسلامیة، و بعد اغتیال الامام علی (ع) انتخب فیها الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 88
الحسن (ع) خلیفة للمسلمین، و بقی کذلک نحو ستة اشهر، ثم صار الامر لمعاویة بن ابی سفیان فانتقلت حاضرة الدولة الاسلامیة الی دمشق، و ظلت هکذا حتی سنة 132 ه ففیها سقطت الدولة الامویة و قامت الدولة العباسیة، و اصبحت الکوفة عاصمة الدولة الجدیدة و ظلت عاصمة حتی انتقل منها السفاح الی الهاشمیة فالانبار
ان الکوفة تعتبر من اهم مراکز الحضارة الاسلامیة فی القرون الوسطی، امتازت بعراقتها فی الثقافة العربیة، و انها بفخر حاملة لواء الدراسات اللغویة و مدرستها فی النحو غنیة عن التعریف ، و قد ساهمت هذه المدینة اسهاما کبیرا فی الحفاظ علی التراث العربی من ادب و شعر و لغة، کما کانت میدانا واسعا لنمو الحرکات الفکریة الجبارة فی الاسلام .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 89

النجف الاشرف

مدینة تقع فی طرف الصحراء، بینها و بین الکوفة زهاء ستة أمیال، و مناخها صحراوی، حار و جاف صیفا و بارد قارص شتاء، و ترتفع المدینة عن سطح البحر بزهاء 230 قدما، و معدل سقوط المطر فی المدینة سنویا 1- 5 قطرة فی کل بوصة، و مدینة النجف عرضة لریاح السموم بسبب وقوعها فی طرف الصحراء و اختلاف درجة الحرارة فیها، و قد تبلغ درجة الحرارة فی المدینة صیفا 48 درجة مئویة. و اکثر احیانا و تقع النجف غربی بغداد و علی بعد حوالی 180 کم.
و النجف قریبة من الحیرة، عاصمة المناذرة بل انها ضاحیة من ضواحیها الجمیلة، و قد انتشرت الادیرة المسیحیة فی منطقة النجف، و من اشهرها دیر فاثیون و هو فی اعلا النجف و دیر ابن مزعوق فی جنوبها، قال الشاعر محمد بن عبد الرحمن الثروانی:
قلت له و النجوم طالعةفی لیلة النصح اول السحر
هل لک فی مار فاثیون و فی‌دیر ابن مزعوق غیر مختصر
یفیض هذا النسیم من طرف الشام‌و درّ الندی علی الشجر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 90
و من الأدیرة المشهورة، دیارات الاساقف، و هذه الدیارات بالنجف، بظاهر الکوفة، و هو اول الحیرة، و هی قباب و قصور تسمی دیارات الاساقف و بحضرتها نهر یعرف بالغدیر، عن یمینه قصر أبی الخصیب مولی أبی جعفر، و عن شماله السدیر، و فیه یقول علی بن محمد جعفر العلوی الحمّانی:
کم وقفة لک بالخورنق ما توازی بالمواقف
بین الغدیر الی السدیرالی دیارات الاساقف
و قصر أبی الخصیب، هو احد المتنزهات یشرف علی النجف و علی ذلک الظهر کله، یصعد من اسفله فی خمسین درجة الی سطح آخر، أفیح فی غایة الحسن و هو عجیب الصنعة، و فی قصر أبی الخصیب موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 91
یقول بعضهم:
یا دار غیّر رسمها مرّ الشمال مع الجنوب‌بین الخورنق و السدیر فبطن قصر أبی الخصیب
فالدیر فالنجف الأشم جبال ارباب الصلیب و من الأدیرة المشرفة علی النجف، دیر مارث مریم، دیر قدیم من بناء آل المنذر بنواحی الحیرة بین الخورنق و السدیر و بین قصر أبی الخصیب، و فیه یقول الثروانی:
بمارت مریم الکبری و ظل فنائها فقف‌فقصر أبی الخصیب المشرف الموفی علی النجف
(*) و یبدو ان النجف کانت مسرحا للوقائع الحربیة فی اثناء الفتوحات الاسلامیة، و قد نزل فیها القائد خالد بن الولید و قواده الدین شارکوا فی فتح منطقة الحیرة، و بالقرب من النجف الاشرف دارت المعرکة الفاصلة فی تاریخ الفتوحات الاسلامیة، تلک هی معرکة القادسیة، فی آخر سنة 16 ه . و القادسیة بین الکوفة و العذیب، و قد انتصر المسلمون فی تلک الوقعة المشهورة، انتصارا عظیما، و فتحوا السواد، و فی ذکر تلک الوقعة الحاسمة، قال بشر بن ربیعة بن عمرو الخثعمی:
أ لم خیال من امیمة موهناو قد جعلت أولی النجوم تغور
و نحن بصحراء العذیب و دارهاحجازیة ان المحل شطیر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 92 فزارت غریبا نازحا جل ماله‌جواد و مفتوق الغرار طریر
و حلّت بباب القادسیة ناقتی‌و سعد بن وقاص علیّ أمیر
تذکر هداک اللّه وقع سیوفنابباب قدیس و المکرّ ضریر
عشیة ودّ القوم لو ان بعضهم‌یعار جناحی طائر فیطیر
و یصف القعقاع بن عمرو التمیمی المعارک الطاحنة کما یذکر القتلی فی قوله:
سقی اللّه قتلی بالفرات مقیمةو أخری باثباج النجاف الکوانف
فنحن وطئنا بالکواظم هرمزاو بالثنی قرنی قارن بالجوارف
و النجف فی اللغة، مکان لا یعلوه الماء مستطیل منقاد و یکون فی بطن الوادی و قد یکون ببطن من الارض، جمعه «نجاف» و النجف محرکة، التلّ و قشور الصلیان، و هو بظهر الکوفة کالمسناة تمنع مسیل الماء ان یعلو الکوفة و مقابرها .
إن اهم القبائل التی کانت تحوّل فی اطراف الحیرة و النجف هی قبیلة تغلب التی هاجرت بعد حرب البسوس فی ایام عمرو بن هند ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 93
و کذلک قبیلة بکر و من اشهر فروعها قبیلة شیبان، و کانت لهذه القبیلة الاخیرة مواقف مشهورة و قد انتصرت مع حلیفاتها القبائل العربیة علی الجیوش الساسانیة فی موقعة ذی قار
و قد اصبحت منطقة النجف ضمن الاراضی التی تم فتحها بأیدی المسلمین، و بنیت الکوفة سنة سبع عشرة للهجرة، کما مر بنا سابقا، و استمرت هذه المدینة ولایة مهمة من ولایات الدولة الاسلامیة حتی سنة 36 ه، ففی هذه السنة قدم الیها الامام علی بن ابی طالب (ع) بعد فراغه من موقعة الجمل، و اقام فیها، واضحت الکوفة عاصمة للخلافة الاسلامیة مدة اربع سنوات.
و فی الحادی و العشرین من رمضان سنة 40 ه 661 م توفی الامام علی (ع) متأثرا من جرحه أثر الضربة التی اصابه بها احد الخوارج و هو عبد الرحمن بن ملجم المرادی، و قام بدفنه اولاده و اعضاء اسرته المقربون سرا فی النجف، و طوال الحکم الاموی لم یشید لمدفنه الشریف ضریح، و انما کان التقاء و زیارة العاویین لقبره هو الذی شخص مدفنه حتی زال الحکم الاموی.
و نتیجة للاخبار التاریخیة تعتبر عمارة هرون الرشید العباسی اول عمارة للقبر الشریف، و بدایة الدفن فی منطقة النجف، و نزول الناس ذلک المکان تبرکا بالراقد الکریم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 94
و عقبت عمارة الرشید، عمارة محمد بن زید بن محمد بن الحسن العلوی الحسنی، صاحب طبرستان و الدیلم الذی ولی الامرة بعد وفاة اخیه الحسن بن زید سنة 270 ه. فقد بنی علی قبره الشریف قبة.
و ممن اشتهر أنه عنی فی بناء قبة علی القبر الشریف و جعلها مرتفعة الارکان من کل جانب لها ابواب و سترها بفاخر الستور و فرشها بثمین الحصر السامان، ابو الهیجاء عبد اللّه ابن حمدان بن حمدون التغلبی المقتول سنة 317 ه 929 م
و لعل اجل العمارات و اهمها تلک التی قام بها الملک البویهی عضد الدولة، و انه صرف اموالا طائلة و عمر المشهد عمارة جلیلة ، و التی ظلت حتی سنة ثلاث و خمسین و سبعمائة و کان قد ستر الحیطان بخشب الساج المنقوش، فاحترقت تلک العمارة، و جددت عمارة المشهد علی ما هی الآن .
و تمصرت النجف و اتسع نطاقها بعد ذلک و حین زارها الرحالة ابن بطوطة فی سنة 727 ه 1326 م قال عنها: انها مدینة حسنة فی ارض فسیحة صلبة من احسن مدن العراق و اکثرها ناسا و اتقنها بناء، و لها اسواق حسنة نظیفة . و مما جاء فی وصفه للروضة الطاهرة قوله:
«و یدخل من باب الحضرة الی مدرسة عظیمة یسکنها الطلبة و الصوفیة من الشیعة و لکل وارد علیها ضیافة ثلاثة ایام من الخبز و اللحم و التمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 95
مرتین فی الیوم، و من تلک المدرسة یدخل الی باب القبة و علی بابها الحجاب و النقباء و الطواشیة فعندما یصل الزائر یقوم الیه احدهم او جمیعهم و ذلک علی قدر الزائر، فیقفون معه علی العتبة و یستأذنون له و یقولون: عن امرکم یا امیر المؤمنین، هذا العبد الضعیف یستأذن علی دخوله للروضة العلیة فان اذنتم و إلا رجع و ان لم یکن اهلا لذلک، فأنتم اهل المکارم و الستر ثم یأمرونه بتقبیل العتبة و هی من الفضة و کذلک العضادتان ثم یدخل القبة و هی مفروشة بانواع البسط من الحریر و سواه و بها قنادیل الذهب و الفضة منها الکبار و الصغار و فی وسط القبة مسطبة مربعة مکسوة بالخشب علیه صفائح الذهب المنقوشة المحکمة العمل مسمرة بمسامیر الفضة قد غلبت علی الخشب بحیث لا یظهر منه شی‌ء و ارتفاعها دون القامة».
و مما جاء فی وصف ابن بطوطة لأهلها قوله: «و لیس بهذه المدینة مغرم و لا مکاس و لا وال و انما یحکم علیهم نقیب الاشراف و اهلها تجار یسافرون فی الاقطار و هم اهل شجاعة و کرم و لا یضام جارهم، صحبتهم فی الاسفار فحمدت صحبتهم» .
و الروضة المقدسة التی فی وسطها القبر الشریف، مربعة الشکل، طول ضلعها ثلاثة عشر مترا و ارضیتها مفروشة بالرخام الإیطالی المصقول و الجدران الی علو حوالی المترین، مغطاة بالرخام ذی اللون البدیع، و ما یعلو تلک الصخور فقد کسیت الجدران جمیعا بالمرائی الملونة و الزخارف الهندسیة البدیعة و بالفسیفساء ذات الاشکال الجمیلة، و من الجدیر بالذکر ان شاه ایران الحالی محمد رضا بهلوی، هو الذی امر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 96
بوضع المرایا و تزجیج الروضة الحیدریة علی نفقته الخاصة، و قد بلغت کلفتها 000، 12 دینار، و الذی قام برسم و تنظیم هذه المرایا الفنان الایرانی «حسین کیانفر» بمعماریة الحاج سعید المعمار .
و فی وسط الحضرة القبر الشریف الذی ضم البدن الطاهر و قد وضع علیه صندوق من الخشب الساج المرصع بالعاج المنقوش علیه بعض الآیات القرآنیة، محاط بشباکین، الاول مما یلی الصندوق الخشبی من الحدید الفولاذ و الثانی من الفضة و قد کتبت فی اعلاه ابیات من قصیدة ابن ابی الحدید، التی یقول فی اولها:
یا رسم لا رسمتک ریح زعزع‌و سرت بلیل فی عراصک خروع
و ابیات من قصیدة السید الحمیری و التی مطلعها:
لأم عمرو باللوی مربع‌طامسة اعلامه بلقع
و تعلو القبر الشریف قبة جمیلة واسعة مرتفعة من قاعدة الروضة المقدسة الی 35 مترا و محیط قاعدتها 50 مترا و قطرها حوالی 16 مترا، و للقبة 12 موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 97
شباکا، و هی مزینة بالقاشانی و ما تحت الشبابیک بحوالی المتر، زینت الجدران باشکال مختلفة من المرایا البدیعة.
و للروضة المطهرة ستة ابواب و الباب الاول یقع فی وسط الایوان الذهبی و قد نصب فی حدود سنة 1219 ه و هو من آثار الحاج محمد حسین خان الاصفهانی الصدر الاعظم، و قد استبدلت هذه الباب، بباب ذهبیة مطعمة بالمیناء و الاحجار الکریمة، متقنة الصنع، رائعة المنظر، قام بعملها و صیاغتها امهر الصاغة فی ایران، و فی اعلی الباب الرئیس کتابة نصها:
قال الرسول صلی اللّه علیه و سلم: (علی مع الحق و لن یفترقا حتی یردا علی الحوض).
و الباب الثانی و الثالث اللذان یدخل منهما الی الرواق الی الحرم المطهر فالذی یکون علی یمین الداخل الی الحرم نصب سنة 1283 ه فی زمن السلطان عبد العزیز، و کان الباذل لنفقته لطف علی خان الایرانی، و الباب الذی علی یسار الداخل الی المرقد الشریف نصب سنة 1287 ه ایام زیارة ناصر الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 98
القاجاری، و فی سنة 1376 ه قلعا و ابدلا ببابین ذهبیین جمیلین رائعین، امتازا ببدیع الصنعة و الاتقان و کان الباذل لنفقتهما المحسن الحاج محمد تقی الاتفاق الطهرانی و بمسعی السید محمد کلانتر.
و فی اعلا الباب کتابات هذا نصها:
قال الرسول صلی اللّه علیه و سلم: انا مدینة العلم و علی بابها- الحق مع علی و علی مع الحق. علی حبه جنة. قسیم النار و الجنة. وصی المصطفی حقا، یا علی، امام الانس و الجنة.
و فی داخل الحرم بابان فضیان عند الرأس الشریف، احدهما من جهة الشمال نصب سنة 1316 ه و کانت الباذلة لنفقته بنت أمین الدولة زوجة علی شاه، و نصب الآخر سنة 1318 ه و کان الباذل لنفقته الحاج غلام علی منظر داخلی لأحد أروقة الحرم المزینة بالمرایا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 99
المسقطی، و نصب فی الرواق باب سادس محلی بالذهب سنة 1341 ه و موقعه قبال باب الصحن الشریف القبلی، بذلت مصروفاته والدة الحاج عبد الواحد الحاج سکر زعیم آل فتلة .
اما الصحن الشریف فیبلغ طول ضلعیه الشرقی و الغربی 84 م و طول ضلعه الشمالی 74 و الجنوبی 75 م و فی کل ضلع من ضلعیه الشمالی و الشرقی خمسة عشر إیوانا و فی کل من ضلعیه الغربی و الجنوبی اربعة عشر إیوانا و فی کل ایوان حجرة هی مقبرة احد المشاهیر و قد شیدت هذه الحجرات لتکون مأوی لطلاب العلم، اما الآن فقد اشغلت من قبل قراء القرآن الکریم علی المدفونین فی تلک الحجر.
و للصحن الشریف خمسة ابواب، الباب الکبیر و هو من جهة الشرق و یعتبر الباب الرئیسی للروضة الحیدریة، و هو قبالة سوق النجف المشهور بالسوق الکبیر، و الباب الثانی من جهة الشمال و یعرف بباب الطوسی نسبة إلی شیخ الطائفة ابی جعفر محمد الطوسی المتوفی سنة 460 ه، و هذا الباب یؤدی الی شارع الطوسی و فیه مسجد الطوسی الذی یضم قبر الشیخ الطوسی رحمه اللّه. و الباب الثالث المعروف بباب القبلة، و قد عرف بهذا الاسم لوقوعه باتجاه القبلة فی الجهة الجنوبیة من الصحن، و الباب الرابع یقع فی جهة الغرب، فتح فی ایام السلطان عبد العزیز العثمانی سنة 1279 ه و یعرف بالباب السلطانی ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 100
و الباب الخامس و هو باب علی مقربة من الباب الکبیر.
و فی مشهد الامام علی (ع) دفن الکثیر من الشخصیات الاسلامیة البارزة من علماء و سلاطین و ملوک و وزراء، تبرکا بالمکان المقدس و تقربا من المرقد الشریف الطاهر، و من المشاهیر الذین دفنوا بالقرب من الضریح الشریف الامیر البویهی عضد الدولة المتوفی سنة 373 ه ، کما دفن الامیر شرف الدولة بن عضد الدولة المتوفی سنة 379 ه ه، و ممن دفن فی (المشهد) من ولاة البویهیین بمنطقة الجبل و همذان و الدینور و بروجرد و نهاوند و أسد آباد، بدر بن حسنویه و کان مشهورا بالشجاعة و السیاسة و العدل ، و هناک العدد الکبیر من الامراء و الوزراء البویهیین الذین دفنوا بالمشهد الطاهر.
و دفن فی المشهد الشریف، الشیخ حسن الکبیر الجلایری المتوفی سنة 757 ه و الأمیر قاسم، شقیق السلطان أویس المتوفی سنة 779 ه و دفن فی جوار والده الشیخ حسن الجلایری .
و دفن الشاه عباس الاول الصفوی فی الرواق تحت القبة المقدسة التی منها یدخل الداخل الی الحرم الشریف من جهة رجلی الامام علی (ع .
و نقل الی النجف الأشرف جثمان السلطان محمد القاجاری المتوفی سنة 1211 ه و دفن فی الرواق من جهة الشمال بالقرب من منبر الخاتم، و تعرف هذه الحجرة الیوم بحجرة السلاطین، کما نقل الی النجف جثمان الملک کیومرث میرزا الملقب بملک آراء ابن السلطان فتح علی القاجاری المتوفی سنة 1288 ه، کذلک نعش السلطان محمد حسن خان و نعش الملک حسین قلی خان و دفنوا فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 102
النجف الأشرف .
و دفن فی الإیوان الکبیر، الملاصق للرواق و فی حجر الصحن عدد کبیر من کبار العلماء المسلمین منهم: المولی احمد بن محمد المقدس الاردبیلی المتوفی سنة 990 ه و الشیخ احمد بن اسماعیل بن عبد النبی الجزائری المتوفی سنة 1151 ه و الشیخ محمد سلی بن الحاج محمد حسن الخونساری المتوفی سنة 1254 ه، و السید محمد مهدی بن السید مرتضی بحر العلوم المتوفی سنة 1212 ه و الشیخ مرتضی الانصاری، و السید اسد اللّه الاصفهانی او الرشتی و الملا کاظم الخراسانی المعروف (بالاخوند)، و السید محمد سعید الحبوبی ، و الشیخ فتح اللّه المعروف بشیخ الشریعة ، و المیرزا النائینی، و السید ابو الحسن الاصفهانی المتوفی سنة 1376 ه و مدفنه فی الحجرة الواقعة علی الجانب الایسر بالنسبة للداخل الی الصحن من الباب الکبییر. و فی الحجرة الاولی التی علی یسار الخارج من باب الطوسی یرقد عدد من العلماء الکبار امثال محمد باقر القمی المتوفی سنة 1334 ه، و فی الحجرة الواقعة ما بین مدخل الساباط و باب الصحن المؤدی الی سوق العمارة، یرقد الشیخ ضیاء الدین العراقی المتوفی سنة 1361 ه.
و من مشاهیر من دفن فی النجف شیخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 104
علی بن الحسن الطوسی المتوفی سنة 460 ه و دفن فی داره بوصیة منه
اما عدد الملوک و الامراء و الراجات الذین دفنوا فی الرواق و الصحن الشریف و الغرف المحیطة بالصحن فانه کبیر جدا.
و فی المدینة عدد غیر قلیل من مقابر المشاهیر من الروحانیین و الوجهاء و کبار رجال الادب، کمقبرة الشیخ جعفر الکبیر، و مقبرة صاحب الجواهر، و مقبرة الشیخ خضر شلال، و مقبرة الحاج میرزا حسین الخلیلی، و مقبرة آل القزوینی، و آل بحر العلوم و مقبرة الماقمقانی، و مدفن الشیخ احمد کاشف الغطاء، و ال الشیخ راضی، و الشیخ عبد الکریم الجزائری
و تعتبر مقبرة النجف المعروفة (بوادی السلام) من اوسع المقابر فی العالم، و تأریخ هذه المقبرة قدیم قدم التعرف علی مرقد الامام علی بن ابی طالب (ع).
و تعتبر من أقدس و أطهر الأماکن لدفن المسلم فی نظر المسلمین عامة و الشیعة منهم بشکل خاص ، و تقع هذه المقبرة الواسعة فی شمال مدینة النجف، و تمتاز تربتها بانها رملیة ناعمة نقیة، و تحتها بحوالی 20- 25 سم طبقة صخریة متکونة من صخور رملیة قویة تسمح لحفر اللحود فیها بصورة عمودیة، و تمتاز ارض المقبرة بالجفاف التام باعتبارها جزءا من الهضبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 105
الصحراویة الجافة، و لنقاوتها و جفافها، فهی تکون خالیة تماما من العفونة و من أی رائحة غیر طیبه- قال اسحق بن ابراهیم الموصلی یمدح الواثق العباسی و یذکر النجف و تربتها التی یصفها بالمسک او العنبر، فی قصیدته التی مطلعها:-
یا راکب العیس لا تعجل بنا وقف
و الذین هاج (وادی السلام)- مقبرة النجف الکبری، شاعریتهم کثیرون و قد یکون من الصعب الاحاطة باسمائهم سواء من المتقدمین او المتأخرین و من هؤلاء المتأخرین الشیخ علی الشرقی، و محمد علی الحومانی، و عبد المنعم الفرطوسی، و محمد الخلیلی، و حمید فرج اللّه و غیرهم .
و فی النجف الأشرف مساجد مشهورة کثیرة، ففی محلة العمارة خمسة و عشرون مسجدا و فی محلة الحویش واحد و عشرون مسجدا و فی محلة البراق أربعة عشر مسجدا و فی محلة المشراق ثمانیة عشر مسجدا و فی محلة الجدیدة ثمانیة مساجد .
و من المساجد المعروفة بقدسیتها، مسجد الحنانة، یقصده الناس للتبرک، و موقعه فی شمال مدینة النجف علی یسار الذاهب الی مدینة الکوفة، و بالقرب منه «الثویة» و هی مدفن لکثیر من خواص الامام علی (ع) .
و من أقدم الأروقة التی بنیت فی المشهد، رواق عمران بن شاهین، و عمران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 106
هذا رأس الأمارة الشاهینیة بالبطیحة و مؤسسها، أصله من الجامدة «من اعمال واسط» مجهول النسب، سوادی المنشأ، ینتسب الی بنی سلیم، کان علیه دم و هرب الی البطائح فاحتمی بالآجام یتصید السمک و الطیر، و رافقه الصیادون و التف حولة اللصوص، فکثر جمعه و استفحل أمره، فأنشأ معاقل و تمکن، و عجزت عنه حکومة واسط، و استولی علی الجامدة و امتد سلطانه فی نواحی البطائح، فجهز له معز الدولة البویهی جیشا من بغداد سنة 338 ه فهزمه عمران ، و نشبت بینه و بین معز الدولة معارک انتهت بالصلح علی ان تکون امارة البطیحة لعمران بن شاهین، و استمر امیرا منیع الجانب مدة اربعین سنة، و توفی سنة 369 ه ، و قد بنی رواقا فی النجف الأشرف و کان هذا الرواق یقرب من الجهة الشمالیة لرواق الحرم العلوی .
و من الاماکن القدیمة فی النجف الأشرف «مسجد الشیخ الطوسی» و کان دارا لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی المتوفی سنة 460 ه و قد أوصی ان یدفن بها و ان تتخذ داره مسجدا بعده، و هو الیوم من اشهر مساجد النجف و تقام فیه الجماعة و یحضر فیه اهل العلم للدراسة و التدریس، و موقعه فی محلة المشراق، و کانت هذه المحلة تعرف قدیما بمحلة العلا من الجهة الشمالیة للصحن الشریف.
و تمتاز مدینة النجف بکثرة مدارسها العلمیة، و من اشهرها:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 107
1- مدرسة الصدر و تحتوی علی 30 غرفة و قد بناها محمد حسین خان الاصفهانی فی حدود سنة 1240 ه/ 1824 م، و تعتبر هذه المدرسة اقدم المدارس فی النجف الأشرف، و موقعها فی السوق الکبیر.
2- مدرسة المعتمد و تحتوی علی 20 غرفة، و قد بناها معتمد الدولة عباس قلی خان فی حدود سنة 1250 ه/ 1834 م، و موقعها فی محلة العمارة.
3- مدرسة المهدیة و تحتوی علی 22 غرفة، و قد بناها الشیخ مهدی بن الشیخ علی آل کاشف الغطاء فی حدود سنة 1291 ه/ 1874 م و موقعها فی محلة المشراق.
4- مدرسة القوام و تحتوی علی 26 غرفة، و قد بناها فتح علی خان الشیرازی فی حدود سنة 1300 ه 1882 م و موقعها فی محلة المشراق.
5- مدرسة السلیمیة و تحتوی علی 12 غرفة، و قد بناها سلیم خان الشیرازی فی حدود سنة 1250 ه/ 1834 م، و موقعها فی سوق محلة المشراق.
6- مدرسة الایروانی و تحتوی علی 19 غرفة، و قد بناها الحاج مهدی الایروانی سنة 1305 ه/ 1887 م، و موقعها فی محلة العمارة.
7- مدرسة الشربیانی و تحتوی علی 12 غرفة، و قد بناها الشیخ محمد الشربیانی سنة 1320 ه/ 1805 م، و موقعها فی محلة الحویش.
8- مدرسة القزوینی و تحتوی علی 30 غرفة، و قد بناها الحاج محمد آغا الامین القزوینی سنة 1324 ه/ 1906 م، و موقعها فی محلة العمارة.
9- مدرسة الهندی و تحتوی علی 20 غرفة و قد بناها ناصر علی خان اللاهوری سنة 1328 ه/ 1910 م و موقعها فی محلة المشراق.
10- مدرسة الخلیلی الکبری، و تحتوی علی 46 غرفة، و قد بناها الحاج میرزا حسین الخلیلی سنة 1316 ه/ 1898 م، و موقعها فی محلة العمارة بالشارع العام المعروف «بعقد السلام».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 108
11- مدرسة الخلیلی الصغری، و تحتوی علی 40 غرفة، و قد بناها الحاج میرزا حسین الخلیلی سنة 1322 ه 1904 و موقعها فی محلة العمارة.
12- مدرسة الأخوند الکبری و تحتوی علی 40 غرفة و قد بناها الشیخ ملا محمد کاظم الخراسانی سنة 1321 ه/ 1903 م، و موقعها فی محلة الحویش بالشارع العام.
13- مدرسة الاخوند الوسطی، و تحتوی علی 33 غرفة، و قد بناها الشیخ ملا کاظم الخراسانی سنة 1326 ه/ 1908 م، و موقعها فی محلة البراق.
14- مدرسة الاخوند الصغری، و تحتوی علی 12 غرفة، و قد بناها الشیخ ملا محمد کاظم الخراسانی سنة 1328 ه/ 1910 م، و موقعها فی محلة البراق.
15- مدرسة السید کاظم، و تحتوی علی 80 غرفة، و قد بناها السید کاظم الیزدی سنة 1325 ه/ 1907 م.، و موقعها فی محلة الحویش.
16- مدرسة الشیرازی بجوار الصحن الشریف من جهة باب الطوسی، و فیها قبر المرحوم المجدد المیرزا حسن الشیرازی.
17- مدرسة البروجردی و تحتوی علی 64 غرفة، و قد بناها السید آغا حسین البروجردی سنة 1373 ه/ 1953 م، و موقعها بالقرب من الصحن الشریف.
18- مدرسة (جامعة النجف الدینیة) و تحتوی علی حوالی 200 غرفة، قام بالانفاق علیها الحاج محمد تقی الاتفاق الطهرانی، و اشرف علی عملیة البناء السید محمد کلانتر، و موقعها فی حی السعد و تعتبر هذه المدرسة من اضخم المدارس العلمیة فی النجف.
19- مدرسة عبد العزیز البغدادی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 109

کربلاء

من مدن العراق المقدسة، علی بعد 60 میلا الی الجنوب الغربی من بغداد، و تقع علی حافة الصحراء ، فی غربی الفرات فیما یحاذی قصر ابن هبیرة .
و من المرجح ان هذه المدینة کانت احدی القری العراقیة القدیمة التی یرتفع تاریخها الی العهد البابلی، و الاسم الذی تحمله یؤید ترجیحنا ذلک، و نحن نری ان کلمة (کربلاء) لا تعدو غیر معنی (قرب الإله)، فالکلمة متوارثة من البابلیة القدیمة، و احتمل البعض ان اسم کربلاء ربما کان ذا صلة باللغة الآرامیة، و الآستوریة کربلاتوKarbalatu و هو یعنی نوعا من غطاء الرأس، و یقول یاقوت الحموی: و نزل خالد بن الولید، عند فتحه الحیرة، کربلاء، فشکا الیه عبد اللّه بن و شیمة البصری، الذّبان فقال رجل من اشجع فی ذلک:-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 110 لقد حسبت فی کربلاء مطیتی‌و فی العین حتی عاد غثّا سمینها
إذا رحلت من منزل رجعت له‌لعمری و أیها اننی لأهینها
و یمنعها من ماء کل شریعةرفاق من الذبان زرق عیونها
کما اعتقد بعض الباحثین الافاضل ان کربلاء من کلمة (کور بابل) العربیة و هی عبارة عن مجموعة قری بابلیة قدیمة، منها «نینوی» التی وجدت منذ العصور الغابرة، و التی تمثل الیوم تلولا اثریة بالقرب من سدة الهندیة ثم «الغاضریة» و تعرف الیوم بارض الحسینیة و «کربلة» بتفخیم اللام و تقع الی شرقی کربلا و جنوبها، ثم «کربلاء» او «عقر بابل» و هی فی الشمال الغربی من الغاضریة، ثم «النواویس» و کانت هذه المنطقة مقبرة للنصاری قبل الفتح الاسلامی و مکانها الیوم من اراضی ناحیة الحسینیة قرب نینوی، ثم «الحیر» و یعرف «بالحائر» و هو الیوم موضع قبر الحسین علیه السلام، الی حدود روضته الشریفه او حدود الصحن.
و یاقوت الحموی اشار فی معجمه الی معنی کربلاء لعدة احتمالات منها:
قوله:- کربلاء بالمد و هو الموضع الذی قتل فیه الحسین بن علی «علیه السلام» فی طرف البریة عند الکوفة، فاما اشتقاقه، فالکربلة رخاوة فی القدمین، یقال جاء یمشی مکربلا، فیجوز، علی هذا ان تکون ارض هذا الموضع رخوة، فسمیت بذلک، و یقال، کربلت الحنطة، اذا هززتها و نقیتها، و ینشد فی صفة الحنطة:-
یحملن حمراء رسوبا للثقل‌قد غربلت و کربلت من القصل
فیجوز علی هذا ان تکون هذه الارض منقاة من الحصی و الدغل فسمیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 111
بذلک، و الکربل اسم نبت الحمّاض، و قال ابو وجرة، یصف عهون الهودج:
و تامر کربل و عمیم دفلی‌علیها و الندی سبط یمور
فیجوز ان یکون هذا الصنف من النبت بکثرة نبته هناک فسمی به
و یتفرع من الفرات نهر یعرف بنهر «العلقمی» و یمر بالقرب من مثوی سیدنا العباس (ع) و ینحدر الی نواحی الهندیة و یقترن بنهر الفرات فی شمال غربی الکفل .
و یبدو ان منطقة کربلاء لم تکن آهلة بالسکان کما کانت تفتقر الی العمران الکبیر، و من المرجح ان هذه المنطقة الغنیة بالمیاه و بتربتها الخصبة، کانت تنتشر فیها القری و القبائل التی استقرت فیها، او بالقرب منها، و بعد العاشر من محرم سنة 61 ه/ 680 م، أی بعد استشهاد الامام الحسین علیه السلام و دفنه فی مکانه الحالی، اخذ الناس یتوافدون علی زیارة القبر الشریف، کما أخذ الکثیر یستوطنون تلک التربة المقدسة أو یوصی بدفنه هناک، و علی الرغم من مقاومة و معارضة أفراد الحکام العباسیین مثل الرشید و المتوکل للعلویین، فان کربلاء تطورت و توسعت بمرور الزمن.
و فی سنة 236 ه/ 850 م، أمر المتوکل بهدم قبر الحسین بن علی بن ابی طالب علیه السلام، و هدم ما حوله من المنازل و الدور و امر بان یبذر و یسقی موضع قبره، و ان یمنع الناس من اتیانه ، و لما تولی ولده المنتصر سنة 247 ه/ 861 م، عدل عن سیاسة ابیه فی معاداة العلویین، و أمر الناس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 112
بزیارة قبر علی و الحسین علیهما السلام، - و اهتم بعمارة المشهد سنة 283 ه/ 896 م محمد بن زید بن الحسن الملقب بالراعی الصغیر، و کان قد ملک طبرستان:
بعد اخیه الحسن الملقب بالراعی الکبیر مدة عشرین سنة ، فشید محمد بن زید للحائر المقدس قبة عالیة لها بابان و من حول القبة سقیفتین. ثم عمّر السور من حول الحائر و بنی المساکن، و اجزل بالعطاء علی سکان و مجاوری الروضة المقدسة، و قد بالغ محمد بن زید فی فخامة البناء و حسن الریازة و دقة الصنعة فی عمارة الحائر بما یتناسب و منزلة مشرفة .
و یبدو ان عضد الدولة البویهی قد بذل عنایة فائقة فی تشیید بناء علی قبر الحسین و اخذت الحیاة تدب الی هذه المدینة و تزهر ثقافیا و عمرانیا و اقتصادیا.
و فی العهد السلجوقی عنی بعض سلاطین السلاجقة بالمشهد الحسینی، ففی سنة 479 ه/ 1086 م، زار ملکشاه مدینة کربلاء و بترمیم سور و أم المشهد الحسینی، و العمارة القائمة الیوم علی القبر المطهر هی بالأصل تلک العمارة التی شیدها السلطان اویس الجلایری فی عام 767 ه/ 1365 م، فأتمها من بعده ولداه السلطان حسین و السلطان احمد فی سنة 786 ه/ 1384 م، کما شید البهو الامامی للروضة المعروف بایوان الذهب. اما الرواق المعروف الیوم برواق السید ابراهیم المجاب، فقد شیده عمران ابن شاهین، و فی الواجهة الامامیة للروضة رواق حبیب ابن مظاهر الأسدی، و هو أحد المجاهدین مع الامام الحسین علیه السلام فی موقعة الطف، و ضریحه مصنوع من الفضة.
و قد بذل الصفویون غایة العنایة فی اعمار المشهد الحسینی، ففی سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 113
914 ه/ 1508 م، فتح اسماعیل الصفوی بغداد ثم زار کربلاء فأمر بتذهیب حواشی الحسین و اهدی اثنی عشر قندیلا من الذهب، کما اهدی شبکة فضیة لتوضع علی القبر و ذلک سنة 932 ه/ 1525 م.
و امر السلطان مراد الرابع العثمانی ببناء القبة و جصص خارجها، و فی سنة 1227 ه/ 1812 م، أمر السلطان فتح علی القاجاری بتجدید بناء المشهد و تبدیل صفائح الذهب و اهدی شبکة من الفضة وضعت علی القبر الشریف.
کما امر سنة 1250 ه/ 1834 م، ببناء قبتی الامامین الحسین و العباس علیهما السلام، و کان یتولی الانفاق وکیله الصدر الاعظم ابراهیم خان الشیرازی.
و القبة الحسینیة شاهقة یبلغ ارتفاعها 27 مترا و هی مغشاة من اسفلها الی اعلاها منظر خارجی عام للروضة الحسینیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 114
بالذهب الابریز، و یحوطها فی الاسفل 12 شباکا بین الواحد و الآخر متر واحد و 25 سم، من الداخل، و متر واحد و 30 سم من الخارج.
و فی سنة 1287 ه/ 1870 م، زار المشهد الحسینی الشریف، السلطان ناصر الدین شاه و امر بتجدید المشهد و تبدیل صفائح الذهب و تذهیب القبة الحسینیة، کما استملک دورا اضافها الی الصحن من الجهة الغربیة.
و یمتاز المشهد الحسینی الطاهر، بسعة صحنه، و کثرة اوانیه الجمیلة المزخرفة و المنقوشة نقشا بدیعا، و یبلغ طول الصحن 95 مترا فی عرض 75 مترا و له عشرة ابواب و قد عرفت باب القبلة من صحن الروضة الحسینیة
هذه الابواب باسماء تزهو بالوان جمیلة جذابة. مختلفة، و هی: باب القبلة، و باب العلامة الشیرازی، و باب قاضی الحاجات، و باب علی الاکبر، و باب الکرامة، و باب الناصری، و باب السلطان، و باب- احدی منارتی الضریح الحسینی و تتجلی فیها الریازة الاسلامیة بأبدع فنونها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 116
الزینبیة، و باب رأس الحسین، و لکل باب طاق معقود بالفسیفساء البدیع الصنع، الذی یزهو بالوان جمیلة جذابة
و یحیط بالمشهد المطهر 65 ایوانا فی کل واحد حجرة، قد غشیت جدرانها من الداخل و الخارج بالفسیفساء، و قد اعدت هذه الحجر لیتلقی بها طلاب العلم دروسهم، کما اعد البعض الآخر مقابر للملوک و الامراء و السلاطین و کبار رجال الدین و اشراف الناس.
و یتوسط بلاط المشهد الطاهر بناء الروضة الحسینیة الشریفة، و للروضة عدة ابواب من اشهرها: باب القبلة و یعرف بباب الذهب ذلک لان احجار ایوانها مغشاة بالذهب و الفضة الناصعة، عملت باتقان بالغ و مهارة فائقة.
و الداخل من باب ایوان الذهب- باب القبلة- ینتهی به المطاف الی رواق یحیط بالحرم المطهر من الشرق و الجنوب و یجد عن یمینه قبر الشهید حبیب بن مظاهر الاسدی، الذی وقف الی جانب الامام الحسین فی وقعة الطف و نال الشهادة من اجل المثل العلیا السامیة.
و کانت تزین المشهد الحسین [مأذنة العبد] و هی التی أمر ببنائها أمین الدین مرجان سنة 767 ه/ 1365 م و بنی خلفها من الجانب الشرقی مسجدا و اوقف علی المسجد و المئذنة اوقافا کثیرة، و فی سنة 982 ه/ 1574 م أمر طهماسب بتعمیر المئذنة، و فی سنة 1354 ه/ 1935 م، أمر یاسین الهاشمی رئیس الوزارة العراقیة آنذاک بهدم المئذنة و ذلک بسبب تقریر رفعته دائرة الاوقاف بخطر بقاء هذه المئذنة نظرا لاعوجاجها
و خزانة الروضة الحسینیة التی تحوی الذخائر الثمینة من التحف و نوادر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 117
الهدایا من المجوهرات و اللالی‌ء من ملوک و امراء المسلمین، ان هذه الخزانة تقع فی الواجهة الشمالیة من الروضة الحسینیة، و الی غربی الخزانة تقوم مکتبة الروضة الحسینیة.
اما مرقد الامام العباس فکان یلقی من الرعایة و العنایة ما یلقاها مرقد الامام الحسین «علیه السلام».
و فی سنة 1032 ه/ 1622 م، امر الشاه طهماسب بتزیین قبة مرقد العباس (ع) بالکاشانی و بنی شباکا علی الصندوق و نظم الرواق و الصحن کما بنی البهو امام الباب الاول. و فی سنة 1155 ه/ 1742 م، اهدی نادر شاه الی الحرم الشریف تحفا نادرة. و فی سنة 1236 ه/ 1820 م، امر السلطان محمد شاه بن عباس میرزا بن فتح علی، بصنع شباک من الفضة لضریح الامام العباس (ع).
و یذکر المتتبعون انه من المرجح ان یکون المرحوم محمد حسین صدر الاعظم الاصفهانی هو الذی قام بتشیید بناء الروضة العباسیة الحالیة. و قد تبرع بالضریح الفضی محمد شاه بن عباس مرزا القاجاری.
و تشمل کربلاء الی جانب مدفن ابی عبد اللّه الحسین و مدفن اخیه العباس بن علی بن ابی طالب جمیع الشهداء الذین استشهدوا فی تلک الواقعة التأریخیة التی ستمر علیها (الموسوعة) فی القسم الخاص (بکربلاء) بالتفصیل.
و الشهداء الابرار الذین استشهدوا مع الامام الحسین فی موقعة الطف من اهل بیته و هم سبعة عشر و الحسین ابن علی بن ابی طالب الثامن عشر، منهم ، العباس و عبد اللّه و جعفر و عثمان بنو أمیر المؤمنین علیه و علیهم السلام، أمهم أم المؤمنین، و عبید اللّه و ابو بکر ابنا أمیر المؤمنین علیه السلام، أمهما لیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 118
بنت مسعود الثقفیة، و علی و عبد اللّه ابنا الحسین بن علی علیهما السلام، و محمد و عون ابنا عبد اللّه بن جعفر بن ابی طالب رضی اللّه عنهم أجمعین، و عبد اللّه و جعفر و عبد الرحمن بنو عقیل بن ابی طالب رضی اللّه عنهم، و محمد بن سعید الجانب الامامی من ضریح العباس بن علی بن ابی طالب بکربلاء
بن عقیل بن ابی طالب رحمة اللّه علیهم اجمعین، فهؤلاء سبعة عشر نفرا من بنی هاشم، رضوان اللّه علیهم اجمعین، أخوة الحسین علیه و علیهم السلام،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 119
و بنو أخیه و بنو عمیه جعفر و عقیل و هم کلهم مدفونون فیما یلی رجلی الحسین فی مشهده، حفر لهم بنو اسد حفیرة و قد وجدوهم جثثا فی العراء، و القوهم فیها جمیعا و سووا علیهم التراب إلا العباس بن علی علیهما السلام فانه دفن فی موضع قتله علی المسناة بطریق الغاضریة، و قبره ظاهر و لیس لقبور اخوته و اهله الذین سمیناهم أثر و انما یزورهم الزائر من عند قبر الحسین «علیه السلام»، و یومی‌ء الی الارض التی نحو رجلیه بالسلام علیهم و علی علی بن الحسین علیهما السلام و یقال انه اقربهم دفنا الی الحسین (ع) .
اما اصحاب الحسین علیه السلام الذین وقفوا الی جانبه فی معارکه ضد الامویین و استشهدوا فانهم دفنوا حوله، و من الصعب علی المحقق تعیین اجداثهم و لکن مما لا شک فیه، ان الحائر محیط بهم جمیعا
و حول الحضره المقدسة رواق جمیل، تزینه نقوش بدیعة من المرایا، و له سبعة ابواب تؤدی الی الصحن، باب حبیب بن مظاهر، و باب القبلة، و باب صاحب الزمان، و باب علی الأکبر و باب الکرامة و باب سید ابراهیم المجاب، و باب رأس الحسین، و الرواق هذا له ثمانیة ابواب تؤدی الی الحضرة المطهرة:
باب القبلة و باب علی الأکبر و بابان یعرفان ببابی الکرامة، و باب الناصر (ناصر الدین شاه) و باب ابراهیم المجاب، و باب رأس الحسین، و باب حبیب ابن مظاهر، و فی هذا الرواق بعض المدافن لشخصیات کبیرة، امثال الأمیر محمد علی بن فتح علی شاه، و الحاج محمد حسین کاشانی، دفن فی هذا المکان الطاهر تقدیرا لما بذله من هدایا سخیة للعتبات المقدسة، و هناک صندوق الی یمین باب علی الأکبر ضمّ أجداث عدد من العلماء و المشاهیر قبالة باب الکرامة، مقبرة مرزا تقی خان الصدر الأعظم، و قبر عماد الدولة حفید فتح علی شاه، و مقبرة اخری تضم قبر مظفر الدین شاه بن ناصر الدین و محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 120
علی شاه القاجاری و احمد شاه القاجاری و الأمیر محمد حسن.
و هناک من الاخبار عن ابن عنبة ما تشیر الی ان أضرحة الحسین بن موسی بن محمد بن ابراهیم بن موسی الکاظم (ع) و ولدیه الشریف المرتضی و الشریف الرضی فی کربلاء و فی مشهد الامام الحسین علیه السلام، قال ابن عنبة :
- «و أعید الشریف ابو أحمد الی النقابة و توفی سنة اربع مائة ببغداد و قد أناف علی التسعین و دفن فی داره ثم نقل الی مشهد الحسین علیه السلام بکربلاء فدفن هناک قریبا من قبر الحسین علیه السلام و قبره معروف ظاهر».
و نقل جثمان الشاعر الشریف الرضی الی کربلاء و دفن عند قبر أبیه، قال ابن عنبة:- ولد سنة تسع و خمسین و ثلاثمائة و توفی یوم الاحد السادس منّ محرم سنة ست و اربعمائة، و دفن فی داره، ثم نقل الی مشهد الحسین (ع) بکربلاء فدفن عند ابیه و قبره ظاهر معروف .
و الشریف المرتضی هو الآخر نقل جثمانه الی مشهد الامام الحسین بکربلاء، ذکر ابن عنبة: «کانت ولادته سنة ثلاث و خمسین و ثلاثمائة، و توفی خامس عشر ربیع الاول سنة ست و ثلاثین و اربعمائة عن اربع و ثمانین سنة و دفن فی داره تم نقل الی کربلاء فدفن عند أبیه و أخیه، و قبورهم ظاهرة مشهورة » .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 121

الکاظمیة

یرتبط تاریخ المشهد الکاظمی، بتاریخ مدینة بغداد، و ان المنطقة المحیطة بذلک المکان، علی ما یذکره بعض المؤرخین کانت تکون جملة من البساتین العامرة، کما یذکر البعض منهم ان کسری أنو شیروان کان یمتلک بستانا فی جوار قریة بغداد، سماه بستان العدل . و لا ریب فان منطقة المشهد الکاظمی قریبة من دجلة و ان تربتها معروفة بالخصب، و لا زالت آثار البساتین تحف بها من معظم جهاتها.
و من الجدیر بالذکر أن تلک المنطقة کانت خارج بناء مدینة بغداد، و کانت تعرف قبل ان یطلق علیها اسم مقابر قریش، تعرف باسم مقابر الشوینزی الصغیر ، و کانت هناک مقبرة الی الجنوب منها تعرف باسم مقبرة الشوینزی الکبیر، و اشهر من دفن فیها السری السقطی و الجنید البغدادی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 122
و یبدو ان أبا جعفر المنصور بعد انهائه بناء بغداد، اقتطع مقبرة الشوینزی المجاورة لمدینة بغداد من الشمال فجعلها مقبرة ، و اسماها مقبرة قریش، و ربما اختار لفظ قریش لیشیر الی مشارکة العلویین و العباسیین فی الدفن فیها ، و اول من دفن فیها ابن الخلیفة المنصور المدعو جعفر سنة (150 ه) 767 م.
و فی سنة 183 ه/ 799 م، دفن الامام موسی الکاظم فی مقابر قریش و فی سنة 220 ه/ 835 م، توفی الامام محمد الجواد (ع) و دفن مع جده الامام موسی الکاظم. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 123
و الی الشمال الشرقی من مشهد الکاظمیین مقبرة تدعی باب التبن ، کما ان مدفن الامام الکاظم بعد ذلک اشتهر بمشهد باب التبن نسبة الی باب التبن الذی کان فی شرقیه مما یقرب من دجلة ، و باب التبن محلة کبیرة کانت ببغداد علی الخندق بازاء قطیعة ام جعفر، و بها قبر عبد اللّه بن احمد بن حنبل (رض) دفن هناک بوصیة منه، و یلصق هذا الموضع فی مقابر قریش التی فیها قبر موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الامام الحسین بن علی ابن ابی طالب رضی اللّه عنهم و یعرف قبره بمشهد باب التبن.
و قد عرفت محلة باب التبن بالزهیریة و هی قطیعة زهیر بن محمد الأبیوردی، و زهیر رجل من الازد من عرب خراسان من أهل ابیورد و یتصل بباب التبن ربض أبی حنیفة أحد قواد المأمون و قریب من ذلک الربض، محلة الحریم الطاهری، التی تقع بالقرب من الخندق الطاهری، المنسوب الی طاهر ابن الحسین ، قائد جیش المأمون، کما تتصل بربض أبی حنیفة من جهة المغرب قطیعة تدعی «دار عمارة» منسوبة الی عمارة بن حمزة أحد موالی أبی جعفر المنصور، و کان المنصور قد اقطعها ایاه، و کان ربض عثمان بن نهیک یقع بین دار عمارة الغربیة و مقابر قریش و عثمان بن نهیک هذا من رجال حرس المنصور.
و یمکننا القول ان الناس أخذوا یسکنون حول ما عرف بمقابر قریش و صار الناس یقومون بزیارة قبری الامامین الکاظم و الجواد (ع)، و قد ازداد السکن کما بذلت عنایة فائقة فی بناء المشهد الکاظمی فی العهد البویهی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 124
الذی یبتدی‌ء من سنة 334 ه، 946 م، و اصبح المشهد الکاظمی علی مر العصور مزارا لطائفة الشیعة علی الأخص و لجمیع المسلمین بشکل عام، کما صار هذا المشهد مکانا یجتمع فیه المحبون و المؤیدون لآل علی (ع) فی مواسم الزیارات الخاصة و فی الاجتماعات التی تعقد فی العشرة الاولی من محرم.
و طبیعیا ان تکون المساکن المحیطة بالمشهد الکاظمی ینزلها علی العموم جماعة العلویین الذین صاروا یکونون النسبة العظمی لتلک المدینة التی أخذت فی النمو و الاتساع.
ذکر ابن الجوزی عند الکلام علی نقل الخلیفة القائم بأمر اللّه العباسی الی حدیثة عانة قوله:- و عبر قریش لیلة الاربعاء التاسع من ذی الحجة الی الجانب الغربی، و ضرب خیمة بقرب جامع المنصور و حمل الخلیفة الی المشهد بمقابر قریش و قال له: تبیت اللیلة فیها، فامتنع، و قال:- هؤلاء العلویون الذین بها یعادوننی، فالزم الدخول و بات لیلة فی احدی الترب . و هذا النص ان دل انما یدل علی کثرة عدد العلویین فی هذه المنطقة و قوة نفوذهم.
و قد تعرض المشهد الکاظمی لفیضانات دجلة فی عصور مختلفة ففی سنة 466 ه/ 1073 م غرقت مقابر قریش ، کما تعرضت المدینة الی غرق سنة 569 ه الذی سبب هدم اکثر سور المشهد ، و کان فیضان سنة 614 ه/ 1213 م مریعا، فقد أغرق کثیرا من الاماکن فی الجانب الشرقی من بغداد و کان أثره بالغا من الجانب الغربی، فتهدم اکثر القریة و نهر عیسی و الشطیات و غرقت البساتین و مشهد باب التبن و مقبرة احمد بن حنبل و الحریم الطاهری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 125
و بعض باب البصرة و الدور التی علی نهر عیسی و اکثر محلة قطفتا ، کما تعرضت المدینة و المشهد لفیضان دجلة فی سنة 646 ه/ 1248 م، حیث سبب وقع قطعة من سور المشهد الکاظمی علی ساکنه السلام ، و سنة 654 ه/ 1256 م حیث أحاط الماء ببغداد و غرق الجانبین، و هدم دورا کثیرة بالحریم و المشهد .
کما تعرضت المدینة لموجات الأوبئة التی کانت تصیب العراق او بغداد بشکل عام. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 126
و المشهد الکاظمی القائم الیوم من انشاء اسماعیل الصفوی کما تدل الکتابة القائمة حول المشهد و یدل تاریخ انتهاء البناء سنة 926 ه/ 1516 م، و قد اعتنی الصفویون بشکل خاص فی بناء هذا المشهد بما یلیق و الامام الکاظم (ع)، فظهر البناء جمیلا و رائعا، کما حاول العثمانیون بذل العنایة بهذا المشهد الکریم، فقد أمر السلطان سلیم العثمانی بناء منارة جدیدة اضافة للمنائر الاربعة التی شیدها الصفویون بأمر السلطان اسماعیل الصفوی، کما ربطت مدینة الکاظمیة بمدینة بغداد عن طریق انشاء جسر خشبی عائم بین، الکاظمیة و الاعظمیة علی عهد المشیر هدایت باشا حوالی سنة 1302 ه، قائد الفیلق العسکری السادس فی بغداد .
و کان مدحت باشا قد ربط المدینة بالجانب الغربی من بغداد عن طریق انشاء تراموای کاظمیة- بغداد، هذا مع العلم ان مدة حکم مدحت باشا لبغداد کانت بین 1869- 1872 م (1286- 1289 ه).
و المشهد الکاظمی الیوم من الاماکن المقدسة التی یؤمها المسلمون من جمیع انحاء الدنیا، و یمتاز صحن المسجد بالسعة و له عشرة ابواب و طول الصحن (370 مترا) (و عرضه 350 مترا)، و یبلغ طول البناء المخصص للمشهد 230 مترا و عرضه 150 مترا، و للمشهد الکریم أروقة تحیط به من جهاته الاربع و یبلغ عرض الرواق خمسة أمتار.
کان سور الصحن اصغر من السور الحالی بکثیر کما انه لم یکن مزخرفا، الا ان فرهاد مرزا عمد الی هدمه و تجدید بنائه علی الشکل الحالی، کما اشتری بعض الدور عند باب قریش و هدمها و ادخلها ضمن السور کما وسعه من جهة باب المراد.
و السور مکون من اواوین مزخرفة بالکاشانی و فی وسط کل ایوان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 127
کلمة کتبت بالکاشی ایضا مثل (یا کافی المهمات) (یا ولی الحسنات) و غیرها من العبارات و کلمات ادعیة مختلفة.
و هناک غرف خاصة داخل کل ایوان، و قد بنیت غرف علی کل باب من ابواب القبلة، و المراد، و باب قریش، و قد استعملت هذه الاواوین و الغرف للدرس و التحصیل او للخزن او السکن او لدفن الموتی فیها.
و علی یمین الداخل من باب المراد یقوم مرقد (فرهاد میرزا)، و الغرفة التی علی الیسار تحوی جثمان ولده.
ان الصحن یحیط بالحضرة من ثلاث جهات، هی الجهة المقابلة لباب المراد، و الجهة المقابلة لباب القبلة، و الجهة المقابلة لباب قریش.
اما باب المراد التی علی الرواق فقد امر بتذهیبه السلطان ناصر الدین القاجاری، و الی یمین هذا الباب ایوان تتخلله کتابة نسخیة جمیلة و کتابة کوفیة مشجرة بدیعة.
و باب القبلة امر بتذهیبه محمد شاه القاجاری و القبتین مع المنائر، و علی هذا الباب کتابات جمیلة، و یوجد سطران کتبا بالمرآة علی جهتی الباب حول الذهب بقلم کوفی نفیس.
کما ان الایوانین الصغیرین الکائنین علی جهتی باب الذهب یحتویان علی کتابات کوفیة من الکاشی بشکل المستقیمات لا تختلف عن الزخرفة و هما متشابهان.
ان السطرین اللذین کتبا بالمرایا یحتویان علی الآیة الکریمة:
(اعوذ باللّه من الشیطان الرجیم، إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)، و علی الجهة الثانیة نفس الآیة.
اما باب قریش فقد عمّر رواقه السلطان محمد رشاد خان و لیست هناک کتابات کوفیة. و تحیط الکتابات النسخیة بمعظم الجدران. و یدخل الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 128
ریارة ضریح الامام موسی بن جعفر و محمد الجواد علیهما السلام من 6 ابواب و القبر داخل ملبن من الفضة جمیل الصنع، و صندوق القبر من الخشب المطعم بزخارف الذهب و العاج، و فی حضرة الضریح زخارف بدیعة مختلفة من المرایا ذات الاشکال الجمیلة المتناسقة و التی یحار لها العقل و یعجز عن وصفها القلم.
و فی الجدار الملاصق لحضرة الامامین (ع) من جهة باب المراد یقوم ضریح الشیخ محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفید، کما دفن معه الشیخ محمد ابن الشیخ جعفر قلوب استاذ الشیخ المفید، و فی أعلی الشباک الذی علی قبر الشیخ المفید أبیات شعر:
لا صوّت الناعی بفقدک انه‌یوم علی آل الرسول عظیم
ان کنت قد غیبت فی جدث الثری‌فالعدل و التوحید فیه مقیم
و القائم المهدی یفرح کلماتلیت علیه من الدروس علوم
و یشاهد قبر الشیخ نصیر الدین الطوسی قرب ضریح الامامین (ع) فی الجدار الملاصق لجدار الحضرة فی الرواق الثانی من باب قریش، و قد کتبت فی أعلی الجدار کتابة بالخط النسخی:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم إِنَّ أَوْلِیاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ، هذا مرقد سلطان الحکماء المحققین محمد بن محمد بن حسن الطوسی، عمر فی عهد السلطان بن السلطان ... الامجد معتمد الدولة».
و تذکر المصادر التاریخیة ان موسی بن ابراهیم الأصغر بن موسی الکاظم و الملقب بالمرتضی، و یعرف بابی سبحة لکثرة تسبیحه، قد توفی ببغداد و قبره بمقابر قریش مجاور لابیه و جده علیهم السلام، ذکره صاحب غایة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 129
الاختصار: «فحصت عن قبره، فدللت علیه و اذا موضعه حجیرة صغیرة ملک مبارک الجوهری الهندی ». کذلک علی ما یذکر صاحب غایة الاختصار قبر والده ابراهیم المرتضی بن الامام موسی الکاظم «بمقابر قریش عند أبیه علیه السلام فی تربة مفردة معرفة »، و یجوز البعض ان یکون القبر المنسوب حالیا فی الکاظمیة للشریف المرتضی، هو بالذات قبر موسی ابن ابراهیم بن موسی الکاظم علیه السلام، اذا صحت روایة ابن عنبة التی تقول ان السیدین الجلیلین الشریفین المرتضی و الرضی، قد توفیا ببغداد (و نقلا الی مشهد الامام الحسین (ع) و ممن دفن فی مقبرة الامام موسی بن جعفر «ابن المرتضی» ابو الحسن علی بن المرتضی بن علی العلوی الحسنی المعروف بالأمیر السید ، و کان فقیها حنفیا، و ولی التدریس بجامع السلطان ، و توفی ابن المرتضی فی لیلة الجمعة لثانی عشرة خلت من رجب سنة ثمان و ثمانین و خمسمائة و دفن من الغد بمقابر قریش .
و من أهم التجدیدات التی طرأت علی المشهد الکاظمی فی الوقت الحاضر تبلیط الصحن الشریف بالبلاط (المرمر) و وضع ثلاثة أبواب للحرم الشریف من الذهب و المطعّمّة بالاحجار الکریمة، و تتحلی بزخارف بدیعة و قد نصبت هذه الابواب فی اواخر سنة 1964.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 130

مشهد الرضا

من اشهر مدن ایران الکبیرة، و اهمیتها الکبیرة تعود الی قدسیتها، بوجود مشهد الامام علی الرضا (ع) فیها.
و مدینة مشهد هی وارثة مدینة طوس القدیمة، و قد یخلط بعض الباحثین بین مدینة طوس و مدینة مشهد الامام علی الرضا (ع) فی حین ان اطلال مدینة طوس القدیمة تبعد زهاء 12 میلا من (مشهد) الحالیة.
و مدینة مشهد الرضا الیوم هی عاصمة المقاطعة الایرانیة خراسان و من الأماکن المقدسة عند الشیعة الامامیة و هذه المدینة ترتفع عن مستوی سطح البحر بمقدار (3000) قدم، و علی خط طول 59 35 شرقی غرینتش و علی خط عرض 16 17 شمالا.
و یمر بمدینة طوس نهر کشف رود الذی یأتی الی المدینة من بعد (12 میلا) من جهتها الشمالیة الغربیة و المعروفة باطلال طوس فی البحیرة الصغیرة جشمه جیلاس، و یتصل ب (حره) «اوهاری رود» حوالی 100 میل جنوب شرقی مشهد علی الحدود الروسیة الایرانیة و تقع مشهد علی مقربة 4
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 131
أمیال جنوب نهر کشف رود و ترتفع التلال التی تمتد علی طول الوادی 8000- 9000 قدم من مشهد.
و لقربها من الجبال و ارتفاعها فان مناخ مدینة مشهد یکون قارسا جدا فی الشتاء، و فی الصیف علی الاغلب حار حرارة المنطقة الاستوائیة کما انها تعتبر مدینة صحیة.
و تتکون طوس من مدینتین هما:- الطابران، و هی کبیرة و علیها حصن ، و نوقان، و هی علی ما یبدو أصغر من الطابران، و ان اهلها اشتهروا بنحت القدور البرام ، کما انهم جیاد، الا ان ماءهم قلیل .
فتح المسلمون مدینة طوس سنة احدی و ثلاثین للهجرة، بقیادة عبد اللّه ابن عامر ، و یذکر البلاذری: و أتی کنازنک مرزبان طوس، ابن عامر فصالحه عن طوس علی ستمائة ألف درهم . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 132
و علی مقربة من طوس کانت تقوم قریة سناباذ، و فیها دفن الرشید الخلیفة العباسی الذی توفی سنة 163 ه/ 809 م، و فی سنة 202 ه/ 817 م توفی الامام علی الرضا و دفن الی جنب قبر الرشید.
و قد هاجم المغول مدینة طوس سنة 617 ه/ 1220 م و خربوها، و ظل قبر الامام علی الرضا موضع عنایة المسلمین، و صاروا یبنون بیوتهم و شیدوا اسواقهم حول المشهد الرضوی، و ظلت آثار مدینة طوس القدیمة علی بعد 12 میلا من ناحیة الشمال، و قد زار ابن بطوطه الرحالة مشهد الرضا و وصفه و قال:- مدینة کبیرة ضخمة عامرة الاسواق و حولها جبال، و المشهد الکریم قبة عظیمة، و تجاوره مدرسة، و هذه الابنیة قد زوقت جدرانها بالقاشانی و علی قبر الامام دکانة خشب، ملبسة بصفائح الفضة و علی بابها ستر حریر مذهب و هی مبسوطة بانواع البسط .
من بقایا خرائب مدینة طوس التأریخیة
تذکر بعض المراجع، ان طوس سمیت بهذا الاسم نسبة لبانیها طوس ابن نوزر امیر الجیش القاری فی عهد امبراطور الفرس کیخسرو، و کانت قبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 133
الاسلام ولایة یحکمها مرزبان و فی المدینة بیت للنار المقدسة عند الفرس القدماء .
یعتبر مشهد الامام الرضا (ع) من أهم الاماکن المقدسة فی ایران و له مکانة کبیرة فی نفوس المسلمین عامة و الشیعة بشکل خاص، و کان المأمون قد شید علی قبر هرون الرشید قبة عرفت بالقبة الهارونیة، ثم دفن فیها الامام الرضا (ع) و هدم هذه القبة سبکتکین، والد محمود الغزنوی، و کان قد ملک مدینة غزنة سنة 366 ه، و کان فی الأصل من غلمان ابن اسحق بن البتکین ، و عمّرها بعد ذلک سوری بن معتز بن مسعود بأمر السلطان محمود بن سبکتکین ثم تهدمت بغزوات قامت بها بعض القبائل الترکیة، ثم عمّرها شرف الدین أثر من الحیطان المتبقیة من مدینة طوس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 134
وجیه الملک ابو طاهر القمی فی عهد سنجر السلجوقی، ثم تهدمت مرة اخری اثر الغارات التی قام بها جنکیز خان، و عمّرت فی عهد خدا بنده، ثم عمرها الصفویون، و کان طهماسب قد کسا القبة بالذهب و کذلک المنارة فی أعلی الحرم و بقیت حتی سنة (1912 م) فخرب جزء منها بهجوم الروس ثم اتم ترمیمها الوالی نیّر الدولة سنة 1913 م.
لقد زین الحرم الشریف بالفسیفساء و علقت فیه نفائس القنادیل و المصابیح.
و یتکون المشهد الرضوی من صحنین: الصحن القدیم و الصحن الجدید، و الصحن القدیم یقع الی الجهة الخلفیة من موضع الرأس، طوله 86 ذراعا و عرضه 60 ذراعا، و قد عمر نصف الصحن الشمالی الشاه عباس الصفوی، اما النصف الجنوبی فمن اعمال الامیر شیر علی، و قد زین الصحن بالقاشانی الملون الشاه عباس الثانی الصفوی، و یتصل الصحن بالحرم الشریف بایوان یعرف بالایوان العباسی، نسبة للشاه عباس الصفوی، و کان الشاه نادر شاه قد کسا واجهته بالذهب و شید المنارة التی علی الایوان، و فی وسط الصحن قبة ذهبیة و فی داخلها حوض مسدس الشکل من الرخام کان قد اعد لشرب الماء، و کان نادر شاه قد أمر ببناء القبة و الحوض، و یحمل الماء الی الحوض من مکان خارج المدینة یعرف بحوض بابا قدرت .
اما الصحن الجدید فیقع عند وجهة اقدام المرقد بناه الشاه علی القاجاری، و طول الصحن 72 ذراعا و عرضه 49 ذراعا، و فیه ایوان یتصل بالحرم الشریف ذهبّه عضد الملک، متولی الحرم بأمر الملک ناصر الدین شاه القاجاری.
و یبدو ان تزیین الحرم کان فی المائة السادسة و السابعة فقد ظهرت علی جدران الحرم الشریف تواریخ مؤرخه کذا (و خمسمائة للهجرة) فی ربیع الآخر سنة اثنتی عشرة و ستمائة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 135
و توجد کتابة علی محیط القبة نفسها: «من میامن منن اللّه سبحانه الذی زین السماء بزینة الکواکب و رصع هذه القباب العلی بدرر الدراری الثواقب، أن استسعد السلطان الاعدل الاعظم و الخاقان الافخم الاکرم مشرف ملوک الارض حسبا و نسبا، و اکرم خلقا و ادبا، مروّج مذهب اجداده المعصومین، محی مراسیم آبائه الطیبین الطاهرین، السلطان بن السلطان شاه سلیمان الموسوی الصفوی بهادر خان بتذهیب هذه القبة العرشیة الملکوتیة و تزیینها و تشرف بتجدیدها و تحسینها، اذ تطرق الیها الانکسار و سقطت لبناتها الذهبیة التی کانت تشرق کالشمس فی رابعة النهار بسبب حدوث الزلزلة العظیمة فی هذه البلاد الطیبة الکریمة فی سنة اربع و ثمانین و الف و کان هذا التجدید فی سنة ست و ثمانین و الف، کتبه محمد رضا الامامی».
اما الکتابة علی القبة الصغیرة فنصها:- «بسم اللّه الرحمن الرحیم، من عظائم توفیقات اللّه سبحانه ان وفق السلطان الاعظم مولی ملوک العرب و العجم صاحب النسب الطاهر النبوی، و الحسب الباهر العلوی، تراب اقدام خدام هذه الروضة المنورة الملکوتیة مروّج آثار اجداده المعصومین السلطان بن السلطان ابو المظفر شاه عباس الموسوی الصفوی بهادر خان، فاستسعد بالمجی‌ء ماشیا علی قدمیه من دار السلطنة اصفهان الی زیارة هذا الحرم الشریف و قد شرف بزینة هذه القبة من خالص الصخرة التأریخیة لقبر الامام الرضا یرجع تأریخها الی یوم دفنه بمشهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 136
ماله فی سنة الف و عشرة ثم فی سنة الف و ست عشرة.»
و یقوم بزیارة مشهد الامام الرضا عدد کبیر من المسلمین خاصة من طائفة الشیعة.
و هناک اصطلاح سائد فی الاوساط الشعبیة ان یطلق لفظ (زایر) علی کل فرد قام بزیارة المراقد المقدسة .
و من الجدیر بالذکر ان مشهد الامام الرضا یحتوی علی مکتبة تعتبر من اضخم المکتبات الاسلامیة لما تضم من نفائس الکتب المخطوطة و المطبوعة، و للمکتبة فهرس مطبوع.
الزوار العرب فی صحن الامام الرضا (بمشهد) یستمعون للوعظ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 137

سامراء

تقع سامراء علی الضفة الشرقیة لنهر دجلة، فی منتصف الطریق بین بغداد و تکریت و تعتبر هذه البقعة ضمن الاراضی المتموجة التی تکون جزءا من اقسام اراضی العراق.
و قد بدأ بتشیید سامراء الاسلامیة المعتصم العباسی سنة 221 ه/ 836 م و اخذت فی التوسع ایام ولده الواثق کما بلغت غایة ارتقائها العمرانی زمن المتوکل (232- 247 ه) 847- 861 م و شیدت المدینة بین قریة کرخ فیروز او کرخ یا جدّا فی شمالها و قریة مطیرة فی جنوبها.
و من الثابت تاریخیا الیوم ان سامراء کانت من قبل مرکزا لحضارة عراقیة موغلة فی القدم و قد یعود تاریخها الی العصر الهلینستی و خاصة العهد البارتی منه، و قد عثر فی منطقة وادی الثرثار فی حصیان (و ابو الطبول) علی کسر من الفخار یرجع تاریخها الی 100 قبل المیلاد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 138
کما دلت التنقیبات التی اجراها الاستاذ الدکتور هرزفلد فی موسم (1930- 1931) ان الآثار التی عثر علیها فی طیات القبور یعود تاریخها الی العصور الحجریة المتأخرة و الحدیثة، و قد عرف الدهر الذی تعود الیه مقبرة سامراء بعصر (حلف) 5000- 4500 ق. م و هذا العصر الذی یلی العصر الحجری الحدیث و الذی تمتاز آثاره بزخرفة الاوانی المفخورة و برقی اشکالها و تعدد الوانها .
و تقوم مدیریة الآثار العامة العراقیة فی هذا الوقت بتنقیبات واسعة فی منطقة تل الصوان فی جنوب سامراء، و قد اعلمنی المختصون القائمون فی التنقیب ان المنطقة ستعطی معلومات قیمة لصفحات من تاریخ العراق القدیم یعود تاریخها الی حوالی 6000 سنة قبل المیلاد.
و یعتقد حمد اللّه المستوفی ان مدینة سامراء انشأها فی الاصل سابور الثانی ذو الاکتاف (309- 379 م)، کما ذکر بعض الباحثین ان اصل اسم سامراء فارسی، و قالوا فی اشتقاقه «سام- راه»، ساعی- أمرّا، و سا- مرّا و تعنی الکلمتان الاخیرتان موضعا علیه الخراج، و من الجدیر بالذکر ان کلمة سامراء کتبت- سرّ من رأی- علی السکة التی کان یضربها الحکام العباسیون.
اما سبب بناء هذه المدینة علی عهد المعتصم، فان الیعقوبی خیر من یوضح ذلک بقوله:- «کان سرمن رأی فی متقدم الایام صحراء من اراضی الطیرهان لا عمارة بها و کان بها دیر للنصاری بالموضع الذی صارت فیه دار السلطان المعروفة بدار العامة و صار الدیر بیت المال، فلما قدم المعتصم بغداد عند منصرفه من طرسوس فی السنة التی بویع له بالخلافة و هی سنة ثمانی عشرة و مائتین، نزل دار المأمون ثم بنی دارا فی الجانب الشرقی من بغداد و انتقل الیها و اقام بها سنة ثمانی عشرة، و تسع عشرة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 139
و عشرین واحدی و عشرین و مائتین، و کان معه خلق من الاتراک و هم یومئذ عجم، أعلمنی جعفر الخشّکیّ قال: کان المعتصم یوجه بی فی ایام المأمون الی سمرقند الی نوح بن أسد فی شراء الاتراک، فکنت اقدم علیه فی کل سنة منهم بجماعة، فاجتمع له فی ایام المأمون منهم زهاء ثلاثة الآف غلام، فلما أفضت الیه الخلافة ألحّ فی طلبهم و اشتری من کان ببغداد من رقیق الناس، کان ممن أشتری ببغداد جماعة جملة منهم اشناس و کان مملوکا لنعیم بن خازم ابی هرون بن نعیم، و ایتاخ کان مملوکا لسّلام بن الأبرش و وصیف کان زرادا مملوکا لآل النعمان، و سیما الدمشقی و کان مملوکا لذی الرئآستین الفضل بن سهل و کان اولئک الأتراک العجم اذا رکبوا الدواب رکضوا فیصدمون الناس یمینا و شمالا فیثب علیهم الغوغاء فیقتلون بعضا و یضربون بعضا و تذهب دماؤهم هدرا لا یعدون علی من فعل ذلک، فثقل ذلک علی المعتصم و عزم علی الخروج من بغداد فخرج الی الشماسیة و هو الموضع الذی کان المأمون یخرج الیه فیقیم به الایام و الشهور، فعزم ان یبنی بالشماسیة خارج بغداد، مدینة فضاقت علیه ارض ذلک الموضع و کره ایضا قربها من بغداد، فمضی الی البردان بمشورة الفضل بن مروان، و هو یومئذ وزیر و ذلک فی سنة احدی و عشرین و مائتین، و أقام بالبردان ایاما و احضر المهندسین، ثم لم یرض الموضع فصار الی موضع یقال له باحمشا من الجانب الشرقی من دجلة، فقدر هناک مدینة علی دجلة و طلب موضعا یحفر فیه نهرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 140
فلم یجده، فنفذ الی القریة المعروفة بالمطیرة، فاقام بها مدة، ثم صعد الی القاطول فقال: هذا اصلح المواضع، فصیّر النهر المعروف بالقاطول وسط المدینة و یکون البناء علی دجلة و علی القاطول، فابتدأ البناء و اقطع القواد و الکتاب و الناس فبنوا، الی ان یقول: ثم رکب متصیدا فمر فی مسیره حتی صار الی موضع سرمن رأی و هی صحراء من ارض الطیرهان، لا عمارة بها و لا أنیس فیها إلا دیر النصاری فوقف بالدیر و کلم من فیه من الرهبان و قال:
ما اسم هذا الموضع؟ فقال له بعض الرهبان: نجد فی کتبنا المتقدمة ان هذا الموضع یسمی سرّ من رأی، الی ان یقول:- ثم عزم المعتصم علی ان ینزل بذلک الموضع فأحضر محمد بن عبد الملک الزیات و ابن ابی دؤاد و عمر بن فرج و احمد بن خالد المعروف بأبی الوزیر و قال مدینة سامراء العامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 141
لهم: اشتروا من اصحاب هذا الدیر هذه الارض، و ادفعوا الیهم ثمنها اربعة آلاف دینار، ففعلوا ذلک، ثم احضر المهندسین فقال اختاروا أصلح هذه المواضع، فاختاروا عدة مواضع للقصور و صیّر الی کل رجل من اصحابه بناء قصر، فصیّر الی خاقان عرطوج ابن الفتح ابن خاقان بناء الجوسق الخاقانی و الی عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمرّی و الی ابی الوزیر بناء القصر المعروف بالوزیری، ثم خط القطائع للقواد و الکتاب و الناس و خط المسجد الجامع و اختط الاسواق حول المسجد الجامع .
و یبدو ان المعتصم اختار سامراء لمیزاتها المتعددة، ذلک ان موقعها الحسن الحیوی، فالمیاه التی تحیط بالمدینة تتکون بمثابة سور دفاعی لها، کما ان ارتفاع اراضی المدینة عن وادی النهر امر مهم، فان ذلک الارتفاع ادی الی وقایة المدینة من الفیضان، کما ان المدینة حسنة الهواء خصبة التربة، کما ان موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 142
موقعها اکثر صلاحیة للدفاع و المقاومة من بغداد من الناحیة العسکریة.
لقد شید المعتصم قصره المعروف بالجوسق و شید هرون الواثق قصره المعروف بالهارونی نسبة الیه، اما المتوکل فقد اقام اول الامر فی الهارونی، ثم شید عدة قصور، و یذکر المؤرخون انه وسع و شید اربعة و عشرین قصرا من اشهرها قصر بلکواری، و العروس و المختار، و الوحید، و کان یخطط قبل موته بتسعة اشهر مدینة جدیدة الی الشمال فیما بین کرخ فیروز و الدور، و کانت هذه المدینة تسمی بالجعفریة نسبة الیه، و کان المعتمد آخر حاکم عباسی اقام فی سامراء و قد شید قصره المعروف «المعشوق» علی الضفة الغربیة من نهر دجلة و ذلک سنة 255 ه- 868 م.
و من اهم شوارع مدینة سامراء شارع الخلیج و شارع السریحة و فی شارع الخلیج قطائع المغاربة ، و شارع السریحة الذی عرف بالشارع الاعظم، و کان یمتد زمن المعتصم (19) کیلومترا و کان یمر بدار الشرطة و السجن ، و یؤدی الی الحی الذی سمی باسم الوزیر الحسن بن سهل، و فی الشارع الاعظم قطائع قواد خراسان منها قطیعة هاشم بن باینجور و قطیعة عجین بن عنبسة و قطیعة الحسن بن علی المأمون و قطیعة هرون بن نعیم و قطیعة حزام بن غالب .
و هناک شارع ابی احمد بن الرشید الذی یؤدی الی قریة الایتاخیة القائمة علی قناة الکسروی، و قد سمیت اول الامر بالایتاخیة نسبة الی احد زعماء الاتراک المدعو ایتاخ ثم اطلق علیها فیما بعد اسم المحمدیة، و ثمة شوارع اخری مثل شارع الحیر الاول و شارع برغمش الترکی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 143
و کانت سامراء تعرف بالعسکر ایضا، لان المعتصم لما بناها انتقل الیها بعسکره فقیل لها العسکر، و لهذا اطلق علی الامام ابی الحسن علی الهادی (ع) بالعسکری. لانه منسوب الی سامراء ، و کان الامام علی الهادی (ع) یسکن المدینة و لکن السعاة و شوابه عند المتوکل فاحضره من المدینة و أقره بسرمن‌رأی و اقام بها عشرین سنة و تسعة اشهر، و توفی بها یوم الاثنین لخمس بقین من جمادی الآخرة سنة اربع و خمسین و مائتین للهجرة و دفن فی داره.
و ورث الامامة ولده الحسن الذی عرف بالعسکری ایضا و توفی فی سامراء سنة ستین و مائتین للهجرة، و بها ولد المهدی الامام الثانی عشر المنتظر.
و منذ ان استوطن الامام العاشر علی الهادی (ع) مدینة سامراء اضحت هذه المدینة مرکزا مهما لمراکز الفقه و الاجتهاد و الفتیا، کما اصبحت بلا ریب مقصدا للشیعة الامامیة، و بعد وفاة الأئمة و دفنهم فیها اخذت شکل المدینة المقدسة الاخری التی ضمت رفات الأئمة الاثنی عشر، و انتقل الیها بعض علماء الشیعة الذین اصبحت لهم زوایا و مدارس، کما بذل المسلمون عنایة فائقة فی اقامة المشاهد الفخمة علی قبر الامامین علی الهادی و الحسن العسکری «علیهما السلام»، و من الجدیر بالذکر ان الخلیفة الناصر لدین اللّه العباسی احمد بن الحسن امر بصنع باب من خشب الساج- لارضاء الشیعة الامامیة- مزخرف بأجمل الزخارف الاسلامیة و علیه کتابة بدیعة تدل علی دقة عظیمة فی صنعة النجارة و دقة متناهیة فی الذوق الفنی و هذا نص الکتابة:-
«بسم اللّه الرحمن الرحیم قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَکُورٌ.
هذا ما امر بعمله سیدنا و مولانا الامام المفرض الطاعة علی جمیع الانام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 144
ابو العباس احمد الناصر لدین اللّه امیر المؤمنین و خلیفة رب العالمین الذی طبق البلاد احسانة و عدله، و غمر العباد بره و فضله، قرب اللّه اوامره الشریفة باستمرار النجح و الیسر، و ناطها بالتأیید و النصر، و جعل لایامه المخلدة جدا، لا یکبو جواده، و لآرائه الممجدة سعدا، لا یخبو زناده، فی عز تخضع له الاقدار فتطیعه عواصیها و ملک تخشع له الملوک فتملکه نواصیها بتولی المملوک معد بن الحسین الموسوی، الذی یرجو الحیاة فی ایامه المخلدة و یتمنی انفاق بقیة عمره فی الدعاء لدولته المؤیدة استجاب اللّه ادعیته و بلغه فی ایامه الشریفة أمنیته، ذلک فی ربیع الثانی من سنة ست و ستمائة هلالیة، و حسبنا اللّه و نعم الوکیل و صلی اللّه علی سیدنا خاتم النبیین و علی آله الطاهرین و عترته و سلم تسلیما»
الروضة العسکریة من الجانب الامامی بسامراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 145

مجمل سیر الائمة الاثنی عشر کتبه جواد شبر

اشارة

عضو جمعیة المنتدی و الاستاذ بمدرستها سابقا واحد خطباء الدرجة الأولی للمنابر الحسینیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 147

سیر الائمة الاثنی عشر

بعض من الف الکتب فی الائمة الاثنی عشر

لیس هناک سیرة تناولها الکتاب و المؤرخون بمختلف نواحیها و صورها کسیرة النبی محمد صلی اللّه علیه و سلم و آله و الأئمة الاثنی عشر من بعده، فلقد الف العدد الکبیر من الکتب عن سیرة کل واحد، و تناولوا جوانب متعددة لشخصیته منذ القرون الهجریة الاولی حتی الیوم و لم یزالوا یعرضون لهذه السیر و یستخرجون منها اشیاء جدیدة بالنظر لاتساع دائرة تراجمهم و کونها معینا لا ینضب من الحکمة، و الفلسفة، و الادب، و الخلق الرفیع، و کان عدد الکتب و التراجم التی خص بها النبی فی کتب السیر و التراجم القدیمة و الحدیثة و خص بها الامام علی بن ابی طالب (ع) و خص بها ابو عبد اللّه الحسین (ع) و الامام الصادق (ع) تفوق الحصر، و لم یقتصر تألیف هذه الکتب علی المسلمین وحدهم و انما اسهم فیها عدد من غیر المسلمین، و من غیر العرب و لا سیما المسیحیین فی العصور المتقدمة و العصور المتأخرة، اما الذین خصوا فصولا مستقلة من کتبهم بالنبی او باحد الأئمة او اکثر الأئمة الاثنی عشر فهم اکثر و اکثر من غیرهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 148
و اننا نورد هنا اهم هذه الکتب التی تناولت تراجم جمیع الأئمة الاثنی عشر او اغلبهم باقلام غیر شیعیة و نشیر الی اسماء مؤلفیها علی ما استخرجناه من کتب التراجم .
الارشاد- للمفید محمد بن محمد النعمان.
اعلام الوری- للطبرسی.
اعیان الشیعة- للسید محسن الامین العاملی.
کتاب الآل- لابن خالویه.
البحار- للمجلسی.
تأریخ الائمة الاثنی عشر- لشمس الدین محمد بن طولون.
موالید اهل البیت- لابن الخشاب.
تذکرة خواص الامة فی معرفة الأئمة- لسبط ابن الجوزی الحنفی.
حلیة الاولیاء- للحافظ ابی نعیم.
الخرائج و الجرائح- لقطب الدین سعید ابن هبة اللّه الراوندی.
الدلائل- لعبد اللّه بن جعفر الحمیری.
الذریة الطاهرة- لابی بشر محمد بن احمد الانصاری الدولابی.
صفوة الصفوة- للشیخ جمال الدین ابن الجوزی.
الفصول المهمة- لابن الصباغ المالکی.
کشف الغمّة- لعلی بن عیسی.
المجالس السنیة- للسید محسن الامین.
مطالب السؤول- لمحمد بن طلحة الشافعی.
معالم العترة النبویة- للحافظ الجنابذی البغدادی الحنبلی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 149
مقاتل الطالبیین- لابی الفرج الاصفهانی.
المناقب- لابن شهر آشوب.
المناقب- لابی بکر الخوارزمی.
المناقب- لابی المؤید.
اما الذین خصوا بعض الأئمة الاثنی عشر بتوالیفهم و تناولوا جوانب خاصة من حیاتهم فی کتب مستقلة فان عددهم کبیر جدا و لیس الی احصائهم من سبیل، کأبی الفرج الاصفهانی فی کتاب (الاغانی) و کتاب (مقاتل الطالبیین) و کإبن ابی الحدید فی شرح (نهج البلاغة) و غیرهما من مئات المتقدمین و من المتأخرین، کعباس محمود العقاد فی کتابه (عبقریة الامام) عن الامام علی و کتابه (ابو الشهداء) عن ابی عبد اللّه الحسین، و کالشیخ عبد اللّه العلایلی فی کتابه (سمو المعنی فی سمو الذات،) عن الامام الحسین، و کفؤاد افرام البستانی فی سلسلة (الروائع) عن نهج البلاغة، و کعبد الفتاح عبد المقصود فی کتابه (الامام علی) و کجورج جرداق فی کتابه (الامام علی) و کل هؤلاء و مئات غیرهم من غیر الشیعة ممن خصوا عددا من الأئمة الاثنی عشر بکتب خاصة بهم، هذا بالاضافة الی آلاف الکتب- و لیس فی هذا شی‌ء من المبالغة- من کتب التراجم، و الاعلام، و کتب الادب، و الفلسفة، و العلوم التی تطرقت و لم تزل تتطرق الی ذکر شی‌ء کثیر او قلیل من سیرة حیاة الأئمة الاثنی عشر، اذ لم تزل هذه السیر معینا لا ینضب من المثل العلیا فی حیاة الانسان الکامل .
و ستخص (موسوعة العتبات المقدسة) کل امام من الأئمة الاثنی عشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 150
ببحث واسع و ترجمة مسهبة، و دراسة وافیة ستأتی فی الاجزاء الخاصة بکل (عتبة) من العتبات.
اما هذا العرض لسیرة الأئمة، هنا فلیس غیر مقدمة هدفنا منها الالمامة المجملة بسیرة الأئمة لتعقبها فیما بعد الاحاطة الواسعة ان شاء اللّه.
ج. خ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 151

النبی محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم

ولادته

ولد النبی صلی اللّه علیه و آله فی السابع من ربیع الاوّل و علیه اتفاق الشیعة الاثنی عشریة، کما ان المشهور عندهم انه ولد لاثنتی عشرة لیلة مضت من ربیع الاول و الی هذا القول ذهب الشیخ محمد بن یعقوب الکلینی فی کتابه (اصول الکافی) و هناک من یری رأی الامامیة فی ان مولده الشریف کان فی السابع عشر من ربیع الاول بمکة المکرمة فی الدار المعروفة بدار محمد بن یوسف الثقفی.
و جاء فی کتاب السیرة النبویة کان یوم الجمعة و هو المشهور عند الشیعة و روی الطبری عن ابن اسحق انه کان یوم الاثنین عند طلوع الشمس و قبل الفجر، و قیل عند الزوال، و اتفق الرواة ان مولده کان فی عام الفیل بعد خمسة و خمسین یوما او خمسة و اربعین یوما او ثلاثین یوما من هلاک اصحاب الفیل 25 اغسطس سنة 570 میلادیة. و لاربعین سنة خلت من حکم کسری انوشروان خسرو بن قباد بن فیروز.
و امه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن هرة بن کلاب بن مرة بن کعب بن لوی بن غالب. ماتت و عمره ستة و ستون یوما و مات ابوه عبد اللّه فی شبابه و النبی حمل فی بطن امه، و قال الطبرسی فی (اعلام الوری) ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 152
عبد اللّه مات و عمر النبی سنتان و اربعة اشهر. و قال الکلینی کان عمره یوم وفاة ابیه شهرین.
عاش مع جده عبد المطلب ثمانی سنوات و بعد وفاة عبد المطلب کفله عمه ابو طالب شیخ البطحاء فکان یکرمه و یحمیه و ینصره بیده و لسانه طول حیاته، و تزوج بخدیجة بنت خویلد اولی زوجاته و عمره خمس و عشرون سنة و لم یتزوج غیرها حتی ماتت و بقی بعدها سنة بدون زوجة.

بعثته

و بعث بالنبوة فی السابع و العشرین من رجب و له من العمر اربعون سنة.
و توفی ابو طالب و عمر النبی ستة و اربعون سنة و ثمانیة اشهر و اربعة و عشرون یوما و قد عاش مع عمه هذا اثنین و اربعین سنة منها سبع عشرة فی بیته و لم یمکث بعد عمه فی مکة غیر ثلاث سنین. و جاء فی کتاب (الاصابة) لابن حجر ج 7 ص 113 ان النبی خرج عند وفاة عمه ابی طالب و اعترض النعش و قال برقة و حزن و کآبة:
«لقد وصلت رحما، و جزیت خیرا یا عم، فلقد ربیت و کفلت صغیرا، و نصرت و آزرت کبیرا».
و توفیت خدیجة و ابو طالب فی عام واحد فسمی رسول اللّه ذلک العام: بعام الحزن، و هاجر الی المدینة فی اول لیلة من ربیع الاول و دخلها فی الثانی عشر منه بعد ان مکث فی مکة المکرمة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة و بقی فی المدینة المنورة عشر سنین ثم توفی.

صفاته

جاء فی تاریخ ابن الاثیر: قال علی بن ابی طالب: کان رسول اللّه لیس بالطویل و لا بالقصیر، ضخم الرأس و اللحیة، شثن الکفین و القدمین، ضخم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 153
الکرادیس، مشربا وجهه حمرة، طویل المسربة، اذا مشی تکافأ تکفأ کأنما ینحط من صبب، لم ار قبله و لا بعده مثله، و کان ادعج العینین سبط الشعر، ذا وفرة کأن عنقه ابریق فضة، اذا التفت التفت جمیعا کأن العرق فی وجهه اللؤلؤ الرطب لطیب عرقه و ریحه، قال ابو عبیدة و غیره:
شئن الکفین و القدمین یعنی انهما الی الغلظ اقرب. و قوله ضخم الکرادیس یعنی الواح الاکتاف، و المسربة هی ما بین السرة و اللبة، و الصبب:
الانحدار، و الدعج فی العین: هو السوداء، و السبط من الشعر: ضد الجعد.
قال أنس «کان رسول اللّه اشجع الناس و اسمح الناس و احسن الناس، وقع فی المدینة فزع فرکب فرسا عریا فسبق الناس الیه فجعل یقول: ایها الناس لم تراعو لم تراعو. و قال علی بن ابی طالب: کنا اذا اشتد بنا الیأس اتقینا برسول اللّه، فکان اقربنا الی العدو. و کفی بهذا شجاعة، ان مثل علی الذی هو هو فی شجاعته یقول مثل هذا- انتهی). و جاء فی مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 158 بسنده عن علی قال: کنا اذا احمرّ الباس و لقی القوم القوم اتقینا برسول اللّه فما یکون منا احد ادنی من القوم منه.
و مما وصفه به احد الواصفین قال: من رآه بدیهة هابه، و من خالطه معرفة احبه، و کان کثیر الابتهال دائم السؤال من اللّه تعالی ان یزینه بمحاسن الآداب و مکارم الاخلاق، فکان یقول فی دعائه (اللهم حسن خلقی و خلقی، و یقول اللهم جنّبنی منکرات الاخلاق).
و روی مسلم فی صحیحه بسنده الی حذیفة بن الیمان. قال: خرجت انا و ابو حسیل فأخذنا کفّار قریش فقالوا: انکم تریدون محمدا، فقلنا:
ما نرید الا المدینة، فأخذوا عهد اللّه و میثاقه لننصرفن الی المدینة و لا نقاتل معه، فأتینا رسول اللّه فأخبرناه الخبر فقال: (انصرفا الیهم بعهدهم و نستعین اللّه علیهم).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 154
و عن الحسین بن علی قال: سألت خالی هند بن ابی هالة عن حلیة رسول اللّه- و کان وصافا یحسن ان یصف النبی فقال: کان رسول اللّه فخما مفخما اطول من المربوع و اقصر من المشذب عظیم الهامة رجل الشعر.
قال الحسن: و کتمتها زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقنی الیه و سأله عما سألته عنه، فوجدته قد سأل اباه عن مدخل النبی و مخرجه و مجلسه و شکله فلم یدء منه شیئا.
قال الحسین: سألت ابی عن مدخل رسول اللّه فقال: کان دخوله لنفسه مأذونا له فی ذلک فاذا آوی الی منزله جزّأ دخوله الی ثلاثة اجزاء: جزءا للّه، و جزءا لاهله، و جزءا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بینه و بین الناس، فیرد ذلک بالخاصة الی العامة و لا یدخر عنهم منه شیئا.
فسألته عن مخرجه کیف کان یصنع فیه فقال: کان یخزن لسانه الا عما یعنیه، و یؤلفهم و لا ینفرهم، و یکرم کریم کل قوم و یولّیه علیهم، و یحذر الناس و یحترس منهم من غیر ان ینطوی عن احد بشره و لا خلقه، و یتفقد اصحابه، و یسأل الناس عما فی الناس، و یحسّن الحسن و یقویه، و یقبّح القبیح و یوهنه، معتدل الامر غیر مختلف لا یغفل مخافة ان یغفلوا او یمیلوا، و لا یقصر عن الحق و لا یجوزه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 155
قال و سألته عن مجلسه فقال: کان لا یجلس و لا یقوم الا علی ذکر، و لا یوطن الاماکن و ینهی عن ایطانها، و اذا جلس الی قوم جلس حتی ینتهی به المجلس و یأمر بذلک، و یعطی کل جلسائه نصیبه، و لا یحسب احد من جلسائه ان احدا اکرم علیه منه، مجلسه مجلس حلم و حیاء، و صدق و أمانة لا ترفع فیه الاصوات، متعادلین متواصلین فیه بالتقوی، متواضعین یوقرون الکبیر و یرحمون الصغیر و یؤثرون ذا الحاجة و یحفظون الغریب.
غار حراء مهبط الوحی الاول علی النبی
فقلت فکیف کانت سیرته فی جلسائه فقال: کان دائم البشر سهل الخلق، لیّن الجانب و لیس بفظّ و لا غلیظ، و لا صخّاب، و لا فحّاش، و لا عیّاب، و لا مدّاح، یتغافل عما لا یشتهی، و اذا تکلم اطرق جلساؤه، و اذا سکت تکلموا، و لا یتنازعون عند الحدیث.

دعوته و غزواته

و دعا النبی الی الاسلام فلقی من قریش ما لقی من أذی و مضایقة و اجاب دعوته نفر لقواهم الآخرون ما لقوا من تعذیب حتی اضطر الی الهجرة الی المدینة و هاجر معه من آمن به فسموا بالمهاجرین، و نصره اهل المدینة و تفانوا فی سبیل نصرته و الایمان بدعوته فسموا بالانصار، و وقعت بینه و بین قریش و بین الطوائف الاخری و الیهود معارک و غزوات کان لکل وقعة منها حکایة یطول شرحها و من اهم هذه الغزوات و المعارک کانت:
غزوة بدر الکبری، و غزوة بنی قینقاع، و غزوة أحد، و غزوة بنی النضیر، و دومة الجندل، و الخندق، و بنی قریظة، و غزوة خیبر، و فتح مکة، و غیرها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 156
و لم تقتصر دعوة النبی علی قریش و العرب و انما کتب الی عدد من الملوک و القیاصرة کتبا یدعوهم فیها الی الاسلام و من اشهر من کتب لهم: قیصر الروم، و کسری ملک الفرس، و المقوقس ملک القبط و غیرهم .

مواهبه و ملکاته

و اما مواهبه و ملکاته فقد جاء فی (شفاء القاضی عیاض) شرح الخفاجی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 157
«و اما وفور عقله و ذکاء لبه، و قوة حواسه، و فصاحة لسانه، و اعتدال حرکاته، و حسن شمائله، فلا مریة انه کان اعقل الناس و أذکاهم، و من تأمل تدبیره امور بواطن الخلق و ظواهرهم، و سیاسة العامة و الخاصة مع عجیب شمائله و بدیع صورة الکتاب التأریخی الذی عثر علیه مؤخرا و الذی کتبه النبی الی المقوقس و علیه ختم النبی الشریف.
سیره، فضلا عما افاضه من العلم، و قرره من الشرع دون تعلم سبق، و لا ممارسة تقدمت، و لا مطالعة للکتب منه، لم یمتر فی رجحان عقله، و ثقوب فهمه لاول بدیهته، و هذا مما لا یحتاج الی تقریره لتحققه».

من حکمه و اقواله

ایها الناس، انتم علی ظهر سفر، و السیر بکم سریع، فقد رأیتم اللیل و النهار، و الشمس و القمر یبلیان کل جدید، و یقربان کل بعید، فاعدوا الجهاد لبعد المفاوز، المؤمن من أمن الناس من یده و لسانه (و رواه البعض:
المسلم من سلم .. الخ)
المجالس بالامانة، البلاء موکل بالمنطق، المرء حریص علی ما منع، المستشار مؤتمن، الحکمة ضالة المؤمن، ثلاث من مکارم الاخلاق فی الدنیا و الآخرة: ان تعفو عمن ظلمک، و تصل من قطعک، و تحلم علی من جهلک.
و من وصیة له یوصی بها علیا (4):
یا علی انه لا فقر اشد من الجهل، و لا مال اعود من العقل، و لا وحدة اوحش من العجب، و لا مظاهرة احسن من مشاورة، و لا عقل کالتدبیر و لا حسب کحسن الخلق، و لا عبادة کالتفکر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 158
یا علی: آفة الحدیث الکذب، و آفة العلم النسیان، و آفة العبادة الفترة، و آفة السماحة المنّ، و آفة الشجاعة البغی، و آفة الجمال الخیلاء.

زوجاته:

تزوج خمس عشرة امرأة، و دخل بثلاث عشرة منهن، و توفی عن تسع اولاهن السیدة:
1- خدیجة بنت خویلد و هی اول امرأة أسلمت و اول من بنی بیتا فی الاسلام بتزوجها برسول اللّه و کان یذکرها دائما و یمدحها و یقول آمنت بی حین کذبنی الناس، و واستنی بمالها حین حرمنی الناس و رزقت منها الولد و حرمت من غیرها
2- سودة بنت زمعة، و کانت تحت ابن عمها، ثم قدما مکة فمات بها و لم یعقب، فتزوجها رسول اللّه.
3- عائشة بنت ابی بکر، و تزوجها علی رأس ثمانیة اشهر من الهجرة و لم یتزوج بکرا غیرها و ماتت و قد قاربت سبعا و ستین سنة فی شهر رمضان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 159
سنة ثمان و خمسین فی ولایة مروان بن الحکم علی المدینة و ذلک فی خلافة معاویة
4- حفصة بنت عمر بن الخطاب، و امها زینب اخت عثمان بن مظعون، و کانت اولا تحت خنیس ابن حذافة فتوفی عنها بجراحة اصابته ببدر.
5- زینب بنت خزیمة کانت تدعی فی الجاهلیة- ام المساکین- لرأفتها و احسانها الیهم کانت قبله تحت الطفیل بن الحرث فطلقها فتزوجها اخوه عبیدة بن الحرث فقتل یوم بدر شهیدا فخطبها النبی فجعلت امرها الیه فتزوجها و ذلک علی رأس واحد و ثلاثین شهرا من الهجرة فمکثت عنده ثلاثة اشهر ثم توفیت و صلی علیها رسول اللّه و دفنت بالبقیع و قد بلغت ثلاثین سنة.
و لم یمت من ازواجه فی حیاته الا هی و خدیجة.
6- ام سلمة و اسمها هند بنت ابی امیة المخزومی المعروف بزاد الراکب و هو احد اجواد قریش و امها عاتکة بنت عبد المطلب عمة النبی و قبل ان یتزوجها رسول اللّه کانت تحت ابی سلمة بن عبد الاسد و کانت هی و زوجها اول من هاجر الی ارض الحبشة فولدت له هناک عمر، و سلمة، و تزوج بها النبی فی السنة الثانیة من الهجرة بعد وقعة بدر و عاشت اربع و ثمانین سنة و دفنت بالبقیع و هی آخر من مات من زوجاته.
7- زینب بنت جحش، و کان اسمها برّة فسماها زینب و کانت قبله عند مولاه زید بن حارثة ثم طلقها فلما انقضت عدتها تزوجها سنة اربع من الهجرة و هی بنت خمس و ثلاثین سنة.
8- جویریة بنت الحرث من بنی المصطلق، سبیت فی غزوة بنی المصطلق فکان اسمها برّة فسماها رسول اللّه جویریة، و کانت قبل رسول اللّه عند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 160
مصافع بن صفوان، و توفیت بالمدینة سنة ست و خمسین.
9- ریحانة بنت یزید من بنی النظیر وقعت فی سبی قریظة فخیرها بین الاسلام و دینها فاختارت الاسلام فاعتقها الرسول و تزوجها سنة ست.
10- ام حبیبة و هی ارملة بنت ابی سفیان بن حرب، تزوجت من عبید اللّه بن جحش قبل الاسلام ثم دخلا معا فی الاسلام و هاجرا معا الی ارض الحبشة و مات عبید اللّه فی الحبشة فاعطاها النجاشی ملک الحبشة عشرة الاف درهم مهرا و بعث بها للنبی فتزوجها سنة سبع، و ماتت سنة اربع و اربعین.
11- صفیة بنت حی بن اخطب سید بنی النظیر قتل مع بنی النظیر، و کانت عند سلّام بن مشکم ثم خلف علیها کنانة بن ابی الحقیق و قتل عنها یوم خیبر و لم تلد لاحد منهما و اصطفاها رسول اللّه لنفسه فاعتقها و تزوجها و جعل عتقها صداقها.
12- میمونة بنت الحرث و کان اسمها برّة فسماها النبی میمونة، و هی اخت زوجة العباس بن عبد المطلب فهی خالة عبد اللّه بن العباس، و اختها اسماء بنت عمیس و سلمی بنت عمیس و زینب بنت خزیمة ام المؤمنین لامها، و ماتت سنة احدی و خمسین علی الاصح، و بلغت ثمانین سنة و هی اخر زوجاته اللاتی تزوج بهن.

اولاده:

لم یولد للنبی غیر سبعة اولاد علی اصح الاقوال ثلاثة ذکور و اربع بنات و کلهم من خدیجة بنت خویلد الا ابراهیم فانه من ماریة القبطیة. و هم القاسم، عبد اللّه، زینب، رقیة، ام کلثوم، فاطمة (ع) وعد البعض منهم الطیب و الطاهر و قیل بل انه عبد اللّه و قد لقب بالطیب الطاهر لولادته بعد الوحی ولد بمکة بعد الاسلام و مات بها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 161
اکبر اولاد النبی و اولهم هو القاسم و به کان یکنی، ولد من خدیجة قبل البعثة و عاش سنتین و قیل سنة و نصف سنة.
ثم ولدت خدیجة قبل البعثة ایضا زینب، ثم رقیة ثم ام کلثوم، ثم فاطمة الزهراء، اما زینب فقد تزوجها ابن خالتها و هو ابو العاص بن الربیع و امه هالة بنت خویلد، و هالة هی اخت السیدة خدیجة ام المؤمنین. و ذکر بعضهم بدل هالة (هندا) و یحتمل ان تکون احداهما اسما و الاخری لقبا فهما واحدة. قال ارباب السیر کانت زینب بنت رسول اللّه قد ادرکت الاسلام و اسلمت و هاجرت، و کان ابوها یحبها، و تزوجها ابن خالتها ابو العاص بن الربیع و ولدت منه (امامة) و (علیا) اما علی فقد مات مراهقا، و اما امامة فقد تزوجها الامام علی بن ابی طالب بعد وفاة خالتها السیدة فاطمة الزهراء بوصیة من فاطمة، و اما رقیة، و ام کلثوم، فقد زوجهما النبی من عتبة و عتیبة ابنی ابی لهب بن عبد المطلب فلما جاء الاسلام بلغ من عداوة قریش للنبی ان قالوا فرّغتم محمدا من همه بتزویج بناته فقالوا لابی العاص طلق ابنة محمد و نزوجک بنت من اردت من قریش فابی و طلبوا مثل ذلک الی عتبة و عتیبة فطلقا زوجتیهما فتزوجهما عثمان واحدة بعد واحدة
و اما عبد اللّه فقد مات بمکة صغیرا و هو الذی یلقب بالطاهر و الطیب ولد بمکة بعد الاسلام و مات بها و اما ابراهیم فامه ماریة القبطیة ولد سنة ثمان من الهجرة فی ذی الحجة و مات صغیرا و هو ابن سنة و عشرة اشهر اعتقها ولدها. و توفیت هی فی خلافة عمر سنة ست عشرة و دفنت بالبقیع. و کل اولاد النبی ولدوا بمکة الا ابراهیم فانه ولد بالمدینة. و کلهم ماتوا فی حیاته و لم یخلف الا السیدة فاطمة الزهراء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 162

وفاته:

قال ابن الاثیر فی (الکامل) عند ذکر احداث سنة احدی عشرة من الهجرة فی المحرم من هذه السنة بعث النبی بعثا الی الشام، و امیرهم اسامة بن زید مولاه و امره ان یوطی‌ء الخیل تخوم البلقاء من ارض فلسطین. فتکلم المنافقون فی امارته، و قالوا أمرّ غلاما علی جلة المهاجرین و الانصار المسجد النبوی فی المدینة
فقال رسول اللّه ان تطعنوا فی امارته فقد طعنتم فی امارة ابیه من قبل، و انه لخلیق للامارة و کان ابوه خلیقا لها، و اوعب مع اسامة المهاجرون الاولون منهم ابو بکر و عمر، فبینما الناس علی ذلک ابتدا برسول اللّه مرضه و ذلک فی اواخر صفر فی بیت زینب بنت جحش، و کان یدور علی نسائه حتی اشتد مرضه فی بیت میمونة.
قال و لما اشتد برسول اللّه وجعه و نزل به الموت جعل یأخذ الماء بیده و یجعله علی وجهه و یقول و اکرباه فتقول فاطمة: و اکربی لکربک یا ابتی، فیقول رسول اللّه لا کرب علی ابیک بعد الیوم توفی و هو ابن ثلاث و ستین سنة و لا خلاف فی ذلک، و کانت وفاته یوم الاثنین للیلتین بقیتا من شهر صفر فی السنة الحادیة عشرة من الهجرة علی ما ذهب الیه اکثر الشیعة الامامیة
و قال الشیخ الکلینی منهم: انه قبض لاثنتی عشرة لیلة مضت من ربیع الاول، و قال غیر واحد ان وفاته کانت فی اول ربیع الاول، و عن بعضهم فی ثامنه، و عن بعضهم فی عاشره و عن بعضهم فی الثامن عشر منه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 163

فاطمة الزهراء

ولادتها

ولدت فاطمة بنت رسول اللّه بمکة المکرمة یوم الجمعة العشرین من جمادی الآخرة بعد البعثة النبویة بسنتین و قیل بعد النبوة بخمس سنین و فی (الاستیعاب) ولدت سنة احدی و اربعین من مولد النبی- ای بعد المبعث بسنة- و قال اکثر من واحد إن مولدها قبل المبعث بخمس سنین و القول الاول اظهر لتسالمهم علی انها کانت عند الهجرة بنت ثمانی سنین و هی اصغر بنات الرسول و اعزهن عنده و احبهن الیه، و انقطع نسله الا منها، و لحبه لها انه کان یدعوها: یا حبیبة ابیها، و سماها فاطمة الزهراء، و لقبها بالزهراء و البتول- و البتل هو القطع- لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا، و دینا، و حسبا، و قیل لانقطاعها عن الدنیا الی اللّه تعالی.
اقامت مع ابیها بمکة ثمانی سنین، ثم هاجرت الی المدینة علی اثر هجرة ابیها، و تزوجها علی علیه السلام فی المدینة، و لما توفی النبی قیل ان عمرها کان ثمانی عشرة سنة و قال بعضهم بل کان عمرها ثمانی و عشرین سنة.
کان النبی یشهد بحقها و یعلن بفضلها و یقول: «فاطمة بضعة منی فمن اغضبها فقد اغضبنی» و یقول: «فاطمة بضعة منی یؤذینی ما آذاها و یغضبنی ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 164
اغضبها» اخرجه علی اختلاف الفاظه ائمة (الصحاح) الست، و عدة اخری من رجال الحدیث فی السنن، و المسانید، و المعاجم، و روی الصدوق فی (الامالی) باسناده عن ابن عباس قال: ان «رسول اللّه کان جالسا ذات یوم و عنده علی، و فاطمة، و الحسن، و الحسین، فقال اللهم تعلم ان هؤلاء اهل بیتی و اکرم الناس علی فاحب من احبهم، و ابغض من ابغضهم، و وال من والاهم، و عاد من عاداهم، و أعن من أعانهم و اجعلهم مطهرین من کل دنس، معصومین من کل ذنب، و ایدهم بروح القدس منک».
و اخرج الامام احمد فی مسنده و ابو داود فی (الاستیعاب) ان النبی قال: «افضل نساء اهل الجنة خدیجة بنت خویلد، و فاطمة بنت محمد، و آسیة بنت (مزاحم امرأة فرعون)، و مریم بنت عمران». و قال خیر نساء العالمین اربع: مریم بنت عمران، و اسیة بنت مزاحم، و خدیجة بنت خویلد، و فاطمة بنت محمد» و علی ضوء ذلک قال امیر الشعراء احمد شوقی فی مدح الزهراء:
ما تمنّی غیرها نسلا و من‌یلد الزهراء یزهد فی سواها
و یقول الاخر مفاخرا:
فما کل جد فی الرجال (محمد)و لا کل ام فی النساء بتول

ملکاتها:

و قد روی المؤرخون عن ملکات الزهراء و مواهبها الشی‌ء الکثیر، و کانت خطبتها فی مجلس الخلیفة ابی بکر و هی تطالب برّد (فدک) لها باعتبارها ارثا تلقته من ابیها تتضمن شواهد کثیرة علی طوائف من الملکات و المواهب فقد حضرت مجلس المناقشة، و بعد ان حمدت اللّه و شکرته و اثنت علیه قالت: «و اشهد ان ابی محمدا عبده و رسوله، اختاره و انتخبه قبل ان ارسله، و سماه قبل ان اجتباه، و اصطفاه قبل ان ابتعثه، اذ الخلائق بالغیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 165
مکنونة، و بستر الاهاویل مصونة، و بنهایة العدم مقرونة، علما منه بمآل الامور، و احاطة بحوادث الدهور، و معرفة بمواقع المقدور، ابتعثه اللّه إتماما لامره، و عزیمة علی إمضاء حکمه، و انقاذا لمقادیر حتمه، فرأی الامم فرقا فی ادیانها، عکفا علی نیرانها، عابدة لاوثانها، منکرة للّه مع عرفانها، فانار اللّه بابی (محمد) ظلمها، و کشف عن القلوب بهمها، و جلا عن الابصار غممها، و قام فی الناس بالهدایة و انقذهم من الغوایة، و بصّرهم من العمایة، و هداهم الی الدین القویم، و دعاهم الی السراط المستقیم، ثم قبضه اللّه الیه قبض رأفة و اختیار، و رغبة و ایثار» الی ان قالت «و هذا کتاب اللّه بین اظهرکم، اموره ظاهرة، و احکامه زاهرة، و اعلامه باهرة، و زواجره لائحة. و اوامره واضحة، لقد خلفتموه وراء ظهورکم أرغبة عنه تریدون؟ ام بغیره تحکمون» الی ان تقول: «و انتم الآن تزعمون ان لا ارث لی أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ» ثم قالت «أ فعلی عمد ترکتم کتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهورکم اذ یقول (وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ) و قال فیما اقتص من خبر یحی بن زکریا اذ یقول: ربّ فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ) و قال (وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ)* و قال (یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ) و قال:
(إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ وَ الْأَقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَی الْمُتَّقِینَ)
و الخطبة طویلة و ستورد کاملة فی القسم الخاص بحیاة الزهراء من (قسم المدینة المنورة) من موسوعة العتبات المقدسة.
و من جواب الخلیفة ابی بکر لفاطمة الزهراء تتجلی قیمة (الزهراء) فی العالم الاسلامی و منزلتها فی النفوس اذ قال ابو بکر فی جوابها:
«یا ابنة رسول اللّه. لقد کان ابوک بالمؤمنین عطوفا کریما، رؤوفا رحیما، و علی الکافرین عذابا الیما، و عقابا عظیما، فان عزوناه وجدناه اباک دون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 166
النساء، و أخا إلفک دون الاخلّاء، آثره علی کل حمیم، و ساعده فی کل امر جسیم، لا یحبکم الا کل سعید، و لا یبغضکم الا کل شقی، فانتم عترة رسول اللّه الطیبون، و الخیرة المنتخبون، علی الخیر ادلتنا، و الی الجنة مسالکنا، و انت یا خیرة النساء، و ابنة خیر الانبیاء، صادقة فی قولک، سابقة فی وفور عقلک، غیر مردودة عن حقک، و لا مصدودة عن صدقک، و اللّه ما عدوت رأی رسول اللّه و لا عملت الا باذنه، و ان الرائد لا یکذب اهله، فانی اشهد اللّه و کفی به شهیدا انی سمعت رسول اللّه یقول «نحن معاشر الانبیاء لا نوّرث ذهبا، و لا فضة، و لا دارا و لا عقارا، و انما نورث الکتاب و الحکمة و العلم و النبوة، و ما لنا من طعمة فلولی الامر بعدنا ان یحکم فیه بحکمه» ...

اولادها:

الحسن المجتبی، و الحسین السبط، و المحسن السقط ، و زینب الکبری عقیلة بنی هاشم، و ام کلثوم.

وفاتها:

تعددت الاقوال فی مدة بقائها بعد ابیها هل هی اربعون یوما او خمسة و سبعون او خمسة و تسعون او اکثر من ذلک من نحو مائة یوم او اربعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 167
اشهر او ستة او ثمانیة اشهر، و قد اتفق الجمیع علی ان عمرها بعد ابیها لم یکن اکثر من ثمانیة اشهر و لا باقل من اربعین یوما.
و الذی نختاره هو انها مکثت بعد ابیها خمسة و تسعین یوما، و قبضت فی ثالث جمادی الآخرة.
فلما توفیت غسلها علی (ع) و صلی علیها، و دفنها لیلا، و لم یشهد جنازتها سوی علی و خواصه و الحسین و بعض بنی هاشم و سوّی علی قبرها مع الارض، و قیل منظر البقیع من الجهة الشرقیة الجنوبیة سنة 1321 ه
سوّی حوالیها قبورا مزورة قدر سبعة، حتی لا یعرف قبرها، و لذلک اختلفت الروایات و الاخبار فی موضع قبرها، فقیل دفنت فی بیتها و قیل فی البقیع و قیل بین القبر و المنبر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 168

الامام الاول علی بن ابی طالب

ولادته:

ولد یوم الجمعة ثالث عشر رجب الحرام بعد عام الفیل بثلاثین عاما و کان مولده فی البیت الحرام بمکة المکرمة و قول آخر انه ولد لسبع خلون من شعبان و الاشهر الاول سنة 600 م ابوه ابو طالب شیخ البطحاء و اسمه عبد مناف، و یکنی بابی طالب اکبر ولده، و هو اخو عبد اللّه ابی النبی لامه و ابیه، و امه فاطمة بنت اسد بن هاشم، فهو اول هاشمی ولد بین هاشمیین.
لقد کانت فاطمة بنت اسد لرسول اللّه بمنزلة الام لانه ربی فی حجرها و هو ابن ثمانی سنین و کان شاکرا لبرها و یسمیها (امی) فقد کانت تفضله علی اولادها فی البر، و کانت من سابقات المؤمنات الی الایمان، هاجرت مع رسول اللّه الی المدینة. و لما توفیت کفنها رسول اللّه بقمیصه لیدرأ به عنها هوام الارض، و امر من یحفر قبرها فلما بلغوا لحدها حفره بیده، و اضطجع فیه، و قال: «اللهم اغفر لامی فاطمة بنت اسد و لقّنها حجتها، و وسع علیها مدخلها، فقیل یا رسول اللّه: رأیناک صنعت شیئا لم تصنعه باحد قبلها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 169
منظر خارجی لروضة الامام علی (ع) فی النجف الاشرف
فقال: البستها قمیصی لتلبس من ثیاب الجنة، و اضطجعت فی قبرها لیوسعه اللّه علیها، و تأمن من ضغطة القبر، انها کانت من احسن خلق اللّه صنعا الیّ بعد ابی طالب، ....» و سماه ابوه علیا، و یکنی ابا الحسنین و ابا السبطین، و ابا تراب، و هی أحب کناه الیه لکون النبی کناه بها مذ رآه ساجدا معفرا وجهه فی التراب، قال: انت ابو تراب، و قیل فی سبب هذه الکنیة ان النبی قال له یا علی اول من ینفض التراب عن رأسه انت. قال الکمیت الاسدی:
و قالوا ترابی هواه و دینه‌بذلک ادعی بینهم و ألقّب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 170
نشأ فی حجر رسول اللّه و تأدب بآدابه، و ربی بتربیته. و لما اصاب اهل مکة جدب شدید اخذ النبی علیا من ابیه، و اخذ حمزة جعفرا، و اخذ العباس طالبا، لیخنفوا عن ابی طالب، و ابقی ابو طالب عنده عقیلا.
فلم یزل علی مع رسول اللّه حتی بعثه اللّه بالنبوة فکان اول من آمن به و اتبعه و صدقه.
اقام مع النبی بمکة ثلاثا و عشرین سنة، و عشر سنین بالمدینة بعد الهجرة یشارکه اکثر محنه، و یشاطره جل اعماله، و یتحمل عنه اکبر اثقاله، و قد باشر الحرب و هو ابن ثلاث و عشرین سنة، و عاش بعد النبی ثلاثین سنة، فیکون عمره ثلاثا و ستین سنة کعمر رسول اللّه و هذا هو المشهور.

صفاته:

کان علی ربعة من الرجال، ادعج العینین، عظیمهما، عظیم البطن الی السمن، شثن الکفین، عظیم الکرادیس، اصلع لیس فی رأسه شعر الا من خلفه، کثیر شعر اللحیة، و کان لا یخضب، و المشهور انه کان ابیض اللحیة، و کان اذا مشی تکفأ، شدید الساعد و الید، قویا ما صارع احدا الا صرعه، و فی الکامل لابن الاثیر الجزری «و کان من احسن الناس وجها، و لا یغیر شیبه، کثیر التبسم» و قال ابن ابی الحدید فی مقدمة شرح النهج «اما شجاعة علی فانه انسی الناس فیها ذکر من کان قبله و محا اسم من یأتی بعده، و مقاماته فی الحرب مشهورة یضرب بها الامثال الی یوم القیامة، و هو الشجاع الذی ما فرّ قط و لا ارتاع من کتیبة، و لا بارز احدا الا مثله، و لا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولی الی ثانیة، و فی الحدیث کانت ضرباته و ترا، و لما دعا معویة الی المبارزة لیستریح الناس من الحرب بقتل احدهما قال له عمرو بن العاص.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 171
لقد انصفک. فقال معویة: ما غششتنی منذ نصحتنی الا الیوم، أ تأمرنی بمبارزة ابی الحسن و انت تعلم انه الشجاع المطرق، اراک طمعت فی امارة الشام بعدی ... و کانت العرب تفتخر بوقوفها فی الحرب فی مقابلته فاما قتلاه فافتخار رهطهم بانه قد قتلهم اظهر و اکثر، قالت اخت عمرو بن ودّ ترثیه و تفتخر بان قاتله سید شجعان العرب
لو کان قاتل عمرو غیر فاتله‌لکنت ابکی علیه دائم الابد
لکن قاتله من لا یعاب به‌ابوه قد کان یدعی بیضة البلد
و جملة الامر ان کل شجاع فی الدنیا الیه ینتهی، و باسمه ینادی، فی مشارق الارض و مغاربها و تالله لو تجسمت الشجاعة و تمثلت، و تمثلت فی شخص لکان ذلک الشخص هو امیر المؤمنین، بل لو عرفه قدماء الیونان لاتخذوه إلها للشجاعة فی جملة آلهتهم التی عبدوها، و من سبر حاله فی غزواته مع النبی عرف صحة ما یقول».
و فی صحیح البخاری و مسلم، عن سهل بن سعد: «ان رسول اللّه قال یوم خیبر لأعطین الرایة غدا رجلا یفتح اللّه علی یدیه، یحب اللّه و رسوله، و یحبه اللّه و رسوله، فبات الناس یدو کون لیلتهم ایهم یعطیها فلما صابح الناس غدوا علی رسول اللّه فاعطاها لعلی ...»
قال شمس الدین محمد بن طولون فی تاریخ (الأئمة الاثنی عشر):
و هاجر علی الی المدینة، و استخلفه النبی حین هاجر من مکة الی المدینة ان یقیم بعده بمکة ایاما حتی یؤدی عنه امانته و الودائع و الوصایا التی کانت عند النبی ثم یلحق باهله ففعل ذلک.
و شهد مع النبی بدرا، و احد، و الخندق، و بیعة الرضوان، و خیبر؛ و الفتح، و حنینا، و الطائف، و سائر المشاهد الا تبوک. فان النبی استخلفه علی المدینة، و له فی جمیع المشاهد آثار مشهورة. و اجمع اهل التاریخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 172
علی شهوده بدرا و غیرها من المشاهد غیر تبوک قالوا فاعطاه النبی اللواء فی مواطن کثیرة، و ثبت فی الصحیحین ان النبی اعطاه الرایة یوم خیبر، و اخبر ان الفتح یکون علی یدیه. و اما علمه فکان من العلوم بالمحل الاعلی، روی له عن رسول اللّه خمس مائة حدیث و ستة و ثمانون حدیثا. قال ابن المسیب ما کان احد یقول: سلونی، غیر علی. و قال ابن عباس اعطی علی تسعة اعشار العلم و و اللّه لقد شارکهم فی العشر الباقی. قال و اذا ثبت لنا الشی‌ء عن علی لم نعدل الی غیره. و سؤال کبار الصحابة له و رجوعهم الی فتاویه.
و اقواله فی المواطن الکثیرة و المسائل المعضلات مشهور.
و روی ابن ابی الحدید و ابن عبد البر و غیرهما «ان معاویة بن ابی سفیان قال لضرار بن حمزة صف لی علیا، قال: اعفنی. قال لتصفنه، قال اما اذا کان لا بد من وصفه فانه: کان و اللّه بعید المدی، شدید القوی یقول فصلا، و یحکم عدلا، یتفجر العلم من جوانبه، و تنطف الحکمة من نواجذه، و کان حسن المعاشرة، سهل المباشرة، یستوحش من الدنیا و زهرتها، و یأنس باللیل و وحشته، و کان غزیر العبرة، طویل الفکرة، یقلّب کفه، و یحاسب نفسه، یعجبه من اللباس ما خشن، و من الطعام ما جشب، و کان فینا و اللّه کأحدنا، یحیینا اذا سألناه، و یدنینا اذا اتیناه، و نحن و اللّه مع تقریبه ایانا و قربه منا، لا نکاد نکلمه هیبة له، فاذا تکلم کأنه اللؤلؤ المنظوم، لا یطمع القوی فی باطله، و لا ییأس الضعیف من عدله، و اشهد لقد رأیته فی بعض مواقفه و قد ارخی اللیل سدوله، و غارت نجومه، قابضا علی لحیته یتململ تململ السلیم، و یبکی بکاء الحزین، و هو یقول یا دنیا غرّی غیری، أبی تعرّضت؟ ام الیّ تشوقت؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 173
هیهات لا حاجة لی فیک، قد طلقتک ثلاثا لا رجعة لی فیها، فعمرک قصیر، و عیشک حقیر، و خطرک کبیر، آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطریق.
فبکی معویة و قال رحم اللّه ابا الحسن کان و اللّه کذلک فکیف حزنک علیه یا ضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها فی حجرها، فهی لا ترقأ عبرتها، و لا تسکن حرارتها»

الامام:

یقول العقاد فی (عبقریة الامام) عن علی ابن ابی طالب: «... من هذه الالقاب الشائعة لقب الامام الذی اختص به علی بین جمیع الخلفاء الراشدین، و الذی اذا أطلق فلا ینصرف الی احد غیره. بین جمیع الائمة الذین و سموا بهذه السمة من سابقیه و لاحقیه» و یقول:
«و ذلک هو علی ابن ابی طالب کما لقبه الناس، و جری لقبه علی الالسنة، فعرفه به الطفل و هو یسمع امادیحه المنغومة فی الطرقات، بغیر حاجة الی تسمیة او تعریف، و خاصة اخری من خواص الامامة ینفرد بها علی و لا یجاریه فیها غیره و هی اتصاله بکل مذهب من مذاهب الفرق الاسلامیة منذ وجدت فی صدر الاسلام، فهو منشی‌ء هذه الفرق او قطبها الذی تدور علیه، و ندرت فرقة فی الاسلام لم یکن علی معلما لها منذ نشأتها او لم یکن موضوعا لها و محورا لمباحثها تقول فیه و ترد علی قائلین.
و قد اتصلت الحلقات بینه و بین علماء الکلام و التوحید کما اتصلت بینه و بین علماء الفقه و الشریعة و علماء الادب و البلاغة فهو استاذ هؤلاء جمیعا بالسند الموصول».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 174

خلافته:

لقد وجدت بنو امیة فی مقتل عثمان ذریعة فخلقت لعلی مشاکل و بثت الفتن فنشأ من ذلک حرب الجمل و لم تکد تنتهی حتی ابتدأت حرب صفین ثم ابتلی بالخوارج و حربهم فی النهروان و لم تترک امیة فرصة لعلی ان یتم رسالته و مع ذلک فقد تغلب علی کل تلک الصعوبات و نوی فی هذه المرة ان یعود الی حرب معاویة و لو کان قد عاد لانتهت جمیع تلک المشاکل و لاستتب الامن و سادت الحریة و الاطمئنان و العدل جمیع الربوع الاسلامیة و لکن ابن ملجم قد عجل علیه فقتله قبل ان یعود الی تصفیة قضیة معاویة.

من اقواله و حکمه:

و علی ان الکفایة فی البلاغة مثلا لهذا الطود الشامخ من الحکمة و الفلسفة و البلاغة فاننا نورد هنا بعض الامثلة لاقواله و حکمه مما لم یدرج فی نهج البلاغة فی الغالب، قال فی الطیرة و التنجیم و قد اعتبر الایمان بها علی سبیل معرفة الغیب ضربا من ضروب الکفر، قال:
«اللهم لا طیر الا طیرک، و لا ضیر الا ضیرک، و لا اله غیرک».
و کان علی یطوف کل بکرة فی اسواق الکوفة سوقا سوقا و معه الدرّة علی عاتقه فینادی: یا معشر التجار، قدموا الاستخارة، و تبرکوا بالسهولة، و اقتربوا من المبتاعین، و تزینوا بالحلم، و تناهوا عن الکذب و الیمین، و تجافوا عن الظلم، و انصفوا المظلومین، و لا تقربوا الربا، و اوفوا الکیل و المیزان، و لا تبخسوا الناس اشیاءهم و لا تعثوا فی الارض مفسدین.
و قال علیه السلام یعزّی اشعث فی ابن له: «یا اشعث ان صبرت جری علیک القدر و انت مأجور، و ان جزعت جری علیک القدر و انت مأزور»
قال سبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص قال رجل لعلی: قد عیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 175
صبری، فاعطنی، قال فانشدک شیئا ام اعطیک؟ فقال کلامک احب الی من عطائک فقال:
ان عضّک الدهر فانتظر فرجافانه نازل بمنتظره
او مسّک الضرّ او بلیت به‌فاصبر علی عسره و فی یسره
رب معافی علی تهوره‌و مبتلی لا ینام من حذره
و آمن فی عشاء لیلته‌دب الیه البلاء فی سحره
من مارس الدهر ذم صحبته‌و نال من صفوه و من کدره
و قال علیه السلام لرجل کره صحبة رجل:
و لا تصحب اخا الجهل‌و ایاک و ایاه
فکم من جاهل اردی‌حلیما حین آخاه
یقاس المرء بالمرءاذا ما هو ماشاه
و للقلب علی القلب‌دلیل حین یلقاه
و للشی‌ء من الشی‌ءمقاییس و اشباه
و فی العین غنی للعین‌ان تنطق افواه

اولاده و ازواجه:

و عددهم سبعة و عشرون او ثمانیة و عشرون ما بین ذکر و انثی، و الذکور اربعة و هم: الحسن، الحسین، زینب الکبری، ام کلثوم، المحسن السقط، (و امهم فاطمة الزهراء)، و محمد الاکبر المعروف بابن الحنفیة و المکنی بابی القاسم و امه خولة بنت جعفر بن قیس الحنفیة.
عمر (الاطرف)، رقیة، توأمان- و امهما ام حبیب الصهباء بنت ربیعة التغلبیة.
عبید اللّه- امه نهلشیة و هو قتیل- المذار- بین واسط و البصرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 176
العباس، عبد اللّه، عثمان، جعفر (شهداء کربلاء) و امهم ام البنین بنت حزام الکلابیة.
محمد الاصغر المکنی بابی بکر ، عبد اللّه الشهید- بکربلاء- امهما لیلی بنت مسعود الدارمیة.
یحیی- امه اسماء الخثعمیة بنت عمیس.
ام الحسن، رمله- أمهما ام سعید بنت عروة بن مسعود الثقفی.
نفیسة، زینب الصغری، ام هانی، ام الکرام، جمانة امامة، ام سلمة، میمونة، خدیجة، فاطمة، و کلهن بنات امیر المؤمنین و هن لامهات شتی.
محمد الاوسط- امه امامة بنت ابی العاص.

وفاته:

قبض سنة اربعین من الهجرة لیلة الجمعة بالکوفة 21 کانون الثانی 661 م و هی لیلة احدی و عشرین من شهر رمضان فی الثلث الاول من اللیل. مات شهیدا من ضربة عبد الرحمن بن ملجم المرادی، و قد کمن له فی المسجد الاعظم فضربه علی رأسه فی اثناء صلاة الفجر، و هذا اشهر الاقوال، و لما قبض غسله الحسن، و الحسین، و محمد یصب الماء ثم کفن و صلی علیه السلام ابنه الحسن، ثم حمله الحسنان، و محمد ابن الحنفیة، و عبد اللّه بن جعفر و خواصه بأمر منه الی (الغریین)، من (نجف الکوفة) و دفنوه هناک لیلا و عفوا موضع قبره بوصیة منه خوف الخوارج و بنی امیة ان ینبشوا قبره. و لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 177
یزل قبره مخفیا لا یعلمه احد غیر بنیه و خواص شیعته حتی دل علیه الامام جعفر بن محمد الصادق و زاره الامام الصادق عند وروده علی المنصور و هو بالحیرة. ثم عرّفه و اظهره الرشید العباسی.
قال ابن الاثیر فی (الکامل) و لما قتل علی قام ابنه الحسن و قال مما قال عن ابیه «و اللّه ما ترک صفراء و لا بیضاء الا ثمانمانة او سبعمائة ارصدها لجاریة».
و قال سفیان ان علیا لم یبن آجرة علی آجرة، و لا لبنة علی لبنة، و لا قصبة علی قصبة، و کان یختم علی الجواب الذی فیه دقیق الشعیر الذی یؤکل منه.
و یقول (لا احب ان یدخل بطنی الا ما اعلم).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 178

الامام الثانی الحسن بن علی بن ابی طالب

اشارة

هو الامام الثانی و من ائمة اهل البیت، و السبط الاکبر من سیدی شباب اهل الجنة، و اول اولاد علی و فاطمة و لم یسم احد باسمه من قبل، ولد بالمدینة المنورة لیلة النصف من شهر رمضان علی الصحیح المشهور بین المسلمین، و قیل فی شعبان و لعله اشتباه بمولد اخیه الحسین، و کان مولده لیلة الثلاثاء سنة ثلاث للهجرة 625 م و روی سنة اثنتین من الهجرة و قیل انه ولد لستة اشهر و روی مثل ذلک فی حق اخیه الحسین، قال الشیخ الصدوق فی (علل الشرائع) لما ولد الحسن قالت فاطمة لعلی سمّه، فقال ما کنت لا سبق باسمه رسول اللّه فجاء النبی فأخرج الیه فی خرقة صفراء فرمی بها و قال: «أ لم أنهکم ان تلفوا المولود فی خرقة صفراء» و امر ان یلف فی خرقة بیضاء، و اذّن فی اذنه الیمنی، و اقام فی الیسری، ثم سماه بالحسن.
و من القابه: السید و السبط، و التقی، و الزکی، و المجتبی، و الزاهد،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 179
و لکن اعلا القابه رتبة و أولاها، ما لقبه به رسول اللّه و هو السید. لانه قال:
ان ابنی هذا سید. و قال: «و من اراد ان ینظر الی سید شباب اهل الجنة فلینظر الی الحسن بن علی».

صفاته:

و کان اشبه الناس من رأسه الی صدره بجده رسول اللّه و لم یکن احد فی زمانه اشبه بالنبی منه. و عن و اصل بن عطاء: کان الحسن بن علی علیه سیماء الانبیاء، و بهاء الملوک. و عن الغزالی قال:
«و کان النبی یقول للحسن اشبهت خلقی و خلقی».
و کان ابیض مشربا بحمرة، ادعج العینین، سهل الخدین، دقیق المسربة، کث اللحیة، ذا وفرة، عظیم الکرادیس، بعیدا ما بین المنکبین، ربعة، لیس بالطویل و لا بالقصیر، ملیحا من احسن الناس وجها، و کان یخضب بالسواد، جعد الشعر، حسن البدن، قال القبرصی و یصدق هذا الخبر ما رواه محمد بن اسحاق قال: ما بلغ احد من الشرف بعد رسول اللّه ما بلغ الحسن بن علی، کان یبسط له علی باب داره، فاذا خرج و جلس انقطع الطریق فما یمر احد من خلق اللّه اجلالا له، فاذا علم قام و دخل بیته فیمر الناس، قال الراوی و لقد رأیته فی طریق مکة نزل عن راحلته فمشی، فما من خلق اللّه احد الا نزل و مشی، حتی رأیت سعد بن ابی وقاص قد نزل و مشی الی جنبه.
روی الصدوق فی (الامالی) باسناده عن الصادق قال حدثنی ابی عن ابیه ان الحسن بن علی بن ابی طالب کان اعبد الناس فی زمانه و ازهدهم و افضلهم، و کان اذا حج، حج ماشیا، و ربما مشی حافیا، و ان الجنائب لتقاد بین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 180
یدیه. و کان اذا بلغ باب المسجد رفع رأسه و قال: «الهی ضیفک ببابک، یا محسن قد اتاک المسی‌ء، فتجاوز عن قبیح ما عندی بجمیل ما عندک یا کریم».
و عن صحیحی البخاری و مسلم عن البراء بن عازب قال: رأیت رسول اللّه و الحسن بن علی علی عاتقه و هو یقول:
«اللهم انی احبه فاحبّه» و فی روایة عن (حلیة الاولیاء) «من احبنی فلیحبّه» و عن صحیح الترمذی عن ابن عباس قال: کان رسول اللّه حاملا الحسن ابن علی علی عاتقه، فقال رجل «نعم المرکب رکبت یا غلام، فقال النبی: و نعم الراکب هو».
و کان من حلمه ما یوازن به الجبال علی حد تعبیر (مروان) عنه.
و کان کرمه و سخاؤه مضرب الامثال، رأی غلاما اسود یأکل من رغیف لقمة، و یطعم کلبا هناک لقمة، فقال له ما حملک علی هذا؟ قال الغلام انی استحی منه ان آکل و لا اطعمه. فقال الحسن لا تبرح مکانک حتی آتیک، و ذهب الی سید الغلام فاشتری الغلام منه، و اشتری الحائط (البستان) الذی هو فیه، فاعتقه و ملکه الحائط.
و کان من العلم و البلاغة و العمق ما ملک اعجاب الناس و احترامهم، قال ابن الصباغ فی (الفصول المهمة): و یجتمع الناس حوله فیتکلم بما یشفی غلیل السائلین و یقطع حجج المجادلین.
و کان اذا حج و طاف بالبیت یکاد الناس یحطمونه مما یزدحمون للسلام علیه.
قام بالامر بعد ابیه و له سبع و ثلاثون سنة و ذلک سنة 40 بایعه الناس بالخلافة یوم الجمعة الحادی و العشرین من شهر رمضان بعد ما خطب بالناس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 181
فی صبیحة اللیلة التی قبض فیها امیر المؤمنین (علی) فرتب العمال، و أمّر الامراء، و انفذ عبد اللّه بن عباس الی البصرة، و نظر فی الامور؛ و اقام فی خلافته ستة اشهر و ثلاثة ایام، و قد وقع الصلح بینه و بین معویة فی الخامس و العشرین من ربیع الاول سنة احدی و اربعین اضطرارا بعد ان تبین له ان جماعة من رؤساء اصحابه کتبوا سرا الی معویة و ضمنوا له ان یسلموه الیه عند دنوّ العسکرین.
و خرج الحسن الی المدینة و اقام فیها عشر سنین الا شهرا ثم قبض.

من اقواله و حکمه:

سأل علی (ع) الحسن و هی اسئلة طالما یسأل الآباء عن امثالها الابناء لاختبار افکارهم و عمق ادراکهم لقد سأله قائلا:
یا بنی ما السداد؟ قال دفع المنکر بالمعروف.
قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشیرة و حمل الجریرة.
قال: فما المروءة؟ قال حفظ الدین، و اعزاز النفس، و لین الکتف، و تعهد الصنیعة، و اداء الحقوق، و التحبب الی الناس
قال: فما الکرم؟ قال: الابتداء بالعطیة قبل المسألة، و اطعام الطعام فی المحل.
قال: فما السماح؟ قال البذل فی العسر و الیسر.
قال: فما الشح؟ قال: قال ان تری ما فی یدیک شرفا، و ما انفقته تلفا.
قال: فما الاخاء؟ قال: المواساة فی الشدة و الرخاء
قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة علی الصدیق، و النکول عن العدو.
قال: فما الغنیمة؟ قال: الرغبة فی التقوی، و الزهادة فی الدنیا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 182
قال: فما الحلم؟ قال: کظم الغیظ و ملک النفس.
قال: فما الغنی؟ قال رضی النفس بما قسم اللّه و ان قل، و انما الغنی غنی النفس.
قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس الی کل شی‌ء.
قال: فما الکلفة؟ قال: کلامک فیما لا یعنیک.
قال: فما المجد؟ قال: ان تعطی فی الغرم و تعفو عن الجرم.
قال: فما السؤدد؟ قال: اتیان الجمیل و ترک القبیح.
قال: فما الحزم؟ قال: طول الاناة و الرفق بالولاة.
قال: فما الشرف؟ قال: موافقة الاخوان و حفظ الجیران
الی غیر ذلک من الاسئلة و الاجوبة الکثیرة التی اوردتها مختلف الکتب.

زوجاته:

تزوج (ام اسحق) بنت طلحة بن عبید اللّه، و (حفصة) بنت عبد الرحمن بن ابی بکر (و هند) بنت سهیل بن عمرو، و (جعدة) بنت الاشعث بن قیس و هی التی اغراها معاویة بقتله فقتلته بالسم.
و نسب له الناس زوجات اخری من المعتقد انه قد بولغ فیها.

اولاده:

کان للامام الحسن خمسة عشر ولدا ما بین ذکر و انثی و هم:
زید، ام الحسن، ام الحسین، و امهم ام بشیر بنت ابی مسعود الخزرجیة.
الحسن و یسمی بالحسن المثنی، امه خولة بنت منظور الفزاریة.
عمرو، القاسم، عبد اللّه، امهم ام ولد.
عبد الرحمن، امه ام ولد.
الحسن الملقب بالاثرم، طلحة، فاطمة، امهم ام اسحق بنت طلحة بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 183
عبد اللّه التیمی.
ام عبد اللّه، فاطمة، ام سلمة، رقیة، لامهات شتی و لم یعقب منهم غیر الحسن، و زید.

وفاته:

کانت وفاته فی الثامن و العشرین من صفر سنة خمسین او فی ست من صفر او السابع منه و کان عمره حین استشهد سبعا و اربعین سنة، امضی منها سبع سنین و اشهرا مع جده الرسول و سبعا و ثلاثین مع ابیه و بقی بعده عشر سنین و قام بتجهیزه اخوه الحسین و اخوته و سائر بنی هاشم و دفن بالبقیع مع جدتد فاطمة بنت اسد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 184

الامام الثالث (ابو عبد اللّه) الحسین بن علی بن ابی طالب

اشارة

هو السبط الثانی لرسول اللّه ولد بالمدینة المنورة فی السنة الثالثة من الهجرة او الرابعة لثلاث خلون من شعبان و قیل لخمس خلون منه و المشهور هو الاول 626 م.
قال الشیخ المفید فی (الارشاد) و الامام بعد الحسن بن علی، اخوه الحسین بنص ابیه وجده علیه و وصیة اخیه الحسن الیه. و جاءت امه فاطمة الی جده رسول اللّه فاستبشر به و سماه حسینا و عق عنه کبشا. قال و روی شاذان عن سلمان رضی اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه یقول فی الحسن و الحسین: «اللهم انی احبهما و احب من احبهما و قال: من احب الحسن و الحسین احببته، و من احببته احبه اللّه، و من احبه اللّه ادخله الجنة، و من ابغضهما ابغضته، و من ابغضته ابغضه اللّه، و من ابغضه اللّه ادخله النار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 185
و قال: حسین منی و انا من حسین احب اللّه من احب حسینا، حسین سبط من الاسباط».

صفاته:

کان اشبه اهل البیت برسول اللّه، و کان اشرق الناس وجها، و احسنهم خلقا قال عبد اللّه بن الحر الجعفی ما رأیت احدا احسن و لا املأ للعین، و لا اهیب فی القلب من الحسین».
و کان فی صوته غنّة حسنة، و کان الطیب محببا الیه، فکان المسک لا یفارقه فی حلّه و ترحاله، و بخور العود و الند فی مجلسه. و کان مجلسه مجلس وقار و علم، و الناس من حوله یتحلقون، یأخذون عنه ما یلقیه علیهم و هم فی خشوع کأن علی رؤوسهم الطیر
قال الشافعی فی (مطالب السؤول) قد اشتهر النقل ان الحسین کان یکرم الضیف، و یمنح الطالب، و یصل الرحم، و ینیل الفقیر، و یسعف السائل، و یکسو العاری، و یشبع الجائع، و یشفق علی الیتیم، و قلّ ان وصله مال الا فرّقه، و کان علیه السلام یقول: شر خصال الملوک الجبن عن الاعداء، و القسوة علی الضعفاء، و البخل عن الاعطاء. و اعظم جود صدر منه جوده بنفسه فی سبیل اللّه و تسلیمه ایاها للقتل.
قال رجل عند الحسین: ان المعروف اذا اسدی الی غیر اهله ضاع.
فقال الحسین لیس کذلک و لکن تکون الصنیعة مثل وابل المطر تصیب البر و الفاجر
و قال: ما اخذ اللّه طاقة احد الا وضع عنه طاعته، و لا اخذ قدرته الا وضع عنه کلفته.
و قال: اذا سمعت احدا یتناول اعراض الناس فاجتهد ان لا یعرفک فان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 186
ضریح الامام ابی عبد اللّه الحسین (ع) بکربلاء
اشقی الاعراض به معارفه.
و قد اشتهر مع الجود بصفتین من اکرم الصفات الانسانیة و الیقهما ببیته و شرفه، و هما الوفاء، و الشجاعة.
فمن وفائه انه ابی الخروج علی معاویة بعد وفاة اخیه الحسن لانه عاهد معاویة علی المسالمة (ص 70 ابو الشهداء).

من اقواله و حکمه:

و للامام الحسین کلمات آیة فی الابداع و فی ذروة البلاغة، سهلة اللفظ، جیدة السبک، متراصفة الفقرات، متلائمة الاطراف، تملک القلوب،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 187
و تستعبد الاسماع کقوله: الناس عبید الدنیا، و الدین لعق علی السنتهم، یحوطونه ما درت معایشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الدیّانون.
و قد اوتی ملکة الخطابة من طلاقة لسان، و حسن بیان، و غنة صوت، و جمال ایماء، و قد استخرج (العقّاد) امثلة لذلک منها قوله:
و من کلام الحسین المرتجل قوله فی تودیع ابی ذر و قد اخرجه عثمان من المدینة بعد ان اخرجه معاویة من الشام «یا عماه، ان اللّه قادر ان یغیر ما قد تری و اللّه کل یوم فی شأن، و قد منعک القوم دنیاهم و منعتهم دینک، و ما اغناک عما منعوک، و احوجهم الی ما منعتهم، فاسأل اللّه الصبر و النصر، و استعذ به من الجشع و الجزع، فان الصبر من الدین و الکرم، و ان الجشع لا یقدم رزقا، و الجزع لا یؤخر اجلا».
و کان عمره هنا کما جاء فی (ابو الشهداء) ثلاثین سنة فیقول العقاد:
فکأنما اودع هذه الکلمات شعار حیاته کاملة منذ ادرک الدنیا الی ان فارقها فی مصرع کربلاء.
و رویت الغرائب فی اختبار حذقه بالفقه و اللغة، کما رویت امثال هذه الغرائب فی امتحان قدرة ابیه علیهما السلام، و لخبرته بالکلام، و شهرته بالفصاحة، کان الشعراء یرتادونه و بهم من الطمع فی اصغائه اکبر من طمعهم فی اعطائه، و من اقواله علیه السلام:
صاحب الحاجة لم یکرم وجهه عن سؤالک فاکرم وجهک عن رده.
ان اجود الناس من اعطی من لا یرجو، و إنّ أعفی الناس من عفا عن قدرة، و انّ أوصل الناس من وصل من قطعه.
الحلم زینة، و الوفاء مروءة، و الصلة نعمة، و الاستکبار صلف، و العجلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 188
سفه، و السفه ضعف، و الغلو ورطة، و مجالسة اهل الدناءة شر، و مجالسة اهل الفسق ریبة.
سئل الحسین بن علی (ع) کیف اصبحت یا ابن رسول اللّه؟
قال: اصبحت ولی رب فوقی، و النار امامی، و الموت یطلبنی، و الحساب محدق بی، و انا مرتهن بعملی، و لا اجد ما احب و لا ادفع ما اکره، و الامور بید غیری، فان شاء عذبنی، و ان شاء عفا عنی، فای فقیر افقر منی؟

خصومة یزید:

و لما مات معویة بن ابی سفیان و ذلک فی النصف من رجب سنة ستین من الهجرة کتب یزید الی عامل المدینة و هو الولید بن عتبة بن ابی سفیان یأمره ان یأخذ البیعة له من الحسین بن علی خاصة و من اهل المدینة عامة، ثم یقول فی الکتاب «و اذا امتنع الحسین عن البیعة فاضرب عنقه و ابعث الیّ برأسه»!!
یقول العقاد فی کتابه (ابو الشهداء): «قبل ان یقف الحسین و یزید کانت الحوادث قد جمعت لها اسباب التنافس و الخصومة منذ اجیال ... فقد تنافس هاشم و امیة علی الزعامة قبل ان یولد علی و معاویة، و قد اسلم ابو سفیان و ابنه معاویة عند فتح مکة و کان اسلامهما اعسر اسلام عرف بعد فتحها ... و ظل ابو سفیان الی ما بعد اسلامه زمنا یحسب غلبة الاسلام غلبة علیه فنظر الی النبی مرة و هو بالمسجد نظرة الحائر المتعجب و هو یقول لنفسه لیت شعری بأی شی‌ء غلبنی. فلم یخف علی النبی علیه السلام معنی هذه النظرة ..»
و لخص المقریزی المنافسة التی بین الهاشمیین و الامویین فی بیتین قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 189 عبد شمس قد أضرمت لبنی‌هاشم حربا یشیب منها الولید
فابن حرب للمصطفی، و ابن هندلعلی، و للحسین یزید
و کان الولید بن عتبة- و قد تلقی امر یزید بن معاویة باخذ البیعة من الحسین- رجلا یحب العافیة فارسل الی الحسین یطلب منه الحضور فی دار الامارة، فاستدعی الحسین جماعة من اهل بیته و اقبل بهم و قال لهم: ان الولید استدعانی و لا آمن ان یکلفنی امرا لا اجیبه الیه، فکونوا علی الباب فان سمعتم صوتی قد علا فادخلوا علی لتمنعوه عنی، و حین صار الی الولید وجد عنده مروان بن الحکم، فنعی الیه الولید معاویة فاسترجع الحسین ثم قرأ علیه کتاب یزید فقال: نصبح و نری، فقال مروان: و اللّه لئن فارقک الحسین الساعة و لم یبایع لا قدرت منه علی مثلها ابدا و لکن احبس الرجل اما ان یبایع او تضرب عنقه، فوثب الیه الحسین و قال: یا ابن الزرقاء انت تقتلنی ام هو؟ کذبت و اللّه و لئمت، ثم اقبل علی الولید و قال: یا امیر إنّا اهل بیت النبوة، و موضع الرسالة، بنا فتح اللّه، و بنا یختم، و یزید رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، و مثلی لا یبایع مثله، و لکن نصبح و تصبحون، و ننظر و تنظرون، اینا احق بالخلافة و البیعة؟ و ارتفع صوت الحسین فدخل اخوته و ابناؤه فقام و خرج. ثم هیأ نفسه و توجه الی مکة للیلتین بقیتا من رجب و هو یقرأ «فخرج منها خائفا یترقب قال ربی نجنی من القوم الظالمین» و دخل مکة لثلاث لیال خلون من شعبان و هو یقرأ «و لما توجه تلقاء مدین قال عسی ربی ان یهدینی سواء السبیل» و لما بلغ اهل الکوفة امتناع الحسین عن البیعة لیزید ثارت احاسیسهم و کوامن نفوسهم ضد الامویین فکاتبوا الحسین بالطاعة له و الثورة ضد الامویین، حتی توافدت علیه الوفود و تقاطرت الرسل بآلاف الرسائل، فارسل الحسین الیهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 190
ابن عمه مسلم بن عقیل فی النصف من شهر رمضان و دخل الکوفة فی الخامس من شوال. و اقبل الناس علی الترحیب به، و بایعوه حتی احصی دیوانه ثمانیة عشر الفا فی ذلک الیوم. اما الحسین فلما علم بذلک توجه یوم الترویة لثمان خلون من ذی الحجة، و فی اثناء الطریق علم بمقتل رسوله مسلم بن عقیل و خضوع الکوفة لامر بنی امیة و جاءته فصیلة من الجیش یطلبون منه الوصول الی الکوفة و النزول عند امر عبید اللّه بن زیاد عامل یزید علی الکوفة- فامتنع الحسین و اخذ طریقا لا یرده الی المدینة و لا یدخله الکوفة- لانه اراد الرجوع الی المدینة، و القوم ارادوا منه القدوم الی الکوفة- فوصل الی ضریح سیدنا العباس (ع) بکربلاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 191
کربلاء یوم الخمیس و هو الیوم الثانی من المحرم و فی الیوم العاشر من المحرم کانت الوقعة التی هزت الانسانیة هزا عنیفا و التی اقامت الدنیا و اقعدتها.

اولاده:

و کان له من الاولاد ستة ذکور و ثلاث بنات و هم:
علی الاکبر شهید کربلاء- و امه لیلی بنت ابی مرة بن عروة بن مسعود الثقفی.
و علی السجاد المعروف بزین العابدین، و امه شاه زنان بنت یزدجرد کسری ملک الفرس و معنی شاه زنان: ملکة النساء.
جعفر، مات فی حیاة ابیه، و لا بقیة له، و امه قضاعیة.
عبد اللّه، قتل مع ابیه صغیرا جاءه سهم و هو فی حجر ابیه فذبحه.
سکینة بنت الحسین- امها الرباب بنت امری‌ء القیس الکلبی، و هی ام عبد اللّه بن الحسین.
فاطمة بنت الحسین- امها بنت اسحاق بنت طلحة بن عبید اللّه تیمیّة.
و جاء فی کتاب السیرة ان للحسین بنتا اسمها رقیة، و هی المدفونة بالشام فی سوق العمارة و لها ضریح یزار، و مسجد یجاوره، یقصده اهل الشام و غیرهم بالنذور و العطور.
و یقال ان للحسین بنتا رابعة، اسمها زینب.

مقتله:

لقد کانت الواقعة یوم الجمعة او یوم السبت و هو یوم العاشر من المحرم سنة احدی و ستین من الهجرة و المصادف (680) فی 10 اکتوبر و ذلک بعد صلاة الظهر و عمره سبع و خمسون سنة و کان عدد من قتل معه من اهل بیته و عشیرته ثمانیة عشر نفسا: فمن اولاد علی ستة و هم: العباس، و عبد اللّه، و عثمان، و جعفر، و عبید اللّه، و ابو بکر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 192
و من اولاد الحسن ثلاثة و هم: القاسم، و ابو بکر، و عبید اللّه.
و من اولاد الحسین اثنان و هما علی بن الحسین، و عبد اللّه الطفل المذبوح بالسهم.
و من اولاد عبد اللّه بن جعفر اثنان و هما: محمد، و عون.
و من اولاد عقیل ثلاثة و هم: عون، و جعفر، و عبد الرحمن.
و من اولاد مسلم بن عقیل اثنان و هما: عبد اللّه، و عبید اللّه.
فهؤلاء ثمانیة عشر نفسا من اهل البیت قتلوا مع الحسین و کلهم مدفونون فیما یلی رجلی الحسین فی مشهده بکربلاء، و اما العباس فانه دفن ناحیة عنهم فی موضع المعرکة عند المسناة و قبره ظاهر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 193

الامام الرابع علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

اشارة

هو رابع لأئمة عند الشیعة- و زین العابدین اشهر القابه، ولد بالمدینة الطیبة یوم الجمعة لخمس خلون من شعبان او لتسع خلون منه، و قال الشیخ فی (المصباح) و ابن طاوس فی (الاقبال) ان مولده کان فی النصف من جمادی الاولی، و ذلک سنة ثمان و ثلاثین او سبع و ثلاثین او ست و ثلاثین، ای فی خلافة جده امیر المؤمنین بغیر خلاف من ذلک، و کان عمره یوم واقعة الطف بکربلاء ثلاثا و عشرین سنة، و بقی بعد ابیه اربعا و ثلاثین سنة علی الاشهر، فتکون ولادته بالتاریخ المیلادی سنة 715، قال المفید فی الارشاد: و کان امیر المؤمنین علی علیه السلام ولّی حرّیث بن جابر الحنفی جانبا من المشرق فبعث الیه ببنتی یزدجرد بن شهریار فنحل ابنه الحسین (شاه زنان) منهما فأولدها زین العابدین و ماتت فی نفاسها، فهی ام ولد و نحل الاخری محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 194
بن ابی بکر، فولدت له القاسم فهما ابنا خالة، و شهد زین العابدین وقعة کربلاء مع ابیه الحسین و حال بین اشتراکه فی الحرب مرضه و اسر و سبی و لما لم یطق الرکوب و الثبات فوق ظهر الجمل لشدة مرضه قیّد بالحبال و وضعت الجامعة فی رقبته و جی‌ء به علی هذه الحالة و ادخل مع السبایا من عیالات الحسین الی مجلس عبید اللّه بن زیاد فی الکوفة ثم مجلس یزید بن معاویة فی الشام و قد جرت فی المجلس الاول محاورة غضب لها ابن زیاد و امر بقتله فما راع زین العابدین هذا التهدید و قال لابن زیاد:
«أبا القتل تهددنی یا ابن زیاد؟ اما علمت ان القتل لنا عادة، و کرامتنا من اللّه الشهادة».
و فی المجلس الثانی ندد باعمال یزید و ارتکابه قتل ریحانة رسول اللّه و ذکره بمنزلة آبائه و اجداده. ففی الوقت الذی کان جده الامام علی یرفع رایة الاسلام کان معاویة و ابوه یحملان رایة الکفر یذبان عن الشرک و الالحاد و قال لیزید:
«یا یزید انک لو تدری ماذا صنعت و ما الذی ارتکبت من ابی و اهل بیتی و اخی و عمومتی اذن لهربت فی الجبال و افترشت الرمال، و دعوت بالویل و الثبور» الی ان قال له «فابشر بالخزی و الندامة»

صفاته

کان یدعی (زین العابدین) و یدعی (بالسجاد) و یدعی (بذی النفثات) و قد امتلأ التاریخ باخبار زهده و کرمه و بلاغته.
و روی انه حج علی ناقته عشرین حجة فما قرعها بسوط، و فی روایة:
اثنتین و عشرین حجة، و لقد سئلت عنه مولاة له، فقالت أ أطنب ام اختصر؟ فقیل لها بل اختصری: فقالت ما اتیته بطعام فی نهار قط و ما فرشت له فراشا بلیل قط.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 195
و جری ذکره فی مجلس عمر بن عبد العزیز فقال «ذهب سراج الدنیا و جمال الاسلام زین العابدین» و قال ابن خلکان هو احد الائمة الاثنی عشر، و من سادات التابعین و کان یصلی فی اللیل و الیوم الف رکعة و روی الاربلی فی (کشف الغمة) فقال «کانت له جاریة نصب الماء علی یده فغفلت فسقط الابریق من یدها علی وجه الامام فشجه فرفع راسه الیها فقالت: و الکاظمین الغیظ، قال: کظمت غیظی، قالت و العافین عن الناس، قال عفوت عنک، قالت: و اللّه یحب المحسنین، قال: اذهبی فانت حرة لوجه اللّه ..»
و کان علیه السلام لا یضرب مملوکا له بل یکتب ذنبه عنده حتی اذا کان شهر رمضان جمعهم؛ و قررهم بذنوبهم، و طلب منهم ان یستغفروا له اللّه کما غفر لهم، ثم یعتقهم و یجیزهم بجوائز ای یفض علیهم الهبات و الصلات، و ما استخدم خادما فوق حول، و فی (العقد الفرید) لابن عبد ربه قال و وفد الناس علیه فی المسجد یلمسون یده محبة للخیر و تفاؤلا، فکان الرجل یدخل الی مسجد رسول اللّه فیراه، فیذهب الیه من فوره، او بعد صلاته، یقبل یده و یضعها علی عینیه یتفاءلون و یرجون الخیر.
و جاء فی (الفصول المهمة) لابن الصباغ المالکی: کان علی بن الحسین یتصدق سرا و یقول صدقة السر تطفی‌ء غضب الرب، قال: و قال ابن عائشة سمعت اهل المدینة یقولون ما فقدنا صدقة السر حتی مات علی بن الحسین، و عن روایة احمد بن حنبل و الصدوق فی (الخصال) عن الامام الباقر علیه السلام. انه کان یعیل بمائة بیت فقیر من فقراء المدینة و کان فی کل بیت جماعة من الناس، و انه کان یحمل الجراب علی ظهره باللیل فیتصدق به.
و کان لا یأکل طعاما حتی یبدأ فیتصدق بمثله، و اذا انقضی الشتاء تصدق بکسوته، و کان یلبس فی الشتاء ثیاب الخز، فقیل له تعطیها من لا یعرف قیمتها و لا تلیق به لباسا، فلو بعتها فتصدقت بثمنها، فقال انی اکره ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 196
ابیع ثوبا صلیت فیه، و اراد الحج فاتخذت له اخته سکینة طعاما بالف درهم فلما صار (بظهر الحرة) تصدق به علی المساکین.
و لما کانت وقعة (الحرة) اراد مروان ان یستودع اهله، فلم یأوهم احد، و تنکر الناس له و مروان من یعرف التأریخ کرهه لاهل البیت- الا الامام زین العابدین فانه جعل اهل مروان مع عیاله، و جمع اربعمایة ضائنة بحشمهن فضمهن الی بیته، حتی قالت واحدة: «و اللّه ما عشت بین ابوی کما عشت فی کنف ذلک الشریف».
و حکی عن (ربیع الابرار) للزمخشری: انه «لما وجّه یزید بن معاویة قائده مسلم بن عقبة لاستباحة المدینة المنورة، ضم علی بن الحسین علیه السلام الی نفسه اربعمائة ضاننة بحشمهن یعولهن الی ان تقوض جیش مسلم، فقالت امرأة منهن: (ما عشت و اللّه بین ابوی بمثل ذلک الشریف)».
و عن الامام الباقر قال: لما حضرت ابی علی ابن الحسین الوفاة ضمنی الی صدره، و قال: یا بنی اوصیک بما اوصانی به أبی حین حضرته الوفاة، و بما ذکر ان اباه اوصاه به قال: یا بنی ایاک و ظلم من لا یجد علیک ناصرا الا اللّه، و سئل الامام علی بن الحسین عن العصبیة فقال «العصبیة التی یأثم علیها صاحبها ان یری الرجل شرار قومه خیرا من خیار قوم آخرین، و لیس من العصبیة ان یحب الرجل قومه، و لکن من الصعبیة ان یعین قومه علی الظلم».

من اقواله و حکمه

کان زین العابدین الی جانب ما اشتهر به من الزهد و التقوی و الکرم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 197
نسیج وحده فی عصره من حیث البلاغة و ان (الصحیفة السجادیة) التی تجمع ادعیته و ابتهالاته لهی الواح خالدة من البلاغة و الحکمة و الفلسفة و معرفة اللّه.
یقول فی حمده اللّه و تمجیده «الحمد للّه الاول بلا اول کان قبله، و الاخر بلا اخر یکون بعده، الذی قصرت عن رؤیته ابصار الناظرین، و عجزت عن نعته اوهام الواصفین، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا، و اخترعهم علی مشیئته اختراعا، ثم سلک بهم طریق ارادته، و بعثهم فی سبیل محبته، لا یملکون تاخیرا عما قدمهم الیه، و لا یستطیعون تقدما الی ما اخرهم عنه، و جعل لکل روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه، لا ینقص من زاده ناقص، و لا یزید من نقص منهم زائد، ثم ضرب له فی الحیاة اجلا موقوتا، و نصب له امدا محدودا، یتخطأ الیه بایام عمره، و یرهقه باعوام دهره، حتی اذا بلغ اقصی اثره، و استوعب حساب عمره، قبضه الی ما ندبه الیه من موفور ثوابه، او محذور عقابه، لیجزی الذین اساؤا بما عملوا، و یجزی الذین احسنوا بالحسنی، عدلا منه، تقدست اسماؤه، و تظاهرت آلاؤه، لا یسئل عما یفعل و هم یسألون،
و الحمد للّه الذی لو حبس عن عباده معرفة حمده علی ما ابلاهم من مننه المتتابعة، و اسبغ علیهم من نعمه المتظاهرة، لتصرفوا فی مننه فلم یحمدوه، و توسعوا فی رزقه فلم یشکروه، و لو کانوا کذلک لخرجوا من حدود الانسانیة الی حدود البهیمیة، فکانوا کما وصف فی محکم کتابه (ان هم الا کالانعام بل هم اضل سبیلا) ...»
و من دعائه قوله: «اللهم اعتذر الیک من مظلوم ظلم بحضرتی فلم انصره، و من معروف أسدی الی فلم اشکره، و من مسی‌ء اعتذر الی فلم اعذره، و من ذی فاقة سألنی فلم اوثره، و من حق ذی حق لزمنی فلم اوفره، و من عیب مؤمن ظهر لی فلم استره»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 198
و من دعائه فی مکارم الاخلاق قوله:
«اللهم صل علی محمد و اله و حلّنی بحلیة الصالحین، و ألبسنی زینة المتقین فی بسط العدل، و کظم الغیظ، و اطفاء النائرة، و ضم اهل الفرقة، و اصلاح ذات البین، و لین العریکة، و خفض الجناح، و حسن السیرة و السبق الی الفضیلة و القول بالحق و ان عزّ، و استقلال الخیر و ان کثر من قولی و فعلی، و استکثار الشر و ان قل من قولی و فعلی، و لا ترفعنی فی الناس درجة الا حططتنی عند نفسی مثلها، و لا تحدث لی عزّا ظاهرا الا احدثت لی ذلة باطنة عند نفسی بقدرها».

وفاته

و روی بن الصباغ المالکی فی (الفصول المهمة) ان الامام علی بن الحسین مات مسموما، سمه الولید بن عبد الملک، و قال الصدوق و ابن طاووس فی الاقبال سمّه الولید بن عبد الملک، فلما توفی غسله ولده (محمد الباقر) و حنطه، و کفنه، و صلی علیه و دفنه،
قال سعید بن المسیب و شهد جنازته البر و الفاجر، و اثنی علیه الصالح و الطالح، و انهال الناس یتبعونه حتی لم یبق احد، و دفن بالبقیع مع عمه الحسن فی القبة التی فیها العباس،
توفی علیه السلام بالمدینة سنة خمس و تسعین من الهجرة فی شهر المحرم 25 منه و له 57 سنة من العمر علی المشهور، و العقب من الحسین منحصر فیه، و منه تناسل ولد الحسین علیه السلام.

اولاده

اولاد الامام زین العابدین خمسة عشر:
ابو جعفر الباقر- امه فاطمة بنت الحسن السبط،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 199
عبد اللّه، الحسن، الحسین الاکبر، امهم ام ولد،
زید، عمر، امهما ام ولد،
الحسین الاصغر، عبد الرحمن، سلیمان، امهم ام ولد،
علی (و هو اصغر ولده) خدیجة، امهما ام ولد،
محمد الاصغر امه ام ولد،
فاطمة، علیة، ام کلثوم، امهن ام ولد.
قال الشیخ عباس القمی فی (سفینة البحار) و هؤلاء کلهم من امهات اولاد الا ابو جعفر الباقر و عبد اللّه الباهر. فان امهما ام عبد اللّه بن الحسن بن علی بن ابی طالب،
و قال ابن زهرة فی (غایة الاختصار) و عقب الامام السجاد فی ستة رجال: محمد الباقر، عبد اللّه الباهر، عمر الاشرف، زید الشهید، حسین الاصغر، علی الاصغر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 200

الامام الخامس ابو جعفر محمد الباقر بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته:

ابو جعفر محمد الباقر بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب ولد بالمدینة المنورة، یوم الجمعة و قیل یوم الاثنین غرة رجب و قیل ثالث صفر کما فی (الوفیات) سنة سبع و خمسین من الهجرة المصادف 676 م و قبض بها یوم الاثنین سابع ذی الحجة سنة اربع عشرة و مائة المصادف 732 م و عمره یومئذ سبع و خمسون سنة مثل عمر ابیه و جده.
عاش مع جده الحسین علیه السلام ثلاث سنین و قیل اربع سنین، و امه فاطمة بنت الحسن السبط، فهو اول علوی ولد بین علویین، و اول من اجتمعت له ولادة الحسن و الحسین، و تکنی امه بام عبد اللّه و ام الحسن، قال الامام الصادق: کانت صدیقة لم یدرک فی آل الحسن امرأة مثلها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 201
و یکنی بابی جعفر، و یلقب بالباقر.

صفاته

قال ابن شهر آشوب فی (المناقب) کان الامام محمد الباقر، ربع القامة، رقیق البشرة، جعد الشعر، اسمر له خال علی خده، ضامر الکشح، حسن الصوت، مطرق الرأس، و کان اصدق الناس لهجة، و احسنهم بهجة، و ابذلهم مهجة.
قال الشیخ المفید فی (الارشاد): و کان الباقر محمد بن علی بن الحسین علیهم السلام من بین اخوته خلیفة ابیه، و وصیه، و القائم بالامامة من بعده، و برز علی جماعتهم بالفضل فی العلم، و الزهد، و السؤدد، و کان انبههم ذکرا، و اجلّهم فی العامة و الخاصة، و اعظمهم قدرا، و لم یظهر عن احد عن ولد الحسن و الحسین من علم الدین، و الاثار، و السنة، و علم القرآن، و السیرة، و فنون الآداب ما ظهر عن ابی جعفر، و روی عنه معالم الدین بقایا الصحابة، و وجوه التابعین، و رؤساء الفقهاء المسلمین، و کتبوا عنه تفسیر القرآن، و قال ابن سعد فی (الطبقات) «و کان محمد الباقر عالما عابدا، ثقة، و روی عنه ابو حنیفة و غیره» و قال ابن خلکان فی (الوفیات) «و کان الباقر عالما سیدا کبیرا، و انما قیل له الباقر لانه تبقر فی العلم ای توسع».
و قال ابن حجر فی (الصواعق): «أظهر الباقر من مخبئات کنوز المعارف، و حقائق الاحکام و الحکم و اللطائف ما لا یخفی الاعلی منطمس البصیرة، او فاسد الطویة و السریرة».
و قال ابن ابی الحدید فی (شرح نهج البلاغة) (کان محمد بن علی بن الحسین سید فقهاء الحجاز، و منه و من ابیه جعفر تعلم الناس الفقه).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 202
قال الفیروزآبادی فی (قاموس المحیط) لقب بالباقر لتبحره بالعلم و (فی لسان العرب) لابن منظور: «لقب به لانه بقر العلم، و عرف اصله، و استنبط فرعه، و توسع فیه، و (التبقر) التوسع».
و جاء فی (امالی) ابی علی القالی قال: دخل ابو جعفر محمد بن علی بن الحسین علی عمر بن عبد العزیز؛ فقال یا ابا جعفر أوصنی قال (اوصیک ان تتخذ صغیر المسلمین ولدا؛ و اوسطهم اخا؛ و کبیرهم ابا؛ فارحم ولدک؛ وصل اخاک؛ و برّ اباک؛ و اذا صنعت معروفا فربّه) ای أدمه.
و قال (الذهبی) فی تذکرة الحفاظ ج 1 ص 117 «الطبقة الثالثة من التابعین ابو جعفر محمد بن علی بن الحسین علیه السلام، الثبت الهاشمی العلوی، احد الاعلام، و کان سید بنی هاشم فی زمانه، اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم یعنی شقه فعلم اصله و خفیّه».

من اقواله و حکمه

من اقواله المشهورة قال فی اقسام العبادة (ان قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلک عبادة التجار، و ان قوما عبدوا اللّه رهبة فتلک عبادة العبید، و ان قوما عبدوا اللّه شکرا فتلک عبادة الاحرار.
قال الجاحظ: «جمع الباقر صلاح شان الدنیا بحذافیرها بکلمتین حیث قال «صلاح شان التعایش و التعاشر مثل مکیال ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل».
قال الجاحظ: انه لم یجعل لغیر الفطنة نصیبا من الخیر، و لا حظا من الصلاح، لان الانسان لا یتغافل عن شی‌ء الا و قد عرفه و فطن له،
و قال الباقر فی الزوجة: «اللهم ارزقنی امرأة تسرنی اذا نظرت، و تطیعنی اذا أمرت، و تحفظنی اذا غبت».
و قال فی الکبر «ما دخل قلب امری‌ء شی‌ء من الکبر الا و نقص من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 203
عقله مثل ما دخل فیه قل او کثر».
و جاء فی کشف الغمة للاربلی: ان اجتمع عند الباقر مرة نفر من بنی هاشم و غیرهم فقال:
«اتقوا اللّه شیعة آل محمد، و کونوا النمرقة الوسطی، یرجع الیکم الغالی، و یلحق بکم التالی».
قالوا و ما الغالی؟
قال: الذی یقول فینا ما لا نقوله فی انفسنا.
قالوا: و ما التالی؟
قال: الذی یطلب الخبر فیزید فیه خبرا و اللّه ما بیننا و بین اللّه قرابة، و لا لنا علی اللّه من حجة، و لا نتقرب الیه الا بالطاعة، فمن کان منکم مطیعا للّه یعمل بطاعته نفعته ولایتنا اهل البیت، و من کان منکم عاصیا اللّه بعمل بمعاصیه لم تنفعه ولایتنا، و یحکم لا تفتروا (و قالها ثلاثا) .. ثم الحذر بن الکبر ..»

اولاده: سبعة و هم:

جعفر الصادق، عبد اللّه، امهما فروة بنت القاسم بن محمد بن ابی بکر.
ابراهیم، عبد اللّه. (لم یعقبا) امهما ام حکیم الثقفیة.
علی، زینب، لام ولد.
ام سلمة، لام ولد.

وفاته

توفی الامام الباقر فی خلافة هشام بن عبد الملک، و قال الصباغ المالکی (الفصول المهمة): انه مات بالسم فی زمن ابراهیم بن الولید بن عبد الملک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 204
و قبض بالمدینة یوم الاثنین سابع ذی الحجة سنة اربع عشرة و مائة من الهجرة (732 م) و عمره یومئذ سبع و خمسون سنة مثل عمر ابیه و جده و دفن بالبقیع الی جانب ابیه زین العابدین و عم ابیه الحسن، فی القبة التی فیها العباس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 205

الامام السادس ابو عبد اللّه جعفر الصادق بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته

ولد بالمدینة یوم الجمعة او الاثنین عند طلوع الفجر فی السابع عشر من ربیع الاول و قیل غرة رجب سنة ثلاث و ثمانین من الهجرة و قیل عام الجحاف سنة ثمانین من الهجرة رواه ابن طلحة فی (مطالب السؤول) اما القول الاول فرواه المفید و الکلینی و الشهید و بالتاریخ المیلادی اما ان یکون سنة 700 او 703 م.
امه فاطمة المکناة بام فروة بنت القاسم بن محمد بن ابی بکر، و القاسم ابوها هو من ثقاة الامام زین العابدین و احد الفقهاء السبعة بالمدینة وجدها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 206
محمد بن ابی بکر کان بمثابة ولد من اولاد الامام امیر المؤمنین و امها اسماء بنت عبد الرحمن بن ابی بکر، قالوا و لذا قال الامام الصادق ولدنی ابو بکر مرتین و هو الامام الذی تنتهی اصول الشیعة و مذهبهم الیه و لذلک سموا بالجعفریة و سمی الامامیة بالجعفریین نسبة الی جعفر الصادق.
و اشهر القاب الامام هو (الصادق) و قال کثیر من العلماء: لقب به لصدق حدیثه.

صفاته

قال ابن شهر اشوب کان ربع القامة، ازهر الوجه، حالک الشعر جعده اشم الانف انزع، دقیق المسربة علی خده خال اسود و جاء فی کتاب (الامام الصادق) لمؤلفه محمد ابی زهرة ما نصه: کان الامام الصادق ربعة لیس بالطویل و لا بالقصیر ابیض الوجه. ازهر له لمعان کأنه السراج اسود الشعر جعده اشم الانف قد انحسر الشعر عن جبینه فبدا مزهرا و علی خده خال اسود.
و قال کمال الدین محمد بن طلحة فی کتابه (مطالب السؤول) و کان الصادق من عظماء اهل البیت و ساداتهم، ذا علوم جمة، و عبادة موفورة، و اوراد متواصلة، و زهادة بینة، و تلاوة کثیرة، یتتبع معانی القرآن الکریم و یستخرج من بحره جواهره و یستنتج عجائبه.

علومه

اشتهر الامام جعفر الصادق بغزارة العلوم و لا سیما فی الطب. و الکیمیاء و خلف آثارا عجیبة من ذلک (طب الصادق) و (امالیه) و قد خلف عشرات من کبار علماء الطب و الفلک و الکیمیاء و کلهم یروی عنه بالاضافة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 207
الی علم الکلام و الفقه و الحدیث و قد روی جابر بن حیان الکیماوی العربی الشهیر الشی‌ء الکثیر من الآراء الکیمیاویة فی مؤلفاته عن الامام جعفر الصادق و قال الدکتور محمد یحیی الهاشمی فی کتابه (الامام الصادق ملهم الکیمیاء) ان (هو لمیارد) قد اورد فی دراسته لجابر بن حیان فی نشرات الجمعیة الطبیة الملکیة البریطانیة ما یؤکد استقاءه علمه من معین الامام جعفر الصادق اذ یقول (هو لمیارد) «ان جابرا هو تلمیذ جعفر الصادق و صدیقه و قد وجد فی إمامه الفذ سندا و معینا و راشدا امینا و موجها لا یستغنی عنه و قد سعی جابر ان یحرر الکیمیاء بارشاد استاذه من اساطیر الاولین التی علقت بها من الاسکندریة فنجح فی هذا السبیل الی حد بعید من اجل ذلک یجب ان یقرن اسم جابر مع اساطین هذا الفن فی العالم امثال (بویله) و (بریستله) و (لا فوازیه) و غیرهم من الاعلام».
ثم یقول و اذا درسنا فهرست ابن الندیم نجد حقیقتین لا محید عنهما.
اولا-: ان جابرا کان علی اتصال مع البرامکة
ثانیا- مع أئمة الشیعة المعاصرین له
و قد ناقش البعض کیفیة احاطة الامام جعفر الصادق بکل هذه العلوم و لا سیما علم الکیمیاء و من هؤلاء کان (روسکا) ورد علیهم العلماء الآخرون بالدراسة المنطقیه المثبتة و من هؤلاء الرادّین (هولمیار) و الدکتور محمد یحیی الهاشمی، و اسماعیل مظهر، الذی یتلخص رده علی (روسکا) بان (روسکا) اذا قال انه لم یعرف ان (المدینة) کانت مرکزا لدراسة علم الکیمیاء- ان کان صحیحا- فان صحته لا تنافی مطلقا ان یکون الامام جعفر الصادق قد درس الکیمیاء فی مکان آخر ثم یقول:
و لهذا نقول بان جعفرا إذ کان من عمدة الشیعة و ائمتها الکبار و إذ کان علی اتصال بشیعة فارس (و کانوا یعکفون علی الاشتغال بالکیمیاء) فلهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 208
لیس من سبب ظاهر یحول دون الاعتقاد بانه کان یشتغل بعلم الکیمیاء من طریق نظری علی الاقل ان لم یکن من طریق عملی تجربی.
و قال کمال الدین محمد بن طلحة فی کتابه (مطالب السؤول): و کان ممن نقل عن الصادق الحدیث و افاد منه العلم جماعة من اعیان الائمة و اعلامهم مثل یحیی بن سعید الانصاری، و ابن جریح و مالک بن انس، و سفیان الثوری ، و ابن عیینه، و ابی حنیفة، و شعبة بن الحجاج، و ایوب السجستانی و غیرهم و عدوا اخذهم منه منقبة شرفوا بها و فضیلة اکتسبوها.
و قال مالک بن انس- فقیه اهل السنة- ما رأت عین، و لا سمعت اذن، و لا خطر علی قلب بشر، افضل من جعفر الصادق فضلآ، و علما، و عبادة، و ورعا، و کان لا یخلو من احدی حالات ثلاث: اما صائما، و اما قائما، و قال الشهرستانی فی الملل و النحل «هو ذو علم غزیر فی الدین، و ادب کامل فی الحکمة، و زهد بالغ فی الدنیا، و ورع تام عن الشهوات، و قد اقام بالمدینة مدة ثم دخل العراق و اقام به مدة، ما تعرض للامامة قط، و لا نازغ احدا فی الخلافة، و من غرف فی بحر المعرفة لم یطمع فی شط، و من تعلی ذروة الحقیقة لم یخف من حط، و قیل من انس باللّه استوحش عن الناس، و من استأنس بغیر اللّه نهبه الوسواس، و هو من جهة الاب ینتسب الی شجرة النبوة، و من جانب الام الی ابی بکر» انتهی ..
قال الشیخ المفید فی (الارشاد) و نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان، و انتشر ذکره فی البلدان، قال الحسن بن علی الوشا من اصحاب الرضا علیه السلام- ادرکت فی هذا المسجد- یعنی مسجد الکوفة- تسعمایة شیخ کل یقول حدثنی جعفر بن محمد، و دخل علیه سفیان الثوری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 209
یوما فسمع منه کلاما اعجبه، فقال هذا و اللّه- یا ابن رسول اللّه- الجوهر.
فقال له: بلی هذا خیر من الجوهر و هل الجوهر الا حجر.
قال ابن شهر آشوب: لا یخلو کتاب من کتب الحدیث، و الحکمة، و الزهد، و الموعظة، من کلام الامام الصادق: قال ابن خلکان فی (وفیاته) «جعفر بن محمد الصادق هو احد الائمة الاثنی عشر- علی مذهب الامامیة- و کان من سادات اهل البیت، و لقب بالصادق لصدقه فی مقالته. و فضله اشهر من ان یذکر، و له کلام فی صنعة الکیمیاء، و الزجر، و الفال. و کان تلمیذه ابو موسی الزاجز جابر بن حیان الصوفی الطرسوسی قد ألف کتابا یشتمل علی الف ورقة تتضمن رسائل جعفر الصادق و هی خمسمائة رسالة».
و قال القرمانی فی ص 112 «الفصل الخامس فی ذکر عالم الحقائق و الدقائق الامام جعفر الصادق رضی اللّه عنه» و کان من بین اخوته خلیفة ابیه و وصیه نقل عنه العلوم ما لم ینقل عن غیره و کان رأسا فی الحدیث و روی عنه یحی بن سعید، و ابن جریح، و مالک بن انس، و الثوری، و ابن عیینه، و ابو حنیفة و شعبة ابو ایوب السجستانی، و غیرهم» و قد نقل ان کتاب الجفر الذی بالمغرب یتوارثه بنو عبد المؤمن و نقل ابن شهراشوب عن مسند ابی حنیفة «ان حسن بن زیاد قال سمعت ابا حنیفة و قد سئل من افقه الناس ممن رأیت؟ قال: جعفر الصادق بن محمد، لما طلبه المنصور من المدینة ارسل الی و قال قد فتن الناس بجعفر بن محمد، فتأهّب ان تسأله اشکل مسائلک، فاحضرت له اربعین مسألة فاحضرنی المنصور و کان فی (الحیرة) فقصدته و رأیت جعفر جالسا عن یمینه فلما وقع نظری علیه هبته هیبة لم أهب مثلها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 210
المنصور مع شدة بطشه فسلمت علیه فأشار الیّ بالجلوس، فتوجه الی الصادق و قال یا أبا عبد اللّه ان هذا ابو حنیفة، فقال اعرفه، ثم توجه الیّ المنصور و قال: سل ابا عبد اللّه عن مسائلک .. فما زلت اسأله فیجیب و یقول انتم تقولون کذا و اهل المدینة یقولون کذا و کانت فتواه تارة موافقة لنا و اخری موافقة لاهل المدینة، و ربما خالف الجمیع فی بعض فتواه فلم یخل بواحدة منها، اذا فأعلم الناس باختلاف الاقوال اعلمهم جمیعا و افقههم»
و فی (حلیة الاولیاء) لابی نعیم بعد ما جاء باسماء اعلام الاسلام و روایتهم عنه قال و اخرج عنه مسلم فی صحیحه، محتجا بحدیثه، و کان مالک بن انس اذا حدث عنه قال: «حدثنی الثقة بعینه»

بعض اقواله و حکمه

من أکرمک فأکرمه، و من استخف بک فأکرم نفسک عنه.
ثلاثة لا یزید اللّه بها المسلم الا عزا: الصفح عمن ظلمه، و الاعطاء لمن حرمه، و الصلة لمن قطعه، من حقیقة الایمان ان تؤثر الحق و ان ضرّک، علی الباطل و ان نفعک، و ان لا یجوز منطقک عملک،
تهادوا و تحابوا فان الهدیة تذهب بالضغائن،
الغضب مفتاح کل شر،
من لم یملک غضبه لم یملک عقله،
انقص الناس عقلا من ظلم من دونه و لم یصفح عمن اعتذر الیه،
المؤمن اذا غضب لم یخرجه غضبه عن حق، و اذا رضی لم یدخله رضاه فی باطل،
طلب الحوائج الی الناس استلاب للعز، و مذهبة للحیاء، و الیأس مما فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 211
ایدی الناس عز للمؤمن فی دینه، و الطمع هو الفقر الحاضر.
لا تغتب فتغتب، و لا تحفر لاخیک حفرة فتقع فیها، فانک کما تدین تدان الحیاء من الایمان، من رقّ وجهه رقّ علمه، لا ایمان لمن لا حیاء له
سرّک من دمک فلا تجره فی غیر اوداجک، و صدرک اوسع لسرّک
الرجال ثلاثة: رجل بماله، و رجل بجاهه، و رجل بلسانه، و هو افضل الثلاثة مجاملة الناس ثلث العقل
المنّ یهدم الصنیعة
افضل الصداقة ابراد کبد حری
اربعة تذهب ضیاعا: مودة تمنحها من لا وفاء له، و معروف عند من لا شکر له، و علم عند من لا استماع له، و سر تودعه من لا حصانة له
المعروف ابتداء، فاما ما اعطیته بعد المسألة فانما کافیته بما بذل لک من وجهه
و الامام الصادق نسیج وحده من حیث سمو الخلق و حسن الادب و لطف المعشر فمن وصیة یوصی بها عنوان البصری: «... و من شتمک فقل له ان کنت صادقا فاسأل اللّه ان یغفر لی، و ان کنت کاذبا فیما تقول فاللّه اسأل ان یغفر لک».

اولاده:

اولاده و عددهم عشرة:
اسماعیل ، و عبد اللّه ، اسماء، و قیل عالیة، و تکنی بأم فروة، مهم بنت الحسین بن علی بن الحسین بن ابی طالب، موسی الکاظم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 212
اسحاق، محمد المعروف بالدیباج، فاطمة الکبری، امهم ام ولد، اسمها حمیدة بنت صاعد العباس، علی فاطمة الصغری، لامهات اولاد شتی.

وفاته

مجمل عمر الامام الصادق خمس و ستون سنة- و هو اکبر الائمة سنا- توفی بالمدینة المنورة یوم الاثنین لخمس بقین من شوال و قیل فی منتصف رجب سنة 148 ثمان و اربعین و مائة و دفن بالبقیع مع ابیه و جده و عمه الحسن علیهم السلام.
قال الکفعمی مات الامام الصادق مسموما فی عنب، و قال ابن الصباغ المالکی فی (الفصول المهمة) یقال ان جعفر الصادق مات بالسم فی ایام المنصور، و عن ابن بابویه سمه المنصور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 213

الامام السابع موسی الکاظم بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

اشارة

هو سابع ائمة اهل البیت صلوات اللّه علیهم اجمعین. ولد بالایواء یوم الاحد سابع صفر سنة ثمان و عشرین و مائة المصادف 745 م.
امه ام ولد یقال لها حمیدة بنت صاعد المغربیة و یقال انها اندلسیة، و انها کانت حمیدة الصفات و تلقب ب (المصفاة) و ان زوجها الصادق لقبها بذلک.

القابه و کناه

یکنی بابی ابراهیم، و بابی الحسن الاول، و اشهر القابه الکاظم، و یعرف بالعبد الصالح حتی اشتهر بذلک، قال فیه القرمانی هو الامام الکبیر القدر الاوحد الحجة الساهر لیله قائما، القاطع نهاره صائما المسمی لفرط حبه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 214
و تجاوزه عن المعتدین کاظما، و هو المعروف عند اهل العراق بباب الحوائج لانه ما خاب المتوسل به فی قضاء حاجته قط.

صفاته

قال ابن الصباغ المالکی فی (الفصول المهمة) هو المعروف عند اهل العراق بباب الحوائج لنجح قضاء حوائج المتوسلین به. و قال الشیخ المفید فی (الارشاد) و کان موسی بن جعفر علیهما السلام اجل ولد ابی عبد اللّه قدرا، و اعظمهم محلا، و ابعدهم فی الناس صیتا، و لم یر فی زمانه أسخی منه و لا اکرم نفسا و عشرة، و کان اعبد اهل زمانه، و اورعهم، و اجلهم، و افقههم، و اسخاهم کفا، و اکرمهم نفسا، و کان اوصل الناس لاهله و رحمه، و کان یتفقد فقراء المدینة باللیل فیحمل الیهم الزنبیل فیه العین و الورق و الادقة و التمر فیوصل الیهم ذلک و لا یعلمون من ای جهة هو!!
و کان الناس بالمدینة یسمونه زین المجتهدین، و یسمی بالکاظم لکظمه الغیظ و الصبر علیه من فعل الظالمین به حتی مضی قتیلا فی حبسهم و وثاقهم.
قال کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی فی (مطالب السوؤل عن مناقب الرسول) فی الامام الکاظم: هو الامام الکبیر القدر؛ العظیم الشان، الکثیر التهجد، الجاد فی الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب علی الطاعات، المشهور بالکرامات، یبیت اللیل ساجدا و قائما، و یقطع النهار متقصدا و صائما، و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدین علیه دعی کاظما، کان یجازی المسی‌ء باحسانه الیه، و یقابل الجانی علیه بعفوه عنه، و لکثرة عباداته کان یسمی بالعبد الصالح، و یعرف فی العراق (بباب الحوائج الی اللّه) لنجح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 215
المتوسلین به الی اللّه، کراماته تحار منها العقول، و تقضی بان له عند اللّه تعالی قدم صدق لا تزول.
قال ابن خلکان فی (وفیات الاعیان) کان موسی بن جعفر سخیا کریما، و کان یسمع عن الرجل انه یؤذیه فیبعث الیه بصرة فیها الف دینار.
و کان یصر الصرر ثلثمائة دینار و اربعمائة دینار، و مائتی دینار ثم یقسمها بالمدینة. قال ابو الفرج فی (مقاتل الطالبیین) «و کانت صرار موسی مثلا».
و عن (عمدة الطالب) کان اهله یقولون عجبا لمن جاءته صرة موسی فشکا القلة.
و کان الکاظم انیق الملبس، جمیل الثیاب، و قد روی عبد اللّه بن جعفر الحمیری عن ولده الرضا انه قال: قال لی ابی (ای الکاظم) ما تقول فی للباس الحسن؟ فقلت بلغنی ان (الحسن) کان یلبس، فقال لی البس و تجمل فان علی بن الحسین کان یلبس الجبة الخز بخمسمایة درهم و المطرف الخز بخمسین دینارا فیشتو فیه فاذا خرج الشتاء باعه فتصدق بثمنه و تلا هذه الآیة:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللَّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)

ملکاته الادبیة

و فی تحف العقول للحسن بن علی بن شعبة قال ابو حنیفة: حججت فی ایام ابی عبد اللّه الصادق، فلما اتیت المدینة دخلت داره فجلست فی الدهلیز انتظر اذنه اذ خرج صبی فقلت: یا غلام این یضع الغریب الغائط من بلدکم؟ قال علی رسلک ثم جلس مستندا الی الحائط ثم قال:
- توق شطوط الانهار، و مساقط الثمار، و اقنیة المساجد، و قارعة الطریق، و توار خلف جدار، و شل ثوبک، و لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 216
وضع حیث شئت، فاعجبنی ما سمعت من الصبی- یقول ابو حنیفة- فقلت له:
- ما اسمک؟
فقال- انا موسی بن جعفر بن محمد بن علی ابن الحسین بن علی بن ابی طالب!!
کان هارون الرشید یری و یشاهد اقبال الناس علی الامام الکاظم علیه السلام و القبول منه، و الاخذ عنه و الرجوع الیه، و عندما یراه مالکا قلوب الناس متمتعا بهذه الشعبیة المحبوبة تساوره الهواجس و یحاذر علی سلطانه منه، فتراه تاره یسأله فیقول له کیف صرتم ذریة رسول اللّه و انتم بنو علی و انما ینتسب الرجل الی جده لابیه دون جده لامه؟ فیجیبه الامام موسی بقوله (و من ذریته داود و سلیمان و ایوب و یوسف و موسی و هرون و کذلک نجزی المحسنین و زکریا و یحیی و عیسی) و لیس لعیسی اب و انما ألحق بذریة الانبیاء من قبل امه، و کذلک الحقنا بذریة النبی من قبل امنا فاطمة. ثم قال الکاظم للرشید: لو نشر رسول اللّه و خطب الیک کریمتک اکنت تزوجه؟ فقال نعم و افتخر علی العرب و العجم، قال الامام و لکنه لا یخطب منی و لا ازوجه لانه ولدنا و لم یلدکم ...

من اقواله و حکمه

التدبیر نصف العیش، و التودد الی الناس نصف العقل.
کثرة الهم تورث الهرم.
اتق اللّه و قل الحق و ان کان فیه هلاکک فان فیه نجاتک، و دع الباطل و ان کان فیه نجاتک فان فیه هلاکک.
المؤمن مثل کفتی المیزان کلما زید فی ایمانه زید فی بلائه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 217
لیس حسن الجوار کفّ الاذی، و لکن حسن الجوار الصبر علی الاذی.
سمع الامام موسی بن جعفر رجلا یتمنی الموت فقال له:
- هل بینک و بین اللّه قرابة یحابیک لها؟
قال: لا!
قال: فهل لک حسنات قدمتها تزید علی سیئاتک؟
قال: لا!
قال: فانت اذن تتمنی هلاک الابد ...
و قال: من استوی یوماه فهو مغبون، و من کان آخر یومیه شرهما فهو ملعون، و من لا یعرف الزیادة فی نفسه فهو فی النقصان، و من کان الی النقصان فالموت خیر له من الحیاة.
اجعلوا لانفسکم حظا من الدنیا باعطائها ما تشتهی من الحلال، و ما لا یثلم المرؤة و ما لا سرف فیه. و استعینوا بذلک علی امور الدین فانه روی:
لیس منا من ترک دنیاه لدینه، او ترک دینه لدنیاه.

حبوسه

و خاف الرشید علی خلافته منه فطلبه من المدینة و قیده و ارسل به الی البصرة فحبس عند عیسی بن جعفر، و کان حمله من المدینة لعشر لیال بقین من شوال، قیل و فی السابع و العشرین من رجب سنة تسع و سبعین و مائة، فقدم به حسان السروی البصرة قبل الترویة بیوم فدفعه الی عیسی بن جعفر فحبسه فی بیت من بیوت المحبس و اقفل علیه، و شغله عنه العید فکان لا یفتح علیه الباب الا فی حالتین: حال یخرج فیها الی الطهور، و حال یدخل الیه فیها الطعام، و کتب الی الرشید: لقد طال امر موسی بن جعفر و مقامه فی حبسی و قد اختبرت حاله، و وضعت علیه العیون طول هذه المدة فما وجدته یفتر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 218
عن العبادة، و وضعت علیه من یسمع منه ما یقول فی دعائه فما دعا علیک، و لا علی، و لا ذکرنا بسوء و ما یدعو الا لنفسه بالمغفرة، و الرحمة، فان انت انفذت الی من یتسلمه منی و الا خلیت سبیله فانی متحرج من حبسه، فوجه الرشید من تسلمه منه و صیّره الی بغداد فسلم الی الفضل بن الربیع فبقی محبوسا عنده مدة طویلة، و عن الخطیب البغدادی فی تاریخ بغداد:
بعث موسی بن جعفر من الحبس رسالة الی هارون یقول «لن ینقضی عنی من البلاء حتی ینقضی عنک معه یوم من الرخاء حتی نفضی جمیعا الی یوم لیس له انقضاء یخسر فیه المبطلون» و طلب الرشید من الفضل ابن الربیع قتله فأبی، فکتب الیه ان یسلمه الی الفضل بن یحی البرمکی، فتسلمه منه و جعله فی بعض حجر دوره، و وضع علیه الرصد، فکانت العیون تخبره انه لا یزال یذکر اللّه تعالی و لم تزل لحیته مخضلة بالدموع من خشیة اللّه و کان اذا قرأ القرآن رفع صوته بالقراءة فیبکی و یخشع کل من سمعه، فقال ما لی و لهذا العبد الصالح؟ و اراد اطلاقه فخاف من الرشید فامر اهل الحبس و ذوی السجن ان یدعوا الامام علی رسله.

وفاته

ثم تسلمه السندی بن شاهک فسمّه بالطعام و قیل سمّه برطب، و لبث ثلاثة ایام ثم توفی فی آخر الیوم الثالث مسموما بعدما حبس اربع سنوات و کانت وفاته یوم الجمعة ببغداد لست او لخمس بقین من رجب سنة ثلاث و ثمانین و مائة 799 م و هو ابن خمس و خمسین سنة علی المشهور، و دفن ببغداد فی الجانب الغربی، فی المقبرة المعروفة بمقابر قریش بباب (التبن) قال المفید و کانت هذه المقبرة لبنی هاشم و الاشراف من الناس قدیما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 219
منظر داخلی لضریح الامامین موسی بن جعفر و محمد الجواد

اولاده

المشهور انهم سبعة و ثلاثین ما بین ذکر و انثی:
علی الرضا، ابراهیم، القاسم، العباس، لامهات اولاد
اسماعیل، جعفر، هارون، الحسن، لام ولد
احمد، محمد، حمزة، لام ولد
عبد اللّه، اسحاق، عبید اللّه، زید، الحسن، الفضل، الحسین، سلیمان، لامهات اولاد
فاطمة الکبری، فاطمة الصغری، رقیة، حکیمة، ام ابیها، رقیة الصغری، ام جعفر، لبابة، زینب، خدیجة، علیة، آمنة، حسنة، بریهة، عائشة، ام سلمة، میمونة، ام کلثوم، لامهات اولاد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 220

الامام الثامن الرضا علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته:

هو ثامن الائمة ولد بالمدینة یوم الجمعة او یوم الخمیس فی الحادی عشر من ذی القعدة سنة ثمان و اربعین و مائة 765 م و یقال ان میلاده کان فی سنة ثلاث و خمسین و مائة ای بعد وفاة جده الصادق بخمس سنین و المصادف 770 م.
امه ام ولد یقال لها (سکن) ثم سمیت تکتم و سماها زوجها الکاظم بالطاهرة و ذلک بعد ما ولدت (الرضا) و کناها بام البنین اما لقبها فهو (شقراء)

صفاته:

دخل علی الرضا و هو بنیسابور قوم من الصوفیة فقالوا: ان امیر المؤمنین المأمون لما نظر فیما ولاه اللّه من الامور فرآکم اهل البیت اولی من قام بالامر فی الناس، ثم نظر فی اهل البیت فرآک اولی بالناس من کل واحد فرّد هذا الامر الیک، و الامانة تحتاج الی من یأکل الجشب، و یلبس الخشن و یرکب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 221
الحمار، و یعود المریض، و یشیع الجنائز، و کان الرضا متکأ فاستوی جالسا ثم قال:
«کان یوسف بن یعقوب نبیا فلبس اقبیة الدیباج المزررة بالذهب، و جلس علی متکآت آل فرعون، و حکم و أمر و نهی، و انما یراد من الامام القسط و العدل، و اذا قال صدق، و اذا حکم عدل، و اذا وعد انجز، ان اللّه لم یحرم ملبوسا، و لا مطعما، و تلا قوله تعالی (قل من حرّم زینة اللّه التی اخرج لعباده و الطیبات من الرزق)
و عن ابراهیم بن العباس- کما روی الصدوق- انه قال: ما رأیت و لا سمعت باحد افضل من ابی الحسن الرضا، و من زعم انه رأی مثله فی فضله فلا تصدقوه، شاهدت منه ما لم اشاهد من احد و ما رأیته جفا احدا بکلامه، و لا رأیته قطع علی احد کلامه، حتی یفرغ منه، و ما رد احدا عن حاجة یقدر علیها، و لا مدّ رجلیه بین یدی جلیس له قط، و لا رأیته یشتم احدا من موالیه و ممالیکه، و ما رأیته تفل، و لا رأیته یقهقه فی ضحکة بل کان ضحکه التبسم، و کان اذا خلا و نصب مائدته أجلس علیها موالیه و ممالیکه حتی البواب و السائس. و عن یاسر الخادم قال «الرضا اذا خلا جمع حشمه کلهم عنده الصغیر و الکبیر، فیحدثهم و یأنس بهم، و یؤنسهم، و روی انه دعا یوما بمائدة له فجمع علیها موالیه من السودان و غیرهم فقال له بعض اصحابه، جعلت فداک لو عزلت لهؤلاء مائدة فقال: ان الرب تبارک و تعالی واحد و الام واحدة، و الاب واحد، و الجزاء بالاعمال» و عن محمد بن ابی عباد قال کان جلوس الرضا علی حصیر فی الصیف، و علی مسح فی الشتاء، و لبسه الغلیظ من الثیاب حتی اذا برز للناس تزین لهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 222

علمه و فضله

روی الصدوق و غیره عن ابراهیم بن العباس انه قال: ما رأیت الرضا علیه السلام سئل عن شی‌ء قط الا علمه، و لا رأیت أعلم منه بما کان فی الزمان الی وقته و عصره، و عن ابی الصلت الهروی قال: ما رأیت اعلم من علی بن موسی الرضا و لا رآه عالم الا شهد له بمثل شهادتی، و لقد سمعت علی بن موسی الرضا یقول: کنت اجلس فی الروضة و العلماء بالمدینة متوافرون، فاذا أعیی الواحد منهم عن مسألة اشار الیّ باجمعهم، و بعثوا الی بالمسائل فاجبت عنهم.
و قال ابن شهر اشوب و قد روی عنه جماعة من المصنفین، منهم: ابو بکر الخطیب فی تأریخه، و الثعلبی فی تفسیره، و السمعانی فی رسالته، و ابن المعتز فی کتابه، و غیرهم. و عن کتاب (نثر الدرر) قال سأل الفضل ابن سهل علی بن موسی الرضا علیه السلام فی مجلس المأمون فقال: یا ابا الحسین الناس مجبرون؟ فقال: اللّه اعدل من ان یجبر ثم یعذب، قال: فمطلقون؟ قال:
اللّه احکم من ان یهمل عبده و یکله الی نفسه

ولایة عهد الخلافة العباسیة

کان الرشید قد بایع لابنه محمد الامین بن زبیدة و بعده لولده الثانی عبد اللّه المأمون و بعدهما لاخیهما المؤتمن و جعل امر عزله و ابقائه بید المأمون و کتب بذلک صحیفة و اودعها فی جوف الکعبة و قسم البلاد بین الامین و المأمون فجعل شرقیها للمأمون و أمره بسکنی (مرو) و غربیها للامین و امره بسکنی بغداد فکان المأمون فی حیاة ابیه فی مرو ثم ان الامین بعد موت ابیه فی خراسان خلع اخاه المأمون عن ولایة العهد فقامت قیامة المأمون و وقعت الحرب بینهما، و لما قتل اخاه الامین و استقل بالسلطنة و جری حکمه فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 223
شرق الارض و غربها، کتب الی الرضا یستقدمه من المدینة الی خراسان، فامتنع و اعتل بعلل کثیرة، فما زال المأمون یکاتبه و یسأله حتی علم الرضا انه لا یکف عنه فاجابه، فبعث المأمون رجاء بن ابی الضحاک و یاسر الخادم الی المدینة لیشخصا الیه الرضا و محمد بن جعفر عم الرضا، و جماعة من آل ابی طالب و ذلک فی سنة مائتین من الهجرة
روی المسعودی فی اثبات الوصیة: ان المأمون استقبل الرضا و اعظمه و اکرمه و اظهر فضله و اجلاله، و قال المفید لما وصلوا الی مرو أنزلهم المأمون دارا، و انزل الرضا دارا، ثم انفذ الیه: انی ارید ان اخلع نفسی من الخلافة و اقلدک ایاها فما رأیک فی ذلک؟ فانکر الرضا هذا الامر و قال له: اعیذک باللّه یا امیر المؤمنین من هذا الکلام و ان یسمع به احد، و جرت فی ذلک مخاطبات کثیرة حتی قبل ولایة العهد، فخرج الفضل بن سهل فاعلم الناس برأی المأمون فی علی بن موسی الرضا، و انه قد ولاه عهده، و أمرهم بلبس الخضرة التی هی شعار العلویین، بدل السواد الذین هو شعار العباسیین، روی الصدوق فی (العیون) ان البیعة للرضا کانت لخمس خلون من شهر رمضان سنة احدی و مائتین، ثم ان المأمون زوجه ابنته ام حبیبة فی اول سنة اثنتین و مائتین و سمی للجواد ابن الرضا ابنته (ام الفضل)، و امر فضربت له الدراهم و الدنانیر و طبع علیها اسم الرضا، و أمر ان یخطب له علی المنابر و کتب الی الآفاق بذلک و خطب للرضا فی کل بلد بولایة العهد
بعض المسکوکات التی ضربت باسم الامام الرضا فی ولایة عهده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 224

العهد الذی کتبه المأمون بولایة عهد الرضا

اما العهد الذی کتبه المأمون فقد ذکره عامة المؤرخین و قد کتبه المأمون بخطه و انشأه و وقع علیه الامام الرضا بخطه و هذا هو نصه، و یلیه نص عهد الامام الرضا
بسم اللّه الرحمن الرحیم
«هذا کتاب کتبه عبد اللّه بن هرون الرشید امیر المؤمنین لعلی بن موسی بن جعفر ولی عهده، اما بعد فان اللّه عز و جل اصطفی الاسلام دینا و اصطفی له من عباده رسلا دالین علیه، و هادین الیه، یبشر اولهم بآخرهم و یصدق تالیهم ماضیهم، حتی انتهت نبوة اللّه الی محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم علی فترة من الرسل، و دروس من العلم و انقطاع من الوحی، و اقتراب من الساعة، فختم اللّه به النبیین، و جعله شاهدا لهم، و مهیمنا علیهم، و انزل علیه کتابه العزیز الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه، و لا من خلفه، تنزیل من حکیم حمید، بما احل و حرّم، و اوعد، و حر و أنذر، و أمر به و نهی عنه، لتکون له الحجة البالغة علی خلقه (لیهلک من هلک عن بیّنة، و یحی من یحیی عن بیّنة و ان اللّه لسمیع علیم) فبلغ عن اللّه رسالته، و دعا الی سبیله بما امره به من الحکمة، و الموعظة الحسنة، و المجادلة بالتی هی احسن ثم بالجهاد و الغلظة، حتی قبضه اللّه الیه، و اختار له ما عنده صلی اللّه علیه و آله و سلم الوحی و الرسالة، جعل قوام الدین، و نظام امر المسلمین بالخلافة و اتمامها و عزها، و القیام بحق اللّه فیها بالطاعة التی بها تقام فرائض اللّه و حدوده، و شرائع الاسلام و سنته، و یجاهد بها عدوه فعلی خلفاء اللّه طاعته فیما استخلفهم و استرعاهم من دینه و عباده، و علی المسلمین طاعة خلفائهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 225
و معاونتهم علی اقامة حق اللّه و عدله، و امن السبیل، و حقن الدماء، و صلاح ذات البین، و جمع الالفة، و فی خلاف ذلک اضطراب حبل المسلمین و اختلالهم، و اختلاف ملتهم و قهر دینهم، و استعلاء عدوهم، و تفرق الکلمة و خسران الدنیا و الآخرة، فحق علی من استخلفه اللّه فی ارضه، و ائتمنه علی خلقه، ان یجهد للّه نفسه، و یؤثر ما فیه رضی اللّه و طاعته، و یعتد لما اللّه موافقه علیه، و مسائله عنه، و یحکم بالحق، و یعمل بالعدل فیما حمّله اللّه و قلّده، فان اللّه عز و جل یقول لنبیه داود علیه السلام (یا داود انا جعلناک خلیفة فی الارض فاحکم بین الناس بالحق و لا تتبع الهوی فیضلّک عن سبیل اللّه ان الذین یضلون عن سبیل اللّه لهم عذاب شدید بما نسوا یوم الحساب) و قال اللّه عز و جل (فوربک لنسألنهم اجمعین عما کانوا یعملون) و بلغنا ان عمر بن الخطاب قال «لو ضاعت سخلة بشاطی‌ء الفرات لتخوفت ان یسألنی اللّه عنها» و ایم اللّه ان المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف علی عمله فیما بینه و بین اللّه، لیعرض علی امر کبیر، و علی خطر عظیم، فکیف بالمسؤول عن رعایة الامة، و باللّه الثقة، و الیه المفزع، و الرغبة فی التوفیق، و العصمة و التسدید و الهدایة الی ما فیه ثبوت الحجة، و الفوز من اللّه بالرضوان و الرحمة:
و أنظر الامة لنفسه، و أنصحهم للّه فی دینه و عباده من خلائفه فی ارضه:
من عمل بطاعة اللّه و کتابه، و سنة نبیه علیه السلام فی مدة ایامه و بعدها، و أجهد رأیه و نظره فیمن یولیه عهده، و یختاره لامامة المسلمین، و رعایتهم بعده و ینصبه علما لهم، و مفزعا فی جمع ألفتهم، و لم شعثهم و حقن دمائهم، و الامن باذن اللّه من فرقتهم و فساد ذات بینهم و اختلافهم، و رفع نزغ الشیطان و کیده عنهم، فان اللّه عز و جل جعل العهد بعد الخلافة من تمام امر الاسلام و کماله، و عزه و صلاح اهله، و ألهم خلفاءه من توکیده لمن یختارونه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 226
له من بعدهم ما عظمت به النعمة، و شملت فیه العافیة و نقض اللّه بذلک مکر اهل الشقاق و العداوة، و السعی فی الفرقة، و التربص للفتنة و لم یزل امیر المؤمنین منذ أفضت الیه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها، و ثقل محملها، و شدة مؤونتها، و ما یجب علی من تقلدها من ارتباط طاعة اللّه و مراقبته فیما حمله منها، فانصب بدنه، و اسهر عینه، و اطال فکره فیما فیه عز الدین، و قمع المشرکین، و صلاح الامة، و نشر العدل، و اقامة الکتاب و السنة، و منعه ذلک من الخفض و الدعة، و مهنأ العیش علما بما اللّه سائله عنه، و محبة ان یلقی اللّه مناصحا له فی دینه و عباده، و مختارا لولایة عهده و رعایة الامة من بعده افضل ما یقدر علیه فی ورعه، و دینه و علمه، و ارجأهم للقیام فی امر اللّه و حقه، مناجیا له تعالی بالاستخارة فی ذلک، و مسألته الهامة ما فیه رضاه و طاعته فی آناء لیله و نهاره، معملا- فی طلبه و التماسه فی اهل بیته من ولد عبد اللّه بن العباس و علی بن ابی طالب- فکره و نظره، مقتصرا مما علم حاله و مذهبه منهم علی علمه، و بالغا فی المسألة عمن خفی علیه امره جهده و طاقته، حتی استقصی امورهم معرفة، و ابتلی اخبارهم مشاهدة، و استبری احوالهم معاینة، و کشف ما عندهم مسألة، فکانت خبرته بعد استخارته للّه، و اجهاده نفسه فی قضاء حقه فی عباده و بلاده فی البیتین جمیعا: علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب، لما رأی من فضله البارع، و علمه الناصع، و ورعه الظاهر، و زهده الخالص، و تخلیه من الدنیا و تسلمه من الناس، و قد استبان له ما لم تزل الاخبار علیه متواطیة، و الالسن علیه متفقة، و الکلمة فیه جامعة، و لما لم یزل یعرفه به من الفضل یافعا، و ناشیا، و حدثا، و مکتهلا، فعقد له بالعقد، و الخلافة من بعده، واثقا بخیرة اللّه فی ذلک، اذ علم اللّه انه فعله ایثارا له و للدین، و نظرا للاسلام و المسلمین، و طلبا للسلامة و ثبات الحق و النجاة فی الیوم الذی یقوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 227
الذی یقوم الناس فیه لرب العالمین، و دعا امیر المؤمنین ولده، و أهل بیته، و خاصته، و قواده، و خدمه، فبایعوا مسرعین، مسرورین، عالمین بایثار امیر المؤمنین طاعة اللّه علی الهوی فی ولده، و غیرهم ممن هو أشک منه رحما، و أقرب قرابة و سماه (الرضا) اذ کان رضا عند امیر المؤمنین، فبایعوا معشر أهل بیت امیر المؤمنین، و من بالمدینة المحروسة من قواده، و جنده، و عامة المسلمین، لأمیر المؤمنین، و للرضا من بعده علی بن موسی علی اسم اللّه و برکته، و حسن قضائه لدینه و عباده، بیعة مبسوطة الیها ایدیکم، منشرحة لها صدورکم، عالمین بما أراد امیر المؤمنین لها، و آثر طاعة اللّه، و النظر لنفسه و لکم فیها، شاکرین اللّه علی ما ألهم امیر المؤمنین من قضاء حقه فی رعایتکم، و حرصه علی رشدکم و صلاحکم راجین عائدة ذلک فی جمع ألفتکم، و حقن دمائکم، و لم شعثکم، و سد ثغورکم، و قوة دینکم، و استقامة أمورکم، و سارعوا الی طاعة اللّه و طاعة امیر المؤمنین فانه الأمر الذی ان سارعتم الیه، و حمدتم اللّه علیه، عرفتم الحظ فیه ان شاء اللّه.
و کتب بیده فی یوم الاثنین لسبع خلون من شهر رمضان سنة احدی و مائتین».
و هذا ما کتبه الامام علی بن موسی «الرضا» بخطه علی ظهر العهد.
بسم اللّه الرحمن الرحیم
«الحمد للّه الفعال لما یشاء، لا معقّب لحکمه، و لا راد لقضائه، یعلم خائنة الاعین، و ما تخفی الصدور، و صلاته علی نبیه محمد خاتم النبیین و آله الطیبین الطاهرین، أقول و أنا علی الرضا بن موسی بن جعفر: ان امیر المؤمنین عضده اللّه بالسداد، و وفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غیره، فوصل ارحاما قطعت، و أمن نفوسنا فزعت، بل احیاها و قد تلفت،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 228
و أغناها اذ افتقرت، مبتغیا رضی رب العالمین، لا یرید جزاء من غیره، و سیجزی اللّه الشاکرین، و لا یضیع أجر المحسنین، و انه جعل الی عهده، و الامرة الکبری: إن بقیت بعده، فمن حل عقدة أمر اللّه بشدها، و فصم عروة أحب اللّه ایثاقها، فقد أباح حریمه، و أحل محرّمه، اذ کان بذلک زاریا علی الامام، منتهکا حرمة الاسلام، بذلک جری السالف فصبر منه علی الفلتات، و لم یعترض بعدها علی العزمات، خوفا من شتات الدین، و اضطراب حبل المسلمین، جانب من صحن الامام الرضا بمشهد
و لقرب امر الجاهلیة، و رصد فرصة تنتهز، و بائقة تبتدر، و قد جعلت اللّه علی نفسی إذ استرعانی امر المسلمین و قلدنی خلافته، العمل فیهم عامة و فی بنی العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته، و طاعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم. و ان لا اسفک دما حراما، و لا أبیح فرجا، و لا مالا الا ما سفکته حدود اللّه، و أباحته فرائضه، و ان أتخیر الکفاة جهدی و طاقتی، و جعلت بذلک علی نفسی عهدا مؤکدا یسألنی اللّه عنه فانه عز و جل یقول (و أوفوا بالعهد ان العهد کان مسؤولا) و ان احدثت، او غیرت، او بدلت، کنت للغیر مستحقا، و للنکال متعرضا، و أعوذ باللّه من سخطه، و الیه ارغب فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 229
التوفیق لطاعته، و الحؤول بینی و بین معصیته فی عافیة لی و للمسلمین، و الجامعة و الجفر یدلان علی ذلک (و ما ادری ما یفعل بی و لا بکم إن الحکم الا للّه یقضی بالحق و هو خیر الفاصلین) لکنی امتثلت امر امیر المؤمنین، و آثرت رضاه، و اللّه یعصمنی و ایاه، و أشهدت اللّه علی نفسی بذلک و کفی باللّه شهیدا و کتبت بخطی بحضرة امیر المؤمنین أطال اللّه بقاءه، و الفضل بن سهل، و سهل بن الفضل، و یحی بن اکثم، و عبد اللّه بن طاهر، و تمامة بن اشرس، و بشر بن المعتمر، و حماد بن النعمان، فی شهر رمضان سنة احدی و مائتین».

من اقواله و حکمه

لم یخنک الأمین و لکن إئتمنت الخائن.
الصمت باب من ابواب الحکمة.
صدیق کل امری‌ء عقله، و عدوه جهله.
و سئل عن العجب الذی یفسد العمل فقال: العجب درجات منها أن یزین للعبد سوء عمله فیراه حسنا فیعجبه و یحسب انه یحسن صنعا، و منها ان یؤمن العبد بربه فیمتّن علی اللّه و للّه المنّة علیه.
یأتی علی الناس زمان تکون العافیة فیه عشرة اجزاء، تسعة منها فی اعتزال الناس، و واحد فی الصمت.
أحسنوا جوار النعم فانها وحشیة ما نأت عن قوم فعادت الیهم، ان شر الناس من منع رفده، و أکل وحده، و جلد عبده.
من حاسب نفسه ربح، و من غفل عنها خسر، و من حاف أمن، و من اعتبر ابصر، و من ابصر فهم، و من فهم علم، و صدیق الجاهل فی تعب، و أفضل المال ما و فی به العرض، و أفضل العقل معرفة الانسان نفسه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 230
و المؤمن اذا غضب لم یخرجه غضبه عن حق، و اذا رضی لم یدخله رضاه فی باطل، و اذا قدر لم یأخذ اکثر من حقه.

اولاده:

روی ان له ابنا واحدا و هو ابو جعفر الجواد، و عن بعضهم ان له ولدین، هما محمد، و موسی، و فی (کشف الغمة) ان له خمسة ذکور، و بنتا واحدة و هم محمد القانع، الحسن، جعفر، ابراهیم، الحسین، عائشة.

وفاته:

اختلف المؤرخون فی سبب موت الامام الرضا فقیل انه أکل عنبا و مات منه، و قیل بل مات مسموما کما روی هرثمة ابن اعین من انه مات مسموما بالعنب و الرمان اللذین قدما له و روی ابو الفرج فی (مقاتل الطالبیین) عن ابی الصلت انه دخل علی (الرضا) فقال یا ابا الصلت قد فعلوها: ای سقونی السم، و قد شاع ذلک و اشتهر حتی قال فی ذلک ابو فراس الحمدانی:
باؤا بقتل الرضا من بعد بیعته‌و أبصروا بعض یوم رشدهم و عموا
و قال دعبل بن علی الخزاعی:
شککت فما ادری أمسقی بشربةفابکیک ام ریب الردی فیهون
قبض یوم الجمعة و قیل یوم الاثنین آخر صفر او فی السابع عشر منه بطوس من ارض خراسان فی قریة یقال لها (سنا آباد) من رستاق نوقان سنة ثلاث او اثنتین و مئتین المصادف 818 م و هو ابن خمس و خمسین سنة او اثنتین و خمسین او احدی و خمسین و دفن فی القبة التی فیها قبر هارون الرشید الی جانبه مما یلی القبة فی دار حمید بن قحطبة الطائی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 231

الامام التاسع محمد الجواد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته

هو تاسع ائمة اهل البیت ولد بالمدینة لیلة الجمعة فی التاسع عشر من شهر رمضان او فی النصف منه او العاشر من شهر رجب سنة خمس و تسعین و مائة (810) م و یؤید قول ولادته فی رجب الدعاء المأثور الذی اوله (اللهم أسالک بالمولودین فی رجب محمد بن علی الثانی و ابنه علی بن محمد المنتجب).
امه ام ولد، یقال لها سبیکة، روی انها کانت من اهل بیت ماریة القبطیة و تکنی ام الحسن و کنیته ابو جعفر الثانی لان جده محمد الباقر یکنی بأبی جعفر الاول و لقبه الجواد، و التقی، و المنتجب، و القانع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 232

صفاته

کان اسمر شدید الادمة و لذلک نعته ابن ابی داود بالاسود، و کان یرتدی افخر الملبوس و لقد روی الصدوق بسنده عن علی بن مهزیار قال:
رأیت ابا جعفر الثانی (الجواد) یصلی الفریضة و غیرها فی جبة خزّ طاروی، و کسانی جبة خز، و ذکر انه لبسها علی بدنه و صلی فیها و امرنی بالصلاة فیها.
و کان افضل اهل زمانه علما، و عملا، و ورعا، و عبادة، و سخاء، و کرما، و فی جمیع صفات الفضل، و قد روی عنه من انواع العلوم و اجوبة المسائل المشکلة الشی‌ء الکثیر.
و قد نقلت عن اتساع دائرة فقهه و إحاطته بالاحکام و عمقه العجائب و الغرائب و من ذلک کان استفتاء یحیی بن اکثم له عن محرم قتل صیدا فما یکون حکمه؟ فقال له ابو جعفر الجواد:
أقتله فی حل او حرم؟ عالما کان المحرم ام جاهلا؟ قتله عمدا او خطأ؟
حرا کان المحرم او عبدا؟ صغیرا کان ام کبیرا؟ مبتدئا بالقتل ام معیدا؟
من ذوات الطیر کان الصید ام من غیرها؟ من صغار الصید کان ام من کباره؟
مصرا علی ما فعل ام نادما؟ فی اللیل کان قتله للصید فی اوکارها ام نهارا و عیانا؟ محرما کان بالعمرة اذ قتله او بالحج کان محرما؟
و قد شرح بعد ذلک هذه الاحوال لیحی بن اکثم و أبان له ان الأحکام لتختلف باختلاف هذه الأوضاع ثم ادلی بحکم کل قضیة!!
قال الطبرسی فی اعلام الوری. کان الامام محمد الجواد قد بلغ فی وقته من الفضل و العلم و الحکم و الآداب مع صغر سنه لم یساوه فیها احد من ذوی الاسنان من السادة و غیرهم و لذلک کان المأمون مشغوفا به لما رأی من علو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 233
رتبته و عظیم منزلته فی جمیع الفضائل فزوّجه ابنته، و کان متوفرا علی إعظامه و توقیره و تبجیله. قال المفید کان الامام بعد علی بن موسی الرضا، ابنه محمد بن علی المرتضی بالنص علیه، و الاشارة من ابیه الیه، و تکامل الفضل فیه، و کان المأمون قد شغف به لما رأی من فضله مع صغر سنه و بلوغه فی العلم و الحکمة و الأدب و کمال العقل ما لم یساوه فیه أحد من مشایح اهل زمانه و قال- لما أراد المأمون ان یزوج ابنته ام الفضل أبا جعفر بن علی بلغ ذلک العباسیین فغلظ علیهم و استکبروه و خافوا ان ینتهی الأمر عنده معه الی ما انتهی الیه مع ابنه الرضا، فخاضوا فی ذلک و اجتمع معهم اهل بیته الادنون منه و قالوا- ننشدک اللّه یا امیر المؤمنین ان تقیم علی هذا الأمر الذی عزمت علیه من تزویج ابن الرضا فانا نخاف ان تخرج به عنا امرا قد ملکتناه اللّه، و تنزع منا عزا قد البسناه اللّه، و قد عرفت ما بیننا و بین هؤلاء القوم قدیما و حدیثا، و قد کنا فی وهلة من عملک مع الرضا ما عملت حتی کفانا اللّه المهم من ذلک فاللّه اللّه ان تردنا الی غمّ قد انحسر عنا، و اصرف رأیک عن ابن الرضا و اعدل الی من تراه من اهل بیتک یصلح لذلک دون غیرهم، فقال لهم المأمون «اما ما کان بینکم و بین آل ابی طالب فأنتم السبب فیه، و لو انصفتم القوم لکانوا اولی بکم، و اما ما کان یفعله من قبلی بهم فقد کان به قاطعا للرحم، و أعوذ باللّه من ذلک، و و اللّه ما ندمت علی ما کان منی من استخلاف الرضا، و لقد سألته ان یقوم بالأمر و انزعه عن نفسی فأبی، و کان أمر اللّه قدرا مقدورا، و اما ابو جعفر محمد بن علی فقد اخترته لتبریزه علی اهل الفضل کافة فی العلم و الفضل مع صغر سنه، و الأعجوبة فیه بذلک، و انا ارجو ان یظهر للناس ما قد عرفته منه فیعلموا ان الرأی ما رأیت فیه».
و استأذن الجواد المأمون فی الحج و خرج من بغداد و معه زوجته (ام الفضل) و أقام بالمدینة و هی معه حتی توفی المأمون فی رجب سنة ثمان عشرة و مائتین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 234
و بویع اخوه المعتصم فی شعبان من تلک السنة فتخوف المعتصم من الجواد و مکانته فی القوم فطلبه الی بغداد فتجهز و خرج من المدینة الی بغداد و حمل معه زوجته ام الفضل.
و قال المسعودی فی (اثبات الوصیة) لما انصرف ابو جعفر الجواد الی العراق لم یزل المعتصم و جعفر بن المأمون یدبران و یعملان الحیلة فی قتله حتی سماه.
و روی العیاشی فی تفسیره عن زرقان صاحب احمد بن ابی داود (قاضی المعتصم) قال:
رجع ابن ابی داود ذات یوم من عند المعتصم و هو مغتم فسألته فقال:
وددت الیوم انی قد متّ منذ عشرین سنة فقلت لم ذاک؟ فقال لما کان من هذا الاسود ابی جعفر محمد بن علی بن موسی، قلت و کیف ذلک؟ قال ان سارقا اقرّ علی نفسه بالسرقة و سأل الخلیفة تطهیره باقامة الحد علیه، فجمع لذلک الفقهاء و أحضر محمد بن علی فسألنا عن القطع فی ای موضع یجب ان یقطع فقلت من الکرسوع (و هو طرف الزند الناتی‌ء مما یلی الخنصر) فقال و ما الحجة فی ذلک فقلت لأن الید هی الأصابع و الکف الی الکرسوع یقول اللّه تعالی فی التیمم (فامسحوا بوجوهکم و ایدیکم) و اتفق معی علی ذلک قوم و قال آخرون بل یجب القطع من المرفق لأن اللّه تعالی لما قال (و ایدیکم الی المرافق) دل علی ان حدّ الید هو المرفق. فالتفت الی محمد بن علی فقال ما تقول فی هذا یا ابا جعفر؟ فقال تکلم القوم فیه یا امیر المؤمنین، قال دعنی مما تکلموا به ای شی‌ء عندک؟ قال اعفنی من هذا، قال اقسمت علیک باللّه لما اخبرت بما عندک فیه، قال اما اذ أقسمت علیّ باللّه فانی اقول انهم اخطأوا فیه السنّة، فان القطع یجب ان یکون من مفصل اصول الأصابع فیترک الکف، قال و ما الحجة فی ذلک؟ قال: قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 235
السجود علی سبعة اعضاء: الوجه، و الیدین، و الرکبتین، و الرجلین.
فاذا قطعت یده من الکرسوع، او المرفق، لم یبق له ید یسجد علیها و قال اللّه تعالی (و ان المساجد للّه) یعنی به هذه الاعضاء السبعة التی یسجد علیها، و ما کان للّه لم یقطع، فأعجب المعتصم ذلک و أملی و أمر بقطع ید السارق من مفصل الأصابع دون الکف.

من اقواله و حکمه

روی عن الامام ابی جعفر الشی‌ء الکثیر من الحکم و الآداب و الأدعیة البلیغة و من هذه ما جری علی الألسن مجری الأمثال قوله:
مرقد الأمامین الکاظمین فی (الکاظمین)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 236
من اطاع هواه اعطی عدوّه مناه
و من هجر المداراة قاربه المکروه
و من عمل علی غیر علم کان ما یفسد اکثر مما یصلح
و من لم یعرف الموارد أعیته المصادر، و من انقاد الی الطمأنینة قبل الخبرة فقد عرّض نفسه للهلکة و العاقبة المتعبة.
راکب الشهوات لا تستقال له عثرة
کفی بالمرء خیانة ان یکون أمینا للخونة
عزّ المؤمن غناه عن الناس، لا یضرک سخط من رضاه الجور

اولاده

اولاده اربعة: علی الهادی، و موسی و فاطمة، و إمامة

وفاته

و کانت وفاته ببغداد یوم السبت او الثلاثاء فی اواخر ذی القعدة سنة عشرین و مائتین و له خمس و عشرون سنة و شهران و ثمانیة و عشرون یوما سنة (835) م و دفن فی مقابر قریش (الکاظمین بالجانب الغربی).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 237
الطیب، العسکری، و هذا اللقب الاخیر یشترک به هو و ابنه الحسن لان المحلة التی سکناها بسامراء کانت تسمی (عسکرا).

صفاته:

قال الشیخ المفید فی (الارشاد) و کان الامام بعد ابی جعفر ابنه الحسن علی بن محمد لاجتماع خصال الامامة فیه و تکامل فضله، و انه لا وارث لمقام ابیه سواه، و ثبوت النص علیه بالامامة و الاشارة الیه من ابیه بالخلافة و قال ابن حجر فی (الصواعق) کان ابو الحسن الهادی وارث ابیه علما و سخاء. و قال علی جلال فی کتابه (الحسین) کان الامام الهادی فقیها فصیحا جمیلا مهیبا.
و یقول القطب الراوندی فی (الخرایج) کان الامام علی الهادی قد اجتمعت فیه خصال الامامة و تکامل فضله و علمه و خصال الخیر، و کانت اخلاقه کلها خارقة للعادة کأخلاق آبائه، و کان باللیل مقبلا علی القبلة لا یفتر ساعة، و قال ابن شهر آشوب فی (المناقب) کان الامام اطیب الناس بهجة، و أصدقهم لهجة، و أملحهم من قریب، و أکملهم من بعید، اذا صمت علته هیبة الوقار، و اذا تکلم سماه البهاء، و هو من بیت الرسالة و الامامة و مقر الوصیة و الخلافة.
أشخصه المتوکل العباسی من (مدینة الرسول) الی (سامراء) و هو فی سن العشرین و أکثر بقلیل قال سبط ابن الجوزی فی (التذکرة) کان سبب إشخاص ابی الحسن الهادی من المدینة هو ان المتوکل کان شدید البغض لعلی و اولاده فبلغه مقام علی الهادی بالمدینة و میل الناس الیه فخاف منه و قد کتب الیه (بریحة) العباسی صاحب الصلاة بالحرمین بذلک، فدعا المتوکل بقائد من قواده و هو یحی بن هرثمة و ضم الیه ثلاثمائة فارس و کتب معه کتابا لطیفا الی علی الهادی و أمره ان یسیر الی المدینة و ان یحضر الامام، قال یحی فلما وصلت مدینة الرسول و بلغ اهلها مجیی‌ء و لأی سبب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 238

الامام العاشر ابو الحسن علی الهادی بن محمد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین ابن علی بن ابی طالب

ولادته

هو الامام العاشر من أئمة اهل البیت. ولد بقریة من نواحی المدینة المنورة یقال لها (صربا) و هذه القریة علی ثلاثة امیال من (المدینة) المنورة أسسها الامام الکاظم. ولد یوم الجمعة او الثلاثاء النصف من ذی الحجة او فی شهر رجب سنة اثنتی عشرة و مائتین، و روی الکلینی انه ولد فی رجب سنة 214 المصادف 829 م.
امه ام ولد و اسمها (سمانة) المغربیة، و یکنی بأبی الحسن لا غیر، اما ألقابه فهی الهادی، النجیب، المرتضی، النقی، العالم، الفقیه، المؤمن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 239
مرقد الأمامین علی الهادی و الحسن العسکری بسامراء
ضجوا ضجیجا عالیا ما سمع الناس بمثله خوفا علی علی الهادی، و قامت الدنیا علی ساق، لانه کان محسنا الیهم ملازما للمسجد، و لم یکن عنده میل الی الدنیا فجعلت أسکنهم، و احلف لهم انی لم اؤمر فیه بمکروه و انه لا بأس علیه، ثم فتشت منزله فلم اجد فیه الا مصاحف و أدعیة و کتب العلم فعظم فی عینی و تولیت خدمته بنفسی، و احسنت عشرته، فلما وصلت به الی بغداد (قال المسعودی) فخرج اسحق بن ابراهیم و جملة القواد فتلقوه- و اسحق بن ابراهیم هو و الی بغداد- قال یحی فقال لی یا یحی ان هذا الرجل قد ولده رسول اللّه، و المتوکل هو من تعلم، فان حرضته علیه قتله، و کان رسول اللّه خصمک یوم القیامة، فقلت له و اللّه ما وقعت منه الا علی کل امر جمیل، ثم صرت الی (سرّ من رأی) فبدأت بوصیف الترکی فأخبرته بوصوله، فقال و اللّه لئن سقطت منه شعرة لا یطالب بها سواک، فعجبت کیف وافق قوله قول اسحاق، فلما دخلت علی المتوکل سألنی عنه فأخبرته بحسن سیرته و سلامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 240
نیته و ورعه و زهادته و انی فتشت داره فلم اجد فیها غیر المصاحف و کتب العلم و ان اهل المدینة خافوا علیه فاکرمه المتوکل و احسن اجازته و روی الناس عنه من اجوبة المسائل فی الفقه و غیره من انواع العلوم الشی‌ء الکثیر و من اخباره مع المتوکل ما روی ابن خلکان فی (الوفیات) انه «سعی بالامام الهادی الی المتوکل بان فی منزله سلاحا و کتبا من شیعته اهل قم، و انه یطلب الامر لنفسه و انه عازم علی الوثوب، فبعث الیه جماعة من الاتراک فهجموا علیه داره لیلا فوجدوه علی الارض و علیه مدرعة صوف و هو جالس علی الرمل مستقبل القبلة یقرأ القرآن و یترنم بآیات من الوعد و الوعید و لیس بینه و بین الارض بساط الا الرمل فحمل علی حاله الی المتوکل و المتوکل فی مجلس الشراب فدخل علیه و الکاس فی ید المتوکل فلما رآه هابه و عظمه و اجلسه الی جانبه و ناوله الکاس التی کانت فی یده فقال و اللّه ما یخامر لحمی و دمی قط، فأعفنی فاعفاه، ثم قال له انشدنی شعرا فقال انی قلیل الروایة للشعر فقال لا بد، فانشده:
باتوا علی قلل الاجبال تحرسهم‌غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
و استنزلوا بعد عز من معاقلهم‌و اودعوا حفرا یا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعدما رحلوااین الاسرة و التیجان و الحلل؟
این الوجوه التی کانت محجبةمن دونها تضرب الاستار و الکلل؟
فافصح القبر عنهم حین سایلهم‌تلک الوجوه علیها الدود یقتتل
قال فبکی المتوکل حتی بلّت لحیته دموع عینیه و بکی الحاضرون و صرفه معظما مکرما»

من اقواله و حکمه

من جمع لک وده و رأیه فاجمع له طاعتک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 241
من هانت علیه نفسه فلا تأمن شره
الدنیا سوق ربح فیها قوم و خسر آخرون
من رضی عن نفسه کثر الساخطون علیه
الناس فی الدنیا بالاموال و فی الآخرة بالاعمال
و قال لشخص و قد اکثر من افراط الثناء علیه: اقبل علی شانک فان کثرة الملق یهجم علی الظنة، و اذا حللت من اخیک فی محل الثقة فاعدل عن الملق الی حسن النیة
المصیبة للصابر واحدة و للجازع اثنتان
خیر من الخیر فاعله، و اجمل من الجمیل قائله، و ارجح من العلم حامله و شر من الشر جالبه، و اهول من الهول راکبه،

اولاده

اربعة ذکور و بنت واحدة و هم:
ابو محمد الحسن، الحسین، محمد المعروف (بالسید محمد سبع الدجیل) جعفر، و عائشة

وفاته

قال المسعودی فی (اثبات الوصیة) اعتل ابو الحسن علی الهادی علته التی توفی فیها فاحضر أبا محمد ابنه و اوصی الیه، ثم توفی شهیدا مسموما
قال ابن بابویه سمه المعتمد، قال المسعودی و لما توفی اجتمع فی داره جملة بنی هاشم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 242

الامام الحادی عشر ابو محمد الحسن العسکری بن علی بن محمد بن علی بن موسی بن جعفر، بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته

هو الحادی عشر من ائمة الشیعة ولد بالمدینة الطیبة یوم الجمعة او الاثنین فی ربیع الاول او الثامن من ربیع الآخر سنة اثنتین و ثلاثین و مائتین مصادف 845 م و شخص الی العراق بشخوص والده الیها، امه ام ولد یقال لها (سوسن) او (حدیثه) او (سلیل) قال السید الامین و هو الاصح و من الجائز انها تسمی بجمیع ذلک، و کانت من النساء الصالحات، العارفات، کنیته ابو محمد، و اشهر القابه (العسکری) و یلقب ایضا بالتقی، و الخالص، و الزکی، و کان ابوه و جده یعرف کل واحد منهم بابن الرضا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 243

صفاته

قال المفید فی (الارشاد) کان الامام بعد ابی الحسن بن علی بن محمد ابنه ابا محمد الحسن بن علی لاجتماع خلال الفضل فیه و یقدمه علی کافة اهل عصره فیما یوجب له الامامة و یقتضی له الریاسة من العلم و الزهد، و کمال العقل و العصمة و الشجاعة و الکرم و کثرة الاعمال المقربة الی اللّه جل اسمه ثم لنص ابیه علیه و اشارته بالخلافة الیه. ثم اورد جملة من الاخبار الدالة علی نص ابیه علیه بالامامة من بعده، و یظهر من الروایات ان ابا الحسن العسکری و اخاه الحسین بن علی یسمیان بالسبطین تشبیها لهما بجدیهما السبطین (الحسن و الحسین)
و قال القطب الراوندی فی (الخرایج) کان الحسن العسکری اخلاقه کاخلاق رسول اللّه و کان رجلآ اسمر، حسن القامة، جمیل الوجه، جید البدن، حدیث السن له جلالة و هیبة و هیئة حسنة یعظمه العامة و الخاصة اضطرارا، یعظمونه لفضله، و یقدمونه لعفافه، و صیانته و زهده، و عبادته و صلاحه، و اصلاحه، و کان جلیلا، نبیلا، فاضلا، کریما، یحمل الاثقال و لا یتضعضع للنوائب، اخلاقه خارقة للعادة علی طریقة واحدة، و فی جملة من الروایات ان، (المعتمد) کان قد حبس ابا محمد الحسن العسکری، روی المفید بسنده عن الکلینی انه دخل العباسیون علی صالح بن وصیف عند حبس ابی محمد فقالوا له ضیّق علیه و لا توسّع، فقال لهم ما اصنع به و قد وکلت به رجلین شر من قدرت علیه فقد صارا من العبادة و الصلاة و الصیام الی امر عظیم، ثم امر باحضار الموکلین فقال لهما: و یحکما ما شانکما فی امر هذا الرجل فقالا ما نقول فی رجل یصوم النهار، و یقوم اللیل کله، لا یتکلم و لا یتشاغل بغیر العبادة، فاذا نظر الینا ارتعدت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 244
فرائصنا، و داخلنا ما لا نملکه من انفسنا، فلما سمع العباسیون ذلک انصرفوا خائبین
و بسنده انه حبس ابو محمد الحسن العسکری عند علی بن اوتاش، و کان شدید العداوة لآل محمد غلیظا علی آل ابی طالب فما اقام الا یوما حتی وضع خدیه له و کان لا یرفع بصره الیه اجلالا له و اعظاما؛ و خرج من عنده و هو احسن الناس بصیرة و احسنهم فیه قولا.
و فی اعیان الشیعة قال روی الکلینی فی (الکافی) و الصدوق فی (کمال الدین) مدخل الروضة العسکریة بسامراء
بسندیهما عن جماعة و بین الروایتین تفاوت بالزیادة و النقصان و نحن نجمع بینهما- قالوا حضرنا فی شعبان سنة ثمان و سبعین و مائتین بعد وفاة الحسن العسکری بثمانی عشرة سنة او اکثر مجلس احمد بن عبد اللّه بن خاقان و هو عامل السلطان یومئذ علی الخراج و الضیاع بکورة قم، و کان شدید النصب، و الانحراف عن اهل البیت، فجری فی مجلسه ذکر المقیمین من آل ابی طالب (بسر من رأی) و مذاهبهم و صلاحهم و اقدارهم عند السلطان فقال ما رأیت و لا اعرف (بسرمن‌رأی) رجلا من العلویة مثل الحسن بن علی بن محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 245
بن علی الرضا فی هدیه و سکونه، و عفافه، و نبله، و کرمه عند اهل بیته و السلطان و بنی هاشم کافة، و تقدیمهم ایاه علی ذوی السن منهم و الخطر، و کذلک حاله عند القواد، و الوزراء، و الکتاب، و عامة الناس. کنت یوما قائما علی رأس ابی و هو یوم مجلسه للناس اذ دخل حجابه فقالوا:
ابو محمد بن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت منه و منهم من جسارتهم ان یکنّوا رجلا بحضرة ابی- و لم یکن عنده الا خلیفة، او ولی عهد، او من امر السلطان ان یکنی- فدخل رجل اسمر اعین حسن القامة، جمیل الوجه جید البدن، حدیث السن له جلالة و هیئة حسنة فلما نظر الیه ابی قام فمشی الیه خطوات، و لا اعلمه فعل هذا باحد من بنی هاشم، و القواد، و اولیاء العهد، فلما دنا منه عانقه، و قبل وجهه، و صدره، و منکبیه، و اخذ بیده و اجلسه علی مصلاه الذی کان علیه و جلس الی جنبه مقبلا علیه بوجهه، و جعل یکلمه و یفدیه بنفسه، و ابویه، و انا متعجب مما اری منه اذ دخل الحاجب فقال جاء (الموفق) و هو اخو المعتمد الخلیفة العباسی- و کان الموفق اذا دخل علی ابی تقدمه حجابه و خاصة قواده- فقاموا بین مجلس ابی و بین باب الدار سماطین الی ان یدخل و یخرج فلم یزل ابی مقبلا علی ابی محمد یحدثه حتی نظر الی غلمان الموفق، فقال له حینئذ اذا شئت جعلنی اللّه فداک ابا محمد ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطین لا یراه هذا- یعنی الموفق- فقام و قام ابی فعانقه و مضی فقلت لحجاب ابی و غلمانه و یحکم من هذا الذی کنیتموه بحضرة ابی، و فعل به ابی هذا الفعل؟ فقالوا هذا علوی یقال له الحسن بن علی و یعرف بابن الرضا، فازددت تعجبا و لم ازل یومی ذلک قلقا متفکرا فی امره، و امر ابی، و ما رأیته منه حتی کان اللیل، و کانت عادته ان یصلی العتمة ثم یجلس فینظر فیما یحتاج الیه من المؤامرات و ما یرفعه الی السلطان فلما صلی و جلس جئت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 246
فجلست بین یدیه، فقال ألک حاجة؟ فقلت نعم، فان اذنت سألتک عنها، قال أذنت، قلت: من الرجل الذی رأیتک بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال و الکرامة و فدّیته بنفسک و ابویک؟ قال یا بنی ذاک امام الرافضة، الحسن بن علی المعروف بابن الرضا. و سکت ساعة، ثم قال: لو زالت الامامة عن خلفاء بنی العباس ما استحقها احد من بنی هاشم غیره لفضله، و عفافه، و صیانته، و زهده، و عبادته و جمیل اخلاقه، و صلاحه، و لو رایت اباه رایت رجلا جزلا، نبیلا، فاضلا، فازددت قلقا، و تفکرا، و غیظا علی ابی و ما سمعته منه فیه و رایته من فعله به، فلم تکن لی همة بعد ذلک الا السؤال عن خبره، و البحث عن امره، فما سألت احدا من بنی هاشم و القواد، و الکتاب، و القضاة، و الفقهاء، و سائر الناس الا وجدته عندهم فی غایة الاجلال و الاعظام و المحل الرفیع و القول الجمیل و التقدیم له علی جمیع اهل بیته و مشائخه فعظم قدره عندی اذ لم ار له ولیا و لا عدوا الا و هو یحسن القول فیه، و الثناء علیه، فقال له بعض من حضر مجلسه من الاشعریین فما حال اخیه جعفر؟ فقال و من جعفر فیسأل عن خبره او یقرن به؟ و لقد ورد علی السلطان و اصحابه فی وقت وفاة الحسن بن علی ما تعجبت منه و ما ظننت انه یکون، و ذلک انه لما اعتل الحسن بعث الی ابی ان الرضا قد اعتل، فرکب من ساعته الی دار الخلافة ثم رجع مستعجلا و معه خمسة من خدم امیر المؤمنین کلهم من ثقاته و خاصته فیهم (نحریر) و امرهم بلزوم دار الحسن و تعرف حاله، و بعث الی نفر من المتطببین فأمرهم بالاختلاف الیه و تعهده صباحا و مساءا، فلما کان بعد ذلک بیومین او ثلاثة أخبر انه قد ضعف، فرکب حتی بکر الیه و أمر المتطببین بلزوم داره، و بعث الی قاضی القضاة و امره ان یختار عشرة ممن یوثق به فی دینه و ورعه، و امانته، فبعث بهم الی دار الحسن و امرهم بلزومه لیلا و نهارا، فلم یزالوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 247
هناک حتی توفی، فلما ذاع خبر وفاته صارت (سر من رأی) ضجة واحدة:
مات ابن الرضا، ثم اخذوا فی تجهیزه و عطلت الاسواق، و رکب بنو هاشم، و القواد، و الکتاب، و القضاة، و المعدلون، و سائر الناس الی جنازته فکانت (سر من رأی) یومئذ شبیها بالقیامة، فلما فرغوا من تهیئته بعث السلطان الی ابی عیسی بن المتوکل فامره بالصلاة علیه فلما وضعت الجنازة دنا ابو عیسی منه، فکشف عن وجهه فعرضه علی بنی هاشم من العلویة و العباسیة، و القواد، و الکتاب، و القضاة، و المعدلین، و قال: هذا الحسن بن علی بن محمد بن الرضا مات حتف انفه علی فراشه و حضره من خدم امیر المؤمنین فلان، و فلان و من المتطببین فلان و فلان، ثم غطی وجهه و صلی علیه و کبر خمسا، و امر بحمله فحمل من وسط داره، و دفن فی البیت الذی فیه ابوه، و روی انه مضی مسموما و قد سمّه المعتمد

من اقواله و حکمه

من الفواقر التی تقصم الظهر جار ان رای حسنة اطفاها، و ان رای سیئة افشاها.
حب الابرار للابرار ثواب للابرار، و حب الفجار للابرار، فضیلة للابرار، و بغض الفجار للابرار زین للابرار، و بغض الابرار للفجار خزی علی الفجار،
و قال لشیعته «اوصیکم بتقوی اللّه، و الورع فی دینکم، و الاجتهاد للّه، و صدق الحدیث، و اداء الامانة الی من ائتمنکم من بر او فاجر، و طول السجود، و حسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم: صلوا فی عشائرهم، و اشهدوا جنائزهم، و عودوا مرضاهم، و أدوا حقوقهم، فان الرجل منکم اذا ورع فی دینه، و صدق فی حدیثه، وادی الامانة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 248
و حسن خلقه مع الناس، قیل هذا شیعی، فیسرنی ذلک، فاتقوا اللّه و کونوا زینا، و لا تکونوا شینا، جروا الینا کل مودة، و ادفعوا عنا کل قبیح، فانه ما قیل فینا من حسن فنحن اهله، و ما قیل من سوء فما نحن کذلک، لنا حق فی کتاب اللّه و قرابة من رسول اللّه، و تطهیر من اللّه»
من مدح غیر المستحق فقد قام مقام المتهم
لا یعرف النعمة الا الشاکر و لا یشکر النعمة الا العارف
ان للسخاء مقدارا فان زاد علیه فهو سرف، و للحزم مقدارا فان زاد علیه فهو جبن، و للاقتصار مقدارا فان زاد علیه فهو بخل، و للشجاعة مقدارا فان زاد علیه فهو تهور

وفاته

توفی (بسر من رای) یوم الجمعة مع صلاة الغداء لثمان خلون من ربیع الاول علی المشهور سنة ستین و مائتین 873 م و عمره ثمان و عشرون او تسع و عشرون سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 249

الامام الثانی عشر محمد بن الحسن بن علی بن محمد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب

ولادته:

هو محمد بن الحسن العسکری الامام الثانی عشر الذی تنتهی عنده الامانة عند الشیعة الاثنی عشریة و یوصف باسماء متعددة و کنی کثیرة اشهرها (المهدی) و صاحب الزمان، و الامام المنتظر، و الحجة، ولد لیلة النصف من شعبان سنة 255 (بسر من رأی) و فی عصر المعتمد، و امه ام ولد و اسمها (نرجس) و قیل انها احدی بنات قیصر الروم.

صفاته

ابیض الوجه، ناصع الجبین، اشم الانف، کث اللحیة، اکحل العینین، براق الثنایا- کما استخرجه الامین من مختلف الروایات- و هو شثن الکفین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 250
معطوف الرکبتین، و قیل انه یشبه رسول اللّه فی خلقه الرضی، و جاء فی روایة (النعمانی) انه یشبه النبی فی الخلق و الخلق و سمی بالمنتظر لان خروجه منتظر حین یعم العالم الجور و الظلم و تنعدم الانسانیة و یسود الضلال بین الناس و تضمحل المقاییس فیخرج مؤیدا بمشیئة اللّه (و یملک شرق الارض و غربها فیملأ الارض قسطا و عدلا کما ملئت ظلما و جورا) و نصوص اخری تقول (و یقسم المال بالسویة، و یعدل فی الرعیة، و یفصل فی القضیة)
و قد انکر البعض وجود المهدی اصلا و قال البعض انه لم یولد بالمرة و قال البعض بل توفی و هو صغیر و ذلک بسبب ما احیط به من جو الکتمان الذی اقتضته الاحوال السیاسیة یومذاک و استدعت اخفاءه الا عن المقربین و الصالحین من الادنین الیه الذین تولوا السفارة بینه و بین بقیة شیعته و الرد علی استفتاآتهم و مشاکلهم، و قد قضی ورود ذکره- من قبل أکابر اهل السنة فضلا عن الشیعة، و رجال التاریخ، و رواة الحدیث و الاخبار، عند مختلف المذاهب- علی کل شبهة و کل ظن، و قد لخص (الامین) فی استعراضه لسیرة المهدی من طرق اهل السنة طائفة کبیرة من الاحادیث و الاخبار التی تخص المهدی و کونه الامام الثانی عشر، و کونه المنتظر کما هو علیه رأی الشیعة الاثنی عشریة من انه سیخرج و یملأ الارض قسطا و عدلا کما ملئت ظلما و جورا.
و من المفید الاشارة الی من قال بوجود المهدی و وافق الشیعة من علماء اهل السنة کأبی سالم کمال الدین محمد بن طلحة القرشی النصیبی (الشافعی) فی کتابه (مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول) فقد قال عنه «المهدی الحجة الخلف الصالح المنتظر» ثم قال «و اما مولده (فبسر من رأی) فی ثالث و عشرین رمضان سنة 258 للهجرة».
و کأبی عبد اللّه محمد بن یوسف الکنجی (الشافعی) فی کتابه (البیان فی اخبار صاحب الزمان) و یشتمل هذا الکتاب علی خمسة و عشرین باب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 251
و تناول فی کل باب من الابواب الاربعة و العشرین عدة أحادیث عن احوال (صاحب الزمان) من طریق اهل السنة.
و کنوز الدین علی بن محمد بن الصباغ (المالکی) فی (الفصول المهمة فی معرفة الائمة) فقد جاء فی الفصل الثانی عشر قوله (الفصل الثانی عشر، فی ذکر ابی القاسم الحجة الخلف الصالح ابن ابی محمد الحسن الخالص و هو الامام الثانی عشر، و تأریخ ولادته، و دلائل امامته الخ) و حین تطرق المؤلف فی کتابه هذا الی ذکر الامام الحسن العسکری والد المهدی قال بهذا النص:
«و خلف ابو محمد الحسن رضی اللّه عنه من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق، و کان قد اخفی مولده، و ستر امره لصعوبة الوقت و خوف السلطان ان یطلبه من الشیعة و محبسهم، و القبض علیهم»
و کشمس الدین ابی المظفر یوسف بن عبد اللّه البغدادی (الحنفی) المعروف بسبط ابن الجوزی فی کتابه (تذکرة خواص الامة فی معرفة الائمة) بعد ان أتی علی ترجمة الامام حسن العسکری بهذا اللفظ «ذکر اولاده- ای اولاد العسکری- منهم محمد الباقر الامام (فصل) هو محمد بن الحسن بن علی بن محمد بن علی بن موسی الرضا بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب علیهم السلام و کنیته ابو عبد اللّه و ابو القاسم و هو الخلف الحجة و صاحب الزمان و القائم و المنتظر و التالی و هو آخر الائمة».
و کالشیخ محی الدین بن عربی الحاتمی الطائی الاندلسی فی کتابه (الفتوحات المکیة) الذی نقل عنه الشعرانی فی (الیواقیت و الجواهر) ما هذا نصه «و عبارة الشیخ محی الدین فی الباب السادس و الستین و الثلاثمایة من (الفتوحات)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 252
«و اعلموا انه لا بد من خروج المهدی علیه السلام لکن لا یخرج حتی تمتلی‌ء الارض جورا و ظلما فیملؤها قسطا و عدلا و لو لم یکن من الدنیا الا یوم واحد طول اللّه تعالی ذلک الیوم حتی یلی ذلک الخلیفة و هو من عترة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلم من ولد فاطمة رضی اللّه عنها ... الخ»
و کالشیخ عبد الوهاب الشعرانی المصری فی کتاب (الیواقیت و الجواهر، فی بیان عقائد الاکابر) قال الشعرانی ما لفظه «المبحث الخامس و الستون فی بیان ان جمیع اشراط الساعة التی اخبرنا بها الشارع حق لا بد ان تقع کلها قبل قیام الساعة و ذلک کخروج المهدی»- الی ان قال- و هو من اولاد الامام الحسن العسکری و مولده علیه السلام لیلة النصف من شعبان سنة 255 .. الخ»
و کالحافظ محمد بن محمود البخاری (الحنفی) فی کتاب (فصل الخطاب) علی ما نقل ما لفظه: «و لما زعم ابو عبد اللّه جعفر بن ابی الحسن علی الهادی رضی اللّه عنه و ادعی ان اخاه الحسن العسکری رضی اللّه عنه جعل الامامة فیه سمی الکذاب و هو معروف بذلک، و ابو محمد الحسن العسکری ولده محمد رضی اللّه عنهما معلوم عند خاصة اصحابه و ثقات اهله».
و کثیر غیر هؤلاء من أکابر رجال الحدیث و التاریخ الذین وردت تراجمهم فی المعاجم و الاعلام بشی‌ء کثیر من التجلة و أشیر الی کتبهم بشی‌ء کثیر من الاعجاب ممن خص کل کتابه او بعض فصوله او قسما من اخباره بالحجة المهدی، و من هؤلاء السید جمال عطاء اللّه فی کتابه (روضة الاحباب) و نور الدین عبد الرحمن بن قوام الدین الجامی (الحنفی) و قیل الشافعی، فی کتابه (شواهد النبوة) و هو صاحب کتاب (نفحات الانس)، بالفارسیة و (سلسلة الذهب) الذی طعن فیه بطوائف (الرافضیة) علی حد قول صاحب کتاب (الشقائق النعمانیة) و مع ذلک فقد أفاض فی ذکر المهدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 253
مدخل السرداب المعروف بسرداب الغیبة فی سامراء
و غالی فی ایراد معجزاته، و العارف عبد الرحمن من مشائخ الصوفیة و قد ذکرت اخباره فی کتاب (مرآة الاسرار) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 255

عقائد الشیعة و أصول دینهم کتبها جعفر الخلیلی

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 257

عقیدة الشیعة و أصول دینهم

اشارة

الشیعة الامامیة الاثنا عشریة هم الاکثریة العامة. بین طوائف الشیعة، و انما سموا بالاثنی عشریة لانهم یحصرون أئمتهم فی اثنی عشر اماما، و هذا احد الاختلافات المهمة بینهم و بین طوائف المسلمین و الشیعة الآخرین، و یسمی الشیعة الامامیة (بالجعفریة) ایضا ذلک لتلقی قواعد فقههم و أصول مذهبهم من الامام السادس جعفر بن محمد الصادق و لان تجاهرهم بالتشیع کان ابرز و أظهر فی ایام الصادق (ع) فی القرن الثانی الهجری.
اما نفوس الشیعة الیوم فلیس هنالک احصاء مضبوط یمکن الرکون الیه و الکثیر ممن عنوا بالاحصاء اعتمدوا التخمین اکثر من الاعتماد علی الاحصاءات الرسمیة، و لعل للعواطف دخلا فی الزیادة و النقصان الوارد فی التخمینات و فی الاحصاءآت الرسمیة، و مع ذلک فهذه التخمینات لم تتجاوز المایة ملیون عدا للشیعة الاثنی عشریة حسب الاستنتاجات.
و کثافة سکان الامامیة فی العالم هی فی (العراق) و (ایران) و (الهند)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 258
و (الباکستان) و (لبنان) و شرقی افریقیا کزنجبار و دار السلام، و علی ان العتبات المقدسة من مراقد أئمة الشیعة الامامیة هی المراکز الدینیة و العواصم المذهبیة، فان هذه المراکز و العواصم تتنقل اهمیتها حسب العوامل اکثر من عشرین الف مصل یصلون صلاة العید فی احد میادین کربلاء
الاجتماعیة، و الحوادث السیاسیة و الاقتصادیة، و مع ذلک فکثیرا ما انحصرت الزعامة الروحیة و المرجعیة المذهبیة، و دراسة العلوم الدینیة، و الفلسفیة، و اللغة و الادب (بعتبة) دون اخری، و کثیرا ما تساوت الاهمیة العلمیة و الزعامة فی عتبتین او اکثر فی زمن واحد من حیث الاهمیة العلمیة و الزعامة الروحیة بحیث یتعذر تفضیل عتبة علی اخری من حیث اهمیتها الروحیة و لکن هذا لا یعنی ان مرکز الزعامة الروحیة وقف علی مرکز (العتبة)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 259
فکثیرا ما انحصرت الزعامة الدینیة الکبری کلها او جلها فی مدن لیست لها علاقة بالعتبات المقدسة کبغداد، و الحلة، و اصفهان مثلا، و مع ذلک فقد احتفظت بعض العتبات بکونها عاصمة للشیعة الاثنی عشریة لمدة اطول بسبب عوامل تخص نبوغ ساکنیها من العلماء، و نشاط العلم، و مدی الشهرة التی اکتسبتها، و ان من هذه العتبات التی احتفظت بزعامة الشیعة مدة اطول هی (النجف) التی تعتبر الیوم المرجع المهم، و مصدر الفقه الشیعی، و منبع الفتاوی المذهبیة بین اغلب مراکز الشیعة الامامیة.
«یقول الشیخ علی الشرقی للشیعة مدن علمیة تعاقبت فی الظهور حسب الاحوال الاجتماعیة و السیاسیة التی تنقلت بهم من مرکز الی مرکز و من وقت الی وقت فکانت (الکوفة) و کانت (قم) ثم (الحلة السیفیة) ثم (حلب) ثم (شیراز) ثم (اصفهان) ثم (کربلاء) ثم (النجف)، و ربما کانت (جبع) احدی مدن عاملة و (الصباغیة) احدی مواقع البطائح، و (الرماحیة) احدی مدن خزاعة فی الفرات الاوسط من المراکز العلمیة،
و کل هذه المدن کان لها فی بعض الاوقات السلطة الزمنیة و الدینیة و کانت محطات علمیة توزع تلامیذها علی الاقطار الشیعیة و یهاجر الیها رواد العلم و طلابه و فی کل منها حتی الیوم اثار علمیة ففی (قم) زوایا و مدارس و خوانق قدیمة، و فی شیراز محلة کبیرة تعرف بمحلة العلماء و للعرفان الشیرازی و الادب الشیرازی انتشار و شهرة، و کل تاریخ (الحلة) علم و ادب، و کتاب المسائل الحلبیة یشهد بما کان لحلب من تاریخ الشیعة؛ و تکثر فی (اصفهان) و بلاد (عاملة- لبنان) المدارس التاریخیة و المحلات العلمیة، و قبور العلماء الشهیرة، و اکثر الکتب الحیة و التآلیف الممتعة التی بین ایدینا الیوم هی:
للقمی، و الحلبی، و الحلی، و الشیرازی، و العاملی، و الاصفهانی، و الرازی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 260
و الحائری، و الغروی، و قد انتقل النتاج الفکری من کل هذه المدن الی النجف»
و الشیعة یعنون بالعلم، و الفن، و الادب عنایة خاصة، و یلتزم فقهاؤهم بالاحاطة التامة باللغة العربیة حتی و ان کانوا من غیر العرب، و بالتاریخ الاسلامی، و الادب العربی لما یتوقف علی ذلک من امور تتعلق بتفسیر القرآن و فهم مغازی الحدیث، و الخبر، و ما ترمی الیه الشریعة من فلسفة ربما تطلبت استعراض الادیان الاخری و مقارنتها بالدین الاسلامی، لذلک نبغ من الشیعة عدد کبیر من رجالات الفقه و علم الکلام، و اللغة، و الادب و الفنون بمختلف صورها، و قد الفت فی ذلک کتب متعددة تطرقت الی هذه الملکات و المواهب، و من اهم هذه الکتب التی صدرت فی العصر الاخیر کتاب للسید حسن الصدر الکاظمی باسم (الشیعة و فنون الاسلام) تناول فیه بحث تقدم الشیعة فی العلوم و الفنون الاسلامیة بصورة واسعة، و قد ترجم هذا الکتاب لاهمیة موضوعه الی لغات اجنبیة

الاسلام و الایمان فی عقیدة الشیعة

و الشیعة الاثنا عشریة مسلمون، و یعتقدون ان الاسلام هو النطق بالشهادتین: بان یقول المسلم او من یدخل الاسلام 1- اشهد ان لا اله الا اللّه 2- و ان محمدا عبده و رسوله، و علی ان الاسلام و الایمان مترادفان و یطلقان علی معنی اعم و لکن الایمان اعلی درجة من الاسلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 261
«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ» و مع ذلک فالاسلام و الایمان وحدة تعتمد بالمعنی الاعم علی ثلاثة ارکان و هی التوحید، و النبوة، و المعاد فلو انکر الرجل واحدا منها فلیس بمسلم و لا مؤمن، و اذا دان بتوحید اللّه و نبوة سید الانبیاء محمد «ص» و اعتقد بیوم الجزاء «من آمن باللّه و رسوله و الیوم الآخر» فهو مسلم حقا له ما للمسلمین و علیه ما علیهم: دمه، و ماله، و عرضه حرام
و یطلق الاسلام و الایمان علی معنی اخص، و هو یعتمد علی تلک الارکان الثلاثة، و رکن الشیعة یؤدون صلاة الجماعة فی لندن فی المسجد الاسلامی العام
رابع آخر، و هو العمل بالدعائم التی بنی علیها الاسلام و هی خمس:
الصلاة، و الصوم، و الزکاة، و الحج، و الجهاد
و بالنظر الی هذا قالوا «الایمان اعتقاد بالجنان، و اقرار باللسان، و عمل بالارکان»
«من آمن باللّه و رسوله و عمل صالحا» فکل مورد فی القرآن اقتصر علی ذکر الایمان باللّه و رسوله و الیوم الآخر، یراد به الاسلام و الایمان بالمعنی الاول، و کل مورد اضیف الیه ذکر العمل الصالح یراد به المعنی الثانی

اصول الدین

اشارة

و اصول الدین عند الشیعة الامامامیة خمسة:
الاول- التوحید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 262
الثانی- العدل
الثالث- النبوة
الرابع- الامامة
الخامس- المعاد
و من الواجب عند الشیعة ان یتدبر المسلم اصول دینه و عقائده بالتتبع، و اعمال الفکر، و اخذ العقیدة بهذه الاصول عن طریق العقل، فلا یجوز تقلید الغیر فی العقیدة ما دام اللّه قد وهبه عقلا یجب علیه ان یستخدمه، و یمرّنه فی النظر الی الاشیاء لاکتساب المعرفة، و فهم الامور، و اخذها بمیزان البصیرة و الاصول المنطقیة الصحیحة، قال تعالی:
(سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
و قد ذم اللّه المقلدین فی کتابه العزیز بقوله: (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً) کما ذم من یتبع ظنونه و رجمه بالغیب فقال: (إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)*
و الحقیقة ان العقول هی التی فرضت علینا النظر فی الخلق و معرفة خالق الکون کما فرضت علینا النظر فی دعوة النبی فلا یصح عند الشیعة تقلید الغیر فی ذلک مهما کان ذلک (الغیر) منزلة و خطرا)
و قد اجمع العلماء قاطبة علی ان اصول الدین لا یکفی فیها الظن و ان وصل الی رتبة الاطمئنان و تاخم العلم و الاعتقاد و ان المعرفة واجبة، و هی عند الشیعة اصلیة و مأخوذة من قول الامام علی بن ابی طالب «اول الدین المعرفة» و بناء علی هذا فان الواجب یقضی بأن تجی‌ء المعرفة باصول الدین الخمسة عن طریق الدلیل و الایمان العقلی، و جاء فی ذم التقلید ایضا قوله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 263
تبارک و تعالی (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلی أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلی آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) و قوله (وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلی ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَی الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْلَمُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ) و قوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِینَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِینَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ)
اما التقلید فی الفروع فقد جوزه الشیعة الامامیة و قیدوا انفسهم به
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 264

1- الوجود و التوحید

و الرکن الاول عند الشیعة هو ان یعتقد المسلم بوجود اللّه و وحدانیته و کونه متصفا بجمیع صفات الکمال و منزها عن جمیع صفات النقص و عن کل ما یقتضی الحدوث، و هی ما تسمی بالصفات الثبوتیة و الصفات السلبیة اما الصفات الثبوتیة فهی ثمان:
1- قادر مختار 2- عالم 3- حی 4- مرید کاره 5- مدرک 6- قدیم ازلی باق ابدی 7- متکلم 8- صادق، و اما الخالق، و الرازق، و المحی، و الممیت و امثالها فهی من صفات الافعال
اما صفات اللّه السلبیة فهی سبع:
1- لیس بمرکب 2- لیس بجسم 3- لیس محلا للحوادث 4- لیس بمرئی لا فی الدنیا و لا فی الآخرة 5- لیس له شریک 6- لیس بمحتاج 7- نفی المعانی و الصفات عنه
و لکل صفة من الصفات المذکورة الثبوتیة و السلبیة ادلة عقلیة ذات وجوه متعددة، تجعل العقیدة راسخة بوجود اللّه و وحدانیته و اتصافه بتلک الصفات الثبوتیة و السلبیة فلوجود اللّه عز و جل ادلة متعددة نضرب مثلا منها ما اورده الشیخ محمد رضا فرج اللّه من امثلته الخاصة قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 265
«لا شک ان الموجود من حیث هو منحصر فی اثنین: مفیض للوجود، و مفاض علیه الوجود، و بعبارة اجمل: منعم و منعم علیه، و لا بد للاول من کونه موجودا لذاته من غیر احتیاج الی من یفیض جامع الشیعة فی الولایات المتحدة
علیه الوجود و ینعمه به. بل ان ذاته علة لوجود الغیر و للانعام علیه، و لا بد للثانی من احتیاجه الی علة له خارجة تفیض به علیه الوجود و تنعم به علیه، و لو کان من افاض الوجود و انعم به یحتاج الی من یفیض علیه الوجود و ینعمه به ایضا للزم ان لا یوجد موجود اصلا، لان الفرض ان من یفیض الوجود به لا یفیض الا بعد ان یفاض علیه الوجود من الغیر و ینعم به فهو اذا قبل الانعام بافاضة الوجود علیه غیر موجود،
و علی هذا الفرض و بهذا القیاس فلا موجود ابدا، و لتوضیح ذلک فلنضرب مثلا مصغرا بسلسلة من موجودات عشرة فنقول:
اذا کان (العاشر) الذی هو نهایة السلسلة یستقی فیض وجوده من (التاسع) فهو قبل وجود (التاسع) لم یکن موجودا،
و لنأت الی (التاسع) و نقول اذا کان التاسع یستقی فیض وجوده من (الثامن) فهو اذا قبل وجود (الثامن) لم یکن موجودا ایضا
و هکذا کل لاحق فی العدد یستقی وجوده من سابقه حسب الفرض، فهو غیر موجود قبل وجود سابقه حتی نصل الی (الاول) الذی هو مصدر افاضة الوجود علیها و هو ان کان یستقی وجوده من غیره فهو غیر موجود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 266
ایضا، فلا وجود (للعشرة) حینذ لفقدان من یفیض علیها الوجود، و هو الاول الذی افاض الوجود علی الثانی حسب الفرض، لان ذلک الاول یفقد من یفیض الوجود علیه، فهو لیس بموجود، و علی هذا التقریر فلا موجود فی الکون، بل لا کون، و لا موجود، الا اذا کان ذلک الاول لم یستق فیض وجوده من غیره، و اذا کان کذلک فهو اذا (الموجود لذاته) و هو علة العلل، و هو موجد الکون، و مفیض الوجود، و المنعم به، فلا محیص عن ان اللّه تعالی موجود بذاته لذاته منذ الأزل و الی الأبد»
اما ما یتعلق بوحدة الوجود فرای الشیعة فیه و فلسفتهم مأخوذة من کلمة امیر المؤمنین فی اللّه حیث یقل:
(توحیده تمییزه عن خلقه، و حکم التمییز بینونة صفة لا بینونة عزلة)
و هی اجمع کلمة لقواعد التوحید،، و التجرید، و التنزیه، و دحض التشبیه، و الصحیح الذی لا غبار علیه ان حقیقة الوجود من حیث هی واحدة لا تعدد فیها و لا تکرار بل کل حقیقة من الحقائق، و ماهیة من الماهیات ایضا بالنظر الی ذاتها مجردة عن کل ما سواها یستحیل تعددها و تکررها. و من قواعد الحکمة المتفق علیها ان (حقیقة الشی‌ء لا تتثنی و لا تتکرر، و الماهیات انما تتکثر و تکرر بالوجود)
و یتمسک الشیعة فی عقیدتهم بالوجود بقول الامام الصادق «العبودیة جوهرة کنهها الربوبیة» و التی یمثلها لبید الشاعر فی قوله:
(الا کل شی‌ء ما خلا اللّه باطل) و الذی قال فیه النبی (ص) «اصدق کلمة قالها الشاعر لبید»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 267
و التوحید هو الایمان بان اللّه واحد لا شریک له و ان ما جاء به القرآن الکریم (لَوْ کانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ) و قوله تعالی: (وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا یُشْرِکُونَ) ان هذا هو اساس العقیدة التی یجب ان یثبتها المنطق و یقیمها العقل فی الذهن،
و المقصود من ان اللّه (موجود وحی) هو انه لیس مثل الجمادات، و لیس لانه ذو روح، و القول بانه (مدرک) ای انه یبصر و لکن لا بعین، و یسمع و لکن لیس باذن، بل یدرک جمیع المبصرات و المسموعات، و القول بانه (متکلم) هو انه ینطق و لکن لیس بلسان، بل یوجد الکلام فی بعض مخلوقاته، و القول بانه (لیس محلا للحوادث) ای للامور و الصفات الحادثة و معنی (نفی المعانی و الصفات عنه) هو ان صفاته لیست مغایرة، بل هی عین ذاته،
و یعتقد الشیعة ان کل ما ورد من النقل مما ظاهره خلاف ذلک مثل (الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی و (إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ) و (جاءَ رَبُّکَ) و (یَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ) و (مَکَرُوا وَ مَکَرَ اللَّهُ) و (لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ) و (لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) و غیر ذلک فیجب رده و تأویله الی ما حکم به العقل، او ایکال علمه الیه تعالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 268

2- العدل

هو الرکن الثانی من اصول الدین و مفهومه تنزیه الخالق عن فعل القبیح و عن وضعه الشی‌ء فی غیر موضعه فهو غیر ظالم و غیر جائر فی حکمه و قد حکت طبیعة هذا العدل آیات من القرآن الکریم فی قوله تعالی:
(أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِینَ کَالْمُجْرِمِینَ ما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ)
و قوله (إِنَّ اللَّهَ لا یَظْلِمُ النَّاسَ شَیْئاً وَ لکِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ)
و قوله (لا نُکَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ کانَ ذا قُرْبی وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِکُمْ وَصَّاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ)
و قوله (وَ مَا اللَّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)
و غیر ذلک من الآیات الکریمة التی تشیر الی عدله و الی حثه تعالی الخلق علی العدل و تجنب فعل القبیح، و کما ان وجود اللّه و وحدانیته قد قامت علی ادلة عقلیة فللعدل هذا ادلة ذات وجوه متعددة تقوم علی قواعد العقل و المنطق تفرض علی کل شیعی مدرک مناقشتها و الایمان بها عن طریق العقل و لیس عن طریق التقلید فلو کان اللّه یفعل الظلم و القبح فان الأمر فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 269
ذلک لا یخلو عن اربع صور:
1- ان یکون جاهلا بالأمر فلا یدری انه قبیح
2- ان یکون عالما به و لکنه مجبور علی فعله، و عاجز عن ترکه
3- ان یکون عالما به و غیر مجبور علی فعله علیه و لکنه محتاج الی فعله
4- ان یکون عالما به و غیر مجبور علیه و لا یحتاج الیه، فینحصر فی ان یکون فعله له تشهیا و عبثا و لهوا و کل هذا المفروص محال علی اللّه تعالی و تستلزم صوره النقص فیه، و هو محض الکمال، فیجب ان نحکم بانه منزه عن الظلم و فعل ما هو قبیح و قد وردت الأدلة العقلیة فی مواطنها المفصلة من الکتب تنزیها له تعالی من الظلم و فعل القبیح
و یقول الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء ان (العدل) لیس اصلا مستقلا من صفات اللّه بل هو مندرج فی نعوت الحق و وجوب وجوده المستلزم لجامعیته لصفات الجمال و الکمال، فهو شأن من شؤون التوحید و لکن الاشاعرة لما خالفوا (العدلیة) و هم المعتزلة، و الامامیة، فانکروا الحسن و القبح العقلیین و قالوا لیس الحسن الا ما حسّنه الشرع و لیس القبیح الا ما قبّحه الشرع، و انه تعالی لو خلد المطیع فی جهنم و العاصی فی الجنة لم یکن قبیحا لانه یتصرف فی ملکه، و لا یسأل عما یفعل و هم یسألون حتی انهم اثبتوا وجوب معرفة الصانع و وجوب النظر فی المعجزة لمعرفة النبی من طریق السمع و الشرع لا من طریق العقل لانه ساقط عن منصة الحکم فوقعوا فی الاستحالة و الدور الواضح
اما العدلیة- الشیعة و المعتزلة فقد قالوا ان الحاکم فی تلک النظریات هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 270
العقل مستقلا، و لا سبیل لحکم الشرع فیها تأکیدا و ارشادا و العقل یستقل بحسن فعل الافعال و قبح بعض آخر، و بحکم ان القبیح محال علی اللّه لانه حکیم، و فعل القبیح مناف للحکمة و تعذیب المطیع ظلم، و الظلم قبیح، و هو لا یقع منه تعالی، و بهذا اثبتوا للّه صفة (العدل) و افردوها بالذکر دون سائر الصفات اشارة الی خلاف الأشاعرة مع ان الأشاعرة فی الحقیقة لا ینکرون کونه تعالی عادلا غایته ان العدل عندهم هو ما یفعله، و کلما یفعله فهو حسن، نعم انهم انکروا ما اثبته المعتزلة و الامامیة من حکومة العقل و ادراکه للحسن و القبح علی الحق جل شأنه قائلین انه لیس للعقل وظیفة الحکم بان هذا حسن من اللّه و هذا قبیح منه
و تفرعت من رای الاشاعرة فکرة (الجبر) و هی تقابل فکرة
جماعة من الشیعة یؤدون صلاة الجماعة بجامع الشیعة فی هامبورک
(الاختیار) و حریة الارادة عند الشیعة و المعتزلة فقد قال الاشاعرة بان الانسان مجبور او ما یشبه ذلک علی ما یقع منه، و قالت (الامامیة) بل هو مختار و حر فی اعماله، و انما ملکة الاختیار و صفته کنفس وجوده من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 271
اللّه، فهو الذی خلق العبد و أوجده مختارا، و یقول الشیعة لو کان العباد مجبورین علی افعالهم لما صحت مواخذة العاصی منهم، و لا اثابة المطیع بل تکون المواخذة حینذاک ظلما، لان الغاصی مجبور علی فعل الطاعة ایضا، و علی هذا فلن تکون هناک مثوبة او عقوبة، و لا وعد، و لا وعید، و لا جنة، و لا نار، و لا سائل و لا مسؤول لان اللّه سبحانه خلق الخلق و اجبرهم علی افعالهم سواء کانت طاعة او معصیة
علی ان (للاختیار) عند الشیعة حدودا معینة فلیست هی اختیارات بکل معنی الکلمة و انما هی امر بین امرین تتضمنه کلمة الامام الصادق
«لا جبر و لا تفویض و لکن امر بین امرین»
و هی من معضلات المسائل التی اخذت دورا مهما فی التحلیل و المناقشة طوال القرون الماضیة: (فَکُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً، وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما کانَ اللَّهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَ لکِنْ کانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ)
(لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما کَسَبَتْ وَ عَلَیْها مَا اکْتَسَبَتْ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا)
(فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِیَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِیلًا، فَوَیْلٌ لَهُمْ مِمَّا کَتَبَتْ أَیْدِیهِمْ وَ وَیْلٌ لَهُمْ مِمَّا یَکْسِبُونَ)
و باختصار فان عقیدة الشیعة فی الجبر و الاختیار النظریتین اللتین شغلت افکار طوائف المسلمین: ان الاعمال صادرة عن العباد باختیارهم، و لیسوا مجبورین علیها، و انها لیست فعلا للّه تعالی و لا مخلوقة له خلق تکوین، بل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 272
خلق تمکین، بمعنی انه تعالی خلق فی العبد القدرة علی الفعل و الترک، و خلق فیه الجوارح التی یقدر بها علی الفعل، و الادوات التی یتوصل بها الیه و لو شاء منعه لمنعه، و بین له طریق الخیر، و امره باتباعه، و أراه طریق الشر، و نهاه عن سلوکه، فاذا عصاه فبسوء اختیاره، و اذا اطاعه فبتوفیقه و اقداره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 273

3- النبوه

اشارة

و عن طریق العقل یجب علی المسلم ان یؤمن بأن من العدل ان یرسل اللّه الی عباده مبشرا و هادیا یعلم الناس الاحکام، و یبیّن لهم الحلال من الحرام و یرشدهم الی طریق الصواب و یحکم بینهم بالعدل، و ان ذلک واجب علی اللّه تعالی باعتباره لطفا منه، و اللطف واجب علی الاله الذی مرت صفاته فی تعریف ذاته من قبل، و قد یکون الایمان بوجوب ارسال الانبیاء یمثل جانبا من (العدل) بحیث لا یمکن ان یستقیم هذا العدل تماما من غیر وجود بشیر او نذیر، او هاد، او مرشد، یتمثل فی صورة نبی یأتی الی عباده لیعلمهم ما ینبغی علیهم ان یتعلموه لیعملوا به، و ما ینبغی علیهم ان یتعلموه لیتجنبوه حتی یکونوا صلحاء.
قال سبحانه و تعالی (وَ ما کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا)
و قال (وَ أَرْسَلْناکَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ کَفی بِاللَّهِ شَهِیداً)
و قال (یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنَّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً وَ داعِیاً إِلَی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِیراً)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 274
و قال تعالی (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِیهِمْ مُنْذِرِینَ)
و قال (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ)
و غیر ذلک من الآیات التی یؤمن بمنطوقها الشیعة کرکن ثالث من ارکان الدین الخمسة و یناقشونها منطقیا حتی یؤمنوا بواقعها بالأدلة القاطعة.
و الفرق بین النبی و بین الرسول امور أهمها: ان النبی قد لا یکون مبعوثا من اللّه الا لفئة خاصة، و طائفة معینة، و الرسول هو المبعوث الی الناس سواء أ کانت طائفة منهم کیونس فی قوله تعالی (وَ أَرْسَلْناهُ إِلی مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ یَزِیدُونَ) ام الیهم عامة علی ان تکون للرسول شریعة ابتدائیة کانت کشریعة آدم او منقطعة محدودة منسوخة کشریعة موسی و عیسی، او ناسخة لجمیع الشرائع کشریعة محمد .
و یعتقد الشیعة الأمامیة ان جمیع الانبیاء الذین نص علیهم القرآن الکریم رسل من اللّه و عباد مرسلون لدعوة الخلق الی الحق، و ان محمدا هو خاتم الأنبیاء و سید الرسل کما یعتقد الشیعة الامامیة بکفر کل من اعتقد او ادعی النبوة بعد النبی محمد ص .
و ان الکتاب الموجود فی ایدی المسلمین هو الکتاب الذی انزله اللّه للاعجاز و التحدی و لتعلیم الاحکام، و تمیز الحلال من الحرام و انه لا نقص فیه و لا تحریف و لا زیادة، و یتمسک الشیعة الاثنا عشریة فی کون ان القرآن سالم عن النقص و الزیادة و التحریف بمنطوق الآیة الکریمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 275

اعجاز القرآن

و دلیل اعجاز القرآن هو البلاغة التی لم تتغیر مدلولاتها و مفاهیمها بتغیر الزمن ما دامت هنالک لغة اسمها اللغة العربیة، و الشیعة الامامیة یرون ان هذه المعجزة یجب ان تمشی الی جانب القرآن و تظل شاخصة مدی العمر و لهم علی ذلک ادلة عقلیة و نقلیة، فقد سحر القرآن العرب منذ اللحظة الاولی سواء منهم فی ذلک من دخل فی الاسلام او من لم یدخله فقد کان القرآن العامل الحاسم فی ایمان من آمنوا فی أوائل الدعوة، یوم لم یکن لمحمد حول او طول، و یوم لم یکن للاسلام قوة و لا منعة، و قصة ایمان عمر بن الخطاب (رض) فی وقعة تولی بن المغیرة نموذجان من قصص کثیرة للایمان و للتولی، فلقد جاء ان النبی کان یصلی فی المسجد، و الولید بن المغیرة قریب منه یسمع قراءته فلما فطن النبی لاستماعه أعاد قراءة الآیة، فانطلق الولید حتی أتی الی مجلس قومه من بنی مخزوم فقال:
«و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا کلاما ما هو من کلام الجن، و اللّه ان له لحلاوة، و ان علیه لطلاوة، و ان اعلاه لمثمر، و ان اسفله لمغدق، و انه یعلو و ما یعلی» ثم انصرف الی منزله.
فقالت قریش صبأ و اللّه الولید، و لتصبون قریش کلهم، فأوفدوا الیه أبا جهل یحتال لصرفه عن الاسلام ان کان قد نوی الدخول فیه، و ما زال به حتی قام معه الی مجلس قومه فقال لهم:
«تزعمون ان محمدا مجنون فهل رأیتموه یخنق قط؟ و تزعمون انه کاهن فهل رأیتموه قط تکهّن؟ و تزعمون انه کذاب فهل جربتم علیه شیئا من الکذب».
و یسألهم و یجیبونه: کلا فی کل سؤال، حتی اعیاهم ان یردوا کلامه فسألوه رأیه فی تفسیر بلاغة القرآن؟ ففکر ثم قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 276
القرآن المنسوب خطه الی امیر المؤمنین «ع»
«ما هو الا سحر یؤثر، اما رأیتموه یفرق بین الرجل و أهله و ولده و موالیده فهو ساحر و هذا هو السحر المبین».
فالی ذاک یشیر القرآن الکریم «إِنَّهُ فَکَّرَ وَ قَدَّرَ، فَقُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ؟ ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَکْبَرَ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ یُؤْثَرُ».
سحر یوثر، یفرق بین الرجل و أهله و ولده و موالیه ... تلک قولة رجل یتقاعس عن الاسلام و یتکبر ان یسلم لمحمد، و یعتز بنسبه، و ماله، و ولده و لیست قولة رجل آمن فهو یعلل ایمانه بهذا السحر الذی لا یغالب، و انها لأدل علی (سحر القرآن) للعرب من کل کلام یقوله المؤمنون، لأنها لا تقال ولدی قائلها حیلة للسکوت عنها او مفر من الاعتراف بها .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 277
قطعة من المصحف المنسوب خطه للأم الحسن بن علی «ع»
و شاهد آخر من نمط الولید بن المغیرة من علماء هذا العصر یتمثل فی أبیاته أعجاز القرآن الذی یتمسک به الشیعة کأهم رکن للنبوة لا یجوز التشکیک فیه عندهم، و هو الدکتور شبلی شمیل الذی یقول فی قصیدته المشهورة:
دع من محمد فی صدی قرآنه‌ما قد نحاه للحمة الغایات
انی و ان أک قد کفرت بدینه‌هل اکفّرن بمحکم الآیات
و مواعظ لو انهم عملوا بهاما قیدوا العمران بالعادات
الی قوله:
ببلاغة القرآن قد خلب النهی‌و بسیفه انحی علی الهامات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 278
و القرآن فی حد ذاته خیر آیة تدل علی صحة رسالة محمد و بعثته و یقول (جودیون بورت):
«ان القرآن قد صرح بدعوة کل من یدعی البلاغة و الفصاحة فی ذلک الزمان الی السباق و المباراة لیخرج کل بضاعته، او یجلب کل جواده للرهان، فعجز الکل عن ان یأتوا و لو بسورة واحدة من مثله».
«قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ کانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِیراً» سورة بنی اسرائیل.
القرآن المنسوب خطه للامام زین العابدین «ع»
و قد قیل ان (لبید ابا ربیعة) و هو من أهل الیمن، و أحد أصحاب المعلقات السبع التی علقت فی الکعبة قد استهل قصیدته و هو جاهلی و ثنی بهذا البیت:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 279 الا کل شی‌ء ما خلا اللّه باطل‌و کل نعیم لا محالة زائل
و قد عجز الشعراء عن ان یأتوا بمثل القرآن حتی نزلت سورة (براءة) و علقت فی الکعبة کما کانت تعلق القصائد، فلما قرأها (لبید) قال:
«ما هذا الا الوحی و الالهام الذی اوحاه اللّه» فآمن بذلک الوحی و قبل الاسلام و ما یتعلق بالعمل بالقرآن قال اللّه تعالی:
(وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلًا) و قال امیر المؤمنین علی فی توضیحه «ای بیّنه تبیانا و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لکن اقرعوا قلوبکم القاسیة و لا یکن همّ احدکم آخر السورة» فرتله ترتیلا وقف عند وعده و وعیده، و تفکر فی امثاله و مواعظه، و احذر ان تقع من اقامتک حروفه فی اضاعة حدوده .
هذه خلاصة عقیدة الشیعة فی النبوة و القرآن الذی جاء به النبی محمد.
صفحة من القران الکریم المنسوب خطه للأمام الرضا «ع»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 280

4- الامامة

اشارة

و الامامة هی الاصل الرابع فی معتقدات الشیعة الامامیة و هی أصل الخلاف بین الشیعة و سائر الطوائف الاسلامیة، فالشیعة الامامیة تعتقد بان لامامة منصب یعهد به النبی الی من یخلفه لیکون مرجعا من بعده یرجع الیه لناس فی تفهم الشریعة و حکمتها و توضیح رسالة الاسلام و فقهه و مغازیه و لکل امام ان یعهد بالامامة الی من یلیه و هی وظائف دینیة لا تتم بالانتخاب و الاختیار من قبل الناس و اجماعهم و انما هی تعالیم مقدسة یتلقاها امام عن امام عن النبی الذی لا یقول شیئا و لا یعمل شیئا الا ما یتفق مع رضا اللّه و اشائته، فهی منصوص علیها من اللّه تعالی و ان البحث فی (الامامة) کالبحث فی النبوة عند الشیعة لا یجوز فیه تقلید الاجداد و الاباء و الزعماء و انما یجب تمحیص الامر علی ضوء القواعد العقلیة لیتم الایمان بان الامام هو خلیفة النبی و نائبه العام المتبع فی حفظ نوامیس الشریعة و اقامة کیان الملة و الحافظ لقوانینها دینیة کانت او دنیویة
و قد ذهب المسلمون فی الخلافة عن النبی بعد وفاته مذاهب شتی و سلکوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 281
مسالک متعددة اهمها من یری ان الخلافة تجب عقلا علی اللّه سبحانه و تعالی و منهم من یری انها تجب عقلا علی الناس، و منهم من یری وجوبها علیهم سمعا، و منهم من لا یری وجوبها اثباتا لا فی العقل و لا فی السمع، و منهم من یری غیر ذلک
و لکن الأهم من تلک المذاهب مذهبان ما زالا و لا یزالان الی ان یشاء اللّه ما یشاء
المذهب الأول- من اوجبها عقلا علی اللّه تبارک و تعالی و بهذا تؤمن الشیعة الامامیة بان الامامة تأتی بنص من النبی و هو حین یختار خلیفته فانما یصدع بأمر اللّه و یمثل فی هذا الاختیار مشیئته لیکون بعد النبی هادیا و مرشدا بما أمر اللّه و نهی عنه، و کما تجب علی المسلمین طاعة رسول اللّه و تحرم معصیته تجب طاعة الامام و تحرم معصیته
المذهب الثانی- من اوجبها علی الناس فانه یجب عنده ان یختار الناس من انفسهم اماما لهم ینصبونه علیهم، ینشر فیهم العدل و الانصاف و یدفع عنهم الضرر و الخلاف و لا یلزم فیه الاتصاف بشی‌ء غیر وقوع الاختیار علیه
و یعتقد الشیعة الامامیة و هم من حملة المذهب الاول بان الدلیلین العقلی و القرآن یؤیدان رأیهما فی الامامة، فمن الأدلة العقلیة ان اللّه الذی انزل قرآنه و شریعته لم یرد بهذه الشریعة الا تفهمها و رسوخها فی اذهان المسلمین و ان اسس هذه الشریعة و فروعها لیست من الامور التی یکفی فیها عمر النبی و جهاده کفیلا لشرحها و الایمان بمبادئها، و لما کان النبی محمد خاتم النبیین و لن یأتی بعده نبی کان من المقتضیات الواجبة ان یعین النبی من یخلفه من بعده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 282
اماما لئلا یقع الهرج و المرج فی الامة و لا سیما و العهد بعبادة الاوثان لم یزل قریبا
و یری الشیعة ان النبی لو کان قد ترک اختیار الامامة للامة من بعده لطمع بها من لیس لها اهلا و لطغی جانب السیاسة علی الجوانب الاخری و اصطبغ الدین بصبغة زمنیة بحتة تزید علی الحدود التی عینها اللّه فی کتابه و شریعته، و بذلک قد یتمزق الاسلام، و تتدهور کلمة المسلمین، و تتدهور و تضعف کلمة التوحید، و یمکن ان یدعیها کل قریب للنبی و کل رئیس مطاع و کل مهاجری باسم المهاجرین و کل انصاری باسم الانصار و فی ذلک ما فیه من اختلال فی الأمر، و فساد فی النظام، خصوصا و ان الدین الاسلامی لم تقو أواصره بعد و تعالیم الاسلام لم ترسخ ارکانها،
«و ما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات او قتل انقلبتم علی أعقابکم»
فالعقل و الحالة هذه یحکم بوجوب نصب شخص یقع اختیاره نصا لیؤمن به المسلمون اماما ینفرد بالمزایا التی یجب ان تتوفر فی الامام
و الدلیل الثانی الذی یتمسک به الشیعة الامامیة هو القرآن الکریم الذی نصت آیاته علی جعل الخلافة من الامور التی یخص اللّه وحده تعیینها، و اصطفاؤها سواء أ کان المصطفی نبیا او اماما فلیس للناس فیه اختیار او انتخاب،
و کثیرة هی الآیات التی یستدل بها الشیعة الامامیة علی اصطفاء اللّه الانبیاء و الائمة و ورثة الانبیاء الذین یعهد الیهم النبی بوصیته کائمة من بعده تنفیذا لارادة اللّه و مشیئته اذ یقول اللّه عن نبیه (و ما ینطق عن الهوی) فاختیاره لخلیفته من بعده تجسیم لارادة اللّه و اشائته
و من هذه الآیات قول اللّه عز و جل فی المصطفین من الانبیاء و الأسر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 283
و الأقوام (ان اللّه اصطفی آدم و حواء و نوحا و آل ابراهیم و آل عمران علی العالمین)
و قول اللّه تعالی (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا)
و قوله (وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ)
و قوله (وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ کانُوا بِآیاتِنا یُوقِنُونَ)
و قوله تعالی (إِنَّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)
و قوله تعالی (وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَکُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَکُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِیَبْلُوَکُمْ فِی ما آتاکُمْ)
و قوله (ثُمَّ جَعَلْناکُمْ، خَلائِفَ فِی الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ)
و قوله (هُوَ الَّذِی جَعَلَکُمْ خَلائِفَ فِی الْأَرْضِ فَمَنْ کَفَرَ فَعَلَیْهِ کُفْرُهُ)
الی غیر ذلک من الآیات التی یستدل بها الشیعة الامامیة علی ان الامامة یعهد بها النبی الی من یقوم بها بعده

صفات الامام

و یعتقد الشیعة ان مجموعة من الصفات یجب ان تتوفر فی الامام لکی یحق له ان یکون اماما فیجب ان یکون افضل الناس فی صفات الانسانیة من الصدق و العدل، و الامانة و العفة و کرم الخلق ثم یجب ان یکون افضل الناس من حیث العقل و العلم و الحکمة، و تکون قوة الالهام عند الامام و التغلغل فی اعماق الحقائق و معرفتها و هی التی تسمی بالقوة القدسیة، یجب ان تکون غایة فی السمو، فلقد ثبت فی الابحاث النفسیة ان کل انسان له ساعة او ساعات فی حیاته قد یعلم فیها بعض الأشیاء من طریق الحدس الذی هو فرع من الالهام بسبب ما اودع اللّه تعالی فیه من قوة علی ذلک، و هذه القوة اتختلف شدة و ضعفا و زیادة و نقصا فی البشر باختلاف افرادهم فیطفر ذهن لانسان فی تلک الساعة الی المعرفة من دون ان یحتاج الی التفکیر و ترتیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 284
المقدمات و البراهین و تلقین المعلمین و یجد کل انسان من نفسه ذلک فی فرص کثیرة فی حیاته فیجوز ان یبلغ من قوته الالهامیة اعلی الدرجات و اکملها و هذا ما قرره الفلاسفة المتقدمون و المتأخرون
و لم تکن هذه الصفات وحدها المفروضة فی الامام و انما یجب ان یکون الامام کالنبی معصوما عند الشیعة، و العصمة هی ان یکون النبی و خلفاؤه من بعده و هم الائمة الاثنا إستقبال الشیعة لاحد الروحانیین فی افریقیا الغربیة
عشر معصومین من جمیع الرذائل و الفواحش ما ظهر منها و ما بطن بل یری الشیعة ان العصمة تشمل اکثر من ذلک فتعصم الامام من الخطأ و الهوی و المیول العاطفیة لان الأحکام و الفتاوی و القواعد ستختل موازینها اذا ما رافقتها الاخطاء و المیول العاطفیة و الظنون، و الشبه، لذلک یجب ان تصدر الاحکام عن قواعد ثابتة راسخة، و یجب ان تکون الاقوال کاملة و دالة علی معانیها لا یعتورها شی‌ء من الشبه و النسیان، لذلک اعتبر الشیعة صفة العصمة اساسیة فی الائمة کما هی اساسیة فی النبی محمد (ص)

امامة علی و اولاده

و الامامة بناء علی ما مر منصب إلهی ینص به النبی علی الامام و ینص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 285
الامام به علی من یخلفه و یدل النبی الامة علیه و یامرهم باتباعه، و یعتقد الشیعة ان اللّه سبحانه و تعالی امر نبیه بان ینص علی علی و ینصبه علما للناس من بعده و یقول الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء و کان النبی یعلم ان تبلیغه الامة بامامة علی من بعده سیثقل علی الناس و قد یحملون ذلک علی المحاباة و المحبة من النبی لابن عمه و صهره، و من المعلوم ان الناس فی ذلک الیوم و الی هذا الیوم لیسوا فی مستوی واحد من الایمان و الیقین بنزاهة النبی و عصمته عن الهوی و الغرض و لکن اللّه سبحانه لم یعذره فی ذلک فاوحی الیه:
«یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)
فلم یجد النبی بدا من الامتثال بعد هذا الانذار الشدید فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع فی غدیر خم) فنادی و جلهم یسمعون:
- «أ لست أولی بالمؤمنین من أنفسهم»؟
فقالوا «اللهم نعم»
فقال- «من کنت مولاه فهذا علی مولاه» الی آخر ما قال مما اوردته الکتب من غیر طریق الشیعة ثم أکد ذلک فی مواطن اخری تلویحا و تصریحا و اشارة و نصا، حتی ادّی الوظیفة، و بلغ عند اللّه المعذرة و لکن کبار المسلمین بعد النبی تأولوا تلک النصوص نظرا منهم لصالح الاسلام حسب اجتهادهم- فقدموا و اخروا، و قالوا (و الامر یحدث بعده الامر)
و امتنع علی و جماعة من عظماء الصحابة عن البیعة اولا ثم رأی ان امتناعه من الموافقة و المسالمة ضرر کبیر علی الاسلام بل ربما ینهار الاسلام من اساسه و هوئه بعد فی اول نشوئه و ترعرعه، و الاسلام عند علی و هو اول من أسلم و آمن بالاسلام- من العزة و الکرامة، و الحرص علیه، و الغیرة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 286
بالمقام الذی یضحی له نفسه، و انفس ما لدیه، فکم قد قذف بنفسه فی لهوات المنایا تضحیة للاسلام ...
و یقول کاشف الغطاء (و زیادة علی ذلک فقد رأی علی ان الرجل الذی تخلف علی المسلمین قد نصح للاسلام، و صار یبذل جهده فی قوته و اعزازه، و بسط رایته علی البسیطة، و هذا اقصی ما یتوخاه امیر المومنین من الخلافة و الامرة فمن ذلک کله تابع و بایع حیث رأی ان بذلک مصلحة الاسلام و هو علی منصبه الالهی من الامامة و ان سلم لغیره التصرف و الرئاسة العامة، فان ذلک المقام مما یمتنع التنازل عنه بحال من الاحوال، اما حین انتهی الامر الی معاویة و علم ان موافقته و مسالمته و ابقاءه والیا فضلا عن الامرة ضرر کبیر و فتق واسع علی الاسلام لا یمکن بعد ذلک رتقه، لم یجد بدا من حربه و منابذته»
و علی هذا فالامام بعد رسول اللّه و وصیه و خلیفته هو الامام علی بمقتضی النصوص الواردة، و بعده ابنه الحسن، ثم اخوه الحسین بن علی، ثم ابنه علی زین العابدین، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصادق، ثم ابنه موسی الکاظم، ثم ابنه علی الرضا، ثم ابنه محمد الجواد، ثم ابنه علی الهادی، ثم ابنه الحسن العسکری، ثم ابنه محمد بن الحسن المهدی الغائب الذی یعتقد الشیعة بظهوره حین یعم الظلم و الجور فیملأ الدنیا عدلا و أمنا
و قد الفت فی الوصیة، وصیة رسول اللّه لعلی، کتب متعددة منذ الصدر الاول للاسلام حتی القرن الرابع الهجری و اورد الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء اسماء طائفة من الکتب المؤلفة عن الوصیة قبل القرن الرابع، و من هذه الکتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 287
1- الوصیة لهشام بن الحکم
2- الوصیة للحسین بن سعید
3- الوصیة للحکم بن مسکین
4- الوصیة لعلی بن المغیرة
5- الوصیة لعلی بن الحسن بن الفضل
6- الوصیة لابراهیم بن محمد بن سعید بن هلال
7- الوصیة لاحمد بن محمد بن خالد البرقی صاحب (المحاسن)
8- الوصیة للمؤرخ الجلیل عبد العزیز بن یحی الجلودی
و اکثر هؤلاء من اهل القرن الاول و الثانی، اما اهل القرن الثالث فلهم مؤلفات کثیرة و واسعة منها
1- الوصیة لعلی بن ریاب
2- الوصیة لیحی بن المستفاد
3- الوصیة لمحمد بن احمد الصابونی
4- الوصیة لمحمد بن الحسن بن فروخ
5- الوصیة و الامامة للمؤرخ علی بن الحسین المسعودی صاحب مروج الذهب
6- الوصیة لشیخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسی
7- الوصایا لمحمد بن علی الشلمغانی المشهور
8- الوصیة لموسی بن الحسن بن عامر
اما ما اؤلف بعد القرن الرابع باسم الوصیة فانه من الکثرة بحیث لا یستطاع حصره هذا اضافة الی ما ورد عن الوصیة باسم الخلافة و الامامة معا ظلت التآلیف فیه متصلة حتی یومنا هذا،، و آخر ما صدر بهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 288
الخصوص من الاحاطة الشاملة بالوصیة، و العهد، و الخلافة، هو موسوعة الغدیر للشیخ عبد الحسین الامین الذی توسع فی جمعه لأخبار الوصیة و حدیث الغدیر توسعا کبیرا، و احسن ما صدر علی الاطلاق کتاب (المراجعات) و هو ما جری من اسئلة و أجوبة بین العالمین الکبیرین الشیخ سلیم البشری و السید عبد الحسین شرف الدین، و عقیدة الشیعة بالائمة انهم هم اولو الأمر الذین قال عنهم سبحانه و تعالی (أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ) و انهم عیبة علمه، و ارکان توحیده، و هم کما جاء ذکرهم فی کتاب اللّه المجید (عباد اللّه المکرمون الذین لا یسبقونه بالقول و هم بامره یعملون و انهم (الذین اذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا) فکل امرهم من امر اللّه و کل نهیهم من نهیه، و ان طاعتهم طاعة اللّه تعالی، و معصیتهم معصیته، و ولیهم ولیه، و عدوهم عدوه، و لهذا یعتقد الشیعة ان الاحکام الشرعیة الالهیة یجب ان تستقی من معینهم، و انهم آل بیت النبی الذی قال النبی عنهم:
(انهم کسفینة نوح من رکبها نجا و من تخلف عنها غرق)
و الدلیل القطعی عند الشیعة دال علی وجوب الرجوع الی آل البیت بکونهم المرجع الأصلی بعد النبی لأحکام اللّه المنزلة و من هذه الأدلة:
قول النبی و هو الذی اتفقت علیه رواة الحدیث من اهل السنة و الشیعة بدون ای اختلاف فی الروایة او مضمونها و هو:
(اننی قد ترکت فیکم الثقلین کتاب اللّه، و عترتی اهل بیتی، ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی ابدا، انهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض)
و الائمة بشر فی عقیدة الشیعة لهم ما للناس، و علیهم ما علی الناس، و میزتهم تنحصر فی انهم عباد مکرمون، حازوا علی الدرجات العالیة من التقوی و الصفات السامیة و الاخلاق الحمیدة لذلک استحقوا ان یکونوا ائمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 289
و ان المغالین فیهم کفرة فی رأی الامامیة، فالائمة لا یردون للّه قضاء، و لا یعفون لمذنب ذنبا، و لا یغنون و لا یفقرون، و لا یرفعون، و لا یحطون، فهم عباد اللّه الصالحون یلجأ الیهم الملتجی‌ء تمسکا، و یلوذ باضرحتهم اللائذ مصلیا و متعبدا، و متوسلا الی اللّه طلبا للمثوبة، متخذا من أضرحتهم المقدسة وسائل للابتهال الی اللّه، یزورهم معترفا بفضلهم، مجددا عهده بولایتهم، و هذا و لیس غیره ما تنص علیه العقیدة، و احسن ما یمثل عقیدة الشیعة الامامیة فی حقیقة ائمتهم قول الامام الصادق و هو یوصی شیعته قائلا:
«ما جاءکم عنا مما یجوز ان یکون فی المخلوقین و لم تعلموه و لم تفهموه فلا تجحدوه وردوه الینا، و ما جاءکم عنا مما لا یجوز ان یکون فی المخلوقین فاجحدوه و لا تردوه الینا»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 290

5- المعاد

اشارة

و المعاد هو الرکن الخامس من اصول الدین و هو ان یعتقد المسلم بان اللّه سیبعث النفوس و یعید لها الحیاة من جدید فی یوم القیامة متجسدة بنفس جسدها لیحاسب کل نفس بما عملت فلیس من العدل ان یتساوی المجرم و غیر المجرم، و المسی‌ء و المحسن، فی الحیاة، و لیست الدنیا هذه الا ممرا و معبرا الی الآخرة یقتص فیها اللّه هناک من المذنبین، و العابثین و الاشرار و ینتصف للمظلومین من الظالمین، و یثیب الذین عملوا الصالحات علی اعمالهم و قد أید المعاد جمیع ارباب الشرایع و الأدیان و عدوا الاعتراف بعودة الانسان الی الحیاة رکنا اساسیا فی ادیانهم
و یمکن حصر الاقوال العامة الدینیة منها و غیر الدینیة عن (المعاد) فی اربعة أقوال:
أولها- انکار المعاد مطلقا لا جسما و لا روحا، و هو قول الملحدین الذین ینکرون مبدأ الحیاة و وجود اللّه فکیف بالمعاد و البعث من جدید
ثانیها- الاعتراف بالمعاد الروحانی دون الجسمانی بانین آراءهم علی ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 291
الارواح بسیطة مجرده، و البسیط المجرد باق، و الاجسام مرکبة من شتی العناصر فاذا خرجت الروح تفککت اجزاء الجسم و التحق کل جسم بعنصره و انعدم، لذلک لن یشمل المعاد شیئا غیر الروح
و ثالثها- القول بالمعاد الجسمانی فقط و هو ما یعتقد به بعض المسلمین الذین یقصرون (المجرد) علی اللّه وحده فلا یعتقدون ان هنالک روحا مجردة، و انما کل ما فی الوجود بعد اللّه اجسام یمیز بعضها عن بعض اللطافة و الکثافة
رابعا- و هو الذی علیه الشیعة و الغالبیة العامة من المسلمین و هو القول بالمعاد الروحانی و الجسمانی ای معاد هذا الجسد الذی کان فی الدنیا بروحه و جسمه یوم القیامة
و الواضح المعلوم ان کل شخص من البشر مرکب من جزئین الجزء المحسوس و هو (البدن) الذی یشغل حیزا من الفضاء و الذی یشاهد بالعین الباصرة، و الجزء الذی لا یحس بالعین الباصرة و انما یحس بالبصیرة، و یشهد العیان و الوجدان هما فوق کل دلیل ان هذا البدن المحسوس الحی المتحرک بالارادة لا یزال یلبس صورة و یخلعها، و تفاض علیه اخری و هکذا لا تزال تعتور علیه الصور منذ کان نطفة، فعلقة، فعظاما، فجنینا، فمولودا، فرضیعا، فغلاما، فشابا، فکهلا، فشیخا، فمیتا، فترابا، و فی ذلک هو هو لم یتغیر ذاته و ان تبدلت احواله و صفاته، فهو یوم کان رضیعا هو نفسه یوم صار شیخا هرما لم تتبدل هویته، و لم تتغیر شخصیته بل هناک اصل محفوظ یحمل کل تلک الاطوار و الصور و لیس عروضها علیه، و زوالها عنه من باب الانقلاب، فان انقلاب الحقائق مستحیل، فصورة (المنویة) لم تنقلب (دمویة) او (علقیه) و لکن زالت صورة (المنی) و تبدلت بصورة (الدم) و هکذا فالصورة متعاقبة متبادلة، لا متعاقبة منقلبة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 292
و هذه الصور کلها متعاقبة فی الزمان لضیق وعائه، مجتمعة فی وعاء الدهر لسعته، و المتفرقات فی وعاء الزمان مجتمعات فی وعاء الدهر، و لا بد من محل حامل و قابل لتلک الصور المتعاقبة ما شئت فسمه مادة، او هیولی، و کما ان المادة ثابتة لا تزول، فکذلک الصور کلها ثابتة، و الشی‌ء کما نعرف لا یقبل ضده، و الموجود لا یصیر معدوما، و المعدوم لا یصیر موجودا، و ان انقلاب الحقائق مستحیل

- الروح او النفس المجردة-

و لقد ثبت عند العلماء (الفسیولوجیین) تحقیقا ان کل حرکة تصدر من الانسان بل و من الحیوان تستوجب احتراق جزء من المادة العضلیة و الخلایا الجسمیة، و کل فعل ارادی، او عمل فکری لا بد و ان یحصل منه فناء فی الاعصاب، و اتلاف من خلایا الدماغ، بحیث لا یمکن لذرة واحدة من المادة ان تصلح مرتین للحیاة، و مهما یبد من الانسان بل مطلق الحیوان من عمل عضلی، او فکری، فالجزء من المادة الحیة التی عرفت لصدور هذا العمل تتلاشی تماما ثم تأتی مادة جدیدة تأخذ محل التالفة، و تقوم مقامها فی صدور ذلک العمل مرة ثانیة، و حفظ ذلک الهیکل من الانهیار و الدمار، و هکذا کلما ذهب جزء خلفه آخر، خلع و لبس، و کلما اشتد ظهور الحیاة و تکاثرت مزاولة الأعمال الخارجیة ازداد تلف المادة و تعویضها و تجدیدها، و هذا التلف الدائم لا یزال یعتوره التعویض المتصل من المادة الحدیثة الداخلة فی الدم، المتکونة من ثلاث دعائم، هی: دعائم الحیاة و اسسها الجوهریة (- الهواء، و الماء، و الغذاء) و لو فقد الانسان واحدا منها و لو بمدة قصیرة هلک و فقد حیاته،
و هذا العمل التجدیدی عمل باطنی سری لا یظهر فی الخارج الا بعد دقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 293
فی الفکر، و تعمق فی النظر، و لکن عوامل الاتلاف ظاهرة للعیان، یقال عنها انها ظواهر الحیاة، و ما هی فی الحقیقة الا عوامل الموت لانها لا تتم الا باتلاف اجزاء من انسجتنا البدنیة، و الیافنا العضویة، فنحن فی کل ساعة نموت و نحیا، و نقبر و ننشر، حتی تأتینا الموتة الکبری و نحیا الحیاة الاخری
و علیه فاننا فی وسط تنازع هذین العاملین: عامل الاتلاف و عامل التعویض، یفنی جسمنا و یتجدد فی مدار الحیاة عدة مرات، بمعنی ان جسمنا الذی نعیش به من بدء ولادتنا الی منتهی أجلنا فی هذه الحیاة تفنی جمیع أجزائه فی کل برهة، و تتحصل اجزاء یتقوم بها هذا الهیکل و لیس فیها جزء من الاجزاء السابقة و لا یمکن تقدیر هذه البرهة علی وجه التحقیق یعنی فی ای مقدار به تتلاشی تلک الاجزاء جمیعا و تتجدد غیرها بموضعها
و المنسوب الی العالم الفسیولوجی (مولینت) ان مدة بقائها ثلاثین یوما ثم تفنی جمیعا، اما المنقول عن (فلورنس) بان المدة هی سبع سنین، و قد اجری العلماء المحققون فی هذه الاعصار الامتحانات الدقیقة فی بعض الحیوانات کالارانب و غیرها فاثبت لهم البحث و التشریح تجدد کل انسجتها بل و حتی عظامها ذرة ذرة فی مدة معینة
و اذا ثبت هذا التغییر ثبت وجود (النفس المجردة) بسهولة من قوة التذکر و التفکر، فلو کانت قوة التذکر و التفکر مادیة و قائمة فی خلایا الدماغ و انها الجسد او جزء من الجسد لکان اللازم ان نضطر فی کل سبع سنین الی تجدید کل ما علمناه و تعلمناه سابقا، و الوجدان عندنا ان تجدد المادة المتواصل لم یندثر بسببه التفکر و التذکر منا و لم یحدث ادنی تغییر فی ذاکرتنا و لم تخب ای شعلة من علومنا، و معارفنا و هو اقوی دلیل علی وجود قوة فینا مدرکة، شاعرة، مجردة عن المادة، باقیة بذاتها، مستقلة فی وجودها بقیمومیة مبدئها، محتاجة الی آلاتها المادیة فی تصرفها، متحدة معها فی ادنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 294
مراتبها، و ان دثور المادة لا یستوجب دثورها، و لا دثور شی‌ء من کمالاتها، و ملکاتها، و لا من مدرکاتها، و لا من معلوماتها، کیف لا؟ و لا تزال تخطر علی بالنا فی وقت الهرم امور وقعت لنا أیام الشباب، بل ایام الصبا و ما قبله، و کیفما کان فان من الوضوح بمکان ان کل ما فینا یؤید ثبات شخصیتنا، و عدم تغیرها مع تغیر و تبدل جمیع ذرات اجسامنا

شبهة الاکل و المأکول فی معاد الجسد

و ان کسرة الخبز التی نأکلها و فدرة اللحم التی نمغضها و تدخل فی جوفنا تعتور علیها عدة صور تخلع صورة و تلبس اخری من الکیموس الی ان تصیر دما، ثم توزعه حکمة اللّه فتجعل من ذلک الدم لحما، و عظما، و شحما، و عصبا، و کبدا، و قلبا، و طحالا، الی آخر ما یحتوی و یتکون منه هذا الهیکل الانسانی و الجسد الحیوانی، فکیف نشأ من هذه الکسرة سبعون نوعا من الأنواع المختلفة، و الأجناس المتباینة، فاین العظم من اللحم، و این الشحم من الغاز و این الغاز من المخ، و این المخ من الشعر؟ و هکذا و هلم جرا، کل هذا تکوّن من لقمة الخبز، کل هذه الأنواع مندمجة مطویة؟ ام انقلبت و تحولت من صورة الی صورة، و من حقیقة الی اخری، و مهما قیل فیها فان تلک اللقمة التی تدخل فی جوفنا و تتصرف بها المشیئة تلک التصاریف المتنوعة لم تدخل هی فی کیاننا و لم تصر جزءا من اجسامنا، بل تطورت عدة اطوار، و تعاورتها صورة بعد صورة، و دخلت فی معامل میکانیکیة و تحلیلات کیماویة، الی ان بلغت هذه المرحلة و نزلت من اجسامنا بتلک المنزلة
و ان ما یرد من الاعتراض علی امکان بعث الانسان الی الحیاة روحا و جسدا، و استحالة معاده علی هیکله السابق بسبب ما یتداخل من کل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 295
جسم فی جسم اخر، مما یتعذر به معاقبة المذنب و قد شارکت فی جسده اجزاء من جسد الصالح، او مکافأة الصالح حسدا و قد شارکت فی تکوین جسده اجزاء من جسد الطالح، فان مثل هذا الاعتراض یرده الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء، بما مر من التفاعلات و التحلیلات و یضرب المثل بقوله: «فلو ان مؤمنا أکل کل لحم فی بدن الکافر، او اکل الکافر کل لحم فی بدن المؤمن فلا لحم الکافر صار جزءا من بدن المؤمن، و لا لحم المؤمن دخل فی بدن الکافر، بل اللحم لما دخل فی الفم و طحنته الاسنان و هو الهضم الاول زالت الصورة اللحمیة منه، و ارتحلت الی رب نوعها (حافظ الصور) و اکتست المادة صورة اخری، و هکذا صورة بعد صورة، و من القواعد المسلمة عند الحکماء بل عند کل ذی لب (ان الشی‌ء بصورته لا بمادته) فاین اذن تقع شبهة الآکل و المأکول» و یزید هذا وضوحا ان جمیع المرکبات العنصریة یطرد فیها ذلک الناموس العام ناموس التحول و التبدل و التبدل و الدثور، و التجدد، انظر حبة العنب مثلا فهل هی الا ماء و سکر؟
و هل فیها شی‌ء من الخمر، او الخل او الکحول و لکنها بالاختمار تصیر خلا ثم خمرا ثم غازا او بخارا و هکذا، أ تری ان العنب صار جزءا من الخل؟
و الخل صار جزءا من الخمر؟ اذن فمن این تجی‌ء شبهة الآکل و المأکول»؟
و علی المسلم ان یؤمن بالمعاد بالدلیل العقلی بصفته رکنا و لا یجوز تقبله من قبل المدرکین اعتباطا او بطریق التقلید، اما کیف یعود المیت، و متی یعود؟، فان المسلم غیر مکلف بمعرفته، و ان عدم جواز التقلید فی اصول الدین یراد منه عدم کفایة الظن، و وجوب لزوم القطع و الیقین، لا لزوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 296
اقامة الحجج و البراهین، و انما اقامة هذه الحجج لنفسه بحیث تقنع عقلا بصحته
و یتلخص الایمان بالمعاد فی ان یعتقد المسلم، و الشیعة الامامیة خاصة، ان الانسان عائد الی الحیاة یوم یرید اللّه ذلک و ان الذی یعود یوم القیامة یعود بنفسه المتعلقة به فلیس المعاد للحساب عما فعل هو جسم الانسان فقط کما یری البعض، و لا مثیله، و لا روحه کما یری البعض الآخرون و انما یعود بروحه و جسمه،
اما ما نص علی المعاد من الآیات القرآنیة فهو کثیر جدا و منه:
(وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِی إِلَیْهِ تُحْشَرُونَ)*
*** (وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَی اللَّهِ تُحْشَرُونَ)
*** (قُلْ إِنِّی أَخافُ إِنْ عَصَیْتُ رَبِّی عَذابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ)*
*** (وَ الْمَوْتی یَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَیْهِ یُرْجَعُونَ)
*** (مِنْها خَلَقْناکُمْ وَ فِیها نُعِیدُکُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُکُمْ تارَةً أُخْری
*** (وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِیَةٌ لا رَیْبَ فِیها وَ أَنَّ اللَّهَ یَبْعَثُ مَنْ فِی الْقُبُورِ)
*** (ثُمَّ إِنَّکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ تُبْعَثُونَ)
*** (وَ نُفِخَ فِی الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلی رَبِّهِمْ یَنْسِلُونَ، قالُوا یا وَیْلَنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 297
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ، وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)
*** (وَ أَنَّ إِلی رَبِّکَ الْمُنْتَهی وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَکَ وَ أَبْکی وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْیا وَ أَنَّ عَلَیْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْری
*** (وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّکُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَیَقُولَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِینٌ)
*** (أَ إِذا کُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِیداً قُلْ کُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِیداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا یَکْبُرُ فِی صُدُورِکُمْ فَسَیَقُولُونَ مَنْ یُعِیدُنا، قُلِ الَّذِی فَطَرَکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَیُنْغِضُونَ إِلَیْکَ رُؤُسَهُمْ وَ یَقُولُونَ مَتی هُوَ قُلْ عَسی أَنْ یَکُونَ قَرِیباً)

ملخص اعتقاد الشیعة

هذا هو ملخص اعتقاد الشیعة الامامیة و اصول دینهم و مذهبهم و هو لا یختلف عن اصول الدین عند طوائف المسلمین الاخری و فی مذاهب الشیعة الآخرین الا فی (الامامة) بمفهوم الشیعة الاثنی عشریة و الا فی مسائل طفیفة تخص صفات اللّه، اما الاختلاف فی الفروع فعلی رغم کثرتها فانها اختلافات غیر اساسیة و مبعثها فی الغالب الاجتهاد
و الشیعة الامامیة من الاصولیین الذین یحرمون التقلید فی اصول الدین الخمسة و یفرضون الایمان و التمسک بها عن طریق العقل و المناقشة و یجوزون هذا التقلید فی الفروع ذات العلاقة بالاحکام من العبادات و المعاملات و یرون فی الرجوع الی المجتهد الافضل و الاعلم فی احکام دینهم اساسا لسلامة الحکم و الفتاوی من الاشتباهات و الاخطاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 298
و یتعین المجتهد الأفضل و الاعلم عند الشیعة الاصولیین عن طریق التواتر و لیس عن طریق الانتخاب و الاختیار، و التواتر هذا نوع یؤکده مرور الزمن فمع مرور الزمن یزید رصید المجتهد من الاجماع و بذلک تتعین ارجحیته فی افضلیة الرجوع الیه فی الاحکام الشرعیة
و الاجتهاد، درجة علمیة یبلغها المجتهد بملکاته فیستطیع بمقتضاها تنقیة الاخبار من الشوائب و البت فی الاحکام المتضاربة، و القطع بها، و تتوقف سلامة هذه الاحکام علی سلامة ذوق المجتهد و ابتعاده عن التعقد و الجمود فضلا عن تبحره فی الفقه، لذلک ما قد یستسیغه هذا فی الاستنباط قد لا یستسیغه الآخر من المجتهدین لان الاختلاف فی الذوق و السلیقة و لیس فی القواعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 299

الشیعة و التشیع کتبه الشیخ عبد الواحد الانصاری

اشارة

قاضی بغداد السابق و المحامی الشرعی بمحاکم العراق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 301

الشیعة و التشیع

اشارة

(الشیعة) من الکلمات العربیة المألوفة و المعروفة فی قاموس اللغة العربیة و هی بمعنی المتابعة و المناصرة و الموالاة و أصبحت تطلق علی الفرقة و الجماعة التی تابعت و ناصرت الامام علیا- ع- و اعتقدت بامامته بنص رسول اللّه- ص- بأنه الخلیفة من بعده مباشرة کما هو علیه مذهب الشیعة الجعفریة الامامیة الاثنی عشریة .
و من مشتقات هذه الکلمة (التشیع) ای الانتساب، و الانضمام، و الاتباع، و تشیع فلان لفلان، ای اتبعة، و ناصره، و والاه، اما متی اصبحت کلمة الشیعة صفة لازمة یعرف بها الموالون و المحبون و التابعون لعلی بن ابی طالب (ع) ثم اصبحت مذهبا للسائرین علی نهج الأئمة الاثنی عشر من بعده فهو محل خلاف بین المؤرخین و الباحثین عن احوال الشیعة و التشیع.
تری جماعة الکتاب و المؤرخین قدیما و حدیثا ان الشیعة و التشیع لعلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 302
(ع) ظهرت فی عهد النبی (ص) و من هؤلاء ابن حجر العسقلانی و ابن عساکر و غیرهم من القدماء و أحمد امین و المؤلفون و الکتاب من الشیعة الامامیة من المتأخرین.
و یروی البعض انها ظهرت بعد وفاة النبی (ص) منهم ابو الحسن النوبختی صاحب کتاب فرق الشیعة، و یری البعض انها ظهرت فی حصار عثمان، منهم صاحب الفهرست ابن الندیم، و یری الدکتور طه حسین انها ظهرت بعد وفاة الامام علی (ع) و ان کلمة الشیعة أطلقت علی اصحاب علی (ع) و أصحاب معاویة فی صحیفة التحکیم و یری الشیخ ابو زهرة المعاصر انها عرفت بمصر و نشأت فیها .
فلو طابقنا هذه الآراء مع ما ترویه الشیعة و السنّة من الحدیث عن النبی (ص) ایدنا الرأی الأول و وجدنا ان الشیعة بمعنی الموالاة لعلی ظهرت فی عهد النبی (ص) و هو الذی وصف اتباع علی و محبیه و الموالین له بالشیعة.
روی ابن حجر العسقلانی فی الصواعق (ص 96) عن الجاحظ جمال الدین الزرندی عن عبد اللّه ابن العباس قال: لما أنزل اللّه تعالی «إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها أَبَداً رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِکَ لِمَنْ خَشِیَ رَبَّهُ»
قال رسول اللّه (ص) لعلی، «هم انت و شیعتک تأتی انت و شیعتک یوم القیامة راضیین مرضیین و یأتی اعداؤک غضابی مقحمین» کما أورد هذا الحدیث ابن الأثیر فی کتابه النهایة- مادة- قمح.
و اخرج الحاکم فی شواهد التنزیل عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 303
«إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ» فی علی و أهل البیت (ع) و قد عده ابن حجر فی (صواعقه) من جملة الآیات التی نزلت فیهم (ع) کما فی الفصل الأول من باب (11) ص 96 النسخة المطبوعة بالمطبعة المیمنیة بمصر 1324 ه.
و أخرج الحاکم فی الکتاب نفسه بالاسناد الی علی (ع) قال: «قبض رسول اللّه (ص) و أنا مسنده الی صدری فقال: یا علی أ لم تسمع قوله تعالی (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ) هم انت و شیعتک و موعدی و موعدکم الحوض یدعون غرا محجلین».
و أخرج الطبرانی کما فی الصواعق ص 96 قال: (قال: رسول اللّه (ص) لعلی اول اربعة یدخلون الجنة: انا، و أنت، و الحسن، و الحسین، و ذریتنا خلف ظهورنا، و شیعتنا عن ایماننا و عن شمائلنا.)
و أخرج الدیلمی فی المصدر نفسه قال: (قال: رسول اللّه (ص) یا علی قد غفر اللّه لک و لولدک و ذریتک و لأهلک و شیعتک و لمحبی شیعتک الخ ..
و أخرج احمد بن حنبل فی المناقب کما فی المصدر نفسه (ان رسول اللّه (ص) قال: لعلی اما ترضی انک معی فی الجنة و الحسن و الحسین و شیعتنا عن ایماننا و شمائلنا؟.)
و أخرج الحاکم فی شواهد التنزیل فی تفسیر آیة (المودة) فی مجمع البیان بالاسناد الی ابی امامة الباهلی قال: (قال رسول اللّه- ص- ان اللّه خلق الانبیاء من شجر شتی و خلقت انا و علی من شجرة واحدة فانا اصلها، و علی فرعها، و فاطمة لقاحها و الحسن و الحسین ثمارها، و اشیاعنا اوراقها، فمن تعلق بغصن من اغصانها نجا و من زاغ عنها هوی ثم قال: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 304
هذه و غیرها هی الاحادیث المرویة عن طرق اهل السنة، اما الاحادیث المرویة عن طرق الشیعة الامامیة فکثیرة فی کتبهم و مؤلفاتهم لا سیما کتب الحدیث و التفسیر نکتفی بالقدر الذی اوردناه علی سبیل الاستشهاد و هو من کتب غیر الشیعة، لتأیید الرأی القائل بأن التشیع لعلی (ع) ظهر فی عهد الرسول (ص) و انتشر بین الصفوة المختارة من صحبة الکرام السابقین الی الاسلام من المهاجرین و الانصار کما دل علی ذلک موقفهم من علی (ع) بعد وفاة النبی (ص) و اعلانهم بأن الامام بعد النبی (ص) هو علی بن ابی طالب (ع) و لا یصح العدول عنه الی غیره.
یحدثنا التاریخ الاسلامی الذی دونت حوادثه فی العهد الأموی و العباسی و تصرفت فی سرد اخباره ایدی الحکام فی العهدین تصرفا یؤید سلطانهم و یحد من نشاط التشیع و ابطال دعوته المعارضة لحکمهم و أحکامهم، یحدثنا هذا التاریخ ان جماعة خیرة الصحابة تمنعوا عن بیعة ابی بکر (رض)، و قالوا بوجوب بیعة علی (ع) بعد النبی و ان جماعة الانصار بعد ان خف عنهم هول المصاب، و عظمة الرزء الذی أصابهم بفقدهم رسول اللّه شعروا بأنهم قد فرطوا فی حق علی، و ان بیعتهم لأبی بکر کانت قد أطاحت بحق علی
ان الرواة و المحدثین متفقون علی ان الهاشمیین، و بنی المطلب، و سلمان، و المقداد، و أبی ذر- و عمار- و حذیفة بن الیمان- و ذی الشهادتین خزیمة بن ثابت، و عبادة بن الصامت، و البراء بن عازب، و قرة بن عمرو بن ثعلبة الانصاری، و أبا الهیثم بن التیهان- و أبی بن کعب- و الزبیر بن العوام و أنس بن الحرث، امتنعوا عن بیعة ابی بکر و وقفوا بجانب علی و تحصن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 305
الکثیر منهم فی دار فاطمة (ع) .
و من یتتبع سیر الحوادث التی حدثت بعد بیعة ابی بکر (رض) مباشرة یجد شیئا من الندم قد خامر بعض الانصار و کثیرا من المهاجرین بحیث راح البعض یعتذر الی علی من تسرعه و خذلانه، اما علی فقد لزم بیته بعد ان فرغ من دفن رسول اللّه (ص) و أحسن من یصور لنا تلک الحوادث بمختلف الأخبار و الروایات التی وصلت الینا من المؤرخین القدماء و المتأخرین هو صاحب شرح النهج عبد الحمید بن أبی الحدید المعتزلی، و أحسن من یصوره من المتأخرین هو عبد الفتاح عبد المقصود فی کتابه- الامام علی بن ابی طالب- الجزء الاول الطبعة الثالثة: یقول الدکتور عبد الفتاح فی ص- 179 من کتابه المذکور:

مؤتمر بیاضة

«اجتمع سلمان الفارسی، و المقداد بن الاسود الکندی، و ابو ذر الغفاری، و عمار بن یاسر و عبادة بن الصامت، و حذیفة بن الیمان، و البراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 306
بن عازب، و ابو الهیثم بن التیهان و غیرهم من خیرة صحب الرسول (ص) الذین تخلفوا عن بیعة ابی بکر اقتناعا منهم بأن فی الناس سواه اولی منه بالبیعة و من کل الناس اذا اجتمع کل هؤلاء و اجمعوا الکلمة فلقد آن ان یعود الحق اخیرا الی ذویه، التأم الجمع (فی فضاء بنی بیاضة) تحت اللیل و أقبلوا علی الأمر یمحصونه لیروا أنسب الحلول فقال عمار:
- ما لتیم و هذا الأمر؟ انه کان لرسول اللّه (ص) و هو من بعده فی خیر الناس بعد رسول اللّه (ص) اما لقد ظلمت الأنصار. فأجابه البراء:
- یا أبا الیقظان انما الرجل انتزعه بحق قریش و عاونه صاحباه، فقال حذیفه:
- ان الانصار لترید ان تنقض ما کان منها:
فسأله عمار:- أ تعلم ذلک حقا؟
فأجابه-: و اللّه ما کذبت ثم و اللّه لیکونن ذلک، فقال المقداد:
- فهذا و اللّه خیر و لیردن الحق الی صاحبه من بعد.
فقال سلمان-: فان- أبی الرجل؟
فأجابه ابو ذرر-:- فدعوه انه لیس و لا صاحباه الا ثلاثة من المهاجرین.
قال البراء-: و اللّه لا یرانی أبدا أبایع ابن ابی قحافة و فی الناس علی ابن ابی طالب.
قال عمار-: ما الرأی؟
قال المقداد-: الرأی ان نعید الأمر شوری بین المهاجرین.
قال عمار-: أصبت و هذه الانصار ترید ان تنقض امر السقیفة.
و یقول عبد الفتاح فی ص 207 من کتابه (الامام علی بن ابی طالب) «ندم الانصار علی ما سلف منهم حتی سال الأسف بنفوسهم کل مسیل و أخذ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 307
الندم یتجمع فی النفوس حتی امتلأت به ففاض یلتمس علی الالسن و من بین الشفاه و کانت قریش صاحبة احقاد فوقفت لعواطف القوم بالمرصاد. لاتنی تحصی علیهم الحروف قبل الالفاظ، و تعده خروجا علی طاعة السلطان ان یتحدث الناس بسجایا سواه. و بدأ الحدیث مدیحا یقابله مدیح، و ثناء امام ثناء ثم صار جدلا حتی ترددت کلمات السیف، و القتل، و القتال بین فریق الحاسدین البغاة. و کانت الانباء لا تفتأ تأتی علیّا بما یدور بین الحزبین فیزید انطواء علی نفسه. و کان الانصار یودون لو انه طلع علیهم فاصابوا بظهوره بینهم قوة تؤلب حوله الرجال و تدفع بقضیته الی الامام و لکنه ظل کما اعتزم مؤثرا ان یبقی بعیدا عن المعترک خشیة ان یفتتن به الناس و ما تجی‌ء فی اعقاب هذا الافتتان من انقسام الامة فی تلک الفترة الحاسمة من تاریخ الاسلام و لم یغیر مسلکه ان جاءت جموعهم الیه ذات یوم تحیط بداره و تهتف باسمه، داعیة الیه، منادیة ایاه، ان یبرز لها تبایعه، و تعید له ما ضاع من حقه المسلوب».
و یقول: فی ص 209 فی سرد الحوادث
«وقف سهیل بن عمرو یحف به اعیان قریش یخطب و یقول: یا معشر قریش ان هؤلاء الناس قد دعوا الی انفسهم، و الی علی بن ابی طالب، و علی فی بیته لو شاء لردهم، الا فادعوهم الی صاحبکم، و الی تجدید بیعته، فان اجابوا، و الا فاقتلوهم، .. فو اللّه انی لارجو اللّه ان ینصرکم علیهم کما نصرتم بهم» ص 210
ثم تلاه من بعد الحرث بن هشام احد بنی مخزوم آل ابی جهل فقال:
«ایها الناس ان یکن الانصار قد تبوأوا الدار و الایمان من قبل و نقلوا رسول اللّه الی دورهم من دورنا فآووا و نصروا فانهم قد لهجوا بامر ان ثبتوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 308
علیه قد خرجوا بما و سموا به و لیس بیننا و بینهم معاتبة الا السیف»
و قال عکرمة بن ابی جهل:
«لو لا قول رسول اللّه: الأئمة من قریش، ما انکرنا إمرة الانصار ..
انحدروا الی القوم فان أبوا فاقتلوهم»
و فی ص 219 و 220 من المصدر نفسه:
«انطلق عمرو بن العاص الی مسجد المدینة یتناول بلسانه ما کان من الانصار اذ ارادوا ان ینصروا علیا بعد خذلان فیفیض فی نقدهم و یمعن قال و هو قائم یخطب الناس: «و اللّه لقد دفع اللّه عنا من الانصار عظیمة و لما دفع عنهم اعظم، کادوا ان یحلوا حبل الاسلام کما قاتلوا علیه، و یخرجوا منه کما دخلوا فیه .... الا انهم قاتلونا بالامس فغلبونا علی البدء و لو قاتلناهم لغلبناهم علی العاقبة»
و ان ما یؤید صحة عزم الانصار علی مناصرة الامام و ندمهم علی ما فرطوا فی حقه هو موقف الامام منهم بعد تحریض الموتورین من اعیان قریش علی قتالهم فحین اخبر الفضل بن العباس علیا- ع- بمقالة عمرو غضب الامام و جاء الی المسجد فدعا الیه الناس، حتی تجمعوا و قام فیهم یقول:
«یا معشر قریش ان حب الانصار ایمان، و بغضهم نفاق، ان حب الانصار ایمان و بغضهم نفاق، لقد قضوا ما علیهم و بقی ما علیکم. یا معشر قریش ان اللّه قد رغب لنبیکم عن مکة فنقله الی المدینة و کره له قریشا فنقله الی الانصار، یا معشر قریش انا قدمنا علی الانصار دارهم فقاسمونا الاموال، و کفونا العمل، حاربنا بهم الناس، و انتصرنا ببذل غنیهم، و ایثار فقیرهم، یا معشر قریش اذکروا ان اللّه تعالی انزل آیة من القرآن جمع فیها الانصار خمس نعم اذ قال «وَ الَّذِینَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِیمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ یُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 309
إِلَیْهِمْ وَ لا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ یُؤْثِرُونَ عَلی أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ کانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»* الا ایها الناس ان عمرو بن العاص قام مقام من آذی فیه المیت و الحی، ساء به الوتر، و سربه الموتور، فاستحق من الحاضر الجواب، و من الغائب المقت، فمن احب اللّه و رسوله احب الانصار، و لیکفف عنا بن العاص نفسه» .
عاد الامام الی بیته و لزم محرابه یجمع القرآن و لم یستمع لنداء الانصار و هتاف الهاتفین من حول داره لانه کان کعادته یقظا، حذرا، منصرفا عن دنیا الناس، حریصا علی وحدة الصف، بقدر حرصه علی حفظ الدین الذی جاهد فی سبیل نشر رسالته، کان یحز فی قلبه و هو یری الدخلاء فی الدین یریدون الوقیعة بشریعة اللّه، و الکید بمن آمن باللّه و رسوله حقا، و کان یری ای بادرة تبدر منه فی تأیید الانصار عملیا تؤدی حتما الی قیام حرب اهلیة، و اشتباک مسلح قد یقضی علی حیاة الصفوة المختارة المؤمنة من اصحاب محمد- ص- و القضاء علیهم هو القضاء علی دین اللّه، و شریعة سید المرسلین، فرأی فی الصبر علی هذا حجی، فصبر و فی القلب شجی.
اشتدت الازمة بین الهاتفین لعلی- ع- و بین خصومهم حتی بات التصادم المسلح علی و شک الوقوع بین الفریقین فاشار عمر علی ابی بکر (رضی) ان یجد فی الامر و یسرع فی اخضاع علی و من معه للبیعة مهما کلف الامر
فالطریقة التی یصورها لنا بعض المؤرخین و منهم مؤرخو الشیعة الامامیة لکیفیة بیعة الامام علی- ع- لابی بکر تجعلنا نعتقد بانها کانت اضطراریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 310
حمل الامام علیها حرصه علی الدین، و حقن الدماء، و کان للاضطرابات التی حدثت فی القبائل الحدیثة العهد بالاسلام بالاضافة الی الاضطرابات الداخلیة التی باتت علی و شک التصادم المسلح بین المهاجرین و الانصار الاثر الکبیر فی حمل الامام علی البیعة، فقد رأی فی امتناعه من الموافقة و المسالمة ضررا کبیرا علی الاسلام بل ربما کان ینهار الاسلام من اساسه و هو بعد فی اول نشوئه و ترعرعه، و الاسلام عند علی و هو اول من امن به حیاة العزة، و الکرامة، و السعادة فی المجتمع، و هو بالمقام الذی یجب ان یضحی له نفسه و انفس ما لدیه، فکم قد قذف بنفسه فی المهالک تضحیة للاسلام، و دفاعا عن کیانه و سواء أ کانت بیعة الامام- ع- لابی بکر (رض) اضطراریة او کما یقول بعضهم جبریة، فان شیعة الامام قد بایعت هی الاخری ابا بکر و من ولی الامة بعده، و لما صارت الخلافة الی علی استبسلت شیعته تحت لوائه فی حرب الناکثین و القاسطین من الفئة الباغیة و المارقین فی البصرة، و صفین، و النهروان .
و یحدثنا ابن عبد البرقی الاستیعاب فی ترجمة عبد الرحمن بن بزی الانصاری و فی ترجمة عمار بن یاسر بان عدد الذین حضروا مع علی فی صفین من اصحاب بیعة الشجرة کانوا ثمانمایة نفر من اصل الف و اربعمائة ممن شهدوا مع النبی- ص- الحدیبیه، و بایعوه بیعة الرضوان تحت الشجرة، اما الذین حضروا مع علی- ع- ممن حضر وقعة بدر فکان عددهم 178 بدریا، استشهد من اهل بیعة الرضوان ثلثمائة و ستون رجلا کما اشتشهد من اهل بدر ثلاثة و ستون نفرا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 311
کل ما مر یدل علی ان تاریخ شیعة علی قدیم یرجع الی زمن النبی (ص) و ان التشیع و التحزب و التابعیة عند النفوس الکبیرة عبارة عن مزاج و عقیدة تنافی مع المصالح المادیة و الشخصیة تنافیا کبیرا، و ان جمیع الذین وقفوا الی جانب علی و شایعوه و صادقوه و زاملوه فی ایام النبی و هو فی ساحة الحرب یذب عن الاسلام او الذین احجموا عن بیعة ابی بکر (ض) و حاولوا ان یبایعوا علیا بالاکراه، او الذین وقفوا الی جانب علی و استشهدوا بین یدیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 312
فی حرب البصرة، و حرب صفین، و حرب النهروان، کانوا اولی مزاج و عقیدة لا یستطیع ان یحولهم عن عقیدتهم طمع و لا جاه، و لا ایة امنیة من امانی الحیاة، و هؤلاء هم زبدة المسلمین الذین حضر بعضهم بدرا، و أحدا و دافعوا عن النبی و الاسلام دفاع المؤمن المستمیت، و زاملوا علیا و رافقوه و آمنوا به منذ عرفوه و کلهم او جلّهم من اصحاب النبی و من خیرة رجالات الاسلام، و دعائمه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 313

اسباب التشیع

اشارة

و التشیع فی اهدافه و تعالیمه یمثل اهداف الاسلام و تعالیمه و جوهره، فالتشیع فی عقیدة الشیعة هو الایمان باللّه و برسالاته و الموالاة لعلی و اهل بیت النبی و الاعتراف بامامته و تضیف الشیعة الامامیة الاثنا عشریة منهم الاعتراف بالائمة الاحد عشر من اولاد علی علی الترتیب المعروف عندهم،
اما سبب التشیع لعلی فیقوم علی اساسین: الاساس الاول و هو الاخبار و الاحادیث و الروایات الدینیة اضافة الی ما یرویه التأریخ عن امامة علی و ما یستدل به علی هذه الامامة من سیر الحوادث التی تتضمنها التواریخ القدیمة و القریبة من عصور الخلافة، خصوصا الاحادیث المرویة علی السنة غیر الشیعة، و التواریخ المکتوبة باقلام غیر شیعیة، فتجتمع کل هذه الاحادیث و الاخبار و الحوادث التأریخیة و تؤلف عند الشیعی دعامة للتمسک بمشایعة علی و متابعته،
و الاساس الثانی و هو المزاج، المزاج الذی یجعلک ان تحترم کونفشیوس و انت بعید عنه لمجرد ان تقرأ آراءه فکیف و انت تدرس سیرة من عجائب السیر فی عمق التفکیر، و حسن التصویر، و نضج الرأی، و الخطابة و الادب،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 314
و الشجاعة و الایمان، ثم التواضع ثم المرح و انطلاق النفس و الدعابة التی اخذها علیه البعض فقال (لو لا دعابة فیه) بینما هی وحدها الدالة علی النفس الطاهرة النقیة الی آلاف من صفات الکمال التی حار الکثیر من الفلاسفة فی تصویرها و تقدیرها فکیف بمن رأی علیا رأی العین، و زامله فی الحرب، و ما شاه و اختبره فی جمیع الاحوال و هو یصاحب رسول اللّه، و هو یعتزل فی بیته، و هو یحکم، هذا المزاج هو الاساس عند الذین یکتفون باستعراض السیر فیکونون شیعة بداعی مزاجهم،
و اننا نستعرض هنا باجمال بعض الاحادیث و الروایات و الاخبار التی یعود الیها سبب التشیع، اما السیرة فسیتناولها جزء خاص من (قسم النجف) من موسوعة العتبات المقدسة،
ان من أدلة الشیعة الامامیة علی نص النبی (ص) علی امامة علی بالاسم حدیث (غدیر خم) المشهور الذی رواه 120 صحابیا و 84 تابعیا و تجاوز طبقات رواته من ائمة الحدیث عن 360 راویا و بلغ المؤلفون فی حدیث الغدیر من السنة و الشیعة 26 مؤلفا و خلاصته ان النبی- ص- فی رجوعه من حجة الوداع، و هی آخر حجة حجها و لم یمکث بعدها حتی توفی و وصل الی (غدیر خم) جمع الناس و قام فیهم خطیبا و قال فیما قال:-
«ان اللّه مولای و انا مولی المؤمنین و انا أولی بهم من أنفسهم، فمن کنت مولاه، فعلی مولاه، قالها ثلاثا، ثم قال اللهم و ال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أبغض من ابغضه، و ادر الحق معه حیث دار، الا فلیبلّغ الشاهد الغائب (کتاب الغدیر للامینی) (جزء- 1- ص- 9- طبعة 1372 ه) و قد روی حدیث من کنت مولاه فعلی مولاه فی (الاصابة) فی ترجمة الامام علی و (الاستیعاب) فی ترجمته و (و الألوسی) فی کتاب (نثر اللالی، علی نظم الامالی) 172 طبع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 315
بغداد کما رواه اکثر المفسرین من غیر الشیعة فی تفسیر قوله تعالی «یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ. و قد جمع العلامة الحلی ادلة النص علی امامة علی فی کتابه (الالفین) الذی سماه علی عدد الادلة التی جمعها فی الکتاب المذکور نذکر ما ورد منها عن طریق غیر الشیعة:
1. روی صاحب الاصابة فی ترجمته للامام علی- ع- و صاحب (الاستیعاب) فی ترجمته عن ام سلمة قالت: جمع النبی علیّا و فاطمة و الحسن و الحسین و ادار علیهم رداءه ثم قال: اللهم ان هؤلاء اهل بیتی فأذهب عنهم الرجس. فنزلت هذه الآیة: (إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً). و ذکر ابو الحمراء فی ترجمته قال ان النبی- ص- کان یأتی منزل فاطمة فی کل غداة فیقول: السلام علیکم اهل البیت (انما یرید اللّه لیذهب عنکم الرجس اهل البیت و یطهرکم تطهیرا) و فی المصدرین المذکورین فی ترجمة الامام- ع- ان النبی قال لعلی: انت منی بمنزلة هارون من موسی الا انک لست بنبی و لا ینبغی اذا ذهبت الا و انت خلیفتی: و قال- ص- یوم خیبر لأعطین الرایة غدا رجلا یحب اللّه، و رسوله، و یحبه اللّه و رسوله فاستدعی علیا و دفع الیه الرایة و قال- ص- من کنت مولاه فعلی مولاه و قال- ص- یا علی لا یحبک الا مؤمن، و لا یبغضک الا منافق، و قال- ص- ان علیا ولی کل مؤمن من بعدی.
روی ابن الاثیر فی الکامل (ج (1) کیفیة دعوة النبی لعشیرته لما نزلت ایة (و انذر عشیرتک الاقربین (قال: ما ملخصه ان النبی- ص- امر علیا ان یدعو عشیرته فجمعهم و هم اربعون رجلا یزیدون واحدا او یقلون واحدا و قال فیما قال (قد جئتکم بخیر الدنیا و الآخرة و قد امرنی ربی ان ادعوکم الیه فأیکم یؤزّرنی علی امری هذا فیکون اخی و وصی و خلیفتی فیکم؟
فقال- ع- انا یا رسول اللّه بعد ان سکت القوم فأخذ النبی- ص- برقبته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 316
و قال: ان هذا اخی و وصیی و خلیفتی فیکم فاسمعوا. و أطیعوا. فقام القوم یضحکون الخ.
و ذکر صاحب الاصابة فی ترجمة وهب بن حمزة قال: قال رسول اللّه- ص- ان علیا ولیکم من بعدی و من المصدرین المذکورین فی ترجمته و فی (نثر اللالی) للالوسی (و الصحاح الست): انا مدینة العلم و بابها علی فمن اراد العلم فلیأت من الباب، و فی المصادر المذکورة ان النبی استدعی علیا و فاطمة و الحسن و الحسین و راح یباهی بهم و فد نجران فنزلت هذه الآیة (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ، وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ، وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ، عَلَی الْکاذِبِینَ). و روی الالوسی فی کتابه (نثر اللالی) فی نظم الامالی ص 169 عن الحدیث الذی اخرجه بن مردویه و ابن عساکر و الخطیب البغدادی عن اسماء و بنت عمیس قالت: رأیت رسول اللّه- ص- فی ثبیر (و هو جبل فی مکة و المدینة) و هو یقول: اشرف ثبیر اشرف ثبیر اللهم انی اسألک مما سألک اخی موسی بن عمران ان تشرح لی صدری و تیسر لی امری و تحل عقدة من لسانی لیفقهوا امری و اجعل لی وزیرا من اهلی اخی علیا اشدد به ازری و أشرکه فی امری کی نسبحک کثیرا و نذکرک کثیرا انک کنت بنا بصیرا.
و یجدر بنا ان ننقل ما اورده ابن حجر فی کتابه (الصواعق) ص 89 و ص 90 یقول: بعد ان اورد الآیة الرابعة فی شأن اهل البیت و هی قوله تعالی (وقفوهم انهم مسئولون) ان ما نقله المفسرون: ان الموقف و السؤال انما هو عن ولایة علی ابن ابی طالب و اهل البیت فقد قال رسول اللّه- ص- فی مواضع متعددة انی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی اهل بیتی فانهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض، و منها یوم (غدیر خم).
و قد سمی رسول اللّه- ص- القرآن و عترته بالثقلین لأن الثقل هو کل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 317
نفیس و خطیر و هذان کذلک اذ کل منهما معدن للعلوم الدینیة و الاسرار و الحکم العالیة و الأحکام الشرعیة لذا حث النبی- ص- علی الاقتداء و التمسک باهل بیته و التعظیم فیهم و قال: الحمد للّه الذی جعل فینا الحکمة اهل البیت.
و قیل سمی بالثقلین لثقل وجوب رعایة حقوقهما ثم الذین وقع الحث علیهم انما هم العارفون بکتاب اللّه و سنة رسوله اذ هم الذین لا یفارقون الکتاب الی الحوض و یؤید الخبر السابق: و لا تعلموهم فانهم اعلم منکم. و تمیزوا عن بقیة العلماء لان اللّه اذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا و شرفهم بالکرامات الباهرة و المزایا المتکاثرة و فی احادیث الحث علی التمسک بأهل البیت اشارة الی عدم انقطاع متأهل منهم للتمسک به الی یوم القیامة کما ان کتاب اللّه العزیز کذلک و لهذا کانوا امانا لأهل الأرض. ثم ان الأحق بالتمسک به منهم امامهم و عالمهم علی بن ابی طالب کرم اللّه وجهه لما قدمناه من فرید علمه و رقائق مستنبطاته و لقد قال ابو بکر (رض) «علی عترة رسول اللّه»- ص- هذا بعض ما قاله ابن حجر فی کتابه المذکور الذی جمع مناقب الامام علی و روی احادیث کثیرة فی فضله فعلی طالب المزید من هذه الاخبار مراجعته، اضافة الی عدد من المؤلفات لغیر الشیعة مما تضمن مثل هذه النصوص کمسند احمد بن حنبل، و الخصائص، للنسائی، و (نور الابصار) للشبنلجی، و (ینابیع المودة) و غیرها ممن اعتمد الحدیث و الروایة و الخبر فی امامة علی و فضله.
یقول احمد امین فی کتابه (یوم الاسلام) ص 41 طبعة 1958.
«اراد رسول اللّه- ص- فی مرضه الذی مات فیه ان یعین من یلی الامر بعده ففی الصحیحین- البخاری- و مسلم ان رسول اللّه لما احتضرته الوفاة قال: هلم اکتب لکم کتابا لا تضلوا بعده، و کان فی البیت رجال منهم عمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 318
بن الخطاب فقال عمر: ان رسول اللّه- ص- قد غلب علیه الوجع و عندکم القرآن حسبنا کتاب اللّه فاختلف القوم فمنهم من قال: قربوا الیه یکتب لکم کتابا لن تضلوا بعده، و منهم من قال: القول ما قاله عمر، فلما کثر اللغو و الاختلاف عنده قال لهم: قوموا فقاموا، و ترک الامر مفتوحا لمن شاء و جعل المسلمین طوال عصرهم یختلفون علی الخلافة حتی عصرنا هذا.
و قال فی ص 52 «کان مجال الخلاف الاول بین الصحابة فی بیت النبی- ص- و الثانی فی سقیفة بنی ساعدة و اخیرا تم الامر لأبی بکر علی مضض، و قال فی ص 54 و بایع عمر ابا بکر ثم بایعه الناس و کان فی هذا مخالفة لرکن الشوری و لذلک قال عمر: انها غلطة وقی اللّه المسلمین شرها و کذلک کانت غلطة بیعة ابی بکر لعمر»
و کثیرة هی الروایات و الاخبار التی تشیر الی دعوة النبی للتشیع لعلی، و قد کان یرمی حمل المسلمین المؤمنین من المهاجرین و الانصار علی الوقوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 319
بجانب علی للدفاع عن الدین ورد کل من تسول له نفسه الانحراف بتعالیمه و احکامه عن المقاصد التی شرعها اللّه و انزلها علی رسوله فقد کان یعلم بما سیصیب الاسلام من بعده من انتکاسة علی ید المناوئین له بعد ان انتصر علیهم فی ثلاث معارک- بدر- واحد- و الاحزاب- فاسلموا یوم فتح مکة لیسلموا علی رؤوسهم التی طوقتها سیوف المهاجرین و الانصار فدخلوا فی دین اللّه و هم له کارهون و اظهروا الطاعة له و تستروا بالاسلام و کتموا احقادهم و ضغائنهم فی صدورهم و راحو یتحینون الفرص للانقضاض علی الدین و محو معالمه من الدنیا.
و لبث النبی- ص- بعد الفتح یحذر المسلمین بین آونة و اخری من شرور من اسلم خشیة القتل یوم الفتح فرأی أبا سفیان راکبا و ولده یزید آخذ بزمام بغلته و معاویة یسوقها فقال «اللهم العن الراکب و القائد و السائق و قال «اذا وجدتم معاویة علی منبری فاقتلوه و قال- ص- الخلافة بعدی ثلاثون سنة و فی حدیث آخر اربعون سنة ثم تکون ملکا غضوضا و قال ص- «رأیت فی المنام کأن بنی امیة ینزون علی منبری کما تنزو القردة و قال- ص- اذا بلغ بنو العاص ثلاثین رجلا اتخذوا مال اللّه دولا و عباد اللّه خولا و غیر ذلک من الاحادیث التی رواها غیر الشیعة قبل الشیعة التی تشیر الی ما کان یضمره الأمویون و حلفاؤهم من الکید و البطش للاسلام و المسلمین و الاستیلاء علی الخلافة و قلب نظام الحکم فی الاسلام و لم یکن امر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 320
الطلقاء خافیا علی المسلمین فقد حذر عمر (ض) رجال الشوری منهم بقوله «لا تختلفوا فاذا اختلفتم جاءکم معاویة من الشام و ابن ربیعة من الیمن فلا یریان لکم فضلا لسابقتکم و ان هذا الامر لا یصلح للطلقاء و ابناء الطلقاء «ترجمة عبد اللّه بن ابی ربیعه) فی الاصابة.
هذا عرض مختصر جدا یقتضیه المدخل الی الموسوعة لبعض الأخبار الواردة عن علی و التی نعتبر السبب الاساسی للتشیع الی علی و الائتمام به و التمسک بولائه.

الامامة

تقول التواریخ ان المسلمین قد اختلفوا بعد وفاة النبی- ص- فی من یجب ان یتولی الامر من بعده و افترقوا الی فریقین قال احدهما و هم الشیعة ان الامامة هی الولایة العامة و من الامور الهامة التی یتوقف علیها حفظ الدین و کیان الاسلام و رعایة شؤون المسلمین، و ان رسول اللّه لم یغفل عن امرها و خطرها و انه قد نص فی حیاته علی ولایة علی و وجوب موالاته علی المسلمین فهو الولی و هو الامام من بعده و الائمة من بعد علی هم الحسن ثم الحسین ثم علی بن الحسین ثم الباقر محمد، ثم الصادق جعفر، ثم الکاظم موسی، ثم الرضا علی، ثم الجواد محمد، ثم الهادی علی، ثم العسکری الحسن بن علی ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 321
المهدی محمد علیهم السلام و الی هذا الرأی ذهب الشیعة الامامیة الاثنا عشریة .
و قال الفریق الآخر: ان النبی- ص- خرج من الدنیا و لم یستخلف علی دینه من یقوم مقامه و ان کل من دعا الی کتاب اللّه و السنة و العمل بالعدل من قریش وجبت امامته، و الخروج معه و الی هذا القول ذهب بقیة المسلمین من غیر الشیعة دون ان یکون الخلاف فی الرأی بین الفریقین سببا للشقاق و التفرقة او موجبا لتعطیل الاحکام و الحد من نشاط الحرکة الاسلامیة و قد تقبل القائلون بالنص علی امامة علی- ع- الامر الواقع و بایعوا لابی بکر بعد ان بایعه الاسلام، و اشترک الفریقان فی الجهاد فی سبیل اللّه و الامر بالمعروف و النهی عن المنکر و اعلاء کلمة التوحید و هکذا ظل المسلمون من الفریقین یتمتعون بنعمة الموءاخاة و المحبة و الصفاء یسود بینهما العدل و الحکمة و المساواة حتی خلافة عثمان الذی وجد فیها الموتورون و الامویون وسیلة لرسوخ اقدامهم و تولی الامارات و السیطرة. و الاستیلاء علی الحکم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 322
من لدن الطلقاء و المؤلفة قلوبهم فقد تولی عدد من بنی امیة و آل ابی معیط مهمات خطیرة منها ولایة الشام، و مصر، و الکوفة، و البصرة و هی اهم و اخطر الولایات الاسلامیة و اغناها و علیها المعول فی تمویل الخلافة الاسلامیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 323
و یقول الاستاذ محمود ابوریة فی کتابه (شیخ المضیره) ص 151 «و کان عثمان بما مکن لبنی امیة من حکم هذه الولایات الاربع الکبیرة، و هی تعد بمثابة القواعد الاربع للدولة الاسلامیة، انما یصنع هذه القواعد لکی تقوم علیها ارکان الدولة الامویة و کان کذلک و هو یجمع اطراف الشام کلها بید معاویة و یجعلها تحت سلطانه انما یرمی الی ترشیحه لأن یکون ملکا لهذه الدولة و یهی‌ء السبیل لکی یتولی الزعامة الامویة بعد ابیه ابی سفیان»
و یقول الدکتور طه حسین فی کتابه الفتنة الکبری (عثمان) ص 120:
«و لیس من شک فی ان عثمان هو الذی مهد لمعاویة ما اتیح له من نقل الخلافة ذات یوم الی آل ابی سفیان و تثبیتها فی بنی امیة»
و یقول ابوریة فی کتابه المذکور ص 152: «و من اعمال عثمان التی استنکرها المسلمون اشد استنکار و لا یستطیع احد ان یدافع عنه فیها انه رد الحکم بن العاص و اهله الی المدینة و کان النبی (رض) قد اخرجهم، و اعطاه مالا کثیرا قدر بمائة الف درهم، و اقطع ولده الحارث سوق المدینة، و یعرف بنهروز، و کان النبی رض قد تصدق به علی المسلمین، و اتخذ مروان وزیرا و مشیرا و امر له بمائه الف ثم اقطعه فدکا التی کانت ملکا للنبی و کانت فاطمة (رض) عنها قد طلبتها من ابی بکر ورد طلبها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 324
و یقول فی صفحة 153
«و لما ولی عثمان و هو اموی استعان بالامویین فکان اکثر عماله منهم.
و کان کاتبه و امین سره مروان بن الحکم الاموی، و مروان هو و شیعته قد هدموا کل ما بناه الاسلام من قبل و دعمه ابو بکر و عمر من محاربة العصبیه القبلیه، و بث الشعور بان العرب وحدة و حکموا کامویین لا کعرب فحرک ذلک ما کان کامنا من العداوة القدیمة بین بنی هاشم و بنی امیه»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 325
بدأ عثمان خلافته بتفکیک اواصر الصداقة و المحبة و الاخاء و کانا یسودان المجتمع الاسلامی فی عهد النبی و الخلیفتین و ساعدت اعماله علی استیاء کبار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 326
الصحابة و السابقین منهم و ابعاد رجال الرای و الحدیث و الاجتهاد امثال ابی بن کعب و عبد اللّه بن مسعود، و عمار بن یاسر، و المقداد بن الاسود الکندی، و ابی ذر، و خزیمة بن الثابت ذی الشهادتین و غیرهم من الذین کانوا موضع ثقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 327
رسول اللّه- ص- و الیهم کان یفزع ابو بکر و عمر (ض) فی امهات المسائل و معضلات الامور، فابعدهم عثمان عن مرکز الخلافة و النظر فی شؤون المسلمین و قرّب الیه المبعدین و المنفیین فی عهد النبی- ص- امثال الحکم بن ابی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 328
العاص و ولدیه مروان و الحارث و معاویة و الولید بن عتبة و ابی سفیان و من علی شاکلته فاستفحلت سیطرة الانتهازیین و اصحاب المطامع و الاهواء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 329
و المؤلفة قلوبهم و الموتورین و هاجت عداوة الامویین للهاشمیین علانیة فتألفت من کل اولئک جماعة و فی مقدمتهم الامویون لمحاربة علی بن ابی طالب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 330
و مناوئته و بث مختلف الدعاوة ضده و ضد شیعته و ضد الدین و تعالیمه للاستیلاء علی الخلافة التی باتت علی و شک ان تصیر الی الامام علی- ع- بعد عثمان،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 331
فانقسم المسلمون الی فریقین متخاصمین متناحرین یستحیل الجمع بینهما لاختلاف العقیده و القصد و الغایة و بدأ الصراع الدامی بین الفریقین طیلة العهد الاموی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 332
ثم تحول الی صراع عقائدی یشتد تارة و یخف تارة اخری و لم یسلم هذا النزاع من الفتک و البطش فی اکثر العهود و ما زالت آثاره السیئة ماثلة امام المسلمین الی الیوم ففی قبال مذهب التشیع لعلی اعلن الامویون مذهب العثمانیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 333

العثمانیة اول حرب شنت فی وجه علی و شیعته

اشارة

العثمانیة مذهب ظهر بعد قتل عثمان (ض) سنة 35 فی مقابل التشیع ضم العناصر التی کانت تبغض الامام علیا (ع) و وقفت ضده کافة بعد وفاة النبی- ص- وسعت الی ابعاده عن الخلافة فمنهم من جهر بذلک و وقف بجانب الامویین کعمرو بن العاص، و بسر بن ارطاة، و شرحبیل بن ذی الکلاع، و مالک بن حمزه، و عبد الرحمن ابن ابی بکر، و عبد اللّه بن عمر، و ابو هریرة، و امثالهم و منهم من آمن به سرا و امتنع عن بیعة علی- ع- یقول انیس النصولی فی کتابه (دولة امیة فی الشام) «ان کلمة العثمانیه تدل فی الأصل علی اقرباء عثمان الخلیفة، الثالث و موالیه غیر انها اطلقت فی الحرب الاهلیة للدلالة علی حزب الخلیفة المقتول الذین قاموا یطالبون بقصاص من سفک دم ذلک الشهید المظلوم فی عرفهم، و تطرف بعضهم فقالوا ان لعلی یدا فی الثورة التی نشبت فی المدینة و کان من نتیجتها قتل عثمان، و لهذا فهو غیر جدیر بتسلم عرش الخلافة، و انه لمن الغلط الفادح ان نعتقد بان العثمانیة هم حزب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 334
معاویة و مریدوه بل بالعکس فان کل من التف حول معاویة و ناصره من اجل الاقتصاص لعثمان و الأخذ بثأرهم فهو من العثمانیة»
و یقول فی ص 8 من کتابه
«لما قتل عثمان اجتمع الناس من المهاجرین و الانصار فأتوا علیا و بایعوه سنة 35 ه 655 م و الانصار هم اکثریة حزب علی ان هؤلاء منذ وفاة النبی- ص- لم یرضوا عن بیعة ابی بکر خلیفة المسلمین و اعترضوا و احتجوا ذلک، فلو نظرنا الی الامر جلیا لتحققنا انهم لم یفوزوا فی انتخاب علی فی الفرص الثلاث التی سنحت لهم بل تربع علی عرش الخلافة ابو بکر و عمر، و عثمان، مما هو مشهور»
و یقول النصولی ایضا
«لو استثنینا النبلاء من اهل المدینة لوجدنا القلیل من اشراف بقیة البلاد الاسلامیة موالیة لعلی و یمکننا القول ان اغلب سادة قریش وقفت علی الحیاد او ظاهرت معاویة و کاتفته فتأثر ابن ابی طالب من عدائهم له».
و یقول فی صفحة 9
«و اعتزل عن بیعته سعد بن ابی وقاص، و زید، و عبد اللّه بن سلام، و اسامة بن زید، و المغیرة بن شعبة، و عبد اللّه بن عمر، و ابو موسی الأشعری، و کان هؤلاء یعتقدون انه لا یجوز دینا الاشتراک فی الفتنة و مقاتلة اخوانهم فی الاسلام و قد قال اسامة لعلی لما طلب منه الخروج: اعفنی من الخروج معک فاننی عاهدت اللّه ان لا اقاتل من شهد ان لا إله الا اللّه. و قال سعد: اعطنی سیفا یفرق بین المسلم و الکافر. ثم انضم هؤلاء الرجال الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 335
معاویة و تألف منهم حزب العثمانیة الذین یقدمون بنی امیة علی بنی هاشم و یقولون ان الشام خیر من المدینة و قد قعدوا عن علی بن ابی طالب و لم یشهدوا حروبه»
لقد ظهرت فی مذهب العثمانیة فکرة القول بالارجاء بعد مقتل عثمان عام 35 لحمل الناس علی قتال الامام علی- ع- مع علمهم بعصیان ذلک و من اصول الارجاء القول بان العفو واجب علی اللّه و ان جمیع الذنوب ما عدا الشرک مغفورة لا محالة و ان العبد اذا مات علی التوحید لم یضره ما اقترف من الآثام و اجترح من السیئات و ان کل ما یعمله العبد من الخیر و الشر هو من اللّه لانه مسیر فی جمیع احواله و لا اختیار له فی کل ما یفعل.
استحدث مذهب العثمانیة مقابل مذهب التشیع و للرد علی معتقدات الشیعة الذین کانوا یطعنون فی معتقدات الامویین و یناقشون الاعمال و الاخطاء التی ارتکبها بعض الصحابة فی خروجها علی الامام علی، و نکث بیعته و قتاله فی البصرة، و صفین، و لتحریم البحث فی تلک الاخطاء طرح العثمانیون احادیث نسبوها الی النبی- فی فضل عامة الصحابة دون استثناء و وجوب احترام کل واحد منهم مهما ارتکب من الذنوب و الآثام کحدیث (اصحابی کالنجم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم) و قوله (اللّه اللّه لا تتخذوا اصحابی غرضا فمن أحبهم فبحبی أحبهم و من أبغضهم فببغضی أبغضهم، و من آذاهم فقد آذانی و من آذانی آذی اللّه) و قوله لعمر (ما یدریک لعل اللّه اطلع علی اهل بدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 336
فقال لهم اعملوا ما شئتم) و اعتبر العثمانیون الصحابة کلهم ابرارا، و کلهم أخیارا عدولا، و ان عدالتهم ثابتة و معلومة بتعدیل اللّه (و کنتم خیر امة اخرجت للناس) و لا یدخل احد منهم النار و انهم کلهم من اهل الجنة قطعا من دون تفریق بین ابی بکر و معاویة و بین عمر و مروان، و بین عمار و قاتله ابی الفادیة و بین الامام الحسین و قاتله الحصین بن نمیر السکونی و شمر بن ذی الجوشن.
لقد ناقش ائمة الفقه غیر الشیعة هذه الاحادیث و منهم الامام ابو حنیفة و الامام الشافعی فقد روی ابو الفداء عن الشافعی انه اسرّ الی الربیع ان لا یقبل شهادة اربعة من الصحابة: معاویة- و عمرو بن العاص- و زیاد- و المغیرة بن شعبة، و عن ابی یوسف قال قلت لأبی حنیفة: الخبر یجیئنی عن رسول اللّه- ص- یخالف قیاسنا فما نصنع فقال: ان جاءت به الرواة الثقاة عملنا به و ترکنا الرأی فقلت: ما تقول فی روایة ابی بکر و عمر قال ناهیک بها، فقلت و علی و عثمان قال: کذلک، فلما رآنی اعدد الصحابة قال، و الصحابة کلهم عدول ما عدا رجال و عدّ منهم أبا هریرة، و انس بن مالک، و فی خبر آخر عد منهم: سمرة بن جندب، و ابا هریرة و انس بن مالک.
تقول الشیعة ان الحکم القطعی بدخول جمیع الصحابة الی الجنة و عدم دخول فرد منهم النار یناقض الاحادیث التی صححها الامام البخاری فی مسنده الذی یعتبر اصدق کتاب بعد القرآن کما یقول ابن خلدون و لا یجوّز النظر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 337
فی رجال رواته ذکر فی- باب الحوض- المجلد الرابع ص 87 و 88 الاحادیث التالیة:
عن مغیرة قال: سمعت أبا وائل عن عبد اللّه رضی اللّه عنه عن النبی- ص- قال: انا فرطکم علی الحوض و لیرفعن رجال منکم ثم لیختلجن دونی فأقول:
یا رب اصحابی فیقول: انک لا تدری ما احدثوا بعدک.
و باسناده عن ابی هریرة انه کان یحدث ان رسول اللّه- ص- قال: یرد علی یوم القیامة رهط من اصحابی فیحلئون عن الحوض فأقول یا رب اصحابی فیقول: انک لا علم لک بما حدث بعدک. انهم ارتدوا علی ادبارهم القهقری. باسناده عن ابن المسیب انه کان یحدث عن اصحاب النبی- ص- ان النبی قال: یرد علی الحوض رجال من اصحابی فیحلئون عنه فأقول: یا رب اصحابی فیقول انک لا علم لک بما احدثوا بعدک انهم ارتدوا علی أدبارهم القهقری.
و باسناده عن اسماء بنت ابی بکر قالت قال رسول اللّه- ص-: انی علی الحوض حتی انظر من یرد علی منکم و سیؤخذ ناس فأقول یا رب منی و من امتی فیقال: هل شعرت ما عملوا بعدک انهم و اللّه ما برحوا یرجعون علی اعقابهم، و باسناده عن سهل بن سعد قال: انی فرطکم علی الحوض من مرّ علی و شرب و من شرب لم یظمأ ابدا، لیردن علی اقوام اعرفهم و یعرفوننی، ثم یحال بینی و بینهم، قال ابو حازم فسمعنی النعمان بن ابی عباس فقال:
هکذا سمعت عن سهل؟ فقلت نعم، فقال اشهد علی ابی سعید الحذری لسمعته و هو یزید فیها فأقول انهم منی فیقال انک لا تدری ما احدثوا بعدک فأقول سحقا لمن غیّر بعدی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 338

الصراع بین الشیعة العلویة و الشیعة العثمانیة

کانت الثورة تغلی فی المدینة علی عثمان ترید خلعه و ان ابی فقتله و کلما اشتدت الازمة فزع الامام علی (ع) و اسرع الی انقاذه و التفاهم مع الثوار فکان کلما اصلح علی امرا افسده مروان، حتی فطنت الی ذلک زوجة عثمان نافلة بنت الفراقصة فدخلت علیه فی آخر مرة بعد ان غضب الامام و یئس من اصلاح ما یفسده علیه مروان، فقالت لزوجها «ان مروان میتم اولادک، انک إن تطعه یقتلک، ارسل الی ابن عمک علیا فاصلحه فان له فی الناس وجها و اراه غیر عائد الیک » و لم یکن طلحة بن عبید اللّه و الزبیر بن العوام و غیرهما بمعزل عن الثورة و الثائرین و تحریضهم الناس علی عثمان بل قیل ان الهجوم قد بدأ علی عثمان باشارة من طلحة و قد شاهده عثمان بنفسه یختلی بقائد الثورة بن عدیس ثم یبدأ الهجوم.
یقول ابن الاثیر فی الکامل من حوادث سنة 35 ه:
«قال عبد اللّه بن عباس بن ابی ربیعة: دخلت علی عثمان فأخذ یدی فاسمعنی کلام من علی بابه، فمنهم من یقول ما تنتظرون بالرجل؟ و منهم من یقول: انظروه عسی ان یرجع. قال بینما نحن کذلک و اقفون اذ مر طلحة فقال: این ابن عدیس؟ فقام الیه فناحاه ثم رجع ابن عدیس فقال لاصحابه لا تترکوا احدا یدخل علی عثمان و لا یخرج من عنده فقال لی عثمان هذا ما أمر به طلحة اللهم اکفنی شر طلحة فانه حمل علی هؤلاء القوم و ألبهم علیّ انی لارجو ان یکون صفرا منها و ان یسفک دمه»
کان مروان حاضرا لما دعا عثمان علی طلحة فقد روی ابن الاثیر فی حوادث سنة 36 من وقائع معرکة الجمل «رأی مروان طلحة بین الفارین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 339
فرماه بسهم و لما شاهد طلحة الدم یسیل منه قال: اللهم خذ لعثمان حتی ترضی، و اجتاز به رجل فقال له: انت من اصحاب امیر المؤمنین؟ قال نعم، فقال له طلحة: مدّ یدک ابایعک له، فخاف ان یموت و لیس فی عنقه بیعة للامام.
تخلی المسلمون عن عثمان (رض) فقضت الثورة علیه و فی هذا الجو المحموم انهال المسلمون علی علی (ع) یطلبون یده لیبایعوه فامتنع الامام من قبول البیعة و اصر علی الرفض فجاء الیه الشیخان طلحة و الزبیر یلتمسان منه قبول البیعة و حمایة المدینة من عبث الثائرین لان الثورة باتت علی و شک التحول الی الفوضی و ما زالوا به حتی رضی مکرها و بایعه المسلمون عامة و لم یتخلف عن بیعته الا جماعة الامویین و نفر من اصحابه اما المهاجرون من اهل المدینة عامة و الانصار جمیعا فقد بایعوا الامام و تبعهم المسلمون خارج المدینة باستثناء اهل الشام الذین کانوا یأتمرون بامر معاویة، و لم تلق بیعة الامام ترحیبا، فی قلوب النبلاء من قریش و من اسلم منهم بعد الفتح، فتحالفت العناصر الاخری للاسباب التی استعرضناها من قبل و وحدت موقفها للمرة الثانیة لا فساد بیعة الامام و ابعاده عن الخلافة مهما کلف الامر، و امتنع عن بیعته من امتنع امثال سعد بن ابی وقاص، و عبد اللّه بن عمر، و اسامة بن زید، و المغیرة بن شعبة، و ابی موسی الاشعری، و نکث ببیعته طلحة و الزبیر، فاصبح ثلاثة من بقیة رجال الشوری الذین رشحهم عمر للخلافة و جعلّهم فی مصاف الامام علی (ع) و فی مرتبته فی الاسلام بین ممتنع عن البیعة و بین ناکث لها، فسواء أ کان الناکثان لبیعة الامام مندفعین من تلقاء نفسیهما علی نکث البیعة ام کانا مدفوعین من قبل زعیم الامویین معاویة کما یفهم من کتبه الیهما فان السبب الذی اختلقاه لنکث البیعة لم یکن سببا یبرر موقفهما فی الاشتراک فی تألیب الناس علی قتل عثمان و لا یدفع مطالبتهما بدم عثمان بتهمة الاستیلاء علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 340
الخلافة لا سیما و قد وعدهما معاویة بان یبایع لاحدهما اذا انتصر علی الامام کما جاء فی نص کتابه الی کل واحد منهما علی الانفراد.
روی بن ابی الحدید فی الجزء السابع من المجلد الثانی ص 791 من شرح النهج نص الکتب التی بدأت تتبادل بین مروان فی المدینة و بین معاویة فی الشام ابان حصار عثمان و بین معاویة و ولاة عثمان من الامویین فی البصرة، و الیمن، و الحجاز، و غیرها بعد مقتل عثمان یحرضهم علی الثورة و قد کتب الی طلحة بن عبید اللّه یقول: «اما بعد فانت أقل قریش و ترامع صباحة وجهک، و سماحة کفک، و فصاحة لسانک فانت ازاء من تقدمک فی السابقة و خامس المبشرین بالجنة و لک یوم احد، و شرفه، و فضله، فسارع یرحمک اللّه الی ما تقلدک الرعیة امرها، لا یسعک التخلف عنه و لا یرضی اللّه منک الا بالقیام به فقد احکمت لک الامر من قبلی، و الزبیر فغیر متقدم علیک بفضل، و ایکما قدم صاحبه فالمتقدم الامام و الامر من بعده للمقدم له سلک بک قصد المهتدین و وهب لک رشد الموفقین»
و کتب الی الزبیر «اما بعد فانک الزبیر ابن العوام بن ابی خدیجة و ابن رسول اللّه و حواریه و سلفه و صهر ابی بکر و فارس المسلمین و انت الباذل مهجتک بمکة عند صیحة الشیطان بعثک المنبعث فخرجت کالثعبان المنسلخ بالسیف المنصلت تخبط خبط الجمل الودیع کل ذلک قوة ایمان، و صدق یقین، و سبقت لک من رسول اللّه (ص) البشارة بالجنة و جعلک عمر احد المستخلفین علی الامة، و اعلم ابا عبد اللّه ان الرعیة اصبحت کالغنم المتفرقة لغیبة الراعی فسارع رحمک اللّه الی حقن الدماء و لم الشعث و جمع الکلمة و صلاح ذات البین قبل تفاقم الامر و انتشار الامة فقد اصبح الناس علی شفا جرف ها و عما قلیل ینهار ان لم یرأب فشمر لتألیف الامة و ابتغ الی ربک سبیلا فقد احکمت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 341
الامر من قبلی لک و لصاحبک علی الامر للمقدم ثم لصاحبه من بعده جعلک اللّه من أئمة الهدی و بغاة الخیر و التقوی و السلام»
و مما یدل علی ان معاویة کان قد ارسل الی طلحة غیر هذا الکتاب یحرضه علی الطلب بدم عثمان ما جاء فی کتابه الی یعلی بن امیة عامل عثمان علی الیمن یقول «و قد کتبت الی طلحة بن عبید اللّه ان یلقاک بمکة حتی یجتمع رأیکما علی اظهار الدعوة و الطلب بدم عثمان امیر المؤمنین المظلوم و کتبت الی عبد اللّه بن عامر یمهد لک العراق و یسهل لکم حزونه اما الشام فقد کفیتک امرها»
هکذا تحالفت القوی المناوئة للبیت الهاشمی علی ابعاده عن الخلافة و بدأت امیة معرکتها ضد الامام علی من مکة کما بدأها زعیم الامویین ابو سفیان ضد النبی محمد (ص) و عادت الخصومة الامویة من جدید فی جولتها الثانیة علی مسرح الاسلام باسم الدین لضرب قواعد الاسلام و تمزیق وحدة المسلمین فی صورة المطالبة بدم عثمان بینما کانت المعرکة معرکة انتقام من الامام و شیعته الانصار الذین انتصروا علی قریش فی معرکة بدر و قتل الامام فیه شقیق معاویة حنظلة بن ابی سفیان، و اشترک فی قتل عدد من الامویین منهم الولید، و عتبة، و شیبة کما تقدم بالاضافة الی الطمع بالملک و السلطان و النفوذ.
ان هذه الکتب قد فضحت مؤامرة قریش و ثورة الامویین ضد الهاشمیین و کشفت لنا الستار عمن کان وراء حرب الجمل، فان معرکة الجمل کانت بتحریض الامویین و قادة جیشها کانوا مسیرین من حیث یدرون او لا یدرون و ان عمال عثمان فی الیمن و البصرة و مکة هم الذین جهزوا الجیش بالاموال التی انتهبوها من بیوت اموال المسلمین فی تلک الاقطار و جاءوا بها الی مکة بأمر معاویة، یقول ابن الاثیر فی الکامل فی حوادث سنة ست و ثلاثین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 342
«ان السبب فی اجتماعهم بمکة ان عائشة کانت خرجت الیها و عثمان محصور، ثم خرجت من مکة ترید المدینة فلما کانت (بسرف) لقیها رجل من اخوالها من بنی لیث یقال له عبید بن ابی سلمة و هو ابن ام کلاب فقالت له فیم؟
قال: قتل عثمان و بقوا ثمانیا، قالت ثم صنعوا ماذا؟ قال اجتمعوا علی بیعة علی فقالت لیت هذه انطبقت علی هذه ان تم الامر لصاحبکم، ردونی، ردونی، فانصرفت الی مکة و هی تقول قتل و اللّه عثمان مظلوما، و اللّه لا طالبن بدمه الی نهایة ما یورده ابن الاثیر مما نضرب عن ذکره الی ان یقول «فانصرفت عائشة الی مکة و دخلت الحجر فاستترت فیه فاجتمع حولها الناس فقالت: ایها الناس ان الغوغاء من اهل الامصار و اهل المیاه و عبید اهل المدینة اجتموا علی هذا الرجل المقتول ظلما بالامس و نقموا علیه استعمال من حدثت سنه، و قد استعمل امثالهم قبله، الی آخر خطبتها فقال عبد اللّه بن عامر الحضری و کان عامل عثمان علی مکة: ها انا ذا اول طالب بدمه فاجابه بنو امیة علی ذلک و کانوا قد هربوا من المدینة الی مکة فرفعوا رؤوسهم و کان اول من تکلموا و قدم علیهم عبد اللّه بن عامر من البصرة بمال کثیر و یعلی بن امیة من الیمن و معه ستمائة بعیر و ستمائة الف درهم، فقالت عائشة انهضوا الی هذا الغوغاء فقالوا نأتی الشام فقال ابن عامر کفاکم الشام معاویة، فأتوا البصرة فان لی بها صنائع و لهم فی طلحة هوی»
هکذا دفع الامویین الشیخین الناکثین طلحة و الزبیر راغبین ام راغمین الی مصیرهما المحتوم و وقف من ورائهما معاویة یضحک من اندفاعهما وراء الامل المنشود و من الواضح ان معاویة لم یفکر فی یوم من الایام ان یبایع طلحة او الزبیر لو خلی لهما الامر و انما اراد ان یؤلبهما علی علی و ان یجرب قوة الامام علی و فی کلتا الحالتین ان انتصرا علی الامام تخلص من اقوی شخصیة لزعامة المسلمین و سهل علیه بعد ذلک امر ابعادهما عن الخلافة بنفس التهمة التی اتهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 343
هذان الشیخان بها الامام علیا و هی قتل عثمان، لا سیما و ان اشتراکهما فی تألب الناس علیه و تحریض الثوار علی قتله من الامور الثانیة لدی جمهور المسلمین من اهل المدینة و من حضرها من الامصار و ان انتصر علیهما الامام فقد تخلص معاویة من اقوی مرشحین للخلافة من رجال الشوری و الزم علیا بدماء ثلاثة من کبار الصحابة المنتخبین للخلافة من الذین مات رسول اللّه و هو عنهم راض کما حدث بذلک عمر (رض).
ما أشبه حیاة الامام علی- ع- بحیاة النبی- ص- فقد بدأ الامام خلافته بثلاث معارک أقامها بنو امیه علیه فی البصرة، و صفین، و النهروان، کما بدأ النبی رسالته بثلاث معارک اقامها الامویون علیه فی بدر، واحد، و الاحزاب، و کانت الغایة واحدة و الهدف واحدا، و هو الصراع بین الحق و الباطل، و النزاع بین الشرک و الایمان، فالامام علی و تیرة النبی- ص- و معاویة علی و تیرة ابیه ابی سفیان، و کانت النتیجة واحدة و ان اختلفت فی ظاهرها بانتصار معاویة علی الامام، الا ان النصر النهائی کان للامام- ع- فقد ذهب معاویة و ذهب معه کل ما اقامه من معالم الباطل، و الفساد، و الدعوة الی الجاهلیة، و ذهب علی- ع- و بقی کل ما حققه فی جهاده للدین من مجد و عزة و کرامة، و ما خلف من ارث فی عالم الحضارة و الانسانیة و العدل، و ما اشبه حیاة اصحاب الفریقین و موقفهما فی المعارک الاسلامیة فکما اشترک اعیان قریش النبلاء بجانب ابی سفیان فی حرب النبی اشترک معاویة و ذووه و انصاره فی حرب علی و قد صدق عمار بن یاسر حین صرخ یوم صفین قائلا:
نحن ضربناکم علی تنزیله‌و الیوم نضربکم علی تأویله
بدات جولة الامویین الثانیة من مکة و سار الجیش قاصدا البصرة لان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 344
اهلها لهم هوی فی طلحة بن عبید اللّه و لابن عامر فیها صنائع و کان الجیش کلما قطع مرحلة من سیره انکشف لاهل الحقیقة بطلان ما زعمه قادة الجیش من انهم ینشدون فی خروجهم الاصلاح و الطلب بدم عثمان، و التقی فی الرکب سعید بن العاص بطلحة و الزبیر فانتحی بهما ناحیة و دار بینهم الحدیث التالی:
سعید- ان ظفرتما ایها الشیخان فلمن تجعلان الامر؟
فأجاباه- لاحدنا
سعید- بل اجعلاه فی ولد عثمان فانکم خرجتم تطلبون دمه. فجاء الجواب:
- أندع الشیوخ و نجعلها فی الایتام؟
سعید- لا ارانی اذن اسعی لاخراجها من بنی عبد مناف،
ثم جاء سعید الی ام المؤمنین فقال لها-: این تریدین یا ام المؤمنین؟
فأجابت- البصرة
فقال لها سعید- ماذا تصنعین؟
اجابت- اطلب دم عثمان
فقال سعید-: هؤلاء قتلة عثمان معک یا ام المؤمنین و اشار الی طلحة و الزبیر ...
ثم جاء سعید الی مروان فقال له- و انت ایضا ترید البصرة؟
فاجابه- نعم اطلب قتلة عثمان.
فقال له-: هؤلاء قتلة عثمان فاین تذهبون و ثارکم علی اعجاز الابل اقتلوهم ثم ارجعوا الی منازلکم. ثم قال ان هذین الرجلین قتلا عثمان و هما یریدان الأمر لنفسیهما فلما غلبا علیه قالا نغسل الدم بالدم و الحوبة بالتوبة»
لقد کشفت امیة علی لسان ابنها سعید عن اهداف قادة الرکب، و دق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 345
اول مسمار فی نعش الشیخین اذا ظفرا بعلی- ع- و قضیا علی خلافته لأن التهمة التی راحا یقاضیان علیا علیها لاصقة بهما علی وجه لا سبیل منها للانکار، فاذا کان من شرط الخلافة ان لا یلبسها من اشترک فی دم عثمان فقد خسراها لانهما ممن اشترک اشتراکا فعلیا فی دم عثمان الأمر الذی قد حسب له معاویة و الأمویون الف حساب و حساب.
لقد ابعد الغرور الشیخین عن التفکیر فیما بیّته لهما معاویة من الخدیعة و الوقیعة و شغلهما حب السلطان عن مراقبة الفتنة التی رافقت الرکب من اول مسیرة فی شخص مروان، فما کاد یقترب وقت الفریضة حتی جاء مروان فی لباس العابد الورع یسأل طلحة و الزبیر علی أیهما یسلم بالأمرة و یؤذن للصلواة؟ فقال ولد الزبیر لأبی عبد اللّه یعنی اباه، و عارضه محمد بن طلحة قائلا: لابی محمد، یرید اباه، و تشاجر الولدان و فطنت للأمر ام المؤمنین فصاحت بمروان: ویلک أ ترید ان تفرق امرنا؟!! فلیصل بالناس ابن اخی عبد اللّه.
اننا نرید ان نستقصی الحوادث التاریخیة و انباء الفتن التی اثارتها امیة للوقیعة بالمسلمین و ابعاد الامام علی- ع- عن الحکم و موقف الامام علی- ع- و شیعته من الصراع الاموی فی غصب الخلافة و تحویلها الی ملک عضوض علی غرار ملک کسری و قیصر و انما نکتفی بالاشارة العابرة من التاریخ المتسالم علیه عند المسلمین و المفروضة صحته للوقوف علی الاسباب التی شددت من عزیمة انصار امیة و الاسباب التی زادت من ایمان شیعة علی و بالالتفاف حوله باعتباره رمزا للحق و مثلا اعلی للمبادی‌ء السلمیة، لقد و اصل الجمیع السیر الی البصرة فدخلوها قبل الامام علی، و بعد جدال و نزاع مع عامل علی- ع- علی البصرة و هو عثمان بن حنیف اتفقوا علی ان یرسلوا وفدا الی المدینة یسأل اهلها عن بیعة طلحة و الزبیر للامام علی و هل قد بایعاه کرها ام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 346
مختارین؟ و قبل عودة الوفد هجم طلحة و من معه علی (عثمان بن حنیف) فی المسجد غیلة و قتلوا عددا من اصحابه و قبضوا علیه و استولوا علی قصر الامارة و بیت المال و ارادوا قتله فجاءت امرأة الی عائشة و قالت لها نشدتک اللّه فی عثمان فانه من اصحاب رسول اللّه- ص- فعدلت عن قتله، و امرت بحبسه بعد ان نتفوا لحیته، و حاجبیه، و اهداب عینیه، و وقف طلحة بعد ان قبض علی عثمان یخطب فی اهل البصرة قائلا: «یا اهل البصرة توبة لحوبة انا اردنا ان نستعتب امیر المؤمنین عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه» فاجابه الناس و لکن کتبک کانت تأتینا بغیر هذا؟
و لما بلغ حکیم بن جبلة ما جری لعثمان بن حنیف جاء الی عبد اللّه بن الزبیر و معه جماعة من قومه فطلب اخلاء سبیل عثمان و اعادته الی قصر الامارة حسب الاتفاق المعقود بین الطرفین و اطعامهم من بیت المال و قال له: ان دماءکم لنا اصبحت حلالا نقتل من قتلتم ففیم تستحلون الدم الحرام؟
قال له عبد اللّه: بدم عثمان، قال:! هل الذین قتلتموهم کانوا من قتلة عثمان؟ اما تخافون اللّه! فقال له عبد اللّه: لا نطعمکم من هذا الطعام و لا نخلی عن عثمان حتی تخلعوا علیا؟؟ فقال حکیم: اللهم انت حکم عدل فاشهد و قال لأصحابه: لست فی شک من قتال هؤلاء فمن کان فی شک من امرهم فلینصرف، فدارت المعرکة بین الفریقین قتل فیها عدد کبیر من الفریقین و قتل حکیم و ابنه الاشرف و اخوه کعب فقال طلحة و الزبیر الحمد للّه الذی ادرکنا ثارنا من اهل البصرة .
و عن جریر بن حازم عن محمد بن سیرین قال: ما علمت ان علیا اتهم بقتل عثمان حتی بویع فلما بویع اتهمه الناس و دارت المعرکة و قتل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 347
طلحة و الزبیر و اصیب عبد اللّه بثلاثین جرحا او اکثر و عقر الجمل و قتل من المسلمین عشرون الف من اصحاب الجمل و خمسمائة من اصحاب الامام و عاد الامام الی المدینة منتصرا کما عاد النبی- ص- بعد وقعة بدر و راحت امیة تستعد للمعرکة الثانیة فی (صفین) و لم یکن الامام لیغفل عن امرها فاستعد لها هو ایضا و بعد رجوعه دارت معرکة صفین بین الشیعة العلویة و علی رأسهم الامام علی، و بین العثمانیة و علی رأسهم معاویة. و البحث عن حوادث معرکة صفین یحتاج الی کتاب خاص لانه قد استمر اکثر من ثمانیة عشر شهرا وقعت فیها من الحوادث المؤسفة و المعارک الدامیة بسبب عداوة بنی امیة للهاشمیین و بسبب الظفر بالسلطان و الطمع بالنفوذ ما لیس له مجال فی هذه الموسوعة
ان الامر الذی یستحسن بحثه فی هذه المعرکة هو الالتباس الذی ساد اوساط المسلمین قدیما و لا یزال عالقا فی نفوس بعض المسلمین الیوم و هو ان الصراع فی هذه الحرب کان قد نشأ عن اجتهاد فریقین من المسلمین رأی بعضهم الحق فی قتال البعض الآخر فکان رائد الفریقین رائدا دینیا فللمصیب منهما فی اجتهاده اجران و للمخطی‌ء اجر واحد هذا الرأی الذی یقول الشیعة بفساده لان معرکة صفین من ألفها الی یائها بدأت علی ضلالة الخارجین علی الامام الشرعی علی بن ابی طالب- ع- و ختمت بضلال کل من اشترک فیها بجانب معاویة و أسف کل مؤمن ادرک صفین و لم یشترک مع علی- ع- فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 348
قتاله لفئة معاویة التی ظهرت انها الفئة الباغیة التی نص القرآن علی وجوب قتالها بقوله تعالی (و قاتلو التی تبغی حتی تفی‌ء الی امر اللّه)
فمن الذین اسفوا لذلک کان عبد اللّه بن عمر و قد صح عنه انه قال:
(ما أسفت علی شی‌ء من امر الدنیا فاتنی الا ترکی قتال الفئة الباغیة مع علی) و هکذا أسف عبد اللّه بن عمر بن العاص لاشتراکه مع معاویه فی معرکة صفین
ان موقف الفریقین فی صفین کان یحکی موقف الفریق المؤمن و الفریق المشرک فی وقعة بدر الکبری، فقد کان عدد من شهد بدرا مع رسول اللّه- ص- 313 من المهاجرین و الانصار اشترک منهم مع علی و هم البقیة الباقیة ممن ادرک صفین 178 بدریا و قد استشهد منهم 63 نفرا بجانب علی- ع- کما اشترک مع علی فی معرکة صفین اکثر من نصف من بایع النبی- ص- بیعة الرضوان تحت الشجرة، فقد کان عدد من حضر الحدیبیة و بایع بیعة الرضوان من المهاجرین و الانصار 1400 رجل اشترک منهم ثمانمائة رجل مع علی فی معرکة صفین، کما شهد بجانب علی- ع- ضمن من شهد معرکة احد- و الاحزاب- و خیبر و الغزوات الأخری مع النبی- ص- عدد کبیر من المهاجرین و الانصار و کلهم شیعة علی و تابعوه، ا فیکون کل هؤلاء من الضالین و بنو امیة من المؤمنین؟. و نذکر منهم علی سبیل الاستشهاد و لیس الحصر ترجمة من ادرک خلافة علی- ع- من الصحابة الکرام و شهد حروبه الثلاثة الجمل- و صفین- و النهروان، ممن کان قد ادرک النبی- ص- و شهد حروبه فی- بدر- و أحد- و الاحزاب، و غیرها و لما کنا بصدد بیان «الصراع بین الشیعة العلویة و الشیعة العثمانیة» بعد مقتل عثمان و کنا قد اشرنا الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 349
العناصر التی انضمت الی (العثمانیة) کما یقول صاحب کتاب (الدولة الامویة فی الشام) و وقفت بجانب معاویة فیجدر بنا ان نذکر اسماء هولاء الشیعة و الموالین لعلی من عهد النبی- ص- حتی ادرکوا خلافة علی و هم الطبقة الأولی من الشیعة العلویة مستندین علی مصادر- الاصابة- و الاستیعاب- و تاریخ الکامل لابن الأثیر. و کل هذه المصادر مصادر غیر شیعیة و بذلک نعطی القاری‌ء قکرة اجمالیة عن شیعة علی و انصاره و منزلتهم فی الدعوة الاسلامیة و منزلتهم من النبی- ص-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 350

الطبقة الاولی من رجالات الشیعة

1- ابو ذر الغفاری

هو جندب بن جنادة المشهور بکنیته: (ابو ذر) الصحابی الجلیل باتفاق المسلمین و الزاهد المشهور بین صحب النبی- ص- ذو اللهجة الصادقة و التشیع العمیق لعلی بن ابی طالب- اسلم فی مکة و اعلن اسلامه فی مسجد الحرام جهرة فی وسط قریش، فاجتمع علیه نفر منهم فأوسعوه ضربا و لکما و لم یخلصه من ایدیهم الا العباس بن عبد المطلب، ففی الحدیث عن النبی- ص- انه قال (أمرنی اللّه بحب اربعة و اخبرنی ان یحبهم:- علی و سلمان- و المقداد- و ابو ذر) و هو احد النجباء الاربعة عشر الذین انتجبهم و اصطفاهم رسول اللّه و فی الحدیث المتفق علیه عن رسول اللّه- ص- ما أظلت الخضراء و لا اقلت الغبراء علی ذی لهجة اصدق من ابی ذر. و عنه- ص- قال: ان ابا ذر یعیش وحده، و یموت وحده، و یحشر وحده، و عنه- ص-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 351
قال: ان ابا ذر فی امتی کعیسی فی الزهد، و کان ابو ذر داعیة التشیع لعلی- ع- و کان یسمی علیا بامیر المؤمنین فی عهد الخلفاء و الیه یرجع أثر التشیع فی بلاد سوریا و لبنان، و قد سبب له اخلاصه لعلی و ایمانه بالتشیع و تصلبه فی موالاة اهل البیت ان طاردته السلطات فی عهد عثمان مطاردة عنیفة، و لحقه من الاذی علی ید معاویة شیئا کثیرا. یقول ابن الأثیر فی الکامل فی حوادث سنة 30 ه و یقول الطبری (و فی هذه السنة کان ما ذکر من امر ابی ذر و اشخاص معاویة ایاه من الشام الی المدینة و ذکر فی سبب ذلک اسبابا کثیرة منها سب معاویة له و تهدیده بالقتل، و حمله الی المدینة من الشام علی بعیر بغیر و طاء یقیه من البرد، و الحر، و نقله من المدینة علی الوجه الشنیع کرهت ذکرها) و مما یؤید دعوته الی التشیع ص 24 و 25.
و یقول الشیخ مغنیة فی کتابه (الشیعة و التشیع) کان ابو ذر ینادی فی الناس و یقول: علیکم بکتاب اللّه و التشیع لعلی ابن ابی طالب- ع- و کان یدخل مکة و یتعلق بحلقة بابها و یقول: انا جندب بن جنادة لمن عرفنی و انا ابو ذر لمن لم یعرفنی، سمعت رسول اللّه- ص- یقول: انما مثل اهل بیتی منک مثل سفینة نوح من رکبها نجا و من تخلف عنها غرق و هوی ألا هل بلغت؟
و فی المصدر نفسه (ان ابا ذر کان یقول فی موسم الحج: یا معشر الناس سمعت رسول اللّه- ص- یقول: فی هذا المکان و الا صمّت اذنای: علی بن ابی طالب الصدیق الاکبر فیا ایتها الائمة المتحیرة بعد نبیها لو قدّمتم من قدّمه اللّه و اخرتم من أخره اللّه و رسوله، لما عال ولی اللّه و لا طاش سهم فی سبیل اللّه و لا اختلفت الامة بعد نبیها، و قد قال رسول اللّه- ص- لعلی: انت اول من أقرّبی و اول من یصافحنی یوم القیامة)
کان ابو ذر ممن یعلن التشیع و یدعو الناس الیه، و الی موالاة علی- ع-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 352
کما تقدم، لا سیما فی عهد عثمان الذی مهدت خلافته الطریق لاستیلاء امیة علی الحکم، و کان ابو ذر کغیره من الصحابة یرون فی استیلاء امیة علی الحکم انحرافا بالدین الی الجاهلیة العمیاء، و قلب الخلافة الاسلامیة التی دستورها الاسلام الی ملکیة کسرویة او قیصریة دستورها الحکم الفردی و الاستیلاء.
و لما کان التشیع مرکزا علی مبادی‌ء الدین الحنیف و المحافظة علی شریعة اللّه کما انزلها فی کتابه المجید و ما اوحی به الی نبیه الکریم کان ابو ذر یخشی ان ینحرف الأمویون بالدین عن قواعده، لذا کان موقفه من عثمان موقفا جریئا و صلبا فی معارضته، لا سیما فی اطلاق ایدی الامویین فی خیرات المسلمین، و ما یغنمونه فی الفتوحات و التصرف فی اموال بیوت المسلمین التی تتکون من الخراج و جبایة الزکاة حتی کانت اموالها اموالهم.
کان ابو ذر ممن لا یکذب اذا حدّث، و لا ینطق بالباطل اذا دعا، فکانت معارضته لعثمان لا تشبه معارضة غیره لانصرافه عن الدنیا و ما فیها من المتع و الملاذ کما یحدثنا هو عن نفسه: «ان بنی امیة تهددنی بالفقر و القتل و بطن الأرض أحبّ الی من ظهرها، و الفقر احب الی من الغنی» قال له عثمان: کن عندی تغدو علیک و تروح اللقاح، فاجابه لا حاجة لی فی دنیاکم
لم یکن ابو ذر لیلهج بالآیة الکریمة و الذین یکنزون الذهب و الفضة و لا ینفقونها فی سبیل اللّه الخ فی عهد رسول اللّه- ص- و لا فی عهد ابی بکر (ض) و لا فی خلافة عمر (ض)، و لم یعارض احدا منهم و لم یطلب من عثمان ان یأخذ اموال الاغنیاء و یفرقها علی الفقراء، و کان یعارض عثمان لأنه ترک سنّة من قبله، لقد شاهد ابو ذر الخلیفة عمر (ض) یخطب و علیه ثوب فیه اثنتا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 353
عشرة رقعة و شاهد الخلیفة عثمان (ض) یملک وحده ثلاثین الف الف درهم من الفضة، و خمسمائة الف و خمسین و مائة الف دینار من الذهب و وجده یعطی مروان صفقة واحدة خمس افریقیا و یؤثره علی الجند المحارب فی سبیل فتحها، و رأی معاویة یستأثر وحده بخیرات الشام، و الاردن، و فلسطین، و سلط علی رقاب المسلمین آل ابی معیط و لم یکن لهم سبق فی الاسلام و لا سابق فی الخیرات.
کان ابو ذر یعارض حکومة عثمان التی جعلت من المسلمین طبقتین مختلفتین طبقة فقیرة لا أمل لها فی القرص، و لا عهد لها فی الشبع، و طبقة ارستقراطیة تتمتع بکافة الخیرات و هم حاشیته و اقرباؤه و المحسوبون علیه و المنسبون الیه.
یقول الدکتور طه حسین فی کتابه (علی و بنوه) ص 98 و 99
«کان ابو ذر یعارض عثمان معارضة شدیدة لتصرفه فی اموال المسلمین کأنها امواله، و لکنه لم یحرک یده و انما کان لسانه سلاحه الوحید، و کان یقول: لو صلبنی عثمان علی أطول جذع من الجذوع لما غضبت»
و کان ابو ذر فی الشام یشاهد تصرفات معاویة اللادینیة فیأتی الی باب قصره و یتلو: (الذین یکنزون الذهب و الفضة الخ) لأنه کان یری بأن معاویة یخالف تعالیم الاسلام و یخرج علی سنة الخلفاء و یکنز الذهب و الفضة.
یقول الیعقوبی فی کتابه تاریخ البلدان ج 7 ص 296 و ابن عبد البر فی (الاستیعاب) فی ترجمة الحکیم بن عمرو «ان زیاد کتب الی الحکیم بن عمرو الغفاری عامله علی خراسان ابان فتح کورها ان امیر المؤمنین معاویة کتب الی ان اصطفی له البیضاء و الصفراء فلا تقسمن شیئا من الذهب و الفضة، فلم یلتفت الیه.»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 354
و اشتدت معارضته لمعاویة لما أوّل معاویة قول اللّه (الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ و قال بانها نزلت فی أهل الکتاب و لا یشمل حکمها المسلمین، فاخذ ابو ذر یرددها و یرددها علی باب قصر معاویة و فی کل مکان لئلا ینخدع المسلمون بتأویل معاویة لحکم الآیة الکریمة فینصرفوا فی انفاق ما رزقهم اللّه فی جهة دون جهة اخری، لقد کان یرید من معاویة ان یفرق ما کنزه لنفسه من اموال المسلمین، ان ابا ذر لم یحمل الناس علی الثورة و لم یکن لیرید من الفقراء ان یبطشوا بالاغنیاء و لا ینهبوا اموالهم و یستولوا علی ما رزقهم اللّه من الرزق الحلال. ان من التجنی علی ابی ذر الصحابی الجلیل الذی لم یجد فی عز الاسلام نظاما یصلح للدنیا و الآخرة ان یتهم بالمذاهب المخالفة للاسلام فی شریعته و احکامه. و کان الامام علی- ع- یحب أبا ذر، و یحترم مقامه، و احترامه هذا و حبه له، حمله علی ان لا یستمع لنداء عثمان بتحریم تشییع ابی ذر لما نفاه الی (الربذة) و جرت بینه و بین مروان فی ذلک شجار بقیت اقوال ابو ذر و معارضته لبنی امیة و علی رأسهم عثمان و معاویة حدیث المسلمین فی کل مکان،

2- سلمان الفارسی

ابو عبد اللّه سلمان الفارسی او سلمان الخیر او سلمان المحمدی قال رسول اللّه- ص- (سلمان منا اهل البیت) و هو احد النجباء. قالت السیدة عائشة: کان لسلمان مجلس من رسول اللّه- ص- ینفرد فیه باللیل کان یغلبنا علی رسول اللّه- ص- و هو احد الأربعة الذین اشتاقت لهم الجنة قال رسول اللّه- ص- اشتاقت الجنة الی اربعة: علی، و سلمان، و عمار، و بلال، و هو احد الذین یغضب اللّه لغضبهم، و فی الاستیعاب ان ابا سفیان مر علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 355
سلمان و صهیب، و بلال، فی جماعة فقالوا ما اخذت سیوف اللّه من عنق عدو اللّه؟ فسمعهم ابو بکر فقال: أ تقولون هذا لشیخ قریش و سیدها؟
و جاء الی النبی- ص- فأخبره فقال النبی- ص- لأبی بکر لعلک أغضبتهم لئن کنت اغضبتهم فقد اغضبت ربک جل و علا، فأتاهم ابو بکر فقال لعلی- ع- أ أغضبنکم ایها الأخوة؟ فقالوا: لا، یغفر اللّه لک یا ابا بکر.
کان سلمان من الشیعة الاوائل و تشیعه لعلی کان من ایمان، و صدق، و یقین فقد کان یحدث الناس و یقول «بایعنا رسول اللّه علی النصح للمسلمین و الائتمام بعلی بن ابی طالب و الموالاة له و قد قال رسول اللّه لعلی انت وصیی و خلیفتی من اهلی بمنزلة هارون من موسی اما و اللّه لو و لیتموها علیا لأکلتم من فوقکم و من تحت ارجلکم»
قصد سلمان المدینة فوقع فی الاسر و بیع فی المدینة، و لما جاء النبی- ص- الیها اشتراه فی حدیث طویل، و اشترک فی مشاهد الرسول- ص- کلها و لما توفی النبی- ص- لازم علیا و امتنع عن بیعة ابی بکر کما تقدم، لأنه کان ممن یؤمن بامامة علی- ع- و کان سلمان ینفق عطاءه البالغ خمسة آلاف و هو عطاء اهل بدر و یعیش بکد یده، ولاه عمر (ض) علی المدائن و مات فیها 36 ه.

3- عمار بن یاسر

ابو الیقظان عمار بن یاسر بن مالک بن کنانة حلیف بنی مخزوم من السابقین الی الاسلام هو و ابوه یاسر، و امه سمیة، و حدیث تعذیبهم علی ایدی المشرکین بعد ان اسلموا حدیث ذو شجون، کان النبی- ص- یمر علیهم و هم یعذبون فیقول- ص- (صبرا آل یاسر فموعدکم الجنة) قال رسول اللّه- ص-: (عمار جلدة ما بین عینی) و هو احد النجباء. عن خالد بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 356
الولید المخزومی قال کان بینی و بین عمار کلام و غلظت له فشکانی عند رسول اللّه- ص- فقال رسول اللّه: «من عادی عمار عاداه اللّه، و من ابغض عمار أبغضه اللّه» استأذن یوما بالدخول علی النبی- ص- فلما سمع صوته قال- ص- (مرحبا بالطیب المطیب) بعثه الخلیفة عمر والیا علی الکوفة و بعث معه ابن مسعود فکتب الی اهل الکوفة (بعثت الیکم عمار أمیرا و ابن مسعود وزیرا و هما من النجباء)
اشترک عمار فی حروب رسول اللّه- ص- فشهد (بدرا) و أبلی فیه بلاء حسنا و قتل فی صفین مع علی- ع- عن عبد الرحمن بن بزی السلمی قال:
«شهدنا مع علی- ع- صفین فرأیت عمار بن یاسر لا یأخذ فی ناحیة و لا واد من اودیة صفین الا رأیت اصحاب محمد- ص- یتبعونه کانه علم لهم، و سمعت عمار یقول لهاشم بن عتبة: تقدم، الجنة تحت الابارقه، الیوم القی الاحبة، محمدا و حزبه، و اللّه لو هزمونا حتی بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا انا علی الحق و انهم علی الباطل ثم انشد:
نحن ضربناکم علی تنزیله‌و الیوم نضربکم علی تأویله
فلم ار اصحاب محمد قتلوا فی موطن من قتلوا یومئذ، لقد شهد من اصحاب محمد (ص) ممن بایع بیعة الرضوان تحت الشجرة ثمانمائة صحابی قتل منهم ثلثمائة و ستون نفرا» کان شدید الاخلاص لعلی (ع) و قال یوم بایع الناس لعثمان: یا معشر قریش الی متی تصرفون هذا الامر عن اهل بیت نبیکم؟ تحولون هنا مرة و هنا مرة، ما انا آمن ان ینزعه اللّه منکم و یضعه فی غیرکم کما نزعتموه من اهله و وضعتموة فی غیر اهله، حوادث سنة 23 لأبن الاثیر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 357

4- المقداد بن عمر

المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالک النهرانی الحضرمی، اشتهر باسم خلیفة الاسود الکندی و الذی تبناه کان احد الرجال السبعة الذین سبقو الی الاسلام اولهم الامام علی و هو احد النجباء الذین اصطفاهم النبی (ص) واحد الاربعة الذین قال النبی ان اللّه یحبهم، و احد الصحابة الذین امتنعوا عن بیعة ابی بکر حتی بایع الامام علی، خطب المقداد من عبد الرحمن بن عوف ابنته فغضب، و لما بلغ النبی (ص) ذلک زوجه من ابنة عمه ضباعة بنت الزبیر بن عبد المطلب، کان احد فرسان (بدر) و لما وقف النبی (ص) فی طریقه الی بدر یستشیر اصحابه فی قتال المشرکین بعد ان فلتت عیر قریش و خرج اهل مکة لقتاله قال المقداد للنبی (ص) انا لا نقول مقالة الیهود لموسی: (اذهب انت و ربک فقاتلا انا ههنا قاعدون) لکنا نقول لک یا رسول اللّه (اذهب انت و ربک فقاتلا انا معکما مقاتلون) فاستبشر النبی (ص) و سر لقوله و کانت غزوة (بدر) و کان النصر المبین، و کان تشیع المقداد لعلی مدة حیاته فی الاسلام مشهور و موقفه یوم بیعة عثمان و مطالبته البیعة لعلی (ع) معلومة، کان فی مقدمة المجاهدین فی مشاهد رسول اللّه (ص) کلها، و کان قوی الایمان بتشیعه لعلی حتی انه یوم بویع عثمان غضب و راح یعاتب عبد الرحمن بن عوف و دار بینهما النقاش التالی:
المقداد-: ما رأیت مثل ما اوتی اهل هذا البیت بعد نبیهم؟
قال عبد الرحمن-: ما انت و ذاک؟
قال المقداد-: أما و اللّه لقد ترکت رجلا من الذین یقضون بالحق و یعدلون فقال عبد الرحمن-: یا مقداد اتق اللّه فاننی اخاف علیک الفتنة
فقال رجل للمقداد: رحمک اللّه من اهل هذا البیت؟ و من هذا الرجل؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 358
قال-: أهل البیت بنو عبد المطلب، و الرجل علی بن ابی طالب
قال عبد الرحمن-: لقد اجهدت نفسی فی امرکم
قال المقداد-: لو کان لی علی قریش اعوان لقاتلتهم قتالی یوم بدر، و أحد عن ابن الاثیر حوادث سنة 23 ه

5- حذیفة بن الیمان

من عیون الصحابة و صاحب سر النبی (ص) فقد روت الاخبار الدینیة ان النبی قد اعلمه بالمنافقین، و کان عمر ینظر الیه عند موت احدهم فاذا حضر حذیفة جنازته حضرها هو و الا تخلف عنها، کان من الفرسان الابطال فی یوم احد، و الخندق، و له مواقف حسنة اشترک فی الجهاد بعد رسول اللّه (ص) و هتم علی یده فتح همدان، و الری، و الدنیور؛ کان من الموالین لعلی (ع) و القائلین بامامته و تخلف عن بیعة ابی بکر کما تقدم، و قتل له ولدان بصفین هما صفوان، و سعید، مات فی اول خلافة علی (ع) و لم یدرک حروبه.

6- خزیمة بن ثابت الانصاری

خزیمة بن ثابت بن فاکهة بن ثعلبة الانصاری المعروف بذی الشهادتین سماه بذلک رسول اللّه (ص) یوم عد شهادته شهادتین، فاشتهر بهذا اللقب و هو من کبار الصحابة و السابقین للاسلام، و کان صاحب رایة خطیة یوم (الفتح) و شهد (بدرا) و المشاهد کلها مع رسول اللّه (ص) و اشترک مع علی (ع) فی حرب الجمل، و قتل بصفین بجانب علی (ع) و کان احد الذین تخلفوا عن بیعة ابی بکر و وقفوا بجانب علی (ع).

7- الخباب الخزاعی

الخباب الخزاعی سادس من اسلم، واحد المعذبین علی ید المشرکین فی مکة و هو من رواة الحدیث الموثقین، واحد الاثنی عشر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 359
الصحابة الذین شهدوا (للامام) بانهم حضروا یوم (الغدیر) و سمعوا مقالة النبی (ص) (من کنت مولاه فعلی مولاه اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه) و عدّه صاحب (الاستیعاب) فی ترجمة عامر بن وائلة المکنی بأبی طفیل من الذین یقدمون علیا علی الشیخین و یفضلونه و هم: سلمان- ابو ذر- المقداد- خباب بن الارث- جابر بن عبد اللّه الانصاری، ابو سعید الخدری و قد شهد الخباب بدرا و المشاهد کلها مع رسول اللّه (ص) و لازم علیا و مات فی خلافة الامام علی (ع) فی الکوفة سنة 37 و صلی علیه الامام.

8- ابو سعید الخدری

سعد بن مالک بن سنان المشهور بکنیته ابی سعید الخدری من کبار الصحابة و احفظهم للحدیث، کان اول مشهد له مع رسول اللّه فی وقعة (الاحزاب) و قد ورد ذکره فیمن یقدم علیا علی الشیخین و یفضله، مات سنة خمس و ستین.

9- ابو الهیثم ابن التیهان

ابو الهیثم بن مالک بن عتیک الانصاری الاوسی شهد بیعة العقبة و یقال انه کان اول من اسلم و بایع النبی (ص) و هو احد نقباء عبد الأشهل شهد مع النبی (ص) مشاهده کلها و شهد مع علی (ع) حرب البصرة و قتل (بصفین) مع اخیه عتیک تحت رایة الامام علی (ع) تألم الامام علی علی فقده کثیرا لانه کان فی طلیعة المسلمین زاهدا عابدا شجاعا زعیما بلا منازع.

10- قیس بن سعد بن عبادة

ابو الفضل او ابو عبد اللّه قیس بن سعد بن عبادة الخزرجی الانصاری، من اشراف الصحابة کان احد فضلاء الصحابة من اهل الرأی و المکیدة فی الحرب مع النجدة، و الشجاعة، و السخاء، و کان شریف قومه بلا منازع،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 360
و کان ابوه وجده کذلک، و یعد من دهاة العرب، قال البخاری: کان من النبی- ص- بمنزلة صاحب الشرطة من الامیر، و فی الصحیح عن جابر قال: کان قیس فی جیش المسرة ینحر، و یطعم، حتی استدان بسبب ذلک فنهاه آمر الجیش ابو عبیدة، و من شواهد جوده و سخائه ان استقرض منه احدهم ثلاثین الفا و لما ردّه علیه لم یقبل ان یأخذه، و قال رسول اللّه- ص- الجود شیمة اهل ذلک البیت، صحب قیس الامام علیا و کان من خواص اصحابه، ولّاه علی علی مصر فاحتال علیه معاویة فلم ینخدع، و اشترک مع علی بصفین، و بعد مقتل الامام لازم قیس الامام الحسن- ع- و کان احد قواده الأشداء و لما صالح الامام معاویة أصرّ قیس علی محاربة معاویة فلم یبایع له الا بعد مدة و رجع قیس الی المدینة فاقام بها حتی توفی، و کانت وفاته فی آخر خلافة معاویة و ستأتی الاسباب التی اختلقها معاویة لابعاده عن مصر و خلق الشک فی نفوس کبار القادة و المخلصین لعلی بن ابی طالب.

11- انس بن الحرث

انس بن الحرث بن نبیه قال البخاری: قتل مع الامام الحسین- ع- فی کربلاء، و کان انس قد ادرک وقفة کربلاء، و استشهد فیها مع الامام الحسین، و کان انس ممن امتنع عن بیعة ابی بکر، و تحصن فی دار فاطمة- ع- کما فی الاصابة.

12- ابو ایوب الانصاری

خالد بن زید بن کلاب المشهور بابی ایوب الانصاری من السابقین فی الاسلام و من ثقاة الرواة و المحدثین عن رسول اللّه- ص- و روی عنه جماعة من الصحابة، استضافه النبی- ص- لما وقف بعیره علی باب داره فی المدینة و مکث رسول اللّه فی بیته حتی اکمل بناء مسجده، و بیوت زوجاته، اشترک مع رسول اللّه- ص- فی المشاهد کلها، و لما ولی علی الخلافة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 361
استخلفه علی المدینة لما خرج الی العراق، ثم لحق به و کان معه فی حروبه کلها.

13- جابر بن عبد اللّه الانصاری

جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن کعب بن غنم بن سلمة الانصاری الصحابی الجلیل، و العالم الفقیه، شهد مع ابیه بیعة العقبة و اشترک مع النبی (ص) فی بدر، و أحد، و مشاهده الاخری، کان من التابعین لاهل البیت و الموالین لعلی (ع) استغفر له رسول اللّه خمس عشرة مرة، و کان مع علی فی حروبه کلها شهد وقعة الجمل، و صفین، و النهروان، و عاش الی عهد عبد الملک بن مروان و کان له فی مسجد النبی- ص- فی المدینة حلقة تأخذ عنه العلم ادرک من ائمة اهل البیت علیا و الحسن و الحسین، و علی بن الحسین، و محمد بن علی الباقر و مات فی المدینة و هو اول من زار الامام الحسین (ع) فی کربلاء بعد اربعین یوما من وفاته و زیارته هذه من الزیارات المشهورة عند شیعة اهل البیت (ع) و کان جابر احد الذین یقدمون علیا علی الشیخین کما تقدم.

14- هاشم المرقال

قال صاحب الاستیعاب فی ترجمته: هاشم بن ابی وقاص، و کان یعرف بهاشم الخیر القرشی الزهری ابن اخ سعد بن ابی وقاص فاتح جلولاء و قائد جیشها و کان فتح جلولاء بعد فتح الفتوح، غنم المسلمون فیها ثمانیة عشر الف الف، کان یکنی بابی عمرو، و یلقب بالمرقال، و بهاشم الخیر، و کان من الفضلاء الخیار، و کان من الابطال، فقئت عینه فی (الیرموک) ثم ارسله عمر من الیرموک مع خیل العراق الی سعد و کتب الیه بذلک فشهد القادسیة و أبلی فیها بلاء حسنا، و قام فی ذلک الیوم بما لم یقم به احد، و کان هو سبب الفتح للمسلمین، و کان فاضلا خیرا شهد مع علی حروبه فی الجمل، و صفین، و کانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 362
و ایة علی علی الرحالة بیده فی صفین و روی فی الاستیعاب و ابن حجر فی الاصابة عن طریق الاعمش عن عبد الرحمن السلمی قال رأیت عمار بن یاسر، و هاشم بن عتبة و هو یرتجز و یقول:
أعور یبغی اهله محلاقد عالج الحیاة حتی ملّا
لا بدّ ان یغلّ او یغلّا ثم اخذا فی واد من اودیة صفین فما رجعا حتی قتلا، و روی المصدر نفسه فی ترحمته لما جاء خبر قتل عثمان الی اهل الکوفة قال هاشم لأبی موسی الأشعری: تعال یا ابا موسی بایع لخیر هذه الأمة علی، فقال: لا تعجل، فوضع هاشم یده علی الاخری و قال: هذه لعلی و هذه لی و قد بایعت علیا، و انشد:
ابایع غیر مکترث علیاو لا اخشی امیرا اشعریا
ابایعه و اعلم ان سأرضی‌بذاک اللّه حقا و النبیا
روی ابن الاثیر فی حوادث سنة 37 (حرب صفین)
«ان هاشما استدعی الناس عند المساء و قال من کان یرید اللّه و الدار الآخرة فالی، فأقبل الناس الیه فحمل علی اهل الشام مرارا و قاتل قتالا شدیدا فبینما هو کذلک اذ خرج علیهم شاب من اهل الشام و هو یرتجز
و حمل علی الناس و هو یشتم و یلعن، فقال له هاشم: یا هذا ان هذا الکلام بعده الخصام، و ان هذا القتال بعده الحساب، فاتق اللّه فانه سائلک عن هذا الموقف و ما أمرت به. قال:
انی أقاتلکم لأن صاحبکم لا یصلی و انتم لا تصلون و ان صاحبکم قتل خلیفتنا و انتم ساعدتموه علی قتله! ... فقال له هاشم: ما انت و عثمان؟ الخ ثم قال: و اما قولک ان صاحبنا لا یصلی فانه اول من صلی و أفقه خلق اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 363
فی الذین و اولی برسول اللّه- ص- و اما کل من تری معی فکلهم قاری‌ء لکتاب اللّه لا ینام اللیل تهجدا فلا یغوینک هؤلاء الاشقیاء فقال الفتی: هل لی من توبة؟ قال نعم تب الی اللّه یتوب علیک فانه یقبل التوبة عن عباده و یعفو عن السیئات، فرجع الفتی الی جانب علی و قال له اهل الشام:
خدعک العراقی فقال کلا و لکن نصح لی» ابن الاثیر

15- محمد بن ابی بکر

و محمد هذا ولد ابی بکر (ض) بن ابی قحافة الخلیفة الاول من زوجته اسما بنت عمیس التی کانت تحت جعفر بن ابی طالب و هاجرت معه و ولدت من صلبه عبد اللّه بن جعفر فی الحبشة و استشهد جعفر فتزوجها ابو بکر و ولدها محمدا و بعد وفاة ابی بکر تزوجها الامام علی- ع- یقول ابن ابی الحدید فی المجلد الثانی- ج 7 ص 32 طبع دار الفکر ببیروت: ان محمد بن ابی بکر ربیب علی و خریجه و کان جاریا عنده مجری اولاده، رضع الولاء بالتشیع منذ زمن صباه فنشأ علیه فلم یکن یعرف له ابا غیر علی- ع- حتی قال علی: ان محمدا ولدی من صلب ابی بکر، و کان یکنی بأبی القاسم کنّته بذلک اخته السیدة عائشة کما یقول الکثیر من المورخین، و قد اولد محمد ابنه القاسم و کان القاسم فقیه اهل الحجاز فی زمانه و اولد القاسم عبد الرحمن و ام فروة فکان عبد الرحمن من فضلاء قریش و تزوج الامام الباقر محمد بن علی بن الحسین (ع) ام فروة و اولدها الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) و قد مدح السید الرضی ام فروة بقصیدة طویلة مطلعها:
یفاخرنا قوم بمن لم نلدهم‌یتیم اذا عد السوابق او عدی
و یقول بمدح النبی (ص) و علی (ع) فی ختامها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 364 فجدی نبی ثم جدی خلیفةفاکرم بجدینا عتیق و احمد
و ما افتخرت بعد النبی بغیره‌ید صفقت یوم البیاع علی ید
روی ابن عبد البر فی الاستیعاب ان علی بن ابی طالب کان یثنی علی محمد بن ابی بکر و یفضله لانه کانت له عبادة و اجتهاد و ان رایة علی یوم الجمل کانت بیده علی الرحالة و اشترک مع الامام فی (صفین) و ولاه علی (ع) علی مصر بعد ان عزل عنها قیس بن سعد بن عبادة الانصاری، فسار الیه عمرو بن العاص فی جیش من اهل الشام فاقتتلوا حتی بقی محمد و جده فلجأ الی خربة کانت بالقرب منه و لما عثر به احرقه فیها معاویة بن خدیج، و قیل جاؤا به اسیرا فقتله عمرو صبرا، و قیل لما جاءوا به ادخله معاویة بن خدیج فی جوف حمار و احرقه و حرمت اخته السیدة عائشة علی نفسها أکل اللحم المشوی، و کانت تدعو عقب الصلاة علی معاویة و عمرو بن العاص.
اتهم محمدا جماعة من الرواة بانه اشترک فی قتل عثمان و اعتبروه ممن اشترک فی دمه و یقول عبد البر، ان جماعة من اهل العلم نفوا اشتراکه فی دم عثمان.
و لما وجه الامام علی محمدا الی البصرة زوّده بکتاب قیّم کان منهاجا لامارته، و دستورا لحکمه، و دروسا فی تهذیب النفس و الاخلاق الفاضلة، و الآداب الحسنة اورده ابن ابی الحدید المعتزلی فی شرح النهج ص 39 و 40 و 42 و 43 و یقول ابن ابی الحدید: ان هذا الکتاب و بقیة کتب محمد لما قتل استولی علیها عمرو بن العاص و ارسلها الی معاویة و کان معاویة ینظر فی هذا الکتاب و یتعجب منه، و قال الولید بن عقبة و کان عند معاویة و رأی اعجابه بهذا الکتاب فقال لمعاویة مر بهذا الکتاب ان یحرق فقال له معاویة صه لا رأی لک ... فقال الولید: أ فمن الرأی ان یعلم الناس ان احادیث ابی تراب عندک تتعلم فیها؟ فقال معاویة: ویحک أ تأمرنی ان أحرق علما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 365
کهذا؟ و اللّه ما سمعت بعلم هو اجمع منه و لا احکم، فقال له الولید ان کنت تعجب من علمه و فضله فلم قاتلته؟ فقال لو لا انه قتل عثمان لأخذنا عنه،
یقول ابن ابی الحدید فی المصدر نفسه فلم تزل هذه الکتب فی خزائن الامویین حتی ولی الخلافة عمر بن عبد العزیز فأظهرها و احتمل ابن ابی الحدید ان یکون هذا الکتاب الذی أعجب به معاویة هو عهد الامام علی- ع- لمالک الاشتر، و الحدیث عن محمد بن ابی بکر حدیث طویل فی فضله، و شجاعته، و ایمانه، و تقواه، و تفانیه فی سبیل علی و آل علی و من اراد المزید فلیراجع شرح النهج صفحة 39 الی صفحة 56 من المجلد الثانی طبع دار الفکر.

16- مالک الاشتر

المعروف بلقبه هو بن الحرث النخعی یعرّفه لنا الامام علی فی کتاب عهده الیه لما ولاه مصر:
«الی من بمصر من المسلمین سلام اللّه علیکم فانی احمد اللّه الیکم الذی لا اله الا هو اما بعد: فقد بعثت الیکم عبدا من عباد اللّه لا ینام ایام الخوف، و لا ینکل عن الاعداء حذار الدوائر، لا تأکل من قدم، و لا واه فی عزم، من أشد عباد اللّه بأسا، و ألزمهم حسبا، اضر علی الفجار فی حریق النار، و ابعد الناس من دنس و عار، و هو مالک بن الحرث الأشتر، حسام صارم لا نابی الضریبة، و لا کلیل الحد، حلیم فی السلم، رزین فی الحرب، ذو رأی أصیل، و صبر جمیل، فاسمعوا له و أطیعوا أمره، فإن أمرکم بالنفر فانفروا، و ان أمرکم ان تقیموا فاقیموا، فانه لا یقدم و لا یحجم الا بامری، و قد آثرتکم به علی نفسی، نصیحة لکم، و شدة شکیمة علی عدوکم، الخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 366
و کان الامام علی (ع) یقول کان لی مالک کما کنت لرسول اللّه و لما قضی معاویة علیه بالسم خطب معاویة فی جمعه فقال: کان لعلی یدان قطعنا احدیهما و هو عمار بن یاسر فی صفین و قطعنا الاخری الیوم
و قصة قتله من الامور المتفق علیها تقریبا عند المؤرخین و هی لما بلغ معاویة تولیة الاشتر مصر اشتد الامر علیه و راح یفکر بالقضاء علیه قبل ان یصل انی مصر فکتب الی عامل خرجه علی بحر القلرم ای (میناء العقبة) ان یقاتله فلما قدم علیه رحب هذا به و ادخله داره و عرفه ان لدیه الطعام و العلف فبات عنده فسقاه شربة من العسل المسموم، و کان معاویة یقول لأصحابه ان علیا ولیّ الاشتر علی مصر فادعوا علیه بالموت، فراح اصحابه یدعون علیه عقب کل صلواة، و لما جاء الیه خبر موته صعد المنبر فحمد اللّه و قال، لقد استجاب اللّه دعاءکم و أمات الاشتر، ففرحوا بذلک و قیل ان معاویة ارسل رجلا من قبله لیسمه فی الطریق بأیة وسیلة و اختلف الرواة فی کیفیة دس السم له، و المشهور انه سم بالعسل للمثل المشهور عن معاویة (ان للّه جنودا من عسل) قالها متهکما بعد اغتیال مالک الاشتر
و لما بلغ نبأ اغتیال مالک علیا أسف أسفا شدیدا، و حزن علیه حزنا عظیما، و قال: للّه در مالک، و ما مالک لو کان جبلا لکان فندا، و لو کان حجرا کان صلدا، اما و اللّه لیهدن موتک عالما و لیفرحن عالما، علی مثل مالک فلتبک البواکی، و قال علقمة بن قیس النخعی فما زال علی یتلهف و یتأسف حتی ظننا انه المصاب به دوننا و عرف ذلک فی وجهه.

17- مالک بن نویرة

یقول ابن خلکان فی ترجمة و ثیمة بن موسی الوشاء: کان مالک بن نویرة سریا نبیلا یردف الملوک (ای ولی العهد الذی یخلف الملک) و هو الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 367
یضرب به المثل فیقال: مرعی و لا کالسعدان، و ماء لا کالصداء، (و فتی لا کمالک)
کان ابن نویرة هذا فارسا کریما شاعرا ذا غیرة و نجدة للممسک بعنان فرسه، فاذا سمعه بهیمة طار الیها، وفد علی النبی- ص- فاسلم و ولاه صدقات قومه، و لما ارتدت العرب بعد النبی- ص- بمنع الزکاة کان مالک من جملتهم فاحذ زکاة منهم فوزعها، فقال مالک لخالد بن الولید انی آتی بالصلواة دون الزکاة فتجادلا طویلا فقال له خالد انی قاتلک قال أو بذلک امرک صاحبک یعنی أبا بکر؟ (ض)
فقال خالد و اللّه لأقتلنک فقال مالک: ابعثنا الی ابی بکر فیکون هو الذی یحکم فینا فقد بعثت الیه غیرنا من هو جرمه اکبر من جرمنا فأبی خالد؟ و کان عبد اللّه بن عمر و ابو قتادة الانصاری حاضرین فکلّما خالدا فی امره، فکره کلامهما، فالتفت مالک الی زوجته ام متمم قال: هذه التی قتلتنی و کانت فی غایة الجمال فقال خالد بل اللّه قتلک فقال مالک انا: علی دین الاسلام، فقال خالد: یا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه و جعل رأسه أثفیة القدر و کان من اکثر الناس شعرا فکان القدر علی راسه حتی نضج الطعام.
و قبض خالد امرأة مالک و طلب من ابن عمر و ابی قتادة ان یحضرا النکاح فأبیا فقال له ابن عمر: اکتب الی ابی بکر و اذکر له امرها فأبی و تزوجها. لقد قال مالک: حقا ان زوجتی هی التی قتلتنی لأن خالدا کان یهواها من قبل. ذلک ما یقوله ابن خلکان: ان زهیر السعدی أنشد فی ذلک:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 368 قضی خالد بغیا علیه لعرسه‌و کان له فیها هوی قبل ذالکا
فأمضی هواه خالد غیر عاطف‌عنان الهوی عنه و لا متماسکا
و قال ابن خلکان و لما بلغ ابا بکر و عمر نبأ قتله قال عمر (ض): ان خالدا قتل مسلما فاقتله، و انه زنی فارجمه، فقال ابو بکر (ض):
ما کنت اقتل رجلا او ارجمه لانه تأول و اخطأ، فقال له عمر: اعزله، فقال: ما کنت لاشیم سیفا سله اللّه علیهم، و قد روی هذا الخبر (النص و الاجتهاد ص 61) (مجمع الأمثال ص 78 ج- 2) (تاریخ ابن خلکان ج- 2 ص 172) (ایام العرب ص 160).
و کان فی عهد ابی بکر لخالد لما ارسله لقتال اهل الردة: (اذا غشیتم دارا من دور الناس فسمعتم فیها اذانا للصلوة فأمسکوا عن اهلها، حتی تسألوهم عما نصحوا، و ان لم تسمعوا اذانا فشنوا الغارة علیهم فاقتلوا، و احرقوا) و اکثر المؤرخین حین رووا ان مالک قال لخالد اننی ما ارتددت عن الاسلام و شهد بذلک ابو قتادة الانصاری الذی حلف ان لا یخرج فی قتال مع خالد و قبل شهادته عمر (ض) و اصبح من ألد خصوم خالد، و کان من اقواله لأبی بکر بعثت رجلا یقتل المسلمین، و یحرق بالنار، و ذکر البعض من المؤرخین ان خالدا لما قدم الی قبیلة مالک و وجدهم مسلحین قال لهم: ما هذا السلاح؟ فاجابه (مالک) و لما ذا انتم مسلحون؟ فطلب منهم وضع السلاح، و أمّنهم، و دخل جیشه فی بیوت اهل القریة ثم انقضوا علی الذین استضافوهم فکل واحد منهم قتل صاحبه بغتة بعد نصف اللیل، و کان من الذین سخطوا علی خالد جماعة من الصحابة منهم طلحة بن عبید اللّه الذی جاء یؤید طلب عمر (ض) عند ابی بکر فاعتذر له بانه تأول فأخطأ، فرد السبی و اودی دیة (مالک) من بیت المال فأضاف (الجمحی) صاحب طبقات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 369
فحول الشعراء (ص- 170) ان عبد اللّه بن عمر کلم خالدا بعد شهادة ابی قتادة فی (مالک) و اصحابه فقال له: یا ابا عبد الرحمن اسکت عن هذا الامر فانی أعلم ما لا تعلم، و امر ضرار فضرب عنق مالک، و من المتفق علیه ان ابا بکر (ض) قد امر خالدا ان یفارق زوجة مالک، و یقول (العقاد) فی کتابه عن ابی بکر فی عدم تطبیق الحکم الشرعی الذی أشار به الیه عمر (ض) فقال: «فهو ای ابا بکر کان یؤثر اللین لأنه فی عامة احواله مطبوع علیه ما لم یمسّه الامر فیما یثیر» و هنالک قصة مالک توردها التواریخ بالتفصیل فی کثیر من الکتب کالطبری فی (ج- 2- ص 502) و ابو الفداء فی ج- 1- ص 166) و (البدایة و النهایة ج- 6- ص 322) و (فتوح البلدان ص 105) و (ابن خلدون فی تاریخه ج- 2 ص 73) و (خزانة الأدب ج 2 ص 21) و (معجم الشعراء للمرزبانی ص 260) و (طبقات فحول الشعراء ص 170) و (الفتوحات الاسلامیة ج 1 ص 10) و (تاریخ الخمیس ج 2 ص 209) و (اسد الغابة ج 4 ص 295) و (الاصابة فی ترجمته ج 3 ص 323) و (الاغانی جزء 15 ص 239) و (تاریخ الاسلام للنجار ص 50) و العجیب من هذا المؤلف الأخیر انه بعد ان سرد قصة مالک بن نویرة کما مرت قال فی تبریر الموقف: «ان سیاسته یعنی ابا بکر (ض) کانت سیاسة حکیمة مما تستعملها دول استعماریة کالانکلیز» فجعل هذا المؤلف الحدید دولة الاسلام فی عهد اول خلیفة دولة استعماریة و لم یر اختلافا فی حکومة الخلافة الاسلامیة عن حکومة الدول الاستعماریة!!
و من المورخین المعاصرین العقاد فی کتابه الصدیق ص 88 و الخضری فی محاضراته ج 1 ص 177 و الصعیدی فی القضایا الکبری فی الاسلام ص 102، و الکوثری فی مقالاته ص 458 و هیکل فی کتابه ابو بکر الصدیق ص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 370
155 و 162 هذا عدا مؤرخی الشیعة الذین یروون قصة خالد و مالک کما یرویها غیر الشیعة مما لخصناها باختصار فیما مر.
عن البراء بن عازب قال: بینما رسول اللّه- ص- کان جالسا فی اصحابه اذ نادی وفد بنی تمیم، و منهم مالک بن نویرة فقال: یا رسول اللّه علمنی الایمان، فقال رسول اللّه: تشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شریک له و انی رسول اللّه، و تصلی الخمس و تصوم شهر رمضان، و تودی الزکاة، و تحج البیت، و توالی وصیی هذا، و اشار الی علی بن ابی طالب، و لا تأکل مال الیتیم، و لا تشرب الخمر، و توفی بشرائعی، و تحرم حرمی، و تعطی الحق من نفسک للضعیف، و القوی و الکبیر و الصغیر، حتی عدّ علیه شرائع الاسلام، فقال یا رسول اللّه عد علی فانی رجل نسّاء فاعاد علیه ما قاله فعقدها بیده فقام و هو یجر رداءه، و یقول: تعلمت الایمان و رب الکعبة. فلما بعد قال رسول اللّه- ص- من احب ان ینظر الی رجل من اهل الجنة فلینظر الی هذا الرجل.

18- البراء بن عازب

البراء بن عازب بن حارث بن عدی ابن جشم الاوسی الانصاری من کبار الصحابة و رواة الحدیث عن رسول اللّه- ص- خرج الی (بدر) مع رسول اللّه- ص- فرده لصغر سنه و اشترک فی وقعة (احد) و بقیة المشاهد کما حارب و جاهد بعد رسول اللّه- ص- فی الفتوحات الاسلامیة فی فارس، و کان من خواص الامام علی- ع- و امتنع عن بیعة ابی بکر کما تقدم و حضر مع علی- ع- حروبه فی البصرة، و صفین، و قاتل معه الخوارج فی النهروان، و نزل الکوفة و توفی فی ایام مصعب بن الزبیر.

19- ابی بن کعب الانصاری

ابی بن کعب بن قیس بن عبید الانصاری من بنی النجاد کنیته ابو المنذر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 371
و ابو طفیل سید الفقراء بالاجماع، و اول من کتب للنبی- ص- کان قد حضر العقبة الثانیة و شهد (بدرا) و المشاهد کلها مع رسول اللّه و فی الحدیث قال رسول اللّه لیهنک العلم. و قال (ان اللّه امرنی ان اقرأ علیک القرآن) و عدّه (مسروق) و هو احد اهل السنة من اصحاب الفتیا، کان الخلیفة عمر- ض- یسأله عن النوازل، و یتحاکم الیه فی المعضلات، قیل مات فی خلافة عمر (رض) و قیل فی خلافة عثمان و هو من الذین امتنعوا عن بیعة ابی بکر (رض) و وقفوا بجانب الامام و هو من ثقاة المحدثین عند الشیعة الامامیة.

20- عبادة بن الصامت

عبادة بن الصامت بن قیس بن احرم بن فهر بن ثعلبة الخزرجی الانصاری من أجلة الصحابة و فضلائهم، شهد العقبة الاولی، و الثانیة، و شهد بدرا، و المشاهد کلها و ما بعدها مع رسول اللّه ولاه عمر علی قضاء فلسطین، فأنکر امورا علی معاویة فأغلظ له معاویة فی القول فقال له عبادة: لا اساکنک بارض واحدة، و رجع الی المدینة فقال له عمر: ما أقدمک؟ فأخبره، فقال له: «ارجع الی مکانک، فقبح اللّه مکانا لست فیه» و کتب الی معاویة لا إمرة لک علی عبادة. توفی عبادة فی خلافة عثمان و دفن فی البیت المقدس.

21- عبد اللّه بن مسعود

عبد اللّه بن غافل بن حبیب الهذلی المشهور بابن ام عبد الصحابی الجلیل سید القراء و اشهر المحدثین و من ثقاتهم یقول صاحب الاستیعاب: انه من العشرة المبشرة، و هو من النجباء الذین اصطفاهم النبی و اختارهم کما تقدم، کان من القراء الاربعة و قد أثنی النبی علی حفظه للقرآن، و قرآئته له، فقال:
«من اراد ان یقرأ القرآن غضا کما انزل فلیقرأه علی ابن ام عبد، و من اراد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 372
ان یسمع القرآن غضا فلیسمعه من ابن ام عبد» کان من اعلم الصحابة بکتاب اللّه و علم السنة و اشبه الناس دلا و هدیا و سمتا برسول اللّه حین یخرج من بیته الی ان یرجع، روی الاعمش عن شقیق بن سلمة قال: لما امر عثمان فی المصاحف امره قام عبد اللّه بن مسعود خطیبا فقال «أ یأمرنی عثمان ان اقرأ القرآن علی قراءة زید بن ثابت! و الذی نفسی بیده لقد اخذت القرآن من فیّ رسول اللّه سبعین سورة و ان زید بن ثابت لذو ذؤآبة یلعب مع الصبیان، و اللّه ما انزل من القرآن شی‌ء الا انا اعلم فی ای شی‌ء نزل» قال شقیق: فما سمعت احدا أنکر علیه و لا رد ما قاله کان فی جلیل مقامه و حب المسلمین له لما بعث الیه عثمان یطلب منه الخروج من المدینة اجتمع الناس الیه و قالوا له: أقم و لا تخرج و نحن نمنعک من عثمان و لا یصل الیک شی‌ء تکرهه فلم یقبل، و کان عثمان قد امر غلمانه فضربوه، و احدثوا فیه فتقا، و منع عثمان عطاءه و کان عبد اللّه هذا من اصحاب علی و من موالیه.

22- ظالم بن عمرو ابو الاسود الدؤلی

ظالم بن عمرو بن سفیان بن جندل المشهور بکنیته (ابی الاسود الدؤلی) ادرک الجاهلیة و الاسلام و شهد (بدرا) مع المسلمین و یقول الجاحظ کان ابو الاسود الدؤلی معدودا من طبقات الناس مقدما فی کل منها فانه یعد من الصحابة و التابعین، و الشعراء، و الفقهاء، و المحدثین، و الاشراف، و الفرسان و الامراء، و الحاضری الجواب، و من الشیعة، و هو واضع العربیة علی المتفق علیه و سئل عمن نهج له الطریق الی وضع النحو اجاب تلقیته عن علی، سکن البصرة فی خلافة عمر (رض) و کان علوی المذهب، استخلفه عبد اللّه بن العباس علی البصرة فأقره الامام علی علیها، له ترجمة واسعة فی کتب الادب انتهی کلام صاحب الاصابة و توفی سنة 69 من الهجرة فی البصرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 373

23- خالد بن سعید

خالد بن سعید بن ابی العامر بن امیة بن عبد شمس قیل کان خامس من اسلم و قیل ثالثهم، و کان اسلامه مع ابی بکر (رض) هاجر الی الحبشة مع من هاجر الیها من المسلمین، استعمله رسول اللّه و صار علی الیمن، و کان ممن امتنع من البیعة لأبی بکر و ارادها لعلی و کان من المسلمین الأولین، و من المجاهدین فی سبیل اللّه، اشترک بعد رجوعه مع من رجع من الحبشة فی فتح مکة، و الطائف، و تبوک، کما جاهد بعد رسول اللّه فی الفتوحات فقتل فیمن قتل من المسلمین فی اجنادین سنة 13 من الهجرة، و قیل قتل فی مرج الصفر سنة 14 ه.

24- اسید بن ثعلبة الانصاری

اسید بن ثعلبة الانصاری، شهد بدرا مع رسول اللّه- ص- و قتل فی صفین مع علی.

25- الاسود بن عیسی

الاسود بن عیسی بن اسماء بن وهب، شهد بدرا مع المسلمین و قتل مع علی بصفین.

26- بشیر بن مسعود

بشیر بن مسعود الانصاری البدری، من اصحاب علی، شهد بدرا مع النبی و شهد حروب الامام کلها، و قتل فی وقعة الحرة علی ید عسکر یزید بن معاویة.

27- ثابت المکنی بابی فضالة

ثابت المکنی بابی فضالة، شهد بدرا و قتل مع علی بصفین.

28- الحارث بن النعمان

الحارث بن النعمان بن امیة بن امری‌ء القیس الانصاری، شهد بدرا، و أحدا مع النبی، و شهد صفین مع الامام علی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 374

29- خویلد بن عمرو الانصاری

خویلد بن عمرو الانصاری، شهد بدرا مع النبی، و شهد صفین مع الامام علی

30- رقاعة بن مالک

رفاعة بن مالک بن عجلان الانصاری المکنی بابی معاذ، شهد بدرا، و ما بعده مع النبی- ص- و شهد مع علی حرب صفین.

31- رافع بن خدیج الانصاری

خرج مع النبی الی بدر فاستصغره ورده، و شهد أحدا و اصیب بسهم، قال رسول اللّه: اشهد لک یوم القیامة، و جاهد مع علی فی البصرة و صفین و النهروان،

32- ابو الیسر کعب

ابو الیسر کعب بن عمرو بن عبادة الانصاری السلمی، شهد بیعة العقبة، و جاهد فی وقعة بدر، حتی انتزع رایة المشرکین، و شهد مع علی صفین.

33- سماک بن خراشه

سماک بن خراشة بن اوس الخزرجی الانصاری، المعروف بکنیته ابی دجانة الانصاری، احد الثابتین الابطال یوم (أحد) اشترک مع رسول اللّه فی (بدر) و ما بعدها و حارب مع الامام علی فی صفین.

34- سهیل بن عمرو

سهیل بن عمرو بن ابی عمرو الانصاری، شهد (بدرا) و قتل فی صفین مع علی.

35- عتیک بن التیهان

عتیک بن التیهان اخو ابی الهیثم حضر بدرا مع رسول اللّه و قتل فی صفین مع علی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 375

36- ثابت بن عبید

ثابت بن عبید الانصاری، شهد بدرا مع رسول اللّه، و قتل بصفین مع علی

37- ثابت بن الخطیم

ثابت بن الخطیم بن عدی بن عمرو الانصاری، شهد بدرا، و ما بعده مع رسول اللّه و استعمله الامام علی علی المدائن، و اشترک مع علی فی حروبه، و کان ممن یبغضهم معاویة.

38- سهل بن حنیف

سهیل بن حنیف بن وهب بن الحکم، شهد مع رسول اللّه وقعة بدر و هو احد الثابتین یوم (أحد) حتی انکشف الناس عن رسول اللّه، صحب الامام علیا فولّاه المدینة لما خرج الی البصرة، ثم شهد صفین، ثم ولّاه علی علی فارس و مات فی خلافة علی سنة 38 ه

39- عقبة بن عمرو

عقبة بن عمرو المکنی بابی مسعود البدری الانصاری، شهد مع رسول اللّه وقعة (بدر) و ما بعدها، و استخلفه الامام علی علی الکوفة لما خرج الی صفین، و کان من خواص اصحابه.

40- ابو رافع ابراهیم

ابو رافع ابراهیم مولی رسول اللّه، من ثقاة رواة الشیعة، حضر مع رسول اللّه مشاهده کلها، و کان من اخلص الناس لعلی، و من کبار المحدثین عن النبی، مات فی خلافة علی و قیل فی خلافة عثمان.

41- انس بن الحرث

انس بن الحرث بن نبیه، قال البخاری قتل مع الامام الحسین- ع- فی کربلاء، و کان انس ممن امتنع عن بیعة ابی بکر، و تحصن فی دار فاطمة، فأدرک انس وقعة کربلاء، و استشهد فیها مع الامام الحسین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 376

42- ابو بردة

ابو بردة بن نبار الانصاری، شهد مع النبی بدرا و ما بعدها و شهد مع الامام علی الجمل، و صفین، و حارب الخوارج معه فی النهروان.

43- ابو عمرو الانصاری

شهد بیعة العقبة و بایع رسول اللّه، و حارب معه فی بدر، و ما بعدها من المشاهد، و قتل تحت لواء علی بصفین.

44- الحارث بن الربعی

الحارث بن الربعی المشهور بکنیته ابی قتادة الانصاری المعروف بفارس رسول اللّه، شهد مع النبی بدرا و دعا له رسول اللّه و کان من اصحاب الامام، و شهد معه معرکة الجمل، و صفین.

45- عقبة بن عمرو

عقبة بن عمرو بن ثعلبة الانصاری، شهد بیعة العقبة، و بدرا، و ما بعدها، مع رسول اللّه و کان من اصحاب علی و شهد حروبه.

46- قرظة بن کعب

قرظة بن کعب بن ثعلبة بن الجزری الانصاری، شهد مع النبی معرکة احد، و ما بعدها، کان من فضلاء الصحابة و من اصحاب الامام علی، جاهد بعد رسول اللّه فی الفتوحات الاسلامیة، و شهد معرکة البصرة، و صفین، و النهروان، مع الامام علی.

47- بشیر بن عبد المنذر

بشیر بن عبد المنذر الانصاری المشهور بکنیته، احد النقباء فی بیعة العقبة استخلفه النبی مرتین علی المدینة یوم خرج الی بدر، و یوم خرج الی غزوة السویق، و کان من اصحاب علی، و مات فی خلافته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 377

48- یزید بن نویرة

یزید بن نویرة بن الحرث بن عدی الانصاری، شهد مع رسول اللّه معرکة أحد، و شهد له النبی- ص- بالجنة مرتین، کان من اصحاب الامام علی و قتل فی معرکة الخوارج بالنهروان.

49- ثابت بن عبد اللّه

ثابت بن عبد اللّه الانصاری، شهد معرکة أحد مع رسول اللّه و قتل بصفین تحت رایة الامام علی

50- عقبة بن عمرو

عقبة بن عمرو بن ثعلبة الانصاری، شهد بیعة العقبة، و بدرا، و المشاهد و ما بعدها مع رسول اللّه، و کان من اصحاب الامام علی.

51- جبلة بن ثعلبة

جبلة بن ثعلبة الانصاری، شهد مع النبی معرکة أحد، و ما بعدها، و قتل بصفین مع علی

52- جبلة بن عمرو

جبلة بن عمرو بن اوس الساعدی الانصاری، شهد مع النبی وقعة أحد و قتل مع علی فی معرکة صفین.

53- حبیب بن بدیل

حبیب بن بدیل الورقاء ء احد الذین حضروا یوم الغدیر و سمع النبی- ص- یقول: (من کنت مولاه فعلی مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه) شهد معرکة أحد مع النبی و شارک الامام علیا فی القتال یوم صفین.

54- زید بن ارقم

زید بن ارقم بن قیس الانصاری الخزرجی، شهد مع النبی- ص-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 378
سبع عشرة غزوة و هو من رواة الحدیث عن النبی، و روی عنه جماعة من الصحابة و التابعین، حضر مع علی معرکة صفین و یعدّ من خواص اصحابه.

55- اعین بن ضبیعة

اعین بن ضبیعة بن ناجیة التمیمی الحنظلی و جدّ الفرزدق الشاعر، اشترک مع علی فی حرب (الجمل) و هو الذی عقر جمل السیدة عائشة.

56- اصبغ بن نباتة

اصبغ بن نباتة و یعرف بصاحب علی، اشترک مع علی (ع) فی حرب البصرة و الجمل.

57- یزید الاسلمی

قتل فی صفین مع علی، ورثاه الامام، و کان ممن شهدوا (الحدیبیة) و بایع (تحت الشجرة) بیعة الرضوان.

58- تمیم بن خزام

تمیم بن خزام شهد مع الامام حروبه الثلاث، و مات فی ایام یزید بن معاویة.

59- ثابت بن دینار

ثابت المکنی بأبی حمزة الثمالی الصحابی اشترک مع علی فی حروبه، و لازمه و کان من اصحابه، و صحب الحسن، و الحسین، و لازم الامام علی بن الحسین (ع)

60- جندب بن زهیر

جندب بن زهیر الأزدی بن الحارث الغامدی، کان من ابطال حرب الجمل مع علی.

61- جعدة بن ابی هبیره

جعدة بن ابی هبیرة بن وهب، امه ام هانی بنت ابی طالب، ولّاه الامام خراسان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 379

62- حارثة بن قدامه

حارثة بن قدامة التمیمی بن مالک بن زهیر من اصحاب الامام علی، و اشترک فی حروبه کان من رواة الصحابة و المحدثین، روی عنه اهل المدینة و البصرة.

63- جبیر بن الخباب

جبیر بن الخباب بن المنذر الانصاری، شهد مع علی صفین و کان من خواصه.

64- حبیب بن مظاهر

حبیب بن مظاهر بن الاشتر الکندی الاسدی، شهد مع علی حروبه و قتل مع الامام الحسین فی کربلاء.

65- حکیم بن جبلّة

حکیم بن جبلة العبدی بن عبد القیس کان رجلا صالحا مطاعا فی قومه و من اصحاب الامام علی و کان قد سکن البصرة علی رأس عشیرته، و لما قدم طلحة و الزبیر البصرة بجیش الجمل و غدرا بالاحنف بن قیس و الی البصرة من قبل الامام علی و أخذوه اسیرا بعد ان نتفوا شعر رأسه، و لحیته، و اهداب جفونه، خرج حکیم بن جبلة فی قومه یقاتل و بعد مقتلة عظیمة بین الطرفین، قتل حکیم و اکثر اصحابه، و ذلک قبل قیام معرکة الجمل.

66- خالد بن ابی دجانة

خالد بن أبی دجانة الانصاری، من شیعة علی، و قد شهد مع علی صفین

67- خالد بن الولید

خالد بن الولید الانصاری، من اهل المدینة، شهد مع علی صفین و أبلی بلاء حسنا.

68- زید بن صوحان

و هو اخو صعصعة بن صوحان و من اخلص الناس لعلی، و مواقفه معه مشهورة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 380
لا سیما فی معرکة الجمل، کان احد الابطال فی حرب القادسیة، و قد قطعت یده فی القادسیة، ثم قتل فی معرکة الجمل و لما بلغ السیدة عائشة نبأ قتله ترحمت علیه

69- الحجاج بن غزیة

الحجاج بن غزیة الانصاری، قدم علی علی- ع- بعد ان نکث طلحة و الزبیر بیعته فقال: یا امیر المؤمنین دراکها، دراکها، قبل الغوث، لا دالت نفسی ان خفت الموت، یا معشر الانصار انصروا امیر المؤمنین کما نصرتم رسول اللّه- ص- الا ان الآخرة لشبیهة بالاولی. و شهد معرکة صفین مع علی- ع-

70- زید بن شرحبیل

زید بن شرحبیل الانصاری، من شهود یوم الغدیر، و المحدث بحدیث من کنت مولاه فعلی مولاه، من شیعة علی و اصحابه.

71- زید بن جبلة

زید بن جبلة، او ابن جبلة احد رؤساء بنی تمیم، کان شریفا فی الاسلام و صاحب مروءة من اصحاب الامام و شیعته.

72- ابن الورقاء

بدیل بن الورقاء، قتل هو و اخوه حبیب و ولده عبد اللّه مع علی فی صفین

73- ابو عثمان الانصاری

ابو عثمان الانصاری، مولی بنی هاشم و قد شهد صفین مع الامام علی (ع)

74- ابو زین الاسدی

ابو زین مسعود الاسدی بن مالک و قد شهد صفین مع الامام علی (ع)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 381

75- ابو عمرة الانصاری

ابو عمرة الانصاری و قد اختلفوا فی اسمه فقیل انه عمرو، و قیل محصن، و قیل ثعلبة و قد قتل فی حرب صفین. مع علی (ع)

76- ابو طفیل عامر

ابن وائلة کان من شعراء الصحابة، فاضلا، عاقلا، حاضر الجواب، فصیحا، متشیعا لعلی بن ابی طالب، اشترک مع الامام علی فی حرب البصرة، و صفین، و النهروان، قال معاویة: کیف وجدک علی خلیلک ابی الحسن؟ فاجابه: کوجد ام موسی علی موسی، و اشکو الی اللّه التقصیر، فقال له معاویة: کنت فیمن حضر عثمان؟ قال له: کنت فیمن حضره، فقال له: فما منعک من نصره؟ قال له: انت ما منعک عن نصره اذ تربعت به ریب المنون، و کنت مع اهل الشام و کلهم لک؟ فقال له معاویة: اما تری فی طلبی لدمة نصرة له؟ فقال بلی و لکنک کما قال الشاعر:
فلا ألفتک بعد الموت تندبنی‌و فی حیاتی ما زودتنی زادا
کان ابو طفیل ممن یفضل علیا- ع- و یقدمه علی الشیخین و فی (الاستیعاب) ان الذین کانوا یفضلون علیا هم: سلمان، و ابو ذر، و المقداد، و خباب، و جابر ابو طفیل، و قد مرت الاشارة الی ذلک

77- عبد اللّه الانصاری

عبد اللّه بن عمر الانصاری بن حدام، ابو جابر بن عبد اللّه من اعیان الصحابة و من حضر بیعة العقبة و اشترک مع رسول اللّه- ص- قال فیه رسول اللّه:
جزا اللّه الانصار خیرا لا سیما عبید بن عمر بن حدام و سعد بن عبادة و کان من المخلصین للامام علی- ع- هو و ولده جابر کما تقدم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 382

78- سعد بن مسعود

سعد بن مسعود الثقفی عم المختار الثقفی المشهور کان من رجال علی- ع- ولاه بعض اعماله و صحبه معه الی صفین

79- سعد بن الحرث

سعد بن الحرث بن الصمة قتل فی صفین مع الامام علی

80- الحرث بن عمرو

الحرث بن عمرو الانصاری و قد قتل مع علی بصفین.

81- سلیمان الخزاعی

سلیمان بن صر الخزاعی شهد مع علی صفین، و طالب بعد مقتل الامام الحسین بدمه، و هو رئیس جماعة التوابین

82- شرحبیل الهمدانی

شرحبیل بن مرة الهمدانی هو من رواة الحدیث عن النبی و من رواة حدیث رسول اللّه: «یا علی حیاتک و موتک معی» استعمله الامام علی- ع- علی النهروان.

83- شبیب بن رشأ

شبیب بن رشأ النحیری و قد شهد صفین مع الامام علی

84- سهل بن عمر

سهل بن عمر، صاحب المربد و قد قتل مع الامام علی بصفین.

85- سهیل بن عمر

اخو سهل صاحب المربد و قد قتل هو الاخر مع علی- ع- بصفین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 383

86- الحرث بن عمر

الحرث بن عمر الانصاری و قد شهد صفین مع الامام علی- ع-.

87- عبد الرحمن الخزاعی

عبد الرحمن الخزاعی القاری‌ء لکتاب اللّه، العالم بفرائض الاسلام، روی صاحب (الاصابة) عمن روی عنه، قال عبد الرحمن: شهدنا صفین مع علی- ع- ممن بایع بیعة الرضوان تحت الشجرة ثمانمایة نفر قتل منا ثلثمائة و ستون نفرا.

88- عبد اللّه بن خراش

عبد اللّه بن خراش و هو المکنی بابی لیلی شهد مع علی- ع- صفین.

89- عبد اللّه بن سهیل

عبد اللّه بن سهیل الانصاری شهد مع علی- ع- حرب صفین.

90- عبید اللّه بن العازب

و هو اخو البراء بن العازب شهد هو و اخوه مع علی- ع- معرکة صفین و النهروان،

91- عدی بن حاتم

عدی بن حاتم الطائی المکنی بابی طریف کان من السادة الاجلاء فارسا کریما و هو من المصلین کان یقول: ما دخل وقت الصلوة الا و انا مشتاق الیها، کانت صحبته لعلی و موالاته له و شهوده حروبه و هو من الابطال الذین فتحوا العراق، و قد سکن الکوفة و کان من امراء جیش الامام علی- ع- بصفین، قتل له فی المعارک مع الامام ولدان هما: طارق، و طریف، و سأله معاویة فقال له: ما انصفک علی إذ أبقی علی ولدیه و قتل ولدیک؟ فقال له عدی: «لا و اللّه ما انصفت انا علیا إذ قتل و بقیت انا حیا من بعده».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 384

92- عروة الاسلمی

عروة بن مالک الاسلمی شهد مع علی حرب صفین.

93- عقبة السلمی

هو عقبة بن عامر السلمی شهد حرب صفین مع الامام علی- ع-

94- عمر بن هلال

عمر بن هلال الانصاری و قد شهد مع علی صفین

95- غمر بن انس

هو عمر بن انس بن عوف الانصاری و قد شهد بدرا مع النبی- ص- و شهد صفین مع الامام علی- ع-

96- هند بن ابی هاله

هند بن ابی هالة الاسیدی امه ام المؤمنین خدیجة بنت خویلد، کان منقطعا الی صحبة علی و کان من الفصحاء و البلغاء من الصحابة، و یجید الوصف، قتل مع الامام علی- ع- فی البصرة یوم الجمل.

97- وهب بن عبد اللّه

وهب بن عبد اللّه بن مسلم بن جنادة قدم علی النبی و أسلم، و حفظ عنه الحدیث، و صحب علیا من بعده و لما ولی الخلافة استعمله علی شرطة الکوفة و کان یسمیه (وهب الخیر).

98- هانی بن عروة

هانی بن عروة بن الفضفاض بن عمران سکن الکوفة و کان من خواص الامام، اشترک مع الامام فی حروبه الثلاثة و لما جاء مسلم بن عقیل الی الکوفة لاخذ البیعة لابن عمه الحسین بن علی- ع- نزل علی هانی و لما جاء بن زیاد والیا من قبل یزید علی الکوفة قبض علی مسلم و هانی فقتلهما، و قصة قتلهما معروفة فی التاریخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 385

99- هبیرة بن النعمان

هو هبیرة بن النعمان بن قیس بن مالک بن سعد العشیرة الجعفی کان من الشرفاء کما یقول الکلبی و من امراء جیش الامام علی- ع- بصفین و قد ولاه الامام علی المدائن.

100- یزید بن قیس

یزید بن قیس بن عبد اللّه من اصحاب علی و ممن اشترک فی حروبه.

101- یزید بن حوریت

یزید بن حوریت الانصاری شهد صفین مع علی- ع-.

102- یعلی بن عمیر

یعلی بن عمیر بن یعمر النهدی کان مع علی- ع- بصفین و صاحب رآیة نهد.

103- انس بن مدرک

انس بن مدرک بن کعیب بن سعد الخثعمی المکنی بابی سفیان کان من شعراء الصحابة قتل بصفین مع الامام علی- ع-.

104- عمرو بن العبدی

کان ابوه من اشراف عبد القیس و رؤسائها، و کان ابنه شریفا فی الاسلام، اشترک مع علی فی وقعة الجمل علی رأس اربعة الاف فارس.

105- عمیرة اللیثی

کان من اصحاب علی- ع- شهد صفین و کان شدیدا علی معاویة حتی حلف إن ظفر به لیصب الرصاص فی اذنه.

106- علیم بن سلمة النهمی

کان من الصحابة و سکن مصر و لما بویع للامام علی- ع- التحق به و شهد معرکة صفین و عاد الی مصر مع محمد بن ابی بکر و لما قتل محمد شفع له
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 386
معاویة بن خدیج و عاش الی ایام مروان و کان مروان قد هدد بقتله و لما ولی الامر قصد برقة و سکنها الی ان مات.

107- عمیر السلمی

عمیر بن حارث السلمی شهد مع الامام علی- ع- معرکة صفین

108- علیاء بن الهیثم

علیاء بن الهیثم بن جریر کان ابوه من الرؤساء الذین حاربوا الفرس یوم ذی قار و کان علیاء قد ادرک الجاهلیة و الاسلام و اشترک فی الحروب الاسلامیة بعد النبی- ص- و قتل مع علی- ع- یوم الجمل.

109- عوف بن عبد اللّه

عوف بن عبد اللّه الازدی، شهد مع الامام علی بن ابی طالب حرب صفین و قیل قتل فیها.

110- علاء بن عمر

علاء بن عمر الانصاری، و قد شهد مع الامام علی بن ابی طالب حرب صفین.

111- قیس بن ابی قیس

و قد شهد معرکة صفین مع الامام علی بن ابی طالب علیه السلام.

112- نهشل بن حمرة

نهشل بن حمرة بن جابر بن فطن رئیس بنی حنظلة و صاحب رایتهم، اشترک مع علی فی الجمل و صفین، و النهروان.

113- المهاجر بن خالد

المهاجر بن خالد بن الولید المخزومی، کان من اصحاب علی بن ابی طالب و موالیه، و شهد معه حرب الجمل، و صفین، بینما کان اخوه عبد الرحمن مع معاویة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 387

114- مخنف بن سلیم

مخنف بن سلیم الغامدی العبدی، من ولده ابو مخنف صاحب الاخبار لوط بن یحی بن ابی مخنف کان مع الامام و هو صاحب رایة الازد فی صفین، و قتل یوم الجمل مع الامام علی- ع- و قد ولاه الامام علی اصفهان.

115- محمد بن عمیر

محمد بن عمیر بن عطارد بن حاجب التمیمی کان من اشراف الکوفة متشیعا لعلی- ع- و له مع الحجاج اخبار کثیرة و کان من امراء الامام یوم صفین.

116- ابو عمرة الانصاری

ابو عمرة الانصاری من بنی النجار، کان ممن شهد بدرا مع رسول اللّه، و قتل فی صفین مع الامام علی.

117- حازم بن ابی حازم

حازم بن ابی حازم النجلی الاحمصی، شهد مع الامام علی بن ابی طالب علیه السلام صفین و قتل بها.

118- عبید بن تیهان

عبید بن تیهان، او ابو الهیثم الذی کان اول من بایع للرسول لیلة العقبة.

119- ابو فضالة الانصاری

شهد بدرا مع رسول اللّه و قتل بصفین مع الامام علی بن ابی طالب.

120- اویس القرنی

الزاهد المشهور من الصحابة، و قد قتل مع علی بن ابی طالب بصفین

121- زیاد بن النظر

زیاد بن النظر الحارثی، کان من قواد الامام علی بن ابی طالب فی حروبه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 388

122- عوض بن علاط

عوض بن علاط السلمی، قتل یوم الجمل بجانب علی- ع-

123- معاذ بن عفراء

معاذ بن عفراء اخو معوذ، شهد بدرا مع رسول اللّه و قتل فی حرب الجمل.

124- عبد اللّه بن سلیم

عبد اللّه بن سلیم اخو مخنف بن سلیم کان من قواد الامام یوم الجمل و بیده کانت رایة الازد.

125- علاء بن عروة

و قد حمل رایة الأزد بعد قتل عبد اللّه بن سلیم و تم علی یده الفتح یوم الجمل.

126- القاسم بن سلیم

کان صاحب رایة عبد القیس یوم البصرة، و قد قتل فی حرب الجمل و قتل معه زید و سحبان ابناء صوحان.

127- عبد اللّه بن رقیة

و کانت بیده رایة عبد القیس یوم البصرة

128- منفذ بن النعمان

حضر معرکة الجمل مع الامام و أقر له مرة بحمل رایة عبد قیس بعد ان قتل القاسم و رفقاؤه

129- مرة بن منفد النعمان

و کانت بیده رایة عبد قیس و أبلی بلاء حسنا فی معرکة البصرة.

130- الحرث بن حسان

هو الحرث بن حسان الذهلی، کان صاحب رایة بکر بن وائل فی معرکة الجمل مع علی- ع- و من کلامه قال: (یا معشر بکر لم یکن احد له من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 389
رسول اللّه- ص- متل منزلة صاحبکم) فقتل هو و خمسة من اولاده یوم الجمل.

131- بجیر بن دلجه

حضر مع علی البصرة و تعاون هو و المعقل علی عقر الجمل فانهزم اصحابه و تم النصر لعلی.

132- یزید بن حجبة

یزید بن حجبة التمیمی، اشترک مع الامام علی- ع- فی حرب الجمل، و صفین، و بعد معرکة صفین ولاه الامام علی علی الری.

133- عامر بن قیس

عامر بن قیس الحضرمی الطائی اشترک فی حروب علی- ع- و قتل فی معرکة صفین،
**** هؤلاء هم الطبقة الأولی من رجالات الشیعة و قد حضر معظمهم مع علی- ع- معرکة صفین سواء المهاجرین منهم و الانصار و کان کلهم قد ادرک النبی- ص- و حارب تحت لوائه الامویین، و اعیان قریش، فی المعارک التی اثارها الأمویون و جبابرة قریش ضد رسول اللّه- ص- لابطال دعوته، و القضاء علی شریعته فی بدر، و أحد، و الاحزاب، و کان معظم هؤلاء بل کل هؤلاء من انصار علی و شیعته منذ زمن النبی- ص- و ممن کانوا یرون فی شخصیة علی المثل الاعلی و یرون ان الحق یدور حیث دار و ان هنالک جامعة اصیلة تجمع بینهم و بین علی و یؤلف منهم شیعة لرجل تتوفر فیه کل مزایا الانسانیة الکاملة. و من الأمثلة علی تفانیهم فی عقیدتهم فی علی و ایمانهم به ما رواه ابن الأثیر فی (الکامل) فی حوادث سنة 36- 37- اذ قال: «خرج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 390
عمار یوم «صفین» علی الناس فقال: اللهم انت تعلم انی لو اعلم ان رضاک عنی فی ان اقذف بنفسی فی هذا البحر لفعلت، اللهم انت تعلم لو أعلم ان رضاک عنی ان أضع سیفی فی بطنی ثم انحنی علیه حتی یخرج من ظهری لفعلت، و انی لا اعلم الیوم عملا هو أرضی لک من جهاد هؤلاء الفاسقین، و لو اعلم عملا هو ارضی لک منه لفعلته، و اللّه انی لأری قوما لیضربنکم ضربا یرتاب منه المبطلون، و ایم اللّه لو ضربونا حتی یبلغوا بنا سعفات هجر، لقلت انّا علی الحق و انهم علی الباطل» ثم قال: من یبتغی رضوان اللّه ربه؟
و لا یرجع الی مال و لا ولد؟ فأتته عصابة فقال:
«اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذین یطالبون بدم عثمان و انهم ما ارادوا الطلب بدمه و لکنهم ذاقوا الدنیا و استحبّوها، و علموا ان الحق اذا لزمهم حال بینهم و بین ما یتمرغون فیه منها، و لم تکن لهم سابقة یستحقون بها طاعة الناس، و الولایة علیهم، فخدعوا اتباعهم و قالوا إمامنا قتل مظلوما لیکونوا بذلک جبابرة، و ملوکا، فبلغوا ما ترون، فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان، اللهم ان تنصرنا فطالما نصرت، و ان تجعل الامر لهم فادّخر لهم بما أحدثوا فی عبادک العذاب الألیم» ثم مضی و معه تلک العصابة فکان لا یمر بواد من اودیة صفین الا تبعه من کان هناک من صحابة النبی- ص- فتقدم عمار حتی دنا من عمرو بن العاص فقال له: «یا عمرو بعت دینک بمصر فتبا لک!! فقال: و لکن اطلب دم عثمان فقال: له عمار اشهد علی علمی فیک: انک لا تطلب شیئا من فعلک وجه اللّه، لقد قاتلت صاحب هذه الرایة ثلاثا مع رسول اللّه و هذه الرابعة فما هی بأبر و أتقی» ثم برز للقتال.
قال عبد الرحمن السلمی: لما قتل عمار دخلت عسکر معاویة لأنظر هل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 391
بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ و کنا اذا ترکنا القتال یتحدثون الینا و نتحدث الیهم، فوجدت معاویة و عمرو بن العاص و أبا اعور السلمی، و عبد اللّه بن عمرو یتسارون، فقال عبد اللّه بن عمرو لأبیه، قتلتم الیوم هذا الرجل فی یومکم هذا و قد قال رسول اللّه- ص-: له یوم کان المسلمون ینقلون فی بناء المسجد لبنة لبنة و عمار ینقل لبنتین فغشی علیه فاتاه النبی- ص- و جعل یمسح التراب عن وجهه و یقول: «ویحک یا ابن سمیة الناس ینقلون لبنة لبنة و انت تنقل لبنتین لبنتین رغبة فی الآخرة و انت مع ذلک تقتلک الفئة الباغیة» فقال عمرو لمعاویة: أما تسمع عبد اللّه ما یقول؟ فقال له معاویة:
ما یقول؟ فأخبره بذلک فقال: أ نحن قتلناه؟ انما قتله من جاء به فخرج الناس من فساطیطهم یقولون: ان قاتل عمار من جاء به الی الحرب ای علی بن ابی طالب.
یقول صاحب العقد الفرید و لما بلغ ذلک علیا قال: أ نحن قتلنا حمزة ایضا؟!! و هو یستهزی‌ء بقول معاویة لأن حمزة استشهد یوم احد و کان ممن شهد المعرکة، و قد جاء به النبی- ص-
کان جیش الامام علی- ع- فی صفین یشتمل علی النخبة الممتازة و البقیة الصالحة من رجال محمد- ص- الذین انتصر بهم فی مواقفه ضد الشرک حتی اعلن کلمة الحق، و رفع بهم رایة الدین فی دنیا الاسلام، و قد شهد بذلک مستشار معاویة عمرو بن العاص فی احد ایام صفین، و لما التحق شمر بن ابرهة و جماعة من قراء اهل الشام بعد مقتل عمار بالامام علی- ع- فقال: «یا معاویة ... انک ترید ان تقاتل باهل الشام رجلا له من محمد- ص- قرابة قریبة، و رحم ماسة، و قدم فی الاسلام لا یعتد احد بمثله، ... انه قد سار الیک باصحاب محمد- ص-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 392
المعدودین، و فرسانهم، و قرائهم، و اشرافهم، و لهم فی النفوس مهابة، فبادر باهل الشام مخاشن الوعر، و مضایق الغیض، و احملهم علی الجهد، و مهما نسیت فلا تنس انک علی الباطل
هؤلاء هم شیعة علی، من المهاجرین و الانصار و قد تعلقوا به منذ ان اسلموا و منذ ان عرفوا علیا و امتنع الکثیر منهم عن بیعة الخلیفة ابی بکر (رض) یوم امتنع علی عن بیعته و قد قتل الکثیر منهم بین یدیه او بین ایدی اولاده هیاما بروحه، و شخصیته، و انسانیته الکاملة فکانوا هم الشیعة الأوائل، و هم نواة التشیع من المسلمین المنبعثة من واقع الحیاة الخالصة، الصافیة من الدنس و الطمع و الشره و المکروه، فمن من الذین بقوا من اصحاب محمد من خصوم علی غیر الذین اشار الیهم عمار؟: (الذین ذاقوا الدنیا و استحبوها و علموا ان الحق اذا لزمهم حال بینهم و بین ما یتمرغون فیه منها).

زبدة انصار معاویة

یقول الیعقوبی فی تاریخه: «اشترک مع معاویة من الانصار النعمان بن بشر الانصاری، و مسلمة بن مجالد و لم یکن من المهاجرین مع معاویة احد فی صفین و کل من اشترک معه کان من مسلمی الفتح الذین اسلموا مقهورین، و الطلقاء المؤلفة قلوبهم و علی رأسهم عمرو بن العاص و ابو اعور السلمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 393
و شرحبیل بن السمط الکندی، و بسر بن ارطاة و ابو الفادیة الجهنی و سحرة بن جندب و مسلم بن عقبة و یزید بن اسد و حابس بن سعد الطائی و امثالهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 394

الفهرست

الصفحة 5- الموسوعة و طبیعتها، و الموسوعیون من المسلمین و العرب
اول دائرة معارف فی التاریخ- صبغة الموسوعیة العربیة- نشأة الموسوعیة- الجلیل الأول من الموسوعیین- ضعف الاتجاهات الموسوعیة بعد القرن الرابع- غرض الموسوعیة الأکبر- الموسوعة الأوربیة- دائرة المعارف البریطانیة- الفرنسیة- الامیرکیة- الالمانیة- الایطالیة الیابانیة و الصینیة- الموسوعة العربیة الحدیثة- الموسوعات الکاملة- موسوعة العتبات المقدسة.
47- لمحة تاریخیة مجملة عن مدن العتبات المقدسة
49- مکة المکرمة- القبائل التی سکنت مکة- اهمیة مکة- بناء البیت- ارکان الکعبة- الحطیم- المسجد الحرام- ابواب المسجد الحرام- التطورات التی طرأت علی المسجد الحرام
68- المدینة المنورة
القبائل التی نزلت المدینة .. الاسلام فی یثرب-
75- البقیع
78- الکوفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 395
صفحة 89- النجف الاشرف
109- کربلاء
121- الکاظمیة
130- مشهد الرضا
137- سامراء
145- مجمل سیر الأئمة الاثنی عشر
147- بعض من الف الکتب فی الأئمة الاثنی عشر
151- النبی محمد بن عبد اللّه (ص)
ولادته- بعثته- صفاته- دعوته و غزواته- مواهبه و ملکاته- من حکمه و اقواله- زوجاته- اولاده- وفاته
163- فاطمة الزهراء
ولادتها- ملکاتها- اولادها- وفاتها
168- الامام علی بن ابی طالب (ع)
ولادته- صفاته- امامته و خلافته- من اقواله و حکمه- اولاده و ازواجه- وفاته.
178- الحسن بن علی (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- خلافته- زوجاته- اولاده- وفاته
184- الحسین بن علی (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- خصومة یزید- اولاده مقتله-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 396
صفحة 193- علی بن الحسین (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
200- محمد الباقر (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
205- جعفر الصادق (ع)
ولادته- صفاته- علومه- بعض اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
213- موسی الکاظم (ع)
ولادته- القابه- و کناه- صفاته- ملکاته الادبیة- من اقواله و حکمه- حبوسه- اولاده- وفاته
222- علی بن موسی الرضا
ولادته- صفاته علمه و فضله- ولایة عهد الخلافة العباسیة- العهد الذی کتبه المأمون بولایة عهده- من اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
231- محمد الجواد (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
237- علی الهادی (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- اولاده- وفاته
242- الحسن العسکری (ع)
ولادته- صفاته- من اقواله و حکمه- وفاته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 397
صفحة 249- محمد بن الحسن (ع)
ولادته- صفاته
255- عقائد الشیعة و اصول دینهم
الاسلام و الایمان فی عقیدة الشیعة- اصول الدین
264- الوجود و التوحید
268- العدل
273- النبوة
280- الامامة
صفات الامام امامة علی و اولاده
290- المعاد
الروح او النفس المجردة- شبهة الآکل و المأکول فی معاد الجسد
297- ملخص اعتقاد الشیعة
301- الشیعة و التشیع
مؤتمر بیاضه
331- اسباب التشیع
الامامة
324- العداء بین هاشم و امیة
333- العثمانیة
اول حرب شنت فی وجه علی و شیعته- الصراع بین الشیعة العلویة و الشیعة العثمانیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌1، ص: 398
صفحة 350- الطبقة الاولی من رجالات الشیعة
ابو ذر الغفاری- سلمان الفارسی- عمار بن یاسر- المقداد بن عمرو- حذیفة بن الیمان- خزیمة بن ثابت ذو الشهادتین- الخباب الخزاعی- قیس بن سعد بن عبادة- ابو ایوب الانصاری- جابر الانصاری- هاشم المرقال- محمد بن ابی بکر- مالک الاشتر- مالک بن نویرة- عبد اللّه بن مسعود- ابو الاسود الدؤلی- خالد بن سعید- زید بن ارقم- ابو طفیل- عدی بن حاتم- هانی بن عروة، و اکثر من مائة علم آخر من الصحابیین و رجات الشیعة الاوائل.
292- زبدة انصار معاویة نعمان بن بشر، مسلمة بن مجالد- عمرو بن العاص، ابو اعور السلمی، شرحبیل بن السمط، بسر بن ارطاة، مسلم بن عقبة و غیرهم.

الجزء الثانی

[المقدمة]

بسم اللّه الرحمن الرحیم
و به نستعین
کان الواجب ان یکون هذا الجزء اسبق جمیع اجزاء الموسوعة فی الصدور لو ان تألیفه کان قد کمل فی حینه، و حسنا فعلنا حین اخذنا بمبدأ الشروع بطبع ای جزء ینتهی تألیفه دون التقید بتقدیم الأهم علی المهم، و لو کنا قد تقیدنا بذلک لبقینا (نراوح) طوال السنتین فی مکاننا حتی یتم الجزء الأول من مکة المکرمة و الذی لم یتم الا الیوم، و حسنا فعلنا ان جعلنا کل عتبة قائمة بنفسها من هذه الموسوعة. و علی ان فی هذا الاستقبال الکبیر الذی استقبلت به الموسوعة من مختلف القراء و مختلف المؤسسات، و الجامعات منذ اول صدور الجزئین الاولین منها تحفیزا کبیرا علی مضاعفة النشاط، فان خطورة الموضوع و صعوبة القیام به علی الوجه الصحیح المطلوب لا یسمح لنا مهما اجهدنا انفسنا باصدار اکثر من جزئین فی کل سنة فی الوقت الحاضر، ذلک لان غربلة الکتب من مطبوع و مخطوط، و عزل الروایة و الخبر عن الوقائع التاریخیة مما أخذنا علی عاتقنا القیام به و اخراجه اخراجا اکادیمیا و بحوثا جامعیة، علی قدر ما نملک من طاقة لهو من اصعب الامور و اکثرها مشقة لا سیما و ان تداخل الاخبار و الروایات و الاحادیث و الوقائع التاریخیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 6
فی تاریخ العتبات المقدسة و تشابکها من التعقید ما یجعل هذا التاریخ بمثابة الوشیعة من الغزل المتشابک المتقطع الذی لا تدری کیف تهتدی إلی رأس الخیط الأصلی منها، و مع کل ذلک فنحن ساعون علی قدر الامکان فی بذل الجهود فی المستقبل لیکون بمقدورنا ان نصدر ثلاثة اجزاء من الموسوعة فی کل سنة، و ان مبعث هذا الأمل کامن فی زیادة العدد الذی انضم الینا من اساتذة الجامعات و افاضل الباحثین و الکتاب، و لکن مثل هذا الأمل لا یجوز ان یسجله القاری‌ء علینا و عدا.
و انه لمن السار لنا ان نجد الأجزاء التی صدرت تحتل الیوم مکانا مرموقا فی اهم مکتبة من مکتبات الجامعات الاروبیة و الامیرکیة، و هذا ما یبشر بنجاح هذا المشروع و مدی انتشار الموسوعة، و قیمتها العلمیة.
و قسم مکة المکرمة کسائر اقسام العتبات المقدسة لن یقل مجموعه عن عشرة اجزاء إن لم یزد علی ما نظن، و هذا هو الجزء الأول، و هو عبارة عن المامة و افیة عن مکة من اول تشأتها و اهمیتها فی التاریخ، و مصادر بحوثها، و نماذج مما ورد عنها فی اهم المصادر العربیة و الأجنبیة راجین ان نوفق الی اصدار الأجزاء التسعة الاخری بمنه تعالی و توفیقه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 7

مکة قدیما

اشارة

إلمامة تاریخیة کافیة عن مکة المکرمة منذ أول تمصیرها حتی قیام الاسلام کتبها جعفر الخلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 9

مکة المکرمة و اسماؤها

اشارة

قلما اختلف اللغویون و المؤرخون فی اسم مدینة من المدن و اشتقاقها و تعدد اسمائها کما اختلفوا فی اسم «مکة» فقد جاء فی القاموس للفیروزآبادی ان فلانا مکّ فلانا ای اهلکه و نقصه، و منه (مکة) للبلد الحرام او للحرم کله لانها تنقص الذنوب او تفنیها .
و قد قیل انما سمیت (مکّة) فلقلة مائها، و ذلک انهم کانوا یمتکّون الماء فیها أی یستخرجونه- علی ما اورد ابن منظور- و قیل بل سمیّت مکّة لانها کانت تمکّ من ظلم فیها و ألحد- أی تهلکه، قال الراجز:
یا مکة الفاجر مکّی مکّاو لا تمکّی مذحجا و عکّا
و یقال انما سمیت (مکة) فلازدحام الناس بها من قولهم: قد امتک الفصل ضرع امه اذ امتصّه مصا شدیدا، و روی یاقوت ان الشرقی بن القطامی قال: انما سمیت مکة لان العرب فی الجاهلیة کانت تقول لا یتم حجنا حتی نأتی مکان الکعبة فنمکّ فیه ای نصفر صفیر المکّاء حول الکعبة، و کانوا یصفرون و یصفقون بأیدیهم اذا طافوا بها، و قال قوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 10
سمیت مکة لانها بین جبلین مرتفعین علیها و هی فی هبطة بمنزلة المکوک الی غیر ذلک من التفاسیر التی یصعب الرکون الیها و الاعتماد علیها
و لقد جاء اسم (مکة) فی القرآن الکریم مرة واحدة فی سورة الفتح من قوله تعالی (وَ هُوَ الَّذِی کَفَّ أَیْدِیَهُمْ عَنْکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَکَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَکُمْ عَلَیْهِمْ وَ کانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیراً) مشیرا بذلک الی صلح (الحدیبیة) کما اشارت الی ذلک التفاسیر،

بکّة

و من أسماء مکة الکثیرة (بکّة) و قیل انها سمیت بذلک لان مکة کانت تبکّ اعناق الجبابرة اذا ألحدوا فیها بظلم، و قیل بل لان الناس یتباکون فیها من کل وجه ای یتزاحمون
و قال ابن منظور عن یعقوب ان (بکّة) ما بین جبلی (مکة) لان الناس یبک بعضهم بعضا فی الطواف، ای یزحم، و قیل سمیت (بکّة) لان الناس یبکّ بعضهم بعضا فی الطریق ای یدفع ، قال ذلک ابو عبیدة و أنشد:
اذا الشریب أخذته أکّه‌فخلّه حتی یبکّ بکّه
و قیل بل ان (بکّة) موضع البیت و سائر ما حوله (مکه).
و ورد إسم (بکّة) فی القرآن الکریم فی موضع واحد من قوله:
(إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ) .

ام القری

و من أشهر اسماء مکة (ام القری) و فی سبب هذه التسمیة اختلاف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 11
کما هو فی اسم مکة و بکّة فقد قیل انها سمیت (بام القری) لانها توسطت الأرض فیما زعموا، و یقول ابن منظور فی لسان العرب: و قیل لانها قبلة جمیع الناس یؤمونها، و قیل سمیت بذلک لانها کانت اعظم القری شأنا و لا یبعد ان یکون هذا التوجیه اقرب الی الصواب لما عرفت به مکة فی ادوارها التاریخیة و لان کل مدینة بمثابة الأم لما حولها من القری علی ما یصطلح علیه اللغویون.
و قد ورد ذکرها فی القرآن الکریم فی موضعین:
(وَ هذا کِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَکٌ مُصَدِّقُ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُری وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلی صَلاتِهِمْ یُحافِظُونَ) (وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ قُرْآناً عَرَبِیًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُری وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ یَوْمَ الْجَمْعِ لا رَیْبَ فِیهِ فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَ فَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ ).

البلد، و البلد الأمین، و الحرام

البلد، و البلد الامین من اشهر أسماء مکة، التی تغلب علیها هذا الاسم و الصفة، فی الاسلام اکثر و المقصود بالأمن هو ما عرفت به مکة من الامن علی ساکنیها و اللائذین بها و حفظ اموالهم دون جمیع اطرافها، و انما سمیت مکة بالبلد فهو من باب التفخیم لها کالنجم، للثریا، و العود للمندل و قد ورد ذکر مکة باسم البلد فی أربعة مواضع من القرآن الکریم، و قد اجمع المفسرون علی ان المقصود من الآیة (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) هو القسم بالبلد الحرام و هو (مکة) و تفسیر ذلک: انک یا محمد مقیم بهذا البلد و هو محلک، و هذا تنبیه علی شرف البلد بشرف من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 12
حلّ به من الرسول الداعی الی توحیده، و اخلاص عبادته، و بیان ان تعظیمه له، و قسمه به لأجله.
و هکذا کان المقصود من (البلد) فی الآیة: (وَ التِّینِ وَ الزَّیْتُونِ وَ طُورِ سِینِینَ، وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِینِ) هو مکة البلد الحرام الذی یأمن فیه الخائف فی الجاهلیة و الاسلام .
و کذلک فان المقصود بالبلد فی الآیة القرآنیة (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ) هو مکة المکرمة، و ان معنی قوله (بَلَداً آمِناً) ای یأمنون فیه، کما یقال: لیل نائم ای النوم فیه .
و ورد ذکر (البلد) علی لسان ابراهیم بمعنی مکة مرة اخری فی الآیة (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً، وَ اجْنُبْنِی وَ بَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) .
و وردت (مکة) باسم (البلدة) مرة واحدة فی القرآن الکریم فی الآیة:
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِی حَرَّمَها، وَ لَهُ کُلُّ شَیْ‌ءٍ، وَ أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ) و عن ابن عباس ان البلدة هی مکة، و قوله (و الذی حرمها) ای جعلها حرما آمنا یحرم فیها ما یحل فی غیرها، لا ینفر صیدها، و لا یختلی خلاها، و لا یقتص فیها .
و نعتت مکة (بالحرم الآمن) فی موضعین من القرآن فقد جاء فی الآیة (أَ وَ لَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبی إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْ‌ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) و جاء فی الآیة: (أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ یُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 13

اسماء مکة الاخری

و لمکّة اسماء اخری کثیرة أوردها المؤرخون و یغلب علی الظن ان ما کان معروفا فی صقع من اسماء (مکة) غیر معروف فی صقع آخر، و ما کانت تطلق قبیلة علی مکة من الاسماء باستثناء اسماء (مکة) العامة الشاملة- غیر ما کانت تطلقه قبیلة أخری، و الا لما تعددت أسماء مکة کل هذا التعدد.
فمن أسماء مکة: النسّاسة، و أم رحم، و معاد، و الحاطمة، و الرأس، و الحرم، و صلاح، و العرش، و القادس، و المقدسة، و الناسّة، و الباسّة، و کوثی، و المذهب فی قول بشر:
و ما ضم جیاد المصلی و مذهب و هناک من یطلق علی مکة صفة (البیت) و (الکعبة) و یسمیها (بالبیت العتیق) او بیت اللّه. او البیت الحرام، و غیر ذلک من الأسماء و النعوت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 14

اول ظهور مکة فی التاریخ

تقع مکة فی الجانب الغربی من جزیرة العرب و تمتد من الغرب الی الشرق علی مسافة نحو ثلاثة کیلومترات طولا و ما یقرب من نصف ذلک عرضا فی واد مائل من الشمال الی الجنوب منحصر بین سلسلتی جبال تکادان تتصلان ببعضهما من جهة الشرق و الغرب و الجنوب، و لذا لا یشاهد ابنیتها القادم علیها الا و هو علی أبوابها، و السلسلة الشمالیة فیها تترکب من جبل الفلح (الفلق) غربا، ثم جبل قیقعان ثم جبل (الهندی)، ثم جبل (لعلع) ثم جبل (کداء) و هو فی أعلی مکة، و من جهته دخل رسول اللّه البلد حین الفتح، اما الجنوبیة فانها تترکب من جبل (ابی حدیدة) غربا یتلوه جبلا (کدی) و (کدیّ) بالتصغیر بانحراف الی الجنوب، ثم جبل (ابی قبیس) الی شرقهما، ثم جبل (خندمه).
و ترتفع مکة عن سطح البحر بنحو 330 مترا و هی علی عرض 31 درجة و 28 دقیقة و فی طول 40 درجة و 9 دقائق .
و مکة علی مسافة قلیلة من البحر الاحمر یوصلها به میناء (جدة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 15
و لا تنفذ من وادیها الی الخارج الا من طرق معینة محدودة، و فی تأریخ ظهورها کبیت او کعبة، او مدینة، أقوال مختلفة من الصعب الرکون الیها اذا اخذنا القواعد العلمیة فی دراسة التاریخ بنظر الاعتبار، و کل ما یمکن القول هو ان تاریخ مکة قدیم جدا ربما یرجع الی الوف من السنین الغابرة .
و من المؤکد ان وادی مکة قد اتخذ من قبل ان تبنی: مرحلة و محطا لمرور القوافل لانها تقع وسط الطریق و لان فیها بعض العیون من المیاه التی تفتقر الیها القوافل التی تقطع الصحراء بین اقصی الشمال من أراضی فلسطین الی اقصی الجنوب من أراضی الیمن،.
و لیس فی تاریخ المدن مدینة کثر حول مبدأ تکوینها و تأسیسها و اسباب ذلک من الکلام و الروایات و الاحادیث کهذه المدینة التی کانت اهم مدینة عند العرب قبل الاسلام، و هی اهم مدینة الیوم عند المسلمین، و ستظل کذلک ما دام الاسلام قائما.
و معول جمیع المؤرخین فی کتابة تاریخ مکة القدیم یقع علی الکتب المقدسة، و علی روایة الراوین، و قصص الأنبیاء، و علی القلیل مما تبقی من الآثار التاریخیة التی یمکن استخلاص بعض الوقائع منها، و هو ما سنمرّ علیه علی قدر ما یسمح به التحقیق، و علی قدر ما تستدعیه حاجة کتاب نرید ان نجعل منه مصدرا عاما لمختلف ما قیل عن تاریخ مکة، و بالقدر المستساغ من مجموع تلک الروایات و الاخبار، و الأحادیث، و القصص الضاربة فی الغرابة و بعد القول.
و تذهب أخبار مکة الی ان مکة او البیت او الکعبة کما تزعم هذه الأخبار کانت موجودة قبل قیام الطوفان! و حین وقع طوفان نوح و عمّ الأرض خفی موضع الکعبة و درس بسبب الغرق، و کان موضع الکعبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 16
- علی ما تقول هذه الأخبار- أکمة حمراء مدرة لا تعلوها السیول غیر ان الناس یعلمون أن موضع البیت فیما هنالک و لکنهم لم یتثبتوا منه بالضبط!! و کان یأتی البیت المظلوم، و المتعوّذ من اقطار الأرض، و یدعو عنده المکروب.
فقلّ من دعا هنالک الا استجیب له، و کان الناس یحجون الی موضع البیت حتی بوّأ اللّه مکانه لابراهیم علیه السلام لما أراد عمارة بیته و اظهار دینه و شرایعه .
و اذا صرفنا النظر عن هذه الأخبار فان جمیع المصادر التأریخیة و الدینیة متفقة علی ان بانی البیت و مؤسس مکة الأول هو ابراهیم الخلیل و ان البحث یقتضینا ان نمر علی حیاة ابراهیم و لو بایجاز لتعیین اتجاه دینه و دعوته للتوحید ثم علاقته بمکة و بیت اللّه الحرام.

ابراهیم

و ابراهیم اسم اعجمی کاسماعیل و فیه لغات: ابراهام، و إبراهم، و ابراهم بحذف الیاء و قال عبد المطلب:
و عذت بما عاذ به إبراهم
مستقبل القبلة و هو قائم
انی لک اللهم عان راغم
قال (ابو محمد) و وجدت فی التوراة انه ولد لتارخ أبی ابراهیم:
ابراهیم و ناحور و هارون و قد ولد لهارون هذا (لوط) و (سارة) و هناک قول ان سارة هی إبنه هاران الأکبر، و هاران هذا هو اخو تارخ و عم ابراهیم، علی ان بعض الأخبار تقول ان ابراهیم تزوج ابنة اخیه لان ذلک لم یکن مخالفا للشرع و المألوف حینذاک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 17
و قد إختلفت المصادر فی موطن ابراهیم الأصلی و محل ولادته فقال البعض انه ولد فی (سوس) و قال البعض بل کان مولده (ببابل) فی الفرات، و قال آخرون: کان مولده بناحیة کوثی من ارض السواد (العراق) و قال بعضهم کان مولده، (بالورکاء) بناحیة الروابی و حدود (کسکر) ثم نقله ابوه الی (کوثی) و هی الناحیة التی کان فیها نمرود، و هو نمرود بن کوش العاهل التاریخی الجبار الشهیر فی ذلک الزمان،، او نقله ابوه تارخ الی بابل علی بعض الأقوال ، و قال البعض بل انه ولد بحران و هی مدینة بفلسطین و علی ما فی هذه الأقوال من اختلاف فی موضع ولادة ابراهیم فان موضع ولادته متعین فی العراق و ان مکان ظهوره یکاد یقتصر علی مدینة بابل، بلاد الکلدانیین، و فی عصر نمرود بن کوش الملک الجبار.
و کان آزر و قد ذهب البعض الی ان آزر لیس أبا ابراهیم بل انه عمه و قد تربی ابراهیم فی حجره بعد موت ابیه و کان آزر- و هو الاسم الثانی لابی ابراهیم علی اغلب المصادر کان نجّارا، و یظهر انه لم یکن نجارا اعتیادیا و انما کان نجارا موهوبا متفننا و کانت بابل تعبد الأصنام فکان آزر هذا متخصصا فی صنع هذه الأصنام بمختلف صفاتها، و حین کبر ابراهیم استعان به ابوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 18
آزر فی الخروج بهذه الأصنام الی السوق و بیعها علی الناس لاقتنائها فی بیوتهم او معابدهم، و قد اوتی ابراهیم من ربه ملکة یمیز بها الأشیاء و ینظر الی الأمور بعین الفکر و العقل لذلک سرعان ما تسرب الی نفسه الشک فی قدسیة هذه الأصنام الخشبیة التی یصنعها ابوه و یسبغ علیها القوم صفة الربوبیة و یعبدونها، ثم حملته الهدایة الالهیة علی أن یفکر فی الکون و خالقه، و یطیل التفکیر فیستعرض الزهرة من النجوم و الکواکب، و القمر و الشمس
فیراها تظهر للعیان ثم تغیب و یستنتج بقوة تلک المدارک و الهدایة ان هذه الأشیاء و ان کانت اعظم ما تستلفت الأنظار من هذا الکون المرئی فلا یمکن بأی وجه من الوجوه ان یکون احدها هو خالق هذا الخلق و هو رب السموات و الارض، و انما یجب ان یکون هنالک إله غیر محدود الجوانب بالبصر، و غیر مشهود للعیان و هو الذی یجب ان یتجه الیه القوم و یؤمنوا به فکان اول تشکیکه فی تلک الأصنام ان توجه الی ابیه معترضا و سائلا علی ما جاء فی القرآن:
(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ لِأَبِیهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّی أَراکَ وَ قَوْمَکَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ .
ثم حین قوی ایمانه و یقینه بضلال هؤلاء القوم، و تیقن ان هذه العبادة هی الشرک باللّه و ان اللّه هو فاطر السموات و الارض و انه المعبود الذی لا شریک له قال:
(إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ) و راح یبشر بعقیدته و یدعو الی نبذ عبادة الاصنام، و یغرس الشکوک فی نفوس القوم بآلهتهم حتی فشا ذلک عنه فی قومه، ولکی یقیم ابراهیم الحجة المنطقیة علی ان هذه الأصنام لیست الا اخشابا او احجارا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 19
و هی لا تملک نفعا او ضرا تسلل فی غفلة من القوم و کان لهم عید یخرجون الیه جمیعهم فلما خرجوا لم یخرج ابراهیم معهم الی العید و خالف اصنامهم و هو یقول:
(تَاللَّهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ) .
و جاء الاصنام و هی فی بهو عظیم بعضها الی جنب بعض، کل صنم یلیه أصغر منه، و هوی علیها فکسرها بفأس فی یده حتی اذا بقی اعظم صنم منها ربط الفأس بیده ثم ترکهن .
فلما رجع القوم من مهرجان العید ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلک و اعظموه و قالوا (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) فرد علیهم من یعرف ابراهیم و مخالفته لهم فی دینهم قائلین: (قالُوا سَمِعْنا فَتًی یَذْکُرُهُمْ یُقالُ لَهُ إِبْراهِیمُ) و هم یعنون انه کان یسبّ الاصنام و ینال منها، و بلغ ذلک نمرود و اشراف قومه فجی‌ء به و قد کرهوا ان یأخذوه بغیر بینة و سألوه و هم عند ملکهم نمرود:
(أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ) .
و لم تفد هذه الحجة مع قوم نمرود و برموا به و حاولوا ان یقضوا علیه احراقا بالنار فنجا و خرج من العراق و لم یؤمن بدعوته الا القلیل و کان منهم ابنة عمه سارة بنت هاران و قد تزوجها ابراهیم و هاجر بها و بمن آمن معه الی (حاران) من ارض کنعان.
و جاء فی التوراة- التکوین: و اخذ تارخ ابرام (ابراهیم) ابنه و لوطا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 20
بن هاران ابن ابنه و سارای (سارة) کنته امرأة ابرام ابنه- و ذلک قبل ان تسمی ساره- فخرجوا معا من اور الکلدانیین لیذهبوا الی ارض کنعان، فأتوا الی حاران، و اقاموا هناک ».
ثم جاء فی التوراة التکوین «و حدث جوع فی الأرض فانحدر ابرام الی مصر لیتغرب هناک لان الجوع فی الارض کان شدیدا، وحدث لما قرب ان یدخل مصر أنه قال لسارای امرأته انی قد علمت انک امرأة حسنة المنظر، فیکون إذ رآک المصریون انهم یقولون هذه امرأته فیقتلوننی و یستقبونک، قولی انک اختی، لیکون لی خیر بسببک و تحیا نفسی من اجلک» و کان ملوک مصر یومذاک العمالقة (الهکسوس) و تروی الأخبار و جلّها مستقاة من التوراة قصة طویلة عما جری لابراهیم و سارة مع فرعون مصر ثم تقول ان فرعون هذا قد اهدی لسارة جاریة اسمها (هاجر) و کانت سارة عاقرا حتی ذلک الحین فلم تلد لابراهیم و لدا و کانت (هاجر) جاریة ذات هیئة فوهبتها سارة لابراهیم و قالت انی اراها امرأة وضیئة فخذها لعل اللّه یرزقک منها ولدا .
و خرج ابراهیم من مصر و نزل ارض فلسطین (بیت المقدس) و هی بلاد الکنعانیین، و قد وسع اللّه علیه و بسط له فی الرزق و المال و الخدم، و هنا ولد اسماعیل من هاجر، فهاج ذلک غیرة (ساره) و غاظها ان تری جاریتها تلد ولدا و هی لا تلد، فغضبت علیها و اخرجتها ثم اعادتها، و لیس من شک ان نزاعا حادا کان قد جری بینهما و ربما طال امد هذا النزاع فاضطر ابراهیم للهجرة بهاجر و ابنها اسماعیل و قد اختلفت الأخبار فی سن اسماعیل عند الهجرة و قال البعض انه کان رضیعا، و الراجح انه کان فی سن اکبر و فوق سن الرضاعة فقد ورد فی الأسباب التی حملت ساره علی ان تفرض علی ابراهیم الهجرة بهاجر و ابنها اسماعیل فی قولها: (لا تساکنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 21
هاجر فی بلد) هو ان سارة قد حملت هی الأخری باسحق فلما ولدته و کبر اقتتل هو و اسماعیل ، فلم تطق سارة بعد ذلک ان تحتمل هاجر هاجر و ابنها اکثر مما احتملته. و قد رووا انه لما ولد لابراهیم اسحق من سارة و بلغ ثلاث سنین أقبل اسماعیل علی اسحاق و هو فی حجر ابراهیم فنحاه و جلس فی مجلسه فبصرت به سارة فقالت: یا ابراهیم أ ینحّی ابن هاجر ابنی من حجرک و یجلس هو فی مکانه؟ لا و اللّه لا تجاورنی هاجر و ابنها فی بلاد ابدا فنحّهما عنی؛ و کان ابراهیم مکرما لسارة یعزّها و یعرف حقها و ذلک لانها کانت من من ولد الانبیاء و بنت خالته (کذا) .
و اقبل ابراهیم بام اسماعیل و اسماعیل حتی قدم بهما مکة و مع ام اسماعیل شنة فیها ماء تشرب منها و عمد بهما الی دوحة فوق (زمزم) و وضعهما تحتها ثم رجع، فوضعت هاجر ابنها الی جنبها تحت الدوحة، و علقت شنتها تشرب منها حتی فنی ماؤها، فانطلقت هاجر حتی صعدت (الصفا) لتنظر هل تری شیئا فلم تر شیئا، و قیل انها فعلت ذلک سبع مرات، و کان ذلک اصل السعی عند الحجاج.
و تختلف هنا الروایات فی هذه الهجرة و کیفیتها و اصل (زمزم) و ظهورها عند الدوحة لأول مرة، و اسباب تسمیة (زمزم) و ما ارفق ذلک من الاخبار التی تقتصر علی ما توردها قصص الأنبیاء و ما یوردها الرواة التی لا تنسجم اخبارها و اخبار التاریخ.
و یعلق محمد فرید وجدی علی ما ورد عن تلک الروایات فیقول:
«و یظهر لنا ان فی هذه الروایات ضعفا، بل ان اکثر امثال هذه الروایات مخلوطة بالخرافات- ثم یقول- و یلوح لنا ان ابراهیم لم یطوح بامرأته و ولده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 22
الی هذا الحد بل انتقل بامرأته الثانیة الی جهات مکة لغرض من الأغراض بدلیل انه کان قد زار بلاد العرب مرارا» .
و علی مثل هذا الرأی کان غیر قلیل من المؤرخین کما سیجی‌ء البحث، و لیس هنالک من تناقض بین هذا الرأی و الآیة القرآنیة الواردة علی لسان ابراهیم:
(رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ) اذ لا ینافی ذلک ان یکون الوادی ذا میاه و افیاء مع کونه وادیا غیر ذی زرع.

اسماعیل

و علی مقربة من مکة کانت منازل قبائل جرهم، بل قال بعضهم ان جرهم کانت اولی القبائل التی أقامت فی (مکة) و انها کانت تقیم هناک قبل ان تجی‌ء هاجر و ابنها علی حین تذهب روایات اخری الی ان جرهم لم تقم الا بعد ان تفجرت (زمزم) و جعلت العیش فی هذا الوادی الاجرد مستطاعا و قبائل جرهم عرب یتکلمون اللهجة التی نزل بها القرآن و هی لغة بنی معد.
فشب اسماعیل فی قبیلة جرهم و اعطوه سبع اعنز فکانت اصل ماله و نشأ مع اولادهم و تعلم الرمی، و نطق بلسانهم و ماتت امه و تزوج باحدی بنات جرهم و اقام و ایاها مع الجرهمیین فی هذا المکان الذی تمّ فیه تشیید البیت الحرام، و قامت مکة بعد ذلک من حوله.
و قیل ان اسماعیل قد تزوج مرتین و تتحدث الأخبار عن الزوجة الاولی و تدعی ان اسمها (عمارة) بنت سعید بن اسامة و تقول هذه الأخبار ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 23
ان ابراهیم رأی ان یزور إبنه بعد مرور هذه السنین و یستطلع خبره فجاء یسأل عنه حتی وقف علی بیته و وجد امرأة اسماعیل فسألها عنه فقالت:
انه غائب، و لیس من شک ان یکون غیابه فی الصید، فقد کان الصید یومذاک هو المعول فی حیاة تلک القبائل، و قد یقضی القوم فی الصید ایاما و اسابیع، و لم یجد ابراهیم من زوجة ابنه اسماعیل ما کان مألوفا عند القبائل من ترحیب بالضیوف فقال لها ابراهیم- علی ما تقول هذه الروایات: «قولی لزوجک اسماعیل اذا ما عاد انه قد جاءه شیخ صفته کذا و کذا و هو یقرئک السلام و یطلب منک: ان تغیّر عتبة بیتک لانه لم یرضها لک». ثم رجع من حیث أتی.
و حین رجع اسماعیل حدثته امرأته بحدیث ذلک الشیخ فقال لها زوجها:
«و هذا أبی و انت عتبة بیتی، و هو لم یرض بک فارجعی الی اهلک» و أرجعها الی أهلها، و تزوج بجرهمیة اخری، قیل ان اسمها (رعلة) بنت مضاض التی ولد له منها اثنا عشر ذکرا فکان هو و جرهم بن قحطان الجدین الأولین للعرب المستعربة .
و جاء فی التوراة علی لسان اللّه یخاطب ابراهیم فی اسماعیل «ها انا أبارکه و أثمره، و اکثره کثیرا جدا، اثنی عشر رئیسا یلد و اجعله امة کبیرة» .
و تقول الروایة: و لبث ابراهیم ما شاء اللّه ان یلبث ثم عاد مرة اخری لیزور ابنه اسماعیل فألفاه غائبا کالسابق، و وجد امرأته الجدیدة فاستنزلته و هی لم تعرفه و عرضت علیه الطعام و الشراب فسألها: ما طعامکم و شرابکم؟
قالت: اللحم و الماء. قال: هل من حبّ او غیره من الطعام؟ قالت: لا، قال:
بارک اللّه لکم فی اللحم و الماء . و قالت بعض الروایات انها جاءته باللبن و اللحم ثم طلبت منه علی سبیل المبالغة فی إکرام الضیف و هو شیخ کبیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 24
و علی رأسه أثر من غبار السفر، طلبت منه ان تغسل له رأسه و هو علی فرسه دون ان ینزل من فرسه و جاءته (بالمقام) بالاناء و وضعته عند شقه الایمن، فوضع قدمه علیه فغسلت له شق رأسه الأیمن، ثم حولت (المقام) الی شقه الایسر و فعلت به کذلک، فقال لها اذا جاء زوجک فاقرئیه عنی السلام و قولی له: الآن قد استقامت عتبة بابک. فلما جاء اسماعیل قالت له زوجته: لقد جاءنا من بعدک شیخ احسن الناس وجها، و أطیبهم ریحا، و قال لی کذا و کذا و قلت له کذا و کذا، و غسلت له رأسه، و هو یقرئک السلام و یقول: قد قد استقامت عتبة بابک فلا تغیرها. فقال لها اسماعیل:
ذلک هو ابی ابراهیم، و قوله هذا یدل علی رضاه منک.
و ولد لاسماعیل من هذا الزواج کما مر اثنا عشر ولدا هم آباء العرب المستعربة، هؤلاء العرب الذین ینتمون من ناحیة خؤولتهم فی جرهم الی العرب العاربة ابناء یعرب بن قحطان. و من ناحیة أبوّتهم لاسماعیل بن ابراهیم الذی یمتّ من ناحیة امومته الی مصر بأوثق نسب، و من ناحیة ابوته الی العراق و الی فلسطین، و الی حیث نزل ابراهیم من ارض اللّه .
هذه القصة من قصص التاریخ- علی ما اورد هیکل- یکاد ینعقد الاجماع علی جملتها من ذهاب ابراهیم و اسماعیل الی (مکة) و ان وقع خلاف علی التفاصیل، و الذی یعرضون لتفاصیل حوادثها بالنقد، یروونها علی ان هاجر ذهبت باسماعیل الی الوادی الذی به (مکة) الیوم، و کانت به عیون أقامت (جرهم) عندها فنزلت هاجر منهم اهلا و سهلا لما جاء ابراهیم بها و بابنها، و ان ما ورد عن حیرة هاجر لما نضب الماء منها، و عن سعیها سبعا بین الصفا و المروة، و عن (زمزم) و کیف نبع الماء منها فهو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 25
موضع شک عندهم، و هناک من یرتاب فی ذهاب ابراهیم و اسماعیل الی الحجاز و ینفی القصة من اساسها و من هؤلاء السیر و لیم مویر، و لکن هذا الارتیاب یفتقر الی ما یسنده فی حین ان جمیع الروایات علی خلاف هذا الرأی

قصة الذبح

و مصادر قصة الذبح هی نفسها مصادر قصة ابراهیم و مصادر قصة اسماعیل الواردة فی الکتب المقدسة؛ و الرواة کابن عباس، و الصحابة، و قصص الأنبیاء، و تتلخص القصة، فی ان ابراهیم قد رأی فی المنام ان اللّه یأمره بأن یذبح ابنه فقالت التوراة و معها بعض الرواة ان الذبیح هذا هو اسحاق بن سارة، و ان ذلک کان فی فلسطین ، و قال الراوون الآخرون بل الذبیح هو اسماعیل و ان ذلک کان فی مکة، و اورد القرآن قصة الذبح و لکن لم یعین اسم الذبیح فی القصة. و کل ما جاء هو ان ابراهیم قد اخذ ابنه امتثالا للرؤیا التی رآها لقد اخذه لکی یذبحه و یحرقه و یقدمه قربانا فسار به فی الصباح، و تقول الآیة (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْیَ قالَ یا بُنَیَّ إِنِّی أَری فِی الْمَنامِ أَنِّی أَذْبَحُکَ فَانْظُرْ ما ذا تَری قالَ یا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِی إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِینَ، فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِینِ، وَ نادَیْناهُ أَنْ یا إِبْراهِیمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیا إِنَّا کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِینُ، وَ فَدَیْناهُ بِذِبْحٍ عَظِیمٍ» .
و تکثر الروایات و بأسالیب مختلفة و عن طرق مختلفة من الرواة عن الذبیح و کیف جری هذا الذبح حتی لقد علق الدکتور محمد حسین هیکل علی احدی قصص الذبح، یقول: و تسبغ بعض الروایات علی هذه القصة خیالا شعریا تدعونا روعتها ان نقصها ثم یسرد تلک القصة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 26
و ملخص ما تروی المصادر عن کیفیة الذبح هو ان ابراهیم لما رأی فی المنام ان یذبح ابنه و تحقق لدیه من هذه الرؤیا انها أمر ربانی فیه رضا اللّه قال لابنه: یا بنی خذ الحبل و المدیة و انطلق بنا الی هذه الهضبة لنحتطب لاهلنا، و فعل الغلام و تبع والده، و هناک أفضی ابراهیم الی ابنه برؤیاه و سأله رأیه فی الأمر؟ فقال: یا أبت افعل ما تؤمر. و هم ابراهیم بالتنفیذ و لکن اللّه افتدی الغلام بکبش عظیم و نودی ان قد صدقت الرؤیا فالتفت ابراهیم و اذا بکبش علی مقربة منه فعلم انه هو الفدیة، فذبحه و حرقه و آمن بأن اللّه قد قبل منه و من ابنه هذا الفداء، و هذا خلاصة ما تذکره الکتب المقدسة و الروایات فی الذبیح، فاذا کان الذبیح اسحاق علی ما تقول التوراة و یروی الرواة فیجب ان یکون مسرح هذه القصة فی فلسطین، اما اذا کان الذبیح اسماعیل کما یروی الآخرون فیجب ان یکون مسرح القصة فی مکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 27

بناء البیت

و اختلف الرواة فیما اذا کان هنالک بیت او بنیة سبقت عهد ابراهیم فی مکة، فلما جاء ابراهیم الی مکة شید هذا البیت علی أسسه ام ان ابراهیم قد قام بتشیید هذا البیت ابتداء فی هذا المکان الذی یقوم فیه بیت اللّه الیوم، فقد أوردت بعض المصادر من الأخبار ما یستدل منه ان لمکة هذه کانت بنیة من قبل و ان هنالک مواسم کانت القبائل تأتی مکة فیها، و ان مکة هذه کانت هذه ممرا للقوافل و سوقا للتجارة یقع فیها التبادل فی البضائع بین القوافل المارة من هناک و کان الناس یحجون إلی مکة و الی موضع البیت الذی کان مبنیا من الطین مخطط الکعبة کما بناها ابراهیم علی ما یدعی البعض نقلا من کتاب (مکة المکرمة- و المدینة المنورة) بالانکلیزیة تألیف أمیل ایسین
قبل الطوفان حتی بوأ اللّه مکانه لابراهیم لما اراد أللّه عمارته و اظهار دینه و شعائره، کما أشرنا فی ذلک من قبل. و تذهب هذه الروایات الی مدی ابعد من التصور فتقول عن هذا البیت انه «لم یزل منذ اهبط آدم الی الأرض معظما محرما تتناسخه الأمم و الملل امة بعد امة و ملة بعد ملة!!» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 28
و هناک من یذهب الی ان ابراهیم قد هاجر باسماعیل و امه فی الموسم فقد رأی فی المنام أمر اللّه بأن یهاجر باسماعیل و امه من ارض الشام فی الموسم- و کان ذلک فی ذی الحجة- الی مکة و یذبحه فی الموسم و هو یدل علی ان هنالک کان موسم، و کان اجتماع، إذ یستبعد ان یکون هذا الموسم قد سنّه ابراهیم و صار موسما عاما فذبح فیه ابنه اسماعیل و الموسم فی عامه الأول.
و لکن اکثر الرواة علی ان اول من بنی البیت کان ابراهیم، فما لبث ابراهیم بعد زیارته ابنه اسماعیل للمرة الثانیة فی مکة حتی عاد مرة اخری من ارض الشام الی مکة و فی هذه المرة فاجأ ابنه اسماعیل و هو جالس یصلح نبلا له و لا شک ان اللقاء بین الأب و الابن کان مؤثرا و ان الحدیث کان طویلا و هناک ای فی هذه الزیارة قال لابراهیم: یا اسماعیل ان اللّه قد أمرنی ان ابنی له بیتا هنا قال اسماعیل: فأطع ربک، فقال ابراهیم: و قد امرک ان تعیننی علی بنائه، قال: فافعل.
و لا بد ان الاب و الابن قد أعدّا العدّة حینذاک و هیآ المواد اللازما و فی تعیین مکان البیت و المواد روایات کثیرة، و استمرا فی البناء (وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ .) و کلما انجزا قسما منه دعوا اللّه قائلین: (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ .) و حین ارتفع الجدار و عجز الأب الشیخ ان یضع الحجارة فوق الحجارة رأی ان یضع حجرا و یقوم علیه، و لم یزل مکان هذا الحجر یعتبر مقاما لابراهیم لانه وقف علیه فی اثناء بناء البیت، و جعل ابنه اسماعیل یناوله الحجارة، و قد کان هذا الحجر ملصقا بحائط الکعبة علی ما کان علیه من قدیم الزمان الی ایام عمر بن الخطاب (رض) فأخّره عن البیت قلیلا لئلا یشغل المصلین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 29
عنده و الطائفین بالبیت . و فی مقام ابراهیم من الآیة (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) اختلاف عند المفسرین فقال بعضهم: ان مقام ابراهیم هو مراسیم الحج ای الحج کله، و قال البعض بل المقصود بمقام ابراهیم: عرفه و المزدلفة و الجمار، و قیل الحرم کله، و عن السعدی ان مقام ابراهیم هو الحجر الذی کانت زوجة اسماعیل وضعته تحت قدم ابراهیم حین غسلت رأسه و یفسر المفسرون قول ابراهیم و ابنه اسماعیل (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) علی انهما بنیا الکعبة مسجدا لامسکنا لانهما التمسا الثواب علیه و الثواب انما یطلب علی الطاعة.
و استدل المستدلون علی ان هذا اول بیت بنی کمسجد للعبادة و کبیت للّه الذی عبده ابراهیم و من بعده اسماعیل و دعا الیه و لم یکن نظیر له من قبل لقد استدلوا علیه فی الآیة: (إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ .) علی الرغم مما ورد من الاختلاف و التفاسیر فی کونه البیت الأول.
و ابرز ما فی هذا البیت مما قدس هو الحجر الأسود الذی وضع فی البناء و ربما افرد فاکتفوا بقولهم (الحجر) بدون وصف اعظاما له، و من ذلک قول عمر بن الخطاب (رض) یخاطب الحجر الأسود و هو یؤدی مراسیم الحج «و اللّه انک حجر و لو لا انی رأیت رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم یفعل کذا ما فعلت» .
فأما قول الفرزدق:
و إذا ذکرت أباک أو أیّامه‌أخزاک حیث تقبّل الاحجار
فانه جعل کل ناحیة منه حجرا، ألا تری انک لو مسست کل ناحیة منه لجاز ان تقول: مسست الحجر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 30

دین ابراهیم

و بعد ان اتم ابراهیم و اسماعیل بناء البیت تعینت هنالک الفروض الواجبة.
علی ابراهیم و اسماعیل و المؤمنین بدعوته الی الوحدانیة، و تتلخص دیانة ابراهیم بأنه کان (حنیفا) ففسر البعض الحنیفیة بالاستقامة و قالوا ای انه کان مستقیما ، و ایدت الأخبار المستقاة من النصوص المقدسة و الروایات ان دیانة ابراهیم کانت دیانة مستقلة لم تنهج نهج دیانات اخری و قد ایدها الاسلام بعد ذلک و اعتبرها من اسس دعوته، و قد استدل المستدلون علی دیانة ابراهیم المستقلة و تأیید الاسلام لها من الآیة:
(ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ، إِنَّ أَوْلَی النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ .)
ثم استدلوا علی ان ابراهیم لم یکن مشرکا و ان طقوسه کانت مقبولة و لم یرد بها الا الدعوة الی الوحدانیة فی بناء البیت لکی یحضروا عنده و یدعو اللّه من قلوب خالصة و یصلوا الی ربهم انهم یستدلون علی ذلک بالآیة:
(وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِیمَ مَکانَ الْبَیْتِ أَنْ لا تُشْرِکْ بِی شَیْئاً وَ طَهِّرْ بَیْتِیَ لِلطَّائِفِینَ وَ الْقائِمِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ .)
قال المبرد: کأنه قال وحدّنی فی هذا البیت و ذلک معنی (لا تُشْرِکْ بِی شَیْئاً) و طهر بیتی من الشرک و عبادة الأوثان، و من الآیة الاخری:
(وَ عَهِدْنا إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطَّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ ) اتخذوا دلائل اخری علی اتجاه ابراهیم فی دیانته و الغرض المطلوب من بناء البیت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 31
و کما لم یکن لدی المؤرخین فی الغالب ما یرجعون الیه فی تعیین دین ابراهیم و أسسه و بناء البیت و أرکانه غیر الکتب المقدسة و الأحادیث و الروایات فإنه لیس فی الطقوس الدینیة فی الحج من مصدر غیرها و قد روت هذه المصادر روایات مختلفة لا یخرج مفهومها عن ان طقوس الحج التی التی یقوم بها المسلمون و الصلاة التی یؤدونها الیوم تکاد تکون نفس الطقوس التی قام بها ابراهیم، و هی موضع مناقشة عند المؤرخین لا سیما فیما یتعلق بالصلاة التی لم تعین تلک المصادر نوعها، و بمواقیتها التی وردت فی تلک الأخبار، و مجمل تلک الاقوال هو ان ابراهیم حین فرغ من بناء البیت دعا الناس ممن آمن بدعوته الی الحج و خرج بابنه اسماعیل و بمن لبّی دعوته یوم (الترویة) فنزل بهم (منی) و صلی بهم الظهر، و العصر، و المغرب، و العشاء الآخرة، ثم بات بهم حتی أصبح فصلی بهم صلاة الفجر، ثم غدا بهم الی (عرفة) فقام بهم هنالک حتی اذا مالت الشمس جمع بین الصلاتین:
الظهر و العصر ثم راح بهم الی الموقف من (عرفة) فوقف بهم علی (الاراک) و هو الموقف من (عرفة) الذی یقف علیه الامام یریه لاسماعیل و یعلّمه، فلما غربت الشمس دفع ابراهیم باسماعیل و بمن معه حتی اتی (المزدلفة) فجمع فیها بین الصلاتین: المغرب و العشاء الآخرة، ثم بات به و بمن معه حتی اذا طلع الفجر صلی بهم صلاة الغداة ثم وقف علی (قزاح) من (المردلفة) فیمن معه و هو الموقف الذی یقف به الامام، حتی اذا أسفر دفع باسماعیل و بمن معه یریه و یعلمه کیف یصنع حتی رمی (الجمرة الکبری)، و اراه (المنحر) من (منی) ثم نحر، و حلق، ثم أفاض به من منی لیریه کیف کیف (یطوف) ثم عاد به الی (منی) لیریه کیف یرمی (الجمار) حتی فرغ له من الحج و أذن به فی الناس .
و تکرر بعد ذلک حج ابراهیم، و کان ابراهیم یحجه فی کل سنة، و حجّت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 32
بعد ذلک الانبیاء و الامم، و فی روایة عن عبد اللّه بن ضمرة السلولی: «ما بین الرکن الی المقام، الی زمزم قبر تسعه و تسعین نبیا جاؤوا حجاجا فقبروا هنالک» و جاء: «کان النبی من الأنبیاء اذا هلکت امته لحق بمکة فتعبد بها النبی و من معه حتی یموت، فمات بها نوح، و هود، و صالح، و شعیب، و قبورهم بین زمزم و الحجر» و مات ابراهیم و دفن فی المغارة التی کانت بحبرون الحیثی عند امرأته (ساره) بمدینة الخلیل فی الأردن، و لم یزل البیت علی ما بناه ابراهیم الی ان هدمته قریش سنة 35 من مولد النبی.

البیت، و الکعبة، و المسجد الحرام

و اطلق علی بیت اللّه اسم (البیت) و (البیت العتیق) و (الکعبة)، لتکعیبها- ای تربیعها- و المسجد الحرام، و یقال البیت الحرام، کما یقال المسجد الحرام و قد اورده القرآن باسم البیت فی عدة آیات سبق ان اوردنا بعضها شواهد فیما مرّ و نورد هنا جمیع الآیات الأخری التی ورد فیها اسم البیت مقصودا به الکعبة قد اید الاسلام شعائر ابراهیم و نهی عن قتال الآمّین الی البیت و منحهم الأمن فیه، و حقن حتی دم الحیوان فی الحرم.
فالآیات القرآنیة التی ورد فیها اسم البیت هی:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْیَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّینَ الْبَیْتَ الْحَرامَ) .
(لَکُمْ فِیها مَنافِعُ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی ثُمَّ مَحِلُّها إِلَی الْبَیْتِ الْعَتِیقِ ).
(وَ ما کانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَیْتِ إِلَّا مُکاءً وَ تَصْدِیَةً) .
(فَلْیَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَیْتِ الَّذِی أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 33
(وَ لْیُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْیَطَّوَّفُوا بِالْبَیْتِ الْعَتِیقِ) .
(وَ الطُّورِ، وَ کِتابٍ مَسْطُورٍ، فِی رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَ الْبَیْتِ الْمَعْمُورِ) .
(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً، وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) .
(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَیْهِ أَنْ یَطَّوَّفَ بِهِما) .
و هناک آیة جمعت بین اسم البیت و الکعبة فی القرآن:
(جَعَلَ اللَّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرامَ قِیاماً لِلنَّاسِ) .
و ما عدا ذلک فقد ورد اسم الکعبة فی القرآن مرة واحدة و ذلک فی الآیة:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّیْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْکُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ هَدْیاً بالِغَ الْکَعْبَةِ أَوْ کَفَّارَةٌ طَعامُ مَساکِینَ، أَوْ عَدْلُ ذلِکَ صِیاماً لِیَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَ مَنْ عادَ فَیَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَ اللَّهُ عَزِیزٌ ذُو انْتِقامٍ)
و ورد اسم المسجد الحرام بقصد البیت فی القرآن فی اربعة مواضع:
(إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) .
(هُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا وَ صَدُّوکُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) .
(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ) .
(إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِی جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 34

تمصیر مکة

و عهد ابراهیم بالدعوة الی ابنه اسماعیل و صار لمکة شأن آخر غیر شأنها الذی جعل منها ممرا للقبائل القادمة من الیمن فی طریقها الی الشام و القبائل القادمة من الشام فی طریقها الی الیمن و لیس من البعید ان یکون هذا العبور و المرور و إقامة القوافل یوما او یومین بقصد الاستراحة سببا آخر لنشر دعوة اسماعیل و ازدیاد عدد الحجاج فی کل موسم من المواسم. و لا بد لموقع مثل هذا انحصر به المرور و العبور، و استراحة القبائل بالاضافة الی ما تستدعیه قدسیّته لوقوع بیت اللّه فیه و کثرة آبار المیاه من التوجه إلیه و الطواف به و التبرک بحجه نقول: لا بد ان یکون هناک موقع استراتیجی فی عالم العبادة و التجارة و الکسب و تبادل المنافع، لذلک من الطبیعی- شأن تمصیر ای مدینة قدیمة ام حدیثة- ان یتخذه من تقتضیهم مصالحهم سکنا، و مع ذلک لم نجد فی المصادر ما یشیر الی ان هؤلاء السکان قد عرفوا البناء من ز من طویل و فی ایام قریش علی اغلب الظن.
و یستدل من تصفح هذه الأخبار و المصادر ان مکة قد عمرت بالسکان فی عهد اسماعیل حتی کان لها نظام حکم و سلطة، و ادارة، خصوصا ان مکة کبرت و اتسعت و تشابکت مصالح سکانها، و اصبحت لها مواسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 35
تختلف مهماتها من طقوس دینیة، و عروض تجاریة، و غیر ذلک من النوازع و الغایات.
و اوردت هذه المصادر ان اسماعیل قد خلف من زوجته الثانیة اثنی عشر ولدا هم:
نابت، و قیدار، و أذیل، و میشا، و مسمع، و رما، و ماش، و آذر، و قطورا، و قافس، و طمیا، و قیدمان .

امارة جرهم

و یقول المؤرخون أن من (نابت) و (قیدار) ابنی اسماعیل نشر اللّه العرب ، و علی هذا یذهب اکثر المؤرخین فینسبون عرب الحجاز کلهم الی (نابت) و (قیدار) کما قد اشرنا الی ذلک من قبل و حین توفی اسماعیل و دفن الی جوار امه (هاجر) بالحجر کان الرئیس بعده و القائم بالأمور و الحاکم المطلق فی مکة و الناظر فی امر البیت و زمزم هو (نابت) بن اسماعیل علی الرغم من ان اسماعیل کما تقول الروایات الاخری قد اوصی لاخیه اسحاق و هو فی بر الشام (فلسطین)، و لقد تغلبت (جرهم) علی البیت بعد ذلک بداعی الخؤولة او القدرة و البأس فحکمت بمکة و ما والاها عوضا عن بنی اسماعیل بالرغم من کثرة اولاد اسماعیل و شرفهم و انتشارهم بمکة کما تقول الروایات، و احسن الجرهمیون ادارة الحکم و اشتهر بعض حکامهم بالمقدرة و حسن السیرة و قوة البأس کان اشهرهم (مضاض) بن عمرو الجرهمی، و کان قد تولی الحکم بعد (نابت) مباشرة، ثم الحارث، ثم عمرو بن الحارث ثم مضاض ابن عمرو بن الحارث، و لکل من هؤلاء ذکر غیر قلیل فی الروایات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 36
و فی ایام جرهم داهم السیل (البیت) و کان سیلا جارفا فهدم البیت فقامت جرهم و اعادة البناء علی الأسس التی اقامها ابراهیم، و من اهم ما جعل لمکة شأنا بعد ذلک، و حرمة فی النفوس هو حلف الفضول الذی شدد فی رعایة حقوق الضعفاء و المحتمین بالبیت فی ایام حکومة الجرهمیین علی الرغم مما قیل عن عبثهم بالأموال و الهدایا التی کان الناس و القبائل یهدونها للکعبة.

حلف الفضول

هو حلف جری بمکة یهدف الی الأخذ بنصرة الضعیف و اخذ حقه من القوی، و یرعی حقوق الغرباء الذین یسکنون مکة و یحمی الاقلیة التی تحل مکة من الأکثریة، و یردّ کل اعتداء یقع من ایة جهة اتباعا لدعوة الانصاف، و انما سمی بحلف الفضول لانه «قام به رجال من جرهم کلهم یسمی الفضل: الفضل بن الحرث، و الفضل بن و داعة، و الفضل بن فضالة فقیل له حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء» .
و ظل هذا الحلف معمولا به الی ایام قریش، و صار موضع فخر لمکة و فخر للعرب جمیعا لما کان یتضمن من عهود شریفة نبیلة، و قد تجدد هذا الحلف فی أیام قریش بدار عبد اللّه بن جدعان و أدرکه النبی (ص) فقال: لقد شهدت فی دار عبد اللّه بن جدعان حلف الفضول، و لو أدعی الیه فی الاسلام لأجبت.
قال محمد بن ابراهیم بن الحارث التیمی: «کان بین الحسین بن علی ابن ابی طالب و بین الولید بن عتبة بن ابی سفیان منازعة فی مال کان بینهما، و الولید یومئذ أمیر علی (المدینة) لعمّه معاویة، فتحامل الولید لسلطانه، فقال له الحسین: أقسم باللّه لتنصفنّی أو لأخذنّ سیفی ثم لأقومنّ فی مسجد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 37
رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم ثم لأدعونّ (بحلف الفضول) فقال عبد اللّه ابن الزبیر- و کان حاضرا- و انا أحلف باللّه لو دعا به (ای الحسین) لأجبته حتی ینصف من حقه او نموت، و بلغ المسور بن مخرمة الزهری فقال مثل ذلک، و بلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد اللّه التیمی فقال مثل ذلک، فلما بلغ الولید ذلک أنصف الحسین من نفسه حتی رضی ».

إتساع رقعة مکة

و اتسعت رقعة مکة باتخاذها سکنا لما کان یستدعیه حسن الادارة و طلب المثوبة، و الحث علی سکناها من لدن جمیع الأنبیاء الذین کانوا فی مختلف أنحاء الحجاز، فقد جاء فی الروایات ان النبی (صالحا) قال لمن آمن به من قومه: ان هذه الدار- یعنی مساکنهم- قد سخط اللّه علیها و علی أهلها فاظعنوا عنها فانها لیست لکم بدار، فقالوا له: فأین تریدنا نذهب؟ قال:
تلحقون بحرم اللّه و أمنه- یعنی مکة- فانی لا أری لکم دونه، فانطلقوا آمیّن البیت الحرام حتی وردوا مکة، فلم یزالوا بها حتی ماتوا و تلک قبورهم غربی الکعبة بین (دار الندوة) و دار بنی هاشم، و کذلک فعل (هود) و من آمن معه، و کذلک فعل (شعیب) و من آمن معه .
و الذی زاد اهمیة مکة و اتساع رقعتها و کثرة الوافدین علیها من الحجاج ان کانت نفائس الأمتعة و الاعلاق و الحلی التی تهدی الی الکعبة و الأموال التی تجبی الیها قد جعلتها اهم سکن فی جزیرة العرب حتی لقد کان لها فی ایام (جرهم) خزانة بئر فی (البیت) یلقی فیها الحلی و المتاع و السلاح مما کان یهدی الی (البیت) و فی ضمن ما کان قد أهدی للبیت غزالتان من الذهب، و اسلحة من الذهب مما دل علی ان حیاة مکة کانت رخیة ناعمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 38

امارة خزاعة

و کانت قبیلة خزاعة تنزل حول الحرم فی ایام جرهم، و قد اختلف المؤرخون فی اصل خزاعة فقال بعضهم ان اصلها من الیمن کالجرهمیین، و قد هاجرت بسبب ما کان ینتظر من الدمار الذی یخلفه سیل العرم و اقامت فی مکة، و قال بعضهم بل إن خزاعة من بنی اسماعیل، و کیفما کان فقد اطمع رخاء مکة و شأنها العظیم و وفرة النعمة خزاعة بامارة مکة و کان ذلک فی ایام حکم مضاض بن عمرو بن الحارث، فقامت خزاعة فی وجه جرهم، و وقع القتال بینهما، و اعتزل بنو اسماعیل الفریقین، فتغلبت خزاعة علی جرهم و انتزعت منهم الامارة، و أجلتهم عن مکة فقصدوا الیمن موطن اصولهم إذ لم یبق لهم مأمل فی مکة.
و من قصیدة منسوبة لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمی الذی غلب علی امره و أجلی عن مکة هو و من تبعه یستخلص الباحث بعض الرخاء و النعمة و راحة النفس التی کانت تتمتع بها مکة، یقول مضاض عن مکة و هو فی طریقه إلی الیمن جالیا:
و قائلة و الدمع سکب مبادرو قد شرقت بالدمع منها المحاجر
کأن لم یکن بین الحجون الی الصفاأنیس و لم یسمر بمکّة سامر
بلی نحن کنّا أهلها فأزالناصروف اللیالی و الجدود العواثر
و کنّا ولاة البیت من بعد (نابت)نطوف بذاک البیت و الخیر ظاهر
الی ان یقول:
و صرنا احادیثا و کنّا بغبطةبذلک عضّتنا السنون الغوابر
فسحّت دموع العین تبکی لبلدةبها حرم أمن و فیها المشاعر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 39 و تبکی لبیت لیس یؤذی حمامه‌یظل به أمنا و فیه العصافر
و فیه و حوش لا ترام أنیسه‌اذا خرجت منه فلیست تغادر
علی ان بعض المصادر قالت ان الواقعة قد حدثت فی ایام عمرو بن الحارث و لیس فی ایام ابنه مضاض و ان هذا الشعر انما هو لعمرو و انه هو الذی أجلی عن مکة و لیس ابنه مضاضا کما ذکرنا، و تزعم بعضن المصادر ان هذه القصیدة و غیرها من ابیات عمرو بن الحارث کانت اول شعر عربی قیل و لم یقل قبله احد شعرا!! .
و غیر هذا الکثیر الذی یدل علی توسع رقعة مکة و ازدیاد عدد سکانها یوما بعد یوم لما امتازت به هذه البلدة من رخاء و أمن و عزة.
و یقول الأزرقی فی اخبار مکة و فی قوله دلالة اخری علی النعمة و الرخاء التی کانت تتمتع به مکة فی امارة خزاعة خاصة، یقول «و احتازب خزاعة حجابة الکعبة و ولایة امر مکة و فیهم بنو اسماعیل بن ابراهیم بمکة و ما حولها لا ینازعهم احد منهم فی شی‌ء من ذلک و لا یطلبونه فتزوج (لحی)- و هو ربیعة بن حارثة بن عمرو بن عامر (الخزاعی)- (فهیرة) بنت عامر بن عمرو ابن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمی ملک جرهم فولدت له (عمروا) و هو عمرو بن لحی، و بلغ بمکة و فی العرب فی حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة؟ و کان قد اعور عشرین فحلا، و کان الرجل فی الجاهلیة اذا ملک الف ناقة فقأ عین فحل إبله! فکان قد فقأ عین عشرین فحلا!! و کان اول من اطعم الحاج بمکة سدایف الابل و لحمانها علی الثرید، و عمّ فی تلک السنة جمیع حاج العرب بثلاثة اثواب من برود الیمن».
فمن این لعمرو هذا عشرون الف بعیر؟ و من این له کل هذا الثراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 40
الذی ینفق منه آلاف البرود الیمنیة الغالیة الثمن علی الحجاج، و یطعم هؤلاء الحجاج شحوم السنام لو لم تکن مکة قد تجاوزت الحدود فی الرخاء و النعمة و فیما کان یدخل الیها من المداخل؟
و لقد دافعت خزاعة عن مکة و الحرم غیر مرة، و کان بعض التبابعة من الیمن قد سار الی البیت غازیا و اراد هدمه و تخریبه فقامت دونه خزاعة و قاتلت علیه اشد القتال حتی رجع ثم غزاها غزوة اخری و هکذا و کانت لخزاعة نفوس أبیة منعتها من ان تمد یدا الی الاموال و الهدایا التی تهدی الی الکعبة، و لا بد ان یکون هذا الاباء قد انعکس فی ادارة حکمها فزاد من قیم الأنظمة و اعزاز البیت و تقدیسه.

مکة فی ایام قریش

و تولت خزاعة الحکم نحو ثلثمایة سنة، و قیل خمسمایة سنة تولت بعدها قریش الحکم و ولایة البیت بزعامة (قصی) بن کلاب بعد حرب وقعت بین خزاعة و بین القبائل التی استعان بها قصی لانتزاع الحکم من مخطط بناء الکعبة فی عهد قریش نقلا عن کتاب (مکة المکرمة و المدینة المنورة) بالانکلیزیة- تالیف امیل ایسین.
ایدی خزاعة، و انتهت هذه الحرب بالتحکیم و تولی قصی ولایة البیت و امارة مکة و بقیت مکة تحت حکم قریش حتی قام الاسلام.
و تغیر اسلوب الحکم و طریقة الادارة منذ ان تول قصی بن کلاب امارة مکة، و قام بحفر عدد من الآبار زادت من ثروة البلاد المائیة، و اوجد تشریعات جدیدة، و احدث وظائف اکثر ضمانا لتنظیم حیاة السکان فی مکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 41

دار الندوة

و انشأ قصی فی داره مجلسا اشبه بالمجلس النیابی باسم (دار الندوة) و قد بنی داره هذه و جعل بابها الی مسجد الکعبة، و سن لها تشریعا یقصر بمقتضاه دخولها علی اولاده کافة و علی من یبلغ الأربعین من العمر من قریش، و فی دار الندوة هذه کانت تجتمع قریش للتداول فی الرأی و التشاور فی کل امر یخص المدینة او البیت الحرام، فلا یبرمون شیئا الا فیها، و لا یعتقدون لواء لحرب قوم من غیرهم الا فیها یعقده لهم بعض اولاد قصیّ و لا تفصل خصومة بینهم الا هناک.
قال الکلبی: و هی اول دار بنیت بمکة ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه، و کلما قربوا من عصر الاسلام ازدادوا قوة و کثرة حتی دانت لهم العرب، و صار امر قصی فی قریش کالدین المتبع، و سمیت (الندوة) لأنهم کانوا ینتدون فیها ای یجتمعون للخیر و الشر و کثر المنتدون بعد ذلک فکان لعبد المطلب مجلس فی ظل الکعبة علی فراش یعد له لا یجلس علیه احد غیره احتراما له و اجلالا لقدره، و فی جوار الکعبة کانت قریش تسمر فی اندیة تسمع فیها المواعظ و الأخبار، و غیر ذلک.

طراز الحکم و صفته

و عظم شأن مکة و کثرت مواردها و تعددت المرافق و النواحی التی تفتقر الی الرعایة و ادارة شئون البلد الواسعة و صار الحکم فیها منذ عهد قصی الذی تولی حکمها یقرب من الحکم الدیمقراطی الذی یشترک فی ادارته غیر واحد من الحکام مما یشبه الحکم الشوری و کانت مناصب مکة تقوم علی ستة اسس تعتبر هی القواعد الأساسیة لادارة شؤون مکة الخاصة و العامة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 42
و هی: السدانة، و دار الندوة، و اللواء، و السقایة و الرفادة، و القیادة.
و کان من أولاد قصی عبد مناف، و کانت له و جاهة و شخصیة تکاد تحصر ز عامة ابیه فیه و قد شق ذلک علی الاب و الام ان لا یکون للابن الثانی و هو عبد الدار هذه المنزلة و رأی الأب ان یقسم هذه المناصب بینهما فناط بابنه عبد الدار (السدانة) و (دار الندوة) و (اللواء).
و السدانة- هی الحجابة و باستطاعة المتولی لها ان یحجب الکعبة لان مفتاحها بیده وحده یفتح بابها للناس و یقفله، و لها المقام الأول عندهم، و مثل هذا المنصب قدیم عند الیهود، فقد کانت عندهم کاهن خاص لحراسة الهیکل یسمونه حافظ الباب، و قد جعل صاحب (العقد الفرید) السدانة و الحجابة منصبین .
دار الندوة- و قد مر ذکرها و هی ادارة شؤون الشوری و ما یتعلق ببلوغ الرشد عند الفتیان و الفتیات و غیر ذلک من مهام هذه الندوة.
اللواء- هو الرایة- و قد کانت لقریش رایة تسمی العقاب، فکانوا اذا ارادوا الحرب اخرجوها، فاذا اجتمع رأیهم علی واحد سلموه ایاها و الا فانهم یسلمونها الی صاحبها .
ثم ناط قصی بابنه عبد مناف المناصب الثلاثة الأخری و هی: (السقایة) و (الرفادة) و (القیادة).
و السقایة- اما السقایة فحیاض من أدم (جلود کانت علی عهد قصی توضع بفناء الکعبة و یسقی فیها الماء العذب من الآبار علی الابل و یسقاه الحجاج.
و الرفادة- خرج من المال کانت قریش تخرجه من اموالها فی کل موسم فتدفعه الی قصی یصنع به طعاما للحاج یأکله من لم یکن معه سعة و لا زاد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 43
و فی احدی السنین و کانت الرفادة بید عمرو بن عبد مناف اصاب البلد قحط و جدب شدید، فخرج عمرو بن عبد مناف الی الشام فاشتری بماله دقیقا و کعکا، فقدم به مکة فی الموسم، و هشم ذلک الکعک و نحر الجزور و طبخه و جعله ثریدا و اطعم الناس، و کانوا فی مجاعة شدیدة حتی أشبعهم فسمی منذ ذلک الحین باسم (هاشم) و لم یعد احد یسمیه عمروا لانه هشم الثرید لأهل مکة . و فی ذلک یقول الشاعر مشیرا إلی هاشم:
عمرو العلا هشم الثرید لمعشرکانوا بمکة مسنتین عجاف
و القیادة- هی إمارة الرکب و یتقدم صاحبها الرکب و یقودهم للقتال فی الحرب و یتزعمهم فی قیادته فی الخروج للتجارة.
و تفرعت بعد ذلک من هذه المناصب مناصب اخری اهمها: (الاشناق) و هی النظر فی الدیات و الغرم، و (القبة) و هی جمع تجهیزات الجیش فی الحرب، و (الاعنّة) و هی تدبیر شؤون الخیل عند قریش فی الحرب، و (المشورة) و هو منصب مهمته اسداء النصیحة و المشورة و قد کان هذا المنصب فی بنی اسد فلم تکن قریش تجتمع علی امر حتی یعرضوه علی بنی اسد، و (السفارة) فی القیام بالاتصال بین قریش و غیرهم من القبائل اذا وقعت حرب او تطلب الأمر الی مذاکرة و صلح، و (الایسار) و هی الازلام التی کانوا یستقسمون بها للاستخارة بما یشبه سحب القرعة، و کان یتولی ذلک رجل من بنی جمح، و (الحکومة) و هی التی تحکم بین الناس اذا اختلفوا، و (الاموال) المحجرة و هی الأموال التی کانت تخص آلهتهم من النقد و الحلی و السلاح و هی ما تشبه (بیت المال) فی الاسلام، و کانت ولایتها فی بنی سهم، و (العمارة) و یراد بها ان لا یتکلم احد فی المسجد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 44
الحرام بهجر و لا رفث و لا یرفع صوته علی ما وصف به العقد الفرید، و یمکن ان یوصف صاحبها بالمسؤول او المحافظ علی حرمة البیت .
و یعلق جرجی زیدان علی هذه المناصب فیقول ان بعض هذه المناصب لا اهمیة لها علی الاطلاق و لکن یظهر انهم قد اکثروها لیرضوا کل بطون قریش خوفا من التحاسد و إجلالا لقدر الکعبة و المبالغة فی تعظیمها، و تری انهم جمعوا بها بین السیاسة و الدین و الادارة و الحرب و لکنهم اقتسموها فیما بینهم بما یشبه الجمهوریة، او هو نوع من الحکومة لا تری له شبیها بین الامم المتمدنة، و ربما اشهت الحکومة الشوریة بعض الوجوه الا ان للشوری، رئیسا کالملک او السلطان او رئیس الجمهوریة، و لیس فی هذه شی‌ء من ذلک الا ما قد یکون لصاحب (دار الندوة) او السدانة من الریاسة .
و کان لهذا الحکم و نظامه شی‌ء غیر قلیل من الامتیاز، و الیه یرجع الکثیر من الأسباب التی جعلت من مکة مدینة عامرة ذات امجاد و شهرة انفردت بها بهن جمیع المدن العربیة قبل الاسلام ثروة، و جاها، و حریة، و أمنا، و حربا.

اصحاب الفیل

ان قصة اصحاب الفیل هی قصة ابرهة الأشرم الذی سار بجیش جرار من الأحباش مستخدما الفیلة ناویا هدم بیت اللّه الحرام و قد هزم اللبائل العربیة التی اعترضته و هو فی طریقه الی مکة حتی وقعت به و بجیشه النکبة عند ابواب مکة و التی تحدثت الروایات عنها بمختلف الأحادیث، و تفشت علی اثرها الحصبة و الجدری فی حیش ابرهة و هی امراض قیل انها عرفت فی بلاد العرب لأول مرة فی ذلک التاریخ و داهمهم السیل فألقی بهم فی البحر و رجع ابرهة ناکصا علی عقبیه و قد وقع الدمار بمن بقی من الجیش
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 45
حتی صار عبرة للمعتبرین اذ جاء فی محکم کتاب اللّه:
«أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّکَ بِأَصْحابِ الْفِیلِ؟».
إن قصة ابرهة هذه قد رفعت قدر مکة خصوصا حین وجدوا عبد المطلب و هو رئیس مکة و عظیمها یطمئن قریشا بأن للبیت ربّا سیحمیه. فلما ردّ اللّه تعالی الحبشة عن مکة و اصابهم بما أصابهم به من النقمة عظمّت العرب شأن قریش و قالوا: «اهل اللّه قاتل اللّه عنهم، و اکفاهم مؤونة عدوهم» .
و سبب زحف ابرهة کما یروی الرواة هو ان ابرهة الاشرم احد قواد النجاشی الحبشی العظام لما فتح الیمن بنی کنیسة کبیرة فیها اراد بها ان یصرف العرب عن حج مکة الیها، فتغوط بعض العرب فیها فی غفلة من الناس تحقیرا لها و یقول الطوسی فی تفسیره بل هدّم البعض فی غفلة من القوم جانبا منها بقصد الاهانة فعزم ابرهة ان یسیر الی مکة فیهدمها انتقاما فکان الذی کان من الدمار الذی لحق بجیشه.
و فی طیر الابابیل و صفته و حمله الحجارة بمنقاره و کیفیة مهاجمة هذا الطیر جیش ابرهة اختلاف فی التفاسیر و الروایات.
و یقول فرید و جدی: اما الروایات فی اشکال هذه الطیور فکثیرة و کثرتها تدل علی انه لا یوجد نص صحیح فی ذلک عن النبی صلی اللّه علیه و آله، فقیل انها کانت طیرا خرجت من البحر و اختلفوا فی لونها فقیل کانت بیضاء، و قیل سوداء، و قیل خضراء لها خراطیم کخراطیم الطیر و اکف کأکفّ الکلاب الی غیر ذلک من الروایات المختلفة «و قد یذهب بعض علماء العصر الی ان هذه الطیور عبارة عن المیکروبات حملت الیهم الطاعون او البعوض و قد حمل الیهم الحمیّات الخبیثة، او میکروبات الجدری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 46
و لیس فی الآیة ما یمنع هذا المعنی فیتفق المنقول و المعقول،- و یقول فرید و جدی و نحن نمیل الی هذا الرأی و نؤیده، لا سیما و لیس من مانع لغوی و لا علمی یمنع من ان یرید بالطیر المکاریب، و کثیرا ما یتفشی الطاعون فی الجیوش فیردها علی اعقابها خاسرة، فهذا نابلیون الاول لما حاصر (عکا) و لبث أشهرا اصاب جیشه الطاعون فکان سبب رفعه الحصار عنها و رجع لمصر راضیا من الغنیمة بالایاب و اصابه مثل ذلک فی محاربته لروسیا فی موسکو فکان الوباء و البرد اشد علیه من کل ما لقیه من جیوش الروس فرجع و لا جندی معه و هلک عسکره برمته» .
و یروی احمد بن ابی یعقوب المتوفی سنة 292 روایة تفید علماء العصر فی استخلاص ما یرون استخلاصه مما یتفق و اراءهم عن انکسار جیش (ابرهة) و هلاکه فیقول: ان الرعب قد داخل ابرهة و غشیه الذعر حینما خرج الیه زعیم مکة الکبیر عبد المطلب طالبا منه ان یعید له أبله التی استحوذ علیها أبرهة فی مرعاها خارج مکة و کانت نحو مائتی بعیر فتعجب ابرهة و قال انه کان یتوقع ان یکون طلبه منحصرا فی حفظ البیت من هدمه ایاه لا رد ابله الیه، فقال له عبد المطلب و بکل وثوق و اطمئنان: «ان للبیت ربا یحمیه» ثم یقول احمد ابن ابی یعقوب:
«فلما انصرف عبد المطلب من عند ابرهة جمع ولده، و من معه، ثم جاء الی باب الکعبة فتعلق به، ثم انصرف و اقام بموضعه، فلما کان من غد بعث ابنه عبد اللّه (ابا محمد بن عبد اللّه النبی) لیأتیه بالخبر، و دنا و قد اجتمعت الیه من قریش جماعة لیقاتلوا معه ان امکنهم ذلک، فانی عبد اللّه علی فرس شقراء یرکض و قد جردت رکبته، فقال عبد المطلب: قد جاءکم عبد اللّه بشیرا و نذیرا، و اللّه ما رأیت رکبته قط قبل هذا الیوم فاخبرهم بما صنع اللّه باصحاب الفیل» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 47
و لم یزد الیعقوبی و هو من اقدم مؤرخی الاسلام و من اقرب المؤرخین الی ذلک العهد، انه لم یزد شیئا علی ذلک و لم یأت بذکر عن طیر الابابیل و صفتها، اما الشیخ محمد عبده فقد اورد فی تفسیره لجزء (عم) قوله:
«عندما اقترب (ابرهة) من مکة فزع اهلها و انطلقوا الی شعب الجبال ینتظرون ما هو فاعل رغم ما اکده لهم رسله من انه لم یأت لحربهم و انما اتی لهدم البیت، ای الکعبة، و فی الیوم التالی فشا فی جند ابرهة داء الجدری و الحصبة، و کانت هذه اول مرة یظهر فیها الجدری ببلاد العرب کما قال عکرمة، و کما یقول یعقوب بن عبثه من ان (اول ما رؤیت الحصبة و الجدری ببلاد العرب ذلک العام) لقد فعل ذلک الوباء باجسام الحبشی و جنده ما یندر وقوع مثله، فکان لحمهم یتناثر و یتساقط فذعر الجیش و صاحبه و ولوا هاربین، و اصیب الحبشی و لم یزل یسقط لحمه قطعة قطعة و انملة و انملة حتی انصدع صدره و مات فی صنعاء».
و لا یستبعد بعد ذلک الشیخ محمد عبده ان یکون طیر الابابیل من الحشرات کالذباب و البعوض الذی یحمل جراثیم بعض الامراض و قد علق به من الطین الیابس الملوث بالمکروب.
و کیفما کان الامر فلیس هنالک من شک ان (ابرهة) قد غزا مکة بالافیال محاولا هدمها و قد ردّ مقهورا، و وقع فی جیشه الوباء و البلاء، فاضافت قصة انهزام اصحاب الفیل هذه، الی عظمة مکة عظمة اخری، و اضفت علیها شیئا کثیرا من الهیبة و الجلال و العظمة.

اسواق مکة

و کان لا بد للتجارة ان تتسع فتتسع اسواقها بمکة، فسکان مکة کانوا اکثر ارتیادا لللاسواق الخارجیة و کانت لهم اتصالات واسعة باهم الاسواق المشهوره حتی لقد اصبحت مکة سنین طویلة معرضا لا نفس البضائع و اغلاها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 48
و هذا من اهم العوامل التی زادت قیمة مکة و زادت ثراءها خصوصا فی ایام قریش الذین کانوا یعتمدون التجارة فی حیاتهم و کانت طرق التجارة خطرة الا علیهم لحفظ العرب حرمتهم لانهم ولاة الکعبة، و کانوا کثیرا ما یسافرون الی بلاد فارس او الی الشام او الیمن، فیأتون من الیمن بالبرد و المنسوجات الیمنیة الفاخرة، و یأتون من الشام بالاطعمة، و یأتون من فارس بالشمع و الستر و غیر ذلک، و لما کانت البلاد العربیة قد عرفت بالخیول الجیدة فلا یبعد ان تکون قریش قد تاجرت بها مع ما تاجرت به من البضائع و خصوصا الجلود و الاموال التجاریة و کانت لهؤلاء التجار من قریش رحلتان رحلة الشتاء و هی التی تدفع بهم الی الجنوب من بلاد الیمن، و رحلة الصیف و هی التی یؤمون بها الشام، و فی موسم معین تعرض قریش و تعرض کل القبائل ما لدیها من البضائع و المنتوج فی هذا السوق، و کانت للعرب اسواق کثیرة فی مختلف بقاع جزیرة العرب و لکن اسواق مکة کانت اهم جمیع تلک الاسواق و اوسعها و اکثرها جمعا للقبائل بل اوسعها غایة.
و من اهم اسواق مکة سوق (عکاظ)، و سوق عکاظ و ان کانت اقرب الی الطائف منها الی مکة لوقوعها فی واد بینه و بین مکة ثلاث لیال بینما لا تبعد عن الطائف الا لیلة واحدة فقد تعتبر سوقا تخص مکة من حیث الافادة، و یقول ابن منظور: سمی عکاظ عکاظا لان العرب کانت تجتمع فیه فیعکظ بعضهم بعضا بالفخار ای یدعکه و کان العرب یتوافدون الی هذه السوق بجمیع ما لدیهم فی موسم معین، و من اشهر ما عرفت به عکاظ هو الأدیم الکاظمی و هو ما یحمل الی عکاظ و یباع فیها حتی اذا انتهوا من عروض تجارتهم و سائر اغراضهم، و قفوا فی (عرفه) ثم قصدوا مکة فقضوا فیها مناسک الحج ثم انصرفوا الی مواطنهم.
و تجاوزت سوق عکاظ حدود التجارة و اتخذت منها قریش منتدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 49
منتدی لمطارحة الشعر و الخطب و عرض الخلاف بین القبائل علی المحکومین، و کان لعکاظ ایام الموسم رجل یولونه الحکومة للفصل فی ما قد یقع من الخلاف او نحوه، و کان الغالب ان یکون ذلک الحاکم من بنی تمیم و کان احدهم الأقرع بن حابس التمیمی.
و توسعت اغراض سوق عکاظ فکانت مسرحا عاما یخطب فیها کل خطیب مصقع، و منهم کان قس بن ساعدة، الایادی إذ خطب خطبته الشهیرة هناک و هو علی جمله و کان کل شریف انما یحضر سوق بلده الا سوق عکاظ فانهم کانوا یتوافدون الیها من کل جهة فکانت تأتیها قریش، و هوازن:
و بنو سلیم، و الاحابیش، و عقیل، و المصطلق، و طوائف من العرب، و من کان له اسیر سعی فی فدائه، و من کانت له حکومة ارتفع الی الذی یقوم بأمر الحکومة اما متی اتخذت سوقا فیحددها فرید وجدی بسنة 540 للمیلاد .
و قضایا عکاظ و ایام عکاظ مشحونة بأخبار الحروب و التفاخر و الشعر و من اطرف ما ورد فی بلوغ الأرب ان طریف بن تمیم العنبری کان من مشاهیر شجعان العرب و فرسانهم و قد قتل مرة رجلا من بنی شیبان ثم حضر موسما من مواسم عکاظ فرآه احد اقارب ذلک القتیل و صار یمعن النظر فی وجه طریف، فسأله طریف عن سبب امعانه فقال: ارید ان اعرفک فلعلی اصادفک یوما لأقتلک او تقتلنی، و من الغرائب انه قد صادف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 50
ذلک الرجل طریفا ذات یوم و قتله و اخذ بثأر قریبه.
و افادت قریش من سوق عکاظ فوائد اخری غیر الفوائد الاقتصادیة و الاجتماعیة فلقد کان لهذه السوق العظیمة تأثیر کبیر فی تهذیب اللغة العربیة عند قریش فکانت قریش لقرب هذه السوق منها اسبق القبائل لالتقاط کل معنی حسن، و لفظ جزل و عبارة بلیغة فنسب الیها التهذیب الأخیر للغة حتی استأهلت الشرف العظیم بنزول القرآن الکریم بلغتها، و اعتبرت لهجتها اخلص لهجات العرب من التعقید و التنافر .
و قد بلغ من اهمیة مکة و الاهتمام بالکعبة ان اختارت العرب سبع قصائد من اجود الشعر و کتبتها بماء الذهب و علقتها بأستار الکعبة تکریما لشعرائها الذین فضلهم العرب علی غیرهم، و هذا وحده کاف للدلالة علی علی ما کان لمکة من اهمیة فی جمیع النواحی من الحکم و الادارة و الاقتصاد و الادب و لیس لمخالفة البعض من المؤرخین فی صحة روایة المعلقات المسماة بالمعلقات السبع، من اهمیة فی تقلیل شأن مکة الأدبی.
و یورد جرجی زیدان نقلا عن ابن خلدون قوله:
یقول ابن خلدون «حتی انتهوا- ای العرب- الی المناغاة فی تعلیق اشعارهم بأرکان البیت الحرام موضع حجهم، و بیت ابراهیم کما فعل امرؤ القیس بن حجر، و النابغة الذبیانی، و زهیر بن ابی سلمی، و عنترة بن شداد، و طرفة بن العبد، و علقمة بن عبدة، و الاعشی، و غیرهم من اصحاب المعلقات السبع» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 51
و یقول البغدادی فی الخزانة (الجزء الأول صفحة 61) ان العرب کانت فی الجاهلیة یقول الرجل منهم الشعر فی أقصی الأرض فلا یعبأ به، و لا ینشده احد، حتی یأتی مکة فی موسم الحج فیعرض علی اندیة قریش فاذا استحسنوه روی و کان فخرا لقائله، و علق علی رکن من ارکان الکعبة حتی ینظر الیه، و ان لم یستحسنوه طرح و لم یعبأ به، و قیل بل کان الملک اذ استجیدت قصیدة یقول: علقوا لنا هذه لتکون فی خزانته، و هذا القول ینفی انها کانت تعلق فی الکعبة علی ان هذه المعلقات سمیت ایضا السبع الطوال، و سمیت السموط، و سمیت المذهبات کما سمیت سبع قصائد غیرها المذهبات فی (جمهرة أشعار العرب) و حتی اصحاب المعلقات مختلف فی احصائهم ... امرؤ القیس، طرفة، زهیر، لبید، عمرو بن کلثوم، و هؤلاء متفق علیهم، و عنترة، و الحارث بن حلزة، او النابغة الذبیانی، و الأعشی میمون، ثم عبید بن الابرص، و لهذا تجد کتبا اسمها (المعلقات العشر) و مما یذکر ان حمادا الراویة هو الذی جمعها، او ان بعض بنی امیة أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات .
و کیفما کان الامر فان حضور العرب اسواق مکة و قراءة الشعر علی قریش أکان قد تم تعلیق الجید منه فی الکعبة او لم یتم قد ساعد علی رفع قیمة مکة و شأنها فی نظر جمیع العرب قاصیها و دانیها.
و من اهم اسواق مکة بعد ذلک (سوق ذی المجاز) و کانت بناحیة (عرفة) و سوق (مجنّة) و هی فی موضع بقرب مکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 52
و قد افادت مکة من هذه الأسواق فوائد کبیرة عامها جعلت لها الزعامة الکبری بین جمیع المدن العربیة کما جعلت لقریش میزة کبری بین جمیع القبائل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 53

دیانة مکة و عبادتها

لم تعرف مکة دینا غیر دین ابراهیم فی اول عهدها بالدین اذ المفروض ان یکون تأسیس مکة متعلقا بتأسیس البیت، فقبل تأسیس البیت لم تکن مکة اکثر من ممرّ للقبائل یمرون بها لوقوعها فی وسط الطریق بین اقصی شمال الجزیرة و بین اقصی جنوبها فحین بنی ابراهیم البیت و دعا الی التوحید و نهج ابنه اسماعیل نهجه آمن به اکثر من سمع دعوته فکانت الحنیفیة التی عرف بها ابراهیم هی اول ما اعتنقت مکة من دین فکانوا یعتقدون ان اللّه واحد، و هو خالق الخلق وحده لا شریک له. و کانوا یحجون البیت و یقیمون المناسک، و یعظمون الأشهر الحرم، و ینکرون الفواحش و التقاطع و التظالم فلم یزالوا علی ذلک ما کانوا ولاة علی البیت، و کان آخر من قام بولایة البیت الحرام من ولد معد هو ثعلبة بن ایاد بن نزار بن معد، فلما خرجت ایاد و لیت خزاعة حجابة البیت. و فی امرة عمرو بن لحی الذی تولی حجابة البیت تغیر ما کان علیه الأمر فی المناسک و اتجهت العبادة اتجاها آخر و دخلت الاصنام لأول مرة مکة علی اساس کونها و سائط مقدسة بین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 54
اللّه و بین عباده، فالدعوات و القرابین و التوسلات یجب ان تقدم لها.
و قصة دخول الأصنام الی مکة لأول مرة و عبادة اللّه عن طریقها یختلف فی روایتها الراوون، و یقول البعض ان عمرو بن لحی هذا قد مرض فوصفوا له الاغتسال فی عین من العیون بالبقاء من ربوع الشام و قالوا له اذا اتیتها برأت من المرض، و قصدها عمر و استحم بها و کان من نتیجة ذلک أن بری‌ء و فی مکوثه هناک رأی اهل هذه البقعة یعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نتخذها لنا و نستنصر بها فننصر، و نستسقی بها فنسقی، و کل من سألها یعطی فطلب منهم صنما یدعونه (هنبل) فسار به إلی مکة و نصبه علی الکعبة، و دعا الناس الی تعظیمه و عبادته ففعلوا ذلک و هناک من یقول ان (هبل) هذا قد جاء به عمرو بن هیث و قلد بعض العرب اهل مکة فی عبادة الأصنام فاتخذت کل قبیلة لها صنما و حین تم فتح مکة من قبل النبی محمد (ص) کان عدد الأصنام حول الکعبة ثلثمایة و ستین صنما، و کان اشهر هذه الأصنام بعد (هبل) الذی یعد اکبر اصنام العرب هو (أساف) و (نائلة) و فی اصل هذین الصنمین مزاعم لا یرکن الیها.
فکان الطائف اذا طاف بدأ (باساف) ثم (بنائلة) و ختم بهما فکان هذا عاملا آخر فی عظمة مکة و جعلها مطمح انظار العرب جمیعا بحیث صاروا ملزمین بأن یتوجهوا بقلوبهم لاصنام الکعبة و حجهم الهیاکل عام من کل صوب و حدب، و لکل قوم و قبیلة تلبیة خاصة بهم، و کانت تلبیة قریش:
(لبیک اللهم لبیک لا شریک لک، تملکه و ما ملک) .
علی ان سکان مکة کانوا یقدسون الی جانب تقدیس اصنامهم بمکة صم (اللات) بالطائف و سموا باسمه زید اللات، و تیم اللات، و ضنم (العزی) و هو بواد من نخلة الشامیة فی طریق العراق من مکة، و سموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 55
باسمه عبد العزی بن کعب، و صم (مناة) و کان منصوبا علی ساحل البحر بناحیة (المشلل) بین مکة و المدینة و قد سمت العرب باسمه: عبد مناة، و زید مناة.
و هذه کانت أعظم الأصنام عند قریش، و کانت تطوف بالکعبة و تقول:
و اللات، و العزّی، و مناة الثالثة الأخری، فانهن الغرانیق العلی و ان شفاعتهن لترتجی» .
و کانت العرب تقدم مکة و تهدی الهدی للاصنام و تضحی، و تدعو و تنذر، و تستقسم.
و یبدو لمن یسبر التاریخ و یستعرض الحوادث ان مکة لم تکن کلها علی هذا النحو و انما بقی هناک علی دین ابراهیم عدد و ان قل فان فیهم الزعیم و الشخصیة المرموقة من ذوی الصولة و الجاه و من هؤلاء کان عبد المطلب علی ما یروی البعض.

الاستقسام و الازلام

و الاستقسام هو طلب القسم الذی قسّم للمرء و قدّر مما لم یقسم و لم یقدّر، و الازلام سهام کانت لأهل الجاهلیة مکتوب علی بعضها: أمرنی ربی، و علی بعضها نهانی ربی و علی الآخر غفل فاذا اراد الرجل سفرا أو أمرا ضرب تلک القداح (السهام) فان خرج السهم الذی علیه: أمرنی ربی، مضی لحاجته، و ان خرج الذی علیه: نهانی ربی، لم یمض فی أمره و ان خرج الغفل عاد فأجالها و ضرب بها اخری الی ان یخرج (الامر) او (النهی) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 56
و کانت العرب تستقسم بالازلام ای (القداح) فلا یکون لها حاجة من الحاجات من زواج و سفر و استکشاف حال الا رجعت الی القداح، و کان لهم امناء علی القداح لا یثقون بغیرهم، علی ان البعض یقامر بالقداح و هو ما یسمی بالمیسر (القمار) و لیس له بالقداح الذی یستقسم به من صلة.
و یقول ابن جریر و اذا ارید الاستقسام بالازلام جاؤوا الی (هبل) و هبل هذا قائم علی بئر فی جوف الکعبة، و هذه البئر هی التی یجمع فیها ما یهدی للکعبة، و کان عند هبل سبعة (اقدح) کل قدح منها فیه کتاب، قدح فیه العقل و ذلک اذا اختلفوا فی العقل و من یحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، و قدح فیه (نعم) فاذا ارادوه ضربوا به فان خرج قدح (نعم) عملوا به، و قدح فیه (لا) فاذا ارادوا امرا ضربوا به فی القداح فاذا خرج ذلک القدح لم یفعلوا ذلک الامر، و قدح فیه (منکم)، و قدح فیه (ملصق) و قدح فیه (من غیرکم)، و قدح فیه (المیاه) فاذا ارادوا ان یحفروا للماء ضربوا بالقداح و فیها قدح (المیاه) فحیثما خرج عملوا به، و کانوا اذا ارادوا ان یختنوا غلاما او یتزوجوا، او یدفنوا میتا او شکوا فی نسب احد منهم ذهبوا به الی (هبل) و بمائة درهم و جزور و أعطوها صاحب القداح الذی یضربها ثم قربوا صاحبهم الذی یریدون به ما یریدون ثم قالوا: «یا إلهنا هذا فلان بن فلان قد اردنا به کذا و کذا فأخرج الحق فیه» ثم یقولون لصاحب القداح اضرب، فیضرب، فان خرج علیه (منکم) کان وسیطا و ان خرج علیه (من غیرکم) کان حلیفا، و ان خرج علیه (ملصق) کان علی منزلته منهم لا نسب له، و لا حلف، و ان خرج فی شی‌ء سوی هذا مما یعملون به (نعم) عملوا به، و ان خرج (لا) أخرّوه عامهم ذلک حتی یأتوا به مرة اخری و ینتهوا فی امورهم الی ذلک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 57

نذر عبد المطلب

و المنقول عن عبد المطلب حین لقی بعض الأذی من قریش عند حفره (زمزم) نذر لئن ولد له عشرة نفر و بلغوا اشدهم بحیث یستطیع ان یستعین بهم و یمنعوه لینحرن احدهم للّه عند الکعبة فلما ولد له عشرة بنین و عرف انهم سیمنعونه جمعهم و اخبرهم بنذره الذی نذر و دعاهم الی الوفاء للّه فأطاعوه، و قالوا کیف نصنع؟ قال یأخذ کل رجل منکم قدحا ثم یکتب فیه اسمه، فجی‌ء بالقداح فضربوا بها فظهرت باسم (عبد اللّه) أبی النبی محمد (ص) و کان اصغرهم، و أحبهم الی أبیه، فأخذه لیذبحه فقامت قریش فی وجهه و قالت: و اللّه لا تذبحه ابدا حتی تعذر فیه، فلئن فعلت هذا فلا یزال الرجل یأتی بابنه حتی یذبحه، فما بقاء الناس علی هذا و وجدت قریش حلا بأن یقدموا عشرا من الابل کفدیة و یضربوا علیها بالقداح فان خرجت علی عبد اللّه (فلیزیدوها عشرا عشرا حتی تخرج القداح علی الابل و بذلک نرضی اللّه عنه، و هکذا فعل عبد المطلب و نحر مایة من الابل و ترکها للناس طعاما، و منذ ذلک الیوم صارت الدیة من الابل علی ما سن عبد المطلب .
و هکذا نجد مکة قد اصبحت کل شی‌ء فی کیان العرب قبل الاسلام لأنها منذ وجدت شغلت المحل الأسمی فی الروایات ان الکعبة سرة الارض و قد صوها المصور المسلم مرکزا لدائرة یحیط بها جمیع اقطار العالم معینا لکل قطر قبیلة منها (نقلا عن کتاب لز آراب لا للعرب بالفرنسیة)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 58
من تاریخ العرب، من حیث الدین، و اللغة، و طریقة الحکم و الصولة، و الثروة.

اشهر امراء مکة و عظماوها

نابت و قیدار- من ابناء اسماعیل.
مضاض بن عمرو الجرهمی، الحارث، عمرو بن الحارث، مضاض ابن عمرو بن الحارث من جرهم.
لحی بن حارثة الخزاعی، عمرو بن لحی، من خزاعة.
قصی بن کلاب، عبد مناف، عبد الدار، هاشم، عبد المطلب ابو طالب من قریش.

کسوة الکعبة و تزیینها

یقال ان اول من کسا الکعبة هو (تبّع) و قد مرّ بمکة فأخبر بفضلها و شرفها و کانت الکعبة غیر مسقفة فکساها (تبّع) الخصف، و هی حصر من خوص النخل، ثم کساها بعد ذلک (الانطاع) و هو بساط من الجلد ثم کساها (المعافر) و المعافر: ثیاب یمانیة تنسب إلی قبیلة من همدان یقال لها المعافر و جعل لها بابا یغلق، و روی الأزرقی ان الکعبة کانت تکسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 59
فی الجاهلیة کسی شتی من خز، و حبرة، و انماط فتکسی منه الکعبة و یجعل ما بقی فی خزانة الکعبة فاذا بلی منها شی‌ء أخلف علیها مکانه ثوب آخر، و لا ینزع مما علیها شی‌ء من ذلک و کان یهدی الیها خلوق و مجمر، و کانت تطیّب بذلک فی بطنها و من خارجها .
و کانت قریش فی الجاهلیة تفرض کسوة الکعبة علی القبائل و تجمع أثمانها منهم علی قدر احتمالهم، و قد جری ذلک فی عهد قصی بن کلاب حتی نشأ ابو ربیعة المغیرة بن عبد اللّه بن مخزوم و کان مثریا فقال لقریش انا اکسو الکعبة وحدی سنة و تکسو قریش کلها سنة، فکان یأتی بالحبرة الثمینة من الیمن فیکسوها فسمتّه قریش العدل لأن فعله عدل بفعل قریش کلها و یقال لأولاده بنو العدل، و ظل یکسو الکعبة حتی مات .
و کان أوّل من حلی البیت هو عبد المطلب لما حفر بئر زمزم و اصاب فیه من دفن (جرهم) غزالین من ذهب فضربهما فی باب الکعبة .

تجدید بناء الکعبة

و فی أواخر حکم قریش بمکة داهم السیل الکعبة، و کان من القوة بحیث هدمها کما فعل ذلک فی أیام جرهم و کان هذا اهم شی‌ء فی مکة و عند سکانها لان عظمة مکة کلها مدینة للبیت و طقوسه و حرمته عند العرب، فاجتمعت قریش و تشاورت فیما بینها و اجمعت أمرها علی تجدید بناء الکعبة و احکامها و کان ذلک قبل مبعث النبی بخمس سنوات، و کان البحر علی ما روی المؤرخون قد رمی بسفینة (بجدة) فتحطّمت فأخذوا أخشابها و استعانوا به علی عمارتها، و یقول الحموی: و کان بمکّة رجل قبطی نجّار فسوی لهم ذلک و بنوها ثمانیة عشر ذراعا، فلما انتهوا الی موضع (الرکن) اختصموا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 60
و اراد کل قوم ان یکونوا هم الذین یضعون الحجر فی موضعه من الرکن، و تفاقم الأمر بینهم حتی تواعدوا للقتال، ثم تحاجزوا و تناصفوا علی ان یجعلوا بینهم اول طالع یطلع من باب المسجد حکما لیقضی بینهم فیما یری و یکون بحکمه الفصل، فخرج علیهم محمد بن عبد اللّه (ص) و کان یومذاک فی نحو الخامسة و الثلاثین و لم یعلن نبوّته بعد، فاحتکموا الیه فقال لهم:
هلمّوا ثوبا، فأتی به، فوضع الحجر فیه ثم قال: لتأخذ کل قبیلة بناحیة من الثوب ثم لیرفعوا، حتی اذا رفعوه الی موضعه اخذ النبی الحجر بیده فوضعه فی الرکن العراقی خارج الکعبة علی ارتفاع دون القامة لیتسنی لمسه للمتبرکین و هو الرکن القریب من مقام ابراهیم و زمزم فرضوا بذلک و انهوا عن الشرور، و رفعوا باب الکعبة عن الأرض مخافة السیل، و ان لا یدخل فیها الا من أحبوا، و بقوا علی ذلک الی ایام عبد اللّه بن الزبیر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 61

قبائل مکة قبل الاسلام

اشارة

کتبه الدکتور حسین امین استاذ التاریخ الاسلامی المساعد و مقرر دائرة التاریخ و الآثار بجامعة بغداد و الحائز علی درجة دکتوراه الشرف الاولی من جامعة الاسکندریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 63

القبائل التی سکنت مکة قبل الاسلام

العمالقة

ان عددا من رواة التأریخ یقولون أن العمالقة هم أول من استوطن مکة و نسبوهم الی عملیق بن لاوذ بن سام بن نوح ، بینما نجد ابن خلدون ینسبهم الی عملیق بن ارفخشد بن سام بن نوح ، و الأبحاث العلمیة التأریخیة تؤکد ان العمالیق کانوا یسکنون جنوبی فلسطین، و یظهر انهم کانوا یتحکمون فی طرق التجارة بین غزة و أیلة (ایلات) أی العقبة المؤدیة الی مصر ، و قد جرت بین العبرانیین و العمالقة حروب شدیدة .
و تبدو أخبار العمالقة، مضطربة فی مصادر التأریخ، مما یجعلنا متحفظین فی قبول اکثر اخبار رواتها، و اقدم تلک الأخبار العربیة تقول: ان ابراهیم (ع) لما اسکن اسماعیل مکة مع أمه هاجر و ابتهل الی خالقه قائلا: رَبَّنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 64
إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ » و کان موضع البیت ربوة حمراء، أمر ابراهیم هاجر ان تتخذ علیه عریشا یکون لها مسکنا، و کان من ظمأ اسماعیل و هاجر ما کان إلی ان أنبع اللّه لهما (زمزم)، و أقحط الشحر و الیمن، فتفرق العمالیق و جرهم فی البلاد، و من هناک من بقایا عاد، فبقیت العمالیق نحو تهامة یطلبون الماء و المرعی و الدار الخصیبة، و علیهم (السمیدع بن هود بن لابی بن قنطور ابن کرکر بن حیدان) فلما أمعنت بنو کرکر فی المسیر. و قد عدمت المأوی و المرعی، و اشتد بها الجهد، أقبل السمیدع بن هود، یحثهم علی السیر فی شعر له:
سیروا بنی الکرر فی البلادإنی أری ذا الدهر فی فساد
قد سار من قحطان ذی الرشادجرهم لمّا هدها التعادی
فأشرف روادهم علی الوادی، فنظروا الطیر ترتفع و تنخفض، فهبطوا الوادی و نظروا الی العریش علی الربوة الحمراء، و فیها هاجر و اسماعیل، و قد زمّت حول الماء بالاحجار و منعته من الجریان، فسلم الرواد علیها، و استأذنوها فی نزولهم و شربهم من الماء، فأنست الیهم، و أذنت لهم فی النزول، فتلقوا من کان وراءهم من اهلیهم، و اخبروهم خبر الماء فنزلوا الوادی مطمئنین، مستبشرین بالماء .
و یبدو ان الاخباریین تأثروا بالتوراة فأوردوا اخبارا عن العمالقة الذین اعتبروهم اول من سکن مکة و ذکروا او صافا عدیدة عن اجسامهم و طولهم و عن ابنیتهم و قدمهم و قصصا عن احوالهم و حروبهم .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 65
و یعتقد الاخباریون ان قبیلة (جرهم) التی کانت علی عهد العمالقة من العرب البائدة، و قد سموا بجرهم الأولی ، و ان نسبهم یعود الی (عابر)، و ان هؤلاء ابیدوا علی ایدی القحطانیین.

جرهم

و جرهم الثانیة هی قبیلة قدمت الی موقع مکة من الیمن، و هی تنتسب الی القحطانیة، و القبائل القحطانیة بالنسبة الی قحطان بن عابر بن شالخ ابن ارفخشر بن سام بن نوح ، و یذکر بعض المؤرخین ان (یعرب) تولی الملک بعد (قحطان) و کان ملکه بالیمن، و قد غلب بقایا (عاد) و استعان باخوته فی حکم البلاد فأقر اخاه (حضر موت) علی البلاد التی عرفت باسمه فقیل لها (حضر موت) و عین (عمان) علی ارض عمان، و ولی جرهما علی الحجاز .
و تذکر الروایات التاریخیة ان اسماعیل تزوج من جرهم و بلغتهم تکلم، قال الازرقی: فکانت (أی هاجر أم اسماعیل) معهم (أی قبیلة جرهم) هی و ابنها حتی ترعرع الغلام و نفسوا فیه و اعجبهم، و توفیت أم اسماعیل، و طعامهم الصید یخرجون من الحرم و یخرج معهم اسماعیل فیصید فلما بلغ، أنکحوه جاریة منهم تدعی (عمارة بنت سعید بن اسامة) الی آخر ما ورد من اخبار زواج اسماعیل فی صدر هذا الجزء من الموسوعة.
و الاخبار العربیة تشیر الی ان قبیلة جرهم حکمت الحجاز و کانت قائمة علی الکعبة و اشتهر منهم رجال کان لهم شأن فی التاریخ، منهم الحارث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 66
ابن مضاض الجرهمی، و کان مقیما فی الحجاز تابعا للیمن، و فی ایامه نشطت حرکة بنی اسرائیل و زحفوا یریدون مکة، من الشمال، فقاتلهم الحارث بن مضاض فهزمهم و استولی علی تابوت من الکتب کانوا یحملونه، و فیه ما انتحلوه علی الزبور، و الحارث بن مضاض هو الذی یقال انه خرج من بلاده یجول فی الأرض، زمنا طویلا، و ضربت الأمثال باغترابه.
و یذکر المسعودی: إنه اول من تولی أمر البیت بمکة من بنی جرهم، و کان ینزل فی الموضع المعروف بقعیقعان، و کان کل من دخل مکة بتجارة عشّرها علیه، و ذلک فی اعلی مکة، و ملک العمالیق (السمیدع بن هود بن حدر ابن مازن بن لای بن قنطورا) و کان ینزل (اجیاد) من اسفل مکة، و کان یعشّر من دخل مکة من ناحیته، و کانت بینهما حروب، فخرج الحارث ابن مضاض ملک جرهم تتقعقع معه الرماح و الدرق، فسمی الموقع بقعیقعان، و خرج السمیدع ملک العمالیق و معه الجیاد من الخیل فعرف الموضع بأجیاد .
و من رجال جرهم عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمی، تولی مکة بعد خروج أبیه منها، و کذلک نفیلة بن عبد المدان .
و نستدل من الحصیلة الشعریة ان قبیلة جرهم کانت لها ولایة البیت، قول عمرو بن الحارث بن مضاض الاصغر الجرهمی:-
کأن لم یکن بین الحجون الی الصفاأنیس و لم یسمر بمکة سامر
الی آخر ما ورد من الأبیات.
و قال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمی: -
و کنا ولاة البیت و القاطن الذی‌إلیه یؤدی نذره کل محرم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 67 سکنا بها قبل الظباء وراثةلها عن بنی هیّ بن بنت بن جرهم
و یبدو ان خزاعة وجدت الفرصة سانحة للسیطرة علی ما تسیطر علیه قبیلة جرهم، و وردت بعض الأخبار التاریخیة التی تشیر الی ان قبیلة جرهم بغوا بمکة و استحلوا خلالا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غیر أهلها، و أکلوا مال الکعبة الذی یهدی لها، فرّق أمرهم، فلما رأت بنو بکر بن عبد مناة بن کنانة، و غبشان من خزاعة ذلک، اجمعوا لحربهم و إخراجهم من مکة. فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بکر و غبشان، فنفوهم من مکة.
و کان لتلک الوقعة علی ما تشیر الاخبار التأریخیة أثرها الکبیر فی انحسار نفوذ جرهم، و یذکر ابن هشام؛ قال ابن اسحاق: فخرج عمرو بن الحارث ابن مضاض الجرهمی بغزالی الکعبة و بحجر الرکن، فدفنها فی زمزم، و انطلق هو و من معه من جرهم الی الیمن، فحزنوا علی ما فارقوا من امر مکة و ملکها حزنا شدیدا، فقال عمرو بن الحارث الجرهمی قولته المشهورة المتقدمة من الشعر:
و قائلة و الدمع سکب مبادرو قد شرقت بالدمع منها المحاجر

خزاعة

و تولت خزاعة أمر البیت الحرام، و خزاعة من عرب الجنوب، و هی فرع من قبیلة الأزد العربیة الکبیرة ، و معظم النسابة ینسبون هذه القبیلة الی عمرو بن لحیّ بن حارثة بن عمرو بن مزیقیاء، و یذکر المسعودی ان سبب تسمیتهم (خزاعة): انه لما خرج عمرو بن عامر و ولده من مأرب،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 68
انخزع بنو ربیعة، فنزلوا تهامة، فسموا خزاعة لا نخزاعهم .
و یعتقد ان ورود خزاعة کان فی القرن الخامس المیلادی علی وجه التقریب . و تلقب رجال خزاعة الذین سیطروا علی مکة بألقاب الملوک و صاروا یتوارثون النفوذ کابرا عن کابر.
و عبدت خزاعة اصناما کثیرة من اهمها، العزی و هبل و إساف و نائلة ، و عظمت هذه القبیلة الصنم مناة .
و یعتقد الاخباریون ان اول من نصب الأوثان هو عمرو بن ربیعة، و هو لحی بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدی، ابو خزاعة. و یعتبر أول من غیر دین اسماعیل «فنصب الأوثان و سیب السائبة، و وصل الوصیلة، و بحر البحیرة و حمی الحامی» .
و کان آخر حکام قبیلة خزاعة حلیل بن حبشیة بن سلول بن کعب بن عمرو ، و خطب قصی بن کلاب ابنته حبیّ فرغب فیه حلیل فزوجه، فولدت له عبد الدار و عبد مناف و عبد العزی و عبدا .
و یبدو ان حلیل بن حبشیة، کبرت به السن فکان اذا إعتلّ اعطی مفتاح البیت الی ابنته حبیّ ففتحته فإذا اعتلت اعطت المفتاح زوجها قصیّا او بعض ولدها ففتحه. و لما شعر حلیل بن حبشیة بدنو اجله نظر الی قصی و الی ما انتشر له من الولد من ابنته فرأی ان یجعلها فی ولد ابنته، فدعا قصیا فجعل له ولایة البیت، و اسلم إلیه المفتاح و کان یکون عند حبّی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 69
فلما هلک حلیل أبت خزاعة أن تدعه ذاک، و أخذوا المفتاح من حبّی فمشی قصی الی رجال من قومه من قریش و بنی کنانة و دعاهم الی ان یقوموا معه فی ذلک و ان ینصروه و یعضدوه فأجابوه الی نصره. و ارسل قصیّ الی اخیه لأمه (رزاح بن ربیعة) و هو ببلاد قومه من قضاعة یدعوه الی نصره و یعلمه ما حالت خزاعة بینه و بین ولایة البیت و یسأله الخروج إلیه بمن اجاب من قومه، فقام رزاح بن ربیعة فی قومه فأجابوه الی ذلک، فخرج رزاح و معه اخوته من ابیه، حنّ، و محمودة، و جلهمة بنو ربیعة بن حرام فیمن تبعهم من قضاعة فی حاجّ العرب مجتمعین لنصرة قصی و القیام معه، فلما اجتمع الناس بمکة خرجوا الی الحجّ فوقفوا بعرفة و بجمع و نزلوا منی، و قصی مجمع علی ما اجمع علیه من قتالهم، بمن معه من قریش، و بنی کنانة، و من قدم علیه مع اخیه رزاح من قضاعة، فلما کان آخر أیام منی ارسلت قضاعة الی خزاعة یسألونهم ان یسلموا الی قصی ما جعل له حلیل، و عظموا علیهم القتال فی الحرم، و حذروهم الظلم و البغی بمکة و ذکروهم بما کانت فیه جرهم و ما وصلت إلیه حین الحدوا فیه بالظلم و البغی، فأبت خزاعة أن تسلم ذلک فاقتتلوا بمفضی مأزمی منی، و سمی ذلک المکان (المفجر) لما فجر فیه و سفک فیه من الدماء، و انتهک من حرمته، فاقتتلوا قتالا شدیدا حتی کثرت القتلی فی الفریقین جمیعا و فشت فیهم الجراحات و حاج العرب جمیعا من مضر و الیمن مستکفون ینظرون الی قتالهم ثم تداعوا الی الصلح، و دخلت قبائل العرب بینهم، و عظموا علی الفریقین سفک الدماء و الفجور فی الحرم، فاصطلحوا علی ان یحکموا بینهم رجلا من العرب فیما اختلفوا فیه فحکموا (یعمر بن عوف بن کعب بن عامر بن اللیث بن بکر بن عبد مناة بن کنانة) و کان رجلا شریفا، فقال لهم: موعدکم فناء الکعبة غدا. فاجتمع إلیه الناس، و عدوا القتلی فکانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 70
فی خزاعة اکثر منها فی قریش و قضاعة و کنانة. فلما اجتمع الناس بفناء الکعبة قام (یعمر بن عوف) فقال: الا انی قد شدخت ما کان بینکم من دم تحت قدمی هاتین فلا تباعة لاحد علی احد فی دم و انی قد حکمت لقصی بحجابة الکعبة و ولایة امر مکة دون خزاعة، لما جعل له حلیل و ان یخلی بینه و بین ذلک و ان لا تخرج خزاعة عن مساکنها من مکة، فسلمت ذلک خزاعة لقصی و عظموا سفک الدماء فی الحرم و افترق الناس فولی قصی بن کلاب حجابة الکعبة و امر مکة و جمع قومه من قریش من منازلهم الی مکة یستعزیهم و تملک علی قومه فملکوه.

قریش

و هکذا سیطرت قریش علی مکة و استحوذ قصی بن کلاب اول زعماء قریش علی الامور فی تلک المدینة، و هو قصی بن کلاب بن مرة بن کعب ابن لؤی بن فهر، و أمه فاطمة بنت سعد بن سیل. و یذکر بعض المؤرخین ان قصیا اشتری ولایة البیت من ابی غیشان بزق خمر و عود ، و یذکر بعض الرواة ان هذا الشراء حصل فی ایام ملک الحیرة «المنذر بن النعمان» .
و تعتبر قریش من القبائل العدنانیة، و اختلف فی معنی کلمة قریش، یقول الفیروزأبادی: یقرشه و یقرشه قطعه و جمعه من ههنا و ههنا و ضم بعضه الی بعض و منه قریش لتجمّعهم الی الحرم أو لأنهم کانوا یتقرشون البیاعات فیشترونها، أو لأن النضر بن کنانة اجتمع فی ثوبه یوما فقالوا تقرّش أو لأنه جاء الی قومه فقالوا کأنه جمل قریش أی شدیدا و لأن قصیا کان یقال له القرش، او لأنهم کانوا یفتشون الحاج فیسدون خلتها، او سمیت بمصغر القرش و هو دابة بحریة تخافها دواب البحر کلها، او سمیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 71
بقریش بن مخلد بن غالب بن فهر و کان صاحب عیرهم فکانوا یقولون قدمت عیر قریش و خرجت عیر قریش .
و یبدو ان الفیرزآبادی متأثر برأی المؤرخ الطبری الذی یقول: و سمیت قریش قریشا بقریش بن یخلد بن الحارث بن یخلد بن النضر بن کنانة، و به سمیت قریش قریشا لأن عیر بنی النضر کانت إذا قدمت قالت العرب قد جاءت عیر قریش، قالوا و کان قریش هذا دلیل بنی النضر فی اسفارهم و صاحب میرتهم، و کان له ابن یسمی بدرا و قال ابن الکلبی انما قریش جماع نسب لیس بأب و لا أم و لا حاضن و لا حاضنه، و قال آخرون انما سمی بنو النضر بن کنانة قریشا لأن النضر بن کنانة خرج یوما علی نادی قومه فقال بعضهم لبعض انظروا النضر کأنه جمل قریش. و قیل انما سمیت قریش قریشا بدابة تکون فی البحر تدعی القرش، فشبه بنو النضر بن کنانة بها لأنها اعظم دواب البحر قوة، و قیل ان النضر بن کنانة کان یقرش عن حاجة الناس فیسدها بماله، و القرش فیما زعموا التفتیش، و کان بنوه یقرشون اهل الموسم عن الحاجة فیسدونها بما یبلغهم، و قیل ان النضر بن کنانة کان اسمه قریشا، و قیل بل لم تزل بنو النضر بن کنانة یدعون بنی النضر حتی جمعهم قصی بن کلاب فقیل لهم قریش من اجل ان التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر أی قد تجمعوا، و عن محمد بن سعد:
سمیت قریش قریشا حتی اجتمعت إلی الحرم من تفرقها فذلک التجمع التقرش. قال عبد الملک ما سمعت هذا و لکن سمعت أن قصیا کان یقال له القرشی، و لم یسم قرشی قبله .
تلک هی الآراء التی قدمها المؤرخ الطبری، و لعل أقرب الآراء للبحث العلمی ان اسم قریش من (القرش) و هو حیوان بحری، و أن البحث العلمی فی المستقل قد یتوصل الی معلومات قیمة عن أصالة هذه القبیلة و صلتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 72
الوثیقة بهذا الحیوان الذی ارتبطت به و التفت حوله لیکون حامیها و المدافع عنها، و هذا الموضوع معروف عند علماء الاجتماع بمبدأ الطوطمیةTotemism و هو عبارة عن اعتقاد جماعة من الناس بوجود صلة لهم بحیوان ما، تقدم له الاحترام و لا تجیز صیده او ذبحه، و یری بعض العلماء انه لیس من الضروری ان تقوم القبیلة بعبادة الحیوان و لکنها تشعر بروابط دمویة بین افرادها ای بوجود صلة رحم بینها، و الرابط بینها هو ذلک الطوطم الذی تنتمی الجماعة إلیه و تلتف حوله لیکون حامیها و المدافع عنها فی الملمات .
و یعتبر قصی بن کلاب اول رئیس وردت اخباره التأریخیة و أنه هو الذی لمّ شعث قومه، و جمعهم من الاودیة و الشعاب و الجبال الی مکة، و ابتنی دار الندوة و جعل بابها الی البیت، ففیها کان یکون أمر قریش کله، و کانت إلیه الحجابة و السقایة و الرفادة و اللواء و الندوة و حکم مکة کله و کان یعشر من دخل مکة سوی اهلها کما ان قصیا بعد ان تمکن من مکة حفر بها بئرا اسماها (العجول) و هی اول بئر حفرتها قریش ، و ادخل قصی بطون قریش کلها الأبطح، فسموا قریش البطاح، و اقام بنو معیص بن عامر بن لؤی و بنو تیم الأدوم بن غالب بن فهر و بنو محارب بن فهر و بنو الحارث بن فهر، بظهر مکة فهؤلاء الظواهر لأنهم لم یهبطوا مع قصی الی الأبطح فهم مع المطیّبین اهل البطاح، و قد قال الشاعر فی ذلک و هو ذکوان مولی عمر بن الخطاب للضحاک بن قیس الفهری حین ضربه:
فلو شهدتنی من قریش عصابةقریش البطاح لا قریش الظواهر
و تذکر المراجع ان قصی بن کلاب لما کبر ورقّ و کان عبد الدار بکره موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 73
و اکبر ولده، فأعطاه دار الندوة و حجابة البیت و اللواء و السقایة و الرفادة.
و یری بعض المؤرخین ان قصیا عمل ذلک لأنه رأی ضعف ولده عبد الدار و ان عبد مناف کان قد ساد فی حیاة ابیه فأراد قصی تقویته بتلک الامتیازات التی اسبغها علی عبد الدار . و یورد الأزرقی روایة اخری فیذکر ان قصی اجمع علی ان یقسم امور مکة الستة التی فیها الذکر، و الشرف، و العز، بین ابنیه فأعطی عبد الدار السدانة و هی الحجابة، و دار الندوة، و اللواء، و اعطی عبد مناف السقایة، و الرفادة، و القیادة . و یذکر ابن الأثیر:
ان قبیلة قریش تفرقت، فکانت طائفة مع بنی عبد مناف و طائفة مع بنی عبد الدار، فکان بنو اسد بن عبد العزی، و بنو زهرة بن کلاب، و بنو تمیم بن مرة، و بنو الحارث بن فهر مع بنی عبد مناف، و کان بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدی مع بنی عبد الدار فتحالف کل قوم حلفا مؤکدا، و أخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طیبا فوضعوها عند الکعبة و تحالفوا و جعلوا ایدیهم فی الطیب، فسموا المطیبین، و تعاقد بنو عبد الدار و من معهم و تحالفوا فسموا الأحلاف، و تبعوا للقتال ثم تداعوا الی الصلح علی ان یعطوا بنی عبد مناف السقایة و الرفادة، فرضوا بذلک، و تحاجز الناس عن الحرب، و اقترعوا علیها فصارت لهاشم بن عبد مناف، ثم بعده للمطلب بن عبد مناف ثم لابن طالب بن عبد المطلب .
ان قریش سیطرت علی الطرق التجاریة و استغلت ضعف الاسطول البیزنطی بسبب الحروب الفارسیة البیزنطیة، و تحولت التجارة من البحر الی البر نتیجة لذلک، و قد برع القریشیون فی التجارة، و قد اشار القرآن الکریم الی تجارتهم فی قوله تعالی: (لایلاف قریش، ایلافهم رحلة الشتاء و الصیف)، و یبدو ان القریشیین استغلوا ایضا الوضع السیی‌ء الذی آلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 74
إلیه الیمن نتیجة انهیارها السیاسی بدخول الأحباش إلیها، و صار رجال قریش یهیمنون علی التجارة العربیة و قاموا بدور الوساطة التجاریة، و تنقلت قوافلهم الی بلاد الشام و الیمن، و اصبحت مکة من اهم المراکز الاقتصادیة فی العالم قبل ظهور الاسلام.
و کانت مواسم الحج ایاما تزدهر فیها التجارة، فالعرب یقصدون الکعبة من کل مکان، و یجلبون معهم ما یشاؤون من السلع، و ینشط التجار القریشیون فی ذلک الموسم و تعود علیهم الأرباح بشکل و فیر. کما کانت تخرج لقریش القوافل الکبیرة للتجارة یشرف علیها احد کبار رجالات مکة امثال ابن العاص بن الربیع العبشمی ، زوج السیدة زینب ابنة الرسول محمد (ص) و کان یخرج الی الشام بتجارة قریش، و کان رجلا مأمونا، یخرج بماله و مال و أموال رجال من قریش أبضعوها معه، و أبی سفیان صخر بن حرب الذی کان یقود قافلة کبیرة لقریش و بسببها وقعت موقعة بدر فی السنة الثانیة للهجرة. و کانت وسیلة النقل التجاری لقریش هی الجمال و انها استخدمت عناصر سودانیة و حبشیة و غیر هما من شرقی افریقیا لحراسة القوافل و تحمیل الجمال و تفریغها و اطعامها، و قد عرفت تلک العناصر بالأحابیش.
ان قریش المتحکمة فی مکة تعتبر نفسها هی الحامیة للأصنام و الاوثان و من اشهر الأصنام التی عبدتها قریش و عظمتها، (هبل) الذی کان من اعظم تلک الآلهة ، و کان مصنوعا من عقیق أحمر علی صورة الانسان مکسور الید الیمنی، ادرکته قریش فجعلوا له یدا من ذهب . و (العزی) و کانت قریش تزورها و تهدی إلیها و یتقربون إلیها بالذبح. کما کانت قریش تخص (اللات) بالاعظام و الاکبار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 75

اقسام قریش

و قبیلة قریش قسمان، قریش الظواهر و قریش البطاح، و قریش الظواهر، تلک التی سکنت فی ظاهر مکة، و هم بنو بغیض بن عامر بن لؤی، و بنو الأدوم بن غالب بن فهر، و بنو محارب بن فهر، و کان هؤلاء یعیشون عیشة البداوة، لم یتعودوا حیاة الاستقرار، و کثیرا ما قامت بینهم الغارات.
اما قریش البطاح فهی التی سکنت حول الحرم، و استحوذ رجالها علی جمیع الوظائف فی مکة، و کانت بیدها التجارة و کل المرافق الاقتصادیة، و تمیزت بالغنی و الثروة و بحیاة الاستقرار و صلاتها المختلفة مع البلدان کالشام و العراق و الیمن و الحبشة.
و قبائل قریش البطاح هی: بنو عبد الدار، و بنو عبد مناف، و بنو عبد قصی، و بنو زهرة بن کلاب، و بنو تیم بن مرة و بنو مخزوم بن یقظة و بنو سهم، و بنو جمح، و بنو عدی بن کعب، و بنو حسل بن عامر بن لؤی، و بنو هلال بن أهیب بن ضبة بن الحارث بن فهر، و بنو هلال بن مالک بن ضبة بن الحارث بن فهر، و بنو هاشم بن عبد مناف و بنو المطلب ابن عبد مناف، و بنو الحارث بن عبد مناف و بنو أمیة بن عبد شمس، و بنو نوفل بن عبد مناف، و بنو الحارث بن فهر.
و من زعماء قریش المشهورین، قصی بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی سید قریش و زعیمها الأول، مات ابوه و هو طفل فتزوجت امه من ربیعة ابن حرام بن ضنّة بن عبد بن کبیر، بن عذرة بن سعد بن زید أحد قضاعة فاحتملها الی بلاده من ارض عذرة من اشراف الشام الی سرغ و ما دونها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 76
و کان قصی فطیما، و سمی قصیا لتقصیها به الشام، و ولدت امه لربیعة ولدا سمی (رزاحا) و کان قصی ینسب الی ربیعة بن حرام، فناضل یوما رجلا من قضاعة یدعی رقیعا، و هو من عذرة، فنضله قصی فغضب المنضول، فوقع بینهما شر حتی تقاولا و تنازعا، فقال رقیع:- ألا تلحق ببلدک و قومک، فانک لست منا. فرجع قصی الی امه فقال: من أبی؟
فقال: أبوک ربیعة. قال: لو کنت ابنه ما نفیت. قالت: أو قد قال هذا؟
فو اللّه ما أحسن الجوار، و لا حفظ الحق، أنت و اللّه یا بنی اکرم منه نفسا و والدا و نسبا و اشرف منزلا، أبوک کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة القرشی، و قومک بمکة عند البیت الحرام فما حوله؛ قال: فو اللّه لا أقیم ههنا ابدا. قالت: فأقم حتی یجی‌ء إبّان الحج فتخرج فی حاجّ العرب، فانی أخشی علیک ان یصیبک بعض الناس، فأقام فلما حضر ذلک بعثته مع قوم من قضاعة، فقدم مکة، و زهرة أخوه یومئذ حی، و کان أشعر و قصی اشعر ایضا، فأتاه، فقال له قصی:- أنا اخوک، فقال زهرة: أدن منی، و کان قد ذهب بصره و کبر، فلمسه فقال: اعرف و اللّه الصوت و الشبه، فلما فرغ من الحج عالجه القضاعیون علی الخروج معهم و الرجوع الی بلادهم، فأبی و أقام بمکة .
و یبدو ان قصی بن کلاب کان رجلا جلدا بعید النظر و طموحا، و انه خطب الی حلیل بن حبشیة بن سلول الخزاعی، ابنته حبّی- کما تری-، فرغب فیه حلیل و زوّجه، فولدت له عبد الدار، و عبد مناف، و عبد العزی، و عبد قصی، و کان حلیل بن حبشیة یلی الکعبة و آمر مکة، و کان حلیل إذا إعتلی اعطی إبنته مفتاح الکعبة، ففتحت ابواب البیت، فاذا اعتلت اعطت المفتاح زوجها قصیا او بعض ولدها ففتحه، و لما حضرت حلیلا الوفاة نظر إلی قصی و الی ما انتشر له من الولد من ابنته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 77
فرأی ان یجعلها فی ولد ابنته فدعا قصیا فجعل له ولایة البیت و اسلم إلیه المفتاح ، و هکذا اصبحت الزعامة الی قصی و آل الیه الأمر فی مکة کما قد أشرنا الی ذلک من قبل.
و جعل قصی لولده عبد الدار، الحجابة و الندوة و السقایة و الرفادة و اللواء، و الحجابة و هی حجابة الکعبة، و الندوة و هی مجلس قریش و معقد اجتماعهم، و فیها تقرر الحروب و تعقد المحالفات السیاسیة و الاقتصادیة و ترسم سیر القوافل التجاریة و اتجاهاتها و غیرها من الأمور المهمة، و الرفادة و هی خرج تخرجه قریش فی کل موسم من اموالها الی قصی بن کلاب فیصنع منه طعاما للحجاج یأکله الفقراء، و السقایة، و هی سقایة الحاج، و اللواء، رایة قریش، و کان قصی هو الذی یعقد لقریش ألویتهم.
و جری نزاع بین أبناء عبد الدار و ابناء عبد مناف، فقد اراد ابناء عبد مناف انتزاع المراتب الشرفیة التی کانت لعبد الدار و ابنائه، فانقسمت قریش أحلافا، و نحر بنو عبد الدار و انصارهم جزورا، و غمسوا ایدیهم فی دمه، متعاهدین، و لعق أحدهم من ذلک الدم، و تابعه من کان معه، فسموا الاحلاف و لعقة الدم، و اخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طیبا، فوضعوها عند الکعبة، و تحالفوا، و جعلوا ایدیهم فی الطیب، فسموا بالمطیبین، و استعدوا للقتال، ثم اصطلحوا علی ان تکون لبنی عبد مناف السقایة و الرفادة، و لبنی عبد الدار اللواء و الحجابة .

بنو عبد مناف

و بنو عبد مناف، ینتسبون الی عبد مناف، و قیل ان اسمه المغیرة، لقبه، و ذکر ابن سعد عن هشام بن محمد بن السائب الکلبی عن ابیه قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 78
لما هلک قصی بن کلاب، قام عبد مناف بن قصی علی أمر قصی بعده، و أمر قریش إلیه، و اختط بمکة رباعا بعد الذی کان قصی قطع لقومه، و علی عبد مناف اقتصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله و سلم، حتی أنزل اللّه تبارک و تعالی علیه (وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ) .
و ولد عبد مناف بن قصی ستة نفر، و ست نسوة، المطلب بن عبد مناف، و کان اکبرهم، و هو الذی عقد الحلف لقریش من النجاشیّ فی متجرها الی ارضه، و هاشم بن عبد مناف، و عبد شمس بن عبد مناف، و تماضر بنت عبد مناف و حنّة، و قلابة، و برّة، و هالة، بنات عبد مناف و أمهم عاتکة الکبری بنت مرة بن هلال بن فالج، بن ثعلبة، بن ذکوان، ابن ثعلبة، بن بهثة، بن سلیم، بن منصور، بن عکزمة بن خصفة، ابن قیس، بن عیلان، بن مضر، و نوفل بن عبد مناف، و هو الذی عقد الحلف لقریش من کسری الی العراق، و ابا عمرو بن عبد مناف، و ابا عبید درج، و امهم واقدة بنت أبی عدیّ، و ریطة بنت عبد مناف .

بنو هاشم

و بنو هاشم، و ینتسبون الی هاشم، اکبر اولاد عبد مناف، و قد انتهت إلیه السیادة فی مکة، و ذکر ان اسمه (عمرو) و کنیته (ابو نضله) و انما قیل له هاشم لأنه اول من هشم الثرید لقومه بمکة و أطعمه . و امتاز هاشم بقوة الشخصیة و سعة النفوذ، و هو الذی حفر عدة آبار فی مکة مثل بئر (سجلة) و هی البئر التی یقال لها بئر جبیر بن مطعم فی و بئر (بذر) و قال حین حفرها لأجعلنها للناس بلاغا و هی البئر التی حقّ المقوّم ابن عبد المطلب فی ظهر دار الطلوب مولاة زبیدة بالبطحاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 79
و هاشم اول من سنّ الرحلتین لقریش، للتجارة، رحلة الشتاء الی الیمن و الحبشة، و رحلة الصیف الی غزة و بلاد الشام و ربما بلغ أنقرة، فیدخل علی قیصر فیکرمه و یحبوه فأصابت قریشا سنوات ذهبن بالأموال .
و هو الذی اخذ الحلف من قیصر لقریش علی ان تأتی الشام و تعود منها آمنة.
و کان احد الأجواد الذین ضرب بهم المثل فی الکرم، و قد ذکر انه خرج مرة الی الشام فأمر بخبز کثیر فخبز له، فحمله فی الغرائر علی الابل حتی وافی مکة، فهشم ذلک الخبز و شرده و نحر تلک الابل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم کفأ القدور علی الجفان ، فأشبع اهل مکة، فکان ذلک اول الحیا بعد السنة التی أصابتهم فسمی بذلک هاشما و فی ذلک قال عبد اللّه بن الزّبعری:-
عمرو العلی هشم الثرید لقومه‌و رجال مکة مسنتون عجاف
و قد مر ذکره فی صدر هذا الجزء
و یبدو أن ما أصاب هاشما من علو المکانة و سمو المجد، اثار حسد أمیة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصی، و کان ذا مال، فتکلف أن یصنع صنیع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قریش فغضب، و نال من هاشم و دعاه الی المنافرة، فکره هاشم ذلک لسنه و قدره، فلم تدعه قریش و أحفظوه، قال هاشم: فانی انافرک علی خمسین ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مکة، و الجلاء عن مکة عشر سنین، فرضی أمیة بن عبد شمس بذلک، و جعلا بینهما الکاهن الخزاعی و هو جد عمرو بن الحمق و منزله بعسفان ، و قد قضی الکاهن لهاشم بالغلبة، فأخذ هاشم الابل فنحرها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 80
و اطعمها من حضره، و خرج امیة الی الشام فأقام بها عشر سنین، فکانت هذه اول عداوة وقعت بین هاشم و امیة .
و فی ایام هاشم حصل النزاع بین بنی عبد مناف و بنی عبد الدار من اجل السیطرة علی المراتب التی استحوذت علیها بنو عبد الدار، و قد بینا فیما سبق ما آل الیه ذلک النزاع حیث اصبحت السقایة و الرفادة لبنی عبد مناف، و احتفظ بنو عبد الدار باللواء و الحجابة و دار الندوة . و دار الندوة ملک خاص لبنی عبد الدار توارثوها حتی آلت الی عکرمة بن عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار بن قصی، من معاویة بن أبی سفیان فجعلها دار الامارة ، و قیل ان دار الندوة صارت الی حکیم بن حزام بن خویلد ابن اسد بن عبد العزی بن قصی، فباعها من معاویة بن ابی سفیان بمایة الف درهم، فلامه معاویة علی ذلک و قال: بعت مکرمة آبائک و شرفهم، فقال حکیم: ذهبت المکارم إلّا التقوی، و اللّه لقد اشتریتها فی الجاهلیة بزق خمر و قد بعتها بمایة الف درهم، و اشهدکم ان ثمنها فی سبیل اللّه تعالی فأین المغبون؟ و قال ابن الکلبی: دار الندوة اول دار بنت قریش بمکة و انتقلت بعد موت قصی الی ولده الأکبر عبد الدار.
و ولد هاشم بن عبد مناف اربعة نفر و خمس نسوة، شیبة الحمد و هو عبد المطلب، و کان سید قریش حتی هلک، و رقیة، ماتت و هی جاریة لم تبرز و امها سلمی بنت عمرو بن زید بن لبید بن خداش بن عامر بن غنم ابن عدی بن النجار. و أبا صیفی بن هاشم، و اسمه عمرو و هو اکبرهم.
و صیفیا، و امهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن مالک بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج، و اسد بن هاشم، و امه قیلة بنت عامر بن مالک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 81
ابن جذیمة من خزاعة، و نضله بن هاشم. و الشفاء. و رقیة و امهم أمیمة بنت عدی بن عبد اللّه بن دینار بن مالک من قضاعة، و الضعیفة بنت هاشم و خالدة بنت هاشم، و امها ام عبد اللّه واقدة بنت أبی عدی. و حنة بنت هاشم، و امها عدیّ بنت حبیّب بن الحارث بن مالک بن حطیط بن جشم ابن قسی و هو ثقیف .
و فی حدود 524 م وفد هاشم بن عبد مناف علی الشام فی تجارة له، فمرض فی طریقه إلیها، فتحول الی غزة فمات فیها .

اصحاب الایلاف

و من اولاد مناف، نوفل بن عبد مناف، و هو من اصحاب الایلاف، قال ابن حبیب: اصحاب الایلاف الذین رفع اللّه بهم قریشا، و نعش فقراءها، هاشم، و عبد شمس، و المطلب، و نوفل، بنو عبد مناف . و کل من هؤلاء کان رئیس من یخرج معه ممن یتجر فی وجهته، و اشتهر من اولاده، عدی، و عامر، و عمرو، و عبد عمرو، و یبدو ان نوفل کانت تجارته الی العراق، و فی احدی رحلاته التجاریة توفی فی مکان یعرف (بالسلمان) و هو ماء قدیم جاهلی فی الطریق الی تهامة من العراق ، و قد مات نوفل قبل اخیه المطلب .
و من بنی عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف بن قصی، و کان هذا هو الآخر من اصحاب الایلاف، و کان متجره الی بلاد الحبشة ، و له من الولد، أمیة، و حبیب، و عبد أمیة، و نوفل، و ربیعة، و عبد العزی، و عبد اللّه. و توفی عبد شمس فی مکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 82
و من بنی عبد مناف، المطلب بن عبد مناف بن قصی، و کان اکبر من هاشم و من عبد شمس، و هو الذی عقد الحلف لقریش من النجاشی فی متجرها، و کان شریفا فی قومه مطاعا سیدا، و کانت قریش تسمیه الفیض لسماحته، فولی بعد هشام السقایة و الرفادة، و خرج مرة بتجارة الی ارض الیمن فتوفی بردمان من بلاد الیمن .

عبد المطلب و بنوه

و تولی الرفادة و السقایة بعد وفاة المطلب بن عبد مناف، عبد المطلب ابن هاشم، و کان اسمه شیبة، و هو الذی حفر زمزم، و کان یحمل الماء من زمزم الی عرفة فیسقی الحاج، و من أبرز الحوادث التی حصلت فی زمن عبد المطلب، حملة الأحباش الکبیرة علی مکة، و کان فی مقدمة جیش الحبشة فیل کبیر، و یقود تلک الحملة القائد الحبشی (ابرهة) و قد هلک معظم جیش الأحباش نتیجة و باء و بیل اکتسح ذلک الجیش و مزق صفوفه، و قد اشار القرآن الکریم الی تلک الحادثة فی قوله تعالی: «أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّکَ بِأَصْحابِ الْفِیلِ، أَ لَمْ یَجْعَلْ کَیْدَهُمْ فِی تَضْلِیلٍ، وَ أَرْسَلَ عَلَیْهِمْ طَیْراً أَبابِیلَ، تَرْمِیهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّیلٍ، فَجَعَلَهُمْ کَعَصْفٍ مَأْکُولٍ» و بذلک انقذت مکة و ذهب عن اهلها الخوف.
و ولد عبد المطلب بن هاشم اثنی عشر رجلا وستّ نسوة، الحارث و هو اکبر ولده و به کان یکنی و مات فی حیاة ابیه، و امه صفیّة بنت جنیدب بن حجیر بن زبّاب بن حبیب بن سواءه بن عامر بن صعصعة، و عبد اللّه أبا رسول اللّه صلی اللّه علیه و علم، و الزبیر و کان شاعرا شریفا، و إلیه أوصی عبد المطلب، و ابا طالب و اسمه عبد مناف، و عبد الکعبة مات و لم یعقب، و أمّ حکیم و هی البیضاء، و عاتکة، و برّة، و امیمة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 83
و اروی، و امهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن یقظة ابن مرة بن کعب بن لؤی، و حمزة و هو اسد اللّه و اسد رسوله، شهد بدرا و استشهد یوم احد، و المقوّم، و حجلا و اسمه المغیرة، و صفیة و امهم هالة بنت و هیب بن عبد مناف بن زهرة بن کلاب، و العبّاس و کان شریفا عاقلا مهیبا، و ضرارا و کان من فتیان قریش جمالا و سخاء، و مات أیام أوحی اللّه الی النبی صلی اللّه علیه و سلم، و لا عقب له، و قثم بن عبد المطلب لا عقب له، و ابا لهب بن عبد المطلب و اسمه عبد العزی و یکنی ابا عتبة، کنّاه عبد المطلب ابا لهب لحسنه و جماله، و کان جوادا، و الغیداق بن عبد المطلب و اسمه مصعب .
و توفی عبد المطلب بمکة سنة 579 م بعد ان عاش نحوا من ثمانین عاما.
و ذکر ان وفاته کانت سنة تسع من عام الفیل و للنبی (ص) یومئذ ثمانی سنین، و قیل: بل توفی عبد المطلب و هو ابن ثلاث سنین .

بطون قریش

و قریش القبیلة الکبیرة فی مکة، تتألف من بطون أخری کثیرة منها:
بنو أسد و هم ابناء اسد بن عبد العزی بن قصی، و هم حی کبیر من قریش، و کانت تلبیة بنی اسد فی الجاهلیة إذا حجوا: (لبیک اللهم لبیک، یا رب أقبلت بنو أسد اهل التوانی و الوفاء و الجلد، إلیک.) و یعتقد ان لا عقب لعبد العزی إلّا من أسد . و من مشاهیر هذه القبیلة فی الجاهلیة عثمان بن الحویرث بن اسد بن عبد العزی، و ورقة بن نوفل بن أسد، و من مشاهیرها فی الاسلام السیدة الجلیلة خدیجة بنت خویلد بن اسد بن عبد العزی، ام المؤمنین علیها السلام، و حکیم بن حزام بن خویلد بن اسد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 84
ابن عبد العزی، ابو خالد و هو ابن اخی السیدة خدیجة علیها السلام، و کان من سادات قریش فی الجاهلیة و الاسلام، و قد اسلم یوم الفتح، و کان من أصدقاء النبی (ص) و کان من المؤلفة و شهد حنینا و أعطی من غنائمها مائة بعیر ثم حسن اسلامه، قال الزبیر: جاء الاسلام و فی ید حکیم ابن حزام الرفادة و کان یفعل المعروف و یصل الرحم، و قیل انه عاش مائة و عشرین سنة شطرها فی الجاهلیة و شطرها فی الاسلام . و من المشهورین فی هذه القبیلة الزبیر بن العوام بن خویلد الأسدی و هو من المسلمین الأولین و شهد بدرا و أحدا و قتل سنة 36 ه بوادی السباع علی بعد سبعة فراسخ من البصرة.

بنو جمح

و بنو جمح، و هم اولاد جمح بن عمرو بن هصیص بن کعب بن لؤی ابن غالب بن فهر بن مالک بن النضر ، و کان له من الولد حذاقة و سعد، و من بنی سعد بن جمح، ابو محذورة و قیل ان اسمه أوس بن معیر بن لوذان بن ربیعة بن عریج بن سعد بن جمح، مؤذن الرسول (ص) .
و اخوه انیس بن أنیس بن مغیر، قتل یوم بدر کافرا، و من بنی حذافة ابن جمح، أمیة بن خلف و أخوه أبی بن خلف، و کانا من المشرکین، و کلدة بن أسید بن خلف بن حذافة بن جمح، الذی انزل فیه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی کَبَدٍ) و جمیل بن معمر بن حبیب بن وهب الذی انزل فیه (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ) علی احد الاقوال .

بنو تیم

و بنو تیم، و هم أبناء تیم بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 85
ابن مالک بن النضر، و من مشاهیر هذه القبیلة ابو بکر، عبد اللّه بن ابی قحافة عثمان بن عامر بن کعب، اول الخلفاء الراشدین و المتوفی سنة 13 ه، و طلحة بن عبید اللّه بن عثمان، و کان من رجال الشوری الذین عینهم الخلیفة عمر بن الخطاب (ر ض)، و قتل فی معرکة الجمل سنة 36 ه

بنو خزیمة

و بنو خزیمة، و هم ابناء خزیمة بن مدرکة بن الیاس، من مضر، و کنیته ابو اسد، و هو الذی نصب (هبل) علی الکعبة، و کان یقال له:
هبل خزیمة، و من ابنائه، عضل بن الهون بن خزیمة بن مدرکة، اختلط بنوه ببنی اخ له اسمه «الدیش» و سموا (القارة) لاجتماعهم و التفافهم، و یذکر القسطلانی: ان القارة بطن من الهون ینسبون الی الدیش المذکور ، و یعتقد البعض الآخر ان الهون، و عضل، و القارة، اخوة الهزیل ، بینما یری فریق آخر ان الهون، و عضل، حیان فی نهایة العداوة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم . و هم علی ما یظهر بنو زهرة فی الجاهلیة . و من مشاهیر هذه القبیلة عبد الرحمن بن عبد القاری، و هو من ولد القارة بن الدیش، من التابعین الأجلاء فی المدینة و علمائهم، و کان علی بیت المال للخلیفة عمر بن الخطاب (ر ض) ، و روی عن عمر بن الخطاب، و روی عنه عروة بن الزبیر و حمید بن عبد الرحمن . و اشتهر بنو القارة بإجادة الرمی و فیهم المثل، و هو من رجز لأحدهم:- «قد انصف القارة من راماها»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 86
و یورد ابو الفرج الأصفهانی، قصة و قد عضل، و القارة، و قدومهم علی الرسول (ص) و غدرهم بعدد من الصحابة، قال ابو الفرج:- قدم علی رسول اللّه (ص) بعد أحد رهط من عضل و القارة، فقالوا: یا رسول اللّه، ان فینا اسلاما و خیرا، فابعث معنا من اصحابک، یفقهونا فی الدین، و یقرئونا القرآن، و یعلمونا شرائع الاسلام، فبعث رسول اللّه (ص) معهم نفرا ستة من أصحابه: مرثد بن ابی مرثد الغنوی، حلیف حمزة بن عبد المطلب، و خالد بن البکیر، حلیف بنی عدی بن کعب، و عاصم بن ثابت بن أبی الأقلح اخا بنی عمرو بن عوف، و خبیب بن عدی اخا بنی جحجبن بن کلفة بن عمرو بن عوف، و زید بن الدّثنّة، اخا بنی بیاضة بن عامر، و عبد اللّه بن طارق حلیفا لبنی ظفر من بلیّ، و أمّر رسول اللّه (ص) علیهم مرثد بن أبی مرثد، فخرجوا مع القوم، حتی إذا کانوا علی الرجیع غدروا بهم و استصرخوا علیهم هذیلا فلم یرع القوم و هم فی رحالهم إلّا بالرجال و فی ایدیهم السیوف قد غشوهم، فأخذوا اسیافهم لیقاتلوا القوم، فقالوا: إنا و اللّه ما نرید قتلکم و لکنا نرید ان نصیب بکم شیئا من اهل مکة، و لکم عهد اللّه و میثاقه ألا نقتلکم.
فأمّا مرثد بن أبی مرثد، و خالد بن البّکیر، و عاصم بن ثابت بن أبی الأقلح، فقالوا: إنا و اللّه لا نقبل من مشرک عهدا و لا عقدا ابدا. فقاتلوهم حتی قتلوهم جمیعا. و اما زید بن الدّثنّة و خبیب بن عدی، و عبد اللّه ابن طارق فلانوا و رقوا و رغبوا فی الحیاة و أعطوا بأیدیهم، فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلی مکة لیبیعوهم بها، حتی إذا کانوا بالظهران ، انتزع عبد اللّه بن طارق یده من القران ، ثم أخذ سیفه و استأخر عن القوم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 87
فرموه بالحجارة حتی قتلوه، فقبره بالظهران. اما خبیب بن عدی وزید ابن الدثنة فقدموا بهما مکة فباعوهما .

بنو زهرة

و بنو زهرة، و هم ابناء زهرة بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی ، و من مشاهیر بنی زهرة، عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث الزهری القرشی، من صحابة رسول اللّه (ص) و احد الستة اصحاب الشوری الذین عینهم عمر بن الخطاب (ر ض)، و کان اسمه قبل اسلامه (عبد الکعبة) و سماه رسول اللّه (ص) عبد الرحمن، و قیل کان اسمه (عبد عمرو) .
و من مشاهیر بنی زهرة سعد بن أبی و قاص مالک بن أهیب بن عبد مناف الزهری، و هو احد الستة الذین عینهم عمر بن الخطاب (ر ض) لمجلس الشوری، اسلم و هو ابن 17 سنة و شهد بدرا، و قاد جیش المسلمین فی موقعة القادسیة و التی انتصر فیها المسلمون انتصارا رائعا علی الدولة الساسانیة و فتحوا العراق، مات فی قصره بالعقیق و حمل الی المدینة و ذلک سنة خمس و خمسین للهجرة.
و من رجالات بنی زهرة المعروفین محمد بن مسلم بن عبید اللّه بن شهاب الزهری، رأی عشرة من اصحاب النبی (ص) و روی عنه جماعة منهم مالک و ابن عیینة و الثوری . و یعتبر محمد بن مسلم اول من دون الحدیث واحد اکابر الحفاظ و الفقهاء ، و نزل محمد بن مسلم الزهری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 90
مدینة الشام و استقر بها، و حضرته الوفاة فی ضیعته المعروفة (شغب) و هی خلف وادی القری و بها قبره .

بنو سهم

و بنو سهم، أولاد سهم بن عمرو بن هصیص بن کعب بن لؤی ، و من مشاهیرهم، العاص بن وائل بن هاشم السهمی، أدرک الاسلام و ظل علی الشرک، و کان علی رأس بنی سهم فی حرب الفجار، و کان من المستهزئین، و هو القائل لما مات القاسم ابن النبی (ص) ان محمدا ابتر لا یعیش له ولد ذکر، فأنزل (ان شانئک هو الأبتر) . و من مشاهیر بنی سهم، منبه بن الحجاج السهمی، و کان ادرک الاسلام و وقف مواقف عدائیة للمسلمین، و هو ندیم لطعیمة بن عدی بن نوفل من رؤساء قریش فی الجاهلیة، و قد قتل الامام علی بن ابی طالب، طعیمة بن عدی فی موقعة بدر ، و قتل منبه بن الحجاج، ابو الیسر، اخو بنی سلمة فی تلک الوقعة ایضا.
و نبیه بن الحجاج بن عامر أخو منبه بن الحجاج، کان ندیما للنضر بن الحارث، و قتل مشرکا فی وقعة بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب .
و من مشاهیرهم فی الاسلام، هشام بن العاص بن وائل بن هاشم، من المسلمین الأقدمین، و هاجر الی بلاد الحبشة فی الهجرة الثانیة، ثم عاد الی مکة حین علم بهجرة الرسول (ص) الی المدینة، و قتل فی موقعة اجنادین .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 91
و من بنی سهم عمرو بن العاص أخو هشام بن العاص و کان من المعارضین للرسول محمد (ص) و للمسلمین، و اسلم بعد معاهدة الحدیبیة، شارک فی فتوح الشام و ولاه الخلیفة عمر بن الخطاب فلسطین ثم مصر، و عزله الخلیفة عثمان بن عفان، و أید عمرو بن العاص معاویة بن أبی سفیان ضد الامام علی بن ابی طالب، و مات فی مصر سنة 43 ه.

بنو عدی

و بنو عدی، و هم ابناء عدی بن کعب بن مرة، و کان له من الولد رزاح و عویج، فمن بنی (رزاح) الخلیفة عمر بن الخطاب (ر ض) و من بنی عویج، نعیم بن عبد اللّه المعروف بالنحام .
و من مشاهیر بنی عدی فی الجاهلیة، زید بن عمرو بن نفیل بن عبد العزی، و کان مشهورا بالاتزان و الحکمة و سعة الصدر، و یعتبر نصیرا للمرأة فی الجاهلیة، و إنه اعتزل عبادة الأوثان و امتنع من اکل ذبائحهم، و کان إذا خلص الی البیت استقبله ثم قال:- لبیک حقا حقا، تعبدا ورقا، البرّ ارجو لا الخال ، و هل مهجر کمن قال:
عذت بما عاذ به ابراهم‌مستقبل الکعبة و هو قائم
یقول انفی لک عان راغم‌مهما تجشّمنی فإنی جاشم
و رحل الی الشام باحثا عن عبادات اهلها، فلم تستهوه الیهودیة و لا المسیحیة، و رجع الی مکة یعبد اللّه علی دین ابراهیم، و جاهد بعداء الاوثان ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 92
فتألب علیه جمع من قریش، فأخرجوه من مکة، فانصرف الی (حراء) فسلط علیه عمه الخطاب ابن نفیل جماعة من قریش منعوه من دخول مکة فکان لا یدخلها إلّا سرا، و کان یعارض فکرة وأد البنات، و لا یعلم ببنت یراد وأدها إلّا قصد أباها و کفاه مؤونتها، فیربیها حتی إذا ترعرعت عرضها علی ابیها فان لم یأخذها بحث لها عن کفؤ فزوجها به . و توفی زید قبل مبعث النبی (ص) بخمس سنین.
و من بنی عدی الخلیفة عمر بن الخطاب، و سعید بن زید بن عمرو بن نفیل، هاجر الی المدینة و شارک فی معظم الغزوات و کان من ذوی الرأی و البسالة، و شهد الیرموک، و ولاه القائد ابو عبیدة عامر بن الجراح، ولایة دمشق، و کانت وفاته فی المدینة سنة احدی و خمسین للهجرة .

بنو عبد شمس

و بنو عبد شمس، ابناء عبد شمس بن عبد مناف بن قصی کان له من الولد: أمیة، و حبیب، و عبد أمیة، و نوفل، و ربیعة، و عبد العزی و عبد اللّه . و عبد شمس من اصحاب الایلاف، و کان متجره الی الحبشة ، و من اشهر اولاده امیة الذی کانت له القیادة بعد وفاة ابیه ، و قد شارک امیة بن عبد شمس مع عبد المطلب بن هاشم، و خویلد بن اسد فی وفد التهنئة الذی اوفدته قریش الی سیف بن ذی یزن فی الیمن .
و من بنی عبد شمس، صخر بن حرب بن أمیة بن عبد شمس (ابو سفیان) و هو والد معاویة بن ابی سفیان، کان من اشد المشرکین حربا للرسول و المسلمین، قاد جیوش قریش فی موقعة أحد سنة 3 ه و فی موقعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 93
الخندق سنة 5 ه، و اعلن اسلامه بعد فتح مکة سنة 8 ه، کما اسلم ولداه معاویة و یزید فی السنة نفسها و هم جمیعا من الطلقاء.

بنو عبد المطلب

و بنو عبد المطلب، اولاد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصی، و هو من أشهر زعماء قریش فی الجاهلیة، امتاز بالحلم و سعة الصدر، و فصاحة اللسان، و کانت له السقایة و الرفادة، و فی ایامه کانت محاولة الاحباش فی غزو مکة. مات بمکة سنة تسع من عام الفیل و للنبی (ص) یومئذ ثمان سنین علی بعض الروایات.
و من اشهر اولاد عبد المطلب، (ابو طالب) عبد مناف بن عبد المطلب ابن هشام، عم النبی (ص) و کافله و مربیه و مناصره، کان من ابطال قریش و من الخطباء العقلاء الأباة، نشأ الرسول محمد (ص) فی بیته، و دافع بقوة عن الرسول محمد فی وقت کانت فیه قریش تتفنن فی اذی الرسول و اضطهاد المسلمین و تحاول کل جهدها فی القضاء علی الفکرة الاسلامیة. و من اولاده المشهورین، الامام علی بن ابی طالب (ع) و جعفر شهید معرکة مؤتة، و عقیل، و قد امتاز عقیل بن ابی طالب بفصاحة اللسان، و انه من اعلم قریش بأیامها، و مآثرها، و مثالبها، و أنسابها، برز اسمه فی الجاهلیة و کان فی قریش اربعة یتحاکم الناس إلیهم فی المنافرات: عقیل بن ابی طالب، و مخرمة بن نوفل، و حویطب بن عبد العزی، و عامر بن حذیفة، و الی عقیل ینتسب بنو عقیل.
و من اولاد عبد المطلب المشهورین بالشجاعة و الشهامة و بصدق الجهاد و مضاء العزیمة، حمزة بن عبد المطلب، ابو عمارة، و قد علم یوما ان أبا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 94
جهل تعرض للنبی (ص) و نال منه، فقصده حمزة بن عبد المطلب و ضربه، و قدم علی الرسول (ص) و اظهر اسلامه، و هاجر مع الرسول و جاهد جهادا صادقا فی موقعة بدر، و کان شعار حمزة فی الحرب ریشة نعامة یضعها علی صدره ، و فی بدر انتصر علی عدو الاسلام شیبة بن ربیعة و قتله، و شارک فی قتل عتبة بن ربیعة و قتل طعیمة بن عدی، و شارک فی معرکة أحد و استشهد فیها.
و العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، من الشخصیات البارزة فی بیت عبد المطلب خاصة و قریش عامة، و إلیه ینتسب الخلفاء العباسیون، کان ممن حضر بیعة العقبة مع الانصار قبل اسلامه، و شهد بدرا مع المسلمین مکرها فافتدی نفسه و افتدی ابن اخیه عقیل بن ابی طالب، و یقال انه اسلم و کتم اسلامه و صار یکتب الی الرسول (ص) بالاخبار ثم هاجر قبل الفتح بقلیل و شهد الفتح و ثبت یوم حنین، مات بالمدینة سنة اثنتین و ثلاثین للهجرة . و من اشهر اولاده (عبد اللّه) و یعرف (حبر الأمة) و نشأ فی بدء عصر النبوة و کان ممن لازم الرسول (ص) و روی عنه الاحادیث الصحیحة. ولد فی شعب بنی هاشم قبل الهجرة بثلاث سنین ، و قد امتاز عبد اللّه بن العباس بطلب العلم و تعلیم الناس و تفقیههم فی امور دینهم ، و شهد عبد اللّه بن العباس الجمل، و صفین، و النهروان، مع الامام علی بن أبی طالب طالب (ع) ، و کان عاملا علی البصرة فی خلافة الامام علی (ع) . و توفی ابن عباس سنة ثمان و ستین للهجرة بالطائف و صلی علیه محمد بن الحنفیة، و کبر علیه اربعا و قال: «الیوم مات ربانیّ هذه الأمة» و ضرب علی قبره فسطاطا . و کان عبد اللّه بن عباس قد عمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 95
آخر عمره، و قالی له یوما معاویة بن ابی سفیان: ما بالکم تصابون فی ابصارکم یا بنی هاشم؟ فقال له: کما تصابون فی بصائرکم یا بنی أمیة.
و من أولاد عبد المطلب (ابو لهب) عبد العزی بن عبد المطلب بن هاشم و هو یعد من الشخصیات الکبیرة فی العصر الجاهلی کما کان من اشد المشرکین أذی للرسول محمد و لأصحابه ، و فیه نزل قوله تعالی: (تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ، وَ تَبَّ، ما أَغْنی عَنْهُ مالُهُ وَ ما کَسَبَ، سَیَصْلی ناراً ذاتَ لَهَبٍ، وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِی جِیدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)، و کان من المستهزئین بالرسول و المسلمین، عظیم التکذیب له دائم الأذی، فکان یطرح العذرة و النتن علی باب النبی (ص) و کان جاره، فکان رسول اللّه (ص) یقول:
أی جوار هذا یا بنی عبد المطلب، فرآه یوما حمزة فأخذ العذرة و طرحها علی رأس أبی لهب، فجعل ینفضه عن رأسه و یقول: صاحبی احمق، و اقصر عما کان یفعله لکنه یضع من یفعل ذلک. و مات ابو لهب بمکة عند وصول الخبر بانهزام المشرکین ببدر بمرض یعرف بالعدسة.
و عبد اللّه، هو اصغر اولاد عبد المطلب بن هاشم، ابو قثم، الملقب بالذبیح والد رسول اللّه محمد (ص) و کان ابوه قد نذر لئن ولد له عشرة ابناء و شبوا فی حیاته لینحرن احدهم عند الکعبة، فشب له عشرة، فذهب بهم الی هبل، فضربت القداح بینهم، فخرجت علی عبد اللّه، و کان أحبهم إلیه ففداه بمئة من الابل، فکان یعرف بالذبیح. و زوّجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن کلاب بن مرة، و کان عبد اللّه یمتهن التجارة، و خرج عبد اللّه بن عبد المطلب الی الشام فی قافلة من قوافل قریش یحملون تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمرو بالمدینة و عبد اللّه بن عبد المطلب یومئذ مریض، فقال انا اتخلف عن (1) المرجع السابق: ص 182.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 96
اخوالی بنی عدیّ بن النجار، فأقام عندهم مریضا شهرا، و مضی أصحابه، فقدموا مکة، فسألهم عبد المطلب عن عبد اللّه فقالوا:- خلفناه عند اخواله بنی عدی بن النجار و هو مریض، فبعث إلیه عبد المطلب اکبر ولده الحارث فوجده قد توفی، و دفن فی دار النابغة. و کان لعبد اللّه یوم توفی خمس و عشرون سنة، و رسول اللّه (ص) یومئذ حمل .

بنو عامر

و بنو عامر، و هم اولاد عامر بن لؤی بن غالب من قریش، کان له من الولد، حسل و بغیض، فمن بنی حسل سهیل بن عمرو ، و سهیل خطیب قریش واحد سادتها فی الجاهلیة، اسره المسلمون فی معرکة بدر و افتدی، و قد أوفدته قریش لمفاوضة محمد (ص) و ابرام صلح معه، ذلک الذی عرف فی التاریخ بصلح الحدیبیة، فی السنة السادسة من الهجرة النبویة، و أسلم یوم الفتح فی السنة الثامنة، مات بالطاعون فی الشام سنة ثمان عشرة للهجرة ، و ذکر ان سهیل بن عمرو کان عند البیت الحرام لما فتح الرسول محمد (ص) مکة و دخل البیت ثم خرج فوضع یده علی عضادتی الباب فقال: ماذا تقولون؟. فقال سهیل بن عمرو: نقول خیرا و نظن خیرا، أخ کریم و ابن اخ کریم. و یروی ایضا ان عمر بن الخطاب قال للنبی (ص) دعنی انزع ثنیتی سهیل بن عمرو فلا یقوم علینا خطیبا، فقال: «دعها فلعلها أن تسرک یوما» فلما مات النبی (ص)، قام سهیل ابن عمرو، فقال: من کان یعبد محمدا فان محمدا قد مات و من کان یعبد اللّه فان اللّه حی لا یموت.
و من بنی عامر، عمرو بن عبد ودّ، کان فارس قریش الکبیر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 97
خرج یتقدم صفوف قریش الی قتال المسلمین فی معرکة الخندق سنة خمس للهجرة ، و تقدم الی صفوف المسلمین متحدیا و طالبا البراز، فخرج إلیه بطل الاسلام الکبیر الامام علی بن أبی طالب (ع) و انتصر علیه و صرعه ، و کان لانتصار الامام علی الأثر الکبیر فی کسب انتصار موقعة الخندق لصالح المسلمین.
و من بنی عامر، عمرو بن أم مکتوم، و کان عمرو و هو مؤذن الرسول (ص) و امه أم مکتوم اسمها عاتکة بنت عبد اللّه بن عاتکة بن عامر بن مخزوم ، و هو ابن خال خدیجة أم المؤمنین ، و کان ممن قدم المدینة مع مصعب بن عمیر قبل رسول اللّه (ص)، و استخلفه الرسول (ص) علی المدینة فی غزواته ثلاث عشرة مرة، و استخلفه فی خروجه الی حجة الوداع و شهد القادسیة و معه اللواء و قتل بها شهیدا، و قال الواقدی: رجع الی المدینة و مات بها سنة خمس عشرة . و ابن ام مکتوم هو المذکور فی سورة (عبس و تولی) و نزلت فیه (غیر اولی الضرر) لما نزلت (لا یستوی القاعدون) .
و اختلف فی اسمه، فأهل المدینة یقولون اسمه عبد اللّه، و اما اهل العراق فیقولون عمرو .
و من بنی عامر، عبد اللّه بن سهیل بن عمرو، و هو من الذین هاجروا الی الحبشة ، و یروی ان والده سهیل بن عمرو أخذه بعد ان رجع من الحبشة ففتنه عن دینه فأظهر الرجوع و خرج مع قریش الی بدر، ففر الی المسلمین و کان احد الشهود بعد ذلک فی صلح الحدیبیة، و دخل مع المسلمین یوم فتح مکة، و هو الذی اخذ الأمان لأبیه، و شارک عبد اللّه بن سهیل مع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 98
المسلمین فی حروب الردة، و استشهد فی معرکة الیمامة .
و من الطریف ان من بنی عامر، عبد اللّه بن مخرمة بن عبد العزی بن أبی قیس بن عبد ود بن نصر بن مالک بن عامر بن لؤی القرشی العامری، کان ممن هاجر الی الحبشة و استشهد هو الآخر فی معرکة الیمامة .
و من بنی عامر، من هاجر الی الحبشة و شارک فی معرکة بدر و استشهد فی معرکة الیمامة، سلیط بن عمرو بن عبد شمس العامری .
و من بنی عامر، ابو سبرة بن أبی رهم بن عبد العزی العامری، من المسلمین الأولین، و هاجر إلی الحبشة و معه أم کلثوم بنت سهیل بن عمرو، و عاد الی المدینة و شهد بدرا، و أقام بمکة بعد وفاة الرسول (ص) الی ان مات فی خلافة عثمان بن عفان، و لا یعلم احد من اهل بدر رجع الی مکة غیره .

بنو مخزوم

و من قبائل قریش المشهورة، بنو مخزوم، اولاد مخزوم بن یقظة بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب، و کان له من الولد عمرو و عمران و عامر و من مشاهیر بنی مخزوم فی الجاهلیة هشام بن المغیرة بن عبد اللّه بن عمر المخزومی، و کانت قریش و کنانة و من والاهم یؤرخون بثلاث حوادث،:
بناء الکعبة، و عام الفیل، و بموت هشام، و هو قریب عهد من البعثة النبویة، و صار ولده (الحارث) من الصحابة، و شهد معرکة بدر مع المشرکین و کان فیمن انهزم ، و اسلم یوم فتح مکة، و خرج الی الجهاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 99
فی فتوح الشام، و مات فی طاعون عمواس سنة 18 ه ، و هو اخو أبی جهل .
و من بنی مخزوم الولید بن المغیرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم، من قضاة العرب فی الجاهلیة و من زعماء قریش، و کان علی جانب کبیر من الثراء، و کانت قریش جمیعها تکسو البیت جمیعها، و الولید یکسوه وحده ، و عند ما بدأت قریش فی تهدیم الکعبة بقصد بنائها، کان الولید بن المغیرة المخزومی أول من ضرب فیها بمعول . و ادرک الاسلام و اعلن حربه الشدیدة علی المسلمین، و قاوم الدعوة مقاومة عنیفة. و کان یقول:
أینزل علی محمد و أترک، و أنا لبیب قریش و سیدها، و یترک ابو مسعود عمرو بن عمیر الثقفی سید ثقیف، و نحن عظیما القریتین . فأنزل اللّه تعالی فیه (وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلی رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ. أَ هُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ نَحْنُ قَسَمْنا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا) الی قوله تعالی:- (خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ) . و مات الولید بن المغیرة بعد الهجرة النبویة بثلاثة اشهر .
و منهم الولید بن الولید بن المغیرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم، و هو أخو خالد بن الولید، ادرک الاسلام و لکنه ظل علی وثنیته، و حارب المسلمین فی موقعة بدر فأسره المسلمون، فافتداه اخواه هشام و خالد، فلما افتدی اسلم و عاتبوه فی ذلک، فقال: ما کنت لأسلم حتی أفتدی، و لا تقول قریش إنما اتبع محمدا فرارا من الفداء، و حبسه اخواه ثم أفلت من أسرهم و لحق بالنبی (ص) و مات بالمدینة فی حدود السنة السابعة للهجرة و من مشاهیر بنی مخزوم، عمرو بن هشام بن المغیرة المخزومی المعروف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 100
بأبی جهل، و کان اشد الناس عداوة للنبی (ص) و أکثرهم اذی له و لا صحابه و من جرائمه فی حق المسلمین انه قتل السیدة الجلیلة سمیة ام عمار بن یاسر، و کانت قریش تهابه و تقدمه، فقد سوّدته و لم یطرّ شاربه و ادخلته دار الندوة مع الکهول .
و اورد ابن هشام قصة استماع أبی سفیان و أبی جهل و الأحنس بن شریق بن عمرو بن وهب الثقفی، حلیف بن زهرة، للرسول (ص) و هو یصلی من اللیل فی بیته، فسأل الأحنس بن شریق أبا جهل عن رأیه فیما سمعه من محمد (ص)؟ فقال ابو جهل: ماذا سمعت، تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، و حملوا فحملنا، و أعطوا فأعطینا، حتی إذا تجاذینا علی الرّکب، و کنّا کفرسی رهان، قالوا:
منا نبیّ یأتیه الوحی من السماء، فمتی ندرک مثل هذه، و اللّه لا نؤمن به أبدا، و لا نصدقه .
و خرج ابو جهل مع المشرکین الی قتال المسلمین فی السنة الثانیة للهجرة حیث وقعت معرکة بدر الخالدة و التی انتصر فیها المسلمون انتصارهم الرائع و هلک فیها کبار مشرکی مکة و فی مقدمتهم ابو جهل، قتله معوّذ ابن عفراء و عبد اللّه بن مسعود ، و بذلک یکون المسلمون قد تخلصوا من عدو لدود لهم.
و من شخصیات بنی مخزوم، الاسود بن عبد الأسد المخزومی و کان رجلا شرسا سیّ‌ء الخلق، و من کبار مشرکی مکة، خرج لقتال المسلمین فی بدر و وقف امام المشرکین یقول: أعاهد اللّه لأشربن من حرضهم، او لأهدمنه، او لأموتن دونه، فلما خرج، خرج الیه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقیا ضربه حمزة فأطنّ قدمه بنصف ساقه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 101
و هو دون الحوض، فوقع علی ظهره تشخب رجله دما نحو اصحابه، ثم حبا الی الحوض، حتی اقتحم فیه، یرید ان یبرّ یمینه، و أتبعه حمزة فضربه، حتی قتله فی الحوض .
و من بنی مخزوم، خالد بن الولید بن المغیرة، و کان من المشرکین المعادین للاسلام و المسلمین، و قاتل المسلمین فی عدة مواقع و کان الذی یقود میمنة قریش فی معرکة أحد ، و کان یتربص بالرماة الذین وضعهم الرسول (ص) علی جبل أحد، و تمکن من السیطرة علی الجبل و قتله المسلمین. و أسلم خالد بن الولید قبل فتح مکة بقلیل، فقد ورد عن عمرو بن العاص قوله: ثم خرجت الی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، لأسلم، فلقیت خالد بن الولید، و ذلک قبیل الفتح، و هو مقبل من مکة . و یؤید هذا القول ما جاء فی کتاب الاصابة، من ان خالد ابن الولید أسلم فی سنة سبع بعد موقعة خیبر و قیل قبلها ، و ساهم خالد فی الجهاد و شارک فی معرکة مؤتة، و حارب المرتدین فی الیمامة، و أمره الخلیفة ابو بکر بالتوجه الی فتح العراق، کما شارک فی فتوح الشام، و عزله الخلیفة عمر بن الخطاب حین تولی الخلافة سنة 13 ه . و مات بحمص سنة 21 ه .

بنو الحارث

و بنو الحارث، بطن من قریش و هم ابناء الحارث بن فهر بن مالک ابن النضر، و کان للحارث هذا من الولد ضبة و ضرب و الخلج . و من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 102
مشاهیرهم، ابو عبیدة عامر بن الجراح ابن هلال بن أهیب بن صبة بن الحارث، من الصحابة الکرام، و کان اسلامه هو و عثمان بن مظعون و عبیدة بن الحارث بن المطلب و عبد الرحمن بن عوف و ابو سلمة بن عبد الأسد فی ساعة واحدة، و ذلک قبل دخول النبی دار الارقم بن ابی الأرقم . و شهد معظم الغزوات الاسلامیة، و قیل انه قتل اباه فی موقعة بدر ، و کان احد قادة فتوح الشام ز من الخلیفة ابی بکر (ر ض) ، و ان عمر بن الخطاب اول ما تولی الخلافة أمر بعزل خالد بن الولید و تولیة ابی عبیدة عامر بن الجراح القیادة العامة . و توفی بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة للهجرة و هو ابن ثمان و خمسین سنة .
تلک جولة عامة فی تاریخ القبائل العربیة التی استوطنت مکة منذ اقدم العصور و حتی انبثاق فجر الاسلام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 103

مکة فی أشهر الرحلات العربیة

اشارة

کتبه الدکتور صفاء خلوصی دکتوراه من جامعة لندن و الأستاذ بکلیة التربیة من جامعة بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 105

مکة فی رحلة ابن جبیر

لم یأل الرحالة العرب جهدا فی الاهتمام بالعتبات المقدسة و لا سیما مکة و المدینة و کربلاء و النجف و الکاظمین، و علی رغم أهمیة ما ورد من معلومات حولها جمیعا فاننا سنخص بالذکر فی هذا الفصل مکة و الکاظمین فحسب تارکین عداهما لکتاب آخر أو مناسبات أخری، و لنبدأ بمکة فی رحلة ابن جبیر الاندلسی البلنسی (ت 539 ه- 1144 م- 614 ه- 1217 م) یقول فی باب «عدل صلاح الدین»:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 106
و من مفاخر هذا السلطان المزلفة من اللّه تعالی و آثاره التی ابقاها ذکرا جمیلا للدین و الدنیا: ازالته رسم المکس المضروب وظیفة علی الحجاج مدة دولة العبیدیین، فکان الحجاج یلاقون من الضغط فی استیدائها عنتا مجحفا و یسامون فیها خطة خسف باهظة، و ربما ورد منهم من لا فضل لدیه علی نفقته او لا نفقة عنده فیلزم اداء الضریبة المعلومة، و کانت سبعة دنانیر و نصف دینار من الدنانیر المصریة التی هی خمسة عشر دینارا مؤمنیة علی کل رأس، و یعجز عن ذلک، فیتناول بألیم العذاب بعیذاب؛ فکانت کاسمها مفتوحة العین، و ربما اخترع له من انواع العذاب التعلیق من الانثیین او غیر ذلک من الامور الشنیعة، نعوذ باللّه من سوء قدره؛ و کان بحدّه امثال هذا التنکیل و اضعافه لمن لم یؤد مکسه بعیذاب و وصل اسمه غیر معلم علیه علامة الأداء، فمحا هذا السلطان هذا الرسم اللعین و دفع عوضا منه ما یقوم مقامه من اطعمة و سواها؛ و عیّن مجبی موضع معین بأسره لذلک و تکفل بتوصیل جمیع ذلک الی الحجاز، لأن الرسم المذکور کان باسم میرة مکة و المدینة عمرهما اللّه، فعوّض من ذلک اجمل عوض، و سهّل السبیل للحجّاج و کانت فی حیّز الانقطاع و عدم الاستطلاع، و کفی اللّه المؤمنین علی یدی هذا السلطان العادل حادثا عظیما و خطبا ألیما.
و تحت عنوان: «ذکر ما استدرک خبره مما کان أغفل» یقول (ص 34):
انّا لما حللنا الاسکندریة فی الشهر المؤرخ اولا عاینا مجتمعا من الناس عظیما بروزا لمعاینة اسری من الروم أدخلوا البلد راکبین علی الجمال و وجوههم الی اذنابها و حولهم الطبول و الأبواق، فسألنا عن قصتهم فأخبرنا بأمر تتفطر له الأکباد اشفاقا و جزعا؛ و ذلک ان جملة من نصاری الشام اجتمعوا و أنشأوا مراکب فی اقرب المواضع التی لهم من بحر القلزم (ای البحر الأحمر)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 107
ثم حملوا انقاضها علی جمال العرب المجاورین لهم بکراء اتفقوا معهم علیه، فلما حصلوا بساحل البحر سمّروا مراکبهم و اکملوا انشاءها و تألیفها و دفعوها فی البحر و رکبوها قاطعین بالحجاج و انتهوا الی بحر النعم فأحرقوا فیه نحو ستة عشر مرکبا، و انتهوا الی عیذاب فأخذوا فیها مرکبا کان یأتی بالحجاج من جدّة، و اخذوا ایضا فی البحر قافلة کبیرة تأتی من قوص الی عیذاب، و قتلوا الجمیع و لم یحیوا احدا، و اخذوا مرکبین کانا مقبلین بتجّار من الیمن، و احرقوا اطعمة کثیرة علی ذلک الساحل کانت معدة لمیرة مکة و المدینة اعز هما اللّه، و احدثوا حوادث شنیعة لم یسمع مثلها فی الاسلام و لا انتهی رومی الی ذلک الموضع قط.
و یذکر فی الفصل الخاص ب «صفة جدّة» ما یلی (ص 53):
و جدّة هذه قریة علی ساحل البحر المذکور اکثر بیوتها اخصاص و فیها فنادق مبنیة بالحجارة و الطین و فی اعلاها بیوت من الاخصاص کالغرف و لها سطوح یستراح فیها باللیل من اذی الحر، و بهذه القریة آثار قدیمة تدل علی انها کانت مدینة قدیمة، و اثر سورها المحدق بها باق الی الیوم؛ و بها موضع فیه قبة مشیدة عتیقة یذکر انه کان منزل حوّاء ام البشر، صلی اللّه علیها، عند توجهها الی مکة، فبنی ذلک المبنی علیه تشهیرا لبرکته و فضله، و اللّه اعلم بذلک.
و فی صدد رحلته «من جدة الی الحرم الشریف» یذکر مکة بقوله:
«و فی عشیّ یوم الثلاثاء الحادی عشر من الشهر المذکور، و هو الثانی من شهر أغشت، (اغسطوس)، کان انفصالنا من جدّة بعد ان ضمن الحجاج بعضهم بعضا، و ثبتت اسماؤهم فی زمام عند قائد جدّة علیّ ابن موفّق، حسبما نفذ الیه ذلک من سلطانه صاحب مکة مکثر بن عیسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 108
المذکور، و هذا الرجل مکثر من ذریة الحسن بن علیّ، رضوان اللّه علیهما.
لکنه ممن یعمل غیر صالح، فلیس من اهل سلفه الکریم، رضی اللّه عنهم .
و دخلنا مکة، حرسها اللّه، فی الساعة الأولی من یوم الخمیس الثالث عشر لربیع المذکور، و هو الرابع من شهر أغشت، علی باب العمرة، و کان اسراؤنا تلک اللیلة المذکورة، و البدر قد ألقی علی البسیطة شعاعه، و اللیل قد کشف عنا قناعه و الأصوات تصک الآذان بالتلبیة من کل مکان، و الألسنة تضج بالدعاء و تبتهل الی اللّه بالثناء، فتارة تشتد بالتلبیة، و آونة تتضرع بالأدعیة، فیا لها لیلة کانت فی الحسن بیضة العقر ، فهی عروس لیالی العمر، و بکر بنیّات الدهر، الی ان وصلنا فی الساعة المذکورة من الیوم المذکور، حرم اللّه العظیم و مبوّأ الخلیل ابراهیم، فألفینا الکعبة الحرام عروسا مجلوّة مزفوفة الی جنة الرضوان محفوفة بوفود الرحمن، فطفنا طواف القدوم، ثم صلینا بالمقام الکریم، و تعلّقنا بأستار الکعبة عند الملتزم، و هو بین الحجر الأسود و الباب، و هو موضع استجابة الدعوة، و دخلنا قبة زمزم و شربنا من مائها، و هو لما شرب له، کما قال، صلیّ اللّه علیه و سلم، ثم سعینا بین الصفا و المروة، ثم حلقنا و احللنا، فالحمد للّه الذی کرّمنا بالوفادة علیه و جعلنا ممن انتهت الدعوة الابراهیمیة الیه ، و هو حسبنا و نعم الوکیل .

شهر جمادی الاولی، عرّفنا اللّه برکته

استهل هلاله لیلة الاثنین الثانی و العشرین لأغشت، و قد کمل لنا بمکة، شرّفها اللّه تعالی، ثمانیة عشر یوما، فهلال هذا الشهر اسعد هلال اجتلته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 109
ابصارنا فیما سلف من اعمارنا .

ذکر المسجد الحرام و البیت العتیق، کرمه اللّه و شرفه

و من آیات البیت العتیق انه قائم وسط الحرم کالبرج المشیّد و له التنزیه الأعلی، و حمام الحرم لا تحصی کثرة، و هی من الأمن بحیث یضرب بها المثل، و لا سبیل ان تنزل بسطحه الأعلی حمامة و لا تحل فیه بوجه و لا علی حال فتری الحمام یتجلی علی الحرم کله، فاذا قربت من البیت عرّجت عنه یمینا أو شمالا و الطیور سواها کذلک، و قرأت فی اخبار مکة انه لا ینزل علیه طائر الا عند مرض یصیبه فاما ان یموت لحینه او یبرأ فسبحان من أورثه التشریف و التکریم .
و من آیاته ان بابه الکریم یفتح فی الأیام المعلومة المذکورة، و الحرم قد غصّ بالخلق، فیدخله الجمیع و لا یضیق عنهم بقدرة اللّه، عز و جل، و لا یبقی فیه موضع الا و یصلی فیه کل احد؛ و یتلاقی الناس عند الخروج منه؛ فیسأل بعضهم بعضا: هل دخل البیت ذلک الیوم؟ فکلّ یقول:
دخلت و صلیت فی موضع کذا و موضع کذا حیث صلیّ الجمیع؛ و للّه الآیات البینات و البراهین المعجزات، سبحانه و تعالی.
و من عجائب اعتناء اللّه تبارک و تعالی به أنه لا یخلو من الطائفین ساعة من النهار و لا وقتا من اللیل؛ فلا تجد من یخبر انه رآه دون طائف به، فسبحان من کرّمه و عظّمه و خلّد له التشریف الی یوم القیامة.
و فی القبة العباسیة ... خزانة تحتوی علی تابوت مبسوط متسع و فیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 110
و بازاء الحرم الشریف دیار کثیرة لها أبواب علی الحرم مصحف احد الخلفاء الأربعة اصحاب رسول اللّه (ص) و بخط ید زید بن ثابت (ر ض) منتسخ سنة ثمانی عشرة من وفاة رسول اللّه (ص) و ینقص منه ورقات کثیرة، و هو بین دفتی عود مجلد بمغالیق من صفر، کبیر الورقات و اسعها، عایناه و تبرکنا بتقبیله و مسح الخدود فیه. نفع اللّه بالنیة فی ذلک.
و اعلمنا صاحب القبة المتولی لعرضه علینا: ان اهل مکة متی أصابهم قحط او نالتهم شدة فی اسعارهم اخرجوا المصحف المذکور و فتحوا باب البیت الکریم و وضعوه فی العتبة المبارکة مع المقام الکریم: مقام الخلیل ابراهیم، صلی اللّه علی نبینا و علیه، و اجتمع الناس کاشفین رؤوسهم داعین متضرعین، بالمصحف الکریم و المقام العظیم الی اللّه متوسلین، فلا ینفصلون عن مقامهم ذلک الا و رحمة اللّه عز و جل قد تدارکتهم و اللّه لطیف بعباده، لا إله سواه.
و بازاء الحرم الشریف دیار کثیرة لها ابواب یخرج منها الیه. و ناهیک بهذا الجوار الکریم! کدار زبیدة و دار القاضی و دار تعرف بالعجلة و سواها من الدیار، و حول الحرم ایضا دیار کثیرة تطیف بکلها مناظر و سطوح یخرج منها الی سطح الحرم فیبیت اهلها فیه و یبرّدون ماءهم فی اعالی شرفاته، فهم من النظر الی البیت العتیق دائما فی عبادة متصلة، و اللّه یهنئهم ما خصهم به من مجاورة بیته الحرام بمنه و کرمه.
و الفیت بخط الفقیه الزاهد الورع ابی جعفر الفنکی القرطبی: ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 111
ذرع المسجد الحرام فی الطول و العرض ما اثبتّه اولا، و طول مسجد رسول اللّه (ص) ثلاثمائة ذراع، و عرضه مئتان، و عدد سواعدیه ثلاثمائة، و مناراته ثلاث، فیکون تکسیره اربعة و عشرین مرجعا من المراجع المغربیة، و هی خمسون ذراعا فی مثلها، و طول مسجد بیت المقدس، اعاده اللّه للاسلام، سبعمائة و ثمانون ذراعا، و عرضه اربعمائة و خمسون ذراعا و سواریه اربعمائة و اربع عشرة ساریة، و قنادیله خمسمائة و ابوابه خمسون بابا، فیکون تکسیره من المراجع المذکورة مائة مرجع و اربعین مرجعا و خمسی مرجع .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 112

ذکر مکة شرفها اللّه تعالی و آثارها الکریمة، و أخبارها الشریفة

هی بلدة قد وضعها اللّه عز و جل بین جبال محدقة بها، و هی بطن واد مقدس، کبیرة مستطیلة، تسع من الخلائق ما لا یحصیه الا اللّه عز و جل.
و لها ثلاثة ابواب: اولها باب المعلی، و منه یخرج الی الجبّانة المبارکة، و هی بالموضع الذی یعرف بالحجون، و عن یسار المار الیها جبل فی اعلاه ثنیة علیها علم شبیه بالبرج، یخرج منها الی طریق العمرة، و تلک الثنیة تعرف بکداء، و هی التی عنی حسّان بقوله فی شعره (من الوافر):
تثیر النقع موعدها کداء فقال النبی (ص) یوم الفتح: ادخلوا من حیث قال حسان، فدخلوا من تلک الثنیة، و هذا الموضع الذی یعرف بالحجون هو الذی عناه الحارث ابن مضاض الجرهمی بقوله (من الطویل):
کأن لم یکن بین الحجون الی الصفاأنیس و لم یسمر بمکة سامر
بلی نحن کنا اهلها فأبادناصروف اللیالی و الجدود العواثر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 113
و بالجبّانة المذکورة مدفن جماعة من الصحابة و التابعین و الاولیاء و الصالحین قد دثرت مشاهدهم المبارکة و ذهبت عن اهل البلد اسماؤهم و فیه الموضع الذی صلب فیه الحجاج بن یوسف، جازاه اللّه، جثة عبد اللّه ابن الزبیر، رضی اللّه عنهما؛ و علی الموضع بقیة علم ظاهر الی الیوم، و کان علیه مبنی مرتفع، فهدمه أهل الطائف غیرة منهم علی ما کان یجدّد من لعنة صاحبهم الحجاج المذکور؛ و عن یمینک اذا استقبلت الجبانة المذکورة مسجد فی مسیل بین جبلین، یقال انه المسجد الذی بایعت فیه الجن النبی صلی اللّه علیه و سلم و شرف و کرّم.
و علی هذا الباب المذکور طریق الطائف، و طریق العراق و الصعود الی عرفات، جعلنا اللّه ممن یفوز بالموقف فیها، و هذا الباب المذکور بین الشرق و الشمال، و هی الی المشرق أمیل.
ثم باب المسفل: و هو الی جهة الجنوب، و علیه طریق الیمن، و منه کان دخول خالد بن الولید یوم الفتح.
ثم باب الزاهر و یعرف ایضا بباب العمرة، و هو غربی، و علیه طریق مدینة الرسول (ص) و طریق الشام و طریق جدّة، و منه یتوجّه الی التنعیم و هو اقرب میقات المعتمرین، یخرج من الحرم الیه علی باب العمرة، و لذلک ایضا یسمی هو بهذا الاسم.
و التنعیم من البلدة علی فرسخ، و هو طریق حسن فسیح، فیه الآبار العذبة التی تسمی بالشبیکة.
و عندما تخرج من البلدة بنحو میل تلقی مسجدا بازائه حجر موضوع علی الطریق کالمصطبة یعلوه حجر آخر مسند فیه نقش دائر الرسم یقال انه الموضع الذی قعد فیه النبی (ص) مستریحا عند مجیئه من العمرة فیتبرک الناس بتقبیله و مسح الخدود فیه ... ثم بعد هذا الموضع بمقدار غلوة تلقی علی قارعة الطریق من جهة الیسار للمتوجه الی العمرة قبرین قد علتهما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 114
اکوام من الصخر عظام یقال انهما قبرا ابی لهب و امرأته، لعنهما اللّه، فما زال الناس فی القدیم الی هلم جرا یتخذون سنة رجمهما بالحجارة حتی علاهما من ذلک جبلان عظیمان .
ثم تسیر فیهما بمقدار میل و تلقی الزاهر، و هو مبنی علی جانبی الطریق، یحتوی علی دار و بساتین، و الجمیع ملک احد المکیین و فی الموضع بئر عذبة.
و عن جانبی الطریق فی هذا الموضع جبال اربعة: جبلان من هنا، و جبلان من هنا، علیها اعلام من الحجارة، و ذکر لنا انها الجبال المبارکة التی جعل ابراهیم (ع) علیها اجزاء الطیر ثم دعاهن حسبما حکی اللّه، عز و جل، سؤاله ایاه جل و تعالی ان یریه کیف یحیی الموتی؛ و حول تلک الجبال الأربعة جبال غیرها، و قیل: ان التی جعل ابراهیم علیها الطیر سبعة منها، و اللّه اعلم.
و عند اجازتک الزاهر المذکور تمر بالوادی المعروف بذی طوی الذی ذکر ان النبی (ص) نزل فیه عند دخوله مکة و حوله آبار تعرف بالشبیکة، و فیه مسجد یقال انه مسجد ابراهیم (ع) فتأمل برکة هذا الطریق و مجموع الآیات التی فیه و الآثار المقدسة التی اکتنفته.
و تجیز الوادی الی مضیق تخرج منه الی الاعلام التی وضعت حجزا بین الجبل و الحرام، فما داخلها الی مکة حرم و ما خارجها حل، و هی کالأبراج مصفوفة کبار و صغار واحد بازاء الآخر، و علی مقربة منه تأخذ من اعلی الجبل الذی یعترض عن یمین الطریق فی التوجه الی العمرة، و تشق الطریق الی اعلی الجبل عن یساره، و منه میقات المعتمرین و فیها مساجد مبنیة بالحجارة یصلی المعتمرون فیها و یحرمون منها.
و من عجیب ما عرض علینا بباب بنی شیبة المذکور عتب من الحجارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 115
العظام طوال کأنها مصاطب صفت امام الابواب الثلاثة المنسوبة لبنی شیبة، ذکر لنا انها الأصنام التی کانت قریش تعبدها فی جاهلیتها، و کبیرها هبل بینها، قد کبّت علی وجوهها، تطؤها الأقدام و تمتهنها بأنعلتها العوام؛ و لم تغن عن انفسها فضلا عن عابدیها شیئا فسبحان المنفرد بالوحدانیة لا اله سواه؛ و الصحیح فی امر تلک الحجارة ان النبی (ص) امر یوم فتح مکة بکسر الاصنام و احراقها، و هذا الذی نقل الینا غیر صحیح و انما تلک التی علی الباب حجارة منقولة و عنی القوم بتشبیهها الی الاصنام لعظمها.
و من جبال مکة المشهورة، بعد جبل ابی قبیس، جبل حراء، و هو فی الشرق علی مقدار فرسخ او نحوه مشرف علی منی، و هو مرتفع فی الهواء عالی القنة، و هو جبل مبارک، کان النبی (ص) کثیرا ما ینتابه و یتعبد فیه، و اهتز تحته فقال له النبی (ص): «اسکن حراء، فما علیک الا نبیّ و صدّیق و شهید» .... و اول آیة نزلت من القرآن علی النبی (ص) فی الجبل المذکور و هو آخذ من الغرب الی الشمال، و وراء طرفه الشمالی جبّانة الحجون ... و سور مکة انما کان من جهة المعلی و هو مدخل الی البلد، و من جهة المسفل و هو مدخل ایضا الیه؛ و من جهة باب العمرة و سائر الجوانب جبال لا یحتاج معها الی سور؛ و سورها الیوم منهدم إلا آثاره الباقیة و ابوابه القائمة.

ذکر بعض مشاهدها المعظمة و آثارها المقدسة

مکة، شرفها اللّه، کلها مشهد کریم، کفاها شرفا ما خصها اللّه به من مثابة بیته العظیم و ما سبق لها من دعوة الخلیل ابراهیم و انها حرم اللّه و امنه، و کفاها انها منشأ النبی (ص) الذی آثره اللّه بالتشریف و التکریم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 116
و ابتعثه بالآیات و الذکر الحکیم، فهی مبدأ نزول الوحی و التنزیل و اول مهبط الروح الامین جبریل، و کانت مثابة انبیاء اللّه و رسله الاکرمین، و هی ایضا مسقط رؤوس جماعة من الصحابة القرشیین المهاجرین الذین جعلهم اللّه مصابیح الذین و نجوما للمهتدین.
فمن مشاهدها التی عایناها قبّة الوحی، و هی فی دار خدیجة ام المؤمنین (ر ض)، و بها کان ابتناء النبی (ص) بها، و قبة صغیرة ایضا فی الدار المذکورة فیها کان مولد فاطمة الزهراء (ع)، و فیها ایضا ولدت سیدی شباب اهل الجنة: الحسن و الحسین (ع) و هذه المواضع المقدسة المذکورة مغلقة مصونة قد بنیت بناء یلیق بمثلها.
و من مشاهدها الکریمة ایضا مولد النبی (ص) و التربة الطاهرة التی هی اول تربة مست جسمه الطاهر، بنی علیها مسجد لم یر احفل بناء منه، اکثره ذهب منزّل به، و الموضع المقدس الذی سقط فیه، صلی اللّه علیه و سلم، ساعة الولادة السعیدة المبارکة التی جعلها اللّه رحمة للأمة اجمعین، محفوف بالفضة؛ فیا لها تربة شرفها اللّه بأن جعلها مسقط اطهر الأجسام و مولد خیر الانام، صلی اللّه علیه و علی آله و اهله و اصحابه الکرام و سلّم تسلیما؛ یفتح هذا الموضع المبارک فیدخله الناس کافة متبرکین به فی شهر ربیع الأول و یوم الاثنین منه، لأنه کان شهر مولد النبی (ص) و فی الیوم المذکور ولد (ص)، و تفتح المواضع المقدسة المذکورة کلها و هو یوم مشهور بمکة دائما.
و من مشاهدها الکریمة ایضا دار الخیزران، و هی الدار التی کان النبی (ص) یعبد اللّه فیها سرا مع الطائفة الکریمة المبادرة للاسلام من اصحابه، رضی اللّه عنهم ...
و علی مقربة من دار خدیجة (رض) ... و فی الزقاق الذی الدار المکرمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 117
فیه مصطبة فیها متکأ یقصد الناس الیها و یصلون فیها و یتمسحون بأرکانها، لان فی موضعها کان موضع قعود النبی (ص).
و من الجبال التی فیها اثر کریم و مشهد عظیم الجبل المعروف بأبی ثور، و هو فی الجهة الیمنیة من مکة علی مقدار فرسخ او ازید و فیه الغار الذی اوی الیه النبی (ص) ... و قرأت فی کتاب «أخبار مکة» لأبی الولید الأزرقی: ان الجبل نادی النبی (ص): «إلیّ یا محمد! إلیّ یا محمد! فقد آویت قبلک نبیا» ...
و اکثر الناس ینتابون هذا الغار المبارک و یتجنبون دخوله من الباب الذی احدث اللّه عز و جل فیه، و یرومون دخوله من الشق الذی دخل النبی (ص) منه تبرکا به، فیمتد المحاول لذلک علی الأرض و یبسط خده بازاء الشق و یولج یدیه و رأسه اولّا ثم یعالج ادخال سائر جسده فمنهم من یتأتی له ذلک بحسب قضافة بدنه، و منهم من یتوسط بدنه فم الغار فیعضّه فیروم الدخول او الخروج فلا یقدر فینشب و یلاقی مشقة و صعوبة، حتی یتناول بالجذب العنیف من ورائه.
فالعقلاء من الناس یجتنبونه لهذا السبب، و لا سیما و یتصل به سبب آخر مخجل فاضح، و ذلک ان عوامّ الناس یزعمون ان الذی لا یسع علیه و یمتسک فیه و لا یلجه لیس لرشدة . جری هذا الخبر علی ألسنتهم حتی عاد عندهم قطعا علی صحته لا یشکّون؛ فبحسب المنتشب فیه المتعذر و لوجه علیه ما یکسوه هذا الظن الفاضح المخجل، زائدا الی ما یکابده بدنه من اللّز فی ذلک و المضیق إشرافه منه علی المنیة توجعا و انقطاع نفس و برح ألم، فالبعض من الناس یقولون فی مثل: «لیس یصعد جبل ابی ثور الا ثور».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 118
و علی مقربة من هذا الغار فی الجبل بعینه عمود منقطع من الجبل، قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار شبه القامة، و انبسط فی اعلاه شبه الکف، خارجا عن الذراع، کانّه القبة المبسوطة، بقدرة اللّه عز و جل، یستظل تحتها نحو العشرین رجلا، و تسمی قبّة جبریل، صلیّ اللّه علیه و سلم ...
و ذکروا ان الامام ابا حامد الغزالی دعا اللّه عز و جل بدعوات، و هو فی حرمه الکریم، فی رغبات رفعها الی اللّه جلّ و تعالی، فأعطی بعضا و منع بعضا؛ و کان مما منع نزول المطر وقت مقامه بمکة، و کان تمنی ان یغتسل به تحت المیزاب و یدعو اللّه عز و جل عند بیته الکریم فی الساعة التی أبواب سمائه فیها مفتوحة فمنع ذلک و أجیب دعاؤه فی سائر ما سأله؛ فله الحمد و له الشکر علی ما أنعم به علینا؛ و لعل عبدا من عباده الصالحین الوافدین علی بیته الکریم خصه اللّه بهذه الکرامة ، فدخلنا جمیع المذنبین، فی شفاعته، و اللّه ینفعنا بدعاء المخلصین من عباده و لا یجعلنا ممن شقی بدعائه؛ انه منعم کبیر.

ذکر ما خص اللّه تعالی به مکة من الخیرات و البرکات

هذه البلدة المبارکة سبقت لها و لأهلها الدعوة الخلیلیّة الابراهیمیة و ذلک ان اللّه عز و جل یقول حاکیا عن خلیله (ص): «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ، وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ، لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ» و قال عز و جل:
«أَ وَ لَمْ نُمَکِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً یُجْبی إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْ‌ءٍ» فبرها من ذلک فیها ظاهر متصل الی یوم القیامة، و ذلک ان افئدة الناس تهوی الیها من الأصقاع النائیة و الاقطار الشاحطة فالطریق الیها ملتقی الصادر و الوارد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 119
ممن بلغته الدعوة المبارکة و الثمرات تجبی الیها من کل مکان، فهی اکثر البلاد نعما و فواکه و منافع و مرافق و متاجر.
و لم یکن لها من المتاجر الا اوان الموسم ففیه یجتمع اهل المشرق و المغرب، فیباع فیها فی یوم واحد، فضلا عمّا یتبعه، من الدخائر النفیسة کالجواهر، و الیاقوت، و سائر الأحجار، من انواع الطیب: کالمسک و الکافور و العنبر و العود و العقاقیر الهندیة، الی غیر ذلک من جلب الهند و الحبشة ، الی الأمتعة العراقیة و الیمانیة، الی غیر ذلک من السلع الخراسانیة، و البضائع المغربیة، الی ما لا ینحصر و لا ینضبط، ما لو فرّق علی البلاد کلها لا قام لها الاسواق النافقه و لعم جمیعها بالمنفعة التجاریة، کل ذلک فی ثمانیة ایام بعد الموسم، حاشا ما یطرأ بها مع طول الایام من الیمن و سواها؛ فما علی الأرض سلعة من السلع و لا ذخیرة من الذخائر الا و هی موجودة فیها مدة الموسم فهذه برکة لا خفاء بها و آیة من آیاتها التی خصّها اللّه بها.
و اما الارزاق و الفواکه و سائر الطیبات فکنا نظن ان الاندلس اختصت من ذلک بحظّ له المزیة علی سائر حظوظ البلاد حتی حللنا بهذه البلاد المبارکة فألفیناها تغصّ بالنعم و الفواکه کالتین و العنب و الرمان و السفرجل و الخوخ و الأترج و الجوز و المقل و البطیّخ و القثاء و الخیار الی جمیع البقول کلها کالباذنجان و الیقطین و السّلجم و الجزر و الکرنب الی سائرها، الی غیر ذلک من الریاحین العبقة و المشمومات العطرة، و اکثر هذه البقول کالباذنجان و القثاء و البطیّخ لا یکاد ینقطع مع طول العام، و ذلک من عجیب ما شاهدناه مما یطول تعداده و ذکره، و لکل نوع من هذه الأنواع فضیلة موجودة فی حاسة الذوق یفضل بها نوعها الموجود فی سائر البلاد، فالعجب من ذلک یطول.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 120
و من اعجب ما اختبرناه من فواکهها البطیخ و السفرجل، و کل فواکهها عجب، لکن للبطیخ فیها خاصة من الفضل عجیبة، و ذلک لأن رائحته من اعطر الروائح و أطیبها، یدخل به الداخل علیک فتجد رائحته العبقة قد سبقت الیک، فیکاد یشغلک الاستمتاع بطیب ریّاه عن اکلک ایاه، حتی اذا ذقته خیّل الیک انه سثیب بسکر مذاب او بجنی النحل اللباب، و لعل متصفح هذه الاحرف یظن ان فی الوصف بعض الغلو، کلا لعمر اللّه! انه لاکثر مما وصفت و فوق ما قلت، و بها عسل اطیب من الماذیّ المضروب به المثل یعرف عندهم بالمسعودی.
و انواع اللبن بها فی نهایة الطیب، و کل ما یصنع منها من السّمن، فانه لا تکاد تمیزه من العسل طیبا و لذاذة، و یجلب الیها قوم من الیمن یعرفون بالسّر و نوعا من الزبیب الاسود و الاحمر فی نهایة الطیب و یجلبون معه من اللوز کثیرا.
و بها قصب السکر ایضا کثیر، یجلب من حیث تجلب البقول التی ذکرناها و السکر بها کثیر مجلوب و سائر النعم و الطیبات من الرزق و الحمد للّه.
و اما الحلوی فیصنع منها انواع غریبة من العسل و السکر و المعقود علی صفات شتی. انهم یصنعون بها حکایات جمیع الفواکه الرطبة و الیابسة؛ و فی الاشهر الثلاثة: رجب و شعبان و رمضان یتصل منها اسمطة بین الصفا و المروة، و لم یشاهد احد اکمل منظرا منها لا بمصر و لا بسواها، قد صورت منها تصاویر انسانیة و فاکهیة و جلیت فی منصّات کأنها العرائس و نضّدت بسائر انواعها المنضّدة الملونة، فتلوح کأنها الأزاهر حسنا، فتقیّد الابصار و تستنزل الدرهم و الدینار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 121
و اما لحوم ضأنها فهناک العجب العجیب، قد وقع القطع من کل من تطوّف علی الآفاق و ضرب نواحی الأقطار أنها أطیب لحم یؤکل فی الدنیا، و ما ذاک و اللّه اعلم الا لبرکة مراعیها؛ هذا علی افراط سمنه، و لو کان سواه من لحوم البلاد ینتهی ذلک المنتهی فی السمنة للفظته الأفواه زهما و لعافته و تجنّبته.
و الأمر فی هذا بالضد، کلما ازداد سمنا زادت النفوس فیه رغبة و النفس له قبولا فتجده هنیئا رخصا یذوب فی الفم قبل أن یلاک مضغا، و یسرع لخفته عن المعدة انهضاما؛ و ما اری ذلک الا من الخواض الغریبة و برکة البلد الأمین قد تکفّلت بطیبه لا شک فیه؛ و الخبر عنه یضیق عن الخبر له، و اللّه یجعل فیه رزقا لمن تشوّق بلدته الحرام، و تمنّی هذه المشاهد العظام، و المناسک الکرام، بعزّته و قدرته.
و هذه الفواکه تجلب الیها من الطّائف، و هی علی مسیرة ثلاثة ایام منها، علی الرفق و التّؤدة، و من قری حولها؛ و اقرب هذه المواضع یعرف بأدم، هو من مکة علی مسیرة یوم أو ازید قلیلا، و هو من بطن الطائف، و یحتوی علی قری کثیرة، و من بطن مرّ، و هو علی مسیرة یوم او اقل؛ و من نخلة، و هی علی مثل هذه المسافة، و من اوأیة بقرب من البلد کعین سلیمان و سواها، قد جلب اللّه الیها من المغاربة ذوی البصارة بالفلاحة و الزراعة فاحدثوا فیها بساتین و مزارع، فکانوا أحد الاسباب فی خصب هذه الجهات، و ذلک بفضل اللّه عز و جل، و کریم اعتنائه بحرمه الکریم، و بلده الأمین.
و من اغرب ما ألفیناه فاستمتعنا بأکله و اجرینا الحدیث باستطابته و لا سیما لکوننا لم نعهده، الرّطب، و هو عندهم بمنزلة التین الأخضر فی شجرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 122
یجنی و یؤکل، و هو فی نهایة من الطیب و اللذاذة، لا یسأم التفکه به، و إبّانه عندهم عظیم، یخرج الناس الیه کخروجهم الی الضیعة او کخروج اهل المغرب لقراهم ایام نضج التین و العنب، ثم بعد ذلک عند تناهی نضجه یبسط علی الأرض قدر ما یجف قلیلا ثم یرکم بعضه علی بعض فی السلال و الظّروف و یرفع.
و من صنع اللّه الجمیل لنا و فضله العمیم علینا أنّا وصلنا الی هذه البلدة المکرمة فألفینا کلّ من بها من الحجاج المجاورین ممّن قدم عهده فیها و طال مقامه بها یتحدث علی جهة العجب بأمنها من الحرّابة المتلصّصین فیها علی الحاج المختلسین ما بأیدیهم و الذین کانوا آفة الحرم الشریف، لا یغفل أحد عن متاعه طرفة عین إلا اختلس من یدیه او من وسطه بحیل عجیبة و لطافة غریبة، فما منهم إلا احذّ ید القمیص، فکفی اللّه فی هذا العام شرهم إلا القلیل، و أظهر أمیر البلد التشدید علیهم فتوقف شرّهم، و بطیب هوائها فی هذا العام، و فتور حمارة قیظها المعهود فیها، و انکسار حدّة سمومها، و کنّا نبیت فی سطح الموضع الذی کنا نسکنه، فربما یصیبنا من برد هواء اللیل ما نحتاج معه الی دثار یقینا منه. و ذلک مستغرب بمکة.
و کانوا ایضا یتحدثون بکثرة نعیمها فی هذا العام، ولین سعرها، و أنها خارقة للعوائد السالفة عندهم. کان سوم الحنطة اربعة اصواغ بدینار مؤمنیّ، و هی أوبتان من کیل مصر و جهاتها، و الأویتان قد حان و نصف قدح من الکیل المغربی. و هذا السعر فی بلد لا ضیعة فیه و لا قوام معیشة لاهله إلا بالمیرة المجلوبة الیه سعر لا خفاء بیمنه و برکته علی کثرة المجاورین فیها فی هذا العام و انجلاب الناس الیها و ترادفهم علیها. فحدّثنا غیر واحد من المجاورین الذین لهم بها سنون طائلة انهم لم یروا هذا الجمع بها قط، و لا سمع بمثله فیها. و اللّه یجعله جمعا مرحوما معصوما بمنّه.
و ما زال الناس فیها یسلسلون أوصاف احوالها فی هذه السنة و تمییزها عما سلف من السنین، حتی لقد زعموا أنّ ماء زمزم المبارک زاد عذوبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 123
و لم یکن قبل بصادقها.
و هذا الماء المبارک فی امره عجب، و ذلک أنّک تشربه عند خروجه من قرارته، فتجده فی حاسة الذوق کاللبن عند خروجه من الضرع دفیئا، و تلک فیه من اللّه تعالی آیة و عنایة، و برکته اشهر من أن تحتاج لوصف و اصف و هو لما شرب له کما قال، صلی اللّه علیه و سلم، أروی اللّه منه کل ظامی‌ء الیه، و بعزته و کرمه.
و من الأمور المجربة فی هذا الماء المبارک أن الانسان ربما وجد مسّ الاعیاء، و فتور الاعضاء، إما من کثرة الطواف، او من عمرة یعتمرها علی قدمیه، او من غیر ذلک من الأسباب المؤدیة الی تعب البدن، فیصب من ذلک الماء علی بدنه فیجد الراحة و النشاط لحینه و یذهب عنه ما کان أصابه.

شهر جمادی الآخرة

استهل هلال لیلة الاربعاء، و هو الحادی و العشرون من شهر ستنبر العجمی، (سبتمبر)، و نحن بالحرم المقدس، زاده اللّه تعظیما و تشریفا.
و فی صبیحة اللیلة المذکورة وافی الأمیر (مکثر) باتباعه و أشیاعه، علی العادة السالفة المذکورة فی الشهر الأول، و علی ذلک الرسم بعینه، و الزمزمی المفرد بثنائه و الدعاء له فوق قبّة زمزم، یرفع عقیرته بالدعاء و الثناء عند کل شوط یطوفه الأمیر، و القراء أمامه، الی أن فرغ من طوافه، و اخذ فی طریق انصرافه.
و لاهل هذه الجهات المشرقیة کلها سیرة حسنة، عند مستهل کل شهر من شهور العام، یتصافحون و یهنی‌ء بعضهم بعضا و یتغافرون و یدعو بعضهم لبعض، کفعلهم فی الأعیاد؛ هکذا دائما. و تلک طریقة من الخیر واقعة فی النفوس، تجدد الاخلاص و تستمد الرحمة من اللّه، عز و جل، بمصافحة المؤمنین بعضهم بعضا و برکة ما یتهادونه من الدعاء، و الجماعة رحمة، و دعاؤهم من اللّه بمکان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 124

جمال الدین و آثاره السنیة

و لهذه البلدة المبارکة حمّامان: احدهما ینسب للفقیه المیّانشیّ، احد الأشیاخ المحلّقین بالحرم المکرّم؛ و الثانی، و هو الأکبر، ینسب لجمال الدین، و کان هذا الرجل کصفته جمال الدین، له، رحمه اللّه، بمکة و المدینة، شرّفهما اللّه، من الآثار الکریمة و الصنائع الحمیدة و المصانع المبنیة فی ذات اللّه المشیدة ما لم یسبقه احد الیه فیما سلف من الزمان و لا أکابر الخلفاء فضلا عن الوزراء.
و کان رحمه اللّه، وزیر صاحب الموصل، تمادی علی هذه المقاصد السنیة المشتملة علی المنافع العامة للمسلمین فی حرم اللّه تعالی و حرم رسوله، صلی اللّه علیه و سلم، اکثر من خمس عشرة سنة، و لم یزل فیها باذلا أموالا لا تحصی فی بناء رباع بمکة مسبّلة فی طرق الخیر و البر، مؤبّدة، محبّسة، و اختطاط صهاریج للماء، و وضع جباب فی الطرق یستقر فیها ماء المطر، الی تجدید آثار من البناء فی الحرمین الکریمین.
و کان من اشرف افعاله أن جلب الماء الی عرفات و قاطع علیه العرب بنی شعبه، سکان تلک النواحی المجلوب منها الماء، بوظیفة من المال کبیرة علی ان لا یقطعوا الماء عن الحاج، فلما توفی الرجل، رحمة اللّه علیه، عادوا الی عادتهم الذمیمة من قطعه.
و من مفاخره و مناقبه أیضا أنه جعل مدینة الرسول، صلی اللّه علیه و سلم، تحت سورین عتیقین أنفق فیهما أموالا لا تحصی کثرة. و من أعجب ما وفقه اللّه تعالی إلیه أنه جدّد ابواب الحرم کلها. و جدّد باب الکعبة المقدسة و غشّاه فضة مذهبة و هو الذی فیه الآن حسبما تقدّم وصفه، و جلّل العتبة المبارکة بلوح ذهب إبریز، و قد تقدّم ذکره ایضا. فأخذ الباب القدیم و أمر بأن یصنع له منه تابوت یدفن فیه. فلما حانت وفاته أوصی بأن یوضع فی ذلک التابوت المبارک و یحجّ به میّتا. فسیق الی عرفات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 125
و وقف به علی بعد و کشف عن التابوت، فلما أفاض الناس أفیض به و قضیت له المناسک کلها و طیف به طواف الأفاضة، و کان الرجل، رحمه اللّه، لم یحجّ فی حیاته. ثم حمل إلی مدینة الرسول، صلی اللّه علیه و سلم، و فتح فیها موضع یلاحظ الروضة المقدسة، و أبیح له ذلک علی شدة الضنانة بمثله لسابق أفعاله الکریمة و دفن فی تلک الروضة و أسعده اللّه بالجوار الکریم، و خصّه بالمواراة فی تربة التقدیس و التعظیم، و اللّه لا یضیع أجر المحسنین، و سنذکر تاریخ وفاته إذا وقفنا علیه من التاریخ الثابت فی روضته، إن شاء اللّه عز و جل، و هو ولیّ التیسیر، لا ربّ غیره.
و لهذا الرجل، رحمه اللّه، من الآثار السنیة و المفاخر العلیة التی لم یسبقه إلیها الأکابر الأجواد، و سراة الأمجاد فیما سلف من الزمان ما یفوت الاحصاء و یستغرق الثناء، و یستصحب طول الأیام من الألسنة الدعاء، و حسبک أنّه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمین بجهة المشرق من العراق إلی الشام إلی الحجاز، حسبما نذکره، و أستنبط المیاه، و بنی الجباب، و اختطّ المنازل فی المفازات و أمر بعمارتها مأوی لأبناء السبیل و جمیع المسافرین، و ابتنی بالمدن المتصلة من العراق إلی الشام فنادق عیّنها لنزول الفقراء أبناء السبیل الذین یضعف أحدهم عن تأدیة الأکریة، و أجری علی قومه تلک الفنادق و المنازل ما یقوم بمعیشتهم، و عیّن لهم ذلک فی وجوه تأبّدت لهم، فبقیت تلک الرسوم الکریمة ثابتة علی حالها إلی الآن. فسارت بجمیل ذکر هذا الرجل الرفاق و ملئت ثناء علیه الآفاق.
و کان مدة حیاته بالموصل، علی ما أخبرنا به غیر واحد من ثقات الحجاج التجار ممن شاهد ذلک، قد اتخذ دار کرامة واسعة الفناء فسیحة الأرجاء یدعو إلیها کل یوم الجفلی من الغرباء فیعمهم شبعا و ریّا، و یرد الصادر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 126
و الوارد من أبناء السبیل فی ظله عیشا هنیئا، لم یزل علی ذلک مدة حیاته، رحمه اللّه، فبقیت آثاره مخلدة، و أخباره بالسنة الدکر مجددة، و قضی حمیدا سعیدا، و الذکر الجمیل للسعداء حیاة باقیة، و مدة من العمر ثانیة، و اللّه الکفیل بجزاء المحسنین إلی عباده، فهو أکرم الکرماء، و أکفل الکفلاء.

الأمور المحظورة فی الحرم

من الأمور المحظورة فی الحرم الشریف، زاده اللّه تعظیما و تکریما، أن النفقة فیه ممنوعة، لا یجد المتأجّر من ذوی الیسار إلیها سبیلا فی تجدید بناء أو اقامة حطیم أو غیر ذلک مما یختص بالحرم المبارک.
و لو کان الأمر مباحا فی ذلک لجعل الراغبون فی نفقات البر من أهل الجدة حیطانه عسجدا و ترابه عنبرا، لکنهم لا یجدون السبیل إلی ذلک، فمتی ذهب أحد أرباب الدنیا إلی تجدید أثر من آثاره أو إقامة رسم من رسومه اخذ اذن الخلیفة فی ذلک. فان کان مما ینقش علیه او یرسم فیه طرز باسم الخلیفة و نفوذ امره بعمله و لم یذکر اسم المتولی لذلک. و لا بد مع ذلک من بذل حظ وافر من النفقة لأمیر البلد ربما یوازی قدر المنفوق فیه، فتتضاعف المؤونة علی صاحبه و حینئذ یصل الی غرضه من ذلک.
و من اغرب ما اتفق لأحد دهاة الأعاجم، ذوی الملک و الثراء، انه وصل الی الحرم الکریم، مدة جد هذا الأمیر مکثر، فرأی تنور بئر زمزم و قبتها علی صفة لم یرضها فاجتمع بالأمیر و قال ارید ان اتأنق فی بناء تنور زمزم و طیه و تجدید قبته و ابلغ فی ذلک الغایة الممکنة و انفق علیه من صمیم مالی، و لک علی فی ذلک شرط ابلغ بالتزامه لک الغرض المقصود، و هو أن تجعل ثقة من قبلک یقید مبلغ النفقة فی ذلک. فاذا استوفی البناء التمام،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 127
و انتهت النفقة منتهاها. و تحصلت محصاه، بذلک لک مثلها جزاء علی اباحتک لی ذلک.
فاهتز الأمیر طمعا، و علم ان النفقة فی ذلک تنتهی الی آلاف من الدنانیر، علی الصفة التی وصفها له، فأباح له ذلک، و ألزمه مقیدا بحصی قلیل الانفاق و کثیرة. و شرع الرجل فی بنائه و احتفل و استفرغ الوسع و تأنق و بذل المجهود، فعل من یقصد بفعله ذات اللّه عز و جل و یقرضه قرضا حسنا، و المقید یسود طوامیره بالتقیید. و الأمیر یتطلع الی ما لدیه، و یؤمل لقبض تلک النفقات الواسعة بسط یدیه، الی أن فرغ البناء علی الصفة التی تقدم ذکرها اولا عند ذکر بئر زمزم وقبته، فلما لم یبق الا ان یصبح صاحب النفقة بالحساب و یستقضی منه العدد المجتمع فیها، خلا منه المکان، و اصبح فی خبر کان، و رکب اللیل جملا، و اصبح الأمیر یقلب کفیه، و یضرب اصدریه، و لم یمکنه ان یحدث فی بناء وضع فی حرم اللّه تعالی حادثا یحیله او نقضا یزیله، و فاز الرجل بثوابه و تکفل اللّه به فی انقلابه و تحسین مآبه: «و ما انفقتم من شی فهو یخلفه و هو خیر الرازقین» و بقی خبر هذا الرجل مع الأمیر یتهادی غرابة و عجبا و یدعو له کل شارب من ذلک الماء المبارک.

شهر رجب الفرد

اشارة

استهل هلاله لیلة الخمیس الموفی عشرین لشهر اکتوبر بشهادة خلق کثیر من الحجاج المجاورین و الأشراف اهل مکة، ذکروا انهم رأوه بطریق العمرة و من جبل قعیقعان و جبل ابی قبیس، فثبتت شهادتهم بذلک عند الأمیر و القاضی، و اما من المسجد الحرام فلم یبصره أحد. و هذا الشهر المبارک عند اهل مکة موسم من المواسم المعظمة و هو اکبر اعیادهم، و لم یزالوا علی ذلک قدیما و حدیثا یتوارثه خلف عن سلف متصلا میراث ذلک الی الجاهلیة لأنهم کانوا یسمونه منصل الأسنة. و هو أحد الأشهر الحرم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 128
و کانوا یحرمون القتال فیه و هو شهر اللّه الأصم، کما جاء فی الحدیث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم.

العمرة الرجبیة

و العمرة الرجبیة عندهم اخت الوقفة العرفیة، لانهم یحتفلون لها الاحتفال الذی لم یسمع بمثله و یبادر الیها اهل الجهات المتصلة بها فیجتمع لها خلق عظیم لا یحصیهم الا اللّه عز و جل فمن لم یشاهدها بمکة لم یشاهد مرأی یستهدی ذکره غرابة و عجبا. شاهدنا من ذلک امرا یعجز الوصف عنه، و المقصود منه اللیلة التی یستهل فیها الهلال مع صبیحتها. و یقع الاستعداد لها من قبل ذلک بأیام، فأبصرنا من ذلک ما نصف بعضه علی جهة الاختصار.
و ذلک لأنّا عاینا شوارع مکة و ازقتها، من عصر الاربعاء. و هی العشیة التی ارتقب فیها الهلال، قد امتلأت هوادج مشدودة علی الابل مکسوة بأنواع کسا الحریر و غیرها من ثیاب الکتان الرفیعة بحسب سعة احوال اربابها و وفرهم، کل یتأنق و یحتفل بقدر استطاعته، فأخذوا فی الخروج الی التنعیم میقات المعتمرین فسالت تلک الهوادج فی اباطح مکة و شعابها، و الابل قد زینت تحتها بأنواع التزیین و اشعرت بغیر هدی بقلائد رائقة المنظر من الحریر و غیره. و ربما فاضت الاستار التی علی الهوادج حتی تسحب اذیالها علی الأرض.
و من اغرب ما شاهدناه من ذلک هو هودج الشریفة جمانة بنت فلیتة عمة الأمیر مکثر، فان اذیال ستره کانت تنسحب علی الأرض انسحابا و غیره من هوادج حرم الأمیر و حرم قواده، الی غیر ذلک من هوادج لم نستطع تقیید عدتها عجزا عن الاحصاء. فکانت تلوح علی ظهور الابل کالقباب المضروبة فیخیل للناظر الیها أنها محلة قد ضربت ابنیتها من کل لون رائق.
و لم یبق لیلة الخمیس المذکور بمکة الا من خرج للعمرة من اهلها و من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 129
المجاورین، و کنا فی جملة من خرج ابتغاء برکة اللیلة العظیمة فکدنا لا نتخلص الی مسجد عائشة من الزحام و انسداد ثنیات الطریق بالهوادج.
و النیران قد اشعلت بحافتی الطریق کله، و الشمع یتقد بین ایدی الابل التی علیها هوادج من یشار الیه من عقائل نساء مکة.
فلما قضینا العمرة و طفنا و جئنا للسعی بین الصفا و المروة، و قد مضی هدء من اللیل، ابصرناه کله سرجا و نیرانا و قد غص بالساعین و الساعیات علی هوادجهن، فکنا لا نتخلص الا بین هوادجهن و بین قوائم الابل لکثرة الزحام و اصطکاک الهوادج بعضها علی بعض. فعاینا لیلة هی اغرب لیالی الدنیا، فمن لم یعاین ذلک لم یعاین عجبا یحدث به و لا عجبا یذکره مرأی الحشر یوم القیامة لکثرة الخلائق فیه، محرمین ملبین، داعین الی اللّه عز و جل ضارعین و الجبال المکرمة التی بحافتی الطریق تجیبهم بصداها، حتی سکّت المسامع، و سکبت من هول تلک المعاینة المدامع، و ذابت القلوب الخواشع.
و فی تلک اللیلة ملی‌ء المسجد الحرام کله سرجا فتلألأ نورا، و عند ثبوت رؤیة الهلال عند الأمیر امر بضرب الطبول و الدبادب و البوقات اشعارا بأنها لیلة الموسم.
و یوضح ابن جبیر انه فی صبیحة لیلة الخمیس خرج الی العمرة فی احتفال لم یسمع بمثله انحشد له اهل مکة علی بکرة ابیهم فخرجوا علی مراتبهم قبیلة قبیلة و حارة و حارة شاکّین فی الأسلحة فرسانا و رجّالة فاجتمع منهم عدد لا یحصی کثرة ... فکانوا یخرجون علی ترتیب عجیب، فالفرسان منهم یخرجون بخیلهم و یلعبون بالاسلحة علیها ... فلما کان الیوم الثانی، و هو یوم الجمعة، کان طریق العمرة فی العمارة قریبا من أمسه، راکبین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 130
و ماشین، رجالا و نساء، و النساء الماشیات المتأجّرات کثیرات یسابقن الرجال فی تلک السبیل المبارکة، تقبّل اللّه من جمیعهم بمنّه.
و فی اثناء ذلک یلاقی الرجال بعضهم بعضا فیتصافحون و یتهادون الدعاء و التغافر ببنیهم، و النساء کذلک. و الکل منهم قد لبس افخر ثیابه و احتفل إحتفال اهل البلاد للأعیاد؛ و اما اهل البلد الأمین فهذا الموسم عیدهم، له یعبأون و له یحتفلون، و فی المباهاة فیه یتنافسون و له یعظّمون، و فیه تنفق اسواقهم و صنائعهم، یقدّمون النظر فی ذلک و الاستعداد له بأشهر.
ثم یستطرد الرحالة ابن جبیر للتحدث عن قبائل من الیمن تعرف بالسرو و هم اهل جبال حصینة بالیمن تعرف بالسراة کانها مضافة لسراة الرجال ...
و تجمع میرتهم بین الطعام و الإدام و الفاکهة ... و لو لا هذه المیرة لکان اهل مکة فی شظف من العیش؛ و من العجب فی امر هؤلاء المائرین انهم لا یبیعون من جمیع ما ذکرناه بدینار و لا بدرهم، انما یبیعونه بالخرق و العباءات و الشّمل، فأهل مکة یعدّون لهم من ذلک مع الأقنعة و الملاحف المتان و ما اشبه ذلک مما یلبسه الاعراب.
و العمرة فی هذا الشهر کله متصلة لیلا و نهارا ... فاذا کان الیوم التاسع و العشرون منه أفرد للنساء خاصة، فیظهر للنساء بمکة فی ذلک الیوم احتفال عظیم فهو عندهم یوم زینتهم المشهور المستعدّ له.

عمرة الاکمة

و فی لیلة الثلاثاء السابع و العشرین منه، اعنی من رجب، ظهر لأهل مکة ایضا احتفال عظیم فی الخروج الی العمرة لم یقصر عن الاحتفال الأوّل ...
و هذه العمرة یسمونها عمرة الأکمة؛ و الأصل فی هذه العمرة الأکمیة عندهم ان عبد اللّه بن الزبیر لما فرغ من بناء الکعبة المقدسة خرج ماشیا حافیا معتمرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 131
و اهل مکة معه ... و جعل طریقه علی ثنیّة الحجون المفضیة الی المعلی التی کان دخول المسلمین یوم فتح مکّة منها ... فبقیت تلک العمرة سنة عند اهل مکة فی ذلک الیوم بعینه و کان یوم عبد اللّه، رضی اللّه عنه، مذکورا مشهورا لانه اهدی فیه کذا و کذا بدنة ... و لم یبق من اشراف مکة و ذوی الاستطاعة فیها الا من اهدی و اقام اهلها ایاما یطعمون و یطعمون و یتنعّمون و ینعمون شکرا للّه عز و جل.

یوم طواف النساء.

و فی الیوم التاسع و العشرین منه و هو یوم الخمیس افرد البیت للنساء خاصة ... و لم تبق امرأة بمکة الا حضرت المسجد الحرام ذلک الیوم ...
و ظهر من تزاحمهن ما ظهر من السّرو الیمنیین مدة مقامهم بمکة و صعودهم یوم فتح البیت المقدس .

زیادة ماء زمزم

و فی یوم الجمعة الثانی من ذلک الیوم اصبح بالحرم امر عجیب و ذلک انه لم یبق بمکة صبیّ إلّا و صبحه و اجتمعوا کلهم فی قبة زمزم، و ینادون بلسان واحد: هللوا و کبّروا یا عباد اللّه فیهلل الناس و یکبرون ... و الناس و النساء یزدحمون علی قبة البئر المبارکة لأنهم یزعمون بل یقطعون قطعا جهلیا لا قطعا عقلیا، ان ماء زمزم یفیض لیلة النصف من شعبان ... و کان من الاتفاق ان اعتنینا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التی سمعناها فی ذلک و استمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مکة؛ فتوجه منا لیلة الجمعة من أدلی دلوه فی البئر المبارکة الی ان ضرب فی صفح الماء و انتهی الحبل الی حافة التنور و عقد فیه عقدا یصح عندنا القیاس به فی ذلک، فلما کان فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 132
صبیحتها و تنادی الناس بالزیادة، الزیادة الظاهرة، خلص احدنا فی ذلک الزحام علی صعوبة و معه من استصحب الدلو و ادلاه فوجد القیاس علی حاله لم ینقص و لم یزد، بل کان من العجب ان عاد للقیاس لیلة السبت فالقاه قد نقص یسیرا لکثرة ما امتاح الناس منه ذلک الیوم .
و هذه اللیلة المبارکة، اعنی لیلة النصف من شعبان عند اهل مکة معظمة للاثر الکریم الوارد فیها، فهم یبادرون فیها الی اعمال البر من العمرة و الطواف و الصلاة افرادا و جماعة .

شهر رمضان

اشارة و یری ابن جبیر رمضان فی مکة و قد استهل هلاله لیلة الاثنین التاسع عشر لکانون الاول (دیسمبر)، و کان صیام اهل مکة له یوم الاحد بدعوی فی رؤیة الهلال لم تصح.

و المؤذن الزمزمی یتولی التسحیر فی الصومعة التی فی الرکن الشرقی من المسجد بسبب قربها من دار الامیر ... و فی دیار مکة کلها سطوح مرتفعة، فمن لم یسمع نداء التسحیر ممن یبعد مسکنه من المسجد یبصر قندیلین یقدان فی اعلی الصومعة فاذا لم یصبر هما علم ان الوقت قد انقطع .
و یشیر الی طواف الأمیر «مکثر» لیلة الثلاثاء الثانی من الشهر مع العشی مودعا ... و المتحدّث به فی وجهته قصد الیمن لاختلاف وقع فیها وفتنة حدثت من امرائها، لکن وقع فی نفوس المکیین منه ایجاس خیفة و استشعار خشیة؛ و فی ضحوة یوم الاربعاء الثالث من الشهر المبارک سمعت دبادب الامیر مکثر و أصوات نساء مکة یولولن علیه ... و کان هذا الیوم بمکة من الایام الهائلة المنظر العجیبة المشهد الغریبة الشأن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 133

تراویح رمضان

و هذا الشهر المبارک قد ذکرنا اجتهاد المجاورین للحرم الشریف فی قیامه و صلاة تراویحه و کثرة الائمة فیه، و کل وتر من اللیالی العشر الأواخر یختم فیها القرآن، فاولها لیلة احدی و عشرین، ختم فیها احد ابناء أهل مکة و حضر الختمة القاضی و جماعة من الاشیاخ فلما فرغوا منها قام الصبی فیهم خطیبا، ثم بعد ذلک لیلة ثلاث و عشرین و کان المختم فیها احد ابناء المکیین ذوی الیسار غلاما لم یبلغ سنّه الخمس عشرة سنة فاحتفل ابوه لهذه اللیلة احتفالا بدیعا .
و یذکر ابن جبیر بعض احتفالات مکه و یوضّح کیف احدق بشرفات الحرم کلّها صبیان مکة، و قد وضعت بید کل منهم کرة من الخرق المشبعة سلیطا فوضعوها متقدة فی رؤوس الشرفات و اخذت کل طائفة منهم ناحیة من نواحیها الاربع فجعلت کل طائفة تتباری صاحبتها فی سرعة ایقادها، فیخیل للناظر ان النار تشب من شرفة الی شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمی الابصار.
و یصف لنا عید الفطر فی مکة و مناسک الحج و انفصال الجاج الی مکة، و یبین وصوله الی مکة قریب الظهر، و یروی قصة صعوده الی جبل ثور لمعاینة الغار المبارک و ولوجه إیاه من الموضع الذی یعسر الولوج منه علی البعض من الناس تبرکا بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارک لان مدخل النبی (ص) کان منه، و کان الاعتقاد السائد ان الذی لا یستطیع و لوجه من هذا الموضع مولود لغیر رشدة ... و هذا الجبل صعب المرتقی جدا یقطع الانفاس تقطیعا لا یکاد یبلغ منتهاه الا و قد القی بالایدی اعیاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 134
و کلالا و هو من مکة علی مقدار ثلاثة امیال، و علی ذلک القدر هو جبل حراء منها .
و فی یوم الجمعة بعده کان وصول السرو الیمینیین فی عدد کثیر مؤملین زیارة قبر الرسول (ص) و قد جلبوا میرة الی مکة علی عادتهم فاستبشر الناس بقدومهم استبشارا کثیرا. حتی أنهم اقاموه عوض نزول المطر
و یعرض لذکر مسجد مولد النبی، و دار خدیجة الکبری و فیها مولد فاطمة (ع) و هو بیت صغیر مائل للطول، و فی البیت المذکور مولد الحسن و الحسین ابنیها (ع) و مسقط شلو الحسن لاصق بمسقط شلو الحسین و علیهما حجران مائلان الی السواد کأنهما علامتان للمولدین المبارکین الکریمین.
و یستطرد ابن جبیر لیذکر لنا مجی‌ء السرویین الیمنیین و توجههم لزیارة التربة المبارکة طیبة من عند رسول اللّه (ص) و وصولهم فی اسرع مدة اذ قطعوا الطریق من مکة الی المدینة فی یسیر ایام، و وصول طوائف أخری للحج خاصة لضیق الوقت عن الزیارة فاقاموا بمکة .
و یتحدث عن فساد ظهر فی اشرف بقاع الأرض فی زمانه فقد عزل زعیم الشیبنی عن منصبه و لم یلبث ان عاد الیه بخمسمائة دینار مکیة استقرضها و دفعها لاولی الأمر.
و یعرج علی الحدیث عن دار الخیزران التی کان منها منشأ الاسلام و هی بازاء الصفا و یلاصقها بیت صغیر عن یمین الداخل الیها کان مسکن بلال (رضی)
و فی أیام ابن جبیر وصل الامیر عثمان بن علی صاحب عدن خرج منها فارا أمام سیف الاسلام ... و وصل مکة بعیر موقرة متاعا و مالا دخلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 135
علی اعین الناس الی داره التی ابتناها بها بعد ان قدّم نفیس ذخائره و مدخّر ماله و جملة رقیقه و خدمه لیلا.
و لما کان یوم الاربعاء السابع من ذی الحجة، وصل المبشّر و کانت نفوس اهل مکة قد اوجست خیفة لبطئه حذرا من حقد الخلیفة علی امیرهم مکثر لمذموم فعل صدر عنه، فکان وصول هذا البشیر امانا و تسکینا للنفوس الشاردة فوصل مبشرا و مؤنسا و اعلم برؤیة الهلال لیلة الخمیس المذکور؛ فلما کان یوم الخمیس بکّر الناس بالصعود الی منی و تمادوا منها الی عرفات ... و اتصل صعود الناس ذلک الیوم کله و اللیلة کلها الی یوم الجمعة کله فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا یحصی عدده الا اللّه عز و جل؛ و مزدلفة بین منی و عرفات، من منی الیها ما من مکة الی منی، و ذلک نحو خمسة أمیال و منها الی عرفات مثل ذلک او اشف قلیلا و تسمی المشعر الحرام ...
و یشیر فی کلامه الی «جبل الرحمة» و الی وصول الأمیر العراقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 136
و الامراء الأعاجم الخراسانیین ثم یرجع القول الی استیفاء حال النفر عشیة الوقفة المذکورة بعرفات، و ذلک ان الناس نفروا منها بعد غروب الشمس فوصلوا مزدلفة مع العشاء الآخرة فجمعوا بها بین العشائین.
و لما کان الیوم الثالث یتعجل الناس فی الانحدار الی مکة بعد ان کان کمل لهم رمی تسع و اربعین جمرة- نفروا الی مکة فمنهم من صلی العصر بالأبطح، و منهم من صلّاها بالمسجد الحرام ... و قد کانت فی یوم الانحدار المذکور بین سودان اهل مکة و الاتراک العراقیین جولة و هوشة وقعت فیها جراحات و سلّت السیوف فوقی اللّه شر تلک الفتنة بتسکینها سریعا .
و یستطرد الرحالة الشهیر فی حدیثه الی «کسوة الامیر العراقی للکعبة» ففی یوم السبت، یوم النحر، سیقت کسوة الکعبة المقدسة من محلة الامیر العراقی الی مکة علی اربعة جمال.
ثم یتکلم عن «یوم الاعاجم العراقیین» و «سوق المسجد الحرام» ...
لینتهی الی «یوم الرحیل» ففی عشی یوم الاحد و هو اول ابریل (نیسان) کان مسیر ابن جبیر و صحبه الی محلة الامیر العراقی بالزاهر، و هو علی نحو المیلیین من البلد و قد کمل اکتراؤهم الی الموصل و هی علی بعد عشرة ایام من بغداد ... فکانت مدة مقامهم بمکة من یوم وصولهم الیها و هو یوم الخمیس الثالث عشر لربیع الآخر من سنة 79 الی یوم اقلاعهم و هو یوم الخمیس الثانی و العشرین لذی الحجة من السنة المذکورة ثمانیة اشهر و ثلث أشهر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 137

ابن بطوطه و مکة

و بعد نحو مائتی سنة من وفاة ابن جبیر ای فی سنة 725 ه علی وجه الضبط قام الرحالة ابن بطوطة (703 ه- 779 ه) بالحج الی مکة و زیارة قبر الرسول (ص) و یبدو ان الحج عند المسلمین کان الدافع الاکبر لظهور فکرة السیاحات فی مختلف اقطار العالم و وضع المؤلفات فیها؛ و قد ولد ابن بطوطه فی طنجه و خرج من بلده فی سن الثانیة و العشرین ثم أخذ فی الرحلة فبدأ بالحرمین الشریفین فالشام فالعراق ففارس فآسیا الصغری فجنوب روسیا فافغانستان الی دهلی و الصین و قد استهل ابن بطوطة کلامه فی مکة بقوله :
«و هی مدینة کبیرة متصلة البنیان مستطیلة فی بطن واد تحف به الجبال فلا یراها قاصدها حتی یصل الیها ، و تلک الجبال المطلة علیها لیست بمفرطة الشموخ، و (الاخشبان) من جبالها هما جبل أبی قبیس و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 138
فی جهة الجنوب منها و جبل قیقعان و هو فی جهة منها و فی الشمال منها الجبل الاحمر و من جهة ابی قبیس اجیاد الاکبر، و اجیاد الاصغر، و هما شعبان و الحندمة و هی جبل (و المناسک کلها منی، و عرفه و المزدلفة) بشرقی مکة، و لمکة من الأبواب ثلاثة: باب المعلی باعلاها، و باب الشبیکة من اسفلها، و یعرف ایضا بباب العمرة و هو الی جهة المغرب و علیه طریق المدینة، و مصر، و الشام، و جده و منه یتوجه الی التنعیم و باب المسفل و هو من جهة الجنوب ...
و یمضی ابن بطوطه بهذا الاسلوب فی وصف جغرافیة مکة و طوبو غرافیتها ای تخطیطها و ما یتوفر فیها من الفواکه و الحاصلات، و هو فی اکثر ما یذکر ینقل من رحلة ابن جبیر اما مباشرة بالحرف الواحد أو باقتباس المعنی؛ و ابن بطوطه اکثر تفصیلا و متعة لکثرة ما یورد من حکایات و نوادر و حوادث و یلوح لنا انه اقل صدقا و دقة.
و بعد ان یذکر «المسجد الحرام» و موقعه ینتقل الی ذکر «الکعبة» و «المیزاب» و «الحجر الأسود» و «المقام الکریم » و «الحجر و المطاف» و «زمزم» فیذکر ان قبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود و بینهما اربع و عشرون خطوة و المقام الشریف عن یمین القبة و من رکنها الیه عشر خطی- و داخل القبة مفروش بالرخام الابیض، و تنور البئر المبارکة فی وسط القبة مائلا الی الجدار المقابل للکعبة الشریفة و هو من الرخام البدیع الالصاق مفروغ بالرصاص ... و عمق البئر احدی عشرة قامة، و هم یذکرون ان ماءها یتزاید فی کل لیلة جمعة . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 139
ثم ینتقل الرحالة الی ذکر «أبواب المسجد الحرام و ما دار به من المشاهد و «الصفا و المروة» و ذکر «الجبّانة المبارکة» خارج باب المعلی و یعرف ذلک الموضع بالحجون و ایاه عنی الحارث بن مضاض الجرهی بقوله (من الطویل): کان لم یکن بین الحجون الی الصفا .. الخ و بهذه الجبانة مدفن الجم الغفیر من الصحابة و التابعین، و العلماء، و الصالحین و الاولیاء، الا ان مشاهدهم دثرت و ذهب عن أهل مکة علمها فلا یعرف منها الا القلیل فمن المعروف منها قبر خدیجة بنت خویلد، و بمقربة منه قبر ابی جعفر المنصور، و فیها الموضع الذی صلب فیه عبد اللّه بن الزبیر.
و یستطرد ابن بطوطه فیلم «ببعض المشاهد خارج مکة» فمنها (الحجون) الذی ألمعنا الیه و منها (المحصب) و هو ایضا الابطح و هو یلی الجبانة المذکورة و فیه خیف بنی کنانة الذی نزل به رسول اللّه (ص) و منها ذو طوی و هو واد یهبط علی قبور المهاجرین التی بالحصحاص دون ثنیة کداء.
و یعرّج علی ذکر «الجبال المطیفة بمکة» و یأتی علی خبر الغار المبارک و کیف ان بعضهم لا یدخله خوف الفضیحة التی ذکرها ابن جبیر فیکتفی بالصلاة امامه و لکن ابن بطوطه یکشف سر استطاعة او عدم استطاعة الولوج الی الغار و ذلک ان من دخل من ذلک الشق منبطحا علی وجهه وصل رأسه الی ذلک الحجر فلم یمکنه التولج و لا یمکنه ان ینطوی الی العلو و وجهه و صدره یلیان الارض فذلک هو الذی ینشب و لا یخلص الا بعد الجهد و الجذب الی خارج و من دخل مستلقیا علی ظهره امکنه لأنّه اذا وصل رأسه الی الحجر المعترض رفع رأسه و استوی قاعدا فکان ظهره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 140
مستندا الی الحجر المعترض و اوسطه فی الشق و رجلاه من خارج الغار ثم ینهض قائما بداخل الغار.
و لا ینسی ابن بطوطه سرد «فضائل اهل مکه» من ایثارهم الضعفاء و المنقطعین و حسن الجوار، و العفة، و الظرف، و النظافة؛ ثم یذکر «المجاورین بمکة»
و یعرج علی «ذکر عادة اهل مکة فی صلواتهم و مواضع ائمتهم»، و عادتهم فی الخطبة و صلاة الجمعة، و فی استهلال الشهور، و فی شهر رجب، و عمرة رجب و «احرام الکعبة»، ثم یسرد شعائر الحج و اعماله و یتحدث عن «کسوة الکعبة»، مختتما الحدیث بانفصاله عن مکة المکرمة بصحبته امیر رکب العراق البهلوان محمد الحویح الموصلی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 141

مکة فی رحلة ناصر خسرو الموسومة ب (سفر تامی)

رحلة ناصر خسرو علوی، من الرحلات المشهورة التی دونت بالفارسیة و قام بترجمتها الدکتور یحی الخشاب ، و هی رحلة شاعر فارسی تقع حوادثها بین سنة 437 و 444 ه فتکون بذلک قد سبقت رحلة ابن جبیر بما ینوف علی المائة عام، و هی بدون شک تقف فی مصاف رحلة ابن فضلان رسول المقتدر باللّه العباسی الی بلاد البلغار القدیمة، و رحلة ابن جبیر فی القرن السادس للهجرة و رحلة ابی الحسن الهروی الموصلی فی القرن ذاته و رحلة البلوی المغربی و ابن بطوطة المغربی فی القرن الثامن للهجرة.
بلغ ناصر خسرو مکه فی یوم الأحد السادس من ذی الحجة و نزل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 142
عند باب الصفا، و کان بمکة قحط ، فکانت الاربعة امنان من الخبز بدینار نیسابوری، و قد هاجر منها المجاورون و لم یفد علیها حاج من ای بلد، و قد ادی فریضة الحج یوم الاربعاء فی عرفات، و لبث بمکة یومین؛ و خرج من الحجاز خلق کثیر مما أصابهم من الجوع و الفقر، و تفرقوا فی البلاد؛ ثم توجه ناصر خسرو ناحیة مصر و قد هاجر الیها من الحجاز فی ذلک العام خمسة و ثلاثون الف آدمی.
و فی شهر رجب سنة اربعین و اربعمائة (دیسمبر سنة 1048) قرأوا علی الناس مرة اخری مثالا للسلطان بان فی الحجاز قحطا، و لیس من الخیر ان یسافر الحجاج، فلم یسافروا ، و لکن السلطان لم یقصر البتة فی ارسال ما کان یرسله کل سنة من الکسوة و اجور الخدم و الحاشیة، و امراء مکة و المدینة وصلة امیر مکة و قد کانت ثلاثة آلاف دینار فی الشهر، و کانت ترسل الیه الخیول و الخلع مرتین فی السنة و عهد بهذا فی هذه السنة الی رجل اسمه القاضی عبد اللّه، من قضاة الشام و قد ذهب ناصر خسرو معه عن طریق القلزم و هذه هی رحلته الثانیة، الی مکة، و کان موعد الحج قد قرب کثیرا و کان الجمل یؤجر بخمسة دنانیر فسار مسرعا ...
فبلغها فی الثامن من ذی الحجة وادی فریضة الحج و قد حدث ان قافلة عظیمة اتت للحج من بلاد المغرب، و فی اثناء عودة حجاجها، عند باب المدینة المنورة، طلب العرب «الخفارة» منهم، فقامت الحرب بینهم، و قتل من المغاربة اکثر من الفی رجل، و لم یعد کثیر منهم الی المغرب.
و من طریف ما یذکره ناصر خسرو ان جماعة من أهل خراسان قاموا عن طریق الشام و مصر فبلغوا المدینة فی سفینة، و قد بقی علیهم ان یقطعوا مائة فرسخ و اربعة حتی عرفات و هم فی السادس من ذی الحجة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 143
فقالوا: ان کلا منا یدفع اربعین دینارا لمن یرحلنا الی مکة فی هذه الأیام الثلاثة الباقیة لنلحق الحج، فجاء الاعراب و اوصلوهم الی عرفات فی یومین و نصف یوم، و اخذوا اجورهم ذهبا، و کانوا قد شدوهم الی جمال سریعة، و اتوا بهم من المدینة الی عرفات؛ و قد هلک اثنان منهم، و کانوا موثقین علی الجمال، و کان اربعة منهم نصف أموات، و قد بلغوا عرفات ... ساعة صلاة العصر، و کانوا لا یستطیعون الوقوف او الکلام. قالوا: «انا توسلنا کثیرا فی الطریق ان یأخذ هؤلاء الاعراب الذهب الذی اشترطنا و ان یترکونا، فانه لا طاقة لنا علی مواصلة السفر، ولکنهم لم یسمعوا لنا و ساقونا علی هذا النحو»، و مهما یکن، فقد حج هؤلاء الأربعة و عادوا عن طریق الشام.
و قد وصف ناصر خسرو، علی نحو ما فعل بعده ابن جبیر و ابن بطوطه «المسجد الحرام و الکعبة» و «باب الکعبة» ثم وصف «الکعبة من الداخل» ، و «بئر زمزم» و جاء علی وصف «فتح باب الکعبة» ( «و عمدة الجعرانة») و هی مکان علی اربعة فراسخ من شمال مکة کان به النبی (ص) مع جیشه فی السادس عشر من ذی القعدة فاحرم منه و جاء الی مکة و اعتمر.
و قد ذکر ناصر خسرو ان الکعبة تقوم وسط المسجد الحرام و ان المسجد الحرام یقوم وسط مکة، و المسجد ممتد طولا من الشرق الی الغرب و عرضا من الشمال الی الجنوب، و سوره لیس قائم الزوایا، بل ارکانه مقوسة، تمیل الی الاستدارة، و ذلک حتی تکون وجوه جمیع المصلین شطر الکعبة فی ای جهة کانوا یصلون بالمسجد.
و لم نجد فی سائر اوصافه للکعبة المشرفة و ما یتصل بها اکثر مما مر بنا فی رحلتی ابن جبیر و ابن بطوطه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 144

(رحلات) عبد الوهاب عزّام

اما فی عصرنا الحدیث، فقد ظهرت «رحلات» الدکتور عبد الوهاب عزام و قد کتب الفصل الخاص بمکة باسلوب شعری خیالی لطیف ، فیقول:
«اللیل مهوّد و سنان، تری العین سکونه، و یحسّ القلب سکینته؛ ... و تبدو فی سکون اللیل و نور القمر قمم الجبال: خندمة و ابی قبیس و اجیاد .
هذا هو المسجد الحرام! فهل تقع العین الا علی مصل خاشع، و طائف بالکعبة واله، و قاری‌ء تنطق بضراعته الآیات، وداع یرسل قلبه فی کلمات؟
أنظر فلا اجد فی هذا البناء تمثالا و لا صنما و لا وثنا و لا صورة و لا نقشا. انما هو التوحید فی خلوصه، و العقیدة فی یسرها، و الاسلام فی فطرته؛ بیت لعبادة اللّه یؤمه عباد اللّه.»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 145
و بهذا الاسلوب یستمر لیقول تحت عنوان: «فی خیف منی»:
هذا ثانی ایام التشریق و منی غاصة بمضاربها قد اجتمع الیها الحجبج من أرجاء الارض ... و قد ادینا بحمد اللّه المناسک و لم یبق الا رمی الجمار لبثنا قلیلا ثم هبطنا الی فجوة بین الصخور تسمی غار المرسلات؛ یقال ان السورة الکریمة «وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» او حیت الی صاحب الرسالة صلوات اللّه علیه هناک.
و ما زال الاستاذ عزام یصعد حتی بلغ مسجد الخیف و هو مسجد برّی عطل من الزینة، فراشه الحصباء، و رأی عن شماله المحصّب حیث العقبات الثلاث التی ترمی فیها الجمرات؛ و الی الیمین یمتد وادی منی بنی سطرین من الجبال الشاهقة یسایر فیها الطرف اسراب الحمام الی ان یکلّ.
و اما الجبل الشامخ الذی یمتد علی جانب الوادی الایسر فهو ثبیر و کم ردد التاریخ و الشعر ذکر ثبیر!
و تغلب علی رحلة الدکتور عزّام مسحة من تاریخ الادب الجاهلی و صدر الاسلام و یشیر الی الفاظ من نحو «بشام» و «سلم» و «ریع» ترد فی حدیث أعرابی معه فیقول الدکتور الرحالة: «لو اتسع الوقت لاخذنا کثیرا من اللغة من هذا الاعرابی، فمن کان یظن ان هذه الفاظ میتة فی المعاجم فلیعلم انها لا تزال حیة فی أفواه کثیر من العرب!»
ثم ینتقل الی الحدیث عن غار حراء» و کله اسلوب خطاب و ذکریات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 146
و خیال صوفیّ یختمه بقوله: «أیها الغار، یا مولد الحق، و مطلع النبوة و مأوی محمد! لو لا أن محمدا الکریم نهانا لقبّلت احجارک و اکتحلت بترابک!
ایها الغار! من لی فیک بخلوة، من لی بخلوة فیک!»
و قد خصص القسم الرابع للحدیث عن الحج و الخامس للمدینة المنورة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 147

مکة فی رحلة السائح الهروی

یقول السائح الهروی فی حدیثه عن مکة ان «بها الکعبة المعظمة» و قیل سمیت کعبة لان ابراهیم «عم» لما بناها جعل طولها فی السماء تسع أذرع، و جعل من الرکن الاسود الی الرکن الشمالی مما یلی بابها اثنتین و ثلاثین ذراعا، و من الجانب الغربی احدی و ثلاثین ذراعا، و من الرکن الذی فیه الحجر الاسود الی الرکن الذی تجاهه من جهة الجنوب اثنتین و عشرین ذراعا و من الجانب الشمالی تجاهه عشرین ذراعا، و دورها مائة و خمس أذرع و لم تزل کذلک الی ان هدمتها قریش و عمرتها قریش فی عهد رسول اللّه «صلعم» و صغروها عما کانت علیه اولا، و بقی منها فی الحجر ست اذرع و نصف و زادوا فی ارتفاعها تسع اذرع فصار ارتفاعها ثمان و عشرة ذراعا .
و یقول انه «کان بها صور الملائکة و الأنبیاء (عم) و الشجرة و صورة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 148
ابراهیم (عم) و الازلام بیده و صورة عیسی بن مریم و امه (عم) فلما کان عام الفتح امر رسول اللّه (صلعم) فطمست جمیع الصور ما عدا صورة المسیح و امه و کان بها قرنا الکبش الذی ذبحه ابراهیم (عم) معلقة داخل الکعبة و بقیت کذلک الی عهد ابن الزبیر فاحترقت و لما بناها ابن الزبیر ادخل الحجر فیها فبقیت عریضة قصیرة فزاد فی ارتفاعها تسع اذرع فطولها فی السماء سبع و عشرون ذراعا و هی سبعة و عشرون سافا من الحجارة ... فلما قتله الحجاج خرّب ما عمره ابن الزبیر فی الحجر ... و سدّ باب الکعبة الغربیّ» .
و یقول مؤلف الکتاب: رأیت الباب الذی فتحه ابن الزبیر غربی الکعبة و سدّه الحجاج، و عتبته علی حالها و عددت حجارتها المسدود بها و ذرعت دائر مدینة مکة و مدینة یثرب- حرسهما اللّه تعالی- و ذرعت طول الآبار المشهورة بمکة فلما غرقت کتبی عجزت عن اثبات ذلک.
ثم یعدد المشاهد و المقابر و اضرحة الصحابة و الاولیاء الصالحین و یبین مواضعها من مکة و یکاد یفوق سائر السیّاح بالارقام و القیاسات التی اجراها هو بالفرات ، و لکن تعوزه حیویة ابن بطوطة و ابن جبیر فی کتابیهما، فلا یوجد فی هذه الرحلة ما هو ملموس من رونق و جمال اسلوب أدبی ناصع فی الرحلتین آنفتی الذکر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 149

منازل مکة

اشارة

کتبه الدکتور حسین علی محفوظ دکتوراه الدولة من جامعة طهران و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و الاستاذ بکلیة الآداب فی جامعة بغداد الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 151

منازل مکة

منازل مکة فی مصطلح الجغرافیا- الطرق الیها. و قد تعرضت أکثر کتب الجغرافیا و المسالک لها.
أما المقدسی؛ فقد ذکر مملکة الإسلام فی کتابه «أحسن التقاسیم».
و حرّر طرقها المعروفة، و قسمها أربعة عشر اقلیما؛ هی:
(أ) أقالیم العرب:
1- جزیرة العرب. 2- العراق. 3- اقور. 4- الشام. 5- مصر.
6- المغرب.
(ب) أقالیم العجم:
1- المشرق. 2- الدیلم. 3- الرحاب. 4- الجبال. 5- خوزستان.
6- فارس. 7- کرمان. 8- السند.
و الطرق إلی مکة منها، أربعة؛ هی:
1- طریق العراق من الکوفة الی المدینة، و هو طریق أقالیم العجم-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 152
أیضا. 2- طریق الشام. 3- طریق مصر، و هو طریق المغرب- أیضا. 4- طریق الجزیرة.
و أما ابن رستمة؛ فقد ذکر فی «الأعلاق النفیسة»:
أ- الطریق من مدینة السلام الی إقصی خراسان و غیرها.
1- المسافة من مدینة السلام إلی الریّ. 2- الطریق من الریّ إلی نیسابور.
3- الطریق من نیسابور إلی طوس. 4- الطریق من نیسابور إلی هراة.
5- الطریق من هراة إلی کرمان. 6- الطریق من هراة إلی سجستان.
ب- الطریق من بغداد إلی مکة: ج- الطریق من المدینة إلی مکة.
د- الطریق من الکوفة إلی البصرة. ه- الطریق من البصرة إلی مکة.
و- الطریق من البحرین إلی مکة. ز- الطریق من مصر إلی مکة:
1- علی ساحل البحر علی طریق سوان. 2- من فسطاط مصر إلی المدینة.
ح- الطریق من دمشق إلی المدینة. ط- الطریق من مکة إلی الطائف.
ی- الطریق من البصرة إلی الیمامة. ک- الطریق من بغداد إلی البصرة.
ل- الطریق من واسط إلی سوق الأهواز.
1- من سوق الأهواز إلی فارس. 2- من سوق الأهواز إلی ازم إلی فارس. 3- من سوق الأهواز إلی رامهرمز إلی فارس. 4- من باذ بین (علی خمسة فراسخ من واسط) إلی ارّجان.
م- الطریق من الاهواز إلی فارس. ن- الطریق من الاهواز إلی شیراز. س- الطریق من ارجان إلی شیراز. ع- الطریق من اصبهان إلی الری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 153
و اما الیعقوبی؛ فقد ذکر فی «البلدان» مسافة ما بین کل بلد و بلد، و مصر. و ابتدأ بالعراق، و ذکر بغداد، و سر من رأی. ثم ذکر سائر البلدان. و قسم الأقطار علی أربعة اقسام:
أ- الربع الأول؛ ربع المشرق:
1- الجبل. 2- اذربیجان. 3- قزوین. 4- زنجان. 5- قم.
6- اصبهان. 7- الری. 8- طبرستان. 9- جرجان. 10- ستجستان.
11- خراسان. 12- ما اتصل بخراسان؛ من التبت، و ترکستان.
ب- الربع الثانی؛ الربع القبلی:
1- الحجاز. 2- المدینة. 3- مکة. 4- الطائف.
ج- الربع الثالث؛ ربع الشمال:
1- المدائن. 2- واسط. 3- البصرة. 4- الأبلة. 5- الیمامة 6- البحرین. 7- عمان. 8- السند. 9- الهند.
د- الربع الرابع؛ (ربع الغرب).
و اما ابو الفرج قدامة بن جعفر؛ فقد تعرّض فی کتاب «الخراج» لعلم الطرق. و عدد اسماء المواضع، و ذکر المنازل، و عدد الأمیال و الفراسخ. و بدأ بالطریق المأخوذ من:
1- مدینة السلام (إلی الکوفة ثم إلی المدینة ثم) إلی مکة. 2- من المدینة إلی مکة. 3- من مصر إلی مکة. 4- من دمشق إلی مکة.
5- من الیمامة إلی مکة. 6- من صنعاء إلی مکة. 7- من مخلاف خولان إلی مکة. 8- من عمان إلی مکة: أ- طریق الساحل. ب- طریق الجادة. 9- الطریق إلی نواحی المشرق: أ- الأهواز. ب- فارس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 154
ج- اصبهان. د- کرمان. ه- سجستان. و- ما والاها إلی نواحی الشمال، و المغرب.
و اما ابن حوقل فقد فصل بلاد الاسلام فی «صورة الأرض» اقلیما اقلیما، و صقعا صقعا، و رسم جمیع ما تشتمل علیه من الطرق، و السبل، و المسالک، و المسافات و المراحل. و البلاد التی عددها هی:
1- دیار العرب. 2- بحر فارس. 3- المغرب. 4- الاندلس.
5- صقلیة. 6- مصر. 7- الشام. 8- بحر الروم. 9- الجزیرة.
10- العراق. 11- خوزستان. 12- فارس. 13- کرمان.
14- السند. 15- أرمینیة و الران و اذربیجان. 16- الجبال. 17- الدیلم، و طبرستان. 18- بحر الخزر. 19- مفازة خراسان و فارس.
20- سجستان. 21- خراسان. 22- ما وراء النهر.
و اما ابن خرداذبة؛ فقد اوضح فی کتاب «المسالک و الممالک».
مسالک الارض، و ممالکها، و المسیر بین ذلک منها، و رسوم طرقها.
و ذکر قبلة اهل کل بلد، و ابتدأ بالسواد، ثم المشرق ... و ذکر:
1- الطریق من مدینة السلام إلی إقاصی خراسان. 2- طریق الشاش و الترک. 3- الطریق إلی الکور الجبلیة و واسط و الأهواز و فارس.
4- الطریق من شیراز إلی کرمان ثم إلی سجستان. 5- الطریق من شیراز إلی نیسابور. 6- الطریق من شیراز إلی درابجرد. 7- الطریق من الفهرج إلی السند. 8- الطریق من الاهواز إلی اصبهان. 9- الطریق من اصبهان إلی الری. 10- الطریق من بغداد إلی البصرة. 11- الطریق من البصرة إلی عمان علی الساحل. 12- الطریق من البصرة إلی المشرق.
13- الطریق إلی الصین. 14- الطریق من مدینة السلام إلی المغرب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 155
15- الطریق من الفسطاط إلی المغرب. 16- الطریق من بغداد إلی الرقة.
17- الطریق من نصیبین إلی أرزن. 18- الطریق من الجزیرة إلی الساحل.
19- الطریق من الکوفة إلی دمشق. 20- الطریق من مدینة السلام إلی مکة. 21- الطریق من مکة إلی الیمن. 22- الطریق من البصرة إلی مکة.
23- الطریق من الیمامة إلی مکة. 24- الطریق من عمان إلی مکة.
25- الطریق من مصر إلی مکة. 26- الطریق من دمشق إلی مکة.
غیر عشرات الطرق الأخری التی ذکرها فی أثناء ذلک.
و خصّ حمد اللّه المستوفی القزوینی الطرق و کمیة مسافتها بفصل مطوّل ممتع فی کتاب «نزهة القلوب» الذی ألفه سنة 740 ه؛ فقسم الطرق إلی:
أ- الطریق الجنوبیة؛ و هی القبلیة:
1- من السلطانیة إلی النجف.- من السلطانیة إلی همدان.- من همدان إلی قصر شیرین.- من قصر شیرین إلی بغداد.- من بغداد إلی النجف.
2- من النجف إلی مکة. 3- من مکة إلی المدینة.- بطریق الجادة.
بطریق بدر.
من المدینة إلی النجف. 5- من واسط إلی الثعلبیة ثم إلی مکة.
6- من بغداد إلی سائر البلاد؛ ثم إلی البصرة 7- من البصرة إلی البحرین.
8- من البصرة إلی قیس. 9- من بغداد إلی اصفهان. 10- من بغداد إلی رحبة الشام. 11- من بغداد إلی الموصل.
ب- الطریق الشرقیة:
1- من السلطانیة إلی جیحون:- من السلطانیة إلی الری و ورامین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 156
- من ورامین إلی رباط مهمان دوست.- من مهمان دوست؛ بطریق جاجرم إلی نیسابور.- من نیسابور إلی سرخس.- من سرخس؛ بطریق بلخ إلی جیحون.
2- من بسطام إلی خوارزم، بطریق جرجان و دهستان 3- من نیسابور إلی هرات. 4- من نیسابور إلی ترشیز و قهستان. 5- من هرات إلی سیستان. 6- من هرات إلی مرو. 7- من مرو إلی بلخ. 8- من مرو إلی خوارزم.
ج- الطریق الشمالیة؛ من السلطانیة إلی باب الأبواب:
من السلطانیة إلی اردبیل.- إلی قراباغ أرّان.- من قراباغ إلی تبریز بطریق اهر.
د- الطریق الغربیة، من السلطانیة إلی قونیة:
- من السلطانیة إلی تبریز.- من تبریز إلی ارزن الروم.- من ارزن الروم إلی ارزنجان و من الرزنجان إلی سیواس.
ه- الطریق ما بین الشرق و الجنوب؛ و من السلطانیة إلی قیش:
- من السلطانیة إلی ساوة.- من ساوة إلی کاشان.- من کاشان إلی اصفهان.- من اصفهان إلی یزدخواست.- من یزدخواست بالطریق الصیفیة إلی شیراز.- من شیراز إلی قیش.- من قیش إلی سرندیب.
- من شیراز إلی کازرون.- من شیراز إلی هرموز.- من شیراز إلی شبانکاره.- من شیراز إلی ابرقوه.- من ابرقوه إلی یزد.- من شیراز إلی نوبنجان.- ثم إلی تستر
و- الطریق ما بین الغرب و الجنوب؛ من السلطانیة إلی قلعة بیرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 157
هذا- و عمدة الطرق إلی مکة:
1- طریق الکوفة. 2- طریق البصرة. 3- طریق الشام. 4- طریق مصر. 5- طریق الیمن. 6- طریق جدة. 7- طریق المدینة.
أما طریق الکوفة؛ و هو طریق جمیع أهل المشرق:
فمن الکوفة إلی القادسیة 15 میلا
ثم إلی العذیب 6 أمیال
ثم إلی المغیثة 24 میلا.
و المتعشی وادی السباع علی 15 میلا.
ثم إلی القرعاء 32 میلا.
و المتعشی مسجد سعد علی 14 میلا.
ثم إلی واقصة 24 میلا.
و المتعشی بالطرف علی 14 میلا.
ثم إلی العقبة 29 میلا.
و المتعشی القبیبات علی 14 میلا.
ثم إلی القاع 24 میلا.
و المتعشی بالجلحاء علی 13 میلا.
ثم إلی زبالة 24 میلا.
و المتعشی بالجریسی علی 14 میلا.
ثم إلی الشقوق 21 میلا.
و المتعشی التنانیر علی 14 میلا.
ثم إلی البطان- و هی قبر العبادی- 29 میلا.
و المتعشی بردین علی 14 میلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 158
ثم إلی الثعلبیة- و هی ثلث الطریق- 29 میلا.
و المتعشی بالمهلبیة علی 14 میلا.
ثم إلی الخزیمیة 32 میلا.
و المتعشی الغمیس علی 14 میلا.
ثم إلی الأجفر 24 میلا.
و المتعشی بطن الأعز علی 15 میلا.
ثم إلی فید- و هی نصف الطریق- 36 میلا.
و المتعشی القرائن علی 20 میلا.
ثم إلی توز 31 میلا.
و المتعشی بالقرنتین علی 17 میلا.
ثم إلی سمیراء 20 میلا.
و المتعشی بالفحیمة علی 13 میلا.
ثم إلی الحاجر 33 میلا.
و المتعشی العباسیة علی 15 میلا.
ثم إلی معدن القرشی- و العامة تسمیه معدن النقرة» 34 میلا.
و المتعشی تروری علی 17 میلا.

الطریق الی المدینة

من المعدن إلی العسیلة 46 میلا.
ثم إلی بطن نخل 36 میلا.
ثم إلی الطرف 22 میلا.
ثم إلی المدینة- و هی طیبة- 35 میلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 159

طریق الجادة من المدینة الی مکة

من المدینة إلی الشجرة- و هی میقات اهل المدینة- 6 أمیال.
ثم إلی ملل 12 میلا.
ثم إلی السیالة 19 میلا.
ثم إلی الرویثة 34 میلا.
ثم إلی السقیا 36 میلا.
ثم إلی الأبواء 29 میلا.
ثم إلی الحجفة- و هی میقات اهل الشام- 27 میلا.
ثم إلی قدید 27 میلا.
ثم إلی عسفان 24 میلا.
ثم إلی بطن مرّ 33 میلا.
ثم إلی مکة 16 میلا.

طریق الجادة من معدن النقرة الی مکة

منها إلی مغیثة الماوان 33 میلا.
و المتعشی السمط علی 16 میلا.
ثم إلی الربذة 24 میلا.
و المتعشی أریمة علی 14 میلا.
ثم إلی معدن بنی سلیم 24 میلا.
و المتعشی شروری علی 12 میلا.
ثم إلی السلیلة 26 میلا.
و المتعشی بالکنابین علی 13 میلا.
ثم إلی العمیق 21 میلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 160
و المتعشی السنجة علی 12 میلا.
ثم إلی الافیعیة 32 میلا.
و المتعشی الکراع علی 15 میلا.
ثم إلی المسلح- و هی میقات اهل العراق- 34 میلا.
و المتعشی الکبرانة علی 14 میلا.
ثم إلی الغمرة 18 میلا.
و المتعشی القصر علی 8 أمیال.
ثم إلی ذات عرق 26 میلا.
و المتعشی أوطاس علی 12 میلا.
ثم إلی بستان بنی عامر 22 میلا.
و المتعشی غمر ذی کندة علی 11 میلا.
ثم إلی مکة 24 میلا.
و المتعشی مشاش علی 11 میلا.
و الطریق من مدینة السلام- بغداد- إلی الکوفة:
من بغداد إلی جسر کوثی 7 فراسخ.
ثم إلی قصر ابن هبیرة 5 فراسخ.
ثم إلی سوق اسد 7 فراسخ.
ثم إلی شاهی 7 فراسخ.
ثم إلی الکوفة 5 فراسخ.
فذلک 31 فرسخا. فمن بغداد إلی مکة 275 فرسخا و ثلثا فرسخ.
تکون أمیالا 827 میلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 161

و اما الطریق من البصرة إلی مکة

من البصرة إلی المنجشانیة، ثم إلی الحفیر، ثم إلی الرحیل، ثم إلی الشجی، ثم إلی الخرجاء، ثم إلی الحفر، ثم إلی ماویة، ثم إلی ذات العشر، ثم إلی الینسوعة، ثم إلی السمینة، ثم إلی النباح، ثم إلی العوسجة، ثم إلی القریتین، ثم إلی رامة، ثم إلی إمرة، ثم إلی طخفة، ثم إلی ضریة، ثم إلی جدیلة، ثم إلی فلجة، ثم إلی الدفینة، ثم إلی قبا، ثم إلی مران، ثم إلی وجرة، ثم إلی اوطاس، ثم إلی ذات عرق، ثم إلی بستان بنی عامر، ثم إلی مکة.

و اما الطریق من مصر إلی مکة

من الفسطاط إلی الجب، ثم إلی البویب، ثم إلی منزل ابن بندقة، ثم إلی عجرود، ثم إلی الذنبة، ثم إلی الکرسی، ثم إلی الحفر، ثم إلی منزل، ثم إلی أیلة، ثم إلی حقل، ثم إلی مدین، ثم إلی الأغراء، ثم إلی منزل، ثم إلی الکلابة، ثم إلی شغب، ثم إلی بدا، ثم إلی السرحتین، ثم إلی البیضاء، ثم إلی وادی القری، ثم إلی الرحیبة، ثم إلی ذی المروة، ثم إلی المرّ، ثم إلی السویداء، ثم إلی ذی خشب، ثم إلی المدینة، ثم إلی المنازل التی قد مرّ ذکرها إلی مکة.

و اما الطریق من دمشق الی مکة

من دمشق إلی منزل، ثم إلی منزل، ثم إلی ذات المنازل، ثم إلی سرغ، ثم إلی تبوک، ثم إلی المحدثة، ثم إلی الأقرع، ثم إلی الجنینة، ثم إلی الحجر، ثم إلی وادی القری، ثم إلی الرحیبة، ثم إلی ذی المروة، ثم إلی المرّ، ثم إلی السویداء، ثم إلی ذی خشب، ثم إلی المدینة، ثم إلی المنازل التی قد مرّ ذکرها إلی مکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 162

و اما الطریق من الیمن الی مکة

من صنعاء إلی اثافث، ثم إلی خیوان، ثم إلی الأعمشیة، ثم إلی صعدة، ثم إلی عرقة، ثم إلی المهجرة، ثم إلی سروم راح، ثم إلی الثجة، ثم إلی کتنة، ثم إلی یبمبم، ثم إلی بنات حرب، ثم إلی جسداء، ثم إلی بیشة، ثم إلی تبالة، ثم إلی رنیة، ثم إلی کری، ثم إلی تربة، ثم إلی صفن، ثم إلی الفتق، ثم إلی قرن المنازل، ثم إلی بئر ابن المرتفع، ثم إلی مکة.
أما المنازل؛ التی سلکتها ام جعفر «زبیدة» سنة حجها؛ و قد نزلها أحمد بن عمرو؛ فهی: نهر عیسی. الفرات. نهر سورا. نهر أبا.
الفرات الأسفل. الکوفة. القادسیة. المغیثة. القرعاء. واقصة. العقبة.
القاع. زبالة. الشقوق. بطان. الثعلبیة. الخزیمیة، من زرود. الأجفر.
فید. توز. سمیرا. الحاجر. النقرة. مغیثة الماوان. الربذة. السلیلة.
العمق. المعدن. افیعیة. المسلح. الغمرة ذات عرق. البستان. المشاش.
مکة- منی- عرفات- المزدلفة- المشعر. بطن مر. عسفان. فدید.
الجحفة. الأبواء. السقیا. الروحاء. السیالة. ملل. المدینة. الطرف.
بطن نخل. العسیلة. المحدث. ثم الطریق الأول نحو العراق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 163

مکة فی الشعر

اشارة

جمعه و نسقه حسب الحروف الهجائیة فؤاد عباس من خریجی الجامعة الامیرکیة ببیروت و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 165

ابو العلاء المعری

استغفر اللّه فی أمنی و اوجالی‌من غفلتی و توالی سوء اعمالی
قالوا هرمت و لم تطرق (تهامة) فی‌مشاة و فد و لا رکبان أجمال
فقلت: إنّی ضریر و الذین لهم‌رأی رأوا غیر فرض حجّ امثالی
ما حجّ جدّی و لم یحجج أبی و أخی‌و لا ابن عمّی و لم یعرف (منی) خالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 166 و حجّ عنهم قضاء بعد ما ارتحلواقوم سیقضون عنّی بعد ترحالی
فان یفوزوا بغفران أفز معهم‌أو لا فانّی بنار مثلهم صال
و لا أروم نعیما لا یکون لهم‌فیه نصیب و هم رهطی و اشکالی
***
سیسأل ناس ما قریش و مکةکما قال ناس ما جدیس و ما طسم
أری الوقت یفنی أنفسا بفنائه‌و یمحو فیما یبقی الحدیث و لا الرسم
***
مکة أقوت من بنی الدردبیس‌فما لجنیّ بها من حسیس

احمد بن ابراهیم

الخازن بالزهراء (یمدح الخلیفة الحکم المستنصر):
لیهنئک أن لم یبق فی الأرض ناکث‌و لا مشرک إلّا أتاک بلا عهد
و لم یبق إلّا أن یحلّ بمکّةفیطرد عنها المستحقّین للطرد

احمد شوقی

تجلّی مولد الهادی و عمّت‌بشائره البوادی و القصابا
و أسدت للبریّة بنت وهب‌یدا بیضاء طوّقت الرقابا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 167 فقام علی سماء البیت نورایضی‌ء جبال (مکة) و الشعابا
***
ما للشباب و للماضی یمرّ بهم‌فیه علی الجیف الأحزاب و الشیع
شریف مکة حرّ فی ممالکه‌فهل تری القوم بالحرّیة انتفعوا؟
*** و قال یخاطب الاستانة حین نقل الکمالیون العاصمة الی انقرة و یشیر الی فتوی شیخ الاسلام بقتالهم:
هدروا دماء الذائدین عن الحمی‌بلسان مفتی النار لا مفتیک
شربوا علی سرّ العدوّ و غرّدواکالبوم خلف جدارک المدکوک
لو کنت (مکة) عندهم لرأیتهم کمحمد) و (رفیقه) هجروک
*** و قال فی قصیدته التی یعارض بها قصیدة البوصیری:
سائل حراء و روح القدس هل علمامصون سرّ عن الادراک منکتم
کم جیئة و ذهاب شرّفت بهمابطحاء مکة فی الاصباح و القمم
هناک أذّن للرحمن فامتلأت‌اسماع (مکة) من قدسیّة النغم

امیة بن ابی الصلت

کان عبد اللّه بن جدعان من مطعمی قریش کهاشم بن عبد مناف، و هو اول من عمل الفالوذج للاضیاف، فقال فیه امیّة بن ابی الصلت یمدحه:
له داع بمکّة مشمعلّ‌و آخر فوق دارته ینادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 168 إلی ردح من الشیزی ملاءلباب البرّ یلبک بالشهاد

جرهمی شاعر

یا عمرو لا تظلم‌بمکّة إنّها بلد حرام
سائل بعاد این هم؟و کذلک تخترم الانام
و بنی العمالیق الذین لهم بها کان السوام

الحارث بن خالد

من کان ذا شجن بالشام یحبسه‌فان فی غیره أمسی لی الشجن
و ان ذا القصر حقّا ما به وطنی‌لکن بمکّة امسی الاهل و الوطن
من ذا یسائل عنا این منزلنا(فالاقحوانة) منا منزل قمن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 169

ابن حجر العقسلانی

(شهاب الدین احمد بن علی) یمدح النبی (ص):
و بفتح مکة قد عفا عمّن هفافأتوه بالترغیب و الترهیب
لم یحتموا من میم طعنات و لاألفات ضربات و لام حروب
***
الا لیت شعری هل ابیتن لیلةبمکة أشفی ذا الفؤاد المفنّدا؟
و هل اردن ماء النعیم بزمزم‌و هل لی ان اروی و اسعی و اسعدا؟

حسان بن ثابت

و قال فی قوم من بنی کعب من خزاعة کان النبی (ص) ادخلهم فی حلفه یوم الحدیبیة فغدرت بهم قریش:
عنانی و لم اشهد ببطحاء مکّةرعاة بنی کعب تحزّ رقابها
و لو شهد البطحاء منا عصابةلهان علینا یوم ذاک ضرابها

الحصری القیروانی

(ابو الحسن علی بن عبد الغنی) الضریر ابن اخت صاحب کتاب زهرة الآداب.
یا حرفة الشعراء إنک منهم‌حیث ابتغوا رزقا لبالمرصاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 170 لو حلّ بالوادی المقدّس رکبهم‌لشفاء غلّتهم لجفّ الوادی
و لو ابتغوا حلق الرؤوس بمکةحضر (الرشید) بها و غاب (الهادی) *** عسی من یوفّی النذور
حجّا و یقضی النفث‌یزدنی دعوة بمکّة
إذ لا رفث؟یغیث بها باکیا
فأیّ الثری لم یغث؟؟

السید رشید الهاشمی

قامت بقیامکم العرب‌و زهت بفعالکم الکتب
غنّت بکم الاقلام و قدرقصت لأغانیها القضب
اوصال الملک مقطعةو قلوب بنیه تضطرب

ابن الزبعری السهمی

کانت قریش بیضة فتفلّقت‌فالمح خالصها لعبد مناف
(عمرو العلا) هشم الثرید لمعشرکانوا بمکة مسنتین عجاف

الشیخ صالح التمیمی

قال- رحمه اللّه- دخلت بعد قتل محمد بک و عبد العزیز آل الشاوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 171
علی دارهم و هی موحشة منهم، و قد نزل فارس الجرباء، و خواصّهم بین غاد و رایح، فقلت:
باللّه یا دار المکارم ما الذی‌اضنی ربوعک یا شفاء الانفس
عجبا لقوم یهرعون لمجلس‌و نسوا بربعک طیب ذاک المجلس
قد قلت لمّا أن رأیت حجیجهم‌شتان (مکّتنا) و (بیت المقدس)

شاعر

و أیة ارض انت فیها ابن معمرکمکّة لم یطرق بشرّ حمامها

شاعر

لیال تمنّی ان تکون حمامةبمکة یؤویک الستار المحرّم

شاعر

کأنی لم أقطن بمکة ساعةو لم یلهنی فیها ربیب منعم
و لم اجلس الحوضین شرقیّ زمزم‌و هیهات أنّی منک لا أین زمزم

عبد الباقی العمری

یمدح الامام علی (ع)
انت العلیّ الذی فوق العلی رفعاببطن مکة وسط البیت اذ وضعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 172

عبد الحسین الحویزی

و الهدی یوم فتح (مکة) نادی‌بعلو التکبیر و التهلیل
و صنادیدها غدت طلقاءمن یدیه جیلا تری بعد جیل
الشیخ عبد الحسین الحویزی

عبد اللّه بن ثور الخفاجی

فأصبح بطن مکة مقشعرّاکأن الأرض لیس بها هشام

عبد اللّه بن حسن بن حسن

أنس حرائر ما هممن بریبةکظباء مکة صیدهنّ حرام
یحسبن من لین الکلام زوانیاو یصدّهن عن الخنا الاسلام

عبد اللّه بن محمد بن السید البطلیوسی

أمکة تفدیک النفوس الکرائم‌و لا برحت تنهلّ فیک الغمائم
علیک سلام اللّه ما طاف طائف‌بکعبتک العلیا و ما قام قائم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 173

الشیخ عبد المحسن الکاظمی

یا اهل مکة و الوری‌ما تنقضی حجّاتها
فی کل عام عندکم‌تقضی الفروض قضاتها
و بکلّ یوم عندناحجج تضلّ هداتها
الجسر (مکّتنا) و کثبان النقا (عرفاتها)
و (منی) جزیرتنا التی‌قطع الحشا حصیاتها
الشیخ عبد المحسن الکاظمی

الشیخ محمد علی کمونة

آثرنا أن نجتزی‌ء من هذه القصیدة العامرة فی رثاء الحسین (ع) ما یتعلّق بذکر کیفیّة الحجّ و ذکر مناسکه فی زمنه السفر علی ظهور الابل.
نری ظعنا یبغی (منی) فا (لمحصبّا)فادنی الیه الیعملات و قرّبا
و قوّض من بعد الاقامة راحلایلفّ الربی بالبید و البید بالربی
و جشمها شرق البلاد و غربهااذ جاز منها سبسبا امّ سبسبا
لیقضی علیها من (منی) غایة المنی‌فقد شاقه من (شعبه) ما تشعبّا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 174 و قد جنحت (للخیف) حتی کأنماقوائمها نیطت بأجنحة الصّبا
و ارسلها و خدا الی ذلک الحمی‌و منه الجناب الرحب حیّا و رحبا
و عرّس کیما یستریح رکابه‌باعطانها مما عراها و أتعبا
و لما حدا الحادی و هاج اهاجهارواقص للادلاج هجن تطرّبا
و وجّه تلقاء (المعرّف) وجهه‌لیقضی به فرض (الوقوف) تقرّبا
و لما قضی (التعریف) و الشمس آذنت و قد ازف الترحال- ان تتحجّبا
و حیث (أفاض) الناس أرخی رکابه‌و ألوی به (للمشعرین) و نکّبا
و قد رقصت عند (المحسّر) من (منی‌به و علی اکوارها ماس مطربا
و ضجّ فضجّ الناس کلّ مؤدّیامن (الذکر) ما نصّ الاله و اوجبا
و ما لی الی جمع (الجمار) و (رمیها)و لما رماها ساق (هدیا) و قرّبا
و طاف (بیبت اللّه) سبعا إنابةالیه و صلیّ فی (المقام) و عقّبا
و قد اوسع (الارکان) عند (استلامها)دموعا فخیل السیل قد بلغ الزبی
و اکثر عند (المستجار) تنصّلاالی ربّه مما أساء و أذنبا
و ساغ الیه الورد من ماء (زمزم)و أعذب بماء ورده ساغ مشربا
و (للسعی) بین (المروتین) مهرولاسعی و بجلباب الخضوع تجلببا
و سارع (للتقصیر) غیر مقصّرو شرّق (للتشریق) ینحو (المحصّبا)
و لما قضی نسکا (مناسک) حجّه‌نحا (یثربا) لا ابعد اللّه یثربا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 175

عبد المطلب بن هاشم

نحن اهل اللّه فی (بلدته)لم یزل ذاک علی عهد (ابرهم)
نعبد اللّه و فینا شیمةضلّة القربی و ایفاء الذمم
ان للبیت لربّا مانعامن یرده بأثام یصطلم
*** أمّ الغوث بن أخزم حین نذرت إن ولدت غلاما لتجعلنّه عبدا للکعبة یخدمها فولدت الغوث و وفت بنذرها.
انّی جعلت ربّ من بیّنه‌ربیطة بمکّة العلیّه
فبارکنّ لی به إلیّه‌و اجعله لی من صالح البریّه

قصی بن ربیعة

انا ابن العاصمین بنی لؤیّ‌بمکة مولدی و بها ربیت
و لی البطحاء قد علمت معدّو مروتها رضیت بها رضیت

کعب بن زهیر

من لامیته المشهورة: بانت سعاد
ان الرسول لنور یستضاء به‌مهنّد من سیوف اللّه مسلول
فی عصبة من قریش قال قائلهم‌ببطن (مکة) لما اسلموا: زولوا
زالوا فما زال أنکاس و لا کشف‌عند اللقاء و لا میل معازیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 176

السید محمد سعید الحبوبی

قال راثیا (بعض الکبراء) و قدتوفی بطریق مکّة المشرّفة
سری و حداء الرکب حمد أیادیه‌و آب و ما حاد لهم غیر ناعیه
أحین غشی بطحاء مکة شیخهافکانت تغنی بالنسیب مغانیه
فکان کابراهیم زار (مقامه)و فی (حجر) اسماعیل کان کبانیه
کأنی به فی مکة او مدینةیلاقیه اهلوها فیدهش لاقیه
فمن مرتج منه و من مغرم به‌و من آخذ عنه و من واثق فیه
السید محمد سعید الحبوبی

مضاض بن عمرو الجرهمی (جاهلی)

کأن لم یکن بین الحجون الی الصفاانیس و لم یسمر بمکة سامر
و لم یتربع واسطا فجنوبه‌الی المنحنی من ذی الاراکة حاضر
بلی نحن کنّا اهلها فأبادناصروف اللیالی و الجودد العواثر
فسحّت دموع العین تبکی لبلدةبها حرم و فیها المشاعر

ابن ام مکتوم

قال و هو آخذ بخطام ناقة رسول اللّه (ص) و هو یطوف:
حبّذا مکة من وادی‌بها ارضی و عوّادی
بها ترسخ اوتادی‌بها امشی بلا هادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 177

مکة فی المراجع الغربیة

اشارة

کتبه و ترجمه من مختلف المصادر جعفر الخیاط الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .S .C من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی، و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و مدیر التعلیم المهنی حالا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 179

مکة فی المراجع الغربیة

مقدمة

تعتبر مکة المکرمة اول بلد مقدس فی الاسلام، ففیها أول الحرمین و ثانی القبلتین، و هی مهبط الوحی و التنزیل و محط أنظار المسلمین، یتوجهون شطرها فی صلواتهم و یحجون الیها من کل حدب و صوب.
و لذلک فلیس من العجیب ان تهفو لها قلوب المسلمین و المؤمنین فی مشارق الأرض و مغاربها، و تخشع لها نفوسهم، فیتمنون علی اللّه مخلصین ان یمنحهم التوفیق من عنده لزیارتها و یکتب لهم حج البیت فیها قبل ان یتوفاهم اللّه الیه، و یفارقوا هذه الحیاة الدنیا.
و کیف لا تکون لهذا البلد الامین مثل هذه القدسیة و هذا التبجیل عند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 180
المسلمین، و هو عنوان مجدهم و ینبوع هدایتهم و عقیدتهم. و کیف لا ترنو الیه الابصار، و تهفو له الأفئدة، و هو الذی تمتزج ذکریاته الحافلة بتاریخهم العریق و تشتبک أحاسیسه بمجدهم التلید.
فقد کان لظهور الاسلام، الذی تفجرت ینابیعه من بطاح مکة و وهادها القاحلة، و للمعجزة الخالدة التی حققها محمد و المهتدون بهدیه فی نشر الأسلام بمثل تلک السرعة الخاطفة فی الخافقین، صدی ما زال یرن فی الغرب و یدوّی فی أرجائه. فراح علماؤه و مستشرقوه یبحثون فی کل ما له علاقة بهذه الدعوة، التی اهتدی المسلمون بهدیها و استضاؤا بنورها، فأخذ العالم یدرس أحوال مکة التی انبثق منها ذلک النور، و یمحص المؤرخون جمیع ما یمت الیها بصلة. و قد بلغ من اهتمام الغربیین بمکة أن دخل اسمها فی لغتهم و اصبح کلمة خاصة تدرج فی القوامیس لتدل علی الجهة التی یتوجه الیها الناس أو یقصدونها بصفة دائمة.
و لم یکتفوا بذلک فقط، و انما شد لها الرحالون الغربیون رحالهم أیضا و قصدها السیاح و المسافرون منهم فجازفوا بأنفسهم و أرواحهم لیدخلوا فیها و یحجوا الیها متنکرین. و قد حالف التوفیق عددا منهم، و فشل کثیرون غیر هؤلاء، فتکونت مما کتبوه و دونوه عن تلک الدراسات و المجازفات ثروة علمیة یصعب علی الباحث ان یحیط بها کلها، لا سیما و ان ما کتب لم یکن فی لغة واحدة من اللغات الغربیة الحیة و انما کتب بلغات عدة أخصها الانکلیزیة و الألمانیة و الفرنسیة.
و لا یخفی ان الدوافع التی تدفع الغربیین الی الاهتمام بمکة و ما یتصل بها من شؤون، او الکتابة عنها، هی دوافع معروفة أهمها: الأغراض التبشیریة، او البحث العلمی، او المجازفة و التطویح او التجسس و الأغراض السیاسیة فی الغالب. علی اننا سنحاول فی هذا البحث ان نورد نماذج مفیدة عن أهم ما کتب عن مکة باللغة الانکلیزیة علی الأخص، مع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 181
التنبیه الی ان شیئا غیر یسیر مما کتب فی هذه اللغة یعتبر بعضه مترجما عن الألمانیة او الفرنسیة او الأیطالیة او الهولندیة، فضلا عن استناد الکثیر منه علی المصادر العربیة.
و الملاحظ أن أهم المراجع الغربیة التی تتطرق الی ذکر الکثیر عن مکة المکرمة و شؤونها (دائرة المعارف الأسلامیة) الموسعة و المختصرة، التی یشرف علی تحریرها المستشرقان المعروفان غیب و کریموز. فقد وجدت فیها خلاصة شاملة تتناول تاریخ مکة فی مختلف ادوارها، و شؤون الحج فیها و ما یتصل به من المناسک و الطقوس و ما أشبه. و سنورد هنا أهم ما جاء فی هذه الخلاصة التی کتب معظمها المستشرق الفرنسی لامانس بالاشتراک مع الاستاذ فنسنک .

مکة قبل الهجرة

اشارة

یبدأ هذان الاستاذان بحثهما بالقول ان مکة المکرمة قد خرجت من بین اشباح الماضی السحیق و فرضت نفسها علی المؤرخین بولادة النبی محمد فیها ما بین سنتی 570 و 580 میلادیة. و یبدو ان الجغرافی الیونانی بطلیموس کان یعرفها باسم «ماکورابا» لکنها کانت معروفة قبل زمانه بمدة طویلة.
فقد کانت علی ما یحتمل محطة من المحطات الواقعة فی «طریق البخور» الذی کانت تسلکه القوافل المحملة بالمنتجات الشرقیة المصدرة الی عالم البحر الابیض المتوسط، و لا سیما العطور الثمینة منها. و تعزی الأهمیة التی کانت تتمتع بها مکة الی کونها کانت واقعة فی ملتقی الطرق التجاریة الکبری فی تلک العصور الغابرة. فقد کانت هذه المدینة، التی نشأت حول بئر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 182
زمزم و الکعبة المقدسة، تقع فی موقع تنتهی فیه أطراف آسیة التی تسکنها الأقوام البیضاء من جهة و أفریقیة السوداء من جهة أخری، علی مقربة من إحدی الفتحات التی تتخلل جبل الصراة، و فی جوار ملتقی للطرق کان یؤدی من بابل و سوریة الی مرتفعات الیمن و سواحل البحر الأحمر و المحیط الهندی. و بطریق البحر کانت تتصل بالقارة الأفریقیة المجهولة.
و مما یذکر عن علاقات مکة الخارجیة فی تاریخها القدیم ان سکانها کثیرا ما کانوا یدخلون فی مفاوضات مع الدول المجاورة. و کانوا یحصلون منها علی حسن المعاملة و حریة المرور لقوافلهم، و هو ما کان یطلق علیه مؤرخو العرب «ضمانة کسری و قیصر». و کانوا یعقدون اتفاقیات کذلک مع النجاشی فی الحبشة، و شیوخ نجد الکبار، و أقیال الیمن، و ملوک الحیرة و الغساسنة. علی أنهم لم یکن بوسعهم الحصول علی معاملة «الباب المفتوح» فی مفاوضاتهم مع الایرانیین و الأغریق، و لذلک کان التبادل التجاری یجری مع هؤلاء فی الثغور الواقعة علی الحدود او المدن التی تعین لهذا الغرض: و من هذه المدن فی فلسطین کانت غزة و أیلة و ربما القدس أیضا، اما فی سوریة فقد کانت بصری منفذهم الرئیس و سوقهم الکبری.
و هناک فی هذا المبحث أشارة الی ما جاء فی الآیة الکریمة عن «رحلة الشتاء و الصیف»، و الی ان النسابة العرب یذکرون أسماء رؤساء قریش الذین توفقوا فی الحصول علی الرخص المطلوبة للمتاجرة بطریق المفاوضات.
و کان البلد الذی یحصلون علی رخصة للمتاجرة فیه یسمی عندهم «وجه» او «متجر»، کما کان هناک ما لا یحصی من القیود التی تحدد امتیاز هذه المتاجرة. فلم تکن الدول الشرقیة مثلا تسمح لأهل مکة بالتجارة الحرة و کانت بیزنطة أکثر شکا و ارتیابا بالأجانب، و لا سیما البدو منهم.
و لذلک کان العرب یحصلون علی حق المتاجرة لقاء تضحیات کبیرة و تکالیف غیر یسیرة، مثل دفع الضرائب الباهظة أو رسوم خاصة للکمارک و العبور أو وضع الرهائن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 183
و تقول دائرة المعارف الأسلامیة فی هذا الشأن ان مکة کانت تعوض ما تخسره فی هذه المعاملات عن طریق فرض تکالیف و رسوم عدیدة علی التجار الأجانب الذین کانوا یفدون علیها، مثل رسوم العشور و الأقامة و المتاجرة و التجوال و غیر ذلک. فقد کان علی التاجر الأجنبی ان یدفع رسما خاصا قبل الدخول الی مکة مثلا، و کان هناک، کما کان فی تدمر أیضا، رسم آخر علی الخروج و علی تصدیر البضائع.

سکان مکة

و تقول دائرة المعارف هذه ان سکان مکة فی وقت الهجرة کانوا یدعون بتحدرهم کلهم من جد واحد یسمونه قریشا أو فهرا، و کان قریش یلقب بالنظیر أیضا. و قد کانت أصول قریش متواضعة، لا یعرف الا القلیل عنها. لکن المعروف انهم کانوا یؤلفون فرعا من الفروع غیر الثریة التی تتصل بکنانة، الأرومة الأصلیة. و کانوا فی أول أمرهم یعیشون عیشة تاعسة فی الجبال الوعرة التی تحیط بمنطقة مکة المقدسة. و المقول ان رئیسا یتحلی بالکثیر من المزایا الحربیة، اسمه قصی، جاء من شمال الحجاز فأنزلهم بقوة السلاح فی مکة بعد ان انتزعها من سیطرة خزاعة.
و یمکن تمییز عشر بطون من قریش، علی ما یذکر هذا المبحث، و هی:
هاشم، و أمیة، و نوفل، و زهدة، و أسد، و تیم، و مخزوم، و عدی، و جمح و سهم. و کان هؤلاء یشغلون فی الدرجة الأولی مرکز المدینة أو بطن الوادی، أی البطحاء، حیث یتجمع ماء زمزم، و حول القعر الذی کانت تقوم فیه الکعبة. و لذلک صار یسمی أحدهم الأبطحی، او البطاحی، و صارت قریش تسمی «قریش البطاح». و قد کانت المحلة الوسطی من مکة تعتبر محلة خاصة بالطبقة الارستقراطیة من الناس، أو محلة الأسر الکبیرة من قریش. و هناک بطون من هذه البطون العشر کانت خاملة الذکر و لم تشتهر الا بظهور الأسلام، مثل تیم و عدی اللتین نبه ذکرهما بالخلیفتین الراشدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 184
أبی بکر و عمر. اما البطون الأخری، التی یکتنف ارتباطها بالجد الأعلی شی‌ء من الغموض فقد کانت تنتحی ارباض مکة علی سفوح الشعب الواطئة من الجبال المطلقة علی البلدة، و لذلک کان یطلق علیهم «قریش الظواهر». علی ان هؤلاء کانوا، مع تمتعهم باعتبار أقل مما کانت تتمتع به العشائر الأخری من الأباطحة، یتمیزون عنهم بالشجاعة و البسالة فی الحروب. و لهذا کانوا یقدمون للمجتمع القرشی أحسن الجنود و أشجعهم، و لم یتخاوا عن ذلک الی سکان مکة الوسطی.

الحکومة و الادارة

لیس من السهل، علی ما یقول کاتبا هذا البحث فی دائرة المعارف، الاهتداء الی دلائل واضحة تدل علی وجود حکومة معینة فی مکة یومذاک.
علی انه لا من ان یکون قد وجد نظام بسیط للسجلات او الوثائق (أرشیف) تحفظ فیه اتفاقیات التحالف و المتاجرة، و مؤسسة خاصة تقوم بجبایة الرسوم و الضرائب من التجار الاجانب. و هناک ما یستدل منه علی ان البعض من سکان مکة کانوا یشغلون وظائف شرفیة بحتة من دون تمتع بسلطة قضائیة، غیر انه لا یمکن التأکد من عددهم و لا من نوعیة الوظائف التی کانوا یشغلونها.
و یقول لامانس ان حکومة مکة یومذاک یمکن ان تسمی «جمهوریة التجار»، و ان أبا سفیان اذا کان یمکن ان یسمی فیها «شیخ قریش أو رئیسها» فأن عددا آخر من معاصریه کان یمکن ان یمنحوا ألقابا لا تقل عن هذا اللقب فی المنزلة. کما یقول ان الطریقة التی دونت فیها حوادث السنین الثمان الأولی بعد الهجرة تثبت بطلان الانطباع الخاطی‌ء بأنه کان یمسک زمام القوة فی مکة بیدیه. علی ان الحقیقة هی انه کان اقدر رجال قریش الذین یمثلون بطونها الاصلیة، و أکثرهم ذکاء. فهل کان هؤلاء الوجوه یکونون مجلسا أو هیئة رسمیة منتظمة یا تری؟ ان هناک ما یدل علی ان هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 185
کان شیئا حقیقیا، حتی ان مکة کان فیها، علی ما یقال، نوع من «مجلس شیوخ» أو «مجلس کبیر» یسمی «دار الندوة». و لم یکن هذا یعقد الا فی الظروف الاستثنائیة او الطارئة. علی ان الشؤون التی کانت تنطبع بالطابع العام و الأهمیة الشاملة کان یبتّ فیها عادة فی المجالس الخاصة، أو مجالس الأسر، او النادی ای «نادی القوم» الذی کان یطل علی فناء الکعبة بورصة البلدة أو سوقها العام علی ما یقول لامانس.
و یقول لامانس، علاوة علی ذلک، أن القرآن لا یمکن ان یتصور وجود شی‌ء من السلطة من دون وجود مجلس للوجوه او الأشراف معها، أی الملأ. و تدل کثرة ورود هذا الاسم فی القرآن الکریم علی ان النبی الأعظم لا بد من ان یکون قد شاهد بنفسه هذا «الملأ» و هو یعمل أو یحکم.
و لذلک یمکن أن نقول ان مکة کانت تحکمها أقلیة الملأ. و کانت هذه القلة، الأولیغارکیة بالتعبیر الحدیث، عبارة عن مجلس خاص یتألف من رؤساء اکبر الأسر و أکثرها ثراء و نفوذا فیها. و هذا هو سبب ذکر أمیة و مخزوم عند ذکر هذا المجلس و تشکیله. و لا یمکن لأی أحد ان یحصل علی العضویة فیه بالانتخاب و لا بالولادة، و انما یحصل علیها بالخدمات التی یقدمها للمجموع و النفوذ الذی یحصل علیه بالثروة و القابلیة الخاصة. و علی هذه الشاکلة کان هذا المجلس قد رحب بانضمام ابن جدعان الثری جدا الیه، برغم انتمائه الی تیم غیر المتنفذة.

موقع مکة و مناخها

کانت مکة فی وقت الهجرة تبدو بشکل هلال متطاول ینحنی طرفاه نحو جناحی جبل قعیقعان، و کانت و هی بهذا الشکل تنحصر ما بین سلسلة مزدوجة من الجبال الجرداء شدیدة الانحدار. و کان مرکز هذا الأخدود الذی لا یتحرک فیه الهواء بسهولة یتطابق تطابقا ملائما مع منخفض موجود فی قعر الوادی اما مکة القدیمة فقد کانت تشغل قعر هذا المنخفض الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 186
الذی یسمی «الوادی» او «بطن مکة»، کما کان وسط هذا المنخفض یسمی «البطحاء». و قد کانت بعض الابنیة القائمة فی هذه المحلة قریبة من الکعبة بحیث کانت ظلالها تختلط فی الصباح و المساء بظلال المبنی المقدس.
و فیما بین هذه البیوت و الکعبة نفسها کان یمتد فضاء ضیق ینخفض فی مستواه عن مستوی الارض المحیطة به. و کانت هذه البقعة المفتوحة تکون «المسجد» البدائی او المعبد المفتوح الی السماء الذی لم تکن بطحاء الجاهلیة تعرف معبدا سواه، کما کانت نهایات الأزقة الصغیرة المتصلة بهذا الفضاء تسمی «أبواب الحرم او المسجد». و قد سمیت باسماء البطون او القبائل النازلة حول الکعبة، فکان یقال مثلا «باب بنی جمح» او غیر ذلک. و کانت جدران البیوت العائدة لتلک القبائل تعین حدود المسجد نفسه من جمیع الجهات. و یقول لامانس ان مجلس الأسر الرئیسیة لقریش، او النادی الذی کان یؤلف «الملأ» کان یعقد عادة فی الطوابق الارضیة من الأبنیة المواجهة للکعبة.
اما فی «الظواهر» و الشعاب، من بعد ذلک، فقد کانت تنتشر بیوت الفقراء و أکواخهم الحقیرة بصورة تدل علی الکثیر من الفوضویة و الانحطاط. و کانت مشکلة اولئک السکان الدائمة قلة الماء و ندرة وجوده، فان السکان کلهم کانوا یعتمدون علی مقدار الماء المتغیر، الموجود فی بئر زمزم. و کان هناک علاوة علی ذلک عدد من الآبار الأخری الموجودة فی خارج البلد معظمها، لکنها کلها کانت لا تکاد تکفی السکان فی مواسم الحج علی الأخص.
یضاف الی ذلک ان الامطار فی منطقة مکة کانت و ما زالت شحیحة، و لا تسقط الا فی فترات متباعدة. و لذلک فان فترات الجفاف التام کثیرا ما تمتد الی أربع سنوات متتالیة، غیر ان بعض مواسم الشتاء تغزر فیها الأمطار فتصبح سیولا مدمرة تصل الی حد لم یسمع بمثله من العنف و التخریب.
إذ یقوم فی شرق مکة جدار جبلی شدید الانحدار، متألف من سلسلة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 187
الطبقات الصخریة و القمم التی تندمج فی النهایة بجبل الصراة. و تقوم هذه القمم الوعرة و شعابها المختلفة بجمع میاه الأمطار الموسمیة الغزیرة، التی تأتی بالخصب و الخیر الی منطقة الیمن. و علی طول هذه المنحدرات الخالیة من الشجیرات و الأعشاب تتکون عند سقوط الأمطار سیول غزیرة و شلالات متدفقة فتهبط فی مجاریها المختلفة بسرعة و تنقض علی الباطن الذی تقع الکعبة المشرفة فی قعره. ثم تشق طریقها من «أبواب المسجد» فتغمر البقعة المحیطة بأماکن العبادة، و ترتفع بعد ذلک فتهاجم الکعبة نفسها. و یبدو أن قریشا لم تکن تعبأ کثیرا بهذا الوضع قبل الهجرة، أو أنهم کانوا عاجزین عن الحیلولة دون وقوع الضرر منه. و لم تؤد الجهود التی بذلها الخلفاء بعد ذلک الی نتائج مرضیة. و الظاهر ان هذه الحالة ما تزال مستعصیة حتی یومنا هذا فقد لاحظنا فی أحد مؤلفات فیلبی و هو کتاب (الیوبیل العربی) .
وجود أشارة الی غرق المسجد الحرام و الکعبة فی شهر تموز 1950. و هناک فی غیر هذا الکتاب علاوة علی ذلک، صورة معبرة تمام التعبیر لمیاه السیول التی اکتسحت المسجد الحرام و ما یحیط بالکعبة المشرفة فی ذلک الشهر فغمرتها الی عمق سبعة أقدام بالمیاه. حتی تسنی للناس ان یسبحوا فیها.

مالیة مکة و حیاتها الاقتصادیة

و قد جاء فی (دائرة المعارف الأسلامیة) عن هذا الموضوع ان تمحیص الأدبیات الغزیرة التی کتبت عن السیرة النبویة العطرة ینم عن انطباع عام یدل علی ان نشاطا تجاریا فعالا کان یتفجر من وادی مکة العقیم [المسجد الحرام و قد غمره سیل الامطار حتی استحال الی بحیرة یسبحون فیها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 188
الضیق. و ان الأشارات التی ترد فی القرآن الکریم عن هذا الموضوع تؤکد علی الانطباع نفسه و تؤیده. و قد احتفظ الرسول الأعظم طوال أیام حیاته بما تعلمه من هذه الثقافة القرشیة و تدرب علیه، و هو لا یخرج فی الأساس عن طابعه التجاری المتکشف فی کل فرصة أو مناسبة.
و لذلک فان المرء لیأخذه العجب حینما یطلع علی ما کان للکتابة و الحساب من أهمیة فی حیاة مکة الاقتصادیة قبل الهجرة. فألی جنب «دفتر الحساب» کان الشی‌ء البارز فی کل دکان من دکاکینها وجود المیزان، الذی لم یکن یستعمل لوزن السلع بقدر ما کان یستعمل للتأکد من الدفعیات التی تدفع لهم بجمیع الأشکال بما فیها النقد. فلم یکن یوجد النقد بکثرة فی أسواق مکة، و لذلک کان التعاطی یتم بالأضافة الی النقد بالمعادن الثمینة و سبائک الذهب و الفضة، و بالتبر او تراب الذهب. و هذا کله لا یمکن التأکد منه الا بواسطة المیزان، اما فی الحالات التی کانت تستدعی المزید من الدقة فکان یستعان بخدمات الوزان الممتهن.
و الملاحظ ان رأس المال کان علی جانب کبیر جدا من التداول فی ذلک المجتمع المکی الخاص. فلم یکن ینشغل التاجر فی اکتناز الثروة و ادخارها فی صنادیقه المقفلة فقط، و انما کانت له أیضا عقیدة عمیاء باستغلال رأس المال غیر المتناهی، عن طریق الأقراض. و لذلک کان الدلالون و الوکلاء و أکثریة السکان یعیشون علی الأقراض و الأئتمان. و کانت المضاربة تستأثر برغبة الجمیع فیها، لا سیما مضاربة «الأسهام بالنصف». و علی هذه الشاکلة کان یمکن استثمار أبسط المبالغ و أقلها و توظیفها للربح الی حد الدینار الذهب الواحد، و حتی الی حد «النش» أو نصف الدینار.
و قد کانت العملات التی ترد الی مکة من أنواع مختلفة بجد الاختلاف، من دینار الذهب البیزنطی (دیناریوس أوریوس) الی درهم الفضة الساسانی و الحمیری. و کثیرا ما کانت هذه العملة تسوف و تستهلک فیقل و زنها، او
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 189
تشوه معالمها، بعد ان تکون قد ضربت فی مختلف دور الضرب. و لذلک لم یکن غیر الصراف المختص قادرا علی التعرف علی مختلف انواعها و تعیین مقاییس و أقیام الموجود منها فی التداول بدقة و أحکام. و کانت هناک بالأضافة الی ذلک تعقیدات الاختلاف فی معاییر العملة و تذبذب أقیامها و أثمانها.
فقد کانت البلاد الخاضعة للحکم البیزنطی مثل سوریة و مصر تعتبر من «أهل الذهب» ای من البلاد التی تعتمد علی التعاطی بمعیار الذهب فی العملة، بینما کانت بابل من «أهل الورق» أی من البلاد التی تعتمد علی معیار الفضة الساسانی. و لذلک کانت تنشط الحرکة فی أسواق مکة عشیة رحیل القافلة الی الشام فیرتفع سعر الدینار، لأن التاجر المکی کان من رجال المال الذین لا یختلفون فی کل وقت و مکان. فهو حینما تسنح الفرصة یبادر الی استثمار رأس ماله فی المتاجرة و تنظیم القوافل و یسلفها الی رؤساء القافلة أو التجار أو غیرهم.
و لما کانت مکة مدینة تکثر فیها الحرکة التجاریة و یوجد فیها الصرافون و المصارف فی الدرجة الأولی فقد کان فیها مؤسسات و أعراف تصلح لمثل هذا النوع من المعاملات. و کان من جملة هذه الربا أو الربح بأبشع أنواعه، عن طریق إقراض الدینار بدینار و الدرهم بدرهم أی الأقراض بنسبة مئة بالمئة. و لذلک احتجت قریش حینما حرم القرآن الربا بقولها انها لا تری فیه سوی نوع من انواع البیع و الشراء، أو تأجیر رأس المال. و کانت تشیع المضاربة کذلک، المضاربة علی أسعار التحویل و أحمال القوافل و حاصلات الحقول و قطعان الأغنام، و علی تزوید المدینة بالأزودة المطلوبة أیضا.
و کانت تؤلف جمعیات و همیة و تعقد صفقات للبیع تقترض من أجلها ما تحتاجه من المبالغ. و لذلک یقول المؤرخ سترابو «ان کل عربی لا بد ان یکون تاجرا أو دلالا». و حینما کان مواطنو مکة یساقون فی حملات حربیة کانوا یحملون معهم علی الدوام بعض البضائع و السلع، و هذا ما فعلوه حینما توجهت قوة من مکة لا سعاف قافلة بدر. و یقول کاتب البحت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 190
فی دائرة المعارف الأسلامیة ان أول ما فعله المهاجرون عند وصولهم الی المدینة انهم سألو عن موقع السوق، و أن النساء کن یشارکن الرجال فی هذه الغرائز التجاریة کذلک. فأن ام أبی جهل کانت تدیر محلا لبیع العطور، و ان هندا زوجة أبی سفیان کانت تبیع السلع علی الکلبیین فی سوریة. و قد کانت لنساء مکة أیضا مصالح فی القوافل الخارجة منها و الداخلة فیها.
فکن یجتمعن حول أبی سفیان عند رجوع القوافل من الخارج لیطلعن علی مقدار الربح الذی یصیب الواحدة منهن لقاء ما وظفته من مال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 191

قوافل مکة

لقد کان تنظیم شؤون القوافل التجاریة و تسییرها من المواضیع التی کانت تتناولها المناقشات غیر المنتهیة فی «النادی» حول الکعبة. و کان رحیل القافلة و عودتها من الحوادث التی یهتم بها الجمیع علی سواء، لأن سکان مکة کلهم کانوا مرتبطین بها بشکل من الأشکال. و کانت القافلة فی أثناء سیرها الی الشام و غیرها تبقی علی اتصال دائم بأم القری عن طریق البدو الذین یصادفونها فی الطریق، أو بواسطة رسل خاصین یرسلون لهذا الغرض. فقد انفذ ابو سفیان مثلا رسولا خاصا من هؤلاء لیصف الی سکان مکة حراجة موقف القافلة حینما تصدی لها المسلمون فی بدر، فکلفه ذلک عشرین دینارا و هو مبلغ جسیم بالنسبة لمقاییس تلک الأیام لکنه کان یتناسب مع جسامة المبلغ الذی کانت توظفه مکة فی قافلتها التی کانت تقدر بخمسین ألف دینار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 192
و کانت قوافل مکة ذات حجم غیر یسیر فی العادة. فلم تکن تستخدم فیها الخیول و لا البغال، و انما کانت تقتصر علی الأبل التی کان یرتفع عددها أحیانا حتی یصل الی (2500). اما عدد الرجال، من تجار و حراس و أدلاء، فقد کان یتراوح بین مئة و ثلاث مئة، و قد کانت تشدد الحراسة علی القافلة حینما تصل الی الأماکن التی کانت تکثر فیها عصابات «الصعالیک»، و کانت القوافل المکیة تستجلب من الیمن منتجات الهند و حریر الصین و المنسوجات العدنیة. و فیما عدا التبر، أو تراب الذهب، کانت صادرات أفریقیة الرئیسیة الی مکة العبید و العاج. فأن مکة کانت تستجلب من أفریقیة عمالها و جنودها المرتزقة من الاحابیش. اما فی مصر و سوریة فقد کان تجار قریش یتسوقون سلع المترفین من منتجات بلاد البحر الأبیض المتوسط الصناعیة، و علی الأخص الأقمشة القطنیة و الکتانیة و الحریریة، و الأقمشة الملونة باللون الأرجوانی البراق. و کان یؤتی من بصری و الشراة (فی سوریة) بالأسلحة و الحبوب و الزیت، مما کان یرغب فیه البدو جد الرغبة.
و قد کان سیر القافلة بطیئا فی العادة، لکن السلع التی کانت تحملها مثل الجلود و المعادن و الخشب العطری لم یکن یخشی علیها من العطب و لا التأخر و کانت النفقات تقتصر علی أجور الحیوانات و الحراسة و رسوم العبریة و الهدایا التی کانت تقدم الی رؤساء القبائل. و لذلک کانت نسبة الربح تصل الی مئة بالمئة فی مثل هذه التجارة. و هذا ما کان ینطبق تمام الانطباق علی قافلة بدر التی جاء کل دینار وظف فیها بدینار من الربح، علی ما یقول کاتب هذا البحث فی دائرة المعارف الأسلامیة.

ثروات مکة

و بالنظر للوضع التجاری الذی کانت تعرف به مکة المکرمة. علی ما مر ذکره، کان لا بد من ان یتجمع فیها شی‌ء غیر یسیر من الثروة و المال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 193
فی صنادیق متمولیها الذین کانوا یعرفون بمیلهم الخاص الی الادخار و التوفیر و هنا تشیر دائرة المعارف الأسلامیة الی ان قوافل مکة لم تکن تحمل سوی بضائع غالیة الثمن، و ان أصحابها کانوا من أبناء البیوتات الثریة من مثل أسرة أبی أحیحة الأمویة التی کانت توظف فی قافلة بدر و حدها مبلغ ثلاثین ألف دینار. و یشیر هذا المرجع أیضا الی أن بعض أسر مخزوم فی مکة لم تکن أقل من أسر منافسیها الأمویین ثراء و مالا، و ان عبد اللّه بن جدعان التیمی کان حتما من «ملیونیریة» مکة فی تلک الأیام بالنسبة لما یروی و یذکر عنه. و یذکر مرجعنا هذا کذلک ان المشرفین علی قافلة بدر من المتمولین لم یضعوا ثروتهم المذکورة کلها فی هذه القافلة بطبیعة الحال، لانهم کانوا یستفیدون مما تبقی من ثرواتهم فی أوجه استثماریة أخری أیضا مثل الاقراض بالربح الفاحش و المضاربة و غیر ذلک. و کان من بین الملیونیریة الآخرین فی مکة الثریان المخزومیان الولید بن المغیرة، و عبد اللّه والد عمر بن أبی ربیعة الشاعر المعروف فی صدر الأسلام.
و تأتی بعد هؤلاء فی الثراء بعض الشخصیات المکیة المشهورة مثل عبد الرحمن بن عوف الذی کان رأس ماله یبلغ ثمانیة ألاف دینار، و الحارث بن عامر، و أمیة بن خلف. و کان الأول قد وظف ألف دینار فی قافلة بدر المعروفة، بینما کان الثانی قد وظف فیها ألفی دینار. و أخیرا فقد کان هناک فی مکة جمهور التجار الصغار و الدلالین و أصحاب الحوانیت، الذین کانوا یؤلفون البورجوازیة الصغیرة فی مکة علی ما یقول مرجعنا.
و کان البعض من المتمولین یضیف الی أشغاله بالتجارة اشرافه علی بعض الأعمال الصناعیة کذلک مثل صناعة الحدید و النجارة و ما أشبه. و یقول کاتب البحث فی هذا المرجع ان الذی یصح ان یتخذ نموذجا لهذه الطبقة الخلیفة أبو بکر الصدیق الذی کان بزازا فی الجاهلیة برأس مال قدره أربعون ألف درهم علی ما یبدو. و مما یذکر بین الصرافین المتمولین کذلک العباس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 194
بن عبد المطلب عم النبی، غیر أنه لا تتوفر تفصیلات کافیة عنه فی هذا الشأن.
و یقول مرجعنا أیضا ان رجال مکة الذین دفعوا مبالغ جسیمة لتفدیة أقاربهم الذین وقعوا أسری عند المسلمین فی موقعة بدر الکبری لا بد من أنهم کانوا علی درجة غیر یسیرة من الثراء و الغنی. فقد کلفهم ذلک مبلغا لا یقل عن مئتی ألف درهم، و تنازل رؤساء مکة عن حصصهم الأصلیة فی مشروع قافلة بدر البالغة حوالی خمسة و عشرین ألف دینار من أجل التهیؤ للانتقام من المسلمین فی غزوة مقبلة. و قد فعلوا ذلک عن طیبة خاطر، و بروحیة المتمول الموسر الذی لا یبالی بالمجازفة و المضاربة بمقیاس واسع من أجل الربح، فی الوقت الذی أبوا فیه أن یمسوا حصص المساهمین الصغار فی القافلة.
هذا و لم تکن مکة قبل الهجرة تملک أیة سفینة أو میناء. علی ان بعض السفن الأجنبیة کانت تلقی مراسیها فی أحوال استثنائیة فی خلیج الشعیبة الصغیر علی ساحل البادیة. و کان هذا هو المکان الذی غرقت فیه ذات یوم إحدی السفن البیزنطیة، فحی‌ء بخشبها الی مکة و جدد تشیید الکعبة به.
و الی هذا المکان توجه أیضا المسلمون الأوائل الذین هاجروا الی الحبشة هاربین من قریش، بعد ان سمعوا ان سفینتین کانتا قد ألقتا بمراسیهما فیه.
و نادرا ما کانت السفن تقلع من ساحل جدة المقفر الذی کان أقرب من الشعیبة الی مکة. غیر ان جدة أخذت مکان الشعیبة علی عهد الخلیفة عثمان بن عفان و أصبحت میناء لعاصمة القرشیین. و حینما استقر النبی الکریم فی یثرب و قطع علی قریش اتصالها بسوریة لم یفکر رجال مکة مطلقا بالتوجه الی البحر و رکوب متنه، بل اتخذوا طریق نجد الطویل الیها مسیرا بدلا من طریقهم الأول.

بعد الهجرة

اشارة

ان الحوادث التی وقعت خلال السنین الثمان التی أعقبت الهجرة یمکن تلخیصها، علی ما یقول مرجعنا، بکفاح النبی محمد ضد خصومه. و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 195
کان کفاحه هذا، و استسلام مکة له بعد ذلک، ضربة قاضیة للازدهار الاقتصادی الذی کان یتمتع بخیراته أعیان مکة و سراتها. فقد أخذت الأسر الکبیرة تهاجر واحدة بعد أخری الی المدینة، التی أصبحت عاصمة الأسلام العتیدة. ثم ازداد هذا الاتجاه فی عهد الخلفاء الراشدین الثلاثة الأوائل، الذین أبقوا مقرهم العام ما بین الأنصار. اما علی فقد غادر الجزیرة العربیة نهائیا و استقر فی الکوفة. و حینما تولی رجال قریش مقالید الحکم بأیدیهم، و اصبحوا قادة للجیوش و حکاما للمقاطعات و البلاد، تخلوا عن اهتمامهم بالتجارة و لم یعد یسمع شی‌ء عن القوافل و الاسواق المعروفة فی الحجاز.
فخلت مکة و لم تعد ترغش بالحیاة من جدید إلا فی موسم الحج التی کان یأتی فیها الخلفاء الیها علی رأس الحجاج القادمین من بلادهم. و قد کان الاستیلاء علی العراق آخر ضربة توجه للحیاة الاقتصادیة فی غربی الجزیرة العربیة فتقضی علیها نهائیا، لأن التجارة الهندیة استأنفت السیر فی طریقها القدیم المار بالخلیج العربی و وادی الرافدین و عاد اتصالها المباشر بأسواق الشرق الأوسط عن طریق البر.

مکة فی العهد الاموی

غیر ان الوضع فی مکة قد تحسن فی عهد الأمویین، علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الأسلامیة. فقد أبدی معاویة اهتماما فعالا بمدینته و مسقط رأسه، فشید فیها الأبنیة و أصلح الزراعة فیما حولها بحفر الآبار و أنشاء السدود لخزن المیاه. و أصبحت مکة علی عهد من جاء بعده من الأمویین، و لا سیما بنی مروان، مدینة للهو و الراحة و ملتقی للشعراء و الموسیقیین الذین کان یجتذبهم الیه المجتمع الباهر المزدهی بأبناء الصحابة. إذ کان الکثیرون من الناس قد عادوا الی السکنی فیها بعد ان حصلوا علی الثروة عند اشتغالهم فی حکومات البلاد المستولی علیها. و لا یخفی ان اتصالهم بالمدنیات الأجنبیة کان قد هذب طباعهم و جعلهم شدیدی التأنق. فتعودوا علی الاستحمام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 196
الذی یتطلب توفر الماء الکافی له، و لذلک کان لا بد من سحب المیاه الی مکة من جبل الصراة. و یقرن اسم خالد القسری بهذا العمل الکبیر الذی بدل وجه المدینة علی ما تقول دائرة المعارف. فقد عمد الخلیفتان عمر و عثمان من قبل الی الاستعانة بالمهندسین الأجانب لحل مشکلة السیول و الفیضان، فشیدوا الخزانات و القناطر فی الاماکن العالیة و حافظوا علی المناطق المحیطة بالکعبة بالسدود، و أکمل الأمویون هذه الأعمال و هذبوها. فحفروا مجری جدیدا للسیل، و حاولوا التخفیف من حدته و عنفه بالحواجز التی اقیمت فی مستویات مختلفة. و قد کان همهم الأکبر فی ذلک حمایة منخفض البطحاء الذی تقوم الکعبة فی وسطه. غیر ان مهارة المهندسین فی تلک الایام لم تکن کافیة للتغلب علی المشاکل الطوبوغرافیة فی المنطقة، او تجنب التخریبات التی کانت تسببها امطار الشتاء التی تنزلها العواصف الرعدیة الخاصة بالمنطقة.
فقد احبطت الجهود المبذولة فی هذا الشأن شدة انحدار الأرض الذی کان یعقده شکل البطحاء القابل لتصریف المیاه.
و الی جانب هذه الاصلاحات، و الاحتیاطات المتخذة ضد السیول بذلت الجهود لتوسیع الفناء الضیق المحیط بالکعبة، لان توسع شأن الاسلام و انتشاره کان یتطلب وجود مکان للعبادة یتناسب و ادعاءاته الطویلة العریضة (کذا). فقد أدت الاستملاکات التی بدأ بها عمر، و انتهت فی أیام الولید الأول، الی إنشاء الأواوین. و لذلک یمکن ان یقال ان تخطیط المسجد الحرام و وجود الفناء الواسع حول الکعبة کان من صنع الخلیفة الأموی الذی استعان بالمهندسین المستقدمین من سوریة و مصر. و کانت حاکمیة الحجاز بمدنه الثلاث، مکة و المدینة و الطائف، لا تناط الا بفرد من أفراد الأسرة المالکة بالنظر لأهمیتها. و کان من بین من تولاها من هؤلاء سعید بن العاص و أثنان ممن اصبحوا خلفاء بعد ذلک، و هما مروان بن الحکم و عمر بن عبد العزیز. و فی الظروف التی لا یمکن تعیین أحد من أفراد الأسرة المالکة لها کان یعین الحکام الذین ثبتت أهایتهم بالتجربة مثل الحجاج و خالد القسری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 197
و مع ذلک فقد بقیت المدینة المنورة مرکزا للحکومة فغطت علی مکة فی عهد الأمویین نظرا لأهمیتها السیاسیة، و لأنها کانت موطنا للطبقة الارستقراطیة المسلمة الجدیدة.
و قد أدت ثورة عبد اللّه بن الزبیر علی عهد یزید الی سوق الجیوش السوریة الی مکة، و کان الثائر هذا قد جعل مقره فی فناء المسجد الحرام و کان یحمی الکعبة یومذاک عریش من الخشب فأدی اهمال أحد الجنود المکیین الی ان تشب النار فیها، و لذلک اضطر ابن الزبیر الی ان یعید تشیید المبنی من جدید بعد ان أضاف الحجر الیه. و حینما قمع الحجاج ثورة ابن الزبیر أعاد الکعبة الی أبعادها الأصلیة، فبقیت علی تلک الحالة حتی یومنا هذا. و فی سنة 747 للمیلاد (129 ه) استولی علی مکة ثائر یمانی ینتمی الی الخوارج من دون أن یلاقی مقاومة تذکر. علی أنه سرعان ما دحرته جیوش مروان الثانی و ذبح فیها. و فی سنة 750 (132 ه) انتقلت مکة مع سائر بلاد الخلافة الاسلامیة الی عهدة الحکم العباسی.

مکة فی عهد بنی العباس و ما بعده الی حد تولی الشرفاء (750- 961)

لم تکن الأحوال فی مکة فی بدایة الحکم العباسی تختلف کثیرا عما کانت علیه فی أیام الأمویین، برغم انتقال مرکز الثقل فی الاسلام من دمشق الشام الی بغداد. فقد کان الحرمان یعین لهما فی العادة أمراء من بنی العباس أو اشخاص لهم اتصال و ثیق بهم . و کانت مکة و الطائف فی بعض الأحیان یحکمهما حاکم واحد، یکون فی الوقت نفسه أمیرا للحج، بینما کان یعین للمدینة حاکم علی حدة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 198
علی ان بلاد الجزیرة العربیة کان یعیش فیها منذ القرن الأول للهجرة عدد غیر یسیر من العلویین، فظل بعض البارزین من هؤلاء یتحینون الفرص للثورة علی السلطات الحاکمة و انتزاع الحکم منها. و لذلک نجد ان المنصور (754- 774) قد حدثت له مشاکل من هذا القبیل فی غرب الجزیرة العربیة، کما نجد فی أواخر أیام الخلیفة المهدی (774- 785) ان رجلا من الحسنیین یدعی الحسین بن علی ثار بالقرب من المدینة المنورة فشن هجوما قویا علیها. غیر أنه قتل فی فخ الکائنة علی مقربة من مکة بعد أن جردت علیه الحکومة جیشا کان یقوده أمیر الحج العباسی نفسه، فدفن فی مکان یسمی الیوم «الشهداء» و أصبح یدعی بشهید فخ.
و قد کان من عادة هارون الرشید خلال الحجات التسع التی حجها فی أیام خلافته، ان یوزع الهبات و یصرف الأموال الطائلة فی مکة. علی أنه لم یکن العباسی الوحید الذی کان یوزع الأموال فی البلاد المقدسة، و حینما استمر التوزیع مدة من الزمن أصبح له تأثیر سی‌ء فی أخلاق المکیین. فلم یبق من أبناء الأسر القدیمة أحد فیها تقریبا، و أصبح السکّان الموجودون فیها متعودین علی الاتکال علی غیرهم فی المعیشة بحیث کانوا علی استعداد دائم للاستثارة فی أی وقت کان. و کثیرا ما کان موقف المکیین هذا یستغل للأغراض السیاسیة المعروفة.
و فی عهد المأمون (813- 833) ثار العلویون من جدید بقیادة حسین الأفطس و ابراهیم بن موسی، فسیطروا علی المدینة و مکة و الیمن و استولوا علی خزائن الکعبة (کذا). و مما یدل علی مقدار ما وصل الیه نفوذ العلویین و سطوتهم فی تلک الأیام ان المأمون اضطر الی تعیین اثنین من العلویین لحاکمیة مکة. و حیینما أخذت الخلافة العباسیة بالانحطاط و التدهور بعد وفاة المأمون بدأت تسود البلاد الاسلامیة المقدسة فترة من الفوضویة التی کثیرا ما کانت تکون مصحوبة بالقحط أو المجاعة. و أصبح من عادة عدد من الحکام المسلمین ان یکونوا ممثلین فی مواکب الحج کل سنة، و ان ترفرف أعلامهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 199
فی سهل عرفات، و لذلک فنادرا ما کانت المدینة المقدسة نفسها قادرة علی تجنب الاشتباک و الاصطدام فی کل فرصة أو مناسبة. و قد تأثرت حالة الأمن و سلامة القوافل الآتیة بالحجاج تأثرا غیر یسیر، و أصبح الحجاج غیر آمنین علی أنفسهم فی الطرق.
و هنا یلاحظ ان مرجعنا یتحامل من دون مبرر علمی علی العلویین فی کل مناسبة، و یعزو الیهم سبب الثورات و الغزوات و اختلال الأمن.
و یخرج من ذلک الی القول بأن الدعوة العلویة قد قوی شأنها فی العالم الاسلامی حینما تأسست أسرة حسنیة مالکة فی طبرستان. و کان تأثیر هذا الحادث فی مکة ان ثار اثنان من الحسنیین هما اسماعیل بن یوسف و أخوه محمد، و هاجما المدینة وجدة فأحدثا تخریبات غیر یسیرة فیهما (865).
و قد جلب ظهور القرامطة بعد ذلک مزیدا من البؤس و التعاسة الی هذه البلاد خلال خمسین السنة الأخیرة من الفترة التی انتهت بظهور الشرفاء فیها. و کان الخلفاء، و هم یعانون کثیرا من المضایقة فی عواصمهم، غیر قادرین بالمرة تقریبا حتی علی التفکیر فی مد ید المساعدة للبلاد المقدّسة او المبادرة لانجادها لأن ممثلیهم فیها لم تکن توجد قوة کافیة تحت تصرفهم.
فقد قطع القرامطة الطریق علی الحجاج من سنة 916 (304 ه) فصاعدا، و فی سنة 930 غزا (1500) قرمطی مکة نفسها و ذبحوا من سکّانها بالألوف، ثم نهبوا الحجر الأسود من الکعبة و نقلوه الی البحرین. و لم تخفت حماستهم، أو تقل حدتهم، إلا عندما أدرکوا ان هذه الأعمال الشائنة لم تکن تقربهم من هدفهم الأصلی و هو القضاء علی الحکومات الاسلامیة فأعادوا الحجر الأسود الی مکانه فی مکة سنة 950 (338 ه). و بذلک تخلصت مکة من خطر جسیم کان یهددها علی الدوام. و قد شهدت السنة التالیة تزاید نفوذ العلویین فی القسم الغربی من الجزیرة العربیة، و لا سیما بعد ان تقدم شأن الحکم الفاطمی فیها و تعاظم نفوذ البویهیین فی بغداد. و منذ هذا الوقت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 200
فصاعدا صار العلویون فی مکة یلقبون بالشرفاء، و احتفظ کل منهم بلقب «الشریف» حتی الیوم.

الموسویون الشرفاء

یبدأ حکم الشرفاء الموسویین فی مکة بجعفر الذی تولی الحکم فی احدی سنوات الفترة المنحصرة بین 951 و 968، علی ما یقول مرجعنا، لکن المعروف ان العلویین کانوا یسیطرون علی الأراضی المقدسة قبل ذلک، و ان سلالة الشرفاء الحسنیة تبدأ به فی مکة بینما کان اسم الشرفاء فی المدینة یطلق علی الأسرة الحسینیة الحاکمة فیها أیضا.
و یدل تولی الشرفاء الحکم و استمرارهم فیه علی الاستقلال النسبی الذی کانت تتمتع به الجهات الغربیة من الجزیرة العربیة بالنسبة لسائر أجزاء العالم الاسلامی، من الناحیتین السیاسیة و الدینیة. و قد استعادت مکة بهذا رجحان کفتها علی المدینة منذ ذلک الیوم. و مما یدل علی مقدار القوة التی أبداها الشرفاء فی المحافظة علی استقلالهم تجاه القوی الخارجیة ان مکة رفضت تقدیم الولاء و الطاعة للخلیفة الفاطمی فی مصر سنة 976. لکن هذا الخلیفة سرعان ما أمر بمحاصرة مکة و منع استیراد المواد المطلوبة لها من مصر حتی اضطر المکیون الی الرضوخ لمشیئته، لأن الحجاز کان یعتمد علی مصر فی أقواته. اما الحادثة الثانیة التی کانت تدل علی شعور الشرفاء بالاستقلال فهی إقدام ابی الفتوح (994- 1039) علی اعلان الخلافة لنفسه فی سنة 1011. و قد یکون الدافع لذلک ما بدر من الخلیفة الحاکم بأمر اللّه فی مصر من امارات الزندقة و الالحاد علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة. لکن الخلیفة الفاطمی اضطر أبا الفتوح الی الرضوخ فی هذه المدة کذلک، لأن شریفا آخر من الشرفاء اغتصب الحکم لنفسه و لم یقطع أبو الفتوح استرداده منه الا بمؤازرة الحاکم بأمر اللّه نفسه. و قد انتهی عهد الموسویین الحسینیین هؤلاء بابنه شکر (1039- 1061) بعد أن مات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 201
من دون عقب. و الموسویون هم أبناء موسی بن عبد اللّه بن موسی بن عبد اللّه ابن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب. و قد کانت وفاة شکر من دون عقب سببا فی حصول الفوضی و الاضطراب، و وقوع نزاع بین أفراد الأسرة الحسنیة، فعاد ذلک بأوخم العواقب علی مکة. فقد ذهب بنو شیبة خلال ذلک الی حد أنهم أخذوا لأنفسهم جمیع ما کان فی بیت اللّه الحرام من معادن کریمة و أعلاق نفیسة علی ما یقول کاتب البحث فی دائرة المعارف الاسلامیة. و لذلک اضطر الصلیحی حاکم الیمن الی التدخل فی الأمر، و أعاد الأمن و النظام الی نصابهما فی المدینة المقدسة. فبدا هذا التدخل التدخل الخارجی فی نظر الحسنیین شیئا غیر محتمل، و طلبوا الی الصلیحی أن یقوم هو بتعیین واحد منهم للشرافة و یغادر مکة. فقبل بذلک و عین ابا هاشم محمدا (1063- 1094) شریفا أکبر فیها، و بذلک تبدأ سلالة الهواشم من الشرفاء.

الشرفاء الهواشم

ینسب هذا الاسم الی أبی هاشم محمد، شقیق الشریف الأول جعفر.
و کان الأخوان هذان یتحدران من الجیل الرابع من أبناء موسی الثانی جد الشرفاء الموسویین. و قد ترتب علی أبی هاشم هذا ان یدخل خلال السنین الأولی من سنی حکمه فی کفاح مستمر مع الدوحة السلیمانیة من الشرفاء الذین شعروا بالاهانة عند تعیینه فی منصبه. و کان السلیمانیون یتحدرون من نسل سلیمان أحد أخوة موسی الثانی المار ذکره.
و لقد عرفت فترة الحکم التی تولی الحکم فیها أبو هاشم بالطریقة المعیبة التی عرض فیها التابعیة علی أعلی المتزایدین، أی التابعیة اما الی الخلیفة الفاطمی فی مصر أو الی السلجوقیین الذین کانوا یسیرون الخلافة فی بغداد.
و کان تأثیر ما ترتب علی ذلک من تدابیر سیئا علی المکیین بطبیعة الحال، لأن استیراد الأطعمة و الأقوات من مصر قد توقف حالما توقف المسؤولون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 202
فی مکة عن ذکر الخلیفة الفاطمی فی الخطبة و استعاضوا عنه بذکر اسم الخلیفة العباسی فی بغداد. و قد تکرر ذلک مرات عدیدة حتی مل السلاجقة من المهزلة، فساقوا جنودا من الترکمان الی مکة. و قد أدت الکراهیة المتبادلة ما بین الشریف و السلطان الی الاساءة الی الحجاج القادمین الی مکة من العراق، فنظرا الی ان أمارة قوافل الحج قد نقلت بالتدریج من العلویین الی عهدة الجنود أو الموظفین الأتراک فان أبا هاشم لم یکن یتردد فی بعض السنین عن مهاجمة الحجاج و نهبهم فی الطریق.
اما خلف أبی هاشم فقد عرفت مدة حکمه کذلک بالکثیر من حوادث السلب و الجشع. فان الرحالة المغربی ابن جبیر یذکر أمثلة تقشعر لها الأبدان عن ذلک حینما حج الی مکة فی سنتی 1183 و 1185 . علی أن الهواشم لم یکونوا حتی فی تلک الأیام مستقلبن تمام الاستقلال فی حکمهم، لأن الأیوبیین کانوا قبل ذلک بعشر سنوات قد استطاعوا ان یخلفوا الفاطمیین فی مصر، و أخذوا یحالون السیطرة علی البلاد الآسیویة القریبة منهم، و حینما مر أخو صلاح الدین بمکة المکرمة فی طریقه الی جنوبی الجزیرة العربیة تخلی عن فکرته فی الغاء شرافتها، غیر ان أمارة الحج الشرفیة بقیت للأیوبیین و ظلت أسماؤهم تذکر فی الخطبة بعد اسمی الخلیفة العباسی و الشریف.
و قد عمد الأمیر الأیوبی نفسه فی 1166 الی الغاء الطریقة الشیعیة فی الأذان (کان الشرفاء یومذاک من الزیدیة)، و سک النقود باسم صلاح الدین، ثم ألقی الرعب فی قلوب أفراد الحرس الشریفی، الذین کانوا ما فتئوا یرتکبون جرائم القتل و السرقة حتی ذلک الوقت، بانزال العقوبات الصارمة فیمن یسی‌ء منهم. و کان من نتائج التابعیة الأیوبیة أیضا رجحان کفة المذهب الشافعی و انتشاره فی البلاد المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 203

حکم قتاده و نسله

و فی الوقت الذی کانت تحدث فیه الأحداث المار ذکرها کان قتادة، و هو رجل من نسل موسی الثانی جد الموسویة و الهواشم، ینبه ذکره و یتعاظم شأنه فی ینبع بالحجاز، و امتد نفوذه بعد ذلک الی مکة فکثر اتباعه فیها.
و تقول بعض المراجع ان ابنه حنظلة کان یعد العدة من جمیع الوجوه لا نزال ضربة حاسمة بالمدینة المقدسة و المسیطرین فیها. لکن مراجع أخری تقول ان قتادة استولی علی مکة فی یوم 27 رجب حینما کان معظم سکانها منشغلین فی تأدیة العمرة بمناسبة ذکری انتهاء عبد اللّه بن الزبیر من تشیید الکعبة المشرفة، التی جعل الاحتفال بها مطابقا لیوم المعراج.
و قد کان استیلاء قتادة علی مکة فاتحة عهد تولی فیه حکم البلاد المقدسة رجل عالی الهمة قوی الارادة، تحدر الشرفاء المتتالون جمیعهم من نسله.
فقد أخذ یثبت أقدامه فی البلاد و یحقق مطامعه فیجعل قطره مستقلا من جمیع الوجوه. لکنه لم یکتب له التوفیق التام فی ذلک نظرا لأن الحجاز عاد فأصبح من جدید مسرحا للأطماع و المطامح السیاسیة المتضاربة.
و قد بدأ قتادة علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف، بتفویت الفرص علی نفسه مع الدول المعظمة. فأساء معاملة ابن الملک العادل الأیوبی بطریقة فظة، و أثار حفیظة الخلیفة فی بغداد بالموقف الذی وقفه تجاه الحجاج القادمین من العراق. علی انه استطاع ترضیة الخلیفة بعد ذلک فعاد الوفد الذی أوفده للمثول بین یدی الخلیفة محملا بهدایاه. و قد دعاه الخلیفة لزیارة بغداد کذلک، و یقول بعض المؤرخین انه استجاب للطلب و توجه الی بغداد، لکنه غیّر رأیه قبل الوصول الیها فعاد أدراجه. و المقول أنه عبر عن رأیه بالعزلة التامة و الحیاة شعرا و نثرا، علی ما یذکر المستشرق الهولاندی سنوک هورغرونیه فی کتابه عن مکة.
و یقال من جهة أخری ان قتادة ساعد بکل قوته أحد الأئمة الحسنیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 204
علی تأسیس مملکة فی الیمن. و بعد ان استولی حفید من احفاد الملک العادل علی هذه المنطقة مرة ثانیة صار أیوبیو مصر و سوریة و الجنوب العربی یذکر اسمهم فی خطبة مکة مع ذکر اسمی الخلیفة و الشریف. و قد انتهت حیاة قتادة أخیرا فی مذبحة أقدم ابنه الحسن علیها لیتخلص بها من منافسیه فی الأسرة. علی ان الأمیر مسعودا الأیوبی وضع حدا لأطماعه و جعل حکم مکة فی أیدی قواده. و ما ان توفی مسعود حتی عاد الحکم الی أیدی الشرفاء الذین سمح حکام الیمن لمنطقتهم بالاستقلال لدرجة ما بقصد اتخاذها درعا حصینا ضد مصر.
و فی حوالی منتصف القرن الثالث عشر للمیلاد اتخذ العالم الاسلامی شکلا جدیدا بنتیجة وقوع حوادث خطیرة، و ظهور أشخاص جدد.
فقد أزال هولاکو الطاغیة الخلافة من بغداد فی 1258 و استولی علیها، و لم تعد لموکب الحج القادم من بغداد أیة أهمیة سیاسیة. و انتقلت السلطة فی مصر من الأیوبیین الی الممالیک فأصبح السلطان بیبرس (1260- 1277) فی الحال أقوی شخصیة فی العالم الاسلامی. و قد تسی له ان یترک حکومة مکة فی عهدة الشریف أبی نمی لأنه کان رجلا نشطا استطاع ان یحکم بلاده بشدة و حزم خلال النصف الثانی من القرن الثالث عشر (1254- 1301)، فأدی حکمه الطویل هذا الی تثبیت سلالة قتادة فی دست الحکم.
علی ان نصف القرن الذی أعقب وفاة أبی نمی کان حافلا بالمنازعات علی الشرافة ما بین المدعین بها. و کانت المدة التی حکم فیها الشریف عجلان (1346- 1375) مفعمة کذلک بالاضطراب السیاسی الذی استطال أمده حتی اضطر السلطان المملوک فی مصر ان یقسم ذات یوم علی إبادة الشرفاء جمیعهم. و لأجل ان یحول الشریف عجلان دون الاختلاف و النزاع بین الشرفاء بعد وفاته ابتدع طریقة تعیین ابنه أحمد مقدما لیخلفه فی الحکم.
و مما یذکر عما فعله الشریف عجلان کذلک انه أخذ یعامل امام الزیدیة فی مکة و مؤذنهم معاملة قاسیة، فکان ذلک یدل علی ان شرفاء تلک الفترة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 205
کانوا قد تخلوا عن العقیدة الزیدیة التی کان یعتنقها آباؤهم و اعتنقوا المذهب الشافعی الذی کان یروج أمره.
و من أبناء عجلان و أخلافه الذین یجب ان یذکر شی‌ء عنهم یجب أن نشیر هنا الی الحسن (1396- 1426) لأنه حاول ان یمد رواق سیطرته علی الحجاز بأجمعه لیضمن مصالحه المالیة بعنایة و دقة، و لیکون فی الوقت نفسه قادرا علی عدم إفساح المجال للمصریین بالتدخل فی شؤونه. و قد اختار السلطان من أبناء الحسن الثلاثة، الذین کانوا یتنازعون علی المنصب فی حیاة أبیهم، برکات الأول لیکون وصیا فی عهد أبیه، و بعد عشرین سنة خلف أباه فی الحکم و استطاع ان یحافظ علی المنصب الی ان توفی سنة 1455.
و قد اضطر الی ان یخضع لمشیئة السلطان و یقبل بوجود حامیة ترکیة فی مکة قوامها خمسون خیالا ترکیا. و یمکن اعتبار هذا الأمیر طلیعة الحکام الآخرین فی مکة، الذین حصلوا علی نفوذ غیر یسیر أحیانا من تحت التابعیة الترکیة.
و لقد تسنی لمکة أن تتمتع بفترة من الازدهار و الرخاء فی عهد محمد ابن برکات (1455- 1497) الذی تولی فی الوقت الذی تولی الحکم فی مصر قائد بک، و کان هذا قد خلد اسمه فی مکة بانشاء عدة أبنیة فیها. و فی عهد برکات الثانی بن محمد (1497- 1525) تغیرت الحالة السیاسیة فی العالم الاسلامی تغیرا أساسیا باستیلاء السلطان سلیم العثمانی علی مصر فی 1517.
و مع ان استانبول قد أصبحت منذ ذلک الحین فصاعدا تحل فی المحل الذی کانت تتمتع به بغداد فی یوم من الأیام بالنسبة لمکة، و برغم عدم وجود التفاهم التام ما بین الأتراک و العرب یومذاک، فقد تمتعت مکة فی بادی‌ء الأمر بفترة من السلم و الهدوء فی عهد الشریفین محمد أبی نمی (1525 1566) و الحسن (1566- 1601). و امتدت ممتلکات الشرفاء تحت الحمایة العثمانیة من خیبر فی الشمال الی حایل فی الجنوب، و الی داخل نجد فی الجهة الشرقیة. علی ان الاعتماد علی مصر بقی موجودا فی الوقت نفسه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 206
لکنه کان یضعف عند ما تکون الحکومة قویة فی استانبول و العکس بالعکس.
و لم یکن هذا الاعتماد سیاسیا فقط و انما کانت له صفة مادیة و دینیة أیضا.
فان الحجاز کان یعتمد فی التزود بالأطعمة و استیراد الحبوب علی مصر، و وجدت المؤسسات التی کانت لها صبغة دینیة او تعلیمیة فی السلاطین الأتراک حماة لها.
علی ان الجهة المعتمة فی تابعیة مکة للعثمانیین کانت تنطوی فی تدخلهم فی ادارة الأمور القضائیة و الشرعیة. فبالنظر لاعتناق الشرفاء للمذهب الشافعی کان قاضی الشافعیة فی مکة یعد رئیسا لسائر القضاة. و کان هذا المنصب قد بقی لمدة قرون عدیدة منحصرا فی أسرة واحدة، لکن العثمانیین حینما تولوا حمایة الحرمین أخذوا ینتدبون أعلی المتزایدین فی استانبول لسد هذا المنصب فی مکة، فکان لا بد للمکیین من أن یدفعوا ثمن هذا التدخل مع الربح بطبیعة الحال.
و بوفاة الشریف حسن حلت فی مکة فترة جدیدة حافلة بالفوضی و الحرب الأهلیة. و یقول المؤرخون ان وجود کلمة «ذوو» فی اسماء الشرفاء و جماعاتهم کان یدل علی الاختلاف الحاد الموجود بینهم. فقد ترکز النزاع علی السلطة، الذی کانت تتخلله مشاجرات مع موظفی الدولة المسیطرة خلال القرن السابع عشر فی العبادلة و ذوو زید و ذوی برکات.
و کان زید (1631- 1666) رجلا جم النشاط و الفعالیة، یتحمل جمیع ما یفعله الموظفون الأتراک، لکنه لم یستطع معارضة الأتراک بنجاح حینما أمروه باضطهاد الحجاج الایرانیین، علی قول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة. فقد أدت الخصومة التی کانت موجودة یومذاک بین الأتراک و الایرانیین الی ان یمتد تأثیرها حتی الی مکة بنتیجة الأمر الذی أصدره السلطان مراد الرابع بطرد الایرانیین من المدینة المقدسة و عدم السماح لهم بالحج فی المستقبل. و لم یکن هذا الأمر یرضی الشرفاء و لا الطبقات العلیا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 207
من المجتمع فی مکة، و انما کان یطمئن رغبات الرعاع فقط لیتخذ وسیلة لسلب الایرانیین المیسرین. و حالما أمر الحاکم الترکی فی مکة بطرد الایرانیین سمح الشرفاء للشیعة باجراء مراسیم الحج و البقاء فی البلدة. و کان الشرفاء یحابون علی الشاکلة نفسها الزیدیة الذین کثیرا ما کان الأتراک یحولون دون دخولهم الی مکة.
اما تأریخ مکة فی الفترة الباقیة التی تمتد الی وقت استیلاء الوهابیین فیکاد یکون عبارة عن نزاع ممل بین الأسر الشریفیة المختلفة (ذوو زید و ذوو برکات و ذوو مسعود)، او بینهم و بین الموظفین العثمانیین فی مکة نفسها أو جدة.

الشرفاء فی أیام الاحتلال الوهابی

کان الشریف غالب (1788- 1813) أول من شهد حرکة الوهابیین تتقدم تقدما کاسحا بشکل یشبه السیل نخو ممتلکاته، لکنه لم یدخر وسعا فی مقاومة خطرهم. فقد ساق جیوشه الی الشمال و الشرق و الجنوب، و سار اخوانه و أنسباؤه الی ساحات الحرب، ثم طلبت النجدة من أمراء الحج السوریین و المصریین فی کل موسم من مواسم الحج المتتالیة، و لکن من دون جدوی. و فی 1799 عقد الشریف غالب اتفاقیة مع أمیر الدرعیة جددت بموجبها الحدود بین الطرفین مع الاشتراط بأن یسمح للوهابیین بالدخول الی البلاد المقدسة. علی ان سوء التفاهم کان لا بد من أن یحصل فی یوم فی یوم من الأیام، و فی 1803 وصل جیش الأمیر سعود الی المدینة المقدسة.
و بعد ان انسحب الشریف غالب الی جدة دخل سعود الی مکة التی أعلن سکانها اعتناقهم الوهابیة فی الحال، فهدمت القباب کلها و أحرق جمیع الموجود من التبغ و الآلات الموسیقیة، ثم حذف من الآذان، جمل الثناء علی النبی کما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 208
غیر ان (غالبا) عاد فی تموز الی مکة، لکنه أصبح سجینا فی داخلها بالتدریج لکثرة ما کان یحیط به من الأعداء. ثم بدأ الحصار الفعلی فی آب فحلت محله فترة مؤلمة من المجاعة و تفشی الطاعون: فترتب علی غالب فی شباط السنة التالیة ان یخضع للتابعیة الوهابیة و یحتفظ بمنصبه. و لم یحرک الباب العالی ساکنا خلال هذه الحوادث کلها، و لم یفعل شیئا حتی أعاد الوهابیون فی 1807 قوافل الحجاج القادمة من مصر و سوریة مع المحملین، و عند ذلک صدرت التعلیمات الی الخدیوی محمد علی بأن یعالج مشکلة الحجاز بعد ان یکون قد انتهی من مهمته فی مصر. و لم یستطع هذا استرجاع مکة من الوهابیین الا فی 1813، و هناک التقی بالشریف غالب الذی قدم له نصائح ملؤها الحذر. علی ان غالبا سرعان ما وقع فی الفخ الذی نصبه له محمد علی و ابنه طوسون، فنفی الی سلانیک التی عاش فیها الی أن قضی نحبه 1816.
و کان محمد علی فی الوقت نفسه قد نصب فی مکانه یحیی بن أخیه سرو (1813- 1827)، و بذلک انتهت أول فترة استولی فیها الوهابیون علی مکة، فأصبح الحجاز مرة أخری تابعا لمصر. و قد ظل محمد علی یتمتع بسمعة مشرفة فی مکة مدة من الزمن لأنه أعاد تعمیر المؤسسات الدینیة التی خربها الوهابیون، و أعاد استجلاب القمح من الخارج ثم عین الرواتب للذین کانوا یتمیزون فی الشؤون الدینیة عن غیرهم.
و فی 1827 اضطر محمد علی الی التدخل فی شؤون الشرفاء الداخلیة من جدید. فقد کان الشریف یحیی قد جعل من منصبه شیئا غیر محتمل بانتقامه من أحد أقربائه، و لذلک عمد الوالی الی عزله، و هو من ذوی زید و تعیین شریف من العبادلة فی مکانه یدعی محمد بن عون (1827- 1850).
فکان علیه قبل کل شی‌ء ان یدخل فی النزاع التقلیدی مع أقاربه، و أدی حدوث نزاع بینه و بین وکیل محمد علی الی تنحیة الاثنین و أخذهما الی القاهرة فی 1826.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 209
و لقد بقی الشریف فی القاهرة الی 1840 حینما تقرر فی المعاهدة التی عقدت بین محمد علی و الباب العالی ان یرتبط الحجاز بها من جدید، فعاد محمد بن عون الی وطنه و منصبه، علی ان تابعیة مکة للعثمانیین قد أدمجت فی هذه المرة بوظیفة و الی جدة، فکان الاحتکاک و التصادم بینه و بین محمد ابن عون شیئا لا مناص منه. لکن صداقة الشریف لمحمد علی قد ثبتت فائدتها له فی هذه المرة، فحصل علی استحسان الترک و ثنائهم علیه للحملات التی جردها ضد الأمیر فیصل الوهابی فی الریاض، و ضد العشائر الثائرة فی العسیر. کما مهدت غزواته فی الیمن الطریق لسیطرة العثمانیین علیها.
و کان کبیر أسرة ذوی زید الشریف عبد المطلب (1851- 1856) قد استغل صداقته للصدر الأعظم فی الوقت نفسه استغلالا تاما أدی به الی أبعاد العبادلة لصالح ذوی زید. علی ان عبد المطلب لم ینجح فی المحافظة علی علاقاته الطیبة مع أحد (الباشیین) الذین تحتم علیه التعامل معهما واحدا بعد آخر. فتقرر سنة 1855 فی استانبول إلغاء أمر تعیینه و استدعاء محمد بن عون لیحل فی مکانه. فرفض عبد المطلب بادی‌ء ذی بدء الاعتراف بصحة صدور الأمر، و أیده فی ذلک من کان یکره الأتراک فی مکة لتحریمهم المتاجرة بالرقیق. علی أنه تحتم علیه ان یتخلی عن منصبه فی النهایة الی محمد بن عون، الذی تولی الشرافة فی 1856 للمرة الثانیة، و لم تطل مدة بقائه فیها هذه المرة أکثر من سنتین. و قد حدث خلال الفترة المتقضیة بین وفاته فی مارث و وصول خلفه عبد اللّه الی مکة فی تشرین الثانی أن قتل المسیحیون فی جدة (15 تموز) و دفعت فدیتهم.
و قد عرف حکم عبد اللّه (1858- 1877) الذی کان محبوبا من رعایاه بانتشار السلم فی الحجاز، و بوقوع حوادث بالغة الأهمیة فی الخارج.
فقد کان فتح قناة السویس (1869) یعنی تحرر الحجاز من سیطرة مصر من جهة و اتصاله باستانبول مباشرة من جهة أخری. کما کانت لتأسیس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 210
الاتصالات التلغرافیة بین الحجاز و سائر أنحاء العالم أهمیة مماثلة. أما إعادة استیلاء الأتراک علی الیمن فقد کان یقصد به تقویة الانطباع بأن الجزیرة العربیة خاضعة للأتراک کلها الی الأبد.
و لقد انتهت المدة القصیرة التی تولی الحکم فیها حسین أخو عبد اللّه الأکبر (1877- 1880) بقتله علی ید رجل من الأفغان. فجی‌ء بعده للشرافة من استانبول بالشریف عبد المطلب المتقدم فی السن من جدید.
و مع ان الرأی العام فی الحجاز کان یعتبره بمنزلة القدیسین فان حکمه سرعان ما ظهر تعسفه و بانت شدته فطالب وجوه البلد و أعیانه بعزله. فکانت النتیجة ان انتدب فی 1881 القائد النشط عثمان نوری باشا مع ثلة من الجیش الی الحجاز لیکون قائدا للحامیة فیه، علی ان تکون مهمته تمهید الطریق لأعادة العبادلة الی الشرافة الکبری. فخدع عبد المطلب و ألقی القبض علیه، ثم سجن فی بیته فی مکة الی أن مات فی 1886.
و کان بود عثمان نوری باشا،- الذی تعین والیا فی تموز 1882-، ان یری صدیقه عبد اللّه، أحد العبادلة، ینصب فی دست الشرافة الکبری بجانبه. علی ان عون الرفیق (1882- 1905) هو الذی عین فی هذا المنصب. و لما کان الوالی علی جانب کبیر من النشاط و الفعالیة، و بالنظر لأن الشریف عون کانت له أهمیته و منزلته برغم میله الی العزلة، فان حصول تصادم بینهما کان شیئا لا مناص منه لا سیما و ان لکل منهما کانت نفس الصلاحیة فی امور کثیرة مثل إدارة الشؤون القضائیة و السهر علی سلامة طرق الحجاج و أمنها. و بعد شی‌ء غیر یسیر من الاحتکاک عزل عثمان نوری فی 1886. فأعقبه جمال باشا لمدة قصیرة، ثم جاء بعده صفوة باشا. و لم یستطع البقاء فی دست الولایة إلی جنب عون الرفیق سوی أحمد راتب الذی کان یغمض عینیه عن کثیر من الأشیاء و یکتفی ببعض المنافع المادیة. و بعد أن توفی عون اختیر عبد الاله خلفا له. علی أنه مات قبل ان یبدأ برحلته من استانبول الی مکة. و لذلک فقد کان خلف عون الحقیقی ابن أخیه علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 211
(1905- 1908)، و فی 1908 أضاع کل من علی و أحمد راتب منصبه بوقوع الثورة الترکیة.
و بتولی الحسین (1908- 1916- 1924)، الذی هو من أبناء أخوة عون أیضا، یکون آخر شریف قد تولی الحکم فی مکة. و لو لا وقوع الحرب العالمیة الأولی لسارت شرافته فی طریقها المعتاد علی وجه الاحتمال.
و کان هذا قد اغتنم فرصة انشغال الدولة الترکیة انشغالا تاما بالحرب فأعلن استقلاله فی 1916. ثم حاول ان یمد سیطرته الی أبعد حد ممکن کمنقذ للعرب أولا، و بصفة ملک (22 حزیران 1916) فی الحجاز أو بلاد العرب کلها، و أخیرا بصفة کونه خلیفة للمسلمین. علی انه سرعان ما اتضح ان سلطان نجد، عبد العزیز السعود، قد کتب له کما کتب لأجداده الوهابیین من قبل ان یکون له القول الفصل فی مستقبل الجزیرة العربیة و شؤونها.
ففی أیلول 1924 استولت قواته علی الطائف، ثم استولت علی مکة فی تشرین الأول. ففر الملک حسین الی العقبة أولا، و أخذ من هناک الی قبرص فی أیار 1925. غیر ان علیا ابنه تراجع الی جدة، فعمد ابن سعود الی محاصرتها و محاصرة المدینة مدة تقارب السنة تجنبا لاراقة الدماء و التعقیدات مع الدول الأوروبیة. فاستسلمت المدینتان فی کانون الأول 1925 فأصبح ابن سعود منذ کانون الثانی 1926 ملکا فی الحجاز، و أصبح عنوان مملکته «مملکة الحجاز و نجد، و توابعهما»، أما الیوم فهی المملکة العربیة السعودیة.
و بذلک تکونت وحدة سیاسیة جدیدة عاصمتها مکة، تضم مساحة أکبر من أیة مساحة کان یسیطر علیها الشرفاء فی أی یوم من الأیام، و تملک قوة داخلیة أعظم من أیة قوة نشأت فی الجزیرة العربیة منذ ان انتهی حکم العباسیین فیها حتی یومنا هذا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 212

مکة فی یومها هذا

و یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة ان الحیاة الدینیة و الاقتصادیة فی مکة کانت تترکز منذ القدم فی حرکة الحجاج و المسجد الحرام. و تنعکس وصفیة مکة، بصفتها عاصمة الاسلام الدینیة فی تنوع قومیات سکانها الحالیین تنّوعا غیر یسیر. فالی جانب أهل مکة الأصلیین توجد فیها عناصر عربیة أخری کثیرة، یبرز من بینها علی الأخص عنصر الحضارمة المعروف بنشاطه و فعالیته. و هناک عدد کبیر من الجالیات المسلمة التی جاءت من أنحاء العالم الإسلامی کافة لتستقر فی المدینة المقدسة مدفوعة بأسباب دینیه و دنیویة مختلفة. و من بین هؤلاء یجب ان یذکر بصفة خاصة القادمون من الملایو، الذین یعرفون عموما باسم جاوة، لأنهم جاءوا یقیمون فی مکة إقامة دائمة لأسباب دینیة بحتة.
و حتی فی یومنا هذا یکوّن (العبید)، لا سیما الأفریقیین، عنصرا مهما فی مجتمع مکة. و قد کانت البنات الحبشیات من الأرقاء یقدرن بثمن غال علی الدوام لأنهن یؤخذن جواری و محظیات. علی ان سوق النخاسة لم تعد له تلک الأهمیة التی کانت له من قبل. و تنتشر أکواخ العبید المعتقین فی الضواحی المحیطة بالبلد المقدس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 213
و تزدهر فی مکة مهنة المطوفین الذین تعیش طبقتهم علی حرکة الحجاج فی کل سنة، و هؤلاء یعینون لهم و کلاء فی جدة کذلک. غیر ان هذا ینطبق علی سکان مکة کلهم تقریبا، لأنهم یرتبون أمورهم بحیث یؤجرون بیوتهم الی الحجاج خلال مدة غیر یسیرة من السنة. فما یحل الشهر الثامن من السنة الهجریة حتی یصل الی البلدة عشرات الألوف من الحجاج، و یزداد هذا العدد باطراد حینما یحل الشهر الثانی عشر. و بحلول محرم الحرام یعود المنظر فی مکة الی سالف عهده من الهدوء الاعتیادی.
و لقد توسع الناس فی الحجاز خلال مئتی السنة الأخیرة فی تقدیس الأموات و زیارة القبور باستمرار، ففی البلاد أماکن عدیدة لها اتصال بالذکریات المقدسة التی تختص بالنبی محمد و آل بیته، و بالبارزین من المهاجرین و القدیسین المتأخرین. و قد شیدت فوقها قباب عدیدة صار الناس یزورونها و یترددون علیها بکثرة. غیر ان الوهابیین قضوا علی الکثیر من هذه العادات و الطقوس منذ أن تمّ استیلاؤهم علی البلاد.
و مکة الیوم هی مرکز الحکومة و مقرها، مع ان إقامة الملک تکون فی الریاض عادة. و تصدر «أم القری» جریدة الحکومة الرسمیة مرة فی الاسبوع، و هناک کذلک مطابع عدیدة تقوم بطبع المؤلفات الوهابیة و الحنبلیة فی الغالب.

مکة فی مراجع اجنبیة اخری

و هکذا تنتهی الخلاصة التاریخیة التی توردها دائرة المعارف الاسلامیة و من أهم الکتب الغربیة الأخری التی تبحث فی کثیر من شؤون مکة و تاریخها بالتفصیل کتاب الکولونیل جیرالد دیغوری الموسوم (حکام مکة). و یتطرق هذا المؤلف الانکلیزی الی جمیع ما جاء فی الخلاصة التاریخیة المار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 214
ذکرها بشی‌ء أکثر من التفصیل، و لا سیما عن تاریخ بعض الشرفاء الکبار من مثل الأمیر قتادة، و محمد أبی نمی، و برکات الأول، و برکات الثانی، و زید بن محسن، و عبد اللّه بن سعید، و سرور و أخیه الشریف غالب، و محمد بن عون، و عون الرفیق.
و من جملة ما یأتی علیه دیغوری بالتفصیل موضوع تأسیس مکة و نشوئها.
فهو بعد أن یصف طبیعة موقعها و أحوالها الجویة القاسیة یروی ما یطلق علیه «الأسطورة المسلمة» حول قدسیة مکة، فیقول ان قافلة من قوافل بنی جرهم لاحظت خلال سیرها نحو الجنوب فی تلک الجهات أن عینا من الماء کان یتدفق ماؤها فی مکان مقفر لم یعهدوا وجود ماء فیه من قبل.
فوقفت القافلة، ثم انتدبت رجلین من رجالها للوقوف علی جلیة الأمر.
و حینما ذهب الرجلان ألفیا قرب العین امرأة مع طفل ذکر بجنبها، و قد فهما من کلامها ان اسمها هاجر و ان العین تعود لها و لطفلها. و بترخیص من عندها خیمت جرهم حول العین، و صارت تستعملها و تحافظ علیها حتی سمیت باسم «زمزم» بعد ذلک. و یقول دیغوری، نقلا عن السر لیونارد و ولی الآثاری الانکلیزی المشهور، أن ذلک یصادف حوالی سنة (2000) قبل المیلاد علی وجه الاحتمال.
و قد نشأ اسماعیل بن هاجر عند بنی جرهم، و هی من قبائل الجنوب العربی، ثم تزوج منهم و صار یعیش علی الصید و القنص . ثم یقول دیغوری ان ابراهیم قد عاد للمرة الثالثة و اشار علی ابنه بأن یبنی فی تلک البقعة بیتا.
و انتخبوا نشزا من الأرض و فعلوا ذلک. ثم جاء تبع الحمیری، ملک الیمن، و صنع بابا للبیت مجهزا بالأقفال، و جاء الملک جبرائیل بالحجر الأسود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 215
و وضعه فیه. و کان هذا الحجر یلتمع فوق جبل أبی قبیس المطل علی مکة، و لم یکتسب لونه الأسود الا بعد نشوب نار من حوله فی أیام الجاهلیة بعد ان قلبت امرأة من الناس مبخرة علی الأرض. علی ان قریشا، و هم أخلاف جرهم فی مکة، أعادت بناء البیت المقدس من جدید. و یقول دیغوری هنا ان المختصین بالأحجار یعتقدون بأن الحجر الأسود هو من أصل یمت الی الشهب السماویة بصلة.
و کانت الکعبة نفسها فی الأصل عبارة عن بناء مکعب بسیط، و کانت هناک کعبة أخری فی صنعاء الیمن ظلت تنافسها مدة من الزمن، کما کان فی بطرا او البتراء حجر أسود آخر، بینما کان یوجد فی الطائف و بعض الأماکن الأخری عدد من الأصنام الحجریة للعبادة. و کان بناء الکعبة یجدد بین حین و آخر، و تدخل علیه التحسینات المختلفة، ثم یغطی تغطیة موقرة بجلود الحیوانات التی تنحر وقت الحج. و قد حلت خزاعة سنة 207 للمیلاد فی محل جرهم و العمالقة فی سدانة الکعبة بظروف و أحوال غامضة، و فی سنة 400 للمیلاد حلت فی محل خزاعة قبیلة کنانة القرشیة التی ینتمی الیها شرفاء مکة الحالیون. و یذکر دیغوری عن قطب الدین الحنفی فی هذا الشأن قوله: و قد حکمت خزاعة مکة و قامت بسدانة الکعبة بکل إدراک و حکمة من دون إقتراف ما یؤدی الی تعکیر العلاقات بین الناس، حتی تول قصی بن کلاب بن مرة، الذی کان اول رجل من کنانة ینجح فی الحکم و یعمل علی توحید قریش.
أما کیفیة انتقال السدانة من خزاعة الی قصی فان دیغوری یورد قصة طریفة عنها فی کتابه . فهو یقول ان قصیا کان یسمی زیدا أیضا، و کان یکنی بالمجمع لأنه وحد قریشا و جمعها فی کتلة واحدة. و لم یکن «قصی»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 216
سوی لقب اشتهر به لأنه جاء الی مکة من مکان قصی بعید. فقد أخذته أمه من الحجاز و عادت به إلی أهلها فی سوریة حینما توفی والده، و تزوجت هناک. و حینما شب قصی تنازع مع زوج أمه و أسرته و عاد الی عشیرته حوالی مکة، و هناک وجد کل ترحیب و تزوج ابنة زعیم القبیلة حلیل بن جیش الخزاعی و کان اسمها حبه. و سرعان ما أنجب منها عددا کبیرا من الأولاد، و أصبح ثریا کثیر الغنی. و حینما توفی حلیل سلم مفاتیح الکعبة الی ابنته حبه التی أنعمت بها علی قریب من أقاربها یدعی ابن غبشان. علی ان ابن غبشان هذا کان مدمنا علی شرب الخمر، کثیر السکر بحیث باع مفاتیح الکعبة ذات یوم الی قصی بن کلاب بقنینة من الخمر. فهاج عمله هذا قبیلته خزاعة التی لم تشأ ان تخرج سدانة الکعبة من یدها بمثل هذه السهولة، لکنها لم تستطع استرجاعها من قصی الذی وقف من ذلک موقفا حاسما.
و المعتقد ان قصیا توفی سنة 490 للمیلاد، و لکن بعد ان جعل من الکعبة مکانا مقدسا تجله جمیع القبائل و تقدسه بحیث صار من المعتاد عند السدنة و الحجاج أجمع ان یترکوها قبل الغروب. و لم یعد یجرؤ أحد علی المبیت فی تلک البقعة المقدسة، کما لم یعد یسمح لأحد ان یقضی نحبه فیها. و قد منع دفن الموتی أو إقامة المآتم فیها، کما منع ارتکاب ای شی‌ء مخالف او منطو علی الغش فیها.
علی ان قصیا جمع قبیلته و طلب الی افرادها ان یبنوا بیوتهم فی المنطقة المقدسة و یعیشوا فیها. و حینما فعل ذلک أبان للناس وجوب تمتعهم باحترام خاص بحیث لا یتجرأ أی عربی علی مهاجمتهم او إجلائهم عنها. و المقول أنه هو نفسه قطع أول شجرة و وضع أول حجر لبناء بیت دائم له فی المنطقة المقدسة، حتی یقتدی الباقون من أفراد عشیرته به و یقدمون علی تنفیذ ما یرید. و یقول دیغوری ان هذا ربما کان قد حصل فی سنة 480 للمیلاد، لأن النبی محمدا علیه السلام کان قد ولد سنة 571، و هو خامس جیل ینحدر من قصی (اعتبر لکل جیل حوالی عشرین سنة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 217
و قد أدخل قصی علی ما یذکر دیغوری کثیرا من الاصلاحات و التحسینات علی الکعبة و وضعها، ثم غیر موقع الأصنام فیها و أمر ان یؤتی ببعضها من مکانها البعید الی داخل الهیکل، و بذلک جمع الآلهة کلها فی مکان واحد کما وحّد قبیلته فی کیان واحد. و بنی بالاضافة الی ذلک قاعة للمجلس و بهوا للمراسیم، ظل یسمی فیما بعد بدار الندوة، و قد کان یشترط فی عضو المجلس ان لا یقل عمره عن أربعین عاما، باستثناء أبنائه الذین کان یسمح لهم بالعضویة حالما یبلغون سد الرشد .
یضاف الی ذلک ان قصیا جمع فی یده وظائف البیت الحرام کلها، فجمع الحجابة، و السقایة، و الرفادة، و رآسة الندوة، و اللواء، و القیادة فی الحرب. ثم نقل صلاحیاته هذه کلها الی ابنه عبد الدار قبیل وفاته بأمل أن یؤمن له مرکزه قبل ان یرحل الی الدار الآخرة. لکن أولاده الباقین نازعوا أخاهم فی ذلک بعد وفاته من دون ان یکون التوفیق حلیفهم، غیر ان أبناء عبد الدار تغلب علیهم أبناء أخیه عبد مناف الذی کان یتمتع بجانب أکبر من الحیویة، مع البعض من نبلاء قریش. و بذلک انتقلت مفاتیح الکعبة الی آل شیبة الذین بقیت فی أیدیهم الی یومنا هذا. و علی الشاکلة نفسها استطاع عمرو هاشم، بن عبد مناف، أن یحصل علی حق السقایة و الرفادة، و کان هو الذی یشرف علی تنظیم خروج القوافل الی الجنوب فی الشتاء و الی الشمال فی الصیف (رحلة الشتاء و الصیف). و کان هاشم یصحب القافلة بنفسه فی کثیر من الأحیان. و فی إحدی سفراته هذه توفی فی غزة بفلسطین و هو فی مقتبل العمر فدفن فیها. و لهذا السبب صارت تسمی «غزة هاشم» فی بعض الأحیان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 218
و کان هاشم خلال سفرته الأخیرة التی توفی فیها قد تزوج فی المدینة بإمرأة من أهلها فرزق منها طفلا نشأ و ترعرع فیها حتی طالب به عمه مطلب و جاء به الی مکة فسماه عبد المطلب. و حینما توفی العم فی الیمن بعد ذلک ورث عبد المطلب ماله و ممتلکاته، و رزقه بعدد من الأبناء کان من جملتهم عبد اللّه والد النبی محمد علیه الصلاة و السلام.
و یقول دیغوری ان ذریة قصی تقاسمت المیراث فیما بینها، فصار قسم منها یتولی شؤون البیت الحرام، و قسم آخر مثل أبناء هاشم حصلوا علی حق الرفادة و المتاجرة مع الخارج فی الوقت نفسه، بینما اختص بعضهم الآخر بالتجارة فقط و هم أبناء عبد شمس، أخی هاشم (الأمویون) فأصبحوا صرافین معروفین. غیر ان أعضاء مجلس أعیان جمهوریة مکة، علی ما یقول دیغوری، کانوا یحسدون ذریة قصی علی ما کانوا یتمتعون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 219
به من امتیازات. و هذا ما أدی بهم الی انذار عثمان بن حویرث و التشهیر به فی الحال حینما أخذ علی عاتقه ان یقوم بزیارة قیصر الروم لیقترح علیه عقد اتفاقیة خاصة بین الطرفین تؤمن سلامة القوافل المکیة التی تقصد الشام لقاء جزیة سنویة ضئیلة تدفع بالعینیات، و الاعتراف بسیطرته علی مکة.
و فی حوالی سنة 600 للمیلاد أعادت قریش بناء الکعبة مرة أخری، فوسعت فناءها و أضافت الی البناء نفسه، ثم زادت فی علوه. و قد تم ذلک علی أثر ما أصابها من الغرق بسبب السیول. فسنحت الفرصة لقریش فی تلک الأثناء بأن تستفید فی التعمیر من أخشاب سفینة أغریقیة کانت قد غرقت بالقرب من ساحل جدة حینما کانت فی طریقها من مصر الی الحبشة. فقد انتدب وجیه من قریش لیفاوض (باقوم) ربان السفینة بقصد شرائها منه، فتمت الصفقة و اشترک فی البناء نجار مصری ماهر کان موجودا فی مکة و ربان الباخرة (باقوم) الذی استخدم فی ذلک ما کان فی السفینة الغارقة من حبال و رافعات. و قد أمکن بهذه الوسیلة أن یکون البناء بمقیاس أوسع، و ان یشید الباب بمستوی یرتفع عن سویة الأرض لئلا تتسرب منه میاه الطوفان الی الداخل.
و یقول دیغوری ان هذا التوسیع و التحریر کان آخر شی‌ء تم من نوعه، فأعطی الشکل الحالی للکعبة و البیت الحرام الذی لم یطرأ علیه أی تغییر فی مظهره الأساسی خلال الألف و الثلاث مئة سنة الأخیرة (کتب کتاب دیغوری سنة 1951).

لقب الشرفاء

و یتطرق مرجعنا هذا بعد ذلک الی البحث فی أصل کلمة «الشریف» فیقول ان منشأ استعمالها بالمعنی الاصطلاحی الذی یطلق علی سادات مکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 220
یکتنفه الغموض. غیر انه یبدو أنه بدء باستعمالها فی أیاء الخلفاء الفاطمیین، علی ما یقول السیوطی، حین منع استعمالها کلقب خاص لغیر ذریة الامامین السبطین الحسن و الحسین علیهما السلام. و لقد بحث فی المعنی الذی ینطوی علیه هذا اللقب عدد من المؤلفین العرب، فقال الحصری فی زهر الآداب انها تعنی عدا التحدر من ذریة النبی الأکرم ان تتوفر فی الشخص الشجاعة، و نظافة النسب، و الأخلاق الفاضلة، وسعة العقل الناتجة عن الاطلاع و التعلم. و یذکر القتیبی فی (کتاب العرب) اربع صفات لذلک، و هی الارتقاء بالنسب الی النبی الأعظم، و التحلی بالخلق الانسانی الرفیع، و التحدر من أجداد أفاضل، و الاتصاف بالسخاء و الکرم. ثم رسخ استعمال الکلمة بعد ذلک فأصبحت فی القرن الثالث عشر للمیلاد لقبا خاصا یطلق الجمیع علی حکام مکة و البارزین من أسرهم، و منذ ذلک الحین فصاعدا توسع استعمالها فأصبح یشمل أفراد تلک الأسر بأجمعهم. و علی هذا الأساس أصبحت کلمة «الشرفاء» تختلف عن کلمة الأشراف بمعناها العام و تعنی أفراد الأسرة المالکة فی مکة.

مکة و الصلیبیون

و ینفرد دیغوری فی البحث عن إقدام الصلیبیین علی مهاجمة الاسلام فی عقد داره، بقطع طریق الحج الی مکة و محاولة الاستیلاء علی المدینتین المقدستین فی حوالی سنة 1182- 83، علی عهد الشریف قتادة، و فی أیام الخلیفة المقتدر فی بغداد.
فهو یقول ان فارسا من فرسان الصلیبیین الفرنسیین یدعی رینو دی شاتیون‌Reynaudde Chatillon کان قد استولی علی بلاد شرقی الأردن و قلاع مؤاب و الشوبک شرقی البحر المیت، فأصبح مسیطرا من هناک علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 221
طریق الحج الی مکة المکرمة. فصارت تراود مخیلته خطة جریئة یهاجم فیها الاسلام فی عقر داره، و یحقق آمال الصلیبیة. و فی السنة التالیة خالف شروط الهدنة المعقودة مع المسلمین، و توغل فی جزیرة العرب حتی وصل إلی تیماء، فقطع طریق الحج و استولی علی عدد من القوافل الغنیة غیر أنه تخلی عن فکرته فی مهاجمة المدینة بطریق البر، للاستیلاء علی ما کان یؤمل وجوده من أموال و نفائس فی قبر النبی، و قرر ان یفعل ذلک عن طریق البحر. علی أن صلاح الدین رد علیه بانشاء قلعة حصینة فی شمال شبه جزیرة سیناء، و اتخذها قاعدة أمامیة له. فلم یکن من الفارس رینو الا أن یعید احتلال أیلة (ایلات) المطلة علی خلیج العقبة فی الوقت نفسه، بهجوم مفاجی‌ء. و عمد بعد ذلک الی نقل السفن من موانی‌ء فلسطین الجنوبیة، مثل عسقلون و غیرها، الی البحر الأحمر بعد ان فسخها و نقل أجزاءها علی ظهور الجمال بطریق البادیة المار ببلاد أیدودم و وادی عربة. و فی خلیج أیلة أعاد رینو بناء السفن المنقولة أجزاؤها، فاستطاع ان یهی‌ء خمس سفن حربیة کبیرة و یحمل فی کل منها ألف جندی من الصلیبیین، علاوة علی عدد آخر من السفن الأصغر منها. ثم عمد مع قسم من هذه الأرمادا الی محاصرة جزیرة «غرای» فی البحر الأحمر، و بینما کان یقوم بهذه المهمة توجه أحد قادته بباقی السفن الی سواحل البحر الأحمر الأخری و أخذ ینهبها کلها و یعیث فسادا فیها من الشمال الی الجنوب قبل ان یعلم صلاح الدین بما فعل. و لما کانت السفن الصلیبیة تسیر بالمجاذیف الجماعیة، فقد کانت أکثر سرعة من سفن العرب الشراعیة و أخف حرکة منها. و لذلک تسنی لهم ان یقطعوا اتصال الموانی‌ء الصغیرة کلها بالعالم الخارجی، و یستولوا علی السفن التجاریة، فضلا عن تدمیر مواصلات الجیوش المسلمة. و قد ظلوا یغرقون جمیع ما یصادفونه من السفن بعد ان یستولوا علی شحناتها خلال سنة کاملة (1182- 83). و الی أبعد من ذلک جنوبا نهب الصلیبیون میناء عیذاب الأفریقی، الذی کان علی جانب کبیر من الأهمیة للحجاج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 222
المتوجهین من وادی النیل الی مکة المکرمة. و هناک أحرقوا السفن التجاریة کذلک، و أغرقوا سفینة کبیرة کانت تقل عددا کبیرا من الحجاج الی جدة.
و لم یکتف رینو الصلیبی بأفعاله الشنیعة هذه فقط، بل أقدم أیضا علی انزال حملة عسکریة فی الساحل المصری فسارت شمالا و استولت علی کثیر من القوافل الغنیة القادمة من قصیر. ثم ظهر رجاله فی جمیع موانی‌ء الجزیرة العربیة، و منها رابغ و الهوارة فی شمال ینبع و جنوبیها، حتی أنهم ظهروا فی باب المندب و عدن کذلک، حیث أسروا عددا من الشیوخ و رجال الدین فی أثناء قیامهم بسد المدخل الی البحر الأحمر من هناک.
علی ان الجیوش العربیة فی القاهرة کانت قد خفت الی تجهیز نفسها علی ما یقول دیغوری، و تهیأت لشن هجوم مقابل علی الصلیبیین. لکن الملک العادل، أخا صلاح الدین و نائبه فی غیابه، لم تکن تتوفر لدیه السفن المطلوبة فی البحر الأحمر فارتأی ان یقلد رینو فی ما فعل، و نقل عدة سفن کبیرة من النیل و الاسکندریة الی القلزم (البحر الأحمر). و فی کانون الثانی 1183 أنزل هذا الاسطول العربی فی البحر الأحمر بقیادة حسام الدین لؤلؤ (المسمی بالحاجب) الذی کان معروفا بورعه و مقدرته فی الحروب البحریة. و فی أقل من شهرین استطاع ان یحرق السفن الصلیبیة الثلاث التی کانت تحاصر جزیرة غرای و یأسر جمیع بحارتها. و علی مقربة من الهوارة هاجم باقی الأسطول الصلیبی فی منتصف الصیف، و دمر سفنه بأجمعها.
فحاول بحارة السفن المدمرة ان ینضموا فی البر الی الرتل الذی کان قد بدأ بالزحف علی المدینة المنورة قبل المعرکة. و علی مسیرة خمسة أیام من البحر، و یوم واحد من المدینة، هاجم المسلمون القوة الصلیبیة المؤلفة من ثلاث مئة محارب فدمروها شر تدمیر. و من بین المئة و السبعین صلیبیا الذین نجوا من القتل خلال المعرکة فأسروا و قتل عدد غیر یسیر حیث کانت تنحر الضحایا فی منی، و فی المدینة و علی مقربة من مکة نفسها. اما الباقون فقد فر قلیل منهم فنجوا بأنفسهم و وصلوا الی سواحل البحر الأبیض المتوسط، و أخذ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 223
البعض الی مصر فشهّر بهم و عرضوا علی الجمهور الحانق قبل ان یقتلوا علی ید الدراویش و غیرهم. و قد شاهد بعضهم الرحالة المغربی ابن جبیر و وصفهم فی رحلته، و هو یقول ان الاسطول العربی الذی قضی علی الاسطول الصلیبی بقیادة حسام الدین لؤلؤ کان یدیره بحارة من المغاربة الأشداء الشجعان.
و یتابع دیغوری بحثه فی هذا الشأن و یقول ان صلاح الدین الأیوبی قرر ان یضع حدا الی الأبد لهذا الخطر الذی صار یهدد مکة و غیرها من المدن المقدسة. فأمر بالاستیلاء علی قصر رینو و قلعته. و بدأ حصاره بقیادته هو نفسه فی خریف تلک السنة بالذات و قد بدأ القصف بالقنابر حینما کان الصلیبیون یحتفلون بزواج ابن زوجة رینو، فسقط قسم منها فی وسط المحتفلین و علی الراقصین و الآلاتیة لکن هذا الحصار لم یدم طویلا لأن الملک بالدوین الرابع خف لنجدة رینو برغم مرضه الشدید فأنقذه.
علی ان رینو لم یبق طویلا علی قید الحیاة بعد حملته الفاشلة فی البحر الأحمر علی کل حال، لأن صلاح الدین دحر الصلیبیین سنة 1187 فی موقعة حطین بالقرب من الجلیل، فسقطت فی یده مملکة القدس الصلیبیة. و قد أسر أمراء المسیحیین و فرسانهم، و قتل رینو «عفریت الغرب» و خصم صلاح الدین شر قتلة فی حضور صلاح الدین بالذات. و فی روایة انه قتله بیده.

الشریف قتادة و موکب الحج العراقی

و یذکر دیغوری ما وقع فی أیام الشریف قتادة من اعتداء علی الحجاج العراقیین فی مکة سنة 1210 و 1212، نقلا عن (شفاء الغرام فی أخبار البلد الحرام) لمؤلفه تقی الدین أبی طیب محمد بن أحمد الفاسی، الذی نشره مترجما المستشرق الألمانی فستنفیلد فی لا یبزغ سنة 1859.
و موجز ما یقوله الفاسی هذا أن أمیر الحج العراقی یومذاک کان علاء الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 224
محمد بن الأمیر یاقوت، بالنیابة عن والده الذی کان حاکما فی خوزستان و أمیرا للحج فی الوقت نفسه، و کان مساعده و دلیله ابن فراس. و علی رأس الموکب الشامی کان صمصام اسماعیل أخو شاروخ النجمی، بینما کان یرأس الموکب الفلسطینی الحاج علی بن سالم، و کانت من بین الحجاج فی هذا الموکب ربیحة خاتون شقیقة الملک العادل. و قد حدث فی منی بعد الانتهاء من رمی الجمرات ان انقض الاسماعیلیون علی أحد الشرفاء من أبناء عم قتادة، و شبیهه فی الخلقة، فقتلوه ظنا منهم أنه قتادة نفسه. و کان القاتل یدعی هارون أبا عزیز، و ینتمی الی أم جلال الدین علی ما قیل.
و عند ذاک انبری للعمل عبید الشرفاء و خدامهم فی الحال، فتسلقوا سفوح التلال المحیطة بمنی و أخذوا یرمون الحجاج المحتشدین بالنبال و القذائف من (العرادات). و ظلوا خلال الیوم التالی کله یعتدون علی الحجاج و ینهبون ممتلکاتهم، فحدثت عدة قتول من الجانبین. و لذلک أشار ابن أبی فارس علی أمیر الحج العراقی، محمد بن یاقوت، بأن ینقل مخیم العراقیین من منی الی الظاهر، حیث یخیم الشامیون فی العادة. و حینما بدأوا بالانتقال الی هناک تصور قتادة و عبیده ان العراقیین تحرکوا للهجوم علیهم، فعاجلهم بالهجوم و نهب جمیع ما کانوا یملکون. و هو یصرخ قائلا: «سوف لا أبقی أحدا منهم علی قید الحیاة».
و کانت ربیحة خاتون عند ذاک فی الظاهر فالتجأ أمیر الحج العراقی الی خیمتها التی کانت فیها الخاتون أم صلاح الدین الأیوبی أیضا. فما کان من السیدة ربیحة الا ان تبعث الی قتادة مرافقها ابن السقار یقول له «ما ذنب الناس اذا کان القاتل معروفا؟ أم أنک تختلق الحجج لسلب الحجاج، مع أنک تعرف من نحن؟» و قد هدد ابن السقار قتادة بأنه اذا لم یکف عن الانتقام فان العاقبة ستکون و خیمة علیه حین یزحف الخلیفة بنفسه علیه من بغداد و یزحف السوریون من الشام. و عند ذاک أمر قتادة بایقاف العنف بشرط أن یدفع له الحجاج تعویضا قدره مئة ألف دینار. و أخیرا تم جمع حوالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 225
ثلاثین ألف دینار من الحجاج، و من والدة صلاح الدین. و قد بقی مئات الناس مقیمین حول خیمة السیدة المعظمة ثلاثة أیام بقصد الحمایة، فکان الکثیرون منهم جیاعا عراة، کما کان بعضهم مصابا بجروح. و کان قتادة یعتقد ان الخلیفة فی بغداد هو الذی أو عز بتدبیر قتله، و لذلک أقسم علی قتل أی حاج یصل الی الحجاز من أهل العراق.
و هکذا عاد حجاج العراق الی بلادهم و هم علی جانب کبیر من التعاسة.
بعد مدة من الزمن أوفد قتادة ابنه راجحا یستجدی العطف و الرضا من الخلیفة فی بغداد، فعفا عنه و بعثت له فی السنة التالیة هدایا و أموال کثیرة، ثم وجه له الخلیفة دعوة لزیارة بغداد. علی أنه ما ان وصل الی الکوفة فی طریقه الی المثول بین یدی الخلیفة حتی غیّر رأیه و عاد راجعا من حیث أتی، لأن رجال الخلیفة الذین استقبلوه فی الکوفة کان أحدهم یقود أسدا مقیا بسلاسل من حدید فتشاءم الشریف من ذلک. ثم بعث الی الخلیفة بقصیدة من نظمه یعتذر فیها. و یقول (دیغوری) ان قتادة صرح أکثر من مرة فی ملأ من الناس بأنه أحق بالخلافة من الخلیفة العباسی فی بغداد.
و الظاهر أن خلاف الشرفاء مع العراقیین کان یتجدد بین حین و آخر برغم تقادم العهد وکر السنین. فبعد الحادث المذکور بمئة سنة أو یزید نجد الشریف رمیثة، علی ما یذکرا دیغوری، یبعث ابنه محمدا بحملة اجتاز بها نجدا و احتل الحلة فی العراق حیث کان حکم المغول الأیلخانیین آخذا بالانحلال. و کان قبل ان یندبه لهذه المهمة قد حذره من غوائل العراق و العراقیین، فأیدت الحوادث ما کان یخشاه لأن ابنه قتل فی العراق خلال تلک الحملة. و لذلک انقطع توارد الحجاج العراقیین علی مکة بعد تلک السنة مدة تقارب أحد عشر عاما، خوفا من انتقام الشرفاء لابن رمیثة، و نظرا (1) المرجع الأخیر الص 100.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 226
لاختلال الأحوال فی البلاد علی أثر انهیار الحکم المغولی فیها. و لم یعد العراقیون الی الحج بعد ذلک الا فی 1344 للمیلاد علی عهد الشریف عجلان ابن رمیثة.
و مما یجدر ذکره هنا بمناسبة ذکر الشریف رمیثة مما له علاقة بمکة، أن امبراطورا مسلما من حکام العبید فی أفریقیة یدعی منسی موسی حج الی مکة من (ماندینکو) مع حاشیته الذین کان یبلغ عددهم حوالی خمسة عشر ألف نسمة علی ما یقال. و قد جاء معه بأکیاس کثیرة من الذهب و صرف أموالا طائلة فی مکة و غیرها من البلاد الحجازیة، فظلت حجته هذه علی ألسن الناس مدة طویلة من الزمن. و ینقل دیغوری عن أحد المؤلفین الانکلیز قوله فی هذا الشأن: «.. و کان حینما سار الی الحج یمتطی صهوة جواده و یتقدمه خمسة آلاف عبد من العبید الأشداء الذین کان کل منهم یحمل علما من الذهب یزن (500) مثقال أو ست لیبرات منه .. و کان الهدف الوحید من رحلته الطویلة هذه اداء الفریضة الدینیة، و علی الرغم مما کان فیها من أبهة و فخفخة فانها کانت تخلو من ای مغزی سیاسی ... و قد حدث بنتیجة مروره بمصر فی طریقه الی مکة أن دخل کثیر من الذهب فی التداول بحیث قل سعره فی السوق الی حد غیر یسیر، و بقی علی مستواه ذاک مدة سنین عدیدة ..»

الحج

هناک بحث مفصل عن الحج فی دائرة المعارف الاسلامیة، یبدأ بالاشارة الی کون الحج فریضة دینیة علی کل مسلم و مسلمة، بالشروط و التحفظات التی تنص علیها أصول الدین. ثم یتعرض الی المشقة التی کان یلاقیها الحجاج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 227
فی الوصول الی بیت اللّه الحرام، و یخلص من ذلک الی ذکر مواکب الحج و قوافله المشهورة التی کانت تقصد مکة فی کل سنة.
فیقول ان موکب الحج السوری کان یسیر فی طریق القوافل التجاریة القدیم، الذی کان یخرج من الشام و یجتاز البلاد الأردنیة الی معان، و منها الی مدائن صالح فالمدینة المنورة. و قد کان الموکب السوری أکبر موکب یصل إلی مکة، فقد بلغ عدد الحجاج الذین جاءوا معه سنة 1876 علی ما یقول الرحالة دوطی ستة آلاف شخص. و کان الموکب یأخذ معه فی العادة محملا خاصا تسیر وراءه القافلة بشکل مهیب. و لذلک کانت القلاع و الخانات تبنی فی المحطات الموجودة فی الطریق بحیث یمکنها تأمین الطعام و سائر التسهیلات للحجاج. و یقول الرحالة بورخارت ان الموکب کان یقطع المسافة الی مکة فی مدة ثلاثین یوما.
و کان موکب الحج المصری یصحب علی الشاکلة نفسها المحمل، الذی کان یحمل فی العادة الکسوة الثمینة الی الکعبة المشرفة. و یقول المستشرق لین ان الموکب المصری کان یغادر القاهرة فی آخر اسبوع من شوال فیصل الی مکة فی سبعة و ثلاثین یوما، بعد ان یسیر علی طول الساحل البحری.
و هناک طریق آخر کان یفضله الحجاج القادمون من مصر و بلاد المغرب، و هو یخرج من القاهرة أو غیرها من البلاد المصریة فیتجه شمالا الی أحد موانی‌ء البحر الأحمر المواجهة الی جدة فی الحجاز. و هذا هو الطریق الذی سلکه الرحالة المغربی ابن جبیر، و التبنوتی فی (الرحلة الحجازیة).
و کان هناک موکب آخر یخرج من العراق فیجتاز جزیرة العرب، و موکب آخر کان یخرج من الیمن. و یقول مرجعنا فی دائرة المعارف ان الحکومة السعودیة منذ ان تکونت لم تتقاعس عن بذل الهمة و العنایة الزائدة فی تأمین الطرق و تزوید الحجاج بالماء و العنایة الصحیة و غیر ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 228
و قد کانت قوافل الحجاج تضم عناصر من مختلف الناس. فقد کانت تضم الأمراء و التجار و البدو و الشحاذین و غیر ذلک. و کان هؤلاء یسافرون ماشین علی أرجلهم او راکبین علی ظهور الخیل و الابل و ما أشبه. و کانت السلطات فی مکة تتخذ التدابیر المختلفة لمنع تعرض البدو بالقوافل، حتی اضطرت الی عقد اتفاقیات خاصة مع رؤساء القبائل و شیوخها لتسهیل شؤون الحجاج. فکان علیها ان تدفع بمقتضی ذلک مبالغ مقطوعة، تسمی صرة، لقاء هذا. و قد کانت هناک موانع قهارة أخری فی تاریخ الحج تحول دون سیر القوافل بأمن و سلامة الی مکة فی بعض السنین، مثل القرامطة، و السلطات المصریة، و القرصان، و الوهابیین. علی ان الحکومة السعودیة الیوم قد تمکنت من نشر لواء الأمن التام فی هذه الطرق.
و کان وصول المحملین المصری و السوری یعد حادثا له أهمیته بالنسبة للمکیین علی الدوام. فکانوا یستقبلون کل واحد منهما بالکثیر من المراسیم و مظاهر الحفاوة فیخیم فی موقعه الخاص خارج المدینة. غیر ان أهمیته قد تضاءلت کثیرا فی السنوات الأخیرة.
اما مجموع الحجاج الذین یصلون الی مکة فی کل سنة فهو معروف لدرجة غیر یسیرة من الدقة. فقد کان العدد یتراوح قبل الحرب العالمیة الثانیة ما بین (36000) و (108000)، لکن المعدل یمکن ان یعتبر حوالی (000، 70). و یصل معظم الحجاج فی العادة قبل موعد الحج، کما ان عددا غیر قلیل منهم یقضون شهر رمضان فی مکة کذلک. و هناک کثیرون یفضلون البقاء فی مکة بعد الحج، للدراسة الدینیة او للمجاورة و الاقامة حتی یتوفاهم اللّه فی البلد المقدس. و الملاحظ ان عدد الحجاج یزداد علی الأخص حینما یصادف یوم الحج الرئیس (9 ذو الحجة) فی یوم من ایام الجمعة.
و تتطرق دائرة المعارف الاسلامیة بعد هذا الی البحث فی مناسک الحج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 229
کلها بالتفصیل، فتصفها بالوصف المألوف المعروف. ثم الی منشأ فکرة الحج فی الاسلام فتقول ان موقف النبی علیه السلام من الحج الذی کانت تمارسه العرب قبل الاسلام لم یکن موقفا واحدا فی جمیع الظروف و الأحوال فهو فی شبابه لا بد من ان یکون قد أسهم فی کثیر من الأحیان فی طقوسه و مراسیمه، و بعد الدعوة الاسلامیة السامیة لم یکن یعیر هذه المراسیم کثیرا من الالتفات فی بادی‌ء الأمر کما یلاحظ من عدم وجود ذکر لها فی آیات القرآن الأولی. و لا یبدو من أی شی‌ء آخر انه کان قد اتخذ موقفا واضحا تجاه هذه العادة فی الأصل.
علی ان اهتمام النبی محمد بالحج کان قد ظهر فی المدینة المنورة لأول مرة، و هناک أسباب عدة کانت تدعوه الی ذلک. فقد أثار نجاحه اللامع فی غزوة بدر الکبری أفکارا کانت تحوم فی مخیلته حول مهاجمة مکة و الاستیلاء علیها. و لا شک ان القیام بالاستعدادات اللازمة لاتخاذ مثل هذه الخطوة الجریئة کان لا بد من ان یقترن بمزید من النجاح لو أثیر الاهتمام الدینی الدنیوی فی نفوس أنصاره و أتباعه. و کان علیه السلام قد خدع فی تقدیر موقف الیهود تجاهه فی المدینة بحیث کان عدم اتفاقه معهم فی أمور کثیرة لا بد من أن یجعل حصول قطیعة دینیة معهم شیئا لا مناص منه. و فی هذه الفترة بالذات نشأت فکرة دیانة ابراهیم و علاقتها بالدیانتین الیهودیة و الاسلامیة.
فقد أخذت الکعبة تصبح بالتدریج مرکزا للعبادة الدینیة عند العرب، و لا شک ان ابراهیم أبا التوحید کان هو الذی بناها و شیدها بالاشتراک مع ابنه اسماعیل، لتکون مجمعا للناس أجمع. و ان ما یقوم به الناس من الشعائر و العبادات فی الکعبة یرجع سببه الی الأوامر الربانیة الواردة فی بعض سور القرآن.
و فی هذه الفترة کذلک جعلت الکعبة قبلة للمسلمین و أصبح الحج فریضة علیهم (و للّه علی الناس حج البیت من استطاع الیه سبیلا). و لقد کان الوضع علی مثل هذا فی السنة الثانیة للهجرة. و لم یکن فی استطاعة النبی الأعظم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 230
ان یحاول تنفیذ ما کان عنده من خطط الا فی السنة الخامسة بعد الهجرة).
أی بعد الحصار الفاشل الذی فرضته قریش علی المدینة (واقعة الخندق، و قد کان أول مجهود بذل فی هذا الشأن تجرید حملة الحدیبیة، التی جعلت أمر تأدیة العمرة فی السنة التالیة شیئا ممکنا و لو لم تؤد بالنبی علیه السلام الی الاستیلاء علی مکة. و فی السنة السابعة سن محمد مناسک الحج فی الکعبة، غیر ان الفرصة لم تسنح للقیام بمراسیم الحج علنا إلا بعد فتح مکة فی السنة الثامنة للهجرة. لکنه لم یغتنم هذه الفرصة لنفسه هو و انما بعث بدلا عنه فی السنة التاسعة أبا بکر، لیرأس موکب الحج و قافلته الی مکة. و بینما کان أبو بکر فی طریقه الیها أدرکه علی بن أبی طالب فی بعض منازل الطریق لیقرأ علی الحجاج سورة «براءة» التی کانت قد نزلت علی النبی علیه السلام فی ذلک الوقت. و قد حرمت هذه السورة إداء الحج علی غیر المسلمین الا الذین کان النبی قد دخل فی اتفاق خاص معهم. و فی السنة العاشرة حج النبی (ص) حجة الوداع، فکان للترتیبات التی أجراها فی هذه الحجة أهمیة بالغة بعد ذلک. فقد ألغی النسی‌ء و أدخل استعمال السنة القمریة البحتة المذکورة فی القرآن (ان عدة المشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا فی کتاب اللّه).
و یتطرق مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة الی المنشأ الذی نشأت عنه مناسک الحج فی أیام الجاهلیة، و یحاول خلق أوجه شبه أو تقارب بینها و بین الموجود مثلها فی الدیانة الیهودیة، من دون ان یحالفه التوفیق. فیبدأ بالاشارة الی العلاقة الموجودة بین موسم الحج فی مکة و أسواق العرب التی کانت تعقد فی أیام الجاهلیة. فیقول أننا نعلم ان العرب کانت تعقد سوقین سنویین قبل الاسلام فی شهر ذی القعدة، و هما عکاظ و المجنة.
و کان یعقبهما کذلک سوق ثالث فی أوائل ذی الحجة، و هو ذو المجاز الذی کان الناس یذهبون منه الی عرفات مباشرة. و علی هذا فقد یکون الفرض الذی یفرض علی المسلمین بالذهاب من مکة إلی عرفات مباشرة شیئا جدیدا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 231
و قد کان الحج الی عرفات یتم فی التاسع من ذی الحجة، فتشترک فیه مختلف القبائل العربیة. علی ان ذلک لم یکن شیئا ممکنا الا حینما یکون السلم منتشرا لواؤه فی البلاد، و لذلک کانت أشهر ذی القعدة و ذی الحجة و محرم تؤلف ما یسمی بأشهر الحرام المقدسة التی تتوقف فیها القبائل عن منازعاتها و خصوماتها، و تضع أسلحتها جانبا فی المنطقة المقدسة. و کانت المتاجرة و عرض السلع و المعروضات للبیع تقرن عادة بالحج و مناسکه، بعد الانتهاء من موسم قطف التمور. و ربما کانت هذه الأسواق هی. الشی‌ء الرئیسی بالنسبة لمعاصری النبی محمد، کما هی الحالة الیوم بالنسبة لعدد غیر قلیل من المسلمین الحالیین، لأن المراسیم الدینیة کانت قد فقدت أهمیتها حتی فی ذلک الوقت. و کان من المراسیم الرئیسیة فی حج الجاهلیة «الوقوف» فی سهل عرفات، اما فی الاسلام فان الحج من دون «وقوف» یعد شیئا غیر مقبول. و یمتد الوقوف فی الاسلام من وقت الزوال حتی الغروب، و یقول أهل السنة ان محمدا أمر بأن لا یغادر الحجاج سهل عرفات الا بعد الغروب؛ بینما کان من المعتاد قبل الاسلام ان تبدأ «الأفاضة» حتی و لو قبل الغروب.
لکن المقول ان محمدا لم یغیر الوقت فقط و انما الغی الشعیرة جمیعها بمنع الاسراع فی الذهاب الی المزدلفة، و أمر بأن یکون الدخول الیها علی مهل.
و یعتقد مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة ان هذا کانت له علاقة بعبادة الشمس فی الجاهلیة، و لذلک تعمد النبی ان یغیّر فی المواعید.
و قد کان «قزح» إله الصواعق هو إله مزدلفة، و لذلک کانت توقد النار فوق الجبل المقدس المعروف باسم قزح أیضا. و هنا کان یتم الوقوف کذلک، و ربما کانت العادة التقلیدیة فی الجاهلیة المنطویة علی إحداث الجلبة و الضوضاء بکثرة ترجع فی سببها الی کونها کانت تعویذة توددیة تتملق للاله المذکور.
و حالما کانت الشمس تبدو فی الأفق کانت تبدأ الأفاضة فی الجاهلیة.
و لذلک فرض النبی علیه السلام ان تبدأ هذه الافاضة قبل طلوع الشمس،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 232
لیقضی علی شعیرة من شعائر عبادة الشمس کذلک. و یقال أن العرب کانت تنشد فی أثناء الأفاضة قولها «أشرق ثبیر کیما نغیر». لکن تفسیر هذه الکلمات لا یعد شیئا أکیدا، و لو أنها قد فسرت أحیانا بالقول: «أدخل الی نور الصبح یا ثبیر، لنعجل بالمسیر».
و حینما کان العرب یصلون الی منی کان أول شی‌ء یفعلونه هو نحر الأضاحی علی ما یبدو، و ما زال الیوم العاشر من ذی الحجة یسمی بیوم الاضاحی کما لا یخفی. و کانت الأبل المهیأة للتضحیة فی الجاهلیة تعلّم بعلامات خاصّة.
و کانت الجمار، علی ما یقول ابن هشام، لا ترمی الا بعد ان تکون الشمس قد عبرت حد الزوال. و یقول المستشرق (هو تسما) أنه من المحتمل أن یکون رمیها موجها الی عفریت الشمس. لأن هذا العفریت حینما ینحی جانبا أو یطرد تکون قساوة الشمس قد انتهت بانتهاء الصیف، و لذلک کان لا بد من أن یعقب هذا العمل التملق بالعبادة لاله الصواعق الذی یأتی بالخصب الافاضة فی الجاهلیة کما یصورها مؤرخو الغرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 233
و المطر کما لوحظ من قبل فی ذکر مزدلفة. غیر ان المعروف عند المسلمین کما لا یخفی ان الجمار یراد برمیها رجم الشیطان، و علی هذا فان محاولة هذا المرجع ایراد هذا التفسیر بعد تصرفا بعیدا عن الواقع. ثم یقول مرجعنا ان الترویة قد تکون لها علاقة کذلک بالعبادة من أجل استدرار المطر، التی بقیت آثارها حیّة بتقدیس ماء زمزم.
و یقول المرجع کذلک ان بعض الحجاج کانوا یجففون لحوم الأضاحی فی الشمس، خلال أیام «التشریق»، لیأخذوها معهم حینما یعودون الی دیارهم. و هذه العادة تنطبق علی معنی کلمة تشریق التی یفسرها العرب القاموسیون بأنها تعنی «تجفیف قطع اللحم فی الشمس».

زمزم

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة أن زمزم هی بئر مکة المقدسة، التی تسمی بئر اسماعیل کذلک. و تقع فی الحرم الشریف جنوب شرقی مکة فی مقابل الرکن الذی یوجد فیه الحجر الأسود. و یقدر عمقها بمئة و أربعین قدما، و هی محاطة فی الوقت الحاضر بقبة رشیقة جمیلة البناء. و یقوم الحجاج بشرب الماء المستخرج منها للحصول علی الصحة و العافیة، و هم یأخذون من مائها الی أهلیهم أیضا لیسقوه المرضی و الناقهین. و تعنی زمزم بالعربیة الماء الغزیر.
و تنص الروایات العربیة و الاسلامیة علی ان هذه البئر لها علاقة بقصة ابراهیم الخلیل. فقد فجرها جبرائیل لینقذ هاجر و ابنها اسماعیل، حینما أشرفا علی الموت عطشا فی تلک البقعة القاحلة. و کانت هاجر أول من جمع ماءها ببناء جدار من الأحجار حولها. و من الأکید ان هذه البئر کانت تعتبر بئرا مقدسة منذ مدة موغلة فی القدم. و المعروف فی بعض الأخبار، کما یستفاد من أبیات شعر قدیمة، ان الایرانیین کانوا یرتلون صلواتهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 234
حول زمزم فی الأزمنة الغابرة، و یقول شاعر آخر ان هذه البئر کانت قد زارها ساسان بن بابک جد الأکاسرة الساسانیین.
و یفهم مما جاء فی الأخبار ان جرهم ردمت زمزم فی عهد الوثنیة، و أخفت خزائنها فیها، لکن المؤرخ المسعودی یقول ان جرهم کانوا أناسا فقراء لا یملکون مثل هذه الخزائن التی لا بد من ان یکون قد قد دفنها الایرانیون لا الجرهمیون. علی أن البئر أعاد اکتشافها و حفرها عبد المطلب جد النبی، الذی بنی من حولها جدرانا من الحجر. و قد استخرج منها خلال ذلک غزالین من الذهب، و بعض السیوف القلعیة، مع عدد من الدروع و الزرود. فصنع باب الکعبة من السیوف، و غلفها بصفائح الذهب التی أخذها من أحد الغزالین، أما الغزال الثالث فقد احتفظ به فی داخل الکعبة.
و فی سنة 909 (297 ه) فاض ماء زمزم علی غیر المعتاد فأغرق عددا من الحجاج. و قبل ان یغادر الحجاج مکة و یعودوا الی بلادهم ینقعون الأکفان التی یحتفظون بها للتکفن بعد الموت.

الکعبة

الکعبة حصن الاسلام و حرزها الحریز علی ما تقول دائرة المعارف الاسلامیة، و هی تقع فی وسط المسجد الحرام فی مکة. و لأسمها علاقة بشکلها المکعب فی مظهره. و یبلغ طول الجدار الذی تتکون منه الجبهة و یقع فیه الباب، و الجدار الخلفی، أربعین قدما، أما الجداران الآخران فیبلغ طولهما خمسة و ثلاثین قدما، کما یبلغ الارتفاع خمسین قدما.
و یتکون بناء الکعبة من طبقات متتالیة من حجر رمادی اللون جی‌ء به من الجبال المحیطة بمکة. و هی تقوم فوق قاعدة من المرمر تبلغ عشر بوصات فی ارتفاعها، و تبرز حوالی قدم واحد عن البناء فتسمی «الشاذروان».
و تدل الخطوط الأربعة التی ترسم من مرکز البنایة بامتداد الأرکان علی جهات البوصلة الأربع تقریبا. و یسمی الرکن الشمالی «الرکن العراقی»، و الرکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 235
الغربی «الرکن الشامی»، و الجنوبی «الرکن الیمانی»، و الشرقی «الرکن الأسود» نسبة الی الحجر الأسود.
و تغطی جدران الکعبة الأربعة بکسوة تصل الی أسفل، و تشد بحلقات نحاس مثبتة بالشاذروان. و هناک فتحات فی الکسوة للباب و خروج ماء الغسیل. اما الکسوة فتصنع فی مصر کل سنة و یؤتی بها إلی مکة بالمحمل مع موکب الحج. و ترفع الکسوة القدیمة کل سنة فی الیوم الخامس و العشرین (او الثامن و العشرین) من ذی القعدة، فتغطی الکعبة موقتا بغطاء أبیض ینزل الی ما فوق الأرض بست أقدام، فیقال عندئذ أنها «محرمة»، و عند انتهاء الحج تغطی بالکسوة الجدیدة. اما الباب فیغطی یکسوة خاصة لوحده، و هی من صنع مصری أیضا، و تسمی البرقع.
و تتألف الکسوة من نسیج حریری مشجر ذی لون أسود، حیکت فیه الشهادة. و علی ارتفاع ثلثی الکسوة یدور من حولها حزام من التطریز المذهب، المغطی بآیات قرآنیة کتبت بخط جمیل حسن. و یعتبر کل شی‌ء من الکسوة القدیمة قماشا مقدسا بطبیعة الحال، و لذلک یبیعها بنو شیبة سدنة الکعبة بقطع صغیرة تستعمل أحجبة و تمائم فی شتی الظروف و المناسبات.
و علی ارتفاع سبعة أقدام من الأرض یوجد الباب فی الجدار الشمالی الشرقی، و هذا الباب یطعم قسم منهه بتزیینات من الفضة. و فی داخل الکعبة ثلاثة أعمدة خشبیة یستند علیها السقف الذی یؤدی سلم خاص الیه. و الأثاث الوحید الموجود فیه هو الأضویة العدیدة من الذهب و الفضة المعلقة فیه.
و هناک کتابات کثیرة حول الجدران الداخلیة، اما الأرضیة فهی مبلطة بقطع من المرمر.
و قد بنی الحجر الأسود فی الرکن الشرقی، علی ارتفاع خمسة أقدام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 236
من الأرض و مسافة غیر بعیدة عن الباب. و هو یتکون الیوم من ثلاث قطع کبیرة، و عدة کسر صغیرة ملصقة معا و محاطة بحلقة حجریة یحیط بها حزام من فضة. و یوصف الحجر أحیانا بکونه من نوع البازلت، و أحیانا أخری یعتبر من اللاب البرکانی. علی أنه من الصعب تعیین طبیعته، لأن سطحه الظاهر قد تأکل فأصبح أملس بفعل اللمس و التقبیل. و یقدر البتنونی قطره باثنتی عشرة بوصة، أما لونه فهو أسود میال الی الحمرة مع بعض الجزیئات الحمراء و الصفراء منتشرة فیه.
و یسمی القسم المحصور بین الباب و الحجر الأسود من الجدار «الملتزم» لأن الحجاج یضغطون علیه بصدورهم عندما یبتهلون بجانبه. و یوجد فی الرکن الغربی کذلک، علی ارتفاع خمسة أقدام من الأرض، حجر آخر یسمی «الحجر الأسعد». و هذا الحجر یلمس و لا یقبل فی أثناء الطواف حول الکعبة.
و یبرز الی خارج الجدار من تحت قمة الجدار الشمالی الغربی «المیزاب» المذهب الذی تلتحق به زائدة صغیرة تسمی «لحیة المیزاب». و یطلق علی المیزاب اسم «میزاب الرحمة»، کما تقع القبلة المضبوطة ما بین المیزاب هذا و الرکن الغربی.
و یوجد فی مقابل الجدار الشمالی الغربی، من دون اتصال به، جدار مرمر أبیض له شکل نصف دائری. یسمی «الحطیم». و یبلغ ارتفاعه ثلاث أقدام، و سمکه خمس أقدام، کما یبعد طرفاه عن الرکنین الشمالی و الغربی بما یقرب من ست أقدام. و للفضاء نصف الدائری المحصور ما بین الحطیم و الکعبة أهمیة خاصة لأنه کان جزءا من الکعبة مدة من الزمن، و لذلک فانه لا یدخل فی ضمن خط الطواف الذی یمد علی مقربة من جهته الخارجیة. و یسمی هذا الفضاء «الحجر» او «حجر اسماعیل»، لأن المقول ان ابراهیم و اسماعیل و هاجر کانوا قد دفنوا فیه، و یسمی التبلیط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 237
الذی یتم فوقه الطواف «المطاف»، و هناک خسفة فی القسم الکائن فی مقابل الباب منه تسمی «المعجان»، لأن الاسطورة الخاصة تقول ان ابراهیم و اسماعیل کانا قد خلطا الملاط فیها عند بناء الکعبة.
و یدور حول المطاف، و بارتفاع یزید علی ارتفاعه، حاجز مبلط، یبلغ عرضه بضع خطوات، و یقوم فوقه واحد و ثلاثون او اثنان و ثلاثون عمودا من الأعمدة الرشیقة. و تسد صف الأعمدة هذا باب بنی شیبة التی یقوم طاقها الکبیر فی مقابل جدار الکعبة الشمالی الغربی فیعتبر مدخلا للمطاف.
و فیما بین هذا المدخل المقوس، و الکعبة نفسها تقوم بنایة غیر کبیرة لها قبة صغیرة، تسمی «مقام ابراهیم». و فی داخل هذه البنایة الصغیرة یحتفظ بحجر یقال ان ابراهیم کان یقف علیه فی أثناء بناء الکعبة. و لا یسمح بالدخول الی المقام الا بدفع اجور دخولیة خاصة. هذا و لم یستطع الأوربیون الذین زاروا البیت الحرام متخفین ان یشاهدوا الحجر، و یقول الرحالة الانکلیزی بورتون (سیأتی ذکره بالتفصیل بعد هذا) ان الریالات الخمسة التی طلبت منه للدخولیة کانت أکثر مما تتحمله مالیته یومذاک فلم یدخل. أما الشرقیون من الرحالة فیقولون عنه انه حجر غیر صلب یمکن ان تلاحظ فیه حتی الآن آثار قدمی ابراهیم الخلیل، فی مقابل جدار الکعبة الشمالی الغربی أیضا، و ما بین صف الأعمدة «المنبر» المصنوع من المرمر الأبیض.
و یکون التبلیط الذی یقوم علیه صف الأعمدة أخفض بقلیل من التبلیط الذی یدور حولها، فتتفرّع عنه ثمانیة مماش مبلطة تصل الی الأعمدة التی تحیط بالمسجد الحرام. و تقع علی التبلیط الخارجی اربعة مبان صغیرة، کما تقع بالقرب من باب بنی شیبة، فی مقابل الحجر الأسود، القبة المقامة فوق بئر زمزم. اما المبانی الصغیرة الثلاثة الأخری فتسمی «المقامات» او الأماکن التی یصلی فیها أئمة المذاهب السنیة الثلاثة عدا الشافعی. فیقوم المقام أو المصلی الحنبلی فی جنوب مبنی زمزم تجاه الجدار الجنوبی الشرقی للکعبة، و هو یتألف من سقف یعلو و یضیق حتی یتکون منه رأس مدبب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 238
فی الوسط، و یحمل علی أعمدة رشیقة من المرمر. و یکون مبنی المقام المالکی بالشکل نفسه، و هو یقع تجاه جدار الکعبة الجنوبی الغربی. و یطل المقام الحنفی علی الحطیم، و جدار الکعبة الشمالی الغربی، فیکون له سقفان أحدهما فوق الآخر. اما الشافعی فلیس له مقام خاص به، علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة، و لذلک یصلی الشافعیة تحت القبة فوق سقف زمزم أو فی مقام ابراهیم. علی أن الحکم الوهابی قد ألغی وجود المذاهب فی داخل المسجد الحرام.

تاریخ الکعبة

لیس عند العرب مستندات تاریخیة او شبه تاریخیة تدل علی أصل الکعبة و منشئها، علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الاسلامیة، و لا تتیسر عند الاوربیین مثل هذه المستندات کذلک. لکن المستشرق الهولاندی هور غرونیة (الذی سنذکره بعد هذا) یقول ان تفجر الماء فی زمزم فی واد قاحل جاف ربما یکون هو السبب فی نشوء قدسیة المکان بأجمعه.
و لا بد من ملاحظة أن بطلیموس یذکر فی جغرافیته «ماکورابا» فی مکان مکة. و لا شک ان هذه الکلمة تقرب من کلمة «مکراب» او «محراب» فی لغة الجنوب العربی و الأحباش. و لذلک یمکن ان یستنتج بأن الکعبة کانت موجودة فی القرن الثانی بعد المیلاد. و تدل قصة أبرهة و زحفه علی مکة علی وجودها فی القرن السادس للمیلاد کذلک، لکنها تنورنا بشی‌ء عن مظهرها او عما کان فیها من أشیاء. و المعروف ان تبّعا الحمیری الذی جاء الی مکة کان أول من جهز البناء بکسوة و باب له قفل، اما المعلومات المتوفرة عن توزیع وظائف الکعبة علی أبناء قصی فتدل علی ان العبادة فی هذا المکان قد أصبحت نظاما دینیا منتظما قبل مبعث النبی علیه السلام بعدة أجیال.
علی ان المراجع التاریخیة المتیسرة تبدأ بظهور محمد (ص). و هی تشیر الی أنه حینما وصل الی دور الرجولة و النضج حدث حریق فی الکعبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 239
و أتی علیها کلها. و هنا یذکر مرجعنا قصة بنائها من جدید و الاستفادة من خشب السفینة الیونانیة الغارقة فیه، مما أتینا علی ذکره قبل هذا. و یقال ان الکعبة القدیمة کان ارتفاعها لا یزید علی قامة واحدة، و لم یکن لها سقف.
و کانت عتبتها فی سویة الأرض، و لذلک کانت میاه السیول کثیرا ما تتسرب الیها. فرفعت سویتها عند تجدید البناء، و وضع الباب فوق مستوی الشوارع بحیث کان علی من یرید الدخول إلیها ان یتسلق سلما یؤدی الی فنائها. و کان الزوار غیر المرغوب فیهم یدفعون من فوق العتبة الی أسفل. و قد اختلف أهل مکة فیما بینهم علی الشخص الذی یضع الحجر الأسود فی المکان المعد له فی البناء، فحکّم محمد الصادق الأمین فی الأمر علی ما هو معروف فی تاریخه علیه السلام قبل الرسالة.
و حینما تسنی للنبی ان یفتح مکة فی سنة 8 للهجرة ترک بناء الکعبة علی ما کان علیه، لکن التجدیدات التی کان یرید إدخالها فیه قد تحققت فی سنة 64 للهجرة (683 م) علی ید عبد اللّه بن الزبیر. فقد حاصره الحصین ابن نمیر فی مکة حینما ثار فیها علی الأمویین، و عندما أخذ الجیش المغیر بقصفها نصب عبد اللّه خیامه و خیام مؤازریه بالقرب من الکعبة فأدی الاصطدام الی تهدیمها الی حد کبیر، بعد ان شبّت النار فیها. و قد تسببت النار فی تصدع الحجر الأسود و تکسره الی ثلاث قطع. و بعد ان انسحب الجیش الأموی شاور عبد اللّه المسؤولین عن الکعبة فی نقضها کلها و بنائها من جدید. و عندما قرر ذلک، و اقتضی الأمر ان تزال الأنقاض. لم یجرأ أحد علی التصدی للعمل لأن معظم السکان و علی رأسهم عبد اللّه بن عباس کانوا قد ترکوا البلد المقدس لأنهم کانوا یخشون ان ینزل علیهم عذاب من اللّه. و لذلک اضطر عبد اللّه بن الزبیر ان یتسلق الجدران بنفسه، و فی یده الفأس، فیبدأ بالعمل المخیف. و حینما وجد قومه أنه لم تنزل به نازلة او یصیبه شی‌ء تشجعوا فساعدوه فی العمل.
و عند ذاک بنیت الکعبة بأحجار مکة لا غیر، و ملاط الیمن، فجعل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 240
ارتفاعها سبعة و عشرین ذراعا. و تنفیذا لما جاء فی السنة النبویة أدخل الحجر (بکسر الحاء) فی ضمن البناء، و جعل بابان فقط فی سویة الأرض إحدهما للدخول و آخر للخروج. علی ان هذه التغییرات لم تستقم وقتا طویلا.
فقد استولی الحجاج بن یوسف الثقفی علی مکة سنة 74 ه (693 م) فقتل عبد اللّه بن الزبیر، و بموافقة من الخلیفة عبد الملک عزل الحجر عن الکعبة و سدّ الباب الغربی. و بذلک تطمنت رغبة بنی أمیة التی کانت ترید إبقاء شکل الکعبة علی ما کانت علیه قبل الاسلام تقریبا، و قد حافظت علی شکلها ذلک حتی یومنا هذا. و کان الرأی العام المکی علی الدوام غیر راغب فی إدخال أی تعدیل ذی بال علی الکعبة، کما هو الحال فی الجاهلیة. و لهذا فحینما هددتها میاه السیول سنة 1611 م حزمت البنایة بحزام من نحاس لتفادی الکارثة، غیر ان سیلا آخر حصل فی 1630 فجعل هذا التدبیر شیئا لا یفی بالمرام، فتقرر إدخال بعض التحسینات و التجدید. لکن الأحجار القدیمة کانت قد استعملت کلها فی إعادة البناء علی قدر الامکان.
اما عادة تغطیة الکعبة بکسوة خاصة فیقال ان تبعا الحمیری کان أول من بدأ بها، علی ما مر سابقا. علی ان إکساءها بکسوة جدیدة فی کل سنة قد أصبح عادة مستدیمة فی الأزمنة الحدیثة. و قد کان یوم عاشوراء فی الزمن القدیم هو الیوم الذی تجدد فیه کسوة الکعبة، غیر انها کانت تکسی فی رجب فی بعض الأحیان کذلک. و کانت الکسوة تصنع من قماش یمنی تارة او قماش مصری تارة أخری. و یبدو ان الکعبة قد ناءت بثقل الکساوی علی عهد الخلیفة عمر، و کادت تنهار، فجردت من کساواها القدیمة کلها.
و تشیر الروایات التاریخیة الی أن المقامات الموجودة حول الکعبة کانت موجودة فی أیام العباسیین، و کان المقام یسمی أحیانا «ظلة». علی أن المقول هو أن ابنیتها الحالیة تعود فی تاریخها الی سنة 1074 (1663 م).
و لقد ذکرت القبة المقامة فوق بئر زمزم منذ أیام العباسیین کذلک، لکن بنایتها الحالیة کانت قد شیدت فی 1072 للهجرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 241
و قد کانت النذور و القرابین تقدم للکعبة فی العهد الوثنی و عهد المسلمین علی السواء، و کثیرا ما کانت الأموال التی تجمع من هذا المورد تستخدم للأغراض السیاسیة من قبل بعض الحکام و الأمراء و الملوک. فقد ذکرت بعض المصادر أن الخلیفة عمر قال یوما بأنه لن یبقی ذهبا و فضة فی الکعبة و أنه سوف یوزعهما علی جهات و أغراض مختلفة. غیر ان علی بن أبی طالب قد اعترض علی ذلک بشدة علی ما یقال، فعدل عمر عن رأیه.
اما تاریخ الکعبة فی الاسلام فقد سبق ان أوردنا موجزا عنه نقلا عما ذکره دیغوری فی (حکام مکة) من قبل، ولکننا نود ان نضیف الی ذلک هنا بعض النقاط التی یوردها کاتب البحث المختص فی دائرة المعارف الإسلامیة أیضا. فحینما استولی محمد (ص) علی مکة جاء الیه عمه العباس و طلب الیه ان یحتفظ بوظائف خدمة الکعبة لنفسه، غیر ان النبی الکریم لم یکن یعلق أهمیة کبری علی کل هذه الوظائف سوی السقایة و السدانة. فبقیت السقایة فی ید العباس، و أعطیت السدانة الی عثمان بن طلحة الذی عین ابن عمه شیبة ابن أبی طلحة وکیلا عنه. و بقی بنو شیبة فی سدانة الکعبة حتی هذا الیوم أما الرفادة التی کانت فی عهدة أبی طالب فقد تولاها أبو بکر فی سنة 9 للهجرة، ثم تولاها الخلفاء أنفسهم من بعده.
و فی سنة 10 للهجرة کان محمد (ص) نفسه علی رأس الحجاج الی مکة، و لذلک لم یدخل الکعبة فی هذه السنة أی و ثنی من عبدة الأصنام تنفیذا لما جاء فی سورة براءة التی نزلت علیه. فأصبحت مکة منذ تلک السنة معبدا للمسلمین وحدهم بالکلیة، و صار المسلمون فی أنحاء العالم کافة یتجهون الی مکة فی کل صلاة، کما صار الطواف حول الکعبة لحجاج بیت اللّه الحرام أول المناسک الدینیة و آخرها عندهم فی اثناء الحج.
و من المراسیم الخاصة التی تختص بالکعبة الشریفة یؤکد مرجعنا علی اثنین منها علی الأخص، و هما عملیتا فتح الکعبة و غسلها. فان فتح الکعبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 242
یتم فی أیام معینة، و عند ذاک یسمح بالدخول الیها للرجال أولا، ثم للنساء.
و فی هذه الحال یوضع السلم المشار الیه من قبل بالقرب من البناء. و تعتبر الصلاة فی الکعبة علی جانب کبیر من الأهمیة و التقدیر.
و بعد ان ینتهی أمد الحج فی نهایة ذی الحجة یحین أوان غسل الکعبة، و هذه العملیة تتولاها السلطات المسؤولة فی مکة و عدد من الحجاج أنفسهم.
و کان أول من یدخل الکعبة لهذا الغرض شریف مکة المسؤول، و بعد أن یصلی رکعتین یقوم بغسل الأرض بماء زمزم الذی یتسرب إلی الخارج من ثقب خاص فی عتبة الباب. و کانت الجدران تغسل بنوع خاص من المکانس مصنوع من سعف النخیل علی ما یقول مرجعنا. ثم یعمد الشریف الی رش کل شی‌ء بماء الورد، و یعقب ذلک تبخیر البنایة بأنواع العطور و البخور.
و یقوم الشریف فی النهایة برمی المکنسة الی جمهور الحجاج الذین یتخاصمون و یتنافسون فیما بینهم من أجل الحصول علیها. و یذکر البتنونی فی رحلته ان المطوفین و الزمزمیین یبیعون الی الحجاج مکانس مماثلة بما لا یقل عن نصف ریال للواحدة.
فیتضح من ذلک ان تقدیس الکعبة یمتد الی کل ما له علاقة بها، مثل الحجر الأسود و المیزاب و ماء زمزم و ما أشبه. علی اننا نلاحظ فی المراجع العربیة ان الخلیفة عمر خاطب الحجر الأسود ذات یوم بقوله «انی أعلم أنک حجر لا تضر و لا تنفع، و لو لا ان رسول اللّه قد قبلک لما قبلتک».
ثم ان الصلاة تحت المیزاب تعتبر صلاة فیها الکثیر من الأجر و الثواب، و لذلک یقول المؤرخ الأزرقی «الصلاة تحت المثعب تمحو الذنوب». و یعد ماء زمزم الذی یسکبه الحاج علی نفسه مرة بعد أخری من دون ملل، مفیدا لکل شی‌ء عند الشرب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 243

عرفات

یطلق هذا الأسم علی جبل اشتهر بکونه مکانا یحج الیه الحجاج بعد الطواف فی مکة، و علی السهل القریب منه، الکائن علی بعد ست ساعات من شرف مکة کما تقول دائرة المعارف الأسلامیة. و یتألف هذا الجبل المعتدل فی حجمه و أبعاده، من حجر الغرانیت، فیصل بارتفاعه الی مئة و خمسین او مئتی قدم. و هناک درجات حجریة متسعة فی الجهة الشرقیة منه تؤدی الی قمته. و توجد فی الدرجة الستین فسحة خاصة یقوم فی وسطها منبر تلقی منه الخطبة سنویا بعد ظهر الیوم التاسع من ذی الحجة، أی فی یوم عرفات. و قد کانت توجد فوق القمة سابقا قبة خاصة تسمی باسم «ام سلمة»، فهدمها الوهابیون. و المعروف ان المسلمین المتدینین لا یتجاوزون فی صعودهم حد الفسحة و المنبر. و یسمی الجبل فی العادة جبل الرحمة.
اما سهل عرفات فیمتد الی جنوبی الجبل الی ان تحده سلسلة جبال الطائف الشامخة من الجهة الشرقیة. و یغطی السهل نمو غیر مرتفع من النباتات المستحیة (میموزا)، و هو لا یمتلی‌ء بالحیاة و الحرکة الا فی یوم واحد من السنة (التاسع من ذی الحجة) حینما ینصب الحجاج خیامهم احیاء لفریضة او شعیرة «الوقوف»، و یتم الوقوف بعد ظهر الیوم المذکور فیمتد الی غروب الشمس. و یعبر الحجاج الذین یحضرون للوقوف عن حماستهم الدینیة بقولهم «لبیک، لبیک» بصوت عال، و الصلاة و تلاوة القرآن الکریم.
و لا یعرف ما هو أصل عرفات، غیر ان التفسیر الأسطوری علی ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 244
یقول مرجعنا هو ان آدم و حواء تلاقیا فی هذا المکان و تعارفا ثانیة بعد ان افترقا علی أثر طردهما من الجنة. و هناک تفسیرات مماثلة غیر هذه یذکرها المؤرخون العرب.

منی

تقع منی ما بین الجبال الکائنة فی شرق مکة، علی الطریق المتجه منها الی عرفات. و تذکر دائرة المعارف الأسلامیة نقلا عن المقدسی أن المسافة بین مکة و منی لا تزید علی فرسخ واحد، بینما یقول المؤرخ الانکلیزی (ویفل) ان المسافة تقدر بخمسة امیال، و أن إکمالها الی عرفات یبلغ تسعة امیال. و تقع منی فی واد ضیق یمتد من الشرق الی الغرب، و یبلغ طوله حوالی ألف و خمس مئة خطوة علی ما یقول الرحالة بورخارت، و هو محاط بأجراف منحدرة جرداء من حجر الغرانیب. و یقوم فی الجهة الشمالیة من منی جبل یسمی «ثبیر». فینزل القادمون من مکة الی هذا الوادی من ممشی جبلی نحت فیه عدد غیر یسیر من الدرجات، و هذا هو «العقبة» التی اشتهرت بالمفاوضات التی کان النبی محمد (ص) قد أجراها مع المدینتین.
و تتألف البلدة من بیوت مبنیة بالحجر ذات حجوم معتدلة، یتکون منها شارعان طویلان. و فیما یقرب من العقبة عمود قصیر منحوت نحتا غیر صقیل، یطلق علیه «الجمرة الکبری» او «جمرة العقبة»، و یرمی الحجاج جمراتهم علی هذا العمود. و علی مسافة قلیلة الی الشرق من هذا توجد فی وسط الشارع «الجمرة الوسطی»، التی یعرف مکانها بوجود عمود أیضا. کما یوجد علی مسافة مماثلة من هذه مکان ثالث یسمی «الجمرة الاولی». و حینما یصل المرء الی النهایة الشرقیة من الوادی یجد علی یمین الطریق مسجدا مربع الشکل محاطا بسور خاص، هو مسجد الخیف الذی أعاد بناءه صلاح الدین فی 1467 (874 ه)، ثم جدده من بعده السلطان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 245
المملوک قائدبک. و توجد علی طول الجهة الغربیة من السور المحیط بالمسجد ثلاثة صفوف من الاعمدة.
و أبرز ما یلفت النظر فی منی المفرق العظیم الذی یلاحظه المرء بین الشوارع الهادئة الخالیة فیها خلال القسم الاعظم من السنة، و الازدحام الهائل الذی یحصل خلال شهر الحج. فان نصف ملیون من الناس مع حیواناتهم المحملة بالأحمال الثقیلة یحاولون قطع الأمیال التسعة فی الفترة المنحصرة بین طلوع الشمس و الساعة العاشرة زوالیه قبل الظهر. و لذلک تکون کل بقعة فی الوادی مغطاة فی ذلک الیوم بالخیام التی یقضی الحجاج لیلتهم فیها.
و یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الأسلامیة ان مناسک الحج فی منی تعود فی تاریخها الی أیام الجاهلیة الوثنیة. فیعتقد ان رمی الجمار هی عملیة قدیمة جدا، لکن أهمیتها فی الأسلام یکتنفها شی‌ء من الغموض، مع انه یشک بان اکوام الجمار الثلاثة کانت موجودة قبل الأسلام. و من الواضح کذلک ان مناسک الحج فی منی کانت تعتبر خاتمة الحج کله حتی فی الأزمنة القدیمة. و یقول مرجعنا ان النبی محمدا (ص) أدخل بعض التغییرات المهمة فی هذا الشأن، فقد أوجب زیارة الحجاج لمکة قبل المکوث فی منی لکن عناصر الحج القدیمة بقیت من العوامل المهمة فیه لأنه لا ینتهی الیوم فی مکة و انما ینتهی فی منی کما کان بالسابق. و ربما کان المکان الذی تنحر فیه الأضاحی، الذی تفضله اکثریة الحجاج، و هو سفوح ثبیر الجنوبیة، من بقایا العهد القدیم ایضا، لأن علاقته بقصة ابراهیم ربما تکون قد أدت الی اعتراف الأسلام بمثل هذه البقعة الوثنیة. و هی کما یصفها بورتون الرحالة عبارة عن منصة صخریة مربعة الشکل یمکن الوصول الیها بعدد من الدرجات. و لم یمنع النبی نفسه استعمال بقعة النحر الوثنیة مباشرة، لکنه جردها عن اهمیتها القدیمة بقوله ان نحر الضحایا یمکن ان یتم فی أی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 246
بقعة من منی کلها، و هذه وسیلة بارعة کان قد اتبعها فی عرفات و مزدلفة کذلک.
و تحتم التعالیم الأسلامیة علی الحجاج الذین یصلون الی مکة فی ثامن ذی الحجة ان یغادروها بحیث یستطیعون اداء صلاة الظهر فی منی، و البقاء فیها حتی مطلع الشمس فی الیوم التاسع، و عند ذاک فقط یمکنهم الذهاب الی عرفات. علی ان اغلبیة الحجاج لا تفعل هذا و انما یذهبون فی الیوم الثامن الی عرفات بعد الصلاة مباشرة حیث یصلون عند المساء. و بعد أن یؤدوا مناسک الحج فی عرفات و مزدلفة یذهبون الی منی قبل طلوع الشمس فی الیوم العاشر لیحتفلوا بیوم النحر الاکبر. و هنا یؤدون مناسک اختتام الحج کلها، و هی النحر و قص الشعر و الاظافر و رمی الجمار. و لیس هناک اتفاق تام علی الترتیب الذی یجب ان یتبع فی أنجاز هذه المناسک، علی ان تحویر عملیة رمی الجمار له أهمیته لانها ترمی فی یوم النحر علی کومة العقبة، بینما یقوم کل حاج فی الأیام الثلاثة التالیة برمی سبع جمرات صغار فی کل یوم علی الاکوام الثلاثة کلها. أما اختتام الحج فیتم بأیام منی أو أیام التشریق الثلاثة، أی یوم 11 و 12 و 13 من ذی الحجة. و تعتبر هذ الأیام أیام فرح و انشراح یحییها الحجاج بمظاهر البهجة و السرور، و بانارة الأضواء و إطلاق النار من الاسلحة. علی ان الحجاج کلهم لا یمکثون فی منی طوال الایام الثلاثة، و انما یمکنهم العودة قبل ذلک.

المزدلفة

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة ان المزدلفة مکان یقع فی منتصف الطریق الموصل بین منی و عرفات تقریبا، حیث یفضی الحجاج العائدون من عرفات اللیلة المنحصرة بین یومی 9 و 10 ذی الحجة، بعد ان یؤدوا صلاتی المغرب و العشاء. و قبل ان تبزغ الشمس فی صباح الیوم التالی، یهرع الحجاج الی التسلق من وادی المحاصر الی منی. و تسمی المزدلفة کذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 247
«المشعر الحرام» و «الجمع»، لکن روایة أخری تقول ان الجمع یتألف من المنطقة الواقعة بین عرفات و منی کلها بما فیها الموقعان نفساهما، بحیث یعنی «یوم الجمع» یوم عرفات نفسه و «أیام الجمع» أیام منی نفسها. و ترجع المناسک التی یقوم بها الحجاج خلال اللیلة التی یقضونها فی المزدلفة الی أیام الوثنیة القدیمة فی تاریخها، علی ما یقول مرجعنا فی دائرة المعارف الأسلامیة. و یعترف العرب انفسهم بذلک حینما یشیرون الی أن قصیا هو الذی ابتدع إشعال النار المقدسة فی هذه اللیلة، و یقولون ان قیادة الخروج الی منی تعتبر امتیازا خاصا لأسرة عدوان.
و کان المکان المقدس فی المزدلفة جبل قزح، و قد بقی هذا الجبل محافظا علی قدسیته حتی بعد ان صرح الاسلام بأن المزدلفة کلها «مواقف».
و یقول الأزرقی مؤلف مکة القدیم: ان قزحا کان یوجد فوقه برج مدور سمیک الجدران، کانت النار توقد فیه» و فی أیام هارون الرشید کانت هذه النار تغذی بالخشب، ثم صارت توقد الشموع فیه حتی تم بناء مسجد خاص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 248
علی بعد أربعمئة یاردة من البرج. و تضاء الأضویة فی لیلة المزدلفة الیوم فوق هذا المسجد نفسه.

الصفا و المروة

ان الصفا و المروة، علی ما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة، هما نشزان غیر مرتفعین من الأرض موجودان فی موقعین متقابلین من مکة المکرمة، و یعنی معناهما الحجر.
و یقوم المسلمون خلال الحج بالسعی بین هذین المرتفعین احیاء لذکری هاجر، أم اسماعیل، التی ظلت تهرول بین الصفا و المروة للتفتیش عن ماء تأتی به الی ابنها العطشان. و یؤکد المؤرخون ان هذا المکان کان من الأماکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 249
المقدسة حتی فی الجاهلیة. فقد کان فیه صنمان حجریان هما «إساف» فوق الصفا و «نائلة» فوق المروة، و کان العرب یسعون بینهما و یمسکون بهما للتبرک. و قصة هذین الصنمین الجاهلیین الاسطوریة قصة طریفة تتلخص فی أنهما کانا شخصین سلکا سلوکا شائنا فی الکعبة، فانقلبا الی صنمین حجریین وضعا فوق الصفا و المروة لیکونا عبرة لمن یعتبر من الناس. و قد نسیت هذه القصة بمرور الزمن فلم یعد أهل الجاهلیة یعلمون بظروف وجودهما هنا، و أخذوا یقدسونهما الی حد العبادة. و تقول روایات أخری ان هذا المکان کانت توجد فیه أصنام من النحاس، کما تقول روایات غیرها ان هذین التلین کان یعیش فیهما بعض العفاریت التی کانت تخرج أصواتا مخیفة فی اللیل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 250

الغربیون فی مکة

اشارة

هذا و یستفاد مما جاء فی عدد غیر یسیر من المراجع الغربیة ان مکة المکرمة تطرق الی ذکرها المؤرخون الغربیون منذ القدم، و ان عددا من رحالی الغرب و مستشرقیه قد تسنی لهم الدخول الیها و الاشتراک فی مناسک الحج فی مختلف الأدوار السابقة و اللاحقة، بعد ان اعلنوا اسلامهم الحقیقی او غیر الحقیقی. و قد تهیأ لعدد من هؤلاء ان یکتب عن مجازفاته و مغامراته فی سفرة مثل هذه فی أکثر من لغة واحدة من اللغات الأوربیة.
فمن أوائل الأوربیین الذین ذکروا مکة و وصفوا ساحل الحجاز علی البحر الأحمر المؤرخ الیونانی دیودورس الصقلی . فهو یقول ان هذا الساحل لیس فیه سوی عدد قلیل جدا من الموانی‌ء و المرافی‌ء نظرا لوجود سلسلة طویلة من الجبال تمتد علی طوله، و هی تبدو جمیلة جدا ملأی بالألوان للمارین بالسفن من قربه. الا ان منطقة داخلة فی البحر تصادفهم بعد ذلک و هی ملأی بالقری و البلدان التی یسکنها العرب الأنباط. و لهؤلاء بلاد واسعة تمتد علی ساحل البحر، و بعیدا عنه الی الداخل، و هی بلاد کثیرة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 251
السکان غنیة بالمواشی و الأغنام. و کانوا یعیشون عیشة رخاء و نزاهة لما کان عندهم من قطعان کبیرة، حتی أطلق ملوک الاسکندریة الحریة للتجار بارتیاد البحر الاحمر. فأخذ هؤلاء یسرقون السفن المعطلة، و یمارسون اعمال القرصنة حتی هددوا الحرکة التجاریة فی ذلک البحر. و عند ذاک سیقت علیهم حملة بحریة أنزلت بهم العقاب. ثم یذکر دیودورس وجود قوم یسمیهم «البیزومینیین» ، و یذکر ان هؤلاء کانوا یعیشون علی اصطیاد الحیوانات الوحشیة. و هنا یقول ان هذا المکان یوجد فیه معبد مقدس یجله العرب کلهم.
اما مؤرخ الاغریق المشهور هیرودوتس، الذی کتب تاریخه فی 430 قبل المیلاد، فیقول ان العرب کانوا یعبدون أوروتال أو ألیلات. و لا شک ان هذین الاسمین یعنیان، علی ما یقول دیغوری فی کتابه المار ذکره الصنمین «اللّه تعالی» و «اللات» الذی کان یوجد فی الطائف. ثم یقول هیرودوتس کذلک ان العرب کانوا یتعاقدون و یتعاهدون لدی هذین الصنمین فیعتبر تعاقدهم نافذا نفوذا مضاعفا حینما کان یؤخذ الی مکة.

لودفیکو فارتیما الایطالی

و أول من زار مکة من الأوربیین الحدیثین و کتب عن رحلته فوصلت کتابته إلینا سالمة واضحة رجل ایطالی مغامر یدعی لودفیکو فارتیما، من أهالی بولونیة فی ایطالیة علی ما یقول دیغوری، و یسمی نبیل روما فی المزاجع الاخری. و یقول لودفیکو فی رحلته أنه یرد علی من یسأله عن السبب الذی دفعه الی القیام بها ان السبب ینطوی فی الرغبة الملحة فی السعی وراء المعرفة و مشاهدة العالم، و ما فیه من معجزات اللّه عز و جل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 252
و قد أبحر من البندقیة فی 1503، و وصل الی الاسکندریة، و بعد ان زار حصن بابیلون فی مصر علی ما یقول توجه لزیارة طرابلس و انطاکیة و بیروت و دمشق. و هناک ارتبط بصداقة مع ضابط من ضباط الممالیک، فقرر الذهاب الی مکة معه فی ضمن موکب الحج السنوی الذی یخرج من دمشق بکثیر من المراسیم و التقالید. و قد تحرک الی مکة فی الیوم الثامن من نیسان بزی جندی من جنود الممالیک، و هو یقدر ان قافلة الحج کانت تتألف من أربعین ألف رجل و خمسة و أربعین ألف حیوان. و مما یرویه عن وقائع الطریق ان القافلة اضطرت فی یوم من الأیام الی الاصطدام بحشد کبیر من أعراب البادیة، لکن الستین من جنود الممالیک الذین کانوا موکلین بحراسة القافلة کانوا أکثر من ند للخمسین ألف (کذا) بدوی علی ما یقول لودفیکو. و قد هوجمت القافلة فی یوم آخر بحشد من البدو یقدر بأربع و عشرین ألف شخص (کذا)، لکنها تغلبت علیهم بعد ان تمکنت من قتل ألف و خمس مئة منهم! و یعود السبب فی ذلک کله علی ما یقول الی شجاعة الجنود الممالیک و قوة بأسهم، و الی کون الاعراب کان قسم کبیر منهم غیر مسلحین و عراة أیضا. و تقول شارحة رحلة بارتیما أو فارتیما (المنشورة مع رحلة بورتون الانکلیزی) المسز الیزابیل بورتون بهذه المناسبة ان بدو الحجاز فی ایامها (1873) أصبحوا أشد خطرا و أقوی شکیمة لأنهم صاروا یستعملون (البوارید) و البنادق، و ان الطریقة الوحیدة لتجریدهم من قوتهم و دفع خطرهم هی منع استیراد الأسلحة الناریة و مادة الرصاص لهم.
و بعد أن أدی فارتیما مناسک الحج کلها فی المدینة و مکة علی ما یقول استطاع بتدبیر خبیث ان یهرب من القافلة و زملائه الحراس علیها الی جدة، و من هناک أبحر عن طریق البحر الأحمر الی ایران. و یذکر فی وصف هزیمته انه اختبأ فی بیت أحد المسلمین فی مکة الی حین خروج موکب الحج الشامی منها، لکنه یذکر انه کان من حسن حظه ان احبته إحدی قریبات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 253
صاحب البیت فساعدته علی التخفی و الهرب.
و هو یذکر فی الفصل الذی یتطرق فیه الی تشیید مکة و انشائها انها مدینة جمیلة تکتظ بالسکان، لأنها تحتوی علی ستة آلاف أسرة. و دورها حسنة للغایة، مثل دور الایطالیین علی حد تعبیره، و هناک بعض الدور تقدر قیمة الواحدة منها بثلاثة أو أربعة آلاف دوکات. و یذکر کذلک ان مکة لم تکن مسوّرة لأن أسوارها هی الجبال الطبیعیة التی تحیط بها، و لها أربعة مداخل. و حینما وصل الحج الشامی کان الموکب المصری قد وصل الی مکة، و لذلک یذکر فارتیما بالمناسبة ان هذا الموکب کان فیه حوالی أربعة و ستین ألف جمل، و له مئة مملوک للحراسة. و یقول بطریقته التهکمیة، التی تدل علی تعصبه ضد الاسلام، ان اللّه سبحانه و تعالی أنزل لعنته علی هذه المدینة فجعلها جرداء قاحلة لا تنتج أی شی‌ء من العشب و الأشجار، و لا أی شی‌ء آخر. و انما کانت تستورد معظم اطعمتها و حاجیاتها من القاهرة عن طریق البحر الأحمر. و قد اندهش فارتیما من کثرة الحجاج الهائلة و تعدد جنسیاتهم و قومیاتهم، بحیث یقول أنه لم یجد مطلقا من قبل مثل هذا العدد من الناس یجتمع فی بقعة واحدة من الأرض.
و فی الفصل المخصص للحج و الغفران من رحلته یقول ان مرکز مکة یوجد فیه معبد جمیل جدا علی حد تعبیره، یشبه الکولوسیوم الموجود فی روما، لکنه مبنی من اللبن المشوی. و للمسجد الحرام، أو المعبد کما یسمیه، مئة باب ذات طوق. ثم یشیر الی وجود الکعبة فی الوسط دون ان یذکر اسمها، و یقول ان المغفرة من اللّه تطلب عند الطواف حولها. و للکعبة التی یسمیها برجا، باب فضة لا تزید فی علوها علی قامة واحدة. ثم یصف بئر زمزم و یقول ان لها قبة جمیلة، و ان عمقها یبلغ سبعین قامة، و ان ستة او سبعة رجال یقفون عادة حول البئر لیستقوا الماء للناس منها. و هؤلاء یریقون ثلاثة أسطل من ماء زمزم فوق کل حاج من الحجاج، فیتبلل به من قمة الرأس الی أخمص القدم و لو کان لباسه من حریر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 254

مملوک برتغالی مجهول الاسم

و فی تموز 1565 حج الی مکة المکرمة مملوک 1 برتغالی الأصل مجهول الاسم فکتب وصفا دقیقا عنها برغم اختصاره و اقتضاب ما جاء فیه و قد اکتشف ما کتبه هذا المملوک فی السنوات الأخیرة السنیور دیلافیدا مکتوبا فی حاشیة کتاب عربی موجود فی مکتبة الفاتیکان برقم 217. و کان هذا البرتغالی قد تحرک من رایغ الی مکة فی آخر یوم من حزیران، و هو یقول ان الناس یذهبون عراة الی مکة من هناک مشیرا الی الأحرام بطبیعة الحال.
و فی حوالی الوقت نفسه حج الی مکة کذلک رجل 1 المانی یسمی هانس وایلد، کان قد أخذه الأتراک اسیرا فی هنغاریا یومذاک، و سیق الی مکة فلم یعد الی المانیا الا فی سنة 1611. و بعده بسنوات قلیلة أسر فتی بندقی، یدعی مارکو دی لومباردو، و هو یعبر الأبیض المتوسط بصحبة عمه القبطان فبعث به الی مکة من مصر مصاحبا لابن سیده. و قد دوّن أشیاء طریفة عن سفرته التی نشرها بعد ذلک بسنین عدیدة المبشر یوجین روجر.

جوزیف بیتس الانکلیزی

و قد حج الی مکة فی أواخر القرن السابع عشر شاب انکلیزی یافع من أهالی أوکسفورد یدعی جوزیف بیتس. و کان هذا الشاب و هو فی السادسة عشرة من عمره قد دفعه طموحه سنة 1678 الی التطویح فی الآفاق و زیارة البلاد، ان ینخرط فی سلک البحریة، فأدی به ذلک الی ان یقع أسیرا فی أیدی القرصان الجزائریین. و بعد ان عاش حوالی خمس عشرة سنة فی الأسر و العبودیة أخذه صاحبه الی مکة المکرمة و المدینة عن طریق الاسکندریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 255
و القاهرة و السویس. و یعتقد الرحالة بورتون، الذی نشر مذکرات بیتس هذا مع رحلته، ان وصف بیتس للأماکن التی زارها هو وصف دقیق مضبوط فی الأعم الأغلب، و مع ان کتابته تتصف بالتعصب الأعمی فانها خالیة من الخرافات او الأشیاء التی لا تصدق.
و نظرا لأن بیتس کان یجید التکلم بالعربیة و الترکیة فقد اتقن التعالیم الاسلامیة اکثر من غیره. و کان صاحبه، النقیب فی خیالة الجیش الجزائری، رجلا مسرفا منغمسا فی الدعارة و الفجور علی ما یقول بیتس، فصمم علی ان یکون سببا فی اعتناق مملوکه الانکلیزی الدیانة الاسلامیة تکفیرا عن آثامه و خطایاه. فاستعمل الضرب و الشدة معه حتی نطق بالشهادة، لکنه بقی خلال وقته کله الذی قضاه فی بلاد الاسلام و المسلمین یعبر عن سخطه و دخیلة نفسه المجبولة علی المسیحیة فی شتی الظروف و المناسبات.
و حینما أخذه سیده الجزائری الی مکة أعتقه و أخلی سبیله، لکنه بقی یعیش معه و یخدمه لقاء أجور حتی عاد الی الجزائر، و عند ذاک أخذ یفکر فی الهرب و العودة الی بلاده الاصلیة. فاستطاع التسلل الی سفینة من السفن المتوجهة الی استانبول، بعد ان أخذ معه کتاب توصیة من المستر بیکر القنصل الانکلیزی فی الجزائر یومذاک الی قنصل انکلترا فی أزمیر المستر ری.
و مع ان الحنین الی الجزائر قد عاوده فی أزمیر و صار یفکر فی العودة و استئناف الحیاة فیها کرجل مسلم، فقد استقل باخرة فرنسیة متوجهة الی لیغهورن فی ایطالیة، بعد أن دفع ثمن التذکرة عنه تاجر انکلیزی کان یقیم فی أزمیر یدعی المستر أیلیوت. و مما یدل علی مقدار تعصب بیتس للمسیحیة و احتفاظه بعقیدته فیها، رغم جمیع ما أصابه من تقلبات، أنه ما کادت رجله تطأ الأرض فی لیغهورن حتی خر ساجدا علیها و قبلها عدة مرات، و هو یشکر اللّه علی عودته الی دیار النصرانیة بعد هذه الغیبة الطویلة عنها. ثم عاد الی موطنه فی انکلترة بعد ذلک.
هذا و قد کتب جوزیف بیتس مذکرات تفصیلیة عن سفرته الی مکة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 256
وصف فیها البلدة و أماکنها، کما وصف المسجد الحرام و الکعبة و مناسک الحج کلها. و لیس من الممکن بطبیعة الحال ان نورد هنا جمیع ما کتب عن ذلک، و انما سنورد نماذج منتخبة مما کتب. فهو یقول عن أول وصوله الی مکة:
.. و حالما وصلنا الی مکة المکرمة سار بنا الدلیل فی الشارع الکبیر الذی یقع فی وسطها، و یؤدی الی المسجد الحرام (یسمیه المعبد،) و بعد أن أنخنا ذلولنا کان أول ما أخذنا الدلیل الیه البرکة لنقوم بعملیة الوضوء، و عند ذلک جاء بنا الی الحرم الشریف فخلعنا أحذیتنا و ترکناها عند الکیشوان، ثم دخلنا من باب السلام. و بعد ان سرنا خطوات معدودة وقف بنا الدلیل و رفع یده للدعاء و أخذ یرتل بعض الجمل الدینیة، فقلده الحجاج و کرروا ما کان یقوله. و ما أن وقع نظر الحجاج علی بیت اللّه الحرام (یقصد الکعبة) فی الداخل حتی انهمرت الدموع من أعینهم بغزارة، و قادنا الدلیل الیه فی الوقت الذی کنا ما نزال نکرر ما یقول من الأدعیة و الجمل الدینیة. و قد أعقبنا ذلک بالطواف سبع مرات من حوله، و بالصلاة رکعتین من بعد ذلک. و بعد الانتهاء من کل هذا أخذنا الدلیل الی الشارع من جدید حیث کان علینا ان نهرول أو نرکض من مکان فی الشارع الی آخر (بین الصفا و المروة) فنقطع مسافة لا تزید علی رمیة سهم. و أنی اعترف بأننی لم یکن بوسعی سوی ان أعجب بهؤلاء المساکین الذین یخلصون الی آخر حد فی تأدیة مثل هذه «الخرافات»، و أقدر شعورهم حینما ألاحظ مقدار ما ینتابهم من الرهبة و الارتعاش. و الحق أننی لم أتمالک نفسی من البکاء و ارسال الدموع حینما رأیت حماستهم المتناهیة فی العقیدة، برغم ما فیها من وثنیة (کذا)، و مع کونهم یؤدونها علی العمیا.
و یصف بیتس مکة فیقول أنها بلدة تقع فی واد غیر ذی زرع، أو فی وسط عدة جبال صغیرة. و هی غیر عصیمة، لأنها لیس لها أسوار و لا أبواب. اما سکانها فهم فقراء میالون الی النحافة و الهزال، و سمر فی لونهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 257
علی ان البلدة محاطة لعدة أمیال بآلاف عدة من التلال و الجبال الصغیرة التی تتقارب بعضها الی بعض جد التقارب. و کلها احجار صخریة میالة الی السواد فی لونها ... و هناک فوق قمة أحدها غار مشهور یسمی غار حراء، کان النبی محمد یعتزل فیه فیستغزق فی عبادته و تأملاته و صومه. و قد ذهبت الیه فلم أجد ان ید التجمیل قد مسته مطلقا، فأعجبت جد الاعجاب بذلک.
و یقول بیتس کذلک ان مکة کان فیها ماء کثیر، لکنها خالیة من العشب و الزرع الا فی بعض الأماکن. علی أنه وجد فیها عدة أنواع من الفواکه میسورة للناس مثل العنب و البطیخ و الرقی و الخیار و القرع و ما أشبه. و هذه یؤتی بها فی العادة من مکان یقع علی مسیرة یومین او ثلاثة، یسمی «حباش» (؟) و لعله یقصد بذلک الطائف.
ثم یذکر خلال وصفه للحج و مناسکه ان سلطان مکة (ای الشریف) الذی ینحدر من نسل النبی محمد (ص) لا یعتقد بأن غیره قمین بتنظیف البیت و تطهیره، و لذلک یقوم هو شخصیا و الأثیرون عنده من رجاله بغسله بماء زمزم المقدس، ثم بالماء المطیب المعطر. و حینما یقومون بهذه العملیة ترفع السلالم التی تؤدی الی بیت اللّه، و لذلک یحتشد الناس تحت الباب لیدفع ماء الغسیل علیهم حتی یتبللوا به من الرأس الی القدم. ثم تقطع المکانس التی یکنس بها البیت المقدس قطعا صغیرة و ترمی علیهم فیتلاقفونها، و من یفز بقطعة منها یحتفظ بها کأثر مقدس لدیه (؟). و یتطرق بعد ذلک الی ذکر الکسوة و وصفها کالمعتاد . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 258

القس جوزیف أوفینکتون

و قد کانت شرکة الهند الشرقیة فی أواخر القرن السابع عشر معنیة بجمع المعلومات عن موانی‌ء البحر الأحمر و أهمیتها، فکلفت عددا من رجالها بذلک. و کان من جملتهم القس جوزیف أوفینکتون الذی کتب فی وصف جدة و أهمیتها، فنشر الوصف فی کتابه المسمی «رحلة الی صوراة» .
و هو یقول ان المیناء الرئیسی فی البحر الأحمر یعود للسلطان ... و هو میناء مکة. و لیست الأراضی المحیطة بهذین البلدین ذات فائدة مطلقا، کما انها غیر قابلة للاصلاح و التحسین بحیث یبدو أنها قد أصیبت بلعنة من الطبیعة فحرمت من نعم اللّه تعالی بندرة وجود الأشیاء کلها فیها، ما لم تستورد لها من الخارج. و لذلک یتکبد السلطان مبالغ طائلة لتقویم أودها، و تجهیزها من مصر بصورة مستمرة، فتصل إلیها حوالی عشرین الی خمس و عشرین سفینة کبیرة کل سنة، محملة بالذخائر و المؤن و الأموال. و ما أشبه.
و تزدهر جدة بمواصلاتها الدائمة مع الهند و ایران و الحبشة، و أجزاء الجزیرة العربیة الأخری. فیأتی العرب الیها ببنهم (قهوتهم) لیشتریه الأتراک و یحملوه الی السویس. و یأتی الیها علی الشاکلة نفسها الحجاج فی کل سنة من أنحاء العالم الاسلامی جمیعه.

ویلیام دانیال و شارل جاک بوسیه

و فی عهد الشریف سعید (1700) وصل إلی جدة رجل انکلیزی یدعی ویلیام دانیال و آخر فرنسی یدعی شارل جاک بوسیه، فخلفا وصفا واضحا عما شاهداه. فقد کان دانیال شاهد عیان للخصام الذی حصل بین الشریف الأکبر سعید و الباشا الذی کان یمثل السلطان فی الحجاز. و هو یقول موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 259
ان الشریف أهان الباشا لأنه جاء الی جدة شخصیا و فی معیته ألفان من الخیالة، و طلب الباشا الی حضرته فطالبه بتسلیم مئة ألف جفوین. و لم یکتف بذلک فقط و إنما تجاوز علی السلطان کذلک بقوله انه ابن مسیحیة عاهر، و أنه لا یعترف به حامیا للإسلام و المسلمین لأنه تصالح مع الدول النصرانیة. و لذلک اضطر الباشا الی ان یرسل المبلغ المطلوب للشریف فیسلم علی حیاته.
و قد وصل الفرنسی المسیو شارل بوسیه الی جدة فی الیوم الخامس من کانون الأول، أی بعد الحادث المار ذکره بأیام قلیلة. علی انه یصف زیارة الشریف الذی کان ما زال مخیما خارج أسوار المدینة. فهو یقول ان الشریف کان رجلا فی حوالی الستین من عمره، تبدو فی محضره المهابة و الجلال، و له شق صغیر فی الجانب الأیمن من شفته السفلی. غیر ان رعایاه و جیرانه لا یستصوبون لطفه و رأفته. و قد أجبر الباشا الذی یعیش فی جدة علی ان یسلم له ألف و خمس مئة ریال ذهب انکلیزی، بعد ان هدده بالقتل إذا لم یذعن لطلبه. ثم یصف المسیو بوسیه کیف کان الشریف یأخذ ضرائب من الأتراک کذلک، و یقول ان الشریف، و هو العنیف المتکبر، قد سحب خضوعه للسلطان الذی یسمیه علی سبیل التحقیر «ابن مملوک».

الرحالة «علی بک العباسی»

و قد حج الی مکة فی سنة 1807 (فی عهد الشریف غالب) رجل من یهود اسبانیة یدعی دو منیکو بادیا أی لیبلیج. بعد ان تزیا بزی المسلمین و سمی نفسه علی بک العباسی. و کان هذا الیهودی مکلفا بمهام خاصة من قبل الحکومة الفرنسیة، فتجول کثیرا و کتب بالفرنسیة تفصیلات مهمة عن الحجاز و مکة و غیرهما فی کتاب ضخم. و قد کتب عن الشریف موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 260
غالب یقول أنه کان انانیا غیر متعلم، و ان الأنکلیز کانوا یعتبرونه أحسن صدیق لهم، و لذلک کانوا یشجعون التجارة مع الهند بواسطته. کما یقول ان الشریف کان یبعث بسفنه لتتاجر مع مخا و مسقط و صوراة، و أنه کان یدعی بعائدیة مصوع و جزیرة سواکن له، مع انهما کانا یخضعان للسلطان بصورة أسمیة.
و من طریف ما یذکره «علی بک العباسی» هذا، الذی اصبح کتابه.
مرجعا مهما للغربیین عن مکة، وصفه لجماعة من البدو الوهابیین الذین جاءوا الی الحج فی مکة سنة 1807 بصفته شاهد عیان. فهو یقول .. و سرعان ما دخل البلدة جمهور من الرجال العراة، الذین لم یکونوا یلبسون شیئا الا الأسمال التی کانت تستر عوراتهم. و کان عدد قلیل منهم یضعون بالاضافة الی ذلک شیئا فوق أکتافهم، کما کان قسم آخر منهم عراة بالکلیة، لکن الجمیع کانوا مسلحین اما بالبنادق او بالخناجر. و حالما وقعت أعین المکیین علی هذا السیل من العراة المسلحین هرعوا الی البیوت کلهم و اختفوا عن الأنظار. و کان البعض من هؤلاء یرکبون الخیول، مع عریهم و تسلحهم بالرماح، و یرتلون أدعیتهم و جملهم الدینیة بصوت مرتفع کل بالطریقة التی یختارها، و من دون خشوع او انتظام. و قد تولی أطفال مکة، و هم الأدلاء علی الدوام، أرشادهم و الطواف بهم لأن الکبار قد تلاشوا عن الأنظار. و لذلک أخذوا یمرون فی داخل البیت الحرام و یقبلون الحجر الأسود و کأنهم مجموعة محتشدة من الزنابیر. و یقول «علی بک» بالاضافة الی ذلک ان الشریف غالبا کان خلال ذلک یشاهد الوهابیین من قصره القائم فوق السفح بعد ان أوعز الی جنده من العبید و الاتراک بان لا یغادروا مقراتهم بینما کان هذا المد القادم من البادیة یکتسح داخلیة مکة، و ینحسر عنها دون وقوع حادث یذکر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 261

جیوفانی فیناتی

و جیوفانی هذا رجل مغامر من أهالی فیرارا فی ایطالیا، و قد قدر له بعد تطویحات و مغامرات عدة ان یحج الی مکة المکرمة فی 1814، باعتباره رجلا مسلما اسمه محمد. فقد سیق الی الجندیة فی بلدته سنة 1805، ففر منها و قبض علیه ثم سیق الیها مرة ثانیة. و هناک اتفق مع جنود آخرین و فر الی ألبانیا فاشتغل عند أحد الباشوات الأتراک فیها، و اعتنق الاسلام فتوجه الی استانبول. و بعد مغامرات و تقلبات عدة وصل الی القاهرة فی 1809 و انخرط فی سلک الحرس الألبانی و أصبح عریفا فی حرس الخدیوی محمد علی باشا الخاص. و اشترک بعد ذلک فی حملة سیقت الی مصر العلیا للقضاء علی الممالیک و ثورتهم فیها. ثم رابطت قوته فی المطریة استعدادا لسوقها بقیادة طوسون باشا بن محمد علی لتأدیب الوهابیین الذین احتلوا الحجاز، فأبحرت القوة فی 1811 و استطاعت الأنزال فی ینبع و استولت علیها بعد معرکة اشترک فیها جیوفانی أو «محمد» اشتراکا فعلیا. و بالنظر لأصابته بالروماتیزم الحاد عاد الی القاهرة، و بعد ان بقی فیها مدة من الزمن سمع بانتصارات محمد علی باشا علی الوهابیین فی الحجاز، فقرر الالتحاق بالقوة الألبانیة المنجدة التی توجهت الی هناک فی 1814.
و هناک اشترک فیناتی فی محاصرة القنفذة و الاستیلاء علیها. و کان موجودا فیها حینما استردها الوهابیون بفظاظة، فجرح و تمرض و لذلک قرر الفرار من الجندیة و التوجه الی مکة نفسها. فحج فیها و کتب عما شاهده خلال ذلک بتفصیل غیر یسیر. فهو یقول:
... و لما کنت مسرورا لنجاحی فی الفرار کنت فی وضع فکری یتقبل شیئا غیر یسیر من الانطباعات القویة، و لذلک تحسست کثیرا بجمیع ما رأیت عندما دخلت البلدة (یقصد مکة). لأنها و ان تکن لیست واسعة و لا جمیلة بحد ذاتها، فقد کان فیها شی‌ء یبعث الرهبة و الاندهاش فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 262
النفس. و کان ذلک یلاحظ علی الأخص عند الظهیرة حینما یهدأ کل شی‌ء تمام الهدوء، الا المؤذن الذی یدعو الناس الی الصلاة من فوق المأذنة ...
و ابرز ما یلاحظ فی هذه البلدة البناء المقدس المشهور الذی یقع فی وسطها، فهو فناء مبلط واسع له أبواب کثیرة تؤدی الیه من جمیع الجهات، مع ممر واسع یحمل سقفه أعمدة تحیط بالبناء کله، بینما یقوم فی وسطه بناء یدعی الکعبة، و تغطی جدران هذا البناء من الخارج بکسوة من المخمل الثمین الذی تطرز فوقه کتابات عربیة بالذهب.
ثم یعلق علی ازدحام الناس فی مکة و کثرة الحجاج فیها فیقول: ..
و مع هذا التجمع الهائل الذی کان ینقطع بین حین و آخر فی السنوات الأخیرة فقد وصلت الی مکة منذ ان اتت الیها قافلتان کبیرتان، إحداهما من آسیة و أخری من افریقیة، یبلغ عدد القادمین فیهما حوالی اربعین ألف شخص کان یبدو علیهم کلهم مقدار ما یکنونه فی نفوسهم من الاحترام و التقدیس للبیت الحرام .. و هنا یعلق الرحالة بورتون، الذی نشر ما کتبه فیناتی فی آخر رحلته، علی هذا بقوله ان «علی بک» یقدر عدد الحجاج الذین وقفوا فی عرفات سنة 1807 بثمانین ألف رجل و ألفی امرأة و ألف طفل، و ان الرحالة بورخارت قدرهم فی 1814 أیضا بسبعین ألف. ثم یقول بورتون انهم لم یتجاوزوا الخمسین ألف نسمة حینما زار مکة سنة 1853.
و یقول فیناتی بالنسبة لمناسک الحج فی عرفات ان الحجاج حینما یذهبون الیها لا بد من ان یضحوا و لو بذبح خروف فیها، و ان هذا یفعله الغنی و الفقیر علی سواء و یساعد فیه الغنی الفقیر عند الحاجة. و کان مثل هذا العدد الهائل من الضحایا یملأ الأماکن المکشوفة کلها، فیتقاطروا الفقراء من جمیع أنحاء البلاد لیأخذوا حصتهم منها .. و بعد ان تتم مناسک الحج کلها کانت تسجل الاسماء عند کاتب خاص یعین لهذه المهمة، و عند ذاک ینفض الحجاج و یعودون الی اماکنهم. و یعلق بورتون علی هذا القول أیضا بقوله ان هذه العادة لم یعد یعمل بها، و أن شهادة کان یعطیها الشریف من قبل الی جمیع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 263
من یستطیع دفع المال المطلوب عنها و من یحتاج الی البرهنة علی ذهابه الی حج البیت الحرام، لکن هذه أیضا لم یعد لها وجود.

جون لویس بورخارت

یعد الرحالة السویسری بورخارت من أشهر رحالی القرن التاسع عشر، و أبعدهم صیتا و شهرة. فقد تجول فی بلاد النوبة و ما جاورها من البلاد الأفریقیة، و تجول فی مصر و سوریة، و فی الحجاز و ما جاورها کذلک. ثم کتب کتبا قیمة عن رحلاته هذه کلها، و من جملتها «رحلاته الی بلاد الجزیرة العربیة » الذی یأتی فیه علی وصف مکة المکرمة فی تلک الأیام من جمیع النواحی، و المدینة المنورة کذلک. و یتألف المجلد من جزأین یحتوی الأول منهما علی مشاهدات بورخارت فی جدة و الطائف و مکة، و علی وصف محلات مکة بالتفصیل و بیت اللّه الحرام و الکعبة و سائر الأماکن المقدسة، فضلا عن سکان مکة و حکومتها و احوالها الجویة. و یحتوی الجزء الثانی علی وصفه للحج و مناسکه بالتفصیل، و علی مشاهدته فی سفرته الی المدینة المنورة و أماکن الزیارة فیها و حکومتها و أحوالها الجویة، و علی ما شاهده فی ینبع و فی سفرته منها الی القاهرة.
و کان المستر بورخارت قد أسلم علی ما یزعم عند قدومه الی مصر فی عهد الخدیوی محمد علی باشا، و سمی نفسه الشیخ ابراهیم. و یقول ناشر کتبه الأنکلیزی، ویلیام أوسلی، فی کانون الثانی 1829، ان معرفة بورخارت للعربیة و اطلاعه التام علی أحوال المسلمین و عاداتهم قد ساعداه علی تقمص دور الرجل المسلم بنجاح حتی استطاع ان یعیش فی مکة خلال موسم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 264
الحج کله و یشترک فی مناسکه و شعائره من دون ان یثیر أدنی شک بشخصیته المنتحلة. و کان بورخارت نفسه یقول انه من بقایا الممالیک الذین قضی علیهم محمد علی باشا فی مصر، حینما کان یسأل عن هویته. و قد تعرف خلال زیارته لمصر علی عاهلها یومذاک محمد علی، و لذلک اغتنم فرصة توجهه الی الحجاز لادارة الحملة التی جردتها الدولة العثمانیة بقیادته لاسترداد البلاد المقدسة من الوهابیین، و ذهب لزیارتها و إداء «فریضة» الحج سنة 1814. و کان محمد علی باشا قد وصل الی الحجاز فی ربیع 1813 و أقام فی الطائف للأشراف علی مهمته و القضاء علی الوهابیین فی عقر دارهم کذلک.
و قد نزل بورخارت فی جدة یوم 18 تموز 1814، و سار منها الی الی الطائف لمقابلة محمد علی، ثم قصد مکة المکرمة لأداء فریضة الحج علی ما یدعی. و یستبان مما دونه ان محمد علی باشا کان یشک فی أسلامه، و مع هذا فقد سمح له بالتوجه الی الحج فی مکة. و هو یأخذ بوصف الحج و شعائره قبل وصوله الی مکة، و یبدأ بذکر ما یختص بالاحرام بطبیعة الحال. فیذکر بهذه المناسبة ان المؤرخین العرب یروون عن هارون الرشید و زوجته زبیدة انهما قصدا الحج فی سنة من السنین مشیا علی الأقدام من بغداد الی مکة، و لم یکن یستر جسمهما غیر لباس الأحرام علی طول الطریق و فی کل مرحلة من مراحل الطریق کان یوجد بخدمتهما قصر مؤثث تأثیثا فاخرا، و ان الطریق کله کان یغطی بالسجاد یومیا لیسیرا فیه!!
و یأتی بعد ذلک علی ذکر التوجه الی المسجد الحرام و الطواف و السعی بین الصفا و المروة، و زیارة العمرة، ثم العودة الی مکة. علی ان بوخارت یذکر کذلک ان الکعبة کانت مکانا مقدسا فی أیام الجاهلیة أیضا، و ان الناس کانوا یطوفون حولها بنفس النمط الذی یطوفون فیه حولها الیوم تقریبا، لکن المبنی المقدس کانت تزینه یومذاک ثلاث مئة و ستون صنما و کان علی الرجال و النساء ان یظهروا امامها عراة کما خلهم ربهم لیستطعوا التجرد عن الخطایا و الذنوب و التخلص منها مع الملابس التی یتجردون عنها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 265

وصف بورخارت لمکة

اشارة

و الملاحظ مما کتبه رحالتنا هذا أن إقامته فی مکة کانت مریحة جدا، فهو یقول انه لم یتمتع خلال سفراته فی البلاد الشرقیة کلها بمثل ما تمتع به فی مکة من الراحة، و انه سیظل یتذکر اقامته فیها الی الأبد برغم انحراف المزاج الذی ألم به فلم یسمح له بالتمتع بجمیع ما سمحت له الأحوال التمتع به.
و بعد ان یشیر الی التقدیس و التبجیل الذی یکنه العرب جمیعا لها، و الی الأسماء التی تطلق علیها مثل «أم القری» و «المشرفة» و «البلد الأمین»، یأخذ بوصفها من جمیع النواحی فیقول ان البلدة نفسها تشغل فضاء یبلغ طوله حوالی ألف و خمس مئة خطوة، ای من محلة الشبیکة الی نهایة المعلا.
لکن جمیع ما یطلق علیه اسم مکة بالمعنی الأوسع یمتد من ضاحیة جرول (المدخل من طریق جدة) الی ضاحیة المعبدة علی طریق الطائف، و یبلغ هذا حوالی ثلاثة ألاف و خمس مئة خطوة. اما الجبال التی تحیط بهذا الوادی.
الذی کان یسمیه العرب وادی مکة أوبکة، فیبلغ ارتفاعها ما بین مئتین و خمس مئة قدم، و هی جرداء خالیة من الزرع و الشجر. و ینحدر الوادی برفق نحو الجنوب، حیث تقع محلة المسفلة. و لذلک یتبدد المطر الذی یسقط أحیانا علی مکة فی جنوب مسفلة، فی الوادی المکشوف الذی یسمی وادی الطرفین.
و تقع معظم البلدة فی ضمن الوادی نفسه.
و یقول بورخارت ان مکة یمکن ان تعتبر بلدة جمیلة، لان شوارعها أعرض من شوارع المدن الشرقیة الأخری بوجه عام، و بیوتها عالیة مبنیة بالحجر، فیها عدد من الشبابیک التی تطل علی الشوارع فتسبغ علیها منظرا تملأه الحیویة بخلاف الدور فی مصر و سوریة التی لا تطل علی الطرق فی الغالب. و هی، مثل جدة، تحتوی علی عدد من الدور ذات ثلاثة طوابق، و یقول کذلک ان مکة مفتوحة من جمیع الجهات، لکن الجبال المحیطة بها تکوّن مانعا حصینا ضد العدو اذا ما دوفع عنها بطریقة أصولیة. و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 266
کان لها فی الزمن القدیم ثلاثة أسوار تحمی جوانبها المتطرفة، و کان أحدها مشیدا عبر الوادی فی شارع المعلا، و کان الثانی مبنیا فی محلة شبکیة، و الثالث فی الوادی الذی ینفتح علی حارة المسفلة. و قد بنیت معظم بیوت مکة لتکون منازل للحجاج، عدا بیوت بعض الأغنیاء و الشرفاء.
و یتطرق بورخارت الی ذکر الماء الذی یعتمد علیه سکان مکة فیقول أنه قلیل، و ان قلته تکوّن مشکلة علی الدوام. فان بئر زمزم المشهورة قد تفی بغزارة مائها جمیع السکان، لکنها علی قداستها یکون ماؤها ثقیلا علی الذائقة صعبا فی الهضم. کما ان الفقراء لا یمکنهم الاستقاء منه بحریة علی الدوام، علی ان احسن ماء یؤتی به الی مکة من عرفات الواقعة علی مسیرة سبع ساعات عنها، لکن الحکومة اهملت القناة التی تأتی بهذا الماء. فهی مشیدة بالحجر کلها، و لم ترمم او تتلف منذ خمسین سنة. و هناک مکانان احد شوارع مکة و بیوتها القدیمة التی یرجع تاریخ بعض ابنیتها الی ما قبل القرن الخامس عشر المیلادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 267
فی داخلیة مکة یمکن أخذ هذا الماء منهما، و یقف علیهما فی العادة عبید الشریف لجبایة الأجور.

قناة زبیدة

و یذکر بورخارت ان تاریخ هذه القناة یسهب فیه المؤرخون العرب، و موجزه أن زبیدة زوجة الخلیفة هارون الرشید کانت قد أمرت بسحب میاه «عین النعمان» من منبعها فی جبل کرا الی مکة فی قناة خاصة، و صرفت مبالغ طائلة من مالها الخاص علی ذلک. ثم أمرت بعد هذا بسحب میاه عین عرف من سفح جبل شامخ الکائن فی شمال جبل کرا، و ربطها بمیاه عین النعمان بعد ان کانت تسقی سهل حنین. و ربطت فی الأخیر میاه أربعة ینابیع أخری بهذه القناة کذلک، و هی ینابیع البرود و الزعفران و میمون و عین مشاش. علی ان القناة قد أهملت بعد ذلک وسدت علی ما یبدو، لکنها أصلحت فی سنة 643 ه بأمر من السلطان سعید خدابنده، ثم أصلحها بعض الاصلاح للمرة الثالثة الشریف حسن بن عجلان فی مدة حکمه سنة 811، و قد صرف مبالغ طائلة علیها بعد ذلک أیضا السلطان قاتیبای فی مصر سنة 879، ثم أسهم فی اصلاحها سنة 916 قانصوه الغوری من آخر سلاطین مصر الممالیک الجراکسة. و فی سنة 931 حاول السلطان سلیمان القانونی ان یعید إنشاء القناة من جدید لکن التصمیم المطلوب لم یتم وضعه، حتی توفق بعد ذلک ابنه السلطان سلیم الثانی فی شق قناة جدیدة بعد کثیر من الأتعاب و النفقات، و هی القناة التی شاهدها بورخارت تأتی بالماء الغزیر الی مکة المکرمة. فقد حفر للمجری الجدید خلال الصخر الذی سیمتد وراء جبل عرفات، و نجح بذلک فی تزوید مکة بماء عذب غزیر سنة 979.
و یستغرق طول القناة کلها مسیرة سبع أو ثمانی ساعات. و مع هذا فقد شاهد رحالتنا بورخارت الشحاذین و المرضی و الحجاج المنقطعین یستطعون شربة ماء عذب فی شوارع مکة نفسها لان مل‌ء الجرة الواحدة کان یکلف بارتین خلال موسم الحج علی کل حال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 268

حواری مکة او محلاتها

و من امتع ما یکتبه بورخارت عن مکة وصفه المسهب لمحلاتها المختلفة بعد ان شاهدها بنفسه و دقق أحوالها. فهو یقول ان القادم من جدة الی مکة المکرمة یجد فی مدخلها برجین عالیین للحرس، کان قد أنشأهما الشریف غالب للدفاع عن عاصمته المقدسة. و بعد ان یدخل القادم من بینهما بمسافة غیر بعیدة یصادفه موظفو الشریف الذین یجبون الرسوم علی البضائع. ثم یدخل الی «حارة جرول»، التی یعیش فیها البدو المشتغلون فی تجارة النقل ما بین مکة وجدة. و تأتی بعد «حارة الباب» التی تتألف من شارع عریض متسع یقوم فی جانبیه عدد غیر یسیر من الدور الکبیرة الحسنة «حارة الشبیکة» التی تمتد الی الیمین فی الغالب. و یقول بورخارت ان هذه المحلة کان أصحاب النبی علیه السلام قد ضویقوا فیها حد المضایقة فی حروبهم مع قریش.
و هناک عدد غیر یسیر من الدور الجیدة فی هذه الحارة التی تعد من أنظف حارات مکة و أنقاها هواء، و یقطنها الکثیرون من أهالی جدة کما توجد فیها دار کبیرة للشریف غالب تسکن فیها أسرته. و ینتشر فی جانبی الشارع الرئیسی منها عدد من المقاهی التی یتحرک منها فی مساء کل یوم برید الرسائل و المکاتیب الی جدة علی ظهور الحمیر، و کانت السلطات تتقاضی بارتین عن المکتوب الواحد.
و فی الجهة الغربیة من الشبیکة تمتد نحو الجبل مقبرة واسعة تنتشر فیها أکواخ و خیام عدیدة تعود لبعض البدو، و بیوت حقیرة تسکنها النساء من الطبقة الدنیا. و تسمی الخندریس، علی انها علی ما یظهر أصبحت مقبرة مهجورة. و اذا ما سار القادم من الشبیکة علی طول الشارع العریض المذکور نحو الشمال یصادف حماما عاما یعد واحدا من الحمامات الثلاثة الجیدة فی مکة کلها. و کان هذا الحمام قد بناه فی 980 محمد باشا وزیر السلطان سلیمان الثانی، و یعد من أحسن الأبنیة فی مکة. و تتکون من هذا الحمام و عدد من الشوارع الفرعیة المؤدیة الی الحرم الشریف نفسه «محلة باب العمرة»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 269
التی یسکنها عدد من المطوفین و الحجاج، و لا سیما الأتراک منهم. و یقول بورخارت ان معظم الحجاج یفضلون السکنی فی هذه الحارة و غیرها من الحارات القریبة الی بیت اللّه الحرام لئلا یؤدی ابتعادهم الی فوات وقت الصلاة علیهم فی داخل المسجد الحرام. و یضیف الی ذلک ما سمعه من ان قربهم هذا یسهل لهم التخلص من الأحلام المزعجة التی قد یحلمون بها فی نومهم. فکثیرا ما یری الحجاج و هم یرکضون فی منتصف اللیل نحو المسجد الحرام حیث یتوجهون الی الطواف حول الکعبة و تقبیل الحجر الاسود و إقامة الصلاة القصیرة، و یشربون قلیلا من ماء زمزم فیعودون الی فراشهم فی الحال.
و اذا ما سار السائر من محلة الشبیکة الی الجنوب، و انحدر قلیلا فی سیره یصادف ما یسمی بالسوق الصغیر الذی ینتهی بباب المسجد الحرام المسماة «باب ابراهیم». و قد وجد بورخارت فیما وجد فی هذا السوق ان الجراد کان یباع فیه بالوزن. و تسمی نهایة هذا السوق من جهة الجبل «حارة حجیلة»، و هذه یسکنها فی بیوت لا بأس بها خصیان الحرم الشریف و خدامه. و تعد اخفض منطقة فی مکة، و لذلک فهی کثیرا ما تتعرض الی السیول الناتجة عن میاه الأمطار. و تسمی المنطقة الکائنة فی شرق السوق الصغیر و جنوبیة «حارة المسفلة» التی یقطن القسم الأکبر منها الهنود و الفقراء من الناس برغم وجود عدد من البیوت الجدیدة فیها. و فی الأقسام الخربة من هذه المحلة یسکن کذلک عدد غیر یسیر من العبید الذین تقوم ازواجهم بصنع مشروب مسکر من الذرة یسمی «بوزة». و قد سکن بورخارت فی هذه المجلة علی ما یقول.
و هو یقول بالمناسبة ان القمة الغربیة من وادی الطرفین التی تقابل المسفلة کانت تقوم فوقها بنایة صغیرة و قبة شیدت لتخلید ذکری الخلیفة الراشد عمر بن الخطاب، فصارت تسمی «مقام سیدنا عمر»، لکن الوهابیین حینما استولوا علی مکة قبیل ان یستردها منهم محمد علی باشا هدموا هذه البنایة و القبة و خربوهما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 270
و عند التوجه من الثکنة التی یرابط فیها جند الشریف نحو الحرم الشریف توجد فی الجهة الیمنی «حارة اجیاد» التی یسکنها فقراء الناس و عدد من خدام الحرم الشریف. و یقرل بورخارت ان اسم الحارة هذه مشتق من اسم المکان الذی ترابط فیه خیالة تبع ملک الیمن حینما هاجم مکة، و یستنتج من هذا بأن الحارة لا بد من ان تکون من أقدم حارات البلدة.
ثم یذکر حارة الصفا القریبة من شارع المسعی، و یقول ان هذه الحارة توجد فیها دور جمیلة یقیم فیها خلال موسم الحج عادة عدد غیر یسیر من الأغنیاء الأجانب. و ان المسعی حینما شاهده خلال مدة وجوده فی مکة کان یشبه السوق الاستانبولیة. فقد کان هناک عدد کبیر من الدکاکین یدیرها أناس أتراک من أوربة او آسیة الصغری، و کان هؤلاء یبیعون مختلف الألبسة الترکیة و أنواعها. و کانت تباع فی هذه الدکاکین کذلک السیوف الجمیلة و الساعات الانکلیزیة الممتازة، و نسخ القرآن المزخرفة. کما کان طباخو استانبول یبیعون فیها أنواع المأکولات و الحلویات قبل الظهر، و الکباب و غیره من اللحوم المشویة بعد الظهر، و المحلبیة عند الغروب.
و قد کان هناک عدد کبیر من المقاهی التی کانت تزدحم بالناس من الساعة الثالثة صباحا الی الحادیة عشرة فی المساء. و مما یستغرب، علی ما یقول بورخارت، ان دکاکین من هذه الدکاکین کانت تباع فیهما المسکرات أو المشروبات الروحیة علنا خلال اللیل فقط!!. و کان أحد هذه المشروبات یستحضر من الزبیب المتخمر، و هو مشروب قوی برغم خلطه بکثیر من الماء عند تناوله. اما الآخر فقد کان عبارة عن نوع من «البوزه» المخلوطة بالبهارات.
و یذکر رحالتنا کذلک ان المسعی یعتبر محلا عاما تنفذ فیه العقوبات العلنیة، مثل احکام الاعدام. فقد أعدم أحد الناس بقطع رأسه فیه خلال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 271
مدة وجود بورخارت فی مکة، بعد ان حکم علیه القاضی بذلک لأنه سرق مئتی باون انکلیزی من أحد الحجاج الأتراک.
و فی المحل الذی ینتهی فیه السعی من جهة المروة لاحظ بورخارت وجود الدار التی کان یسکن فیها العباس عم النبی علیه السلام، کما لاحظ وجود دکاکین الحلاقین الذین یحلقون شعور الحجاج بعد انتهائهم من السعی.
و هنا أیضا تجری المبایعات بکثیر من الحاجات فی صباح کل یوم، و توجد علی مقربة من هذا المکان برکة و سبیل للشرب بناه السلطان سلیمان القانونی و استمد له الماء من قناة مکة المشهورة. و الی الشرق من المروة التی ینتهی فیها المسعی، توجد السویقة التی تمتد بموازاة الجانب الشرقی من الحرم المسمی القدیم بین الصفا و المروة و قد جددته الحکومة السعودیة الیوم و صیرت منه مسعی خاصا و علی جانب کبیر من الروعة کما مرت صورته الحدیثة من قبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 272
الشریف. و هذه عبارة عن سوق صغیرة نظیفة علی الدوام یعرض فیها تجار الهنود الأغنیاء سلعهم الثمینة مثل الموسلین و الشال الکشمیری و ما أشبه.
و هناک أکثر من عشرین دکانا تباع فیها أنواع العطور و الدهون و الند و ما أشبه. و فی دکاکین غیر هذه تباع فیها المسبحات و القلائد المرجان و الصندل و أنواع المصوغات، فضلا عن سلع الصینی الفرفوری.
و فی منتصف السویقة توجد مساطب حجریة یبیع من فوقها النخاسون العبید الأحباش من الجنسین. و یبلغ سعر العبدة الجمیلة من هؤلاء ما بین مئة و عشرة ریالات و مئة و عشرین. و یسمی الطرف الشرقی من السویقة «الشامیة» التی تمتد من الیمین الی الجبل و من الشمال الحد حد الحرم الشریف.
و هذه منطقة جیدة البناء یسکنها التجار الأغنیاء. و تباع فی دکاکینها السلع الشامیة و الحلبیة من منسوجات حریریة و غیرها، کما تباع السلع الترکیة فی احیان کثیرة.
و هناک حارة تقع فی شمال الشوارع المتفرعة من السویقة تسمی (کرارة) و هی محلة مشهورة ذات بیوت أنیقة یسکنها أغنی التجار و أکثرهم ثروة، من أمثال التاجر الجیلانی و السکات. و الی الشرق من کرارة عبر الحارة المجاورة المسماة «رکوب» یمتد شارع کبیر یسمی شارع المودعة، و هو عبارة عن امتداد للمسعی.
و یتفرع بالقرب من الصفا شارع عریض یمتد الی الشرق فی موازاة المودعة، و یسمی الکشاشیة. و یقیم فی هذا الشارع الحاکم أو مدیر الشرطة الذی یأتی بعد الشریف فی المنزلة علی ما یقول بورخارت، و یجاورها ما یسمی «شعب المولد» أو «صخرات المولد». ثم یأتی علی ذکر عدد من الشوارع و الحارات الأخری مثل الغزی و سوق الحدادین و المعلا. و یوجد فی الطرف الشمالی من المعلا، عند اتصاله بسوق الحدادین، مقهی یسمی «قهوة الحشاشین» حیث یباع المخدر المستحضر من «الحشیش» و البنج، الذی یدخن مع التبغ. و یقول بورخارت ان الشریف غالبا کان قد فرض ضریبة فاحشة علی بیع الحشیش لیحول دون انتشاره بین الناس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 273
و یذکر بورخارت کذلک «الزقاق الصینی»، و زقاق الحجر الذی یقول ان الزهراء البتول علیها السلام و أبا بکر الصدیق قد ولدا فیه. و قد سمی الزقاق باسم الحجر الذی کان یحیی الرسول الأعظم کلما کان یمر به عند رجوعه من الکعبة علی ما یقال. و تنتهی مکة من جهة المعلا و محل اتصاله بالغزی بسهل رملی تنتشر فیه بعض المقاهی المنعزلة. و یوجد علی حافة هذا السهل عدد من البرک التی تتزود منها قوافل الحجاج بالماء، فهناک برکة للموکب المصری و أخری للشامی و کانتا قد بنیتا فی سنة 821 ه. و علی مقربة من هذه البرک یوجد جامع یسمی جامع السلیمانیة، و المقول ان «السلیمانیة» اسم یطلق علی المسلمین الذین کانوا یردون الی مکة من قندهار و أفغانستان و کشمیر و عدد آخر من البلاد الواقعة فی هذه الجهة من السند.
و فی مقابل السلیمانیة، فی السفح الشرقی من الجبل، تقع حارة «شعب عامر» فی جوار الغزی و شعب علی. و یسکن شعب عامر الباعة المتجولون من بدو ثقیف و قبائل قریش، مع عدد من الشرفاء الفقراء. و توجد فی هذه المحلة بعض المطاحن الکبیرة العائدة للحاکم الترکی، و هنا أیضا تصبغ الأقمشة القطنیة و أقمشة الکتان. و لا تعد هذه الحارة من الحارات المحترمة علی ما یقول بورخارت لأن عددا من النساء الساقطات یسکن فیها .
و یقول کذلک ان الشریف غالبا کان قد فرض ضریبة باهظة علی هؤلاء النسوة، و شدد أکثر من ذلک علی اللواتی کن یتبعن الحجاج الی عرفات.
و تفرض مثل هذه الضریبة فی القاهرة، و غیرها من المدن المصریة الکبری کذلک. کما یقول أیضا ان شعراء العرب من مثل ابن الفارض یعرضون فی أشعارهم بشعب عامر هذا، و یملحون الی من یقیم فیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 274
و عند انتهاء المعلا، و علی مسافة غیر بعیدة من قصر الشریف الکائن فی شمال منطقة البرک، یوجد قبر أبی طالب والد الامام علی علیه السلام و عم النبی الکریم صلوات اللّه علیه. و قد عمد الوهابیون الی تقویض البناء الذی کان قائما فوق القبر فأحالوه الی کومة من الأنقاض، و لم یجد محمد علی باشا بعدهم من المناسب ان یعید البناء الی سالف عهده. و یقول بورخارت ان الناس فی مکة یقدسون أبا طالب و یجلونه غایة الاجلال، و یخشون القسم کذبا به.
و یختم بورخارت بحثه عن حارات مکة بالاشارة الی عدد نفوسها، بعد ان یبحث فی صعوبة تقدیر النفوس فی المدن و البلاد الشرقیة عامة.
و هو یقدر نفوس مکة فی غیر مواسم الحج، فی تلک الأیام، بخمسة و عشرین الی ثلاثین ألف نسمة، یضاف إلیها حوالی ثلاثة الی أربعة آلاف عبد حبشی و غیر حبشی. ثم یقول ان مکة کان بوسعها فی تلک الأیام ان تسکن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الحجاج أیضا. و یشیر کذلک الی ان إحصاء للنفوس کان قد جری فی عهد السلطان سلیم الأول (923 ه) فوجد ان النساء و الرجال و الأطفال قد بلغ عددهم حوالی اثنی عشر ألف نسمة. و هو یری ذلک عن المؤرخ قطب الدین، الذی یذکر أیضا ان نفوس مکة کانت أکثر من هذا بکثیر فی القرون الخالیة، لأن القرامطة حینما هاجموا مکة فی 314 ه بلغ عدد من قتل بأیدیهم من سکان المکة حوالی ثلاثین الف نسمة

بیت اللّه الحرام

و یصف بورخارت فی الجزء الأول من رحلته بیت اللّه الحرام بالتفصیل، فیأتی علی کل شی‌ء فیه بحیث یستغرق وصفه ما یزید علی خمسین صفحة .
و قد ذکرنا شیئا غیر یسیر عن معظم ما جاء فی هذا الفصل عند الاشارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 275
الی ما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة عنه، و لذلک سنکتفی بالاشارة الی بعض النقاط المهمة الواردة فیه فقط. و من طریف ما یورده بورخارت فی هذا الفصل قائمة بأسماء الأبواب الموجودة فی المسجد الحرام تحتوی علی تسعة و ثلاثین اسما حدیثا تقابلها الأسماء القدیمة لبعض الأبواب. لکنه یقول ان اهم الأبواب کانت: باب السلام الذی یجب ان یدخل منه کل حاج، و باب العباس، و باب النبی، و باب علی، و هذه کلها من الجهة الشمالیة. اما الجهة الشرقیة فأهم أبوابها باب الزیت، و باب العشرة، و باب الصفا، و بابا الشریف، ثم باب ابراهیم و باب العمرة فی الجنوب، و باب الزیارة فی الجهة الغربیة. و معظم هذه الأبواب لها عقود عالیة مدببة.
و یستفاد مما جاء فی هذا الفصل کذلک ان محیط المسجد الحرام من الخارج کانت تزینه سبع منارات موزعة توزیعا غیر متساو علیه، و هی منارة باب العمرة، و منارة باب السلام، و منارة باب علی، و باب الوداع، و مدرسة قائد بک، و باب الزیادة، و مدرسة السلطان سلیمان. و یفهم کذلک ان أبرز شخص بین السدنة فی البیت الحرام و أولهم «نائب الحرم» او «حارس الحرم» الذی تحفظ عنده مفاتیح الکعبة المشرفة. و تودع عنده أیضا المبالغ التی یتبرع بها المحسنون الی البیت الحرام، فیوزعها بالاتفاق مع القاضی.
و یتم تحت اشرافه اجراء التعمیرات و الترمیمات بصورة مستمرة. و یقول بورخارت ان المصروفات التی کان یصرفها نائب الحرم علی شؤون البیت المقدس، بالاتفاق مع الشریف و القاضی، کانت تبلغ حوالی ثلاث مئة کیس.
و یأتی بعد نائب الحرم «أغا الخصیان» الذی یطلق علیه اسم «أغاة الطواشین» علی ما یقول بورخارت. و یقوم الخصیان او الطواشون بواجبات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 276
الشرطة فی داخل الحرم الشریف، علاوة علی قیامهم بغسل أرضیة الکعبة و کنسها یومیا. و کان عدد الطواشین هؤلاء یزید علی الأربعین، و هؤلاء یقدمهم الأمراء و الولاة فی العادة مع بعض المبالغ هدیة للحرم المقدس، کما فعل محمد علی باشا حین قدم عشرة منهم. و یعتبر أغا الطواشین من شخصیات مکة علی ما یلاحظ؛ بحیث یکون مخولا بالجلوس مع الشریف و الباشا و الحاکم. و یحصل الطواشون علی مبالغ کبیرة من واردات المسجد الحرام و التبرعات الخاصة التی یقدمها الحجاج، علاوة علی ما یصل الیهم من استانبول. و معظم هؤلاء من العبید السود، و بعضهم من الهنود .

اماکن مقدسة اخری

و یخصص بورخارت فی رحلته فصلا خاصا لذکر بعض الأماکن و البقع المقدسة التی یقول عنها ان الناس، خلال احتلال الوهابیین لمکة، لم یکونوا یجرؤون علی زیارتها او التقدم منها، و ان جمیع الأبنیة او القبب المشادة علیها قد تم تهدیمها.
و أول ما یذکر من هذه الأماکن «مولد النبی» أو الموقع الذی ولد فیه سید الکائنات النبی الأعظم صلوات اللّه علیه. و هو یقول انه وجد العمال یعیدون بناء المبنی الذی کان مشیدا فوقه. و قد وجد حفرة صغیرة فی الوسط قیل له انها البقعة التی کانت ام النبی جالسة فیها حینما جاءها المخاض فولدته. و المقول ان المکان کله کان بیت عبد اللّه بن عبد المطلب والد النبی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 277
ثم یذکر «مولد ستنا فاطمة» أو المکان الذی ولدت فیه الزهراء البتول سیدة نساء العالمین، و یوجد هذا «المولد» علی ما یقول بورخارت فی بنایة حسنة مبنیة بالحجر یقال أنها کانت بیت أمها خدیجة الکبری، فی شارع صغیر یسمی «زقاق الحجر». و یؤدی سلم صغیر الیه عند الدخول لأنه تحت مستوی الشارع، و توجد فیه بقعتان محددتان إحداهما ولدت فیها فاطمة الزهراء علیها السلام و الثانیة کانت تجلس فیها لتدیر رحاها و تطحن الحب. و یقول: و فی جناح بالقرب من ذلک توجد حجرة صغیرة، کان یجلس فیها النبی علیه السلام حینما کان جبریل ینزل علیه بالوحی، و لذلک کانت تسمی «قبة الوحی».
و یذکر بعد ذلک «مولد الامام علی» فی الحارة المسماة «شعب علی» و یقول بورخارت ان هذا عبارة عن مسجد صغیر توجد حفرة فی فنائه لتدل علی البقعة التی ولد فیها الامام علی بن ابی طالب علیه السلام.
و یشیر بعد ذلک الی «مولد سیدنا أبی بکر» الذی یقول انه ضمن مسجد صغیر یقع فی مقابل الحجر الذی کان یحیی النبی (ص) عند مروره به.
و یقول کذلک ان هذا المکان لیست فیه بقعة خاصة بالذات، لکن ساحته مغطاة بسجادة ایرانیة. و یعلق بعد ذلک فیقول ان جمیع هذه «الموالد» کانت قد أعید بناؤها و ترمیمها بعد اخراج الوهابیین من مکة فی تلک الأیام عدا «مولد النبی» الذی کان یجری بناؤه مجددا. و تشارک فی سدانة هذه الأماکن المقدسة عدة أسر شریفیة.
و قد ألفی بورخارت ان «مولد أبی طالب» فی محلة المعلا قد تم تهدیمه عن آخره، و هو یتوقع ان لا یعاد بناؤه من بعد ذلک أیضا. کما وجد الوهابیین قد هدموا القبة التی کانت مشیدة علی قبر «ستنا خدیجة» و لم یعد بناؤه ایضا، مع ان الحجاج و سائر الناس کان من المعتاد ان یزوروه بانتظام، لا سیما فی ایام الجمع صباحا. و یقع هذا القبر فی المقبرة الکبیرة الموجودة فی محلة «المعلا» و هو محاط بجدار مربع لیس فیه ما یلفت النظر سوی حجر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 278
حفرت علیه آیة الکرسی بخط کوفی. و علی مسافة غیر بعیدة من هذا القبر کان هناک قبر آمنة والدة النبی (ص). و کان مغطی بحجر حفرت فیه بعض الآیات القرآنیة بخط کوفی قدیم. و مما یذکره عن هذه المقبرة أنه وجد فی نهایة کل قبر من قبورها تقریبا نباتا من نباتات (الصبر) قد زرع لیدل علی الصبر الذی یجب ان یتحلی به الموتی قبل ان یبعثوا فی یوم المحشر.
و هناک أماکن کثیرة أخری خارج مکة یأتی بورخارت علی ذکرها و یشیر الی قداستها. فیذکر أولا جبل أبی قبیس الذی یقول انه من أعلی الجبال المحیطة بمکة، و هو یسیطر علیها من جهة الشرق. و هناک قمتان فیه یزورهما الحجاج فی العادة، تسمی احداهما «مکان الحجر» و الأخری تقع عبر واد ضیّق علی مسافة قصیرة من مکان الحجر و تسمی «مکان شق القمر»، ای المکان الذی یقال ان معجزة شق القمر قد وقعت فیه بعد ان ابتهل النبی الأعظم للّه من أجلها لتؤمن به قریش. لکن بورخارت یقول، بعد ان یذکر تفصیلات المعجزة ان هذه لا تستند علی روایة صحیحة أو حدیث نبوی مسند. و یقول کذلک ان هذه القصص و غیرها مما یختص ببعض الأماکن یلفقها المکیون لا بتزاز المال من الحجاج. لکنه یذکر ان مکان شق القمر یخرج الیه أهل مکة عادة لرؤیة الهلال فی الأوقات المطلوبة.
و یأتی بورخارت کذلک غلی ذکر «جبل النور» الذی یقع فی شمال مکة. فیصفه و یقول ان الصعود الی قمته یستغرق ثلاثة أرباع الساعة، و هناک یجد الصاعد قبة صغیرة هدمها الوهابیون یوجد فی ساحتها شق فی الأرض. و المقول ان النبی صعد الی هذا المکان یوما بعد ان ضایقته قریش، و قال له أتباعه المشککون ان اللّه سبحانه و تعالی قد تخلی عنه. فاختلی فیه و أخذ یناجی اللّه مبتهلا مستنجدا فنزل علیه جبرائیل بالآیة الکریمة «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ ..»، و علی مسافة قصیرة من اسفل هذا المکان یوجد «غار حراء» الذی نزلت فیه علی النبی (ص) عدة سور قرآنیة.
و بعد هذا یشیر بورخارت الی «جبل ثور» الذی یقع علی مسیرة ساعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 279
و نصف من جنوبی مکة، الی یسار الطریق المؤدی الی قریة الحسینیة. و هو جبل شاهق توجد فوق قمته مغارة التجأ الیها النبی و أبو بکر قبل ان یهاجرا الی المدینة حینما أخذت قریش فی مکة تضیق الخناق، و تشدد فیه، علی محمد (ص) و أتباعه.

الکعبة

تفتح الکعبة، علی ما یذکر بورخارت، ثلاث مرات فی السنة فقط:
فی الیوم العشرین من رمضان، و الیوم الخامس عشر من ذی القعدة، و العاشر من محرم الحرام. و یتم ذلک عادة بعد طلوع الشمس بساعة واحدة، بنصب سلم فیما یقرب من الباب الکبیر، و حالما یتم ذلک تتدفق علیه جموع المسلمین المحتشدة فی أسفله و سرعان ما تمتلی‌ء بهم داخلیة الکعبة نفسها. و یتحتم علی الداخل ان یصلی ثمان رکعات، باعتبار رکعتین اثنتین فی کل رکن من أرکانها، و ان یبتهل بقرب أحد الجدران فیرتل بعض الأدعیة و الکلمات و هو یضغط بوجهه علیه. لکن ذلک یتم فی العادة بکثیر من النحیب و ذرف الدموع، و ینطوی علی شی‌ء غیر یسیر من التوبة و الابتهال بغفران الذنوب.
و یقول بورخارت أنه لم یستطع البقاء هناک أکثر من خمس دقائق لأن حرارة المکان کانت مرتفعة بحیث لم یحتملها، و أوشک ان یخر مغشیا علیه منها.
لکنه یقول ان الشریف یجلس عادة فی المدخل و مفتاح الفضة بیده، یعرضه علی الحجاج للتقبیل و دفع الرسم المطلوب عند الخروج. و یقدم الحجاج بعض المال الی الطواشی الذی یجلس بقرب الشریف کذلک.
و تبقی الکعبة مفتوحة الی الساعة الحادیة عشرة تقریبا، ثم تفتح فی الثانی للنساء. و یعقب زیارة داخل الکعبة الطواف حولها من الخارج أیضا.
و بعد ان یصف بورخارت داخلیة الکعبة و استارها بما هو معروف یقول ان زیارتها لا تشکل واجبا دینیا علی الحجاج الذین یغادر مکة کثیرون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 280
منهم من دون ان یفعلوا ذلک. و قد زارها هو مرتین، فی یومی 15 ذی القعدة و عشرة محرم الحرام، فشاهد فی المرة الأخیرة ان الستائر الجدیدة التی بعث بها محمد علی باشا من القاهرة قد علقت، فکان قماشها ثمینا و نسجها أدق من نسج الکسوة السوداء التی تغطی الکعبة من الخارج. اما الستائر القدیمة التی کان قد مر علیها أکثر من عشرین سنة، فقد بیعت علنا للمتدینین المتمکنین بسعر ریال واحد لکل قطعة مساحتها ست بوصات مربعة. و هناک مخزن خاص فی مقابل باب السلام تباع فیه هذه القطع مع قطع الکسوة الخارجیة کذلک. و قد وجد بورخارت ان سترا کانت تصنع من قماش الکسوة، کما وجد فی نفس المخزن الذی تباع فیه قطع الکسوة رسوم مکة و المدینة مرسومة فوق الأقمشة و علی قطع من الأخشاب فاشتری منها کما اشتری عددا من قنانی ماء زمزم.

ملاحظات حول سکان مکة

یلاحظ فی رحلة بوخارت التفصیلیة انه یخصص ما یزید علی سبعین صفحة منها للتحدث عن سکان مکة و طبقاتهم و طباعهم، مع احوالهم الاجتماعیة و الاقتصادیة و غیر ذلک. و سوف اوردها خلاصة مختصرة جدا عن ذلک.
فهو یقول اولا ان سکان مکة یمکن ان یقال عنهم کلهم انهم غرباء و أجانب عنها. لان قبائل قریش الأصلیة التی کانت تسکنها قد تفتتت و هاجرت الی الخارج بحیث لم یبق لها ذکر یعتد به فی مکة. علی ان محیط مکة و ما جاوره ما زال یوجد فیه البعض من تلک القبائل البدویة علی الأخص. و قد کانت توجد فی مکة علی أیام بورخارت ثلاث أسر قرشیة معروفة فقط، و کان یرأس إحداها نائب الحرم. اما أکثر طبقات السکان فقد کانوا من أهالی الیمن و حضر موت، و کان یلیهم فی العدد أبناء الهنود المستوطنین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 281
و المصریین و السوریین و المغاربة و الاتراک. و کان هناک أیضا مکیون من أصل أیرانی و تاتاری و بخاری و کردی و أفغانی، و من کل بلد مسلم آخر تقریبا.
علی ان أقدم السلالات المکیة التی بقیت فی مکة کذلک هی سلالة الشرفاء الاصلیین، الذین ینتمون الی الدوحتین الحسنیة و الحسینیة من ابناء الأمام علی بن أبی طالب علیه السلام. ثم یأتی بورخارت غلی وصف أنواع الشرفاء فی داخل الحجاز و خارجه، و یقول ان تقاسیم الشرفاء فی مکة هی تقاسیم جمیلة مقبولة تقارب تقاسیم البدو فی شکلها و لا سیما فی الوجه و العیون و الأنف الأقنی.
و بعد ان یصف لباس المکیین بالتفصیل یقول أنّ معظم الأسر المتوسطة و المتمکنة تقتنی العبید. و یذکر بالمناسبة ان النبی محمدا (ص) وجد تجارة العبید الأفریقیین مستحکمة فی بلاد العرب بحیث لم یبذل جهدا لألغائها.
و بذلک ساعد علی انتشارها و امتدادها الی الشمال الأفریقی بجمیع ما کان یصحبها من قسوة و تعذیب. و الظاهر ان المستر بورخارت غیر مطلع علی مقدار الجهد الذی بذله الأسلام و المسلمون فی مختلف الادوار التاریخیة من أجل تحدید الرق و تقلیصه، و أکسابه الصفة الأنسانیة التی لم یکن یحلم بها الغربیون انفسهم، الذین بقی الرق معروفا عندهم بأبشع صوره فی انکلترة و فرنسة و غیرهما الی ما قبل مدة من الزمن. و لا نرانا بحاجة الی ذکر ما تنص علیه التعالیم الأسلامیة فی هذا الشأن، و لا سیما بالنسبة للعتق و الاعتراف بنسل النساء العبید، و أباحة الزواج و ما أشبه.
و یتطرق بعد ذلک الی اقتناء الجواری الحبشیات و تزوجهن عند الحاجة، و یقول فی هذه الاثناء انه علم من الحلاقین و الأطباء و باعة الادویة فی مکة ان عادة الأجهاض منتشرة فیها، و أن الناس یستعملون لهذا الغرض بذور البلسم المکی المعروف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 282
و بعد ان یصف حالة مکة الاقتصادیة بأسهاب، و یشیر الی مقدار الثروة التی یصبها الحجاج فیها کل سنة، یتطرق الی ذکر الشرور المنتشرة بین المکیین و منها شرب المشروبات الروحیة و هو یقول فی هذا الشأن ان قدسیة المدینة المقدسة، و تعالیم الأسلام الرصینة لیس بوسعها ان تحول دون أقدام المکیین علی تناول المشروبات الروحیة، و الانهماک بما یتعلق بها من موبقات السکر. فان الأسطول الهندی (البریطانی بطبیعة الحال) یستورد دائما الی الحجاز کمیات کبیرة من العرق فی برامیل. و یباع هذا الکحول، بعد خلطه بالسکر و خلاصة الدارحینی، باسم «ماء الدارحینی»، و یعتاد الشرفاء فی مکة وجدة، فضلا عن التجار الکبار و العلماء و جمیع الناس المرموقین، علی تناول هذا المشروب الذی یقنعون انفسهم بکونه غیر محرم لأنه لیس بخمر و لا «براندی». لکن الناس غیر الاثریاء لا یستطیعون شراء مثل هذا المشروب الغالی، و أنما یتناولون مشروبا مخمرا یصنع من زبیب الطائف، بینما تشرب الطبقات الفقیرة البوزة. و یقول بورخارت کذلک انه لاحظ خلال مدة وجوده فی الطائف ان ترکیا من حاشیة الخدیوی محمد علی باشا کان یستقطر البراندی من العنب و یبیعه علی ملأ من الناس بسعر اربعین قرشا للقنینة الواحدة.
و حینما یکتب بورخارت عن مصرف المکاویین الباذخ یقول ان من بین الاشیاء التی ینفقون علیها عادة کثیرا من المال شراء الحبشیات اللواتی یحتفظ بهن الرجال للمتعة، او الصرف علی البغایا المتیسرات بکثرة. ثم یتطرق الی ذکر ما یقترفه المکیون، و هو آسف، من أشد انواع الفساد و الفجور کل یوم حتی فی داخل الحرم الشریف و هو اقدس مکان عند المسلمین. و هو یسهب فی ذکر ذلک، علی اننا لا نعرف مقدار الصحة فی کلامه و نستهجن ان یعمد رجل مثله الی ذکر هذه السقطات ان وجدت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 283
فعلا. لکنه یقول ان هذا موجود فی معظم المدن الآسیویة، و فی مصر علی عهد الممالیک. علی انه یقول کذلک ان المجتمعات البدویة لا تعرف مثل هذا الفساد. و یتطرق بعد ذلک الی ذکر المشروبات الروحیة ایضا، و الی بیعها حتی بالقرب من المسجد الحرام، کما یتطرق الی تدخین «الحشیش» علنا و لعب الورق فی کل مقهی من المقاهی العربیة علی ما یقول، برغم المنع الموجود فی القرآن الکریم لجمیع انواع القمار.
علی انه مع جمیع ما یذکره من السیئات یشیر الی الصفات الحسنة عند المکیین کذلک مثل السخاء و الکرم، و محبة الغریب و مساعدته، و الامتناع عن السرقة و الغش.
هذا و یتطرق بورخارت الی الناحیة العلمیة من ناحیة مکة ایضا، فیقول ان العلم و تعلمه لا یمکن ان یؤمل ازدهارهما فی مکان یفکر فیه الجمیع بالحصول علی الربح و المغنم أو الجنة. و هو یعتقد ان مکة فی یومه ذاک لم تکن فی مستوی البلاد الاسلامیة الاخری من هذه الناحیة، و حتی من ناحیة العلوم الدینیة. و یروی عن الفاسی المؤرخ ان مکة کان فیها إحدی عشرة مدرسة فی ایامه، بجانب عدد من الرباطات و غیرها. بینما لم تکن توجد و لا مدرسة واحدة تلقی فیها المحاضرات علی ما یقول، و لیس فیها مکتبة عامة ملحقة بالحرم الشریف أیضا. و مع عدم اهتمام المکیین بالکتب و التعلم فأن لغة مکة، علی ما یقول بورخارت، ما تزال اکثر نقاء ورقة فی اللفظ و الترکیب، من لغة أی مکان آخر یتکلم أهله العربیة فی العالم.
فهی تقرب من العربیة القدیمة المدونة، و خالیة من التحریف و الاعوجاج.
و هو لا یعتقد ان اللغة العربیة کانت آخذة بالانحطاط یومذاک.
و لا ینسی الموسیقی العربیة التی یقول أنها لا تمارس فی مکة کما تمارس فی غیرها من البلاد العربیة و لا سیما فی مصر و سوریة. و لیس هناک من الآلة سوی الربابة و النای و الطنبور. و لم یسمع الاذان و هو یردد من فوق المنائر فی مکة بمثل التأثیر الذی یحدثه خلال اللیل فی مصر و سوریة. و یذکر بالمناسبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 284
ان الشریف کانت له فی مکة جوقة موسیقیة خاصة، مثل جوقة الباشوات، تعزف علی بابه مرتین فی الیوم. کما یذکر ان المغنیات المحترفات یحضرن فی حفلات الاعراس فیغنین بأصوات رخیمة رقیقة و یرقصن. و قد سمع من المکیین ان الغناء کان یسمع خلال اللیل فی کل شارع قبل استیلاء الوهابیین الأول علی مکة.

حکومة مکة و الشرفاء

کانت مکة و الطائف و قنفدة و ینبع علی ما یقول بورخارت تابعة لشریف مکة قبل ان یحتلها الوهابیون، و المصریون من بعدهم، فی اوائل القرن التاسع عشر. و قد مدد الشریف نفوذه الی جدة، لکنها بقیت منفصلة عن ممتلکاته اسمیا لأنها کان یحکم فیها باشا ینتدب لحکمها من استانبول فیقتسم وارداتها مع الشریف. و کان الشریف یتربع علی دست الحکم فی مکة بالقوة عادة، او بنفوذه الشخصی و موافقة أسر الشرفاء القویة، ثم یحکم باسم السلطان الذی یؤید فی العادة من یستطیع الحصول علی المنصب. و لذلک کان الشریف فی کل سنة یتلقی خلعة السلطان الواردة من استانبول بصحبة القفطانجی باشی، فیعد فی مقدمة باشوات الامبراطوریة. و حینما کانت سلطة الباشوات فی جدة تصبح شیئا اسمیا فقط، و یکون المسؤولون فی الباب العالی عاجزین عن تجهیز جیوش کبیرة تصحب موکب الحج المتوجه فی کل سنة الی الحجاز، کان شرفاء مکة الحاکمون یصبحون مستقلین غیر عابئین بالاوامر التی کانت تصدر لهم من استانبول، برغم احتفاظهم بلقب خدام السلطان و تسلمهم الخلعة السنویة و اعترافهم بالقاضی الذی کانت تعینه استانبول. غیر ان محمد علی باشا استعاد سلطة العثمانیین علی الحجاز کلها، و اغتصب السلطة من الشرفاء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 285
و یعلق بورخارت فی حاشیة له علی ذلک بقوله ان حکومة الحجاز کثیرا ما کانت تکون موضع نزاع بین خلفاء بغداد و سلاطین مصر و أئمة الیمن. فقد کان شرف امتلاک البلاد المقدسة، و لو بصورة اسمیة، هو الذی تتنافس علیه الجهات المختلفة برغم التکالیف الباهظة التی کانت تصحب ذلک فی کثیر من الاحیان. و جل ما کانت تحصل علیه هو حق تجهیز الکسوة للکعبة، و ذکر الأسم فی صلاة الجمعة فی المسجد الحرام. و لقد انتقل النفوذ الذی کانت تمارسه مصر علی مکة فی هذا الشأن منذ بدایة القرن الخامس عشر للمیلاد الی سلاطین آل عثمان فی استانبول بعد ان استولی السلطان سلیم الأول علی مصر نفسها.
و بعد ان یأتی بورخارت علی تاریخ الکثیرین من الشرفاء و اعمالهم، و لا سیما الشریف سرور و الشریف غالب، یبدأ بوصف لباسهم و مواکبهم عند الخروج للصلاة و غیرها، و یذکر بالمناسبة ان الوهابیین حینما احتلوا مکة أجبروا الشریف علی الخروج ماشیا الی المسجد الحرام فی أوقات الصلاة بحجة ان الرکوب و الفخفخة لا یناسبان الخشوع و الورع الذی یجب ان یبدیه الحاج او المصلی بجوار الکعبة، و لکن الشریف غالبا حینما کان یمسک حکومة مکة بید من حدید کان یجبر الباشوات المرافقین لموکب الحج علی الاعتراف بأقدمیته فی جمیع المناسبات. و قد أشاع فی أنحاء الحجاز بأنه کان أعلی من أی موظف فی الباب العالی، و حتی السلطان نفسه فی استانبول کان یجب علیه ان ینهض له و یحییه.
و قد کان من عادة الشرفاء المقیمین فی مکة منذ القدم ان یبعثوا بأولادهم الذکور للعیش و النشوء بین القبائل البدویة خارج مکة، منذ الیوم الثامن لولادتهم، و یبقوا هناک مدة تقارب العشر سنوات او حتی یکون بوسعیهم رکوب الخیل و الجیاد. و لا یؤتی بالولد الی اهله خلال تلک المدة، الا بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 286
ان یبلغ الشهر السادس من عمره لیروه. و لیس هناک رجل من الشرفاء، فقبرا کان أم غنیا، لم یقض طفولته او ینشأ بین القبائل البدویة مدة من الزمن.
و قد کان من المعتاد ان ینشأ أبناء الشرفاء الحاکمین عند قبیلة عدوان المعروفة ببسالتها و سخاء أبنائها. و کان عثمان المضایفی، الرئیس الوهابی الذی استخدمه الأمیر سعود فی إخضاع الحجاز من شیوخ هذه القبیلة بالذات، فتزوج الشریف غالب أخته. اما الشرفاء الآخرون فقد کان أبناؤهم ینشأون فی مضارب هذیل و ثقیف و بنی سعد و حرب و غیرهم. و یقول بورخارت ان الشرفاء یحصلون علی الکثیر من الفوائد عندما ینشأون هذه النشأة البدویة الخالصة، فهم لا یحصلون علی بنیة قویة و حسب و انما یحصلون أیضا علی شی‌ء غیر یسیر من النشاط و الحریة فی التصرف و الشجاعة التی یعرف بها أبناء البادیة، علاوة علی الاهتمام الزائد الذی یولونه للسخاء و الضیافة و الایمان بالعقیدة الحقة.
غیر ان بورخارت یقول ان المکیین یشککون کثیرا فی نزاهة الشرفاء و استقامتهم، ثم یذکر ان القسم الأعظم من شرفاء مکة نفسها و خاصة الشرفاء الحاکمین من ذوی زید یحتمل جدا ان یکونوا من الزیدیة الذین یکثر أتباعهم فی الیمن و لا سیما فی جبال صعدة، لکن الشرفاء یکذبون ذلک و یتمسکون بالمذهب الشافعی الذی یتمذهب به سکان مکة معظمهم، أما الشرفاء المقیمون فی الخارج فلا ینکرون ذلک. و یعتقد بورخارت ان الزیود ینقسمون الی فرق مختلفة، و یرجع زیود مکة و الیمن الی مؤسس المذهب الامام الهادی الی الحق یحیی بن الحسین الذی یرجع بنسبه الی الامام الحسن ابن علی علیه السلام. و کان قد ولد فی الرص من أعمال القصیم فی سنة 245 ه، و أعلن عقیدته لأول مرة فی صعدة بالیمن سنة 280 ه، فحارب العباسیین و استولی علی صنعاء، ثم أخرج منها، و حارب القرامطة فمات مسموما فی صعدة سنة 298 ه. و هناک من یرجع نسب الزیدیة الی زید بن علی زین العابدین، الذی قتل فی الکوفة سنة 121 للهجرة بأمر من هشام بن عبد الملک الأموی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 287
و یتطرق بورخارت الی ذکر القاضی الذی کانت العادة ان یتعین من استانبول، فیقول ان الأباطرة العثمانیین کانوا یتوخون من ذلک الحیلولة دون استبداد الشرفاء بالناس و التأثیر علی شؤونهم العدلیة. غیر انه یذکر ان الناحیة العملیة تجعل ذلک شیئا غیر ممکن، فان القاضی لا بد من ان یخضع للحاکم المحلی الذی یترک للحکم کما یشاء بشرط ان یبعث الواردات المطلوبة منه الی الباب العالی. و لذلک لم یکن بوسع الفرد ان یحصل علی حقوقه فی المحاکم ما لم تدعمه الحکومة أو یدفع رشوة الی المسؤولین. و علی هذا فان وظیفة القاضی لم تکن تمنح الا بالبیع لأعلی المتزایدین علی ان یکون مفهوما بأنه یسمح له بأن یعوض ما دفعه الی المسؤولین خلال مدة عمله.
و بتأتی دخل الشریف فی الغالب عن رسوم الکمارک التی تدفع فی جدة، و کانت هذه تقسم بینه و بین الباشا الترکی فیها، ثم تسنی للشرفاء المتأخرین قبل استیلاء محمد علی باشا علی الحجاز ان یستأثروا بها کلها حتی جاء الخدیوی المذکور فصارت تؤخذ الیه بأجمعها. و یقال ان الشریف غالبا حینما استقل بالحکم و عظمت سطوته کانت عنده ثمانی سفن کبیرة تشتغل فی تجارة البن ما بین الیمن و جدة و الموانی‌ء المصریة، و حینما کان یجد صعوبة فی بیع ما عنده من هذه السلعة کان یجبر التجار علی شراء شحناته منها بسعر السوق. کما کانت اثنتان من سفنه الکبیرة تقوم کل منهما بسفرة سنویة الی جزر الهند الشرقیة، و کانت السلع التی تأتی منها تباع الی الحجاج فی مکة أو یشتریها تجار جدة مقاسمة بالقوة. هذا فضلا عن سائر الرسوم التی کانت تفرض علی المأکولات و الحیوانات و ما أشبه. و لذلک کانت الواردات السنویة تبلغ فی أیام الشریف غالب فی مکة حوالی ثلاث مئة و خمسین ألف باون استرلینی.

الحج

و فی الجزء الثانی من رحلته ، یخصص المستر بورخارت فصلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 288
کبیرا للحج و مناسکه و جمیع ما یختص به من شؤون. و أول ما یبدأ به هو الاشارة الی ان المسلمین قد قلت حماستهم لتأدیة الواجبات الدینیة المفروضة علیهم فی تلک الأیام، و من جملتها الحج الذی أصبحت تکالیفه الباهظة علی الکثیرین من المسلمین تحول دون تجشمهم المصاعب من أجله.
و صار قسم کبیر منهم ینیب غیره للحج عنه بالأجرة، إذا لم یترک الأمر بالکلیة أو یماطل به.
و یشیر بعد ذلک الی ان عددا غیر یسیر من المسلمین کانوا قد وصلوا الی مکة قبل موعد الحج بثلاثة أو أربعة أشهر، لأن تقضیة رمضان المبارک فی البلد المقدس فیه کثیر من الأجر و الثواب. ثم یأخذ بوصف مواکب الحجاج و قوافلهم التی تأتی من البلاد الاسلامیة المشهورة، و لا سیما سوریة و مصر. فیقول ان موکب الحج القادم من سوریة کان علی الدوام من أقوی المواکب، منذ کان الخلفاء یصحبون الحجاج بأنفسهم من بغداد. و یبدأ الموکب الشامی فی العادة بالتحرک من الأستانة فیجمع فی طریقه حجاج المدن و البلاد الأناضولیة و السوریة حتی یصل الی دمشق الشام، حیث یمکث عدة أسابیع. و فی خلال الطریق الممتد من الأستانة الی الشام کله تؤخذ التدابیر اللازمة للمحافظة علی سلامة القوافل و ما فیها من حجاج، و تصحب الموکب من بلدة الی أخری قوات مسلحة یجهزها الحکام المسؤولون. و فی کل محطة أو خان کان یجد الحجاج البرک و الأحواض العامة من الماء التی کان السلاطین القدماء قد أنشأوها لراحتهم و العنایة بهم، و یقابلون بمظاهر البهجة و الفرح فی کل مکان. و قد کان کل موکب من مواکب الحج یضم عددا کبیرا من الحیوانات، لا سیما الابل، برغم العدد القلیل من الحجاج الذین کانوا ینضمون الی الموکب فی بعض الأحیان. ففی 1814 لم یکن عدد الحجاج فی الموکب الشامی لیزید علی خمسة آلاف حاج علی ما یقول بورخارت، لکن عدد الابل کان یبلغ خمسة عشر ألف بعیر. و هنا یذکر فی الحاشیة بعض الروایات التاریخیة المنسبة، فیقول نقلا عن الفاسی المؤرخ أن والدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 289
المستعصم باللّه، آخر خلفاء بنی العباس، حجت سنة 631 ه و کانت قافلتها تتألف من مئة و عشرین ألف بعیر. و حینما حج سلیمان بن عبد الملک الأموی سنة 97 ه استخدم تسع مئة بعیر لنقل لوازمه و أغراضه فقط. ثم یذکر علاوة علی ذلک ان الخلیفة المهدی صرف حینما حج فی سنة 160 ه ثلاثین ملیون درهم، کما أخذ أبو المعالی الملک الناصر سلطان مصر حینما حج فی سنة 719 ه خمس مئة بعیر لحمل الحلویات و بعض الأطعمة فقط، مع مئتین و ثمانین بعیرا لحمل الرمان و اللوز و سائر الفواکه. و کان فی جملة ما أخذه للأکل ألف وزة و ثلاثة آلاف دجاجة. هکذا جاءت روایة بورخارت عن المقریزی، لکننا حینما رجعنا الی النص الأصلی وجدناه یقول (.. و جهز من الشام خمس مئة جمل تحمل الحلوی و السکر و انات و الفواکه، و حضرت أیضا حوائج خاناه علی مائة و ثمانین جملا تحمل الحب رمان و اللوز و ما یحتاج الیه المطبخ، سوی ما حمل من الحوائج خاناه من القاهرة، و جهز الف طائر أوز و ثلاثة آلاف طائر دجاج).
و کان الموکب الشامی علی انتظام تام فی سیره و سائر شؤونه، فان باشا الشام او من ینیبه من ضباط کان یرأسه علی الدوام، فیعطی الاشارة فی الحل و الترحال باطلاق الرصاص. و تتقدم الموکب فی الطریق ثلة من الخیالة، کما تسیر خلفه ثلة أخری لرعایة المتخلفین. و یجتمع فی ضمن الموکب الحجاج القادمون من المدن المختلفة فی جماعات تسیر سویة علی طول الطریق.
و یتعاقد الحجاج عادة مع أحد المقومین و هو یتعهد بتجهیز الدابة الی الحاج مع سائر ما یحتاج الیه خلال السفر. و لذلک یلاحظ کل عشرین او ثلاثین حاجا مع مقومهم الخاص الذی یهی‌ء لهم الخیم و یجهز الخدم فیوفر علی الحجاج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 290
أتعاب السفر، و لا سیما بتحضیره شؤون الطعام و القهوة و الماء و ما أشبه لهم. و لقد کانت أجرة الحاج عند المقوم فی 1814 مع أعاشته تبلغ مئة و خمسین ریالا من دمشق الی المدینة، و خمسین ریالا من المدینة الی مکة.
و کانت تشعل المشاعل فی اللیل، و تقطع المسافات الیومیة ما بین الثالثة بعد الظهر و بعد مرور ساعة او ساعتین علی موعد طلوع الشمس من الیوم التالی. لکن البدو الذین یحملونن الذخیرة یسیرون خلال اللیل فقط متقدمین القافلة. و کان یوجد فی المحطات التی تتزود فیها القافلة بالماء حصن کبیر مع حوض واسع من الماء ترد منه الجمال. و کانت ترابط فی کل حصن حامیة تتألف من عدد قلیل من الجنود الذین یبقون فیها خلال السنة کلها.
و فی مثل هذه الحصون کان یلتقی شیوخ البدو بالقوافل فیأخذون الأجور المعتادة. و لا تبعد المحطات بعضها عن بعض أکثر من مسیرة اثنتی عشرة ساعة عادة.
اما قوافل الحجاج المصریین و موکبهم فتسیر علی نفس النظام الذی تسیر علیه القوافل السوریة، لکنها نادرا ما تساویها فی العدد لأنها تتألف من الحجاج المصریین فقط الی جنب الحرس العسکری. و یکون طریقها علی جانب أکبر من الخطر و المشقة، لأن الطریق الممتد علی سواحل البحر الأحمر یمر من دیرات قبائل شرسة قویة الشکیمة کثیرا ما تحاول قطع الطریق علی القوافل بالقوة. و کان الموکب المصری فی 1814 یتألف من الجند المرافق للمحمل و حاشیته مع بعض الموظفین الرسمیین، لأن جمیع الحجاج المصریین فضلوا الحج عن طریق السویس و فی 1816 رافق موکب الحج عدد من وجوه مصر و سراتها، و قد جاء أحدهم بمئة و عشرة جمال لتحمل عفشه و حاشیته، مع ثمانی خیم کبیرة. و لا بد من ان تکون نفقات سفره قد بلغت حوالی عشرة آلاف دینار. رکان مع الموکب أیضا حوالی خمس مئة فلاح مع نسائهم من مصر السفلی. و هؤلاء لا یبالون عادة بمشاق السفر و أخطاره فی البادیة و البحر الأحمر. و الغریب ان بورخارت یقول انه شاهد معهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 291
جماعة من البغایا و الراقصات، و ان خیم اولائی النسوة کانت أجمل خیم الموکب و أکثرها زینة و تزویقا.
و یقول بورخارت کذلک ان موکب الحج الایرانی الذی کان یخرج من بغداد فی سالف الأیام، فیأتی الی مکة عن طریق نجد، قد انقطع مجیئه حینما أوقف الوهابیون مجی‌ء الموکب الشامی من سوریة. و بعد ان عقد الأمیر عبد اللّه بن سعود صلحا مع طوسون باشا (بن محمد علی) فی 1814 کان العدد القلیل من الحجاج الایرانیین القادمین عن طریق البر قد عبروا من بغداد الی الشام و ساروا مع الموکب الشامی بصحبة عکامین من بغداد.
و من الجدیر بالذکر، علی ما یقول بورخارت، ان الایرانیین لم یکن یسمح لهم علی الدوام ان یأتوا الی مکة. فبعد ان أعید بناء الحرم الشریف فی 1634 أمر السلطان مراد الرابع بأن لا یسمح لأی ایرانی من «شیعة علی» بتأدیة الحج او الدخول الی بیت اللّه الحرام. فبقی التحریم ساریا عدة سنوات، غیر ان المال الذی بذله الایرانیون سرعان ما فتح الطریق أمامهم الی الکعبة و عرفات.
و قد توقف مجی‌ء الموکب المغربی للحجاج مدة سنین عدیدة، و أصبح قدومهم علی دون هدی او انتظام. و کان من المعتاد أن یرأس الموکب قریب من أقرباء ملک مراکش، فیسیر مسیرات بطیئة نحو تونس و طرابلس و یجمع الحجاج فی طریقه من کل منطقة. و یسلک هذا الموکب من طرابلس الطریق الممتد علی ساحل البحر الی درنة، و من هناک یسیر مع الساحل المصری الی القاهرة عن طریق الاسکندریة. و لا یرافق هذا الموکب الا عدد قلیل من الجند لأن الحجاج یکونون مسلحین تسلیحا حسنا فی العادة. و یقول بورخارت انه شاهد مع هذا الموکب جماعة صغیرة من عرب دراع النازلین جنوبی شرقی جبال الأطلس، و کان أحدهم من بدو الشلوح الذین کانت منازلهم حینما ترکهم تقع علی مسیرة عشرین یوما من تمبکتو. و یوجد مع موکب الحجاج المغاربة عادة أناس من أهالی جزیرة جربا الذین یعتقد أنهم شیعة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 292
الامام علی کما یقول بورخارت. و کثیرا ما یبقی البعض من هؤلاء فی القاهرة حیث یسکنون فی حارة تسمی تیلون.Teyloun و المعتقد ان عدد حجاج المغرب کان یبلغ حوالی ألفی حاج فی تلک الأیام.
و کان یأتی من الیمن موکبان للحج عن طریق البر من قبل، و کان أحدهما، و یسمی الکبسی، و یتحرک من صعدة فیسیر فی المناطق الجبلیة الی الطائف و منها الی مکة. اما الموکب الثانی فقد کان یتألف من حجاج یمانیین مع حجاج ایرانیین و هنود یصلون فی العادة الی موانی‌ء الیمن. و قد أبطل هذا الحج فی 1803، بعد ان کان من المواکب الغنیة بالسلع المختلفة و البن، و بعد ان کان یرأسه أئمة الیمن. و قد کان لهذا الموکب، کما کان لغیره، مکان خاص فی مکة المکرمة ینزل فیه، و قد خصص له حوض حجری کبیر للماء.
و یذکر بورخارت فی هذا الشأن أن کثیرا من الحجاج الأتراک کانوا یأتون بجماعات عن طریق مصر فی أواخر عهد الممالیک، حینما کانوا یسیطرون علی مصر العلیا فقط بینما کان محمد علی باشا یسیطر علی مصر السفلی. و کثیرا ما کان هؤلاء الممالیک یعتدون علی الحجاج الأتراک و یرتکبون أنواع الفظاعات تجاههم، و من جملة ما یذکر ان وحشا یونانیا من أصل یهودی یدعی حسن بک الیهودی کان یشتغل مع الممالیک، و کان یفتخر بأنه قتل وحده حوالی خمس مئة من أولئک الحجاج المساکین. و کانت هذه المذابح الوحشیة هی التی قدمت للخدیوی محمد علی باشا حجة للغدر بالممالیک و القضاء علیهم فی قلعة القاهرة المعروفة.
اما الحجاج الباقون فیأتون الی مکة عن طریق البحر من الیمن و جزر الهند الشرقیة، و هؤلاء هم مسلمو الهند و کشمیر و کجران و الایرانیون القادمون عن طریق الخلیج و العرب من البصرة و مسقط و عمان و حضر موت فضلا عن القادمین من سواحل ملیندا و مومباسا الذین یطلق علیهم «السواحلیون» و یأتی مسلمو الحبشة و سائر بلاد العبید بالطریق نفسها کذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 293
و یلاحظ من بعض ما یکتبه بورخارت فی الرحلة انه ربما کانت له علاقة بالاستخبارات البریطانیة فی تلک الأیام. فهو یقول ان وصول الغرباء من جمیع أنحاء العالم الاسلامی، أی من تمبکتو الی سمرقند و من بلاد الکرج الی بورنیو، تجعل جدة مکانا ممتازا جدا للأوربی المسافر المعنی بجمع الأخبار و حب الاستطلاع. فهو بتقدیمه المساعدة للحجاج الفقراء، و صرف مبالغ زهیدة لتجهیزهم بالمؤن، یمکنه ان یجتذب الیه عددا کبیرا فیستطیع بهذه الوسیلة جمع معلومات کثیرة تختص بأبعد البلاد المعروفة فی أفریقیة و آسیة.
ثم یصف بورخارت وصول الموکبین الشامی و المصری، و یذکر بمناسبة وصول الموکب المصری ان محمد علی باشا کان مقیما فی الطائف یومذاک، للاشراف علی الحملة المصریة المجردة ضد الوهابیین، و قد وصل لتفتیش القوة التی وصلت مع المحمل فسرّ بها لأنها زادت فی أمله بالتغلب علی الوهابیین.
و هو یقول ان محمد علی کان یلف جسمه بأقمشة الأحرام الجمیلة المصنوعة من الشال الکشمیری، لکن أحد الضباط کان یحمل فوق رأسه (رأس محمد علی) شمسیة تقیه حر الشمس فی أثناء سیره.
و یأخذ بورخارت بوصف مناسک الحج بالتفصیل، مما أتینا علیه قبل هذا فی هذا المبحث فی مناسبات عدة من قبل. علی أننا لا بد من ان نذکر هنا انه قدر عدد الحجاج الذین وقفوا فی عرفات (سنة 1814) بسبعین ألف حاج. و قد کان مخیم الحجاج هناک یبلغ طوله بین ثلاثة و أربعة أمیال، و عرضه حوالی المیلین. و هو یقول فی هذا الشأن أنه لیس هناک علی وجه الأرض بقعة فی مثل هذا الحجم الصغیر یقف علیها مثل هذا العدد من الناس الذین یتکلمون بهذا العدد الکبیر من اللغات و اللهجات. و یقول کذلک أنه شخصیا لاحظ وجود أربعین لغة بین الحجاج، و أنه کان هناک عدد آخر من اللغات الأخری بطبیعة الحال. و یذکر بمناسبة ذکر المحمل المصری نقلا عن المقریزی ان الظاهر بیبرز البندقداری سلطان مصر کان أول من بعث بالمحمل سنة 670 للهجرة. و منذ ذلک الوقت فصاعدا أخذ سلاطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 294
المسلمین الذین یبعثون بمواکب الحج الی مکة المکرمة یعتزون بارسال محمل من عندهم و یعتبرون ذلک دلیلا حیا علی ولائهم للاسلام و المسلمین. فجاء أول محمل من الیمن فی 980 ه، و فی 1049 ه جاء المؤید باللّه امام الیمن الزیدی و ملکها مع المحمل بنفسه الی عرفات. کما کانت المواکب القادمة من بغداد و دمشق و القاهرة یأتی کل منها بمحمله الخاص من قبل. و قد جی‌ء فی سنة 730 ه بمحمل بغداد محملا علی فیل خاص الی عرفات.
و یقول بورخارت فی آخر بحثه عن الحج ان بعض الحجاج کانوا یتوقون الی الحصول علی لقب «خادم المسجد» الذی یمکن الحصول علیه بعد دفع حوالی ثلاثین ریالا. إذ تعطی لقاء ذلک ورقة تنص علی منح الحاج اللقب یوقعها الشریف و القاضی. و قد یستطیع فی بعض الأحیان حتی النصاری الحصول علی امتیاز «خدام المسجد»، و هذا ما یحاول الحصول علیه بوجه خاص سکان جزر الأرخبیل الیونانی لأنهم عندما یصادف وقوعهم فی أیدی القراصنة من المغاربة الذین یعترف أشدهم بأسا وقوة بهذه الشهادة یستطیعون التخلص منهم. و یذکر بورخارت أنه شاهد قبطانا یونانیا حصل علی مثل هذه الشهادة بعد ان دفع ما یقرب من مئتی ریال لقاءها. فقد کان یقود سفینة من سفن محمد علی باشا و هو فی طریقه الی بلاده، فوجده مطمئنا جد الاطمئنان لأنه یستطیع بهذه الشهادة أن یقود أیة سفینة کانت من دون ان یخشی خطر القراصنة المغاربة علیها. و لقد کان هذا اللقب فی قدیم الزمان له أهمیة کبیرة، لکنه لم تعد له فی أیام زیارة بورخارت للحجاز أهمیة تذکر.

السر ریتشارد بورتون

اشارة

و اذا کان المستر بورخارت لم یستطع فی بعض الأحیان القیام بجمیع مناسک الحج و تفاصیله علی الوجه الأکمل، فقد استطاع السر ریتشارد بورتون ان یفعل ذلک بعده بأربعین سنة من دون أن یکتشف أمره علی الاطلاق. و کان الفضل فی ذلک یعود الی اتقانه التخفی، بعد ان تعلم العربیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 295
و الفارسیة و الترکیة، و اتقن تعلم الفروض الدینیة المعروفة عند المسلمین. و قد استعد لذلک قبل ان یقدم علی رحلته المخطرة بأشهر عدیدة و اتخذ جمیع التدابیر اللازمة للقیام بمهمته خیر قیام، و من جملة ذلک أنه عمد الی الاختتان، و هو یومئذ فی الثانیة و الثلاثین من عمره، و قد جرب علاوة علی ذلک تأثیرات الصبغات المختلفة فی جلده و مظهره، و تعلم التنعیل و استعمال الرمح و ما أشبه.
و کان بورتون من موظفی شرکة الهند الشرقیة، المعروفة، و بعد ان اشتغل عدة سنین فی دوائرها فی الهند حصل علی رخصة طویلة الأمد من الشرکة و اتصل بالجمعیة الجغرافیة الملکیة فی انکلترة لتساعده مالیا فی مهمته التی تنطوی علی الدخول الی جزیرة العرب و الحجاز علی الأخص، ثم الوصول الی مکة المکرمة فی موسم الحج للکتابة عنها بالتفصیل. فتوفق فی ذلک، و بعد ان أکمل الاستعدادات جمیعها أبحر من انکلترة الی الاسکندریة فی الیوم الثالث من نیسان 1853 باسم المرزا عبد اللّه من بوشهر. و یقول سیتون دیردون مؤلف کتاب «الفارس العربی» أنه قبل ان یتوجه الی مهمته علم أن رحالة انکلیزیا یدعی والین‌Wallin کان قد تمکن من الدخول الی مکة و الحج مع الحجاج فی 1845، لکنه لم یستطع تدوین شی‌ء عما فعل و رأی لأنه کان خائفا علی حیاته و خاصة بعد ان لاحظ ان اثنین من الیهود قد أکتشف أمرهما فی مکة تلک السنة فقتلهما الحجاج الهائجون شنقا. فقرر ان یستفسر منه عن أشیاء کثیرة قبل ان یقدم علی الاضطلاع بمهمته، و کتب له بذلک.
لکن کتابه لم یصل الی والین الا بعد أن کان قد توفی. و لذلک عمد الی دراسة ما کان قد کتبه بورخارت قبله من تفصیلات فدرسه دراسة مستفیضة.
و استعد للرحلة علی ضوء ما جاء فیها.
و بعد ان بدل هویته و جنسیته عدة مرات فی مصر، و فی الطریق الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 296
أخذه منها الی ینبع فالمدینة المنورة، وصل مدینة الرسول سالما غانما و استقر فیها باعتباره أحد الحجاج الأفغان. و بعد ان أطلع علی ما فی المدینة و أماکنها المقدسة توجه مع موکب الحج الشامی الی مکة فی یوم 31 آب 1853. و بعد ثمانیة أیام متعبة وصل الموکب بآلافة السبعة من الناس الی أم القری. و یقول بورتون عن مکة حینما وصلها لأول مرة انه لم یجد فیها ذلک الجمال الرشیق المتناسق الذی یتجلی فی آثار الیونان و ایطالیة، و لا الفخامة البربریة المتجلیة فی أبنیة الهند، و مع هذا فقد کان المنظر غریبا فریدا فی بابه بالنسبة الیه. و یقول کذلک «.. و یمکننی أن أقول حقا انه من بین جمیع الحجاج الذین کانوا یتعلقون بأستار الکعبة و هم یبکون، أو یضغطون بقلوبهم النابضة علی الحجر، لم یکن هناک أحد فی تلک اللحظة أشد شعورا و أطغی عاطفة من الحاج القادم من بلاد الشمال. فقد بدا لی کأن أساطیر العرب الشعریة جمیعها کانت تنطق بالصدق، و کأن أجنحة الملائکة الخفاقة، و لیس نسیم الصبح العذب، کانت هی التی تحرک الکسوة السوداء التی تجلل الکعبة المقدسة. لکننی لا بد لی من أن اعترف اعترافا متواضعا بأن عاطفة أولئک الحجاج المتدفقة کان مبعثها الحماسة الدینیة، أما عاطفتی فقد کان مبعثها نشوة الکبریاء المطمئن. »
و قد کتب السر ریتشارد بورتون. هذا عن زیارته الی المدینة و مکة بتفصیل مسهب استغرق مجلدین کبیرین لکن الملاحظ ان الرحالة الموما الیه کتب عن جمیع ما دونه سلفه بورخارت، و لکن بطریقة مختلفة و تعلیقات لا تشبه تعلیقات بورخارت فی کثیر من المناسبات. غیر ان الوصف العام لا یختلف عند الاثنین اختلافا جوهریا، و لذلک نکتفی هنا بما سبق أن ذکر بشی‌ء من التفصیل عن بورخارت، لکننا سنورد شیئا عما کتبه بورتون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 297
عند دخوله الی داخل الکعبة لأن بورخارت لم یذکر کثیرا عن ذلک.

فی داخل الکعبة

فهو یقول: .. و کان جمهور من الناس قد احتشد حول الکعبة، و لم أکن راغبا فی ان أقف حاسر الرأس حافی القدمین فی شمس أیلول.
فصاح أحدهم یقول افتحوا الطریق للحاج الذی یرید ان یدخل البیت، و عند ذاک أفسح المتجمهرون الطریق .. و تقدم رجلان قویان من أهالی مکة کانا یقفان تحت الباب المرتفع، فرفعانی بأذرعهما بینما سحبی رجل ثالث من أعلا الی داخل المبنی. فحیانی فی المدخل عدد من خدام الکعبة و هم من المکیین سمر البشرة الذین کان أشدهم سمرة و بساطة شاب من أسرة بنی شیبة سدنة الکعبة. و هؤلاء یحتفظون بمفاتیح البیت عندهم، و کان رئیسهم یوم زرت مکة الشیخ أحمد. و کان فی ید ذلک الشاب مفتاح مذلاج الکعبة المطلی بالفضة، و سرعان ما جلس علی مسطبة خشبیة فی رکن الکعبة الأیسر و ابتدرنی بالسؤال رسمیا عن اسمی و قومیتی و تقصیلات أخری. و لما کانت أجوبتی وافیة بالمرام أمر الفتی محمدا الذی کان یصحبنی بأن یقودنی حول المبنی و یرتل أمامی الصلاة. و لا أنکر أننی حینما نظرت الی الجدران الخالیة من الشبابیک، و لا حظت وجود السدنة بالباب، و جمهور المتعصبین الهائجین فی أسفل الکعبة، شعرت و کأننی فأرة فی المصیدة. علی ان ذلک لم یمنعنی عن ملاحظة ما کان یحیط بی بدقة خلال صلاتنا الطویلة، و رسم مخطط تقریبی بقلم الرصاص فوق قماش احرامی الأبیض.
فلم یکن هناک شی‌ء أبسط من داخلیة هذا المبنی الشهیر. فان التبلیط المساوی لمستوی الأرض یتألف من قطع من المرمر البدیع بألوانه المختلفة التی یکثر فیها الأبیض. اما الجدران فان جمیع ما کان ظاهرا منها کان مبنیا بالمادة نفسها. لکن القطع کانت غیر منتظمة فی شکلها، و کثیر منها مکتوب بکتابات طویلة. و کانت الاقسام العلیا من الجدران، و السقف الذی کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 298
النظر الیه یعتبر ضربا من عدم الاحترام، مغطاة بالدمقس الأحمر المورّد بالذهب، و الذی کانت حاشیته ترتفع الی علو ست أقدام عن الأرض لتکون بعیدة عن أیدی الحجاج. و کان السقف المنبسط یستند علی دعامات مستعرضة ثلاث، تستند هی بدورها علی الجدارین الشرقی و الغربی و تحملها فی الوسط ثلاثة أعمدة یبلغ قطر کل منها حوالی عشرین بوصة، و هی مغلّفة و مزینة بخشب الند المحفور. و یوجد فی الرکن العراقی باب صغیر یسمی «باب التوبة»، یؤدی الی ممر ضیق ینفذ الی سلم یستعمله الخدم فی الصعود الی السطح، و لا یفتح الا عند الحاجة. و یشغل الرکن «الأسود» او «الأسعد» صندوق مسطح القبة مضلع الشکل توضع فیه أحیانا مفاتیح الکعبة نفسها.
و یصنع الباب و الصندوق معا من خشب الند. و تمتد ما بین الأعمدة، علی تسع أقدام من الأرض عوارض معدنیة لم استطع الاهتداء الی نوعیة معدنها، یعلق منها عدد غیر یسیر من المصابیح التی یقال أنها من ذهب.
و مع عدم وجود عدد کبیر من الناس و الخدم فی داخل الکعبة فان الجدران الحجریة الخالیة من الشبابیک، و الأبواب الضیقة فیها، تجعل منها شیئا أشبه بسجن البندقیة. إذ یتساقط العرق من الأجسام فی داخلها بقطرات کبیرة، و قد ساورنی الرعب حینما فکرت بامتلائها بالمتعصبین المتدافعین من الناس. و کانت شعائر العبادة تنطوی علی الصلاة برکعتین، و الابتهال لمدة طویلة، فی الرکن الشامی (الغربی) و الزاویة العراقیة (الشمالیة)، و الیمانیة، و أخیرا تجاه الثلث الجنوبی من الجدار الخلفی. و هنا یقول بورتون ان بورخارت قد أخطأ حینما ذکر ان الصلاة تتم «فی کل رکن» من الأرکان الأربعة. «و بعد ان انتهینا من هذا کله عدت الی الباب حیث یتم الدفع ..»

الکسوة

.. و قد کانت الکعبة مبرقعة بکسوتها الجدیدة حینما دخلنا فیها. علی أن الکسوة کانت مرفوعة من السقف بالحبال بدلا من ان تکون مشدودة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 299
بالحلقات فی أسفلها. و قد کانت مصنوعة من قماش أسود لماع. و کان الحزام او المنطقة الذهب التی تدور حول الکعبة من أعلاها، مع البرقع، یکاد لمعانه یأخذ بالأبصار. و من المعتقد ان أول من جلل الکعبة بالکسوة تبّع الحمیری، و بقی أکساؤها ساریا منذ ذلک العهد .. و کان من عادة العرب فی الجاهلیة ان لا یرفعوا الکسوة القدیمة عند اکسائها بکسوة جدیدة.
بل کانت الکسوات تبقی واحدة فوق الأخری حتی أصبح ثقلها یهدد بتقویض البناء.
و کان المال اللازم لتجهیز الکسوة یجمع من الناس منذ عهد قصی، الی ان تبرع ابو ربیعة المغیرة بن عبد اللّه بتجهیزة علی حسابه الخاص بین سنة و أخری بعد ان أثری و کثر ماله، و بذلک حصل علی لقب العادل. و کان النبی الکریم یفضل ان تصنع الکسوة من القماش الیمانی الرقیق، فأمر بأن یصرف علیها من بیت مال المسلمین. و حینما تولی عمر الخلافة صار یفضل ان تصنع الکسوة من الکتان المصری، و تجدد فی کل سنة فیوزع قماش القدیمة علی الحجاج. ثم جاء عهد عثمان بن عفان فصارت تستبدل مرتین فی السنة، أی فی الشتاء و الصیف فتکسی بالقمیص المطرز فی الشتاء و الازار المصنوع من الکتان فی الصیف. أما معاویة فقد کان یقدم الکتان و الحریر فی بادی‌ء الأمر، لکنه أمر بعد ذلک باستبدال الکتان بالنسیج الیمانی المقلم و طلب الی شیبة بن عثمان ان یجرد الکعبة عن کسوتها القدیمة قبل التجدید و یطیب جدرانها بالخلوق. فصار شیبة یوزع الکسوة القدیمة بین الحجاج فلم یعترض عبد اللّه بن عباس علی ذلک.
و قد أمر الخلیفة المأمون (فی القرن التاسع) بأن تستبدل الکسوة ثلاث مرات فی السنة، و کانت تصنع علی عهده من الحریر الموشی الأحمر فتکسی الکعبة بها فی الیوم العاشر من محرم الحرام، و تصنع من الحریر الموشی الأبیض لتستبدل فی الیوم الأول من شوال. و حینما قیل للمتوکل العباسی (القرن التاسع) ان قماش الکسوة صار یتهرأ بأیدی الحجاج من کثرة اللمس أمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 300
فی بادی‌ء الأمر بأن تغلف الکعبة بکسوتین، و ان تکون کل منهما طویلة بحیث تصل الی حد التبلیط. غیر أنه أمر فی الأخیر بأن تجهز الکعبة بکسوة جدیدة کل شهرین من أشهر السنة. فأصبح اهتمام العباسیین هذا یعنی سیطرتهم علی الحجاز و شؤونه، الأمر الذی کانت تتناوب علیه بغداد و مصر و الیمن.
و کانت الکسوة فی عهد الادریسی (القرن الثانی عشر للمیلاد) تصنع من الحریر الأسود و یجددها الخلیفة العباسی فی بغداد سنویا. اما ابن جبیر فیذکر أنها کانت خضراء موشاة بالذهب. علی ان أمر الکسوة صار یتولاه فی القرن الثالث عشر السلطان قلاوون فی مصر، الذی أوقف لها واردات قریتین من القری المصریة الغنیة و هما بیسوس و سندبوس. و کانت واردات هاتین القریتین تخصص لتجهیز کسوة خارجیة سوداء للکعبة و أخری حمراء داخلیة، مع ستائر خاصة لقبر النبی الأعظم فی المدینة المنورة. و حینما استولی العثمانیون علی البلاد المقدسة أمر السلطان سلیم بأن تکون کسوة الکعبة سوداء اللون، ثم أوقف ولده السلطان سلیمان (القرن السادس عشر للمیلاد) مبالغ طائلة لهذا الغرض. و صارت الکسوة بعد ذلک تستبدل کلما ارتقی عرش آل عثمان و ال جدید. اما الوهابیون فقد کسوا الکعبة عند اول استیلائهم علی مکة بکسوة حمراء مصنوعة من نسیج العباءات العربیة المصنوعة فی الاحساء.
و یقول بورتون فی الأخیر ان الکسوة فی عهده (1853) کانت تصنع فی مصنع النسیج القطنی المسمی «الخرنفش» فی باب الشعریة فی القاهرة ثم یذکر ان الکسوة تتألف عادة من ثمانی قطع، اثنتان منها لکل وجه من أوجه الکعبة، و یغطی محل اتصال القطعتین بحزام ذهبی المظهر، ثم تبطن بخام أبیض و تجهز بحبال قطنیة. و یقال ان الکسوة کانت تنسج خلال حیاکتها الآیات القرآنیة کلها فیها. اما فی عهد بورتون فقد کانت تنسج فیها الآیة الکریمة (إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 301
مع سبع سور قرآنیة هی: سورة الکهف، و مریم، و آل عمران، و التوبة، و تبارک، و طه، و یاسین. و کانت هذه تخط بحروف «الطومار» و هو أکبر الخطوط الشرقیة فی الحجم، و یقرأ من بعید. اما الحزام فهو نطاق یبلغ عرضه حوالی قدمین، و یحیط بالکعبة علی ثلثی ارتفاعها. و یقسم الی اربع قطع یخاط بعضها ببعض، و تخط علی القطعة الأولی و الثانیة بعض آیات العرش، أما علی القطعتین الثالثة و الرابعة فتنقش عناوین و أسماء السلطان الحاکم. و تحاک هذه الکتابات، کما تحاک کتابات البرقع أو ستار الباب، بالذهب الملفوف بالحریر الأحمر. و حینما تتم حیاکة لکسوة فی الخرنفش تنقل الی مسجد سیدنا الحسین فی القاهرة بموکب خاص، و هناک تبطن و تخاط فتکون جاهزة للرحلة الی البیت الحرام.

نقاط اخری

و فی رحلة بورتون فصل قیّم کثیر الفائدة عن الحیاة فی مکة، یصف فیها مکة نفسها و أحوال سکانها بشی‌ء غیر یسیر من التفصیل. فهو یقول عنها أنها تعد مدینة حدیثة نسبیا برغم ان منشأ بیت اللّه الحرام تضیع جذوره العمیقة بین طیات الماضی السحیق. فقد بنیت حوالی سنة أربع مئة و خمسین میلادیة من قبل قصی و عشیرته قریش. و هی تحتوی علی ثلاثین الی خمسة و أربعین ألف نسمة من السکان، مع وجود أماکن فیها لسکنی ثلاثة أضعاف هذا العدد من الناس علی الأقل. و تبنی بیوتها بالطابوق و حجر الغرانیت و الحجر الرملی المستمد من الجبال المجاورة. و منظر مکة أشبه بواد متموج متعرج یمتد فوق هضبة صغیرة من الهضاب. و یبلغ أقصی طولها میلین و نصف من معبدة فی الشمال الی جبل أجیاد فی الجنوب، کما یبلغ أقصی عرضها ما بین ابی قبیس فی الشرق (الذی تمتد علی سفوحه الغربیة البلدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 302
معظمها) و جبل هندی فی الغرب. و تقوم الکعبة فی مرکز هذا الخط.
و یقول بورتون خلال تحدثه عن سکان مکة، و ما سمعه منهم عن مستقبل الاسلام، ان الکثیرین ممن عرفهم یذکرون ان الاسلام مکتوب له ان یصادف کثیرا من الأحن و النکبات فی مقبل الأیام. و یخلص من هذا الی القول ان المسیحیین المتحمسین لنشر عقیدتهم و دیانتهم فی العالم یمکن ان یجدوا فی وضع المسلمین الفکری هذا فرصة للانتشار و التغلغل بینهم فی الأجیال المقبلة. ثم یذکر فی حاشیة له ان الوضع لا یحتاج الی کثیر من التنبؤ قبل الأوان لیستنتج منه المرء بأن الانکلیز لا بد من ان تضطرهم الأحوال السیاسیة لأن یحتلوا بالقوة ینبوع الاسلام هذا و قبلته المقدسة.
و یذکر من جهة أخری ان المشروبات الروحیة التی یذکر بورخارت وجود أمکنة خاصة لبیعها فی مکة لم یعد لها وجود مطلقا فی أیامه، و قد أکّد له بعض الضباط الأرناؤوط أنهم وجدوا صعوبة فائقة فی تهریب بعض القنانی من هذه المشروبات من جدة الی مکة. ثم یشرح فی الحاشیة ان زیارة بورخارت کانت فی عهد استیلاء محمد علی باشا علیها، و یعزو السبب الی هذا الوضع بطبیعة الحال.
و من طریف ما یذکره بورتون فی هذا الفصل ان أحد المطوفین کان یصحبه فی ذهابه و إیابه الی العمرة، فأصر علیه ان ینیبه للحج بالنیابة عن ابیه و أمه، فألفی نفسه مجبرا علی الأذعان للطلب و أخبره أن أباه یسمی یوسف ابن احمد و أمه فاطمة بنت یونس. ففعل المطوف ذلک و أخذ أجرته المقننة عن عمله هذا.
و قد زار بورتون مقبرة مکة المقدسة کما یسمیها، التی کان یطلق علیها «جنة المعلا». و هو یقول أنه شاهد فیها المکان الذی علقت فیه جثة عبد اللّه ابن الزبیر بأمر من الحجاج بن یوسف الثقفی، و قبر عبد الرحمن بن أبی بکر الذی یذکر انه موضع تقدیس السنة و الشیعة معا، و قبر السیدة خدیجة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 303
الکبری الذی کان مغطی بقماش أخطر، و قبر آمنة والدة النبی علیه السلام الذی أعید بناؤه بعد ان خربه الوهابیون. و بعد هذا یذکر بورتون قیامه بزیارة الأماکن الأخری التی ذکرها بورخارت من قبل. و یشیر فی الحاشیة الی ان الکتب التی رجع الیها تذکر اثنی عشر مکانا آخر للزیارة فی مکة، لا یعرف عن أکثرها غیر اسمها. و هی: المختبأ، و دار الخیزران التی کان النبی یصلی فیها سرا فی بدایة دعوته، و مولد عمر، و بیت أبی بکر، و مولد جعفر الطیار بالقرب من مقبرة الشبیکة، و المدّعی، و دار الهجرة، و مسجد الرایة، الذی غرس النبی رایته فیه عند استسلمت له مکة، و مسجد الشجرة الذی یقول بورتون انه المسجد الذی جعل النبی الشجرة فیه تتقدم الیه و تتقهقر الی الوراء. و مسجد الجعرانة حیث لبس النبی لباس الاحرام و هو المکان الذی ما زال الایرانیون یزورونه، و مسجد ابراهیم، و مسجد ابی قبیس و مسجد ذی طوی.
و أخیرا، یشیر بورتون الی دعوة عشاء دعاه الیها رجل یقال له علی بن یاسین الزمزمی. و قد أکل فیها أکلات کثیرة منها الرز (البلاد) و البامیا و السبانغ و البریانی و الکمأة و الورق المحشی و الکباب و السلطة و الخبز النفیس، ثم الکنافة و المحلبیة و راحة الحلقوم. و قد أکل بعض ذلک بملعقة خشبیة. و هو یقول فی هذه الأثناء ان العرب یتجاهلون فن الأکل الفرنسی الذی یطیل الآکلون مدة أکلهم فیه. و یذکر بالمناسبة ان مکة تتجهز من الطائف و وادی فاطمة بکمیات کثیرة من الخضر و الفواکه التی یبلغ مقدارها فی موسم الحج وحده مئة حمل بعیر فی الیوم علی الأقل.
و مما یؤتی به الی مکة الرقی و التمر و اللیمون و العنب و الخیار و ما أشبه.
و آخر ما نذکره عن بورتون مغادرته مکة المکرمة و مجیئه الی جدة حیث کشف للمستر کول القنصل البریطانی فیها عن هویته. و مع انه یثنی علی المستر کول، و یذکر انه رفع اسم بلاده عالیا و ألقی دروسا علی الشریف و غیره بوجوب احترام الاسم البریطانی، فأنه مع ذلک کله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 304
یقول ان علی المسؤولین البریطانیین ان یعینوا فی هذه الجهات قنصلا انکلیزیا فی جدة و وکیلا محلیا یمثل الانکلیز فی مکة نفسها حتی یأتی الیوم الذی تجدهم فیه الحوادث علی احتلال أم البلاد الاسلامیة فی یوم من الأیام!! و هو یقول أنه یلح فی ذکر هذه الأمور لأنه لا یخرج عن طبع کل انکلیزی حینما یود أن یری الأنکلیز متقدمین فی کل مکان، و حتی فی جدة. و لبیان أهمیة جدة و مرکزها التجاری یذکر بورتون ان خمسا و عشرین الی ثلاثین سفینة تجاریة ترد من الهند الی جدة کل سنة، و ان حجم التجارة معها یبلغ حوالی خمسة و عشرین لکا من الروبیات.

المستشرق الهولندی هورغرونیه

اشارة

لقد تسنی للمستشرق الهولاندی سنوک هورغرونیه الاستاذ فی جامعة لیدن ان یقضی سنة کاملة من حیاته (1884- 1885) فی الحجاز، کانت ستة أشهر منها فی مکة نفسها و ستة أخری فی جدة. و قد عاش فی مکة خلال هذه المدة طالبا من طلاب العلم یدرس العلوم الاسلامیة و یتفقه فیها. و کان الاستاذ هورغرونیه قد طبع قبل ذلک کتابا مفصلا باللغة الهولاندیة عن مناسک الحج حاول فیه ان یستقصی منشأ هذه الطقوس و تطورها فی الجاهلیة و الاسلام. ثم نشر فی 1888- 1889 مجلدا کبیرا فی جزءین بالألمانیة ضمنه ما توصلت الیه افکاره المتحیزة عن (مکة) التی سمی المجلد الکبیر باسمها. و کان الجزء الأول من المجلد یحتوی علی موجز بالوصف الطوبوغرافی فی مکة المکرمة نفسها. و تاریخ کامل للبلد الحرام منذ أیام النبی حتی سنة 1885 م. و لم یترجم هذا الجزء الی الانکلیزیة علی ما نعلم، لکن الجزء الثانی منه ترجمه الی الانکلیزیة المستر جی أیج موناهان أحد قناصل. الانکلیز السابقین فی جده، و نشره سنة (1)
Hurgronje, C. Snouck- Het Het Mekkaansche Feest, 0881 Leyden
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 305
1830 (لوزاک) بعنوان (مکة فی القسم الأخیر من القرن التاسع عشر) .
و یبحث هورغرونیه فیه عن الحیاة الیومیة فی مکة، و عادات أهلها و سکانها، مع أحوالها العلمیة، و الاندنوسیین الساکنین فیها، الذین یطلق علیهم کلهم اسم (جاوا) علی ما یقول.
و یبدأ هورغرونیه بحثه عن سکان مکة فیقول ان من یزور مکة یلاحظ فی شوارعها أنواعا عدة من القومیات، من الأتراک ذوی البشرة البیضاء الی النوبیین ذوی البشرة السوداء الطمطمانیة. ثم یقول ان الجالیات القومیة المختلفة هذه تأخذ فی الغالب موقفا غیر ودی تجاه الجالیات الأخری، و أن أغلب هؤلاء یقیمون فی مکة بقصد المجاورة و التبرک. لکن ذلک لا یعنی عدم وجود جماعات تقیم فیها لأغراض و مصالح دنیویة. علی أن الأغراض الدینیة، و شؤون العبادة، التی تدعو الکثیرین من سکان مکة الی الأقامة فیها الی آخر العمر، تقاس بالمقیاس المادی الدنیوی کذلک کما یستفاد من القول العربی (حج مبرور، و ذنب مغفور، و تجارة لا تبور).
و یقول هورغرونیه ان من مظاهر المصالح الدنیویة لأولئک السکان وجود حرکة تجاریة غیر یسیرة فی مکة، و لا سیما فی موسم الحج. و ینشط فی هذه الحرکة علی الأخص الهنود الذین یحصلون علی أرباح طائلة بالمتاجرة، و الاقراض. و یقول کذلک ان الربا و ان کان الشرع الاسلامی یحرمه تحریما صارما، فان اولئک المسلمین یتحایلون علی النصوص الشرعیة و یجرون معاملات الاقراض بالفائدة عن طریق ما یسمی بالمرابحة. ثم یذکر ان من جملة أسالیب التحایل: اولا- ذکر مبلغ أکبر من المبلغ الذی یقبضه موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 306
المستدین فی السند المختص. ثانیا- قیام الدائن ببیع سلعة من السلع بسعر فاحش یدفع بعد أجل مسمی ثم یشتریه من جدید منه. و معظم الدائنین هم من الطبقة المتوسطة عادة.
و من الذین ینافسون الهنود فی مکة فی هذا المسعی الحضارمة الذین یأتون الیها فی الأعم الأغلب و هم لا یملکون شروی نقیر، لکنهم یتصفون بقابلیة فائقة للتأقلم و التحمل او الجلد غیر المتناهی. فلیس هناک أی حس او شعور شرفی، علی ما یقول هورغرونیه، یمنعهم عن امتهان المهنة التی تدر علیهم شیئا من الربح عند الحاجة. و لذلک یلاحظ ان کثیرا منهم کان یبدأ حمالا بسیطا فی جدة ثم ینتهی و هو من التجار الأغنیاء. و یأتی الکثیرون من الیمن لنفس السبب و العمل فی بعض الأحیان، لکن الیمانیین لا یمکن ان یضاهوا الحضارمة فی هذا الشأن.
و بعد ان یذکر هورغرونیه طبقات السکان الفقیرة الأخری من البدو و المغاربة و الأفغان و غیرهم الذین یقیمون فی مکة، و یمتهنون مختلف المهن البسیطة، یذکر بصورة خاصة التکروریین السود الاحرار، و المعتقین من العبید. و من الغریب ان یعمد استاذ مثل هورغرونیه الی تسقط السوءات و المبالغة فیها بالشکل الذی یقحم فیه ذکر الفواحش من النساء فی هذا الموضوع. فهو یضیف الی طبقات السکان هذه النساء اللوانی یأتین الی مکة، من مصر علی الأخص، لیصبحن زوجات و فتیات بطریقة یسترن فیها بغاءهن علی ما یقول، و هی طریقة «الزواج بالمقاولة».
و الملحوظ أنه یثنی بصورة خاصة علی طبقة الاندنوسیین من السکان، الذین یسمیهم باسم «جاوا». فهم یمتازون من بین الجمیع بکونهم لا یأتون الی مکة بقصد الربح و المتاجرة، و انما من أجل المجاورة و الأغراض الدینیة فی الغالب. و مع عدم استبعادنا لما یذکره عن هؤلاء المسلمین الطیبین، فأننا لا بد من ان ننوه هنا بأن منشأ اهتمام هورغرونیه الخاص بهذه الطبقة من سکان مکة قد یرجع الی کونه هولاندیا، لأن هولاندا ظلت تحتل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 307
أندنوسیة، و تستغلها مدة طویلة من الزمن.
و مع کل هذا الاختلاف الملحوظ فی طبقات المجتمع المکی فان الطابع الذی یطغی فیه هو طابع بلاد العرب الغربیة، فی لغته و عاداته و طباعه، الذی یفرض علیه من أعلی، بوجود العدد الکبیر من الشرفاء و السادة و غیر هم من أبناء الأسر المکیة العریقة فی القدم، و من أسفل یتوارد سائر أبناء الحجاز و أفراد قبائل حرب باستمرار علیه. علی انه یقول من جهة أخری ان سکان مکة ال یخضعون بسهولة للشرفاء و من لف لفهم، و لذلک نجد ان لهم نزاعاتهم و تقالیدهم الخاصة. و بینما نری ان اللغة و العادات و أسالیب العیش المعروفة فی بلاد العرب الغربیة هی السائدة، نجد من جهة أخری ان الجمیع یجتمعون فی صعید واحد هو صعید استغلال الحجاج و الاستفادة منهم، لأن جمیعهم من اکبر شریف فیهم الی الشحاذ فی الشارع یعتاشون بصفة مباشرة و غیر مباشرة علی توارد الحجاج و حرکتهم.
و یتطرق هورغرونیه کذلک الی النخاسة و المتاجرة بالعبید فیقول ان جمیع أنواع الأفریقیین منهم کان یمکن الحصول علیهم بکثرة یومذاک عن طریق الدلالین (النخاسین). وقد وجد فی سوق النخاسة الخاص، الذی کان عبارة عن قاعة کبیرة بالقرب من باب الحرم الشریف (باب الدریبة) ان العبید من کلا الجنسین کانوا یعرضون فیه، و منهم من کان قد استورد حدیثا الی السوق و منهم من کان یباع علی حساب مالکه السابق.
و هو یصف السوق و ما فیه من «بضاعة» و صفا مفصلا لا مجال لنقله هنا، و انما نکتفی بالقول بان ما تحسس به هورغرونیه أکثر من أی شی‌ء آخر فی هذا الشأن هو ان تلک البضاعة البشریة کانت تعرض فی سوق النخاسة و کأنها بقر یعرض للبیع، و لا سیما النساء الشابات. لکن التدقیق فی الأمر سرعان ما یظهر ان اولاء الشابات لم یکن یبدو علیهن أنهن مشمئزات من ذلک علی ما یقول.
و یتعمق هورغرونیه فی شؤون العبید الأفریقیین و کیفیة الإتیان بهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 308
علی أیدی «الجلابة»، و فی تأثیر الأسلام علیهم فی مواطنهم الأفریقیة و خارجها، فیقول ان العرب و المسلمین ینشرون الأسلام اینما یذهبون فی أفریقیة. و لیس بوسع حتی المبشرین المسیحیین ان ینکروا تأثیر ذلک فی قری العبید التی سرعان ما تصبح نظیفة، و ینصرف سکانها الی العمل المثمر فی الزراعة و الصناعات البسیطة و التعلم، و کثیرا ما تتمیز بهذا القری المسلمة عن القری الوثنیة. و یقول متحسرا ان المسیحیین المخلصین کانوا یشعرون بالخجل علی الدوام حینما یلاحظون عند تقصیهم للحقائق ان العبید نصف العراة الذین یمثلون الحضارة الأوربیة یعرفون بلبس القبعات الکبیرة و شیوع المشروبات الروحیة بین ظهرانیهم، بینما یجدون من جهة أخری ان المسلمین السود ینصرفون الی الأنتاج و العمل المثمر. ثم یخلص من ذلک، بعد کثیر من البحث و السرد، الی ان الآلاف من العبید و الأحباش الذین یؤتی بهم الی البلاد الأسلامیة و یتذکرون نشأتهم الأولی فی بلادهم الأصلیة یعتبرون أنفسهم بأنهم قد جعلوا أناسا من البشر عن طریق الرق و العبودیة. و تجدهم فی العادة قانعین بحالهم، و غیر راغبین فی العودة الی بلادهم. و لذلک کله یدعو هورغرونیه الی عدم مکافحة التجارة بالرقیق بالأساطیل و القوة، و انما بشی‌ء أحسن من ذلک. فعندما یتعلم الأفریقیون أنفسهم معنی الحیاة و قیمتها فان هذه التجارة الممقوته تبطل من أساسها. و لا شک ان مرور الوقت قد برهن علی هذا القول الذی کان یدعو الیه هورغرونیه. و یلاحظ ان هذا الکاتب یعتذر عن توسعه فی موضوع الرق و العبید نظرا للأهمیة التی کانت تعطی له منذ الأزل فی المجتمع المکی نفسه، و لأن المشکلة کانت من مواضیع الساعة فی تلک الأیام.
و یعمد بعد ذلک الی ذکر الکیفیة التی یستفید بها أهالی مکة من الحجاج.
فیبدأ بالأشارة الی آل شیبة سدنة الکعبة، و یقول ان هذه الأسرة تستفید من بیع قطع الکسوة القدیمة عند تجدیدها کل سنة، و من أیام فتح الکعبة و الدخول الیها. فأن أیام فتحها معروفة، فهی تفتح علی ما یقول فی یوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 309
10 محرم الحرام، و 27 رجب، و 15 شعبان، و بعض أیام رمضان، و فی أشهر الحج. لکنها قد تفتح فی أیام غیر هذه للأثریاء الغرباء الذین یدفعون مبالغ غیر قلیلة عن ذلک. علی ان البعض من أغوات مکة الخصیان یستفیدون شیئا من هذه المناسبات کذلک.
و یذکر بعد ذلک طبقة «الزمزمیین» فیقول ان السقایة فی مکة کانت فی ایدی العباسیین، یتوارثونها جیلا بعد جیل، و یتولون شؤون زمزم بموجبها. و منذ ان تخلی العباسیون عن ذلک بقی امر الاستفادة من میاه هذه البئر المقدسة شیئا مباحا للجمیع. لکن الحقیقة هی ان هناک طبقة کبیرة خاصة تحتکر لنفسها أمر توزیع میاه زمزم، یطلق علیها «الزمزمیة».
و هؤلاء جمیعهم کانوا یحتفظون بجرارهم فی الحرم الشریف و دوارقهم الخزفیة التی تبرد الماء، و هذه تؤجر للحجاج فیحتفظ لهم بها لیشربوا منها عند الحاجة. و قد یقوم الزمزمیون بخدمات أخری للحجاج فیتقاضون عنها شیئا من المال أیضا.
و یشیر هورغرونیه کذلک الی قوّام أماکن الزیارة المقدسة أیضا مثل (مسقط ستنا فاطمة) الذی سماه بورخارت (مولد فاطمة)، و غیره من الأماکن التی مرت الأشارة الیها من قبل. علی انه یتوسع فی ذکر طبقة «المطوفین» الکبیرة، و یقول ان المطوف کان و ما زال یقوم هو و أفراد أسرته بشؤون الحاج و خدمته من جمیع الوجوه. و المعروف ان المطوفین یختصون عادة بخدمة الحجاج العائدین لقومیات و ملل خاصة، فهناک مطوفون للأتراک و آخرون للعراقیین، و غیرهم لأهل الشام، و غیر ذلک. و هم یستقبلون زبائنهم من جدة و غیرها، و یأخذونهم الی مکة فیستضیفونهم و یتولون أخذهم الی الحرم الشریف، ثم الی عرفات و منی و المزدلفة و غیر ذلک. و یکوّن هؤلاء عصبة خاصة لها قوتها و أهمیتها فی مجتمع مکة، و یختلفون فی مستواهم الحضاری و الثقافی و فی منزلتهم الاجتماعیة تمام الاختلاف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 310
ثم یتطرق الی ذکر الخدمات الخاصة الأخری، و الباعة فی الأسواق، و الصرافین، و غیرهم ممن یستفید من توارد الحجاج علی مکة و حرکتهم.
ا یتطرق الی ذکر أصحاب البیوت و الشقق، الذین یؤجرونها بأثاثها خلال الموسم.
و مما یذکره هورغرونیه فی هذا الباب من کتابه کذلک، عودة مکة الی الهدوء النسبی فی محرم الحرام حین یخرج منها عدد کبیر من الحجاج عائدین الی بلادهم. لکنه یشیر الی فتح الکعبة فی یوم عاشوراء و تخلف عدد کبیر من الحجاج من أجله، و یشیر أیضا فی الحاشیة (بمناسبة ذکر عاشوراء) الی ان الأیرانیین الموجودین فی مکة یقومون سرا بأحیاء ذکری بطولة الحسین فی هذا الیوم. اما فی جدة فأنهم أخذوا یحیون هذه الذکری بصفة علنیة منذ وقوع الحرب الروسیة الترکیة قبیل تلک الأیام، و لا یدری ما هی العلاقة بین الترخیص بأقامة المآتم الحسینیة و هذا الحادث. و یقول هورغرونیه ان الایرانیین یجتمعون هناک خلال العشرة الأولی من محرم فی دار کبیرة یستطیع الغریب ان یدخل الیها کذلک، و انه حضر المأتم بنفسه فی تشرین الأول 1834 فوجد ان الحاکم الترکی کان حاضرا فیه أیضا بدعوة من القنصل الأیرانی. و لم یشرب هذا الحاکم (الشربت) فقط هناک و أنما بکی بکاء مؤثرا کذلک.
و یتطرق علاوة علی هذا الی ذکر المواسم التی یحیی فیها أهالی مکة ذکری بعض الأولیاء، فیخرجون الی قبورهم و یحتفلون بقربها. و هناک أیام خاصة فی السنة لمثل هذه الاحتفالات، و هی أیام «ستنا میمونة» و «الشهداء» و «الشیخ محمود» و «المهدلی». و یوم الشهداء هذا هو الیوم الذی سقط فیه الحسین بن علی و أنصاره شهیدا فی أسفل جبل فخ، بعد ان جاء من ینبع ثائرا علی العباسیین سنة 786 للهجرة. علی ان بعض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 311
المکیین یعتقدون ان هذا المکان یرقد فیه البعض من الصحابة مثل عبد اللّه بن عمر.

الحیاة العائلیة

و لقد أفرد هورغرونیه قسما خاصا من الکتاب للحیاة العائلیة فی مکة یومذاک (1885) . و قد عالج هذا الموضوع من جمیع نواحیه معالجة تفصیلیة مملة فیها الکثیر من الوهم و التحامل فی بعض الأحیان. فهو یقول ان المرء فی مکة حینما یتکلم عن حریمه فأنه یقصد زوجته و خادماته أو أیة امرأة أخری تعیش فی بیته. ثم یدعی ان الرابطة الزوجیة عند المسلمین فی مکة و غیرها غیر متینة، و الا لما وضعت علی النساء القیود و فرض الحجاب و العزلة علیهن. و یذهب الی القول بان المرأة غیر المتزوجة، سواء ا کانت عزباء ام باکر، تعتبر عبئا ثقیلا علی أهلها و أقربائها مالم یکونوا أثریاء. و لذلک فان امرأة مثل هذه تتشبث بان تکون شریکة موقتة لرجل من الرجال فی حیاته، و بذلک تحصل علی معیشة مجانیة لنفسها عدا نوع من المهر الذی یتفق علیه اذا کانت أحوال الرجل المالیة تساعد علی ذلک، کما تحصل علی خادم أو خادمة من العبید. و حتی بعض النساء الثریات یتمنین لو یحصلن علی مثل هذا الزواج بالمقاولة، لیتخلصن من استغلال أقاربهن لهن. و یقول فی مناسبة أخری ان الغربی بینما یجد صعوبة فی الأفتراق حتی عن خلیلته فأن علاقة الزواج المستدیم، و الحب الصادق بین الأزواج، بعیدة کل البعد عن تفکیر الرجل المسلم!!
و مع انه یقر ان القاعدة العامة فی حیاة مکة العائلیة هی الزوجة الواحدة، و ان تعدد الزوجات یصعب وجوده الا عند الأثریاء، فأنه یخوض فی استنتاجات کثیرة غیر واردة عن الخیانة الزوجیة التی یعتبرها قاعدة عامة فیها.
و اورد هورغرونیة الشی‌ء الکثیر من هذا و قد اکتفینا بالاشارة الیه منتقلین الی موضوع آخر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 312

الحیاة العلمیة

و یبحث هورغرونیه بالاضافة الی ذلک فی حیاة مکة العلمیة فیفرد لها بابا خاصا یزید علی الخمسین صفحة من الکتاب. فیتطرق فی بحثه الی نشوء الفقه الأسلامی، و العلوم الدینیة، و الی العلوم الأخری التی قد یدرسها طلبة العلم فی مکة المکرمة. کما یتطرق الی المذاهب السنیة الأربعة و انتشار کل منها فی مکة و غیرها، و الی الوظائف الدینیة و ما أشبه. و لا یتسع المجال هنا الی ایراد الکثیر مما یقوله فی هذا الشأن لأن معظمه أشیاء عامة تختص ببلاد المسلمین جمیعها، لکننا سنحاول ذکر شی‌ء مما یختص بمکة ذاتها.
فهو یقول ان الدراسة الدینیة تتم فی الحرم الشریف فی الأعم الأغلب، علی شکل حلقات تعقد بعد الصلوات الخمس. و تتم علی المذاهب الأربعة المعروفة، لکنه یذکر ان الاساتذة او العلماء الذین کانوا یتولون التدریس فی الحلقات کان قلیل منهم من الحنابلة الذین یشابه فقههم فقه الوهابیة علی ما یقول. و کانت حلقات المالکیة تزید فی عددها علی حلقات الحنابلة بقلیل لان موطن المالکیة الحقیقی هو البلاد الأفریقیة المسلمة عدا مصر السفلی. فان أهل السودان و العبید التکروریین، و الأحباش المسلمین، و جمیع المستسلمین من بلاد العبید الأخری، و الذین یتبعون الطریقة السنوسیة هم من معتنقی المذهب المالکی. اما المذهب الحنفی فقد کان هو المذهب الرسمی للأتراک، و لذلک کانت تکثر حلقاته التدریسیة فی الحرم الشریف علی الدوام. و قد کان الأتراک یعینون فی بدایة الأمر فی مکة لکل مذهب قاضیا خاصا، بالنظر لطبیعة مکة الدولیة بالنسبة للمسلمین فی انحاء العالم کافة. غیر انهم سرعان ما لاحظوا ان تنفیذ القانون لا بد من ان یکون بأیدیهم لتأمین مصالحهم فی البلد الحرام، فصاروا یقتصرون علی تعیین قاض حنفی واحد فقط برغم وجود أکثریة شافعیة فی مکة نفسها. و کان (1) الص 153- 212.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 313
هذا القاضی یتولی البت فیما یختص بقانون الأحوال الشخصیة، اما سائر الأمور فقد صار یبت فیها بموجب «القانون المنیف» و هو القانون المدنی الجدید.
و قد کان من الطبیعی و الحالة هذه ان یتقاضی الأئمة الحنفیة فی الحرم الشریف أکبر الرواتب و أکثرها فی مکة، علی ما یقول هورغرونیه.
فقد کان فی القائمة المرسمیة لسنة 1885- 1886 خمسون الی ستین اماما یتقاضون رواتب من واردات الحرم الشریف، و کان حوالی ثلث هذا العدد من الحنفیة و بینهم أئمة من الهند و آسیة الروسیة و مکة، و غیر ذلک من البلاد الخاضعة للامبراطوریة العثمانیة. و مع کل هذا فقد بقی المذهب الشافعی له أهمیة کبری فی مکة، و استمر أئمته علی تدریس حلقاتهم غیر القلیلة فی الحرم الشریف. و یعزی انتشاره فی هذه الجهات الی ان العباسیین کانوا یرعونه خلال مدة حکمهم کلها، و کان المذهب الذی ینافسه فی مکة یومذاک المذهب الشیعی الزیدی الذی کان یکثر معتنقوه فی جنوب و غرب الجزیرة العربیة.
و هنا یقول هورغرونیه ان الشرفاء کانوا انتهازیین بالنسبة للمذهب الذی یعتنقونه، لأنهم استبدلوا عقیدتهم الزیدیة الشیعیة بالشافعیة التی کانت تعتنقها الغالبیة العظمی من رعایاهم أهالی مکة. ثم یذکر ان بعض المناطق فی جوار مکة ما تزال فیها بقایا قویة من الشیعیة الزیدیة التی سیطرت علی غربی الجزیرة العربیة فی یوم من الأیام. و بعد ان یفصل انتشار الشافعیة و انحسار الشیعیة الزیدیة أمامها یقول انه لیس من المستغرب ان یتولی عدد من علماء الشافعیة منصب «شیخ العلماء». و ان یبلغ عدد الأئمة الشوافع فی الحرم الشریف عشرین الی ثلاثین من مجموع خمسین الی ستین. و تعد حلقات الشافعیة من أهم نماذج الحرکة العلمیة فی مکة. و أغلب أئمة الشافعیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 314
من متولدی مکة نفسها مثل شیخ العلماء أحمد دحلان، و السید عبد اللّه الزواوی الذی کان أبوه المشهورمحمد صالح رجلا شریفا من أئمة الصوفیین، و أبی بکر الشطا. و ممن اشتهر منهم کذلک أئمة أکملوا دراستهم فی الأزهر مثل محمد البسیونی و عمر الشامی و مصطفی عفیفی و محمد المنشاوی. و کان هناک علماء شوافع من أصل حضرمی أیضا من مثل محمد سعید بابصل الذی یشغل منصب أمین الفتوی لشیخ العلماء، و من أصل داغستانی مثل عبد الحمید الداغستانی الذی کان البعض یعتقد بأنه أعلم من سید دحلان.
و یورد هورغرونیه معلومات کثیرة عن حلقات التدریس و طلبتها، و العلوم التی تدرس فیها، و أوقاتها، و الأصول المرعیة فیها، و غیر ذلک مما لا یمکن أیراد شی‌ء منه هنا لعدم تیسر المجال الکافی له.

فی أواخر القرن التاسع عشر

کانت العلاقات الموجودة بین الشرفاء الحاکمین فی مکة و الولاة الذین کانوا یعینون من استانبول قد أخذت تزداد توترا فی العشرات الأخیرة من القرن التاسع عشر. فقد أخذ الولاة یغتنمون الفرص لحصر السلطات المختلفة بأیدیهم، و جعل الشرفاء حکاما بالأسم فقط و هیاکل دینیة لا یملکون سوی مناصبهم المبجلة. غیر ان الشریف عبد المطلب، الذی کان ینتمی الی ذوی زید، ما ان تولی الحکم للمرة الثالثة، بعد قتل الشریف حسین، حتی أخذ الصراع یحتدم بین الطرفین و ظلت شخصیته تطغی علی الحکم و تفرض نفسها فی کل مکان بحیث فکر أولو الأمر فی الباب العالی بأن یضعوا حدا لذلک.
فتعین فی مکة فی تشرین الثانی 1881 قائد فعال جدید یدعی عثمان نوری باشا، و اعید تعیین الوالی السابق عزت باشا فیها. و بعد خطة ارعة اتخذت فی مکة احیط قصر الشریف عبد المطلب بقوات کافیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 315
و قری‌ء علیه أمر عزله، ثم أخذ محجوزا علیه الی الطائف . و بعد ذلک نقل الی قصره الخاص فی منی و بقی فیه حتی وافته المنیة فی 29 کانون الثانی 1886. و قد ارتأت الجهات المسؤولة فی الباب العالی ان یتولی الشرافة الکبری فی مکة الشریف عون الرفیق الذی کان فی الخمسین من عمره.
و مع ان هذا الشریف کان یتصف بالمیل الی التجدد وسعة الأفق، فأنه کان یؤثر الانعزال فی کثیر من الأمور و یتحاشی التحدث فی الشؤون السیاسیة.
لکن الوالی الترکی تمادی فی خطته و لم یترک مجالا للشریف عون بممارسة سلطته و تنفیذ مآربه. و قد بلغ الاستیلاء فی الاوساط الشریفیة فی مکة و غیرها حدا جعل الشریف یقدم علی عمل لم یقدم علیه شریف آخر من قبل. فقد قرر ان یغادر مکة الی المدینة مع أفراد أسرته البارزین، و عدد من أشراف مکة و تجارها، و القاضی الشافعی مع جملة من العلماء و رجال الدین.
فتمت هذه الهجرة الفریدة فی بابها خلال اللیل من دون علم السلطات المسؤولة بها. و أرسلت الرسل من المدینة الی استانبول تحمل احتجاج الشریف الی المسؤولین و تذمراته، و تخبرهم بأن الشریف مع وجوه مکة و أشرافها لن یعودوا الیها حتی یکون الوالی قد نقل منها الی الأبد. و لما کان السلطان یومذاک یکن احتراما خاصا للشریف عون الرفیق، تحتم علی الباب العالی ان یذعن لمشیة الشریف فنقل الوالی عثمان باشا الی حلب فی الحال.
فعاد الشریف الی مکة، و نحی الموظفین الذین کانوا منسوبین الی الباشا السابق عن وظائفهم. و حینما تولی الوالی الجدید جمال باشا الحکم فی مکة کان یتصف بالکثیر من المرونة و المیل الی تلبیة رغبات الشریف.
و حینما توفی الشریف عون فی 1905 بادر الوالی أحمد راتب باشا الی ترشیح ابن اخت عون (علی بن عبد اللّه بن محمد بن عون) فی مکانه، لیفسح لنفسه مجال السیطرة علی الأمور فی مکة نظرا لصغر سن الشریف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 316
وحداثة عهده فی الشؤون العامة. و فی 1908 أعلن الدستور العثمانی و عزلت الحکومة الترکیة الجدیدة أحمد راتب نفسه، ثم نحی الشریف علی عن الحکم فی مکة فالتجأ الی الانکلیز فی مصر. فتعین الشریف عبد الأله باشا فی مکانه، و کان هذا رجلا طاعنا فی السن قضی معظم حیاته فی استانبول، و قد قدر له ان لا یمارس الحکم فی مکة برغم تعیینه شریفا أکبر فیها لأنه توفی قبل ان یتوجه الیها. و قد ترشح فی مکانه رجلان بارزان من الشرفاء، الشریف علی حیدر من ذوی زید و الشریف حسین ابن علی من ذوی عون. و نظرا لأن الشریف علی حیدر کان متزوجا بامرأة انکلیزیة فی استانبول، فقد رأت الجهات المختصة ان تفضل الشریف حسین علیه فصدر الفرمان بذلک و تسلم الخلعة المعروفة .

الحسین بن علی

کان الشریف حسین بن علی قد دعی من مکة الی الأستانة لیقیم فیها مع أسرته سنة 1893، فی السابعة و الثلاثین من عمره لأنه کان یتصف بروح ثوریة علی ما یقول دی غوری فی (حکام مکة). و کان له یومذاک ثلاثة أولاد، علی و عبد اللّه و فیصل، أدخلهم فی مدارس استانبول.
و بقی هناک خمسة عشر عاما فی حکم المعتقل، و لم یغادرها الا فی 1908 حینما توجه الی مکة لیشغل منصب الشرافة الکبری.
و قد تم فی عهده أنشاء سکة حدید الحجاز التی توصل الشام بالمدینة فتسهل وصول الحجاج الی مکة. و یقول دیغوری انه بینما کانت سکة الحدید تمتد خطوطها ما بین سهول هذه البلاد العربیة و وهادها، أخذت تنتشر فی أنحاء البلاد العربیة التابعة للامبراطوریة العثمانیة آراء و أفکار جدیدة عن القومیة العربیة و أحیائها. فقد أدی صدور الدستور العثمانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 317
فی 1908 الی ان تفلت الآمال و الأمانی القدیمة من عقالها و تنتشر فی البلاد بالطرق البخاریة. و فی مثل هذا الجو توجه الحسین بن علی الی مکة، فاعتبر موالیا للأتراک فی أول الأمر لکنه حینما أخذ یجرد الحملات علی العسیر و القصیم لأخضاع العشائر فیهما، و استعادة نفوذ الشرفاء بینهم، صار الباشا العثمانی فی الحجاز یشک فی إخلاصه و سلوکه.
و قد استطاع ضابط من الضباط الانکلیز یدعی ویفل ان یحج متخفیا الی مکة خلال السنوات الأولی من عهد الشریف حسین، و یکتب کتابا خاصا عن مغامرته هذه بعنوان (حاج عصری فی مکة). و یصف ویفل الملک حسین و الحفلة الرسمیة التی کانت تقام سنویا فی العید لتأیید تنصیبه فیما یأتی:
.. لقد کان هذا یوم العید، و کان کل فرد قد لبس أحسن ما عنده من لباس، فصار المخیم کله یبدو فی منظر جذاب. و قد ذهبنا صباحا لنشاهد حفلة تقدیم الهدایا الی الشریف، الذی کان مخیمه و هو مقام فوق مرتفع اصطناعی یتألف من أربع سرادقات عالیة و عدد من الخیم الصغیرة.
و کانت صفوف الجنود تکوّن فیما بینها ممرات للمدعوین، و تمنع الناس عن التقدم الی الأمام .. فصار کبار المدعوین یصلون واحدا بعد آخر مع الحاشیة و یستقبلهم الشریف فیجلسهم علی منصة تقوم فی الطرف البعید من السرادق الکبیر. و کان هؤلاء هم وفود البلاد الأسلامیة، و حاکم مکة، و بعض و جهاء المسلمین القادمین من الهند و غیرها، و غیرهم من الناس المعروفین. و بعد ان اجتمع الجمیع و أخذ کل مقعده المعد له وصل السفیر الترکی مع هدیة السلطان الموضوعة فی صحن من الذهب. و یقول ویفل و لا اتذکر أی شی‌ء کانت تحتوی علیه الهدیة لأنها کانت مغطاة بقطعة من القماش، لکننی علمت انها کانت تتألف فی السابق عادة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 318
من مبلغ نقدی بعدة الاف. فجاء الشریف الی حافة المنصة لاستقبال هذا الزائر الکبیر و مرافقته الی الداخل.
و ما ان انتهت المراسیم و رکب السفیر الترکی للرجوع من حیث أتی حتی قام وجهاء مکة و الحجاج الأجانب للسلام علی الشریف و تقدیم التبریکات له .. و الشریف الحالی، السید حسین، رجل محبوب جدا. و هو بالنسبة لما شاهدته بنفسی أهل لهذا التقدیر کله، لأنه فی الوقت الذی یحافظ فیه علی هیبته و وقاره فی المنصب یحاول أحیاء تقالید النبی و الخلفاء الأقدمین الذین کان یستطیع الجمیع الاتصال بهم و الدخول علیهم، و یضعون و صایا الأخوة و المساواة الواردة فی القرآن فی موضع التطبیق .

الثورة العربیة

و یصف دیغوری فی (حکام مکة) طموح الشریف حسین، و کیفیة اتصاله بالأنکلیز و انتفاضه علی الأتراک بمساعدتهم، بما سمی بالثورة العربیة التی بدأ بها فی 10 حزیران 1916 (9 شعبان). فهو یقول ان الحسین أقدم علی الثورة فی هذا الوقت بنتیجة المراسلات التی تبودلت مع السر هنری مکماهون المندوب السامی البریطانی یومذاک فی مصر، و بعد زیارة رونالد ستورز (السکرتپر الشرقی لدار الاعتماد فی مصر) للحجاز، فضلا عن خوفه من قیام الحملة الترکیة، التی کان یؤمل وصولها الی المدینة المنورة فی طریقها الی الیمن، بعزله و تنحیته عن منصبه فی مکة.
و قد بدأت الثورة فی یوم 9 شعبان (10- 6- 1918) فی الساعة الثالثة و النصف من منتصف لیلة السبت، بأطلاق النار من البنادق علی الثکنة العسکریة فی مکة و بنایة الحمیدیة التی کانت تضم الدوائر الحکومیة.
ثم فرض الحصار علی القوات الترکیة التی کانت موجودة فی جمیع القلاع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 319
الأخری. و کان اطلاق النار بهذا الشکل مفاجئا للموظفین الأتراک و حامیتهم، و لذلک اتصل الضباط بقصر الشریف للاستفسار عن جلیة الأمر فقیل لهم ان البلاد قد اعلنت استقلالها، و ان علیهم ان یستسلموا فی الحال فرفضوا ذلک. و بعد حصار استدام ثلاثة أیام استسلمت حامیة مکة، و تبعتها بعد ذلک حامیة الطائف التی کان علی رأسها حاکم الحجاز العام غالب باشا. و فی 9 تموز تمّ الاستیلاء علی جمیع النقاط العسکریة الأخری فی مکة. و فی تشرین الثانی من تلک السنة نودی بالشریف حسین ملکا علی البلاد العربیة کلها، لکن الحکومتین البریطانیة و الفرنسیة أبلغتا الشریف فی کانون الثانی 1917 أنهما تعترفان به ملکا علی الحجاز فقط.
و یقول الکولونیل دیغوری ان البریطانیین کانوا یطلبون من الملک حسین أکثر مما ینبغی، لأنهم کانوا یسعون لشرائه بصراحة علی ما کان یبدو.
فأن حزنه و دهشته لما تمخص عنه مؤتمر سان ریمو، حول الانتداب علی فلسطین و العراق الذی منح الی بریطانیة، و المعاهدة التی أرید عقدها معه فی الأخیر بتقدیم الحمایة له و مده بالمنح المالیة لقاء اعترافه بأطماع الصهیونیة فی فلسطین، أمور تذکرها جمیع المراجع المختصة علی ما یقول. و قد ألحّ فی المفاوضات التی تکرر إجراؤها حول عقد المعاهدة علی عدم إفساح المجال للیهود فی فلسطین لأنهم کانوا یستهدفون إقامة دولة خاصة بهم فیها. و فی آب 1923 کتب الملک حسین الی رئیس الوزارة البریطانیة یستنجزه الوعود التی بذلوها له خلال الحرب و یطالبه بوجودب وضعها فی موضع التنفیذ، لکنه لم یحصل علی رد عن ذلک مطلقا و فی تلک الاثناء تمّ زحف الوهابیین علی الحجاز، و ما حل تشرین الأول حتی تنازل هو عن العرش. و حینما استنجد بالبریطانیین لمساعدته فی الوقوف بوجه الوهابیین أجیب علی آخر نداء وجهه فی هذا الشأن بأنهم یعتقدون بان النزاع بین الطرفین کان نزاعا دینیا لا یستطیعون التدخل فیه. و بذلک عاد الحکم مرة أخری الی الوهابیین و کان الملک حسین قد تنازل عن الملک الی ابنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 320
الکبیر الملک علی. و یختم دیغوری بحثه هذا بقوله و قد قدر للحسین ان یقضی نحبه و هو أبی کسیر فی منفاه بعمان یوم 4 حزیران 1931، و ان یموت ابنه علی فی بغداد یوم 14 شباط 1935.

لورانس بلاد العرب

و کان من مقتضیات المساعدة البریطانیة للشریف حسین فی مکة، حینما ثار علی الأتراک فی 1916، أن أوفد الی الحجاز عدد من رجال الاستخبارات البریطانیة الذین کان یضمهم فی القاهرة ما یسمی ب «المکتب العربی». و کان من أهم هؤلاء و أکثرهم اشتغالا مع الحسین و أنجاله خلال الثورة العربیة الکابتن تی أی لورانس، الذی حصل علی شهرة واسعة خلال اضطلاعه بهذه المهمة حتی سمی بلورانس بلاد العرب .
و قد دون لورانس مذکراته و خبرته، و رسائله فی کتاب (أعمدة الحکمة السبعة)، و کتاب (ثورة فی البادیة) و کتاب (رسائل لورانس السریة) .
لکن الذی اشتهر منها هو کتاب اعمدة الحکمة السبعة الذی طبعت منه طبعات عدیدة.
و لا شک ان لورانس کان قد اتصل بالملک حسین و ابنائه الأربعة اتصالا وثیقا، و لا سیما الأمیر فیصل، و تجول کثیرا فی البلاد الحجازیة عدا مکة المکرمة و ما یحیط بها من المنطقة المحرمة علی غیر المسلمین. و لذلک لم نجد فیما طبع من کتاباته شیئا خاصا عن مکة بالذات، لکنه کتب عن الثورة من نواحیها المختلفة بطبیعة الحال، و عن الحسین و أبنائه و حکومته موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 321
و لا سیما فی «رسائله السریة» التی کان یبعث بها خلال اضطلاعه بالمهمة الی المکتب العربی فی القاهرة یومذاک، و الی مراجعه الأخری. و قد وجدنا من المناسب أن ندرج شیئا من ذلک هنا .
فهو یقول عن نشوء الثورة فی الحجاز، کما سردها فی حدیثه الیه «سیدی فیصل» فی کانون الأول سنة 1916، ان أخاه عبد اللّه کان یدور فی خلده أول الأمر بأن الحجاز یستطیع مناجزة ترکیة بمساعدة الجیشین اللذین یمکن تشکیلهما من العراقیین و السوریین، و بمعونة الأنکلیز السیاسیة. غیر ان الفکرة أهملت نظرا لما أبداه فیصل بأن ترکیة کانت قویة بحیث لا یمکن الوقوف فی وجهها. و حینما أعلنت الحرب العظمی قرر الشریف حسین ان فرصته قد سنحت، فبعث فیصلا الی الشام لتمهید الطریق الی ثورة فی سوریة نفسها فوجد ان الوقت لم یکن مناسبا و أشار علی والده بالتریث. غیر ان عبد اللّه أبدی لأبیه ان فیصلا کان یتهیب و یخاف من إشعال الثورة، و لذلک تم إشعالها فی حزیران 1916. و کان الشریف قد أعد البدو للأمر قبل أشهر و أخبرهم بأن لا یتحرکوا قبل ان تصل أوامره الیهم.
و فی رسالة من رسائل لورانس السریة منشورة فی نشرة المکتب العربی الصادرة فی 26 تشرین الثانی 1916 نراه یبدی ملاحظات شخصیة عن أفراد الأسرة الشریفیة و یقول ان المرء یستطیع ان یری بسهولة ان الشریف و ابناءه الثلاثة یعدون أبطالا فی نظر البدو فهو علی ما یبدو علی درجة من الدماثة و مراعاة الغیر بحیث یکاد ان یکون ضعیفا، غیر ان مظهره ذلک یخبی‌ء وراءه سیاسة حصیفة عمیقة الغور و أطماعا بعیدة المدی، و بعد نظر غیر عربی مصحوبا بالعناد وقوة الشخصیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 322
.. و کانت میوله عشائریة فی الغالب، کما کان و هو ابن ام جرکسیة موهوبا بسجایا تعد غریبة عن الترک و العرب معا، غیر انه عزم علی أسر قلوب البدو بتنشئة أبنائه نشأة بدویة، لکن الأتراک کانوا یصرّون علی تثقیفهم فی استانبول فوافق الشریف علی ذلک بطیبة خاطر. و لذلک تلقی جمیعهم تربیة ترکیة من الطراز الأول، و تعرفوا خلال ذلک علی أحوال العالم. لکنهم ما عادوا من استانبول و هم یلبسون الألبسة الغربیة و یتخلقون بالأخلاق الترکیة حتی جعلهم یبدلون ذلک فی الحال و یراجعون عربیتهم من جدید. ثم کلفهم بأن یخرجوا علی رأس دوریات الهجانة لحمایة طرق الحج من تعدیات البدو. و قد منعوا من العودة الی مکة حتی فی أیام العید.
.. و هم الآن بدو خلص بأجمعهم، و عندهم بمقتضی دراستهم معلومات الموظفین الأتراک و خبرتهم، و یجری فی عروقهم ذلک المزیج المتکون من الذکاء الفطری و الحیویة اللذین یتأتیان فی غالب الاحیان من اختلاط الدم العربی بالدم الجرکسی. و هذا یجعلهم مجموعة عائلیة قویة جدا مرهوبة الجانب، ذات أهلیة و کفایة تثیر الأعجاب.
و یقول لورانس عن «سیدی علی» انه قصیر القامة نحیف البنیة، تبدو علیه أمارات الکبر برغم کونه ما یزال فی السابعة و الثلاثین من عمره.
و تمیل بشرته الی الصفرة فی لونها، و له عینان و سیعتان دعجاوان، و أنف رقیق قلیل الانعقاف، و وجه مجهد کثیر التغضن، و فم ذابل، و لحیته سوداء خفیفة، و یداه نحیفتان جدا. اما عاداته و طباعه فبسیطة برمتها، و هو حی الضمیر متأن کیس شریف الخصال من دون قوة فی الشخصیة.
و کثیرا ما یجعله ضعفه الجسمی فریسة لنوبات سریعة من الغضب و الانتفاض مع حالات من العناد غیر الجامح. و هو علی ما یبدو لا یحمل طموحا لنفسه، لکنه سهل الاندفاع برغبات الغیر. علی انه یمیل الی الکتب و المطالعة، و لدیه اطلاع واسع فی شؤون الشریعة والدین. و یبین فی سحنته الدم العربی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 323
أکثر مما یبین فی اخوته.
اما «سیدی عبد اللّه» فیذکر لورانس عنه انه یبلغ الخامسة و الثلاثین من عمره، لکنه یبدو أصغر من ذلک. و هو قصیر القامة، ممتلی‌ء التکوین، ظاهر القوة کالجواد، مع عینین مرحتین شدیدتی الدعج و وجه مدور غیر متغضن و شفتین قصیرتین ممتلئتین، و أنف أقنی و لحیة سمراء. یضاف الی ذلک انه صریح فی طباعه لدرجة تلفت النظر و کثیر الجاذبیة، غیر متقید مطلقا بالرسمیات و لذلک تراه یختلط مع افراد القبائل و کأنه احد شیوخهم. و قد یزن کلماته بتحفظ فیصبح منطقیا قویا فی المناسبات الحظیرة، لکنه قد لا یکون متوقد الذهن مثل ابیه. و هو یجد الآن فی بناء مجد اسرته، و لهذا یمتلی‌ء رأسه بالافکار الغریضة الواسعة التی تختص بنفسه بلا ریب.
و سیکون التصادم بینه و بین فیصل أخیه شیئا موجبا للاهتمام. و العرب یعدونه سیاسیا بارعا و رجل دولة بعید النظر، لکن ما فیه یدل علی أنه سیاسی أکثر منه رجل دولة.
و یقول لورانس عن «سیدی فیصل» أنه طویل القامة، حلو الشمائل، عنیف، ملکی الملامح، یبلغ من العمر احدی و ثلاثین سنة. و هو کثیر السرعة غیر مستقر فی حرکاته، کثیر التفوق علی أخوته فی المهابة، یعرف ذلک عن نفسه فیساوم به. و تصفو بشرته کما تصفو عند الجراکسة الأصلاء، مع شعر فاحم و عینین سوداوین تشع منهما الحیاة و تترکبان فی وجهه بشی‌ء من المیل، و أنف أشم و ذقن قصیر. و لذلک یلوح للرائی کأنه أوربی، شدید الشبه بتمثال ریشارد الاول. و هو حاد المزاج صعب المراس قلیل الصبر، غیر معقول احیانا، یبدل اتجاه حدیثه بصورة مفاجئة. و یمتلک من الجاذبیة الشخصیة و الحیویة أکثر بکثیر مما یمتلکه أخوته منهما، غیر أنه أقل منهم فطنة و تبصرا. کما أنه شدید البراعة غیر کثیر الوسواس احیانا، لکنه قد یکون ضیق الفکر متسرعا عندما یعمل بتحریض من الغیر، و مع هذا فأنه عنده ما یکفی من قابلیة التأمل و التفکیر بحیث یستطیع إصدار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 324
الأحکام الصحیحة، و فوق هذا کله فهو صنم محبوب طموح، تمتلی‌ء مخیلته بالاحلام و یتصف بالقدرة علی تحقیقها، مع عمق نظر شخصی حاد کما انه رجل عمل کثیر الکفایة.
و یقول عن الشریف زید انه یناهز العشرین من عمره، و یطغی علیه بالکلیة صیت اخوته و سمعتهم. و هو کثیر الاقتداء بأمه الترکیة، مولع برکوب الخیل و اللعب من فوقها. و لم یعهد الیه بأیة مهمة ذات شأن لکنه فعال متحرک. و مع ان طباعه فیها القلیل من الفظاظه الا انه رفیق غیر عاطل.
و هو خجول بشوش، و قد یکون احسن توازنا من اخوته الی حد ما لأنه علی جانب أقل من الحدة.
اما بالنسبة لعقیدة الشریف و آرائه الدینیة فیقول لورانس فی نشرة المکتب العربی الصادرة فی 28 تموز 1917 ان الشریف حسین قد أوضحها للکولونیل و یلسن بحضوره. و هو یعتقد ان الشریف شافعی فی الظاهر.
و کان یتخذ موقفا وسطا بین الشیعة و أهل السنة عند تحدثه، لکن المعتقد بوجه عام انه یعتنق العقیدة الزیدیة. و یقول لورانس کذلک ان (سیدی عبد اللّه) شیعی بالصراحة تقریبا، و هو کثیر المیل الی الجعفریة، و ان سیدی علی جازم فی سنیته، اما سیدی فیصل فهو غیر اصولی و یمیل الی اتخاذ موقف غیر واضح بالنسبة للعقیدة الدینیة، لکنه قد یکون شیعیا اکثر منه سنیا برغم الغموض الذی یبدو فیه. علی انهم کلهم غیر میالین الی إظهار موقفهم الحقیقی فی هذا الشأن، و یحافظون علی اعتراف لا مطعن فیه بالشافعیة امام الناس.
و قد سأل لورانس الشریف الاکبر عن حقیقة اللقب الذی یلقبه به العرب الشمالیون، و هو لقب «امیر المؤمنین»، و هل یلاقی ذلک التلقیب قبولا عنده، فأجاب بعد شی‌ء من التأمل بالنفی. ثم قال له ان الناس ینسبون له اطماعا لا شی‌ء منها عنده، و انه سمعهم یتحدثون عن إحیائه للخلافة.
و بادر الی توضیح موقفه من ذلک ایضا بقوله ان الخلافة قد انتهت بأبی بکر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 325
و ان إحیاءها الیوم یعد ضربا من السخافة، لا بل کفرا بالنسبة لقواعد الدین و أصوله، و انه لن یتدخل قطعیا فی شؤونها. و قال الشریف علاوة علی ذلک ان فکرة الخلافة الاسلامیة کان البریطانیون قد اقترحوا استغلالها علی السلطان عبد الحمید فاستغلها فعلا لیضرب الشرفاء بها. و کان ذلک شیئا قاضیا علی هیبة الأسلام لأنه حاول قلب الدین الی عقیدة سیاسیة، فتحمل مسؤولیة القلاقل التی وقعت فی ترکیة و جزیرة العرب و شمال أفریقیة و جاوة و الهند و الصین. و هو بالنسبة لهذا المثل السیی‌ء أمامه، و بالنظر لصداقته مع بریطانیة العظمی، لا یسعه الاعتراف بخلافة أخری أو بوجوب تسنمها علی ما یقول.
و یعود لورانس فیذکر بعد کل ذلک أنه یری شخصیا بأن الشریف حسینا لا یمکن ان یرفض لقب «أمیر المؤمنین» اذا ما جاء عن طریق مبایعة أتباعه له بهذه الأمارة، و لیس بطریق انتحاله اللقب من تلقاء نفسه. هذا و یقول لورانس بالمناسبة ان تلقیب الشریف بهذا اللقب کان شائعا فی الحجاز یومذاک بین القبائل من قاف الی قنفذة.

استیلاء الوهابیین علی مکة

لقد کان استیلاء الوهابیین علی مکة نقطة تحول خطیرة فی تاریخ البلد الحرام، و صفحة جدیدة من صفحات تاریخه المفعم بالحوادث. و خیر من یصف هذا الحدث المهم، و ما یحیط به من مضاعفات، من الغربیین سنت جون فیلبی الذی اعتنق الأسلام علی ید الملک عبد العزیز السعود فأصبح یسمی باسم الحاج عبد اللّه فیلبی . فقد أشار فیلبی الی استیلاء الوهابیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 326
علی الحجاز کله فی معظم کتبه تقریبا، لکن اهم کتابین یرد ذکر هذا الحادث فیهما هما کتاب (الیوبیل العربی). و کتاب (أربعون سنة فی الأوعار ).
فهو یعود بالحادث الی أیام الملک حسین، و مبایعة بعض العرب له بالخلافة، و یقول فی (الیوبیل العربی) ان مصطفی کمال کان قد اعلن ألغاء الخلافة فی ترکیة فتمسک الملک حسین تمسکا قویا بخرقة النبی، الی ان یقول: و لو کانت الظروف غیر الظروف التی کانت تحیط بالملک حسین لرحب العالم الأسلامی بهذا الحادث الذی تعود فیة الخلافة الی رجل من آل البیت النبوی الکریم، و لکن الحسین لم یستطع الحصول علی التأیید المطلوب لادعائه الا فی شرقی الاردن و سوریة و العراق، حیث تمکن أولاده فیها من استحصال بعض الدعم و التأیید. و وصل الی عمان فی کانون الثانی 1924، و نودی بخلافته رسمیا فی عمان یوم 14 مارت بعد ان جری الشی‌ء نفسه فی الجامع الأموی فی دمشق.
و فی آب من تلک السنة وصل هجوم الأخوان الوهابیین الی زیزا فی جنوب عمان و بمفاجأة مذهلة وقع فی الیوم الثالث من أیلول ما لم یکن فی الحسبان. فقد ظهرت قوة و هابیة کبیرة یقودها سلطان بن بجاد فی ضواحی الطائف عاصمة الحجاز الصیفیة. فانسحب الأمیر علی، ابن الملک الأکبر، مع قواته علی عجل الی ما یقرب من مکة تارکا الطائف لمصیرها المحتوم.
و استسلمت من دون مقاومة تذکر، و لم یجد ابن بجاد صعوبة فی التخلص من علی و قواته فی موقعه حدة التی تقاطرت علی أثرها الی مکة فلول تلک القوة و المدنیین الهاربین من سکان الطائف.
و سرعان ما تناهت هذه الأنباء الی ابن سعود فی الریاض، فاندهش موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 327
فی سهولة تداعی خط الدفاع الحجازی أمام هذا التعرض البسیط. و أصبح یعنی فی الدرجة الاولی بما سیحدث بعد هذا، و یتوقع حدوث معرکة فی مکة قد تؤدی الی کثیر من القتل واراقة الدماء. و لأجل ان یحد من تعصب رجاله المتطرفین بعث بأوامر مستعجلة الی الجبهة یمنع فیها احتلال مکة بالقوة و یحث الوهابیین علی ضبط انفسهم حتی یصل الیهم هو بنفسه.
و الحقیقة ان الأمیر علیا کان فی تلک الأثناء قد تجاوز مکة خلال فراره امام الوهابیین الی جدة. فقرر الملک حسین بعد کثیر من الاحجام و التردد ان یخلی مکة المکرمة لیتحاشی وقوع معارک دمویة فی شوارعها. و لذلک وقع شرف احتلال مکة من دون مقاومة علی عاتق سلطان بن بجاد، و لم یتعرض احد خلال ذلک بسکان مکة انفسهم، لکن بعض القبب المشاهدة فوق قبور مقبرة المعلا قد هدمت و نهبت ممتلکات بعض الشرفاء.
اما فی جدة فقد رضخ الملک حسین لضغط الرأی العام علیه، و تنازل عن العرش لأبنه علی، ثم استقل باخرة من البواخر مع أسرته الی العقبة التی کان قد نزل فیها قبل سبعة اشهر فقط فی طریقه الی حیث نودی به خلیفة للمسلمین. و قد کانت مهمة الملک علی فی الدفاع عن جدة مهمة شاقة، و لذلک حاول فیها ان یحسم الخلاف مع ابن سعود بالحسنی فاستقدم من الخارج لهذا الغرض السید طالب النقیب، و أمین الریحانی، و المستر فیلبی، و یقول فیلبی أنه نصحه بمقابلة ابن سعود شخصیا حینما یصل الی مکة، و یستسلم. علی ان مستشاریه العسکریین حرضوه علی قتال الوهابیین وردهم الی بادیتهم، بعد ان یصل الیه المتطوعون من سوریة و شرقی الاردن.
و یقول فیلبی فی (أربعون یوما فی الاوعار ) ان الملک حسینا ابرق الی ابنه من العقبة فی مثل هذا الوقت العصیب، الذی کان الجو مشحونا فیه بالتأزم، یطلب الیه الاستماتة فی الاحتفاظ و لو بجزء صغیر من البلد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 328
الذی ولدت فیه الثورة العربیة. فتقرر عدم الرد علیه.
و یفهم مما کتبه فیلبی ان المفاوضات و الوساطات بین الطرفین لم تجد نفعا فترک جدة فی یوم 3 کانون الثانی 1925، و أخذ ابن سعود یقصف جدة بمدفعیته فی الیوم الثانی بعد أن وجه إنذارا لأهالیها بالاستسلام. و یقول فلیبی انه عاد الی جدة فی تشرین الثانی من تلک السنة لیشهد المرحلة الأخیرة من انهیار المملکة الهاشمیة فی الحجاز. لکنه یذکر ان رجلا انکلیزیا آخر یدعی ایلدون رثرEldon Rutter کان قد قضی صیف 1925 و خریفه کلیهما فی مکة منتحلا صفة أحد الحجاج المسلمین، فکتب کتابا مهما فی ذلک (لم نعثر علیه مع الأسف) یصف فیه أول عهد ابن سعود فی حکم الحجاز. و هو یصفه شخصیا کذلک، و یصف دیموقراطیته و بساطته المحببة للناس. فیقول «.. ان طموحه الشخصی لا یحده حد، لکن الذی یخفف من وطأته هو ما عنده من حذر و قابلیة تمییز شدیدة.
و هو عدو لا یرحم فی المعارضة و الحرب، لکنه أعظم العرب أنسانیة فی التاریخ عند النصر. اما طریقته فی الحکم فمن مزایاه فیها أنه یلجأ الی المشورة و الرأی حتی بین الأقارب، و یعد حکمه حکما مطلقا فی أساسه».
و بعد ان استولی ابن سعود علی الحجاز أدرک البریطانیون ان وجود الملک حسین فی العقبة سیؤدی بطبیعة الحال الی تدفق الجیش الوهابی علی حدود شرقی الأردن و فلسطین، فاتخذوا الخطوات اللازمة لنقل الملک اللاجی‌ء علی ما یقول فیلبی الی قبرص، و احتلوا العقبة بسریة من السیارات المصفحة. فکان لذلک وقع سی‌ء عند ابن سعود الذی أبدی تذمره لأیلدون رتر .. و لأجل ان یظهر ابن سعود للعالم بأنه غیر عازم علی التخلی عن أی جزء من مسؤولیته الجدیدة تجاه الحجاز، اتخذ الترتیبات اللازمة للمناداه به ملکا علیه خلفا طبیعیا للأسرة الهاشمیة، بعد ان تشاور مع سکان مکة و المدینة وجدة، و رؤساء العشائر. فتم ذلک فی المسجد الحرام بمکة المکرمة بعد صلاة الجمعة فی الیوم الثامن من کانون الثانی 1926.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 329
و کان من حسن حظ المستر ایلدون رتر ان یحضر هذه المناسبة العظیمة، التی صادف وقوع یوبیلها الفضی فی نفس الیوم الذی وقع فیه الیوبیل الذهبی للمناداة به ملکا فی الجزیرة العربیة، بالتقویم القمری.

أسلام عبد اللّه فیلبی

کان المستر سنت جون فیلبی، أو الحاج عبد اللّه فیلبی، قد بدأ الاتصال بالعرب عند أول اشتغاله فی العراق مع الحملة البریطانیة التی نزلت الی البر العراقی سنة 1915 لمقاتلة العثمانیین خلال الحرب العالمیة الأولی.
و قد ازداد تعلقه بالعرب و تقربه لهم خلال مدة وجوده فی العراق، و اتجه اتجاها خاصا نحو السعودیین و الملک عبد العزیز السعود بعد ان أوفد بمهمة رسمیة خاصة الیه. و صار یکره الهاشمیین بعد ذلک و یدعو الی آل سعود فی کل فرصة او مناسبة. فأدی به میله هذا الی مقاومة فیصل الأول عندما جاء الی العراق، و الدعوة الی تأسیس حکم جمهوری فیه. فأخرج من وظیفته علی أثر ذلک، و تقلبت به الأحوال حتی استقر عند الملک عبد العزیز السعود بعد ان توفق فی احتلال الحجاز، و صیّر عاصمة ملکه فی مکة المکرمة سنة 1926.
و حینما توطدت علاقته بالسعودیین علی هذا المنوال و بقی مقیما فی الحجاز و الریاض أشیع عنه انه تزوج من أمیرة سعودیة فترکته زوجته الانکلیزیة و عادت الی بلادها. و کان لا بد له من ان یفکر بالأسلام و اعتناقه للدین الأسلامی و هو فی وضعه هذا، ففعل ذلک علی ید الملک عبد العزیز السعود. فهو یقول فی کتابه (أیامی فی البلاد العربیة ):
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 330
.. و منذ أیامی الأولی فی الهند انجذبت الی الأسلام انجذابا تاما لتأکیده الشدید علی ما کان یبدو لی صالحا من الفلسفة و أسالیب الحیاة. و کنت قد تخلیت عن المسیحیة منذ مدة طویلة لأکون فیلسوفا لیس له حس دینی خاص او اقتناع بأی دین من الأدیان، مع أننی کنت أعترف بأن الدین فی حد ذاته یعد ضرورة لا مناص منها للسواد الأعظم من البشر. و کان الاسلام فی الهند من جهة أخری یبدو لی أنه قد حمّل بأکثر مما یجب من المبادی‌ء و الطقوس غیر الأساسیة التی کان یصعب قبولها من دون تحفظ و احتراز زائد. و قد وجدت أهل السنة فی العراق علی شی‌ء غیر یسیر من الضحالة و علی جانب کبیر من الرسمیات فی ممارسة الدین او التفکیر به، بینما لم تجذبنی العقیدة الشیعیة بقدیسیها و علمائها الأصولیین.
و لذلک لم تتح لی الفرصة للاتصال بما کنت أعتقد أنه الشکل البقی الطاهر من الأسلام الا عندما ذهبت الی جزیرة العرب، التی ألفیت فیها ذلک الأسلام الذی یستمد تعالیمه بالکلیة من منابع وحیه الأصلیة فی القرآن و سنة النبی الأعظم، من دون ان یمت بشی‌ء من الصلة الی ما طرأ علی التعالیم الأصلیة من تفسیر و تأویل بعد ذلک. و قد لاح لی بعد درس عمیق ان العقیدة الوهابیة هی الشکل المثالی للدین، و ان تعصب أتباعها لم یکن مکروها فی نظری أنا. ذلک لأننی وجدت عند الوهابیین مزیة غیر موجودة عند غیرهم، و هی أنهم یمارسون ما یعتقدون به و یدعون الیه بصراحة، و ان عقیدتهم تبدو متفقة تمام الاتفاق مع ما تتطلبه حیاة الأنسان و المجتمع البشری بأبسط أشکالهما. و هی عقیدة یستطیع المرء ان یتقبلها بسهولة، و یتخذها دلیلا فی حیاته و مسلکه من دون ان تستولی علیه ذهنیة عدم النزاهة فی الفکر. کما أن مقاییسها الاخلاقیة تناسب، علی ما یبدو، حاجات البشر الأساسیة أحسن مما تناسبها الدیانات الأخری کالمسیحیة مثلا. و لئن کان تشریعها قاسیا من بعض الوجوه، فهی لا تقر الزیف، اما تعدد الزوجات الذی تقره و تعترف به، و الذی کثیرا ما کان هدفا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 331
للنقد و التجریح، ففیه من التدابیر الواقیة ضد العهر و الفسق ما یفضل علی التدابیر الموجودة فی الوصایا العشر ..
و بعد ان یسرد فیلبی فی کتابه المشار الیه کیفیة دخوله الأسلام و اعتناقه أیاه نهائیا، و أخذه الی مجلس الملک ابن سعود فی مکة یقول:
.. و قد روی الملک للمجلس المحتشد کیف صفقت السیدة نورة شقیقته من فرحها عندما سمعت أننی اصبحت مسلما، ثم قص علیهم بعض ما کان دار بین کلینا من الحدیث فی هذا الشأن. ثم قال فجأة اننا یجب ان نجد له أسما جدیدا، فماذا تقترحون کلکم؟ .. لماذا لا نسمیه عبد اللّه؟ نعم، فلیکن اسمه عبد اللّه، عبد اللّه فیلبی. و هکذا کان منذ ذلک الوقت حتی الیوم ..
و یکتب فیلبی فی (أربعون عاما فی الأوعار) فصلا خاصا عن خطواته الأولی فی الأسلام علی ما یسمیها، و یقصد بذلک حجه الی بیت اللّه الحرام لأول مرة، ای بعد ان اعتنق الأسلام. و یفهم مما کتبه فی هذا الفصل انه کان قد فاتح صدیقه الملک عبد العزیز منذ مدة برغبته فی اعتناق الاسلام و حجه الی البیت الحرام، لکن الملک کان یوصیه بالصبر و الانتظار.
و قد أشار علیه بعد ان أسلم بان یقضی «مدة تجربة» فی جدة تستغرق عدة أشهر قبل ان یقدم علی أداء هذا الواجب الدینی المقدس، لکن الأقامة فی جدة طوال هذه الأشهر کانت شیئا لا یروقه و فاتح الملک بأن یقضیها معه فی مصیفه الجمیل بالطائف علی ما یقول. فاستجاب له الملک، و فی یوم 7 آب 1930 اتصل به تلفونیا و أمره بأن یستعد للتوجه الی مکة بعد ظهر ذلک الیوم نفسه حیث تدبر له زیارة البیت الحرام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 332
و یقول فیلبی ان ذلک قد تم بالفعل فوصل بعد ان ترک جدة بساعتین الی واحة الحده فی وادی فاطمة الکائنة علی بعد أمیال معدودة عن منطقة مکة المحرمة التی کان ینتظره فیها وفد من الشخصیات المرموقة من مثل الشیخ عبد اللّه السلیمان وزیر المالیه السعودی، و الشیخ فؤاد حمزة نائب وزیر الخارجیة، اللذین أوکل لهما الأشراف علی قضیة دخوله الی مکة المکرمة. و بعد ان التقی بالوفد المذکور فی مخیم خاص، توضأ و أحرم و أخذ بالسیارة الی بیت الشیخ عبد اللّه الجمیل الکائن فی ضواحیها الغربیة، بعد ان مر بالشمیسی و العلمین اللذین یدلان علی الحل و الحرم، و یقهوة العبد (قهوة سالم) و ما فیها من بئر و مقهی، ثم بالمقتلة و أم الدود و بستان البیر و جرول.
و بعد ان تناول العشاء متأخرا تلک اللیلة، و هی لیلة المولد النبوی لسنة 1360 ه، جی‌ء له بسیارة خاصة قبیل منتصف اللیل و أخذ بصحبة «مطوع» من مطوعی الوهابیة یدعی صالح العنقری. و یقول فیلبی انه توجه الی البیت الحرام مع هذا المطوع بقلب خافق، و هو آخر الملتحقین بأبسط الأدیان و أشدها تأثیرا فی النفس، بالدین الذی یقول نبیه الکریم (کل مولود یولد علی الفطرة، و انما أبواه یهودانه أو ینصرانه).
ثم یتابع وصف دخوله الی البیت الحرام فیقول .. و بعد ان ترکت الخفین فی خارج العتبة العالیة، التی تصد المیاه المتدفقة عند هطول الأمطار، سلمت قیادی الی دلیلی الذی أمسک بمعصمی الأیمن و أدخلنی من (باب السلام) الی صحن الحرم الکبیر الذی کان یمتد أمامنا بروعة و بهاء فی ضوء القمر اللامع. و کانت تقوم فی وسطه الکعبة المشرفة، المجلله کلها بالکسوة السوداء، التی کان یدور حولها من ثلثی ارتفاعها عن الأرض حزام من الکتابة المنقوشة بالفضة. و کان بضع مئات من الناس ینتشرون فی الصحن الکبیر هنا و هناک، للصلاة و سائر أنواع العبادة و التأمل، بینما کان عشرات الناس غیرهم یطوفون حول الکعبة مکونین تیارا لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 333
ینقطع الا فی أوقات الصلاة. و قد سرت، و أنا أکرر الأدعیة و الجمل الدینیة التی یتلوها دلیلی الآخذ بیدی علی الدوام، علی طول الممشی المبلط بخشونة الی وسط المسجد الحرام حتی وقفت بین یدی الکعبة نفسها.
و کان الکشک المشاد فوق مقام ابراهیم (او مصلاه)، و البناء المبنی فوق بئر زمزم، یقعان علی یمینی و شمالی بالتعاقب، حینما کنت أواجه الحجر الأسود الموضوع بارتفاع الکتف فی الرکن الشرقی للکعبة المشرفة نفسها.
و حالما تنحی الحجاج الآخرون عن الحجر تقدم دلیلی الیه بخشوع فقبله، ففعلت کما فعل، ثم قادنی للطواف سبع مرات حول الکعبة و هو یتلو الجمل الدینیة المطلوبة لأکررها بعده. و کنا نقف فی کل دورة لنقبل الحجر الأسود، کما کانا فی الرکن الجنوبی نحیی علی الشاکلة نفسها الحجر الیمانی الذی کان عبارة عن قطعة غیر منتظمة من الغرانیت ناتئة من فتحة فی العمود.
و حینما انتهینا من الطواف فی الدورات السبع، انتقلنا الی مقام ابراهیم لأداء، رکعتین من الصلاة فیه کالمعتاد، ثم انتهت الشعائر بزیارة لبئر زمزم حیث شرب کلانا قدحا من الماء المقدس الذی وجدته شیئا مستساغا خالیا من التأثیر السی‌ء فی المعدة، علی خلاف ما ذکره الرحالة بورتون و غیره ممن انتقد مذاقه و محتواه الکیمائی. و الحق ان شعیرة الطواف کانت شیئا مؤثرا فی النفس، الی أبعد ما تستطیع الکلمات وصفه و تحدیده. لکن الغریب فی الأمر أنها کانت تکاد تکون شیئا مألوفا عندی کما لو کنت قد قمت به من قبل، و لا شک ان ذلک قد یکون مرجعه کثرة ما قرأته و اطلعت علیه من کتب الحج و شؤونه من قبل .. و یمکننی ان أدعی بالنسبة للعطف الذی شملنی به عبد العزیز السعود من دون مبالغة بأنی کنت أول شخص دخل الأسلام دخولا فعلیا و هو فی وسط جمع حاشد من الرموز و الأنصبة التاریخیة العریقة، و علی مقربة من المسجد الحرام فی مکة.
و بعد ان ترکنا المسجد الحرام من (باب الصفا) توجهت مع دلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 334
الی أداء شعیرة السعی. المنطویة علی علی قطع المسافة ما بین تلی الصفا و المروة سبع مرات متتالیات علی الاقدام، أی قطع مسافة تقدر بثلاث مئة و ثمانین یاردة. و یتم هذا السعی بالهرولة عبر الطریق العام خلال خمس و ثلاثین یاردة، و مشیا علی الاقدام خلال المسافة المتبقیة. و قد کانت مسافة المیل و النصف من هذه المرات السبع المارة فی طریق و عر غیر مبلط مسافة متعبة حقا، حینما تتخللها الوقفات القصیرة فی نهایة کل مرة لأداء الصلاة فی اتجاه الکعبة. و لذلک سرنی ان أعود الی دار الشیخ عبد اللّه السلیمان لأتضی بقیة اللیل مرتاحا فیها، بعد ان بقیت فترة قصیرة من الزمن أتحدث فیها الی ضیف آخر فی البیت هو المهندس البولونی المسلم فؤاد أحمد سافیشکی الذی کانت بعهدته الورشة الحکومیة یومذاک.
و فی صباح الیوم الثانی، الجمعة، شرفنی بالزیارة الشیخ عبد اللّه ابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 335
حسن أحد العلماء الوهابیین فی مکة، الذی کان ینتمی الی أسرة مؤسس الوهابیة الشیخ محمد بن عبد الوهاب. و کان قد جاء لیهنئنی علی اعتناقی الأسلام، و یدبر أمر اصطحابی له مع سائر أقطاب المذهب الوهابی فی مصلی الداودیة لأداء صلاة الجمعة فی المسجد الحرام. و الی ان یحین ذلک الوقت أخذنی الشیخ فؤاد حمزة لمشاهدة معالم مکة و ضواحیها القریبة بالسیارة.
و بعد أن أدیت صلاة الجمعة لأول مرة فی حیاتی عدنا جمیعا الی بیت عبد اللّه السلیمان للغداء. و کان الشیخ عبد اللّه بن حسن رقیقا جدا فی استقبالی و الاحتفاء بی. و قد ضحکنا حینما تحدثت الیه عن ما کان قد جری ذات یوم قبل سنوات. فقد صادفنی فی قهوة بیر ابن حسانی الواقعة فی طریق المدینة فاعترض اعتراضا شدیدا علی وجود کافر مثلی یومذاک فی تلک الجهات. و کانت الملاحظة التی ابداها الیوم «انه لم یکن بینی و بین جهنم یومذاک سوی الموت، اما الیوم فتوجد الجنة اذا استجاب اللّه تعالی لأسلامی و اعتبره شیئا نابعا من القلب».
و یفهم مما یذکره الحاج عبد اللّه فیلبی فی فصل آخر من کتاب (أربعون عاما فی الأوعار) انه خرج من مکة بعد زیارة الحرم الشریف لأول مرة فی حیاته، و عاد الی الطائف فرحب به الملک ابن سعود و سماه عبد اللّه علی النحو المار ذکره قبل هذا، لکنه عاد الی مکة مرة ثانیة بعد ذلک لیقیم فیها و یصبح مواطنا من مواطنیها المرموقین، و کان ذلک فی تشرین الثانی سنة 1930. و هو یقول أنه قضی عند عودته الیها یومین فی ضیافة عبد اللّه الفضل رئیس المجلس الاستشاری حتی وجد له بیتا خاصا یعیش فیه. فتم له ذلک و سکن فی الدار رقم 27 من محلة جرول المعروفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 336
فی مکة، بقرب حدائق البلدیة و قصر وزیر المالیة، و هو یقول «.. و فی الیوم الأخیر من تشرین الأول 1930 اصبحت مواطنا من مواطنی مکة، و بقیت کذلک مدة ربع قرن.»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 337

مراسیم الحج و فرائضه

اشارة

کتبه الخطیب جواد تبر عضو جمعیة منتدی النشر و جمعیة الرابطة العلمیة فی النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 339

فریضة الحج

الحج لغة هو القصد، و لهذا سمی الطریق محجة لانه یوصل الی المقصود.
و الحج شرعا هو القصد الی بیت اللّه الحرام و اداء مناسک خاصة و طقوس معینة فی زمن معین، و هو واجب علی کل مسلم و مسلمة تتوفر فیهما الشروط المعینة.
و تتفق طقوس الحج و کیفیة ادائها عند جمیع المذاهب الاسلامیة باستثناء فرق طفیفة اوردنا اهمها فی آخر هذا البحث.
و المتفق علیه عند عامة المسلمین ان الحج یجب فی العمر مرة واحدة، و وجوبه عند حصول الاستطاعة. و من وجب علیه الحج فاتی به فمات فی الاثناء، فان کان بعد الاحرام و دخول الحرم اجزأه و الا فلا.

شروط وجوب الحج

هی: 1- البلوغ. 2- العقل. 3- الاستطاعة و ذلک بأن یکون مالکا مؤونة السفر من الزاد و الراحلة ذهابا و إیابا، و قادرا علی تموین عیاله الذین و جبت نفقتهم علیه. و کان سالما من المرض متمکنا من السیر و غیر خائف فی الطریق
و اول واجبات الحج هو الاحرام من احرم یحرم اذا اهلّ بالحج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 340
و العمرة و باشر اسبابها و شروطها من خلع المخیط، و اجتناب الاشیاء التی منع منها الشرع. و هو توطین النفس علی اجتناب تلک المحرمات التی نهی الاسلام عنها و سیأتی الکلام علیها.

واجبات الاحرام

1- لبس ثوبی الاحرام، للرجل و هما: ازار ورداء یأتزر باحدهما ساترا ما بین السرة و الرکبة، و یرتدی بالآخر ساترا للمنکبین.
و یجب ان یکونا غیر مخیطین للرجال، و یعتبر فی الثوبین مما تصح فیه الصلاة.
2- النیة و هی القربة و الاخلاص فینوی الاحرام لعمرة متمتع بها الی حج التمتع حج الاسلام لوجوبه قربة الی اللّه تعالی.
3- التلبیة و هی قول الحاج: لبیک اللهم لبیک، لبیک لا شریک لک لبیک ان الحمد و النعمة لک و الملک لا شریک لک.
و یجب النطق بها علی النهج الصحیح و تجب مرة واحدة إذ لا ینعقد الاحرام الا بها. و قد تتکرر استحبابا.

محرمات الاحرام

یجب علی المحرم ان یلتزم بترک ما یحرم فعله ما دام محرما، و هی محرمات الاحرام الواجب علی المکلف ان یلزم نفسه بترکها.
1- صید الحیوان البری و ذبحه، دون غیره من الحیوانات، و کذلک امساکه و اکله و الاعانة علی صیده بدلالة أو اشارة او نحو ذلک من اسالیب الصید أو الذبح، قال تعالی (لا تَقْتُلُوا الصَّیْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ) اما السباع الضاریة اذا کان یخاف منها، او السباع من الطیور اذا اذت حمام الحرم فیجوز قتلها حفظا لنفسه و لحمام الحرم، فاذا اصطاد المحرم الصید أو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 341
ذبحه کان میتة، و یحرم علیه و علی کل احد أن یأکل منه. نعم لا یحرم قتل الحیة و العقرب و الفأرة، و لا کفارة فی قتل الزنبور خطأ، و فی قتله عمدا صدقة بشی‌ء من طعام.
هذا اذا کان الصید برّیا. اما الصید البحری فلا یحرم.
و کما یحرم الصید علی المحرم و لو کان فی غیر الحرم، کذلک یحرم الصید علی المحل فی داخل حدود الحرم و تلزمه الفدیة کما تلزم المحرم و لو قتل المحرم الصید فی الحرم لزمته الکفارتان: القیمة و العین.
2- تحرم مباشرة النساء علی المحرم وطأ، بل حتی التقبیل و اللمس بشهوة.
3- عقد النکاح سواء کان ذلک لنفسه ام لغیره، دائما او منقطعا، و سواء کان للمحل أو المحرم.
و یجوز الرجوع بالمطلقة فی حال الاحرام.
4- الشهادة علی النکاح و لو نغیره.
5- الاستمناء بأی سبب کان بالملاعبة أو بالید أو غیر ذلک.
6- الطیب بجمیع اقسامه و انحاء استعمالاته کالمسک و العنبر، و العود، و الزعفران، و الکافور، و عطر الورد و غیرها من العطور، و حتی الهیل و القرنفل. فلا یجوز وضع ذلک فی الثیاب و لا فی الطعام و الشراب او دهن البدن به. و لکن لا بأس بأکل الفواکه العطریة کالتفاح و السفرجل و بقیة الفواکه.
7- لبس المخیط للرجال فقط دون النساء. و یستثنی من ذلک محفظة الدراهم.
8- لبس الخف و الجورب و نحوهما مما یغطی ظهر القدم، و خیر شی‌ء هی احذیة (الاسفنج) و لا بأس بستر ظاهر القدم بثوب الاحرام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 342
أو ثنی الرکبة عند الجلوس او تحت الدثار عند المنام.
9- الاکتحال بالسواد.
10- النظر فی المرآة مطلقا، سواء کان بقصد الزینة ام بقصد آخر، و اذا نظر فی المرآة استحب له تجدید التلبیة- رجلا کان الناظر او امرأة- و لا بأس بالنظر فی الماء الصافی.
11- الفسوق- ای الکذب سواء کان علی اللّه أو علی الرسول او الائمة علیهم السلام، أو علی الناس. و السباب و المفاخرة و کل. کلام بذی‌ء و لفظ قبیح.
12- الجدال- و هو قول- لا و اللّه، و بلی و اللّه- اما فی اظهار المودة و تقدیم الاکرام و الانعام و عند اثبات الحق و دفع الباطل فلا بأس به.
13- التختم- و هو لبس الخاتم للزینة. و لا بأس بلبسه اذا کان للسنة- ای للاستحباب الشرعی- و یجوز للمرأة لبس ما اعتادت من الحلی.
14- الادهان- بأن یطلی جسده بالزیت أو السمن او غیرهما من الادهان، حتی و لو لم تکن فیه رائحة طیبة الا للضرورة کاستعماله وقایة من تشقق الجلد.
15- ازالة الشعر مطلقا الا للضرورة مثل الوقایة من القمل أو خشیة الصداع. و یکره الاحرام فی الثیاب الوسخة و ان کانت طاهرة.
16- الحنّاء للزینة، و الاولی ترکها مطلقا، و یستحب النظافة فی البدن و الثیاب قبل ذلک.
17- تغطیة الرأس اختیارا، و یحرم ذلک علی الرجل دون المرأة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 343
و تجب علیه الفدیة عند تغطیة الرأس .
18- تغطیة المرأة وجهها بنقاب و غیره مما یلصق علی الوجه کلا او بعضا و حتی فی حال النوم.
19- التظلیل للرجال اختیارا فی حال السیر الا اذا کان ماشیا، فیجوز ان یمر تحت الظل عابرا.
20- إخراج الدم من البدن بأی سبب کان. بالقصد أو بالحجامة او السواک او حک الجلد.
21- قلع الضرس و ان لم یخرج الدم عدا الاضطرار.
22- تقلیم الأظافر و لو ظفرا واحدا او بعض ظفر الا مع الأذی یجوز تقلیمه.
23- لبس السلاح بأنواعه. اما (السکین) الصغیرة للشؤون الخاصة فلا بأس بها. و یجوز حمل السلاح اذا خاف من عدوّ أو سارق بشرط اخفائه.
24- یحرم علی المحرم و غیره قطع کل نبت فی الحرم و کذلک قلعه، و یستثنی من ذلک (الاذخر) و کذلک یستثنی النخل و الفواکه، و ما کان الانسان قد غرسه هو بنفسه، او کان نابتا فی ملکه أو فی منزله و یکره الکلام بغیر ذکر اللّه تعالی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 344

المیقات او المواقیت

و هی الحدود المکانیة المعینة بالذات لمواضع الاحرام، فلا یجوز للحاج ان یتعداها الا باحرام منها او مما یحاذیها، و لا یجوز لأحد ان یدخل مکة الا محرما الا لمرض او من یتکرر دخوله کالخطاب و الحشاش و نحوهما.
و لو خرج بعد احرامه ثم عاد فی الشهر الذی خرج فیه اجزأ و ان عاد فی غیره احرم ثانیة.
یجب علیه ان یتجرد من ملابسه و یرتدی ثوبی الاحرام و هو: ازار و رداء، و یتقدم إلی بیت ربه بثوبین غیر مخیطین و رأس مکشوف.
المواقیت المکانیة هی التی عینها رسول اللّه و حددها تحدیدا کاملا واضحا محیطا بمکة المکرمة من جمیع جهاتها و سائر اقطارها و نواحیها:
شمالا و جنوبا و شرقا و غربا.
اولا- مسجد الشجرة و یسمی (ذو الحلیفة) لاهل المدینة و لمن کان طریقه علی المدینة من اهل الافاق و الاقطار کسائر الحجاج الذین یؤمون زیارة المدینة و یقومون بزیارة النبی اولا و قبل الحج.
و یبعد عن مکة نحو 492 کیلومترا. اما الذین یذهبون الی جدة عن طریق الجوثم الی مکة فعلیهم ان یحرموا من حدود الحرم بالمکان المسمی ب (الحدیبیة).
ثانیا- وادی العقیق، و یبعد عن مکة المکرمة نحو 100 کیلومتر و هو میقات اهل العراق و اهل نجد. و اول هذه المیقات من جهة العراق موضع یسمی (المسلخ) و وسطه (غمرة) و آخره (ذات عرق).
ثالثا- الجحفة و هو لاهل الشام و مصر و من عبر علی طریقهم الی مکة من اهل الاقطار و الامصار الاخری، و یبعد عن مکة نحو 187 کیلومترا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 345
رابعا- قرن المنازل و یبعد عن مکة المکرمة نحو 94 کیلومترا و هو میقات اهل الطائف و من عبر علی طریقهم الی مکة.
خامسا- یلملم و هو جبل من جبال تهامة، و یبعد عن مکة المکرمة 94 کیلومترا تقریبا، و هو میقات اهل الیمن و من عبر علی طریقهم الی مکة.
سادسا- ادنی الحل- و هو حدود الحرم و میقات من لم یعبر الی مکة من احد هذه المواقیت.

انواع الحج

الحج علی ثلاثة انواع:
1- حج التمتع 2- حج القران 3- حج الافراد
و النوع الاول و هو حج التمتع یتکون من عبادتین: الاولی: العمرة، و الثانیة: الحج، و هو الواجب علی کل مکلف مستطیع یبعد وطنه عن مکة المکرمة 48 میلا ای ما یساوی 96 کیلومتر تقریبا من کل جانب فان کانت المسافة اقل من ذلک کان حج قران او افراد.
و التمتع اصله التلذذ، و سمی هذا النوع به لما یتخلل بنی عمرته و حجته من التحلل الموجب لجواز الانتفاع و التلذذ بما کان قد حرمه الاحرام مع ارتباط عمرته بحجه حتی انهما کالشی‌ء الواحد.
و افضل انواع الحج: حج التمتع، ثم حج القران، ثم حج الافراد و انما سمی بالقران (او القارن) لان الحاج یقرن هدیه معه و یسوقه عند احرامه اما (الافراد) فلإنفراد العمرة عن الحج فیه بخلاف حج التمتع و ذلک بأن یعتمر بعد ان یحل من الحج عمرة مفردة و حج التمتع تکون عمرته مقدمة علیه و مرتبطة به بخلاف القران و الافراد فان عمرتهما متأخرة عن حجتهما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 346

کیفیة حج الافراد و حج القران

و هو فرض اهل مکة و من بحکمهم. و کیفیته اجمالا:
ان یحرم بالحج اولا من میقاته الذی مرت الاشارة الیه فی المواقیت، أو من حیث یسوغ له الاحرام. ثم یمضی الی عرفة فیقف بها ثم الی المشعر فیقف به ثم الی منی یوم النحر فیقضی مناسکه بها ثم یأتی الی مکة فیطوف بالبیت و یصلی رکعتی الطواف و یسعی و یطوف طواف النساء و یصلی رکعتین و لیس علیه هدی و لا اضحیة، و علیه عمرة مفردة بعد الحج، و لا بد فیه من النیة. و له ان یأتی بها بعد الحج بلا فاصل، و ان یؤخرها الی غیر اشهر الحج.
و حج القران کالافراد الا انه یتمیز عنه بسیاق الهدی عند احرامه و لا یجب الهدی علی الحاج المفرد، و لا علی القارن الا اذا ساق القارن معه الهدی من الاحرام.
قال الامام محمد الباقر علیه السلام:
الحاج علی ثلاثة وجوه:
رجل افرد الحج و ساق الهدی، و رجل افرد الحج و لم یسق الهدی، و رجل تمتع بالعمرة الی الحج.
و لما کان اکثر من یؤم بیت اللّه من القسم الثالث من اقسام الحج، و من کل فج عمیق من النائین عن مکة و من یکون حجهم حج تمتع استدعی التفصیل فیه دون القسمین الاولین: القران و الافراد.
ان الواجب هو تقدیم العمرة علی الحج، و ان حج التمتع یتکون من عبادتین:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 347
الاولی العمرة ، و الثانیة الحج.
اما الواجب علی هذه فخمسة افعال:
1- النیة و هی القصد و العزم علی الفعل و طلب القربة الی اللّه تعالی اذ لا عبادة بلا نیة القربة.
2- الاحرام و هو ان یحرم لعمرة التمتع لحج التمتع حج الاسلام من المیقات متقربا الی اللّه تعالی.
3- الطواف و رکعتاه و الطواف سبعة اشواط.
4- السعی بین الصفا و المروة سبعا.
5- التقصیر بأن یأخذ المعتمر شیئا من شعر رأسه و یقصر منه او من اظفاره.
هذه هی واجبات عمرة التمتع، و لا یجب فیها طواف النساء، فاذا فرغ من تقصیره حل له کل شی‌ء احرم منه، و لهذا سمیت: عمرة التمتع ای التلذذ و الانتفاع مما کان یحرم الانتفاع به علیه بسبب الاحرام. و یبقی المعتمر محلا یتمتع بما یشاء مما یحل للمحل فی الحرم حتی یحرم للحج علی التفصیل الآتی بیانه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 348

الطواف و واجباته

یجب علی المعتمر للتمتع بعد دخول مکة أن یبتدی‌ء بالطواف لعمرة التمتع. و الطواف رکن فمن ترکه عامدا الی زمن لا یمکن فعله فیه قبل الوقوف بطل حجه و صار حج افراد قال تعالی (وَ لْیَطَّوَّفُوا بِالْبَیْتِ الْعَتِیقِ) و المریض یطوف معتمدا، أو راکبا، او محمولا، فان لم یتمکن استناب.
و یجب الطواف فی حج التمتع، و حج الافراد، و حج القران، و عمرة الافراد و عمرة القران و العمرة المفردة مرتین:
1- طواف الحج سواء للتمتع، او الافراد، أو القران، و عمرتیهما و العمرة المفردة و هو رکن.
2- طواف النساء لکل من حج التمتع، و حج الافراد، و حج القران، و عمرة کل من الافراد، و القران، و العمرة المفردة. ولکنه لیس برکن بخلاف الطواف السابق فانه رکن و یبطل کل نسک بتعمّد ترکه.

شرائط حج التمتع

یجب علی المعتمر عمرة التمتع ان یطوف حول البیت طواف عمرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 349
التمتع بشروط:
1- النیة المشتملة علی قصد القربة و التعیین بکونه طواف حج، او عمرة، أو نساء، أو غیرها. و تکون هذه النیة مقارنة لاول جزء منه.
و ذلک بأن یقول: أطوف سبعة أشواط فی بیت اللّه الحرام طواف عمرة التمتع لحج الاسلام. حج التمتع لوجوبه قربة الی اللّه تعالی.
2- الطهارة من الحدث الاکبر و الاصغر، و المتعذر علیه الوضوء او الغسل یتیمم بدله فلو احدث فی اثناء الطواف قبل اکماله اربعة أشواط استأنف.
3- طهارة البدن و الثیاب.
4- اباحة اللباس بأن لا یکون لباسه مغصوبا.
5- ستر ما یجب ستره فی الصلاة للرجال و النساء، کل بحسب حاله.
6- الختان فلا یصح طواف الاغلف و ان کان طفلا.
7- یجب ابتداء کل شوط من الاشواط السبعة بالحجر الأسود و الاختتام به، فلا یصح ان یبدأ الطواف بغیره کما لا یصح الاختتام بغیر الحجر الأسود ایضا.
و یکفی فی حصول الابتداء و الاختتام المحاذاة العرفیة فی ابتداء الشوط و ختامه.
8- جعل البیت علی الیسار فلا یصح الطواف بعکس ذلک.
9- ادخال حجر اسماعیل فی الطواف و ان یجعله الطائف علی یساره، و العکس باطل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 350
10- خروج تمام بدنه عن البیت و عن حجر اسماعیل و عن ما یحسب من البیت.
11- کون الطواف بین البیت و المقام مقام ابراهیم فلا یصح أن یجعل مقام ابراهیم داخل المطاف، بل الواجب ان یکون مقام ابراهیم علی الیمین، و البیت علی الیسار. و یلزم علی الطائف أن لا یبعد عن البیت ازید من 26 ذراعا بذراع الید تقریبا من جمیع الجوانب، فلا یبعد عن الکعبة بما یزید علی هذا المقدار و الا خرج عن المطاف.
12- اکمال سبعة اشواط بلا زیادة و لا نقصان. فلو شک فی العدد بعد الفراغ لم یلتفت.
13- الموالاة فی الطواف فانها شرط، و معناها المتابعة بین اشواط الطواف، و لا یعمل الطائف خلال القیام بالطواف عملا یفصل بینها.

رکعتا الطواف

ثم یصلی رکعتی الطواف بعد فراغه من الطواف خلف مقام ابراهیم علیه السلام و هی الصخرة التی وقف علیها ابراهیم الخلیل، و هو یبنی جدار الکعبة، و ان لم یتمکن من الصلاة خلف المقام صلاها عنده من احد الجانبین فان لم یتیسر له ذلک یصلیها حیث شاء فی المسجد الحرام مع مراعاة الاقرب فالاقرب الی خلف المقام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 351

حج التمتع

هو الجزء الثانی الذی یقع بعد التمتع المار الذکر.
و لذا یضاف الیه، فافعاله امور مترتبة مجملها:
الاحرام، و الوقوف بعرفات، ثم الوقوف بالمشعر، ثم المضی الی منی یوم العید، و رمی جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم طواف الزیارة و رکعتاه، ثم السعی، ثم طواف النساء و رکعتاه، ثم المبیت بمنی لیلة الحادی عشر و الثانی عشر و الثالث عشر، و رمی الجمرات الثلاث.
- التفصیل:
بعد الاحلال من عمرة التمتع یکون الاحرام بالحج- و هو رکن من الارکان- و الاحرام من مکة، و الافضل من المسجد. و یتسحب ایقاعه یوم الترویة- و هو الیوم الثامن من ذی الحجة، فیلبس الحاج ثوبی الاحرام ثم ینوی الاحرام للحج ثم یلبی فیقول: لبیک اللهم لبیک، لبیک لا شریک لک لبیک. فینعقد احرامه و تحرم علیه المحرمات المذکورة فی العمرة. اما النیة فکیفیتها: ان یقول اقف بعرفة وقوف حج التمتع حج الاسلام لوجوبه قربة الی اللّه تعالی. و یخرج الی منی، و الوقوف بعرفات تاسع ذی الحجه حاضرا فیه مستوعب الوقت کله- من زوال الشمس الی غروبها اختیارا من یوم عرفة. و الموقف الاضطراری هو من مغیب الشمس لیلة العید الی طلوع الفجر.

عرفة

یوم عرفة یوم التاسع من ذی الحجة
و عرفة: میدان واسع ارضه مستویة یبلغ نحو میلین طولا فی مثلهما عرضا، تحیط به سلسلة جبال علی شکل قوس کبیر و یمر بطرفی القوس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 352
من جهة الجنوب الطریق الی الطائف و فی شمالیه جبل الرحمة المعروف عند الناس بجبل عرفات و انما جبل عرفات ما اطاف بهذا المیدان، و جبل الرحمة اصغر جزء فیه. قالوا: وحدها من بطن عرفة و (توبة) و (نمرة) الی ذی المجاز.

سبب التسمیة

یقال ان سبب هذه التسمیة لان الناس یعترفون بذنوبهم فیها و قیل غیر ذلک.

المزدلفة او المشعر الحرام

المزدلفة: بضم المیم و سکون الزای المعجمة و فتح المهملة و کسر اللام اسم فاعل من الازدلاف و هو الاجتماع، تقول: ازدلف القوم اذا تقدموا. و هی موضع یتقدم الناس فیه من عرفات الی منی و قیل لانه یتقرب فیه الی اللّه، او لمجی‌ء الناس فیها فی زلف من اللیل- ای (ساعات) فسمیت المزدلفة قال تعالی (فاذا افضتم من عرفات فاذکروا اللّه عند المشعر الحرام) و المشعر الحرام هو جبل فی آخر المزدلفة و اسمه قزح و وصف بالحرام لحرمته او لانه من الحرم و سمی مشعرا لانه موضع لشعائر اللّه و عبادته.

منی و اعمالها

و ینتقل الحاج من عرفات الی المشعر الحرام، و ان علیه ان یمکث فیه من طلوع الفجر الی طلوع الشمس مختارا .. فاذا طلعت الشمس من یوم العید انتقل من المشعر الی منی، و بینهما واد یسمی واد (محسر)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 353
و لیس للحاج ان یتجاوزه الا بعد طلوع الشمس.
و لمنی مناسک شتی، تستمر من یوم النحر، و هو یوم العید الی صبیحة الیوم الثالث عشر، او مساء الیوم الثانی عشر، و فی منی تنتهی واجبات الحج، و تسمی الایام الثلاثة، و هی 11، 12، 13، من ذی الحجة ایام التشریق.

منی

منی بالکسر و التنوین یقع فی درج الوادی الذی ینزله الحاج و یرمی فیه الجمار و قد سمی بذلک لما یمنی به من الدماء أی یراق.
و کانت منی فی الجاهلیة مقرا لسبعة اصنام: بعضها علی الطریق و بعضها علی الجمرة الاولی، و بعضها علی شفیر الوادی، و بعضها علی الجمرة الوسطی، و علی الجمرة الکبری، و علی جمرة العقبة.
و یستحب التقاط حصی الجمار من المشعر و الاحتفاظ بها الی منی للرمی و عددها سبعون.
قال العلامة الحلی فی کتابه (تذکرة الفقهاء) یرمی فی کل یوم احدی و عشرین حصاة، علی ثلاث دفعات، کل واحدة منها سبع حصیات، یبتدی‌ء بالاولی و هی أبعد الجمرات من مکة، و تلی مسجد الخیف، و یستحب ان یرمیها حذفا- أی یضع الحصاة علی باطن الابهام و یدفعها بظاهر السبابة- عن یسار الجمرة من بطن المسیل بسبع حصیات، و یکبر عند کل حصاة، و یدعو ثم یتقدم الی الجمرة الثانیة و تسمی الوسطی و یقف عن یسار الطریق و یستقبل القبلة و یحمد اللّه و یثنی علیه و یصلی علی النبی ثم یتقدم قلیلا و یدعو ثم یرمی الجمرة، و یصنع کما صنع عند الاولی، و یقف و یدعو ایضا بعد الحصاة الاخیرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 354
ثم یمضی الی الجمرة الثالثة- و تسمی بجمرة العقبة- و یرمیها کالسابقة و لا یقف بعدها و بها یختم الرمی.
و ان مجموع ما یرمیه فی الایام الثلاثة بمنی 63 حصاة- هذا ان بات بمنی لیلة الثالث عشر- کل یوم 21 تضاف الی السبع التی رماها یوم العبد، فتتم علی السبعین.

الافاضة الی المشعر و الوقوف به

یجب الافاضة من عرفات الی الشعر الحرام لیلة العید و البیتوتة بها.
توضیح: اذا غابت الشمس و زالت الحمرة المشرقیة افاض الناس الی المشعر بسکینة و وقار. فاذا وصلوا الی الکثیب الاحمر عن یمین الطریق یجب فی الوقوف بالمشعر الحرام امران:
1- المبیت بالمشعر لیلة العید، و یکفی فیه صدق المبیت و لو بعد ثلث اللیل او نصفه.
2- الوقوف بالمشعر من طلوع الفجر الی طلوع الشمس من یوم عید النحر و عندما یفرغ الحاج من الوقوف بالمشعر وجب علیه ان یأتی یوم العید عاشر ذی الحجة الی منی و یسمی یوم النحر.

ما یجب فی منی من افعال الحج

الواجبات الثلاثة التی تجب علی الحاج بعد أن یفیض من المشعر، بعد طلوع الشمس من یوم العید الی منی لاداء مناسکها الثلاثة بالترتیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 355
1- رمی جمرة العقبة یوم العید، و وقته من طلوع الشمس الی الغروب.
2- الذبح او النحر .
3- الحلق أو التقصیر.
فاذا افاض من المشعر یوم عید النحر وجب علیه العود الی منی، و یتوجه رأسا الی جمرة العقبة لرمیها بالحصیات السبع التی التقطها من المشعر، او من داخل حدود الحرم الشریف.
و وقت رمیها یکون من طلوع الشمس من یوم العید الی غروبها.
و الرمی هو اول اعمال منی. فلا یجوز للحاج أن یقدّم الذبح أو الحلق علیه. فلو اخلف الترتیب أو عمل بالعکس أثم و لا شی‌ء علیه من الکفارات.
و تجب النیة بأن یرمی الجمار تقربا الی اللّه تعالی. و الواجب ان یباشر الرامی عمل الرمی بنفسه، فلا یجزی غیره عنه الا فی بعض الأحوال.
و الرمی بسبع حصیات، فلو کانت اقل لم یکف، و اصابة الجمرة أو موضعها بکل من الحصیات السبع. فلو أخلّ بواحدة فلا بد من تعویضها باخری. و الرمی علی التعاقب و الترتیب
و أما الواجب الثانی فی منی بعد الرمی هو الذبح أو النحر. و الواجب هدی واحد و یستحب الزیادة.
و الواجب أن یکون الهدی من النعم الثلاثة: الابل، البقر، الغنم.
و المعز من فصیلة الغنم، و یشترط السن فی کل هذه. فالإبل ما اکمل السنة الخامسة و دخل فی السادسة، و البقر ما اکمل الثانیة و دخل فی الثالثة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 356
و المعز ما اکمل الثانیة و دخل فی السنة الثالثة، و الضان ما اکمل الاولی و دخل فی الثانیة- ای ما اکمل السنة الاولی-.
و یشترط أن یکون الهدی صحیحا، فلا تکفی العرجاء و لا العوراء و لا مقطوعة الأذن او مکسورة القرن الداخل و لا المهزولة و لا الجماء، أو البتراء، و لا الجرباء.
و یجب ان یکون الذبح یوم العید فلا یجوز تأخیره، و أن یکون بمنی فلا یجوز فی غیر منی. و یکره له ان یخرج شیئا مما ذبح فی منی الی الخارج الا اذا لم یکن فی منی من ینتفع بالهدی.
اما الواجب الثالث من واجبات منی فهو الحلق أو التقصیر و لو بقدر الانملة و ذلک یوم العید بعد الرمی و النحر. فهو أن یحلق رأسه کله.
اما التقصیر، فهو أن یأخذ شیئا من شعر رأسه أو لحیته أو شاربه أو شیئا من الأظافر.
و الحلق یتعین فی الحجة الاولی، اما الحجة الثانیة و ما بعدها فیکون مخیرا بین الحلق و التقصیر.
أما النساء فیحرم علیهن الحلق و یتعیّن التقصیر.

الهدی فی الحج

الهدی: هو ما یهدی الی بیت اللّه الحرام من بدنة و غیرها.
و هو اسم للحیوان الذی یقدمه المحرم و یسوقه قربانا لوجه اللّه قال تعالی: «جَعَلَ اللَّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرامَ قِیاماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْیَ وَ الْقَلائِدَ ذلِکَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِکُلِّ شَیْ‌ءٍ عَلِیمٌ»
و القلائد جمع قلادة ما یجعل فی الهدی من العلامة، و تکرر فی القرآن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 357
اسم (الهدی) فی غیر هذه الآیة: قال تعالی «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَی الْحَجِّ فَمَا اسْتَیْسَرَ مِنَ الْهَدْیِ» و قال (حَتَّی یَبْلُغَ الْهَدْیُ مَحِلَّهُ) و قال «هدیا بالغ الکعبة». و هو من شعائر اللّه «و البدن جعلناها لکم من شعائر اللّه لکم فیها خیر فاذکروا اسم اللّه علیها صوافّ فاذا وجبت جنوبها فکلوا منها و اطعموا القانع و المعترّ کذلک سخرناها لکم لعلکم تشکرون».

السعی بین الصفا و المروة

و بعد الفراغ من الطواف و صلاة رکعتین یجب السعی سبعة اشواط بین الصفا و المروة و تستحب المبادرة الیه فورا بعد رکعتی الطواف بحیث لا یعد متهاونا فحینما یفرغ من صلاة الطواف یستلم الحجر الاسود و یقبله ان امکن و الا اشار الیه ثم یخرج الی السعی بسکینة و وقار- من الباب الذی هو الآن معلّم باسطوانتین معروفتین و منه کان خروج النبی صلی اللّه علیه و آله و سلم، و هو یحاذی الحجر الأسود ثم یصعد الصفا و ینظر الی البیت و یستقبل الرکن الذی فیه الحجر الأسود، و یحمد اللّه و یثنی علیه و یکبره و یصلی علی النبی و آله.
و یجب استحضار القلب و النیة بأن یقول: أسعی بین الصفا و المروة سبعة أشواط سعی عمرة التمتع، لحج التمتع، حج الاسلام لوجوبه قربة الی اللّه تعالی.
و السعی واجب بعد صلاة الطواف و هو رکن کالطواف، و ان یبتدی‌ء بالصفا و یختتم بالمروة، بأن یحسب السعی من الصفا الی المرة شوطا، و منها الی الصفا شوطا آخر، و هکذا الی ان یتم سبعة اشواط.
فابتداء السبعة من الصفا و ختمها بالمروة.
و یجب ان یکون هذا السعی واقعا فی الطریق المتعارف فی الذهاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 358
و الایاب، فلو ذهب من وسط المسجد الحرام مثلا الی المروة أو العکس لم یکن مجزیا.
و کذا لو خالف فابتدأ بالمروة بطل سعیه کما یجب ان یحتفظ بالعدد بأن یکون السعی سبع مرات بلا زیادة و لا نقصان فی (المسعی)
فلو دخل فی الأثناء الی المسجد أو خرج منه الی السوق ثم رجع لم یصح منه ذلک السعی.
و یجوز السعی راکبا کما یجوز الطواف راکبا لکن سعیه راجلا أفضل، و ان یکون علی سکینة و وقار.
و یجوز له الجلوس علی الصفا و المروة للاستراحة، أما الجلوس.
بینهما فالأحوط ترکه بدون عذر. و تستحبّ الهرولة فی السعی ما بین المنارتین المعلمتین الآن باللون الأخضر، و لا تستحب الهرولة للنساء لقول الامام الصادق علیه السلام: لا أذان و لا هرولة علی النساء بین الصفا و المروة.

التقصیر

هو آخر واجبات عمرة التمتع. و یجب فی کل من الحج و العمرة:
ففی الحج یکون بعد الذبح فی منی. و فی العمرة یکون بعد إکمال السعی.
و به یفرغ الانسان و یتحلل من عقد احرامه.
فبعد فراغه من السعی یجب علیه التقصیر و یحصل بأخذ شی‌ء من شعر رأسه، او لحیته، او شاربه أو حاجبه، او تقلیم بعض اظفاره.
و لا یکفی حلق تمام الرأس بل لا یجوز الحلق فی العمرة و تجب النیة للاحلال من احرام عمرة التمتع لحج الاسلام قربة الی اللّه تعالی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 359
فاذا قصر حلّ له کل شی‌ء حرم علیه بالاحرام حتی النساء الا الصید فی الحرم، محرما کان أو محلا.

العودة من منی

بعد اداء مناسک (منی) الثلاثة یعود الحاج الی مکة المکرمة لیؤدی الواجبات الثلاثة، و الاولی أن یکون یوم العید و إن جاز تأخیره الی یوم ثانی العید.
اولا- الطواف و صلاته کالطواف السابق إلا ان النیة تکون لحج التمتع حج الاسلام و یسمی ب (طواف الزیارة) و (طواف الحج) ایضا، و الصلاة ایضا خلف مقام ابراهیم، و الاولی أن یکون ذلک فی یوم العید.
ثانیا- السعی بین الصفا و المروة.
ثالثا- طواف النساء بعد السعی مباشرة، فلا تحل النساء للرجال، و لا الرجال للنساء الا بعد الاتیان بهذا الطواف و رکعتیه و بعد أداء هذه الواجبات الثلاثة یجب الرجوع الی منی للمبیت فیها لیالی التشریق و هی:
لیلة الحادی عشر، و الثانی عشر، و رمی الجمار الثلاث فی یومیهما، ثم ان بات لیلة الثالث عشر رمی فی یومها و یجب علیه رمی الجمرات الثلاث علی الترتیب الآتی:
الجمرة الاولی التی تلی مسجد الخیف.
ثم الوسطی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 360
ثم جمرة العقبة و هی القصوی.
اولا- الجمرة الاولی و هی اقرب الجمرات الی منی. ثم الوسطی و هی التی تلیها.
ثم جمرة العقبة و هی آخر الجمرات من جهة مکة المعروفة بالکبری.
و لا یجوز الرمی لیلا، لا للیوم الماضی و لا للیوم الآتی مع التمکن منه نهارا.
اما الخائف و المریض و الراعی و امثالهم فیجوز لهم رمی جمرات کل یوم فی لیلته. و یجوز أن یرمی المریض من یستنیبه لذلک.
انما وقت الرمی للجمرات یکون من طلوع الشمس من یوم الحادی عشر الی غروبها و من لم یتق فی احرام الحج و العمرة من النساء و الصید یجب علیه بیتوتة اللیلة الثالث عشر، و کذلک علی من لم یخرج من منی او حدودها قبل المغرب.
و من بات لیلة الثالث عشر یجب علیه رمی الجمرات فی نهارها- ای ان للحاج ان یخرج من منی فی الیوم الثانی عشر من ذی الحجة بعد زوال الشمس و قبل غروبها، و اذا بقی فی منی الی المغیب وجب علیه المبیت فی منی لیلة الثالث عشر، و لا ینفر منها الا بعد طلوع الشمس.
و عندما یفرغ الحاج من ذلک فقد أتمّ حجه، و له ان یرجع الی اهله، و الافضل ان یطوف طواف الوداع فی مکة بالبیت و یقول: «اللهم ان البیت بیتک، و العبد عبدک، و قد قلت من دخله کان آمنا، فامنی من عذابک و أجرنی من سخطک، اللهم من تهیأ و تعبأ و أعدّ و استعد لوفادة الی مخلوق رجاء رفده و جائزته و نوافله و فواضله فالیک یا سیدی تهیئتی و إعدادی و استعدادی رجاء رفدک و نوافلک و جائزتک فلا تخیّب الیوم رجائی، یا من لا یخیب علیه سائل و لا ینقصه نائل».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 361

مزارات مکة المکرمة

1- زیارة مولد النبی صلی اللّه علیه و آله و سلم، و هو فی سوق اللیل بزقاق المولد.
2- منزل خدیجة زوجة النبی (ص) فی جانب مولد النبی و هو الآن مسجد معروف.
3- زیارة عبد مناف فی مقبرة قریش، و هی بقعة معروفة بمکة 4- زیارة عبد المطلب جد النبی.
5- زیارة ابی طالب عم النبی، و بقعته فی وادی قریش معروفة.
6- زیارة آمنة بنت وهب والدة الرسول (ص) و قبرها فی (المعلی) أو فی (الابواء) علی خمس مراحل من مکة.
7- زیارة خدیجة زوجة رسول اللّه (ص) ب (الحجون) و قبرها هناک معروف فی سفح الجبل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 362

بعض الفروق فی الحج عند المذاهب الإسلامیة

قالت الشیعة الامامیة: الطهارة شرط فی الطواف الواجب فلا یصح طواف المحدث، و به قال مالک و الشافعی لما ورد من قول الرسول (ص):
الطواف بالبیت صلاة الا انکم تتکلمون فیه.
و قال ابو حنیفة لیست الطهارة شرطا، و اختلف اصحابه فقال بعضهم بالاول و بعضهم بالثانی. و عن احمد بن حنبل روایتان احداهما علی رأی الشیعة و الثانی ان الطهارة لیست شرطا فمتی طاف للزیارة غیر متطهر اعاد ما دام مقیما بمکة، فان خرج الی بلده جبره بدم.
قالت الشیعة الامامیة یجب ان تکون نیة العمرة مستقلة ثم ینوی للحج نیة ثانیة و اوجبوا لکل نسک احراما مستقلا فلا یجیزون الجمع بین الحج و العمرة فی احرام واحد و لا بنیة واحدة. و قد اجاز فقهاء السنة ان یجمع الناسک فی احرام واحد و بنیة واحدة بین الحج و العمرة.
قالت الشیعة الامامیة: لو استأجر الرجل الصحیح من یحج عنه الحجة الواجبة لا یجزیه ذلک، اما اذا استأجر من یحج عنه النافلة اجزأه، و به قال ابو حنیفة. و قال الشافعی لا یجوز ان یستأجر لا نفلا و لا فرضا.
قالت الشیعة الامامیة: الاعمی یتوجه الیه فرض الحج اذا کان له من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 363
یقوده و یهدیه، و وجد الزاد و الراحلة لنفسه و لمن معه. و قال ابو حنیفة لا یجب علیه الحج و ان وجد جمیع ما قلناه.
قالت الشیعة الامامیة: من استقر علیه وجوب الحج و لم یفعل و مات وجب ان یحج عنه من صلب ماله مثل الدین و لم یسقط بوفاته، هذا اذا خلف مالا، فان لم یخلف مالا کان ولیة بالخیار فی القضاء عنه. و به قال الشافعی و عطا و طاووس،
و قال ابو حنیفة و مالک: یسقط بوفاته بمعنی انه لا یفعل عنه بعد وفاته و حسابه علی اللّه حین یلقاه و الحج فی ذمته، و ان کان اوصی حجّ عنه من ثلثه و یکون تطوعا لا یسقط الفرض به عنه، و هکذا یقول فی الزکوات و الکفارات و جزاء الصید کلها تسقط بوفاته و لا تفعل عنه بوجه.
قالت الشیعة الامامیة: من قدر علی الحج عن نفسه فلا یجوز ان یحج عن غیره اما اذا کان عاجزا عن الحج عن نفسه لفقد الاستطاعة جاز له ان یحج عن غیره.
و قال مالک ابو حنیفة: یجوز له ان یحج عن غیره علی کل حال، قدر علیه او لم یقدر.
قالت الشیعة الامامیة: لا یجوز الاحرام قبل المیقات فان احرم لم ینعقد احرامه، الا ان یکون نذر ذلک و قالوا: لا خلاف ان النبی (ص) احرم من المیقات.
و قال ابو حنیفة: الافضل ان یحرم قبل المیقات. و للشافعی فیه قولان احدهما مثل قول ابی حنیفة و الثانی الافضل من المیقات الا انه ینعقد قبله علی کل حال.
قالت الشیعة الامامیة: اذا حمل المحرم علی رأسه مکتلا أو غیره لزمه الفداء و به قال الشافعی. و قال ابو حنیفة لا یلزمه.
قالت الشیعة الامامیة: اذا وطی‌ء المحرم ناسیا، أو تطیب ناسیا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 364
لم تلزمه الکفارة و به قال الشافعی و عطا بن ابی رباح و الثوری و احمد و اسحاق.
و قال ابو حنیفة: و مالک: علیه الفدیة.
قالت الشیعة الامامیة: ما عدا المسک و العنبر و الکافور و الزعفران و الورس و العود لا یتعلق به الکفارة اذا استعمله المحرم.
و خالف جمیع الفقهاء فی ذلک فاوجبوا الکفارة فیما عداها.
قالت الشیعة الامامیة: الطواف یجب ان یکون حول البیت و الحجر معا، فان تباعد من البیت حتی یطوف بالسقایة و زمزم لم یجزه. و قال الشافعی یجزیه.
قالت الشیعة الامامیة: اذا طاف منکوسا- و هو ان یجعل البیت علی یمینه فلا یجزیه، و علیه الاعادة، و به قال الشافعی، و قال ابو حنیفة:
ان أقام بمکة أعاد، و ان عاد الی بلده جبره بدم.
قالت الشیعة الامامیة: التحلل فی الحج ثلاثة، اولها اذا رمی و حلق و ذبح، فانه یتحلل من کل شی‌ء الا النساء و الطیب، فاذا طاف طواف الزیارة و سعی حل له کل شی‌ء الا النساء، فاما الاصطیاد فلا یحل له لکونه فی الحرم، و یجوز له ان یأکل منه، فاذا طاف طواف النساء حلت له النساء.
و قال الفقهاء کلهم انه یتحلل بتحلیلتین معا: بالرمی و طواف الزیارة، و التحلل الاول یحصل بشیئین: رمی و حلق، او رمی و طواف، او حلق و طواف، و یستبیح عند ذلک اللباس و ترجیل الشعر و الحلق و تقلیم الأظفار. قال الشافعی و لا یحل له الوطء الا بعد التحلل الثانی قولا واحدا و الطیب علی قولین، قال فی القدیم لا یحل بالتحلل الاول، و الآخر یحل قولا واحدا، فاما عقد النکاح و الوطء فیما دون الفرج و الاصطیاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 365
و قتل الصید فعلی قولین، قال فی القدیم لا یحل، و الثانی یحل له کل هذا، و به قال ابو حنیفة و لم یعتبر احد طواف النساء بحال.
قالت الشیعة الامامیة: اذا وطی‌ء المحرم ناسیا لا یفسد حجه.
و قال ابو حنیفة یفسد حجه مثل العمد، و هو احد قولی الشافعی، و قوله الثانی لا یفسد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 367

فهرست الکتاب

مکة قدیما
مکة المکرمة و اسماؤها 9
بکة 10
ام القری 10
البلد، البلد الأمین، و الحرام 11
اسماء مکة الأخری 12
أول ظهور مکة فی التاریخ 14
ابراهیم 16
اسماعیل 22
قصة الذبح 25
بناء البیت 27
دین ابراهیم 30
البیت و الکعبة و المسجد الحرام 32
تمصیر مکة 34
إمارة جرهم 35
حلف الفضول 36
اتساع رقعة مکة 37
إمارة خزاعة 38
مکة أیام قریش 40
دار الندوة 41
طراز الحکم وصفته 41
اصحاب الفیل 44
اسواق مکة 47
دیانة مکة و عبادتها 53
الاستقسام و الازلام 55
نذر عبد المطلب 57
اشهر امراء مکة 58
کسوة الکعبة و تزیینها 58
تجدید بناء الکعبة 59
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 368
قبائل مکة قبل الإسلام
القبائل التی سکنت مکة قبل الاسلام (العمالقة) 63
جرهم 65
خزاعة 67
قریش 70
أقسام قریش 75
بنو عبد مناف 77
بنو هاشم 78
اصحاب الایلاف 81
عبد المطلب و بنوه 82
بطون قریش 83
بنو جمح 84
بنو تیم 84
بنو خزیمة 85
بنو زهرة 87
بنو سهم 90
بنو عدی 91
بنو عبد شمس 92
بنو عبد المطلب 93
بنو عامر 96
بنو مخزوم 97
بنو الحارث 101
مکة فی أشهر الرحلات العربیة
مکة فی رحلة ابن جبیر 105
شهر جمادی الأولی 108
ذکر المسجد الحرام و البیت العتیق 109
ذکر مکة شرفها اللّه و آثارها 109
الکریمة و أخبارها الشریفة 112
ذکر بعض مشاهدها المعظمة و آثارها المقدسة 115
ذکر ما خص اللّه تعالی به مکة من الخیرات و البرکات 118
شهر جمادی الآخرة 123
جمال الدین و آثاره السنیة 124
الأمور المحظورة فی الحرم 126
شهر رجب الفرد 127
العمرة الرجبیة 128
عمرة الأکمة 130
یوم طواف النساء 131
زیادة ماء زمزم 131
شهر رمضان 132
تراویح رمضان 133
ابن بطوطة و مکة 137
مکة فی رحلة ناصر خسرو الموسومة ب (سفر نامی) 141
رحلات عبد الوهاب عزام 144
مکة فی رحلة السائح الهروی 147
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 369
منازل مکة
منازل مکة 151
الطریق إلی المدینة 158
طریق الجادة من المدینة إلی مکة 159
طریق الجادة من معدن النقرة إلی مکة 159
الطریق من مدینة السلام الی الکوفة 160
الطریق من البصرة إلی مکة 161
الطریق من مصر إلی مکة 161
الطریق من دمشق إلی مکة 161
الطریق من الیمن إلی مکة 162
مکة فی الشعر
أبو العلاء المعرّی 165
احمد بن ابراهیم 166
احمد شوقی 166
أمیة بن أبی الصلت 167
جرهمی شاعر 168
الحارث بن خالد 168
ابن حجر العسقلانی 169
حسان بن ثابت 169
الحصری القیروانی 169
السید رشید الهاشمی 170
ابن الزبعری السهمی 170
الشیخ صالح التمیمی 170
عبد الباقی العمری 171
عبد الحسین الحویزی 172
الشیخ عبد المحسن الکاظمی 173
الشیخ محمد علی کمونة 173
عبد المطلب بن هاشم 175
قصی بن ربیعة 175
کعب بن زهیر 175
السید محمد سعید الحبوبی 176
مضاض بن عمرو الجرهمی 176
ابن أم مکتوم 176
مکة فی المراجع الغربیة
مکة فی المراجع الغربیة 179
مکة قبل الهجرة 181
سکان مکة 183
الحکومة و الادارة 184
موقع مکة و مناخها 185
مالیة مکة و حیاتها الاقتصادیة 187 افل مکة 190
ثروات مکة 192
بعد الهجرة 194
مکة فی العهد الأموی 195
مکة فی عهد بنی العباس و ما بعده الی حد تولی الشرفاء (750- 961) 197
الموسویون الشرفاء 200
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 370
الشرفاء الهواشم 201
حکم قتادة و نسله 203
الشرفاء فی أیام الاحتلال الوهابی 207
مکة فی یومها هذا 212
مکة فی مراجع اجنبیة أخری 213
لقب الشرفاء 219
مکة و الصلیبیون 220
الشریف قتادة و موکب الحج العراقی 223
الحج 226
زمزم 233
الکعبة 234
تاریخ الکعبة 238
عرفات 243
منی 244
المزدلفة 246
الصفا و المروة 248
الغربیون فی مکة 250
لود فیکو فاریتما الایطالی 251
مملوک برتغالی مجهول الاسم 254
جوزیف بیتس الانکلیزی 254
القس جوزف أو فینکتون 258
ویلیام دانیال و شارل جاک بوسیه 258
الرحالة علی بک العباسی 259
جیوفانی فیناتی 261
جون لویس بورخارت 263
وصف بورخارت لمکة 265
قناة زبیدة 267
حواری مکة أو محلاتها 268
بیت اللّه الحرام 274
أماکن مقدسة أخری 276
الکعبة 279
ملاحظات حول سکان مکة 280
حکومة مکة و الشرفاء 284
الحج 287
السر ریتشارد بورتون 294
فی داخل الکعبة 297
الکسوة 298
نقاط أخری 301
المستشرق الهولندی هور غرونیه 304
الحیاة العائلیة 311
الحیاة العلمیة 312
فی أواخر القرن التاسع عشر 314
الحسین بن علی 316
الثورة العربیة 318
لورانس بلاد العرب 320
استیلاء الوهابیین علی مکة 325
اسلام عبد اللّه فیلبی 329
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌2، ص: 371
مراسیم الحج و فرائضه
فریضة الحج 339
شروط وجوب الحج 339
واجبات الاحرام 340
محرمات الاحرام 340
المیقات او المواقیت 344
انواع الحج 345
کیفیة حج الافراد و حج القران 346
الطواف و واجباته 348
شرائط حج التمتع 348
رکعته الطواف 350
حج التمتع 351
عرفة 351
سبب التسمیة 352
المزدلفة او المشعر الحرام 352
منی و اعمالها 352
منی 353
الافاضة الی المشعر و الوقوف به 354
ما یجب فی منی من افعال الحج 354
الهدی فی الحج 356
السعی بین الصفا و المروة 357
التقصیر 358
العودة من منی 359
بعض الفروق فی الحج عن المذاهب الإسلامیة 362

الجزء الثالث

اشارة

المدینة المنورة قدیما
إلمامة تاریخیة شاملة عن المدینة المنورة منذ اول تمصیرها حتی قیام الاسلام کتبها جعفر الخلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 7

المدینة المنورة قدیما

یثرب و موقعها الجغرافی

یثرب ثانیة مدن الحجاز القدیمة و أهم مدینة حجازیة تاریخیة بعد مکة المکرمة من حیث السعة و التجارة، و أهم مدینة حجازیة من حیث الحاصلات الزراعیة و وفرة المیاه و لعل البعض قد فضلها علی مکة المکرمة من حیث القدسیة و من هؤلاء کان الخلیفة عمر بن الخطاب (ض).
و الحجاز أحد أقالیم الجزیرة العربیة الواقع فی غرب جزیرة العرب، و هو إقلیم مستطیل تحده قدیما من الشمال بادیة الشام أو الأردن الحالیة، و من الغرب البحر الأحمر، و من الشرق نجد، و من الجنوب بلاد العسیر، و یبلغ طول الحجاز من الشمال إلی الجنوب نحو 1600 کیلو متر، و عرضه من الغرب إلی الشرق نحو 300 کیلو متر، و قدر بالأمیال بنحو 700 میل طولا و 250 میلا عرضا.
و تقطع الحجاز من الشمال إلی الجنوب جبال (السراة) و یبلغ ارتفاع بعضها نحو 8000 قدم، و یتصل بمنحدرات هذه الجبال سهل مشهور هو السهل المعروف باسم (تهامة) و قیل إن الحجاز هو الجبال الحاجزة بین الأرض العالیة من نجد و بین الساحل الواطی‌ء (تهامة). و الحجاز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 8
علی هذا هو الجبال الممتدة من خلیج العقبة إلی عسیر، و قیل: بل سمی حجازا لأنه یحجز بین الشام و الیمن و التهائم .
و اعتبر البعض اسم الحجاز شاملا لتهامة، و تبوک، و حتی فلسطین، و أن یثرب المدینة واقعة فی القسم الشمالی من الحجاز و علی بعد 300 میل شمالی مکة المکرمة و فی طریق الشام للمصعد من الیمن و مکة، و علی مسافة 130 میلا عن ینبع میناء المدینة علی البحر الأحمر، و یثرب هذه واحة خصبة التربة غزیرة المیاه محصورة بین حرّتین أو ما تسمّی باللّابتین، و فی أرض سبخة- و الحرّة هی الحجارة البرکانیة السوداء المنخوبة، و السبخة هی التربة المشوبة بالملح- و هاتان الحرّتان اللتان تقع یثرب بینهما هما حرّة (واقم) فی الشرق، و حرّة (الوبرة) فی الغرب، و تکتنف الودیان الحرّتین من الشرق و من الغرب، و تحیط بالمدینة من جهاتها الأربع.
و یجمل أحمد ابراهیم الشریف موقع المدینة و یستخلصه من المصادر و من مشاهداته فیقول: و یقع جبل (عیر) فی الجنوب الغربی من یترب، و القادم من مکة إلی یثرب- فی زمن الهجرة النبویة- کان یمکنه إذا قام بأعلی جبل (عیر) أن یحدّد صورة مکتملة لمنطقة یثرب، فوادی العقیق إلی یساره ممتدا غربی المدینة فیما وراء حرّة (الوبرة) إلی ما بعد بئر (رومة) فی شمالها الغربی، و العریض و عوالی المدینة إلی یمینه من شرق حرّة (واقم)، و هناک من أقصی الشمال یقوم جبل (أحد) ثم جبل (سلع).
و تقع قریة (قباء) فی جنوب المدینة علی میلین، و بین قباء و المدینة یسیر وادی (بطحان) و وادی (رانوناء) حیث یتجهان شمالا فیما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 9
بین حرّة (الوبرة) و المدینة فیتصلان بوادی (قناة)، و هو واد یقع فی جنوب (أحد) و ینحدر غربا بینه و بین جبل (سلع) حتی یتصل بوادی (بطحان)، و تلتقی هذه الودیان عند مجتمع الأسیال من (رومة)، کما یوجد وادی (مزینیب)، و وادی (مهزور) فی الجنوب الشرقی من المدینة و التی سیأتی ذکرها فیما بعد من هذا البحث.
و تقع مدینة (یثرب) بین خط العرض 24- 25 شمالا، و علی خط الطول 39،- 40، شرقی کرینتش، و لجبالها و مرتفعاتها شهرة اکتسبت معظمها بعد هجرة الرسول إلی المدینة و بسبب ما حدث عندها من حوادث مهمة فی تاریخ الإسلام مما أضفت علیها الأحادیث الشی‌ء الکثیر من الثناء و الذکر الطیب، و من أهم هذه الجبال: جبل (أحد)، و هو واقع شمال المدینة بینه و بینها قرابة میل واحد، و هو جبل أحمر، و عنده کانت الوقعة الفظیعة التی اشتهر بها (أحد) و التی قتل فیها سبعون من خیرة أصحاب النبی (ص) و منهم کان حمزة بن عبد المطلب عمّ النبی (ص) فأقبلت (هند) زوج أبی سفیان و أم معاویة، و لم یکفها أنه مات- کما یقول هیکل- بل مثّلت به ما لم یمثّل بأحد فی غزاة، إذ جدعت أنفه، و قطعت أذنیه، و شقّت بطنه، و أخرجت کبده تمضغها و تلوکها تشفیا و سخیمة فلقبت بآکلة الأکباد، و أقبلت یومذاک (صفیّة) بنت عبد المطلب و هی أخت حمزة لأبیه و لامه، فقال رسول اللّه (ص) لابنها الزبیر بن العوّام: إلقها فأرجعها لا تری ما بأخیها، فقال لها الزبیر: یا أمّه، رسول اللّه یأمرک أن ترجعی، قالت: و لم؟ و قد بلغنی أنه مثّل بأخی و ذلک فی اللّه، فما أرضانا بما کان من ذلک، لأحتسبنّ و لأصبرنّ إن شاء اللّه، فجاء الزبیر فأخبره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 10
بذلک، فقال الرسول (ص): خلّ سبیلها، فأتته، فنظرت إلیه، و صلّت علیه و استرجعت، و استغفرت له فأمر به النبی (ص) فسجّی ببردة ثم صلی علیه، فکبّر علیه سبعین و دفنه، و لما رجع إلی المدینة سمع البکاء و النواح علی القتلی فذرفت عیناه و بکی، ثم قال: لکن حمزة لا بواکی له، فجاءت نساء بنی عبد الأشهل لما سمعوا ذلک- و هم من بطون الاوس- فبکین علی عمّ رسول اللّه (ص) و نحن علی باب المسجد، فلما سمعهن خرج إلیهن فقال: إرجعن یرحمکن اللّه قد أیستن بأنفسکن .
و هذا ما جعل لأحد بالإضافة إلی الوقعة الکبیرة شهرة واسعة زادها ذکرا موقع هذا الجبل و صفاؤه فیما حوله حتی لقد ورد ذکره فی الشعر کثیرا و مما ورد: هو أن محمد بن عبد الملک الفقعسی حین کان ببغداد حنّ إلی وطنه و ذکر (أحدا) و سلعا دون الجهات الأخری فقال فیما قال:
ألا لیت شعری هل أبیتنّ لیلةبسلع، و لم تغلق علیّ دروب
و هل (أحد) بادلنا و کأنه‌حصان أمام المقربات جنیب
یخبّ السراب الضحل بینی و بینه‌فیبدو لعینی تارة و یغیب
فإنّ شفائی نظرة إن نظرتهاإلی (أحد) و الحرّتان قریب
و من أشهر جبال المدینة جبل (ورقان) و هو جبل أسود واقع علی یمین المتجه من المدینة إلی مکة. جاء فی معجم البلدان عن عرّام بن الأصبغ فی أسماء جبال تهامة قوله: و لمن صدر من المدینة مصعدا أول جبل یلقاه من عن یساره ورقان و هو جبل عظیم اسود کأعظم ما یکون من الجبال،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 11
و فی ورقان أنواع الشجر المثمر و غیر المثمر، و قد ورد فیه شعر کثیر و من ذلک قول أبی سلمة یمدح الزبیر:
إنّ السماح من الزبیر محالف‌ما کان من ورقان رکن یافع
فتحالفا لا یغدران بذمةهذا یجود به و هذا شافع
و جبل (رضوی) و یقع علی نحو سبع مراحل من المدینة، و هو عند میناء المدینة (ینبع) و من (رضوی) هذا یقطع حجر المسنّ و یحمل إلی الخارج، و هو جبل منیف ذو شعاب و أودیة قال یاقوت الحموی:
و رأیته من (ینبع) أخضر، و أخبرنی من طاف فی شعابه أن به میاها کثیرة و أشجارا و هو الجبل الذی یزعم (الکیسانیة) أن محمد بن الحنفیة به مقیم حی یرزق، علی ما قال یاقوت.
و فی هذه الجبال الثلاثة وردت أحادیث مبارکة عن النبی (ص) فمن قوله فی جبل أحد: أحد نحبّه و یحبّنا ، و فی (ورقان) قوله:
خیر الجبال أحد و الأشعر و ورقان، و الأشعر جبل جهینة ینحدر علی ینبع من أعلاه، و فی (رضوی) قوله: رضوی رضی اللّه عنه .
و هنالک جبال أخری و منها (سلع) و هو واقع فی سوق المدینة و علی مسافة ساعتین، و فی سلع وردت أشعار کثیرة و بعض هذه الأشعار قد دخل الغناء و منه شعر لقیس بن ذریح و قد غنّته ذات مرة حبّابة جاریة یزید بن عبد الملک و کانت من أحسن الناس وجها و مسموعا علی ما أورد یاقوت عن الأصمعی، و کان یزید شدید الکلف بها و کان منشؤها المدینة المنورة، فغنت:
لعمرک إننی لأحبّ سلعالرؤیته و من اکناف سلع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 12 تقرّ بقربه عینی، و إنی‌لأخشی أن یکون یرید فجعی
حلفت بربّ مکة و المصلّی‌و أیدی السابحات غداة جمع
لأنت علی التنائی فاعلمیه‌أحبّ إلیّ من بصری و سمعی
و تنفست حبّابة الصعداء علی روایة الأصمعی، فقال لها یزید: لم تتنفسین؟ و اللّه لو أردته- یقصد جبل سلع- لقلعته الیک حجرا حجرا، فقالت: و ما أصنع به؟ إنما أردت ساکنیه.
و من جبالها (عیر) قال عرّام علی ما جاء فی معجم البلدان أن (عیر) جبلان أحمران من عن یمینک و أنت ببطن العقیق ترید مکة، و من عن یسارک شوران و هو جبل مطل علی السدّ، و قال نصر: عیر جبل مقابل الثنیة المعروفة بشعب الخوز، و ذکر عیر کذلک فی الشعر و منه قول أبی صخر الهذلی:
فجلّل ذا عیر و والی رهامه‌و عن مخمص الحجاج لیس بناکب
و قال السکری أن عیر جبل، و مخمص: اسم طریق فیه و یروی ذا عیر و هو جبل عظیم شامخ یقع فی جنوب المدینة و علی مسافة ساعتین منها.
أما مناخ المنطقة فیختلف باختلاف الموقع من حیث الارتفاع و وفرة المیاه و کثرة البساتین؛ و مع ذلک فهو علی العموم شدید الحرارة و لا سیما مناخ المدینة نفسها.

یثرب و أسماؤها

و یثرب هو الاسم التاریخی الذی کان یطلق علی هذه المدینة قدیما و التی عرفت بعد ذلک (بمدینة الرسول)، و قد اختلف المؤرخون و اللغویون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 13
فی أصل هذا الاسم و اعتبره البعض من مشتقات التثریب و هو الإفساد و التخلیط لغة، و لکن هذا البعض لم یذکر شیئا عن وجه هذه التسمیة و أسبابها إذا صح أن تکون من التثریب العربیة، و قد قیل إن اسم یثرب هو اسم الأرض من ذلک الصقع . و قیل بل هو اسم المدینة نفسها؛ و قد زعم آخرون أن یثرب قد سمیت باسم أول من سکنها من ولد سام بن نوح!! و زعم غیرهم أنها سمیت باسم رجل من العمالقة!!
و هناک من یزعم أن کلمة یثرب محرّفة من الکلمة المصریة (إثریبس) و یقول یاقوت: إنها سمیت بیثرب لأن أول من سکنها عند التفرق کان یثرب بن قانیة بن مهلائیل ابن ارم بن عبیل بن عوض بن ارم بن سام ابن نوح! ، و کل هذه أقوال لیس لها ما یسندها من واقع التاریخ شی‌ء، و عندنا أن لیس من الشرط أن یعرف سبب تسمیة المدن بأسمائها لیحتاج الأمر إلی مثل هذه الأقوال. و التضارب فیها، و کل ما هو ثابت: أن یثرب مدینة قدیمة، و موغلة فی القدم، و لا یعرف بالضبط سبب تسمیتها کما لم تعرف أسباب تسمیة مئات المدن التاریخیة و حتی مدن القرون الوسطی بل و بعض مدن القرون الأخیرة.
و ما من مدینة من المدن الإسلامیة کان لها من الأسماء و کثرتها کمدینة یثرب، و إذا صح أن کل هذه الأسماء الواردة فی کتب التاریخ هی أسماء لمدینة (یثرب) فالراجح أن کل اسم من هذه الأسماء قد أطلق علیها بناء علی صفة اتصفت بها أو اریدان تتصف بها و أن معظمها قد أطلق علیها بعد هجرة الرسول (ص).
و أورد ابن النجار فی سلسلة من الأقوال أن: «للمدینة فی التوراة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 14
احد عشر اسما » و قد عدّد هذه الأسماء و ذکرها و لم یکن بینها اسم لیثرب!! و روی ابن النجار بعد ذلک عن عبد العزیز بن محمد قوله:
«و بلغنی أن لها فی التوراة- أی یثرب- أربعین اسما » و قد أوصلها صاحب کتاب وفاء الوفا إلی نیف و تسعین اسما!!
أما یاقوت الحموی فقد أحصی أسماء المدینة فوجدها تسعة و عشرین اسما و هی المدینة، و طیبة، و طابة، و المسکینة، و العذراء، و الجابرة، و المحبة، و المحبّبة، و المحبورة، و یثرب، و الناجیة، و الموفیة، و أکّالة البلدان، و المبارکة، و المحفوفة، و المسلمة، و المجنّة، و القدسیّة، و العاصمة ، و المرزوقة، و الشافیة، و الخیّرة، و المحبوبة، و المرحومة، و جابرة، و المختارة، و المحرمة، و القاصمة و طبابا .
قال ابن الأثیر فی الحدیث: إن النبی (ص) هو الذی سمی یثرب، طیبة و طابة لأن المدینة کان اسمها یثرب، و الثرب هو الفساد، فنهی أن تسمی به، و سماها طابة، و طیبة .
و یقول القزوینی: إن من خصائص (المدینة) أنّ من دخلها یشم رائحة الطیب، و للعطر فیها رائحة لم توجد فی غیرها و علی هذا فالراجح أن یکون النبی (ص) قد أطلق علیها اسم (طیبة) لهذا السبب، و مع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 15
ذلک فهناک من المؤرخین من یری أن اسم (طیبة) کان من أسماء یثرب فی الجاهلیة و قبل ظهور الإسلام.
و علی کثرة أسماء المدینة المنورة فقد اختصت بالشهرة باسم (یثرب) و باسم (المدینة) و اسم (طیبة) دون الأسماء الأخری، و کان اسم یثرب هو أقدم اسم عرفت به هذه المدینة أو هذه الأرض ثم تغلب اسم (المدینة) بعد ذلک علی یثرب و طیبة فسمیت بعد هجرة النبی الیها (بمدینة الرسول) تمییزا لها عن المدن الأخری، ثم اکتفی بعد ذلک باسم المدینة منفردا و ألحقت بها الصفة فصارت تسمی بالمدینة المنورة.
و النسبة إلی (یثرب): یثربی و أثربی، و النسبة إلی المدینة المنورة:
مدنیّ، و لغیر (المدینة) تختلف النسبة؛ فإذا نسبت إلی مدینة المنصور قیل: مدینیّ، و إلی مدائن کسری قیل: مدائنی، و ذلک للتفریق بین النسب لئلا تختلط .
و ذکر بطلیموس (المدینة) فی جغرافیته باسم‌LathriPPa و هی أیضاLathrPPa .Polis التی ذکرها اصطیفانوس البیزنطی و عرفت کذلک باسم (المدینة) من کلمة (مدینتا) التی تعنی (الحمی) أی (مدینة) علی رأی المستشرقین الذین یرون أن الیهود المتأثرین بالثقافة الارامیة أو بعض المتهودین من بنی إرم الذین نزلوا (یثرب) هم الذین دعوها (مدینتا) و منها جاءت (المدینة).
أما کلمة (مدینة) علی أنها اختصار (لمدینة الرسول) فیرون أنه رأی متأخر قال به العلماء .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 16

سکان الحجاز و الجزیرة العربیة

لکی نعرف الشی‌ء الکافی عن نشأة المدینة المنورة و سکانها فی العصر الجاهلی، أو لکی نعرف بعض ما یمکن معرفته منها فإن علینا ان نلقی نظرة عابرة علی الجزیرة العربیة و أصل العرب و مبعثهم لیسهل علینا بعد ذلک ان نعرف جنسیة سکان الحجاز بصورة عامة و جنسیة سکان المدینة بصورة خاصة و أسلوب حیاتهم.
و من المؤسف ان تکون الوسائل التی یتم بها الوقوف علی تاریخ العرب القدیم بصورة علمیة عمیقة لیست کافیة لتعطینا فکرة کاملة عن حیاة العرب القدیمة، و کل ما ورد فی الأخبار و القصص و الأشعار و الأساطیر لا یتعدی مدی قرن أو قرنین علی الأکثر قبل بعثة الرسول (ص) ثم ان کل ما جاء فی الکتب العربیة من تاریخ العرب- علی ما أشار الیه فرید وجدی فی دائرة المعارف- إنما کان یراد به الجانب الأدبی و تاریخه فی الغالب، فأین هو من الحقائق المؤیدة بالآثار و النقوش التی لا مجال للشک فیها.
و قد کتب فی تاریخ العرب فطاحل من المؤرخین الاروبیین مثل (دروی) و (سدیو) و (کوستاف لوبون) و (کوسان دوبرسفال) و هذا الأخیر أشهرهم جمیعا، و یعتبر کتابه أجمع الکتب لتاریخ العرب و لکنه دون کتاب تاریخ العرب للدکتور جواد علی من حیث الجمع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 17
و التحقیق و الاستقصاء- و علی أن ما کتبه المستشرقون عن تاریخ العرب کان مستمدا من الکتب العربیة فقد کان لهم فیه فضل التبویب و الترتیب، و صحة الاستنتاج، و الاستقصاء، و مع ذلک فإن هذا غیر کاف لتحقیق تاریخ علمی صحیح للعرب، إذ المعول کله علی ما یبذله المنقبون فی الآثار و النقوش العربیة و الخطوط التی یعثرون علیها فی الیمن و تدمر و الحجاز، فإن هنالک آثارا علیها نقوش حمیریة بالقلم المسند، و نقوش آرامیة بالقلم النبطی قد بدأت تکشف عن التاریخ القدیم و تسفر عن الحقائق التی لم یکن یعرفها أحد من قبل عن العرب و تاریخهم البعید و تلقی ضوءا علی فهم هذا التاریخ.
و أول من تصدی لهذه المباحث کان العالم الألمانی (میخایلس) المتوفی سنة 1891 ثم عثر الضابط الإنکلیزی (و لسند) سنة 1838 علی نقوش حمیریة بالیمن اهتم بها العلماء غایة الاهتمام و لکنهم لم یستطیعوا حل رموزها إلا بعد سنین.
و وجد الضابط الإنکلیزی (گروتندن) فی صنعاء نقوشا ظن أنها من خرائب مدینة (مأرب)، و أول من تصدی من الفرنسیین للبحث عن هذه النقوش و الآثار کان المسیو (أرنو) فإنه اخترق الیمن سنة 1843 و عاد و معه 56 نقشا نقلها من صنعاء، ثم جاء المستشرق (أرسیاندر) فحل رموز الآثار التی وجدها (أرنو) و ذلک سنة 1845.
و بعد هذا أرسلت وزارة المعارف الفرنسیة المستشرق (جوزیف هالیفی) سنة 1869 إلی الیمن فسار حتی بلغ مأرب، و رجع و معه 680 نقشا، و جاء بعده (أدورد گلازر) الألمانی، و ساح فی الیمن مرارا و نقل منها الف نقش. بینها نقوش غایة فی القیمة التاریخیة.
و عثر الباحثون أیضا فی شمالی بلاد العرب علی آثار الأنباط فوجدوا منها آثارا کثیرة فی مدینة (بطرا) و مدینة (الحجر) و اکتشفوا فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 18
(حوران) و (العلا) نقوشا بالخط المسند الحمیری .
و قد لقی القرن العشرون من عنایة علماء الآثار و البحاثین الشی‌ء الکثیر الذی کشف عن نواحی کانت غامضة من تاریخ العرب القدیم، و مع ذلک فإن جمیع ما اکتشف و ما حققه الباحثون لا یؤلف إلا جزءا صغیرا من التاریخ العربی فی الأدوار القدیمة التی تخص العرب البائدة، و ظل التاریخ العربی القدیم یعتمد فی حکایته علی الأساطیر و ما یترشح منها من القصص و مما ورد فی التوراة أو الأخبار و الشعر و الأمثال.
و العرب علی ما وصل إلینا من أخبارهم و علی ما قسمهم المؤرخون قسمان: العرب البائدة. و هم الذین بادوا و انقرضوا قبل الإسلام بزمن بعید و لم یبق منهم إلا تلک الأساطیر المشار إلیها و الحکایات التی لا تزال تفتقر إلی ما یسندها من الآثار و النقوش، و الخطوط، و هم قبائل: عاد، و ثمود، و العمالقة، و طسم، و جدیس، و جرهم و غیرهم، و قد ترشح إلینا من أخبارهم الشی‌ء الذی لم یزل موضع مناقشة عند المؤرخین منها أخبار التبابعة و الأذواء الذین شیدوا البنیان فی الشرق و الغرب و مصّروا الأمصار، و الذین بنوا المدن الکبیرة (کافریقش) بن أبرهة، و ما بنوا فی المغرب من المدن کمدینة (أفریقیا) و (صقلیا) و ما کوّروا من الکور هناک و ما اتخذوا من العمائر فی أرض المشرق و بنیان مدینة (سمرقند) و ما خلفوا هناک من قبائل حمیریة بها و منهم الحمورابیون ملوک بابل، و کل هذا و أمثاله مما ورد عن العرب البائدة لم یزل قید الدرس عند المؤرخین الذین یبحثون الیوم بجد بین الآثار لمعرفة ما فی تلک القصص و الأخبار من الواقع الذی تسنده الآثار و تثبته الخطوط و النقوش.
و الثابت من الآثار و التنقیبات التی أجریت فی الیمن فی السنین الأخیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 19
هو أن دولا عربیة کانت ذات حضارة و نظام قد قامت فی التاریخ القدیم فکان منها الدولة المعینیة، و الدولة السبأیة، و الدولة الحمیریة، و قد دلت هذه الآثار علی مدنیة قدیمة ربما لم تقل شأنا عن مدنیة الأشوریین، و المصریین، و الفینیقیین، فقد أنشأت تلک الدول فی الیمن المدن، و عمرت القصور، و غرست الحدائق، و نحتت التماثیل، و حفرت المناجم، و نظمت الجند، و فتحت البلاد، و وسعت التجارة، و أتقنت الزراعة، و قد ذکرهم هیردوتس الرحالة الیونانی فی القرن الخامس قبل المیلاد.
فقال:
«إن فی جنوبی بلاد العرب وحدها البخور و القرفة، و الدار صینی، و اللاذن و المر» و عدّها من أغنی ممالک العالم فی زمانه .
و قد سکن قسم من العرب البائدة الحجاز، و استوطنوا (یثرب) و امتد نفوذهم إلی العراق و الشام و مصر.
و القسم الثانی من العرب: هم العرب الباقیة، و هم علی قسمین:
عدنانیین و قحطانیین؛ أما العدنانیون فهم من ولد اسماعیل و قد کان مسکنهم الرئیسی فی الحجاز مکة المکرمة، و القحطانیون و هم أولاد قحطان، و مسکنهم الرئیسی من الحجاز (المدینة) و یقول المسعودی:
و ان من بقی من العرب البائدة قد دخلوا فی العرب الباقیة و هم قحطان، و معد، و لا یعلم أن قبیلا بقی یشار إلیه فی الأرض من العرب الأول غیر معد (العدنانیین) و قحطان .
و علی أن معظم تاریخ العرب البائدة بل و حتی الجاهلیة الذی سبق ظهور الإسلام بقرن أو أکثر قلیلا ما زال مجهولا فإن المحقق هو أن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 20
العرب انبعثوا من الیمن فی دفعات أهمها الدفعة التی أعقبت سیل العرم، و انتشروا فی جزیرة العرب، و منها اندفعوا إلی خارج حدود الجزیرة، و أن الحجاز و یثرب منه کان ملجأ تلجأ الیه قبائل الیمن العربیة عند نزول الشدائد، و حین تضیق بهم الأحوال الاقتصادیة.، أو عند حدوث الغزو الکاسح، و إذا لم نستطع أن نستخلص أصول التاریخ القدیم لجزیرة العرب. و سکانها القدماء فإننا نستطیع أن نؤکد أن الجزیرة العربیة لم تعرف منذ أول تاریخها سکانا غیر العرب و أن الحجاز بالذات، و المدینة منه کانت مسکنا منذ التاریخ القدیم حتی الیوم من مساکن العرب البائدة اولا ثم العرب الباقیة أخیرا.

حیاة سکان الجزیرة العامة

أما الحیاة و النظام السائد فی جزیرة العرب فی العصر الجاهلی فهو نظام قبلی مرتبط بالقبیلة داخل الجزیرة، و لکل قبیلة زعیم و رئیس أو شیخ یشترط فی تبوئه الریاسة وجود مؤهلات خاصة فیه کالکرم، و الشجاعة و الثروة النسبیة، و أن یکون حسن التدبیر قد اکتسب من امتداد عمره و شیخوخته تجربة تساعد علی رص الصفوف بین قبیلته و حفظ کیانهم، و تنظیم شؤونهم العامة، لذلک صار لکل قبیلة أنظمة و مراسیم خاصة یفرضها اختلاف طبیعة الشیوخ و الرؤساء و الظروف المعینة و ما ورثوه من التقالید المختلفة، و لهذا صعب ان یتوحد النظام و تتفق المراسیم و التقالید و صعب أن یکون للجزیرة طابع معین غیر طابع البداوة التی لم تعرف شیئا عن الدولة و معناها داخل الجزیرة و أواسطها.
و یقول الرحالة (دوتی): انه رأی فی أهل البادیة فی هذا القرن- یعنی القرن العشرین- من لا یتصور الدولة إلا علی أنها قبیلة، و یقیس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 21
قوتها بما تملک من الأبل و مع ذلک فلم تعدم الجزیرة فی وقت من الأوقات نظاما حضریّا شبیها بنظام الدول التی قامت فی أطرافها، مثل مملکة الحیرة، و مملکة غسان، و مملکة کنده.
أما مکة المکرمة، و المدینة المنورة فعلی رغم ما بدا علیهما من معالم الحضارة فقد کانتا خاضعتین للنظام القبلی، و قد جری عرف العرب حتی فی هاتین المدینتین علی الانتساب إلی القبائل لا إلی المدن، بل لم یعرف الانتساب إلی المدن إلا فی القرن الثانی للهجرة و قد کان للعصبیة القبلیة حتی عهد الأمویین و أیام حکمهم أثر بارز فی التفرقة بین المضریین و القحطانیین و موقف بعضهم من بعض فی الحرب و السلم خلافا للتعالیم الإسلامیة التی کانت ترمی إلی القضاء علی کل نعرة و تدعو إلی ذوبان القبائل فی الدولة الإسلامیة، و لقد توسع مفهوم العصبیة القبلیة حتی عمت المنافسة و الحروب القبلیة ذات الأصل الواحد، بل و حتی شملت الأفخاذ و الأسر الصغیرة!!

نشأة المدینة المنورة و سکانها الأقدمون

کل ما ورد عن نشأة المدینة الأولی لا یتجاوز المزاعم و الأساطیر و الحکایات فهناک من یزعم بأن أول من نزل المدینة بعد غرق قوم نوح قوم یقال لهم صعل و فالج، فغزاهم داود النبی و أخذ منهم مائة الف عذراء !! و هناک من یزعم بأن بنی عبیل و هم من العرب البائدة کانوا أول من نزلوا (یثرب)، و عبیل هذا کما تزعم تلک الأساطیر أنه ابن عوص ابن أرم بن سام بن نوح، و قد کان أمیر قبیلة من العرب العاربة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 22
التی انقرضت و هو أخو (عاد) بن عوص، أما الذی فی (الروض) للسهیلی فهو أن عبیل بن مهلائیل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن ارم، و فی بعض هذه الأسماء اختلاف فیما ورد فی الأخبار، و قال السهیلی:
و بنو عبیل هم الذین سکنوا (الجحفة) فأجحفت بهم السیول فسمیت الجحفة و تسمی الیوم برابغ.
أما المسعودی فمن أقدم المؤرخین الذین یذکرون (الجحفة) و یعینون مکانها بین مکة و المدینة، و یقول: إن عبیل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح هو الذی نزل بلاد (الجحفة) و معه أولاده فهلکوا بالسیل، أما یثرب فیقول المسعودی أن یثرب و هو ابن قامة بن مهلیل بن ارم بن عبیل قد نزل هو و ولده و من تبعه فیها فسمیت به (یثرب) فهلک هولاء ببعض غوائل الدهر و آفاته فقال شاعرهم:
عین جودی علی عبید برجع‌بأماق فیضانها بانسجام
عمّروا (یثربا) و لیس بها سفر ولا صارخ و لا ذو سنام
غرسوا لینها بمجری معین‌ثم حفّوا السبیل بالأرحام
و بین رواة هذه الأخبار و الأساطیر من یذهب إلی أن العمالقة هم الذین بنوا (یثرب) بعد خروجهم من مصر، و یقول محمد لبیب البتانونی فی رحلته الحجازیة: ان لنا فی یهودیة السکان ما یؤید قول من ذهب إلی أن موسی فی طریقه إلی فلسطین أرسل فرقة من قومه لتکشف له تلک الجهة فساروا إلیها و بلغهم موته فبنوا مدینة (اثریبس) و أقاموا فیها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 23
و علی هذا فبالامکان اعتبار ابتداء عمران (یثرب) من سنة الف و ستمایة قبل المسیح أو الفین و مائتین و اثنتین و عشرین قبل الهجرة .
و کان العمالیق- علی هذا الرأی- هم الذین بنوا المدینة و زرعوا فیها الزروع و غرسوا النخیل، و عمروا الدور و الاطام (الحصون) و اتخذوا بها الضیاع.
و العمالقة هم بنو عملاق بن ارفخشد بن سام بن نوح علی ما تروی تلک الأخبار و کانوا ممن امتد نفوذهم و سطوتهم إلی جهات کثیرة فأخذوا ما بین البحرین و عمان، و الحجاز کله إلی الشام و مصر، فجبابرة الشام- و کان یقال لهم الکنعانیون- و فراعنة مصر، کانوا من العمالقة، و کان من العمالقة بالبحرین و عمان أمة یسمون (جاشم) و کان ساکنو المدینة منهم: بنو هف و سعد ابن هفّان، و بنو مطرویل، و کان ملک الحجاز الأرقم بن أبی الأرقم، و من أشهر من ورد اسمه من العمالقة هو أذینة بن السمیدع الذی استولی علی بلاد الروم و تملک علیها و ذکره الأعشی فی شعره إذ قال:
أزال (أذینة) عن ملکه‌و أخرج عن ملکه ذا یزن
و یقول ابن الأثیر ان بنی عبیل قد لحقت بیثرب قبل ان تبنی و لحقت العمالیق بصنعاء قبل ان تسمی صنعاء، و انحدر بعضهم إلی (یثرب) فأخرجوا منها (عبیلا) و نزلوا موضع الجحفة، و أن العمالیق قوم عرب و لسانهم عربی .
و فی تاج العروس أن (یثرب) سمیت بأول من سکنها من ولد سام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 24
ابن نوح، و قیل باسم رجل من العمالقة .
و توسع الزبیدی فی أصل العمالقة الذین سکنوا (یثرب) و مصرّوها کما تقول الأخبار فقال: العمالیق و العمالقة: قوم من عاد، تفرقوا فی البلاد، و انقرض أکثرهم، و هم من ولد عملیق کقندیل أو عملاق مثل قرطاس الأخیر عن اللیث: إنه ابن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح علیه السلام کما فی الصحاح، و فی المقدمة الفاضلة أن لاوذ أخو (إرم) و ارفحشد بنی نوح علیه السلام، و قال اللیث: و هم الجبابرة الذین کانو بالشام علی عهد موسی علیه السلام.
و قال ابن الأثیر: هم الجبابرة الذین کانوا بالشام من بقیة قوم عاد، و قال ابن الجوانی: عملیق: أبو العمالقة و الفراعنة، و الجبابرة بمصر و الشام و کانوا فبانوا منقرضین.
و قال السهیلی: من العمالیق ملوک مصر الفراعنة منهم الولید بن مصعب بن أشمیر بن لهو بن عملیق و هو صاحب موسی علیه السلام، و الریان بن الولید صاحب یوسف علیه السلام .
و کل ما أوردناه هنا عن نشأة (لمدینة) الأولی و سکانها إنما هو خلاصة لأخبار لا یعول علی أکثرها و ذلک لعدم وجود ما یسندها من البراهین و الأدلة من کتابات و نقوش و آثار، و قد استقیت هذه الأخبار عن نشأة المدینة الأولی و سکانها الأوائل من الروایات و الأخبار المتناقلة و من التوراة فسجلت فی العصور الإسلامیة کما تناقلتها الألسن دون تمحیص.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 25

نزول الیهود المدینة

و تستمر هذه الأساطیر فی حکایاتها فتقول ان سبب نزول الیهود المدینة و أطرافها و ضیاعها علی ما روی یاقوت فی معجم البلدان و غیره هو أن موسی بن عمران بعث إلی الکنعانیین و هم (العمالقة) حین أظهره اللّه تعالی علی فرعون، فوطأ الشام، و أهلک من کان بها منهم، ثم بعث بعثا آخر إلی (العمالیق) فی الحجاز الذین کانوا یحکمون تلک الأصقاع، و أمرهم ان لا یستبقوا أحدا ممن بلغ الحلم من العمالقة إلا من دخل فی دینه
و تقول الروایة: فقدموا علی العمالقة و قاتلوهم و قتلوهم و قتلوا ملکهم (الارقم) و أسروا ابنا له و کان شابا جمیلا کأحسن من رؤی فی زمانه، فضنوا به عن القتل، و قالوا نستحییه حتی نقدم به علی موسی لیری فیه رأیه، فأقبلوا و هو معهم، و قبض اللّه موسی و هم فی الطریق و قبل وصولهم، فلما قربوا، و سمع بنو إسرائیل بذلک تلقوهم، و سألوهم عن أخبارهم، فأخبروهم بالفتح و ما أصابوا فی حربهم، قالوا- فما هذا الفتی الذی معکم؟
فأخبروهم بقصته، فقالوا: إن هذه معصیة منکم لمخالفتکم نبیکم، و اللّه لا دخلتم علینا بلادنا أبدا، و حالوا بینهم و بین دخول الشام ..!!
فقال ذلک الجیش- ما بلد اذ منعتم بلدکم خیر لکم من البلد الذی فتحتموه و قتلتم أهله فارجعوا إلیه.
فعادوا إلی یثرب و أقاموا بها، فکان هذا أول تاریخ سکنی الیهود الحجاز و المدینة!! ثم لحق بهم بعد ذلک بنو الکاهن بن هارون- شقیق موسی بن عمران- فکانت لهم الأموال و الضیاع بالسافلة- و السافلة هی ما کان فی أسفل المدینة إلی جبل أحد أما العالیة فهی ما کان فوق المدینة فزعم بنو قریظة أنهم مکثوا کذلک زمانا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 26
و غزا الروم الشام و احتلوها و قتلوا من بنی إسرائیل خلقا کثیرا فخرج بنو قریظة، و النضیر، و هدل، هاربین من الشام یریدون الحجاز لینضموا إلی الإسرائیلیین هناک و یسکنوا معهم، و وجه ملک الروم فی طلبهم من یردهم فأعجزوا رسله و فاتوهم علی ما تقول الأخبار، و الراجح هو أن الروم قد طاردوهم فهاجروا إلی الحجاز لأول مرة و سکنوا المدینة و أطرافها منذ ذلک التاریخ .
و فی الأساطیر التی جاء بها بعض مورخی الحجاز من الیهود أن سبب نزول الیهود (یثرب) هو أن ملک الروم حین ظهر علی بنی إسرائیل و احتل الشام خطب إلی بنی هارون ابنة منهم، و لما کان زواج الیهودیة بالمسیحیین و غیرهم لیس جائزا فقد تحیر الیهود فی الأمر، و خافوا بطش الملک فجاملوه و تحببوا إلیه، و سألوه ان یشرّفهم بزیارته لهم، و حین جاءهم فتکوا به و بمن معه و هربوا إلی الحجاز و أقاموا بها.
و یقول ابن النجار: و کان هذا أول سکنی الیهود الحجاز بعد العمالیق و کان الحجاز أکثر بلاد اللّه شجرا، و أظهره ماء، فنزل الیهود منه حیث شاؤا، بعد ان هاجروا بسبب اضطهاد الروم لهم، و یؤید ذلک ما جاء فی المصادر الإفرنجیة؛ أن مستعمرات الیهود فی الحجاز کقری خیبر و غیرها قد کوّنها الیهود الذین اضطهدهم أباطرة الرومان من أمثال (أدربان) الذی طردهم من فلسطین عام 132 .
و کان جمع من الیهود قد نزلوا (زهرة) و هی محل بین الحرة و السافلة مما یلی القف، و کانت لهم الأموال بالسافلة، و نزل جمهورهم بمکان یقال له (یثرب) بمجمع السیول: سیل بطحان و العقیق، و سیل قناة مما یلی رغایة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 27
و خرجت قریظة و أخوانهم بنو هذل، و هدل، و عمرو، أبناء الخزرج بن الصریح ابن التوم بن السبط بن الیسع، بن العتین بن عید بن خیبر ابن النجار بن ناحوم بن عازر بن هارون بن عمران، و النصر بن النجار بن الخزرج بن الصریح بعد هولاء، فتبعوا آثارهم و نزلوا بالعلیة علی وادیین یقال لهما (مذینیب) و (مهزور)، فنزل بنو النضیر علی (مذینیب) و اتخذوا علیه الأموال، و نزل بنو قریظة و هذل علی (مهزور) و اتخذوا علیه الأموال، و کانوا أول من احتفر بها الآبار، و اغترس الأموال، و ابتنی الآطام و المنازل، و قد قیل: إن جمیع ما بنی الیهود بالمدینة کان تسعة و خمسین اطما أی قلعة .
*** إلی هنا و التاریخ لم یسلم من شوائب الأساطیر و الحکایات المغرقة فی الخیال و المزاعم التی تفتقر إلی تأیید مادی یعتمد الخطوط و النقوش و الآثار لیصحّ تعیین مبدء لتاریخ المدینة القدیم و سکانها القدماء و أجناسهم، و کل ما یمکن الجزم به هو أن مدینة (یثرب) مدینة قدیمة- کما قلنا- و مغرقة فی القدم و قد ورد اسمها فی الکتابات (المعینیة) مما یدل علی قدمها، و أن (المعینیین) قد استعمروها علی ما یستنتج من تلک الکتابات، فقد کانت للمعینیین مستعمرات علی طول الطریق التجاری من الیمن- مرکز المعینیین- حتی تخوم الشام، فلیس من المحتمل أن یکونوا قد تجاوزوا یثرب دون ان ینتفعوا بموقعها، و خصب أرضها، و کثرة میاهها، و اتخاذها مستعمرة لهم، و محطة لتجارتهم، لا سیما و أن مستعمراتهم کانت متصلة إلی شمال یثرب و علی طول (وادی القری).
و إذا کان اسم (یثرب) قد ورد فی الکتابات المعینیة القدیمة فلا بد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 28
أنها کانت من المواضع التی سکنتها جالیات من المعینیین ثم صارت إلی السبائیین بعد زوال مملکة معین .
و لما کانت عوامل السکن و الاستیطان متوفرة فی هذه البقعة من الأرض و لا سیما الزراعة کان من البدهی ان تکون یثرب مطمح الأنظار من قدیم الزمان و أن یقصدها السکان من جمیع الجهات، أما تاریخها فمثل تاریخ کثیر من المدن القدیمة المجهولة الأصل، فلیس بالبعید ان تکون کغیرها من المدن الزراعیة نشأت فی بادی‌ء الأمر قریة صغیرة ثم کبرت فکانت مرکزا لملاکی الضیاع و مسکنا للفلاحین و المزارعین الذین یذهبون صباحا إلی حقولهم و یعودون مساء إلی بیوتهم، و أن مثل هذا النهج فی الحیاة، و مثل هذا الأسلوب فی معیشة السکان لمنتهج فی أغلب المدن القدیمة عند أول تکوینها و تمصیرها، و ما زال ساریا منذ عهد حمورابی حتی یومنا هذا باستثناء المدن التی أنشئت لتکون مدینة منذ أول یوم کبغداد و القاهرة و سامراء و غیرها.
و کان لیثرب العوامل التی تستدعی قیامها فی هذا الموضع من الحجاز و تستدعی ان یمتد نفوذها إلی مناطق بعیدة واسعة تشمل قری و ضیاعا و أودیة.
و القری المحیطة بیثرب القدیمة ککل القری الأخری یومذاک، کانت تتألف فی الأول من عدد من البیوت، و تضم عددا من الأسر تکثر و تقل تبعا لأهمیة موقع القریة و طبیعتها و عواملها الأخری، و تشد هذه الأسر روابط من الرحم و القرابة أو الجوار أو المصالح المشترکة، فإذا کانت القریة واقعة فی منطقة زراعیة آل امتلاکها و زعامتها فی الغالب إلی شیخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 29
أو رئیس قبیلة ثم تؤول هذه الزعامات إلی زعیم واحد یکون ملکا أو أمیرا أو رئیسا کبیرا أو أیة شخصیة ذات نفوذ و وجاهة و قوة، و حین یتساوی النفوذ بین صغار الرؤساء أو الکبار تقع الحروب القبلیة و تستمر علی مرور السنین حتی یتم خضوع الضعیف من القبائل و الأسر للقوی المتنفذ، أو یحصل اتفاق تفرضه المصلحة بین الزعماء یکون من شأنه تحدید النفوذ و السلطة و تعیین حدود کل رئیس و علاقته بالآخرین من أتباعه أو جیرانه أو أصدقائه و أعدائه، و قد مرّ مثل هذا علی یثرب فمرّ تاریخها بالشی‌ء الکثیر من الخصومة و المعارک و الصلح و المسالمة، و شهدت فی مختلف أدوارها ممن حکمها ما رفع قدرها حینا و ما ألحق بها من الخسائر و الأضرار حینا آخر.
و علی هذا النهج قامت هذه المدینة، و سکنتها قبائل لها صولة و جولة و مکانة فی تاریخ جزیرة العرب.
*** و کلما بدأ الزمن یدنو من ظهور الإسلام کان یتلاشی أثر الأساطیر و الأخبار فی تدوین التاریخ المقارب للواقع، إذ یکون الرواة أقرب إلی مصدر الخبر و الوقوف علی الوقائع عن کثب و تلقی الأخبار عن الثقاة فی سلسلة قصیرة لا تسمح الظروف بإضافة نسبة کبیرة من الحلقات المختلفة إلیها.
و أن مثل هذا التاریخ القریب من الواقع بعض القرب و الذی قد نجد لبعض حکایاته ما یسنده من الآثار قد بدأت علائمه منذ ظهور الیهود و الأوس و الخزرج علی مسرح تاریخ المدینة، علی رغم ما فیه من مبالغة و إغراق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 30
فالحقیقة التی یمکن أن یتوصل الیها المؤرخ هی أن الیهود قد نزلوا یثرب سواء تم نزولهم فی أیام موسی و فی أثناء حربه العمالقة الذی نستبعده نحن- أو بدفعات نتیجة للعوامل الطبیعیة و الظروف التی تحتم علی الأقوام الهجرة- و هو ما نمیل الیه و نأخذ به- و أنهم بناء علی ما عرفوا به من نزعة فی کیفیة استثمار الأموال و التجارة و استغلال مرافق الحیاة و قصر المنفعة علیهم دون غیرهم استطاعوا أن یستولوا علی ثروة البلاد و یسخروا مواردها لمنفعتهم حتی لقد استأثروا بثروة (یثرب) کلها، و کانت المدینة کما أشرنا من حیث الخصب و الشجر و المیاه و الموقع التجاری الاستراتیجی مطمح الأنظار فکان لها من القابلیة ما تستوعب سکنی الکثیرین من المهاجرین.
و کان أشهر الیهود الذین أمسکوا بزمام البلد و استولوا علی مرافقة الزراعیة و التجاریة بنو قریظة و بنو النضیر، حتی صاروا ملوکا، و کانت یثرب و تهامة فی الجاهلیة تدفع الخراج لعامل علیها من قبل (مرزبان) فلما قویت شوکة الیهود و أصبحوا حکاما بدأ سکان یثرب و ضیاعها یدفعون الخراج للیهود و لذلک قال بعض الأنصار:
نؤدّی الخرج بعد خراج کسری‌و خرج بنی قریظة و النضیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 31

الأوس و الخزرج

و فی هذا الوقت او قبله کان قوم من القحطانیین آخرون و هم الأوس و الخزرج قد نزحوا من الیمن و نزلوا یثرب، و لنزوحهم من الیمن قصص و حکایات لا یطمئن الیها المؤرخون المتثبتون، و کل ما یمکن استخلاصه هو أن الأوس و خزرج و هم أبناء حارثة ابن ثعلبة قد هاجروا من الیمن إلی المدینة فی دفعات، و استوطنوا یثرب کما فعل الیهود بناء علی وفرة میاهها و رغد العیش فیها، و أقاموا بین قریظة و النضیر، و خیبر، و تیماء، و وادی القری، و نزل أکثرهم فی یثرب، و کثیرا ما هاجر القحطانیون من الیمن عند نزول الشدائد و الکوارث- کما قلنا- حتی لقد تم لهم حین تکاثروا ان ینشؤوا دولا کدولة الغساسنة فی الشام، و دولة المناذرة فی العراق، و کندة بنجد و قد سبقت الإشارة إلی ذلک.
و جاء فی دائرة المعارف أن القحطانیین خارج الیمن کانوا تسع عشرة قبیلة- أی قبائل یمانیة غیر عدنانیة- و هی:
قبائل طی، و الأشعر، و بجیلة، و جذام، و الأزد، و عاملة، و کندة، و لخم، و مذحج، و همذان، و مازن، و غسان، و عدنان، و مزیقیا، و أزد، و شنوءة، و الأوس، و الخزرج، و خزاعة، و لکل من هذه القبائل بطون، و أفخاذ، و عمائر، و عشائر لا سبیل لحصرها.
فلیس من الشرط أن تختلق لنزوح الأوس و الخزرج معاذیر و أسباب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 32
أکثر من أنها نزحت کما تنزح سائر القبائل حین تشتد بها الحاجة کأن یصیبها المحل، أو تبددها الحروب، أو تحل بها کارثة عامة، و لعل لانهیار سد مأرب الأثر الکبیر فی مثل هذا التفرق الذی ظهر علی القبائل القحطانیة فی الیمن.
و کان فی (المدینة) قری و أسواق للیهود من بنی إسرائیل کما مر و کان قد نزلها علیهم أحیاء من العرب قبل نزول الأوس و الخزرج و هم:
بنو أنیف، حی من بلی و قیل إنهم من بقایا العمالقة، و بنو مرید و هم حی من بلی أیضا و بنو معاویة بن الحارث بن بهثة بن سلیم بن منصور ابن عکرمة بن خصفة بن قیس ابن عیلان، و بنو الجذما و هم حی من الیمن، فبنوا الآطام و المنازل فی یثرب و کانت الاطام عزّ أهل المدینة و منعتهم التی یتحصنون فیها من عدوهم فکان منها ما یعرف اسمه، و منها ما لا یعرف اسمه، و منها ما یعرف باسم سیدها، و منها ما لا یدری لمن کانت هذه الحصون و منها ما جاء ذکرها فی الشعر، و منها ما لم تذکر، و کان ما بنی من الاطام للعرب بالمدینة ثلاثة عشر أطما .
و قال ابن النجار عن العرب الذین کانوا فی المدینة قبل نزول الأوس و الخزرج نقلا عن عبد العزیز بن عمران أنهم أحیاء من العرب منهم أهل التهمة تفرقوا جانب بلقیز إلی المدینة فکانت منازلهم بین مسجد الفتح إلی یثرب فی الوطا و جعلوا الجبل بینهم و بین المدینة و قد أبّروا الآبار و زرعوا الأرض و عمروها.
و حین نزول الأوس و الخزرج المدینة کان فیها من الیهود بنو قریظة، و بنو النضیر، و بنو محمحم، و بنو زعورا، و بنو قینقاع، و بنو ثعلة، و أهل زهرة، و أهل زبالة، و أهل یثرب، و بنو القصیص، و بنو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 33
فاعصة، و بنو ماسکة و بنو القمعة، و بنو زید اللات، و هم رهط عبد اللّه، و بنو عکوة، و بنو مرانة.
و لا یعلم کم لبث الأوس و الخزرج حتی استقر بهم المقام و حتی صار لهم شأن یذکر بین الیهود الذین کانوا یملکون المال و القلاع و السلطة الزمنیة فی یثرب و ضیاعها، بحیث رأی الیهود ان مصلحتهم تستدعیهم إلی ان یعقدوا بینهم و بین الأوس و الخزرج حلفا و جوارا یأمن به بعضهم من بعض و یمنعون بهذا الحلف من یتحداهم بالغزو أو الحرب من الخارج، فتعاقدوا و تحالفوا و تشارکوا و تعاملوا، و لم یزالوا علی ذلک زمنا طویلا، و قد أثری الأوس و الخزرج و صار لهم مقام و جاه و صولة فی یثرب.
و علی أن الأوس و الخزرج و قبائلهم، و أن قریظة و بنی النضیر و سائر الیهود کانوا متقاربین فی المجاورة و المنازل فقد اختصت کل جهة بکثافة معینة من تلک القبائل.

حضارة المدنیة و منازل الیهود و العرب منها

فحرّة (واقم) و هی الحرة الواقعة شرقی (المدینة) کما عیّنا موقعها فی محل آخر من هذا البحث کانت مسکونة بأهم قبائل الیهود من بنی النضیر و قریظة و عدد آخر من عشائر الیهود الأخری، کما کانت تسکنها أهم البطون الأوسیة من بنی عبد الأشهل، و بنی ظفر، و بنی حارثة، و بنی معاویة.
و تنقسم حرّة (واقم) باعتبار المنازل الواقعة منها قدیما إلی خمس مناطق متجاورة، منطقتین منها کانتا للیهود، و ثلاث کانت للأوس.
و فی منازل عبد الأشهل من الأوس کان یقوم حصنهم (واقم)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 34
الذی سمیت (الحرّة) باسمه، و قد ترک أصحاب هذه المنازل من الیهود و الأوس آثارا فی (الحرّة) تدل علی حضارة و نظام مدنی لم یبق منها الیوم إلا أطلال دوارس، ذلک لأن هذه (الحرّة) صارت میدان حرب حین ظهر الإسلام و استقر فی المدینة و خان الیهود العهود و المواثیق التی کانت بینهم و بین النبی (ص) الأمر الذی اضطر النبی (ص) إلی محاصرة بنی النضیر من الیهود حتی أجلاهم، ثم حاصر بنی قریظة حتی قضی علیهم .
و من ذکر أسماء القصور و الحصون و القلاع فی المدینة و ضواحیها و مما بقی من أطلالها حتی الیوم تقوم أدلة کثیرة علی وجود حضارة ذات لون خاص عرفت به المدینة المنورة بین المدن العربیة القدیمة، فهذه القلاع الضخمة المشیدة فی جمیع أنحاء یثرب و المبنیة بالصخور و الحجارة السوداء و التی لم یزل بعضها قائما کحصن (الضحیان)، و حصن کعب بن الأشرف النبهانی، و القصور المنتشرة هنا و هناک و لا سیما قصور وادی العقیق، و الأسوار التی کانت تحوط بعض القری المنیعة، و الابهاء التی تحیط ببعض الأبنیة کسقیفة بنی ساعدة لتشیر کلها إلی طراز خاص من الحضارة التی تدل علی شی‌ء کثیر من الاستقرار و الراحة و النعمة، إضافة إلی الصهاریج و أقنیة المیاه و حفر الآبار و تنظیم السقی و المزارع.
أما الأبنیة العامة أو بیوت الطبقة الوسطی فعلی رغم بساطتها من حیث المواد و الطراز و الهندسة فهی الأخری لا تخلو من مظهر من مظاهر الحضارة فی مثل تلک العصور و فی وسط محاط بقبائل البدو الرحل الذین لا تتجاوز حیاتهم الحیاة البدائیة.
و یستبان من الحفریات التی یجریها المهندسون فی المدینة المنورة الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 35
لإقامة الأبنیة الجدیدة و شق الأسس أن کثیرا من ابهاء دور المدینة القدیمة التی یعثرون علیها کانت مفروشة بالطوب المربع الأحمر، و مبنیة بالطین، و اللبن، و الحجارة، و الراجح أنهم کانوا یستعینون بأخشاب الأشجار التی یأتون بها من الودیان فیعملون منها الأبواب و النوافذ، أما الزخرف فلم یکن معروفا فی العمارة العربیة قبل الإسلام و لا فی الصدر الأول منه
و فیما یعثر علیه المهندسون و هم یشقون الأسس من أشیاء، تکفی وحدها لتدل علی لون الحیاة الرفیهة التی لا یجوز اعتبارها حیاة غیر حضاریة، و قد جاء فی کتاب (آثار المدینة) لعبد القدوس الأنصاری:
أن العمال و هم یحفرون الأرض فی (المدینة) لوضع نصب تذکاری سنة 1335 ه إذ انفتحت لهم هوة کشفت عن بیوت کانت سقوفها تحت طبقة هذه الأرض فنزلوا الیها و وجدوا بها ثیابا معلقة علی حبال!! و مع بلاها فقد کانت محتفظة بشکلها و هندامها و هی متماسکة بحکم الرطوبة، و عدم تخلل الهواء للغرف الموجودة بها، فدمّروا البیوت، و شادوا علیها النصب و قد اتضح أن المدینة الحدیثة مبنیة فوق المدینة القدیمة.
و عند دخول الإسلام المدینة کانت مواد البناء و هندسته عند الطبقة الوسطی لم تزل علی ما هی علیه من أبعد العصور، و حین قام النبی (ص) ببناء أول مسجد أسهم هو و ابن عمه الإمام علی (ع) فی العمل، و کانت مواد البناء کما تقول الأخبار من اللبن، و کان علی (ع) یعمل فی البناء و یرتجز و یقول:
لا یستوی من یعمر المساجدایدأب فیها قائما و قاعدا
و من یری عن الغبار حائدا و کان عثمان بن عفان (ض) رجلا نظیفا متنظفا- علی ما یصفون-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 36
یحمل اللبنة فیجافی بها عن ثوبه فإذا وضعها نفض کمّه و ما یکون قد أصاب ثوبه من التراب .
و معظم کثافة سکان الیهود کان (بزهرة) من منازل بنی النضیر، و بشمالها کانت منازل بنی قریظة، و قد عرفت (غرس) منها بکثافة السکان.
قال الواقدی: و کانت منازل بنی النضیر بناحیة (الغرس) و فی خارج المدینة، و فی الضیاع و القری، دساکر و منازل اختصت بالیهود من یثرب، و عجت بکثافة سکانها منهم خصوصا بعد أن تغلب علیهم الأوس و الخزرج ففر الکثیر منهم إلی (خیبر) و إلی (فدک) و سائر القری الأخری و کانت لهم علی (مذینیب) و (مهزور) بصورة خاصة- کما مر من قبل- منازل و مساکن و قلاع ما لبثت ان اکتظت بالسکان.
*** و کانت مصلحة السکن و الاستقرار هی التی تفرض علی القبائل العربیة و القبائل الیهودیة الالتئام و التقارب و إلا فإن هذه القبائل کانت علی طرفی نقیض فی العادات و الأخلاق و التقالید و الدین بصورة خاصة، فقد کان الأوس و الخزرج کسائر العرب یقدسون أصنام قریش بصورة عامة و علی الأخص (مناة) بل لقد کان مناة هو الصنم الأکبر عند الأوس و الخزرج، و کان هذا الصنم منصوبا علی ساحل البحر بناحیة (المشلل) بقدید بین المدینة و مکة، و هو أقدم من الأصنام الأخری کاللات و العزّی و سمت العرب: عبد مناة، و زید مناة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 37
و کانت العرب جمیعا تعظم (مناة) و تذبح حوله، و لکن الأوس و الخزرج کانوا أشد إعظاما له من سائر القبائل و (مناة) الصنم هو (منوتن أو منوت‌Manavat عند النبط ».
*** و تکاثر نزول العرب فی یثرب و أطرافها، و صار للأوس و الخزرج منازل و مبان و أملاک و أموال أکثر من ذی قبل، و لا بد أن تکون قد حدثت حوادث موضعیة بین العرب و الیهود و هو أمر طبیعی کثیرا ما یحدث بین الأسرة الواحدة و البیت الواحد کما حدث بعد ذلک بین الأوس و الخزرج إضافة الی ان الحذر من ابرز طبیعة الیهود، فآلت تلک الحوادث الموضعیة الی توتر الحالة العامة بین العرب و الیهود و استغل الیهود کثرتهم و تفوقهم علی العرب فتنمروا للاوس و الخزرج و نقضوا العهود و الحلف الذی کان قائما بینهم و اعلنت الحرب، و کان مالک بن العجلان من الخزرج ابرز رجالات القبیلتین فسودّته القبیلتان علیهما، و احسن هذا تحشید الرجال و توحید الصفوف و الهجوم حتی استولی فی المدینة علی حصون الیهود و دفع بهم الی خارج یثرب، و الی الضیاع التی یسکنها قومهم، و اتخذ هناک الأوس و الخزرج الدیار و الأموال و تفرقوا فی (عالیة) المدینة و (سافلتها) و جاء بعضهم الی عفا من الأرض لا ساکن فیه فنزله و نزل بعضهم بعض قراها و اتخذوا فیها الأموال و الاطام فکان ما ابتنوا من الاطام مائة و سبعة و عشرین أطما (حصنا) و اقاموا کلمتهم و أمرهم مجتمع و صارت الکلمة العلیا للأوس و الخزرج.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 38

الاسطورة

و هنالک اسطورة فی کیفیة تغلب الاوس و الخزرج علی الیهود لا بأس من إیرادها هنا للاطلاع علی ما تقول الاخبار عن هذه الحرب.
فلقد قیل ان مالکا هذا الذی سودّه الاوس و الخزرج علیهم قد استعان بابی جبیلة و هو احد ملوک الغساسنة فی الشام علی حربه حین تغلب الیهود علی العرب فجاء ابو جبیلة بقومه و قتل الیهود فی خدعة انطلت علیهم و مهد للاوس و الخزرج الاستیلاء علی المدینة لان الاوس و الخزرج کانوا ضعفاء لا یقوون علی الوقوف فی وجه الیهود، فتقول الاسطورة:
إنه کان لبنی اسرائیل فی المدینة ملک یقال له (الفیطوان) و یقول یاقوت بل انه (الفطیون) استنادا الی ما جاء فی کتاب ابن الکلبی، و کان الیهود، و الاوس و الخزرج یدینون له، و کانت له فیهم سنّة ألّا تزوج امرأة منهم إلا أدخلت علیه قبل زوجها حتی یکون هو الذی یفتضّها!! إلی ان زوجت اخت لمالک ابن العجلان فیها و هو ابن زید السالمی الخزرجی، فلما کانت اللیلة التی تهدی فیها الی زوجها خرجت علی مجلس قومها کاشفة عن ساقیها و اخوها مالک فی المجلس،
فقال لها-: قد جئت بسوءة بخروجک علی قومک و قد کشفت عن ساقیک.
قالت-: الذی یراد بی اللیلة أعظم من ذلک لأننی أدخل علی غیر زوجی.
ثم دخلت الی منزلها فدخل إلیها اخوها و قد أرمضه قولها فقال لها:
- هل عندک من خبر؟
قالت- نعم فماذا؟
قال- أدخل معک فی جملة النساء علی (الفطیون)، فاذا خرجن من عندک و دخل علیک ضربته بالسیف حتی یبرد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 39
قالت- افعل.
فتزّیا بزی النساء، وراح معها، فلما خرجت النساء من عندها دخل (الفطیون) علیها فشدّ مالک بن العجلان بالسیف و ضربه حتی قتله و خرج هاربا الی الشام و قصد فیها ابا جبیلة،- و قیل بل فر الی الیمن و قصد تبع الاصغر بن حسان- و شکا الی ابی جبیلة ما کان من (الفطیون) و ما کان یعمل فی نسائهم، و ذکر له انه قتله و هرب، و انه لا یستطیع الرجوع خوفا من الیهود، فعاهده ابو جبیلة ان لا یقرب امرأة، و لا یمسّ طیبا، و لا یشرب خمرا، حتی یسیر الی المدینة و یذّل من بها من الیهود، و اقبل سائرا من الشام فی جمع کثیر مظهرا انه یرید الیمن حتی قدم المدینة، و نزل بذی حرض، ثم ارسل الی الاوس و الخزرج انه علی المکر بالیهود و هو عازم علی قتل رؤسائهم، و انه یخشی متی علموا بذلک ان یتحصّنوا فی آطامهم، و أمرهم بکتمان ما أسرّه الیهم، ثم ارسل الی وجوه الیهود ان یحضروا طعامه لیحسن الیهم و یصلهم، فأتاه وجوههم و اشرافهم و مع کل واحد خاصته و حشمه، فلما تکاملوا أدخلهم فی خیامه، ثم قتلهم عن آخرهم، فصارت الاوس و الخزرج من یومئذ أعزّ أهل المدینة، و قمعوا الیهود، و سار ذکرهم، و صار لهم الأموال و الاطام .

عودة الی التصافی

و یبدو من متابعة التاریخ ان المصلحة عادت فوفقت بین قبائل العرب و قبائل الیهود، و قد ساد الفریقین صفاء ضمنته احلاف و عهود جدیدة، فقد حالف بعض الیهود الأوس، و حالف بعضهم الخزرج و فی هذه المرة وقف کل فریق مع حلیفه فی الحروب بحکم المصلحة علی الرغم من تعارض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 40
هذا الوقوف مع احکام التوراة، و قد ظل اثر هذه الاحلاف الی ما بعد الهجرة اذ ظل الأوس و الخزرج متمسکین بحلفهم مع الیهود، و قد أشارت بعض آیات القرآن الکریم الی هذا التمسک و التزام العرب بهذا الحلف و وعدهم للیهود بالنصرة إذا ما قامت حرب ضدهم، و سمی القرآن اولئک بالمنافقین لانهم اظهروا الاسلام و قبلوه و مع ذلک فقد ظلوا علی حلفهم و مواثیقهم و تضامنهم مع الیهود و ذلک فی الآیة الکریمة:
«أَ لَمْ تَرَ» یا محمد «إِلَی الَّذِینَ نافَقُوا» فاظهروا الایمان و ابطنوا الکفر «یَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ» فی الکفر و هم «الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ» یعنی یهود بنی النضیر. «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ» من بلادکم «لَنَخْرُجَنَّ مَعَکُمْ» مساعدین لکم «وَ لا نُطِیعُ فِیکُمْ أَحَداً أَبَداً» یعنی فی قتالکم و مخاصمتکم «وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ» معاشر بین النضیر «لَنَنْصُرَنَّکُمْ» و لندفعن عنکم .
و کانت صلات الاوس و الخزرج و الیهود بالقبائل العربیة الاخری و لا سیما قریش صلات طیبة، حتی لقد أصهر هاشم بن عبد مناف الی بنی النجار الخزرجیین من أهل یثرب، و ظل ابنه عبد المطلب علی صلة وثیقة باخواله هؤلاء، کما کان لغیره من زعماء مکة صداقات و اتصالات بزعماء یثرب، و لکن قریشا کانت تتجنب الحلف مع قبائل المدینة منعا لتورطها فی دخول حلف ربما جرّ الی التدخل فی الحروب الداخلیة التی کانت تنشب من آن لاخر بین الاوس و الخزرج قبیلتی یثرب ، و ظلت علاقة قریش طیبة مع یثرب برغم ما کان یمکن ان یحدث من تنافس بین المدینتین الواقعتین علی طریق التجارة.
کذلک کانت صلات مکة بالیهود جمیعا طیبة فی یثرب، و خیبر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 41
و تیماء، و وادی القری، کما کان الیهود یجلّون القرشیین و یعتبرونهم سادة العرب، و ملوک الناس، و لم یکن الیهود فی جزیرة العرب یحفلون کثیرا بتعالیم التوراة التی تأمرهم بالابتعاد عن الوثنیین و تلزمهم بمعاداتهم، و محاربتهم، و إنما کانوا یجرون وراء مصالحهم المادیة .

حروب المدینة و أیامها المشهورة

و کان من الطبیعی بعد ان صفا الجو للاوس و الخزرج و اصبحوا هم الآمرین و الناهین فی یثرب أن یدّب الخلاف بینهم بداعی احتکار السلطة و المنفعة لا سیما و قد أمنوا جانب الیهود و لم یستطع الاصل و النسب المشترک ان یحول دون التنافس بینهما و ذلک لداعی تنازع البقاء فقامت بین القبیلتین حرب طاحنة لم تخمد نیرانها مرة الا و تشب من جدید، و قد اشار المؤرخون الی العداء القائم بینهم و وصفوه بکونه عداء تجاوز حد الوصف!!
روی الطبری قال: حدثنا ابن حمید قال: حدثنا سلمة قال: قال ابن اسحاق: کانت الحرب بین الاوس و الخزرج عشرین و مائة سنة!! حتی قام الاسلام و هم علی ذلک فکانت حربهم بینهم و هم اخوان لأب و ام فلم یسمع بقوم کان بینهم من العداء و الحرب ما کان بینهم و کان لهم من العز و الجاه و التاریخ الذی حکی الشعر جانبا کبیرا منه ما سجل الکثیر من المفاخر العربیة فی شتی المیادین فتهدم هذا بسبب تلک الحروب حتی ضعف شأن هاتین القبیلتین، و ضاع بسبب ذلک الکثیر مما اکتسبت المدینة من المجد و العز و الجاه و الثروة.
و قد عرفت لحروبهم ایام مشهودة اشهرها: یوم الصفینة، و هو اول یوم جرت الحرب فیه، و یوم السرارة، و یوم وفاق بنی خطمة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 42
و یوم حاطب بن قیس، و یوم حضیر الکتائب، و یوم أطم بنی سالم، و یوم أبتروه و یوم البقیع، و یوم بعاث، و یوم مضرس و معبس، و یوم الدار، و یوم بعاث الاخر، و یوم فجار الانصار.
و کانوا ینتقلون- کما یقول الیعقوبی- فی هذه المواضع التی تعرف ایامهم بها و یقتتلون قتالا شدیدا .
و لم تقتصر حرب المدینة علی الاوس و الخزرج و إنما شاهدت المدینة من غزو الغازین حروبا ضاریة کان من اشهرها غزوة تبّع الاخر للمدینة، و هو تبان أسعد أبو کرب، و کان قد جاء من المشرق جاعلا طریقه علی المدینة، و کان حین مرّ بها فی بدأته لم یهج أهلها و قد خلف بین اظهرهم ابنا له فقتل ابنه هذا غیلة فقدم تبّع و هو مجمع لإخراب (المدینة) و استئصال أهلها، و قطع نخلها، فجمع له هذا الحی من الانصار حین سمعوا بذلک من أمره لیمتنعوا منه، و کان رئیسهم یومئذ عمرو بن الطلة احد بنی النجار من الخزرج ثم أحد بنی عمرو بن مبذول، فخرجوا لقتاله، و الذی زاد من حقد تبّع و موجدته علی یثرب هو انه حین نزل بهم تصدی رجل من بنی عدی بن النجار یقال له: أحمر، فقتل رجلا من أصحاب تبعّ و کان قد وجده فی عذق له یجذّه علی ما أورد الطبری، فضربه بمنجله فقتله و قال: «إنما الثمر لمن أبره» ای اصلح زرعه، ثم القاه حین قتله فی بئر من آبارهم المعروفة یقال لها (ذات تومان) فوقعت الحرب بین تبّع و الاوس و الخزرج، و بینا کان تبّع علی ذلک من حربه و حربهم یقاتلهم و یقاتلونه قال ابن حمید یحدّث عن سلمة عن محمد بن اسحاق: ان الانصار من الاوس و الخزرج زعموا انهم کانوا یقاتلون (تبّعا) بالنهار و یقرونه باللیل فیعجبه ذلک منهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 43
و یقول: «و اللّه ان قومنا هولاء الکرام» .
و إذا صح هذا فیکون ما نسب لصلاح الدین الأیوبی من مثل هذا الاکرام مقتبسا من نهج الاوس و الخزرج و نبلهم فی حرب تبّع.
و انتهت الحرب دون ان یستطیع تبعّ اخضاع المدینة، و لکنها کلّفت المدینة ما کلفت من الخسائر،
و فی امتناع المدینة علی تبعّ یقول شاعر من الانصار:
تکلّفنی من تکالیفهانخیل الاساویف و المنصعه
نخیلا حمتها بنو مالک‌خیول ابی کرب المفظعة
و یبدو ان حرب تبعّ هذه قد طالت فقد اشار إلیها غیر واحد من المؤرخین حتی عبّر عنها بالحروب، و من هؤلاء کان المسعودی الذی یذکر (تبّعا) هذا فی ضمن ملوک الیمن و یقول: ثم ملک تبّع و هو الملک السائر من الیمن الی الحجاز و کانت له مع الأوس و الخزرج حروب، و أراد هدم الکعبة .
و من استعراضنا لتاریخ المدینة فی زمن الجاهلیة و لا سیما فی السنوات الأخیرة ما قبل ظهور الاسلام نری ان الحروب قد الحقت بالمدینة اضرارا کبیرة، و قد حال التنافس و العداء بین الأوس و الخزرج دون تقدم البلاد اکثر حتی ضج القوم، و حتی سئموا و راحوا یستنجدون بقریش فی مکة فلم یجدوا فیهم عونا لأیة جهة حتی قام الاسلام، فساوی بینهم و قضی علی تلک العداوة التی تجاوز تاریخها المایة من السنین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 44

طبیعة المدینة و سکانها و میزتها

انفردت المدینة المنورة و سکانها بخصائص میزتها بین الکثیر من المدن العربیة، القدیمة قبل الاسلام، و قد زادها الاسلام بعد هجرة النبی (ص) الیها رفعة و علو شأن، تحدث عنها المؤرخون کثیرا فهی بلدة طیبة، مبارکة، کثیرة الخیرات، عذبة المیاه، و افرة النخیل و الثمار، و أهلها و سکنتها یودون الغرباء، و یحبون المهاجرین الیها و من خصائصها التی عرفت بها فی تاریخها القدیم: ان من دخلها یشم رائحة الطیب علی ما ادعوا، و للعطر فیها فضل رائحة لم توجد فی غیرها علی ما ذکر القزوینی، و ان أهلها أحسن الناس صوتا! و قد قیل لبعض المدینیین: ما بالکم أنتم أطیب الناس صوتا؟ فقال: مثلنا کالعیدان خلت اجوافنا فطاب صوتنا و لا نحتمل ان یکون خلو الجوف هنا بسبب قلة الطعام کما قد یتبادر الی الذهن- هذا اذا صحت الروایة- و الراجح أنه أراد ان ینفی النهم عن أهل المدینة الذی کان یستعیبه العرب.
و عن ابن عباس: ان النبی (ص) حین عزم علی الهجرة قال: اللهم انک قد اخرجتنی من أحبّ ارضک الیّ فأنزلنی أحبّ ارضک الیک، فأنزله المدینة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 45
و فی الاخبار و الاساطیر التی وردت فی تاریخ العرب ما جاء فی أمالی القالی عن خنافر بن التوأم الحمیری- و قد مرت الاشارة الیه من قبل انه اوحی له (رئیّه)، أی الشبح الذی کان یظهر له، و نصحه بأن یتجه الی یثرب واصفا ایاها بذات النخل، و واصفا أهلها بأهل الطول، و الفضل، و المواساة و البذل فاذا شککنا فی ظهور الشبح فلیس من شک فی صحة وصف المدینة و أهلها.
و خص الاسلام المدینة بفضائل لم یخص بها غیرها من المدن، و من مناظرة الخلیفة عمر بن الخطاب (رض) لعبد اللّه بن عیّاش یستدل بعض الرواة علی تفضیل المدینة حتی علی مکة المکرمة، فقد روی ان الخلیفة عمر بن الخطاب قال لعبد اللّه:
- أأنت القائل: ان مکة خیر من المدینة؟
فقال عبد اللّه بن عیاش:- هی حرم اللّه و أمنه و فیها- ای فی مکة- بیته، فقال عمر:- لا أقول فی حرم اللّه و بیته شیئا، أأنت القائل .. الی آخره، و قالها ثلاث مرات!!
و من (المنتقی) قال محمد بن عیسی: و لو أقرّ له ابن عیاش بذلک لضربه الخلیفة عمر- یرید به تأدیبه- علی تفضیل مکة علی المدینة لاعتقاده- أی لاعتقاد عمر ابن الخطاب- تفضیل المدینة علی مکة، او هو یری ترک الأخذ فی تفضیل احداهما علی الاخری، إلا ان الوجه الاول اظهر لما اشتهر من اخذ الصحابة فی ذلک دون نکیر، و هذا تصریح من الخلیفة عمر (ض) بأن المدینة أفضل من مکة .
و من فضیلة المدینة و رجحان عقول سکانها، و اخذهم الأمور بالموازین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 46
العقلیة بالنسبة لامثالها من المدن العربیة القدیمة هو ان أغلب المدن و القری قد افتتحت بالسیف، اما المدینة فقد افتتحت بالقرآن علی ما تشیر الیه الاخبار.
و مما روی عن رسول اللّه (ص) انه قال: «المدینة کالکیر تنفی خبثها و ینصع طیبها» و قیل: انه قال: «أمرت بقریة تأکل القری یقولون:
یثرب و هی (المدینة) تنفی الناس کما ینفی الکیر خبث الحدید» و قد علق ابن الحاج علی هذا الخبر بقوله: و لا معنی لقوله تأکل القری الارجحان فضلها علیها- ای علی القری- و زیادتها علی غیرها.
و کثیرة هی الاخبار التی تمیّز المدینة و تفضلها علی غیرها و علی مکة ایضا لخصائص طبیعیة ذات علاقة بطیبها، و طیب سکانها، او ایمانها، و نصرتها لرسول اللّه (ص) و ایوائه، و ایواء المهاجرین، و ممن قال بتفضیلها من کبار الأئمة کان الامام مالک الذی رووا عنه انه قال: إن المدینة أفضل من مکة.
و مما روی ابو هریرة عن رسول اللّه (ص) انه قال: «من صبر علی لأواء المدینة و شدتها کنت له یوم القیامة شفیعا او شهیدا» و قد تتنافی هذه الروایة فی الظاهر مع طبیعة المدینة التی اشتهرت بالخصب و الرخاء و طیب السکان فالراجح ان النبی أراد باللاواء الشدّة العارضة التی اصابت المدینة من جراء و باء عارض حلّ بها فی فترة من الزمان، و هی الفترة الاولی من التجاء المهاجرین الی المدینة فقد روی عن عائشة انها قالت:
لما قدم المهاجرون المدینة اشتکوا بها- ای مرضوا- فعاد النبی (ص) أبا بکر (ض) فقال:
- کیف تجدک؟ فقال ابو بکر:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 47 کل امری‌ء مصبّح فی أهله‌و الموت أدنی من شراک نعله
ثم دخل النبی علی عامر بن فهیرة فقال:
- کیف تجدک یا عامر؟ فقال عامر:
إنی وجدت الموت قبل ذوقه‌إنّ الجبان حتفه من فوقه
کالثور یحمی جلده بروقه ثم دخل رسول اللّه (ص) علی بلال، فقال:
- کیف تجدک یا بلال؟ فقال بلال:
ألا لیت شعری هل أبیتنّ لیلةبفخّ و حولی أذخر و جلیل
و هل أردن یوما میاه مجنّةو هل یبدون لی شامة و طفیل
و إذا کان مجال الشکوک فی صحة هذا الخبر من حیث الشعر واسعا و موضعا للمناقشة فلیس هنالک ای شک فی ان و باء من الحمی کان قد اجتاح المدینة فی تلک الاوقات بحیث حمل النبی (ص) ان یدعو قائلا:
«اللهم حبّب الینا المدینة کحبنا مکّة و اشدّ، و صححّها، و بارک لنا فی صاعها و مدّها، و انقل حمّاها فاجعلها بالجحفة» و ذلک حین رأی شکوی اصحابه من وباء المدینة و اضاف بعضهم (خیبر) الی الجحفة فی دعاء النبی و قال: ان النبی (ص) قال: و انقل حمّاها الی خیبر و الجحفة باعتبارهما من منازل الیهود.
و لا بد ان السجایا و الفضائل التی اتصفت بها المدینة کانت من مواریث اجیالها المتقدمة لان اکتساب هذه الصفات لا یمکن ان تأتی مرة واحدة و بین لیلة و ضحاها، و حین جاء الاسلام صقلها و أید الطیب منها، و دعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 48
لنبذ الردی‌ء، من الاخلاق التی صاحبت الجاهلیة، فکان للمدینة و سکانها من الانصار شأن بحیث اکثر القرآن من الثناء علیهم .
و قد خصّ الکثیر من أهل المدینة بخصائص اعتبرت قدوة عند المسلمین، و من بعض هولاء کان عاصم بن الأفلح، و کان حبیب بن ثابت، و کان حنظلة بن زاهب، و کان مالک بن التیهان الأوسی، و منهم کان سعد بن معاذ و هو سید الاوس الذی قال عنه رسول اللّه (ص): اهتّز العرش بموت سعد بن معاذ، لقد قالها من باب المجاز تکریما لسعد، و ان لکل اولئک و امثالهم قصصا تدخل ضمن الاخبار اکثر مما تدخل ضمن التاریخ الممحوص.
و من اشهر اولئک کان خزیمة بن ثابت الاوسی المعروف بذی الشهادتین و قد شهد مع رسول اللّه (ص) بدرا و ما بعدها، و لقّب بذی الشهادتین لقصة اجمع علیها المؤرخون و قالوا: ان النبی ابتاع فرسا من أعرابی- کان اسمه کما جاء فی اسد الغابة-: سواء بن قیس المحاربی فاستتبعه النبی لیقضی ثمن فرسه، فأسرع النبی (ص) المشی و ابطأ الأعرابی، و اعترض الاعرابی رجال یساومونه بالفرس و لا یشعرون ان النبی قد ابتاعه حتی زاد بعضهم الاعرابی فی ثمن الفرس، فنادی الاعرابی و قال:
- إن کنت مبتاعا هذا الفرس- یخاطب النبی- فابتعه و إلا بعته ...
فقام النبی و قال:
- او لیس قد ابتعته منک؟
فقال الاعرابی- لا و اللّه و ما بعتک!!
قال النبی- بلی قد ابتعته منک.
فاجتمع الناس علیهما و هما یتراجعان، فجعل الاعرابی یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 49
- هلمّ شهیدا یشهد أنی بعتک،
فجاء من المسلمین من قال للاعرابی: ویلک ان النبی لم یکن یقول إلا حقا، و جاءهم (خزیمة) فاستمع لمراجعة النبی و الاعرابی، و سمع الاعرابی یقول: هلمّ شهیدا یشهد انی بایعتک، فقال خزیمة: انا أشهد انک قد بایعته، فقال النبی: ما حملک علی الشهادة و لم تکن معنا حاضرا؟
فقال خزیمة- صدّقت بما جئت به، و علمت انک لا تقول الا حقا، و فی: روایة قال انا اصدّقک بخبر السماء و لا اصدّقک بما تقول- فقال رسول اللّه (ص) «من شهد له خزیمة او شهد علیه فهو حسبه».
و کان هذا سبب تلقیب خزیمة (بذی الشهادتین)، و اصبحت شهادته بعد هذا تعدل شهادة رجلین، حتی اذا أراد الخلیفة عمر بن الخطاب (ض) ان یجمع القرآن قال: من کان تلقی من رسول اللّه شیئا من القرآن فلیأتنا به، و کانوا قد کتبوا ذلک فی الصحف، و الالواح، و العسب (جرید النخل) و کان عمر لا یقبل شیئا من ذلک حتی یشهد علیه شهیدان، فجاءهم خزیمة بالآیة: «من المؤمنین رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه علیه»، و اکتفی الخلیفة بشهادته علیها و قال: «لا اسألک علیها شاهدا غیرک».
و اصبحت هذه المیزة لخزیمة مدعاة فخر لقبیلة الأوس، حتی اذا ما افتخر الحیّان: الاوس، و الخزرج، قال الاوس: «و منّا ... و منّا من جعل رسول اللّه شهادته بشهادة رجلین: خزیمة».
و استشهد خزیمة هذا تحت رایة علی (ع) بصفّین سنة سبع و ثلاثین و أجمع المؤرخون فی بیان وفاته و قالوا: شهد خزیمة مع علیّ (الجمل) و (صفین) کافا سلاحه و هو یقول: «لا اقاتل حتی یقتل عمّار فأنظر من یقتله فانی سمعت رسول اللّه (ص) یقول: «عمّار تقتله الفئة الباغیة»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 50
فلما قتل عمار، قال خزیمة: قد بانت لی الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتی قتل .
و إتماما للفائدة نأتی بخلاصة من تعلیق العالم المحقق السید مرتضی العسکری علی مقتل خزیمة الرجل الذی تفخر به المدینة و تباهی بامثاله المدن الأخری.
یقول العسکری: و کان وقع مثل خزیمة عظیما علی أمیر المؤمنین علی (ع) و قد ذکره بشجو فی خطبته التی انتدب فیها أهل الکوفة لحرب اهل الشام، و قال: «ما ضرّ اخوانی الذین سفکت دماؤهم بصفین ان یکونوا الیوم احیاء یستسیغون الغصص، و یشربون الرنق- الی قوله-: این اخوانی الذین رکبوا الطریق، و مضوا علی الحق، این عمّار؟ و این ابن التیهان؟
و این ذو الشهادتین؟
هذا هو الصحابی خزیمة ذو الشهادتین. و کان فی قصة استشهاده منقصة مزدوجة لبنی أمیة فی قتلهم ایاه و هو ذو الشهادتین و من مشاهیر اصحاب رسول اللّه (ص)، و من مفاخر الاوس، و هذه هی المنقصة الاولی بکونهم قتلوا شخصا کهذا، و المنقصة الثانیة کونهم قد اثبتوا انهم هم الفئة الباغیة التی نسب النبی البغی للفئة التی تقتل خزیمة ..
و ان شهادة النبی (ص) فی ضلالة قاتلی خزیمة قد حملت سیف بن عمر التمیمی الذی وقف نفسه لخدمة بنی أمیة و ممالئة سلطتهم نشدانا للنعمة و الجاه، لقد حملته علی ان یحاول محو هذا العار عن بنی امیة فیختلق صحابیا آخر باسم خزیمة بن ثابت لیکون هو المقتول فی صفین بسیوف امیة و لیس خزیمة ذا الشهادتین!؟ و قد وضع لذلک من الحدیث ما انطلی امره علی الطبری فاورده فی تاریخه نقلا عن سیف الذی نقله عن محمد و عن طلحة و مضمونه: ان علیا (ع) لما رأی من أهل المدینة ما لم یرض،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 51
جمع وجوه أهل المدینة و خطب فیهم، و طلب منهم ان ینصروه- علی حد قول سیف- فأجابه رجلان من اعلام الانضار: ابو الهیثم بن التیهان- و هو بدری- و خزیمة بن ثابت- و قال سیف علی ما روی الطبری:
و لیس هذا بذی الشهادتین لأن ذا الشهادتین مات فی زمن عثمان (ض) و راح سیف یعزّز روایته هذه بما اختلق من الاخبار لیزیل ما علق بذهن الناس عن قاتلی خزیمة مبالغة فی خدمته لبنی امیة.
و یقول العسکری: و یطول علینا المقام ان حاولنا إیراد اسماء الحاضرین من أهل المدینة مع الإمام علی (ع) فی حروبه، لذلک سنقتصر علی ذکر عددهم مما جاء فی (تاریخ الاسلام الکبیر) للذهبی فقد روی ان عدد أهل المدینة مع علی فی (الجمل) کان اربعة آلاف، و فی روایة بعدها: کان مع علی (ع) یوم وقعة الجمل ثمانمایة من الانصار، و سبعمایة ممن شهد بیعة الرضوان و فی روایة بعدها: شهد مع علی یوم الجمل مائة و ثلاثون (بدریّا) و سبعمایة من اصحاب النبی و کان معظم هؤلاء من الانصار المدینیین، و مثل هذه الاخبار عن أهل المدینة و رجالاتها تشهد بتمیزها منذ العصور القدیمة حتی العصر الاسلامی.
و یبدو من تصفح الاخبار و استعراض التاریخ ان أهل یثرب کانوا اکثر تبصرا بالأمور، و اکثر ادراکا لقیمة العقل، و اقل تعصبا للتقالید الموروثة علی رغم تلک الحروب الضاریة التی کانت تقوم بینهم و بین من یغزوهم، و علی رغم تعصب الاوس و الخزرج کل لآله و أسرته و قبیلته، و لیس أدلّ علی فهم (المدینیین) و وعیهم من قبول الدعوة الاسلامیة و هی دعوة جاءت لتهدم کل معتقداتهم، و تزیل من الوجود کل تقالیدهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 52
الموروثة، و تقلب حیاتهم رأسا علی عقب لو لم یکونوا علی شی‌ء من الوعی و التروی و تحکیم العقل فی الامور العامة،
فالمروی عن جابر بن عبد اللّه الانصاری: ان رسول اللّه (ص) لبث بمکة عشر سنین یتبع الحاج فی منازلهم فی الموسم بمجنّة، و عکاظ، و منازلهم بمنی، و یقول: من یؤوینی و ینصرنی حتی ابلغ رسالات ربی و له الجنّة؟
فلا یجد احدا یؤویه، و لا من ینصره، حتی ان الرجل الذی یرید ان یرحل من مصر او الیمن یأتیه قومه أو ذو رحمه فیقولون له: إحذر فتی قریش- یعنون محمدا- لا یفتنک- انه- یمشی بین رجالهم و یدعوهم- الی- اللّه عز و جل،- و هم- یشیرون الیه باصابعهم حتی- یقول جابر- بعثنا اللّه عز و جلّ من یثرب فیأتیه الرجل منّا فیؤمن به و یقرئه القرآن فینقلب الی اهله فیسلمون باسلامه حتی لم تبق دار من دور یثرب إلا و فیها رهط من المسلمین یظهرون الاسلام، ثم بعثنا اللّه عز و جل له فأتمرنا، و اجتمعنا سبعین رجلا منا فقلنا حتی متی ندع رسول اللّه (ص) یطرد فی جبال مکة و یخاف؟- و یقول جابر الانصاری- فرحلنا حتی قدمنا علیه فی الموسم فتواعدنا شعب (العقبة) و اجتمعنا فیه من رجل و رجلین حتی توافینا عنده، فقلنا یا رسول اللّه علی من نبایعک؟ قال تبایعوننی علی السمع و الطاعة فی النشاط و الکسل، و علی التفقد فی العسر و الیسر، و علی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، و علی ان تقوموا فی اللّه لا تأخذکم فی اللّه لومة لائم، و علی ان تنصرونی اذا قدمت علیکم یثرب فتمنعونی مما تمنعون منه انفسکم، و ابناءکم، و ازواجکم و لکم الجنّة.
یقول جابر الانصاری: فقمنا الیه نبایعه فأخذ بیده أسعد بن زرارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 53
و هو اصغر السبعین رجلا إلا أنا، فقال: رویدا یا أهل یثرب، إنّا لم نضرب الیه اکباد المطیّ إلا و نحن نعلم انه رسول اللّه، و ان إخراجه الیوم شیخ من شیوخ قریش علی ما یتخیل (برتون) مترجم الف لیلة و لیلة الی الانکلیزیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 54
مفارقة العرب کافة، و قتل خیارکم، و ان تعضّکم السیوف، فاما انتم قوم تصبرون علی عضّ السیوف اذا مستّکم، و علی قتل خیارکم، و مفارقة العرب کافة، فخذوه و أجرکم علی اللّه، .. و اما انتم قوم تخافون علی انفسکم خیفة فذروه هو اعذر لکم عند اللّه، قالوا أمط عنا یدک یا اسعد بن زرارة، لا تذر هذه البیعة و لا نستقبلها، فقمنا الیه رجلا رجلا یأخذ علینا شرطه و یعطینا علی ذلک الجنة و اصبح هذا المکان مسجد البیعة و هو واقع علی یسار الذاهب الی منی، و یسمی الموضع الذی فیه المسجد (شعب البیعة) و (شعب الانصاری) و قد بقی اثره الی الیوم .
و فی الطبقات الکبری لابن سعد ان النبی (ص) اقام بمکة ما اقام یدعو القبائل الی اللّه و یعرض نفسه علیهم کل سنة بمجنّة، و عکاظ، و منی، ان یؤوه حتی یبلغ رسالة ربه و لهم الجنة فلیست قبیلة من العرب تستجیب له و یؤذی و یشتم حتی أراد اللّه اظهار دینه، و نصر نبیه، و انجاز ما وعده، فساقه الی هذا الحی- یرید به المدینة- من الانصار لما أراد اللّه بهم من الکرامة، فانتهی الی نفر منهم و هم یحلقون رؤسهم فجلس الیهم فدعاهم الی اللّه، و قرأ علیهم القرآن فاستجابوا للّه و لرسوله، فاسرعوا و آمنوا و صدقوا، و آووا، و نصروا، و واسوا، و کانوا و اللّه اطول الناس السنة؛ و أحدّهم سیوفا .
و مثل هذا الایمان الصادق، و مثل هذه الشجاعة التی لم تبال بجموع العرب فی تألبهم علی الیثربیین، و مثل هذه الشهامة التی لاحت من أهل المدینة فی اپواء النبی لأمور لیس من السهل قبولها ما لم یکن لدی سکان هذه المدینة من سالف الزمن من المثل العالیة، و الطیبة، و سمو الاخلاق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 55
و لو بنسبة محدودة معینة جعل للمدینة و سکانها میزة محسوسة ملموسة بین المدن العربیة الاخری فی الازمان السالفة.
و لقد أحسّ النبی (ص) بهذه المیزة فاثنی علیها فی مختلف المناسبات و ذکرها بالحمد و الثناء، و لم ینزل بیوت مکة بعد ان سکن المدینة، و یقول ابن جریج نقلا عن عطاء: ان النبی کان اذا طاف بالبیت انطلق إلی أعلی مکة فضرب به الأبنیة، و لم ینزل بیوت مکة بعد ان سکن المدینة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 56

عوامل السکن و التمصیر

عوامل قیام القری و الدساکر و المدن فی العالم منذ اقدم تاریخ البشریة حتی الیوم احد ثلاثة هی الزراعة، و الصناعة، و التجارة بجمیع مفاهیمها الاقتصادیة و لما کان لهذه المنطقة من ارض الحجاز من المؤهلات الکافیة من هذه العوامل الثلاثة التی تجعل منها بلدا مرموقا عامرا بالنسبة لکثیر من مواقع جزیرة العرب أمّها السکان من کل جانب، و قامت فیها علی مرور الزمن مدینة (یثرب) و عدد من القری و الحصون الآهلة بالسکان، حتی لقد تنافست علی امتلاکها القبائل و الامم و قد بلغ من امرها ان امتّد نفوذها ذات یوم الی مسافات شاسعة من شمال الحجاز من تیماء و تبوک، و الی جهات البحر الاحمر من الغرب، و اصبح الکثیر من هذه القری و الأودیة و حتی (مدین) و جبالها ذات یوم من ملحقات یثرب و حکامها، بل ان هذه العوامل التی یعود الیها تمصیر هذه البقاع و قیام هذه المدینة بسبب الخصب و النماء و الصناعة و التجارة کثیرا ما أطمعت بها الدول البعیدة و جعلتها احدی امنیات الغزاة و موطن رجائها.

قوام الزراعة و میاه المدینة

و قوام الزراعة هی المیاه، و حیث توفرت المیاه الصالحة و الأرض الصالحة کثر الخصب و النماء، و قد کان لوفرة المیاه فی هذا القسم من الحجاز الشمالی- یثرب و توابعها- اثره فی تمصیر هذه المدینة و عمران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 57
ضیاعها، فقد جادت علیها الطبیعة بعدد من الودیان، و العیون، و الابار التی یرجع الیها الفضل فی انتعاش زراعتها- و استثمار ارضها، و اذا کانت بعض تلک العیون و الابار غیر صالحة للشرب، او کان بعضها موبوء کبئر (الملک) التی احتفرها (تبّع) علی ما قیل فی (المدینة) فان هناک عیونا و آبارا اشتهرت بعذوبتها کبئر (رومة) فی المدینة، و بئر (عروة) من آبار عقیق المدینة التی ارسل ماؤها علی سبیل الهدیة الی هرون الرشید و هو مقیم (بالرقّة) و علی شاطی‌ء الفرات العذب!!
و الکثیر من هذه المیاه جوفیة تستخرج بواسطة حفر الآبار لذلک کثرت الابار فی هذه المنطقة و فی نفس مدینة (یثرب) بحیث سدّت حاجة السکان من الشرب و غرس النخیل، ورعی الابل و الغنم، و علی رغم ان الکثیر من هذه الابار قد عرف باسم عدد من مشاهیر العرب و المسلمین من سکان یثرب فان الأغلب منها کان قدیما و من عهود بعیدة، یؤید ذلک وجود السکان القدماء و بعض الاسماء غیر العربیة التی تطلق علی تلک الابار و التی بقیت علی حالها و لم تتبدل، و یغلب علی الظن ان الاسماء العربیة و الاسلامیة التی اطلقت علی هذه الابار فانما اطلقت علی اساس امتلاکها لا علی اساس حفرها و تاریخها، و لا یعنی هذا ان کل الابار التی ورد اسمها فی التواریخ کانت کلها من آبار العهود الماضیة ذلک لان عددا من الابار قد حفر فی المدینة و ملحقاتها فی عصور مختلفة من العصور الاسلامیة.
و ما عدا الابار التی فاضت بخیراتها علی سکان یثرب و توابعها فان هناک اودیة تفیض بالمیاه فی مواسم المطر الذی قد یبلغ من غزارته ان یخرب الطرق، و یقطع طرق المواصلات، و یهدم البیوت، و یقتلع الأشجار، و حتی هذا الیوم و الامطار و السیول تنزل فی جهات یثرب و شمال الحجاز بغزارة مدهشة.
و قد روی الدکتور محمد حسین هیکل و هو علی مسافة قریبة من المدینة و فی قریة بنی حصان: انه لقی بسبب غوص السیارة فی الرمل شیئا من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 58
العنت فقال احد السکان: «إنها سیول هذا العام أفسدت الطریق و کان من قبل صالحا، فقد انهمرت و بلغ انهمارها حدا لا عهد لنا به مذ عرفنا الحیاة، و کان من ذلک ان ارتفعت المیاه فی هذا الوادی حتی غمرت سیارة من سیارات اللوری فمات بها اثنا عشر من راکبیها».
و اضاف القائل و هو یشیر الی الفندق الذی نزله هیکل قائلا: «و قد بلغت المیاه هذا الفندق و کادت توهن جدرانه لو لا متانة بنائه».
و یقول هیکل: و عجبت لما سمعت، و قلت للرجل: و ماذا کان یفعل آباؤکم الاولون و قد کان هذا طریقهم من مکة الی یثرب و الی الشام .
و کان سکان یثرب ینتفعون بمیاه الامطار فی مواسم المطر، و عند الجفاف کان یسهل استخراج المیاه من بطون تلک الودیان بمجرد إزالة قلیل من التراب او حفر بعض الحفر فی اعماقها.
و إننا نورد هنا أهم موارد المیاه من الودیان، و العیون، و الابار التی یعود لها فضل تمصیر تلک البقاع و قیام مدینة یثرب بالذات کاحد عوامل الازدهار و السکن.

الودیان- 1

وادی العقیق

و العقیق لغة الوادی، و کل مسیل شقه ماء السیل فأنهره و وسعّه، و العقیق بالمدینة فیه عیون و نخیل و قد قیل عن عقیق المدینة انه عقیقان:
الأکبر، و هو ما یلی الحرّة ما بین ارض عروة بن الزبیر الی قصر المراجل و مما یلی الحمی ما بین قصور عبد العزیز بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عمرو بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 59
عثمان الی قصر المراجل ثم الذهاب بالعقیق صعدا الی منتهی البقیع،.
و العقیق الاصغر ما سفل عن قصر المراجل الی منتهی العرصة، و فی عقیق المدینة یقول الشاعر:
إنی مررت علی العقیق و أهله‌یشکون من مطر الربیع نزورا
ما ضرّکم إن کان جعفر جارکم‌ان لا یکون عقیقکم ممطورا
و هناک عقیق آخر هو اکبر من ذینک العقیقین فی المدینة و قد أقیمت علی العقیق قصور و مبان منذ القدیم، و هو واقع فی غربی (المدینة) و مصدر (حضیر) علی مسیرة یوم و نصف یوم منها علی ما عینه عبد القدوس الانصاری فی (آثار المدینة المنورة)، و فی العقیق عدد کبیر من الآبار.

وادی القری

و هو اشهر اودیة الحجاز و اوسعها یمتد بین المدینة و الشام، و قد کان مشهورا بغزارة میاهه، و کثرة عیونه، و قد روی الرواة انه استخرجت فی أیام معاویة ثمانون عینا فیه بعد ان کان هذا الوادی قد أهمل لترک سکانه له، و قد استنتج بعض المؤرخین من تسمیته بوادی القری کثرة ما کان علیه من القری بسبب غزارة میاهه.

وادی مذینیب

و یقع وادی مذینیب علی نحو سبعة أمیال من (المدینة) و هو من أشهر و دیان المدینة قامت علیه منازل بنی النضیر و هم اول من احتفر به، و بنی، و غرس، و قد نزل علیهم بعض قبائل العرب فشارکهم فی ذلک، و من هؤلاء الاشراف والد کعب صاحب الحصن المشهور باسمه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 60

العیون- 2

عین فدک

و فی (فدک) عین فوارة، و نخیل کثیرة، هی اشهر عیون یثرب، و فدک هذه واقعة فی شمال المدینة و علی مسافة قلیلة منها- کما سیأتی الحدیث عنها- و لمیاهها فی التاریخ شهرة کبیرة.

عیون الفرع

و فی الفرع، و هی فی جنوب المدینة عیون کثیرة ورد ذکرها و ذکر نخیلها فی کثیر من المصادر و الاخبار و علی الاخص معجم البلدان.

عین دومة الجندل

و فی دومة الجندل بین دمشق و بین المدینة عین قال عنها یاقوت الحموی انها عین تثج فتسقی ما به من النخل و الزرع، و قد جاء فی عهد النبی (ص) (لأکیدر) صاحب دومة الجندل: ان له (الضامئة) ای النخل، و (المعین) من المعمور و هو الماء الدائم .

عین أبی نیزر و عین البغیبغة

و هما عینان فی ضیعتین من ضیاع المدینة یجری فیهما جدول یسمی (بالربیع) اما ابو نیزر فهو من ولد النجاشی رغب فی الاسلام صغیرا و اتی رسول اللّه (ص) علی ما روی ابو محلم محمد بن هشام فی اسناده، و کان معه فی بیوته، فلما توفی رسول اللّه (ص) صار مع فاطمة و ولدها، قال ابو نیزر جاءنی علی بن ابی طالب (ع) و أنا اقوم بالضیعتین: عین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 61
ابی نیزر و البغیبغة فقال: هل عندک طعام؟ فقلت طعام لا ارضاه لأمیر المؤمنین، قرع من قرع الضیعة صنعته بإهالة سنخة، فقال: علیّ به، فقام الی (الربیع) و هو جدول فغسل یدیه ثم اصاب من ذلک شیئا ثم رجع الی (الربیع) فغسل یدیه بالرمل حتی انقاهما ثم ضم یدیه کل واحدة منهما الی اختها و شرب منهما حسی من (الربیع) ثم اخذ المعول و انحدر فجعل یضرب و أبطأ علیه الماء فخرج و قد تنضح جبینه عرقا فانتکف العرق من جبینه ثم اخذ المعول و عاد الی العین فاقبل یضرب فیها و جعل یهمهم فانثالت کأنها عنق جزور، فخرج مسرعا و قال: اشهد اللّه انها صدقة: علیّ بدواة و صحیفة، فعجلت بهما الیه فکتب:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، هذا ما تصدق به عبد اللّه علی امیر المؤمنین (ع) تصدق بالضیعتین بعین ابی نیزر و البغیبغة علی فقراء أهل المدینة، و ابن السبیل لیقی بهما وجهه حر النار یوم القیامة لا تباعان و لا توهبان حتی یرثهما اللّه و هو خیر الوارثین الا أن یحتاج الیهما الحسن و الحسین فهما طلق لهما و لیس لاحد غیرهما».
قال ابو محلم محمد بن هشام: فرکب الحسین دین فحمل الیه معاویة بعین ابی نیزر مائتی الف دینار فأبی ان یبیع و قال: «انما تصدق بهما ابی لیقی اللّه وجهه حرّ النار و لست بائعهما بشی‌ء».
و البغیبغة فی اللغة البئر القریبة الرشاء و کل ماء کان قامة او نحوها سمی بالبغیبغ و قال یاقوت فلم تزل هذه الضیعة فی یدی بنی عبد اللّه بن جعفر من ناحیة ام کلثوم یتوارثونها حتی استخلف المأمون، فذکر ذلک له فقال:
کلا هذه وقف علی بن ابی طالب (ع) علی ولد فاطمة، فانتزعها من ایدیهم و عوضهم عنها، وردّها الی ما کانت علیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 62

الآبار- 3

اشارة

و ما عدا هذه الاودیة و العیون و دیان و عیون اخری ورد ذکرها عرضا فی کتب التاریخ و الروایات و الاخبار و الاحادیث، کما ورد ذکر عدد کبیر من الابار و فی ضمنها آبار عرفت بالعذوبة، و حین جاء الاسلام و استوطن النبی (ص) یثرب بارک بعض هذه الابار و اضفی علیها شیئا من القدسیة التی اشارت الیها کتب الحدیث، اما أهم آبار یثرب التاریخیة فهی:

بئر غرس

و بئر غرس بئر فی (المدینة) بینها و بین مسجد قبا نحو نصف میل و هی واقعة فی الشمال الغربی من المدینة عذبة المیاه کان النبی (ص) یستعذب ماءها و یستطیبه، و یبارکه، و تقول الروایات: ان النبی (ص) حین حضرته الوفاة اوصی علیّا (ع) قائلا: «اذا انا متّ فاغسلنی من ماء بئر غرس بسبع قرب» .
و فی حدیث ابن عمر قال: قال رسول اللّه (ص) و هو قاعد علی شفیر (غرس) رأیت اللیلة کأنی جالس علی عین من عیون الجنة یعنی بئر غرس و (غرس من عیون الجنة) رواه ابن عباس .

بئر أرما

و من اشهر آبار یثرب القدیمة بئر عرفت ببئر أرما، و یستدل علی قدمها من اسمها و کون هذا الاسم أعجمیا، و هی بئر واقعة علی ثلاثة أمیال من (المدینة) و عندها کانت غزاة ذات الرقاع، و قد ضبطها (تاج العروس) بالالف المقصورة و قال عنها: «و بئر أرمی کحمی قرب المدینة».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 63
ماء بارد زلال لسقایة الحجیج داخل المسجد النبوی الشریف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 64

بئر أریس

و بئر أریس هی الاخری من اشهر آبار المدینة القدیمة التی ظل اسمها غیر العربی شاهدا علی قدمها، و هی بئر بیثرب فی غربیها مقابل مسجد قبا.
قال احمد بن یحیی بن جابر: نسبت هذه البئر الی (أریس) و هو رجل من المدینة من الیهود رواه الحموی، و قد اشتهرت هذه البئر بحادثة اوردتها کتب الاخبار و هی ان للنبی (ص) کان خاتم فی ید عثمان بن عفان (ض) و هو فی السنة السادسة من خلافته فسقط الخاتم من یده فی هذه البئر، و اجتهد عثمان فی استخراجه بکل ما وجد الیه سبیلا فلم یظفر بنتیجة فاستدلوا بعدم وجوده علی وقوع حادث فی الاسلام عظیم، و قالوا: ان عثمان لما مال عن سیرة من کان قبله کان اول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللّه (ص) من یده، و قد کان قبله فی ید ابی بکر (ض) ثم فی ید عمر (ض) ثم فی ید عثمان .
و یقول ابن الاثیر فی وصف هذا الخاتم ان نقشه کان ثلاثة اسطر:
(محمد: سطر، و رسول، سطر، و اللّه: سطر) فتختّم به رسول اللّه حتی توفی ثم تختّم به ابو بکر ثم عمر ثم تختم به عثمان ست سنین، ثم سقط منه فی بئر (أریس) حین کان عثمان یعبث به، فطلبوه فیها و نزحوا ما فیها من الماء فلم مقدروا علیه، و لما یئس عثمان (ض) صنع خاتما آخر علی مثاله و نقشه، فبقی فی اصبعه حتی هلک ، فلما ذهب ذهب الخاتم فلم یدر من أخذه.

بئر حا

هی فی شمال شرقی المدینة و لا یفصلها عنها الا مسافة قلیلة جدا و لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 65
یعرف بالضبط سبب تسمیتها ببئر (حا) و قد زارها ابن النجار فی اوائل القرن السابع الهجری فوجدها معمورة و قال عنها: انها واقعة وسط حدیقة صغیرة جدا، و عندها نخلات، و یزرع حولها، و عندها بیت مبنی علی علو من الارض و هی قریبة من سور المدینة، و هی ملک لبعض اهل المدینة، و ماؤها عذب حلو، ثم یقول: و ذرعتها فکان طولها عشرة أذرع و نصف ماء، و الباقی بنیان، و عرضها ثلاثة أذرع و شبر.
و قد عین ابن النجار موقعها من المسجد فقال انها مقابل المسجد.
و بئر (حا) هذه من الآبار التاریخیة القدیمة، کان یدخلها رسول اللّه (ص) و یشرب من مائها العذب.
و روی البخاری فی (الصحیح) من حدیث أنس بن مالک قال: کان ابو طلحه أکثر انصار المدینة مالا من نخل، و کان احب أمواله الیه بئر (حا) فلما نزلت هذه الآیة: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» قال ابو طلحة لرسول اللّه (ص):
ان أحب أموالی الیّ (بئر حا) و انها صدقة للّه أرجو برّها و ذخرها عند اللّه، فضعها یا رسول اللّه حیث أراک اللّه.
فقال رسول اللّه (ص): بخ بخ ذلک مال رابح، و انی أری ان تجعلها فی الاقربین.
فقسمها ابو طلحة فی اقاربه و بنی عمه .

بئر بضاعة

و بضاعة هذه دار بنی ساعدة (بالمدینة) و بئرها مشهورة بلون من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 66
القدسیة التی تحمل السکان علی الاعتقاد بانها تشفی المرضی، و یبدو من استقصاء أخبارها أنها کانت بئرا مشوبة باختلاطات من المیاه غیر الصافیة، و لذلک کانت الفتوی التی افتاها النبی (ص) بخصائص الماء و طهارته و کون الماء طاهرا ما لم یتغیر. و تحدید هذا التغیر انما کانت بشأن هذه البئر،
و فی الخبر: ان النبی (ص) أتی بئر بضاعة هذه فتوضأ من الدلو، و شرب منها، وردها الی البئر . و کان اذا مرض المریض فی أیام النبی (ص) یقول: اغسلونی من ماء بضاعة فیغسل فکأنما أنشط من عقال، و جاء فی الاخبار عن شیوع تبرک الناس بماء هذه البئر و شفاء المرضی ان اسماء بنت ابی بکر (ض) قالت: کنا نغسل المرضی من بئر بضاعة ثلاثة أیام فیعافون.
و هی عین جاریة الی بساتین یشرب منها، و قد رد البعض بهذا علی من قال باختلاط المیاه القذرة بها و احتمال نجاستها، و اعتبرها طاهرة ما دامت میاهها جاریة، و ما دام النبی قد توضأ بها و شرب منها، و حدّد طهارة الماء بسببها، و زارها ابن النجار فی أوائل القرن السابع الهجری و قال انه وجدها فی بستان و ان ماءها عذب طیب، و لونه صاف ابیض و ریحه کذلک و یستقی منها کثیرا، و یقول: و قد ذرعتها فکان ان طولها احد عشر ذراعا و شبرا .

بئر رومة

بئر فی عقیق المدینة و قد بارکها النبی (ص) فقال عنها: نعم القلیب قلیب المزنی- و القلیب هو البئر و المقصود بالمزنی (رومة)- و نقل یاقوت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 67
عن الکثیر من الرواة ان المهاجرین لما قدموا المدینة استنکروا الماء، و کان لرجل من بنی غفار بئر یقال لها (رومة) کان یبیع منها القربة بالمّد، فقال له رسول اللّه (ص) بعنیها بعین فی الجنّة، فقال یا رسول اللّه: لیس لی و لعیالی غیرها لا استطیع ذلک، فبلغ ذلک عثمان (ض) فاشتراها بخمسة و ثلاثین الف درهم، و صار الناس یستقون منها.
و جاء فی معجم البلدان: ان مصعب بن عبد اللّه الزبیری قد ذکر (رومة) و تشوقها و هو بالعراق فقال:
أقول لثابت و العین تهمی‌دموعا ما أنهنئها انحدارا
أعرنی نظرة بقری دجیل‌تحایلها ظلاما أو نهارا
فقال: أری (برومة) او بسلع‌منازلنا معطلة قفارا
و قال أهل السیر لما قدم (تبعّ) المدینة، و کان منزله (بقبا) و احتفر البئر التی یقال لها (بئر الملک) و به سمیت فاحتوی ماءها، فدخلت علیه امرأة من بنی زریق یقال لها (فاکهة) فشکا إلیها و باء بئره، فانطلقت و استقت له من بئر (رومة) ثم جاءته به فشربه فاعجبه، فقال لها: زیدی، فکانت تصیر الیه مقامه بالماء من (رومة) .
و حین حوصر عثمان فی داره حالوا بینه و بین ما یرید، و منعوه کل شی‌ء حتی الماء، فاشرف عثمان یوما علی محاصریه و سلم علیهم ثم قال:
أنشدکم اللّه، هل تعلمون انی اشتریت بئر (رومة) بمالی لیستعذب بها فجعلت رشائی فیها کرجل من المسلمین؟ قالوا نعم.
قال: فلم تمنعوننی ان اشرب منها حتی افطر علی ماء البحر .
و زار ابن النجار بئر (رومة) فی اوائل القرن السابع الهجری فی اثناء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 68
طوافه بالمدینة و ربوعها فقال عنها: و هذه البئر بعیدة عن المدینة جدا و هی فی براح واسع من الأرض وطئی، و عندها بناء من حجارة خراب قیل انه کان دیرا لیهود، و حولها مزارع و آبار.
و یقول بعد ذلک: فذرعتها فکان طولها ثمانیة عشر ذراعا، و ماؤها صاف .

بئر رئاب

من آبار المدینة التی اشتهرت علی الالسن حتی قال احد الشعراء فیها:
أسل عمّن سلا و صالک عمداو تصابی، و ما به من تصابی
ثم لا تنسها علی ذاک حتی‌یسکن الحیّ عند بئر رئاب

بئر عروة

من اشهر آبار عقیق المدینة بئر عروة و هی منسوبة لعروة بن الزبیر بن العوام و قد قال علی بن الجهم فیها:
هذا العقیق فعدّ أیدی‌العیس من غلوائها
و اذا أطفت ببئر عروةفاسقنی من مائها
إنّا و عیشک ما ذممناالعیش فی أفنائها
قال الزبیر بن بکار: کان من یخرج من مکة و غیرها اذا مرّ بالعقیق تزوّد من ماء (بئر عروة) و کانوا یهدونه الی اهالیهم و یشربونه فی منازلهم، قال الزبیر: و رأیت أبی یأمر به فیغلی ثم یجعله فی القواریر و یهدیه الی الرشید و هو بالرقة، و الرقة کما هو معلوم واقعة علی الفرات و ان لعذوبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 69
ماء الفرات شهرة کبیرة، و من هذا یستبان ان ماء بئر عروة کانت اکثر عذوبة یحیث یستحق ان یهدی ماؤها الی الرشید و هو علی شاطی‌ء الفرات!!
و یقول السری بن عبد الرحمن الانصاری فی بئر عروة:
کفنونی إن متّ فی درع أروی‌و اجعلوا لی من بئر عروة مائی
سخنة فی الشتاء باردة الصیف‌سراج فی اللیلة الظلماء
و جاء فی آثار البلاد و اخبار العباد عن الزبیر بن بکار: «و ماء هذه البئر یأخذه من مرّ بالعقیق هدیة لأهله» .
*** هذا إضافة إلی عشرات العیون و الابار التی ورد ذکرها فی التاریخ و کتب الأخبار کعین (یحنّس» و قد کانت هذه العین للحسین بن علی ابن ابی طالب (ع) و کان للحسین (ع) غلام یسمی (یحنّس) و هو الذی استخرج هذه العین و قد باعها علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع) بسبعین ألف دینار قضی بها دین أبیه، و کان أبوه (الحسین) (ع) قتل و علیه دین هذا مقداره .
و بئر (ذروان) و هی بئر بمنازل بنی زریق بالمدینة، و بئر (جشم) و (بئر جمل) و بئر (الدریک) بالمدینة و بئر (عائشة) بالمدینة و هو عائشة بن نمیر بن واقف رجل من الأوس و لیس هو بامرأة، و بئر (أبی عنبة) و هی بئر بینها و بین المدینة مقدار میل، و بئر (السقیا) و هی بئر قدیمة و کانت ملکا لذکوان الزرقی و اشتراها منه سعد بن أ. وقاص، و بئر (غدق) و هی بئر بالمدینة و بئر (مطّلب) و هی بئر تقع علی سبعة أمیال من المدینة، و بئر (بنی مرق) و بئر (أنّا) و سماها البعض (أنّی)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 70
و هی من آبار بنی قریظة، و بئر (البصّة) بالقرب من البقیع.
هذا إلی جانب العدد الآخر من الودیان و العیون و الابار التی کان لها شأن کبیر فی تمصیر هذا الجانب من الحجاز کوادی (السیّالة) و هو واد یقع فی أول مرحلة لأهل المدینة إذا أرادوا مکة، و قد نقل یاقوت عنه علی روایة ابن الکلبی أنه قال: مرّ «تبّع» بالسیّالة بعد رجوعه من قتال أهل المدینة و وادیها یسیل فسماها (السیّالة) و وادی (الرّمة) المعروف بخصب الکلأ و کثرة العشب و المراعی و هو أکبر واد بنجد یجی‌ء من الغور و الحجاز أعلاه لأهل المدینة و بنی سلیم، و وادی (راثوناء) و هو فی الضاحیة الجنوبیة الغربیة للمدینة، و وادی بطحان، و قد روی عن النبی (ص) أنه قال: ان بطحان علی ترعة من ترع الجنّة، و وادی (مهزور) وادی (قناة) و هو یبعد عن المدینة فی أقرب جهاته نحو ثلاثین دقیقة بالمشی المتوسط علی ما عینه عبد القدوس الأنصاری، و وادی (رابغ) و هو واد له ذکر فی المغازی و فی أیام العرب بین (الابواء) و (الجحفة).
و من مواطن تجمّع المیاه المعروفة: (المهراس) و هو ماء بجبل (أحد) و هو فی أقصی شعب (أحد) یجتمع المطر هناک فی نقر کبار و صغار فیؤلف مجامیع من المیاه التی سمیت (بالمهراس).
و هناک مهراسان علی ما جاء فی (آثار المدینة المنورة) هما الآن مقیل للمتنزهین لوجود الماء العذب القراح فیهما خصوصا فی فصل الشتاء لکثرة هطول الأمطار فی المدینة فی هذا الفصل فتنساب المیاه من أعالی هضاب الجبل إلی هذه النقر فتمتلی‌ء و تفیض.
من کل هذه المنابع و غیرها التی یصعب حصرها لاندثار البعض منها و قلة شهرة البعض الآخر کانت (المدینة) و بقاعها و ملحقاتها تستمد میاه الشرب و الزراعة و المراعی، و لیس من شک أن الذی فات کتب التاریخ ذکره لاندثاره لم یکن قلیلا، فقد ذکر عبد القدوس الأنصاری فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 71
کتابه (آثار المدینة المنورة) أنه قد عثر فی اثناء الحفریات لإقامة أسس القسم الشمالی لمدرسة العلوم الشرعیة الحالیة فی المدینة و ذلک فی سنة 1352 هجریة وقعوا علی برکة صغیرة و مجاری میاه، و قطع من قلل المیاه علی عمق أربعة أمتار، و کل هذا دلیل علی ما کانت یثرب تتمتع به من الخصب و الثمر و الحاصلات الزراعیة المتنوعة بسبب کثرة المیاه التی أشرنا إلیها و دیانا، و عیونا، و آبارا.

الحاصلات الزراعیة

و کثرة هذه المیاه لا بد و أن توفر لهذه البقاع حاصلات زراعیة وافرة خصوصا حین یتم الحصول علی أرض صالحة للزراعة و لهذا کان الحجاز من المناطق التی حظیت بالکثیر من الزروع و الأشجار علی الأخص (الطائف) و ارباضها، و الودیان التی تمتد بین مکة و جده، و یثرب و ارباضها و ملحقاتها، و لا تزال هذه المناطق منذ القدیم حتی الآن تحتفظ بالکثیر من الینابیع و الودیان التی أتینا علی ذکر الکثیر منها، و لا تزال تتمتع بخضرة السهول، و جنات النخیل و الأعناب و مختلف الفواکه و الزروع.
و علی أن یثرب نفسها من مناطق الحرار المعروفة فی الجزیرة فقد اشتهرت هی و أطرافها و ملحقاتها بالخصب و النماء بسبب کثرة میاهها و وجود التربة الصالحة إلی جانب الصخور و المرتفعات، و المؤهلات الطبیعیة المتوفرة للزروع کوادی القری الذی لا بد و أن یکون قد سمی بذلک- کما أسلفنا- لکثرة قراه، و الذی عرف بکثرة بساتینه، و میاهه، و قراه فی التاریخ القدیم.
و المنطقة بین قباء و المدینة هی الأخری قد عرفت بکونها من أخصب مناطق یثرب بل لعلها أخصبها لذلک فهی تثمر جل فاکهة هذه البقاع و خضرواتها و من ثم کانت بسبب هذا الخصب و النماء متنزها لأهل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 72
یثرب، و مصحا ینتجعون فیه الراحة فی مختلف العصور، فکان الناس یخرجون الیها للتریّض و یقیم بها الناقهون استعادة للنشاط و القوة .
و خیر دلیل علی خصب المدینة هو وجود غابة کثیفة الشجر فی شمال المدینة و هی قائمة منذ العهود القدیمة حتی الیوم، و هی غابة کثیفة الشجر فی وسط أودیة کثیرة الشقوق تشغل مساحات شاسعة من الأرض بحیث یتعذر ارتیادها بغیر دلیل خبیر حتی هذا الیوم.
و لقد نقل السمهودی: أن الزبیر بن العوام کان قد اشتراها بمائة و سبعین ألفا، و بیعت فی ترکته بألف الف و ستمائة الف لذلک فلیس من العجیب أن یکون نصیب یثرب فی مختلف العصور القدیمة من الشجر و الزرع و الفاکهة کبیرا بحیث شمل صنوفا متعددة من الشجر و علی الأخص النخل و أنواع التمور و حتی صار النخل صفة من أکثر الصفات الملتصقة بأرض یثرب و لقد نسب لخنافر بن التوأم الحمیری- و کان کاهنا- زاعمین أنه کان یتلقی وحیه فی کهانته من ملهم کان یتراءی له فی الحلم و کان اسمه (شصار) فکان (رئیّا له) فلما ظهر النبی (ص) ظهر (شصار) لخنافر بن التوأم فی الحلم، و أوصاه بأن یؤمن بدین الإسلام، و حین سأله خنافر:
- کیف؟ و این؟
قال له شصار-: إلحق بیثرب ذات النخل (کذا).
و من أشهر بقاع یثرب و ضیاعها التی عرفت بزراعة النخیل، و کثرة التمور کانت قری (خیبر) فقد قال البخاری عن عائشة إنها قالت: لما فتحت خیبر قلنا الآن نشبع من التمر!!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 73
و عن ابن عمر قال: ما شبعنا- یعنی من التمر- حتی فتحنا خیبر .
و علی انه لم یعرف بالضبط متی عرفت النخلة و فی ای موطن من البلدان عرفت لاول مرة فإن هنالک کثیرا من المرجحات الدالة علی أن جزیرة العرب هی أقدم ما اعتبرها التاریخ موطنا للنخیل و ان القسم الجنوبی منها کالیمن، و المدینة المنورة، و الطائف، لمن اقدم تلک المواطن .
و لقد افادت یثرب من زراعة النخیل فی حیاتها الاقتصادیة و العمرانیة و الاجتماعیة فوائد کبیرة، فالی هذه النخلة یرجع تحسن أحوال السکان، و الخروج من حیاة البداوة، و تنظیم امور المعیشة النسبیة، و نمو الثروة اکثر مما یرجع الی المنتوجات الزراعیة الاخری.
سأل عمر رجلا من اهل (الطائف) الحبلة- ای شجرة الکرم- خیر ام النخلة؟ فقال الطائفی:
- الحبلة أتزببها، و اترببها، و اصلح بها برمتی- یعنی الخل- و انام فی ظلها.
فقال عمر-: لو حضرک رجل من أهل یثرب ردّ هذا علیک.
فدخل- حینذاک- عبد الرحمن بن محصن البخاری فاخبره عمر (ض) خبر الطائفی، فقال البخاری:
- لیس کما قال الطائفی، فانی إن آکل الزبیب أضرّس، و ان أترکه أغرث، لیس کالصقر- ای الدبس- فی رؤوس الرقل- ای النخل الطوال- الراسخات فی الوحل، المطعمات فی المحل، تحفة الکبیر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 74
و صمتة الصغیر، و زاد المسافر، و عصمة المقیم، و تخرسة مریم بنت عمران، و ینضج و لا یعنّی طابخه، و یحترش به الضّب من الصلفاء» .
و نستبین أثر النخلة فی حیاة یثرب الاقتصادیة، و قیمتها فی رفع مستوی یثرب بین العدد الکبیر من اصقاع جزیرة العرب و بلدانها الشهیرة، من حکایة تعود الی ما قبل میلاد المسیح عن شخص من قدماء سکان العراق و قد سئل:
- ما هی اثمار بلادکم؟
فأجاب: التمر.
ثم قیل له:- ثم ماذا؟
فأجاب: التمر ایضا.
فلما استغرب السائل قال الرجل:
- «اننا نستفید من النخل فوائد عدة، فاننا نستظل به من وهج الشمس، و نأکل ثمرته، و نعلف ماشیتنا بنواته، و نعلن عن افراحنا بسعفه، و نتخذ من عصارته عسلا و خمرا، و نصنع من جریده و خوصه الاوانی و الحصران و غیرها من الاثاث، و نصنع من جذعه خشبا لسقوفنا، و اعمدة لبیوتنا، و وقودا لطبخنا» .
و من المؤکد ان قدر النخلة و قیمتها الاقتصادیة فی حیاة المدینة کان معروفا فقد امتلأ التاریخ باخبارها و اخبار صنوف التمور فیها واهمیة تلک التمور- تمور یثرب بالذات- فی التجارة، و کانت النخلة تعد ثروة کبیرة عند أهل یثرب، و لها و لتمورها الشأن الاکبر فی حیاة السکان القدماء، و لذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 75
ظل مثل (عرقوب) فی مواعیده قائما منذ أقدم الأزمنة و ذلک لیس لغرابة خلف عرقوب لمواعیده فحسب و انما لقیمة التمر الذی عزّ علی الأخ ان یعین به أخاه و یسعفه و یسدّله به حاجته لما کان لهذا الثمر من شأن فی المعیشة بحیث جعل الأخ یبخل علی اخیه بحاصل نخلة واحدة لیسدّ به عوزه و هو طلع بعد و لم ینضج.
و القصة کما ترویها کتب الادب هی: ان رجلا من العمالیق أتاه أخ له یسأله، فقال له (عرقوب)- و هو الأخ المسؤول- اذا أطلعت هذه النخلة فلک طلعها، فلما اطلعت أتاه للعدة، فقال عرقوب: دعها حتی تصیر بلحا، فلما أبلحت، قال: دعها حتی تصیر زهوا، فلما زهت قال: دعها حتی تصیر رطبا، فلما أرطبت، قال دعها تصیر تمرا، فلما أتمرت، عمد الیها عرقوب من اللیل فجذّها و لم یعط أخاه شیئا، فصار مثلا فی الخلف و فیه یقول الاشجعی:
وعدت و کان الخلف منک سجیّةمواعید عرقوب أخاه بیثرب
و یروی البعض انها (یترب) بالتاء و هو موضع قرب الیمامة، و لکن الاصح انه یثرب مدینة الرسول و لیس (بیترب) الیمامة، و علی هذا الرأی کان یاقوت الحموی فقد قال ان الصحیح هو ان عرقوب من قدماء یهود یثرب
و الحکایة و ان کانت تدل اکثر ما تدل علی الجشع و الطمع و لکنها لا تعدم الدلالة علی قیمة التمر و اهمیته بحیث یثیر الطمع فی نفسو الطامعین.
و بلغت قیمة التمر و قیمة النخلة مبلغا طالما آلت الی الخصومة و حتی الی القتل و کان أهم تنکیل اذا أراد اعداء یثرب ان ینکلوا بسکان یثرب فی الحرب هو ان یعمدوا الی نخیلهم فیقطعوها و یجذوها من رؤوسها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 76
و وجد مرة رجل من بنی النجار من سکان یثرب یقال له أحمر رجلا من اصحاب (تبعّ) و هو یجذّ عذقا له فی بستانه- و قد کانت لتبعّ عظمته و سلطانه و کان قد غزا المدینة بجیشه الجرّار- فضربه احمر بمنجله و قتله و قال: انما الثمر لمن أبره- ای زرعه و لقحه- ثم القاه حین قتله فی بئر من آبارهم یقال لها ذات تومان و لم یبال، و لم یخش سلطان (تبعّ) و قد مرت الاشارة الی هذا الحادث من قبل.
و أنواع تمور المدینة کثیرة، و أقل ما أورده المؤرخون لتمور المدینة انه مائة و بضعة و ثلاثون نوعا اشهرها العجوة، و الصیحانی، و عذق ابن طاب و هو تمر معروف فی المدینة کما جاء فی الصحاح:
و تفید المدینة من تجارة التمور کثیرا، و ان امتیار بدو البادیة و الاطراف انما یجری من تمر المدینة و حاصلاتها.
و من اشهر صادرات المدینة من حاصلاتها الزراعیة هو التمر الصیحانی، و هو نوع لم یوجد فی غیر المدینة و حبّ (البان) الذی یحمل الی سائر البلاد و تفید المدینة من تجارته شیئا کثیرا، و البان شجر قدیم یکثر فی بقاع المدینة، و لحب ثمره دهن طیب، و کان حبّه یوصف فیما مضی للبرش و النمش، و الکلف، و الحصف و البهق، و السعفة و الجرب، و تقشر الجلد، طلاء بالخل، و صلابة الکبد و الطحال شربا بالخل، و ان مثقالا منه شربا مقی‌ء، مطلق بلغما خاصا الی غیر ذلک مما کانوا یصفون به هذا الحب من المنافع فکانت تجارته تدر ارباحا کثیرة،
و حین جاء الاسلام، و هاجر النبی الی المدینة حث علی العنایة بالتشجیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 77
و اوصی برعایة النخلة، و دعا لتناول التمور فی مختلف الأحوال، و قد وردت فی تمر المدینة روایات و أحادیث من قبیل: «ان اللّه لیربی لاحدکم التمرة و اللقمة کما یربی احدکم فلوه و فصیله حتی یکون مثل أحد» و هذه استعارة لطیفة و المراد بها هو ان اللّه تعالی یجمع القلیل الی القلیل من صدقاتکم حتی یعظم یسیرها، و یکبر صغیرها، فجعل (ص) ذلک کتربیة الفلو و الفصیل، و تربیة الطفل الصغیر .
و روی عن النبی (ص) انه قال: «ان قامت الساعة و فی ید احدکم فسیلة فان استطاع ان لا یقوم حتی یغرسها فلیغرسها».
و مما رواه احمد: «من أکل سبع تمرات عجوة ما بین لابتی المدینة علی الریق لم یضرّه یومه ذلک شی‌ء حتی یمسی» .
و هذا و غیره ما ضاعف العنایة بالتمور و غرس النخیل فضاعف الحاصل منه حتی کان النخل هو الرکیزة الاولی التی ارتکزت علیها حیاة المدینة الاقتصادیة فی تاریخ الإسلام فضلا عن تاریخها القدیم و لذلک قیل عنها:
انها بلدة طیبة مبارکة، کثیرة الخیرات، عذبة المیاه، وافرة النخیل و الثمار .
و مع کون المدینة و بعض الأطراف ارضا حرّة سبخة فقد وصفها یاقوت بقوله: لها نخل کثیر، و میاه، و زروعهم تسقی من الابار، هذا الی جانب الحاصل الکبیر الذی تجنیه المدینة من فواکه الشجر و الخضروات.
و من استعراضنا للتاریخ نعرف ان فی المدینة الی جانب النخل و الشجر المثمر الشی‌ء الکثیر من الأشجار غیر المثمرة و المنتفع باخشابها و حطبها او ظلها و خضرتها و علی الاخص (العضاه) و هو کل شجر له شوک یعظم، و من أعرف ذلک: الطلح، و السلّم، و السیّال، و العرفط، و السّمر، موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌3 ؛ ص78
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 78
و الشبهان، و الکنهبل، و الواحدة عضة، قال الراعی:
و خادع المجد اقوام لهم ورق‌راح العضاه به و العرق مدخول
و المنقول عن النبی (ص) انه قال: «أحرّم بین لابتی المدینة ان یقطع عضاهها او یقتل صیدها» و اللابة هی الارض ذات الحجارة النخرة السوداء و قد فسرت اللابة بالحرّة.
و فی (ورقان) و هو من جبال المدینة أنواع من الشجر المثمر و غیر المثمر الذی أتی علی وصفه المؤرخون و فیه (القرظ) و هو ورق یستعمل لدبغ الجلود، و السماق، و الخزم، و هو شجر تتخذ منه الأرشیة الجیاد، و له ساق کساق النخلة علی ما وصف یاقوت الی غیر ذلک مما درّ علی المدینة من حاصل زراعی کان له الاثر الکبیر فی انعاش هذا البلد فی مختلف ادواره التاریخیة.

الصناعة و التجارة

و العاملان الاخران اللذان یعود الیهما الفضل فی تمصیر یثرب فی تاریخها القدیم و العمل علی خلق حضارة نسبیة لها: هما الصناعة و التجارة، و الصناعة و التجارة فی یثرب و ان لم تکونا مورد قیاس مع صناعة المدن التاریخیة المتحضرة و تجارتها بأی وجه من الوجوه و لکنهما کانتا کبیرتی الأهمیة جدا بالنسبة لمدینة تقوم هی و ضیاعها فی موقع جغرافی کموقع یثرب تحوطه البوادی و سکانها البدو من جمیع الجهات و ینعدم اتصالها الوثیق بالحضارات العریقة کحضارة وادی الرافدین و وادی النیل و انعدام الوسائل التی یتجاوز مفعولها الحدود التی کانت علیه صناعة المدینة و تجارتها، و مع ذلک فقد کان هذان العلان مما لا یستهان بهما فی انعاش الحالة الاقتصادیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 79
و الاجتماعیة لسکان یثرب و ضیاعها فالی جانب حاصلات المدینة الزراعیة و کثرة الفواکه و الاشجار و النخیل و ما کان یفید سکان المدینة من الحاصلات الزراعیة و بیع التمور و تصدیرها الی الخارج کانت هناک صناعة تفرضها علیهم طبیعة السکن و مقتضیات الحاجة، لذلک عرفت المدینة فیما عرفت بصنع النصال فقیل عن نصالها:
«و ما هو الا الیثربیّ المقطّع».
و المقصود بالیثربی المقطع هو النصل، و قد زعم بعض الرواة ان المراد بالیثربی السهم لا النصل، و ان یثرب لا یعمل فیها النصال، و أنکر ابو حنیفة ان یکون الأمر کذلک لأن النصال تعمل بیثرب، و بوادی القری، و بالرقم، و بغیرها من ارض الحجاز و قد ذکر الشعراء ذلک کثیرا، و جاء فی قول کثیّر:
و ماء کأنّ الیثربیّة أنصلت‌باعقاره دفع الازاء نزوع
و اشتهرت یثرب بصناعة السهام الی جانب صناعة النصال فقیل فی الوصف «سهم یثربیّ و أثربیّ» منسوب الی یثرب .
و لکون یثرب المرکز الرئیسی و العاصمة الکبری فی القسم الشمالی من الحجاز کان لا بد ان تکون مرکزا رئیسیا لصناعة الالات الزراعیة و الاجهزة المنصوبة علی الابار و الدلاء و ما شاکل ذلک، و الافادة من منتوج النخیل کالجذوع فی بناء البیوت، و اللیف فی صنع الحبال و الرشاء، و الجرید فی مختلف الصناعات التی کانت تسد حاجة البیوت بالاضافة الی دبغ الجلود و استعمالها فی مختلف الشؤون التی تقتضیها الحاجة الی الجلود.
و یکفی شهرة یثرب فی الصناعات المختلفة ان یکون فی (زهرة)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 80
وحدها و هی قریة من قری ضواحی المدینة ثلثمایة صانع من الیهود .
و لما کانت المدینة بحکم مؤهلاتها و اهمیتها محل اردتیاد القبائل فلیس بالبعید ان تکون مختصة من بین المدن المهمة بصناعة کل ما یلائم حیاة البدو الذین یمتارون منها مأکولاتهم، و ملابسهم کنسج الأخبیة و بیوت الشعر، و صنع حدوج الابل، و العدول، و القدور، و الاوانی، و القرب، اضافة الی صناعة کل ما یحتاج الیه الحضر من السکان، و قد شاعت ثیاب المدینة حتی قیل فی وصفها: (ثوب مدنی).
و المدینة و ضیاعها واقعة فی ممر القوافل القادمة من الیمن الی الشام و القادمة من الشام الی الیمن حتی لقد اعتبروا وادی القری طریقا عالمیا منذ القدیم کانت تسلکه القواقل بین الشام و الیمن .
و صحیح ان مکة کانت مرکزا مهما من مراکز التجارة بل انها کانت اهم المراکز التجاریة فی شبه جزیرة العرب خصوصا فی القرن السادس المیلادی و لکن المدینة کانت تنافسها لحد غیر قلیل لوقوعها علی نفس الطریق بین الیمن و الشام، و کانت المدینتان تجلبان المیرة و ما تحتاجان الیه من خارج جزیرة العرب من مرفئیهما جدّه کمیناء خاص بمکة، و ینبع کمیناء خاص بالمدینة.
و المدینة بعد ذلک متصلة ببادیة نجد من الشرق التی توصلها بالعراق الذی یوصلها بالبحر الأحمر من الغرب، و ان مرکزا جغرافیا کهذا لمما یجعل الفوائد الاقتصادیة کبیرة جدا لا سیما و ان یثرب خیر مقیل لراحة القوافل و استعادة النشاط لمواصلة السفر و ذلک لکثرة میاهها و بساتینها و وفرة ما تحتاج الیه القوافل المارة من زاد و مؤون و بضاعة للطریق، فکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 81
کل ذلک سببا من اسباب انعاش الحرکة التجاریة و ارتفاع مستوی الحیاة، فضلا عما کانت تجنی یثرب من انتقال الحضارة النسبی و تبادل الافکار و الاتصال بالعالم الخارجی علی قدر ما فی تلک الحرکة المستمرة من قابلیة فی نقل الحضارة النسبیة و تأثیرها فی هذه الجهة من الحجاز.
و کانت تجارة الرقیق فی الجاهلیة رائجة، و من هذا الطریق دخلت الی المدینة افکار جدیدة حملها الارقاء الی السکان، و لیس من البعید ان تکون تلک الافکار قد احدثت تفاعلا و لو بنسبة محدودة فی حیاة المدینة، فقد کان الرقیق شائعا لحد کبیر و کثیرا ما یأتی عن طریق الأسر و الغزو کأن تغزو القبیلة القوافل المارة فی طریق الشام او طریق العراق و تأسر بعض الاشخاص الذین تری فی اسرهم مغنما و تبیعهم فی أسواق المدن، و قد کان سلمان الفارسی من هؤلاء الارقاء الذین اسروا فی قافلة خرجت من العراق ترید الشام فاسترق و بیع لبعض یهود المدینة.
و بلغت تجارة المدینة و ثروتها ان اقتنی السکان العبید و الاماء و استخدموا العمال و الخدم و عاش الکثیر منهم فی نعمة منشهودة، و یقول یاقوت عن أهل المدینة ان نخیلهم و زروعهم کانت تسقی من الابار و یملکها العبید .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 82

اشهر قری المدینة و ضیاعها

اشارة

تحیط بالمدینة قری و ضیاع کان لها فی أیام الجاهلیة شأن کبیر من حیث عمرانها، و خصبها، و ازدهارها، و حصونها، و مناعتها فی الحرب، و قد بقی قسم من تلک القری حتی الیوم محافظا علی خصبه، مزهوا بنخیله و ثمره، و قد کانت هذه القری و الدساکر مسکونة بقبائل لیس لدینا منها إلا أخبار یفتقر الکثیر منها إلی التأیید الذی یأتی به الحفر و التنقیب و البحوث الحدیثة فی کتب الأخبار و الأحادیث و الرحلات قبل نزول الیهود و نزول الأوس و الخزرج و حتی فی العصور الإسلامیة، و سنستعرض هنا أهم تلک القری علی قدر ما یستسیغه علم التاریخ الحدیث من اخبارها.

العقیق

و الأعقّة کثیرة، و کل عقیق ینسب لجهة من الجهات، أما عقیق المدینة فهو واد علیه أموال المدینة یقع علی مسافة میلین أو ثلاثة أمیال و قیل سبعة علی ما ذکر یاقوت الحموی، و کان عامرا بالقصور، و الأبنیة، و السکان فی الجاهلیة فقد روی أن رسول اللّه (ص) رکب إلی العقیق ثم رجع فقال:
- یا عائشة جئنا من هذا العقیق، فما ألین موطئه، و أعذب ماءه.
قالت: یا رسول اللّه- أفلا ننقل الیه؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 83
فقال-: کیف و قد ابتنی الناس- أی أنه ملک غیرنا من الناس- و لأهل العقیق أخبار مستحسنة فی الکتب، و أشعار رائعة، و یبدو أن العقیق ظل معمورا إلی أواسط زمن العباسیین لانتساب الکثیر الیه کمحمد بن جعفر بن عبد اللّه بن الحسین الأصغر بن علی بن الحسین (ع) ابن علی بن أبی طالب (ع) المعروف بالعقیقی.
و یقول یاقوت الحموی عن محمد بن جعفر أن له عقبا، و فی ولده ریاسة، و من ولده أحمد بن الحسین بن أحمد بن علی بن محمد العقیقی أبو القاسم کان من وجوه الأشراف بدمشق، و مدحه أبو الفرج الوأواء، و مات بدمشق سنة 378 و دفن بالباب الصغیر.
و فی هذا العقیق قصور، و دور، و منازل، و قری و یقول المسعودی و لست تری قبیلا من العرب توغل عن الأماکن المعروفة لهم و المیاه المشهورة بهم کماء ضارج، و ماء العقیق، و السباط، و ما أشبه ذلک من المیاه .
یقول ابن النجار: و ولی رسول اللّه (ص) العقیق لرجل اسمه هیضم المزنی، و لم تزل الولاة علی المدینة یولون والیا من عهد النبی إلی زمن الرشید و الأمین، و هذا یدلّ علی أهمیة (العقیق) و بعد تاریخه، و قیام المنازل و القصور فیه قبل الإسلام.
قالوا: و مات سعید بن زید، و سعد بن أبی وقاص، و هما من العشرة بالعقیق و حملا إلی المدینة فدفنا بها.
و قال ابن النجار: و وادی العقیق الیوم لیس به ساکن، و فیه بنیان خراب، و آثار تجد النفس برؤیتها أنسا کما قال أبو تمام:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 84 و لا الخدود و ان أدمین من خجل‌أشهی إلی ناظری من خدّها الترب
ما ربع میّة معمورا یطیف به‌غیلان أبهی ربا من ربعها الخرب
و ابن النجار من أبناء القرن السادس الهجری و معنی هذا انه لم یبق من العقیق و وادیه فی هذا القرن و ما بعده غیر آثار خرائب الماضی.

خیبر

خیبر ناحیة علی نحو ثمانیة برد من المدینة (و البرید اثنا عشر میلا عربیا فتکون المسافة کلها 96 میلا عربیا و قد جاء فی أخبارها القدیمة أنها إنما سمیت بخیبر نسبة إلی خیبر بن قانیة بن مهلائیل بن ارم بن سام بن نوح، و هو عمّ الربذة، و زرود، و الشقره بنات یثرب؟
و کان خیبر أول من نزل هذا الموضع علی ما ذکر الحموی و ما جاءت به الأخبار القدیمة التی لم تزل بحاجة إلی التمحیص، و لکن قدم هذه الناحیة فی التاریخ أمر لیس فیه ریب، و قد ورد اسم خیبر فی الکتابات البابلیة القدیمة، و یقول محمد رضا فی کتابه (محمد) أن معنی خیبر باللغة العبریة هو الحصن أو القلعة مستندا علی ما ذکره یاقوت فی معجم البلدان، و خیبر هذه مشهورة بحصونها المنیعة المبنیة بالحجارة و الصخور، و أشهرها سبعة حصون هی:
1- حصن ناعم.
2- القموص حصن أبی الحقیق.
3- حصن الشق.
4- حصن النطاة.
5- حصن السلالم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 85
6- حصن الوطیح.
7- حصن الکتیبة.
و یستبان أن کل حصن من هذه الحصون کان یشتمل علی مجموعة من الحصون، و لکون هذه البقعة تشمل هذا العدد من الحصون سمیت (بالخیابر) و کان أمنع حصونها حصن الناعم من حصون (النطاة).
و سکان خیبر یهود کانوا یقطنون بیوتا حصینة وسط النخیل و حقول القمح، و من سکانها المشاهیر کان السموأل بن عادیا المشهور بالوفاء، و لعل خیبر أکثر القری فی شمال الحجاز ثروة و مالا لوفرة زرعها و حاصلاتها من الحبوب و الفواکه و علی الأخص التمور.
یقول حسان بن ثابت:
أتفخر بالکتّان لما لبسته‌و قد تلبس الأنباط ریطا مقصّرا
فلا تک کالعاوی فأقبل نحره‌و لم تخشه سهما من النبل مضمرا
فانّا، و من یهدی القصائد نحوناکمستبضع تمرا إلی أرض خیبرا
و أن لخیبر فی حاصل تمورها شهرة کشهرة (هجر) التی ورد فی الأمثال عنها: (کمستبضع التمر إلی هجر) أو (مستبضع التمر إلی خیبر) و کان لحاصل التمور یومها قیمة جد کبیرة فی ثروة البلاد.
و کان یهود خیبر یحسون بقیمة هذه الثروة الطائلة من المزروعات و النخیل و التمر و یخافون علیها من الغزو لذلک حصنوا قراهم و بساتینهم بقلاع لیس من الهین الاستیلاء علیها لمناعتها و لوفرة السلاح و تنوعه فیها، فحین حاصر النبی (ص) قلاع خیبر فی السنة السابعة من الهجرة اتاه رجل فی اللیلة السادسة من الحصار من یهود خیبر و أخبره أنه قد خرج من حصن (النطاة) و هو یعرف بعض أسرار الحصن، و قال: إن فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 86
حصن (الصعب) و هو من حصون (النطاة) و فی بیت فیه تحت الأرض منجنیقا، و دبابات، و دروعا، و سیوفا، فإذا دخل فیه رسول اللّه أوقفه علی أسراره ، فإذا کان فی بیت من بیوت خیبر مثل هذه العدة فکم یکون فی عشرات البیوت الأخری.
و لقد توقی الغزاة هذه القلاع و تهیّبوها و لذلک لم نعثر علی فاتح استطاع أن یخضعها لنفوذه و یفتحها قبل الإسلام، و قد کلف فتحها الإسلام الشی‌ء الکثیر من العنف و الشدة، حین حنث الیهود و نکثوا العهد الذی أعطاهم النبی إیاه و الذی تضمن حریتهم و حفظ أموالهم و أغراضهم و معتقداتهم، و قد جاء أن النبی (ص) کان یعهد فی کل یوم لواء الحرب لقائد من القواد لمحاربة الحصن الأول و هو حصن (ناعم) فیرجع القائد و یرجع الجیش دون طائل، و قد عزّ علی النبی (ص) أن یستشهد فی هذه المعارک قائد کمحمود بن مسلمة أخی محمد بن مسلمة حتی لقد أعطی اللواء لأبی بکر و عمر بن الخطاب (ض)، و یکفی دلیلا علی أهمیة هذه الحصون و خطورتها أن نستعرض النبی و هو یستعیذ باللّه من شر هذه المعرکة، فقد جاء فی البخاری عن أنس: أن النبی (ص) لما أشرف علی خیبر قال لأصحابه: قفوا. ثم قال:
اللهم رب السموات و ما اظللن، و رب الأرضین و ما اقللن، و رب الشیاطین و ما اضللن و رب الریاح و ما ذرین، نسألک خیر هذه القریة، و خیر أهلها، و خیر ما فیها، و نعوذ بک من شرّها و شر أهلها، و شر ما فیها .. أقدموا باسم اللّه» .
حتی إذا تأزم الوضع و تعقدت الحرب دون الحصول علی نتیجة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 87
طلب النبی (ص) الإمام علی بن أبی طالب (ع) و دفع إلیه اللواء فکان أن تم الفتح علی یدیه.
و یقول ابن الأثیر عن علی (ع): فنهض- أی الإمام علی- بالرایة و علیه حلّة حمراء فأتی خیبر فأشرف علیه رجل من یهود فقال:
- من أنت؟
قال- أنا علی بن أبی طالب.
فقال الیهودی-: غلبتم یا معشر یهود .
و قد رویت عن فتح الإمام علی (ع) لقلاع خیبر روایات کثیرة اتفقت کلها فی المضمون ففی صحیح مسلم، و البیهقی عن ابی هریرة قال: قال رسول اللّه (ص):
«لأعطینّ الرایة غدا رجلا یحب اللّه و رسوله، و یحبّه اللّه و رسوله یفتح علیه، قال عمر (رض): فما أحببت الإمارة إلا یومئذ، فدعا علیّا (ع) فبعثه ثم قال: اذهب فقاتل حتی یفتح اللّه علیک، و لا تلتفت الخ ... ».
و قال الإمام أحمد: إن رسول اللّه (ص) أخذ الرایة فهزّها ثم قال:
من یأخذها بحقها؟ فجاء فلان فقال: أنا، قال: إمض، ثم جاء رجل آخر فقال: إمض، ثم قال النبی (ص) و الذی کرّم وجه محمد لأعطینّها رجلا لا یفرّ، فقال: هاک یا علی، فانطلق حتی فتح اللّه علیه (خیبر) و (فدک) و جاء بعجوتها و قدیدها .
أما إحدی روایات الطبری فتتلخص فی أن رسول اللّه (ص) لما نزل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 88
بحصن أهل خیبر أعطی اللواء لعمر بن الخطاب (ض) و نهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خیبر، فانکشف عمر و أصحابه فرجعوا إلی رسول اللّه (ص) و هم یجبّنونه- ای یجبّنون عمر- و هو یجبّنهم، فقال رسول اللّه- و کان قد مرّ علی محاصرة القلعة عدة أیام دون طائل، قال:
لأعطین اللواء غدا رجلا یحب اللّه و رسوله، و یحبه اللّه و رسوله، فلما کان من الغد تطاول لها أبو بکر و عمر (ض) فدعا علیا علیه السلام و هو أرمد و أعطاه اللواء و نهض معه من الناس من نهض فإذا (بمرحب) و هو أشهر أبطال الیهود یرتجز و یقول:
قد علمت خیبر أنی مرحب‌شاکی السلاح بطل مجرّب
فارتجز علی (ع) قائلا:
أنا الذی سمّتنی أمّی حیدره‌أکیلکم بالسیف کیل السندره
لیث بغابات شدید قسوره و یروح الطبری واصفا هذه المقاتلة و ما کان یدّرع به (مرحب) إذ یقول عنه: و خرج مرحب من الحصن و هو صاحبه و علیه مغفر معصفر یمان، و حجر قد ثقبه مثل البیضة علی رأسه، و تقاتلا قتالا عنیفا انتهی بقتل مرحب و أخذ المدینة و کانت مدة النزال شهرا علی ما ذکرت التواریخ.
و جاء فی کتاب (محمد رسول اللّه): و کان أول حصن فتحه المسلمون هو حصن (الناعم) من حصون (النطاة) علی ید علیّ رضی اللّه عنه .
و لأهمیة هذا الفتح قال النبی (ص):- و کان جعفر بن أبی طالب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 89
قد قدم من الحبشة یوم فتح خیبر-: ما أدری بأیهما أفرح بفتح خیبر أم بقدوم جعفر.
و إلی جانب هذه النعمة الوافرة التی کان ینعم بها أهل خیبر، و الحصن المنیع الذی یضمن لهم الأمن و الاطمئنان، و العیش الرغید کان هنالک شی‌ء ینغّص حیاة سکان خیبر و ینکّد عیشهم، و ذلک هو الحمّی التی عرفت بها قری خیبر، و الراجح أنها کانت (الملاریا) و ذلک لکثرة المیاه و لمراودة هذه الحمی السکان بین آن و آخر علی ما تصف الأخبار و قد عرفت هذه الحمی بالحمی الخیبریة و وصفت بالشعر، و منه قول أحد الشعراء:
کأن به إذ جئته- خیبریةیعود علیه وردها و ملالها
و قدم أعرابی خیبر بعیاله فقال:
قلت لحمّی خیبر: استعدی‌هاک عیالی فاجهدی وجدی
و باکری بصالب و وردأعانک اللّه علی ذا الجند
و یقول یاقوت: فحمّ و مات هو و بقی عیاله!
و قال الأخنس بن شهاب:
فلأبنة حطّان بن قیس منازل‌کما نمّق العنوان فی الرقّ کاتب
ظللت بها أعری و أشعر سخنةکما اعتاد محموما بخیبر صالب

قریة فدک

و فدک قریة من قری خیبر تقع علی مسافة یومین أو ثلاثة أیام من المدینة المنورة، و سکانها یهود کسکان المواقع الأخری و القری الیهودیة من خیبر، و هی ذات شجر و نخیل و خصب بفضل میاهها الفوارة، و أرضها الصالحة، و لیس من شک أنها کانت قد احتاطت لنفسها توقیا من الغزو و الحروب بالقلاع الحصینة کما فعلت سائر قری خیبر دفاعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 90
عن النعمة الوافرة التی کانت تنعم بها خیبر، و یبدو من سیر التاریخ أن قریة فدک إذا لم تکن أخصب قریة من قری المدینة و أوسعها ثروة فی حاصلاتها الزراعیة فهی علی الأقل کانت من أخصب البقاع فی عصور المدینة القدیمة التی لم یعرف شی‌ء عن مبدأ تاریخها قبل أن یسکنها الیهود غیر ورود اسمها فی الکتابات البابلیة القدیمة، و قد أکسبتها قضیة امتلاکها فی مختلف الأدوار شهرة کبیرة خصوصا فی القرن الأول و القرن الثانی من الهجرة، فقد تردد اسمها علی الأفواه فی أیام الخلیفة أبی بکر (ض) و ما بعده، و لو لا ذلک لما ذکر خبرها بأکثر مما کان یذکر من أخبار قری خیبر الأخری و أخبار حصونها.
و یتلخص خبر (فدک) فی أن رسول اللّه (ص) حین استولی علی قلاع خیبر و أموالها لم یبق إلا حصنان هما (الوطیح) و (السلالم) و قد اشتد حصاره لهما حتی أیقن سکان الحصنین من الیهود بالهلاک سألوا النبی (ص) أن یسیّرهم و یحقن لهم دماءهم ففعل، و کان النبی قد حاز أموال حصن (الشق) و حصن (النطاة) و (الکتیبة) و (القموص) و حصن (الناعم) و ما احتوت علیه تلک القری إلا ما کان من ذینک الحصنین اللذین انتهی أمرهما بأخذ الأمان و حقن الدماء، و المصالحة علی المناصفة فی استثمار الأرض حین رأی سکان فدک أن لا مناص لهم من المصالحة بعد أن رأوا ما انتهی الیه أمر سکان (الوطح) و (السلالم) فبعثوا إلی الرسول (ص) یسألونه أن یسیّرهم و یحقن دماءهم علی أن یخلّوا له الأموال، ففعل، و صالحهم کما صالح (الوطیح) و (السلالم) علی أن یکون للمسلمین الحق فی إخراجهم من القریة إذا شاؤوا، فکانت خیبر فبئا للمسلمین، أما (فدک) فکانت خالصة لرسول اللّه (ص) لأنها لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 91
باحة المسجد النبوی الکریم و ضریح الرسول الاعظم فی المدینة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 92
یوجف علیها بخیل أو رکاب.
و بعد وفاة النبی (ص) ضمّها أبو بکر (ض) إلی أملاک المسلمین فنازعته فیها فاطمة الزهراء (ع) ابنة النبی (ص) و قالت له: إن رسول اللّه قد نحّلنیها، و قد جعلها لی فأعطنیها، و شهد لها الامام علی بن ابی طالب (ع) فسألها أبو بکر شاهدا آخر فشهدت لها أمّ أیمن مولاة النبی (ص) فقال أبو بکر: «قد علمت یا بنت رسول اللّه أنه لا یجوز إلا شهادة رجلین، أو رجل و امرأتین» فانصرفت .
فلما ولی عمر بن عبد العزیز الخلافة کتب إلی عامله بالمدینة یأمره بردّ (فدک) إلی ولد فاطمة (ع) فکانت فی أیدیهم فی أیام عمر بن عبد العزیز، فلما ولی یزید بن عبد الملک قبضها، فلم تزل فی أیدی بنی أمیة حتی ولی أبو العباس السفاح الخلافة فدفعها إلی الحسن بن الحسن بن علی ابن أبی طالب، فلما ولی المنصور و خرج علیه بنو الحسن قبضها عنهم، فلما ولی المهدی بن المنصور الخلافة أعادها علیهم، ثم قبضها موسی الهادی و من بعده إلی أیام المأمون، فجاءه رسول بنی علی بن أبی طالب (ع) فطالب بها، فأمر أن یسجّل لهم بها، فکتب السجل و قری‌ء علی المأمون فقام دعبل و أنشد:
أصبح وجه الزمان قد ضحکابردّ مأمون هاشم فدکا
و یقول یاقوت الحموی: «فلما کانت سنة 210 أمر المأمون بدفعها إلی ولد فاطمة، و کتب إلی قتم بن جعفر عامله علی المدینة: أنه کان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أعطی ابنته فاطمة رضی اللّه عنها (فدک) و تصدق علیها بها و أن ذلک کان أمرا معروفا عند آله علیه الصلاة و السلام، ثم لم تزل فاطمة تدعی منه بما هی أولی من صدق علیه، و أنه قد رأی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 93
ردّها إلی ورثتها و تسلیمها إلی محمد بن یحیی بن الحسین بن زید بن علی ابن الحسین بن علی بن أبی طالب، رضی اللّه عنهما لیقوما بها لأهلهما و یقول یاقوت نقلا عن الزجاجی: أنها سمیت بفدک بن حام و کان أول من نزلها!! و هذا من الأخبار المفتقرة للتمحیص .

وادی القری

هو واد بین الشام و المدینة- کما مر- و بین تیماء و خیبر- فیه قری کثیرة و بها سمی وادی القری، و نقل یاقوت عن أبی المنذر أنه إنما سمی بوادی القری لأن هذا الوادی من أوله إلی آخره قری منظومة، و یقول:
و کانت من أعمال البلاد و آثار القری إلی الآن بها ظاهرة إلا أنها فی وقتنا هذا کلها خراب، و میاهها جاریة تتدفق ضائعة لا ینتفع بها أحد .
و وادی القری هذا من منازل قضاعة، ثم جهینة، و عذرة، و بلی، و کان قدیما منازل ثمود و عاد، و آثارها إلی الآن باقیة علی ما یذکر یاقوت، و قد نزل هذه القری بعدهم الیهود، و استخرجوا کظائمها، و أساحوا عیونها، و غرسوا نخلها فلما نزلت بهم القبائل عقدوا بینهم حلفا، و کان لهم فیها علی الیهود طعمة و أکل فی کل عام و منعوها لهم علی العرب، و دفعوا عنها قبائل قضاعة
و یقول یاقوت: و کان النعمان بن الحارث الغسانی ملک الشام أراد غزو وادی القری مرة فحذّره نابغة بنی ذبیان من ذلک بقوله:
تجنّب بنی حنّ فإنّ لقاءهم‌کریه و إن لم تلق إلا بصابر
هم قتلوا الطائی بالحجر عنوةأبا جابر و استنکحوا أم جابر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 94 و هم ضربوا أنف الفزاریّ بعدماأتاهم بمعقود من الأمر، قاهر
أتطمع فی وادی القری و جنابه‌و قد منعوا منه جمیع المعاشر
و یفسر یاقوت الأسماء فیقول عن (حنّ) انه ابن ربیعة و ینتهی به إلی قضاعة، أما أبو جابر فیقول عنه أنه الجلّاس و ینتهی به إلی طی، و کان هذا ممن اجتمعت علیه جدیلة طی.
و فی سنة سبع و عندما فرغ النبی (ص) من غزوه لخیبر توجه إلی وادی القری فدعا أهلها إلی الإسلام فامتنعوا علیه و قاتلوه ففتحها عنوة و غنم أموالها، و أصاب المسلمون منهم أثاثا و متاعا فخمّس رسول اللّه ذلک و ترک النخل و الأرض فی أیدی الیهود، و عاملها علی نحو ما عامل علیه أهل خیبر.
و فی وادی القری یقول القاضی أبو یعلی عبد الباقی بن أبی الحصین المعزی:
إذا غبت عن ناظری لم یکدیمرّ به- و أبیک- الکری
فیؤلمنی أننی لا أراک‌إذا ما طلبتک فیمن أری
لقد کذب النوم فیما استقل‌بشخصک فی مقلتی و افتری
و کیف و داری بأرض الشئآم‌و دارک أرض بوادی القری
و بعد فلی أمل فی اللقاءلأنی و إیاک فوق الثری
و قد نسب إلی وادی القری جماعة منهم: یحیی بن أبی عبیدة الوادی المتوفی سنة 240 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 95

قریة الفرع

و من أشهر القری القدیمة التابعة للمدینة قریة الفرع، و قد اشتهرت بکثرة میاهها و نخیلها، و هی علی مسافة ثمانیة برد من المدینة المنورة فی طریق مکة، و قد وصفت بالازدهار و جمال الطبیعة، فقیل عنها انها قریة غناء، و هی قریة قدیمة و غابة فی القدم حتی لقد زعموا أنها کانت أول قریة مارت اسماعیل و أمّه التمر بمکّة، و قال ابن الفقیه عنها:
فأما أعراض المدینة فأضخمها (الفرع)، و من عیونها المشهورة عینان یقال لهما الربض، و النجف، و قیل انهما تسقیان عشرین ألف نخلة!!

قریة قبا

و من القری المشهورة القدیمة التابعة للمدینة المنورة قریة (قبا)، و المعروف أن قبا اسم بئر عرفت به القریة، و هی واقعة علی میلین من المدینة علی یسار القاصد إلی مکة کما یعینها یاقوت، و قد أکسبتها صلاة النبی فیها شهرة واسعة، و عن أبی سعید الخدری رووا أنه لما صرفت القبلة الی الکعبة أتی رسول اللّه (ص) مسجد قباء، فقدم جدار المسجد الی موضعه الیوم و أسسه و نقل رسول اللّه و أصحابه الحجارة لبنائه، و کان الرسول یأتیه کل سبت ماشیا .
و یقول أحمد بن یحیی بن جابر فی روایة البشاری التی أوردها یاقوت:
کان المتقدمون فی الهجرة من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و من نزلوا علیه من الأنصار بنوا بقباء مسجدا یصلون فیه الصلاة سنة إلی البیت المقدس، فلما هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و ورد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 96
(قباء) صلی بهم فیه، و ان أهل قباء یقولون: إنه المسجد الذی أسّس علی التقوی من أول یوم، و قیل انه مسجد رسول اللّه.
و قد وسّع مسجد قباء و کبّر بعد، و قد أقام النبی لما هاجر بقباء یوم الاثنین، و الثلاثاء، و الأربعاء، و الخمیس، و رکب یوم الجمعة یرید المدینة فجمّع فی مسجد بنی سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج فکانت أول جمعة جمّعت فی الإسلام .
و یقول یاقوت: و بقبا أثر بنیان کثیر- یرید فی القرن السادس- و هناک مسجد التقوی عامر، قدامه رصیف و فضاء حسن، و آبار و میاه عذبة.
و مسجد قبا کما جاء فی کتاب الاستبصار فی القرن السادس أیضا:
أنه مسجد مربع طوله 70 ذراعا و عرضه کذلک، و مقدمه 3 بلاطات و مؤخره مع مجنبته سقیفة واحدة علی أعمدة من خرز ملبسة بالجیار عددها 43 عمودا و له 3 أبواب بلا مصارع، و علی رکن مؤخر المسجد مکتوب عن یسار من استقبل المحراب: «أن النبی صلعم دخل علی أمّ أیمن و هی حزینة، فقالت له لیس عندی ما أحجّ به، فقال لها: صومی أیام العشر ثم أئت مسجد قبا یوم عرفة فصلّی فیه رکعتین بثواب حجة».
و مکتوب أیضا: أن سعد بن أبی وقاص قال:
«لئن آت مسجد قبا فأصلی فیه رکعتین أحبّ إلیّ من أن أزور بیت المقدس مرتین، و لو علم الناس ما فی مسجد قبا لضربوا الیه آباط الأبل».
و بیت سعد بن خیثمة الأنصاری الذی کان یقیم فیه النبی صلعم بین المسلمین و هو قریب من رکن المسجد الغربی و من مقدم المسجد و الشجرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 97
التی کانت تحتها البیعة سقف، و ذلک السقف هو جزع و هو مغطی بالألواح .
و یقول ابن جبیر: أن (قبا) کانت مدینة کبیرة متصلة بالمدینة، و الطریق إلیها کما یصفه فی رحلته بین حدائق النخیل المتصلة، و النخیل محدق بالمدینة من جهاتها، و أعظمها جهة القبلة و الشرق، و أقلها جهة المغرب، و فی مسجدها موضع مبرک ناقة النبی، و فی قبلة المسجد دار لبنی النجار و هی دار أبی أیوب الأنصاری.
و فی قریة قبا التی سماها ابن جبیر بالمدینة: تلّ مشرف یعرف بعرفات یدخل علی دار الصفّة حیث کان عمّار، و سلمان، و أصحابهما المعروفون بأهل الصفّة، و أن آثار هذه القریة و مشاهدها کثیرة لا تحصی .

دومة الجندل

هی بضم الدال و بعضهم یلفظها بفتح الدال، قریة اعتبرها المؤرخون من أعمال المدینة و توابعها، و هی علی سبع مراحل من دمشق بینها و بین المدینة، و فی تاریخها القدیم أخبار لا یمکن الرکون الیها لعدم وجود ما یستند الیه غیر القصص و الأخبار المتناقلة، فقد روی یاقوت فی معجمه أنها سمیت باسم (دوم) بن اسماعیل. و قیل انه کان لاسماعیل ولد اسمه (دما)!! أما الشی‌ء الثابت فهو ورود اسمها فی الکتابات الأشوریة و هو الدلیل علی قدمها.
و یقول ابن الکلبی فی روایة یاقوت أیضا: ان ابن اسماعیل هو دوماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 98
و قال: و لما کثر ولد اسماعیل بتهامة خرج دوماء بن اسماعیل حتی نزل موضع (دومة) و بنی به حصنا فقیل دوماء و نسب الحصن له!!
و فی حدیث الواقدی: دوماء الجندل، و هی قریة ذات نخیل و مزارع و فیها عین فوارة تسقی البساتین، و إنما سمیت بدومة الجندل لأن حصنها مبنیّ بالجندل- أی الصخور العظیمة.
و قال أبو عبید السکونی: ان دومة الجندل حصن و قری بین الشام و المدینة قرب جبلی طی کانت به بنو کنانة من کلب، و علی (دومة) سور یتحصن به، و فی داخل السور حصن منیع یقال له: (مارد) و هو حصن (أکیدر) الملک بن عبد الملک بن عبد الحی بن أعیا بن الحارث بن معاویة بن خلاوة بن أبامة بن سلمة بن شکامة بن شبیب بن السکون بن أشرس بن ثور بن عفیر و هو کندة السکون الکندی! .
و الراجح هو أن دومة الجندل هذه قریة أو مدینة قدیمة و من أقدم قری الجاهلیة، و أن الحصن الذی عرفت به حدیث یرجع إلی عهد (اکیدر) الملک المسیحی الذی أسلم علی عهد رسول اللّه (ص) ثم تمرّد، و قیل انه کان متمردا ثم أسلم، و قد احتل جیش الإسلام هذا الحصن، و یقول لبید و هو یصف بنات الدهر:
و أعصفن بالدومی من رأس حصنه‌و أنزلن بالأسباب ربّ المشقّر
یرید به (أکیدر) صاحب دومة الجندل فقد روی أن منزل (اکیدر) هذا کان بدومة الحیرة فی العراق، و کان قومه یزورون أخوالهم من (کلب) و ذات مرة کان (اکیدر) معهم و قد خرجوا للصید إذ رفعت لهم مدینة متهدمة لم یبق إلا حیطانها و هی مبنیة بالجندل فأعادوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 99
بناءها و غرسوا فیها الزیتون و غیره و سموها (دومة الجندل) تفرقة بینها و بین (دومة الحیرة) و کان (اکیدر) یتردد بینها و بین دومة الحیرة، و قد ذهب البعض إلی أن التحکیم بین الإمام علی (ع) و بین معاویة کان بدومة الجندل .

قریة ینبع

علی سبع مراحل من المدینة المنورة بین مکة و المدینة، کما جاء فی مختلف الرحلات و علی یمین (رضوی) لمن کان منحدرا من المدینة إلی البحر، و هی قریة کانت لبنی الحسن بن علی بن أبی طالب (ع) و هی کسائر القری التابعة للمدینة و التی لم یعرف عن تاریخها الجاهلی شی‌ء مضبوط، و تشمل قریة ینبع حصنا به نخیل و ماء و زرع، و بها وقوف وقفها الإمام علی (ع) کان یتولاها ولده و قد عدّها بعض المؤرخین من أرض تهامة و لم یلحقها بالمدینة، و قیل إنما سمیت بینبع لکثرة ینابیعها، و قال الشریف بن سلمة بن عیاش الینبعی: عددت بها مائة و سبعین عینا علی ما ذکر یاقوت، و فی بعض الأخبار: أن النبی (ص) أقطع عمر ابن الخطاب (ض) ینبع و ملکه إیاها و هذا یناقض کونها من موقوفات الإمام علی (ع).

قری أخری

و من أشهر قری المدینة القدیمة (زبالة الزج) و قریة (المال) و هی من أقدم قری المدینة، و قد قال السمهودی عن (زبالة الزج): و کان بالمدینة فی الجاهلیة سوق بزبالة من الناحیة التی تدعی یثرب و خیف العیون، و هی بالقرب من المدینة و فیها آثار بنایات متداعیة قدیمة علی ما ذکر عبد القدوس الأنصاری، و غیر هذه قری أخری طمست آثارها و محیت أسماؤها کقری (عرینه) و منازل (مزینة) و غیرها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 100

اشهر مواقع المدینة و اماکنها القدیمة

حرة واقم

و هی الحرّة الواقعة شرقی المدینة؛ و تتقسم باعتبار المنازل القدیمة إلی خمس مناطق متجاورة مرّ وصفها، منطقتین منها کانتا للیهود، و ثلاث مناطق کانت للاوس من الأنصار.

حرّة الوبرة

و هی بضاحیة المدینة الغربیة و أقرب إلی المدینة بالنسبة لحرّة (واقم) و تمتاز حرّة (الوبرة) عن حرّة (واقم) بکثرة الهضاب و القلاع و المرتفعات و المنخفضات، و بهذه الحرّة تقع إحدی ثنیات الوداع، و بطرفها الشمالی الشرقی منازل بنی سلمة.

البقیع

أشهر موقع من مواقع المدینة، بل من أشهر مواقع الحجاز قاطبة، و بقیع الغرقد هذا هو الذی ورد ذکره فی مرثیة عمرو بن النعمان البیاضی لقومه و کانوا قد دخلوا فی بعض حروبهم حدیقة من حدائقهم و أغلقوا بابها علیهم- علی ما یروون- ثم اقتتلوا فلم یفتح الباب الا بعد ان قتل بعضهم بعضا!! فقال فی ذلک:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 101 خلت الدیار فسدت غیر مسوّدو من العناء تفرّدی بالسؤدد
أین الذین عهدتهم فی غبطةبین (العقیق) إلی بقیع الغرقد
کانت لهم أنهاب کل قبیلةو سلاح کل مدرّب مستنجد
نفسی الفداء لفتیة من عامرشربوا المنیّة فی مقام انکد
قوم هم سفکوا دماء سراتهم‌بعض ببعض فعل من لم یرشد
یا للرجال لفتیة من دهرهم‌ترکت منازلهم کأن لم تعهد
و اتخذ البقیع مقبرة و سمیت ببقیع الغرقد لأنها کانت مغطاة بالنباتات الشوکیة المعروفة بالغرقد، أما کلمة البقیع فمعناها المکان المزروع بعدد من أنواع الشجر و لذلک سماها الرحالة السویسری (برخارت) (جنة البقیع).
و شهرة البقیع قد رافقته منذ أن أصبح مدفنا لعدد من عظماء المسلمین و أئمتهم و أعلام الأنصار و المهاجرین، و کان النبی (ص) یقصد البقیع یؤمّه کلما مات أحد من الصحابة لیصلی علیه و یحضر دفنه، و قد یزور و البقیع فی أوقات أخری لیناجی الأموات من أصحابه و یطلب لهم الرحمة.
و قد روی مسلم فی الصحیح عن عائشة أنها قالت: کان رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم کلما کانت لیلتی منه یخرج من آخر اللیل إلی البقیع فیقول:
«سلام علیکم دار قوم مؤمنین، و أتاکم ما توعدون، و إنّا إن شاء اللّه بکم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقیع الغرقد».
و حدث محمد بن عیسی عن خالد عن عوسجة قال: کنت أدعو لیلة إلی زاویة دار عقیل بن أبی طالب التی تلی باب الدار فمرّ بی جعفر ابن محمد (ع) فقال لی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 102
- أعن أثر وقفت ها هنا؟
قلت-: لا ...
قال-: هذا موقف نبی اللّه (ص) باللیل إذا جاء یستغفر لأهل البقیع .
لذلک کبر شأن البقیع، و کثر رواده بقصد الدعاء و الاستغفار أو التسلیة إذ أصبح ملتقی الجماعات و أشبه ما یکون با لمنتدی و المجلس العام لاجتماع الناس فی أوقات فراغهم، فقد روی أن عمر بن الخطاب (ض) أمر الذین یریدون أن یتحدثوا فی أمور دنیاهم فی المسجد أن یخرجوا إلی البقیع لیتحدثوا هناک بشؤونهم الخاصة.
و اتسعت رقعة البقیع و عظم شأنها حتی قیل أن عدد الذین دفنوا فیها من الصحابة کان عشرة آلاف صحابی !!
و الظاهر أن هذه المقبرة ظلت عامرة باضرحتها و أبنیتها الضخمة، و القبب القائمة علی مدافن المشاهیر و الأعلام حتی قیام الوهابیة التی کان من مذهبها تسویة القبور بالأرض فسویت تلک الأضرحة و المدافن کضریح العباس بن عبد المطلب، و السیدة فاطمة الزهراء (ع) و ابراهیم بن النبی (ص) و الخلیفة عثمان بن عفان (ض) و الإمام الحسن بن علی بن أبی طالب (ع) و عدد کبیر من التابعین أمثال نافع شیخ الإمام مالک، و من تابعی التابعین أمثال مالک إمام المدینة.
و عمر ابن جبیر الرحالة فی القرن السادس الهجری بالبقیع فیصف المقبرة وصفا خلاصته: أن بقیع الغرقد واقع شرقی المدینة تخرج الیه علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 103
باب یعرف بباب البقیع، و أول ما تلقی عن یسارک عند خروجک من الباب المذکور مشهد صفیة عمة النبی (ص) و هی أمّ الزبیر بن العوام، و أمام هذه التربة قبر مالک بن انس الإمام المدنی (ض) و علیه قبة صغیرة مختصرة البناء، و أمامه قبر السلالة الطاهرة: ابراهیم بن النبی (ص) و علیه قبة بیضاء و علی الیمین منها تربة ابن لعمر بن الخطاب (ض) اسمه عبد الرحمن الأوسط و هو المعروف بأبی شحمة، و هو الذی جلده أبوه الحدّ فمرض و مات، و بازائه قبر عقیل بن أبی طالب (ض) و عبد اللّه ابن جعفر الطیار (ض) و بازائهم روضة فیها أزواج النبی (ص) و بازائها روضة صغیرة فیها ثلاثة من أولاد النبی (ص) و تلیها روضة العباس ابن عبد المطلب (ض) و الحسن بن علی (ع) و هی قبة مرتفعة فی الهواء علی مقربة من باب البقیع المذکور و عن یمین الخارج منه، و رأس الحسن (ع) إلی رجلی العباس (ض) و قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشیّان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصّعة بصفائح الصفر و مکوکبة بمسامیره علی أبدع صفة و أجمل منظر، و علی هذا الشکل قبر ابراهیم مغشّیان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصّعة بصفائح الصفر و مکوکبة ابن النبی (ص) و یلی هذه القبة العباسیة بیت ینسب لفاطمة بنت رسول اللّه (ص) و یعرف (ببیت الحزن ) یقال انه البیت الذی آوت الیه و التزمت فیه الحزن علی موت أبیها المصطفی (ص)، و فی آخر البقیع قبر الخلیفة عثمان (ض) و علیه قبة صغیرة مختصرة، و علی مقربة منه مشهد فاطمة بنت أسد أم علی بن أبی طالب (ع).
ثم یقول ابن جبیر: و مشاهد هذا البقیع أکثر من أن تحصی لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرین و الأنصار، و علی قبر فاطمة المذکورة- بنت أسد- مکتوب: «ما ضم. قبر أحد کفاطمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 104
بنت أسد رضی اللّه عنها و عن بنیها ».
و یمر ابن بطوطة بعد ابن جبیر بما یقرب من 150 سنة بالبقیع فیصف البقیع وصفا مطابقا لوصف ابن جبیر فی تحدید هذه المشاهد و القبور و القبب و الأضرحة .
و علی مرور الزمن نال البقیع بسبب الإهمال و عوادی الدهر ما ذهب بروعة هذه البقعة من الشجر و الکثیر من الأبنیة و الغالب أن هذه الإهمال قد لحق البقیع بعد القرن السابع الهجری، و الغریب فی الأمر أن یزور صاحب کتاب الاستبصار فی عجائب الامصار فی القرن السادس و البقیع علی ما تنقل الروایات فی ذلک العصر کان فی ازهی أدواره فیقول عنه:
«بقیع المدینة من ناحیة الشرق، فأول ما تلقی إذا خرجت إلی البقیع:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 105
قبر مالک (ض) و هو قبر مهمل مبنی بالحجر و الطین، مزتفع من الأرض نحو 4 أشبار، و عند رأسه حجر أدکن منقوش تاریخه من یوم مات، ثم تسیر منه قلیلا و قد بصقت القبور موتاها!! و رفضت الأرض جمیع ما دفن فیها من صغیر و کبیر!! و لم یبق فی بطنها منهم شی‌ء إلا رفضته علی وجهها، فلم یبق عضو من أعضائها، و لا عظم من عظامها و لو کان مقدار خردلة إلا و خرج علی الأرض من ناس أهل المدینة خاصة!! و تری البقیع شبه المقتلة من دفن قدیم و حدیث، و جماجم الموتی بالیة قدیمة، و أخری حدیثة، فهذا عبرة لمن اعتبر!! ثم تسیر قلیلا فتلقی روضة العباس بن عبد المطلب (ض) ثم روضة ابراهیم ولد النبی عم، ثم روضة عثمان بن عفان، و روضات کثیرة ».
و فی أوائل القرن التاسع عشر المیلادی زار الحاج عبد اللّه بورخارت البقیع و قیل بل کان اسمه الحاج بوخارت ابراهیم فقال عنه ما ملخصه:
«فی الیوم الذی یلی أداء الحاج واجباته للمسجد و الحجرة، تجری العاة بذهابه الی مقبرة المدینة تکریما لذکری القدیسین الکثیرین المدفونین بها، و هی تجاور أسوار البلد علی مقربة من باب الجمعة و تسمی (البقیع) صورتها مربع مکوّن من بضع مئات من الأذرع یحیط به جدار یتصل من الجنوب بضاحیة المدینة، و تحیط به من سائر نواحیه مزارع النخیل، و هذا المکان حقیر جدا بالنظر الی قداسة الأشخاص الذین یحتوی رفاتهم، و لعله أشد المقابر قذارة و حقارة بالقیاس الی مثله فی أیة مدینة شرقیة فی حجم (المدینة) فلیس به متر واحد حسن البناء، کلا بل لیست به أحجار کبیرة علیها کتابة اتخذت غطاء للقبور، إنما هی أکوام من تراب أحیطت بأحجار غیر ثابتة ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 106
و زیارة (برخارت) الحجاز کان بعد غزوة الوهابیین الذین سوّوا هذه القبور مع الأرض و حین عاد الأمر للعثمانیین بعد إجلاء الجیوش المصریة للوهابیین أعادوا بناء کثیر من القباب و شادوها علی صورة من الفن تتفق مع ذوق العصر، و قد ذکر صاحب (مرآة الحرمین) هذه الأضرحة و القبب و صورها فی کتابه، و حین عاد الوهابیون الی الحجاز بعد أکثر من مائة سنة علی حملتهم الأولی عادوا إلی هدم تلک القبب و الأضرحة و ساووها بالأرض.
و یزور الدکتور محمد حسین هیکل البقیع بعد (برخارت) بما یقرب من 125 سنة فیقول انه لم یجد فی البقیع بقیة لبناء أو قبة علی الأجداث مما حمل برخارت علی أن یسمی هذا المکان (جنة البقیع) کذلک یقول إنه لم یجد بها أکواما من التراب و لا حفرا و لا حثالة، و إنما وجد قبورا مسوّاة بالأرض یحیط بکل قبر منها أحجار صغیرة تعلمه، فلو لا أنک تعرف أن هذا المکان هو البقیع، و أن به رفاتا خلّف أصحابها علی التاریخ أعظم الذکر، و لو لا هذه الأحجار المحیطة بکل قبر لخلتها- یقول هیکل- فضاء مسوّرا لا شی‌ء فیه البتة .

زغابه

و زغابة موضع قرب المدینة و فی آخر العقیق، یصب فیه سیل العقیق و وادی قناة و بطحان، و هی مجمع سیول المدینة؛ و فیها وقعت المعرکة بین النبی و قریش، فصارت لها شهرة أکبر، و فی الحدیث علی ما روی الراوون: أن أعرابیا أهدی للنبی ناقة فکافأه النبی بستّ نیاق فاستقلها الأعرابی و لم یقبل بها!! فقال النبی: ألا تعجبون لهذا الأعرابی و قد أهدی لی ناقتی التی أعرفها و التی ذهبت منی یوم (زغابة) فکافأته بستّ و سخط و لم یرض!؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 107
الرحالة بوخارت یزور العتبات و هو فی زی التنکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 108

النقا و حاجر

النقا و حاجر موضعان متجاوران متلاصقان قدیما طالما تغنی بهما الشعراء و کلاهما فی ناحیة المدینة علی أن هناک من یعین کل واحد منهما فی جهة أخری بعیدة و الراجح أن الأسماء مشترکة و قد جاء فی رسالة الطیف للاربلی ذکر لحاجر فی الشعر لعل المقصود به حاجر المدینة:
أهلا و سهلا بک من مؤنس‌ینظر عن طرف الطلا النافر
أهلا و سهلا بک من زائریخجل نور القمر الزاهر
إلی أن یقول:
و عیشة دلّت علی حاجرجاد الحیا السکب ربا حاجر
و جاء ذکر (النقا) عند أبی عبادة البحتری من قصیدة یمدح بها أبا الصقر.
و لما التقینا و النقا موعد لناتعجب رائی الدّر منا و لا قطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامهاو من لؤلؤ عند الحدیث تساقطه
هذا إذا کان المقصود بالنقا نقا المدینة

المنحنی

و المنحنی کما أورد السمهودی: اسم لما یقع شرقی وادی بطحان إلی مسجد المصلّی و قد ذکر السمهودی للاستدلال علی موقع المنحنی بیتین للشیخ شمس الدین الذهبی هما:
تولّی شبابی کأن لم یکن‌و أقبل شیب علینا تولّی
و من عاین المنحنی و النقافما بعد هذین إلا المصلّی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 109

حطم الضحیان

و من أشهر حصون المدینة و مواقعها فی العصر الجاهلی هو حصن (الضحیان) و هو مشیّد بحجارة الحرّة السوداء یبلغ طوله نحو 27 مترا و عرضه 12 مترا و ارتفاعه نحو ثمانیة أمتار علی تحقیق الأنصاری، و لم یبق منه إلا خرائب و أطلال، یقع شمالی العصبة و هو أطم بناه أحیحة ابن الجلّاح فی أرضه التی یقال لها القبابة .

حصن کعب بن الأشرف النبهانی

و هو حصن قائم علی هضبة من الحرّة الجنوبیة الشرقیة للمدینة علی ما ذکر الأنصاری و تبلغ مساحته 33 مترا فی 33 مترا و لم یبق من ارتفاع أسواره الیوم إلا ما یساوی 4 أمتار، و هو بناء حربی محصن و کونه الحصن الخاص بکعب بن الأشرف النبهانی هو من تحقیق الأنصاری.

سقیفة بنی ساعدة

سقیفة بنی ساعدة بنایة اختلف المؤرخون فی موقعها، و یری السمهودی أنها بالقرب من بئر بضاعة و هی شبه البهو الواسع الطویل السقف و کانت لبنی ساعدة بن کعب بن الخزرج الأنصاری من أیام الجاهلیة، و قصة هذه السقیفة مشهورة فی التاریخ الإسلامی فقد جلس فیها النبی (ص) علی ما روی ثم اجتمع فیها الأنصار من الاوس و الخزرج لیبایعوا سعد ابن عبادة رئیس الخزرج خلیفة للنبی بعد وفاته و لکن الأمر تبدل لمیل الأوس إلی جانب المهاجرین و تمت حینذاک بیعة أبی بکر بالخلافة فی السقیفة المذکورة و قتل سعد بن أبی عبادة و زعموا أن الجن هم الذین قتلوه!!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 110
و کسبت السقیفة منذ ذلک الیوم شهرة لما جری من اختلاف بسبب هذا الاجتماع و بسبب الخلافة.

ثنیّة الوداع

و من الأماکن المشهورة فی المدینة قدیما: ثنیّة الوداع، و هی موقعان علی ما حققه الأنصاری، موقع فی شمال المدینة فی اتجاه الشام، و موقع فی جنوب المدینة باتجاه مکة، و کان یجری فی کل موقع تودیع المسافرین المتجهین إلی الشام و المتجهین إلی مکة فسمی الموقعان باسم واحد، و فی سبب تسمیة الموقع بثنیّة الوداع اختلاف کبیر، و یقول یاقوت: إن الصحیح هو أنه اسم جاهلی قدیم أطلق علی هذا الموقع بناء علی ما کان یجری فیه من تودیع المسافرین من المدینة.
و من ثنیة جنوب المدینة استقبل النبی (ص) لأول مرة بنشید الصبایا المشهور علی ما یروون و هو:
طلع البدر علینامن ثنیات الوداع
وجب الشکر علیناما دعا للّه داع

سوق المدینة و سوق بنی قینقاع

و سوق المدینة، و سوق بنی قینقاع هما الآخران من أشهر مواقع المدینة قدیما، و کان یجری فی هذین السوقین البیع و الشراء و عرض المحصولات، و فی الروایة: أن النبی (ص) لما أراد أن یجعل للمدینة سوقا اتی سوق بنی قینقاع، ثم جاء سوق المدینة فضربه برجله و قال:
«هذا سوقکم فلا یضیق و لا یؤخذ فیه خراج».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 111

أهم مصادر البحث

1- القرآن الکریم
2- البیان فی تفسیر القرآن للشیخ الطوسی
3- تاریخ الیعقوبی
4- مروج الذهب للمسعودی
5- تاریخ الأمم و الملوک للطبری
6- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر
7- آثار البلاد و أخبار العباد للقزوینی
8- الدرة الثمینة فی تاریخ المدینة لابن النجار
9- أخبار مکة للأزرقی
10- کتاب الاستبصار فی عجائب الأمصار
11- مکة و المدینة فی الجاهلیة و عهد الرسول
12- تاریخ التمدن الإسلامی لجرجی زیدان
13- معجم البلدان للحموی
14- دائرة معارف القرن العشرین لمحمد فرید وجدی
15- الرحلة الحجازیة لمحمد لبیب البتانونی
16- مرآة الحرمین
17- فی منزل الوحی للدکتور هیکل
18- فی بلاد الرافدین للیدی دراور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 112
19- رحلة ابن جبیر
20- رحلة ابن بطوطة
21- جولات برخارت السویسری
22- بلوغ الارب للالوسی
23- البدایة و النهایة لعماد الدین أبی الفداء
24- المدخل لابن الحاج
25- خمسون و مائة صحابی مختلق للسید العسکری
26- الطبقات الکبری لابن سعد
27- آثار المدینة المنورة للأنصاری
28- محمد رسول اللّه لمحمد رضا
29- لسان العرب
30- تاج العروس
31- أمالی القالی
32- التنبیه علی أمالی القالی
33- القاموس للفیروزآبادی
34- رسالة الطیف للأربلیّ تحقیق عبد اللّه الجبوری
35- السقیفة للشیخ محمد رضا المظفر
36- التمور العراقیة قدیما و حدیثا
37- شجرة العذراء
38- مجمع الأمثال للمیدانی
39- الدکتور جواد علی
40- جغرافیة العالم الاقلیمیة (مؤسسة فرنکلین)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 113

المدینة المنورة فی الشعر

اشارة

جمعه و نسقه حسب الحروف الهجائیة فؤاد عباس من خریجی الجامعة الأمیرکیة ببیروت و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 115

أبو بکر العیدی أو العیذی

قال من قصیدة ابتدأ فیها بوصف مکة و البیت الحرام و مواقفها العظام و (یثرب) مدینة النبی علیه السلام، و یتشوّق أهلها و یذکر کرمها و فضلها.
و منها:
لی بالحجاز غرام لست أدفعه‌ینقاد قلبی له طوعا و یتبعه
یهزّنی البرق (مکّیا) تبسّمه‌إذا تراءی (حجازیا) تطلّعه
و منها:
و فی ربی (یثرب) غایات کلّ هوی‌یجلّ عن موقع الأشواق موقعه
أفق الشریعة و الإسلام طالعةشموسه مستجاش النصر متبعه
حیث النبوّة مضروب سرادقهاو الفضل شامخ طود الفخر أفرعه
و حیث کان طریق الوحی متّضحابین السماء و بین الأرض مهیعه
و خاتم الأنبیاء المصطفی شرفامحمد باهر الأشواق مضجعه
صلّی الا له علیه ما تکرّر بالصّلاة فرض مصلّ أو تطوّعه
و للشفاعة أبواب مفتّحةمشفّع من بمغناها تشفّعه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 116 محلّ قدس و تشریف یجرّ به‌ذیل الجمال علی ذی المال یدفعه
یشبّ نیران أشواقی غلیل هوی‌الیه لیس سوی مرآه ینقعه
و یستمدّ حنینی کلّ منحئامنه و عامره الزاکی و بلقعه
(عقیقه) و (قباه) و (البقیع) و مایحدّ (أحد) لمن فی اللّه مصرعه
مستنزل الفوز و الغفران مهبطه‌و ملتقی کل رضوان و مجمعه
أحبّه و أحبّ النازلین به‌و ما تضمّ نواحیه و أربعه
طبعا جبلت علیه فی الغرام به‌و أین من طبع من یهوی تطبّعه !

الأعشی (میمون بن قیس بن جندل)

یروی أنّه مدح الرسول (ص) بهذه القصیدة و تصدّت له قریش فی الطریق واقنعه رجالها بالرجوع الی أهله بعد أن جمعوا له مائة من الابل.
و لما رجع رمی به بعیره فی الطریق فقتله.
ألم تغتمض عیناک لیلة أرمداو بتّ کما بات السلیم مسهّدا
إلا أیّهذا السائلی أین یمّمت‌فان لها فی أهل (یثرب) موعدا
و آلیت لا أرثی لها من کلالةو لا من وجی حتی تلاقی (محمّدا)
متی ما تناخی عند باب (ابن هاشم)تراحی و تلقی من فواضله ندی

امرؤ القیس

تبصّر خلیلی هل تری من ضعائن‌سوالک نقبا بین حزمی شعبعب
علون بانطاکیّة فوق عقمةکجرمة نخل أو کجنّة (یثرب)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 117

البرجمیّ

فمن یک أمسی (بالمدینة) رحله‌فانّی و قیّار بها لغریب

بعض الأفاضل

نظم أسماء (المدینة المنوّرة) بقوله:
خذ جملة یا صاح من أسماءمدینة الهادی من الأسواء
(محمد) نبینا المشرّف‌الهاشمی المصطفی البرّ الوفی
فطیبة، طیّبة، و طابه‌و طائب، تعرف بالاطابه
حبیبة، بیت الرسول، و الحرم‌و حرم الرسول، فاحفظ ما انتظم
و دار الایمان، و دار السنّةو دار فتح، مع دار الهجرة
دار السلامة، و دار الأبرارو دار الأخیار، لنفی الأشرار
حسنة، مختارة، مرزوقةمؤمنة، مسکبنة، محفوظة
مدخل صدق، قبّة الاسلام‌شافیة من جملة الآلام
أکّالة القری، مع المقدّسه‌و نورها بورک من قد قبسه
من نور أسماء (مکان المصطفی)نظم به أرجو موارد الصفا

جریر

لقد علم الحیّ المصبّح أننامتی ما یقل یا للفوارس نرکب
إذا رمت فی حیّی خزیمة عزّناسما کلّ صرّیف السنانین مصعب
ألم تر قومی (بالمدینة) منهم‌و من ینزل (البطحاء) عند (المحصّب)
فوارسنا من صلب (قیس) کأنهم‌إذا بارزوا حربا أسنّة صلّب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 118
و قال یهجو التیم
قال الأمیر لعبد تیم بئسماأبلیت عند مواطن الأحساب
و لقد خرجت من (المدینة) آفلاخرع القناة مدنّس الأثواب
یا تیم إن بیوتکم تیمیّةقفد العماد قصیرة الأطناب
قوم إذا حضر الملوک و فودهم‌نتفت شواربهم علی الأبواب

جورج صیدح فی مولد النبی محمد (ص)

لا یعجز اللّه الذی‌إن قال کن للشی‌ء کان
أمر الرمال فاطلعت‌صحراء یثرب أقحوان
للرسل آیات، و هذاالطفل آیته البیان
الروح یملی ما یترجمه، و نعم الترجمان
بالضاد آذن ربّه‌فتخلدت لغة الأذان
یا صاحبیّ: بأی آلاءالرسول تکذّبان

حسان بن ثابت

قال فی قتل عمرو بن عبدودّ بسیف علی (ع):
أمسی الفتی عمرو بن عبد یبتغی‌بجنوب (یثرب) غارة لم تنظر
و لقد وجدت سیوفنا مشهورةو لقد وجدت جیادنا لم تقصر
و لقد رأیت غداة بدر عصبةضربوک ضربا غیر ضرب الحسّر
أصبحت لا تدعی لیوم عظیمةیا عمرو أو لجسیم أمر منکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 119
و قال حسان یرثی النبی (ص)
ما بال عینک لا تنام کأنماکحلت مآقیها بکحل الارمد
جزعا علی المهدی أصبح ثاویایا خیر من وطی‌ء الثری لا تبعد
وجهی یقیک الترب لهفا لیتنی‌غیّبت قبلک فی (بقیع الغرقد)
بأبی و أمّی من شهدت وفاته‌فی یوم الاثنین النبی المهتدی
فضللت بعد وفاته متبلّدامتلدّدا یا لیتنی لم أولد
أأقیم بعدک (بالمدینة) بینهم‌یا لیتنی صبّحت سمّ الأسود

السید حیدر الحلّی

قال من قصیدة مهنّئا بها الحاج محمد صالح کبّه بقدوم ولدیه محمد رضا و الحاج مصطفی من الحج.
ثم لما أکملا الحجّ معاودّعا (مکة) فیمن ودّعا
و إلی (یثرب) منها ازمعاقصد من ألبس فخرا (یثربا)
و حباها شرف الذکر و أمّا (کذا)و به فاق سناها الشهبا
فاشتهت تغدولها الشهب رغاماو نحا کل ضریح المصطفی
ناشقا طیب ثراه عرفاو به طاف و منه عطفا
نحو مغنی (المرتضی) مرتغبالسواه عنه لا یلوی الزماما
فقضی من حقّه ما وجباو أتی (الکرخ) فحیّا و أقاما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 120

سعید بن العاص

کتب إلی عبد الأعلی بن عبد اللّه و محمد بن صفوان الجمحی یذکّرهما طیب (العقیق) و (العرصتین) فی أیام الربیع.
ألا قل لعبد اللّه إمّا لقیته‌و قل لابن صفوان علی القرب و البعد
ألم تعلما أن (المصلّی) مکانه‌و أن (العقیق) ذو الاراک و ذو المرد
و أن ریاض (العرصتین) تزیّنت‌بنوّارها المصفّر و الاشکل الفرد
و أن بها لو تعلمان أصائلاو لیلا رقیقا مثل حاشیة البرد
فهل منکما مستأنس فمسلّم‌علی وطن أو زائر لذوی الودّ؟!
فأجابه عبد الأعلی:
أتانی کتاب من سعید فشاقنی‌و زاد غرام القلب جهدا علی جهد
و اذری دموع العین حتی کأنهابها رمد عنه المراود لا تجدی
فان ریاض (العرصتین) تزیّنت‌و أن (المصلّی) و (البلاط) علی العهد
و أن غدیر (اللابتین) و نبته‌له أرج کالمسک أو عنبر الهند

شاعر

عین جودی علی عبیل و هل یرجع ما فات فیضها بالسجام
عمّروا (یثربا) و لیس بها شفرو لا صارخ و لا ذو سنام
غرسوا لینها بمجری معین‌ثم حفّوا النخیل بالآجام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 121

شاعر مدنی


و (بالعرصة البیضاء) اذ زرت أهلهامها مهملات ما علیهن سائس
خرجن لحبّ اللهو من غیر ریبةعفائف باغی اللهو منهنّ آیس
یردن إذا ما الشمس لم یخش حرّهاخلال بساتین خلاهنّ یابس
إذا الحرّ آذاهنّ لذن بحجرةکما لاذ بالظلّ الظباء الکوانس

الشریف الرضیّ

قال من قصیدة و هو فی مدینة الرسول (ص) و ذلک فی المحرّم سنة 394 ه
و ما کنت أدری الحب حین تعرّضت‌عیون ظباء (بالمدینة) عین
فو اللّه ما أدری الغداة رمینناعن النبع، أم عن أعین و جفون !
بکلّ حشا منا رمیّة نابل‌قویّ علی الاحشاء غیر أمین
فررت بطرفی من سهام لحاظهاو هل تتلقّی أسهم بعیون!!
فیا بانتی بطن (العقیق) سقیتمابماء الغوادی بعد ماء شؤون
أحبّکما و المستجنّ (بطیبة)محبة ذخر بات عند ضنین
*** و قال أیضا و هی من لواحق الحجازیّات
یا رفیقیّ قفا نضویکمابین أعلام (النقا) و (المنحنی)
و انشدا قلبی فقد ضیّعته‌باختیاری بین (جمع) و (منی)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 122 عارضا السرب فان کان فتی‌بالعیون النجل یقضی فأنا
إنّ من شاط علی الحاظهاضعف من شاط علی طول القنا
تجرح الأعین فینا و الطلی‌قاتل اللّه الطلی و الأعینا
ثمّ کانت (بقباء) وقفةضمنت للشوق قلبا ضمنا
و حدیث کان من لذته أحد) یصغی الینا أذنا

الشریف المرتضی

قال مفتخرا من قصیدة
هل لیالیّ بالمنقیّ رجوع‌مثلما کنّ لی و نحن جمیع
إذ قناتی محتدّة و شفیعی‌من شبابی إلی الحسان شفیع
ساحبا (بالبقیع) من نشواتی‌فضل ثوبی إذ البقیع بقیع
وطن طاب جوّه و ثراه‌فکأن المصیف فیه ربیع

عبد السلام بن یوسف

قال یتشوق العقیق و ساکنیه:
علی ساکنی بطن (العقیق) سلام‌و إن أسهرونی بالفراق و ناموا
حظرتم علیّ النوم و هو محرّم‌و حلّلتم التعذیب و هو حرام
إذا بنتم عن (حاجز) و حجرتم‌علی السمع أن یدنو إلیه کلام
فلا میّلت ریح الصبا فرع بانةو لا سجعت فوق الغصون حمام
و لا قهقهت فیه الرعود و لا بکی‌علی حافتیه بالعشیّ غمام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 123 ألا لیت شعری هل إلی الرمل عودةو هل لی بتلک البانتین لمام؟؟
و هل نهلة من (بئر عروة) عذبةأداوی بها قلبا براه أوام

عبد اللّه بن قیس (الرقیّات)

إن الحوادث (بالمدینة) قدأوجعننی و قرعن مروتیه
وجببنی جبّ السنام فلم‌یترکن ریشا فی مناکبیه
تبکیهم أسماء معولةو تقول لیلی: و ارزیّتیه
علی بن حجر
هنیئا لکم یا زائرین ضریحه‌أمنتم به یوم المعاد من الرجس
وصلتم إلی قبر الحبیب (بطیبة)فطوبی لمن یضحی (بطیبة) أو یمسی

عمرو بن النعمان البیاضیّ

یرثی قومه:
خلت الدیار فسدت غیر مسوّدو من العناء تفرّدی بالسودد
أین الذین عهدتهم فی غبطةبین (العقیق) إلی (بقیع الغرقد)
کانت لهم أنهاب کلّ قبیلةو سلاح کلّ مدرّب مستنجد
نفسی الفداء لفتیة من عامرشربوا المنیّة فی مقام انکد
قوم هم سفکوا دماء سراتهم‌بعض ببعض فعل من لم یرشد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 124

الفرزدق

حین مدح الفرزدق الامام زین العابدین علی بن الحسین (ع) بقصیدته:
(هذا الذی تعرف البطحاء و طأته) حبسه هشام بن عبد الملک الخلیفة الأموی فی (عسفان) و هو موضع بین مکة و المدینة فهجا الفرزدق هشاما و کان هشاما أحول العین بقوله:
أیحبسی بین المدینة و التی‌الیها قلوب الناس یهوی منیبها
یقلّب رأسا لم یکن رأس سیّدو عینا له حولاء باد عیوبها

الکمیت بن زید الأسدی

قال فی إحدی هاشمیّاته فی آل البیت النبوی (ع)
أسرة الصادق الحدیث أبی القاسم فرع القدامس القدّام
خیر حیّ و میّت من بنی آدم‌طرّا مأمومهم و الامام
أبطحیّ بمکة استثقب اللّه‌ضیاء العمی به و الظلام
و إلی (یثرب) التحوّل عنهالمقام من غیر دار مقام
هجرة حوّلت إلی الأوس‌و الخزرج أهل الفسیل و الآطام
و قال أیضا
و أنت أمین اللّه فی الناس کلّهم‌علینا و فیها اختار شرق و مغرب
فبورکت مولودا و بورکت ناشئاو بورکت عند الشیب إذ أنت أشیب
و بورک قبر أنت فیه و بورکت‌به و له أهل لذلک (یثرب)
لقد غیّبوا برا و صدقا و نائلاعشیّة و اراک الصفیح المنصّب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 125
و منها:
إذا ما قضت من أهل (یثرب) موعدافمکة من أوطانها و المحصّب
و قال أیضا :
طربت و هل بک من مطرب‌و لم تتصاب و لم تلعب
و شجو لنفسی لم أنسه‌بمعترک الطف فالمجتبی
کأن خدودهم الواضحات‌بین المجرّ إلی المسحب
صفائح بیض جلتها القیون‌ممّا تخیّرن فی (یثرب)

الشیخ محسن الخضری

قال راثیا العلامة الکبیر السید مهدی القزوینی المتوفی فی الطریق عند قفوله من الحجاز.
ما حجّ إذ حجّ نحو البیت عن سعةأنّی و قد عال بالأنثی و بالرجل!
فرحّب البیت لمّا حلّ ساحقه‌أو ضاق رحبا بذاک العارض الهمل
حتی إذا ساقه الأدنی له رحماو آذنت جمرات الشوق فی شعل
جلی فآنس نور اللّه ملتمعامن أرض (طیبة) مثوی سید الرسل
من (یثرب) جاءت البشری بمقدمه‌لسهل (لینة) ممتدا إلی الجبل
فیا لها فرحة ما کان اطولهالو لم تطأها و شیطا فدحة الأجل
و قال من موشّح :
سل أهیل الود لما احتملوافی ظلام اللیل عن وادی السلام
أتری هل أدرکوا ما أملّوابحمی (طیبة) و (البیت الحرام)؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 126 أم تراهم بلغوا ما أملّوابالدعا بین المصلّی و المقام
شکر اللّه مساعیهم کماأخلصوا للّه ذلّ الموقف
شخّصا أبصارهم نحو السمابخشوع و دموع ذرّف
و قال :
أمحدثی عما رآه بمکّةو (بطیبة) و من الحجاز إلی الغری
و سواک لو یقضی جمیع زمانه‌بین المشاعر خلته لم یشعر
حتی کأنّک قد رأیت و لم یکن‌أحد سواک بمسمع و بمنظر

محمد ناجی القشطینی

من قصیدة (ما وراء الحجب)
أیها النش‌ء ادرکوا أوطانکم‌فهی حیری بید المغتصب
فإذا بالسلم لم ترجع لکم‌فأعیدوها بحدّ القضب
و اغسلوا العار بسیل من دم‌فهو لم یغسل بماء السحب
و أعیدوا هیبة اللّه لهاو جلال المصطفی من (یثرب)
*** و قال من قصیدة عنوانها (ابو الزهراء)
الحق أبلج وضّاح إلی الأبدکالصبح یسطع لا یخفی علی أحد
و ان ترد مثلا أعلی لتضربه‌للحق غیر أبی الزهراء لم تجد
طوبی (لیثرب) فی طه و عترته‌و لتبق (یثرب) طول الدهر فی رغد
ضمّت جلال رسول اللّه و اتّحدت‌بآیة منه و البشری لمتحد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 127

مهیار الدیلمی

سل فی الغضا- و صبا الاصائل تنفح:هل ریح (طیبة) فی الذی یستروح؟
و هل النوی- و قضاؤها متمرّدترکت برامة بانة تترنّح؟
أهل (القباب) و من بهم لمصفّدبالبعد أتلع بالعراق و أبطحوا
*** و کتب إلی الصاحب ابن عبد الرحیم من قصیدة:
أصبوا إلی (طیبة) من بابل‌ما أقرب الشوق و ما أبعدا!!
یا فارس (الغیداء) یبغی (منی)بلّغ- بلغت الرشأ الاغیدا
یا حبذا الذکری و ان أسهرت‌بعدک و الدمع و إن أرمدا
و قال من قصیدة فی رثاء الشریف الرضی، معرّضا بمن کان یحسد الشریف الرضی و یزید فی غیظهم
أقریش لا لفم أراک و لا یدفتواکلی غاض الندی و خلا الندی
خلّاک ذو الحسبین انقاضا متی‌تجذب علی حبل المذلّة تنقد
و منها:
من راکب یسع الهموم فؤاده‌و تناط منه بقارح متعوّد
یطوی المیاه علی الظما و کأنه‌عنها یضلّ، و انّه للمهتدی
یغشی الوهاد بمثلها من مهبطو ربا الهضاب بمثلها من مصعد
قرّب قربت من التلاع فإنها(أم المناسک) مثلها لم یقصد
دأبا به حتی تریح (بیثرب)فتنیخه نقضا بباب المسجد
واحث التراب علی شحوبک حاسراو انزل فعزّ (محمدا) (بمحمد)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 128
و قل:
انطوی حتی کأنک لم تلدمنه الهدی و کأنه لم یولد

نائلة بنت الفرافصة

قالت تخاطب أخاها ضبّة حین حملت إلی عثمان بن عفان من الکوفة.
أحقّا تراه الیوم یا (ضبّ) أننی‌مصاحبة نحو (المدینة) أرکبا
لقد کان فی فتیان حصن بن ضمضم‌لک الویل ما یجزی الخباء المحجّبا
قضی اللّه حقا أن تموتی غریبة(بیثرب) لا تلقین أمّا و لا أبا

هاشم الکعبی

قال من قصیدة فی رثاء الحسین (ع)
عج بی إذا جئت غربیّ الحمی و بدت‌منه لمقلتک الأعلام و القبب
و حیّ عنی الألی اقمارهم طلعت‌من (طیبة) ولدی (کرب البلا) غربوا
فاعجب لهم کیف حلّوا (کربلاء) و کم‌کانت بهم تفرج الغمّاء و الکرب!!
فأین تلک البدور التمّ لا غربواو أین تلک البحور الفعم لانضبوا!
و قال من قصیدة:
منی القلب أن تدنو (منی) و (المحصّب)و للرکب قصد دون ذاک و مأرب
خلیلیّ عوجا بی علی الربع عوجةعسی یشتفی فیها السقیم المعذّب
تقولان قصد العیس (جمع) و (یثرب)صدقتم و هذا الربع جمع و یثرب
و لا تعجبا مما یحاول مدنف‌فأمرکما فی اللوم أدهی و أعجب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 129

هجرة الرسول الی المدینة المنورة

اشارة

کتبه

الدکتور حسین امین

استاذ التاریخ الاسلامی المساعد بجامعة بغداد
و الحائز علی درجة دکتوراه الشرف الاولی من جامعة الاسکندریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 131

هجرة الرسول الی المدینة

یعتبر موضوع الهجرة النبویة من أهم المواضیع التاریخیة الإسلامیة، ذلک لأن الإسلام بعد الهجرة انطلق انطلاقا واسعا و أضحی المسلمون أمام مسؤولیات جدیدة، و راحوا یقیمون دعائم البناء الإسلامی بروح عالیة مفعمة بالإیمان الصادق و مشبعة بالتعاون الکبیر.
و لا بد للباحث حین یتقصی تلک الحادثة الخطیرة من تاریخ المسلمین أن یتعرف علی بواعثها و مقدماتها و یقف علی ما جابهه المسلمون من مخاطر و آلام.
و من المعروف أن المشرکین فی مکة أنزلوا اضطهادا و عذابا بالمسلمین، و صمد المسلمون أمام ذلک الاضطهاد الکبیر فقتل من قتل و لحق التعذیب بالکثیرین منهم، فرأی الرسول (ص) أن ینقذ المسلمین من ذلک الأذی و الاضطهاد، فأذن (ص) لأصحابه الکرام أن یهاجروا إلی الحبشة 1.
و هنا یعترضنا سؤال، لماذا اختار الرسول (ص) الحبشة مکانا لهجرة أصحابه المسلمین؟ و الذی نرجحه هو أن الرسول (ص) اختار هذا المکان لأسباب سیاسیة أو دینیة، فالرسول (ص) لم یؤید الرأی القائل بالهجرة إلی الیمن مثلا، ذلک لأن الیمن کانت تحت النفوذ الفارسی، فالاستقرار السیاسی لم یتوفر فیها کما أن هناک تأثیرات وثنیة و مجوسیة نتیجة النفوذ الفارسی هناک، کذلک یمکن تطبیق هذا القول علی العراق،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 132
أما الشام فبالإضافة إلی القلق السیاسی، فإن قریش لها علاقات تجاریة مع بلاد الشام و بإمکانها إقلاق المسلمین و تألیب الحکام و المتنفذین علیهم هناک. فاختیار الحبشة کان أمرا منطقیا و سلیما، فالبلاد هناک مستقرة سیاسیا و نجاشی الحبشة من الذین عرفوا بالحکمة و الرزانة یومذاک و الحبشة و إن فصلها عن الحجاز بحر، فإنها قریبة إذا ما أراد المسلمون الانتقال إلیها أو العودة منها، ثم إن ما یحمل المسلمون من مبادی‌ء إنسانیة سامیة و احترام للدین المسیحی ما یطمئن الرسول (ص) علی أصحابه فی بلاد الحبشة.
و هناک أسباب و عوامل حملت الرسول بالإذن لأصحابه الکرام فی الهجرة إلی الحبشة، و من تلک العوامل أن یتخلص المسلمون من الأذی الشدید المستمر الذی یلاقونه من الفئة المشرکة، و أن یجد المسلمون رزقا لهم فی بلاد الحبشة بعد أن سدت أمامهم أبواب الکسب الحلال فی مکة، و قد یکون الرسول (ص) رأی من الضروری إبعاد الجماعة الإسلامیة من الجو المشحون بالحقد و العنف و الاضطهاد الحاصل فی مکة، بقصد تقویة الروح المعنویة لتلک الجماعة و حتی لا تشعر بالضعف و الخور من توالی شدة الضربات، أو أنه أراد أن تکون هذه الجماعة المهاجرة إلی الحبشة رصیدا یعتمد علیه فی المستقبل 2.
و هاجر إلی الحبشة أحد عشر رجلا و أربع نساءوهم:
عثمان بن عفان بن أبی العاص بن أمیة و معه أمرأته رقیة بنت رسول اللّه (ص)، و أبو حذیفة بن عتبة بن ربیعة و معه امرأته سهلة بنت سهیل ابن عمرو، و الزبیری العوام بن خویلد بن أسد، و مصعب بن عمیر بن هاشم بن عبد مناف، و عبد الرحمن بن عوف، و أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، و معه امرأته أم سلمة بنت أبی أمیة بن المغیرة. و عثمان بن مظعون، و عامر ابن ربیعة، و معه امرأته لیلی بنت أبی حثمة، و أبو سبرة بن أبی رهم بن عبد العزی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 133
و سهیل بن بیضاء و جعفر بن أبی طالب و معه امرأته أسماء بنت عمیس.
و مکثوا هناک ثلاثة أشهر و تناقلت إلیهم بعض الأخبار التی تشیر إلی أن المشرکین عدلوا عن إیذاء المسلمین، فعاد معظم هؤلاء المهاجرین إلی مکة، فلما بلغوها وجدوا قریشا ما زالت مستمرة فی صب أذاها علی المسلمین بشکل أشد، فعاد المسلمون بهجرة ثانیة إلی الحبشة فی ثمانین رجلا غیر نسائهم و أطفالهم، و ظلوا هناک حتی استتب الأمر للمسلمین فی المدینة (یثرب) و فی السنة السابعة للهجرة عاد جمیعهم علی ظهر سفینتین 3.
و الذین هاجروا إلی الحبشة فی هجرتهم الثانیة من المسلمین هم:
جعفر بن أبی طالب و معه زوجته أسماء بنت عمیس، و عثمان بن عفان و معه امرأته رقیة ابنة رسول اللّه (ص)، و عمرو بن سعید بن العاص ابن أمیة و معه امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمیة، و خالد بن سعد بن العاص بن أمیة و معه امرأته أمینة بنت خلف بن أسعد بن عامر، و عبد اللّه بن جحش و أخوه عبید اللّه بن جحش و معه امرأته أم حبیبة بنت أبی سفیان بن حرب بن أمیة، و قیس بن عبد اللّه و معه امرأته برکة بنت یسار، و معیقب بن أبی فاطمة. و أبو خدیعة ابن عتبة بن ربیعة بن عبد شمس، و أبو موسی الأشعری و اسمه عبد اللّه ابن قیس. و عتبة بن غزوان ابن جابر، و الزبیر بن العوام، و الأسود ابن نوفل بن خویلد بن أسد، و یزید بن زمعه بن الأسود بن المطلب، و عمرو بن أمیة بن الحارث، و طلیب بن عمیر، و مصعب بن عمیر بن هاشم، و سویبط بن سعد بن حرملة، و جهم بن قیس بن عبد شرحبیل، و معه امرأته أم حرملة، و عمرو بن جهم بن قیس و خزیمة بن جهم بن قیس، و أبو الروم بن عمیر ابن هاشم بن عبد مناف، و عبد الرحمن بن عوف، و عامر ابن أبی وقاص، و أبو وقاص مالک بن أهیب، و المطلب بن أزهر بن عبد عوف، و معه امرأته رملة بنت أبی عوف. و عبد اللّه بن مسعود بن الحارث، و أخوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 134
عتبة بن مسعود، و المقداد بن عمرو بن ثعلبة، و الحارث بن خالد بن صخر بن عامر و معه امرأته ربطة بنت الحارث، و عمرو بن عثمان بن کعب، و أبو سلمة بن عبد الأسد و معه امرأته أم سلمة بنت أبی أمیة، و شماس بن عثمان بن الشرید، و هبّار بن سفیان و هشام بن أبی حذیفة، و سلمة بن هشام بن المغیرة، و عیّاش بن أبی ربیعة، و معتّب بن عوف، و عثمان بن مظعون و ابنه السائب بن عثمان و أخواه قدامة بن مظعون و عبد اللّه بن مظعون، و حاطب بن الحارث، و معه امرأته فاطمة بنت المجلّل ابن عبد اللّه، و ابناه محمد بن حاطب و الحارث بن حاطب، و أخوه حطّاب بن الحارث، و معه امرأته فکیهة بنت یسار، و سفیان بن معمر ابن حبیب، و معه ابناه جابر بن سفیان و جنادة بن سفیان، و معه امرأته حسنة و هی أمهما، و أخوهما من أمهما شرحبیل بن حسنة. و عثمان ابن ربیعة، و خنیس بن حذافة بن قیس و عبد اللّه بن الحارث بن قیس، و هشام بن العاص، و قیس بن حذافة بن قیس، و أبو قیس بن الحارث ابن قیس، و عبد اللّه بن حذافة بن قیس، و الحارث بن الحارث بن قیس، و معمر بن الحارث بن قیس، و بشر بن الحارث بن قیس و أخ له من أمه من بنی تمیم یقال له سعید بن عمرو، و سعید بن الحارث ابن قیس، و السائب بن الحارس، و عمیر بن رئاب بن حذیفة، و محمیة بن الجزاء.
و معمر بن عبد اللّه بن نضلة بن عبد العزی، و عروة بن عبد العزی، و عدی بن نضلة بن عبد العزی و ابنه النعمان بن عدی، و عامر بن ربیعة و معه امرأته، لیلی بنت أبی حثمة بن غانم. و أبو سبرة بن أبی رهم و معه امرأته أم کلثوم بنت سهیل بن عمرو، و عبد اللّه بن مخرمة، و عبد اللّه ابن سهیل بن عمرو، و سلیط ابن عمرو بن عبد شمس، و أخوه السکران ابن عمرو و معه امرأته سودة بنت زمعه، و مالک بن زمعة و معه امرأته عمرة بنت السعدی بن وقدان، و حاطب بن عمرو، و سعد بن خولة، و أبو عبیدة بن الجراح، و سهیل بن بیضاء، و عمرو بن أبی سرح بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 135
ربیعة، و عیاض بن زهیر بن أبی شداد، و عمرو بن الحارث بن زهیر بن أبی شداد، و عثمان بن عبد غنم بن زهیر، و سعد بن عبد قیس بن لقیط، و الحارث ابن عبد قیس بن لقیط بن عامر بن أمیة.
و حاولت قریش أن توغر صدر النجاشی ضد المسلمین المهاجرین، فأرسلت برجلین من زعمائها و معهما هدایا ثمینة، هما عمرو بن العاص و عبد اللّه بن أبی ربیعة، و قالا لملک الحبش: (أیها الملک أنه قد ضوی إلی بلدک منا غلمان سفهاء فارقوا دین قومهم و لم یدخلوا فی دینک، و جاؤوا بدین ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت. و قد بعثنا إلیک فیهم أشراف قومهم من أبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردهم إلیهم، فهم أعلی بهم عینا و أعلم بما عابوا علیهم و عاتبوهم فیه 4). و قدما للملک و لرجاله الهدایا، و لکن الملک الحبشی أبی أن یعید المسلمین إلّا بعد أن یسمع کلامهم، فاستدعاهم، فجاؤوا لمقابلة الملک، فسألهم: ما هذا الدین الذی فارقتم فیه قومکم و لم تدخلوا فی دینی و لا دین أحد من هذه الملل؟ فأجاب الملک رجل من المسلمین الأولین و بطل من أبطالهم المشهورین، و کان لجوابه أثر کبیر فی نفس النجاشی و أتباعه، و کانت کلمته صورة واضحة لحالة العرب قبل ظهور محمد (ص)، لقد وقف جعفر ابن أبی طالب و قال:-
«أیها الملک، کنا قوما أهل جاهلیة، نعبد الأصنام، و نأکل المیتة، و نأتی الفواحش و نقطع الأرحام و نسی‌ء الجوار، و یأکل القوی منا الضعیف، فکنا علی ذلک حتی بعث اللّه إلینا رسولا منّا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلی اللّه لنوحّده، و نعبده و نخلع ما کنا نعبد نحن و أباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحدیث و أداء الأمانة وصلة الرحم و حسن الجوار و الکف عن المحارم و الدماء و نهانا عن الفحشاء و قول الزور و أکل مال الیتیم و قذف المحصنات، و أمرنا أن نعبد اللّه و لا نشرک به شیئا، و أمرنا بالصلاة و الزکاة و الصیام،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 136
فصدقناه و آمنا به و اتبعناه علی ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده لا نشرک به شیئا، و حرّمنا ما حرّم علینا و أحللنا ما أحل لنا، فعدا علینا قومنا، فعذبونا و فتنونا عن دیننا لیردونا إلی عبادة الأوثان من عبادة اللّه، و أن نستحل ما کنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا و ظلمونا و ضیقوا علینا و حالوا بیننا و بین دیننا، خرجنا إلی بلدک و اخترناک علی من سواک و رغبنا فی جوارک، و رجونا أن لا نظلم عندک 5».
کانت لتلک الکلمات الحقة الرائعة أثرها الکبیر فی یقظة الضمیر و انقداح الفکر، و تأکد لملک الحبشة و رجاله صدق هؤلاء المؤمنین المسلمین و أن ما یحملون من مبادی‌ء و أفکار لا تختلف عن مبادی‌ء و أفکار السید المسیح، فامتنع النجاشی من تلبیة طلب القرشیین و رجع رسولا قریش یجرّون أذیال الخیبة و الفشل، و انتصر الإسلام و المسلمون فی هذه الجولة، و اطمأن المؤمنون فی الحبشة ینعمون بالأمن و الحریة حتی عادوا إلی أوطانهم بمحض إرادتهم و برغبتهم کما أشرنا إلی ذلک من قبل.
و استمر المشرکون فی أذی المسلمین، و لاقی الرسول (ص) ما لاقی من صنوف العذاب و الاضطهاد، و قد ضرب الرسول العظیم و صحبه الکرام أمثلة عالیة فی الثبات علی المبدأ، و لما وجد المشرکون هذا الصمود العظیم و الثبات الکبیر، ساورهم شعور بخطورة الأمر و أن محمدا (ص) سوف یقوی جانبه یوما بعد یوم، فاتصلوا بعمه أبی طالب، و طلبوا منه التوسط لدی ابن أخیه، لیکف عن الدعوة إلی الإسلام، و عرض المشرکون علیه عروضا مغریة، و لکن الرسول (ص) وقف بصلابة المؤمن، قائلا:- «و اللّه لو وضعوا الشمس فی یمینی و القمر فی شمالی ما ترکت هذا الأمر حتی یظهره اللّه. أو أهلک دونه 6».
و لما یئست قریش من إغراء محمد (ص) بالمال و السلطان، اتعبت أسلوبا جدیدا، أعلنت فیه مقاطعة بنی هاشم مقاطعة کاملة، فلا یؤاکلونهم و لا یشاربونهم و لا یبایعونهم، و لا یناکحونهم، و لا یکلمونهم حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 137
ینبذوا محمدا و المسلمین، و لکی یؤکدوا علی أنفسهم قداسة هذا العهد الذی اتخذوه علی أنفسهم، وضعوا- الصحیفة- التی کتبوا فیها بنود القطیعة فی جوف الکعبة 7، و قاسی المسلمون فی هذه الفترة أذی شدیدا، و ضرب أبو طالب عم النبی الکریم (ص) اسمی مثل للوفاء کما کان موقف السیدة خدیجة زوج النبی (ص) عظیما و جلیلا، و فی هذه الفترة توفی أبو طالب و السیدة خدیجة 8، و بذلک یکون الرسول (ص) قد فقد أعظم نصیرین له، و کان لهذه الحادثة أثرها الکبیر فی نفس الرسول (ص) فقد فقد عمه الحنون و من بذل له الحمایة و العون و فقد زوجته الرؤوف و شریکة حیاته الوفیة، من بذلت له الإخلاص و الحب و الوفاء صافیا نقیا، و کانت و الحق أحب نسائه و اولهن اسلاما و اشدهن ایمانا.
و هکذا استمر الاضطهاد الکبیر و انصب العذاب الشدید علی المسلمین الأولین الذین ثبتوا علی معتقدهم ثبات المؤمنین الصامدین، عندئذ فکّر الرسول لدعوته فی مناخ آخر غیر مناخ مکة و فی أناس آخرین غیر أهل مکة من المشرکین، فتوجه إلی الطائف 9 یلتمس من قبیلة ثقیف النصرة و یرجو إسلامهم، و لکنهم جابهوه بعنف لم یکن یتوقعه، و بأذی شدید لم یکن یحسبه، فعاد إلی مکة، و من هنا بدأ الرسول (ص) یفکر فی عرض فکرته علی القبائل، خاصة تلک التی تفد علی مکة فی موسم الحج، فاتصل (ص) برهط من بنی کلب و برهط من بنی حنیفة و برهط من بنی عامر 10، و لکنهم لم یتجاوبوا مع دعوة الرسول (ص) و لکن الرسول (ص) لم ییأس و استمر فی عرض نفسه علی الوافدین إلی مکة من القبائل المختلفة.

اللقاءات الأولی مع أهل المدینة

و بدأت تباشیر النجاح فی حدود سنة 621 م، فقد قدم مکة، أبو الحیسر أنس بن رافع و معه فتیة من بنی الأشهل فیهم إیاس بن معاذ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 138
یلتمسون الحلف من قریش علی قومهم من الخزرج 11، فسمع بهم رسول اللّه (ص) فأتاهم فجلس إلیهم، فقال لهم:- هل لکم فی خیر مما جئتم له؟ فقالوا له:- و ما ذاک؟ قال: أنا رسول اللّه، بعثنی إلی العباد، أدعوهم إلی أن یعبدوا اللّه و لا یشرکوا به شیئا، و أنزل علیّ الکتاب.
و ذکر لهم (ص) الإسلام و تلا علیهم القرآن. فقال بن معاذ، و کان غلاما حدثا: أی قوم، هذا و اللّه خیر مما جئتم له. بینما أخذ أبو الحیسر، أنس بن رافع، حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه ایاس بن معاذ، و قال: دعنا منک، فلعمری لقد جئنا لغیر هذا. فصمت ایاس ابن معاذ، و قام الرسول (ص) عنهم و انصرفوا إلی المدینة 12. و یبدو أن الإسلام قد دخل قلب ایاس بن معاذ، و ذکر ابن هشام فی سیرته عن محمود بن لبید قال: أخبرنی من حضره من قومه عند موته: أنهم لم یزالوا یسمعونه یهلل اللّه تعالی و یکبّره و یحمّده و یسبّحه حتی مات، فما کانوا یشکّون أنه قد مات مسلما، و أنه قد کان استشعر الاسلام فی ذلک اللقاء مع الرسول الکریم (ص) 13.
و التقی الرسول (ص) بنفر من الخزرج، قال ابن اسحاق، حدثنی عاصم ابن عمر بن قتادة عن أشیاخ من قومه. قالوا: لما لقیهم رسول اللّه (ص) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال أمن موالی یهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أکلمکم؟ قالوا: بلی، فجلسوا معه فدعاهم إلی اللّه عز و جل، و عرض علیهم الإسلام، وتلا علیهم القرآن. فلما کلّم الرسول (ص) أولئک النفر، و دعاهم إلی اللّه، قال بعضهم لبعض: یا قوم تعلّموا و اللّه إنه للنّبی الذی توعّدکم به یهود فلا تسبقنّکم إلیه. فأجابوه فیما دعاهم إلیه، بأن صدقوه و قبلوا منه ما عرض علیهم من الإسلام، و قالوا إنا قد ترکنا قومنا، و لا قوم بینهم من العداوة و الشر ما بینهم، فعسی أن یجمعهم اللّه بک، فسنقدم علیهم، فندعوهم إلی أمرک و نعرض علیهم الذی أجبناک إلیه من هذا الدین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 139
فإن یجمعهم اللّه علیه فلا رجل أعزّ منک، ثم انصرفوا عن رسول اللّه (ص) راجعین إلی بلادهم و قد آمنوا و صدقوا 14.
کان هذا من الانتصارات الرائعة فی نشر الفکرة، و کان ذلک اللقاء فاتحة خیر فی نجاح الدعوة و بث مبادئها السامیة بین العرب من أهل یثرب و الحق لیعتبر ذلک اللقاء مفتاح الهجرة العظیمة و باکورة اللقاءات الطیبة ذات النتائج المفیدة للإسلام و للجماعة الإسلامیة، فقد أصبح للمسلمین أعوان یؤمنون بالمبادی‌ء الإسلامیة فی یثرب ینشرون الفکرة بصدق و إخلاص و یعملون علی ترسیخ المبادی‌ء النبیلة فی نفوس أهلیهم و أبناء عشیرتهم، و یعرّفون الناس بالدعوة الجدیدة، منهم النواة الأولی و الوحدات الأساسیة فی تلک المدینة التی ستشهد عما قریب أعظم حدث فی التاریخ الإسلامی، حادثة الهجرة النبویة و تأسیس الدولة الإسلامیة فیها.

بیعة العقبة الأولی

بعد ذلک اللقاء المهم و بعد أن حلّ العام الجدید و جاء موعد الحج أتی الموسم اثنا عشر رجلا من أهل یثرب، فالتقوا بالرسول محمد (ص) بالعقبة، و هؤلاء الرجال هم:- أسعد بن زرارة بن عدس بن عبید ابن ثعلبة بن غنم بن مالک بن النجار و عوف و معاذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالک بن غنم بن مالک بن النجار، و رافع بن مالک ابن العجلان و ذکوان بن عبد قیس و عبادة بن الصامت ابن قیس بن أصرم، و أبو عبد الرحمن یزید بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم، و العباس ابن عبادة بن نضلة بن مالک بن العجلان، و عقبة بن عامر بن نابی بن زید ابن حرام، و قطبة بن عامر بن حدیدة بن عمرو بن غنم بن سواد. و أبو الهیثم بن التّیّهان، و عویم بن ساعدة 15.
و بایع أولئک الرجال الرسول (ص) علی أن لا یشرک أحدهم باللّه شیئا و لا یسرق و لا یزنی و لا یقتل أولاده و لا یأتی ببهتان یفتریه بین یدیه و رجلیه و لا یعصیه فی معروف، فإن و فی ذلک فله الجنة، و ان غشی من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 140
ذلک شیئا فأمره إلی اللّه، إن شاء عذّب و إن شاء غفر، 16 ... و لما انصرف القوم بعث رسول اللّه (ص) معهم الصحابی الجلیل مصعب ابن عمیر بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار بن قصی، و أمره أن یقرئهم القرآن و یعلمهم الإسلام، و یفقههم فی الدین، فکان یسمی المقری‌ء بالمدینة: مصعب و کان منزله علی أسعد بن زرارة بن عدس 17.
و أخذت المبادی‌ء الإسلامیة فی الانتشار بیثرب و اعتنق الکثیر من الاوس و الخزرج الدین الإسلامی، و قد أسلم سعد بن معاذ و أسید بن حضیر، و کان لإسلامهما أثر کبیر فی نشر الدعوة الجدیدة، و قصة إسلامهما من طرائف تاریخ الدعوة الإسلامیة. قال ابن اسحاق:
و حدثنی عبید اللّه بن المغیرة بن معیقب و عبد اللّه بن أبی بکر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمیر، یرید دار بنی عبد الأشهل، و دار بنی ظفر، و کان سعد بن معاذ بن النعمان بن امری‌ء القیس بن زید بن عبد الأشهل بن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بنی ظفر 18.
قال ابن هشام: و اسم ظفر، کعب بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالک بن الاوس قالا: علی بئر یقال لها: بئر مرق، فجلسا فی الحائط، و اجتمع إلیها رجال ممن أسلم، و سعد بن معاذ و أسید بن حضیر، یومئذ سیدا قومهما من بنی عبد الأشهل، و کلاهما مشرک علی دین قومه، فلما سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسید بن حضیر: لا أبا لک، انطلق إلی هذین الرجلین اللذین قد أتیا دارینا، لیسفها ضعفاءنا، فازجرهما و انههما عن أن یأتیا دارینا، فإنه لو لا أن أسعد بن زرارة منی حیث قد علمت، کفیتک ذلک، هو ابن خالتی، و لا أجد علیه مقدّما، قال:- فأخذ أسید بن حضیر حربته، ثم أقبل الیهما، فلما رآه أسعد بن زرارة، قال لمصعب بن عمیر: هذا سیّد قومه قد جاءک، فاصدق اللّه فیه، قال مصعب: إن یجلس أکلمه. قال: فوقف علیهما و قال: ما جاء بکما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 141
إلینا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن کانت لکما بأنفسکما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضیت أمرا قبلته، و إن کرهته کفّ عنک ما تکره؟ قال: أنصفت، ثم رکز حربته و جلس إلیهما، فکلّمه مصعب بالإسلام، و قرأ علیه القرآن، فقالا فیما یذکر عنهما:
و اللّه لعرفنا فی وجهه الإسلام قبل أن یتکلم فی إشراقه و تسهّله، ثم قال:
ما أحسن هذا الکلام و أجمله، کیف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فی هذا الدین؟ قالا له: تغتسل فتطّهر و تطّهر ثوبیک، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلی. فقام فاغتسل و طهّر ثوبیه و تشهّد شهادة الحق، ثم قام فرکع رکعتین، ثم قال لهما: إن ورائی رجلا إن اتّبعکما لم یتخلّف عنه أحد من قومه، و سأرسله إلیکما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته و انصرف إلی سعد و قومه و هم جلوس فی نادیهم، فلما نظر إلیه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف باللّه لقد جاءکم أسید بغیر الوجه الذی ذهب به من عندکم، فلما وقف علی النادی، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: کلمت الرجلین، فو اللّه ما رأیت بهما بأسا، و قد نهیتهما، فقالا: نفعل ما احببت، و قد حدّثت أن بنی حارثة قد خرجوا إلی أسعد ابن زرارة لیقتلوه، و ذلک أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتک لیخفروک . فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا، تخوّفا للذی ذکر له من بنی حارثة، فأخذ الحربة من یده، ثم قال و اللّه ما أراک اغنیت شیئا، ثم خرج إلیهما، فلما رآهما سعد مطمئنین، عرف سعد أن أسیدا إنما أراد منه أن یسمع منهما، فوقف علیهما، ثم قال لأسید بن زرارة:- یا أبا أمامة، أما و اللّه لو لا ما بینی و بینک من القرابة، ما رمت هذا منی، أتغشانا فی دارینا بما نکره؟ و قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمیر: أی مصعب، جاءک و اللّه سیّد من وراءه من قومه، إن یتبعک لا یتخلف عنک منهم اثنان،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 142
فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضیت أمرا و رغبت فیه قبلته، و إن کرهته عزلنا عنک ما تکره. قال سعد: أنصفت. ثم رکز الحربة و جلس، فعرض علیه الإسلام، و قرأ علیه القرآن، قالا: فعرفنا و اللّه فی وجهه الإسلام قبل أن یتکلم، لإشراقه و تسهّله، ثم قال لهما: کیف تصنعون إذا أنتم أسلمتم و دخلتم فی هذا الدین، قالا: تغتسل فتطّهر و تطهّر ثوبیک، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلی رکعتین، قال: فقام فاغتسل و طهّر ثوبیه و تشهد شهادة الحق، ثم رکع رکعتین، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلی نادی قومه و معه أسید بن حضیر 19.
و لما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف باللّه لقد رجع إلیکم سعد بغیر الوجه الذی ذهب به من عندکم، فلما وقف علیهم قال: یا بنی عبد الأشهل، کیف تعلمون أمری فیکم؟ قالوا: سیدنا و أفضلنا رأیا و أیمننا نقیبة، قال: فإن کلام رجالکم و نسائکم علیّ حرام، حتی تؤمنوا باللّه و برسوله 20. فدخل جمیع من فی دار بنی عبد الأشهل من رجال و نساء فی الإسلام، و رجع أسعد و مصعب بن عمیر إلی دار أسعد بن زرارة، و أقام عنده یدعو إلی الدین الجدید و انتشر الإسلام بشکل کبیر و اعتنقته معظم الاوس و الخزرج.

بیعة العقبة الثانیة

کانت بیعة العقبة الأولی فی حدود سنة 621 م 21، و فی الموسم الأخیر، خرج من الأنصار ثلاثة و سبعون رجلا و امرأتان، و التقوا بالرسول (ص) بالعقبة، و بایع أولئک القادمون من یثرب الرسول (ص) بیعة عرفت فی التاریخ الإسلامی ببیعة العقبة الثانیة 22، و قد أبانت بنود البیعة ما تحلی أولئک الرجال من صدق فی العزیمة و رغبة فی تقبل المبادی‌ء الجدیدة و اندفاع فی حمایة الأهداف النیلة و الذود عن الرسول الکریم (ص)، و یتجلی ذلک بوضوح فی کلمة الصحابی الجلیل البراء بن معرور الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 143
کان فی مقدمة أهل یثرب فی بیعتهم الرسول عند العقبة، قال البراء یخاطب الرسول محمدا فی ایمان کبیر و صدق عظیم: و الذی بعثک بالحق لنمنعنک مما نمنع منه أزرنا، فبایعنا یا رسول اللّه، فنحن و اللّه أهل الحرب و أهل الحلقه ورثناها کابرا عن کابر 23.
و مدّ القوم أیدیهم، و بسط الرسول (ص) یده فبایعوه علی أن یحموه کما یحمون أهلهم و علی أن یحاربوا الأسود و الأحمر فی سبیله، فلما فرغوا من البیعة قال لهم النبی (ص) أخرجوا لی منکم اثنی عشر نقیبا یکونون علی قومهم بما فیهم کفلاء. فاختار القوم تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس، فقال الرسول (ص) لهؤلاء النقباء: أنتم علی قومکم بما فیهم کفلاء ککفالة الحواریین لعیسی بن مریم و أنا کفیل علی قومی 24.

أثر العلاقات بین المسلمین و أهل یثرب فی مکة

و انتشر خبر هذه البیعة الکبیرة فی مکة بشکل سریع و حسبت مکة لها حسابا کبیرا وراعها أمر تلک العلاقة المتطورة بین الرسول (ص) و أهل یثرب و تحققت من خطورة الأمر و العاقبة الفادحة، فأخذت فی تدبیر المؤامرات للتخلص من شخص محمد (ص) و عملت علی تشدید الرقابة و العذاب بالمسلمین، و أخذ بعض المسلمین فی الهجرة إلی یثرب خلاصا بدینه و ابتعادا عن ذلک الأذی و الاضطهاد، و ضرب المسلمون أسمی درجات التضحیة، فترکوا أهلیهم و أراضیهم و مواطن ذکریاتهم إلی بلد آخر فی سبیل الدعوة الإسلامیة و ثباتا علی العقیدة السامیة.
و تفاقم الأمر حدة و صارت قریش تضیق الخناق و تکیل للمسلمین الأذی، و اجتمع زعماؤها فی دار الندوة یتشاورون علی ضرورة التخلص من محمد بن عبد اللّه (ص) بأی ثمن و بأیة وسیلة، و أخیرا قرروا أن یختاروا من کل قبیلة شابا جلدا و یحملون سیوفهم و یضربون محمدا ضربة رجل واحد فی لیلة معینة و فی وقت محدد، و لکن اللّه عز و جل، نصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 144
نبیه العظیم و أعز الإسلام بفشل المشرکین و نجاة النبی الأمین 25 فی تلک اللیلة طلب النبی (ص) من ابن عمه الامام علی (ع) أن ینام فی فراشه لیوهم قریشا أنه محمد، و طلب من صدیقه أبی بکر (رض) أن یصحبه فی الخروج إلی یثرب، فخرج الرسول (ص) و أبو بکر (رض) و نام علی بن أبی طالب (ع) فی فراش النبی و کانت تضحیة عالیة و کان فداء کبیرا 26. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌3 ؛ ص144

یوم الهجرة

مضی رسول اللّه (ص) و لما یزل المتآمرون ینتظرون فی بابه، و قال قائل لهم ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال خبتم و خسرتم، قد و اللّه مرّ بکم و ذرّ علی رؤوسکم التراب، قالوا و اللّه ما أبصرناه و قاموا ینفضون التراب عن رؤوسهم و هم أبو جهل، و الحکم بن أبی العاص، و عقبة بن أبی معیط، و النضر بن الحارث، و أمیة بن خلف، و ابن الغیطلة، و زمعة بن الأسود، و طعیمة بن عدی، و أبو لهب، و أبی بن خلف، و نبیه و منبه ابنا الحجاج، فلما أصبحوا قام علی عن الفراش فسألوه عن رسول اللّه (ص) فقال: لا علم لی به، و صار رسول اللّه (ص) إلی منزل أبی بکر، فکان فیه إلی اللیل، ثم خرج هو و أبو بکر فمضیا إلی غار ثور فدخلاه. و کان الرسول و أبو بکر قد استأجرا عبد اللّه بن أریقط من بنی الدیل بن بکر و کان مشرکا یدلهما علی الطریق، و لم یعلم بخروج رسول اللّه (ص) غیر أبی بکر و علی و آل أبی بکر و أمر أبو بکر ابنه عبد اللّه أن یتسمّع لهما بمکة نهاره ثم یأتیهما لیلا و أمر عامر بن فهیرة مولاه أن یرعی غنمه نهاره ثم یأتیهما بها لیلا و کانت أسماء بنت أبی أبی بکر تأتیهما بطعامهما مساء فأقاما فی الغار ثلاثا 27.
و غار ثور، غار فی جبل ثور بأسفل مکة، و کان عبد اللّه بن أبی بکر إذا غدا من عندهما اتبع أثره بالغنم حتی یعفی أثره، فلما مضت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 145
الثلاث و سکن الناس أتاهما دلیلهما ببعیریهما فأخذ رسول اللّه أحدهما بالثمن و رکبه، و قیل هی ناقته اشتراها أبو بکر من نعم بنی قشیر بثمانمائة درهم و اشتراها منه رسول اللّه (ص) لتکون هجرته من مال نفسه، و بقیت الناقة إلی زمن أبی بکر، فماتت و هی مرسلة ترعی فی البقیع.
و رکب الرسول، و رکب أبو بکر، و سارا و أردف أبو بکر مولاه عامر ابن فهیرة یخدمهما فی الطریق فساروا لیلتهم و من الغد إلی الظهر، و رأوا فی الطریق صخرة طویلة فسوی أبو بکر عندها مکانا لیقیل فیه الرسول (ص) و لیستظل بظلها، فنام رسول اللّه (ص) و حرسه أبو بکر حتی رحلوا بعد ما زالت الشمس 28.
إن قریش قام قائمها فی مکة و أرسلت العیون إلی کل مکان یتتبعون الآثار و یتقصون الأخبار، و جعلت قریش لمن یأتی بالنبی (ص) مائة ناقة 29، فدفع الطمع من المشرکین فتتبع أثر الرسول، ذلک المشرک هو سراقة بن مالک بن جعشم المدلجی، فلحقهم و هم فی أرض صلبة فقال أبو بکر: یا رسول اللّه، أدرکنا الطلب فقال (ص): (لا تحزن إن اللّه معنا) و کبا جواد سراقة بن مالک بن جعشم کبوة عنیفة، و کان قد کبا قبلها کبوتین، فوقع من ظهر جواده یتدحرج فی سلاحه، و تطیّر سراقة و ألقی فی روعه أن الآلهة مانعة منه ضالته، و أنه معرض نفسه لخطر داهم إذا هو همّ مرة رابعة لإنفاذ محاولته. هنالک وقف و نادی القوم:
أنا سراقة ابن جعشم. أنظرونی أکلمکم، فو اللّه لا أریبکم و لا یأتیکم منّی شی‌ء تکرهونه. فلما وقفا ینظر انه طلب إلی محمد (ص) أن یکتب له کتابا یکون آیة بینه و بینه. و کتب أبو بکر بأمر النبی کتابا علی عظم أو خزف القاه إلی سراقة، فأخذه و عاد أدراجه، و أخذ نفسه بتضلیل من یطاردون المهاجر العظیم بعد أن کان هو یطارده 30.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 146

طریق الهجرة

یبدو أن الفصل الذی کانت فیه هجرة الرسول (ص) کان فصل الصیف، و أن الرسول و صاحبه قطعا بطون تهامة فی قیظ محرق تتلظی له رمال الصحراء، فقد خرج بهما دلیلهما عبد اللّه بن أریقط و سلک بهما أسفل مکة، ثم مضی بهما علی الساحل، حتی عارض الطریق أسفل من عسفان، و عسفان علی بعد ستة و ثلاثین میلا من مکة و هی حدّ تهامة، ثم سلک بهما علی أسفل أمبح و هی بلد من أعراض المدینة، قال الشاعر 31:
و لست أنسی مسیرنا ظهراحین حللنا بالسفح من أمبح
ثم استجاز بهما، حتی عارض بهما الطریق، بعد أن أجاز قدیدا و قدید هی من أعمال مکة، قال عبید اللّه بن قیس الرقیات 23:-
قل لقند تشیّع الأضعاناو بما سّرّ عیشنا و کفانا
صادرات عشیة عن قدیدواردات مع الضحی عسفانا
ثم أجاز بهما من مکانه ذلک، فسلک بهما الخرّار، و الخرار موضع بالحجاز قرب الجحفة و قیل: أول واد من أودیة المدینة، ثم سلک بهما ثنیّة المرة، و هو موضع ماء، ثم سلک بهما لفتا، و هی ثنیّة بین مکة و المدینة، قال معقل بن خویلد الهذلی 33:
نزیعا محلبا من آل لفت‌لحیّ بین أثلة و النّحام
ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاح ذکر الزبیر بن بکار فی مجاح؛- 34 من قول محمد بن عروة بن الزبیر:
لعن اللّه بطن لقف مسیلاو مجاحا و ما أحب مجاحا
لقت ناقتی به و بلقف‌بلدا مجدبا و أرضا شحاحا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 147
ثم تبطن بهما مرجح من ذی العضوین، قال قیس بن مکشوح لعمرو ابن معد یکرب 35:
و أعمامی فوارس یوم لحج‌و مرجح ان شکوت و یوم شام
ثم أجاز بهما إلی ذی کشر، و هو موقع بین مکة و المدینة، ثم أخذ بهما علی الجداجد ثم علی الأجرد ثم سلک بهما ذا سلم، و سلم واد مشهور فی الحجاز، ثم علی العبابید، ثم أجاز بهما القاحّة، و القاحة مدینة علی بعد ثلاث مراحل من المدینة، ثم هبط بهما العرج و هی عقبة بین مکة و المدینة، ثم خرج بهما من العرج فسلک بهما ثنیّة العائر، و هو جبل بالمدینة، ثم هبط بهما بطن رئم، و هو واد لمزینة قرب المدینة، قال کثیر 36:
عرفت الدار قد أقوت برئم‌إلی لأی فمدفع ذی یدوم
ثم قدم بهما قباء، علی بنی عمرو بن عوف، و هی قریة قرب المدینة علی بعد میلین منها علی یسار القاصد إلی مکة، و فیها مسجد التقوی.
و کان أهل المدینة ینتظرون بفارغ الصبر قدوم النبی (ص)، قال عبد الرحمن بن عویمر بن ساعدة، حدثنی رجال من قومی من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول اللّه (ص) من مکة توکفنا قدومه (أی استشعرناه و انتظرناه)، کنا نخرج إذا صلینا الصبح، إلی ظاهر حرّتنا ننتظر رسول اللّه (ص)، فو اللّه ما نبرح حتی تغلبنا الشمس علی الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا، و ذلک فی أیام حارة.
حتی إذا کان الیوم الذی قدم فیه رسول اللّه (ص)، جلسنا کما کنا نجلس، حتی إذا لم یبق ظلّ دخلنا بیوتنا، و قدم رسول اللّه (ص) حین دخلنا البیوت، فکان أول من رآه رجل من الیهود، و قد رأی ما کنا نصنع، و أنّا ننتظر قدوم رسول اللّه (ص)، فصرخ بأعلی صوته: یا بنی قیلة (بنو قیلة هم الأنصار)، هذا جدّکم قد جاء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 148
قال: فخرجنا إلی رسول اللّه (ص) و هو فی ظل نخلة، و معه أبو بکر (رضی) فی مثل سنّه، و أکثرنا لم یکن رأی رسول اللّه (ص) قبل ذلک، و رکبه الناس و ما یعرفونه من أبی بکر، حتی زال الظل عن رسول اللّه (ص)، فقام أبو بکر، فأظلّه بردائه، فعرفنا عند ذلک 37.

الرسول فی قباء

أقام الرسول بقباء مدة خمسة أیام فقد وصلها یوم الاثنین لأثنی عشر من شهر ربیع الأول، و نزل رسول اللّه (ص) بقباء علی کلثوم ابن هدم، أخی بنی عمرو بن عوف، و کان شیخا کبیرا، و هو أول من مات من الأنصار بعد قدوم الرسول (ص) ثم مات بعده أسعد بن زرارة بأیام و کان کلثوم یکنی أبا قیس 38. و قیل أن الرسول نزل علی سعد بن خیثمة، و یبدو أن الرسول (ص) کان إذا خرج من بیت کلثوم بن هدم جلس للناس فی بیت سعد بن خیثمة، و ذلک أنه کان عزبا لا أهل له، و کان یقال لبیت سعد بن خیثمة أنه بیت الأعزاب. و نزل أبو بکر (رضی) علی خارجة بن زید بن أبی زهیر بن مالک الأنصاری، و قد شهد خارجة، العقبة و بدرا و قتل یوم أحد شهیدا و دفن هو و سعد بن الربیع فی قبر واحد و کان ابن عمه، و کان خارجة ابن زید من کبار الصحابة، صهرا لأبی بکر (رضی) کانت ابنته تحت أبی بکر، و کان الرسول (ص) قد آخی بین أبی بکر (رضی) و بین خارجة بن زید حین آخی بین المهاجرین و الأنصار 39.
و من الجدیر بالذکر أن الامام علی بن أبی طالب (ع) بقی فی مکة ثلاث لیال و أیامها، حتی أدی عن الرسول (ص) الودائع التی کانت عنده للناس، و حین فرغ منها، لحق برسول اللّه (ص) فنزل معه علی کلثوم بن هدم، و بقی الإمام علی (ع) بقباء لیلة أو لیلتین، و من الطریف أنه کانت بقباء امرأة لا زوج لها، مسلمة. قال الإمام علی (ع)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 149
فرأیت إنسانا یأتیها من جوف اللیل، فیضرب علیها بابها فتخرج إلیه، فیعطیها شیئا معه فتأخذه. قال: فاستربت بشأنه، فقلت لها: یا أمة اللّه، من هذا الرجل الذی یضرب علیک بابک کلّ لیلة، فتخرجین إلیه، فیعطیک شیئا لا أدری ما هو، و أنت امرأة مسلمة لا زوج لک؟ قالت:
هذا سهل بن حنیف بن واهب، قد عرف أنی امرأة لا أحد لی، فإذا أمسی عدا علی أوثان قومه فکسرها، ثم جاءنی بها، فقال: احتظبی بهذا، فکان الإمام علی (ع) یأثر (یحدّث به) ذلک من أمر سهیل بن حنیف حتی هلک عنده بالعراق 40.

بناء مسجد قباء

و بدأ النبی (ص) مع الصحابة الکرام فی تشیید مسجد قباء و المعروف بمسجد التقوی 41، قال یاقوت الحموی: لما قدم (ص) نزل بقباء علی بنی عمرو بن عوف فأقام فیهم یوم الاثنین و یوم الثلاثاء و یوم الأربعاء و یوم الخمیس و أسس مسجده ثم أخرجه اللّه من بین أظهرهم یوم الجمعة، و ذکر ابن خیثمة أن رسول اللّه (ص) حین أسسه کان هو أول من وضع حجرا بیده فی قبلته ثم أخذ الناس فی البنیان و هذا المسجد هو أول مسجد بنی فی الإسلام و فیه و فی أهله نزلت (فیه رجال یحبّون أن یتطهروا) 42، و هو عن هذا المسجد الذی أسس علی التقوی.

توجه الرسول إلی یثرب

خرج الرسول (ص) من قباء متوجها إلی یثرب 43 و أدرکت رسول اللّه (ص) الجمعة فی بنی سالم بن عوف، فصلاها فی المسجد الذی ببطن الوادی، فکانت أول جمعة صلاها بالمدینة 44، قال ابن عباس: ولد النبی یوم الاثنین و استنبی‌ء یوم الاثنین و رفع الحجر الأسود یوم الاثنین و هاجر یوم الاثنین و قبض یوم الاثنین 45!!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 150
کان دخول الرسول یثرب من الأیام المشهودة فی التاریخ و أصبح ذلک الیوم من أعز أیام المسلمین تمجیدا، و من شدة اعتزازهم بذلک الیوم الأغر أن جعلوا تاریخهم یبدأ من یوم هجرة نبیهم (ص)، و وقف الناس رجالا و نساء ینتظرون قدوم الرسول، بل خرجوا إلی مسافات بعیدة من ظاهر المدینة ینشدون النغم الجمیل معلنین فرحتهم و مظهرین استبشارهم، و سارع کل فرد من أهل یثرب إلی استضافة الرسول (ص) و کلهم یود لو ظفر بهذا الشرف، و قد أتاه عتبان بن مالک، و عباس ابن عبادة بن نضلة، فی رجال من بنی سالم بن عوف، فقالوا: یا رسول اللّه. أقم عندنا فی العدد و العدّة و المنعة، قال: خلّوا سبیلها، فإنها مأمورة، (یقصد ناقته) فخلّوا سبیلها، فانطلقت حتی إذا وازنت دار بنی بیاضة، تلقّاه زیاد بن لبید، و فروة بن عمرو، فی رجال من بنی بیاضة، فقالوا: یا رسول اللّه: هلمّ إلینا، إلی العدد و العدة و المنعة، قال: خلوا سبیلها فإنها مأمورة، فخلّوا سبیلها. فانطلقت، حتی إذا مرّت بدار بنی ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، و المنذر بن عمرو، فی رجال من بنی ساعدة، فقالوا: یا رسول اللّه، هلم إلینا إلی العدد و العدة و المنعة، قال: خلوا سبیلها، فإنها مأمورة، فخلّوا سبیلها، فانطلقت، حتی إذا وازنت دار بنی الحارث بن الخزرج، اعترضه سعد ابن الربیع، و خارجة بن زید، و عبد اللّه بن رواحة فی رجال من بنی الحارث ابن الخزرج، فقالوا: یا رسول اللّه، هلم إلینا، إلی العدد و العدة و المنعة، قال: خلّوا سبیلها، فإنها مأمورة، فخلّوا سبیلها، فانطلقت، حتی إذا مرت بدار بنی عدّی بن النجار و هم أخواله، اعترضه سلیط بن قیس و أبو سلیط، أسیرة بن أبی خارجة فی رجال من بنی عدی ابن النجّار، فقالوا: یا رسول اللّه، هلم إلی أخوالک، إلی العدد و العدة و المنعة، قال: خلوا سبیلها فإنها مأمورة، فخلّوا سبیلها، فانطلقت 46.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 151
و برکت الناقة علی موضع لغلامین یتیمین من بنی النجار، و هما فی حجر معاذ بن عفراء، سهل و سهیل ابنی عمرو، فلما برکت، و رسول اللّه (ص) علیها لم ینزل، و ثبت فسارت غیر بعید، و رسول اللّه (ص) واضع لها زمامها لا یثنیها به، ثم التفتت إلی خلفها، فرجعت إلی مبرکها أول مرة، فبرکت فیه، ثم تحلحلت و زمّت و وضعت جرانها- الجران ما یصیب الأرض من صدر الناقة و باطن حلقها-، فنزل عنها رسول اللّه (ص)، فاحتمل أبو أیوب خالد ابن زید رحله، فوضعه فی بیته، و نزل علیه رسول اللّه (ص) و سأل عن الموضع لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو یا رسول اللّه لسهل و سهیل ابنی عمرو، و هما یتیمان لی، و سأرضیهما منه، فاتخذه مسجدا 47.

بناء المسجد النبوی

رأی الرسول أن یقیم مسجده علی ذلک الموضع، و نزل (ص) علی أبی أیوب حتی بنی مسجده و مساکنه، فعمل فیه رسول اللّه (ص) لیرّغب المسلمین فی العمل فیه، فعمل فیه المهاجرون و الأنصار و دأبوا فیه، فقال قائل من المسلمین 48:
لئن قعدنا و النبی یعمل‌لذاک منّا العمل المضلّل
و ارتجز المسلمون و هم یبنون المسجد یقولون 49:-
لا عیش إلّا عیش الآخرةاللهم ارحم الأنصار و المهاجرة
و ارتجز الإمام علی بن أبی طالب (ع) و هو یساهم فی ذلک العمل الخالد 50:
لا یستوی من یعمر المساجدایدأب فیه قائما و قاعدا
و من یری عن الغبار حائدا قال ابن هشام: سألت غیر واحد من أهل العلم بالشعر، عن هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 152
الرجز، فقالوا بلغنا أن علی بن أبی طالب ارتجز به، فلا یدری أهو قائله أم غیره 51.
و کان من الذین یعملون بجد و نشاط و أظهر همة عالیة فی تلک الأیام، عمار بن یاسر، فقد ذکر أن عمّار بن یاسر دخل بناء المسجد و قد أثقلوه باللّبن، فقال: یا رسول اللّه، قتلونی، یحملون علیّ ما لا یحملون.
قالت أم سلمة زوج النبی (ص) فرأیت رسول اللّه (ص) ینفض و فرته بیده، و کان رجلا جعدا، و هو یقول: ویح ابن سمیّة، لیسوا بالذین، یقتلونک، إنما تقتلک الفئة الباغیة 52.
و بعد أن کمل بناء المسجد و کملت ابنیة مساکن الرسول (ص) انتقل (ص) من بیت أبی أیوب إلی مساکنه، و بناء المسجد النبوی فی المدینة یعتبر أول عمل باشره الرسول فی تلک المدینة الخالدة، و من الجدیر بالذکر أن مسجد النبی کان بسیط البناء و أقیم فی نفس المربد الذی برکت فیه ناقته، ثم بنی لعائشة بیتا، یلیه شارع المسجد، و جعل بابا فی المسجد تجاه باب عائشة یخرج منه إلی الصلاة، و أقام من حول المسجد منازل لأزواجه و کانت کلها فی الشق الأیسر إذا قمت إلی الصلاة إلی وجه الإمام فی وجه المنبر 53، (و عن الإمام مالک (رضی) إن حجر أزواج النبی (ص) 54 لیست من المسجد و لکن أبوابها شارعة فی المسجد) و کانت هذه المنازل تسعة بیوت باللبن و لها حجر من جرید مطرور بالطین 55.
و من الطریف أن الغلامین أصحاب المربد، قالا للرسول (ص):
نهبه لک یا رسول اللّه، فأبی رسول اللّه (ص) حتی ابتاعه منهما بعشرة دنانیر و قال معمر عن الزهری، و أمر أبا بکر أن یعطیهما ذلک. و کان جدارا مجدّرا لیس علیه سقف و قبلته إلی بیت المقدس، و کان أسعد بن زرارة بناه فکان یصلی بأصحابه فیه، و یجتمع بهم فی الجمعة قبل مقدم رسول اللّه. فأمر رسول اللّه (ص) بالنخل الذی فی الحدیقة، و بالغرقد الذی فیه، أن یقطع، و أمر باللبن فضرب. و کان بالمربد قبور جاهلیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 153
فأمر رسول اللّه فنبشت، و أمر بالعظام أن تغیب، و کان بالمربد ماء مستنجل فسیره حتی ذهب 56.
و أسسوا المسجد، و جعلوا الأساس قریبا من ثلاثة أذرع علی الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، و جعلت قبلته إلی بیت المقدس و جعل له ثلاثة أبواب، باب فی مؤخره، و باب یقال له باب الرحمة، و هو الباب الذی یدعی باب عاتکة، و الباب الثالث الذی یدخل فیه رسول اللّه، و هو الباب الذی یلی آل عثمان، و جعل طول الجدار بسطة و سقفه جدیدا 57.
و أغلب الظن أن المسجد و قتذاک کان یقتصر علی رحبة واسعة تحیط بها جدران من جهاتها الأربعة، و أنه لم یکن له سقف أول الأمر، (لأن الناس شکوا إلی الرسول شدة الحر) 58 فأقام لهم ظلة و جعل فی المسجد (سواری من جذوع النخل، ثم طرحت علیها العوارض و الخصف و الادخر 59 و یضیف العقیلی: (جعلت قبلته- أی جدار القبلة- من حجارة منضورة بعضها علی بعض، و حیطان باللبن، و جعلت عمده من جذوع النخل) 60.
و کانت طریقة البناء فی أول الأمر، أن الجدران بنیت بالسمیط، لبنة علی لبنة، أی الواحدة بجوار الواحدة، و الواحدة فوق الأخری، ثم بالسعیدة، لبنة و نصف أخری، أی اللبنة الواحدة متعارضة مع کل لبنتین ثم کثروا، فقالوا یا رسول اللّه لو زید فیه، ففعل، فبنی بالذکر و الأنثی، و هی لبنتان مختلفتان 61.
و نلاحظ أن هناک اختلافات فی مقدار مساحة المسجد، فذکر البعض إنه کان مائة فی مائة ذراع، و أنه کان مربعا، و قال البعض الآخر أنه کان أقل من ذلک، و نرجح أن مساحة المسجد کانت ثلاثة و ستین ذراعا عرضا و سبعین ذراعا طولا، و قیل کانت بظلته ثلاثة اروقة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 154
أی ثلاثة اساکیب 62. و کانت به ست أساطین ثلاثا إلی یمین المنبر و ثلاثا إلی یساره 63).
و ظلت القبلة متجهة نحو بیت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حولت نحو الکعبة، و أقیمت ظلة ثانیة علیها، و ظلت الظلة الأولی مکانا لأهل الصفة، و کان ما بین الظلتین رحبة واسعة 64. و کان سقف المسجد واطئا، و ارتفاع جدرانه سبعة أذرع، أی ثلاثة أمتار و نصف، و قیل فی ذلک (بنی الرسول فی مسجده عریشا کعریش موسی، سبعة أذرع، تمامات و خشبات و ظلة) 65.
و بعد فترة لیست بالطویلة ضاق المسجد بالناس، فجدد سقفه، و زید فیه، و قد اشتری الرسول (ص) بقعة من أنصاری زیدت فی المسجد 66، و کانت هذه الزیادة فی شرقیه بمقدار عشرة أذرع، أو أسطوانة، و فی غربیه بمقدار عشرین ذراعا و فی شمالیه بمقدار ثلاثین ذراعا، فأصبح ذرع المسجد قریبا من مربع، طول جدار القبلة فیه تسعون ذراعا و منه إلی جدار المؤخر مائة ذراع 67. و قد أضیفت إلی المسجد النبوی زیادات و إضافات مختلفة فی عصور تاریخیة متعددة سوف لا نتطرق إلیها لأننا اقتصرنا فی موضوعنا هذا علی عهد الرسول (ص) فقط.

أعمال الرسول فی یثرب

و منذ أن وصل الرسول (ص) مدینة یثرب، و هو دائب علی العمل فیلمس الناس جمیعا تغییرات و تطورات مختلفة، فقد أمر (ص) بإبدال اسم یثرب إلی اسم طیبة، و قد کره الرسول أن تسمی باسمها و سماها طیبة، و یثرب من التثریب و معناه الإفساد أو اللؤم، و هناک رأی أن یثرب کلمة مشتقة من کلمة اثریبس المصریة و سماها بطلیموس و ستیفان البیزنطی (یثربا)، کما ظهر اسمها فی بعض النقوش القدیمة (إثرب)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 155
و یقال أن یثرب کانت ناحیة من المدینة ثم أطلق علی المدینة کلها من باب إطلاق البعض علی الکل .

المؤاخاة

و لیزید النبی من الترابط الاجتماعی بین المسلمین فی المدینة من أنصار و مهاجرین فقد عمل (ص) بمبدأ المؤاخاة بین الجماعة الإسلامیة، و جعل کل مهاجر أخا لأنصاری، فجعل عمار بن یاسر و حذیفة بن الیمان أخوین، و أبا ذر الغفاری و المنذر بن عمرو أخوین، و ساعدة بن کعب بن الخزرج أخوین، و مصعب بن عمیر و أبا أیوب خالد بن زید أخوین و أبو بکر بن أبی قحافة و خارجة بن زهیر أخوین، و عمر بن الخطاب و عتبان ابن مالک أخوین، و طلحة بن عبید اللّه و کعب بن مالک أخوین.
و کان الرسول (ص) و علی بن أبی طالب (ع) أخوین، و کان حمزة ابن عبد المطلب أسد اللّه و أسد رسول اللّه (ص) و زید بن حارثة أخوین، و کان جعفر بن أبی طالب و معاذ بن جبل أخوین 68.
ذکر ابن سعد فی طبقاته: أن الرسول آخی بین المهاجرین و الأنصار، آخی بینهم علی الحق و المؤاساة یتوارثون بعد الممات دون ذوی الأرحام، و کانوا تسعین رجلا، خمسة و أربعین من المهاجرین، و خمسة و أربعین من الأنصار، و یقال کانوا مائة، خمسین من المهاجرین و خمسین من الأنصار، و کان ذلک قبل معرکة بدر، فلما کانت وقعة بدر و أنزل اللّه تعالی (و أولوا الأرحام بعضهم أولی ببعض فی کتاب اللّه إن اللّه بکل شی‌ء علیم) 69 فنسخت هذه الآیة ما کان قبلها، و انقطعت المؤاخاة فی المیراث، و رجع کل إنسان الی نسبه و ورثه ذوو رحمه. و ذکر أن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 156
الرسول (ص) حالف بین المهاجرین و الأنصار فی دار أنس 70.
و کتب الرسول (ص) دستور الجماعة الإسلامیة، فقد عمل الرسول (ص) منذ أن وطئت قدمه المدینة علی تکوین قوة سیاسیة تساعده و تساعد جماعته علی الوقوف فی وجه أی معارضة سیاسیة و أدرک الرسول (ص) أن الفکرة الدینیة التی یعمل جاهدا علی تحقیق مبادئها هی بحاجة ماسة إلی تنظیم سیاسی یخدم الأهداف و العقائد الدینیة الإسلامیة، و بما أوتی من الذکاء الحاد و القابلیات المنطقیة، و بلباقة السیاسی المجرب نجح (ص) فی تحویل قوته السیاسیة التی أوجدها فی المدینة إلی اتجاه دینی بل إلی سلطة دینیة، و الوثیقة التی بین أیدینا و التی نشرها (ص) بین المسلمین فی المدینة تعتبر الدستور المؤقت الذی رسمه الرسول (ص) للجماعة الإسلامیة و الطوائف الأخری التی تسکن المدینة، حتی یتم التشریع شیئا فشیئا، و هی لا تخرج عن إطار الأهداف و المبادی‌ء الإسلامیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 157

الوثیقة

و لأهمیة الوثیقة بموضوع هجرة النبی لا بد لنا من الوقوف عندها بعض الشی‌ء و تثبیت نصها التاریخی الفرید التالی:-
بسم اللّه الرحمن الرحیم.
«هذا کتاب من محمد النبی بین المؤمنین و المسلمین من قریش و یثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قریش علی ربعتهم یتعاقلون بینهم و هم یفدون عانیهم بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو عوف علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو ساعدة علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو الحارث علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو جشم علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة منهم تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو النجار علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة منهم تفدی عانیها بالمعروف و القس بین المؤمنین، و بنو عمرو بن عوف علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو النبّیت علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو الأوس علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة منهم تفدی عانیها بالمعروف و القسط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 158
بین المؤمنین، و ان المؤمنین لا یترکون مفرحا- المفرح المثقل بالدین- بینهم أن یعطوه بالمعروف فی فداء أو عقل.
و أن لا یحالف مؤمن مولی مؤمن دونه، و أن المؤمنین المتقین علی من بغی منهم، أو ابتغی دسیعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بین المؤمنین، و أن أیدیهم علیه جمیعا، و لو کان ولد أحدهم، و لا یقتل مؤمن مؤمنا فی کافر، و لا ینصر کافرا علی مؤمن، و أن ذمة اللّه واحدة، یجبر علیهم أدناهم، و أن المؤمنین بعضهم موالی بعض دون الناس؛ و أنه من تبعنا من یهود، فإن له النصر و الأسوة، غیر مظلومین و لا متناصرین علیهم؛ و أن سلم المؤمنین واحدة، لا یسالم مؤمن دون مؤمن فی قتال فی سبیل اللّه، إلّا علی سواء و عدل بینهم، و أن کل غازیة غزت معنا یعقب بعضها بعضا، و أن المؤمنین یبیی‌ء بعضهم علی بعض بما نال دماءهم فی سبیل اللّه، و أن المؤمنین المتقین علی أحسن هدی و أقومه؛ و أنه لا یجیر مشرک مالا لقریش و لا نفسا، و لا یحول دونه علی مؤمن؛ و أنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بیّنة، فإنه قود به إلّا أن یرضی ولیّ المقتول، و أن المؤمنین علیه کافة، و لا یحل لهم إلّا قیام علیه.
و أنه لا یحل لمؤمن أقر بما فی هذه الصحیفة، و آمن باللّه و الیوم الآخر، أن ینصر محدثا و لا یؤویه؛ و أنه من نصره أو آواه، فإن علیه لعنة اللّه و غضبه یوم القیامة، و لا یؤخذ منه صرف و لا عدل. و أنکم مهما اختلفتم فیه من شی‌ء، فإن مردّه إلی اللّه عز و جلّ، و إلی محمد (ص).
و أن الیهود ینفقون مع المؤمنین ما داموا محاربین، و أن یهود بنی عوف مع المؤمنین، للیهود دینهم و للمسلمین دینهم، موالیهم و أنفسهم، إلّا من ظلم و أثم، فإنه لا یوتغ إلّا نفسه، و أهل بیته. و أن لیهود بنی النجّار مثل ما لیهود بنی عوف، و أن لیهود بنی الحارث مثل ما لیهود بنی عوف- و ذکر یهود بنی ساعدة و یهود بنی جشم و یهود بنی الأوس و یهود بنی ثعلبة- أن لهم ما لیهود بنی عوف، إلّا من ظلم و أثم، فإنه لا یوتغ إلّا نفسه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 159
و أهل بیته. و أن جفنة بطن من ثعلبة کأنفسهم، و أن لبنی الشطیبة مثل ما لیهود بنی عوف، و أن البر دون الإثم، و أن موالی ثعلبة کأنفسهم، و أن بطانة یهود کأنفسهم، و أنه لا یخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد (ص)، و أنه لا ینحجز علی ثار جرح، و أنه من فتک فبنفسه فتک، و أهل بیته، إلّا من ظلم، و أن اللّه علی أبرّ هذا، و إن علی الیهود نفقتهم و علی المسلمین نفقتهم، و أن بینهم النصر علی من حارب أهل هذه الصحیفة، و أن بینهم النصح و النصیحة، و البرّ دون الإثم؛ و أنه لم یأثم امرؤ بحلیفه، و أن النصر للمظلوم، و أن الیهود ینفقون مع المؤمنین ما داموا محاربین، و أن یثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحیفة.
و إن الجار کالنفس غیر مضار و لا آثم، و أنه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها، و أنه ما کان بین أهل هذه الصحیفة من حدث أو اشتجار یخاف فساده، فإن مردّه إلی اللّه عز و جل، و إلی محمد (ص)، و أن اللّه علی أتقی ما فی هذه الصحیفة و أبرّه، و إنه لا تجار قریش و لا من نصرها، و أن بینهم النصر علی من دهم یثرب، و إذا دعوا إلی صلح یصالحونه و یلبسونه، فإنهم یصالحونه و یلبسونه، و أنهم إذا دعوا إلی مثل ذلک، فإنه لهم علی المؤمنین، إلّا من حارب فی الدین، علی کل أناس حصتهم من جانبهم الذی قبلهم، و أن یهود الأوس موالیهم و أنفسهم، علی ما لأهل هذه الصحیفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحیفة، و أن البر دون الاثم، لا یکسب کاسب إلّا علی نفسه، و أن اللّه علی أصدق ما فی هذه الصحیفة و أبره.
و أنه لا یحول هذا الکتاب دون ظالم أو آثم. و أن من خرج آمن و من قعد آمن بالمدینة إلّا من ظلم و أثم، و أن اللّه جار لمن برّ و أتقی» 71.
*** و بعد أن عرضنا نص الوثیقة أو الصحیفة، بإمکاننا تفحص بعض نصوصها و التعلیق علیها، فقد أوضحت الوثیقة فی سطورها الأولی عن تکوین الأمة الإسلامیة بقوله (ص): انهم أمة واحدة من دون الناس، و لم یقصر الرسول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 160
(ص) هذه الأمة علی النفر الذی کان سباقا إلی الإسلام، بل جعلها عامة من أسلم و آمن و لو بعد حین، شریطة أن یکون مجاهدا ینفر فی سبیل اللّه و إعلاء کلمة الإسلام و الدفاع عن مبادئه؛ و نلاحظ أن التنظیم الإسلامی یختلف عن التنظیم القبلی من حیث أنه قائم علی أساس العقیدة لا علی أساس الدم، فهو لذلک یستند علی مبادی‌ء روحیة أخلاقیة، و تمتزج فیه السیاسة بالأخلاق، و من الجدیر بالذکر أن هذه الجماعة غیر ثابتة أو محدودة بل هی قابلة للتوسع أو التقلص حسب من ینضم إلیها من الناس، علی أن کافة من فیها متساوون فی الحقوق و الواجبات.
و اعترف الرسول (ص) بالوحدات القبلیة القائمة حینذاک، و أقر لها التماسک و حق الجوار و الدیة المشترکة و بعض الواجبات المالیة.
و اعتبر (ص) المهاجرین وحدة قائمة بذاتها و کذلک الأوس و النبّیت، و القبائل التی هی من مجموعة الخزرج، بنو عوف و بنو ساعدة و بنو الحارث و بنو جشم و بنو النجار و بنو عمرو بن عوف، و یبدو أن قبائل الخزرج أکثر تأییدا للإسلام من الأوس فی الأیام الأولی من دخول الرسول (ص) إلی مدینة یثرب.
و أشارت الوثیقة إلی وحدة الأمة، فإن للسلم سلم الأمة الواحدة لا یسالم مؤمن دون مؤمن فی قتال، فهنا إشارة إلی الوحدة فی کل شی‌ء فی السلم و الحرب، و أن مسألة السلم و الحرب مرکزیة یشترک فیها الجمیع، و لا یمکن أن یحارب بعض المتعاهدین و یمتنع الآخرون و تکون الخدمة العسکریة إلزامیة و یشترک فیها الجمیع، تغزو جنود و تستریح أخری تعاقبا و لا تستقل به طائفة دون أخری، «و أن کل غازیة غزت معنا یعقب بعضها بعضا»، و یجب علی المسلمین أن یکون بعضهم أولیاء بعض یتعاونون فی الحروب و یتشاطرون السراء و الضراء، و أن المؤمنین یبیی‌ء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم فی سبیل اللّه. و کل فرد صغیرا کان أم کبیرا أن یجیر و یؤدی کما کان علیه من قبل و یسعی بذمتهم ادناهم و یحترم وعده و تتقید به الأمة کلها، إن ذمة اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 161
واحدة یجیر علیهم أدناهم و أن المؤمنین بعضهم موالی بعض دون الناس.
و تتجلی فی هذا النص روح الأخوة و المساواة التی تسود الکتلة الإسلامیة الجدیدة، فلا فرق بین کبیر و صغیر، أو غنی و فقیر، بل الجمیع أخوة ینظمهم دین واحد، و لکل فرد أن بحیر و یحمی، و لا ریب أن هذا تقلید کانت تطبقه القبائل العربیة من قبل، و یتجلی فیه مدی احترام الفردیة، و إقرار المجتمع لما تقرره، و من شأن هذا النص أن یشجع الکثیر من الناس علی الانضمام للإسلام، فیتاح للمسلم أن یحمی أنصاره و مؤیدیه الذین قد یطلبون ذلک و هذا قد یجلبهم إلیه. علی أن هذه الإجارة لا تشمل کفار قریش «لا یجیر مشرک مالا لقریش و لا نفسا، و لا یحول دونه علی مؤمن». و لا تقتصر هذه الاحکام علی المسلمین و أتباعهم، بل تمتد إلی الیهود أیضا فقد نص أنهم یشترکون فی صد الهجمات الموجهة إلی المدینة «و أن بینهم النصر علی من دهم یثرب» و بذلک حتم علیهم الإشتراک فی الحروب الدفاعیة تجاه المدینة، و هناک مادة أخری تنص أن بینهم النصر علی من حارب أهل هذه الصحیفة، و أن بینهم النصح و النصیحة و البرّ دون الإثم، و یبدو من النص أن الوثیقة تلزم الیهود بواجب الدفاع عن المدینة و لا تدعوهم إلی المشارکة مع المسلمین فی حروبهم الهجومیة، و هذا ما أیدته الحوادث التاریخیة فلم یخرج الیهود للحرب و لم یلزموا بمعاونة المسلمین فی بدر، أو أحد، أو الخندق، و لکنهم کانوا مطالبین بواجب الدفاع عن المدینة- یثرب- ضد أی هجوم یقع علیها.
و جاء فی الوثیقة أن الرسول (ص) منع الیهود الخروج من المدینة بغیر إذنه و نرجح أن هذا کان من مستلزمات توفیر الأمن و الإحاطة بکل النشاطات الیهودیة، و یبدو أن الرسول (ص) کان یتوجس منهم خیفة و یتوقع غدرا کما أنه کان یتشکک فی إخلاصهم، فحرّم علیهم الخروج من المدینة بغیر إذنه کی یراقب حرکاتهم و یقف علی أسرارهم، و کان (ص) لا یمانع فی خروج أی یهودی لغرض التجارة أو أی عمل آخر شریطة أن یوضح للنبی (ص)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 162
و جهته و غرضه و کم یکفیه من الوقت أی متی یتوقع عودته إلی یثرب و من یصطحب، و بعد أن یعود ذلک الشخص علیه إخبار الرسول (ص) بذلک کما کان الرسول (ص) لا ینفک یتطلع إلی أخبار الیهود و الوقوف علی أسرارهم و أهدافهم عن طریق عیون رقیبة کانت تعمل بإخلاص و حذر خدمة للإسلام و حفاظا علی المبادی‌ء النبیلة.
و قد نظمت الوثیقة الإلتزامات المالیة الناجمة من الحروب التی قد یشترک فیها الفریقان، «ان الیهود ینفقون مع المسلمین ما داموا محاربین» فإذا ضم الجیش معسکرین، معسکر للمسلمین و آخر للیهود، کان علی کل معسکر أن یتکفل بنفقاته، فیبتاع الأسلحة و یطعم الجند من ماله الخاص، «و أن علی الیهود نفقتهم و علی المسلمین نفقتهم» و بذلک لا یظن الیهود بأن نفقتهم واجبة علی المسلمین إذا ما اضطروا لقتال عدوهم، أو یظن المسلمون بأن نفقتهم واجبة علی الیهود بما خرجوا معهم لقتال عدوهم، و فی ذلک یقول أبو عبید: فهذه النفقة فی الحرب خاصة، شرط علیهم المعاونة له علی عدوه، و إنما کان یسهم للیهود إذا غزوا مع المسلمین بهذا الشرط الذی شرط علیهم من النفقة. و لو لا هذا لم یکن لهم فی غنائم المسلمین سهم، و إنما کان هذا الکتاب قبل أن یظهر الإسلام و یقوی، و قبل أن یؤمر بأخذ الجزیة من أهل الکتاب 72.
و قد أعتبرت مدینة یثرب حرما لأهل هذه الصحیفة. «و أن یثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحیفة» و معنی هذا التقریر بالسلم داخل یثرب و منع الحرب فی داخلها، و هذا النص یعطینا فکرة عن أحد أسباب نشوء الحرم، علی أن مثل هذا الحرم قائم لأسباب سیاسیة، و لم تحدد حدود الحرم بالضبط و هو محدود التنفیذ علی أهل الصحیفة، و هم أهل المدینة فحسب، فلا یشمل غیرهم من الناس، و الواقع أن المسلمین کانوا حتی آنذاک محدودین بهذه المنطقة، فمنطقتهم أصبحت حرما، لا یجوز لهم الإعتداء علی أحد فیها، و هکذا أبطلت الحروب الداخلیة رسمیا، و لکن لم یبین ما حکم أهل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 163
الصحیفة؟ و ما هو حکمهم إذا لم یعترفوا بهذا الحرم، و أنهم إذا أرادوا غزو المدینة فلهؤلاء أن یدافعوا عن أنفسهم، و لم تعین النصوص حدود هذا الحرم و لا نطاقه.
و نلاحظ فی الوثیقة بنودا متعددة تخص العدالة، و تتظیم القضاء، و إدارته، حتی یمکن اعتبار تنظیم العدالة إحدی الغایتین الرئیسیتین اللتین استهدفتهما الوثیقة، و قد رکزت السلطة القضائیة بید النبی، سواء فی الخلافات بین المسلمین، أو الیهود، «و أنه ما کان بین أهل هذه الصحیفة من حدث او اشتجار یخاف فساده فإن مرده إلی اللّه و إلی محمد رسول اللّه». ففی هذه المادة أوجد السلطة القضائیة مرکزیة تکون مرجع الجمیع، و هی نقطة مهمة کانت تفتقر إلیها المدینة، و کان من المتوقع أن یکون لها تأثیر فی استتباب الأمن و النظام. هذا و نلاحظ أن الوثیقة لم تنص أن لهذه السلطة القضائیة قوة تنفیذیة تلزم الناس علی طاعة قراراتها، و لکن مما لا شک فیه أن المسلمین کانوا جمیعا یخضعون لقرارات النبی و ینفذونها تلقائیا، و أن مخالفة الرسول تعنی مخالفة النصوص القرآنیة، قال تعالی: «وَ أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ».*
و مما لا شک فیه أن الرسول محمدا (ص) أعطی للیهود حق ممارسة قوانینهم الشخصیة، أما فی أمور الحرب و السلم فقد کان القضاء بید الرسول (ص) و هو یحکم به. و أعطی للیهود حریة دینیة تشملهم و تشمل موالیهم، و حصر مسؤولیة الاجرام فیمن قام بالحرم و فی أهل بیته و لا تمتد إلی عشیرته، «و ان یهود بنی عوف أمة مع المؤمنین، للیهود دینهم و للمسلمین دینهم، موالیهم و أنفسهم إلّا من ظلم و أثم فإنه لا یوتغ إلّا نفسه و أهل بیته» و کرر ذلک لیهود بنی النجار و لیهود بنی الحارث و لیهود بنی ساعدة و لیهود بنی جشم و لیهود بنی الأوس و لیهود بنی ثعلبة، بأن لهم ما لیهود بنی عوف، إلّا من ظلم و أثم فإنه لا یوتغ إلّا نفسه و أهل بیته. و یقصد الرسول (ص) بالظلم، ما قد یقوم به الیهود من محاولات لایجاد الفتن و صد الناس عن الدخول فی الإسلام، و غیر ذلک من الأمور التی تسبب صدعا لصفوف المسلمین و ضررا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 164
فی تقدم الدعوة الإسلامیة، و قوله (ص) للظالم منهم إن ظلمه لن یکون إلّا ظلما لنفسه، إنما هو تهدید لهم، و إظهار لقوة المسلمین و شدة بأسهم، و تحذیر لهم مما قد تسوّله لهم أنفسهم أو تزینه لهم شیاطینهم، و من الجدیر بالذکر أن الرسول (ص) کرر هذا المعنی فی الوثیقة أکثر من مرة، و کأنه کان یحس أن لن یتم بین الیهود و المسلمین وفاق، و أن الیهود سینزعون إلی العداوة و الشقاق و الدس و الکید و النفاق، و أنهم سینقضون العهد و المیثاق، فأراد أن یلتمس العذر أمام اللّه و الناس و الضمیر إن هو نکل بهم بعد ظلمهم و خروجهم علی العهد الذی بینه و بینهم فقد أنذرهم کثیرا و قد أعذر من أنذر، و لا شک أن هذا الإنذار و التهدید إنما أراد به الرسول (ص) أن تستقر الحال فی المدینة فلا یکون هناک نزاع داخلی بین المسلمین و الیهود، و هو الأمر الذی تستغله قریش و یؤدی إلی عرقلة جهود النبی (ص) فی نشر الفکرة الإسلامیة خارج مدینة یثرب، و لم یلبث الرسول. أن أعقب الترهیب ترغیبا و الشدة لینا، فأمر أن لا یقوم المسلمون ضد الیهود إلّا إذا عادوا الإسلام.
لقد أقرت الوثیقة مبدأ المساواة بین المسلمین أمام العدالة فالأحکام تسری علیهم جمیعا، لا تمییز بین أحد، و هم ید واحدة علی کل من بغی أو ابتغی دسیعة ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بین المسلمین المؤمنین، و یجتهدون فی عقابه، و لا یجوز لأحد أن یوالی المجرم، أو یدافع عنه أو یسعی فی تخلیصه، و لو کان المجرم ولده، و من ارتکب جریمة قتل عمد، فعلیه القصاص و القتل، و لکن یجوز لولی المقتول أن لا یصرّ علی القصاص و یطلب الفصل أی قبول الدیة (التعویض)، و علی المؤمنین أن یؤیدوه ضد القاتل «من اعتبط مؤمنا قتلا عن بینة فانه قود به إلا أن یرضی ولی المقتول بالعقل، و أن المؤمنین علیه کافة و لا یحل لهم إلا قیام علیه»، علی أنه لا یجوز قتل المؤمن فی کافر «و لا یقتل مؤمن مؤمنا فی کافر».
و یتبین لنا من هذه النصوص التأکید الزائد علی الروح الإجتماعیة و علی وجوب اشتراک المسلمین جمیعا و مساهمتهم فی صیانة الأمن و معاقبة العتدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 165
و عدم حمایته، و هکذا تنبع السلطة التنفیذیة من مجتمع المؤمنین وحدهم و لا یساهم بها غیرهم، فهم کتلة واحدة و السلطة التنفیذیة منهم و لیست مفروضة علیهم، و یلاحظ أن هذه النصوص الجنائیة أقرب إلی روح المفاهیم البدویة التی کانت سائدة و هی محدودة جدا، و لیست هناک نصوص تتعلق بالقوانین المدنیة و التجاریة، و لعل هذا یرجع إلی أن النص اهتم فی الوثیقة بالأمور التی تخص الصالح العام و بها ترتبط الأمور الجنائیة، أما الأحوال الشخصیة فکانت أقل أهمیة فی ذلک الدور.
و قد أکدت الوثیقة أن المسلمین کتلة واحدة تتعاون فی تنفیذ البنود المتعلقة بالجنایات و هم ید واحدة علی من بغی، و لیس لأحدهم أن ینصر محدثا حتی و لو کان ولد أحدهم، و علی کل واحد منهم نصر المؤمنین و دعمهم، فالمؤمنون بعضهم موالی بعض دون الناس، ینبغی علیهم مساعدة الضعیف منهم و الفقیر و عدم ترکه «و أن المؤمنین لا یترکون مفرحا أن یعطوه بالمعروف و القسط بین المؤمنین» فهم بذلک متکاتفون بعضهم موالی بعض دون الناس، و المفرح هو المثقل بالدین الکثیر و العیال، فإن کان من أهل الأسیر، أعانه المؤمنون حتی یشارک فی الفداء، و إذا کان من عاقلة المرء الذی جنی خطأ، عقلوا عنه حتی لا یزداد دینه بعجزه عن أداء حصته من الدیة أو الفداء و حتی لا یعجز عن نفقات عیاله إذا شارک فیها بما کان یدخر للانفاق علیهم، و المسلمون إذ یعطون المفرح فی فداء أو عقل، أو فی غیر الفداء و العقل، إنما یحققون مبدأ التعاون الإجتماعی الذی تعتز به الإنسانیة. و یحاربون الرق و الموت فی آن واحد، فقد کان العربی فی الجاهلیة إذا عجز عن وفاء دینه فی الموعد المحدد زاد دینه و نما و أصبح کالعبد الخادم للدائن لا یکلفه أمرا إلّا فعله، و کان صاحب العیال یقتل أولاده مخافة الفقر و الفاقة، فیقبر فلذات أکباده فی غیر اکتراث أو مبالاة، و قد حارب الإسلام ذلک کله، فبدأ بمقدماته. فهدمها و بأسبابه فقطعها، عندما أمر الرسول (ص) أصحابه المؤمنین بأن یعطوا المفرح و یعینوه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 166
و أکد الرسول (ص) فی الوثیقة مراعاة حق الجار «و أن الجار کالنفس غیر مضار و لا آثم». و نلاحظ أن النص جاء بکلمة الجار دون تحدید، و من المرجح أن الرسول (ص) أراد أن تشمل کلمة الجار إلی جانب المؤمن:
الیهودی، و النصرانی، و لا شک أن جار المرء هو أقرب الناس إلیه بعد عائلته و أهله، و أن دعوة الإسلام إلی رعایة الجار و الإهتمام به و حمایته أثر کبیر فی بناء الکیان الإجتماعی و مظهر من مظاهر التعاون الذی رسم أبعاده الرسول محمد (ص).
و نصت الوثیقة: «أنه لا تجار قریش و لا من نصرها» و من الجدیر بالذکر أن عادة الجوار من العادات الأصیلة عند العرب قبل الإسلام و کان یتغنی بها أشراف القوم و یتمجدون و یفخرون، و الرسول محمد (ص) و هو علی جانب کبیر من الفطنة و الذکاء، و هو الخبیر العبقری رأی أنه إن أبقی هذه العادة قائمة، لتؤدی إلی نتائج سیئة بالنسبة لمسیرة المسلمین و الدعوة الإسلامیة، فلو أن قرشیا اشتد فی إیذائه و اضطهاده و قتله المسلمین، ثم استجار برجل من أهل المدینة لما استطاع المسلمون أن یتخلصوا منه و لا من عدوانه لهم، فلا عجب إذن إذا أمرهم أن لا یجیروا قرشیا أو نصیرا لقریش، و نلاحظ أن الرسول (ص) لم یحدد هنا المجیر، حتی تشمل الکلمة المؤمن و الیهودی و المشرک، فقد کان یخشی (ص) أن یلجأ القرشیون إلی أقاربهم و معارفهم من المهاجرین فیتذکر هؤلاء جوار الجاهلیة و تکون النتیجة غیر التی یریدها الرسول.
هذا و قد احترم المسلمون المؤمنون الوثیقة التی نشرها الرسول (ص) و کانت لها نتائج کبیرة فی حیاة المدینة- یثرب- و لکن الیهود لم یکونوا أوفیاء لها، و قد انقلبوا و کان انقلابهم و بالا علیهم، أدی إلی إجلائهم من المدینة التی أصبحت تستقل بالمؤمنین المجاهدین.
و علی هذا فإن بانتقال الرسول (ص) إلی یثرب بدأت حالة جدیدة فی تلک المدینة، إذ أصبحت مرکز الدعوة الإسلامیة و نقطة الإنطلاق الإسلامی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 167
و تغیر اسمها و أصبحت تسمی مدینة الرسول و تسمی الیوم المدینة، و ذکر یاقوت الحموی تسعة و عشرین اسما لها، منها المدینة، و طیبة، و المحببة، و المحبوبة، و یثرب، و الناجیة، و المبارکة، و العاصمة، و الشافیة. و ان الرسول (ص) بقی بها الی ان انتقل الی الرفیق الاعلی و اتخذ المسلمون السنة التی هاجر فیها الرسول من مکة إلی المدینة مبدأ للتاریخ عندهم، نسبة إلی هذا الحادث العظیم، و أصبح فی المدینة ثلاثة أصناف من السکان:
ا- المهاجرون، و هم الذین هاجروا من مکة إلی المدینة، قبل و بعد هجرة الرسول (ص).
ب- الأنصار، و هم سکان المدینة- یثرب- الذین اعتنقوا الدین الإسلامی و هم من قبیلتی الأوس و الخزرج، و زعیم الأوس هو أسید بن حضیر و زعیم الخزرج سعد بن عبادة.
ج- الیهود و أشهر قبائلهم بنو قینقاع، و بنو النضیر، و بنو قریظة.
و أصبح الرسول (ص) هو رأس الجماعة الإسلامیة فی المدینة و قائدها و مرشدها؛ و لما فرغ الرسول من بناء المسجد، فکر فی أن یدعو للصلاة ببوق کالبوق الذی یدعو به الیهود لصلاتهم، لکنه کره البوق فأمر بالناقوس، فصنع لیضرب به للصلاة کما تفعل النصاری، علی أنه بعد مدة عدل عن الناقوس أیضا إلی الأذان الذی یؤذن به المسلمون من مآذنهم فی أوقات صلواتهم.
و اتحد المسلمون و قویت کلمتهم، و انفسح المجال أمام محمد (ص) لنشر تعالیم الاسلام و بناء الکیان الإجتماعی القائم علی الأخاء الإنسانی، و تهذیب النفوس و تربیتها تربیة طیبة تخلق المواطنین الصالحین الذین سیقفون کالطود الشامخ أمام کل التحدیات و سیعملون جاهدین من أجل إعلاء کلمة اللّه و إعلاء کلمة الإسلام إذا ما قاموا حقا بالتعالیم الإسلامیة و طبقوا مبادئها علیهم و علی الآخرین من المسلمین و غیر المسلمین تنفیذا لهذه الوثیقة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 168

المراجع المشار الیها بالارقام

(1)- ابن هشام: السیرة ج 1 ص 321.
(2)- ابن الأثیر: الکامل فی التاریخ ح 2 ص 52.
(3)- ابن هشام: السیرة ج 2 ص 359.
(4)- المرجع السابق ج 2 ص 333.
(5)- ابن الأثیر: الکامل ج 2 ص 52.
(6)- ابن هشام: ج 1 ص 265.
(7)- ابن سعد: الطبقات ج 1 ص 192.
(8)- ابن هشام: ج 1 ص 416.
(9)- ابن الأثیر: ج 2 ص 63.
(10)- ابن هشام: ج 1 ص 422- 424.
(11)- المرجع السابق ج 1 ص 428.
(12)- ابن الأثیر: ج 2 ص 66.
(13)- ابن هشام: ج 1 ص 428.
(14)- ابن هشام: ج 1 ص 431.
(15) المرجع السابق ص 431.
(16)- المرجع السابق ص 431.
(17)- ابن سعد: ج 1 ص 204.
(18)- ابن هشام: ج 1 ص 435.
(19)- المرجع السابق ج 1 ص 437.
(20)- المرجع السابق ج 1 ص 437.
(21)- کانت الهجرة النبویة سنة 622 م و العقبة الاولی قبل ذلک بنحو السنة.
(22)- ابن الأثیر: ج 2 ص 70.
(23)- ابن هشام: ج 1 ص 442.
(24)- ابن سعد: ج 1 ص 207.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 169
(25)- ابن هشام: ج 1 ص 480.
ابن سعد: ج 1 ص 212.
(26)- ابن الأثیر: ج 2 ص 72.
(27)- ابن هشام: ج 1 ص 486.
ابن الأثیر: ج 2 ص 73.
(28)- ابن الأثیر: ج 2 ص 74.
(29) ابن هشام: ج 1 ص 486.
(30)- هیکل: حیاة محمد: ص 210.
(31)- یاقوت: معجم البلدان ج 1 ص 357.
(32)- یاقوت معجم البلدان ج 4 ص 42.
(33)- المرجع السابق ج 4 ص 361.
(34)- المرجع السابق ج 4 ص 416.
(35)- المرجع السابق ج 4 ص 490.
(36)- المرجع السابق ج 4 ص 889.
(37)- ابن هشام: ج 1 ص 492.
(38)- ابن حجر: الاصابة فی تمییز الصحابة ح 3 ص 288.
ابن عبد البر: الاستیعاب فی أسماء الأصحاب ح 3 ص 296 هامش الإصابة.
(39) ابن هشام: ج 1 ص 504.
(40)- ابن حجر: الاصابة ح 2 ص 86.
ابن هشام: ج 1 ص 494.
(41)- ابن الأثیر: ج 2 ص 77.
ابن هشام: ج 1 ص 494.
(42)- آیة/ 10 سورة التوبة.
(43)- ابن سعد/ الطبقات ج 1 ص 233.
(44)- ابن هشام: ج 1 ص 494.
(45)- ابن الأثیر: ج 2 ص 76.
(46)- ابن هشام: ج 1 ص 495.
ابن الأثیر: ج 2 ص 76.
(47)- ابن سعد: ج 2 ص 4.
ابن الأثیر: ج 2 ص 76.
(47)- ابن سعد: ج 2 ص 4.
ابن الأثیر: ج 2 ص 77.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 170
(48)- ابن هشام: ج 1 ص 496.
(49)- ابن سعد: ج 2 ص 4.
ابن هشام: ج 1 ص 496.
(50)- ابن هشام: ج 1 ص 497.
(51)- المرجع السابق ج 1 ص 497.
(52)- ابن سعد: ج 2 ص 6.
ابن هشام: ج 1 ص 497.
(53)- ابن سعد: ج 2 ص 5/ 19.
(54)- ابن النجار: الدرة الثمینة/ مخطوط ورقة 23.
(55)- السمهودی: وفاء الوفی/ ج 1 ص 366.
(56)- ابن سعد: ج 2 ص 4.
(57)- ابن سعد: ج 2 ص 5.
(58)- السمهودی: ج 1 ص 239.
(59)- المرجع السابق: ط 1 ص 239.
(60)- العمری/ مسالک الامصار ج 1 ص 125.
(61)- السمهودی/ ج 1 ص 239.
(62)- ابراهیم رفعت/ مرآة الحرمین ح 1 ص 461.
(63)- السمهودی/ ج 1 ص 248.
(64)- ابن النجار: الدرة الثمینة/ ورقة 21.
(65)- السمهودی/ ح 1 ص 241.
(66)- ابن النجار: الدرة الثمینة/ ورقة 21.
(67)- السمهودی/ ج 1 ص 242.
(68)- ابن هشام: ج 1 ص 505.
(69)- آیة 75 سورة الانفال.
(70)- ابن سعد/ ح 2 ص 3.
(71)- ابن هشام: 11 ص 501- 504.
(72)- ابو عبید/ الأموال ص 206.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 171
المدینة المنورة فی المراجع الغربیة
کتبه و ترجمه من مختلف المصادر الغربیة جعفر الخیاط الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .S .C . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة و مدیر التعلیم المهنی العام سابقا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 173

مدینة الرسول فی المراجع الغربیة

اشارة

تعد مدینة الرسول، أو المدینة المنورة، ثانی البلاد المقدسة فی الاسلام أو ثانی الحرمین الشریفین اللذین تتجه إلیهما أنظار المسلمین فی مشارق الأرض و مغاربها، و تقصدهما الآلاف المؤلفة منهم فی کل عام لحج البیت فی أولهما و التبرک بقبر الرسول الأعظم القائم فی ثانیهما. و لا غرو فإن تاریخ هذه المدینة المقدسة لتتجسد فیه آمال المسلمین و أمانیهم، و ترتبط بصفحاته ذکریاتهم فی مختلف العصور و الأدوار. کیف لا، و قد نشأ الإسلام فیها و ترعرع و عاش فی ربوعها رجاله و أعلامه و قبرت أجداث الکثیرین منهم فی تربتها الزکیة.
و من أجل هذا عنی بها علماء الغرب و مستشرقوه بقدر ما عنی بها المسلمون، و انجذب الیها سیاحه و مغامروه، فی مختلف العصور، لیقفوا علی سر العظمة التی اتصف بها الإسلام، و یهتدوا إلی المجهول الذی یحتل عقولهم فیضربوا أخماسا بأسداس عنه و یلفقوا أنواع التلفیقات فی کثیر من الأحیان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 174
و لذلک کتبت کتب کثیرة، و ألفت مؤلفات عدة، عن المدینة وحدها أو عنها مقرونة بمکة المکرمة.

الاسم و الموقع

و من أحسن ما کتب عن المدینة فی الانکلیزیة البحث الذی عقده الأستاذ إیف بوهل فی دائرة المعارف الإسلامیة المختصرة و الموسعة. فهو یقول ان المدینة المنورة بلدة من بلدان الجزیرة العربیة، أقام فیها النبی محمد (ص) بعد الهجرة، و أصبحت عاصمة الأمبراطوریة العربیة فی أیام الخلفاء الأوائل.
و کان اسم هذه البلدة الحقیقی «یثرب» أو «یاثریبا» علی ما یذکره بطلیموس و ستیفان بیزانتینوس، أو «أیثریب» کما ورد فی ما اکتشف من الکتابات لمعینیة التی یشیر إلیها م. هارتمان الألمانی .
لکن کلمة المدینة من جهة أخری کلمة و صفة مشتقة من الأرامیة التی تعنی فیها کلمة «مدینتا» حرفیا «المنطقة القضائیة». و قد وردت فی الآیات المکیة من القرآن الکریم اسما بصفة الجمع «المدائن»، بینما وردت المدینة فی السور المدنیة إسم علم یطلق علی البلدة التی أقام فیها النبی الکریم. أما الإسم القدیم یثرب فلا یرد ذکره فی القرآن إلّا مرة واحدة قط و یبدو من هذه النقاط أن التفسیر الإعتیادی لإسم المدینة- مدینة الرسول- هو اسم أطلق علیها بصورة متأخرة. و من المعتقد أن الإسم المستعار من الآرامیة قد أصبح اسما إعتیادیا جدیدا للبلدة بسبب وجود عنصر یهودی قوی فی یثرب.
و ما أشبه هذا بکلمة «هجر» العربیة الجنوبیة التی کانت تطلق علی عاصمة البحرین یومذاک. علی أننا نجد من جهة أخری أن قیس بن الحطیم أحد شعراء المدینة یستعمل کلمة یثرب بالکلیة، بینما یستعمل الشاعران حسان بن ثابت و کعب بن مالک الاسمین معا کما هو الحال فیما ورد فی بعض أقوال لنبی محمد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 175
و فی حاشیة مستفیضة للرحالة البریطانی المعروف السر ریتشارد بورتون ، وردت فی إحدی صفحات رحلته إلی المدینة و مکة، أقوال کثیرة أخری عن اسم المدینة. فهو یذکر أن هناک حدیثا نبویا یفهم منه أن المدینة لها عشرة أسماء، غیر أن الکتب المتیسرة تعد حوالی مئة اسم، و سوف نکتفی بإیراد البعض منها هنا. فمن أسمائها طبة، و طیبة و متطیبة، و هذه تشیر إلی طیب موقع المدینة و مناخها، و إلی عبیر القبر المطهر و الورد الأحمر الذی کان حسکا قبل أن یسقی بعرق جبین النبی علیه السلام، و إلی خلوها من المدنسات مثل وجود الکفار أو عبدة الأصنام. و قد أعلن محمد (ص) أن اللّه سبحانه و تعالی أمره بتغییر اسمها من یثرب أو أثرب إلی طبة. و کان اسمها- یثرب- إسما لإبن من أبناء نوح، علی قول بعض المراجع، لکن مراجع أخری تطلق هذا الإسم فی الأصل علی مکان یقع فی غرب جبل أحد و لیس علی المدینة نفسها و یجمع ب «أثاریب» أی البقاع التی یکثر فیها الماء و النخیل، و هذا دلیل علی أنها لم تکن تعود إلی شخص واحد بالکلیة. و کیفما کان الأمر فإن الدلالة المشؤومة التی تدل علیها «یثرب» المشتقة من «ثراب» فی الأصل (و معناها الخراب) و استعمال العرب الوثنیین لها قد اجتمعا معا علی جعل الإسم «الغلبة» مهملا و صار المسلم المتدین حذرا فی التأکد من تسمیتها «المدینة». أما الاسم «برة» و «بارة» فیشیر إلی خضوعها و طهارتها، کما یشیر الإسم «حسونة» إلی جمالها، و «خیّرة» إلی طیبها وجودتها، و محبة و حبیبة و محبوبة إلی حظوتها عند النبی، بینما یدل إسم جابرة، و جبارة، و جبرة، علی تأثیرها الحسن فی مصائر المؤمنین و تأثیراتهم السیئة علی الکفار. و تسمی الشافبة لتأثیرات الأرض الشافیة الموجودة فی جوارها، و ناصرة، و عاصمة، لأن محمدا و أصحابه کانوا بها فی مأمن من غضب أعدائهم، و فاضحة، لأنها فضحت موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 176
الکفار و المنافقین. و تسمی کذلک المسلمة و المؤمنة و المبارکة و المحبورة و المحروسة و المحفوظة إشارة إلی ما یزعم من أن ملکا من الملائکة یجلس فی کل شارع من شوارعها الرئیسة العشرة لیحرسها و یمنع «الدجّال» من الدخول إلیها فالمعروف فی الأساطیر أن الدجال سیظهر فی الشرق ذات یوم فیسیح فی الأرض، لکنه سوف یتعذر علیه الدخول إلی مکة، و حینما یصل إلی المدینة ینحرف عنها و یتجه إلی مهلکه فی دمشق. و تسمی المدینة فی التوراة «المقدسة» أو «المرحومة» تلمیحا إلی رسالة محمد (ص). و قد تسمی کذلک المرزوقة دلالة علی خیراتها، و المسکینة لأنها مستقلة عن خزائن الذهب و الفضة، و المقر، و المکینة، و الحرم، و أخیرا البلد، و المدینة.
أما ألقابها فمنها أرض اللّه، و أرض الهجرة، و أکّالة البلدان، و أکالة القری، نظرا لتفوقها علیها برغم الاسم الذی یطلق علی مکة، و هو «أم القری»، و بیت رسول اللّه، و جزیرة العرب، و حرم رسول اللّه. و تلقب فی الکتب و المراسلات أحیانا ب «المشرفة»، و یکثر تلقیبها بالمنورة بنور الإیمان و عمود النور الذی یعتقد بأنه یخرج من الضریح المقدس.
و تقع المدینة علی ما ورد فی دائرة المعارف الإسلامیة فی سهل من سهول الحجاز ینحدر إلی الشمال انحدارا خفیفا جدا، فیحده من الشمال و الشمال الغربی جبلا أحد، و عیر، علی بعد یقارب أربعة أمیال من المدینة، و أنفان جبلیان یخرجان من السلسلة التی تکوّن الحدود ما بین مرتفعات الجزیرة العربیة و السواحل الواطئة التی تسمی تهامة. و یحد السهل من الجهتین الشرقیة و الغربیة الحرّات التی هی عبارة عن بقع کبیرة قاحلة مغطاة بحجر البازلت الأسود، لکن الحرّات الشرقیة تقع علی مسافة أبعد من البلدة فتنرک بینها و بین المدینة مجالا لامتداد بقع خصبة من الأرض بحیث تکوّن حدود السهل الشرقیة فی الحقیقة سلسلة من الجبال السوداء الواطئة. و یمتد السهل من الجنوب إلی أبعد مما یدرکه البصر.
و تتمیز هذه الجهة بوفرة المیاه وفرة غیر معتادة فی الجزیرة العربیة. فأن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 177
جمیع المیاه تأتی من الجنوب، أو من منطقة الحرّات، فتتجه فی جریانها إلی الشمال حیث تتجمع فی زغابة فتنحرف و تجری نحو الساحل فی وادی العظم. و لا تمتلی‌ء هذه المجاری بالماء فی العادة إلا بعد أن تهطل الأمطار فی تلک المنطقة، لکنها تغذی طبقة المیاه الجوفیة بحیث یکثر عدد الینابیع و العیون فیها. و تتکون بعد هطول الأمطار الغزیرة بحیرة واسعة الأرجاء فی فضاء المناخة المجاور للبلدة، و قد تکتسح سیول الماء بعض جهات البلدة فتغرقها و تهدد بعض الأبنیة الکائنة فی القسم الجنوبی منها. و مما یذکر فی التاریخ أن طوفانا من هذا القبیل حصل فی أیام الخلیفة عثمان فهدد البلدة بحیث أمر الخلیفة بأنشاء سدة خاصة لحمایتها (البلاذری).
و حدث أشد من هذا الطغیان کذلک فی سنتی 660 و 734 للهجرة حینما تصدع الحاجز البرکانی الکبیر بضغط الماء علیه.
و یکون الماء فی بعض الجهات کثیر الملوحة بحیث لا یستساغ، و لذلک حاول عدد من الحکام المتعاقبین علی المدینة مد قنوات خاصة لجرّ میاه صالحة للشرب من آبار عذبة المیاه تقع فی مکان أبعد من جهة الجنوب؛ و لمجاری المیاه و ودیانها هذه أسماء مختلفة، فهناک فی الجهة الغربیة العقیق و وادی بطحان و رنونا، و فی الجهة الشرقیة وادی القناة و مهزور و المذانیب.
أما التربة فهی رملیة مالحة، و طینیة مزیجیة ذات طبیعة کلسیة، و تکون خصبة جدا فی کل مکان و لا سیما من جهة الجنوب. و لذلک تجود فیها زراعة النخیل إلی آخر حد، کما تجود زراعة البرتقال و اللیمون و الرمان و الموز و الخوخ و المشمش و التین و الأعناب. هذا و یکون شتاء المدینة باردا مرطبا، کما یکون صیفها حارا لکنه نادرا ما یکون حارا مرطبا.
و یقول الرحالة الحدیثون ان الهواء فی المدینة علیل لطیف، لکنه غیر صحی تماما، و کثیرا ما تنتابها الحمیات بشکل و بائی فیقع فریسة لها القادمون الجدد علی الأخص کما حصل للمهاجرین من أتباع النبی محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 178
(ص). و یقول الأستاذ بوهل ان الأمویین کانوا یسمونها «القذرة» مقابلة «للأسم المشرف الذی أطلقه علیها الرسول الأعظم و هو «الطیبة».
و یقارن وضع المدینة الذی حبته أیاها الطبیعة مقارنة واضحة بوضع مکة المکرمة و موقعها الکائن فی واد صخری «غیر ذی زرع». فلم تکن المدینة منذ البدایة بلدة کاملة بالمعنی الصحیح، بل کانت مجموعة من البیوت و الأکواخ محاطة بالبساتین و الحقول المزروعة، حیث کان ینصرف سکانها إلی الزراعة. و لذلک کان البدو یسمونهم «النبط» علی سبیل الاحتقار، علی أن هذه المنازل المتناثرة أخذت تتصل بالتدریج و ترتبط حتی تکون منها شی‌ء یشبه البلدة، علی أن هذا کان یقع فی شمال المدینة التی تکونت فیما بعد لأن اسم یثرب علی ما یقول السمهودی کان یقرن علی الأخص بمکان یقع فی غرب قبر الحمزة، حیث نزل بنو الحارثة فی أول الأمر. و لم تکن البلدة التی نشأت بهذه الطریقة محوطة بسور لکن خطوط دفاعها کانت بساتین النخیل المکتظة و الجنائن المحیطة بالبیوت. و لما کانت هذه البساتین أقل اکتظاظا و کثافة من الجهتین الشمالیة و الغربیة فقد کانت هاتان الجهتان أشد تعرضا للهجمات المعادیة.
کما کانت القلاع الصغیرة (أطم جمعها آطام) التی تبنی بأعداد غیر یسیرة تقوم مقام السور، فقد کان بوسع السکان أن یتراجعوا إلیها فی أوقات الضیق و الشدة.

التاریخ القدیم

و جاء فی البحث الذی تعقده دائرة المعارف الإسلامیة أیضا أنه لم یکن یوجد فی العهود المتأخرة أخبار یعتمد علیها عن أصل المدینة المنورة و تاریخها القدیم. و قد حاول المؤرخون سد هذه الثغرة من عندهم فجعلوا، کما فعلوا بالنسبة لأماکن أخری، جرهم و العمالقة یلعبون دورا فیها.
و لذلک لا نستطیع الاطمئنان إلی ما یروی من هذا التاریخ إلا ما یختص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 179
منه بالفترة البادئة بقدوم الیهود إلی المدینة، لکن المؤرخین لا یعرفون شیئا عن الزمن الذی جاءوا فیه الیها بالضبط بحیث یجعلون لذلک علاقة بموسی فی بعض الأحیان، أو بسبی نبوخذ نصر للیهود فی أحیان أخری، أو باستیلاء الیونان و الرومان علی فلسطین فی بعض الأحایین. فقد کان الیهود، علی ما یشیر الیه التلمود فی عدة مناسبات، موجودین فی جزیرة العرب خلال القرون المیلادیة الأولی، و یقصد بذلک شمالی الجزیرة العربیة بالتأکید. و یتضح وجودهم بکثرة فیها من وجود الجالیات الیهودیة فی تیماء و حجر و وادی القری و فدک و مقنا التی کانت جالیة المدینة الیهودیة علی اتصال بها. و قد کانوا فی کل واحدة من هذه الواحات ینصرفون إلی فلاحة الأرض و یتفرغون لها، و من المحتمل أن تکون واحة من هذه الواحات قد تطورت إلی بلدة بواسطتهم. و یستدل علی ذلک من اسم المدینة الآرامی نفسه، و هو یثرب. کما یستدل من بعض الأبیات التی نظمها الشاعر حسان بن ثابت علی أنهم أنشأوا عددا من الحصون الصغیرة فی هذه البلدة. لکننا یمکن أن نستلخص من کونهم لم یکونوا أول من فعل ذلک أن سکان المدینة الأقدمین لم یکونوا بدوا خلصا. (و یذکر لامانس فیما کتبه عن الطائف أن هذه الحصون کانت تبنی علی غرار حصون الیمن).
و قد لعبت قبیلة بنی قینقاع الیهودیة دورا بارزا فی الهجرة، و سمی فی دور متأخر أحد الأسواق المهمة فی القسم الغربی من المدینة باسمها.
لکن قبیلتی بنی قریظة و بنی النضیر أصبحتا بعد ذلک أهم القبائل الیهودیة فی المدینة بالتدریج. و کان بنو قریظة یسکنون مع بهدل علی وادی مهزور، کما کان بنو النضیر ینزلون علی وادی بطحان. و یقول کاتب البحث انه بینما تذکر الأغانی فی الجزء التاسع عشر أن بنی قریظة و بنی النضیر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 180
یعدون من الیهود الخلّص، یقول الیعقوبی انهم لم یکونوا یهودا أقحاحا و انما کانوا قبیلتین عربیتین متهودتین تنتمیان إلی بنی جذام، و یؤکد علی ذلک المؤرخ الألمانی نولدکه فیشهد بصحة الروایة. ثم یعلق کاتب البحث علی هذا بقوله انه فی الوقت الذی قد یثبت فیه تأریخیا أن عددا غیر یسیر من العرب قد تهودوا یومذاک، فان هناک مع ذلک أسبابا قویة للاعتقاد بأن العنصر الیهودی فی المدینة لم ینشأ علی هذه الشاکلة. فمن الأهمیة بمکان أن بنی قریظة و بنی النضیر کثیرا ما کان یطلق علیهم «الکاهنانیة»، الأمر الذی یدل علی أن الیهود کانوا علی علم بسلسلة نسبهم و أنهم کانوا یؤکدون علی أصلهم. و یلاحظ الشی‌ء نفسه من أن السیدة صفیة التی تزوجها النبی، و هی من بنی النضیر، کانت تعرف بکونها من سلالة هارون. لکن القول الفصل فی هذا الشأن لما جاء فی سور القرآن المدینة التی یخاطب بها یهود المدینة أنفسهم. فأنها تسمیهم «بنی إسرائیل»، و تذکرهم بأن اللّه قد فضلهم علی الناس. و تحشرهم مع بنی أسرائیل القدماء کما لو کانوا قد أسهموا فی الهجرة من مصر .
و قد أنزل اللّه الکتاب علی موسی لیهدیهم إلی السبیل السوی ، لکنهم خرجوا علی القواعد التی وضعها لیسیروا علی منوالها فی میثاقه معهم.
و تدل هذه الإشارات بأوضح ما یمکن علی أن النبی (ص) کان یعتبرهم متحررین من أصلاب بنی إسرائیل القدماء. و علی هذا فلا بد من أنه کان هناک، علاوة علی العرب المتهودین، أناس من الیهود الأقحاح، و من الواضح فی الحقیقة أنه لو لم یوجد من هؤلاء لما کان من الممکن أن یتهود أحد من العرب. و قد أشار فیلهاوزن بالإضافة إلی ذلک أشارة بارعة إلی أن الیهود الذین وجدوا بین العرب بلغتهم، و معرفتهم بالتوراة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 181
و بطراز حیاتهم، و ولعهم بالسخریة الماکرة، و الفنون السریة و السحر و التعذیب، و بتخوفهم من الموت، یعطون انطباعا لا یمکن أن یفسر بکونهم کانوا عربا متهودین. لکننا یجب أن لا ننسی من جهة أخری أن الیهود فی جزیرة العرب کانوا قد تأثروا کثیرا بمحیطهم، فکوّنوا شخصیة خاصة بهم. فإننا نجد مثلا أنهم کانوا منقسمین إلی قبائل و أسر و متخلقین بالأخلاق الناجمة عن مثل هذا الوضع الذی یعد من الخصائص العربیة. و لا نستطیع أن نرجع بأسماء هذه القبائل إلی أصول یهودیة قدیمة، و إنما هی أسماء عربیة خالصة فی مظهرها، کما هی الحال کذلک فی اسماء الافراد التی نادرا ما توجد بینها اسماء یهودیة مثل سموأل و سارة. و یلاحظ استعراب الیهود علی الأخص فی قصائد الشعر المنسوبة إلی الیهود، و أکثرها کان من الممکن أن یکون من نظم البدو العرب .

الاوس و الخزرج

و بینما کان الیهود هم العنصر البارز فی أماکن مثل خیبر و فدک و ما أشبه، فقد تغیر وضعهم فی المدینة بهجرة القبائل الیها التی یغزوها العرب إلی تصدع سد مأرب، و ما أدی الیه من هجرة القبائل العربیة التی کانت تقطن القسم الجنوبی من الجزیرة العربیة. فبهذه الطریقة جاءت قبائل قیلة، علی ما کانت تسمی یومذاک، أو قبائل الأوس و الخزرج إلی المدینة. و لیست هناک تفصیلات مدونة عن کیفیة مجی‌ء هذه القبائل، لکنه یفهم من بعض ما یکتبه ابن خرداذبه و یاقوت أنهم ظلوا مدة طویلة من الزمن خاضعین للیهود و تابعین لهم، و أن هذا القسم من جزیرة العرب الشمالیة کان فی ذلک الوقت خاضعا للحکم الفارسی. علی أن عرب قیلة تمکنوا بعد ذلک من خلع النیر الیهودی عنهم و إخضاع الیهود إلی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 182
حکمهم. و تقول الروایات أن هذا تم حینما حاول ملک قوی من ملوک الیهود یدعی فیتون أن یمارس حقه الأقطاعی المزعوم فی اغتصاب إحدی البنات البواکر، فقتله رجل من الخزرج یسمی مالک بن العجلان، انقاذا لشرف أخته. أما ما أعقب ذلک فهناک روایتان مختلفتان، تنص إحداهما علی أن ابن العجلان التجأ بعد صنیعه هذا إلی ملک من ملوک الغساسنة یدعی أبا جبیلة طالبا معونته، بینما تنص الثانیة علی أنه التجأ فی ذلک إلی تبع من تبابعة الجزیرة الجنوبیة یدعی أسعد أبا کرب.
و قد استولی أسیاد یثرب الجدد علی الحصون التی کان یشغلها الیهود، و شیدوا عددا آخر منها. و تعلموا کذلک فنون النبط منهم فأخذوا یغرسون النخیل و یتخذون الفلاحة مهنة لهم. و لما کان الخزارجة، الذین کان بنو النجار (أوتیم اللات) أبرز أسرة فیهم، أقوی القبائل یومذاک، فقد اضطلعوا بالقیادة و نزلوا فی القسم الأوسط من البلدة حیث توجد المدینة الحدیثة فی یومنا هذا. و سکنت إلی الغرب و الجنوب منهم قبائل الخزرج الأخری، بینما کانت تمتد منطقة بنی الحارث من جهة الشرق.
أما الأوس، الذین کانوا یتألفون من عدة أسر أیضا، فقد استقروا فی جنوب أخوانهم و شرقیهم. کما نزل النبیت فی الجهة الشمالیة الشرقیة بحیث کان یفصلهم عن أقاربهم بنو الحارث. علی أن القبیلتین الرئیستین من قبائل الیهود، و هما بنو قریظة و بنو النضیر، حافظتا علی مقدار معین من الاستقلال و احتفظ أفرادها بأراضیهم فی ظل الأوس، بینما احتفظ بنو قینقاع بأراضیهم فی الجهة الجنوبیة الغربیة مع أن صنعتهم الرئیسة کانت صیاغة الذهب. و کان فی المدینة عدا قبائل قیلة المهاجرة و الیهود عدد من القبائل الأخری التی کان قسم منها موجودا فی یثرب حینما جاءت قیلة الیها. و کانت هذه القبائل علی اتصال وثیق بالیهود، حتی تهود قسم منهم. و قد أدی استقرار الأمور علی هذه الحالة إلی تمتع یثرب بفترة طویلة من السلم الذی أخذ یتعکر صفوه بالتدریج بتزاید الخصومة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 183
التی نشبت ما بین قبیلتی قیلة الکبیرتین، أی بین الأوس و الخزرج. فقد تخاصمت الأسر علی انفراد فی بادی‌ء الأمر و تقاتل أفرادها فیما بینهم، لکن الخصومة اشتد أوارها بالتدریج و امتد لهیبها بحیث صار یهدد وجود البلدة بأسرها. غیر أن الاختلاف أمکن حله بالتحکیم، لکن الهدوء ما استقام طویلا حتی تجدد الاحتکاک بین الطرفین فأدی إلی استئناف النزاع و القتال الذی کان سبب القسم الأشد منه انتقام خاطب فی هذه المرة.
و یشیر إلی هذا قیس بن الخطیم فی أشعاره، و هو من أسرة أوسیة تنتمی إلی بنی النبیت. علی أن القتال تطور فی جمیع الأحوال فی غیر صالح الأوسیین، و طرد بنو النبیت فی الأخیر من ممتلکاتهم. فطلب الأوس و هم فی محنتهم هذه مساعدة القبیلتین الیهودیتین الرئیستین، فرفض الیهود التدخل بادی‌ء ذی بدء غیر أن الخزرج عمدوا إلی ذبح البعض من رهائن الیهود فأدی ذلک إلی إقدام الیهود علی التحالف مع الأوس و أعلنوا استعدادهم للمساعدة. فأعقب هذا وقوع معارک طاحنة اشترکت فیها القبیلتان العظیمتان بکل قواهما، و سائر سکان یثرب، و حتی البدو المحیطون بالمدینة. غیر أن موقعة بعاث التی استعد لها الفریقان خلال مدة طویلة من الزمن کانت هی الحاسمة فی النهایة. و قد بدا بادی‌ء ذی بدء کما لو کان الأوس سیغلبون أیضا، لکن الآیة انقلبت فی الأخیر فأصیب الخزرج بانتکاسة شدیدة. و مما یجدر ذکره هنا أن عبد اللّه بن أبی الخزرجی أبدی فی هذه المناسبة نفس التردد الذی أبداه بعد ذلک عندما أقدم علی معارضة محمد (ص). فقد نزل إلی میدان الحرب مع الآخرین لکنه لم یشترک فیها، و هرب فعلا یوم العرارة. هذا و قد استعادت موقعة بعاث التوازن بین القبیلتین الرئیستین، لکن القتال المستمر کان قد استنزف قوی البلدة بأجمعها و جعلت الروح العدائیة التی کانت تفصح عن نفسها بین حین و آخر حیاة الناس شیئا لا یطاق یوما بعد یوم، و عند ذاک حدث انقلاب خطیر بین سکان المدینة، الذین کانت بهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 184
حاجة إلی زعیم کبیر یمسک زمام الأمور بید من حدید، حینما قیض لهم أن یتصلوا بالنبی محمد الذی لم یکن قد أصاب یومذاک إلا نجاحا یسیرا فی اجتذاب المکیین إلی اعتناق تعالیمه الدینیة.

دیانة أهل المدینة قبل الإسلام

و کانت قبائل قیلة حینما هاجرت إلی یثرب تدین بعبادة الأوثان، شأنها فی ذلک شأن الأکثریة الساحقة من العرب و کانت الآلهة الکبری التی یعبدونها «مناة» التی سمیت أوس اللّه باسمها منذ البدایة، لکنهم کانوا یوقّرون اللات کذلک من الآلهات الأخری. و یقول بوهل فی دائرة المعارف هذه، خلال إلحاحه الممل فی البحث علی تأثیر الیهود فی المدینة و الإسلام، إن هذه القبائل کانت خلال معیشتها إلی جنب الیهود قد تأثرت بمعتقداتهم الدینیة و تعالیمهم الأخلاقیة. لکننا و یا للأسف لا نعلم إلا النزر الیسیر عن وجهة نظرهم الروحیة قبل قدوم النبی الأعظم إلی المدینة فإن قیسا شاعرهم یشیر بطریقة بدویة فی الدرجة الأولی إلی المشاحنات التی کانت تحصل بین القبائل و الأسر فقط، و نادرا ما کان یتعرص بشی‌ء إلی الشؤون الدینیة. و هو یتطرق بین حین و آخر إلی ذکر الآلهة المحلیة لکنه یشیر إلی اللّه الذی کان یسمیه الخالق، و یعد هذا نفسه دلیلا کافیا علی وجود التأثیر الیهودی أو المسیحی (کذا). و إلی جانب هذا کله کانت هناک فئة من الناس قد ذهبت فی مفاهیمها إلی أبعد من ذلک خلال احتکاکها بالیهود أو المسیحیین، حتی صار أفرادها یعرفون بالأحناف لأنهم کانوا یعترضون بجزم علی عبادة الأوثان المعتادة، و یمیلون إلی الزهد و التنسک. فقد کان أبو الهیثم و أسعد بن زرارة مثلا یقرّون بالتوحید قبل أن یتعرفوا بالنبی محمد (ص). و من نتائج العیش مع الیهود (کذا) فی المدینة، علی رأی بوهل، أن فن الکتابة کان یعرف تمام المعرفة فیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 185
و قد أصبح تأثیر الیهود الروحی علی سکان المدینة العرب عاملا مهما فی علاقاتهم بالنبی محمد (ص)، لأنه جعلهم یتقبلون تعالیمه الدینیة بسهولة حینما تعرفوا علیها خلال ترددهم علی مکّة، و بالطرق و الوسائل الأخری.

المدینة فی عهد النبی الأعظم

و بعد أن تتطرق دائرة المعارف الإسلامیة إلی تعرف النبی الأمین علی نفر من أهل المدینة و اعتناقهم لمبادئه الدینیة، و عقده و أیاهم معاهدة لحمایته، کما یرد فی کتب التاریخ المعروفة، تذکر هجرة المسلمین السریة إلی المدینة، و هجرة النبی (ص) من بعدهم بالکیفیة التی تذکرها الکتب التاریخیة کلها کذلک.
و تقول دائرة المعارف هذه علاوة علی ذلک (عند بحثها عن النبی) إن هجرته إلی المدینة قد اتخذها المسلمون بحق بدایة لتاریخهم الهجری المعروف، لأنها تعتبر المرحلة الأولی لحرکة خطیرة جدا تمکنت فی مدة و جیزة من الزمن أن تصبح ذات أهمیة کبری فی تاریخ العالم. ثم تذکر أن الحسابات الاعتیادیة تجعل وصول النبی إلی قبا فی ضواحی المدینة فی الیوم الثانی عشر من ربیع الأول الواقع فی السنة الأولی للهجرة بطبیعة الحال، أی فی یوم 24 أیلول سنة 622 للمیلاد. و بعد أیام قلائل انتقل إلی موطنه الجدید، فألقت المهمة الجسیمة التی کانت تنتظره عبئها الأکبر علی قابلیاته التنظیمیة و الدیبلوماسیة.
و قد جعل النبی صلوات اللّه و سلامه علیه إقامته الأولی فی دار أبی أیوب خالد بن زید الأنصاری الخزرجی حتی استطاع تهیأة منزل خاص به. و لیس هناک شی‌ء مطلقا یدل بوضوح علی مواهبه، المبنیة علی عقیدته برسالته النبویة المقدسة، فی قیادة الرجال و إقناعهم بالرضوخ لإرادته، مثل نجاحه خلال مدة قصیرة جدا فی تهدئة الأمور فی المدینة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 186
و فرض نوع من النظام فیها، بعد أن کادت تمزقها الأحقاد و الضغائن.
و فی توحید خلیط متنافر من السکان یتألف من سکان یثرب العرب القدماء، و قبائل قیلة التی أصبحت مهیمنة فیها، و المهاجرین الجدد من مکة، و الیهود أو العرب المتهودین. و یقول بوهل إننا نستطیع أن نتبین ما فعله النبی (ص) فی هذا الشأن من «الکتاب الذی کتبه الرسول بین المهاجرین و الأنصار لموادعة الیهود» المثبت فی سیرة ابن هشام، و کان أول بیان یصدره فی المدینة. و نری من الأفضل هنا أن نورد نص الکتاب نفسه بدلا من تلخیص ما تذکره عنه دائرة المعارف الإسلامیة:
قال ابن اسحق: و کتب رسول اللّه (ص) کتابا بین المهاجرین و الأنصار وادع فیه الیهود و عاهدهم، و أقرهم علی دینهم و أموالهم، و اشترط علیهم و شرط لهم.
بسم اللّه الرحمن الرحیم
هذا کتاب من النبی محمد (ص) بین المؤمنین و المسلمین من قریش و یثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم، انهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قریش علی ربعتهم یتعاقلون بینهم، و هم یفدون عانیهم بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو عوف علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی، و کل طائفة تفدّی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو ساعدة علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة منها تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو الحارث علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة منها تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو جشم علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 187
و کل طائفة منها تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو النجار علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة منها تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو عمرو بن عوف علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو النبیت علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و بنو الأوس علی ربعتهم یتعاقلون معاقلهم الأولی و کل طائفة منهم تفدی عانیها بالمعروف و القسط بین المؤمنین، و أن المؤمنین لا یترکون مفرحا بینهم أن یعطوه بالمعروف فی فداء أو عقل.
و لا یحالف مؤمن مولی مؤمن دونه، و أن المؤمنین المتقین علی من بغی منهم أو ابتغی دسیعة ظلم أو أثم أو عدوان أو فساد بین المؤمنین، و أن أیدیهم علیه جمیعا و لو کان ولد أحدهم، و لا یقتل مؤمنا فی کافر، و لا ینصر کافرا علی مؤمن، و أن ذمة اللّه واحدة: یجیر علیهم أدناهمّ و أن المؤمنین بعضهم موالی بعض دون الناس، و أنه من تبعنا من یهود فأن له النصر و الأسوة غیر مظلومین و لا متناصر علیهم، و أن سلم المؤمنین واحدة: لا یسالم مؤمن دون مؤمن فی قتال فی سبیل اللّه إلا علی سواء و عدل بینهم، و أن کل غازیة غزت معنا یعقب بعضها بعضا، و أن المؤمنین یبی‌ء بعضهم علی بعض بما نال دماءهم فی سبیل اللّه، و أن المؤمنین المتقین علی أحسن هدی و أقومه، و أنه لا یجیر مشرک مالا لقریش، و لا نفسا، و لا یحول دونه علی مؤمن و أنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بینة فإنه قود به إلا أن یرضی ولی المقتول، و أن المؤمنین علیه کافة، و لا یحل لهم إلا قیام علیه، و أنه لا یحل لمؤمن أقر بما فی هذه الصحیفة و آمن باللّه و الیوم الآخر ان ینصر محدثا و لا یؤویه، و أنه من نصره و آواه فإن علیه لعنة اللّه و غضبه یوم القیامة، و لا یؤخذ منه صرف و لا عدل، و أنکم مهما اختلفتم فیه من شی‌ء فإن مردّه إلی اللّه عز و جل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 188
و إلی محمد (ص)، و أن الیهود ینفقون مع المؤمنین ما داموا محاربین، و أن یهود بنی عوف أمة مع المؤمنین للیهود دینهم و للمسلمین دینهم موالیهم و أنفسهم، إلا من أظلم و أثم فإنه لا یوتغ إلا نفسه و أهل بیته، و أن لیهود بنی النجار ما لیهود بنی عوف، و أن لیهود بنی الحارث مثل ما لیهود بنی عوف، و أن لیهود بنی ساعدة مثل ما لیهود بنی عوف، و ان لیهود بنی جشم مثل ما لیهود بنی عوف، و أن لیهود بنی الأوس مثل ما لیهود بنی عوف، و أن لیهود بنی ثعلبة مثل ما لیهود بنی عوف، إلا من أظلم و أثم فإنه لا یوتغ إلا نفسه و أهل بیته، و أن جفنة بطن من ثعلبة کأنفسهم، و أن لبنی الشطیبة مثل ما لیهود بنی عوف و أن البرّ دون الأثم و أن موالی ثعلبة کأنفسهم، و أن بطانة یهود کأنفسهم، و انه لا یخرج منهم أحد إلا بأذن محمد (ص)، و أنه لا ینحجز علی ثار جرح، و أنه من فتک فبنفسه فتک و أهل بیته إلا من ظلم، و أن اللّه علی أبر هذا، و أن علی الیهود نفقتهم و علی المسلمین نفقتهم و أن بینهم النصر علی من حارب أهل هذه الصحیفة، و أن بینهم النصح و النصیحة و البرّ دون الأثم، و أنه لم یأثم امرؤ بحلیفه، و أن النصر للمظلوم، و أن الیهود ینفقون مع المؤمنین ما داموا محاربین، و أن یثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحیفة، و أن الجار کالنفس مضا و لا آثم، و أنه لا تجار حرمة إلا بأذن أهلها، و أنه ما کان بین أهل هذه الصحیفة من حدث أو اشتجار یخاف فساده فإن مردّه إلی اللّه عز و جل و محمد (ص)، و أن اللّه علی أتقی ما فی هذه الصحیفة و أبرّه، و أنه لا تجار قریش و لا من نصرها، و أن بینهم النصر علی من دهم یثرب، و إذا دعوا إلی صلح یصالحونه و یلبسونه، و أنهم إذا دعوا إلی مثل ذلک فإن لهم علی المؤمنین إلا من حارب فی الدین: علی کل أناس حصتهم من جانبهم الذی قبلهم، و أن یهود الأوس موالیهم و أنفسهم علی مثل ما لأهل هذه الصحیفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحیفة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 189
و أنّ البرّ دون الأثم: لا یکسب کاسب إلا علی نفسه، و أن اللّه علی أصدق ما فی هذه الصحیفة و أبرّه، و أنه لا یحول هذا الکتاب دون ظالم أو آثم، و أنه من خرج آمن، و من قعد آمن بالمدینة، إلا من ظلم و أثم، و أن اللّه جار لمن برّ و اتقی، و محمد (ص)» انتهی .
لکن شروط هذا العهد سرعان ما أهملت، علی ما یقول بوهل، نظرا لتطور الحوادث السریع فی المدینة، و من الطبیعی أن ذلک لم یکن مخالفا لما کان یریده النبی الذی ذهبت خططه إلی أبعد مما نص علیه فی الکتاب. و السبب الرئیسی فی فقدان الکتاب المذکور لأهمیته هو خبث الیهود بالشروط الموضوعة و تحرکهم للعمل ضده و الهزء بما جاء به. فقد أخذوا یحاولون إثارة الضغائن القدیمة بین الأوس و الخزرج و یدسون علیه فی کل فرصة أو مناسبة.
علی أن النبی ردّ علی ذلک بالعمل المتواصل فی توحید أتباعه لیستطیعوا الوقوف ضد خصومه الأصلیین فی مکة. و یتطرق بحث دائرة المعارف الإسلامیة بعد ذلک إلی موقعة بدر و أحد و الخندق، و یقول کاتبه عند ذکر موقعة الخندق ان ابن جبیر شاهد فی القرن الثانی عشر بقایا الخندق المذکور فی المدینة، و ان قریشا هم الذین کانوا السبب فی انتصار المسلمین فیها لأنهم أبدوا کثیرا من الخور و الجهل بأصول الحرب. ثم یعقب علی ذلک بقوله ان مرکز النبی قوی کثیرا بعد هذه الموقعة فی المدینة، حتی تسی له أن یقضی علی خصومه فی الداخل من الیهود و المنافقین. و قد استطاع أن یکیل الصاع صاعین للیهود، و یعاملهم بشدة و قسوة فی مختلف المراحل. فقد أخرج بنی القینقاع من المدینة بعد انتصاره المدوّی فی وقعة بدر، و أخرج بنی النضیر منها بعد غزوة أحد التی لم یکن النصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 190
حلیفه فیها. أما بنو قریظة فقد ذبحوا ذبحا لا رحمة فیه برغم توسط الأوس لهم. و بهذه الطریقة نجح النبی علیه السلام فی التخلص من الخطر الذی کان یتهدده من ناحیة الیهود، لأن الذین بقوا منهم فی المدینة لم یعد لهم شأن یذکر فیها.
و لقد أصبحت الحرب فی حکم المنتهیة مع قریش عندما عقد النبی معهم صلح الحدیبیة فی سنة 6 للهجرة، لأن عبقریة الدیبلوماسیة استطاعت أن ترغم قریشا بها علی الاعتراف بالمدینة و اعتبارها قوة تضاهی مکة فی أهمیتها. لکن الانتهاء الرسمی لکفاحه علیه السلام مع قریش قد حصل عندما تم له فتح مکة من دون إراقة دماء فی العام الثامن للهجرة.
علی أن هذا النصر علی عظمته، و علی ما کان فیه من ظفر و موفقیة للنبی، قد سبب حدوث توتر جدید کتب له أن یکون شیئا مؤذیا للإسلام بعد وفاة النبی. و هنا یتطرق کاتب البحث إلی الاختلاف بین المهاجرین و الأنصار، و الدور الذی کان یلعبه عبد اللّه بن أبی فیه، و إلی قضیة بناء مسجد ضرار و هدمه، و غیر ذلک.
هذا و قد برّ النبی علیه السلام بوعده لأصحابه حینما عاهدهم علی البقاء فی المدینة حتی النهایة، و عدم الانتقال إلی مکة بعد فتحها، فبقی فیها حتی توفی فی 8 حزیران سنة 632 للمیلاد و دفن فیها. و یقول الدکتور بوهل ان الخلیفتین أبا بکر و عمر قد دفنا، کما دفن النبی، فی بیت عائشة، بینما جی‌ء بحثة عثمان محمولة «علی خشبة» فی ظلمة اللیل إلی المقبرة خلال عاصفة من التندید و الرمی بالحجارة . و لم یفکر أحد خلال هذه المدة بتقویة خطوط دفاع العاصمة الإسلامیة العتیدة، حتی و لا فی أیام الردة التی أعقبت وفاة النبی. و کان الخلیفة الثالث قد أمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 191
بهدم الحصون التی کانت موجودة فی المدینة، لکن آثارها بقیت شاخصة للعیان حتی أواخر القرن العاشر.

المدینة بعد مقتل عثمان

و مما جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة عن هذا العهد أن خلافة الإمام علی فی المدینة قد أحدثت فیها تبدلا تاما. فحینما نشبت الحرب الأهلیة بینه و بین خصومه، و وقعت المواقع الحربیة الحاسمة فی الأقالیم أدرک الإمام علی علیه السلام أن الامبراطوریة الواسعة لا یمکن بأی حال من الأحوال أن تدار من زاویة بعیدة من زوایا العالم التی تقع فیها المدینة.
و بینما کان الخلفاء الأوائل یبقون فی العاصمة و یسوقون جیوش الفتح منها إلی مختلف الأنحاء، قاد الإمام علی جیوشه بنفسه و غادر المدینة فی سنة 36- 656 و لم یعد الیها منذ تلک السنة. فقد اتخذ الکوفة عاصمة له، و بقیت کذلک حتی حلت دمشق فی محلها حینما تولی معاویة.
فأصبحت المدینة، کما أصبحت مکة من قبلها، مدینة أقلیمیة ثانویة غیر متأثرة بمجری الأحوال فی العالم الخارجی. و یمکن الوقوف علی رأی المتعبدین القدامی من الصحابة فی هذا التبدل الجوهری من الحدیث الذی دار بین الإمام علی و بین عدد من وجوه الأنصار الذین ذهبوا لیقنعوه بالعدول عن مغادرة المدینة. فقد قال له عقبة بن عامر و کان بدریا «یا أمیر المؤمنین إن الذی یفوتک من الصلوة فی مسجد رسول اللّه (ص) و السعی بین قبره و منبره أعظم مما ترجو من العراق، فإن کنت إنما تسیر لحرب أهل الشام فقد أقام عمر فینا و کفاه سعد زحف القادسیة، و أبو موسی زحف الأهواز، و لیس من هؤلاء رجل إلا و مثله معک و الرجال أشباه و الأیام دول» فقال علی «ان الأموال و الرجال، بالعراق و لأهل الشام و ثبة أحب أن أکون قریبا منها ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 192

المدینة فی عهد الأمویین و العباسیین

و لا شک أن المدینة بکل ما فیها من ذکریات دینیة عزیزة علی المسلمین، و بالجدث الطاهر المقبور فی تربتها، لا یمکن أن تصبح مدینة مهملة علی الإطلاق. و إنما کان الأمر بالعکس، فقد أخذت قدسیتها تزداد فی أعین المسلمین کلما عظمت شخصیة النبی الأعظم فی نظرهم لکن حیاة البلدة نفسها ظلت تبعد شیئا فشیئا عن العالم الحقیقی الذی کانت تتکشف فیه حوادث التاریخ الفعلی. و صار یقصدها الراغبون فی البقاء بمعزل عن فوران الوقائع السیاسیة، مثل ما فعل الحسن بن علی (ع) بعد تنازله عن حقه فی الخلافة. و قصدها الحسین کذلک من الکوفة، لکنه غادرها من جدید لیحاول محاولته الیائسة فی الحصول علی حقوقه المهضومة. لکن المهم أن أحدا من أنصار المدینة لم یخرج معه إلی الکوفة. و حینما استشهد بذلک الشکل المؤلم المؤسف جی‌ء بنسائه و ابنه إلی المدینة، حیث عاشوا بهدوء و سلام من دون أن یسهموا فی القتال. و قد أقام محمد بن الحنفیة کذلک فی المدینة. علی أن أقرباء النبی و أتباعه المخلصین لم یکونوا وحدهم هم الذین یفضلون العیش فی مدینته المقدسة، و إنما فعل ذلک أیضا البعض من الأمویین، أعدائه السابقین ، الذین کانت تجذبهم المدینة الیها بهدوئها الشامل و حیاتها الرخیة و بهذه الطریقة أصبحت المدینة موطنا لطبقة جدیدة من السکان تتألف من إناس یریدون التمتع بالثروة العظیمة التی جاءت الیهم بها حروب الفتح المختلفة من دون إزعاج. و قد صارت الحیاة فیها علی جانب أکبر من الترف و الرخاء بالتدریج حتی غدت فی الأخیر، و هی المدینة المقدسة، ردیئة السمعة بحیث أن مروان الثانی آخر الخلفاء الأمویین سأل أحد المشترکین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 193
فی ثورة قامت فیها سنة 127- 745 کیف أن خمور المدینة و جواریها لم تقعده عن الالتحاق بها. و یعقب کاتب البحث هذا بعد ذلک بقوله ان مثل هذه القصص عن المدینة تذکرنا بالوصف الذی أورده الرحالة دوطی فی رحلته إلی المدینة (سنة 1878) عن سکان المدینة فی أیامه.
فهو یقول «ان المقامرة و أنواع اللعب و إدمان شرب العرق و تعاطی المخدرات، کانت توجد فیها کلها ».
و کانت هناک طبقة أخری من الناس تفضل السکنی فی المدینة و الاعتزال فیها، و هی طبقة الناس الذین لا یقیمون وزنا للأغراض و المباهج الدنیویة.
و کان هؤلاء یکرسون حیاتهم للعیش بین أطلال الماضی المقدس للمدینة، و جمع الأحادیث النبویة لدراستها و تمحیصها، علاوة علی تفسیرها و توضیح ما ترمی الیه، و مقدار مطابقتها للسنة و الأجماع فی المدینة.
و أبرز شخصیة من بین هذه الطبقة مالک بن أنس (المتوفی سنة 179- 795) صاحب الموطأ، الذی کان و هو مؤسس المذهب المالکی یجمع الکثیرین من تلامیذه حوله و یفقههم فی أمور الدین. و قد کتب ابن زبالة أحد تلامذته أول کتاب فی تاریخ المدینة (199- 814) لکنه لم یصل الینا.
و قد کانت المدینة یحکمها فی هذه الفترة حکام یعینهم الخلیفة من دمشق أو بغداد. علی أنها لم تکن فی عزلة تامة عن التأثر بالحروب التی نشبت خلال القرون الأولی التی تقضت بعد وفاة النبی (ص). ففی أیام یزید بن معاویة کان شعور أهل المدینة، و حتی الأمویین منهم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 194
معادیا للخلیفة حتی انحاز الکثیرون منهم إلی جانب خصمه عبد اللّه بن الزبیر فی مکة. و قد منیت الحملة التی جردها یزید علیها بقیادة حاکمها عمرو بن سعید بالفشل. و فی سنة 63- 682- 83 ثار أهل المدینة علی الخلیفة ثورة علنیة و عینوا عبد اللّه بن حنظلة قائدا علیهم، ثم شیدوا لها سورا و حفروا خندقا فی الجهة الشمالیة منها. لکن یزیدا ساق الیها جیشا یقوده مسلم بن عقبة. فاتخذ هذا مقرا له فی الحرة الکائنة فی شمال شرقی البلدة. و عند ذاک وقعت موقعة الحرة المعروفة التی انتهت باندحار أهل المدینة، بتأثیر الخیانة التی بدت من بنی حارثة. و هنا یشکک کاتب البحث بالروایة الثابتة عند المؤرخین المسلمین عن انتهاک حرمة المدینة و أهلها و هتک أعراضها، و سلب أموال الناس فیها، بأمر من یزید.
و یستند إلی ما کتبه فلها وزن فی هذا الشأن . ثم یستأنف الکتابة و یقول ان الخوارج استطاعوا بقیادة قائدهم أبی حمزة من دحر أهل المدینة فی کبید قبیل انتهاء الحکم الأموی. لکن أبا حمزة فوجی‌ء بجیوش مروان فذبح فی المعرکة.
و حینما تولی العباسیون الخلافة بعد ذلک حاول أخوان علویان، محمد و ابراهیم، من أبناء عبد اللّه بن الحسن الحصول علی حصتهما فی الحکم عن طریق القتال. فقد أطلق محمد علی نفسه لقب المهدی و ظهر فی المدینة سنة 145- 762- 63، حیث وجد عددا غیر قلیل من الأتباع و المؤازرین الذین کان من بینهم مالک بن أنس و أبو حنیفة. و حاول بطرق شتی تقلید النبی، فتمنطق بسیفه و حفر الخندق حول المدینة و فعل أشیاء أخری. لکن الخلیفة ساق علیه جیشا یقدر بأربعة آلاف مقاتل بقیادة قریبه عیسی بن موسی، و حینما نصب القناطر فوق الخندق بمد عدد من الأبواب و دخل المدینة تخاذل معظم أتباع المهدی کما کان من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 195
المعتاد أن یحصل لدی أتباع العلویین. و عندما جدد کفاحه أمام الجیش الزاحف خر قتیلا فی المعرکة. و بعد عشرین سنة ثار علوی آخر فی المدینة یدعی الحسین بن علی ضد العباسیین، و بعد حصول تدمیر غیر یسیر فی المدینة أخرج منها فقتل فی فخ بالقرب من مکة. و یقول بوهل، و هو یبدی لهجة مناوئة للعلویین فی بحثه: ان قتیل فخ هذا قد مجده الحزب العلوی تمجیدا غیر یسیر برغم الدمار الذی أنزلته حرکته فی مدینة الرسول. و لا شک أن هذا هو الحسین بن علی بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب (ع)، علی ما جاء فی مقاتل الطالبیین.
و فی أیام الواثق الخلیفة العباسی تکبدت المدینة خسائر فادحة من هجمات سلیم و بنی هلال علیها. فخف لإنجادها بغا الکبیر سنة 230- 844- 45 و حبس البدو. لکنهم أفلحوا فی الإفلات من السجن حینما غادرها هذا القائد، فاکتشف أمرهم أهل المدینة و قضوا علیهم بأجمعهم و قد أبدی المدنیون محبتهم للخلیفة الواثق بندبه و النوح علیه فی لیال متعاقبة بعد موته.

فی أیام الفاطمیین و ما بعدهم

و جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة کذلک أن المدینة قد خمل ذکرها بعد هذا بحیث لم یعد یذکرها المؤرخون إلا فی النادر، و حتی عندما کانت تذکر فإن ما کان یکتب عنها لم یکن شیئا ذا بال فی الأعم الأغلب. و حینما تولی الفاطمیون فی مصر، و صاروا یهددون المدینتین المقدستین فی الحجاز، شید سور خاص حول المدینة فی النهایة. و قد فعل ذلک عضد الدولة البویهی سنة 364- 974- 975، لکن هذا السور لم یکن یحیط إلا بالقسم الأوسط من البلدة. و قد أعاد تشیید هذا السور فی 540- 1145- 46 وزیر من وزراء زنکی. و لما کان عدد غیر یسیر من السکان أصبح یعیش فی خارج السور و هو فی هذه الحالة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 196
التی لا تحمیهم من هجمات الأعراب فقد شید أتابک سوریة نور الدین محمود بن زنکی فی سنة 557- 1162 سورا ثانیا یمتد امتدادا أوسع حول المدینة، و یحتوی علی عدد من الأبراج و الأبواب الکبیرة. أما السور الحالی (کتب البحث فی أوائل القرن هذا) الذی یتراوح ارتفاعه بین 35 و 40 قدما فقد بناه السلطان سلیمان القانونی بن السلطان سلیم (1520- 1566) من حجر البازلت و الغرانیت، و حفر خندقا مناسبا من حوله. و قد شق السلطان نفسه قناة مغطاة و أوصلها من الجهة الجنوبیة إلی داخل البلدة. و أخیرا رفع السور إلی ارتفاع ثمانین قدما فی أیام السلطان عبد العزیز، و بقی علی ارتفاعه هذا منذ ذلک الیوم.

فی عهد الاتراک العثمانیین

و بقیت المدینة تعیش فی ظل العهد الترکی عیشة وادعة هادئة، لا تعبأ إلا قلیلا بالعالم الخارجی، و نادرا ما کان یأتی ذکرها فی حدث مهم. و قد ساعد علی ذلک وضعها الدینی الخاص و کون الدخول الیها محرما علی غیر المسلمین. غیر أن انقلابا جذریا حدث فیها فی أوائل القرن التاسع عشر. فقد استولی علیها الوهابیون فی 1804، و نهبوا خزائنها، ثم منعوا الحجاج عن زیارة القبر المطهر فیها. و قد باءت محاولة بدرت منهم لتهدیم القبة بالفشل، لکن خزائن اللؤلؤ و الجواهر العظیمة التی کان زوار القبر المطهر قدموها هدیة إلی الجامع الکبیر قد تناهبتها الأیدی الأثیمة و اختفت من مکانها. و لم یستطع طوسون بن الخدیوی محمد علی باشا من استرداد المدینة من الوهابیین إلا فی سنة 1813، و فی معاهدة الصلح المعقودة فی 1815 اعترف عبد اللّه بن سعود بتابعیة الأماکن المقدسة فی الحجاز إلی الأتراک. و قد جاء هذا الاسترداد بشی‌ء جدید واحد علی الأقل إلی تلک الأنحاء، و هو إنشاء سکة حدید الحجاز بین دمشق و الشام و المدینة نفسها سنة 1908. و کان الغرض الرئیسی من إنشائها نقل الحجاج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 197
إلی البلاد المقدسة، لکنها کانت لها أهمیة عسکریة خاصة کذلک، و من أجل هذا تعرضت إلی تخریبات غیر قلیلة خلال الحرب العالمیة الأولی.
و علی أثر الصلح الذی عقد بانتهاء الحرب العالمیة أخلت الجیوش الترکیة المدینة فی 1918.
و ظهر فی الوقت نفسه خصم جدید للملک حسین فی الحجاز، و هو الملک عبد العزیز بن سعود الذی رفع الوهابیین إلی موقف السیطرة من جدید. فإن حرکة الحسین الجریئة فی انتحال صفة الخلافة لم تقابل بالتأیید ما بین أمراء العرب، فاضطره سکان الحجاز إلی التنازل عنها.
و قد اغتنم ابن سعود هذه الفرصة و دخل فی تشرین الأول 1924، بعد أن أجبر علیا بن الحسین علی مغادرتها. و علی هذا سقطت المدینتان المقدستان فی أیدی الوهابیین و أصبحتا تابعتین إلی المملکة السعودیة منذ سنة 1932. و غدا الوهابیون بمرور الزمن أکثر تساهلا فی السماح بزیارة الجامع الذی یقوم فیه الضریح المطهر و سائر البقع المقدسة، و منعوا التعبد فیها فقط.

وصف المدینة بشکلها الأخیر

جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة أن المدینة برغم حظر الدخول الیها علی غیر المسلمین فإن کتابات الرحالة الحدیثین علی اختلاف أنواعهم تساعدنا علی تکوین صورة واضحة عنها فی مخیلتنا، یمکن إیرادها هنا بصورة موجزة. فالسهل الذی تقع فیه المدینة یقسم إلی قسم أعلی جنوبی و قسم أسفل شمالی، أی «العالیة» و «السافلة»، و قد ورد هذان الأسمان حتی فی الکتابات القدیمة. و تمتد العالیة إلی قریة قبا الکائنة علی بعد ثلاثة أمیال من المدینة، کما تمتد السافلة إلی جبل أحد. و یضم السور القدیم المدینة الأصلیة فی داخله، کما یضم السور الجدید- المتهدم قسم غیر یسیر منه فی الوقت الحاضر- ضاحیة العنبریة الغربیة الواسعة و «برّ المناخة»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 198
الذی یبلغ عرضه حوالی أربع مئة یاردة ما بین السور و المدینة.
و یشار هنا إلی موضع «المصلی» التقلیدی. و علی طول الجانب الجنوبی من السور یمتد «درب الجنازة» الذی یؤدی إلی المقبرة العامة، و هی مقبرة البقیع، أو «بقیع الغرقد» فی القسم الشرقی من البلدة. و من بین الآلاف المدفونین هنا ابراهیم بن النبی، و زوجاته، و الکثیرون من أصحابه، و العباس، و محمد الباقر، و جعفر الصادق- و قد نسی الکاتب أن یذکر هنا أیضا الإمامین الحسن بن علی، و علی بن الحسین علیهم السلام و الفقیه مالک بن أنس، و غیر هؤلاء کثیرون.
و یقوم فی الزاویة الشمالیة الغربیة من البلدة القصر المبنی علی سورها.
و هناک عدة أبواب فی السور، بما فیها باب الجمعة فی الشرق، و باب العنبریة فی الغرب. و من ینبوع من الماء العذب یقع فی قریة قبا تمتد قناة خاصة إلی البلدة، و کان قد شقها أول مرة مروان حاکم المدینة. و کثیرا ما کان یهمل ترمیم هذه القناة و تعمیرها فی مختلف العهود، لکنها کانت ترمم بین حین و آخر کما تم علی عهد عدد من سلاطین آل عثمان، و آخرهم عبد الحمید الذی رممها بعد أن هدمها الوهابیون.
و قد تعرضت المدینة إلی کثیر من الأضرار بفعل السیول و الفیضان فی مختلف الأدوار. فقد تعذر علی أهل المدینة فی سنة 734 زیارة قبر الحمزة خلال مدة تناهز الستة أشهر بسبب الفیضان. أما شوارعها فهی نظیفة لکنها ضیقة فی الغالب، و لم یبلط منها سوی الشارع الرئیسی و تبنی البیوت بناء متقنا بالحجر، و عدد غیر یسیر منها یتکون من طابقین أیضا. و هناک عدة بیوت محاطة بحدائق و بساتین، لکن المحاطة ببساتین توجد فی العادة خارج السورین الشمالی و الجنوبی و لا سیما من جهة الجنوب، حیث تتناوب حقول الخضروات و بساتین الفاکهة مع بساتین النخیل و حقول القمح. و یزرع فی المدینة سبعون نوعا من أنواع التمور التی تعد من حاصلات البلاد الرئیسیة کما کانت من قبل. علی أن حرکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 199
الحجاج تعد أهم مورد مالی للسکان الذین یؤجرون مساکنهم إلی الغرباء و یزوّرونهم الأماکن المقدسة، کما یعلّمونهم الشعائر و الواجبات الدینیة الخاصة بالزیارة. و یلعب «المزوّرون» فی المدینة نفس الدور الذی یقوم به المطوفون فی مکة. أما السکان فقد ذکر الرحالة بورتون (1853) أن نفوس المدینة کانت تبلغ 16000- 18000 نسمة مع أربع مئة رجل فی الحامیة، لکن و یقل یجعل نفوسها فی سنة 1908 ثلاثین ألف نسمة عدا الجند و الحجاج الزوار، بینما یقول البتنونی فی رحلته أن نفوسها تبلغ ستین الف نسمة بما فیهم عدد من الأجانب. و یقول الرحالة بورخارت (1815) أن الأسر المتحدرة من سلالات الأنصار الأصلیین لا یزید عددهم علی العشر فی المدینة، و أن عددا غیر یسیر من السکان الشیعة یعیشون فی ضواحیها.

الحرم النبوی

و تتطرق دائرة المعارف الإسلامیة إلی ذکر شی‌ء غیر قلیل عن الحرم النبوی الشریف فی المدینة. فقد جاء فیها أن المدینة مع کونها لا یوجد فیها حرم مقدس یجله الناس منذ العهود الموغلة فی القدم مثل الکعبة، فإنها تباهی من جهة أخری بالحرم المقدس الذی لا یثمن بثمن عند المسلمین فی کل مکان لأنه یضم بین جدرانه ضریح النبی الأعظم الذی یقصده الحجاج و الزوار من مشارق الأرض و مغاربها. حتی أن بعض الفقهاء یعتبرونه أقدم من الحرم الشریف فی مکة، لکن هذا الرأی لا تؤیده أکثریة المسلمین و لا تعد زیارة الحرم النبوی شیئا إجباریا من ناحیة الفرائض الدینیة مثل الحج إلی مکة، کما أنه یمکن أن یزار فی أی وقت من أوقات السنة. و هناک إجماع علی أن الرسول الأعظم کان قد دفن فی بیت عائشة، حیث قبر الخلیفتان الأولان أیضا. یضاف إلی ذلک أن جمیع الروایات القدیمة تتفق علی أن النبی علیه السلام کان قد بنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 200
مسجدا بعد وصوله إلی المدینة فی الحال، ثم وسعه بعد فتح خیبر، کما تتفق علی أن مساکن أزواجه کانت قریبة من المسجد بحیث یکون من المحتمل جدا أن یکون بیت عائشة و ضریحه صلوات اللّه و سلامه علیه قد أدمج بالمسجد بعد ذلک. و یستفاد من بعض الآیات أن هناک مسجدا آخر کان قد بنی فی المدینة فی أیام النبی (ص)، لکن کیتانی یناقش هذا و یستنتج من کثیر من الأحادیث و الأقوال أن موقع المسجد الآخر هذا کان بیت النبی نفسه مع صحنه و عدد من المساکن الأخری. و إذا کان هذا صحیحا حقا فلا یعلم أحد من هو الذی بنی هذا المسجد. لکنه من المحتمل أنه کان قد شید بعد وفاة النبی بقلیل، لأن تبجیل النبی و تقدیره المتزاید ربما کان قد حدا بالمسلمین فی الحال إلی ربط مدفنه بشؤون التعبد و الدین. و لذلک یمکن أن یشار إلی هذا المسجد بکونه مسجد محمد الذی تذکره الروایات و الأحادیث.
و هو عبارة عن بنایة بسیطة من الآجر فیها أعمدة من جذوع النخل و سقف من أغصان الشجر. و تقول الروایات کذلک أن عمر بن الخطاب کان قد وسعه، کما وسعه عثمان من بعده و جدد بناءه فشیّده من الحجر و الجص، و جعل سقفه من خشب الساج. و حینما تعیّن مروان عاملا فی المدن شید فیه مقصورة من الحجر الملون، و لم یضف الیه شی‌ء آخر حتی حل عهد الولید الذی خول عامل المدینة عمر بن عبد العزیز الخلیفة بعد ذلک- بتزیین المبنی إلی حد الفخامة. فاستعان عمر فی هذا الشأن ببنّائین إغریق، و أقباط، و المقول أن امبراطور بیزنطة یومذاک قد تبرع بألف مثقال ذهب و مقدار کبیر من حجر الموزاییک لهذا الغرض. و قد أقیمت بهذه المناسبة أربع منارات فوق أرکان الحرم، و غطیت السقوف بصفائح الرصاص. و بقی الجامع علی حالته هذه من دون أن یطرأ علیه أی تبدیل إلی أیام الخلیفة المهدی. فبعد أن زار المدینة هذا الخلیفة أعید تشیید الجامع و وسعت مساحته فی سنة 162- 778- 79 فأصبح طوله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 201
ثلاث مئة ذراع و عرضه مئتی ذراع. و استدعی الأمر إعادة بنائه فی القرن التالی فتولی ذلک المتوکل فی 247- 861- 62.

وصف الحرام

و یقول بوهل فی دائرة المعارف الإسلامیة أن الجامع، أو الحرم الشریف، الذی جاء إلی الوجود علی هذه الشاکلة قد وصفه عدد من المؤرخین و الکتاب العرب فی مختلف العهود مثل ابن عبد ربه (328- 940)، و المقدسی (375- 985)، و ابن جبیر (581- 1182)، و یاقوت کذلک. و لا یمکننا أن نورد هنا من وصف هؤلاء المؤلفین إلا أشیاء قلیلة. فقد کان الشکل الذی حوفظ علیه باستمرار عبارة عن صحن مفتوح یغطی أرضه الرمل أو الحصباء و تحیط به من جهاته الأربع صفوف من الأعمدة. و فی القسم الشرقی من البهو الجنوبی ذی الأعمدة یوجد قدس الأقداس، أی قبر النبی الأعظم، مع قبری أبی بکر، و عمر و یصفه یاقوت بأنه مبنی عال یفصله عن سقف البهو ذی الأعمدة فراغ من فوقه فقط. أما بالنسبة لوضع القبور الثلاثة فقد کانت هناک آراء مختلفة فی أیامه. و تقول بعض الروایات أن قبر الزهراء البتول ابنة رسول اللّه یقع فی شمال القبور الثلاثة، بینما تنص روایات أخری علی أن قبرها المطهر موجود فی البقیع. و یحمل ذلک القسم من البهو ذی الأعمدة الواقع فی غرب هذه القبور المقدسة اسم «الروضة»، و هو الأسم الذی سمّاه به النبی علیه السلام. و المقول أن عدد الأعمدة فی البهو کان یبلغ مئتین و تسعین، و کانت الأعمدة فی الجهة الجنوبیة منه مزینة بأساطین من الجص، بینما کانت الأعمدة الباقیة من الرخام. یضاف إلی ذلک أن الجدران کانت مزینة بالرخام و الذهب و الموزاییک. و یمتد علی طول حدود الروضة الجنوبیة حاجز یقترن به عدد من الآثار المقدسة للغایة:
مثل بقایا جذع الشجرة التی کان یتکی‌ء علیها النبی محمد (ص)، و منبره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 202
علی الأخص. و قد رغب معاویة، علی ما تقول بعض الروایات، فی إزاحتها من مکانها لکن زلزلة عنیفة حصلت فی الحال، فعدل عن رأیه و رفعها بدلا من ذلک فی مبنی یعلو خمس درجات عن الأرض. و أراد الخلیفة المهدی بعد ذلک أن یزیل هذا الملحق فأقنع بالتخلی عن رأیه لأن المسامیر کانت قد دقت فی المنبر القدیم نفسه. و للمنبر ثمانی درجات علی ما ینص علیه الوصف، و کانت هناک قطعة من العاج فوق المقعد یستطیع الزوار لمسها. و کانت بقایا جذع الشجرة تقبل و تمسّد بالأیدی، و هذا تقلید لعادات العرب الدینیة القدیمة. و من نفائس الحرم الثمینة نسخة المدینة الأصلیة من القرآن التی أعدها الخلیفة عثمان. و للحرم الشریف تسعة عشر بابا، لم یکن یفتح منها غیر أربع: اثنان فی الجهة الشرقیة و اثنان فی الجهة الغربیة. و کانت هناک ثلاث منارات، اثنتان منها فی الجهة الشمالیة و واحدة فی الزاویة الجنوبیة.
و مع أن الحرم الشریف قد سلم من هزّة برکانیة وقعت فی سنة 654- 1256 فقد اشتعلت فیه النار خلال السنة نفسها لإهمال صدر من بعض الخدم فدمّر جزء منه. و قد بقی الطلب الذی قدم للحصول علی مساعدة خاصة لإعادة بنائه إلی خلیفة بغداد من دون جواب لأن الأسرة العباسیة الحاکمة کانت تترنح یومذاک قبیل سقوطها الذی تم بعد سنتین. و لم یرمم إلا السقف ترمیما موقتا فی السنة التی أعقبت سنة الحریق، و لم ترفع حتی الأنقاض من بین القبور المقدسة، و إنما بقیت علی وضعها مدة تزید علی قرنین.
هذا و کان عدد من سلاطین الممالیک قد أبدی شیئا من الاهتمام بالحرم المطهر، و منهم بیبرس الأول الذی یقول مجیر الدین (القاهرة 1283) انه وضع مشبکا حول قبر النبی و زین السقف من فوقه بینما بعث آخرون العمال و المواد للترمیم، و لا سیما المنصور قلاوون فی 678- 1279 الذی بعث من یعین موقع القبر و یبنی قبة من فوقه مغطاة بصفائح الرصاص.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 203
علی أن الأشرف سیف الدین قابتبای (1468- 1495) کان أول من اهتم اهتماما جدیا فعالا، فقوّض المنارة الرئیسیة الکائنة فی الرکن الجنوبی الشرقی و أعاد بناءها من جدید. و قد وقعت بالحرم الشریف نکبة عظیمة فی سنة 886- 1481 حینما هبت عاصفة هو جاء فی المدینة سقطت فی أثنائها صاعقة علیه فدمرت قسما منه، و بذلک تلفت خزانة الکتب بما کان فیها من مخطوطات القرآن الثمینة. و یصف السمهودی الذی أضاع خزانة کتبه هو بالمناسبة أیضا الحریق الذی حصل وصفا مسهبا. علی أن السلطان الهمیم أوفد عددا کبیرا من العمال و الآلات و المواد فأعید البناء إلی ما کان علیه فی 889- 1484، ثم وسعت القبة التی کانت تعلو الضریح المطهر. و قد أهدی الحرم کذلک حاجز المقصورة المصنوع من النحاس الأصفر. و أهدی السلطان إلی المدینة نفسها بالمناسبة حمامات، و قناة للماء، و طاحونة ماء، مع عدد کبیر من الکتب لتعویض ما احترق المدینة المنورة فی أواسط القرن التاسع عشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 204
من کتب الخزانة الموجودة فی الحرم الشریف. علی أن سوء الحظ لم یزایل المدینة المقدسة، ففی نهایة سنة 898- 1492 أصیب الحرم الشریف بصاعقة مدمرة أخری هدمت المنارة الرئیسیة فیه فأعید تشییدها. و قد اکتسب الحرم شکله الحالی بعد توسیعه من الجهة الشمالیة من قبل السلطان عبد المجید سنة 1270- 1853- 54، و کان الرحالة بورتون قد شاهد العمل فیه یومذاک قبل أن ینتهی. و تتضمن الکتابات الکثیرة المکتوبة فوق الجدران سورا قرآنیة مختلفة و أشعارا من نهج البردة.
و لا شک أن البقاع المجاورة لمدینة الرسول غنیة بالقصص و الأخبار التی تقترن بذکره علیه السلام. و أهم هذه کلها جبل أحد و قبور أبطال لمسلمین الذین وقعوا شهداء للعقیدة و الدفاع عن بیضة الإسلام هناک.
و یضاهی ذلک فی القدسیة قریة قبا التی نزل بها النبی محمد (ص) قبیل دخوله إلی المدینة عند هجرته الیها، و بقی فیها من یوم الاثنین إلی یوم الخمیس. و تقع هذه القریة التی کان یشغلها یومذاک بنو عمرو بن عوف علی بعد میلین عن المدینة علی ما یقول الرحالة بورخارت. و هناک توجد البقعة التی برکت فیها ناقة النبی (المبرک)، کما یوجد المسجد الذی تشیر الیه الآیة القرآنیة الکریمة و قد بنی من تبرعات الناس. و کان هذا المسجد و منارته البسیطة فی حالة خراب حینما شاهده الرحالة السویسری بورخارت (1815)، لکنه شید بعد ذلک بالحجر من جدید.

المدینة فی مراجع اخری

و هناک مراجع کثیرة أخری من المراجع الغربیة تتطرق إلی ذکر المدینة المنورة، و الحقیقة أن جمیع من یکتب عن نشأة الإسلام و تاریخه من الغربیین لا بد من أن یأتی علی ذکرها بشکل أو آخر، و معظم ما یذکر لا یخرج عن الحقائق التاریخیة المدونة فی جمیع کتب التاریخ.
لکننا سوف نقتبس هنا بعض ما کتب من هذا القبیل لما له من وجهة نظر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 205
خاصة، أو لما فیه من إشارة إلی بعض النقاط التی لم یذکرها الغیر.
فیقول المستر فانیس، المبشر الأمریکی الذی أقام سنین طویلة فی البصرة و اطلع علی أحوال المسلمین و تاریخهم، فی کتابه الموسوم «تعرّف علی العربی»: .. و علی بعد مئتین و خمسین میلا من شمالی مکة تقع المدینة، التی تأتی فی المرتبة الثانیة فی قدسیتها، لأن النبی قد دفن فیها. و تعد زیارتها خلال موسم الحج شیئا مستحبا و لیس إجباریا. و هی مدینة یسکنها ثلاثون ألفا من السکان، و تحتوی علی جامع کبیر توجد فی داخله غرفة القبر المقدس التی یحرسها بدقة العبید و الخصیان، و لا یمکن الدخول الیها. و قد دفن فیها النبی محمد (ص) نفسه، و ابنته فاطمة، و أبو بکر و عمر من خلفائه. و هناک بقعة خالیة عرف محمد (ص) أنه قال انها یجب أن تبقی کذلک حتی یعود عیسی إلی الأرض فیموت و یدفن فیها. فإن القرآن ینص علی أن عیسی صعد إلی السماء و لم یمت، و أن صلبه کان شیئا من تضلیل النظر .. و یقول فانیس فی مناسبة أخری (الص 30) عن الآیات القرآنیة الکریمة و نزولها أن تسعین من السور نزلت علی النبی فی مکة خلال مدة کفاحه للمشرکین من قریش، و هذه آیات ناریة بلیغة فی بیانها، تؤکد علی وحدانیة اللّه عز و جل و صفاته الحسنی و الواجبات الدینیة و جزاء الآخرة. أما السور الأربع و العشرون الباقیة فقد نزلت فی المدینة بعد أن هاجر النبی الیها، حیث أکمل رسالته و وصل إلی الأوج فی قیادته السیاسیة ..
و یقول جیرالد دیغوری فی کتابه «حکام مکة»: .. و قد قدر للاسلام فی المدینة أن یصبح دولة محاربة، و یستخدم سیف اللّه ببراعته و لم یکن هذا من رأی مؤسسه الأصلی، فقد کان و هو المکی المحجم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 206
عن سفک الدماء یأمل، قبل أن یمنعه النبلاء من التبشیر بدعوته، أن یستولی علی مکة بالطرق و الوسائل السلمیة. لکنه اضطر بعد أن هاجر إلی المدینة إلی إعداد الجیوش لصد هجمات المکیین التی کان یقودها قریب ثری من أقربائه، و هو أبو سفیان الصراف .. و یتطرق دیغوری کذلک (الص 81) إلی محاولة الصلیبیین الاستیلاء علی المدینة و العبث بقبر الرسول بقیادة رینو، مما کنا قد فصلناه فی بحثنا عن مکة المکرمة، فی الجزء المختص بها من أجزاء هذه السلسلة من (العتبات المقدسة). فقد هاجم الصلیبیون الحجاز من ساحل البحر الأحمر، و ظلوا یعیثون فسادا فیه حتی خفت الیهم الجیوش المصریة بقیادة الحاجب حسام الدین لؤلؤ الذی انتدبه الملک العادل، أخو صلاح الدین، لهذه المهمة و جهزه بأسطول نقل أجزاء سفنه من البحر الأبیض و شاهدها فی البحر الأحمر کما فعل الصلیبیون من قبل. و فی الهوارة استطاع المسلمون تدمیر السفن الصلیبیة تدمیرا تاما، لکن بحارتها حاولوا الالتحاق بالرتل الصلیبی الذی توغل فی طریقه إلی المدینة. و فی شعاب البادیة الکائنة علی بعد خمسة أیام من ساحل البحر و یوم واحد من المدینة هوجم الثلاث مئة محارب صلیبی فقضی علیهم قضاء مبرما. و من المئة و السبعین محاربا الذین نجوا من الموت و أسرهم المسلمون، نحر البعض فی منی کما تنحر الأضاحی و قتل بعض آخر فی المدینة نفسها. أما الباقون فقد أخذوا بأسر مذل إلی مصر و طیف بهم فی الشوارع قبل قتلهم علی ملأ من الناس من قبل الدراویش.
و یورد دیغوری فی بحثه أیضا وصف الرحالة المغربی ابن جبیر لأولئک الأسری و الوضع الذی رآهم فیه.
ثم یشرح دیغوری استیلاء الوهابیین علی مکة، و استسلام المدینة لهم فی ربیع 1804 (الص 187). و ینتقل بعد ذلک (الص 194) إلی تجرید الحملة المصریة بقیادة طوسون باشا بن الخدیوی محمد علی لإخراج الوهابیین من الحجاز سنة 1812. و هو یقول ان طوسون ارتأی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 207
ان یهاجم الوهابیین فی المدینة من ینبع فی ساحل البحر، الکائنة علی بعد ستة أیام منها. و کانت المدینة أقوی المدن الحجازیة بالتحصین. و لذلک بقی حامیة مناسبة فی ینبع و تقدم فی اتجاه المدینة فی کانون الثانی 1812، بعد مناوشات بسیطة دخل قریة بدر الکائنة فی مدخل الجبال التی یجب ان یخترقها قبل أن یسلک الطریق الذاهب إلی المدینة. ثم قصد الصفرة اشتبک مع قبائل حرب التی کانت منحازة إلی الوهابیین، ثم إلی الجدیدة مقر حرب الرئیس. و هنا اندحر طوسون بجیشه اللجب بکمین دبرته له قبائل حرب و الوهابیون بعد أن أبلی بلاء حسنا فی المعرکة فعاد إلی ینبع.
و یقول دیغوری ان انتصار سعود أمیر الوهابیین هذا وطّد مرکزه بین العشائر العربیة کلها حتی صار یجمع الخاوة من البدو القریبین من بغداد و دمشق و حلب کذلک.
و قد عاد سعود بعد هذا إلی الدرعیة حاسبا أن المدینة یمکنها أن تقاوم الجیش الغازی مدة طویلة من الزمن، و أن الأتراک لا بد من أن یرجعوا من حیث أتوا. لکنه کان مخطئا فی ذلک جد الخطأ، فقد وجد طوسون باشا نفسه خلال تشرین الأول 1812 قادرا علی أن یحاول محاولة ثانیة لإنقاذ المدینة من براثن الوهابیة. فنقل معسکره إلی بدر بعد أن دخل فی حلف مع البدو النازلین فی محیطها، ثم قاد أحمد بونابرت قسما کبیرا من جیشه و تقدم نحو المدینة بعد أن استولی علی ممر الجدیدة الذی شهد الاندحار السابق، حتی وصل إلی ضواحیها. و بعد مناوشات خفیفة مع الوهابیین دخل أحمد ضواحی المدینة نفسها و طرد منها الوهابیین الذین تراجعوا للتحصن فی القسم الأوسط منها، الذی کان علی جانب کبیر من المنعة. و فی خلال الحصار الذی استدام اسبوعین هاجم الوهابیون من الداخل الجیش المحاصر عدة مرات. و بعد أن نسفت فتحة کبیرة فی السور دخل الجیش الترکی (أو المصری) إلی المدینة و اشتبک فی معرکة رهیبة قتل فیها حوالی ألف وهابی فی الشوارع و الطرقات، و نهبت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 208
البلدة نفسها، بینما لم یقتل من الأتراک سوی خمسین. و کان أول الداخلین إلی مدینة الرسول، علی ما یقول دیغوری، رجل سکوتلاندی یدعی توماس کیث (الص 199) کان قد تطوع فی الجیش المصری باسم ابراهیم أغا. لکن ألفا و خمس مئة وهابی ظلوا محاصرین فی القلعة ثلاثة أسابیع، و لم تکن عند الأتراک مدفعیة قویة یمکنها أن تهدّ أسسها الصخریة. إلا أن القائد أحمد بونابارت تعهد للوهابیین المحاصرین بالنجاة بأنفسهم إذا ما استسلموا، فتم الاستسلام و رحلوا عائدین إلی نجد. و قد جمع هذا القائد جماجم الوهابیین الذین قتلوا فی المدینة و أنشأ منها نصبا تذکاریا فی مبدأ الطریق الذی یخرج من المدینة إلی ینبع، ثم وضع الحرس للمحافظة علیه. لکن سکان المدینة استطاعوا مع ذلک أن یمحوا هذا الأثر بالتدریج.
و فی هذه الأثناء وصل الخدیوی محمد علی نفسه إلی الحجاز لیعد العدة للقضاء علی الوهابیین فی عقر دارهم بعد أن یخرجهم منه. و بعد أن بقی مدة و جیزة فی مکة، و عین حسن باشا حاکما فیها، توجه إلی المدینة فوصلها علی دون انتظار فی 14 نیسان 1813 و فی حاشیته ثلاثون أو أربعون جندیا فقط یرکبون الأبل. و لا شک أنه جاء لیتبرک بزیارة القبر المطهر، و یطلع علی الوضع العسکری و تفاصیله.
أما المستر کلوب، الذی أنشأ الجیش العربی فی المملکة الأردنیة الهاشمیة و عاش فیها کما هو معروف مدة من الزمن، فیبحث بالتفصیل عن تاریخ المدینة المنورة و دورها فی نشأة الإسلام و ذلک فی کتابه البارع عن «فتوحات العرب الکبری ». فهو یعمد إلی وصف مدینة الرسول نفسها (الص 56) و یقول ان الوادی الذی تقع فیه المدینة کان یمتلی‌ء ببساتین النخیل النضرة و حقول الزرع الیانعة، التی تهدی‌ء أعین المسافرین الواصلین الیها أبدا و دوما بعد تعرضها لسطوع الشمس المعشیة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 209
فی البادیة. و تنتشر فی ذلک الوادی الفسیح منازل عدد من المجموعات القبلیة المختلفة التی تعیش کل منها فی قریتها المختصة بها المتألفة من الأبراج و البیوت الحصینة، المبنیة بالطین و الحجر. و بعد المرور ما بین صخور الجبال الجرداء المحرقة کان هذا الوادی یبدو مریحا مطمئنا یشعر الرائی بالهدوء و الخصب، و بالقناعة و السکون.
ثم یقول عند اختیار النبی (ص) للأرض التی بنی فیها مسجده الأول فی المدینة ان بستانا مهجورة من بساتین النخیل الکائنة فی وسط الواحة اشتریت بعد أیام معدودة من وصوله بمبلغ من المال یعود لأبی بکر الصدیق. و بدأ العمل بإنشاء مسجد و بیت لا یختلف کثیرا عن الکوخ لیسکن الرسول الأعظم فیه. فأخذ المهاجرون القادمون من مکة و أنصار المدینة یعملون و یکدون فی البناء و هم یغنون، و یقطعون اللبنات و الأحجار فیبنون بها الجدران، و علی رأسهم محمد (ص) نفسه. و کان من جملة ما تغنوا به قولهم:
اللهم لا عیش إلا عیش الآخرة اللهم ارحم الأنصار و المهاجرة
و یحلل المستر غلوب غزوات النبی و معارکه تحلیلا بارعا فی کثیر من الأحیان. و من جملة ما یقول فی موقعة الخندق و التجاء المسلمین إلی حفره (الص 84) أن الجمود العجیب فی التکنیک الحربی الذی کان یتبعه العرب یمکن أن یلاحظ من ارتباک قریش ارتباکا تاما حینما شاهدوا هذا التطور غیر المنتظر، و اعتبروه بکل ازدراء شیئا غیر مشرف و غیر متفق مع عرف العرب. و لم یفکروا و هم یخیمون فی خارج قطاع المدینة بشن هجوم عام علیها، مع أن عددهم کان ثلاثة أضعاف المقاتلین المسلمین. و علی ما هو معروف عند العرب من الاهتمام بالشجاعة الشخصیة فی الحرب بدلا من التکتیک المنتظم، هاجم أربعة من خیالة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 210
قریش الخندق نفسه فاجتازوه بقفزة واحدة لیصبحوا فی وسط المدافعین الذین أخذوا ینازلونهم علی انفراد. فانبری علی بن أبی طالب لهم کالمعتاد و قتل رئیسهم، و عند ذاک ولی الثلاثة الباقون الأدبار عبر الخندق ...
و باختفاء العدو و تراجعه فی طریق مکة، عاد محمد (ص) تعبا إلی بیته و شرع المسلمون بنزع السلاح عن أنفسهم. و علی حین غرة ظهر جبرائیل لرسول اللّه .. و أشار علیه فی آیة من آیات اللّه البینات أن لا یلقی السلاح، و أن یهاجم بنی قریظة الذین تآمروا علیه مع العدو. و عند ذاک دعا محمد (ص) المسلمین إلی حمل السلاح من جدید، و قادهم علی بن أبی طالب و هم ینشرون رایة الرسول الحربیة إلی منازل بنی قریظة آخر قبیلة یهودیة بقیت فی المدینة .. و کان وصول قوة کبیرة من مکة قد شجع بنی قریظة و أحیا فی نفوسهم الأمل فی الانتقام، فاتصلوا بقریش. لکن انسحاب قریش و تقهقرهم الفجائی جعل الیهود وجها لوجه أمام المسلمین الغاضبین .. و قد وافق محمد (ص) علی إحالة أمرهم إلی سعد بن معاذ شیخ الأوس، و حلیف الیهود الأسبق. و کان سعد من أوائل من اهتدی للإسلام من أهل المدینة، و قد حمل رایة قبیلته فی موقعة بدر الکبری.
و کان حینما أحیل الیه أمر البت فی جریمة بنی قریظة یکابد آلام الموت من سهم أصیب به فی أثناء الحصار. و ربما کان یعانی مرارة الخیبة کذلک فی موقفه ذاک بعد أن کان صدیق الیهود من قبل. و لهذا أصدر قراره یقتل کل رجل من رجال بنی قریظة، و سبی النساء و الأطفال، مع نهب ما یملکون. فرحب النبی بالحکم و اعتبره حکما عادلا، ثم أمر بتنفیذه .. و قبل التنفیذ عرض علیهم أن یعتنقوا الإسلام، فکان بوسعهم أن ینتقلوا من سویة المجرمین المحکوم علیهم إلی سویة المستولی علیهم بمجرد تردید جملة بسیطة، لکن قلیلا منهم فضل الاستفادة من هذه الفرصة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 211

الفتنة الکبری فی المدینة

علی أن من أهم ما یسهب به المستر غلوب من تاریخ المدینة المنوره فی صدر الإسلام، الفتنة الکبری التی أدت إلی مقتل الخلیفة عثمان (الص 297- 307). فهو یشید بمنزلة عثمان و شهرته حینما تولی الخلافة، و یذکر خدماته للإسلام، و لا سیما ما عمله فی جمع القرآن و یقول ان القرآن الکریم کان قد کتب فی خلافة عمر، لکن عددا من المتون ظهرت للوجود بعد ذلک فأمر عثمان بإعداد متن واحد و بذل جهده فی جمع المتون الأخری و إتلافها فی المدینة. ثم یقول ان الاستیلاء المتزاید الذی حصل فی أیام عثمان لم یکن موجها الیه شخصیا بقدر ما کان موجها إلی الحکام الذین عینهم فی الأمصار. و حینما اتهم بمحاباة الأقارب أجاب بأن اللّه عز و جل نفسه أمر بأن یکون «الأقربون أولی بالمعروف»، و ذهب إلی أبعد من ذلک فانتقد الشیخین لأنهما لم یراعیا الأقارب فی حکمهما .. و لا شک أن تجرد الکثیرین عن التقوی من مرشحی عثمان للحکم و ترکهم التمسک بأمور الدین بصورة علنیة، و کونهم کانوا هم و آباؤهم من أشد أعداء الرسول و مناوئیه، قد استفز الکثیرین من المسلمین المتدینین الأقحاح فی المدینة و مکة. فقد کان الصحابة لا یزالون کثیرین فی عددهم، و لا سیما من حارب منهم فی موقعتی بدر و أحد، أو من شهد صلح الحدیبیة. و لا ریب أن جمیع هؤلاء کان یسوؤهم جدا أن یتولی الحکم فی الإسلام أعداء النبی .. ثم یتطرق إلی معاملة عثمان لعبد اللّه بن مسعود و أبی ذر الغفاری، و یخرج من ذلک إلی القولی بأن الخلیفة عثمان مع کونه کان مستعدا لعزل الکثیرین من الحکام و القواد لأدنی بادرة استیاء تبدر من المسلمین تجاههم، فإنه لم تکن هناک قوة تستطیع التأثیر علیه لکی یعزل مرشحیه الأمویین.
و یتطرق بعد هذا إلی انتشار الفتنة فی الکوفة و استیاء الناس فیها من تصرف حاکمهم الأموی سعید بن العاص الذی قال فی خطبة له ذات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 212
یوم أن «السواد بستان قریش». کما یتطرق إلی نفی مالک الأشتر من الکوفة إلی الشام، و ما کان له من تأثیر فی الثورة علی هذا الحکم الفاسد الجائر. ثم یقول ان قادة الإسلام فی المدینة لم یدخروا وسعا فی تقدیم النصح و المشورة إلی الخلیفة، و مطالبته بالاستماع إلی ظلامات الناس و المبادرة إلی القضاء علی أسبابها أو بالعمل علی إطفاء الفتنة المتسعة بالقوة.
و یبدو أنهم قد یئسوا فی الأخیر من تردده، علی حد تعبیر دیغوری، فترکوه إلی مصیره. فقد انسحب من المیدان مجلس الشوری الذی انتخبه نفسه، و هم علی بن عم النبی، و الزبیر الذی تسلق أسوار حصن بابیلون، و طلحة بالإضافة إلی السیدة عائشة زوجة النبی. لکن عمرو بن العاص، فاتح مصر الذی عز له عثمان عن ولایة مصر لیعین أخاه فی الرضاعة بدلا منه (عبد اللّه بن أبی سرح)، کان منشغلا یومذاک بزرع بذور الفتنة و التذمر فی المدینة کذلک.
و حینما حج الخلیفة إلی مکة سنة 655، انتهز فرصة الحج و جمع ولاة الأمصار لیأخذ رأیهم فی تدنی الحالة و استیاء الناس فی کل مکان.
فأشار علیه ابن أبی سرح «جابی الضرائب» فی مصر بأن یستخدم المال المتکدس فی خزائنه لأن الناس تعشق المادة، و قال له معاویة إن الذنب ذنب الحکام أنفسهم، لکن والی البصرة الشاب عبد اللّه بن عامر أشار علیه بأن یسوق الجیوش للجهاد و الفتح لتبتعد عن الفتنة، و لا یتیسر الوقت الکافی للناس بالتفکیر فیها.
و بینما کان الولاة مجتمعین فی مکة وضع الثوار فی الکوفة و البصرة و الفسطاط خطتهم علی ما یقول غلوب، و نضجت ثورتهم، و فی أوائل سنة 656 بدأوا بزحفهم علی عاصمة الخلافة، و خیم کل فریق منهم علی حدة فی خارج المدینة. ثم بعثوا بنفر منهم لمفاوضة الإمام علی و الزبیر و طلحة، لکن قادة الرأی العام المسلم هؤلاء أنّبوا الثوار علی شغبهم و أعمالهم الاستفزازیة. علی أن علیا زار فی الوقت نفسه الخلیفة عثمان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 213
و طلب الیه عزل عبد اللّه بن أبی سرح من مصر، و بعثت السیدة عائشة الیه بالرأی نفسه أیضا. فوافق الخلیفة الشیخ علی ذلک و رجا مشیریه أن یرشحوا له والیا جدیدا لمصر.
ثم یقول غلوب انه من المؤسف أن یسجل بالمناسبة أن محمدا بن أبی بکر کان أحد قادة الفتنة فی مصر. و أن الفرق بین هذا المحرک العنیف الطموح و والده الصارم الودیع فی الوقت نفسه. و أخص أصحاب الرسول، لیدل علی الانحطاط الذی طرأ علی سلوک الجیل الإسلامی الجدید الذی نشأ فی وسط الترف و الثراء. و قد طلب ممثلو الجیش المصری تعیین هذا الشاب الطموح لیکون قائدا لهم فأذعن الخلیفة للطلب. ثم یتطرق غلوب إلی التطور الذی حصل بعد ذلک فأدی إلی رجوع الثوار إلی المدینة بعد أن بدا للجمیع أن العاصفة قد هدأت، و کان سبب الرجوع الرسالة التی عثر علیها بید خادم الخلیفة حول قتل محمد بن أبی بکر کما هو معروف ..
و یتابع قوله فیذکر أنه یبدو أن الإمام علیا علیه السلام کان یقوم بدور الوسیط بین الخلیفة و الثوار لتهدئة الفتنة و حسم الأمور بالحسنی، و لذلک ذهب الیه و أخبره بحقیقة ما جاء به الثوار من جدید، لکن الخلیفة أنکر بشدة معرفته بما حصل و وافق علی مواجهة وفد من الثوار أنفسهم. فبیّن له هؤلاء بأن العبد الذی کان یحمل الرسالة کان من عبیده، و أن الرسالة کانت مختومة بختمه. فاعترف الخلیفة بکل ذلک لکنه أقسم باللّه علی أنه لم یکتب الرسالة، و لم یأمر بکتابتها، کما لم یأمر بإنفاذ العبد. و لا یخفی أن الخلیفة کان محقا فی ذلک لأن الذی فعل کل شی‌ء و ورطه بالأمر کان قریبه مروان بن الحکم الذی لم یکن یفارقه فی تلک الأیام .. و حینما لجأ الثوار إلی العنف و طالبوا الخلیفة بالتنازل عن الخلافة وعدهم بالنظر فی ظلاماتهم لکنه رفض التنازل عن المنصب الذی رفعه الیه اللّه عز و جل. و عند ذاک اشتد أمر الثوار فانسحب الإمام علی عائدا إلی بیته.
ثم تطورت الحالة إلی حد الخطورة، لأن الثوار استطاعوا السیطرة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 214
هذه الأثناء علی قلب المدینة المنورة نفسها، و حاصروا بیت الخلیفة من کل جانب، کما امتلأ بهم مسجد الرسول ..
و مما یذکره غلوب فی هذا الشأن قوله ان معظم المؤرخین العرب یصدقون ما أقسم علیه عثمان و یبرئون ساحته من تهمة الرسالة و معرفته بها. کما أن کثیرا منهم یتهمون بها ابن عمه مروان بن الحکم الذی کان قد منحه حصة الحکومة من غنائم إفریقیة الشمالیة، لأنه کان یدخل علیه فی بیته علی الدوام و کثیرا ما کان یتخذه أمینا لسره .. و علی هذا فقد طالبه الثوار بتسلیم مروان الذی کان مختبئا فی دار الخلیفة نفسه لکن الخلیفة أبی أن یسلمه الیهم. أما سائر الأمویین فقد أفزعهم وضع الثوار و أخافهم، فتخلوا عنه فی وقت الشدة هذا و اختفی بعضهم فی مخابی‌ء مختلفة ثم فر بعضهم الآخر إلی دمشق لیحتموا بمعاویة.
و علی هذه الشاکلة أدت الفتنة إلی ما هو معروف فی کتب التاریخ عن قتل عثمان، و اضطراب أحوال المسلمین من جراء ذلک بعد أن اغتنم معاویة الفرصة لیجر المغنم له و لبنی أمیة. و مما یشیر الیه غلوب فی هذه المناسبة أن الخلیفة عثمان بعث یطلب الماء من الإمام علی علیه السلام حینما حوصرت داره، فبعث الیه الإمام بثلاث قرب ملأی به و لم یستطع عبید بنی هاشم إدخالها إلی الدار المحاصرة إلا بشق الأنفس. و أن محمد بن أبی بکر استنجد فی هذه الفتنة بعشیرته تیم حینما حوصرت دار الخلیفة، و أن علیا علیه السلام و طلحة، و عددا آخر من الصحابة، بعثوا بأبنائهم لیحرسوا دار الخلیفة و یذبون عنه الأذی .. و حینما اشتبک هؤلاء مع الثوار أصیب الإمام الحسن (ع) بعدة جروح حتی سالت منه الدماء فتغطی بها جسمه، و جرح کذلک محمد بن طلحة و مروان.
و بعد أن قتل الخلیفة بهذا الشکل المؤسف خف إلی داره الإمام علی و الزبیر و طلحة و أسفوا جد الأسف لما حدث، و وبخوا الثوار علی ما بدر منهم .. و یقول غلوب کذلک ان جثة الخلیفة القتیل ظلت مطروحة ثلاثة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 215
أیام فی بیته من دون أن یجرأ أحد علی نقلها لتدفن فی المقبرة. و فی مساء الیوم الثالث خرج موکب صغیر من الدار المشؤومة فی ظلمة اللیل المعتمة و هو یحمل جنازة الخلیفة علی الأکتاف، و کان الموکب یتألف من الإمام الحسن و الزبیر بن العوام و بعض أقارب الخلیفة و خدامه. و مع ذلک فقد علم الثوار بالأمر و أخذوا یرشقون الجنازة بالحجارة. و بهذا دفن أمیر المؤمنین فی قطعة صغیرة من الأرض تقع فی جوار المقبرة العامة الکائنة فی خارج المدینة.
و آخر ما یذکره غلوب عن هذه الفتنة، أنه یحلل شخصیة الخلیفة الثالث و مقدار نجاحه فی الحکم ثم یقول انه کان یعیش عیشة مترفة و یتقبل الهدایا، مع أن ترفه البدائی کان شیئا لا یمکن أن یقارن بترف ملوک بیزنطة و المدائن بطبیعة الحال. و مع هذا فقد کان النبی علیه السلام و الشیخان من بعده یزهدون فی مباهج الدنیا و عرضها الزائل و یمشون حفاة بین الناس و علیهم اللباس الصوفی الخشن، حتی بعد أن کانوا قابضین علی السلطة السیاسیة بأیدیهم .. و قد کانت أیام عثمان أیاما صعبة، و کانت استمراریة النصر الإسلامی المؤزر قد دبّ دبیب البطء فیها، و أخذت حرارة الحماسة الدینیة المتطرفة تخف و تبرد. و لکن عثمان لو کان عمرا آخر لاستطاع أن یقف فی وجه العاصفة.

المدینة فی کتاب دونالدسون

و لقد أفرد الدکتور دونالدسون فی کتابه «عقیدة الشیعة» الذی سبقت الإشارة الیه مرات عدیدة فی أجزاء هذه المجموعة السابقة فصلا خاصا عن المدینة المنورة بعنوان «مدینة الرسول و آل بیته». و یستهل هذا الفصل بقوله ان المدینة بلدة صغیرة یقدر اتساعها بنصف اتساع مکة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 216
المکرمة، لکنها أخصب من مکة فی أرضها. ففیها میاه جاریة و بساتین للنخیل تجود بأحسن أنواع التمور، و منها تمور البردی و العوجة التی لا یزرع أحسن منها فی سائر البلاد. و معظم سکانها سمر البشرة، و أکثرهم یشتغل بالتجارة.
ثم یورد دونالدسون أشیاء کثیرة عن فضل المدن و قدسیتها، و ینقل روایات و أحادیث عدة فی هذا الشان عن «نزهة القلوب» للمستوفی.
و یقول بعد ذلک أن المستوفی الذی کتب کثیرا عن المدینة فی القرن الرابع عشر للمیلاد لم یذکر شیئا عن الحالة المؤسفة التی کان علیها قبر النبی المطهر فی ذلک الوقت، و ما قبله بقرن واحد. فمنذ أن شبت النار فی الحرم النبوی الشریف سنة 1256 م فهدمت معظمه تقریبا بقیت الأنقاض علی حالها ذاک مدة تزید علی القرنین. و فی الأخیر عین السلطان المنصور قلاوون موقع القبر الشریف بقبة مغطاة بصفائح الرصاص، و کان ذلک فی السنة 1279 میلادیة. و فی 1481 انقضت علی هذا البناء المتواضع صاعقة من السماء فأحرقت ما فیه، و لا سیما خزانة الکتب و ما کان فیها من مخطوطات ثمینة للقرآن الکریم. فأعید بناء الحرم هذا علی أحسن وجه سنة 1484 فوسعت القبة، و أقیم سیاج من النحاس الأصفر حولها.
و فی عهد الأسرة الصفویة المالکة فی إیران (1502- 1736) حدثت حروب عدیدة متطاولة بین إیران و ترکیة فأصبح من الصعب جدا علی الحجاج الشیعة الحج إلی بیت اللّه الحرام و زیارة الحرم النبوی الشریف فی المدینة. ثم یقول دونالدسون (الص 143) ان الشاه عباس و غیره من ملوک الصفویین هم الذین کانوا یضعون العراقیل فی هذا الشأن من أجل تشجیع المشاهد و المزارات الموجودة فی داخل الحدود الإیرانیة، لیعملوا علی الاحتفاظ بالمبالغ الکبیرة من المال التی کان زوار إیران و حجاجها قد تعودوا علی صرفها فی الخارج.
و ما انتهی القرن الثامن عشر للمیلاد حتی کان الأتراک قد استولوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 217
علی العراق و الحجاز استیلاء تاما، و أصبح السلطان الترکی الخلیفة المعترف به فی العالم الإسلامی کله عدا إیران. و عند ذاک صارت المدن و العتبات المقدسة تدار علی أسس مالیة و اقتصادیة، و عادت حرکة الزیارة و الحج إلی الازدهار فأخذت الألوف المؤلفة من الناس تقصد العتبات المقدسة فی النجف و کربلا و بغداد و سامراء من إیران للتبرک بالأضرحة المطهرة، و ترتجی شفاعة الأئمة الثاوین فیها. و صار الذین یقصدون مکة للحج من هؤلاء یهتمون اهتماما خاصا بزیارة المدینة المنورة للصلاة فی الحرم النبوی الشریف الموجود فیها، و التبرک بزیارة قبر الزهراء البتول و قبور الأئمة المعصومین الحسن، و زین العابدین، و محمد الباقر، و جعفر الصادق.
و کانت حرکة الحجاج و الزوار هذه تعود بالنفع الکبیر علی الحکومة الترکیة و سکان البلاد المقدسة، غیر أن قدوم آلاف المسلمین من جمیع أنحاء العالم سعیا فی طلب الشفاعة من نبیهم المتوفی و الأئمة من أبنائه کان یستثیر حنق القبائل الوهابیة القویة فی الحجاز و غیره، فاضطلعت بدور المصلح الدینی و أعلنت أن مثل هذا التعبد یعتبر شیئا محرما حتی إذا کان بالقرب من قبر النبی نفسه. فهاجمت المدینة فی سنة 1804، و نهبت ما فیها من خزائن و نفائس، ثم منعت زیارة قبر الرسول. لکنهم لم یتوفقوا فی تهدیم القبة المقامة فوق القبر المطهر.
و حینما استعاد الأتراک سیطرتهم علی البلاد المقدسة فی 1818 اتخذ السلطان عبد المجید العثمانی التدابیر اللازمة لإعادة تعمیر الحرم النبوی الشریف فی المدینة. و کان هذا التعمیر قائما علی قدم و ساق ما بین سنتی 1848 و 1860، فکلف مبلغا یناهز السبع مئة ألف باون استرلینی، لکن المعتقد عند البعض أن هذا المبلغ تدخل فیه قیمة الجواهر التی أودعها السلطان فی الروضة المقدسة. و هذا هو شکل الحرم الذی ظل قائما حتی السنین الأخیرة، فوصفه الرحالة بورتون (1853) کما سیتضح مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 218
سنورده بعد هذا، و ویقل (1908)، و البتنونی (1910)، ورتر (1928) الذی سنشیر الیه بعد هذا أیضا.
و بقیت مکة و المدینة تابعتین إلی الدولة الترکیة حتی سنة 1918، حین تنازلت عنهما إلی الشریف حسین ملک الحجاز بمقتضی شروط الصلح التی انتهت بموجبها الحرب العالمیة الأولی. لکن الملک حسینا لم یستطع المحافظة علی سیطرته فی البلاد، و ظهر الوهابیون علی مسرح الحوادث من جدید فاستولوا علی مکة و المدینة و یقول دونالدسون فخیم الحزن و الأسی علی الکثیر من البلاد الإسلامیة خوفا من أن یؤدی ذلک إلی إقدام الوهابیین علی العبث بمقدساتهم، و یحق لهذه البلاد أن تفزع لهذا الخبر لأن الوهابیین یعتقدون أن زیارة القبور تعتبر نوعا من أنواع الشرک. علی أن استیلاءهم علی المدینة لم یکن ینطوی علی الخطر المأمول بالنسبة لقبر النبی نفسه. فقد کان علماء الدین الوهابیون تواقین إلی تهدیم القبة، و إعادة بناء الحرم الشریف من دون إدخال القبر فیه، لکن ابن سعود استعمل دهاءه السیاسی للحیلولة دون ذلک، لئلا یثیر علیه عداء العالم الإسلامی کله. و بذلک سلم قبر الرسول الأعظم من العبث، لکن حماسة الوهابیین الدینیة سمح لها بأن تمارس ما ترید من العنف فی تخریب الأضرحة و القبور الموجودة فی البقیع.
و خیر من وصف البقیع بعد أن خربه الوهابیون و عاثوا فسادا فیه من الغربیین ایلدون رتر الذی زار البلاد الحجازیة فی 1925. و سوف نورد وصفه هذا فیما بعد. ثم یتابع دونالدسون حدیثه عن المدینة فی فصله الخاص و یقول ان هذا العبث بالأضرحة المقدسة یمکن أن نقف علی عقیدة الشیعی المخلص فیه مما کتبه المستوفی عن مقبرة البقیع قبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 219
الوهابیین بمدة غیر یسیرة. فهو یقول ان مقبرة المدینة المسماة بالبقیع تقع فی الجهة الغربیة من المدینة، و فیها یشاهد قبر ابراهیم نجل النبی الأوحد، و قبور بناته کذلک. و قد دفن الخلیفة عثمان فیها أیضا. و دفن فیها کذلک أمیر المؤمنین الحسن، و العباس عم النبی، و الأئمة المطهرون زین العابدین، و محمد الباقر، و جعفر الصادق سلام اللّه علیهم أجمعین. و یورد دونالدسون کذلک نصا عن البقیع من رحلة ابن جبیر الرحالة المغربی المعروف. و الیک النص الأصلی الوارد فی الرحلة هذه بعنوان «ذکر المشاهد المکرمة التی ببقیع الغرقد و صفح جبل أحد »:
... فأول ما نذکر من ذلک مسجد حمزة رضی اللّه عنه، و هو بقبلی الجبل المذکور، و الجبل جوفیّ المدینة، و هو علی مقدار ثلاثة أمیال.
و علی قبره رضی اللّه عنه مسجد مبن. و القبر برحبة جوفی المسجد، و الشهداء رضی اللّه عنهم بأزائه. و الغار الذی آوی الیه النبی (ص) بأزاء الشهداء أسفل الجبل. و حول الشهداء تربة حمراء، هی التربة التی تنسب إلی حمزة، و یتبرک الناس بها.
و بقیع الغرقد شرقی المدینة، تخرج الیه علی باب یعرف بباب البقیع، و أول ما تلقی عن یسارک عند خروجک من الباب المذکور مشهد صفیة عمة النبی (ص)، أم الزبیر بن العوام رضی اللّه عنه. و أمام هذه التربة قبر مالک بن أنس الإمام المدنی، و علیه قبة صغیرة مختصرة البناء. و أمامه قبر السلالة الطاهرة، ابراهیم ابن النبی (ص) و علیه قبة بیضاء. و علی الیمین منها تربة ابن لعمر بن الخطاب رضی اللّه عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط، و هو المعروف بأبی شحمة، الذی جلده أبوه الحد فمرض و مات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 220
و بأزائه قبر عقیل بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و عبد اللّه بن جعفر الطیار رضی اللّه عنه و بأزائهم روضة فیها أزواج النبی (ص).
و بأزائها روضة صغیرة فیها ثلاثة من أولاد النبی (ص). و تلیها روضة العباس بن عبد المطلب و الحسن بن علی رضی اللّه عنهما و هی قبة مرتفعة فی الهواء، علی مقربة من باب البقیع المذکور، و عن یمین الخارج منه، و قبراهما مرتفعان عن الأرض، متسعان مغشیان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصعة بصفائح الصفر و مکوکبة بمسامیره علی أبدع صفة و أجمل منظر و علی هذا الشکل قبر ابراهیم ابن النبی (ص). و یلی هذه القبة العباسیة بیت ینسب لفاطمة بنت الرسول (ص)، و یعرف ببیت الحزن، یقال انه الذی آوت الیه و التزمت فیه الحزن علی موت أبیها المصطفی (ص). و فی آخر البقیع قبر عثمان الشهید المظلوم، ذی النورین و علیه قبة صغیرة مختصرة. و علی مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علی رضی اللّه عنهما. و مشاهد هذا البقیع أکثر من أن تحصی لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرین و الأنصار رضی اللّه عنهم أجمعین.
و علی قبر فاطمة المذکورة مکتوب «ما ضم قبر أحد کفاطمة بنت أسد» رضی اللّه عنها و عن بنیها.
و یبحث دونالدسون فی کتابه (الص 147) عن أهمیة زیارة المدینة من الناحیة الدینیة، فینقل اخلال ذلک أقوالا کثیرة من کتب الشیعة، و أخصها کتاب «تحفة الزائرین» للملا محمد باقر المجلسی (1699 م) فیقول مثلا ان عددا من الأئمة المعصومین الأثنی عشر یروی عن النبی أنه قال «من زارنی حیا أو میتا کنت له شفیعا یوم القیامة». و روی عند کذلک أنه قال «من زارنی غفرت ذنوبه و لم یصب بالفقر و الفاقة».
و یتطرق دونالدسون کذلک (الص 148) إلی کیفیة زیارة الحرم الشریف، و المراسیم التی یجب أن یقوم بها الحاج عند دخوله الیها. و قد رأیت من المناسب أن أورد هنا النص الذی جاء فی «مفاتیح الجنان»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 221
للشیخ عباس القمی (الص 315) لأنه یطابق ما یذکره دونالدسون فی الغالب:
... فإذا وردت إن شاء اللّه تعالی مدینة النبی فاغتسل للزیارة، فإذا أردت دخول مسجده فقف علی الباب و استأذن بالاستئذان الأول، و ادخل من باب جبرائیل و قدم رجلک الیمنی عند الدخول، ثم قل:
اللّه أکبر مئة مرة ثم صل رکعتین تحیة المسجد، ثم امض إلی الحجرة الشریفة فإذا بلغتها فاستلمها بیدک و قبلها، و قل السلام علیک یا رسول اللّه .. ثم قف عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأیمن مستقبل القبلة و منکبک الأیسر إلی جانب القبر و منکبک الأیمن مما یلی المنبر فأنه موضع رأس النبی (ص) و قل أشهد أن لا اله إلا اللّه وحده لا شریک له ...
فإن کانت لک حاجة فاجعل القبر الطاهر خلف کتفیک و استقبل القبلة و ارفع یدک و سل حاجتک فإنه أحری أن تقضی إن شاء اللّه تعالی .. و قال الشیخ فی المصباح فإذا فرغت من الدعاء عند القبر فأت المنبر و امسحه بیدک و خذ برمانتیه و هما السفلاوان و امسح وجهک و عینیک به و قم عنده و احمد اللّه و أثن علیه و سل حاجتک فإن رسول اللّه (ص) قال: ما بین قبری و منبری روضة من ریاض الجنة، و منبری علی باب من أبواب الجنة .. ثم تأتی مقام النبی (ص) فتصلی فیه ما بدا لک، و أکثر من الصلاة فی مسجد النبی (ص) فإن الصلاة فیه بألف صلاة .. و صل فی بیت فاطمة علیها السلام، و أت مقام جبرائیل و هو تحت المیزاب فإنه کان مقامه إذا استأذن علی رسول اللّه .. ثم زر قبر فاطمة من عند الروضة، و قد اختلف فی موضع قبرها فقال قوم هی مدفونة فی الروضة أی ما بین القبر و المنبر و قال آخرون فی بیتها، و قالت فرقة ثالثة انها مدفونة بالبقیع، و الذی علیه أکثر أصحابنا أنها تزار عند الروضة و من زارها فی هذه الثلاثة مواضع کان أفضل ...
و یذکر دونالدسون (الص 151) بالأضافة إلی ذلک أن هناک عمودا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 222
أدخل فی المسجد یقال انه یحتوی علی جزء من النخلة التی کان یتکی‌ء علیها النبی حینما کان یجلس للوعظ، قبل بناء المسجد .. و یقول دونالدسون و هناک تعلیمات أخری عن زیارة البقیع و أدعیة تتلی علی قبر فاطمة، و الحسن، و زین العابدین، و محمد الباقر، و جعفر الصادق علیهم السلام .. لکن الحاج الذی یزور البقیع الیوم لا یجد أیة قباب مذهبة و لا قبورا مزینة، فإن البقعة جمیعها، و المکان الذی یثوی فیه مثل هذا العدد من آل بیت النبی مصطفی، قد أصبحت قفرا مهجررا ..

أئمة البقیع

و لا یخفی أن ذکر الأئمة المطهرین الذین دفنوا فی البقیع بالمدینة، أی الحسن، و زین العابدین، و الباقر، و الصادق علیهم السلام، یرد فی معظم المراجع الغربیة التی تبحث فی تاریخ المسلمین و عقائدهم مثل دائرة المعارف الإسلامیة و غیرها. لکن أهم من یکتب عنهم بشی‌ء من التفصیل هو الدکتور دونالدسون فی کتابه عقیدة الشیعة. فهو یخصص فصلا واحدا من کتابه لکل أمام من الأئمة الاثنی عشر المعصومین، و منهم أئمة البقیع سلام اللّه علیهم. و مع أن ما یکتبه عنهم فیه الکثیر من التجنی و الخبث الذی یؤمل صدوره من مبشر مسیحی مثل دونالدسون، إلا أنه یذکر أشیاء تستحق الإشارة و التدوین.
و یستهل بحثه عن الأمام الحسن بقوله انه نودی به خلیفة للمسلمین فی الکوفة بعد وفاة والده الأمام علی بیومین، و کان ذلک فی شهر رمضان سنة أربعین للهجرة. فبعث برسله و وکلائه إلی السواد و الجبل، و قتل المجرم عبد الرحمن بن ملجم .. و بعد أن یناقش دونالدسون حق الحسن فی تولی الخلافة بعد أبیه یقول ان الإمام علیا سلّم إلی الحسن قبیل وفاته بحضور آل البیت و رجال الشیعة المعروفین، الکتب السریة و سلاحه.
ثم خاطبه یقول: یا بنی أمرنی رسول اللّه أن أوصی الیک و أن أدفع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 223
کتبی و سلاحی، کما أوصی إلی رسول اللّه (ص) و دفع کتبه و سلاحه إلی، و أمرنی أن آمرک إذا حضرک الموت أن ندفعها إلی أخیک الحسین.
ثم أقبل علی ابنه الحسین فقال: و أمرک رسول اللّه أن تدفعها إلی ابنک هذا، ثم أخذ بید علی بن الحسین ثم قال له و أمرک رسول اللّه أن تدفعها إلی ابنک محمد بن علی و اقرأه من رسول اللّه (ص) و منی السلام ...
و یروی أن علیا دعا الحسن و سماه «ولی الأمر» و کذلک «ولی الدم»، أی أنه ترک له أمر الثأر لدمه و الاقتصاص من القاتل.
ثم یتطرق إلی التطورات التی حصلت بعد ذلک فأدت إلی تنازل الإمام الحسن عن الخلافة إلی معاویة، و ینقل فی ذلک عن الدینوری فی أخباره الطوال و عن الیعقوبی فی تاریخه المعروف. و یقول بعد هذا نقلا عن السیوطی ان تنازل الأمام کان مشروطا بعودة الخلافة له بعد معاویة و یتابع دونالدسون بحثه هذا فیذکر أن طول المدة التی تولی فیها الحسن الخلافة بعد أبیه غیر أکید. إذ یقول المسعودی انها کانت ستة أشهر و ثلاثة أیام، و ان الحسن أول خلیفة تخلی عن سلطته لغیره. غیر أن المتفق علیه عند الشیعة أن خلافته کانت عشرة أعوام و ستة أشهر، و أن أربعة عشر شهرا منها مارس فیها شؤون الخلافة بالفعل، ثم فوض أمرها إلی معاویة لمدة تسع سنین و أربعة أشهر علی سبیل الاضطرار و التقیة و حقنا لدماء أتباعه و محافظة علی أموالهم و أسرهم من جور معاویة و ظلمه. أما الفرق بین الأشهر الستة التی یذکرها المسعودی و الأربعة عشر شهرا المشار الیها فتفسر بالحادث الذی بایعت فیه المدینة المنورة الأمام الحسن فی خلافة والده الذی نازعه فیها معاویة بحیث جرد جیشا علی المدینتین المقدستین بقیادة بسر لأخذ البیعة له، و کانت مکة قد بایعت الأمام علیا و بادرت المدینة إلی مبایعة ابنه الحسن. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 224
و یذکر بعد ذلک أنه بینما کان الأمام علی قد ولد فی الکعبة نفسها، فقد ولد ابنه الحسن فی المدینة أی فی بیت علی و فاطمة علیهما السلام و هو البیت الوحید الذی سمح جبرائیل بأن یکون له باب مطل علی صحن المسجد النبوی الشریف. و یتعرض دونالدسون بعد هذا إلی حیاة الأمام الخاصة (الص 74) و سیرته فیذکر روایات و آراء تدل علی جهله الفاضح بالتاریخ الأسلامی و تحامله الذی لا یستبعد صدوره من مبشر یتطفل علی البحث فی مثل هذه المواضیع. و من المؤسف أن یضیق المجال لمناقشته هنا و تفنید أوهامه و آرائه الخاطئة. ثم یختم فصله عن الأمام المجتبی بالأشارة إلی وفاته فیقول انه علیه السلام قد توفی مسموما بعد محاولات عدة بذلت من أجل ذلک. فقد حاول أعداؤه أن یدسوا له السم فی طعامه عن طریق خادم له یقدم الطعام فاکتشف أمره، و حاولت زوجته جعدة بنت الأشعث الکندی ثلاث محاولات متتالیة أن تسمّه بعد أن أغراها مروان علی ذلک باسم معاویة و وعدها بأن یزوجها یزید بن معاویة إذا ما توفقت فی قتله. و کانت أول محاولة لها أنها دست له السم فی العسل فمرض علی أثر ذلک مرضا شدیدا لکنه تغلب علی الجرعة غیر القاتلة و حصر شکّه فیها. و لهذا صار یراقبها بحذر لکنها استطاعت أن تدسّ له السمّ الزعاف مرة ثانیة فی بضع تمرات ناضجة فسقط مریضا تنتابه الآلام الفظیعة، غیر أنه استطاع فی هذه المرة أیضا أن یتغلب علی السم و تعود الیه صحته بالتدریج.
و من الغریب أن یذکر دونالدسون أن أعصاب الأمام علیه السلام قد انهدت فی هذه المرة، و شکا لأصحابه من أسقامه و آلامه، فقرر الرحیل إلی الموصل لیبتعد عن زوجته الخائنة. غیر أنه وجد هناک رجلا أعمی ظل یتربص به الفرص لیدس له السم بطریقة أخری أیضا. و لعل دسائس معاویة، الذی کان یهمه أن یقضی علی الأمام لیتخلص من الشروط التی اشترطها علیه، ظلت تلاحقه إلی کل مکان یذهب الیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 225
و لهذا لم یجد الحسن علیه السلام هدوء البال الذی کان یبتغیه فی الموصل فعاد إلی المدینة من جدید، و فیها قرر الابتعاد عن زوجته جعدة و بذل أقصی ما یمکن من الحذر فی مأکله و مشربه. لکن الخائنة استطاعت أن تتسلل إلی مخدعه فی لیلة من اللیالی و هی تحمل سما قاتلا مزج بمسحوق الماس، و بینما کان یغط فی نومه وضعت السم فی إناء من الماء کان موضوعا بجنبه. و ما أن شرب جرعة منه فی الیوم الثانی حتی خر صریعا فی الحال و هو یلفظ قطعا من کبده إلی الخارج، حتی قضی نحبه ...
و تقول الروایة انه أوصی أن یدفن إلی جنب جده النبی صلوات اللّه و سلامه علیه، و إذا ما حالت دون ذلک الحوائل، أن یدفن إلی جنب أمه الزهراء فی البقیع فتم له ذلک.
و لما لم نجد ذکرا للمرجع الذی استند الیه دونالدسون فی الروایة الأخیرة وجدنا من المناسب أن ننقل هنا روایة المسعودی فی هذا الشأن.
فقد جاء فی الجزء الثانی (الص 427) قوله حدثنا جعفر عن محمد أبیه، عن جده الحسین بن علی بن أبی طالب رضی اللّه عنهم، قال: دخل الحسین علی عمی الحسن بن علی لما سقی السم، فقام لحاجة الأنسان ثم رجع، فقال: لقد سقیت السم عدة مرات فما سقیت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من کبدی فرأیتنی أقلبه بعود فی یدی، فقال له الحسین:
یا أخی من سقاک؟ قال و ما ترید بذلک؟ فإن کان الذی أظنه فاللّه حسیبه، و إن کان غیره فما أحب أن یؤخذ بی بری‌ء، فلم یلبث بعد ذلک إلا ثلاثا حتی توفی رضی اللّه عنه.
و ذکر أن امرأته جعدة بنت الأشعث بن قیس الکندی سقته السم، و قد کان معاویة دس الیها: انک ان احتلت فی قتل الحسن وجهت الیک بمئة ألف درهم، و زوّجتک من یزید، فکان ذلک الذی بعثها علی سمه، فلما مات و فی معاویة لها بالمال، و أرسل الیها: أنا نحب حیاة یزید،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 226
و لو لا ذلک لوفینا لک بتزویجه. و فی جعدة یقول النجاشی فی شعر طویل:
جعدة بکیّه و لا تسأمی‌بعد بکاء المعول الثاکل
لم یسبل الستر علی مثله‌فی الأرض من حاف و من ناعل
کان إذا شبت له ناره‌یرفعها بالسند الغاتل
کیما یراها بائس مرمل‌و فرد قوم لیس بالآهل
و قال آخر:
تأسّ فکم لک من سلوةتفرج عنک غلیل الحزن
بموت النبی، و قتل الوصی‌و قتل الحسین و سمّ الحسن
و فی الفصل المخصص للأمام زین العابدین علیه السلام (الفصل 9 الص 101) یبدأ دونالدسون بالبحث عن انقسام الشیعة فی تولی الأمامة بعد الحسین إلی کیسانیة یرجحون محمدا ابن الحنفیة، و إمامیة یتمسکون بوصیة الأمام الشهید لابنه علی زین العابدین. ثم یذکر أن زین العابدین، الذی یسمیه علیا الأصغر، کان أحد خمسة نجوا من القتل فی مجزرة کربلا الفظیعة من أسرة الحسین و هم: عمته زینب و أخوه عمر و أختاه، و هو نفسه. و کان علیه السلام لا یقل عمره عن ثلاث و عشرین سنة حینما استشهد والده فی حومة الشرف و المجد، و لم یسهم فی القتال لأنه کان مریضا و من أجل هذا أنقذ حیاته عمر بن سعد. و یصفه الدینوری بأنه کان مراهقا یومذاک، و کان أخوه عمر لا یتجاوز الرابعة من عمره. ثم یورد دونالدسون روایة الدینوری فی أخباره الطوال عن سبی الأسرة الحسینیة و حمل الرؤوس إلی عبید اللّه بن زیاد، و إلی یزید فی دمشق. و یقول ان الخمسة الذین نجوا من القتل الأثیم سمح لهم فی دمشق بأن یعودوا إلی موطنهم فی المدینة، و هناک رووا للناس أوجه النکبة التی حلت فی کربلا.
و کانت دعایة خطرة هیأت الجو للقیام فی وجه الأمویین و جورهم، بعد أن سفکوا دماء آل البیت الزکیة .. و قد اغتنم هذه الفرصة عبد اللّه بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 227
الزبیر، و کان یومذاک، فی أوائل الستینات من عمره، و کان انتهازیا، طموحا بشکل أنانی، برغم ما کان عنده من قابلیة للقیادة و التزعم ..
و یذکر أنه کان علی خلاف الباقین قد شجع الأمام الحسین علی الذهاب إلی الکوفة لغرض فی نفسه، لأنه عرف مقدما أن الحسین (ع) سیخونه أهل الکوفة و یقتلونه، و أن الجو سیخلو له بعد ذلک فتسنح الفرصة الکبیرة للثورة .. و حینما ثارت ثائرة أهل المدینة لسماعهم بتلک الأنباء المفجعة و الفظائع المخزیة التی ارتکبها الأمویون جمعهم عبد اللّه بن الزبیر فی المسجد الکبیر، و أکد علی خیانة أهل الکوفة حین خطب بهم، فأدی ذلک إلی مناداة أهل المدینة، و أهالی مکة من بعدهم، به خلیفة علیهم.
و بهذا اتفقت المدینتان المقدستان علی الثورة فی وجه یزید، و تعین فی کل منهما رجل للقیادة. لکن عبد اللّه جعل مقرّه فی مکة وراح یهیج سکان الجزیرة العربیة کلها ضد الأمویین. لکن مسلم بن عقبة جرد من دمشق فی الحال سنة 63 ه علی رأس حملة تأدیبیة ضد المدینة و مکة.
و یبدو أن هذه الحملة (واقعة الحرة) کانت علی شکل غزوة سریعة لأن ابن الزبیر لم یعرف اندحاره فیها، بینما تذکر التواریخ أن عددا من قادة الثورة قد قتلوا فیها و أن سکان المدینة قد تعرضوا لأسوأ أنواع العنف و الأباحة، و انتهکت قدسیة الحرم النبوی الشریف. و بعد ثلاثة أیام من التهدیم و سفک الدماء جلس مسلم بن عقبة فی دیوانه الرسمی لیتقبل طاعة الذین سلموا من القتل من أهالی المدینة لیزید، و تقدیم عبودیتهم له. و کان بین الذین جی‌ء بهم الیه الأمام زین العابدین علیه السلام، لکنه احتفی به علی ما یروی و أجلسه بقربه ثم قال له ان یزید أوصاه به خیرا.
... و عند ذاک کان أهل الکوفة قد شعروا بالتقصیر الذی بدر منهم تجاه الحسین الشهید، فلم یرضوا بمروان الذی تولی بعد هلاک یزید و لا بابن الزبیر الذی کان معتصما فی مکة. فاجتمعوا بینهم و انتخبوا خمسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 228
منهم، و هؤلاء تداولوا مع سلیمان بن صرد الخزاعی، و قرروا بأن أول ما یجب علیهم أن یفعلوه هو أن یتوبوا إلی اللّه عما بدر منهم فی خذل الأمام الحسین و القعود عن نصرته، فسموا ب «التوابین»، ثم اتفقوا علی تطهیر الأرض من قتلة أهل البیت، و تعیین الأمام زین العابدین خلیفة للمسلمین ... و بعد أن تطورت الأحداث ظهر المختار بن أبی عبید فی الکوفة مدعیا بأنه یمثل الأمام زین العابدین الذی کان ما یزال باقیا فی المدینة .. و حینما قضی ابن الزبیر علی المختار لم یتعرض للأمام علیه السلام لأنه کان علی علم بعدم وجود صلة للمختار به. و کان الأمام قد تسلم معروضات خاصة منه قبل هذا لکنه ترفع عن الرد علیها، و کان یشجب أعماله علی ملأ من الناس فی مسجد النبی.
ثم یتطرق دونالدسون (الص 107) إلی قصة الأمام زین العابدین مع عمه محمد ابن الحنفیة أیضا، فیقول ان قضیة الاختلاف فی تولی الأمامة بین محمد ابن الحنفیة و زین العابدین کانت من قضایا الساعة الحیویة خلال فترة الاضطراب التی رافقت حرکة ابن الزبیر و أعقبتها، و أدت إلی حصول اختلافات بین الشیعة و تکوّن فرقة جدیدة منهم. فقد کانت الجهود التی بذلها الحزب الشیعی للحصول علی السلطة الدنیویة فی الامبراطوریة الإسلامیة جهودا فاشلة مرة بعد أخری، و کانت أول نتیجة لذلک أنهم حوّروا نظریتهم المختصة بالأمامة و صاروا یعتبرون الأئمة قادة روحیین فی الدرجة الأولی، و شفعاء عند اللّه یوم الدین.
و یقول دونالدسون ان ابن الحنفیة ذهب بعد موت ابن الزبیر إلی مکة مع ابن أخیه زین العابدین لیقررا أیهما الوارث الحقیقی للأمامة. فقد کان موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 229
یدعی أنه أحق منه بها لأنه کان ابن علی بن أبی طالب، لکن زین العابدین طلب منه أن یخاف اللّه و لا یأتی بهذه البدعة ثم اتفقا علی التحکیم أمام الحجر الأسود فی بیت اللّه الحرام فکانت النتیجة فی صالح الأمام زین العابدین بطبیعة الحال. و لذلک عاد إلی المدینة و عاش فیها عیشة هادئة منعزلة، تفرغ فیها للعبادة و شؤون الدین، و بقی علی هذا المنوال مدة تناهز العشرین عاما. و قد عرف بین الناس فی کل مکان بورعه و تعبده، و بحزنه المتواصل علی والده علیه السلام، حتی سمّی بزین العابدین، و هو الأسم المسجل له فی الجنة. و یقال انه أحد خمسة أو ستة بکائین اشتهروا فی تاریخ العالم. و مما یؤثر عنه أنه کان یکبّر سبعین تکبیرة فی کل صلاة، و یقرأ القرآن کله من أوله إلی آخره. و کان مشتهرا علاوة علی ذلک بحسن تجویده للقرآن وصوته العذب الحنون، و بانصرافه للصلاة آناء اللیل و أطراف النهار حتی تخشبت بعض أعضائه من أثر السجود و سمی السجاد کذلک.
.. و لا بد من أنه کان علی جانب عظیم من ضبط النفس و کظم الغیظ، فقد روی عنه أن خادما من خدامه أراق علی رأسه و رقبته علیه السلام شیئا من الطعام الحار خطأ، فلم یؤنبه و إنما سرّحه و أعتقه باحسان. و مما یروی عن سخائه و کرمه أنه کان یخرج فی المدینة کل لیلة و هو یحمل أکیاس القمح و الطحین لیوزعها علی بیوت المحتاجین من دون أن یعرفوا هویته، حتی بلغ عدد الأسر التی کان یعینها علی هذه الشاکلة ثلاث مئة أسرة. أما خلال النهار فکان یذبح فی کل یوم مئة رأس من الغنم، و یوزعها علی الناس. لکن معظم وقته کان یقضیه و هو جالس للصلاة فوق قطعة بالیة من الحصیر من دون أن یأکل شیئا، لأنه کان یصوم فی الغالب أو یأکل شیئا من خبز الشعیر.
و کان یشبه فی مظهره جده الأمام علیا (ع). فقد کان طوله بطول جده، و کان شعره یمیل إلی الحمرة فی لونه، کما کان أبیض الوجه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 230
و الرقبة عالی الصدر کبیر البطن. و کان أول أمام یکتفی بأمرأة واحدة، و هی التی أنجب منها الأمام محمدا الباقر (ع) الذی خلفه فی الأمامة.
لکنه أعقب أربعة عشر ولدا غیره من إمائه أو جواریه .. و بعد أن یذکر دونالدسون (الص 110) ما وقع للأمام زین العابدین مع هشام بن عبد الملک حینما جاء لیطوف حول الکعبة، و هی القصة التی نظم فیها الفرزدق الشاعر قصیدته المشهورة، یقول ان هشاما هذا أمر بأن یدبر قتله بالسم.
فتوفی سلام اللّه علیه سنة 94 أو 95 للهجرة، و هو فی السابعة و الخمسین من عمره فدفن فی بقیع الغرقد إلی جنب عمه الحسن علیهما السلام. و قد قضی عمره علی الوجه التاریخی الآتی: فقد قضی سنتین فی أیام جده علی، و عشر سنین من أیام عمه الحسن، و عشرا من إمامة أبیه الحسین، و خمسا و ثلاثین سنة اماما للمسلمین من بعدهم.
و فی الفصل العاشر من کتاب «عقیدة الشیعة» یذکر دونالدسون شیئا غیر یسیر عن حیاة الأمام محمد الباقر علیه السلام، الذی عاش عمره کله فی المدینة المنورة. فهو یقول ان الأمام تولی بعد أبیه السجاد فی السنة الاخیرة من أیام الولید بن عبد الملک. و کان المجتمع الأسلامی یومذاک قد تقدمت فیه شؤون الثقافة، و تعددت دور العلم. و کان الامام الجدید الذی عاش عیشة منعزلة هادئة فی المدینة، علی غرار عیشة أبیه، یعتبر المرجع الأول للعقیدة الشیعیة و قد ظل کذلک تسعة عشر عاما تقریبا.
علی أن هناک اختلافا فی تاریخ وفاته بین المؤرخین، فیذکر الیعقوبی أن ذلک وقع فی سنة 117 للهجرة، بینما یشیر المسعودی إلی أنه توفی فی سنة 125 أو 126 ه.
و قد عرف الباقر بتضلعه فی العلم و تبحّره فیه، و کان یقدر تقدیرا فائقا لعلمه هذا و نبل مولده و شرف محتده. و سمی بالباقر علی هذا الأساس، لأنه تبقر فی العلم أی توسع، و هو باقر علوم الأولین و الآخرین. و کان قد ولد فی المدینة المنورة فی الثالث من شهر صفر سنة 57 للهجرة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 231
و المقول أنه کان فی الثالثة أو الرابعة من عمره حینما استشهد جده الحسین.
و کانت أمه بنتا من بنات الأمام الحسن تسمی أم عبد اللّه. و کان هشام بن عبد الملک الأموی کثیرا ما یضایقه و یثیر الشکوک من حوله. و قد حاججه ذات یوم فی إمامته، و کان من جملة ما أجابه علیه السلام أنه استهل الحدیث بالآیة الکریمة .. الیوم أکملت لکم دینکم و أتممت علیکم نعمتی و رضیت لکم الاسلام دینا .. ثم قال ان النبی قد کشف للامام علی عن أسرار أخری بعد أن نزل علیه الوحی بها. و من بین آل البیت جمیعهم اصطفی الأمام علیا واحدا فقط فجعله موضع ثقته، و انتقل الیه میراث العلم بالأسرار، فسأله هشام: إذا کان اللّه لم یجعل للنبی شریکا یشارکه فی أسراره، فکیف یدعی علی بذلک؟ لکن الأمام الباقر قرأ علیه کثیرا من أقوال النبی و أحادیثه فی هذا الشأن مما یدل علی منزلة الأمام علی عنده و علاقته به. و حینما سمع هشام کل هذا صمت و لم یحر جوابا، ثم سمح للأمام الباقر و جماعته بالعودة إلی المدینة.
و حینما عزم زید بن علی زین العابدین أخو الأمام الباقر علی الثورة ضد الأمویین ذهب الیه فی سنة 121 أو 122 للهجرة و أخذ رأیه فیما هو مقدم علیه، لکن الأمام الباقر حذر أخاه هذا من الاعتماد علی أهل الکوفة و ذکره بما صنعوه بأهل البیت من قبل. علی أن زیدا لم یعبأ کثیرا بالتحذیر و أعلن الثورة فقتل و علقت جثته علی صلیب فی کناسة الکوفة، بینما طیف برأسه فی الأمصار. و یشیر دونالدسون إلی ما یذکره الشهرستانی فی (الملل و النحل) من أن خلافا کان موجودا بین الأمام الباقر و أخیه زید لأنه کان یتبع تعالیم واصل بن عطاء المعتزلی. و کان زید یتحدث بما ینسبه المعتزلی إلی الأمام علی من خطأ فی قتل الخوارج، و بما یقوله المعتزلة من أن دوافعه علیه السلام لم تکن الدوافع التی کان یریدها أهل البیت فی هذا الشأن. و کان زید یعتقد کذلک بأن الأمامة کانت مشروطة بقیام الأمام علنا للمطالبة بحقوقه. فرد علیه الباقر یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 232
«إذن فأنت لا تعتقد بأمامة أبیک، لأنه لم یقم للمطالبة بحقوقه قط».
و هناک غموض یکتنف سبب وفاة الباقر و الوقت الذی حصلت فیه الوفاة. فیقول بعضهم ان ابراهیم بن الولید دس له السم، لکن روایة أخری تقول ان زیدا آخر من أبناء الحسن نازع الأمام علی المیراث، و اتفقا علی أن یحتکما عند القاضی. و حینما حکم القاضی فی صالح الأمام الباقر استأنف زید القضیة لدی هشام بن عبد الملک. و بتأثیر من اتهامات زید هذا بعث هشام بهدیة ذهب إلی حاکم المدینة، و فی صحبتها تعلیمات تشیر علیه باستحصال المیراث من الباقر، أو المستندات التی یستند الیها فی أخذ المیراث. لکن الأمام الباقر سلم إلی حاکم المدینة صندوقا یحتوی علی المستندات المزیفة التی یستند الیها زید. و هذه أرسلت إلی هشام بن عبد الملک فی دمشق، و حینما اطلع علیها زید أیقن بأنها مزیفة. و تقول روایة الشیعة ان هشاما أعطی إلی زید سرجا مسموما، و احتال زید فی أن یعطی هذا السرج إلی الأمام الباقر فاستعمله و تسرب السم إلی جسمه الطاهر، فقضی نحبه!! و تقول الروایة کذلک ان الحکمة الألهیة شاءت أن تقص من زید هذا فأصیب بمرض عضال فقد فیه عقله و مات .
و یورد دونالدسون ما یروی عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری الذی عاش إلی أیام الباقر، و نقل له حدیث الرسول (ص) .. فقد روی جابر أن رسول اللّه قال له ذات یوم: یا جابر یوشک أن تلتحق بولد لی من ولد الحسین اسمه کأسمی یبقر العلم بقرا أی یفجره تفجیرا، فإذا رأیته فاقرأه عنی السلام. قال جابر رضی اللّه عنه فأخر اللّه تعالی مدتی حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 233
رأیت الباقر فأقرأته السلام عن جده رسول اللّه (ص) .. ثم یختم الفصل بما جاء من أقوال و معجزات تنسب إلی الأمام الباقر، و بمناقشة یلقی فیها ضوءا من الشک علی اعتقاد الشیعة بوفاة الباقر مسموما بتدبیر بنی أمیة. و مع هذا فیقول فی النهایة ان التحرکات التی نشطت ضد الأمویین کانت تزداد شیئا فشیئا فی تلک الأیام بحیث احتجب فی أهمیتها الوقت المضبوط الذی انتهت فیه امامة الباقر، الأمام المسالم، و بدت فیه امامة ابنه الصادق، المسالم کذلک.
أمام الامام جعفر الصادق (ع) فیقول عنه دونالدسون (الص 129) انه الأمام الذی یشار الیه علی الدوام بکونه الحجة فی شؤون الحدیث و الشرع الأسلامی. و قد عاش خمسة و ستین عاما (83- 148 ه)، و بذلک عمر أکثر من أی امام آخر من الأئمة المعصومین الأطهار. و یجمع الکتاب علی أن أمه هی أم فروة ابنة القاسم بن محمد بن أبی بکر. و لم یذکر عن هیئته و أوصافه علیه السلام إلا أنه أبیض الوجه و الجسم، أسود الشعر، أقنی الأنف. کما لم یذکر عن حیاته البیتیة إلا القلیل، فقد کان له عشرة أولاد سبعة منهم من زوجتیه الأصلیتین و إحداهما تسمی فاطمة، أما الثلاثة الآخرون فمن إمائه و جواریه
و قد عاش الصادق علیه السلام بعیدا عن السیاسة و أحوالها بعدا تاما.
فیذکر المسعودی أن ابراهیم الزعیم العباسی حینما قتله مروان الثانی خشی أبو سلمة أن تفشل الدعوة ضد الأمویین فحاول إقناع جعفر الصادق بأن یأتی الیه شخصیا، فیعلن حقه فی الأمامة، و یتقبل ولاء الخراسانیین له.
علی أن الأمام دعا بمصباح و أحرق کتاب أبی سلمة فیه، ثم قال للرسول الذی حمل الکتاب الیه: أخبر سیدک بما رأیت .. و یذکر الشهرستانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 234
أن معرفة الأمام الصادق بالشؤون الدینیة و الثقافیة کانت ممتازة، و کان علی علم تام بالفلسفة، و بلغ مبلغا عظیما من التقوی، و ترفع عن الشهوات بالمرة. و قد عاش مدة طویلة فی المدینة بحیث أفاد طائفته و أتباعه إفادة تامة، و نفع أصدقاءه بالعلوم الخفیة. و زار بعد ذلک العراق، لکنه لم یظهر للملأ فیعلن امامته، و لم یبحث فی شؤون الخلافة مع أحد.
لأنه کان غارقا فی بحور العلم و المعرفة، من دون أن یروقه أی شی‌ء آخر، فمن یرتفع إلی قمة الصدق لا یخشی التدنی. و بتعبیر آخر: أن الذی یتفرغ للّه ینکمش عن البشر لکن من یعتصم بغیر اللّه تقضی علیه الشهوات .. و کان الصادق یتصل بشجرة النبوة من جهة الأب بطبیعة الحال و بأبی بکر الصدیق من جهة الأم. و یضیف دونالدسون علی ذلک قوله انه قال ذات یوم: برئت ممن یذکر أبا بکر و عمر بسوء. و قد یکون موقفه هذا تجاه أهل أمه، أو قابلیته فی تقدیر المزایا الحسنة فی الخلیفتین الأولین، مما ساعده علی تحاشی سوء ظن الخلفاء الذین عاصروه به- أی هشام و الولید و ابراهیم و مروان من الأمویین، و السفاح و المنصور من العباسیین .. و یذکر کذلک عن الکلینی بعض الکرامات و المعجزات، و عن مقابلاته لأبی جعفر المنصور الذی کان یخشاه و یسی‌ء الظن به.
و یظهر مما یذکر عن النمط الذی کان یتبعه الأمام الصادق فی حیاته العلمیة و غیرها و هو قابع فی حدیقته الجمیلة فی المدینة، و السخاء الذی کان یبذله فی استقبال زواره فیها من جمیع الطبقات، بأنه کان یعقد مجامع للمناقشة، أو یدیر مدرسة فلسفیة علی نمط مدرسة سقراط. فأن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 235
عددا من تلامذته أسهموا اسهاما خطیرا بعد ذلک فی تطور الشریعة و العلوم الدّینیة. و قد افتی اثنان من تلامذته بعد ذلک بسنوات، و هما أبو حنیفة و أنس بن مالک، مؤسسا المذهبین الأسلامیین المعترف بهما، إلی سکان المدینة نفسها أن القسم الذی أقسماه عند المنصور لا یمکن أن یعتبر شیئا ملزما لأنه أعطی بضغط و اکراه. و یروی أن تلمیذا آخر من تلامذته، و هو واصل بن عطاء مؤسس طائفة المعتزلة، جاء الیه للمناقشة بنظریات أدت إلی طرده من صفوف الأمام الصادق. و کان جابر بن حیان الذی اشتهر بالکیمیاء من تلامیذه کذلک.
و قد یکون أبو حنیفة أشد إثارة للاهتمام من تلامذته، و هو الذی کان یلقی محاضرات عامة فی الکوفة تستثیر الکثیر من العنایة و الالتفات.
و کان یعتمد فی استنباط الأحکام علی القیاس و الرأی، و لذلک انتقده الفقهاء من خصومه فی مکة و المدینة. و لا شک أن أحکامه فی هذا الشأن کانت تتناول الشرع الأسلامی بوجه عام، و لم یکن ما یصدره من هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 236
القبیل ذا صفة رسمیة لأنه کان یرفض علی الدوام الدخول فی خدمة الحکومة لتسنم مناصب القضاء. و بذلک استطاع أن یحافظ علی مرکزه فی أیام الأمویین و العباسیین معا. و من المحتمل جدا أنه کان یشایع العلویین بقوة، و یستاء من الکیفیة التی کانوا یعاملون بها.
و یقول دونالدسون بعد ذلک انه من العجیب أن یکون هذان المشرعان المتعاصران قد استطاعا متابعة أعمالهما الشرعیة، الأمام الصادق فی المدینة و أبو حنیفة فی الکوفة، مدة طویلة من الزمن فی مثل تلک الأزمنة المضطربة ..
و قد کان أبو حنیفة یقدر جد التقدیر من قبل مشایعی الأمام الصادق لأنه کان ینتقد أبا جعفر المنصور و من علی شاکلته من الطغاة الجائرین من بنی أمیة أو بنی العباس. فقد صرح ذات یوم بأن مثل هؤلاء الرجال لو أقدموا فی یوم من الأیام علی بناء مسجد من المساجد و کلفوه بمهمة عد الآجر السهلة من أجل ذلک لما فعل ما یریدون «لأنهم من الفساق، و الفساق غیر جدیرین بتزعم المسلمین». و حینما نقل قوله هذا إلی المنصور أمر بالقبض علیه و أودعه السجن حتی توفی فیه. و کانت مکابدته لمثل هذا العناء بسبب قوله ذاک هی التی جلبت له مودة الشیعة و تقدیرهم. و یستند دونالدسون فی روایته هذه علی ما رواه العلامة المجلسی فی «تذکرة الائمة» (الص 130).
و یذکر مرجعنا بعد هذا أن رأی الأمام علیه السلام فی القدر أو القوة التی تسیر الأنسان فی أعماله هو رأی وسط، إذ لا «جبر» و لا «تفویض» بل أمر بین أمرین .. و یقول المؤرخ الیعقوبی انه کان من عادة الفقهاء الذین ینقلون عنه أن یقولوا «أخبرنا الأمام الحجة». و حینما نتذکر أن مالک بن أنس (94- 174 ه) صاحب کتاب «الموطأ» کان معاصرا للأمام الصادق، أی قبل البخاری و مسلم بمدة تناهز القرن الواحد تقریبا، یکون من المهم جدا أن نجد أن الأمام الصادق یعتبر صاحب الفضل الأول فی القول الذی أصبح بعد ذلک أهم قاعدة یستند الیها المسلمون فی الحکم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 237
علی صحة ما یروی من الأحادیث النبویة الشریفة، و هو «خذوا ما یتفق منها و کتاب اللّه، و دعوا ما یخالفه».
و بعد أن یورد دونالدسون الکثیر من الأقوال و الروایات عن معجزات الأمام و حیاته العلمیة و قواعده الأخلاقیة، یذکر نقلا عن ابن خلکان أنه علیه السلام کتب رسالة فی الکیمیاء و کتب فی الکهانة و الجفر، و أن تلمیذه جابر بن حیان کتب کتابا بألفی صفحة أدرج فیها أبحاث سیده الأمام عن الکیمیاء التی کانت تکون خمس مئة رسالة .. و ینهی الفصل بقوله ان الأمام توفی فی السنة العاشرة من خلافة أبی جعفر المنصور (765- 148)، و هو التاریخ الذی یتفق علیه المؤرخون بأجمعهم، بعد أن عمر خمسا و ستین سنة. و قد سم علیه السلام بایعاز من الخلیفة المنصور الذی کان یحاذر من وجوده و هو من هو بمنزلته بین المسلمین.
و قد دفن فی مقبرة البقیع فی المدینة بالقرب من أبیه و جده. و بقیت علی هذا الضریح المطهر لعدة قرون قطعة من المرمر کتب علیها: بسم اللّه الرحمن الرحیم، سبحان اللّه الذی یبقی الأمم، و یحیی العظام و هی رمیم.
هنا قبر فاطمة بنت رسول اللّه سیدة نساء العالمین، هنا قبر الحسن بن علی ابن أبی طالب، و هنا أیضا قبر علی بن الحسین، و هنا قبر محمد بن علی کذلک، و هنا قبر جعفر بن محمد رضی اللّه عنهم أجمعین.
و تعلیقا علی ذلک نورد ما جاء فی (الفصول المهمة) لابن الصباغ المالکی (الص 212) فی هذا الشأن: «.. و مات الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام سنة 148 فی شوال و له من العمر ثمان و ستون، أقام فیها مع جده علی بن الحسین اثنتی عشرة سنة و أیاما و مع أبیه محمد بن علی بعد وفاة جده ثلاث عشرة سنة، و بقی بعد موت أبیه أربعا و ثلاثین سنة و هی مدة إمامته علیه السلام. یقال انه مات بالسم فی أیام المنصور و قبره بالبقیع دفن فی القبر الذی فیه أبوه و جده و عم جده، فلله دره من قبر ما أکرمه و أشرفه، و أما أولاده فکانوا سبعة: ستة ذکور و بنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 238
واحدة، و قیل کانوا أکثر من ذلک. و الذکور هم: موسی الکاظم و اسماعیل، و محمد و علی، و عبد اللّه، و اسحق، و البنت اسمها أم فروة رضوان اللّه علیهم».

الرحالة الغربیون فی المدینة

لقد زار المدینة المنورة عدد غیر یسیر من الغربیین فی مختلف العهود و الأدوار، و تسنی لهم الدخول إلی الحرم الشریف، بعد أن ذهبوا الیه بصفة مسلمین حقیقیین و غیر حقیقیین. و کان عدد من هؤلاء من أبرع الکتاب و الباحثین، و لذلک استطاعوا أن یکتبوا عن المدینة مؤلفات قیمة و یصفوها وصفا شاملا له أهمیته القصوی فی تاریخ المدینة و تدوین أحوالها.
و معظم هؤلاء کانوا قد زاروا مکة المکرمة کذلک و اشترکوا فی مناسک الحج فکتبوا أشیاء کثیرة عنها، و قد أشرنا إلی ذلک کله بشی‌ء من التفصیل فی الحلقة المختصة بمکة من الجزء الأول من سلسلة (العتبات المقدسة) هذه (الص 250- 336).
و أول أوربی زار المدینة فی العصور المتأخرة، بعد حجه فی مکة بصحبة موکب الحج الشامی، مغامر إیطالی یدعی لودفیکو فارتیماLudvicuo Vartouannus من أهالی بولونی الأیطالیة و کان قد أبحر من البندقیة سنة 1503 متوجها إلی الاسکندریة، و توجه من هناک إلی دمشق الشام حیث ارتبط بصداقة مع ضابط من الضباط الممالیک. فقرر الذهاب إلی المدینة و مکة مع صدیقه هذا فی ضمن موکب الحج الشامی الذی خرج إلی البلاد المقدسة فی الیوم الثامن من نیسان، و قد تزیا فارتیما بزی جندی من جنود الممالیک.
و یظهر من الرحلة التی دونها فارتیما أنه رجل أفّاق، متحامل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 239
علی النبی و الأسلام، بعید عن الثقافة و الاتزان، ادعی أنه اتصل بکثیر من المسلمات فی رحلاته، و دون ملاحظات فیها الکثیر من الخلط و الخرافات. فهو یقول انه وصل مع القافلة إلی جبل بالقرب من المدینة یسکنه قوم من الیهود یبلغ عددهم خمسة آلاف نسمة، و هؤلاء قصار القامة لا یزید الواحد منهم علی الخمسة أو الستة أشبار أو أقل من ذلک بکثیر.
و لهؤلاء أصوات رقیقة کأصوات النساء، و بشرة تمیل إلی السواد، و هم؟؟؟ علی لحوم الماعز، و إذا وقع المسلم بأیدیهم یسلخون جلده و هو حی!! و حینما وصل إلی المدینة التی یسمیها «مدینة النبی» بقی فیها ثلاثة أیام. و هو یدعی أنه دخل الحرم الشریف الذی یسمیه المعبد و یصفه وصفا موجزا. فیقول أنه مسجد مقبب یدخل الیه من بابین کبیرین، و یحمل سقفه حوالی أربع مئة عمود من الآجر الأبیض!!؛ و فیه عدد کبیر من المصابیح المعلقة- الثریات- یناهز الثلاثة آلاف!!! و یشیر إلی وجود عدد من الکتب الدینیة فی جهة من جهات المسجد التی تحتوی علی تعالیم الدیانة الأسلامیة و حیاة النبی و أصحابه. ثم یذکر شیئا عن القبر المطهر، و یقول انه توجد بقربه قبور أبی بکر و عثمان (کذا) و فاطمة.
و مما یقوله کذلک ان الأمام علیا هو صهر النبی أو زوج ابنته فاطمة، و ان ابا بکر و عمر هما من قادة جیوشه. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌3 ؛ ص239
فی سنة 1678 حج إلی الدیار المقدسة شاب إنکلیزی یافع من أهالی أوکسفورد یدعی جوزیف بیتس‌gosePh Pitts ، خرج یبتغی المغامرة و الأسفار و هو فی السادسة عشرة من عمره. و من أجل ذلک انخرط فی سلک البحریة فوقع أسیرا بأیدی القرصان الجزائریین فی البحر المتوسط، فعاش خمس عشرة سنة عبدا عند ضابط من ضباط الخیالة فی الجیش الجزائری. و کان هذا قد ألح علی عبده باعتناق الأسلام تکفیرا عن خطایاه هو، فضغط کثیرا علی العبد حتی نطق بالشهادة لکنه ظل یضمر النصرانیة فی قلبه خلال الوقت الذی قضاه فی بلاد الأسلام و المسلمین کله.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 240
فقد أخذه سیده الجزائری إلی مکة و المدینة، و هناک أعتقه و أخلی سبیله، لکنه ظل متعلقا به و أخذ یخدمه بأجور حتی عاد إلی الجزائر. و بعد تقلبات کثیرة هناک هرب من الجزائر و عاد إلی بلاده بواسطة القنصل الإنکلیزی. و مما یدل علی مقدار تعصبه للنصرانیة التی بقی علیها أنه ما کادت رجله تطأ الأرض فی میناء لیغهورن الأیطالی الذی هرب الیه حتی خر ساجدا و قبلها عدة مرات، و هو یشکر اللّه علی عودته إلی دیار النصرانیة. و یبدو أن جوزیف بیتس هذا کتب مذکرات تفصیلیة عن سفرته إلی الحج، و وصف مکة بالتفصیل، ثم کتب شیئا غیر یسیر عن المدینة المنورة کذلک.
فهو یقول عن المدینة انها بلدة صغیرة، فقیرة، و مع ذلک فهی مسورة بأسوار محکمة و فیها الجامع الکبیر، لکنه لا یبلغ «معبد» مکة فی ضخامته. و لذلک یعتقد أن هذا السور قد بنی ما بین سنتی 1503 و 1680. و فی زاویة من زوایا الجامع بناء یشغل خمسة عشر خطوة مربعة، فیه شبابیک کبیرة مشبکة بالنحاس الأصفر. و فی داخله بعض المصابیح المعلقة و الأعلاق النفیسة. و لیس هناک ذلک العدد الکبیر من المصابیح الذی کتب بعضهم یقول انها تبلغ ثلاثة آلاف فی عددها. و فی وسط هذا المکان یوجد قبر محمد و هنا یتجاوز علی النبی الأعظم و یسمیه «دعیا». ثم یصف الستائر و یشیر إلی ما کان یتردد فی هذا الشأن من الخرافة التی تقول ان الجدث الطاهر یشاهد و هو فی تابوته معلقا بین السقف و الأرض. و یشیر إلی البقعة المعدة للمسیح عیسی بن مریم، ثم یقول ان المدینة تتزود بجمیع ما تحتاجه من الحبشة الکائنة فی الجهة المقابلة من البحر الأحمر.
هذا و قد زار المدینة عدد آخر من الأوربیین الرحالة بعد ذلک، و لا سیما خلال القرن التاسع عشر منذ بدایته حتی نهایته. و قد کانت حملة الخدیوی محمد علی باشا علی الحجاز بأمر من الباب العالی فی استانبول،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 241
لإنقاذها من الوهابیین، سببا فی دخول عدد من الأوربیین مع الجیوش المصریة إلی الأراضی المقدسة، و زیارتهم للمدینة، کما فعل الرحالة بورخارت الذی سنأتی علی ذکره بعد هذا، و کما حصل للجندی السکوتلاندی المغامر توماس کیث. فقد کان توماس کیث أغا من أغوات الممالیک العاملین فی جیوش محمد علی باسم ابراهیم أغا. و قد کتب لأبراهیم أغا هذا أن یشارک فی حملة طوسون بن محمد علی التی سیقت علی المدینة سنة 1812 فکان أول الداخلین الیها، ثم وجد نفسه یشغل أغرب وظیفة فی حیاته لفترة قصیرة من الزمن و هی وظیفة حاکم عسکری للمدینة المنورة علی ما یقول هو غارث. و یلخص المستر هو غارث (الص 186) هذا أسماء الأوربیین الذین زاروا الأراضی المقدسة فیما یأتی: .. أن قائمة الأوربیین الذین زاروا مکة هی قائمة طویلة فی الحقیقة. فمنهم الأیطالیون مثل قارتیما و فیناتی، و الألمان مثل قایلد و ستیزن و فون مالتزان، و الإنکلیز مثل پیتس و بورتون و کین، و السویسریون مثل بورخارت، و الاسبان مثل بادیا، و السوید مثل والین، و الهولندیون مثل هورغرونیه، و الفرنسیون مثل کوتر نلمونت. و إلی جانب هؤلاء هناک عدد من المحاربین و المغامرین، و قد سمع الرحالة نیبور بجرّاح فرنسی تمکن من الدخول إلی الأراضی المقدسة، و برجلین انکلیزیین أیضا. و طرق سمع الرحالة دوطی أن عددا من الأفرنج دخلوا الیها کذلک، و صادف هو بالذات رجلا ایطالیا یسمی نفسه فراری کان فی طریقه إلی مکة مع قافلة الحج الأیرانیة. و وجد جوزیف پیتس رجلا ایرلاندیا فی المدینة، کما یقول الرحالة مالتزان ان لیون روش القنصل الفرنسی فی تونس حج إلی مکة و زار المدینة، و کذلک فعل رجل من البحارة الانکلیز. هذا فضلا عن عدد من الأوربیین المشارقة مثل الیونان. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 242
.. و لما کان الخدیوی محمد علی یشک فی إخلاصه لأسلامه فقد کان متساهلا مثل ابنه فی هذا الشأن فسمح لعدد من الأوربیین بالدخول إلی الأراضی المقدسة و منهم بورخات. و لا بد من أن یقال هنا ان الذین زاروا المدینة کذلک من بین هؤلاء هم فارتیما و فایلد و بیتس، و ستیزن و بورخارت، و والین، و بورتون، و کین، و شاهد المدینة من الخارج الرحالة سادلیر کذلک.
علی أن أهم الرحالة الأوربیین هؤلاء و أغزرهم علما و ثقافة هو الرحالة السویسری جون لویس بورخارت الذی حج إلی مکة المکرمة، و زار المدینة المنورة، سنة 1814 و شهد حملة محمد علی علی الوهابیین فی الحجاز، و السر ریتشارد بورتون الذی زار المدینة المنورة، و حج إلی مکة المکرمة، فی سنة 1853. و قد کتب کل منهما عن رحلته بصورة مفصلة، و أسهب فی ذکر کل شی‌ء یمکن أن یخطر علی البال تقریبا عن المدینتین المقدستین و ما یحیط بهما من البلاد الحجازیة. و لذلک فقد ذکرنا شیئا کثیرا عنهما فی الجزء المختص بمکة من سلسلة العتبات المقدسة هذه (الص 263- 304).

جون لویس بورخارت فی المدینة

کان المستر بوخارت قد أسلم علی ما یزعم عند قدومه إلی مصر فی عهد محمد علی باشا، و سمی نفسه الشیخ ابراهیم. و قد تعرف بمحمد علی و اتصل به کثیرا، ثم تبعه حینما ذهب إلی الحجاز للأشراف علی الحملة التی جردت ضد الوهابیین. و هناک سهّل له محمد علی حج البیت الحرام، و زیارة المدینة المنورة، برغم شکه فی اسلامه و ارتیابه فیه.
و قد توفق بورخارت فی کل هذا، و لم یکتشف أمره علی ما یبدو،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 243
فضمّن رحلته المعروفة جمیع ما شاهده و مرّ به من حوادث و تجارب.
فقد توجه إلی المدینة بعد أن انتهی من الحج فی مکة، و وصل الیها فی صباح یوم 28 کانون الثانی 1915، بعد أن قطع المسافة الیها بثلاثة عشر یوما. و من سوء حظه أنه وقع مریضا بمرض البرداء- الملاریا- حتی أصابه الیأس من نفسه و ظن أنه سیقضی نحبه فی المدینة فیقبر فیها.
لکنه مع ذلک استطاع أن یری أشیاء کثیرة من أحوال المدینة و ما فیها بحیث استطاع أن یکتب عدة فصول عنها فی الجزء الثانی من رحلته (الص 138- 292).
و هو یقول ان القافلة نزلت فی الساحة الکبری الکائنة فی ضاحیة المدینة، و وجد له منزلا مناسبا بواسطة المزوّر. و أخذ کالعادة لزیارة الحرم الشریف فلاحظ أن مراسیم الزیارة أقصر و أسهل من مراسیم الحج و مناسکه بطبیعة الحال. لکنه لاحظ أن المدینة کان قد احتلها طوسون باشا مؤخرا و طرد منها الوهابیین، فنفر عنها البدو و أصحاب الأبل الذین کانوا یأتون الیها بالأقوات و المؤن. فعز فیها الطعام، و لاحظ و خامة الجو فیها کذلک و طعم الماء المقیت.
و یأخذ بورخارت بوصف المدینة و موقعها الطبیعی، بوصف یشابه الوصف الوارد فی دائرة المعارف الاسلامیة الذی اثبتناه فی بدایة هذا البحث، لأنها کانت قد استندت الیه علی ما یظهر. و یقول انه وجد أسوارها عامرة بحیث تعدها للدفاع علی أحسن وجه بالنسبة لمقاییس تلک الجهات، و لذلک کانت المدینة المعقل الرئیسی فی الحجاز. و کان السور قد بنی حولها سنة 360 للهجرة، ثم أعید بناؤه بعد ذلک فی أوقات مختلفة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 244
أخصها سنة 900 للهجرة، لکن الخندق کان قد مدد حولها سنة 751.
علی أن بناءه بشکله فی أوائل القرن التاسع عشر کان قد تم بأمر من السلطان سلیمان القانونی فی نهایة القرن السادس عشر. و هناک أبواب ثلاثة جمیلة فیه: الباب المصری فی الجهة الجنوبیة، و هو مع باب الفتوح فی القاهرة أجمل الأبواب التی شاهدها بورخارت فی المدن الشرقیة، و الباب الشامی فی الجهة الشمالیة، و باب الجمعة فی الجهة الشرقیة.
و هناک باب یسمی «الباب الصغیر» فی الجهة الجنوبیة کان الوهابیون قد أغلقوه عندما احتلوا المدینة قبل سنوات. و فیما یقرب من الباب الشامی، فی جوار القلعة، هناک محراب فی السور کان جزءا من مصلی صغیر علی ما یقال یسمی مسجد السباق، و منه کان محاربو الصحابة یبدأون سباقاتهم فی الرکض.
و یقول بورخارت انه شاهد المدینة مبنیة بالحجر کلها، و تتألف بیوتها من طابقین بوجه عام و من سطوح منبسطة. و لما کانت غیر مصبوغة بالأبیض، و نظرا لأن حجر البناء کان غامقا فی لونه فقد کان منظرها یبدو کئیبا. و علی کل فقد کانت المدینة من أحسن المدن الشرقیة فی بنائها، و هی تأتی بعد حلب فی نظره. و یعد الشارع الرئیسی فیها أعرض الشوارع أیضا، و هو الذی یؤدی من الباب المصری إلی المسجد الکبیر.
و توجد فیه معظم المخازن و الدکاکین. و یسمی الشارع الآخر شارع البلاط، و یمتد من المسجد إلی الباب الشامی، لکن عددا من البیوت الموجودة فیه کانت خربة. و یقول بورخارت ان مکة تعتبر بلدة عربیة فی مظهرها أکثر من المدینة التی تعتبر أشبه بالمدن السوریة.
أما الحارات فیورد أسماء المنحصر منها ما بین الشارعین المذکورین کالآتی: الساحة، کومة الحشفة، البلاط، الزقاق الطویل، الذی یقع زفیه بیت القاضی و عدد من الحدائق الجمیلة، زقاق الذرة، سقیفة الشاخی، قاق البکر. و فی شمال شارع البلاط بامتداد شمالی من المسجد إلی باب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 245
الجمعة تقع محلة الحماتة، و زقاق الحبس، و زقاق انکینی، و زقاق الصماهدی، و حارة المیده، و حارة الشرشورة، و زقاق البدور، و حارة الأغوات حیث یعیش الخصیان الموکلون بالحرم الشریف. و تقع فی الجهة الممتدة من باب الجمعة علی طول الأجزاء الجنوبیة من المدینة إلی حد الباب المصری و السوق الکبیر محلة دوران، و الصالحیة، و زقاق یاهو، و حارة أحمد حیدر، و حارة بنی حسین حیث تنزل القبیلة المسماة بهذا الأسم، و حارة البسوغ، و حارة السقیفة، و حارة الرصاص، و زقاق الزرندی، و زقاق الکبریت، و زقاق الحجامین، و حارة سیدی مالک حیث بیت الفقیه المعروف مالک بن أنس، و حارة الخماشین.
و یقول بورخارت ان العرب بوجه عام لا یهتمون کثیرا بفخامة الأبنیة و طراز البناء، و حتی روساؤهم یکتفون فی أبنیتهم بالضروری منها فقط. و لذلک فلیس فی المدینة أبنیة کبیرة بارزة إلا القلیل. فهناک الحرم النبوی الشریف المحتوی علی قبر النبی العظیم، و مدرسة عامة جمیلة تسمی المدرسة الحمیدیة فی شارع البلاط، و أخری شبیهة بها قرب المسجد حیث یسکن شیخ الحرم، و مخزن کبیر للحبوب یضم بین جدرانه ساحة کبیرة یقع فی الجزء الجنوبی من البلدة، و حمام غیر بعید عنه و هو الحمام العام الوحید فی البلدة و قد شیده فی سنة 973 ه محمد باشا وزیر السلطان سلیمان. أما القلعة فهی محاطة بأسوار قویة جدا و أبراج عالیة منیعة عدة. و هی تسع حوالی ست مئة او ثمانمأة رجل، و فیها عدد من الغرف ذات العقود التی لا تخترقها القنابل. و هذه لو وضعت فیها حامیة جیدة و جهزت بما تحتاج من المؤن لا تستطیع أیة قوة عربیة التغلب علیها لأنها مبنیة فوق صخور صلبة لا یمکن أن تلغم بالألغام. علی أنها لا تستطیع الصمود تجاه المدفعیة الأوربیة. و فیها بئر عمیقة فیها ماء صالح للشرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 246

الضواحی

تمتد ضواحی المدینة، علی ما یذکر بورخارت، فی الجهة الغربیة و الجنوبیة منها فتغطی مساحة من الأرض تزید علی مساحة البلدة نفسها.
و تحجز الضواحی عن البلدة نفسها فسحة کبیرة تضیق من جهتها الجنوبیة و تتسع من الجهة الغربیة بین یدی الباب المصری حیث تکوّن ساحة عامة تسمی المناخة .. و لیس هناک سور للضواحی المطلة علی المناخة، لکن الجهتین الخارجیتین من الغرب و الجنوب یحیط بهما سور آخر یقل مناعة عن سور البلدة الأصلیة. و هناک أربعة أبواب تؤدی إلی الخارج منها، و هی أبواب خشبیة صغیرة غیر متینة .. و فی الجهة الغربیة من الضاحیة مقابل باب القاهرة و المناخة تتألف الضاحیة من شوارع منتظمة حسنة البناء تشبه دورها الدور الموجودة فی داخل المدینة. و یخترق هذا الجزء من الضاحیة شارع واسع یسمی العنبریه، و تقوم علی جانبیه أبنیة و بیوت حسنة البناء، و فی حوالی هذه الجهات یعیش طوسون باشا فی دار خاص به، و یسکن بالقرب منه التاجر الثری عبد الشکور.
و أهم الحارات الموجودة فی الضواحی هی حارة العنبریة، و حارة الواجهة، و حارة الساح، و حارة أبی عیسی، و حارة مصر، و حارة الطیار، و حارة نفیسة، و حارة الحمدیة، و حارة الشهریة، و حارة الخیبریة، و حارة الجفر. و کثیر من سکان البلدة الداخلیة لهم بیوت صیفیة فی هذه الحارات یقضون فیها شهرا من السنة یتفرغون فیه إلی جی حاصلات تمورهم.
و هناک مسجدان فی المناخة، أحدهما یسمی «مسجد علی» و یقال انه قدیم منذ صدر الأسلام، لکن بنایته القائمة کانت قد شیدت فی 876.
و المقول ان النبی علیه السلام کثیرا ما کان یصلی فیه. و یسمی المسجد الآخر «جامع عمر» و قد ألحقت به مدرسة عامة کانت تستخدم بنایتها مخزنا للذخیرة و ملجأ للکثیر من الجنود.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 247

الحرم النبوی الشریف

و بعد أن یصف بورخارت أشیاء أخری فی المدینة، و أهمها مشروع الماء فیها، یقول ان الجوهرة الغالیة التی تجعل المدینة فی صف مکة من حیث الأهمیة، لا بل و تفضلها علیها فی نظر بعض الناس مثل أتباع مالک ابن أنس، هو الجامع الأکبر الذی یضم فی داخله قبر النبی محمد (ص).
و هو مثل جامع مکة یسمی «الحرم». و یقع هذا الجامع فی الطرف الشرقی من البلدة و لیس فی وسطها. أما أبعاده فهی أصغر من أبعاد الجامع فی مکة، إذ یبلغ طوله مائة و خمسا و ستین خطوة و یبلغ عرضه مائة و ثلاثین. لکنه مشید علی الطراز نفسه تقریبا، فهو یکوّن صحنا مکشوفا فی الوسط تحیط به صفوف من الأعمدة المغطاة من جمیع الجهات، مع مبنی صغیر فی وسط الصحن المربع. و تکون صفوف الأعمدة هذه أقل انتظاما من صفوف الأعمدة فی مکة حیث تکون علی نفس العمق من جمیع الجهات. کما تکون الأعمدة نفسها مختلفة فی حجومها، ففی الجهة الجنوبیة التی یقع فیها قبر النبی المطهر، و تکوّن أقدس بقعة فی المبنی کله، تکون أبعاد الأعمدة أکبر من أبعادها فی سائر الجهات و یبلغ قطر الواحد منها قدمین و نصف .. و یتألف السقف فوق الأعمدة من عدد من القباب الصغیرة المصبوغة بالأبیض من الخارج، کما هی الحالة فی مکة. أما الجدران الداخلیة فهی مصبوغة بالأبیض کذلک إلا من الجهة الجنوبیة و قسم من الزاویة الجنوبیة الشرقیة المکسوة بقطع من الرخام إلی السقف تقریبا. و هناک علی طول هذا الجدار عدة صفوف من الکتابات المکتوبة بأحرف کبیرة من الذهب، واحدة فوق الاخری ..
و بعد أن یصف بورخارت سائر أجزاء الحرم و الضریح المطهر و ما یوجد حوله من القبور الأخری یقول ان نفائس الحجاز کانت تحفظ فی السابق حول هذه القبور إما معلقة بحبال من حریر یمتد فی داخل المبنی، أو بمودعة فی صنادیق خاصة موضوعة علی الأرض. و یمکن أن یذکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 248
من هذه علی الأخص نسخة من القرآن الکریم مکتوبة بالخط الکوفی تعود إلی الخلیفة عثمان بن عفان، و یقال انها لا تزال موجودة فی المدینة ..
ثم یتطرق إلی ذکر حصار الوهابیین للمدینة، و إلی أن شیئا کثیرا من هذه النفائس، و لا سیما الأوعیة الذهب منها، استولی علیها رؤساء البلدة بحجة توزیعها علی الفقراء لکنهم تقاسموها فیما بینهم بعد ذلک.
و حینما دخل الأمیر سعود الوهابی إلی المدینة و استولی علیها دخل الحجرة النبویة نفسها و وصل إلی ما وراء الستائر فوضع یده علی جمیع النفائس التی وجدها هناک. و قد باع قسما منها إلی شریف مکة و حمل الباقی إلی الدرعیة معه. و من الأعلاق النفسیة التی أخذها، و هی أغلی من أی شی‌ء آخر، النجمة البراقة المتلألئة المطعمة بالماس و اللؤلؤ التی کانت معلقة فوق القبر المقدس مباشرة، و قد کانت تسمی «الکوکب الدری».
و قد کانت تودع فی هذا المکان جمیع أنواع الأوعیة و الأوانی الثمینة المطعمة بالجواهر، و الأقراط، و الأساور، و القلائد، و سائر النفائس التی کانت تهدی من جمیع أنحاء الامبراطوریة العثمانیة و یأتی بها الحجاج فی أثناء زیارتهم للمدینة. و لا شک أن ذلک کله کان یؤلف مجموعة ذات قیمة غیر یسیرة، لکنها لا تکاد تقدر بثمن. فقد قدر الشریف غالب ما اشتراه من الأمیر سعود بمائة الف دولار. و یقال ان رؤساء البلدة أخذوا من أوعیة الذهب و أوانیه ما یقدرونه بمائة «هندردویت»- الهندردویت الواحد یساوی 112 باونا أو لیبرة- أو ما یساوی ثمنه خمسین ألف دولار. کما یقال ان ما أخذه الأمیر سعود معه یتألف غالبا من اللؤلؤ و المرجان، و ان قیمته تساوی ما باعه إلی الشریف غالب.
و ربما یبلغ مجموع کل ما وجد فی قیمته حوالی ثلاث مائة الف دولار.
و هناک من الأسباب ما یجعلنا نعتقد بأن هدایا المسلمین التی تجمعت فی هذه البقعة عبر القرون و الأجیال کانت تبلغ أکثر من هذا بکثیر. و من المحتمل جدا أن یکون حکام المدینة الذین کانوا مستقلین فی کثیر من الأحیان، و سدنة الضریح المقدس أنفسهم، قد أخذوا الشی‌ء الکثیر مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 249
کان یهدی بین حین و آخر کما فعل علماء مکة قبل ثلاث مائة سنة حینما سرقوا مصابیح الذهب العائدة للکعبة و أخذوها إلی الخارج بین طیات أردانهم علی ما یقول المؤرخ قطب الدین. و قد أخذ طوسون باشا، عند مجیئه إلی المدینة، یفتش عن الأوانی الذهب التی بیعت فی المدینة فوجد قسما منها و ابتاعه من مالکیه بعشرة آلاف دولار، ثم أعاده إلی مکانه.
ثم یذکر بورخارت أن فوق «الحجرة» قبة جمیلة عالیة الذری، ترتفع فوق القباب الأخری التی تکوّن السطح الممتد من فوق الأعمدة، و تری من مسافة بعیدة فی المدینة. و حالما تلوح للزائرین من بعید یبدأون بالصلاة و قراءة الأدعیة. و تغطی بالرصاص، کما یعلوها هی کرة غیر صغیرة بالحجم و هلال کبیر، و کلاهما یتوهج بذهبه. و قد صنعت الکرة و الهلال فی استانبول بأمر من السلطان سلیمان القانونی. أما القبة و الحرم بأجمعه فقد بناه قایتبای سلطان مصر ما بین سنتی 881 و 892 ه.
و کان الوهابیون قد أغراهم بتهدیم القبة الکبیرة الذهب اللماع، و تعالیمهم القاضیة بتهدیم القباب المقامة فوق القبور جمیعها بما فیها قبة الرسول الأعظم. فحاولوا ذلک و ابتغوا رفع الکرة و الهلال، لکن متانة البناء، و وجود الغطاء الرصاص، جعل من الصعب علیهم تنفیذ ما یریدون.
ثم سقط اثنان منهم بعد أن تزحلقا من فوق السطح الأملس، فترکت المحاولة و عدّ ذلک من معجزات النبی.
و هناک علی مقربة من ستائر الحجرة و فی داخل محیطها قبر «ستّنا فاطمة» مغطی بغطاء أسود من الحریر المطرز. و هناک بعض الاختلاف فی الرأی حول مدفن الزهراء البتول فی هذه البقعة أو فی مقبرة البقیع.
و لذلک یزورها الزوار فی هذین المکانین معا. و فی الجدار الشرقی للجامع فی مقابل هذا القبر تقریبا شباک صغیر یدل علی المکان الذی کان ینزل فیه جبرائیل علی النبی محمد (ص)، و یسمی «مهبط جبرائیل» ...
و لا یعتقد بورخارت بأن الزینة التی وجدها فی جهة الروضة و حول الضریح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 250
المطهر تناسب المقام المقدس، و لذلک یری بأن أیة کنیسة من الکنائس الکاثولیکیة فی أوربا تبدو أفخم و أجمل عند المقارنة، و أن المسلمین غیر میالین إلی التضحیة بأموالهم فی هذا الشأن مثل ما یفعله الکاثولیک، و حتی البروتستانت من النصاری.
و بعد أن یشرح بورخارت الکیفیة التی یزور بها الزوار الحرم الشریف، یبدأ بوصف الصحن الأوسط فیقول ان مبنی صغیرا مقببا یقوم فی وسطه، و تحفظ فیه الأضویة و المصابیح العائدة للحرم. و یوجد بالقرب منه سیاج خشبی غیر مرتفع فی داخله نخلات تعتبر مقدسة لأنها علی ما یقال کانت قد زرعتها الزهراء علیها السلام. و فی جانب النخلات بئر تسمی «بئر النبی»، لکن ماءها ماء عکر و لذلک لا یتمتع بشهرة قدسیة .. و حینما یأتی علی ذکر الأضاءة و الشموع یذکر أن زوجة الحذیوی محمد علی باشا التی کانت یومذاک فی المدینة جاءت بکمیات کبیرة من الشمع و أهدتها إلی الحرم الشریف، بعد أن کانت قد نقلت بعنایة و صعوبة کبری من ینبع إلی المدینة.
و للحرم الشریف أربعة أبواب کبیرة: باب السلام الذی کان یسمی باب مروان علی ما یروی السمنودی، و یقع فی الزاویة الجنوبیة الغربیة، و هو الباب الرئیسی الذی یجبر الزائر علی الدخول منه عند أول زیارته للحرم. و هذا الباب جمیل ذو عقادة مقوسة، و أجمل بکثیر من أی باب من أبواب الحرم الشریف فی مکة، مع أنها أصغر من عدد منها فی الحجم، و أجمل من أی باب من أبواب الجوامع التی رأیتها فی الشرق من قبل. فقد طعمت جوانبها بقطع من الرخام و الکاشی الملون بمختلف الألوان، و اکسبتها الکتابات البارزة بحروف من الذهب المکتوبة فوق القوس و علی جوانبه مظهرا متألقا یبهر الأبصار. و هناک أیضا باب الرحمة الذی کان یسمی الباب العتیق من قبل، و یقع فی السور الغربی فتمر منه الحنائز إلی داخل الجامع حیث یصلی و یقرأ علیها، و باب الجبر الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 251
یسمی أیضا باب جبرائیل، و باب النسا فی السور الشرقی و هو أول باب فیما یقرب من قبر ستّنا فاطمة. و جمیع هذه الأبواب تغلق بعد الغروب بثلاث ساعات یومیا، و لا تفتح إلا قبل الفجر بساعة. لکن الذین یرغبون فی الصلاة داخل المسجد طول اللیل یمکنهم أن یستحصلوا الرخصة لذلک من الأغا المکلف بالخفارة، الذی ینام بالقرب من الحجرة عادة.
أما فی أیام رمضان، فیبقی الحرم مفتوحا طوال اللیل.
و تعهد مهمة أمن الجامع و غسل الحجرة و سائر أجزاء المبنی جمیعها، و إنارة الحرم و ما أشبه، إلی خمسین أغا من الأغوات الخصیان الذین توجد منظمة خاصة لهم تشبه المنظمة الموجودة فی بیت اللّه الحرام فی مکة.
لکن هؤلاء تعطی لهم أهمیة أکبر فی المدینة، فتجدهم یلبسون أحسن و یستعملون الشال الکشمیری و أفخر أقمشة الهند الحریریة. و حینما یمرون بالسوق یسارع الجمیع إلی تقبیل أیدیهم، و لذلک یمارسون نفوذا غیر یسیر فی شؤون البلدة الداخلیة. و لهم مخصصات غیر قلیلة تبعث لهم من استانبول سنویا بصحبة موکب الحاج السوری. و یأخذون کذلک حصتهم من جمیع ما یقدم إلی الحرم، و ینتظرون الهدایا من الحجاج الزوار الأغنیاء، علاوة علی الرسوم التی یتقاضونها من زوار الحجرة .. و یسمی رئیس هؤلاء الأغوات «شیخ الحرم»، و هو رئیس الجامع بأسره أیضا و الشخصیة الأولی فی المدینة عادة، و علی هذا فرتبته أعلی من رتبة رئیس الأغوات فی مکة. و هو فی الحقیقة خصی من الخصیان یبعث من استانبول، و ینتمی عادة إلی الباب العالی الذی یرسله فی کثیر من الأحیان علی سبیل النفی کما یحصل عند ارسال باشوات الحجاز إلی جدة. و قد کان شیخ الحرم الذی شاهده بورخارت یومذاک «قزلر أغاسی» فی عهد السلطان سلیم .. و قد شوهد مرارا و هو یتقدم علی طوسون باشا الذی کانت رتبته برتبة الباشا فی جدة، أی برتبة باشا ذی ثلاث «طوغات».
و لذلک تسنی لبورخارت أن یشاهد طوسون باشا و هو یقبل ید شیخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 252
الحرم فی داخل الجامع المقدس. و له دیوان یضاهی دیوان الباشا بتشکیلاته تقریبا .. و علی هذا الأساس فقد احترمه حتی الوهابیون حینما استولوا علی المدینة، و سمح له أمیرهم سعود بأن ینسحب إلی ینبع هو و عدد من الخصیان مع أزواجهم و أمتعتهم و ممتلکاتهم النفسیة .. و یلقب الخصیان عادة بالأغوات، کما یخاطب رئیسهم «بسیادتکم» کما یخاطب الباشا و شریف مکة .. و هناک بالأضافة إلی هؤلاء عدد آخر من الخدم فی الحرم الشریف من أبناء المدینة نفسها یطلق علیهم «الفراشون» ... و یشتغل کثیر من هؤلاء فی الوقت نفسه مزوّرین أو قائمین بصلاة الغائب، أو مرشدین للزوار فی الأماکن المقدسة .. و یکون عدد الفراشین کبیرا جدا عادة.
و ینتقل بورخارت بعد ذلک إلی الکتابة عن أهمیة الزراعة فی حیاة أهل المدینة، و یذکر أن المدینة محاطة ببساتین النخیل التی تنتشر فیها البیوت. و یقول أن الحاصلات الرئیسیة فیها القمح و الشعیر و البرسیم و أنواع الفاکهة، بالأضافة إلی التمور التی تعد الحاصل الرئیسی فیها.
و یزرع الشعیر بمساحات أکبر، و لذلک یعتبر خبز الشعیر الغذاء الرئیسی لطبقات الناس الفقیرة. و هو یحصد هناک فی مارت، و حاصله من النوع الجید .. و تکثر بساتین الفاکهة فی جهات قبا، و یزرع فیها الرمان و العنب الفاخر و الخوخ و الموز بالأضافة إلی الرقی و الخضروات مثل السبانغ و الشلغم و الکراث و البصل و الجزر و الفاصولیة. و یشیع فی المدینة شجر (النبق).
و یتطرق أیضا إلی ذکر النخیل و فائدته فی صنع أشیاء کثیرة من أجزائه المختلفة. ثم یقول انه سمع بأن المدینة فیها ما یزید علی المائة نوع من التمور، و أکثرها انتشارا و أرخصها «الجبلی»، و هنا أیضا «الحلوة» و «الحلیة» و ثمارها صغیرة، و الصیحانی، و البرنی. و یذکر نوعا یقول انه نسبی اسمه تبقی ثماره خضراء اللون حتی بعد أن تنضج و تجف، و نوعا آخر أصفر مثل الزعفران، و هذان النوعان ینظمان فی خیوط تباع باسم «قلائد الشام».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 253
و ینهی الفصل عن المدینة بذکر المنطقة الحرام فیها، و یقول انها تحیط بالبلدة من جمیع الجهات لمسافة اثنی عشر میلا، و یدخل فی ضمنها من الجهة الجنوبیة جبل عیر و الشمالیة جبل ثور (و هو جبل صغیر یقع وراء جبل أحد). و هذه یجب أن تعتبر منطقة مقدسة لا یذبح أو یقتل فیها أی شخص إلا الأعداء أو المعتدین عن طریق الدفاع عن النفس، أو الکفار الذین یدنسونها. کما یجب أن لا یقتل فیها الطیور و لا تقطع الأشجار. علی أن هذا التحریم قد وضع جانبا فی الوقت الحاضر، علی ما یقول بورخارت، أی بوجود القوات المصریة. فقد لاحظ أن الأشجار تقطع و الطیور تذبح و معارک دمویة تقع فی البلدة و ما حولها، و مع أن غیر المسلمین یحرم علیهم الدخول الیها فقد حدثت مناسبات خلال مدة وجوده فی المدینة استخدم فیها النصاری الیونانیون فی مهمات تعود لجیوش طوسون باشا المخیمة علی رمیة بندقیة من المدینة نفسها.

أماکن الزیارة الأخری

و یذکر بورخارت أنه فی الیوم الذی ینهی فیه الحاج الزائر زیارته للحرم و الضریح المقدس فی المدینة، یزور مدافن البلدة کذلک فی العادة حیث یثوی عدد من الصحابة و الأئمة و الشهداء. و تقع المقبرة هذه فی خارج سور البلدة فیما یقرب من باب الجمعة، و تسمی مقبرة البقیع.
و هی عبارة عن مربع کبیر تبلغ سعته عدة مئات من الخطوات، محاط بجدار یتصل من الجهة الجنوبیة بضاحیة البلدة و ببساتین النخیل من الجهات الأخری. و تبدو المقبرة حقیرة جدا لا تلیق بقدسیة الشخصیات المدفونة فیها. و قد تکون أقذر و أتعس من أیة مقبرة موجودة فی المدن الشرقیة الأخری التی تضاهی المدینة فی حجمها. فهی تخلو من أی قبر مشید تشییدا مناسبا، و تنتشر القبور فیها و هی أکوام غیر منتظمة من التراب یحد کلا منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها. و یعزی تخریب المقبرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 254
إلی الوهابیین فیشیر إلی بقایا القبب و المبانی الصغیرة التی عمدوا إلی تخریبها من فوق قبور العباس و بعض الأئمة و عثمان و ستّنا فاطمة و عمات النبی (ص). و الموقع بأجمعه عبارة عن أکوام من التراب المبعثر، و حفر عریضة، و مزابل .. و یذکر بورخارت (الص 226) بالمناسبة أسماء الشخصیات الأسلامیة التی قبرت فی البقیع، و قد أتینا علی ذکرها من قبل. لکنه حینما یذکر قبر الأمام الحسن بن علی علیهما السلام یتوهم أنه الأمام الحسین سید الشهداء فیقول ان جسمه فقط دون الرأس قد دفن فیه، و یشیر إلی أن الرأس قد أخذ إلی القاهرة و حفظ فی جامع خاص یدعی الحسنیة .
ثم یصف زیارته إلی جبل أحد حیث وجد المسجد الذی شید حول قبر الحمزة و غیره من شهداء أحد، مثل مصعب بن عمیر و جعفر بن شماس و عبد اللّه بن جحش، و قد هدم الوهابیون القبة المشادة فوق القبر لکنهم لم یتعرضوا للقبر نفسه. و علی مسافة من هذا المسجد وجد قبة صغیرة تشیر إلی المکان الذی أصیب فیه الرسول علیه السلام فی موقعة أحد. و علی مسافة قصیرة من هذه القبة وجد قبور اثنی عشر صحابیا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 255
من أصحاب الرسول الذین استشهدوا فی موقعة أحد أیضا، و قد خرب الوهابیون قبورهم و عبثوا بها. و یقول بورخارت ان سکان المدینة قد اعتادوا علی الخروج مرة واحدة فی السنة إلی جبل أحد خلال شهر تموز، و هناک یبقون ثلاثة أیام متتالیة یسرحون و یمرحون کأنهم فی عید.
وزار بورخارت منطقة قبا أیضا، و أهم ما یذکره عنها أنها ملأی بالبساتین العامرة التی تزرع فیها جمیع أنواع الفاکهة عدا التفاح و الکمثری.
و تتزود المدینة بفواکهها من هذه المنطقة التی تنتج اللیمون و البرتقال و الرمان و الموز و الأعناب و الخوخ و المشمش و التین، و تنمو أشجار هذه الفواکه ما بین أشجار النخیل و النبق و نباتات الخروع. و یقوم مسجد قبا التاریخی مع ثلاثین أو أربعین بیتا من حوله فی وسط هذه البساتین.
و قد وجد المسجد صغیرا و بحالة خربة، و یلاحظ فیه «مبرک الناقة»، و البقعة التی صلی فیها النبی عند وصوله إلی (قبا) و التفت إلی مکة فتخیل ما کانت قریش تفعله فیها، و المکان الذی نزلت فیه الآیة المختصة صورة أخری للمدینة فی أواسط القرن التاسع عشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 256
بسکان (قبا) و علی مسافة قصیرة من مسجد قبا شاهد مسجد علی، و بقربه بئر عمیقة تسمی «العین الزرقاء».

سکان المدینة

أما سکان المدینة المنورة و طبقات الناس فیها فیقول بورخارت عنها انهم مثل سکان مکة أکثریتهم من الغرباء الذین تجذبهم قدسیة البلد الیها من جمیع أنحاء العالم الأسلامی. و علی هذا فهناک فیها جالیات من کل بلد اسلامی تقریبا. و لا توجد فیها إلا أقلیة صغیرة من نسل الأنصار الذین کانوا یسکنون المدینة عندما هاجر النبی الیها سنة 622 للمیلاد.
فهناک حوالی عشر أسر یمکنها إثبات نسبها و تحدّرها من الأوس و الخزرج، و هذه أسر فقیرة تعیش علی الفلاحة فی الضواحی و البساتین. علی أن عدد الشرفاء الحسبنیین غیر قلیل فی المدینة، لکن معظمهم غیر مدنیین فی الأصل، و إنما کان آباؤهم قد نزحوا الیها من مکة خلال الحروب التی کان یشنها الشرفاء للاستیلاء علیها. و ینتمی معظم هؤلاء تقریبا إلی طبقة العلماء، أما الشرفاء المحاربون الذین یشبهون شرفاء مکة فقلیلون جدا.
و هناک أیضا قبیلة صغیرة من الشرفاء الحسینیة المتحدرین من نسل الحسین شقیق الأمام الحسن علیهما السلام. و یقال انهم کانوا أقویاء فی المدینة سابقا، و کانوا یأخذون لأنفسهم القسم الأکبر من واردات الحرم الشریف، فإنهم کانوا خلال القرن الثالث عشر سدنة القبر المطهر المحظوظین. لکنهم تضاءلوا بعد ذلک حتی أصبحوا الیوم یقتصرون علی عدد محدود من الأسر التی لا تزال من علیة القوم فی البلد و سکانه الأغنیاء.
و هم یشغلون حارة خاصة بهم، و یحصلون علی أرباح طائلة و لا سیما من الحجاج الأیرانیین الذین یفدون علی المدینة للزیارة. و یفهم مما کتب فی هذه الرحلة أن هؤلاء من شیعة المدینة الذین یمارسون عباداتهم علی الطریقة السنیة فی الظاهر، و مع هذا فیطلق علیهم «الرافضة».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 257
و المعروف فی کل مکان أن بقایا الأنصار القدماء، و عددا کبیرا من عرب المدینة الفلاحین الذین یفلحون البساتین و الحقول من حولها هم من «الرافضة» أی الشیعة کذلک. و یسمی هؤلاء النواخلة، لأنهم یعیشون بین النخیل، و هم کثیرون فی عددهم و شجعان فی الحروب ..
و لذلک قاوموا الوهابیین حینما احتلوا المدینة مقاومة عنیفة .. و نقول ان المعروف فی التاریخ، ولدی المطلعین من الناس، أن النواخلة من الفلاحین الذین کانوا یفلحون فی بساتین الأمام الحسن علیه السلام. و یقول بورخارت کذلک ان النواخلة لا یتزاوجون مع غیرهم إلا فی النادر، و معظمهم یجاهرون بالشیعیة حینما یکونون بین نخیلهم لکنهم یدعون بالسنیة حینما یکونون فی البلد. و قد استوطن بعضهم فی الضواحی فاحتکروا مهنة القصابة. و تعیش فی البادیة من جهة الشرق علی مسیرة ثلاثة أیام من المدینة قبیلة بدویة بکاملها یسمی أفرادها «بنی علی»، و هؤلاء کلهم من الشیعة أو من معتنقی المذهب الأیرانی علی حد تعبیر بورخارت الذی یستغرب کیف أن أقدس مدینتین فی الأسلام تحاط إحداهما بالزیدیة (أی مکة) و الأخری بالجعفریة (أی المدینة) و لا تبذل أیة محاولة لأجلائهم.
و من بین الأسر القدیمة فی المدینة أسر تتحدر بنسبها من نسل العباسیین کذلک، لکن شأنهم قد انحط الآن حتی أصبحوا فقراء. و یطلق علیهم «الخلیفة»، أی المنحدرون من نسل الخلفاء .. ثم یسهب بورخارت فی ذکر الجنسیات الأصلیة التی ینتمی الیها سکان المدینة و یقول ان الجیل الثانی أو الثالث من السکان غیر العرب یستعربون بالتدریج و یصبحون عربا حتی فی قسمات وجوههم. و یتطرق بعد ذلک إلی لباس المدنیین و أسلحتهم و أحوالهم المعاشیة و الاقتصادیة و تجارتهم و أطعمتهم، و عاداتهم و طباعهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 258

حکومة المدینة

و فی فصل خاص بحکومة المدینة یلخص بورخارت تاریخها منذ صدر الأسلام إلی یوم وصوله الیها تلخیصا مختصرا جدا لا نری موجبا لنقله هنا لأنه منقول بصورة وافیة و کافیة للاطلاع فی صدر هذا الجزء الذی یتطرق إلی المدینة قدیما. لکنه من الطریف أن نذکر هنا أن حکومة المدینة قد استولی علیها فی العشرین السنة الأخیرة، أی منذ أواخر القرن الثامن عشر، رجل یسمی حسنا بعد أن کان قد عین أغا فی القلعة، و لذلک سمی حسن القلعی. و کان هذا رجلا من عوام الناس متصفا بالدهاء و الحیلة و محبوا بقوة التحمل و الشدة، فوصل إلی رتبة ضابط فی الجیش. و کان و هو ذو قامة قصیرة جدا یمشی مشیا مضطربا لأنه کان شبه أعرج، برغم ما کان عنده من قوة فی البدن و رهبة فی الصوت. و بعد عدة سنوات من الکفاح الشاق استطاع هذا الرجل أن یصبح سید المدینة غیر المنازع، و کان فی خدمته فوج من الحرس المختلط المتألف من البدو و المغاربة و سکان المدینة، کما کان فی جانبه جمیع رعاع المدینة و عوامها. فأخذ یستبد بالناس و یظلم الحجاج فیبتز أموالهم، و یصادر ممتلکاتهم، و یستولی علی مخلفات المترفین منهم، کما صار یصادر «العدة» أو الأموال التی کانت تحول من استانبول إلی العتبة المقدسة فی کل سنة، حتی جمع ثروة جسیمة و أموالا طائلة.
و قد رویت عنه قصص غریبة تدل علی وحشیته و نذالته، و منها أن أرملة ثریة جاءت من استانبول ذات یوم مع ابنتها لزیارة القبر المطهر فقبض علیها و أجبرها علی التزوج منه. و ما مرّ یومان علی الزواج حتی وجدت المرأة المسکینة میتة فی بیته فاستولی علی أموالها، و بعد مدة من الزمن أجبر ابنتها علی الخضوع له و التزوج منه أیضا!! و مع أن أمره قد رفع إلی استانبول عدة مرات فإن السلطان لم یجد نفسه قادرا علی طرده أو الاقتصاص منه.
و لم یکتف بذلک بل صار یتعرض بقوافل الحجاج و مواکبهم الرسمیة فیبتز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 259
منها الأموال و الرسوم حتی اضطر موکب الحج السوری إلی العودة قبل الوصول إلی المدینة فی سنة من السنین.
و حینما أخذ الوهابیون یهاجمون الحجاز فی السنوات الأولی من القرن التاسع عشر، و یتوجهون نحو المدینة، ازداد حسن القلعی عتوا و عنفا و لم تعرف لتعسفه و جوره أیة حدود فی السنوات الثلاث التی سبقت استیلاء الوهابیین علی المدینة. و صارت المخازن و الدکاکین تسرق خلال اللیل من قبل البدو العاملین فی خدمته. و لما وجد نفسه عاجزا عن الوقوف فی وجه الوهابیین و الصمود لهجماتهم استسلم لهم بشرط أن یبقی فی منصبه، فوعد بذلک و تم له ما أراد. فقد وضعت حامیة وهابیة فی القلعة، و أجبر آغا الحرم و الأتراک الذین کانوا موجودین فی المدینة علی الانسحاب منها بعد ان لم یکونوا فیها سوی أشباح لا أثر لها. و هکذا بقی حسن القلعی حاکما علی المدینة فی ظل الوهابیین. و عندئذ أخذ یتطرف فی تحمسه للمذهب الوهابی الجدید و یضغط علی السکان فی سبیل اعتناقه بأقسی الوسائل و أعنف الطرق. و لم یکن سعود لیحترم المدینة کما کان یحترم مکة، و لذلک أعفی المکیین من الرسوم و الزکاة و شدد فی استیفائها من أهل المدینة بواسطة حسن القلعی.
و عندما زحفت الجیوش المصریة علی المدینة تحمس حسن القلعی فی الدفاع عنها، و بعد أن اندحر طوسون باشا اندحاره الأول فی الجدیدة ترک الحکم لحسن نفسه. غیر أن طوسون أعاد الکرة فی الهجوم علی المدینة بقوة أعظم، فوجد القلعی أن لا قبل له بهذه الجیوش و دخل فی مفاوضات سریة معها فوعد بابقائه فی منصبه عند استسلام المدینة لها. فانحاز للجیوش العثمانیة حینما وصلت إلی أبواب المدینة، و استقبله أحمد بونابرت القائد العثمانی (المصری) بکل تقدیر و تکریم. ثم هوجمت البلدة فی الحال و استسلمت القلعة للمهاجمین.
و بعد أن قضی علی الوهابیین و استبعد خطرهم قبض علی القلعی و زمیله مذیان قائد الوهابیین و قیدا بالحدید و السلاسل ثم بعث بهما إلی القاهرة، و منها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 260
إلی استانبول حیث لقیا ما یستحقانه من الجزاء. و بذلک انقضت صفحة من أغرب صفحات التاریخ فی مدینة الرسول.

السر ریتشارد بورتون فی المدینة

لقد جاء السر ریتشارد بورتون الرحالة الانکلیزی لزیارة مکة و المدینة بعد بوخارت بأربعین سنة تقریبا (1853)، و نجح نجاحا باهرا فی التستر بحیث استطاع المکوث مدة من الزمن فی المدینة و زیارة الحرم الشریف فیها، و سائر الأماکن ذات الذکریات المقدسة و زیارة مکة المکرمة و أداء فریضة الحج بکل مناسکها و شعائرها، من دون أن یکتشف أمره لأنه تظاهر بالإسلام و تسمی ب «عبد اللّه»، و انتحل الجنسیة الأفغانیة. و قد أوردنا تفصیل ذلک فی الجزء المختص بمکة المکرمة من سلسلة العتبات المقدسة هذه (الص 294).
و یلاحظ من الرحلة التفصیلیة الرائعة التی طبعت بجزئین کبیرین أن السر ریتشارد لم یترک شاردة و واردة إلّا ذکرها فی نصوص الرحلة أو شروحها و هوامشها الضافیة. و مع ما فی هذه الرحلة من تحامل و أغلاط فی فهم الإسلام و شریعته، فإنها تعد شیئا ممتازا من ناحیة البحث و التحقیق، و دراسة لها قیمتها التاریخیة و الجغرافیة. و سنحاول أن نورد فیما یأتی أهم ما یمکن اقتباسه منها، تارکین الباقی إلی ما کان قد ذکره بورخارت عن المدینة قبله، و ما سننقله عن رحلة أیلدون رتر المتأخرة (1925) لکونه أقرب إلی واقع المدینة الحالی، لا سیما ما یختص منها بوصف داخلیة الحرم النبوی و ما أشبه.
فقد جاء بورتون إلی المدینة من ینبع المطلة علی البحر الأحمر، و وصلها موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 261
فی الخامس و العشرین من تموز 1853. و هو یرسم صورة قلمیة لها عند أول إطلالة علیها من مسافة قلیلة بقوله: و قد بان أمامنا سهل فسیح تحده من الأمام أراضی نجد المتعادیة، و یبین فی یساره رکام عبوس من الصخور هو جبل أحد المعروف، و کتلة کبیرة من الخضرة تستکن فی قاعدتها قبة بیضاء واحدة أو قبتان. و کانت تمتد إلی الیمین، من فوق نخیل قبا و بساتینها المتمیزة بخضرتها الزمردیة من بین وجه السهل الأسمر المعتم، شرائط عریضة من الضباب اللیلاقی المتکاثف بالندی المتجمع هنا، و المتباعد هناک، بفعل الأشعة المنبعثة فی الصباح. و فی أسفل السهل، علی بعد میلین منا، کانت تربض المدینة المنورة، فتبدو کأنها مکان کبیر متسع، لکننا ما دنونا و تبیناها علی قرب حتی تبین لنا أن انطباعنا ذلک کان شیئا و همیا. و کان یخترق السهل ما بین الحرة و المدینة طریق ملتو یؤدی إلی مدخل مرتفع مستطیل الشکل یخترق السور الطینی المحیط بالضاحیة، و هو مدخل «العنبری». و تقوم إلی یساره قباب و منائر مبنی ترکی جمیل، هو التکیة التی شیدها محمد علی لاستقبال مسافری الدراویش، کما یمتد إلی یمینه خط طویل واطی‌ء من الأبنیة البیضاء المزدانة بشبابیک مربعة بشعة .. و فیما بین النخیل القائم فی شمال المدینة من الخارج کانت تبین خربة سبیل قدیم واسع بصورة رائعة، و فیما بین هذه الخربة و القلعة کانت تقوم بنایة بارزة مبنیة علی طراز المقاصیر الترکیة، و هی قصر الحاکم. و تبین فی زاویة سور البلدة الشمالیة الغربیة قلعة بیضاء طویلة مشید قسم منها فوق کتلة بارزة من الصخر. و تکسب هذه البنایة استحکاماتها محمد علی باشا الخدیو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 262
و مزاغیلها مظهرا أوربیا حدیثا یفارن مقارنة غریبة بتاریخها الشرقی الخالص.
و تقوم فی ضاحیة «المناخة» القباب و المنائر الجدیدة من فوق المساجد الخمسة لامعة بین الکتلة الداکنة المتکونة من البیوت و الأرض المحیطة بها. و فیما وراء ذلک فی أقصی القسم الشرقی من المدینة تبین بصورة رائعة جوهرة المدینة أی الأبراج (لعله یقصد المنائر) العامرة الأربعة و القبة الخضراء اللامعة التی یثوی تحتها جدث النبی الطاهر. و یبدو محتجبا نصف احتجاب بهذه الکتلة من الأبنیة و بیوت البلدة، من بعید عدد من البقع البیضاء منطبع فوق سطح أخضر، یشیر إلی القبور التی تزدان بها مقبرة البقیع الموقرة. و تبدأ من تلک النقطة إلی الجنوب کتلة النخیل و بساتینها التی عرفت فی الإسلام ب «أشجار المدینة». و تبرز من وراء هذا المنظر خلفیة ملائمة تتکون من حقول الجفاء (البازالتی) الأسود الدال علی أصل برکانی واضح، و المتکسر إلی کتل جسیمة ضخمة یتلوی نزلا من بینها بانحدار یسمح بنزول الإبل طریق یؤدی إلی السهل.
ابراهیم باشا ابن محمد علی باشا
و یصف بورتون بعد ذلک ساعة الوصول و الاستقبال فیقول خلال هذا: ان العرب یبدون فی هذه المناسبات من العواطف أکثر مما تبدیه سائر الأقوام الشرقیة التی یعرفها، ففی طبیعتهم من الحنان و المحبة الشی‌ء الکثیر، و هم أکثر تعبیرا عن عواطفهم بکثیر من الهنود .. و بعد أن مرّ الرکب من باب العنبری ساروا أرتالا فی شارع عریض مغبر فاخترقوا حارة العنبریة، و هی الحارة الرئیسة فی ضاحیة المناخة .. ثم عبروا جسرا یتکون من طاق حجری واحد مشید فوق مسیل یسمی «السیح»،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 263
و بعده بقلیل وصلوا إلی «بر المناخة»، و هذا یؤدی باتجاه مستقیم إلی «الباب المصری» للمدینة.

بین مکة و المدینة

و فی فصل خاص یفرده بورتون لزیارته قبر النبی (ص) یستهل الکتابة بالخوض فی موضوع المفاضلة بین مکة و المدینة. فیقول ان المسجد النبوی هو أحد الحرمین، و ثانی الأماکن المقدسة الثلاثة المعدة للعبادة، أما الإثنان الآخران فهما المسجد الحرام فی مکة الذی یعود بقدسیته إلی إبراهیم الخلیل و المسجد الأقصی فی القدس الشریف. و یذکر فی حاشیة له علی هذا القول أن البعض یضیفون مکانا رابعا إلی هذه الأماکن الثلاثة، و هو «مسجد التقوی» فی قبا. و قد ورد فی الحدیث عن النبی قوله «الصلاة فی مسجدی هذا خیر من ألف صلاة فی أماکن أخری، إلّا المسجد الحرام». و لذلک فمن واجب الزائر الذی یبقی فی المدینة أن یصلی هناک فی الأوقات الخمسة، و یقضی النهار بقراءة القرآن الکریم فیه، و اللیل فی التأمل إن أمکن.
و یسمی الدخول إلی المسجد النبوی و تفقد الأماکن و البقع المقدسة فیه «الزیارة». و هناک فرق أساسی بین هذا الطقس و الحج إلی بیت اللّه الحرام.
فالحج فریضة واجبة یفرضها القرآن علی کل مسلم مرة واحدة فی حیاته، أما الزیارة فعمل مستحب. و الطواف الذی یتم فی بیت اللّه فی مکة یجب أن لا یؤدی حول قبر الرسول مطلقا، و علی الزائر أن لا یزور القبر المطهر بلباس الاحرام و لا یلمسه بیده أو یضغط بصدره علیه کما یفعل فی الکعبة، و لا یعفّر وجهه بالتراب المتراکم من حوله.
و یخال للمرء أن هذه النقاط تکفی للاتفاق علی منزلة المسجد النبوی و مکانته الروحیة، لکن الناس تختلف علی الدوام، و لا سیما فی الشرق فیذهب المالکیون إلی أن المدینة أکثر تبجیلا من مکة نظرا لقدسیتها و المنافع الدینیة المستمدة منها، و لوجود قبر النبی (ص) فیها. و یقرل البعض أن الرسول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 264
علیه السلام فضّل مکان هجرته علی أی مکان آخر و بارکه کما بارک إبراهیم مکة. یضاف إلی هذا أن الحدیث المختص یستفاد منه أن جسم کل امرء یستمد من الأرض التی یدفن فیها، و لذلک فقد حظیت المدینة بشرف تقدیم المادة لجسم الرسول الأعظم. و هناک آخرون مثل عمر بن الخطاب لم یکونوا متأکدین من أی شی‌ء یفضلون. و لما کان الوهابیون من جهة أخری لا یعترفون بشفاعة الرسول یوم القیامة، و یعتبرون قبر الرسول قبرا مثل سائر القبور شیئا لا یعتد به، و وسیلة للعبادة الوثنیة التی یمارسها بعض المسلمین الحمقی، فقد نهبوا المبنی المقدس بعنف ینطوی علی التدنیس و منعوا الزوار القادمین من البلاد النائیة عن الدخول إلی المدینة .
علی أن المسلمین یجمعون علی أفضلیة بیت اللّه الحرام فی مکة علی کل شی‌ء فی العالم، و یعترفون بأن المدینة أکثر احتراما و تبجیلا من أی جزء من مکة، و جمیع ما فی الأرض، عدا بیت اللّه. و لا شک أن هذا لا یعنی تفضیل سکان مکة علی سکان المدینة أو بالعکس، لکن المکیین فی الوقت نفسه یدعون ادعاء مطلقا بأفضلیتهم علی أهل المدینة، و کذلک یفعل المدنیون (الص 304- 307 ج 1).

مظهر الحرم النبوی

و حینما حاول بورتون الدخول إلی الحرم الشریف فی المدینة لم یجد له جبهة خارجیة واضحة، و لا منظرا یلیق بمسجد الرسول علی ما یقول، و لذلک فهو کمبنی مقدس لا جمال فیه و لا جلال. و بعد أن دخل من «باب الرحمة» اندهش من منظره العادی و البهرجة الرخیصة المتجلیة فیه، التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 265
تعد شیئا غیر لائق لمثل هذا المکان الذی یجله المسلمون فی مشارق الأرض و مغاربها و یقدسونه کل التقدیس. و هو لیس مثل بیت اللّه الحرام المهیب البسیط، المعبر عن فکرة سامیة واحدة. و یقول کذلک: اننی کلما أمعنت النظر فیه تبین لی أشبه بمتحف فن من الدرجة الثانیة، أو دکان تحف قدیم ممتلی‌ء بالتزویقات غیر الکمالیة، و مزدان بفخامة الفقراء.
.. و المسجد متوازی الأضلاع یناهز الأربع مائة و عشرین قدما فی الطول و الثلاث مایة و أربعین فی العرض، و یتجه طوله من الشمال إلی الجنوب تقریبا. و هو مثل سائر المبانی الدینیة الإسلامیة المعتادة مبنی فیه ساحة وسطی مکشوفة تسمی الصحن، أو الحوش، أو الحصوة، أو الرملة، یحیط بها بهو له صفوف عدیدة من الأعمدة علی شاکلة الأدیرة الإیطالیة. و الأروقة فیه سقوف منبسطة، لکنها مقببة من فوق بقبب تشبه القبب الإسپانیة نصف النارنجیة، و تقسم إلی أربعة أقسام بممرات ضیقة تنخفض عن مستوی التبلیط بثلاث أو أربع درجات. و یمتد علی طول الجدار الشمالی القصیر من داخله الرواق المجیدی المسمی باسم السلطان الحاکم (عبد المجید)، کما یشغل الجدار الغربی الطویل رواق باب الرحمة، و الجدار الشرقی رواق باب النساء.
و یستمد الرواق الأخیر اسمه هذا من قربه من قبر السیدة فاطمة (ع)، و یدخل النساء منه عندما یردن زیارة القبر المطهر.
و یحتضن الطول الداخلی للجدار الجنوبی القصیر صف الأعمدة الرئیس المحیط بالروضة، أی الموضع المحتوی علی جمیع ما هو مقدس فی الحرم.
و هذه الأروقة الأربعة المقدسة من الخارج تحملها من الداخل أعمدة تختلف بعضها عن بعض فی الشکل و المادة. و قد بلط الرواق الجنوبی الذی یقوم فیه الضریح بقطع جمیلة من الرخام الأبیض المشغول بشغل التطعیم، المغطی هنا و هناک بالحصر الخشنة التی فرش فوقها السجاد غیر النظیف المتأکل بأرجل المؤمنین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 266

المنائر

یبلغ عدد المنائر فی الحرم الشریف خمسة، لکن منارة واحدة، هی الشکیلیة التی تقوم فی الزاویة الشمالیة الشرقیة من المبنی قد هدمت و ما تزال تبنی بشکل جدید. و تقوم منارة باب السلام إلی جانب هذه الباب. و هی کأنها برج طویل جمیل تعلوه کرة کبیرة أو مخروط من النحاس الأصفر اللماع. کما تقوم منارة باب الرحمة فی منتصف الجدار الغربی، و هی أبسط فی شکلها من المنائر الأخری، و لها حوضان یکون الأعلی منهما دائری الشکل یعلوه سطح مخروطی کما هو مألوف فی ترکیة و مصر. و تقوم فی الزاویة الشمالیة الشرقیة من المسجد المنارة السلیمانیة المسماة باسم بانیها السلطان سلیمان القانونی. و هی برج متین البناء بالحجر، له ثلاثة أحواض یکون الحوضان الأسفلان منها مضلعی الشکل و الحوض الأعلی أسطوانی الشکل، و ینتهی کل منها بمنصة یدور حولها سیاج حدید لحمایة الذین یصعدون الیه.
و أخیرا، تقوم المنارة الرئیسیة فی زاویة المسجد الجنوبیة الشرقیة، و المفروض فی هذا الموقع أن یکون الموقع الذی کان یقف فیه بلال مؤذن الرسول فیدعو المسلمین إلی الصلاة. و یقول بورتون انها سمیت رئیسیة لأنها مخصصة لرؤساء المؤذنین. و هی مثل المنارة السلیمانیة لها ثلاثة أحواض یکون الأولان منها مضلعین فی شکلهما و الثالث أسطوانی الشکل، و له مثل ما للأولین منصة مسیجة. و تنتهی کل من المنارتین الأخیرتین بشکل بیضوی صلب ینبت منه عدد من المثلثات الخشبیة التی تعلق بها و بالمنصات مصابیح نفطیة فی الأعیاد و المناسبات، مثل مناسبة وصول موکب الحج الشامی- و هی محاولة هزیلة للأنارة یمکن أن تساعد علی تفسیر الخرافة المدنیة التی تشیر إلی عمود النور الذی یعلو قبر النبی (ص). و لیس هناک تناسق فی شکل هذه المناورات الأربع و حجمها، و لهذا تکاد تبدو لأول وهلة غریبة المنظر و فی غیر محلها برغم ما فیها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 267
من جمال و جلال. و یقول بورتون انه بعد أن بقی فی المدینة عدة أیام صارت عیونه تألفها و لم یعد یجد صعوبة فی تقدیر نسبها الضخمة و أشکالها السامقة (الص 333 و 334 ج 1).

الأروقة و الأعمدة

و یسری عدم التناسق الموجود فی المنائر إلی الأروقة المحیطة بالصحن المربع المکشوف فی الوسط أیضا. فعلی طول الجدار الشمالی سیکون عند الانتهاء من البناء الذی کان قائما علی قدم و ساق صف جمیل من الأعمدة الغرانیت التی بلطت الأرض فیما بینها بالرخام. و للرواق الشرقی ثلاثة صفوف من الأعمدة، و قد ثبتت الأربعة الغربیة منها و الجنوبیة، التی یقوم تحتها الضریح المطهر تثبیتا أعمق. لکن هذه الدعامات التی تدعم المبنی قد نحتت من مواد مختلفة، فبعضها رخام فاخر جمیل، و بعضها الآخر حجر غیر صقیل کسی و صبغ بآرابیسک مبتذل- أی ببقع و خطوط عریضة من اللونین القرمزی و الأسود مثل وجه المهرج اللندنی حینما یظهر فوق المسرح. یضاف إلی ذلک أن حجم الأعمدة مختلف أیضا، فتتألف الجنوبیة منها من أساطین أضخم من الأساطین الموجودة فی سائر أنحاء المسجد، فنادرا ما تجد اسطوانتین لهما تاجان متشابهان، و کثیر منها لیس له قواعد، کما أن بعضها قد قطع بجهل مؤلم بفن البناء.
و لذلک یقول بورتون انه لا یسعه أن یشمّل إعجابه بالمنارات الأعمدة هذه.
و من بین هذه الأعمدة التی لا تستحق الثناء، هناک ثلاثة لها شهرة فی تاریخ الإسلام و لذلک کتبت أسماؤها علیها بالدهان، و تتمتع خمسة أخری بشرف التسمیات المشهورة. فیسمی الأول «المخلق» لأنه لطخ بالخلوق فی مناسبة من المناسبات، و یقع هذا بالقرب من المحراب النبوی إلی یمین المکان الذی یصلی فیه الأمام، کما یدل علی البقعة التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 268
کان الرسول الأعظم علیه السلام قبل اختراع المنبر یتکی‌ء فیها علی «الأسطوانة الحنانة» و یلقی خطبة الجمعة. و العمود الآخر هو ثالث عمود من المنبر و ثالث من الحجرة، و یسمی «عمود عائشة» و کذلک «أسطوانة القرعة» لأن الرسول علی ما تقول زوجته المفضلة صرح قائلا:
ان الناس حینما یعرفون قیمة هذا المکان سوف یستعینون بالقرعة للصلاة فیه. و یذکر فی بعض الکتب باسم «عمود المهاجرین»، کما أن آخرین یسمونه «المخلق» کذلک.
و علی بعد عشرین ذراعا من عمود عائشة، و عمودین من الحجرة، و أربعة أعمدة من المنبر یقع «عمود التوبة» أو عمود أبی لبابة. و قد سمی کذلک علی أثر حادثة وقعت لأبی لبابة أحد الأنصار، الیهودی الأصل، أو الأوسی، الذی جاء یفاوض النبی عن بنی قریظة الیهود فأساء التصرف و ندم فقرر أن یشد نفسه بنخلة کانت فی هذه البقعة حتی یقبل اللّه و النبی توبته. أما الأعمدة التی تقل فی شهرتها فهی «أسطوانة السریر» التی کان من عادة النبی أن یجلس فی موقعها للتأمل فوق سریره المتواضع المصنوع من جرید النخل. و تشیر «أسطوانة علی» إلی المکان الذی کان الأمام علی یصلی فیه إلی جنب ابن عمه النبی. و فی موقع «أسطوانة الوفود» کان النبی (ص) یستقبل الوفود و الرسل و المبعوثین من البلاد الأخری.
و تدل «أسطوانة التهجد» علی المکان الذی کان النبی یمضی لیلة فیه مصلیا متهجدا. و أخیرا «مقام جبرائیل» الذی لم یجد بورتون تفسیرا لأسمه الآخر «مربعة البعیر».
و تطل الأروقة الأربعة فی مسجد المدینة علی صحن أوسط مکشوف متوازی الأضلاع فی شکله. و الشی‌ء الوحید الذی یلفت النظر فیه سیاج خشب مربع الشکل یحیط بتربة حسنة الأرواء تدعی «حدیقة ستّنا فاطمة»، و توجد فیها الیوم (أی یوم زیارة بورتون فی 1853) اثنتا عشرة شجرة یهدی خصیان المسجد تمرها إلی السلطان و عظماء المسلمین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 269
و توجد بین النخلات بقایا لسدرة قدیمة یباع ثمرها بأسعار عالیة. أما البنایة الصغیرة التی ذکرها بورخارت قبل أربعین سنة، و قال إنها توجد بالقرب من هذا الموقع، فقد هدمت قبل ثلاث أو أربع سنوات، و کانت تسمی «قبة الزیت» أو «قبة الشمع».

دفن النبی

و ینهی بورتون فصله الطویل الذی کرسه لوصف الحرم الشریف (الفصل السادس عشر ج 1) بالتشکیک فی صحة المکان الذی دفن فیه النبی الأعظم، مستندا إلی أسباب تافهة. فهول یقول (الص 339) انه برغم أن کل مسلم و مسلمة علی وجه البسیطة، متعلما کان أو غیر متعلم، یعتقد بجزم بأن رفات النبی محمد قد دفنت فی «الحجرة» بالمدینة، فأننی لا یسعنی إلّا أن أعتقد بأن المکان مشکوک فیه، مثل ما هو مشکوک بالقبر المقدس فی القدس الشریف.
و یجب أن نتذکر أن شغبا قد حصل حینما توفی النبی لأن الناس الذین کانوا یعتقدون بخلوده لم یصدقوا النبأ، و حتی عمر فعل ذلک و هدد بقتل من یصدقه.
یضاف إلی ذلک أن النبی ما صعدت روحه إلی بارئها فی السماء حتی حصل نزاع بین مهاجری مکة و أنصار المدینة. و باحتدام هذا النزاع هدد البعض بحرق بیت علی و فاطمة، الواقع علی بعد أقدام معدودة من البقعة التی یوجد فیها جدث الرسول الیوم، ثم انتخب أبو بکر للخلافة فی مساء الیوم نفسه.
و یقدم بورتون فیما یأتی الأسباب التی تدعوه إلی الاعتقاد بمثل هذا الرأی العجیب!!.
فهو یقول ان قبر الرسول منذ أیامه الأولی لم یعرف شکله قط فی الاسلام، و لهدا السبب یکون شکل القبور محدبا فی بعض البلاد الاسلامیة و مسطحا فی بلاد أخری و لو کانت هناک سنة فی هذا الشأن لما کانت الحالة علی ما هی علیه الیوم. کما ان الروایات، فالسمنهودی الذی یعد ثقة بین المؤرخین یناقض نفسه فی هذا الشأن. فتارة نجده یصف القبر المطهر، و تارة أخری یقول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 270
بصراحة انه دخل الحجرة حینما کان یرممها قایتبای و رأی فی داخل الضریح ثلاثة لحود عمیقة و لکن لم یجد أثرا للقبور. و لذلک فاما ان تکون وفات الرسول یکون الشیعة قد نقلوها الی مکان آخر حینما ظل القبر المقدس بعهدتهم قرونا عدیدة. و أخیرا یقول بورتون: انی لا یسعنی الا ان اعتبر قصة النور الذی یأخذ بالأبصار فیحیط بقبر الرسول، مما کان و ما زال یعتقد به المسلمون، تمویها ابتدعه المسؤولون لتغطیة النقص المشار الیه. و لا اعتقد ان هذه الأسباب، و هذا الرأی، یستحق الرد علیها لأنها تتهادی أمام المنطق السلیم .

شی‌ء من تاریخ المدینة

و هناک فصل أفرده بورتون فی رحلته (الفصل السابع عشر ج 1) لتاریخ المسجد النبوی لا نجد مبررا لا یراد شی‌ء منه هنا نظرا لما جاء من هذا التاریخ فی صدر هذا البحث نقلا عن دائرة المعارف الاسلامیة. لکن بدایة هذا الفصل تتطرق الی تاریخ المدینة القدیم، و قد وجدنا من المناسب ایراده هنا لما فیه من طرافة و شی‌ء من الفائدة بالرغم من کونه من الاخبار التی لا تتجانس مع التاریخ الاکادیمی العلمی فهو یقول ان ابن عباس أخبر العالم بان الثمانین شخصا الذین کانت تتکون منهم أسرة النبی نوح عند أول خروجه من الفلک نزلوا فی مکان یبعد عن بابل بعشر مراحل و اثنی عشر فرسخا، ای بمقدار 36 الی 48 میلا. و هناک تناسلوا و تکاثروا ثم انتشروا فکونوا امبراطوریة قویة، لکنهم انحرفوا عن عبادة اللّه العلی القدیر فی الأخیر علی عهد نمرود بن کنعان بن حام. و بمعجزة من المعجزات تفرقوا أیدی سبا و انتشروا الی أقصی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 271
بقاع الأرض، ثم أخذوا یختلفون بتعدد لغتهم البدائیة الی اثنتین و سبعین لهجة.
و قد أوحی الی قبیلة من هؤلاء تسمی أبناء سام بن نوح، أو العمالقة و العمالیق، نسبة الی جدهم عملق بن أرفخشد بن سام بن نوح، بمعرفة اللغة العربیة. فنزلت فی المدینة، و کانت أول من فلح الأرض و زرع النخیل فیها، و احتل هؤلاء الناس بمرور الزمن جمیع الأراضی الواقعة ما بین بحری الحجاز (البحر الأحمر) و عمان (الجزء الشمالی الغربی من المحیط الهندی) فأصبحوا أسلاف الجبابرة فی سوریة و الفراعنة فی مصر. و کان عمر الانسان فی عهد هؤلاء العمالیق طویلا بحیث لم یکن یری خلال أربع مائة سنة أی تابوت و لم یسمع أی نوع من العویل فی مدنهم.
و یقول معظم المؤرخین ان آخر ملک من ملوک العمالقة، و هو أرقم بن الأرقم ذبحه جیش من أبناء اسرائیل أرسله موسی بعد «الخروج» أو هجرة الیهود و أمرهم بتطهیر مکة و المدینة تطهیرا کاملا من سکانها الکفرة. فقضی علی القبیلة کلها عدا امرأة واحدة و أطفال من الأسرة المالکة و فتی یافع منهم، لأن جماله الطاغی أقنع المحتلین باستبقائه الی ما بعد الرجوع الی رأی النبی فیه. و حینما عاد الجیش وجد موسی قد قضی نحبه، فأنّبهم الناس علی مخالفة أمره الصریح. و لم یشأ أفراد الجیش ان یعیشوا مع الأمة التی استقبلتهم بمثل ذلک اللوم و التقریع، فعادوا الی الحجاز و استقروا فیه .
و یتفق المؤرخون المسلمون علی ان بنی اسرائیل هم الذین حکموا بلاد العرب المقدسة بعد العمالقة، لکن المتبحرین فی التاریخ لا یتفقون علی سبب هجرتهم الی هناک. فیقول بعضهم ان موسی حینما کان عائدا من الحج فی مکة وجد جماعة من اتباعه فی المدینة الدلائل التی یشیر التوراة بواسطتها الی انه ستستمع الی خاتم النبیین و آخر المرسلین. فنزلوا فیها و انضم الیه کثیر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 272
البدو الموجودین حولها، و خضعوا لشریعة موسی. و یخبرنا ابن شیبة کذلک ان موسی و هارون حینما رحلا من مکة و اتجها نحو الشمال لم یدخلا الی المدینة خوفا من بعض الیهود الذین کانوا فیها، لکنهما نصبا خیامهما فوق جبل أحد. و حینما اوشک هارون علی الوفاة حفر موسی قبرا له و خاطبه یقول «لقد أتتک الساعة یا أخی فوجه وجهک الی العالم الآخر». فتمدد فی القبر، و فاضت روحه فی الحال، و عند ذاک أهال موسی علیه التراب و توجه الی أرض المیعاد! .. و هنا یعلق بورتون و یقول انه شاهد قبة هارون فوق قمة أحد، لکنه یذکر کذلک ان قلیلا من المراجع تعتقد بدفن هارون فی هذا المکان، لأن قبره موجود فوق جبل الطور فی شبه جزیرة سیناء، و هو کثیرا ما یزار هناک.
و یزعم أبو هریرة ان بنی اسرائیل نزلوا فی المدینة بعد تفتیش طویل، لأنهم وجدوا فی کتبهم بعد أن طردوا من فلسطین علی اثر احتلال بختنصر لها أن خاتم النبیین سیظهر فی بلدة من بلدان «عربیة» تدعی «ذات نخل».
و قد احتل البعض من أبناء هارون المدینة، و نزلت القبائل الأخری فی خیبر و ما جاورها و بنوا لهم أطما، أو حصونا مربعة مسطحة السطوح من الحجر للسکنی و الدفاع. و خلفوا لأجیالهم التالیة ما یفهم منه أن محمدا یجب ان یستقبل استقبالا حسنا، لکن اللّه سبحانه و تعالی أغلظ قلوبهم فأدی ذلک الی هلاکهم.
فقد اداروا ظهورهم کالحمیر الی رحمة اللّه، و کانت النتیجة ان استؤصلوا من الأرض.
و یذکر الطبری فی تاریخه ان بختنصر بعد ان خرب أورشلیم هاجم مصر و ذبح ملکها الذی کان قد آوی بقایا بنی اسرائیل، فوجد اللاجئون المطاردون طریقهم الی الحجاز و نزلوا بالقرب من یثرب، حیث أسسوا بلدانا عدة مثل خیبر، و فدک، و وادی الصبو، و وادی القری، و قریظة، و کثیر غیرها:
و لذلک یبدو باتفاق المؤرخین ان الیهود فی الزمن القدیم اما ان یکونوا قد استوطنوا المدینة، أو حلوا محل العمالقة فیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 273
و قد تخلی الاسرائیلیون فی الأخیر عن عبادة اللّه الواحد الأحد، الذی أثار قبائل الأوس و الخزرج العربیة علیهم. و تمّت هذه القبائل بصلة الی أصل واحد، کما تزعم ان بلادها الأصلیة هی بلاد الیمن. و تشرح ظروف هجرتهم الی المدینة علی الوجه الآتی: فقد کان أحفاد یعرب بن قحطان بن شالک بن أرفخشد بن سام بن نوح، أقارب العمالقة، یعیشون عیشة مزدهرة فی بلاد سبأ، و کان نفوذهم یمتد الی رحلة شهرین عن سد مأرب بالقرب من عاصمة الیمن الحالیة فیصل الی سوریة. کما کانت تروی روایات لا تصدق عن ضیافتهم و خصب أراضیهم. فتبدلت قلوبهم کالمعتاد و انحرفت بتأثیر الترف و الحیاة المزدهرة التی کانوا یحیونها، و طلبوا من اللّه ان یریحهم من عناء الامبراطوریة المترامیة الأطراف و من واجبات الضیافة بتقلیل ممتلکاتهم. فکانت نتیجة تضرعاتهم العاقة ما أصابهم من سیل العرم المعروف!!.
و کان رئیس أبناء قحطان بن سبأ، من أسر الیمن المالکة، رجلا یسمی عمرو بن ماء السماء، و یلقب «مزیقیة» لأنه کان یمزق ثیابه بعد ان یلبسها مرة واحدة. و کانت لزوجته (تارکة) الحمیریة معرفة تامة بالعرافة و الکهانة، فتکهنت بحوادث ممیتة و أنذرت زوجها مقدما بذلک. و لما کان غیر راغب بترک قبیلته من دون عذر أو مبرر، دبر مع ابنه بالتبنی ان یتشاجر معه و یلطمه علی وجهه فی مأدبة کبیرة یحضرها رجال مملکته المرموقون. فاتخذ تلک الحادثة حجة لبیع أملاکه و هاجر الی الشمال یتبعه أبناؤه الثلاثة عشر، الذین کانوا کلهم من أمهم (تارکة) نفسها. و قد قدر للجماعة الصغیرة هذه، التی نجت من الطوفان فی الیمن علی هذه الشاکلة أن یکون أحد أفرادها أبا للأنصار الذین نصروا رسول اللّه فی المدینة من بعد ذلک.
فقد انتشر أولاد عمرو جمیعهم فی مختلف أنحاء الجزیرة العربیة، و اختار ابنه الاکبر سلبه بن عمرو الحجاز فنزل فی المدینة التی کانت یومذاک فی أیدی بنی اسرائیل العاقین، و أصبح أبا للأوس و الخزرج. و بمرور الزمن جعل اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 274
سبحانه و تعالی من القادمین الجدد وسیلة للانتقام من الیهود المتمردین. إذ کانت قبیلتا بنی قریظة و بنی النضیر تدعیان ببعض الحقوق الاقطاعیة فی جمیع مناسبات الزواج، و بعد ان تحمل أبناء الأوس و الخزرج هذه الاهانة مدة من الزمن التجأوا فی الأخیر الی قریب من أقربائهم الذین کانوا قد نزلوا فی سوریة عندما تفرقت الأسرة، و هو أبو جبیلة. فساق هذا جیشا الی المدینة و انتقم لشرف أقربائه فیها، و بذلک قضی علی قوة الیهود الذین أصبحوا منذ ذلک الیوم موالی للعرب.
فعاشت قبائل الأوس و الخزرج بعد ان تحررت من عدوها المشترک عیشة هدوء و صفاء مدة من الزمن. ثم وقعت خلافات و ضغائن بینهم بعد ذلک، و ظلوا یتقاتلون فیما بینهم حتی جاء النبی الأکرم الی المدینة فأصلح فیما بینهم.
علی ان هذا لم یحدث الا بعد ان منی الخزرج باندحار شنیع علی ید الأوس فی موقعة بواس حوالی سنة 615 للمیلاد.
و قد روی أیضا ان تبعا الأصغر سار نحو الشمال، قبل ان یحاصر أبو جبیلة المدینة بثلاثة قرون، بطلب من الأوس و الخزرج لتأدیب الیهود. و بعد ان استولی علی المدینة ترک أحد أبنائه حاکما فیها و زحف لاحتلال سوریة و العراق.
غیر انه أخبر فجأة ان أهالی المدینة قتلوا أمیرهم الجدید غیلة فعاد تبع لتوه و أخذ بمهاجمتها. و حینما قتل حصانه من تحته فی أثناء الهجوم أقسم بأن لا یقوض خیامه ما لم یهدم المدینة علی أهلها. و عند ذاک خرج له اثنان من کهنة الیهود و أحبارها، هما کعب و أسید، و أخبراه بأنه لیس فی مقدور البشر ان یهدم هذه المدینة لأن اللّه سیحمیها علی ما تذکره کتبهم، و یجعلها ملجأ لنبیه من أبناء أسماعیل.
فتهود تبّع و أخذ أربع مائة من أحبار الیهود معه و ترک المدینة، و بعد ان حج الی الکعبة فی مکة و أنعم علیها بکسوة ممتازة، و شید فی المدینة دارا للنبی المنتظر عاد الی عاصمة ملکه فی الیمن. و هناک ألغی عبادة الأصنام و عامل ضیوفه الأحبار بکل عنایة و رعایة، ثم کتب علی فراش الموت ما فحواه:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 275
«أشهد ان أحمد علی حق، و هو نبی اللّه خالق الأرواح، و لو امتد عمری الی أیامه لصرت وزیرا له و ابن عم». و بعد ان ختم الورقة سلمها الی الحبر الأکبر و أخذ عهدا منه بأن یسلم الکتاب الی النبی الأعظم اذا سنحت له الفرصة، و اذا طال الزمن و بعد الیوم الذی یظهر فیه فان الکتاب یجب ان یسلم من جیل الی آخر حتی یصل الیه. و قد عهد بالدار التی بنیت فی المدینة الی حبر کان من نسله أبو أیوب الأنصاری الذی کان أول شخص تجاوز عتبة بابه النبی عندما وصل الی المدینة فی هجرته. و کان عند أبی أیوب کتاب تبّع نفسه، و بذلک وصل الکتاب بعد ثلاثة أو أربعة قرون الی المرسل الیه .
ثم یبدأ بورتون بذکر علاقة النبی و المدینة و کیفیة وقوع الهجرة المبارکة الیها مما هو معروف فی التاریخ. لکنه یذکر أیضا فی حاشیة له قوله أنه من الغریب ان یکون عبد اللّه أبو النبی قد مات فی المدینة و دفن فیها، و ان یکون قبر أمه آمنة فی الأبواء علی طریق المدینة. و فیها أیضا تزوج هاشم جده الاکبر سلمی المتدلیة التی کانت متزوجة قبله من أحیحة الذی ینتمی الی الأوس. فکان جده شیبة المسمی بعبد المطلب فی العادة ابنا لسلمی هذه، و قد نشأ فی المدینة أیضا.

تشکیلات الحرم

و یأتی بورتون علی تشکیلات الحرم النبوی الاداریة و العلمیة. فیقول ان هذه التشکیلات قد تغیرت کثیرا منذ أیام الرحالة بورخارت (1814) الذی سبق ان أشرنا الیه، و کان ذلک بتأثیر المولدین الأتراک و نفوذهم.
و علی هذا الأساس لم یعد «شیخ الحرم» من الخصیان. و کان علی أیام بورتون رجلا من پاشوات الأتراک یدعی عثمان، تعین من استانبول براتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 276
قدره ثلاثون ألف قرش فی الشهر. و نائبه خصی أسود یسمی «رئیس الأغوات»، و یتقاضی خمسة آلاف قرش فی الشهر، و کان یومذاک یسمی (طیفور أغا) و هو عبد من عبید (عصمة سلطانة) أخت السلطان محمود المتوفی. و یطلق علی رئیس الخزانة «مدیر الحرم» و هو یراقب (الخزنة دار) فی عمله و یتقاضی راتبا قدره ألف و خمس مائة قرش، کما یشتغل فی معیته مساعد یسمی «نقیبا»، و یتقاضی ألف قرش. و هناک شیوخ ثلاثة للخصیان یتقاضی الواحد منهم ما بین سبع مائة و ألف قرش فی الشهر. و یبلغ عدد الخصیان حوالی مائة و عشرین، و هؤلاء ینقسمون إلی ثلاث طوائف: البوابون الذین یفتحون أبواب الحرم، و الخبزیة الذین یکنسون الاقسام النظیفة من الحرم، و الطائفة الأخیرة التی یعرف أفرادها بالبطالین، و هؤلاء یکنسون سائر أجزاء الحرم و یضربون الذین یجدونهم نائمین و یعملون کالشماسین فی الکنائس.
و یتراوح راتب الواحد منهم ما بین (250) و (500) قرش فی الشهر.
و تعتبر وظائفهم شرفیة، و هم فی العادة متزوجون، و بعضهم متزوج من ثلاث زوجات أو أربع.
و هناک إلی جانب الخصیان عدد من الخدام الأحرار یطلق علیهم (الفراشون) و یکاد ینتمی جمیع أفراد الطبقة الوسطی و الدنیا من سکان المدینة الی هذه الطائفة من الخدم، و هم یقسمون الی جماعات یتألف کل منها من ثلاثین، و یتبدلون کل أسبوع بعد ان یتقاضوا عن خدماتهم «غازی» واحد أو ما یعادل اثنین و عشرین قرشا. و ینحصر عملهم فی مسح الأرض و غیرها و ازالة التراب عنها، و فرش السجاد، و مل‌ء المصابیح بالنفط بعد ان ینزلها الخصیان لهم من السقوف، و غیر ذلک
و أخیرا هناک الطبقة الدنیا من الخدم المتألفة من «شیخ السقاقی» الذی یشتغل فی معیته أربعون الی خمسین رجلا یقومون بفرش الساحات و سقی الحدائق و تقدیم الماء للزوار.
اما التشکیلات الدینیة فهی علی نطاق أوسع من التشکیلات الاداریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 277
الرحالة السر تشارلز بورتون باللباس العربی 1853
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 278
فهناک القاضی الذی یبعث کل سنة من استانبول، و بعد أن یقضی اثنی عشر شهرا فی المدینة ینتقل الی مکة ثم یعود الی بلاده بعد خدمة سنة أخری فیها.
و یشتغل فی معیته ثلاثة (مفتین): المفتی الشافعی، و المفتی الحنفی، و المفتی المالکی. و کل من هؤلاء یتقاضی حوالی مائتین و خمسین قرشا فی الشهر.
اما الرؤساء، کما یسمی المؤذنون هنا، فهم کثیروا العدد. فهناک ثمانیة و أربعون او تسعة و أربعون مؤذنا من الطبقة الدنیا، و یترأسهم ستة من المؤذنین الکبار.
و هؤلاء أیضا یرأسهم شیخ الرؤساء الذی یحق له فقط ان یؤذن من فوق «المنارة الرئیسیة». و هذا الشیخ یتقاضی مائة و خمسین قرشا، اما الرؤساء فیتقاضی کل منهم مائة، المؤذنون الاعتیادیون ستین. و هناک فی الحرم أیضا خمسة و أربعون خطیبا یعظون و یؤمون المصلین فی أیام الجمع لقاء مائة و عشرین قرشا فی الشهر، و هم تبع لرئیس الخطباء. و یدفع المبلغ نفسه إلی خمسة و سبعین إماما یقرأون الصلوات الخمس یومیا فی الحرم، و یترأسهم شیخ الأئمة.
و لم یستطع بورتون الحصول علی معلومات مضبوطة حول المبلغ الذی تحوّل سنویا من استانبول و القاهرة الی المدینة. فالنقطة الوحیدة المتفق علیها بین الناس فی هذا الشأن ان معظم هؤلاء یحرمون من نصف مخصاصاتهم عادة و یبتزها غیرهم. فحینما تصل الصدقة و مبالغ الأوقاف الی المدینة تسلم الصرّة الی المفتین و رئیس الخطباء و کاتب القاضی. و هؤلاء تتکون منهم لجنة خاصة، و بعد أن یحصوا الأسر المستحقة یقسمون المبالغ فیما بینها بموجب العدد الذی تتکون منه الأسرة الواحدة و منزلة المستحق. و یقسم هؤلاء الی الدرجات التالیة:
أ- العلماء و المدرسون الذین یعظون و یحاضرون و یعلمون البالغین من الناس فی الحرم.
ب- الأئمة و الخطباء.
ج- السادة من نسل النبی.
د- الفقهاء و الملالی.
ه- العوام بما فیهم أهالی المدینة و المجاورون.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 279
و قد استقی بورتون هذه المعلومات من عمر أفندی الذی ینتمی إلی الدرجة الثانیة من هذا التصنیف. و قد أخبره بأن حصته تتراوح بین ثلاثة الی خمسة عشر ریالا فی السنة.

سکان المدینة

ذکرنا فیما سبق من هذا البحث ما کتبه الرحالة بورخارت عن سکان المدینة حینما زارها فی 1814، و سنورد هنا ما کتبه بورتون بعده بأربعین سنة فی الموضوع نفسه، منتقین منه ما لم یتطرق الی ذکره الرحالة الأول.
فیقول بورتون ان المدینة فیها عدد قلیل من الأسر المتحدرة فی نسبها من أنصار النبی الأقدمین، و أنه سمع عن أربع منها:
1- بیت الأنصاری، أو سلالة أبی أیوب الأنصاری النبیلة التی تفرعت شجرتها تفرعا کبیرا خلال مدة تناهز الألف و خمس مائة سنة. و مع ان هؤلاء یحملون مفاتیح مسجد قبا، و یخدمون أئمة فی الحرم الشریف، فانهم لم یعودوا من الأسر الثریة القویة.
2- بیت أبی جود، و هؤلاء یزودون الحرم بعدد من الأئمة و المؤذنین.
لکن المعروف فی أواسط القرن الخامس عشر بأن الأسرة لم یبق منها سوی شخصین هما ولد و بنت. ثم یقول بورتون بالمناسبة ان الرحالة المغربی ابن جبیر یروی انه شاهد فی المدینة مؤذنا من نسل بلال مؤذن الرسول یمارس المهنة التی تخصصت بها أسرته عبر القرون.
3- بیت الشعب، و هذه أسرة کثیرة العدد اتخذ قسم من ابنائها الترحال مهنة لهم، و اتخذ الآخرون التجارة و الخدم فی الحرم الشریف.
4- بیت الکرانی، الذین یشتغلون غالبا فی الأمور التجاریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 280
ثم یتطرق الی ذکر النخاولة الشیعة فیورد نقاطا و تهما ما أنزل اللّه بها من سلطان عنهم، و لعل ذلک من خیال المتعصبین الذین نقلوا له هذه الأخبار عن مثل هذه الطبقة من الناس التی کانت تشتغل فی صدر الاسلام فی الفلاحة عند الامام الحسن علیه السلام، کما ألمحنا فی السابق. و کذلک یتکلم عن بنی حسین و الخلیفیة مما أوردناه فی بحث الرحالة بورخارت. و یزید علی ذلک بذکر الصدیقیة من نسل أبی بکر، و بنی النجار الذین یقول عنهم انه لم یجد أحدا یزوده بأی خبر یختص بهم. و یحلل بعد ذلک أوضاع سکان المدینة من جمیع الوجوه بفصل یستغرق ثمان و عشرین صفحة کاملة، و من المؤسف انه لیس من الممکن ایراد ذلک هنا.

البقیع

و قد زار بورتون مقبرة البقیع زیارة خاصة، فخرج مع جماعته من المدینة سالکا درب الجنازة الیها، الذی یحاذی السور الجنوبی .. و هو یقول عند الوصول الیها ان هناک خبرا یقول ان سبعین ألف قدیس، و فی روایة مائة الف، سوف یبعثون یوم القیامة من البقیع. و ان عشرة آلاف صحابی، و عددا لا یحصی من السادة، قد دفنوا فی هذه المقبرة علی مر السنین فاندرست علی مر السنین فاندرست قبورهم لأن القبور فی الأزمنة القدیمة لم تکن توضع علیها شواهد. و أول من سیبعث یوم النشور النبی الأعظم (ص)، و بعده أبو بکر، و بعده عمر، ثم أهل البقیع، ثم دفناء مقبرة «جنة المعلا» فی مکة المکرمة.
و کان أول شخص فی الاسلام دفن فی البقیع عثمان بن مظعون، لأنه أول من توفی فی المدینة من المهاجرین. ففی الیوم الثالث من شعبان سنة 3 للهجرة قبّل النبی جبین جثته و أمر بدفنها فی مدی الرؤیة من مقره. و کان المکان فی تلک الأیام حقلا ینتشر فیه عدد من أشجار الغرقد، فقطعت الأشجار و سویت الأرض فدفن ابن مظعون فی وسطها. ثم وضع النبی بیدیه الکریمتین حجرین شاهدین کبیرین فوق رأس صاحبه و قدمیه. و یقول بورتون فی حاشیة له ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 281
مروان بن الحکم رفع هذین الحجرین بعد ذلک حینما قرر عدم تمییز هذا القبر، لکن المسلمین استهجنوا هذا العمل من وکیل معاویة. و لعل ابن مظعون کان من خصوم الأمویین. هذا و قد أنشئت بمرور الزمن قبة فوق هذا القبر. ثم دفن الی جنبه ابراهیم الابن الثانی للنبی محمد، فأصبح البقیع من بعد ذلک مقبرة مشهورة.
و مدفن الأولیاء هذا له شکل متطاول غیر منتظم تحیط به جدران متصلة بالضاحیة من زاویتها الجنوبیة الغربیة. و یحجزه درب الجنازة عن سور المدینة، کما یحده من الشمال طریق البادیة الشرقی الذی یخرج من باب الجمعة. و تعتبر هذه المقبرة صغیرة اذا ما لوحظ أن جمیع من یتوفاه اللّه فی المدینة من أهلها و من الغرباء یتأملون ان یدفنوا فیها الا الرافضة و الکفرة. و لذلک فلا بد لها من ان تضیق بجثث الموتی الذین لا یمکن ان تستوعبهم لو لا ان الطریقة التی یدفن بها المسلمون موتاهم تساعد علی التفسخ و الاندراس .. و لیس فی داخل المقبرة أزهار و لا أشجار باسقة، و لا کل شی‌ء مما یخفف کآبة المدافن المسیحیة فی العادة، حتی ان الأبنیة التی فیها تعد شیئا بسیطا للغایة او حقیرا فی الحقیقة.
و لقد هدم الأبنیة و النصب القدیمة التی کانت موجودة فیها الأمیر سعود و أتباعه الوهابیون الذین شنوا حملة شعواء ضد ما لا بد من أنهم کانوا یعتبرونه شیئا باذخا من الأضرحة، لأنهم یعتقدون بأن خیر القبور الدوارس. و کان منظر هذه المقبرة حینما زارها بورخارت من قبل (1814) عبارة عن «.. أکوام مبعثرة من التراب، و حفر واسعة، و أنواع من الزبل، من دون شاهدة واحدة علی أی قبر. و یرجع الفضل لما بنی منها بعد ذلک الی السلطانین عبد الحمید و محمود ..».
و یقول بورتون کذلک: .. و قد دخلت المقبرة المقدسة مقدما رجلی الیمنی کما لو کنت أدخل الی المسجد، و حافی القدمین لأتحاشی اعتباری من الرافضة.
فمع ان أهالی المدینة یدخلون الیها بأحذیتهم فانهم یغتاضون کثیرا حینما یرون الایرانیین یفعلون مثلهم. ثم بدأنا بقراءة الزیارة العامة المألوفة .. و أعقبناها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 282
بقراءة سورة الاخلاص و الشهادة، و بانتهائها رفعنا أیدینا و قرأنا الفاتحة قراءة خافتة و مسحنا أیدینا علی وجوهنا و تحرکنا.
و حینما سرنا فی ممر ضیق یؤدی من جهة البقیع الغربیة الی الجهة الشرقیة دخلنا مرقدا متواضعا أقیم فوق قبر الخلیفة عثمان .. فعندما قتل أراد أصحابه ان یدفن فی «الحجرة»، لکن ثوار مصر قابلوا ذلک بعنف و أقسموا أن لا یدفن هناک و لا یصلی علیه، و انما سمحوا فقط بنقله بعد تهدید حبیبة أم المسلمین (و بنت أبی سفیان) لهم. و فی خلال اللیلة التی أعقبت وفاته نقل عثمان الی البقیع من قبل أصحابه، لکنهم طردوا من هناک أیضا فاضطروا الی ایداع حملهم فی بستان تقع فی الجهة الشرقیة الخارجیة من مقبرة الأولیاء هذه. و کانت تدعی «حصن کوکب» حتی أدمحها مروان بالبقیع. و قد وقفنا علی مرقد عثمان هذا و تلونا الزیارة .. و بعد ذلک دفعنا الصدقات و أرضینا الخادم بعشرة قروش.
و بعد هذا سرنا خطوات قلیلة الی الشمال و توجهنا نحو الشرق فزرنا أبا سعید الخدری صاحب النبی الذی یقع قبره فی خارج البقیع. و کان المکان الثالث الذی زرناه قبة تحتوی علی قبر السیدة حلیمة البدویة (السعدیة) مرضعة النبی محمد .. و من هناک توجهنا الی الشمال فوقفنا أمام مبنی صغیر یحتوی علی أکوام بیضویة الشکل من الأحجار المتناثرة، و هی قبور شهداء البقیع الذین قتلهم مسلم قائد کبیر الفاسقین یزید. و یقول بورتون فی حاشیة له هنا (الص 37 ج 2) ان الامام الشافعی یسمح لأتباعه بسب یزید بن معاویة الذی جعلته قساوته مع آل البیت، و جرائمه و موبقاته، یهودا الأسخریوطی المسلم. و قد سمع بورتون مسلمین أحنافا یسبون یزیدا کذلک. أما الوقفة الخامسة فکانت بالقرب من وسط المقبرة علی قبر ابراهیم ابن النبی الذی توفی و عمره ستة أشهر، أو سنتان علی قول البعض. و کان ابن ماریة القبطیة التی أهداها الی النبی (ص) جارح مقوقس الاسکندریة فی مصر. فقد أهال النبی التراب بیدیه الکریمتین علیه، ورشه بالماء، ثم وضع الحجارات الصغیرة فوق ذلک و قرأ السلام الأخیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 283
علیه. و لهذا السبب دفن الکثیرون من الرجال المقدسین فی هذا الجزء من المقبرة، لأن کل أحد کان یطمع فی ان یلحد فی الأرض التی شرفتها یدا النبی. و زرنا بعد هذا النافع ابن عمر المسمی نافعا القاری عادة، لأنه کان یجوّد القرآن، و الی جنبه مالک بن أنس ابن المدینة و رجلها الفذ. و کانت الوقفة الثامنة علی قبر عقیل بن أبی طالب أخی الامام علی. و هنا یعلق بورتون فی حاشیة له و یقول ان عقیلا توفی دمشق علی عهد معاویة، لکن البعض یذکر انه دفن هناک بینما یقول غیرهم ان جثمانه نقل الی المدینة بعد ذلک و دفن فی مکان کان یقوم فیه بیته من قبل و کان یسمی دار عقیل .. و قد زرنا بعد هذه البقعة التی دفنت فیها أزواج النبی جمیعهن عدا خدیجة التی دفنت فی مکة. و کان محمد (ص) قد تزوج خمس عشرة امرأة عاش منهن بعده تسع، و بعد أمهات المؤمنین قرأنا الفاتحة علی قبور بنات محمد اللواتی یقال أنهن کن عشرا.
و بعد ان یصف بورتون (الص 29 ج 2) الشحاذین و أنواعهم و کیف یستقبلون الزوار یقول: .. و قبل ان نترک البقیع وقفنا وقفتنا الحادیة عشرة فی القبة العباسیة، أو قبة العباس عم النبی. و هنا یعلق فی الحاشیة بقوله ان البعض یرون ان مراسیم الزیارة کانت و لا تزال تبدأ هنا، لکن ترتیب الزیارات یختلف و لا یتفق علیه اثنان، و کانت مسؤولیة ما فعله تقع علی ما فعله مزوّره الشیخ حمید، لأنه لم یشأ المجازفة بشی‌ء من عنده .. ثم یستأنف وصف القبة و یقول:
و هذه القبة التی بناها الخلفاء العباسیون من قبل فی 519 للهجرة أکبر و أجمل جمیع القبب الأخری، و تقع علی یمین الداخل من باب المقبرة. و یدل علی أهمیتها تجمع الشحاذین بقربها، فقد جاءوا الیها و تکأکأوا علیها حینما و جدوا الایرانیین متجمعین فیها بکثرة و هم یبکون و یصلون. و بعد ان اجتزت العتبة بصعوبة طفت حول عدد من القبور کانت تشغل وسط المبنی من دون ان یکون بینها و بین الجدار الا ممر ضیق. و هی محاطة بسیاج و مغطاة بعدة کساوی من القماش الأخضر المکتوب علیه بأحرف بیضاء. و تبدو هذه کأنها کومة مرتبکة، لکنها ربما بدت لی کذلک بسبب الازدحام المحیط بها. و توجد فی القسم الشرقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 284
قبور الحسن بن علی سبط النبی، و الامام زین العابدین بن الحسین، و ابنه محمد الباقر (الامام الخامس)، ثم ابنه الامام جعفر الصادق- و هؤلاء جمیعا من نسل النبی و قد دفنوا فی نفس المرقد الذی دفن فیه العباس بن عبد المطلب عم النبی .. و بعد أن خرجنا و تخلصنا من أیدی الشحاذین الصغار وجّهنا وجهنا نحو الجدار الجنوبی الذی یوجد بقربه قبر ینسب الی السیدة فاطمة و قرأنا الدعاء المعروف. و یقول بورتون فی حاشیة مستفیضة (الص 41 ج 2):
.. و یبدو ان المؤرخین المسلمین یبتهجون بالغموض الذی یکتنف مدفن السیدة فاطمة الزهراء (ع) .. فبعضهم یذکر أنها دفنت فی الحرم الشریف و یستند فی ذلک الی الروایة التی تقول انها حینما علمت بدنو أجلها قامت فرحة مستبشرة فغسلت الغسل الکبیر و لبست ملابسها النظیفة، ثم فرشت حصیرا علی أرض بیتها الواقع بقرب قبر الرسول، و تمددت مستقبلة القبلة فوضعت یدها تحت خدها و قالت لمن حضر بقربها .. لقد تطهرت و لبست ثیابی الطاهرة، فلا تسمحوا لأحد بأن یکشف عن جسدی بل ادفنونی حیث أنا .. و حینما عاد علی وجد زوجته قد توفیت، و نفذت رغبتها الأخیرة. و قد کان عمر بن عبد العزیز یعتقد بهذه الروایة فألحق الغرفة تلک بالمسجد، و لذلک فالاعتقاد العام فی الاسلام هو ان الزهراء البتول قد دفنت فی الحرم. اما اولئک الذین یعتقدون بأنها مدفونة فی البقیع فیستندون الی قول الامام الحسن: «.. فاذا لم یسمحوا بدفنی عند قبر جدی فادفنونی فی البقیع الی جنب أمی فاطمة ..» و هؤلاء یرون الخبر التالی فی هذا الشأن: .. فقد غسلها و کفنها علی و أم سلمة، اما غیرهم فیقولون ن اسماء بنت عمیس زوجة أبی بکر کانت بجنب فاطمة حینما اعترضت فی ساعتها الأخیرة علی حملها للدفن کما یحمل الرجال. لکن أسماء وعدتها بأن تصنع لها نعشا أشبه بمحفة العروس، من جرید النخل، علی غرار ما رأته فی الحبشه، و عند ذاک ابتسمت فاطمة للمرة الأولی منذ ان توفی والدها و أخذت عهدا بأن لا یدخل علیها أحد طالما کان جثمانها الطاهر مسجی فی البیت. و لذلک لم تسمح أسماء لعائشة بالدخول حینما طرقت الباب علیها بعد ذلک، فذهبت شاکیة الی أبیها و قالت له ان زوجة أبیها ستعمل محفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 285
عرش خاصة تحمل بها جثة الزهرا الطاهرة الی مدفنها. فذهب أبو بکر الی الباب و سمع من زوجته ما کانت قد أوصت به فاطمة، فعاد راجعا الی بیته من دون اعتراض. و قد أخفیت وفاة ابنة النبی عن الکبیر و الصغیر برغبة منها، فدفنت خلال اللیل من دون ان یشیع نعشها أو یصلی علیها أحد سوی زوجها الامام علی و عدد قلیل من أقربائها .. اما المکان الثالث الذی یقال انها دفنت فیه فهو مسجد صغیر فی البقیع جنوبی قبة العباس بن عبد المطلب، و کان یسمی «بیت الحزن» لأنها قضت آخر أیامها فیه تندب فقد ابیها الغالی. و یبدو ان قبرها کان موجودا هنا من قبل، لکن الزوار یصلون علیها الآن فی مکانین:
ای فی الحرم و فی القبة العباسیة .. و بعد ان غادرنا مقبرة البقیع تقدمنا شمالا تارکین باب المدینة الی یسارنا حتی أتینا علی قبة صغیرة قریبة من الطریق، تحتوی علی قبور عمات النبی و لا سیما صفیة بنت عبد المطلب أخت الحمزة، و إحدی بطلات الاسلام فی أول عهده .. و نقول تعلیقا علی ما جاء عن دفن فاطمة الزهراء علیها السلام انه یفهم من هذه الروایات، و مما جاء فی «الامامة و السیاسة» لابن قتیبة ان الزهراء توفیت و هی غیر راضیة عن ابی بکر، و لذلک لم تشأ ان یعلم بموتها هو أو غیره لئلا یصلی علیها و هو خلیفة للمسلمین فدفنت فی بیتها الذی أدخل فی الحرم بعد ذلک. و علی هذا فقد تکون الروایة المنسوبة الی الامام الحسن، التی یفهم منها انها مدفونة فی البقیع، غیر صحیحة.

مساجد المدینة

یوجد فی المدینة، علی ما یذکر بورتون (الص 44 ج 2) ما بین خمسین و خمسة و خمسین مسجدا، و بقعة مقدسة، لا یعرف معظمها الیوم حتی أهالی المدینة أنفسهم. و سأذکر أهمها فیما یأتی نقلا عن أفواه الناس.
فعلی بعد ثلاثة أمیال من شمالی غربی المدینة، و فیما یقرب من وادی العقیق، یقع مسجد القبلتین. و یطلق البعض هذا الاسم علی مسجد التقوی فی قبا، بینما یدعی البعض الآخر ان النبی (ص) بعد أن زار بیت امرأة عجوز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 286
تدعی أم مبشر و أکل فیه ذهب لیصلی فی مسجد بنی سلمه. و ما صلی رکعة واحدة و هو متجه نحو بیت المقدس حتی أنذره الوحی فجأة فاتجه الی الجنوب، و أکمل الصلاة و هو یستقبل القبلة الجدیدة. و قد علمت ان هذا المسجد لا یخرج عن کونه قبة حقیرة لیس له منارة و لا سور. و هناک أیضا مسجد بنی ظفر، أو مسجد البغلة، و قد سمی بالاسم الأخیر لأن حجرا یوجد بالقرب من جهته الجنوبیة تلاحظ فیه آثار بغلة النبی التی غرست حافرها فیه حینما وقف النبی (ص) بقربه و مال بذراعه علیها، و هی البغلة التی أهداها له المقوقس مع ماریة القبطیة و حمارها یعفور. و توجد فی هذا المسجد قطعة من المرمر کان النبی قد جلس علیها ذات یوم و استمع لتلاوة الذکر الحکیم، و یقول المؤرخون ان کثیرا من النساء اللواتی جلسن علی هذه المرمرة أنعم اللّه علیهن بالأولاد. و یقع هذا المسجد شرقی البقیع.
و هناک فی واد بالقرب من قبا مسجد یسمی مسجد الجمعة، و هو المسجد الذی صلی فیه النبی (ص) و وعظ الناس فی أول جمعة بعد هجرته من مکة.
و یوجد ایضا مسجد یسمی مسجد الفضیخ، و قد سمی بهذا الاسم لأن أبا أیوب الأنصاری و جماعة آخرین کانوا جالسین فی موقعه ذات یوم و فی أیدیهم کؤوس الشراب فسمعوا و هم فی تلک الحالة بنزول الآیة التی تحرم الخمر، فما کان منهم الا ان أراقوا الشراب فی الحال و امتنعوا عنه. و قد صلی النبی فی هذا الموضع ستة أیام حینما انشغل فی تأدیب بنی النضیر من الیهود. و یطلق علی هذا المسجد ایضا مسجد الشمس لان أشعة الشمس الأولی تشرق علیه فی کل یوم. و فی شرقی مسجد الفضیخ یقع ما یسمی بمسجد قریظة، و هو مسجد شید فی البقعة التی نزل منها النبی لمهاجمة بنی قریظة الیهود. و کان ذلک حینما عاد من موقعة الخندق و هو تعب، و جلس لیغسل یدیه و وجهه، فظهر له جبرائیل فجأة علی شکل فارس یلبس الدرع و قد علاه الغبار، و قال له «ان ملائکة اللّه ما زالوا شاکی السلاح أیها النبی، و تقضی مشیئة اللّه ان تعود قدماک الی الرکاب، سأتقدمک لأمهد لک النصر علی الکفار بنی قریظة».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 287
و تضیف الأسطورة الی ذلک ان الغبار الذی أثاره الضیف الملائکی شوهد من شوارع المدینة، لکن عیون الناس لم تقع علیه هو نفسه. فأمر النبی بدعوة تباعه الی الحرب، و سلم الرایة الی علی و هی علامة العرب فی تعیین القائد العام. فقضی علی هذه القبیلة المناوئة، و کان هذا الحکم قد أصدره علیهم سعد بن معاذ شیخ الأوس الذی احتکموا الیه لأن قبیلته کانت حلیفة لهم.
و هناک أیضا مسجد «مشربة أم ابراهیم»، و هو مشید فی موقع کانت لماریة القبطیة فیه حدیقة. و هو بنایة صغیرة تقع فی العوالی شمالی مسجد بنی قریظة و بالقرب من الحرة الشرقیة. و تقع فی شمالی البقیع بنایة صغیرة أخری تدعی مسجد الأجابة، و سبب هذه التسمیة ان النبی وقف ذات یوم لیصلی فی هذا المکان الذی کان یعود لطائفة من الأوس تسمی بنی معاویة. و قد قرأ دعاء طویلا بعد الصلاة ثم التفت الی أصحابه و قال: سألت اللّه ان یهبی ثلاثا، فأنعم علی باثنتین منهما و رفض الثالثة .. اما اللتان استجاب لهما فهما ان لا یهلک المسلمین غرق و لا مجاعة، لکن التی لم یستجب لها فهی ان لا یهلکهم نزاع داخلی.
و یقع فی وادی السیح الذی یأتی من اتجاه قبا، علی بعد حوالی نصف میل من شرقی القبلتین، أربعة مساجد تسمی اعتیادیا بمسجد الفتح. و یسمی أکبرها ایضا مسجد الفتح او مسجد الأحزاب اشارة الی ذکر الاحزاب الوارد فی القرآن الکریم، لأن النبی ظل یصلی فی مکان هذا المسجد ثلاثة أیام خلال موقعة الخندق، او موقعة الأحزاب التی یقال انها کانت آخر موقعة حارب فیها المسلمون قریشا و هم بقیادة أبی سفیان. و بعد هذه الأیام الثلاثة هبت ریح صرصر باردة یصحبها مطر نصف متجمد فأنزلت بالعدو خسائر فادحة.
و بذلک استجاب اللّه لدعاء الرسول، و لهذا یعتقد المسلمون المتدینون ان کل أدعاء یتلی فی هذا المکان لا بد من ان یستجاب .. و من جملة ما یؤید ذلک ان الامام الشافعی کان یتلو الدعاء الخاص بهذا المکان حینما غضب علیه هارون الرشید فنجا من سخطه. و یختلف فقهاء المسلمین اختلافا کثیرا فی تعیین موقع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 288
البقعة التی وقف فیها الرسول، لکن معظمهم یقول انها کانت فی موقع مسجد الأحزاب هذا هو أشد ارتفاعا بین المساجد الأربعة. و الی غرب هذا المسجد، و فی نقطة أوطأ منه، یقع مسجد سلمان الفارسی صاحب فکرة حفر الخندق ..
و فی أسفل مسجد سلمان یوجد مسجد علی، کما ان البنایة الصغری التی تقوم فی جنوب الجبل هی مسجد أبی بکر. و یعزی الفضل فی تشیید هذه الجوامع الی الولید الأموی، و قد رممت مرات عدیدة فی أیام خلفائه.
و قد شید مسجد الرایة فی بدایة الأمر الولید فی المکان الذی کان الرسول علیه السلام قد نصب خیمته خلال أیام معرکة الخندق. و یسمیه البعض أیضا بمسجد الضباب ای باسم التل الذی یقوم علیه المسجد. و یفصل بین مسجد الرایة و مسجد الفتح مرتفع من الأرض یسمی جبل سلع أو جبل الثواب.
و یعتبر هذا الموقع موقعا مهما لأنه یتسلط علی منظر الحرم الذی یبین منه بوضوح. و علی بعد ما یقرب من میل و نصف من جنوب شرقی البقیع هناک قبة یطلق علیها «قوة الاسلام». و کان النبی قد غرس سعفة یابسة هنا فنمت و أزهرت ثم حملت ثمرا یانعا. یضاف الی ذلک ان النبی استطاع هنا، حینما لم یکن بوسع المسلمین الحج الی بیت اللّه الحرام فی سنة ما، أن یظهر للناس منظر الکعبة و عرفات و جمیع متطلبات الحج الأخری. و هنا یقول بورتون:
اننی یجب ان أنبه قرائی بأن لا یلوموا نبی الاسلام علی هذه التلفیقات الصبیانیة.
و یقع مسجد عنین فی جنوب قبة الحمزة، علی تل یسمی جبل الرمة، و هو المکان الذی وقف فیه رماة السهام المسلحون فی معرکة أحد. و یذهب البعض الی أن أمیر الشهداء أصیب بجرحه الممیت فی هذا المکان، بینما یذهب الآخر الی ان هذا الحادث وقع فی مکان مسجد العسکر أو مسجد الوادی.
و یقول بورتون فی حاشیة له هنا ان المکان الذی خر فیه الحمزة صریعا قد شیدت علیه الآن «قبة المصرع».
و فیما عدا هذه أحصیت اسماء، أسماء فقط، اربعین مسجدا آخر، و ها انی أذکر المهمة منها: مسجد بنی عبد الأشهل، مسجد بنی حارثة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 289
مسجد بنی حارم، مسجد الفش، مسجد السوفیة، مسجد بنی بیاضة، مسجد بنی حطمة.

مشاهدات جون کین فی المدینة

و فی موسم الحج لسنة 1877- 78 استطاع رجل انکلیزی مغامر یدعی جون کین ان یدخل الحجاز و یحج البیت الحرام فی مکة، ثم یزور المدینة، بعد ان تظاهر باعتناق الاسلام و تسمی «محمد أمین» او الحاج محمد أمین.
بعد ذلک. و قد فعل کل هذا و هو فی رکاب أمیر هندی مسلم و حاشیته، تعرف علیه فی جدة التی نزل فیها الی الحجاز لأول مرة. و حینما عاد الی بلاده کتب ما شاهده و مر به من تجربة فی کتاب خاص أسماه «ستة أشهر فی الحجاز» .
و اول ما یذکره عن الحج فی تلک السنة ان عدد الحجاج الذین نزلوا فی جدة ذلک الموسم یقدر ب (718، 42). و هو ینقل هذا عن تقریر للقنصل البریطانی فی جدة نشر فی جریدة التایمز اللندنیة، فی عددها الصادر یوم 26 تشرین الثانی 1878. فقد جاء فیها: یقول القنصل البریطانی فی جدة ان موسم سنة 1877- 78 نزل فیه الی جدة (718، 42) حاجا، أی بزیادة (4000) حاج علی عددهم فی السنة السابقة .. و قد قدر مجموع الحجاج الذین تجمعوا فی مکة یوم العید الأکبر ما یزید علی (000، 180) نسمة.
و قبل ان ینضم الی موکب الأمیر الهندی المسلم ذهب المسترکین الی قنصل بریطانیة فی جدة و أعطاه اسمه و عناوین اصدقائه فی انکلترة، ثم أخبره بما عزم علیه. لکن القنصل حاول ان یثنیه عن عزمه و ان یخوفه بما یمکن ان بتعرض الیه فی الطریق غیر الآمنة، لکنه لم ینثن عن ذلک فباع ملابسه الافرنجیة و اشتری ملابس عربیة لیلبسها. و من طریف ما یذکره عن مشاهداته موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 290
فی مکة نفسهلیئان: أولهما أنه سمع بوجود امرأة انکلیزیة تعیش فیها باسم «زهرة بکم» منذ سنین عدیدة، و کانت قد جاءت الی مکة مع زوجها الهندی، بعد ان اغتصبها فی الهند، فتوفی فیها و اضطرت هی للبقاء و العیش فی مکة من کدّ یدها. فدبّر (کین) مواجهتها و استطلاع أمرها عدة مرات فکتب قصة مؤثرة عنها (الص 35 و 137 و 300). و ثانیهما انه شاهد غرق المسجد الحرام فی الیوم الثامن الذی أعقب انتهاء الحج، علی أثر زوبعة رعدیة قویة و أمطار غزیرة هطلت خلال فترة طویلة فأنزلت المیاه کأفواه القرب، و تسبب عن ذلک سیل عرم اکتسح الطرق و دخل المسجد الحرام، ثم أحاط بالکعبة المشرفة و تراکم فیها الی عمق سبع أقدام. و قد وصف کین کل هذا وصفا واضحا جد الوضوح (الص 138- 143).
اما المدینة المنورة فقد کتب عنها فصلین موجزین (الثالث عشر و الرابع عشر) یستهل الفصل الأول منهما بقوله ان المدینة عندما تشاهد من بعید أول مرة یمکن ان تقارن باستانبول حینما ینظر الیها من بحر مرمرة، أو أیة مدینة أخری من المدن الجمیلة فی العالم. و حینما تلوح للحاج التعب القادم الیها من مکة، بأسوارها البیضاء الطویلة، و منائرها العدیدة المطلیة بالذهب، و الشمس تشرق علیها فی الصباح، و بنطاق زرعها العریض الأخضر الذی یحیط بها فیحجزها عن جدب الصحراء المخیف المترامی الأطراف، تبدو کأنها جوهرة متلألئة جدیدة محاطة بفسیفساء من اللؤلؤ و الأوپال المطعم فی حاشیة متألقة من المیناء الخضراء اللماعة .. و لذلک یقول کین ان المدینة کان یجب ان تسمی «المحظوظة» ایضا، لأنها تحتوی علی جمیع ما یمکن ان یریده
المسجد الحرام و قد غمره سیل الأمطار حتی صار بحیرة یسبحون فیها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 291
العقل الشرقی و یرتاح الیه من البیوت المنتظمة و الحقول النضرة و المیاه الجاریة و ما أشبه. و علی هذا فحینما أشرفت قافلتهم علی المدینة و بانت لهم معالمها من بعید ضجت القافلة بأجمعها فرحة مسرورة و ابتهل المسافرون بالشکر و الدعاء، و حتی الابل العجماء المسکینة رفعت اعناقها الطویلة المتهدلة الی أعلی و بذلت قصاری ما عندها من جهد لتصل الی النهایة الدانیة بأسرع ما یمکن، و قد وصلت القافلة بعد ان قطعت میلین و نصف.
و یقول کین عن داخل المدینة انه وجد شوارعها نظیفة منتظمة جدا بالنسبة لما تکون علیه سائر المدن الشرقیة. و وجد فیها جوا عاما من الازدهار و الرفاه الذی یلوح علی المکان و السکان معا، الأمر الذی یعطی انطباعا حسنا للواصلین الجدد الیها. ثم یقول: و حتی الکلاب الموجودة فیها لم تکن نهمة شرسة مثل کلاب المدن الاسلامیة الأخری.
و قد زار الأمیر الهندی الذی کان المسترکین فی معیته عدد من تجار التمور الذین کانوا یحملون معهم نماذج من هذه الفاکهة. و قال له أحد هؤلاء ان خمسین نوعا من أنواع التمور تزرع فی المدینة، و أن أحسن أنواعها هو النوع المعروف باسم «الچلبی»، و هو نوع لا یمکن ان یجود بأحسن التمر الا فی المدینة نفسها. و ثمرته طویلة جدا و لذیذة، و لذلک اشتری الأمیر نصف طن منه. اما النوع الآخر الذی یلیه فهو نوع ثمرته صغیرة ذات فصمة أو نواة متضائلة جدا فی الحجم.
و یعود کین الی ذکر المدینة نفسها فیقول انه لا یمکن ان یوجد فی أنحاء الشرق کله مدینة صغیرة أکثر ازدهارا من المدینة المنورة. و یبلغ عدد نفوسها حوالی عشرین ألف نسمة ربما یکون ثلاثة أرباعهم من العرب، و الباقون أتراک و من جمیع الأمم الاسلامیة الأخری تقریبا. و قد شیدت بیوتها من نفس المواد الانشائیة التی شیدت بها بیوت مکة، لکن المدینة لا یری الزائر فیها بیوتا مهدمة أو مهملة مثل ما یجد فی مکة. و بالحرارة الکافیة الموجودة تجود ضواحی المدینة المرویة بالمیاه الوافیة بانتاج أنواع لا حصر لها من الفواکه و الخضروات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 292
فان قائمة ما یمکن ان یشتری یومیا من السوق یمکن ان تحتوی علی البصل و الثوم و الجزر و الشوندر و الفجل و الفاصولیا و الخیار و العنب الفاخر. و یکاد ینمو فی المدینة جمیع ما یمکن ان یتصوره الانسان تقریبا، علاوة علی الحبوب المعتادة مثل الذرة و الحنطة و الشعیر.
اما الفصل الثانی (الص 227) فیفرده المسترکین لوصف الحرم الشریف و ما شاهده فیه، و هو فصل صغیر مختصر لا یمکن ان یقارن بفصول الکتب الأخری عن الموضوع. و لما کنا قد وفینا وصف الحرم حقه فیما انتقیناه من المراجع المار ذکرها فسوف نقتصر هنا علی ذکر بعض النبذ الواردة فی هذا المرجع .. فهو یذکر مثلا أن الأروقة المعمدة یبلغ ارتفاعها حوالی ثلاثین قدما، و یبلغ عرضها أربعین قدما. و ان سطحها المقبب تحمله ثلاثة صفوف من الأعمدة المدورة، و ان التبلیط یتألف من ألواح حجریة کبیرة صقیلة.
و یخصص الرواق الغربی للنساء فیصلّین فیه، و لذلک فهو معزول بمشبک خشبی.
و حینما انضم إلی صفوف المصلین فی داخل الحرم جلس فی صف بعید عن المنبر حتی یحین الوقت لصلاة الظهر، و راح یلاحظ الجالسین من حوله فوجد أن أکثر من نصفهم من الهنود، أما النصف الباقی فکان من أهل المدینة مع عدد قلیل من الأتراک و الأیرانیین. و فیما عدا بعض الهنود و العبید کان الجمیع یبدون بمنظر محترم نظیف، و یفضلون فی ذلک علی المجتمع الذی شاهده فی مکة من قبل .. و من الغریب أن یقول المستر (کین) أن عرب المدینة یمیلون إلی السمرة فی سیمائهم أکثر من اخوانهم المکیین بینما یذکر السر ریتشارد بورتون قبله بخمس و ثلاثین سنة أن العکس هو الصحیح، و یقول علاوة علی ذلک أن المدنیین أکثر تحفظا تجاه الأجانب من المکیین و أشد و قارا. و یخطی‌ء حین یذکر الزهراء (ع) و دفنها فی الحرم الشریف فیقول انها کنّة النبی .. ثم ینهی الفصل بالقول ان المدینة تبدو بقدر ثلث مکة فی حجمها، لکن ضواحیها تمتد إلی مسافة میل أو میلین من کل جهة خارج السور إلا من جهة الجبل. و یأخذ بوصف السور و کیفیة بنائه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 293
و بمنزلة المدینة بین المدن المقدسة، و بأن الصلاة فیها تعادل ألف صلاة تصلی فی أی مکان آخر.

سکة حدید الحجاز

و یرد ذکر المدینة بعد هذا مقرونا بمشروع سکة حدید الحجاز التی تربط المدینة بدمشق، و قد بدأت الدولة العثمانیة فی أیام السلطان عبد الحمید بالتفکیر فیه و اخراجه إلی حبز التنفیذ فی بدایة القرن العشرین، تنفیذا لأغراضها السیاسیة المقنّعة بالأغراض الدینیة. و هو مشروع علی جانب کبیر من الأهمیة، و قد قدر له ان یؤثر تأثیرا کبیرا فی تاریخ الحجاز و سائر البلاد العربیة لأنه ربط البلاد المقدسة بالعالم الخارجی و أدخل الیها أسالیب الحیاة الحدیثة و أفکارها.
و خیر من یصف سکة حدید الحجاز و منشأها جورج أنطونیوس فی کتابه «یقظة العرب»، و جورج هذا رجل فلسطینی عربی من أم انکلیزیة اتصل کثیرا بالانکلیز و حافظ علی شعوره العربی الأصیل فألف مؤلفه الثمین هذا باللغة الانکلیزیة عن نهضة العرب الحدیثة و یقظتهم فی هذا العصر.
و یبدأ قوله فی هذا الشان بالحدیث عن سیاسة السلطان عبد الحمید التی کانت تستهدف اجتذاب العالم الأسلامی الیه و تثبیت مرکزه بین الدول بواسطته. و قد اعتمد فی ذلک علی رجال عدیدین کان من أبرزهم عزت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 294
باشا العابد الرجل العربی السوری .. فیقول جورج أنطونیوس أن عزت پاشا العابد ، و هو عربی سوری، کان من المغامرین الذین استطاعوا أن ینالوا حظوة کبری لدی السلطان عبد الحمید عن طریق الکید و الدس، و قد قضی ثلاث عشرة سنة (حتی سقوطه عام 1908) فی خدمة السلطان بصفة سکرتیر ثان. فاستطاع خلالها ان یصبح أقوی موظف فی الامبراطوریة، و لا یبزه فی الثروة و الخبث و النفوذ الا سیّده. و مع ان استانبول کانت فی العهد الحمیدی تعج بالدهاة فقد کان دهاء عزت باشا خارقا و طاغیا، إذ جمع إلی المکر نشاطا و حرکة و لکنه لم یخل فی أعماقه من البلادة التی کثیرا ما تختفی وراء فکر جاد. أما میزته البارزة فکانت فی معرفة الصفات البشریة الدنیئة الکامنة فی خلق الناس معرفة صحیحة لا تخطی‌ء. و هذا هو سر نجاحه العجیب لأنه بهذه المقدرة استطاع أن یفهم جبن سیّده و غروره مع ادراک حقیقی للحد الفاصل بین هاتین الصفتین، و احساس دقیق بمزاج السید فی ظروفه المختلفة. و لکنه فی سره کان یحتقر عبد الحمید احتقارا تاما فسهل علیه التلاعب بعواطفه. و یعود اهتمامنا بسیرة عزت باشا هنا إلی سببین، أحدهما عام، و الآخر خاص: أما السبب العام فهو أنه أصبح المحور الذی تدور حوله سیاسة عبد الحمید العربیة، و السبب الخاص هو إنشاء سکة حدید الحجاز.
و لدینا ما یشیر إلی أن فکرة مد خط سکة حدید إلی الحجاز کانت من بنات أفکار عزت باشا، و ان کان یصعب الجزم بذلک. و مهما یکن من الأمر فقد کان هو الأداة الفعالة الرئیسیة فی تحقیق المشروع الذی یقضی بمد سکة الحدید من دمشق إلی المدینة فمکة، و کان الغرض الظاهر منها تسهیل الحج بینما کان السبب الحقیقی یتعلق بعوامل سیاسیة و عسکریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 295
فقد عیّن السلطان لجنة برآسة عزت باشا و وجه نداء إلی العالم الأسلامی یوضح فیه الدوافع الدینیة الحمیدة التی استوحی منها الخلیفة فکرة مد الخط، و یطلب من المسلمین الاکتتاب لتغطیة نفقاته. و قد لاقی النداء قبولا حسنا، ثم فرضت فی الوقت نفسه ضریبة جدیدة فی جمیع أنحاء المملکة نجبی بلصق طابع خاص، و طولب الموظفون العاملون فی الحجاز بالتبرع بنسبة معینة من رواتبهم. و بدأ تشیید الخط فی ربیع 1900 علی ید مهندسین ألمان، و فی خریف عام 1908 وصل الخط إلی المدینة، و هی مسافة تناهز التسعمایة میل. و قد غطت تبرعات العالم الأسلامی ما ینوف علی ثلث النفقات البالغ مجموعها ثلاثة ملایین من الجنیهات.
و قد کان هذا المشروع من نواح عدیدة لعبة سیاسیة رائعة، لأنه خلق فی جمیع أنحاء العالم الأسلامی حماسا کبیرا و عمل أکثر من مشاریع عبد الحمید الأخری علی إعلاء شأن الخلافة، کما أنه من الناحیة العسکریة أوجد واسطة للنقل البری تحمل جنده إلی الجزیرة و منها، و کانت الحاجة إلی هذه الواسطة ملحة فاستطاع تأمینها من دون أن یثقل خزائنه بعب‌ء کبیر. و کان محطة سکة حدید الحجاز و مسجد العنبریة فی المدینة سنة 1938
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 296
حتی ذلک الوقت مضطرا إلی استعمال طریق البحر المارة بقناة السویس و تحمل بطئها و کثرة تکالیفها. أما الآن فقد غدا صاحب خط حدیدی یمتد کله فی ضمن مملکته، فراح یتطلع إلی الیوم الذی یستطیع فیه تمدید الخط جنوبا إلی مکة و ربما إلی أبعد من مکة لیثبت قدمه فی بلاد الیمن المضطربة.
و مع ذلک، کان من أکبر النتائج لمدّ سکة حدید الحجاز، و لعلها نتیجة لم تخطر علی بال عبد الحمید فی البدایة، أنها بتسهیلها أسباب السفر و الانتقال بین مکان و آخر ساعدت علی سریان الأفکار فی الأجزاء الغربیة من بلاد العرب. إذ کانت القوافل السریعة قبل تسییر الخط الحجازی تقطع المسافة ما بین دمشق و المدینة فی أربعین یوما علی الأقل، بینما کان السفر بالبحر من بلاد الشام إلی الحجاز یستغرق عشرة أیام أو خمسة عشر یوما، و یتوقف علی وجود المراکب المسافرة أو عدمه. لأن سیر الخط لم یکن منتظما، فقرّبت سکة الحدید المسافة بین المدینتین حتی جعلتها لا تتجاوز خمسة أیام، فکان لهذا الاختصار فی الطریق کما سیتضح لنا فیما بعد أثر کبیر جدا فی توجیه الحرکة العربیة و مصیرها عندما أتتها الفرصة للانفجار فی ثورة علنیة.
و قد کتب السفیر البریطانی لدی الباب العالی فی تقریره السنوی لعام 1907 ما یأتی: .. یمکننا أن نقرر بأنه بین حوادث السنوات العشر الأخیرة علی الأقل یوجد عنصران بارزان فی الموقف السیاسی العام: الأول هو خطة السلطان الماهرة التی استطاع أن یظهر بها أمام ثلاث مائة ملیون من المسلمین فی ثوب الخلیفة الذی هو الرئیس الروحی فی الدین الأسلامی، و أن یقیم لهم البرهان علی قوة شعوره الدینی و غیرته الدینیة ببناء سکة حدید الحجاز التی ستمهد الطریق فی القریب العاجل أمام کل مسلم للقیام بفریضة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 297
الحج إلی الأماکن المقدسة فی مکة و المدینة. و بهذا تفتح له أبواب الحیاة الأخری و ما تحویه من جنة و نعیم. و قد ترتب علی هذه السیاسة أنه أصبح حائزا علی خضوع رعایاه له خضوعا أعمی بشکل لم یسبق له مثیل، فباتوا بنتیجة هذا الخضوع راضین عن حکمه الاستبدادی الذی قد لا نجد فی جمیع أدوار التاریخ ما یحاکی شدته. و هکذا أصبحت ارادة السلطان قانونا فی البلاد، فإذا ما کتب لمسلم بائس أن یئن تحت وطأة الاضطهاد و الاستعباد القاسی من جانب الحکومة، أعلن شکواه من الموظفین من دون ان ینسب للخلیفة عمل أی شی‌ء ..
و افتتح هذا الخط الحیوی الذی وصل إلی المدینة افتتاحا رسمیا فی أیلول سنة 1908. و قد رافق هذا الحدث تعیین الشریف (الملک بعد ذلک) حسین بن علی لأمارة مکة و شرافتها الکبری، و کان فی الثالثة و الخمسین من عمره یومذاک، من قبل الاتحادیین برغم معارضة عبد الحمید فی ذلک.

المدینة فی الثورة العربیة (9 شعبان)

و یرد ذکر المدینة کثیرا فی المراجع الغربیة التی تبحث فی الثورة العربیة التی انطلقت من مکة سنة 1916، أو ثورة 9 شعبان التی أطلق أول رصاصة فیها ضد الأتراک فی الحجاز الحسین بن علی شریف مکة. و یعود السبب فی ذلک بطبیعة الحال إلی أن المدینة کانت نهایة سکة حدید الحجاز، و مرکز تجمع القوات الترکیة بعد مکة، بحیث أصبحت هدفا للثورة مدة طویلة من الزمن و مداد خططها حتی انتهت بوصول الثوار إلی دمشق الشام فی النهایة.
و یعلم الجمیع أن هذه الثورة اشتهر فیها عدد غیر یسیر من ضباط الانکلیز، الذین ساعدوا الثورة، و رجال استخباراتهم من أمثال ماکماهون و لورنس، و ستورز، و ویلسن، و یونغ، و هوغارث، و غیرهم کثیرون. لکن الذی اشتهر منهم علی الأخص تی أی لورنس الذی صار یعرف باسم لورنس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 298
العرب أو لورنس بلاد العرب . و علی هذا فقد کتب هؤلاء عن هذه الثورة، و ذکر الثورة جمیع من کتب عن لورنس من الکتاب و الصحفیین، و من السیاسیین و المؤرخین. و کانت هذه الکتابات فی معظم اللغات العربیة، و فی الانکلیزیة و الفرنسیة علی الأخص.
لکن أبرز کتاب انکلیزی کتب و اشتهر فی هذا الشأن هو کتاب «أعمدة الحکمة السبعة » الذی کتبه لورنس نفسه و ضمنه جمیع ما عنّ له عن الثورة العربیة و وقع له فیها. و هو کتاب ضخم یقع فی مائة و اثنین و عشرین فصلا، لکنه کان قد لخصه و نشره بمقیاس واسع فی کتاب یسمی «ثورة فی الصحراء »، قبل ان یطبعه فی الأصل.
و یبدأ لورنس فی الفصل الخامس من أعمدة الحکمة السبعة (الص 49) بتحلیل مقدمات الثورة العربیة التی بدأ الحسین بن علی یعد العدة لها منذ سنة 1915 علی ما یبدو. فهو یقول: «ان نشوب الحرب قد أحدث اضطرابا فی حالة الحجاز. فقد انقطع توارد الحجاج علیه فانقطعت بذلک واردات المدینتین المقدستین، و توقفت الحرکة التجاریة فیهما. و کان هناک خوف له ما یبرره، من أن المراکب الهندیة التی تحمل الأطعمة إلی الحجاج سینقطع مجیئها الیه نظرا لأن الشریف قد أصبح من رعایا العدو. و لما کان القطر کله لا ینتج الأطعمة التی یأکلها فی العادة فسیعتمد اعتمادا مخطرا علی ما یضمره الأتراک تجاهه، و هؤلاء یمکن ان یجیعوه بتوقیف سیر القطارات الیه. و بذلک لم یجد الحسین نفسه مثل ما وجدها فی تلک الأیام مطلقا، فقد موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 299
أصبح تحت رحمة الأتراک بالکلیة. لکنهم فی هذه اللحظة البغیضة کانوا یحتاجون احتیاجا خاصا لوقوفه إلی جانبهم فی «الجهاد» ضد العالم المسیحی.
«و لأجل ان یکون هذا الجهاد مؤثرا فی کل مکان یجب ان یقترن بمصادقة مکة المکرمة علیه، و إذا ما تم ذلک فقد یزج الشرق کله فی بحور من الدم. و کان الحسین شریفا حاذقا، و عنیدا شدید التدین. فقد کان یعتقد أن الحزب المقدسة لا یمکن أن تتفق شرعیا مع الحرب الاعتدائیة، و شیئا سخیفا إذا کانت تشن مع حلیف نصرانی هو المانیة. و لذلک رفض طلب الأتراک، و قدم فی الوقت نفسه استغاثة مبجلة إلی الحلفاء طالبا فیها عدم تجویع بلاده بسبب الحرب التی لم یکن لقومه ناقة فیها و لا جمل. فرد الأتراک علی ذلک فی الحال بفرض حصار جزئی علی الحجاز بالسیطرة علی لورنس فی زی البدو و هو بجانب جمله فی الصحراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 300
سکة حدید الحجاج. لکن البریطانیین ترکوا سواحله مفتوحة لسفن الطعام و نظّم تواردها تنظیما خاصا.
«علی أن الحسین لم یتسلم طلب الأتراک وحده. فقد بعث الیه فی کانون الثانی 1915 یاسین (الهاشمی) رئیس الضباط العراقیین، و علی رضا (الرکابی) رئیس الضباط السوریین، و عبد الغنی العریسی عن المدنیین السوریین، خطة مرسومة للقیام بتمرد عسکری کبیر فی سوریة ضد الأتراک.
و قد خاطبه أهل العراق و سوریة المضطهدون و لجان «العهد» و «الفتاة» فی هذا الطلب ب (أبی العرب)، و زعیم المسلمین، و أمیرهم الأکبر، و ناشدوه بأن ینقذهم من خطط طلعت و جمال الشریرة.
«و قد اضطر الحسین بصفته سیاسیا، و أمیرا، و مسلما، و عصریا مجددا، و وطنیا مخلصا، إلی أن یستمع لاستغاثتهم به. فأوفد فیصلا، ابنه الثالث، إلی دمشق لیبحث مع الضباط العرب مشاریعهم فی هذا الأمر بالنیابة عنه، و یقدم تقریرا بما یتوصل الیه. ثم انتدب ابنه الأکبر علیا إلی المدینة لیجند الجنود بهدوء من قرویی الحجاز و ابناء عشائره، متذرعا بأیة حجة یراها مناسبة، و لیکون علی أهبة الاستعداد للعمل إذا ما تطلبت مهمة فیصل ذلک. أما عبد اللّه ابنه الثانی اللبق، فقد کلف بجس نبض البریطانیین عن طریق المخابرة، و معرفة الموقف الذی سیتخذونه فیما لو ثار العرب ضد الأتراک.
«و فی کانون الأول 1915 أخبر فیصل والده بأن الأحوال المحلیة کانت مؤاتیة للعمل، لکن شؤون الحرب العامة لم تکن تسیر بموجب ما کانوا یریدون و یأملون. فقد کانت فی دمشق ثلاث فرق من الجنود العرب المستعدین للثورة، و کانت فی حلب فرقتان أخریان تفشت بین جنودهما فکرة القومیة العربیة بحیث کان من المؤکد أن ینضموا إلی الثورة فیما لو بدأ بها الآخرون. و کانت هناک فرقة ترکیة واحدة فقط فی هذا الجانب من طوروس، و لذلک کان من الأکید أن یستولی الثوار علی سوریة فی أول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 301
جهد یبذلونه. لکن الرأی العام من جهة أخری کان أقل استعدادا للأقدام علی اتخاذ تدابیر متطرفة، و کانت طبقة العسکریین واثقة من أن المانیة سوف تربح الحرب فی القریب العاجل.
«ثم أعقب ذلک حصول تأخیرات فی الخطة، لأن الخلفاء هاجموا الدردنیل بدلا من مهاجمة الاسکندرون. فذهب فیصل إلی استانبول للحصول علی أوثق المعلومات عن الأحوال فی جبهة غالیبولی، لأن اندحار ترکیة فیها سیکون بمثابة اشارة للعرب بالحرکة. و حینما تبین لفیصل أن خسائر الأتراک کانت جسیمة هناک عاد إلی سوریة و فی نیته أن یبدأ بالعمل، لکنه وجد أن الأحوال المحلیة قد أصبحت غیر ملائمة.
فقد ألفی مؤازریة فیها بین موقوف أو مختف، و أن أصدقاءهم کانوا یعلقون علی المشانق بالعشرات بتهم سیاسیة مختلفة. کما وجد أن الفرق العربیة التی کانت مهیأة للثورة قد سیقت إلی جبهات بعیدة، أو جزئت إلی أجزاء وزعت کلها علی الوحدات الترکیة فی کل مکان. یضاف إلی باشا (السفاح) الفریق فی الجیش الترکی یحیط به ضباط المان سنة 1917 مؤشرا الیه بالعلامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 302
ذلک أنه وجد ان الفلاحین العرب قد جندوا للخدمة العسکریة بحیث وقعت سوریة مستلقیة تحت رحمة جمال باشا السفاح.
«و علی هذا الأساس کتب فیصل إلی أبیه یشیر علیه بتأجیل الأمر إلی فرصة أخری أی إلی الحین الذی تکون فیه انکلترة مستعدة للمساعدة و ترکیة قد دخلت فی مأزق حرج. لکن المؤسف أن انکلترة کانت فی وضع مزر، لأن قواتها أخذت تتقهقر مضعضعة فی الدردنیل. و کانت نکبة الکوت المتطاولة فی آخر دور من أدوارها، کما کانت ثورة السنوسی التی نشبت فی وقت دخول بلغاریة إلی الحرب تهدد أجنحتها (أی أجنحة انکلترة).
و لذلک تأزم موقف فیصل إلی أقصی الحدود، لأنه أصبح تحت رحمة أعضاء الجمعیة السریة التی کان یرأسها قبل الحرب. فقد کان مضطرا إلی العیش فی ضیافة جمال باشا بدمشق، فاستهدف بذلک زیادة الأطلاع علی الوضع العسکری و تظاهر بأن أخاه علیا أخذ یجند الجنود فی المدینة بحجة قیادة وحداتهم التی سیقودها مع أخیه فی الزحف علی قناة السویس مع الجیش الترکی. و لما کان فیصل عثمانیا مخلصا و ضابطا فی خدمة الجیش الترکی کان لا بد من ان یعیش فی المقر العام، و یتحمل بصبر و أناة ما کان یصبه جمال المستأسد فی کؤوسه من ضروب التحقیر و الأهانة لقومه العرب.
«فقد کان جمال یدعو فیصلا و یأخذه معه إلی حیث کان یشنق أصدقاؤه السوریون. و لم یتجرأ ضحایا العدالة هؤلاء علی المجاهرة بمعرفة آمال فیصل و أمانیه الحقیقیة، بأکثر من عدم تجرؤه هو علی الأعراب عما کان فی فکره بالکلام أو النظر، لأن الکشف عن ذلک کان سیدین أسرته و ربما بنی قومه کلهم فیؤدی بهم إلی نفس المصیر. لکنه انفجر مرة واحدة فقط و قال لجمال بأن أحکام الأعدام هذه ستکلفه جمیع ما کان یحاول تحاشیه و تجنبه، فتطلب ذلک تدخل أصدقائه، من رجال ترکیة الموجودین فی استانبول، و تشفعهم فی إنقاذه من جریرة هذه الکلمات المنطویة علی التسرع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 303
«و قد کانت مراسلات فیصل لأبیه فی تلک الظروف مجازفة بحد ذاتها.
فقد کان یراسله بواسطة أتباع أسرته و حفدتها القدماء ممن کانوا فوق الشبهات، و کان هؤلاء یذهبون و یعودون فی قطار الحجاز و هم یحملون الرسائل فی أغماد السیوف، أو فی داخل قطع «الکیک»، أو مخاطة فی أنعل الأحذیة، أو بکتابات غیر منظورة علی أوراق تلف بها رزم لا خطر فیها. و فی جمیع هذه الرسائل کان فیصل یذکر أشیاء غیر سارة، و یسترحم من والده تأجیل العمل فی أی شی‌ء کان إلی الوقت المناسب.
«علی أن الحسین لم یکن یتأثر بمثبطات الأمیر فیصل و لو بمقدار ذرة، لأن الاتحادیین الأتراک کانوا فی نظره شرذمة من الأتراک الملاحدة الخارجین علی الدین و الأنسانیة، الخونة لروحیة العصر و مصالح الاسلام العلیا. و مع أنه کان رجلا کبیرا تجاوز الخامسة و الستین من عمره، فقد کان عازما علی إعلان الحرب علیهم برحابة صدر و اعتماده الوحید فی ذلک علی عدالة قضیته. و قد کانت ثقة الحسین باللّه عظیمة بحیث ترک حسه العسکری بائرا غیر مستغل، و ظن أن الحجاز یستطیع الوقوف ضد ترکیة فی الحرب علی قدم المساواة. و لذلک أنفذ عبد القادر العبدو یحمل رسالة إلی فیصل یقول فیها ان کل شی‌ء کان جاهزا لیقوم هو بتفتیشه فی المدینة قبل أن یبدأ بالزحف إلی الجبهة. فأخبر فیصل جمالا بالأمر، و طلب ترخیصه للذهاب إلی المدینة، غیر أنه فوجی‌ء بما أفزعه حینما رد علیه جمال یقول ان القائد العام، أنور باشا، کان فی طریقه إلی هناک أیضا فانهم سیزورون المدینة سویة فیفتشون الجیش فیها. و کان فیصل قد رتب أن یرفع علم والده القرمزی حالما یصل إلی المدینة، و یباغت الأتراک علی غفلة منهم، بینما اضطر الآن إلی أن یرافق ضیفین ثقیلین یحتم واجب الضیافة العربیة المحافظة علیهما و عدم مسهما بسوء، و قد یؤدی ذلک إلی تأخیر ما کان ینوی الأقدام علیه بحیث تتعرض أسرار الثورة کلها إلی الخطر بسببه.
«علی أن الأزمة انتهت بسلام بعد ذلک، برغم ان سخریة الاستعراض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 304
کانت شیئا مزعجا. فقد وقف أنور و جمال و فیصل یستعرضون القطعات و هی تسیر و تنعطف ثم تدور فی السهل المغبر خارج باب المدینة، و یغیر بعضها علی بعض صعدا و نزلا کما یفعلون فی حربهم علی الأبل، أو یهاجمون بخیولهم فی لعبة الرمح و الجرید طبقا لتقالیدهم العربیة الخالدة.
و أخیرا توجه أنور إلی فیصل یسأله بقوله: هل تطوع هؤلاء کلهم للجهاد؟
فأجابه فیصل بالأیجاب. ثم سأله من جدید: و هل عزم هؤلاء علی القتال حتی الموت ضد أعداء المسلمین؟ فرد فیصل بالأیجاب مرة ثانیة. و قد جاء الرؤساء بعد ذلک لیسلموا علی القائد العام بعد ان یتم تقدیمهم له، فتنحی الشریف علی بن حسین، من مذحج، بفیصل جانبا و همس فی أذنه یقول: هل یأذن سیدی بقتلهم الآن؟ لکن فیصلا رد علیه یقول: کلا انهم ضیوفنا.
فخری پاشا قائد حامیة المدینة
«و احتج الرؤساء مرة أخری علی هذا الرفض، لأنهم کانوا یعتقدون أنهم یمکنهم ان ینهوا الحرب بضربتین حاسمتین. و قد کانوا عازمین علی اجبار فیصل علی ما یریدون، و لذلک اضطر أن یذهب الیهم ثانیة علی مرأی من الواقفین و یتوسل لأنقاذ حیاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 305
الدیکتاتورین الترکیین، اللذین کانا قد علقا خیرة أصدقائه و أخلصهم علی أعواد المشانق. و اضطر فی الأخبر الی ان ینتحل الأعذار المناسبة و یعود بالضیفین إلی داخل المدینة، و یملأ قاعة الاستقبال فیها بعبیده و رجاله، ثم یرافقهما فی العودة إلی دمشق لینقذهما من الموت فی الطریق الیها. و قد فسّر هذه المجاملات المنهکة بأن شهامة العرب تقضی بان یکرس کل شی‌ء الی ضیوفه. و لما کان أنور و جمال علی جانب کبیر من الشک و الریبة مما شاهداه، فقد فرضا حصارا شدیدا علی الحجاز، و أمرا بسوق امدادات قویة آلیه. و قد أراد جمال ان یحتفظ بفیصل عنده فی دمشق، لکن البرقیات صارت تصل تتری من المدینة تطلب حضوره العاجل للحیلولة دون وقوع الفوضی و الاضطراب، فسمح له جمال بالعودة إلی المدینة و هو مکره بشرط أن یبقی رجال حاشیته رهائن عنده.
«و قد وجد فیصل أن المدینة أصبحت ملأی بالجنود الأتراک، و بضباط مقر الفیلق الثانی عشر و علی رأسهم فخری پاشا، الجزار القدیم الشجاع الذی طهّر (زیتون) و (أورفه) تطهیرا دمویا من الأرمن. و من الواضح أن الأتراک کانوا قد أشعروا بما کان یدبر لهم فی الخلفاء، فأصبح أمل فیصل بتدبیر هجوم مفاجی‌ء، و الحصول علی نجاح من دون ان ترمی أیة رمیة تقریبا، شیئا غیر ممکن. علی ان الأمر قد تأخر بحیث لم تعد معالجته بالفطنة وحدها شیئا ممکنا. فبعد أربعة أیام فرت حاشیة فیصل من دمشق علی ظهور الخیل و التجأت إلی نوری الشعلان شیخ الرولة فی البادیة، و شمّر فیصل عن ساعده للعمل فی الیوم نفسه. و حینما رفع رایته العربیة انتقلت الدولة الأسلامیة الکبری، التی اشتغل من أجلها عبد الحمید و ذبح الناس و مات، و أمّل الألمان فی تعاون الأسلام علی تنفیذ خطط القیصر العالمیة، إلی عالم الأحلام. فقد أنهی الشریف بمجرد اعلانه الثورة هذین الفصلین الوهمیین من فصول التاریخ». انتهی
و کانت خطط الثورة فی بادی‌ء أمرها تترکز حول مهاجمة المدینة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 306
و تطهیرها من الأتراک، لأنها أصبحت مقرهم الوحید فی الحجاز و مرکز تجمعهم و قد أعد الشریف و أنجاله جمیع ما کان عندهم من امکانیات لذلک، لکنهم لم یحرزوا شیئا من النجاح فی هذا الشأن. و یقول لورنس فی هذه المناسبة (الص 93، الفصل 13):
«و قد کان أول هجوم شنه الثوار علی المدینة عملا من الأعمال الیائسة، لأن العرب کانوا مسلحین تسلیحا سقیما و تنقصهم الذخیرة و العتاد بینما لورنس متنکر بملابس غجریة من غجریات سوریا و کثیرا ما کان یتسلل إلی المناطق الترکیة بهذا الزی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 307
کانت قوة الأتراک فیها عظیمة لأن مفرزة فخری باشا کانت قد وصلت حدیثا .. و فی أوج الأزمة تخاذل بنو علی فأخرج العرب إلی الخارج فیما وراء السور، و عند ذاک أصلاهم الأتراک بوابل من نیران مدفعیتهم الحامیة فأثّر هذا تأثیرا مرعبا فیهم. فقد التجأ العقیل و عتیبة إلی مکان آمن و رفضوا التحرک من جدید، و عبثا حاول فیصل و علی المذحجی الرکوب أمامهم من دون خوف لیبرهنا لهم أن القذائف المتفجرة لم تکن شیئا ممیتا کما قد یفهم من أصواتها المدویة. ثم ازداد الذعر و ضعفت العزائم.
«یضاف إلی ذلک ان فریقا من بنی علی اتصلوا بالقیادة الترکیة، و عرضوا علیها الاستسلام إذا وعدوا بسلامة قراهم. فاحتال فخری علیهم، و فی خلال ما أعقب ذلک من توقف فی المناوشات طوق ضاحیة العوالی بجنوده. ثم أمرهم فجأة بمهاجمتها و الاستیلاء علیها بالقوة، و بقتل کل حی یوجد فیها. فذبح مئات من السکان و اغتصبوا، و تلا ذلک إضرام النار فی البیوت فاحترق فیها الأموات و الأحیاء سویة».
و یقول لورنس ان مثل هذه المعاملة القاسیة، و هذا الفتک، قد هز أنحاء الجزیرة العربیة کلها لأنه جاء مخالفا لجمیع القواعد و الأعراف .. و لم یعد من الممکن للعرب أن یخضعوا ثانیة للأتراک الذین کان ما اقترفوه فی العوالی قد ولدّ روحیة الثأر عند الجمیع. و لذلک: تراجعوا من السهل المنبسط القریب من المدینة إلی الجبال القائمة فی عبر الطریق السلطانی حوالی عاد و الراحة، و بیر عباس. و هناک أخلدوا قلیلا إلی الراحة حتی یتمکن علی و فیصل من تدبیر السلاح و المال و الأطعمة لشن حملة جدیدة ..
و بعد وصول الامدادات و المساعدات التی قدمتها بریطانیة للثوار صاروا یحاصرون المدینة بالتدریج، و کان الأمیر عبد اللّه مکلفا بشی‌ء غیر یسیر من هذه العملیة. و مما یقوله لورنس فی هذا الشأن : «و أخیرا فقد غادر الشریف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 308
عبد اللّه مکة. و بعد اسبوعین ترکز فی المکان الذی کان یقصد ان یخیم فیه أی فی شمال شرقی المدینة، حیث یکون قادرا علی قطع طریق التجهیزات التی ترد الیها من القصیم و الکویت. فقد کان تحت تصرفه أربعة آلاف رجل، لکنه لم تکن عنده معهم سوی ثلاثة مدافع رشاشة و عشرة مدافع جبلیة غیر جیدة کان الشریف قد استولی علیها عند استسلام الأتراک فی الطائف و مکة، و لم یکن علی درجة کافیة من القوة لتنفیذ خطته الأخری بالهجوم المشترک علی المدینة مع علی و فیصل. فکان بوسعه فقط ان یحاصرها، و من أجل هذا أقام فی الحناکیة و هی مکان صحراوی علی بعد ثمانیة أمیال من شمال شرقی المدینة».
و یذکر لورنس فی هذه المناسبة قصة أشرف المغامر الترکی الذی قبض علیه رجال الشریف عبد اللّه بالقرب من المدینة، و هو مکلف منها بالتوجه إلی الیمن فی مهمة حربیة خاصة. و کان أشرف هذا مغامرا ترکیا من أهالی ازمیر فی الأصل، و قد ثار مرة علی الدولة فقبض علیه فی أیام السلطان عبد الحمید و نفی إلی المدینة المنورة لمدة خمس سنوات. و ظل محجوزا فیها حتی استطاع ان یفر من سجنه و یلتجی‌ء إلی شهد أمیر العوالی المناوی‌ء للأتراک یومذاک فآواه. ثم تمکن فی یوم من الأیام أن یأتی الی المدینة فجأة علی فرس عربیة أصیلة، و یدخل إلی ثکنتها فیخطف منها ضابطا شابا کان یدرب جنوده فیها، و هو ابن خصمه حاکم المدینة، و یعتصم به فی منطقة جبل أحد. و لأجل ان یستعید حاکم المدینة ابنه المخطوف، و ینقذه من براثن هذا الوحش الضاری، اضطر إلی تحریره من الحجز و وعده بعدم التعرض له ثم دفع له خمس مائة باون. و عند ذاک اشتری له عددا من الأبل و بعض الخیام، و تزوج زوجة من بنات المدینة، ثم أخذ یتجول بین العشائر حتی نشبت ثورة الشبان الأتراک فی استانبول. فتوجه الیها، و أصبح هناک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 309
من رجال أنور باشا. و حینما أعلنت الحرب العامة الأولی أوفد إلی المدینة، و جهز بالأموال و الرسائل اللازمة من السلطان لیتصل بأمراء العرب و الحامیة الترکیة التی اصبحت معزولة فی الیمن. و قد صادف خلال المرحلة الأولی من رحلته إلی الیمن أن مر بالمنطقة التی کان یخیم فیها الشریف عبد اللّه فی وادی العیص بالقرب من خیبر، فألقی القبض علیه بعد معرکة حامیة وقع جریحا فیها، و جاء به الشریف فوزان الحارث إلی عبد اللّه فوجدت معه أشیاء کثیرة منها عملة بمبلغ عشرین ألف باون، و عدد من الخلع الثمینة، و الهدایا النفسیة، و بعض المستندات و الأوراق المهمة، مع عدة أحمال من البنادق و المسدسات ..
و هنا یصف لورنس الجبهة العربیة یومذاک بکلمات موجزة تشیر إلی ان الأتراک صاروا یتخذون وضعا دفاعیا فی المدینة، حینما کان القائد الانکلیزی موری یضغط فی جهات سینا، و فیصل یرابط فی الوجه، و عبد اللّه یخیم بین الوجه و المدینة.
و یستفاد من تسلسل الحوادث فی فصول أعمدة الحکمة السبعة بعد ذلک أن لورنس بدأ یعتقد بضرورة إبقاء فخری باشا، مع قواته الترکیة التی یبلغ عددها خمسة و عشرین ألف مقاتل، فی المدینة و ضرب طوق من الحصار حولها لئلا یستفید منها الأتراک فی جبهات أخری. و هذا ما کان یریده الکولونیل الفرنسی بریمون کذلک، و هو رئیس البعثة الفرنسیة التی جاءت إلی الحجاز لتشارک فی مساعدة العرب مساعدة اسمیة أو رمزیة علی الأقل.
و کانت وجهة نظر بریمون فی هذا الشأن إلهاء العرب بمحاصرة فخری باشا فی المدینة و عدم السیر إلی الشام و تکوین حکومة عربیة فیها، کما تم بعد ذلک، لأن فرنسة کانت تطمع فی سوریة منذ ذلک الوقت بطبیعة الحال، و کانت سوریة من حصتها فی المقاسمة السریة التی أجریت بین انکلترة و فرنسة بموجب اتفاقیة سایکس- بیکو.
لکن الأتراک علی ما یبدو قد أدرکوا وضعهم المیئوس منه فی المدینة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 310
و فائدة خصومهم منه، فأوعزوا إلی قائدهم فی المدینة بأخلائها. و یقول لورنس فی هذا الشأن: «و قد جاءنی ما کروری بنسخة من تعلیمات برقیة صادرة من جمال باشا إلی فخری باشا فی المدینة، و کانت هذه التعلیمات قد صدرت فی بادی‌ء الأمر من أنور باشا و هیأة أرکان الحرب الألمانیة فی استانبول، و هی تقضی بأخلاء المدینة و ترکها فی الحال، و إخراج الجیش منها بمسیرات بریة عدة تسیر إلی هدیة أولا، ثم إلی العلا، و إلی تبوک، و أخیرا إلی معان حیث تحفر الخنادق و یتخذ موضع قوی فیها متصل بخطوط سکة الحدید. و کانت هذه الحرکة تعد شیئا مناسبا للعرب، لکن جیشنا فی مصر اضطرب للخبر و أزعجته فکرة نزول خمسة و عشرین ألف جندی أناضولی مع مدفعیتهم غیر الاعتیادیة علی جبهة بئر السبع بصورة مفاجئة.
و لذلک أخبرنی کلایتون بکتابه بان أعیر هذه التطورات أهمیة فائقة، و أن أبذل کل جهد للاستیلاء علی المدینة، أو القضاء علی الحامیة عندما تخرج منها. و کان نیو کومب منشغلا بتخریب خطوط السکة تخریبا شدیدا، و لذلک وقعت المهمة علی عاتقی. و قد شعرت بأنی لا استطیع عمل شی‌ء کثیر فی هذا الشأن، لأن البرقیة جاءت متأخرة و قد أزف وقت إخلاء المدینة المشار الیه ..»
و حینما نشط لورنس للعمل علی تنفیذ الأوامر التی تسلمها ذهب إلی الشریف عبد اللّه فی وادی العیص للوقوف علی أسباب عدم قیامه بأیة حرکة خلال الشهرین الأخیرین، و لأقناعه بمهاجمتهم حالما یخرجون من المدینة، لکن الأتراک لم یستطیعوا تنفیذ الأوامر التی صدرت لهم و لم یستطع الثوار العرب الاستیلاء علی المدینة و القضاء علی الحامیة الترکیة فیها لأسباب کثیرة لا مجال لشرحها هنا. و لذلک تأکدت فکرة محاصرتهم و الابقاء علی قوتهم مجمدة فی داخل المدینة المقدسة. و هاک ما یورده لورنس (الص 225 و
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 311
380) فی هذا الشأن: «.. فیجب علینا ان لا نأخذ المدینة، فقد کان الأتراک غیر مضرین لنا فیها، لکننا فی مصر سوف نضطر إلی اطعامهم و حراستهم لو وقعوا أسری فی أیدینا. و کان الشی‌ء المثالی لنا ان نبقی سکة الحدید عاملة بالکاد .. و علی هذا الأساس ظل الثوار العرب مع لورنس فی جبهة المدینة و سکة الحدید الموصلة لها یدمرون القطارات و ینسفون الکثیرین من جسورها و أجزائها علی طول الخط، إلی ان وصلوا الی خطوطها المارة فی منطقة الأردن حین استولوا بالتمام علی ثمانین میلا منها تقع ما بین معان و المدورة، و بذلک انتهی أمر الدفاع الفعال عن المدینة بهذه العملیة علی ما یقول لورنس. و بقیت القوة الترکیة محاصرة فی المدینة إلی ما بعد اندحار ترکیة، و إلی ان وضعت الحرب أوزارها. لکن الغریب فی الأمر ان المنتمین إلی المدرسة القدیمة من القادة الأتراک، علی ما یقول لورنس، کانوا (الص 460) یعیرون المدینة أهمیة کبری و یعتبرونها آخر أثر من آثار سیطرتهم علی البلاد المقدسة، و حجة حیة للتمسک بالخلافة. و لذلک دفعت بهم هذه العاطفة إلی اتخاذ قرار مخالف لمقتضیات الحالة العسکریة فیها.
أما مصیر فخری باشا، و القوة التی بقیت محاصرة معه فی المدینة، فیقول الصحفی الأمریکی لیدل هارت فی کتابه المشهور عن لورنس (الص 375) أن حامیة المدینة هذه لم تستسلم إلا فی کانون الثانی 1919.
و لم یکن حتی الاستسلام من رأی فخری باشا نفسه، لکن ضباطه الذین أخذ منهم الجوع مأخذه اغتنموا فرصة مرضه فاستسلموا للعرب و سلموا قائدهم المریض الیهم کذلک، و کانت روحیة هذا القائد العسکریة قد أدت به الی ان یتمسک بالمدینة تمسکا عنیدا أسهم به فی خسارة بلاده إلی حد کبیر. و نذکر بالمناسبة أن المستر لیدل هارت یأتی فی کتابه هذا علی جمیع موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 312
ما نقلناه عن لورنس و یؤیده، و یضیف إلی ذلک قوله ان خط سکة الحجار ما بین معان و المدینة یبلغ خمس مائة میل فی طوله، و ان هذه المسافة تقسم إلی ثلاثة قطاعات متساویة تقریبا، و هی قطاع معان، و قطاع تبوک مدائن صالح، و قطاع مدائن صالح المدینة.

الشریف علی حیدر فی المدینة

کان الشریف علی حیدر، حفید الأمیر عبد المطلب، من شرفاء مکة المنتمین إلی ذوی زید، و قد جی‌ء به إلی استانبول فی أیام السلطان عبد الحمید و هو حدث صغیر فی السابعة من عمره لیکون رهینة عند الدولة العثمانیة عن سلوک جده الحسن تجاهها. و قد نشأ نشأة ارستقراطیة فی العاصمة الترکیة و ترعرع فیها، و تعین فی شبابه عضوا فی مجلس المبعوثان ثم تسنم عدة وظائف مرموقة فی الدولة. فأصبح وزیرا للأوقاف و نائبا للرئیس فی المجلس المذکور کذلک. و کان خلال إقامته هناک قد تزوج بالمس یزابیل دن
Isabel Dunn
ابنة الکولونیل دن خبیر الأسلحة الانکلیزی الذی ظلت تستعین به الحکومة الترکیة عدة سنوات، بعد أن أسلمت علی یده و صارت تسمی فاطمة. فأنجب عدة أولاد منها، و منهم الشریف محیی الدین و الشریف محمد أمین، و الشریفة مصباح. و قد تثقف هؤلاء ثقافة عالیة فیما بعد، و استطاعت الشریفة مصباح ان تکتب کتابا بالانکلیزیة تسرد فیه نشوء أسرتها فی استانبول و قصة والدها و أحقیته بشرافة مکة باعتباره من ذوی زید، و تتحامل فیه علی الملک حسین باعتباره من ذوی عون الرفیق و ثورته علی الأتراک. و من کتابها هذا استقینا هذه المعلومات.
و حینما ثار الحسین بن علی فی مکة علی الأتراک فی 1916، رد علیه الأتراک بأعلان عزله عن الشرافة الکبری فی مکة المکرمة و تنصیب الشریف موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 313
علی حیدر هذا فی مکانه. و اتخذت التدابیر اللازمة لتسفیره إلی المدینة المنورة و تسلم منصبه فیها، علی أن یعمل بالاشتراک مع القوات الترکیة الموجودة فیها علی استرداد مکة و سائر أجزاء الحجاز بعد القضاء علی الثورة العربیة فیه. فترک استانبول فی یوم 19 حزیران 1916 متوجها إلی الشام، و من هناک نوجه إلی المدینة بالقطار فی أول آب 1916.
و تقول الشریفة مصباح فی الفصل الرابع عشر من کتابها (الص 9) عن مرور أبیها الشام أن جمال باشا القائد العام فیها قد ساءه تقاطر العرب و تواردهم للسلام علی الشریف حیدر. و کان من بین الذین فعلوا ذلک نوری الشعلان شیخ مشایخ الدولة الذی أهدی له الشریف حیدر ساعة ذهب، و کان یتقاضی یومذاک مخصصات محترمة من الحکومة العثمانیة لقاء ولائه لها. و تقول کذلک:
.. و مع أن القائد العام قد بذل جهدا فی إخفاء شعوره الشخصی تجاه الشریف، فقد کان من الواضح عند أول التقاء الشریف الأکبر به انه کان یکرهه کراهیة شدیدة، حتی انه لا یثق بوجوده فی الشام. و لا شک بأن شکوکه بأن ینضم إلی الثورة العربیة فی یوم من الأیام، أو یقلل من منزلته هو فی البلاد، لم یکن له أی أساس من الصحة مطلقا. لکنه لما کان یعد العدة یومذاک لیعلن نفسه ملکا علی سوریة فی أول فرصة تسنح له، فلیس من الغریب أن یکره رجلا فی مثل منزلة الأمیر و مکانته .. غیر أنه مع جمیع ما کان یکنه من شعور تجاهه فانه عامله بأکثر ما یکون من الحفاوة و التکریم خلال الأیام الأخیرة من وجوده فی دمشق ...
.. و قد قوبل الأمیر بحماسة و ترحیب علی طول الخط الممتد من الشام إلی المدینة، و حینما وصل إلی مدینة الرسول فی الیوم الأول من آب 1916 استقبل استقبال الملوک باطلاقات المدافع، و رحب به فخری باشا، الحاکم العسکری، ترحیبا کبیرا. و کان جمهور کبیر من العرب المتحمسین قد احتشد فی خارج بنایة المحطة المزدانة بمعالم الزینة لاستقبال أمیرهم و السلام علیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 314
الشریف علی حیدر و هو خارج من باب السلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 315
و أعقب ذلک انشغاله الشدید بالتعرف علی الوضع عن کثب، فقد توافدت القبائل من کل مکان لتؤدی یمین الأخلاص و الطاعة، و تعبر عن فرحها بوصول عمید أسرة ذوی زید صاحب الحق الشرعی فی شرافة مکة الکبری. و تقاطرت الألوف منهم للانضواء تحت رایته و وضع أنفسهم تحت تصرفه، حتی تألف منهم جیش بخمسة عشر ألف مقاتل لیسیر وراءه.
لکن مصاعبه و مشاکله أخذت تزداد یوما بعد یوم، لأنه مع کونه قد تقبل ولاءهم بفرح و سرور فقد اضطر إلی أن یوعز لهم بالتفرق بعد ذلک لأنه لم یکن قادرا علی تزویدهم بأی شی‌ء من الذخیرة و التموین. فإن المدینة کانت تخلو من کل شی‌ء، و کانت وحدات الجیش النظامی فیها فقیرة التجهز إلی أقصی حد ممکن.
و لم تأت الاتصالات المتکررة بالحکومة بأی شی‌ء، لأن المسؤولین کانوا یخضعون لأسیادهم الألمان فی فکرة ترکیز القوات العسکریة فی جهات أخری ضد الأنکلیز. و لذلک تحتم علی الأمیر ان یتجرع مرارة الخیبة فی ان تفلت من یده الفرصة الوحیدة التی سنحت له لسحق الثورة العربیة، و استعادة مکة. فان قبیلة بعد أخری أخذت ترسل رسلها لتقول ان الوقت قد حان، و أن الفرصة قد سنحت، لتخلیص الحجاز من حسین المکروه و حلفائه الکفار. لکنهم کلهم کانوا یحتاجون إلی الذخیرة الحربیة و الطحین، و هما الشیئان الحیویان اللذان لم یکن علی حیدر یملکهما و لم یکن قادرا علی استحصالهما من الحکومة التی سبق لها أن أخذت تفقد سیطرتها علی الشؤون الحیویة فی البلاد. و کانت القبائل فی الوقت نفسه تعانی الجوع و الحاجة إلی کل شی‌ء تقریبا، فاضطروا فی الأخیر إلی الرضوخ واحدا بعد آخر إلی لسان الدعایة المقنعة التی کان یبثها رؤساء الثورة المدعومون بذهب الأنکلیز و طحینهم.
و کانت من بین الرسائل التی تسلمها الشریف الأکبر فی هذا الوقت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 316
رسالة من ابن سعود أمیر نجد یومذاک. و ندرج نصها فی الآتی:
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الی سمو الشریف الأکبر أمیر مکة المکرمة الشریف علی حیدر المحترم
حیاک اللّه و جعل النصر لک، و بعد فقد حصل لی الشرف بتسلم کتابکم الکریم. و أن کل ما یحدث فی البلاد العربیة الیوم فأنا علی علم تام به، و قد علمت بتعیینکم لسدة الشرافة الکبری فی مکة، و اعتراف صاحب الجلالة الخلیفة و أمیر المؤمنین بکم علی هذا الأساس. و أنی أعلم کذلک ان قبولکم لهذا الشرف العطیم لم یکن الدافع الیه أطماعکم الشخصیة، و لا الرغبة فی الفوائد المادیة، و إنما کان ذلک بدافع حماستکم و اخلاصکم للأسلام، و لتحسین أحوال المسلمین بوجه عام. و قد رفعتم رایتکم من أجل الأسلام ضد حسین و أولاده، الذین خرجوا علی شرع النبی المقدس.
و لم تقم أسرة الحسین حینما أعلنت الثورة علی خلیفة المسلمین و حکومته الا بانزال الضرر بالمسلمین و زرع بذور التفرقة بینهم، و لکن لیس هناک قوة أعظم من قوة اللّه عز و جل. و قد کان سماح الحسین للنصاری بالدخول إلی الأراضی المقدسة من جملة التجاوزات التی تجاوز فیها علی الأسلام، و لا بد من أن تؤدی هذه إلی سقوطه فی النهایة. لأن سلوکه یعتبر سلوکا مغایرا لروحیة الاسلام بالکلیة، و منافیا لتقالید العرب و عقائدهم. و تدل ثورته ضد خلیفته علی سوء نیته. فهو یرید الاستقلال بأی ثمن، و لهذا فأنه سوف یمارس أنواع الدس بین أبناء البلاد العربیة، و تحریک أحدهم ضد الآخر لخدمة مصالحه و أطماعه. و قد أخذ الذین تتفق مصالحه مع مصالحهم یؤازرونه و یؤیدونه. و لذلک فان الوضع المهم الحالی یتطلب من حکومة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 317
سموکم شیئا کثیرا من الالتفات و الرعایة. ان دسائس الحسین و أولاده قد سببت هیاجا غیر قلیل بین قبائلی أنا أیضا، و قد أخبرت سموکم و موظفی الحکومة بهذه الأعمال غیر المرغوب فیها التی تجری فی الوقت الحاضر.
و ها أنا ذا أضع نفسی الیوم تحت تصرف الحکومة الترکیة و أوامرها، و انا علی استعداد لعمل ما تریدونه، لکننا نطلب المزید من الذخیرة الحربیة و التجهیزات. و یعتبر وضع الشریف حسین فی الوقت الحاضر وضعا ذا أهمیة قلیلة، و بوسعنا ان ندحره بسهولة اذا ما توفر لنا مزید من التجهیزات.
و نحن بانتظار ذلک مع تعلیمات سموکم. فالعرب الیوم یجتمعون هنا، و هذه أحسن لحظة لأیة حرکة یمکن ان نقوم بها.
عبد العزیز السعود حاکم نجد
أما مصیر الشریف حیدر و حرکته فی المدینة فتفرد له الشریفة مصباح فصلا خاصا فی کتابها هو الفصل الخامس عشر (الص 101). و هی تقول فیه: لقد أخذ الوضع یزداد سوءا فی المدینة. و کان الأمیر قد بعث بتقاریر مستعجلة عدیدة، و برقیات کثیرة، یشرح فیها الأحوال السیئة و یطالب بأرسال الأغذیة و الذخیرة العسکریة و الذهب. فلم تکن للعملة الورقیة أیة قیمة عند القبائل، التی کانت ترید الذهب وحده الذی کان بوسع فیصل و لورنس توزیع کمیات غیر محدودة منه.
و حینما وصل الأمیر حیدر إلی المدینة فی بدایة الأمر کان الوضع ما یزال مؤاتیا فیها، فقد کانت الطائف ما تزال فی أیدی الأتراک، و کانت الفرصة سانحة للحصول علی انتصار سریع فیما لو زحفوا فی الحال علی مکة و ینبع، و هو ما کان یرتأیه الأمیر. علی ان هذا لم یکن من الممکن الاضطلاع به من دون وجود تجهیزات کافیة. و بینما کان الأتراک مترددین فی هذا الشأن تغیر الوضع من سی‌ء إلی أسوأ، و لم تؤد التضرعات المرسلة الی سعید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 318
حلیم الصدر الأعظم الی أیة نتیجة، لأن الجهود کلها مترکزة فی جبهة فلسطین.
و فی شباط 1917 حصل تغییر وزاری فأعقب طلعت باشا سعید فهیم فی رآسة الوزارة. و فی برقیة بعث بها طلعت الی الأمیر أعلن حصول هذا التبدل، و طلب الیه ان یبعث بأخیه الشریف جعفر الی جمال باشا فی دمشق، و من ثم الی استانبول، لمناقشة الوضع مع أنور و معه هو نفسه. و قد لمّح له فی هذه البرقیة الی أن جمالا و أنور لم یکونا یدرکان الخطر الذی کان یحاول شرحه لهما. لأن کلاهما کان متأثرا بحجج الألمان التی تبرر ترک المدینة و الانسحاب منها، مع تحشید القوی کلها فی فلسطین. و لذلک بعث الشریف الأکبر بأخیه و ابنه الأکبر عبد المجید، لیحاولا أقناع الجهات المختصة بالخسارة العظمی التی ستصیب نفوذ الحکومة و هیبتها بین العرب و المسلمین فیما لو تم ذلک. فتقرر الدفاع عن المدینة حتی النهایة. و بعد أن أنهی الشریف جعفر مهمته علی هذه الشاکلة قفل راجعا الی المدینة.
و لما اصبحت مشکلة التجهیزات و المؤن علی جانب أکبر من الحدة و الصعوبة تقرر ان یترک الشریف حیدر المدینة مع حاشیته و یقیم فی سوریة، و قبل ان یرحل عنها سلم الی فخری باشا آمر الحامیة فی المدینة جمیع ما کان عنده من عدد و تجهیزات طبیة و خیول و ابل لیستعین بها فی الدفاع عنها.
و قد خزن جمیع ما کان عنده من خیام کبیرة، و سجاد یکفی لجلوس مائة نفر علیه، فی داخل المسجد النبوی مع امتعته الشخصیة التی کانت من بینها عشرة صنادیق سدر ثمینة ملأی بأنواع الفر و الفاخر و الخلع التی کان قد أهداها السلطان الیه. و قد سلم الأمیر مفتاح الغرفة التی خزنت فیها الی زوجته، لکن تلک المخزونات لم تسترجع بعد ذلک مطلقا، لأنها وقعت فی أیدی أتباع فیصل حینما دخلوا المدینة.
و یشیر السر رونالد ستورز، عضو مکتب الاستخبارات البریطانیة فی القاهرة یومذاک و حاکم القدس و قبرص بعد ذلک، إشارة عابرة الی مجی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 319
الشریف علی حیدر هذا الی المدینة فی کتابه المشهور. إذ یذکر عن بدایة الثورة أولا ان مکة استسلمت للثوار فی 13 حزیران 1916، و استسلمت جدة فی یوم 16 منه بعد ان قصفتها الباخرة البریطانیة فوکس من البحر.
ثم سقطت الطائف بعد ذلک، لکن المدینة بقیت تدافع عن نفسها بقیادة قائدها الباسل فخری باشا حتی النهایة .. ثم یقول ان الباب العالی بادر فی 16 تموز الی تعیین الشریف علی حیدر شریفا لمکة برتبة وزیر.
و هناک نشر بیانا فی آب علیه ختم امارة مکة یشیر فیه الی ان الثورة العربیة دبرت بأصابع مسیحیة. و یقول فی حاشیة فی أسفل الصفحة نفسها انه زار الشریف حیدر فی بیروت سنة 1923 فوجده رجلا مهذبا ذا شخصیة جذابة، و کان أحد أبنائه کمنجاتیا بارزا (یقصد الشریف محیی الدین الذی اشتغل فی معهد الفنون الجمیلة فی العراق بعد ذلک)، و کان ابنه الآخر ممثلا لشرکة جنرال موتورز فزاره فی قبرص.

المدینة فی 1925

کانت الفترة الممتدة ما بین سنتی 1924 و 1925 من الفترات الحاسمة فی تاریخ الحجاز الحدیث. فقد هاجم الوهابیون فیها، بقیادة ال سعود،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 320
البلاد الحجازیة و استولوا علیها بعد ان أخرجوا منها الأسرة الهاشمیة المالکة، و هی أسرة الحسین بن علی المنتمیة إلی أسرة ذوی عون الحسنیة. و قد زار الحجاز فی هذه الفترة التاریخیة الحاسمة کاتب انکلیزی یدعی أیلدون رتر، مدعیا الأسلام، و منتحلا اسم «أحمد» أو الحاج أحمد، و ناسبا نفسه إلی البلاد الشامیة. فنجح فی تستره هذا، و حج البیت الحرام فی مکة، ثم زار المدینة المنورة، و کتب أشیاء کثیرة عن رحلته هذه فضمنها فی کتاب له سماه «مدن الجزیرة العربیة المقدسة ».
و یذکر المستر رتر فی مقدمة کتابه أنه جاء الی القاهرة فی مایس 1925، و هو عازم علی الرحلة فی بلاد الجزیرة العربیة لزیارة مکة و أداء فریضة الحج التی یؤدیها المسلمون کل سنة، و زیارة المدینة بعد ذلک حیث یوجد قبر النبی (ص). و یقول بعد ذلک: و کانت الحرب فی هذا الوقت ناشطة فی المملکة الحجازیة کلها. ففی صفر سنة 1343 للهجرة (ایلول 1924) کانت قوات السلطان عبد العزیز بن سعود قد احتلت واحة الطائف العظیمة المرتفعة، التی تقع فی واد عریض بین قمم جبل کرا المثلمة ..
و بعد ان نهب الوهابیون من أتباع ابن سعود هذه البلدة الجمیلة و ذبحوا عددا کبیرا من سکانها العزل، دخلوا الی مکة بلباس الأحرام و استولوا علیها من دون عنف أو إراقة دماء. و کان الحسین، ملک الحجاز الهاشمی قد تنازل عن العرش لابنه الشریف علی، و بعد ان تراجع الملک علی الی جدة تبعه الوهابیون و ضربوا نطاقا من الحصار حوله فیها. و کانت المدینة، و میناؤها ینبع، لا تزال فی أیدی الحکومة الهاشمیة لکنهما حوصرتا کذلک من قبل قوات ابن سعود. و قد سدت جمیع الموانی‌ء الحجازیة فی وجه حرکة السفن الاعتیادیة، فکانت الوجه و ینبع وجدة محاصرة، بینما کانت اللث و قنفدة فی جنوبی جدة قد استولی علیهما الوهابیون فضرب الملک الهاشمی نطاقا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 321
من الحصار حولهما. و یقول المستر رتر- غیر انی صممت علی ان لا أعبأ بهذا الحصار، فأصل الی الحجاز بطریقة من الطرق .. و قد وصل بالفعل بعد ان أقلع عن طریق قناة السویس الی مصوع، ثم الی القحم و البرک، و من هناک الی قنفذة. و بعد ان ادی فریضة الحج و زار الأماکن التاریخیة و المقدسة فی مکة کلها، توجه الی رابغ و منها الی المدینة المنورة.
و مما یذکره المستر رتر عن مکة انه استطاع المثول بین یدی السلطان عبد العزیز بن سعود فیها، قبل ان تسقط جدة فی یده. و کان ذلک فی أثناء جلوسه فی «الحمیدیة» بواسطة رجل سوری کان یشتغل محررا فی جریدة «أم القری». ثم زاره بعد ذلک عدة مرات أی قصره فی الأبطح. و یشیر کذلک الی أنه قد اکتشف أمره فی مکة و عرفه بعض الناس انه رجل انکلیزی لکنه استطاع ان یبرهن علی أنه انکلیزی مسلم. و بهذه الصفة واجه ابن سعود و تحدث معه عن أشیاء عامة کثیرة منها قضیة احتلال امارة شرقی الأردن و تعنی یومذاک العقبة و معان، و استیاؤه من ذلک، و عطفه علی الثورة السوریة ضد الفرنسیین و استعداده لمساعدتها فیما لو سکت الأنکلیز عنه، و تصفیة بعض قضایا الحدود مع العراق فی مؤتمر بحرة. و یذکر أیضا أنه لقی الدکتور عبد اللّه الدملوجی فی مجلس ابن سعود، حینما کان یعمل مستشارا للشؤون الخارجیة عنده، و هو یثنی علیه و یشید بثقافته و معلوماته العامة.
و یخصص المستر رتر ثلاثة فصول کبیرة من کتابه لما یذکره عن المدینة، و یعنون أحدها بعنوان «قبر النبی» و الثانی بعنوان «ملاحظات طویوغرافیة و تاریخیة» و الثالث بعنوان «حرم المدینة». و لما کان معظم ما یذکره رتر فی هذه الفصول قد ورد فیما انتقیناه من المراجع السابقة المشار الیها فی هذا المبحث لم نر حاجة الی تکرار ذکره هنا، و لذلک سنقتصر علی ایراد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 322
بعض الفقرات و الملاحظات العامة منها مما قد یدل علی شکل الحرم فی السنوات المتأخرة فقط. و یلاحظ هنا ان المدینة حینما وصلها رتر کان قد تم احتلالها من قبل الوهابیین.
فهو یقول مثلا عن الحرم النبوی الشریف ان باب السلام یقع فی نهایة السوق الشرقیة و ینتهی بها، و انه یعد الباب الرئیسی للمسجد الذی یتحتم علی الزائر الدخول منه الیه لأول مرة. و یذکر عند الأشارة الی محراب النبی (ص) انه مغلف بقطع من الرخام الأبیض و الأسود و الأحمر و الأخضر، و هی مرتبة بأشکال معقدة. و یقول کذلک ان صیغة الزیارة الطویلة المفصلة التی قرأها المزوّر معه کان یحرمها الوهابیون. و قبل ان یبدأ المزور فی قراءتها أخبره همسا بأنه سیزوّره القبر المقدس علی طریقة المسلمین الذین یحبون رسول اللّه (ص)، فعلم من ذلک ان المزور یجازف فی مثل هذه الزیارة لأنه ربما یتعرض للأهانة و العنف بسببها من الوهابیین المتعصبین الذین استولوا علی المدینة مؤخرا. و بهذه المناسبة یذکر ان الوهابیین یعملون بتعالیم ابن تیمیة التی بنی المذهب الوهابی علیها، و ان المزور حینما یطلب شفاعة النبی یکون قد ارتکب جریمة «البدعة»، و ان الصلاة فی المساجد التی تحتوی علی قبور الأولیاء فی داخلها تعتبر باطلة فی نظر الوهابیین.
و من طریف ما یذکره المستر (رتر) کذلک القصة المنسوبة الی السلطان محمود نور الدین (1145- 73) ملک الشام، نقلا عن «تاریخ المدینة» للمؤرخ السمهودی. فقد شاهد هذا السلطان النبی ثلاث مرات فی حلمه ذات لیلة، و کان النبی یقول له فی کل منها «أنقذنی یا محمود من هذین الشخصین»، و کان هناک فی مقابله شخصان أحمرا الشعر. فنهض السلطان قبل بزوغ الفجر و دعا وزیره الیه فقص علیه الرؤیا. فقال له الوزیر ان هذا الشی‌ء لا بد من ان یکون قد حصل فی المدینة، و لا یمکن ان یتولی معالجته سوی السلطان نفسه. و علی هذا الأساس رکب السلطان مع عدد کبیر من رجال حاشیته و قادة جیشه و توجه الی المدینة المنورة. و دخلها من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 323
دون ان یعلم بقدومه أحد، و کان أول ما فعله فیها انه أمر ان تسجل له اسماء سکان المدینة بأجمعهم لیوزع علیهم الصدقات بنفسه. فوزع مبالغ کبیرة بهذه الطریقة حتی یستطیع التأکد بنفسه من الناس، و یکتشف الشخصین اللذین أشار الیهما النبی فی حلمه. لکنه لم یجد أحدا منهما بین جمیع من حضر من سکان المدینة، فسأل: هل تأخر أحد عن الحضور؟ و أجابه الناس ان الجمیع قد حضروا ما عدا غریبین اثنین من أهالی الأندلس، یقیمان فی التکیة القائمة تجاه حجرة النبی (ص)، و جدّوا فی التفتیش عنهما حتی وجدوهما فأحضروهما بین یدی السلطان الذی عرفهما حالما وقع نظره علیهما، و قال لوزیره انهما هما بعینهما. و حینما استفسر منهما عن هویتهما، أجابا بأنهما جاءا للاقامة فی مدینة النبی. لکنه أصر علیهما بان ینطقا بالحقیقة و شدد علیهما النکیر و التعذیب حتی اعترفا بأنهما نصرانیان، و انهما جاءا لسرقة رفات النبی (ص) المدفونة فی الحجرة، بایعاز من ملکیهما.
و قد وجد أنهما کانا قد حفرا نفقا تحت جدار المسجد المتجه إلی مکة، یؤدی الی الحجرة بطریقة بارعة کانا یخفیان بها التراب و یأخذانه بعیدا عن الأنظار. و حینما سمع السلطان اعترافهما هذا قطع رأسیهما بالقرب من شباک الحجرة الشرقی، و أحرق جثتیهما بالنار. و اخیرا أمر بحفر خندق یحیط بالحجرة المقدسة وصب فیه الرصاص و النحاس الأصفر، لئلا یمکن تدنیسها أو العبث بها بهذه الطریقة بعد ذلک .
اما من الناحیة الطوبوغرافیة فیقول رتران المدینة تقع فوق هضبة أواسط الجزیرة العربیة، فتختلف بذلک عن مکة التی تعد من مدن السهل الساحلی.
و تتوسط عددا من المجموعات الجبلیة التی تحیط بها علی شاکلة حدوة الحصان التی تقع فتحتها فی الجهة الجنوبیة الشرقیة و تتألف الأرض،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 324
الممتدة من جبل عیر الی مسافة تقل بمقدار نصف میل عن أسوار المدینة، من منحدر متکسر یتکون من صخور برکانیة، و فی السهل الممتد الی شرقی المدینة تقع کتلة راکبة من اللابا السوداء. و هذه تمتد الی مسافة میل عن باب المدینة الشرقیة المسماة باب الجمعة أو باب البقیع، و تعرف بالحرة.
و یبلغ سمک الحرة حوالی عشرة أقدام، و هی ترتفع ارتفاعا فجائیا عن التربة الرملیة المحیطة بها فتبدو کأنها جدار أسود. و یروی سکان المدینة ان النبی (ص) حینما حارب الیهود فی المدینة عمدوا الی دفن أموالهم و جواهرهم فی الحرة، فحاول المسلمون بعد ذلک العثور علیها من دون جدوی. و قد زرع الفراغ الممتد بین المدینة و الحرة ببساتین النخیل الکثیفة، و فی ظلال هذا النخیل یزرع البرسیم و الحنطة و الشعیر و الطماطة و أنواع عدیدة أخری من الخضروات. و فی الجهة الجنوبیة للمدینة تمتد بساتین النخیل و الأثل و النبق بشکل اسفین ما بین الحرة و جبل عیر الی مسافة ستة أو سبعة أمیال. و تنتشر ما بین الأشجار البیوت و القری الصغیرة، لکن هذه کلها کانت مهجورة و فی حالة خربة، کما کانت الحقول جرداء غیر عامرة بالذرع، حینما زار المستر رتر المدینة. و یعزی ذلک کله الی الحصار الذی کان الوهابیون قد فرضوه خلال السنة الأخیرة. و الی شمال غرب أحد وراء الجناح الغربی للجبل توجد واحة واسعة تسمی «العیون».
و تکوّن المدینة شکلا بیضویا یمتد طوله من الشرق الی الغرب. و یحمیها سور عال متین توجد فیه عدة حصون و تسعة أبواب. و الأبواب هی:
باب الجمعة أو باب البقیع و تقابل الشرق، و الباب المجیدی و الباب البصری و الباب الشامی و تقابل الجهة الشمالیة، و الباب الصغیر و العینیة و الباب المصری و تقابل الغرب، و باب الشونة و باب الحمام و تقابل الجنوب.
و یذکر المؤرخون أن أول شخص شید سورا حول المدینة هو محمد ابن اسحق حاکم المدینة فی سنة 236 للهجرة (850 م). و قد أعید بناؤه فی 540 للهجرة بأمر من سلطان الموصل. و حینما زار المدینة السلطان محمود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 325
نور الدین للنظر فی أمر المسیحیین اللذین حاولا العبث بالحجرة المقدسة أمر بتشیید الجدار الخارجی. و قد أعید ترمیم السورین عدة مرات بعد ذلک، و آخر من رمم السور الداخلی السلطان عبد العزیز العثمانی سنة 1867.
و یقوم فی خارج السور من الجهتین الشمالیة و الغربیة عدد غیر یسیر من المبانی الکبیرة، التی یبدو ان بعضها کانت قصورا منیفة فی یوم من الأیام. و کانت هذه البیوت قد شیدها الأتراک و غیرهم ممن سکن هنا فی أیام السلطان عبد الحمید. و لا شک أن المدینة ببساتینها، و قطارها الذی کان یأتی الیها بالفواکه و الخضروات و المؤن و السلع المختلفة من دمشق، کانت منتجعا لطیفا یعتزل فیه الناس الذین أتعبهم عناء العالم الحدیث و أقض مضجعهم تناقص الاهتمام بالدین و شؤونه. و بافتتاح سکة حدید الحجاز سنة 1908 تبدأ فترة مزدهرة فی المدینة تقاطر فیها الأغنیاء علیها بقصد الأقامة الدائمة.
علی ان ظهور الوطنیین الأتراک علی مسرح السیاسة الترکیة بعد ذلک جاء بشعور عدم الثقة و الاطمئنان فی هذا الحرم الأمین، لأنهم لم یقدروا قیمة امتلاک الحرمین، و نادرا ما کانوا یعدون هذا الشرف قمینا بصرف المبالغ الطائلة علیه و إرشاء القبائل العربیة للامتناع عن قطع الطرق المؤدیة الیهما. و لذلک فقد أدی الخوف من إقدام ابن رشید علی احتلال المدینة أو قیام الوهابیین بتکرار ما کانوا قد فعلوه فی أوائل القرن التاسع عشر بها، الی ترک الکثیرین لها قبل ان یعمد الشریف حسین الی اعلان الثورة علی الأتراک فی 1916.
و منذ أن وقع ذلک الحادث المهم توالت علی المدینة ویلات عدیدة تتوجت بحصار الوهابیین لها مدة خمسة عشر شهرا علی ما یقول المستر رتر.
و کانت النتیجة التی أدی الیها الحصار الکریه هذا أن قل عدد السکان فیها الی ستة آلاف نسمة فقط، مع ان هؤلاء السکان کان عددهم قد وصل الی سبعین او ثمانین ألف نسمة من قبل .. ثم یأخذ رتر بوصف الشوارع و الأزقة الفارغة و البیوت المتهدمة، و یخرج من ذلک الی وصف محطة القطار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 326
المهملة فی نهایة المدینة الغربیة بالقرب من باب العنبریة.
و بعد ان یصف اشیاء کثیرة مرت الأشارة الیها قبل هذا فی المراجع الأخری، یقول رتر: ان کثیرا من طلبة العلوم الدینیة الذین کانوا یقیمون فی المدینة سابقا فروا هاربین الی بلاد آمنة مع شیوخهم، لکن قلیلا منهم ظلوا مقیمین فیها خلال مدة الحصار الوهابی. و ها هم یدرسون الآن علی ابن ترکی فی الحرم الشریف، و ابن ترکی هذا نجدی سلفی معتدل لا یمکن ان یسمی وهابیا لأنه علی ما یقول رتر لا یعتقد بجمیع تعالیم ابن تیمیة و محمد ابن عبد الوهاب. و من علماء المدینة الآخرین الذین یذکرهم رتر أحمد الطنطاوی المصری الذی امتنع عن التدریس فی الحرم منذ قدوم الوهابیین الی المدینة، و أخذ طلبته یراجعونه فی بیته.

مکتبات المدینة

و بعد ان یأتی رتر علی وصف الحرم الشریف علی النحو المار ذکره فی هذا البحث بصورة عامة یتطرق الی ذکر مکتبة عارف حکمت العامة، و یقول انها تشغل بنایة تتألف من غرفتین مقببتین .. و کانت هذه المکتبة قد تبرع بها مؤسسها الشیخ عارف حکمت شیخ الأسلام السابق فی استانبول و أثثها تأثیثا کاملا. و کتب هذه المکتبة کلها مرقمة یمکن استعادتها و الاستفادة منها فی الخارج. و قد شاهد رتر علی منضدة خاصة فیها کرة أرضیة کبیرة یدل وجودها علی ان الشیخ عارفا کان یؤمن بکرویة الأرض، کما شاهد فیها عددا من الشیبة یطالعون الکتب و هم جالسون علی السجاد بالقرب من الشباک. و یلاحظ ان مأمور المکتبة و مساعده کانا ترکیین مطلعین علی تصنیف الکتب و أماکنها فی الرفوف، فسألهما (رتر) أن یحضرا له مجلدا من مجلدات فخر الرازی فی تفسیر القرآن فجاء له به المساعد فی الحال بکل عنایة و اهتمام. و قد أخبره هذا المساعد انهم لا یعیشون علی ما یقبضونه من الملک و لا من الحسین بن علی أو ابن سعود، بل یعیشون علی ما یأتی الیهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 327
من الوقف الذی أوقفه الشیخ علی المکتبة فی استانبول.
و یخلص رتر من هذا الحدیث الی الأشارة الی ان المدینة کانت تشتهر بخزانات کتبها منذ زمن طویل، لکن مجموعات ثمیلة من کتبها قد اختفت بمجی‌ء الوهابیین الی المدینة، و لم یعرف لها أثر. و قد قیل ان مکتبة السلطان محمود الکائنة بجوار باب السلام بقیت من دون ان یتعرض لها أحد، لکن المستر رتر وجدها مغلقة من دون ان یستطیع أحد فتحها. اما مکتبة بشیر أغا الشهیرة، و مکتبات الشفاء و السلطان عبد الحمید و عمر افندی فیقال انها لم یعد لها وجود فی المدینة. و یقول البعض ان معظم کتبها کانت قد سرقت حینما هرب السکان من المدینة، بینما یدعی آخرون أن الوهابیین قد أحرقوها، و هناک غیر هؤلاء یقولون انها کانت قد بیعت من قبل المکلفین بحفظها و حراستها.
و هناک فی المسجد الأکبر حوالی مائة نسخة کبیرة من القرآن الکریم موضوعة علی الرفوف بجانب محراب النبی (ص). و قد خط معظمها بخط جمیل ممتاز و زینت بالذهب و باللونین الأحمر و الماوی و غیرهما.
و کانت هذه النسخ الثمینة قد أهدیت الی المسجد النبوی فی مختلف الأوقات لیستفید منها الزوار فی القراءة و الترتیل.

ابواب الحرم و محاریبه

و یذکر رتر ان هناک خمسة أبواب عامة کبیرة فی الحرم المدنی الشریف، و هی: باب السلام و باب الرحمة فی السور الغربی، و یحمل الموتی من باب الرحمة الی داخل الحرم للصلاة علیهم قبل الدفن، و الباب المجیدی المسمی باب التواصل أیضا فی السور الشمالی، و باب جبریل و باب النساء فی السور الشرقی، و یقع باب النساء بالقرب من مصلی النساء فی الحرم اما باب جبریل فیحمل منه الموتی لدفنهم فی البقیع.
و هناک علاوة علی هذه الأبواب الخمسة باب آخر فی السور الشمالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 328
یؤدی الی جناح المخازن، لکنه یظل مغلقا فی الغالب. و هناک باب صغیر آخر فی السور الجنوبی یؤدی الی حدیقة عمر، و هذا ایضا یبقی مغلقا و لا یفتح ما لم یدفع الزائر مبلغا من المال الی البواب لفتحه لأجل ان یمر من الممر الذی کان یسلکه عمر. و یوجد کذلک عدد من الأبواب الصغیرة التی تؤدی الی المنائر.
و هناک عدد من المحاریب التی تقع فی مختلف أنحاء المسجد. و لهذه المحاریب ذکریات تاریخیة عدیدة، و کثیر من المسلمین یفضلون الصلاة أمام محراب واحد منها دون المحاریب الأخری لأسباب شخصیة لا غیر.
لکن بعض الناس یصلون امامها کلها، و قد یشیر المزوّرون علی الزوار بالصلاة رکعتین أمام کل منها. و لا حاجة للقول ان أهم هذه المحاریب هو محراب النبی (ص). و هاک أسماءها بالترتیب: محراب النبی فی الروضة، و محراب عثمان فی الوسط الشرقی من السور الجنوبی، و المحراب السلیمانی الذی بنی فی القرن التاسع الهجری و کساه بالرخام السلطان سلیمان القانونی فی القرن العاشر، و یقع فی خط المحراب النبوی من الجهة الغربیة، و محراب المتهجد فی الجانب الشمالی من حجرة الزهراء البتول و قبرها.
و هناک منصة مرتفعة بین یدی هذا المحراب، و یعتقد ان النبی (ص) کان یتهجد فی هذا الموقع طوال اللیل. و فی داخل الحجرة التی تحتوی علی قبر فاطمة یوجد محراب آخر، لکن هذا لا یمکن الوصول الیه. و آخر محراب هو محراب باب النساء.

البقیع فی 1925

ذکرنا سابقا فیما اقتطفناه من رحلة بورخارت، و السر ریتشارد بورتون الی الحجاز، و غیرهما الحالة التی وجدت فیهما هذه المقبرة التاریخیة و ما أصابها من الوهابیین الذین لا یؤمنون بتوقیر القبور، حینما استولوا علی المدینة فی بدایة القرن التاسع عشر. و قد لاحظنا ان المستر رتر یذکر الشی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 329
نفسه تقریبا عند زیارته لها فی 1925، ای بعد ان احتل الوهابیون المدینة للمرة الثانیة بعدة شهور فقط.
فهو یذکر فی وصفها (الص 562) بعد ان زارها عدة مرات فی أیام الخمیس بعد الظهر انه وجدها عبارة عن قطعة أرض محاطة بسور من الطین، تبلغ أبعادها مئتی یاردة فی مئة و عشرین، و تقع فیما یقرب من السور الشرقی للمدینة. و قد دفن فیها علی ما یقال عشرة آلاف صحابی من أصحاب النبی.
ثم یقول:
.. و حینما دخلت الی البقیع وجدت منظره کانه منظر بلدة قد خربت عن آخرها. فلم یکن فی انحاء المقبرة کلها ما یمکن ان یری أو یشاهد، سوی أحجار مبعثرة و أکوام صغیرة من التراب لا حدود لها، و قطع من الخشب و الشیش، مع کتل کثیرة من الحجر و الآجر و السمنت المتکسر، هنا و هناک. و قد کان ذلک أشبه بالبقایا المبعثرة لبلدة أصابها الزلزال فخربها کلها. و ألفیت بجنب السور الغربی للمقبرة أکواما کبیرة من ألواح الخشب القدیمة، و الکتل الحجریة، و قضبان الحدید. و کانت هذه بعض ما جمع من المواد الأنشائیة المبعثرة و کوّم هنا بانتظام. و قد أزیلت الأنقاض من بعض الممرات الضیقة حتی یمکن للزائرین ان یمروا منها لیصلوا الی مختلف انحاء المقبرة، و فیما عدا ذلک لم یکن هناک ما یدل علی شی‌ء من الانتظام. فقد کان کل شی‌ء عبارة عن و عورة تتخللها مواد الأبنیة المهدمة و شواهد القبور المبعثرة، و لم یحدث هذا بفعل الزمن و عوارض الطبیعة بل صنعته ید الأنسان عن عمد و تقصد.
فقد هدمت و اختفت عن الأنظار القباب البیضاء التی کانت تدل علی قبور آل البیت النبوی فی السابق، و قبر الخلیفة الثالث عثمان، و قبر الأمام مالک، و غیرهم. و أصاب القبور الأخری نفس المصیر، فسحقت و هشمت حتی الأقفاص المصنوعة من أعواد الجرید التی کانت تغطی قبور الفقراء من الناس قد عزلت جانبا أو أحرقت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 330
و یقول رتر و حینما توغلنا فی داخل المقبرة لمشاهدة الأکوام التی تدل فی یومنا هذا علی قبور المسلمین الأوائل الذین صنعوا التاریخ الحافل، سمعت دلیلی عامدا یکرر بهمس: استغفر اللّه، استغفر اللّه، لا حول و لا قوة الا باللّه. و کان القلة ممن بقی من سدنة القبور التی بقیت معالمها شاخصة للعیان یقفون أو یجلسون بجنبها بأوجه غیر معبرة، و من دون ان تبدر منهم أیة حرکة. فلم یطلبوا الصدقة، و لم یتکلموا بشی‌ء سوی بعض الکلمات الخافتة برغم عدم وجود أحد من الوهابیین علی مقربة منهم غیر اثنین من عبید ابن سبهان فی الباب. لکن بعض النواخلة کانوا لا یزالون منشغلین فی التقاط بعض القطع الصالحة للاستعمال من الخشب و غیره، من بین الخرائب و الأنقاض. و لیس بوسع هؤلاء النخاولة فی العادة ان یدفنوا موتاهم بین الأولیاء فی البقیع، لکنهم قاموا الآن تحت اشراف الوهابیین بتهدیم قبور المسلمین السنة و تدمیرها.
و قد سرنا فی ممر ضیق، نظف من بین الزبل المبعثر، نحو قبر عثمان الواقع فی الجبهة الشرقیة من المقبرة. و فیما کنا نخطو هذه المسافة خطوا مستأنیا التقینا بجماعة من الهنود راجعین من زیارة هذا القبر. و کان الذی یتقدمهم رجلا مسنا ذا لحیة طویلة قد و خط الشیب سوادها، و کان و هو یمشی منتصب الرأس لا یحرک عینیه یمنة و لا یسرة، بل کان ینظر الی الأمام علی الدوام و الدموع تنحدر من عینیه بتیار مستمر. اما الذین کانوا یسیرون وراءه فقد نظروا الینا نظرة خاطفة ثم حولوا أنظارهم الی الأمام بسرعة. فوصلنا الی مرتفع بسیط، و عندئذ عرفت سبب الحزن الذی کان یبدو علی الهندی المسن. فقد کان هناک بین یدینا علی الأرض منشأة طویلة قلیلة السمک لا یکاد یبلغ سمکها ست بوصات. و کان یبدو أنها مصنوعة من اطار خشبی دقت فیه بالمسامیر قطع خشنة من التنک. فکان هذا هو قبر عثمان الخلیفة الثالث نفسه. و کان یجلس بجانبه هندی آخر و هو ینتحب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 331

المدینة فی مؤلفات فیلبی

کان سنت جون فیلبی، أو الحاج عبد اللّه فیلبی، قد عاش مدة طویلة فی نجد و الحجاز فی کنف الملک عبد العزیز السعود، و أعلن اسلامه علی بدیه فأصبح حرا یتجول فی البلاد المقدسة کما یهوی و یرید، و أجری دراسات تاریخیة و جغرافیة عدیدة فی تلک البلاد. و قد ألف مؤلفات عدة فی هذا الشأن، فکان لا بد من ان یتطرق الی ذکر المدینة فیها بین حین و آخر.
و من أحسن مؤلفاته عن الملک عبد العزیز السعود کتابه «الیوبیل العربی » الذی کتبه فی تفصیل حیاة هذا الملک بمناسبة بلوغه الثانیة و السبعین من عمره. و قد ورد ذکر المدینة فی هذا الکتاب بمناسبات مختلفة، و أقدم ما یذکره عنها فیه أشارة (الص 26) الی ان سکة حدید الحجاز قد تم انشاؤها و وصلت نهایتها الی المدینة فی 1908 برغم معارضة القبائل البدویة و أمراء مکة لها. ثم عین السلطان عبد الحمید فی السنة نفسها الشریف حسین ابن علی فی شرافة مکة الشاغرة. و یشیر کذلک (الص 44) الی وصول الشریف علی حیدر الی المدینة فی 1916 لیحل محل الحسین و یشغل شرافة مکة الکبری بعد ان ثار الحسین علی الأتراک بالنحو الذی مرّ ذکره فی هذا المبحث من قبل. فهو یقول ان الحسین أعلن الثورة علی الأتراک و بلّغ ابن سعود رسمیا بذلک طالبا مساعدته. لکن ابن سعود بعث بنسخة من الکتاب الی الأنکلیز فی البصرة للمعلومات و رفض التملق للعدو جوابا علی الکتاب الثانی الذی تسلمه بعد ذلک من الشریف علی حیدر فی المدینة. و لکن الذی نلاحظه نحن فی ادعاء فیلبی یدل علی عدم اطلاعه التام علی ما جریات الأحوال فی تلک الفترة. لأن الحقیقة هی ان ابن سعود قد رد علی کتاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 332
الشریف علی حیدر بکتاب رسمی یتودد فیه الی الأتراک و خلیفتهم فی استانبول، و یهاجم الحسین بن علی لأنه ثار علیهم ففرق بین المسلمین و حالف النصاری فسمح لهم بالدخول الی البلاد المقدسة. ثم یطلب منه ان یمده بالمال و الذخیرة ان أمکن. و قد أثبتنا نص الکتاب فی ضمن ما اقتطفناه جون فیلبی (الحاج عبد اللّه فیلبی) بالملابس العربیة و الغلیون الانکلیزی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 333
من کتاب الشریفة مصباح حیدر.
علی ان أهم ما یذکره فیلبی فی هذا الکتاب تطرقه الی استیلاء الوهابیین علی المدینة بعد محاصرتها ردحا من الزمن. فهو یقول (الص 76) ان ابن سعود بعد ان احتلت قواته الطائف و ذبحت سکانها العزل فی مذبحة رهیبة، ثم احتلت مکة المکرمة، صار یعد العدة للاستیلاء علی المدینة، وجدة بعد ذلک. و قد شهد هو نفسه- ای فلیبی- فی رابغ جیش الأمیر محمد ثالث أنجال ابن سعود یتوجه فی طریقه الی المدینة التی طلبت التسلیم الیه، و لیس الی فیصل الدویش و أتباعه «الأخوان» الذین ظلوا یحاصرونها مدة طویلة من الزمن، و رفضت دخولها الی المدینة خوفا من عبثهم بمقدساتهم و إقدامهم علی ذبح الناس فیها. و قد تم ذلک بالفعل، فما ان وصل الأمیر محمد الی أبوابها حتی استسلمت له فی یوم 5 کانون الأول 1925. و من أهم ما یذکره عن المدینة کذلک (الص 84 و 85) وصول وفد جمعیة الخلافة الاسلامیة من الهند الی البلاد المقدسة بعد احتلال السعودیین لها بقصد التأکد من مصیرها و الاطمئنان علی مستقبلها، و التحقیق فی قضیة المذابح و الانتها کات التی نسبت لهم فترددت أخبارها فی أرجاء العالم الأسلامی کلها. و یقول فیلبی ان وفد هذه الجمعیة غادر البلاد المقدسة، فی النصف الثانی من کانون الأول 1926، و هو نصف مقتنع بمستقبل الحجاز المضمون برغم ما بذله عبد العزیز السعود من جهود باقناعهم فی هذا الشأن. و ما ترک وفد هذه الجمعیة الحجاز حتی وصل وفد اسلامی آخر من الهند یمثل «جمعیة خدام الحرمین» فیها، و معه ستون ألف روبیة لمساعدة ضحایا الجور الذی حصل فی المدینة. و کان موقف هذا الوفد أکثر تصلبا و صراحة فی عدائه للعهد الجدید منذ البدایة، و أشد انتقادا للأعمال التی جرت، الأمر الذی اضطر ابن سعود الی اخراجهم من البلاد فی أول سفینة أبحرت من الساحل الحجازی الی السویس فی الیوم الأول من شهر مارت. و کانت انتقاداتهم تترکز فی الغالب حول المزاعم المبهمة التی تنطوی علی خضوع ابن سعود للنفوذ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 334
البریطانی کما یستنتج من اتفاقیتی الحدة و بحرة، اللتین طلبوا الأطلاع علی نصهما الأصلی الموقع لأنهم کانوا یشکون بوجود فقرات سریة فیهما.
یضاف الی هذا أنهم أبدوا استیاء عظیما من الفظائع التی حصلت فی الطائف و المدینة و سائر الأماکن، و طلبوا تقدیم تفسیر لذلک. و انتقدوا بشدة إقدام ابن سعود علی مراوغة الرأی العام الاسلامی و عدم أخذه بنظر الاعتبار حینما أعلن تسنمه العرش من جانبه هو فقط.
و یقول فیلبی فی مناسبة أخری ان المجازفة فی حصول تعقید مع الدول الأوربیة، فی حالة وقوع اصابات فی القتال الذی قد یحصل فی جدة، قد اضطره (اضطر ابن سعود) علی الشاکلة نفسها الی تأخیر الهجوم علی تلک البلدة حتی یتسنی له ان یتولی إدارة العملیات الحربیة بنفسه. و کان قد أمر من قبل فیصلا الدویش و اتباعه المتعصبین بالتوقف عن مهاجمة المدینة المنورة التی استسلمت بعد ذلک بصورة أصولیة منتظمة الی الأمیر محمد. و مع هذا فقد حصلت تخریبات فی الأماکن التقلیدیة المقدسة فی المدینة و مکة معا، فکان لها وقع سی‌ء فی أنفس المسلمین و أثارت حفیظة الناس فی ایران و سائر البلاد الأسلامیة.
و یشیر فی موقع آخر (الص 153 و 154) الی أن نصب مکبرات الصوت فی الحرمین الشریفین قد تم قبل حلول شهر الصوم فی شباط 1926، بعد ان لم یکن من المناسب الاستفادة من مثل هذا الاختراع من قبل فی هذه البقاع المقدسة. ثم یتطرق فیلبی فی صفحات أخری الی مساهمته هو و الشرکة التی کان یمثلها فی الحجاز فی مکافحة البعوض فی المدینة و غیرها، و نصب الأجهزة اللاسلکیة التی أوصلت لمدینة بجدة و مکة (خلال الثلاثینات). و یناقش فیلبی فی صفحات أخری (الص 198 و 227) من کتابه هذا الأبهامات التی وجهها الملک عبد اللّه فی مذکراته الی الملک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 335
عبد العزیز السعود حول استغلال ثروات الحجاز من النفط و الذهب، مشیرا بذلک الی المذکرة التی قدمها فی 5 نیسان 1944 الی المندوب السامی فی فلسطین، فیقول ان الحجاز لم تظهر فیه ثروة نفطیة و ان الذهب أمکن استخراج مقادیر مناسبة منه بواسطة المشروع الذی استغل «مهد الذهب» الکائن فی منتصف الطریق بین مکة و المدینة. و آخر ما یتطرق فیلبی الی ذکر المدینة فیه خلال هذا الکتاب (الص 245) تطرق الی زیارة الملک فاروق الرسمیة الی الحجاز فی سنة 1944 و قضائه بضعة أیام مع الملک عبد العزیز السعود فی مخیم جمیل أقیم لهما فی ظلال جبل رضوی ما بین المدینة و ینبع
و یأتی ذکر المدینة کذلک فی صفحات کثیرة من کتاب فیلبی المهم الآخر، و هو کتاب «أربعون عاما فی الأوعار» الذی نشر فی سنة 1957. ففی الفصل الذی یخصصه لحصار جدة من الکتاب (الص 122)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 336
یتعرض الی خروج الحسین من الحجاز بعد تنازله عن العرش الی ابنه الملک علی و یدعی أنه أخذ معه (000، 800) باون انکلیزی ذهب بعد ان اقتصدها من المبالغ التی قدمتها الحکومة البریطانیة له خلال الحرب، و من الضریبة التی کان یفرضها بمقدار خمسة باونات علی کل بعیر یستأجره الحجاج من جدة الی المدینة أو من ینبع الی المدینة، و بمقدار ثلاثة باونات عن کل حاج یتسلمه المطوفون فی مکة.
و یتطرق فی هذا الکتاب ایضا (الص 128) الی حصار الوهابیین للمدینة قبل استسلامها لهم، فیقول ان ابن سعود بعث برسله الی المدینة طالبا استسلامها فی الحال، هی و حامیتها و ما فیها من أسلحة و عتاد و عدد لاسلکیة و سائر الذخائر العسکریة، الی قائده فی المیدان صالح العاذل من شمر، الذی کان قد وصل مع قوة من البدو الی الحناکیة. و بهذه الشروط وعدت مدینة الرسول بضمان سلامتها و عدم التعرض لها بشی‌ء، بینما طلب الی قبائل حرب المحیطة بها بان تفعل الشی‌ء نفسه لتتجنب مغبة العناد.
لکن قائد المدینة الشریفی أخبر ملکه بهذه التطورات وطمنه بانه اتخذ ما یلزم للصمود فی وجه الحصار.
و یشیر فیلبی فی بعض صفحات الکتاب (الص 199) الی ایعاز الملک عبد العزیز السعود الی حکومته بالعمل علی تحقیق مشروع انشاء سکة حدید الی البحر الأحمر، فلم یتأخر المستر غیلدیا
Gildaa
مسؤول هذه الأعمال عن القیام بمسح خط منتظم یمتد ما بین الریاض و المدینة عن طریق مرّات و القصیم، و من هناک الی ینبع وجدة مع انشاء فرع الی مکة، أی الی مسافة یبلغ طولها حوالی ألف میل. و فی نهایة عام 1954 کان کل شی‌ء جاهزا للبدء بانشاء الخط المقترح، لکن المبالغ التی أرصدت له فی المیزانیة لم تکن قد وفرت له بعد .. و یتطرق بعد ذلک الی تشغیل سکة حدید الحجاز و إعادة ترمیم المتخرب منها ما بین معان و المدینة، فیقول متذمرا انه یود لو نجنّب الخوض فی حدیثه. لأن هذا المشروع ظل یدور البحث فیه منذ ثلاثین سنة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 337
و ظل المسؤولون عنه یصرحون بترمیمه فی القریب العاجل بین حین و آخر.
لکنه لم یصل قط الی مرحلة إجراء المسح التفصیلی له برغم أوامر سعود المشددة فی انجازه. ثم صرفت مبالغ طائلة علی السفرات و اللجان لدراسة التقاریر، و لم تکن هناک صعوبة فنیة تحول دون إعادة تسییر الخط.
و المفهوم ان المشروع کله لا تزید کلفته علی أربعة ملایین باون تتحملها السعودیة و سوریة و الأردن. و قد قیل فی کانون الأول 1955 ان لجنة ثلاثیة غادرت الشام الی معان لترتب المباشرة باصلاح الخط ما بین معان و المدینة .. لکن شیئا من هذا لم یظهر للوجود حتی الآن بطبیعة الحال.
و آخر ما یرد ذکر المدینة فیه خلال هذا الکتاب أشارة فیلبی الی خصومته مع یوسف یاسین وزیر الخارجیة السعودیة الأسبق، و اتهام یوسف لفیلبی بتأثیره علی الملک فی إلغاء مقاولة تبلیط طریق المدینة المبهض من دون انزال عقوبة بالشرکة البریطانیة، التی کانت قد خسرت مبالغ غیر یسیرة فیه و لم تنجزه (الص 212).
و من کتب فیلبی التاریخیة الآثاریة المهمة کتابه الموسوم «أرض مدین »، المنشور فی سنة 1957 أیضا. فقد ضمن فیه التحریات التی أجراها ما بین تشرین الثانی 1950 و مارت 1953 فی منطقة مدین القدیمة التی تقرب من المدینة، و کان فیلبی قد جعل المدینة مقرا له و ظل یذهب منها الی مختلف الجهات المطلوبة للبحث و التنقیب علی ما یقول بمساعدة من الملک عبد العزیز الذی قدم له منحة مالیة قدرها ألف باون لهذا الغرض. و هو یقول انه أجری هذه التخریات العلمیة فی سهول و جبال و ودیان بلاد قدیمة جدا تعود فی أیام عزها الی عهد ابراهیم الخلیل و موسی و سلیمان، و الی عهد نابونیدس البابلی الذی کان یجعل عاصمته الصیفیة فی تیماء، أو الی عهود الملوک اللحیانیین و المعنیین و النبطیین الذین تعاقبوا علی حکم العرب من أهل عاد موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 338
و ثمود، و سیطروا علی الطرق التجاریة التی کانت تصدر بواسطتها توابل «بلاد العرب السعیدة» و عطورها الی مراکز المدینة الکبری فی الأزمنة السحیقة فی القدم (الص 4).
و مما یدونه فیلبی فی المقدمة عن تفصیلات مهمته هذه حول المدینة قوله ..:
و قد قررت ان تکون المدینة نقطة تحرکی الفعالة فی حملتی الی مدین؛ التی جعلت من أهدافها الرئیسة جمع الکتابات التاریخیة القدیمة فی میدان کان قد ارتاده جزئیا من قبل تشارلز هوبر و جولیوس یوتنغ فی أوائل الثمانینات من القرن الماضی، و الأبوان جوسن و سافینیاک من القدس ما بین سنتی 1907 و 1910. و نادرا ما کنت أتوقع أن أجد خلال حملتی هذه شیئا مثل اسطوانة تیماء المشهورة، الموجودة فی متحف اللوفر الآن، أو مثل الکتابات الملکیة المعنیة التی وجدت فی مدائن صالح و العلا (التی کانت تسمی دیدان فی الزمن القدیم). لکنی توقعت اننی لا بد من أن أعثر علی نصوص ثمودیة و نبطیة جدیدة، فضلا عن بعض النصوص السبأیة و المعنیة و حتی الأغریقیة، بینما کان الحلم الذی استوحیت منه رغبتی فی زیارة مدین هو إمکان العثور فی الجهة الشمالیة الغربیة من جزیرة العرب علی أصل الخط السینائی الأولی المشهور، الذی لا یعرف له وجود الیوم الا فی منطقة سیناء و یعتقد بأنه أساس الأنباء المعروفة. و الحقیقة ان إحدی الکتابات التی عثر علیها ریتشارد بورتون فی مدین من قبل کان قد أدخلها الدکتور لیبوفتش فی مخططه الخاص بنصوص الخط السینائی الأولی، الذی نشره فی 1920، مع أنه یبدو الآن بأنه خط ثمودی فی الحقیقة. و یمکننی ان أقول فی الحال بان تحریاتی عن مواد تاریخیة من هذا النوع لم تکن موفقة فی نتائجها، مع أننی جمعت بالفعل حوالی ألفی نموذج للخطوط من مختلف الأنواع من منطقة واسعة جسیمة تمتد من المدینة المنورة الی خلیج العقبة. و قد یکون من الصحیح ان نفترض بأن الخط السینائی لم یکن مصدره جزیرة العرب.
علی اننی عثرت علی بعض النماذج التی یمکن أن تقارن علی ما یبدو بنصوص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 339
بورتون المشار الیها قبل هذا فی بعض الاماکن الأقرب الی الریاض.
و فیما عدا هذا فمن أهم ما ورد ذکر المدینة فیه قول المؤلف بأن هذه الرحلة قد جعلتهم یتذوقون طعم لحم الوعل أکثر من مرة خلال مرورهم بالأوعار الجبلیة المقفرة التی تمتد من المدینة الی ما وراء خیبر بمسافة. و تمر سکة حدید الحجاز من هذه المنطقة علی مسافة غیر بعیدة من المخیم الذی نصبوه، و لا یعتقد فیلبی ان هناک أی أوربی آخر تسنی له من قبل أن یمر بالبقاع الممتدة الی شرق الخط الذی یربط المدینة بجهات خیبر. ثم یذکر فی مناسبة أخری (الص 30 و 31) أنه و جماعته کثیرا ما کانوا یأکلون خلال رحلاتهم هذه تمر المدینة مع الشای، و یصنعون منه أکلة تسمی «الحنینی» بخلط سحیق التمر بالطحین و البصل. کما یذکر ان المسافة بین المدینة و خیبر تبلغ فی الطریق الاعتیادی مئة و تسعة و سبعین کیلومترا.
و هکذا یرد ذکر المدینة فی طول هذا الکتاب و عرضه، و لا سیما خلال الفصل الأول المعنون بعنوان «المدینة الی خیبر».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 340

الفهرس

الموضوع الصفحة
المدینة المنورة قدیما
یثرب و موقعها 7
یثرب و اسماؤها 12
سکان الحجاز و الجزیرة العربیة 16
حیاة سکان الجزیرة العامة 20
نشأة المدینة المنورة و سکانها 21 الاقدمون
نزول الیهود المدینة 25
الاوس و الخزرج 31
حضارة المدینة و منازل الیهود 33 و العرب
الاسطورة 38
عودة الی التصافی 39
حروب المدینة و ایامها المشهورة 41
طبیعة المدینة و سکانها 44
الموضوع الصفحة
عوامل السکن و التمصیر 56
الودیان
وادی العقیق 58
وادی القری 59
وادی مذینیب 59
العیون
عین فدک 60
عیون الفرع 60
عین دومة الجندل 60
عین أبی نیزر و عین البغیبغة 60
الآبار
بئر غرس 62
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 341
الموضوع الصفحة
بئر أرما 62
بئر أریس 64
بئر حا 64
بئر بضاعة 65 موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌3 ؛ ص341
ر رومة 66
بئر رئاب 68
بئر عروة 68
الحاصلات الزراعیة 71
الصناعة و التجارة 78
اشهر قری المدینة و ضیاعها
العقیق 82
خیبر 84
قریة فدک 89
وادی القری 93
قریة الفرع 95
قریة قبا 95
دومة الجندل 97
قریة ینبع 99
قری أخری 99
اشهر مواقع المدینة و اماکنها القدیمة
حرّة واقم 100
حرة الوبرة 100
الموضوع الصفحة
البقیع 100
زغابة 106
النقا و حاجر 108
المنحنی 108
حطم الضحیان 109
حصن کعب بن الاشرف 109
سقیفة بنی ساعدة 109
ثنیة الوداع 110
سوق المدینة و سوق بنی قینقاع 110
المدینة المنورة فی الشعر
ابو بکر العیدی او العیذی 115
الاعشی- میمون 116
امرؤ القیس 116
البرجمی 117
جریر 117
جورج صیدح 118
حسان بن ثابت 118
السید حیدر الحلی 119
سعید بن العاص 120
الشریف الرضی 121
الشریف المرتضی 122
عبد السلام بن یوسف 122
عبد اللّه بن قیس (الرقیات) 123
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 342
الموضوع الصفحة
عمرو بن النعمان البیاضی 123
الفرزدق 124
الکمیت بن زید الاسدی 124
الشیخ محسن الخضری 125
محمد ناجی القشطینی 126
مهیار الدیلمی 127
نائلة بنت الفرافصة 128
هاشم الکعبی 128
هجرة الرسول الی المدینة
هجرة الرسول 131
القاءات الاولی مع أهل المدینة 137
بیعة العقبة الاولی 139
بیعة العقبة الثانیة 142
أثر العلاقات بین المسلمین و اهل یثرب فی مکة 143
یوم الهجرة 144
طریق الهجرة 146
الرسول فی قبا 148
بناء مسجد قبا 149
توجه الرسول الی یثرب 149
بناء المسجد النبوی 151
اعمال الرسول فی یثرب 154
المؤخاة 155
الموضوع الصفحة
الوثیقة 157
المدینة فی المراجع الغربیة
مدینة الرسول فی المراجع الغربیة 173
الاسم و الموقع 174
التاریخ القدیم 178
الاوس و الخزرج 181
دیانة اهل المدینة قبل الاسلام 184
المدینة فی عهد النبی (ص) 185
المدینة قبل مقتل عثمان 191
المدینة فی عهد الأمویین و العباسیین 192
المدینة فی ایام الفاطمیین و ما بعدها 195
المدینة فی عهد العثمانیین 196
وصف المدینة بشکلها الاخیر 197
الحرم النبوی 199
وصف الحرم 201
المدینة فی مراجع اخری 204
الفتنة الکبری فی المدینة 211
المدینة فی کتاب دونالدسون 215
أئمة البقیع 222
الرحالة الغربیون فی المدینة 238
جون لویس بورخارت 242
الضواحی 246
الحرم النبوی الشریف 247
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 343
الموضوع الصفحة
اماکن الزیارة الاخری 253
سکان المدینة 256
حکومة المدینة 258
السر ریتشارد بورتن فی المدینة 260
بین مکة و المدینة 263
مظهر الحرم النبوی 264
المنائر 266
الاروقة و الاعمدة 267
دفن النبی 269
شی‌ء من تاریخ المدینة 270
تشکیلات الحرم 275
سکان المدینة 279
الموضوع الصفحة
البقیع 280
مساجد المدینة 285
مشاهدات جون کین فی المدینة 289
سکة حدید الحجاز 293
المدینة فی الثورة العربیة 297
الشریف علی حیدر 312
المدینة فی 1925 319
مکتبات المدینة 326
ابواب الحرم و محاریبه 327
البقیع فی 1925 328
المدینة فی مؤلفات فیلبی 331
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌3، ص: 344

هذه الموسوعة

علی الرغم من انتشار الحضارة و الثقافة التی دفعت بالکثیر من العلماء و المحققین و الباحثین فی العصور الأخیرة الی احیاء مختلف التراث الاسلامی و الآثار العربیة فیما بحثوا، و حققوا، و کتبوا، فقد ظلت هنالک کنوز ذات قیمة کبری فی تاریخ العالم الانسانی فضلا عن تاریخ الاسلام و العرب.
لقد ظلت هذه الکنوز مطمورة فی بطون الکتب المخطوطة و المطبوعة لم یمسها احد الا من بعض اطرافها، و لم یتطرق الیها باحث الا من بعض جوانبها، و هی کنوز لم تقتصر علی ناحیة دون ناحیة، فهی تخص العلم، و الادب، و الفن، و الفلسفة، بقدر ما تخص الفقه و التاریخ، متمثلة کلها فی تاریخ العتبات المقدسة:
مکة المکرمة- المدینة المنورة- القدس الشریف- النجف الاشرف- کربلاء- الکاظمین- مشهد الرضا- سامراء .. الخ
فلکل عتبة من هذه العتبات تاریخ ذو علاقة جد وثیقة بالثقافة و الحضارة الاسلامیة و العربیة، مما اختزنته من المخطوطات الاثریة، و الروائع الادبیة، و ما قامت به من المدارسة طوال العصور المظلمة، اذ لو لا هذه العتبات لما بقی الیوم بایدینا من تلک الکنوز الا النزر الیسیر.
و هذا هو الذی دفع بطائفة من اهل الفضل و اساتذة جامعة بغداد من ارباب الاختصاص الی ان تتضافر جهودهم فی اخراج موسوعة تاریخیة- علمیة- اثریة- ادبیة- عامة، تتناول جمیع العتبات المقدسة بالبحث المفصل الشامل منذ اول تمصیر العتبة المقدسة حتی الیوم- علی ان یکون لکل عتبة اجزاء خاصة، و ان یکون کل جزء منها مستقلا بمواضیعه.
و هو اول عمل من نوعه، و اول مجهود خطیر یقوم به مؤلفه، و یکفی ان یستدل القاری‌ء علی خطورته مما یقع تحت عینیه من اجزائه.

الجزء الرابع

[الارض المقدسة فی نظر الاسلام و عقیدته‌تألیف جعفر الخلیلی

فلسطین إلمامة موجزة بتاریخ فلسطین و القدس القدیمة حدودها و موقعها

اشارة

اختلف المؤرخون فی تعیین حدود فلسطین القدیمة اختلافا ربما کان کبیرا و لیس من سبب فی هذا الاختلاف الا التغییرات التی طرأت علی هذه البلاد من جراء تغییر الزمن، و النفوذ، و الاقوام، ففلسطین القدیمة کما وصفها جیمس هنری بریستد: هی الارض الواقعة الی الجهة الجنوبیة الشرقیة من بحر الروم، و هی شقة من الارض کما یصفها، واقعة بین البادیة شرقا و البحر غربا، طولها نحو 150 میلا، و مساحتها نحو عشرة الآف میل .
أما ابن الاثیر فیقول عنها انها الکورة المعروفة فیما بین الاردن و دیار مصر و إنّ أمّ بلادها بیت المقدس .
و یقول یاقوت: انها آخر کور الشام من ناحیة مصر، و ان من قصبتها البیت المقدس، و من مشهور مدنها عسقلان، و الرملة، و غزة، و أرسوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 8
و قیساریة، و نابلس، و أریحا، و عمان، و یافا، و بیت جبرین، و قیل فی تحدیدها: انها اول أجناد الشام من ناحیة الغرب، و طولها للراکب مسافة ثلاثة أیام اولها رفح من ناحیة مصر، و آخرها اللجّون من ناحیة الغور، و زغر دیار قوم لوط، و جبال الشراة الی إیلة کله مضموم الی جند فلسطین .
و عند ابی الفدا ان فلسطین کورة کبیرة تشتمل علی بیت المقدس و غزة، و عسقلان .
و طبیعة فلسطین الجغرافیة تختلف باختلاف مواقعها، فالجزء الاکبر من فلسطین قاحل لا ینتج شیئا، و القسم الجنوبی منها عبارة عن قطعة من البادیة تمتد شمالا حتی القدس، آکام جافة جدیبة مؤلفة من الحجر الکلسی، اما الأودیة الواقعة فی شمال البلاد فهی ذات خصب و غلال وافرة، و البلاد برمتها لا یقع فیها المطر صیفا، و لا سقایة فیها فکل اعتمادها علی امطار الشتاء، و لذلک کانت غلاتها دون غلات سواها من البلدان التی ترویها امطار الصیف، و لا موانی‌ء فی فلسطین الا فی الجزء الشمالی منها، و هذه کان قد استولی علیها الفینیقیون منذ عهد بعید فامست البلاد منفصلة عن البحر، بعیدة عنه، و لم تساعدها مواردها الطبیعیة علی التقدم المادی و لا علی انشاء قوة سیاسیة کالبلدان المتمدنة المجاورة لها کمصر و ما بین النهرین، و سوریا، و فینیقیا .

اسم فلسطین

أما من این جاء اسم فلسطین ففیه اخبار کثیرة و اغلبها یحتاج الی دلیل علمی، و هی تلفظ بکسر الفاء ثم الفتح و سکون السین و طاء مهملة و آخره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 9
نون علی ما اورد یاقوت و فی اعرابها اختلاف کبیر عند العرب و زعموا أنها سمیت بفلسطین نسبة لفلسطین بن سام بن ارم بن سام بن نوح، و زعم الآخرون بل انها سمیت باسم فلسطین بن کلثوم من ولد فلان بن نوح، و فی کتاب ابن الفقیه علی ما روی یاقوت انها سمیت بفلسطین بن کسلوخیم بن صدقیا بن کنعان ابن حام بن نوح و قد نسبوا إلیها فلسطیّ و استشهدوا بقول ابن هرمة.
کأس فلسطیة معتقةشیبت بماء من مزنة السبل
و تفننوا فی اسباب التسمیة و عزّ علی نقلة مثل هذه الاخبار ان لا یکون لابن نوح الثالث (یافث) نصیب کنصیب اخویه فی هذه التسمیة فقالوا بل إنما سمیت فلسطین نسبة لمن نزلها اول مرة و هو فلسطین ابن کیسوحین بن لقطین بن یونان بن یافث بن نوح .
و اغلب الظن إن لم یکن من الیقین نظرا لبعض الدلالات التاریخیة من الاثار ان شعبا من شعوب البحر المتوسط یعرف بالفلسطینیین هاجر من جزیرة (کریت) و استوطن فلسطین فسمیت البلاد باسمه .
وجد المؤرخین الذین ینسبون اسم فلسطین للشعب النازح الی هذه الارض یقولون بأنه شعب أفراده بحارة یضعون علی رؤوسهم تیجانا من الأسل مثل تیجان البحارة النوردیین (الشمالیین).
و هذا الاعتمام بتاج الاسل نجده فی تواریخ بعیدة و موغلة فی القدم تحت مرقم نحات و مؤرخ الحضارة المصریة علی جدران هیل (مدینتجو)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 10
و هذا الشعب النازح من جزیرة (کریت) کان نزوحه بعد مجی‌ء الکنعانیین الی هذه الارض فشغل الساحل الجنوبی الغربی لفلسطین ای البقعة المحصورة من غزة الی یافا .
أما فلسطین قبل نزوح هذه القبائل من البحر المتوسط الیها فقد کان باسم کنعان لذلک سمی سکانها القدماء بالکنعانیین و هی جزء من ارض الشام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 11

سکان فلسطین و القدس القدماء

اشارة

و الوقوف علی تاریخ فلسطین القدیمة من ارض الشام (ارض کنعان) لا یخلو من صعوبة و مشقة لقلة المصادر العلمیة من الاثار التی تحکیها الابنیة، و الألواح، و الرقائم، و النقوش، کالتی فی الاقطار المجاورة لفلسطین من تاریخ الفراعنة، و الفینیقیین، و آشور، و بابل تلک الاثار الغنیة بالمخطوطات المنقوشة علی البردی و الآجر، و فوق المعابد و کثرة ما بقی سالما منذ القرون القدیمة من الاوانی و الادوات، و اسباب المعیشة التی توصل العلماء الی قرائتها و استقصاء ماهیتها، حتی تم الوقوف علی کثیر من أحوال السکان فی تلک الاصقاع، و بدأت الحقائق تحل محل الشکوک و تطرد الأوهام فی تاریخ الکثیر من الاقطار و الممالک.
أما فلسطین فقد کان نصیب المؤرخین فیها قلیلا من هذه الاثار التی یمکن منها تکوین فکرة علمیة کاملة عن تاریخها القدیم و علی الأخص الموغل فی القدم فلم یبق بالید الا التوراة ثم الآثار التی وجدت فی بابل و آشور و فی آثار الفراعنة بصورة خاصة التی جاء فیها ذکر فلسطین و حوادثها، و الا بعض ما بقی من الابار و اسس الجدران و الکتابات و القبور فی داخل فلسطین نفسها مما لا تفی بالغرض الکامل لتعطی فکرة کاملة غیر مشوبة بالشکوک و الظنون.
و التوراة مشحون بالکثیر من القصص و الاساطیر و الاخبار و الکثیر منها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 12
مبالغ فی روایته مما لا یصلح هنا الکثیر منه ان یکون مصدرا علمیا کاملا عند المؤرخین و مع ذلک فان المؤرخین الاکادیمیین یرجعون الی التوراة باعتباره أقدم مصدر بالید فیأخذون منه ما لا یتنافی مع الدراسات المنطقیة علی قدر الامکان و یسندونها بما یعثرون علیه من الادلة الاثریة المادیة التی یحصلون علیها داخل فلسطین او خارجها مما کشفت عنه التنقیبات فی آشور و بابل، و فی تاریخ الفینیقیین و الفراعنة بصورة خاصة و الیونان و الرومان و الفرس و فی اصقاع فلسطین.
و فی عقیدة الاسلام «ان العقل رکن المعتقدات الاول فما اوجبه کان واجبا، و ما احاله کان محالا، و ما أجازه کان جائزا» و هذا ما یتفق کل الاتفاق مع منطق الباحثین من المؤرخین الاکادیمیین.
أما الذی یکاد لا یتسرب الشک الیه نتیجة الدراسات العلمیة هو أن اکثریة سکان فلسطین الاوائل کانوا من (السامیین) الذین نزحوا من جزیرة العرب و کان قد خیم بعض هؤلاء السامیین فی البادیة بین العراق و الشام، فالمقیمون منهم قرب الفرات کانوا یتسربون تدریجا الی المدن المجاورة، فمن تحضر منهم هناک خدم دولتها فی الحروب او غیرها مما یحتاج الی قوة بدنیة ثم لا یلبث ان یندمج فی أهلها.
و کان سکان لملدن یسمون أهل تلک البادیة (آرامیین) أی أهل الجبال، و أهل ما بین النهرین (عمورو) او (مورو) ای أهل الغرب، لأن بلادهم واقعة غربی الفرات.
و قد یراد با (لعمورو) أهل غربی الفرات من بدو و حضر الی البحر المتوسط، ثم سموهم (عریبی) او (عرب) و معناها ایضا فی اللغة السامیة الأصلیة (الغربیون) و کانوا یسمون بلادهم (مات عریبی) أی بلاد الغربیین او بلاد العرب .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 13
و یری البعض من المحققین ان سکان ارض الشام القدماء التی تعتبر فلسطین جزء منها کانوا یدعون (العموو اللودانو) .
و لکن التاریخ لم یستطع ان یعین لنا بالضبط متی کانت هجرة هذه القبائل من جزیرة العرب الی هذه الاصقاع و الی ارض الشام خاصة إنما یمکن حصرها بین 3500- 2500 قبل المیلاد علی أغلب الظن.
و مع کل ذلک فلم تکن فلسطین حین نزح إلیها السامیون غیر مأهولة، فالرجوع الی ما هو معروف لدی المؤرخین للعصور التاریخیة القدیمة یدل علی ان البلاد کانت آهلة بالسکان و ان قاطنیها الأوائل کانوا قبائل من اشباه الرّحل
و یستدل من تاریخ فلسطین انها لم تکن ابدا من نصیب شعب واحد تجمعه جامعة من جوامع القومیة، و إنما کانت فی جمیع الأزمنة مزیجا من الاعراق، و من الهجناء و المولدین المختلطین، و کانت زقاقا مقفلا من الطراز الاول تنتهی لدیه موجات المهاجرین المتعبین .
و بالاضافة الی ذلک فان لموقع فلسطین الجغرانی اهمیة کبری لا سیما ما یخص الاتجار و تبادل السلع و البضائع منذ قدیم الزمان و کانت فلسطین لهذه الأسباب تؤلف مدینة و حضارة مزدهرة و تجمع من کل صوب ما تجمع من بدو و من حضر یدخلها و یذوب فیها،.
و یقول اندریه ایمار، و جانین او بوایه، فی موسوعتهما الشهیرة: ان جوار البحر المتوسط، و ارتفاع سلاسل لبنان یطبعان بطابع خاص المنطقة التی هی امتداد لصحاری البلاد العربیة نحو الغرب: فکنعان فی الجنوب و سوریا فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 14
الشمال، و تشد هذه المنطقة، الی هذه الصحاری صلة دائمة من حیث انها تتعرض لهجمات الریاح المحرقة المفاجئة، و من حیث انها تستهوی البدو الرحل و قد بلغتها منهم موجات متعاقبة، و أقامت فی أقسام کبیرة منها أحیانا، فهی لهم الارض السعیدة بفضل امطارها و انهارها، و ینابیعها: فالزراعة ممکنة فیها، و جبالها مکسوة بالاشجار، ثم ان الطرقات المختلفة تؤدی الیها و تمرّ فیها، و هی المسلک الطبیعی الوحید بین مصر و جمیع بلدان الشرق الادنی، و قد یلفظ البحر فجأة القراصنة و رائدی المغامرات، و لکن هذا البحر نفسه طریق یؤدی الی البلدان المختلفة، و هنالک اخیرا طرق القوافل التی تصلها باسفل الفرات و بلاد ما بین النهرین، فهی بلاد صغیرة اذن لا حدود طبیعیة لها، و لا وحدة فیها، و لا ادارة مرکزیة تجمعها، و مفترق مستطیل قسمته طبیعة الارض الی طرائد طویلة تتجه من الشمال الی الجنوب، و هی الی ذلک مفتوحة امام کل سیطرة و تأثیر و قد طمعت فیها کل الامبراطوریات العظیمة، و الجماعات البشریة التائهة التی رغبت فی ان تقتطع فیها لنفسها مکانا
و مع کل ذلک المزیج و الاختلاط من مختلف الشعوب العابرة و المستوطنة فان الطابع العام لسکان ارض کنعان (فلسطین) طابع سامی، و قد تأثر بمختلف الحضارات فکانت له طبیعة ذات لون حضاری مکتسب من العراق، و من مصر، و بلدان البحر الابیض المتوسط.
یقول جیمس هنری بریستد: ان اتجار فلسطین مع بابل علم السامیین الغربیین- ای سکان فلسطین- الکتابة المسماریة، و کانت فلسطین مدخل الجسر الواقع بین آسیا و افریقیا، فامتزجت فیها مدنیات مصر، و بابل، و فینیقیة، و بلاد إیجه، و آسیا الصغری باسلوب لا مثیل له فی الشرق القدیم.
و کانت السلع التجاریة هی عنوان تلک المدنیات، و دلیل تغلغلها فی الوسط الفلسطینی، و لأن موقعها بین جارتیها القویتین: مصر و العراق جعلها معترکا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 15
حربیا قرونا عدة، فقد استولت علیها مصر مئات السنین و بعد ذلک استولت علیها آشور، ثم تسلط علیها الکلدان، و آخر الکل بسط یده علیها الفرس، و حین آل امرها الی العبرانیین لم یؤملوا ان یبقوا امدا طویلا احرارا من الضغط الخارجی ثم انتزعها الرومان و استولی علیها المسلمون العرب، و قد ترک کل قوم فیها شیئا من آثارهم خیرا کان أو شرا، لیس فی عهودها الاخیرة و انما فی جمیع عهودها القدیمة.

الکنعانیون

و کان الکنعانیون اول شعب تمیز عنصره و عرف نجاده بعد تلک القبائل السامیة و ما قبلها من سکان فلسطین الذین لا یعرف التاریخ عنهم شیئا کثیرا و الکنعانیون کما یقول رواة الاخبار سامیون و اصلهم من اولاد (لاود) ابن سام و من سلالة (عملیق) و هو ابو العمالیق و منهم کانت الجبابرة بالشام و کانت طسم، و العمالیق، و أمیم، و جاشم، و کانوا عربا، و لسانهم کان عربیا، و هم اول من عرفهم التاریخ بعد السکان الذین کانوا یدعون با (لعمووا اللودانو).
و فی نحو ألفی سنة قبل المیلاد شرع الکنعانیون یستوطنون السهول و البقاع الساحلیة، فانشأوا مدنا و قری، و اخذوا یعنون بتنمیة ثقافتهم الخاصة، و قد روت التوراة ان البلاد کانت تسمی (ارض کنعان) علی ما ورد فی سفر (العدد) 34: 1 و 35: 10، او بلاد الکنعانیین علی ما ورد فی سفر (الخروج) 3: 17 .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 16
و قیل انما عرف الکنعانیون بهذا الاسم فلنسبتهم للارض التی سکنوها و المعروفة باسم (ارض کنعان) ای الارض الواطئة .
و هناک من یذهب الی ان نزول الکنعانیین بارض فلسطین کان قبل اکثر من 3000 سنة، و یقول محمد علی الزعبی: و اذا علمنا ان (نرام سین) الملک الاشوری غزا فلسطین فی القرن الثامن و الثلاثین قبل المیلاد فناوأته حکومتها العربیة تحققنا أن العرب الکنعانیین هم اهل فلسطین منذ قرون لا نستطیع تحدیدها .
و ما قیل عن حضارة الکنعانیین و کونها عصارة عدد من الحضارات قد قیل فی دیانة الکنعانیین، فدیانتهم کانت مزیجا من تأثیرات مختلفة اذ کانت ملتقی دینیا لمختلف الشعوب کما کانت ملتقی تجاریا.

العبرانیون

و العبرانیون سامیون نشأوا فی الجزیرة و انتشروا کقبائل رحل بخیلهم و مواشیهم، و کانت حیاتهم حیاة بداوة مطلقة لیس لها بالحضارة صلة او نسب، و لا یعرف التاریخ کیف و متی حل بعض هذه القبائل ارض مصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 17
و کل ما عرف هو انهم عاشوا فترة من الزمن مستعبدین للطواغیت من الفراعنة، و انهم لقوا فی مصر الشی‌ء الکثیر من الاضطهاد حتی تسنی لهم ظهور النبی موسی فخرج بهم من مصر الی فلسطین.
و کان اول غزو العبرانیین لارض کنعان فی نحو القرن الثانی عشر ق. م، و حین دخل العبرانیون ارض کنعان وجدوا هناک حضارة و نظاما و حیاة لم یألفوها من قبل، و کان الکنعانیون یقیمون فی مدن آهلة بسکان یسودهم من النظام و الاسالیب ما یضمن لهم حیاة سعیدة، و کانت اغلب المدن الکنعانیة مسورة بأسوار منیعة لیس من السهل الاستیلاء علیها، و کانت حضارة الکنعانیین قدیمة نشأت منذ الف و خمسمایة سنة من ظهور العبرانیین لذلک کانت المدن الکنعانیة و علی الاخص القدس (اورشلیم) تهزأ بحملات العبرانیین، و لهذا ظلت السیطرة علی (القدس) نحو بضعة قرون غیر تامة و لیس القدس وحدها التی کانت تهزأ بحملات العبرانیین و انما الکثیر من بقاع فلسطین و حتی السهول قد عجز العبرانیون عن السیطرة علیها و انتزاعها من ید الکنعانیین، فلم یحدث قط ان اذعن الفلسطینیون للغزاة اذعانا کاملا اذ انهم استبقوا سیطرتهم مفروضة علی سهولهم الساحلیة الواقعة علی طول البحر المتوسط .
و یقول بریستد: و لا یخفی ان هذه المدن التی عجز مهاجموها من العبرانیین عن افتتاحها کانت ذات حضارة قدیمة و منازل متقنة، فیها کثیر من اسباب الراحة، و حکومة، و صناعة، و تجارة، و علم، و معرفة بالکتابة، و دیانة حضاریة اقتبسها اخیرا العبرانیون من مواطنیهم لان العبرانیین لم یستطیعوا ان یعیشوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 18
بمعزل عن اهل المدن الکنعانیة التی عجزوا عن افتتاحها، لان الصناعة و التجارة کانت رابطا قویا بینهم، و قد احدث هذا الامتزاج تغییرات جوهریة فی حیاة العبرانیین و اخراجهم من سکنی الخیام الی سکنی الدور و البیوت العامرة، و الباسهم الالبسة الزاهیة حتی لم یعد بعد زمن تفریق الکنعانیین عن العبرانیین من حیث المظهر و العادات و المدنیة سهلا خصوصا بعد امتزاج الکنعانیین بالعبرانیین بالزواج و اختلاط الدم .
و مرّ بعض الزمن دبّ فیه الضعف فی حکام مصر فظهر اثر التأخر و الانحطاط، علیهم جلیا و ذلک فی نحو 1100 قبل المیلاد و کانت آشور حینذاک بمعزل عن التفکیر فی غزو الاقطار الغربیة فکان ذلک وجها من وجوه حسن الحظ للعبرانیین اذ اتیحت الفرصة المناسبة لوقوع الحرب بین العبرانیین و الکنعانیین استولی فیها العبرانیون علی ممتلکات الکنعانیین، ثم ظهر النبی داود و من بعده سلیمان فتمت السیطرة حینذاک للعبرانیین علی القدس و سائر البقاع فی تفاصیل یتحدث بها و یعللها التاریخ.
و دامت مملکة العبرانیین نحو قرنین ثم انقسمت الی مملکة اسرائیل فی الشمال، و مملکة یهودا فی الجنوب، و بتسمیة هذا الاخیر عرف الیهود و انتسبوا له.

الآشوریون

و نشب النزاع بین الاشوریین و المصریین فی نحو سنة 733- 721 ق. م نظرا لکونهما القوتین العظیمتین المسیطرتین علی وادیین من اخصب اودیة الدنیا عطاء و أوفرها حضارة فالآشوریون فی وادی الرافدین، و المصریون فی وادی النیل فکان من مصلحة العبرانیین (الاسرائیلیین) الانحیاز الی المصریین علی ما قدرت سیاستهم و اقتضی قربهم لمصر اکثر من قربهم للعراق، فنقم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 19
علیهم الاشوریون و اعدوا العدة لغزوهم فی فلسطین و الاستیلاء علی حاضرتهم اورشلیم (القدس)، و کان علی رأس الحملة التی جردت لغزو فلسطین الملک (سنحاریب) ملک اشور فانهار امامه العبرانیون، و حاصر القدس و فتحها، و سبا الیهود و فرض علیهم شروطا قاسیة و جزیة کبیرة حتی اضطر الیهود الی قشر الذهب عن ابواب الهیکل و جدرانه و تسلیمه للاشوریین
و قد عاد الاشوریون الی بلادهم بعد ان کاد الطاعون یقضی علیهم، ثم رجعوا بعد ذلک فاحتلوا فلسطین و دخلوا اورشلیم و اسروا ملکها (منسه) و سفّروه الی بابل و ذلک فی نحو سنة (678 ق. م) ثم اطلقوه بعد ذلک و رجع الی (اورشلیم) و بنی سورها من جدید، ثم ضعف شأن الاشوریین بعد ذلک و تخلوا عن البلاد.

الکلدانیون

و اعقب الکلدانیون الاشوریین فی السیادة علی بابل و صار لهم شأن کبیر و کان التنافس بینهم و بین المصریین مثلما کان علی عهد الاشوریین، و مرة اخری انحاز الاسرائیلیون الی المصریین بداعی المصلحة فجرد ملک الکلدانیین (نبوخذنصر) حملة کبیرة و قام بمهاجمة (اورشلیم) و استولی علیها فی نحو عام (587 ق. م) ، و قد قتل من الیهود خلقا کثیرا، و ساق الکثیر منهم أسری الی بابل و علی رأس الأسری ملک الیهود (یهویاکین) و هدم اسوار المدینة و قلاعها و هیکلها، و هکذا تم انقراض العبرانیین نهائیا کدولة ذات استیطان، و ذلک فی نحو (568 ق. م) علی ما یعین بعض المؤرخین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 20

عهد الفرس

و حین قضی الفرس علی الکلدانیین و استولوا علی بلاد بین النهرین و کان قد مرّ علی تدمیر القدس و سبی الیهود نحو سبعین سنة أعاد ملک الفرس (کورش) الیهود من سبیهم الی اورشلیم التی کان قد استولی علیها، فاعاد الیهود بناء الهیکل من جدید، کما قاموا ببناء الاسوار حول اورشلیم بأمر من ملک الفرس (دارا) و لکن الیهود لم یستطیعوا أن یستعیدوا سلطتهم، و لا شیئا من نفوذهم السابق، اذ کانت دولتهم قد دالت فی الثلث الاخیر من القرن السادس قبل المیلاد، و لم تقم لهم بعد ذلک قائمة.

العهد الیونانی

و اکتسح الیونانیون الفرس فی عهد الاسکندر و دخلت مصر و معظم بلاد الشرق تحت نفوذ الیونانیین فی عصر الاسکندر و لما مات الاسکندر و تم اقتسام البلاد من قبل قواده کانت فلسطین من نصیب البطالسة، و حاول الیهود مقاومة بطلیموس الاول و عصوا علیه فی (اورشلیم) فساق بطلیموس علیهم جیوشه و فتح المدینة و نکّل بالیهود و ارسل منهم نحو مایة الف اسیر الی مصر و کان ذلک فی نحو (320 ق. م)
و فی سنة 168 ق. م استولی علی (اورشلیم) انطیوخوس الرابع ملک السلوقیین، فتمرد الیهود من جدید علی حکمه و استطاعوا بمساعدة (المکابیین) فی شمال البلاد من استعادة اورشلیم التی بقیت فی حوزتهم حتی عام 63 ق. م

الحکم الرومانی

و فی أعام 63 ق. م استولی الرومان تحت قیادة (بومبیوس) علی مدینة القدس و هدموها، و لکن الیهود ناوؤه و تمردوا علیه فنکّل بهم و ألغی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 21
(مجمعهم) و هدّم سور المدینة ثم جاء الحاکم (هیرودس) فاتخذ من اورشلیم عاصمة له، و قد عرف باهتمامه فی الانشاء و التعمیر لذلک ما لبث ان اعاد بناء المدینة من جدید و اقام السور و انشأ العمارات، و تم له ان یقیم ثلاثة حصون فخمة، و کان من اهم ما ذکر من تعمیره و انشائه هو قیامه ببناء (الهیکل) و احیائه من جدید. و بناء القلعة الکائنة بباب الخلیل، و اجری الماء فی القنوات و ترک اثارا کثیرة فی القدس، و قد ولد المسیح فی آخر سنة من سنی حکم (هیرودس) الذی نصبته روما ملکا علی اورشلیم.
و قد کشف عالم آثار اسرائیلی النقاب الیوم عن اکتشاف مدینة عمرها (2000) ألفی سنة تحت مدینة القدس القدیمة، و قد وصفت الحفریات التی قام بها الأثری المذکور بأنها اول محاولة لاکتشاف قدس ما قبل العهد بقایا قصر الملک هیرودوس الکبیر فی السامرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 22
المیلادی، ای المدینة التی اختفت عند ما دمّر الرومان هیکل هیرودس عام 70 ق. م. .
و فی عام 66 ب. م تمرد الیهود علی الحکم الرومانی فجرد (تیطس) حملة علی المدینة و ذلک فی عام 80 ب. م و استولی علی (اورشلیم) و احرقها عن آخرها. و دمّر الهیکل. و شرد الیهود فی ارجاء المعمورة.
ثم عاد الرومان فاحیوا المدینة من جدید و عمروها و جعلوا منها مدینة و ثنیة فی عهد الامبراطور الرومانی (هادریان).

العهد المسیحی

و حین انتشرت المسیحیة و اعتنق الرومان دیانتها و اصبحت المسیحیة دیانة الدولة الرسمیة و ذلک فی 325 ب. م اعیدت المدینة الی سابق عهدها من البناء و زالت الانصاب الوثنیة.
و فی عام 614 ب. م غز الاکاسرة من الفرس ممالک الرومان و استولوا علی فلسطین و احتلوا حاضرتها (اورشلیم) و فتکوا بسکانها و هدموا کنیسة القیامة ثم استطاع امبراطور الرومان (هرقل) من مهاجمة الفرس و انتصاره علیهم، و استعادة فلسطین منهم.
و فی عهد المسیحیة تجددت الشعائر الدینیة فبنی الامبراطور قسطنطین الاول کنیسة القبر المقدس، و أنشأت امّه کنیستین، هما کنیسة المیلاد فی بیت لحم، و کنیسة القیامة فی القدس، و بدأت فلسطین تجتذب وفود الحجیج المسیحیین، کما اصبحت مرکزا لحیاة النساک و الانخراط فی سلک الرهبنة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 23

العهد الاسلامی

و فی سنة 15 للهجرة و قبیل 16 للهجرة ای فیما یتفق و سنة 636 للمیلاد تم احتلال فلسطین من قبل جیوش المسلمین العرب و دخلوا (القدس) بعهد شریف عهد به الخلیفة عمر بن الخطاب (رض) لاهل ایلیاء ای (القدس) الذی سیأتی ذکره فیما بعد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 24

الأرض المقدسة

و التاریخ الاسلامی یعنی عنایة خاصة بالارض المقدسة و یعتبر تقدیسها رکنا من ارکان معتقداته لانها موطن الانبیاء و موضع ظهور نبوتهم و دعوتهم الی التوحید، و الصلاح، و نشر الخیر و سائر المبادی‌ء التی ایدها الاسلام و اتم الدعوة لها و ختم بها النبوّة، و اختلف مورخو الاسلام فی تحدید هذه (الارض المقدسة) و لکنهم اتفقوا جمیعا علی ان حاضرة هذه الارض هی مدینة القدس، عاصمة تلک الدعوات المتتالیة التی بشر بها الانبیاء، و لذلک کانت القدس اولی القبلتین و ثالث الحرمین الشریفین عند المسلمین.
و لقد حدد القاضی مجیر الدین الحنبلی الارض المقدسة، فقال:
تحدها من القبلة: ارض الحجاز، و تفصل بینهما جبال الشوری (الشراة) و من الشرق من بعد دومة الجندل بریة السماوة الممتدة الی العراق، و من الشمال مما یلی الشرق نهر الفرات، و من الغرب بحر الروم، و من الجنوب رمل مصر و العریش، ثم یلیه تیه بنی اسرائیل و طور سیناء.
و من هذا التحدید یستخلص ان الارض المشمولة بالقدسیة لنزول الانبیاء فیها و بث دعوتهم بها، و اتخاذها مدفنا لهم هی ارض واسعة شاسعة لا تقتصر علی العاصمة (القدس) و ضواحیها و اطرافها و انما تشمل اغلب المدن التی یشملها اسم فلسطین ان لم تکن کل مدنها بموجب هذا التحدید.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 25
و یحدد القاضی مجیر الدین الحنبلی و هو من ابناء القرن التاسع (القدس).
فی ذلک القرن بقوله:
اما الحدود المنسوبة لبیت المقدس عرفا مما یلی القبلة و یطلق علیه (عمل القدس الشریف) و یسوغ لقضاة القدس الحکم فیه فمن القبلة (عمل الخلیل) و من الشرق: نهر الاردن، و من الشمال: مدینة نابلس، و من الغرب:
الی ما یقارب مدینة غزة
و تستخلص عقیدة الاسلام بقدسیة الارض المقدسة من التوراة و الانجیل و القرآن الکریم و مما روی الخلفاء و الصحابة و الأئمة، و لمکانة هذه الارض و علی الاخص (القدس) التی سیأتی الحدیث عن مکانتها فی الاسلام و فی عقیدته جازت المبالغات و الاساطیر فی الروایات، و استسیغ ما لم یستسغ فی نقل الروایة و الاحادیث سواء عن تلک التربة المقدسة او ساکنیها او الانبیاء الذین بشروا بالدین و الصلاح، و الخیر فیها، اما الشی‌ء الذی لا جدال فیه فهو ان الاسلام یعتبر فلسطین و حاضرته القدس رکنا من ارکان معتقداته التی تستلزم تقدیسها بصفتها مهبط الانبیاء الذین نزلوا فی فلسطین و ایمان الاسلام بما جاء به هؤلاء الانبیاء ایمانا مطلقا بصفتهم رسل اللّه و أنبیاءه المبشرین بالحق.
لقد جاء فی الروایات انه سئل رسول اللّه (ص) عن اکرم الناس قال:
اتقاهم للّه، فقالوا لیس عن هذا نسألک، قال فاکرم الناس یوسف الصدیق فانه نبی اللّه بن نبی اللّه بن نبی اللّه بن خلیل اللّه، فهؤلاء الاربعة و هم: ابراهیم الخلیل و ولده اسحاق، و ولده یعقوب، و ولده یوسف، قبورهم فی فلسطین و فی محل واحد، و علیهم من الوقار و الجلال ما لا یکاد یوصف، و المقصود بالکرم هنا هو النقاء و الطیب و ما شاکل کما یشمل السخاء و الجود و قد عرف بهما ابراهیم الخلیل بصورة خاصة بین اقدم الانبیاء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 26
و الی جانب هولاء الانبیاء قد دفنت زوجاتهم المعروفات بالصلاح عند الاسلام، و قد دفن هولاء الانبیاء و زوجاتهم فی مغارة ذکر خبرها الرواة من المسلمین و من غیر المسلمین من اهل الکتاب.
و روی الطبری ان سارة زوجة ابراهیم قد ماتت علی ما قیل بقریة الجبابرة من ارض کنعان فی حبرون فدفنت فی مزرعة اشتراها ابراهیم و قد دفن ابراهیم فی هذه المزرعة ایضا.
فأول من دفن اذن فی هذه المغارة کانت سارة زوجة ابراهیم ثم دفن فیها ابراهیم الخلیل، ثم ریقة زوجة اسحاق، ثم اسحاق، و قد مات اسحاق بالشام و دفن عند ابیه ابراهیم ثم دفن بعده فی المغارة یعقوب، و تقول الاخبار ان یعقوب هذا هو المعروف باسرائیل، و تزعم انه هرب خوفا من اخیه عیص (عیسو) الی خاله، و کان یسری باللیل و یکمن بالنهار فلذلک سمی (اسرائیل)! و کان قد نزل الشام و مات و دفن عند قبر ابیه و جده ثم دفنت (لیقا) او (لیعا) زوجة یعقوب و یقال لها (ایلیا) ایضا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 27
و اغلقت المغارة دون الآخرین من اولاد یعقوب و العیص (عیسو) و اخوته، ثم علّم من الخارج علی کل قبر برمز یشیر الی قبر کل واحد و بقیت المغارة مغلقة دون ان یصل الیها احد حتی جاء الروم فاقاموا کنیسة هناک، و اصبحت هذه القبور مزارا.
و حین جاء الاسلام هدّم المسلمون تلک الکنیسة و شادوا محلها هذا الضریح الذی یقوم الیوم علی ما شید المسلمون فی (الخلیل) من قبل و قد جری فیه تجدید و تعمیر فی کل فترة من الزمن.
و کانت مدینة (الخلیل) تسمی (حبرون) قبل دفن الخلیل فیها، و قیل فی وصفها انها قریة بالبیت المقدس، و یقال لها حبری أیضا، و روی عن کعب الحبر علی ما ذکر یاقوت الحموی ان اول من مات و دفن فی حبری کانت سارة زوجة ابراهیم، و ان ابراهیم خرج یطلب موضعا لقبرها فقدم علی (صفوان) و کان علی دینه و کان مسکنه ناحیة (حبری) فاشتری الموضع منه بخمسین درهما، فدفن فیه سارة، ثم دفنه و دفن اولاده بعده و بنی سلیمان حول هذه القبور حیرا، ثم اضاف یاقوت قول الرواة علی اختلاف روایاتهم و المورخین فی اخبارهم فقال اعتمادا علی روایة العقیدة لا التاریخ بأن فی هذه المغارة قبر ابینا آدم کذلک!! و خلف هذا الحیر الذی اقامه سلیمان قیل ان هناک قبر یوسف الصدیق جاء به موسی من مصر و کان مدفونا فی وسط النیل فدفن عند آبائه، و عن یعقوب رویت مثل هذه الروایة فقیل ان یعقوب قد مات بمصر فنقل یوسف جثمانه و دفنه حیث أبیه اسحق،
و روی یاقوت بعد ذلک ان تمیم الداری قدم علی رسول اللّه و معه قومه و سأله ان یقطعه (حبرون) فاجابه و کتب له کتابا نسخته:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم. هذا ما أعطی محمد رسول اللّه (ص) لتمیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 28
الداری و اصحابه، انی أعطیتکم بیت عینون و حبرون، و المرطوم، و بیت ابراهیم بذمتهم و جمیع ما فیهم، عطیة بتّ، و نّفذت، و سلّمت ذلک لهم و لا عقابهم بعدهم ابد الآبدین، فمن آذاهم فیه آذی اللّه» شهد بذلک ابو بکر ابن ابی قحافة، و عمر، و عثمان، و علی بن ابی طالب» .
و لا حاجة للتدلیل علی ضعف هذه الروایة، لأن حبرون یومذاک لم تزل بید الروم، و لم یستول الاسلام علیها بعد فکیف یمکن قطعها لتمیم الداری؟
و لأن الشهود قد جاء ترتیبهم کما لو کانوا خلفاء بعد رسول اللّه، فکیف وقعت هذه المصادفة؟
و المؤکد ان هذه القبور قد عین محلها قبل ظهور الاسلام بزمن بعید، و قد قدست من قبل الیهود، و المسیحیین، و عنی بها الرومان فی ایام حکمهم عنایة کبیرة بالاضافة الی عنایتهم ببیت المقدس.
و مما یذکر عن قدم معرفة الناس بهذه القبور ما روی عن محمد بن بکر ان ابن محمد خطیب مسجد الخلیل فی اوائل القرن الرابع الهجری قال سمعت محمد بن اسحاق النحوی یقول: خرجت مع القاضی ابی عمرو عثمان بن جعفر بن شاذان الی قبر ابراهیم الخلیل علیه السلام فاقمنا به ثلاثة ایام، فلما کان فی الیوم الرابع جاء الی النقش المقابل لقبر (ریقة) زوجة اسحق علیه السلام فأمر بغسله حتی ظهرت کتابته، و تقدم الی بان أنقل ما هو مکتوب فی الحجر الی درج کان معنا علی التمثیل (ای رسمه علی الورق کما هو) فنقلته، و رجعنا الی الرملة فاحضر اهل کل لسان لیقرأه علیه فلم یکن فیهم أحد یقرؤه، و لکنهم اجمعوا علی ان هذا بلسان الیونانی القدیم، و انهم لا یعلمون انه بقی احد یقرؤه غیر شیخ کبیر (بحلب) فعمدوا إلی احضاره، فلما حضر عنده أحضرنی فاذا هو شیخ کبیر، فأملی علی الشیخ المحضّر من حلب ما نفلته فی الدرج علی التمثیل اوله:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 29
بسم إلهی إله العرش القاهر الهادی الشدید البطش العلیم الذی لا یحد، هذا قبر ابراهیم الخلیل، و العلم الذی بحذائه من جهة الشرق قبر زوجته ساره و العلم الاقصی الموازی لقبر ابراهیم الخلیل قبر یعقوب، و العلم الذی یلیه من الشرق قبر الیا (لیقا)- و فی معجم البلدان (لیعا) زوجة یعقوب و قد کتبه العیص (عیسو) بخطه! و العیص هو اخو یعقوب و منافسه، و اکتسب البناء المنسوب لسلیمان المحیط بقبر ابراهیم صفة المسجد و اطلق البعض علی ضریح ابراهیم صفة الحرم فسموه حرما.
و لفضیلة هولاء الانبیاء و ابیهم ابراهیم الخلیل عند الاسلام مراسیم و آداب خاصة یقوم بها المسلمون، و ادعیة و صلوات، و قد وردت نصوص قدیمة لما یستحب ان یقوله الزائر و یدعو به فی مقام ابراهیم.
و جاء فی کتاب (الانس الجلیل) ان کل ما ذکره العلماء رضی اللّه تعالی عنهم فی مناسکهم من آداب الزیارة فی حق النبی صلی اللّه علیه و آله فهو سائغ فی حق خلیل اللّه ابراهیم.
و لم یقتصر التقدیس عند الإسلام علی المدفونین فی هذه المغارة بل ان القرآن الکریم تناول عددا غیر قلیل من هؤلاء الانبیاء الذین ضمتهم فلسطین قاطبة و القدس بصورة خاصة نورد هنا بعض ما ورد عن بعض هولاء فی نصوص القرآن الکریم توضیحا للاسباب التی جعلت المسلمین یطلقون علی فلسطین اسم (الارض المقدسة) و جعلت لهذه الارض تلک المکانة المقدسة فی نظر الاسلام و عقیدته بالنظر لمکانة هولاء الرسل و الانبیاء عند اللّه تعالی و التی یشیر الیها القرآن الکریم کتاب اللّه و دستور المسلمین.

ابراهیم الخلیل

قال اللّه جل و علا فی محکم کتابه عن ابراهیم الخلیل:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 30
«سَلامٌ عَلی إِبْراهِیمَ، کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ»
و قال «وَ لَقَدْ آتَیْنا إِبْراهِیمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ کُنَّا بِهِ عالِمِینَ»
و فی آیة اخری جاء «وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِبْراهِیمَ إِنَّهُ کانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا»
و فی آیة اخری «وَ تِلْکَ حُجَّتُنا آتَیْناها إِبْراهِیمَ عَلی قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّکَ حَکِیمٌ عَلِیمٌ».
و فی سورة الصافات جاء «وَ إِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لَإِبْراهِیمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ».
و جاء فی آیة اخری «قُلْ إِنَّنِی هَدانِی رَبِّی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ دِیناً قِیَماً مِلَّةَ إِبْراهِیمَ حَنِیفاً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ».
و قال: «إِنَّ إِبْراهِیمَ کانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِیفاً وَ لَمْ یَکُ مِنَ الْمُشْرِکِینَ شاکِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ، وَ آتَیْناهُ فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِی الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِینَ».
و قد جاء ذکر ابراهیم فی القرآن الکریم 63 مرة، فهو ابو الانبیاء و من اوائل المبشرین باللّه و وحدانیته و هو الی جانب ذلک قد لقی من الاذی و العذاب فی محاربته للاصنام و تثبیت الدعوة الی وجود اللّه ما لقی فی سبیله، و هو بعد ذلک من السخاء و اکرام الضیف و الشهامة ما تحدثت به الکتب.
یقول عبد الوهاب النجار: ان ابراهیم کان مضیافا و لا یرضی لا ضیافه بما یقیم اودهم، بل کان یکثر لهم من القری، لأن ثلاثة أضیاف لا یقدرون علی التهام عجل سمین، بل هو یفضل عنهم و کان یکفیهم عناق صغیر (المعزی الصغیرة دون السنة من العمر) او بعض الفطیر یقدم الیهم، و لکنه اظهر حفاوة هونت علیه ان یبذل من ماله کل کریم و لا یفعل ذلک الا الکریم.
و یقول: و ها اناذا استطرد لکم حکایة قرأتها فی بعض الکتب العبریة الادبیة و هی ان ابراهیم نظر الی البرّیّة یوما فرأی رجلا قد بلغ من الکبر عتیا یمشی و فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 31
یده عکازته، فقام و استقبله و اضافه و قدم له طعاما فلما طعم الرجل مع ابراهیم قال ابراهیم: هلمّ نشکر اللّه الذی اطعمنا و رزقنا هذه النعم، و لکن الرجل أبی و قال: لا أعرف اللّه الذی تقوله، و انما اشکر إلهی الذی فی بیتی- یعنی صنمه- فغضب ابراهیم و طرد الرجل، فلما ولی الرجل عنه رجع ابراهیم باللائمة علی نفسه قائلا:
ان اللّه سبحانه قد خلق هذا الشیخ و حباه بجلائل النعم و أطال عمره و قد مضی علیه الآن مائة سنة یکفر باللّه و یجحده و لا یؤدی شکر شی‌ء من نعمه علیه، و مع اصراره علی الکفر و تمادیه فی الضلال لم یقطع اللّه عنه نعمة من نعمه المتواصلة، و أنا لأنی أطعمته مرة واحدة و خالف مشورتی فی عباد اللّه اطرده، و أسف لذلک أسفا شدیدا

لوط

و لوط هو ابن اخی ابراهیم، آمن بعمه و بشّر بدینه و فی ذلک تقول الآیة الشریفة:
«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّی مُهاجِرٌ إِلی رَبِّی».
و هاجر مع عمه ابراهیم فجاءت الآیة الکریمة:
«وَ نَجَّیْناهُ وَ لُوطاً إِلَی الْأَرْضِ الَّتِی بارَکْنا فِیها لِلْعالَمِینَ».
و فی سورة الشعراء «کَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِینَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ، إِنِّی لَکُمْ رَسُولٌ أَمِینٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُونِ» وَ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلَّا عَلی رَبِّ الْعالَمِینَ».
و فی آیة اخری و قد قال لوط بعد أن رأی إسراف قومه فی المنکر:
«رَبِّ نَجِّنِی وَ أَهْلِی مِمَّا یَعْمَلُونَ، فَنَجَّیْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِینَ»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 32
و جاء فی سورة التحریم: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِینَ کَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ کانَتا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَیْنِ ..»
و ورد ذکر لوط فی 27 موضعا من القرآن الکریم.
و کان لوط قد نزل سادوم و عامورة فی الاردن بعد ان فارق عمه لیبشر و ینذر، و کان قومه یأتون المنکر کما یصف القرآن الکریم و یشرح المفسرون، و لم تفد معهم مواعظ لوط و ارشاده، فنزل علیه ذات یوم ثلاثة من الملائکة ضیوفا و هو لا یعلم انهم من الملائکة کما تقول التفاسیر، لقد نزلوا علیه لکی ینزلوا علی قومه العذاب، فتعرض بهم قوم لوط و طلبوا من لوط تسلیمهم ضیوفه لیفسقوا بهم فقال لهم:
«... یا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِی هُنَّ أَطْهَرُ لَکُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِی ضَیْفِی، أَ لَیْسَ مِنْکُمْ رَجُلٌ رَشِیدٌ».
و هناک کشف الملائکة عن انفسهم و
«قالُوا یا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّکَ لَنْ یَصِلُوا إِلَیْکَ فَأَسْرِ بِأَهْلِکَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّیْلِ ..».
و فی عرض لوط بناته علی القوم فی سبیل حفظ کرامة ضیوفه صورة من اروع صور السخاء و النبل و الشهامة و الایمان، و کانت هذه الصفة من اجلی و احلی ما اتصف به لوط بین الانبیاء.

اسحق و یعقوب

و من انبیاء الارض المقدسة کان اسحاق و کان ابنه یعقوب، و قد خصهما اللّه فی کتابه العزیز بالتعزیز فورد ذکر اسحق 16 مرة فی القرآن الکریم، و ورد ذکر یعقوب 10 مرات فضلا عن سرد قصتهما. فقد جاء فی القرآن الکریم:
«وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِیًّا مِنَ الصَّالِحِینَ ای بشرنا إبراهیم- وَ بارَکْنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 33
عَلَیْهِ وَ عَلی إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِینٌ».
و قوله تعالی عن سارة «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ یَعْقُوبَ»
و جاء فی قوله تعالی لابراهیم:
«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ کُلًّا هَدَیْنا»
ثم قوله تعالی لابراهیم ایضا:
«وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ وَ کُلًّا جَعَلْنا نَبِیًّا، وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِیًّا»
و من فضائل یعقوب شدة الایمان باللّه و قد تجلی ذلک حین أنهی له اولاده خبر افتراس الذئب أعز ابنائه الیه و هو یوسف حتی قال لهم و هو یحس ان الفتک به انما جری من قبلهم و لیس من الذئب:
«بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلی ما تَصِفُونَ».
و حین و وجه یعقوب باحتجاز ابنه بنیامین شقیق یوسف من لدن عزیز مصر و احتمال ضیاعه کما ضاع اخوه یوسف لم ییأس من رحمة اللّه بل قال:
«إِنَّما أَشْکُوا بَثِّی وَ حُزْنِی إِلَی اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، یا بَنِیَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ یُوسُفَ وَ أَخِیهِ وَ لا تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْکافِرُونَ».

یوسف الصدیق

قال اللّه تبارک و تعالی فی ابراهیم:
«وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ کُلًّا هَدَیْنا وَ نُوحاً هَدَیْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ، وَ سُلَیْمانَ، وَ أَیُّوبَ، وَ یُوسُفَ، وَ مُوسی وَ هارُونَ، وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 34
و قال اللّه یخاطب یوسف:
«وَ کَذلِکَ یَجْتَبِیکَ رَبُّکَ، وَ یُعَلِّمُکَ مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ وَ یُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکَ وَ عَلی آلِ یَعْقُوبَ کَما أَتَمَّها عَلی أَبَوَیْکَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِیمَ وَ إِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّکَ عَلِیمٌ حَکِیمٌ».
و خص اللّه یوسف بقوله:
«وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ».
و قوله تعالی:
«وَ کَذلِکَ مَکَّنَّا لِیُوسُفَ فِی الْأَرْضِ یَتَبَوَّأُ مِنْها حَیْثُ یَشاءُ نُصِیبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ».
و قوله تعالی:
«وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَیْرٌ لِلَّذِینَ آمَنُوا وَ کانُوا یَتَّقُونَ».
و قد ورد ذکر یوسف فی 26 موضعا من القرآن الکریم.
و من اجلی صفات یوسف الأمانة و العفة التی وقفته مثل ذلک الموقف المشرف و هو شاب فی ریعان الشباب و غضارة الفتوة من زلیخا الملکة الجمیلة التی ضرب بجمالها اروع الامثال و کانت قد اختلت به و راودته عن نفسه کما تصف الآیة الکریمة:
«وَ راوَدَتْهُ الَّتِی هُوَ فِی بَیْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَیْتَ لَکَ، قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّی یرید به زوجها- أَحْسَنَ مَثْوایَ إِنَّهُ لا یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ کَذلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ»
و للامام الفخر الرازی کلمة قدیمة أوردها فی تفسیره، خلاصتها علی ما جاء فی (قصص الانبیاء) ان یوسف قد شهد اللّه تعالی ببرائته بقوله:
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ» و شهد الشیطان ببرائته بقوله: «فَبِعِزَّتِکَ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 35
لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ إِلَّا عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ» و شهد ببرائته الشاهد من اهل العزیز اذ قال: «إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْکاذِبِینَ، وَ إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَکَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِینَ، فَلَمَّا رَأی قَمِیصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ کَیْدِکُنَّ إِنَّ کَیْدَکُنَّ عَظِیمٌ، یُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وَ اسْتَغْفِرِی لِذَنْبِکِ إِنَّکِ کُنْتِ مِنَ الْخاطِئِینَ» و شهدت ببرائته النسوة اللاتی قطعنّ ایدیهن بقولهن «ما عَلِمْنا عَلَیْهِ مِنْ سُوءٍ» و شهدت ببرائته زوجة العزیز بقولها «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِینَ».
و یقول الشیخ عبد الوهاب النجار: ان قصة یوسف مورد غزیر المادة لمن یرید ان یستنبط الاخلاق الفاضلة الطاهرة و یشرح الاستقامة علی المبادی‌ء الحقة و اثرها فی النفس، و هی موضع درس عمیق فی علم النفس، و لا یکون العالم النفسی مسرفا إذا وضع فی الاخلاق و علم النفس کتابا کبیرا وافیا مرجعه فیه (سورة یوسف).
و الی جانب العفة التی اتصف بها یوسف فقد اتصف بالحلم و الغفران اذ قابل ذنب اخوته الذین نکلوا به و ألقوه فی غیابة الجب و اتهموه و اتهموا شقیقه (بنیامین) بالسرقة حین جاؤوه یستغفرونه قائلین: «... تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَکَ اللَّهُ عَلَیْنا وَ إِنْ کُنَّا لَخاطِئِینَ، قالَ لا تَثْرِیبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللَّهُ لَکُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ».

موسی و هارون

اشارة

و من انبیاء اللّه الذین کانت الارض المقدسة منبتا لدعوتهم موسی بن عمران و اخوه هارون فقد جاء فی القرآن عن موسی:
«وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 36
و فی آیة أخری:
«وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوی آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ»
و فی موضع آخر من القرآن الکریم:
«فَلَبِثْتَ سِنِینَ فِی أَهْلِ مَدْیَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلی قَدَرٍ یا مُوسی وَ اصْطَنَعْتُکَ لِنَفْسِی».
و فی موضع آخر من الآیات جاء عنه:
«وَ آتَیْنا مُوسَی الْکِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدیً لِبَنِی إِسْرائِیلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِی وَکِیلًا ذُرِّیَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ کانَ عَبْداً شَکُوراً».
و جاء ذکر موسی فی کثیر من المواضع الاخری منفردا و مع اخیه هارون کما فی الآیة الکریمة:
«وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلی مُوسی وَ هارُونَ. وَ نَجَّیْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْکَرْبِ الْعَظِیمِ»
«وَ آتَیْناهُمَا الْکِتابَ الْمُسْتَبِینَ، وَ هَدَیْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ وَ تَرَکْنا عَلَیْهِما فِی الْآخِرِینَ، سَلامٌ عَلی مُوسی وَ هارُونَ، إِنَّا کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ».»
و فی آیة اخری قول اللّه تعالی فی موسی و هارون:
«وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ مُوسی إِنَّهُ کانَ مُخْلَصاً وَ کانَ رَسُولًا نَبِیًّا. وَ نادَیْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَیْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِیًّا، وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِیًّا».
و فی موضع آخر من الآیات جاء ذکر النبیین موسی و هارون:
«اذْهَبْ إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی، وَ یَسِّرْ لِی أَمْرِی، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی یَفْقَهُوا قَوْلِی، وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی هارُونَ أَخِی اشْدُدْ بِهِ أَزْرِی، وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی، کَیْ نُسَبِّحَکَ کَثِیراً، وَ نَذْکُرَکَ کَثِیراً، إِنَّکَ کُنْتَ بِنا بَصِیراً، قالَ قَدْ أُوتِیتَ سُؤْلَکَ یا مُوسی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 37

هل کان موسی مصریا

نشرت جریدة الاهرام بعددها الخاص فی 10 مایو سنة 1939 خبرا لمراسلها فی لندن نقله الشیخ عبد الوهاب النجار فی کتابه (قصص الانبیاء) جاء فیه:

موسی علیه السلام: هل کان مصریا

لندن فی 9 مایو- لمراسل الاهرام- اشارت جریدة (نیوز کرونیکل) الی الطبعة الالمانیة التی نشرت فی آمستردام لکتاب (موسی و التوحید) من تألیف الاستاذ (سیجموند فروید) من علماء تحلیل النفس المشهورین، و مما قالته الجریدة: ان اهم آراء الاستاذ (فروید) فی هذا الصدد قوله: ان النبی موسی لم یکن یهودیا، بل کان مصریا من اتباع (إخناتون) و هو یعتقد- ای فروید- ان الیهودیة و المسیحیة، اشتقتا من عبادة اخناتون للشمس.
و قالت الاهرام: و سننشر الترجمة الانکلیزیة لهذا الکتاب یوم 26 مایو الحالی .
و ردّ علی هذا القول بعض العلماء کان منهم الاستاذ منصور وهبه، و الدکتور هلال فارحی، و نوقش رأی فروید فیما یتعلق بنسب موسی و فیما یتعلق بالیهودیة و المسیحیة و کونهما قد اشتقتا من عبادة اخناتون للشمس.
و المعروف عند المتتبعین و الباحثین هو ان اخناتون لم یکن من عباد الشمس کما یقول فروید و انما کان موحدا یؤمن بالاله الواحد و انه کان یعتبر الشمس من اکبر آیات اللّه و یتخذها وسیلة الی اللّه تعالی و هذا ما استدل علیه من الآثار و علی هذا فلن یکون هنالک خلاف فی العقیدة بین اخناتون و بین موسی الا فی تقدیس الوسیلة و هی الشمس علی ما نری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 38
و من اشهر ما اتصف به موسی و هارون هو الجهاد المستمر فی سبیل الدعوة للتوحید و عبادة اللّه سواء یوم کان بمصر او یوم حل بفلسطین و هو یدعو بنی اسرائیل الی دین الحق و هم یتمردون علیه حتی اتخذوا عبادة العجل و حتی اکثروا علیه من الحجج و المقترحات و الطلبات فقال:
«رَبِّ إِنِّی لا أَمْلِکُ إِلَّا نَفْسِی وَ أَخِی فَافْرُقْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِینَ»
و من اشهر ما اتصف به موسی اخلاصه فی العمل و مراعاته العهود و من ذلک کان عهده فی خدمة (شعیب) و قضاء الأجل الذی بینه و بین شعیب و زاد علی ذلک رعایة منه لشیخ کبیر لیس له من ناصر و قریب.

داود

و من انبیاء الارض المقدسة کان داود و قد جاء ذکره فی 16 موضعا من القرآن الکریم: قال اللّه تعالی:
«وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ أُولئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»
و جاء فی آیة أخری:
«وَ اذْکُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَیْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ یُسَبِّحْنَ بِالْعَشِیِّ وَ الْإِشْراقِ، وَ الطَّیْرَ مَحْشُورَةً کُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ، وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ».
کذلک جاء ذکره فی آیة اخری:
«وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ وَ آتَیْنا داوُدَ زَبُوراً».
و الزبور عبارة عن قصائد و اناشید تتضمن التسبیح للّه و حمده و الثناء علیه و التضرع له.
و من اشهر ما اتصف به داود انه جزأ ازمانه یوما للعبادة، و یوما للقضاء، و یوما للوعظ، و یوما لخاصة نفسه، ثم انه عرف بعد ذلک بالحکمة کما جاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 39
فی الآیة الکریمة: «وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ، و فی الآیة الکریمة «وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی فَضَّلَنا عَلی کَثِیرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِینَ».
و هو بعد ذلک کان معروفا بحسن الصوت و رخامته و حسن الانشاد.

سلیمان

و جاء فی القرآن الکریم عن سلیمان:
«وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَیْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».
و فی موضع آخر:
«اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُکْراً وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ».
و فی موضع آخر علی لسان سلیمان:
«وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلَیَّ وَ عَلی والِدَیَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِی بِرَحْمَتِکَ فِی عِبادِکَ الصَّالِحِینَ».
و استجاب اللّه دعاه علی ما تقول التفاسیر، و المراد بوالدیه هو داود و أمه، و کانت أم سلیمان علی ما یروی الرواة و المفسرون من العابدات الصالحات، و قد روی عن جابر عن النبی (ص) قال:
قالت ام سلیمان بن داود (لابنها): «یا بنی لا تکثر النوم باللیل فان کثرة النوم باللیل تدع العبد فقیرا یوم القیامة» .
و جاء ذکر سلیمان فی 17 موضعا من القرآن الکریم.
و من اشهر ممیزات سلیمان الذکاء و الفطنة و اصالة الرأی منذ صباه و قد تمثل العدل فی جمیع احکامه علی ما یقول المفسرون، فقد قال المفسرون:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 40
ان حزنا- أی زرعا او کرما- تدلت عناقیده نفشت فیه غنم لغیر اهله- ای أکلته لیلا- فجاء المتحاکمون الی داود و عنده سلیمان فحکم داود بالغنم لصاحب الحرث عوضا عن حرثه الذی أتلفته الغنم برعیه ایاه لیلا، فقال سلیمان- و هو ابن احدی عشرة سنة علی ما تقول الروایة- غیر هذا أرفق، فأمر بدفع الغنم الی أهل الحرث فینتفعوا بألبانها و أولادها و أشعارها، و ادفع الحرث إلی اهل الغنم یقوموا علیه حتی یعود الی ما کان ثم یترادّان- ای یرد کل جانب ما یخص الجانب الآخر الیه- .
و علق عبد الوهاب النجار علی ذلک بقوله:
قال البیضاوی (و الاول) نظیر قول ابی حنیفة فی العبد الجانی (و الثانی) مثل قول الشافعی بغرم الحیلولة للعبد المغصوب اذا أبق، و حکمه عند الشافعی: وجوب ضمان المتلف باللیل، إذ المعتاد ضبط الدواب لیلا، و کذلک قضی النبی صلی اللّه علیه و آله لما دخلت ناقة البراء حائطا و أفسدته فقال:
«علی اهل الاموال حفظها بالنهار، و علی اهل الدواب حفظها باللیل» و عند ابی حنیفة: لا ضمان الا ان یکون معها حافظ.

زکریا و یحیی

و زکریا هو ابو یحیی علی ما یقول المفسرون و کان زوجا لخالة مریم ابنة عمران و کان زکریا ممن یقوم علی رعایة الهیکل فی العبادة، و کانت امرأة عمران- أم مریم- قد نذرت مولودها للهیکل، و حین ولدت مریم جاءت بها الی الهیکل، و قد تصدی کل من کان علی خدمة المعبد لأن یکفلها و التجأوا الی القرعة لحسم النزاع فکانت (مریم) نصیب (زکریا) فقام بأمرها کما اشارت الآیة الکریمة الی ذلک فی قولها:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 41
«وَ کَفَّلَها زَکَرِیَّا».
کما اشار القرآن الکریم الی القرعة بهذا الشأن اذ قال:
«وَ ما کُنْتَ لَدَیْهِمْ إِذْ یُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَیُّهُمْ یَکْفُلُ مَرْیَمَ وَ ما کُنْتَ لَدَیْهِمْ إِذْ یَخْتَصِمُونَ».
و کانت زوج زکریا عاقرا و قد بلغ هو من العمر عتیا و حین شاهد مریم و قد رزقها اللّه بعیسی اشتدت ضراعته للّه بان یرزقه ولدا، ینهج نهجه فی الدعوة لعبادة اللّه بعد تخوفه من استمرار بنی اسرائیل فی الضلال.
و تقول الآیة الکریمة:
«فَنادَتْهُ الْمَلائِکَةُ وَ هُوَ قائِمٌ یُصَلِّی فِی الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَیِّداً وَ حَصُوراً».
فحملت زوجة زکریا بیحیی و جاء عنه فی القرآن:
«وَ آتَیْناهُ الْحُکْمَ صَبِیًّا».
و فی آیة أخری:
«یا زَکَرِیَّا إِنَّا نُبَشِّرُکَ بِغُلامٍ اسْمُهُ یَحْیی لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِیًّا»
و فی موضع آخر من القرآن الکریم:
«یا یَحْیی خُذِ الْکِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَیْناهُ الْحُکْمَ صَبِیًّا، وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَکاةً، وَ کانَ تَقِیًّا، وَ بَرًّا بِوالِدَیْهِ وَ لَمْ یَکُنْ جَبَّاراً عَصِیًّا، وَ سَلامٌ عَلَیْهِ یَوْمَ وُلِدَ وَ یَوْمَ یَمُوتُ، وَ یَوْمَ یُبْعَثُ حَیًّا».
و قد قتل یحیی کما تقول الاخبار کما قتل ابوه زکریا، و فی نبوّتیهما اقوال اذ قیل انهما لم یکونا من الانبیاء و انما کانا من عباد اللّه الذین وصفتهم الآیة أبا و أما و ابنا فقالت:
«کانُوا یُسارِعُونَ فِی الْخَیْراتِ وَ یَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ کانُوا لَنا خاشِعِینَ»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 42

عیسی بن مریم

و جاء فی القرآن الکریم عن عیسی بن مریم الآیة:
«وَ زَکَرِیَّا وَ یَحْیی وَ عِیسی وَ إِلْیاسَ کُلٌّ مِنَ الصَّالِحِینَ»
و فی موضع آخر من القرآن الکریم قول اللّه:
«إِذْ قالَ اللَّهُ یا عِیسی إِنِّی مُتَوَفِّیکَ وَ رافِعُکَ إِلَیَّ وَ مُطَهِّرُکَ مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِینَ اتَّبَعُوکَ فَوْقَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِلی یَوْمِ الْقِیامَةِ ثُمَّ إِلَیَّ مَرْجِعُکُمْ فَأَحْکُمُ بَیْنَکُمْ فِیما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ».
و فی آیة اخری:
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ».
و فی موضع آخر من الآیات:
«وَ یُعَلِّمُهُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ وَ رَسُولًا إِلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَنِّی قَدْ جِئْتُکُمْ بِآیَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ، وَ أُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُکُمْ بِما تَأْکُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ».
و فی آیة اخری:
«فَلَمَّا أَحَسَّ عِیسی مِنْهُمُ الْکُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللَّهِ قالَ الْحَوارِیُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاکْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِینَ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 43
و فی آیة اخری:
«إِنَّ مَثَلَ عِیسی عِنْدَ اللَّهِ کَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»
و فی رسالته تقول الآیة:
«وَ قَفَّیْنا عَلی آثارِهِمْ بِعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ التَّوْراةِ، وَ هُدیً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِینَ».
و یؤکد القرآن رسالة عیسی بآیة أخری فیقول:
«ثُمَّ قَفَّیْنا عَلی آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّیْنا بِعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ وَ آتَیْناهُ الْإِنْجِیلَ وَ جَعَلْنا فِی قُلُوبِ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً».
کذلک تؤکد الآیات رسالة عیسی فی مواضع اخری فتقول:
«وَ آتَیْنا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ، وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ».*
و فی مکانته و مقامه عند اللّه تقول الآیة:
«وَ ما قَتَلُوهُ یَقِیناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَیْهِ وَ کانَ اللَّهُ عَزِیزاً حَکِیماً».
و کثیرة هی خصائص المسیح و قد جاء ذکره فی 24 موضعا من القرآن الکریم، و کان من أهم ما اتصف به هو الحلم و الصفح و مقابلة الاساءة بالاحسان، و من مبادئه المشهورة:
«اذا ضربک احد علی خدّک الایمن فأدر له خدک الأیسر».
«و المکان الذی حوکم فیه السید المسیح فی عهد الحکم الرومانی عند ما کان الیهود یطالبون بتسلیمه الیهم لقتله او صلبه، اصبح فیما بعد فی عهد الحکم الاسلامی مدرسة وقفیة یؤمها طلاب العلم من مختلف الأقطار، و هی واقعة فی جوار الحرم القدسی الشریف و فی مکان مرتفع یشرف علی المسجد الاقصی المبارک و القسم الأکبر من مدینة القدس. و بمرور الزمن و تعاقب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 44
الاحداث تشعث بنیانها و درس معظم آثارها، و فی اواخر عهد الدولة العثمانیة أصبحت ثکنة عسکریة. فلما تألف المجلس الشرعی الاسلامی الاعلی عام 1920 و تولی شؤون المحاکم الشرعیة و الاوقاف الاسلامیة قام بعمارة هذا المکان الاثری التاریخی و حوّله کما کان من قبل دارا للعلم، فاستقرت فیه کلیة روضة المعارف الوطنیة نحو 15 عاما کانت خلالها معقلا من معاقل القضیة الوطنیة الفلسطینیة و ملتقی رجالات العالمین العربی و الاسلامی، و فی قاعة محاضراتها الفسیحة انعقد اول مؤتمر اسلامی عالمی لقضیة فلسطین عام 1931 و غیره من المؤتمرات و الاجتماعات الوطنیة. ثم استولت علیه السلطة العسکریة البریطانیة عام 1938 و اتخذته مرکزا عسکریا لمقاومة المجاهدین الفلسطینیین داخل القدس القدیمة عند ما تفاقم أمر الثورة الفلسطینیة و اشتد خطرها. و لما استؤنفت الثورة عام 1947 اثر قرار الامم المتحدة بتقسیم فلسطین، استولی علیه جیش الجهاد المقدس بقیادة الشهید عبد القادر الحسینی و سلمه لقیادة المتطوعین العراقیین. و اخیرا اصبح دارا للمدرسة العمریة التابعة لوزارة التربیة و التعلیم الاردنیة . (اما الیوم فهی تحت سیطرة الاسرائیلیین).

مریم العذراء

و فی قدسیة مریم و فضیلتها ذکر مجید فی القرآن الکریم و قد جاء ذکرها فی 9 مواضع من القرآن منها:
«إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّی نَذَرْتُ لَکَ ما فِی بَطْنِی مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّی إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّی وَضَعْتُها أُنْثی وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَیْسَ الذَّکَرُ کَالْأُنْثی وَ إِنِّی سَمَّیْتُها مَرْیَمَ وَ إِنِّی أُعِیذُها بِکَ وَ ذُرِّیَّتَها مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ، فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 45
وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ کَفَّلَها زَکَرِیَّا کُلَّما دَخَلَ عَلَیْها زَکَرِیَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ یا مَرْیَمُ أَنَّی لَکِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ یَرْزُقُ مَنْ یَشاءُ بِغَیْرِ حِسابٍ».
و من الآیات الباهرات قول اللّه تعالی فی مریم:
«وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ».
*** هذا الی جانب المئات من الرسل و الانبیاء و القدیسین الذین جاء ذکر بعضهم فی القرآن الکریم و بعضهم فی الروایات، و القصص، و الاخبار، الی جانب ذکر قصصهم فی التوراة و الانجیل تصریحا او تلمیحا، و من هولاء النبی (شعیا) بن (أمصیا) و کان قد جاء قبل زکریا و یحیی، و تقول الروایات ان (شعیا) هذا هو الذی بشّر بعیسی و محمد علیهما السلام و هذا ما رواه محمد بن اسحق.
و کل هولاء الرسل و الانبیاء و القدیسین الذین جاء ذکرهم فی الکتب المقدسة و فی القرآن الکریم قد أضفوا علی ارض فلسطین هذه القدسیة العظیمة فی عقیدة الاسلام. و جعلوا لهذه الارض- و لا سیما القدس- منزلة لا تضاهیها منزلة من حیث هذا الجمع المحتشد من الرسل و الانبیاء و القدیسین الذین ولدوا فیها، او عاشوا فی ربوعها، و بشروا بعبادة اللّه فی اصقاعها و هیاکلها و معابدها، او ماتوا فی ارضها و قبروا فی تربتها.
و من الآیات العامة فی جمع من اولئک الانبیاء قول اللّه تعالی عنهم و من بینهم النبی اسماعیل الذی ولد فی ارض فلسطین:
«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 46
وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِیَ مُوسی وَ عِیسی وَ ما أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
و فی آیة اخری خص اللّه طائفة من اولئک الانبیاء الذین استوطن معظمهم ارض فلسطین بالذکر فقال تعالی فی سورة النساء.
«إِنَّا أَوْحَیْنا إِلَیْکَ کَما أَوْحَیْنا إِلی نُوحٍ وَ النَّبِیِّینَ مِنْ بَعْدِهِ، وَ أَوْحَیْنا إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ، وَ إِسْحاقَ، وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِیسی وَ أَیُّوبَ وَ یُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَیْمانَ، وَ آتَیْنا داوُدَ زَبُوراً، وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَیْکَ مِنْ قَبْلُ، وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَیْکَ وَ کَلَّمَ اللَّهُ مُوسی تَکْلِیماً، رُسُلًا مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ لِئَلَّا یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَی اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ کانَ اللَّهُ عَزِیزاً حَکِیماً».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 47

القدس

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 49

لمحة موجزة عن تاریخ القدس

یقول عارف باشا العارف عن القدس: «لم تلعب مدینة من المدن القائمة علی وجه هذه البسیطة الدور الذی لعبته مدینة القدس فی التاریخ، انها و ان لم تکن من المدن التجاریة المهمة، و لا من المدن الزراعیة او الصناعیة علی رغم وقوعها بین البادیة فی الشرق، و البحر من الغرب، الا انها کانت علی مرّ الدهور مطمح أنظار الغزاة و الفاتحین فحو صرت مرارا، و هدمت تکرارا، و هجرت، و أعید بناؤها ثمانی عشرة مرة فی التاریخ، و لکنها بالرغم من هذا کله ظلت قائمة فی هذا الوجود، و ظل اسمها مذکورا فی طلیعة المدن و البلدان، ذلک لانها مقدسة فی نظر جمیع الادیان».
و الباحث فی تاریخ القدس لا یستطیع ان یقطع بمبدأ هذا التاریخ و یعرف کیف نشأت هذه المدینة اول ما نشأت، و کل ما یمکن التثبت منه هو ان هذه المدینة موغلة فی القدم و لیس الی معرفة اصلها فی الواقع العلمی سبیل.
اما الاخبار فتقول ان ارض مدینة القدس کانت صحراء قبل ان تبنی و تمصّر و هی واقعة بین اودیة و جبال لیس فیها بناء او عمارة فکان اول من اختطها و بناها ملک الیبوسیین المدعو ملکیصادق، و معناه بالعبرانیة ملک الصدق، و قد قیل انه اسم لسام بن نوح، و قیل ان اول اسم اطلق علی القدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 50
کان (بیوس) نسبة إلی الیبوسیین و قیل بل ان اول اسم اطلق علیها کان اسم (ایلیاء) لان ایلیاء هو الذی بناها علی ما تقول هذه الاخبار و لیس (ملکیصادق)، و ان ایلیاء هذا کما یقول یاقوت هو ابن ارم بن سام بن نوح و هو اخو دمشق! و حمص! و اردن! و فلسطین مما لا یخرج عن دائرة الاخبار.
و (ایلیاء) بالالف الممدودة و بالالف المقصورة (ایلیا) و بحذف الیاء الاولی (إلیا) و معناه بیت اللّه، و قد سمی البیت المقدس ایلیاء علی ما جاء فی شعر الفرزدق:
و بیتان بیت اللّه نحن ولاته‌و قصر باعلی (إیلیاء) مشرف
و هناک من یقول ان اسمها الاول کان (روشلم) اطلق علیها هذا الاسم حین تم بناؤها اما اسماؤها الاخری من (اورشلیم) و (اوریسلم) بالسین المهملة و (اوریشلوم) و (اوریشلّم) بتشدید اللام و (اوراسلم) فهی اسماء عبرانیة اطلقت علیها فیما بعد، و من ضمنها (روشلم) التی وردت فی کتاب (الانس الجلیل) محرفة علی ما نعتقد.
و فی حدیث عطاء أبشری (أوری شلم) براکب الحمار یرید بیت المقدس.
قال الاعشی:
و قد طفت للمال آفاقه‌عمان، فحمص، فأوری شلم
و هناک اسماء قدیمة اخری اطلقت علی (القدس) قبل ان تسمی بالقدس و من ضمن هذه الاسماء اسم (سالم) و اسم (شالم) و قد اشتق الاسمان من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 51
اسم (ملکیصادق) البانی الاول للقدس، و الذی اطلقوا علیه (ملک السلام) علی ما تقول الروایات.
و من ضمن هذه الاسماء ایضا اسم (صهیون) قال الازهری: قال ابو عمرو: صهیون هی الروم، و قیل البیت المقدس، و قال یاقوت، و صهیون موضع معروف بالبیت المقدس محلة فیها کنیسة صهیون، و المعروف انه جبل فی القدس،
و من اسمائها (بابیشی) علی ما ورد فی سجلات الفراعنة الذین سیطروا علی القدس حینا من الدهر .
و سماها الامبراطور ادریانوس سنة 139 م باسم (إیلیا کابتولینا) و لکنها عادت فعرفت باسم (ایلیاء) ای بیت اللّه حتی الفتح الاسلامی حیث استقرت علی اسم واحد هو بیت المقدس، و سمی مسجدها بالمسجد الاقصی ثم اقتصر اسمها علی (القدس) و هو من اسماء اللّه .
و القدس هو (البیت المقدس) الذی سنشیر الیه فیما بعد، و قد سمی بذلک فی الاسلام لأنه المحل الذی یتطهر فیه من الذنوب او سمی بذلک للبرکة التی فیه، قال الشاعر:
لا نوم حتی تهبطی ارض العدس‌و تشربی من خیر ماء بقدس
و قد اراد بذلک الارض المقدسة علی ما جاء فی تاج العروس و لسان العرب،
و القدّوس هو الطاهر المنزّه عن العیوب، و لم یجی‌ء منه الا (قدّوس) و (سبّوح) و (ذرّوح) و قد تکرر ذکر التقدیس فی الحدیث و المراد به
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 52
التطهیر، و منه الارض المقدسة، قیل هی الشام و فلسطین، و سمی (بیت المقدس) لانه الموضع الذی یتقدس فیه من الذنوب، و یقال (بیت المقدس) و (البیت المقدّس) و (بیت القدس).
و من الحدیث: لا قدّست أمّة لا یؤخذ لضعیفها من قویها، ای لا طهّرت .
ثم حین استولی العثمانیون علی فلسطین اطلقوا علی (القدس) نعت (الشریف) فصارت تدعی (بالقدس الشریف).

کیفیة بناء القدس لأول مرة

و سواء کان البانی الاول لمدینة القدس هو سام الملقب (بملکیصادق) کما تقول الاخبار او کان بانیها ایلیاء حفید ملکیصادق، فقد تواترت الاخبار بان بناتها کان (الیبوسیون) و ان (ملکیصادق) ای سام بن نوح هو اول من اختطها و بناها و کان قبل ذلک یسکن و قومه فی الکهوف، و قد عرف بالتقوی فما غشی امرأة، و لا اراق دما، و ما أکل سوی الخبز، و ما شرب سوی الخمر، و کان محبا للسلام حتی اطلق علیه (ملک السلام) و اشتهر امره حتی بلغ ملوک الارض الذین هم بالقرب من ارض بیت المقدس و بالشام، و سدوم و غیرهما، و تقول هذه الروایة ان عدة اولئک الملوک کانت اثنی عشر ملکا، فحضروا الیه، فلما رأوه، و سمعوا کلامه اعتقدوه و أحبوه حبّا شدیدا، و دفعوا له مالا لیعمر به مدینة القدس، فاختطها و عمرها و سمیت (بروشلم) فلما انتهت عمارتها اتفق الملوک کلهم علی ان یکون (ملکیصادق (ملکا علیها، و کنّوه (بابی الملوک) و کانوا باجمعهم تحت طاعته، و استمر حتی مات بها علی ما تقول الاخبار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 53
و قیل ان سام هذا کان القیم بعد ابیه نوح فی الارض و من ذریته الانبیاء کلهم، و جعل اللّه فی ذریته النبوة و الکتاب، و نزل بنو، سرّة الارض و لم تکتف هذه الاخبار بان تنسب له التخطیط الاول لمدینة القدس، و انما اعتبرته هو المؤسس الاول (للمسجد) فی القدس.
و یری بعض الذین یعتمدون الاخبار بدون تمحیص علمی ان آدم هو الذی بنی بیت المقدس، و قال البعض الآخر بل بنته الملائکة.
اما الشی‌ء الثابت هو ان مدینة القدس مدینة قدیمة، و غایة فی القدم کما یستدلّ من الآثار، و یقول عنها القاضی مجیر الدین الحنبلی انها کانت قدیما اکبر من مصر (و لعله یقصد القاهرة) و اکبر من بغداد کما وصفها البعض من مؤرخی المسلمین، فقالوا ان العمارة و المنازل کانت متصلة من جهة القبلة الی القریة المعروفة یومئذ (بدیر السنة) و من جهة الشرق الی جبل طور و استمرت العمارة بطور زیتا الی حین الفتح العمری، و ما عمارة داود و سلیمان لمدینة القدس الا تجدید البناء القدیم لیس الا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 54

القدس فی عهد الیبوسیین و الکنعانیین

و الیبوسیون هم بناة القدس الاولون کانوا رهطا من بطون العرب الاوائل نشأوا فی صمیم الجزیرة العربیة و ترعرعوا فی ارجائها ثم نزحوا عنها مع من نزح من القبائل الکنعانیة و استوطنوا ارض فلسطین، و اغلب الظن ان ذلک قد حدث حوالی عام 3000 قبل المیلاد فکان الیبوسیون هم اصحاب القدس، اما حبرون و بیت لحم فقد کان اصحابها الاموریین.
و الکنعانیون عرب من نجد و ینتسبون هم الآخرون الی سام کنسبة الیبوسیین ملوک القدس انفسهم و قد قیل ان کنعان موجود بفلسطین منذ مایة قرن علی الاقل اما شراح العهد القدیم فلا یعترفون بهذه التقدیرات اذ یرون ان عمر العالم یستحیل ان یتجاوز السبعین قرنا مستندین فی ذلک علی التوراة الذی یرجع الیه المؤرخون لقدمه و کونه المصدر الاول فی هذه الاخبار.
و یستنتج المورخون من بعض الآثار و لا سیما الآثار المصریة فی ایام الفراعنة الی جانب الاخبار المرویة بان الیبوسیین ما لبثوا ان اصبحوا ذوی حضارة و کانت (القدس) المسماة (بیبوس) عنوان تلک الحضارة التی کانت تتجلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 55
فی عماراتها و ابنیتها الفخمة و اسباب معیشتها و رفاهیة سکانها، و کان من ملوک (یبوس) القدماء الملک (سالم الیبوسی) و قد بذل جهدا کبیرا فی سعة عمران هذه البلدة، و اقام علی جبل صهیون و هو محل من محلات القدس برجا للدفاع عن المدینة عند محاولة غزوها من الشرق او الغرب، و کانت للیبوسیین فی القدس حکومة ذات نظام، لها صناعتها و تجارتها، و کیانها المعروف بین المدن المتحضرة.
و ان موقع (یبوس) الاستراتیجی قد جعل لها و للیبوسیین و الکنعانیین شأنا کبیرا فی عالم التجارة، فهی واقعة علی طریقین من اهم طرق التجارة واحدة تربط البحر بالصحراء، و الاخری تربط حبرون (الخلیل) (ببیت إیل) من اعمال (رام اللّه) و فی (بیت إیل) کانت الطریق تسیر فی اتجاهین:
واحد نحو شکیم (نابلس) و الآخر الی (اریحا) و وادی الاردن .
فکان لا بد ان تزدهر الحضارة فی القدس بسبب انتقال التجارة و البضاعة و الصناعة بین العراق من الشرق و الفینیقیین من الشمال و بین مصر من جهة الغرب عن طریق هذه المدینة و سکانها الیبوسیین و الکنعانیین.
و بالنظر لموقع (یبوس) الجغرافی و کونها واقعة علی مرتفعات مطوقة بالاسوار المنیعة التی بناها ملوکها دفاعا عنها عند محاولة غزوها فقد اصبحت (یبوس) منیعة و اصبح سکانها و ملوکها ممن یعتز بهذه المناعة فکان لملوکها جیوش اشداء و کانوا یحسنون السیاسة فقد اورد المؤرخون اخبارا کثیرة تتعلق بحسن هذه الصناعة و ما عثر علیه فی الآثار من عقود و معاهدات بین ملوک (یبوس) و الملوک المجاورین و تحسین علاقات بعضهم ببعض زیادة فی توثیق حسن الجوار و الاستعداد للدفاع المشترک بینهم عند وقوع الحرب.
و الراجح ان معظم سکان الضیاع و القری المجاورة کانوا من الکنعانیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 56
الذین لا یکاد یمیزهم احد عن الیبوسیین لاتحاد الاصل و العنصر فکلاهما سامیان، و کلاهما قد هاجر فی اوقات متقاربة ان لم تکن واحدة، و کلاهما وجدا فی هذه البقعة و هناک من یطلق علی الرهطین اسما واحدا و یسمیهما بالکنعانیین، اما اللغة فکانت کنعانیة و لم تتغیر الا حین تداخلت فیها اللغة البابلیة عند استیلاء البابلیین علیها، و ظلت اللغة البابلیة هی اللغة الرسمیة الی ان دخلها الفرس و سیطروا علیها،
و کانت دیانة القدس و سکانها الیبوسیین عبادة الاصنام، و کان صنمهم الاکبر (بعل) و معناه الرب و کان بعل هذا صنما صیغ من الذهب لقوم الیاس کما جاء ذلک فی قول اللّه تعالی «وَ إِنَّ إِلْیاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِینَ».
قال علماء النسب: هو الیاس التشبی و قد بعث بالنبوة بعد (هارون) فالانبیاء الذین بعثوا قبله هم آدم، و شیث، و ادریس، ثم نوح، ثم ابراهیم ثم اسماعیل، و اسحق ثم یعقوب، ثم یوسف، ثم لوط، ثم صالح، ثم شعیب ثم موسی و هارون ابنا عمران و قالوا کان ارسال الیاس الی اهل بعلبک الذین کانوا یعبدون صنما باسم (بعل) فکذبوا النبیّ الیاس.
و فی نسخ أخری من الاقوال ان (بعل) هذا کان یخص قوم یونس، و سمی العرب معبودهم الذین یتقربون به الی اللّه بعلا لاعتقادهم الاستعلاء به.
شارع من شوارع القدس القدیمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 57
و کانت هذه الحضارة التی تتمتع بها (القدس)، و الحیاة الرفیهة التی کان ینعم بها سکان القدس قد جعلتها مطمح الانظار و لا سیما من قبل العبرانیین الذین کانوا یعیشون عیش البداوة فی البراری و الخیام و یمارسون رعی الغنم و قد بدأوا یقلقون راحة الکنعانیین فی مدنهم و قراهم و یهاجمون سکان (القدس) فلاذ الیبوسیون- و قد بدأوا یشعرون بالضعف- بفراعنة مصر، فکان هذا سببا لخضوع القدس مدة للفراعنة و سیطرتهم و لیس من شک ان (القدس) قد تأثرت بالحضارة الفرعونیة و اقتبست منها شیئا غیر قلیل، و کان من اشهر الفراعنة الذین سیطروا علی القدس (توت عنخ آمون) و (رعمسیس الثانی) ..
و الظاهرة التی توصل الیها المؤرخون من مدارستهم للآثار و قراءة ما وجدوه من النقوش و الکتابة فی الآثار المصریة ان القدس کانت فی عهد استیلاء الفراعنة علیها محفوفة بغابات کثیفة تمتد من الجبال حتی البحر، و لا شک انه کان لهذه الغابات شأنها ایضا فی خدمة الحضارة للفوائد التی یمکن ان تحصل من اخشابها فی البناء و الشعال فضلا عن استغلال حاصلاتها الحیوانیة و الشجریة.

القدس فی عهد العبرانیین

و اخیرا غزا العبرانیون القدس و تمکنوا من احتلالها فی نحو عام 1049 علی ما تذکر بعض المصادر و استمر حکم العبرانیین نحو اربعة قرون اقتبس العبرانیون الشی‌ء الکثیر من الحضارة التی عرفت بها القدس فغیرت لهم طریقة معیشتهم، و طورت حیاتهم، و نقلتهم من حیاة البداوة الی المدینة مما اشرنا الی ذلک من قبل، و یذهب المؤرخون الی ان سیطرة العبرانیین خلال تلک المدة لم تکن سیطرة تامة سالمة من الثورة و التمرد باستثناء عهد داود و عهد سلیمان بصورة خاصة، و کان داود اول من اختل القدس کملک اذ سار بجیش قیل ان عدده کان ثلاثین الف مقاتل فاستولی علیها و غیر اسمها الکنعانی (اوروسالم) و سماها (مدینة داود) و لکن هذا الاسم لم یدم طویلا، فکان داود اول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 58
ملک عبرانی سیطر علی المدینة بالرغم من الثورات التی قامت فی وجهه من قبل اولاده اخوة سلیمات.
و کان داود قبل ان یزحف بحیشه علی القدس یقیم فی حبرون (الخلیل) فدخل القدس ملکا علیها و لاول مرة شرع ببناء (بیت المقدس) ای المسجد.

بناء بیت المقدس (المسجد)

و فی بعض الاخبار ان داود لم یکن هو الذی اول من شرع ببناء بیت المقدس (المسجد) و لا سلیمان کان اول بانیه کما یقول معظم المؤرخین و انما کان اول من بنی بیت المقدس هو یعقوب بن اسحق، فقد رووا ان یعقوب حین لحق اخاه (العیص) باهله و ما معه من الانعام و المواشی و العبید قاصدین جبال (ساعیر) مرّ (بساحور) فابتنی له بیتا، و لدوابّه ظلالا، ثم مرّ علی اورشلیم قریة (شخیم) بن جمّور فنزل قبل القریة، و اشتری مزرعة (شخیم) بن جمور بمائة نعجة، فضرب هنالک فسطاطه، و ابتنی ثمة مذبحا و سماه (ایل إله اسرائیل) و أمره اللّه ببنائه لیستعلن له فیه، و هو (بیت المقدس) الیوم و الذی جدده بعد ذلک سلیمان بن داود، و هو مکان الصخرة التی أعلمها بوضع الدهن علیها قبل ذلک.
و هنالک اخبار اخری تقول انه لما استقرت ید یوشع بن نون بعد موسی علی البیت المقدس نصب (قبة الزمان) التی کان قد اقامها موسی و کانت تحمل فی التیه کرمز مقدس للعبادة، لقد نصبها یوشع علی صخرة بیت المقدس فکانوا یصلون الیها فلما بادت صلوا الی محلتها و هی الصخرة فلهذا کانت قبلة الانبیاء .
اما الاخبار التی تبانی علیها اغلب المؤرخین فهی ان داود هو الذی بنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 59
المسجد- ای بیت المقدس- و علی الصخرة قبة فی الموضع الذی قدسه اللّه تعالی فی (ایلیا).
و اوحی اللّه الی داود- علی ما تقول هذه الاخبار- لما کثر طغیان بنی اسرائیل: انی اقسمت بعزتی لابتلینهم بالقحط سنتین او اسلط علیهم العدو شهرین، او الطاعون ثلاثة ایام، فاختار داود الطاعون، و امرهم ان یتجهزوا و یلبسوا اکفانهم، و یخرجوا نساءهم، و إماءهم، و اولادهم أمامهم و هم خلفهم علی الصخرة و الصعید الذی بنی علیه مسجد بیت المقدس و هو یومئذ صعید واحد، ففعلوا و اظهروا هناک مسکنتهم و خروا سجدا من حین طلوع الصبح، فسلط اللّه علیهم الطاعون من ذلک الوقت الی أن زالت الشمس ثم رفعه عنهم.
ثم اوحی اللّه الی داود أن ارفعوا رؤوسکم فقد شفّعتک فیهم فرفع داود رأسه ثم نادی بنی اسرائیل ان ارفعوا رؤوسکم فرفعوا رؤوسهم و قد مات مسجد النبی داود و قد تناول فیه المسیح و حواریوه العشاء السری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 60
منهم مائة الف، و سبعون الفا أصابهم الطاعون و هم سجود و غیر هذا الخبر اخبار اخری مستقاة من العقیدة الدینیة.
و جاء فی الاخبار ان داود قد أعدّ لبناء بیت المقدس مائة الف بدرة ذهبا، و الف الف بدرة ورقا، و ثلثمایة الف دینار لطلاء البیت.
و هنالک من الاخبار ما یشیر الی ان مدینة القدس حین بنیت کان محل المسجد فی وسطها و هو صعید واحد و الصخرة الشریفة قائمة فی وسطه حتی بناه داود.
و یقال لمسجد بیت المقدس (الزیتون) و لا یقال له الحرم علی بعض الروایات، کما یقال للزیتون (طورزیتا). و هو الجبل الذی قام علیه مسجد بیت المقدس، و اقسم اللّه فی القرآن المجید «وَ التِّینِ وَ الزَّیْتُونِ وَ طُورِ سِینِینَ وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِینِ».
یقول ابو هریرة: ان التین هو طور سیناء و هو مسجد دمشق، و الزیتون هو (طور زیتا) ای مسجد بیت المقدس، و طور سنین حیث کلم اللّه نبیه موسی و الواضح ان نزول هذه الآیة کان قبل قیام مسجد دمشق فلا یمکن ان یکون المقصود (بالتین)- علی قول ابی هریرة- هو مسجد دمشق، اما مسجد القدس فقد کان قائما عند نزول الآیة کمسجد توحید لعبادة اللّه.
و فی (التین) و (الزیتون) روایات کثیرة، و قد روی الکثیر انهما جبلان و عن ابن عباس: ان التین هو مسجد نوح الذی بنی علی الجودی.
و الزیتون هو بیت المقدس- و هناک من یقول انه الجبل الذی صلب علیه المسیح و یسمی بجبل سکوبس ایضا- و عن الضحاک: ان التین هو المسجد الحرام، و الزیتون المسجد الاقصی. و طور سینین یعنی الجبل الذی کلم اللّه علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 61
موسی و ان سینین و سیناء واحد .
و یستدل من الأقوال التی تنسب بناء المسجد لداود لأول مرة، ان هذا المسجد قد بنی علی اساس قدیم و لم یکن داود المؤسس الاول و انما کان داود مجددا اذ هناک من یقول بان الصخرة التی سمی المسجد باسمها هی الصخرة التی کان یذبح علیها ابراهیم علیه السلام القرابین للّه.
و مسجد الصخرة هذا هو المسجد الذی أمر الخلیفة عمر بن الخطاب (ض) ببنائه سنة 685 و تم فی نحو سبع سنوات.
و تزید الاخبار التأکید بأن بانی هیکل المسجد ببیت المقدس لم یکن غیر داود، و تقول بان داود قد ابتاع من ارنان الیبوسی ارضه الواقعة علی تل (موریا) و هی البقعة التی یقوم علیها الآن الحرم القدسی، و کانت قبل ذلک بیدرا و شرع فی بناء الهیکل و مات و لم یتمه

القدس فی عهد سلیمان

و المعروف ان داود قد اوصی ابنه سلیمان بان یعنی بمدینة القدس و یسعی لاتمام بناء الهیکل، فاستعان سلیمان (بحیرام) ملک صور و أمدّه هذا بمهرة الصناع الفینیقیین، و کان لدی (حیرام) هذا عدد کبیر من مهرة الصناع الذین یحتاج الیهم سلیمان لبناء المدینة و الهیکل.
و یقول جیمس هنری برستید: و لربما کان الصناع الذین زخرفوا مدینة صور هم الذین اشتغلوا فی زخرفة هیکل (اورشلیم).
و یظهر ان هذا الهیکل کان فخما بحیث ان الخشب المستعمل فیه کان قد استورد من صور ایضا و أمدّه به حیرام الملک، أما الطراز فیذهب المؤرخون الی انه کان طرازا کنعانیا، و قد خص هذا الهیکل باقامة الطقوس الدینیة، و تم بناء الهیکل فی سنة 1007 ق. م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 62
و اتسعت القدس فی زمن سلیمان فبنی فیها الدور و شید القصور و اتسع ملکه و امتد من الفرات الی تخوم مصر فعمرت القدس فی زمانه بحیث باهت الخواضر و المدن الکبیرة و اشتهر الهیکل و قرن اسمه باسم سلیمان و سمی بهیکل سلیمان.
و من آثار سلیمان البناء الکائن تحت المسجد الاقصی، و برک سلیمان الواقعة الی الجنوب من بیت لحم و قیل انه لما رفع سلیمان یده من البناء بعد الفراغ منه علی ما ذکر القاضی مجیر الدین و احکامه الهیکل جمع الناس و اخبرهم انه مسجد للّه تعالی و هو الذی أقره ببنائه، و ان کل شی‌ء فیه للّه تعالی و ان داود عهد الیه ببنائه و اوصاه بذلک.
و اضافة الی کل ذلک قد احرز النظام المرکزی تقدما کبیرا فی عهد سلیمان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 63
و ازداد عدد موظفی البلاط الذین یعملون الی جانب الملک فی ادارة المملکة کما جاء فی (تاریخ الحضارات العام) و قد جاء فی التوراة ان سلیمان «جعل النقد فی اورشلیم عادیا کالحجارة»
و یقول تاریخ الحضارات العام: و قد استخدم سلیمان ثرواته لا لتقویة جیشه فحسب بل لتجمیل عاصمته ایضا فاقام علی رابیة (صهیون) الهیکل و (بیت الملک) الذی اکمله بقصر للملکة التی قیل عنها أنها امیرة مصریة، و لکن التنقیب عن الآثار لم یتوصل الی اظهار هذا او ذاک من الابنیة، و لذلک فان کل محاولة لتحقیق تصمیمها تکون مجرد اجتهاد
و الامر الذی عده التاریخ من البدهیات بعد بناء الهیکل و البرک و القصور الفخمة هو الاسراف الذی بدا فی حیاة البلاط فی عهد سلیمان فقد عرفت المدینة فیما عرفت الزخزفة بالذهب المطعم بالعاج و الحجارة المنحوتة، و خشب الارز الذی جهزه الملک حیرام لسلیمان، و بناء المراکب التی استخدمها سلیمان فی خلیج العقبة لتحویل جانب من التجارة مع الجزیرة العربیة الی القدس بعد ان کانت مصر قد احتکرتها لنفسها.
و حین مات سلیمان انقسمت البلاد الی مملکتین: یهوذا و عاصمتها (اورشلیم) التی التحق بها سبطان فقط، و اسرائیل، و عاصمتها (السامرة) التی التحق بها الاسباط العشرة الاخری.
و هناک من المؤرخین من یذهب الی ان سلیمان لم یکن یهودیا و انما کان آشوریا و هو (شلمناصر) الذی حوّر اسمه الاسرائیلیون فسموه سلیمان و عرف بعد ذلک بهذا الاسم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 64
و سواء کان البانی الاول لمسجد بیت المقدس داود أو غیر أداود فقد اسبغ الانبیاء علی القدس صفة الطهارة و القدسیة و اعتبروها مدینة اللّه و موضع التوجه الیه سبحانه و تعالی.
و اصیبت هذه المدینة بنکبات متعددة حتی زالت من الوجود مرة بالهدم العام غیر مرة و حتی تعرضت للقتل و الاسر و السبی غیر مرة، و مع ذلک عادت، فعادت هذه القدسیة الیها و اتجاه النفوس من مختلف الادیان الی باریها فی هذا المقام الشریف.
فقد غزا الآشوریون اورشلیم، ثم غزا البابلیون هذه المدینة، و افتتحها (نبوخذ نصر) و سبی جمیع من فیها، و ارسلهم الی بابل، ثم غزا الفرس القدس و استولی (کورش) علی جمیع فلسطین و سمح بتجدید بناء الهیکل، و بناء المدینة.
ثم غزا الیونان علی عهد الاسکندر فلسطین، و احتلوا (اورشلیم) ثم غزاها الرومان، و هدموها و ازالوا معبدها من الوجود.
و فی عهد الامبراطور (هادریان) الرومانی سنة 130 م اعاد الرومان بناء (اورشلیم) المهدمة لیجعلو منها مدینة و ثنیة، فاقاموا فیها هیکلین الاول (لجوبیتر) فی مکان هیکل سلیمان، و الثانی (لفینوس) فی مکان کنیسة القیامة الآن، و اطلق الرومان علی المدینة اسم (ایلیا کبیتولینا) کما اشرنا الی ذلک فی استعراض اسماء القدس، و منع الیهود من دخول المدینة حتی انهم فرضوا عقوبة الاعدام علی کل یهودی یدخلها و اقام (هادریان) تمثالا لنفسه بالقرب من الصخرة المبارکة.
و تولاها البیزنطیون بعد ذلک فمرت المدینة بظروف قاسیة کثیرا ما قضت علی قدسیتها و صبغتها الدینیة حین ازیل الهیکل و مسجد العبادة من الوجود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 65
و لکنها عادت من جدید لتکون بلدا مقدسا و بیتا من بیوت اللّه العظمی فی عقیدة الاسلام و عهوده التاریخیة حتی الیوم.

فضیلة القدس فی الإسلام

فی احد الفصول المتقدمة من هذا البحث اشارة الی الاسباب و العلل التی جعلت الاسلام یعنی بفلسطین عموما و یسمیها بالارض المقدسة و یعنی (باورشلیم) خصوصا منذ أن اطلق علیها اسم (یبوس) او (ایلیاء) و یسمیها (بالقدس) ثم یعتبرها اولی القبلتین و ثالث الحرمین، و تأکیدا لما مر فمن المستحسن اعادة القول بان الاسلام کان یؤمن بما جاء به الانبیاء من قبله و یقدس الرسل الذین بشّروا بدعوتهم و اعتبر الاسلام ان ما جاء به کل واحد من أولئک الأنبیاء انما جاء به من عند اللّه، لذلک حق علی الاسلام ان تحوط أولئک الانبیاء و الرسل بهالة من التقدیس، و یمنح الارض التی عاش الانبیاء فیها و دفنوا فی تربتها الحرمة الکاملة، و المحبة الخالصة، و لما کانت فلسطین- او القدس بصورة خاصة- مهبط جمهرة من عظماء اولئک الانبیاء و مؤسسی اول دیانة تربط الانسان باللّه و توجه وجهه الیه فقد خصها القرآن الکریم و خصته الروایات و الاحادیث الاسلامیة بعنایة مفرطة و اضفت الشریعة الاسلامیة علی هذه المدینة الشی‌ء الکثیر من القدسیة التی اضفته علی مکة المکرمة، و المدینة المنورة، و کل غلو جاء فی الاحادیث و الاخبار عن القدس، و کل روایة بولغ فی مبناها و مغزاها و سردها حتی التی لا یهضمها المنطق و العقل فهی دلیل علی قیمة هذه المدینة و مکانتها و فضیلتها، اذ لو لا تلک الاهلیة و الجدارة و الفضیلة التی تتمتع بها القدس لما خصت بکل تلک الاخبار و الاحادیث و القصص، و الاساطیر، المعقول و غیر المعقول منها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 66
فمن هذه الاخبار انه لما خرج نوح من السفینة بادر الی جثة آدم و دفنها ببیت المقدس .
و فی روایة ان قبر آدم کائن فی مغارة بین بیت المقدس و مسجد ابراهیم الخلیل، و رجلاه عند الصخرة، و رأسه عند مسجد ابراهیم الخلیل.
و ان سفینة نوح طافت بالبیت الحرام- أی مکة المکرمة- اسبوعا ثم طافت ببیت المقدس اسبوعا.
و قد رووا ان السفینة سارت حتی بلغت بیت المقدس فوقفت و نطقت و قالت:
«یا نوح هذا موضع بیت المقدس الذی یسکنه الانبیاء من اولادک »
و مثل هذه الروایات الشی‌ء الکثیر الذی یثبت للقدس فضیلتها التی لولاها لما جاز ان تحاک عنها الاساطیر و تحکی الحکایات التی تتعارض و التاریخ المادی.
و الفضیلة الحقة التی خصت بالقدس تتجسم فی واقعها، و ان واقعها هو الذی تبانت علیه الاخبار المدروسة و ما سلم به العلم و العقل و نص علی فضیلته القرآن الکریم و اعتبره الدین الاسلامی داخلا فی صلبه.
فتواتر الاخبار بان فی المغارة الغربیة و تحت المسجد العتیق ستین نبیا منهم عشرون نبیا مرسلا لا یتنافی مع المعقول، و لا فیه ما یغایر الواقع، أو یستدعی التشکیک.
و مثل هذا ما روی عن (مقاتل بن سلیمان) عن بیت المقدس اذ قال:
(ما فیه موضع شبر الا و قد صلی علیه نبی مرسل).
و المروی عن ابی ذر (ض) انه قال: قلت یا رسول اللّه أیّ مسجد وضع فی الأرض اولا؟ قال: المسجد الحرام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 67
قال: قلت ثم ای مسجد؟
قال: المسجد الاقصی.
قلت: و کم بینهما؟
قال: أربعون سنة.
ثم قال: «فاین ادرکتک الصلاة فصلّ فان الفضل فیه»
و هذا وحده یکفی تثمینا لفضیلة القدس و مکانتها فی العقیدة الاسلامیة، فقد کانت ضیاعها اول مستوطن لأبی الأنبیاء ابراهیم الخلیل، فحین جاء ابراهیم من مصر أقام (بالسبع) فاحتفر به بئرا، و اتخذ به مسجدا فکان ماء تلک البئر معینا و کانت غنمه تردها، و حین أوذی ابراهیم غادر (السبع) و نزل بناحیة من ارض فلسطین بین (الرملة) و (ایلیاء) و البلد یقال له قط او قط علی ما ذکر ابن جریر الطبری.
و مما یزید من فضیلة القدس ما ذکرته بعض الروایات و علی الاخص التوراة بان الذبیح لم یکن اسماعیل کما هو علیه الغالب من المسلمین و ان هذا الذبح لم یجر بمکة المکرمة و انما کان الذبیح اسحاق، و ان موضع الذبیح کان علی صخرة بیت المقدس .
ثم ان قبر موسی واقع فی جوار بیت المقدس، و المشهور ان مدفن موسی واقع شرقی بیت المقدس و ان بینه و بین بیت المقدس مرحلة واحدة، و دربه عسر لکثرة الوعر و علیه بناء و داخله مسجد، و عن یمینه قبة معقودة بالحجارة علی ما وصف القاضی مجیر الدین الحنبلی فی القرن التاسع الهجری.
ثم هی بعد ذلک مدفن داود فقد قیل ان مدفنه کان بالکنیسة المعروفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 68
بالجسمانیة شرقی بیت المقدس فی الوادی، و قال الآخرون بل ان قبره کان بکنیسة صهیون و هی التی بظاهر القدس.
و فی بعض الروایات عن اللیث عن یونس عن الزهری قال: لم یبعث اللّه منذ هبط آدم الی الارض نبیا الا جعل قبلته صخرة بیت المقدس ، و مع ما فی هذه الروایة من معارضة لمن یقول بان بانی مدینة القدس و مخططها الاول کان (ملکیصادق) او حفیده فهی تعرب عن عظمة هذه المدینة عند الاسلام بحیث یجوز ان ینسب لها الرواة مثل هذه الروایات لغرض التقدیس.
و مما روی زیادة فی توجیه الانظار الی مکانة القدس و مقامها عند اللّه ان سلیمان بن داود کان یتعبد فی بیت المقدس السنة و السنتین، و الشهر و الشهرین! و اقل من ذلک و اکثر!! فیدخل فیه طعامه و شرابه
و فی الاخبار: ان سلیمان حین وقف فی مؤخرة المسجد دعا ربه و قال:
«اللهم من أتاه من ذی ذنب فاغفر له، او ذی ضرّ فاکشف ضرّه» و قیل فلا یأتیه احد- ای یأتی المسجد- الا اصاب من دعوة سلیمان
و فی روایات الاسلام روایة اخری اوردها القاضی مجیر الدین تقول:
ان سلیمان حین انتهی من بناء المسجد قال:
اللهم انی أسألک لمن دخل هذا المسجد خمس خصال
1- ان لا یدخل الیه مذنب لا یعمده الا لطلب التوبة ان تتقبل منه توبته، و تغفر له ذنبه.
2- و لا یدخله خائف لا یعمده الا لطلب الأمن ان تؤمنه من خوفه و تغفر له ذنبه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 69
3- و لا یدخله سقیم و لم یعمده الا لطلب الشفاء ان تشفی سقمه و تغفر له ذنبه.
4- و لا یدخله مقحط لا یعمده الا للاستسقاء ان تسقی بلاده.
5- و ان لا تصرف بصرک عمن دخله حتی یخرج منه.
و عن النبی (ص) انه قال: ان سلیمان بن داود سأل ربه ثلاثا فاعطاه مسجد قبة الصخرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 70
اثنتین و نحن نرجو ان یکون قد اعطاه الثالثة.
سأله حکما یصادف حکمه فأعطاه ایاه، و سأله ملکا لا ینبغی لأحد من بعده فاعطاه، و سأله ایما رجل یخرج من بیته لا یرید الا الصلاة فی هذا المسجد ان یخرج من خطیئته کیوم ولدته امه، و نحن نرجو ان یکون قد اعطاه ایاه.
و جاء فی بعض الاخبار: ان سلیمان قد عصی علیه مرة فتح باب بیت المقدس فحار فی أمره و اذا بشیخ من جلساء ابیه یقبل علیه و هو شیخ طاعن فی السنّ فیستجلی خبره، و یری حیرته فیقول له:
- ألا أعلمک کلمات کان ابوک یقولها عند کربه فیکشف اللّه عنه؟
قال-: بلی.
قال- قل: اللهم بنورک اهتدیت، و بفضلک استغنیت، و بک اصبحت و أمسیت، ذنوبی بین یدیک، استغفرک و اتوب الیک یا حنان یا منان.
و لذلک یستحب علی ما تقول هذه الروایة ان یدعو الزائر و غیره بهذا الدعاء إذا دخل من باب الصخرة، و کذلک من باب المسجد.
و المعروف ان هذا الدعاء أثیر عند الداعین فی صباح کل یوم و مسائه فی مشارق الاسلام و مغاربه.
و اشارت الآیة الکریمة الی (القدس) باسم القریة من قول اللّه عز و جل «وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَکُمْ خَطایاکُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ».
و قد اجمع المفسرون علی ان المراد بالقریة ها هنا: (بیت المقدس) و یؤیده قوله تعالی فی موضع آخر «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» و «فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ»* أی بما شئتم من طعام القریة بعد المنّ و السلوی، و قد قیل ان هذه إباحة لهم منه لغنائمها و تملّک اموالها إتماما للنعمة علیهم.
«وَ ادْخُلُوا الْبابَ»* یعنی الباب الذی أمروا بدخوله، و قیل هو باب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 71
(حطّه) من بیت المقدس
و لیست کل (قریة) جاء اسمها فی القرآن الکریم تعنی بیت المقدس و ان تشابه المعنی و اوجب الالتباس، ففی قول اللّه عز و جل «وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْیَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» فقد اشتهر عن کثیر من السلف و الخلف کما یقول ابن الاثیر فی (البدایة و النهایة) ان هذه القریة هی انطاکیة و لکن هناک من یعارض هذا القول لأن اهل هذه القریة التی یشیر الیها القرآن الکریم قد أهلکوا بتکذیبهم الرسل فی حین ان اهل انطاکیة کانوا قد آمنوا و اتبعوا رسل المسیح من الحواریین الیهم ..
و خص اللّه القدس بالبرکة فی قوله تعالی «وَ نَجَّیْناهُ وَ لُوطاً إِلَی الْأَرْضِ الَّتِی بارَکْنا فِیها لِلْعالَمِینَ» و هی بیت المقدس کما یقول بعض المفسرین لان بها مقام الانبیاء، و قد نجی اللّه ابراهیم و لوطا و هو ابن اخی ابراهیم و کان قد آمن بإبراهیم، و فی هذه الآیة بیان نعمة اللّه علی ابراهیم.
و قد نص القرآن صراحة بفضیلة الارض المقدسة کقوله تعالی: «وَ إِذْ قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ یا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ».
و نصّ کنایة، کقوله «وَ آوَیْناهُما إِلی رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِینٍ» قال ابن عباس:
هی بیت المقدس.
و کقوله تعالی «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ»
فقیل انه یعنی: بیت المقدس کما روی ذلک الطبرسی فی تفسیره،
و فی برکات بیت المقدس قال ابن عباس: بیت المقدس علیه الطل و المطر مذ خلق اللّه السنین و الایام.
و فی مسند الامام احمد من حدیث أمامة قال: قال رسول اللّه (ص) لا تزال طائفة من امتی علی الحق ظاهرین، لعدوهم قاهرین، لا یضرهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 72
من خالفهم، و لا ما أصابهم من اللأواء حتی یأتیهم أمر اللّه و هم کذلک، قالوا یا رسول اللّه و أین هم؟
قال- ببیت المقدس و اکناف بیت المقدس
و مما قیل عن رسول اللّه انه قال: قال اللّه تعالی «یا روشلیم- یرید القدس- انت مقدسة بنوری، و فیک المحشر و المنشر، أزفّک یوم القیامة کما تزف العروس الی بعلها. و من دخلک استغنی عن الزیت و القمح».
و عن أنس قال: قال رسول اللّه (ص) من زار بیت المقدس محتسبا اعطاه اللّه أجر الف شهید.
و عنه (ص) من زار عالما فکأنما زار بیت المقدس
و روی عن جریر بن عثمان و صفوان بن عمرو انهما قالا: الحسنة فی بیت المقدس بألف و السیئة بالف. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌4 ؛ ص72
قال وهب بن منبه: اهل بیت المقدس جیران اللّه و حق علی اللّه ان لا یعذب جیرانه.
و فی فصل الصلاة ببیت المقدس، و الصوم فیه، و المبیت عنده، و الدفن فی ارضه، آیات کثیرة تزخر بها الکتب الاسلامیة و تتلخص فضیلة القدس فی عقیدة الاسلام! بأن:
اللّه قد کلم موسی فی ارض بیت المقدس.
و تاب اللّه علی داود و سلیمان فی ارض بیت المقدس
و بشر اللّه زکریا بیحیی فی ارض بیت المقدس
و ولد المسیح و تکلم فی المهد، و انطلقت دعوته، و انزلت علیه المائدة فی ارض بیت المقدس.
و رفع اللّه المسیح الی السماء من بیت المقدس
و ینزل المسیح من السماء الی الارض ببیت المقدس
و ماتت مریم ببیت المقدس
و هاجر ابراهیم من کوثا الی بیت المقدس
و صلی النبی (ص) زمانا الی بیت المقدس قبل ان یصلی الی المسجد الحرام و أسری بالنبی (ص) الی بیت المقدس
و بیت المقدس بعد هذا مثوی الرسل و الانبیاء و الصالحین و لیس من المهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 73
ان تکون هناک اخبار تشوبها بعض المبالغات و تحف بها بعض الاساطیر و لکن مثل هذا لا یستطیع ان ینفی عظمة القدس و فضیلتها او یقلل من شأنها فی معتقد جمیع اهل الکتاب و علی الاخص المسلمین و لا سیما القرآن المجید الذی یرجع الیه الاسلام فی جمیع معتقداته.
مسقط رأس مریم حسب التواتر السائد و یقع قرب باب سنت استیفان و المعروف فی القرون الوسطی بباب الست مریم و هو الآن کنیسة تدعی بکنیسة (سنت انا) و قد بنیت فی زمن الصلیبیین»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 74

أول عهد القدس فی الاسلام- القبلة-

ان اول عهد القدس بالاسلام أو أول عهد الاسلام بالقدس ابتدأ بالاعتقاد بمکانة هذه المدینة و المسجد الاقصی و الصخرة منه علی الاخص و قدسیتها عند اللّه ثم اتخاذ الصخرة قبلة فی الصلاة بصفتها القبلة التی صلی عندها الانبیاء من ایام یوشع بن نون و ظلت قبلتهم الی زمان رسول اللّه (ص) و قد صلی الیها رسول اللّه (ص) اول ما صلی، و کان یجعل الکعبة بین یدیه فی مکة، و لما هاجر أمر بالصلاة إلی بیت المقدس، فصلی إلیها ستة عشر، و قیل سبعة عشر شهرا ثم حولت القبلة الی الکعبة. و هی قبلة ابراهیم، و کان ذلک فی شعبان سنة اثنتین للهجرة فی وقت صلاة العصر .
و فی هذا الصدد نزلت الآیة الکریمة «قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ»
و مع ذلک فلم یفقد المسجد الاقصی اهمیته حین تحولت القبلة عنه الی المسجد الحرام فقد وردت عنه احادیث کثیرة اشیر الی بعضها فی فصول سابقة فضلا عن النصوص القرآنیة الکریمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 75
روی ابن خزیمة فی صحیحه: ان النبی قال:
صلاة فی المسجد الحرام افضل مما سواه من المساجد بمائة الف صلاة.
و صلاة فی مسجد المدینة افضل من الف صلاة فیما سواه، و صلاة فی بیت المقدس افضل مما سواه من المساجد بخمسمایة صلاة
و فی مثل هذا المضمون روی عن النبی انه قال «لا تشدّ الرحال الا الی ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، و مسجدی هذا- یعنی به المدینة- و المسجد الاقصی .

الاسراء

و الاسراء الی بیت المقدس من اهم ما حظیت به القدس من التقدیس و الفضیلة عند الاسلام و فی صمیم عقیدته فلم تقتصر القدسیة علی بیت المقدس بکونه اول قبلة اتخذها الاسلام، و انما خصت بانها کانت نهایة المطاف من الاسراء و مبتدأ عروج النبی (ص) الی السماء فی معتقد الاسلام، سواء کان هذه الاسراء و العروج روحیا کما یقول به البعض او جسدیا کما هو علیه الآخرون.
و فی تفسیر الطبرسی للآیة الکریمة «سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ» ان (سبحان) کلمة تنزیه و ابراء للّه عزّ اسمه عما لا یلیق به من الصفات، و قد یراد به التعجب، یعنی: سبحان الذی سیّر عبده محمدا (ص)، و هو عجیب من قدرة اللّه تعالی و تعجیب ممن لم یقدر اللّه حق قدره و اشرک به غیره.
و سری باللیل، و أسری بمعنی، و قد عدیّ هنا بالیاء، و الوجه فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 76
التأویل انه اذا کان مشاهدة العجب سببا للتسبیح صار التسبیح تعجبا، فقیل (سبّح) ای عجب. و (لیلا) قالوا کان ذلک اللیل قبل الهجرة بسنة.
(من المسجد الحرام) و قال اکثر المفسرین:
أسری برسول اللّه (ص) من دار ام هانی أخت علی بن ابی طالب و زوجها هبیرة بن ابی وهب المخزومی. و کان نائما فی تلک اللیلة فی بیتها
و فی روایة عن ام هانی ابنة ابی طالب: ما أسری به الا من بیتنا، نام عندنا تلک اللیلة. صلی العشاء ثم نام، فلما کان قبل الفجر أنبهناه للصبح، فقام، فلما صلی الصبح قال:
«یا ام هانی، لقد صلیت معکم العشاء کما رأیت بهذا الوادی ثم قد جئت بیت المقدس فصلیت فیه. ثم صلیت الغداة معکم» و تصلح هذه الروایة و ما بعدها لأن تکون سندا لمن یقول بالعروج الروحانی
و أنزل اللّه عز و جل: «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْیَا الَّتِی أَرَیْناکَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ »
و قول اللّه عن الاسراء (لیلا) معناه بعض اللیل. علی تقلیل وقت الاسراء
و عن الحسن: صلی النبی (ص) المغرب فی المسجد الحرام ثم أسری به الی بیت المقدس فی لیلة. ثم رجع فصلی الصبح فی المسجد الحرام .
و المراد بالمسجد الحرام هنا مکة، و ان مکة و الحرم کلها مسجد.
و قال الحسن و قتادة: کان الاسراء من نفس المسجد الحرام الی (المسجد الاقصی) یعنی بیت المقدس، و انما قال الاقصی. لبعد المسافة بینه و بین المسجد الحرام (الذی بارکنا حوله) و قد مرّ بنا المراد من قوله تعالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 77
(الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ) أی جعلنا البرکة فیما حوله بأن جعلناه مقر الانبیاء، و مهبط الملائکة (عن مجاهد) و بذلک صار البیت مقدسا عن الشرک لانه لما صار متعبدا للانبیاء، و دار مقام لهم تفرق المشرکون عنهم فصار مطهرا من الشرک، اما التقدیس فهو التطهیر و قد مر کذلک ذکره، و قد اجتمعت فیه برکات الدین و الدنیا
اما وسیلة الاسراء فهی دابة اکثر الرواة من وصفها، و جاء فی کتاب الأنس الجلیل علی لسان النبی (ص) قال: أتیت بالبراق، و هو دابة ابیض طویل فوق الحمار و دون البغل، یضع حافره عند منتهی طرفه، قال:
فرکبته حتی اتیت بیت المقدس فربطته بالجلفة التی تربط بها الانبیاء.
و روی ابن سعد فی الطبقات الکبری فقال: قال النبی (ص): و خرج معی جبرائیل لا یفوتی و لا افوته حتی انتهی بی الی بیت المقدس فانتهی (البراق) الی موقفه الذی کان یقف فربطه جبرائیل، و کان مربط الانبیاء قبل رسول اللّه (ص)
و حین بلغ النبی (ص) بیت المقدس کما تقول الروایة صلی هناک، و قد تلقاه ابراهیم (ع) فبشر له فی رهط من الانبیاء، و فی روایة قال الرسول (ص) و رأیت الانبیاء جمعوا لی فرأیت ابراهیم، و موسی، و عیسی فظننت انه لا بد ان یکون لهم امام فقدّمنی جبریل حتی صلیت بین ایدیهم و سألتهم فقالوا بعثنا بالتوحید .
و فی روایة اخری: قال النبی (ص):
احد اروقة المسجد الاقصی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 78
فلما دخلت المسجد اذا بالانبیاء و المرسلین قد حشروا الی من قبورهم، و مثلوا لی و قد قعدوا صفوفا صفوفا ینتظرونی فسلموا علی، فقلت:
- یا جبرائیل من هولاء القوم؟
قال- اخوانک الانبیاء و المرسلون،- ثم قال-: لقد زعمت قریش ان للّه شریکا فاسأل هولاء النبیین: هل کان للّه شریکا؟
ثم قرأ «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً یُعْبَدُونَ».
و قد قیل ان هذه الآیة نزلت علی النبی (ص) ببیت المقدس لیلة الاسراء ثم قال النبی (ص) ثم جمعهم جبرائیل و قدمنی فصلیت بهم رکعتین .
و تقول روایة ابن سعد فی الطبقات ثم أخذ جبرائیل بید الرسول الی (الصخرة) فاقعده علیها و من هناک ابتدأ عروجه الی السماء.
اما تاریخ الاسراء و العروج فقد کان لیلة سبع عشرة من شهر ربیع الاول، و قبل الهجرة بسنة واحدة و من شعب ابی طالب الی القدس .

العروج إلی السماء

و من بیت المقدس و من فوق الصخرة تم العروج الی السماء.
و عرج فی الدرجة و السلّم یعرج عروجا، ای ارتقی، و عرج فی الشی‌ء عروجا رقی، و عرج الشی‌ء فهو عریج، ارتفع و علا.
و فی التنزیل: تعرج الملائکة و الروح الیه، ای تصعد، و قیل: معارج الملائکة و هی مصاعدها التی تصعد فیها، و تعرج فیها، و قال الفرّاء: ذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 79
قبة الصخرة المبارکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 80
المعارج من نعت اللّه لان الملائکة تعرج الی اللّه، فوصف نفسه بذلک، و المعرج: المصعد، و المعرج: الطریق الذی تصعد فیه الملائکة.
و المعراج: شبه سلم او درجة تعرج علیه الارواح اذا قبضت، و المعراج السلم، و منه لیلة المعراج .
و الروایات تشیر الی النبی (ص) و قد اسری به لیلا الی المسجد الاقصی و عروجه الی السماء فی تلک اللیلة و تصف هذه الروایات ما شاهد النبی فی السموات مما لا یدخل ذکره فی موضوعنا ثم یسهب الشعراء فی وصف المعراج و العروج و یقیم الکثیر من المسلمین فی ذکری لیلة المعراج من کل سنة احتفالات بهذه المناسبة تتلی فیها قصة الاسراء و المعراج و ما قیل فی ذلک من الشعر کقول الشاعر:
و رسول اللّه قد قال لنالیلة المعراج لما صعده
وضع اللّه بکتفی یده‌فاحسّ القلب ان قد برّده .. الخ
و عند العودة من السماء روی الراوون علی لسان النبی (ص) انه قال: ثم حملنی جبرائیل حتی انزلنی علی جبل بیت المقدس، و اذا (بالبراق) واقف علی حاله، فی موضعه، فسمیت اللّه، و استویت علی ظهره، وعدت الی مکة، و هناک تحدث النبی (ص) للناس بمسراه هذا الی بیت المقدس، و وصف لهم الطریق الی المسجد، کما وصف لهم المسجد و ما شاهد فیه و رأی فی طریقه الی السماء و عودته الی القدس.

هل کان عروج النبی روحیا أم جسدیا

و قد جری فی قضیة الاسراء و العروج نقاش اشار الیه المفسرون فهناک من یری بان الاسراء و العروج کان فی المنام و ان ما رأی النبی لم یکن الا حلما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 81
و یؤید المؤرخون الذین یعتمدون الأثر و المادة فی بحوثهم اولئک القائلین بأن الاسراء و العروج کان روحیا و کان فی المنام، و لهم علی ذلک استدلالات تخالف مبانی العقیدة اذ ان العقیدة شی‌ء آخر لا یرضخ للفلسفة و لما تبانت علیه القلة من المفسرین و المؤرخین، لذلک فان عقیدة الاغلبیة من المفسرین تری ان الاسراء و العروج قد جری فی یقظة من النبی (ص) دون منامه، و لهم فی ذلک احتجاجات یوردونها فی تفاسیرهم
و یشیر الطبرسی فی تفسیره الی هولاء القائلین بالاسراء و العروج الروحی و یتلخص قوله: بان هناک من قال بان الاسراء بالنبی من المسجد الحرام (ای مکة) الی المسجد الاقصی (ای بیت المقدس) فی لیلة واحدة ثم رجوع النبی الی مکة فی نفس اللیلة و قد صلی الصبح فی المسجد الحرام کان ذلک فی النوم و لم یکن فی الیقظة، و ان عروجه من بیت المقدس الی السماء کان عروجا روحیا ای لم یکن ذلک فی الیقظة، کما یراه اولئک.
اما الشیخ احمد الاحسائی و هو شیخ طائفة الشیخیة و من المتأخرین فهو یری: ان للانسان جسدین احدهما (هورقلیائی) و الثانی (صوری) فالاول منهما هو الجسد اللطیف الذی یمثل مادة الانسان الثابتة أی جوهره الاصیل کما یمثل المعدن مادة الشی‌ء المعمول منه، اما الجسد (الصوری) فهو الذی یتکون من الاجزاء الفضلیة، و الکثافات العرضیة الموجودة فی بدن الانسان و هی کثافات تکدر البدن و تمنع من صفائه و لطافته، و یعتقد الشیخ احمد ان النبی حین عرج الی السماء فی لیلة الاسراء لم یصعد بجسده (الصوری) الکثیف بل صعد بجسده (الهورقلیائی) .
و عن عائشة ان عروج النبی کان روحیا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 82
و یسوق الاغلبیة من المفسرین علی اختلاف مذاهبهم الادلة المستندة الی العقیدة بأن اسراء النبی و عروجه کان جسدیا و کان فی الیقظة و علی هذا الرأی کان الطبرسی و هو من کبار المفسرین.
و سواء کان الاسراء و العروج فی الیقظة و هو ما تعتقد به الاکثریة من المذاهب الاسلامیة او کان روحیا و فی المنام کما تقول به الاقلیة من المفسرین فان ذلک لا یقلل من اهمیة الارض المقدسة و بیت المقدس و الصخرة فی عقیدة الاسلام و المسلمین قاطبة، ان لم یضف الی بیت المقدس قدسیة اخری تکفی ان تجعل النبی (ص) محمدا یفکر فیها، و یشیر الیها، و یهتم بها، سواء کان اسراؤه و عروجه جسدیا ام روحیا.

فتح الإسلام (لایلیاء) القدس

الی هنا و کل علاقة الاسلام بالقدس کانت علاقة روحیة اقتصرت علی تمجید القدس بالروح و العقیدة، و حین تم فتح الاسلام للقدس و دخول المسلمین الیها صارت تلک العقیدة طقوسا عملیة یقوم بها المسلمون عند دخولهم المسجد الاقصی و زیارة قبور الانبیاء فیتبرکون بالصلاة فی المسجد الاقصی و یؤدون مراسیم الزیارات المأثورة عن الأئمة، و یتلون الدعوات فی بقاعها المبارکة، و یتقربون الی اللّه فی مواضعها المقدسة، و ینزلونها فی الاسلام المنزلة الثالثة فی التقدیس بعد المسجد الحرام فی مکة، و مسجد النبی فی المدینة، بصفتها بیت اللّه الذی صلی الیه النبی (ص) و المسلمون اول ما صلّوا.
و فی قصة فتحها من قبل جیوش المسلمین روایات تتلخص فی حصار المسلمین للمدینة و وقوع بعض المعارک حول اسوارها تحت قیادة ابی عبیدة فقبلت القدس الصلح علی شریطة ان یتم ذلک علی ید الخلیفة الثانی عمر بن الخطاب (ض) و ان یحضر الخلیفة نفسه عقد هذا الصلح، فکتب ابو عبیدة الی الخلیفة ابن الخطاب (ض) بذلک، و تکثر الروایات فی کیفیة تلقی الخلیفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 83
هذا الطلب، و جاء فی کتاب الانس الجلیل: ان عمر بن الخطاب حین تلقی کتاب ابی عبیدة استشار رؤساء المسلمین فی أمر حضوره تسلیم القدس و تعهده وجاها لسکانها المسیحیین، فقال له عثمان:
ان اللّه قد أذلّهم، و حصرهم، و ضیق علیهم، و هم فی کل یوم یزدادون نقصا و هزالا، و ضعفا و رعبا، فان انت أقمت و لم تسر الیهم رأوا انک بامرهم مستخفّ، و لشأنهم حاقر غیر معظم، فلا یلبثون الا قلیلا حتی ینزلوا علی الحکم و یعطوا الجزیة.
فقال عمر (ض) ما ترون؟ هل عند احد منکم رأی غیر هذا؟ فقال علی بن ابی طالب (ع):
- نعم عندی غیر هذا الرأی.
قال- ما هو؟
قال- انهم قد سألوا المنزلة التی فیها الذل لهم و الصغار، و هو علی المسلمین فتح و لهم فیه عزّ، و هم یعطونکها الان فی العاجل فی عافیة لیس بینک و بین ذلک الا ان تقدم علیهم، و لک فی القدوم علیهم الأجر فی کل ظمأ و مخمصة، و فی قطع کل واد، و فی کل نفقة، حتی تقدم علیهم، فاذا انت قدمت علیهم کان الأمن، و العافیة، و الصلاح، و الفتح، و لست آمن إن آیسوا من قبولک الصلح منهم ان یتمسکوا بحصنهم فیأتیهم عدو لنا، أو یأتیهم منهم مدد، فیدخل علی المسلمین بلاء، و یطول بهم حصار، فیصیب المسلمین من الجهد و الجوع ما یصیبهم، و لعل المسلمین یدنون من حصنهم فیرشقونهم المدخل الی القبر المقدس من کنیسة القیامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 84
بالنشّاب، او یقذفونهم بالمناجیق، فان اصاب بعض المسلمین تمنیتم انکم افتدیتم قتل رجل من المسلمین بمشرک الی منقطع التراب و کان المسلم لذلک من اخوانه اهلا» .
و اخذ عمر (ض) بهذا الرأی و استخلف علی بن ابی طالب (ع) مکانه فی المدینة و سار نحو ارض الشام، و صالح أهل (ایلیاء) بالجابیة و کتب لهم فیها الصلح لکل کورة کتابا واحدا ما خلا اهل (ایلیاء) فقد خصوا بعهد مستقل.
و کان ذلک فی سنة 636 م الموافق 15 هجریة، و کان قیل بل انه کان فی ربیع الآخر سنة 16 هجریة و استقبل الخلیفة عمر استقبالا عظیما من لدن البطارقة و القسس و الرهبان و علی رأسهم (صفرونیوس) کبیر البطارقة .
و عن ابی مریم مولی سلامة، قال: شهدت فتح ایلیاء (القدس) مع عمر رحمه اللّه فسار من (الجابیة) فاصلا حتی یقدم ایلیاء ثم مضی حتی یدخل المسجد، و کان اول ما طلب ان یراه هو مسجد داود، فیقول ابو مریم.
ثم مضی نحو محراب داود و نحن معه فدخله، ثم قرأ سجدة داود فسجد و سجدنا معه .
و حین زار عمر الصخرة رفع عنها الادران، و أمر ببناء مسجد علیها و سمی (بمسجد عمر) و زار کنیسة القیامة، و اباح الدخول الی هذه المدینة للزوار من مختلف الادیان و استثنی من اولئک الیهود کما جاء فی العهد الذی سیأتی.

نص العهد الذی اعطاه الإسلام للقدس

و من نصوص العهد الذی اعطاه الخلیفة عمر بن الخطاب (ض) لاهل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 85
القدس و مقارنته بالعهد الذی اعطی لاهل الشام تتبین مکانة القدس فی الاسلام و عقیدته باجلی صورها و یکفی هذا العهد وحده لیحکی نظرة الاسلام للقدس، و منزلة القدس فی صلب الدیانة الاسلامیة و معتقداتها، و اهمیتها و اهمیة ساکنیها من المسیحیین عند المسلمین باستثناء الیهود.
«بسم اللّه الرحمن الرحیم: هذا ما اعطی عبد اللّه عمر امیر المؤمنین اهل (إیلیاء) من الامان، أعطاهم أمانا لانفسهم، و اموالهم، و لکنائسهم، و صلبانهم، و سقیمها، و بریئها، و سائر ملتها: انه لا تسکن کنائسهم، و لا تهدم، و لا ینتقص منها، و لا من حیّزها، و لا من صلیبهم، و لا من شی‌ء من اموالهم، و لا یکرهون علی دینهم، و لا یضار أحد منهم، و لا یسکن (بایلیاء) معهم احد من الیهود، و علی اهل (إیلیاء) أن یعطوا الجزیة کما یعطی اهل (المدائن) و علیهم ان یخرجوا منها الروم و اللصوص، فمن خرج منهم فانه آمن علی نفسه، و ماله. حتی یبلغوا مأمنهم، و من أقام منهم فهو آمن، و علیه مثل ما علی اهل (ایلیاء) من الجزیة، و من أحب من اهل (ایلیاء) ان یسیر بنفسه و ماله مع الروم و یخلی بیعهم، و صلبهم فانهم آمنون علی انفسهم، و علی بیعهم و صلبهم حتی یبلغوا مأمنهم، و من کان بها من اهل الارض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد، و علیه مثل ما علی اهل (ایلیاء) من الجزیة، و من شاء سار مع الروم، و من شاء رجع الی اهله فانه لا یؤخذ منهم شی‌ء حتی یحصد حصادهم.
و علی ما فی هذا الکتاب عهد اللّه و ذمة رسوله، و ذمة الخلفاء و ذمة المؤمنین اذا اعطوا الذی علیهم من الجزیة».
شهد علی ذلک خالد بن الولید، و عمرو بن العاص، و عبد الرحمن بن عوف، و معاویة بن ابی سفیان و کان ذلک سنة 150 هجریة و قیل بل کان ذلک سنة 16 هجریة کما مرت الاشارة الیه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 86

عهد الخلیفة عمر لاهل الشام

و سکان الشام فی غالبیتهم کسکان القدس مسیحیون فی الغالبیة و لکن التفاوت الحاصل بین العهدین العهد الذی اعطی لاهل القدس و العهد الذی اعطی لاهل الشام لیس ناشئا مما ابدت الشام من صلابة فی محاربة المسلمین قبل الصلح و ان یکن مثل هذا عاملا من عوامل التشدد و القسوة فی الشروط، و لکن العامل الکبیر فی استجابة الخلیفة عمر (ض) طلب سکان القدس و حضوره الصلح بنفسه، و منحهم الحریة الکاملة و ما اجراه من تساهل ملحوظ إنما یعود لما لهذه المدینة من منزلة سامیة فی الاسلام و مکانة کبیرة فی عقیدة المسلمین بالاضافة الی تعزیز القرآن للمسیحیین و الثناء علیهم کما جاء فی الآیة الکریمة.
«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ وَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنَّا نَصاری ذلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ».
و لتبیین الفروق الکبیرة بین العهد الذی اعطی لاهل القدس و العهد الذی اعطی لاهل الشام نثبت هنا عهد عمر (ض) لاهل الشام.
«عن عبد الرحمن بن غنم، قال: کتب لعمر بن الخطاب (ض) حین صالح نصاری اهل الشام:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، هذا ما کتب لعبد اللّه عمر بن الخطاب أمیر المؤمنین من نصاری مدینة کذا و کذا: انکم لما قدمتم علینا سألناکم الأمان لانفسنا و ذرارینا، و اموالنا، و اهل ملتنا، و شرطنا لکم علی انفسنا ان لا نحدث فی مدینتنا و لا فیما حولها دیرا و لا کنیسة، و لا قلایة، و لا صومعة راهب، و لا نحیی منها ما کان فی خطط المسلمین، و لا نمنع کنائسنا ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 87
ینزلها احد من المسلمین فی لیل او نهار، و ان نوسع ابوابها للمارة و ابن السبیل، و ان ننزل من مرّ من المسلمین ثلاث لیال نطعمهم و لا نواری فی کنائسنا، و لا فی منازلنا جاسوسا، و لا نکتم غشا للمسلمین، و لا نعلم اولادنا القرآن، و لا نظهر شرکا، و لا ندعو الیه احدا، و لا نمنع احدا من ذوی قرابتنا الدخول فی الاسلام ان اراده، و ان نوقّر المسلمین، و نقول لهم من مجالسنا اذا ارادوا الجلوس، و لا نتشبّه بهم فی شی‌ء من لباسهم فی قلنسوة و لا عمامة و لا نعلّین و لا فرق شعر، و لا نتکلم بکلامهم، و لا نتکنّی بکناهم، و لا نرکب السروج، و لا نتقلد السیوف، و لا نتخذ شیئا من السلاح، و لا نحمله معنا، و لا ننقش علی خواتمنا بالعربیة، و لا نبیع الخمور، و ان بخزّ مقادم رؤوسنا، و ان نلزم زینا حیثما کنا، و ان نشد زنانیر علی اوساطنا، و لا نظهر الصلیب علی کنائسنا، و لا نظهر صلباننا، و لا کتبنا فی شیئ من طرق المسلمین، و لا فی اسواقهم، و لا نضرب نواقیسنا فی کنائسنا الا ضربا خفیفا، و لا نرفع اصواتنا مع موتانا، و لا نتخذ من الرقیق ما جرت علیه سهام المسلمین، و لا نطلع علیهم فی منازلهم».
قال: فلما أتیت عمر بن الخطاب (ض) بالکتاب زاد فیه: «و لا نضر باحد من المسلمین، شرطنا لکم ذلک علی انفسنا و اهل ملتنا و قبلنا علیه الامان فان نحن خالفنا شیئا مما شرطناه لکم و ضمنّاه علی انفسنا فلا ذمة لنا، و قد حلّ لکم منا ما حل من اهل المعاندة و الشقاق».
و قد روی هذا الامام البیهقی و غیره، و اعتمد أئمة الاسلام هذه الشروط و عمل بها الخلفاء الراشدون .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 88

فضائل اخری

و فضائل أخری أضیفت الی القدس بعد الفتح الاسلامی زادت من تمسک المسلمین بهذه المدینة و احلالها من العقیدة المحل الأسمی.
فعن رجاء بن حیواة عمن شهد دخول عمر بن الخطاب (ض) بیت المقدس قال:
لما شخص عمر من (الجابیة) الی (ایلیاء) فدنا من باب المسجد قال ارقبوا لی کعبا، فلما انفرق به الباب قال: لبّیک اللهم لبیک، بما هو أحبّ الیک.
ثم قصد المحراب محراب داود علیه السلام و ذلک لیلا فصلی فیه، و لم یلبث ان طلع الفجر فأمر المؤذن بالاقامة فتقدم فصلی بالناس و قرأ بهم (ص) و سجد فیها ثم قام و قرأ بهم فی الثانیة: (صدر بنی اسرائیل) ثم رکع ثم انصرف .
و فی روایة ان عمر بن الخطاب (ض) قد خطب بعد دخول القدس بالمسلمین و ذلک قبیل رجوعه الی المدینة، و حضرت الصلاة، فقال عمر لبلال الحبشی: ألا تؤذن لنا رحمک اللّه؟
قال بلال: یا امیر المؤمنین و اللّه ما أردت ان أؤذّن لأحد بعد رسول اللّه (ص) و لکن سأطیعک اذ أمرتنی فی هذه الصلاة وحدها، فلما اذّن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 89
بلال و سمعت الصحابة صوته ذکروا نبیهم فبکوا بکاء شدیدا، و لم یکن یومئذ اطول بکاء من ابی عبیدة، و معاذ بن جبل حتی قال لهما عمر: حسبکما رحمکما اللّه .
هذا مضاف الی بناء الحرم القدسی الشریف المشید علی جبل (موریا) من بیت المقدس و الذی یحوی المسجد الاقصی المبارک، و مسجد صخرة بیت المقدس، و الاثار الاسلامیة المنتشرة هنا و هناک و فی اطراف بیت المقدس، و مضاف لما قد شید من ابنیة و مساجد و معابد، مما صبغت القدس بصبغة اسلامیة عملیة تتمشی مع صبغتها الروحیة و قدسیتها الشریفة، ففی مکان قصر (هیرودس) الرومانی أنشی‌ء مقر للحکومة الاسلامیة بعد الفتح بقلیل ای فی القرن السابع المیلادی و ذلک بدلیل العثور علی سور مطمور یتصل به حصن مستدیر الشکل بنی علی طراز قصور الخلفاء الاولین کما نری نماذجها فی (الغور) و فی بادیة الشام، و التی یرجع تاریخها الی القرن الثامن للمیلاد و آخر القرن الاول للهجرة .
و کثرت المساجد، و کثر ملازموها من العباد و المتقربین الی اللّه ببیت المقدس، و دفن عدد کبیر من الاولیاء و احفاد الرسول فی تلک المساجد و من ذلک کان مسجد (الیقین) و بظاهره مغارة بها قبر فاطمة بنت الحسن بن علی بن ابی طالب (ع).
قال القاضی مجیر الدین الحنبلی: و عند قبرها رخامة مکتوب علیها بالکوفی.
داخل قبة الصخرة بیت المقدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 90 أسکنت من کان فی الاحشاء مسکنه‌بالرغم منی بین الترب و الحجر
أفدیک فاطمة بنت ابن فاطمةبنت الأئمة بنت الانجم الزهر
و جاء فی شعر ابن حجر العسقلانی قوله:
الی البیت المقدس جئت ارجوجنان الخلد نزلا من کریم
قطعنا فی مسافته عقاباو ما بعد العقاب سوی النعیم
و جاء فی شعر ابی العلاء المعری عن قدسیة القدس قوله:
یا شاکی النوب انهض طالبا حلبانهوض مضنی لحسم الداء ملتمس
و اخلع حذاک اذا حاذیتها ورعاکفعل موسی کلیم اللّه فی القدس
و من ابداع اقوال المتأخرین قول احمد شوقی فی القدس:
بلد علی ارض الهدی و سمائه‌المجد حائطه و رأس بنائه
بلد بنوه الاکرمون قبورهم‌و قصورهم وقف علی نزلائه
و قول جورج صیدح عن القدس اذ یقول:
سلی سماء شعوب الارض هل بلغت‌ما فی ثراک من الامجاد و العظم
طلعت فجرا علی التاریخ فاض سناو ما جزیت بغیر الظلم و الظلم
أیجحد الغرب من باللّه عرفه‌و کان إیمانه بالسیف و الصنم
الی غیر ذلک الکثیر من الشعر و الذی یصور مکانة الارض المقدسة فی نظر الاسلام و عقیدته من القدیم و الحدیث خیر تصویر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 91

من اهم الحوادث الرئیسیة فی تاریخ مدینة القدس

نحو سنة 1000 ق. م. اتخذ الملک داود مدینة القدس عاصمة لمملکته
960 ق. م. بنی الملک سلیمان هیکله.
587 ق. م. خراب القدس علی ید نبوخذ نصر و سبی الیهود الی بابل
539 ق. م. عودة الیهود من السبی.
520 ق. م. إعادة بناء الهیکل.
444 ق. م. اعادة بناء اسوار القدس علی عهد نحمیا.
170 ق. م. فتح الملک انطیوخوس أبیافانیس مدینة القدس و تدنیس الهیکل.
165 ق. م. ثورة المکابیین، و اعادة تدشین الهیکل.
من 40 الی 4 ق. م هیرودوس الکبیر بانی الهیکل الثالث و برج انطونیا و القصر الاعلی (و کان هذا الاخیر یشمل برج القلعة الشمالی الشرقی).
70 ب. م. خراب القدس علی ید الرومان، و اقامة حامیة رومانیة فی القصر الأعلی.
130 ب. م. أسس الامبراطور هادریانوس مستعمرة رومانیة فی القدس و دعاها إیلیا کابیتولینا
326 ب. م. شروع الامبراطور قسطنطین الکبیر بتشیید کنیسة القیامة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 92
نحو سنة 636 ب. م. الفتح الاسلامی.
691 ب. م. بناء قبة الصخرة المشرفة مکان الهیکل.
1099 ب. م. فتح الصلیبیین مدینة القدس و اتخاذ (برج داود) قصرا لملوکهم منذ 1100 م.
1187 ب. م. استرجاع القدس من قبل المسلمین تحت قیادة السلطان صلاح الدین الایوبی.
1239 ب. م. هدم تحصینات برج داود.
1260 ب. م. استیلاء الممالیک المصریین علی القدس.
من 1310 ب. م فصاعدا- اعادة بناء برج داود.
1516 ب. م. الفتح العثمانی.
1917 ب. م. الاحتلال البریطانی
1917 ب. م. وعد بلفور.
1948 ب. م. احتلال جانب من القدس من قبل اسرائیل.
1967 ب. م. احتلال القدس کاملا من قبل اسرائیل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 93

اهم مصادر هذا البحث

القرآن الکریم
التوراة- سفر التکوین- سفر الملوک
انجیل لوقا
کشف الآیات
تاریخ الیعقوبی
مروج الذهب- للمسعودی.
الطبقات الکبری- لابن سعد.
تاریخ الامم و الملوک- لابن جریر الطبری.
الکامل فی التاریخ- لابن الأثیر.
تفسیر التبیان- للشیخ الطوسی.
مجمع البیان- للطبرسی.
لسان العرب- لابن منظور.
تاج العروس- للسید مرتضی الحسینی الزبیدی.
القاموس- للفیروز آبادی.
دائرة معارف القرن العشرین- محمد فرید وجدی.
قصص الانبیاء- لعبد الوهاب النجار.
النهایة فی غریب الحدیث و الأثر لابن الأثیر.
معجم البلدان لیاقوت الحموی.
العصور القدیمة- لجیمس هنری بریستد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 94
موسوعة العتبات المقدسة- قسم مکة المکرمة- لجعفر الخلیلی.
العرب قبل الاسلام- لجرجی زیدان.
تاریخ الحضارات العام- تالیف طائفة من العلماء الفرنسیین من منشورات عویدات.
فلسطین فی ضوء الحق و العدل- تألیف المحامی هنری کتن، و ترجمة ودیع فلسطین.
کتاب الأنس الجلیل بتاریخ القدس و الخلیل- للقاضی مجیر الدین الحنبلی
البدایة و النهایة- لابی الفداء اسماعیل بن کثیر القرشی
تاریخ القدس- لعارف باشا العارف.
بطلان الاسس التی أقیم علیها وجود اسرائیل علی الارض العربیة للمحامی حسین جمیل.
دلیل قلعة القدس- تألیف س. ن. جونص.
الطریق الی فلسطین- لمحمد عنان.
لقاء عند بوابة مندلبوم- لاحمد فوزی عبد الجبار.
اهل العلم و الحکم فی ریف فلسطین- لاحمد سامح الخالدی.
اسطورة الشعب المختار- ترجمة الدکتور اکرم فاضل.
اسرائیل بنت بریطانیا البکر- لمحمد علی الزعبی.
انها لذکری- لشاکر البدری.
جریدة الحیاة البیروتیة.
مذاکرات الحاج امین الحسینی- مجلة فلسطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 95

حی المغاربة بالقدس کتبه عبد الهادی التازی

اشارة

خریج جامعة القرویین و الاستاذ بجامعة فاس سابقا و العضو بالمجمع العلمی و سفیر المملکة المغربیة ببغداد الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 97

حی المغاربة بالقدس

ارتبط تاریخ المغاربة بالقدس الشریف منذ اللحظات الاولی التی اعتنقوا فیها الاسلام کمذهب، و لهذا فقد شدّتهم الیه نفس الوشائج التی شدتهم الی کل من مکة المکرمة و المدینة المنورة فکان جلّهم یمر بالشام عند مقفله من الحج حتی ینعم برؤیة مسری النبی العربی و یحقق الاجر فی شدّ الرحلة الی المساجد الثلاثة ...
عرج علیه عشرات الاعلام ممن کانوا نبراسا یهتدی بهم فی الدیار المغربیة فکانوا یعطّرون بذکره المجالس، و کانوا یروون عن الایمة الذین صادفوهم هناک من امثال ابی بکر الطرطوشی و ابن الکازرونی و قد اجتمع بهما فخر المغرب القاضی ابو بکر ابن العربی الذی رافق والده الامام عبد اللّه فی سفارته الی المستظهر باللّه العباسی من قبل یوسف بن تاشین ..
و من امثال القاضی بدر الدین محمد بن ابراهیم بن سعد ابن جماعة الذی حضر مجلسه الرحالة المغربی النقاد العبدری 689 (1290- 1291) و أمثال محمد بن سالم الغزی و عماد الدین النابلسی و شهاب الدین الطبری و محمد ابن مثبت الغرناطی ممن کانوا علی صلة بالرحالة المغربی الشهیر ابن بطوطة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 98
و من امثال ابی الحسن الواسطی و ابی عبد اللّه محمد بن سالم الکنانی و ابی البرکات زین الدین و علی ابن ایوب المقدسی و شمس الدین الخولانی و محمد بن نباتة الذین اتصلوا بالکاتب المغربی خالد البلوی ...

سفارة ابن منقذ الی المغرب

کانت سمعة الاساطیل التی کان المغرب یتوفر علیها قد وصلت الی الدیار المشرقیة و بخاصة ایام دولة الموحدین الذین انشأوا لهم «دار الصنعة» المختصة بانشاء الاساطیل البحریة و المراکب الجهادیة
و بما ان الفرنج ملکوا سواحل الشام اواخر الدولة الفاطمیة، و ملکوا معها بیت المقدس فقد صارعهم صلاح الدین الایوبی و افتتح البیت حوالی سنة 583 ه (1187- 1188 م).
و عندئذ انقضت امم النصرانیة من کل جهة علی سواحل الشام شأنها فی المغرب عند ما تحالفت علی الاجهاز علی الوجود الاسلامی بالاندلس ...
لقد اعترضوا اسطول صلاح الدین فی البحر و لم تتمکن اساطیل الاسکندریة آنذاک لصد الغزو الصلیبی نظرا لضعفها و قلة عددها.
و من هنا وردت فکرة الاستغاثة باسطول المغرب الذی کان یهیمن علی مسالک البحر الابیض المتوسط ..
و کان أن بعث القائد صلاح الدین الی السلطان یعقوب المنصور سنة 586 (1190- 1911 م) یطلب اعانته بالاساطیل لمنازلة عکا، و صور، و طرابلس الشام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 99
و قد أوفد علی رأس هذه البعثة المهمة الامیر ابا الحرث عبد الرحمن بن منقذ الشیزری ، طالبا «ان تحول القوات المغربیة فی البحر بین اساطیل الفرنج و بین امداد النصرانیة بالشام من الجهات الاخری.»
و قد بعث صلاح الدین بهدیة تشتمل علی مصحفین کریمین منسوبین، و وزن مائة درهم من عطر البلصان، و عشرین رطلا من العود القماری و ستمائة مثقال من المسک و العنبر و خمسین قوسا عربیة بأوتارها، و عشرین من النصول الهندیة مع عدة من السروج المثقلة ...
و قد وصلت السفارة فعلا الی الدیار المغربیة فصادفت المنصور بالاندلس فی عملیة عسکریة لقمع الاعتداءات التی اخذت تتوالی علی المدن الاندلسیا و جعل حدّ للزّحف الصلیبی الذی اخذ یستفحل بعد انکسار و بذة عام 567 .
و انتظر السفیر ابن منقذ بمدینة فاس عودة السلطان المنصور الذی طیّر الیه الخبر عن طریق الرقاصة المغاربة.
و قد کان یوم استقبال الوفد یوما مشهودا بفاس العاصمة الاولی للدولة المغربیة.
هناک تسلم العاهل المغربی الرسالة الأیوبیة التی کانت من انشاء الادیب عبد الرحیم البیسانی المعروف بالقاضی الفاضل .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 100
لقد کانت دیباجة الکتاب «من الفقیر الی اللّه تعالی یوسف ابن ایوب صلاح الدین الی امیر المسلمین .. و بعده: «الحمد للّه الذی استعمل علی الملة الحنیفیة من استعمر الارض و اغنی من أهلها من سأله القرض، و اجری من اجری علی یده النافلة و الفرض، و زین سماء الملة بدراری الذراری التی بعضها من بعض ... و هو کتاب طویل ...
و کان السفیر ابن منقذ مدح السلطان المنصور بقصیدة طویلة کذلک من اربعین بیتا کان من حملة ابیاتها:
سأشکر بحرا ذا عباب قطعته‌الی بحر جود ما لأخراه ساحل!
الی معدن التقوی الی کعبة الندی‌الی من سمت بالذکر منه الاوائل
الیک أمیر المؤمنین و لم تزل‌الی بابک المأمول تزجی الرواحل
قطعت الیک البر و البحر موقنابان نداک الغمر بالنجح کافل
و حزت بقصدیک العلا فبلغتهاو ادنی عطایاک العلا و الفواضل
فلا زلت للعلیاء و الجود بانیاتبلغک الآمال ما انت آمل!
و قد ابتهج السلطان المنصور بسفیر صلاح الدین و حمله علی «مباهج البر و الکرامة» کما تقول المصادر المغربیة، و اعجب بشخصیة الامیر ابن منقذ و اکرمه باربعین الف دینار.
و بالرغم من بعض المؤاخذات التی کانت للسلطان یعقوب علی الامیر صلاح الدین بسبب تسریح هذا الاخیر مولاه قراقوش لبلاد المغرب سنة 568 (1172- 1173) لمحالفة خصوم الموحدین و التشغیب علیهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 101
بالرغم من ذلک جهز له بعد ذلک بمائة و ثمانین اسطولا کان لها اثر قوی علی منع النصاری من سواحل الشام کما یقول ابن خلدون .
و ان الذی یعرف غیرة المنصور الموحدی و تفانیه فی ساحات الجهاد و یعرف مع ذلک حاجة الاندلس بالذات تلیقظة الزائدة و الحرکة المطردة لیدرک جیدا تضحیة المنصور بل مغامرته بارسال مثل هذا العدد من الاساطیل الجهادیة الی اقصی جهات المتوسط.
و لعل احسن تعبیر أدّته الشام اعترافا بجمیل العاهل المغربی هو ذلک المشهد الذی اقاموا له علی مقربة من دمشق علی ما عند ابن خلکان ...
و معلوم ان ذلک العدد من المراکب لم یأخذ طریقه دون عسکر مدرب و دون متطوعین و مرشدین و مجاهدین و بهذا نفسر التحاق عدد من المغاربة بالشام کان فیهم الصناع و العمال و الفقهاء من امثال ابی الحجاج یوسف بن محمد المعروف بابن الشیخ غزا بالمغرب مع الموحدین، و بالشام مع صلاح الدین .
و عند ما حقق صلاح الدین آماله فی إبعاد الخطر عن بیت المقدس اذن لمن یرید من المغاربة بالعودة الی دیارهم لکنه کان بحاجة الی بعض منهم ممن کانوا یفضلون بدورهم البقاء بالشام استعدادا للطواری‌ء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 102
و من هنا کانت کذلک مدرسة المالکیة و مسجد المغاربة الذی تحدث عنه خالد البلوی الاندلسی منذ سنة 738 (1337- 1338 م) کما تحدث عنه ذو الوزارتین السفیر ابو القاسم الزیانی فی مطلع القرن الثالث عشر الهجری .
*** لکن کل هذا لم یکن کافیا لتمرکزهم بالقدس فقد کان علی دولة بنی مرین التی ورثت دولة الموحدین ان تقوم باول محاولة من نوعها فی سبیل تملک العقار بتلک الدیار، و کأنها تنبهت لما یهدد البیت الحرام من غزو آخر یکون علی شکل تملک اراضی تلک البقاع ...
و هکذا نجد السلطان ابا الحسن علیا بن عثمان یخصص سنة 738 (1337- 1338) ستة عشر الفا و خمسمائة دینار ذهبی لشراء الرباع فی الحرمین و القدس ...
و حتی یعرب الملوک المغاربة عن تعلقهم بتلک الرحاب قاموا انفسهم بنسخ ثلاثة مصاحف کبری بخط ایدیهم لیجعلوها فی خزائن تلک العتبات المقدسة تذکیرا باهمیة التربة و تعبیرا ...
و کما کان الشأن فی مصحف مکة عام 738 (1337- 1338) و مصحف المدینة عام 740 (1339- 1340) فقد قام السلطان ابو الحسن عام 745 (1344- 1345) بانتساخ المصحف بیده و جمع الوراقین لتنمیقه و تذهیبه، کما احضر القراء لضبطه و تهذیبه، وضع له ظرفا مؤلفا من الابنوس و العاج و الصندل و غشّاه بصفائح الذهب و غلفه من فوق برقاع من الحریر و الدیباج ...
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 104
و قد وهم ابن خلدون عند ما ذکر ان ابا الحسن ادرکته وفاته قبل الفراغ من نسخها. فقد بعث بهذا المصحف الجمیل الی ابی الفداء اسماعیل بن الملک الناصر محمد ابن قلاوون، بواسطة احد سفرائه اللامعین: هو ابو الفضل ابن ابی عبد اللّه بن ابی مدین عند ما توجهت الامیرة مریم الی الدیار المقدسة ...
و قد ذکر المقری صاحب نفح الطیب انه رأی المصحف الذی ببیت المقدس و رأی ربعته (یعنی ظرفه) و هی فی غایة الصنعة.
و قد استمر هذا المصحف ببیت المقدس الی السنوات الاخیرة حیث وقفت علیه یوم ثانی شتنبر من عام تسعة و خمسین و تسعمائة و الف، و قرأت علیها اسم «عبد اللّه علی» و تاریخ 745 ...
*** و استمرت صلة الدولة المغربیة بتلک البقاع لیس فقط لما تتمتع به من قداسة و لکن لان عددا مهما من المواطنین المغاربة ارتبط بتلک الدیار فکان جسرا شریفا بین مغرب الاسلام و مشرقه، و لهذا فلا عجب ان نجد السلطان أبا العباس احمد المنصور السعدی یستقبل فی قصره بالمغرب عددا من علماء مکة و المدینة و بیت المقدس. و هکذا نجد الفقیه امام الدین ابن محمد بن یوسف ابن علاء الدّین بن قاسم البطائحی الخلیلی الاشعری یرتبط ببیت المقدس لدرجة تجعله- بالرغم مما لقیه فی بلاط ابی العباس من کرم الضیافة و لطف المعشر- یعبر عن شوقه الی تلک الرحاب:
اهلی بارض القدس ینتظروننی‌قد مسهم الم النّوی ببعادی
لی طفلة کلف الفؤاد بحبهاو تشتتت لفراقها اکبادی
***
جست الاراضی و اختبرت ملوکهاو لقیت من فیها من الامجاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 105 ما شاهدت عینای مثلک فی الوری‌تتبین الاشیاء بالاضداد
بل جودکم عمّ الانام و قدرکم‌أربی علی المأمون فی بغداد
*** و کما کان الشأن فی العهود السابقة فاننا نجد الامر کذلک بالنسبة فی العصور اللاحقة حیث ظل القدس مزار المغاربة یقصدونه جیئة و ذهابا سواء أکان اتجاههم نحو الحجاز مع رکب الحاج او نحو اسطنبول فی مهمات سیاسیة کما ظلت فکرة تملک العقار بالبقاع المقدسة فی صدر اهتمام الملوک المغاربة.
و قد قرأنا عن الامیرة لالة خناثة زوجة السلطان المولی اسماعیل و ام السلطان المولی عبد اللّه وجدة السلطان محمد الثالث، قرأنا عنها اقتناءها العقار بالبقاع المقدسة و صرفها ما یناهز الالف مثقال ذهب مطبوعة فی ذلک و تعیینها ناظرا للسهر علی ریع الوقف و توزیع فوائده .
و قد اهتم الملوک العلویون بامر جالیتهم فی القدس فوجه السلطان المولی عبد اللّه بضعة و عشرین مصحفا بخطوط جمیلة کان منها ما نال ثالث الحرمین
کما ان السلطان محمد الثالث وقف عددا من المخطوطات علی الحرمین و بیت المقدس بالنظر لتکاثر المغاربة هناک و تمکنهم من جل مرافق المدینة.
و قد امسی المسجد الاقصی بمثابة مزارة مغربیة لا تختلف عن مشهد المولی ادریس الاکبر بمدینة زرهون او ادریس الازهر بمدینة فاس، الامر الذی یفسره الاهتمام بنشر قرارات الدولة فی تلک المراکز علی نحو نشرها بالدیار المغربیة لما ان الحالیات المغربیة تتواجد بکثرة فی تلک البقاع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 106
و من هناک کثر المغاربة و اخذوا یجدون لهم فروعا فی شتی جهات فلسطین، و مع انهم امتزجوا بباقی الاسر المتواجدة هناک فانهم ظلوا ملتفین بعضهم بعضا محتفظین بعاداتهم و تقالیدهم فی المطعم و الملبس متخذین جلهم من المذهب المالکی مرجعا لهم کما هو الشأن بالمغرب الاقصی و متخذین فوق ذلک وکیلا لهم یدافع عن مصالحهم و یرعی حقوقهم و یقوم بتوزیع المساعدات التی استمرت تصل الفقراء و المحتاجین منهم من الدیار المغربیة.
و بالرغم من انه لا یضبط تاریخ محدد لتأسیس حی المغاربة و لا للباب الذی یحمل اسم باب المغاربة مما یتصل بالحی المذکور، بالرغم من ذلک فان سائر القرائن تدل علی انه من الاحیاء القدیمة جدا التی یرجع تاریخها الاول لعهد صلاح الدین الایوبی- إن لم یسبق ذلک التاریخ- و قد جددت دون شک بعض جهاته ایام السلطان سلیمان القانونی ...
و یعتبر حیّ المغاربة برمته من الاوقاف الخیریة المغربیة، و هو یقع فی الجزء الجنوبی الغربی من المدینة القدیمة، و یلاصق المسجد الاقصی و الصخرة و حائط المبکی (حائط البراق الشریف) شرقا، و الحی الیهودی غربا و سور القدس (باب المغاربة) جنوبا، و باب السلسلة المحکمة الشرعیة الاسلامیة شمالا ..
(انظر الرسم). و الحیّ یضم مائتین و خمسة و اربعین عقارا و یحتوی علی سبعمائة و ثلاثین شقة سکنیة و مسجدین و خمسة مخازن و یقع فی الحیّ بعض الابنیة الاثریة التی بناها الممالیک و اهمها قصر الامام، و جمیع تلک المنازل ملاصقة بعضها بعضا، و هی ابنیة قدیمة تشتهر بآبارها و غرفها الصغیرة نوعا ما، و جدرانها السمیکة حیث یصل سمک الجدار احیانا المیتر الواحد، کما تشتهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 107
بصغر مداخلها الرئیسیة کبقیة احیاء القدس القدیمة، و ببضع درجات نزولا.
و فی معظم تلک البیوت یوجد سرداب یؤوی الیه السکان فی فصول الصیف، و یختزنون فیه بعض المواد التی یتسرع الیها الفساد، و ان اکبر بیت فی حیّ المغاربة لا یتجاوز الطابقین و ثمان غرف الا ان العلامة الممیزة له عن بقیة الاحیاء کونه غیر مسقوف و لا وجود للقناطر فیه ...
و لا ینکر ان فی حیّ المغاربة بیوتا اصبحت غیر صالحة للسکنی بسبب تداعیها، و مع ذلک نجدها آهلة بسکانها المغاربة مع العلم ان هناک لجنة للاصلاح و الترمیم تشرف علیها الاوقاف الاسلامیة.
و من ابرز المعالم التی توجد فی الحیّ زاویة سیدی بومدین الغوث التی کانت تحتوی، فیما تحتوی علیه، سیفه الذی قیل انه کان یجاهد به ضدّ الصلیبیین احدی الحرافات الاسرائیلیة تهدم جانبا من حی المغاربة الملاصق للمسجد الاقصی المبارک یوم 14/ 6/ 1969
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 108
عند ما زار بلاد المشرق ..
و تضم الزاویة حوالی عشرین غرفة صغیرة جدا لا تتجاوز مساحة کل منها ثلاثة امتار علی مترین، یقیم فیها الحجاج الواردون من المغرب و الجزائر و تونس، بحیث تعتبر الزاویة مقر استراحة للحجاج الافارقة فی طریقهم الی الحجاز ذهابا و ایابا. و فیهم من یستهویه الحال فیقطن فیها بصورة دائمة.
و یتخذ حیّ المغاربة شکلا مربعا یحیط به طریق ضیق مبلط مع بضع درجات، و یربط الحیّ بالقدس القدیمة حیّ باب السلسلة، کما یربطه بالقدس الجدیدة باب المغاربة و هو باب الحیّ فی سور القدس، و للحی المغربی اهمیة لوجود حائط المبکی (حائط البراق الشریف) فیه، و یؤم الحائط کما هو معلوم آلاف السیاح و الرواد کل سنة، و کل من یروم زیارة الحائط لا یدخله من اختراق الحیّ.
و بعض تلک الاملاک- علی ما اسلفنا- من وقف مغربی اقدمه یرجع لعهد المرابطین و الموحدین و بنی مرین.
و عند ما اعتدی علی القدس الشریف من قبل القوات الصهیونیة الغاشمة یونیه 1967 صادرت اسرائیل تلک الاوقاف و ضمتها الی املاکها و اخلتها من سکانها مستعملة لتحقیق ذلک وسائل الضغط الاقتصادی و قطع المجاری و شبکات المیاه و اخیرا استعمال القوة و النسف حیث دمر الحیّ المغربی عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 109
بکرة ابیه و سوی بالارض، و اقامت سلطات الاحتلال الاسرائیلی مکانه ساحة عامة تتوسطها حدیقة ملاصقة لحائط المبکی .
و قد تمت ازالة مبانی الحیّ المغربی بتاریخ 11- 6- 1967 ای بعد احتلال اسرائیل للقدس بخمسة ایام. و قد قامت الهیئة الاسلامیة فی القدس بواجبها عند ما تکشفت ان تنفیذ نسف حیّ المغاربة سیتطلب هدم باقی الابنیة العربیة القائمة بین باب المغاربة و الزاویة الجنوبیة الغربیة للحرم و الملاصقة للمسجد الاقصی من جهة الجنوب، و کذلک عمارة المحکمة الشرعیة القدیمة و باب السلسلة من جهة الشمال، و هکذا سارعت الهیئة الاسلامیة بتقدیم مذکرة الی السلطات المحتلة بتاریخ 9- 8- 1967 تطالب فیها بایقاف ای اجراء تعسفی جدید .
و لم یکد خبر العدوان الوحشی علی مبنی القدس الشریف یصل مسامع الملک الحسن الثانی حتی استجاب للنداء الجریح الباکی الذی توجه به الملک الحسین عاهل الاردن الی مختلف الدول الاسلامیة ..
و هکذا احتضن المغرب مؤتمرین اثنین متوالیین: القمة الاسلامی الذی حضرته خمس و عشرون دولة، و القمة العربی التی شارکت فیه سائر الدول العربیة .
*** و الحدیث عن حیّ المغاربة یقتضی منا أن نتعرف قلیلا علی اولئک الذین کانوا الی الامس القریب یقیمون بهذا الحیّ مخلفین فی ذلک آباءهم و جدودهم الاقدمین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 110
ان الجالیة المغربیة القاطنة فقط فی حیّ المغاربة تضم اکثر من خمس و عشرین عائلة یقدر عدد افرادها بحوالی 800 شخص، کما توجد بعض العائلات متفرقة فی مدن الاردن کاریحا، و عکا، و عمان، و مجموع افراد الجالیة الکلی یقارب ال 1300 شخص عدا الحجاج القاطنین فی زاویة سیدی بومدین.
و توجد الی جانب الجالیة المغربیة طائفة من العائلات الجزائریة و التونسیة و اللیبیة الا انها لا تتجاوز السبع عائلات .. و المعروف ان جل المغاربة فی فلسطین و الشام کان جدودهم قدموا من الوطن الام (المغرب) علی ما اسلفنا لکن فیهم ایضا من قدم مع الجیوش الفرنسیة و اعتصموا بهذه البقاع فارین من العمل ضد غزو اخوتهم.
و اشهر العائلات المغربیة هی عائلة المرحوم الحاج ادریس المغربی المعروف بابی الایتام و المشهور بأیادیه البیضاء علی دار الایتام التی انشأها المجلس الاسلامی الاعلی فی بدایة العشرینات، و عائلة المرحوم الحاج ابراهیم الفکیّکی و عائلة المرحوم الشیخ محمد المهدی، و عائلة المرحوم الحاج علی النقیب، و عائلة السید صالح الطیب، و عائلة المرحوم الحاج احمد المصلوحی، و عائلة السید احمد الفاسی و السید سعید الفیلالی، و عائلة السید احمد بو حمالة و اسرة الحاج البشیر التازی و اسرة الاشراف العلمیین ...
و هذه العائلات تقطن الحیّ منذ مئات السنین بدون اجرة و یحق للشاب المغربی الراغب فی الزواج ان یطالب ببیت مستقل له و لزوجته فی حالة عدم اتساع بیت ابیه له بعد الزواج، و کما کان منذ القدم فان جمیع افراد الجالیة المغربیة تتمتع بمساعدات مادیة من الحکومة المغربیة تقوم هذه بصرفها الی لجنة شؤون المغاربة لتقوم بتوزیعها علی المحتاجین سواء من سکان البیوت او من المجاورین فی زاویة سیدی بومدین، هذا الی المساعدات الغذائیة الیومیة.
***
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 111
و لما کان عدد افراد الجالیة المغربیة فی تزاید مستمر، و لما کانت مصالحهم و اعمالهم کثیرة فکر رجال الجالیة بفصل الاوقاف المغربیة عن شؤون الاوقاف الاسلامیة، و نجحوا فی ذلک مطلع عام 1954، و هکذا اصبحت الاوقاف المغربیة مستقلة مالیا و اداریا، و قد عینت الاوقاف الاسلامیة بالاشراف مع لجنة مغربیة الشیخ الحاج محمد المهدی عمیدا للجالیة یحمل اختاما خاصة و یشرف علی تصریف شؤون المغاربة فی الاردن، کان بمثابة «مختار» و قد استمر فی منصبه حتی عام 1959، و لما کان الشیخ المهدی قد طعن فی السن کثیرا اجتمع رجال الجالیة ثانیة فی نفس التاریخ و انتخبوا الحاج علی النقیب کعمید لهم یمثلهم لدی الاوقاف الاسلامیة و یشرف علی امورهم، و قد استمر هذا فی منصبه حتی وافاه الاجل عام 1962، بعدها عقدت الجالیة اجتماعا طارئا قرروا فیه انتخاب السید محمد الفکّیکی خلفا له و لا یزال هذا الاخیر یشغل منصبه حتی الوقت الحاضر، لکن اشرافه اقتصر علی ما تبقی من افراد الجالیة المغربیة فی الارض المحتلة.
و علی ذکر الرئاسة هذه نشیر الی ان منصب الرئاسة او (المخترة) هو منصب فخری لا یتقاضی من یشغله ای اجر و انما یتلقی المساعدة المادیة کبقیة افراد الجالیة لا یفوتهم بأی شی‌ء.
*** و بعد اسر القدس الشریف و تراکم الاعمال علی السید الفیکّیکی اصبحت سفارة المملکة المغربیة الملجأ الوحید لافراد الجالیة یراجعونها فی تصریف امورهم، و قد استعان السید عبد الکبیر الفاسی سفیر المغرب آنذاک بالسید احمد بو حمالة- بعد التشاور مع افراد الجالیة- و هکذا اصبح بو حمالة بمثابة رئیس مساعد یقدم للسفیر المشورة اللازمة.
و قد أمسی افراد الجالیة المغربیة یعیشون فی مخیمات النازحین کبقیة جمیع اخوانهم اللاجئین الفلسطینیین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 112
و ازاء هذه الحال المضنیة عمد المغرب الی اسعاف ابنائه و هکذا امر جلالة الملک الحسن الثانی بارسال طائرات متتابعة محملة بالمواد الغذائیة و الالبسة و الاغطیة الصوفیة و الاحذیة و الاعانات المادیة التی وزعت فی الوقت المناسب علی المشردین المعذبین.
لکن فی المغاربة من لم یتحمل هذه الحیاة المریرة التی لم یتعودوها منذ ان نسفت منازلهم و سویت بالارض ففکر معظمهم فی العودة الی الوطن الام المغرب، و قد کان مما شجعهم علی ذلک ما امر به العاهل المغربی من تسهیل العودة بالطائرة علی کل الراغبین فی ذلک، و قد تم بالفعل تسفیر عدد من العائلات المغربیة بطریق الجو حیث وجدوا فی استقبالهم الصدور الرحبة و المعاملة اللائقة، و مع ان الشعور بالاسی یغمر اولئک المغاربة الذین اصبحوا بین عشیة و ضحاها دون ماوی و لا مثوی فانهم مشبعون املا فی ان لهم عودة الی بیوت لهم نحتها اجدادهم منذ مئات السنین، و انهم و لو أنهم یعتزون بوطنهم الام لکن الروح التی شدّتهم الی القدس ستظل مهیمنة علی کل وجدانهم و مشاعرهم الی ان یهزموا الظلم الذی حف ببیت المقدس و بحی المغاربة فیه ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 113

اورشلیم الکنعانیة (بیت المقدس) فی اقدم عصورها کتبه الدکتور احمد سوسه الحائز علی درجة شرف من جامعة جونس هوبکنس و مدیر الری العام و مدیر المساحة العام فی العراق سابقا

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 115
أورشلیم الکنعانیة (بیت المقدس) فی أقدم عصورها 1- تمهید
2- تسمیة المدینة فی مختلف أدوارها
3- سکانها الأولون
4- جغرافیة المدینة و طوبوغرافیتها
5- أسوار المدینة قدیما و حدیثا
أ- السور القدیم (السور الأول).
ب- السور الثانی.
ج- السور الثالث و الأخیر.
6- تارخ المدینة القدیم
أ- الدور الأول- دور ما قبل ظهور بنی اسرائیل
ب- الدور الثانی- دور بنی اسرائیل.
1- عهد موسی.
2- عهد یشوع.
3- عهد القضاة.
4- عهد الملوک.
5- عهد الانقسام- مملکتا اسرائیل و یهوذا.
6- الغزو الآشوری و ازالة اسرائیل.
7- الغزو الکلدانی و ازالة یهوذا.
7- أورشلیم فی زمن الفرس الاخمینین (538- 332 ق. م.)
8- أورشلیم فی زمن الاغریق (332- 64 ق. م.)
أ- عهد الاسکندر الکبیر.
ب- النزاع بین القواد الیونانیین بعد موت الاسکندر.
ج- النزاع بین البطالسة فی مصر و السلوقیین فی سوریة.
د- طبقة من الیهود تتقبل الثقافة الیونانیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 116
ه- تدخل روما فی الشرق.
و- محاولة السلوقیین القضاء علی الیهودیة و اندلاع ثورة المکابیین.
ز- عهد المکابیین فی فلسطین (166- 37 ق. م.)
ح- فترة اضطرابات و مشاحنات تمهد الی تدخل الرومان فی شؤون فلسطین.
ط- الرؤساء المکابیون و مدد حکمهم (166- 37 ق. م.)
ی- جدول مسلسل للحوادث التاریخیة فی العهد الاغریقی (334- 64 ق. م.)
9- أورشلیم فی زمن الرومان (64 ق. م.- 638 ب. م.)
أ- التنازع بین الدول علی السیطرة فی الشرق و تغلب الرومان فی الصراع.
ب- یهوذا تخضع لحکم روما المباشر- کابینوس نائب قنصل فی سوریة.
ج- کراسوس و کاسیوس فی حکم سوریة.
د- الیهود فی عهد قیصر- انتیایتر الأدومی خازق و حاکم فی أورشلیم.
ه- مارک انطونیوس و کلیوبطرة- القضاء علی انطونیوس و اقامة الانبراطوریة الرومانیة.
و- هیرودس الأدومی ملک علی یهوذا و علی الجلیل.
ز- تقسیم مملکة هیرودس علی أولاده بعد وفاته.
ح- هیرودس اغریبا حفید هیرودس الکبیر ملک علی فلسطین.
ط- موت اغریبا و ثورة الیهود ثم قمعها علی ید تیطوس سنة 70 م.
ی- ثورة الیهود من جدید بقیادة بارکوخیا و القضاء علیها.
ک- تساهل الرومان مع الیهود فی نشاطاتهم الدینیة و اعادة تشکیل السنهدرین.
ل- الانبراطور قسطنطین یعتنق المسیحیة و أثر ذلک فی انتشار و تغلب المسیحیة.
م- الصراع بین الفرس و الرومان حتی الفتح الاسلامی.
ن- جدول مسلسل للحوادث التاریخیة فی العهد الرومانی (64 ق م- 638 ب. م)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 117
المختصرات نظرا لکثرة الاشارة إلی اسفار التوراة فقد اثبتنا طریقة اختصار اسمائها علی الوجه الآتی:-
سفر التکوین/ مختصره/ (تک)
سفر الخروج/ مختصره/ (خر)
سفر اللاویین/ مختصره/ (لاو)
سفر العدد/ مختصره (عد)
سفر التثنیة/ مختصره (تث)
سفر یشوع/ مختصره/ (یش)
سفر القضاة/ مختصره/ (قض)
سفر راعوث/ مختصره/ (را)
سفر صموئیل الأول/ (1 صم)
سفر صموئیل الثانی/ (2 صم)
سفر الملوک الاول/ مختصره/ (ا مل ن
سفر الملوک الثانی/ مختصره/ (2 مل)
سفر أخبار الأیام الأول/ (1 أخ)
سفر أخبار الأیام الثانی/ (2 أخ)
سفر عزرا/ مختصره/ (عز)
سفر تحمیا/ مختصره/ (نح)
سفر المزامیر/ مختصره/ (مز)
سفر الجامعة/ مختصره (جا)
سفر اشمیا/ مختصره/ (ا ش)
سفر ارمیا/ مختصره (ار)
سفر حزقیال/ مختصره (حز)
سفر هوشع/ مختصره/ (هو)
سفر یوثیل/ مختصره/ (یو)
سفر عاموس/ مختصره/ (عا)
سفر المکابیین الأول/ مختصره/ (1 مک)
سفر المکابیین الثانی/ مختصره/ (2 مک)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 118
أورشلیم الکنعانیة (بیت المقدس) فی اقدم عصورها

1- تمهید:

ما من مدینة فی تاریخ العالم تمتعت بقدسیة مستدیمة، منذ أن أسّسها الیبوسیون الکنعانیون قبل زهاء خمسة آلاف عام حتی یومنا هذا، مثل مدینة أورشلیم (بیت المقدس الحالیة): هی الارض المبارکة «دار السلام» کما سمّاها الأقدمون، و قد حمل ملوکها القدماء لواء عقیدة التوحید للاله العلی لأول مرة فی التاریخ البشری علی ما یری الکثیر من المؤرخین. و قد خصّها اللّه بالعدید من الأنبیاء حتی قیل إن بناءها تم علی یدهم و سکنوها «ما فیها موضع شبر الّا و قد صلّی فیه نبی او قام فیه ملک» . کما خصها اللّه باسراء رسوله المصطفی (علیه الصلاة و السلام) فقال فی کتابه العزیز:
«سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 119
بارَکْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ».
و انطلاقا من عقیدة التوحید نطق الملک الکنعانی (العربی) «ملکی صادق» ملک شالیم (اورشلیم) «الکاهن للّه العلی». حین بارک ابراهیم الخلیل (ع) بقوله: «مبارک اللّه العلی الذی اسلم أعداءک فی یدک» ، و ما زالت المدینة حتی یومنا هذا تقدسها الدیانات السماویة الثلاث بکل تجلة و تعظیم. و ملکی صادق، هذا یرجع تاریخه الی القرن التاسع عشر قبل المیلاد و هو زمن ابراهیم الخلیل (ع) و هو من نسل کنعان بن حام کان ملکا علی مدینة أورشلیم و ولایتها التی کانت تعرف بالیبوسیة نسبة الی یبوس ولد کنعان . و جاء فی بعض التقالید الیهودیة أن «ملکی صادق» هو سام و ان نقدمه بالعمر و شرف نسبه جعلاه جدیرا بان یبارک ابراهیم (ع)، و یری العلماء المحدثون ان «ملکی صادق» من سلالة حام و کان محافظا علی سنّة اللّه القدیمة بین شعب و ثنی، و قد عرف بالتقوی و الزهد، و قیل إن ملکی صادق کان یسکن هو و قومه فی الکهوف و کان أول من اختط أورشلیم و بناها و کان محبا للسلام حتی أطلق علیه ملک السلام، و من هنا جاء اسم المدینة «شالم» و «شلیم» و «سالم» أی مدینة السلام. و یقول الانجیل إن السید المسیح صار «علی رتبة (ملکی صادق) رئیس کهنة الی الأبد». و یقول بعد ذلک عن «ملکی صادق» إنه لا بداءة أیام له و لا نهایة حیاة، بل هو مشبه بابن اللّه، هذا یبقی کاهنا الی الابد» . فالتوراة و الانجیل معا یصفان الکاهن الکنعانی بصفة الکاهن الأعلی و بصفة الخلود و یرفعانه الی المنزلة التی یتلقی منه ابراهیم برکة الإله العلی، إله السموات و الأرض.
و قد وصل الینا من أسماء ملوک أورشلیم غیر «ملکی صادق» الملک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 120
«عبدی هیبا» أو «عبدی خیبا» و هو الذی ورد اسمه فی وثائق العمارنة فی ست رسائل وجهها الی ملک مصر «أمنحوتب الرابع»، أحد ملوک السلالة الثامنة عشرة، و هو المسمّی أیضا «اخناتون»، و قد اشتهر هذا الملک العظیم الذی حکم بین سنة 1375 و سنة 1358 ق. م بدعوته لعقیدة التوحید. و من أهم ما ورد فی هذه الرسائل طلب الملک «عبدی خیبا» العون من ملک مصر لصد هجمات أهل البادیة «العبیرو» أو «الهبیرو» أو «الخبیرو»، و هم العبریون أهل البادیة الشمالیة الذین منهم جاءت کلمة «عبری» التی شاع استعمالها للدلالة علی الیهود فی العصور التالیة. و فی جملة اقوال هذا الملک: «إن هذه الأرض، أرض أوروسالم، لم یعطنی ایاها ابی و لا أمی و لکن أیدی الملک القویة هی التی ثبتتنی فی دار آبائی و أجدادی، و لم اکن أمیرا بل جندیا للملک و راعیا تابعا للملک ... منحت ملکیة ارض أوروسالم الی الملک الی الابد و لا یمکن ان یترکها للاعداء ...» و کان آخر ملوک أورشلیم عند هجوم بنی اسرائیل بقیادة یشوع علی المدینة فی القرن الثالث عشر قبل المیلاد الملک «أدونی صادق» . و قد ورد ذکر هذا الملک فی التوراة فی جملة الملوک الخمسة الذین اعتبروا من العموریین .
و نظرا لما کان لأورشلیم من دور رئیسی فی تاریخ فلسطین القدیم، فلا یمکن فصل البحث فی تاریخها القدیم عن تاریخ فلسطین بصورة عامة. لذلک فقد ضم هذا البحث تفاصیل لأحداث جانبیة معاصرة لم یکن بالوسع إهمالها لصلتها بمنطقة أورشلیم بوصفها جزءا مهما من فلسطین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 121

2- تسمیة المدینة فی مختلف أدوارها:

سمّاها الکنعانیون، سکان البلاد الأصلیون، «یرو- شالم»، أو «یرو- شلم»، و «شالم»، و «شلم» اسم لاله کنعانی معناه السلام .
و قد جاءت فیما بعد بهذه التسمیة، أی «أورشلیم» فی التوراة ، و هی مشتقة من التسمیة الکنعانیة الأصلیة. و سمّیت فی التوراة أیضا «سالیم» و «شالیم » و «مدینة اللّه» و «مدینة داود» و «مدینة الملک العظیم» و «مدینة یهوذا» و «أریئیل »، و «القدس» ، و ورد ذکرها فی الانجیل باسم «شلیم» (رسالة العبرانیین 7: 2). و قد وردت باسم «أوروسالم» فی الکتابات الکنعانیة التی ترجع الی القرن الخامس عشر قبل المیلاد أی مدینة السلام ، و ظل اسم أورشلیم شائعا منذ ذلک العهد الی یومنا هذا، و من «یاروشالم» جاء الاسم الافرنجی «جیروزالیم»(Jerusolem) . و قد ذکر یاقوت فی کتابه معجم البلدان أن المدینة وردت باسم أوریشلم بالضم ثم السکون و کسر الراء و یاء ساکنة و شین معجمة مفتوحة و لام مکسورة و یروی بالفتح و میم و قد یسکنون اللام فیقولون أوریشلم.
و قد وردت أیضا بحسب قوله باسم اوریسلم بالسین المهملة و باسم أوریشلوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 122
و اوریشلّم بتشدید اللام و أوراسلم بفتح الراء و السین . و قد نسبت المدینة الی الملک الکنعانی «ملکی صادق» الذی عرف بالتقوی و حب الخیر و السلام و لقب بملک شالیم، ای «ملک السلام» و وصفته التوراة أنه «کاهن للّه العلی أخرج خبزا و خمرا لابراهیم و بارکه» .
و من أسماء أورشلیم القدیمة أیضا «یبوس» نسبة الی الیبوسیین و هم فرقة من الکنعانیین سکنوا فی أورشلیم و حولها، هم سکان أورشلیم الأصلیون نزحوا من جزیرة العرب، و قد سمّاها الفراعنة فی کتاباتهم الهیروغلیفیة «یابیثی» و «یابتی» و هو تحریف لاسم یبوس الکنعانی . و قد وردت تسمیة یبوس فی التوراة و وصفت أنها هی أورشلیم . و وردت أیضا فی التوراة باسم «مدینة الیبوسیین» و سمّیت أیضا «بالیبوسی» ، و من تسمیة «یبوسیین» صار الکنعانیون یطلقون اسم «یبوس» علی کل أورشلیم.
و کان للیبوسیین قلعة حصینة علی الرابیة الجنوبیة الشرقیة من أورشلیم کانوا یطلقون علیها اسم «صهیون»، و قد سمّیت «حصن صهیون»، ثم سمّیت بعد استیلاء الملک داوود علیها «مدینة داود»، و ذلک بقصد تغییر الاسم الکنعانی. و یلاحظ هنا أن الملک داود لم یکن لدیه مجال لایجاد اسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 123
جدید للمدینة یحمل معنی کتسمیة أورشلیم، لأن اللغة التی سمّیت بها أورشلیم قبل عصر بنی اسرائیل هی نفس اللغة التی کان یتکلم بها سکان البلاد و من ضمنهم بنو اسرائیل، و هی اللغة الکنعانیة الآرامیة الأصلیة، لذلک أطلق علی المدینة اسمه فقط، و لکن مع ذلک بقی الاسم الکنعانی الآرامی الأصلی یستعمل و ما زالت المدینة تعرف بهذا الاسم حتی یومنا هذا .. و صار الحصن یعرف فی عهد المسیح (ع) باسم «جبل صهیون» . و یوجد الآن فی جوار مدینة أورشلیم واد یسمّی «وادی صهیون» کما یوجد موضع یقع فی جنوب غربی المدینة خارج السور الحالی للمدینة یسمّی «جبل صهیون». و هذه التسمیة حدیثة لا تمثل موضع جبل صهیون الأصلی الذی کان یقع فی القسم الجنوبی الشرقی من المدینة.
و فی زمن الرومان حوّل الامبراطور هادریان مدینة أورشلیم، بعد ان استولی علیها و دمرها سنة 135 م، الی مستعمرة رومانیة و بدّل اسمها الی «ایلیا کبیتولینا»Aelia Capitolina و ایلیا هو الاسم الأول لهادریان. ثم أعاد لها قسطنطین اسمها القدیم «أورشلیم» بعد اعتناقه المسیحیة و کرّست امه الامبراطورة هیلانة لکشف مواضع الحوادث المهمة للمسیحیة و لبناء کنائس تذکارا لها .
و قد سمّیت المدینة فی العصور التالیة ب «بیت المقدس» و «القدس الشریف» الخ .. و قد سمّاها الشیخ إسحاق بن حسین المنجم فی کتابه «آکام المرجان فی ذکر المدائن المقهورة فی کل مکان» بالاسمین «بیت المقدس ایلیاء «و المنجم من علماء القرن الخامس الهجری».
یتضح مما تقدم أن تسمیة «أورشلیم» التی یحاول الصهیونیون الیوم عدّها من الأسماء العبریة (بمعنی الاسرائیلیة) هی فی الحقیقة کلمة کنعانیة آرامیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 124
أصیلة وردت بهذا الاسم فی النصوص الکنعانیة التی وجدت فی مصر قبل ظهور بنی اسرائیل بعدة قرون، ثم بعد أن ظهر الاسرائیلیون و تکونت اللهجة العبریة المقتبسة من الآرامیة فی وقت لاحق صار الاسرائیلیون یسمّونها بلغتهم العبریة «یروشلایم». لذلک فدعوی القول بأن اسم «أورشلیم» عبری الأصل (بمعنی اسرائیلی) دعوی باطلة لا تستند الی مصدر تاریخی بدلیل ورود الکلمة فی الکتابات الکنعانیة قبل ان تتکون اللهجة العبریة و المدوّنات العبریة بنحو ثمان مئة عام. و تعترف التوراة اعترافا صریحا بان لیس لبنی اسرائیل أیة صلة بتاریخ أورشلیم القدیم لا من حیث التسمیة و لا من حیث القومیة، فلما خاطب حزقیال أورشلیم قال: «أبوک أموری، و امّک حثیة» (حز 16: 3)، و ذلک علی اعتبار أن ملوک أورشلیم کانوا من العموریین فی رأی التوراة حیث اعتبرت «أدونی صادق» آخر ملوک أورشلیم فی جملة الملوک العموریین. (یش 10: 3).

3- سکانها الأولون:

کان الیبوسیون الکنعانیون أقدم سکان أورشلیم یرجع الخبراء تاریخ وجودهم فی المدینة الی ما قبل خمسة آلاف عام حین نزح الکنعانیون من جزیرة العرب الی فلسطین، و کانوا یقطنون فی المنطقة حوالی أورشلیم و کانت اورشلیم مرکزهم الرئیسی و عاصمة ملکهم. فکونوا فی وطنهم الجدید حضارة ذات حکومة و صناعة و تجارة و دیانة. و قد ورد ذکر أحد ملوکهم فی الکتابات المصریة باسم «عبدی هیبا»، و هذه تعود الی القرن الخامس عشر قبل المیلاد، کما ورد ذکر ملک آخر فی التوراة باسم «ملکی صادق» یعود الی زمن ابراهیم الخلیل (القرن التاسع عشر قبل المیلاد) . و بعد غزو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 125
بنی اسرائیل لکنعان بقیادة یشوع اتحد ملک الیبوسیین «أدونی صادق» مع اربعة من الملوک المجاورین له و استعدوا للمقاومة غیر انهم وقعوا فی اسر یشوع فاعدمهم و علّقهم یوما کاملا علی الخشب . ثم اتحد بقیة الیبوسیین مع یابین ملک حاصور ضد یشوع الّا أنهم انهزموا أیضا و تشتت شملهم .
و مع ذلک لم یتم الاستیلاء علی المدینة الّا بعد موت یشوء حیث حاصرها بنو اسرائیل و أخذوها و أشعلوا النار بها و دمّروها و لکنهم لم یستطیعوا الاستیلاء علی المدینة علی القسم المحصن المسمی (حصن صهیون) فعاد الیبوسیون الی ارضهم و بقی الحصن بید الیبوسیین مدة عهد القضاة و عهد الملک شاؤول حتی تبوأ داود العرش فاحتل الحصن (یوآب) قائد جیشه و سکن داود المدینة و اتخذها عاصمة له و سماها «مدینة داود» کما تقدم» . و لما کان مجی‌ء بنی اسرائیل الی فلسطین فی حوالی سنة 1290 قبل المیلاد و عصر داود یبدأ فی حوالی سنة 1010 ق. م فیکون الحصن قد بقی بید الیبوسیین حوالی ثلاث مئة عام بعد ظهور بنی اسرائیل حتی احتله الملک داود.
و تقول التوراة ان بنی بنیامین الذین صارت أورشلیم فی تخمهم لم یطردوا الیبوسیین فسکن الیبوسیون مع بنی بنیامین فی أورشلیم الی هذا الیوم» ، و لعل المقصود بالقول: «الی هذا الیوم» هو الی ما بعد السبی الثانی الی بابل حیث کتب اکثر التوراة هناک، و تعترف التوراة فی نفس الوقت بان بنی اسرائیل لم یستطیعوا طرد الیبوسیین من اراضیهم فتوکد ان بنی یهوذا لم یقدروا علی طردهم فسکنوا معهم فی أورشلیم الی هذا الیوم. و مما یؤید ذلک أن الملک داود لمّا أراد أن ینشی‌ء الهیکل فی أورشلیم قام بشراء الأرض التی اختارها لبناء الهیکل من أصحابها الیبوسیین .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 126

4- جغرافیة المدینة و طوبوغرافیتها:

تقع أورشلیم عند الدرجة «31، 46، 35» من خطوط العرض شمالا، و الدرجة 35، 18، 30 من خطوط الطول شرقی کرینوش، و هی تبعد 32 میلا عن البحر المتوسط غربا و حوالی 18 میلا عن البحر المیّت شرقا و 19 میلا عن الخلیل (حبرون) جنوبا و 30 میلا عن السامرة (سبطسیة) شمالا. و یبلغ معدل ارتفاع المدینة 2500 قدم فوق سطح البحر المتوسط و 3800 قدم فوق سطح البحر المیّت.
و تتمیّز أورشلیم بموقعها الجغرافی الستراتیجی، فالطبیعة منحتها أقوی التحصینات لحمایة نفسها من الغزو، فهی تقع علی أرض مرتفعة محاطة من جمیع أطرافها بأودیة عمیقة، یحدّها من الشرق «وادی قدرون» و من الغرب «وادی هنوم». و یبدأ الوادیان فی الطرف الشمالی الغربی من المدینة و یلتقیان فی جنوب المدینة و بذلک یحوّطان المدینة من اطرافها الثلاثة، الشرق و الغرب و الجنوب.
یبتدی‌ء «وادی قدرون» (الوادی الشرقی) علی بعد میل و نصف المیل الی الشمال العربی من المدینة فیسیر أولا الی الشرق الی ان یصل الی زاویة السور الشمالیة الشرقیة ، ثم ینحرف بمیل حاد نحو الجنوب فینحدر بین سور المدینة من الجانب الغربی و بین جبل الزیتون و تل المعصیة من الجانب الشرقی حتی یلتقی بوادی هنوم المنحدر من جهة الغرب، ثم ینحدر المجری الموحّد بعد ذلک الی «مارسابا» حیث یسمی «وادی الراهب» و من ثم یمتد الی البحر المیت و هناک یسمی «وادی النار». و یسمّی الوادی حالیا باسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 127
«وادی ستی مریم»، و کان یعرف فی القدیم باسم وادی قدرون و معناه الوادی الأسود، و کان یسمی ایضا وادی «یهو شافاط»، و قد ورد ذکره فی أخبار ملک داود حیث عبره لمّا هرب من وجه ابنه أبشالوم و کذلک مرّ المسیح (ع) به ، و فی هذا الوادی أحرقت تماثیل معکة و طرحت جمیع أدوات العبادة الباطلة التی تنجس بها هیکل الرب . و یبلغ ارتفاع وادی قدرون 2179 قدما فوق سطح البحر.
امّا الوادی الغربی، أی وادی هنوم، فینحدر رأسا الی الجنوب من شمال غربی المدینة ثم ینعطف شرقا بعد وصوله حد المدینة الجنوبی حتی یتصل بالوادی الشرقی (وادی قدرون) عند الموضع المسمی «بئر أیوب». و یسمّی هذا الوادی حالیا باسم «وادی ربابة»، امّا اسمه القدیم کما ورد فی التوراة فهو «وادی هنوم» ، و وادی بنی هنوم ، و وادی ابن هنوم . و کان یسمّی الجزء الجنوبی الشرقی من الوادی «توفة» ، أو وادی القتل .
و أجاز آحاز و منسّی أولادهما بالنار فی هذا الوادی علی عادة أهل کنعان .
و یبلغ ارتفاع هذا الوادی 2029 قدما.
و کان هناک واد ثالث یخترق أرض المدینة یبدأ شمالا من قرب باب دمشق الحالی و ینحدر جنوبا الی وادی قدرون عند البرکة الحمراء، فیقسم ارض المدینة قسمین مؤلفین من هضبتین مستطیلتین، الهضبة الغربیة یحدها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 128
وادی هنوم من الغرب و الهضبة الشرقیة یحدّها وادی قدرون من الشرق.
و صار هذا الوادی یعرف باسم «وادی الجبانین» (صانعی الجبن) و هو مطموم الآن و لم یبق له أی أثر فی الوقت الحاضر، کما کان واد رابع یبتدی‌ء من جهة الغرب من قرب باب یافا الحالی فیسیر شرقا فی اتجاه شارع داود حالیا حتی ینتهی الی «وادی الجبانین» فیقسم الهضبة الغربیة الی قسمین.
و فی شرقی وادی الجبانین کان خندق یقطع الهضبة الشرقیة عرضا فیقسمها قسمین شمالی و جنوبی ایضا. و هکذا أصبحت المدینة منحصرة فی اربعة اقسام مرتفعة و هی القسم الشمالی و الجنوبی من الهضبة الغربیة ثم القسم الشمالی و الجنوبی من الهضبة الشرقیة (انظر مخطط أورشلیم فی أقدم عصورها).
و أقدم بناء فی المدینة هو الحصن الذی کان قد أقامه الیبوسیون سکان أورشلیم الأصلیون فی القسم الجنوبی من الهضبة الشرقیة، فاقاموا حوله سورا و شیّدوا فی طرف الحصن برجا عالیا للسیطرة علی المنطقة من فوقه. و الیبوسیون فرع من القبائل الکنعانیة التی کانت قد نزحت من جزیرة العرب و استقرت فی فلسطین منذ أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد، لذلک سمیت المدینة باسمهم «یبوس» فأصبحت هذه التسمیة مرادفة لأورشلیم، و قد ورد ذکرها فی التوراة علی هذا الشکل فقیل «یبوس هی اورشلیم» و «أورشلیم مدینة الیبوسیین». و کان یعرف حصن یبوس بحصن صهیون أیضا، کما کان یعرف الجبل الذی أقیم علیه الحصن بالاکمه او «أوفل» و أحیانا «جبل صهیون ». و یبلغ ارتفاع جبل صهیون 2550 قدما فوق سطح البحر و ینحدر باتجاه وادی قدرون نزولا الی ارتفاع 2029 قدما. و فی موضع حصن صهیون انشأ السلوقیون قلعة کانت تعرف باسم «قلعة عکرا» أو «أکرا» و قد سقطت بید سمعان المکابی سنة 141 ق. م.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 129
و قد کان طبیعیا أن یقع اختیار الیبوسیین علی موقع أورشلیم بالذات و ذلک لما اتصف به هذا الموقع من ممیزات استراتیجیة طبیعیة تجعله علی جانب کبیر من المناعة. و قد حبت الطبیعة هذا الموقع بأهم ما یحتاجه السکان و هو الماء، ففی جوار حصن یبوس شرقا نبع ماء غزیر فی وادی قدرون کان یعرف باسم «جیحون» و هو غیر نهر جیحون المعروف فی ترکستان، و کان الیبوسیون قد حفروا نفقا تحت الجبل لنقل میاه النبع فیه الی داخل المدینة عند الحصن، و فی وقت لاحق قام الملک حزقیا ملک یهوذا (715- 686 ق. م) بمد هذا النفق، بعد اغلاقه فی اتجاهه الشمالی، الی جهة الغرب و انشأ فی نهایته برکة صارت تعرف باسم «برکة سلوام» و أقام أبنیة عند فم البرکة:
(و حزقیا سد مخرج میاه جیحون الأعلی و أجراها تحت الأرض الی الجهة الغربیة) و قد ورد ذکر هذا النفق فی التوراة فی أخبار الملک داود فسمّی بالقناة. و یری البعض أن الملک داود اکتشف مدخله السری من خارج السور فأدخل رجاله فیه حتی وصلوا الی منتهاه فی داخل السور فباغتوا الیبوسیین داخل الحصن و احتلّوه دون قتال (2 صم: 5: 7، 9). و قد اکتشف هذا النفق البالغ طوله 1757 قدما سنة 1880 م و عثر علی مسافة 19 قدما من برکة سلوام داخل النفق علی کتابة نقشت علی الحجر دونت فیها تفاصیل کیفیة تنفیذ المشروع. و کانت هناک برکة أخری أسفل برکة سلوام کانت تعرف ببرکة الملک او البرکة السفلی . و وردت اسماء برک أخری فی التوراة منها برکة شیلوة و عین روجل یعتقد أنها أسماء لنفس المشروع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 130
و الحصن و البرکة یقعان الیوم خارج سور المدینة الحالی فی الطرف الجنوبی الشرقی منها. هذا و فی الجانب الغربی من المدینة أقام حزقیا نفقا آخر یبدأ من وادی هنوم و یمرّ تحت سور المدینة بالقرب من باب حیفا الحالی و ینتهی عند البرکة المعروفة ببرکة حزقیا حتی هذا الیوم.
و قد بقی حصن یبوس (حصن صهیون) بید الیبوسیین بعد مجی‌ء بنی اسرائیل حوالی ثلاثة قرون کما سبقت الاشارة الی ذلک لعدم استطاعتهم اقتحامه، و ذلک حتی تولّی الملک داود الحکم فی اسرائیل فجمع کل اسرائیل و ذهب معهم الی اورشلیم ای یبوس، و قال داود إن الذی یضرب الیبوسیین أولا یکون رأسا و قائدا، فتقدم یوآب و اقتحم الحصن فصار رأسا. و أقام داود فی الحصن لذلک دعی «مدینة داود». و بنی داود مستدیرا من القلعة فداخلا و جدّد یوآب سائر المدینة .
و قد اختار داود القسم الشمالی من الهضبة الشرقیة، أی القسم الذی یقع شمال «حصن صهیون»، لیبنی الهیکل فیه، و یعرف هذا القسم بجبل المریّا و ارتفاعه 2440 قدما أی أوطأ من قمة جبل صهیون بمئة و عشر أقدام. و کان موضع المزیّا هذا بیدرا للحبوب و کان ملکا لأرنان أو أرونة الیبوسی فاشتراه داود من صاحبه بخمسین شاقلا من الفضة و بنی فیه مذبحا للرب و أصدر محرقات و ذبائح سلامة . و فی نفس الموضع بنی سلیمان الهیکل بعد ذلک .
و یسمّی الآن موضع الهیکل القدیم الحرم الشریف و فی وسطه مسجد قبة الصخرة و المسجد الأقصی الی الجنوب منه. و یعتقد ان موقع الصخرة هو الموقع الذی عین لتقدیم ابراهیم ابنه اسحاق قربانا عند ما أراد اللّه امتحانه حیث ورد فی التوراة ما یشیر الی أن الموضع هو أرض المریّا . و قد سمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 131
یوسیفوس القسم الجنوبی من الهضبة الشرقیة، أی موضع حصن یبوس (حصن صهیون)، بالمدینة السفلی و سمّی موضع جبل المریّا شمالا بالمدینة العلیا.
و کان الی الشمال من جبل المریّا «جبل بیزیثا» و ارتفاعه 2529 قدما، و کان هذا الجبل خارج حدود السور القدیم ثم أصبح داخل السور الجدید و هو السور الحالی .
و فی القسم الجنوبی من الهضبة الغربیة الی الغرب من حصن صهیون جبل یسمّی الیوم خطأ بجبل صهیون و هو غیر جبل صهیون الأصلی الذی یقع الی الشرق منه فی القسم الجنوبی من الهضبة الشرقیة، و لعل تسمیته الحدیثة هذه مشتقة من تسمیة الجبل الشرقی الاصلی. و یبلغ ارتفاع هذا الجبل 2816 قدما و ینحدر جنوبا الی وادی هنوم الی 2505 أقدام و یقع الیوم خارج سور المدینة الحالی فی الطرف الجنوبی الغربی منها.

5- أسوار المدینة- قدیما و حدیثا-

اشارة موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌4 ؛ ص131

أ- السور القدیم (السور الأول):

و لمّا کانت الأسوار جزءا من حیاة المدن فی تلک العصور القدیمة فلا بد من نبذة عن تاریخ أسوار أورشلیم فی مختلف أدوارها: إن أقدم أسوار المدینة هو السور الذی یرجع الی عهد الیبوسیین سکان أورشلیم الأصلیین و الذی کان یحیط بحصن یبوس أو «حصن صهیون»، فیشکّل شبه مستطیل یتوسطه الحصن، و کان النفق الذی یسحب المیاه من عین جیحون ینتهی الی البرکة داخل هذا السور. و بعد احتلال الملک داود للحصن فی القرن العاشر قبل المیلاد أقام أبنیة أضافها الی الحصن و سمّیت المنطقة «مدینة داود» رغبة منه فی تبدیل اسمها الکنعانی الاصلی علی الأرجح، ثم اشتری أرض المریّا الواقعة الی الشمال من حصن یبوس و بنی فیها مذبحا للرب. و من المحتمل جدا أنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 132
وسّع السور الیبوسی لیضم داخله جبل المریّا، کما أنه من المحتمل أن یکون الملک سلیمان قد قام بتقویة هذا السور و توسیعه بعد أن أقام الهیکل فی أرض المریّا. و هذا هو السور الأول و لا یوجد الآن أی أثر ظاهر لهذه الأسوار القدیمة، کما أنه لا یوجد أی أثر للأسوار التی ترجع الی الفترة التی تلی عهد سلیمان و التی تبدأ بعهد الانقسام و تنتهی بتهدیم الهیکل و السور فی عهد نبوخذ نصر سنة 586 ق. م، و ذلک لکثرة التغییرات التی وقعت خلال هذه الفترة نتیجة التهدیم و إعادة البناء مرات عدیدة. و قد دلّت التنقیبات الاثاریة علی أن أساسات سور الهیکل القدیم تقع علی نحو من 80 قدما تحت سطح الحرم الشریف حالیا، و ذلک نتیجة توالی التخریب و الهدم. یتضح مما تقدم أن التحصینات الیبوسیة التی یرجع تاریخها الی أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد کانت قائمة فی أورشلیم لفترة حوالی ألفی سنة قبل أن یحتلها الملک داود.

ب- السور الثانی:

و أقدم و اوضح وصف لدینا لسور اورشلیم هو الوصف الکامل الذی ورد فی التوراة للسور الذی اعید إنشاؤه بعد السبی البابلی فی عهد نحمیا (سنة 444 ق. م) و الذی یعتبر ثانی سور للمدینة، و قد اتبع فی اعادة الانشاء نفس الخط الذی کان یسیر علیه السور القدیم الذی کان قد أقامه منسی ملک یهوذا سنة 644 ق. م فی اثناء الحملة الاشوریة فی عهد آشور بانیبال ثم هدم فی عهد نبوخذ نصر سنة 586 ق. م و قد استعملت نفس الأسماء القدیمة لابواب السور و أبراجه. و یعطینا هذا الوصف فکرة واضحة عن اتساع المدینة فی ذلک العصر ، فیبدأ السور من باب الضأن شمال الهیکل و یمتد غربا ثم جنوبا ثم شرقا و شمالا حتی یعود فیتصل بنقطة البدایة. انظر «تخطیط أورشلیم فی اقدم عصورها» و الابواب حسب تسلسلها ثلاثة فی السور الشمالی و هی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 133
باب الضأن، و باب السمک، و الباب العتیق. و باب السمک سمّی کذلک لانه کان الموضع الذی تدخل منه الاسماک المستوردة من صور . و یلاحظ ان السور عند الزاویة الشمالیة الغربیة أضخم من سائر اقسامه، و تعلیل ذلک هو أن هذا القسم کان مجردا من وسائل الدفاع الطبیعیة بخلاف ما کانت علیه بقیة الاقسام التی تحیط بها الاودیة من کل اطرافها . امّا الابواب الأخری فهی: باب افرایم غربا و بابا الوادی و الدمن جنوبا و أبواب العین و الماء و الخیل و الشرق و السجن و الزاویة شرقا. و أهم ابراج السور کانت تقع فی الطرف الشمالی و فی الزاویة الشمالیة الغربیة المکشوفة و هی حسب تسلسلها: برج المئة و برج حننئیل و برج التنانیر و تبلغ المساحة داخل هذا السور حوالی 200 أیکر (336 دونما عراقیا) و هذه کانت تضم السکان الأصلیین (الیبوسیین و غیرهم) الذین بقوا مع بنی اسرائیل ثم استأثر السکان الأصلیون بجمیع المنطقة و استقلوا بها بعد سبی بنی اسرائیل من اورشلیم سنة 586 ق. م حتی عاد بعض الاسرائیلیین فی العهد الفارسی فأعادوا بناء الهیکل، و السکان الأصلیون باقون فی أرضهم.

ج- السور الثالث و الاخیر:

و الأرجح أن معظم السور الذی بناه نحمیا بقی فی عهد المکابیین (167- 37 ق. م) علی رغم دک بطلیموس الأول جانبا منه سنة 300 ق. م و انطیوخس الرابع جانبا آخر سنة 168 ق. م و فی عهد هیرودس الکبیر (37- 4 ق. م) تمت تقویته دون أی تغییر فی تخطیطه علی الأرجح. و فی عهد هیرودس أغریبا (41- 44 م) شرع الیهود فی بناء سور جدید فی الجهة الشمالیة غیر أن الامبراطور الرومانی قلودیوس منعهم من متابعة العمل فاتموا بناءه قبل حصار تیطس سنة 70 م، و هذا هو السور الثالث و سمّی أیضا سور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 134
هیرودس أغریبا و قد ضم هذا السور منطقة بیزثیا الشمالیة و ما زال السور الشمالی الحالی للمدینة یسیر بنفس هذا الاتجاه. هذا فی حین أن حدود المدینة من الجنوب تقلّصت بتراجع السور الی الداخل الی نفس الاتجاه الذی یسیر فیه السور الجنوبی للمدینة حالیا. و قد ظل هذا السور یتأرجح بین الهدم و اعادة البناء کلما تحوّلت المدینة من ید الی أخری فی العصور التالیة، و لکن علی رغم هذه التقلبات حافظ علی اتجاهه الأخیر، و السور الذی نشاهده الیوم حول المدینة الحالیة هو الذی جدّده سلیمان باشا القانونی، دامت عمارته خمسة أعوام (1536- 1540 م) و أضاف الیه عددا من الأبراج، و فوق الأبواب کتابات علی الجدران تشیر الی ذلک انظر «مخطط أورشلیم فی أقدم عصورها».

6- تاریخ المدینة القدیم:

اشارة

إن تسلسل الأحداث التاریخیة التی مرت علی أورشلیم منذ تأسیسها فی عهد الیبوسیین فی أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد حتی تخریبها سنة 135 علی عهد الرومان (فترة حوالی ثلاثة آلاف عام) تحدد أدوار المدینة التاریخیة بخمسة أدوار منفصلة تقریبا و هی: أولّا، دور ما قبل ظهور بنی اسرائیل، ثم دور بنی اسرائیل ویلیه دور القدس فالیونان و أخیرا عهد الرومان.

أ- الدور الأول- دور ما قبل ظهور بنی اسرائیل:

لقد سبق و أشرنا الی أن تاریخ أورشلیم القدیم یرجع الی أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد، أی قبل حوالی خمسة آلاف عام، و ذلک عند ما بدأت القبائل العربیة تهجر دیارها فی الجزیرة العربیة إثر الجفاف الذی حل بها، و من هذه القبائل القبائل الکنعانیة التی استقرت فی فلسطین و من فروعها قبیلة یبوس التی اتخذت منطقة أورشلیم مقرا لها، فأصبحت علی مرّ الایام مملکة قائمة بذاتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 135
اتخذت هضبة أورشلیم الحصینة مرکزا و عاصمة لها. و أقدم ما لدینا من معلومات عن هذه المملکة هو ورود کلمة «یا بیثی» و «یا بتی» فی الکتابات المصریة القدیمة تحریفا لکلمة یبوس الکنعانیة، ثم ورود کلمة «أوروسالم» فی وثائق العمارنة المصریة التی تعود الی القرنین الخامس عشر و الرابع عشر قبل المیلاد.
و من الأسماء التی وصلتنا من هذا الدور «ملکی صادق» الذی یرجع عهده الی القرن التاسع عشر قبل المیلاد و هو معاصر لعصر ابراهیم الخلیل، ثم الملک «عبدی هیبا» الذی ورد اسمه فی وثائق العمارنة مع اسم اوروسالم المار الذکر و کان «ادونی صادق» آخر ملوک أورشلیم عند ما غزا بنو اسرائیل فلسطین و قد اعتبرته التوراة من العموریین (انظر ما تقدم حول ذلک).
و تدل الأحداث التاریخیة المثبتة أخبارها فی المدونات المصریة القدیمة علی أن أول من اتصل بأرض کنعان و من ضمنها منطقة أورشلیم، المصریون و أقدم ذکر لحملات المصریین علی بلاد کنعان ورد فی کتابة عبر علیها من عهد الفرعون فیویس الأول (2350 ق. م)، و هی منقوشة علی قبر قائد إحدی هذه الحملات المدعو «أونی»، فدوّن هذا القائد انتصاراته علی جماعات البدو التی کانت تهاجم الکنعانیین. و هناک ما یدل علی أن مصر تمکّنت من بسط نفوذها علی جمیع کنعان فی القرن التاسع عشر قبل المیلاد، و لم یحاول المصریون تمصیرها بل اکتفوا بتحصیل الجزیة من سکانها، و ترکوا السکان یمارسون عاداتهم و دیانتهم دون أن یتدخلوا فی شؤونهم الاجتماعیة الأخری بل کانوا ینجدونهم فی حروبهم مع اعدائهم.
و مما ورد فی الکتابات المصریة القدیمة أیضا أن الملک سیزوستریس الثالث (السلالة الثانیة عشرة) صعد علی أرض فلسطین فی حوالی سنة 1850 ق. م و استولی علی المدینة المسماة «س- ک- م- ن»، و قد رجح البعض أن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 136
المقصود بها مدینة شکیم (نابلس حالیا) .
و من أهم الوثائق التی عثر علیها المنقبون وثیقة مهمة ترجع الی عهد سنوسرت الأول (1971- 1928 ق. م.) تضمنت وصفا مسهبا لبلاد کنعان دوّنه أحد کبار حاشیة القصر الفرعونی المدعو «سینوهی»، و سینوهی هذا اضطر لأسباب سیاسیة أن یهجر بلاد مصر فقصد بلاد کنعان حیث عاش فی رعایة أحد رؤساء القبائل العموریة، فاندمج مع القبیلة حتی تزوج ابنة رئیسها و أصبح زعیم القبیلة، فصارت له بساتین و حقول و مواشی کما صار له أولاد فشارک هو و أولاده فی حروب و غزوات القبیلة. و هنا یصف «سینوهی» الحیاة الخشنة التی عاشها فی هذا المحیط القاسی حتی داهمته الشیخوخة فأخذ یحن الی وطنه الأصلی، فیذکر فی آخر القصة أن الفرعون سینوسرت وجّه الیه کتابا یدعوه فیه للعودة الی وطنه قائلا: «و یجب أن لا یکون رقودک علی أرض غریبة یدفنک فیها الآسویون فیلفّونک داخل جنود الغنم». فاستجاب سینوهی الی دعوة الملک و قرر العودة فورا فقام بتصفیة ملکیته بین أولاده، و نصب أکبر أولاده زعیما لقبیلته. و قد اصطحبه عند مغادرته بلاد کنعان جمع غفیر من أبناء عشیرته الی نقطة الحدود المصریة، و من هناک اصطحبه رجال الحکومة الفرعونیة الی العاصمة «ممفیس» .
و من غریب الصدف أن سینوهی یستعمل عند ما یصف أرض کنعان نفس العبارات التی استعملتها التوراة فی وصفها بعد حوالی ألف عام من زمن «سینوهی»: «أرض جیدة و واسعة تفیض لبنا و عسلا .. أرض حنطة و شعیر و کرم و تین و رمان، أرض زیتون و عسل، أرض لیس بالمسکنة تأکل فیها خبزا و لا یعوزک فیها شی‌ء » و الظاهر أن قصة سینوهی کانت من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 137
القصص المحبّبة لدی المصریین حیث وجدت فیها نسخ کثیرة مما یدل علی أنها کانت واسعة الانتشار فی تلک الأزمان.
و من الأوصاف لبلاد کنعان التی ترکها فراعنة مصر القدماء أیضا کتابات الفاتح المصری الشهیر تحوطمس الثالث (1503- 1449 ق. م.) و ذلک فی اعقاب طرد المصریین للهکسوس من بلادهم، فورد فی المدونات التی سجلها انه قام بسبع عشرة حملة علی سوریة و فلسطین فامتدت تخوم امبراطوریته فی الشرق الی جبال الأمانوس شمالا، و یعده البعض أعظم فراعنة مصر فی تاریخ مصر القدیم و قد دام حکمه 54 سنة منها الاثنتا عشرة سنة الأولی حکمت عنه الوصیة علی العرش هاتشبشوت لصغر سنه. و مما ورد فی کتاباته جدول باسماء 118 مدینة کنعانیة یعتقد أنها المدن التی افتتحها فی فلسطین.
و الظاهر أن دویلات کنعان أصبحت فی معظم تلک الأدوار أشبه بمحمیات مصریة توثقت صلاتها مع مصر باتفاقیات لحمایتها من غزوات البدو، و تدلنا المدونات المصریة علی أن ملوک هذه الدویلات کثیرا ما کانوا یستنجدون بفراعنة مصر لارسال نجدات لحمایتهم من غزوات «العبیرو»، اذ عثر علی عدد من الرسائل من بعض ملوک کنعان ترجع الی القرن الرابع عشر قبل المیلاد بهذا المعنی و قد سبقت الاشارة الی ذلک.
و کانت أورشلیم من أهم المدن الکنعانیة من الناحیة التجاریة و الاستراتیجیة إذ کانت تقع علی طریقین من أهم طرق التجارة، واحدة تربط البحر بالصحراء و الأخری تربط المدن الشمالیة بالمدن الجنوبیة من فلسطین. و أهم المدن الکنعانیة فی تلک العصور هی المستوطنات الساحلیة التی تمرکزت فی سفوح جبل لبنان للاستفادة من حمایة هذه الجبال الطبیعیة من خلفهم مثل «أوغاریت» و «ارواد» و «عرقة» و «طرابلس» و «بترونا» و «جبیل» و «بیروتا» و «صیدا» و «صور» و «عکو» (عکة).
و هناک مدن أخری فی داخل أرض فلسطین مثل «جارز» و «مجدّو»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 138
و «شکیم» و «اورشلیم» و «اریحا» و «حبرون» و «بیت شان» و غیرها. و هذه کلها مدن کنعانیة أصیلة باسمائها و بثقافتها و بلغتها و بدیانتها وجدت قبل ظهور بنی اسرائیل بحوالی ألفی عام و بعضها بأکثر من ثلاثة آلاف عام، إذ توصل الآثاریون الی ارجاع تاریخ بعض هذه المدن الی ما قبل الألف الثالثة قبل المیلاد، فقد أرجع الباحثون تاریخ بلدة «اریحا» الی ما قبل سبعة آلاف سنة. و هذا ما جعل بعضهم ان یعتبرها أقدم مدینة فی العالم ما زالت باقیة حتی الآن . هذا و قد توصل الباحثون أیضا الی أن أقدم المعابد الکنعانیة تقع فی أریحا و مجدّ و هی ترجع الی أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد. و یقول البروفیسور أولبرایت فی کتابه «الارکیولوجیا و الدیانة الاسرائیلیة» (ص 68) إنه لدینا من البراهین و الأدلة علی أن الکنعانیین أصحاب اللغة السامیة الغربیة استقروا فی فلسطین فی أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد حیث عثر علی أسماء مدن تحمل أسماء کنعانیة ترجع الی الأسرة الخامسة المصریة (2965 ق. م) کما وجدت کلمات کنعانیة وردت فی المدونات المصریة من عصر الأهرام (القرن الثامن و العشرون قبل المیلاد). و فی ضوء ما تقدم نستطیع أن نجزم واثقین بان الکنعانیین کانوا مستقرین فی فلسطین فی الألف الثالثة قبل المیلاد، أی قبل خمسة آلاف سنة، و الأرجح أن هجراتهم الی فلسطین بدأت قبل ذلک بزمن بعید. و تعتبر بلدة «شکیم» (نابلس) العاصمة الطبیعیة لبلاد کنعان لوقوعها فی وسط فلسطین کما تعتبر «حاصور»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 139
العاصمة الشمالیة فی منطقة الجلیل، و قد لعبت کلتاهما دورا مهما فی تاریخ فلسطین القدیم.
و کانت المستوطنات الکنعانیة محصّنة علی غرار دویلات المدن و کانت هذه الدویلات فی نزاع و حروب فیما بینها فی الغالب، و لکن علی رغم ذلک کانت تنشأ فیما بینها بین الحین و الآخر اتحادات موقتة بسبب الأخطار التی تهددها کلها، فکانت احداها تتزعم مثل هذه الاتحادات. و قد سمّی الیونانیون مجموعة المدن البحریة الشمالیة التی کانوا باتصال معها باسم فینیقیا(Phoinix) ، و کانت تمارس هذه المدن الصناعة و التجارة الخارجیة فی حین أن المدن الداخلیة کانت تمتهن الزراعة و خاصة زراعة الأشجار فی الغالب. و قد عرفت المدن الکنعانیة تعدین النحاس و البرونز من بدایة الألف الثانیة قبل المیلاد و بدأت تستعمل الحدید بکثرة منذ الألف الأولی قبل المیلاد.
و قد تقدم لدیها فن الصیاغة و صناعة العاج و الزجاج و النسیج الصوفی و القطنی، هذا عدا صناعة الأصباغ و لا سیما القرمز و الأرجوان الذی اقترن باسم الکنعانیین.
و مما لا شک فیه أن الکنعانیین هم أقدم الأقوام الذین استقروا فی أرض فلسطین و الیهم یرجع تأسیس حضارة فلسطین القدیمة. و الأرجح أن لغتهم کانت فی الأصل اللغة التی اعتبرت أم اللغات السامیة، أی اللغة العربیة القدیمة التی کان یتکلّم بها أهل الجزیرة قبل هجرتهم الی الهلال الخصیب، ثم تفرعت منها مختلف اللهجات المتأخرة، و من هذه اللهجات التی انفردت فیما بعد بخصائصها الخاصة بها اللغة الکنعانیة التی صارت تعرف کاحدی اللهجات فی مجموعة دعیت بکتلة اللغات الغربیة، و منها الموآبیة و الفینیقیة و العبرانیة لتمییزها عن اللهجات الأخری ضمن اطار المجموعات السامیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 140
و قد اشتهرت بلاد کنعان بنشاطاتها التجاریة التی کانت تمارسها مستغلة موقعها الجغرافی علی طریق المواصلات الرئیسیة بین آسیة و بلدان ساحل البحر الأبیض المتوسط فی تنمیة الحرکة التجاریة. فقد اشتهر الفینیقیون سکان السواحل بصناعة بناء السفن مستغلین الأشجار ذات الأخشاب القویة من غابات لبنان الشهیرة فی صنع السفن، حیث ابتدعوا شکل سفنهم التجاریة الخاص و هو یختلف عن الشکل المصری الذی کان معطوفا من طرفیه الی الأعلی، و ذلک بأن جعلوا لمقدم سفنهم منقارا ناتئا، و قد وجدت مثل هذه السفن ذات المناقیر منقولة عن رسوم فی قصر سنحاریب ملک آشور الذی استخدم السفن الفینیقیة لأغراضه. و قد ساعدهم ذلک علی الامتداد فی أسفارهم البحریة البعیدة، فاحتکروا أشهر الطرق البحریة و أقاموا مستعمرات تجاریة فی قبرص و صقلیة و سردینیة و فی شمال افریقیة و فی اسبانیة، و کانت قرطاجنة الواقعة فی جوار تونس الحالیة أهم المستعمرات التجاریة الفینیقیة و قد اتسع نفوذها فی البحر المتوسط مما أثار تخوف الرومان من اتساع سیطرتها فوجّهوا حملة بحریة ضدها حتی قضوا علیها سنة 146 ق. م. و کانت علاقات الفینیقیین مع الآشوریین حسنة و ظلوا علی هذه الحال من الصلات الحسنة مع الاخمینیین و اشتهرت صور بأنها تحدّت الاسکندر الکبیر فی فتوحه للشرق .
و أعظم ما قام به الکنعانیون للحضارة هو اختراع الأبجدیة الهجائیة الذی یعتبر من أهم الاختراعات فی تاریخ الحضارات البشریة. و یتفق الباحثون علی أن أصل الحروف الهجائیة فی العالم بدأ فی کتابات الأقوام السامیة الغربیة الذین تمتد مناطقهم من طور سیناء الی أقصی حدود بلاد الشام شمالا و غربا، إذ وجدت فی هذه المناطق أنواع کثیرة من النقوش السامیة بالحروف الأبجدیة، و قد حمل الأرامیون فیما بعد الحروف الأبجدیة الفینیقیة من سواحل البحر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 141
المتوسط شرقا الی آسیا حتی الهند، و الفینیقیون نقلوها بدورهم الی الاغریقیة و اللاتینیة و هکذا تغلّبت الکتابة بالحروف الأبجدیة علی الکتابة بالمقاطع المسماریة التی کانت شائعة أو انذاک.

ب- الدور الثانی- دور بنی اسرائیل:

1- عهد موسی

: یبدأ تاریخ بنی اسرائیل بخروجهم من مصر و توجّههم بقیادة النبی موسی الی أرض کنعان (فلسطین)، و یرجّح الباحثون أن الخروج قد وقع فی حوالی سنة 1290 ق. م. یوم کان رعمسیس الثانی علی عرش مصر (1304- 1237 ق. م)، و قدر الباحثون عدد الاسرائیلیین آنذاک بحوالی 6000 الی 7000 نسمة عند خروجهم من مصر. و کانت سیطرة مصر علی فلسطین آخذة فی التدهور حیث کان الحثیون الذین نزحوا من الأناضول یزاحمون المصریین فی هذه المنطقة مما أدی الی اصطدام الطرفین فی معرکة ضاریة خاضها رعمسیس مع غریمه «مواتالیس» ملک الحثیین فی قادش (شمال فلسطین) سنة 1299 ق. م. کاد الحثییون أن ینتصروا فیها، الّا أن رعمسیس تمکن من الصمود بشجاعة أمام الحثیین حتی وصلته الامدادات فواصل القتال الی أن انتهی الصراع الی عقد صلح سنة 1269 ق. م. بین العاهلین رعمسیس و الملک الحثی حاتوشیلی الثالث مع التوقیع علی میثاق دفاع مشترک ضد أی غزو خارجی أو ثورة داخلیة، و فی الوقت نفسه عقد فرعون علی ابنة الملک الحثی حاتوشیلی توثیقا للعلاقات الودیة بین الطرفین. و یستدل من ذلک علی أن فلسطین کانت ساحة حرب عند ما خرج بنو اسرائیل من مصر. لذلک تجنّب النبی موسی التوغل فی داخل فلسطین و اختار لمستقره مع بنی اسرائیل بریة سیناء حیث کانت له صلات مع المدیانیین القاطنین فی جوار هذه المنطقة، إذ سبق له ان أقام فی أرض مدین و قد تزوّج هناک من ابنة کاهنها الذی کان علی ما یرجح موحدا یعبد اللّه باسم «یهوه»، و هو اسم الاله الذی عبده الاسرائیلیون. و بذلک کان جناحه الأیمن محمیا من جهة البادیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 142
لأن الآشوریین لم یکونوا فی وضع یساعدهم علی الفتح حیث کانوا خاضعین آنذاک لحکم الکشیین فی العراق. کما أن الأرامیین لم یکونوا قد بلغوا من القوة بحیث یهددون فلسطین بمغامرة ضدها. و هکذا کان الجو ملائما جدا لسلامة بنی اسرائیل، فبقوا فی بریّة سیناء حوالی السنة ثم ارتحلوا الی قادش برنیع و نزلوا فی بریة فاران ثم توجّهوا الی عصیون جابر و منها الی بریة سین فجبل هور فی طرف أرض أدوم. و لم توضّح التوراة الوضع بعد هذه المرحلة لقد جاء کلامها غامضا غیر أن فقرة تشیر الی أن الرب أتاه بنی اسرائیل فی البریة أربعین سنة حتی فنی الجیل الذی فعل الشر فی عینی الرب . و نخلص من هذا الی أن بنی اسرائیل لم یقوموا بأی غزو أو فتح حتی جاء الجیل الجدید بعد أربعین سنة. و الظاهر أن موسی عقد العزم علی غزو کنعان من جهة شرقی الأردن لصعوبة اختراق الجبهة الشرقیة. و کانت فی هذه الجهة خمس مقاطعات احتل موسی الثلاثة الشمالیة و لم یتحرش بالمقاطعتین الجنوبیتین موآب، و أدوم.
و وزّع موسی المقاطعات الثلاث علی سبطین و نصف سبط.

2- عهد یشوع:

و مات موسی فی أرض موآب فعیّن قبل وفاته یشوع ابن نون خلیفة له، فاقتحم یشوع أرض کنعان عبر الاردن و حارب أقوامها و کان أکثرهم من القبائل الکنعانیة و العموریة و العمالقة التی کانت قد نزحت من جزیرة العرب منذ أوائل الألف الثالثة قبل المیلاد علی أقل تقدیر. و تدّعی التوراة أن یشوع قضی علی 31 ملکا من ملوک هذه الأقوام و منهم ملک أورشلیم «أدونی صادق» «لم یبق شاردا بل حرّم کل نسمة کما أمر الرب إله اسرائیل» . و من بین المدن التی استولی علیها یشوع أریحا و بیت أیل و عای و لخیش و عجلون و حبرون و دبیر، و کانت أریحا أولی المدن التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 143
احتلها بنو اسرائیل بقیادة یشوع «فحرّموا کل ما فی المدینة من رجل و امرأة من طفل و شیخ حتی البقر و الغنم و الحمیر بحد السیف .. و أحرقوا المدینة بالنار مع کل ما بها، انما الفضة و الذهب و آنیة النحاس و الحدید جعلوها فی خزانة بیت الرب.» و یؤخذ من أخبار التوراة أن یشوع قسم الأراضی المستولی علیها بین تسعة اسباط و نصف، لأن سبطتن و نصف سبط أخذوا نصیبهم من الأراضی فی الجانب الشرقی من الأردن فی عهد موسی.
و کان بنو اسرائیل یواجهون فی هذا العهد هجرة أقوام أقویاء کانوا یزاحمونهم من الجهة الغربیة و یصدون تقدّمهم فی هذا الاتجاه، و کان هؤلاء یعرفون بالفلستینیین، و هم جماعة من الأقوام الأیجیة کانوا قد فروا من وجه الهجرات الیونانیة التی ازاحتهم من مواطنهم، فهاجر قسم منهم الی فلسطین بعد إخفاقهم فی النزوح الی مصر حیث صدهم الفرعون رعمسیس الثالث فی معرکة بحریة (1191 ق. م.) و استولوا علی الساحل الفلسطینی الذی یمتد من غزة الی جنوب یافا و منهم جاءت تسمیة فلسطین الحالیة. و من مدنهم المشهورة التی أسّسوها فی هذا القطاع من الساحل «أشدود» و «غزة» و «أشقلون» و «جت» و «عقرون». و کانت هذه المدن تؤلف دویلات کلّ منها برئاسة زعیم و تؤلف فیما بینها اتحادا بزعامة أشدود. و کان هؤلاء الفلسطینیون متفوقین علی الاسرائیلیین فی معداتهم الحربیة إذ کانوا یعتمدون علی أسلحة من الحدید الذی أتقنوا تعدینه و صنع الدروع و الأسلحة الأخری منه . لذلک لم یجرأ یشوع محاربتهم فتجنّهم کما تجنب المدن المحصّنة و منها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 144
أورشلیم لمناعتها. و قد بقی الفلسطینیون بعد أن اندمجوا بالعناصر الکنعانیة بحیث غدا من الصعب تمییزهم عنهم مصدر قلق و خط یهدد الاسرائیلیین فی جمیع أدوارهم التالیة حتی قضی الرومان علی الکیان الاسرائیلی .
و مما ساعد علی تقدم الفتح الاسرائیلی فی بلاد کنعان بقیادة یشوع ملاءمة الظرف السیاسی السائد أو انذاک، فقد کانت البلاد منقسمة علی نفسها تتصارع ما بینها، دویلات لا یحصی عددها یحکم فیها حکام اقطاعیون مستبدون همهم الوحید الحفاظ علی سیطرتهم. و یرجع توطید دعائم هذا النظام الاقطاعی فی هذه المناطق الی عهد الهکسوس الذین دام حکمهم فیها و فی مصر السفلی حوالی قرنین من الزمن بین سنة 1785 و سنة 1580 ق. م. و لمّا أخرج المصریون الهکسوس من بلادهم لاحقوهم فی مستعمراتهم الشرقیة و استولوا علیها و منها بلاد کنعان التی ضموها الی مملکتهم. و لکن المصریین لم یحاولوا تغییر الأوضاع السیاسیة فی هذه المناطق فترکوها علی حالها و کان جل اهتمامهم جمع الجزیة من البلاد علی ید مأمورین متفسخین. و فضلا عن ذلک ان مصر کانت فی منتهی ضعفها عندما غزا یشوع بلاد کنعان ما جعلها غیر قادرة علی التدخل و مدّ ملوک کنعان بمساعداتها. و لم یسلم من هذا الوضع المتردّی غیر المدن الساحلیة الشمالیة المتحصّنة وراء سلسلة جبال لبنان مما جعلها بعیدة عن تأثیر المنازعات الداخلیة فکانت لها موانیها من جهة البحر تساعدها علی تنمیة مصالحها التجاریة و الاقتصادیة من الخارج، و کان دخول عنصر الحدید فی البلاد خلفا للنحاس و القصدیر قد فتح لها عهدا جدیدا فأخذت هذه المدن تمارس صناعة الحدید لصنع الأسلحة و بیعها و ذلک باستیراد الحدید الخام من بلاد الحثیین فتقدمت و ازدهرت تجارتها .
و نستخلص من روایة التوراة أن مدینة أورشلیم کانت من بین المدائن التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 145
لم یستطع یشوع احتلالها لمناعتها و صلابة سکانها الیبوسیین. و یؤکد ذلک الأستاذ بیرون فی مقاله عن تاریخ أورشلیم فی دائرة المعارف البریطانیة فیقول: «و من الجلی الواضح أن أورشلیم کانت قبل مجی‌ء الاسرائیلیین بقیادة یشوع مدینة کنعانیة خالصة علی جانب کبیر من الأهمیة و المناعة» .

3- عهد القضاة:

و بعد موت یشوع أخذ بنو اسرائیل ینتهزون الفرص بعد أن ثبّتوا أقدامهم فی أرض کنعان لتوسیع رقعة الأراضی التی استولوا علیها، فاستولی بنو یهوذا علی غزة و اشقلون و عقرون و تخومها ، کما استولوا علی مدن أخری و منها أورشلیم التی أشعلوا النار فیها ، الّا انهم عادوا فاخلوها تحت ضغط الیبوسیین. امّا تحصینات أورشلیم و منها حصن یبوس (حصن صهیون) فقد ظلت صامدة بید الیبوسیین حوالی ثلاثة قرون بعد ظهور بنی اسرائیل فی فلسطین حتی احتلها الملک داود فی أوائل القرن العاشر قبل المیلاد. «و سکن بنو اسرائیل فی وسط الکنعانیین و الحثیین و العموریین و الفرزیین و الحویین و الیبوسیین و اتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء و أعطوا بناتهم لبنیهم و عبدوا آلهتهم ... فحمی غضب الرب علی اسرائیل فدفعهم بایدی ناهبین نهبوهم و باعهم بید اعدائهم حولهم و لم یقدروا بعد علی الوقوف أمام أعدائهم ... فضاق بهم الأمر جدا و أقام الرب قضاة فخلصوهم من ید ناهبیهم.» لذلک سمی هذا العهد من الاستیطان بعصر القضاة و قد استمر حوالی القرن بین سنة 1125 و 1025 ق. م .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 146
و کان عهد القضاة عهدا مضطربا تخلّلته عدة نکسات کادت تهدد الکیان الاسرائیلی فی فلسطین، امّا سکان البلاد الأصلیون فتعترف التوراة أنهم أصبحوا من القوة بحیث تمکّنوا من إخضاع بنی اسرائیل لحکمهم فی فترات متواصلة قبیل و خلال عهد القضاة . و قد بلغ الفلسطینیون فی منتصف القرن الحادی عشر قبل المیلاد أوج قوتهم فاوقعوا فی أواخر عهد القضاة بالاسرائیلیین هزائم شدیدة حتی أنهم استولوا علی «تابوت العهد» و خضع الاسرائیلیون الی حکمهم أربعین سنة حتی ظهر شمشون فحارب الفلسطینیین. و تابوت العهد بحسب المآثر الاسرائیلیة خزانة من الخشب مکسوّة بالذهب اعتبرها الاسرائیلیون رمزا لوجود اللّه و قد أودع فیها اللوحان الحجریان اللذان نقشت علیهما الوصایا العشر و أشیاء دینیة أخری، و صارت هذه الخزانة تشغل أقدس جزء من طقوسهم الدینیة و وجودها بین ظهرانیهم یکفل النصر لهم، لذلک کانوا یحملونها معهم فی رحلاتهم و فی معارکهم علی أعمدة طویلة .

4- عهد الملوک:

و لقد شعر بنو اسرائیل تجاه الوضع المضطرب بحاجة الی تنظیم جدید یضمن اتحادهم و توحید قوتهم أمام مقاومة سکان فلسطین المتزایدة، خصوصا بعد أن شهدوا بأم أعینهم کیف کان الفلسطینیون متحدین صفا واحدا فی المعارک ضدهم، کما شهدوا حکم الملوک فی الدویلات الفلسطینیة و الأدومیة و الموآبیة و العمونیة و العموریة و الکنعانیة و غیرها، فصاروا یتوقون الی أن یکونوا مملکة واحدة مثل سائر الشعوب، و القضاء علی انقسام الاسباط. و کان هناک دافع آخر یدفعهم فی هذا الاتجاه و هو انهم تذمروا من حکم القضاة، إذ مال بعض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 147
القضاة وراء المکسب و أخذ الرشوة، فاجتمع کل شیوخ اسرائیل و جاؤا الی صموئیل و هو آخر کبار القضاة و قالوا له: «هو ذا انت قد شخت فالآن اجعل لنا ملکا یقضی لنا کسائر الشعوب. » و قد أصر الشعب علی طلبهم هذا علی رغم ما شرحه لهم صموئیل من مساوی‌ء لملوک و استبدادهم و تسخیرهم للشعوب و ما یملکون لمصالحهم،» فابی الشعب أن یسمعوا لصوت صموئیل و قالوا لا بل یکون علینا ملک فنکون نحن أیضا مثل سائر الشعوب و یقضی لنا ملکنا و یخرج أمامنا و یحارب حروبنا.» فنزل صموئیل عند رغبتهم و عین لهم الملک المنشود، و هذا الملک الأول هو شاؤول. و لکن کان علی الملک أن یحکم وفق أوامر یهوی التی تصل علی ید الکهنة رجال الدین، و لمّا أهمل هذا الملک الرضوخ التام لأوامر یهوی المنقولة علی ید صموئیل خذله الرب و أوقعه بید أعدائه الفلسطینیین فاندحر امامهم فقتل هو و أولاده الثلاثة فی المعرکة و تشیر التوراة الی أنه مات منتحرا بعد جرحه. و کان حکم شاؤول قد استمر حوالی 15 سنة بین سنة 1025 و 1010 ق. م علی وجه التقریب .
و قد اتخذ حبرون (الخلیل) عاصمة له خلال مدة حکمه. ثم تقلّد الحکم الملک داود خلفا لشاؤول فاستطاع هذا الملک أن یخضع اکثر المدن الفلسطینیة کما تمکّن من إخضاع دویلات أدوم و موآب و عمون، و وسّع مملکته من جهة الشرق فاستولی علی مملکة صوبا الأرامیة الغنیة بمناجم النحاس و أخضع ملکها هدد عزر بن رحوب و أخذ منها «نحاسا کثیرا جدا». کما اخضع توعی ملک حماة الذی أعلن موالاته للملک داود بارساله هدایا ثمینة الیه .
«و ملک داود علی جمیع اسرائیل و کان داود یجری قضاء و عدلا لکل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 148
شعبه.» و فی هذا العهد تعلم الاسرائیلیون صناعة الحدید من أبناء فلسطین مستغلین الحدید الخام المتوفر فی ارض أدوم التی استولوا علیها، کما استطاعوا أن یوسعوا تجارتهم بعد سیطرتهم علی الطریق التجاریة المهمة بین بلاد الشام و بلاد العرب. و قد اتخذ داود فی أوائل حکمه حبرون عاصمة له ثم انتقل الی أورشلیم بعد استیلائه علیها من الیبوسیین و بنی فیها قصره الملکی و اقام فیها معبدا للاله یهوی. و بذلک تکون أورشلیم قد بقیت فی أیدی أهلها من الکنعانیین حوالی ألفی عام قبل احتلالها فی زمن الملک داود. و قد استمر حکم داود 40 سنة بین سنة 1010 و سنة 971 ق. م. علی وجه التقریب. (1) ثم انتقل الحکم الی الملک سلیمان و هو الذی اشتهر ببناء الهیکل فی أورشلیم.
اما الوصف الذی اعتاد الباحثون تردیده عن اتساع و امتداد حدود مملکة سلیمان فیعده أکثر الباحثین من قبیل المبالغات التی درجت علیها دویلات و أقوام تلک العصور. و الحقیقة أن اسرائیل کانت فی عهد سلیمان الذی یتبجح الاسرائیلیون بعظمته أشبه بمحمیة مصریة مرابطة علی حدود مصر قائمة علی حراب أسیادها الفراعنة الذین کانوا أهم ما یهدفون الیه من وراء هذا الاسناد حمایة حدودهم الشرقیة من غارات الأقوام الطامعة بمصر و فی مقدمتهم الاشوریون. و کان سلیمان یرید أن یجاری الفراعنة فی البذخ و الظهور بما هو فوق طاقاته و امکاناته الاقتصادیة و ذلک باغداقه علی إقامة الابنیة الشاهقة و القصور الفخمة، فاثقل کاهل الشعب بکثرة الضرائب کما أثقل کاهل خزینته بالدیون المتراکمة حتی اضطر أن یقدّم الی حیرام ملک صور عشرین مدینة فی أرض الجلیل مقابل الدیون التی تراکمت علیه، و لکن لم تحسن هذه المدن فی عینی حیرام حتی قال لسلیمان: «ما هذه المدن التی أعطیتنی ایاها؟.
فدعاها حیرام أرض کابول.» و لما عسر علی سلیمان أن یحتل أرض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 149
الفلسطینیین الساحلیة طلب معونة حمیه فرعون مصر فارسل جیشا مصریا احتلها له و سلمها الیه مهرا لابنته زوج سلیمان. و یؤکد الخبراء بان الوثائق التاریخیة التی بین أیدیهم لا تؤید کل الشهرة و العظمة التی نسبت الی سلیمان لأن المملکة التی ورثها عن ابیه داود کانت أوسع و أغنی مما صارت علیه فی عهده . و فی الأسفار الأربعة من العهد القدیم، سفری صموئیل الأول و الثانی و سفری الملوک الأول و الثانی، تفاصیل عن حیاة و اعمال الملوک الثلاثة، فالسفران الأولان مکرسان لصموئیل و شاؤول و داود و السفران الأخیران معظمهما مکرس لسلیمان.
لقد کان الخلاف بین مصدر و آخر فی تعیین تواریخ حکم کل من شاؤول و داود و سلیمان شاسعا بحیث یحتار الباحث بای منها یأخذ، لذلک أخذنا بتاریخ بدایة حکم ملکی یهوذا و اسرائیل بعد الانقسام و هو سنة 931 ق. م.
کما توصلت الیه أحدث الدراسات، ثم اعتمدنا علی التوراة التی حدّدت مدة حکم کل من سلیمان و داود باربعین سنة فی تعیین تاریخ حکمهما قبل الانقسام مباشرة. امّا شاؤول فلم تشر التوراة الی مدة حکمه و قد عینه الباحثون کل حسب تخمینه فی الفترة التی تلی عهد القضاة مباشرة. و بذلک یمکن تحدید تاریخ حکم کل منهم علی وجه التقریب کالآتی:
یتضح مما تقدم أن کیان هذه المملکة الموقتة کان قائما علی إسناد المصریین الملک شاؤول بین 1025 و 1010 ق. م.
الملک داود بین 1010 و 971 ق. م.
الملک سلیمان «971 و 931»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 150
الذین اتخذوها محمیة لهم علی حدود بلادهم الشرقیة. و کانت الظروف السیاسیة السائدة أو انذاک الی جانب الاسرائیلیین حیث کانت الامبراطوریة الآشوریة تعانی سکرات الوهن و الانحلال مما جعل الاسرائیلیین فی مأمن من خطر الغزو من الشرق، و فی الوقت نفسه کان الأرامیون الذین یهددون اسرائیل من الشرق قد وجدوا باب العراق مفتوحا أمامهم لغزو وادی الرافدین و التغلغل فی ارجائه فاشغلهم ذلک عن التفکیر بالممتلکات الغربیة فی فلسطین. و هکذا صفا الجو لتشکیل المملکة الموقتة فی فلسطین بحمایة مصر.

5- عهد الانقسام- مملکتا اسرائیل و یهوذا

و لقد خلف سلیمان بعد وفاته ترکة ثقیلة، فقد أحدثت اندفاعاته فی تسخیر الشعب ردة فعل سرعان ما برزت من مکمنها بعد موته مباشرة، فالاتحاد بین الشطرین، اسرائیل و الاسباط العشرة من جهة و یهوذا و بنیامین من جهة أخری، الذی حققه داود غدا فی خبر کان و ظهرت الخلافات علی اشدها من جدید و قد تمخض عنها قیام دولتین، الأولی فی الشمال باسم مملکة اسرائیل و تضم عشرة اسباط و عاصمتها شکیم (نابلس) ثم (ترصة) و أخیرا مدینة السامرة (سبسطیة)، و الأخری فی الجنوب باسم مملکة یهوذا و تضم سبطی یهوذا و بنیامین و عاصمتها أورشلیم. و قد تولّی الحکم فی اسرائیل یربعام بن نباط و کان خصما لسلیمان أراد سلیمان قتله فهرب من وجهه الی شیشنق ملک مصر. فلما مات سلیمان عاد فنصب ملکا علی اسرائیل . کما تولّی الحکم فی یهوذا رحبام بن سلیمان و کان ذلک سنة 931 ق. م. و کان أهل الشمال یختلفون عن أهل الجنوب فی نمط حیاتهم و ثقافتهم، فکان أهل الشمال یمارسون الزراعة و التجارة و کانوا أکثر تأثرا بالکنعانیین المدنیین و بثقافتهم و دیانتهم الوثنیة من أهل الجنوب الذین کانوا اکثر تمسکا بالآلة یهوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 151
و محافظتهم علی حیاة البداوة. و کانت الحرب سجالا بین المملکتین منذ البدایة و استمرت طیلة حیاتهما مما اضعف کلیهما، هذا عدا الغزوات التی کانت المملکتان معرضتین لها من الخارج. فأول من غزا مملکة یهوذا شیشنق الأول اللیبی ملک مصر، «ففی السنة الخامسة للملک رحبام صعد شیشنق ملک مصر الی أورشلیم و أخضعها للفراعنة و أخذ خزائن بیت الرب و خزائن بیت الملک و أخذ کل شی‌ء و أخذ جمیع اتراس الذهب التی عملها سلیمان.» و فی زمن یهورام ملک یهوذا الرابع (848- 841 ق. م) انفصل بنو أدوم عن مملکة یهوذا و ملّکوا علی أنفسهم ملکا» و فی زمنه أیضا صعد الفلسطینیون و العرب الذین بجانب الکوشیین فصعدوا الی یهوذا و افتتحوها و سبوا کل الأموال الموجودة فی بیت الملک مع بنیه و نسائه أیضا و لم یبق له الّا أصغر بنیه. و فی زمن یوآش غزا الجیش الآرامی أورشلیم و أهلک کل الرؤساء و أخذ جمیع الخزائن و قدمها لحزائیل ملک الارامیین. و فی عهد امصیا ملک یهوذا (796- 767 ق. م) هجم یهواش ملک اسرائیل علی اورشلیم فهدم سورها و أخذ کل الذهب و الفضة و جمیع الآنیة الموجودة فی بیت الرب و فی خزائن بیت الملک. و فی عهد ازدهار مملکة دمشق الأرامیة أصبحت کلتا المملکتین، اسرائیل و یهوذا، تحت سیطرتها فأخذ الملک ابن هداد (بنهدد) ملک دمشق (879- 843) ق. م الجزیة من یهوذا و ضم منطقة جلعاد فی شرقی الاردن الی المملکة الأرامیة، کما أنه فرض الحمایة الأرامیة و الجزیة علی اسرائیل فی عهد ملکها آخاب بن عومری (874- 853 ق. م). و کان الأرامیون یستغلون الخلاف بین اسرائیل و یهوذا لاخضاع کلیهما الی نفوذهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 152
ثم تحرکت الامبراطوریة الآشوریة متعطشة للفتح فاصطدمت أول ما اصطدمت بالأرامیین، و بدأ الصراع ما بینهما علی السیطرة، فاستغل الاشوریون الصراع القائم بین الأرامیین و بین اسرائیل و یهوذا للانقضاض علیهم جمیعا فاخضعوهم الواحد بعد الآخر.

6- الغزو الآشوری و ازالة اسرائیل من الوجود:

لقد کان لقیام الامبراطوریة الآشوریة الثانیة التی دامت بین سنة 745 و 612 ق. م. أثرها فی تغییر وجه الشرق، فقد حکم خلال هذه الفترة ستة ملوک بلغت الانبراطوریة فی عهدهم أوج عظمتها و اتساعها خلال القرنین الثامن و السابع قبل المیلاد بحیث ضمت جمیع أراضی الهلال الخصیب و من ضمنها مصر، و لم یکتفوا بذلک فوسّعوا نطاق سلطانها و سیطرتها حتی شملت البلاد الجبلیة الشمالیة و الشرقیة و ما وراءهما. و یهمنا من بحث هذه الانبراطوریة العظیمة الدور الرئیسی الذی لعبته فی القضاء علی مملکة اسرائیل نهائیا و سبی سکانها الیهود الی أماکن بعیدة و احلال سکان من غیر الیهود محلهم من مختلف انحاء الامبراطوریة، ثم تحطیم مملکة یهوذا.
و من الحملات التی شنّها ملوک هذه الانبراطوریة فی فتوحاتهم حملة أول ملوکها «تجلات بلاسر الثالث» (745- 727) علی مملکة آرام فاستولی علی عاصمتها دمشق (732 ق. م) و سبی أهلها و قتل ملکها رصین، ثم توجّه الی اسرائیل فاستولی فی زمن فقح ملک اسرائیل (739- 731 ق. م) علی کل أراضی اسرائیل و سبی أهلها الی آشور تارکا لخلفه الملک هوشع مدینة السامرة . و قد قام تجلاث بلاسر بهذه الحملة استجابة الی استنجاد آحاز بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 153
یوثام ملک یهوذا (735- 715) ق. م. بتجلاث بلاسر لانقاذه من ضغط الملک رصین ملک دمشق و الملک فقح ملک اسرائیل و قدّم الی ملک آشور کمیات کبیرة من الفضة و الذهب «الموجودة فی بیت الرب و فی خزائن بیت الملک.»
و قد اتبع تجلاث بلاسر سیاسة التهجیر و نقل السکان من مکان الی مکان آخر، فکان ینفی سکان الاقالیم المغزوة و یسکن محلهم سکان أقالیم أخری، فنقل سکان سوریة و فلسطین الی بلاد بابل و آشور و أحلّ محلهم أقواما من بابل و من لولوبو فی الزاغروس و من نایبری قرب بحیرة وان . و قد عثر علی مسلّة آشوریة نقش علیها شرح کامل لحملة تجلاث بلاسر علی أرام و علی اسرائیل.
و فی عهد شیلمنصر الخامس، خلف تجلاث بلاسر (727- 722 ق. م) جرّد هذا الملک حملة تأدیبیة علی اسرائیل، فحوصرت عاصمتها السامرة مدة ثلاث سنوات، و قبل ان یظفر بالنصر النهائی وافته المنیة فی الشهر العاشر من عام 722 ق. م.، و لکن القائد الآشوری أتم مهمته باحتلال السامرة فی نهایة العام علی عهد سرکون الثانی خلف شیلمنصر، و بذلک تم استسلام السامرة عاصمة اسرائیل و القضاء علی مملکة اسرائیل نهائیا. و تبعا للخطة التی تبناها تجلاش بلاسر الثالث أجلی سرکون الثانی زهرة رجال المملکة (280، 27
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 154
شخصا) الی ناحیة حران و الی ضفة الخابور و میدیا، و قد أحل محلهم الأرامیین من اقلیم حماة، ثم لحق بهم العرب هناک فی عام 715 ق. م.
و کذا بعض الأهلین من کوثا و بابل سنة 709 ق. م. و بذلک قضی علی العشرة أسباط التی کانت تتکوّن منها اسرائیل فأزیلت مملکة اسرائیل من الوجود و بقیت مملکة یهوذا الصغیرة تتأرجح فی مهب الریح بین رحمة حکومة مصر من المغرب و دولة آشور من الشرق فاذا انحازت للاولی غضبت علیها الثانیة و اذا انضمت الی الثانیة أغاضت الاولی، فلمّا أخذ الملک حزقیا ملک یهوذا (715- 686 ق. م) یتقرب من مصر و أخذ یتهیأ للدفاع المشترک مع بعض الملوک المجاورین ضد هجمات الآشوریین و یستعد للدفاع عن عاصمته أورشلیم بتقویة أسوارها و تحصینها غضب سنحاریب (705- 681 ق. م) خلف سرکون، فصمم علی القیام بحملة قویة علی مملکة یهوذا لاخضاعها او تدمیرها و القضاء علیها کما فعل أسلافه باسرائیل. فهب حزقیا و أرسل وفدا إلی مصر مستنجدا بملکها فوعده المصریون بالعون، فانتقده أشعیا علی اعتماده علی ملک مصر بدلا من اعتماده علی الرب بقوله: «ویل للذین ینزلون الی مصر للمعونة و یستندون علی الخیل و یتوکلون علی المرکبات لأنها کثرة و علی الفرسان لأنهم أقویاء جدا و لا ینظرون الی قدوس اسرائیل و لا یطلبون الرب» .
و لدینا مصدران عن أخبار حملة سنحاریب هذه علی مملکة یهوذا: الأولی، کتابات سنحاریب نفسه، و قد نقشت علی جدران قصره فی نینوی الی جانب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 155
صورته و هو جالس علی عرشه فی مقر عملیاته الحربیة فی لخیش و قد ظهر وفد من یهوذا یقدّمون الجزیة و فروض الطاعة. و یظهر مما ورد فی هذه المدوّنات أن سنحاریب اتجه غربا حتی وصل الی ساحل البحر الأبیض المتوسط فاستولی علی صیدون (صیدا) بعد فرار ملکها «لولی» دون أن یتحرش ببلدة صور لموقعها المنیع علی الجزیرة. ثم جاءه تأیید الطاعة مع الهدایا من مدن الساحل من أرواد و بیبلوس (جبیل) و أشدود، و کذلک من دول الشرق من موآب و عمون و أدوم. و قد بعثت مصر بجیش من المصریین و الأثیوبیین فاستولوا أولا علی اشقلون (عسقلون)، ثم اتجهوا شمالا للاتصال بقوات حزقیا ملک یهوذا الّا أن سنحاریب قابلهم و انتصر علیهم، ثم توجّه الی عقرون فهدمها و أخذ یحتل مدن یهوذا الواحدة بعد الأخری و قد اتخذ مقره فی لخیش و منها بعث بجیش أقام الحصار علی أورشلیم العاصمة . و فیما یلی نص کتابة سنحاریب یصف فیها انتصاراته علی یهوذا فیقول: «امّا حزقیا الیهودی فلم یرضخ لسلطتی فحاصرت 46 مدینة من مدنه المحصّنة عدا القری المجاورة التی لا یحصی عددها و استولیت علیها کلها باستخدام انواع الآلات الحربیة و المنجنیقات مما ساعدنا علی الاقتراب من الأسوار و اختراقها. و قد أخذنا منهم (الیهود 150 و 200 نسمة)، رجالا و نساء، أطفالا و شیوخا، مع حیواناتهم من الخیول و البغال و الحمیر و الجمال، کبیرة و صغیرة، لا تحصی، و هذه کلّها غنائم استولینا علیها. هو شخصه (حزقیا) جعلته حبیسا فی أورشلیم فی قصره کالطیر فی القفص، حطته بأکوام من الأتربة للتضییق علی من یحاول الخروج من باب المدینة. سلّمت مدنه التی استولیت علیها الی «میتینی» ملک أشدود و «یادی» ملک عقرون و «سیلیل» ملک غزة. و هکذا قلّصت حدود بلاده و فرضت زیادة فی الجزیة التی علیه ان یدفعها سنویا» . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 156
امّا المصدر الثانی، فهو روایة التوراة و قد جاءت هذه الروایة مشوّشة غیر واضحة، فمرة تقول: «صعد سنحاریب ملک آشور علی جمیع مدن یهوذا الحصینة و أخذها و أرسل ملک یهوذا الی ملک آشور الی لخیش یقول قد أخطأت، ارجع عنی و مهما جعلت علیّ حملته، فوضع ملک آشور علی حزقیا ملک یهوذا ثلاث مئة وزنة من الفضة و ثلاثین وزنة من الذهب: فدفع حزقیا جمیع الفضة الموجودة فی بیت الرب و فی خزائن بیت الملک.» ثم تعود التوراة فی روایة ثانیة تقول إن ملک آشور «أرسل من لخیش الی الملک حزقیا بجیش عظیم الی أورشلیم فصعدوا و أتوا الی أورشلیم ... و ان ملاک الرب خرج و ضرب من جیش آشور مئة الف و خمسة و ثمانین ألفا، و لما بکروا صباحا اذا هم جثث میتة فانصرف سنحاریب ملک آشور و ذهب راجعا و أقام فی نینوی» .
نستخلص من المصدرین الأمور التالیة التی تتفق فیها الروایتان:
أولا- ان حزقیا طلب العون من مصر فعلا استنادا الی انتقاد أشعیا لملک حزقیا علی طلبه العون من مصر.
ثانیا- استیلاء سنحاریب علی جمیع مدن یهوذا المحصّنة.
ثالثا- ان سنحاریب اتخذ من لخیش مرکزا لعملیاته الحربیة فی فلسطین.
رابعا- ان الحصار علی أورشلیم وقع فعلا ثم فک الحصار.
خامسا- تسلّم سنحاریب الجزیة من حزقیا.
امّا الخلاف فینحصر فی الأمور التالیة:
أولا- ان التوراة فی الوقت الذی تعترف ضمنا بطلب العون من مصر الّا انها لم تشر الی المعرکة التی تذکرها کتابات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 157
سنحاریب بین جیش آشور و جیش مصر و تغلب الأول علی الثانی.
ثانیا- ان التوراة تعترف باستیلاء سنحاریب علی جمیع مدن یهوذا الّا انها سکتت عن الغنائم و الأسری الذین سباهم سنحاریب، و قد سکتت التوراة أیضا عن تسلیم المدن التی استولی علیها سنحاریب الی ملوک أشدود و عقرون و غزة.
و قد حدّدت التوراة تاریخ حملة سنحاریب علی یهوذا فی السنة الرابعة عشرة للملک حزقیا و لما کان حزقیا ارتقی العرش فی سنة 715 ق. م. فیقع زمن حملته فی سنة 701 ق. م.، و هذا یتفق مع التاریخ الذی توصّل الیه المحققون من المصادر الأخری.
و مع أن مدینة أورشلیم لم تسقط الّا أن الجیش الآشوری ترک البلاد خرابا، و لم یستطع ملک یهوذا الاحتفاظ بعرشه الّا بعد دفع الجزیة و اعترافه بسیادة الآشوریین، و ظل الأمر کذلک حتی انهیار الدولة الآشوریة. و قد اکتشف المنقبون بین أطلال قویونجق فی الموصل ثورا من الصخر کتبت علیه وقائع تاریخیة بینها أخبار حملة سنحاریب علی حزقیا و ذلک فی الألواح المحفوظة فی دار المتحف البریطانی.

7- الغزو الکلدانی و ازالة یهوذا

اشارة

و بعد انقراض الدولة الآشوریة بسقوط نینوی سنة 612 ق. م. اقتسم الماذیون و الکلدانیون ممتلکاتها فوقعت حصة الکلدانیین فی سوریة و العراق، و تأسّست علی أثر ذلک الدولة البابلیة الکلدانیة بزعامة نبوبولاسر، و قد لعبت هذه السلالة التی دام حکمها 73 سنة دورا مهما فی تاریخ الشرق الأدنی فی القرن السادس قبل المیلاد، فکان من حملاتها الحربیة الحملتان علی مملکة یهوذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 158
فی عهد نبوخذ نصر الثانی ابن نبوبولاسر و القضاء علیها و سبی الیهود الی بلاد بابل. و أهم مصادرنا عن هاتین الحملتین التوراة لأن نبوخذ نصر أکثر فی مدوّناته تسجیل أعماله العمرانیة. فتشیر التوراة الی أن یهویاقیم ملک یهوذا (608- 597 ق. م.) تمرّد علی نبوخذ نصر علی رغم تحذیر النبی إرمیا له و ذلک بعد أن أظهر طاعته و خضوعه الی العاهل الکلدانی مدة ثلاث سنوات.
ثم تضیف التوراة أن نبوخذنصر أوعز فی بادی‌ء الأمر الی السوریین الآرامیین و الموآبیین و العمونیین أن یغزوا مملکة یهوذا حیث کانت هذه الدویلات من النیل الی نهر الفرات تحت قبضته . ثم شنّ نبوخذنصر بعد ذلک (سنة 597 ق. م) حملة علی یهویاقیم فحاصر أورشلیم، و فی أثناء هذا الحصار توفی یهویاقیم و خلفه ابنه یهویاکین الذی اضطر الی الاستسلام. فسبی نبوخذنصر کل أورشلیم و کل الرؤساء و جمیع جبابرة البأس عشرة آلاف مسبی و جمیع الصناع و الاقیان، لم یبق أحد الا مساکین شعب الأرض کما سبی یهویاکین و أمه و نساءه و رجاله من أورشلیم الی بابل. و أخرج نبوخذنصر جمیع خزائن بیت الرب و خزائن بیت الملک و کسر کل آنیة الذهب، ثم عیّن صدقیا عم یهویاکین خلفا لیهویاکین الذی أکد ولاءه للملک الفاتح . و قد تم اسکان المسبیین و عوائلهم فی منطقة تدعی «نهر الخابور» قرب «نیبور» (نفّر) فی جنوب العراق . و هذا کان خلاف عادة الآشوریین الذین کانوا یشتتون أسراهم فی أماکن مختلفة و بعیدة لمنعهم من التکتّل و التجمّع و ممارسة تقالیدهم و ثقافتهم، فمکّن ذلک الیهود من التجمّع فی المنفی و الاستمرار فی ممارسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 159
تقالیدهم و تکوین مجتمعهم المنعزل الخاص بهم.
کان هذا السبی الأول ثم تبعه السبی الثانی سنة 586 ق. م. و قد وقع علی أثر نقض صدقیا لعهد الولاء الی نبوخذنصر إذ دخل فی حوالی سنة 589 ق. م.
فی تحالف مع المدن السوریة و الفلسطینیة بتحریض من «حوفرا» ملک مصر (خلف نیخو الثانی) الذی کان یطمح أن یستعید سیطرة مصر علی سوریة.
و هکذا فقد وضع صدقیا مصیره مع مصر و حلفائها علی رغم محاولة إرمیا إبعاده عن هذا الحلف الذی کان ضمنا موجها ضد نبوخذنصر. فغضب نبوخذنصر غضبا شدیدا و جاء هذه المرة بنفسه علی رأس حملة قویة الی سوریة الشمالیة و عسکر فی ربلا علی نهر العاصی، و کان ذلک سنة 587 ق. م.، فأرسل نبوخذنصر من حاصر أورشلیم، الّا ان دخول حوفرا ملک مصر الی فلسطین اضطر البابلیین الی رفع الحصار موقتا، لمحاربته، فظن الیهود أن النصر بات حلیفهم و لکن النبی إرمیا حذّرهم فأبان لهم بأنهم یخدعون أنفسهم بهذا النصر لأنه وقتی فوضعوه فی السجن . و وقع کما تنبأ إرمیا فعلا فقد تمکن البابلیون من صد المصریین و ارجاعهم علی اعقابهم ثم أعادوا بسط الحصار علی أورشلیم فی الحال، و لم یمض وقت طویل حتی تفشت المجاعة و ربما الوباء فی المدینة مما اضطر الیهود أن یرضخوا و یستسلموا فدخلت الجیوش البابلیة المدینة فی الیوم الرابع من شهر تموز سنة 586 ق. م.، امّا صدقیا فهرب هو و أفراد عائلته و لکن البابلیین لحقوا به فی سهول أریحا حیث قبضوا علیه و حملوه الی ربله حیث مقر معسکر الملک نبوخذنصر، و هناک ذبح نبوخذنصر أولاده امام عینیه ثم فقئت عیناه و أخذ مکبلا مع الأسری الی بابل. امّا أورشلیم فخرّبت و دمّرت تدمیرا کاملا فدک سورها و أحرق بیت الرب و بیت الملک و کل بیوت أورشلیم و کل بیوت العظماء و سلبت الخزائن و نقلت الی بابل، و قد خمن عدد الأسری الذین سیقوا الی بابل لیلحقوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 160
بالیهود من السبی الأول بحوالی 000، 50 شخص. ثم وجه نبوخذنصر بعد ذلک بجیشه الی المدن الفینیقیة و السوریة فأخضعها الا مدینة صور التی تعذر فتحها لکونها جزیرة فی البحر فدام حصارها 13 سنة (585- 573 ق. م.) و لم ینته الّا بعقد صلح قبلت صور بموجبه تجدید ولائها لبابل و دفع الجزیة و بذلک غدت أورشلیم (أورو- سالم فی لسان البابلیین) مستعمرة بابلیة تدفع الضرائب لبابل، و ظلت کذلک حتی الفتح الفارسی.
و هکذا قضی علی مملکتی اسرائیل و یهوذا الهزیلتین، فکان عدد الملوک الذین حکموا فی کل منهما عشرین ملکا، فدام حکم اسرائیل 209 سنوات و ذلک بین سنة 931 ق. م. و 724 ق. م.، و قد دام حکم یهوذا 345 سنة و ذلک بین سنة 931 و 586 ق. م.
و بعد تخریب نبوخذنصر لبیت المقدس و سبی بنی یهوذا الی بابل ورث الأدومیون دیار یهوذا الجنوبیة من الخلیل الی بئر السبع فشرقا إلی وادی عربه حیث یتصل بتخوم أدوم. و من الأدومیین الذین حکموا فلسطین فی النصف الثانی من القرن الأول قبل المیلاد هیرودوس الکبیر (37- 4 ق. م.)، (37- 4 ق. م.)، ثم بعده أبناؤه أرخیلاوس و انتییاس و فیلیب. و الأدومیون کانوا عربا و مواطنهم علی حدود الصحراء الشرقیة فی جنوبی فلسطین و هم من نسل عیسو کما تقول التوراة.

ملوک یهوذا الذین حکموا فی أورشلیم

رحبعام ... 931- 913 ق. م
أبیام ... 913- 910 ق. م
آسا ... 910- 869 ق. م
یهوشافاط ... 869- 848 ق. م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 161
یهورام ... 848- 841 ق. م
أخزیا ...-- 841 ق. م
عثلیا ... 841- 835 ق. م
یوآش ... 835- 796 ق. م
أمصیا ... 796- 767 ق. م
عزیا ... 767- 739 ق. م
یوثام ... 739- 735 ق. م
آحاز ... 735- 715 ق. م
حزقیا ... 715- 686 ق. م
منسی ... 686- 641 ق. م
آمون ... 641- 639 ق. م
یوشیا ... 639- 608 ق. م
یهوآحاز ... 639- 608 ق. م
یهویاقیم ... 608- 597 ق. م
یهویاکین ... 608- 597 ق. م
صدقیا ... 597- 586 ق. م

أورشلیم فی زمن الفرس الأخمینیین (538- 322 ق. م)

استفاد الیهود فی أثناء وجودهم فی الأسر فی بابل من حضارة البابلیین و ثقافتهم فاقتبسوا الکثیر منها و خاصة ما یتعلق بفنون الزراعة و الری، فأخذ أکثرهم یمارسون الزراعة التی تعتمد علی الإرواء الدائم بما فی ذلک أسالیب شق الجداول و تطهیرها و طرق الإرواء . و فی بابل مارسوا شعائرهم الدینیة و واصل کهنتهم أعمالهم الدینیة، کما یشیر الی ذلک نشوء التعالیم الیهودیة المهمة المعروفة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 162
باسم التلمود البابلی حتی لیقال إن السبی البابلی کان عاملا قویا فی تطور الدین الیهودی فی القرون التی تلی.
و لما فتح کورش الأخمینی الفارسی بلاد بابل (539- 538 ق. م) سار فی فتوحاته حتی احتل سوریة و فلسطین و من ضمنها أورشلیم، ثم سمح لمن أراد من أسری نبوخذنصر (أسر 597 و أسر 586 ق. م) الرجوع إلی فلسطین، و أعاد إلیهم کنائز الهیکل التی کان قد سلبها نبوخذنصر و أمر باعادة بناء الهیکل فی أورشلیم علی نفقة بیت الملک ، فعاد فریق منهم بقیادة «رزوبابل» بن شلائیل بن یهویاکین ملک یهوذا الأخیر و آثر الآخرون البقاء حیث کانوا. و قد نعت الیهود کورش بالراعی و بالمسیح المنتظر و وصفوه بصفة المنقذ . امّا عدد الذین عادوا، فقد جاء فی سفری عرزا و نحمیا أن عددهم کان (42360 نسمة)، هذا عدا عبیدهم و امائهم الذین بلغوا (7337) نسمة و حیواناتهم من خیول و بغال و جمال و حمیر ، و لکن الرأی الحدیث لا یمیل الی الأخذ بهذه الأعداد لاتسامها بالمبالغة .
و یرجّح المؤرخون أن الذین رجعوا انحصر فی أولئک الذین لم یفلحوا کثیرا فی الأرض الجدیدة و المتعصبون لاعادة بناء الهیکل، لأن الدلائل تشیر الی أن هناک عددا غیر قلیل أصابوا النجاح فی بلاد بابل فأثروا و أصبحت لدیهم ممتلکات کثیرة ففضلوا البقاء و عدم المجازفة بمغامرة مجهولة المصیر. و تشیر الوثائق التی عثر علیها الی أن عائلة «الموراشو» الیهودیة اشتهرت کاحد البیوتات المالیة الکبیرة فی عهد ارتکسرکس الأول (465- 424 ق. م.)، فکانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 163
هذه المؤسسة تمتلک جداول للری و قطعانا کثیرة من الأغنام، و کانت أکثر الأراضی فی جوار نیبور مرهونة عندها و قد أثرت نتیجة تعاطیها الربا الفاحش الذی کان یصل الی 40 أو 70 بالمائة .
و کان «رزوبابل» قد عیّن اول حاکم علی الجالیة الیهودیة فی فلسطین تابعا الی الدولة الفارسیة، فشرع فی بناء الهیکل الّا أن الأقوام المجاورة کالحوریین و العمونیین و الحثیین و الأدومیین احتجوا علی ذلک و هدّدوا بالعصیان فأصدر سمردیس خلف قمبیز الثانی سنة 522 ق. م. أمرا بتوقیف عملیة البناء، و لکن دارا الأول أباح لهم ذلک و أتموا بناء الهیکل و السیر علی عهده سنة 515 ق. م.، و فی عهد أکسرکس الأول (465- 424 ق. م) عادت جماعة أخری من الیهود بقیادة نحمیا و جماعة أخری بقیادة عزرا. فعیّن نحمیا حاکما علی أورشلیم (444- 432 ق.) .. و هو الذی قام ببناء ما تهدم من السور .
و قد ترک الیهود استعمال اللغة العبریة ما بینهم فی هذا العهد و حلّت محلها الآرامیة، إذ کانوا فی بابل و حتی بعد عودتهم إلی أورشلیم یتکلمون باللغة الآرامیة، و قد و قد اقتصرت العبریة علی الکتب الدینیة المقدسة .

8- أورشلیم فی العصر الأغریقی- المکابیون فی فلسطین (332 ق. م- 64 ق. م):

أ: عهد الأسکندر الکبیر

یبدأ هذا العصر فی بدایة حملة الاسکندر الکبیر علی بلاد الشرق سنة 334
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 164
ق. م .. فکان الاسکندر یرمی من حملته هذه تأسیس امبراطوریة واسعة تضم الغرب و الشرق بلا حدود تفصلها، تخضع سیاسیا و اقتصادیا و ثقافیا للنفوذ الاغریقی، و ذلک بتأسیس مستوطنات اغریقیة فی مختلف أنحاء هذه الامبراطوریة و انشاء قواعد عسکریة علی طول خطوط المواصلات مع اقامة مراکز ثقافیة تتولی نشر الثقافة الیونانیة بما فی ذلک اللغة الیونانیة. و قد قام الاسکندر بذلک فعلا بعد احتلاله للبلاد فأسّس سبعین مدینة یونانیة جدیدة بأسماء یونانبة. و مع أن حلمه لم یتحقق بالشکل الذی أراد، لأنه لم یطل بقاؤه فی البلاد التی احتلّها أکثر من إحدی عشرة سنة فلم تنقرض الثقافة الیونانیة من البلاد، حیث سلک أخلافه فی نفس الطریق لتطبیق منهجه فی نشر الثقافة الیونانیة، و الدلیل علی رسوخها أن رسالة المسیح أذیعت بعد ثلاثة قرون باللغة الیونانیة علی العالم المتمدن.
و قد اختلف المؤرخون فی موضوع زیارة الاسکندر لأورشلیم فقال البعض إنه مرّ بها فی طریقه الی مصر، الّا أنه لا یوجد أی ثبت یؤکد ذلک. و قد بقی الاسکندر فی مصر حوالی السنتین بین سنة 332 و 331 ق. م.، فأسّس هناک مدینة الاسکندریة و قد منح فی أثناء وجوده فی مصر للجالیة الیهودیة نفس الحقوق التی منحت لمواطنیه، و یستدل من مجری الأحداث علی أن الاسکندر بعد أن استولی علی فلسطین و مصر لم یتعرّض للأنظمة الدینیة الذاتیة التی کانت سائدة بین الجماعات الیهودیة فی ظل سلطة الکهنة فی فلسطین.

ب- النزاع بین القوّاد الیونانیین بعد موت الاسکندر:

و قد برز بعد وفاة الاسکندر فی بابل سنة 323 ق. م أربعة من قواده علی علی رأس نبع جیحون و یحتاج الی صعود 33 درجة فی المغارة للوصول الی الماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 165
أربعة أقطار، و هم: بطلیموس فی مصر، و سلوقس فی بابل، و انطیفونس فی فلسطین و آسیا الصغری، و انتیبیتر فی مقدونیا، و سرعان ما نشب الخلاف بین القواد الأربعة علی تقسیم الامبراطوریة بینهم، فکان بطلیموس (بطلیموس الأول- سویتر) أول من تحرّک منهم فهاجم أنطیفونس سنة 312 ق. م. و بمعاونة سلوقس له انتصر علی انطیفونس فی غزة و ضم فلسطین الی أملاکه فی مصر. و قد بقیت فلسطین حوالی القرن تحت حکم البطالمة فی مصر باستثناء فترات قلیلة خرجت فیها من أیدیهم. و تشیر الوقائع التاریخیة الی أن بطلیموس نزل علی أورشلیم سنة 300 ق. م. و نقل عددا غفیرا من الیهود الی أفریقیا لأنهم لم یرضوا أن یحاربوا یوم السبت. و قام سلوقس بدوره بمهاجمة أنطیفونس سنة 301 ق. م فانتصر علیه أیضا و استولی علی سوریا و علی القسم الشرقی من آسیا الصغری و قد امتد تخم أراضی سلوقس شرقا لیضم بلاد فارس.
و أسّس سلوقس مدینة أنطاکیة علی الجانب الأیسر من نهر العاصی فی موضع یقع علی بعد حوالی 20 میلا من البحر و سمّاها باسم أبیه أنطیوخس و قد اتخذها مرکزا لحکمه فی سوریة، کما أنشأ مدینة علی البحر المتوسط تحمل اسمه فسمّاها «سلوقیة»، و قد انشأها لحمایة مصب العاصی و لتکون میناء لانطاکیة. و قد انشأ أیضا مدینة «أفامیا» علی نهر العاصی سمّاها باسم زوجته و اتخذها مقرا للجیش و مرکزا مهما لتربیة الأفیال الحربیة التی کان السلوقیون و البطالمه یستخدمونها فی حروبهم، و قد جعل السلوقیون الفیل شعارا لهم نقشوه علی نقودهم المسکوکة. و قد أسّس سلوقس عدا ذلک ثلاثا و ثلاثین مدینة ست عشرة منها باسم والده انطیوخس، و تسع باسمه، و خمس باسم والدته، و ثلاث باسم زوجته.

ج- النزاع بین البطالمة فی مصر و السلوقیین فی سوریة:

و هکذا فبعد ابعاد انطیفونس عن المسرح بقیت القوتان الیونانیتان، قوة البطالمة فی مصر و قوة السلوقیین فی الشرق، تتزاحمان بینهما علی السلطة و محاولة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 166
توسّع الواحد علی حساب الآخر، فلم یمض وقت طویل حتی بدا الخلاف علی أشده بینهما، ففی عهد سلوقس الثانی (246- 226 ق. م.) هاجم بطلیموس الثالث (246- 221 ق. م) سوریة و احتل أنطاکیة و توجه نحو الفرات فی سوریة، الّا أنه اضطر الی التراجع بسبب اضطرابات داخلیة نشبت فی مصر. ثم رد بعد ذلک علی هذا الهجوم أنطیوخس الثالث الملقب بالکبیر و هو سادس الملوک السلوقیین (223- 187 ق. م.)، فهاجم البطالمة فی سوریة و انتصر علیهم فاسترجع جمیع الأملاک التی کان قد استولی علیها بطالمة مصر من أسلافه و احتل فلسطین و معها یهوذا سنة 198 ق. م.، و بذلک انتقلت فلسطین الی حکم السلوقیین. و کان أنطیوخس یستعد للهجوم علی مصر الّا أن تدخل روما فی الأمر اضطره الی الکف عن الهجوم، و لکن روما لم تکتف بذلک بل هاجمته و انتصرت علیه فی معرکة بحریة نشبت بین الطرفین سنة 191 ق. م. و استولت علی أملاک انطیوخس فیما وراء طوروس و فرضت علیه تعویضات حربیة ثقیلة. و تبرز هنا نقطة تحوّل رئیسة فی السیاسة الدولیة فی الشرق، و هی ظهور روما أول مرة کدولة قویّة طامعة فی الممتلکات الشرقیة.

د- طبقة من الیهود تتقبل الثقافة الیونانیة:

و کانت قد ظهرت فی ذلک الوقت طبقة ارستقراطیة من الیهود فی أورشلیم، و هم من الأغنیاء و المتجددین استجابوا الی مخطط البطالمة و السلوقیین لغرض الثقافة الیونانیة و العمل بها، فاقتبسوا اللغة الیونانیة و أبدوا استعدادهم للتعاون مع الیونانیین فی هذا المجال. و قد استفاد الیهود فی یهوذا من الخلاف المستحکم بین الحکام السلوقیین فی سوریة و بین الحکام البطالمة فی مصر فی التمتع بالحکم الکهنی الذاتی و بامتیازات أخری، ففی مرسوم ملکی أصدره أنطیوخس الثالث الی بلدة أورشلیم بعد استیلائه علی فلسطین أعفی فیه المدینة من الضرائب ثلاث سنوات علی أن یشمل الاعفاء أیضا تخفیضا فی الضرائب الی الثلت فیما بعد ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 167

ه- تدخل روما فی الشرق:

و ما کادت روما تظهر علی مسرح الأحداث فی الشرق حتی أصبحت حامیة للبطالمة الضعفاء و غدت تنافس السلوقیین فی أرضهم، فلما هجم العاهل السلوقی انطیوخس الرابع (ابیفانوس) سنة 170 ق. م. علی مصر و تمکن من الاستیلاء علی مصر السفلی عدا الاسکندریة و أسر ملکها بطلیموس السادس «فیلومیتور»(Philometor) (180 145 ق. م.)، تدخّلت روما فی الأمر و أرغمت انطیوخس الرابع علی إخلاء ما احتله من أرض مصر و الرجوع الی دیاره، ثم أعاد انطیوخس غزوه لمصر سنة 168 ق. م. و لم ینقذه منه سوی تدخّل روما التی أرغمته علی الانسحاب للمرة الثانیة. و فی طریق عودة انطیوخس عرج علی أورشلیم فدمّر هیکلها و نهب ما فیه من خزائن و خطط للقضاء علی الیهودیة و إرغام الیهود فی یهوذا علی الاخذ بالدیانة الهیلینیة الوثنیة و العمل بتقالیدها و ممارسة طقوسها، فأحلّ الاله الیونانی «زوس»(Zeus) فی الهیکل و أعلن نفسه إلها من الآلهة التی یجب أن تعبد . ثم بعث أنطیوخس بمن یقوم بجبایة الضرائب الثقیلة من أورشلیم و ملحقاتها.

و- محاولة السلوقیین القضاء علی الیهودیة و اندلاع ثورة المکابیین:

و قد بدأ اضطهاد الیهود بشکل منظم سنة 168 ق. م. ثم صدرت أوامر صارمة سنة 167 ق. م. بتحریم ممارسة الدیانة الیهودیة بما فیها ممارسة الختان و الشعائر السبتیة، و صارت تذبح الخنازیر علی مذبح الهیکل، و مزّقت الکتب الیهودیة المقدّسة، و قد انتشر الموظفون فی کل البلاد لتنفیذ أوامر الملک فکانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 168
عقوبة المخالفین الموت. و هکذا فقد تحوّلت أورشلیم الی مدینة یونانیة صرفة من جمیع النواحی و أقیمت حامیة سوریة فی مدینة داود. و انشئت فی موضع حصن بیوس القدیم قلعة صارت تعرف باسم قلعة عکرا او أکرا . و هنا أخذ الصراع بین الیهودیة و الاغریقیة یشتد یوما بعد یوم حتی اندلعت شرارة الثورة من قریة «مودین» الواقعة علی بعد عشرین میلا من أورشلیم، حیث تزعّم الثورة «متیاس» الکاهن فی «مودین» هو و أولاده الخمسة. فرفض الاذعان لأوامر الملک، و لم یکتف بذلک بل قتل الموظف المسؤول و هدم المذبح المعد لتقدیم القرابین للآلهة الیونانیة، کما قتل أحد الیهود الذین امتثلوا الی أوامر الملک. فلم یکن بعد ذلک مجال للتراجع، فهرب «متیاس» و أبناؤه الخمسة الی الجبال و شکلوا عصابات و استعدوا للقتال کقوة محاربة، فتمکّنوا من صد الجیش الملکی و الانتصار علیه فی معرکة خاضوها معه عند «بیت حورون». فأثار ذلک غضب أنطیوخس و أسرع لاتخاذ العدة للقضاء علی الثورة، فعین «لیسیاس» نائبا عنه و عهد الیه بتنظیم الحملة و توجّه الی بلاد فارس لجمع الجزیة. فاختار «لیسیاس» ثلاثة من القواد الذین یعتمد علیهم و أرسلهم علی رأس جیش کبیر ضد یهوذا، الّا أن القواد الثلاثة لم یحرزوا أی نجاح فی مهمتهم و رجعوا مکسورین خاسری المعرکة، و فی خلال ذلک مات متیاس سنة 166 ق. م. فوقع العب‌ء علی أبنائه الخمسة، فتزعم فیهم أکبرهم و هو «یهوذا» الذی کان یسمّی «مکابوس»، لذلک صار یعرف خلفاؤه من الزعماء بالمکابیین، کما أطلق علی عصرهم اسم العصر المکابی الذی دام حوالی القرن و ربع القرن (166- 37 ق. م.) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 169

ز- عهد المکابیین فی فلسطین (166- 37 ق. م.)

و علی أثر إخفاق قواد الجیش السلوقی فی اخماد الثورة أعد «لیسیاس» حملة أخری مؤلفة من جیش کبیر أیضا ترأسه هو نفسه هذه المرة و لکن لم یکن مصیره بأحسن من مصیر القواد الذین سبقوه، فمکّنت هذه الانتصارات «یهوذا» أن یتطلع الی الاستقلال، خاصة بعد أن استطاع بمعاونة اخوته أن یستولی علی مدینة أورشلیم سنة 164 ق. م.، و فی خلال ذلک عقد «یهوذا» معاهدة مع الرومان. و لم یمض وقت طویل حتی توفی انطیوخس الذی قیل إنه مات کمدا من شعوره بالخزی و العار إثر انتصارات «یهوذا» علی جیشه، فخلفه ابنه انطیوخس الخامس (أیوباتور) سنة 163 ق. م.، ففی عهده استؤنف القتال بقیادة «ماشیدوس» و «الیوموس» ضد یهوذا، فکانت الغلبة هذه المرة الی جانب الجیش السلوقی، فغلب «یهوذا» علی أمره و قتل سنة 160 ق. م.، فخلفه أخوه «یوناثان» علی رأس السلطة، و بعد قتال عنیف بین المعسکرین السلوقی و الیهودی عقد القائد السلوقی ماشیدوس معاهدة مع «یوناثان» تحمل معها شبه اعتراف بسلطه «یوناثان» و استقلاله، و بهذا تمکّن یوناثان من توطید السلم و حریة العبادة فی المنطقة الیهودیة التی تحت حکمه.
و قد استفاد «یوناثان» من نشوب خلاف علی العرش بعد موت أنطیوخس الخامس (أیوباتور) بین اثنین من الأمراء، هما دیمتریوس سوتر و اسکندر بالاس، فصار کلاهما یخطبان ود «یوناثان» للحصول علی تأییده، فکانت ثمرة هذا الخلاف ان منح اسکندر بالاس الأول بعد تسنّمه العرش علی سوریة سنة 150 ق. م. «یوناثان» لقب حاکم فی المقاطعة الیهودیة. و کان «یوناثان» أول المکابیین الذی حمل لقبی ملک و رئیس الأحبار الأعلی. و بعد أن قضی «یوناثان» حوالی عشرین سنة علی رأس السلطة وقع فی قبضة أحد الملوک جیرانه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 170
و مات قتلا فی المنفی. فخلفه أخوه «سمعان» الذی حاز علی اعتراف باستقلاله التام من دیمتریوس نیقاتور الثانی خلف اسکندر (146- 138 ق. م)، و من أعمال «سمعان» التوسّعیة خارج تخوم مقاطعته احتلاله لمدینة «جازر» و طرد سکانها الوثنیین و استیلاؤه علی مدینة «یافا» التی هی المیناء الوحید علی الساحل الفلسطینی، و قد تم له أیضا الاستیلاء علی قلعة أورشلیم الحصینة التی بقیت صامدة بید السلوقیین طیلة عصور أسلافه، و هی القلعة التی کان قد انشأها السلوقیون فی موضع حصن صهیون القدیم و کانت تعرف باسم قلعة «عکرا» و قد سبقت الاشارة الیها. و من أعماله السیاسیة أنه وطّد علاقات دبلوماسیة مع رومة و اسبرطة، و قیل إنه بعث سفیرا الی رومة مع هدایا ثمینة توفی سنة 134 ق. م. قتلا بید أحد المغامرین و خلفه ابنه «یوحنا هیرکانوس» المسمّی بالکبیر علی رأس السلطة و لقب ب «الکاهن الأعلی». قضی «یوحنا» حوالی 30 سنة فی الحکم و کان ابان حکمه ان واجه تهدیدا من أنطیوخس السابع (سیدتس) (137- 128 ق. م.) فضرب حصارا علی أورشلیم و لم یفک حصارها الا بعد أن دفع «یوحنا» الجزیة عن «یافا» و «جازر» و غیرها من المواقع التی کان قد احتلها ابوه «سمعان» و التی اعتبرها أنطیوخس خارج حدود یهوذا، و قد أجبر أنطیوخس «یوحنا» أن یهدم أسوار أورشلیم.
ثم انتهز یوحنا موت أنطیوخس السابع فی سنة 128 ق. م. و شیوع الحروب المدنیة فاستعاد نفوذه و سلطته.
و قد کان لانتصارات الیهود المکابیین أثره فی تطرفهم فی تعصبهم الضیق فاضطهدوا إخوانهم الیهود الذین تأثروا بالثقافة الیونانیة و أهملوا طقوسهم الدینیة، و لمّا کان السامریون قد استجابوا لخطط أنطیوخس الرابع الرامیة الی فرض النظم و التقالید الیونانیة علی یهوذا، فهاجم «یوحنا» مدینتهم و احتلها فخرّبها و هدم هیکلها علی «جبل جرزیم». و لم یکتف المکابیون بذلک فقد اضطهدوا فی عهد «یوحنا» سکان المناطق التی اصبحت تحت سیطرتهم من غیر الیهود، فأجبروهم علی اعتناق الیهودیة و الاختتان و نکّلوا بهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 171
مخطط اورشلیم فی أقدم عصورها
مقتبس مر کتاب «قصة التوراة» ج 1 ص 52) صح بعض التحریر
مخطط اورشلیم فی اقدم عصورها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 172

ح- فترة اضطرابات و مشاحنات داخلیة تمهّد الی تدخل الرومان فی شؤون فلسطین:

و قد خلف «یوحنا» ابنه «أرسطوبولس الأول» سنة 105 ق. م.
فسمّی نفسه ملکا و استبد فی الحکم و طغی، فقتل امّه و سجن ثلاثة من إخوته، و من أعماله فی حکمه القصیر، الذی لم یدم أکثر من سنتین، فتحه للجلیل فی شمال فلسطین. و عند موته سنة 104 ق. م. خلفه ابنه «اسکندر یانیوس» فکان عهده مشحونا بالقلاقل و الاضطرابات تسوده حروب و مشاحنات أهلیة. فقد عاد إلی البروز النزاع القدیم بین الملوک و رجال الدین، فهل تکون یهوذا مملکة زمنیة او حکومة ذات سلطة دینیة صرفة؟ فانضم أکثریة الناس الی الشق الثانی مؤیدین الفریسیین الذین لعبوا دورا مهما فی هذا الصراع، و الفریسیون فرقة یهودیة یؤمن منتسبوها بالقیامة و لا یعترفون بغیر شریعة موسی (الأسفار الخمسة). و قد شاغب الفریسیون علی «اسکندر» فلجأوا الی الامیر دیمتریوس الذی اقصاه الی الجبال، الّا أنه عاد بعد قلیل فانتقم من خصومه أشد الانتقام و قتل ما یقارب 800 شخص منهم و قتل نساءهم و أطفالهم أمامهم قبل قتلهم. و بعد موت «اسکندر» سنة 78 ق. م خلفته ارملته «اسکندرة» (سالوم) فسلّمت مقالید الامور الی الفریسیین و ترکت لهم المجال لیحکموا حسب اهوائهم، فظهرت اثر ذلک فرقة ثانیة تخالف الفریسیین فی عقائدها تزعمها «ارسطوبولس» ابن «اسکندرة» الصغیر. و بعد موت «اسکندرة» سنة 69 ق. م. خلفها «هیرکانوس الثانی» الّا أنه سرعان ما انقض علیه أخوه «أرسطوبولس» فخلعه و حل محله فی الحکم، و لکن تدخل انتیاتر الأدومی، و هو الذی اصبح ذا شأن فی حکم فلسطین فیما بعد، و معه «آریتاس» ملک البطراء فأقصیا «أرسطوبولس» و أعادا «هیرکانوس» الی الحکم، و بقی «هیرکانوس» علی رأس السلطة حتی تدخّل الرومان فی النزاع سنة 66 ق. م.، و ذلک بناء علی لجوء الطرفین المتنازعین الی نائب القائد الرومانی العام فی الشرق فأعاد «یومیی» «أرسطوبولس» علی رأس السلطة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 173
و من هذا التاریخ بدأ النفوذ الرومانی یسود بلاد الشرق و قد حلّ محل الحکم الاغریقی الذی دام حوالی 270 سنة (332- 64 ق. م.) .

ط- الرؤساء المکابیون و مدد حکمهم 166- 37 ق. م.)

یهوذا ابن الکاهن متیاس 166- 160 ق. م
یوناتان ابن الکاهن متیاس 160- 142 ق. م
(منح لقب کاهن أعلی و حاکم فی أورشلیم و لقب نفسه ملکا)
سمعان ابن الکاهن متیاس 142- 134 ق. م
(اعترف به رئیسا مستقلا للسلطة المدنیة و کاهنا أعلی)
یوحنا هیرکانوس الکبیر (الاول) ابن سمعان 134- 105 ق. م
(هاجم السامرة فهدمها و خرب هیکلها و اضطهد السکان غیر الیهود)
ارسطوبولس (الاول) ابن یوحنا (سمی نفسه ملکا) 105- 104 ق. م
اسکندر یانیوس 104- 78 ق. م
(وسع تخم الاراضی التی سیطر علیها بحیث صارت تغطی اکثر تخوم اسرائیل و یهوذا القدیمتین).
اسکندرة ارملة اسکندر یانیوس 78- 69- ق. م
هیرکانوس الثانی 69- 66- ق. م
ارسطوبولس الثانی 66- 63- ق. م
هیرکانوس الثانی 63- 40- ق. م
عینه بومبی القائد الرومانی بمنصب الکاهن الاکبر و لیس ملکا الا أن قیصر أعاد الیه السلطة المدنیة عند مجیئه الی سوریة سنة 47 ق. م)
انتیغونس ابن ارسطوبولس 40- 37- ق. م
(عینه الفرثون ملکا علی الیهود أعدمه القائد الرومانی انطونیوس و بهذا ینتهی حکم سلالة المکابیین) موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 174

ی: جدول مسلسل للحوادث التاریخیة فی العهد الافریقی (334- 64 ق. م.)

334 ق. م.- بدایة حملة الاسکندر علی الشرق.
332 ق. م.- حملة الاسکندر فی فلسطین و مصر.
331 ق. م.- تأسیس الاسکندر مدینة الاسکندریة.
323 ق. م.- (13 حزیران) وفاة الاسکندر فی بابل.
312 ق. م.- فلسطین تصبح تحت حکم البطالمة فی مصر.
301 ق. م.- سوریة و القسم الشرقی من آسیا الصغری تصبح فی حکم السلوقیین.
300 ق. م.- دخول بطلیموس الأول أورشلیم و نقل عدد من الیهود الی أفریقیا لأنهم لم یرضوا ان یحاربوا یوم السبت.
198 ق. م.- استیلاء انطیوخس الثالث الملقب بالکبیر علی فلسطین.
191 ق. م.- انتصار الرومان علی انطیوخس الکبیر.
188 ق. م.- استیلاء الرومان علی املاک انطیوخس الکبیر فیما وراء طوروس.
170 ق. م.- غزو انطیوخس الرابع (ابیفان) لمصر و انسحابه منها.
168 ق. م.- غزو انطیوخس الرابع لمصر للمرة الثانیة و انسحابه منها تحت ضغط روما.
168 ق. م.- دخول انطیوخس الرابع أورشلیم و تدمیر هیکلها و نهب خزائنها.
167 ق. م.- اضطهاد الیهود و اجبارهم علی نبذ الیهودیة.
167 ق. م.- بدایة ثورة العائلة الهشمونیة المکابیة بزعامة متیاس الکاهن.
166 ق. م.- موت متیاس و تولی ابنه الأکبر یهوذا زعامة الحرکة.
164 ق. م.- استیلاء یهوذا علی أورشلیم علی أثر الخسائر التی لحقت بالجیش السلوقی.
160 ق. م.- موت یهوذا و احلال اخیه یوناثان محله علی رأس السلطة.
141 ق. م.- موت یوناثان و احلال اخیه سمعان محله.
141 ق. م.- احتلال سمعان للقلعة السلوقیة فی أورشلیم و اعتراف الملک دمتریوس الثانی باستقلاله.
134 ق. م.- موت سمعان و احلال ابنه یوحنا هیرکانوس محله.
134 ق. م.- استیلاء انطیوخس السابع (سیدینس) علی أورشلیم و هدم أسوارها ثم إعادة إنشائها بعد سقوط أنطیوخس.
105 ق. م.- موت یوحنا و احلال ابنه ارسطوبولس الأول محله سمی نفسه ملکا.
104 ق. م.- موت ارسطوبولس و احلال ابنه اسکندر بانیوس محله.
78 ق. م.- موت اسکندر و احلال ارملته اسکندرة محله.
69 ق. م.- موت اسکندرة و احلال هیرکانوس الثانی محلها.
66 ق. م.- تنصیب الرومان ارسطوبولس الثانی علی راس السلطة.
64 ق. م.- احتلال القائد الرومانی بومبی لسوریة و ضمها الی روما.
63 ق. م.- دخول بومبی أورشلیم و جعل یهوذا تابعة لحاکم سوریة الرومانی و تعیین هیرکانوس الثانی بمنصب الکاهن الأعلی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 175

ه: أورشلیم فی زمن الرومان (64 ق. م.- 638 ب. م.)

اشارة

یرجع تغلغل الرومان فی الشرق الی زمن حکم البطالمة فی مصر و ذلک حین بدأوا یتدخّلون فی شؤون البطالمة الداخلیة و یتولّون حمایتهم من غزوات السلوقیین، و کان ذلک التدخّل نتیجة طبیعیة بین حکمین أحدهما سائر نحو التدهور کحکم البطالمة و الثانی سائر نحو التقدم و التعالی کحکم الرومان، و قد سبقت الاشارة الی ذلک فی الکلام علی العصر الاغریقی. و لا بد قبل الدخول فی بحث العصر الرومانی من نبذة تشرح الحالة السیاسیة فی فترة ما قبل انهیار الحکم الأغریقی فی الشرق: ففی سوریة أخذت الأمور تتدهور من سی‌ء الی أسوأ منذ منتصف القرن الثانی قبل المیلاد، إذ لم یستطع أخلاف أنطیوخس الرابع الحفاظ علی تخوم أملاک الامبراطوریة السلوقیة الواسعة التی توارثوها، فالفترة التی اعقبت أنطیوخس الرابع لقرن کامل تتمثل فی دور مضطرب ملی‌ء بالمشاحنات و بالحروب الداخلیة و المنازعات العائلیة علی الحکم حتی تقلصت الامبراطوریة السلوقیة الی دویلة فی شمال سوریة، ففی جهة الشرق فقد السلوقیون جمیع ممتلکاتهم التی کانت تکوّن جزءا مهما من امبراطوریتهم، و فی الغرب ظهرت قوة تزاحمهم فی نفس سوریة، فالانباط الذین کانوا قد حلّوا محل الادومیین و تمرکزوا فی البطراء أصبحوا قوة فی المنطقة لها نفوذها فی الأرضین التی کان یمتلکها الأرامیون من قبل، و مثلهم أخذ «الیطوریون» الأعراب یهاجمون مدن السواحل، کذلک أخذت المدن الفینیقیة تستقل عن الحکم السلوقی الواحدة تلو الأخری مستغلة ظروف الانحلال السائدة.

أ- التنازع بین الدول علی السیطرة فی الشرق و تغلب الرومان فی الصراع

و فی خلال هذا الفراغ ظهرت فی منطقة الشرق الاوسط ثلاث قوات کبیرة تتزاحم علی السیطرة، و هذه القوات هی الامبراطوریة الفرثیة الفارسیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 176
من الشرق و المملکة الأرمنیة من الشمال، و دولة الرومان من الغرب، فالملک دکران ملک أرمینیا أقصی الفرثیین من العراق و توغّل فی شمال سوریة و فی قیلیقیا حتی أصبح الملکان السلوقیان أنطیوخس الثالث عشر و فیلیب الثانی المتنازعان علی العرش السلوقی فی زوایا النسیان. و قد أسّس الملک دکران مدینة ملکیة جدیدة فی المنطقة الشمالیة من نهر دجلة و اتخذ له لقب ملک الملوک و امتدت فتوحاته حتی وصل الی عکّة فاحتلها سنة 69 ق. م.، فلم یبق أمام روما تجاه هذا الوضع المهدّد لمصالحها فی المنطقة سوی اعلان الحرب علی الملک دکران، فتمکنت من ارغامه علی سحب قواته و حامیاته من سوریة و إعادة الملک السلوقی أنطیوخس الثالث عشر الی مقر مملکته فی انطاکیا معترفا به من روما. و قد بعثت روما بعد ذلک قائدها الشهیر بومبی فسار بجیوشه إلی منطقة أرمینیة و هاجم میثراداتس ملک بونتوس حلیف دکران و حمیه و احتل بلاده و طرده عنها، ثم عاد بومبی الی سوریة فاحتلها سنة 64 ق. م. و ضمها الی روما کمقاطعة تابعة لها مع انطاکیة عاصمة لها، کما جعل من قیلیقیا مقاطعة أخری تابعة لرومة أیضا. و بذلک انتهی حکم السلوقیین الهزیل فکان الملک فیلیب الثانی آخر من حمل لقب ملک من السلالة السلوقیة.

ب: یهوذا تخضع لحکم روما- کابیتوس نائب قنصل فی سوریة

اما مقاطعة یهوذا فکان یحکمها ارسطوبولس الثانی المکابی عند ما ضم بومبی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 177
سوریة إلی روما، و کانت فی أورشلیم آنذاک ثلاث فرق عقائدیة تتنازع فیما بینها، فی حین أن أکثریة الشعب کانت تطالب باقامة حکومة کهنیة. و فی غمرة هذا الاضطراب دخل بومبی أورشلیم سنة 63 ق. م.، فلم یتعرض لخزائن الهیکل و لکنه من سلطتها علی المدن الساحلیة و المدن غیر الیهودیة فی الداخل جرد یهوذا و جعلها تابعة لحکم الرومان المباشر، و نصب هیرکانوس الثانی المکابی بصفة کاهن أعلی لادارة شؤون الیهود الدینیة، و بذلک قضی علی استقلال الیهود الذاتی، فساد الهدوء فی یهوذا فی اعقاب الاحتلال الرومانی. و فی غضون ذلک تحالف بومبی مع قیصر و کراسوس و تکوّنت منهم الحکومة الثلاثیة الرومانیة الأولی فی روما سنة 60 ق. م، فتقرر أن یعهد بحکم سوریة الی نائب قنصل فعین کابینوس سنة 57 ق. م. أول نائب قنصل انتدبه بومبی لیحکم سوریة. و قد قسم کابینوس المنطقة الیهودیة الی خمسة أقسام و شکل فی کل قسم مجلسا دینیا محلیا و أعاد بناء عدد من المدن التی کان قد خرّبها المکابیون مثل السامرة و غزة و دور و غیرها.

ج: کراسوس و کاسیوس فی حکم سوریة- الحرب بین بومبی و قیصر و انتصار الأخیر فیها

و فی سنة 54 ق. م. عیّن کراسوس، و هو أحد أعضاء الحکومة الثلاثیة، نائب قنصل فی سوریة خلفا لکابینوس. و کراسوس هذا کان طموحا و جشعا فقام بنهب خزائن الهیکل فی أورشلیم، ثم أقدم علی محاربة القوات الفرثیة المتمرکزة فی العراق، و هی القوات التی بقیت تهدّد الممتلکات الرومانیة فی الشرق بعد أن أقصی دکران ملک أرمینیا عن سوریة و هزم میثراداتس ملک بونتوس، الّا أن خیانة حلیف کراسوس فی معرکة خاضها فی الصحراء السوریة سنة 53 ق. م. أدّت بالقضاء علیه و علی جیشه، و قد أخذ رأسه و یده الیمنی الی ملک الفرس فی طیسفون. و قد خلف کراسوس فی حکم سوریة کاسیوس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 178
خازن الدولة فحارب الفرثیین و صد هجومهم علی سوریة سنة 51 ق. م.
ثم اضطربت الأمور فی روما بسبب الحرب الداخلیة التی نشبت هناک بین بومبی و قیصر سنة 49 ق. م. و التی انتهت باندحار بومبی، فانتهز ابن میثراداتس الفرصة لاعادة عرش والده فی بونتوس، فقام قیصر بحملة ضده، و فی طریق عودته مرّ بسوریة سنة 47 ق. م. و منح امتیازات الی بعض المدن السوریة و من ضمنها یهوذا، فأعاد السلطة المدنیة الی هیرکانوس الثانی التی کان بومبی و کابینوس قد جرداه منها و أعاد إلی یهوذا بعض الممتلکات التی سلخت منها. و فی الوقت نفسه عیّن قیصر انتیایتر الأدومی الذی کان قد وقف إلی جانبه فی النزاع بینه و بین بومبی خازنا فی یهوذا و صار هو صاحب السلطة الحقیقی فیها.

د- الیهود فی عهد قیصر- انتییایتر الأدومی خازن و حاکم فی أورشلیم

و قد تمتع الیهود فی زمن قیصر بحریة ممارسة طقوسهم الدینیة و بحکمهم الذاتی، فحصلوا علی امتیازات کثیرة منها اعفاؤهم من الخدمة العسکریة، و قد شملت هذه الامتیازات الیهود فی الاسکندریة و فی روما، کما سمح للیهود أن یعیدوا بناء سور أورشلیم. و مع کل ذلک لم یطمئن الیهود فی أورشلیم الی حکم انتیایتر الأدومی الذی کان یتمتع بتأیید و التزام قیصر. و أنتیایتر هذا کان یتظاهر بأنه من الیهود الیهود لما له من صلة قرابة معهم، و لکنهم کانوا یرون بأن الحکم لغیر طبقة الکهنة مخالف للشریعة، فحدثت إثر ذلک اضطرابات داخلیة کادت تهدّد مدینة أورشلیم بالثورة. و فی غضون ذلک کان توتّر الأحوال السیاسیة فی روما قد بلغ أشده إثر اغتیال قیصر فی مجلس الشیوخ سنة 44 ق. م.، فشکّلت بعد هذا الحادث الحکومة الرومانیة الثلاثیة الثانیة سنة 42 ق. م. من أوکتافیان (أغسطس) و مارک أنطونیوس و لیبیدوس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 179

ه- مارک انطونیوس و کلیوبطرة- و القضاء علی انطونیوس و اقامة الانبراطوریة الرومانیة

و فی سنة 40 ق. م. أسندت ممتلکات الرومان فی الشرق الی مارک أنطونیوس، الّا أن أنطونیوس انشغل عن الحکم بعلاقاته الغرامیة مع کلیوباترة آخر ملکة من ملوک البطالسة فی مصر، فأهمل مصالح الرومان فی الشرق و وزّع الولایات الرومانیة فی الشرق بین کلیوبطرة و أبنائها. فانتهز الفرثیون هذه الفرصة الملائمة فاستولوا علی مقاطعة سوریة کلها باستثناء بلدة صور التی ظلت صامدة أمام هجومهم. و کان تصرف انطونیوس مدعاة لنشوب خلاف عنیف بین اوکتافیان و أنطونیوس فجرد أنطونیوس من سلطاته و أعلن اوکتافیان الحرب علیه و علی کلیوبطرة سنة 32 ق. م. کان النصر فیها لأوکتافیان، و أخیرا انتحر انطونیوس سنة 30 ق. م. و کان ذلک إیذانا بزوال حکم البطالمة فی مصر. و قد أعقب هذا الانتصار تولّی أوکتافیان زمام الحکم بصفته أول انبراطور رومانی، و فی السنة التالیة ضم مصر الی انبراطوریته.

و- هیرودس الأدومی ملک علی یهوذا و الجلیل

اما یهوذا فبعد موت أنتیایتر سنة 43 ق. م. عیّن محله فی السلطة الفعلیة ابنه هیرودس، الّا أن استیلاء الفرثیین علی البلاد سنة 40 ق. م. اضطره الی الهرب الی روما فعیّن الفرثیون بعد استیلائهم علی أورشلیم انتیغونس بن ارسطوبولس ملکا علی یهوذا. و ما ان انسحب الفرثیون سنة 39 ق. م.
حتی عاد هیرودس الی سوریة فعیّنه أنطونیوس و أوکتافیان ملکا علی یهوذا و علی الجلیل، الّا أنه لم یستطع احتلال أورشلیم الّا بعد أکثر من ستین حیث دخل أورشلیم سنة 36 ق. م. عنوة بعد أن قام هو و الرومان بمذابح عنیفة. امّا ابتیغونس فقد أسر و أعدم فی أنطاکیا، و باعدامه کانت نهایة حکم السلالة المکابیة و بدایة حکم السلالة الهیرودیة فی فلسطین.
و هیرودس أدومی الأصل أبوه أدومی جاء من ناحیة بئر السبع و أمّه ابنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 180
أحد الأمراء العرب الأنباط اختلط مع الیهود بصلة الزواج، و الأدومیون کانوا عربا مواطنهم فی طرف البادیة فی جنوب شرقی فلسطین. کان حکمه الذی دام 33 عاما بین سنة 37 و 4 قبل المیلاد قد أتّسم بالاستبداد و بالقساوة الوحشیة، فقتل عددا هائلا من الناس و لم یسلم من یده حتی أفراد عائلته و أعز أصدقائه فکان أول من قتله من ذوی قرباه الکاهن الأعلی ارسطوبولوس أخ زوجته مریم، ثم قتل بعده جدها هیرکانوس الکاهن الأکبر الشیخ، ثم قتل زوجته مریم و ثلاثة من أولاده. و قد تزوّج عشر زوجات و قتل البعض منهن، و قیل انه أحرق طالبین کانا قد مزّقا شعار النسر الرومانی و هما حیّان.
و کان هیرودس یفضل الاقامة فی السامرة التی غیّر اسمها الی «سبسطیة» تخلیدا لاسم اغسطس قیصر الذی وهبه ایاها. و مع أن هیرودس قام بأعمال عمرانیة عظیمة أهمها بناء الهیکل من جدید استرضاء للیهود، فقد کان الیهود تخطیط للهیکل الذی شیده هیرودس فهدمه الرومان سنة 70 م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 181
یمقتونه لقساوته الوحشیة و لاندفاعه فی نشر الثقافة الیونانیة و الرومانیة بما فی ذلک انشاء معابد للأصنام فی المدن الفلسطینیة. الّا أن هناک من یری بأن فلسطین شهدت أزهی ادوار ذلک العصر و أکثرها استقرارا فی عهده لما ترکه من آثار فی مختلف نواحی التقدم الحضاری لذا سمّی بهیرودس الکبیر.

ز- تقسیم مملکة هیرودس علی أولاده بعد وفاته

قسمت مملکة هیرودس بعد وفاته سنة 4 ق. م. بین أبنائه الثلاثة: فحکم الأول أرخیلاوس فی منطقتی یهوذا و أدوم، و الثانی هیرود أنتیباس فی الجلیل، أمّا الثالث و هو فیلیب فقد عیّن والیا علی الاقلیم الواقع شرقی الجلیل. و الظاهر أن حکم أرخیلاوس لم یکن مرضیا لقساوته و سوء تصرفاته مع الشعب فخلعه أغسطس سنة 6 ب. م. و جعل منطقة یهوذا مقاطعة رومانیة تابعة الی الوالی فی سوریة. و فی الفترة بین سنة 6 و سنة 41 ب. م. تناوب فی حکم یهوذا سبعة موظفین رومانیین کان أشرسهم و أقساهم فی معاملته مع الشعب بونتیوس بیلات(Pontius Pilate) (26- 36 م.)، فأرسله الوالی‌Vitellius فی سوریا الی روما لمحاکمته. و من أهم ما تخللته هذه الفترة من أحداث هی محاکمة السید المسیح (ع) و صلبه سنة 29 م. علی ما جاءت به الاخبار.

ح- هیرودس اغریبا حفید هیرودس الکبیر ملک علی فلسطین

و کانت البلاد تعیش فی جو مضطرب غیر مستقر علی ید موظفین سیئی السیرة قساة التصرف حتی عین هیرودوس أغریبا حفید هیرودس الکبیر ملکا علی فلسطین بعد أن لقی حظوة لدی الامبراطور کالیجولا (37- 41 م.) ثم لدی الامبراطور کلاودوس (41- 54 م) بعده، و قد أضاف الأخیر الولایة الرومانیة فی الشرق إلی حکم أغریبا. و هنا یظهر مرة أخری ملکا علی فلسطین و لکن للمرة الأخیرة. و قد تمکن أغریبا بفضل ما کان یتّسم به من الورع و طیب النفس من تهدئة الأوضاع و ذلک بتجنبه الأعمال المستفزة لشعور الیهود الدینی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 182

ط- موت اغریبا و ثورة الیهود ثم قمعها علی ید تیطوس سنة 70 م.

و بعد موت أغریبا سنة 44 م. جعلت کل فلسطین مقاطعة واحدة لأن أغریبا الثانی ابن أغریبا الأول لم یستطع تولّی الحکم لصغر سنه. ففی الفترة بین سنة 44 و 64 م. تولّی سبعة من الخزنة الرومانیین حکم فلسطین، کانوا کلّهم سیئی الأخلاق و مرتشین، فسادت الفوضی فی البلاد و عمّ الشغب و کثرت الاغتیالات، و کان الحکام یستعملون العنف بقساوة شدیدة فی قمع الثورات و الاضطرابات فبلغ حکم الارهاب علی أشده فی زمن الحاکم «انطونیوس فیلیکس» (52- 60 م). و تفاقم الوضع خطورة بعد اغتیال الکاهن الأکبر یوناثان بتحریض من «فیلیکس» فانتشر السلب و النهب فی کل مکان و انعدم النظام حتی وقع الانفجار أخیرا فی ربیع سنة 66 م.، فاذا به ثورة عارمة علی الحکم الرومانی، فطرد الحاکم من البلد و رمیت معطیات الانبراطور للهیکل خارجا و قتل أفراد الحامیة الرومانیة فی القدس و استولی علیها، و امتد لهیب الثورة الی بقیة المدن و عمّ القتال بین الیهود و الأغیار فی کل مکان. فسارع والی سوریة «سمستیوس غالوس» و توجّه مع عدد کبیر من الجیش و المعدات الحربیة لقمع الثورة، الّا أنه هزم و اندحر أمام مقاومة الیهود العنیفة فی المعرکة التی جرت قرب «بیت حورون» فی تشرین الثانی من سنة 69 م.، فشکّل الیهود حکومة للدفاع و عهدوا الی «یوسیغوس» المؤرخ المشهور بالدفاع عن الجلیل. و لمّا وصلت أخبار فشل حملة «سستیوس» الی الانبراطور نیرون (54- 68 م.) جرّد حملة قویّة من ثلاث قرق من جیش قوامه 000، 60 جندی و أودع قیادة هذه الحملة الی «وسبسیان»، فبدأت الحملة عملیاتها فی صیف 67 م. بالتضییق علی جبهة منطقة الجلیل فاستسلمت بعض المدن، الّا أن «یوسیغوس» قاوم بشدة فی أول الأمر و لکنه توقّف عن القتال بالاتفاق مع «وسبسیان» و توجه الی روما تارکا الجبهة مکشوفة أمام الجیش الرومانی. أمّا فی الجنوب، فقد عمّت الفوضی و اشتد القتال بین مختلف الطبقات و انتشرت المذابح فی کل مکان فترکهم «وسبسیان»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 183
یقع فی مدخل الشارع الضیق فی القدس و المعروف باسم (فیادو الذی یمتد من حصن انطونیا الی کنیسة القیامة و قد أقیم فی القرن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 184
و شأنهم دون أن یهاجهم و قد اکتفی باحتلال ضواحی أورشلیم. ثم توقّفت العملیات الحربیة حوالی سنة علی أثر وفاة الانبراطور نیرون فی 9 حزیران 68 م. حتی نصب «وسبسیان» امبراطورا فی 1 تموز 69 م. لیحل محل نیرون فأودعت القیادة فی فلسطین الی تیطوش ابن «وسبسیان». و قد بدأ تیطوس هجومه علی أورشلیم و هی فی حالة مضطربة أشبه بالفوضی متحدیا المقاومة المستمیتة التی أبداها المدافعون من الیهود فاقتحم السور الشمالی أولا، ثم الثانی و الثالث حتی اذا ما حل شهر آب من سنة 70 م. أصبح جیش تیطوس عند الهیکل، و فی الیوم التاسع من الشهر دخل جیش تیطوس الهیکل فأوقع مذبحة مریعة بالیهود و خرّب أورشلیم و أحرق هیکلها و ذبح کهنته، فأزیل الهیکل من الوجود تماما بحیث لم یعد یهتدی الناس الی موضعه. و کانت المدینة فی حالة بؤس شدید عند احتلالها فاجتاحتها الأمراض الفتاکة و عمتها المجاعة فمات من مات، امّا الباقون أحیاء فسیقوا عبیدا. و قد أجبر الکثیر من الأسری علی أن یقتل بعضهم البعض الآخر أو أن یموتوا و هم یتصارعون مع الوحوش أمام آلاف المتفرجین فی ملاعب الرومان المستدیرة-Amphith) (eatres . و قد قدر عدد الذین هلکوا فی خلال فترة الحرب الدائرة بین سنة 66 و 70 بحوالی ملیون نسمة . و هکذا قضی علی الکیان الذاتی الدینی للیهود فی فلسطین و من ضمن ذلک التنظیمات الاداریة الدینیة التی کانت تتمثل بالسنهدرین .

ی- ثورة الیهود من جدید بقیادة بارکوخبا و القضاء علیها

و قد تمکنت فئة من الیهود من جماعة الفریسیین بعد الهزیمة التی منی بها الاسرائیلیون علی ید تیطوس من اللجوء الی مدن الساحل الفلسطینی، فکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 185
معهم عدد من الحاخامین من أعضاء السنهدرین فمکثوا فی بلدة یبنة قرب حیفا ثم نزحوا منها الی طبریة فاتخذوها مرکزا لأعمالهم. و قد ساد الهدوء حوالی نصف قرن لاطمئنان الرومان و استبعادهم قیام أیة حرکة عصیان بعد قضائهم علی الکیان الیهودی و سحق ثورتهم. الّا أن شرارة عصیان جدید اعترضت موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 186
هذا الهدوء علی أثر اصدار الانبراطور هادریان (117- 138 م.) مرسوما یقضی بمنع الخصاء و الختان بشکل عام و اصداره أمرا بانشاء معبد للاله زوس فی أورشلیم فی محل الهیکل المهدوم، فکان ذلک إیذانا بانفجار جدید، فاشتعلت نیران الثورة بقیادة زعیم یدعی «بارکوخبا»
( Bar Kokhba )
و معناه بالأرامیة «ابن النجم»، و کان یسند بارکوخبا هذا الحاخام الکبیر «أکیبا»(Akiba) فاعتصمت جماعة بارکوخبا فی المواقع الجبلیة الحصینة و أخذوا یقاتلون علی هیئة حرب عصابات، و ظلوا معتصمین بمواقعهم ثلاث سنوات 132- 135 م.
حتی جرّد الرومان علیهم حملة اجتاحت مواقعهم و ازالت قلاعهم و أحرقت قراهم، و حوّل هادریان مدینة أورشلیم الی مستعمرة رومانیة و حرّم علی الیهود سکناها و قد بدل اسمها الی «ایلیا کبتولینا»(Aelia Capitolina) .
و ایلیا هو الاسم الأول لهادریان. و قد أسکنت جالیة رومانیة فی جبل صهیون و أقیم فی محل الهیکل معبد للاله الیونانی جوبیتر، و قدّر عدد الذین قتلوا فی هذه المعارک 580 ألفا عدا من هلک جوعا و مرضا و حرقا . و هذه هی الضربة الأخیرة للیهود فی فلسطین، فلم یعد لهم أی کیان فیها طوال العصور التالیة.

ک- تساهل الرومان مع الیهود فی نشاطاتهم الدینیة و اعادة تشکیل السنهدرین

و بالرغم من اصدار هادریان مراسیم تقضی بتحریم ممارسة الشعائر الدینیة الیهودیة و فرض عقوبة الموت لمن خالف ذلک، فقد تمکن عدد من الرؤساء الروحانیین من أتباع «أکیبا» و معظمهم من الفریسیین من الهرب الی منطقة الجلیل حیث و اصلوا أعمالهم الدینیة، و قد ساعدهم علی ذلک الغاء الانبراطور «أنتونینس بیوس»(Antoninus Pius) (138- 161 م) للمراسیم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 187
التی استنها سلفه هادریان و القاضیة بتحریم ممارسة الشعائر الدینیة الیهودیة.
و هکذا أخذ هؤلاء الرؤساء الروحانیون یستعیدون نشاطهم لارجاع الحیاة الدینیة الیهودیة بتنظیم و تأسیس مدارس دینیة فی المنفی، ففی بلدة أوشا
( Usha )
فی الجلیل الأعلی أعید تشکیل «السنهدرین» (المجلس الیهودی الدینی الأعلی) و هو العمل الذی و وشر فی «یبنة» علی ید «أکیبا» فتولی مواصلته خلفه مئیر(Meir) حتی انتقل العمل أخیرا الی الحاخام یهوذا الذی ورد ذکره فی التلمود.
و فی خلال الفترة (138- 200 م) کان الرومانیون أکثر تساهلا للنشاطات الدینیة البحتة التی کان یمارسها الرؤساء الروحانیون فی الجلیل فاعترفوا بهم ممثلین للیهودیة کما اعترفوا بمجلس «السنهدرین» مما ساعد علی انجاز جماعة هذا المجلس تدوین التلمود الفلسطینی المشتمل علی مجموعة الشرائع الیهودیة، و قد سمّی بالفلسطینی لتمییزه عن التلمود الذی اعد فی بابل. و قد بقی منصب رئاسة «السنهدرین» وراثیا فی عائلة «هلیل» أکثر من ثلاثة قرون.

ل- الانبراطور قسطنطین یعتنق المسیحیة و أثر ذلک فی انتشار و تغلب المسیحیة

نسخة من الانجیل یعود تاریخها الی القرن الرابع
و قد حدث بعد ذلک حادث غیّر مجری تاریخ الانبراطوریة الرومانیة، و هو اعتناق الانبراطور قسطنطین الأول المدعو بالکبیر (306- 337 م) الدیانة المسیحیة، ثم نقل عاصمة الانبراطوریة الی «بیزنطیا» رسمیا فی 11 مایس 330 م، و قد سمّیت باسمه القسطنطینیة (استامبول حالیا). و علی هذا أصدر قسطنطین فی سنة 313 م. مرسوما یقضی بمنح المسیحیین حریة العبادة علی دینهم فی جمیع أنحاء الانبراطوریة الرومانیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 188
ثم عقد فی سنة 323 م. اجتماعا عاما فی نیسیا(Nicea) فی آسیا الصغری حضره جمیع الأساقفة، و من ضمنهم الأسقف مکاریوس أسقف أورشلیم، بحثت فیه الشؤون الدینیة المسیحیة، فثبتت الدیانة المسیحیة علی أسس اتفق علیها الجمیع. و کانت الانبراطورة «هیلینا» أم الانبراطور قسطنطین أکثر تحمسا للعبادة علی الدیانة المسیحیة، فقامت بالحج الی أورشلیم سنة 326 م و کرّست جهودها لکشف مواضع الحوادث المهمة للمسیحیین و لبناء کنائس تذکارا لها. و أقام قسطنطین کنیسة فی «الجلجلة»، موضع صلب السید المسیح بحسب التقالید المتواترة، و هی کنیسة القیامة حالیا.
و من الطبیعی أن الحادث المذکور لم یکن من صالح الیهود إذ تمخّض عن هذا التطوّر الجدید اضطهاد الیهود فی کل أنحاء الانبراطوریة الرومانیة التی أصبحت تدین بالمسیحیة رسمیا. الّا أن تغیرا حدث بعد مرور حوالی ربع قرن من الزمن علی وفاة قسطنطین، هو اعتلاء الانبراطور جولیان العرش الرومانی سنة 361 م. و قد سمّی بالمرتد لانحرافه عن المسیحیة و رجوعه الی الوثنیة.
و حاول هذا الانبراطور إعادة بناء هیکل أورشلیم، و لکن الزمن لم یمهله لانجاز ذلک حیث توفی بعد سنتین، فقد قتل فی حملته علی بلاد الفرس فی 26 حزیران 363 م. و قیل إن هزة أرضیة أدّت الی هدم البناء الذی باشره للهیکل. و بموت جولیان عاد فتغیّر الوضع لغیر صالح الیهود إذ عاد إلی ما کان علیه قبل جولیان. و فی سنة 395 م. حدث حادث مهم فی تاریخ الانبراطوریة الرومانیة حیث تم تقسیم الانبراطوریة الرومانیة الی قسمین غربی و شرقی، فکانت فلسطین بصورة طبیعیة من ضمن القسم الشرقی البیزنطی.

م- الصراع بین الفرس و الرومان حتی الفتح الاسلامی

و قد شهدت فلسطین فی هذا الدور الجدید بعض الاستقرار دام أکثر من مئتی عام مما ساعد علی نمو البلاد اقتصادیا، و ذلک بتشجیع الحج الی الأماکن المقدسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 189
و فی عهد الانبراطور جستنیان (527- 565 م.) أقیمت عمارات کثیرة فی فلسطین منها «باب الذهب» فی القدس، و هو ما زال یسمّی بهذا الاسم حتی هذا الیوم، کما أنشی‌ء فی موضع المسجد الأقصی الحالی کنیسة. و لکن لم یکتب لهذه الفترة الهادئة الدوام، ففی سنة 611 م. هجم ملک الفرس کسری الثانی (أبرویز) (590- 638) علی سوریة و امتدت فتوحاته حتی احتل سنة 614 م. القدس، فخرّب کنیسة القبر المقدس (کنیسة القبر الآن) و خرّب کذلک الکنائس الأخری، فهدمها تهدیما کاملا و أخذ البطرک سجینا. و مما یذکر أن الیهود انضموا الی الفرس فی حملتهم هذه رغبة منهم فی الانتقام من مضطهدیهم المسیحیین. و هکذا فقد البیزنطیون سیطرتهم علی البلاد المقدسة.
و لکن هذا الاحتلال الفارسی لم یدم طویلا، فقد أعاد الأنبراطور هرقل (610- 641 م.) فتح أرض فلسطین سنة 628 م. و لحق بالفرس إلی بلادهم، و قیل إنه استرجع حوالی سنة 630 مّ (الصلیب الأصلی) الذی کان قد استولی علیه الفرس بعد احتلالهم للقدس سنة 614 م. الّا أن انتصار هرقل هذا لم یکتب له الدوام أیضا، حیث أعقبه مباشرة الفتح العربی الإسلامی الذی کان النصر فیه حلیف العرب فی معرکة الیرموک الحاسمة سنة 636 م.
ثم تبعتها الفتوحات العربیة فی عهد ابی بکر الصدیق (ر) و بعد ذلک فی عهد الخلیفة عمر (ر) حیث سقطت القدس فی زمنه فی أیدی العرب، و کان ذلک سنة 17 ه. (638 م.)، فدخل عمر المدینة بناء علی طلب أهلها تسلیمها الیه شخصیا، و لما دخلها زار موضع الصخرة المقدسة و محل عبادة داود و موضع الهیکل فکانت فی حالة یرثی لها بسبب تراکم الأوساخ فیها، فأمر بتنظیفها و جعل لها مصلّی فیها علی جبل المریا حیث کان هیکل سلیمان فی القدیم، و من ذلک جاء اسم «مسجد عمر» خطأ للقبة التی بناها عبد الملک فیما بعد فوق الصخرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 190

ن- جدول مسلسل للحوادث التاریخیة فی العهد الرومانی (64 ق. م.- 638 ب. م.)

64 ق. م.- احتلال القائد الرومانی بومبی لسوریة و ضمها الی روما.
63 ق. م.- دخول بومبی أورشلیم و جعل یهوذا تابعة للحاکم الرومانی فی سوریة.
60 ق. م.- تشکیل الحکومة الثلاثیة الرومانیة الأولی من بومبی و کراسوس و قیصر.
57 ق. م.- تعیین کابینوس نائب قنصل فی سوریة و منحه صلاحیات واسعة.
54 ق. م.- تعیین کراسوس عضو الحکومة الثلاثیة نائب قنصل فی سوریة.
54 ق. م.- نهب کراسوس لخزائن الهیکل فی أورشلیم.
53 ق. م.- مقتل کراسوس فی حربه مع الفرثیین و تعیین کاسیوس خلفا عنه.
51 ق. م.- مواجهة خلفه کاسیوس الفرثیین فی سوریة و صد هجومهم علیها.
49 ق. م.- نشوب الحرب الأهلیة فی روما بین بومبی و مجلس الشیوخ من جهة و قیصر من الجهة الأخری.
48 ق. م.- اندحار بومبی و مقتله فی مصر.
47 ق. م.- حملة قیصر علی ملک بونتوس فی أرمینیا ثم دخوله أورشلیم فی طریق عودته و منحه یهوذا سلطة مدنیة.
47 ق. م.- تعیین قیصر لأنتیایتر الأدومی خازنا فی یهوذا.
44 ق. م.- اغتیال قیصر فی مجلس الشیوخ فی روما و نشوب حرب أهلیة ثانیة.
43 ق. م.- تشکیل حکومة ثلاثیة ثانیة من أوکتافیان (أغسطس) و مارک انطونیوس و لبیدوس.
43 ق. م.- موت أنتبایتر مسموما و احلال ابنه هیرودس محله.
40 ق. م.- إسناد حکم سوریة و مصر الی مارک أنطونیوس بعد تقسیم السلطة فی العالم الرومانی.
40 ق. م.- احتلال الفرثیین لسوریة و تعیینهم لأنتیغونس ابن ارسطوبولس ملکا علی یهوذا و هرب هردوس الی روما.
38 ق. م.- انسحاب الفرثیین من سوریة و تعیین أنطونیوس و أوکتافیان لهیرودس الأدومی ملکا علی یهوذا و الجلیل.
36 ق. م.- احتلال هیرودس لأورشلیم عنوة بعد معارک عنیفة و اعدام انتیغونس المکابی و بذلک کان انتهاء حکم السلالة المکابیة.
31 ق. م.- نشوب حرب اکیتوم البحریة بین اوکتافیان (اغسطس) و بین انطونیوس و کلیوبطرة و انتصار الأول فیها.
31 ق. م.- نصب أوکتافیان (أغسطس) أول امبراطور رومانی و فی ذلک بدایة الامبراطوریة الرومانیة.
30 ق. م.- انتحار أنطونیوس.
30 ق. م.- ضم أوکتافیان (أغسطس) مصر الی الامبراطوریة الرومانیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 191
19 ق. م.- شروع هیرودس ببناء الهیکل فی أورشلیم.
19 ق. م.- شروع هیرودس ببناء الهیکل فی أورشلیم.
11 ق. م.- انتهاء هیرودس من البناء الخارجی للهیکل.
6 ق. م.- مولد السید المسیح (ع).
4 ق. م.- وفاة هیرودس فی أریحا و تقسیم حکم فلسطین بین أولاده الثلاثة
14 ب. م.- وفاة أغسطس و اعتلاء تیبریوس العرش خلفا له فی حکم الامبراطوریة الرومانیة.
19 ب. م.- صلب السید المسیح (ع).
37 ب. م.- وفاة الامبراطور تیبریوس و احلال کالیجولا محله.
38 ب. م.- اضطهاد الیهود فی الاسکندریة.
41 ب. م.- تعیین هیرودس اغریبا الأول ملکا علی فلسطین.
41 ب. م.- وفاة الامبراطور کالیجولا و احلال کلاودوس محله.
44 ب. م.- وفاة هیرودس أغریبا الأول.
54 ب. م.- وفاة کلاودوس و احلال نیرون محله.
64 ب. م.- الحریق فی روما و اضطهاد المسیحیین.
66 ب. م.- بدایة ثورة الیهود فی أورشلیم ضد الرومان فی عهد نیرون.
68 ب. م.- وفاة الامبراطور نیرون (9 حزیران) و احلال و سبسیان محله فی 1 تموز 69 م.
70 ب. م.- احتلال تیطوس لأورشلیم و حرق الهیکل و الفتک بالیهود و الغاء السنهدرین.
79 ب. م.- وفاة و سبسیان و احلال تیطوس محله.
132 ب. م.- ثورة الیهود فی عهد الامبراطور هادریان بقیادة «بارکوخبا».
135 ب. م.- القضاء علی ثورة «بارکوخبا» و اقامة مستعمرة رومانیة فی أورشلیم و تحریم سکنی الیهود فیها.
313 ب. م.- اعتناق الانبراطور قسطنطین المسیحیة و اصدار مرسوم یقضی بمنح المسیحیین حریة العبادة فی جمیع أقطار الانبراطوریة الرومانیة.
330 ب. م.- اتخاذ بیزنطیة عاصمة رسمیة للانبراطوریة الرومانیة و تغییر اسمها الی القسطنطینیة نسبة الی مؤسسها قسطنطین.
395 ب. م.- تقسیم الانبراطوریة الرومانیة الی غربیة و شرقیة.
614 ب. م.- احتلال کسری أبرویز لسوریة و فلسطین و تخریبه لکنائس القدس من ضمنها کنیسة القبر المقدس.
628 ب. م.- انتصار الانبراطور هرقل (610- 641 م) علی الفرس و استرجاع سوریة و فلسطین منهم.
636 ب. م.- معرکة الیرموک التی انتصر فیها العرب علی البیزنطیین.
638 ب. م.- سقوط مدینة القدس فی أیدی العرب فی عهد الخلیفة عمر (17 ه)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 192

جدول مسلسل عام للحوادث التاریخیة

- 1- 3000- 2500 ق. م. هجرة الکنعانیین الی فلسطین و منهم الیبوسیون سکان أورشلیم الأوائل.
1900- 1850 ق. م. هجرة ابراهیم الخلیل (ع) من أور الی فلسطین.
1894- 1595 ق. م. العهد البابلی القدیم فی العراق، أشهر ملوکه حمورابی (1792- 1750 ق. م.)
1785- 1580 ق. م. هجرة الهکسوس الی مصر و حکمهم فیها.
1720 ق. م. هجرة آل یعقوب الی مصر فی عهد الهکسوس.
(حوالی) 1700 ق. م. بدایة هجرة الحوریین من مناطقهم الجبلیة فی شمال ایران الی شمالی العراق و تأسیسهم دولة میتانی (حوالی 1500- 1400 ق. م.)
1595- 1162 ق. م. فترة حکم الکاشیین فی العراق- عاصمتهم کوریکالزو (عقرقوف الحالیة).
1580- 1085 ق. م. تکوین الامبراطوریة المصریة بعد طرد الهکسوس من مصر.
1580- 1546 ق. م. عهد أحموسه الأول مؤسس السلالة الثامنة عشرة المصریة محرر بلاده من الاحتلال الهکسوسی.
1504- 1450 ق. م. عهد تحوطمس الثالث الفاتح المصری الشهیر قضی علی بلاد الهکسوس فی الشرق و استولی علی معظم أقطار الشرق الأدنی.
1450 ق. م. بدایة هجرة الحثین من الاناضول الی شمال سوریة و تأسیسهم دولة قرقامیش- (جرابلس) (1450- 1200 ق. م.)
1417- 1362 ق. م. عهد رسائل تل الحمارنة.
1417- 1362 ق. م. عهد ملک أورشلیم عبدی- خیبا الکنعانی(Abdikhiba) و رسائله الی أخناتون و سلفه امنحوتب الثالث التی ورد فیها ذکر اوروسالم (أورشلیم)
1417- 1379 ق. م. عهد أمنحوتب الثالث (السلالة 18) کان معاصرا لعبدی خیبا ملک أورشلیم
1379- 1362 ق. م. عهد أمنحوتب الرابع (السلالة 18) المعروف باخناتون صاحب الدعوة الی عقیدة التوحید کان معاصرا لعبدی- خیبا ملک أورشلیم.
1304- 1237 ق. م. عهد رعمسیس الثانی (السلالة 19) تم فی زمنه خروج بنی اسرائیل من مصر بقیادة النبی موسی.
1290 ق. م. (حوالی)- خروج بنی اسرائیل من مصر و هجرتهم الی أرض فلسطین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 193
1200- 1150 ق. م. هجرة الفلستینیین الی الساحل الفلسطینی الجنوبی و منهم جاءت تسمیة «فلستیا» (فلسطین الحالیة)
1198- 1166 ق. م. عهد رعمسیس الثالث (السلالة 20) أکثر فراعنة مصر ایغالا فی بلاد العرب و هو الذی صد هجوم الفلستینیین علی مصر سنة 1191 ق. م.
1162- 1046 ق. م. فترة حکم السلالة البابلیة الرابعة فی بابل اشتهر من ملوکها نبوخذ نصر الأول (1124- 1103 ق. م.)
1125- 1025 ق. م. (حوالی) عهد القضاة الاسرائیلیین فی فلسطین.
1077- 911 ق. م. غزو الأرامیین للعراق و استقرارهم علی طول الجانب الأیمن من نهر الفرات.
1050 ق. م. انتصار الفلسطینیین فی المعرکة التی نشبت بینهم و بین بنی اسرائیل فی عهد القضاة و استیلاؤهم علی تابوت العهد.
1025- 1010 ق. م. (تقریبی) فترة حکم الملک شأوول علی بنی اسرائیل.
1010 ق. م. (تقریبی) انتصار الفلسطینیین علی الملک شأوول و مقتله هو و اولاده الثلاثة.
1010- 791 ق. م. (تقریبی) فترة حکم الملک داود علی بنی اسرائیل.
1003 (تقریبی) استیلاء الملک داود علی یبوس (أورشلیم) و اتخاذها عاصمة له.
994- 971 ق. م. (تقریبی) فترة حکم الملک داود فی أورشلیم.
971- 931 ق. م. (تقریبی) فترة حکم الملک سلیمان فی أورشلیم.
926 ق. م. زحف شیشنق الأول ملک مصر علی أورشلیم فی عهد رحبمام ملک یهوذا و نهب ذخائر الهیکل و بینها 500 ترس من ذهب.
853 ق. م. المعرکة غیر الحاسمة بین الاشوریین و بین الأرامیین و حلفائهم فی القرقار علی نهر العاصی
731 ق. م. استیلاء تجلات بلاسر الثالث ملک آشور علی کل اراضی اسرائیل و سبی أهلها الی آشور.
722- 721 ق. م. حملة الاشوریین علی مملکة اسرائیل فی زمن شلمنصر الخامس و سرکون الثانی و ازالتها من الوجود هی و عاصمتها السامرة.
701 ق. م. حملة سنحاریب ملک آشور علی مملکة یهوذا و محاصرة أورشلیم.
612 ق. م. سقوط نینوی عاصمة الاشوریین بید الجیوش الماذیة و البابلیة المتحالفة.
612- 539 ق. م. فترة حکم الدولة الکلدانیة فی العراق بعد سقوط نینوی.
605 ق. م. انتصار نبوخذنصر علی نخو ملک مصر فی معرکة قرقمیش و انسحاب مصر من الشرق الادنی.
600 ق. م. بدء هجرة الأنباط الی شرقی الأردن.
597 ق. م. حملة نبوخذنصر الأولی علی مملکة یهوذا و أورشلیم (السبی الاول لبنی یهوذا).
586 ق. م. حملة نبوخذنصر الثانیة علی مملکة یهوذا و أورشلیم بسبی الیهود الی بابل (السبی الثانی).
539 ق. م. فتح کورش الأخمینی لمدینة بابل و قضاؤه علی الدولة الکلدانیة فی العراق و سماحه لمن رغب من الیهود العودة الی أورشلیم و اذنه لهم باعادة بناء الهیکل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 194
332 ق. م. فتح الاسکندر لفلسطین و انشاء مستعمرات اغریقیة بین الیهود.
323 ق. م. (13 حزیران) وفاة الاسکندر فی بابل.
323- 30 ق. م. حکم البطالمة فی مصر.
312 ق. م. فلسطین تصبح تحت حکم البطالمة فی مصر.
312- 64 ق. م. فترة حکم السلوقیین فی سوریة.
300 ق. م. نقل بطلیموس الأول عددا من یهود أورشلیم الی أفریقیا.
198 ق. م. استیلاء انطیوخس الثالث علی فلسطین.
168 ق. م. دخول انطیوخس الرابع (أبیفان) أورشلیم و تدمیره لهیکلها و نهبه لخزائنها.
167 ق. م. اضطهاد الیهود فی فلسطین و اجبارهم علی نبذ الیهودیة و اعتناق الوثنیة الیونانیة.
167 ق. م. بدایة ثورة العائلة الهشمونیة المکابیة بزعامة الکاهن متآثیوس.
167- 37 ق. م. فترة عهد المکابیین فی فلسطین.
164 ق. م. استیلاء المکابیین علی أورشلیم علی أثر الخسائر التی لحقت بالجیش السلوقی.
141 ق. م.- 227 ب. م.- حکم الفرثیین فی العراق و فی سوریة جزئیا.
141 ق. م. مناداة سیمون کاهنا أعلی و حاکما فی اورشلیم و اعتراف دمتریوس الثانی الملک السلوقی باستقلاله.
70 ق. م.- 476 ب. م.- عهد الانبراطوریة الرومانیة.
69 ق. م. احتلال دکران ملک أرمینیا لشمال سوریة و استیلاؤه علی عکة ثم انسحابه منها تحت ضغط الرومان.
64 ق. م. احتلال القائد الرومانی بومبی لسوریة و ضمها الی رومة.
63 ق. م. دخول بومبی القائد الرومانی الی أورشلیم و جعل یهوذا تابعة لحاکم سوریة الرومانی.
54 ق. م. نهب کراسوس لخزائن الهیکل فی أورشلیم.
47 ق. م. تعیین الانتیبایتر الاروسی خازنا فی یهوذا.
43 ق. م. موت أنتیبایتر و احلال ابنه هیرودس محله حاکما علی یهوذا.
40 ق. م. استیلاء الفرثیین علی فلسطین ثم انسحابهم منها سنة 38 ق. ق.
40 ق. م. هرب هیرودس الی رو ما بعد احتلال الفرثیین لفلسطین.
6 ق. م. مولد السید المسیح (ع)
4 ق. م. وفاة هیرودس و تقسیم حکم فلسطین بین أولاده الثلاثة.
36 ق. م. احتلال هیرودس لأورشلیم عنوة بعد معارک عنیفة و بذلک کان انتهاء حکم السلالة المکابیة.
30 ق. م. ضم الامبراطور أغسطس مصر الی الامبراطوریة الرومانیة.
19 ب. م. صلب السید المسیح (ع)
66 ب. م. بدایة ثورة الیهود فی أورشلیم ضد الرومان فی عهد نیرون. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌4 ؛ ص195
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 195
70 ب. م. فتح الرومان لأورشلیم و تشتیت الیهود.
132 ب. م. ثورة الیهود من جدید فی عهد الامبراطور هادریان (117- 138 م) بقیادة «بارکوخبا».
135 ب. م. قضاء هادریان علی ثورة «بارکوخبا» و اقامة مستعمرة رومانیة فی أورشلیم و تحریم سکنی الیهود فیها.
138 ب. م. تسنم الانبراطور أنتونینس بیوس (138- 161 م.) العرش الرومانی و الغاؤه المراسیم التی استنها سلفه هادریان القاضیة بتحریم الدیانة الیهودیة.
313 ب. م. اصدار قسطنطین مرسوما یقضی بمنح المسیحیین حریة العبادة علی المسیحیة فی جمیع اقطار الانبراطوریة الرومانیة.
323 ب. م. عقد اجتماع مجلس الأساقفة فی نیسیا لبحث الشؤون الدینیة المسیحیة.
326 ب. م. حج الانبراطورة هیلینا الی أورشلیم.
330 ب. م. اتخاذ «بیزنطیة» عاصمة رسمیة للامبراطوریة الرومانیة و تغییر اسمها الی اسم مؤسسها قسطنطین.
330- 337 ب. م. إقامة الانبراطور قسطنطین «کنیسة القبر المقدس» (القیامة حالیا) فی «الجلجلة».
361 ب. م. اعتلاء جولیان عرش الانبراطوریة الرومانیة و انحرافه عن المسیحیة و أمره باعادة هیکل الیهود فی أورشلیم.
363 ب. م. وفاة جولیان و الرجوع الی الدیانة المسیحیة.
395 ب. م. تقسیم الانبراطوریة الرومانیة الی غربیة و شرقیة.
527- 565 ب. م. اقامة الانبراطور جستنیان عمارات کثیرة فی فلسطین منها «الباب الذهبی» الذی لا یزال یعرف بهذا الاسم و منها الکنیسة التی انشأها فی موضع المسجد الأقصی الحالی.
608 ب. م. وصول جیوش کسری الثانی (أبرویز» (590- 628 م.) الی حدود البوسفور و تهدیدها للقسطنطینیة.
614 ب. م. احتلال کسری أبرویز لسوریة و فلسطین و تخریبه کنائس القدس من ضمنها «کنیسة القبر المقدس».
628 ب. م. انتصار الانبراطور هرقل (610- 641 م.) علی الفرس و استرجاع سوریة و فلسطین منهم.
630- (حوالی) ملاحقة هرقل للفرس فی بلادهم و استرجاع «الصلیب الأصلی» الذی کانوا قد استولوا علیه بعد احتلالهم للقدس سنة 614 م.
636 ب. م. معرکة الیرموک التی انتصر فیها العرب علی جیوش الانبراطور البیزنطی هرقل.
638 ب. م. سقوط مدینة القدس فی أیدی العرب فی عهد الخلیفة عمر (17).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 196
المراجع الاجنبیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 199
المراجع العربیة- «بیت المقدس فی الاسلام»، تقدیم الدکتور عبد الحلیم محمود، مجمع البحوث الاسلامیة فی الازهر، الکتاب الخامس (عدد خاص) 1969.
- جبرا (ابراهیم جبرا): «الرحلة الثامنة القدس: الزمن المجد، صیدا، 1967، ص 155- 176. (قطعة أدبیة تاریخیة رائعة عن القدس).
- العارف (عارف باشا): «تاریخ القدس» القاهرة، دار المعارف، 1951.
-: «تاریخ الحرم القدسی، القدس، 1947 (تقریظ المقتطف ج 112 (1948) ص 74- 75).
- العلیمی (عبد الرحمن بن محمد): القدس 1456- 1522، 2 ج، مصر، المطبعة الوهبیة فی مصر 1283.
- مجیر الدین: الانس الجلیل بتاریخ القدس و الخلیل
ابو الیمن القاضی مجیر الدین الحنبلی ولد بالقدس و توفی بها 927 ه المطبعة الوهبیة بمصر 1283 ه (ج 2).
- العمری (ابن فضل اللّه): «مسالک الابصار فی ممالک الامصار» بتحقیق الاستاذ احمد زکی باشا، الجزء الاول، القاهرة، 1924 (انظر «المسجد الاقصی» ص 133- 167).
- الموسوعة العربیة المیسرة- بیت المقدس، ص 454- 455.
- الولی (الشیخ طه): «التراث الاسلامی فی بیت المقدس و فضائله الدینیة»، بیروت 1969.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 201

الارض المقدسة فی بعض المصادر العربیة و الاسلامیة

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 202
ابن منظور هو محمد بن مکرم بن علی بن احمد الانصاری الافریقی ولد سنة 630، و کان بحاثا لغویا واسع الاطلاع، و قد اغرم بتلخیص الکتب المطولة فلخص الاغانی و العقد الفرید و غیرهما من الکتب الشهیرة و قد نقل علی لسان ابنه انه ترک خمسمائة مجلد بخطه، و قد جمع فی اللغة کتابه الشهیر (لسان العرب) و قیل فی ترجمته انه کان متشیعا، و قد عمی فی اواخر عمره، و کتابه هذا قد جمع فیه جمیع اللغة من جمیع المجامیع اللغویة و ما ترک العرب فی امثالهم و اشعارهم التی تصلح ان تکون شواهد لغویة و أدبیة، و قد مات سنة 711 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 203

اسماء القدس فی لسان العرب

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 204

ایلیاء

و ایلیاء مدینة بیت المقدس، و منهم من یقصر الیاء فیقول إلیاء و کأنهما رومیان، قال الفرزدق:
و بیتان! بیت اللّه نحن ولاته‌و بیت بأعلی (إیلیاء) مشرّف
و فی الحدیث: ان عمر رضی اللّه عنه، أهلّ بحجة من ایلیاء، هی بالمد و التخفیف اسم مدینة بیت المقدس، و قد تشدد الیاء الثانیة، و تقصر الکلمة و هو معرّب.

شلّم

و عن الفراء: لم یأت علی فعّل اسما الا بقّم، و عثّر، و ندّروهما موضعان، و شلّم بیت المقدس.

القدس

و القدس و القدس، بضم الدال و سکونها، اسم و مصدر، و منه قیل للجنة: حضیرة القدس.
و التقدیس: التطهیر و التبریک، و تقدس ای تطهّر، و فی التنزیل: و نحن نسبح بحمدک و نقدس لک.
الزجاج: معنی نقدس لک ای نطهّر انفسنا لک، و کذلک نفعل بمن اطاعک نقدسه ای نطهّره، و من هذا قیل للسطل القدس لانه یتقدس منه ای یتطهر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 205
و القدس بالتحریک: السطل بلغة اهل الحجاز لانه یتطهر منه، قال: و من هذا بیت المقدس ای البیت المطهّر ای المکان الذی یتطهر به من الذنوب.
ابن الکلبی: القدوس الطاهر، و قوله تعالی: الملک القدوس الطاهر، فی صفة اللّه عز و جل، و قیل قدّوس، بفتح القاف، قال، و جاء فی التفسیر انه المبارک، و القدوس: هو اللّه عز و جل و القدس: البرکة، و الارض المقدسة الشام، منه، و بیت المقدس من ذلک ایضا، فاما ان یکون علی حذف الزائد، و اما ان یکون اسما لیس علی الفعل کما ذهب الیه سیبویه فی المنکب، و هو یخفّف و یثقّل، و النسبة الی مقدسی، مثل مجلسی، و مقدّسی قال امرؤ القیس:
فادرکنه یاخذن بالساق و النساکما شبرق الولدان ثوب المقدّسی
و الهاء فی (ادرکنه) ضمیر الثور الوحشی، و النون فی ادرکنه ضمیر الکلاب، ای ادرکت الکلاب الثور فأخذن بساقه و نساه، و شبرقت جلده کما شبرق ولدان النصاری ثوب الزاهد المقدّسی، و هو الذی جاء من بیت المقدس فقطعوا ثیابه تبرکا بها، و الشبرقة تقطیع الثوب و غیره، و یقال للراهب مقدّس، و اراد فی هذا البیت بالمقدّسی الراهب، و صبیان النصاری یتبرکون به و بمسح مسحه الذی هو لابسه، و اخذ خیوطه منه حتی یتمزق عنه ثوبه.
و المقدّس الحبر، و حکی ابن الاعرابی: لاقدسه اللّه: ای لا بارک علیه، قال و المقدس المبارک، و الارض المقدسة: المطهرة، و قال الفراء: الارض المقدسة الطاهرة، و هی دمشق، و فلسطین، و بعض الأردن، و یقال: ارض مقدسة ای مبارکة و هو قول قتادة و الیه ذهب ابن الاعرابی و قول العجاج:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 206 قد علم القدوس مولی القدس‌أن ابا العباس اولی نفس
بمعدن الملک القدیم الکرس‌اراد انه أحقّ نفس بالخلافة،
و روح القدس: جبریل علیه السلام، و فی الحدیث ان روح القدس نفث فی روعی، یعنی جبریل علیه السلام، لأنه خلق من طهارة، و قال اللّه عز و جل فی صفة عیسی، علی نبینا و علیه الصلاة و السلام «وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»* هو جبریل معناه روح الطهارة ای خلق من طهارة، و قول الشاعر:
لا نوم حتی تهبطی ارض القدس‌و تشربی من خیر ماء بقدس
اراد الأرض المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 207

القدس فی رحلة ناصر خسرو

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 208
ناصر خسرو خراسانی من ابناء القرن الخامس علی جانب کبیر من العلم و المعرفة، و هو اسماعیلی المذهب قام برحلة واسعة فی الثلث الاول من القرن الخامس و سجل الشی‌ء الکثیر من مشاهداته التی اعتبرها المؤرخون مرجعا من اهم المراجع التاریخیة فی القرن الخامس و الرحلة مکتوبة باللغة الفارسیة فقام بترجمتها المؤرخون الی اغلب اللغات الحیة، و ترجمت اخیرا عن طریق الدکتور یحیی الخشاب الی اللغة العربیة، و علی هذه الرحلة یجری الاعتماد فی وصف المسجد الاقصی و مساحة قاعاته و ابهانه مما سیطلع علیه هنا المؤرخون من العرب الذین لم یسبق لهم الاطلاع علی هذه الرحلة. و کان دخوله الی بیت المقدس فی سنة 438 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 209

الرحالة ناصر خسرو فی بیت المقدس

زار الرحالة الایرانی الاسماعیلی ناصر خسرو، فیما زار من البلاد الشامیة فی عهد الفاطمیین، فلسطین: و بیت المقدس علی الأخص، فدوّن فی رحلته الشهیرة باسم «سفرنامه» أشیاء مفیدة کثیرة عنها. و لأجل أن لا فراغ نحیط بالموضوع من جمیع جوانبه نثبت فیما یأتی ما کتبه فی هذا الشأن إتماما للفائدة:
«.. فی الخامس من رمضان سنة 438 (16 مارس 1047) بلغنا بیت المقدس. و کان قد مضی علی خروجنا من بلدنا سنة شمسیة، و طوال رحلتنا لم نقرّ فی مکان قط و لا وجدنا راحة کاملة. و أهل الشام و أطرافها یسمون بیت المقدس «القدس». و یذهب الی القدس فی موسم الحج من لا یستطیع الذهاب الی مکة من أهل هذه الولایات، فیتوجه الی الموقف و یضحی ضحیة العید کما هی العادة. و یحضر الی هناک لتأدیة السنّة، فی بعض السنین، أکثر من عشرین ألف شخص، فی أوائل ذی الحجة، و معهم أبناؤهم. کذلک یأتی لزیارة بیت المقدس من دیار الروم کثیر من النصاری و الیهود، و ذلک لزیارة الکنیسة و الکنیش هناک. و هناک کنیسة عظیمة سیأتی وصفها فی مکانه.
و سواد و رساتیق بیت المقدس جبلیة کلها، و الزراعة و أشجار الزیتون و التین و غیرها تنبت کلها بغیر ماء، و الخیرات بها کثیرة و رخیصة و فیها أرباب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 210
عائلات یملک الواحد منهم خمسین ألف منّ من زیت الزیتون، یحفظونها فی الآبار و الأحواض. و یصدرونها الی أطراف العالم. و یقال انه لا یحدث قحط فی بلاد الشام. و سمعت من ثقات ان ولیا رأی النبی علیه السلام فی المنام فقال له «ساعدنا فی معاشنا یا رسول اللّه» فأجابه النبی علیه السلام «علیّ خبز الشام و زیته». و الآن أصف مدینة بیت المقدس:
هی مدینة مشیدة علی قمة الجبل، لیس بها ماء غیر الامطار. و رساتیقها ذات عیون. و المدینة محاطة بسور حصین من الحجر و الجص و علیها بوابات حدید. و لیس بقربها أشجار قط، فانها علی رأس صخر. و هی مدینة کبیرة کان بها فی ذلک الوقت عشرون ألف رجل، و بها أسواق جمیلة و أبنیة علیة، و کل أرضها مبلطة بالحجارة، و قد سووا الجهات الجبلیة و المرتفعات و جعلوها مسطحة، بحیث تغسل الأرض کلها و تنظف حین تنزل الأمطار. و فی المدینة صناع کثیرون و لکل جماعة منهم سوق خاصة، و الجامع شرقی المدینة و سورها هو سورها الشرقی. و بعد الجامع سهل کبیر مستو یسمی «الساهرة» یقال انه سیکون ساحة القیامة و الحشر، لهذا یحضر الیه خلق کثیرون من أطراف العالم و یقیمون به حتی یموتوا فاذا جاء وعد اللّه کانوا بأرض المیعاد.
اللهم عفوک و رحمتک بعبیدک ذلک الیوم آمین یا رب العالمین. و علی حافة هذا السهل قرافة عظیمة و مقابر کثیر من الصالحین، یصلی بها الناس و یرفعون بالدعاء أیدیهم فیقضی اللّه حاجاتهم، اللهم تقبل حاجاتنا و اغفر ذنوبنا و سیئآتنا و ارحمنا برحمتک یا أرحم الراحمین. و بین الجامع و سهل الساهرة واد عظیم الانخفاض کأنه خندق، و به أبنیة کثیرة علی نسق أبنیة الأقدمین. و رأیت قبة من الحجر المنحوت مقامة علی بیت لم أر أعجب منها. حتی أن الناظر الیها لیسأل نفسه کیف رفعت فی مکانها؟ و یقول العامة انها بیت فرعون، و اسم هذا الوادی «وادی جهنم». و قد سألت عمن أطلق هذا اللقب علیه فقیل ان عمر رضی اللّه عنه أنزل جیشه أیام خلافته فی سهل الساهرة هذا. فلما رأی الوادی قال: هذا وادی جهنم. و یقول العوام ان من یذهب إلی نهایته یسمع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 211
صیاح أهل جهنم، فان الصدی یرتفع من هناک، و قد ذهبت فلم أسمع شیئا.
و حین یسیر السائر من المدینة جنوبا مسافة نصف فرسخ و ینزل المنحدر یجد عین ماء تنبع من الصخر تسمی «عین سلوان» و قد أقیمت عندها عمارات کثیرة. و یمر ماء هذه العین بقریة شیدوا فیها عمارات کثیرة و غرسوا بها البساتین. و یقال ان من یستحم من ماء هذه العین یشفی مما ألمّ به من الأوصاب و الأمراض المزمنة. و قد وقفوا علیها مالا کثیرا. و بیت المقدس مستشفی عظیم علیه أوقاف طائلة و یصرف لمرضاه العدیدین العلاج و الدواوبه أطباء یأخذون مرتباتهم من الوقف المقرر لهذه المستشفی. و مسجد الجمعة علی حافة المدینة من الناحیة الشرقیة، و إحدی حوائط المسجد علی حافة وادی جهنم. و حین ینظر السائر من خارج المسجد یری الحائط المطل علی هذا الوادی یرتفع مئة ذراع من الحجر الکبیر الذی لا یفصله عن بعضه ملاط أو جص.
و الحوائط داخل المسجد ذات ارتفاع مستو. و قد بنی المسجد فی هذا المکان لوجود «الصخرة» به، و هی الصخرة التی أمر اللّه عز و جل موسی علیه السلام أن یتخذها قبلة». فلما قضی هذا الأمد و اتخذها موسی قبلة له لم یعمر کثیرا بل عجلت به المنیة حتی اذا کانت أیام سلیمان علیه السلام، و کانت الصخرة قبلة، بنی مسجدا حولها بحیث أصبحت فی وسطه. و ظلت الصخرة قبلة حتی عهد نبینا المصطفی علیه السلام فکان المصلون یولون وجوههم شطرها، الی أن أمرهم اللّه تعالی أن یولوا وجوههم شطر الکعبة و سیأتی وصف ذلک فی مکانه.
و قد أردت أن أقیس هذا المسجد، و لکنی آثرت أن أتقن معرفة هیئته و وضعه أولا ثم أقیسه، فلبثت فیه زمنا أمعن النظر فرأیت عند الجانب الشمالی بجوار قبة یعقوب علیه السلام طاقا مکتوبا علی حجر منه أن طول المسجد أربع و خمسون و سبع مئة ذراع و عرضه خمس و خمسون و أربع مئة ذراع، و ذلک بذراع الملک المسمی فی خراسان «کز شایکان» و هو أقل قلیلا من ذراع و نصف، و أرض المسجد مغطاة بحجارة موثوقة الی بعضها بالرصاص.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 212
و المسجد شرقی المدینة و السوق، فاذا دخله السائر من السوق فانه یتجه شرقا فیری رواقا عظیما جمیلا ارتفاعه ثلاثون ذراعا و عرضه عشرون. و للرواق جناحان واجهتاهما و أیوانه منقوشة کلها بالفسیفساء المثبتة بالجص علی الصورة التی یریدونها، و هی من الدقة بحیث تبهر النظر. و یری علی هذا الرواق کتابة منقوشة بالمینا، و قد کتب هناک لقب سلطان مصر، فحین تقع الشمس علی هذه النقوش یکون لها من الشعاع ما یحیر الألباب. و فوق الرواق قبة کبیرة من الحجر المصقول، و له بابان مزخرفان و واجهتاهما من النحاس الدمشقی الذی یلمع حتی لتظن أنهما طلیا بالذهب. و قد طعّما بالذهب و حلّیا بالنقوش الکثیرة، و طول کل منهما خمس عشرة ذراعا و عرضه ثمان و یسمیان «باب داود» علیه السّلام. و حین یجتاز السائر هذا الباب یجد علی الیمین رواقین کبیرین فی کل منهما تسعة و عشرون عمودا من الرخام، تیجانها و قواعدها مزینة بالرخام الملون و وصلاتها مثبتة بالرصاص. و علی تیجان الأعمدة طیقان حجریة و هی مقامة فوق بعضها بغیر ملاط و جص، و لا یزید عدد حجارة الطاق منها علی أربع أو خمس قطع، و هذان الرواقان ممتدان الی المقصورة. ثم یجد علی الیسار و هو ناحیة الشمال رواقا طویلا به أربعة و ستون طاقا کلها علی تیجان أعمدة من رخام، و علی هذا الحائط نفسه باب آخر اسمه «باب السقر». و طول المسجد من الشمال، و هو ساحة مربعة اذا اقتطعت المقصورة منه، و القبلة الی الجنوب. و علی الجانب الشمالی بابان متجاوران آخران عرض کل منهما سبع أذرع و ارتفاعه اثنتا عشرة ذراعا، و یسمیان «باب الأسباط». فاذا اجتازه السائر و ذهب مع عرض المسجد الذی هو جهة المشرق یجد رواقا آخر عظیما کبیرا به ثلاثة أبواب متجاورة فی حجم باب الأسباط و کلها مزینة بزخارف من الحدید و النحاس قل ما هو أجمل منها تسمی «باب الأبواب» لأن للمواضع الأخری بابین و له ثلاثة. و بین هذین الرواقین الواقعین علی الجانب الشمالی، فی الرواق ذی الطیقان المحملة علی أعمدة الرخام، قبة رفعت علی دعائم عالیة و زینت بالقنادیل و المسارج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 213
تسمی قبة یعقوب علیه السلام، لأنه کان یصلی هناک. و فی عرض المسجد رواق فی حائطه باب خارجه صومعتان للصوفیة. و هناک مصلیات و محاریب جمیلة یقیم بها جماعة منهم و یصلون و لا یذهبون الی الجامع الا یوم الجمعة لأنهم لا یسمعون التکبیر حیث یقیمون.
و عند الرکن الشمالی للمسجد رواق جمیل، و قبة جمیلة لطیفة مکتوب علیها: «هذا محراب زکریا النبی علیه السلام»، و یقال انه کان یصلی هناک دائما. و عند الحائط الشرقی، وسط الجامع، رواق عظیم الزخرف من الحجر المصقول حتی لتظن أنه نحت من قطعة واحدة ارتفاعه خمسون ذراعا و عرضه ثلاثون علیه نقوش و نقر، و له بابان جمیلان لا یفصلهما أکثر من قدم واحدة و علیهما زخارف کثیرة من الحدید و النحاس الدمشقی و قد دق علیهما الحلق و المسامیر. و یقال ان سلیمان بن داود علیه السلام بنی هذا الرواق لأبیه.
و حین یدخل السائر هذا الرواق متجها ناحیة الشرق، فالأیمن من هذین البابین هو «باب الرحمة» و الأیسر «باب التوبة»، و یقال ان هذا الباب هو الذی تقبل اللّه عنه توبة داود علیه السلام. و علی هذا الرواق مسجد جمیل کان فی وقت ما دهلیزا فصیروه جامعا و زینوه بأنواع السجاد، و له خدم مخصصون، و یذهب الیه کثیر من الناس و یصلون فیه و یدعون اللّه تبارک و تعالی، فانه فی هذا المکان قبل توبة داود، و کل انسان هناک یأمل فی التوبة و الرجوع عن المعاصی. و یقال ان داود علیه السلام لم یکد یطأ عتبة هذا المسجد حتی بشّره الوحی بأن اللّه سبحانه و تعالی قد قبل توبته، فاتخذ هذا المکان مقاما و انصرف الی العبادة. و قد صلیت، أنا (ناصر) فی هذا المقام و دعوت اللّه تعالی أن یوفقنی لطاعته، و ان یغفر ذنبی فاللّه سبحانه و تعالی یهدی عباده جمیعا لما یرضاه و یغفر ذنوبهم بحق محمد و آله الطاهرین.
و حینما یمضی السائر بحذاء الجدار الشرقی الی ان یبلغ الزاویة الجنوبیة، عند القبلة التی تقع علی الضلع الجنوبی، یجد أمام الحائط الشمالی مسجدا بهیئة السرداب ینزل فیه بدرجات کثیرة مساحته عشرون ذراعا فی خمس عشرة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 214
و سقفه من الحجر مرفوع علی أعمدة الرخام. و بهذا السرداب مهد عیسی علیه السلام، و هو من الحجر، حجمه کبیر بحیث یصلی علیه الناس، و قد صلیت هناک. و قد أحکم وضعه فی الأرض حتی لا بتحرک، و هو المهد الذی أمضی فیه عیسی طفولته و کلّم الناس منه، و هو فی المسجد مکان المحراب. و فی الجانب الشرقی من هذا المسجد محراب مریم علیها السلام. و به محراب آخر لزکریا علیه السلام. و علی هذین المحرابین آیات القرآن التی نزلت فی حق زکریا و مریم. و یقال ان عیسی علیه السلام ولد فی هذا المسجد. و علی حجر من عمده نقش أصبعین کأن شخصا أمسکه. و یقال أن مریم امسکته بأصبعیها و هی تلد. و یعرف هذا المسجد ب «مهد عیسی» علیه السلام. و به قنادیل کثیرة من النحاس و الفضة توقد کل مساء.
و حین یخرج السائر من هذا المسجد متبعا الحائط الشرقی، یجد عند ما یبلغ زاویة المسجد الکبیر مسجدا آخر عظیما جدا، أکبر مرتین من مسجد مهد عیسی یسمی «المسجد الأقصی». و هو الذی أسری اللّه عز و جل بالمصطفی (ص) لیلة المعراج من مکة الیه، و منه صعد الی السماء کما جاء فی القرآن:
«سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی».
و قد بنوا به أبنیة غایة فی الزخرف، و فرش بالسجاد الفاخر، و یقوم علیه خدم مخصصون یعملون به دواما.
و حین یعود السائر الی الحائط الجنوبی، علی مئتی ذراع من تلک الزاویة، لا یجد سقفا و هناک ساحة المسجد، و اما الجزء المسقوف من المسجد الکبیر و الذی به المقصورة فیقع عند الحائطین الجنوبی و الغربی. و طول هذا الجزء عشرون و أربع مائة ذراع و عرضه خمسون و مائة ذراع، و به ثمانون و مئتا عمود من الرخام علی تیجانها طیقان من الحجارة. و قد نقشت تیجان الأعمدة و هیاکلها، و ثبتت الوصلات فیها بالرصاص فی منتهی الأحکام. و بین کل عمودین ست أذرع مغطاة بالرخام الملون الملبس بشقاق الرصاص. و المقصورة فی وسط الحائط الجنوبی و هی کبیرة جدا تتسع لستة عشر عمودا، و علیها قبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 215
عظیمة جدا منقوشة بالمیناء علی نسق ما وضعت، و هی مفروشة بالحصیر المغربی، و بها قنادیل و مسارج معلقة بالسلاسل و متباعد بعضها عن بعض، و بها محراب کبیر منقوش بالمیناء، و علی جانبیه عمودان من الرخام لونهما کالعقیق الأحمر، و إزار المقصورة کله من الرخام الملون. و علی یمینه محراب معاویة، و علی یساره محراب عمر رضی اللّه عنه. و سقف هذا المسجد مغطی بالخشب المنقوش المحلی بالزخارف. و علی باب المقصورة و حائطها المطلین علی الساحة خمسة عشر رواقا علیها أبواب مزخرفة ارتفاع کل منها عشر أذرع و عرضه ست. و تفتح عشرة من هذه الأبواب علی الجدار الذی طوله عشرون و أربع مئة ذراع، و خمسة منها تفتح علی الجدار الذی طوله خمسون و مئة ذراع. و قد زین باب منها غایة الزینة، و هو من الحسن بحیث تظن أنه من ذهب، و قد نقش بالفضة و کتب علیه اسم الخلیفة المأمون، و یقال انه هو الذی أرسله من بغداد. و حین تفتح الأبواب کلها ینیر المسجد حتی لتظن انه ساحة مکشوفة، اما حین تعصف الریح و تمطر السماء و تغلق الأبواب فان النور ینبعث للمسجد من الکوات. و علی الجوانب الأربعة من الحرم المسقوف صنادیق من مدن الشام و العراق یجلس بجانبها المجاورون کما هو الحال فی المسجد الحرام بمکة شرفها اللّه تعالی.
و خارج هذا الحرم، عند الحائط الکبیر الذی مر ذکره، رواق به اثنان و أربعون طاقا، و کل أعمدته من الرخام الملون، و هذا الرواق متصل بالرواق المغربی. و تحت الأرض فی الحرم المسقوف حوض جعل بحیث یکون فی مستوی الأرض حین یغطی. و قد بنی لتجمع فیه میاه المطر. و علی الحائط الجنوبی باب یؤدی الی میضأة، یذهب الیها من یحتاج الی الوضوء فیجدده، و ذلک لأنه لا یلحق الصلاة اذا هو خرج من المسجد لیتوضأ، إذ أن کبر المسجد یفوّت علیه الصلاة اذا اجتازه. و کل الأسقف ملبسة بالرصاص.
و قد حفرت فی أرض المسجد أحواض و صهاریج کثیرة، فان المسجد مشیّد کله علی صخرة، فهما یهطل من المطر لا یذهب خارج الأحواض و لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 216
یضیع سدی بل ینصرف الی الأحواض و ینتفع به الناس. و هناک میازیب من الرصاص ینزل منها الماء الی أحواض حجریة تحتها، و قد ثقبت هذه الأحواض منها الماء و یصب فی الصهاریج بواسطة قنوات بینها غیر ملوث أو عفن.
و قد رأیت علی ثلاثة فراسخ من المدینة صهریجا کبیرا تنحدر الیه المیاه من الجبل و تتجمع فیه، و قد أوصلوه بقناة الی مسجد المدینة، حیث یوجد أکبر مقدار من میاهها. و فی المنازل کلها أحواض لجمع میاه المطر، إذ لا یوجد غیره هناک، و یجمع کل انسان ما علی سطح بیته من میاه، فان ماء المطر هو الذی یستعمل فی الحمامات و غیرها.
و الأحواض التی بالمسجد لا تحتاج إلی عمارة أبدا لأنها من الحجر الصلب، فاذا حدث بها شق أو ثقب أحکم اصلاحه حتی لا تتخرب. و یقال ان سلیمان علیه السلام هو الذی عمل هذه الاحواض. و قد جعل القسم الأعلی منها علی هیئة التنور، و علی رأس کل حوض غطاء من حجر حتی لا یسقط فیه شی‌ء.
و ماء هذه المدینة أعذب و أنقی من أی ماء آخر. و تستمر المیازیب فی قطر المیاه یومین أو ثلاثة و لو کان المطر قلیلا الی أن یصفو الجو و تزول آثاره السیئة، و حینئذ یبدأ المطر.
قلت ان مدینة بیت المقدس تقع علی قمة جبل و أن أرضها غیر مستویة.
اما المسجد فأرضه مستویة، فخارج المسجد حیثما تکون الأرض منخفضة یرتفع حائطه، إذ یکون أساسه فی أرض واطئة، و حیثما تکون الأرض مرتفعة یقصر الجدار. و فی الجهات الواطئة من أحیاء المدینة فتحوا فی المسجد أبوابا کأنما ثقب تؤدی الی ساحته. و من هذه الأبواب باب یسمی «باب النبی» علیه السلام، و هو بجانب القبلة، أی فی الجنوب، و قد عمل بحیث یکون عرضه عشر أذرع و اما ارتفاعه فیتفاوت حسب المکان، فهو فی مکان خمس أذرع، أی علو سقف هذا الممر، و فی مکان آخر عشرون. و الجزء المسقوف من المسجد الأقصی مشیّد فوق هذا الممر و هو محکم بحیث یحتمل ان یقام فوقه بناء بهذه العظمة من غیر ان یؤثر فیه قط. و قد استخدمت فی بنائه حجارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 217
لا یصدق العقل کیف استطاعت قوة البشر نقلها و استخدامها، و یقال ان سلیمان بن داود علیه السلام هو الذی بناه. و قد دخل منه نبینا علیه الصلوات و السلام الی المسجد لیلة المعراج. و هذا الباب علی جانب طریق مکة.
و علی الحائط، بقرب هذا الباب، نقش دقیق لمجن کبیر. یقال ان حمزة ابن عبد المطلب عم النبی علیه السلام کان جالسا و علی کتفه المجن و ظهره مسند الی الحائط، و ان هذا نقش مجنّه.
و عند بوابة المسجد حیث هذا الممر الذی علیه باب ذو مصراعین، یبلغ ارتفاع الجدار من الخارج ما یقرب من خمسین ذراعا. و قد قصد بهذا الباب ان یدخل منه سکان المحلة المجاورة لهذا الضلع من المسجد، فلا یلجؤون للذهاب الی محلة أخری حین یریدون دخوله. و علی الحائط الذی یقع یمین الباب حجر ارتفاعه خمس عشرة ذراعا و عرضه أربع أذرع فلیس فی المسجد حجر أکبر منه. و فی الحائط علی ارتفاع ثلاثین أو أربعین ذراعا من الأرض کثیر من الحجارة التی تبلغ فی حجمها أربع أذرع أو خمس.
و فی عرض المسجد باب شرقی یسمی «باب العین» اذا خرجوا منه نزلوا منحدرا فیه عین سلوان. و هناک ایضا باب تحت الأرض یسمی «الحطة» یقال أنه هو الباب الذی أمر اللّه عز و جل بنی اسرائیل أن یدخلوا منه الی المسجد، قوله تعالی: «وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَکُمْ خَطایاکُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ» و هناک باب آخر یسمونه «باب السکینة» فی دهلیزه مسجد به محاریب کثیرة، باب أوله مغلق حتی لا یلجه أحد. و یقال ان هناک تابوت «السکینة» الذی ذکره اللّه تبارک و تعالی فی القرآن و الذی حمله الملائکة.
و أبواب بیت المقدس، ما فوق الأرض و ما تحتها، تسعة أبواب کما ذکرت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 218

وصف الدکة التی بوسط ساحة المسجد و الصخرة التی کانت قبلة الاسلام

أقیمت هذه الدکة فی وسط المساحة لأنه لم یتیسر نقل الصخرة الی الجزء المسقوف من المسجد لعلوها. و هی تظل مساحة من الأرض مقدارها ثلاثون و ثلاث مائة ذراع فی ثلاث مائة و ارتفاعها اثنتا عشرة ذراعا. و صحنها مستو و مزخرف بالرخام الملبس بوصلات الرصاص. و علی جوانبها الأربعة ألواح الرخام کما یعمل فی المقابر. و هی مبنیة بحیث لا یستطیع أحد الصعود علیها من غیر المراقی المخصصة لهذا الأمر و یشرف من یصعد علیها علی سقف الجامع و قد حفر فی أرضها، فی الوسط، تصب فیها میاه المطر بواسطة قنوات أعدت لذلک، و ماء هذا الحوض أنقی و أعذب من کل ماء فی الجامع. و علی هذه الدکة أربع قباب، أکبرها قبة الصخرة التی کانت القبلة.

وصف قبة الصخرة

بنی المسجد بحیث تکون الدکة فی وسط الساحة، و قبة الصخرة فی وسط الدکة و الصخرة وسط القبة. و قبة الصخرة بیت مثمن منظم، کل ضلع من أضلاعه الثمانیة ثلاث و ثلاثون ذراعا و له أربعة أبواب، علی الجهات الأربع الأصلیة، باب شرقی و آخر غربی و ثالث شمالی و رابع جنوبی، و بین کل بابین ضلع. و جمیع المحیطات من الحجر المنحوت، و ارتفاعها عشرون ذراعا.
و محیط الصخرة مائة ذراع، و هی غیر منتظمة الشکل، لا هی مدورة و لا مربعة، و لکنها حجر غیر منتظم کحجارة الجبل. و قد بنوا علی جوانب الصخرة الأربعة أربع دعائم مربعة بارتفاع حائط البیت المذکور. و بین کل دعامتین، علی الجوانب الأربعة، عمودان اسطوانیان من الرخام بنفس الارتفاع و علی قمة تلک الدعائم و هذه الأعمدة الاثنی عشر بنوا القبة التی تحتها الصخرة، و التی یبلغ محیطها مائة و عشرین ذراعا.
و بین حائط هذا البناء و الدعائم و الأعمدة (اسمی المربعة المبنیة: ستون)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 219
دعامة، و المنحوتة المستدیرة التی من حجر واحد «اسطوانة» عمودا ثمان دعائم أخری مبنیة من الحجارة المنحوتة، و بین کل اثنتین منهما ثلاثة أعمدة من الرخام الملون علی أبعاد متساویة، بحیث یکون فی الصف الأول عمودان بین کل دعامتین، و یکون هنا ثلاثة أعمدة بین کل دعامتین. و علی تاج کل دعامة أربعة عقود، علی کل عقد طاق، و علی کل عمود طاق، و علی کل عمود عقدان فوق کل منهما طاق. و هکذا یکون علی العمود متکأ لطاقین، و علی الدعامة متکأ لأربعة، فکانت هذه القبة العظیمة فی ذلک الوقت مرتکزة علی هذه الدعامات الاثنتی عشرة المحیطة بالصخرة، فتراها علی بعد فرسخ کأنها قمة جبل. لأنها من أساسها الی قمتها ثلاثون ذراعا، و هی تستند الی أعمدة و دعامات ارتفاعها عشرون ذراعا، و قبة الصخرة مشیدة علی بیت ارتفاعه اثنتا عشرة ذراعا، و إذن فمن ساحة المسجد الی رأس القبة اثنتان و ستون ذراعا
و سقوف هذه الدکة و قبابها مکسوة بالنجارة. و کذلک الدعائم و العمد و الحوائط و ذلک بدقة یقل نظیرها. و الصخرة أعلی من الأرض بمقدار قامة رجل و قد أحیطت بسیاج من الرخام حتی لا تصل ید الیها.
و الصخرة حجر أزرق لونه، لم یطأها أحد برجله ابدا، و فی ناحیتها المواجهة للقبلة انخفاض کأن انسانا سار علیها فبدت آثار قدمه فیها، کما تبدو علی الطین الطری. فان آثار أصابع قدمه باقیة علیها. و قد بقیت علیها آثار سبع أقدام. و سمعت ان ابراهیم علیه السلام کان هناک. و کان اسماعیل طفلا فمشی علیها و هذه هی آثار قدمه. و یقیم فی بیت الصخرة هذا جماعة من المجاورین و العابدین. و قد زینت أرضه بالسجاد الجمیل من الحریر و غیره.
و فی وسطه قندیل من الفضة معلق بسلسلة فضیة فوق الصخرة. و هناک قنادیل کثیرة من فضة کتب علیها وزنها أمر بصنعها سلطان مصر. و قد قدرت ما هناک من الفضة بألف من.
و رأیت هناک أیضا شمعة کبیرة جدا طولها سبع أذرع و قطرها ثلاثة أشبار لونها کالکافور الزباجی و شمعها مخلوط بالعنبر. و یقال ان سلطان مصر یرسل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 220
هناک کل سنة کثیرا من الشمع، منه هذه الشمعة الکبیرة، و یکتب علیها اسمه بالذهب. و هذا المسجد هو ثالث بیوت اللّه سبحانه و تعالی، و المعروف عند علماء الدین ان کل صلاة فی بیت المقدس تساوی خمسة و عشرین ألف صلاة، و کل صلاة فی مدینة الرسول علیه الصلاة و السلام تعد بخمسین ألف صلاة، و ان صلاة مکة المعظمة شرفها اللّه تعالی تساوی مئة الف صلاة. وفق اللّه عزّ و جلّ عباده جمیعا لهذا الثواب.
و قد قلت ان أسقف و ظهور القباب ملبسة بالرصاص و علی جوانب البیت الأربعة أبواب کبیرة مصاریعها من خشب الصاج، و هی مقفلة دائما. و بعد قبة الصخرة قبة تسمی «قبة السلسلة»، و هی السلسلة التی علقها داود علیه السلام، و التی لا تصل الیها الا ید صاحب الحق، أما ید الظالم و الغاصب فلا تبلغها. و هذا المعنی مشهور عند العلماء. و هذه القبة محمولة علی رأس ثمانیة أعمدة من الرخام، و ست دعائم من الحجر. و هی مفتوحة من جمیع الجوانب عدا جانب القبلة، فهو مسدود حتی نهایته، و قد نصب علیه محراب جمیل.
و علی هذه الدکة أیضا قبة أخری مقامة علی أربعة أعمدة من الرخام، و هی مغلقة من ناحیة القبلة أیضا حیث بنی محراب جمیل. و تسمی هذه القبة «قبة جبریل» علیه السلام. و لیس فیها فرش بل ان أرضها من حجر سوّوه. و یقال ان هناک أعد «البراق» لیرکبه النبی علیه السلام لیلة المعراج.
و بعد قبة جبریل قبة أخری یقال لها «قبة الرسول» علیه الصلاة و السلام و بینهما عشرون ذراعا. و هی مقامة علی أربع دعائم من الرخام أیضا. و یقال ان الرسول علیه الصلاة و السلام صلی لیلة المعراج فی قبة الصخرة أولا ثم وضع یده علی الصخرة، فلما خرج وقفت لجلاله، فوضع الرسول علیه الصلاة و السلام یده علیها لتعود الی مکانها و تستقر و هی بعد نصف معلقة. و قد ذهب الرسول علیه السلام من هناک الی القبة التی تنتسب الیه و رکب البراق، و هذا سبب تعظیمها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 221
و تحت الصخرة غار کبیر یضاء دائما بالشمع. و یقال انه حین قامت الصخرة خلا ما تحتها، فلما استقرت بقی هذا الجزء کما کان.

وصف المراقی المؤدیة الی الدکة التی بساحة الجامع

یسار علی هذه الدکة من ستة مواضع: لکل منها اسم، فبجانب القبلة طریقان، یصعد فیهما علی درجات، فاذا وقفت فی وسط ضلع «الدکة وجدت أحدهما علی الیمین، و الثانی علی الیسار. و الذی علی الیمین یسمی مقام النبی علیه السلام، و الذی علی الیسار یسمی مقام الغوری. و سمی الأول مقام النبی لأن النبی علیه السلام صعد علی درجاته الی الدکة لیلة المعراج و دخل الی قبة الصخرة. و یقع طریق الحجاز علی هذا الجانب. و عرض درجاته الیوم عشرون ذراعا، و هی من الحجر المنحوت المنتظم، و کل درجة قطعة أو قطعتان من الحجر المربع، و هی معدة بحیث یستطیع الزائر الصعود علیها راکبا و علی قمة هذه الدرجات أربعة أعمدة من الرخام الأخضر الذی یشبه الزمرد، لو لا أن به نقطا کثیرة من کل لون، و یبلغ ارتفاع کل عمود منها عشر أذرع و قطره بقدر ما یحتضن رجلان، و علی رأس هذه الأعمدة الأربعة ثلاثة طیقان أحدها مقابل للباب و الآخران علی جانبیه، و سطح الطیقان أفقی، من فوقه شرفات بحیث یبدو مربعا، و هذه العمد و الطیقان منقوشة کلها بالذهب و بالمینا لیس أجمل منها. و درابزین الدکة کله من الرخام الأخضر المنقط، حتی لتقول ان علیه روضة ورد ناضر.
و قد أعد مقام الغوری بحیث تکون ثلاثة سلالم علی موضع واحد، أحدها محاذ للدکة و الآخران علی جانبیها، حتی یستطاع الصعود من ثلاثة أماکن.
و من فوق هذه السلالم الثلاثة أعمدة علیها طیقان و شرفة. و الدرجات بالوصف الذی ذکرت من الحجر المنحوت، کل درجة قطعتان أو ثلاث من الحجر المستطیل. و کتب بخط جمیل بالذهب علی ظاهر الأیوان: أمر به الأمیر لیث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 222
الدولة نوشتکین الغوری. و یقال انه کان تابعا لسلطان مصر، و هو الذی أنشأ هذه الطرق و المراقی.
و علی الجانب الغربی للدکة سلّمان فی ناحیتین منها، و هناک طریق عظیم مشابه لما ذکرت. و کذلک فی الجانب الشرقی طریق عظیم مماثل، علیه أعمدة فوقها طیقان و شرفة یسمی المقام الشرقی. و علی الجانب الشمالی طریق أکثر علوا و أکبر منها کلها، به أعمدة فوقها طیقان، یسمی المقام الشامی. و أظن انهم صرفوا علی هذه الطرق الستة: مئة ألف دینار.
و فی الجانب الشمالی لساحة المسجد، لا علی الدکة، بناء کأنه مسجد صغیر یشبه الحظیرة، و هو من الحجر المنحوت، یزید ارتفاع حوائطه علی قامة رجل و یسمی «محراب داود»، و بالقرب منه حجر غیر مستو یبلغ قامة رجل، و قمته تتیح وضع حصیرة صلاة علیها. و یقال أنه کرسی سلیمان علیه السلام الذی کان یجلس علیه فی أثناء بناء المسجد.
هذا ما رأیته فی جامع بیت المقدس. و قد صورته و ضممته الی مذکراتی و من النوادر التی رأیتها فی بیت المقدس شجرة الحور.
و بعد الفراغ من زیارة بیت المقدس عزمت علی زیارة مشهد ابراهیم خلیل الرحمن علیه الصلاة و السلام، فی یوم الأربعا غرة ذی القعدة سنة 438 (20 نیسان 1047)، و المسافة بینهما ستة فراسخ عن طریق جنوبی به قری کثیرة و زرع و حدائق و شجر بری لا یحصی من عنب و تین و زیتون و سمّاق. و علی فرسخین من بیت المقدس أربع قری بها عین و حدائق و بساتین کثیرة، تسمی «الفرادیس» لجمال موقعها، و علی فرسخ واحد من بیت المقدس مکان للنصاری یعظمونه کثیرا، یقیم بجانبه مجاورون دائما و یحج الیه کثیرون اسمه «بیت لحم». و هناک تقدم النصاری القرابین و یقصده الحجاج من بلاد الروم.
و قد بلغته مساء الیوم الذی قمت فیه من بیت المقدس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 223

وصف قبر الخلیل صلوات اللّه علیه

یسمی أهل الشام و بیت المقدس هذا المشهد «الخلیل»، و لا یذکرون اسم القریة التی هو فیها. قریة مطلون، و هی موقوفة علیه مع قری کثیرة. و فی هذه القریة عین ماء تخرج من الصخر یتفجر ماؤها رویدا رویدا، و هو ینقل من مسافة بعیدة بواسطة قناة الی خارج القریة، حیث بنی حوص مغطی یصب فیه الماء فلا یذهب هباء، حتی یفی بحاجة أهل القریة و غیرهم من الزائرین.
و المشهد علی حافة القریة من جهة الجنوب، و هی فی الجنوب الشرقی.
و المشهد یتکون من بناء ذی أربع حوائط من الحجر المصقول، طوله ثمانون ذراعا و عرضه أربعون، و ارتفاعه عشرون، و ثخانة حوائطه ذراعان. و به مقصورة و محراب فی عرض البناء، و بالمقصورة محاریب جمیلة بها قبران رأسهما للقبلة، و کلاهما من الحجر المصقول بارتفاع قامة الرجل: الأیمن قبر اسحق ابن ابراهیم، و الآخر قبر زوجه علیها السلام و بینهما عشرة أذرع. و أرض هذا المشهد و جدرانه مزینة بالسجاجید القیمة و الحصر المغربیة التی تفوق الدیباج حسنا. و قد رأیت هناک حصیرة صلاة، قیل أرسلها أمیر الجیوش و هو تابع الی سلطان مصر. و قد اشتریت من مصر بثلاثین دینارا من الذهب المغربی، و لو کانت من الدیباج الرومی لما بلغت هذا الثمن. و لم أر مثلها فی مکان قط.
حین یخرج السائر من المقصورة الی وسط ساحة المشهد یجد مشهدین أمام القبلة: الأیمن به قبر ابراهیم الخلیل (ص)، و هو مشهد کبیر، و من داخله مشهد آخر لا یستطاع الطواف حوله، و لکن له أربع نوافذ یری منها فیراه الزائرون و هم یطوفون حول المشهد الکبیر، و قد کسیت أرضه و جدرانه ببسط من الدیباج، و القبر من الحجر و ارتفاعه ثلاث أذرع، و علق فیه کثیر من القنادیل و المصابیح الفضیة.
و المشهد الثانی الذی علی یسار القبلة قبر ساره زوج ابراهیم علیه السلام، و بین القبرین ممر علیه باباهما، و هو کالدهلیز، و به کثیر من القنادیل و المسارج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 224
و بعد هذین المشهدین قبران متجاوران، الأیمن قبر النبی یعقوب علیه السلام و الأیسر قبر زوجه. و بعدهما المنازل التی اتخذها ابراهیم للضیافة، و بها ستة قبور. و خارج الجدران الأربعة منحدر به قبر یوسف بن یعقوب علیه السلام، و هو من حجر و علیه قبة جمیلة. و علی جانب الصحراء بین قبر یوسف و مشهد الخلیل علیهما السلام قرافة کبیرة یدفن بها الموتی من جهات عدیدة. و علی سطح المقصورة التی فی المشهد حجرات للضیوف الوافدین، و قد وقف علیها أوقاف کثیرة من القری و مستغلات بیت المقدس.
و أغلب الزراعة هناک الشعیر، و القمح قلیل و الزیتون کثیر. و یعطون الضیوف و المسافرین و الزائرین الخبز و الزیتون. و هناک طواحین کثیرة تدیرها البغال و الثیران لطحن الدقیق. و بالمضیفة خادمات یخبزن طول الیوم. و یزن رغیفهم منّا واحدا، و یعطی من یصل هنا رغیفا مستدیرا و طبقا من العدس المطبوخ بالزیت و زبیبا کل یوم. و هذه عادة بقیت من أیام خلیل الرحمن علیه السلام حتی الساعة. و فی بعض الأیام یبلغ عدد المسافرین خمس مائة فتهیأ الضیافة لهم جمیعا.
و یقال انه لم یکن لهذا المشهد باب، و کان دخوله مستحیلا، بل کان الناس یزورونه من الایوان فی الخارج. فلما جلس المهدی علی عرش مصر أمر بفتح باب فیه، و زینه و فرشه بالسجاجید، و أدخل علی عمارته إصلاحا کثیرا، و باب المشهد وسط الحائط الشمالی علی ارتفاع أربع أذرع فوق الأرض و علی جانبیه درجات من الحجر، فیصعد الیه من جانب، و یکون النزول من الجانب الثانی. و قد وضع هناک باب صغیر من الحدید.
ثم رجعت الی بیت المقدس، و من هناک سرت ماشیا مع جماعة تقصد الحجاز. و کان دلیلنا رجلا اسمه أبو بکر الهمذانی، و هو رجل جلد یقدر علی المشی، وجهه جمیل. غادرت بیت المقدس فی منتصف ذی القعدة سنة 437 (أول أیار 1047)، و بعد ثلاثة أیام بلغت جهة تسمی «أعز القری»، بها ماء جار و أشجار، ثم بلغنا منزلا آخر یسمی «وادی القری»، و من بعده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 225
نزلنا مکانا ثالثا. ثم بلغنا مکة بعد عشرة أیام. لم تحضر لمکة قافلة من أی بلد فی هذه السنة، و شح الطعام. و قد نزلت فی «سکة العطارین» أمام باب النبی علیه السلام. و فی یوم الاثنین طلعت عرفات، و کان الناس مملوئین رعبا من العرب و لما عدت من عرفات لبثت یومین بمکة، ثم رجعت الی بیت المقدس عن طریق الشام. و بلغنا المقدس فی الخامس من المحرم سنة 339 (7 یولیو 1037). و لا أذکر هنا وصف مکة و الحج، و سأذکر ذلک عند الکلام علی الحجة الأخیرة.

کنیسة بیعة القمامة

و للنصاری فی بیت المقدس کنیسة یسمونها «بیعة القمامة» لها عندهم مکانة عظیمة. و یحج الیها کل سنة کثیر من بلاد الروم، و یزورها ملک الروم متخفیا، حتی لا یعرفه الناس، و قد زارها أیام عزیز مصر الحاکم بأمر اللّه فبلغ ذلک الحاکم، فأرسل الیه أحد حراسه- بعد ان عرفه ان رجلا بهذه الحلیة و الصورة یجلس فی کنیسة بیت المقدس- و قال له «اذهب عنده و قل له ان الحاکم أرسلنی الیک و یقول لا تحسبنی أجهل أمرک و لکن کن آمنا فلن أقصدک بسوء. و قد أمر الحاکم هذا بالاغارة علی الکنیسة فهدمها و خربها، و ظلت خربة مدة من الزمان. و بعد ذلک بعث القیصر الیه رسلا، و قدم الیه کثیرا من الهدایا و الخدمات و طلب الصلح و الشفاعة لیؤذن له باصلاح الکنیسة فقبل الحاکم و أعید تعمیرها.
و هذه الکنیسة فسیحة تسع ثمانیة آلاف رجل، و هی عظیمة الزخرف من الرخام الملون و النقوش و الصور، و هی مزدانة من الداخل بالدیباج الرومی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 226
و الصور، و زینت بطلاء من الذهب. و فی أماکن کثیرة منها صورة عیسی علیه السلام راکبا حمارا، و صور الانبیاء الآخرین مثل ابراهیم و اسحق و یعقوب و أبنائهم علیهم السلام. و هذه الصور مطلیة بزیت السندروس. و قد غطی سطح کل صورة بلوح من الزجاج الشفاف علی قدها. بحیث لا یحجب منها شی‌ء و ذلک حتی لا یصل الغبار الیها. و ینظف الخدم هذا الزجاج کل یوم.
و هناک عدا ذلک عدة مواضع أخری کلها مزیّنة و لو وصفتها لطالت کتابتی. و فی هذه الکنیسة لوحة مقسمة الی قسمین، و عملا لوصف الجنة و النار. فنصف یصف الجنة و أهلها، و نصف یصف النار و أهلها، و من یبقی فیها. و لیس لهذه الکنیسة نظیر فی أیة جهة من العالم. و یقیم بها کثیر من القسس و الرهبان، یقرأون الانجیل و یصلون و یشتغلون بالعبادة لیل نهار».
سفرنامه- ترجمة الدکتور یحیی الخشاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 227

الارض المقدسة فی رحلة ابن جبیر

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 228

ابن جبیر

هو محمد بن احمد بن جبیر الاندلسی و هو احد رجالات العلم تدل علیه رحلته التی قام بها الی الشرق و حج بیت اللّه و لم یقع له ان یزور بیت المقدس لوقوعها یومذاک بید الجیوش الصلیبیة؛ و کانت ولادته سنة 539 ه و وفاته سنة 614 اما زمن الرحلة فقد کان بین سنة 578 ه و سنة 581 بعد ان قضی ثلاث سنوات مطوفا، و علی انه لم یزر بیت المقدس فان رحلته لم تخل من ذکر الارض المقدسة و بیت المقدس و اطرافها مما یستدعیه الحدیث، و قد استخرجنا منها الشذرات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 229

القدس و بیت المقدس

«و طول مسجد بیت المقدس- أعاده اللّه للاسلام- سبع مئة و ثمانون ذراعا، و عرضه اربع مئة و خمسون ذراعا، و سواریه اربع مئة و اربع عشرة ساریة، و قنادیله خمس مئة. و ابوابه خمسون بابا، فیکون تکسیره من المراجع المذکورة مئة مرجع و اربعین مرجعا و خمسی مرجع».
ص 81 دار صادر و دار بیروت
«و فی داخل البلد- یرید به دمشق- کنیسة لها عند الروم شأن عظیم.
تعرف بکنیسة مریم. لیس بعد بیت المقدس عندهم افضل منها و هی حفیلة البناء ...»
ص 255 دار صادر و دار بیروت
«و من اعجب ما یحدث به ان نیران الفتنة تشتعل بین الفئتین مسلمین و نصاری، و ربما یلتقی الجمعان و یقع المصاف بینهم، و رفاق المسلمین و النصاری تختلف بینهم دون اعتراض علیهم. شاهدنا فی هذا الوقت الذی هو شهر جمادی الاولی، من ذلک خروج صلاح الدین بجمیع عسکر المسلمین لمنازلة حصن (الکرک) و هو من اعظم حصون النصاری، و هو المعترض فی طریق الحجاز، و المانع لسبیل المسلمین علی البر، بینه و بین (القدس) مسیرة یوم او أشف قلیلا، و هو سرارة ارض فلسطین- ای اطیب اراضیها- و له نظر عظیم الاتساع، متصل العمارة، یذکر انه ینتهی الی اربع مئة قریة.»
ص 260 دار صادر و دار بیروت
«و یقال: انه ما علی ظهر المعمور اعجب منظرا، و لا ابعد سموا، و لا أغرب بنیانا من هذه القبة- یرید بها قبة الرصاص القائمة وسط الجامع المکرم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 230
بدمشق- الا ما یحکی عن قبة (بیت المقدس) فانها یحکی انها ابعد فی الارتفاع و السمو من هذه، و جملة الأمر ان منظرها و الوقوف علی هیئة وضعها و عظیم الاستقدار فیها عند معانیها بالصعود الیها و الولوج داخلها من اغرب ما یحدّث به من عجائب الدنیا، و القدرة للّه الواحد القهار لا إله سواه».
ص 267 دار صادر و دار بیروت
و هو یتحدث عن عکة یقول: «و علی بادیة طبریة اختلاف القوافل من دمشق لسهولة طریقها، و یقصد بقوافل البغال علی (تبنین) لوعورتها و قصد طریقها، و بحیرة طبریة مشهورة، و هی ماء عذب، وسعتها نحو ثلاثة فراسخ او اربعة، و طولها نحو ستة فراسخ، و الاقوال فیها تختلف و هذا القول اقربها الی الصحة، لانا لم نعاینها و عرضها ایضا مختلف سعة و ضیقا، و فیها قبور کثیرة من قبور الانبیاء صلوات اللّه علیهم، کشعیب، و سلیمان، و یهوذا، و روبیل، و ابنة شعیب زوج الکلیم موسی و غیرهم صلوات اللّه و سلامه علیهم اجمعین، و جبل الطور منها قریب.
و بین عکة و بیت المقدس ثلاثة أیام، و بین دمشق و بینه مقدار ثمانیة ایام، و هو بین المغرب و القبلة من عکة الی جهة الاسکندریة، و اللّه یعیده الی ایدی المسلمین، و یطهره من ایدی المشرکین، بعزته و قدرته».
ص 282 دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 231

الارض المقدسة فی معجم البلدان

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 232
یاقوت الحموی هو یاقوت بن عبد اللّه الحموی الرومی اخذ اسیرا- و لم یزل صغیرا- من بلاد الروم و بیع فاشتراه تاجر حموی فحمل لقبه، و قد اتیح لیاقوت ان یقرأ و أن یتتبع و قد استعمله مالکه- و هو تاجر- للسفر بشأن تجارته فافاد من الاسفار شیئا کثیرا و لقد عاش مدة من استنساخ الکتب فزاد ذلک من علمه و فضله و اطلاعه، و قد الف عددا من الکتب لا تزال الیوم من اهم مراجع الادب و مراجع الجغرافیا و من هذه الکتب کتاب معجم البلدان الذی ننقل منه بعض ما ورد عن الارض المقدسة و قد توفی سنة 626 ه اما تاریخ ولادته فهو مجهول عند المؤرخین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 233

ایلیاء

و فی اسم ایلیاء (بیت المقدس) یقول یاقوت:
«بکسر اوله و اللام، و یاء، و الف محدودة: اسم مدینة بیت المقدس، قیل معناه: بیت اللّه، و حکی الحفصی: فیه القصر و فیه لغة ثالثة، حذف الیاء الاولی فیقال (إلیاء) بسکون اللام و المد، قال ابو علی: و قد سمی البیت المقدس ایلیاء بقول الفرزدق
و بیتان بیت اللّه نحن ولاته‌و قصر بأعلی إیلیاء مشرّف
فایلیاء: الهمزة فی اولها فاء لتکون بمنزلة الجربیاء و الکبریاء، و الیاء التی بعد الهمزة لا تخلو من ان تکون منقلبة من الهمزة علی هذا القول، لان الهمزتین اذا لم تجتمعا حیث یکثر التضعیف نحو شددت و رددت، فان لم تجتمعا حیث یقل التضعیف أجدر، ألا تری ان باب دودن و کوکب من القلة بحیث لا نسبة له الی باب رددت، و لم تجتمع الهمزتان فیه کما اجتمع سائر حروف الحلق فی هذا الباب فی قلة مهاه و البعاع، و البعّة، و لجّ، و سجّ، و نجّ، و ان جعلتهما من الیاء کان من لفظة قولهم فی اسم البلد أیلة. هذا ان کان فعلة، و ان کان مثل میتة أمکن ان تکون من الواو، و مما جاء علی لفظة من الفاظ العرب الأیّل، و هو فعّل مثل الهیّخ فی الزنه، و کون العین یاء و من بنائه الإمّر ولد الضائن، و القنّف، و قالوا للبرّاق الإلّق، و للقصیر ذنب، و مجی‌ء البناء فی الاسم و الصفة، یدل علی قوته، فان قیل: هل یجوز ان تکون إیلیاء إفعلال فتکون الهمزة لیست بأصل کما کانت اصلا فی الوجه الاول؟
فالقول فی ذلک: انا لا نعلم هذا الوزن جاء فی شی‌ء و اذا لم یجی‌ء فی شی‌ء لم یسع حمل الکلمة علیه، و لو جاء منه شی‌ء لأمکن ان تکون الیاء الاولی منقلبة عن الواو او منقلبة عن الهمزة کالایمان و نحوه، و لم یجز ان یکون انقلابها عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 234
الیاء لانه لم یجی‌ء من نحو سلس فی الیاء الا یدیت و أیدیت، و قیل: انما سمیت إیلیاء باسم بانیها و هو إیلیاء بن إرم بن سام بن نوح علیه السلام، و هو أخو دمشق، و حمص، و أردن، و فلسطین!! قال بعض الاعراب:
فلو ان طیرا کلّفت مثل سیره‌الی واسط، من ایلیاء لکلّت
سما بالمهاری من فلسطین بعد مادنا الفی‌ء من شمس النهار فولت
فما غاب ذاک الیوم حتی أناخهابمیسان قد حلّت عراها و کلّت
کأن قطامیّا من الرحل طاویااذا غمرة الظلماء عنه تجلّت»
حرف الألف و الیاء- دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 235

المقدس

المقدس: فی اللغة: المنزه، قال المفسرون فی قوله تعالی: و نحن نسبح بحمدک، و نقدس لک، قال الزجاج: معنی نقدس لک ای نطهر أنفسنا لک و کذلک نفعل بمن اطاعک نقدسه ای نطهره، قال و من هذا قیل للسطل القدس لانه یتقدس منه ای یتطهر، قال: و من هذا بیت المقدس، کذا ضبطه بفتح اوله و سکون ثانیه و تخفیف الدال و کسرها، ای البیت المقدّس المطهّر الذی یتطهر به من الذنوب قال مروان:
قل للفرزدق و السفاهة کاسمهاان کنت تارک ما أمرتک فاجلس
و دع المدینة انها محذورةو الحق بمکة او ببیت المقدس
و قال قتادة: المراد بارض المقدس ای المبارک و الیه ذهب ابن الاعرابی، و منه قیل للراهب مقدس، و منه قول امری‌ء القیس
فادرکنه یأخذن بالساق و النساکما شبرق الولدان ثوب المقدس
و صبیان النصاری یتبرکون به و بمسح مسحه الذی هو لابسه و أخذ خیوطه منه حتی یتمزق عنه ثوبه، و فضائل بیت المقدس کثیرة و لا بد من ذکر شی‌ء منها حتی یستحسنه المطلع علیه، قال مقاتل بن سلیمان: قوله تعالی: و نجیناه و لوطا الی الارض التی بارکنا فیها للعالمین، قال هی بیت المقدس، و قوله تعالی لبنی اسرائیل: و واعدناکم جانب الطور الایمن، یعنی بیت المقدس، و جعلنا ابن مریم و أمه آیتین و أویناهما الی ربوة ذات قرار و معین، قال البیت المقدس، و قال تعالی سبحان الذی أسری بعبده لیلا من المسجد الحرام الی المسجد الاقصی: هو بیت المقدس، و قوله تعالی: فی بیوت أذن اللّه ان ترفع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 236
و یذکر فیها اسمه؛ البیت المقدس، و فی الخبر: من صلّی فی بیت المقدس فکأنما صلی فی السماء، و رفع اللّه عیسی بن مریم الی السماء من بیت المقدس، و فیه مهبطه اذا هبط و تزف الکعبة بجمیع حجاجها الی البیت المقدس یقال لها مرحبا بالزائر و المزور، و تزف جمیع مساجد الارض الی البیت المقدس، أول شی‌ء حسر عنه بعد الطوفان صخرة بیت المقدس و فیه ینفخ فی الصور یوم القیامة و علی صخرته ینادی المنادی یوم القیامة و قد قال اللّه تعالی لسلیمان ابن داود علیهما السلام حین فرغ من بناء البیت المقدس: سلنی أعطک، قال یا رب أسألک ان تغفر لی ذنبی، قال: لک ذلک، قال یا رب و اسألک ان تغفر لمن جاء هذا البیت یرید الصلاة فیه و ان تخرجه من ذنوبه کیوم ولد، قال: لک ذلک، قال و أسألک من جاء فقیرا أن تغنیه، قال: لک ذلک، قال و اسألک من جاء سقیما أن تشفیه، قال و لک ذلک.
و عن النبی صلی اللّه علیه و سلم انه قال: لا تشدّ الرحال الا الی ثلاثة مساجد، مسجدی هذا، و المسجد الحرام، و مسجد البیت المقدس، و ان الصلاة فی بیت المقدس خیر من الف صلاة فی غیره، و اقرب بقعة فی الارض من السماء البیت المقدس، و یمنع الدجّال من دخولها، و یهلک یأجوج و مأجوج دونها!! و أوصی آدم علیه السلام ان یدفن بها! و کذلک اسحاق، و ابراهیم و حمل یعقوب من ارض مصر حتی دفن بها. و اوصی یوسف علیه السلام حین مات بارض مصر ان یحمل الیها و هاجر ابراهیم من کوثی الیها، و الیها المحشر و منها المنشر، و تاب اللّه علی داود بها، و صدق ابراهیم الرؤیا بها، و کلّم الناس عیسی فی المهد بها، و تقاد الجنة یوم القیامة الیها و منها یتفرق الناس الی الجنة او الی النار، و روی عن کعب ان جمیع الانبیاء علیهم السلام زاروا بیت المقدس تعظیما له، و روی عن کعب انه قال، لا تسموا بیت المقدس ایلیاء و لکن سموه باسمه فان ایلیاء امرأة بنت المدینة، و عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: فلما فرغ سلیمان من بناء بیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 237
المقدس سأل اللّه حکما یوافق حکمه، و ملکا لا ینبغی لأحد من بعده فأعطاه اللّه ذلک.
و عن ابن عباس قال: البیت المقدس بنته الانبیاء، و سکنته الانبیاء ما فیه موضع شبر الا و قد صلی فیه نبی أو أقام فیه ملک، و عن ابی ذر قال:
قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: ای مسجد وضع علی وجه الارض اولا؟ قال المسجد الحرام قلت: ثم ای؟ قال البیت المقدس و بینهما اربعون سنة.
و روی عن أبیّ بن کعب قال: اوحی اللّه تعالی الی داود ابن لی بیتا قال یا رب و این من الارض؟ قال حیث تری الملک شاهرا سیفه، فرأی داود ملکا علی الصخرة واقفا و بیده سیف.
و عن الفضیل بن عیاض قال: لما صرفت القبلة نحو الکعبة قالت الصخرة:
إلهی لم ازل قبلة لعبادک حتی اذا بعثت خیر خلقک صرفت قبلتهم عنی، قال ابشری فانی واضع علیک عرشی و حاشر الیک خلقی، و قاض علیک أمری، و ناشر منک عبادی.
و قال کعب: من زار بیت المقدس شوقا إلیه دخل الجنة، و من صلی فیه رکعتین خرج من ذنوبه کیوم ولدته أمه و أعطی قلبا شاکرا و لسانا ذاکرا، و من تصدق فیه بدرهم کان فداءه من النار، و قال کعب: معقل المؤمنین ایام الدجال البیت المقدس یحاصرهم فیه حتی یأکلوا اوتار قسّیهم من الجوع، فبینما هم کذلک اذ سمعوا صوتا من الصخرة فیقولون هذا صوت رجل شبعان، فینظرون فاذا عیسی بن مریم علیه السلام، فاذا رآه الدجال هرب منه فیتلقاه بباب لدّ فیقتله.
و قال ابو مالک القرظی فی کتاب الیهود الذی لم یغیّر ان اللّه تعالی خلق الارض فنظر الیها و قال: انا واطی‌ء علی بقعتک، فشمخت الجبال،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 238
و تواضعت الصخرة فشکر اللّه لها و قال: هذا مقامی، و موضع میزانی، و جنّتی و ناری، و محشر خلقی، و انا دیّان یوم الدین.
و عن وهب بن منبّه قال: أمر اسحاق ابنه یعقوب ان لا ینکح امرأة من الکنعانیین، و ان ینکح من بنات خاله لابان ابن تاهر بن أزر و کان مسکنه فلسطین فتوجه الیها یعقوب و ادرکه فی بعض الطریق اللیل فبات متوسدا حجرا فرأی فیما یری النائم کأن سلّما منصوبا إلی باب السماء عند رأسه و الملائکة تنزل منه و تعرج فیه، و اوحی اللّه الیه: انی انا اللّه لا إله الا انا إلاهک و إلاه آبائک ابراهیم و اسماعیل و اسحاق، و قد ورّثتک هذه الارض المقدسة، و ذریتک من بعدک، و بارکت فیک و فیهم، و جعلت فیکم الکتاب و الحکمة و النبوة ثم انا معک حتی تدرک الی هذا المکان فاجعله بیتا تعبدنی فیه انت و ذریتک، فیقال انه بیت المقدس، فبناه داود و ابنه سلیمان ثم أخربته الجبابرة بعد ذلک فاجتاز به شعیا، و قیل عزیز علیهما السلام فرآه خرابا فقال: أنّی یحیی هذه اللّه بعد موتها؟ فاماته اللّه مائة عام ثم بعثه، کما قص عز و جل فی کتابه الکریم، ثم بناه ملک من ملوک فارس یقال له کوشک، و کان قد اتخذ سلیمان فی بیت المقدس اشیاء عجیبة، منها القبة التی فیها السلسلة المعلقة ینالها صاحب الحق و لا ینالها المبطل حتی اضمحلت بحیلة غیر معروفة، و کان من عجائب بنائه أنه بنی بیتا و أحکمه و صقله فاذا دخله الفاجر و الورع تبین الفاجر من الورع، لأن الورع کان یظهر خیاله فی الحائط ابیض، و الفاجر یظهر خیاله أسود و کان ایضا مما اتخذ من الاعاجیب ان ینصب فی زاویة من زوایاه عصا آبنوس فکان من مسّها من اولاد الانبیاء لم تضرّه و من مسها من غیرهم أحرقت یده، و قد وصفها القدماء بصفات إن استقصیتها أمللت القاری‌ء، و الذی شاهدته أنا منها ان ارضها و ضیاعها و قراها کلها جبال شامخة و لیس حولها و لا بالقرب منها ارض وطئة البتة و زروعها علی الجبال و اطرافها بالفؤوس لان الدواب لا صنع لها هناک، و اما نفس المدینة فهی علی فضاء فی وسط تلک الجبال و ارضها کلها حجر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 239
الجبال التی هی علیها و فیها اسواق کثیرة، و عمارات حسنة، و اما الاقصی فهو فی طرفها الشرقی نحو القبلة، أساسه من عمل داود علیه السلام، و هو طویل عریض و طوله اکثر من عرضه، و فی نحو القبلة المصلی الذی یخطب فیه للجمعة و هو علی غایة الحسن و الاحکام مبنیّ علی الاعمدة الرخام الملونة و الفسیفساء التی لیس فی الدنیا أحسن منها لا جامع دمشق و لا غیره، و فی وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظیمة فی ارتفاع نحو خمس اذرع کبیرة یصعد الیها الناس من عدة مواضع بدرج، و فی وسط هذه المصطبة قبة عظیمة علی اعمدة رخام مسقفة برصاص منمقة من برّا و داخل بالفسیفساء مطبقة بالرخام الملون قائم و مسطح، و فی وسط هذا الرخام قبة أخری و هی قبة الصخرة التی تزار و علی طرفها أثر قدم النبی صلی اللّه علیه و سلم، و تحتها مغارة ینزل الیها بعدّة درج مبلطة بالرخام قائم و نائم یصلّی فیها و تزار، و لهذه القبة اربعة ابواب، و فی شرقیها برأسها قبة اخری علی اعمدة مکشوفة حسنة ملیحة یقولون انها قبة السلسلة، و قبة المعراج ایضا علی حائط المصطبة، و قبة النبی داود علیه السلام، کل ذلک علی اعمدة مطبق اعلاها بالرصاص، و فیها مغاور کثیرة و مواضع یطول عددها مما یزار و یتبرک به، و یشرب اهل المدینة من ماء المطر، لیس فیها دار الا و فیها صهریج لکنها میاه ردیة اکثرها یجتمع من الدروب و ان کانت دروبهم حجارة لیس فیها ذلک الدنس الکثیر، و بها ثلاث برک عظام، برکة بنی اسرائیل و برکة سلیمان علیه السلام و برکة عیّاض علیها حمّاماتهم، و عین سلوان فی ظاهر المدینة فی وادی جهنم ملیحة الماء، و کان بنو أیوب قد احکموا سورها ثم خرّبوه علی ما نحکیه بعد، و فی المثل:
«قتل أرضا عالمها و قتلت ارض جاهلها»
هذا قول ابی عبد اللّه محمد بن احمد بن البناء البشاری المقدسی، له کتاب فی اخبار بلدان الاسلام، و قد وصف بیت المقدس فأحسن، فالأولی ان نذکر قوله لأنه أعرف ببلده و ان کان قد تغیر بعده بعض معالمها قال: هی متوسطة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 240
الحر و البرد قلّ ما یقع فیها ثلج، قال: و سألنی القاضی ابو القاسم عن الهواء بها فقلت: سجسج لا حرّ و لا برد، فقال: هذه صفة الجنة، قلت: بنیانهم حجر لا تری أحسن منه و لا أنفس منه و لا أعفّ من اهلها و لا أطیب من العیش بها و لا انظف من اسواقها و لا اکبر من مسجدها، و لا اکثر من مشاهدها، و کنت یوما فی مجلس القاضی المختار ابی یحیی بهرام بالبصرة فجری ذکر مصر الی أن سئلت: ای بلد أجلّ؟ قلت: بلدنا قیل: فأیهما اکبر؟
قلت: بلدنا، فتعجب اهل المجلس من ذلک و قیل: انت رجل محصّل و قد ادعیت ما لا یقبل منک و ما مثلک الا کصاحب الناقة مع الحجاج، قلت:
اما قولی أجلّ فلأنها بلدة جمعت الدنیا و الآخرة فمن کان من ابناء الدنیا و اراد الآخرة وجد سوقها، و من کان من ابناء الآخرة فدعته نفسه الی نعمة الدنیا وجدها، و اما طیب هؤلاء فانه لا سمّ لبردها و لا أذی لحوها، و اما الحسن فلا یری أحسن من بنیانها و لا انظف منها و لا أنزه من مسجدها، و اما کثرة الخیرات فقد جمع اللّه فیها فواکه الاغوار و السهل و الجبل و الاشیاء المتضادة کالاترج و اللوز و الرطب و الجوز و التین و الموز، و اما الفضل فهی عرصة القیامة و منها النشر و الیها الحشر، و انما فضلت مکة بالکعبة و المدینة بالنبی صلی اللّه علیه و سلم، و یوم القیامة تزفان الیها فتحوی الفضل کله، و اما الکبر فالخلائق کلهم یحشرون الیها فأی أرض اوسع منها؟ فاستحسنوا ذلک و أقروا به، قال: الا ان لها عیوبا، یقال إن فی التوراة مکتوبا بیت المقدس طست من ذهب مملوء عقارب، ثم لا تری أقذر من حمّاماتها، و لا أثقل مؤنة، و هی مع ذلک قلیلة العلماء کثیرة النصاری، و فیهم جفاء، و علی الرحبة و الفنادق ضرائب ثقال، و علی ما یباع فیها رجّالة، و علی الابواب اعوان فلا یمکن احدا ان یبیع شیئا مما یرتفق به الناس الا بها مع قلة یسار، و لیس للمظلوم انصار، فالمستور مهموم، و الغنی محسود و الفقیه مهجور، و الادیب غیر مشهور، و لا مجلس نظر، و لا تدریس، قد غلب علیها النصاری و الیهود، و خلا المجلس من الناس و المسجد من الجماعات، و هی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 241
اصغر من مکة و اکبر من المدینة، و علیها حصن بعضه علی جبل و علی بقیته خندق، و لها ثمانیة ابواب حدید: باب صهیون، و باب النیة، و باب البلاط، و باب جب أرمیا، و باب سلوان، و باب أریحا، و باب العمود، و باب محراب داود علیه السلام، و الماء بها واسع، لیس ببیت المقدس اکثر من الماء و الأذان، قل ان یکون بها دار لیس بها صهریج او صهریجان او ثلاثة علی قدر کبرها و صغرها، و بها ثلاث برک عظام: برکة بنی اسرائیل، و برکة سلیمان، و برکة عیاض، علیها حماماتهم لها دواع من الازقة، و فی المسجد عشرون جبّا مشجرة قل ان تکون حارة لیس بها جبّ مسیل، غیر ان میاهها من الأزقة، و قد عمد الی واد فجعل برکتین تجتمع الیهما السیول فی الشتاء، و قد شق منهما قناة الی البلد تدخل وقت الربیع فتدخل صهاریج الجامع و غیرها، و أما المسجد الاقصی فهو علی قرنة البلد الشرقی نحو القبلة، أساسه من عمل داود، طول الحجر عشر اذرع و أقل منقوشة موجهة مؤلفة صلبة، و قد بنی علیه عبد الملک بحجارة صغار حسان، و شرفوه، و کان أحسن من جامع دمشق لکن جاءت زلزلة فی ایام بنی العباس فطرحته الا ما حول المحراب، فلما بلغ الخلیفة خبره أراد رده مثلما کان فقیل له: تعیا و لا تقدر علی ذلک، فکتب الی أمراء الاطراف و القوّاد یأمرهم ان یبنی کل واحد منهم رواقا، فبنوه أوثق و أغلظ صناعة مما کان، و بقیت تلک القطعة شامة فیه و هی الی حذاء الاعمدة الرخام، و ما کان من الاساطین المشیدة فهو محدث، و للمعطی ستة و عشرون بابا: باب یقابل المحراب یسمی باب النحاس الاعظم مصفح بالصفر المذهب لا یفتح مصراعه الا رجل شدید القوة عن یمینه سبعة ابواب کبار فی وسطها باب مصفّح مذهّب و علی الیسار مثلها، و فی نحو المشرق احد عشر بابا سواذج و خمسة عشر رواقا علی اعمدة رخام أحدثها عبد اللّه بن طاهر، و علی الصحن من المیمنة اروقة علی اعمدة رخام و أساطین، و علی المؤخر أروقة ازاج من الحجارة، و علی وسط المغطی جمل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 242
عظیم خلف قبة حسنة، و السقوف کلها الا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص، و المؤخر مرصوف بالفسیفساء الکبار، و الصحن کله مبلط، و فی وسط الرواق دکة مربعة مثل مسجد یثرب یصعد الیها من اربع جهاتها بمراق واسعة، و فی الدکّة اربع قباب: قبة السلسلة و قبة المعراج و قبة النبی صلی اللّه علیه و سلم، و هذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص علی اعمدة رخام مکشوفة، و فی وسط الدکة قبة الصخرة علی بیت مثمن باربعة ابواب کل باب یقابل مرقاة من مراقی الدکة، و هی: الباب القبلی، و باب اسرافیل، و باب الصور و باب النساء، و هو الذی یفتح الی المغرب، جمیعها مذهبة فی وجه کل واحد باب ملیح من خشب التنوب، و کانت قد أمرت بعملها أمّ المقتدر باللّه، و علی کل باب صفة مرخمة و التنوبیة مطبقة علی الصفریة من خارج، و علی ابواب الصفات ابواب ایضا سواذج داخل البیت ثلاثة اروقة دائرة علی اعمدة معجونة أجل من الرخام و أحسن لا نظیر لها قد عقدت علیه اروقة لاطئة داخلة فی رواق آخر مستدیر علی الصخرة علی اعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالیة فی الهواء فیها طاقات کبار و القبة فوق المنطقة طولها غیر القاعدة الکبری مع السّفّود فی الهواء مائة ذراع تری من البعد فوقها سفود حسن طوله قامة و بسطة، و القبة علی عظمها ملبسة بالصفر المذهب و ارض البیت مع حیطانه، و المنطقة من داخل و خارج علی صفة جامع دمشق، و القبة ثلاث سافات، الاولی مروّقة علی الالواح، و الثانیة من اعمدة الحدید، قد شبکت لئلا تمیلها الریاح، ثم الثالثة من خشب علیها الصفائح و فی وسطها طریق الی عند السفود یصعد منها الصنّاع لتفقدها و رمّها فاذا بزغت علیها الشمس اشرقت القبة و تلألأت المنطقة و رؤیت شیئا عجیبا، و علی الجملة لم أر فی الاسلام و لا سمعت ان فی الشرق مثل هذه القبة، و یدخل المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرین بابا منها: باب الحطّة، و باب النبی، علیه الصلاة و السلام، و باب محراب مریم، و باب الرحمة، و باب برکة بنی اسرائیل، و باب الاسباط، و باب الهاشمیین، و باب الولید، و باب ابراهیم علیه السلام،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 243
و باب امّ خالد، و باب داود، علیه السلام، و فیه من المشاهد محراب مریم و زکریا و یعقوب و الخضر و مقام النبی صلی اللّه علیه و سلم، و جبرائیل و موضع المنهل و النور و الکعبة، و الصراط متفرقة فیه و لیس علی المیسرة اروقة، و المغطی لا یتصل بالحائط الشرقی و انما ترک هذا البعض لسببین: احدهما قول عمر: و اتخذوا فی غربی هذا المسجد مصلّی للمسلمین، فترکت هذه القطعة لئلا یخالف، و الآخر لو مدّ المغطی الی الزاویة لم تقع الصخرة حذاء المحراب فکرهوا ذلک و اللّه اعلم.
و طول المسجد الف ذراع بالذراع الهاشمی، و عرضه سبعمائة ذراع، و فی سقوفه من الخشب اربعة آلاف خشبة، و سبعمائة عمود رخام، و علی السقوف خمسة و اربعون الف شقة رصاص، و حجم الصخرة ثلاثة و ثلاثون ذراعا فی سبعة و عشرین، و تحت الصخرة مغارة تزار و یصلّی فیها تسع مائة و ستین نفسا، و کانت وظیفة کل شهر مائة دینار، و فی کل سنة ثمانمائة الف ذراع حصرا، و خدامه ممالیک له اقامهم عبد الملک من خمس الاساری، و لذلک یسمون الاخماس لا یخدمه غیرهم و لهم نوب یحفظونها، و قال المنجمون: المقدس طوله ست و خمسون درجة، و عرضه ثلاث و ثلاثون درجة، فی الاقلیم الثالث، و اما فتحها فی اول الاسلام الی یومنا هذا فان عمر ابن الخطاب رضی اللّه عنه أنفذ عمرو بن العاص الی فلسطین ثم نزل البیت المقدس فامتنع علیه فقدم ابو عبیدة بن الجراح بعد ان فتح قنسرین و ذلک فی سنة 16 للهجرة فطلب اهل بیت المقدس من ابی عبیدة الأمان و الصلح علی مثل ما صولح علیه أهل مدن الشام من اداء الجزیة و الخراج و الدخول فیما دخل فیه نظراؤهم علی ان یکون المتولی للعقد لهم عمر بن الخطاب، فکتب ابو عبیدة بذلک الی عمر فقدم عمر و نزل الجابیة من دمشق ثم صار الی بیت المقدس فأنفذ صلحهم و کتب لهم به کتابا و کان ذلک فی سنة 17، و لم تزل علی ذلک بید المسلمین و النصاری من الروم و الافرنج و الارمن و غیرهم من سائر اصنافهم یقصدونها للزیارة الی بیعتهم المعروفة بالقمامة و لیس لهم فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 244
الارض أجلّ منها، حتی انتهت الی ان ملکها سلمان بن أرتق و اخوه ایلغازی جدّ هولاء الذین بدیار بکر صاحب ماردین و آمد، و الخطبة فیها تقام لبنی العباس، فاستضعفهم المصریون و ارسلوا الیهم جیشا لا طاقة لهم به و بلغ سکمان و أخاه خبر ذلک فترکوها من غیر قتال و انصرفوا نحو العراق، و قیل:
بل حاصروها و نصبوا علیها المجانیق ثم سلموها بالامان و رجع هولاء الی نحو المشرق، و ذلک فی سنة 491 و اتفق ان الافرنج فی هذه الایام خرجوا من وراء البحر الی الساحل فملکوا جمیع الساحل او اکثره و امتدوا حتی نزلوا علی البیت المقدس فاقاموا علیها نیفا و اربعین یوما ثم ملکوها من شمالیها من ناحیة باب الاسباط عنوة فی الیوم الثالث و العشرین من شعبان سنة 492 و وضعوا السیف فی المسلمین اسبوعا و التجأ الناس الی الجامع الاقصی فقتلوا فیه ما یزید علی سبعین الفا من المسلمین، و أخذوا من عند الصخرة نیفا و اربعین قندیلا فضة کل واحد وزنه ثلاثة الاف و ستمائة درهم فضة، و تنّور فضة وزنه اربعون رطلا بالشامی و اموالا لا تحصی، و جعلوا الصخرة و المسجد الاقصی مأوی لخنازیرهم، و لم یزل فی ایدیهم حتی استنقذه منهم الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن ایوب فی سنة 583 بعد احدی و تسعین سنة أقامها فی ید الافرنج و هی الآن فی ید بنی أیوب و المستولی علیهم الآن منهم الملک المعظم عیسی بن العادل ابی بکر بن ایوب، و کانوا قد احکموا سوره و عمروه و جودوه فلما خرج الافرنج فی سنة 616 و تملکوا دمیاط استظهر الملک المعظم بخراب سوره و قال: نحن لا نمنع البلدان بالاسوار انما نمنعها بالسیوف و الاساورة، و هذا کاف فی خبرها و لیس کل ما اجده اکتبه و لو فعلت ذلک لم یتسع لی زمانی، و فی المسجد اماکن کثیرة و اوصاف عجیبة لا تتصور الا بالمشاهدة عیانا، و من اعظم محاسنه انه اذا جلس انسان فیه فی ای موضع منه یری ان ذلک الموضع هو أحسن المواضع و أشرحها، و لذا قیل ان اللّه نظر الیه بعین الجمال و نظر الی المسجد الحرام بعین الجلال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 245 أهیم بقاع القدس ما هبّت الصبافتلک رباع الأنس فی زمن الصبا
و ما زلت فی شوقی الیها مواصلاسلامی علی تلک المعاهد و الربی
و الحمد للّه الذی وفقنی لزیارته، و ینسب الی بیت المقدس جماعة من العباد الصالحین و الفقهاء منهم:
نصر بن ابراهیم بن نصر بن ابراهیم بن داود ابو الفتح المقدسی الفقیه الشافعی الزاهد، أصله من طرابلس و سکن بیت المقدس و درّس بها و کان قد سمع بدمشق من ابی الحسن السمسار و ابی الحسن محمد بن عوف و ابن سعدان و ابن شکران و ابی القاسم و ابن الطبری، و سمع بآمد هبة اللّه بن سلیمان و سلیم بن أیّوب بصور و علیه تفقّه و علی محمد بن البیان الکازرونی، و روی عنه ابو بکر الخطیب و عمر بن عبد الکریم الدهستانی، و ابو القاسم النسیب، و ابو الفتح نصر اللّه اللاذقی و ابو محمد بن طاووس و جماعة، و کان قدم دمشق فی سنة 71 فی نصف صفر ثم خرج الی صور و اقام بها نحو عشر سنین ثم قدم دمشق سنة 80 فاقام بها یحدث و یدرّس الی ان مات، و کان فقیها فاضلا زاهدا عابدا ورعا أقام بدمشق و لم یقبل لأحد من اهلها صلة، و کان یقتات من غلة تحمل الیه من أرض کانت له بنابلس و کان یخبز له منها کل یوم قرص فی جانب الکانون، و کان متقللا متزهدا عجیب الأمر فی ذلک و کان یقول: درست علی الفقیه سلیم من سنة 37 الی سنة 40، ما فاتنی فیها درس و لا إعادة و لا وجعت الا یوما واحدا و عوفیت، و سئل کم فی ضمن التعلیقة التی صنفها من جزء؟ فقال نحو ثلثمائة جزء و ما کتبت منها حرفا و انا علی غیر وضوء، او کما قال، و زاره تاج الدولة تتش بن ألب ارسلان یوما فلم یقم الیه و سأله عن أحلّ الاموال السلطانیة فقال: اموال الجزیة، فخرج من عنده و ارسل الیه بمبلغ من المال و قال له: هذا من مال الجزیة، ففرّقه علی الاصحاب و لم یقبله و قال: لا حاجة بنا الیه، فلما ذهب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 246
الرسول لامه الفقیه ابو الفتح نصر اللّه بن محمد و قال له: قد علمت حاجتنا الیه فلو کنت قبلته و فرّقته فینا، فقال: لا تجزع من فوته فلسوف یأتیک من الدنیا ما یکفیک فیما بعد فکان کما تفرّس فیه، و ذکر بعض اهل العلم قال:
صحبت أبا المعالی الجوینی بخراسان ثم قدمت العراق فصحبت الشیخ أبا اسحق الشیرازی فکانت طریقته عندی افضل من طریقة الجوینی ثم قدمت الشام فرأیت الفقیه أبا الفتح فکانت طریقته أحسن من طریقتهما جمیعا، و توفی الشیخ ابو الفتح یوم الثلاثاء التاسع من المحرم سنة 490 بدمشق و دفن بباب الصغیر و لم تر جنازة أوفر خلقا من جنازته، رحمه اللّه تعالی.
و محمد بن طاهر بن علی بن احمد ابو الفضل المقدس الحافظ و یعرف بابن القیسرانی، طاف فی طلب الحدیث و سمع بالشام و بمصر و العراق و خراسان و الجبل و فارس و سمع بمصر من الجبّائی و ابی الحسن الخلعی، قال: و سمعت ابا القاسم اسماعیل بن محمد بن الفضل الحافظ یقول: أحفظ من رائیة محمد بن طاهر ما هو هذا:
الی کم أمنّی النفس بالقرب و اللقابیوم الی یوم و شهر الی شهر
و حتی م لا أحظی بوصل أحبتی‌و أشکو الیهم ما لقیت من الهجر
فلو کان قلبی من حدید أذابه‌فراقکم او کان من صالب الصخر
و لما رأیت البین یزداد و النوی‌تمثلت بیتا قیل فی سالف الدهر:
متی یستریح القلب و القلب متعب‌ببین علی بین و هجر علی هجر
قال الحافظ: سمعت أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذانی الحافظ ببغداد یذکر ان أبا الفضل ابتلی بهوی امرأة من اهل الرستاق کانت تسکن قریة علی ستة فراسخ فکان یذهب کل لیلة فیرقبها فیراها تغزل فی ضوء السراج ثم یرجع الی همذان فکان یمشی کل یوم و لیلة اثنی عشر فرسخا، و مات ابن طاهر و دفن عند القبر الذی علی جبلها یقال له قبر رابعة العدویة و لیس هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 247
بقبرها انما قبرها بالبصرة، و اما القبر الذی هناک فهو قبر رابعة زوجة احمد ابن ابی الحواری الکاتب و قد اشتبه علی الناس».
المقدس- دار صادر و دار بیروت

المقدّسة

«فهی الأرض المقدسة ای المبارکة النزهة، قیل هی دمشق و فلسطین، و بعض الاردن، و بیت المقدس منه»
المقدس- دار صادر و دار بیروت

الخلیل

«الخلیل: اسم موضع و بلدة فیها حصن و عمارة و سوق بقرب البیت المقدس، بینهما مسیرة یوم، فیه قبر الخلیل ابراهیم علیه السلام، فی مغارة تحت الارض، و هناک مشهد و زوار و قوّام فی الموضع، و ضیافة للزوار، و بالخلیل سمی الموضع، و اسمه الاصلی حبرون و قیل حبری، و فی التوراة:
ان الخلیل اشتری من عفرون بن صوحار الحیثی موضعا باربعمائة درهم فضة و دفن فیه سارة، و قد نسب الیه قوم من اصحاب الحدیث، و هو موضع طیب، نزه روح، أثر البرکة ظاهر علیه، و یقال، ان حصنه من عمارة سلیمان بن داود علیه السلام.
و قال الهروی: دخلت القدس فی سنة 567 و اجتمعت فیه و فی مدینة الخلیل بمشایخ حدثونی ان فی سنة 513 فی ایام الملک بردویل انخسف موضع فی مغارة الخلیل فدخل الیها جماعة من الفرنج باذن الملک فوجدوا فیها ابراهیم و اسحاق و یعقوب علیهم السلام، و قد بلیت اکفانهم و هم مستندون الی حائط و علی رؤوسهم قنادیل، و رؤوسهم مکشوفة، فجدد الملک اکفانهم ثم سدّ الموضع، قال و قرأت علی السلفی ان رجلا یقال له الارمنی قصد زیارة الخلیل و أهدی لقیّم الموضع هدایا جمّة و سأله ان یمکنه من النزول الی جثة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 248
ابراهیم علیه السلام، فقال له: اما الآن فلا یمکن لکن اذا أقمت الی ان ینقطع الجثل و ینقطع الزوار فعلت، فلما انقطعوا قلع بلاطة هناک و اخذ معه مصباحا و نزل فی نحو سبعین درجة الی مغارة واسعة و الهواء یجری فیها و بها دکة علیها ابراهیم علیه السلام ملقی و علیه ثوب اخضر و الهواء یلعب بشیبته!! و الی جانبه اسحاق و یعقوب، ثم أتی به الی حائط المغارة فقال له: ان سارة خلف هذا الحائط فهمّ ان ینظر الی ما وراء الحائط فاذا بصوت یقول: ایاک و الحرم!! قال: فعدوت من حیث نزلت».
حرف الخاء- دار صادر و دار بیروت

عسقلان

«بفتح اوله، و سکون ثانیه ثم قاف، و آخره نون، و عسقلان فی الاقلیم الثالث من جهة المغرب خمس و خمسون درجة و عرضها ثلاث و ثلاثون و هی اسم اعجمی فیما علمت و قد ذکر بعضهم ان العسقلان أعلی الرأس فان کانت عربیة فمعناه انها فی أعلی الشام، و هی مدینة بالشام من اعمال فلسطین علی ساحل البحرین بین غزة و بیت جبرین، و یقال لها عروس الشام، و کذلک یقال لدمشق ایضا، و قد نزلها جماعة من الصحابة، و التابعین، و حدث بها خلق کثیر، و لم تزل عامرة حتی استولی علیها الافرنج خذلهم اللّه فی السابع و العشرین من جمادی الاخرة سنة 548 و بقیت فی ایدیهم خمسا و ثلاثین سنة الی ان استنقذها صلاح الدین یوسف بن ایوب منهم فی سنة 583 ثم قوی الافرنج و فتحوا عکة و ساروا نحو عسقلان فخشی ان یتم علیها ما تم علی عکا فخربها فی شعبان سنة 587 ه».
حرف العین- دار صادر و دار بیروت

بیت لحم

«بالفتح و سکون الحاء المهملة، بلید قرب البیت المقدس عامر حفل، فیه سوق و بازارات، و مکان مهد عیسی بن مریم علیه السلام، قال مکنی بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 249
عبد السلام الرمیلی، ثم المقدسی: رأیت بخط مشرف بن مرجا بیت لخم (بالخاء المعجمة) و سمعت جماعة من شیوخنا یروونه (بالحاء المهملة) و قد بلغنی ان الجمیع صحیح جائز، قال البشاری:
بیت لحم، قریة علی نحو فرسخ من جهة جبرین، بها ولد عیسی بن مریم علیه السلام، و ثم کانت النخلة و لیس ترطب النخیل بهذه الناحیة و لکن جعلت لها آیة، و بها کنیسة لیس فی الکورة مثلها، و لما ورد عمر بن الخطاب، رضی اللّه عنه الی البیت المقدس أتاه راهب من بیت لحم، فقال له: معی منک أمان علی بیت لحم، فقال له عمر: ما اعلم ذلک، فاظهره و عرفه عمر، فقال له: الأمان صحیح و لکن لا بد فی کل موضع للنصاری ان نجعل فیه مسجدا، فقال الراهب: ان ببیت لحم حنیة مبنیة علی قبلتکم فاجعلها مسجدا للمسلمین و لا تهدم الکنیسة، فعفا له عن الکنیسة و صلی الی تلک الحنیة و اتخذها مسجدا، و جعل علی النصاری إسراجها، و عمارتها و تنظیفها و لم یزل المسلمون یزورون بیت لحم و یقصدون الی تلک الحنیة، و یصلون فیها، و ینقل خلفهم عن سلفهم انها حنیة عمر بن الخطاب، و هی معروفة الی الآن لم یغیرها الفرنج لما ملکوا البلاد، و یقال ان فیها قبر داود و سلیمان، علیهما السلام».
مادة (بیت) دار صادر و دار بیروت

بیت جبرین

«لغة فی جبریل: بلید بین بیت المقدس و غزة، و بینه و بین القدس مرحلتان، و بین غزة أقل من ذلک و کانت فیه قلعة حصینة خربها صلاح الدین لما استنقذ بیت المقدس من الافرنج، و بین بیت جبرین و عسقلان واد یزعمون انه وادی النملة التی خاطبت سلیمان بن داود علیه السلام».
مادة بیت- دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 250

جبرین

و فی جبرین یقول یاقوت:
«جبرین لغة فی جبریل: بیت جبرین ذکر قبل، و هو من فتوح عمرو بن العاص اتخذ به ضیعة یقال لها عجلان باسم مولی له، و هو حصن بیت المقدس و عسقلان، ینسب الیه ابو الحسن محمد بن خلف بن عمر الجبرینی، یروی عن احمد بن الفضل الصائغ، روی عنه ابو بکر محمد بن ابراهیم الاصبهانی، و فی کتاب دمشق: احمد بن عبد اللّه بن حمدون بن نصر بن ابراهیم ابو الحسن الرملی المعروف بالجبرینی، قدم دمشق و حدث بها عن ابی هاشم محمد بن عبد الأعلی بن علیل الامام و ابی الحسن محمد بن بکار بن یزید السکسکی الدمشقی و ابی الفضل العباس بن الفضل بن محمد بن الحسن بن قتیبة و ابی محمد عبد اللّه بن أبان بن شداد، و ابی الحسن داود بن أحمد بن مصحح العسقلانی، و ابی بکر محمد بن محمد بن ادریس امام مسجد حلب، روی عنه عبد الوهاب بن جعفر المیدانی و تمام بن محمد الرازی».
حرف الجیم- دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 251

الارض المقدسة فی رحلة ابن بطوطة

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 252
ابن بطوطة هو محمد بن ابراهیم الملقب بشمس الدین الطنجی نسبة الی بلده طنجة و هو من البربر ولد سنة 704 ه و توفی سنة 779 قام بعدة رحلات من البلدان الافریقیة و الآسیویة بالاضافة الی البلدان العربیة و بلغ فی تطوافه الهند و الصین، و حج مکة المکرمة و زار المدینة المنورة، و المشاهد المقدسة کالقدس و النجف الاشرف و سائر المراقد و سجلت رحلاته هذه و اهمها الرحلة الاولی التی بدأها من مسقط رأسه طنجة و التی قام بها سنة 725 ه نقتطف منها بعض ما ورد عن القدس و الارض المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 253

الارض المقدسة غزة

بدأ ابن بطوطة رحلته من غزة فقال:
«... ثم سرنا حتی وصلنا الی مدینة غزة و هی اول بلاد الشام مما یلی مصر، متسعة الأقطار، کثیرة العمارة، حسنة الاسواق، بها المساجد العدیدة، و الاسوار علیها، و کان بها مسجد جامع حسن، و المسجد الذی تقام الان به الجمعة فیها بناه الأمیر المعظم الجاولی، و هو انیق البناء، محکم الصنعة، و منبره من الرخام الابیض، و قاضی غزة بدر الدین السلختی الحورانی و مدرّسها علم الدین بن سالم، و بنو سالم کبراء هذه المدینة و منهم شمس الدین قاضی القدس».
ص 54 دار صادر و دار بیروت

الخلیل

«.. ثم سافرت من غزة الی مدینة الخلیل، صلی اللّه علی نبینا و علیه و سلم تسلیما، و هی مدینة صغیرة الساحة، کبیرة المقدار، مشرقة الانوار، حسنة المنظر، عجیبة المخبر، فی بطن واد، و مسجدها انیق الصبغة، محکم العمل، بدیع الحسن، سامی الارتفاع، مبنی بالصخر المنحوت، فی احد ارکانه صخرة، احد اقطارها سبعة و ثلاثون شبرا، و یقال ان سلیمان علیه السلام أمر الجن ببنائه، و فی داخل المسجد الغار المکرم المقدس، فیه قبر ابراهیم و اسحاق و یعقوب، صلوات اللّه علی نبیه و علیهم، و یقابلها قبور ثلاثة هی قبور ازواجهم و عن یمین المنبر بلصق جدار القبلة موضع یهبط منه علی درج رخام محکمة العمل الی مسلک ضیق، یفضی الی ساحة مفروشة بالرخام، فیها صور القبور الثلاثة، و یقال انها محاذیة لها، و کان هنالک مسلک الی الغار المبارک و هو الآن مسدود، و قد نزلت بهذا الموضع مرات، و مما ذکره اهل العلم دلیلا علی صحة کون القبور الثلاثة الشریفة هنالک ما نقلته عن کتاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 254
علی بن جعفر الرازی الذی سماه (المسفر للقلوب عن صحة قبر ابراهیم و اسحق و یعقوب) أسند فیه الی أبی هریرة قال:
قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: لما أسری بی إلی بیت المقدس مرّ بی جبریل علی قبر ابراهیم فقال: انزل فصلّ رکعتین، فان هنا قبر ابیک ابراهیم، ثم مرّ بی علی بیت لحم و قال: انزل فصلّ رکعتین فان هنا ولد اخوک، عیسی علیه السلام، ثم أتی بی إلی الصخرة، و ذکر بقیة الحدیث، و لما لقیت بهذه المدینة المدرس الصالح المعمر الامام الخطیب برهان الذین الجعبری احد الصلحاء المرضیین و الأئمة المشهورین، سألته عن صحة کون قیر الخلیل علیه السلام هنالک، فقال لی: کل من لقیته من اهل العلم یصرّحون ان هذه القبور قبور ابراهیم و اسحاق و یعقوب علی نبینا و علیهم السلام، و قبور زوجاتهم، و لا یطعن فی ذلک الا اهل البدع، و هو نقل الخلف عن السلف لا یشک فیه.
و یذکر ان بعض الأئمة دخل الی هذا الغار و وقف عند قبر سارة، فدخل شیخ فقال له: ای هذه القبور هو قبر ابراهیم؟ فأشار له الی قبره المعروف، ثم دخل شاب فسأله کذلک، فاشار له الیه، ثم دخل صبی فسأله أیضا، فاشار له الیه، فقال الفقیه: اشهد ان هذا قبر ابراهیم علیه السلام، لا شک، ثم دخل المسجد فصلّی به، و ارتحل من الغد.
و بداخل هذا المسجد ایضا قبر یوسف علیه السلام و بشرقی حرم الخلیل تربة لوط علیه السلام، و هی علی تل مرتفع یشرف منه غور الشام، و علی قبره ابنیة حسنة، و هو فی بیت منها حسن البناء مبیض، و لا ستور علیه.
و هنالک بحیرة لوط، و هی أجاج، یقال انها موضع دیار قوم لوط، و بمقربة من تربة لوط مسجد الیقین، و هو علی تلّ مرتفع له نور و اشراق، لیس لسواه، و لا یجاوره الا دار واحدة یسکنها قیّمه، و فی المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض فی حجر صلد قد هی‌ء فیه صورة محراب لا یسع الا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 255
مصلّیا واحدا، و یقال: ان ابراهیم سجد فی ذلک الموضع شکرا للّه تعال عند هلاک قوم لوط، فتحرک موضع سجوده، و ساخ فی الارض قلیلا.
و بالقرب من هذا المسجد مغارة فیها قبر فاطمة بنت الحسین بن علی علیهما السلام، و بأعلی القبر و اسفله لوحان من الرخام فی احدهما مکتوب منقوش بخط بدیع: بسم اللّه الرحمن الرحیم، للّه العزة و البقاء، و له ما ذرأ و بزأ، و علی خلقه کتب الفناء، و فی رسول اللّه أسوة، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسین، رضی اللّه عنه، و فی اللوح الآخر منقوش: صنعه محمد بن ابی سهل النقاش بمصر و تحت ذلک هذه الابیات:
أسکنت من کان فی الاحشاء مسکنه‌بالرغم منی بین الترب و الحجر
یا قبر فاطمة بنت ابن فاطمةبنت الأئمة بنت الانجم الزهر
یا قبر ما فیک من دین و من ورع‌و من عفاف و من صون و من خفر
ثم سافرت من هذه المدینة الی القدس، فزرت فی طریقی الیه تربة یونس علیه السلام، و علیها بنیة کبیرة و مسجد، وزرت ایضا (بیت لحم) موضع میلاد عیسی علیه السلام و به اثر جذع النخلة، و علیه عمارة کثیرة و النصاری یعظمونه اشد التعظیم، و یضیفون من نزل به»
ص 55- 57 دار صادر و دار بیروت

بیت المقدس

«ثم وصلنا الی بیت المقدس شرفه اللّه ثالث المسجدین الشریفین فی رتبة الفضل، و مصعد رسول صلی اللّه علیه و سلم تسلیما، و معرجه الی السماء، و البلدة کبیرة منیفة بالصخر المنحوت، و کان الملک الصالح الفاضل صلاح الدین بن أیوب، جزاه اللّه عن الاسلام خیرا، لما فتح هذه المدینة هدم بعض سورها ثم استنقض الملک الظاهر هدمه خوفا من ان یقصدها الروم فیتمنعوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 256
بها، و لم یکن بهذه المدینة نهر فیما تقدم، و جلب لها الماء فی هذا العهد، الأمیر سیف الدین تنکیز أمیر دمشق».
ص 57 دار صادر و دار بیروت

المسجد المقدس

«و هو من المساجد العجیبة الرائعة، الفائقة الحسن یقال: انه لیس علی وجه الارض مسجد اکبر منه، و ان طوله من شرق الی غرب سبعمائة و اثنتان و خمسون ذراعا بالذراع المالکیة، و عرضه من القبلة، الی الجوف اربعمائة ذراع و خمس و ثلاثون ذراعا، و له ابواب کثیرة فی جهاته الثلاث، و اما الجهة القبلیة منه فلا اعلم بها الا بابا واحدا، و هو الذی یدخل منه الامام، و المسجد کله فضاء و غیر مسقف الا المسجد الاقصی، فهو مسقف فی النهایة من احکام العمل، و اتقان الصنعة، مموّه بالذهب و الاصبغة الرائقة، و فی المسجد مواضع سواه مسقفة».
ص 57- 58 دار صادر و دار بیروت

قبة الصخرة

«و هی من اعجب المبانی و اتقنها و اغربها شکلا، قد توفر حظها من المحاسن، و اخذت من کل بدیعة بطرف، و هی قائمة علی نشز فی وسط المسجد یصعد الیها فی درج رخام، و لها اربعة ابواب و الدائر بها مفروش بالرخام ایضا محکم الصنعة، و کذلک داخلها و فی ظاهرها و باطنها من انواع الزواقة و رائق الصنعة ما یعجز الواصف، و اکثر ذلک مغشّی بالذهب، فهی تتلألأ نورا، و تلمع لمعان البرق یحار بصر متأملها فی محاسنها، و یقصر لسان رائیها عن تمثیلها.
و فی وسط القبة الصخرة الکریمة التی جاء ذکرها فی الآثار فان النبی صلی اللّه علیه و سلم عرج فیها الی السماء، و هی صخرة صمّاء ارتفاعها نحو قامة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 257
و تحتها مغارة فی مقدار بیت صغیر ارتفاعها نحو قامة ایضا، ینزل الیها علی درج، و هنالک شکل محراب، و علی الصخرة شباکان اثنان محکما العمل یغلقان علیها، احدهما و هو الذی یلی الصخرة من حدید بدیع الصنعة و الثانی من خشب، و فی القبة درقة کبیرة من حدید معلقة هنالک و الناس یزعمون انها درقة حمزة بن عبد المطلب رضی اللّه عنه».
ص 58 دار صادر و دار بیروت

بعض مشاهد القدس

«... فمنها بعدوة الوادی المعروف بوادی جهنم فی شرقی البلد علی تل مرتفع هنالک بنیّة یقال انها مصعد عیسی علیه السلام، بها، و هنالک ایضا کنیسة اخری معظمة یحجها النصاری، و هی التی یکذبون علیها، و یعتقدون ان قبر عیسی علیه السلام بها، و علی کل من یحجها ضریبة معلومة للمسلمین، و ضروب من الاهانة یتحملها علی رغم أنفه، و هنالک موضع مهد عیسی علیه السلام یتبرک به».
ص 59 دار صادر و دار بیروت

بعض فضلاء القدس

«... فمنهم قاضیه العالم شمس الدین محمد بن سالم الغزی، و هو من اهل غزة و کبرائها، و منهم خطیبه الصالح الفاضل عماد الدین النابلسی، و منهم المحدث المفتی شهاب الدین الطبری، و منهم مدرس المالکیة و شیخ الخانقاه الکریمة ابو عبد اللّه محمد بن مثبت الغرناطی نزیل القدس، و منهم الشیخ الزاهد ابو علی حسن المعروف بالمحجوب من کبار الصالحین، و منهم الشیخ الصالح العابد کمال الدین المراغی، و منهم الشیخ الصالح العابد ابو عبد الرحیم عبد الرحمن بن مصطفی من اهل أرز الروم، و هو من تلامذة تاج الدین الرفاعی، صحبته و لبست منه خرقة التصوف».
ص 59 دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 258

عسقلان

«ثم سافرت من القدس الشریف برسم زیارة ثغر عسقلان و هو خراب قد عاد رسوما طامسة، و أطلالا دارسة، و قلّ بلد جمع من المحاسن ما جمعته عسقلان إتقانا و حسن وضع، و اصالة مکان، و جمعا بین مرافق البرّ و البحر، و بها المشهد الشهیر حیث کان رأس الحسین بن علی علیه السلام قبل ان ینقل الی القاهرة، و هو مسجد عظیم سامی العلو، فیه جب للماء أمر ببنائه بعض العبید، و کتب ذلک علی بابه.
و فی قبلة هذا المزار مسجد کبیر یعرف بمسجد عمر لم یبق منه الا حیطانه، و فیه اساطین رخام لا مثیل لها فی الحسن، و هی ما بین قائم و حصید، و من جملتها اسطوانة حمراء عجیبة یزعم الناس ان النصاری احتملوها الی بلادهم ثم فقدوها فوجدت فی موضعها بعسقلان،
و فی القبلة من هذا المسجد عبر تعرف ببئر ابراهیم علیه السلام، ینزل الیها فی درج متّسعة، و یدخل منها الی بیوت، و فی کل ناحیة من جهاتها الاربع عین تخرج من اسراب مطویة بالحجارة، و ماؤها عذب، و لیس بالغزیر، و یذکر الناس من فضائلها کثیرا.
و بظاهر عسقلان وادی النمل، و یقال: انه المذکور فی الکتاب العزیز، و بجبّانة عسقلان من قبور الشهداء و الاولیاء ما لا یحصر لکثرته أوقفنا علیهما قیّم المزار المذکور، و له جرایة یجریها له ملک مصر مع ما یصل الیه من صدقات الزوار».
ص 59- 60 دار صادر و دار بیروت

الرملة

«ثم سافرت منها الی مدینة الرملة، و هی فلسطین، مدینة کبیرة کثیرة الخیرات، حسنة الاسواق، و بها الجامع الابیض، و یقال: ان فی قبلته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 259
ثلاثمائة من الانبیاء مدفونین، علیهم السلام، و فیها من کبار الفقهاء مجد الدین النابلسی».
ص 60- 61 دار صادر و دار بیروت

نابلس

«ثم خرجت منها الی مدینة نابلس، و هی مدینة عظیمة کثیرة الاشجار، مطّردة الانهار، من اکثر بلاد الشام زیتونا، و منها یحمل الزیت الی مصر و دمشق، و بها تصنع حلواء الخرّوب، و تجلب الی دمشق و غیرها.
و کیفیة عملها: ان یطبخ الخرّوب ثم یعصر و یؤخذ ما یخرج منه من الرّب فتصنع منه الحلواء، و یجلب ذلک الربّ ایضا الی مصر و الشام، و بها البطیخ المنسوب الیها، و هو طیب عجیب، و المسجد الجامع فی نهایة من الاتقان و الحسن، و فی وسطه برکة ماء عذب».
ص 60 دار صادر و دار بیروت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 260

فهرست الاعلام

لقد راعینا فی ترتیب الاعلام الاسم الوارد عن الشخص سواء کان هذا الاسم کنیة، او اسما مجردا عن الصفة، او صفة خاصة و ذلک خلافا لما تبانی علیه و اضعو فهارس الاعلام الذین یعتمدون النسبة او الصفة دون غیرها فی الترتیب فاقتضی التنبیه؛
حرف الالف ابراهیم الخلیل 25، 26، 27، 28، 29 30، 31، 33، 34، 45، 46، 56 61، 66، 67، 71، 72، 74، 77 119، 122، 124، 130، 135، 192، 219، 222، 223، 224، 226، 236، 238، 247، 248، 253، 254، 255، 258.
ابراهیم الفکیکی 110.
ابرویز- کسری 189، 191، 195.
ابشالوم بن داود 127،
ابن ابی زرع 98، 108.
ابن الأثیر 7، 15، 26، 50، 71، 85.
ابن الاعرابی 235.
ابن بطوطة 97، 251، 252، 253،
ابن جبیر 227، 228.
ابن جریر الطبری 46، 67، 84، 85، 88.
ابن حجر العسقلانی 90،
ابن خزیمة 75،
ابن خلدون 101، 102.
ابن خلکان 101،
ابن زیدان النقیب 105.
ابن سعد 66، 76، 77، 78.
ابن سعدان 245،
ابن شکران 245.
ابن الطبری 245.
ابن عباس 60، 71، 237،
ابن غانیة 101،
ابن فضل اللّه العمری 199
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 261
ابن الفقیه 9،
ابن الکازرونی 97.
ابن کثیر العدسی 58.
ابن الکلبی 205.
ابن منظور 80، 202
ابن هرمة 9،
ابو اسحق الشیرازی 246،
ابو البرکات زین الدین 98،
ابو بکر- الخلیفة 28، 89.
ابو بکر الخطیب 245.
ابو بکر الطرطوشی 97.
ابو بکر محمد بن ابراهیم الاصبهانی 250،
ابو بکر محمد بن محمد بن ادریس 250
ابو بکر الهمذانی 224.
ابو الحرث عبد الرحمن بن منقذ الشیزری 99،
ابو الحسن بن عمر الجبرینی 250.
ابو الحسن الخلعی 246.
ابو الحسن داود بن مصحح العسقلانی 250.
ابو الحسن السمسار 245.
ابو الحسن محمد بن عوف 245.
ابو الحسن الواسطی 98.
ابو حنیفة 40.
ابو ذر الغفاری 66، 237.
ابو طالب 76، 78،
ابو عبد اللّه محمد البشاری 239.
ابو عبد اللّه محمد بن سالم الکنانی 98.
ابو عبد اللّه محمد بن مثبت الغرناطی 257.
ابو عبیدة بن الجراح 82، 83، 89، 243.
ابو العلاء الحسن بن احمد الهمذانی 246
ابو العلاء المعری 90.
ابو علی حسن المحجوب 257.
ابو عمر 51.
ابو الفتح نصر اللّه اللاذقی 245، 246
ابو الفداء 8، 104.
ابو الفضل بن ابی عبد اللّه بن أبی مدین 104.
ابو الفضل العباس بن الفضل بن قتیبة 250.
ابو القاسم اسماعیل بن الحافظ 245، 246.
ابو القاسم الزیانی- الوزیر 102.
ابو القاسم القاضی 240.
ابو القاسم النسیب 245.
ابو مالک القرضی 237.
ابو محمد بن طاووس 245.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 262
ابو محمد عبد اللّه بن ابان بن شداد 250
ابو مریم مولی سلامة 84.
ابو المعالی الجونی 246.
ابو هاشم محمد بن عبد الأعلی بن یزید السکسکی الدمشقی 250.
ابو هریرة 60، 254،
ابیّ بن کعب 237.
ابیام 160.
آحاز بن یوثام 127، 152، 153، 161
احمد الاحسائی 81.
احمد بن عبد اللّه بن حمدون الرملی الجبرینی 250.
احمد بن الفضل الصائغ 250.
احمد بو حمالة 110، 111.
احمد زکی باشا 199.
احمد سامح الخالدی 8، 9، 25،
احمد سوسة- الدکتور 113.
احمد شوقی 90.
احمد عویدات 14.
احمد- الامام 71.
احمد الفاسی 110.
احمد فوزی عبد الجبار 19، 51،
احمد المصلوحی 110.
احمد المنصور السعدی السلطان ابو العباس 104.
احموسة 192،
آخاب بن عومری- ملک اسرائیل 151.
اخزیا 161.
ادریانوس 51.
ادریس 56.
ادریس المغربی المعروف بأبی الأیتام 110.
ادونی صادق 120، 124، 125، 135 142.
ارتکسرکس الأول 162، 163،
ارخیلاووس 160، 181.
اردن بن سام 50، 234.
الارکیولوجی الألمانی 138.
الأزهری 51.
أرسوبولس 172، 173، 174، 176 179، 180، 190.
ارم بن سام 9، 50، 234.
ارمیا النبی 158، 159.
ارنان الیبوسی 61، 130.
اسامة بن منقذ 98، 99، 100.
اسحق بن ابراهیم 25، 26، 27، 28، 32، 33، 34، 45، 46، 56، 67 130، 223، 226، 236، 238، 247، 248، 253، 254.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 263
اسحق بن حسین المنجم 123.
اسرائیل 9، 13، 16، 26، 36، 38، 41، 42، 54، 63، 115، 149، 150.
اسکندر بالاس 169.
الاسکندر الکبیر 20، 64، 115، 140 163، 164، 170، 172، 174، 184، 194.
اسکندرة ام اسکندر یانیوس 172، 173، 174،
اسکندر بانیوس 173، 174.
اسماعیل بن ابراهیم الخلیل 45، 46، 56، 67 175، 219، 238،
أشعیا 154، 156،
الاعشی 50،
اکرم فاضل- الدکتور 9، 13، 63،
اکیبا 186، 187.
الیاس 42.
الیاس التشبی 56.
الیوموس 169.
ام هانی 76.
امام الدین بن محمد بن یوسف بن علاء الدین بن قاسم البطائحی الخلیلی الاشعری 104،
امامة 71.
امرؤ القیس 205، 235.
امصیا- ملک یهوذا 45، 151، 161،
امنحوتب- اخناتون 37، 120، 192
انتونینس بیوس 186، 195.
انتیاس 160.
انیتیاتر 116، 165، 172، 178، 179، 190، 194.
اندریه ایمار 13.
انس 72.
انطونیوس 116، 173، 178، 179، 190.
انطونیوس فیلکس 182.
انطیوخوس 20، 165، 166، 167،، 168، 169، 170، 174، 175، 176، 194.
انطیوخوس ابیافانیس 91.
انطیوخس الرابع 133.
أنطیفونس 165.
انتیغونس 173، 179، 190.
اوکنافیان (اوغسطوس) 178، 179 190، 191، 194.
اولبرایت 118.
اونی- القائد الفرعونی 135.
ایلغازی 244.
ایلیاء 50، 52، 234.
ایوب 33، 46.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 264
حرف الباء بارکوخبا 116، 184، 186، 191، 195،
بدر الدین السلختی 253.
بدر الدین محمد بن ابراهیم القاضی 97
بردویل- الملک 247.
برهان الدین الجعبری 254.
البشاری 249.
البشیر التازی- الحاج 110.
بطلیموس 20، 133، 165، 166، 167، 174، 194.
بلال الحبشی 88، 89.
بلفور 92.
بنهدد 151.
بنیامین 33، 35، 125، 150،
بولص- القدیس 123، 128،
بومبی القائد 172، 173، 174، 176، 177، 178، 190، 194،
بومیوس 20.
بومدین الغوث 107، 108، 110.
بونتوس 181، 190
بیرون 145.
البیضاوی 40.
البیهقی 87.
حرف التاء تاج الدین الرفاعی 257.
تتش بن الب ارسلان (تاج الدولة) 245.
تجلات بلاسر 152، 153، 193.
تحوطمس- (ملک مصر) 137، 192.
تفلث فلاسر 152.
تمام بن محمد الرازی 250.
تمیم الداری 27، 28.
توت عنخ آمون 57.
توعی- ملک حما 147.
تیبریوس 191،
تیطس 22، 116، 182، 184، 191
حرف الجیم جابر الانصاری 39،
جانین اوبوایة 13.
الجبائی 246.
جبرا ابراهیم جبرا 199.
جبرائیل 77، 78، 80، 206.
جرجی زیدان 12
جریر بن عثمان 72.
جستنیان- الامبراطور 89، 195،
جمال الدین الالوسی 99
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 265
جورج صیدح 90.
جولیان- الامبراطور 188، 195،
جیمس هنری برستید 7، 8، 9، 14، 17، 18، 61،
حرف الحاء حاتوشیلی- الحثّی 141.
الحاکم بأمر اللّه 225.
حام بن نوح 9، 119.
الحجاج یوسف بن محمد المعروف بابن الشیخ 101.
حزقیا- الملک 129، 130، 154، 155 156، 157، 161.
حزقیال 124.
الحسن بن علی بن أبی طالب 76.
الحسن الثانی- ملک المغرب 109، 112،
حسین جمیل- المحامی 9، 16.
حسین ملک الاردن 109.
حمزة بن عبد المطلب 217.
حمص بن سام 50، 234.
حمورابی- الملک 192.
حیرام- ملک صور 61، 148.
حوفرا- ملک مصر 159.
حرف الخاء خالد البلوی 98، 102.
خالد بن ثابت 85.
خیری حماد 122.
حرف الدال داود قربان 15، 17.
داود- النبی 18، 33، 38، 39، 40، 46، 53، 57، 58، 59، 60، 61 62، 64، 67، 68، 69، 72، 84 88، 91، 92، 121، 122، 125، 127، 128، 129، 130، 131، 132، 145، 147، 148، 149، 150، 168، 189، 193، 213، 237، 238،، 239، 241 249.
دارا- ملک: الفرس 20، 163.
الدجال 236، 237.
دکران 176، 177، 194.
دمتریوس سوتر 169، 170، 172، 174، 194.
دمشق بن سام 50، 234.
دیلابورت 154.
حرف الراء رابعة العدویة 246.
رابعة زوجة احمد بن ابی الحواری 247،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 266
رجاء بن حیاة 88.
رحبام بن سلیمان 150، 151.
رحبعام 160، 193.
رزوبابل بن شلائیل 162، 163.
رصین- الملک 152، 153.
رعمسیس 57، 141، 143، 192، 193
روبیل 230.
روحی الخطیب 109.
ریقة زوجة اسحق 26، 28. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌4 ؛ ص266
حرف الزای زکریا 40، 41، 42، 45، 72، 213،
زلیخا 34،
الزهری 67.
الزیانی 105.
حرف السین س. ن جونص 89.
سارة زوجة ابراهیم 26، 27، 29، 33 223، 248.
سالم الیبوسی 55.
سام بن نوح 9، 15، 49، 50، 52، 53، 119، 234،
سرکون 152، 153، 193.
سستیوس 182.
سعید الفیلالی 110.
سکمان 244.
سلمان بن ارتق 244.
سلوقس 165، 166.
سلیم بن ایوب 245.
سلیم الفقیه 245.
سلیمان بن داود 18، 27، 29، 33، 38، 39، 40، 46، 53، 57، 58 61، 62، 63، 64، 68، 69، 70 72، 91، 126، 130، 132، 148 149، 150، 151، 193، 211، 213، 216، 217، 222، 230، 236، 238، 239، 247، 249، 253.
سلیمان القانونی 106، 134.
سمردیس 163.
سمستوس غالوس 182.
سمعان 168، 170، 173، 174
سمعان المکابی 128.
سناتو 176.
سنت انا 73،
سنحاریب (ملک آشور) 19، 140، 154، 155، 156، 157،
سنوسرت الاول 136.
سیبویه 205.
سیزوستریس الثالث 135.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 267
سیف الدین تنکیز- الامیر 256،
سیلیل 155.
سیمون 194.
سینوهی- فرعون مصر 136.
حرف الشین الشافعی 40.
شاکر البدری 51، 84.
شاؤول- الملک 125، 147، 149، 193
الشبیبی 101.
شخیم بن جمور 58.
شعیا 45، 238.
شعیب 38، 56، 230.
شلمانصر 63، 153، 193.
شمس الدین- قاضی القدس 253.
شمس الدین الخولانی 98.
شمس الدین بن سالم الغزی 257.
شمشون 146،
شهاب الدین الطبری 97، 257،
شیت 56،
شیشنّق- ملک مصر 150، 151، 193.
حرف الصاد صالح الطیب 56، 110.
صدقیا 9، 158، 159، 161،
صفرونیوس 84.
صفوان بن عمرو 27، 72.
صلاح الدین الأیوبی 92، 98، 99، 101، 106، 244، 248، 249، 255،
صموئیل 147، 149.
حرف الضاد الضحاک 60.
حرف الطاء الطبرسی 61، 75، 76، 81، 82
الطبری 26.
طه باقر- الدکتور 121، 122، 149 154، 162، 163.
طه الولی- الشیخ 199.
الطوسی 76.
حرف الظاء الظاهر- الملک 255.
حرف العین عائشة 81،
عارف باشا العارف 49، 52، 55، 61، 134، 199،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 268
عبد الحلیم محمود- الدکتور 199.
عبد الحمید السائح 109.
عبد الرحمن بن عوف 85.
عبد الرحمن بن غنم 86.
عبد الرحمن بن محمد العلیمی 199.
عبد الرحمن بن مصطفی 257
عبد الرحیم البیسانی- القاضی الفاضل 99.
عبد القادر الحسینی 44.
عبد القادر الکیلانی 108.
عبد الکبیر الفاسی 111.
عبد اللّه بن طاهر 241.
عبد اللّه بن عمر 236.
عبد اللّه بن علی 104.
عبد اللّه کنون 101.
عبد الملک بن مروان- 241
عبد الهادی التازی- 95، 97، 98، 105
عبد الوهاب بن جعفر المیدانی 250.
عبد الوهاب النجار 31، 35، 37، 40
عبدی هیبا- عبدی خیبا 120، 121، 124، 135، 192.
عثلیا 161،
عثمان بن جعفر بن شاذان 28،
عثمان بن عفان 28، 83.
العجاج 205.
عجاج نویهض 185،
عزر بن رحسوب 147.
عزرا 162، 163.
عزیا 161،
العزیر 238.
عطاء 50.
عفرون بن صوحان الحثی 247.
علم الدین بن سالم 253.
علی بن أبی طالب 28، 76، 83، 89،
علی بن أیوب المقدسی 98.
علی بن جعفر الرازی 254.
علی بن عثمان السلطان ابو الحسن 102 104.
علی النقیب- الحاج 110- 111.
علی الوردی- الدکتور 81.
عماد الدین النابلسی 97، 257،
عمران 40، 44،
عمر بن الخطاب 23، 28، 61، 82، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89 189، 191، 195، 204، 210، 215، 243، 249، 258.
عمر بن عبد الکریم الدهستانی 245.
عمرو بن العاص 85، 243، 250.
عملیق ابو العمالقة 15.
عیسی بن العادل الأیوبی 244.
عیسی بن مریم 41، 42، 43، 45، 46 77، 206، 214، 226، 236،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 269
237، 248، 249، 255، 257،
العیص (عیسو) 26، 27، 29، 58، 160.
حرف الغین غابینوس 185.
حرف الفاء فاطمة بنت الحسن 89، 90، 255،
الفخر الرازی 34،
الفراء 78، 204.
الفرزدق 50، 204، 233، 235،
فرعون 36، 210.
فروید 37.
الفضیل بن عیاض 237.
فقح- ملک اسرائیل 152، 153،
فلسطین بن سام 50، 234.
فلسطین بن کلثوم 9،
فیلیب 160، 176، 181،
فیونیس (فرعون مصر) 135.
حرف القاف القاضی المختار- ابو یحیی 240.
قتادة 76، 205، 235.
قراقوش 100، 101.
قسطنطین الکبیر 22، 91، 116، 123 187، 188، 191، 195.
قلودیوس 133.
قمبیز 163،
قیصر 176، 177، 178، 180، 190
حرف الکاف کابینوس 116، 176، 177، 178، 190.
کاسیوس 116، 177، 190.
کالیجولا 181، 191.
کراسوس 116، 176، 177، 190، 194،
کسلوخیم 9،
کعب (الحبر) 27، 88، 236، 237
کلاودوس 181، 191.
کلثوم 9.
کلیوباطرة 116، 179، 190.
کمال الدین المراغی 257.
کنعان بن حام 9، 119، 122،
کورش- ملک الفرس 20، 64، 162 193،
کوشک 238،
کیسوجین 9.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 270
حرف اللام لابان بن تاهر 238.
لالا خناثه- الأمیرة 105.
لاود بن سام 15.
لقطین 9.
لوط 8، 31، 32، 56، 71، 235، 254 255.
اللیث (الامیر) 68، 221.
لیبیدوس 178، 190.
لیسیاس 168، 169.
لیقا- زوجة یعقوب 26، 29.
حرف المیم مأجوج 236،
ماشیدوس 169.
مأمون 105.
متاتیوس 194.
متیاس 173، 174.
متیاس الکاهن 168.
مجاهد 77.
مجد الدین النابلسی 259.
مجیر الدین الحنبلی 24، 25، 27، 29، 50، 52، 53، 60، 62، 67، 68، 84، 89، 199،
محمد بن أبی النقاش 255.
محمد بن اسحق 28، 45.
محمد بن بکران بن محمد 28.
محمد بن البیان الکازرونی 245،
محمد بن سالم الغزی 97.
محمد بن طاهر الحافظ (ابن القیسرانی) 246.
محمد بن نباتة 98-
محمد بن مثبت الغرناطی 97.
محمد الثالث- السلطان 105.
محمد رسول اللّه 27، 75، 213.
محمد علی الزعبی 13، 16، 54.
محمد عنان 19، 64.
محمد الفاسی 97.
محمد الفکیکی 111.
محمد المهدی- الحاج 111.
محمد المهدی- الشیخ 110.
محمود العابدی 102، 106.
مریم بنت عمران 40، 41، 42، 43، 44، 45، 72، 73، 214، 229، 235.
المستظهر باللّه- العباسی 97.
المسیح 21، 42، 43، 59، 60، 71، 72، 119، 123، 127، 162، 166، 181، 185، 188، 191، 194،.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 271
مشرف بن مرجا 249.
معاذ بن جبل 89.
معاویة بن ابی سفیان 85.
مقاتل بن سلیمان 66- 235.
المقدسی 249.
المقری 97، 104، 105.
مکابوس 168.
مکاریوس 188.
مکی بن عبد السلام الرمیلی 248.
ملکیصادق 49، 50، 51، 52، 68، 119، 122، 124، 135.
منسی 127، 132، 161.
منصور وهبه 37.
المنصور یعقوب- السلطان 99، 100 101.
منسة 19.
المهدی 224.
مواتالیس- ملک الحثیین 141.
موسی- الابسکوئی 82.
موسی بن عمران 17، 27، 33، 35، 36، 37، 38، 46، 56، 58، 60 61، 67، 71، 72، 77، 115، 141، 142، 143، 172، 185، 192، 211، 230.
المولی ادریس 105.
المولی اسماعیل (السلطان) 105
المولی عبد اللّه- السلطان 105.
میتینی 155.
میثراداتس 176، 178.
مئیر 187.
حرف النون ناصر خسرو 207، 208، 209، 213
نبوبولاسر 157، 158.
نبوخذنصر 19، 64، 91، 132، 158 160، 162، 193.
نحمیا- الملک 91، 132، 133، 162 163.
نرام سین- الملک الأشوری 16.
نصر بن ابراهیم- ابو الفتح المقدسی 245.
نصر بن داود- ابو الفتح المقدسی 246
النقاد العبدری 97.
نوح 9، 32، 33، 46، 49، 50، 52، 53، 56، 60، 66، 234.
نوشتکین الغوری 221، 222.
نیرون 182، 184، 191، 194.
حرف الهاء هاتشبشوت 137،
هادریان- الامبراطور 22، 64، 91،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 272
123، 183، 186، 187، 190، 195،.
هارون بن عمران 33، 35، 36، 38، 46، 56.
هبة اللّه بن سلیمان 245.
هبیرة بن أبی وهب المخزومی 76،
هرقل- الامبراطور 22، 189، 191 195.
الهروی 247،
هلال فارحی 37.
هلیل 187.
هنری کتن 13، 15، 17، 22،
هوشع 152.
هونیک 185.
هیرکانوس 172، 173، 174، 177، 178، 180،
هیردوس- الأدونی 21، 22، 89، 91، 116، 133، 160، 179 180، 181، 190، 191، 194،
هیرود انتیباس 181.
هیرودس- اغریبا- 116، 133، 134، 181، 182، 191.
هیلانة 123.
هیلینه 188، 195.
حرف الواو ودیع فلسطین 13، 15، 17، 22،
وسبسیان 182، 184، 191،
وهب بن منبه 72، 238،
حرف الیاء یابین- ملک صور 125.
یأجوج 136.
یادی 155.
یافث 9.
یاقوت الحموی 7، 9، 27، 50، 51، 121، 232، 233، 250.
یبوس 50، 119، 122.
یحیی بن زکریا 40، 41، 45، 72
یحیی الخشاب- الدکتور 208، 209، 226.
یربعام بن نباط 150.
یعقوب بن اسحق 25، 26، 27، 29، 32، 33، 46، 56، 58، 143، 211، 213، 224، 226، 236، 238، 247، 248، 253، 254،
یعقوب المنصور- السلطان 98.
یهو آحاز- 161.
یهوذا 18، 63، 115، 121، 149، 150، 168، 169، 173، 174، 187، 230.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 273
یهورام- ملک یهوذا 151، 161.
یهو شافاط 160.
یهویاقیم- ملک یهوذا 158، 161.
یهویاکین 19، 161.
یشوع 115، 120، 125، 142، 143 144، 145،
یوآب- القائد 125، 130،
یوآش 151، 161،.
یوثام 161.
یوحنا 170، 171، 173، 174.
یوسف بن ایوب- صلاح الدین 100
یوسف الصدیق 25، 27، 33، 34، 352، 56، 143، 224، 236، 254
یوسف بن تاشین 97.
یوسیفونس 131، 168، 182
یوشع بن نون 58، 74.
یوشیا 161.
یوناثان 169، 173، 174، 182.
یونان بن یافث 9.
یونس 56، 46، 68، 255.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 274

فهرست الموضوعات

الموضوع الصفحة
1- المامة موجزة بتاریخ فلسطین 7
موقعها و حدودها 7
اسم فلسطین 8
سکان فلسطین و القدس القدماء 11
الکنعانیون 15
العبرانیون 16
الآشوریون 18
الکلدانیون 19
عهد الفرس 20
العهد الیونانی 20
الحکم الرومانی 20
العهد المسیحی 22
العهد الاسلامی 23
2- الارض المقدسة و سبب تقدیسها 24
ابراهیم الخلیل 29
لوط 31
اسحق و یعقوب 32
یوسف الصدیق 33
موسی و هرون 35
داود و سلیمان 38
زکریا و یحیی 40
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌4، ص: 275
الموضوع الصفحة عیسی بن مریم 42
مریم العذراء 44
3- لمحة موجزة عن تاریخ القدس 49
کیفیة بناء القدس لأول مرة 52
القدس فی عهد الیبوسیین و الکنعانیین 54
القدس فی عهد العبرانیین 57
بناء بیت المقدس 58
القدس فی عهد سلیمان 61
4- فضیلة القدس فی الاسلام 65
الاسراء و العروج الی السماء 75
فتح الاسلام للقدس و العهد 82
فضائل القدس فی الاسلام 88
5- حی المغاربة بالقدس 97
سفارة ابن منقذ الی المغرب 98
6- اورشلیم فی اقدم عصورها 118
تسمیة المدینة فی مختلف ادوارها 121
سکان القدس الاولون 124
جغرافیة المدینة و طبوغرافیتها 126
اسوار القدس القدیمة 131
تاریخ المدینة القدیم و ادوارها فی الازمنة المختلفة 134
7- القدس فی اشهر المصادر الاسلامیة و العربیة 201
اسماء القدس فی لسان العرب لابن منظور 204
القدس فی رحلة ناصر خسرو 208
الارض المقدسة فی رحلة ابن جبیر 227
الارض المقدسة فی معجم البلدان 231
الارض المقدسة فی رحلة ابن بطوطة 251

الجزء الخامس

القدس فی المراجع الغربیة

اشارة

کانت القدس و لا تزال قبلة أنظار العالم أجمع. لأنها البقعة الوحیدة التی أجمع معتنقوأ الدیانات الکبری الثلاث فیها علی تقدیسها و بذل الغالی و الرخیص من أجلها. و من الصدف ان تأتی کتابتنا هذه عنها فی وقت حمی و طیس النزاع فیه بین الباطل الیهودی الغاشم، الذی اغتصب هذه البلاد الغالیة، و حق العرب الصریح الذی انبری ابناؤهم البررة لاسترجاعها بکل ما یملکون من جهد و مال أو أنفس و رجال. و من المؤسف حقا ان ینحاز الغرب المسیحی، فی هذا الصراع العنیف من أجل الحیاة، بدافع من مصالحه، الی جانب الیهودیة المتطرفة و الصهیونیة فیساعدها، و یمدها بالعون المادی و المعنوی. لیتغلب باطلها علی الحق الصراح فی أرض الأنبیاء. و من الغریب کل الغرابة ان یتناسی الغرب المسیحی عداء الیهود للسید المسیح و أتباعه فی کل عصر أو زمان، فیقف فی صفهم و یعادی الحنیفیة السمحاء فی أرض البراق و الأسراء. و یخذل أبناءها فیعمل علی هضم حقوقهم و تشریدهم فی الآفاق، و هی التی فتحت صدرها الأهل الکتاب و رعت ابناءهم و طوائفهم فی أیام عزها و مجدها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 8

الاسم و الموقع

یقول الاستاذ غی لسترانج ، المستشرق الانکلیزی المعروف، فی کتابه (فلسطین فی عهد المسلمین) ان القدس تعرف عند المسلمین باسم «البیت المقدس» أو «القدس» باختصار، و هو اسمها الاعتیادی الآن. غیر ان الاسم العبری القدیم «یروشالیم» کان یعرف جیدا لدی العرب فی السابق لکنه لم یکن یستعمل. و یذکر یاقوت الحموی اسماء أخری مثل «یوریشالّوم»- بتشدید اللام- و «یوریشالوم» من دون تشدید، و «شلّام»، باعتبارها أسماء مختلفة للمدینة المقدسة هذه فی عهد الیهود الأقدمین.
کما یقول الاستاذ ف. بوهل فیما کتبه عن القدس فی دائرة المعارف الاسلامیة ان کلمة «القدس» هی الاسم العربی الاعتیادی فی الأزمنة المتأخرة. و کان کتاب العرب القدامی یسمونها «بیت المقدس»، و یقصد بذلک فی الحقیقة هیکل سلیمان الذی یسمی فی العبریة «بیت هامقدیشا»، لکن الاسم شمل المدینة کلها بعد ذلک. و کذلک کان یسمیها العرب «إیلیاء»، و هذا الاسم قسم من الاسم الرومانی الذی أطلق علیها بعد سنة 135 م، و هو «إیلیا کابیتولینا». و قد عرفوا الاسم القدیم «جیروسالم»، أیضا و حوروه الی «أوریشالم». و یذکر المقدسی کذلک اسما آخر للقدس و هو «البلاط» المستخرج من کلمةPalatium ، الذی ربما أرید به «المسکن الملکی».
اما دائرة المعارف البریطانیة فتذکر فی هذا الشأن أن أول دلیل و ثائقی عن وجود القدس یعود الی سنة 1370 قبل المیلاد. فقد اکتشفت ألواح فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 9
تل العمارنة بمصر تسمیها باسم «أوروسالم»، و من المحتمل ان یکون معناه «مدینة السلام» أو مقر إله من آلهة السامیین یدعی «سالم». و جاء فی کتاب (فلسطین العرب ) (لمؤلفته الانکلیزیة الفاضلة المستر ستیوارت ایرسکین (الص 9- 24) قولها فی هذا الشأن: و یعنی اسمها الذی بقی غیر متبدل خلال ألفی سنة من النور و العتمة «دار السلام» أو «إرث السلام» کما یفهم من کلمة «یوروسالمو» الکنعانیة و «یاروشلاییم» العبریة و «هیروسولیمة الیونانیة. اما اسمها العربی فیدل علی الحرمة و القدسیة.
و قد لاحظنا فی دائرة المعارف الیهودیة ما مفاده ان اسم القدس یذکر فی العهد القدیم، و علی معظم العملة العبریة القدیمة باسم «یروشلایم»، و بالآرامیة «یروشلم»، و بالآشوریة «یوروسالم» و «یوروسالیمو». اما ترکیب الکلمة و معناها فهناک عدة آراء فیهما، فانها تعنی علی ما قیل «دار السلام» أو «دار سالم» أو «أساس السلم» او «اساس شلم»، و شالم هو إله السلام. و بالنسبة لما یذکر فی المدراش الیهودی انها تتألف من «شالم» و هو الاسم الذی کانت تسمی به مدینة سام (بن نوح)، و من «یرعه» أو «یرءه» و هو الاسم الذی أطلقه علیها ابراهیم علیه السلام. لکن التعریف العملی المعقول للاسم یأتی بمعنی «یوروشالم» ای مدینة الاله شالم. و قد یکون هذا هو الاله الآشوری شالمان او شولمان او الاله الفینیقی و المصری شارامانا.
هذا و تقع القدس علی خط عرض بدرجة 31 و 46 دقیقة و 45 ثانیة شمال، و بخط طول 15 درجة و 13 دقیقة و 25 ثانیة. و تقوم فوق الجناح الجنوبی لهضبة یتحدر اتجاهها الشرقی من 2460 قدما فوق سطح البحر شمالی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 10
منطقة الهیکل الی 2130 قدما فی الطرف الجنوبی الشرقی. و یرتفع الجبل الشرقی الی ارتفاع 2500 قدم عن سطح البحر ثم ینحدر فی اتجاه جنوبی شرقی من هضبة الیهودیة.
و تحاط القدس من جمیع جهاتها بأودیة لا یکون القسم الشمالی منها واضحا کل الوضوح. و یبدأ الوادیان الرئیسیان من شمال غربی المدینة الحالیة (القدیمة)، فیمتد الأول نحو الشرق بانحناء طفیف الی الجنوب (و هو وادی الجوز) ثم ینحرف الی الجنوب رأسا فیکون وادی «ستی مریم» الذی کان یسمی وادی کدرون، فیعزل المدینة عن جبل الزیتون. اما الثانی فیمتد رأسا الی الجنوب من الجهة الغربیة للمدینة، ثم یتجه شرقا فی الطرف الجنوبی الشرقی.
و عند ذاک یتجه الی الشرق مباشرة فیتصل بالوادی الأول بالقرب من بئر أیوب. و یسمی هذا وادی الربابی، و کان یسمی قبلا وادی هنوم .
و هناک واد ثالث یبدأ من الشمال الغربی حیث یوجد باب دمشق، و یمتد فی اتجاه جنوبی شرقی الی برکة سیلوم، و یشطر القسم الجنوبی الی شطرین.
و یوجد واد رابع کان یمتد من التل الغربی (بالقرب من باب یافا) الی منطقة الهیکل، و هو الذی یمثل شارع النبی داود حالیا.
اما ما یذکره لسترانج عن موقع القدس و اهمیتها و اسمها، علاوة علی ما اقتبسناه قبل هذا منه، فهو قوله أن الامبراطور هدریان الرومانی حینما أخرج الیهود من القدس (130 م) سماها «ایلیا کابیتولینا». و تحوم حول هذا الاسم أساطیر کثیرة یذکرها یاقوت: فهو یقول استنادا الی روایة کعب انها سمّیت أیلیا لأن هذا کان اسم امرأة کانت قد شیدت المدینة المقدسة من قبل. و یعنی هذا الاسم أیضا، علی ما یقال، بیت اللّه. و هناک من یقول انها سمیت کذلک باسم بانیها ایلیا بن آرام بن سام بن نوح، و کان أخا لدمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 11
و حمص و أردن. و کانت تسمی فی الشعر العربی احیانا «البلاط» و هی کلمة استعارها العرب فی الأصل من الکلمة اللاتینیة بالاتیوم‌Palatium .
ثم یذکر لسترانج: ان القدس لم تکن من الناحیة السیاسیة عاصمة «جند» فلسطین الاسلامیة مطلقا، و انما کانت الرملة هی العاصمة. لکن المدینة المقدسة، و هی تحتوی علی المسجد الأقصی و قبة الصخرة و سائر الأماکن المقدسة کانت تعتبر فی المرتبة الثانیة فی القدسیة بعد مدینتی الحجاز المقدستین، مکة و المدینة، فی نظر المسلمین. و أنها سوف تکون المکان الذی یجتمع فیه البشر قاطبة یوم الحشر. و قد کتب عنها الاصطخری و ابن حوقل یقولان (القرن العاشر) إنها مدینة توکّر عالیا فوق التلال، و یمکن للمسافر ان یصل الیها من جمیع الجهات، و لیس فیها ماء جار سوی الماء الذی یستخرج من العیون و یستعمل لسقی الحقول، و مع هذا فهی من أخصب بقاع فلسطین.
و قد کتب هذه الکتابة فی أیام ازدهار الرملة و عزتها، حین کانت عاصمة الصقع الجنوبی السوری بینما کانت دمشق عاصمة الصقع الشمالی.
و یشیر لسترانج ایضا الی ان المقدسی یذکر کذلک، و هو من أبناء بیت المقدس، ان المنطقة المقدسة تقع فی ضمن نصف قطر طوله أربعون میلا من القدس و تدخل فیه قری کثیرة، ثم تمتد علی طول اثنی عشر میلا من ساحل البحر المیت الی صفار و مؤاب، و الی خمسة أمیال بعد ذلک فی البادیة. اما من الشمال فتمتد الی حدود نابلس. و هذه بلاد تنبت فی مرتفعاتها الأشجار، و تمتد فی سهولها الحقول التی لا تسقیها الأنهار. و یصح فیها قول الرجلین اللذین جاءا الی موسی بن عمران و أخبراه بأنهما رأیا بلادا یسیل فیها اللبن و العسل ..
و یقول المقدسی بعد ذلک انه شاهد بنفسه یوما ما فی القدس ان الجبن کان یباع بسدس الدرهم للرطل الواحد، و السکر بدرهم للرطل الواحد. و بهذا المبلغ کان بوسع المرء ان یحصل یومذاک علی رطل و نصف من زیت الزیتون و أربعة أرطال من الزبیب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 12
و بعد ان یحول لسترانج هذه الأسعار الی العملة و المقاییس الانکلیزیة لیبرهن علی الرخاء الذی یفصله المقدسی یقول ان الحصب الطبیعی العظیم فی منطقة القدس یشیر الیه الکتاب العرب علی الدوام. و یعزی ذلک الی لطافة المناخ و ملائمة الأحوال الجویة، ثم یستشهد بقول المقدسی عن رطوبة جوها الذی یذکر انه عندما تهب الریح الجنوبیة فی فلسطین خلال الصیف یتراکم الندی فوق شبابیک المسجد الأقصی و یسیل منها. و تأییدا لهذا یورد لسترانج فی حاشیة له (الص 87) ما یقوله غایکی فی کتابه (الأرض المقدسة و الأنجیل) عنها. إذ یقول غایکی ان السماء الصاحیة فی فلسطین تسبب انتشار حرارة النهار فی الفضاء بسرعة، فیؤدی ذلک الی ان تکون اللیالی باردة و النهارات بعکسها. و بسبب برودة الهواء فی هذه اللیالی تسقی النباتات سقیا طبیعیا. فالرطوبة التی یحملها الهواء تمتصها الأرض التی یلامسها ذلک الهواء.
و یحیلها الهواء البارد الی قطرات من الماء تتناثر بشکل مطر ضبابی مستحب فوق النبتات العطشی.
و یقول بعد هذا ان موقع القدس و هی تقبع فوق جناح ممتد من الجبل.
و تحیط بها ودیان عمیقة من ثلاث جهات، کان علی ما یظهر قد لفت أرنظا الحجاج القادمین الیها من الشرق و الغرب، لا سیما و ان العرب کانوا متعودین علی إنشاء مدنهم الکبیرة فی الودیان، او السهول للاستفادة من میاه الأنهر و الحداول. و هنا یورد لسترانج وصف الرحالة المسلم ناصر خسرو للقدس حینما وصلها فی 5 مارت 1047 م بالطریق الشمالیة. فهو یقول: و بعد أن تابعنا السیر فی طریقنا الصاعد علی بعد قلیل من قریة انفتح أمامنا سهل عظیم کان قسم منه حجریا و قسم ذا تربة جیدة. و هنا امتدت أمامنا بیت المقدس کما لو کانت موکرة فوق قمة الجبل. و یسمی أهالی سوریة و ما جاورها من موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 13
البلاد المدینة المقدسة هذه باسم «القدس»، و هم اذا لم یکن فی استطاعتهم الحج الی مکة یذهبون فی الموسم المعین الی القدس فیؤدون فیها الشعائر و ینحرون الأضاحی یوم العید کما یفعل الحجاج فی مکة. و هناک سنین یبلغ عدد القادمین الیها عشرین ألفا خلال الأیام الأولی من ذی الحجة. و یأتی النصاری و الیهود کذلک من جمیع بلاد الیونان و غیرها بأعداد کبیرة لزیارة کنیسة القیامة و الکنیس الیهودی الکبیر فیها.
و یقول ناصر خسرو کذلک- فیما ینقله لسترانج عنه- ان الأراضی و القری المحیطة بالمدینة المقدسة تقع فی سفوح التلال الکبیرة، و تحرث الأرض فیزرع فیها القمح و الزیتون و التین، و هناک أنواع عدیدة من الأشجار أیضا.
و مع عدم وجود میاه للارواء فان الحاصلات تکون وافرة جدا فیها و الأسعار معتدلة. فان کثیرا من الناس یستخرجون ما یقرب من خمسین ألف من (800، 16 غالون) من زیت الزیتون فی السنة. و هذا یحفظ فی أحواض و صهاریج و یصدر منه مقدار غیر یسیر الی الخارج بعد ذلک. و المقول أن الجدب و المحل لم تعرفهما سوریة- و من ضمنها فلسطین- فی سنة من السنین قط.
و تقع القدس فوق الجبل .. و تحاط بأسوار من الحجر لها أبواب حدید.
و لیس هناک من حولها أشجار لأنها مبنیة علی الصخر. و القدس مدینة عظیمة جدا، و کان عدد سکانها حینما زرتها حوالی عشرین ألف نسمة، و فیها أسواق عالیة مبنیة بناء حسنا. و جمیع شوارعها مبلطة بقطع من الحجر، و أینما وجد تلّ أو مرتفع فیها یقطع و یسوی، و حالما یقع المطر یغسل البلد کله. و هناک فی المدینة عدد کبیر من (الفنانین) و أصحاب الصنعة و لکل حزلة من الحرف سوق خاصة بها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 14

القدس فی دائرة المعارف الاسلامیة

بعد ان یذکر الاستاذ بوهل، کاتب الخلاصة عن القدس فی هذه المعلمة، ما اقتبسناه قبل هذا عن اسم القدس و یقول ان هذه المدینة المقدسة و لو کانت تقوم فی خارج نطاق المصالح التی کان یعنی بها النبی محمد علیه السلام فقد أصبحت ذات أهمیة خاصة له حینما أخذ یتجه نحوها فی صلواته، علی غرار ما کان یفعله الیهود (کذا). أضف الی ذلک أنها کانت، بالنسبة لما یذکره القرآن عن المسجد الأقصی. هدف إسرائه المعروف. و کان المقصود بهذا فی ذلک الوقت الذی لم یکن قد بنی المسجد الأقصی فیه بعد موقع هیکل سلیمان القدیم. علی ان صحة هذا القول غیر أکیدة، فی رأی الأستاذ بوهل، لأن عددا من الکتاب یؤید رأی الأستاذ هورویتز بان المقصود فی القرآن (أو ما کان یقصده النبی علیه السلام علی حد تعبیر بوهل) هو مکان ما فی السماء کما یفهم من سورة الاسراء. لکن الرأی التقلیدی الذی لا بد من أن یکون قد نشأ فی وقت مبکر یرجح کفة بیت المقدس و أهمیتها فی هذا الشأن. لأن هذا الرأی هو الذی بنی علیه اعتبار المزار الاسلامی المقدس فی القدس من الأماکن المقدسة الثلاثة التی یصلی فیها مسلمو العالم. ثم یضیف الکاتب الی ذلک قوله: و الحقیقة أنه یفضل علی الحرمین المقدسین الآخرین فی بعض الأحیان (أی مکة و المدینة)، و لا نظنه مصیبا فی ذلک.
و هناک روایتان مختلفتان عن استیلاء العرب علی بیت المقدس. إذ تنص الروایة الغالبة علی ان القائد العربی أبا عبیدة طلب الی الحلیفة عمر فی سنة 17 للهجرة (638 م) ان یشد الرحال الی قصره فی الجابیة، لأن سکان بیت المقدس اشترطوا فی تسلیمهم ان یعقد اتفاقیة التسلیم الخلیفة عمر بنفسه. اما الروایة الأخری التی یؤیدها المستشرق الهولاندی دی غریبه فی کتابه عن فتح سوریة فترجح ان الخلیفة جاء الی الجابیة من تلقاء نفسه لتنظیم شؤون المناطق المستولی علیها، و من هناک بعث بخالد بن ثابت الی القدس لیحاصرها.
و الروایة الأخری التی یؤیدها المسشرق الهولاندی ذی غرییه فی کتابه عن موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 15
فتح سوریة فترجح ان الخلیفة جاء الی الجابیة من تلقاء نفسه لتنظیم شؤون المناطق المستولی علیها. و من هناک بعث بخالد بن ثابت الی القدس لیحاصرها ثم صادق عمر علی الشروط التی وضعها خالد للاستسلام من بعد ذلک. و کانت هذه الشروط التی وصلت الینا بمختلف الصور و الاشکال معتدلة جد الاعتدال فقد منح سکانها المسیحیون الأمان علی أرواحهم و ممتلکاتهم و کنائسهم و صلبانهم بینما طلب الیهم ان لا تستعمل کنائسهم للسکن. و ان لا تهدم أو یقلل من حجمها و اتساعها. و ان یحتفظوا بحریتهم الدینیة. و کان علیهم فی مقابل ذلک ان یدفعوا الجزیة. و یساعدوا المسلمین فی رد الجیوش البیزنطیة و سائر الغزاة.
اما تاریخ فتح بیت المقدس فهناک اختلاف بین المؤرخین فیه، و منهم الطبری مثلا الذی یحدده بربیع الثانی من سنة 16 للهجرة.
و هناک تفصیلات أخری یوردها مختلف المؤرخین النصاری و المسلمین عن سلوک العرب فی أثناء الاستیلاء علی بیت المقدس. إذ یذکر ثیوفاتس الذی کتب کتابه فی نهایة القرن الثامن للمیلاد ان الخلیفة حینما عقد الاتفاقیة المطلوبة، التی کانت فی صالح المسلمین الی آخر حد ممکن، دخل المدینة المقدسة و هو یلبس اسمالا متسخة- دلالة علی ریائه الشیطانی- علی حد قوله و طلب ان یؤخذ الی موقع الهیکل الذی جعل منه بعد ذلک محلا للعبادة الوثنیة (کذا).
و لا شک أن تعصب هذا المؤرخ ضد المسلمین و تأثره من طردهم لقومه البیزنطیین هو الذی جعله یکتب بهذه اللهجة بعد أن اعترف بالمعاملة الحسنة التی عومل بها مسیحیو بیت المقدس. و قد کتب عن ذلک فی القرن العاشر المیلادی بلهجة أحسن من هذه المؤرخ المسیحی المصری یوتیکس فقال بتفصیل أوفی نوعا ما أن الخلیفة عمر رفض ان یصلی فی رواق کنیسة القیامة بل صلّی عوضا عن ذلک علی سلّم مدخلها لیحول دون مطالبة المسلمین بالکنیسة بعد ذلک و قلبها إلی جامع لهم و انه اعطی البطریرک صفرونیوس وثیقة تؤید ذلک و بطلب منه دلّه صفرونیوس بعد هذا علی الصخرة التی کانت مغطاة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 16
بانقاض من الزبل و الاقذار، و حذا حذوه المسلمون، و سرعان ما بانت الصخرة لهم، و أمر فی الوقت نفسه بأن یشیّد المسجد بحیث تکون الصخرة فی ظهر المسلمین و لیس قدامهم. و من الواضح أن هذه القصة أرید بها تأکید حقوق النصاری فی کنائسهم بأمر من الخلیفة الأعظم. لکن المؤرخین المسلمین تخلو کتاباتهم من مثل هذا الاتجاه بطبیعة الحال- حیث أنهم یظهرون المسیحیین فی غیر هذا الوضع. فهم یذکرون ان القس و لیس البطریرک حاول بادی‌ء ذی بدء ان یغش الخلیفة عمر حینما طلب ان یؤخذ الی هیکل داود. بأخذه الی کنیسة القیامة و کنیسة صهیون. لکن الخلیفة فطن الی ذلک. لأن النبی علیه السلام کان قد وصف له المکان کما شاهده فی لیلة المعراج. و أخیرا أخذ الی موقع الهیکل فعرف أنه المکان الحقیقی. و یذکر الطبری قصة أخری فی هذا الشأن.
و بعد هذا یقول الدکتور بوهل کاتب البحث اننا اذا حللنا هذه الروایات بأمعان نجد أنها کلها تجمع علی ان عمر طلب تشیید مکان للعبادة فی بقعة الهیکل المهجورة. و أننا متأکدون تاریخیا من هذا لأن المطران ارکولفوس یذکر فی کتابه الذی کتبه حوالی سنة 670 م ان المسجد کان بسیطا جدا فی بنائه. لکنه کان یستوعب ثلاثة آلاف من المصلین. و الحقیقة ان ما حدث کان حلا عملیا جدا للمشکلة. فقد وضع الخلیفة الید علی موقع کان یعتبر مقدسا منذ مدة طویلة من الزمن، من دون أن یصطدم بالامتیازات التی منحت للنصاری لأنهم لم یشیدوا أیة کنیسة علی موقع الهیکل. و من الواضح بالاضافة الی ذلک ان ما یرویه لنا یوتیکوس حول صلاة عمر علی سلم رواق کنیسة القیامة یعتبر قصة موضوعة لا سند تأریخیا لها، و قد أرید بوضعها رد تعدیات المسلمین علیها. لکن هذا التحیز فی القصة یظهر بوضوح من قصة أخری یرویها یوتیکوس، مفادها أن المسلمین فی أیامه (النصف الأول من القرن المیلاد العاشر) تجاوزوا تعلیمات عمر و استولوا علی نصف الساحة الأمامیة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 17
للنصاری لأنهم لم یشیدوا أیة کنیسة علی موقع الهیکل. و من الواضح بالاضافة الی ذلک ان ما یرویه لنا یوتیکوس حول صلاة عمر علی سلم رواق کنیسة القیامة یعتبر قصة موضوعة لا سند تأریخیا لها، و قد أرید بوضعها رد تعدیات المسلمین علیها. لکن هذا التحیز فی القصة یظهر بوضوح من قصة أخری یرویها یوتیکوس، مفادها أن المسلمین فی أیامه (النصف الأول من القرن المیلاد العاشر) تجاوزوا تعلیمات عمر و استولوا علی نصف الساحة الأمامیة بقرب السلم الذی صلی علیه الخلیفة و بنوا فیه مسجدا سموه «مسجد عمر» لأن عمر کان قد صلی فی موقعه. و یعتقد شمالز ان. شیئا من بقایا أعمدة المسجد المذکور یمکن أن تلاحظ الآن.
و فی عهد الأمویین، أدت الأحوال السیاسیة الی ارتفاع شأن بیت المقدس و أهمیتها. فانهم لم یکونوا کثیری الاهتمام بتعالیم النبی محمد و میوله، و لذلک لم یکن من الصعب علیهم ان یترکوا مدن الجزیرة العربیة المقدسة حینما یکون من الصعب علیهم الوصول الیها لسبب من الأسباب. و کانت القدس علی الأخص، بالنسبة لقدسیتها التی اعترف بها النبی و بعض الآیات القرآنیة، یمکن ان تحل فی محل تلک الأماکن المقدسة بطریقة ما، لا سیما و ان الوصول الیها من دمشق کان أسهل من الوصول الی مکة و المدینة.
و مما یدل علی التقدیر الذی حظیت به القدس ما فعله معاویة حینما دبر أمر بیعته للخلافة فیها. فیذکر مرجع سریانی نشره المستشرق نولدکه ان کثیرا من العرب اجتمعوا فی تموز 71 (صفر- ربیع 40) فی بیت المقدس لتنصیبه ملکا، و أنه نزل الی الضریح المقدس فصلی فیه، ثم ذهب الی قبر مریم و صلی حوله کذلک. و تذکر المراجع العربیة انه بویع فی بیت المقدس سنة 40.
و لا بد من أن یکون هذا قد حصل علی أثر مقتل الامام علی فی السابع عشر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 18
رمضان. و خطا عبد الملک بن مروان (65- 86 ه (، 685- 705) خطوة أخری فی هذا الاتجاه. فحینما استولی عبد اللّه بن الزبیر علی مکة خاف عبد الملک من أن یجبر السوریون الذین یقصدون مکة لحج بیت اللّه الحرام فیها علی الالتحاق به. او یتم اقناعهم بذلک. و لهذا منعهم من الذهاب الی الحج، و حینما احتجوا علیه و ذکروه بأوامر الرسول فی هذا الشأن أمرهم بالحج الی بیت المقدس و الصخرة المقدسة فیها، و اشار لهم الی حدیث أورده الزهری اعتبر النبی بیت المقدس فیه فی سویة مکة و المدینة، بکونها محجا لا یقل عن مکة و المدینة فی أهمیته. و للتعبیر عن هذا التقدیر لبیت المقدس فی الزینة و البهاء أمر الخلیفة الأموی بأن تبنی قبة خاصة فوق الصخرة التی وضع النبی قدمه الشریفة علیها حینما عرج الی السماء، فبنیت قبة الصخرة. و تنسجم فکرة تعمد عبد الملک، فی جعل قبة الصخرة تفوق قبة کنیسة القیامة فی جمالها و فخامتها، مع هذا الاتجاه. و هناک مؤرخون یجعلون الولید بن عبد الملک بانی قبة الصخرة و لیس والده. لکن هذه الروایة تناقض الکتابة الموجودة التی حذف منها اسم عبد الملک و وضع فی محله اسم الخلیفة العباسی المأمون. حیث أن التحریف بقی غیر متقن بحیث ما زالت الألوان و الأسماء تدل علی الحقیقة و یقول المؤرخون المتأخرون کذلک (ابن تغری بردی و العلیمی و الخ) ان عبد الملک بنی أیضا المسجد الأقصی الذی استمد اسمه من الآیة القرآنیة المعروفة
و فی خلال القرون التی أعقبت ذلک یعتبر تاریخ بیت المقدس شبیها بتاریخ سائر المدن السوریة بعد أن تضاءلت أهمیتها من الناحیة الدینیة الاسلامیة، و أصبحت فی المؤخرة. فبعد زوال الحکم الأموی أصبحت تابعة للعباسیین، ثم الی الطولونیین. و الی الفاطمیین بعد سنة 974 م. و فی سنة 1009 هدمت کنیسة القیامة بأمر من الحاکم بأمر اللّه، لکن الامبراطور البیزنطی أعاد بناءها بموجب المعاهدة التی عقدت بعد سنة 1038. ثم خسرها الفاطمیون باستیلاء السلجوقیین علیها فی 1070. و قد ذبح سکانها علی أثر ثورة نشبت فیها سنة 1076، و بعد ان استردها الخلیفة الفاطمی المستعلی فی 1096 استولی علیها الصلیبیون فی 25 تموز 1099 و وضعوا السیف فی سکانها. و قد عمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 19
الصلیبیون هؤلاء الی قلب الجوامع الی کنائس.
و بعد ان استردها صلاح الدین فی 1187 أضاعت القدس صبغتها المسیحیة و أزیلت معالم الاحتلال النصرانی لها. و قد عنی صلاح الدین عنایة خاصة فی إعادة المسجد الأقصی الی رونقه و بهائه الاسلامیین. علی ان کثیرا من النصاری سمح لهم بالبقاء فیها. و فی الفترة المنحصرة بین 1929 و 1244 امتلک المسیحیون القدس من جدید- عدا اماکن المسلمین المقدسة فی الحرم- علی اثر الاتفاقیة التی عقدها الامبراطور فردریک الثانی مع الملک الکامل الأیوبی.
و فی 1244 وقعت بیت المقدس ثانیة فی أیدی الأیوبیین. و سرعان ما أصبحت هی و جمیع سوریة و فلسطین جزءا من ممتلکات الممالیک.
داخل قبة الصخرة و قد تم انشاؤها سنة 691 م فوق جبل (المریا) الذی یعتقد انه نفس الموضع الذی قام ابراهیم بذبح ابنه اسحاق قربانا علی روایة التوراة و بعض المؤرخین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 20
و بعد 1516 صارت القدس تابعة الی الامبراطوریة العثمانیة. و لم یعد تاریخها حافلا بالحوادث المهمة. علی ان فترة التاریخ العثمانی جمیعها یتخللها من الحوادث المهمة فقط احتلال المصریین لها فی 1831- 1840 فی أیام محمد علی. و فی القرن التاسع عشر أصبح النفوذ المسیحی یتزاید فیها بالتدریج.
و بعد ان نشبت حرب القرم التی تحالفت فیها الدولة العثمانیة مع الدول الأوربیة المعظمة ضد روسیة رفع الحظر الذی کان مفروضا علی غیر المسلمین فی زیارة منطقة الهیکل. و منذ سنة 1881 کان هناک شی‌ء غیر یسیر من هجرة الیهود الیها.
و بنتیجة ما وقع فی الحرب العامة الأولی اصبحت القدس عاصمة فلسطین الخاضعة الی الانتداب البریطانی. و فی النزاع الذی أعقب ذلک بین العرب و الهجرة الیهودیة خلال مدة الانتداب علی فلسطین و بعدها أدی الشعور القومی المتصاعد الی تمتین الأواصر التقلیدیة التی تربط المسلمین بالقدس و أماکنها المقدسة. و حتی بعد ان تکونت اسرائیل فی 1948 بقی وضع القدس النهائی غیر مقرر.
و نقول تعلیقا علی ما جاء فی هذه الخلاصة من ان معاویة بویع فی القدس ملکا علی بلاد الشام بعد مقتل الامام علی علیه السلام بأن المستشرق الألمانی یولیوس فلها وزن یذکر فی کتابه (تاریخ الدولة العربیة) ان مهادنة جرت فی سنة 40 ه بین علی و معاویة .. و یروی انهما اتفقا فأقام معاویة فی الشام بجنوده یجبیها و ما حولها. و علی بالعراق یجبیها و یقسمها بین جنوده.
و لا یمکن ان تکون هذه المهادنة الا قصیرة الأمد، لأن معاویة اتخذ لنفسه فی أول سنة 40 ه لقب الخلافة فی بیت المقدس عام 40 ه. و هو یذکر فی هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 21
الحادث روایتین مستقلتین، فیقول: و فی عام 671 اجتمع کثیر من العرب فی بیت المقدس و نصبوا معاویة ملکا، فصعد معاویة الی جبل الجلجلةGolgata و صلی هناک ثم صعد الی جیتسمانی، ثم هبط الی قبر السیدة مریم و صلی ..
و فی شهر تموز 671 اجتمع الأمراء و کثیر من العرب و بایعوا معاویة، و صدر الأمر بان ینادی به ملکا فی جمیع أنحاء بلاده، و لکنه لم یحمل تاجا کما یحمله سائر ملوک العالم. علی أنه أقام عرشه فی دمشق و لم یرد ان یذهب الی مقر النبی (المدینة). و یقول المسروقی أیضا ان أهل الشام بایعوا معاویة بالخلافة فی ایلیاء سنة 40 ه، و لکن من الخطأ القول بأن ذلک لم یحدث الا بعد وفاة الأمام علی .. ثم یعید فلها وزن ذکر الخبر نفسه فی مناسبة أخری یتطرق فیها الی ان «معاویة لم یکن فی قلبه تعلق عمیق بالاسلام» و أنه کان یتخذ الثأر لمقتل عثمان هو الأساس الذی بنی علیه حقه فی وراثة الخلافة. و لذلک اتحد مع عمرو بن العاص الذی ألّب علی عثمان أخبث تألیب (الص 128 و 129 من الترجمة العربیة).

القدس فی دائرة المعارف البریطانیة

اشارة

ان خلاصة دائرة المعارف هذه، التی اشرنا الیها قبل هذا، فیها تفصیل أوفی عن القدس. و تبدأ بقولها ان القدس هی المدینة المقدسة رقم واحد للیهودیة و النصرانیة، و حرم الاسلام الرئیس بعد مکة و المدینة. و قد کانت مرکزا للورع الدینی فی العالم و قبلة له خلال حقبة غیر متقطعة تمتد الی ما قبل ثلاثة آلاف سنة. ثم قسمت فی 1948 ما بین الأردن و «اسرائیل» فاصبح القسم الاسرائیلی منها عاصمة لاسرائیل.
و تقع القدس فی جبال الیهودیة علی ارتفاع یبلغ معدله 2500 قدم فوق سطح البحر الأبیض المتوسط من الغرب، و 3800 قدم فوق سطح البحر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 22
المیت من الشرق. و تعزی أهمیة موقعها أولا الی مناعتها الطبیعیة، لأنها محمیة من الهجمات بودیان عمیقة، مثل وادی ستی مریم (کدرون) من الشرق و وادی الربانی (هنوم) من الغرب، اللذین یلتقیان فی طرفها الجنوبی تارکین الجهة الشمالیة فقط معرضة للأخطار. و ثانیا الی وجود منبع ماء دائم فی جناحها الشرقی، و هذه میزة نادرة فی فلسطین. و ثالثا لسیطرتها علی الممر الذاهب من الشرق الی الغرب فی شمال البحر المیت مباشرة. و قد کان تاریخها یتمیز بظاهرتین: فانها کانت ابدا و دوما موطنا للتوحید و مأوی له، لکن مصائرها المادیة کانت تعتمد من دون تغییر علی خصومات الدول و الحکومات الخارجیة.
قدس العهد القدیم- ان أول بنیة و ثائقیة عن وجود القدس یعود تاریخها الی سنة 1370 قبل المیلاد، فقد اکتشفت ألواح فی تل العمارنة بمصر یطلب فیها حاکم القدس یومذاک المساعدة من الفرعون أخناتون لأن البلاد أخذت تتعرض للاکتساح. و تسمی المدینة «أوروسالم»، و ربما کان یعنی ذلک «مدینة السلام»، أو مقر إله من آلهة السامیین یدعی «سالم». و قد أظهرت فی سنة 1961 الحفریات التی أجرتها «مدرسة الآثار القدیمة البریطانیة» فی القدس ان بلدة «مسورة کانت توجد فوق قسم من موقعها الحالی خلال العصر البرونزی الثانی، أی فی سنة 1800 قبل المیلاد علی وجه الاحتمال. و لذلک یتضح ان القدس کانت قبل أن یأتی الیها العبریون مدینة کنعانیة ذات أهمیة. و کانت تقع المدینة الأصلیة فوق المنبع مباشرة و الی الغرب منه، علی لسان ممتد من الأرض یسمی أوفیل فی جنوب الهیکل، یحیط بها وادیا «کدرون» و «تیروبیون». و قد برهنت الحفریات علی ان البلدة کانت أوسع بکثیر مما کان یعرف فی السابق، بحیث أنها کانت تمتد بعیدا الی أسفل المنحدر الشرقی، و ان الممر القدیم الذی کان یؤدی الی المنبع کان فی داخل أسوارها.
و قد احتل داود القدس فی السنة السابعة من حکمه، أی فی سنة 1000 قبل المیلاد. إذ دخلها رجاله بقیادة أیوب بعد ان تسلقوا عمود البئر. و أدّی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 23
هکذا کان یهود القدس فی القرون السالفة یتسکعون فی طرق المدینة و ازقتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 24
شراء داود لساحة الدیاسة التی کانت تشغل قمة التل الصخری الکائن فی شمال عاصمته الجدیدة الی تقریر مستقبل القدس فی جمیع الأزمان، لأن خلفه سلیمان شید أول هیکل فیها للیهود. و لم تعرف الدولة الجدیدة السلم و الاستقرار ففی حوالی 926 قبل المیلاد انسحبت القبائل (الاسباط) الشمالیة و تخلت عنه، و فی 922 غزا المدینة من مصر شیشق و نهبها، ثم أعقبه الفلسطینیون و العرب فی 850، و من بعدهم جوش الاسرائیلی فی 786. و لم یکن حصار سنحاریب لها فی سنة 701 حصارا ناجحا. لأن انشاء نفق سیلوم حال دون وصول قواته الی المنبع. و مع هذا فقد اضطر حزقیال الی ان یدفع جزیة باهظة. ثم دخلت الیها عبادة الأوثان بتأثیر الآشوریین فتقدم شأنها لکن جرمیا و حزقیال شجباها و قاوماها. و فی 597 نهبت القدس و سفّر ملکها الی بابل.
ثم دمرت المدینة و الهیکل تدمیرا کاملا فی 588 و بدأ عهد السبی. و بعد ان حل کورش فی 537 فی محل الدولة البابلیة حصلت عودة ما بعد السبی. فأعید بناء الأسوار حول المدینة بالنشاط الذی ابداه نحمیا، کما أعید تشیید الهیکل و کرّس لخدمة اللّه باحتفال خاص فی عهد زیر و بابل. لکنه لم یکن مشمولا بالعطف الروحی بالنسبة لما کان علیه الهیکل الأول، و مع هذا فقد ظل قائما مدة أطول من المدة التی بقی فیه الهیکل المقام قبله و بعده.
فی العهد الیونانی الرومانی- و لا یعرف الا القلیل عن تطور المدینة و أحوالها خلال القرنین اللذین أعقبا ذلک العهد، لکن مجی‌ء الاسکندر الکبیر الی المشرق و انتصاره فی موقعة أسوس سنة 333 تأثرت به القدس تأثرا بالغا. فقد أصبحت منذ ذلک الحین مدینة شرقیة خاضعة لتأثیرات شرقیة. و قدر لها فی هذا العهد ان ترتبط خلال ألف سنة تقریبا، أی الی أن جاءها العرب و الاسلام بعجلة التأثیرات السیاسیة الغربیة. و قد تکرر هذا الارتباط فی القرنین التاسع عشر و العشرین. فقد دخلها بطلیموس الأول من مصر، و فی سنة 198 استحوذت علیها الأسرة السلوقیة الشمالیة المالکة. فأزعج الأورثودوکس نمو التأثیر الاغریقی- ای التأثیر الوثنی الملحد- إزعاجا متزایدا و أعربت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 25
خصومتهم عن نفسها بثورة علنیة قامت فی سنة 168 حینما عمد أنطونیوس أبیفانوس الرابع الی انتهاک حرمة الهیکل بتقصد. و کان یقود الثورة رجل متعبد من أهل الریف یدعی ماتاثیاس الحسمونی، و مضی فیها ابنه یهودا مکابی . و قد تمکن الحسماونیون من تأسیس دولة یحکمها ملوک أساقفة، کانت بحجم مملکة سلیمان تقریبا و صارت تضم منطقة الجلیل. و بذلک ضمنوا أن ینشأ فیها المولودون لأبوین من الجلیل، بما فیهم یسوع الناصری، فی مجتمع یهودی.
و کان سعد روما فی صعود یومذاک، و کان الامبراطور بومبی قد استولی فی سنة 63 قبل المیلاد علی القدس و روع الیهود بالدخول الی قدس الأقداس- و هو فأل غیر حسن بالنسبة لاتصال روما بالیهودیة. و قد تأجل الاصطدام الذی لا مناص منه بین روما و القومیة الیهودیة مدة من الزمن بالدهاء الذی کانت تبدیه أسرة شهیرة کان لها نفوذ واسع فی البلاد، و کان من أنشط أفرادها هیرود الکبیر. و هیرود هذا من أصل عربی أیدومی، لکنه کان یدین بالدیانة الیهودیة، فقد کان أبوه انتی باتر عربیا أیدومیا تزوج من امرأة عربیة نبیلة من أهالی بطرا. فوجد هو و أبوه بثاقب رأیهما ان حمل لواء المعارضة لروما یعتبر عدیم الفائدة، و ان التعاون مع السلطة الجدیدة هذه سیعود بالفائدة. و فی سنة 40 قبل المیلاد، أی قبل موت والده بسنین ثلاث، عین مجلس السنیت الرومانی هیرودا ملکا علی الیهودیة. بعد ان کان حاکما فی منطقة الجلیل. و بمساعدة من الجیش الرومانی دحر آخر الحسمونیین فحکم الیهودیة، و هو صدیق انطونی أولا و أوغسطوس من بعده، لمدة ست و ثلاثین سنة أعاد خلالها بناء معظم أقسام بیت المقدس. فأشاد أولا حصن أنطونیا فی الزاویة الشمالیة الشرقیة من منطقة الهیکل، التی هی الآن الحرم الشریف، و وسعها الی سعتها الحالیة البالغة 35 أیکرا. و أخیرا أشاد قصرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 26
کبیرا ما تزال بقایاه موجودة فی القلعة الحالیة. و قد ربط هذا بحصن انطونیا بواسطة السور الثانی. و أعقب هیرود ابنه غیر المرضی عنه هیرود أرکیلوس.
و فی سنة 6 بعد المیلاد أصبحت الیهودیة أقلیما من الدرجة الثالثة یحکمه وکیل من الوکلاء. و فی عهد خامس الوکلاء هؤلاء، أی بونتیوس بیلیت (26- 36)، صلب یسوع الناصری.
و فی خلال سنة 41 الی 44 میلادیة أعید تشیید المملکة الهیرودیة لصالح هیرود أغریبا الأول حفید هیرود العظیم. فشید أغریبا فی القدس سورها الشمالی الجدید، المسمی بالسور الثالث، لیضم فی داخله الربض الجدید الذی جاءت به الی الوجود مقتضیات الأمن الرومانی. و قد کانت آثار هذا السور موضوع الکثیر من الاختلاف، لکن المشکلة یمکن اعتبارها منتهیة الآن لأن الحفریات الأخیرة التی اضطلع بها الآباء الدومینیکان تدل علی انه کان یشغل مکان السور الشمالی الحالی. و کان السور الثالث یضم فی داخله المکان الذی صلب فیه السید المسیح و بقربه قبر یعقوب اریماثا الذی تقول الروایات انه کان قد دفن علی مقربة من إحدی أبواب السور الثانی. و تدل الحفریات التی أجریت فی 1961 علی أن أغریبا کان قد وسع المنطقة التی یحیط بها السور من الناحیة الجنوبیة أیضا.
و فی سنة 66 للمیلاد ثار الیهود علی روما فسحقت الثورة فی سنة سبعین، و تضمن السحق حصار بیت المقدس و تدمیرها مع حرق الهیکل. و أصبحت یبابا بلقعا لیس فیها شی‌ء سوی معسکر الحامیة. و ما حلت سنة 130 حتی کان قسم منها قد سکنه بعض السکان من جدید، لکن الامبراطور هدریان، الذی کان مولعا بالتعمیر مثل هیرود، قرر ان یشید علی الموقع القدیم مدینة جدیدة قدر لها ان تکون بعد ذلک مستعمرة رومانیة. فثار الیهود من جدید بقیادة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 27
ارکوکبا و سحقوا ثانیة أیضا (132- 135) و لم یعد لبیت المقدس وجود مطلقا حتی الاسم، فنشأت فی مکانها إیلیا کابیتولینا . و قد غیّر العمران الجدید الذی تشیر الیه خارطة مأدبا الفسیفسائیة المشهورة (فی شرق الأردن) اتجاه الشارع الرئیسی فی القدس، الذی کان ممتدا ما بین الهیکل و القلعة- ای ما بین الشرق و الغرب- الی الاتجاه الذی بقی حتی الآن ای من الشمال الی الجنوب. إذ ما یزال الشارع الرئیسی فی «مستعمرة هدریان» هو شارع القدس الرئیس الآن، الذی یمتد من باب دمشق أو باب العمود کما کان یطلق علیها من قبل تخلیدا للعمود التذکاری الذی أقامه هدریان بقرب هذا الباب من الداخل، علی ما یظهر من خارطة مأدبا. و قد ترکت منطقة الهیکل فی خارج البلدة الجدیدة، و أقیم تمثالان لهدریان و جوث فوق التل. ثم انتهکت حرمة موقع الضریح المقدس باقامة معبد للالهة فینوس حامیة رومانیة. و أخرج الیهود و النصاری و الیهود فی الأصل من إیلیاء، لکن کنیسة مسیحیة عائدة للنصاری غیر الیهود فی الأصل ظلت قائمة فیها. و کان أساقفتها یحملون أسماء أغریقیة، کما کانت طقوسها الدینیة تتم باللغة الیونانیة. و فی سنة 212 أنشأ الأسقف الیکساندر مکتبة خاصة، و کان قد قدم فی الأصل مسیحیة عائدة للنصاری غیر الیهود فی لأصل ظلت قائمة فیها. و کان أساقفتها یحملون أسماء أغریقیة، کما کانت طقوسها الدینة تتم باللغة الیونانیة. و فی سنة 212 أنشأ الأسقف الیکساندر مکتبة خاصة، و کان قد قدم فی الأصل زائرا من قابادوقیة، و لذلک یمکن ان یعتبر هذا التاریخ بدایة قدوم الحجاج الی بیت المقدس. و مما یعرف أن أورغن ، مفکر عصره، زار القدس عدة مرات لجمع المخطوطات. و فی 250 وقع الیکساندر ضحیة لاضطهاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 28
دیسیوس. و قد حلت بالکنیسة الفلسطینیة نکبات شدیدة أیضا فی أثناء الاضطهاد الذی وقع علی ید دایو کلیشیان
القدس المسیحیة- و ما حلت سنة 315 حتی کان الحجاج یتقاطرون علی القدس لیتعبدوا فوق جبل الزیتون، الذی کان المحل الوحید المسموح بالتعبد فیه یومذاک علی ما یظهر. و فی 325 حضر مکاریوس أسقف القدس مجلس نیقیا و حصل علی تأیید قسطنطین فی مشروعه الرامی الی إعادة تقدیس الموضع الذی صلب فیه المسیح و الضریح المقدس. ثم زارت الملکة هیلینا القدس فی السنة التالیة فشیدت الباسیلیکا فوق جبل الزیتون و فی بیت لحم. و فی سنة 333 شاهد الحاج المجهول من مدینة بورد و هذه الأبنیة فی أثناء التشیید. و قد عقد فی 335 مجلس کنسی فی القدس فأعلنت فیه قدسیة کنیسة القیامة أو الضریح المقدس. و یمکن تمییز هذه الکنیسة بوضوح فی خارطة مأدبا الفسیفسائیة حیث کان یدخلها الناس من باب ثلاثی ما تزال أقسام منه قائمة حتی الیوم.
ثم بنی فوق الضریح المقدس بناء مدور. کما بنی ما بین الباب و المبنی المدور باسیلیکا کبیرة و خمسة أروقة بین الأعمدة. مع جناح مدور بارز فی ساحة متسعة. فبقی موضع الصلب منعزلا علی حدة باعتباره مزارا قائما بذاته.
و قد أعاد جلال التصمیم و وفرة الزینة فی هذه المجموعة من الأبنیة الی القدس الأهمیة الدینیة التی کانت تتمتع بها حینما کان «الهیکل» قائما .. و فی منتصف القرن الخامس للمیلاد أدخلت الامبراطورة یودوقیا تزیینات أخری فی المدینة المقدسة التی توفیت فیها سنة 460. و قد جعل المجلس الکالسیدونی فی القدس بطریرکیة مستقلة عن «قیصریة» التی کانت تتبع لها من قبل. و فی حوالی 522 أغنی الامبراطور جستنیان القدس بتشیید باسیلیکا عظیمة نذرها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 29
للعذراء، فوق التل الغربی فلم یبق لها أثر الیوم. ثم انتهت هذه الحقبة المزدهرة فی 614 باستیلاء الایرانیین علی القدس. الذین نهبوها و قتلوا سکانها و حرقوا کنائسها. و قد أخذ فی هذه الأثناء صلیب الصلبوت منها، لیستعیده هرقل سنة 629 أو 630. غیر أنه فی سنة 638 دخل الخلیفة عمر بن الخطاب الی القدس.
القدس الاسلامیة- ان سبب تقدیس الاسلام لبیت المقدس هو ان النبی علیه السلام أمر بالتوجه الیها عند الصلاة فی بادی‌ء الأمر. و لأنها کانت هدف إسرائه (سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ). و قد قبل عمر بأن یبنی مسجدا ذی سقف من خشب فی موقع الهیکل، و هو سلف المسجد الأقصی الحالی. لکن عبد الملک ابن مروان بنی قبة الصخرة (التی انتهی فیها البناء سنة 691) علی شاکلة بناء کنیسة القیامة المدور . و بقیت کنیسة القیامة، التی کانت قد أعید بناؤها بمقیاس أکثر تواضعا بعد ان دمرها الایرانیون، فی أیدی المسیحیین أنفسهم.
فقد أبدی المسلمون تساهلا کبیرا تجاه الیهود و النصاری الذین یحترمون الکثیر من تقالیدهم الدینیة. و فی سنة 750 أعقب العباسیون فی بغداد الأمویین، و استمروا علی سیاسة اسلافهم التحرریة فی هذا الشأن. فالمقول ان هارون الرشید بعث بمفاتیح القبر المقدس الی شارلمان فی سنة 800. و انتقلت القدس فی 969 الی أیدی الخلفاء الشیعة فی مصر (یقصد الفاطمیین)، و فی 1009 أمر الحاکم بأمر اللّه بتدمیر المزارات المسیحیة. و دحر الأتراک السلجوقیون المسیحیون یشارکون فی احتفالات الفصح سائرین علی طریق الجلجلة الحزین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 30
البیزنطیین دحرا فظیعا سنة 1077 فی منزیکرد، و عند ذاک اکتسحوا بلاد المشرق فحلوا محل المصریین فی امتلاک القدس. و قد أثار قطعهم لطرق الحجاج الی بیت المقدس استیاء المسیحیة الغربیة، فبدأت فی الغرب حرکة خاصة لتطهیر البلاد المقدسة، و أدت الی نشوب الحروب الصلیبیة.
و تأسست فی القدس علی عهد الصلیبیین مملکة لاتینیة استقامت من سنة 1099 الی 1187. و قد جعل فرسان الهیکل مقرهم فی منطقة الهیکل فتسموا باسمه، و أصبحت قبة الصخرة کنیسة لهم ثم صار شکلها نموذجا للکنائس المدورة التی بناها فرسان الهیکل بعد ذلک فی لندن و غیرها. و لأماکن التعمید، مثل الموجود منها فی بیزا. و قد بنیت کنائس أخری علی نفس النمط، و أحسن مثل لما بقی من هذا القبیل کنیسة القدیسة آن. و حینما دخل الصلیبیون الی القدس أنشأوا فیها عددا من المستشفیات و المنازل للحجاج. و کان أحدها من تشیید تجار أمالقی فی ایطالیة، فأشرف علی ادارته شخص یقال له جیرارد.
و فی 1113 منحه البابا باسقال الثانی «الثور» الذی یعتبر الوسیلة التی یتکون منها شعار جماعة رهبان مستشفی القدیس حنا فی القدس .
و قد وحد صلاح الدین فی 1187 سوریة و مصر تحت حکمه، و دحر اللاتین فی حطین بالقرب من بحیرة طبریة. و فیما عدا الفترتین 1229- 1239 و 1243- 44، و باستثناء الفترة المنحصرة بین 1917 و 1948 بقیت القدس فی أیدی المسلمین علی الدوام. و قد نهب التتار الخوارزمیون القدس فی 1244. ثم وقعت فی أیدی المصریین سنة 1247 مرة أخری بعد ان حکموها فی عهد الأیوبیین سلاطین دمشق، فقدر لها ان تبقی خاضعة لسلطة الممالیک مدة 270 سنة شید خلالها عدد من أحسن أمثلة العمارة الاسلامیة الباقیة فی القدس الیوم. و فی 1517 احتل السلطان سلیم الأول الترکی بیت المقدس فافتتح بذلک فترة التسلط العثمانی التی امتدت الی أربع مئة سنة. و أعاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 31
سلیمان القانونی خلفه بناء المتاریس و الاستحکامات بشکلها الحالی، ثم شید باب دمشق و هی آخر هدیة من العمارة الاسلامیة فی القدس الشریف.
ثم ظلت القدس ثلاث مئة سنة من دون ان یکون لها تاریخ یستحق الذکر غیر أن أعین الغرب اتجهت الیها من جدید فی القرن التاسع عشر. فکان یحکمها ما بین 1832 و 1840 محمد علی خدیوی مصر و ابنه ابراهیم باشا. و فی 1838 فتحت فیها قنصلیة بریطانیة، فکان من بین واجباتها المحافظة علی مصالح الیهود بوجه عام. ثم تأسست الأسقفیة الأنکلیکانیة فی 1841. و بعد ذلک بقلیل بعثت بطریرکیة اللاتین من جدید لتقف علی قدم المساواة مع کنیسة الأورثودوکس و الأرمن. و کذلک وجدت کنائس القبط و الأحباش. و قد کان لحرب القرم، التی وقفت فیها فرنسة و انکلترا الی جانب ترکیة فی حلف عسکری، تأثیر بالغ علی منزلة الأوروبیین فی القدس- ففی 1855 سمح لهم بالدخول الی الحرم لأول مرة، و فی 1856 أصدر الباب العالی «مرسوم التساهل» تجاه جمیع الأدیان الموجودة فی الامبراطوریة العثمانیة.
و بدی‌ء بالاضطلاع بالتنقیب عن الآثار. ففی 1841 کات ضابطان من المهندسین الملکیین قد قاما بأول مسح لمدینة القدس، و أعقب ذلک القیام بمسح آخر بمقیاس أوسع علی حساب أنجیلا بوردیت کوتس (البارونة بعد ذلک) فی سنة 1864. فأدی هذا النشاط إلی تأسیس «جمعیة ارتیاد فلسطین ».
و فی خلال القرن التاسع عشر کله اتسع نطاق الطائفتین الیهودیتین، الأشکنازی و السفاردی، برعایة انکلترة و ازدادت حیویتهما فی ثمانینات القرن بتأسیس أول المستوطنات الزراعیة الیهودیة فی البلاد و بنمو الحرکة الصهیونیة و تعاظمها فی الخارج بعد ذلک. فقد عقد المؤتمر الصهیونی الدولی الأول فی بازل، سویسرة، سنة 1897.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 32
القدس الحدیثة- لقد أصدرت بریطانیة العظمی فی تشرین الثانی 1917 وعد بلفور المعروف. و فی الشهر التالی دخل الجنرال اللنبی القدس مستولیا علیها فاقیمت فیها ادارة عسکریة، لیعقبها فی 1920 تأسیس إدارة مدنیة فیها. و فی 25 نیسان من تلک السنة عهد المجلس الأعلی المنعقد فی سان ریمو بایطالیة بالانتداب علی فلسطین الی بریطانیة العظمی. فتمتعت القدس خلال عهد الانتداب بفترة من التوسع و الازدهار المادی لم تعهدها منذ أیام الرومان.
فالعدالة و الصحة و التعلیم و الطرق و الماء و تسویة حقوق الأرض، مع جمیع مستلزمات المجتمع الحدیث، قد أدخلت الیها و ثبتت جذورها فیها. و ربما کانت فلسطین فی نهایة عهد الانتداب أحسن دولة تدار فی آسیة. لکن الأمور کانت تتحول فیها من سی‌ء الی أسوأ من الناحیة السیاسیة. فقد ساعد و عد بلفور الصهیونیة و ألهب نیران الشک و الریبة فی نفوس العرب. و لذلک کان الفریقان تزداد عدم ثقة أحدهما تجاه الآخر، و تجاه الدولة المنتدبة خلال الحقبة کلها، و یتکرر التعبیر عنه بالعنف، بینما کان التقدم المادی و الاجتماعی یسیر فی أعظم مراحله. و هکذا قدر للقدس فی أیامها الأخیرة، مثلما کان قد قدر لها فی أیامها الأولی، ان تبرهن علی وجود العقدة التی فطر علیها مصیرها: فقد کانت و ما تزال موئلا لأسمی أنواع العبادة و أعظمها، و منبعا لأشد النزاع و أعنفه. و قد ترک خط الهدنة الذی رسم بعد اقتتال العرب و الیهود فی 1948، و جعل حدودا بمقتضی الأمر الواقع، مدینة القدس التاریخیة القدیمة مع أرباضها الشمالیة و المطار و متحف الآثار القدیمة تحت حکم المملکة الهاشمیة فی الأردن، و الأرباض الغربیة و الجنوبیة فی حکم اسرائیل. و لا یسمح بأی اتصال بین سکان المنطقتین، الا للمسیحیین المقیمین فی اسرائیل فی عیدی المیلاد و الفصح.
و قد حصل الکثیر من الانشاء و التعمیر فی الجانبین، و علی الأخص فی الجانب الاسرائیلی الذی یعد أبرز ما أنشی‌ء فیه أبنیة الجامعة العبریة، التی تقع فی منطقة منزوعة السلاح فی جبل سکوبس من الأراضی الأردنیة. و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 33
ضمنت التعلیمات التی یفرضها الجانب الأردنی، بوجوب بناء واجهات المبانی جمیعها بالحجر. ان تکون الأحیاء الجدیدة جذابة مهیبة. ثم فتحت طرق جدیدة و أسست حدیقة جدیدة للبلدیة بالقرب من باب دمشق. و دشن فی تشرین الأول 1960 مستشفی سان جون للرمد. و تعد القدس العربیة مرکزا لاحدی المحافظات، و یشرف حاکمها علی الاماکن المقدسة فیها و فی بیت لحم. و یمکن الوصول الیها من بیروت فی لبنان جوا، و بطریق البر من دمشق فی سوریة، و من العقبة الکائنة علی البحر الأحمر. و مع ما یصادفه الحجاج و الزوار من عراقیل بسبب تقسیم المدینة، فانهم یتقاطرون علیها من جمیع أنحاء العالم، و یأتی کثیر منهم من بلاد لم یسمع بها فی الأیام الغابرة.

الأناء الذهب

و ممن کتب عن القدس، و فلسطین کلها، امرأة انکلیزیة منصفة، و کاتبة قدیرة تدعی المستر ستیوارت أیرسکین. فقد کتبت هذه المؤلفة کتبا عدة عن العرب و بلادهم فکانت منصفة فیما کتبت بوجه عام، و من جملة کتبها کتاب (فلسطین العرب ) الذی أصدرته فی 1935 فدافعت فیه عن حقهم و وجهة نظرهم تجاه الباطلین الصهیونی و الاستعماری.
و یبحث الفصل الأول من هذا الکتاب عن القدس بعنوان «الاناء الذهب» و یعتبر هذا الفصل خلاصة مفیدة جدا عن وضع القدس و أهمیتها الدینیة فضلا عن وضعها التاریخی و السیاسی. فهی تقول ان القدس تعد قلب فلسطین، و قیّمة الأماکن المقدسة فیها، و مرکزا للکفاح و النضال، و بذلک تشغل منزلة مزدوجة فی التاریخ. و قد کانت فلسطین منذ القدم ساحة حرب للامبراطوریات المحیطة بها، فأسهمت القدس و هی جاثمة بین تلالها و جبالها بقسط غیر یسیر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 34
من مصائبها. و لو أراد المرء ان یعدد الحصارات و الحرائق و الهجمات و وقائع التدمیر الکلی و الجزئی التی نزلت بالقدس لملأصفحات بقواتم المصائب و الرزایا المعروفة للجمیع. لکن ما یلفت النظر فی کل ذلک ان القدس برغم تبدل أسیادها و سلالاتها الحاکمة و دیاناتها و لغاتها و عاداتها قد حافظت علی شخصیتها الخاصة بها و احتفظت بضوء یشتعل حول حرمها الداخلی المقدس.
و یعنی اسمها، الذی بقی غیر متبدل خلال ألفی سنة من النور و الظل، دار السلام .. لکن الرومان بمدینتهم الوثنیة ایلیا کابیتولینا و معبدهم المکرس للاله جوبیتر قد تلاشی حتی ذکرهم بین زحمة الوقائع التی تتالت علی المدینة المقدسة. و هی إذ تکون مدینة للسلام من جهة و مدینة النزاع من جهة أخری.
و مرتعا لتصادم الأقوام و الدیانات منذ أیام الغزوات العشائریة فی أیامها الأولی الی یوم القلاقل العنصریة و السیاسیة هذا، و موضعا لتقدیس أبناء الدیانات العظمی الثلاث فی العالم، قد احتفظت بطبیعتها المقدسة خلال التقلبات التی وقعت فی أثناء وجودها الطویل ..
ثم تقول المؤلفة ان المرء قبل ان یحاول فهم وضع القدس السیاسی فی هذا الیوم، لا بد من ان یدرک ماذا تعنی فلسطین کلها بالنسبة للعرب و الیهود، و ما ذا تنطوی علیه علاقتهم بالبلاد و بعضهم ببعض. و بعد ان تشیر الی ان الغربیین کلهم علی علم تام بمنشأ التوراة و الانجیل فیها، و ظهور الأنبیاء فی أزمنتها القدیمة، تأتی علی ذکر شی‌ء عن منشأ العرب و علاقتهم بالیهود.
فهی تقول ان الجدّ الذی تسمی به العرب و الیهود، و جمیع السامیین فی الحقیقة، کان سام بن نوح. و یدعی العرب و الیهود علی حد سواء أنهم یتحدرون من نسل ابراهیم الکلدانی الذی هاجر من أور الکلدانیین الی الغرب بأوامر آلهته. فقد تحدر الیهود من سارة الزوجة و تحدر العرب من هاجر الوصیفة. و کانت فی أرض المیعاد حتی قبل ان یدخل الیها ابراهیم قبائل سامیة و غیر سامیة أخری، کان یطلق علیهم بمجموعهم اسم الکنعانیین فی بعض الأحیان. و لما کان من المعتقد الیوم ان هذه القبائل قد تحدر من نسلهم فلاحو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 35
فلسطین الحالیون، فان الجو قد تهیأ للکشف عن الدراما بکاملها ..
ثم تذکر المسز أیرسکین ان ابراهیم علیه السلام کان یلجأ الی الطرق السلمیة فی التسلل الی فلسطین و الحصول علی منزل فیها. و قد تزاوج أتباعه برغم تحذیره لهم مع القبائل التی کانت تملک الأرض فی فلسطین، و تدینوا ببعض دیاناتهم أحیانا. و حینما نام ابراهیم نومته الأبدیة فی الخلیل استمر ابناؤه علی العیش فی فلسطین حتی ذهب حفیده یعقوب للأقامة فی مصر حیث حصل یوسف علی رعایة فرعون له. و قد أدی تغیر السلالة المالکة فی مصر، التی أعقبها اضطهاد الاسرائیلیین، الی ظهور موسی برسالته و مبادرته الی قیادة شعبه و العودة بهم الی أرض المیعاد. و بعد کثیر من التجوال و التطویح استقروا أخیرا فی مکان ما، و انتخبوا شاؤول أول ملک لاسرائیل.
و تشیر المسز ایرسکین بعد ذلک الی أن القدس کان لها تاریخ حافل قبل ان یلقی داود خلیفة شاوول نظرة عسکریة علی أسوارها المنیعة. و قد نجح فی انتزاع الحصن من الیبوسیین فاتخذ القدس عاصمة له. و کان الملوک و الأمراء یسکنون فی القدس و هی تابعة الی مصر، التی کانوا یراسلونها برسائل حفظتها الرقم المکتشفة فی تل العمارنة. فقد کانت مکانا منیعا جدیرة بالقتال دونها، و مهمة جدا لداود لأنها تشغل موقعا ستراتیجیا بین المملکتین الشمالیة و الجنوبیة اللتین وحدهما و أدخلهما فی حکمه معا.
و قد شید داود قصرا و هیکلا فوق أوفیل، لکن سلیمان ابنه انتقل الی جبل موریا حیث شید البیوت و الثکنات و القصور و هی ترتفع بعضها فوق بعض فی السفوح حتی تنتهی بالهیکل الذی أقیم حیث تقوم قبة الصخرة الیوم بلونیها الأزرق و الرمادی البارزین أمام امتداد جبال مواب الطویل. و کان یبدو یومذاک ان مملکة اسرائیل أصبحت قویة الجانب تضاهی فی قوتها الصخور التی بنیت فوقها القدس. لکن ذلک لم یتحقق.
فلم تستقم المملکتان المتحدتان بعد موت سلیمان، بل انقسمتا من جدید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 36
و لم تعمرا طویلا حتی فی هذه الحالة. فقد تحطمت المملکة الشمالیة فی 722 قبل المیلاد، و تلاشی الأسباط العشرة بعد ان تفرقوا أیدی سبأ، بینما ظلت مملکة یهوذا الجنوبیة تکافح دون حتفها الی سنة 597 قبل المیلاد حین استولی بنوخذ نصر علی القدس و نهبها، ثم أخذ زبدة أبناها فی السبی المعروف. و بعد عشر سنوات التفت صدقیا آخر ملک من ملوکها الی مصر فعوقب بتدمیر القدس و تخریبها، و بهذا ترک سبی آخر مملکة یهوذا التی کانت مزدهرة فی یوم من الأیام قاعا صفصفا. اما عودة بقایا من الیهود الی القدس بعد أن أطلق کورش الایرانی سراحهم، و السماح لهم ببناء الهیکل، فلم یکن الا شیئا فاترا تعوزه الحماسة لأن الکثیرین من أهل السبی آثروا البقاء فی بابل.
و فی عهد السیطرة المقدونیة سادت الحضارة الأغریقیة فی سوریة و فلسطین. و کان الیهود یتضایقون من تعسف الملک أنتیکوس ابیفانوس فأدی بهم ذلک الی الثورة بقیادة کاهنهم الکبیر ماتاثیاس و ابنائه. و قد تعتبر هذه الوقائع من النقاط للامعة فی تاریخ الیهود، لکنها سرعان ما تتعتم بظهور هیرود و میله الی مسالمة روما. و لیست بنا حاجة هنا الی الاسهاب فی ذکر کیفیة ظهور هیرود، و زواجه بالأمیرة الحسمونیة سلیلة المکابیین، التی قتلها بنزوة من نزوات الغیرة، و موته فی السنة التی ولد فیها المسیح بعد أن أصدر مرسوما فی قتل «الأبریاء». و انما یکفی ان نتذکر أنه بنی آخر هیکل فقدر له ان یکون قصیر الأجل. و من المهم ان یذکر فی الحقیقة ان الهیکل هذا قد صحت نبوءة السید المسیح فیه، ففی خلایا الأربعین السنة المذکورة فی النبوءة هدم الهیکل الی وجه الأرض خلال حصار تایتوس للقدس فی سنة 70 للمیلاد.
و تخلص المؤلفة من کل هذا الی القول انه یتضح بان العبریین لاحق لهم فیما یدعون به الیوم. فقد عجزوا فی تحقیق الوحدة فیما بینهم، و کان یقاتل بعضهم بعضا باستمرار، و لم یمتلکوا فلسطین کبلاد تحکم نفسها بنفسها حکما ذاتیا قط، حتی فی أوج حکمهم. لکننا نجد من جهة أخری أن التاریخ الروحی لشعب اختاره اللّه لیحمل النور فی وقت الظلمة یجب ان تکون له أهمیة فائقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 37
بالنسبة للانسانیة جمعاء. فقد قادتهم رسل موحی الیهم بوحی مباشر، و أرشدوا الی الطریق السری الذی کان علیهم ان یسلکوه. فماذا کانت النتیجة؟ و لماذا کانوا یعاقبون بین حین و آخر؟ ان الجواب علی کل هذا موجود فی کتبهم الدینیة هم أنفسهم. فان خطب أنبیائهم اللاذعة تمیط اللثام عن ان الیهود کانوا مفتونین بالوثنیة و عبادة الأصنام بحیث أوحی بقمعهم.
و حینما عنّفوا و زجروا «أغلظوا رقابهم» کما فعل آباؤهم من قبل. و تقول التوراة- العهد القدیم- ان المصائب التی نزلت بالیهود انما نزلت لتلقنهم دروسا لا یبدو انهم تعلموها بأی حال من الأحوال. و حینما صلبوا مسیحهم کانت نهایة وجودهم القومی غیر بعیدة عنهم.
و بعد ان انقسمت الامبراطوریة الرومانیة، أصبحت فلسطین من حصة الامبراطوریة الشرقیة و عاصمتها بیزنطة. و قد جعل مرسوم میلان سنة 313 المسیحیة دینا معترفا به. فأبدی قسطنطین و أمه هیلانه و رعهما المعروف بتشیید الکنائس فی المواقع المقدسة، و بذلک اتخذ مصیر القدس شکلا آخر.
فقد تمتعت فلسطین فی أیام الحکم البیزنطی بحالة من السلم انتهت فی سنة 616 حین غزاها خسرو الثانی ملک ایران. و فی سنة 636 نقلت معرکة الیرموک الحاسمة السلطة الی العرب.
و بعد ان تتطرق المسز أیرسکین الی تاریخ العرب القدیم قبل الاسلام، و اتصالهم بالیهود، و مجی‌ء ابراهیم الخلیل و اسماعیل الذی أعاد بناء الکعبة فی مکة، تخرج من ذلک الی ظهور النبی محمد علیه السلام و اعترافه بأنبیاء بنی اسرائیل. ثم تبدأ بذکر الفتوحات فتعرج علی فتح العرب لبیت المقدس.
فتقول ان الخلیفة الراشد أبا بکر عین خالدا بن الولید المعروف بسیف اللّه المسلول علی رأس قواته التی حاربت الایرانیین، و البیزنطیین فی سوریة و فلسطین بعد ذلک. فکان النصر حلیف خالد اینما اتجه، و لا سیما فی قتاله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 38
لجیوش الامبراطور هرقل التی فتک بها فی موقعه أجنادین الکائنة بین غزة و بیت المقدس. و قد توفی أبو بکر بعید هذا النصر الحاسم فی الیرموک سنة 636. فقد وجد الامبراطور هرقل، الذی کان یتبجح بأن جیوشه بوسعها القضاء علی «شرذمة العرب البداة»، نفسه مطرودا من سوریة و فلسطین و الطریق قد انفتح لسیطرة العرب علیهما.
و قد صمدت القدس و قیصریة، و هما من معاقل العقیدة الأورثودکسیة المعروفة، لمدة ما لکنهما اضطرا الی التسلیم فی النهایة. حیث استسلمت القدس فی 639 و استسلمت قیصریة بعد ذلک بسنة. و لا غرو فقد کان العرب لا بد من ان یجبروا هاتین المدینتین علی التسلیم بعد أن أصبحوا أسیاد دمشق، أقدم مدینة فی سوریة و أهمها، و انطاکیة ملکة الشرق الواقعة علی نهر العاصی، و حمص ذات الحصون المنیعة، و غیرها من المراکز المهمة. و کان لهم فضل کبیر فیما أظهروه من اعتدال عند تقدیم مطالیب الاستسلام.
فحینما اتضح لسکان بیت المقدس عدم جدوی المقاومة عقد اجتماع فیها بین بطریرک الروم الأورثودوکس و قائد الحامیة، و تقرر ان تجلو الحامیة الموجودة فیها و تنسحب الی مصر و ان یترک الأمر الی البطریرک بأن یتفق علی الشروط مع العرب. فاشترط ان تسلم مفاتیح المدینة الی الخلیفة عمر بنفسه نظرا لأن النبوءة کانت تقول فی هذا الشأن ان المنتصر یحمل اسما بثلاثة حروف کما هو الحال فی اسم الخلیفة العربی «عمر». فأبلغ الخلیفة بذلک و وافق علی القیام بهذه الرحلة الطویلة، و أخیرا وصل الی الموقع و هو یمتطی جملا هزیلا و یرتدی اسمالا بالیة لیظهر ازدراءه لتوافه هذا العالم الشریر. و حینما لاحظ البعض من قواده، الذین وقفوا لاستقباله فی خارج السور یلبسون ملابس صنعت من حریر دمشق استشاط غضبا، و لم یوافق علی الدخول الی المدینة بصحبتهم الا بعد ان أروه ما کانوا مدججین به من سلاح تحت البسة الحریر الناعمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 39
ثم تقول ان الخلیفة عمر دخل الی المدینة المقدسة راجلا و الی جانبه البطریرک و اذا کان منظره یومذاک شیئا غیر مؤثر فقد کانت شروطه رحیمة سخیة، حینما فرضت علی النصاری و الیهود عن دون تمیز. و قد کان فیها بعض التحفظات، لکنها کانت تنطوی علی الرفق و الرحمة بوجه عام فقبلت بکثیر من المنة و التقدیر. و لم یبق الخلیفة مدة طویلة فی بیت المقدس، لکنه تیسر له متسع من الوقت لزیارة کنیسة العذراء التی هی المسجد الأقصی فی یومنا هذا، و کذلک وضع الأساس لتشیید مسجد للمسلمین فی موقع الهیکل الیهودی الذی کان مختفیا تحت اکوام من الزبل المتراکم علی مدی الأجیال المتعاقبة.
و کان هناک سبب لسیاسة التسامح هذه. فقد کانت القدس مقدسة عند المسلمین، و کانت تأتی بعد مکة فقط فی الشهرة باعتبارها درة غالیة فی تاج الفتوح التی حققوها، و کانوا تواقین جدا للاحتفاظ بها و تجمیلها. حیث ان الاعتقاد بان بیت المقدس ستکون المکان الذی یحشر فیه المؤمنون یوم القیامة یشترک فیه المسلمون و الیهود علی سواء، کما یلاحظ أو یفهم من الرغبة التی یبدونها فی الدفن بقربها. و یجل المسلمون کذلک المکان الذی أعلن النبی محمد بأنه شاهده فی الرؤیا.
فی لیلة هادئة لم تکن تعکر هدوءها و لا نسمة ریح قال النبی علیه السلام ان صوتا ایقظه من نومه و هو یقول «استیقظ ایها النائم»، ففتح عینیه و إذا بجبریل الملک یمثل أمامه و یطلب الیه ان یرکب البراق فأسری به و هو بصحبته إلی بیت المقدس. و هنا قیل له ان یترجّل و یصلی، ثم أخذ إلی «صخرة التضحیة» فی منطقة الهیکل، و من هناک رفع إلی السماوات العلی.
فأصبحت هذه الرؤیا من معتقدات المسلمین الذین ما زالوا یقدسون المکان الذی صلی فیه النبی، و الصخرة التی رفع من فوقها إلی السماء علی سلم من نور و حتی المکان الذی وقف فیه البراق.
و بعد ان تأتی المؤلفة علی ذکر شی‌ء عن أعمال الخلیفة عمر و ما حدث بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 40
قتله من اختلاف فی أیام الخلیفتین الراشدین عثمان و علی تقول ان فلسطین تمتعت بقرن من الهدوء و السلم قبل أن تبدأ علائم الانحطاط فی الامبرطوریة العربیة الجسیمة. و قد ازدهرت القدس إزدهارا غیر یسیر لکنها لم تصبح مرکزا کبیرا للثقافة و الحضارة کما أصبحت قرطاجة قرطبة التی کان الیهود الأوربیون یتقاطرون علیها للدراسة فی جامعتها الاسلامیة. فقد کانت فی فلسطین مراکز دینیة معروفة فی القدس و الخلیل و طبریة و صفد لکنها لم یکن فیها من الثقافة العامة العالمیة التی کانت تزخر بها مدن اسبانیة الأسلامیة و صقلیة.
و بعد ان تذکر المؤلفة شیئا عن حضارة العرب فی الأندلس و فضلها علی الغرب تقول: و کان الخلفاء الأمویون یحکمون من دمشق، لکن الأسرة العباسیة المالکة حینما حلت فی محلهم و أسست العاصمة فی بغداد انحط الاهتمام ببیت المقدس. فقد کان هارون الرشید یبدی اهتماما بسوریة و أسس المدارس فیها، لکنه لم یفعل الا القلیل من هذا فی فلسطین التی انقسمت الی شیع و احزاب و أصبح الاختلاف هو العادة المألوفة فیها. و فی نهایة القرن العاشر استولت الخلافة الفاطمیة فی مصر علی القدس. و فی 1071 احتل السلطان السلجوقی سوریة و فلسطین فأعقب ذلک حلول فترة من الرعب عانی فیها النصاری ما عانوا من الجور و التعسف. و قد أثارت آلام الحجاج المسیحیین و اهمال الاماکن المقدسة تذمرات الحجاج الذین کانت تتقاطر جموعهم علی بیت المقدس، و کان أحدهم و هو بطرس الراهب هو السبب فی البدء بالحملة الصلیبیة الأولی.
و قد حرر الصلیبیون «القبر المقدس» و أسسوا مملکة لاتینیة قصیرة العمر فی القدس، لکن الحملات المتفرقة التی أعقبت الحملة الأولی لم تکن کافیة لضمان البقاء الدائم فی البلاد المقدسة .. و بعد ان تغلب صلاح الدین علی الصلیبیین فی قمم حطین الرهیبة قتل رینیه دی شاتیون بیدیه من دون سلاح، و أمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 41
بقتل مئتی فارس من فرسانهم علی مرأی من الجیش کله. لکنه حینما أقدم علی تسلم بیت المقدس أظهر کل ما یمکن من ضروب الرحمة و الاعتدال.
فقد سمح لجمیع من یرغب فی ترک هذه المدینة المقدسة بأن یفعل ذلک من دون ان یتعرض لأی نوع من الأذی، حتی أنه سمح للأساقفة بأن یأخذوا معهم الکثیر من الکنوز العائدة للکنائس، و قدم لمن بقی شروطا سخیة.
و بذلک عادت القدس مرة أخری الی أیدی المسلمین، و بذل صلاح الدین کثیرا من الجهد لاستعادة أمجادها السابقة و تعمیر أماکنها المقدسة مثل قبة الصخرة و المسجد الأقصی اللذین قلبهما النصاری الی کنیستین. و بمرور الزمن تلاشت من بین المسلمین و المسیحیین البغضاء التی أوصلها الصلیبیون الی الأوج، و اتخذت الترتیبات اللازمة بالسماح النصاری فی زیارة القبر المقدس متی شاءوا. لکن ذلک لم یدم طویلا. ففی سنة 1240 اکتسح الأتراک الخوارزمیون البلاد، و هدموا بیت المقدس تهدیما جزئیا بعد ان فتکوا بالسکان المسیحیین فیها، و فی 1250 ظهر المغول بقیادة هولاکو حوالیها فردهم السلطان المملوک بیبرز، الذی أخضع فلسطین للحکم المصری مرة أخری. و قد استقام الحکم المصری هذا زهاء ثلاث مئة سنة، أی الی ان انتزع الأتراک العثمانیون منه السلطة لأنفسهم و أصبحوا أسیاد الشرق الأوسط. و باستثناء فترة قصیرة استعادت فیها مصر السیطرة علی فلسطین، فقد بقیت بأیدی الأتراک منذ ذلک التاریخ حتی سلموها الی حوزة الانتداب البریطانی فی 1917.
و لا یعرف الا القلیل عن أحوال بیت المقدس الاعتیادیة فی الفترات التی کانت تتخلل ما یذکره المؤرخون من بلایا و مصائب عظیمة. لکنه یستفاد من انطباعات المقدسی، الجغرافی العربی الشهیر، عن القدس التی ولد فیها سنة 946 أنها ثمینة لندرة مثیلاتها بین البلاد، و أنها أجمل مدینة فی العالم، لأن الحیاة فیها علی حد قوله کانت ملأی بکل ما هو لطیف و جمیل، و ان کل من یرید التمتع بما فی الدارین ان یفعل ذلک عن طریق الاقامة فی قدس القرن العاشر المیلادی، و بعد ذلک یحدثنا عن العقارب التی یمتلی‌ء بها «و عاؤها الذهب».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 42
و یبدو ان العقارب التی یعنیها المقدسی هی حماماتها القذرة، و أزوادها الغالیة، و مدارسها الخالیة، و مسجدها الذی لا یمتلی بالعلماء و الدارسین.
و استفحال أمر النصاری و الیهود فیها. و تعقب المسز أرسکین علی ذلک بقولها ان ذلک الوعاء الذهب ما زالت تتوالد فیه أنواع العقارب.
مثل ما یجری فی داخل أسوارها و خارجها من الاضطرابات و القلاقل، و مثل الخصومات السیاسیة و الصدامات العنصریة و الأمانی و الآمال المتضاربة التی لم تتحقق.

من التاریخ القدیم

اشارة

لا شک ان تاریخ القدس القدیم تاریخ حافل بالوقائع و الحوادث فی کل دور من أدواره، و قد حظی بالکثیر من العنایة و التنقیب لدی العلماء و الباحثین نظرا لقدسیة هذه المدینة العریقة فی القدم، و علاقة ذلک بابناء الدیانات الکبری الثلاث. و لا شک أن إقدام الکثیرین من مؤرخی الغرب و منقبیه علی البحث فی تاریخ القدس یرجع أیضا إلی ظهور السید المسیح حولها، و صلبه و دفنه فیها علی ما یقولون، و نشؤ الانجیل و التوراة فی دیارها.
و لذلک نری ان ما کتبت من الکتب و الرحلات فی اللغات الغربیة عن القدس القدیمة و تاریخها، و لا سیما فی الانکلیزیة و الفرنسیة و الألمانیة، أوسع مما یمکن ذکره أو الاحاطة به فی مثل هذا البحث. علی اننا سنحاول هنا أن نوجز الحوادث المهمة التی تعین القاری‌ء علی تفهم المجری التاریخی العام.
و قد لاحظنا من بین الکتب الحدیثة التی تستند الی أحدث ما حصل من التنقیب الآثاری، فی القدس و ما حولها من البلاد، کتابا یفی بهذا الغرض. و قد کتب هذا الکتاب باحث ألمانی یدعی فیرنر کیلر بعنوان (الانجیل کتاریخ) . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 43
و استند فیه الی احدث الاستکشافات الآثاریة و أوثقها علی ما یدعی. ثم ترجم الی الانکلیزیة و طبع لأول مرة سنة 1956، ثم أعید طبعه عدة مرات کانت آخرها الطبعة العاشرة فی 1961.
و یتناول المستر کیلر فی هذا الکتاب تاریخ ما ورد فی التوراة و الانجیل من حوادث و وقائع مشهورة، فیحاول البرهنة علی صدقها فی ضوء المکتشفات الحدیثة، و قد یناقش قسما منه فیخطؤه أو یورد آراء مختلفة حول بعض النقاط. و من أهم ما یبدأ ببحثه من ذلک، و لا سیما ما یختص منه بالیهود و تاریخهم، موضوع ابراهیم الخلیل علیه السلام، فیناقش معیشته فی أور ثم یذکر هجرته الی حران الکائنة فی شمال العراق فی ضمن ما کان یسمی بمملکة ماری السامیة. لکنه یخرج من ذلک الی انه علیه السلام یصعب ان یکون قد عاش فی أور الکلدانیین کما هو معروف فی التوراة، و یخطّی‌ء لیونارد و ولی المنقب الانکلیزی الذی تولی التنقیب فی أور خلال العشریات من هذا القرن و اکتشف مدینة السومریین التی کان یجهلها العالم تقریبا. فقد کتب و ولی یقول ان ابراهیم کان مواطنا من مواطنی مدینة عظیمة (أور) ورثت تقالید مدنیة راقیة عریقة فی القدم، و لم یکن من أناس مترحلین بداة کما یفهم من بعض آیات التوراة و نصوصه. لکن کیلر یقول فی کتابه (الص 42- 44) أن و ولی و ان کانت تؤیده فی رأیه هذا بعض آیات سفر التکوین قد تسرع فی ما ذهب الیه، لأن آیات أخری فی سفر التکوین نفسه تنص علی خلاف ذلک أیضا. لأنه حینما أوفد خادمه القدیم من بلاد کنعان الی مدینة ناحور لیخطب زوجة لابنه اسحق یسمی هذه المدینة «أرض مولدی» و یشیر الی «بیت أبی» و «أرض أجدادی». و ناحور تقع فی منطقة حران الکائنة فی شمال بلاد بین النهرین. و یذکر کذلک ان یوشع بعد ان استولی علی أرض المیعاد خاطب أصحابه یقول «لقد سکن آباؤکم فی الجهة الأخری من الطوفان قدیما، و فعل ذلک حتی تارح والد ابراهیم و ناحور»، و یقصد بالطوفان هنا و فی نصوص التوراة الأخری نهر الفرات. و لا شک ان مدینة أور تقع فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 44
الجانب الأیمن من الفرات، و اذا ما نظر الیها الرائی و هو فی بلاد کنعان فهی تقع فی هذا الجانب أیضا و لیس فی الجانب الآخر. و یتابع کیلر مناقشته لو ولی فیقول ان تنقیباته لم تکتشف ما یدل بصورة باتة قاطعة علی ان تارح و ابنه ابراهیم کانا یعیشان فعلا فی أور. ثم ینهی هذه المناقشة بقوله ان البحث المضنی، و لا سیما التنقیب الآثاری فی العقدین الأخیرین من السنین، یجعل من المؤکد تقریبا ان ابراهیم لا یمکن ان یکون قد وجد فی العاصمة السومریة أو کان مواطنا من مواطنیها. فان ذلک یناقض جمیع الأوصاف التی یصف التوراة بها ابراهیم و طراز حیاته، و کونه من سکنة الخیام الذین- یتنقلون مع قطعانهم من مرعی الی آخر انتجاعا للکلأ و من بئر إلی أخری، فهو و الحالة هذه لا یعیش کما یعیش مواطن المدینة الکبیرة بل عیشة البدوی المعروفة.
و یقول کیلر فی موضع آخر (الص 67) ان أسماء أجداد ابراهیم و اسلافه تخرج من العصور المظلمة و هی لا تعدو کونها أسماء مدن کائنة فی شمال شرقی بین النهرین، أی فی فدان آرم فی سهل آرم. و فی وسط هذا السهل تقع حران التی کانت علی ما یظهر من وصفها مدینة مزدهرة خلال القرنین التاسع عشر و الثامن قبل المیلاد. و یذکر کذلک ان المکتشفات التی عثر علیها المنقبون الفرنسیون فی 23 کانوا الثانی 1934، فی تل الحریری الکائن علی بعد سبعة کیلومترات من البوکمال، تبرهن لأول مرة علی أن حران هی موطن ابراهیم الخلیل و المکان الذی ولد فیه العبرانیون. و تقع بالقرب من ذلک مدینة ناحور المعروفة فی التوراة أیضا، و هی موطن ربیکا زوجة اسحق.

هجرة ابراهیم علیه السلام الی أرض المیعاد

و یذکر کیلر بعد هذا اننا اذا ما أردنا ان نصدق بالتواریخ المذکورة فی التوراة نجد ان ابراهیم قد ترک موطنه حران قبل فرار الاسرائیلیین من مصر بست مئة و خمس و أربعین سنة. و قد ظلوا یهیمون فی الصحراء نحو أرض المیعاد بقیادة النبی موسی خلال القرن الثالث عشر قبل المیلاد. و لذلک فلا بد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 45
من ان یکون ابراهیم قد عاش فی حران حوالی سنة 1900 قبل المیلاد. و هذا ما تؤیده حفریات مملکة ماری.
و یأتی بعد ذلک الی ذکر کنعان (الص 70) و هجرة ابراهیم الیها تنفیذا للأوامر الالهیة، فیقول ان الطریق الذی کان علیه ان یقطعه یبلغ طوله ما بین حران و بلاد کنعان ما یزید علی ست مئة میل. و هو یمتد علی طول نهر البلیخ الی الفرات. و من هناک یسیر المسافر بطریق قدیم للقوافل یرجع الی آلاف السنین فی قدمه، فیمر بتدمر و الشام، و منها یتجه فی اتجاه غربی الی بحیرة الجلیل (طبریة). و بلاد کنعان علی ما یقول کیلر هی الشطیطة الجبلیة المنحصرة بین البحر الأبیض و البادیة الممتدة من غزة الی حماه علی شواطی‌ء العاصی فی الشمال. و قد کانت کنعان یومذاک تعرف ببلاد الأرجوان لأن الکنعانیین سکانها کانوا معروفین باستخراج الأرجوان من حیوانات المریق القشریة البحریة. و کان الأرجوان من السلع الغالیة لأن صبغته کانت تصبغ بها الملابس الثمینة التی یرتدیها کبار الناس و مرموقهم فی المجتمع یومذاک.
و لذلک کان الیونانیون الأقدمون یطلقون علی صانعی الأرجوان و صباغیه «الفینیقیین» و علی البلاد «فینیقیة»، و هو اسم مشتق من کلمة
Phoefcia
التی تعنی الأرجوان فی لغتهم.
اما البلاد التی کانت ستصبح موطنا للاسرائیلیین فقد سماها الرومان، علی ما یقول کیلر، باسم أعداء اسرائیل. فقد سموها باسم «الفلستینیین ) أو «بلشتیم» حسب التسمیة الواردة فی التوراة، الذین کانوا یسکنون فی القسم الجنوبی من الساحل الکنعانی. و هی تمتد علی ما یفهم من نصوص التوراة من منابع الأردن فی أسفل جبل الشیخ الی التلال الکائنة فی غرب البحر المیت، و الی النقب فی الجنوب، أی انها تقدر بحوالی مئة و خمسین میلا فی الطول و خمسة و عشرین میلا فی العرض فی أضیق بقعة منها. و لم تصبح أوسع من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 46
هذا قط الاخلال عشرات قلیلة من السنین. فقد امتدت فی أیام داود و سلیمان الی عصیون جابر علی البحر الأحمر فی الجنوب و الی ما وراء الشام بقلیل فی الشمال.
و یظهر مما یکتبه کیلر ان ابراهیم سلک فی هجرته هذا الطریق فمر بالشام ثم دخل هو و زوجته سارة و ابن أخیه لوط و أقاربه و قطعانه الی فلسطین التی کانت قلیلة السکان علی ما یقول، و کانت مدنها یومذاک عبارة عن قلاع متباعدة تتعرض علی الدوام الی هجمات البدو و غزواتهم من البادیة بین حین و آخر. و قد حرص علی ان یدخل من دون ضجة، و ان یکون سیره هذا تسللا، لأنه لم یکن قادرا علی الاصطدام بالکنعانیین، فحل فی شکیم الکائنة فی شمال فلسطین. و یلتقی فی سهل شکیم طریقان أحدهما یمر بالمناطة المأهولة فیذهب الی وادی الأردن الخصیب، و یمر الثانی بطریق التلال المنعزلة فیتخطی القدس الی النقب. و قد آثر ابراهیم ان یسلک الطریق الثانی حتی وصل القدس العائدة للیبوسیین، فزار فیها ملکیصادق الذی یسمیه کیلر «ملک سالم» أی ملک القدس نفسها علی أغلب الترجیح. و فی الأصحاح الرابع عشر من سفر التثنیة یذکر ان ملکیصادق هذا قدم لابراهیم خبز او خمرا لأنه کان کاهنا للّه العلی، و بارک ابراهیم بقوله: مبارک أبرام من اللّه العلی مالک السموات و الأرض و تبارک اللّه العلی الذی رفع اعداءک الی یدک.
ثم توجه ابراهیم الی مصر مع لوط و عادا بعد ذلک الی فلسطین، فتوجه لوط مع أسرته مفارقا عمه نحو الشرق، و ظل ابراهیم یتنقل حوالی القدس حتی شاء ان یستقر فی أواخر أیامه فی قریة مامر القریبة من حبرون التی سماها العرب بعد ذلک باسمه، أی «الخلیل». و فی هذا الشأن یقول کیلر (الص 97) انه قضی أیامه الأخیرة فی قریة صغیرة تدعی مامر، غیر بعیدة عن بلدة الخلیل، حیث شید المذبح. و قد تملک هنا أول قطعة أرض من الحثیین لیعد قبرا صخریا لزوجته سارة، علی عادة السامیین. و قد دفن هو کذلک فی الضریح نفسه. و هذا ما تؤیده الحفریات بوضوح. و علی بعد میلین من الخلیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 47
یقدس العرب الیوم علی قول کیلر موقعا یسمونه «حرم رامة الخلیل». و قد عثر الأب المنقب مادر بالفعل بالقرب من هذا الموقع علی أحجار مذبح ما تزال تبدو فیها آثار الاشتعال .. و ما یزال قبر ابراهیم یعتبر الیوم موقعا مقدسا یحج الیه الناس.
و یقول کیلر فی موقع آخر کذلک (الص 112) ان ابراهیم نصب خیمته الی مقربة من حبرون فی جنوب تلال الیهودیة، ما بین ابناء «حث»- أی الحثیین- و قد اشتری منهم الأرض التی أودع فیها زوجته سارة و ترکها لراحتها الأبدیة .. و یخبرنا حزقیال النبی- الأصحاح السادس عشر من سفره- ان الحثیین مسؤولون جزئیا عن تأسیس القدس ..

خروج الیهود من مصر الی أرض المیعاد

و یقول کیلر ان موسی بعد أن أدی واجبه الشاق فأخرج الیهود من مصر و مدنها التی کانوا مستعبدین فیها رشح یوشع خلفا له و رحل عن هذا العالم الفانی، من دون أن یقدر لقدمیه ان تطآ أرض المیعاد أو مدینة القدس، لکنه استطاع ان یلمحها عن بعد من قمم جبل نبو. و مع جمیع البراعة التی أبداها یوشع بن نون فی قیادة الیهود الی أرض المیعاد، و القسوة التی تذرع بها فی الاستیلاء علی البلاد الفلسطینیة و أهلها بالقوة، لم یستطع انتزاع القدس من أهلها لمناعة حصونها و خطته فی تحاشی مهاجمة الأماکن الحصینة. و مما یذکره کیلر فی هذا الشأن (الص 162) ان اسرائیل کانت قبیل سنة 120 قبل المیلاد قد بلغت الهدف الذی ظلت تکافح من أجله ردحا طویلا من الزمن.
فقد دخلت کنعان لکنها لم تستول علی البلاد کلها استیلاء تاما. و خلفت وراءها خطا طویلا من المدن المحروقة. و قد تحاشی یوشع مهاجمة القلاع الحصینة مثل قلعتی القدس و جیزر. و بقیت کذلک فی أیدی الکنعانیین السهول الخصبة و ودیان الأنهر، و ستبقی کذلک لعدة أجیال تأتی.
و بعد ان یتحدث کیلر عن مجی‌ء الفلسطینیین من جزیرة کریت و احتلالهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 48
للساحل الجنوبی من فلسطین، ثم استقرارهم فی عسقلان و غزة و أشدود و عقرون، یشیر الی تهدیدهم للاسرائیلیین و خطورة ذلک علیهم. فیقول (الص 179): و فی حوالی 1050 قبل المیلاد أصبح وجود اسرائیل نفسه مهددا بالخطر. فقد کانت توشک ان تخضع لنیر الفلسطینیین و تواجه وجودا مفعما بالعبودیة التی لا تنتهی. و تجاه هذا الضغط الخطیر من الخارج أصبحت اسرائیل أمة من الأمم، و وقع اختیارها علی شاؤول البنیامینی لیکون أول ملک لها .. و شاؤول هذا هو طالوت الوارد ذکره فی القرآن الکریم.
و قد اکتشف البروفسور أولبرایت علی بعد عدة أمیال من القدس سنة 1933، فی تل یسمی «تل الفول»، بقایا قصر شاؤول و هو أول قصر ملکی لاسرائیل حیث کان یجلس شاؤول، علی ما یذکر کیلر، و من حوله أصدقاؤه و ابنه یونا و أبنر ابن عمه و قائد جیشه، و داود حامل سلاحه الشاب ..
علی ان هذا کله علی ما یبدو لم یکن ینفع الیهود و لا ملکهم المتبختر شاؤول، فقد اصطدموا بالفلسطینیین و کانت النتیجة ممیتة علی ما یقول کیلر (الص 181) لان انتصار الفلسطینیین علیهم کان کاملا و انتحر شاؤول بعد ان قتل ابناه فی المعرکة. و احتلت أرض اسرائیل بأجمعها، ثم علقت جثة الملک و ابنیه فوق أسوار مدینة بیت شان القریبة من ساحة المعرکة .. و الظاهر ان ساعة اسرائیل الأخیرة قد دقت، و بدا أنها قد کتب علیها الزوال. و هکذا سارت المملکة الیهودیة الأولی، التی کانت تعقد علیها الآمال فی البدایة، الی نتیجتها المخیفة. فقد أصبح الشعب الحر یوسف فی قیود العبودیة، و وقعت الأرض التی وعد بها فی أید أجنبیة (کذا).

کیف استولی داود علی القدس

لقد تولی قیادة بنی اسرائیل بعد اندحار شاؤول و انتحاره حامل سلاحه و قائد جنوده المرتزقة داود. فمن درکات القنوط الواطئة التی أصبح فیها الاسرائیلیون، و وضعهم المیئوس منه تحت نیر الفلسطینیین، ارتقی هؤلاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 49
القوم، علی ما یقول کیلر (الص 184)، خلال عشرات قلیلة من السنین الی موضع العزة و العظمة. و کان کل ذلک بفضل داود الشاعر مرتل المزامیر.
فقد کان مجهول الهویة خامل الذکر عرف لأول مرة حاملا لسلاح شاؤول، ثم قائدا لقواته المرتزقة، و رجلا عنیفا من رجال المقاومة ضد الفلسطینیین بعد ذلک، حتی انتهی فی عمر متقدم و هو یجلس فی القدس علی عرش شعب صار قوة عظیمة یحسب لها الحساب.
و بعد ان یثنی کیلر علی داود و شعبه، و یبالغ فی مدح اعماله مبالغة یبدو فیها الأفراط الممل، یأتی علی وصف الکیفیة التی اکتشفت فیها طریقة استیلاء داود علی القدس الحصینة و انتزاعها من الیبوسیین .. فهو یقول (الص 188) و قد أمیط اللثام فی نهایة القرن الماضی عن الطریقة الرومانتیکیة التی وقعت فیها قلاع القدس الحصینة فی یدی داود، بالصدفة من جهة و بالولع الاستکشافی الذی کان یتحلی به نقیب من نقباء الجیش البریطانی یومذاک من جهة أخری ففی الجهة الشرقیة من القدس حیث تنحدر الصخور الی وادی ستی مریم (کدرون) تقع عین ستی مریم. و کانت هذه العین علی الدوام المعین الدائم للماء و الذی یستقی منه سکان المدینة المقدسة. و یمر الطریق المؤدی الیها الیوم بخرائب مسجد قدیم، ثم بسرداب منعزل. و تؤدی ستون درجة هنا الی حوض صغیر یتجمع فیه ماء صاف ینبثق من الصخر.
و فی 1867 زار الکابتن وارن مع جمع من الحجاج هذه البرکة المشهورة التی تقول عنها الاسطورة انها المکان الذی کانت السیدة مریم تغسل فیه أقمطة ابنها الرضیع. و قد لاحظ وارن فی هذه الزیارة وجود مغارة مظلمة فی السقف برغم العتمة الشدیدة فی الداخل، علی بعد عدة یاردات من اعلی البقعة التی کان یتفجر فیها الماء من الصخر. و الظاهر ان هذه المغارة لم یلاحظ وجودها أحد من قبل لأن وارن حینما سأل عنها لم یستطع الحصول علی أیة معلومات بشأنها.
القدس- الجزء الثانی (4)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 50
فعاد فی الیوم التالی الی برکة العذراء و هو متشوق الی استطلاء الأمر من جدید، آخذا معه قطعة من الحبل الطویل و سلما مناسبا، من دون ان یعلم ان مهمة خطرة یکتنفها شی‌ء من المغامرات کانت فی انتظاره.
و کانت تمتد من منبع القناة الی ما فوق فی اتجاه الصخر بخط مستقیم قناة غیر متسعة. و کان وارن یجید التسلق فی الجبال، و علی علم بکیفیة المروق من مثل هذه الممرات الضیقة. فتمکن بعنایة فائقة من الصعود الی أعلی بطریق القناة هذه، و بعد ما یقرب من أربعین قدما انتهت القناة فجأة. و حینما تحسس وارن طریقه فی الظلام هناک وجد ممرا ضیقا فی النهایة، فدخل فیه و هو یزحف علی الأربع و وجد ان عددا من الدرجات کان قد نحت فی الصخر. و بعد برهة من الزمن لاحظ أمامه من بعید و میضا من نور، و وصل الی حجرة مقببة لا تحتوی الا علی جرار و قنان زجاجیة یعلوها الغبار. و حینما حشر نفسه فی شق موجود فی الصخر هناک وجد أنه قد خرج الی نور النهار الساطع فی وسط المدینة، و برکة العذراء علی بعد غیر یسیر من تحته.
و قد دلت الاستقصاءات الموثوقة التی قام بها بارکر بعد ذلک فی 1910، موفدا من المملکة المتحدة باشراف صندوق ارتیاد فلسطین، علی أن هذه الترتیبات المدهشة تعود فی قدمها الی الألف الثانیة قبل المیلاد. فقد بذل سکان القدس القدیمة جهودا مضنیة یومذاک فی شق ممر من الصخر لیستطیعوا الوصول منه بأمان فی وقت الضیق الی عیون الماء التی کانت تتوقف علیها حیاتهم.
و بذلک اکتشف وارن بدافع حب الاستطلاع الطریق الذی کان داود قد استخدمه قبل 3000 سنة فی الاستیلاء علی حصن القدس بصورة مفاجئة.
فان کشافة داود الاستطلاعیة لا بد من أنها کانت علی علم بهذا الممر السری کما یمکن ان یلاحظ من بعض نصوص التوراة التی کانت غامضة من قبل ..
و هکذا استقر داود فی القدس و اتخذها عاصمة له بعد حبرون، ثم أسماها (مدینة داود) علی ما تقول معظم المراجع و نصوص التوراة. و من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 51
طریف ما یذکره کیلر (الص 191) عن داود، استنادا الی المکتشفات التی اکتشفها الفرنسیون فی قصر مملکة ماری، ان داود لم یکن یسمی بهذا الاسم، و أن هذا الاسم هو لقب من الألقاب العسکریة التی کانت تعنی «القائد»، و قد غلب علیه فی التسمیة و اختصر من «دافیدم» الی «دافید» . و استعان داود فی تشیید قصره الذی أنشأه فی أورشلیم علی هضبة صهیون، و سماه «بیت داود»، بحیرام ملک صور الفینیقی الذی بعث الیه بمهندسین مختصین و نجارین و نحاتین ماهرین، مع شی‌ء غیر یسیر من أخشاب أرز لبنان. اما العبرانیون فقد اقتبسوا حضارة الیبوسیین حینما أخذوا یستقرون فی أورشلیم، فغادروا الخیام و سکنوا البیوت کما کان یفعل الکنعانیون، و خلعوا عنهم الجلود التی کانوا یکتسون بها فلبسوا الثیاب المنسوجة من الصوف التی تشبه ثیاب الکنعانیین أیضا.

سلیمان الحکیم

یبدأ کیلر (الص 194)، عند البحث عن سلیمان الذی أعقب والده داود فی تولی الحکم فی القدس، بایراد عدة آیات من سفر الملوک فی التوراة.
و کلها تدل علی الأبّهة التی کان یعیش فیها سلیمان و علی مقدار الثروة و الغنی عنده، و یفهم منها أنه کان له أربعون ألف مربط من مرابط الخیل التی کان یستعملها لعرباته، و اثنا عشر ألف خیال و سائس. و أنه أنشأ اسطولا من السفن فی عصیون جابر الکائنة بجانب إیلات، و أن جمیع أوانیه کانت من الذهب لأن أسطوله کان یجلب الیه من الخارج الذهب و الفضة و العاج و القرود و الطواویس. و ان البیت الذی بناه للّه (الهیکل) کان کله مغلفا بالذهب، و ان خیوله کان یأتی بها من مصر، و أن وزن الذهب الذی جی‌ء به الیه فی سنة من السنین بلغ «ست مئة ستین» و ستة قناطیر. و بعد ان یذکر کیلر ان هذه المبالغات تکاد لا تصدق یعود فیقول انه من المؤکد ان بعض القصص الموجودة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 52
فی التوراة یعتبرها العلماء من الأساطیر مثل قصة بلعام المشعوذ و حماره الناطق، و قصة شمشون الذی کان شعره الطویل یمنحه مزیدا من القوة، و مع هذا فان هذه القصص الأسطوریة هی فی الحقیقة لیست خرافات مطلقا (کذا).
و لا ریب ان تعصب کیلر هو الذی یحدو به الی تدوین مثل هذا الرأی، و الی محاولة اثباته بالبراهین التنقیبیة الملموسة.
و هنا یشیر الی التنقیبات التی أجرتها البعثة الآثاریة الامریکیة برآسة نلسون کلوک سنة 1937 فی تل الخلیفة فی الأردن، و اکتشاف میناء عصیون جابر فیه بالقرب من العقبة. و قد اکتشف هنا أیضا منجم کبیر للنحاس الذی استخدم سلیمان قسما منه فی بناء الهیکل و زخرفته فی القدس، و صار یصدر مقادیر کبیرة منه الی الخارج فی مقابل الذهب و الأشیاء الثمینة الأخری التی کانت ترد الیه. فقد کانت عدة أشیاء فی هیکل سلیمان هذا مصنوعة من النحاس، مثل المذبح و الحوض الکبیر الذی کان یسمی «البحر» و قواعد الأرکان العشرة و الأوانی و الأحواض الصغیرة و ما أشبه، علاوة علی عمودی النحاس العظیمین «یاکین» و «بواز» فی رواق الهیکل. ثم یقول کیلر ان سلیمان، الذی یسمیه کلوک «ملک النحاس العظیم»، لا بد من أنه کان من أعظم مصدری النحاس فی العالم القدیم. و یضیف بعد ذلک قوله ان سلیمان نازع الفلسطینیین فی الجنوب علی حقهم فی احتکار الحدید أیضا و حصل منهم علی الطریقة السریة فی استخراجه. و هکذا تصح نصوص التوراة عن النحاس و الحدید الواردة فی سفر التثنیة علی حد قوله.
یضاف الی هذا ان سلیمان کان عاهلا تقدمیا علی ما یظهر. فقد کان مقتنعا بالاستفادة من الأدمغة و الخبرة الأجنبیة، و هذا هو السر الذی جعل النظام الفلاحی البسیط الذی کان یتمیز به الیهود فی عهد أبیه داود ینقلب فی قفزات سریعة الی نظام اقتصادی من الصنف الأول علی ما یزعم. و هنا أیضا ینطوی السر فی ثروته التی یؤکد علیها التوراة. حیث انه استقدم خبراء صهر المعادن و تنقیتها من فینیقیة، و عهد الی حورام أبهی الصانع الماهر من (صور)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 53
بصب زخرفات الهیکل فی القدس و تنسیقها. و استقدم کذلک خبراء فی الملاحة و السفن، و فی شؤون الأرصفة و الموانی‌ء، من البلاد الفینیقیة. و قد وردت جمیع هذه الأخبار و تفصیلاتها فی النصوص الفینیقیة المکتشفة کذلک. فهی تنص علی ان حیرام ملک صور عرض علی «أمیر الیهود» مواد إنشائیة لقصره الجدید اذا ما تنازل له عن میناء فی البحر الأثیوبی (الأحمر)، فقدم له الأمیر ذاک بلدة إیلات و میناءها. و مع وجود الکثیر من النخیل حول المکان لم یکن هناک خشب مناسب للأغراض البنائیة، و لذلک اضطر حیرام ان ینقل الخشب علی ثمانیة آلاف جمل. و قد بنی اسطول عدته عشر سفن من هذا الخشب.
و هنا یکتفی بهذا المقدار مما یذکره کیلر عن سلیمان، الذی کان عصره من أبهی عصور القدس و أزهاها، و ننتقل الی ما کتبه الکاتب الفرنسی المعروف جان لوی برنار عن سلیمان مؤخرا. فقد أورد رأیا یکاد یکون غریبا یشکک فی کون سلیمان یهودیا من بنی اسرائیل و یقول انه رجل أجنبی عنهم.
فهو یقول فی بحث طویل: ماذا یعنی الاله لدی الاسرائیلیین؟ أن المتباکین لدی حائط المبکی فی القدس سیضحکون من أنفسهم ذاتها حین یعلمون ان سلیمان مشید الهیکل لم یکن یهودیا، و انما کان آشوریا. کان «نائب ملک» معین من الخارج لایجاد التوازن فی «برج بابل»، ذلک البرج الذی یضم شعوبا مختلفة الأصول تقطن فی فلسطین .. و سلیمان هو شلما نصر الذی «عبرنه» الاسرائیلیون فحولوا اسمه الی سلیمان ..
.. و بصورة عامة لعبت فلسطین دور نائب الملک التابع، و مهما أوغلنا فی تاریخها القدیم لا نجدها أبدا قد عاشت مستقلة، و حتی فی أیام داود، الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 54
تولی الحکم فی القدس، کانت تدور فی الفلک المصری العملاق. و کل فرعون کان یعین نائبا له یختاره قطعا من العنصر المحلی. و الرومان قد حذوا حذو الفراعنة، فان هیرود مثلا کان من عنصر آخر، کان أیدومیا علی حد تعبیر العهد الجدید. و هذا العنصر قد قاسی ما قاسی من کره الیهود له.
. و کان فرعون یعین فی محمیته «نائب الملک» ممن لیسوا من أهل المنطقة، ثم یزوجه امرأة من الطبقة الأرستقراطیة المصریة. و امتد هذا الاجراء حتی شمل الهاربین و الخونة و المرتدین السیاسیین و کذلک الرهائن، و کانوا ینشئونهم علی الطریقة المصریة و یزوجونهم بالطریقة نفسها. و بهذا الخصوص أقول ان أفضل مثل یضرب دون نزاع هو مثل سلیمان .. ففی عهده دخلت سطوة مصر العسکریة فی دور الاضمحلال، کما هی حالة سطوة بابل. اما الکوکب الذی توسط کبد السماء فهو الکوکب الآشوری. فتحولت «نیابات الملک» التابعة من ید الی أخری، تحولت فی فینیقیة کما تحولت فی فلسطین.
و أرجح کون سلیمان سامیّا، کما کانوا سامیین أولئک الآشوریون المنحدرون من جبال زاغروس، و من صیاصی القفقاس و معهم شطر من الأکراد .. کل هؤلاء هبطوا الی ما بین النهرین لیخضعوها بعد أن دب فی أوصالها الانحلال .. و قد تمثلوا لغتها و ثقافتها. و الثقافات المسماة سامیّة نابعة من الجزیرة العربیة القدیمة الممعنة فی الحضارة .. و سلیمان من معدنهم، فهو نصف عربی (و هذه حصته البابلیة)، و هو نصف کردی. و هذا یفسر لنا الصداقة التی تربط سلیمان بالملوک الفینیقیین الذین ساعدوه فی بناء هیکله الذائع الصیت فی القدس. و یفسر لنا کذلک الحب الذی ستکرسه ملکة سبأ العربیة للحکیم سلیمان. و لو کان یهودیا لاستحالت هذه الصداقة و لاستحال هذا الحب الی کراهیة و بغضاء، لأن الیهود و هم أمشاج مختلطة کانوا منبوذین فی العالم العربی. و لکن هذا السامی الکردی مرتبط روحیا بمصر اذا لم یکن هذا الارتباط سیاسیا، و قد تزوج بامرأة مصریة من طبقة روحیة علیا تدین بدیانة الآلهة هاتور و تتکتم فی دیانتها هذه، و هاتور آلهة سماویة ذات وجه أسود.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 55
و ان آیة الشاعر الملک الرائعة هی «نشید الأنشاد» الذی هو عبارة عن غزل دینی کان سائدا آنذاک، و هو مصری قلبا و قالبا، «اننی سوداء و لکننی حسناء».
.. و هذه الفکرة غریبة للغایة علی التصوف الیهودی الذی لا یعطی المرأة أیة قیمة روحیة، بل الأمر بالعکس، و ان «نشید الانشاد» هو نبع خالص من الأدب الصوفی المصری .. و هناک مفسرون سطحیون رأوا فی هذه المعشوقة السوداء جاریة من جواری الحریم من الجنس الأسود، فیا لها من نظرة سخیفة .. فالحقیقة ان القضیة هی قضیة انشودة غرامیة مهداة الی عذراء سماویة ذات قناع أسود. و هذه النظریة الغامضة کانت أساس العدید من الجمعیات السریة و هی کلها صوفیة، و کانت تشمل الشرق بأسره فهل هذه مصادفة إذا کان سلیمان یعتبر الأب الروحی لکهان الشرق؟
لقد کان عالما بأسرار الجانب الخفی من الدین. و ان الماسونیة الحرة نفسها تدعی أنها تدین بدین سلیمان و بهیکله المشهور فی القدس .. و الشک هنا لا محل له من الاعراب، فقد کان سلیمان شخصیة عظیمة لا سیما علی الصعید الروحی، فهل لهذه الغایة اغتاله الیهود؟ هذا ما یجعلنا نفهمه من الکتاب المقدس .. فانه ببنائه الهیکل، و بفتحه أبواب القدس للروحانیات الأجنبیة قد أوجد دواء لنرجسیتهم (عبادة الذات) .. و لکنهم فضلوا أسطورة الشعب المختار.
و اذا کان هذا الملک السامی الکردی قد استطاع ممارسة الدین الذی تکتنفه الخفایا و الأسرار- و هو من أعلم أهل زمانه- فانه کان مدنیا بهذا العلم لکاهنة مصریة من کهنة الآلهة هاتور، و هذه الکاهنة تزوجها بدافع الطموح السیاسی .. و توج کل هذا بمعاهدة مصریة- آشوریة. ففلسطین التی کانت حتی ذلک العهد محمیة مصریة أصبحت فی الواقع آشوریة. و قد وافق فرعون علی تعیین نائب للملک الآشوری شریطة ان یرتبط بمصر عن طریق امرأة مصریة، و نصیبه کنصیب أسلافه .. و عن طریق المرأة نقلت مصر بحیازتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 56
علی التقالید الانسانیة القدیمة امتیازاتها الروحیة، فعهدت بها الی أجانب من النخبة الممتازة. و قضیة سلیمان نطرحها کمثال .. و لأجل ان نحسن فهم ماهیة هذه المنقولات علینا ان نناظر بین الملک سلیمان المعبرن بصورة اعتباطیة و بین شخصیة أخری هی شخصیة الحبر الأعظم (یویا) المعبرن هو أیضا بصورة کاذبة، فسموه یوسف الذی باعه أخوته ..

ملکة سبأ فی القدس

یفرد المستر کیلر فصلا خاصا (الفصل 21) لزیارة ملکة سبأ سلیمان الحکیم فی أورشلیم، یتحدث فیه عن «العربیة السعیدة» و مدنّیتها و کونها کانت منبعا للکثیر من السلع الثمینة النادرة التی کانت تأتی بها القوافل بانتظام الی الشمال، حتی صار سکان الکثیر من البلاد فی تلک الأعصر الخوالی یتخیلون سحرها و یتناقلون قصصا خیالیة عن قبورها الملأی بالذهب، و عمّا کان فیها من توابل و عطور.
و بعد ان یصف أشیاء کثیرة من هذا القبیل یخرج کیلر من کل ذلک الی ان منتهی «طریق التوابل و العطور» کانت اسرائیل، و کان وکلاء سلیمان الرسمیون «تجار الملک» فی القدس و غیرها یتسلمون السلع الثمینة و یتاجرون بها. و لذلک کانت حیاة ملکة سبأ تتوقف علی هذه التجارة التی صار یملک زمامها یومذاک الملک سلیمان نفسه. لأن هذه السلع و القوافل کان لا بد لها من ان تمر باسرائیل قبل أن تذهب الی سوریة و مصر و فینیقیة.
و لأجل تأمین هذه التجارة المزدهرة، و نظرا للسمعة التی صار یتمتع بها سلیمان یومذاک، شدت بلقیس ملکة سبأ الرحال الی أورشلیم و فی صحبتها هدایا ثمینة الیه. و بهذا یمکن اعتبارها شریکة تجاریة له، علی ما یفهم مما یذکره کیلر. لکن التوراة تعلل زیارتها لسلیمان فی القدس بکونها کانت ترید امتحانه ببعض الأمور و تلتمس الحکمة منه (الاصحاح العاشر من سفر الملوک الأول). فلما اختبرته و وقفت علی ما عنده من حکمة قدمت الیه هدایا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 57
کثیرة. فقد قدمت له مایة و عشرین وزنة من الذهب و کمیات کبیرة من الطیوب و الحجارة الکریمة. و لا شک ان هذا کله یدل علی ثروة هذه الملکة و غناها إن صحت الروایات، و علی شهرة سبأ بالذهب عند الیهود.
علی ان الدکتور جواد علی یقول فی تاریخه ان قصة هذه الزیارة و إن کانت دونت فیما بعد، کتبها کتبة التوراة بعد عدة قرون، تستند الی قصص قدیم کان متداولا و لا شک بین العبرانیین، فدونها هؤلاء الکتاب. و قد رأی بعض نقدة التوراة ان هذه القصة کتبها أولئک الکتبة لاثبات عظمة سلیمان و سعة دولته و شهرة حکمته. غیر ان هذا لم یبت به حتی الآن. و رأی آخرون ان هذه الملکة لم تکن ملکة سبأ فی الیمن، بل کانت ملکة تحکم فی العربیة الشمالیة، و ربما کانت تحکم جماعة من السبأیین المقیمین فی الشمال.
و یستند الدکتور فی هذا علی ما یقوله البحاثة هیستینغ .
اما و یندل فیلیبس منقب جامعة کالیفورنیة الذی أجری فی نهایة 1951 تنقیبات أثریة فی مأرب، یشیر الیها المستر کیلر نفسه، فیقول فی کتابه عن ملکة سبأ: و الجدیر بالذکر انه لم یسبق لأی شی‌ء فی ذلک الجزء من العالم أن نسب الی زمنها الذی کان علی وجه التقریب حوالی سنة 950 قبل المیلاد.
و الآن و نحن نتطلع الی نقوش من صنع انسان قد یکون حیا فی الوقت الذی کانت تعیش فیه بلقیس، فانه لا یسعنا الا أن نفکر فی ملکة سبأ أکثر فأکثر.
و کان الکثیر من الأساطیر قد دار حول ملکة سبأ، تلک الملکة التی ورد ذکرها، أول ما ورد، فی الفصل العاشر من سفر الملوک، حیث قص علینا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 58
نبأ زیارتها للملک سلیمان فی القدس. و فی ذلک الوقت کان الملک سلیمان.
الذی قدر الاستاذ أولبرایت انه کان یعیش فی الفترة الواقعة ما بین سنة 961 و سنة 922 قبل المیلاد. یشرف علی عملیات بحریة فی البحر الأحمر و المحیط الهندی. و کما روی سفر الملوک انها قدمت شمالا فی قافلة من الجمال.
و مما لا شک فیه ان زیارتها کانت ذات قیمة تجاریة مهمة، فانها أهدت الملک 120 وزنة من الذهب و الأحجار و اللآلی‌ء التی لم یشاهد مثلها من قبل .. و کان هناک مقدار وفیر من التوابل لم یسبق ان شهدت مثله القدس.
.. و یقول بعض المؤرخین ان ملکة سبأ کانت بالفعل شمالیة تحکم قبائل رحل فی شمال شبه الجزیرة العربیة. اکثر منها ملکة تخضع لها الأمة التی کانت عاصمتها مأرب. و بالرغم من ان هناک ملکات من العرب أکثر من الملوک. ورد ذکرهن فی النقوش و الکتابات الآشوریة، خلال الفترة الواقعة بین سنة 800 و سنة 650 قبل المیلاد، فان ذلک لا یثبت ان الملکة انما کانت تعیش فقط فی شمال الجزیرة العربیة ..
و من بین القصص التی تروی عن هذه الملکة عند زیارتها للقدس قصة تشرح کیف انها بعد أیام من وصولها الی بلاط الملک سلیمان قد رأت الملک یصاب بصدمة حینما سمع الشائعات التی تقول عنها ان لها رجل عنزة. و لما لم یکن الملک راغبا فی إحراج هذه السیدة. و أن یسألها ان ترفع أهداب ثوبها لتریه قدمها، فقد أعدّ خطة بارعة للتوصل الی ما یرید .. فقد بنی مهندسوه أرضا من البلور تلوح للرائی کأنها ماء. و قد جاء الیوم، و کان سلیمان یقف فیه فی المکان المواجه للأرض البلور. عندما دعا ملکة سبأ لتنضم الیه. و اعتقادا منها بان علیها ان تعبر ماء رفعت الملکة ثوبها کما تفعل السیدات و قفزت الی الأمام. و قد رأی سلیمان ما قرت به عینه و هدأ خاطره .. کانت تملک ساقین عادیتین .. و لطیفتین أیضا.
و من بین الأساطیر الحبشیة. أسطورة تقول انه لما کانت ملکة سبأ امرأة صالحة ترفض باستمرار ألوان الغزل و المداعبة التی یعرضها علیها الملک سلیمان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 59
فقد دعاها فی لیلة حارة إلی عشاء دسم، ثم وضع جرّة تحتوی علی ماء بارد قرب فراشة بینما وضع جرة فارغة قرب فراشها. و بعد ان استراحت الملکة فعلت تلک الأطعمة فعلها فزادت فی عطشها. و أخیرا تسللت الی مخدع سلیمان لتستعیر شیئا من الماء، و بذا اقتربت عن براءة بنفسها من صاحب الجلالة الذی کان ینتظرها علی أحر من الجمر.
و قد تکون هذه الأساطیر ملفقّة مخترعة و لکنه لیس هناک سبب واحد یدعونا الی الشک فی ان الملکة المشار الیها کانت ملکة فعلا.

نهایة الدولة الیهودیة

لقد قضی سلیمان نحبه فی سنة 926 قبل المیلاد فقبر و قبر معه الی الأبد حلم اسرائیل ببقائها دولة واحدة معظمة، علی ما یقول کیلر (الص 221) فقد تسنی لداود و سلیمان ان یحققا شیئا من هذا الحکم المفعم بالطموح خلال جیلین من الأجیال، و لکن فی اللحظة التی رحل فیها سلیمان الی العالم الآخر نشبت الخلافات العشائریة بین الیهود من جدید فتحطمت الامبراطوریة الفلسطینیة بنتیجة ذلک النزاع. و حلت فی محلها مملکتان- مملکة اسرائیل فی الشمال و مملکة یهوذا فی الجنوب. و کان الاسرائیلیون هم الذین یعملون علی تقویض امبراطوریتهم، فأدی هذا الی ان یقع سکان اسرائیل فریسة للآشوریین و سکان یهوذا فریسة للبابلیین. و کان الذی حل بهم، و هم منقسمون علی أنفسهم، أسوأ من مجرد اختفائهم فی عالم النسیان. فقد وقعوا بین شقی رحی الدول المعظمة التی قدر لها فی القرن الذی أعقب ذلک ان تسیطر علی المسرح العالمی، و انتهارت مملکتا یهوذا و اسرائیل فی غمرة النزاع المحتدم و لما یتم مرور 350 سنة علی موت سلیمان فاصبحتا أثرا بعد عین.
فقد نفذت آخر رغبة لسلیمان قبل وفاته، علی ما یذکر کیلر، و جلس ولده رحبعام علی عرش القدس لیحکم القبائل کلها مدة و جیزة من الزمن.
لکن الأسباط سرعان ما ازدادت الخصومة و النزاع بینهم فزجت البلاد فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 60
حرب أهلیة، و آل ذلک الی انفصال عشرة أسباط عن عرش سلیمان فی القدس و اسسوا لهم فی الشمال مملکة أخری فی 926 قبل المیلاد باسم اسرائیل و عاصمتها شکیم. و نصب یربعام ملکا علیها. اما السبطان الباقیان، یهوذا و بنیامین، فقد بقیا علی ولائهما لرحبعام فی الجنوب فتکونت منهما مملکة یهوذا التی اتخذت القدس عاصمة لها.
و مع هذا فقد استمر النزاع بین المملکتین مدة من الزمن. و ما ان نشبت الحرب الأهلیة بینهما حتی تعرضت فلسطین الی احتلال غیر منتظر دام عدة أجیال. فقد هاجمها شینشق (الفرعون شینونک الاول) من مصر بجیوشه و اکتسح البلاد فنهبها فی طریقه. و کانت أعظم الغنائم التی استولی علیها غنائم القدس العاصمة، إذ نهب هیکل سلیمان و ما فیه من نفائس، و نهب قصره الذی یسمیه التوراة «بیت لبنان»، و لم یکن یمضی علی تشییدهما أکثر من عشرین عاما، و بذلک جرّدت النصب الدالة علی عظمة سلیمان عن عزتها و مجدها. و صار رحبعام یصنع دروعه من النحاس بدلا من الذهب، و فی هذا فأل سی‌ء علی ما تقول التوراة.
اما اسرائیل فقد بلغت درجة من الضعف تغلبت فیه علیها حتی مملکة مؤآب. علی ان الخطر ظل یهدد الدویلتین الیهودیتین من الشرق. فقد کان نجم الآشوریین آخذا بالصعود، و صار ماوکها العظام یولون وجوههم شطر الدول و الامارات السامیة التی تحجبهم عن البحر فی سوریة و فلسطین. و سرعان ما هوجمت المدن الفینیقیة .. و لا شک ان هذا کان نذیر سوء للمملکتین الیهودیتین فی فلسطین فقد قیل .. «من حلقت لحیة جار له فلیسکب الماء علی لحیته». فقد تولی الحکم فی آشور تیغلات بیلسر الثالث، و راح یکتسح بلدان البحر الأبیض المتوسط علی ما یقول کیلر (الص 238)، و أجبر الشعوب المستقلة علی ان تکون تابعة الی الامبراطوریة الآشوریة. ثم توجه الی فلسطین فخضعت له اسرائیل فی عهد الملک مناحیم الذی تحاشی تدمیر بلاده بدفع ألف قنطار فضة جمعها من أهالی اسرائیل المتمکنین. و یذکر کیلر ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 61
هذه تساوی بعملة الیوم ستة ملایین باون ذهب استرلینی، و یقدر ان اسرائیل لا بد من ان یکون فیها یومذاک حوالی ستین ألف موسر، لأن کلا منهم دفع خمسین شقلا.
و ما ان تراجع تیغلات پیلسر حتی هب رزین ملک دمشق و تزعم تکوین حلف من الدویلات الآرامیة فی وجه هذا الخطر الداهم. و انضمت الیه اسرائیل و الدویلات الفینیقیة و العربیة، علی ما یذکر کیلر، و کذلک انضمت مدن فلسطین الجنوبیة و الأدومیون. و حینما امتنع یوحاز ملک یهوذا فی القدس عن الانضمام الی الحلف هاجمته الدویلات المتحالفة فی عاصمته فاستنجد بسیده فی آشور. و کانت النتیجة علی ما یذکر التوراة (سفر الملوک) و تؤیده التنقیبات الأثریة، ان دمرت اسرائیل تدمیرا تاما و محیت من الوجود علی ید سرجون الثانی. إذ یقول کیلر ان عشرات الآلاف من الناس طردوا بعنف من دیارهم، و سیقوا الی بلاد غریبة، و حل فی محلهم أناس جی‌ء بهم من مختلف الأنحاء.
و هکذا اختفی من الوجود سکان مملکة الیهود الشمالیة و ملوکهم، و امتصّتهم شعوب بلاد أخری، فلم یظهروا بعد ذلک الی الوجود مطلقا. فان جمیع التنقیبات الأثریة التی أجریت للتفتیش عن مصیر الأسباط العشرة لم تؤد الی نتیجة ما.
اما مملکة یهوذا فقد توفی ملکها الذی جامل الآشوریین و استکان لهم، و تولی بعده ابنه حزقیا، فأخذ یکتل مدن فلسطین الجنوبیة معه. و اتصل بفرعون مصر شاباک الحبشی یومذاک لا سیما و قد کانت وفوده موجودة فی أورشلیم. و قد رد سرجون علی ذلک فی الحال بتدمیر مدن فلسطین الجنوبیة، و نکّل بها تنکیلا شدیدا کما یفهم من النقوش المکتوبة علی جدران قصره، و بذلک قضی علی الجبهة المناوئة له. فالتفت حزقیا عند ذاک الی مردوخ بلادان ملک بابل لیتعاون معه فی تکوین جبهة جدیدة، و حینما هم سرجون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 62
بالقضاء علی خصومه الجدد اغتیل فی قصره فتأخرت الکارثة التی کانت بانتظار مملکة یهوذا و عاصمتها أورشلیم.
علی ان حزقیا صار یعد للأمر عدّته، فأصلحت مواقع الدفاع فی أورشلیم و هیئت لحصار طویل الأمد، بعد أن جددت الأجزاء القدیمة من الأسوار و شیدت فیها الأبراج. کما شید سور خارجی ثان من الجهة الشمالیة المعرضة للهجوم، بعد ان هدم بعض الدور من أجله. و أهم ما اتخذ فی هذا الشأن من تدابیر تدبیر الماء للمدینة فی أثناء الحصار. ففی خارج المدینة حیث تنحدر السفوح الجنوبیة انحدارا تدریجیا نحو وادی کدرون کانت توجد برکة ماء ، فاتخذ تدبیر بارع صار یمکن به تحویل ذلک الماء بصورة سریة الی المدینة عند الحاجة.
اما الآشوریون فقد تولی العرش عندهم بعد سرجون الثانی ابنه سنحاریب، و بعد أن أدب المتمردین فی بلاد بین النهرین توجه فی نهایة سنة 702 ق. م فسحق البلاد الثائرة فی الحال، و استولی علی مملکة یهوذا کلها عدا عاصمتها أورشلیم. فقد حاصرها و ضیّق علیها الخناق من جمیع الجهات، و ظل علی هذه الحال حتی حدث أمر مفاجی‌ء أمر فیه سنحاریب جیوشه بالانسحاب و العودة الی آشور. و لا تشیر النقوش الآشوریة الی سبب الانسحاب بشی‌ء، لکن المستر کیلر یستنتج من التنقیبات التی وجدت بالقرب من القدس أن وباء مخیفا تفشی فی الجیوش الآشوریة فأدی الی الانسحاب، بعد ان وافق حزقیا المحاصر فی أورشلیم علی دفع غرامة باهظة. و یقول النص المختص بموقعة القدس هذه، المستمد من النقوش الآشوریة، علی لسان سنحاریب ما یأتی: .. أما حزقیا فقد انسحق بروعة جلالتی .. و أرسل الی نینوی من بعدی کنوزا ثمینة .. ثلاثین قنطار ذهب، و بعث ببناته و نساء حرمه، و بالمغنّین نساء و رجالا. و لتقدیم الطاعة و الجزیة بعث برسله .. اما التوراة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 63
(سفر الملوک الثانی) فیذکر ان حزقیا بعث الی نینوی بثلثمایة قنطار فضة و ثلاثین قنطار من الذهب.

سبی بابل

و هکذا تدنی أمر مملکة یهوذا، لکن القدر انقذها فی آخر لحظة و بقیت علی قید الحیاة ضعیفة الجانب مهیضة الجناح. و أخذت تستعید شیئا من الحیاة بالتدریج خلال المدة التی حکم فیها أسرحدون بعد ابیه سنحاریب فی آشور، و آشور بانیبال من بعده. و قد حصلت تطورات خطیرة بعد ذلک فی توازن القوی فأدت الی انتهاء أمر آشور کدولة معظمة، و ظهور المیدیین و الکلدانیین فی بابل. إذ تحالفت هاتان القوتان فیما بینهما فقضتا علی الدولة الآشوریة و تقاسمتا أسلابها، و کانت المناطق الشمالیة و الشمالیة الشرقیة من حصة المبدیین و البقیة من حصة البابلیین. و بهذا وقعت سوریة و فلسطین من حصة نیبو بلاصر والد نبوخذنصر.
و کان أول ما فعله انه بعث بنبوخذ نصر ولی عهده لتسلیم ممتلکاته الجدیدة.
و کانت مملکة یهوذا قبیل ذلک قد وقعت فریسة فی یدی نخو فرعون مصر الذی ألحق فلسطین و سوریة به. و أخذ یهوحاز بن یوشیا أسیرا الی مصر بعد أن جرده من کل ما یمت للملکیة بصلة، و نصب فی أورشلیم مکانه ابنا آخر من ابناء یوشیا یدعی یواقیم فبدل اسمه الی یهویواقیم.
و ما باشر نبوخذنصر بدحر نخو فرعون مصر فی شمال بین النهرین تمهیدا لتسلم سوریة و فلسطین حتی توفی والده فعاد الی بابل و تأخرت نهایة یهوذا المؤدیة الی سبی بابل بضع سنوات. و فی دورة القرن السادس قبل المیلاد وقعت الواقعة التی أدت الی محو مملکة یهوذا من الوجود الی الأبد و شطبها من سجل التاریخ کأمة من أمم الشرق القدیم، علی ما یقول کیلر (الص 273).
و أخذت الحوادث تتری بسرعة مخیفة علی الدولة التابعة و سکانها فی أورشلیم و ما یحیط بها. فقد آل بهم الأمر الی طریق المنفی و الترحیل القسری الی بابل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 64
و قد بدأت الواقعة برفض الجزیة و اعلان الثورة علی السید الاقطاعی الجدید علی ما یعبر عنه کیلر، و ذلک فی سنة 597 ق. م: فلم یتدخل نبوخذنصر فی بادی‌ء الأمر و انما اکتفی بسوق جیوش محلیة من مؤاب و أمون و سوریة علی أورشلیم، و حینما عجزت عن قمع الثورة بسرعة خف هو بنفسه الی مملکة یهوذا. و بینما کان فی طریقه الیها مات یهویواقیم فجأة، و تولی عرش أورشلیم فی مکانه ابنه یهویواکین. و کان هذا یبلغ الثامنة عشرة من العمر، و لم یحکم سوی ثلاثة أشهر. و حینما وصل نبوخذنصر الی أسوار أورشلیم استطاع فتحها و القضاء علیها بعد أن نهبها و دمرها، ثم أخذ ملکها و سبی أهلها الی بابل.
و یقول کیلر إن التوراة یذکر بأن یهویواکین و أسرته قد أخذوا أسری الی بابل فی سنة 597 ق. م، لکن التنقیبات الأثریة التی أجراها الاستاذ کولدیوی الألمانی فی بابل سنة 1899، و الرقم الطینیة التی ظلت محفوظة الی سنة 1933 حتی قرأها و حل رموزها فایدنر، تمیط اللثام عما یخالف ذلک. فلم یضطهد الیهود فی بابل کما جاء فی التوراة و انما عاش ملکهم مع أسرته و حاشیته فی قصر نبوخذنصر نفسه فی بابل عیشة مرفهة. کما تشیر الی ان نبوخذنصر سمح لمملکة یهوذا، بعد أن أخذ ملکها و سبی قسما من أهلها، بأن تبقی مملکة من الممالک التابعة الی بابل. و کان الذی تولی عرش أورشلیم بعد یهویواکین عمه ماتانیا الذی أعاد نبوخذنصر تسمیته باسم صدقیا.
و مع هذا فقد عادت یهوذا الی الثورة و العصیان بتحریض من فرعون مصر المسمی أفریز. فخف نبوخذنصر فی هذه المرة الی یهوذا بسرعة الصاعقة، فی حملة تأدیبیة ماحقة. و بعد ان استولی علی انحاء المملکة کلها من جدید ظلت أورشلیم تقاوم مدة ثمانیة عشر شهرا بأمل وصول النجدة التی وعدت بها من مصر. لکن أملها فی ذلک کان سرابا خادعا، و لم یکن بالامکان تأخر النتیجة القاضیة. فقد تمکن الجیش الکلدانی من اقتحام أورشلیم، و أسر صدقیا ثم ذبح أبناءه علی مرأی منه، و سملت عیناه تنفیذا لما یقتضیه القانون العسکری البابلی بالنسبة للخونة. اما أورشلیم فقد أبیحت للسلب و النهب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 65
و أضرمت النار فی هیکل سلیمان و القصر الملکی، ثم هدمت أسوار المدینة الی الأرض. و فی هذه المرة أیضا سبی قسم کبیر من الیهود (سنة 576) و أخذوا الی بابل، فمحی نبوخذنصر بذلک أسرة داود الملکیة من الوجود بعد ان حکمت فی أورشلیم مدة اربعمائة سنة. و اصبحت یهوذا کلها مقاطعة بابلیة. اما الذین تخلفوا فی البلاد من الیهود فقد نظموا حرب عصابات للمقاومة فی الجبال، و قتلوا الحاکم البابلی غیدالیا علی ما یدعون. و قد أدت هذه الأعمال الی قیام البابلیین بترحیل الیهود للمرة الثالثة و الأخیرة من فلسطین، و استطاع عدد منهم الافلات من ذلک فنجوا بأنفسهم الی مصر. و هکذا أسدل ستار التاریخ علی بلاد خالیة، و تفرق أسباط اسرائیل مع الریاح الأربعة علی حد تعبیر کیلر.
ثم یذکر کیلر (الص 280) ان بعض علماء التاریخ مثل کوک و تیری ینکرون صدق الروایة التی توردها التوراة فی ترحیل السکان الی المنفی، و هم یرون ان الترحیل لم یکن بمقیاس واسع من یهوذا و انما أخذت بعض الأسر المرموقة و أسرت فی بابل. لکن التنقیبات الأثریة تدل علی عکس ذلک تماما، حیث لم یعثر فی التنقیب و لا علی بلدة واحدة فی مملکة یهوذا ظلت مسکونة باستمرار خلال مدة السبی. فقد دمر البابلیون مملکة یهوذا تدمیرا کاملا و أخلوها من السکان، و بذلک یکونون قد نظفوها و کنسوها کنسا کاملا علی حد تعبیر کیلر.
و هکذا، فبعد ستمایة و خمسین سنة من الوقت الذی وطأت فیه أقدام أبناء اسرائیل أرض المیعاد لم یبق فیها من نسلهم و لا شخص واحد. و بذلک تحققت تحذیرات انبیائهم و تهدیداتهم، و نفذت ارادة اللّه بحقهم. فتعزو التوراة ما أصاب دولتی الیهود من نکبات الی انحرافهم المستمر و إکثارهم من الخیانة و تعاطی الرذائل. فقد جاء فی الأصحاح السابع عشر من سفر الملوک:
و عبدو آلهة أخری و جروا علی سنن الأمم التی طردها الرب من وجههم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 66
و علی ما سنّه ملوک اسرائیل . و عملوا فی الخفاء أمورا غیر مستقیمة فی حق الرب إلههم، ابتنوا المشارف فی جمیع مدنهم و أقاموا أنصابا علی کل أکمة.
و قتروا هناک مثل سائر الأمم، و فعلوا أفعالا سیئة لاسخاط الرب، و عبدوا الأصنام فأمرهم الرب علی ألسنة أنبیائه بالتوبة و حفظ وصایاه فلم یسمعوا، و صلّبوا رقابهم مثل آبائهم الذین لم یؤمنوا بالرب، و رذلوا فرائضه و عهده، و اقتفوا الباطل و ترکوا جمیع وصایا الرب إلههم. و صنعوا لهم عجلین من المسبوکات، و أقاموا غابا و سجدوا لجمیع جند السماء، و عبدوا البعل و أجازوا بنیهم و بناتهم فی النار. و تعاطوا العرافة و الفأل و باعوا أنفسهم لعمل الشر، فغضب الرب جدا من اسرائیل و نفاهم من وجهه و لم یبق الا سبط یهوذا.
و یهوذا أیضا لم یحفظوا وصایا الرب و سلکوا فی سنن اسرائیل فرذل الرب جمیع ذریة اسرائیل و أذلهم و أسلمهم الی أیدی الناهبین ..
و هناک فی الاصحاح السادس و الثلاثین من سفر أخبار الیوم الثانی أشارة الی ذکر استیلاء نبوخذنصر علی أورشلیم و سقوط دولة یهوذا. فقد جاء:
حتی ان جمیع رؤساء الکهنة و الشعب أکثروا الخیانة حسب کل رجاسات الأمم. و نجسوا بیت الرب الذی قدسه، فی أورشلیم، فارسل الرب إله آبائهم الیهم عن ید رسله مبکرا و مرسلا لأنه أشفق علی شعبه و علی مسکنه فکانوا یهزأون برسل اللّه، و رذلوا کلامه و تهاونوا بانبیائه حتی ثار غضب الرب علی شعبه، حتی لم یکن شفاء. فأصعد علیهم ملک الکلدانیین فقتل مختاریهم بالسیف فی بیت مقدسهم، و لم یشفق علی فتی أو عذراء و لا علی شیخ أو أشیب بل دفع الجمیع لیده، و جمیع آنیة بیت اللّه الکبیرة و الصغیرة، و خزائن بیت الرب و خزائن الملک و رؤسائه. و أحرقوا بیت اللّه و هدموا سور أورشلیم، و أحرقوا جمیع قصورها بالنار، و سبی الذین بقوا من السیف الی بابل فکانوا له و لبنیه عبیدا الی أن ملکت مملکة فارس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 67

حیاة السبی

تدل التنقیبات الأثریة، و اللقی التی عثر علیها فی بابل و غیرها، علی أن حیاة الیهود فی المنفی لم تکن حیاة سیئة کما تذکر بعض المراجع. فقد کانت عیشتهم فیها عیشة مرفهة، اکتسبوا فیها ثقافة عامة هیئوا أنفسهم بواسطتها لمقاومة الفناء و الاحتفاظ بخصائصهم المعروفة. إذ یذکر کیلر (الص 283- 290) بعد ان یصف بابل و عظمتها، و یشیر الی أنها لم تکن مرکزا تجاریا فقط بل مرکزا دینیا عظیما أیضا، و الی أنها کانت أعظم من طیبة، و ممفیس و أور، و حتی أعظم من نینوی، بان یهود السبی الآتین من فلسطین و حتی من أورشلیم المتغطرسة کانوا أناسا ضیقی الأفق محدودی التفکیر، و لم یکونوا یعرفون سوی الطرق الضیقة و الأزقة المظلمة.
و یشیر کذلک الی ان یهود المنفی أخذوا بوصیة جرمیا التی بعثها من أورشلیم الی کبارهم و أنبیائهم و حاخامیهم و قد نجحوا نجاحا باهرا، ثم عاشوا عیشة مثمرة فی ظل السلم الذی توخّوه. فقد کتب لهم جرمیا (سفر جرمیا) یوصیهم ببناء منازل و السکنی فیها، و زرع البساتین و الحقول و أکل حاصلاتها حتی یتکاثروا و لا یقل عددهم. و طلب الیهم أن ینشدوا السلم فی المدینة التی أخذوا سبایا الیها. و بذلک کانت حالتهم أحسن من حالة أجدادهم الذین وجدوا فی مصر علی عهد النبی موسی، و لا تقارن بها.
و من طریف ما یذکره المستر کیلر فی هذا الشأن، مما عثر علیه المنقبون الأمریکان فی نفّر، ان أسرة یهودیة من أسر السبی کانت قد أسست شرکة خاصة لها و فتحت محلا تجاریا مقره فی نفّر و فروعه فی کل مکان. و کانت هذه الشرکة المسماة بشرکة «موراشو و أولاده» تدیر مصرفا دولیا، و تتعاطی أعمال التأمین و نقل الملکیة و القروض و المتاجرة بالأراضی الزراعیة و غیر الزراعیة و ما أشبه، حتی أصبحت ذات سمعة کبیرة وصیت ذائع. و قد استمرت فی أعمالها خلال مدة تقارب مایة و خمسین سنة، و بقیت الی أیام الفرس الذین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 68
حکموا بابل بعد الکلدان. و یشبّه کیلر هذه الشرکة بشرکة «لوید» فی یومنا هذا، فیدعوها «لوید بین النهرین». و لقد اکتشفت وثائق هذه الشرکة و مخابراتها محفوظة فی جرار مسدودة بالاسفلت. و مما وجد فیها ان الذین کانوا لا یستطیعون الکتابة من عملائهم و مراجعیهم کانوا یوقعون علی المستندات ببصمة أظافرهم. و یورد کیلر تفصیلات عدد من المعاملات التی قامت بها شرکة موراشو هذه لاناس معینین بأسماء معروفة. کما یورد نصوص مقاولات موقع علیها ببصمة الأظافر و مؤرخة بتاریخ أیلول أو غیره.
و یفهم من کل هذا ان ضمانات الذین یسجنون عن الدیون کانت تودع فی مصرف هذه الشرکة، التی کانت تخصص شعبة خاصة من دائرتها لکل شأن من شؤون الحیاة. و ان مقدار الفائدة کان عشرین بالمایة. و یعقب کیلر علی هذا بقوله ان شرکة موراشو و أولاده یمکن ان تتخذ مثالا للمهنة التی أصبحت منذ عهد السبی مقرونة بأبناء اسرائیل. فقد أصبحت بالنسبة لهم مهنة مفضلة و بقیت کذلک حتی یومنا هذا، و هی مهنة المتاجرة و البیع. و قد کانوا فی موطنهم الأول فلاحین و مربی حیوانات و أصحاب أراض و باعة فقط. لأن قانون اسرائیل لم یخصص نصا للتجارة التی کانت مهنة غریبة عنهم، و لذلک کانت تترک للکنعانیین و غیرهم. و یقول کیلر بعد ذلک ان انتقال الیهود الی المهنة التی کانت محرّمة علیهم حتی ذلک الیوم کان عملا بارعا للغایة، لأنه برهن بالنسبة لما عندهم من تعلق شدید بعقیدتهم القدیمة علی کونه أحسن ضمان لبقائهم کشعب من الشعوب بین أمم الأرض. فهم کفلاحین و زراع لو استمروا علی مهنتهم و انتشروا فی الأرض لاختلطوا و تزاوجوا مع الأقوام و العروق الأخری، و لأدی ذلک خلال أجیال معدودة الی امتصاصهم و اختفائهم من الوجود. فقد تطلبت مهنتهم الجدیدة هذه ان تکون بیوتهم فی مجتمعات کبیرة یستطیعون فی ضمنها ان یکتلوا أنفسهم فی مجتمع خاص بهم و یمارسون طقوسهم الدینیة المختصة بهم. و هذا یعنی أنها کونت فیهم التماسک و البقاء علی أنهم مهما أخلدوا الی السکینة و السلام فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 69
المحیط الذی کانوا یوجدون فیه، و مهما استفادوا من کل ذلک، فانهم لم یستطیعوا نسیان مدینة داود أورشلیمهم المحبوبة.

العودة الی أورشلیم

و حینما تسنی لکورش ملک الفرس ان یقضی علی الدولة الکلدانیة فی بابل سمح للیهود المقیمین فیها بالعودة الی أورشلیم، و أصدر أمره الامبراطوری الذی کان مکتوبا بالآرامیة یومذاک الی شیش بازار الحاکم فی أورشلیم بالاشراف علی اعادتهم و تعمیر أورشلیم و الهیکل فیها، و أعطاهم ما أخذه نبوخذنصر من المعبد من أوانی الذهب و الفضة، فعادت جماعات منهم علی دفعتین یبلغ عددهما معا خمسین ألفا، بینما تخلف أکثر المنفیین فی «المنفی». و یقول کیلر (الص 299) انه من المفهوم فی هذه الحالة بعد بقاء الیهود خمسین عاما فی المنفی ان لا یغتنم هذه الفرصة بالعودة الی موطن آبائهم. و علی کل فقد کان من المجازفة للفرد منهم ان یغادر بلاد بابل الغنیة التی استقر فیها، و نشأ معظمهم بین ظهرانیها، فیسلک طریق العودة الوعر و یعود الی خرائب البلاد التی ظل ینعق فیها البوم. و علی الرغم من هذا غادرت بابل فی ربیع سنة 537 قبل المیلاد، بعد استعداد طویل الأمد، قافلة کبیرة نحو أرض «الوطن».
و لیس من الصعب ان نتصور شکل هذه القافلة بحاخامیها و مغنیها و حمالیها، و بنسائها و أطفالها، و هم یسیرون وئیدا علی ضفاف الفرات العظیم، ثم یتجهون الی الغرب فیمرون بدمشق و منها الی أسفل جبل الشیخ و الی بحیرة طبریة. و بعد ذلک حلّ الیوم الذی لاحظوا فیه من بین قمم الیهودیة السمراء خرائب مدینة صهیون المقفرة و شاهدوها بأعینهم، فکانت أورشلیم بعینها.
و یعتقد علماء الغرب و عدد کبیر من مفکریهم «ان مستقبل العالم کان ینطوی فی تلک القافلة التی ذهبت الی أورشلیم» «فقد کان یتوقف علیها أمر کتابة التوراة و الانجیل کما نعرفهما الیوم- التوراة و الانجیل و العقیدة الیهودیة و النصرانیة، مع عدة قرون من الحضارة الأوربیة. فلو لم تحصل العودة الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 70
أورشلیم للقیت مملکة یهوذا علی وجه التأکید نفس المصیر الذی آلت الیه مملکة اسرائیل قبلها، و لاختلط أفرادها بأمم الشرق و انعدم وجودها بین الأمم». و لا شک أنهم یقصدون بذلک ظهور السید المسیح و نشوء النصرانیة التی ظهرت بعد عودة الیهود من السبی کما لا یخفی.
و حالما عاد الیهود الی أورشلیم بنیت أسس الهیکل الجدید فی غمرة من الحماسة المتصاعدة علی حد ما یقول کیلر. لکن العمل سرعان ما أخذ بالتباطؤ، و فترت الحماسة العظیمة التی ظهرت فی بادی‌ء الأمر، لأن الحیاة کانت شاقة جافة فی تلک البلاد التی فرغت من سکانها حیث کانت البیوت المتهدمة عاجزة عن تقدیم أقل نسبة من الأیواء و الحمایة للناس. و کان هناک علاوة علی هذا مشکلة الحصول علی القوت و المعیشة، حتی أصبح الکل أعجز من ان یهتم بغیر مشکلاته الخاصة. و مع هذا فقد تقدم التعمیر ببطء، و کان أول المستوطنین فقراء معدمین کما یبدو من المکتشفات الآثاریة.
و لیس من الغریب ان یعمد کیلر فی کتابه هذا الی عدم ذکر المقاومة التی قوبل بها الیهود العائدون من سکان البلاد الأصلیین، و هو الذی یبدو تحیزه واضحا للیهود فی ثنایا الکتاب. إذ یقول الأستاذ دروزة انهم حینما أخذوا یستعدون لتعمیر المدینة و المعبد بعد وصولهم تصدت لهم شعوب الأرض فی شرق الأردن و غربه و أرسلوا العرائض ضدهم الی ملک الفرس الذی خلف کورش یحذرونه منهم، و یذکرون له ما کان من سیرة آبائهم. حیث یبدو من هذا استمرار کراهیة و حقد أهل البلاد لهم نتیجة لما کان من سیرتهم معهم. و قد نجحوا فی حملتهم فصدرت الأوامر بمنعهم و ظل المنع مستمرا ردحا من الزمن غیر قصیر الی أن أذن لهم دارا الثانی بالبناء. و لقد برز من بین المنفیین زعیم اسمه نحمیا عینه الفرس والیا علی الیهودیة فجاء و أخذ ینشط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 71
فی سبیل انعاش قومه، و تحصین سور أورشلیم، فتصدی له أهل شرق الأردن و فلسطین بقیادة زعماء ثلاثة هم: جاشم العربی، و سنبلط السامری، و طوبیا العمونی، و أخذوا یصاولونه و یزعجونه و یعرقلون نشاطه. و اشترک معهم الآشوریون و الفلسطینیون. و یؤید هذا کله ما ورد فی بعض أسفار التوراة.
و یذهب الی هذا کذلک الدکتور جواد علی فیقول ان سفر نحمیا یخبرنا بأن سنبلط الحورونی و طوبیا العبد العمونی و جاشم العربی قد احتقروا الیهود حینما حاولوا بناء سور القدس و اغتاضوا من ذلک، و ان سنبلط و طوبیا و العرب و العمونیین و الاشدودیین غضبوا جدا و قرروا ان یحاربوا أورشلیم، و ان سنبلط و جاشم خاصة حاولا إبطال بناء السور لانهما خافا من تمرد الیهود و من عودة ملکهم .. و هذا مما یدل علی ان العرب و حلفاءهم قد استعادوا نفوذهم فی فلسطین و أنهم کانوا علی أبواب القدس. و یظهر من هذا السفر ایضا ان عددا قلیلا من العبرانیین أرادوا الرجوع بعد السبی إلی أورشلیم علی الرغم من سماح الفرس لهم بالعودة و الحاح الأنبیاء علیهم فی طلب الرجوع.
ثم یتابع کیلر سرد الحوادث فی هذا الشأن فیقول ان إعادة تشیید الهیکل فی أورشلیم لم یؤخذ بصورة جدیة أخیرا الا فی عهد دارا خلیفة کورش، أی بعد أن مرّ عشرون عاما علی المباشرة بوضع الأسس له. و کان علی الیهود بعد ذلک ان ینتظروا الی حلول القرن التالی لیبدأوا فیه بتشیید سور المدینة من جدید. و قد تم ذلک علی عهد نحمیا الذی عینه الفرس حاکما مستغلا علی الیهودیة، أی فی سنة 444 قبل المیلاد.

فی حکم الیونانیین

لقد انتقل مرکز القوی فی القرن الرابع قبل المیلاد من «الهلال الخصیب» الی الغرب بالتدریج. و عندما استطاع الاسکندر الکبیر دحر دارا الثالث سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 72
333 ق. م بالقرب من الاسکندرونة تمهدت له الأمور فاستولی علی الشرق کله
اما بالنسبة للقدس و فلسطین فان یوسفوس المؤرخ الیهودی یورد روایة غیر موجودة فی التوراة مفادها ان الاسکندر بعد ان استولی علی حصن غزة المنیع جاء الی القدس، فاستقبله الناس فیها و الحبر الیهودی الاعظم جدوع استقبالا حافلا. و زار الهیکل فقدم القرابین فیه، ثم أنعم علی الناس بانعامات غیر قلیلة. غیر ان کیلر یستبعد صحة هذا الخبر لأن التنقیبات الأثریة لا تؤید ذلک، و لأن الاسکندر لم یکن لدیه الوقت الکافی لزیارة القدس بعد أن تأخر حوالی تسعة أشهر فی محاصرة صور و غزة. و علی کل فالظاهر ان القدس الیهودیة کلها قد خضعت للحکام الجدد، و لیس هناک ما یدل علی حصول مقاومة أو تمنع فی هذا الشأن.
و حینما قضی الاسکندر نحبه فی بابل بالبرداء (الملاریا)، و تقاسم قواده الملک بینهم، کانت القدس و ما حولها من بلاد الیهودیة من حصة البطالسة فی مصر بادی‌ء ذی بدء و استمر ذلک مدة تناهز المایة سنة و قد زاد خلال هذه المدة النفوذ الیونانی الهلینستی بین الیهود حتی انتقل قسم کبیر منهم الی الاسکندریة، و ترجم التوراة الی الیونانیة. و فی سنة 195 ق. م استولی انطیخوس الثالث علی فلسطین و مملکة یهودا کلها، فأصبحتا خاضعتین للسلوقیین تمام الخضوع. و قد حاول السلوقیون إکراه الیهود علی التخلی عن تقالیدهم و طقوسهم الدینیة، و نجحوا فی ذلک الی حد غیر یسیر لأن الکثیرین من یهود القدس و منهم رؤساء الحاخامین مالأوا السلطة و أخذوا یفعلون ما ترید. ثم تخلق الکثیر منهم، و لا سیما الشبان، بأخلاق الیونان و أخذوا یظهرون فی الألعاب الاولمبیة و هم عراة فی کل مکان و علی الأخص فی الملعب الذی أقامه جیش الحبر الأعظم الیهودی فی قلب القدس، أی فی الوادی الذی یحاذی الهیکل و یقع قریبا منه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 73
ثم جاء أنطیخوس الرابع، المسمی أبیفانوس، فنهب هیکل القدس و انتهک قدسیته فی سنة 168 ق. م، حیث کان من عادته انتهاک قدسیة المعابد فی کل مکان. و لم یکتف مما حصل علیه فی الهیکل من نفائس، بل کلف بالاضافة الی ذلک جابی ضرائبه أبولونیوس بالتوجه الی القدس مع قوة من الجیش. فعمد هذا الی نهب المدینة و اضرام النار فیها، ثم هدم البیوت و الجدران فی کل مکان، و أخذ النساء و الأطفال أسری، کما استولی علی المواشی و سائر الحیوانات.
و کان ما أصاب الیهود فی القدس علی أیدی السلوقیین أشد مما أصابهم حتی فی عهد الآشوریین و البابلیین. فقد ادخلت عبادة زیوس إله الأولیمپ فی هیکل یهوه، و عوقب بالموت کل من کان ینفذ تعالیم الیهودیة مثل تقدیم الضحایا و القرابین، و مراعاة السبت، و الختان، و تحریم لحم الخنزیر، و ما أشبه. و یقول کیلر (الص 316) ان هذا کان أول اضطهاد دینی منظم حصل فی التاریخ.
و بتأثیر هذا الضغط و القسوة حدثت ثورة فی البلاد بقیادة الحاخام ماتاثیاس و أولاده الخمسة. و قد بدأت فی قریتهم الصغیرة مودین التی تسمی الیوم المدیة، و تقع علی بعد عشرین میلا من القدس. و هذه ما اطلق علیها بثورة المکابیین. و تمکن یهوذا مکابیوس بن ماتاثیوس الذی قاد الثورة بعد أبیه من تحریر القدس فی 164 ق. م و إعادة العبادة فی الهیکل الی ما کانت علیه فی السابق، ثم أعید بناء المذبح و قدمت القرابین الی یهوه. و مع ان الثورة التی امتدت الی مختلف الأنحاء لم تستطع الصمود فی وجه القوة التی جردت علیها بکل ما تحتویه من خیالة و فیلة، مع اختلاف الیهود بین أنفسهم و خیانة الکثیرین منهم، فقد کانت نتیجتها اعتراف انطیخوس الرابع بحریة الیهود الدینیة و بطبقة رجال الدین فی القدس سنة 167 ق. م. لکن المکابیین أخذوا بعد ذلک یطالبون و یثورون من أجل الحصول علی الحریة السیاسیة کذلک،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 74
کما حصل فی أیام یوناثان و شمعون أولاد یهوذا المکابی، حتی انتهی الأمر بالحصول علی الحریة السیاسیة أیضا فی، 14 ق. م علی عهد شمعون.
لکن السلوقیین ضعفوا بمرور الزمن، و لم یعد بامکانهم اخضاع المکابیین لمشیئتهم. و عند ذاک تعالی شأن الرومان فی روما و استطاعوا التحرر من ربقة التسلط القرطاجی (الفینیقی) الذی کان یفرضه حنی بعل (هانیبال) علیهم.
ثم انتزعوا السلطة من السلوقیین و غیرهم، و زحف القائد الرومانی بومبی مخترقا المملکة السلوقیة الی فلسطین. و بعد ان حوصرت القدس ثلاثة أشهر دخلتها الفیالق الرومانیة سنة 63 ق. م و أصبحت الیهودیة مقاطعة رومانیة، و بهذا ینتهی استقلال الیهود السیاسی الذی لم یعمر طویلا.

المکابیون و ظهور السید المسیح

اشارة

و قد حکمت فی القدس اسرتان من المکابیین، أولاهما تعرف بأسرة حشمتای و کان منها عشرة ملوک من ضمنهم ماتاثیا و أولاده الخمسة قادة الثورة. و أسرة هیرود التی کان من خطتها مسایرة الیونان و الرومان المسیطرین و التعاون معهم فی حکم البلاد. و کان هیرود هذا رجلا من أصل ایدومی- غیر عبری- یدین بالیهودیة، و قد عینه الرومان للملکیة فحکم الیهود بقسوة و فضاضة علی ما تشیر الیه نصوص التوراة و غیرها. و فی عهده ولد السید المسیح فی بیت لحم علی ما تقول التوراة، و ظهرت نجمة بیت لحم فی کبد السماء فکانت اشارة تنبی‌ء بمجی‌ء حکماء المجوس من الشرق الی القدس للتفتیش عنه و الأیمان به.
و یذکر المؤرخ الیهودی یوسفوس ان شائعة سرت بین الناس فی تلک الأثناء بان اللّه سبحانه و تعالی قد قرر انهاء حکم الرومان الأجانب، و أن اشارة سماویة قد أنذرت الناس بظهور ملک یهودی جدید. فجفل هیرود لهذا الخبر، و بادر فی الحال الی جمع رجال الدین و کتّاب الناس جمیعهم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 75
و طلب الیهم ان یعلموه حینما یولد المسیح و یدلوه علی المکان الذی یولد فیه ثم دعا حکماء الشرق و بعثهم الی بیت لحم الکائنة علی بعد خمس کیلو مترات عن القدس، للتفتیش عنه و هناک أیدت الاشارات السماویة ولادته لهم.
و فی أیام هیرود کذلک زارت کیلو پاطرة ملکة البطالسة فی مصر القدس عدة مرات، و حاولت ان تستمیله الی جانبها لانها کانت تخطط سریا لاعادة سطوة آبائها القدیمة علی هذه البلاد. فلم تفلح فی ذلک، و أخذت تحرک علیه لدی عشیقها انطونیوس الرومانی، و لو لا لباقة هیرود و مرونته لأدی التحریک الی قطع رأسه. فقد استطاع إقناع انطونیوس بالهدایا الثمینة لکنه أجبر علی التنازل عن الساحل الفلسطینی و مدنه کلها، فأهداه أنطونیوس الی عشیقته لتلطیف خاطرها. و قد أخذت بالاضافة الی ذلک مدینة أریحا و ما یحیط بها من مزارع و بساتین عامرة تحتوی علی الکثیر من النباتات العطریة، التی یقال ان ملکة سبأ کانت قد أهدتها الی سلیمان الحکیم، و منها نبات البلسم الذی أخذت کیلو باطرة عقلا منه الی مصر فزرعتها فی منطقة المطریة.
و قد مات هیرود فی سنة 4 ق. م فی السبعین من عمره، بعد ان حکم ستا و ثلاثین سنة قضاها فی اضطهاد شعبه و سکان بلاده علی ما یزعمون. و یقول یوسفوس ان الیهود عانوا من ظلم هیرود و تعسفه خلال سنوات معدودة ما لم یعان مثله آباؤهم خلال المدة الطویلة التی مرت علی عودتهم من بابل فی عهد کورش و قد قضی بهده الوسیلة علی کثیر من أسر القدس العریقة و أزیلت من الوجود. و کان آخر ما فعله قبل موته انه قتل ابنه أنتی باتر، ثم مات بعد خمسة أیام، بعد ان رشح ثلاثة من أولاده الصغار و هو علی فراش الموت لیخلفوه فی الحکم. و أول من خلفه ابنه أرخلاوس، فقد بایعه علی الملک فی القدس أفراد أسرته و جنوده المرتزقة المتکونة من الألمان و الغال و المکدونیین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 76
و بدلا من ان یحزن الیهود لموت هیرود صاروا یطالبون بتخلید ضحایاه، الذین ذهبوا قرابین لتعسفه و أطماعه. غیر ان ابنه الملک الجدید رد علیهم بسوق الجیوش علی القدس نفسها. و جرت فی اعقاب ذلک مذبحة رهیبة فیها قتل فی اثنائها ثلاثة آلاف شخص فی یوم واحد، بحیث ملأت جثثهم قاعات الهیکل و أبهائه، و بذلک برهن علی ان «الولد علی سر أبیه». و قد صادف ان ذهب الملک أرخلاوس و اخوه هیرود انتیپاس الی روما للحصول علی تأیید الامبراطوریة لحکم أرخلاوس، فانتهز الشعب المتذمر غیابهما و اتسع نطاق الاضطرابات و القلاقل فی القدس و ما حولها بحیث اضطر الرومان الی سوق فیلق خاص الیها لتهدئة الحالة.
ثم حصلت ثورة اخری تجاوز فیها الیهود علی جنود الرومان، فبادر الجند الی أضرام النار فی الهیکل، ثم هاجموا الناس فی داخله و نهبوا جمیع ما وصلت الیه ایدیهم هناک. و انتشرت الثورة من القدس الی سائر انحاء المملکة الیهودیة کما تنتشر النار فی الهشیم. فنهبت القصور الملکیة فی کل مکان و أضرمت النیران فیها. ثم خف حاکم سوریة الرومانی الی القدس مع جیش قوی تعزز بوصول نجدات الیه من بیروت و بلاد العرب. و ما وصلت أرتال الجیش الی مشارف القدس حتی فرّ الثوار الیهود، فتعقبهم الجیش و ألقی القبض علی عدد کبیر منهم. و عند ذاک شنق حوالی الفی شخص .
و قد صادف فی هذه الفترة العصیبة أن مر یوسف النجار فی طریق عودته من مصر الی فلسطین. و سمع بحکم أرخلاوس فی مکان أبیه فلم یمکث فی القدس بل توجه الی الناصرة، و هناک قضی السید المسیح طفولته و صباه، حتی بعث مبشرا و هادیا للناس.
و یقول الاستاذ دروزه : و فی هذه الفترة، و بالتحدید فی عهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 77
أو غسطوس قیصر، و فی أواخر عهد هیرودس الثانی ظهر من بنی اسرائیل عیسی بن مریم علیه السلام داعیا الی اللّه وحده، ربه و رب السماوات و الأرض، و الی الصلاح و الاصلاح، مبشرا بالرحمة و الرفق و السلام ناعیا علی الیهود و زعماء دینهم ما ارتکسوا فیه من انحرافات و آثام دینیة و خلقیة ..
و قد کان من طبیعة الدعوة التی دعا الیها ان غدت الدیانة المسیحیة دیانة انسانیة عامة انضوت تحت لوائها أمم مختلفة .. و قد تألب رؤساء الیهود علی السید المسیح بسبب دعوته الاصلاحیة لأنه کان یشدد الحملات و النکیر علیهم.
و حرضوا الجمهور علیه، ثم شکوه الی الحاکم الرومانی بلاطوس البنطی و طالبوا بشنقه. و تذکر الأناجیل المعروفة ان الحاکم استجاب لهم و نفذ طلبهم. لکننا نقول تعلیقا علی هذا ان القرآن الکریم یقرر أن اللّه أنزل الانجیل علی عیسی و إنّ شنق عیسی لم یتم بلا شبّه لهم، و ان روایة شنقه قائمة غلی الظن دون الیقین، و ان هناک اختلافات کثیرة فی شأن عیسی بین النصاری أنفسهم.

صلب السید المسیح

ذهب السید المسیح فی رحلته الأخیرة من الجلیل الی البلد المقدس، و قد سلک الطریق الذی کان ابراهیم الخلیل قد سلکه مع أسرته من قبل مارا من بین الجبال التی تخترق منطقة السامرة. فمنعه السامریون من المرور فی بلادهم و اضطر الی ان ینحرف عنها و یحاذی الحدود الأردنیة فی سیره، ثم یعبر الأردن الی اریحا. و من ثم قصد القدس. و قد استغرقت رحلته کلها ثلاثة أیام بلیالیها، لأنه کان یقطعها مشیا علی الأقدام مع بعض حوارییه.
فبانت له القدس قبل انتهاء الطریق من وراء قمة جبل الزیتون و کأن یدا سحریة قد استحضرتها من بین الجبال. و هنا یورد کیلر (الص 349) وصفا للمدینة المقدسة من بعید کما کانت تبین للرائی یومذاک، نقلا عن المؤلف غارستنغ فی کتابه عن أریحا:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 78
.. فقد کانت ترتفع أسوارها العظیمة الی علو مئتین و خمسین قدما عن الوادی. و کانت تعلو من وراء شرفاتها المنفرجة خطوط أبنیتها الکبیرة المارة بالبقعة التی تنحصر فیها البیوت و الشوارع و الأزقة الضیقة. و یقع فی مقابل جبل الزیتون مباشرة الهیکل الذی یشغل مقدمة المنظر، فیحجب بلمعانه و روعته جمیع الأبنیة الأخری. و تتجه واجهته، التی ترتفع الی مائة و خمسین قدما و تمتد فی عرضها بالمقدار نفسه، نحو الشرق فتتألف بکلیتها من الرخام الخفیف. و کانت زخارفه و تزییناته کلها بالذهب الخالص، کما کانت الأساطین تطوق أبهاءه الوسیعة و دهالیزه المتفرعة. علی ان ما کان یتوّج جلال المنظر و بداعته المعبد الذی یقوم فی الوسط، و یتلألأ کما یتلألأ الجبل الذی تکسو قممه الثلوج، علی ما یعبر به المؤرخ الیهودی یوسفوس.
و فی الجهة الشمالیة الغربیة من سور المعبد کان یرتفع مباشرة «برج أنطونیا» موکّرا فوق مرتفع صخری القوام. و یبلغ ارتفاع کل بریج من بریجات زوایاه الکبیرة حوالی مائة و عشرین قدما. و توصل بین الجهة الجنوبیة لمنطقة المعبد و قصر الأسرة الحسمونیة المالکة فی المدینة العلیا قنطرة متینة خاصة.
و فی أعلی نقطة فی المدینة کان یقوم قصر هیرود بالقرب من السور الغربی، و تعلوه بالشاکلة نفسها ابراج ثلاثة یبلغ ارتفاعها 130 و 100 و 80 قدما.
و قد أطلق علیها هیرود الأسماء الآتیة: هیبیکوس، و فاسیل، و ماریا من.
و یمتد من هذه النقطة سور سمیک فیخترق بحر البیوت المنتشر حتی یصل الی منطقة الهیکل، فیقسم بذلک قلب المدینة مرة أخری الی قسمین کبیرین.
و یکتنف المدینة، علی ما یقول کیلر جو قهّاریم عنه تعدد التحصینات و کثرة الأسوار و الأبراج التی تحیط بالهیکل. فحینما ینظر الناظر الی القدس بهذه الحالة یکاد یتنفس عنادها و صلابتها أو عدم مرونتها. و قد کانت هذه المزایا نفسها هی المسؤولة عما حل بالقدس من دمار بعد ذلک، و طرد اسرائیل من أرض الآباء (کذا).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 79
و لا بد من ان المسیح قد خالجه هاجس داخلی بمستقبل القدس الیهودیة و مصیرها حینما تمعن فی هذا المنظر و نقّل ناظریه فی أنحائه. فقد بکی علیها کما یذکر إنجیل لوقا.
اما ما ذکر فی الأناجیل عن محاکمة السید المسیح فی القدس، و الحکم علیه بالصلب، و تنفیذ هذا الحکم، فقد تم التأکد منه بدقة علمیة بذلها عدد من الباحثین فوجدوا أنها روایات موثوفة بکل ما فیها من تفصیل.
إذ تبدأ المأساة التی لا مثیل لها بالتکشف منذ أول توقیف المسیح. فقد کان علیه السلام قد جمع حوارییه حوله فی حدیقة الجثمانیة فوق جبل الزیتون و ما أن بدأ بحدیثه معهم حتی فاجأهم جمع کبیر من الیهود بالسیوف و العصی یتقدمهم یهوذا، أحد حوارییه. و کان هؤلاء قد بعثهم الیه حبر الیهود الأعظم و الحاخامون. فأوقفوه و أتوابه الی المجلس الدینی الأعلی للیهود. أو السانهدرین الذی کانت بیده یومذاک السلطة الیهودیة العلیا و الذی تجتمع فیه السلطتان الدینیة و الدنیویة. و کان هذا المجلس کذلک یتولی أعمال المحکمة العلیا للیهود، و یجتمع تحت المعبد فیما یقرب من الجسر المؤدی الی القسم الأعلی من القدس.
اما الأسباب التی استند الیها المجلس الیهودی فی الحکم علی السید المسیح بالصلب فیلخصها کیلر بالنقاط الآتیة نقلا عن الأستاذ الالمانی مارتن نوت :
اجتماع الحواریین بمریم و القدیسان من النساء و فجأة عصفت ریح من السماء و امتلأت الدار علی ما جاء فی الانجیل. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 80
«.. ان انتظار أنبیاء الیهود القدماء الذی کان یترکز فی ظهور مسیح ملک فی المستقبل قد تطور خلال مدة التسلط الأجنبی الطویلة، و انقلب الی أمل فی ظهور محرر سیاسی یحرر الیهود من الأجانب. و کان کلما یزداد التذمر من حکومة البلاد الرومانیة تزداد وضوحا فی مخیلة الیهود فکرة ظهور مسیح فاتح یتولی القضاء علی السلطة الأجنبیة الممقوتة. و اذا ما قیس بسوع الناصری بهذه المقاییس لا یمکن أن یکون هو ذلک المسیح المنتظر .. و إذا لم یکن کذلک فانه لا بد من أن یکون دعیّا و مسیحا مزیفا. و لما ثبت کونه دعیا و مسیحا مزیفا فان مصلحة السلم و الحیاة الدینیة فی أورشلیم لا بد من ان تتطلب التخاص منه.
کما ان ادعاء یسوع فی أثناء المحاکمة بانه المسیح، و انه ابن اللّه بالنسبة للأسس التی جاء بها العهد القدیم، کان یکفی للحکم باعدامه بتهمة الکفر الصریح»
و قد کان القانون یومذاک یقتصی مصادقة الوکیل الرومانی، بیلاطوس البنطی ، علی هذا الحکم قبل تنفیذه. و کان بیلاطوس هذا مکروها جد الکراهیة من الیهود، لکنه کان یدرک کذلک ان یسوعا المتهم کان موضع حقد الیهود و کرههم له، و لذلک رفض المصادقة علی القرار من دون تردد و قال لحبر الیهود الأعظم انه لم یقتنع بالذنب المنسوب الی یسوع. لکن الغوعاء التی تجمهرت حول قصر الوکیل بتحریض من أحبار الیهود و رجالهم أصرت علی طلبها فی إعدام المسیح، فاضطر الی المصادقة. ثم أخذ بیده و سلمه الیهم لیصلبوه.
و کان المکان الذی وقع فیه هذا کله الساحة «المبلطة» فی محکمة بیلاطوس و المعروف ان هذه الساحة بقیت سالمة حتی بعد أن دمرت القدس فی سنة سبعین بعد المیلاد. و قد اکتشفها المنقبون فی السنوات الحدیثة بعد کثیر من التنقیب و البحث ففی ساحة برج أنطونیا المعروف وجدت بقعة کبیرة مبلطة تبلغ حوالی 3000 یاردة مربعة فی مساحتها، مبنیة علی الطراز الرومانی فی عهد السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 81
المسیح، فکانت هذه البقعة هی التی وقف فیها بین یدی بیلاطوس بینما کانت الغوغاء یعلو صراخها فی الخارج. و فی هذه البقعة کذلک عذب المسیح و جلد قبل صلبه، کما کانت العادة المتبعة یومذاک. ثم أخذه الجنود الرومانیون لیقوموا بصلبه. و قبل ان یفعلوا ذلک أخذوه فألبسوه الأرجوان و وضعوا فوق رأسه تاجا من الشوک لیسخروا به. و هکذا أخذ الی التل الذی صلب فیه (جبل الجلجلة ). و قدموا له قبیل الصلب شیئا من الخمر المخلوط بالمر للتخفیف من عذابه، لکنه امتنع عن شربه و تحمل آلام مسمرة جسمه فی الصلیب . فقضی الأمر.
و لا یکاد یبعد هذا عن الموقع الذی جلس فیه بیلاطوس للمحاکمة بأکثر من ألف، خطوة، علی طول «طریق الالام» المنتهی بکنیسة القبر المقدس. و فی سنة 326 میلادیة أقام الامبراطور قسطنطین نصبا بدیعا فوق قبر السید المسیح، الذی کان قد اکتشف حدیثا یومذاک. و کان یتألف من أعمدة مزینة تزیینا غیر قلیل، یعلوها سقف من العارضات المطلیة بالذهب ..
و فی داخل مصلی الکنیسة الیوم هناک عدد من الدرجات المتآکلة تؤدی الی سرداب فیه قبر طوله ستة أقدام منحوت من الصخر. فهل هذا هو مدفن السید المسیح؟
یقول المستر کیلر (الص 356) ان ما یزید علی ألف قبر قد اکتشف فی فلسطین تعود الی ذلک العهد، لکنها کلها کانت فی مقابر أو سرادیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 82
تعود للأسر. اما هذا القبر فهو لوحده. و یفهم من أحادیث الانجیل ان المسیح کان أول من دفن فی قبر کبیر، فقد تسلمه یوسف النجار و لفه بقطعة نظیفة من نسیج الکتان و وضعه فی قبره الجدید الخاص الذی کان قد نحته فی الصخر، ثم دحرج حجرا کبیرا سدّ به الضریح و غادر المکان.
و یذکر فی مکان آخر من الکتاب (الص 367) ان بطرس کان أول رسول بعد وفاة السید المسیح بشّر بین الوثنیین و هداهم الی النصرانیة، کما کان رئیس أول طائفة مسیحیة فی القدس و الیهودیة، ثم وسع مجال عمله بعد ذلک الی خارج فلسطین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 83

تدمیر القدس علی أیدی الرومان سنة 66- 70

یفهم مما جاء فی انجیل لوقا ان السید المسیح تنبأ بتدمیر القدس و قتل الکثیرین من أبنائها، و أخذ عدد آخر منهم أسری الی بلاد أخری، و دخول غیر الیهود الیها دخول المنتصر. و قد أنذر بنی اسرائیل بذلک حینما طغوا و تجبروا و هزءوا برسالته السماویة التی جاءت تبشر بالسلام و المحبة علی طول الأجیال.
فصح ما تنبأ به عیسی بن مریم و حل الدمار بالقدس بعد مجزرة رهیبة استقامت خمس سنین، فأدت الی محوها من الوجود و اختفاء اسم الیهود منها عبر القرون و لما یمض علی صلب المسیح جیل واحد.
فقد تعالی صوت الیهود یوما بعد یوم و کثرت احتجاجاتهم علی الرومان و تصرفهم فی أورشلیم علی ما یقول کیلر (الص 375). و راح «الزیلوت» المتعصبون من الیهود یؤلفون عصابات ثائرة فی البلاد، و یطالبون بازالة الحکم الأجنبی عنها. و کان کلّ منهم یحمل خنجرا أو مدیة و یخفیه بین طیات ثیابه علی الدوام، ثم ازداد عدد هؤلاء و انضم الناس الیهم فی کل مکان حینما کانت تصرفات الوکیل الرومانی تزید فی الطین بلة، و تؤدی الی ازدیاد التوتر.
و انقلب هذا الغضب المتزاید الی ثورة علنیة فی مایس سنة 66 للمیلاد، حینما طالب فلورس الوکیل الرومانی الیهود بتسلیم سبعة عشر قنطارا من خزانة الهیکل فی القدس. و عند ذلک تسلم الثوار المدینة و صارت فی قبضة أیدیهم.
فقد کان الامتناع عن التضحیة الیومیة للامبراطور یعنی اعلانا صریحا للحرب ضد الامبراطوریة الرومانیة. و ألقت القدس بقیودها علی أقدام روما فتحدت بذلک الامبراطوریة العظیمة.
و سرت نیران الثورة فی کل مکان بعد ذلک، فخرج الزمام من یدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 84
فلورس و لم یعد هو المسیطر فی البلاد. و حینئذ زحف سیستوس غالوس حاکم سوریة علی القدس لینقذ الموقف بفیلق واحد، و عدد کبیر من القوات المساعدة، لکنه اضطر الی النکوص بخسائر فادحة. و استولی الثوار علی البلاد
و إذ کان الیهود علی ثقة بان روما سترد علی هذا التحدی بکل بطش و جبروت، خفّوا الی تحصین المدن و اصلاح مواقع دفاعها. فرمّموا الأسوار القدیمة و عیّنوا القادة العسکریین. و قد تعین یوسفوس، المؤرخ الیهودی القدیم، قائدا عاما فی منطقة الجلیل. اما بالنسبة للرومان، فقد عهد الامبراطور نیرون بالقیادة الی الجنرال فسباسیانوس ، الذی کان قد برهن علی کونه جندیا لامعا، و أظهر کفایة ممتازة، عند احتلال الرومان لبریطانیة.
فزحف، یصحبه ابنه تایتوس، علی رأس ثلاثة من أحسن فیالق الجیش الرومانی و عدد من القوات المساعدة، و هاجم منطقة الجلیل فی الشمال. و قد شهدت القری الصغیرة المطلة علی بحیرة طبریة، التی کان المسیح یعظ صیادی السمک فیها قبل سنوات قلیلة، أول مجزرة دمویة فی هذه الحروب. و أخضعت منطقة الجلیل بکاملها فی تشرین الأول سنة 67 للمیلاد. و سار بین جموع الأسری فی النتیجة یوسفوس القائد العام نفسه، فقد قید بالسلاسل و حمل الی المقر العام بأمر من فسیاسیان. و أصبح ستة آلاف أسیر من بعده عبیدا یعملون فی قناة الکورنیث فی روما.
ثم استؤنف قمع الثورة فی الربیع التالی، لکن أخبارا وصلت فی أثناء المعرکة تفید بانتحار نیرون فتوقفت الأعمال العسکریة مدة من الزمن. و بعد تطورات کثیرة و کفاح مریر حصل فی روما نودی بفسیاسیان قائد فلسطین نفسه امبراطورا علی رأس الامبراطوریة الرومانیة، و غادر البلاد بعد أن عهد الی ابنه تایتوس بانهاء المهمة. فظهر علی أبواب القدس یقود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 85
جیشا لجبا فی ربیع سنة سبعین، و کان هذا الجیش یتألف من الفیلق الخامس و العاشر و الثانی عشر و الخامس عشر، مصحوبة بالخیالة و المهندسین و سائر القوات المساعدة، بحیث بلغ مجموع الجیش الکلی ثمانین ألف محارب
و کانت المدینة المقدسة تعج بالناس، لأن الحجاج کانوا قد قدموا الیها من قریب أو بعید للاحتفال بعید الفصح الیهودی، و قد حصل نزاع بین الزیلوت المتطرفین و بین المعتدلین من الیهود خلال المراسیم فبقی القتلی و الجرحی فی مکانهم من دون أن یخف الیهم أحد. و کان الرومان فی الوقت نفسه یتوزعون علی المعسکرات القریبة من المدینة. ثم قوبل نداء الجیش بالاستسلام بالهزء الصاخب، ورد علیهم تایتوس بالهجوم. فراح المشاة الرومان و أدوات الحصار السریعة الرمی و قاذفات الحجارة یعملون عملهم فی وقت واحد. و کان کل واحد من المجانیق یمکن ان یرمی أحجاره الی بعد ستمایة قدم. و لم تخمد الحرب الأهلیة بین الیهود فی الداخل الا حینما أخذت الأحجار و القذائف تمطر المدینة بوابل متواصل منها. فاصطلح الطرفان المتناحران و اتفقا علی ان یتولی شمعون بارکیورا زعیم المعتدلین الدفاع عن الجهة الشمالیة، و ان یعهد الی یوحنان الکیشالی قائد الزیلوت المتطرفین بالدفاع عن منطقة الهیکل و برج انطونیا.
و قد استطاعت فی بدایة أیار آلات الحصار و أجهزته، بعد قصف متواصل استدام اسبوعین، ان تحدث ثغرة کبیرة فی السور الکائن فی أقصی الشمال و فی خلال خمسة أیام أخری اخترق الرومان السور الثانی. و بعد أخذ ورد دام عدة أیام سیطر الرومان علی الضاحیة الشمالیة و ثبتوا أقدامهم فیها.
و کان تایتوس فی تلک المرحلة قد اقتنع بأنه اذا أوقف القتال و استعرض الجیش فی داخل السور علی مرأی من الناس فانهم سیبادرون الی الاستسلام فأمر بذلک و دخل الجیش یستعرض و یدق طبوله من الصباح الباکر حتی المساء خلال أربعة أیام متوالیة، فلم یحدث التأثیر المطلوب. ثم حاول محاولة أخیرة لاقناعهم، فندب الیهم أسیره یوسفوس المؤرخ الیهودی لیناشدهم بالخضوع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 86
و ذهب الیهم و راح یخاطبهم بلهجة تدمی الفؤاد و یذکرهم بماضیهم و تاریخهم و بآبائهم و أجدادهم، و رسالة اسرائیل، فلم یعبأوا به، ثم أخذ یحذرهم و ینبههم الی المصیر المظلم الذی ینتظرهم، و الخراب الذی سیحل بالمدینة و الهیکل فذهبت توسلاته ادراج الریاح.
و لذلک بدأت الحرب ثانیة من السور الثانی، و کان الهدف برج انطونیا.
و اندفعت مقدمة الجیش من خلال شوارع الضاحیة الی منطقة الهیکل و الجهة العلیا من المدینة. و استمرت المقاومة خلال الوقت کله. و کان الرومان اذا ما جنّ اللیل یلاحظون أشباحا هزیلة تحیط بهم من کل الجهات، و کانت هذه الأشباح تتسلل من الداخل ناجیة بنفسها من جحیم الحصار و جوعه فی داخل المدینة. و قد رأی تایتوس ان ینتقم من هؤلاء تأدیبا للذین یقاومون فی الداخل، فأمر بان یصلب علی الأعواد کل هارب أو ملتجی‌ء أو طالب طعام أو علف.
و تنفیذا لذلک الأمر کان الجنود المرتزقة یصلبون خمسمائة شخص یومیا علی صلبان تنصب خارج المدینة، و سرعان ما تکونت غابة کبیرة تمتد الی سفح التلول، و استمر هذا العمل حتی توقف بتعذر الحصول علی الخشب المطلوب للصلبان. فقد قطعت الأشجار کلها لهذا الغرض و لأغراض الحصار الأخری، و أصبح ما یحیط بالمدینة قاعا صفصفا، و حتی جبل الزیتون لم یعد یتکون فیه الظل المألوف. و فسد الهواء بروائح الجثث المنتنة التی کانت ترمی الی الخارج و تتکدس بقرب الأسوار بالآلاف، و هی جثث المائتین من الجوع و الساقطین صرعی فی الحروب و غیرهم.
و لأجل تشدید الحصار و النکیر علی المدینة و من فیها أمر بأن تحاط کلها بسدود عالیة من التراب، فتم ذلک و طوقت القدس من جمیع الجهات بعد ان اشتغل فیها أفراد الجیش فی اللیل و النهار، و تم کذلک انشاء ثلاثة عشر استحکاما و عدد من النقاط الحصینة الأخری. و بهذا انقطع حتی تهریب بعض القوت و الطعام و النجدات الی داخل المدینة. فخیّم شبح المجاعة علی القدس التی کانت ملأی الی حد الطفوح بالحجاج، و أخذ الموت یحصدهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 87
حصدا مخیفا، و قد أدی الجوع بالناس الی ارتکاب کل ما تعافه النفس و تأباه الانسانیة من أجل الحصول علی القوت.
و قد استمرت المجانیق علی قصف القدس بأثقالها لیل نهار، و سئم تاتیوس من هذا الکابوس المخیف فأراد ان ینهیه بأسرع ما یمکن. و فی غرة تموز هاجم جنوده برج أنطونیا فنسف القصر الذی کان یسوع الناصری قد حوکم فوق ساحته المبلطة و حکم بالموت قبل سنین، من أساسه. و کانت جدرانه تتاخم سور الهیکل الشمالی. ثم جاء دور الهیکل الحصین بکل ما فیه من بهاء و أورقة و درابزینات. و ذاکر القائد العام ضباطه فی هذا الخصوص، و کان کثیر منهم یریدون اعتباره حصنا من الحصون فیشنون علیه الهجوم بکل الوسائل. لکن تاتیوس عارضهم فی هذا و أراد ان أمکن ان یحافظ علی المعبد الذی انتشرت سمعته فی انحاء الامبراطوریة علی ما یقول کیلر (الص 382). و لآخر مرة طلب الرسل من المدافعین ان یستسلموا فکان الرد بالرفض مرة أخری. و هکذا قرر تاتیوس مهاجمة هذا المکان المقدس.
فانصب علی ساحاته و أبهائه وابل متواصل من السهام و الحجارة الثقیلة، و صمد الیهود فی الدفاع کالمأخوذین علی ما یذکر کیلر. و لم یتراجعوا قید أنملة و کان فی أملهم ان یخفّ یهوه الی انجادهم فی آخر لحظة فینقذ هیکله المقدس.
و کان من الصعب تهدیم الحجارة التی بنی بها هیرود الهیکل من قبل. و لأجل ان یدخل الیه الجنود بالقوة أمر تاتیوس بأن یحرق بابه الخشبی. و قبل ان یتم احتراقه کله أصدر تعلیماته باطفاء النار و فتح ممر للجنود من خلاله لمهاجمة الهیکل فی الداخل. و مع ان اوامر تاتیوس کانت تحتم تحاشی تدمیر البقعة المقدسة فقد تسربت النار فی اللیل الی الساحة الداخلیة. و اندفع الجنود فی کل مکان فجرت مجزرة مخیفة بینهم و بین المدافعین حول تلک البقعة. و قد بلغت الحماسة بأحد الجنود أن رمی مشعلا ملتهبا من شباک الذهب فی الغرف المجاورة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 88
لقدس الأقداس. و کانت هذه الغرف مغلفة بخشب قدیم و تحتوی علی مواد قابلة لللاحتراق و من جملتها جرار الزیت المقدس. فالتهب کل شی‌ء، و اندلعت ألسنة اللهیب فی کل مکان حتی احرقت قدس الأقداس و ما یحیط به، علی الرغم من محاولة القائد تاتیوس إطفاء النار و إنقاذه بنفسه. حیث لم یرتدع الجنود عن نشر النار و ترویجها، و لم یکفوا عن مهاجمة کل شی‌ء لأنهم کانوا یعتقدون بوجود الذهب فی کل مکان منه.
و فی شهر آب من سنة 70 للمیلاد نصب جنود الفیالق الرومانیة أعلامهم فی البقعة المقدسة، و ضحوا لها. و مع ان نصف القدس کانت فی أیدی العدو، و برغم أعمدة اللهیب و الدخان التی کانت تتصاعد من الهیکل المحترق لم یشأ المتطرفون ان یستسلموا .. فتحتم علی تاتیوس القائد ان یبذل فی هذه المرة أیضا کل ما کان عنده من جهد و یستغل جمیع امکانیاته للسیطرة التامة علی المدینة بکاملها. و ما حلّ أیلول حتی تم له ما اراد و انتهت المقاومة.
فاستولی الجیش الرومانی علی المدینة التی ظلت تقاوم بعناد و قوة مدة من الزمن بعد ان نهبها و قتل الکثیرین ممن ظلوا فیها. و عند ذاک أمر القائد بأن تهدم المدینة بأسرها، و ان یدّمر الهیکل الی الأرض، و لم یبق قائما سوی الأبراج الثلاثة و جزء من سور المدینة فی الجهة الغربیة لتکون مقرا للحامیة التی تقرر إبقاؤها.
و کان عدد قتلی الیهود عالیا بحیث لا یمکن تصوره. فقد کان فی المدینة خلال الحصار ستمایة ألف نسمة. و یذکر یوسفوس ان عدد الأسری بلغ 000، 97 أسیر، غیر الذین صلبوا و بقرت بطونهم، و ان عدد الجثث التی التی أخرجها الیهود من باب واحد من ابواب المدینة فقط خلال ثلاثة أشهر قد بلغ 800، 115 جثة.
و فی سنة 71 للمیلاد احتفل تاتیوس بنصره العظیم علی القدس الیهودیة بموکب مظفر هائل سار فی شوارع روما. و کان یسیر بین السبعمایة أسیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 89
یهودی فی ذلک الموکب حنا الکیشالی و شمعون بارکیوار و هما یرسفان فی قیود الأسر. و فی عمرة الفرح الذی استولی علی روما حمل فی موکب الظفر هذا نصبان تذکاریان ثمینان من الذهب الخالص، هما الشمعدان المسبع و مائدة خبز التقدمة اللذان کانا فی هیکل القدس.
و فوق هذه الخرائب المقفرة المتجهمة التی منع الیهود و النصاری علی السواء من الاقتراب الیها جاء الأمبراطور هدریان (117- 38 م) فشید مستوطنة رومانیة جدیدة، سماها إیلیا کابیتولینا. علی أن منظر المستوطنة الأجنبیة فوق هذه الأرض الیهودیة المقدسة أدی الی نشوب ثورة أخری فی البلاد، بقیادة رجل اسمه بارکوکبا أی ابن الکوکب. فدعی القائد جولیوس سیفیروس من حاکمیته فی بریطانیة الی الیهودیة فسحق آخر محاولة یائسة بذلها الیهود للحصول علی حریتهم. لکن ذلک استغرق ثلاث سنوات. و عند ذاک أنشأ الامبراطور هدریان هناک «ساحة سباق» و حمامین و مسرحا کبیرا.
ثم نصب تمثال لکبیر آلهة الرومان (جوبیتر) فوق خرائب الهیکل الیهودی للتشفی، و فی الموقع الذی یعتقد النصاری بأنه موقع الضریح المقدس کان الغرباء یصعدون الدرجات لیقدموا الخضوع و الطاعة فی مزار وثنی أقیم للالهة فینوس، إلهة الحب و الجمال عند الرومان.
و قد بیع القسم الأعظم من سکان أرض المیعاد، الذین لم یقنلوا فی حرب 66- 70 م الدامیة و ثورة 132- 135، بیع العبید فی البلاد. و لم یعثر علماء الآثار و منقبوها علی بیّنات ملموسة تدل علی وجود الاسرائیلیین فی فلسطین بعد سنة سبعین للمیلاد، و لم یجد أحد حتی و لا قبرا واحدا کتبت علیه کتابة عبریة. و هدمت الکنائس کلها، و حتی بیت اللّه فی کوپرنوم الهادئة استحال الی خراب بلقع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 90

بعد تدمیر القدس

یذکر عدد من المؤرخین ان الیهود الذین نزحوا الی خارج فلسطین علی أثر هذه النکبة، و لا سیما الذین توجهوا الی قبرص و مصر و القیروان اصطدموا فی عهد الامبراطور تروجان (98- 117) بالیونانیین الوثنیین الذین کانوا فی هذه الأقالیم، و تمکنوا من قتل آلاف منهم. و کانوا یمثلون تمثیلا فظیعا بهم فیقطعون أطرافهم و یشربون دماءهم و یأکلون لحومهم. فغضب الامبراطور علیهم و أوقع فی الاسکندریة مذبحة هائلة فیهم، و کذلک فعل قواده فی قبرص کما بعث برجاله الی لیبیة و بین النهرین للعمل علی ذبحهم هناک أیضا.
و حینما انقسمت الامبراطوریة الرومانیة الی شرقیة و غربیة صارت فلسطین و سائر بلاد الشرق العربی تابعة للقسطنطینیة عاصمة الامبراطوریة الرومانیة الشرقیة، و ممن تولی فی هذه العاصمة بعد قسطنطین، یولیانوس المرتد أو الجاحد، لأنه ارتد عن المسیحیة و راح یضطهد المسیحیین و یعید بناء المعابد الوثنیة.
و کان مما فعله فی القدس انه حرض الیهود القلیلین یومذاک علی تجدید هیکلهم فیها، و أمدّهم بالمال و الرجال لیبرهن علی کذب السید المسیح- علی حد قوله- حینما تنبأ بأنه سوف لا یقام فی الهیکل حجر علی حجر بعد تدمیره.
فتسارع الیهود من الخارج الی القدس و اغتنموا هذه الفرصة، لکن الروایات تقول عن بناء الهیکل ان الیهود کانوا کلما أقاموا جبهة من جبهاته تتداعی فی الیوم الثانی، و لذلک لم یتم بناء الهیکل حتی الآن.
و قد قتل یولیانوس فأحبطت خططه، و اضطهد الیهود فی القدس من جدید فی عهد جوتنیان (541- 579 م) فثاروا فی أیامه و قمعت ثورتهم بشدة و قسوة کذلک. و فی سنة 615 میلادیة انتصر الفرس علی الرومان و استولوا علی سوریة و فلسطین، فعاد الیهود الی التنمر و أخذوا ینتقمون لأنفسهم من النصاری فی القدس و سائر انحاء فلسطین التی شهدت مذابح أهلیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 91
کثیرة مرة أخری. و مما یروی فی هذا الشأن ان الیهود ساعدوا الفرس علی احراز الانتصار، و أنهم کانوا یشترون منهم الأسری و یذبحونهم. و قد بلغ عدد الذین قتلوهم بهذه الطریقة حوالی مائة و تسعین الفا. و حینما انتصر هرقل علی الفرس سنة 625 م و أجلاهم عن فلسطین تسنی للنصاری ان ینتقموا من الیهود فتجددت المذابح بینهم. و هذه هی المذابح التی وقعت قبیل الفتح الاسلامی للقدس، و هی تدل علی شدة کراهیة النصاری الذین طغت أکثریتهم علی فلسطین یومذاک و لا سیما فی القدس نفسها. و قد أدت بهم هذه الکراهیة الی ان یشترطوا فی الصلح الذی عقدوه مع الخلیفة عمر بن الخطاب، عندما فتح القدس، عدم سکنی الیهود فیها.

استنتاجات أساسیة

یلاحظ من الخلاصات التاریخیة المار ذکرها ان هناک نقاطا أساسیة تختص بوجود الیهود فی فلسطین، و مقدار حقهم فیها، لا بد من أن نوردها هنا لالقاء الضوء الحقیقی علی تاریخ هذه البلاد المقدسة، و ازهاق الباطل الذی أخذت الصهیونیة و أنصارها فی العصر الحدیث تبالغ فیه و تستند علیه فی تکوین حق تاریخی للیهود وحدهم فی البلاد الفلسطینیة.
و أول ما یتبادر الی الذهن من هذه النقاط التاریخیة هوان القدس، و ما یحیط بها من بلاد، لم تکن یهودیة فی الأصل، و ان الیهود کانوا طارئین علیها و ظلوا غرباء عنها حتی تسنی لهم ان یحتلوها بالقوة لفترة محدودة من التاریخ. و یؤید ذلک بلا شک الکثیر مما جاء فی أسفار التوراة التی تجعل فلسطین أرضا غریبة و عدوا بها فسمیت أرض المیعاد. فقد کانت تسکن فیها قبل ان یأتی الیها ابراهیم- و قبل ان یخرج الیهود مهزومین من مصر- أقوام ذات مدنیة عریقة عمرت الأرض فاستغلت زرعها و معادنها، و شیدت المدن و البلاد،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 92
ردحا طویلا من الزمن. و کانت هذه تتألف من العشائر الکنعانیة السامیّة و الشعوب العربیة التی أثبتت وجودها فی مواطنها هذه خلال حقب طویلة من الأعصر التاریخیة. إذ کان هناک الأموریون، و العمالقة، و المدینیون، و الأدومیون و الأنباط، و الیبوسیون، الذین بنوا مدینة القدس و اعتبروها من المدن المقدسة، و غیرهم . و قد کان الأنباط و العمالقة و الأدومیون و المدینیون و الیبوسیون من العرب المقیمین فی فلسطین. و هناک شواهد و أدلة کثیرة تبرهن علی ذلک.
فمن طریف ما یشیر الی عروبة الأدومیین قسم من نقوش أسر حدون الآشوری (680- 669) التی تنص علی ما یأتی: من أدوماتو (أدوم) قلعة العرب التی کان فتحها سنحاریب ملک آشور أبی، و أخذ منها الأسلاب، و فتحتها أنا فأسرت ملکتها أفکالاتو ملکة العرب جاء حزائیل ملک العرب بهدایا کثیرة، و قبل قدمی و توسل الی لأعید الیه التماثیل فعطفت علیه و أصلحت عطب أتار سماین، و دای، و نهی، و رولدا (رضا)، و أبیرولو، و أتارکوروما العرب و أعدتها الیه بعد ان نقشت علیها اسم سیدی آشور و قوته العلیا، و اسمی .. و لما حل القضاء بحزائیل أجلست ابنه یاتا (یطیع) .. و بعد ذلک قاد وهب أو أبو (وهب) جمیع العرب فی ثورة علی (یطیع) و لکنی انا أسرحدون ملک آشور، ملک الأقطار الاربعة المحب للعدل .. أرسلت جنودی لنجدة (یطیع) فأخضعت جمیع العرب و قدت و هبا و جنوده و حملتهم الیّ فوضعت الأطواق فی أعناقهم .. و یؤید هذا ما یذکره المؤلف الأمریکی مونتغومری الذی یقول ان الأدومیین کانوا عربا فی عنصریتهم، و کانت عواطفهم مع العرب . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 93
و یذکر الاستاذ دروزة عن الیبوسیین (الص 157): و لیس هنالک ما یوضح هویة الیبوسیین الذین یظهر ان ذکرهم مع الکنعانیین بسبب کونهم من أرومة أخری نرجح أنها أرومة عربیة الجنس تفرعت من إحدی الموجات التی کانت تخرج من جزیرة العرب و تطرأ علی بلاد الشام، و جاءت الی عرب الأردن فاستقرت فیها قبل خروج بنی اسرائیل من مصر. و بعض النصوص یفید ان اسم مدینتهم یبوس، و أنها هی القدس، و لعل الاسم من اسم القبیلة علی ما کان یجری علیه الأقدمون فی التسمیات.
و مما أورده الدکتور جواد علی کذلک (الص 348 و 349) استنادا الی مونتغومری و نولدکه الألمانی ان من أسفار التوراة المهمة التی ورد فیها ذکر عدد من القبائل التی یظن أنها عربیة سفر القضاة، ففیه خبر غزو قام به (المدینیون) (أهل مدین) و العمالقة و بنو «المشرق» لفلسطین الی حدود غزة. و قد قاموا بهذا الغزو فی أوائل القرن الحادی عشر قبل المیلاد. و فی القضاة ایضا ان المدینیین أذلّوا الاسرائیلیین و ان الرب دفع الاسرائیلیین الی أیدی المدینیین سبع سنوات .. و المدینیون و العمالقة و أبناء المشرق و هم «بنو قدیم» کانوا أصحاب إبل، و هم من الأعراب علی رأی کثیر من العلماء.
و أورد أیضا (الص 358) ان النبط قد ورثوا أدوم فاضحوا یسیطرون علی شرایین التجارة الحساسة التی کانت تمر بأرض أدوم .. و الظاهر أنهم ذابوا فیمن ذاب من القبائل فی مملکة النبط التی انصهرت نفسها فی بوتقة أوسع، و هی بوتقة العروبة التی صهرت کل تلک العناصر، و أذابتها فی سبیکة الاسلام بعد ذلک. و قد ذاب فی هذه السبیکة عدد کبیر من یهود فلسطین و جزیرة العرب، و من اندمج فیهم و تأثر بدیانتهم و لا شک قبل الاسلام و بعده. فالعرب هم أحق من غیرهم إذن فی حیازة الملک. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 94
اما عن عروبة الأقوام الأخری فاکتفی بایراد رأی الدکتور جواد الذی یقول فیه: و یتبین من هذه الاشارات الواردة فی التوراة و فی «المکابیین» و فی أماکن أخری ان العرب کانوا فی الشام و فلسطین قرون عدیدة قبل المیلاد، و أنهم کانوا من سکان تلک البلاد الاصلیین. و من المؤسف حقا ان العرب الشمالیین کانوا یکتبون باللغة الآرامیة، و ان التوراة قصدت بالعرب فی الغالب «الأعراب». اما أهل المدن فلم تسمهم بهذا الاسم، بل سمتهم باسمائهم الخاصة او بأسماء مدنهم، فعز علینا الوصول الی معرفة هویة عرب الشام و فلسطین المتحضرین فحسبوا من الارامیین، و حسبوا علی غیرهم أیضا، و شک فی أصل الآخرین لأنهم دعوا بأسمائهم، و لم یدعوا عربا لأنهم لم یکونوا أعرابا. و لو کانوا منهم لأشیر الی ذلک، و لهذا لم ترد فی التوراة و فی المکابیین اشارات کثیرة الیهم، لا لأنهم لم یکونوا من أهل الشام و فلسطین، او لأنهم کانوا قلة، بل لسبب آخر معلوم مفهوم، هو انهم لم یکونوا أعرابا بل کانوا حضرا مستقرین. و لو کانت کلمة «عرب» قد خصصت فی ذلک الوقت علی نحو ما خصصت له فی الوقت الحاضر لسمّوا بها من غیر شک، و لتبین لنا أنهم کانوا کثرة، و أنهم کانوا هناک اصلا من الأصول (الص 268).
و یضیف الدکتور جواد (الص 348) الی ذلک قوله: و علی کل ففی التوراة اعتراف بان اسماعیل هو ابن ابراهیم البکر، و انه ولد فی فلسطین و عاش فی بریة فاران، و فی ذلک دلیل علی ان مواطن الاسماعیلیین (أبناء اسماعیل) الأولی علی رأی قدماء الیهود و التوراة هی فلسطین. و الاسماعیلیون هم من العرب کما ذهب الی ذلک علماء التوراة، فهم أقدم عهدا بها من الاسرائیلیین.
و النقطة الثانیة التی نستنتجها هی ان هذه الأقوام السامیة و العربیة التی کانت موجودة فی القدس و ما حولها من بلاد فلسطین قد قاومت الیهود علی مجیئهم الیها من مصر، و ظلت تقاوم دخولهم مدة تقارب الأربعین عاما. و کان العمالقة أول طبقة من سکان فلسطین قاومت العبرانیین و حاربتهم لمنعهم من الدخول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 95
الیها .. فحارب العمالقة العبرانیین عند سیناء لمنعهم من اجتیاز أرضهم، کما حاربوهم فی الأرضین الجنوبیة من فلسطین لصدهم عن الدخول الیها عن طریق قادش. و ساعدوا المؤابیین فی دور القضاة و المدینیین فیما بعد خلال حروبهم مع العبرانیین. و حاربوهم فی أیام الملک شاؤول و فی أیام داود، فأثارت مقاومتهم العنیفة هذه للعبرانیین حقدا عنیفا فی نفوس الاسرائیلیین علیهم یتجلی فیما دوّن عنهم فی أسفار التوراة . و قد قاوم الیهود و حاربهم أیضا الأدومیون، و حاولوا منعهم من الدخول الی فلسطین و المرور فی بلادهم و هم آتون من البریة الی فلسطین، بقصد الوصول الی القدس. و حاربوهم کذلک فی أیام شاؤول و من جاء بعده . ثم قاتلهم الیبوسیون علی أبواب القدس للدفاع عن مدینتهم و الذبّ عنها، و استمر هذا الدفاع مدة طویلة من الزمن حتی استطاع داود التغلب علی أسوارها المنیعة و کذلک حاربتهم طبقات السکان الأخری و قاومت استیلائهم علی فلسطین و الاستقرار فیها.
و علی هذا فنحن، علی ما یقول الدکتور جواد علی، أمام جیل من العرب کان یسکن فلسطین الوسطی و فلسطین الجنوبیة، و فی طور سیناء، قبل هجرة العبرانیین الی هذه البلاد، و ان هذا الجیل قد قاوم العبرانیین، و لم ینثن عنه عزمه حتی اندمج فی بقیة الشعوب التی ظلت تقاوم العبرانیین، و من ذریته أبناء فلسطین الحالیون .
و هناک نقطة أخری یشیر الیها عدد من مستشرقی الغرب المعروفین من أمثال مرغلیوث و مونتغومری، و هی ان تلک الشعوب العربیة التی کانت موجودة فی حوالی القدس قد أثرت تأثیرا غیر یسیر فی حیاة الیهود و دیانتهم و لغتهم، عند ما دخلوا الی البلاد عنوة و اختلطوا بهم. فان الاصحاح الثالث من سفر الخروج یشیر الی ان موسی علیه السلام حینما جاء الی مدین تزوج من صفوره ابنة بثرون (رعوئیل) کاهنها و أمیرها، و ان المدینیین کانوا بصحبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 96
الاسماعیلیین حینما بیع یوسف لهم. و المدینیون فی رأی کثیر من علماء التوراة هم من العرب، و تقع أرضهم فی بلاد العرب. و یری البعض ان موسی تأثر بآراء یثرون هذا، و تعلم منه العبادة الجدیدة التی شاعت بین العبریین و هی عبادة الاله «یهوه»، و یهوه هو إله قبائل مدین أو بعض بلاد العرب الشمالیة، لا سیما و قد أقام موسی مدة غیر یسیرة بین المدینیین (جواد علی الص 352).
و یقول المستشرق هیستینغز ان النبی أیوب کان عربیا کما یستدل من الطابع الذی یغلب علی أسفاره. فقد عاش أیوب فی أیام حکم القضاة فی حوران أو علی حدود أدوم و بلاد العرب، أو فی جزیرة العرب نفسها. و کان یسکن أرض عوص التی یری بعضهم أنها تقع فی منطقة نجد، و یری آخرون انها فی حوالی حوران أو فیما یقرب من فلسطین. و یشیر مونتغومری (الص 172) الی ان من قدماء القائلین بأثر العربیة فی تلک الأسفار العالم الیهودی «ابن عزرا» من رجال القرن الثانی عشر للمیلاد، و تبعه عدد من الباحثین فی ذلک حتی قالوا ان تلک الأسفار کانت مترجمة عن أصل عربی. و من المتحمّسین فی الدفاع عن هذا الرأی المستشرق الانکلیزی مرغلیوث ، الذی درس الأسماء الواردة فی تلک الأسفار و قابلها مقابلة لغویة أیضا و یؤیده کذلک فی هذا الرأی مستشرقان أمریکیان هما فوستر و فیفر.
و لقد تکرر فی التوراة ذکر طغیان الیهود و خروجهم علی رأی انبیائهم، و تمادیهم فی الملذات و طرق الرذیلة من دون ان یعبأوا بنصائح رجالهم و انبیائهم. و لهذا کله أصابهم ما أصابهم من غضب اللّه و سخطه علیهم، فنکبوا و شردوا فی الأرض.
و لادراک ما یراد بهذه الأقوال یجدر بنا فی هذه المناسبة ان نورد هنا ما یذکره أحد المؤلفین الانکلیز المختصین بالبحث عن الحیاة الجنسیة و تاریخها عند موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 97
الأقوام المختلفة. فیتطرق ج. راتری تیلور أولا فی کتابه (الجنس فی التاریخ) الی القانون الیهودی و شریعة موسی فیقول: و بالنسبة للتنظیمات التی تنظم السلوک الجنسی بین الناس کان القانون الیهودی یختلف عما کان علیه فی العالم الیونانی- الرومانی اختلافا غیر یسیر. و کان هذا القانون مستمدا من مجموعة قوانین حمورابی البابلیة، لکن موسی نزل علیه الوحی الالهی فاستلهم الموافقة القدسیة علیه. و قبل ان یصعد الی جبل سیناء کان «یهوه» إلاها محلیا جبلیا ینصرف اهتمامه الی دخاخین القرابین المحترقة فقط. و کانت الوصیة الجنسیة الوحیدة التی تنطوی علیها «الوصایا العشر» الوصیة ضد الزنا، أو السطو علی زوجة الجیران. و یجب ان یلاحظ ان الزنا فی هذه الحقبة من التاریخ کان یعتبر، کما یعتبر فی روما و عند الیونان، اعتداء علی الملکیة الخاصة و یعنی اغتصاب حقوق الغیر فقط. و لم یقصد فی ذلک ان یقتصر المرء فی التفاته علی زوجته فقط، حیث ان الحقیقة هی ان الزوجة حینما کان یثبت عمقها فی إنجاب الأولاد کانت تقدم الی زوجها جاریة من جواریها لتنجب ابناء له.
و یذکر لنا التاریخ بالاضافة الی ذلک ان الرجال کانوا أحرارا فی اتخاذ العشیقات و الاحتفاظ بهن علاوة علی ما عندهم من أزواج، و لم یکن هناک تحدید لعدد الزوجات عند کل رجل.
و لم یکن هناک کذلک ای حظر علی العلاقات الجنسیة قبل الزواج عند الیهود. و یلاحظ ان التوراة لم یکن یحرم الزنا غیر التجاری و غیر المتقصد کما لم یحرم اغتصاب المرأة بشرط ان یکون للوالد الحق فی المطالبة بتعویض مادی عن البکارة- و حینما تصل البنت الی الثانیة عشرة و النصف من العمر تکون حرة فی ممارسة الاتصال الجنسی مع من تشاء، ما لم یمنعها أبوها منعا خاصا. و مع ان البغاء کان لا ینظر الیه بارتیاح فقد کان من الأشیاء الشائعة فی أورشلیم، و کان عدد البغایا علی درجة من الکثرة بحیث کانت لهن سوق خاصة بهن فیها. و لم یکن اللواط فی فترة ما قبل السبی جریمة یعاقب علیها القانون فی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 98
اورشلیم کذلک، الا اذا ارتکب باعتباره جزءا من العبادة الدینیة للآلهة غیر الیهودیة . و یمکن الاستنتاج مما جاء فی الاصحاح التاسع عشر من سفری التکوین و القضاة ان اللواط یعتبر شکلا طبیعیا من أشکال الغوایة و الفسق، و لو کان شکلا مبتذلا و یشیر الحظر المفروض فی الاصحاح الثالث و العشرین من سفر التثنیة الی الشکل الدینی منه فقط، کما ان الکلمة المترجمة بمعنی اللواط فی سفر الملک جیمس من التوراة تختص بالقس الذی یعنی ببغاء الهیکل.
و الحقیقة فقد أصبحت حتی هذه المهنة شائعة فی مملکة یهوذا علی عهد ملوک الیهود الأقدمین.

استیلاء العرب علی بیت المقدس

اشارة

لاحظنا من بین المراجع الغربیة التی تیسرت لنا ان من خیر من یصف فتح العرب لبیت المقدس السرجون باکوت غلوب، العسکری البریطانی الذی اشتغل مدة طویلة فی المملکة الأردنیة الهاشمیة و اطلع علی تاریخ العرب و أحوالهم.
فهو یصف هذا الفتح بإیجاز فی کتابه «فتوحات العرب الکبری» و یقول (الص 182): فما حلّ خریف سنة 636 م حتی کان العرب قد اکتسحوا سوریة بأجمعها الی حد جبال آسیة الصغری، لکن القدس و قیصریة فی الجنوب بقیتا صامدتین فی وجههم. و کان العرب فی کلوب باشا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 99
الوقت نفسه قد أنشأوا قاعدة عسکریة فی الجابیة الواقعة فی منطقة الجولان، و هی منطقة متوسطة یستطیع جیشهم منها ان یدفع حرکاته بسرعة فی أی اتجاه کان لاخماد الثورات و یظهر ان فکرة انشاء قواعد عسکریة کبیرة مثل هذه، فی مواضع متوسطة یمکن ترکیز القوات العربیة فیها، من دون ان یفسدهم الاتصال بالسکان المدنیین، تعزی فی أصلها الی الخلیفة عمر بن الخطاب.
و منذ ان بدأ الاستیلاء علی سوریة قبل ثلاث سنوات کانت فلسطین أقلیم عمرو بن العاص الخاص. و کان ینضم الی الجیش العربی الرئیسی بین حین و آخر فی أیام الشدة، مثل موقعة الیرموک، و لکن حالما کان یزول الخطر کان یعود الی منطقته الخاصة. و قد کان التاکتیک العربی، الذی جعلهم قوما لا یغلبون فی السهول المکشوفة، لا یمکن ان یطبق فی البلاد الجبلیة او البلاد المغلقة.
و لذلک فطالما کانت الجیوش البیزنطیة موجودة فی المیدان کان عمرو بن العاص یحصر نطاق عملیاته فی سهل فلسطین الساحلی من بئر السبع الی قیصریة. علی ان جیوش المیدان المعادیة لم یبق لها وجود الآن. فتسلق العرب بنتیجة ذلک جبال الیهودیة الصخریة، و ضربوا نطاق حصارهم علی القدس. و لم یعد من المؤمّل أن یطول أمد هذا الحصار أو یتطاول بابتعاد هرقل و جیوشه الی ما وراء جبال طوروس. و قد فتح صفرونیوس بطریرک القدس باب المفاوضات مع العرب فی أواخر خریف 637 علی وجه الاحتمال، و سرعان ما تم التوصل الی الاتفاق علی شروط الاستسلام. علی ان صفرونیوس قد أصرّ علی ان لا یسلّم المدینة الا الی الخلیفة عمر بن الخطاب شخصیا. فأرسل أبو عبیدة رسالة فی هذا المضمون الی المدینة المنورة، و قرر عمر فی الحال أن یزور الجبهة السوریة بنفسه.
و قد سار راکبا فی طریق القوافل الی درعة، التی تقع الیوم علی الحدود الجنوبیة الفاصلة بین سوریة و الأردن، و هو یلبس ملابسه المرقعة البالیة کالمعتاد.
لکن الخلیفة المتقشف صعق حینما لاحظ ان سکان درعة قد خرجوا لاستقباله و معهم المغنیات و الراقصون بالسیوف، و الضاربات علی الطبول من النساء.
و صاح من سخطه علی ذلک «أوقفوهم أوقفوهم!» علی ما یقول الرواة لکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 100
ابا عبیدة سرعان ما بیّن له ان هذا کان من عادة أهم البلاد فی مناسبات مثل هذه، و أنهم اذا منعوا من القیام به سوف یعتقدون ان عمر ما زال علی موقفه المعادی منهم. و بمثل هذه الحجج أقنع الخلیفة بصعوبة علی التغاضی عن هذا العبث التافه . لکن غضبه علی القادة العرب کان أشد من هذا. فقد رکب ابو عبیدة و یزید بن ابی سفیان و خالد الی الجنوب لاستقباله و هم یلبسون ملابس مقصبة ثمینة، و یمتطون خیولا مرخّتة بالعدد الغالیة. فقال لهم و هو مغضب، علی ما یروی، أتأتون الی و أنتم ترفلون بمثل هذه الملابس، هل تغیرتم الی هذا الحد خلال سنتین؟ إنکم جمیعا تستحقون العزل بالخزی و العار. فأجاب القادة و هم مرتبکون، علی ما یذکر الرواة: ان التبدل الذی تراه یا أمیر المؤمنین هو تبدل فی الظاهر فقط و کشفوا عما تحت الملابس الخارجیة لیروه دروعهم المزرده من تحتها. لکن الخلیفة الذی کان یلبس رداء مرقعا لم یهدأ غضبه الا بصعوبة. و قد برهن المستقبل علی ان مخاوفه کانت فی محلها.
و کان ینتظر عمر بن الخطاب فی القاعدة العسکریة فی الجابیة وفد مرسل من البطریرک صفرونیوس، فوضعت شروط الاستسلام فی الحال. ثم رکب الخلیفة الی الجنوب عبر وادی الأردن، فی الطریق العام القدیم الذی یمر ببیسان و یقطع جبال السامریین الباسمة، المغطاة بحقول القمح و الکروم و بساتین الزیتون، الی ان وصل الی المدینة المقدسة حیث استقبله فیها البطریرک حامی الکنیسة ذی اللسان المعسول. لکن صفرونیوس اذا کان لسانه قد نطق بکلمات مجاملة رقیقة، فقد کان قلبه أبعد ما یکون عن الاخلاص. و حینما کان الخلیفة البدوی الحافی یمشی بملابسه الرثة حول کنیسة القیامة همس البطریرک بالیونانیة فی أذن أحد أتباعه یقول «هذه هی بالتأکید فظاعة الدمار الذی تکلم عنه النبی دانیال و هو یقف فی البقعة المقدسة ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 101
و قد حدث بالصدفة ان حلّ وقت صلاة الظهر حینما کان عمر بن الخطاب منشغلا فی تفقد کنیسة القیامة، و بینما کان أحد مرافقیه یهم بفرش حصیرة الصلاة علی أرض الکنیسة لیقوم الخلیفة بادائها منعه عن ذلک و هو یقول انه لا یحبذ ان یصلی فی هذا المکان. ثم أردف یقول «لو فعلت هذا فان المسلمین سیطالبون بجعل الکنیسة مسجدا.» و لذلک خرج من الکنیسة و صلی فی خارجها
و ما یزال یوجد مسجد صغیر حتی الیوم، و قد بنی الی جانب جدار کنیسة القیامة، و هو علی ما یقال یضم البقعة التی صلی فیها الخلیفة صلاته تلک. و قد کانت القدس و ما تزال یقدسها المسلمون تمام التقدیس، لأن محمدا علم أتباعه بالتوجه الیها عند الصلاة، کما أنه عرج الی السماء من موقع هیکلها یوم أسری به. و یبدو ان عمر بن الخطاب قد سلک مع سکان المدینة المقدسة هذه سلوکا فیه الکثیر من التواضع و المجاملة.
و اتخذ الخلیفة فی أثناء هذه الزیارة الترتیبات اللازمة لادارة الأقالیم المفتوحة حدیثا، ثم قسمها الی مناطق عسکریة. و فی ربیع 638 رکب العاهل العربی البسیط حصانه من جدید الی البادیة فی طریق عودته الی المدینة.
اما المؤرخ الألمانی بروکلمان فیوجز فی کتابه المعروف (تاریخ الشعوب الاسلامیة) فتح بیت المقدس و یقول: و من هناک وجّه عمر خالد بن ثابت لفتح بیت المقدس التی لم تلبث ان طلبت الصلح. فتولی عمر نفسه عقد الصلح مع أهلها، و کانت شروطه رفیقة غیر ثقیلة. فقد أعطاهم عمر الأمان لأنفسهم و أموالهم و کنائسهم، کما منحهم الحریة الدینیة علی ان یعطوا الجزیة للمسلمین و علی ان لا یسکن بیت المقدس معهم أحد من الیهود. و الواقع ان عمر سار بنفسه الی بیت المقدس، فدخل ساحة الهیکل المهجورة فأزال الردم بیده عن الصخرة المقدسة التی یعدها الیهود و النصاری و المسلمون جمیعا منتصف الأرض، و أمر ببناء المسجد هناک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 102

المسجد الاقصی

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة قول کاتب البحث فیه، (وینسنک) إنه المسجد الذی بنی فی منطقة الهیکل فی القدس. و یعنی الاسم «الحرم الأبعد»، و قد ورد ذکره فی السورة السابعة عشرة، الآیة الأولی، من القرآن الکریم «سُبْحانَ الَّذِی أَسْری بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِی بارَکْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا».
و قد بینا فی بحثنا عن «المعراج» ان التأویل القدیم یجعل هذه الآیة تشیر الی عروج النبی الی السماء، و یری ان المسجد الأقصی یقصد به أحد الأماکن السماویة. علی ان هذا التفسیر کان لا بد من ان یفسح المجال بمرور الزمن الی تفسیر آخر یشار فیه الی بیت المقدس. و لهذا التفسیر علاقة باسراء النبی، و هکذا فان الجمع بین قصتی الاسراء و المعراج تتکون منه قصة رحلة النبی اللیلیة الی المسجد الأقصی فی بیت المقدس، و رحلته بعد ذلک من بیت المقدس الی السماوات العلی.
و لکن کیف أصبحت القدس متمیزة فی هذا الشأن فی نظر مفسری القرآن الکریم و شارحیه؟ لقد کان هذا علی ما یقول الاستاذ شریک نتیجة من نتائج میل الأسرة الأمویة المالکة الی تقدیس بیت المقدس علی حساب أرض الاسلام المقدسة. لکن الدکتور هوروفیتز یتحدی هذا التفسیر و یشکک فیه. و علی کل فان القدس کانت تعتبر مکانا مقدسا فی الاسلام من أقدم الأزمنة، حیث کانت القبلة الأصلیة التی، و ان ترکت لتحل مکة فی محلها فقد بقیت محافظة علی قدسیتها کما یمکن ان یلاحظ مثلا من إقدام عمر علی بناء المسجد فی موقع الهیکل. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 103
و اسم المسجد الأقصی الآن یطلق علی الأخص علی المسجد الکائن فی جنوب منطقة الهیکل الذی کان فی الأصل علی ما یقول البعض کنیسة من انشاء الامبراطور جستینیان. و یذکر الکتّاب العرب المتأخرون ان هذا المسجد بناه الخلیفة عبد الملک (65- 85، 685- 705)، و قد یعنی هذا ان کنیسة جستنیان قد أعید بناؤها بهذا الشکل.
اما المستشرق الانکلیزی لسترانج فیذکر المسجد الأقصی فی کتابه (فلسطین فی عهد المسلمین) بتفصیل أوفی. فهو یبدأ البحث بشرح قدسیة المسجد و الأسباب التی أدت الیها، و یذکر المعراج و إیراد آیة الاسراء. و یقول کذلک ان الخلیفة عمر بن الخطاب أمر بعد أن تسلم بیت المقدس فی سنة 635 م (14 ه) ببناء مسجد علی ما کان یعتبر موقعا لهیکل النبی داود. و قد عین الموقع فی المکان الذی کان النبی علیه السلام قد صلی فیه قبل ان یعرج الی السماء، بناء علی الوصف الذی سمعه منه. و یقع هذا المکان بقرب الصخرة التی أعید اکتشاف موقعها بعد ان کانت مختفیة تحت أکوام الزبل و الروث.
و کان المسجد الذی بناه الخلیفة هناک بسیطا بشکله و هیأته، لأنه بنی باللبن غیر المشوی و الخشب. و لذلک لم یستقم طویلا، و ربما لم یبق له أثر بعد نصف قرن من الزمن حین أمر عبد الملک بن مروان بتشییده من جدید. و کان البناء الذی شیده فی 690 (72 ه) من الحجر بناء ضخما بدیع المنظر. ثم یذکر لسترانج هنا انه یبدو من المحتمل ان البناء الجدید هذا قد استعملت فیه المواد الانشائیة التی کانت موجودة هناک، و هی من أنقاض کنیسة «سنت میری» العظیمة التی کان قد شیدها من قبل الامبراطور جستنیان الرومانی فی الموقع نفسه تقریبا سنة 560 فأحرقها خسرو الثانی ملک الفرس سنة 614، حینما موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 104
شن حملته الکبیرة علی سوریة فأدت الی تدمیر معظم المبانی المسیحیة المهمة فی البلاد المقدسة.
و یورد لسترانج کذلک فی حاشیة من حواشی بحثه روایة أخری فی هذا الشأن، نقلها عن المؤرخ البیزنطی المعروف ثیوفانس، الموسوم باسم «کرونو غرافیا ). و هو إذ یوردها یقول إنها أقدم ذکر لخبر بناء المسجد الذی أمر عمر، لأن أقدم من یذکر الخبر من العرب هو المقدسی فی سنة 985 م.
فیقول ثیوفانس عن أخبار سنة 524 م ان عمر بدأ باعادة بناء الهیکل المقدس (کذا)، لأن بناءه فی الحقیقة لم یبق له وجود بعد ان أصبح انقاضا و خرائب.
و حینما سأل عمر أهالی بیت المقدس عن السبب أجابه الیهود بقولهم «انک اذا لم تهدم الصلیب القائم علی جبل الزیتون فان بناء الهیکل لن یمکن بقاؤه ثابت الأسس و الأرکان. و عند ذاک هدم عمر الصلیب فی مکانه لأجل ان یمکن بناء الهیکل علی أسس متینة. و للسبب نفسه هدمت صلبان کثیرة فی أماکن أخری ..
و لا شک ان قول الیهود هذا إن صح ففیه دس و خبث، کما ان روایة ثیوفانس (التی نرجح زیفها) و لهجتها الأصلیة ظاهرة التحیز و التعصب الی آخر حد، لا سیما ما یختص منها بتهدیم الصلبان لأن التساهل الذی أبداه المسلمون و الخلیفة عمر بالذات مع النصاری عند فتح بیت المقدس یدحض ذلک. و هذا ما یعترف به المؤرخون الغربیون أجمع. یضاف الی ذلک أن الخلیفة عمر أمر ببناء المسجد الأقصی لا الهیکل الیهودی المزعوم.
و یذکر لسترانج أیضا ان زلزالا یقال انه وقع فی سنة 746 (130 ه) فهدم قسما کبیرا من المسجد الأقصی الذی بنی فی عهد الملک. ثم یورد فی هذا المقام روایة استقاها من مخطوطة «مثیر الغرام فی وصف البلد الحرام» العربیة، و خلاصة ما فی الروایة المسندة الی عبد الرحمن بن محمد بن ثابت،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 105
عن أبیه الذی رواها عن أبیه و جدّه، أن أبواب المسجد فی أیام عبد الملک کانت مغطاة کلها بصفائح ذهب و فضة و لکن الجناحان الشرقی و الغربی من المسجد تهدما فی أیام المنصور الخلیفة العباسی. و حینما فوتح المنصور باعادة بناء القسم المتهدم و توسیع المسجد أجابهم بأنه نظرا لعدم وجود المال فی الخزانة العامة یومذاک، فعلیهم أن یقلعوا صفائح الذهب و الفضة و یستعملوها فی سک العملة المطلوبة للبناء، ففعلوا ذلک و أکملوا البناء و کان ذلک فی سنة 154 ه (771 م) علی الأرجح.
ثم حدث زلزال آخر فقوّض هذا البناء من جدید، و حینما تولی الخلیفة المهدی بعده کان المسجد فی حالة خراب فأمر ببنائه. لکنه أمر کذلک بتوسیعه لأنه کان طویلا ضیقا فی السابق، فأجریت التوسیعات المطلوبة فیه، و کان ذلک ما یعتقد فی سنة 760 م (163 ه) التی توجه فیها المهدی الی بیت المقدس و صلی فیه. و فبیل ان یصف المقدسی المؤرخ المسجد الأقصی فی سنة 985 م أنشأ فیه عبد اللّه بن طاهر رواقا ذی أعمدة. و کان وصف المقدسی له فی أیام الخلیفة الفاطمی العزیز باللّه فی مصر. ثم یقول لسترانج ان وصف الرحالة ناصر خسرو لبیت المقدس فی سنة 1047 (أی بعد 62 سنة) هو مطابق لوصف المقدسی. و هذان الوصفان معا یعطیاننا فکرة واضحة عن المسجد الأقصی قبل ان یستولی الصلیبیون علی بیت المقدس.
و مما یذکره لسترانج کذلک نقلا عن المقدسی ان عددا من الزلازل وقع فی سوریة و مصر بین سنتی 407 و 425 للهجرة، فوقعت فی 407 قبة الصخرة فوق الصخرة نفسها، و تهدمت مدینة الرملة فی سنة 425 (حوالی ثلثها)، ثم تهدم الجدار الخارجی من منطقة الحرم القدسی فأعید بناؤه و بناء الصخرة بأمر من الظاهر الخلیفة الفاطمی فی مصر.
و فی 14 تموز سنة 1099 استولی الصلیبیون بقیادة غودفری دوبویون علی بیت المقدس، فأعطیت منطقة الحرم الشریف الی الداویة أو فرسان الهیکل، فأحدثوا تغییرات غیر یسیرة فی المسجد الأقصی و أقسام الحرم المجاورة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 106
لکنهم ترکوا قبة الصخرة من دون أن یعبثوا بها. فقد شیدوا فی غرب المسجد الاقصی بامتداد السور الجنوبی لمنطقة الحرم مستودع أسلحتهم، أی فی موقع الرواق الذی أشرنا الیه. و وصفه ناصر خسرو، و فی أسس زاویة الحرم الجنوبیة الشرقیة الی غرب مهد السید المسیح بنوا اصطبلات خیولهم.
و حینما استرد صلاح الدین الأیوبی بیت المقدس من الأفرنج فی سنة 1187 أعید إصلاح و ترمیم منطقة الحرم بأجمعها (یراجع من أجل هذا الجزء التاسع من ابن الأثیر). و یقول لسترانج کذلک ان المؤرخین العرب لا یذکرون تفصیلات ما جری من تعمیر فی المسجد الأقصی بعد ان استرد صلاح الدین بیت المقدس حتی جاء مجیر الدین فی 1496 فذکر فی- أنس الجلیل- ان السور الجنوبی لمنطقة الحرم بالقرب من محراب داود أعاد بناءه سلطان مصر المملوک محمد بن قلاوون الذی حکم من 1310 الی 1341 م. و أمر کذلک بتبلیط الطرف الجنوبی من المسجد بالمرمر و فتح شباکین فی الجدار الجنوبی الی یمین المحراب الکبیر و شماله. و یظهر ان المسجد الأقصی لم یکن یختلف فی أیامه کثیرا عما هو علیه الیوم (کتب لسترانج هذا فی 1890).
هذا و قد کتب المستشرق الأنکلیزی کریسویل خبیر فن العمارة الأسلامیة فی کتابه المعروف فصلا موجزا ایضا عن المسجد الأقصی نورد فیما یأتی ترجمة: یبدأ کریسویل بالتساؤل عن المدة التی استقام فیها بناء المسجد الذی شیده الولید، و الظاهر انه یعتقد ان الذی شیّد المسجد الأقصی، بعد البناء البسیط الذی أمر ببنائه عمر بن الخطاب، هو الولید بن عبد الملک و لیس اباه عبد الملک بن مروان کما یذکر معظم المؤرخین. ثم یقول انه یبدو ان ذلک البناء قد دمّر تدمیرا غیر یسیر فی الزلزال الکبیر الذی وقع سنة 747 أو 748 لکن أول ذکر لأعادة بنائه ورد فی کتاب متأخر یعرف بالمثیر- و لعله یقصد موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌5 ؛ ص106 موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 107
کتاب مثیر الغرام المشار الیه قبل هذا- و قد کتب سنة 1351. و یعزو هذا إعادة التعمیر الی المنصور. و یذکر الکتاب نفسه ان زلزالا آخر وقع بعد بضع سنوات و أعاد بناء القسم المتهدم من المسجد الأقصی فیه الخلیفة المهدی و لا یسعنی أن أشعر بأن هذین الزلزالین هما عبارة عن زلزال واحد، و هو المذکور أولا. ثم یتابع کریسویل قوله بأن المسجد أعید بناؤه بشکل أضخم و أمتن مما کان علیه من قبل، و لکن القسم القدیم غیر المتهدم منه أبقی فی وسط المبنی الجدید کأنه شامة فیه. و هذا یمتد الی حد أعمدة الرخام، و من بعدها یبدأ القسم الجدید. و لم یذکر أی الخلفاء أمر بالتعمیر و لکن صاحب کتاب المثیر یقول ان الخلیفة المهدی هو الذی فعل ذلک. اما السنة التی تم فیها فیعتقد لسترانج أنها سنة 163 ه (780) لأن الطبری یذکر أن المهدی هو ذهب فی تلک السنة الی بیت المقدس فصلی فی المسجد الأقصی.
و نورد هنا الوصف الوحید الذی یتیسر لدینا عن المسجد بشکله ذاک، و هو وصف المقدسی نفسه الذی یقول:
ان الحرم له ستة و عشرون بابا، و یسمی الباب المقابل للمحراب باب النحاس الکبیر .. و الی یمینه توجد سبعة أبواب کبری أیضا، و سبعة ابواب مثلها فی الجهة الشمالیة. و هناک فی الجهة الشرقیة احد عشر بابا غیر مزخرف ..
و یغطی القسم الأوسط من الحرم سقف ذو جملون کبیر تعلو فوقه قبة جمیلة.
و تغلف السطوح فی کل مکان بطبقة من الرصاص.
فکیف کان شکل هذا المسجد یا تری؟ لنترک هذا السؤال مؤقتا و نتابع تاریخ المبنی فی سیره. فقد حصل زلزال فی سنة 1033 فهدم المسجد تهدیما استدعی ان یقوم الظاهر الخلیفة الفاطمی بأعادة بنائه سنة 1035 م، و کثیرا ما کان المسجد الأقصی بشکله الحالی یعتبر من إنشاء الصلیبیین و صلاح الدین، لکن هذا رأی مغلوط لأن القسم الأعظم من بناء الخلیفة الظاهر ما زال موجودا فان المعمار الترکی المقتدر المرحوم کمال الدین الذی أجری ترمیمات فی المسجد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 108
بین سنتی 1924 و 1927 قد أماط اللثام عن تفصیلات کثیرة فی البناء تبرهن علی ما نقول:
1- لقد أزال الجص عن سطح العقد الشمالی الذی یحمل القبة فکشف بذلک عن زخرف بدیع بالفسیفساء المزجج یتألف من لفائف کبیرة من نبات شوکة الیهود (أکانتوس) تعلوها کتابة طویلة بالکوفی، تحت عوارض السقف مباشرة، یرد فیها اسم الخلیفة الظاهر الفاطمی. و هذا یبرهن علی ان العقد الکبیر الذی یحمل القبة لا یمکن ان یتأخر بناؤه عن 1035 م.
2- لقد أزال جزئیا غطاء الرصاص من حافة القبة الخشبیة السفلی. و تمیل هذه الحافة السفلی قلیلا الی الخارج لتدفع عن البناء ماء المطر أو الوفر. و تبقی محافظة علی شکلها هذا بسلسلة من العارضات البارزة الی الخارج کما هو الحال تماما فی قبة الصخرة حیث تخرج العارضات بمقدار 85 سنتمترا فی مقابل 75 فقط فی الأقصی (5، 33 مقابل 5، 20 بوصة). و کان من حسن حظی، علی ما یقول کریسویل، ان أری هذه العارضات مکشوفة للعیان، فکان معظمها قد نخره الدود، لکن القلیل منها الذی بقی سالما تقریبا کما کان محفورا بزخرفة فاطمیة. و یبرهن هذا علی ان اسطوانة القبة لا یمکن ان تتأخر عن زمن الظاهر، و کذلک العقود الأربعة التی تحمل القبة لا العقد الموجود تحت القبة ققط.
3- إن جمیع عقود المسجد تسند بعارضات ذات شدتین، و قد دقت بالمسامیر فی الجانب الأسفل من کل زوج لوحة سمیکة علیها زخرف منقوش بالدهان. و کان هذا یختفی وراء غلاف خشبی ازیل عنه فی عشر أو اثنتی عشرة حالة. فکانت إحدی الشدات تحمل نطاقا من کتابة القرن الحادی عشر الکوفیة. و لذلک فان الأقواس القریبة من القبة لا یمکن ان یتأخر زمنها عن زمن الظاهر کذلک. و تنطبق نفس الملاحظة هذه علی شدّة العارضة الأولی التی تلی القبة فی کل جهة من جهتی الرواق الوسطی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 109
4- کان سقف المصلی یتألف (الی زمن متأخر). من عوارض سقفیة متقاربة تقاربا غیر یسیر تستند الی أفاریز مسطحة بحجمین، یبلغ عرض بعضها 35 سم و طولها تسعین (75، 13 فی 25، 43). و هی مزخرفة بزخارف محفورة من النادر ان یتأخر عصرها عن القرن الثامن. و المفروض أنها أخذت من المسجد الذی بناه المهدی و استخدمت فی البناء مجددا.
و الآن دعنا نعود الی المخطط (التصمیم) فنفحصه. اننا نجد ان هناک خطا من أعمدة جسیمة مدورة ما تزال سالمة شرقی رواق المصلی علی مسافة 10، 7 م منه. و هناک عمود آخر من مثل هذه فی الرواق التالی الممتد الی الشرق. اما القسم المحمول علی أعمدة من الرخام فقد بقی فیه رواقان مقنطران یمتدان فی شرق القبة و غربها مع جزء ثالث فی الجهة الشرقیة. و نلاحظ کذلک ان العقود الشمالیة و الجنوبیة التی تحمل القبة تستمر فی امتدادها شرقا و غربا، لأجل أن تحمل قوتها الدافعة الی الجدران الجانبیة، و هکذا تکوّن مخططا بشکل
T
علی الورق و لیس فی الحقیقة و الواقع، لأن جمیع الأروقة المقنطرة تستمر الی حد جدار القبلة.
و علی هذا یتضح ان قسما کبیرا من المسجد الحالی هو من تشیید الخلیفة الظاهر الفاطمی، أی عقود الرواق الأوسط و أربعة عقود تحت القبة و الأسطوانة الی حافتها العلیا، و عقد آخر شرقی عقد المصلی، و الأروقة الکائنة فی یسار العقد الشرقی الذی یحمل القبة، مع رواقین یقابلانها فی الجهة المقابلة.
شکل مسجد الظاهر- ان الحد الشمالی لبناء المسجد الذی شیده الظاهر لا بد من أنه کان علی نفس ما هو علیه الیوم، لأن مدخلین من المداخل الثلاثة الموجودة فی الوسط یجب ان یکون تاریخها، بالنسبة للزخرف الموجود فیها، غیر متأخر عن القرن الثامن. و فیما یأتی أدوّن استنتاجاتی العامة (القول لکریسویل) فی هذا الشأن:
1- إن قسما کبیرا من المسجد الأقصی الحالی هو من تشیید الظاهر الفاطمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 110
2- ان مسجده کان یتألف من سبعة أروقة متکونة من عقود تتعامد مع جدران القبلة، و تتألف کلها الا العقدین الوسطیین من أحد عشر قوسا.
3- لقد کان الرواق الأوسط یبلغ ضعف الأروقة الأخری فی عرضه تقریبا (80، 11 مقابل 50، 6 متر و 75 3 مقابل 25، 21 قدم). و کان له فی أعلاه منور، و کانت الفسح السبع الأولی بین الأعمدة مغطاة بسقف جملونی الشکل توجد فوقه قبة خشبیة کبیرة.
4- کانت العقود المستعرضة التی تحمل القبة تمتد الی الجدران الجانبیة نظرا لما تقتضیه قوة الحمل الدافعة فیها.
5- کانت الأروقة الجانبیة تغطیها سقوف جملونیة الشکل فی مستوی أخفض من مستوی الجملون الکبیر و موازیة له.
6- و انی میّال (یقول کریسویل) الی الاعتقاد بان هذا المسجد لم یکن أعرض من بنایة المسجد الحالیة.
تکوین جامع المهدی- و لنعد الآن الی وصف المقدسی. فلیس هناک احد لا یستطیع الالتفات الی الشبه الموجود فی الخصائص الرئیسة التی لاحظها فی المسجد و الخصائص البارزة فی مسجد الظاهر، ای المدخل الکبیر الأوسط مع المداخل السبعة الأصغر عن الیمین و عن الشمال، و السقف الجملونی الکبیر فوق القسم الأوسط من المصلی مع القبة الجمیلة المرتفعة فوقه، و السطح المغلف بالرصاص.
و لکن هناک أشیاء أکثر من هذه. فقد لاحظنا ان الأعمدة هی بحجمین، إذ یبلغ قطر الأعمدة فی المصلی و شرقیه حوالی تسعین سنتمترا (3 اقدام) بالمعدل. غیر ان هذه لا تعد أعمدة قط، لأنها حینما أزیل عنها الجص وجد أنها مبنیة بسوف من الحجارة. و هذا ما یذکرنا فی الحال بکلمات المقدسی حینما وصف مسجد المهدی و قال «ان الأقسام القدیمة منه قد بقیت، حتی أصبحت کأنها شامة فی وسط العمران الجدید». و یمتد هذا القسم الی حد أعمدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 111
الرخام، و لا یبدأ القسم المتأخر الا حیث تنتهی «الأعمدة المبنیة».
و هکذا فان جامع المهدی کان قسم منه مشیدا علی أعمدة و قسم آخر علی أساطین مدورة، کما فی المسجد الحالی تماما، و کان القسم الأوسط منه مغطی بسقف جملونی جسیم ترتفع فوقه قبة جمیلة. یضاف الی ذلک ان الرواق الاوسط الکبیر و الرواقین الی یمینه و شماله لا بد من أن عرضها قد کان بمقدار عرضها الحالی لأن محاورها تتعین بالمداخل الوسطی الثلاثة، التی لا یمکن ان یتأخر زمن اثنین منها عن القرن الثامن. و لیس من العجیب أن یکون عدد الأبواب فی الجهة الشرقیة من مسجد المهدی، و هی احد عشر، مساویا بالتمام لعدد الأقواس فی العقود الحالیة. أفلا یدل هذا اذن علی ان عقود مسجد المهدی کانت تتألف من أحد عشر قوسا؟ و اذا ما أخذت جمیع هذه النقاط بنظر الاعتبار فان الاستنتاج الواضح لکل ذلک یکون منطویا فی ان الظاهر الفاطمی احترم مخطط المهدی و أخذه فی الاعتبار، فترک الأساطین المدورة بالحالة التی کانت علیها و أعاد تشیید کل شی‌ء علی النمط نفسه. کما ان عرض مسجد المهدی لا بد من أنه کان یبلغ 80، 11 (من مرکز إلی مرکز) بالنسبة للرواق الأوسط، زائدا 50، 6- 14 م للأروقة الأربعة عشر المقابلة للأبواب الأربعة عشر الأصغر فی حجمها، فیساوی المجموع 80، 102 م. و لما کان الطول من الشمال إلی الجنوب، بالنسبة للقیاس الداخلی، 20، 69 م (230 قدم) تکون النسبة بالضبط تقریبا 3: 2، و هی نسبة ملائمة فی فن العمارة العباسی، مثل أبنیة المنصور فی بغداد و الأخیضر و فی سامرا فی القرن التالی. و لا شک ان وجود خمسة عشر رواقا یعنی إضافة أربعة أروقة فی کل جهة من جهتی المسجد الحالی. و لیس من الصدفة الغریبة ان توجد فی الملحق الصغیر من الناحیة الشرقیة، المسمی جامع عمر، أربع فسحات و یکون معدل عرضها 75، 6 م (22 قدما) علی وجه التقریب. و لذلک فان الجهة الشرقیة من الملحق هذا تقابل الجهة الشرقیة فی مسجد الهادی اذا ما أعید تکوینه کما یقترح، و تکون الأساطین الجداریة الکائنة فی الجهة الجنوبیة من هذا الملحق علی محور الأساطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 112
الجداریة التی یتطلبّها تطبیق نظریتی هذه تقریبا.
حوامل الأفاریز الخشبیة- تکون حوامل الأفاریز هذه، التی تتصل بالعارضات السقفیة من الطرفین بحجمین کما ذکر من قبل. و هما یعودان الی زمن أقدم بکثیر من زمن الظاهر الفاطمی، و اعتقد انهما من حوامل الأفاریز التی کانت فی مسجد المهدی. و حینما نشرت انا صورتیهما فی مجلة «أخبار لندن المصورة» الصادرة فی 16 کانون الثانی 1937 اعتقد عدد من النقاد انهما کانا من طراز حوامل الأفاریز الأمویة. اما أنا فقد عزوتهما الی أیام المهدی بالنظر لحیویة الفن الهیلینستی و بقائه فی سوریة الی ما بعد انقراضه فی البلاد الأخری بکثیر .. و نحن نری الآن من الملاحظات و التنقیبات التی أجریت تحت الأرضیة الحالیة خلال عملیة تجدید ما یقرب من ثلث بناء المسجد الأقصی فی سنة 1938- 1942 ان المسجد لم یکن له رواق أوسط عریض قبل أیام المهدی، و لذلک لم تکن هناک حاجة لحوامل الأفاریز العریضة التی تبلغ ستین الی مائة و عشرة سنتمترات فی حجمها (6، 23 فی 7، 43 بوصة).
المسجد الاقصی الاموی- و یصح بالضرورة من الوصف الذی أورده المقدسی بأن مسجدا أقدم، بعقود تستند الی أعمدة من الرخام و تمتد من الشمال إلی الجنوب، کان قد أدخل فی المسجد الأقصی الذی شیده المهدی. و لا تزال هذه العقود موجودة فی شرق و غرب القسم الذی تغطیه القبة.
و حینما أدخلت القبة فی البناء کان من الضروری تهیئة دعامات من الشرق و الغرب بجعل عقود مستعرضة تمتد الی الجدران الجانبیة، و تتألف من سلسلة من الاقواس التی تستند الی مساند مستقلة توضع فی کلا جانبی العمود المقابل للعقود الطویلة، فتنحشک العقود القدیمة ما بین الأقواس المستعرضة الجدیدة. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 113
ففی أثناء العمل الذی تم فی 1938- 1942 استطاع هاملتون حینما أزاح الجص ان یلاحظ بأن بناء سبندلات الأقواس المستعرضة غیر مرتبط ببناء سبندلات العقد الطولی الأول الموجود فی شرقی القبة . و لا ینطبق هذا علی العقد الثانی لأن الأقواس المستعرضة تنشأ هنا من نفس الدعامة التی تنشأ منها الأقواس فی الشمال و الجنوب. و لذلک فقد استنتجت بأن هذا القسم قد تأثر بالزلزال أکثر من غیره و أعید بناؤه من قبل المهدی العباسی. و لا یزال هناک فی الجهة الشرقیة الأبعد عقد ثالث داخل جزئیا فی الجدار.
.. و قد تم التوصل الی اکتشاف آخر تحت التبلیط حینما أزیل قسم منه.
فقد وجد قسم من جدار شمالی أقدم یبلغ ارتفاعه سافا واحدا فی بعض الأماکن و لوحظ امتداده الی ما یزید علی 18 مترا (59 قدما). و کان یبلغ سمکه مترا واحدا (25، 3 قدما) و کانت جبهته الجنوبیة علی بعد 40، 18 مترا (60 قدما) من الجهة الداخلیة للجدار الشمالی الحالی. و علی هذا فان المسجد الأقدم، و هو الأموی علی ما یفترض، کان یبلغ طوله من الشمال الی الجنوب 80، 50 مترا (167 قدما) فقط بدلا من 20، 69 (227 قدما)، لکن عرضه لا یمکن تعیینه.

قبة الصخرة

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة ان قبة الصخرة هی القبة المعروفة فی القدس، التی تسمی خطأ فی بعض الأحیان بجامع عمر. فهی فی الدرجة الأولی لیست جامعا و انما هی مزار أو مصلی مشید فوق الصخرة المقدسة و حولها شبیه بالأبنیة المقببة المنتشرة فی منطقة الحرم. و لم تکن فی الدرجة الثانیة مما شیده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 114
عمر من الأبنیة بل کانت من تشیید الخلیفة الأموی الخامس عبد الملک بن مروان و یقدس الصخرة هذه المسلمون و النصاری و الیهود علی سواء فیعتبرونها محور ارتفاع العام. حتی لیقال انها أقرب الی السماء من أیة بقعة أخری بمقدار ثمانیة عشر میلا. و یجعلها المسلمون تلی الکعبة فی قدسیتها.
و مع ان الصخرة لم یرد لها ذکر فی العهد القدیم فقد ورد ذکرها فی التلمود و الترجومة. لکن الأحادیث الاسلامیة قد کبّرت هذه المادة الاسطوریة و ضخمتها جمیعها. و مما تقوله ان الملائکة زاروا الصخرة قبل خلق آدم بألفی سنة، و استوی فلک نوح علیها بعد الطوفان. و یقال انها صخرة من صخور الجنة بالفعل، و سینفخ هنا فی یوم الحشر اسرافیل الملک صورة الأخیر. و قبل ان یحصل ذلک ستأتی الکعبة من مکة عروسا تتهادی مزفوفة إلی الصخرة.
و یجزمون بأنها ترتکز علی نخلة سوف تقوم عاصیة امرأة فرعون، و مریم أخت موسی، بتزوید المؤمنین فی ظلها بنشقة باردة من أنهر الجنة، و المعتقد ان جمیع میاه الأرض الحلوة قد نشأت من مکان ما تحتها. و یقول آخرون ان الصخرة معلقة بین السماء و الأرض بمعجزة، و لما کانت هذه العجیبة أغرب من أن تصدقها العیون البشریة فقد أخفیت عن قصد بالمبنی الذی یحیط بها.
و فی أسفل الصخرة مغارة یسمع من قاعها عندما تقع قدم الماشی علیها صوت أجوف یشیر إلی وجود کهف تحتها، أو ربما بئر، و هی ما یسمی ببئر الأرواح حیث تجتمع- علی ما یعتقد- الأرواح الراحلة عن هذا العالم مرتین فی الاسبوع.
و لا شک ان تجویف الجدران و المساحة هذا هو الذی نشأت عنه اسطورة تعلق الصخرة فی وسط الهواء. و یقول الحدیث ان جمیع أنبیاء اللّه سبحانه و تعالی الی حد النبی محمد (ع) کانوا قد صلوا علی هذه الصخرة التی یحیط بها کل یوم حرس ملائکی مؤلف من سبعین ألف ملک. و یقال ان اللّه عز و جل أمر موسی بأن یضع الصخرة فی موضع القبلة، و کان فی نیة محمد ان یفعل الشی‌ء نفسه لکن اللّه أوحی له أن یجعل القبلة نحو الکعبة فی مکة المکرمة، و قد حصل هذا التغییر فی رجب من السنة الثانیة للهجرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 115
و حینما فتح عمر بیت المقدس وجد الصخرة مغطاة بالقذارة بحالة مزریة.
فأمر بأن یقوم الأنباط بازالة هذه الأقذار، و بعد أن طهّرت الصخرة ثلاث زخات قویة من المطر، صلی فوقها. و فی سنة 69- 72 (688- 691) بنی عبد الملک بن مروان قبة الصخرة، و کان السبب المباشر لذلک الحالة السیاسیة فی تلک الأیام. فقد آثر سکان الحرمین، مکة و المدینة، الانحیاز إلی منافس عبد الملک فی الخلافة عبد اللّه بن الزبیر. و لما کان عبد الملک یخشی من أن یعود رعایاه الفلسطینیون من حجهم إلی مکة فی تلک الأیام و هم ملقحون بروح الثورة عزم علی انتهاج خطة یحوّل فیها حجاج مکة من الذهاب الی المنطقة الثائرة و یوجههم بدلا عنها الی بیت المقدس. و بعد أن جس نبض الناس بنشر مناشیر تنص علی عزمه هذا، و بعد ان قوبل ذلک بالتأیید الحار (کذا) مضی فی تنفیذ فکرته و وضع مشروعه فی حیز التنفیذ، و هو تزیین القدس بالأبنیة الدینیة المفخمة . و بعد هذا أعلن لرعایاه قوله «ستکون هذه الصخرة لکم بمثابة الکعبة»، و یستند فی هذه الجملة علی المؤرخ العربی الیعقوبی. و لتلافی مصروفات هذه البنایة یقال انه خصص لها خراج مصر لمدة سبع سنوات، و أمر بأن تکون الخزانة التی یصرف منها تشیید قبة الصخرة فی مبنی صغیر خاص خططه فی جوار موقع القبة، و یعرف الیوم بقبة السلسلة. و قد راق نظره هذا المبنی بحیث أمر بأن یکون مبنی قبة الصخرة علی غراره. و کانت الصخرة یومذاک محاطة بمشبک من العاج و ستائر مقصبة. و فی هذا الوقت علقت أیضا درة ثمینة، مع قرون کبش ابراهیم، و تاج خسرو، فی السلسلة المعلقة فی أواسط القبة. و حینما استولی العباسیون علی الحکم انتقلت هذه المعلقات إلی الکعبة . و قد کانت البنایة فی تلک الأیام مضخمة بالروائح و العطور بحیث موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 116
ان المرء الذی کان یزورها و یخرج منها یبقی العطر عالقا فیه فیعرف بأنه کان فیها.
و السبب الآخر الذی جعل عبد الملک یقدم علی تشیید قبة الصخرة یذکره المقدسی. و یقول ان الخلیفة لاحظ قبة کنیسة القیامة و بهاءها، خوفا من أن یؤثر ذلک فی نفوس المسلمین و أنظارهم شید القبة فوق الصخرة لتضاهیها و قد کان هناک اختلاف خلال مدة من الزمن حول المؤسس الحقیقی و البانی لقبة الصخرة. حیث کان یبدو أنها أبدع مما یمکن أن یحققه العرب (کذا) فکان فیرغوسن یقول انها من صنع المعماریین البیزنطیین فی أیام الامبراطور قسطنطین و انها کانت تدل علی موقع الضریح المقدس. لکن کوندر کان أبرز المعارضین لهذا الرأی. و لا شک ان عبد الملک استعان بالمعماریین الیونان فی البناء، و کان یتیسر عدد غیر قلیل من الأعمدة الیونانیة و التیجان بین أنقاض الکنائس التی هدمها الایرانیون، مما یمکن إدخالها فی ضمن البناء بسهولة.
و لذلک فان حجة فیرغوسن تناقض أدلة المؤرخین العرب عدا کونها علی جانب من الخطأ.
و یدل علی ان قبة الصخرة شیدها عبد الملک هو وجود الکتابة الکوفیة المشهورة بالخط الأصفر فی خلفیة من الموزاییک الأزرق فوق الکورنیش المحیط بقاعدة القبة. و تنص علی ان: «بنی هذه القبة عبد اللّه عبد الملک أمیر المؤمنین فی سنة اثنتین و سبعین» و حینما رمم البناء فی عهد المأمون العباسی سنة 831 م ..
و بنی الجدار المثمن أزیلت بعض البلاطات و استبدلت بغیرها و هی تحمل اسم المأمون. لکن التزویر اکتشف بسهولة لأن موزاییک البلاطات لجدیدة أعمق فی لونه الأزرق و الحروف المکتوبة فوق أکثر تحاشکا و تقاربا.
و تاریخ قبة الصخرة معروف معرفة غیر یسیرة فی الأدبیات التاریخیة. فقد تطلب الأمر ان یعاد ترمیمها و تجدیدها عدة مرات فی القرون التالیة. ففی 1099 دخل الصلیبیون الی القدس فوهب بالدوین الثانی مبنی القبة إلی فرسان الهیکل لتصبح کنیسة لهم. فأعید تزیینها من الداخل و الخارج برسوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 117
نصرانیة و صور لقدیسین. و نصب مذبح من الرخام علی الصخرة و صلیب ذهب کبیر فی أعلی القبة، کما نصبت شبکة حدید کبیرة ذات أربع بوابات من صنع الفرنسیین ما بین أعمدة الدائرة الداخلیة. و قلبت المغارة فی أسفل إلی مصلی، إذ کانوا یعتقدون بأنها قدس الأقداس فسموها «الکونفسیو». و هکذا أصبح المبنی نموذجا للکنائس التی ظل یبنیها فرسان الهیکل فی أورپا، و صارت القبة رمزا لهذه الطریقة الرهبانیة فأخذت تظهر فی ختم «السید الأعظم». و فی الصورة التی رسمها الرسام الشهیر رافائیل بعنوان «زواج العذراء» یبدو مبنی مضلعا یذکر بقبة الصخرة لیرمز الی معبد یهودی.
و فی 1187 استعاد صلاح الدین الأیوبی المدینة المقدسة و أزال جمیع الاضافات المسیحیة من مبنی القبة. و توجد فی داخلها کتابة کتبها صلاح الدین لتسجل تجدیده لها. و قد حصلت عدة تجدیدات و ترمیمات منذ ذلک التاریخ أیضا.
أما البنایة فهی علی شکل مثمن منتظم یبلغ طول ضلعها ستة و ستین قدما، کما یبلغ طول القطر من الداخل مائة و اثنتین و خمسین قدما، و قطر القبة من قاعدتها ستة و ستین قدما. و ترتفع القبة الی تسعة و تسعین قدما، و هی من الخشب المغطی من الخارج بالرصاص و من الداخل بالزخرف الجصی المذهب و المزین بالزینة الغنیة. و تکوّن الآیات القرآنیة المکتوبة کتابة متداخلة جمیلة أفریزا حول المبنی. و تحیط بالصخرة من الداخل أربع اسطوانات جسیمة و اثنا عشر عمودا من الوسط. و علی هذه کلها ترتکز القبة.
هذا و یبلغ طول الصخرة نفسها ستة و خمسین قدما و عرضها أربعة و أربعین و هی تکاد تکوّن نصف دائرة فی شکلها، و یقع الجانب المّقوس من الجهة الشرقیة و الجانب الأعلی المستقیم من الغرب. و تکوّن من الناحیة الجیولوجیة جزءا من الطبقات الصلبة الرمادیة التی تتکون منها هضبة القدس، و قد أبقیت خلال العصور کلها بحالتها الخشنة الطبیعیة تقریبا. و عندما یزور الزائر الورع هذه البقعة علیه ان یجعل الصخرة الی یمینه حتی یکون طوافه حولها بعکس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 118
الطواف حول الکعبة. و یقول ابن عبد ربه فی العقد الفرید ان الزائر عندما یدخل الصخرة علیه ان یصلی فی الأرکان الثلاثة، و علی الرخامة التی تماثلها فی القدسیة لأنها تجثو فوق باب من أبواب الجنة. و الرخامة هی قطعة من التبلیط بالقرب من «باب الجنة»، و المفروض عند البعض أنها تدل علی المکان الذی صلی فیه الخضر (الیاس) بینما یعتقد آخرون أنها تغطی قبر سلیمان. علی ان الجمیع یجزمون بأنها کانت فی الأصل قطعة من أحجار الجنة، و أنها تسمی «بلاطة الجنة». و هناک حدیث ینص علی ان النبی محمدا دق فی هذه الرخامة تسعة عشر مسمارا (ذهبا) لا بد من ان تقع منها بصورة دوریة واحدا بعد آخر. و حینما تنقلع کلها تکون نهایة العالم قد أزفت. و قد کاد الشیطان ان یتمکن من قلعها کلها لو لا ان یتدخل الملک جبرائیل فی أحرج الأوقات و یحول دون ذلک. و قد بقیت فیها الآن ثلاثة مسامیر بینما غار أحدها إلی الأسفل قلیلا و لذلک یمر الزوار الأتقیاء من فوقها بهدوء و بطء لئلا یکونوا سببا فی قلع أحدها فیعجلوا بدنو یوم القیامة.
و بعد ان یسرد المستر و وکر، کاتب البحث، الأساطیر هذه و یعتنی بایرادها یأخذ بایراد غیرها و یقول: و علی قطعة منفصلة من عمود رخام تقع فی جنوب غربی الصخرة، و تغطی بقیة غیر متقنة الصنع تضم فی داخلها أیضا شعرات من لحیة النبی علیه السلام، یوجد «قدم محمد»، و هو الذی خلفه وراءه فی لیلة صعوده الی السماء علی براقه الخاص. و قد کان هذا یعرف فی أیام الصلیبیین، عندما احتل النصاری قبة الصخرة (بقدم عیسی) اما الثقب المدور فی وسط الصخرة فهو البقعة التی حفر فیها جسد النبی فمرق منها الی أعلی. و یشاهد علی مقربة من ذلک سراج البراق نفسه بشکل عدة کسر من الرخام. و یبدو واضحا أیضا فی غرب الصخرة بصمة ید جبریل «کف سیدنا جبرائیل»، و هو المکان الذی مسک الصخرة منه حینما کادت ان ترتفع مع محمد (ص) عند صعوده. و فیما یقابل هذا مباشرة یحتفظ برایات محمد، و عمر، و درع الحمزة. و تغطی الصنادیق التی یحتفظ فی داخلها بهذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 119
المخلفات طبقة من الغبار، فیجمع هذا بعنایة مرة واحدة فی السنة و یباع بکمیات قلیلة جدا للاستعمال کدواء شاف من جمیع الأمراض. و هناک انخفاض بسیط فی التبلیط القریب من جهة الصخرة الغربیة یقال إنه أثر قدم النبی ادریس و فی الزاویة الشمالیة الشرقیة «راوزونة» تسمی «قبلة الأنبیاء». و هناک کذلک عدة نسخ قدیمة من القرآن الکریم و حاجز قصیر یطلق علیه «تقلید سیف علی».
و یتم الدخول إلی المغارة فی الأسفل عن طریق «باب المغارة» الواقعة فی الزاویة الجنوبیة الشرقیة للصخرة. و ینزل الزوار بتواضع الاحدی عشرة درجة فیها و هم یقرأون ما یعرف بصلاة سلیمان: «ربی اغفر للمذنبین الذین یأتون إلی هنا و أغث المظلومین». و یبلغ معدل ارتفاع المغارة ست أقدام، و یمکن ان یلاحظ فی سقفها أثر رأس النبی محمد. و قد بلطت أرضیتها بالرخام و صبغت جدرانها بالأبیض. و المقول إنها یمکن ان تسع اثنین و ستین شخصا (المرجع هو ابن الفقیه). و هناک نتوء فی الصخرة بارز للعیان یسمی «لسان الصخرة» لأنه سلّم علی عمر فی احدی المناسبات. و یشاهد هناک کذلک عمود نحیف یعتقد بأنه هو الذی ترتکز علیه الصخرة. و یلفت الدلیل نظر الزائرین کذلک الی «محراب سلیمان» فی الجهة الیمنی، و مقام الخلیل فی الجهة الیسری، و فی الزاویة الشمالیة الی مقام الخضر و الی محراب داود فی الجهة المقابلة.
و هناک فی جنوب شرقی الصخرة سلّم یؤدی الی شرفة الصخرة، و منها یمکن الوصول إلی الهلال المنتصب فوق القمة. اما الثناء الذی یطری به المقدسی القبة فلا یزال یصح فی یومنا هذا کذلک: و عند الفجر حینما تبدأ أشعة الشمس بمداعبة القبة و یستقبل سطحها خیوطها الذهبیة یتکون منظر عجیب خلاب، لم أر مثیلا له فی بلاد الاسلام جمیعها قط.
هذا و یورد المستشرق الانکلیزی لسترانج تفصیلات کثیرة عن قبة الصخرة و تاریخ کل شی‌ء عنها. و قد رأینا من المناسب ان نقتبس نتفا مما کتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 120
فی هذا المجال. فهو یقول انه یفهم من التفصیلات التی دونها المؤرخون العرب ان بناء القبة الذی شیده عبد الملک بن مروان فی سنة 691 (72 ه) هو من حیث المخطط نفس البناء الذی نشاهده فی نهایة القرن التاسع عشر تقریبا فقد رممت القبة او البناء الخارجی و أعید بناؤها فی عدة مناسبات، لا سیما بعد الزلزال، لکن المخطط المثمن بقی علی حاله.
ثم یبحث لسترانج فی قدسیة المکان عند المسلمین فیقول ان قدسیة الصخرة تبنی علی شیئین: 1- انها تمثل قبلة النبی موسی القدیمة 2- لأنها کانت قبلة الاسلام الاولی إذ لم ینزل الوحی علی النبی علیه السلام بجعل القبة تتجه الی مکة إلا فی شهر رجب من السنة الثانیة للهجرة. یضاف إلی ذلک ان المسلمین یعتقدون ان النبی صعد الی الجنة من فوق هذه الصخرة، و عاد إلی الأرض فنزل فی هذه البقعة أیضا. و قد اتخذ عبد الملک هذه القدسیة ذریعة له، حینما حاربه منافسه عبد اللّه بن الزبیر و استولی علی الحجاز، یوجه بها أنظار المسلمین إلیها. و ینقل عن المؤلف پالمر (المشار الیه قبلا) ما یأتی فی وصف أحوال الخلافة الأمویة فی الفترة التی بنیت فیها قبة الصخرة.
.. لقد حدثت علی عهد الملک بن مروان سنة 684 م حوادث لفتتت الأنظار الی مدینة داود مرة أخری. فقد ظلت الامبراطوریة الاسلامی تعانی الانقسامات الخطیرة و النزاعات الحزبیة مدة ثمانی سنوات. إذ ثار سکان المدینتین المقدستین مکة و المدینة ضد السلطات الحاکمة و نادوا بعبد اللّه بن الزبیر رئیسا روحیا و دنیویا لهم .. و استطاع الثائر المغتصب ان یحصل علی اعتراف جزیرة العرب و الأمصار الأفریقیة به، و جعل مقر حکومته فی مکة نفسها. فارتجف عبد الملک هلعا من ذلک و خاف علی ملکه من الزوال .. و لأجل أن یتحاشی النتائج الوخیمة، و یضعف خصمه فی الوقت نفسه، فکّر فی إبعاد الناس عن الحج الی مکة و اقناعهم بأن یحجوا إلی بیت المقدس.
و یذکر لسترانج بعد هذا ان الیعقوبی یورد وصفا واضحا لکیفیة تشبث عبد الملک، للأسباب السیاسیة المذکورة، فی جعل المسلمین یطوفون حول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 121
صخرة بیت المقدس و یحلونها فی محل الحجر الأسود الموجود فی مکة فی نفوسهم. و لو نجحت المحاولة لعمد الخلیفة الی وضع شعائر سنویة خاصة للحج الی بیت المقدس، علی غرار الشعائر التی ظلت تقام فی الحرم المکّی المقدس منذ أیام النبی علیه السلام، و لتحوّل تدفق سیل الذهاب المستمد مما یقدمه الحجاج من قرابین و أضاحی و رسوم إلی خزانة عبد الملک نفسه بدلا من ان یذهب الی جیوب سکان مکة الذین کانوا یومذاک یؤیدون خصمه ابن الزبیر فی مطالبته بالخلافة. و لو نجح عبد الملک فی هذا لکان من الممکن أیضا أن تصبح القدس عاصمة للأمویین بدلا من دمشق. غیر ان الحوادث أثبتت بعد ذلک ان الخلیفة الأموی فشل فی حمل الحجاج المسلمین علی التوجه الی المدینة المقدسة فی فلسطین، و لم تخسر مکة تمیزها فی کونها مرکز الاسلام المقدس، حتی عند ما اندحر ابن الزبیر و قتل، و بقیت دمشق عاصمة للخلافة الأمویة.
ثم یورد لسترانج نص روایة الیعقوبی التی یقول فیها ان المسلمین حینما احتجوا لدی عبد الملک مستنکرین إقدامه علی هذه البدعة فی الاسلام أجابهم یقول: ألم یرو ابن شهاب الزهری حدیثا عن الرسول یقول فیه .. ان الناس سیشدون الرحال الی مساجد ثلاثة: المسجد الحرام و مسجدی، و المسجد الأقصی و بعد ذلک بنی عبد الملک قبة فوق الصخرة و علق الأستار حولها، ثم عین لها سدنة و بوابین. و تعوّد الناس علی الطواف حول الصخرة کما کانوا یفعلون حول الکعبة فی مکة المکرمة، و استمرت هذه العادة فی أیام الخلفاء الأمویین جمیعها من بعده.
و نورد تعلیقا علی ما یذکره لسترانج فی هذا الشأن ما یذکره المستشرق الألمانی فلهاوزن (الص 206- 207 الترجمة العربیة)، الذی مرت الأشارة إلیه، ان خلفاء بنی أمیة لکی یزیدوا فی رجحان کفة الشام من الناحیة السیاسیة حاولوا فیما حاولوا نقل مرکز الشعائر الدینیة الی الشام .. و هنا یذکر قصة النزاع بین عبد الملک و عبد اللّه بن الزبیر المبینة قبل هذا، و یضیف الی ذلک قوله و لکن عبد الملک ترک ما کان ینویه من احلال القدس فی محل مکة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 122
بمجرد ان امتد سلطانه الی ماوراء بلاد الشام. و قد بدا ان فکرة إحلال بیت المقدس محل مکة الاسلامیة کلها فکرة لا یمکن تنفیذها. و لکن عبد الملک حاول فیما بعد ان یجعل للشام شأنا دینیا علی حساب ما کان للمدینة من شأن، و من قبله کان معاویة قد أمر سنة 50 ه بأن یحمل المنبر النبوی الی الشام .. فرجع عما أراد .. و قد همّ عبد الملک بما کان معاویة قد همّ به، و لکن صاحب خاتمه صرفه عن ذلک. و یقال ان ابنه الولید هم مرة أخری بما همّ به أبوه، و لکنه کف عن ذلک لما طلب سعید بن المسیب من عمر بن عبد العزیز ان یکلّم الولید فی ان لا یتعرض الی سخط اللّه عزّ و جل .. و یروی ان خالد بن عبد اللّه القسری قال: لو أمرنی أمیر المؤمنین لنقضت الکعبة حجرا حجرا و نقلتها الی الشام.
و یقول فلهاوزن فی مناسبة أخری (الص 217) ان الولید قد نفذ ما یقال ان أباه عبد الملک کان قد عزم علیه و ترکه، و هو انه أخذ من النصاری فی دمشق کنیسة القدیس یوحنا فوسّع بها المسجد الملاصق لها و جدده تجدیدا رائعا فی سنة 84 ه. و أخذ من کنیسة نصرانیة فی بعلبک قبتها النحاسیة المطلیة بالذهب و وضعها فی بیت المقدس فوق الصخرة المقدسة. و یذکر (الص 368) عند حدیثه عن مروان بن محمد آخر خلفاء بنی أمیة أنه هدم أسوار حمص و بعلبک و دمشق و بیت المقدس لأنه لاقی مقاومة منها حینما أخذ الخلافة بالقوة.
و یروی لسترانج کذلک عن المقدسی ان اهتمام عبد الملک بتعمیر قبة الصخرة و المسجد الأقصی، و بناء أبنیة شامخة باذخة فیهما هو مضاهاة الکنائس الکبیرة التی کان النصاری قد شیدوها بفخامة فی بیت المقدس من قبل، و اقناع المسلمین بعدم التأثر بها و التوجه نحو مساجدهم لا غیر.
و مما ورد فی دائرة المعارف الیهودیة عن بناء قبة الصخرة قولها نقلا عن مجیر الدین ان عبد الملک حینما بناها استخدم فیمن استخدم عشر أسر یهودیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 123
و أعفاها من الجزیة. فتکاثرت هذه الأسر بمرور الزمن بحیث اضطر عمر بن عبد العزیز الی تنحیتهم عن خدمتها .. و کانت کذلک بین خدم الحرم القدسی نفسه جماعة أخری من الیهود تقوم بصنع زجاج الفوانیس و المصابیح، و الأوعیة الزجاجیة. و لم تکن تجبی الجزیة منها، و لا من الیهود الذین کانوا یصنعون فتائل المصابیح أیضا.

وصف کریسویل لقبة الصخرة

اما کریسویل المختص بفن العمارة الاسلامیة فیسهب فی وصف قبة الصخرة و یأتی علی کل جزء من أجزائها بالتفصیل فی کتابه المشار الیه قبل هذه (الص 17- 40). فهو بعد أن یذکر سبب انشاء القبة یقول ان الصخرة قطعة غیر منتظمة من الحجر الطبیعی تجثم فی وسط منطقة الهیکل فی القدس، التی تسمی منطقة الحرم الشریف. و هی تکوّن بالفعل قمة جبل موریا. و هناک کل الأسباب التی تدعونا الی الاعتقاد بأن هذه الصخرة هی ما اطلق علیها الحاج الفرنسی القادم من بوردو (333 م)Lapis pertusus ، و التی یقول ان الیهود کانوا یأتون الیها مرة فی السنة فیمسحون بالزیت علی سبیل التکریس و یبکون ثم یمزقون ثیابهم و یرحلون عنها . و هی الأساس الحقیقی لهیکل «القرابین المحترقة»، حیث تکوّن المغارة تحتها «الحفرة التی کانت فی اسفل الهیکل، التی یتجمع فیها دم الضحایا المختلط بالماء المستعمل للتطهیر».
و لما کانت هذه القبة أقدم أثر موجود للعمارة الإسلامیة فإن المعرفة الدقیقة عن منشئها الأصلی تعد علی جانب کبیر من الأهمیة، و یقول: و ساحاول الآن أن أصفها بالشکل الذی کانت علیه فی ایام عبد الملک فهی حلقیة الشکل تتألف من قبة جوفاء عالیة یتخللها ستة عشر شباکا، و ترتکز علی أربع رکائز مبنیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 124
(دنک) و اثنی عشر عمودا تقف کلها فی دائرة تتسع اتساعا یکفی لللاحاطة بالصخرة، و تترتب بحیث تتناوب کل اسطوانة ثلاثة أعمدة منها مع رکیزة بنائیة واحدة. و بذلک تتکون اسطوانة وسطیة یتساوی قطرها مع ارتفاعها.
تقریبا. و تقع دائرة الرکائز فی وسط مثمّن کبیر یبلغ معدل طول کل ضلع منه 60، 20 مترا (5، 67 قدما)، و تکون هذا المثمن ثمانیة جدران یبلغ ارتفاعها 50، 9 مترا (5، 29 قدما). و هناک من الخارج سبع فسحات بین الأعمدة فی کل ضلع، لکن الفسحات الواقعة فی الزوایا هی حشوات غیر مفتوحة.
و تتخلل سائر الفسحات من الأعلی خمسة شبابیک. و هناک باب عرضه 60، 2 مترا (8 اقدام) و ارتفاعه 30، 4 مترا (14 قدما) فی کل ضلع من أضلاع المثمن التی تقابل الجهات الأصلیة، و لذلک یکون الشباک الوسطی الکائن فوق الباب فی هذه الأضلاع أصغر بکثیر من الشبابیک الأخری. و لما کان الفضاء الحاصل ما بین الدائرة و المثمن واسعا بحیث یصعب تسقیفه بعارضات (جسور) منفردة، فقد أقیم مثمن أوسط یتألف من أربعة و عشرین عقدا تحملها ثمان رکائز بنائیة و ستة عشر عمودا مرتبة بحیث یتناوب کل عمودین مع رکیزة واحدة لتهیئة الدعم المطلوب للسقف. و لذلک فقد قصد بالرواقین اللذین یدور أحدهما حول الآخر ما بین الدائرة و المثمن ان یطوف الناس عن طریقهما طوافهم المقدس حول الصخرة. و یغطی هذین الرواقین الانحدار من الخشب المغلف بالرصاص. و تضاء داخلیة القبة بستة و خمسین شباکا یترتب وضعها کالآتی: خمسة فی کل ضلع من أضلاع المثمن فیکون مجموعها أربعین، و ستة عشر شباکا فی الأسطوانة الکبیرة. و بهذا یکون العدد المجموع ستة و خمسین، و هو العدد المطابق لما جاء فی روایة ابن الفقیه سنة 903 م.
و حینما یدخل المرء الی الداخل یجابه بداخلیة تسیطر علیها الروعة و السناء، و تتلألأ بحشوات الرخام و أعمدتها التی تعلوها تیجان مذهبة، و بالموزاییک الملون بالأخضر و الأزرق و الذهبی و اللؤلؤی. و تقوم امام الداخل مباشرة العقود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 125
الثلاثة التی تعود لضلع من أضلاع المثمن الأوسط، و هی ترتکز علی عمودین رخام یقومان ما بین الرکیزتین المغلفتین بالرخام ایضا. و تمتد من فوق تاجیهما المذهبین عارضات رابطة جسیمة یغطی جانبها الأسفل بصفائح معدنیة مزخرفة بزخرف نافر. و تنقش و تذهب علی شاکلة العارضات التی تمتد من فوق المداخل الأربعة. و تزخرف سطوح العقود بموزایک متلألئ یلاحظ الرائی من ورائه دائرة الرکائز الداخلیة التی یتبین من بین عقودها الزخرف الضخم المعمول فی القبة الخشبیة بکتابات و نقوش مکحلة بالذهب. و لیس بوسع المرء ان ینسی ذلک المنظر مطلقا. و إذا ما نقّل طرفه فی کل مکان یلاحظ ان الجدران تغلف من أعلاها الی أسفلها بحشوات من ارباع الرخام و تتخللها ستة و ثلاثون شباکا من الشبابیک الجمیلة.
و یتطرق کریسویل کذلک (الص 31) الی زخرفة مبنی قبة الصخرة بالتفصیل، فیقول ان القسم الأعلی من الجدران الخارجیة و الاسطوانة أیضا کانت فی الأصل مع أنها مغلفة فی الوقت الحاضر بحشوات من الخزف المزخرف مغطاة بالذهب و الموزاییک الملون. و هذا ما ذکره أبوت دانیل (1106 م) و جون و رزبورغ (1165 م) و ثیودریک (1172 م) و ویلیام الصوری (1184) و غیرهم. و لم یستبدل السلطان سلیمان الغلاف القدیم بغلاف الخزف الحالی الا فی سنة 1552 م. و قد جدد هذا الغلاف عدة مرات منذ ذلک الوقت و یری البعض ان أفخر قسم فیه هو علی درجة من الجودة بحیث یمکن ارجاعه الی عهد یسبقه عهد السلطان سلیمان. و لذلک یجب ان یؤکد علی ان هذا الرأی لا ینطبق علی الواقع، لأن چودی الألمانی یقول (فی 1519):
و الجدران مغلفة من الخارج بشغل الموزاییک الغالی الثمن، و مع ان کنیسة سان مارک فی البندقیة، و کنیسة القیامة فی القدس، و کنیسة بیت لحم قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 126
شغلت بنفس الشغل فی الداخل فلا توجد هناک صور فی قبة الصخرة سوی صور ملائکة .
و یقول انطونیو دی أراندا (فی 1530) ان هذا المبنی مکسو من الخارج کله من حد وسط الی أسفل برخام ثمین جدا، و مکسو من الوسط الی أعلی بالموزاییک الفاخر و الزخرف المورق و سائر الزخارف الجصیة البذیعة .
و یصفه فی الأخیر بانیتلیو دافیرو فی 1552 فیقول انه مغلف من الأرض الی الوسط بالواح کبیرة لماعة من أفخر الرخام، و من الوسط الی حد الصبّة الاولی فی الأعلی باغلی الموزاییک و أبدعه مع نقوش کثیرة فیها أغصان و أوراد و سائر أنواع الأزهار الجمیلة .
و فی هذه السنة غلفت الجدران الخارجیة بالخزف المزخرف علی ما یفهم من کتابة منقوشة فوق الباب الشمالیة. و کانت الأسطوانة قد غلفت من قبل فی سنة 1545- 46. و یذکر زوالارت عن التغلیف الجدید الذی تم فی 1586 قوله ان المبنی تمت زخرفته من الخارج بألواح من الرخام و بلاطات ملونة فی القسم الأعلی منه علی طریقة دمشق، و بالرخام الأبیض من أسفل .
و قد ذکرنا من قبل ان عقود أروقة المداخل الأربعة جمیعها کانت مزینة من دون شک بالموزاییک. اما الوجه الداخلی للجدار الخارجی فهو مغلف اعلاه الی اسفله بحشوات من أرباع الرخام مع نطاق زخرفی بالأسود و الذهبی یبلغ عرضه خمسین سنتمترا (5، 19 بوصة) و یمتد حول الداخل کله الی ارتفاع 85، 3 مترا (5، 12 قدما).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 127
و تملأ الفتحات المروحیة الأربع فوق عتبات الأبواب العلیا امتلاء مختلفا، إذ تملأ الموجودة فوق المدخلین الشرقی و الغربی بمصبّعات حجریة تتألف من أنصاف دوائر متراکبة مثل الکثیر من المصعبات الرومانیة، و قد تکون مبتکرة. اما الاثنتان الأخریان فتعودان الی وقت متأخر. و تحاط الکوتان الجنوبیة و الغربیة بأطارین یشبه زخرفهما زخرف الغطاء المعدنی الذی یغطی العتبات فی أسفل.
و تغلف الرکائز البنائیة الثمان العائدة للمثمن بالرخام، کما یدور الکورنیش الکورینثی الذی یزین الجهات الداخلیة للعارضات الرابطة حول الوجه الداخلی للرکائز. فیکون کورنیشا خاصا یکون کل شی‌ء فوقه مغطی بالموزاییک. و لما کان سطح العقود یتألف من سلسلة فتحات مثلثة تقریبا، فقد رسم الفنان الذی رسمها أشکاله علی محور کل عمود من الأعمدة. و تنشأ من فوق کل تاج من تیجان الأعمدة شجرة غریبة الشکل فتنتشر بمینا و شمالا باتساع المجال لها، و بذلک ینشأ عنها ما یسمیه ستریزکوفسکی بالتعبیر الزخرفی الشمعدانی. و تکون هذه ملبسة بالجواهر و الأقراط و القلائد، و حتی بعناقید من العنب.
و لکن الزخرفة فی نهایة کل عقد من العقود المجاورة للرکیزة البنائیة حیث یکون الفضاء الباقی بقدر نصف الفضاء الموجود فوق الأعمدة فقط، تکون من نوع آخر. فبدلا من ان تبدأ مجموعة الزخارف من أسفل تبدأ من قمة العقد و تنزل الی جانب الرکیزة البنائیة. و تتألف بصورة عامة من نبات قرن الرخا (کودنوکوبیا) یمتد أحد سیقانه الی الخارج فیتلوی علی شاکلة اللولب الی الداخل. و ینتهی فی إحدی الحالات الی تعبیر زخرفی یشیع وجوده فی أبنیة عربیة أخری. و یتوج جمیع هذا الزخرف نطاق من الکتابة الکوفیة یبلغ طوله حوالی مئتین و أربعین مترا، فینتهی فی الوجه الخارجی للعقد الجنوبی بالتاریخ 72 للهجرة (691 م).
و تزین سطوح الرکائز البنائیة العریضة بأزواج من سیقان نبات شوکة الیهود (أکانثوس) تنشأ من جذر النبات نفسه فتتلبس بالقلائد و الأقراط و ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 128
اشبه، لکن الأجنحة الضیقة تتألف زینتها علی الدوام من شجرة تحاکی الطبیعة فی شکلها، أو من مجموعة خیالیة تحتوی علی أشکال مختلفة تتراکب بعضها فوق بعض. و هنا یوجد شی‌ء یلفت النظر: فهناک ثمان رکائز بنائیة، و لذلک هناک أیضا ستة عشر جناحا لکن الملحوظ ان ثمانیة أجنحة متتالیة تزخرف کل منها بشجرة، بینما تزخرف الثمانیة الأخری بخلیط عجیب من الأشکال یجعلنی استنتج بأن اناسا من مدرستین فنیتین مختلفتین تعتنق کل منهما قواعد فنیة مختلفة عن الأخری و قد تقاسموا العمل فیما بینهم. و لا استطیع الاحجام هنا عن لفت النظر بصورة خاصة الی الترکیب الجمیل الموجود فی الزخرف المحتوی علی نخلة من النخیل یهب علیها الهواء و ما فیها من تفوق غیر قابل للقیاس علی نماذج موزاییک ال «رافینا» الموجود فی قطع الزخرف. و یجب ان تلاحظ کذلک الشجرة الصغیرة الموجودة فی کل جهة من جهتی الجذع، لأننا هنا نلاحظ القاعدة الأساسیة المعروفة فی الفن الاسلامی- و هی قاعدة تغطیة الفراغ تغطیة متساویة متناسقة. و تغلف رکائز القبة البنائیة الأربع أیضا بالرخام من جهاتها الأربع کلها، لکن أجنحتها تزین علاوة علی ذلک بحشوات أو سرر من الزینة المذهبة. فهی مزینة بکورنیشات فیها شی‌ء بسیط من الانحدار و مزخرفة بلفائف من نبات شوکة الیهود (أکانثوس) یعلوها (علی ارتفاع 90، 6 مترا من الأرضیة تقریبا) زخرف بالموزاییک کما هی الحال فی خصور العقود. علی أن العقود تزینها ألواح متناوبة من الرخام الأبیض و الأسود، یحتمل انها وضعت لتخفی التلف الذی أصاب حواشی الموزاییک لأن الأشکال تبدو مقتطعة بها و قد کانت هذه موجودة فی سنة 1344 م کما یفهم مما یذکره العمری، و لذلک فمن المحتمل ان یکون السلطان الناصر محمد هو الذی وضعها فی 1318- 19.
اما الوجه الداخلی للأسطوانة فهو مزخرف کالآتی: فهناک أولا واجهة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 129
رخام تغطی العقود و خصورها، و یتوج هذه نطاق من زینة تضاهی الزینة التی تکوّن کورنیش رکائز القبة البنائیة، و یعلو هذا النطاق ربع دورة کبیرة من الحلیة المعماریة المقولبة مغطاة بالموزاییک. و تأتی فوق هذا الأسطوانة الأصلیة نفسها التی یزینها نطاقان کبیران من الموزاییک تحجز بینهما حلیة مقبولة کبیرة.
و یبلغ قیاس هذین النطاقین معا 40، 9 مترا. و توجد فی النطاق الأعلی منهما الشبابیک الستة عشر التی تجلس أساکفها (عتباتها) علی الحلیة المقولبة الکبیرة نفسها. و یتوّج النطاق الأعلی کذلک کورنیش خشبی تستقر فوقه، علی ارتفاع 40، 20 مترا من الأرض العقود العمیاء (المغلقة) الکائنة فی قاعدة القبة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 130

القدس و الحروب الصلیبیة

اشارة

لا یخفی ان القدس و سائر الأماکن المقدسة فی فلسطین کانت هی السبب المباشر الذی اتخذه الصلیبیون ذریعة لشن حروبهم علی الشرق الاسلامی فی تلک الایام. و قد مرت القدس، و ما جاورها من البلاد، خلال الحقبة الطویلة التی استدامت فیها الحروب الصلیبیة فی فترات عصیبة من تاریخها لا تختلف کثیرا عن فترات التاریخ الأخری التی تمیزت بالمآسی و النکبات و ظلم الانسان لأخیه الانسان. و قد کتبت کتب کثیرة فی الشرق و الغرب عن الحروب الصلیبیة هذه، و یذهب کثیر منها الی ان الغزو الصلیبی الوحشی للأراضی المقدسة و ما یحیط بها من البلاد لم یکن الدافع الیه دافعا دینیا حقا کما تفید التسمیة أو کما یرید البعض ان یفکر فیه، و انما کان دافعا استعماریا أسبغت علیه الصبغة الدینیة التی کانت تروج فی ذلک العصر و الأوان. و سوف یلاحظ القاری‌ء مما نورده من المقتبسات الغربیة المنصفة عظم الجرائم الانسانیة، و الأعمال الوحشیة التی اقترفوها باسم الدین. و مع ذلک فقد استطاعت البلاد العربیة یومذاک، و هی حامیة العتبات المقدسة للأدیان السماویة جمیعها، ان تصمد صمودا کان فیه خیر حل للمشکلة الانسانیة و کافحت کفاحا لا بد لها من ان تعیده فی یوم محنتها هذا لتحق الحق برغم ما یبیته لها الأعداء.
و قد وجدنا ان خیر من یکتب عن هذه الفترة من المؤرخین، و یأتی بحقائق ناصعة تستند الی أحسن المصادر الغربیة هو السید أمیر علی المؤرخ الهندی المسلم الذی تثقف بالثقافة الغربیة و تشبع بها الی جانب ثقافته الاسلامیة حتی وصل الی ان صار عضوا فی مجلس شوری الملک فی انکلتره، و ألف کتبا کثیرة عن الاسلام باللغة الانکلیزیة أهمها «روح الاسلام» و «القانون الاسلامی» و کتاب «مختصر تاریخ العرب و التمدن الاسلامی» الذی سنقتبس منه لهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 131
البحث بعض ما کتبه عن القدس و عن الحملات الصلیبیة و أحوالها.
فهو یبدأ بحثه هذا بالتمهید لما یکتبه عن الصلیبیین و حروبهم بوصف عام لحالة المسیحیین المرفهة فی البلاد الاسلامیة یومذاک و التسامح الذی یبدیه المسلمون تجاههم، ثم یقول: غیر ان هذا التسامح الرائع لم یکن لیخفف من غلواء هؤلاء المتهوسین الذین کانوا ینظرون إلی بقاء المسلمین فی القدس بعین البغض و الاستنکار.
و یتابع بحثه فیقول: و کان الحجاج یزورون الأرض المقدسة، و یلاقون فیها من العرب ضروب الرعایة و الکرم .. و لکنهم کانوا بالرغم من کل ذلک یعودون الی بلادهم و قد امتلأت قلوبهم حسدا و حقدا. فما کاد ینتهی القرن العاشر حتی اعتقد المسیحیون اعتقادا جازما ان ساعة الخلاص قد أزفت، و ان العصر الألفی السعید قد حل أو کاد. و بهذا الاعتقاد طفقت جموع المهاجرین تتدفق من العالم اللاتینی علی الأرض المقدسة، و فی القرن الحادی عشر ازداد عددهم زیادة هائلة.
و فی ذلک الحین کان حکم فلسطین قد انتقل الی أسرة أرتق الترکمانیة ..
و کان هؤلاء یجهلون الحماسة التی کانت تتأجج فی قلوب الأجانب، فلم یعاملوهم بالتسامح الذی کان یعاملهم به الحکام الأولون، لذلک کان هؤلاء الحجاج المتعصبون اذا ما عادوا الی أوطانهم شوهوا الحقیقة و شنعوا بالمسلمین ..
حتی عقد البابا أربان الثانی أخیرا مجلسا فی بلاسنثیا فی آذار 1095 و مجلسا آخر فی کلیر مونت فی تشرین الثانی و خطب معلنا ضرورة انقاذ ضریح المسیح فی القدس من أیدی الکفار (کذا) کما أعلن غفران ذنوب الخاطئین الذین یلتحقون بالجهاد الدینی، و وعد الذین یموتون فی سبیل هذه الحرب بجنات الخلد، غیر ان الباعث الحقیقی لتلک الحروب الصلیبیة الدامیة کان فی الواقع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 132
الهوس الدینی الممزوج بأغراض أخری کالمیل الی تأسیس ممالک جدیدة، و الحصول علی ثروات طائلة، و الرغبة الملحة التی سرت فی أعماق النفوس الوضیعة فی احتساء الأنبذة الشرقیة، و التمتع بفتنة الکرجیات .. و یقول المؤرخ هالام انهم تذرعوا بکل وسیلة لنشر هذا الجنون الوبائی، و کان الجندی فی خلال الحملات الصلیبیة معفی من العقبات و یضمن له النعیم الأبدی.
و بعد ان یصف الحروب الصلیبیة الأولی و الثانیة و الثالثة و أهوالها و فظاعاتها، و لا سیما ما حدث منها فی الاستیلاء علی انطاکیة یورد السید أمیر علی وصف المؤرخ الفرنسی المسیو میشو لما جری خلال استیلاء الصلیبیین علی القدس فی 15 تموز سنة 1099 م، علی الوجه الآتی:
.. و کان المسلمون یذبحون ذبح الأنعام فی الشوارع و المنازل، و لم یجد أهل المدینة محلا أمینا یعتصمون به فألقی بعضهم نفسه من فوق الأسوار.
و ازدحم البعض الآخر فی القصور و الحصون و المساجد و لکنهم لم یستطیعوا برغم ذلک إخفاء أنفسهم من متصدیهم. فحاصر الصلیبیون جامع عمر الذی اعتصم فیه المسلمون وجدوا تلک المناظر الوحشیة التی تعدّ و صمة فی جبین فرسان التوتون، إذ هجم الجنود علی الهاربین و أعملوا السیف فی رقابهم فی غیر ما شفقة و لا رحمة، و لم یکن یسمع فی تلک الساعة الرهیبة غیر أنین الجرحی و حشرجة الموتی. وطئوا کذلک بخیولهم الجثث المکدسة فی أثناء مطاردة الهاربین. و یقول ریموند دی آغیل الذی شهد تلک الموقعة: کانت الدماء قد وصلت فی رواق المسجد الی الرکب . و لم یکف الصلیبیون عن السفک الا عند ما تقدموا الی اللّه بالابتهال و الشکر علی نجاحهم، و لکنهم ما کادوا ینتهون من صلاتهم حتی و اصلوا الفتک و القتل مرة أخری و ذبحوا فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 133
هذه المرة جمیع من أبقوا علی حیاتهم رجاء ان ینالوا منهم الفدیة. و قد اضطر بعض سکان القدس إلی إلقاء نفسه من أعلی الحصون و المنازل، کما أحرق الصلیبیون البعض حیا. ثم جاءوا بالذین کانوا قد لاذوا بالفرار و وضعوهم علی جثث الموتی المکدسة، و أخذوا یمثلون بهم أشنع تمثیل. و لم تکن تجدی فی ذلک الموقف الدامی دموع النساء و لا صراخ الأطفال، و لا منظر البلد الذی صفح فیه السید المسیح عن جلادیه، فکل هذه المناظر المثیرة للرحمة و العطف لم تکن لتلین قلوبهم القاسیة.
و یقول مؤرخ آخر (میلز ج 1، الص 278) ان الصلیبیین کانوا قد صمموا فیما بینهم علی ان لا یظهروا عطفا أو رحمة نحو المسلمین، و لهذا کانوا یسوقونهم الی المیادین العامة و ینکلون بهم شر تنکیل دون ان یبقوا علی أحد، فکانوا یذبحون النساء و الأطفال و البنات و الاولاد علی حد سواء، حتی أصبحت میادین القدس و شوارعها ملأی بالجثث و أشلاء الأطفال من غیر ما شفقة و لا رحمة. و علی هذا النحو هلک فی القدس وحدها زهاء سبعین الفا!!
و بعد ان فتح الصلیبیون بیت المقدس علی هذه الشاکلة انتخبوا غردفری ملکا علیها، و لکن أخاه بولدوین خلفه بعد سنة و شرع یحاصر قیصریة ..
و عند ما دخلوها لم یراعوا حرمة العهود و ذبحوا السکان الآمنین فی غیر ما شفقة و لا رحمة .. و علی هذا النحو انتقلت فلسطین و جزء من بلاد الشام الی أیدی الافرنج الذین أسسوا فیها النظام الاقطاعی الذی کان شائعا فی أوربة یومذاک ..
و یقول الکاتب الأمریکی انطونی ویست فی (الحروب الصلیبیة)، الص 72 (: و شرع الصلیبیون فی مسیر طویل شاق عند نزولهم مع الساحل الفلسطینی، فقد مروا بقمم جبل لبنان و بمدینتی صور و صیدا ثم عکا و یافا.
و من هذه المدینة استداروا الی الداخل، و بعد مضی ستة أشهر علی مغادرتهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 134
انطاکیة وصلوا قمة المضیق الجبلی الذی یفصل بیت المقدس عن البحر و عسکروا فیه لقضاء لیلتهم .. و فی صبیحة الیوم التالی تسلقوا جبل المشارف فی برد قارس قبیل الفجر، و عند بزوغ الشمس بدی أمام أعینهم بیت المقدس.
و ملأهم المنظر بمزیج من الفرح و الرعب، فقد کانوا یتوقعون رؤیة أرض المیعاد و هی تفیض لبنا و عسلا و تختلف عن الجبل الأجرد الذی تسلّقوه الآن، الا أن المنظر الممتد أمامهم لم یکن سوی واد مغبر أکسبته شمس الصیف لونا بنیا. و کانت بیت المقدس أمنع قلاع العالم القدیم، و هی قائمة علی جبل تتوج أسوارها قطوع جانبیة عمیقة لثلاثة ودیان صخریة. و منذ ألفی عام بذل حکامها جهدهم واحدا بعد آخر لجعل القلعة لا تقتحم. و عند ما اقترب النصاری من المدینة طغی علیهم عزم جنونی بأن لا شی‌ء یحول بینهم و بین الاستیلاء علیها، و وجدوا ان المسلمین قد ردموا الآبار ضمن أمیال متعددة فی کل اتجاه. فمکث الصلیبیون حیث هم متمونین بالمیاه التی کانت تجلب لهم مع الخمور علی ظهور البغال من نهر الأردن البعید و تصل متعفنة فاسدة الطعم. و مع هذا کانت تسد حاجتهم، و تحمل الصلیبیون ذلک مدة ثلاثین یوما، و فی نهایة الشهر شقوا طریقهم عنوة الی داخل المدینة. و عند حلول الظلام فی یوم ظفرهم انقلبت حالتهم الروحیة من حماس جارف الی جنون إجرامی فاندفعوا طوال اللیل یبحثون فی المدینة ذابحین کل رجل و امرأة أو طفل تقع أعینهم علیه. و قد لجأ کثیر من یهود المدینة الی کنیسهم الکبیر فلم ینجهم ذلک، فقد أحرقه الصلیبیون بمن فیه، اما من حاول منهم النجاة من اللهب فقد قتلوه. و قبیل الصبح توجه الصلیبیّون نحو المسجد الأقصی حیث تقوم الصخرة، و کانوا قد سجنوا المسلمین هناک بعد استسلامهم و إلقاء اسلحتهم. فقتلهم الصلیبیون عن بکرة أبیهم فی داخل المسجد. و عند طلوع الضیاء کانت مدینة بیت المقدس تغرق بالدماء، و فی شوارعها و مساجدها أکثر من اثنی عشر ألف قتیل. و قد خلفت هذه المجزرة مرارة استمرت قرنا و نصف قرن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 135
لقد حصل الصلیبیون علی بیت المقدس و برّوا بقسمهم فأنقذوا الضریح المقدس ممن حسبوهم کفارا و أصبحوا أحرارا فی العودة، الا أنه کان علیهم قبل ذلک اختیار قیّم علی المدینة المقدسة یتولی أمر الدفاع عنها. و کان ریموند کونت طولوز یتوقع منهم ان یبلغوه مطمحه بمنحه تاج المملکة النصرانیة الجدیدة. و لکن مجلس الفرسان نظر فی أمر ریموند .. فوقع اختیارهم علی غودفری دی بویون و کان من الأوائل الذین اقتحموا أسوار القدس ..

مملکة القدس الصلیبیة

یقول السید أمیر علی ان مملکة القدس الصلیبیة کانت تعتمد فی الحصول علی الرجال و المواد الحربیة و الطعام علی جمیع انحاء العالم الأوربی و امرائه الذین یتوقون الی «إعلاء کلمة اللّه»، و المغامرة فی الحصول علی الکنوز الطائلة و الثروات العریضة، و مناصرة المتهوسین المتفانین فی مقاتلة الکفار، کما کانت تعتمد أیضا علی طریدی العدالة الذین کانوا یتدفقون بکثرة علی سواحل الشام. و کان أموری قد توفی و خلفه ابنه علی العرش، غیر انه کان مصابا بمرض معد هو (الجذام) جعله أجدر بالرثاء منه الی ادارة شؤون الدولة. فتزوجت أخته ایزابیلا من أمیر مونتفرات، و ولدت له طفلا سماه بالدوین. و لما توفی زوجها تزوجت ثانیة من لوسنیان الذی عینه بالدوین نائبا عنه، و لکنه سرعان ما عزله و نصب مکانه ریموند أمیر طرابلس الذی لم یلبث ان تنازل عن العرش لابن اخته بالدوین الخامس و لم یکن قد ناهز بعد الخامسة من عمره. و المظنون ان الملک الطفل قتل بایعاز من أمه، و سواء أکانت الروایة هذه صحیحة أم مختلفة فالمعروف ان إیزابیلا علی أثر وفاة ابنها نادت بنفسها ملکة علی القدس و وضعت بیدها تاج الملک علی مفرق زوجها. و هکذا انتقل عرش فلسطین فی سنة 1187 الی ایزابیلا و زوجها لوسینیان. و فی عهد بالدوین المجذوم عقدت معاهدة صلح بین السلطان و الفرنج. و یقول میشو ان هذه الهدنة جدیرة بالملاحظة، إذ أن المسلمین کانوا جد حریصین علی تنفیذ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 136
أحکامها فی حین لم یتقید المسیحیون بشروطها قط، کما ظهر علیهم میل شدید الی إشهار الحرب من جدید ..

کیف استرد صلاح الدین القدس

و فی سنة 1186 نقض ریجنالد- یسمیه العرب أرنات- شروط المعاهدة، و انقضّ بجیشه علی إحدی القوافل المارة بالقرب من حصنه (الکرک) و ذبح عددا غیر قلیل منهم بعد ان سلب أموالهم. فغضب السلطان صلاح الدین غضبا شدیدا و طلب من حاکم القدس ان یعاقب المعتدی، و لما رفض الملک إجابة طلبه أخذ صلاح الدین علی عاتقه تأدیب ریجنالد، علی ما یقول أمیر علی، و حاصر بنفسه الحصن الذی وقعت بقربه تلک المأساة الدامیة، کما أرسل الی الجلیل قرة صغیرة بقیادة اکبر أبنائه علی الملقب بالملک الأفضل لمراقبة حرکات الفرنج. فلم یکد الصلیبیون یعلمون بوجوده حتی وحدوا صفوفهم و زحفوا علیه فأسرع السلطان الی نجدة ابنه .. فعسکر جیش الفرنج فی سهول صفوریة، و لکن صلاح الدین استطاع بمهارته الحربیة ان یستدرجهم من مکمنهم المنیع الی واد مکشوف بین الجبال الواقعة بمقربة من بحیرة طبریة فی تل حطّین.
فسار الفرنج کأنهم جبال تتحرک شطر البحیرة، و لکن جنود السلطان أخذوا أهبتهم و قطعوا علیهم الماء فتقابل الفریقان یوم الخمیس 2 تموز، بعد ان قضی السلطان طوال اللیل یهی‌ء الصفوف، و دارت معرکة رائعة بینهما یوم الجمعة و صباح السبت المصادف 25 ربیع الثانی سنة 583 ه، فأسفرت عن تقویض دعائم دولة لوسینیان بعد أن أثخن فیهم المسلمون، و قتلوا عشرة آلاف بینهم جماعة من أشهر القواد. و کان من جملة الذین وقعوا أسری فی أیدی المسلمین لوسینیان نفسه و أخوه جوفری و رینو صاحب الکرک (مثیر الحرب) و ابن هانفری، و کونت هوغ و ابن لورد طبریة. و لم ینج من الأسر غیر ریمون أمیر طرابلس و ابن أمیر انطاکیة ویلیان. إذ أفلتا من القوة التی تعقبتهما و وصلوا الی الساحل. اما لوسینیان فقد عومل معاملة حسنة، غیر ان السلطان أمر بقتل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 137
رینو و بعض القواد الآخرین الذین کانوا قد أخلّوا بشروط المعاهدة و ذبحوا المسلمین خلال الهدنة. کذلک لم یمهل الأعداء حتی یلموا شعثهم بل واصل مطاردتهم بعد موقعة حطّین. و ما هو الا ان استولی علی حصن طبریة، و وقعت فی قبضة یده زوجة ریمون أمیر طرابلس فردها الی زوجها معززة مکرّمة. و یقول المؤرخون ان المسلمین لم یسی‌ء أحد منهم قط الی النساء و الأطفال ..
و من ثم توجه السلطان صوب القدس التی کانت تضم داخل أسوارها زهاء ستین ألف جندی علاوة علی سکانها الأصلیین، و حالما أشرف علی المدینة بعث فی طلب أشرافها و خاطبهم بقوله انه یحترم مدینة القدس، و لا یرغب فی انتهاک حرمتها باراقة الدماء، و لهذا ینصحهم بترک استحکاماتهم اما هو فیتعهد من جهته بان یعوضهم عن أملاکهم بالأموال و الأراضی. غیر ان الصلیبیین لتعصبهم رفضوا تلبیة هذا الطلب المنطوی علی شی‌ء کثیر من السخاء.
فسخط صلاح الدین علیهم و حاصر المدینة الی حین. و لکنهم عادوا و طلبوا الصلح «باسم اله البشر جمیعهم»، فتغلب عطف السلطان علی رغبته فی الانتقام، و سمح للروم و نصاری القدس بالسکنی فی بلاده بعد أن ضمن لهم التمتع بالحریة التامة، کذلک أمر جمیع الجنود الصلیبیین داخل المدینة بأن یرحلوا مع أسرهم و أطفالهم عن القدس، و ضرب لهم موعدا أربعین یوما، کما ضمن لهم سلامة الرحیل إلی صور أو طرابلس، و حدد فدیة الرجل بعشرة دنانیر شامیة و خمسة دنانیر للمرأة و دینار واحد للطفل.
و کان من شروط الصلح أن من یعجز عن أداء الفدیة یؤخذ أسیرا، غیر أن ذلک الشرط أهمل إهمالا تاما. إذ یقال ان السلطان وحده افتدی عشرة آلاف شخص، کما أطلق أخوه سیف الدین (الملک العادل) سراح سبعة آلاف آخرین، و قد کان رجال الدین عند ما غادروا المدینة یحملون معهم الامتعة، کذلک کثیر من النصاری یحملون والدیهم و اصدقاءهم الذین أقعدهم المرض عن السیر. فتأثر السلطان بهذا المنظر و أمر حالا ان توزع علیهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 138
الصدقات و ان یزودوا بالدواب. و لما استأذنته الملکة ایزابیلا و کان یصحبها بعض الأمراء اذن لها بالسفر و حباها بکرمه الغیاض. و کان معها رهط من النساء اللواتی کن یعولن بالصیاح و النحیب و هن حاملات اطفالهن، فلما اقتربن منه ناشدنه ان یفک سراح أزواجهن و أولادهن و اخوانهن .. فتأثر صلاح الدین أی تأثیر بتوسلاتهن، و فی الحال أمر برد الأسری الی أقاربهم و وعد فوق ذلک بمعاملة الباقین منهم بالعطف و الرأفة، کما وزع الصدقات علی الیتامی و الأرامل .. و یمکننا بعد هذه الإلمامة القصیرة ان ندرک البون الشاسع و الفرق المدهش بین صفات صلاح الدین السمحة و بین قسوة الأمراء المسیحیین و وحشیتهم. و یقول المؤرخ میلز فی هذا الصدد: ان کثیرا من المسیحیین الذین غادروا بیت المقدس رحلوا الی انطاکیة، غیر ان بوهیمند أمیرها لم یحرمهم الضیافة حسب بل سلبهم أیضا أموالهم، فی حین کان أولئک البائسون یلاقون اینما ساروا فی بلاد المسلمین ضروب العطف و الکرم .. و یضیف السید أمیر علی الی ذلک قوله ان ما یثیر الاعجاب ان صلاح الدین احترم شعور المغلوبین، فلم یدخل القدس بجیشه الجرار الا بعد ان غادرها جمیع الصلیبیین.
و فی یوم الجمعة 27 رجب (یوم المعراج) سنة 583 دخل بیت المقدس یحف به الأمراء و اشراف الامبراطوریة الذین جاءوا لتهنئته علی هذا النصر المبین.
فأمر بترمیم ما دمرته الحرب، و تشیید الجوامع و المدارس الدینیة التی هدمها الفرنج، و وضع أساسا حکیما لادارة دولاب الدولة یختلف کل الاختلاف عن حکومة الصلیبیین المستبدة ..
و قد أحدث سقوط مدینة القدس دویا هائلا فی العالم المسیحی، علی ما یذکر السید أمیر علی، و أفرغ رجال الکهنوت جهودهم بالاستنجاد بالشعوب المسیحیة و الاستجارة بالملوک و الأمراء و اقناعهم باشهار حرب صلیبیة أخری، فتکللت جهودهم بالنجاح التام و انهالت النجدات علی صور و المعسکر الضارب قرب عکا. و اشترک ثلاثة ملوک من أعظم ملوک المسیحیین شأنا فی تلک الحرب الشعواء و هم: فردریک بار باروسا امبراطور المانیة، و فیلیب أوغسطوس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 139
ملک فرنسة، و ریکاردوس قلب الأسد ملک انکلترة .. و یقول الرواة ان رؤساء النصاری تذرعوا بکل وسیلة لاثارة روح التعصب فی شعوب أوربة کافة. اما بطریرک القدس الذی کان صلاح الدین قد أحسن معاملته فقد أخذ یطوف المدن الأوربیة حاملا صورة المسیح، و قد جرحها أحد الأعراب لیحثهم بذلک علی أخذ الثأر ..
و بعد حروب عنیفة خاضها الصلیبیون .. طلب قلب الأسد المصالحة ففشلت المفاوضات بینه و بین الملک العادل أخی صلاح الدین، ثم بذلت محاولة أخری للصلح اشترط فیها الصلیبیون الاحتفاظ بالمدن التی کانت بأیدیهم، ورد بیت المقدس لهم و صلیب الصلبوت (خشبة الصلیب الاصلیة). و یقول السید أمیر علی ان السلطان صلاح رفض تسلیم القدس رفضا باتا إلا أنه أعرب عن استعداده لاعادة خشبة الصلیب. و لما کان ریکاردوس قلب الأسد تواقا الی العودة الی بلاده التی بدأت تعصف بهاریح الفوضی استأنف مفاوضاته مرة أخری مع الملک العادل و توصل الی مسودة اتفاق لم یوافق علیه الکهنة المسیحیون. و کانت الشروط أن یزوج قلب الأسد أخته أرملة ملک صقلیة من الملک العادل، و ان تعطی عکا و ما فی أیدی الافرنج الیها، و ان یعطی ما بأیدی المسلمین من بلاد الساحل الی الملک العادل، و ان یحکم الزوجان مدینة القدس بصفة کونها مدینة محایدة حرة لاتباع الدیانتین، و ان یجری تبادل فی الأسری و یعاد الصلیب للمسیحیین، و یحتفظ الرهبان بامتیازاتهم. ثم جرت مفاوضات أخری کانت نتیجتها أن أعلن ملک الأنکلیز تنازله عن مدینة القدس و المطالبة بها .. و کان یوم اعلان الصلح یوما مشهودا، و لم یلبث ریکاردوس ان عاد الی بلاده ..
و هکذا انتهت الحرب الصلیبیة الثالثة التی هلک فیها عدد لا یحصی من الناس، و خسرت ألمانیة أحد براطرتها العظام، کما فقدت فرنسة و انکلترة زهرة فرسانها، و لم تکتسب المسیحیة غیر عکا.
و بعد سفر ریکاردوس استراح صلاح الدین قلیلا فی القدس. ثم سار تحرسه کوکبة من الفرسان نحو الساحل لیتعهد الثغور، و أمر باصلاح ما خرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 140
منها، کما شیّد فی القدس مستشفی و مدرسة. و ولی علی المدینة سکرتیره و مترجم حیاته حوردیک من الممالیک النوریة. ثم عاد الی دمشق و بقی فیها مع أسرته حتی وافته المنیة یوم الأربعاء 27 صفر سنة 589 ..

الحروب الصلیبیة فی مراجع أخری

و یأتی کارل بروکلمان المستشرق الألمانی علی ذکر الحروب الصلیبیة بشی‌ء غیر یسیر من التفصیل الذی یشیر فیه الی معظم ما أوردناه هنا، و لکنه لا یذکر مطلقا الفظاعات التی ارتکبها الصلیبیون و المجازر التی سبّبوها. و مما یذکره عن فردریک الثانی (الص 362) و خلافه مع البابا ان فردریک هذا توّج فی 18 آذار 1229 بوصفه زوجا لایزابیل ملکة الأرض المقدسة فی کنیسة القیامة، و کان ذلک بعد عقد الصلح مع الملک الکامل الذی تقرر تسلیم القدس فیه الی الصلیبیین (ای للمرة الثانیة بعد وفاة صلاح الدین). لکن هذا الصلح لم یتم، و أمر البابا بتحریم شامل یفرض علی المدینة المقدسة ما أقام فردریک فیها.
و یصف بروکلمان کذلک موقعة حطّین و فتح القدس علی ید صلاح الدین کما یأتی: و الواقع ان الصلح الذی عقد مع صلاح الدین، و الذی کان غی دی لوسینیان خلیفة بغدوین الخامس علی عرش القدس، حریصا علی أدامته کثیرا ما نقضت أحکامه بسبب من تمرد الأمراء التابعین له و عدم تقیدهم بأمره. فکان ریجنالد دی شاتیون أمیر الکرک لاینی یوقع بقوافل الحجاج و قوافل التجارة من حصنه القائم علی البلقاء (مؤآب القدیمة) شرقی البحر المیت، فوق الجرف المسیطر علی طریق القوافل من دمشق الی الحجاز، و من دمشق الی مصر أیضا. و لم یعد فی استطاعة صلاح الدین ان یغض الطرف عن هذا کله، فعزم فی أوائل 1187 علی ان یبطش بالمعتدین بطشة کبری. ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 141
قبة الصخرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 142
انه أمر قواته السوریة بالاحتشاد فی حارم لیسیر هو نفسه الی منطقة الکرک فیلتقی بهذه القوات عند بخیرة طبریة. عندئذ حشد ملک القدس جیشا عظیما من الفرسان فی صفوریة، و بدلا من ان ینتظر هجوم صلاح الدین فی هذا الموقع الستراتیجی الصالح نازعته نفسه ان یهاجم المسلمین فی اتجاه طبریة، و کانوا قد احتلوها، فالتقی الفریقان فی سهل مرتفع الی الغرب من البحیرة صعب. کثیر الحجارة، عدیم المیاه هو سهل حطین. و هناک أنزل صلاح الدین بالجیوش الصلیبیة هزیمة قاضیة، و أسر ملک القدس نفسه. حتی اذا کان أیلول سنة 1187 انتهی صلاح الدین و جنوده الی أبواب بیت المقدس، التی اضطرت الی الاستسلام فی ذلک الشهر نفسه . و علی مشهد من جمیع أفراد أسرة صلاح الدین تقریبا دخلت المدینة المقدسة مرة ثانیة فی حوزة المسلمین و هدم صلاح الدین جمیع أماکن العبادة النصرانیة فی هذه البقعة المقدسة (کذا) و فی غیر ما إبطاء سعی الی ان یقضی علی آخر آثار الحکم الصلیبی فی المشرق ..
و تعلیقا علی قول بروکلمان بان صلاح الدین «هدم جمیع اماکن العبادة النصرانیة فی هذه البقعة المقدسة» نقول ان هذا غیر صحیح، فان صلاح الدین لم یهدم سوی التعدیلات و التشویهات التی أدخلها الصلیبیون فی قبة الصخرة و المسجد الأقصی و هما من أماکن العبادة الاسلامیة التی حولها الصلیبیون الی کنائس کما لا یخفی. و لم یشر بروکلمان کذلک الی المرجع الذی استند الیه فی تجنیه هذا (راجع قول انطونی و یست بعد صفحات قلیلة). یضاف الی ذلک ان بروکلمان نفسه یذکر فی موقع آخر من کتابه هذا (الص 355 من الترجمة) ان صلاح الدین سمح للنصاری بزیارة القدس حجاجا عزلا من السلاح. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 143
و یعدد صلاح الدین کذلک (الص 360) آثار صلاح الدین العمرانیة فیقول انه خدم فن العمارة خدمات جلی فی القدس و القاهرة. فأما فی القدس فقد کان له فضل تجدید المسجد الأقصی، الذی اتخذه الصلیبیون قصرا لهم، و تزیینه بالفسیفساء و الرخام. لیس هذا فقط بل لقد أقام فیه منبرا نفیسا أتی به من حلب، و ما زال باقیا الی الیوم.
و یذهب الدکتور فیلیب حتی فی کتابه الذی ألفه بالانکلیزیة عن تاریخ العرب الی تأیید الکثیر من أقوال السید أمیر علی التی أوردناها عن الصلیبیین.
فهو یقول (الص 639) عن ما حدث عند استیلائهم علی القدس انهم فی 15 تموز هاجموا المدینة المقدسة و استولوا علیها بعد حصار دام شهرا واحدا، و ارتکبوا مجزرة لم یفرقوا فیها بین الرجال و النساء و لم یراعوا حرمة السن.
و أورد جملة من مرجع غربی تقول ان أکداسا من الرؤوس و الأیدی و الأقدام کانت تشاهد هنا و هناک فی شوارع القدس و ساحاتها.
اما عن موقعة حطّین فیقول الدکتور حتی ان صلاح الدین استولی علی طبریة بعد حصار دام ستة أیام، و أعقب ذلک موقعة حطین المجاورة (3- 4 تموز). و قد بدأت فی یوم الجمعة یوم الصلاة الذی یتفاءل فیه صلاح الدین فی الحرب، و یعتبره الافرنج یوما سیئا. و کان عدد جیوش الصلیبیین هناک یبلغ عشرین ألفا، لکنهم کانوا یشکون الحر و العطش فوقعوا کلهم تقریبا فریسة فی أیدی أعدائهم. و کانت قائمة الأسری المعروفین یتصدرها غی دی لوسینیان ملک القدس، فقابل السلطان المتصف بروح الفروسیة الملک المنکوب بحفاوة صادقة. لکن صاحبه ریجنالد دی شایتون، معکّر صفو السلام، کان یستحق معاملة مختلفة. و ربما کان ریجنالد أکثر قادة اللاتین مجازفة و أقلهم تعقلا و أقدرهم علی التکلم بالعربیة. و کان و هو فی إمارة الکرک قد هاجم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 144
القوافل الآمنة أکثر من مرة و نهبها حینما کانت تمر مما یقرب من أسوار حصنه المنیع، برغم مخالفة ذلک للاتفاقیة المعقودة مع العرب. حتی انه أحضر اسطولا خاصا فی أیلة و أخذ یضایق فیه سواحل البلاد المقدسة فی الحجاز، و ینهب الحجاج القادمین الیها. و کان صلاح الدین قد أقسم ان یذبحه بیده هو عند سنوح الفرصة، فسنحت له فی هذه المرة. لکن ریجنالد استغل قواعد الضیافة العربیة للتخلص من الموت بواسطتها فطلب شربة من الماء الموجود فی خیمة آسره، غیر ان صلاح الدین لم یقدمها له لئلا تترتب علیها علاقة الضیف التی تستدعی العفو عنه. و بذلک دفع ریجنالد ثمن خیانته بحیاته. و قد قرر انتصار العرب فی حطین مصیر القضیة الصلیبیة. فبعد حصار دام أسبوعا واحدا استسلمت القدس التی کانت قد خسرت حامیتها فی حطّین (2 تشرین الاول 1187)، فحل الأذان فی المسجد الأقصی فی محل صوت الناقوس المسیحی و أنزل الصلیب الذهب الذی کان یعلو قبة الصخرة من قبل رجال صلاح الدین. و هکذا مهد احتلال عاصمة المملکة اللاتینیة لصلاح الدین الاستیلاء علی معظم مدن سوریة.
اما انطونی ویست فیذکر عن استرداد صلاح الدین لبیت المقدس قائلا: ان موقف النصاری فی مملکة بیت المقدس أخذ بالتردی عاما بعد عام، بعد ان خابت الحملة الصلیبیة الثانیة. و مات نور الدین فاعتقد الصلیبیون مدة من الزمن ان موته سیؤدی الی تشتیت المسلمین و ضعفهم، الا أن صلاح الدین الذی حل محله کان زعیما أعظم منه. و مرض بالدوین الرابع ملک بیت المقدس فتوفی فی وقت کانت فیه المملکة بأمس الحاجة الیه .. و انتقل عرش بیت المقدس اثر ذلک الی غی دی لوسینیان. و کان یوم تتویجه یوم نحس لبیت المقدس .. لأنه کان متهورا عصبی المزاج و قد نفی من فرنسة لقتله رجلا فی شجار، و کان حدیث عهد بالبلاد المقدسة و قلیل المعرفة بأسالیب قتال المسلمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 145
و قد أشار کل الموجودین فی بیت المقدس ان سبیله الوحید للثبات فی وجه صلاح الدین هو اللجوء الی التریث .. فقد کان الفرسان خبراء بأسالیب المسلمین عارفین صعوبة الحفاظ علی الجیوش الاسلامیة مجتمعة عند ما لا یکون هنا سوی قتال یسیر. فلم یصغ (غی) لهم سمعا و قال انه لا شی‌ء یرغمه علی التصرف بجبن، و انه یعتقد ان الطریق لدحر صلاح الدین هو البحث عنه و ارغامه علی خوض المعرکة. و قاد غی قواته صاعدا مع وادی الأردن الی طبریة، عارضا قواته فی دیار المسلمین. و تراجع صلاح الدین أمامه مفسحا له المجال للابتعاد عن معاقله. و حینما تم له فی الأخیر سحب النصاری الی مسافة کافیة استدار بقواته داخلا بینهم و بین دیارهم قاطعا خط انسحابهم و حاصرا ایاهم فی واد قاحل. و کان غی قد ورط نفسه فی مأزق حرج و بصحبته کل محاربی مملکته تقریبا، و قد حمل معه صلیب الصلبوت الّذی أخذه من کنیسة القیامة فی بیت المقدس مستعملا ایاه رایة حرب. و الواقع ان غی کان قد ألقی بکل ما عنده فی لعبة مقامرة لم یکن لدیه أی أمل فی کسبها. و کانت هذه معرکة حطّین.
و قد نظر رجاله من التل المکسو بالأشواک الذی حصر فیه جیشهم الی واد أخضر فی أسفلهم حیث تشع و تسطع بحیرة طبریة، و لم تکن هناک قطرة ماء علی التل. و کان الیوم حارا رکدت فیه الریح فی مطلع شهر تموز، و کانت الشمس تحرق النصاری بلا رحمة. و أشعل المسلمون النار فی مطلع النهار بالأشواک المحیطة بجیش غی و توجه الدخان الحار الخانق الی قمة التل فجفف حناجرهم. الا أن غی و رجاله علی الرغم من موقفهم الیائس قاتلوا طوال النهار و عند ما استسلم آخر رجل منهم کان الاعیاء الناتج عن الحر و الظمأ قد بلغ بهم مبلغا جعلهم یقفون علی أقدامهم بصعوبة، و قد بلغ الضعف ببعضهم حدا جعلهم یعجزون عن تسلیم سیوفهم للمنتصرین. و عند ما انهارت مقاومتهم بکی صلاح الدین فرحا، فقد عرف ان قوة مملکة بیت المقدس قد دمرت و أنه قد استرجع المدینة المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 146
و قضی صلاح الدین بقیة الصیف یحتل قلاع النصاری واحدة بعد أخری و فی تشرین الأول صلی صلاة الشکر فی جامع عمر فی بیت المقدس. و کان صلاح الدین عادلا رحوما فأبقی علی حیاة (غی دی لوسینیان) و سمح لأسر الفرسان النصاری الذین قتلهم بالذهاب أحرارا، و لم یحرق أیة بنایة نصرانیة فی بیت المقدس. و بعد دخوله المدینة بثلاثة أیام أعاد الکنائس ثانیة الی القسس، و أغلقت کنیسة القیامة ثلاثة أیام فتحت بعدها ثانیة للزوار النصاری. الا أن حقیقة واحدة بقیت و هی أن صلیب الصلبوت و المدینة المقدسة أصبحا بأیدی المسلمین. و عادت الأنباء الی أورپا تحمل خبر ضیاع ما أنجزته الحملة الصلیبیة الأولی.
و مما یذکر عن صلاح الدین حینما استرد بیت المقدس من الصلیبیین انه کان عطوفا علی الیهود الذین کان عددهم یومذاک قلیلا جدا. و من غریب ما حدث فی عهده هذا ان ثلاثمائة من أحبار الیهود و حاخامیهم جاءوا الیه الی القدس من فرنسة و انکلترة و فاتحوه فی السماح لیهود أوربة بالهجرة الی القدس فلم یحصلوا علی نتیجة ملموسة فی هذا الشأن. إذ یبدو من أخبار القدس بعد خمسین سنة (1276 م) ان القدس لم یکن فیها سوی یهودیین اثنین فقط.
و کانا أخوین. و فی سنة 1327 کانت فی القدس جالیة صغیرة من الیهود یتعاطی أفرادها مهنة الصباغة فی الغالب. اما فی بدایة القرن الخامس عشر فقد کان فی المدینة المقدسة کنیس واحد للیهود لکن الجالیة کانت مضایقة و مضطهدة بحیث هاجر أفرادها الذین لم یکونوا یزیدون علی مئة أسرة، الی الخارج.
و کان عدد الیهود فی القدس خلال القرن الخامس عشر و القرن السادس عشر یتراوح علی ما یظهر بین (250) و (1500) نسمة. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 147

رحلة بنیامین 1165 الی 1173 م

اشارة

و بنیامین هذا هو الرحالة الغربی بنیامین بن یونة التطیلی النباری الأندلسی، و کان تاجرا من تجار الیهود فی الأندلس خلال القرن الثانی عشر المیلادی فأحب أن یسیر فی بلاد العالم و یطلع علی أحوال أخوانه الیهود فی کل بلد من البلاد التی یزورها علاوة علی الأحوال الأخری. و قد استغرقت رحلته من سنة 1165 الی سنة 1173 م، بعد أن بدأ بها من برشلونة، و قد زار العراق فی أیام الخلیفة العباسی المستنجد باللّه. و کان قد کتب هذه الرحلة عند عودته الی الأندلس باللغة العبریة، فعثر علی نسخة قدیمة منها الاستاذ عزرا حداد فنقلها الی العربیة فی بغداد و نشرها سنة 1945 .
و لقد زار بنیامین فی رحلته هذه البلاد الفلسطینیة معظمها یومذاک فکتب ملاحظاته عنها، و کتب أشیاء کثیرة عن بیت المقدس علی الأخص. و کانت زیارته لها قبیل توفق صلاح الدین الأیوبی فی استردادها من الصلیبیین. و لذلک وجدنا من المناسب ان نورد هنا ما یذکره هذا الرحالة الیهودی الغربی عنها و یبدو من الرحلة انه جاء الی القدس من لبنان فزار فی طریقه الیها عکا و حیفا و قیساریة و اللد و نابلس و وادی ایلون، و جبل الموریة الذی یسمیه «جرن داود» کذلک و یقول عنه انه مدینة جبعون القدیمة، و لم یجد فیها أحدا من الیهود، و قد سمیت باسم جرن داود کنایة عن البیدر الذی کان یملکه رجل یبوسی من سکان أورشلیم یدعی أرنه أو أرنان. و قد ظهر الملاک لداود و أوحی له بأن یشتریه فاشتراه و شید فیه هیکلا و مذبحا للّه (حاشیة المترجم).
و کانت بیت المقدس یومذاک تقع علی مسیرة ثلاثة فراسخ من جبل موریة، و یقول عنها بنیامین انها: بلدة صغیرة عظیمة التحصین تحیط بها ثلاثة أسوار.
و فیها عدد کبیر من الیعاقبة و السریان و الأرمن و الیونان و الکرج و الافرنج،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 148
خلیط من کل أمة و إنسان. و فیها معمل للصباغة یستأجره الیهود من ملک القدس سنویا فتنحصر بهم هذه المهنة دون غیرهم. و یبلغ عددهم فی هذه المدینة حوالی المئتین .. و یقول الاستاذ عزرا حداد فی التعلیق ان الصلیبیین حینما فتحوا القدس ذبحوا یهودها الا النزر الیسیر منهم. و بعد عشر سنوات من زیارة بنیامین هذه لم یجد فیها الرحالة فتاحیة (الیهودی) غیر یهودی واحد .. و یتابع بنیامین قوله عن القدس بان هذه الزمرة القلیلة من الیهود یقیمون فی حی مجاور لبرج داود، و البرج و اغل فی القدم و ترتفع أساساته الی عشرة أذرع، و هو من بناء أسلافنا الأقدمین، و الباقی شیده المسلمون، و لیس فی المدن بناء آخر یضارع برج داود متانة و سموا. و فی القدس مستشفیان یتسعان لایواء اربعمائة من فرسان الاسبتاریة عدا المرضی الذین یجهزون بکل ما یلزمهم فی الحیاة و بعد الممات .. و فی الحاشیة یقول المترجم ان یوحنه ورتزبورغ احد الحجاج المسیحیین زار بیت المقدس بین سنتی 1160 و 1170 م، فوصف المستشفی بقوله: و بالقرب من کنیسة یوحنا المعمدان یقوم مستشفی فیه عدد کبیر من النساء و الرجال و المرضی، و ینالون العنایة التی تکلف نفقات باهظة. و قد بلغنی لما کنت هناک ان عدد اولئک المرضی بلغ الألفین، و قد یبلغ عدد الموتی منهم الخمسین فی الیوم الواحد، و قد یعالج بالعیادة الخارجیة بقدر عدد المرضی المقیمین فی المستشفی، هذا فضلا عن أعمال الإحسان التی لا تقدر. إذ یتصدق یومیا علی السائلین و أبناء السبیل بالخبز.
و یقول بنیامین کذلک ان فی القدس البنایة المسماة «معبد سلیمان» و یزعم البعض أنها من أنقاض مقدس الملک سلیمان. و یقیم فی هذه البنایة نحو ثلاثمائة من فرسان المعبد یمارسون فنون الحرب و القتال. و یوجد عدا هؤلاء فرسان یتوافدون من بلاد الافرنج و سائر دیار النصاری. من الذین ینذرون الخدمة فی هذا المقام سنة أو سنتین.
و بالقدس کنیسة کبری تدعی کنیسة الضریح المقدس منسوبة الی مسیح النصاری، یحج الیها عدد غفیر منهم. و للقدس أربعة أبواب: باب ابراهیم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 149
و باب داود، و باب صهیون، و باب یوشفاط. و هذا الأخیر یحاذی الموضع الذی کان بیت المقدس مستویا علیه فی قدیم الزمن. و علیه الیوم البناء الذی یسمیه الافرنج «المعبد المقدس»، و قد عقد علیه عمر بن الخطاب (کذا) قبة عظیمة أنیقة. و لیس یسمح لأحد ان یدخل فیها تمثالا أو أیقونة لأنها محل خاص بالعبادة.
و قبالة هذا البناء یوجد الحائط الغربی، و هو من حیطان قدس الأقداس فی الهیکل القدیم، و یسمیه الیهود «باب الرحمة» و یحجونه لاقامة الصلاة فی باحته.
و تشاهد بالقدس أطلال الاصطبلات التی عمرها الملک سلیمان بجوار قصره.
و قد استعمل فی بنائها الصخر الجسیم المنحوت، مما لا نظیر له فی بناء آخر.
و هناک ایضا أطلال المذابح التی کانت الأضاحی تقدم علیها فی سالف الأزمان.
و من عادة حجاج الیهود ان یکتبوا اسماءهم علی الحیطان الملاصقة لهم.
و بظاهر المدینة من باب یوشفاط یشاهد النصب الذی أقامه أبشالوم.
و مرقد الملک عزیة و نبع سلوان الذی یمر بوادی قدرون، و فوق هذا النبع بناء من آثار الأسلاف و لیس فیه من الماء الا الیسیر. و غالب أهل القدس یشربون ماء المطر یجمعونه من صهاریج معدة لهذا الغرض فی البیوت. و من عدوة وادی یوشفاط یصعد الی جبل الزیتون، و منه یمکن مشاهدة سدوم. و بین بحر سدوم و نصب الملح الممسوخ عن امرأة لوط فرسخان، و یقال ان السائمة تلحس هذا النصب یومیا ثم یعود الی سابق هیئته. و یحاذی القدس جبل صهیون (و هو تل عریض مرتفع فی القدس، وجهه الغربی یعلو 400 قدم فوق وادی جهنم یبلغ طوله 2400 قدم و ینتهی عند باب الخلیج .. من الحاشیة) و علی هذا الجبل بیعة للنصاری و ثلاث مقابر قدیمة للیهود، فوق کل قبر حجارة محفور علیها تاریخه- لکن الأفرنج یهدمون هذه القبور و یستعملون حجارتها لبناء بیوتهم.
و تحیط بالقدس الجبال الشاهقة، منها جبل صهیون، علیه قبر الملک داود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 150
و سائر الملوک من آله. و هی عافیة الآثار لا تکاد تعرف فی الوقت الحاضر.
و قد حدث قبل خمس عشرة سنة ان تداعی جدار البیعة التی علی جبل صهیون، فامر البطریرک بعض أتباعه من الرهبان باعادة رمّه. و أوصاهم بأن یأخذوا الحجارة من أسوار صهیون الشرقیة. فعکف عشرون عاملا علی اقتلاع الحجارة من أسوار صهیون.
و حدث ان عاملین تربط بینهما صداقة وثیقة کانا قد تأخرا عن موعد العمل لانشغالهما بمأدبة. فأنحی علیهما رئیس العمل بالتقریع، و وعدا بأن یکملا العمل خلال أوقات الراحة عند ما ینصرف رفاقهما للغداء. و بینما هما یشتغلان منفردین اقتلعا حجارة وجدا تحتها فجوة تؤدی الی غار عمیق.
فقال أحدهما للآخر: هلم نر ما فی هذا الکهف عسانا نعثر علی کنز، و لما ولجا الغار وجدا نفسیهما وسط قاعة کبری محکمة، معقود سقفها علی أساطین من رخام موشاة بفضة و ذهب. و فی القاعة خوان علیه صولجان و تاج من خالص الذهب. و یتوسط القاعة قبر داود ملک اسرائیل، و الی یساره قبر ولده سلیمان و قبور سائر الملوک من آل داود. و وجدا کذلک صنادیق مقفلة لم یعرفا مضمونها. و بعد مضی برهة و جیزة هبت علیهما ریح صرصر عاتیة طوحت بهما الی الأرض، فبقیا بلا حراک حتی وقت الغروب. و عندها هتف بهما صوت آدمی یقول: انهضا و بارحا المکان.
هرول الرجلان نحو ظاهر الکهف فاسرعا الی البطریرک یقصان علیه ما شاهداه و سمعاه. فاستدعی البطریرک الیه الربن ابراهیم القسطنطینی الناسک من بکائی أورشلیم و قص علیه الحادث. فأید الربن کون هذا الکهف مرقد الملوک من آل داود. أما العاملان فانهما لازما فراش المرض لهول ما شاهداه و رفضا دخول المغارة مرة أخری. و عندئذ أمر البطریرک بردم بابه حتی طمست معالمه عن الناس. هذا ما قصة ابراهیم الناسک نفسه. و یعلق المترجم علی ذکر ابراهیم القسطنطینی هذا بقوله ان الرحالة الیهودی فتاحیة الذی زار القدس بعد عشر سنوات وجد فیها یهودیا واحدا فقط یدعی «ابراهیم الصباغ»،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 151
ربما کان ابراهیم القسطنطینی الذی یشیر الیه بنیامین. و یضیف فتاحیة قوله ان ابراهیم هذا یؤدی للملک ضریبة فادحة لکی یسمح له بالبقاء هناک. اما فیلکس فابری الحاج المسیحی الذی زار القدس أیام استعادتها من قبل صلاح الدین الأیوبی (1187 م) فیذکر انه وجد فیها نحو خمسمائة یهودی و نحو ألف نصرانی (رحلة فابری 9- 226).
هذا ما یقوله الرحالة بنیامین الأندلسی عن بیت المقدس، و هو یذکر بالاضافة الی ذلک أشیاء کثیرة أخری عن سائر بلدان فلسطین معظمها. و من جملة ما یعتنی بذکره عدد الیهود الموجودین فی کل منها، و قد وجدنا من المناسب ان نورد فیما یأتی جدولا بالأعداد المذکورة علها تفید، هی و الأرقام التی أوردناها قبیل هذا، فی دحض الحجج التی تقدمها الصهیونیة الیوم لامتلاک فلسطین، اذا کانت قد بقیت أیة فائدة للحجج و البراهین:
البلدة/ عدد الیهود فیها/ البلدة/ عدد الیهود فیها
القدس/ 1/ بیت لحم/ 11
عکا/ 200/ الخلیل/ لم یذکر شی‌ء
حیفا/ لم یذکر شی‌ء/ بیت جبرین/ 3
قیساریة/ 200/ قلعة الحصن/ 300
قاقون/ لیس فیها/ سنت صموئیل/ لم یذکر شی‌ء
اللد/ 1/ بیسان/ لیس فیها
سبسطیة/ لیس فیها/ بیت النبی/ 2
نابلس/ لیس فیها/ بیت النبی/ 2
جبل جلبوع/ لیس فیها/ الرملة/ 300
وادی أیلون/ لیس فیها/ یافا/ 1
أبلین/ لیس فیها/ تبنین/-
اشدود/ لیس فیها/ حوش/ 20
عسقلان/ 200/ میزون/ لم یذکر شی‌ء
زیرین/ 1/ علمة/ 50
صفوریة/ لم یذکر شی‌ء/ قادس/ لیس فیها
طبریة/ 100/ المجموع/ 1390
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 152
هذا مع العلم ان عدد الیهود فی مدن أخری یومذاک، علی ما یذکر بنیامین نفسه، کان فیها عدد کبیر جدا من الیهود. فقد کان فی دمشق 3000 یهودی، و الکوفة 7000، و الحلة 000، 10، و البصرة 000، 10، و بغداد 000، 40، و عکبرة 000، 10، و حربی 000، 15، و العزیر (نهر سمره) 1500.

رحلة الی القدس فی 1697 م

و مما عثرنا علیه من الرحلات القدیمة الی القدس رحلة قام بها قسیس انکلیزی کان ملحقا بالمحطة التجاریة الانکلیزیة فی حلب یومذاک. و قد رغب هو و أربعة عشر بریطانیا کانوا فی تلک المؤسسة فی ان یحجوا الی بیت المقدس فی عید الفصح. فترکوا حلب یوم الجمعة المصادف 26 شباط 1696 فی قافلة خاصة بهم. و قد طبعت هذه الرحلة أولا فی نیسان 1703، ثم طبعت طبعات أخری راجعنا منها الطبعة الرابعة التی طبعت فی أوکسفورد سنة 1721. و هی عبارة عن رحلة دینیة فی الغالب، برغم ما فیها من معلومات عن أشیاء أخری طریفة لا سیما فی الطریق الی القدس.
و قد سارت القافلة فی طریق محاذیة للبحر فخرجت من حدود پاشویة حلب، ثم دخلت الی پاشویة طرابلس التی کانت تعود لها جبال النصیریة.
و تمر القافلة بعد ذلک بمیناء بانیاس المعروف. ثم بما یقابل جزیرة أرواد من الساحل. و بعد ذلک یمرون بأنهر عدة قبل الوصول الی طرابلس الشام. و فی الرحلة وصف لطرابلس و الزیارة التی زاروا الوالی فیها. و من هناک وصلوا فی طریقهم الی المدینة اللبنانیة المعروفة منذ القدم و هی جبیل، ای بیبلوس التی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 153
کان فیها معبد أدونیس علی ما یقول صاحب الرحلة. و یذکر هنا ان حیرام الملک الفینیقی جعل أهالی جبیل یعدون المواد التی طلبها منه سلیمان الحکیم حینما بنی هیکله فی بیت المقدس، علی ما یذکر فی التوراة. و من ثم تمر القافلة بنهر ابراهیم حتی تصل الی خلیج جونیة، و بقربه تلتقی حدود پاشویتی طرابلس و صیدا فی جبال کسروان علی ما یقول موندرل. و قد توجهوا بعد ذلک الی نهر الکلب الذی دفعوا قبل الوصول الیه الخاوة الی المارونیین الذین یقول عنهم القس الرحالة أنهم أکثر تعسفا و عجرفة من الأتراک أنفسهم.
و قد وجدوا علی نهر الکلب جسرا جیدا بأربعة عقود کتبت علی قطعة مرمر بیضاء فی جانبه کتابة عربیة تشیر الی اسم مشیده الأمیر فخر الدین. ثم وصلوا الی نهر بیروت فوجدوا مشیدا فوقه جسرا حجریا بستة عقود، و من هناک وصلوا الی بیروت التی وجدوها مدینة منورة. و من طریف ما یذکر موندرل عنها نبذة عن الأمیر فخر الدین المعنی الذی یقول ان مسکنه الرئیسی کان فیها.
و کان یحکمها فی أیام السلطان مراد الرابع، بینما کان هو الأمیر الرابع للدروز.
ثم یذکر ان الأمیر فخر الدین تمکن بقوته و دهائه من توسیع ممتلکاته فاستولی علی الساحل الممتد من بیروت الی عکا فی فلسطین، حتی اضطر السلطان الی إجباره علی الرجوع إلی منطقته الجبلیة فقط، و عند ذاک تمرد علیه. و یظهر ان الرحالة هو و جماعته تمکنوا من زیارة قصر الامیر فخر الدین الواقع فی القسم الشمالی الشرقی من بیروت. و حینما یأتی علی ذکر القصر یقول إنه فی حالة خربة، لکنه یثنی علی بستان البرتقال المحیطة به. و یعجب کیف ان أمیرا شرقیا مثل الامیر فخر الدین یستطیع انشاء مثل هذا القصر و هذه البستان الرائعة، ثم یستدرک قوله و یذکر السبب. و هو ان الأمیر سبق له ان زار ایطالیة و اطلع فیها علی اشیاء کثیرة استطاع تقلید قسم منها. و قد وجد تماثیل کثیرة منتشرة فی انحاء البستان فاستنتج منها ان الأمیر لم یکن من المسلمین المتحمسین لدیانتهم.
و حینما غادر موندرل و قافلته بیروت یوم 19 مارت صادف بعد مسیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 154
ثلث ساعة فقط حرش الصنوبر الذی یقول انه یعود الی الأمیر فخر الدین کذلک، و قدر اتساعه بان طوله یزید علی نصف المیل. و هو یثنی علی جمال هذا الحرش و منظره الخلاب، ثم یقول انهم وجدوا علی مسافة من السهل الذی سارت فیه القافلة من الیسار قریة تعود للدروز تسمی «سوق فوات»
Suekfoat
و لعله یقصد الشویفات الحالیة. فأمیر هذه القریة هو أحمد حفید الأمیر فخر الدین. و کان أحمد متقدما فی السن محتفظا بتقالید أسرته.
و فی طریق القافلة الی فلسطین وصلت الی صیدا فاستقبل القافلة جمع من الفرنسیین الموجودین فی صیدا و استضافوا من فیها. و کان القنصل الفرنسی فیها یحمل رتبة قنصل فی بیت المقدس کذلک. و هو مجبر علی ما یقول موندرل علی زیارة المدینة المقدسة فی عید الفصح من کل سنة بحجة تفقد الأماکن المقدسة فیها و الاطمئنان علی سلامتها و سلامة الرهبان القیّمین علیها من جور الأتراک. لکنه یقول ایضا ان الرهبان المذکورین یشعرون فی الحقیقة بشی‌ء أکثر من الاطمئنان و الأماکن من دون مراقبة القنصل.
و قد کان المستر موندرل و جماعته راغبین فی مرافقة القنصل هذا فی حجه إلی بیت المقدس هذه السنة، فبعثوا یکتبون الیه بالأمر من حلب، لیستطیعوا بحمایته تجنب ما قد یصیبهم من عبث العرب و الأتراک الذی یزداد فی فلسطین و حوالی القدس خاصة، علی حد قوله. و قد سرهم کثیرا حینما وصلوا الی عکا بعد ذلک فوجدوا القنصل الفرنسی بانتظارهم، و فی صباح الیوم التالی توجهوا الی القدس، و بعد مسیرة قصیرة فی محاذاة الساحل ترکوه متوجهین الی بغیتهم عن طریق الناصرة. فمروا بمنطقة نابلس و بیر یعقوب، و بعد ساعتین وصلوا الی قمة شاهدوا من فوقها عن بعد القدس لأول مرة، و بمسیرة ساعة أخری وصلت القافلة الی أسوار المدینة المقدسة.
غیر انهم کان علیهم ان ینتظروا حتی یعلموا الحاکم بوصولهم و یستأذنوا منه بالدخول، لأن الافرنجی کان لا یستطیع الدخول الی المدینة المقدسة من دون هذه المراسیم، و لذلک قصدوا الجانب الغربی من السور حتی وصلوا الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 155
الزاویة الکائنة فوق باب بیت لحم، و هناک وقفت القافلة بانتظار اذن الدخول، و کان المطلوب من الفرنج ما لم یکونوا بصحبة شخصیة مهمة ان یترجلوا عند الباب و یلقوا سلاحهم فیدخلوا راجلین. و لما کانت قافلة المستر موندرل فی معیة القنصل الفرنسی لم یطلب الیها ان تفعل ذلک عند الدخول، و بعد هذا أخذهم القنصل الی بیته الخاص فی القدس و نزلوا فی ضیافته طوال مدة بقائهم فیها. و بعد استراحة قلیلة ذهبوا الی دیر اللاتین حیث کان یحتفی بجمیع الحجاج الفرنج، فاستقبلهم رئیس الدیر بکل حفاوة ثم تناولوا العشاء فی الدیر.

الأماکن المسیحیة المقدسة

و لا شک ان جمیع ما فی الرحلة هذه عن القدس یدور حول زیارة الأماکن المسیحیة المقدسة و وضعها یومذاک. و لما کان یوم الجمعة 26 مارت هو یوم الجمعة الحزینة عند اللاتین یقول موندرل ان القنصل الفرنسی ذهب الی کنیسة الضریح المقدس (کنیسة القیامة) لاداء الزیارة فذهبوا معه برغم ان الجمعة الحزینة عند الانکلیز تأتی بعد أسبوع من هذا التاریخ. فوجدوا باب الکنیسة یحرسها عدد من الانکشاریة و الضباط الأتراک، الذین یقول عنهم انهم وضعوا هنا لیلاحظوا أن جمیع الداخلین قد دفعوا الرسوم المطلوبة و تختلف الرسوم باختلاف الاشخاص و البلاد التی یأتون منها الی الحج، اما الافرنج فقد کانت العادة ان یدفع کل منهم أربعة عشر ریالا الا اذا کانوا من رجال الدین فیؤخذ منهم نصف المبلغ. و بعد ان یدفع الشخص هذا الرسم یکون حرا فی الدخول و الخروج متی شاء خلال موسم العید کله.
و یذکر موندرل ان الحجاج بعد ان دخلوا الکنیسة کلهم سدت أبوابها فی المساء و بقیت کذلک الی یوم الفصح، فبقوا محجوزین فیها ثلاثة أیام. و قد قضوا وقتهم فی مشاهدة المراسیم التی یقیمها اللاتین فی هذه المناسبة، و زیارة الأماکن المقدسة واحدة بعد أخری فی الداخل بکل حریة. و مما یقوله عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 156
الکنیسة انها مقامة علی جبل الجمجمة الذی هو عبارة عن قمة فوق جبل موریا . و کان هذا الموقع مخصصا فی قدیم الزمان لاعدام المجرمین، و لذلک کان فی معزل عن المدینة خارج السور. و لکنه حینما جعل المذبح الذی صلب فیه السید المسیح صار هذا الموقع یتمتع بسمعة مشرفة و قدسیة ما بعدها من قدسیة، و صار المسیحیون یحجون الیه و هم فی أشد حالات الخشوع من جمیع أنحاء العالم، تقدمت المدینة الیه و صارت تحیط به من جمیع الجهات حتی أصبح فی وسط بیت المقدس. و قد ترک قسم کبیر من جبل صهیون خارج السور لیفسح المجال للناس بالمرور الی المذبح. و حینما شیدت الکنیسة فوق التل سویت الأرض فی بعض جهاته خوفا من ان تمس الأماکن المقدسة التی لها علاقة بمأساة السید المسیح. فبقی المکان الذی یقال انه کان مشدودا فیه، و المکان الذی رفع فیه علی الصلیب. من دون ان یمس بشی‌ء. و تقدر مساحة هذه البقعة بحوالی عشر الی اثنتی عشرة یاردة مربعة. و هی أعلی من ساحة الکنیسة المحیطة بها بحیث صار الناس یصعدون الیها بدرجات یبلغ عددها احدی و عشرین درجة. اما الضریح المقدس نفسه، الذی کان بادی‌ء ذی بدء مغارة محفورة فی الصخر تحت الأرض، فقد قطعت الصخور من حوله و أزیل الکثیر منها حتی أصبح و کأنه کهف فوق سطح الأرض.
و یبلغ طول الکنیسة أقل من مائة خطوة، و عرضها یزید علی الستین خطوة.
و مع ذلک فهی تشتمل بین جدرانها علی اثنتی عشرة بقعة مقدسة او ثلاث عشرة، و لیست قدسیة هذه البقع بالقدسیة الاعتیادیة و انما هی قدسیة بالغة الأهمیة تختص بالسید المسیح. فهناک أولا المکان الذی أقدم فیه الجنود الرومان علی الهزء به، و ثانیا الموقع الذی مزقوا فیه ثیابه. ثم المکان الذی حبس فیه بینما کان الجنود یحفرون الأرض لتثبیت الصلیب فیها و یعدون العدة لصلبه.
ثم المکان الذی ثبّت فیه جسمه المقدس فی الصلیب بالمسامیر. و بعد ذلک الموقع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 157
الذی أقیم فیه الصلیب. و حیث وقف الجنود الذین ثقبوا جنبه. و حیث مسح مسح جسمه بالزیت، علی سبیل التکریس قبل دفنه، و حیث أودع الجسم فی الضریح. ثم الموقع الذی ظهرت فیه الملائکة للنساء بعد بعثه، و حیث ظهر هو فیه لمریم المجدلانیة. و غیر ذلک.
و فی أروقة تمتد حول الکنیسة، و کذلک فی أبنیة صغیرة ملحقة بها من الخارج، توجد شقق لاستقبال الرهبان و الحجاج، و تحتفظ کل أمة من الأمم المسیحیة القدیمة فی هذه الأماکن بجماعة صغیرة من رهبانها. و قد خصص الأتراک لکل جماعة من هؤلاء مکانا معینا لها، فهناک اللاتین، و الیونان، و السوریون، و الأرمن، و الأحباش، و الکرج، و النساطرة، و الأقباط، و المارونیون الخ.
و یشیر المستر موندرل بتأثر بالغ الی الخصومة الموجودة بین الفرق المسیحیة فی بیت المقدس، و المنازعات الدامیة التی تحدث بین رجال الدین المسیحی حتی قرب الضریح المقدس حول إقامة القداس و أقدمیة کل فرقة من الفرق فی هذا الشأن. ثم یقول بحسرة بعد ذلک: کیف یمکن بهذه الحالة انقاذ الأماکن المقدسة من أیدی الکفار؟!! و اذا ما تم ذلک ما الذی سیحدث من أنواع الخصومة و النزاع یا تری؟ و یذکر بعد هذا ان ملک فرنسة لأجل ان یضع حدا لهذه الخصومات و تلک الحالة المزریة کتب الی الصدر الأعظم فی استانبول قبل اثنتی عشرة سنة کتابا یطلب فیه وضع الضریح المقدس فی أیدی اللاتین تنفیذا لشروط الامتیازات المعقودة فی سنة 1673. و لم یتم ذلک الا فی سنة 1690 علی ما یقول موندرل، فأصبح من حق اللاتین وحدهم إقامة القداس هناک. و مع ان المسیحیین بأجمعهم یسمح لهم بالزیارة و الصلاة فی الداخل، فلیس بوسع أحد منهم إجراء أی شعیرة مقدسة رسمیا سوی اللاتین.
ثم یأخذ موندرل بوصف ما یقوم به رجال الدین من واجبات فی هذه الکنیسة، و یبدأ بعد ذلک بوصف المراسیم الدینیة التی أجراها اللاتین بمناسبة الموسم، فهو یقول ان المراسیم تبدأ فی مساء الجمعة الحزینة، و یسمیها اللاتین «نوکس نینیبروزا» و هی تقام بشی‌ء کثیر من الوقار و الجلال یجعله یأتی علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 158
وصفها بالضرورة. فیقول: ما ان خیّم ظلام ذلک الیوم علی البلد حتی أخذ الرهبان و الحجاج جمیعهم بالاجتماع فی «مصلی الشیح» الکائن فی الجهة الشمالیة من الضریح المقدس بالقرب من مساکن اللاتین، لأجل أن یخرجوا بموکب یدور فی الکنیسة. و لکنهم قبل ان یفعلوا ذلک ألقی احد الرهبان خطبة وعظ بالایطالیة فی ذلک المصلی، و حینما بدأ بها أطفئت الشموع جمیعها فبقی المجتمعون نصف ساعة فی الظلام و هم یستمعون الوعظ. و بعد الانتهاء من ذلک أخذ کل من الحاضرین شمعة بیده، و رفعت الصلبان لیبدأ الموکب.
و کان بین الصلبان صلیب کبیر جدا یحمل صورة السید المسیح بالحجم الطبیعی، و قد ثبتت فیه بمسامیر کبیرة کسیت رؤوسها بأشواک ملطخة بالدم. و قد حمل هذا الصلیب فی مقدمة الموکب و تبعه الجمیع لزیارة جمیع البقع المقدسة و هم یرتلون التراتیل المناسبة فی کل منها.
و کانت أول بقعة زارها الموکب «عمود الضرب» الذی یحتفظ بقسم کبیر منه فی غرفة من غرف المصلی المذکور، و هنا رتّل الترتیل المناسب و القی أحد الرهبان آخر خطبة وعظیة بالاسبانیة. و توجهوا من هناک بخشوع الی «سجن المسیح» حیث أودع السید المسیح، علی ما یزعمون (هذا ما یقوله موندرل)، حینما کان الجنود الرومان یعدون ما یلزم لصلبه. و هنا رتّلوا علی الشاکلة نفسها ترتیلة أخری و انبری راهب ثالث فخطب بالفرنسیة. و من هناک توجهوا الی البقعة التی مزقت فیها ملابس السید المسیح فرتلوا ترتیلة دینیة فیها فقط من دون خطبة. ثم قصد الموکب «مصلی السخریة» فألقی بعد الترتیلة راهب رابع خطبة وعظ بالفرنسیة کذلک.
و ذهبوا بعد هذا الی الموقع الذی صلب فیه، فترکوا أحذیتهم فی أسفل السلالم. و یوجد هنا مذبحان للزیارة، أحدهما البقعة التی یعتقد ان السید المسیح سمّر جسمه فیها بالصلیب، و الأخری البقعة التی أقیم فیها الصلیب نفسه.
فوضعوا الصلیب الکبیر فی الأولی علی الأرض، و بعد الترتیل القی خطبة الوعظ بالاسبانیة راهب من الرهبان. ثم انتقلوا الی المذبح المجاور حیث یعتقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 159
ان الصلیب قد أقیم فیه و هو یحمل السید المسیح. و فی هذا المذبح توجد حفرة صغیرة فی الصخرة الطبیعیة التی یعتقد انها نفس الحفرة التی ثبّت فیها الصلیب یومذاک. و هنا نصبوا الصلیب الذی کان یحمل الصورة الدامیة، و قرأوا بعض التراتیل، و فی کرسی وضع بین یدی الصلیب جلس الأب الحارس و ألقی خطبة وعظ مؤثرة باللغة الایطالیة، و علی بعد یاردة و نصف من حفرة الصلیب کان یلاحظ الشق المشهور فی الصخرة، الذی یقال انه حدث علی اثر الزلزال الذی وقع حینما کان یصلب المسیح. و هنا یناقش موندرل صحة وقوع هذا الحادث و ماهیة الشق المذکور.
و بعد انتهاء هذه المراسیم تقدم راهبان یمثل أحدهما یوسف الأرثیمی و الآخر یمثل نیکودیم فعمدا الی خلع المسامیر من الجسد المصلوب و انزلاه فوضعاه فی قطعة کبیرة من القماش و سار الموکب به الی حیث توجد «صخرة المسح بالزیت»، و هو المکان الذی یعتقد انه نفس المکان الذی جهزت فیه جثة السید المسیح و أعدت للدفن. و هنا وضعوا الجثة المزعومة و ألقوا علیها عددا من المساحیق الطیبة و الأفاویه، ثم لفوها بالقماش. و بینما کان یتم ذلک کان الجمیع یرتلون التراتیل المناسبة، و قام أحد الرهبان بعد ذلک و ألقی خطبة دینیة باللغة العربیة. و بعد الانتهاء من هذه المراسیم الطویلة کلها حملوا الجثمان الملفوف و وضعوه فی الضریح المقدس ثم أغلقوا الباب علیه الی یوم الفصح.
و یقول موندرل ان کثیرا من الحجاج ذهبوا فی صباح الیوم الثانی لیدمغوا أذرعهم بعلامة بیت المقدس المعروفة، بطریقة الوشم. و هنا یصف کیفیة ذلک. اما فی صباح یوم الفصح فقد فتح الضریح المقدس منذ الصباح الباکر.
و قد أقیم القداس بقربه لأنه أبرز مکان فی الکنیسة، حیث جلس الأب الحارس علی عرش أقیم له، و هو یرتدی الألبسة الأسقفیة و التاج فوق راسه، بحضور الأتراک. و أخذ یوزع خبز القربان المقدس الی جمیع من کان مستعدا لقبوله، و لم یرفض ذلک حتی الأطفال فی السابعة أو الثامنة من العمر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 160

زیارة أماکن أخری

یقول موندرل ان مراسیم الحج بعد ان انتهت صار بوسعهم الخروج لزیارة بعض الأمکنة المشهورة خارج سور البلدة. فبدأوا بالموجود منها فی الجهة الشمالیة، و کان أول ما زاروه هناک کهف کبیر علی مقربة من باب دمشق (من الخارج)، یقال إنه کان مسکنا فی یوم من الأیام لجرمیا. و أهم ما لاحظوا فیه المکان الذی کان یکتب فیه جرمیا مناحاته و تفجعاته. و مما یورده موندرل هنا قوله ان هذا المکان کان ملجأ للدراویش حینما زاروه، و هو من الأمکنة التی یقدسها المسلمون- الذین یسمیهم الأتراک- و الیهود و المسیحیون.
ثم زاروا ما یسمی بأضرحة الأنبیاء، لکن موندرل یشکک فی التسمیة لان الانبیاء لم یدفنوا هنا علی ما ترویه المراجع الدینیة. و بعد عودتهم من أضرحة الأنبیاء مروا بکهف ممتلی‌ء بالماء القذر بالقرب من باب هیرود. و یظن انه المکان الذی حبس فیه الملک صدقیا جرمیا.
و فی اثنین الفصح کانت العادة ان یأخذ حاکم بیت المقدس المسلم الحجاج المسیحیین بقیادته الی نهر الأردن لزیارة بعض الأماکن التاریخیة. و یقول موندرل ان هذه السفرة شبه إجباریة لأن الپاشا یتقاضی عن کل افرنجی یشترک فیها اثنی عشر ریالا. فتجمعوا کلهم فی باب القدیس اسطیفان علی ما یقول، و کان عددهم حوالی ألف حاج من الجنسین و من کل الأمم تقریبا.
و قد ذهب موندرل من هناک مع جماعته الی سواحل البحر المیت. و من جملة ما یذکره عن سفرته الثانویة هذه انه وجد بین منتجات هذا المکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 161
النباتیة ثمرة غریبة یسمیها العرب «الزقون»، و لعله یقصد الزقوم. و یقول ان نبات هذه الثمرة ینمو بشکل شجیرة ذات أوراق صغیرة، و الثمرة أشبه بجوزة صغیرة غیر ناضجة من حیث الشکل و اللون. و یعمد العرب الی سحن حبوب هذه الثمرة سحنا ناعما بالهاون، ثم یضعون اللب فی ماء شدید الحرارة فیخرج منها نوع من الزیت طاف فوق الماء، و عندئذ یجمعونه للاستفادة منه عند الحاجة لمداواة القروح و الجروح. و یقول موندرل کذلک انه أخذ قنینة من هذا الزیت فوجده دواء کثیر الشفاء، ثم یذکر بعد ذلک أن أوراد أریحا لم یستطع العثور علیها فی ذلک الموسم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 162

القدس فی العهد العثمانی

و حینما عظمت شوکة العثمانیین و امتد نفوذهم حتی شمل البلاد العربیة معظمها کانت فلسطین من جملة البلاد التی خضعت للدولة العثمانیة فی عهد السلطان سلیم. و قد وجدنا خلاصة موجزة عن فلسطین، التی لا یخرج تاریخها عن نطاق تاریخ القدس نفسها فی الغالب، فی کتاب الاستاذ أکرم زعیتر عن هذا العهد آثرنا ایرادها هنا إکمالا للبحث:
.. و بعد ما فتح السلطان سلیم سوریة أقبل علی فلسطین و التقی قرب اللجون بجیش سلطان الممالیک طومان بای، فهزمه و کرّ علی القدس و سائر المدن الفلسطینیة فاستولی علیها، ثم زحف علی مصر ففتحها و عاد الی الاستانة.
و هکذا دخلت فلسطین فی حوزة الدولة العثمانیة، و من أهم مآثرها ذلک السور الذی بناه سلیمان القانونی حول القدس (1542). و من أهم الأحداث السیاسیة فی هذا العهد العثمانی ظهور شخصین فی فلسطین مثّلا علی مسرحها دورا مهما، أولهما: (ظاهر العمر) شیخ صفد الذی ضم الیه طبریة و خضعت له نابلس و الناصرة و عکا (1750 م) فحصّنها و جعلها مقرّه علی استمرار إدائه التزاماته المالیة الی الدولة العثمانیة ..
و ثانیهما: (أحمد الجزار) الذی کان مملوکا لعلی بک و جلادا استحق لقب الجزار، فقد هرب من مصر الی سوریة و التحق بالجیش السوری الذی استرد صیدا من ظاهر العمر، ثم خلفه علی عکا فأجاد تحصینها و انشأ اسطولا صغیرا و بنی جامعه المشهور باسمه فیها. ثم عینه السلطان والیا علی دمشق (1770) فشمل نفوذه سوریة کلها و لمع اسمه فی ردّ نابلیون عن عکا (1799).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 163
و بعد ان احتل نابلیون مصر صار لا بد له فی طریقه الی الهند من احتلال القدس و فلسطین. فاحتل العریش، فغزة، فالرملة، ثم حاصر یافا التی کانت تدافع عنها حامیة من جنود الجزار .. و راح یحاصر عکا التی کان الجزار یدافع عنها برا و یساعده فی الدفاع عنها بحرا الأسطول البریطانی ..
و بعد ما أباد محمد علی الممالیک فی مصر طمع فی توسیع ملکه. فجهز الی سوریة جیشا بقیادة ابنه ابراهیم باشا ففتح العریش و الرملة و غزة، و نزل ابراهیم باشا الی یافا بحرا. ثم فتحت القدس و نابلس و حوصرت عکا (1831) .. و قد حکم ابراهیم باشا فی فلسطین عشر سنوات مملوءة بالشدة و البطش و فرض الضرائب و التجنید الالزامی مما أدی الی ثورات فی نابلس و الخلیل امتدت الی لبنان و شرق الأردن فاشتغل فی قمعها حتی استعادت الدولة العثمانیة القدس و سائر اجزاء فلسطین .. انتهی.
و مما لا بد من ذکره هنا علاوة علی ذلک أن استیلاء العثمانیین علی القدس جعل الدولة العثمانیة عرضة لدس الیهود و تحریکاتهم فی مختلف الاوقات و المناسبات. و قد سهل هذا الدسّ و التغلغل فی شؤون الدولة العثمانیة حینما فتحت صدرها للیهود المطرودین من اسبانیة سنة 1492، و رحبت بهم فآوتهم فی بلادها و أنزلتهم فی سلانیک التی استقروا فیها حتی یومنا هذا. و کان قسم غیر یسیر من حرکاتهم المریبة یستهدف العودة الی القدس. و أول ما یذکر من هذا القبیل قصة یرویها المستر جفریز فی کتابه (حقیقة فلسطین)، نقلا عن کتاب الصهیونی المعروف نورمان بنتویش (فلسطین الیهود ). فهو یقول ان رجلا من أسرة یهودیة هاجرت من البرتغال یدعی دوم جوزیف ناسی ترقی به الحال فی الدولة العثمانیة حتی أصبح من أکثر الدیبلوماسیین العثمانیین حظوة لدی الدوائر العلیا فیها. و قد حاول خلال مدة نفوذه هذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 164
أن یؤسس مستعمرة یهودیة فی إحدی الجزر الیونانیة التابعة للدولة العثمانیة، لکنه عدل عن فکرته و أقنع السلطان سلیم الثانی فحصل منه علی مقاطعة کبیرة من الأرض فی منطقة الجلیل بفلسطین، و اذنا باعادة بناء بلدة طبریة من جدید و جعلها کلها خاصة بالسکان الیهود. لکن هذا المشروع لم یکتب له النجاح علی ما یظهر. و مثل هذا النفوذ الذی حصل علیه هذا الیهودی عند السلطان سلیم یؤیده ما جاء فی کتاب القائد الترکی المتقاعد الجنرال جواد رفعت ایتلخان (الخطر المحیط بالاسلام) حیث یقول (الص 65 من الترجمة العربیة) ان السلطان سلیم دبرّ قتل أخوته ابناء سلیمان. لیجلس فی مکانه علی عرش آل عثمان لیجلس فی مکانه علی عرش آل سلیمان، و کان ذلک بتدبیر من عشیقته الیهودیة نوربانو التی کانت من نساء البلاط العثمانی یومذاک. و قد تزوجها بعد ذلک فانجبت له ابنه السلطان مراد الثالث، فبقیت خلال مدة هذین السلطانین صاحبة النفوذ و التسلط من وراء ستار.
ثم یقول جفریز (الص 32): و فی النصف الأول من القرن السابع عشر کان عدد الیهود فی القدس نفسها لا یزید علی ألفی نسمة، ثم هبط هذا العدد الی ألف فقط سنة 1730. اما فی خارج القدس فقد کانت هناک جماعات قلیلة منهم فقط و لا سیما فی صفد و طبریة. و بحلول القرن التاسع عشر یحل العهد الذی أخذ یزداد فیه هذا العدد. فقد أجری نوع من الاحصاء فی 1856 فکان عدد یهود القدس فیه 5000 نسمة فقط، بینما ازداد عدد الیهود فی سائر انحاء فلسطین حتی قدر فی الثمانینات بعشرین ألفا. و حینما قویت حرکة الاستیطان الیهودی فی فلسطین بعد ذلک بلغ عددهم 000، 85 نسمة قبیل الحرب العالمیة الاولی سنة 1914.
و حینما ظهرت الصهیونیة فی أواخر القرن التاسع عشر و أخذت أفکار العودة الی أرض المیعاد تتبلور فی أفکار الیهود کتب ثیودور هرزل الیهودی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 165
النمساوی کتابه (الدولة الیهودیة ) بالألمانیة فی 1896. و یقول جفریز (الص 36 و 37) ان ذلک حصل علی أثر حادثین وقعا فی تلک السنین:
أولهما الاضطهاد الذی أصاب الیهود فی روسیة القیصریة بعد مقتل القیصر اسکندر الثانی سنة 1881، و الثانی قضیة دریفوس الضابط الیهودی الفرنسی الذی نقل الی غینیة علی اثر خیانة اتهم بها فضج الیهود بسببها و أرسل هرزل کصحفی من فینة لحضور المحاکمة التی أجریت له فی باریس سنة 1891، و علی اثرّ ذلک أقرّ المؤتمر الصهیونی الأول المعقود فی بازل بسویسرة سنة 1897، رسم الخطة المطلوبة لزیارة الهجرة الیهودیة الی فلسطین، و المطالبة بوطن قومی للیهود فیها. و کان السلطان العثمانی یومذاک عبد الحمید الثانی، فتم الاتصال به و استبان بادی‌ء ذی بدء نجاح التشبث بمنح السلطان للمنظمة الصهیونیة امتیازا بتملک الأراضی فی فلسطین و استثمارها بواسطة شرکة صهیونیة خاصة تتألف لهذا الغرض. غیر ان المساعی المذکورة سرعان ما فشلت لأن السلطان عبد الحمید رفض الطلب. لا سیما و قد لاحظ خلال المراجعات ان الرأی العام الاسلامی ضد المشروع کان أقوی مما یمکن ان یتجاهله. حتی انه وعد الفلسطینیین باصدار الأوامر اللازمة بمنع الهجرة الیهودیة بتاتا الی فلسطین. و یضیف جفریز الی ذلک قوله ان فشل المشروع کان یعزی لحد کبیر الی ان السلطان طلب من الیهود مقابل ذلک عشرة ملایین باون، فلم یستطع الیهود تدبیرها له. غیر اننا نری ان هذا الاتهام لفقّه الیهود للحط من شأن السلطان و الدسّ علیه، لأن المبلغ المطلوب لم یکن عزیزا علی متمولی الیهود و موسریهم ان یجمعوه. و یؤید رأینا هذا المساعی الحثیثة التی بذلوها بعد ذلک لخلعه علی ید الاتحادیین الذین کان عدد غیر یسیر من أقطاب جمعیتهم (الاتحاد و الترقی) من یهود الدونمة المعروفین فی سلانیک.
إذ یذکر جفریز (الص 38)، علاوة علی ما یذکره بعض الکتاب الأتراک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 166
و غیرهم، ان خلع عبد الحمید عن العرش قوّی أمل الصهیونیین فی الاتحادیین الذین کانوا مصطبغین بالصبغة الیهودیة أنفسهم، لان جمعیة الاتحاد و الترقی نفسها کانت تخضع فی الغالب لنفوذ الدونمة الیهود (من أمثال جاوید و طلعت و ما أشبه) .
و اتماما للفائدة نقول ان الجنرال الترکی المتقاعد جواد رفعت إیتلخان یذکر فی کتابه (الص 76 و 77) ان هرزل قدم الی الاستانة فی نیسان 1893 و تمکن من المثول بین یدی السلطان عبد الحمید و فی صحبته الحاخام موشی لاوی و فاوضه فی قضیة الوطن القومی للیهود فی فلسطین، و فی شراء أملاک السنیة العائدة له شخصیا فی القدس، فرفض طلبهما و طردهما شر طردة.
و لذلک أخذ الیهود یشنعون علیه و یلفقون أشیاء کثیرة ضده، و یتآمرون مع الاتحادیین من أجل خلعه. فقد ادعوا ان مجیئهم الی الاستانة کان بدعوة منه، و انه کان ظالما جبارا یقضی علی رجال ترکیة و شخصیاتها بطرق غامضة و انه تصرف باموال سکة حدید الحجاز، و کلفهم بتجنید الیهود فی الجیش العثمانی لقاء بعض الامتیازات. و ربما کانت قصة الملایین العشرة من الباونات التی أشار الیها المستر جفریز من قبیل هذه التلفیقات أیضا. و یقول الجنرال جواد ایضا انهم هم الذین حرضوا الأرمن علی اغتیال عبد الحمید فنجی منه بأعجوبة، و هم الذین دبروا أما خلعه بالاتفاق مع الجمعیة الماسونیة الترکیة و جمعیة الاتحاد و الترقی المعروفة. و قد لعب فی جمیع هذه الأعمال، و فی النشاط الذی بدر من الاتحادیین فی خلع عبد الحمید، دورا بارزا جماعة من یهود سلانیک الدونمة الذین کان السلطان یمنع انتقالهم الی استنبول. و من أبرز هؤلاء جاوید الذی أصبح وزیرا للمالیة بعد الانقلاب العثمانی، و المحامی میتر سالم، و قره‌صو، و الجنرال الدونمة رمزی باشا، و ضیاء یالچی. و من غریب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 167
ما یذکر ان قرصو هذا کان من أعضاء هیئة الخلع الثلاثة التی بلغت السلطان عبد الحمید شخصیا بأمر خلعه. و من جملة ما یذکره (الص 135) الجنرال ایتلخان «ان میتر سالم الذی ترعرع فی أحیاء الیهود القذرة الموحلة قد انتسب الی النادی الیهودی المسمی (ما کابی)، و بدلالة النادی المذکور انتسب الی الجمعیة الماسونیة. و ان میتر سالم المذکور و قره‌صو و جاوید اساتذة الماسونیة سحروا عیون الأتراک الثوریین المحبین للترقی بالماسونیة، فأخذوهم تحت قیادتهم، و أدخلوا کافة زعماء انقلاب المشروطیة و رؤساء جمعیة الاتحاد و الترقی فی المحافل الماسونیة.»
و حینما تسلّم الاتحادیون الحکم فی الدولة العثمانیة سمح للیهود علی ما یظهر بشراء الأراضی فی فلسطین و بالسکنی فی القدس. إذ یقول الجنرال ایتلخان: «ان الاتحادیین عند مجیئهم الی الحکم بفضل دسائس الیهود و أموالهم بعد اعلان المشروطیة برزت الی الوجود مستعمرات یهودیة معمورة و منتظمة جدا فی مدة وجیزة فی فلسطین، و ذلک بفضل تعاون الاتحاد و الترقی و الماسون ..
و یذکر بعد ذلک أن یهود المستعمرات هذه شکّل قسم منهم شبکة جاسوسیة فی فلسطین تزود الحلفاء بأخبار الجیوش الترکیة خلال الحرب العامة الأولی، و کان یرأسها یهودی اسمه آرونسون. و قد عین آرنسون هذا فی وظیفة مرموقة فی القدس عند أول استیلاء الانکلیز علیها.
و مما یؤید صلة الاتحادیین فی أواخر أیام الدولة العثمانیة بالحرکة الصهیونیة و مساعدتها علی تهجیر الیهود الی فلسطین ما ننقله أدناه عن جریدة القبس الشامیة لصاحبها الأستاذ محمد کردعلی، و هو ضبط وقائع احدی جلسات مجلس المبعوثان الترکی فی 1911 فی الأستانة:
«.. قدّم جاوید بک (و هو نفس جاوید الدونمة المار ذکره) وزیر المالیة موازنة عام 327 الی مجلس النواب .. و قد خطب فی هذه الموازنة یومین کاملین .. و تعاقب خطباء کثیرون، و هنا وقف اسماعیل حقی بک مبعوث کوملنجة و زعیم حزب الأهالی فألقی خطبة رنانة کان لها دوی شدید لیس فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 168
دوائر الاستانة فقط بل فی الاندیة الأوربیة ایضا. فبعد ان بحث موضوع الموازنة استطرد الی البحث عن الجمعیة الصهیونیة، و قال انها ترمی الی انشاء مملکة اسرائیل مستقلة فی القدس و قد خطت خطوات واسعة نحو هذه الغایة و استفحل أمرها. و قال ان الخطر یهدد القدس و أرجاء فلسطین، و ان الحکومة مغضیة عن اعمال الجمعیة لأن بنوگها تمدها بالمال اللازم. ثم تلی مکتوبات جمة عن غایات الصهیونیین و آمالهم و برهن علی انهم خرجوا من طور التفکیر الی طور العمل. و ذکر اسماء نفر منهم قال إنهم یدیرون الوزارة الحاضرة.
و ختم کلامه محذرا الدولة العثمانیة بصورة عامة من هذا الخطر المداهم، و العرب بصورة خاصة لأن فلسطین جزء من البلاد العربیة و الاسلامیة التی فیها مهد الرسل و الأنبیاء.
فرد علیه الصدر الأعظم قائلا ما هذا إلّا و هم من الأوهام و ان الجمعیة الصهیونیة لا ترمی الی مثل هذه الغایة (کذا) فاشتدت الحملة علیه و أخذ الخطباء یفندون أقواله، و کان من جملة الذین خطبوا فی ذلک الوقت الشهید شکری العسلی (الذی شنقه جمال الاتحادی فی 6 أیار فی الشام) و کان مبعوث دمشق، فتکلم فی خطر الصهیونیة و ألاعیبها و حیلها فی سبیل تأسیس وطن قومی یهودی. و مما جاء فی خطابه قوله انی مانعت فی تسجیل (العفولة) عند ما کنت قائمقاما و بیعها إلی الیهود لما لها من أهمیة، و طلبت بیعها بحق الشفعة الی العرب، و کتبت الی نظارة الداخلیة تقریرا بهذا الأمر. و لکن جمیع التقاریر التی کانت تصلها ألقیت فی سلة المهملات. فکتبت الی نظارة الحربیة بذلک لما لهذه القلعة (قلعة العفولة) من أهمیة تاریخیة، فأوعزت نظارة الحربیة الی قائد منطقة عکا ان یجری تحقیقا فجاء تقریره مطابقا لما ذهبت الیه، لا سیما و ان هذه القلعة تشرف علی مرج ابن عامر. أضف الی ذلک انها واقعة علی الخط الحجازی، و لکن علی رغم هذا کله فقد سجلت القلعة و ما یحیط بها من أراض للیهود بأمر من والی بیروت، و خلافا للأوامر السلطانیة التی تمنع إسکان الأجانب، و خاصة الیهود علی جانبی الخط الحجازی الی مسافة تبعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 169
عشرة کیلومترات. و ذکر العسلی بعد ذلک فی خطابه أشیاء عن تسلیح الیهود بالأسلحة الجیدة، و عن مطامع هذه الحرکة الصهیونیة. و مما قاله ان للیهود مطامع کبری، فهم یریدون تأسیس دولة فی فلسطین عاصمتها القدس لتنشر ظلها علی ربوع الشام و مصر و العراق. و قد یعتقد بعضهم ان هذا من قبیل الخیالات و لکن الیهود یملکون مصارف عدیدة تسهل شراء الأراضی بأثمان باهظة، فاذا استمروا علی عملیة الشراء هذه بمثل هذه الأثمان فان العرب سینقرضون. و عاد اسماعیل حقی بک مرة ثانیة الی المنبر یؤید قول مبعوث دمشق و یزید علیه بأنه یملک وثائق أخطر مما أورده المبعوث الدمشقی ..» انتهی
علی أن أول المستعمرات التی أنشئت فی فلسطین فی العهد العثمانی کانت المستعمرات التی انشأتها فی سنة 1870 جمعیة «محبی صهیون» ، و کانت أهمها مستعمرة «میکفا اسرائیل» فی جنوب یافا و ما تزال موجودة حتی الآن، (جفریز الص 35). و یذکر جفریز بالاضافة الی ذلک نقلا عن الکاتب الصهیونی شتاین . ان عددا من یهود روسیة الذین فروا من اضطهاد القیصریة الی الخارج فی 1881 توجهوا الی فلسطین، و کان یقدر عددهم بثلاثة آلاف، فنزلوا فی یافا خلال مدة اثنی عشر شهرا .. و لا شک ان کل هذا کان بمعرفة الحکومة العثمانیة یومذاک، و هو لا یخلو مطلقا من التأثیرات الصهیونیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 170

القدس فی الحرب العالمیة الأولی

اشارة

أعلنت الحرب العالمیة الأولی و فلسطین لما تزل جزءا مهما من أجزاء الدولة العثمانیة المسلمة، لوجود القدس و سائر البقع المقدسة فیها. لکن الاتحادیین الذین ادخلوا الدولة فی الحزب ضد الحلفاء أخذوا یشکون فی إخلاص العرب لهم، و یزیدون فی تعسفهم و تنکیلهم بقادة الرأی فی البلاد العربیة و زعمائها. و قد تولی هذا علی الأخص جمال باشا (السفاح) الحاکم العثمانی العام فی سوریة التی کانت فلسطین تابعة لها. و کان من جملة من تعرض لهذا التنکیل عدد غیر یسیر من رجال فلسطین و زعمائها.
و یقول المستر جفریز فی (حقیقة فلسطین) المشار الیه قبلا ان القمع الذی کان یقوم به جمال باشا کان فظیعا. فقد کان یدعو أصحابه المقربین للتفرج علی إعدام کل وجبة من رجال العرب تساق الی المشانق. و کان عدد من ضحایاه هؤلاء من أبناء فلسطین. فقد شنق اثنا عشر شابا فی یوم واحد فی القدس.
و کان من جملة من أعدم أحمد عارف الحسینی مفتی غزة و ابنه .. و کذلک أعدم رجل من أسرة النشاشیبی المعروفة فی القدس، و سلیم أحمد العبد الهادی عم عونی بک عبد الهادی سکرتیر الملک فیصل الذی وقّع معه علی معاهدة فرسای، و الذی هو الآن- ای وقت نألیف الکتاب (1928)- فی معسکر الاعتقال فی صرفند الذی دخله بعد الحکم علیه بعد العودة الی بلاده. و کان المرحوم سلیم عبد الهادی قد عرف بنیة الحکومة الترکیة تجاهه و لم یهرب خوفا من ان ینتقم جمال من عمه حافظ باشا .. و قد بلغ عدد الذین سیقوا نفیا الی الأناضول و الجوع ثلثمائة وجیه من وجهاء فلسطین کذلک.
اما الیهود فیذکر جفریز عنهم (الص 88) ان الحرب العامة حینما أعلنت کانت لهم فی فلسطین 55 مستوطنة تضم ما یبلغ مجموعة اثنی عشر ألف نسمة، و کان هناک علاوة علی هذا سبعة آلاف منهم متکتلین فی المدن، و لا سیما القدس. و قد جاءت هذه الأغلبیة الساحقة لیهود فلسطین، الذین لم یکن یزید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 171
مجموعهم علی خمسین ألف، الی البلاد خلال الثلاثین سنة الأخیرة فقط ..
و یذکر بعد ذلک ان أسرة آرونسون الیهودیة فی القدس کانت تشتغل فی التجسس للحلفاء خلال الحرب فاکتشف أمرها و اضطرت جاسوسة من أبنائها الی الانتحار للتخلص من التعذیب .. و یقول بالنسبة لسائر یهود القدس و فلسطین انهم کانوا یتمتعون خلال الحرب بشی‌ء من الحمایة نظرا لوجود جماعات صهیونیة ذات نفوذ فی الأستانة و برلین، و فی نیویورک و سائر العواصم المحایدة
و مما یدل علی وجود هذا النفوذ فی الأستانة ما یذکره السر رونالد ستورز فی حاشیة من حواشی مذکراته، التی سنشیر الیها بعد هذا بالتفصیل، (الص 364) من ان طلعت باشا وزیر الداخلیة الاتحادی الدونمة من (یهود سلانیک) فی الأصل أخبر الکونت بیرن ستورف الیهودی حینما کان یفاوضه بصدد تأسیس الوطن القومی للیهود فی فلسطین بأنه یسره ان یفعل ذلک للیهود من من أجل أن یرضیه لکنه حذره من خطر العرب علیهم و قال له ان العرب سوف یقضون علی الیهود فی الحال (نقلها ستورز عن مذاکرات بیرن ستورف نفسه).
هکذا کان حال القدس فی أواخر أیام الحکم العثمانی. اما حالها حینما استولی علیها الانکلیز، و لا سیما خلال الأیام التی کانت (ما تزال رحی الحرب تدور فیها، فخیر من یصفها لنا بالتفصیل السر رونالد ستورز حاکم القدس العسکری البریطانی فی مذکراته المنشورة بعنوان (توجیهات) .
و تحتوی هذه المذکرات علی الکثیر مما یختص بالقدس من جمیع الوجوه و لا سیما فی تلک الفترة المرتبکة، لأنه بقی فی القدس ما یقرب من تسع سنوات بصفة حاکم عسکری و حاکم مدنی، حتی نقل الی قبرص فی أواخر 1926.
فیبدأ المستر ستورز فیما یکتبه عن القدس فی 7 کانون الأول 1917 حینما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 172
کان سکرتیرا شرقیا للمقیمیة البریطانیة فی القاهرة. و حاکما سیاسیا فی معیة مارک سایکس، المعروف بطبخ اتفاقیة سایکس- بیکو المعروفة فی سجل بریطانیة و وعودها العرقوبیة مع العرب. و هو یقول انه فتح فی هذا الیوم برقیة وردت الی المندوب السامی فی مصر تخبر باستسلام القدس للجیش البریطانی و توقّع دخول الجنرال اللنبی الیها دخولا رسمیا فی یوم 9 کانون الأول. و فی الخامس عشر من الشهر نفسه طلبه المستر کلایتون رئیس الحکام السیاسیین فی الحملة البریطانیة علی فلسطین، لیکون مساعدا له فی القدس نظرا للاشغال الکثیرة التی اصبح کلایتون یضطلع بها. و قد کتب ستورز الی رئیسه مارک سایکس قبیل انفکاکه یخبره بالأمر و یقول له بالمناسبة ان لورانس ذکر له بان الیهود فی فلسطین یتخذون موقفا معادیا للانکلیز بصورة غیر علنیة، و ان المسلمین یتخذون علنا موقفا معادیا لهم، بینما کان النصاری اللاتین یتخذون موقفا معاکسا لهذا. ثم یضیف انه أخذ یلتقی کثیرا بالصهاینة و صار یبذل جهده فی تشجیع تبادل الرأی الودی بینهم و بین العرب عن طریق جریدة «القبلة» و غیرها. و قد ذکر فی الحاشیة (الص 273) فی صدد التعلیق علی موقف الیهود من الانکلیز قوله ان أخبارا وردته فی کانون الأول 1914 تفید بان الجنرال الألمانی فون کریس کریسن شتاین عند ما وصل الی القدس مع عدد کبیر من الضباط و قوة من الجیش حیّاهم الیهود الموجودون فیها و نصبوا لهم «قوس ظفر» کتبت علیه آیة من آیات التوراة بأحرف عبریة و عربیة کبیرة فی باب یافا.
و قد وصل ستورز مع کلایتون مساء یوم 20 کانون الأول 1917، فی جو عاصف مطیر، فوجدها فی ظلام دامس یلفها السکون فی کل مکان، و قد خلت شوارعها فصارت تبدو کأن أهلها قد رحلوا عنها. فنزل فی فندق فاست الذی کان یقیم فیه الألمان، و لذلک سمحوا لصاحبه بان یحتفظ بماکنة الکهرباء التابعة له. و کان یدیره أناس سوریون یتقاضون من الضباط أجورا مخفضة قدرها (45) قرشا ترکیا فی اللیلة أو حوالی تسع شلنات. و أول من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 173
التقی به ستورز من الانکلیز هناک الجنرال بیل بورتون حاکم القدس نفسه، ثم تناولوا عشاءهم مع الکولونیل لیولن مدیر الشرطة.
و یأتی ستورز بعد ذلک علی وصف المدینة و الضائقة التی کان یعانیها الجمیع فیها من قلة الطعام و ندرته. فقد کانت خلال السنوات الثلاث الأخیرة تتبع نظام جرایة القحط فی توزیع الأرزاق. ثم انقطع اتصالها یومذاک بالخارج فانقطعت عنها واردات الأماکن المقدسة و توقف جلب الحبوب الیها من مناطق السلط و الکرک و غیرهما فی الأردن بعد ان رحل عنها الأتراک. و زاد الطین بلة فیها وجود فرقتین من الجیش بخلاف الترتیبات المتفق علیها. ثم یصف حال العملة الترکیة و انخفاض أسعارها و احتکار الیهود لقطعها الصغیرة و تقاضی عمولة قدرها خمسة او ستة بالمائة علیها حسب المعتاد. و الظاهر ان ستورز کان حسن الظن بالصهاینة، لأنه یقول ان مثل هذه القباحة و «القذارة» البادیة من یهود القدس لا بد من ان یوقفها الصهاینة عند حدها.
اما الشؤون الصحیة فیقول عنها انها کانت جیدة فی المدینة، و لم تسجل الی ذلک التاریخ سوی اصابة واحدة بمرض الزهری فی القدس.
و لاحظ ستورز فی الیوم التالی- 21 کانون الاول- لأول مرة ان إطلاق النار من المدافع الثقیلة کان ما زال یسمع باستمرار من جهات جبل الزیتون.
و حینما زار حاکم القدس الجنرال بورتون فی مکتبه وجد جبرائیل بک حداد یشتغل کاتبا لأسراره فی الدائرة. و مما یذکره من أخبار ذلک الیوم انه زار الأرمن فی دیرهم و حارتهم الخاصة، و هو یصف حالة الدیر و الکنیسة و القبة الوسطی فیهما التی کان یکسوها کاشی کوتاهیة. و عند عودته من هناک عرّج علی البلدیة فزار رئیسها حسین أفندی الحسینی، و قد أعجبه علی ما یظهر مما دونه عنه. فهو یقول عنه انه رجل متوسط العمر، مهذب، یتکلم بانکلیزیة لا غبار علیها لانه کان قد زار انکلترة و أمریکا. و کان انطباعه عنه انه یتصف بضعف محبّب مفعم بالمیل الی المساعدة. و قد هدده الأتراک بالاعتقال مرات عدیدة و لذلک کان یعیش و حقائبه جاهزة بجنبه بانتظار الرحیل فی أی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 174
وقت. و یذکر کذلک انه کان یجهل أحوال المدینة المنورة یومذاک و محاصرة الأمیر عبد اللّه و لورانس لها، فأخبره ستورز بواقع الحال. ثم یذکر ستورز ان عدد مسلمی القدس یومذاک کان یناهز الأحد عشر ألف نسمة، و أکثرهم من الشوافع و الاحناف. و کان عدد من الضباط الأتراک قد ترکوا أسرهم فی القدس اعتمادا علی البریطانیین و سمعتهم الحسنة.
و فی یوم 22 منه زار ستورز مفتی القدس الذی کان یعقد محکمته فی بنایة تطل شبابیکها علی الحرم الشریف. فاستقبله فی غرفة مربعة الشکل عالیة القبة نظیفة الترتیب یحیط بها دیوان یتوسطه مکتب مغطی بالقماش الأخضر. و یقول ستورز ان المفتی کمال افندی، ابن عم حسین افندی رئیس البلدیة، هو مفتی بالوراثة. و یبلغ عمره حوالی 45 سنة، و هو ذو تقاسیم منتظمة رشیقة و لباس أنیق. و قد درس فی الأزهر، و لذلک کان یعرف مصر معرفة جیدة، لکنه لم یطلع علی أیة نسخة من المقطم أو غیرها من الجرائد خلال السنوات الثلاث الأخیرة، و لذلک انفرجت أساریره حینما وعده ستورز بأعداد شهر واحد منها. و قد لاحظ ان المتقاضین أمام المفتی کانوا یحضرون علی انفراد بین حین و آخر فیسمعون منه ما کان یعتبره حکما قضائیا، فیتراجعون بهدوء من دون أن یکون فی ذلک مقاطعة لسیر الحدیث بین الاثنین. و بعد ان قضی ستورز عند المفتی ساعة و نصف ساعة علم منه ان خزانة الوقف و المیتم کان فیها ما یعادل حوالی أربعة آلاف لیرة ترکیة بالعملة الورقیة، و کان علیه أن یدفع منها أجور ما یقرب من سبعین مستخدما و موظفا فی آخر الشهر.
و زار فی الیوم الآخر مجلس الیهود الاشکناز الذی استقبله عشرون منهم بکثیر من الحفارة و الرسمیات فی قاعة الاجتماع. و قد استطاع التفاهم خلال حدیثه الطویل معهم بشی‌ء من العربیة و الانکلیزیة. و هو یقول بکل تبجح انه لفت نظرهم الی أن تاریخ دخول اللنبی الی القدس یصادف الیوم الذی یحل فیه عدد الحنوکة المکابی، و الی ان أخبار الجرب العظمی نفسها وصلت الی القدس فی التاسع من آب، و هو الیوم الذی هدم فیه تاتیوس الرومانی مدینة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 175
القدس. ثم یضیف ان القدس کان فیها یومذاک ثلاثون ألف یهودی، ینتمی حوالی ستة عشر الف منهم الی الاشکنازیین (و هو شی‌ء غریب) و أربعة عشر ألف الی قسم السفاردیم. مع عدد من یهود الیمن و بخاری. و یدعی ستورز ان «وعد بلفو» قد أساء الأتراک تفسیره لهم، و مع ذلک فقد أحدث کثیرا من الحماسة و الابتهاج عندهم. و قد أبّنهم علی قضیة احتکار الیهود قطع العملة الصغیرة فی البلد، فانکروا ذلک و ادعوا فی مقابله ان المسلمین یبرمون لهم السمسم و الحنطة بأسعار فاحشة. و حینما اضطر الی ان یتناول براندی «دیشون لیزیون» معهم علی نخب الجیش المنقذ جعل نخبه هو لصحة الطائفة الیهودیة فی القدس و موفقیتها!!
و یقول ستورز انه بعد ان بقی فی القدس الی الثامن و العشرین من کانون الاول 1917 تبلغ فی الیوم الأخیر هذا بتعیینه حاکما عسکریا فی القدس برتبة عقید، خلفا للجنرال بورتون. و کان هذا التعیین أمرا عسکریا لا بد من قبوله علی ما یقول. فتسلم عمله الجدید فی مقر الحاکمیة الذی کان لا یعدو ان یکون صفا من الغرف غیر المریحة فی الطابق الأول من فندق هیوز الکائن مقابل حدائق البلدیة فی طریق یافا. و کان الموظفون فی معیته الکولونیل دیرموغ، و معاونه الکابتن بریستاو، و الکولونیل غارنر، و المیجر بورک، ثم جبرائیل حداد الذی جدد صداقته معه علی ما یقول. و یثنی ستورز علی جبرائیل هذا فیقول عنه انه مسیحی سوری جاء به الجنرال بورتون من الاسکندریة کمشاور محلی، و هو رجل مقتدر بقدر ما هو مخلص و لطیف، و انه لا یستطیع تثمین خدماته القیمة فی أیام الجهل و الریبة تلک.
ثم یذکر کیف ان الجنود البریطانیین قد شقوا طریقهم عنوة، قدما بعد قدم، خلال البرد الفارص فی ذلک الطریق المضنی المخطر الممتد عبر جبال الیهودیة و ودیانها لیجدوا عند تحریر القدس فخرا و مجدا قلما جادت بمثلهما الحرب العظمی علی غیرهم. لکنهم لم یجدوا غیر ذلک تقریبا. لان تلک الأیام کانت أیاما لما یزل یبدو فیها الخوف فی أعین الناس، و جرعة الارتیاح لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 176
نزال متوقفة فی حناجرهم. فقد کانت أسر مسیحیة تنفی الی الأناضول بأکملها فی ظرف ساعة واحدة لمجرد وجود صداقة (حقیقیة أو مشکوک فیها) لها مع الحلفاء. و قد شنق قاض مسلم فی باب یافا .. لکن الأنکی من ذلک ان الأتراک حینما أنزلوا علمهم و رحلوا عن البلاد التی حکموها اربعمائة سنة حملوا معهم السجلات و الأموال و القیود و الأدویة و الآلات الجراحیة، مع الکثیر من الأثاث و جمیع المواد الغذائیة، و کل ما یمکن ان تکون له أقل فائدة للمدینة و محرریها (کذا).

المجاعة فی القدس

یقول السر رونالد إن أشد ما کان یؤلمه و یثیر قلقه فی أیام القدس الاولی ندرة الأرزاق التی کانت لا تختلف کثیرا عن المجاعة. و کان یؤلمه أشد من کل ذلک ما یمکن ان یقوله الناس فی المدینة المقدسة بان الانکلیز قد حرروا القدس لیقضوا علیها جوعا.
و مما یذکره فی تقریره الی القیادة العسکریة فی هذا الشأن ان أول ما یجابه المدینة بعد ان ضمن الجیش البریطانی سلامتها من أی هجوم معاد هو مشکلة الارزاق و صعوبة تیسر المواد الغذائیة لأهلها. فقد کانت القدس الی ان أعلنت الحرب تستورد مواردها الغذائیة من البلاد المحیطة بها. إذ کانت تعتمد فی حبوبها علی مناطق السلط و الکرک و غیرهما فی شرق الأردن من جهة، و علی استیراد الطحین من الخارج عن طریق یافا و البحر من جهة أخری. و منذ ان دخلت ترکیة الحرب انقطع الاتصال البحری و بقی الاتصال بالطرق البریة، و لما کانت تلک المناطق لا تزال فی أیدی الأتراک یومذاک فقد انعزلت القدس بالنسبة لموارد الغذاء الاعتیادیة .. و من المعتقد ان المدینة لم تعد فیها کمیات مناسبة من الحبوب یمکن ان یعتمد علیها، اما القرویون و الفلاحون فلا یمکن ان تحصل الحکومة علی شی‌ء منهم .. و علی هذا الاساس اقترح ستورز ان یستورد الیها حوالی مائتی طن حبوب من مصر فی الحال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 177
و قد زار السر رونالد ستورز فی هذه الأثناء فجأة الجنرال اللنبی فاتح القدس نفسه، لتفقد الأمور فی المدینة، و أول ما عرضه علیه من المشکلات مشکلة الطعام و الأرزاق. و فی صباح الیوم التالی أخذت تتقاطر علی القدس بصورة منتظمة اللوریات العسکریة محملة بالقمح فتنفس الجمیع الصعداء.
و لأجل تخفیف الضائقة أیضا سمح للمقیمین من سکان البلدان و المدن الاخری بالعودة الیها. و کانت تنقلهم الی أماکنهم لوریات القمح العائدة بعد تفریغ حمولتها.
و مما کان یؤثر علی وضع المجاعة هذا تأثیرا غیر مباشر ارتباک وضع العملة فی القدس و تدهور قیمة العملة الترکیة منها، ثم اضطرار السلطات العسکریة الی استبدالها بالعملة المصریة یومذاک. و یقول ستورز فی هذا الشأن ان ما کان یضیف الی مناظر القدس الغریبة منظر الجمهور الهائج و الناس الذین یحملون المال الذین لا یستطیعون التصرف به و هم یتدافعون مع الشرطة الخیالة التی کانت تصدهم عن التجمهر فی ابواب البنک العثمانی للحصول علی قطع العملة الصغیرة.
و یذکر ستورز ایضا انه کانت هناک عدة منظمات تعمل علی الاغاثة من جمیع الوجوه للمسیحیین و الیهود بحیث تخفف من الضائقة المستحکمة لدرجة ما، لکن المسلمین لم تکن عندهم مثل هذه المنظمات الخیریة. و لذلک فسرعان ما أسّس لهم مستوصف مجانی للمعالجة و التداوی، و مطابخ للشوربا، استطاع ستورز ان یجمع لها مبالغ کبیرة من المحسنین المصریین.

الجنرال اللنبی

یثنی المستر ستورز ثناء عطرا علی القائد العام الفاتح الجنرال اللنبی، علی اثر دعوة تلقاها لزیارته فی مقره العام فی بیرسالم، ما بین بساتین الزیتون فی منطقة الرملة. و من الغریب انه یصف الرملة بکونها بلدة صلیبیة، بینما الرملة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 178
فی الحقیقة کانت موجودة منذ أیام الفتوح الاسلامیة لأن المقر العام للجیوش الاسلامیة کان فیها هناک، علی ما یقول لسترانج و الجنرال غلوب، فضلا عن المراجع العربیة.
و هو یقول انه ما زار المقر العام هذا حتی ألفی نفسه متعجبا من شخصیة اللنبی و هو یردد فی دخیلة نفسه أی قائد هذا الذی حصل علی انتصار لامع حاسم، و هو علی اطلاع واسع بکل ما یجب الاطلاع علیه من أحوال الطیور الی احوال الحیوانات الوحشیة و الاسماک، و قد قرأ کل شی‌ء حتی استطاع ان یستشهد حرفیا بجمل و مقاطع من أشهر المراجع و أقلها شهرة. ثم رکب معه و هو یمتطی حصانه الضخم «هند نبورغ» ما بین بیارات البرتقال، و تمشّی معه فی الیوم الثانی بالقرب من أسوار القدس فلاحظه یطلب الی شخص کان یحدثه عن نبات من نباتات فلسطین، التی ورد اسمها فی التوراة، ان یخصص له اسم السفر و الآیة التی تشیر الی ذلک. و کان یستطیع، علی ما یقول ستورز، ان یسمی طیور فلسطین و یعرفها و هی محلقة فی الجو فوق جبل الزیتون بعیدا عن أنظار الرجل الاعتیادی!! و قد کان من الصعب مجاراته فی سرعة القراءة، و تزویده بالکتب لها حتی فی أثناء حملة 1918 التی کان یقودها. ثم یخلص من ذلک الی القول بان اناسا کثیرین أصبحوا مرموقین خلال الحرب لکنهم لم یصبحوا شخصیات یشار الیها بالبنان. و کان بوسع اللنبی ان یصبح شخصیة ذائعة الصیت حتی لو لم تکن هناک حرب عظمی.
اللورد النبی قائد الجیش البریطانی الذی احتل القدس فی 9 کانون الاول 1917
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 179
و من مزایاه انه کان یقضی علی الدسّ و المخاتلة بإلهامه و استقامته. و اذا ما حصل شی‌ء من الخلل فی شؤون الحملة و إدارتها، لم یکن هو الذی یؤاخذ علیه مطلقا. فالذین اشتغلوا مع مثل هذا الرئیس المخلص، الطیب القلب، یذکرون علی الدوام بانه لم یتدخل فی شی‌ء الا للتأیید و التشجیع.
و یثنی ستورز کذلک علی نظام الحکم العسکری الذی ساعده کثیرا فی تذلیل الصعاب حینذاک، و تزویده بکل ما یمکن للعمل حتی صار عنده علی ما یقول اسطول یتألف من أربع عشرة سیارة فورد لأغراض الاغاثة و توزیع الأطعمة، بعد ان لم تکن الحاکمیة تملک لا تلفونا و لا سیارة واحدة فی القدس یوم تسلم زمامها هو بیده.

مشکلات اداریة و غیر اداریة

یلاحظ مما یدونه ستورز فی مذاکراته ان «إدارة اراضی العدو المحتلة»OETA کانت تجابه مشکلات اداریة جمة فی القدس الی جانب مشکلات الأرزاق و الاعاشة. و کان قسم من هذه المشکلات سببه التعلیمات العسکریة التی تصدرها القیادة العامة. فقد کان التنقل بین فلسطین و الخارج، و بین القدس و سائر أنحاء فلسطین، أمرا صعبا لا سیما و ان القدس کان فیها عدد غیر یسیر من رعایا العدو و الرعایا المحایدین، حتی بین أبناء الطوائف الدینیة المختلفة. إذ کان علی کل مدنی یرغب فی الدخول الی فلسطین او الخروج منها ان یحصل علی رخصة خاصة .. اما فی داخل فلسطین نفسها فقد کانت الرخص ضروریة للمسافرین حتی و إن سافروا مشیا علی الاقدام الی القدس أو أیة مدینة أو قریة أخری.
و کان الأتراک قد أخذوا معهم عند الانسحاب من فلسطین أشیاء کثیرة من جملتها رؤساء بعض الطوائف المسیحیة مثل دامیانوس من الأورثودکس، و أورمانیان بطریرک الأرمن، و غیرهما. ثم أخذ القاضی بحجة عقد المحاکم الشرعیة، فأحرجوا السلطات المسیحیة فی تعیین شخصیة مسلمة بدلا عنه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 180
و لذلک فقد نسّب ستورز المفتی للقیام بأعمال القاضی أیضا فلم یتوقف العمل.
و قد صادف ان توفی رئیس بلدیة القدس السید حسین الحسینی فی أوائل سنة 1918 و اضطرت الادارة العسکریة الی تعیین رئیس جدید و مجلس بلدی جدید
یضاف الی ذلک ان مدینة القدس لم تکن فیها إنارة، و لهذا لم یکن یری فی اللیل و لا ضوء واحد فیها حینما تشاهد من فوق جبل الزیتون الذی کانت لا تزال تسمع منه أصوات القتال فی معرکة أریحا، و أوجه حرکاتها. و لذلک کانت المدینة تنام عند غروب الشمس.
و کان الفلاحون یلاحظون بالأسمال البالیة فی کل مکان، کما کانت الشوارع ملأی بالفقراء و الشحاذین، و کانت حالة السجون و من فیها بحالة مزریة تقزز الأنفس.
و قد أضیفت الی هذه المشکلات و غیرها مشکلة اللاجئین الأرمن الذین تجمّع زهاء ألفین منهم علی بطریرکیتهم فی القدس. و کذلک مشکلة اللاجئین من نصاری السلط الذین تبعوا الجیش البریطانی خوفا من بطش الأتراک بهم لأنهم کانوا قد رحبوا به- لکن الحکومة کان یساعدها فی مجابهة هذه المشکلات الجمعیات الخیریة المسیحیة، و منها جمعیة «إسعاف سوریة و فلسطین»، برآسة الدکتور ماک أینس اسقف القدس الأنکلیکانی، التی یثنی علیها ستورز ثناء عطرا. و کان بوسع «ادارة اراضی العدو المحتلة» ان تطلب کذلک، علی ما یقول ستورز، مساعدة وحدة (هداسه) الطبیة (الیهودیة) و الصلیب الأحمر الأمریکی.
و کانت سیاسة «ادارة أراضی العدو المحتلة» فی تمشیة شؤون القدس و غیرها یومذاک المحافظة علی الوضع الراهن فی کل شی‌ء، دینیا و دنیویا، برغم الصعوبة التی کانت تجابهها فی تنفیذها. و قد أعلن عن ذلک الجنرال اللنبی عندما احتل القدس أول مرة، الی ان تعرف نتیجة الحرب و بیت فی وضع البلاد بوجه عام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 181
و من أهم ما طبقت فیه سیاسة الوضع الراهن هذه فی القدس سدانة کنیسة القیامة و الاشراف علیها. فقد أودع أمر حراستها الی جنود بریطانیین و فرنسیین و طلیان، لکنها کانت محرمة علیهم و هم الذین قاتلوا فی سبیل تحریرها من نیر الحکم العثمانی. و کان یمثل هذا الحکم فی داخل الکنیسة- من دون أی تعسف هنا علی الأقل کما یقول ستورز، سادن مسلم یتولی عمله بالوراثة. و هو شخصیة و قورة فی عمامته و قفطانه کان جده الأعلی قد تعین فی هذا المنصب علی عهد الملک الکامل، علی أثر المعاهدة التی عقدها فی 1229 مع الامبراطور الصلیبی فردریک الثانی. و یقول ستورز انه تلقی ضغطا غیر قلیل من مختلف الطوائف المسیحیة یومذاک بتبدیل الوضع لأن بقاء أقدس مکان عند المسیحیین فی ید هذا السادن المسلم یعتبر تحدیا یجب ان لا یتحمله أی حاکم مسیحی فی القدس. لکنه یقول ان عددا قلیلا من الذین فاتحوه فی الأمر کانوا قد زاروا القبر المقدس فی الکنیسة أو دخلوا أیة کنیسة أخری، و لم یفکر أحد منهم بأی وضع مسیحی کان یمکن ان یستبدل الوضع الراهن، و من هو الذی کان یمکن ان تقبل به الطوائف المسیحیة کلها. فلم یکن من الممکن ان تسمح الطائفة الأورثودکسیة بتولی شخص من الکاثولیک الروم، کما لم یکن الروم الکاثولیک لیحتملوا أی شخص من الأورثودکس أو الانکلیکان- حتی اذا کانت الکنیسة الانکلیکانیة تملک الحق للتدخل. و لم یکن بوسع جمیع الطوائف ان تتسامح فی تعیین شخص من البروتستان، فیما لو وافق أحدهم علی تولی هذا المنصب. یضاف الی ذلک أن الشیخ المسلم کان یقوم بعمله خیر قیام، بالمحافظة علی الوضع الراهن و الأمن العام بقدر ما یستطیع، و الاستعانة بالشرطة عند الحاجة. و یقول ستورز انه یمکن ان یذهب الی أبعد من هذا فیذکر ان الشیخ کان الموظف الوحید، بین العسکریین و المدنیین و رجال الدین، من المندوب السامی الی المستخدم البسیط فی البلدیة، الذی لم یسمع عنه أی تذمر من الناس بشتی طبقاتهم خلال السنوات التسع التی قضاها فی حاکمیة القدس الشریف. لکن هذه الاعتبارات جمیعها لم تکن تجدیه نفعا ضد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 182
التحریکات المشار الیها لو لم یستطع ستورز نفسه التمسک به بمقتضی المحافظة علی الوضع الراهن التی لا یمکن ان یناقش فیها أحد.
و مع ان الجیش البریطانی هو الذی کان یحتل القدس فقد کان حلفاؤهم الفرنسیون یصرون علی تحدی الوضع الراهن، و یطالبون بمراعاة ما کان یعرف عن کونهم حماة المسیحیة اللاتینیة فی بلاد الامبراطوریة للعثمانیة، و اعتبار المسیوبیکو و بعثته الفرنسیة فی القدس فی وضع مرموق خاص یشرف فیه علی اجراء الطقوس الدینیة و مراسیمها علی الأخص. و قد استمرت بطریرکیة اللاتین الی ما بعد وضع انتداب البلاد المقدسة بعهدة بریطانیة و هی تخاطب الحکومة الفلسطینیة عن طریق القنصل الفرنسی العام. و استمرت تعمل علی هذا الاساس حتی سنة 1921 حین أبطل الفاتیکان نفسه هذا الوضع الخاص.
و قد ساعد هذا الحکومة الفلسطینیة تمسکها بسیاسة المحافظة علی الوضع الراهن علی عدم إفساح المجال فی القدس برفع أعلام مختلفة أو عزف سلامات خاصة لمختلف الدول و الجهات. ذلک لأن الجنرال اللنبی کان قد قرر منذ البدایة أن لا یرفع فی البلاد کلها سوی العلم البریطانی وحده فوق محل إقامة القائد العام.
و یعترف ستورز (الص 301) بان الادارة العسکریة، برغم جمیع الجهود المبذولة فی المحافظة علی الوضع الراهن، قد خالفت هذه السیاسة بصورة صریحة فی الشؤون المختصة بالصهیونیة. فهو یقول ان فلسطین کانت من البلاد التابعة الی الامبراطوریة العثمانیة المسلمة (و ان نصفها کان لا یزال فی 1918 تابعا لها کذلک)، و الأغلبیة العظمی من سکانها کانوا من العرب.
و بالنسبة لسیاسة المحافظة علی الوضع الراهن کان من حقنا (بموجب ما تلقیناه من تعلیمات) ان ندخل فی روع الذین یرغبون فی إجراء إصلاحات عاجلة بأننا هنا مجرد «حکومة عسکریة» و لسنا «اداریین مدنیین». و لذلک کانت طریقتنا المنطقیة فی العمل ان ندیر البلاد کما لو کانت بمثابة مصر أو أیة بلاد أخری فیها أقلیات مهمة. فنجعل الانکلیزیة لغة رسمیة، و نهی‌ء ترجمات عربیة و مترجمین الی العربیة، و نعامل المقیمین فی البلاد من الیهود و الأوربیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 183
و الأرمن و غیرهم کما یعاملون فی بلاد أخری.
لکن موقف «إدارة اراضی العدو المحتلة» کان أبعد ما یکون عن هذه المفهومة فی أول بیان أصدره الجنرال اللنبی، و جمیع ما أصدرته أنا. فقد صدر باللغة العبریة، الی جانب الانکلیزیة و العربیة. و کانت اعلانات الدوائر و الاعلانات العامة تصدر منذ البدایة باللغات الثلاث، و کذلک الوصولات الرسمیة و وصولات البلدیة. و قد تعین بین موظفینا ضباط یهود و کتاب یهود و مترجمون، فانتقدت «ادارة أراضی العدو المحتلة» علی هذه التصرفات فی داخل فلسطین و خارجها.
علی ان ستورز یحاول تبریر هذا التقصد الصریح فی قیام حکومته البریطانیة بفرض الیهود علی فلسطین منذ البدایة، فیقول ان الادارة لا تلام فی عملها هذا لأن بریطانیة العظمی کانت قد أعلنت «وعد بلفور» فلقیت الفکرة الواردة فیه تأییدا جماعیا تقریبا!!! و هذا من شأنه ان یعطی السلطة المحتلة الحق فی افتراض ان الحکومة التی ستشکل فی فلسطین أخیرا ستکون مجبرة علی الاعتراف بحق الصهیونیین فی فلسطین، برغم ان عصبة الأمم لم تکن قد ولدت یومذاک و ان الانتداب لم یکن یدور فی خلد الناس فی تلک الأحوال.
و مما حدث علی عهد ستورز فی القدس انه سعی الی تشکیل جمعیة خاصة لأعمار القدس و تجمیلها تبناها هو بصفته الحاکم العسکری، فکانت برآسته و عضویة رئیس البلدیة، و المفتی، و مدیر الآثار القدیمة الانکلیزی، و بعض الحاخامین الکبار، و رؤساء الطوائف المسیحیة المختلفة، و رؤساء الطائفة الیهودیة، و رئیس الوکالة الصهیونیة، مع عدد من الشخصیات البریطانیة و العربیة و الیهودیة و الأمریکیة البارزة فی البلد. و من الغریب ان لغة هذه الجمعیة عند الاجتماع و ضبط المحاضر جعلت الفرنسیة، لکنه یقول ان ذلک کثیرا ما کان یغض النظر عنه فتتم المفاهمة بالعربیة و الترکیة و العبریة و حتی بالأرمنیة. کما یقول ان هذه العناصر المتنافرة قد وحدها فی الجمعیة حب الجمیع للمدینة المقدسة التی کان یسعی الجمیع لتحسین أحوالها. و کان مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 184
فعلته الجمعیة أنها سعت فی جمع تبرعات من جمیع الملل فی الداخل و الخارج، فتم الحصول علی مبالغ غیر یسیرة من مصر و انکلترة و أمریکا و غیرها.
و یذکر ستورز فی هذه المناسبة ان قبة الصخرة قد تضررت ضررا بلیغا خلال الشتاء القاسی الذی مر بالمدینة المقدسة سنة 1917- 1918، و لا سیما جبهتها الشمالیة الغربیة، و أخذ قاشانیّها البدیع تتساقط بلاطاته واحدة بعد أخری فتباع فی أسواق البلد. و قد کان من حسن الحظ ان استطاع ستورز ان یستقدم لهذا الغرض المستر أرنست دیشموند من مهندسی الأوقاف المصریة، فقدم تقریرا مفصلا بالترمیمات و التعمیرات المهمة. و لأجل ان یمکن تنفیذ ما جاء بتوصیاته تم الاتفاق علی ان یقوم مفتی القدس باصدار بیان خاص یناشد فیه العالم الاسلامی بالتبرع بالمبالغ المطلوبة لذلک. و قد تضمن البیان ذکرا لمقدار المبالغ التی قدرها المستر رشموند بثمانین ألف باون استرلینی.
و قد اکتشف ریشموند هذا خلال کشفه علی القبة الأفران التی بنیت فوق «اسطبلات سلیمان الحکیم» فی منطقة الهیکل لصنع الکاشانی و الآجر عند تشیید قبة الصخرة. و علی هذا الأساس استدعی من الشام رجل أرمنی (داود أوهانیسیان) مختص و خبیر آخر من کوتاهیة فی الأناضول لصنع القاشانی محلیا فی تلک الأفران القدیمة، بدلا من جلبه من أوربة کما کان یحصل فی الخمسین السنة الأخیرة. و مما یشیر الیه ستورز فی هذا الشأن ان وضع القبة کان مخطرا حتی قبل سنة 1918، و لم یستطع المهندس الألمانی الذی بعثه قیصر ألمانیة لنفس الغرض قبل أربع سنوات ان یعمل شیئا سوی ان یقترح إکساء الجهة الشمالیة الغربیة المتضررة ببلاطات من حدید الصب تستورد من ألمانیة.
و مما یدل علی الروح الصلیبیة التی کان یحملها الانکلیز حینما دخل اللنبی الی القدس خلال الحرب العالمیة الأولی ما یذکره ستورز فی (الص 315) فی تسمیة اسماء الشوارع الجدیدة فی القدس، أو الشوارع التی لم تکن لها أسماء علی ما یدعون. فقد سمیت بالأسماء الآتیة: شارع سنت فرانسیس، طریق سنت بول، شارع غودفری دی بویون (من ملوک الصلیبیین)، طریق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 185
نحمیا، زقاق تانکرید (من الصلیبیین)، ساحة اللنبی، طریق سلیمان، طریق الملکة ملیساند (من الصلیبیین)، و شوارع الأنبیاء. و لأجل ترضیة المسلمین بعض الترضیة سمی شارع من الشوارع باسم صلاح الدین کذلک.
و مما یدل علی ممالأة الوضع للیهود ان الجمعیة التی کان یرعاها ستورز أسست مدرسة خاصة للموسیقی فی القدس فکان ثلاثة أرباع اساتذتها منذ البدایة، تسعون بالمئة من طلابها، من الیهود. و بعد ان تشکلت و نظمت سلمت الی الیهود لیتصرفوا بها.
و یذکر ستورز (الص 323) انه تسلم حاکمیة فلسطین کلها وکالة بعد نقل الجنرال مونی منها، فی 18 کانون الأول 1918. و یقول بالمناسبة انه زار جمیع مناطق فلسطین الاداریة الاثنتتی عشرة فانقص عددها الی ست فقط. ثم یشیر الی ان هذا العدد أنقص الی ثلاثة بعد قرار تکلیف بریطانیة بالانتداب علی فلسطین. و فی 1922 قسمت فلسطین الی حاکمیتین: الحاکمیة الجنوبیة و تشتمل علی القدس و أریحا و بیت لحم و الرملة و یافا و الخلیل و غزة و بئر السبع، و الحاکمیة الشمالیة و تشتمل علی حیفا و بلاد السامریین (نابلس) اللورد بلفور صاحب الوعد المعروف باسمه و الجلیل. و فی 1926 أعید تقسیم المنطقة الجنوبیة الی منطقتین هما: منطقة القدس و ما جاورها، و تضم الأخری الأقسام المذکورة من قبل.

وعد بلفور

اشارة

لقد قیل الکثیر، و کتب الکثیر، عن هذا الوعد المشؤوم و الظلم الصارخ الذی یندر صدور نظیره فی التاریخ. و لیس هناک مجال فی بحثنا هذا للتعمق فیه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 186
حیث یصعب حصر ما کتب عنه فی المراجع الغربیة و غیرها، و لیس هناک ما یدعو الی ذلک لأنه أصبح معروفا لدی الخاص و العام، بل یکفی ان نشیر الی ان هذا الوعد کان من أسالیب الأمبریالیة الماکرة فی هذا العصر، التی لا تحسب حسابا لانسانیة أو دین أو انصاف أو أی معنی من المعانی السامیة التی یعتز بها البشر. و لذلک سوف نقتصر هنا علی ایراد نقاط موجزة تکفی لتوجیه البحث.
لقد أشرنا فیما سبق الی ان الصهیونیة العالمیة قررت العمل علی استملاک فلسطین بکل وسیلة، و شرعت فی تنفیذ قرارها بمفاوضة السلطان عبد الحمید فی الأمر لکنها قوبلت برفض بات منه. فأخذت تکید له و تدس علیه فی بلاده نفسها. ثم راحت تسعی جاهدة بواسطة أذنابها لادخال الدولة العثمانیة فی حرب لم تکن لها فیها ناقة و لا جمل لتقضی علیها، و هی التی کانت تسمی الدولة العثمانیة «الرجل المریض» یومذاک. و عندئذ تجد فرصتها مع المنتصرین للتأثیر علیهم و حصول ما تریده منهم. و حینما لاح أمل انتصار بریطانیة و حلفائها فی الحرب أخذت بالتأثیر علی وزراء بریطانیة و ساستها، من امثال لوید جورج رئیس الوزراء و بلفور وزیر الخارجیة و الجنرال سمطی و هربرت صموئیل الصهیونی حتی کان لها ما أرادت و استحصلت الوعد المذکور علی صورة کتاب موجه رسمیا من بلفور وزیر الخارجیة فی 2 تشرین الثانی 1917 الی اللورد روتشیلد الیهودی.
و یفهم من التفصیلات التی یوردها جفریز فی (حقیقة فلسطین) ان صیغة کتاب بلفور، و الجمل و المصطلحات الواردة فیه، قد هیأها وایزمن و جماعته الصهاینة أنفسهم بالاتفاق مع المستر بلفور بالذات، و ان الصهاینة قد بذلوا جهودا مضنیة مع امریکا و سائر الدول فی سبیل ان تکون فلسطین بعد انتهاء الحرب و اقتسام الغنائم و الأسلاب من حصة بریطانیة، حتی یمکنها تنفیذ ما تتعهد به لهم، فکان لهم ما أرادوا (الفصل العاشر الص 156). و یقول المطلعون ان الدوافع السیاسیة لاصدار هذا التصریح یمکن تلخیصها برغبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 187
بریطانیة فی استمالة العناصر الصهیونیة القویة فی المانیة و النمسا خاصة، و فی سائر انحاء العالم عامة، و استجلاب عطف یهود إمریکا فی وقت لم تکن الولایات المتحدة قد قررت فیه خوض الحرب الی جانب الحلفاء. و قد یکون أهم من هذا ما ارتآه أنصار التصریح من أنه یؤدی الی جعل فلسطین المتاخمة لقنال السویس منطقة نفوذ بریطانیة تحمی مرکزها فی مصر و تضمن الاتصال البری بالشرق، و تقیم سدا بین موقعها فی قناة السویس و موقع فرنسة المقبل فی سوریة ثم ان وعد بلفور یمهد السبیل أمام بریطانیة للمطالبة بان تکون فلسطین من حصتها حتی تتمکن من تنفیذ وعد بلفور للیهود (اکرم زعیتر الص 45).
و یلاحظ مما ورد فی الکثیر من المراجع الغربیة، و لا سیما فی کتابی جفریز و المسز ستیوارت أرسکین ان بریطانیة لم یکن من حقها ان تصدر مثل هذا الوعد بالنظر لما تنطوی علیه النقاط التالیة:
اجتماع امام قبة الصخرة للاحتجاج علی وعد بلفور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 188
1- ان صیغة الوعد الواردة فی الکتاب صیغة غامضة یسود فیها التناقض کما هی الحال فی کثیر من الوثائق التی تصدرها الحکومة البریطانیة علی الداوم.
و لا شک ان هذا الغموض و هذا التناقض کانا مقصودین حتی یمکن للحکومات البریطانیة المتعاقبة تنفیذ ما تریده من ورائهما.
2- ان الوعد المذکور لم یکن التزاما دولیا له قیمته القانونیة، و انما کان عبارة عن کتاب عطف موجه الی شخص ما.
3- ان بریطانیة العظمی لم تکن عند صدور التصریح قد استولت علی فلسطین بعد، و لم تکن فلسطین تابعة لبریطانیة. و لذلک فقد کان وضعها فی هذا الشأن أشبه بمن یهب ما لا یملک، و یبت فی مصیر بلد لا سیادة له علیه.
ان اللورد روتشیلد الذی وجه الیه کتاب التصریح کان شخصا من وجهاء الیهود، و لکنه لم تکن له صفة دولیة معترف بها، و لم یکن یمثل حتی یهود بریطانیا تمثیلا صادقا.
5- ان عبارة «الوطن القومی» عبارة مبهمة لا معنی لها فی القانون الدولی و انما هی اصطلاح اخترعته ألاعیب الصهاینة و من شابههم من مهوّدی الانکلیز یضاف الی ذلک ان الدیانة الیهودیة هی دیانة یتفرق ابناؤها فی مختلف بقاع العالم و لا یکونون أمة ذات قومیة عرقیة خاصة. و ان معظم یهود أورپة لم تکن لهم علاقة بفلسطین مطلقا، و لا یستطیعون حتی التکلم بالعبریة، لانهم کلهم یمتون الی قبائل الخزر التی اعتنقت الیهودیة فی القرن الثامن المیلادی.
6- لم یلتفت التصریح مطلقا الی سکان البلاد الاصلیین، و هم العرب و تجاهل حتی ذکر اسمهم، بینما کانوا أهل البلاد و الأغلبیة الساحقة فقد کان عدد الیهود فی ایام الحرب لا یزید کثیرا علی الخمسین ألف فی حین کان العرب یبلغ عددهم ما یقرب من سبعمائة ألف نسمة. و مع کل هذا تعمد التصریح إغفال ذکر السیاسة لغیر الیهود و اشار فقط الی الحقوق المدنیة و الدینیة و تعلق الکاتبة الانکلیزیة مود رویدن بهذه المناسبة فی کتاب لها بعنوان (مشکلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 189
فلسطین) قائلة: و یتعلق هذا التصریح بفلسطین، ای ببلد عربی وعدنا سکانه بحریتهم و فزنا بمساعدتهم مقابل هذا الوعد. و لکن رغبات هذا الشعب لم یلتفت الیها و لا مرّة واحدة. و یتعلق التصریح بفلسطین البلد الذی کان تسعون بالمائة من سکانه عربا، لکن کلمة «عربی» لا تأتی علی الاطلاق فی هذه الوثیقة العجیبة. و یتعلق التصریح بشعب فلسطین التی سکنها ألفا و ثلثمائة سنة، و مع ذلک فان الاعتراف بوجوده یشار الیه مرة بعد اخری بعبارة «الاوساط غیر الیهودیة» .. و لم یکن للحکومة الأنکلیزیة الحق بقطع هذا الوعد، فقد کان فاسدا منذ البدایة .. و لا یحق لعصبة الأمم ان تمنح بریطانیا انتدابا علی فلسطین، فکیف بانتداب یشترط فیه وعد بلفور؟ و قد یظهر هذا غریبا للذین یؤمنون بقوة السیاسة، و لکن من الحق القول ان للامم الضعیفة حقوقا خاصة بها، لا تقل عن حقوق الأمم القویة فی أهمیتها .. (الص 103 من الترجمة).
7- ان الحکومة البریطانیة کانت، قبل ان تصدر وعد بلفور بسنتین، قد اتفقت مع العرب بمعاهدة تمنح البلاد العربیة المنسلخة عن الدولة العثمانیة استقلالها فتکون دولة عربیة شاملة، فجاء الوعد المزیف مناقضا لهذا الاتفاق.
فلا یخفی ان العرب اعلنوا الحرب علی الأتراک و هم أخوانهم فی الدین للحصول علی استقلال البلاد العربیة التی تنص علیها هذه المعاهدة، ثم ساروا بقیادة فیصل بن الحسین الی ان دخلوا الشام قبل النبی، بعد ان ساعدوه مساعدة جلی لا ینکرها احد، و یعتر بها حتی لوید جورج و اللنبی و لورانس. إذ تذکر الکاتبة الانکلیزیة مود رویدن (الص 78 و 79 من الترجمة العربیة) قولها: و فی هذا الوقت ظهرت أهمیة التعاون العربی أکثر من أی وقت مضی، و عمل فیصل باخلاص تام بجانب اللنبی. و یقول لورنس : أن الجیش العربی تطور من جماعات موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 190
بدویة الی فرق عسکریة منظمة کاملة العدة، و أسر خمسة و ثلاثین الف ترکی و قتل عددا أکبر من هذا، ثم استولی علی مائة و خمسین مدفعا و علی مائة ألف میل مربع من الأراضی العثمانیة. و کانت هذه خدمة جلی لنا، و وجدنا انا مدینون للعرب بمکافأة تماثلها.
ثم تعقب المس رویدن ذلک بقولها: و هناک دلیل آخر علی أهمیة المساعدة العربیة للجیش الانکلیزی، و هی شهادة الجنرال اللنبی نفسه التی أتی علی ذکرها لوید جورج فی مؤتمر السلم عام 1919 إذ قال: لم تکن القضیة السوریة قضیة سوریة و انما کانت قضیة انکلترا نفسها. فمع ان انکلترة جندت ما یقارب تسعمائة الف الی ملیون جندی ضد ترکیة فقد کانت مساعدة العرب اساسیة لها، و هذه نقطة استطاع الجنرال اللنبی ان یتکلم عنها، حیث قال:
ان مساعدة العرب کانت فعالة لا تقدر بثمن. و یتابع المستر لوید جورج قوله ان الملک حسین کان قد حشد کل قواه لتأیید انکلترة فی ساحة القتال، و هذا مما ساعدنا عملیا علی الفوز فی النهایة .. ثم تقول رویدن فی الاخیر: و لیس هناک شک فی ان الفضل فی نجاح حملة الجنرال اللنبی لا یعود فقط الی القوی الانکلیزیة، و لا الی نبوغ الجندی العظیم، بل الی العرب الذین حاربوا فی صفوفه.

صک الانتداب

و علی کل فان المنطق و الحجج الدامغة لا یمکن لها ان تقر شیئا من الناحیة العملیة تجاه سیاسة القوة و الفتح التی تذرعت بها دول الحلفاء المنتصرة فی الحرب العظمی. فقد کان رجالها الاستعماریون الخاضعون للنفوذ الصهیونی، و المتشبعون بالروح الصلیبیة الأصیلة، راغبین فی تسلیم فلسطین لقمة سائغة للیهود. فابتدعوا مهزلة الانتداب، و سلمت فلسطین الی بریطانیا باعتبارها موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 191
الدولة المنتدبة علیها. و أدخلت النقاط الواردة فی صک الانتداب نفسه، و کان وضع مسودة هذه الوثیقة ایضا علی أیدی الصهاینة الأثیمة. فقد أخذ رأیهم فی الموضوع و کلفوا بوضع الشکل المقترح لصک الانتداب قبل اقراره. حیث أنه یکاد یکون صورة طبق الأصل لمشروع الجمعیة الصهیونیة الذی عرضته علی مؤتمر الصلح شباط 1919. و یفهم مما جاء فی مذکرات وایزمن ان بنیامین کوهین الأمر التی هو الذی عهد الیه بالاشتراک مع سکرتیر اللورد کرزن وزیر خارجیة بریطانیا بتنظیم مسودة صک الانتداب و الموافقة علی نصوصه.
و فیما یأتی ندرج النقاط التی المهمة تختص بفلسطین فی صک الانتداب:
1- تکون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد (فلسطین) فی احوال سیاسیة و اقتصادیة و اداریة تضمن انشاء الوطن القومی الیهودی فیها، کما جاء فی دیباجة الصک، و عن ترقیة مؤسسات الحکم الذاتی.
2- یعترف بوکالة یهودیة صالحة کهیئة عمومیة لأسداء المشورة و المعونة الی ادارة فلسطین فی الشؤون الاقتصادیة و الاجتماعیة و غیر ذلک من الأمور التی قد تؤثر فی انشاء الوطن القومی الیهودی فی فلسطین و مصالح السکان الیهود فی فلسطین و لتساعد و تشترک فی ترقیة البلاد .. و یعترف بالجمعیة الصهیونیة کوکالة ملائمة ما دامت الدولة المنتدبة تری ان تألیفها و دستورها یجعلانها صالحة.
3- علی ادارة فلسطین .. ان تسهل هجرة الیهود فی أحوال ملائمة، و ان تشجع بالتعاون مع الوکالة الیهودیة حشد الیهود فی الأراضی بما فیها أراضی الحکومة و الأراضی الموات غیر المطلوبة للمصالح العامة.
4- علی ادارة فلسطین ان تتولی مسؤولیة سن قانون للجنسیة، و یجب ان یشتمل ذلک علی نصوص من شأنها ان تسهل للیهود الذین یتخذون فلسطین مقاما دائما لهم اکتساب الجنسیة الفلسطینیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 192
اما تعلیقنا علی هذا فهو ان «صک الانتداب» قد جاء عبارة عن «صک عبودیة» منحته الدول المنتصرة الغاشمة الی بریطانیا حتی تمهد فیه لتسلیم فلسطین الی الصهاینة. و قد برهنت الحوادث الی حد الیوم علی قولنا هذا. و هو فی کثیر من نقاطه یخالف میثاق عصبة الأمم، إذ تجعل المادة 22 منه رغبة السکان الأصلیین فی البلاد المنتدب علیها هی التی تعین الدولة المنتدبة فی الدرجة الأولی. لکن العرب أصحاب فلسطین لم یؤخذ رأیهم فی تعیین بریطانیا دولة منتدبة علی بلادهم، و انما کان هذا التعیین تلبیة لرغبة الجمعیة الصهیونیة.
و تستند فکرة «الوطن القومی» و دیباجة الصک علی شیی‌ء و همی مصطنع یقال له «صلة الیهود التاریخیة» بفلسطین، و تجعل هذه الفکرة من أهم الأسباب الداعیة لأنشاء الوطن القومی. و لا شک ان ما مر ذکره من خلاصة تاریخیة یکذب هذه الاسطورة.
و یؤید رأینا هذا کثیر من کتاب الغرب أنفسهم، الذین نورد فیما یأتی شیئا من آرائهم فی هذا الشأن، فقد ذکر المستر الیهو غرانت یقول: ان الحقوق الیهودیة فی فلسطین قد سقطت بین سنتی 136 و 1920 للمیلاد، و بکلمة ثانیة منذ ابتداء التاریخ المسیحی علی التقریب. و لذلک فان ادعاءآت الیهود بالبلاد ترجع إذن الی ما قبل التاریخ المسیحی، و لکنها عادتنا فی ان ننسی العربی المسیحی و نفتری علی العربی المسلم .
و تقول الکاتبة الانکلیزیة مود رویدن فی (مشکلة فلسطین): و نحن کأمة نشأت علی الانجیل نجد الحقیقة بان فلسطین یمکن ان توصف بکونها «عبریة صریحة» صدمة لنا. و مع اننا جمیعا نعلم ان الرومان دمروا القدس عام 135 م و ان الیهود انتشروا فی العالم، فاننا لا نزال نعلق فی مخیلاتنا فلسطین بالیهود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 193
و بالیهود فقط .. و تقول رویدن فی مناسبة أخری: نحن لا نعرف، کما أنه لا یمکن لأحد ان یعرف من کان هناک أولا. انما نحن نعرف ان الرجوع الی الوراء الفا و ثلاث مئة عام لنبحث فی التاریخ و نرجع البشریة الحائرة الی الأرض التی احتلتها ضرب من المستحیل، نحن الانکلیز لا ننتظر ان نسکن المانیا او ندعی بذلک لمجرد کون اجدادنا الانکلوسکسون عاشوا هناک ایاما، و لا نسمح للویلشن ان یمتلکوا انکلترة بناء علی انهم کانوا هنا قبلنا، انها لفکرة مضحکة، ان مکوث امة الفا و ثلثمائة سنة فی ارض من الاراضی یخول لها الحق الکامل بامتلاکها امتلاکا لا یحتمل الجدل و النزاع، و لم یحدث هذا مع الاسف الا فی فلسطین (الص 86 و 98 من الترجمة العربیة).
و یقول المستر لورانس غریز و ولد الکاتب الأمریکی فی کتابه الذی ترجم بعنوان (إدفع دولارا تقتل عربیا)- الص 18 من الترجمة العربیة- و من هذه الخلاصة الموجزة یدرک القاری‌ء ان دعوی الصهیونیین بأن یکون ذلک القطر وطنا قومیا لهم انما تستند الی عهد شفهی خرافی أعطاه یهوه لموسی.
و الواقع ان البروفسور أولبرایت أحد کبار الثقات العالمیین فی تاریخ فلسطین القدیم یذکر بوضوح لا یحتمل اللبس علی انه لیس فی فلسطین أیة آثار یهودیة ترجع الی ما قبل العهد الرومانی الانطونی .. ثم یقول (الص 28) فی مناسبة أخری: «و الحقیقة الواضحة تحتم علینا القول بأن سیادة العبرانیین القصیرة علی فلسطین لا تمنحهم من الحقوق فیها غیر جزء مما تمنحه لسیادة العرب و الفرس و الرومان علی الدیار المقدسة من حقوق. بل انها لا تمنحهم حقوقا تتساوی و حقوق الصلیبیین الأوربیین أنفسهم. و الی ذلک فقد کان ثمة طبعا حقیقة إضافیة، و هی ان فلسطین کانت آهلة بالعرب العصریین الذین ترجع ملکیتهم للأرض الی القرن السادس عشر!. و الواقع ان التنکر الفجائی للحقوق الطبیعیة و اخراج الشعب الذی یملک الأرض و یحرثها من دیاره لیس الا من عمل الساسة المتعودین علی التصرف بما یملکه الآخرون، و الیهود الذین اکتسبوا تفکیرهم و طبیعتهم من الاحیاء القذرة التی أقاموها لأنفسهم فی أوربة الشرقیة»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 194

تنفیذ الانتداب

ان الغریب فی الأمر ان الحکومة البریطانیة اعتبرت کل ما مر شیئا حاصلا منذ أول احتلالها للبلاد، و قبل ان تصدر وعد بلفور، أو قبل ان یفکر أحد فی الانتداب و الصک المدبر لتنفیذه. و أخذت تمهد الطریق لتسلیم فلسطین الی الصهاینة عند أول فتحها للقدس و قبل ان یتم الاستیلاء علی فلسطین جمیعها، کما یستفاد مما أوردناه قبل هذا من مذکرات السر رونالد ستورز.
و قد جاءت لهذا الغرض بما یسمی «اللجنة الصهیونیة» لتشارک الحکومة البریطانیة فی المهمة الأثیمة، و عین الموظفون الصهاینة فی المراکز المهمة.
و صارت هذه اللجنة التی استقرت فی القدس تتدخل فی الصغیرة و الکبیرة و تعتبر نفسها صاحبة البلاد، و المسؤولة عن ادارتها. حتی انها کانت تصدر کتبا خشنة ملأی بالصلف و التحدی حتی الی الموظفین الانکلیز، فاصطدمت بها مرات عدیدة. و یلاحظ ذلک علی الأخص فی عهد السر لویس بولز الحاکم الاداری العام علی فلسطین جمیعها، الذی تجرأ فکتب مذکرة شدیدة اللهجة فی هذا الشأن الی مرجعه فی لندن، یعدد فیها تجاوزات اللجنة الصهیونیة و تصرفاتها الشائنة .
و یقول جفریز ان مصیر هذه المذکرة غیر معروف لکنها علی وجه التأکید کانت سببا قویا من الأسباب التی دعت لوید جورج الی التعجیل فی الغاء الادارة العسکریة فی فلسطین، وحدت بوایز الی ان یطالب بتعیین أناس من الانکلیز فی فلسطین یبدون اهتماما أکثر بمهمة تحقیق «الوطن القومی للیهود».
و قد تباطأت الحکومة البریطانیة فی تبلیغ العرب بوعد بلفور، و لعلها لم تدر کیف تفعل ذلک أو لم تجد موجبا لذلک، لکن حاکم فلسطین العام السر بولز ارتأی ان یذیعه علیهم بعد مدة سنة و نصف. و ان یخبرهم بعزم الحکومة البریطانیة علی قبول الانتداب علی فلسطین الذی یندمج فیه وعد بلفور نفسه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 195
فکان رد الفعل عنیفا بطبیعة الحال، لأن فلسطین هبت بأسرها تستنکر ذلک و تحتج علیه، و تألفت فی القدس و غیرها من البلاد «الجمعیات الاسلامیة المسیحیة» للعمل علی مقاومته، و سارت بعد ذلک المظاهرات، و عقدت المؤتمرات فی کل مکان.
لکن أهم ما حدث وقوع اضطرابات فی القدس بمناسبة حلول موسم النبی موسی و الاحتفال به (4- 8 نیسان 1920). فقد انقلب الموسم الی مظاهرة عنیفة أدت الی مهاجمة الیهود و الاصطدام بهم، و بالشرطة، و وقوع عدد من القتلی و الجرحی بین الطرفین. و یشیر ستورز الی ذلک اشارة عابرة فی مذاکراته (الص 330) یذکر فیها تصاعد الشعور المناوی‌ء للصهیونیة بین العرب فی القدس، و یعزو ذلک الی ان الدم یدور ساخنا فی فلسطین خلال الربیع و لا ینسی هنا ان یضع اللوم علی «المحرضین» و فی مقدمتهم «.. شخص یدعی الحاج أمین الحسینی الأخ الأصغر للمفتی کامل افندی.» ثم یضیف فی حاشیة الصفحة (341) قوله ان الحاج أمین خلف أخاه فی الافتاء، و کان فی 1942 مذیع محطات المحور العربیة ضد الحلفاء!!
مفتی فلسطین الحاج امین الحسینی
و یذکر ستورز بعد ذلک ان الحاج أمین حرض المحتفلین بالموسم علی العنف و اختفی عن الانظار، و حینما تعقبته الشرطة البریطانیة و أخذت تفتش عنه، کبست دار أخیه المفتی و فتشته من دون ان تستشیر (تستشیر ستورز).
فاغتاظ المفتی و اهتاج و راجع «ادارة أراضی العدو المحتلة» محتجا الیها بأنه قد أهین و مسّ شرفه بذلک، ثم أرجع الیها و سام السی أیم جی‌C M G
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 196
الذی کان قد منح له قبل قلیل. علی ان هذه الاهانة الکبیرة للانکلیز قد تم التجاوز عنها، و بدلا من ان یشطب اسمه من قائمة أصحاب الوسام أعید الیه مع الاعتذار عما وقع.
و حینما تألفت لجنة عسکریة للتحقیق فی الأسباب المؤدیة الی وقوع الحادث کتبت تقریرا تعز و فیه وقوع الاضطرابات الی «یأس العرب من تحقیق الوعود التی قطعت لهم فی أثناء الحرب بالاعتراف باستقلالهم، و اعتقادهم ان تصریح بلفور یتضمن عدوانا علی حقوقهم فی تقریر مصیرهم، و خشیتهم ان یؤدی انشاء الوطن القومی الیهودی الی تضخم الهجرة الیهودیة تضخما یسفر عن استعبادهم اقتصادیا و سیاسیا من قبل الیهود. و ما أدت الیه تصرفات اللجنة الصهیونیة فی فلسطین من استفزاز، و ما سببه تتویج الملک فیصل فی دمشق علی سوریة المتحدة بما فیها فلسطین من حماسة».
لکن هذا التقریر لم یکن له أی تأثیر فی النهایة. فقد ألغیت الادارة العسکریة فی فلسطین، و تقرر إقامة ادارة مدنیة فیها. و قد عین فی الیوم الأول من تموز 1920 السر هربرت صموئیل أول مندوب سام لفلسطین، و هو یهودی من أقطاب الصهیونیة المعروفین فی بریطانیة. و لا شک انه جی‌ء به لتنفیذ صک الانتداب قبل صدوره، و العمل علی تحقیق «الوطن القومی» للیهود بالسرعة الممکنة. و قد صرح الدکتور وایزمن، علی ما یذکر جفریز (الص 317) فی هذا الشأن بقوله: «لقد کنت انا المسؤول فی الدرجة الأولی عن تعیین السر هربرت صموئیل فی فلسطین. فالسر هربرت صدیقنا، و بطلب منا قبل ان یتولی هذا المنصب الصعب، فوضعناه فی منصبه. انه صموئیلنا».
و مما یذکره جفریز کذلک فی عدة مناسبات ان هربرت صموئیل کان من جملة الذین عملوا علی إقناع الحکومة البریطانیة باصدار وعد بلفور منذ البدایة، و تبنی ما جاء فیه.
و ما ان وصل السر هابرت الی القدس حتی شرع فی وضع البلاد فی حالات سیاسیة و اقتصادیة و اداریة تؤدی الی قیام الوطن القومی الیهودی. فعین أحد غلاة الصهیونیة- بنتویش- نائبا عاما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 197
یقوم باعداد القوانین و الانظمة، و کذلک عین مدیر التجارة العام و مدیر المهاجرة و السفر من الیهود، و أقیم علی رأس کل دائرة موظف انکلیزی أو یهودی، و کذلک حکام المقاطعات، و اعتبرت اللغة العبریة لغة رسمیة الی جانب العربیة و الانکلیزیة. و ترک للیهود ان یستقلوا بادارة معارفهم و مدارسهم فتشرف علیها و تدیرها اللجنة التنفیذیة الصهیونیة، علی حین جعلت المعارف العربیة بید انکلیزی و مساعدین انکلیز ادارة. و إشرفا، و تفتیشا، و توجیها.
و کتبت علی الطوابع و النقود «أرض اسرائیل» بالعبریة ترجمة لکلمة «فلسطین» بالعربیة. و فی عهد صموئیل هذا بدت عملیات انتقال الأراضی من أیدی العرب الی أیدی الیهود، و أقطعوا أکثر أراضی الدولة لهم .. حتی بلغ ما أعطته الحکومة للیهود من أملاک الدولة (175) ألف دونم .. و أقفلت المصرف الزراعی، و حجزت أراضی الفلاحین و مواشیهم تسدیدا للقروض.
و دفعت الضرائب فأخذ البعض یعرضون أراضیهم للبیع لدفع تلک الصرائب او للتخلص من الدیون لسد الرمق .
و الأهم من ذلک کله ان أبواب الهجرة قد فتحت علی مصراعیها للیهود.
فمنحت شهادات الدخول الی البلاد بالآلاف. و یذکر المستر جفریز (الص 373) فی هذا الشأن ان السر هربرت صموئیل قد اعترف بصراحة ان هدف الحکومة هو الاستمرار علی إدخال الیهود إلی فلسطین حتی یتجمع منهم فی النهایة عدد یکفی لانشاء دولة یهودیة فیها، و هو ما تم بالفعل کما لا یخفی.
کما یشیر السر رونالد ستورز (الص 358) الی ان الرئیس الیهودی الدکتور وایزمن حینما سئل فی مؤتمر الصلح فی باریس عما یرید بعبارة «الوطن القومی الیهودی» أجاب انه یقصد بذلک ان تتهیأ فی فلسطین فی النهایة ظروف تصبح فیها بلادا یهودیة کما أصبحت أمریکا أمریکیة و انکلترة انکلیزیة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 198

رئآسة البلدیة

یذکر ستورز فی مذاکراته (الص 333) ان الاضطرابات التی وقعت فی ربیع 1920 فی القدس بمناسبة موسی النبی موسی أثارت قضیة رئآسة البلدیة فیها. فان موسی کاظم پاشا الحسینی الذی کان رئیسا للبلدیة یومذاک کان علیه ان یمثل الطوائف الثلاث من دون تحیز، لکنه کان علیه بصفته رئیسا لأسرة من الأسر الکبیرة فی البلاد ان یترأس المعارضة للانتداب و یتکلم باسمها. و قد لقیته فی یوم من الأیام (بعد الظهر) یقود حشدا من الناس فی التظاهر ضد الدوائر الصهیونیة، فرجوت منه ان یعود الی بیته معهم لئلا تنشأ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 199
اضطرابات بهذا السبب. ثم أنذرته فی مساء الیوم نفسه بأن یختار بین السیاسة و رئآسة البلدیة. و فی أثناء الاضطرابات أصبح شموسا فی بدایة الأمر. و اتخذ موقف التحدی بعد ذلک، فأخبرت الادارة العسکریة باقتراحی فی إقالته و تعیین شخص آخر فی محله- فقوبلت باقتراح یفید بتعیین رئیس بلدیة انکلیزی فی مکانه، و بذلک یقل عدد المناصب التی یطمح فی إشغالها أحد الفلسطینیین. و قد کان من السهل علی أن أفنّد هذا الطلب بدلا من أن أفتش فی مثل هذا الجو المتوتر علی بدیل للرئیس الحالی.
لکننی طلبت راغب بک النشاشیبی، و هو رجل قدیر من أعضاء مجلس المبعوثان العثمانی السابق، و عرضت علیه رئآسة البلدیة ثم رجوته بأن یؤید قبول هذا المنصب خطیا فی الحال. و قد سررت إذ فعلت هذا، لأنی بعد عشرین دقیقة ألمحت الی موسی کاظم باشا (و انا آسف لأنه کان قد قدم خدمات لبلده و برهن فی بعض المناسبات علی انه «جنتلمن» عربی مؤدب) بأن الوقت قد أصبح یتطلب التبدیل. فأجابنی الباشا «ان سعادتک حر فیما تعمل، لکننی أشیر علیک بان تنتظر لأننی متأکد بعدم وجود أحد من العرب یجرأ علی أخذ مکانی». فعرضت علیه فی الحال موافقة راغب بک لیطلع علیها. و حینما قرأها نهض من مکانه، فشکرنی علی تأییدی السابق له، و أکد لی استمرار الصداقة بیننا ثم صافحنی و خرج من مکتبی یمشی الهوینا بانتصاب.
و کان المجلس البلدی یومذاک یتألف من ستة أعضاء: اثنین من المسلمین أحدهما رئیس البلدیة، و اثنین من المسیحیین أحدهما أورثودکسی و الثانی من اللانین، و اثنین من الیهود. لکنی استحدثت بالاضافة الی هذا منصبی نائب لرئیس البلدیة یشغل أحدهما رجل مسیحی و الآخر یهودی، حتی یشغلا بالتناوب منصب الرئآسة عند تغیب الرئیس.
و یتطرق ستورز فی مناسبة أخری (الص 401) الی وصف مجتمع القدس و المسلمین فیه، و الی هذین الشخصین منهم بالذات (الحسینی و النشاشیبی)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 200
فیقول: و قلیل من الزوار من یدرک ان فلسطین بوجه عام و القدس علی الأخص یجب ان تدرس و تفهم عن طریق الوقوف علی أحوال طوائفها الثلاث- طائفة المسلمین، و المسیحیین، و الیهود، و أشخاص أفرادها أیضا .. و لا شک ان أکبر الطوائف و أشدها أهمیة فی فلسطین هی طائفة المسلمین. فهی بخلاف الطائفتین الأخریین لم تکن منقسمة الی مذاهب وشیع، و انما کانت تنقسم فقط الی حزبین کبیرین هما: حزب الحسینیین و حزب النشاشیبیین.
اما أسرة الخالدی التی تتحدر من صلب قائد محمد خالد بن الولید رأسا، و تعد أقدم من کلا الأسرتین الأخریین، فهی علی قدر أقل من النفوذ مع أنها لا تزال قادرة علی ان تؤثر فی سیر الانتخابات البلدیة. و کلما ابتعد المرء عن القدس یقل اعتراف الأسر الکبیرة الأخری، مثل أسرة آل عبد الهادی فی نابلس أو أسرة بیضون فی عکا، بنفوذ هاتین الأسرتین. لکن الحقیقة أن جمیعهم کانوا یقفون فی صف واحد و یشتغلون مع هذه أو تلک. أما تجاه الصهیونیة فیمکن ان یقال بان آل الحسینی یمثلون الناحیة الدینیة و القومیة العربیة المتطرفة، بینما یمثل آل النشاشیبی الجانب الحکومی. و الأسرة الحسینیة من بین الأسرتین هی المدینة الی السلطات البریطانیة أکثر من الأخری، لأن هذه السلطات قد أبقت کامل الحسینی فی منصبه (الافتاء)، و رشحت موسی کاظم لرآسة بلدیة القدس، ثم أنعمت علی کل منهما بوسام، و کانت مسؤولة رأسا عن تعیین الحاج أمین خلفا لأخیه. و قد کنت فی أیام «ادارة الأراضی المحتلة» علی اتصال ودی وثیق بکامل أفندی، الذی کان رجلا معقولا، یحب المساعدة، حتی أفسدته السیاسة.
اما رئیس البلدیة موسی کاظم پاشا فقد کان یتصف بجمیع وقار الحاکم العثمانی التقلیدی، و بعض صفاته الحسنة. و لقد أعید التوازن بین الأسرتین لدرجة ما خلال اثنتی عشرة سنة حینما تسم رئآسة البلدیة راغب بک النشاشیبی أقدر رجل عربی فی فلسطین علی الاطلاق. فقد کان یتصف بالحنکة و الدهاء و بسرعة الادراک و العمل، و بعدم الاعتقاد بالقضاء و القدر کما هو الحال مع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 201
أبناء دیانته .. ثم یستمر ستورز فی الثناء علی النشاشیبی و یقول انه أعید انتخابه (بعد رحیل ستورز عن القدس) 1926 مرة واحدة، لکنه لم یستطع البقاء فی المنصب بعد ذلک، لأن خصمه الحاج أمین الحسینی مفتی القدس و «رئیس المجلس الاسلامی الأعلی» الذی شکله السر هربرت صموئیل کان یشتغل ضده، و یؤثر علی الفلاحین و المتأثرین بالسیاسة تأثیرا مباشرا بعمامته المهیبة التی یکون لها وقع مؤثر حینما تقرن بقبة الصخرة الفخمة، مع أنه أقل من النشاشیبی فی شخصیته و قدرته، و فی رغبته فی التعاون مع الحکومة.

حائط المبکی

ان حائط المبکی هو الجدار الغربی للحرم الشریف، و فی ما وراء هذا الحائط من جهة ساحة الحرم غرفة یعتقد المسلمون انها المکان الذی ربط فیه البراق (فرس النبی) لیلة الاسراء فاصبح الحائط یعرف لدیهم بالبراق.
و یزعم الیهود ان هذا الحائط یشکل جزءا من الحائط الخارجی الغربی لهیکل الیهود القدیم، و لذلک اعتادوا زیارته لاقامة الصلاة فیه و البکاء علی مجدهم الغابر الذی ضیعوه بأیدیهم.
و قد اتخذت الصهیونیة هذا الحائط وسیلة لتنفیذ أغراضها الاستعماریة و السیاسیة، و صارت تستند علی قدسیته المزعومة فی المطالبة بفلسطین. و کان أول احتکاک وقع فی هذا الشأن، علی ما یذکر ستورز (الص 332)، حینما باشرت دائرة الاوقاف فی القدس باجراء ترمیمات فی السقف الذی ینتهی به الحائط، و فی أسفل السطح بعدة أمتار. فاستنکر الیهود ذلک حینما سقط شی‌ء من مواد البناء علی الیهود الذین کانوا یؤدون صلاتهم فی أسفل الحائط علی ما یدعون. و قد بدأ الاحتکاک حینما وجهت اللجنة الصهیونیة الی ستورز کتابا شدید اللهجة تعترض فیه علی هذه الترمیمات.
و حینما کلف ستورز خبیرا معماریا من الانکلیز و کشف علی الترمیم الذی کان یجری، بحضور بعض الیهود المسؤولین، وجد ان ذلک الترمیم کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 202
لا بد من ان یتم للمحافظة علی البناء. غیر انه تم الاتفاق علی ان یجری ذلک فی غیر أوقات الصلاة، و ان لا ینزل الترمیم الی ما تحت ثلاثة أمتار من السقف.
و مما یتطرق الیه ستورز فی هذا الشأن أیضا (الص 346) قوله ان الدکتور وایزمن حاول تحقیق مشروع لو نجح فیه لهلّل له الصهاینة فی أرجاء العالم کله.
فان حائط المبکی من الناحیة الجغرافیة هو الجدار الغربی للحرم الشریف. اما من الناحیة البنائیة و المعماریة فانه الجدار الغربی لمنطقة الهیکل، و یتألف من تسع سافات مبنیة بأحجار جسیمة غیر مکسوة کانت قد وضعت فی مکانها فی عهد هیرود، و ربما کان بعضها قد وضع فی عهد زیرو بابل و سلیمان النبی. و من أربع سافات فوقها من البناء الرومانی البیزنطی، الذی یکمله أحد عشر من البناء الاسلامی العربی و الترکی. و الجدار من الناحیة القانونیة و الشرعیة هو جزء من سطح الحرم، و بهذه الصبغة هو ملک صرف للطائفة الاسلامیة.
اما تاریخیا فهو أقدس حائط فی العالم، و اما روحیا فهو روح اسرائیل و قلبها النابض. و تمتد بجانب الحائط من الغرب شطیطة مبلطة بعمق ست یاردات تکوّن هی، و بعض الأکواخ الحجریة و الممرات التی ینخفض مستواها انخفاضا قلیلا، قسم القدس من وقف أبی مدین الذی کان قد أوقف منذ أیام نور الدین- من رجال صلاح الدین- علی الزوار المغاربة فی الأصل الذین أصبحوا مقیمین فی القدس فی یومنا هذا. و یحتفظ بالمستندات التی تثبت الملکیة غیر المنازع فیها شیخ المغاربة متولی وقف «قبر أبی مدین» القریب من الموقع.
و المستندات مسجلة فی سجلات محکمة المسلمین الشرعیة فی القدس.
لکن حائط المبکی هو المکان المقدس الوحید الذی بقی للیهود من مجدهم الغابر، و تمتد عادة الصلاة بقربه الی القرون الوسطی علی الأقل. و لهذا الحائط القدیم تتجه فلوب الیهود فی العالم أجمع، و لا سیما فی مساء کل سبت، و فی أیام عید الفصح الیهودی، و رأس السنة الیهودیة، و فی یوم الکفارة (الکپور) و فی التاسع من شهر آب- أی یوم خراب الهیکلین الأول و الثالث الیهودیین ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 203
و یورد ستورز فی الحاشیة ما کتبه هرزل مؤسس الصهیونیة فی مذاکراته لیوم 31 تشرین الأول 1898 حینما کان فی القدس فلم یتحسس کثیرا بحائط المبکی.
فهو یقول: ذهبنا الی حائط المبکی، و من الصعب علی المرء ان یشعر بعاطفة عمیقة هناک. لأن المکان یمتلی‌ء بالتسول القبیح التاعس المحفوف بالمخاطر.
أو هکذا کان مساء یوم أمس و فی صباح هذا الیوم، حینما کنا هناک.
حائط المبکی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 204
و یتابع ستورز قوله: فهذه هی التقالید و الاستمراریة التی یمکن أن یقال إن الیهود قد کونوا بواسطتها حقا مطلقا معترفا به فی حریة الوصول الی الحائط للتعبد فی أیة ساعة من ساعات النهار أو اللیل خلال السنة کلها. و مع ان المسلمین یجزمون أحیانا بالقول بأنهم من الناحیة القانونیة یمکنهم أن یقیموا جدارا یحول دون وصول الناس الی هذا الحائط، فلیس هناک حکومة منتدبة یمکنها ان تسمح بمثل هذا التجاوز الواضح علی «الوضع الراهن». و نجد من الناحیة الأخری ان حق الیهود فی هذا الشأن لا یزید علی کونه حق طریق و وقوف من دون ان یتضمن حقا صریحا أو ضمنیا فی تملک الحائط و لا التبلیط المحاذی له. و قد اقترح الدکتور و ایزمن وجوب استملاک هذا المکان الغالی لعبادة الیهود، لا عن طریق الشراء لأن الوقف الاسلامی لا یباع و انما عن الطریق القانونی الذی کثیرا ما یتبع فی استبدال أرض بأخری. و قد عرض علی الحکومة مبلغ (75) ألف پاون استرلینی لتلافی مصاریف إعادة إسکان شاغلی المکان الحالیین، کما کان مستعدا لدفع مبالغ أخری. و تلقیت تعلیمات خاصة بدراسة الاقتراح و تقدیم تقریر عنه. و یقول ستورز: هذا و اننی شخصیا لا أعتقد بوجود قدسیة فی وقف أبی مدین و لا بغیره من الأوقاف، و قد کنت علی استعداد للاشراف بحرص علی أی مبنی یمکن ان یبنی هناک فی المستقبل، حیث کان من غیر المنتظر ان یعمد الیهود الی الحط من قدر الأرض التی یقع فیها أقدس مکان عندهم أو العبث بها. کما کان من الممکن ان یخصص المبلغ المرقوم لتعلیم المسلمین. و لذلک أیدت الاقتراح لدی کلایتون و مونی، اللذین أیداه بدورهما أیضا. علی ان حداد بک کان یری ان الأمل فی قبول الاقتراح کان ضعیفا علی کل حال لا سیما اذا کان الصهاینة هم الذین سیتقدمون به بأنفسهم، و لذلک وافقت علی ان أتولی بنفسی أمر فتح باب المفاوضات بشأنه. فتسلمت بعد ذلک عریضة احتجاج قدمتها جماعة من رجال العرب البارزین، و وجدت فی نهایة ایلول 1918 ان الوضع ازدادت حراجته بحیث اضطررت باستشارة سریعة من حداد بک الی أن أوصی باهمال المشروع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 205
برمته. و لا شک انه کان محقا فی رأیه. فحتی اذا کان المفتی نفسه راغبا فی الموافقة علیه کان علیه ان یواجه حساسیة جمهوره المتدفقة (الی جانب ازدیاد تخوفهم من الصهیونیة) تجاه أبسط حرکة تدخل تبدو حتی بالنسبة للأرض التابعة الخارجیة جدران الحرم الشریف .. و فی حاشیة الصفحة نفسها (347) یذکر ستورز أن التنقیبات التی کان بارکو قد أجراها فی المنطقة خلال سنة 1910- 1911 قد أدّت الی تفجر الاستیاء العام فی أنحاء ترکیة کلها.
و إتماما للبحث و الفائدة نورد هنا ما تطور الیه أمر حائط المبکی بعد ذلک حتی انفجر انفجارا مدویا فی سنة 1929، فأدی الی أن تقوم الحکومة البریطانیة فی لندن بتألیف لجنة برلمانیة برآسة قاض من القضاة للتحقیق فی الأمر، و کانت تسمی «لجنة شو». فقد تمادی الصهاینة فی صلفهم و تحدیهم للمسلمین فی القدس بالنسبة لهذه البقعة فجلبوا فی مساء یوم 23 أیلول 1928 أدوات جدیدة الی المبکی، و أقاموا ستارا یفصل بین الرجال و النساء، فأثار هذا التصرف المسلمین و جعلهم یعتقدون ان الغایة الأخیرة هی استملاک المسجد الأقصی تدریجیا بزعم أنه الهیکل ابتداء من الجدار. و قد ألفوا جمعیة «حراسة المسجد الاقصی» و عقدوا عدة اجتماعات عامة فی المسجد آلوا فیها علی أنفسهم الدفاع عن البراق و المسجد الأقصی، و صدرت الأوامر الرسمیة الی الیهود بنزع الستار فلم یفعلوا لکن الشرطة تولت رفعه بنفسها فهاج هائجهم (یوم عید الصیام) ثم هتفوا «الحائط حائطنا».
لکن المسلمین خرجوا فی الیوم التالی (16 آب)، الذی کان یوم المولد النبوی، بعد صلاة الجمعة من الحرم فی تظاهرة صاخبة نحو البراق. و هناک قلبوا منضده تعود للشماس الیهودی، و أحرقوا الاسترحامات التی اعتاد الیهود وضعها فی ثقوب الحائط، فزاد هذا فی اشتداد التوتر. و حدث أن طعن عربی فی 17 آب یهودیا دخل حدیقته طعنة أودت بحیاته فکانت فاتحة اشتباکات و اضطرابات، حتی کان یوم الجمعة التالی فی 23 من آب حین غادرت الجموع الهائجة ساحة الحرم و قامت بهجوم علی الیهود امتد الی ضواحی المدینة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 206
و عم الهیاج و التظاهرات فلسطین کلها. فوقع هجوم علی الیهود بالخلیل فی الیوم التالی أسفر عن مقتل أکثر من ستین یهودیا عدا الجرحی الکثیرین. و هجم المتظاهرون علی ثکنة الشرطة فی نابلس فسقط الجرحی، ثم امتدت الاضطرابات الی بیسان، و حیفا، و یافا، حیث اقتحم الیهود و علی رأسهم شرطی یهودی رسمی بیت إمام مسجد فقتلوه هو و جمیع أفراد عائلته، و بقروا بطنه و حطموا رؤوس زوجته و طفلته و ابن أخیه. کما هاجم الیهود مقام عکاشة فی القدس فأتلفوا و دنسوا قبور الصحابة الکائنة فیه. و قد بلغت الاضطرابات ذروتها فی یوم 29 آب حین وقع الهجوم فی صفد علی الیهود، و هناک وقع نحو خمسین یهودیا بین قتیل و جریح.
و قدرت السلطات الرسمیة عدد الاصابات فی نهایة الاضطراب بنحو 135 قتیلا و 340 جریحا من الیهود، و 116 قتیلا و 240 جریحا من العرب الذین کانت معظم اصاباتهم بأیدی الشرطة و القوات العسکریة. و قرر العرب مقاطعة الیهود، لکن السلطات نکلت بکل من کان یحرض علی المقاطعة او یشرف علی تنفیذها ..
و مما ذکرته اللجنة فی تقریرها عن الحادث «أن السبب الأساسی الذی لولاه لما وقعت الاضطرابات، هو شعور العرب بالعداء و البغضاء نحو الیهود شعورا نشأ عن خیبة أمانیهم الوطنیة و السیاسیة و خوفهم علی مستقبلهم الاقتصادی فان الشعور السائد الیوم بین العرب یستند الی خوفهم المزدوج من أنهم سیحرمون و سائل معیشتهم و یسیطر علیهم الیهود سیاسیا یوما ما، بسبب الهجرة الیهودیة و شراء الأراضی. و أصبح العرب لا یرون فی المهاجر الیهودی خطرا علی معیشتهم فقط، بل یرون فیه ذلک الذی قد یسیطر علی البلاد فی المستقبل أیضا.
و قد أوصت اللجنة بتعیین هیئة دولیة من عصبة الأمم للفصل بالحقوق المتعلقة بحائط المبکی، فتألفت الهیئة المذکورة و حضرت الی فلسطین فاعترفت فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 207
تقریرها بملکیة المسلمین للحائط باعتباره جزءا من الحرم الشریف، و بملکیة الرصیف أمامه.
هذا و قد أصدرت المحاکم البریطانیة فی فلسطین حکمها علی عشرین عربیا الاعدام، و لم ینفذ هذا الحکم الا بثلاثة فقط، و هم: فؤاد حجازی، و عطا یر، و محمد جمجوم. کما حکم علی ثمانمائة عربی بالسجن لمدد مختلفة، الیهود فلم یحکم الا علی واحد منهم بالاعدام و هو الشرطی حانکیر قاتل الأسرة العربیة فی یافا، لکن هذا الحکم استبدل بالسجن عشر سنوات قضی بعضها فیه ثم أطلق سراحه. یضاف الی ذلک ان الحکومة المتهودة فرضت علی بعض المدن العربیة غرامات باهظة لم تستطع استحصالها الا بأسالیبها التعسفیة المعروفة.
و قبل ان ننهی البحث عن «حائط المبکی» نستشهد هنا برأی الکاتب الأمریکی لورانس غریز و ولد، صاحب کتاب (ادفع دولارا تقتل عربیا) حیث یقول عن حق الیهود فی حائط المبکی: و یزعم الصهاینة ان ما یدعی «حائط المبکی» هو بقیة من هیکل سلیمان، و هو زعم باطل لأن الحائط غرانیتی و هیکل سلیمان انما بناه الفینیقیون له من خشب الأرز. و یکاد یکون من الثابت الیوم عند العلماء ان ذلک الجدار هو جزء من الهیکل الذی بناه فی حوالی سنة 20 ق. م هیرودس الکبیر الأیدومی الذی اعتنق الیهودیة لأغراض سیاسیة. و هکذا فان المسجد الأقصی، و قبة الصخرة، و قبة السلسلة، هی وحدها بین آثار فلسطین التی ترقی الی ما قبل الاحتلال الصلیبی للبلاد موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 208

بلفور فی القدس من أسالیب الصهیونیة الماکرة فی الدعایة و التضلیل، و توریط الأشخاص الذین تسخرهم لأغراضها الجهنمیة، استغلال فرصة افتتاح الجامعة العبریة فی القدس خلال شهر مارت 1925 فی جبل سکوبس. و کانت هذه الجامعة قد أقیمت فوق أراض تعود لأصحابها العرب فانتزعت منهم بموجب «قانون نزع الملکیة» و أعطیت الی الیهود. فقد شاء الصهاینة أن تکون هذه الحفلة برعایة اللورد بلفور، صاحب الوعد المشؤوم، إمعانا فی التشفی بالعرب و اعترافا بفضله علی «الوطن القومی» الیهودی.

و قد کتب المستر جفریز فی هذا الشأن (596) یقول: ان اللورد بلفور توجه الی القدس فی مارت 1925 لیفتتح الجامعة العبریة. و لو تمّ افتتاح هذه الجامعة فی ظروف أخری لحضر الحفلة أناس من مختلف طبقات السکان فی فلسطین. و لم تقصّر الجامعة العبریة حتی فی وضعها الحالی فی القیام برسالتها الجامعیة الحقة، فقد ارتفع أکثر من صوت یهودی فیها ضد المبادی‌ء غیر الأخلاقیة، و أسالیب التعجرف و الغطرسة التی تتبعها الصهیونیة السیاسیة فی فلسطین.
لکن افتتاحها الذی تم فی 1925 لم یکن سوی عرض للمناورات السیاسیة المفضوحة، التی یدل علیها مجی‌ء اللورد بلفور. فان حضوره فی حفلة الافتتاح یعتبر إهانة متقصدة للعرب، لأنه لم یطلب الیه ان یرعاها نظرا لما یتصف به من مواهب و قابلیات شخصیة خاصة و انما طلب الیه ذلک لاکمال التمثیلیة التی عهد الیه بالدور الرئیسی فیها فوق مسرح هذه البلاد المظلومة. و قد کانت الحفلة غیر موفقة من نواح کثیرة علی ما یفهم من الوصف الذی یورده جفریز، و قوبل بلفور فی خارجها بکثیر من الصدود و البرود. فقد تلقاه العرب باعلان الاضراب العام فی القدس، و بادروا الی اغلاق دکاکینهم و مخازنهم و مل‌ء الشوارع و الأزقة بالأعلام السود. و کان من المقرّر ان یلقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 209
اللورد بلفور فی عشیة یوم الافتتاح، الذی کان یوم أحد، خطبة وعظ خلال القداس الذی یقام فی کنیسة سنت جورج لتبدید الاعتقاد الخاطی‌ء الذی تسرب الی نفوس العرب المسیحیین بانه رجل یهودی فی الحقیقة و الواقع .. غیر ان هذا لم یحصل البتة، لأن جوقة المرتلین فی تلک الکنیسة هدد أفرادها بالامتناع عن الاشتراک فی القداس اذا ما سمح له بالاشتراک فیه. فاضطر المطران الی إلغاء الترتیب المذکور تجنبا للفوضی و الاضطراب.
علی ان التأنیب الرئیسی للضیف الثقیل کان سد أبواب قبة الصخرة و جامع عمر فی وجهه. فقد رفض مفتی القدس و السلطات الدینیة الأخری السماح له فی الدخول الذی یسمح به فی العادة لجمیع الزوار من دون تفریق. فغضب لذلک السر رونالد ستورز حاکم القدس غضبا ما بعده من مزید و قال لهم بأنهم یتحدون بهذا العمل شخصیة مرموقة. و لیس هناک شی‌ء مسجل یدل علی ما أجاب به العرب فی هذا الشأن، لکن المعروف عن شعور العرب فی فلسطین بان اللورد بلفور یمکن ان یکون کل شی‌ء الا کونه شخصیة مرموقة عندهم، بصرف النظر عما کانت علیه منزلته فی أورپة. غیر انه عوّض عن هذه الاهانة باستقباله استقبالا حافلا فی تل أبیب، حیث شهد تمثیل روایة شمشون و دلیلة.
اما لماذا ابدی اللورد بلفور رغبة فی ان یزور المسجد العربی، و هو المعروف بکونه لم یعترف بوجود عرب فی فلسطین، فان ذلک یعتبر لغزا من الألغاز.
و قد استمر علی موقفه هذا منهم حتی فی فلسطین. فبعد ان انتهی من تناول الغداء فی دعوة من الدعوات التی حضر فیها عدد من الشخصیات البریطانیة کضیوف معه تمشی الی الشباک و أخذ یشاهد المارة فی الشارع، ثم سأل «من هم اولئک الذین یلبسون القفاطین؟». لقد کان الذین یلبسون القفاطین هم العرب بطبیعة الحال کما کان بلفور یعرف جیدا، لکنه أخذ یظهر اهتمامه بالأزیاء حینما قیل له من هم أولئک الناس!!
لکنه حینما غادر المنطقة البریطانیة و توجه لزیارة دمشق، کاد ان یصاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 210
بکارثة فیها. فان الفرنسیین لم یتخذوا تدابیر أمن مشددة لحراسته، کما اتخذت له فی فلسطین حیث کان یحرس کما یحرس السجین الحکومی، و لذلک تجمعت الغوغاء من العرب حول الفندق الذی نزل فیه. و امتلأت المدینة بالهیاج و الاضطراب و أغلقت المخازن و الأسواق، و صار الناس یهتفون «فلسطین عربیة» و جموعهم تتوجه نحو الفندق الذی أغلقت أبوابه فی وجههم. و حینما تجرأ اللورد بلفور و خرج الی الشرفة مع بعض مرافقیه، أخذ یسأل عن سبب هذا الهیاج المجهول عنده و یلاحظ بتعجب و استغراب صفوف الشرطة الخیالة و هی تصد المتظاهرین حول فندقه. و بانت بعد ذلک السیارات المصفحة، لکن الجموع المتظاهرین أخذت تقاوم، و تشتبک بالأیدی مع رجال الشرطة و الجیش الذین التجأوا لاستعمال قواعد البنادق و أغلفة السیوف و السیاط، و زاد الطین بلة ظهور الطیارات فی الجو و انقضاضها لالقاء قنابل الدخان علی الناس.
و قد وقف الجنرال سرای، المندوب السامی الفرنسی، نفسه لحمایة اللورد فی باب الفندق الرئیسی، حتی أمکن تهریبه من باب جانبیة و انقاذه من الجموع الهائجة. ثم أخذ علی عجل الی بیروت، و منها الی ظهر الباخرة «سفنکس» مباشرة. و لا بد من ان اللورد بلفور قد عنّ له ان یتساءل قائلا «هل هذا کله بسبب تصریحی عن الوطن القومی للیهود؟». و بقی محجوزا علی ظهر الباخرة الراسیة فی المیناء ثلاثة أیام، حتی أقلعت قافلته الی انکلتره.
اما السر رونالد ستورز فلا یذکر کل هذا فی مذکراته. و انما یکتفی بوصف موجز (الص 436) یقول فیه ان استعدادات فخمة اتخذت فی ربیع 1925 لافتتاح الجامعة العبریة فی القدس من قبل اللورد بلفور، و ان هذه کانت مناسبة یرغب فیها الیهود و یستهجنها العرب و تخشاها الشرطة. ثم یقول: و لیس من الممکن أن یصدق، علی ما یظهر، بأن شخصیة مرموقة لطیفة مثل هذه الشخصیة یمکن ان یکون عدوا ممقوتا مثل هذا المقت عند العرب و لذلک کان الخوف من ان تساء معاملته لهذا السبب یساورنی فی اللیل و النهار، و لم یکن هو و لا من کان فی حاشیته یعلم عظم المجازفة التی تکتنف حضوره الی القدس و لا الجهد الذی نبذله فی سبیل المحافظة علیه.
و قد کانت فرصة طیبة له فی الحقیقة ان یطلع علی مقدار الکره الذی کان یکنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 211
له العرب لو تسی له قراءة عشرات البرقیات المهنیة له التی کانت تنتظره فی سرای الحکومة لو لم یعمد سکرتیره (و لعله کان یهودیا) الی إخفائها عنه و إتلافها کلها فی النهایة .. ثم یشیر ستورز الی الحفاوة التی لقیها بلفور فی تل أبیب، و یذکر انه لم یجد من المناسب أخذه لزیارة قبة الصخرة خوفا من ان یمنعه العرب عن ذلک، من دون الاشارة بشی‌ء الی ما جاء فی روایة جفریز السابقة فی هذا الشأن .

الکفاح العربی

اشارة

و علی هذا المنوال بدأ الحکم الانکلیزی فی فلسطین، و قد أخذت الأیام تبرهن کلما تصرمت علی ان الحکومة البریطانیة المنتدبة قد جعلت من نفسها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 212
آلة مسخرة فی أیدی الصهیونیة العالمیة لتحقیق الحلم الیهودی فی اغتصاب فلسطین من أصحابها الشرعیین و انشاء حکومة صهیونیة فیها تکون عاصمتها القدس.
و قد تنبه العرب منذ البدایة الی ما کان یبیّت لهم من خطط شیطانیة و أحابیل تستهدف ابتزاز بلادهم بالتدریج و تشریدهم الی خارجها. فراحوا یکافحون بکل ما عندهم من قوة، فی المیدانین السیاسی و الثوری المسلح.
فعقد المؤتمر الفلسطینی الأول فی القدس سنة 1919، فقرر رفض وعد بلفور و الهجرة الیهودیة و الانتداب البریطانی، ثم حدد مطالب العرب بالوحدة مع سوریة باعتبار فلسطین جزءا لا یتجزأ منها، و تسمیتها «سوریة الجنوبیة».
ثم عقد فی القدس مؤتمر آخر فی حزیران 1921، فأکد فیه العرب أمانیهم الوطنیة و شجب وعد بلفور، و تمسکهم بالوحدة مع سوریة، مع المطالبة بتشکیل حکومة وطنیة فی فلسطین .
و قد انتخب هذا المؤتمر وفدا یسافر الی بریطانیة لیعرض مطالیب الفلسطینیین علی حکومتها. و فی لندن اتصل بالأوساط الانکلیزیة المختلفة، و کان من تأثیره فیها ان بادر مجلس اللوردات فی 20 حزیران 1922 الی اصدار قرار یرفض فیه صک الانتداب علی فلسطین لأنه یناقض ما قطعته بریطانیة من و عود للعرب فی 1915، و لا یتفق مع رغبات أهالی فلسطین أنفسهم. لکن هذا القرار لم یکن له تأثیر عملی علی سیاسة الحکومة البریطانیة، لأن مجلس العموم أقر سیاسة الحکومة فی هذا الشأن. ثم اضطر وزیر المستعمرات یومذاک (تشرشل) الی ان یصدر فی أول تموز 1922 ما سمی بالکتاب الابیض.
و قد حاول هذا الکتاب تفسیر وعد بلفور تفسیرا یطمن العرب فیه، لکنه خیب آمالهم. و یقول جفریز فی هذا الشأن (الص 492) ان الوفد أجبر وزیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 213
المستعمرات علی ان یضمّن الکتاب الأبیض أعذار الحکومة عن حنثها بالوعود المقطوعة لهم. و کان هذا القسم من الوثیقة بمثابة اعتراف خطی موقع من الحکومة البریطانیة بعدم النزاهة، و مع ان قلیلا من الناس قرأوا هذا الاعتراف یومذاک أو اهتموا به فانه علی کل حال سیبقی بیّنة واضحة لمحکمة التاریخ، و لجیل من الناس اکثر شعورا بالصالح العام .. و اعترفت الحکومة بصراحة کذلک بانها لا یمکنها ان تخلق فلسطینا للیهود وحدهم.
و حینما عاد الوفد الی فلسطین عقد فی نابلس المؤتمر الفلسطینی الخامس الذی قرر عدم الموافقة علی اقتراح الحکومة بتشکیل مجلس تشریعی مختلط فی القدس، و مقاطعة الانتخابات التی أعلنت عنها الحکومة لهذا الغرض (شباط 1923). ثم قوطع بعد ذلک أمر تشکیل مجلس استشاری فی البلاد، و رفض تألیف وکالة عربیة علی غرار الوکالة الیهودیة.
اما مقاومة عرب فلسطین المسلحة فیمکن ان یقال ان حیاتهم ما بین 1922 و 1939، کانت سلسلة ثورات و اضطرابات یتخللها انتخاب لجان و هیئات بریطانیة للتحری عن الأسباب. فقد جاء فی کتاب (الشرق الأوسط) الذی أصدره المعهد الملکی للشؤون الدولیة فی انکلترة سنة 1951 ان فترة السبع عشرة سنة المنحصرة ما بین 1922 و نشوب الحرب فی 1939 حدثت فیها اضطرابات فی 1929، و 1933، و 1936، و بلغت هذه الاضطرابات ذروتها بنشوب ثورة کبیرة فی 1938. و کانت کلها بسبب عداء العرب للهجرة الیهودیة .. و کان قادة الثورة علی اتصال وثیق بمفتی القدس و اللجنة العربیة العلیا الموجودین فی المنفی خارج فلسطین. و قد لا یزید عدد الثوار علی (1500) شخص، لکنهم کانوا یتمتعون بالتأیید السلبی و الایجابی لأغلبیة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 214
العرب فی البلاد. و لو لا الخصومات العربیة الموجودة بین الأحزاب العربیة فی داخل فلسطین لامتد أمد الثورة الی أطول مما امتد الیه، و لکلف قمعها مبالغ أکثر. فما حل مایس 1939 حتی أخذت الثورة بالتصدع من الداخل، و صارت العملیات العسکریة البریطانیة تلاقی نجاحا أکثر .. و قد بلغ عدد الاصابات علی ما جاء فی إحدی الحواشی مجموعا قدره 3717، انتهی.
هذا و قد أوردنا شیئا عن اضطرابات سنة 1922 و 1929 قبلا، اما اضطرابات 1933 و حوادثها الدامیة فقد کان من اسبابها المباشرة اندفاع السر آرثر و اکهوب المندوب السامی البریطانی فی سیاسته التهویدیة و لا سیما فی تملیک الاراضی و توسیع نطاق الهجرة الصهیونیة الی فلسطین، إذ قفز رقم المهاجرین الیهود من 9500 مهاجر فی سنة 1932 الی زهاء 33 ألفا فی 1933 و الملاحظ من هذا ان کفاح العرب أخذ یتوجه نحو الانکلیز بصراحة و لیس نحو الیهود وحدهم. و قد بدأت الاضطرابات فی القدس باضراب العرب و قیامهم بمظاهرة عامة یتقدمها أعضاء اللجنة التنفیذیة فی یوم الجمعة 13 تشرین الأول. و حدثت فی یوم 27 منه مظاهرة صاخبة أخری فی یافا، و اطلقت الشرطة البریطانیة النار علیها فوقع فیها ثلاثون شهیدا و أکثر من مائتی جریح.
ثم قامت مظاهرة ثالثة فی جمیع انحاء فلسطین یوم عید الفطر الذی وقع بعد شهرین.
و یفهم مما کتبه جفریز (الص 655- 665) ان ثورة 1936 قد بدأت باضراب عام قام به العرب علی عهد المندوب السامی البریطانی و اگهوب ایضا، حیث انه کان یشجع هجرة الیهود و یسهل أمرها، فهو یقول ان ما یسمی بالثورة الخامسة قد وقع فی نیسان، و السبب فی ذلک هو من جدید، السبب الذی ادی الی وقوع الاضطرابات الأولی و الثانیة و الثالثة و الرابعة قبلها، بالاضافة الی ملل الأمة و یأسها من تحقیق أمنیاتها .. و قد بدأت فی یوم 21 نیسان بقرار أصدره ممثلو الأحزاب العربیة کلهم، حینما اجتمعوا لتعیین مجلس وطنی یمثل الجمیع، فسمی باللجنة العربیة العلیا. و کان یرأسه مفتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 215
القدس الحاج أمین الحسینی، و یدخل فی ضمن أعضائه عونی عبد الهادی، و راغب النشاشیبی رئیس بلدیة القدس، و مدیر البنک العربی، و عضوان من المسیحیین هما یعقوب افندی فرج و الفرید افندی روک. و قد طالبت اللجنة العلیا رسمیا بایقاف الهجرة، و منع بیع الأراضی للصهاینة، و تأسیس حکومة وطنیة مسؤولة تجاه مجلس نیابی منتخب انتخابا دمقراطیا .. و مما یذکره فی هذه المناسبة ان ارقام الهجرة ارتفعت من 9500 مهاجر فی 1932 الی 33 ألف فی 1933 و الی 43 ألف فی 1934، و الی 62 ألف فی 1935، عدا ألوف المهاجرین غیر الشرعیین بالتهریب و ما أشبه. و علی الرغم مما ذکره الخبیر البریطانی سمبسون بأن الأراضی الموجودة فی أیدی العرب غیر کافیة صورة لاحدی موجات الهجرة الیهودیة الی فلسطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 216
لهم فان السلطات البریطانیة ظلت تشجع انتقال الأراضی الی أیدی الیهود حتی بلغ ما انتقل الیهم منذ أصدر سمبسون توصیته بوقف العملیة أکثر من 667 ألف دونم.
و قد تطور الاضراب العام فی هذه المرة الی «عصیان مدنی» علی غرار ما وقع فی الهند کما یقول جفریز، فتوقفت الحیاة فی البلاد تقریبا. و توسعت حوادث العنف و تدمیر الممتلکات الصهیونیة و الأراضی فی طول البلاد و عرضها. ثم استحالت الاضطرابات بالتدریج الی حرب صغیرة، هوجمت فیها القطارات و مخافر الشرطة، و ازدادت أعمال القناصة، کما تکونت العصابات فی الجبال. و یشیر جفریز أیضا الی ان مذکرتین قدمتا الی حکومة فلسطین البریطانیة فی القدس، احداهما من کبار الموظفین العرب و الأخری من سائر موظفی العرب، یقولون فیها: ان الشعب المظلوم قد فقد ثقته بالوعود الرسمیة التی قطعت له بسبب اذعان الحکومة البریطانیة للضغط الصهیونی، و ان ما یجری فی فلسطین هو تعبیر عن الیأس، فکان اضرابه و ثورته. و ان قتل الشعور بالقوة غیر ممکن، و سیظل هذا الشعور قائما و سیبقی مصدرا للاضطراب و القلق حتی تزول العوامل التی ولدته، و ان ایقاف الهجرة هو الحل الوحید الشریف للخروج من المأزق .. و لم تهدأ الثورة و یکف الشعب عن الاضراب حتی وسّط الانکلیز ملوک العرب الذین وجهوا الی العرب فی فلسطین نداء بالأخلاد الی السکینة لأن «الصدیقة» بریطانیة قد أعلنت رغبتها لتحقیق «العدل».
و یقول الأستاذ اکرم زعیتر فی (القضیة الفلسطینیة الص 105) ان السلطات زعمت تخفیفا لخسائرها ان عدد القتلی من قواتها بلغ (45) قتیلا و (260) جریحا، و ان قتلی الیهود کانوا (80) و جرحاهم نحو (300).
اما المصادر العربیة فتقدر عدد الشهداء بألف شهید، و یقدر عدد الذین زجوا فی السجون و المعتقلات بثلاثة آلاف عربی .. و قد امتازت هذه الثورة عن سابقاتها بکونها کانت موجهة ضد الانتداب البریطانی أولا و بکونها عنیفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 217
شدیدة، و باستمرارها و شمولها لجمیع طبقات الأمة، و باشتراک العرب غیر الفلسطینیین فیها اشتراکا فعلیا عن طریق التطوع و امداد المجاهدین بالسلاح و العتاد، و اشتراک حکوماتهم بالتدخل السیاسی حتی اصبحت القضیة الفلسطینیة قضیة عربیة عامة من الناحیة العربیة.
اما ثورة 1938 فقد کانت شبیهة بثورة 1936، لکنها کانت بمقیاس أوسع. و کان السبب المؤدی لها ما جاء فی تقریر «لجنة پیل» التی قدمت الی البلاد للتحقیق فی اسباب ثورة 1936. فمع ان هذه اللجنة قد اعترفت فی تقریرها بأن أسباب الثورة هی رغبة العرب فی نیل الاستقلال و کرههم لانشاء الوطن القومی الیهودی و تخوفهم منه، و هما السببان اللذان أدّیا الی وقوع اضطرابات 1920 و 1922 و 1929 و 1933، و فزع العرب من تمادی الیهود فی تملک الأراضی، فانها قد خلقت فکرة التقسیم لأول مرة و اقترحتها فی التقریر. و کان اقتراح التقسیم مبنیا علی اعتقادهم بان الانتداب قد ثبت فشله فی فلسطین علی ما یذکر جفریز (الص 661). و یروی جفریز تفصیلات هذا التقریر و ظروفه (الص 664- 667) و تبنی الحکومة البریطانیة لفکرة التقسیم الواردة فیه، و مناقشة البرلمان لوزیر المستعمرات الیهودی أورمز بی‌غور عنها، و هی تفصیلات مضحکة مبکیة فی نفس الوقت لما فیها من تناقض تتصف به السیاسة البریطانیة علی الدوام و خنوع دائم للنفوذ الصهیونی و خططه الماکرة. و من جملة ما یذکره جفریز علی الأخص (الص 666) ان الرئیس الصهیونی وایزمن قد زود بنسخة من تقریر لجنة پیل هذا قبل طبعه و نشره لیبدی رأیه فیه.
و لا شک أن نشر التقریر قد أدی الی تصاعد الهیاج بین عرب فلسطین و البلاد العربیة الأخری، و لا سیما بعد أن عرضه وزیر الخارجیة المستر ایدن علی عصبة الأمم فی 14- 10- 37 و دافع فیها عن فکرة التقسیم الواردة فی التقریر. ففی 26 من الشهر نفسه أطلقت النار علی المستر اندروز حاکم الجلیل فقتل هو و حارسه. و عند ذاک ثار ثائر السلطات البریطانیة فاغتنمت الفرصة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 218
للبطش بالعرب و زعمائهم. و یقول المستر جفریز (الص 673) ان هذا الحادث کان واحدا من سلسلة طویلة لا نهایة لها من الحوادث. التی تحدث فی کل بلد من بلاد العالم فی حقب التاریخ أجمع، فقد اتخذت الحکومة فرصة لها لا لتقبض علی مرتکب الجریمة و تقتص منه بل لتحارب الأمة التی تقف فی وجهها کلها، و تضرب المبدأ الذی تتمسک به. فقد حلت جمیع اللجان الوطنیة فی فلسطین، و حرم مفتی القدس الأکبر، و رئیس اللجنة العربیة العلیا من مناصبه کافة ثم صدرت الأوامر باعتقال الأعضاء الآخرین. و کان السبب المزعوم لهذا الصنیع ان الزعماء العرب هم المسؤولون معنویا عن هذه الحوادث، و ان نشاطهم و أفعالهم کانت تعرقل صیانة الأمن العام. و أعقب هذا بعد اسبوعین صدور أمر آخر منع فیه أربعة من الزعماء العرب کانوا فی الخارج من العودة الی بلادهم. و کان من بین المعتقلین او المنفیین اناس معلومون من مثل جمال الحسینی، و الفرید روک، و عونی عبد الهادی. فقد استطاع جمال الحسینی التخلص من الاعتقال وفر هاربا الی سوریة، حیث لحق به بعد قلیل قریبه مفتی القدس الذی اختبأ فی جامع عمر أول الأمر، و فرّ بعد ذلک الی جهة الساحل، و من هناک وصل الی بیروت. و کان الاثنان الآخران فی جنیف، و قد حرم عونی عبد الهادی حتی من التأشیر علی جواز سفره الی انکلترة ..
ثم یقول جفریز: و کانت النتیجة الوحیدة لضربة الادارة الانکلیزیة هذه أنها برهنت للملأ علی بطلان الادعاء القدیم بان «الأفندیة» الرؤساء اذا ما أزیحوا عن الطریق سرعان ما تتحطم المعارضة التی تقف فی وجه الوطن القومی الیهودی، و ان الفلاحین العرب سیرفعون ایدیهم للصهیونیین الذین یجلبون لهم الازدهار و الموفقیة و ما أشبه. فقد کان الواقع بالعکس، لأن الثورة بدلا من ان تتبدد علی ما کان ینتظر تقوّت و شملت فلسطین کلها و أصبحت ثورة عارمة بکل معنی الکلمة. حیث ان الناس الوحیدین الذین کان یمکنهم علی الأقل ان یحاولوا ضبطها قد اعتقلوا أو زجوا فی غیاهب السجون.
و یذکر جفریز کذلک: و لتبریر الفشل الذی منیت به حرکة أول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 219
(أوکتوبر) الحکومیة عزیت تطورات الثورة هذه کلها الی مفتی القدس و جماعته الذین کانوا یعملون آمنین فی سوریة و لبنان بحمایة الفرنسیین. و قد کانت أشیاء کثیرة تعزی الی المفتی علی الدوام منذ کان فی القدس، و کان یسمی روح الثورة.
و من وقائع هذه الثورة التی یذکرها الاستاذ زعیتر ما یذکرها بقوله:
و فی أثناء وجود لجنة التقسیم احتلت العصابات مدینة القدس القدیمة، و نشطت فی مختلف الساحات، فاستبدلت الحکومة البریطانیة الجنرال هیننغ بالجنرال و یفل فی منصب القائد العام .. و أخفقت جمیع التدابیر الزجریة فی تخفیف حدة الثورة. ففی 20 من اغسطس احتل الثائرون مدینة الخلیل، و فی 24 دخل أحد الثوار سرای الحاکم البریطانی فی جنین المستر موفات و اطلق النار علیه فأرداه قتیلا ثم خرج ناجیا بنفسه. و فی 9 أیلول احتل الثوار مدینة بئر السبع و اطلقوا المساجین و استولوا علی مرکز البولیس فیها و احرقوها، و توالت النجدات العسکریة حتی استطاعت السلطات بعد جهود احتلال القدس القدیمة ثانیة.
و فی 5 اوکتوبر احتل الثوار مدینة طبریة و غزوا أحیاءها الیهودیة فقتل و جرح عشرات من الیهود، عدا ما حرق و دمر من البیوت و المنشآت الرسمیة.
و قد أحصت السلطات الرسمیة حوادث العنف مدة الثورة فقدرتها بنحو عشرة آلاف، منها نحو الف و خمسمائة ضد الجیش و البولیس، و قدرت الاصابات من الانکلیز فی سنتی 1938 و 1939 بثلاثمائة و خمسین قتیلا و نحو ستمایة جریح. اما العرب فعدد شهدائهم فی هذه الفترة لیس اقل من الفین.
و جاءت الی القدس خلال الثورة «لجنة و ودهید» التی کان من المقرر ان تحدد حدود التقسیم الذی اقترحته لجنة پیل، فقامت بعملها برغم مقاطعة العرب لها. ثم قدمت تقریرا ذکرت فیه الکثیر من مساوی‌ء فکرة التقسیم، لکنها اقترحت اقتراحات أخری ممالئة للیهود ایضا. غیر ان أحد أعضائها، و هو المستر رید، أرفق بالتقریر مذکرة تحفظیة جاء فیها: ان اعلان سیاسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 220
التقسیم قد حوّل الاضطرابات فی فلسطین الی ثورة عربیة قومیة أسهم فیها العرب المقیمون فی بعض الأقطار العربیة .. ثم قال: لقد أوفی الانتداب بوعد أعطی تحت ضغط ناجم عن الحرب، اما اقتراح تقسیم البلاد فهو أمر آخر بالمرة، أی انه انقلاب لا یجوز ان یجریه الأوصیاء من دون موافقة شعب فلسطین الذی لیس هو بالساذج المفتقر الی الوصی و لا هو بالعاجز عن اتخاذ قرار بهذا الشأن ..
و بتأثیر حدة الثورة، و بناء علی ما جاء فی تقریر هذه اللجنة من مشاکل، تراجعت الحکومة البریطانیة عن فکرة التقسیم فانتصرت الثورة. و دعت الی عقد مؤتمر لممثلی الدول العربیة و عرب فلسطین، ثم نظمت ما سمته بالکتاب الأبیض لسنة 1936 فجعلت منطویاته أساسا لمفاوضات المؤتمر. و مما تضمنه الکتاب الابیض قول الحکومة البریطانیة ان حکومة جلالته ترغب فی ان تری قیام دولة فلسطینیة مستقلة یشترک فیها العرب و الیهود بممارسة الحکم فیها و لکن لا بد من أن یسبق ذلک نشوء علاقات طیبة بین العرب و الیهود. و علیه لا بد من فترة انتقال تحتفظ خلالها حکومة جلالته بالمسؤولیة النهائیة بصفتها السلطة المنتدبة، و لا بد من فترة یزداد فیها نصیب الأهالی من الاضطلاع بالحکم الذاتی. و تبذل الحکومة فی أثنائها جهدها لتنمیة العلاقات الطیبة بین العرب و الیهود. فلم یوافق علی تفصیلات المشروع لا العرب و لا الیهود، لکن الحکومة البریطانیة تمسکت به و عرضته علی عصبة الأمم لاقراره. و بینما هی تنظر فیه أعلنت الحرب العامة الثانیة و توقف عمل العصبة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 221

مفتی القدس

لیس هناک شخصیة عربیة تعرضت للنقد و التحامل الشدید فی صحف المغرب، و أصبحت هدفا دائما للهجمات التی ظلت تشنها علیها أقلام خاصة فی أنحاء العالم أجمع، خلال مدة تمتد من أوائل العشرینات فی هذا القرن الی سنی ما بعد الحرب العالمیة الثانیة، مثل شخصیة مفتی القدس الحاج أمین الحسینی. و لا شک ان سبب هذا کله هو ان المفتی کان من أوائل المتصدین للقضیة الفلسطینیة من المتبنین لحرکة المقاومة فی وجه الصهیونیة، اما الاختلاف الواقع بینه و بین الزعماء الآخرین فمبعثه الاجتهاد و لکل من ساسة فلسطین العرب رأیه و طریقة معالجته الأمر.
و لأجل ان تخرج الصورة التی نحاول رسمها عن القدس فی العصر الحدیث و هی صورة کاملة رأینا من المناسب ان نورد هنا نموذجا لما کتب عن المفتی فی الصحف البریطانیة و الکتب التی طبعت فی البلاد الانکلیزیة. فقد کتب عنه الصحفی الیهودی جون کیمشی، محرر ال «جویش أوبزرفر » صفحات خاصة فی کتاب أخرجه سنة 1953 بعنوان (الأعمدة الساقطة السبعة ) علی أثر تشکیل دولة اسرائیل و فشل الجیوش العربیة السبعة فی الحیلولة دون تکوینها. فهو یقول:
«.. و قد لا یکون هناک رأی عام عربی علی شاکلة الرأی العام الموجود فی نیویورک أو لندن. و لکن أخذ نوع من الرأی العام العربی المخطر یتکون بالتأثیر البارع الذی کانت تمارسه شخصیة مفتی القدس الشریرة، الحاج أمین. فقد کان هرب المفتی من فرنسة و التجائه الی الملک فاروق فی مصر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 222
فاجعة للیهود و البریطانیین العرب علی سواء، حینما أخذت تشتد أزمة الهجرة الیهودیة الی فلسطین فی صیف 1946.
فبعد ان تخلص من الاعتقال للمرة الرابعة، أخذ محمد أمین الحسینی مکانه المرموق فی العالم العربی مرة أخری و أصبح فی المجالس العربیة العلیا الشخصیة الأولی التی تغطی علی الحکام و الرؤساء ممن کان یدبر الشؤون العربیة و یوجهها بشی‌ء أکثر من الاعتدال عند غیاب المفتی و تفرغه لخدمة النازیین.»
«و قد ولد الحاج أمین قبل إحدی و خمسین سنة فی القدس، لکن طبیعته المتقلبة، و لحیته الضاربة الی الحمرة فی لونها، مع مظهرة الثعلبی، تجعله یبدو أصغر مما هو بکثیر. و قد أطلق علیه ضباط الاستخبارات البریطانیة خلال الحرب اسم «بارباروسا»، لکن خصل الشیب أخذت تطغی الآن علی لحیته الحمراء و اتخذت قامته الرشیقة شکلا علی جانب أکبر من الروحانیة و المظهر الکهنوتی.
و کان شباب المفتی یسیر فی النمط الکلاسیکی الذی یسیر فیه شباب کل مشاغب. فقد درس فی مدرسة من المدارس الترکیة، و قضی سنة غیر مستقرة فی جامعة الأزهر فی القاهرة التی ترکها من دون أن ینتظر من أجل الحصول علی درجة الشیخیة منها- ثم حج الی بیت اللّه الحرام، و قضی فترة قصیرة فی الجیش الترکی خلال الحرب العالمیة الأولی، و تعین لوقت ما موظفا فی الکمرک و معلما بعد ذلک. و عند ذاک یبدأ مسلکه فی الافتاء.
«و کانت إحدی المحاکم البریطانیة قد حکمت علیه فی 1920 بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة التحریض علی الاضطرابات التی حصلت ضد الیهود فی تلک السنة. ففر الی شرقی الاردن و التجأ الی الأمیر عبد اللّه. و کان هذا أول تملص من الانکلیز یتوفق فیه، حیث أنه أصبح عادة له فیما بعد. ثم قدر للمفتی بأن یحظی فی السنة التالیة بطالع حسن ظل یعرف به طوال حیاته السیاسیة فقد کان المندوب السامی الیهودی فی فلسطین السر هربرت صموئیل ینشد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 223
الحصول علی حسن نیة العرب تجاهه باتباع سیاسة تنطوی علی الکثیر من الترضیة و رحابة الصدر. و فی غمرة من هذا الاتجاه عفی عن الوطنی الثائر أمین الحسینی. و لم یکتف بهذا فقط، بل قرر المضی فی حرکة أخری من حرکات حسن النیة، فقد بذل نفوذه فی سبیل ان ینتخب الحاج أمین الحسینی مفتیا للقدس علی الرغم من المشورة التی قدمتها له الأسر العربیة المعتدلة بخلاف ذلک.
«و ما ان ثبّت أقدامه فی منصبه الجدید حتی أخذ یدرک- و هو فیه طبیعة- رسالته التی کرّس جهوده لها باخلاص قلما یوجد له مثیل فی التأریخ المتأخر.
و کانت رسالته تنطوی علی تحقیق أطماعه هو نفسه، من دون ان یسمح لشی‌ء بان یقف فی طریقها. و قد أعقب تعیینه للافتاء عمل آخر من أعمال الترضیة التی کان یمارسها المندوب السامی الیهودی، فقد عین مفتی القدس رئیسا للمجلس الاسلامی الأعلی فیها أیضا. فأصبحت بیده قوة لا یستهان بها، حیث انه بات یتحکم فی جمیع الأموال العائدة للمؤسسات الدینیة و فی المحاکم الشرعیة و المقابر، و المساجد. و بکلمة موجزة أصبح الحاج أمین دیکتاتور الحیاة الدینیة و التعلیمیة و الاجتماعیة لجمیع المسلمین فی فلسطین. فنمت أطماع هذا المفتی و توسعت. غیر انه کانت هناک أسر عربیة قویة لم تزل فی فلسطین تشغل مناصب مهمة فی البلد و تحول دون أطماعه. و لذلک قرر تصفیتها و القضاء علیها.
السر هربرت صموئیل اول مندوب انتدبته بریطانیا لادارة فلسطین و هو صهیونی صمیم ساعد حکمه علی قیام دولة اسرائیل فی النهایة.
«و قد فتح ظهور هتلر و تسنمه مقام السلطة فی العالم أفقا جدیدا فی هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 224
الشأن. إذ سرعان ما اتصل المفتی بالألمان، و أوفد الطلاب للدراسة فی ألمانیة فتلقی مساعدة لقاء ذلک. و هکذا کان المسرح مهیئا لثورة 1936 التی کان المفتی یدبر کل شی‌ء فیها. و کان قد جنّد المرتزقة لکنه وجد فی القری العربیة، و لدی العرب الاعتیادیین، تعاطفا معه أکثر من التأیید العملی. فقد قدرت اللجنة الملکیة ان عدد القائمین بالثورة لم یکن یزید علی (1500) ثائر نظامی.
و اکتشف المفتی وجود معارضة نامیة لسیاسته بین العرب المعتدلین، و لذلک حرّض رجاله علی هؤلاء المعارضین الذین کانوا یتهمونه باساءة التصرف فی المبلغ الذی یزید علی الملیونی پاون مما یعود الی أموال الأوقاف المسلمة بعهدته.
فاغتیل رجال العرب البارزین و غیر البارزین، و عدد من النساء. و عند ذلک صدرت مذکرة بتوقیف المفتی هذا، فاحتمی بقبة الصخرة الکائنة فی القدس القدیمة، و أخذ یدیر الحرکات من حرمها و یحاکم العرب الذین لم یطیعوه.
و قد ترک عدد من العرب البارزین فلسطین الی مصر هربا من انتقام المفتی.
«و حینما انطفأ لهیب الثورة فی الأخیر تزیا المفتی بزی امرأة عربیة، و هرب من المسجد فالتجأ الی لبنان. و لم یعتقله الفرنسیون حینما أعلنت الحرب لکنه فر هاربا من مراقبتهم الشدیدة و وصل الی بغداد. فصوّتت الحکومة العراقیة علی تخصیص (000، 18) پاون له، مع مبلغ شهرین قدره ألف باون یدفع له من المخصصات السریة. و قد ظهر فی برلین فی أواخر أیام الحرب مع هتلر و هملر، ثم ساعد بعد ذلک فی تنظیم مسلمی الألبان و الیوغوسلاف و انتمائهم إلی جماعات الصاعقة التی کانت تحارب تیتو. و کذلک ساعد فی تأسیس مدرسة تخریب للعرب الموجودین فی آثینة، و فی تلقین المظلیین العرب عن مهمتهم فی فلسطین و العراق.
«و کان التأثیر العاجل لعودة مفتی القدس الی الشرق الأوسط فی 1946 إثارة أعصاب معظم الزعماء العرب. و عادت الی الظهور کذلک ذکریات أسالیبه الفعالة فی اقناع او تحطیم الذین کانوا علی خلاف معه. و یبدو أنه کان قد توفق فی الحصول علی أتباع غیر قلیلین فی العراق، و فلسطین، و سوریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 225
فانضم العرب المعتدلون- خوفا من العزلة- الی التهدید و الصراخ بما یجب ان یفعلوه اذا لم یبادر البریطانیون الی ایقاف السیل المتدفق لهجرة الیهود غیر الشرقیة. و کان ذلک، کما لوحظ، فی الوقت الذی وصل الیه النفوذ الروسی فی الشرق الأوسط الی قمته. فقد هدد الناطقون باسم المفتی من عرب فلسطین بأنهم سیتجهون الی روسیة و یستمدون العون منها اذا امتنعت بریطانیة عن ایقاف الهجرة الیهودیة عند حدها.
«فساعد هذا کله علی تشجیع حکومة العمال فی لندن علی اتباع مشورة العرب و حکومة فلسطین و وزارة الخارجیة، فصودق علی ترحیل المهاجرین غیر الشرعیین الی قبرص و ابقائهم فیها مدة سنتین. و کانت تقاریر وزارة الخارجیة عن تغلغل النفوذ الروسی فی الشرق الأوسط، و تصاعد السخط العربی، و مناورات المفتی، کافیة لاقناع مجلس الوزراء بذلک و اخماد أی نبضة وجدان یمکن ان تنبض فی غرفة الاجتماع فی داونینغ ستریت ..»
اما الغربیون المنصفون فیجلّون مفتی القدس و یضعون الحق فی جانبه.
فیقول جفریز (الص 674) مثلا «ان هناک قلیلا من الشک علی ما یظهر بان المفتی رجل ذو مزاج تآمری، و ربما کان له ضلع فی المقاومة المسلحة التی حصلت فی فلسطین. و لکن النقطة التی یجدر ذکرها بالنسبة للمفتی هی: ان أی موقف بالضبط؟، و أی عمل کان یمکن ان ینتظر منه ان یفعله بعد أن أصبح من الواضح جدا ان السنوات المتتالیة من المطالیب السلمیة و الاحتجاجات لم تنجح فی الفوز بالنظر فی التهم التی کان یقدمها هو و غیره من الزعماء العرب ضد الانتداب و صانعیه، فضلا عن رد هذه الاتهامات؟ فاذا کان قد التجأ الی الدس و التحریض بالفعل بعد سنین من الاحتجاجات و العرائض التی لم ینظر فیها، و اذا کانت مناقشاته المدعمة بالحجج و البراهین لم تحظ حتی بالالتفات الیها، فمن هو الذی یحکم علیه إذن؟ لا شک ان الذین سیحکمون علیه یجب ان لا یکونوا ممن کانوا یشغلون مناصب عالیة فی الحکومات و الهیئات التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 226
کانت تتآمر علی بلاده خلال عشرین سنة و من ورائها الصهاینة المتحفزون.
و قد کان معظم الزعماء العرب الآخرون منشغلین بالفعل فی هذه الاستغاثات السلمیة التی لم تقلیل الا بعدم الالتفات. و کانت حیاتهم السیاسیة قد تقضت بالذهاب و الایاب ما بین القدس و لندن و جنیف».

فی الحرب العالمیة الثانیة

اشارة

أعلنت الحرب العالمیة الثانیة و ثورة 1938 ما تزال قائمة فی فلسطین. لکنها سرعان ما توقفت لأسباب کثیرة أهمها نقص السلاح و نفاد العتاد، و ضخامة التضحیات التی بذلها العرب. و کانت الحکومة البریطانیة لا تزال مصرة علی تنفیذ سیاسة الکتاب الأبیض، فراحت تتخذ التدابیر المطلوبة لذلک و علی الأخص بالنسبة لمشکلة تسرب الأراضی الی الیهود و إیقاف الهجرة، و تأسیس شکل من أشکال الحکم الذاتی. و اصبح موقف العرب فی أثناء الحرب أقرب الی المهادنة منه الی التمرد لأنهم کانوا یأملون ان یتم تنفیذ الکتاب الأبیض.
لکن الیهود ثارت ثائرتهم علی مندرجات الکتاب الأبیض و أخذوا یقاومونه بکل ما لدیهم من قوة و نفوذ. و من أجل هذا سلکوا ثلاثة طرق:- 1- التجأوا الی الولایات المتحدة لیستعینوا بالصهیونیین الأقویاء فیها و لیحملوا حکومتها علی التدخل فی الأمر.- 2- أخذوا یسلحون أنفسهم بکل وسیلة و یقوون مؤسساتهم العسکریة السریة.- 3- نشطوا فی أعمالهم الارهابیة ضد الانکلیز و أخذوا یطعنون الدولة البریطانیة من الخلف فی الحین الذی کانت تنشغل فیه فی أمور الحرب الطاحنة و شؤونها الخطیرة.
و علی هذا الأساس عقد الصهاینة الأمریکان مؤتمرا خاصا فی فندق بلتیمود فی نیویورک خلال مایس 1942 و قرروا فیه: ) اولا رفض الکتاب الأبیض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 227
ثانیا إطلاق الهجرة الی فلسطین. ثالثا انشاء جیش یهودی یحارب تحت رایته الخاصة و الاعتراف به. رابعا قیام دولة یهودیة فی فلسطین بأسرع ما یمکن.
فاعترفت الوکالة الیهودیة بمقررات بلتیمور هذه و أیدتها الأحزاب الصهیونیة کلها، فاصبحت برنامجا للعمل عند الجمیع. و ظلت الجهات الصهیونیة جمعاء تشتغل و تدس، و ترمی بثقلها کله للتأثیر علی الدوائر الأمریکیة المتنفذة حتی تسنی لها الاستیلاء علی الرئیس ترومان و من یحیط به من رجال الکونغرس، و الحزبین الجمهوری و الدیمقراطی، و نفذوا بواسطتهم ما أرادوا. فقد نقض الکتاب الأبیض، و فتح باب الهجرة، و تتابعت المناورات السیاسیة و التأثیرات غیر المنصفة فی هیئة الأمم المتحدة التی تشکلت بعد انتهاء الحرب و انتصار الحلفاء فیها، فأدی ذلک کله الی استصدار قرار من هذه الهیئة الدولیة بتقسیم فلسطین و تأسیس دولة اسرائیل المزعومة فی جزء مهم من فلسطین
اما الأعمال الارهابیة التی قام بها الیهود فقد توسع نطاقها و اشتدت و طأتها علی الانکلیز، و بقیت کذلک حتی أعلن التقسیم. و کانت تقوم بها المنظمات السریة الیهودیة: الهاغانا و هی منظمة الحرس المسلح لحمایة المستعمرات الیهودیة و أرغون زفای لومی لأرض اسرائیل التی تهدف الی الاستیلاء علی فلسطین و شرق الأردن بقوة السلاح، و شتیرن و هی عصابة للاغتیال تختص بنهب الأموال و السلاح و الغایة عندها تبرر الواسطة.
و قد اغتاظت السلطات البریطانیة لهذه الأعمال الاجرامیة الی آخر حدّ، و لا سیما حینما نسفت الدوائر الحکومیة التی کانت تشغل جناحا من اجنحة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 228
فندق الملک داود فی تموز 1946. فعزت السلطات العسکریة هذا العمل الی الیهود علنا، و ألقت اللوم علی الطائفة الیهودیة کلها فی بیان أصدره القائد العام للقوات البریطانیة فی فلسطین الجنرال بارکر، فقد قال فیه «ان الطائفة الیهودیة فی فلسطین لا یمکنها ان تتملص من مسؤولیة السلسلة الطویلة من الانتهاکات التی بلغت الذروة فی نسف قسم کبیر من دوائر الحکومة فی بنایة فندق الملک داود و ضیاع عدد غیر قلیل من أرواح الناس ».
و کتب عدد کبیر من کتاب الغرب عن هذه الأعمال، فشجبها معظمهم و أدانها المنصفون من بینهم، و من بین هؤلاء اناس من الیهود یناوئون الصهیونیة و یناهضونها، فقد کتب الکاتب الامریکی الیهودی الفرید لیلنتال المعادی للصهیونیة یقول فی کتابه (ثمن اسرائیل): و فیما کانت الصهیونیة ماضیة فی غیها، و بینما کان الیهود یتعامون عن هذه الأعمال الارهابیة، ارتفع صوت یهودی واحد یندد بها، و کان له دوی الصاعقة .. لقد تحرک أخیرا ضمیر حی من الضمائر الیهودیة الصحیحة هو ضمیر الدکتور یهودا ماغنس رئیس الجامعة العبریة فی القدس. و المعروف عن الدکتور ماغنس انه لم یؤید أبدا فکرة فرض سیطرة یهودیة علی فلسطین، بل کان یسعی الی ایجاد حل عادل لهذه المشکلة ..
فقد وقف خطیبا فی الذکری الواحدة و الثلاثین علی إنشاء الجامعة و قال: «ان الصهیونیة تحاول ان تضع الشعب الیهودی کله تحت نفوذها بالقوة و العنف ..
ان الحظ لم یسعدنی بعد لأن أسمع من أفواه معارضی الصهیونیة رأیهم الصریح بأولئک الأشخاص الذین نصبوا أنفسهم مدافعین عنهم .. إنهم قتلة .. انهم عصابة من الرجال و النساء. و جمیع أمریکا یشارکون هؤلاء فی الجرم .. لأن واجبنا یقضی علینا بان لا نظل مکتوفی الأیدی، و نحن اذا ما قرعنا ناقوس الخطر فذلک لأننا حریصون علی المحافظة علی تقالیدنا الدینیة الصحیحة ..»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 229
هذا و قد سافر الدکتور ماغنس بعد مدة قصیرة من إلقاء خطابه هذا الی الولایات المتحدة، و قرر ان لا یعود الی القدس، المدینة التی أحبها من صمیم فؤاده.
و یذکر لیلنتال بعد ذلک: «و ان کان الدکتور ماغنس قد مات فان أقواله الصریحة الصادقة ستعیش الی الأبد. فهو الذی قال: لقد کنا نعتقد ان الصهیونیة ستعمل علی تخفیف الحملة ضد السامیة فی العالم، و لکننا رأینا العکس تماما» ..
کان العلامة اینشتاین یری رأی الدکتور ماغنس فی الصهیونیة التی حاولت مرارا ان تستفید من سمعته و منزلته العالمیة لترویج أغراضها، و ارادت ترشیحه لرئآسة الجمهوریة بعد موت وایزمن، و لکنه رفض. و یقول الفرد لیلنتال فی هذا الشأن: «و لکن مجرد دراسة بسیطة لنزعة انشتاین و عاطفته تجاه اسرائیل تظهر لنا بوضوح ان العلامة الکبیر لا ینتمی لاسرائیل کما ادعت الصحف الیهودیة، و انما کان اهتمامه منصبا منذ البدایة فی انعاش الجامعة العبریة فی القدس. و قد حدث ابان الصراع العنیف بین وایزمن و براندیس (القاضی الیهودی الامریکی) ان وقف انشتاین الی جانب براندیس و أید موقفه فی مناهضة الحرکة الصهیونیة و أهدافها المتطرفة .. و عندما مثل انشتاین امام لجنة التحقیق الأمریکیة البریطانیة عام 1946 أجاب علی سؤال وجهه الیه أحد الأعضاء عما اذا کان من الضروری انشاء دولة یهودیة لحل قضیة اللاجئین الیهود فقال: ان فکرة انشاء دولة لا تلاقی هوی فی نفسی، إذ أنی لا أفهم الحاجة الی قیام هذه الدولة .. و أقول انها ولیدة فکرة نبتت فی رؤوس فریق من الیهود أصحاب العقول الضیقة .. و لذا اعتقد انه من الخطأ التفکیر بانشاء مثل هذه الدولة، و قد کنت و ما زلت ضدها».
و هناک أناس کثیرون من الیهود غیر هؤلاء شجبوا الارهاب شجبا عنیفا و اخصهم جماعة «مجلس الیهودیة الامریکی» ، و فی مقدمتهم رئیس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 230
المجلس المستر کلیرنس کولمان، و المستر لیسینغ روزنوالد، و الحاخام أیلمر بیرغر المدیر الاداری لهذا المجلس و غیرهم . و هذا المجلس یناهض الصهیونیة و یعادیها بصورة صریحة.

تخلی بریطانیة عن فلسطین

کانت الجهود التی بذلتها الصهیونیة العالمیة فی امریکا قد أثمرت و نجحت تمام النجاح فی حمل الحکومات الأمریکیة المتعاقبة، و دوائرها السیاسیة علی التدخل فی قضیة فلسطین فی جانب الصهیونیة. و قد أخذت هذه الجهات تضغط علی انکلترة بشتی الوسائل حتی توافق علی زیادة الهجرة الیهودیة و الحنث بنصوص الکتاب الأبیض التی تبنتها الحکومة البریطانیة و عزمت علی تنفیذها.
و کان لموقف ترومان الرئیسی الأمریکی المتصهین تأثیر مربک فی هذا الشأن، کانت تصریحاته و تدخلاته تعرقل ما کان المستر بیفن وزیر خارجیة حکومة العمال البریطانیة قد عزم علیه فی حل المشکل.
و بعد مداولات و مناورات کثیرة ألقی المستر بیفن فی 26 شباط 1947 خطابا فی مجلس العموم البریطانی أشار فیه الی ان القضیة الفلسطینیة معقدة جد التعقید بسبب ما فی نظام الانتداب من وعود متناقضة، لأنه یسمح للیهود بغزو فلسطین و الهجرة الیها بینما یحتّم عدم الاضرار بسکانها الآخرین، و أشار الی ما کان لتصریحات ترومان و موقف حکومته من أثر فی تعقید القضیة ثم قال:
غیر ان بریطانیة لا تستطیع ان تفرض حلا نهائیا الا بالقوة لأنها منتدبة انتدابا، و لذلک أصبح واجبها دفع الأمر الی هیئة الأمم المتحدة لتقرر الحل الذی تراه مناسبا.
و فی هذا المآل یقول لیلنتال (ثمن اسرائیل الص 46): و ما أطل عام موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 231
1947 حتی کانت الحالة فی فلسطین قد بلغت ذروتها من حیث التأزم، و کانت تستدعی تدخلا دولیا عاجلا لحلها .. فان الصهیونیین کانوا یصرون بعناد علی ان یکون الیهود الأکثریة لیتمکنوا من انشاء حکومة یهودیة .. و فی غمرة الفوضی الشاملة قررت بریطانیة نفض یدها من فلسطین. خاصة بعد ان فشلت جمیع المحاولات و المشاریع التی عرضتها حلا للمشکل .. و کان آخر الحلول ذلک الحل المعروف بمشروع بیفن الرامی إلی إنشاء نظام «کانتونات» بفلسطین من العرب و الیهود لمدة خمس سنوات، و السماح لمائة الف لاجی‌ء بالدخول الی البلاد.
ترومان و وایزمن فی وقفة تحابب و صفاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 232
و قد أعلنت الوکالة الیهودیة آنذاک أنها لن تتعاون بعد الآن مع السلطة المنتدبة ضد أعمال الارهابیین الیهود. و حیال ذلک رأت بریطانیة أن لا مخرج لها من هذه الورطة، الا بعرض القضیة علی هیئة الأمم المتحدة .. و عند عرض القضیة علی بساط البحث فی مجلس العموم البریطانی حاول بیفن بعبارات غامضة ان یبرر فشل حکومته فی حل القضیة الفلسطینیة متهما الساسة الأمریکیین بتعقید المشکلة. و قد تجاوز حدود التقالید الدیبلوماسیة عندما غمز من طرف خفی مسؤولیة البیت الأبیض حیث قال:
«.. و خرجت فی الیوم الأول من انعقاد مؤتمر السلم فی باریس و انا مطمئن الی اننا تمکنا من تذلیل العقبات .. و فی منتصف لیل الیوم التالی تلقیت مخابرة هاتفیة من رئیس الحکومة البریطانی یعلمنی ان الرئیس الأمریکی ینوی، إصدار قرار آخر بصدد المائة الف مهاجر .. و کان مجلس السلم لا یزال منعقدا و لذلک رجوت بیرنز ناظر خارجیة إمریکا ان یتدخل لدی الرئیس ترومان کی یؤجل صدور ذلک القرار. و کان جواب ناظر الخارجیة الأمریکیة انه اذا لم یعلن ترومان موافقته علی ادخال المائة الف یهودی فان مزاحمه فی الانتخابات دیوی سیسبقه الی اعلان موافقته و تأییده لادخال هذا العدد من المهاجرین فیکسب بذلک أصوات یهود أمریکا فی انتخابات الرآسة» ...!!
لجنة التحقیق الانکلیزیة الامیرکیة
و کتب جیمس ریستون فی صحیفة نیویورک تایمس فی نفس الموضوع یقول:
«ان عددا کبیرا من مستشاری الرئیس ترومان عارضوا صدور مثل هذا القرار نظرا لتوقع عقد هدنة بین بریطانیة و الصهیونیین .. بل ان (أتلی) رئیس الحکومة البریطانیة اتصل بنفسه بالرئیس ترومان و طلب منه تأجیل اصدار ذلک القرار لکن ترومان لم یعر جمیع هذه المحاولات أدنی اهتمام ..»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 233
ثم یقول لیلنتال بعد ذلک: و یجدر بالذکر هنا ان وزارتی الخارجیة و الحربیة الأمریکیتین حذرتا البیت الأبیض و الکونغرس من اتباع تلک السیاسة الخاطئة.
و کانتا محقتین فی تحذیرهما، لأن مثل تلک السیاسة قد تودی بنفوذ امریکا فی بقعة ستراتیجیة هامة من العالم. و لکن الساسة الأمریکیین لم یأبهوا کثیرا لتلک الحقیقة وضحوا بها من أجل سیاسة حزبیة تحقق مآربهم الشخصیة ..
و هذا ما حصل بالفعل. فقد کانت القضیة الفلسطینیة فی أحرج أزماتها ..
عند ما بلغت حملة الانتخابات ذروتها بین الحزبین المتنافسین .. فأدرک کل منهما ان حزبه لن یظفر بأصوات الناخبین الیهود فی أمریکا الا اذا تعهد بتأیید إقامة دولة اسرائیل فی أرض فلسطین .. و لعلها المرة الأولی فی التاریخ ان تکسب معرکة حاسمة بوسائل الدعایة، و کان الفضل فیها للصهاینة أنفسهم الذین علقوا مصیر مستقبلهم علی نتیجة تلک المعرکة الانتخابیة ..

تقسیم فلسطین

و تنفیذا لعزم بریطانیا علی نفض یدها من فلسطین، بعد ان مهدت لانشاء الوطن القومی الیهودی فیها خلال 28 عاما، قدمت بریطانیة مذکرة الی الأمین العام لهیئة الأمم المتحدة تطلب فیها عرض القضیة الفلسطینیة برمتها فی دورة خاصة.
و قد کتب الفرید لیلنتال (الص 53) فصلا خاصا فی هذا الموضوع عنونه بعنوان «التقسیم غیر المقدس» یقول فیه: و فی 28 نیسان 1947 عقدت الجمعیة العمومیة جلسة خاصة فی نیویورک لبحث قضیة فلسطین، و قد اقتصرت ابحاث هذه الجلسة علی عرض مختصر القضیة من مختلف وجوهها .. و قد تقرر تألیف لجنة للتحقیق فی القضیة الفلسطینیة، علی ان ترفع تقریرها الی اللجنة فی مدة أقصاها شهر أیلول 1947 .. فتألفت اللجنة من 11 دولة صغری هی:
اوسترالیة، و کندا، و تشیکوسلوفاکیة، و غواتیمالا، و الهند، و ایران، و هولانده، و پیرو، و السوید، و أوراغوای، و یوغوسلافیة، کما عین القاضی السویدی أمیل ساند ستروم رئیسا لها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 234
و یتابع المستر لیلنتال سرد القضیة فیقول: و منذ الساعة الأولی التی أعلنت فیها أسماء أعضاء اللجنة بدأت محاولات الصهیونیة فی الضغط و التأثیر علی الأعضاء، و راحت المنظمات و المؤسسات الیهودیة تبذل الجهود و المساعی خلال اجتماعات الجمعیة العمومیة لکسب التأیید و المساعدة للقضیة الصهیونیة.
و قد وصلت اللجنة الی القدس فی 17 حزیران 1947 فأضربت فلسطین و بعض البلاد العربیة یوم وصولها. و یذکر المستر لیلنتال بهذه المناسبة قوله:
و فی مثل هذا الجو العاصف المحموم باشرت لجنة التحقیق دراستها للقضیة فی أرض فلسطین نفسها. و فی 31 آب وضعت تقریرها النهائی و رفعته الی اللجنة الثانیة للجمعیة العمومیة. و لکن ماذا تضمن التقریر؟ فبعد ان عقدت اللجنة حوالی ستة عشر اجتماعا عاما و 36 اجتماعا خاصا فی لیک سکیس، و القدس و جنیف، و استمعت الی عشرات البیانات الشفهیة و مثلها من البیانات و الوثائق الخطیة من الحکومات و من المنظمات السیاسیة و الهیئات الدینیة، لم تکن الحلول التی أوصت بها فی تقریرها جماعیة.
فقد اقترحت أکثریة الاعضاء تقسیم فلسطین، و اقترحت الاقلیة المؤلفة من الهند، و ایران، و یوغوسلافیة، إقامة دولة واحدة علی نظام فیدرالی، بینما لم تؤید اوسترالیة کلا الفریقین ..
اما بالنسبة للقدس فقد وضع اقتراح الاکثریة منطقتها تحت نظام الوصایة الدولیة، علی ان یعین مجلس الوصایة التابع لهیئة الأمم حاکما عاما للقدس لا یکون عربیا و لا یهودیا. بینما ینص اقتراح الأقلیة علی تأسیس حکومتین مستقلتین استقلالا ذاتیا تتألف منهما دولة اتحادیة مستقلة عاصمتها القدس نفسها. و قد أوضح موقف بریطانیة من الاقتراحین مندوبها آرثر کریتش جونس، علی ما یذکر لیلنتال، و قال ان دولته لا تقر فرض أی مشروع جدید تضعه هیئة الأمم ما لم ینل موافقة الطرفین العرب و الیهود .. و هکذا ألقت بریطانیة مسؤولیة کبری علی عاتق أعضاء هیئة الأمم .. و قام محمد ظفر اللّه خان وزیر خارجیة الباکستان و مندوبها فی هیئة الأمم یدافع بحماسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 235
و حرارة عن وجهة النظر العربیة و معارضتها للتقسیم. فأکد ان من حق عرب فلسطین البالغ عددهم ملیونا و (30) ألف عربی ان یختاروا نظام الحکم الذی یریدون، و ان هذا الحق قد ضمنته شرعة الأمم المتحدة .. و بعد ان تولت لجنة خاصة تدقیق الاقتراحین أقرت مشروع التقسیم، حینما أیدته 13 دولة و امتنعت 17 دولة عن التصویت. و یذکر المستر لیلنتال بهذه المناسبة (الص 64) ان الجدیر بالملاحظة انه فی جمیع دورات الاقتراح وقفت الولایات المتحدة الی جانب روسیة السوفیاتیة .. و علی الرغم من هذا الانسجام المریب بین الدولتین، لم ینل مشروع التقسیم سوی أکثریة ضئیلة عند ما عرض امام الجمعیة العمومیة، إذ بلغ عدد المخالفین للمشروع و الممتنعین عن التصویت دار الوکالة الیهودیة فی القدس و قد نسفها العرب یوم 11/ 3/ 1948
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 236
32 صوتا، و من بینهم مندوبو ثلاث دول کبری هی فرنسة و بریطانیة و الهند الذین تعمدوا التغیب عن الاجتماع.
و قبل ان تباشر الجمعیة العمومیة فی التصویت علی التقسیم استمعت الی الخطباء من مؤیدین و معارضین .. و کالعادة وقف مندوبا جنوب إمریکا غرانادوس و فابرفات یدافعان عن وجهة نظر الوکالة الیهودیة بکل حماسة و اخلاص، بینما لم یظهر مندوبو روسیة السوفیاتیة و الولایات المتحدة و جمیع المدافعین عن المشروع أی اندفاع أو تحمس لتأییده بل أعلنوا أسفهم لاضطرارهم الی اللجوء الی مشروع التقسیم کحل أخیر للقضیة الفلسطینیة ..
اما خطاب ظفر اللّه خان فقد کان بلیغا مؤثرا، إذ قال موجها حدیثه الی الدول الغربیة: «لا تنسوا انکم ستحتاجون فی المستقبل الی حلفاء و أصدقاء فی الشرق الأوسط، و لهذا أرجو ان لا تخسروا ما لکم من رأس مال فی تلک البلاد ..» ثم أضاف یسأل الدول الغربیة و خاصة الولایات المتحدة»: ما الغایة من إنشاء دولة یهودیة؟ أ هی من باب الدافع الانسانی؟ اذا کان ذلک، فلماذا أقفلتم أبواب حدودکم فی وجه الیهودی الذی لا ملجأ له؟ و لماذا تصرون إذن علی اسکانهم فی فلسطین، بل و مساعدتهم علی إقامة دولة لهم .. حتی یصبح ذلک الیهودی الذی کان بالأمس بلا مأوی یحکم العربی الفلسطینی ..؟» و أخیرا أنهی وزیر الخارجیة الباکستانی خطابه بالتهکم علی الحجج و الأسباب التی بررت بها الدول الکبری إقرار مشروع التقسیم.

مناورات صهیونیة لإقرار التقسیم

جاء فیما کتبه لیلنتال عن التقسیم قوله (الص 67): و ننتقل الآن الی المناورات التی رافقت التصویت علی المشروع. فقد کان الاقتراع النهائی قد حدد موعده فی یوم 26 تشرین الثانی، علی ان تسبقه جلسة للاستماع الی المناقشات الأخیرة، لکن الوفود فوجئت و بدون سابق انذار بنبأ الغاء جلسة المناقشة و تأجیل موعد الاقتراع .. و قد جاء التأجیل بعد ان تأکد الصهیونیون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 237
انهم بحاجة الی مزید من الأصوات لتأمین الأکثریة المطلوبة .. و هکذا اغتنم قادة الصهیونیة و الوکالة الیهودیة هذه الفرصة لبذل أقصی ما فی وسعهم من مساع و اتصالات فی أروقة الأمم المتحدة ..
و یفهم مما یذکره لیلنتال (الص 67) ان إغراء الصهیونیین لم یحدث تأثیرا لدی مندوبی بعض الدول مثل مندوب لیبیریا، و هایتی، و الیونان، و سیام، و مندوب الفلبین الجنرال کارلوس رومولو، الذی طعن الصهیونیة طعنة نجلاء عند ما هاجم التقسیم بعنف و قال: «ان من حق کل شعب ان یقرر مصیره السیاسی، و ان یحافظ علی أراضیه و کیانه من أی اعتداء، و ان مشکلة مشردی یهود أوربة لا علاقة لهم البتة بانشاء دولة یهودیة مستقلة فی فلسطین».
لکن الصهاینة استعانوا بأقطاب الحکومة الأمریکیة و رجالها و علی رأسهم الرئیس ترومان نفسه فضغطوا علی الحکومات و انتزعوا منها أصواتها، الا الحکومة الیونانیة.
و حینما أزف وقت التصویت فی یوم 28 تشرین الأول، جرت مناورات أخری فتأجلت الجلسة لمدة 24 ساعة أخری، حتی اذا ما حل صباح 29 تشرین الثانی طرح قرار التقسیم علی التصویت بعد بضع مناورات برلمانیة فأقر بأکثریة 34 صوتا ضد 12 صوتا، و امتناع عشرة عن التصویت مع تغیب مندوب واحد. و قد علقت جریدة نیویورک تایمس فی مقال افتتاحی لها علی القرار بقولها ان إقامة دولة سیاسیة علی أسس و معتقدات دینیة فقط لأمر لیس فیه من الحکمة شی‌ء. و کذلک اعترفت صحف أخری بان نتیجة هذا القرار قد یهدد السلام و الأمن فی العالم. و یعلق لیلنتال علی نتیجة هذا القرار بقوله:
و منذ تلک اللحظة دق الأسفین الأول بین الغرب و العالم العربی الاسلامی .. ثم یضیف الی هذا قوله (الص 79): «و قد کان مشروع تقسیم فلسطین القضیة الأولی و الوحیدة التی جمعت بین الولایات المتحدة و الاتحاد السوفیاتی فی صف واحد، و جعلت بینهما نوعا من الانسجام منذ أنشئت هیئة الأمم»، و یقول لیلنتال: «و یجدر بنا الاعتراف هنا ان الحکومة الأمریکیة قد برهنت بوقوفها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 238
مع السیاسة الروسیة فی صف واحد علی جهلها التام بالأسالیب السوفیاتیة ..
دعونا نتساءل لماذا کان الکرملین یسمح بل یشجع هجرة الیهود اللاجئین الی اسرائیل من الدول الشرقیة الواقعة تحت نفوذه؟ لما ذا کان الکرملین یسمح بتجمع (30) ألف مهاجر یهودی فی موانی‌ء البحر الأسود استعدادا لتسفیرهم الی فلسطین؟ اذا کان هذا العمل لا یخدم الأغراض السوفیاتیة و یتفق و خططهم المرسومة نحو الشرق الأوسط ..»؟
و یجدر بنا هنا ان نورد ما ذکره مترجم کتاب لیلنتال المذکور الی العربیة فی مقدمة الکتاب المترجم حول تأثیر الیهود الصهاینة و مناوراتهم الجهنمیة.
و هو یذکر ما یأتی نقلا عن المرحوم الأمیر عادل أرسلان الذی کان عضوا فی الوفد السوری الذی حضر جلسة التصویت علی التقسیم. فهو یقول:
«و کان المفروض ان تبلغ هذه الأصوات ثلثی أعضاء الهیئة، فقد کان ممثلو الدول العربیة مطمئنین الی تأیید ثمانی عشرة دولة من الأمم المتحدة بحیث یستحیل ان یحظی مشروع التقسیم بأغلبیة الثلثین المطلوبة. و کان الصهاینة و من ورائهم إمریکا یدرکون هذا الأمر و یعرفون أن لا مناص لهم من زحزحة بعض مؤیدی العرب عن موقفهم و حملهم بشتی الطرق و الوسائل للتصویت علی مشروع التقسیم. و بالفعل تمکنوا بمناوراتهم و اتصالاتهم الواسعة و وسائلهم المغریة من حمل مندوبی هایتی، و لیبریا، و سیام، للتصویب علی المشروع بعد ان کان هؤلاء قد صرحوا أنهم سیقفون عند التصویت الی جانب الدول العربیة لوجاهة قضیتهم و عدالتها. و قد فوجی‌ء المندوبون العرب. فی جلسة الاقتراع التاریخیة عند ما وقف مندوب هایتی و قال و الدمع فی عینیه انه ما زال شخصیا عند رأیه الخاص فی معارضته مشروع التقسیم لکنه بصفته ممثلا لحکومة هایتی لا یسعه الا ان ینزل عند أوامرها بالموافقة علی المشروع.
و تفصیل هذا التغییر المفاجی‌ء هو ان موسی شاریت قصد قبل جلسة الاقتراع الی الفندق الذی کان ینزل فیه مندوب هایتی، و اتفق انه فی تلک اللحظة کان یستقبل أحد العرب الفلسطینیین السید عونی الدجانی الذی جاء یشکره علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 239
موقفه من قضیة فلسطین، و دخل شاریت دون أن یأبه للسید الدجانی فقد ظنه سکرتیرا لمندوب هایتی. ثم بدأ الکلام عارضا مبلغ اربعین ألف دولار علی المندوب لقاء تأییده للمشروع. فرفض مندوب هایتی العرض بأباء، و أغلظ القول لشاریت الذی انسحب و هو یردد: سوف تندم و ستری ان حکومتک ستؤید التقسیم، و هذا ما حدث بالفعل ...
و لا شک ان الدوائر الصهیونیة کانت تبذل بسخاء فی إمریکا و غیرها، من أجل ترویج مصالحها و إرشاء أکبر الشخصیات و أهمها عند الحاجة. فیقول لیلنتال (الص 125) «ان المکافآت المالیة التی کان ینثرها زعماء الصهیونیة کان لها أکبر أثر و أشد دافع للساسة الأمریکان فی مضاعفة جهودهم من أجل الصهیونیة و أغراضها. ففی عهد الرئیس ترومان کان بارکلی نائب الرئیس و غیره من المسؤولین فی الحکومة و أعضاء الکونغرس یتسابقون علی إلقاء الخطب و المحاضرات لتأیید الحرکة الصهیونیة لقاء أجور باهظة .. فان بارکلی کان مثلا یتقاضی (1500) دولار عن کل خطبة یلقیها .. و هکذا کانت الصهیونیة تشتری بالمال تأیید الساسة النافذین سواء فی البیت الأبیض أو فی دوائر واشنطن الرسمیة. و بهذه الوسیلة استطاع زعماؤها و أنصارها مع ما لدیهم من نفوذ و دهاء ان یمسکوا الحبل من طرفیه و ینتهجوا سیاسة مزدوجة لارشاء الحزبین القویین: الدیمقراطی و الجمهوری ..»

دیر یاسین و أخواتها

یقول المستر لورانس غریز و ولد فی (ادفع دولارا تقتل عربیا ) «إن هیئة الأمم المتحدة عینت بالاتفاق مع بریطانیة العظمی یوم 15 مایس موعدا لانتهاء الانتداب البریطانی و إقامة دولة اسرائیل المستقلة علی اساس من التقسیم الجغرافی العجیب الذی اقترحته لجنة الأمم المتحدة .. فاستغلت هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 240
العصابات الیهودیة و أخذت تعد العدة للاستفادة منه الی اقصی حد ممکن حینما تجلو بریطانیة و تصبح فلسطین بلا حکومة .. و لم یکن هذا بشی‌ء جدید علی الارهابیین الیهود، علی ما یقول غریز و ولد، لأنهم کانوا خارجین علی العدالة منذ 1944 و کان عندهم سلاح بل لقد کانت عندهم مصفحات، و خبرة کبیرة فی صناعة القتل. و فی اواخر 1948 وضعوا خطة للعمل ..
و کانت لعصابتی شتیرن و الأرغون آراؤهما فی هذا الشأن. فاعتزمتا ترویع العرب، من طریق شن حملات علی القری الزراعیة العربیة و اکراههم علی التخلی عنها الی الیهود. و الواقع ان هذه الخطة، التی عرفت فی الأوساط غیر الرسمیة باسم «عملیة الذعر»، درست أحسن درس و نفذت بأشد حماسة.
فلم ینتصف شهر مایس حتی کان نصف ملیون عربی ممن نجوا من المذابح المتعاقبة یفرون بأنفسهم .. لأنه کان علی الیهود ان یذبحوا سکان بضع قری لیس غیر، ثم تتولی محطة اذاعتهم الباقی. و تفصیل ذلک ان الرادیو الیهودی کان یتباهی بتدمیر القری العربیة و ذبح سکانها ذبحا جماعیا ثم یحذر العرب قائلا:
ان علیهم ان یدرکوا حین یرون دبابات اسرائیل و جندها فی الطریق الیهم ان المصیر نفسه ینتظر قریتهم.
.. و کانت قریة دیر یاسین التابعة للقدس أول نصر أحرزته عصابة الأرغون ففی الصباح الباکر من 9 نیسان 1948 حین کان المزارعون العرب و أفراد أسرهم ینصبون خیامهم فی سوق القریة، اقتحمت دبابتان من طراز شیرمان طرق دیر یاسین الضیقة و سحقتا فلاحین متعبین. و کان یصحب الدبابتین قوة من الیهود یبلغ عددها (500) رجل مزودین بمدافع التومی و الأسلحة الأوتوماتیکیة. و لقد صرحت القلة القلیلة الباقیة علی قید الحیاة من ابناء دیر یاسین- و معظمها من النساء اللواتی سلبن کل ما عندهن و مزقت أثوابهن تمزیقا، و اللواتی استعرضهن الیهود فی شوارع تل أبیب فی سیارات کبیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 241
قبل ان یسلموهن بالرغم منهن الی الصلیب الأحمر الدولی- أقول لقد صرحت هذه القلة القلیلة ان الدبابتین اقتحمتا سوق القریة و اطلقتا النار علی الأهلین المحتشدین فی الساحة.
و بعد أن أطلقت الدبابتان نیرانهما تعقب الجنود الاسرائیلیون أهل القریة الفارین بأنفسهم و قتلوهم فی غیر ما استبقاء بینما کانوا یهربون و یختبئون و فی دیر یاسین تکررت مشاهدات أریحا القدیمة التی وصفها الکتاب المقدس بقوله «و قتلوا کل من فی المدینة من رجل و امرأة، و من طفل و شیخ، و حتی البقر و الغنم و الحمیر». و کانت بعض الفظائع التی تلت تتطلب شیئا من الخیال.
فقد جمع الغزاة خمسا و عشرین امرأة حاملا و وضعوهن فی صف طویل و اطلقوا علیهن النیران. ثم انهم بقروا بطونهن بالمدی أو بالحراب، و أخرجوا الأجنة منها نصف إخراج. و قطع الأطفال إربا إربا أمام أعین آبائهم الذین ما زالوا علی قید الحیاة. و خصی الصبیة الصغار قبل ان یقتلوا. و انتزعت الحلی و الخواتم من أجساد القتلی. و تبرت أصابع الضحایا الذین وجد المعتدون عسرا فی انتزاع خواتمهم ..»
الشهید عبد القادر الحسینی قائد منظمة (الجهاد المقدس) استشهد فی معرکة القسطل فی 8/ 4/ 1948.
و یقول غریز و ولد کذلک: «و طلب جاک دو رینیه مندوب الصلیب الأحمر الدولی الاذن من الوکالة الیهودیة فی الدخول الی دیر یاسین. و لکن الوکالة لم تسمح بذلک الا بعد انقضاء 28 ساعة لکی تتیح للعصابة الیهودیة فرصة تستطیع خلالها إخفاء معالم الجریمة. و هکذا ألقی نحو من مئتی جثة من جثث القتلی فی بئر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 242
عتیقة، و غطیت بالقذر و الأوساخ. و لکن الرائحة النتنة فضحتهم، و تمکن المندوب البلجیکی من ان یحصی الجثث بعد اخراجها من البئر، بید أن کثیرا من الأجساد لم تکن کاملة. و تحدث دو رینیه فی شی‌ء من الاشمئزاز عن الأشیاء التی شاهدها و روی کیف أنه وجد فتاة عربیة فی السادس من عمرها ما تزال حیة تحت رکام من الجثث، و کیف أنه حملها إلی المستشفی، و علق علی هذا بقوله «کان ذلک بکل بساطة شیئا فظیعا».
ثم یضیف غریز و ولد الی ذلک قوله (الص 48): «و لم تکن دیر یاسین غیر بداءة و استهلال. ففی الیوم الرابع عشر من نیسان تکرر المشهد فی قریة ناصر الدین (القریبة من طبریة). و فی الخامس من مایس هاجم أفراد الهاغانا (جیش اسرائیل الرسمی) عددا من القری القائمة علی ضفاف الأردن قرب القریة المعروفة ببیت الخوری. و فی هذا الهجوم قتل مئات من العرب و جرح ما یزید علی ألف و مائتین. و مثّل بالضحایا، رجالا و نساء و أطفالا، قبل الموت و بعده. و قطعت رؤوس عدد من الرجال لأنهم أبدوا بعض المقاومة. و فی 6 و 7 و 13 مایس شن الیهود هجمات جدیدة علی قری عربیة أخری. ففی الزیتون جمع أهل القریة کلهم فی المسجد، ثم نسف المسجد بالدینامیت علی رؤوس من فیه. و فی بیت دراس طبّق الیهود الخطة التی طبقوها فی دیر یاسین نفسها»
و یختم المستر غریز و ولد قصته المؤلمة بقوله: «إن لائحة الفظائع الیهودیة المماثلة طویلة جدا، لکنها کلها تنهج نفس النهج. و هی تفسر لنا کیف استطاعت قوی من الارهابیین و الهاغانا صغیرة نسبیا أن تخرج نحوا من 000، 900 عربی من الأرض التی حرثوها و عمروها لأنفسهم منذ الاف السنین.
لقد نجحت «عملیة الذعر» نجاحا عظیما جدا من وجهة النظر الصهیونیة، و لعل واضعها کان فخورا بها!! و لکن المهم حقا هو أن اسرائیل أصبحت دولة مستقلة فی 15 مایس، و ان الرئیس ترومان کسب السباق الی الاعتراف بها، و کسبه بمراحل واسعة».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 243

مولد الدولة الاسرائیلیة

یقول ألفرید لیلنتال فی (ثمن اسرائیل الص 92): و فیما کان موعد انتهاء الانتداب البریطانی علی فلسطین یوشک ان یحل، کانت المعارک الدامیة فی الأرض المقدسة تزداد عنفا و شدة، و کان الرأی العام فی إمریکا، حتی الجمعیة العمومیة نفسها، یزداد هیاجا و اندفاعا فی تأیید الصهیونیة ... و لعل أبلغ دلیل علی تحیز الجمعیة العمومیة هو رفضها السماح للدکتور ماغنس بالمثول امام الأعضاء لیدلی بوجهة نظر الیهود غیر الصهیونیین فی القضیة، و سماحها فقط للوکالة الیهودیة بالتحدث باسم «الشعب الیهودی».
و بعد ذلک یتطرق المستر لیلنتال الی کیفیة اعتراف الولایات المتحدة باسرائیل حتی قبل مولدها، فیقول: فقد أعلن وایزمن قبل أیام معدودة من البریطانیون یفتشون العرب فی باب العمود من القدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 244
جلاء قوات الانتداب البریطانیة ما نصه: «لقد تمکنت من توطید علاقاتنا بأصدقائنا فی واشنطن و تأکدت انه سیتم الاعتراف بالدولة الیهودیة فی اللحظة التی یعلن فیها عن انشائها ..» و فی 13 أیار 1948 کتب رسالة خاصة الی ترومان یطلب فیها ان تعترف الولایات المتحدة حالا بالحکومة الموقتة للدولة الیهودیة الجدیدة. و فی هذه الأثناء کانت الجیوش العربیة تستعد للزحف علی الأرض المقدسة ..
و لکن فی صباح 14 أیار 1948 تمکن کلارد کلیفورد مستشار الرئیس الأمریکی الخاص- الذی کان علی اتصال مستمر بزعماء الحزب الدمقراطی و قادة الصهیونیة- من إقناع رئیسه ترومان بوجوب القیام بعمل فوری لانقاذ الحزب الدمقراطی من هزیمة محققة فی الانتخابات المقبلة .. و هکذا اختلی ترومان طیلة یوم 14 أیار بمستشاریه المقربین، کما اجتمع الی فرانک غولدمان رئیس مؤسسة «بنای بریث» الصهیونیة التی ینتمی الیها صدیق ترومان الحمیم و شریکه الیهودی القدیم أدی جاکسون، کما أبرق سول بلوم عضو الکونغرس (الیهودی) الی ترومان یقول: ان علی الولایات المتحدة ان تعترف بالدولة الیهودیة الجدیدة، و بذلک تساعد علی منع نفوذ السوفیات من التغلغل الی فلسطین و الشرق الأوسط ..
و فی حوالی الساعة الحادیة عشرة و النصف من قبل ظهر ذلک الیوم استدعی البیت الأبیض الیاهو أپشتاین (و کان فی ذلک الوقت یمثل الوکالة الیهودیة فی واشنطن) و أبلغه ان حکومة الولایات المتحدة قررت ان تعترف اعترافا واقعیا بدولة اسرائیل فور إعلانها، بشرط ان نوجه الدولة الجدیدة کتابا تطلب الاعتراف بها. فأجاب اپشتاین ان الدولة الجدیدة لا یسعها ارسال مثل هذا الکتاب قبل مولدها و وعد بان یتصل بتل أبیب و یبلغها رغبة الرئیس ترومان ..
و یتابع لیلنتال سرد القصة فیقول: «جرت کل هذه التطورات الخطیرة فی جو بالغ من الکتمان، بل ان البیت الأبیض قرر إبقاء قرار الاعتراف فی طی الکتمان و خاصة عن ناظر الخارجیة مارشال أو أی شخص آخر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 245
موظفی الخارجیة، لتحاشی أی معارضة قد یثیرها مارشال، و لأن نایلز و کلیفورد کانا یخشیان ان یعمد ترومان الی تأجیل الاعتراف».
و فی الساعة السادسة تماما حسب توقیت واشنطن (الساعة 12 حسب توقیت القاهرة) أعلن نبأ نهایة الانتداب علی فلسطین .. و فی السادسة و الدقیقة الواحدة أعلن قیام دولة اسرائیل الجدیدة. و فی السادسة و إحدی عشرة دقیقة تم اعتراف الولایات المتحدة بالدولة الجدیدة .. و لکن الذی حدث انه بعد 24 ساعة من عزم الرئیس علی اتخاذ مثل هذا القرار تلقت نظارة الخارجیة الأمریکیة برقیة من الحکومة الموقتة لدولة اسرائیل تطلب الاعتراف بها. و هکذا ارتفع فی سماء فلسطین عند الساعة الثانیة عشرة و الدقیقة الواحدة أول علم لدولة اسرائیل، کما ارتفع فی نفس الوقت نفس العلم فی واشنطن علی بنایة الوکالة الیهودیة سابقا.
جندیان بریطانیان تخلفا عن الرحیل و بقیا فی فلسطین فالتحقا بالجهاد ضد الصهاینة و اسم الجالس جون، و اسم الواقف میک.
ثم یعلق لیلنتال علی هذا کله بقوله:
و عند إعلان مولد اسرائیل رقص الشعب فی شوارع تل أبیب و واشنطن و نیویورک و غیرها من المدن .. و مع ذلک فان الفرح و الاستبشار لم یعما جمیع الأنحاء .. فقد کتبت صحیفة «غازیت، بوست» تتهکم علی قرارات لیک سکسیس قائلة: لقد کان الوفد الأمریکی موضع سخریة باقی الوفود فی هیئة الأمم، و ان قرار الرئیس ترومان الفوری بالاعتراف باسرائیل قد ترک حلفاءنا فی دوامة من الظلام و الحیرة ..
کما وضع نظارة الخارجیة فی فوضی ظاهرة .. اما صحیفة «رتشموند تایمس»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 246
فقد أشارت الی الأصوات الیهودیة التی یرجو کسبها الحزب الدمقراطی الحاکم فی الانتخابات القادمة من جراء ذلک .. بینما هاجمت صحیفة «بوست دیسپاتش» فی مدینة سان لویس السیاسة التی اتبعها البیت الأبیض و العوامل التی حدت به لسلوک هذا المسلک ضاربا عرض الحائط بالمصالح الدولیة فی سبیل کسب أصوات الیهود.

تدخل الجیوش العربیة

کانت المقاومة العنیفة التی أظهرها العرب فی فلسطین بعد قرار التقسیم قد أدت بمجلس الأمن الی ان یصدر قرارا بدعوة العرب و الیهود الی التهادن و تعیین لجنة مشرفة علی تنفیذه قوامها قناصل امریکا، و بلجیکا، و فرنسة، فی القدس. لکن الطریقة التی أخلی بها الانکلیز البلاد، لتمکین الیهود فیها، و الارهاب الذی صارت تستخدمه العصابات الیهودیة لتخویف العرب و تشریدهم، قد حدت بالشعب العربی فی کل مکان بان یطالب حکوماته بوجوب التدخل فی الأمر و الحیلولة دون مبادرة الیهود الی الاستیلاء علی فلسطین کلها من دون التقید بحدود التقسیم.
و قد اجتمعت الدول العربیة فی جامعة الدول العربیة فقررت ذلک. و حینما غادر المندوب السامی البریطانی میناء حیفا، فی منتصف لیلة 15 مایس 1948، معلنا نهایة الانتداب شرعت الجیوش العربیة فی الزحف علی فلسطین من الشمال و الشرق و الجنوب. فسیطر الجیش المصری، و فی معیته بعض سرایا من السعودیین، مع متطوعین من السودان و لیبیة و مصر، علی القسم الجنوبی من فلسطین بکامله عدا بعض المستعمرات الیهودیة التی عزلت. و سار الجیش العراقی بعد ان احتل مستعمرة الجسر و استولی علی مشروع کهرباء روتنبورغ فی خطّین، یتجه أحدهما الی نابلس فقلقیلیة فناثانیة علی البحر، و یتجه الثانی فی اتجاه مرج ابن عامر، فالعفولة، فجنین. و کانت أفواج من الفلسطینیین فی القاطع الشمالی و القاطع الغربی تؤلف ستارا أمام الکتائب العراقیة الأمامیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 247
اما الجیش السوری فقد احتل سمخ و سیطر علی عبر الیرموک من جسر بنات یعقوب باتجاه طبریة، ثم احتلت مشمار هایردن. و احتلت القوات اللبنانیة الناقورة و بعض المواقع العسکریة علی الحدود حتی أخذت تسیطر علی الجلیل الغربی. و احتلت القوات الأردنیة أریحا ثم استولت بعد قتال عنیف علی القدس القدیمة و طهّرت الحی الیهودی فیها فجعلته رکاما. کما طهّرت أیضا المنطقة الممتدة بین رام اللّه و جسر اللنبی. و حینما احتلت القوات الأردنیة القدس القدیمة أصبحت القدس الجدیدة تحت سیطرة مدافعها. و بالتعاون مع المناضلین الفلسطینیین قاتلت فی باب الواد و اللطرون فسیطرت علی طریق القدس الرملة. ثم رابطت حول اللد و الرملة.
و لم یکد یمضی اسبوعان حتی کانت الجیوش العربیة تسیطر علی المناطق المخصصة للعرب فی قرار التقسیم باستثناء یافا و قسم من الجلیل الغربی، و توشک ان تحدق بتل أبیب.

معرکة القدس

اشارة

یفرد الکاتب الیهودی الصهیونی جون کیمشی فصلا خاصا لحرب فلسطین (الفصل 18)، یتبسط فیه فی وصف معرکة القدس نفسها. و هو و ان کان محشوا بالمغالطات و التحیز فاننا لم نجد بأسا من ایراد شی‌ء منه هنا توخیا للاطلاع علی وجهات النظر المختلفة.
فهو یقول: و بینما کان الجیش الأردنی فی کیشر علی وشک أن یبدأ سباقه الی حیفا، کان الملک عبد اللّه یتسلم من قائد جیوشه الانکلیزی (کذا) فی القدس نداءات الملک عبد اللّه بن الحسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 248
مستعجلة تطلب امدادات عاجلة. و یقول کیمشی ان الملک عبد اللّه کان یهمه القدس أکثر مما یهمه الاستیلاء علی میناء حیفا. بینما کان الانکلیز یرون ان استیلاءه علی حیفا شیئا عملیا أکثر، لکن جاذبیة القدس فی العالم العربی تفوق أیة جاذبیة أخری و لذلک لم یتردد عبد اللّه. فسیق الجیش الذی کان من المقرر ان یزحف علی حیفا نحو القدس .. و أصبح من الواضح ان اتجاها جدیدا فی الحرب أخذ یتبلور. فقد أخذ عبد اللّه و الیهود معا یبذلون جهدهم کله فی الاستیلاء علی القدس. و کان العرب مستولین علی معظم المدینة القدیمة فی داخل الأسوار، بینما کان الیهود متمسکین بمعظم المدینة فی خارجها. و کان فی أیدی العرب کذلک التلال المحیطة بالمدینة و الضواحی من جهات ثلاث، و قد نجحوا فی قطع الطریق الوحید الذی یربط القدس بالیهودیة و دولة اسرائیل باستیلائهم علی منطقة اللطرون. و علی هذا فقد اضطر الیهود الی ان یخوضوا قتال شوارع فی داخل المدینة، و ان یقاتلوا فی الوقت نفسه فی اللطرون لفتح الطریق من أجل أن یجیئوا بالرجال و الامدادات الی المدافعین المحصورین بضیق.
و قد کان الجیش الأردنی قبل 15 أیار قد نجح فی اعادة الاستیلاء علی منطقة الشیخ جراح من المدینة الجدیدة، و بذلک عزل جبل الزیتون عن بقیة المدینة الیهودیة. و کانت محلة الیهود فی المدینة القدیمة فی أشد حالات الحصار، و علی و شک أن تستسلم. و کان غلوب پاشا فی تلک الأثناء هو الذی یفرض ستراتیجیة الحرب الفلسطینیة، فثبت الجیش العربی فی اللطرون و اصبح علی استعداد للقتال. لکن بن غوریون عزم علی الاستماتة فی فتح الطریق. فتحشد لواء جدید هو (السابع المدرع) بسرعة فی نعان .. و بعد تأخیرات و معوقات کثیرة شن هجومه المنتظر فی الثانیة بعد منتصف اللیل ففشل فیه، و تراجع الکثیر من جنوده فلم یستول علی اللطرون.
و هنا یأخذ کیمشی بالدفاع عن هذا الفشل و یفسره بتفسیرات سخیفة من جملته ان الجیش العربی الأردنی وصلته امدادات کثیرة، و ان مدیر العملیات العسکریة الکولونیل الشاب أیکال اللون لم یکن متفائلا منذ البدایة لأن اللواء قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 249
سیق علی عجل تنفیذا لأوامر بن غوریون المستعجلة، لأنه أراد الطریق الی القدس ان یفتح قبل ان یحدث ما یجمد الحدود علی حالتها بقرار من هیئة الأمم.
لکن الاستغاثات من یهود القدس أخذت تتوالی، لأن یهود المدینة القدیمة قد نفدت أقواتهم و معداتهم. و کان الشبان عازمین علی الدفاع حتی النهایة، لکن الکبار لم یعد بوسعهم ان یفعلوا ذلک فأرادوا الاستسلام. و کان الهجوم علی اللطرون آخر أمل فی معالجة الموقف، و حینما فشل الهجوم انقطع الأمل فی إغاثة المدینة القدیمة. فاستسلم الیهود فیها، و کان عددهم حوالی اربعمائة یهودی أغلبهم من الشیبة و أزواجهم و أطفالهم فأخذوا الی الأسر. لکنهم عوملوا أحسن معاملة من قبل آسریهم رجال الجیش العربی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 250
و کان استسلام المدینة القدیمة و الاستغاثات الواردة من قائد المدینة الحدیثة قد حفّز بن غوریون و مشاوریه السیاسیین علی العمل. فطلب الی لواء اللطرون ان یحاول محاولة أخری. و تقرر ان یعطی المدفعین اللذین کانا یعملان ضد السوریین، و ان تضاف لهما ثلاثة مدافع من قیاس ست بوصات مع أقل من عشرین قذیفة. لکن القائد الاسرائیلی کان بحاجة الی جنود جدد- فان کتیبة واحدة من البالماخ عدتها (600) مدرّب کان یمکنها ان تعالج الموقف ...
و حینما أدرک بن غوریون ان الاستیلاء علی اللطرون لم یکن من العملیات السهلة کما کان یعتقد البعض من مشاوریه أمرت جماعة من شباب البالماخ بالزحف علی القدس عبر الجبال الوعرة لاسعاف الحامیة المحصورة. و کانت المعدات فی القدس علی وشک ان تنفد.
لکن المدافعین الیهود صمدوا فی المدینة القدیمة، مع انه لم یعد عندهم الا مقدار یسیر من الماء و شی‌ء قلیل من الطعام. و قد تعرض السکان المدنیون الی قصف متواصل من المدفعیة. و تبادل الطرفان المتقاتلان الاستیلاء ست مرات علی مستعمرة رامات راشیل فی الطرف الجنوبی من القدس. و کانت البنوک و الأدیرة و الکنائس قد أصبحت نقاطا مهمة للدفاع. لکن العائق الحقیقی الذی وقف أمام هجمات الجیش الأردنی هو قوة المدافعین الشبان التی ظلت تحارب من دون استجمام، لیس منذ الخامس عشر من مایس فقط بل منذ سبعة أشهر صعبة أیضا- أی منذ کانون الأول 1947- و لم یثبت هؤلاء فی مکانهم فقط و لکنهم أیضا استولوا علی مناطق ستراتیجیة مثل القطمون و البقاع و ثکنات اللنبی التی کانت فی أیدی القوات العربیة. علی ان التحمل الانسانی أخذ یخضع للضغط المتواصل. و قد علم بن غوریون بذلک، و مع هذا فقد أمر بالضغط علی اللطرون.
غیر أن الجیش الأردنی فی اللطرون ظل متمسکا فی مکانه بقوة و عناد.
و مع هذا فقد ساعد هجوم الاسرائیلیین علی اللطرون فی انقاذ القدس، لأن مدفعیة الجیش الأردنی مع رجاله و سیاراته المصفحة نقلت من میدان المعرکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 251
فی القدس نفسها الی اللطرون. و علی هذا الوضع تجمدت الحدود بالتدریج عندما دنت ساعات الهدنة الأولی. و کان مقاتلو الطرفین قد أخذت الحرب منهم مأخذها.
و یذکر کیمشی بعد ذلک ان العرب فی العواصم العربیة استشاطوا غضبا لاعلان الهدنة الأولی لأنهم کانوا مخدوعین بالانتصارات الوهمیة التی کانت تعلن علیهم یومذاک. و بعد ان یذکر (الص 260- 265) ما جری فی مجلس الأمن و أوساط الأمم المتحدة من مناورات، و تمدید أمد الهدنة التی استفادت منها اسرائیل فائدة جلی بشراء السلاح من الجیش البریطانی المنسحب و جیکوسلوفاکیة، و تهریب الطیارات و الطیارین من الولایات المتحدة و انکلترة، و تجنید المأجورین المرتزقة و المتطوعین من العالمین الغربی و الشرقی معا، یقول:
ان اتفاقا غیر رسمی قد حصل بین البریطانیین و الأمریکان من أجل خطة منقحة للسیر بموجبها، و هی ان تقبل بریطانیة بقیام الدولة الاسرائیلیة (کذا) و وجودها، علی ان تقبل الولایات المتحدة لقاء ذلک بان تخصص النقب للعرب.
و هنا یذکر کیمشی ان ما کنیل وزیر الدولة البریطانی قال له ان القتال فی فلسطین یعتبر شیئا ضروریا، لأن سفک الدماء لا بد من ان یقع بین الطرفین حتی یقتنع العرب بأن الدولة الاسرائیلیة قد أصبحت شیئا موجودا بالضرورة، و حتی یقتنع الیهود بأنهم لا یستطیعون الا بالکاد الدفاع عن الحدود المخصصة لهم. و هکذا بدأت الجولة الثانیة.
و کان الیهود یأملون فی الجولة الثانیة ان یستخلصوا الأراضی الفلسطینیة فی الشمال و یفتحوا الطریق الی القدس فی الوسط و بذلک یجبرون الجیش الأردنی علی الانسحاب من شمالی القدس و غربیها .. و قد حدث فی هذه الأثناء ان أمر غلوب پاشا بسحب الجیش من اللد و الرملة اللتین کانتا تحتویان علی ستین ألف نسمة فی ضمنهم عدد کبیر من اللاجئین العرب. فاغتنم الیهود هذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 252
الفرصة و استولوا علیهما بثلاثة ألویة (6000 مقاتل) .
ثم یقول کیمشی: و حینما أخذت الجیوش الاسرائیلیة بالکشف عن خططها، و عندما أخذت المواقع العربیة تنهار، اصبحت القیادة الاسرائیلیة شدیدة الثقة بانها ستفتح الطریق فی هذه المرة الی القدس و تخلص الجلیل الشمالی من العرب. لکن هذا لم یحصل أیضا لأن الهدنة الثانیة قد وقعت. و هنا یذکر کیمشی ان مفتی القدس أخذ یناوی‌ء الملک عبد اللّه و یقود معارضة أخذت الشکل الارهابی المألوف. و لذلک أبقی قسم من الجیش الأردنی فی البلاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 253
الأردنیة، و لم یبق لدی غلوب باشا سوی (3000) مقاتل یدیر بهم جبهته الممتدة الی ثلاثین میلا بین القدس و اللطرون، و یحمی القدس القدیمة ضد أی هجوم قد یحدث. و یعود کیمشی للتعرض بالملک عبد اللّه من جدید فیقول انه کان علی علم بأن اعتباره بین الدول العربیة کان منوطا بجیشه، و لذلک کان هذا الجیش أعز علی نفسه من أیة قطعة أخری من فلسطین. و کان یفضل ان یسحبه بهدوء و سکینة علی ان یترکه معرضا للاندحار او التقلص بسبب الحرب.
غیر ان کیمشی یصرح ان انسحاب الجیش الأردنی لم یساعد الیهود علی الاستفادة من قواتهم فی جهات أخری، بل ساعد العرب علی الحیلولة دون نفوذ الجیش الاسرائیلی الی طریق القدس، و لکن بالکاد. فحینما أعلنت الهدنة الثانیة- بعد تسعة أیام فقط- کانت القوات الاسرائیلیة علی بعد (400) یاردة فقط عن الطریق.
ثم یقول کیمشی فی ختام الفصل: لکن الصورة العامة فی فلسطین کانت تدل علی مقدار غیر یسیر من انتکاس العرب فیها. فقد استطاع الجیش الاسرائیلی خلال الأیام التسعة ان یحتل ألف کیلومتر مربع من الأراضی التی کانت فی أیدی العرب، فجعلت اسرائیل مسیطرة علی (1300) کیلومتر مربع من الأراضی المخصصة للعرب بموجب قرار التقسیم، و ترکت فی أیدی العرب (330) کیلومترا مربعا من الأراضی المخصصة للیهود. و قد احتلت اسرائیل خلال أیام القتال کلها- البالغة 38 یوما- أربع عشرة بلدة عربیة و (201) قریة من مجموع (219) قریة عربیة. یضاف الی ذلک ان (112) قریة أخری من القری الواقعة فی القسم العربی قد تم احتلالها أیضا. و کان العرب قد احتلوا أربعة عشر موقعا یهودیا، من ضمنها محلة الیهود فی القدس القدیمة (انتهی).
لکن الکولونیل عبد اللّه التل قائد معرکة القدس یذکر عن هذه المعرکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 254
فی مذاکراته . فیقول تحت عنوان (سوء الحالة و خطورتها فی القدس بعد 14- 5- 48): استطاعت لجنة الهدنة القنصلیة التی عینها مجلس الأمن لتعمل علی ایجاد هدنة فی القدس، أن تحصل علی موافقة العرب و الیهود علی تمدید تلک الهدنة التی رتبها المندوب السامی، و لا سیما بعد ان فشلت مساعی وفد الصلیب الأحمر الدولی لاعتبار القدس مدینة مفتوحة. و اتفق الطرفان مع لجنة الهدنة علی ان یحتل الیهود ما کان یعرف بمنطقة السلام (C) حول العمارة الروسیة (المسکوبیة) علی ان یحتل العرب منطقتی السلام (A) و (B) ای منطقة الکولونیة الألمانیة و ما حولها و منطقة جمعیة الشبان المسیحیین.
غیر ان الهدنة الجدیدة لم تکد تعقد و یغادر الجنود البریطانیون القدس فی 14- 5- 48 حتی شرع الیهود- خرقا للهدنة- فی احتلال ما بأیدی العرب و ما خصص لهم من مناطق. و کان الدفاع عن القدس العربیة موکولا لجیش الانقاذ و للجهاد المقدس، و لم یکن الفریقان علی استعداد عسکری کاف، و لم یکن الناس یعرفون انه لم تکن من خطة الجیش العربی الاردنی او القیادة العربیة العامة تجنب احتلال القدس. و هکذا احتل الیهود تحت ستار الهدنة و خرقا لها أهم المناطق الستراتیجیة خارج السور و هی: معسکر اللنبی، معسکر العلمین، دیر ابوطور، النبی داود، المسکوبیة، المستشفی الایطالی، نوتردام، المصرارة، باب العمود، سعد و سعید، الشیخ جراح. و لم یبق للعرب خارج السور الا باب الساهرة و وادی الجوز. و کان العرب کلما احتجوا للجنة الهدنة و للصلیب الأحمر علی خرق الیهود للهدنة أجاب الیهود بان الجماعات الیهودیة المنشقة هی المسؤولة عن ذلک، و لا حول لهم فی منعها!
و تحت عنوان (الیهود یحاولون اقتحام القدس القدیمة) یقول الکولونیل التل: و قد تم کل ما سبق ذکره خلال ثلاثة أیام فقط هی یوم 15 و 16 و 17 أیار 1948، ففیها ساءت الحالة لدرجة أصبح معها جمیع سکان القدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 255
العربیة مهددین بالفناء لأن الیهود لم یکتفوا بما احتلوه من مواقع ستراتیجیة بل أخذوا یهاجمون الأبواب الرئیسیة للقدس القدیمة و هی: باب العمود، و باب الخلیل، و الباب الجدید و باب النبی داود، محاولین اقتحام المدینة القدیمة التی احتشد فیها أکثر من ستین ألف عربی نزح أکثرهم من الأحیاء العربیة فی القدس الجدیدة. و فی کل لیلة من تلک اللیالی الثلاث کان العرب فی القدس یتوقعون دخول الیهود من أحد الأبواب للفتک بهم و تدمیر المقدسات العالمیة.
و لکن بطولة جنود الانقاذ و الجهاد المقدس و شرطة القدس استطاعت بقیادة المجاهد الکبیر أحمد حلمی باشا، و القائد خالد الحسینی، و الرئیس فاضل عبد اللّه صدّ الیهود عن الأسوار فی تلک الفترة الحرجة بالرغم من نقص الذخیرة و الفوضی التی دبت فی صفوف العرب نتیجة هجمات الیهود المتواصلة و تأخر الجیش الأردنی عن الوصول الی القدس.
و لذلک لم یکن أمام الهیئات العربیة فی القدس غیر التوجه الی عمان للاستنجاد بالملک عبد اللّه. فذهبت الوفود فی کل یوم من الأیام الثلاثة المذکورة الی عمان و شرحت لجلالته خطورة الحالة، و ذکرنه بقبر والده و بالصخرة و الحرم الشریف و کنیسة القیامة، و فی کل مرة کان جلالته یظهر اهتمامه و اضطرابه و یعد بارسال النجدات. و لا شک فی ان السبب الذی أخّر جلالته عن ارسال النجدة کان الفریق غلوب الذی أسقط القدس من حسابه، و وضع خطة توزیع الجیش العربی بفلسطین علی أساس ان القدس ستصبح یهودیة، و تعلیماته الی الکتیبة السادسة أکبر دلیل علی ذلک.
و تحت عنوان (الزحف علی القدس و انقاذها 17- 5- 48) یقول: و لکن اللّه سبحانه و تعالی أراد حمایة القدس القدیمة فألهم جلالة الملک جرأة خارقة فخالف أمر غلوب، و أصدر موافقته الهاتفیة لی ظهر یوم الاثنین 17- 5- 48 بارسال سریة واحدة الی القدس. فأرسلتها فورا، ثم وافق جلالته علی حرکتی مع بقیة سرایا الکتیبة الی القدس، و خاصة بعد ان أقنعته بأن سریة واحدة لا تکفی لحمایة أحد الأبواب .. و لم تمض لیلة 17- 18- 5- 48 حتی کانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 256
الکتیبة السادسة قد أخلت مراکزها فی الخان الأحمر، و جسر اللنبی، و أریحا و انتقلت الی القدس.
و یذکر الکولونیل عبد اللّه بعد ذلک ان غلوب باشا لم یوافق علی حرکة الجیش الأردنی الی القدس، ثم یشرح توزیعه لقواته علی مختلف أجزاء المدینة، و محاصرة الحی الیهودی و صد هجمات الیهود عن الأبواب، و یأتی بعد ذلک الی ذکر انذار الیهود بالتسلیم، و قصف الحی الیهودی فی القدس القدیمة، و تعاون القوات العربیة الأخری معه. کما یشرح کیفیة انقاذ حی الأرمن، و معرکة باب النبی داود یوم 24- 5- 48 التی صدّ فیها الیهود و خسروا ستین قتیلا، و یأتی بعد ذلک الی ذکر قتال الشوارع و عملیات التدمیر التی قام بها العرب فی الحی الیهودی من القدس القدیمة. و یذکر فی هذه الأثناء شیئا عن الحی الیهودی هذا فیقول:
تبلغ مساحة الحی الیهودی حوالی ربع مساحة القدس القدیمة. و هو عبارة عن منازل قدیمة بنیت قبل أکثر من ألف سنة الا القلیل منها، و ان أغلب منازل الحی وقف اسلامی یعود الی أسر مسلمة. و کان یقطن الحی الیهودی حوالی (1800) یهودی، بینهم کثیر من المحاربین و أغلبهم من الهاغانا و بعضهم من عصابتی الأرغون و شتیرن، اما المدنیون فأغلبهم من الیهود الشرقیین المتدینین. و قبل انتهاء الانتداب کان الجیش البریطانی یحاصر الحی من جمیع الجهات لیقف حائلا بین العرب و الیهود. و کان الانکلیز یمونون الیهود المحاصرین طوال الأشهر الثلاثة التی سبقت جلاء الانکلیز .. و لذا فقد کان الیهود یدخلون الذخائر و الأسلحة مع قوافل المؤن التی کانت تصل الی القدس القدیمة تحت حراسة الانکلیز دون ان یسمح للعرب بتفتیشها.
ثم یذکر السید التل ان الزعیم لاش قائد الفرقة الانکلیزی فی الجیش الأردنی کان یرفض وضع خطة موحدة لتعاون قوات الجیش فی القدس، و ان ضباط المدفعیة الانکلیز کانوا یتجنبون قصف الأهداف المطلوبة، و انه تمکن من إدخال المدرعات الی شوارع القدس القدیمة، و ان مندوب الصلیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 257
الأحمر کروفوازییة الفرنسی کان یساعد الیهود، و ان الیهود قد اعتصموا فی کنائسهم و حصنوها.
و یکتب السید التل عن اعتصام الیهود المحاربین فی الکنیس الیهودی الکبیر أو «قدس الأقداس»Horuva فیقول ان یوم الجمعة 27- 5- 48 کان یوما أسود علی یهود القدس القدیمة، ففیه ضیقنا الخناق علیهم فانکمشت خطوطهم الدفاعیة حتی وصلت الی الکنیس الکبیر و هو أکبر و أقدم کنیس یهودی فی فلسطین، و قد بنی قبل أکثر من مائتی عام، و حینما أنبأنی الرئیس موسی قائد القوات التی تحاصر الحی الیهودی و تهاجمه بان التدمیر و الزحف قد وصل الی الکنیس الکبیر الذی امتلأ بالمحاربین الیهود أخبرت الرئیس ان ینتظر و لا یسمح بالتعرض للمقدسات ریثما أتمکن من تبلیغ انذاری للیهود ..
فاضطررت لاصدار الأمر الی القوة باتخاذ الاجراءات التی تجدها ضروریة لتطهیر المنطقة بما فیها الیهود المستحکمین بالکنیس. و لما لم یجد قائد القوة بدا من نسفه فقد أوعز لفرقة التدمیر بذلک و تمت العملیة و قضی علی المحاربین المتعصبین من الیهود تحت الأنقاض.
و بعد ان یصف الکولونیل التل کیفیة استسلام الیهود فی القدس القدیمة و أسرهم، یدون ملاحظات عامة عن هذه المعرکة الخطیرة نورد فیما یأتی اهمها:
1- کانت تلک المعرکة أهم معرکة خاضتها الجیوش العربیة فی حرب فلسطین لانها أتت بنصر تاریخی لا تنمحی آثاره، فقد کانت السبب فی بقاء القدس القدیمة و ما جاورها من الأحیاء فی أیدی العرب حتی یومنا هذا (أی الی ان استولی الیهود علی الضفة الغربیة کلها من الأردن فی نکبة 5 حزیران 1967).
2- قتل فی تلک المعرکة ما یزید علی (300) یهودی من المحاربین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 258
المتعصبین، بینهم (136) من عصابة الأرغوت، و جرح (80) وجدناهم فی المستشفی و کانت جراح نصفهم خطیرة.
3- أخذنا من الیهود (340) أسیرا و هو العدد المماثل تقریبا لما أخذناه من مستعمرة کفار عصیون، و بذا یکون هذا جمیع الأسری الیهود لدی الجیش العربی و هم المجموعة الوحیدة لدی الجیوش العربیة.
4- دمر الحی الیهودی و لم یبق فیه مکان الا أصیب بأضرار فادحة مما یجعل عودة الیهود الیه أمرا مستحیلا.
5- طهّرت القدس المقدسة من الیهود و لم یبق بها یهودی واحد و ذلک لاول مرة منذ الف عام.
6- ظهر ان الیهود المتعصبین یقاومون کثیرا و یحسنون الدفاع. و انی أشهد بان یهود القدس القدیمة قد صبروا و احتملوا مرارة الحرب الی آخر حد.
7- کان لهذه المعرکة نتائج خطیرة بعیدة المدی، فقد حفظت القدس المقدسة عربیة و جعلت منها من الوجهة الحربیة دعامة للجناحین: الجناح الأیمن نابلس و الجناح الأیسر منطقة الخلیل. و لو لا معرکة القدس القدیمة لما بقیت الضفة الغربیة بأیدی العرب، إذ لو أن القلب و هو القدس سقط- لا سمح اللّه- فان الیهود کانوا ینزلون الی أریحا فی وادی الأردن و یقطعون اتصال الأردن بالضفة الغربیة فتنهار الجبهة کلها. (و هذا ما حصل مع الأسف فی 5 حزیران 967).

مقتل الوسیط الدولی الکونت برنادوت

کانت الهیئة العامة للأمم المتحدة قد قررت قبیل انتهاء الانتداب البریطانی علی فلسطین فی 15 مایس 1948 تعیین وسیط مفوض من هیئة الأمم یختاره ممثلو الدول الکبری. و لم یتم الاتفاق علی شخص هذا الوسیط الا بعد ان زحفت جیوش الدول العربیة الی فلسطین بخمسة أیام، حیث تم الاتفاق علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 259
تعیین الکونت برنادوت السویدی. و یقول جون کیمشی (الص 258) ان الانکلیز هم الذین تولوا ترشیحه و دعمه، لیبرهن علی انه کان مسیرا من قبلهم. و یذکر ان الکونت کتب فی مذکراته ان أول من زاره عند وصوله الی پاریس مقر اجتماع الأمم المتحدة فی تلک السنة فی یوم 25 مایس کان المستر أشلی کلارک القائم بالأعمال البریطانی فی پاریس. و قد أخبره «بان الحکومة البریطانیة لم تکن مستعدة فی ذلک الوقت لتتخذ أیة خطوات معادیة للعرب». ثم یقول کیمشی: و قد قیل له فی الحقیقة ان الحکومة البریطانیة کانت لا تزال تقدم الأسلحة للعرب، و ان الضباط البریطانیین الذین کانوا قد عیّنوا مدربین یقومون بدور فعال فی الحرب کذلک. حتی و لو لم تکن الدوائر البریطانیة میّالة الی قبول الاقتراح الأمریکی باعتبار ما قامت به اندول العربیة خرقا لوثیقة الأمم المتحدة و قرارها فی التقسیم.
الکونت برنادوت الوسیط الدولی الذی قتله الصهیونیون فی القدس بتاریخ 17/ 9/ 948
و لم یکن ممثلو الحکومة البریطانیة بطیئین فی الوقت نفسه فی أن یبینوا للکونت بحذر الخطوط التی یمکن ان یسیر علیها فی وساطته حتی تکون مثمرة و حتی یستطیع التمتع بالتأیید البریطانی فی العواصم العربیة علی الأقل. فان الحکومة البریطانیة کانت ترید إجراء تعدیل فی خطة التقسیم التی قررتها الأمم المتحدة بان یعطی القسم الجنوبی من النقب الی عبد اللّه و لیس الی الیهود، و ان یأخذ الیهود الجلیل الغربی عوضا عن ذلک. و ان یأخذ عبد اللّه مدینة القدس بأکملها أیضا.
و قد وصل الکونت برنادوت قبیل هدنة الحادی عشر من حزیران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 260
الی مقره فی رودس، فکان مساعده الدکتور پنتش قد أحضر له قرار التقسیم.
و حینما زار فلسطین و البلاد العربیة هو و مرافقوه قوبلوا بالشک و الازدراء من العرب و الاسرائیلیین معا، فقد کان العرب لا یثقون بأی شی‌ء یصدر من الأمم المتحدة التی یرون أنها هی السبب فی جمیع ما وقع فی فلسطین من بلایا و اضطرابات. لکن هذا لم یمنع الرؤساء العرب من معاملة بعثة برنادوت بأکثر ما یکون من الود و الضیافة التقلیدیة المعروفة عنهم، اما الیهود فی تل أبیب و سائر أنحاء اسرائیل فقد استثارهم وجود برنادوت و المراقبین الذین جاءوا فی معیته .. و ظلوا خلال الأیام التی أخذت تنتهی فیها هدنة الأسابیع الأربعة ینتظرون بقلق مقترحات الکونت الجدیدة. و قد عرفت هذه فی نهایة الأسبوع الثالث من أسابیع الهدنة، أی فی بدایة تموز 1948.
و اذا کان الاسرائیلیون یشکون فی تعاطف الکونت مع العرب فقد أزالت هذه الشکوک المقترحات الجدیدة التی لم تکن تختلف عما اقترحه علیه البریطانیون بصورة غیر رسمیة. فقد اقترح ان توضع القدس کلها- القسم العربی و الیهودی- تحت حکم الملک عبد اللّه. علی ان تحتفظ اسرائیل فی مقابل ذلک بالجلیل الغربی. و لم یکن قد اقترح ذلک أحد من قبل. فقد کانت هناک مقترحات حول تدویل المدینة المقدسة، و لکن الآن ای بعد سبعة و عشرین یوما من الهجمات غیر المجدیة علی المدینة الیهودیة، و بعد جمیع ما عاناه یهود القدس من حصار یأتی الکونت بکل برود فیقترح ان یقدم لعبد اللّه ما فشل فی الحصول علیه فی قوة السلاح (کذا). و لم یکن ذلک غلطة خطیرة أثرت علی وضع الکونت فی اسرائیل فقط، و انما کان ایضا خطأ سیاسیا بالنسبة لعلاقاته بالعرب. فقد أثار بهذا شهیة الملک عبد اللّه، الذی اعتبر الاقتراح تأییدا من هیئة الأمم المتحدة لادعائه (بملوکیة) القدس جمیعها. فأزعج ذلک المصریین و السوریین الذین لم یکونوا یریدون ان یستحوذ عبد اللّه علی القدس. و الحقیقة ان هذا المقترح الاستثنائی قد جعل استئناف القتال شیئا مؤکدا فی نهایة الهدنة لأن القدس قد تبدل وضعها خلال مدة «وقف اطلاق النار» من کونها جبهه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 261
منسیة الی اعتبارها أهم جبهة فی فلسطین.
هذا و یلاحظ ان جون کیمشی الصهیونی لم یذکر فی کتابته هذه شیئا عن مقتل الکونت برنادوت الا باشارة عابرة، لان العمل الشنیع هذا یعتبر و صمة عار علی کل دولة تقع فیها هذه الجریمة النکراء المدبرة، و استهتارا بجمیع القیم الانسانیة و الأعراف الدیبلوماسیة، لا سیما و ان القتیل لم یکن یناوی‌ء اسرائیل فی الحقیقة کما یفهم من مغالطات کیمشی، و انما کانت أول فقرة من مقترحاته تدعو العرب الی الاعتراف بأن اسرائیل اصبحت حقیقة واقعة.
علی أننا لاحظنا فی کتاب (جندی بین العرب) لمؤلفه غلوب پاشا فی فلسطین، انه یصف هذا الحادث الألیم بشی‌ء غیر یسیر من الدقة. فهو یقول (الص 181): «کان برنادوت قد طار فی صباح الجمعة الموافق 17 أیلول 1948 من مطار دمشق و نزل فی قلندیة، شمالی القدس. و استقل سیارته الی الرملة للمداولة مع لاش (قائد فرقة الجیش الاردنی). و فی خلال الحدیث أشیر الی حصول ازدیاد فی نشاط القنّاصة فی القدس. و قد طلب الیه لاش بان یقبل باستصحاب سیارة مصفحة من سیارات الجیش العربی الاردنی لحمایته.
کما اقترح علیه أحد مراقبی الأمم المتحدة بأن یؤجل زیارته الی القدس فی ذلک الیوم. فرفض ذلک و هو یقول «لا یمکن ان نسمح لأنفسنا بان یعیقها الخوف عن عملها». فصحبت الکونت سیارة مصفحة من الرملة الی القدس، حیث عبر الی المنطقة الیهودیة .. و تغدّی فی دار «الوای أیم سی أی» فی القدس مع جماعته و عدد من مراقبی هیئة الأمم المتحدة. و بعد الغداء استقل السیارة فسارت به مع سیارتین أخریین الی دار الحکومة، أی المسکن السابق للمندوب السامی البریطانی. و بعد تفقد الدار و الحدیقة المحیطة بها، و مشاهدة المدینة من أعلاها، عادت الجماعة الی القدس. و بینما کانت السیارات تسیر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 262
فی محلة القطمون اعترضت طریقها فجأة سیارة جیب کانت تقف فی منتصف الطریق. و حینما وصلت الیها سیارات الکونت و جماعته تظاهر سائق الجیب بمعالجة جهاز التبدیل فیها، و صار یسوق سیارته الی الخلف و الأمام، حتی وقف أخیرا فی منتصف الطریق أیضا. و کان فی سیارة الجیب أربعة رجال یرتدون ألبسة الجیش الاسرائیلی المعروفة. کما کانت قافلة الکونت تتألف من ثلاث سیارات تقل موظفین فی الأمم المتحدة و ضابط ارتباط إسرائیلی.
و لم تکن ترافق هذه السیارات أیة حمایة اسرائیلیة، کما لم یکن أحد من جماعة الکونت یحمل السلاح.
و قد قفز ثلاثة من رکاب سیارة الجیب الیهودیة الی الخارج و ساروا نحو قافلة هیئة الأمم المتحدة التی وجدت نفسها مجبرة علی التوقف لأن السیارة الیهودیة سدت الطریق فی وجهها. و کان الکونت برنادوت فی السیارة الثالثة أو الأخیرة، فمشی الیه أحد الاسرائیلیین من جهة بینما سار الاثنان الآخران من الجهة الأخری و ذهبوا الی السیارة الثالثة رأسا، بینما بقی السائق فی سیارة الجیب نفسها. و قصد الاسرائیلی المنفرد شباک السیارة القریب من الکونت، فظن رکابها انه جندی یهودی جاء یسأل عن الرخص التی تسمح لهم بالمرور و أخذوا یخرجونها من جیوبهم. و فجأة أدخل الجندی الاسرائیلی فوهة مسدس أوتوماتیکی من الشباک فأطلق صلیة منه علی الکونت و أخری علی الکولونیل سیرو الفرنسی، الذی کان یجلس فی جانب الکونت. و سحب الاسرائیلیان الآخران مسدسیهما الأوتوماتیکیین فأطلقا منهما النار علی عجلات السیارات و أجهزة التبرید (الرادیاتور)، لیمنعاها عن التعقیب علی ما یظهر. و بعد ذلک قفز الثلاثة الی سیارتهم الجیب التی اختفت عن الأنظار بکل سرعتها.
و قد شوهدت سیارة نقل ملأی بالجند الاسرائیلی، واقفة علی بعد أربعین یاردة من مکان الحادث. و عرف فیما بعد ان القتلة کانوا ینتظرون فی سیارتهم قبل وصول برنادوت بساعة علی الأقل. و قد أصیب الکونت بست طلقات مرت إحداها فی القلب فقضت علی حیاته فی الحال. أما الکولونیل سیرو فقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 263
أصیب بسبع عشرة إطلاقة. و أرسل القتلة الذین کانوا ینتمون الی عصابة شتیرن الیهودیة الارهابیة الکتاب التالی الی الصحف:
«بالرغم من أن جمیع مراقبی هیئة الأمم المتحدة هم فی نظرنا أفراد قوات احتلال أجنبیة، لا یحق لها ان تکون موجودة فی بلادنا، فان مقتل الکولونیل سیرو الفرنسی کان سببه غلطة ممیتة: فقد ظن رجالنا ان الضابط الذی کان یجلس الی جنب الکونت برنادوت کان الجاسوس البریطانی المعادی للسامیة الجنرال لوندستروم». و کان الجنرال لوندستروم من ضباط الجیش السویدی و رئیسا لمرافقی الکونت برنادوت نفسه.
و یقول کلوب و قد نقل جثمان الکونت الی حیفا فی یوم 18 أیلول، فمر موکبه بمواقعنا باللطرون فحیاه حرس شرف من الجیش العربی الأردنی لآخر مرة .. و قد انتظرنا بقلق بالغ ما یمکن ان یحصل بعد هذا الحادث الألیم. فقد کان الکونت ممثلا لهیئة الأمم المتحدة، و قریبا من أقارب ملک السوید، و رجلا کرّس حیاته للأعمال الخیریة و الانسانیة. و کنا نعتقد جازمین بأن هیئة الأمم سوف تنزل عقوبة قاسیة بالذین قتلوا ممثلها مثل هذه القتلة الشنیعة. و حینما مرت الأیام و لم یحصل شی‌ء، بدأنا ندرک ببطء مقدار العجز الذی تتصف به هیئة الأمم المتحدة. و لم تفرض أیة عقوبة علی ما نعلم، و الحقیقة أنه نادرا ما صدر ای انتقاد من الجهات التی یعنیها الأمر».
اما الکولونیل عبد اللّه التل، قائد معرکة القدس، فیقول (الص 348):
و فیما یتعلق بالکونت برنادوت أخذ الیهود یهاجمونه علنا و یتهمونه بالوقوف فی طریق تکوین اسرائیل، و ذلک قبل تنفیذ أمر اغتیاله ببضعة اسابیع. و کانت التهم التی توجه له عجیبة متناقضة، لانه کان- و الیهود یعرفون- من أکثر العاملین علی خلق دولة اسرائیل و حمایتها .. و لما کانت العصابات الیهودیة جزءا لا یتجزأ من کیان الیهود لأنها أسهمت الی حد کبیر فی بناء ذلک الکیان فقد تغاضت السلطات الیهودیة عن أعمال العصابات الاجرامیة و لا تزال تشرف اشرافا کلیا علی أعمال الاجرام السیاسی. و قد نجحت فی ذلک لأن هذا الاجرام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 264
خدم أغراضها و أخاف أمریکا و بریطانیة و معظم الدول الغربیة ..
و کان برنادوت یقوم باحدی جولاته العادیة، و حینما وصل الی القدس بعد ظهر الجمعة 17- 9- 48 قدم الجیش الأردنی الحراسة اللازمة له ابتداء من مطار قلندیة حتی الحدود العربیة الاسرائیلیة (ماندلبوم). و من الحدود الیهودیة سار برنادوت و أرکان حربه الی دار الحکومة، و بعد أن أنهی بعض الأعمال هناک عاد الی الأحیاء الیهودیة فی الرابعة و النصف بعد الظهر. و فی أحد شوارع الیهود اعترض طریق سیارته بعض المسلحین من الیهود. فأوقفت سیارة برنادوت و تقدم الیها الیهود. و بکل سهولة و طمأنینة أطلقوا النار علی صدر الکونت، و علی رأس سیرو الذی کان راکبا بجانب الکونت فی المقعد الخلفی، و لم یعتدوا علی رئیس المراقبین الأمریکی الکولونیل بیچلی الذی کان بجانب السائق .. و قد أسف العرب لمقتله لأنهم عرفوا فیه طیبة القلب، و سمو الأخلاق، بالرغم من مشاریعه لحل قضیة فلسطین، تلک المشاریع التی لم یخل واحد منها من ایجاد الدولة الیهودیة. اما الکولونیل الفرنسی سیرو فقد أحزن موته جمیع سکان القدس العرب لأنهم عرفوه فی الهدنتین الأولی و الثانیة، یوم کان یتجول علی المراکز الأمامیة البعیدة مخاطرا بنفسه فی سبیل القیام بواجبه علی أحسن وجه. و قد اغتاله الیهود لأنهم اعتقدوا أنه کان صدیقا للعرب.
اما السلطات الیهودیة فقد تظاهرت بالأسف العمیق و أو عزت للصحف بأن تدعی الحزن و تستنکر الجریمة البشعة، و وعدت بالقاء القبض علی الجناة.
و من أجل تضلیل الرأی العام العالمی. جمعت السلطات الیهودیة أکثر من مائة شخص و حققت معهم صوریّا ثم ترکتهم بعد ان لم تجد ما یدینهم کما هو المعتاد. مع ان الجناة معروفون للیهود و للعرب علی السواء، و هم أفراد عصابة شتیرن و لم تحاسبهم الحکومة لأنها کانت الموعزة بتنفیذ ما وقع.
و یؤید ما جاء فی أقوال الکولونیل عبد اللّه التل، عن برنادوت و سعیه فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 265
کل مشاریعه لایجاد الدولة الیهودیة فی فلسطین، قول الکاتب الامریکی الصهیونی جوزیف دونر فی کتابه (جمهوریة اسرائیل). فهو یقول عن تقریره و مقتله (الص 108) و قد أصبح هذا التقریر شهادته التی أدین بها، لأن إرهابی «جبهة أرض الآباء» التابعة لعصابة شتیرن علی ما یتضح قد قتلوه فی 17 أیلول. و قد أحزنت وفاته العالم کله، و شجبت العمل الحکومة الاسرائیلیة (کذا) فاعتبرته جریمة نکراء و عملا من أعمال الخیانة للجیش الاسرائیلی، و تحدیا لسلطة الأمم المتحدة. (و هذه مغالطة من المؤلف لا یؤیدها الواقع الذی وصفه المستر غلوب فی الفقرات التی اقتبسناها من کتابه).
فان أبرز ما یمیز تقریر برنادوت عن توصیاته السابقة اعترافه الذی لا یقبل التأویل بالدولة الیهودیة. و یدل علی ان کاتبه قد تأثر تأثرا عمیقا بالمجهود الحربی الذی بذله الیهود. و لم یکن هناک ما یدل علی ان العرب سیعترفون بالدولة الاسرائیلیة، لکن تفاؤل برنادوت کان مبنیا کما یتضح علی قناعته بان العناصر المتعلقة فی العالم العربی کانت قد بدأت تدرک بأن اسرائیل قد وجدت لتبقی.
و کان برنادوت نفسه رجلا واقعیا. فحینما أصبح یلمس بان الواقع قد تبدل، لم یتردد فی تغییر رأیه هو نفسه. و منذ ان کسب الیهود الحرب کان هو قد بدّل الموقف الذی کان قد اتخذه فی مقترحات 27 حزیران و کدّس مؤازرته من دون تحفظ للدولة الاسرائیلیة. علی ان معالجة الأمر بهذا الأسلوب تنطوی علی نقاط ضعف فیها. فهی تقلل من تأثیر النظرة الأخلاقیة و من أهمیة الأحکام الدولیة غیر المتحیزة. حیث انها تعود بالبشریة الی القاعدة القدیمة المخطرة التی تقول: الحق للقوة. لکن الخطأ لا ینطوی کله فی برنادوت نفسه، لأن سیاسته کانت تنعکس فیها الأحوال العالمیة الجاریة یومذاک، موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 266
و العجز الأساسی الذی کانت تتصف به هیئة الأمم المتحدة فی فرض أحکامها.
فما قاله برنادوت فی تقریره الی عالمنا هذا کان یفهم منه «ان واقع الحال هو ان الاستیلاء و الاندحار فی الحرب لا یزالان هما القوی المکونة للواقع السیاسی و کل شی‌ء آخر ما هو الاستار من الدخان».

مقتل الملک عبد اللّه فی المسجد الأقصی

لقد أدت الحوادث الألیمة التی وقعت فی فلسطین علی أثر قرار هیئة الأمم المتحدة القاضی بتقسیم فلسطین الی حصول هزات و تطورات کثیرة فی العالم العربی، الذی یبدو انه استفاق علی واقعه المؤلم وضعفه البارز تجاه الأطماع الأمبریالیة و المناورات الدولیة العنیفة فوجد نفسه متخلفا عن الرکب الحضاری، و أموره مسلمة فی أیدی اناس تتلاعب بهم المصالح الاستعماریة، و تسیّرهم الأطماع الشخصیة لدرجة غیر یسیرة. و من أهم هذه التطورات و أبرزها ما أدی الی اغتیال الکثیر من الشخصیات العربیة البارزة، و حصول انقلابات و تبدلات حکومیة کثیرة. و لقد سجل المستر غلوب فی کتابه (جندی بین العرب )، فی معرض ما کتبه عن اغتیال الملک عبد اللّه، عددا من هذه الحوادث. فهو یقول: و بعد مقتل الملک نشرت إحدی الجرائد القاهریة قائمة بالشخصیات العربیة التی لقیت مصرعها خلال السنوات الخمس المنحصرة بین سنتی 1946 و 1951. و هی تحتوی علی ملکین: هما عبد اللّه ملک الأردن و الامام یحیی ملک الیمن، و علی رئیس جمهوریة واحد هو حسنی الزعیم رئیس الجمهوریة السوریة، و أربع رؤساء وزارة هم: أحمد ماهر پاشا، و النقراشی پاشا، من رؤساء الوزارة فی مصر و محسن البرازی السوری، و ریاض الصلح اللبنانی، و علی قائد عام عسکری واحد هو سامی الحناوی السوری، مع رئیس الأخوان المسلمین فی مصر الشیخ حسن البنّا، و وزیر واحد هو أمین عثمان المصری، و عدد من مدیری الشرطة و القضاة. و حصلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 267
محاولات غیر ناجحة أخری للقتل استهدفت عددا آخر من رؤساء الوزارة، و الوزراء و غیرهم من الشخصیات المرموقة.
و لا شک ان اغتیال الملک عبد اللّه فی القدس کان أبرز هذه الحوادث و أهمها. و یصف المستر غلوب فی کتابه جندی بین العرب الحادث فیقول:
«.. و کان من المقرر فی یوم الخمیس 19 تموز 1951 ان یحضر الملک استعراضا للقوة الجویة الأردنیة، فقد کان تواقا جدا الی خلق قوة جویة للأردن. إذ کان من المعتقد أن اسرائیل کانت تملک مائتی طیارة .. و فی ذلک الصباح تسلم الملک کتابا غفلا من التوقیع جاء فیه انه سیقتل هو و أنا- أی غلوب- و کنت قد أعلمت بان أذهب الی القصر و اصطحب الملک الی المطار، و حینما وصلت الی هناک سلمنی ذلک الکتاب .. و مع ان الاستعراض کان بمقیاس صغیر جدا، فانه کان علی أحسن ما یکون، و کان الملک بادی الانشراح. و قد تغدینا فی المطار، ثم طرنا الی القدس حیث کان یرید ان یبیت فیها. و کان جلالته شغوفا بالقدس و یرغب علی الدوام فی ان یصلی فی الشیخ شحادة حسن فائق الانصاری شیخ الحرم القدسی مسجدها أیام الجمع. و فی صباح الجمعة استقل السیارة الی نابلس لیقضی الوقت فیها حتی یحین موعد الصلاة فی المسجد الأقصی عند الظهر. و هناک شرب القهوة مع سلیمان بک طوقان رئیس البلدیة و جلس یتحدث لمدة ساعة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 268
و عند ذاک نظر سلیمان بک الی الساعة و خاطب الملک یقول ان الوقت لا یتسع لعودة جلالته الی القدس و الصلاة فیها، ثم اقترح علیه ان یؤدی صلاة الجمعة هذه المرة فی جامع نابلس. لکن الملک لم یوافق، و أجاب یقول: ان العرب تقول ان المکتوب علی الجبین لا بد من ان تراه العین.
و قد کنت منذ ان اغتیل ریاض الصلح قبل ثلاثة أیام أشعر بتوتر و قلق.
فکلفت الکولونیل حابس المجالی بمرافقة الملک، و أخبرته بان یکون حذرا و لا سیما عند الصلاة فی الجامع الأقصی. و خطر فی بالی بأن أخابر مدیر شرطة القدس فأحثه أیضا، علی ان یکون حذرا بصورة خاصة فی أثناء الصلاة فی المسجد، لکننی عدلت عن ذلک و قلت لنفسی إنهم کلهم یعرفون واجبهم».
و یتابع المستر غلوب سرد القصة فیقول: «و قد دخل الملک الی الساحة الکبری التابعة للمسجد الأقصی فی القدس قبیل الثانیة عشرة بقلیل، فکانت محتشدة بآلاف لا تعد و لا تحصی من الناس کما هو المعتاد فی صلاة الجمعة.
ففتح الناس مسیرا ضیقا سار فیه الملک، و الجمع المکتظ یضایقه من کل جانب.
و کان هو یهوی التحدث مع رعایاه، فوقف عدة مرات لیکلم الذین عرفهم من الناس، و لذلک أحاط به الکولونیل حابس و جماعة من المرافقین لیحاولوا صدّ الناس عنه، لکن الملک التفت الیه بتأثر و خاطبه بقوله: لا تحبسنی یا حابس.
و حینما اقترب الملک من باب المسجد الأقصی حاول حابس و جماعته ان یحیطوا بالملک من جدید، فکرر قوله له: لا تحبسنی یا حابس. و تجاوز الملک العتبة بعد ذلک و من خلفه الحاشیة بأجمعها، فدنا منه شیخ المسجد الوقور بلحیته البیضاء الطویلة و حاول تقبیل یده. و فی تلک اللحظة بالذات خرج رجل من وراء الباب الکبری فوجد نفسه قریبا من الملک، و علی بعد یاردة واحدة منه. فأخرج مسدسه و أطلق منه إطلاقة صوبها نحو رأسه. فدخلت من خلف أذنه ثم خرجت من عینه. و عند ذاک سقط میتا الی الأمام علی ساحة المسجد، و راحت عمامته البیضاء تتدحرج فوق الأرض المبلطة بالرخام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 269
و قد أخذ القاتل یطلق النار من مسدسه یمنة و یسرة من دون هدی، حتی خف الیه رجال الحاشیة فقتلوه بدوره».
و بعد ان یصف غلوب کیفیة سماعه للخبر و دعوته الی مکتب رئیس الوزراء، سمیر الرفاعی، حیث وجده مع الوزراء یبکون بدموع غزیرة، و بعد ان یذکر استدعاء الجیش لمحافظة عمان و القدس التی نهبت فیها بعض المخازن قبل حضور الجیش، یقول انه علم فیما بعد ان رئیس الوزراء کان قد نبّه الملک قبل یوم اغتیاله و رجا منه ان یکون حذرا فاجابه الملک عبد اللّه بقوله: «انی اؤمن باللّه فبیده حیاتی».
و یعلق المستر غلوب علی الحادث بقوله «لقد ثبت ان اغتیال الملک قد وقع بتحریض من أقارب مفتی القدس السابق الحاج أمین الحسینی. و قد حوکم المتهمون فی محکمة خاصة فحکم علی أربعة منهم بالاعدام، و کان القاتل الفعلی قد قتله مرافقوا الملک عند وقوع الحادث. و اتهم المدعی العام کذلک عبد اللّه التل بکونه کان من المحرضین الثانویین علی الاغتیال، و لا یخفی انه کان یعمل مع المفتی فی مصر. و قد دعیت لأدلی بشهادتی عن عبد اللّه التل و خدماته فحکم علیه بالاعدام غیابیا. و حینما نشر خبر هذا الحکم عقد عبد اللّه التل مؤتمرا صحفیا فی القاهرة اتهمنی فیه بأنی قد لفقت التهمة ضده. حیث قال «لو کان القتیل غلوب باشا لکنت أنا قاتله، اما الملک عبد اللّه فلا».
و من الکتاب الغربیین الذین یشیرون الی مقتل الملک عبد اللّه فی القدس کذلک الکاتب الایطالی فرانسیسکو غابرییلی، استاذ العربیة فی جامعة روما و الخبیر فی الشؤون العربیة و الاسلامیة، فی کتابه (البعث العربی )، الذی ترجمه الی الانکلیزیة المستر لوفیت أدوردز. فهو یقول (الص 129): موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 270
«.. ان سیاسة الدولة الهاشمیة الأخری، المملکة الأردنیة، کان یسیطر علیها الی حین موته المفجع فی القدس الملک عبد اللّه، آخر من بقی فی المیدان من أیام ثورة الحسین و لورانس العربیة. و کان العربی الوحید الذی حصل علی شی‌ء ما من الحرب مع اسرائیل المولودة حدیثا و لیس من الکثیر ان نحسب ان النزاع العربی- الاسرائیلی لو کان منحصرا بالأردن لکان وجد وسیلة للتوافق بین الطرفین بمرور الزمن .. و قد استمر عبد اللّه، فی المملکة الأردنیة المتوسعة، یعلق آماله علی وحدة الهلال الخصیب الذی خرج أبوه من موطنه فی البادیة من أجله. و هذا ما یمس الاقلیمیة السوریة و اللبنانیة بعض المساس و یمسّ المتطرفین المناوئین للیهود بامکان اتفاق مع اسرائیل. فانتهی أمر ذلک الملک عبد اللّه یغادر المسجد الاقصی بعد صلاة الجمعة، و قد اخذت هذه الصورة قبیل اغتیاله فی مناسبة مماثلة بتاریخ 20/ 7/ 1951
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 271
کله باغتیاله فی القدس یوم 20 حزیران 1951، الذی تم علی ید رجل من أتباع مفتی القدس أمین الحسینی ..»

تدویل القدس

کان آخر عمل قام به الوسیط الدولی الکونت برنادوت قبل ان یغتاله الیهود هو أنه أعد تقریرا وضع فیه مقترحات جدیدة، و رفعه الی سکرتیر هیئة الأمم لمتحدة التی کانت منعقدة فی باریس یومذاک. و بعد ذلک بست ساعات وقع حادث الاغتیال فی القدس، و الظاهر ان العصابات الیهودیة کانت قد اطلعت علی ما جاء فی المقترحات الجدیدة فلم یرقها ما جاء فیها، و لا سیما ما یختص منها باخراج النفب من أیدیهم و بتدویل منطقة القدس. و کانت جمیع قرارات هیئة الأمم المتحدة حول فلسطین تقضی بتدویل القدس، لکن الفکرة من أساسها لم تنفذ لان الیهود لم یقبلوا بها من جهة، و لأن المملکة الأردنیة لم تتنازل عن حقها فی المدینة المقدسة و ما حولها من جهة أخری. و علی هذا الأساس بقیت القدس الی یوم النکسة العربیة المریعة (5 حزیران 1967) مقسمة الی قسمین: القدس الجدیدة و یحتلها الیهود فیعتبرونها عاصمتهم، مع ان معظم أحیائها قبل الکارثة کانت عربیة و معظم القری حولها و الملحقة بها عربیة، و 98% من أملاکها و أراضیها تعود للعرب، و القدس القدیمة التی صارت جزءا من المملکة الأردنیة الهاشمیة، و هی علی صغر مساحتها و ضآلة أملاکها تمتاز بوجود المقدسات الاسلامیة و المسیحیة فیها، و لا سیما المسجد الأقصی و کنیسة القیامة .
و الظاهر ان الأسباب التی دعت المملکة الأردنیة الی التمسک بالقدس تختص بسلامة المملکة نفسها، و أهمیة الأماکن المقدسة فی نظرها. و تورد فیما یأتی ما کتبه المستر غلوب فی الموضوع، و هو یبین وجهة النظر الأردنیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 272
یومذاک بطبیعة الحال. فقد کتب یقول فی کتابه (جندی مع العرب) الص (291):
«.. کانت من المشاکل الحساسة خلال السنین الممتدة من 1948 الی 1951 مشکلة تدویل القدس. فقد صرفت لجنة الوصایة العائدة لهیئة الأمم المتحدة أشهرا طویلة فی وضع دستور دقیق للمدینة المدولة. لکن المشروع، مثل غیره من مشاریع هیئة الأمم المتحدة، ولد میتا بسبب عدم وجود قوات دولیة تعمل علی تنفیذه بالقوة. و قد وافقت اسرائیل علی تدویل الأماکن المقدسة فقط، لأنها کانت فی أیدی المملکة الأردنیة بطبیعة الحال. اما من الناحیة العملیة فان المدینة القدیمة المسورة کانت هی الحصن المنیع الذی ساعد العرب علی التمسک بالقدس. و لذلک فان تجرید هذا القسم من السلاح، دون القسم الیهودی، سیکون بطبیعة الحال فی صالح اسرائیل لدرجة کبیرة، من الناحیة العسکریة.
لقد کانت القدس مدولة حقا فی مشروع التقسیم الذی وضعته هیئة الأمم المتحدة عام 1947، لکنها کانت یومذاک جزیرة فی وسط منطقة عربیة من کل جانب من غیر ان یکون لها اتصال طبیعی باسرائیل. فبشکلها ذاک کانت الأردن ترحب بتدویلها أیضا. لکن اسرائیل منذ ذلک الوقت قد ربطت القدس بالسهل الساحلی عن طریق ممر واسع عملت علی فتحه. و لذلک أصبحت ایة خطة توضع لتدویل القدس بحالتها التی توصلها الی اسرائیل شیئا مخطرا یهدد سلامة الأردن.
فلو نظرنا الی القدس من ناحیة مقطعها العرضی، نجد انها تقع فی قمة الهضبة التی تکونها الجبال الفلسطینیة. اذ تنخفض البلاد المحیطة بها من الشرق انخفاضا یبلغ (4000) قدم الی قعر وادی الأردن. علی أنها من الجهة الغربیة لیست کذلک. و هناک جبال أخری تبلغ فی علوها علو القدس نفسها فی حدودها الغربیة. و لذلک فاذا ما سحبت کل من الأردن و اسرائیل جیوشها من المدینة نفسها تصبح اسرائیل فی غرب المدینة و فی نفس مستواها المرتفع،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 273
فتستطیع و الحالة هذا ان تنقضّ علیها فی أی یوم کان خلال دقائق معدودة فتحتلها. بینما تکون الأردن من ناحیة أخری بعیدة عنها و فی مستوی ینخفض عن مستواها بمقدار ألفی قدم فی انحدار شدید الهبوط فی الوقت نفسه. اما بالنسبة لمشروع 1947 فیکون الجیش الاسرائیلی بعیدا عنها جد البعد فی السهل الساحلی.
غیر ان هذه الاعتبارات العسکریة البحتة لم تکن کل شی‌ء فی الموضوع.
فقد أرید للقدس بموجب الدستور الذی وضعته هیئة الأمم المتحدة بان یحکمها مجلس منتخب یعین من فوقه حاکم یتبع لهیئة الأمم المتحدة. و قد سبق للیهود ان تکونت لهم فی المنطقة أکثریة عددیة من السکان، و بهذا تستطیع السیطرة علی شؤون المدینة ثم یقول غلوب: و بالنظر للعداء المستحکم بین العنصرین یکون من السهل علینا ان ندرک بان الأقلیة العربیة لا بد من ان تصبح فی وضع صعب بالنسبة لمجلس المدینة. فالی جانب طغیان الأکثریة الیهودیة علی العرب تستطیع من نواح أخری ان تضغط علیهم بأسالیب و طرق تضطرهم الی بیع ما یملکون و الرحیل الی خارج المنطقة، حیث یستطیعون السکن بحریة فی عمان أو غیرهما.
و هکذا یبدو لنا ان القدس سرعان ما تکون تحت رحمة الیهود الکلیة بالتدریج. اما من الناحیة العسکریة فان مثل هذا الوضع کان سیؤدی الی الکارثة. فاذا ما استطاع الجیش الاسرائیلی من تثبیت أقدامه فی القدس یمکنه عندئذ بسهولة ان یزحف الی أریحا و الأردن فیمنع المناطق العربیة فی الضفة الغربیة عن الاتصال بالبلاد الکائنة عبر الأردن. و لیس هذا فقط و انما ینقطع اتصال منطقة الخلیل أیضا بمنطقة نابلس.
و کثیرا ما کان یبدو رفض اسرائیل لخطة التدویل شیئا غریبا فی نظرنا علی هذا الأساس. لکن هذا الرفض لا بد من ان یکون قد حدث آنیا و أملته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 274
الاعتبارات العاطفیة. فقد تکونت اسرائیل و جعلت عاصمتها «مدینة داود».
لکن الیهود لو کانوا یریدون ان ینقلوا عاصمتهم موقتا الی تل أبیب، و یتنازلوا عن القدس الی هیئة الأمم، لکان بوسعهم أن یجبروا الجیش العربی الأردنی علی التخلی عن المدینة المقدسة. و عندما یتم ذلک کان بوسع الاسرائیلیین ان یعودوا بکل سهولة الی حیث یریدون. و من حسن الحظ انهم لم یفعلوا ذلک.
(و مع هذا فقد تحقق لهم ما یریدون بکل أسف فی نکسة حزیران 1967).
ثم یتابع غلوب فیقول: و کان من المؤلم فی هذه المشکلة ان جمیع البلاد العربیة الأخری کانت تطالب بالتأمیم، علی خطأ أو صواب. و قد وقفت الأردن فی هذه القضیة مع اسرائیل فی رفض التدویل ضد سائر أجزاء العالم العربی. و کان من الصعب فی الأمر ان یتناسی المرء ان البلاد العربیة الأخری کانت تّواقة الی قبول أی حل کان لمشکلة القدس لتحول دون استیلاء الملک عبد اللّه علیها ..»
و تعلیقا علی ما یذکره المستر غلوب عن موقف الدول العربیة تجاه التدویل و مطالبتهم به ضد الملک عبد اللّه، نقول ان الاستاذ اکرم زعیتر فی (القضیة الفلسطینیة الص 268) یتطرق الی رأی الدول العربیة فی هذا الشأن و یقول انها تری انه ما دام معظم مدینة القدس لم یکن بید العرب، بل هو محتل من قبل الیهود، فان التدویل یمنع الیهود من اتخاذها عاصمة لهم، و یمکّن عشرات الألوف من العرب الذین اضطروا الی النزوح عنها و عن القری العربیة المحتلة من العودة الیها، و یمکنهم من استرداد أملاکهم و بیوتهم، و هی معظم مدینة القدس و قراها.

القدس فی 1960

اشارة

و آخر ما عثرنا علیه من المراجع الغربیة التی یأتی فیها ذکر القدس و ما فیها هو کتاب بعنوان (الأردن الحدیثة) لکاتبه القاضی الانکلیزی المستر جیرالد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 275
سپارو . فقد زار هذا المؤلف، الذی کتب عدة کتب أخری، المملکة الأردنیة عدة مرات فکتب عنها کتابا تطغی فیه اللهجة السیاحیة. و هو یدون فی الکتاب اشیاء و معلومات کثیرة عن هذه المملکة الفتیة، و من جملتها ما یختص بالأماکن الدینیة و الأثریة التی یمکن ان یزورها السائح فی یومنا هذا.
و قد کتب عن القدس یقول: لقد لفت نظری من جدید خلال زیارتی الأخیرة للأردن أهمیة الأماکن التی یمکن ان تزار فی أنحاء الأردن جمیعها ..
فلیس هناک بلاد أخری فی العالم یمکنها ان تقدم للزائر مثل هذه المناظر و الأماکن المبهجة الخلابة. ففی القدس وحدها یستطیع المرء أن یری لأول مرة الهیکل، و الساحة التی طرد منها المسیح المرابین من الیهود، و الدرجات التی نزل منها هؤلاء هاربین الی الشارع فی أسفلها، و الشارع نفسه، و هو إذ یری هذه یکون قد رأی التاریخ بعینه ینشر أمامه من جدید، و یدرک صدق ما جاء فی العهد الجدید بطریقة حدیثة بالمرة، و مقنعة خلابة.
و لا شک ان القدس و ما یجاورها تکوّن المرکز الرئیسی للسیاحة فی الأردن.
و قد تأسست علی ما نعلم منذ أزمنة ما قبل التاریخ، و هی تذکر فی الانجیل لاول مرة باسم «سالم». و قد استولی علیها النبی داود، فی سنة 1000 ق. م، فاتخذها عاصمة له، ثم جاء سلیمان من بعده فشید الهیکل فوق جبل مارا (الصحیح موریا). و کان ابراهیم قد أعد نفسه فوق هذا الجبل لیضحی بابنه اسحق قربانا للرب، و هنا بالذات شاد داود المذبح، الذی شید سلیمان الهیکل فی مکانه بعد ذلک. و لم یکن هذا هو الهیکل الذی عرفه السید المسیح، و انما عرف الهیکل الذی بناه هیرود، و قد تنبأ بخرابه فتحققت النبوءة علی أیدی الرومان فی سنة 70 م. و عمد الامبراطور هدریان الذی أعاد بناء القدس کمدینة و ثنیة فی سنة 135 م الی تشیید معبد جدید کرّسه لکبیر آلهة الرومان جوبیتر، فی موقع هیکل سلیمان نفسه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 276
و حینما جاءت الی القدس الملکة هلینا والدة قسطنطین أول امبراطور مسیحی فی روما فی أوائل القرن الرابع، هدمت جمیع أماکن العبادة الوثنیة بما فیها معبد هدریان الکائن فوق جبل مارا. و قد ترکت خرائب مارا بعدئذ فأصبحت فی النهایة مزبلة للمدینة المقدسة. و بقیت علی حالها تلک حتی قدم العرب الی القدس فی أوائل القرن السابع، و تعتبر الصخرة الموجودة فی قمة مارا مقدسة عند المسلمین لسببین: اولهما انها کانت الموقع الذی ضحی فیه ابراهیم الذی یقدسه المسلمون و یعتبرونه خلیل اللّه و أول مسلم علی وجه الأرض و ثانیهما انها ذکرت فی القرآن بکونها ذات صلة باسراء النبی محمد الی القدس و معراجه منها الی السماء، و یمکن زیارة قبة الصخرة یومیا من الساعة 8 الی الساعة 11 صباحا، و من الساعة 1 الی الساعة 30- 2 بعد الظهر بشرط الحصول علی رخصة خاصة یسهل استحصالها. ثم یقول المستر سپارو: و فی نفس الوقت الذی یزور فیه الزائر قبة الصخرة یتحتم علیه ان یسیر علی طول «طریق الأحزان» ، و هو الطریق الذی سلکه السید المسیح و هو یحمل الصلیب الذی صلب علیه (صلیب الصلبوت). و قد قسم هذا الطریق الی أربع عشرة محطة یمثل الزائر فی کل منها دورا من الأدوار. ففی الساعة الثالثة من کل یوم جمعة بعد الظهر یخرج موکب فرانسیسکانی، یحتوی علی الحجاج و السواح، فیقتفی خطوات السید المسیح و یقف للصلاة فی کل واحدة من هذه المحطات. و یعتبر طریق الآلام أکثر من مذکّر للمشاعر من ساعات المسیح الأخیرة، لأنه یمثل المسیحیة و هی حیة متجسدة امام الناظر الذی تبدو له الأحجار نفسها و کأنها تتکلم فتقص علیه تاریخها الحافل بالذکریات.
و المکان الآخر الذی یمکن ان یزوره الزائر فی القدس هو کنیسة الضریح المقدس، أو کنیسة القیامة. و کان موقع هذه الکنیسة یقع فی خارج أسوار المدینة علی عهد السید المسیح، و یضم المکان الذی صلب فیه و حدیقة یوسف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 277
أریماثیا التی قبر فیها. و کان المسیحیون الأولون یتعبدون سرا فی هذه الأماکن و یحیط بالضریح المقدس، کما یحیط بسائر الأماکن المقدسة فی القدس، جو مؤثر یستحیل و صفه بالکلمات.

شی‌ء عن قبة الصخرة

و یخصص المستر سپارو فی کتابه صفحات عدة لا یراد موجز مفید عن قبة الصخرة و الأدوار التی مرت بها. و فی هذا الموجز اشیاء لم یرد ذکرها فیما اقتبسناه قبل هذا. فهو یقول:
لقبة الصخرة فی القدس أهمیة فائقة عند المسلمین و النصاری علی سواء.
فهی مهمة عند النصاری لأن الصلیبیین جعلوا من مبناها کنیسة مسیحیة بدیعة سموها «المعبد الربانی »، و تزداد أهمیتها عند المسلمین حتی أکثر من هذا لأن تاریخ القبة نفسها هو فی قسم کبیر منه تاریخ نشوء الاسلام و انتشاره عبر العصور.
و تعد قبة الصخرة، التی تأتی فی الدرجة الأولی من الأهمیة، أقدم مثل یوجد الیوم لفن العمارة العربیة. و هی تقع علی نشوء من الأرض یبلغ ارتفاعه اثنی عشر قدما، فی بقعة واسعة من منطقة الحرم. و یعلو هذا الارتفاع فوق أسس صخریة لا بد من ان تکون قد بنیت عبر القرون الطویلة من تاریخها.
و یصل الیها الزائر من کل جهة عن طریق مراق عریضة و درجات تعلوها عقود رشیقة یسمیها الناس «الموازین».
ثم یأخذ المستر سپارو بوصف مبنی القبة کلها من حیث العمارة و الزینة و التصمیم و ما أشبه، مما یکاد یشبه ما مر اقتباسه قبل هذا من الوصف. و مما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 278
یذکره فی هذه المناسبة ان أولباچلبی الرحالة الترکی الذی زار القدس سنة 1671 یقول ان سقف المبنی لجمیل کان من صنع الصناع الهنود، و یدون اسماء خمسة منهم: بهزاد من کلکتا، و مانی، و شاه قولی، و ولی خان، و أغارضا .. و یذکر سپارو بعد ذلک ان أحد المؤرخین القدماء من العرب ذکر ان العمل فی بناء القبة عهد الی اثنین من الموظفین موثوق بهما، و هما: رجاء ابن حیاة بن جود الکندی من علماء بیسان الکبار، و یزید بن سلام المقدسی.
کما ذکر ان القبة حینما ثم بناؤها بقی من المبلغ المخصص لها مقدار مائة ألف دینار فقدمه عبد الملک هدیة الی الشخصین المکلفین بالاشراف علی البناء، لکنهما رفضا قبوله و هما یقولان: اننا نفضل ان نقدم مالنا و حلی أزواجنا بدل أن نأخذ هذا المبلغ. و من الأحسن صرف المبلغ علی تحسین زینته و الابداع فیها. و عند ذاک صدر الأمر باذابة الذهب و إکساء القبة به. و کذلک أمر الخلیفة بتغطیتها أیضا بطبقة من الشعر، و الصوف، و الجلد، لحمایة ذهب القبة من جور الأحوال الجویة.
و یستشهد أیضا بأقوال بعض مؤلفی الغرب عن جمال القبة و مبناها، و منهم البروفسور هایتر لویس الذی یقول فی کتابه (أماکن القدس المقدسة ):
و لا شک ان هذا المسجد من أجمل المبانی فی العالم، و یمکن ان یقال اضافة الی ذلک أنه من أجمل الأبنیة التی عرفت فی التاریخ. و یذکر جیمس فیرغوسن أیضا فی کتابه (رسالة عن طوبوغرافیة القدس القدیمة ): ان مسجد قبة الصخرة جمیل فوق العادة فقد زرت کثیرا من القصور و الأبنیة الجمیلة فی الهند و أورپة و سائر بلاد العالم فلم أجد بناء فیها یضارع قبة الصخرة فی روعته و سنائه. حیث ان تناسق الألوان فیه و امتزاجها الرائع فی جنباته لم أر مثله قط فی أیة بنایة أخری. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 279
و بعد ان یشیر سپارو الی کتابة اسم عبد الملک بالخط الکوفی علی المبنی یذکر ان البناء حینما تم ابتهج به المسلمون ای ابتهاج، و أخذوا یجلونه للغایة فخصص یوم الاثنین و الخمیس من کل اسبوع لتنظیفه و العنایة به، و کان یقوم بهذا العمل خدام خاصون کانوا قبل أن یبدأوا بعملهم هذا یستحمون و یلبسون ملابسهم الجمیلة. و کانوا یعطرون الماء الذی یستعملونه فی التنظیف بعطر الورد و المستکی و الزعفران. و لم تقل العنایة بالقبة عبر القرون .. و یورد سپارو هنا ما یذکره مؤلف آخر، هو هاری أمرسون فوسدیک، عن القبة و أهمیتها الدینیة فی کتابه (حجة الی فلسطین ). فهو یقول: و یعتبر هذا المکان أنسب الأمکنة و ألیقها للعبادة علی الاطلاق علی ما یظهر. فهو محتشم و جمیل، هذبت من نسبه و أبعاده السنون و الأیام، و أصبح زجاجه الملون علی درجة غیر یسیرة من الروعة و البهاء، و صار تنسیقه یملأ العین بالرضا و الطمأنینة، و جوّه ملطفا بالسکینة و الوقار، و ذکریاته لا تجاری .. و لذلک فهو مکان طبیعی للعبادة و الصلاة.
و قد کان لمسجد القبة تاریخ متغیر عبر القرون. و من حسن الحظ ان کل أسرة حاکمة کان فیها من یهتم و یحافظ علیه. و بعد ان یذکر سپارو التعمیرات التی أدخلت فی مختلف العهود، یقول ان جامع قبة الصخرة أصبح کنیسة مسیحیة فی أیام الصلیبیین (1099- 1187) بعد اجرء بعض التبدیلات، و ان المؤرخ العربی الهراوی حینما زار القدس فی 1173 یذکر بالاضافة الی ذلک انه کانت هناک صورة لسلیمان بن داود علی الجدار المقابل لباب المغارة فیما وراء الصخرة، و کان فی شمال المبنی عدد من الدور خصص للقسان مبنیا علی أعمدة جمیلة. و فی أیام الصلیبیین الأولی فی القدس کانت الصخرة تحظی بالکثیر من التقدیس و صار من المعتاد عندهم ان یأخذوا کسرا منها الی القسطنطینیة و صقلیة علی سبیل التذکار و التبرک. و کانت هذه القطع تباع هناک موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 280
بما یعادلها من الذهب، و بهذا صارت تدر علی القسس و المطارنة بالأموال الطائلة، لکن العادة أبطلت خوفا من ان ینتهی أمر الصخرة کلها بهذه العملیة.
و لانقاذها من العبث عمد ملوک الصلیبیین الی تغطیتها بالرخام و تشیید مشبک جمیل من الحدید حولها الذی لا یزال باقیا حتی الیوم.
و بعد ان یتبسط سپارو فی ذکر التعمیرات و العنایة التی تمت علی ید الفاطمیین و صلاح الدین و من جاء بعده من الأیوبیین، الذین کانوا کلهم یقومون بتنظیف الجامع و کنسه علی سبیل التبرک، یأتی علی ذکر ما فعله سلاطین الممالیک أیضا. ثم یتطرق إلی أوقاف القبة و اعتمادها علیها، فیقول (الص 138) ان أمر المحافظة الدائمة علی قبة الصخرة و مبناها قد أثیر فی أیام الملک الأشرف برزبای سنة 1432 فعهد الی ممثله فی القدس الأمیر أرکاس الجلبانی بشراء عدد من القری و کثیر من الأملاک فخصص ریعها لادامة القبة و صیانتها.
و قد نقش عمله هذا علی الجدار الشمالی للمبنی.
ثم یقول ان القدس وقعت فی أیدی الأتراک سنة 1517، و یأخذ بالاشارة الی ما قام به سلاطین بنی عثمان من أعمال الصیانة و التحسین فی مبنی القبة الی حد القرن التاسع عشر الذی شهد، علی ما یقول، اهتماما خاصا بالقبة أبداه اربعة من السلاطین: السلطان محمود 1817، و السلطان عبد المجید 1853، و السلطان عبد العزیز 1874، و السلطان عبد الحمید 1876. و یذکر بعد ذلک قوله: و لا یعرف مقدار الترمیم الذی جری فی أیام عبد الحمید الثانی، لکنه هو الذی جاء بالسجاد الایرانی الفاخر الذی یراه الزائر الیوم فی المسجد، و صرف علیه مبالغ طائلة. و کذلک صرف علی الشمعدان الکبیر الذی کان معلقا فوق الصخرة، ثم نقل الی المسجد الاقصی فی سنة 1951. ثم انه أمر بنقش سورة یاسین من القرآن الکریم حول القسم الأعلی من الجدار الخارجی سنة 1875 و قد خط الکتابة الخطاط الترکی الشهیر محمد شفیق، بعد ان تم انتقاؤه للعمل من بین عدد من المتنافسین. اما قطع البلاط القاشانی الذی کتبت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 281
علیه هذه السورة المبارکة من القرآن فقد جی‌ء بها من ولایة قاشان فی ایران.
و کان آخر ما تم فی عهد الأتراک الاستعدادات التی أجریت فی سنة 1898 تمهیدا لزیارة الامبراطور الألمانی القیصر و لهلم و زوجته القیصرة أغوستا فیکتوریة. فقد أمر السلطان عبد الحمید بفتح فتحة خاصة فی الجدار الموجود بین برج السور و باب یافا فی القدس، و کان البرج المذکور یعرف بقلعة أو برج داود، حتی یمکن للضیفین الملکیین ان یدخلا بمراسیم فخمة الی القدس
و بعد ان یتطرق المستر سپارو الی تاریخ تزیین قبة الصخرة و مبناها بالبلاط القاشانی بالتفصیل، خلال مدة اربعمائة سنة من الحکم العثمانی، یختم مبحثه بما طرأ علی قبة الصخرة فی السنوات الأخیرة. فهو یقول ان أحرج الأوقات التی مرت علی قبة الصخرة هی الأیام التی أعقبت قرار هیئة الأمم المتحدة بتقسیم فلسطین بین العرب و الیهود سنة 1948. فقد حصل قتال عنیف فی القدس، وقع خلاله ضرر کبیر فی الأبنیة، و لم یسلم المسجد المشهور (مسجد القبة) منه. إذ وقعت قنابل الیهود عدة مرات فی منطقة المسجد، کما وقع عدد غیر قلیل منها علی المبنی نفسه فسبب اضرارا غیر یسیرة. فأضافت هذه الأضرار شیئا جدیدا إلی حالة التضعضع التی کانت قد آلت الیها القبة من قبل، و سببت کثیرا من القلق فی نفوس المعنیین بها. و تشیر السجلات الحکومیة الی ان القنابل قد أصابت منطقة القبة فی ما لا یقل عن ثلاث عشرة مناسبة، و قد وقع أکبر عدد منها فی یوم 16 تموز و هو الیوم الذی سبق یوم الهدنة الثانیة. فقد أصابت المنطقة فی ذلک الیوم ستون قنبلة، و لم تصب المبنی منها الا واحدة فقط. لکنها أحدثت ضررا بلیغا فی السقف الخشبی. و حینما قصفت المنطقة قصفا عنیفا فی یوم 23 أیلول 1948 تکسر عدد کبیر من زجاج الشبابیک فی الجهة الشمالیة الغربیة، و حصلت أضرار بالغة فی ثلاثة عشر شباکا، و أضرار طفیفة فی تسعة أخری، کما قتل رجل واحد کان یصلی فی المسجد. ثم سقط من جدید عدد من القنابل فی یوم 10 تشرین الأول فهدم جزءا من الجدار الشمالی الغربی، و أحدث أضرارا بالسلّم المؤدی الی المرتفع الذی یقوم علیه المسجد نفسه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 282

القدس فی عام 1969

و کان من النتائج الخطیرة التی أعقبت خلق الدولة الاسرائیلیة فی قسم غیر یسیر من فلسطین العربیة، و تمادی الغرب و امریکا علی الأخص فی تقویتها و دعمها بدافع من عصبیته الصلیبیة و مصالحه الاستعماریة، ان اعتدت هذه الدولة علی الضفة الغربیة من الأردن فی یوم 5 حزیران 1967 و احتلتها کلها.
و کان من جملة ما احتلته القدس القدیمة و ما فیها من الأماکن الاسلامیة و المسیحیة المقدسة. و بهذا اصبحت فلسطین کلها ترزح تحت نیر من الاحتلال الاسرائیلی، برغم قرارات مجلس الأمن الدولی التی أوجبت علی اسرائیل الانسحاب الی ما وراء الحدود القدیمة.
و خیر ما یدل علی الحالة فی القدس الی ما قبل أشهر قلیلة فقط التقریر الذی کتبه صحفی أمریکی یدعی توم فیلدینغ عما شاهده بنفسه فی المدینة المقدسة فهو یقول:
«.. انها لحماقة ان تدعی ان العرب فی القطاع الشرقی من مدینة القدس، و فی أی مکان آخر من الضفة الغربیة المحتلة، لا یعانون ظروفا صعبة.
و الهدف من تقریری هذا هو تشخیص طبیعة المأساة، و ما تعنیه بالنسبة للسکان الذین یتأثرون بالتغیرات التی طرأت منذ عام 1967 .. فأنت أینما تذهب تجد ما یدل علی الاضطراب و الغلیان، و هو یختفی وراء الظواهر التی تشاهدها لأول وهلة. و لا یظهر هذا الغلیان الا عندما تقع حادثة مهمة أو یحصل حادث ذو بال.
ثم یقول: و لقد اضطرب العالم الاسلامی بشکل لم یسبق له مثیل من قبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 283
بعد حادث الحرق للمسجد الأقصی .. و کان هناک المسجد الاسلامی الأعلی فی القدس الذی یشرف علی الشؤون الاسلامیة فی أیام الانتداب البریطانی.
فألغت اسرائیل هذا المجلس و عوضت عنه بلجنة تضم تسعة أعضاء مخولین بادارة شؤون المسلمین معظمها .. بموجب القانون الذی أصدرته فی 1969 (علی ان یکون ثلاثة من أعضاء اللجنة من غیر المسلمین) .. و یحق لهذه اللجنة تعیین قضاة للمحاکم الشرعیة الاسلامیة. و حیث ان الاسلام لا یعترف بتعیینات تصدر عن جهة غیر مسلمة فان سلطة القضاة الذین تعینهم اللجنة الاسرائیلیة هی موضع شک المحاکم الشرعیة. فنتج عن ذلک کثیر من الخلط و الارتباک بین أعضاء اللجنة حول الاجراءات و القرارات التی تتخذها.
ثم یقول المستر فیلدنغ ان أعمال تدمیر المنازل فی القدس القدیمة مستمرة، فهناک علی ما یصرح به کولیک محافظ المدینة الیهودی مشاریع لبناء وحدات سکنیة لایواء ألف مستوطن یهودی داخل المدینة المسورة .. و یوجد کذلک فی المدینة القدیمة (باص) مصمم بصورة خاصة علی شکل بیضوی لتسهیل مروره فی الشوارع الضیقة و تحت المبانی التی تعلو طریق السیارات الممتد بین بوابة یافا و حائط المبکی، و یمر الباص کل عشرین دقیقة من بطریرکیة الأرمن، لکن هذه الخدمة قابلها العرب باشمئزاز و لم یؤیدوها، و لذلک فان الباصات فی أغلب الأحیان ینقصها العدد الکافی من الرکاب .. و هذه بلا شک ظاهرة تجلب انتباه السیاح الیها بقدر ما یجلبه الندب و البکاء عند حائط المبکی نفسه. و مع هذا فان تسییر خط الباص یعتبر خطوة غیر مباشرة لتقویة قبضة الاسرائیلیین علی القدس بقسمیها القدیم و الحدیث.
و قد تمکن الاضراب العربی الذی أعلن فی 15 مایس 1969، فی القسم الشرقی من القدس، من اغلاق المحلات التجاریة کافة ابتداء من الساعة الثامنة و النصف صباحا .. الا أن العربات الملأی بالشرطة أرغمت أصحاب المحلات التی تقع فی خارج السور علی فتح محلاتهم، و سجلت أسماء المتباطئین منهم .. لکن الذین کانت تقع محلاتهم فی داخل المدینة القدیمة أغلق 95%
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 284
منهم محلاتهم طوال الیوم. و کان الذی حدا بالذین عادوا الی فتح محلاتهم هو أنهم تذکروا إضرابا سابقا فقد خلاله خمسة عشر محلا تجاریا جمیع ما کان فیها علی سبیل العقوبة .. و لهذا یبدو ان قمع الاضرابات علی هذه الشاکلة أصبح ظاهرة اعتیادیة متکررة فی عهد الاحتلال الاسرائیلی .. و قد استمر تطبیق قانون ضریبة الدخل، و الضرائب المفروضة علی الأعمال، علی کل شخص یسکن فی القدس الشرقیة، کما تعرض ثلاثة فنادق هی: فندق سنت جورج، و فندق القصر الوطنی، و فندق الحجاج، الی اجراءات صارمة فی 15 نیسان 1969. و قیل ان وکالات السیاحة فی القدس الشرقیة قد توقفت عن العمل و أعطی لها بدلا عن ذلک عنوان یقع فی القدس الغربیة، و عن طریق هذا العنوان فقط یتم تنظیم الرحلات السیاحیة و ترتیبات السکن.
و یقول عن السیارات: ان أصحاب السیارات، عدا الذین یسکنون منهم فی القدس الشرقیة، یرغمون علی تعلیق لوحة تسجیل إضافیة فی سیارتهم تحمل حرفا عبریا یدل علی المدینة المسجلین و المقیمین فیها. و یعد هذا جزءا من تدابیر الأمن المتخذة للسیطرة علی شؤون السفر و التنقل بین مختلف المناطق العسکریة. و فی حالة زیارة العرب لأقاربهم أو ذهابهم لتولی بعض الأعمال الاعتیادیة، فان ذلک یتطلب الحصول علی تصریحات خاصة. و یشمئز العرب من هذه الحالة باعتبارها تشریعا ممقوتا یشابه القانون النازی الألمانی الذی کان یفرض علی الیهود ان یحملوا نجمة صفراء اللون خاصة بهم.
و بعد ان یورد توم فیلدینغ أرقاما و إحصاءات عن المنازل و القری العربیة المهدمة، و لا سیما حول القدس، یتطرق الی ذکر المحاکم الشرعیة فی القدس فیقول: و تضغط الحکومة الاسرائیلیة علی محکمة القدس الشرعیة و الأوقاف و علی القاضی نفسه لابقائهم خاضعین لسیطرة وزارة الشؤون الدینیة .. و قد وسّعت الحکومة صلاحیة قاضی یافا بحیث شملت القدس لأن هذا الأخیر یمیل الی الاعتراف بالسیطرة الاسرائیلیة، و ان اسرائیل ترفض قبول الأحکام الصادرة عن قاضی القدس نفسه و کذلک فان محکمة الروم الأورثودکس لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 285
یعترف بها، فتفضل أحکام المحکمة العلیا الاسرائیلیة علیها.
و قد صرح لی اناس کثیرون عن اعتقادهم بوجود خطة إسرائیلیة متقنة للقضاء علی وجوه المجتمع العربی و زعمائه فی القدس و غیرها بالتدریج. و قد طبقت هذه الخطة علی المثقفین و الطلبة و الأسأتذة و الأطباء و الممرضات و الأعیان المحلیین، و جمیع من له خبرة فی الادارة و الخدمة المدنیة الخ ...
و آخر ما یورده فیلدینغ عن ما یعانیه سکان القدس من مضایقات قصة شخص یدعی نعیم عشّاب، ألقی القبض علیه أول مرة فی 7 کانون الثانی 1968 فی أحد شوارع القدس فضرب و أهین علنا من قبل رجال الأمن الاسرائیلیین ... و نزف الدم منه بنتیجة ذلک .. ثم وضع فی زنزانة صغیرة مظلمة فی سجن دامون. و لم توجه له أیة تهمة، کما لم یسبق له ان اتهم بشی‌ء ثم أفرج عنه فی أیار 1968 و وضع تحت الاقامة الجبریة فی بیته، بشرط ان یثبت وجوده فیه مرتین فی الیوم الواحد، و ان لا یترک الدار من غروب الشمس الی شروقها، و لا یغادر القدس مطلقا. و استمر علی هذه الحالة ستة أشهر کان خلالها هو و زوجته یتعرضان الی تعدیات کثیرة ثم منع من زیارة اخته و زوجته لمدة سنة، کما منع من زیارة والد زوجته المسن المریض الساکن فی الضفة الشرقیة. و ألقی القبض علی السید عشاب للمرة الثانیة فی 30 تشرین الأول 1968 و هو ما زال فی التوقیف حتی کتابة هذه السطور ..»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 286

فهرست الموضوعات

الموضوع الصفحة
القدس فی المراجع الغربیة 7
اسم القدس و موقعها 8
القدس فی دائرة المعارف الاسلامیة 14
القدس فی دائرة المعارف البریطانیة 21
الاناء الذهب 33
من التاریخ القدیم 42
هجرة ابراهیم (ع) الی فلسطین 44
خروج الیهود من مصر الی فلسطین 47
کیف استولی داود علی القدس 48
سلیمان الحکیم 51
ملکة سبأ فی القدس 56
حیاة السبی 67
العودة الی اورشلیم 69
القدس فی حکم الیونانیین 71
المکابیون و ظهور السید المسیح 74
صلب السید المسیح 77
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 287
تدمیر القدس علی ایدی الرومان 83
بعد تدمیر القدس 90
استنتاجات اساسیة 91
استیلاء العرب علی بیت المقدس 98
المسجد الاقصی 102
شکل مسجد الظاهر 109
تکوین جامع المهدی 110
المسجد الاقصی الاموی 112
قبة الصخرة 113
وصف کریسویل لقبة الصخرة 123
القدس و الحروب الصلیبیة 130
مملکة القدس الصلیبیة 135
کیف استرد صلاح الدین القدس 136
الحروب الصلیبیة فی مراجع اخری 140
رحلة بنیامین 147
رحلة الی القدس 152
الاماکن المسیحیة المقدسة 155
زیارة اماکن اخری 160
القدس فی العهد العثمانی 162
القدس فی الحرب العالمیة الاول 170
الجنرال اللنبی 177
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌5، ص: 288
مشکلات اداریة و غیر اداریة 179
وعد بلفور 185
صک الانتداب 190
تنفیذ الانتداب 194
رئاسة البلدیة 198
حائط المبکی 201
بلفور فی القدس 208
الکفاح العربی 211
مفتی القدس 221
القدس فی الحرب العالمیة الثانیة 226
تخلی بریطانیا عن فلسطین 230
تقسیم فلسطین 233
مناورات صهیونیة لاقرار التقسیم 236
دیر یاسین و اخواتها 239
مولد اسرائیل 243
تدخل الجیوش العربیة 246
معرکة القدس 247
مقتل الکونت برنادوت 258
مقتل الملک عبد اللّه 266
تدویل القدس 271
القدس فی سنة 1960 274
شی‌ء عن قبة الصخرة 277
القدس فی عام 1969 282

الجزء السادس‌

الجزء الاول من قسم النجف الاشرف‌

[مقدمة من داراالتعارف

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم ما کدنا ننتهی من طبع (المدخل العام الی موسوعة العتبات المقدسة) حتی تهیأت لنا مواد الجزء الأول من (قسم النجف) من موسوعة العتبات المقدسة، و لیس معنی هذا اننا سنؤجل تألیف الأقسام الأخری من العتبات حتی تنتهی أجزاء (قسم النجف) التی لم نعرف کم سیکون عددها، و إنما الطریقة التی اتبعناها فی تألیف (موسوعة العتبات المقدسة) هی اننا قسمنا الموسوعة إلی أقسام بقدر عدد العتبات، و خصصنا لکل عتبة قسما تزید أجزاؤه و تنقص تبعا لمواده و اتساع بحوثه، فکلما ینتهی تألیف أی جزء من أی قسم من أقسام العتبات بادرنا إلی طبعه و نشره، و لو لا هذا لکنا انتظرنا الفراغ من تألیف الجزء الأول من (قسم مکة المکرمة) و بدأنا العمل به بعد صدور (المدخل الی الموسوعة) و لکننا لم نتقید بالترتیب و لا بالعتبة حسب أهمیتها، و إنما یعنینا من الأمر المبادرة بطبع أی جزء من أی قسم ینتهی العمل منه قبل غیره.
و لقد تم هذا الجزء من (قسم النجف) من موسوعة العتبات المقدسة قبل أی جزء آخر و سنمشی فیه مشیتنا فی باقی الأقسام دون أن نربط عملا بعمل و نقید عتبة بأخری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 6
و إن الذین عملوا فی تألیف هذا الجزء من (قسم النجف) کانوا أکبر عددا و کانت مواد بحوثهم أکثر مما احتوی علیها هذا الجزء فاضطررنا للاکتفاء بهذا القدر حذرا من التضخم الذی قد یجعل الجزء الأول یتجاوز الحد المألوف من حیث عدد الصفحات، و قد أجلنا ما زید من بحوث الکتاب و المؤلفین الآخرین لنشره مع غیره فی الجزء الثانی من (قسم النجف) من الموسوعة.
و هنا لا بد لنا من الإشارة- و قد أصبح عملنا هذا عملا تأریخیا- الی بعض من مدّ إلینا ید المساعدة علی اختلاف أنواعها فی سبیل تکامل هذه الموسوعة و إخراجها الی حیز العمل و علی الأخص أساتذة جامعة بغداد و الأفاضل الذین أسهموا فی العمل معنا فی التألیف و المؤازرة، و نتقدم بالشکر الی الدکتور فیصل الوائلی مدیر الآثار العامة الذی سهل لنا الحصول علی بعض الصور لبعض العتبات المقدسة مما قد عز حصولنا علی أمثالها، و للخطیب السید جواد شبر- فضلا عن إسهامه فی التألیف- و الحاج زید الکاظمی النائب بمجلس الأمة فی الکویت، و الدکتور علی الحلی رئیس صحة الحلة السابق، و الأستاذ محمد جواد جلال، و الدکتور احمد ثامر رئیس صحة لواء کربلا، و المحامی غالب الحاج فلیح، و الحاج محمد علی الشاوی، و الشیخ عبد الغفار الانصاری، و الاستاذ جعفر الحائری، و الاستاذ حمدی آل حمدی، و السید محمد العضاض و الاستاذ علی الخلیلی، و الحاج عبد اللّه المسقطی، و عبد اللطیف الکاظمی، و الدکتور صادق علی، و الحاج ابراهیم المطوّع الذین کان لهم أثر محمود فی مساعدة هذا المشروع بمختلف أنواع المساعدات أدبیة کانت أم مادیة راجین من اللّه أن یأخذ بأیدینا و یکثر من مؤازرینا لنستطیع أن نقطع أطول مسافة ممکنة من هذا الطریق الشائک الطویل.
دار التعارف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 7

النجف قدیما [للدکتور مصطفی جواد]

اشارة

بحث یتناول منطقة النجف القدیمة و بقعتها و ما یحیط بها من المناطق التاریخیة القریبة منها، و الأدیرة المجاورة لها منذ أول معرفة التأریخ بها.
کتبه الدکتور مصطفی جواد خریج جامعة السوربون فی التأریخ العربی و الاستاذ بجامعة بغداد- کلیة التربیة و العضو بالمجمع العلمی العراقی، و العضو بالمجمع العلمی العربی بدمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 9

النجف قدیما

النجف اسم عربی و معناه «المنجوف» کالعدد بمعنی المعدود، قال ابن فارس؟ «النون و الجیم و الفاء: أصلان صحیحان أحدهما یدل علی تبسط فی شی‌ء مکان أو غیره، و الآخر یدل علی استخراج شی‌ء، فالأول النجف: مکان مستطیل منقاد و لا یعلوه الماء و الجمع نجاف، و یقال: هی بطون من الأرض فی أسافلها سهولة تنقاد فی الأرض لها أودیة تنصب الی لین من الارض، و یقال لابط الکثیب نجفة الأرض.
و من الباب النجیف من السهام: العریض، و نجفت السهم: بریته، کذلک و أصلحته، و سهم منجوف و نجیف و غار منجوف واسع ...». و قال الجوهری فی الصحاح: «النجف و النجفة بالتحریک: مکان لا یعلوه الماء مستطیل منقاد و الجمع نجاف ...» و أورد بعد ذلک کبعض ما نقلنا آنفا، و قال الزمخشری فی اساس البلاغة: «و فی بطن الوادی نجفة و نجف و هی مکان مستطیل کالجدار لا یعلوه الماء»، و جاء فی لسان العرب «النجفة أرض مستدیرة مشرفة و الجمع نجف و نجاف ... ابن سیده: النجف و النجاف شی‌ء یکون فی بطن الوادی، شبیه بنجاف الغبیط جندا و لیس بجد عریض، له طول منقاد من بین معوج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 10
و مستقیم الماء، و قد یکون فی بطن الارض ... و النجفة شبه التل ... و قال اللیث: النجفة تکون فی بطن الوادی شبه جدار لیس بعریض ... ابن الاعرابی النجفة: المسناة، و النجف التل. قال الازهری: و النجفة التی بظهر الکوفة و هی کالمسناة تمنع ماء السیل ان یعلو منازل الکوفة و مقابرها»، و قال الفیروز آبادی فی القاموس: «النجف محرکة، و بهاء (النجفة) مکان لا یعلوه الماء مستطیل منقاد، و یکون فی بطن الوادی، و قد یکون ببطن من الأرض جمعه نجاف أو هی ارض مستدیرة مشرفة علی ما حولها، و النجف محرکة: التل ..
و المسناة و مسناة بظاهر الکوفة تمنع ماء السیل ان یعلو مقابرها و منازلها».
و قال المطرّزی فی المغرب: النجف بفتحتین کالمسناة بظاهر الکوفة علی فرسخین منها یمنع ماء السیل ان یعلو منازلها و مقابرها ، و منه قول القدوری: کان الاسود اذا حج قصر من النجف و علقمة من القادسیة».
و قال یاقوت فی معجم البلدان: «النجف بالتحریک ... و هو بظهر الکوفة کالمسناة تمنع مسیل الماء ان یعلو الکوفة و مقابرها، و بالقرب من هذا الموضع قبر امیر المؤمنین علی بن ابی طالب- رضی اللّه عنه- و قد ذکرته الشعراء فی اشعارها ... «و قال ابو الفداء فی وصف الحیرة: «و الحیرة مدینة جاهلیة کثیرة الانهار و هی عن الکوفة علی نحو فرسخ ... و الحیرة علی موضع یقال له النجف زعم الاوائل ان بحر فارس کان یتصل به، و بینها الیوم مسافة بعیدة» .
و فذلکة الاقوال ان النجف انما سمی بهذا الاسم لانه یعنی أرضا عالیة معلومة تشبه المسناة تصد الماء عما جاورها و ینجفها الماء من جوانبها ایام السیول و لکنه لا یعلوها فهی کالنجد و السد، و تغلب علی شکلها الاستطالة دون الاستدارة التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 11
أشار الیها بعض اللغویین، لانها ضد الاستطالة، و لان صفة النجف الحالیة فی استطالة ارضه تؤید ذلک، و أما الاستدارة التی ظنها بعض اللغویین فی «النجف» فهی مستندة الی استدارة قطعة تکون فی النجف اتفاقا لا دوما و تسمی «الرحا» جاء فی لسان العرب «و الرحا: قطعة من النجفة مشرفة علی ما حولها تعظم نحو میل و الجمع ارحاء، و قیل: الارحاء قطع من الارض غلاظ دون الجبال تستدیر و ترتفع عما حولها، ابن الاعرابی: الرحا من الارض مکان مستدیر غلیظ یکون بین رمال. قال ابن شمیل: الرحا القارة الضخمة الغلیظة و إنما رحّاها استدارتها و غلظها و اشرافها علی ما حولها و انها أکمة مستدیرة مشرفة و لا تنقاد علی وجه الارض و لا تنبت بقلا و لا شجرا، و قال الکمیت:
اذا ما القف ذو الرحیین أبدی‌محاسنه و أفرخت الوکور».
و قال الفیروز أبادی فی القاموس: «الرحا: الصدر ... و قطعة من النجفة مشرفة تعظم نحو میل».
و مما یؤید ارتفاع ارض النجف ما ذکره ابو الفرج الاصفهانی ان حنینا الحیری المغنی القائل:
أنا حنین و منزلی النجف‌و ما ندیمی إلا الفتی القصف
لما حج هشام بن عبد الملک سلک طریق الفرات- و أحسبه جاء من الرصافة- فوقف له حنین بظهر الکوفة و معه عود و زامر له و علیه قلنسوة طویلة، فقال هشام: من هذا؟ فقیل: هذا حنین الحیری. فأمر به فحمل فی محمل علی جمل و عدیله زامره و سیر به أمامه و هو یتغنی، فلم یزل هشام یستعیده حتی نزل من النجف فأمر له بمائتی دینار . فقوله «حتی نزل من النجف» یدل علی انه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 12
نزل من أرض عالیة کائنا ارتفاعها ما کان .
و سمیت هذه الأرض المتعادیة التی منها النجف «النجاف» و کأنه جمع النجفة، و هی التی تلی الصحراء و یقابلها مما یلی الفرات «الملطاط» قال ابن قتیبة: «و کانت العرب تقول: ادلع البر لسانه فی الریف فما کان یلی الفرات منه فهو الملطاط و ما کان یلی البطن منه فهو النجاف» و قال یاقوت: «اللسان من أرض العراق فی کتابه الفتوح .. و اللسان لسان البر الذی أدلعه فی الریف علیه الکوفة الیوم و الحیرة قبل الیوم، قالوا: لما أراد سعد تمصیر الکوفة أشار علیه من رأی العراق من وجوه العرب باللسان. و ظهر الکوفة یقال له اللسان و هو فیما بین النهرین الی العین: عین بنی الجرّاء، و کانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه فی الریف، فما کان یلی الفرات منه فهو الملطاط و ما کان یلی البطن منه فهو النجاف قال عدیّ بن زید.
ویح أمّ دار حللنا بهابین الثویة و المردمه
بریّة غرست فی السوّادکغرس المضیغة فی اللهزمه
لسان لعربة ذو ولفةتولغ فی الریف بالهندمه»
و قال السهیلیّ فی وصف دومة الحیرة: «ودومة بضمّ الدال ... و دومة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 13
بالضمّ أخری و هی عند الحیرة و یقال لما حولها النجف ». و قال القعقاع بن عمرو:
سقی اللّه قتلی بالفرات مقیمةو اخری بأثباج النجاف الکوائن
و قیل ان النجف کان قریبا من البحر و ذکر ابن الدبیثی فی تاریخه أن عبد الجبار بن معیّة العلویّ قال: «خرج قوم من أهل الکوفة یطلبون الأحجار الغرویه یجمعونها لأیام الزیارات و المعیشة بها، و بالکوفة من یعمل ذلک الی الیوم و أبعدوا فی الطلب الی النجف و ساروا فیه حتی خافوا التیه فوجدوا ساجة کأنها سکان مرکب عتیقة و إذا علیها کتابة، فجاؤوا بها الی الکوفة، فقرأناها فاذا علیها مکتوب: سبحان مجری القوارب، و خالق الکواکب، المبتلی بالشدة امتحانا، و المجازی بالاحسان إحسانا، رکبت فی البحر فی طلب الغنی ففاتنی الغنی و کسر بی، فأفلتّ علی هذه الساجة، و قاسیت أهوال البحر و أمواجه، و مکثت علیها سبعة أیام ثم ضعفت عن مسکها فکتبت قصتی بمدیة کانت معی فی خریطتی فرحم اللّه عبدا وقعت هذه الساجة إلیه فبکی لی، و امتنع عن مثل حالی ».
و علی ذکر قرب النجف من البحر و دعوی صحة قصة الفریق المذکور ینبغی توجیه ذلک أو نفیه، فکیف کان البحر یبلغ النجف، أو یتصل بأرضه المطمئنة و فی أخبار الحیرة فی صدر الاسلام ما یؤید وجود البحر هناک، فقد ذکر الشریف المرتضی التحاور بن خالد بن الولید و عبد المسیح بن بقیلة الغسانی، قال له خالد فیما قال: «کم أتی لک؟ قال: خمسون و ثلاثمائة سنة، قال: فما أدرکت؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 14
قال: أدرکت سفن البحر فی السماوة فی هذا الجرف، و رأیت المرأة تخرج من الحیرة و تضع مکتلها علی رأسها لا تزوّد إلا رغیفا حتی تأتی الشام ثم قد أصبحت خرابا یبابا و ذلک دأب اللّه فی العباد و البلاد .
قال ابن واضح فی کتابه البلدان فی الکلام علی الکوفة: «و الحیرة منها علی ثلاثة أمیال، و الحیرة علی النجف و النجف کان ساحل بحر الملح و کان فی قدیم الدهر یبلغ الحیرة و هی منازل آل بقیلة و غیرهم .
و أرید بالبحر أحیانا الفرات نفسه، جاء فی لسان العرب فی مادة ب ح ر و قال عدی بن زید:
و تذکر رب الخورنق إذا أشرف یوما و للهوی تذکیر
سره ماله و کثرة ما یملمک و البحر معرضا و السدیر
أراد بالبحر ههنا الفرات لأن رب الخورنق کان یشرف علی الفرات».
و قال یاقوت فی کلامه علی الحیرة: «زعموا أن بحر فارس کان یتصل بالنجف ».
و قال المسعودی: «و قد کان الفرات لأکثر من مائة ینتهی الی بلاد الحیرة و نهرها بیّن الی هذا الوقت فیصب فی البحر الحبشی فی الموضع المعروف بالنجف فی هذا الوقت، و کانت تتقدم هناک سفن الصین و الهند ترد الی ملوک الحیرة، و قد ذکر ما قلنا عبد المسیح بن عمرو بن بقیلة الغسانی حین خاطب خاله بن الولید فی أیام أبی بکر بن أبی قحافة- رضی اللّه عنه- حین قال له: ما تذکر؟ قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 15
«أذکر سفن الصین وراء هذه الحصون، فلما انقطع الماء عن ذلک الموضع انتقل البحر برا فصار من البحر فی هذا الوقت علی مسیرة أیام کثیرة و من رأی النجف و أشرف علیه تبین له ما وصفنا .
و سیأتی قول اسحاق بن ابراهیم الموصلی:
حفّت ببر و بحر من جوانبهافالبرّ فی طرف و البحر فی طرف
و لکننا لا نعد ذلک تصدیقا لوجود بحر حقیقی، و إنما نفهم أن الفرات کان یسیح ماؤه فی تلک البطاح و یرفده الخندق الذی شقه سابور ذو الأکتاف «310- 380 م» فی غربی الفرات بین أعالی العراق الغربیة و أسافله، و ترفده کذلک الاودیة التی تأتی من النجاد الغربیة من صحراء السماوة القدیمة من شمالی جزیرة العرب، فتکون بطائح واسعة تری کأنها البحر و کان من بقایاها «بحر الشنافیة» و «بحر النجف» المعروف الاسم حتی الیوم ، و لا یبعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 16
اتصال هذه البطائح ببحر فارس، کما نقل یاقوت من زعم الناس فی مادة الحیرة من معجم البلدان، قال: «الحیرة بالکسر ثم السکون مدینة کانت علی ثلاثة أمیال من الکوفة علی موضع یقال له النجف، زعموا أن بحر فارس کان یتصل به» فخندق سابور کان واسعا و عمیقا و یتصل ببحر فارس فی الخلیج المعروف الیوم بخور عبد اللّه، لأنه إنما حفره و وسّعه لیحمی بلاده من هجمات العرب الخاطفة و لا خصاب الأرض للأعراب الموالین له.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 17
و هذا الماء المختلط المتبطح مذکور الحبر فی السیرة، فقد جاء فی أخبار عرض النبی صلّی اللّه علیه و سلم نفسه علی القبائل أن المثنی بن حارثة الشیبانی قال له صلّی اللّه علیه و سلم: «قد سمعت مقالتک یا أخا قریش .. و إنا إنما نزلنا بین صریین الیمامة و السماوة» فقال النبی صلّی اللّه علیه و سلم. «ما هذان الصریان؟ «فقال:» أنهار کسری و میاه العرب، فأما ما کان من أنهار کسری فذنب صاحبه غیر مغفور و عذره غیر مقبول و إما ما کان میاه العرب فذنبه مغفور و عذره مقبول » و جاء فی الفائق للزمحشری «لما أحضر (النبی) بنی شیبان و کلم سراتهم قال له المثنی بن حارثة: إنا نزلنا بین صیرتین الیمامة و الشمامة، فقال صلّی اللّه علیه و سلم: و ما هاتان الصیرتان؟ فقال: انهار کسری و میاه العرب، نزلنا بینها » قال الزمخشری: «الصیرة: فعلة من صار یصیر و هی الماء الذی یصیر الیه الناس و یحضرونه، و یقال للحاضرة مسیرة و قد صاروا إذا حضروا الماء ، و قال ابن الأثیر المبارک: «فی حدیث عرض نفسه صلّی اللّه علیه و سلم علی القبائل: و إنما نزلنا الصریین: الیمامة و السمامة. هما تثنیة صری و هو الماء المجتمع، و یروی الصیرین و سیجی‌ء فی موضعه». ثم قال:
«و فی حدیث عرضه علی القبائل، قال له المثنی: إنا نزلنا بین صیرین الیمامة و السمامة، فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلم ما هذان الصیران؟ فقال: میاه العرب و أنهار کسری» قال المبارک: «الصیر: الماء الذی یحضره الناس و قد صار القوم یصیرون إذا حضروا الماء، و یروی بن صیرتین و هی فعلة منه ...»
و إذ ذکرنا السبب فی حفر سابور ذی الاکتاف الخندق العظیم المنسوب الیه نذکر ما یؤیده من تاریخ الطبری من أخبار هجوم العرب علی أطراف المملکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 18
الساسانیة و توغلهم فیها و إمعانهم فی أقطارها.
قال أبو جعفر الطبری فی أخبار ملوک الفرس الساسانیین تحت عنوان «سابور ذو الأکتاف»: «ثم ولد سابور بن هرمز بن نرسی بن بهرام ... مملکا بوصیة أبیه هرمز له بالملک، فاستبشر الناس بولادته و بثوا خبره فی الآفاق و کتبوا الکتب و وجهوا به البرد الی الآفاق و الأطراف، و تقلد الوزراء و الکتاب الأعمال التی کانوا یعملونها فی ملک أبیه، و لم یزالوا علی ذلک حتی فشا خبرهم و شاع فی أطراف مملکة الفرس أنه کان لا ملک لهم (کذا) و أن أهلها إنما یتلومون صبیا فی المهد لا یدرون ما هو کائن من أمره، فطمعت فی مملکتهم الترک و الروم، و کانت بلاد العرب أدنی البلاد الی فارس و کانوا من أحوج الأمم الی تناول شی‌ء من معایشهم و بلادهم لسوء حالهم و شظف عیشهم فسار جمع عظیم منهم فی البحر من ناحیة عبد القیس و البحرین و کاظمة حتی أناخوا علی إیرانشهر و سواحل أردشیر خره و أسیاف فارس و غلبوا أهلها علی مواشیهم و حروثهم و معایشهم و أکثروا الفساد فی تلک البلاد، فمکثوا علی ذلک من أمرهم حینا لا یغزوهم أحد من الفرس لعقدهم تاج الملک علی طفل من الأطفال و قلة هیبة الناس له حتی تحرّک سابور و ترعرع ... حتی تمّت له ست عشرة سنة و أطاق حمل السلاح و رکوب الخیل و اشتد عظمه ... ثم انتخب الف فارس من صنادید جنده و أبطالهم و تقدم الیهم فی المضی لأمره و نهاهم عن الابقاء علی من لقوا من العرب و العرجة علی إصابة مال ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب و هم غارون و قتل منهم أبرح القتل و أسر أعنف الأسر و هرب بقیتهم ثم قطع البحر فی أصحابه فورد الخط و استقری بلاد البحرین یقتل أهلها و لا یقبل فداءا و لا یعرّج علی غنیمة ثم مضی علی وجهه فورد هجر و بها ناس من اعراب تمیم و بکر بن وائل و عبد القیس فأفشی فیهم القتل و سفک فیهم من الدماء سفکا سالت کسیل المطر حتی کان الهارب منهم یری أنه لن ینجیه منه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 19
غار و لا جبل و لا جزیرة فی بحر ثم عطف الی بلاد عبد القیس فأباد أهلها الا من هرب منهم فلحق بالرمال ثم أتی الیمامة فقتل بها مثل تلک المقتلة، و لم یمر بماء من میاه العرب إلّا غوّره و لا جبّ من جبابهم، إلّا طمّة ثم أتی قرب المدینة فقتل من وجد هنالک من العرب و أسر ثم عطف نحو بلاد بکر و تغلب فیما بین مملکة فارس و مناظر الروم بأرض الشام فقتل من وجد بها من العرب و سبی و طم میاههم و انه أسکن من بنی تغلب من البحرین دارین و اسمهما هیج و الخط، و من کان عبد القیس و طوائف من بنی تمیم هجر و من کان من بکر بن وائل کرمان و هم الذین یدعون بکر أبان، و من کان منهم من بنی حنظلة بالرملیة من بلاد الأهواز و انه أمر فبنیت بأرض السواد مدینة فسماها بزرج سابور و هی الأنبار ...»
و ذکر الطبری بعد ذلک تملک للیانوس (یولیانس) فی المملکة الرومیة وحشده جموعا من الروم و الخزر و من کان فی مملکته من العرب لیقاتل بهم سابور و جنود فارس، و قال: «و انتهزت العرب بذلک السبب الفرصة من الانتقام من سابور و ما کان من قتله العرب، و اجتمع فی عسکر للیانوس من العرب مائة الف و سبعون ألف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه علی مقدمته یسمی یوسانوس ... و إن من کان فی عسکر للیانوس من العرب سألوه ان یأذن لهم فی محاربة سابور، فأجابهم الی ما سألوه، فزحفوا الی سابور فقاتلوه ففضوا جمعه و قتلوا منهم مقتلة عظیمة و هرب سابور فیمن بقی من جنده و احتوی للیانوس علی مدینة طیسبون (المدائن) محلة سابور، و ظفر ببیوت اموال سابور و خزائنه فیها، و ذکر بعد ذلک استرداد سابور مدینة طیسبون و هزمه لجیوش ملک الروم ثم قال: و إن سابور ضری بقتل العرب و نزع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 20
أکتاف رؤسائهم إلی ان هلک و کان ذلک سبب تسمیتهم إیاه ذا الاکتاف.
و ذکر بعض اهل الاخبار ان سابور بعد ان اثخن فی العرب و أجلاهم عن النواحی التی کانوا صاروا الیها مما قرب من نواحی فارس و البحرین و الیمامة ثم هبط الی الشام».
و قال الطبری: ثم استصلح (سابور) العرب و أسکن ببعض قبائل تغلب و عبد القیس و بکر بن وائل کرمان و توّج و الأهواز ... و هلک فی عهد سابور عامله علی ضاحیة مضر و ربیعة امرؤ القیس البدء بن عمرو بن عدّی بن ربیعة بن نصر فاستعمل سابور علی عمله ابنه عمرو بن امری‌ء القیس».

خندق سابور ذی الاکتاف «کری سعدة»

قال یاقوت الحموی : و خندق سابور فی بریة الکوفة، حفره سابور بینه و بین العرب خوفا من شرهم، قالوا: کانت هیت و عانات مضافة إلی طسوّج الأنبار، فلما ملک انوشروان (531- 579 م) بلغه أن طوائف من الاعراب یغیرون علی ما قرب من السواد الی البادیة، فامر بتجدید سور مدینة تعرف بالنسر کان سابور ذو الاکتاف بناها و جعلها مسلحة تحفظ ما قرب البادیة و أمر بحفر خندق من هیت یشق طفّ البادیة الی کاظمة مما یلی البصرة و ینفذ إلی البحر و بنی علیه المناظر و الجواسق و نظمه بالمسالح لیکون ذلک مانعا لأهل البادیة من السواد، فخرجت هیت و عانات بسبب ذلک الخندق، من طسوج شاه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 21
فیروز لأن عانات کانت قری مضمومة الی هیت ». و قال فی المشترک:
«و خندق سابور فی بریة الکوفة، کان سابور ذو الاکتاف أمر بحفره لیکون مانعا للعرب من العیث فی أرض السواد ».
و قال صفی الدین بن عبد الحق فی مراصد الاطلاع: «و خندق سابور فی بریة الکوفة، حفره سابور ملک الفرس بینه و بین العرب من هیثة یشق طف البادیة الی کاظمة مما یلی البصرة الی البحر و بنی علیه المناظر و الجواسق و نظمه بالمسالح ». و هذا یعنی أنه کان متصلا بما یسمی خور عبد اللّه.
و قال یاقوت أیضا: «و الطف أرض من ضاحیة الکوفة فی طریق البریة فیها کان مقتل الحسین بن علی رضی اللّه عنه- و هی أرض بادیة قریبة من الریف، فبها عدة عیون ماء جاریة منها الصید و القطقطانة و الرهیمة و عین جمل و ذواتها و هی عیون کانت للموکلین بالمسالح التی کانت وراء خندق سابور الذی حفره بینه و بین العرب و غیرهم، و ذلک أن سابو و أقطعهم أرضا یعتملونها من غیر أن یلزمهم خراجا، فلما کان یوم ذی قار و نصر اللّه العرب بنبیه صلّی اللّه علیه و سلم غلبت العرب علی طائفة من تلک العیون، و بقی بعضها فی أیدی الأعاجم »
و قال البلاذری: «قالوا: کانت عیون الطف من عین الصید و القطقطانة و عین جمل و ذواتها للموکلین بالمسالح التی وراء السواد و هی عیون خندق سابور الذیّ حفره بینه و بین العرب الموکلین بمسالح الخندق و غیرهم، و ذلک ان سابور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 22
أقطعهم أرضا فاعتملوها من غیر ان یلزمهم لها خراجا، فلما کان یوم ذی قار و نصر اللّه العرب بنبیه- صلّی اللّه علیه و سلم- غلبت العرب علی طائفة من تلک العیون و بقی فی أیدی الأعاجم بعضها ثم لما قدم المسلمون الحیرة هربت الأعاجم بعد أن طمست عامة ما فی أیدیهم منها و بقی الذی فی أیدی العرب فاسلموا علیه و صار ما عمروه من الأرضین عشریا .
و لا یزال تحقیق خندق سابور واضحا فی غربی النجف و موضع الحیرة و کربلا و یعرف «بکری سعدة » و لا تزال قائمة من مسالح سابور ذی الاکتاف مسلحة عظیمة تعرف (بحصن الأخیضر) و هو مشید فی أرض بسیطة بین تلال و أطلال متعادیة، و کأن الأرض التی أنشی‌ء فیها کانت السهل الوحید المؤدی الی بلاد السواد لمن یقصدها من الفرسان، و کان الحصن هذا هو الذی حاصر خالد بن الولید جنوده و حامیته، قال البلاذری: «قالوا و أتی خالد بن الولید رجل دلّه علی سوقة یجتمع فیها کلب و بکر بن وائل و طوائف من قضاعة فوق الأنبار فوجه الیها المثنی بن حارثة فأغار علیها فأصاب ما فیها و قتل و سبی ثم أتی خالد عین التمر فألصق بحصنها و کانت مسلحة للأعاجم عظیمة، فخرج أهل الحصن فقاتلوا ثم لزموا حصنهم فحاصرهم خالد و المسلمون حتی سألوا الأمان، فأبی أن یؤمنهم و افتتح الحصن عنوة و قتل و سبی، و وجد فی کنیسة هناک جماعة سیاهم؟؟؟ ..»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 23

النجف مصحة قدیمة

و کان النجف و لا یزال کذلک طیب المناخ، عذی الأرض و الهواء مصحة للأجسام العلیلة، و منجاة من الأمراض الوبیلة، و قد أید ذلک الاختبار و الأخبار و الأشعار، و من ذلک قول اسحاق بن ابراهیم الموصلی:
یا راکب العیس لا تعجل بنا وقف‌نحی دارا لسعدی ثم ننصرف
لم ینزل الناس من سهل و لا جبل‌أصفی هواءا و لا أعذی من النجف
حفت ببرّ و بحر من جوانبهافالبرّ فی طرف و البحر فی طرف
و ما یزال نسیم من یمانیةیأتیک منها برّیا روضة أنف
کأن تربته مسک یفوح به‌أو عنبر دافه العطار فی صدف
و قال الجاحظ: «هرب رجل من الطاعون الی النجف أیام شریح، فکتب الیه شریح: أما بعد فان الفرار لن یبعد أجلا و لن یکثر رزقا و إن المقام لن یقرب أجلا و لن یقلل رزقا و إن النجف من ذی قدرة لقریب .»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 24
و کان هذا فضولا من شریح- رحمه اللّه- فلو أتبع قوله لم یستشف مریض و لا استوصف الأطباء، و لا شرب الدواء لدفع الأدواء، و لا أحسن السکن و الغذاء، و من أجل صفاء الماء و الهواء و عذاوة الأرض بنی المناذرة قصرهم المشهور «الخورنق» قرب النجف، قال یاقوت الحموی: «الخورنق». الذی علیه أهل الأثر و الاخبار أن الخورنق قصر کان بطهر الحیرة و قد اختلفوا فی فی بانیه فقال الهیثم بن عدی: الذی أمر ببناء الخورنق النعمان بن امری‌ء القیس بن عمرو بن عدی بن نصر بن الحارث بن لخم ... ملک ثمانین سنة و بنی الخورنق فی ستین سنة بناه له رجل من الروم یقال له سنمار ... و کان النعمان هذا قد غزا الشام مرارا و کان من أشد الملوک بأسا، فبینما هو ذات یوم جالس فی مجلسه فی الخورنق فأشرف علی (النجف) و مایلیه من البساتین و النخل و الجنان و الانهار مما یلی المغرب و علی الفرات مما یلی المشرق و الخورنق مقابل الفرات یدور علیه علی عاقول کالخندق فأعجبه ما رأی من الخضرة و النور و الانهار فقال لوزیره:
أرأیت مثل هذا المنظر و حسنه؟ فقال: لا و اللّه أیها الملک ما رأیت مثله لو کان یدوم. فقال: فما الذی یدوم؟ قال: ما عند اللّه فی الآخرة. قال: فبم ینال ذلک؟ قال: بترک هذه الدنیا و عبادة اللّه و التماس ما عنده. فترک ملکه فی لیلة و لبس المسوح و خرج مختفیا هاربا لا یعلم به أحد و لم یقف الناس علی خبره الی الآن.» ثم ظهر تخلیه من الملک و لحاقه بالنساک فی الجبال و الفلوات فما رؤی بعد ذلک و یقال إن وزیره صحبه و مضی معه، و فی ذلک یقول عدی بن زید:
و تبیّن رب الخورنق إذ أشرف یوما و للهدی تفکیر
سرّه ما رأی و کثرة ما یملک و البحر معرضا و السدیر
فارعوی قلبه و قال فما غبطة حیّ الی الممات یصیر؟
ثم بعد الفلاح و الملک و الإمرة وارتهم هناک القبور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 25 ثم صاروا کأنهم ورق جف‌فألوت به الصبا و الدبور
و قال ابن الکلبی: صاحب الخورنق و الذی أمر ببنائه بهرام جور بن یزد جرد بن سابور ذی الاکتاف و ذلک أن یزد جرد کان لا یبقی له ولد و کان لحق ابنه بهرام جور فی صغره علة تشبه الاستسقاء فسأل عن منزل مری‌ء، صحیح من الادواء و الأسقام لیبعث بهرام الیه خوفا علیه من العلة فأشار علیه أطباؤه أن یخرجه من بلده الی أرض العرب و یسقی أبوال الابل و ألبانها فأنفذه الی النعمان و أمره أن یبنی له قصرا مثله علی شکل بناء الخورنق فبناه له و أنزله إیاه و عالجه حتی برأ من مرضه ثم استأذن أباه فی المقام عند النعمان فأذن له فلم یزل عنده نازلا قصره الخورنق حتی صار رجلا و مات أبوه فکان من أمره فی طلب الملک حتی ظفر بما هو متعارف مشهور.»
و ذکر کریستنسن فی کتابه (إیران فی عهد الساسانیین) فی کلامه علی سیرة یزد جرد و أبنائه، قال: «و المؤکد ان بهرام کان یعیش فی قصر الخورنق بالحیرة و هو القصر الذی ینسب بناؤه الی النعمان اللخمی و لکن تاریخه یرجع بغیر شک الی تاریخ أقدم زمانا ». و تطرق هذا المؤلف فی الصفحة 442 الی بناء سنمار للخورنق.
و ذکر أبو بکر أحمد بن مروان المالکی، بسنده عن هرون بن عنترة عن أبیه قال: «دخلت علی علی بن أبی طالب- رضی اللّه عنه- بالخورنق و علیه قطیفة و هو یرعد من البرد فقلت: یا أمیر المؤمنین إن اللّه قد جعل لک و لأهل بیتک فی هذا المال نصیبا و أنت تفعل بنفسک هذا؟ فقال: انی و اللّه لا أرز أمن أموالکم شیئا و هذه القطیفة التی أخرجتها من بیتی (أو قال) من المدینة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 26

النجف و الحیرة

الحیرة المدینة العربیة المشهورة فی تاریخ العرب و جغرافیة بلادهم أنشئت فی منطقة النجف و کان ینبغی أن تضاف الیه فیقال «حیرة النجف» الا أن العادة جرت بتعریف الغامر بالعامر فأضیف النجف الی الحیرة فقیل «النجف الحاری» أی النجف الحیری، قال یاقوت: و لبعض أهل الکوفة:
و با (النجف الحاری) ان زرت أهله‌مها مهملات ما علیهن سائس
خرجن بحب اللهو فی غیر ریبةعفائف باغی اللهو منهن آیس
یردن اذا ما الشمس لم یخش حرّهاظلال بساتین جناهن یابس
إذا الحر آذاهن لذن بفیئه‌کما لاذ بالظل الظباء الکوانس
لهن اذا ما استعرضتهن عشیةعلی ضفة النهر الملیح مجالس
یفوح علیک المسک منه و ان تقف‌تحدث و لیست بینهن و ساوس
و لکن نقیات من اللؤم و الخناإذا ابتزعن أبشارهن الملابس .
و یؤید ذلک أن یاقوتا الحموی قال فی ذکر الحیرة «... مدینة کانت علی ثلاثة أمیال من الکوفة علی موضع یقال له النجف»، و أن حنینا الحیری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 27
المغنی الذی ذکرناه آنفا افتخر بأن متزله «النجف» فی بیته المقدم ذکره:
أنا حنین و منزلی النجف‌و ما ندیمی إلا الفتی القصف
و قال بعده:
أقرع بالکأس ثغر باطیةمترعة تارة و أغترف
و العیش غصن و منزلی خصب‌لم تغذنی شقوة و لا عنف
أما قول البحتری:
آمق الکوفة أرضا و أری نجف الحیرة) أرضاها وطن
فقد جری فیه علی العادة التی ذکرنا آنفا، و الحقیقة أن الحیرة هی (حیرة النجف) کما ألمعنا الیه من قبل.

مبانی منطقة النجف و مآثرها

1 الاکیراح. قال یاقوت الحموی فی معجم البلدان: «أکیراح: بالضم ثم الفتح و یاء ساکنة وراء و ألف مهملة ... و هی فی الأصل القباب الصغار، قال الخالدی: الاکیراح رستاق نزه بأرض الکوفة، و الاکیراح بیوت صغار تسکنها الرهبان الذین لا قلالی لهم، یقال لواحدها (کرح) بالقرب منها دیران یقال لأحدهما (دیر مر عبدا) و للآخر (دیر حنة) و هو وضع بظهر الکوفة ...» و قال أبو عبید البکری: فی معجم ما استعجم: «الأکیراح: بضم أوله تصغیر أکراح بالراء و الحاء: موضع بالحیرة، و موضع أیضا آخر بالبلیخ یقال له الأکیراح- و إیاه یعنی- الأول- عن الحکمی بقوله: (یا دیر حنة من ذات الأکیراح)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 28
و سیأتی ذکره فی باب الدیارات».
2- الغریان، قال یاقوت الحموی: «الغریان: تثنیة الغری و هو المطلی بالغراء ... و الغری نصب کان یذبح علیه العتائر، و الغریان طربالان و هما بنا آن کالصومعتین بظاهر الکوفة قرب قبر علی بن أبی طالب- رضی اللّه عنه- ... بناهما المنذر بن امری‌ء القیس بن ماء السماء و کان السبب فی ذلک أنه کان له ندیمان من بنی أسد یقال لأحدهما خالد بن نضلة و الآخر عمر بن سعود فثملا فراجعا الملک لیلة فی بعض کلامه فامر و هو سکران فحفر لهما حفیرتان فی ظهر الکوفة و دفنهما حینین، فلما أصبح استدعاهما، فأخبر بالذی أمضاه فیهما، فغمه ذلک و قصد حفرتهما و أمر ببناء طربالین علیها و هما صومعتان، فقال المنذر:
ما أنا بملک إن خالف الناس أمری: لا یمر أحد من وفود العرب إلا بینهما، و جعل لهما فی السنة یوم بؤس و یوم نعیم، یذبح فی یوم بؤسه کل ما یلقاه، و یغری بدمه الطربالین، فان رفعت له الوحش طلبتها الخیل و إن رفع طائر أرسل علیه الجوارح حتی یذبح ما یعن و یطلیان بدمه. و لبث بذلک برهة من دهره و سمی أحد الیومین (یوم البؤس) و هو الیوم الذی یقتل فیه ما ظهر له من انسان و غیره، و سمی الآخر (یوم النعیم) یحسن فیه الی کل من یلقی من الناس و یحملهم و یخلع علیهم ... وجدت بخط أبی بکر السراج ... مر معن بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 30
زائدة بالغریین فرأی أحدهما و قد شعث و هدم فأنشأ یقول:
لو کان شی‌ء له أن لا یبید علی‌طول الزمان لما باد الغریان
ففرق الدهر و الأیام بینهماو کل إلف إلی بین و هجران
3- دیر الحریق، قال یاقوت: «سمی بذلک لأنه أحرق فی موضعه قوم ثم دفن فیه قوم من أهل من أحرقه هناک و عمل دیرا ... و وجدته بخط ابن حمدون بالخاء المعجم- فی الشعر و الترجمة ... و هو بالحیرة قدیم و فیه یقول الثروانی:
دیر الحریق فبیعة المزعوق‌بین الغدیر فقبة الشنیق
أشهی الی من الصراة و دورهاعند الصباح و من رحی البطریق
فاغدوا بناکر من ذخائر عتبةالخمار من صافی الدنان رحیق
یا صاح و اجتنب الملام أما تری‌سمجا ملامک لی و أنت صدیقی
و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر الحریق قدیم، هو بالحیرة، بناه النعمان بن المنذر علی ولد کان له، عدی علیه و أحرقه فیه، و الی جانبة قبة تعرف بقبة السنیق و تعرف بقبة غصین و هما راهبان نسبتا إلیهما و هما بدیعتا البناء، و فی الدیر و فیها یقول الثروانی:
دیر الحریق و قبة السّنیق‌مغنی لحلف مدامة و فسوق
وطن لفرقته شرقت بدمعتی‌و لرحلتی عنه غصصت بریقی
حکی حمزة بن أبی سلامة قال: کان الثروانی جاری بالکوفة و کان کثیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 31
الالمام بالدیرة فباکرنی فی یوم شعانین و قال لی: اعزم بنا الیوم علی الشرب فی دیر الحریق لأنه یوم سیقصده فیه خلق، ولی به صدیق من رهبانه ظریف، ملیح القلایة جید الشراب فهلم ننزه أعیننا فیما نراه من الجواری و الغلمان ثم نعدل الی قلایة صدیقنا فنشرب علی سطحها المشرف علی الریاض، فخرجنا فرأینا من النساء و الوصائف و الولدان فی الحلی و الحلل ما لم أر مثله قط، فلم یزل یعبث و یتعرض و یقبل و یعانق- و کان معروفا بذلک فما أحد ینکر علیه فعله إلی بعد الظهر، ثم أتینا قلایة صدیقه الراهب، فلقیه بالاکرام و الترحیب، فدخلنا قلایته فما رأینا أنظف من آلاتها و لا أنضر من بستانها، ثم قدم لنا شیئا من طعامه، فأصبنا منه ثم صعدنا سطحها و جلسنا ننظر الی منظر یبهر حسنا و جمالا من ریاض و غدران و طیر تصفر، و نحن نشرب حتی ثملنا و نمنا هناک، و غدونا علی الکوفة، فقلت له: تترک هذا الیوم مع حسنه عاطلا من حلی شعرک؟ فقال: لا و اللّه و لقد عملت فی لیلتی هذه، هذه الأبیات ثم أنشدنی:
خرجنا فی شعانین النصاری‌و شیعنا صلیب الجاثلیق
فلم أر منظرا أحلی بعینی‌من المتقیّنات علی الطریق
حملنا الخوص و الزیتون حتی‌بلغن به الی (دیر الحریق)
أکلناهن باللحظات عشقاو أضمرنا لهن علی الفسوق
4- دیر الاسکون ، قال یاقوت: «هو بالحیرة- راکب علی النجف و فیه قلالی و هیاکل و فیه رهبان یضیفون من ورد علیهم و علیه سور عال حصین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 32
و علیه باب حدید و منه یهبط الی غدیر بالحیرة، أرضه رضراض و رمل أبیض و له مشرعة تقابل الحیرة لها ماء إذا انقطع النهر کان منها شرب أهل الحیرة ...»
و نقل ابن فضل اللّه العمری وصفه من کتاب «دیارات الحیرة» و ظهر أن یاقوتا الحموی نقل من المرجع نفسه و زاد العمری قوله: «قال- یعنی مصنف دیارات الحیرة-: و الیه تجتمع النصاری فی أعیادهم و فی کل یوم جمعة بعد صلاة الجمعة فاذا کان یوم الشعانین أتوه من کل ناحیة مع شمامیسهم بصلبهم و أعلامهم فاذا استتموا فیه و فی القصر الأبیض و العلالی المدانیّة خرج أسقفهم بهم الی مکان یعرف بقبیبات الشعانین (و هی قباب علی میل من ناحیة طریق الشام) فأقام بهم فیها یومهم ذلک الی آخره و لکل منهم یومئذ شأن یغنیه».
5- دیر حنة، قال یاقوت الحموی: «هو دیر قدیم بالحیرة منذ أیام بناه المنذر لقوم من تنوخ یقال لهم بنو ساطع، تقابله منارة عالیة کالمرقب تسمی القائم لبنی أوس بن عمرو بن عامر، و فیه یقول الثروانی:
یا دیر حنة عند القائم الساقی‌إلی الخورنق من دیر ابن براق
لیس السلو و إن أصبحت ممتنعامن بغیتی فیک من شکلی و أخلاقی
سقیا لعافیک من عاف معالمه‌قفر و ما فیک مثل الوشم من باق
و دیر حنة بالأکیراح الذی قیل فیه: «یا دیر حنة من ذات الأکیراح» هذا أیضا بظاهر الکوفة و الحیرة، لا أدری أهو هذا المذکور هنا أم غیره و قد ذکر شاهده فی الأکیراح». و قد کان قال فی الأکیراح: ... بالقرب منها دیران یقال لأحدهما (دیر مر عبدا) و للآخر (دیر حنة) و هو موضع بظاهر الکوفة کثیر البساتین و الریاض، و فیه یقول أبو نواس:
( (1) «1: 312»)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 33 یا دیر حنة من ذات الأکیراح‌من یصح عنک فانی لست بالصاحی
یعتاده کل مجفو مفارقه‌من الدهان علیه سحق أمساح
فی فتیة لم یدع منهم تخوفهم‌وقوع ما حذروه غیر أشباح
لا یدلفون الی ماء بباطیة إلا اغترافا من الغدران بالراح
قرأت بخط أبی سعید السکری (حدثنی أبو جعفر أحمد بن أبی الهیثم البجلی قال رأیت الأکیراح و هو علی سبعة فراسخ من الحیرة مما یلی مغرب الشمس من الحیرة و فیه دیارات فیها عیون و آبار محفورة یدخلها الماء) ... و قال بکر بن خارجة:
دع البساتین من آس و تفاح‌و اقصد الی الشیح من ذات الأکیراح
الی الدساکر فالدیر المقابلهالدی الأکیراح أو دیر ابن وضاح
منازل لم أزل حینا الازمهالزوم عاد الی اللذات روّاح»
و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر حنة بالحیرة من بناء نوح، هکذا نقلته و لا أعرف من هو، و إلی جانبه قائم، حکی أحمد بن عمر الکوفی، قال:
کان بالکوفة رجل أدیب ضعیف الحال مهما وقع فی یده من شی‌ء أتی به الی دیر حنة فیشرب فیه حتی یسکر، ثم ینصرف الی أهله و یقول: یعجبنی من الغراب بکوره فی طلب الرزق و ربما بات به و یقول:
تطاول لیلک بالزاویه‌و کان المبیت بها عافیه
و من تحت رأسک آجرّةو جنبک ملقی علی باریه
و ذلک خیر من الانصراف‌فتحکم فیک بنو الزانیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 34 و تصبح إمّا رهین السجون‌و إما قتیلا علی ساقیه
قال: فوجد و اللّه بعد أیام قتیلا علی ساقیة و هو القائل:
ما لذة العیش عندی غیر واحدةهی البکور الی بعض المواخیر
لخامل الذکر مأمون بوائقه‌سهل القیاد من الفره المدابیر
حتی یحل علی دیر ابن کافرةمن النصاری ببیع الخمر مشهور
کانما عقد الزنّار فوق نقاو اعتّم فوق دجی الظلماء بالنور
و فیه قال الثروانی:
یومی بهیکل دیر حنة لم یزل‌غرّ السحاب تجود فیه و تمرع
متجوش طورا و طورا شاهرابیض السیوف و دارة یتدرع
و کذلک قال فیه بکر بن خارجة الکوفی:
ألا سقی الخورنق من محل‌طریف الروض معشوق أنیق!
أقمت بدیر حنتّه زمانابسکر فی الصبوح و فی الغبوق
و منا لابس اکلیل زهرو مختضب السوالف بالخلوق
کأن ریاضه حسنا و نوراسحائب ذهّبت بسنا البروق
کأن تقاطر الأشجار فیه‌إذا غسق الظلام قطار نوق
و ماذا شئت من در الأقاحی‌هناک و من یواقیت الشقیق
و قد ذکر دیر حنة أبو الفرج الأصفهانی و قال «ذکره أبو نواس فی شعره یعنی فی قوله: یا دیر حنة من ذات الأکیراح .. قال: و الأکیراح بلد نزه کثیر البساتین و الریاض و المیاه، قال و بالحیرة أیضا موضع یقال له الأکیراح فیه دیر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 35
و الأکیراح قباب صغار یسکنها الرهبان، یقال للواحد منها الکرح» .
6- دیر ابن مزعوق، قال الشابشتی: «و هذا الدیر بالحیرة فی وسطها و هو دیر کثیر الرهبان، حسن العمارة، أحد المتنزهات المقصودة و الأماکن الموصوفة، و لمحمد بن عبد الرحمن الثروانی فیه:
هل لک فی مار فایثون و فی‌دیر ابن مزعوق غیر مختصر
و نسأل الأرض عن منابتهاو عهدها بالربیع و المطر
یا لک طیبا و شم رائحةکالمسک یأتی بنفحة السحر
فی شرب خمر و سمع محسنةتلهیک بین اللسان و الوتر
و الثروانی هذا کوفیّ من المطبوعین فی الشعر و المنهمکین فی البطالات و المتطرحین فی الحانات و المدمنین لشرب الخمر، و المغرقین فی اتباع المرد، لا یعرف شیئا غیر ذلک، و لا یوجد شی‌ء من الدنیا إلا فیه و کان آخر أمره أن أصیب فی حانة خمّار بین زقیّ خمر و هو میت ...
و قال یاقوت فی معجم البلدان: «دیر المزعوق و یقال دیر ابن المزعوق، و هو قدیم بظاهر الحیرة، قال محمد بن عبد الرحمن الثروانی:
قلت له و النجوم طالعةفی لیلة الفصح أول السحر
هل لک فی مار فاثیون و فی‌دیر ابن مزعوق غیر مقتصر؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 36 یفیض منه النسیم عن طرق الشام‌و ریح الندی عن المدر
و نسأل الأرض عن بشاشتهاو عهدها بالربیع و المطر
فی شرب خمر و صدع محسنةتلهیک بین اللسان و الوتر»
و أورد ابن فضل اللّه العمری ذکره قال: «دیر ابن مزعوق هو بالحیرة قریب دیر الحریق، فی أنزه البقاع زهرا، و رقیق هواء و تدفق ماء، و تشوق الیه الثروانی من بغداد فقال:
دیر الحریق و بیعة المزعوق‌بین الغدیر و قبة الشنیق
أشهی إلی من الصراة و طیبهاعند الصباح من رحی البطریق
یا صاح فاجتنب الملام أما تری‌سمجا ملامک لی و أنت صدیقی
و قد ذکره أبو الفرج و أنشد للثروانی فیه و فی (دیر فاثیون) قوله: قلت له و النجوم جانحة ...» و ذکر الأبیات المکتوبة آنفا ثم قال: و دیر فاثیون أسفل النجف و دیر ابن مزعوق بحذاء قصر عبد المسیح بأعلی النجف و فیه یقول الثروانی:
تقرّ بفضل عینک لی بوصل‌و فعلک لی مقرّ بالجحود
تشککنی و أعلم أنّ هذاهوی بین التعطف و الصدود
و قال أیضا:
کرّ الشراب علی نشوان مصطبح‌قد هب یشربها والدیک لم یصح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 37 و اللیل فی عسکر جمّ بوارقه‌من النجوم وضوء الصّبح لم یلح
و العیش لا عیش إلا أن تباکرهاصهباء تقتل هم النفس بالفرح
حتی یظل الذی قد بات یشربهاو لا براح به یختال کالمرح
7- دیر مارت مریم، قال یاقوت فی معجم البلدان: «دیر مارت مریم:
دیر قدیم من بناء آل المنذر بنواحی الحیرة بین الخورنق و السدیر و بین قصر أبی الخصیب مشرف علی النجف و فیه یقول الثروانی:
بمارت مریم الکبری‌و ظلّ فنائها فقف
فقصر أبی الخصیب المشرف المرخی علی النجف
فأکناف الخورنق و السدیر ملاعب السلف
الی النخل المکمم و الحمائم فوقه الهتف
و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر مارت مریم: هو بالحیرة من بناء المنذر و هما دیران متقابلان و بینهما مدرجة الحاج و طریق السابلة الی القادسیة و هما مشرفان علی النجف و من أراد الخورنق عدل عن جادتها ذات الیسار و من شعر الثروانی فیها:
دع الأیام تفعل ما أرادت‌إذا جادت بندمان و کأس
و مارت مریم و الصحن فیه‌حدّیقتان من ورد و آس
و ظبی فی لواحظ مقلتیه‌نعاس من فتور لا نعاس
و خل لا یحول عن التصابی‌ذکور للمودة غیر ناسی
و محتضن لطنبور فصیح‌یغنینی بشعر أبی نواس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 38
و قد ذکره أبو الفرج و قال: کان قس یقال له یحیی بن حماد و یقال له یوشع ، تألفه الفتیان و یشربون علی سطحه و فی قلایته علی قراءة النصاری و ضرب النواقیس و فیه قال بکر بن خارجة أو غیره:
بتنا بمارت مریم‌سقیا لمارت مریم
و لقسها یحیی المهینم بعد نوم النوم
و لیوشع و لخمره‌حمراء مثل العندم
و لفتیة حفوّا به‌یعصون لوم اللّوم
یسقیهم ظبی أغن‌لطیف غلق المعصم
یرمی بعینیه القلوب‌کمثل رمی الأسهم»
و قال اسحاق بن ابراهیم الموصلی: «لما خرجت مع الواثق الی النجف درنا بالحیرة و مررنا بدیاراتها فرأیت دیر مریم بالحیرة فأعجبنی موقعه و حسن بنائه فقلت:
نعم المحل لمن یسعی للذته‌دیر لمریم فوق الظهر معمور
ظل ظلیل و ماء غیر ذی أسن‌و قاصرات کأمثال الدمی حور
فقال الواثق: لا نصطبح و اللّه غدا إلا فیه، و أمر أن یعدّ فیه ما یصلح من اللیل، و باکرناه فاصطبحت فیه علی هذا الصوت، و أمر بمال ففرقه علی أهل ذلک الدیر، و أمر لی بجائزة .
8- دیر حنة الکبیر، قال یاقوت و قد نقلنا قوله آنفا: «و دیر حنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 39
بالأکیراح الذی قیل فیه: یا دیر حنة من ذات الأکیراح. هذا أیضا بظاهر الکوفة و الحیرة و لا أدری أهو هذا المذکور هنا أم غیره، و قد ذکر شاهده فی الأکیراح». قلنا: ذکره ابن فضل اللّه باسم (دیر خنة الکبیر) قال:
«قال الخالدی هو بالحیرة فی الأکیراح، غیر دیر حنة الذی قدمنا ذکره، یقال إنه بنی حین بنیت الحیرة، و کان من أنزه الدیرة لکثرة بساتینه و تدفق میاهه.
حکی جحظة عن بعض أهل الحیرة قال: اجتاز عمر بن الفرج الرخجی منصرفا من الحج فتلقیناه و أعظمناه و سرنا معه فلما اجتاز بدیر حنة سألنا عنه، فعرفناه به، فقال: من ذا الذی یقول: یا دیر حنة من ذات الأکیراح!! فقال له الحسین بن هشام الحیری: هذا لأبی نواس أفتحب أن أنشدک لشاعرنا الثروانی شیئا یقرب من هذا المعنی فی هذا الدیر؟ قال: قل. فأنشده:
علی الریحان و الراح‌و أیام الأکیراح
و إبریق کطیر الماءفی لجّة ضحضاح
سلام یسکر الصاحی‌و ما فیه فتی صاحی
و من لی فیه بالسکرةعن وجه ابن وضاح
غزال صیغ من فتنةأبدان و أرواح
إذا راح الی البیعةفی أثواب أمساح
ففی کفیه إفسادی‌و فی کفیه إصلاحی
قال: فاستحسن الأبیات و أمر کاتبا معه یکتبها و خلع علی الحسین بن هشام و أجازه».
«و حکی جحظة قال: زرت ابراهیم بن المدبر- و کان بالکوفة- فأکرمنی و أنس لی و أقمت عنده ثلاثة أشهر، فجری یوما ذکر دیر حنة، فقال ابن المدبر، و اللّه إنی لأحب أن أراه و أشرب فیه، فقد ذکر لی حسنه، فأین هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 40
من الحیرة؟ فدلّه إسحاق بن الحسین العلوی علیه و قال له: فی هذه الأیام ینبغی أن یقصد لأنها أیام ربیع و ریاض معتّمة بالزهر و الغدران و البادیة بقربه فلن نعدم اعرابیا فصیحا یطیر الینا و نحن فیه فیهدی إلینا بیض نعام و یجنی لنا الکمأة. فتقدم ابن المدبر الی غلمانه باعداد ما یحتاج الیه، و خرج و خرجت حتی وافیناه، فاذا هو حسن البناء و الریاض محدقة به و نهر الحیرة الذی یقال له الغدیر بقرب منه، فضربت لنا خیام عنده و خرج إلینا رهبانه و حملوا إلینا مما عندهم من التحف و اللطف، فأکلنا و جلسنا نشرب، و غنیته بشعر أبی نواس المتقدم، فبینا نحن کذلک إذ اجتاز بنا غلام حسن عارضه کأنه بدر علی غصن، معه مصحف من مصاحف النصاری، کامل العقل ساحر اللحظ و اللفظ، فشرب ابن المدبر علی وجهه رطلا و سقاه قدحا و استأذنه الغلام فی النهوض و قال: معی مصحف لا تتم للرهبان صلاة إلا بحضوره و هذا وقت صلاتهم و قد ضربوا الناقوس منذ ساعة. و أخذ علیه العهد فی الرجوع إلیه و أمر له بمائة دینار و عملت شعرا صنعت فیه صوتا فما زال صوته طول مقامه و هو ...» و ذکر الأبیات ثم قال: «و أقمنا بمکاننا ثلاثة أیام ثم عدنا الی الکوفة و قد عملت فی تلک الأیام و غنّیت فیه:
و بالحیرة لی یوم‌و یوم بالأکیراح
إذا عزّ بنا الماءمزجنا الراح بالراح
و حکی الربیع عن بعض أهل الحیرة قال: کان فی دیر حنة خمار یقال له مر عبدا موصوف بجودة الخمر و نظافة الآنیة و ملاحة الحانة، فحکی مرعبدا قال: ما شعرت یوما و قد فتحت حانوتی و جلست الی جانب الهیکل الا بثلاثة فوارس قد اقبلوا من طریق السماوة فی البر، حتی وقفوا علی و هم متلثمون بعمائم الخز و علیهم حلل من القصب، فسلموا علی و أسفر أحدهم و قال: أنت مرعبدا و هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 41
دیر حنة،؟ قلت: نعم. قال، قد وصفت لنا بجودة الشراب و النظافة فاسقنی رطلا. فبادرت فغسلت یدی ثم نقرت الدنان و نظرت أصفاها فبزلته، فشرب و مسح یده و فمه بالمندیل ثم قال اسقنی آخر. فغسلت یدی و ترکت ذلک الدن و ذلک القدح و المندیل و نقرت دنا آخر. فلما رضیت صفاره بزلت منه رطلا فی قدح و أخذت مندیلا جدیدا فناولته ایاه فشرب کالأول، ثم قال: اسقنی رطلا آخر فسقینه فی غیر ذلک القدح و غیر ذلک المندیل، فشرب و مسح یده و فمه و قال لی: بارک اللّه فیک فما اطیب شرابک و انظفک و أحسن أدبک، و ما کان رایی ان أشرب اکثر من ثلاثة ارطال فلما رأیت نظافتک دعتنی نفسی الی شرب رابع فهاته. فناولته ایاه علی تلک السبیل، فشرب و قال: و لو لا اسباب تمنع من بیتک لکان حبیبا الی جلوسی یومی هذا فیه، و ولی منصرفا فی الطریق الذی بدا منه و رمی الی احد الراکبین اللذین کان معه بکیس، فقلت: و حق النصرانیة لا قبلته حتی أعرف الرجل. فقال: هذا الولید بن یزید بن عبد الملک وصفت له فأقبل من دمشق حتی شرب شرابک و رأی دیرک و الحیرة. ثم انصرف فحللت الکیس فاذا هو اربعمایة دینار ».
9- دیر هند الصغری، قال الشابشتی: «بنت هند هذا الدیر بالحیرة و ترهبت فیه و سکنته دهرا طویلا ثم عمیت. و هذا الدیر من اعظم دیارات الحیرة و أعمرها و هو بین الخندق و خضراء بکر، و لما قدم الحجاج الکوفة، سنة أربع و سبعین قیل له: ان بین الحیرة و الکوفة دیرا لهند بنت النعمان و هی فیه و من رأیها و عقلها، فانظر الیها فانها بقیة، فرکب و الناس معه حتی اتی الدیر. فقیل لها: هذا الامیر الحجاج بالباب، فاطّلعت من ناحیة الدیر. فقال لها، یا هند ما اعجب ما رأیت؟ قالت: خروج مثلی الی مثلک فلا تغتر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 42
یا حجاج بالدنیا، فانا أصبحنا و نحن کما قال النابغة:
رأیتک من تعقد له جل ذمةمن الناس یا من سرحه حیث أربعا
و لم نمس الا و نحن اذل الناس و قل ما اناء امتلأ الا انکفأ. فانصرف الحجاج مغضبا و بعث الیها من یخرجها من الدیر و یستأدیها الخراج فاخرجت مع ثلاث جوار من اهلها، فقالت احداهن فی خروجها:
خارجات یسقن من دیر هندمذعنات بذلة و هوان
لیت شعری أ أول الحشر هذاأم محا الدهر غیرة الفتیان؟
فشد فتی من أهل الکوفة علی فرسه فاستنقذهن من أشراط الحجاج و تغیب فبلغ الحجاج شعرها و فعل الفتی، فقال: ان اتانی فهو آمن و ان ظفر نابه قتلناه، فأتاه الفتی. فقال له: ما حملک علی ما صنعت؟ قال! الغیرة. فوصله و خلاه و کان سعد بن ابی وقاص حین فتح العراق اتی هندا الی دیرها، فخرجت الیه، فاکرمها و عرض علیها نفسه فی حوائجها، فقالت: سأحییک بتحیة کانت املاکنا تحیّا بها ... ثم جاءها المغیرة بن شعبة لما ولاه معاویة الکوفة فاستاذن علیها. فقیل لها: أمیر هذه المدرة بالباب. فقالت: قولوا له: من اولاد جبلة بن الأیهم أنت؟ قال: لا. قالت فمن ولد المنذر بن ماء السما؟ قال: لا.
قالت فمن أنت؟ قال المغیرة بن شعبة الثقفی. قالت فما حاجتک؟ قال:
جئتک خاطبا. قالت: لو جئتنی لجمال او حال لاجبتک و لکن أردت أن تتشرف بی فی محافل العرب فتقول: نکحت بنت النعمان بن المنذر و الا فای خمر فی اجتماع أعور و عمیاء؟ فبعث الیها قال: کیف کان امرکم؟ قالت:
سأختصر لک الجواب: أمسینا مساء و لیس فی الارض عربی الا و هو یرغب الینا و یرهبنا ثم اصبحنا و لیس احد الا و نحن نرغب الیه و نرهبه. قال: فما کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 43
ابوک یقول فی ثقیف. قالت اختصم الیه رجلان منهم فی شی‌ء أحدهما ینتمی الی ایاد و الآخر الی بکر بن هوازن فقضی به للایادی و قال:
ان ثقیفا لم تکن هوازناو لم تناسب عامرا و مازنا
فقال المغیرة: أما نحن فمن یکر بن هوازن فلیقل ابوک ما شاء ».
و قال یاقوت؛ «بالحیرة یقارب خطة بنی عبد اللّه بن دارم بالکوفة مما یلی الخندق فی موضع نزه و هو دیر هند الصغری بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة. قال هشام الکلبی: کان کسری قد غضب علی النعمان بن المنذر فحبسه فاعطت بنته هند عهدا للّه ان رده اللّه الی ملکه ان تبنی دیرا تسکنه حتی تموت فخلی کسری عن أبیها النعمان فبنت الدیر و أقامت به الی أن ماتت و دفنت فیه، و هی التی دخل علیها خالد بن الولید لما فتح الحیرة، فسلمت علیه، فقال لها لما عرفها: اسلمی حتی ازوجک رجلا شریفا مسلما. فقالت: أما الدین فلا رغبة لی فی غیر دین ابائی، و أما التزویج فلو کانت فی بقیة لما رغبت فیه فکیف و انا عجوز هرمة اترقب المنیة بین الیوم و الغد. فقال: سلینی حاجة، فقالت:
هؤلاء النصاری الذین فی ذمتکم تحفظونهم. قال: هذا فرض علینا اوصانا به نبینا محمد- ص- قالت: مالی حاجة غیر هذا فانی ساکنة فی هذا الدیر الذی بنیته ملاصقا لهذه الاعظم البالیة من اهلی حتی الحق بهم. فامر لها بمعونة و مال و کسوة. قالت: أنا فی غنی عنه، لی عبدان یزرعان مزرعة لی اتقوت بما یخرج منها و یمسک الرمق و قد اعتددت بقولک فعلا و بعرضک نقدا. فقال لها:
اخبرینی بشی‌ء ادرکت. قالت ما طلعت الشمس بین الخورنق و السدیر الا علی ما هو تحت حکمنا، فما امسی المساء حتی صرنا خولا لغیرنا. ثم أنشأت تقول:
فبینا نسوس الناس و الامر امرنااذا نحن فیهم سوقة نتنصف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 44 فتبا لدنیا لا یدوم نعیمهاتقلب تارات بنا و تصرف
تم قالت: اسمع منی دعاء کنا ندعو به لاملاکنا (شکرتک ید افتقرت بعد غنی و لا ملکتک ید استغنت بعد فقر، و اصاب اللّه بمعروفک مواضعه و لا ازال عن کریم نعمة الا جعلک سببا لردها الیه، و لا جعل لک الی لئیم حاجة).
فترکها و خرج، فجاء النصاری و قالوا: ما صنع بک الأمیر؟ فقالت:
صان لی ذمتی و اکرم وجهی‌انما یکرم الکریم الکریم
و قد اکثر الشعراء من ذکر هذا الدیر فقال الامیر معن بن زائدة الشیبانی و کان منزله قریبا منه:
الا لیت شعری هل ابیتن لیلةلدی دیر هند و الحبیب قریب
فنقضی لبانات و نلقی أحبةو یورق غصن للسرور رطیب
و هند هذه صاحبة القصة مع المغیرة بن شعبة». قال ابن فضل اللّه العمری:
«دیر هند و هی بنت النعمان بن المنذر، بناه ابوها له لتتعبد فیه فلما فرغ خرجت من قصر ابیها تریده فأقامت فی الطریق سنة تضرب المضارب فی نزه و صید و المسافة بین قصر أبیها و بینه نحو الفرسخ، و شق لها بشر بن مروان نهرا من الفرات و لم یزل النهر یجری حتی خرب الدیر، و حکی ان النعمان کان یصلی و یتقرب فیه و أنه علق فی هیکله خمسمائة قندیل من ذهب و فضة، و کانت أدهانها فی أعیاده من زنبق و بان و ما شاکلهما من الادهان، و یوقد فیه من العود الهندی و العنبر شیئا بجل عن الوصف. و فیما حکی الکلبی ان النعمان دخله فی بعض اعیاده فرأی امرأة تأخذ قربانا أخذت بقلبه، فدعا الراهب الذی قربها و سأله عنها، فقال: هی امرأة حکم بن عمرو اللخمی، فلما انصرف النعمان دعا عدی بن زید کاتبه و أوقفه علی الخبر و قال له: کیف الحیلة؟ فقال له:
إذا کان بکرة غد و حضر الناس الباب فابدأه فی الاذن و أحلسه معک علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 45
سریرک. ففعل النعمان ذلک و أذن للناس بعده. فجعلوا یتعجبون و انصرفوا.
فقال النعمان لعدی بن زید: قد فعلت ما أشرت به فمه؟. قال: اذا أصبحت فاکسه و احمله ففعل ثم قال اجعل حوائج العرب الیه. ففعل ثم قال النعمان لعدی بن زید: قد طال هذا. قال: اذا اصبحت فان عندک عشر نسوة فطلّق أبغضهن الیک، ثم قل له: قد طابت نفسی لک بما لم تطب به لولد و لا أخ. و قد طلقت لک فلانة فتزوجها. ففعل ذلک و خرج و هو لابس من حلل النعمان ولدیه ما حمله علیه. فجلس و حکم بین العرب و عدی بن زید بالباب جالس: فقال له اللخمی: ما أدری ما اکافی‌ء به الملک فعل معی و فعل؟ فقال عدی: ما أقدرک علی مکافأته. قال: و ما هو؟ قال: طلق امرأتک کما طلق لک امرأته قال: قد فعلت. فانفذها الی النعمان و فی ذلک یقول:
علقتها حرة حوراء ناعمةکأنها البدر فی داج من الظلم
ما فی البریة من أنثی تعادلهاإلا التی أخذ النعمان من حکم
رقد ذکره ابو الفرج و قال: هند بنت النعمان صاحبة هذا الدیر هی الحرقة و هی التی دخلت علی خالد بن الولید». و ذکر مختصر الخبر ثم قال: «و هذا الدیر یقارب دیر بنی عبد اللّه بن دارم بالکوفة مما یلی الخندق». و ذکر بعد ذلک ما ذکره الشابشتی فی کتابه الدیارات.
10- دیر هند الکبری، قال یاقوت: «و هو ایضا بالحیرة، بنته هند أم عمرو بن هند و هی هند بنت الحارث ابن عمرو بن حجر آکل المرار الکندی و کان فی صدره مکتوبا: بنت هذه البیعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملکة بنت الاملاک و أم الملک عمرو بن المنذر، أمة المسیح و أم عبده و بنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 46
عبیده و فی ملک ملک الاملاک خسرو أنوشروان فی زمن مار افریم الاسقف، فالاله الذی بنت له هذا الدیر یغفر خطیئتها و یترحم علیها و علی ولدها و یقبل بها و بقومها الی أمانة الحق و یکون اللّه معها و مع ولدها الدهر الداهر. حدث عبد اللّه بن مالک الخزاعی قال «دخلت مع یحی بن خالد لما خرجنا مع الرشید الی الحیرة و قد قصدناها لنتنزه بها و نری آثار المنذر، فدخل دیر هند الأصغر فرأی آثار قبر النعمان و قبرها الی جنبه ثم خرج الی دیر هند الکبری و هو علی طرف النجف، فرأی فی جانب حائطه شیئا مکتوبا فدعا بسلم و أمره بقرائته و کان فیه مکتوبا :
ان بنی المنذر عام انقضوابحیث شاد البیعة الراهب
تنفح بالمسک ذفاریّهم‌و عنبر یقطبه القاطب
و القز و الکتان أثوابهم‌لم یجب الصوف لهم جائب
و العز و الملک لهم راهن‌و قهوة ناجورها ساکب
أضحوا و ما یرجوهم طالب‌خیرا و لا یرهبهم راهب
کأنهم کانوا به لعبةسار الی این بها الراکب؟
فاصبحوا فی طبقات الثری‌بعد نعیم لهم راتب
شر البقایا من بقی بعدهم‌قل و ذل جده خائب
قال: فبکی حتی جرت دموعه علی لحیته و قال: نعم هذه سبیل الدنیا».
11- دیر اللج قال یاقوت: «هو بالحیرة بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس فی ایام مملکته و لم یکن فی دیارات الحیرة احسن بناءا منه و لا أنزه موضعا و فیه قیل:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 47 سقی اللّه دیر اللج غیثا فانه‌علی بعده منی الی حبیب
قریب الی قلبی بعید محله‌و کم من بعید الدار و هو قریب
یهیج ذکراه غزال یحله‌أغن سحور المقلتین ربیب
إذا رجّع الانجیل و اهتز مائداتذکر محزون و حنّ غریب
و هاج لقلبی عند ترجیع صو- ته‌بلابل اسقام به و وجیب
و فیه یقول إسماعیل بن عمار الأسدی:
ما أنس سعدة و الزرقاء یومهاباللج شرقیة فوق الدکاکین
و ذکره جریر فقال- نقلته من خط ابن أخی الشافعی و قال هو بظاهر الحیرة-،
یا رب عائدة بالغور لو شهدت‌عزّت علیها بدیر اللج شکوانا
إن العیون التی فی طرفها مرض‌قتلننا ثم لم یحیین قتلانا
یصرعن ذا اللب حتی لا حراک به‌و هن أضعف خلق اللّه أرکانا
یا رب غابطنا لو کان یطلبکم‌لاقی مباعدة منکم و حرمانا»
و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر اللج هو بالحیرة مما بناه النعمان بن المنذر و هو من أنزه دیاراتها و أحسنها بناءا، لما یطیف به من البساتین، و کان النعمان یأتیه یتعبد فیه و یستشفی به فی مرضه و فیه قیل:
یا لیلتی أطیب بها لیلةلو لم یکن قصّرها الطیب
بتنا (بدیر اللج) فی حانةشرابها فی الکأس مکبوب
یدیرها ظبی هضیم الحشایحبه الشبان و الشیب
حتی إذا ما الخمر مالت بناجرت أمور و أعاجیب
فما تری ظنک فی شادن‌بات إلی جانبه ذیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 48
و قد ذکره أبو الفرج فقال: کان النعمان یرکب کل أحد إلیه و فی کل عید معه أهل بیته خاصة من آل المنذر و من ینادمه من أهل دینه علیه جلل الدیباج المذهبة و علی رؤوسهم أکالیل الذهب و فی أوساطهم الزنانیر المحلاة بالذهب المفصّصة بالجوهر و بین أیدیهم أعلام فوقها صلبان الذهب فاذا قضوا صلاتهم انصرف إلی مستشرفه علی النجب فیشرب بقیة یومه إلی أن یمسی، و خلع و وصل و حمل، و کان ذلک أحسن منظر و أشرفه و أنشد فیه قول الشاعر: سقی اللّه دیر اللج خیرا فانه ...» و ذکر بیتین مما ذکره یاقوت من الشعر فیه
12- دیر بنی علقمة أو دیر علقمة، قال یاقوت: «دیر علقمة بالحیرة، منسوب الی علقمة بن عدی بن الرمیک ابن ثوب بن أسس بن ربی بن نمارة بن لخم، و فیه یقول عدی بن زید العبادی:
نادمت فی الدیر بنی علقماعاطیتهم مشمولة عندما
کأن ریح المسک من کأسهاإذا مزجناها بماء السما
علقم ما بالک لم تأتناأما اشتهیت الیوم أن تنعما
من سرّه العیش و لذاته‌فلیجعل الراح له سلّما»
و ذکره ابن فضل اللّه العمری فی مسالک الأبصار بأخصر مما ذکره یاقوت.
13- دیر حنظلة، قال یاقوت: «دیر حنظلة آخر و هو بالحیرة منسوب الی حنظلة بن عبد المسیح بن علقمة بن مالک بن ربی بن نمارة بن لخم بن عدی بن الحارث بن مرة بن أدد، و فیه یقول الشاعر:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 49 بساحة الحیرة دیر حنظلةعلیه أذیال السرور مسبله
أحییت فیه لیلة مقتبله‌و کأسنا بین الندامی معمله
و الراح فیها مثل نار مشعله‌و کلنا منتقد ما خوّله
فما یزال عاصیا من عذله‌مبادرا قبل تلاقی أجله»!
و ذکره ابن فضل اللّه العمری قال: «دیر حنظلة هو بالحیرة علی نحو فرسخ منها إلی المشرق و موضعه حسن لما فیه من جنینات رهبانه و أشجارهم و ما یلبسه الربیع من الریاض، و أنشد الخالدی فیه لغیره شعرا منه.
طرقتک سعدی بین شطی بارق‌نفسی الفداء لطیفها من طارق
یا دیر حنظلة المهیج فی الهوی‌هل تستطیع صلاح قلب العاشق
و قد ذکره أبو الفرج الأصفهانی و أنشد لبعض الشعراء فیه رجزا منه:
بساحة الحیرة دیر حنظلة » و ذکر بیتین من الأبیات التی ذکرها یاقوت.
14- دیارات الأساقف، قال الشابشتی: «هذه الدیارات بالنجف بظاهر الکوفة و هو أول الحیرة و هو اما قباب او قصور تسمی دیارات الأساقف و بحفرتها نهر یعرف بالغدیر، عن یمینه قصر ابی الخصیب مولی أبی جعفر و عن شماله السدیر و بین ذلک الدیارات. و قصر أبی الخصیب هذا أحد متنزهات الدنیا و هو مشرف علی النجف و علی ذلک الظهر، و یصعد من أسفله علی درجة طولها خمسون مرقاة إلی سطح حسن و مجلس فیشرف الناظر علی النجف و الحیرة من ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 50
الموضع ثم یصعد منه علی درجة أخری طولها خمسون مرقاة الی سطح فسیح و مجلس عجیب. و أبو الخصیب هذا مولی أبی جعفر المنصور و حاجبه. و السدیر قصر عظیم من أبنیة ملوک لخم فی قدیم الزمان و ما بقی الآن منه فهو دیارات و بیع للنصاری، و لعلی بن محمد الحمانی العلوی یذکر هذه المواضع .
کم وقفة لک بالخورنق‌لا توازی بالمواقف؟!
بین الغدیر الی السدیرإلی دیارات الأساقف
فمدارج الرهبان فی‌أطمار خائفة و خائف
دمن کان ریاضهایکسین أعلام المطارف
و کأنما غدرانهافیها عشور فی مصاحف
و کأنما أنوارها تهتز بالریح العواصف
طرر الوصائف یلتقین [بها] إلی طرر الوصائف
تلقی أوائلها أواخرهابألوان الزخارف
بحریة شتواتهابریة فیها المصایف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 51 وردیة الحصباء کافوریة فیها المشارف
ثم انبرت سحّا (کباکیة) بأربعة ذوارف »
باتت سواریها تمخض‌فی رواعدها القواصف
فکأن لمع بروقهافی الجو أسیاف المثاقف
فکأنما أنوارها تهتزفی الدرج العواصف طرر الوصائف یلتقین
بها إلی طرر الوصائف‌دافعتها عن دجنها
بالغلب و البیض الغطارف‌یعبق یوم البأس شرّا
بین فی یوم المعارف سمح بحر المال وقا
فون فی یوم المتالف‌واها لأیام الشباب
و ما لبسن من الزخارف‌و زوالهنّ بما عرفت
من المناکر و المعارف‌أیام ذکرک فی دوا
وین الصبا صدر الصحائف‌واها لأیامی و أیام
النقیات المراشف‌و الغارسات البان قص
بانا علی کثب الروادف‌و الجاعلات البدر ما
بین الحواجب و السوالف موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 52 أیام یظهرن الخلاف‌بغیر نیات المخالف
وقف النعیم علی الصّباو زللت عن تلک المواقف
15- قبة الشنیق، قال الشابشتی: و هی من الأبنیة القدیمة بالحیرة، علی طریق الحاج و بازائها قباب یقال لها السکورة ، جمیعها للنصاری، فیخرجون یوم عیدهم من السکورة الی القبة فی أحسن زی علیهم الصلبان، بأیدیهم المجامر و الشمامسة و القسان معهم یقدسون (علی نغم واحد متفق من الألحان ) و یتبعهم خلق کثیر من متطربی المسلمین و أهل البطالة الی أن یبلغوا قبة الشنیق فیتقربون و یتعمدون ثم یعودون بمثل تلک الحال فهو منظر ملیح، و لبعض الشعراء فیه:
و النصاری مشددین الزنانیر علیهن کل حلی وثیق
یتمشین من قباب الشعانین الی صحن قبة الشنیق
یا خلیلی فلا تعنفنی یوم‌تری اللهو فیه بالتحقیق
و لبکر بن خارجة:
یا خلیلی عرجا بی الی الحیرةکم کم تراقبان النجوما؟! موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 53 و اسقیانی من بیت بیجوم راحا قهوة لا تماکسا بیجوما
حانة حشوها ظباء ملاح‌هیجوا بالدلال قلبا سقیما
و إذا ما سقیتمانی شراباخندریسا معتقا مختوما
فاقصدوا قبة الشنیق و ظبیاسکن الدیر قد سبانی رخیما
عقد زناره توصل بالقلب‌و أمسی بین الحشا مخزوما »
و قال ابن فضل اللّه العمری: «قبة الشنیق و هی من الأبنیة القدیمة بالحیرة علی طریق الحاج و بازائها قباب یقال لها السکورة جمیعها للنصاری و عید الشعانین بها نزه یخرج فیه النصاری من السکورة الی القبة فی أحسن زی، علیهم الصلبان و بأیدیهم ...» و ذکر ما یشبه قول الشابشتی ما عدا الشعر فلم یذکر منه شیئا. و قد قدمنا ذکر هذه القبة فی الکلام علی دیر الحریق و دیر ابن مزعوق.
16- دیر عبد المسیح، قال یاقوت فی معجم البلدان: «دیر عبد المسیح بن عمرو بن بقیلة الغسانی، و سمی بقیلة لأنه خرج علی قومه فی حلتین خضراوین فقالوا: ما هذا الابقیلة، و کان أحد المعمرین، یقال إنه عمر ثلاثمائة و خمسین سنة (کذا) و هذا الدیر بظاهر الحیرة بموضع یقال له الجزعة، و عبد المسیح هو الذی لقی خالد بن الولید- رضی اللّه عنه- لما غزا الحیرة و قاتل الفرس فرموه من حصونهم الثلاثة: حصون آل بقیلة، بالخزف المدور، و کان یخرج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 54
قدام الخیل فتفر منه، فقال له ضرار بن الأزور: هذا من کیدهم، فبعث خالد رجلا یستدعی رجلا منهم عاقلا، فجاءه عبد المسیح بن عمرو و جری له معه ما هو مذکور مشهور. قال: و بقی عبد المسیح فی ذلک الدیر بعد ما صالح المسلمین علی مائة ألف حتی مات و خرب الدیر مدة فظهر فیه أزج معقود من حجارة، فظنوه کنزا ففتحوه فاذا فیه سریر رخام علیه رجل میت و عند رأسه لوح فیه مکتوب «أنا عبد المسیح بن عمرو بن بقیلة:
حلبت الدهر أشطره حیاتی‌و نلت من المنی فوق المزید
فکافحت الأمور و کافحتنی‌فلم أخضع لمعضلة کؤود
و کدت أنال فی الشرف الثریاو لکن لا سبیل الی الخلود»
و ذکره ابن فضل اللّه العمری، قال: دیر عبد المسیح و هو بالحیرة بناه عبد المسیح بن عمرو بن بقیلة، و یقال إنه عمر دهرا طویلا و لحق خالد بن الولید حین فتح الحیرة و له معه خبر طویل، و حکی بعض أهل الکلام قال: قرأت علی حائطه مکتوبا.
رأیت الدهر للانسان ضداو لا ینجی من الدهر الخلود
و لا تنجی من الآجال أرض‌یحل بها و لا قصر مشید
و حکی آخر قال: قرأت علی حائطه أیضا:
هذی منازل أقوام عهدتهم‌فی خفض عیش خصیب ماله خطر
دارت علیهم صروف الدهر فانتقلواإلی القبور فلا عین و لا بصر
و قد ذکره الأصفهانی فی أخبار لا حاجة فیها ... و ذکر عنه ما یشبه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 55
الذی فی معجم البلدان فدل ذلک علی أن یاقوتأ نقل کلام أبی الفرج الاصفهانی و لم ینسبه الیه إلا أن ابن فضل اللّه لم یذکر البیت الثانی.
17- دیر العذاری، ذکره یاقوت الحموی فی معجم البلدان قال: «و بالحیرة أیضا دیر العذاری»، و لم یزد علی ذلک.
18- حانة عون بالحیرة، قال ابن فضل اللّه العمری: «حانات الحیرة و هی أربع حانات، حانة عون. و کان عون ظریفا طیب الشراب نظیف الثیاب، و کان فتیان الکوفة یشربون فی حانوته و لا یختارون علیه أحدا و شرب عنده لیلة أبو الهندی الشاعر حتی طلع الفجر و صاحت الدیوک علی أنه یصبح یوم شک، فقیل إنه من رمضان، فقال:
شربت الخمر فی رمضان حتی‌رأیت البدر للشعری شریکا
فقال أخی: الدیوک منادیات‌فقلت له: و ما یدری الدیوکا
19- حافة دومة، قال ابن فضل اللّه: «حانة دومة و عن أبی عبیدة قال:
مرّ الأقیشر بخمارة فی الحیرة یقال لها دومة فنزل عندها و اشتری منها شرابا ثم قال لها: جوّدی لی الشراب حتی أجود لک المدیح ففعلت فأنشأ یقول:
ألا یا دوم دام لک النعیم‌و أسمر مل‌ء کفک مستقیم
شدید الأسر ینبض حالباه‌یحمّ کأنه رجل سقیم
یرویه الشراب فیزدهیه‌و ینفخ فیه شیطان رجیم
قال: فظنت الخمارة أن هذا مدح. فسرت به و زادت فی الشراب و قالت:
ما قال أحد فیّ أحسن من هذا ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 56
20- حانة جابر، قال ابن الصلصال: کان أبو نواس یأتی الکوفة یزورنی و کان یأتی بیت خمار بالحیرة یقال له جابر، لطیف الخلقة نظیف الآلة، یعتق الشراب سنین، فقدم علینا مرة و قد نهاه الأمین عن الشراب، فسأل عنی فقیل:
هو بالحیرة، فوافانی و فی یدی شی‌ء من شراب جابر عجیب الحسن و الرائحة، فقال لی: یا أبا جعفر لا یجتمع هذا و الهم فی صدر واحد، و کان شدید العجب بضرب الطنبور، و کان اذا جاءنی جمعت له ضراب الطنابیر، و کانت الکوفة معدنهم، و کان یسکر فی اللیلة الواحدة سکرات، فوجهت فجمعت له منهم جماعة و أحضرته شیئا من ذلک الشراب، فقال لی: ألم تعلم ما حدث علی؟
قلت: و ما هو؟ قال: نهانی أمیر المؤمنین عن الشراب و توعدنی علیه. ثم أنشدنی قصیدته التی فیها:
أیها الرائحان باللوم لومالا أذوق المدام إلا شمیما
الی أن انتهی الی قوله:
فکأنی و ما أحسّن منهاقعدیّ یحسّن التحکیما
کلّ عن حمله السلاح الی الحرب فأوصی المطیق أن لا یقیما
فقلت له: أقم معنا کما حکیت من نقل القعدیة. قال: أفعل. و صرنا الی حانة جابر، فقلت شعرا ذکرت فیه ما قاله لی و أنشدته إیاه و هو قولی:
غبیت علیک محاسن الخمرأم غیّرتک نوائب الدهر؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 57 فصرفت وجهک عن معتقةتفتر عن درر و عن شذر
یسعی بها ذو غنة غنج‌متکحل اللحظات بالسحر
و نسیت قولک حین تمزجهافتریک مثل کواکب النسر
«لا تحسبن عقار خابیةو الهم یجتمعان فی صدر».
فقال: هاتها فی کذا و کذا من أم الأمین. و مدیده فأخذ القدح و شرب معنا ثم شخص الی الأمین فقال له: أین کنت؟ قال: عند صدیقی الکوفی.
و حدثه الحدیث. قال: فما صنعت حین أنشدک الشعر؟ قال: شربت و اللّه یا امیر المؤمنین. قال: أحسنت و أجملت، فاشخص حتی تحمل إلی صدیقک هذا. فقدم إلی فحملنی الیه، فلم أزل معه حتی قتل ».
21- حانة شهلاء، و کانت یهودیة من أهل الحیرة و حکی أن الأقیشر کان یألفها و کان یشرب فی دارها، فجاءه شرطی فدق الباب. فقال: اسقنی و أنت آمن. فقال: و اللّه ما آمنک، و هذا النقب بالباب فأنا أسقیک منه، فوضع له أنبوب قصب فی النقب فصب فیه النبیذ من داخل و الشرطی یشرب من خارج فقال الأقیشر:
سأل الشرطی أن نسقیه‌فسقیناه بأنبوب القصب
إنما لقحتنا خابیةفاذا ما مزجت کان العجب
لبن أصفر صاف طعمه‌ینزع الباسور من عجب الذنب
إنما نشرب من أموالنافاسألوا الشرطی ما هذا الغضب
و الذی رواه صاحب الأغانی الأصفهانی فیه خلاف، قال: «شرب الأقیشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 58
فی بیت خمار بالحیرة فجاءه الشرط لیأخذوه فتحرز منهم و أغلق بابه و قال:
لست أشرب فما سبیلکم علی؟ قالوا: قد رأینا العس فی کفک و أنت تشرب.
قال: انما شربت من لبن لقحة لصاحب الدار، فلم یبرحوا حتی أخذوا منه درهمین، فقال: إنما لقحتنا باطیة» ... الأبیات.

أشهر القصور المحیطة بالنجف‌

1- العذیب و الصنبر
و من قصور الحیرة العذیب و الصنبر بناهما امرؤ القیس بن النعمان بقرب الفرات للنزهة و قد ذهب حمزة الاصفهانی الی ان البنّاء الذی عمر الصنبر هو سنمار و روی قتله علی ید الملک امری‌ء القیس خلافا لما هو مشهور عن قتل سنمار الحورنق. و ذکر البیت الآتی:
لیت شعری متی تخب به الناقة نحو العذیب و الصنبر
و لم یذکر یاقوت هذین القصرین بل قال فی مادة عذیب: «هو ماء بین القادسیة و المغیثة و قیل: هو واد لبنی تمیم و هو من منازل حاج الکوفة و قیل هو حد السواد، و کان بین العذیب و القادسیة مسلحة للفرس و قد اکثر الشعراء من ذکرها .
2- القصر الابیض، قال یاقوت: «هو من قصور الحیرة، و فی مادة لحیان من معجم البلدان: هو أبیض النعمان. و ذکر قول حاتم الطائی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 59 و مازلت اسعی بین خص و دارةو لحیان حتی خفت أن اتنصرا
فعلی روایة یاقوت یکون القصر الابیض و ابیض النعمان و لحیان قصرا واحدا بعینه، و جاء فی روایة مؤلف کتاب الأغانی ان صاحب القصر الابیض هو جابر بن شمعون أسقف الحیرة احد بنی اوس بن قلام و قد اتاه الملک النعمان مع عدی بن زید و طلب منه مالا یستعین به علی امره عند کسری فاضافهما ثلاثة ایام و أعطی النعمان ثمانین الف درهم. فقال النعمان للاسقف.
لا جرم لا جری لی درهم الا علی یدیک ان ملکت .
3- قصر الغرس، قال عنه یاقوت هو أحد قصور الحیرة الاربعة و لم یزد علی ذلک.
4- قصر الزوراء أو الزوراء. دار بناها النعمان بن المنذر بالحیرة، و نسب بعضهم بناءها الی المنذر الثالث ابن امری‌ء قیس الثالث و فیها یقول النابغة الذبیانی.
و أنت ربیع ینعش الناس سیبه‌و سیف اعیرته المنیة قاطع
و تسقی إذا ما شئت غیر مصردبزوراء فی اکنافها المسک کارع
و قال بعضهم إن ابا جعفر المنصور هدم الزوراء.
5 قصر العدسیین: کان بالکوفة- قبل تأسیسها- فی طرف الحیرة و هو لبنی عماد بن عبد المسیح بن قیس الکلبی و قد سموا العدسیین نسبة الی أمهم عدسة بنت مالک بن عامر بن عرف الکلبی، و هذا القصر أول ما فتح المسلمون لما غزوا العراق. علی ما قاله بن الکلبی فی جمهرة النسب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 60
6- قصر ابن مازن و قصر الطین و قصر بنی بقیلة و ذکر ان عبد المسیح بن بقیلة لما بنی قصره بالحیرة قال:
لقد بنیت للحدثان قصرالو ان المرء تنفعه الحصون
طویل الرأس أقعس مشمخرالانواع الریاح به انین
7- قصر مقاتل او قصر بنی مقاتل، کان من قصور تلک النواحی، و فیه یقول ابن طخماء الاسدی:
کان لم یکن بالقصر قصر مقاتل‌و زورة ظل ناعم و صدیق
و إنی و ان کانوا نصاری احبهم‌و یشثاق قلبی نحوهم و یتوق
8- القصور الحمر: المع الیها أبو الفرج الاصفهانی فی کتابه الاغانی، قال:
أتی أبو زید الطائی الی الولید بن عقبة فی سنة مجدبة فاعطاه ما بین القصور الحمر من الشأم الی القصور الحمر من الحیرة و جعله له حمی» .
9- دومة الحیرة، کان فیها حصن و هو حصن الاکیدر السکونی الکندی صاحب دومة الجندل القریبة من المدینة، أجلاه عمر الخطاب- رض- من دومة فیمن اجلاهم من غیر المسلمین الی الحیرة فنزل فی موضع منها قرب عین التمر و بنی به منازل سماها (دومة) و قیل دوماء باسم حصنه بوادی القری و عرفت بدومة الحیرة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 61

النجف فی الشعر العربی القدیم‌

قال القعقاع بن عمر فی ذکر حرب العرب أیام الحیرة بقیادة خالد بن الولید و غیر ذلک من الحروب :
سقی اللّه قتلی بالفرات مقیمةو أخری باثباج النجاف الکوانف
فنحن وطئنا بالکواظم هرمزاو بالثنی قرنی قارن بالجوارف
و یوم احطنا بالقصور تتابعت‌علی الحیرة الروحاء احدی المصارف
حططناهم منها و قد کاد عرشهم‌یمیل بهم فعل الجبان المخالف
رمینا علیهم بالقبول و قد رأواغبوق المنایا حول تلک المخارف
صبیحة قالوا نحن قوم تنزلواالی الریف من ارض العذیب المضائف
فقوله «النجاف» یرید به جمع النجفة و هی ارض النجف بعینها، و قد ذکرنا أبیات حنین الحیری المغنی التی، قالها یصف الحیرة و منزله بها و بعض حاناتها و لعلها حانة شهلاء الیهودیة و کان هو نصرانیا، و یذکر النجف و یعتبره منزلا له لطیب هوائه و فضل روائه، و وفارة غذائه و غزارة مائه.
و ذکر أبو الفرج الاصفهانی بروایته و سنده عن حمّاد بن اسحاق بن ابراهیم الموصلی عن ابیه اسحاق قال: ما وصلنی احد من الخلفاء قط بمثل ما وصلنی به الواثق و لقد انحدرت معه الی (النجف) فقلت له: یا امیر المؤمنین قد قلت فی النجف قصیدة. فقال: هاتها. فأنشدته:
یا راکب العیس لا تعجل بنا وقف‌نحی دارا لسعدی ثم ننصرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 62
حتی اتیت علی قولی:
لم ینزل الناس فی سهل و لا جبل‌أصفی هواء و لا أعذی من (النجف)
حفت ببر و بحر من جوانبهافالبر فی طرف و البحر فی طرف
و ما یزال نسیم من یمانیةیأتیک منها بریا روضة أنف
فقال: صدقت یا اسحاق هی کذلک ثم انشدته حتی اتیت علی قولی فی مدحه:
لا یحسب الجود یفنی ما له أبداو لا یری بذل ما یحوی من السرف
و مضیت حتی اتممتها، فطرب و قال أحسنت و اللّه یا أبا محمد و کنّانی یومئذ، و أمر لی بمائة الف درهم و انحدر الی الصالحیة و ذکر یاقوت القصیدة التی نقل منها، و هی:
یا راکب العیس لا تعجل بنا وقف‌نحی دارا لسعدی ثم ننصرف
و ابک المعاهد من سعدی و جارتهاففی البکاء شفاء الهائم الدنف
أشکو الی اللّه یا سعدی هوی کبدحری علیک متی ما تذکری تجف
أهیم وجدا بسعدی و هی تصرمنی‌هذا لعمرک شکل غیر مؤتلف
دع عنک سعدی فسعدی عنک نازحةو اکفف هواک وعد القول فی لطف
ما إن رأی الناس فی سهل و لا جبل‌أصفی هواء و لا اعذی من النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 63 کأن ثربته مسک یفوح به‌أو عنبر دافه العطار فی صدف
حفت ببر و بحر من جوانبهافالبر فی طرف و البحر فی طرف
و بین ذاک بساتین تسیح بهانهر یجیش مجاری سیله القصف
و ما یزال نسیم من أیامننایأتیک منه بریا روضة أنف
تلقاک منه قبیل الصبح رائحةتشفی السقیم إذا أشفی علی التلف
لوحله مدنف یرجو الشفاء به‌إذا شفاه من الاسقام و الدنف
یؤتی الخلیفة منه کلما طلعت‌شمس النهار بانواع من التحف
و الصید منه قریب ان همت به‌یأتیک مؤتلفا فی زی مختلف
فیا له منزلا طابت مساکنه‌بخیر من حاز بیت العز و الشرف
خلیفة واثق باللّه همته‌تقوی الاله بحق اللّه معترف
و قد قدمنا نقل أبیات بعض أهل الکوفة التی مطلعها:
و بالنجف الحاری إن زرت أهله‌مها مهملات ما علیهن سائس
و قال علی بن محمد العلوی الحمائی الکوفی و قد ذکرنا شعره فی أسفه علی أیام دیارات الأساقف آنفا، و هذه الابیات مما ذکره یاقوت الحموی:
فیا أسفی علی (النجف) المعری‌و أودیة منورة الاقاحی
و ما بسط الخورنق من ریاض‌مفجرة بافنیة فساح
و وا أسفا علی القناص تغدوخرائطها علی مجری الوشاح
و مما حبره أبو دلامة من الشعر للعباس بن محمد عم المنصور و أنشده إیاه:
قف بالدیار و ای الدهر لم تقف‌علی المنازل بین الظهر و (النجف)
و ما وفوفک فی اطلال منزلةلو لا الذی استدرجت من قلبک الکلف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 64 إن کنت أصبحت مشغوفا بساکنهافلا و ربک لا تشفیک من شغف
دع ذا و قل فی الذی قد فاز من مضربالمکرمات و عز غیر مقترف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 65

النجف فی المراجع العربیة* کتبه الدکتور حسین علی محفوظ دکتوراه الدولة من جامعة طهران و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و الاستاذ فی کلیة الاداب بجامعة بغداد الیوم‌

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 67

النجف فی الحدیث

* فی اخبار ابراهیم الخلیل- علیه السلام- خرج من بابل علی حمار له- و معه ابن اخیه لوط- یسوق غنما، و یحمل دلوا علی عاتقه. حتی نزل «بانتیا»- و کان طولها اثنی عشر فرسخا- و کانوا یزلزلون فی کل لیلة. فلما بات ابراهیم عندهم لم یزلزلوا. فقال لهم شیخ- بات عنده ابراهیم علیه السلام- و اللّه، ما دفع عنکم الا بشیخ بات عندی. فإنی رأیته کثیر الصلاة. فجاؤوه و عرضوا علیه المقام عندهم، و بذلوا له البذول، فقال: إنما خرجت مهاجرا الی ربی، و خرج حتی أتی (النجف). فلما رآها، رجع ادراجه- أی من حیث مضی- فتباشروا و ظنوا أنه رغب فیما بذلوا له، فقال لهم: لمن تلک الأرض- یعنی (النجف)؟ قالوا: هی لنا، قال: فتبیعونها؟ قالوا: هی لک- فو اللّه؛ ما تنبت شیئا. فقال: لا أحبها إلا شراء. فدفع إلیهم غنیمات کن معه بها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 68
فقال: أکره أن آخذها بغیر ثمن. فصنعوا ما صنع اهل بیت المقدس بصاحبهم، و هبوا له أرضهم. فلما نزلت بها البرکة رجعوا علیه. و ذکر ابراهیم- علیه السلام- انه یحشر من ولده من ذلک الموضع سبعون ألف شهید .
* رسول اللّه- صلّی اللّه علیه و سلم- قال لعلی- علیه السلام: ... ثم أرض کوفان فشرفها بقبرک یا علی. فقال: یا رسول اللّه، أقبر بکوفان العراق؟ فقال: نعم- یا علی تقبر بظاهرها قتلا بین الغریین و الذکوات البیض .
* اشتری أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- ما بین الخورنق و إلی الحیرة إلی الکوفة من الدهاقین بأربعین ألف درهم، و أشهد علی شرائه .. فقیل له:
یا أمیر المؤمنین تشتری هذا بهذا المال و لیس تنبط خمطا؟ فقال: سمعت من رسول اللّه- صلّی اللّه علیه و سلم- یقول: کوفان یرد أولها علی آخرها. یحشر من ظهرها سبعون ألفا یدخلون الجنة بغیر حساب و اشتهیت أن یحشروا فی ملکی .
* إن أمیر المؤمنین- علیه السلام- لما حضرته وفاته، قال للحسن و الحسین- علیهما السلام- إذا أنا مت فاحملانی علی سریر، ثم أخرجانی. و احملا مؤخر السریر فانکما تکفیان مقدمه. ثم أئتیا بی الغریین فانکما ستریان صخرة*
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 69
بیضاء، فاحتفرا فیها. فانکما تجدان فیها شیئا فادفنانی فیه ..
* أمیر المؤمنین: إذا مت فادفنونی فی هذا الظهر، فی قبر أخوی هود و صالح .
* أمیر المؤمنین: وادی السلام؛ و انها البقعة من جنة عدن .
* عن حبة العربی، قال: خرجت مع أمیر المؤمنین إلی الظهر، فوقف بوادی السلام کأنه مخاطب الأقوام. فقمت بقیامه حتی أعییت، ثم جلست حتی مللت، ثم قمت حتی نالنی مثل ما نالنی أولا، ثم جلست حتی مللت، ثم قمت و جمعت ردائی، فقلت: یا أمیر المؤمنین، إنی قد أشفقت علیک من طول القیام، ثم طرحت الرداء لیجلس علیه. فقال: یا حبة؛ إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال: قلت یا أمیر المؤمنین، و انهم لکذلک؟ قال: نعم؛ لو کشف لک لرأیتهم حلقا حلقا محتبین، یتحادثون. فقلت: أجسام، أم أرواح؟ فقال. أرواح ..
* أمیر المؤمنین: فی صفة القائم؛ کأننی به قد عبر من وادی السلام إلی مسجد السهلة، علی فرس محجل له شمراخ یزهو، و یدعو .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 70
الأصبغ بن نباتة؛ قال: خرج أمیر المؤمنین إلی ظهر الکوفة، فلحقناه؛ فقال: سلونی قبل أن تفقدونی؛ فقد ملئت الجوانح منی علما؛ کنت اذا سألت أعطیت، و اذا أسکت أبدیت ثم مسح بیده علی بطنه، و قال: أعلاه علم، و أسفله ثفل. ثم مرّ حتی أتی الغریین، فلحقناه- و هو مستلق علی الأرض بجسده، لیس تحته ثوب- فقال له قنبر: یا أمیر المؤمنین ألا ابسط تحتک ثوبی؟ قال: لا. هل هی الأتربة مؤمن، و من أحمته فی مجلسه، فقال الأصبغ: تربة المؤمن قد عرفناها کانت أو تکون. فما من أحمته بمجلسه؟
فقال: یا ابن نباتة؛ لو کشف لکم لألفیتم أرواح المؤمنین فی هذه حلقا حلقا؛ یتزاورون، و یتحدثون. ان فی هذا الظهر روح کل مؤمن .
* اشتری أمیر المؤمنین ما بین الخورنق الی الحیرة الی الکوفة. و فی حدیث ما بین النجف الی الحیرة الی الکوفة من الدهاقین بأربعین ألف درهم .
* قال أمیر المؤمنین- صلوات اللّه علیه: أول بقعة عبد اللّه علیها؛ ظهر الکوفة. لما أمر اللّه الملائکة ان یسجدوا لآدم، سجدوا علی ظهر الکوفة .
* روی ان أمیر المؤمنین نظر الی ظهر الکوفة؛ فقال: ما أحسن منظرک و أطیب قعرک، اللهم إجعل قبری بها .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 71
عن أحمد بن جابر؛ قال: نظر أمیر المؤمنین الی ظهر الکوفة، فقال:
ما أحسن ظهرک، و أطیب قعرک، اللهم اجعل قبری بها .
* ان أمیر المؤمنین- علیه السلام- أمر ابنه الحسن أن یحفر له أربعة قبور، فی أربعه مواضع؛ فی المسجد، و فی الرحبة، و فی الغری، و فی دار جعدة بن هبیرة. و انما أراد بهذا أن لا یعلم أحد من أعدائه موضع قبره .
* عن أبی مطر؛ قال: لما ضرب ابن ملجم الفاسق- لعنه اللّه- أمیر المؤمنین علیه السلام- قال له الحسن: أقتله؟ قال: لا، و لکن احبسه، فاذا مت فاقتلوه. فاذا مت فادفنونی فی هذا الظهر، فی قبر أخوی هود و صالح .
* عن الحسین الخلال عن جده، قال: قلنا للحسن بن علی- علیهما السلام:
أین دفنتم أمیر المؤمنین- صلوات اللّه علیه؟ فقال خرجنا به لیلا، حتی مررنا علی مسجد الأشعث، حتی خرجنا الی ظهر ناحیة الغری .
* عن حسین الخلال عن جده، قال: قلت للحسن بن علی- علیهما السلام:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 72
أین دفنتم أمیر المؤمنین- علیه السلام؟ قال: خرجنا لیلا، حتی مررنا به علی مسجد الأشعث، حتی خرجنا الی الظهر بجنب الغری .
* عن الحسین بن الخلال عن جده، قال: قلت للحسین بن علی- صلوات اللّه علیهما- أین دفنتم أمیر المؤمنین- علیه السلام-؟ قال: خرجنا به لیلا، حتی مررنا به علی مسجد الأشعث، حتی خرجنا الی ظهر ناحیة الغری .
* ان زین العابدین- علیه السلام- ورد الی الکوفة، و دخل مسجدها- و به ابو حمزة الثمالی، و کان من زهاد أهل الکوفة و مشایخها- فصلی رکعتین.
قال ابو حمزة: فما سمعت أطیب من لهجته. فدنوت منه لأسمع ما یقول.
فسمعته یقول: إلهی؛ ان کان قد عصیتک، فانی قد أطعتک فی أحب الأشیاء الیک؛ الاقرار بوحدانیتک، منّا منک علی، لا منّا منی علیک ... ثم نهض.
قال أبو حمزة: فتبعته الی مناخ الکوفة، فوجدت عبدا أسود- معه نجیب و ناقة- فقلت: یا أسود من الرجل؟ فقال: أو تخفی علیک شمائله. هو علی بن الحسین. قال أبو حمزة: فأکببت علی قدمیه أقبلهما فرفع رأسی بیده.
و قال: لا یا أبا حمزة. انما یکون السجود للّه- عز و جل-
قلت: یا ابن رسول اللّه ما أقدمک الینا؟ قال: ما رأیت. و لو علم الناس ما فیه من الفضل لأتوه، و لو حبوا. هل لک أن تزور معی قبر جدی علی بن أبی طالب- علیه السلام؟ قلت: أجل فسرت فی ظل ناقته یحدثنی حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 73
أتینا الغریین. و هی بقعة بیضاء تلمع نورا. فنزل عن ناقته، و مرغ خدیه علیها، و قال: یا أبا حمزة هذا قبر جدی علی بن أبی طالب- علیه السلام- .
* قال أبو جعفر (الباقر) علیه السلام: مضی أبی علی بن الحسین- علیه السلام- الی قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- بالمجاز. و هو من ناحیة الکوفة، فوقف علیه ثم بکی، و قال: السلام علیک یا أمیر المؤمنین، السلام علیک یا أمین اللّه فی أرضه، و حجته علی عباده .
* قال محمد بن علی (الباقر) .. خرج (علی بن الحسین) سلام اللّه علیه- متوجها الی العراق لزیارة أمیر المؤمنین- و أنا معه- و لیس معنا ذو روح الا الناقتین. فلما انتهی الی النجف؛ من بلاد الکوفة، و صار الی مکان منه.
فبکی حتی اخضلّت لحیته بدموعه .
* عن الثمالی، عن أبی جعفر (الباقر) علیه السلام فی حدیث حدث به؛ انه کان فی وصیة أمیر المؤمنین- علیه السلام- ان أخرجونی الی الظهر، فاذا تصوبت أقدامکم، فاستقبلتکم ریح، فادفنونی، و هو أول طور سینا ففعلوا ذلک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 74
عن جابر بن یزید، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علی الباقر- علیه السلام- أین دفن أمیر المؤمنین؟ قال: دفن بناحیة الغریین .
* عن أبی جعفر محمد بن علی: قبره بالغری؛ و هو علی بن ابی طالب ..
* عبد اللّه بن عبید بن زید؛ قال: رأیت جعفر بن محمد، و عبد اللّه بن الحسن- بالغری- عند قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- فاذن عبد اللّه و أقام الصلاة و صلی مع جعفر بن محمد، و سمعت جعفر یقول هذا قبر أمیر المؤمنین .
* قال الباقر علیه السلام، دفن امیر المؤمنین- علیه السلام- بناحیة الغریین .
* عن صفوان بن مهران، عن جعفر بن محمد- صلوات اللّه علیه- قال:
سار و أنا معه من القادسیة، حتی أشرف علی النجف، فقال: هو الجبل الذی اعتصم به ابن جدی نوح. فقال: «سآوی الی جبل یعصمنی من الماء» .. ثم قال أعدل بنا، فعدلت. فلم یزل سائرا حتی أتی الغری، فوقف علی القبر، فساق السلام من آدم علی بنی نبی علیه السلام و أنا أسوق معه حتی وصل السلام الی النبی ثم خر علی القبر فسلم علیه، و علا نحیبه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 75
عن الاسکاف، عن أبی جعفر [الباقر] قال، قال أمیر المؤمنین- علیه السلام- فی قول اللّه- عز و جل: «وَ آوَیْناهُما إِلی رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِینٍ» قال: الربوة؛ الکوفة. و القرار؛ المسجد. و المعین؛ الفرات.»
* روی صفوان بن مهران الجمال؛ عن الصادق جعفر بن محمد- علیهما السلام- قال: سار- و أنا معه- فی القادسیة، حتی أشرف علی النجف؛ فقال:
هذا هو الجبل الذی اعتصم به ابن جدی نوح- علیه السلام- فقال: «سآوی الی جبل یعصمنی من الماء» .. ثم قال- علیه السلام- أعدل بنا، فعدلت به.
فلم یزل سائرا حتی أتی الغری. فوقف علی القبر، فساق السلام من آدم علی نبی بنی- علیهم السلام- و أنا أسوق السلام معه، حتی وصل السلام الی النبی- صلّی اللّه علیه و آله و سلم- ثم خر علی القبر، فسلم علیه، و علا نحیبه .
* عن ابی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- وادی السلام ... بین وادی النجف و الکوفة .
* قال الصادق- علیه السلام: الربوة؛ نجف الکوفة. و المعین؛ الفرات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 76
ابو عبد اللّه [الصادق : اذا أردت جانب النجف؛ فزر عظام آدم، و بدن نوح، و جسم علی بن ابی طالب- علیه السلام .
* ابو عبد اللّه [الصادق : الغری؛ و هو قطعة من الجبل الذی کلم اللّه علیه موسی تکلیما، و قدس علیه عیسی تقدیسا، و اتخذ علیه ابراهیم خلیلا، و اتخذ علیه محمد حبیبا، و جعله للنبیین مسکنا، و اللّه- ما سکن فیه أحد- بعد آبائه الطیبین؛ آدم، و نوح- أکرم من امیر المؤمنین علیه السلام .
* قال عبد اللّه بن طلحة الهندی؛ دخلت علی أبی عبد اللّه [الصادق علیه السلام، فذکر حدیثا فحدثناه، قال فمضینا معه- یعنی أبا عبد اللّه- حتی انتهینا الی الغری. قال، فأتی موضعا فصلی ...
* قال الصادق- علیه السلام: أحب لکل مؤمن، ان یتختم بخمسة خواتیم؛ بالیاقوت ... و بالعقیق .. و بالفیروزج ... و بالحدید الصینی. و ما یظهر اللّه بالدرات البیض بالغریین .
* عن صفوان الجمال، قال: کنت أنا، و عامر، و عبد اللّه بن جذاعة الأزدی عند أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- قال، فقال له عامر: جعلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 77
فداک؛ ان الناس یزعمون أن أمیر المؤمنین- علیه السلام- دفن بالرحبة. قال: موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌6 ؛ ص77
قال: فأین دفن؟ قال: انه لما مات احتمله الحسن- علیه السلام- فأتی به ظهر الکوفة، قریبا من النجف، یسرة عن الغری، یمنة عن الحیرة، فدفنه بین ذکوات بیض، قال: فلما کان بعد ذهبت الی الموضع .
* عن ابی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- انه سمعه یقول: لما قبض أمیر المؤمنین- علیه السلام- أخرجه الحسن و الحسین، و رجلان آخران؛ حتی اذا خرجوا من الکوفة، ترکوها عن ایمانهم، ثم أخذوا فی الجبانة، حتی مروا به الی الغری، فدفنوه، و سووا قبره، فانصرفوا .
* عن أبی عبد اللّه [الصادق - ع- قال: ان النجف کان جبلا، و هو الذی قال ابن نوح. «سآوی الی جبل یعصمنی من الماء» و لم یکن علی وجه الارض أعظم منه ... و صار بعد ذلک بحرا عظیما. و کان یسمی ذلک البحر (بحرنی) ثم جف بعد ذلک. فقیل (نی جف) فسمی (نیجف). ثم صار الناس- بعد ذلک- یسمونه (نجف) لأنه کان أخف علی ألسنتهم .
* حدثنا عبد اللّه بن عمر بن أبان بن ثعلب الکلبی، قال؛ قال ابو عبد اللّه (الصادق): کأنی بالقائم علی ظهر النجف، لبس درع رسول اللّه تتقلص علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 78
ثم ینتفض بها فتستدیر علیه، ثم یغشی بثوب استبرق، ثم یرکب فرسا له أبلق، بین عینیه شمراخ، ینتفض به حتی لا یبقی اهل له الا اتاهم بین ذلک الشمراخ، حتی تکون آیة له، ثم ینشر رایة رسول اللّه، و هی المغلبة؛ عودها من عهد غرس اللّه، و سیرها من نصر اللّه، لا یهوی بها الی شی‌ء الا اهلکته .
* (قال ابو عبد اللّه (الصادق) علیه السلام): لما مات امیر المؤمنین حمله الحسن- علیه السلام- فأتی به ظهر الکوفة، قریبا من النجف، یسرة عن الغری، یمنة عن الحیرة، فدفنه بین ذکوات بیض .
* عن یزید عمرو بن طلحة، قال؛ قال ابو عبد اللّه (الصادق): و هو بالحیرة اما ترید ما وعدتک؟ قال؛ قلت: بلی، یعنی الذهاب الی قبر امیر المؤمنین- علیه السلام- قال: فرکب و رکب اسمعیل ابنه معه، و رکبت معهم.
حتی اذا جاز الثویة- و کان بین الحیرة و النجف عند ذکوات بیض- نزل، و نزل اسمعیل و نزلت معهم. فصلی و صلی اسمعیل، وصلیت .
* [وصف ابو عبد اللّه (الصادق) موضع قبر أمیر المؤمنین لصفوان الجمال قال: اذا انتهیت الی الغری؛ ظهر الکوفة؛ فاجعله ظهرک، و توجه خلف النجف، و تیامن قلیلا. فاذا انتهیت الی الذکوات البیض، و الثنیة أمامه؛ فذلک قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 79
قال أبو عبد اللّه [الصادق - ع-: انک؛ إذا أتیت الغری، رأیت قبرین؛ قبرا کبیرا، و قبرا صغیرا. فأما الکبیر؛ فقبر أمیر المؤمنین. و أما الصغیر؛ فرأس الحسین بن علی- علیه السلام .
* عن أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام؛ قال: انی لما کنت بالحیرة عند أبی العباس. کنت آتی قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- لیلا. و هو بناحیة النجف، الی جانب غری النعمان .
* عن أبی عبد اللّه [الصادق علیه السلام: أخذ نوح التابوت (تابوت فیه عظام آدم) فدفنه بالغری .
* عن سلیمان بن نهیک؛ عن أبی عبد اللّه- علیه السلام- فی قول اللّه- عز و جل- «وَ آوَیْناهُما إِلی رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِینٍ». قال: الربوة؛ نجف الکوفة.
و المعین؛ الفرات .
* حدثنا صفوان بن مهران الجمال، قال: حملت جعفر بن محمد بن علی؛ (الصادق)- علیهم السلام- فلما انتهیت الی النجف، قال: یا صفوان،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 80
تیاسر حتی تجوز الحیرة، فتأتی القائم. قال: فبلغت الموضع الذی وصف لی فنزل، فتوضأ. ثم تقدم هو و عبد اللّه بن الحسن فصلیا عند قبر. فلما قضیا صلاتهما، قلت: جعلت فداک، ای موضع هذا؟ قال: هذا القبر الذی یأتیه الناس هناک .
* عن أبی الفرج السندی، قال کنت مع ابی عبد اللّه، جعفر بن محمد (الصادق) حین تقدم الی الحیرة؛ فقال لیلة: أسرجوا لی البغل. فرکب- و أنا معه- حتی انتهینا الی الظهر، فنزل فصلی رکعتین، ثم تنحی فصلی رکعتین، ثم تنحی فصلی رکعتین. فقلت: جعلت فداک- رأیتک تصلی فی ثلاثة مواضع. فقال: أما الأول؛ فموضع قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- و الثانی؛ موضع رأس الحسین- علیه السلام- و الثالث؛ موضع منبر القائم
* عن معلی بن خنیس، قال: کنت- مع أبی عبد اللّه (الصادق) بالحیرة.
فقال لهم: افرشوا لی فی الصحراء ... قل لهم یسرجوا لی البغل و الحمار ...
فقال لی: أمامک. فجئنا حتی صرنا الی الغریین فقال لی: ها هما، قلت:
نعم. قال: خذ یسرة. قال: فمضینا حتی انتهینا الی موضع. فقال لی:
انزل. و نزل و قال لی: هذا قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام .
* عن أبی عبد اللّه (الصادق) قال: إنه لما مات (أمیر المؤمنین علیه السلام)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 81
احتمله الحسن، فأتی به ظهر الکوفة قریبا من النجف، یسرة عن الغری، یمنة عن الحیرة. فدفنه بین ذکوات البیض .
* عن عبد اللّه بن سنان، قال: أتانی عمر بن یزید، فقال لی: ارکب.
فرکبت- معه- فمضینا، حتی أتینا حفص الکناسی، فاستخرجته، فرکب معنا. ثم مضینا الی الغری، فانتهینا الی قبر، فقال: انزلوا. هذا قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام فقلنا: من أین علمت؟ فقال: أتیته مع أبی عبد اللّه (الصادق)- ع- حیث کان بالحیرة؛ غیر مرة، و خبرنی أنه قبره .
* عن أبی بصیر، قال: قلت لأیی عبد اللّه (الصادق)- علیه السلام- أین دفن أمیر المؤمنین- علیه السلام؟- قال: دفن فی قبر أبیه نوح. قلت:
و أین قبر نوح؟. قال: ذلک فی ظهر الکوفة .
* عن أبی عبد اللّه (الصادق)- علیه السلام- قال: ان الی جانب کوفان قبرا ما أتاه مکروب قط، فصلی عنده رکعتین، أو أربع رکعات؛ الا نفّس اللّه عنه کربته، و قضی حاجته .. قلت: فقبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- قال برأسه نعم .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 82
حدثنا عمر بن عبد اللّه بن طلحة الهندی، عن أبیه؛ قال: قلت لأبی عبد اللّه (الصادق) فذکر حدیثا، فحدثنا، قال: فمضینا معه- یعنی أبا عبد اللّه- حتی انتهینا الی الغری، فأتی موضعا، فصلی. ثم قال لاسمعیل:
قم فصل .
* عن أبی عبد اللّه (الصادق)- ع- قال: قبر علی بالغری، ما بین صدر نوح، و مفرق رأسه؛ مما یلی القبلة .
* عن محمد بن محمد الفضل- ابن بنت داود الرقی- قال؛ قال الصادق- ع- أربع بقاع ضجت الی اللّه- تعالی- أیام الطوفان: البیت المعمور؛ فرفعه اللّه، و الغری، و کربلا، و طوس .
* عن اسحاق بن حریز؛ عن أبی عبد اللّه (الصادق) علیه السلام- قال: انی لما کنت بالحیرة- عند أبی العباس- کنت آتی قبر أمیر المؤمنین لیلا، و هو بناحیة نجف الحیرة، الی جانب غری النعمان، فأصلی عنده صلاة، و أنصرف قبل الفجر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 83
عن المفضل بن عمر الجعفی، عن ابی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام:
الغری .. هو قطعة من الجبل، الذی کلم اللّه علیه موسی تکلیما، و قدس علیه عیسی تقدیسا، و اتخذ علیه ابراهیم خلیلا، و اتخذ محمدا علیه حبیبا، و جعله للنبیین مسکنا. و اللّه ما سکن فیه بعد أبویه الطیبین؛ آدم و نوح أکرم من أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- و إذا زرت جانب النجف: فزر عظام آدم؛ و بدن نوح، و جسم علی بن أبی طالب- علیه السلام- فانک زائر للأنبیاء الأولین، و محمد خاتم النبیین، و علیا سید الوصیین؛ فان زائره تفتح له أبواب السماء عند دعوته؛ فلا تکن عن الخیر نواما .
* عن المفضل بن عمر الجعفی؛ قال: دخلت علی علی أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- فقلت له: إنی أشتاق إلی الغری، فقال: فما شوقک الیه؟
فقلت له: إنی أحب أن أزور أمیر المؤمنین- علیه السلام .. قال: فاذا أردت أن تزور قبر أمیر المؤمنین- ع- فاعلم انک زائر عظام آدم، و بدن نوح، و جسد علی بن أبی طالب- علیه السلام .
* عن أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام: لما قبض أمیر المؤمنین- علیه السلام- أخرجه الحسن و الحسین و رجلان آخران، حتی اذا خرجوا من الکوفة، و ترکوها عن أیمانهم، ثم اخذوا فی الجبانة، حتی مروا به الی الغری، و دفنوه، و سووا قبره و انصرفوا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 84
صفوان الجمال؛ قال: خرجت مع الصادق- علیه السلام- من المدینة أرید الکوفة، فلما جزنا باب الحیرة، قال: یا صفوان. قلت: لبیک یا ابن رسول اللّه. قال: تخرج المطایا الی القائم، وجد الطریق الی الغری قال صفوان:
فلما صرنا الی قائم الغری، أخرج رشأ معه دقیقا؛ قد عمل من الکنبار، ثم تبّعد من القائم مغربا خطی کثیرة، ثم مد ذلک الرشأ حتی انتهی الی آخره، فوقف ثم ضرب بیده إلی الأرض فأخرج منها کفا من تراب فشمه ملیا، ثم أقبل یمشی، حتی وقف علی موضع القبر الآن، ثم ضرب بیده المبارکة الی التربة، فقبض منها قبضة، ثم شهق شهقة حتی ظننت أنه فارق الدنیا. فلما أفاق قال: ها هنا- و اللّه- مشهد أمیر المؤمنین- علیه السلام .
* عن محمد بن مسلم، قال: مضینا إلی الحیرة، فاستأذنا، و دخلنا الی أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- فجلسنا إلیه، و سألناه عن قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- فقال: اذا خرجتم، فجزتم الثویة، و القائم، و صرتم من النجف علی غلوة أو غلوتین؛ رأیتم ذکوات بیضا، بینهما قبر جرفه السیل، فذاک قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام .
* عن الحسن بن الجهم بن بکیر، قال: ذکرت لأبی الحسن [الکاظم - علیه السلام- یحیی بن موسی، و تعرضه لمن یأتی قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- و انه کان ینزل موضعا، کان یقال له الثویة، یتنزه الیه. ألا و قبر أمیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 85
المؤمنین- علیه السلام- فوق ذلک قلیلا .
* عن أیوب بن نوح، قال: کتبت الی أبی الحسن؛ موسی بن جعفر- علیه السلام- فی زیارة قبر أمیر المؤمنین- ع- فکتب- ع- زره بالغری .
* أحمد بن محمد بن أبی نصر ... قال: و سألته [- الرضا علیه السلام عن قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- فقال: ما سمعت عن أشیاخک؟ فقلت له:
حدثنا صفوان بن مهران عن جدک انه دفن بنجف الکوفة .
* احمد بن محمد بن ابی نصر؛ قال: سألت الرضا علیه السلام، فقلت: أین موضع قبر أمیر المؤمنین- علیه السلام- فقال: الغری .
* ذکر ابن همام فی الأنوار ان [الرضا] أمر شیعته بزیارة [أمیر المؤمنین و دل علی انه بالغریین، بظاهر الکوفة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 86
روی عن ابن عباس؛ انه قال: الغری؛ قطعة من الجبل الذی کلم اللّه- جل شأنه- علیه موسی تکلیما، و قدس علیه عیسی تقدیسا، و اتخذ علیه ابراهیم خلیلا، و اتخذ محمدا- صلّی اللّه علیه و سلم- حبیبا، و جعله للنبیین مسکنا .
* قالت [ام کلثوم بنت علی- علیه السلام : خرجت أشیع جنازة أبی، حتی اذا کنا بظهر الغری، رکز المقدم، فوضعنا المؤخر. ثم برز الحسن بالبردة التی نشّف بها رسول اللّه و فاطمة فنشفت بها أمیر المؤمنین .
* أبو حمزة الثمالی؛ قال: أتینا الذکوات البیض، فقال [زید بن علی هذا قبر علی بن أبی طالب .
* اذا أتیت الغری بظهر الکرفة، فاغتسل، و امش علی سکون و وقار، حتی تأتی أمیر المؤمنین- علیه السلام .
* فی قبره عظام آدم- علیه السلام- و جسد نوح- علیه السلام- و أمیر المؤمنین. فمن زاره؛ فقد زار آدم و نوحا و أمیر المؤمنین .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 87
عن عبد اللّه بن سنان، قال: أتانی عمر بن یزید، فقال لی: ارکب، فرکبت معه. فمضینا، حتی أتینا منزل حفص الکناسی، فاستخرجته، فرکب معنا. ثم مضینا، حتی أتینا الغری، فانتهینا إلی قبر. فقالوا:
انزلوا، هذا قبر أمیر المؤمنین. فقلنا: من أین علمت؟ فقال: أتیته مع أبی عبد اللّه [الصادق - علیه السلام- حیث کان بالحیرة غیر مرة، و خبّرنی أنه قبره .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 88

النجف فی الشعر

السید ابراهیم الطباطبائی‌

فاهتز فی مرح عطف الغری به‌لا غرو ان هزّ عطفیه الحمی مرحا * و نازعین عن الأوطان قد قطعوا
متن المهامه حتی بارحوا النجفا *
فلولاک ما حنّ الغری لدجلةنزوعا و لا اشتاقت لبغداد جلّق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 89 ترکت فی النجف الأعلی لصحتکم‌صحبا و أهلا و أوطانا و جیرانا

الشیخ ابراهیم العاملی 1284 ه

و أنحت جانب الغروی شوقایجاذبها لما تبغی هواها
*
أأسکن الشام و من و الیتهم‌فی النجف الأعلی وطف کربلا

الشیخ ابراهیم العاملی 1214 ه

إذا هب النسیم من الغری‌فلا تسأل عن الصبّ الشجیّ

ابراهیم الوایلی‌

منتدی العلم فی الغریین‌أخفی الموت رمز الفخار من أعضائه

ابن أبی الحدید

یا برق إن جئت الغری فقل له‌أتراک تعلم من بأرضک مودع
فیک ابن عمران الکلیم و بعده‌عیسی یقفیه و أحمد یتبع
بل فیک جبریل و میکال و اسرافیل و الملأ المقدس أجمع
فیک الامام المرتضی فیک الوصیّ‌المجتبی فیک البطین الأنزع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 90 عج بالغری علی ضریح حوله‌ناد لأملاک السماء و محفل
فمسبّح و مقدس و ممجدو معظم و مکبّر و مهلّل
و الثم ثراه المسک طیبا و استلم‌عیدانه قبلا فهن المندل
و انظر الی الدعوات تسعد عنده‌و جنود وحی اللّه کیف تنزل
و النور یلمع و النواظر شخص‌اللسن خرس و البصائر ذهّل
و اغضض و غضّ فثم سرّ أعجم‌دقّت معانیه و أمر مشکل
و قل السلام علیک یا مولی الوری‌نصا به نطق الکتاب المنزل

ابن حمّاد

صلی الإله علی علی ذی العلی‌ما نال طیرا أو علا أغصانا
و سقی المدینة و البقیع و مشهداحل الغری الطهر من کوفانا
و سقی قبورا بالطفوف منیرةو سقی قبورا ضمنت بغدانا
و سقی مقابر (سر من را) و الذی‌من طوس أصبح ثاویا نوقانا

ابن مدلل‌

زر بالغری العالم الرّبانی‌علم الهدی و دعائم الایمان
و قل السلام علیک یا خیر الوری‌یا أیها النبأ العظیم الشان
یا من علی الأعراف یعرف فضله‌یا قاسم الجنات و النیران
نار تکون قسیمها یا عدتی‌أنا آمن منها علی جثمانی
و أنا فضیفک و الجنان لی القری‌إذ أنت أنت مورّد الضیفان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 91

أبو أسحاق الصابی کتب إلی عضد الدولة، و فد خرح الی الزیارة:

توجهت نحو (المشهد) العلم الفردعلی الیمن و التوفیق و الطائر السعد
تزور أمیر المؤمنین فیا له‌و یا لک من مجد منیخ علی مجد
فلم یرفوق الأرض مثلک زائراو لا تحتها مثل المزور إلی اللحد
مددت الی کوفان عارض نعمةیصوب بلا برق یروع بلا رعد
و تابعت أهلیها ندی بمثوبةفرحت إلی فوز و راحوا إلی رفد

أبو الحسن بن شاه کوثر

بشری لمن سکنوا کوفان و النجفاو جاوروا المرتضی أعلی الوری شرفا
أحمد الصافی النجفی فی لباسه العربی‌

أحمد الصافی النجفی «وادی طوی»

صدق الذی سماک فی (وادی طوی)یا دار بل وادی طوی و عراء
جلست علی الأنهار بلدان الوری‌فعلام أنت جلست فی الصحراء؟
ان الغری بلدة تلیق أن‌تسکنها الشیوخ و العجائز
فصادرات بلدتی مشائخ‌و واردات بلدتی جنائز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 92

البحتری‌

أمق الکوفة أرضا و أری‌نجف الحیرة أرضاها وطن

بعض الشعراء

حکمة أورثناها جابرعن امام صادق القول و فی
لوصی طاب فی تربته‌فهو کالمسک تراب النجف
*
تسح سحائب الرضوان سحاکجود یدیه ینسجم انسجاما
و لا زالت رواة المزن تهدی‌الی النجف التحیة و السلاما
*
سألتک بالاله و بالنبی‌و بالمدفون فی أرض الغری

بعض الکوفیین‌

و بالنجف الحاری ان زرت أهله‌مها مهملات ما علیهن سائس

السید جعفر الحلیّ‌

الی ان اغاثتنا الحمیدیة التی‌علا ماؤها سهل الغریین و الهضبا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 93 نزلوا فی حمی الوصی فأوحش‌منزل کم زها ببشرهم الهش
بشرهم شمسنا إذا الدهر أغطش‌لیت شعری أکان للنجف الأش
رف ام للفیحاء أجلی شحوبازهت الأرض و الغیاث أتاها
و الغری ازدهی بغرة طه‌أدرکت فیهم الملوک مناها
فتعاطت علی اختلاف هواهاضربا هذه و تلک ضریبا
* ففی الغری لی بنو عمومةوجوههم ریحانتی و راحی
لا اجتدی المزن إذا ما سلمت‌أیدیهم الوکّف بالسماح
فجمرة العرب بطون هاشم‌و هم سراة حیّها اللقاح
*
یا طول لیلی بالغری کأنه‌قتل الصباح- فلم یقم- بعمود
وقفت سواری النجم فیه فخلتهابدنا هوین بمنهج مسدود
او حملت همی فأثقل خطوهافکأنها مصفودة بقیود وکفت علی کل الجهات أکفه
فجری السماح خلالها و الجودلا سیما النجف الشریف فأهله
لعلاه تبدی بالدعا و تعید *
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 94 فها أنا بالغری ولی فؤادیسیر وراء ظعنک حیث سارا
*
أنخها بالغری فلست تلقی‌سوی دار الحمی للعلم دارا
*
بکر النعی إلی الغری فراعنابل راع جانب حیدر ببکور
فتری الأنام لهول ما قد قاله‌من عاثر رعبا و من مذعور
*
من خفرات الشام محجوبةالی الغریین أتت زائره
*
أهلا فقد لاحت لنا البشائرو أصبح الغری و هو زاهر
*
یا برق خذ نبأ نکابد ثقله‌سینوء فیک فلم تطق لتقلّه
یا برق إنی بالغری موله یا برق ان جئت الغری فقل له)
(أتراک تدری من بأرضک مودع) *
هل کان فی النجف الأعلی سواه فتی‌تضی‌ء غرته فی حسنها النجفا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 95 حسنّت کف العلی إذ کنت خاتمهافأنت زینتها یا درة النجف
*
أمیر زها وادی السلام بوجهه‌و قد کان حیا وجهه یتهلل
*
بکی الحمی لعلی و الذین به‌إذ لیس غیر علی للأنام حمی
*
یا آمر النجف الأعلی أجد نظرابسید علوی عالم علم
*
اذا ما أتی نحو الغری بریدکم‌أبادره عجلان و القلب ذاهل
*
خلاصة شکوای ان الغری‌لبعدک کالرسم عافی الأثر

الشیخ جعفر النقدی‌

خفقت علی ذکر الغری ضلوعه‌فغدت تسیل علی الخدود دموعه
و الی ربوع العلم بات فؤاده‌یشکو الغرام، و أین منه ربوعه
یا منزلا قد أبعدته ید النوی‌حیاک من غیث السماء مریعه
بین الضلوع هواک سر کامن‌لولا الدموع الجاریات تذیعه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 96 انی لینعشنی بربعک صیفه‌و شتاؤه و خریفه و ربیعه
یا حبذا شمس السماء غروبهابحماک و البدر المنیر طلوعه
أدرت مهاد العلم ان ولیدهابلغ الفطام من السلوّ رضیعه؟
یا جیرة الذکوات أذکی بعدکم‌قلبا لقربکم شجاه ولوعه

الشیخ جواد الشبیبی‌

تعریسة الرکب بالوادی من النجف‌هل رجعة لک من بعد النوی القذف
غادرت دینار وجی عنک منصرفافی موسم الوجد للأشجان و الکلف
*
یا رملة الذکوات البیض لاوسمت‌إلا ثراک غوادی الرجز و الوطف
الشیخ جواد الشبیبی
نور الامامة سرنا من أشعته‌علی هدی عن جبین الصبح منکشف
و انت یا قبة الاسلام لو لجأت‌الیک مطرودة الأقدار لم تخف
*
لجیرة النجف الأعلی بجانحتی‌مغنی کما یتمنی القلب مأهول
أنزلتهم فیه مقروین ینهلهم‌دمع اذا شحت الانواء مبذول
بیوت علم علیها أینما ضربت‌ستر من العفة البیضاء مسدول
فجر الأدلاء من ضلت بصیرته‌فأنتم فی دیاجیها قنادیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 97 براکم اللّه أرواحا مقدسةمن معدن اللطف و الباقی تماثیل
آراؤکم لا السیوف البیض قام بهاللّه فی الأرض تکبیر و تهلیل
أعلت منار الهدی فی کل مملکةهذه العمائم لا تلک الأکالیل
کأنکم و المعالی من فرائسکم‌أسد، و أقلامکم من حولکم غیل
دافعتم عن سنا القرآن فالتجأت‌توراتهم لهداه و الأناجیل

الحسین بن الحجاج‌

یا صاحب القبة البیضا علی النجف‌من زار قبرک و اشتشفی لدیک شفی
زوروا أبا الحسن الهادی لعلکم‌تحظون بالأجر و الإقبال و الزلف
زوروا لمن تسمع النجوی لدیه فمن‌یزره بالقبر ملهوفا لدیه کفی
إذا وصلت فأحرم قبل تدخله‌ملبیا واسع سعیا حوله و طف
حتی إذا طفت سبعا حول قبته‌تأمل الباب تلقا وجهه فقف
و قل سلام من اللّه السلام علی‌أهل السلام و أهل العلم و الشرف
انی أتیتک یا مولای من بلدی‌مستمسکا من حبال الجق بالطرف
راج بأنک یا مولای تشفع لی‌و تسقیّنی رحیقا شافی اللهف
لأنک العروة الوثقی فمن علقت‌بها یداه فلن یشقی و لم یخف
و إن اسماءک الحسنی إذا تلیت‌علی مریض شفی من سقمه الدنف
لأن شأنک شأن غیر منتقص‌و أن نورک نور غیر منکسف
و إنک الآیة الکبری التی ظهرت‌للعازفین بأنواع من الطرف
هذی ملائکة الرحمن دائمةیهبطن نحوک بالألطاف و التحف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 98

حمید فرج اللّه «وادی السلام»

وقفت و قد هالنی الموقف‌فجفت علی شفتی الأحرف
أجلت النواظر فی بقعةمداها علی البعد لا یعرف
تصورت کم ضمّ هذا الأدیم جموعا من الناس لا توصف
فکم من ملوک أقاموا القصورفعافوا القصور و ما زخرفوا
و کم عالم ضم هذا الثری‌و کم شاعر حسّه مرهف
و کم من فتی حط فی رمسه‌و من غادة قدها أهیف
و کم من صحیح طواه الفناء یواری الی جنبه مدنف
عوالم قد و وریت ها هناو جیل علی آخر یرصف
تأملت لم کل هذی الحشود إلی مستقر هنا تزحف
و ما السر فی نقل أجداثهاالیه و فی تربه تقذف
فتطوی المسافات عبر الحدود و یأتی الغریّ بها الموجف
و هذی الملایین مرّ القرون کأن الغریّ لها متحف
تأملت حتی کأنی سکرت و ما لامست شفتی القرقف
فصوّت فی مسمعی هاتف‌بذکر إمام الهدی یهتف
و لاحت علی خاطری صورةو عنوانها النجف الأشرف
تشع بآفاقها قبةعلت شرفا، دونها الأوطف
تعالت لتحضن وادی السلام و تدرک من جاء یستعطف
و مدت علی الراقدین الظلال کأم علی صبیة تعکف
سمت باسم حیدرة رفعةو جلت عن الوصف إذ توصف
فأضحی الغری بها غادةو کل موال بها یکلف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 99 تسیر الجموع الی تربةلعسجد حصبائه ترشف
فمن جاور المرتضی حیدرابیوم الجزاء غدا ینصف

دعبل‌

سلام بالغداة و بالعشیّ‌علی جدث بأکناف الغریّ
و لا زالت عزالی النوء تزجی‌الیه صبابة المزن الرویّ
ألا یا حبذا ترب بنجدو قبر ضم أوصال الوصیّ
وصی محمد- بأبی و أمی-و أکرم من مشی بعد النبّی
لئن حجّوا إلی البلد القصی‌فحجی ما حییت إلی علیّ

الراجز

أهل عرفت الدار بالغریین‌وصالیات ککما یؤثفین

فرید المزرکی‌

و علیّ البطل الامام و من‌و اری غرائب فضله النجف

الشریف الرضی‌

سقی اللّه المدینة من محل‌لباب الماء و النطف العذاب
و جاد علی البقیع و ساکنیه‌رخیّ الذیل ملآن الوطاب
و أعلام الغری و ما استباحت‌معالمها من الحسب اللباب
و قبرا بالطفوف یضم شلواقضی ظمأ إلی برد الشراب
و سامرا و بغدادا و طوساهطول الودق منخرق العباب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 100 قبورا تنطف العبرات فیهاکما نطف الصبیر علی الروابی
صلاة اللّه تخفق کل یوم‌علی تلک المعالم و القباب

الصاحب بن عبّاد

یا زائرین اجتمعوا جموعاو کلهم قد أزمعوا الرجوعا
اذا حللتم تربة المدینه‌بخیر أرض و بخیر طینه
فأبلغوا محمد الزکیاعنی السلام طیبا زکیا
حتی اذا عدتم الی الغریّ‌فسلموا منی علی الوصیّ
و بعد بالبقیع فی خیر وطن‌أهدوا سلامی نحو مولای الحسن
و أبلغوا القتلی بأرض الطفّ‌تحیتی ألفین بعد ألف
ثمة عودوا ببقیع الفرقدنحو علی بن الحسین سیدی
و باقر العلم أخا الذخائرو معدن العلیاء و المفاخر
و کنز علم اللّه فی الخلائق‌جعفر الصادق اتقی صادق
فبلغوهم من سلامی النامی‌ما لا یزول مدة الایام
حتی اذا عدتم الی بغدان‌بمشهد الزکاء و الرضوان
فبلغوا منی سلاما دائباسلام من یری الولاء واجبا
و واصلوا السیر و زوروا طوسانحو علی ذی العلی بن موسی
حیّوه عنی ما أصاء کوکب‌و ما أقام یذبل و کبکب
و سلموا بعد علی محمدبأرض بغدان زکی المشهد
و اعتمروا عسکر سامراءاهدوا سلامی أحسن الاهداء
نحو علی الطاهر المطهرو الحسن المحسن نسل حیدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 101 و صرت فی الغری فی خیر وطن‌سلم علی خیر الوری أبی الحسن

السید صادق الفحام‌

خلع الربیع علی الغری مطارفاجددا یطرز و شیها النوّاب

السید صالح بحر العلوم‌

لیس فی و سعی‌الخروج علی سنة السلف
نحن نهوی و عیبناان فی حبنا الشرف
و ستغتالنی جفان‌علی مقرع الشغف
و کفانی شهادةان مثوای فی النجف

طالب الحاج فلیح‌

لک من بنی النجف الشریف‌تحیة الخل الودود
لی فی حمی وادی السلام‌احبة تحت الصعید

عامر بن وائلة اللیثی‌

ألا طرقتنا بالغریین بعدماکللنا علی شحط المزار جنوب
أتوک یقودون المنایا و انماهدتها بأولانا إلیک ذنوب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 102

عباس الخلیلی‌

من قصیدة قالها عند عودته الی النجف لاول مرة بعد فراره من المشنقة فی ثورة النجف.
قبّلت منک بعینی الارض لا بفمی‌وجف دمعی فروّاک الحشا بدمی
عفّرت بالترب وجهی اذ سجدت ضحی‌فناب للسعی رأسی فیک عن قدمی
و کاد ینطق طرفی بالسلام علی‌ارض العراق فهذی ادمعی کلمی
ما الدمع ما اللفظ الا لؤلؤ رطب‌خلطت منتثرا منه بمنتظم
ارخصت درا غلا من ذا و ذاک علی‌معالم للعلی و العز و الکرم
رضعت فیک لبان المجد من صغرفلست حتی الردی عنه بمنفطم
ما الرافدان و ان ساغا بعذبهمایبردان غلیلی منک بالشبم
ضحیت انسان عینی بالبکاء علی‌ثری کفاه دم القتلی عن الدیم
کم من کمی تردی فیک ثوب ردی‌و کم أبیّ بسهم النائبات رمی
و کم طرید مضی و الویل رائده‌فانتابه الحتف فی الآجام و الأکم
قد شردتنی منک الحادثات و قدردتنی الیوم، فلتنبئک عن هممی
انا الذی هدّ رکنا من عداک کماقد شاد للمجد رکنا غیر منهدم
جدنا بأنفسنا نحمی حماک فلانرضی لک الذل ان قیل العراق (حمی)
متی تربّی لک الایام مثلی من‌ان خانه السیف یوما قام بالقلم
یا حسنها ساعة ردت الیک فتی‌ما کان یرجو الیک العود فی الحلم

السید عباس شبر

قالت لی ابنة القریض و الظرف‌اذن فهیا بی الی ارض النجف
إن اشف من دائی فتلک رغبتی‌و ان أمت فمدفنی فی تربتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 103 فسرت من یومی بها الی النجف‌لعلنی انقذها من التلف

الشیخ عباس الملاعلی‌

سلام علی وادی الغری علی البعدو ان کان لا یغنی السلام و لا یجدی
سلام مشوق قرّح البین جفنه‌و جرعه صاب الصبابة و الوجد
حلیف غرام کلما هبت الصباصبا قلبه و ازداد و قدا علی و قد
و إن مر ذکر السفح ظلت سوافحاسحائب جفنیه دماء علی الخد
تنازعه فی کل حین نوازع‌من الشوق حتی لا یعید و لا یبدی
یقلب طرفیه إذا اللیل جنه‌کأن وکلت منه المحاجر بالسهد
و یذکر ایاما تقضت بحاجرو ناعم عیش راق فی سالف العهد

عبد الباقی العمری‌

بنا من بنات الماء للکوفة الغراسبوح سرت لیلا فسبحان من أسری
تمد جناحا من قوادمه الصباتروم بأکناف الغری لها و کرا
*
و لما سرینا للغری عشیةلمن قد ثوی فیه احتراما و تبجیلا
ربطنا بأخفاف المطی ثغورنافأشبعت البیداء لثما و تقبیلا
*
عجبت لسکان أرض الغری‌بظل الوصی استظلوا و ناموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 104 طرنا إلی النجف الأعلی بأجنحةرفیفها یصدع الأفلاک بالزجل
علی مطا کل و جناء مناسمهاأحق من و جنة الحسناء بالقبل
حتی أنخنا بأعتاب الأمیر أبی الغرّ المیامین مولانا الامام: علی
فرصع اللثم بالأفواه ساحته‌و کللتها بدرّ أدمع المقل
و شام برق التجلی کل ذی نظرباثمد من ثری الاعتاب مکتحل
عجبت لسکان الغری و خوفهم‌من الأسد الضاری إذا جاء مقبلا
لیلثم أعتابا تحط ببابهاملائکة السبع السماوات أرحلا
و فی سوحهم کم قد أناخت تواضعاقساورة الغاب الربوبی کلکلا
و هم فی حمی فیه الوجود قد احتمی‌و مغناه کم أغنی عدیما و مرملا
و قد أغلقوا باب المدینة دونه‌و ذلک باب ما رأیناه مقفلا
فمرغ خدا فی ثری باب حطةو ردّ و قد أخفی الزئیر مهرولا
فلو عرفوا حق الولاء لحیدرلما منعوا عنه موالیه لا و لا
*
قمر من النجف المعلی مذبداأهدی الی ابصارنا تنویرا
*
قالوا استخار الغری تولیةیرقب فیه مقابر النجف
*
فان جهلت علاه‌سل عنه أهل الغریّ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 105 قف بالمطی إذا جئت العشی الی‌ارض الغری علی باب الوصی علی
و زر و صلّ و سلم و ابک و ادع و سل‌به لک الخیر یا موسی الکلیم ولی

الشیخ عبد الحسین الحلی تحیة النجف بیوم العید

حی اوطانی اذا سعدت‌بالتحایا الغر اوطان
و اصیحابا عهدتهم‌و هم فی اللّه اخوان
لهم فی کل مکرمةأثر بالفضل ملآن
کیف یخفی فضلهم و له‌بینهم من لطفه شان
الشیخ عبد الحسین الحلی
(یا خلیلی) انت لی و کفی‌بک عمن لی قد کانوا
انت فی مرآک منشرح‌لی و من ذکراک سلوان
لک ودی لا ارتیاب به‌ما وراء الحس برهان
اعرب (الراعی) (لهاتفه)عن مزایا بک تزدان
و معان للکمال غدت‌هی روح و هو جثمان
انما (الراعی و هاتفه)لشتات الفضل دیوان
و هما سفر فان فکهت‌نفس من یهوی فلستان
لک یولی العید بهجته‌و هی ألطاف و احسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 106 فاستق الاقداح فیه اذاصح ان الیوم نشوان
و خذ الافراح منه و ماهو الا بک جذلان
و استمعها من فمی نغماللتهانی هی ألحان
لک اهدیها محبرةو علیها الود عنوان
کعقود الدر فصلهاببدیع الصنع مرجان
کل عقد لا توازنه‌دلة تهدی و فنجان

عبد الحسین العاملی‌

عج بالغری و حول کعبة فخره‌احرم وطف و انشق تضوع نشره
و أشر به لثری الوصی و قبره هذا ثری حط الاثیر لقدره)
(و لعزّه هام الثریا یخضع)

الشیخ عبد الحسین الحویزی‌

سعدت فی الغری أرفع دارنشرت بالعلوم فیها الصحائف
قلم الفن قال للوح ارخ دار رشد بها حوی العدل هاتف)

عبد الحمید السنید

أأبناء الغری الیکموهاتفوق بلفظها نظم ابن هانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 107 خریدة یومها زفت الیکم‌تجلت فی عقود من جمان

عبد الرزاق محی الدین‌

أرض الغری و قد اردت نشیداحسبی فخارک مبدیا و معیدا
و بحسب کل فم و کل یراعةحصباء قاعک لؤلؤا منضودا

الشیخ عبد الغنی الخضری‌

رابطة العلم بکم قد ازدهت‌و النجف الأشرف فیکم ازدهر
*
أحبای یا من بالغریین خیمواو فی ظلها حطوا الرحال عن الرکب
همت بعدکم عینی فلو تبصرونهاحسبتم بان العین ضرب من السحب
*
علی سماء الفضل لاحت ذکافأشرقت فیها ربوع النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 108

الشیخ عبد المنعم الفرطوسی «وادی السلام»

علی الذکوات البیض من جانب الوادی‌قفا ساعة و استنطقا الأثر البادی
فکم فیه معنی لا یفی ببیانه‌لسان فصیح أو براعة نقّاد
و کم عبرة خرسا بها نطق البلی‌فأفصح تبیانا علی غیر معتاد
*
خلیلی ما هذا البیان فاننی‌أری الصخرة الصماء تعرب کالشادی
و ذی صفحة الوادی ینمّ عبیرهابما قد حوته من زهور و أوراد
و کم ربوة للرمل ماج أدیمهابلألاء ثغر قد تناثر فی الوادی
و لحد علی حافاته قد تعطفت‌حنایا ضلوع من قوائم أجساد
وقفت علیه و الأسی یبعث الأسی‌فهاجت بنفسی زفرة ذات إیقاد
و قد جلّل الوادی الرهیب و ما به‌بروعة. إجلال لها أثر بادی
هنالک لو شاهدت أروع منظربروعته شعری تردّی و انشادی
سکون عمیق قد تخلل بینه‌صدی صحیحة یعتاد تردیدها الحادی
و قد جثمت تلک التماثیل حوله‌و مالت أعالیها خشوعا کأجیاد
و کم بعثرت من حول هاتیک کومةتزاحم فی طیاتها أی أضداد
و کم حفرة قد أدرجوا فی قرارهامواهب أفذاذ و أخلاق أمجاد
فیا صفحة الوادی و أنت سجله‌أتدرین کم مرت قرون علی الوادی؟
و کم قد تلاشت فی ثراه مفارق‌و کم طویت فیه أکالیل أسیاد
و کم صولجان قد تداعی کیانه‌به و عروش دکّها الزمن العادی
و رب لسان مفصح عاد أخرساو خانته للتعبیر قوة إیجاد
و کان محالا عنده الصمت فاغتدی‌لسلطانه الجبار أطوع منقاد
فهل طویت منه الفصاحة فی الثری‌و هل أخمدت فی أثرها روعة النادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 109 سلام علی الوادی علی ذکواته‌و من حلّ فیه من ضیوف و وفاد
علی تربة منها الصبا قد تعطرت‌فرائحها الفیاح یعبق کالغادی
علی صفحة الوادی و موجة رمله‌و آمال آباء و أحلام أولاد
و قارورة من أدمع قد تکسرت‌لأم رؤوم فوق زهرة أکباد
و یا تربة وادی السلام قرارهاو من حبها فی کل قلب هوی بادی
سقاک الحیا من تربة قد ترعرعت‌علی حبها نفسی بساعة میلادی
علقت بها طول الحیاة و إننی‌سأبعث مقرونا بها یوم میعادی

عبید اللّه الحسینی‌

یا طیب نفح النسیم فی سحرعرّج علی طیبة بتغلیس
و زر بقیعا تجد هناک به‌رسما من الدین جدّ مطموس
و اغزهما بالغری رازمةتثلم إضحاکها بتعبیس

الشیخ علی بازی‌

قد أزهرت کوفان و ارتاح النجف‌بمقدم الشهم الهمام ذی الشرف
أهلا به من قادم مکرم‌قلبی له قبل اللسان قد هتف

السید علی خان الشیرازی‌

یا صاح هذا المشهد الأقدس‌قرت به الأعین و الأنفس
و النجف الأشرف بانت لناأعلامه و المعهد الأقدس
و القبة البیضاء قد أشرقت‌ینجاب عن لئلائها الحندس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 110

الشیخ علی الشرقی وادی النجف‌

اللطف غبّش صفحةالوادی المنوّر بالشقائق
و الرمل مواج السبائک‌بالشذا الفوّاح عابق
و الدار عالیة البناقوراء کاملة المرافق
وضح الطریق لها و زالت‌عن شرائعها المزالق
الشیخ علی الشرقی
فیها مفاتیح لأبواب الرجا و بها مغالق
و لها مجاز ینتهی‌بالسالکین الی حقائق
حضن الخورنق فرخهاأم العذیب و اخت بارق
وطنی المفدّی أی سرّفی ثراک الطهر عالق
أمن الثری هذی الدمی‌و من الوری هذی الغرانق
و من التراب و ما التراب؟ خلقت أوراد الحدائق
للّه فیک عنایةجعلتک مخلوقا و خالق
مرّت بصخرتک القرون‌سریعة مرّ الدقائق
ملأی بکل طریفةمن کل معجزة و خارق
زاهی الحدود منیعةببنی المدارس و الخنادق
ساع لرفعة شعبه‌بلد المنابر و المشانق
و لواؤه القومیّ فوق‌شعاره الوطنی خافق
العزّ وضّاء المنارةلا مع و العزم صادق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 111 تاج الجزیرة قبسةسطعت علی خیر المفارق
الحق تحت رواقهاو النبل ممدود السرادق
أین اللواحق یا غریّ‌فأنت أنت أبو السوابق
یا لمعة النجف المعلیّ‌لا تجهّمک الطوارق

وادی السلام‌

سل الحجر الصوّان و الاثر العادی‌خلیلی کم جبل قد احتضن الوادی
فیا صیحة الاجیال فیه إذا دعت‌ملایین آباء ملایین أولاد
ثلاثون جیلا قد ثوت فی قرارةتزاحم فی عرب و فرس و أکراد
ففی الخمسة الاشبار دکت مدائن‌و قد طویت فی حفرة ألف بغداد
عبرت علی الوادی و سفّت عجاجةفکم من بلاد فی الغبار و کم ناد
و أبقیت لم أنفض عن الرأس تربه‌لأرفع تکریما علی الرأس أجدادی
خلیلی هجسا و اتئادا بخطوکم‌فلم تطأوا إلّا مراقد رقّاد
فما الربوات البیض فی أیمن الحمی‌و فد خشعت الّا نضائد اکباد
و هل رادع للناس عن کسر قلةاذا عرفوها من ضلوع و أعضاد
لقد هبطت روادنا خیر منزل‌سماء لأرواح و أرضا لأجساد
و جئنا لقوم یضربون قبابهم‌علی رائح عن حیهم و علی الغادی
قباب علیها استهزأ الدهر ما بهاسوی الحجر المدفون و الحجر البادی
ألا ایها الرکب المجعجع فی الحمی‌إلی أین مسری ظعنکم و من الحادی
اعقباک یا دنیا قمیص و طمرةبحفرة أرض من خرابات زهاد
فذو الزهو خلی الزهو عنه و قد ثوی‌و ظلت علی الغبرا سیادة أسیاد
فکم من هموم فی التراب و همةو کم طویت فیه شمائل أمجاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 112 ثوت کومة للترب من حول کومةمعلمة: هذا الزعیم و ذا الهادی
طلبت ابن عباد فألفیت صخرةو قد رقشت هذا ضریح ابن عباد
غدا تنبت الأجساد عشبا علی الثری‌فهل تطلع الأرواح مطلع أوراد
و هل لعبت بالراقدین حلومهم‌بأطیاف أفراح و أطیاف أنکاد
و ما هذه الأجساد من بعد نزعهاسوی قفص خال و قد أفلت الشادی
مضت نشأة الأرحام فی ظلماتهاو أضوأ منها نشأتی بعد میلادی
ولی نشأة أعلی و أجلی فاننی‌بتهیئة فی النشأتین و اعداد
طباع الفتی فردوسه أو جحیمه و فی‌طی أخلاقی نشوری و میعادی

قفص البلبل‌

و ما بلد ضمنی سجنه‌و لکنه قفص البلبل
ترف جناحاه لم یستطع‌مطارا فیفحص بالأرجل
لقد أقفلوا باب آماله‌فحام علی بابه المقفل
خفوق الحشی و خفوق الجناح تحیّر مهما یطر یفشل
مروع یلوذ بجنب الشقیق‌و ما راعه غیر صوت الخلی
تنفض لو لا سقیط الندی‌ینوش جناحیه لم تبلل
ثقیل علی غصن الیاسمین‌خفیف علی صهوة الشمأل
و ما اشتاق الا خمیل الورود و شوق الخطیب الی المحفل
فعین إلی الزمر الرائحات‌و عین إلی سربها المقبل
أبی المرء الا التماس الشقاءو عن منهج الغی لم یعدل
فما رحمته یدا قانص‌و ناشته قاسیة الأنمل
لقد نازعوه بملک الفضافأصبح وقفا علی المنزل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 113 دعوه لیحیا حیاة السعیدفلا هو یبلو و لا یبتلی
ینام فیحلم بالسانحات‌و یصحو فیسبح بالجدول
یناوله الزهر غض الطعام‌هنیئا و یکرع فی السلسل
أتعرف ماذا یقول الهزارو ما ترجمت نغمة الموصلی
قد استنصت الزمر الصادحات و رتل فی وحیه المنزل
تعالی فبی عبرة للضعیف‌و لا حظّ فی العیش للأعزل
سأملأ جیلی الذی عشت فیه حنینا إلی جیلک المقبل
لقد کنت مثلک یا سانحات أروح و أغدو علی المنهل
فلا تأمنی إنّ ام السلام‌عقیم إلی الآن لم تحبل
و هیهات هیهات یخلو الزمان فإما معاویة أو علی
هل الفضل یا أرض للزارعین یعود أم الفضل للمنجل
و یا سهم ان صدتنی جارحاشکرتک إذ لم تصب مقتلی
أری الناس معرضة للشقاءو انی من السجن فی معزل
و لا تعذلوا لهم آخرافان البلیة من أول
و هل حط من یوسف سجنه‌و هل قدح الغمد بالمنصل
*
بلدی رؤوس کلهاأرأیت مزرعة البصل؟

علی بن عیسی بن أبی الفتح الإربلی‌

یا راکبا یفلی الفلاة بجسرةزیافة کالکوکب السیار
حرف براها السیر حتی أصبحت‌کیراعة أنحی علیها الباری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 114 عرّج علی أرض الغری وقف به‌و الثم ثراه وزره خیر مزار
و اخلع بمشهده الشریف معظماتعظیم بیت اللّه ذی الأستار
و قل السلام علیک یا خیر الوری‌و أبا الهداة السادة الأبرار

السید علی نقی النقوی اللکنوی الهندی‌

نجف و ما أدارک ما نجف‌للناس و الأملاک معتکف
حرم إذا لاذ الطرید به‌یرعاه عن صرف الردی کنف
و حدیقة تزهو الوری طرباإذ فاح طیبا روضها الأنف
روض سقاه فضل بارئه‌بصبیب هاطلة لها وطف
فتهدلت أغصانه و غدت‌افناؤه اللاجین تکتنف
و أتت لها الأثمار مونعةبرضا المهیمن حیث تقتطف
*
المجد خیم فی مرابعه‌و علی فناه طنّب الشرف
و به الهدی ألقی عصاه فلاحول له عنه و منصرف
العلم أودعه الإله به‌کمصون در ضمّه الصدف
ذا شیخنا الطوسیّ شید به‌لربوع شرع المصطفی شرف
فهو الذی. اتخذ الغریّ له‌مأوی به العلیاء تعتکف
فتهافتوا السراج حکمته‌مثل الفراش الیه تزدلف * وقفتهم الأبناء ضامنة
تجدید ما قد شاده السلف موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 115

الفرزدق‌

و لیلة بتنا بالغریین ضافناعن الزاد ممشوق الذراعین أطلس

الشیخ قاسم محی الدین‌

فما و حقک ما طابت مجالسنامن یوم فارقتنا یا درّة النجف

کاظم الأزری‌

یا آل بیت اللّه کل من ابتلی‌لم ینج الا فیکم أهل الولا
لکم کأبراج السموات العلی‌حفر بطیبة و الغری و کربلا

الکمیت‌

فیا لیت شعری هل أبصرنّ‌بالنجف الدهر حضّارها

مان الموسوس‌

اقفر مغنی الدیار بالنجف‌و حلت عما عهدت من لطف
طویت عنها الرضی مذممةلما انطوی غضّ عیشها الأنف
حللت عن سکرة الصبابة من‌خوف إلهی بمعرک قذف
سئمت ورد الصبا فقد یبست‌منی بنات الخدود و الخزف
سلوت عن نهد نسبن إلی‌حسن قوام و اللحظ فی وطف
یمددن حبل الصبا لمن ألفت‌رجلاه فیه المجون و الدنف
و مدنف عاد فی النحول من الوجد إلی مثل رقة الألف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 116 یشارک الطیر فی النحیب و لایشرکنه فی النحول و القضف
و مسمعات نهکن أعظمه‌فهو من الضیم غیر منتصف
مفتخرات بالجور عجبا کمایفخر أهل السفاه بالجنف
و قهوة من نتاج قطر بل تخطف عقل الفتی بلا عنف
ترجع شرخ الشباب للخرف الفانی و تدنی الفتی من الشغف

المجاشعی‌

اهل عرفت الدار بالغریین‌لم یبق من آی بها یحلّین
غیر خطام و رماد کنفین‌وصالیات ککما یؤثفین

الشیخ محسن الخضری قال، متشوقا- و هو خارج النجف- لمجلس أحبابه:

سرت نسمات الشیح و هنا فنبهت‌أخا کلف لم تألف النوم عیناه
وهبت علینا من حمی الضال نفحةسرت بجنانحی خافق من حوایاه
فما نسمات الجزع تحمل ریاه‌علی حین أنستنا الحمی و خزاماه
تثنی بذاک العطف عن کل نبعةفعهدی بخوط البان غضا تمناه
و مری بنا أزکی من المسک نفحةتفوح بأدنی المأزمین و أقصاه
و عوجی علی الرضراض من رمل عالج‌فقد برزت للمدلجین نعاماه
اذا الشیخ و القیصوم فیه تعانقاو فاحت بذیاک العبیر ثنایاه
فدونک یا أرواح نجد شمیمه‌و لا تحرمینا ویک من طیب ریّاه
و فی الجانب الغربی من أیمن الحمی‌صفاء یفدیّه الحمی بصفایاه
بنفسی هم من نازلین بمغناه‌و بی أنتم من راشدین و قد تاهوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 117 فیا أخوی ودی القدیمین لاطفاخمیلته الغنا و عوجا بمغناه
فثمة قتلی نشوة فی صعیده‌و یا بأبی ذاک الصعید و قتلاه
و یا صاحبیّ الأطیبین تبوّءامقاما إلی جنب الفرات عهدناه
عهدناه مرهوب الجناب ممنعابشهم فمن موسی و من طور سیناه؟
*
وقعت بین کربلا و الغرییّن‌فما کان موقعا أحلاها
*
علی الذکوات البیض من أیمن الحمی‌أقیما بنعش زلزل الأرض و السما
*
أرح العیس علی رمل الحمی‌إنه رضراض درّ النجف
و استلم قدس ضریح قد سمامثل أفلاک السما فی الشرف
*
أمحلقا للکرخ من وادی الحمی‌کیما یزور به الأمیر نصیفا
*
سقینا لأکناف الغریّ فانهانعم المقیل لمن أراد مقیلا
و أنا الفداء لحضرة القدس التی‌عکف الوصی بها فعادت غیلا
حامی النزیل و لست أعرف منزلاأحمی و أمنع من حماه نزیلا
و بنفسی الحی المقیم ببابه‌إذ کان ظلا للاله ظلیلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 118 الثابتین و قد تزایل غیرهم‌فهم الجبال الشم جیلا جیلا
ثبتوا کما ثبت الألی من قومهم‌کرما فساجلت الفروع أصولا
*
و مقیم فی ثنیات الحمی‌عندما أزمعت القوم الرحیل

محمد بن أمیر الحاج‌

اللّه أکبر لاح قرص‌الشمس فی أرض الغری؟
أم قبة الفلک الذی‌فیها أضاء المشتری
أم طور سیناء الکلیم به کبدر نیر
بل قبة النبأ العظیم وزیر طه الأطهر

محمد توفیق البلاغی‌

سلام علی من شرف القبة الغرافطابت به نظما و طابت به نثرا
سلام علی وادی الغری أقله‌اذا ضاع عرفا یملأ البر و البحرا

السید محمد جمال الهاشمی‌

ودعت صحبی و ترکت أهلی‌و نحو فارس شددت رحلی
قصدتها و دمعتی منهمله‌و نار حزنی فی الحشا مشتعله
حتی دخلت أرض کرمنشاه فی‌قلب یرف فی سماء النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 119 أزف عن النجف الأشرف‌لکم آیة الشکر فی موقفی
و أختم أنشودتی بالذی‌بدأت: عن النجف الأشرف
*
ایه أرض الغری یا شعلةالحق و یا غابة اللیوث الکماة
یا منار الاسلام یا قبة الدین‌و یا مرکز الهدی و الهداة
*
ان تاریخک المضمخ بالمجدتسامی بالفضل و الاکرام
سوف یبقی الزمان یرنولعلیاه بعین الاجلال و الاعظام
نم مهنی براحة و سلام‌فی حمی حیدر (بدار السلام)

الشیخ محمد جواد الجزائری‌

و ضیم الغریّان غاب العراق‌و فارق لیث العرین العرینا

الشیخ محمد حسن حیدر

یا بلبل النجف الغرید فیه الاغرد کما غرد الأطیار فی الزهر
یهزنی شعرک الراقی فاحسبه‌من نغمة الغید او من نغمة الوتر
*
یا جیرة الحی من وادی الغری الأهل فیکم من یحیینی فیحیینی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 120 هل فیک ما فیّ من ودّ یهیج علی وادی الغری) و أکرم فی أهالیه

محمد بن الحسین- البهاء العاملی‌

یا ریح اذا أتیت أهل النجف‌فالثم عنی ترابها ثم قف
و اذکر خبری لدی عریب نزلواوادیه و قص قصتی و انصرف

محمد الخلیلی «وادی السلام»

حیّ وادی السلام وادی الأمان‌بلغت فیه ساکنوه الأمانی
جاور المرقد الشریف فنال الفضل من دون سائر الودیان
و انتمی للغریّ فازداد فخراو تسامی علا علی کیوان
فتراه و القلب یرتاح فیه‌مثل روض بزهره مزدان
فکأن القبور فیه قصورو کأنّ السموم نفح الجنان
و کأن الحصباء فیه درارنثرت فوق تربة الزعفران
لیت شعری و کل قبر سواه‌مکمد للفؤاد بالأحزان
کیف أمسی وادی السلام و أضحی‌یتسلّی فیه عن الأشجان
فأجبنی عن سرّ هذا المعمی‌عن طریق المعقول و الوجدان

السید محمد سعید الحبوبی‌

فاحد من رکب إذا الرکب حدافیه یوما، و أفم ما إن أقام
یممّن نجدا إذا ما أنجداو إذا أتهم فالمسری تهام
و هو إن یشهد فأمّ المشهداو سلام لک من دار السلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 121 إن ثوی جسمی فحلّ النجفاففؤادی عندهم لم یظعن
أین من حلّوا بجمع و الصفامن مقیم بالغریّ الأیمن

*
یوم تزویج بدور و شموس‌بزغت لیلا و باتت بزّغا
واصلت نورا بمرآة النفوس‌أدرکت أمنا و نالت مبتغی
هزمت من سعدها جیش النحوس‌و بها ثوب النحوس انصبغا
فشدا القمری لا بل هلهلابمثانی السابغات الهتف
ملأت بالبشر أقطار الملافرحة البشر بأرض النجف
*
و لو أننی فاوضت ذا الطرس بعضه‌لأحرقه حتی و هی و أبیدا
و لم تقو عیسی أن تقوم بحمله‌و لو مسخت أخفافهن حدیدا
و لو سخرت شم الجبال النقله‌و حملنه لانهلن منه صعیدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 122 ألا فلیطب بالکرخ عیش أحبتی‌فما ذقت عیشا بالغری رغیدا
و أشرب عذب الماء رنقا کأنماسقانی ضریعا صدکم و صدیدا
و من شقوتی ان یحکم البین بینناو یا شد ما أشقی الزمان سعیدا
*
فما الخطب أغری بالغریین زفرةبه ارتجلت رجع النواج نواحیه
*
و جاد سحاب العفو مرقد صالح‌لدی الذکوات البیض من أیمن الوادی

الشیخ محمد السماوی‌

ألم علی ذکوات النجف‌و لاحظ بط فک تلک الطرف
هواء نقیا تحف النفوس‌بطیب هدایا له أو تحف
و تربا زکیا یود الفؤادیلاصقه من وراء الشغف
و عرفا ذکیا یغیر الکباإذا الأنف ناشقه و ائتنف
*
و عج بالحمی لتری رمله النقی و ما رق فیه ورف
تری الدر منتثرا بالرمال‌ینظمه الریح صفا فصف
إذا باکرته السما بالحیاحسبت مدار النجوم انقصف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 123 تری مشرق النهر من حوله‌علی جانب الغرب منه انعطف
کما طرح السیف فی روضةفأومض افرنده و استشف
تری الطیر بین الوری آمنایغرد للمرء فیما استخف
إذا ما تأملت تغریده‌ظننت هناک عروسا تزف
فأین یتاه بمن لم یعج‌بتلک الجنان و تلک الغرف
أیختار ربعا سوی ربعهافیلقی اللآلی و یجبی الصدف
*
و إخوان صدق رقیقی الطباع‌تکاد طباعهم ترتشف
کماة کرام یرون الشرف‌بفرط الشجاعة أو بالسرف
یؤلفهم جامع من و لاعلیّ إذا ما القبیل اختلف
کأن الجماهیر حول الضریح‌حجیج بمکة ذات الشرف
کأن صفوفهم فی الصلاةأکالیل در بتاج تصف
کأن العلوم إذا دارسوابحار بأفکارهم تغترف
سل الصحن کم فیه من لائذیقول علیّ له: لا تخف
و کم فیه من مستقیل یقال‌له قد عفا اللّه عما سلف
و کم فیه من ذاکر ربه‌تقرب بالمرتضی فازدلف

محمد بن عبد الوهاب الهمذانی امام الحرمین‌

مذ شیخنا الراضی الصفی‌فقیه أهل النجف
شاق إلی جوار ربّه المنیع الکنف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 124 نودی من جانبه‌نداء مشتاق خفی
أیتها النفس ارجعی‌لربک المعطی الوفی
راضیة بعیشةمرضیة فی شرف
*
مذ أسد اللّه الهمام السری‌سلیل ساقی الناس من کوثر
اجری إلی الغری ماء مری‌قد أرخوه جاء ماء الغری
1288

الشیخ محمد علی الیعقوبی‌

و یشکرک الحمی و بنوه طراعلی ما کان منک و ما یکون
*
فأهلأ به من زائر خیر بلدةتحف به سکانها و ترحب
*
من التبر صیغت لکم قبةیقدمها النجف الأزهر
مصغرة الشکل عن قبةثوی تحتها العالم الأکبر
*
یقدم سکان الغریین قبةمن التبر تهدی للملیک المبجل
و لا عجب ان طاولت قبة السمافها هی تحکی قبة المرتضی علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 125 أبا المجد حسب المجد فخرا بأنه‌یکنیک فیه حاضر الناس و البادی
ورثت المزایا الغر عن خیر أسرةو أنجب آباء و أطیب أجداد
نشرت بحی مذ أقمت بجوهاعلوم ابن عباس و فضل ابن عباد
ترکنا الذی یروی قدیما و شاقناحدیث الرضا یروی بصحة إسناد
حننت لأکناف الغری و کم بهالوصلک حنت من قلوب و أکباد
و کم لک من إخوان صدق قد استوی‌علی النأی خافی شوقهم لک و البادی
تحن لأوطار بنادیک قد خلت‌إذ الفضل کل الفضل فی ذلک النادی
لیالی فیها نظم الحب شملکم‌کما انتظمت أسماط در بأجیاد
و غصت نوادی العلم فیکم کأنهامناهل و راد و نجعة رواد
یجاری أبو یحیی الجواد أبا الرضالدی حلبة کان المجلی بها الهادی
و قد کنت فارقت الحمی تارکا به‌منابت فیها طاب غرسی و میلادی
و جاورت بالفیحاء شرقی بابل‌بدور هدی شعت بعلم و إرشاد
قضیت بها أیام أنس کأنهابآل معز الدین أیام أعیاد
علی أننی فیها أتوق إلی الحمی‌فجسمی فی واد و قلبی فی وادی
بعثت بإنشائی إلیک و لیتنی‌أراک علی قرب لتسمع إنشادی
و مالی فضل إن رددت تحیةبدأت بها- مولای- فالفضل للبادی
*
أحبة قلبی بأرض الغری‌سقی عهدکم مستهل المزن
علی القرب أهواکم و البعادو فی السر أذکرکم و العلن
حنینی الیک أبا أحمدحنین أخی غربة للوطن
فیا ساکنا بحمی المرتضی‌و ما لک إلا فؤادی سکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 126 أهل لبثة لی بتلک الربوع‌سقاها ملث الغمام الهتن
عسی أجتلی منک وجها سناه‌یفوق الهلال إذا اللیل جن
و لم أنس تلک اللیالی القصارتقضت بقربک طول الزمن
لیالی فیها اجتدیت الزمان فجادبها برهة ثم منّ
*
هتف الغری و أهله بحیاته‌و استبشر القاصی بها و الدانی
*
و النجف الأعلی و ناهیک به‌من بلد لیس یضاهیه بلد
*
ضیف علی وادی الغری کریم‌أنی یقوم بحقه التکریم
*
و کان إراکة طابت أصولاسقتها الکاظمیة و الغری
*
مدینة الغری حین أزهرت‌معاهد العلم بها کالأزهر
شادوا بها مدرسة أهلیةفأسست مذ أرخوا باسم الغری
1344 ه
*
حزت یا هاشم أسنی رتبةلم یحزها أبدا من قد سلف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 127 دارک الخلد غدا إذ أرخواشدت للزوار دارا بالنجف
1350 ه

السید محمد القزوینی‌

لا یبعد القوم الذین عن الحمی‌تخذوا لدی الجلی سواه بدیلا
من فر یوم الزحف عنه فاننافیه اتخذنا منزلا و مقیلا
حتی إذا حمی الوطیس و لم نجدالا طعینا بالحمی و جدیلا
لذنا بمرقد من تطوف بجنبه‌زمر الملائک بکرة و أصیلا
مستصرخین بقبر ذی البأس الذی‌عند الصریخ یرد عزرائیلا
أتراه یندبه القصی فیکشف الکرب الجلی و لا یجیر نزیلا
فسیؤمن المتخلفین و ینجد المترحلین مخافة و ذهولا
و یکون اعلانا لدیه رتبةمن لم یفارق ربعه المأهولا
*
ان حامی الجار لما شخصت‌نحوه الأبصار تهمی بانسجام
و تهافتنا علی تربته‌مستجیرین کأفراخ الحمام
و تساقطنا علی مرقده‌کظماء سقطت یوم أوام
و تصارخنا بمثواه ضحی‌صرخة الرضّع من قبل الفطام
کشف الغمة عن أشیاعه‌و دعا أن نزیلی لا یضام
و انتضی العضب الذی یرهبه‌ملک. الموت لدی الحرب الزؤام
فاتخذنا جنة من بأسه‌نتقی فیها من الجن السهام
و علی نار الوبا أمطرناسحب عفو أخمدت منها الضرام
و غداة اضطرمت صیّرهابالحما بردا علینا و سلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 128

الشیخ محمد الکرمی من قصیدة طویلة

اما الغری و طیب اوقاتی به‌و جمیل ذکراه فلست بناسی
بلد حسوت به السعادة عکس مافی هجرتی عنه أرانی حاسی
بلد عهدت به القداسة ثرةو أناسه فی الخلق خیر أناس
بلد به مثوی الوصی و مفزع‌للخائفین و کعبة للناس
هو ملتقی النزعات ندوة درسهاو مجال کل مقدس و سیاسی
کم ناهضته الحادثات بقسوةلتحط منه فکان طودا راسی
لم أنأ عنه لغیره عفوا و لارجحت قصد سواه باستیناسی
او لم یکن رحب الفناء و أرضه‌مثوی أجائی و مسقط راسی

محمد مهدی الجواهری «بین النجف و أمیرکا»

أأمریک یا ابنة کولمبس‌لحبک وقع علی الأنفس
صبوت الیک و أین الفرات و أهلوه من بحرک الأطلس
حننا و لو کان فی وسعناسعینا إلیک علی الأرؤس
اذا أنس الصب ذکر الحبیب‌ففی غیر ذکرک لم آنس
هو اجس تدنی إلیک المنی‌و لو لا المنی قط لم أهجس
و انی و قلبی ذاک الرقیق‌أحن إلی صخرک الأملس
هوی لی لو بالدراری صبت‌و لو بالعواصف لم تهمس
محمد مهدی الجواهری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 129 اذا کان من ثمر للمنی‌ففی غیر أرضک لم یغرس
و کم قائل ما اصطلی فی الهوی‌بناری و قد غره ملمسی
ألیس سواها نفیس یرام‌فقلت: هوای مع الأنفس
أحبای حتی م یصبو لکم‌معاف و یذکرکم من نسی
ألا هل أتاکم بأنی متی‌یدر کأس حبکم احتس
و انی کاللیل بادی الهموم و أنی کالنجم لم أنعس
ولی قلب حرّ عصی الزمام‌فان راضه حبکم یسلس
و کم لیلة بت فی عزلةو من طیب ذکراکم مجلسی
و بلدة ذل تمیت الشعور فمنطیقها الحر کالأخرس
أحب بلادی لو لم أخف‌بها شرّ ذی الغدرة الأشرس
یجاذب قلبی الیها الهوی‌و یأبی المقام بها معطسی
جفونی و لا ذنب إلا الإباء و إن طاب من بینهم مغرسی
و قالوا تناسی و لا حنةو هل بلبل حنّ للمحبس

المنصور باللّه محمد بن یحیی بن حمید الدین الحسنی الیمانی، امام الیمن‌

هبت لنا نسمات الشوق من نجفاحنت لها صافنات الخیل و الإبل

السید محمود الحبوبی‌

رسل الثقافة فی الغری تبینواشوق النفوس طفا علی بسماتها
طبعت عواطفها علی أفواههاما تطبع الحسناء فی مرآتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 130 انا إن اوافک بالتحیة إنهاباسم الغری و باسم رابطة الغری
*
زرت الغری و ما أجلک زائراأرضا تتیه علی سماء المشتری
*
و انشر علی النجف المقدس روعةکانت ترف علی منی و المشعر

اصیل النجف‌

نشرت أشعتها علی الآفاق‌صفراء ساعة آذنت بفراق
تهتز خافقة أمام مغیبهاأبها صبابة قلبک الخفاق؟
و یروعها أن سوف یخفی نورهاو جبینها المتدفق الإشراق
فتبیت بعد جلالها و جمالهاعن أعین النظار خلف رواق
و تری السما لوداعها تبکی دمافتریک کیف مدامع العشاق
*
بنت الطبیعة ما أجلک طلعةغرّاء دام أمامها إطراقی
زدت الطبیعة روعة فعلقتهاو صرفت نحو جمالها أشواقی
و علی الجهات قریبها و بعیدهاحسن یقابل مثله و یلاقی
الافق مکسو بأجمل حلةتصبی القلوب بوشیها البراق
و الارض فی هضباتها و سهولهافتانة، و بمائها الرقراق
و الرمل مواج السنا، أرأیت ماناطته أید الغید فی الأعناق
و الغیم ذهبّت الأشعة لونه‌فبدا منی الأرواح و الأحداق
و الطیر عائدة إلی أعشاشهاو فراخها فی ألفة و وفاق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 131 جذلی بما نالته من رزق فمابرحت تجل مقسم الأرزاق
و بکل ما یبدو لعینک فتنةما للهیام بحسنها من واق
قد أیقظت فی النفس راقد حبهاو أعادت الآمال للإبراق
سحرت نهی المتأملین و ما ثنی‌عنها العیون تخالف الأذواق
کل یری فیها مباهج قلبه‌و مناه فالسالی أخو المشتاق
*
ما کان أجمله أمامک مشهدایا نفس فاض بحسنه الدفاق
ینسی المتیم کل ما یشکوه من‌أیام هجر أو زمان فراق
تتسابق الأحلام فیه فشاهدی‌مجری الصواهل کل یوم سباق
و تمتعی بسیاحة فکریةفی الأرض زاهیة و فی الآفاق
جلّ الذی ملأ الوجود محاسناشهدت بدقة حکمة الخلاق
هی ساعة غمرت باشتات الرؤی‌و زهت لیعبدها الخیال الراقی
هذا یؤمل أن یتم زمانهاقرب الحبیب بقبلة و عناق
و لذاتها یشتاقها هذا، و ذایشتاقها لمدامة و لساقی
و یریدها للهو ذا، أما أنافأریدها لتزین جوّ عراقی
یا عین لا یغمضک عنها انهاستغیب عنک و أی حسن باقی

الشیخ ملا مهدی النراقی‌

ألا قل لسکان ارض الغری هنیئا لکم فی الجنان الخلود
أفیضوا علینا من الماء فیضافنحن عطاشی و أنتم ورود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 132

السید موسی الطالقانی‌

شمس تشعشع فی الغری و تلمع‌أم قبة فیها البطین الأنزع
*
و بوادی الغری ای إمام‌هو دون الأنام نفس الرسول
*
فاللّه یا ساکنی ارض الغری بمن‌تناهبت جسمه الأسقام و العلل
ناء تنادمه الذکری بقربکم‌فینثنی و هو من ذکراکم ثمل
واهی القوی لم یطق حمل الرداء و قدعجبت کیف لعب‌ء الوجد یحتمل
یهزه الشوق إن ناحت علی فنن‌بنت الأراکة أو قد حنّت الإبل
یزوره الطیف لکن لیس یدرکه‌حتی یدل علیه الوجد و الوجل
*
تذکرت الغری و ساکنیه‌فهاج الشوق و اشتعل الغلیل
غداة النفر اذ حنت نیاقی‌و قد سرت الظعائن و الحمول
و طوحت الحداة و هاج صحبی‌و ساق العیس سائقها العجول
فنادیت الحداة- و ما أجابوا-إلی ارض الحمی تاللّه میلوا
فما رقت قلوبهم لصب‌نحیل الجسم رق له العذول
فمال القلب یقطع کل فج‌إلیهم و الغرام له دلیل
و همّ الطرف یتبعه فحالت‌سیول الدمع و انقطع السبیل
علی ارض الغری سلام صب‌بثغر الوجد یمضغه الرحیل
و تلفظه التلاع الی حضیض‌و للأوعار تقذفه السهول موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 133 یبیت اللیل محتضنا جواه‌و بین ضلوعه داء دخیل
و کم لیل قطعت به الفیافی‌ولی من عزمی العضب الصقیل
بکل فتی أسیل الخد مهمافقدنا البدر فهو له بدیل
یجاذبنا السری أنضاء سقم‌نحافا و النعاس بنا یمیل
نمیل علی الرحال تخال أنانشاوی و الشمال لنا شمول
نمر علی الربوع و ما تمنت‌سوی أنا بمربعها نزول
تحیینا المنازل إن نزلناو تحیا من مدامعنا الطلول
ألا من مبلغ الأحباب عنی‌بأنی ذلک المضنی العلیل
علی عهد الغرام أقام قلبی‌و أقسم للقیامة لا یحول
*
نشرت علیّ ید السرور لواءاو لبست من بشر ای فیک رداءا
یا زائرا أرض الغری و هاجراروض الرصانة فیه و الزوراءا

السید نصر اللّه الحائری‌

و ردّت له ثالثا فی الغری-تری قبة ألبسوها نضارا
*
رأیت الغریین بالتبر لابقان من الدم أمسی ممارا
*
أیا ساکنی أرض الغری و حقکم‌فؤادی مذ غبتم یقلب فی جمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 134 أیا ساکنی وادی الغری الممنّع‌علیکم سلام من مشوق ملوّع
*
باللّه ریح الصباان جزت فی وادی النجف
فأقر السلام أحبةأنوارهم تجلو السدف
و قل المتیم بعدکم‌أودی به فرط الأسف
متذکرا عصرا مضی‌معکم بهاتیک الغرف
أحسن بها غرفا غدت‌مأوی المعانی و الشرف
غرفا زهی ورد العلی‌فیها فلذ لمن قطف

در النجف‌

لو لم تکن بحر جود ما قذفت لنابدرة فی السنا أزرت بکیوان
قد أصبحت یا أخا الإفضال معربةعن صفو ودک فی سر و إعلان

الشیخ یعقوب الحاج جعفر النجفی الحلی‌

تغربت عن ارض الغری فلم تکن‌تقر عیونی او تطیب حیاتی
حبست رکابی عندها الیوم بعدماأذبت علیها النفس بالزفرات
مواطن آبائی بها و أحبتی‌و فیها مغانی أسرتی و سراتی
فمن تربها أصلی و مبدأ نشأتی‌و أرجو بها مثوای بعد وفاتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 135

النجف فی التاریخ

تاریخ الرسل و الملوک‌

اشارة

کان النعمان .. قد غزا الشام مرارا .. فذکر .. أنه جلس یوما فی مجلسه من الخورنق فأشرف منه علی النجف و ما یلیه من البساتین و النخل و الجنان و الانهار، مما یلی المغرب، و علی الفرات مما یلی المشرق. و هو علی متن النجف فی یوم من أیام الربیع فأعجبه ما رأی من الخضرة و النور و الانهار.
* جمع تبّع الجنود و سار حتی نزل الحیرة و قرب من الفرات فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن یشق له نهرا الی النجف، ففعل و هو نهر الحیرة، فنزل علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 136

سنة 12 ه

لما أصاب خالد ابن الآزاذبه علی فم فرات بادقلی قصد للحیرة، و استلحق أصحابه، و سار حتی ینزل بین الخورنق و النجف، فقدم خالد الخورنق و قد قطع الآزاذبه الفرات هاربا من غیر قتال، و انما حداه علی الهرب ان الخبر وقع الیه بموت اردشیر و بمصاب ابنه، و کان عسکره بین الغریین و القصر الأبیض. و لما تتامّ أصحاب خالد الیه بالخورنق خرج من العسکر حتی یعسکر بموضع عسکر الآزاذبه بین الغریین و القصر الأبیض

سنة 13 ه

بعث المثنی- بعد الجسر- فیمن یلیه من الممدّین فتوافوا إلیه فی جمع عظیم .. و کتب إلی عصمة و من معه .. و طلع عصمة علی النجف و من سلک معه طریقه

سنة 14 ه

لما فصل رستم من ساباط، لقیه جابان علی القنطرة فشکا إلیه و قال: ألا تری ما أری؟ فقال له رستم أما أنا فأقاد بخشاش و زمام و لا أجد بدّا من الانقیاد.
و أمر الجالنوس حتی قدم الحیرة فمضی و اضطرب فسطاطه بالنجف
* لما فصل رستم و أمر الجالنوس بالتقدم الی الحیرة أمره أن یصیب له رجلا من العرب .. فلما انتهیا الی النجف سرّحا به الی رستم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 137
ثم انصب إلی المطاط فعسکر مما یلی الفرات بحیال اهل النجف، بحیال الخورنق إلی الغرّیین
* لما اطمأن رستم أمر الجالنوس أن یسیر من النجف فسار فی المقدمات فنزل فیما بین النجف و السیلحین و ارتحل رستم فنزل النجف
* فلما نزل رستم النجف عادت علیه الرؤیا فرأی ذلک الملک و معه النبی (ص) .
* و جعلت السرایا تطوف و رستم بالنجف، و الجالنوس بین النجف و السیلحین .
* أما عمرو .. فخرج حتی تلقی عمر فسأله عن طلیحة فقال: لا علم لی به.
فلما انتهیا إلی النجف من قبل الجوف قال له قیس ما ترید؟ قال: أرید أن اغیر علی ادنی عسکرهم .
* و خرج الذی کان بالنجف و الذی کان فی ذی الحاجب فاتبعه الذی کان فی الجالنوس فکان اولهم لحاقا به الجالنوسی، ثم الحاجبی، ثم النجفی .
* کان عمر قد عهد إلی سعد- حین بعثه إلی فارس- ألّا یمر بماء من المیاه بذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 138
قوة .. إلّا أشخصه. فلما دنا رستم و نزل النجف بعث سعد الطلائع و أمرهم أن یصیبوا رجلا لیسأله عن اهل فارس فخرجت الطلائع بعد اختلاف ... و لا یشعرون بفصولهم من النجف .
* لما نزل رستم النجف بعث منها عینا إلی عسکر المسلمین .
* لحق [زهرة] بالقوم و الجالنوس فی آخرهم یحمیهم فشاوله زهرة فاختلفا ضربتین، فقتله زهرة و أخذ سلبه. و قتلوا ما بین الخرّارة إلی السیلحین إلی النجف. و أمسوا فرجعوا فباتوا بالقادسیة

سنة 51 ه

عن عبید اللّه بن الحرّ الجعفی قال: و اللّه انی لواقف عند باب السری بن ابی وقاص حین مرّوا بحجر و أصحابه ... فمضوا بهم حتی انتهوا بهم إلی الغریّین .

سنة 67 ه

عن سدید بن غفلة؛ قال: بینا أنا أسیر بظهر النجف اذ لحقنی رجل فطعننی بمخصرة من خلفی
* ثم انی لفی المسجد الاعظم اذ دخل رجل معتم یتصفح وجوه الخلق ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 139
قلت: معاشر همدان أنا اشهد باللّه لقد ادرکنی هذا بظهر النجف فقصصت علیهم قصته .

سنة 120 ه

قال سالم زبنیل: لما صرنا إلی النجف قال لی یوسف انطلق فائتنی بطارق .

سنة 144 ه

لما قدم بعبد اللّه بن حسن و أهله مقیّدین فأشرف بهم علی النجف قال لأهله:
أما ترون فی هذه القریة من یمنعنا من هذا الطاغیة؟ قال: فلقیه ابناحی؛ الحسن و علیّ مشتملین علی سیفین. فقالا له: قد جئناک یا ابن رسول اللّه فمرنا بالذی ترید. قال: قد قضیتما ما علیکما و لن تغنیا فی هؤلاء شیئا فانصرفا .

سنة 145 ه

حدثنا ابن ابی الکرام؛ قال بعثنی عیسی برأس محمد و بعث محمد مائة من الجند. قال: فجئنا حتی اذا أشرفنا علی النجف کبرّنا

سنة 226 ه

و فیها؛ حجّ محمد المنتصر و حجّت معه جدّته شجاع؛ أم المتوکل فشیعهما المتوکل إلی النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 140

المنتظم فی تاریخ الملوک و الأمم‌

سنة 372 ه

توفی [فنا خسرو بن الحسن بن بویه، عضد الدولة] فی آخر یوم الاثنین من شوال هذه السنة. و أخفی خبره، و دفن فی دار المملکة إلی أن خرجت السنة، و تقررت قواعد المملکة. ثم أظهرت وفاته، و حمل إلی مشهد علی علیه السلام .

سنة 279 ه

توفی عصر یوم الجمعة ثانی جمادی الآخرة من هذه السنة، شرف الدولة بن عضد الدولة، و حمل إلی المشهد بالکوفة فدفن فی تربة عضد الدولة.

سنة 397 ه

ان فخر الملک ابا غالب قصد [ابا العباس ابن واصل، فاستجار ابن واصل بحسان بن ثمال الخفاجی، فصیّره إلی مشهد علی- علیه السلام- فتصدق هناک بصدقات کثیرة، و سار من المشهد قاصدا بدر بن حسنویه.

سنة 405 ه

توفی فی هذه السنة [بدر بن حسنویه بن الحسین ابو النجم الکردی من اهل الجبل و حمل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- فدفن به .

سنة 418 ه

لما أحس [الحسین بن علی بن الحسین، ابو القاسم المغربی الوزیر] بالموت کتب کتابا إلی من یصل إلیه من الامراء و الرؤساء الذین من دیار بکر و الکوفة؛
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 141
یعرفهم ان حظیّة له توفیت و ان تابوتها یجتاز بهم إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- و خاطبهم فی المراعاة لمن یصحبه و یخفره، و کان قصده أن لا یتعرض أحد لتابوته و ان ینطوی خبره، فتم له ذلک. و توفی فی رمضان بمیافارقین ..
و حمل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- فدفن هناک

سنة 442 ه

من الحوادث فیها، أنه ندب ابو محمد النسوی للعبور، و ضبط البلد. ثم اجتمع العامة من اهل الکرخ و القلائین و باب الشعیر و باب البصرة- علی کلمة واحدة؛ فی انه متی عبر النسوی أحرقوا أسواقهم و انصرفوا عن البلد. فصار أهل الکرخ إلی باب نهر القلائین فصلوا فیه، و أذنوا فی المشهد (حی علی خیر العمل) و أهل القلائین بالعتیقة و المسجد بالبزّازین (بالصلاة خیر من النوم) و اختلطوا و اصطلحوا، و خرجوا إلی زیارة المشهدین مشهد علی و الحسین ..

سنة 460 ه

توفی فقیه الشیعة ابو جعفر الطوسی بمشهد أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب علیه السلام

سنة 479 ه

یمم [السلطان ابو الفتح ملک شاه الی مشهد علی- علیه السلام- فأطلق لمن فیه ثلثمائة دینار. و تقدم باستخراج نهر من الفرات یطرح الماء الی النجف فبدی‌ء فیه و عمل له الطاهر نقیب العلویین المقیم هناک سماطا کبیرا.

سنة 480 ه

توفی فی ذی القعدة من هذه السنة، محمد بن هلال المحسن بن ابراهیم؛ ابو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 142
الحسن الصابی، الملقب بغرس النعمة. و دفن فی داره بشارع ابن عوف، ثم نقل إلی مشهد علی- علیه السلام-

سنة 513 ه

ورد الخبر بأن دبیس بن مزید کسر المنبر الذی فی مشهد علی- علیه السلام- و الذی فی مشهد الحسین. و قال لاتقام- هاهنا- جمعة و لا یخطب لأحد .

سنة 515 ه

دخلت العرب- من نبهان- فید، فکسروا أبوابها، و أخذوا ما کان لأهلها. فعمل موفق الخادم الخاتونی لهم أبوابا من حدید، و حملها علی اثنی عشر جملا، و أنفذ الصناع لتنقیة العین و المصنع، و کانت العرب طمّوها و اغترم- علی ذلک- مالا کثیرا. و تولی ذلک نقیب مشهد أمیر المؤمنین علی- علیه السلام-

الکامل فی التاریخ‌

اشارة

قیل أوحی اللّه الی برخیا بن حنیا یأمره، أن یقول لبخت نصر لیغزو العرب، فیقتل مقاتلتهم ... فأبتدأ بمن فی بلاده من تجار العرب، فأخذهم و بنی لهم حرّان بالنجف، حبسهم فیه و وکّل بهم

سنة 14 ه

أغار سواد بن مالک التمیمی- بعد مسیر الوفد إلی یزد جرد- علی النجاف و الفراض، فاستاق ثلاثمائة دابة، من بغل، و حمار، و ثور و أوقرها سمکا، و صبح العسکر فقسمه سعد بین الناس، و هذا یوم الحیتان .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 143
لما نزل رستم بالنجف، رأی کأن ملکا نزل من السماء- و معه النبی- صلعم- و عمر فأخذ الملک سلاح أهل فارس، فختمه ثم دفعه إلی النبی- صلعم-، فدفعه النبی- صلعم- إلی عمر. فأصبح رستم حزینا. و أرسل سعد السرایا، و رستم بالنجف، و الجالینوس بین النجف و السیلحین .

لیلة الهریر سنة 14

.. لحق [زهرة بن الحویّة التمیمی المنهزمین، و الجالینوس یجمعهم فقتله زهرة،، و أخذ سلبه. و قتلوا ما بین الخرارة الی السیلحین الی النجف .

سنة 120 ه

قدم [یوسف بن عمر الثقفی الکوفة فی جمادی الآخرة سنة عشرین و مائة فنزل النجف .

سنة 372 ه

فی هذه السنة، فی شوال، ... مات [عضد الدولة] ثامن شوال ببغداد، و حمل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- ع- فدفن به .

سنة 379 ه

فی هذه السنة، مستهل جمادی الآخرة، توفی الملک شرف الدولة؛ ابو الفوارس شیر زیل بن عضد الدولة مستسقیا، و حمل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- ع- فدفن به .

سنة 381 ه

هرب الوزیر المغربی الی مشهد أمیر المؤمنین علی (ع) [و] سار من مشهد علی (ع) الی العزیز بمصر .

سنة 400 ه

فیها، مرض أبو محمد بن سهلان فاشتد مرضه، فنذر إن عوفی، بنی سورا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 144
علی مشهد أمیر المؤمنین علی- عم- فعوفی؛ فأمر ببناء سور علیه. فبنی فی هذه السنة. تولی بناءه أبو اسحاق الارجانی .

سنة 403 ه

فی هذه السنة، خامس جماد الآخرة، توفی بهاء الدولة أبو نصر ابن عضد الدولة بن بویه- و هو الملک حینئذ بالعراق- .. و کان موته بأرجان، و حمل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- عم- فدفن عند أبیه عضد الدولة .

سنة 405 ه

فی هذه السنة، قتل بدر بن حسنویه أمیر الجبل .. فأمر [الحسین بن مسعود الکردی بتجهیزه، و حمله إلی مشهد علی- عم- لیدفن فیه، ففعل ذلک

سنة 406 ه

فیها، قبض سلطان الدولة علی نایبه بالعراق و وزیره فخر الملک أبی غالب، و قتل سلخ ربیع الأول .. و لما مات نقل إلی مشهد أمیر المؤمنین علی- عم- فدفن هناک .

سنة 422 ه

اعترض أهل باب البصرة قوما من قم أرادوا زیارة مشهد علی و الحسین- عم- فقتلوا منهم ثلاثة نفر .

سنة 646 ه

القائم- و هو بناء من آجر و کلس ... قیل انه کان علما تهتدی به السفن لما کان البحر یجی‌ء الی النجف .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 145

سنة 455 ه

توفی [المرتضی أبو الفتح أسامة [نقیب العلویین بمشهد أمیر المؤمنین علی- عم- فی رجب سنة 72 [4] ه .

سنة 479 ه

مضی السلطان [ملکشاه و نظام الملک إلی الصید فی البریة فزارا المشهدین؛ مشهد أمیر المؤمنین علی، و مشهد الحسین- عم- و دخل السلطان البر، فاصطاد شیئا کثیرا من الغزلان، و أمر ببناء منارة القرون بالسبیعی .

سنة 533 ه

فی هذه السنة، فی صفر، توفی الوزیر شرف الدین أنو شروان بن خالد ..
ببغداد. و حضر جنازته وزیر الخلیفة فمن دونه و دفن فی داره ثم نقل الی الکوفة، فدفن فی مشهد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام .

سنة 590 ه

فی هذه السنة، کانت زلزلة فی ربیع الأول- بالجزیرة و العراق و کثیر من البلاد- سقطت منها الجبّانة التی عند مشهد أمیر المؤمنین علی- عم- .

فرحة الغری‌

فی سنة خمس و خمسمائة [505 ه] توجه الخلیفة المقتفی مشیعا للحجاج إلی النجف .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 146
الخلیفة الناصر لدین اللّه، زار [أمیر المؤمنین مرارا .
* ذکر ابن طحال؛ ان الرشید بنی علی [قبر أمیر المؤمنین بنیانا بآجر أبیض، أصغر من هذا الضریح- الیوم- من کل جانب بذراع. و لما کشفنا الضریح الشریف وجدناه مبنیا علیه تربة و جصا. و أمر الرشید أن یبنی علیه قبة، فبنیت من طین أحمر، و طرح علی رأسها جرة خضراء. و هی فی الخزانة الیوم .
* زار الخلیفة المستعصم [أمیر المؤمنین و فرق الأموال الجلیلة عنده .
* الخلیفة المستنصر [زار أمیر المؤمنین ، و عمل الضریح الشریف و بالغ فیه
* زیارة یوم الغدیر ... هی الیوم الثامن عشر من ذی الحجة. یجتمع بمشهد أمیر المؤمنین- علیه السلام- جموع عدیدة تتجاوز حد الاحصاء و العد .
* جاء جعفر بن محمد، و محمد بن علی بن الحسین؛ هذا الموضع من قبر أمیر المؤمنین علی. و لم یکن إذ ذاک- القبر و ما کان إلا الأرض. حتی جاء محمد بن زید الداعی فأظهر القبر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 147
محمد بن زید بن الحسن بن محمد، تقدم بطبرستان ... بنی المشهد الشریف الغروی أیام المعتضد .
* عضد الدولة؛ تولی عمارة [مشهد أمیر المؤمنین ، و أرسل الأموال.
و تاریخ فراغها مکتوب علی حائط القبة، مما یلی الرأس الکریم؛ قدر قامة عن الأرض .
* کنت فی النجف لیلة الأربعاء 13 ذی الحجة سنة 597، و نحن متوجهون نحو الکوفة، بعد أن فارقنا الحاج بأرض النجف .
* کانت زیارة عضد الدولة للمشهدین الشریفین الطاهرین، الغروی، و الحائری فی شهر جمادی الأولی فی سنة 371 ه ... و توجه الی المشهد الغروی یوم الاثنین ثانی یوم وروده، و زار الحرم الشریف، و طرح فی الصندوق دراهم. فأصاب کل واحد منهم واحد و عشرون درهما. و کان عدد العلویین ألفا و سبعمائة اسم.
و فرق علی المجاورین و غیرهم خمسمائة ألف درهم، و علی المترددین خمسمائة ألف درهم، و علی الناحیة ألف درهم، و علی الفقهاء و الفقراء ثلاثة آلاف درهم، و علی المرتبین من الخازن و البواب علی ید أبی الحسن العلوی و علی ید أبی القاسم بن أبی عائد و أبی بکر بن سیار .
* لو أخذنا فی ذکر من زار [مشهد أمیر المؤمنین و عمّره، و تقرب الی اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 148
- تعالی- بذلک من الملوک، و العظماء، و الوزراء، و الادباء، و القضاة، و الفقهاء، و المحدثین [و] النبلاء؛ لأطلنا فیه .
* لقد أحسن الصاحب عطا ملک بن محمد الجوینی؛ صاحب دیوان الدولة الایلخانیة حیث عمل الرباط. و کان وضع أساسه من سنة 676، و ابتداء تحقق الحفر للقناة إلیه سنة 2 [7] 6. و أجری الماء فی النجف، فی شهر رجب سنة 676. و قد کان سنجر بن ملکشاه أجهد فی ذلک من قبل، فلم یتفق ...
و آثار البناء باقیة .
* سنة 273؛ رکب داود [العباسی .. فی اللیل الی علی بن مصعب بن جابر؛ فسأله أن یعمل علی القبر صندوقا .. و عمّر الصندوق علیه.
قال أبو الحسن [علی بن الحسن بن الحاج: رأینا هذا الصندوق .. لطیفا، و ذلک من قبل أن یبنی علیه الحائط الذی بناه حسن بن زید .
* محمد بن علی بن رحیم الشیبانی، قال: مضیت أنا و والدی علی بن رحیم، و عمی حسین بن رحیم- و أنا صبی صغیر- فی سنة نیف و ستین و مائتین باللیل معنا جماعة؛ متخفین إلی الغری؛ لزیارة قبر مولانا أمیر المؤمنین- علیه السلام- فلما جئنا الی القبر- و کان یومئذ قبرا حوله حجارة سندة، و لا بناء عنده و لیس فی طریقه غیر قائم الغری- .
* کمال الدین، شرف المعالی بن غیاث المعالی القمی؛ قال: دخلت الی حضرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 149
مولانا أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- علیه السلام- فزرته، و تحولت الی موضع المسألة، و دعوت و توسلت فتعلق مسمار من الضریح المقدس- صلوات اللّه علی مشرفه- فی قبائی .
* کان إیلغازی أمیرا بالحلة، و کان قد اتفق انه أنفذ سریة الی العرب، فلما رجعت السریة نزلوا حول سور المشهد الأشرف المقدس الغروی .
* عمران بن شاهین من أمراء العراق- عصی علی عضد الدولة فطلب طلبا حثیثا؛ فهرب منه إلی المشهد منخفیا .
* فی سنة احدی و خمسمائة [501] بیع الخبز بالمشهد الشریف الغروی کل رطل بقیراط. بقی أربعین یوما؛ فمضی القوم من الضر علی وجوههم إلی القری.
و کان من القوم رجل یقال له أبو البقاء بن سویقة. و کان له من العمر مائة و عشرین، فلم یبق من القوم سواه؛ فأضر به الحال .

الجامع المختصر

سنة 597 ه

توفی فی شهر رمضان من السنة المذکورة، أبو علی عبد الحمید بن عبد اللّه بن اسامة بن أحمد بن علی بن محمد بن عمر بن یحیی بن الحسین بن زید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب، النسابة الکوفی ..، و حمل إلی مشهد علی- ع- فدفن هناک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 150

سنة 602 ه

توفی بتستر، فی ثانی جمادی الآخرة، الأمیر مجیر الدین طاشتکین المستنجدی أمیر الحاج و زعیم بلاد خوزستان .. و حمل تابوته الی الکوفة، فدفن بمشهد علی- ع- بوصیة منه .

سنة 605 ه

توفی یوم الجمعة ثانی المحرم، أبو الحسین و رام بن أبی فراس الحلی [شیخ زاهد متعبد .. فعظم فی أعین الناس و صار تقصده الأکابر للتبرک به و حمل الی الکوفة فدفن بمشهد علی- علیه السلام- .
* توفی فی یوم الأحد ثالث عشری ذی الحجة، أبو الحسن علی بن محمد بن الضحاک، کاتب دیوان المقاطعات .. و حمل إلی الکوفة فدفن فی مشهد علی- ع- .

سنة 606 ه

فی لیلة الاربعاء ثالث جمادی الأولی، صلی فی جامع القصر الشریف علی اخت مؤید الدین محمد بن محمد بن عبد الکریم القمی، نائب الوزارة، و حضر الصلاة علیها هو و ولده، و جمیع أرباب الدولة، و القضاة، و العدول، و الفقهاء، و الصوفیة، و وجوه الناس .. و حملت إلی مشهد علی- ع- فدفنت هناک

الحوادث الجامعة

سنة 634 ه

و فیها، قصد الخلیفة مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فی ثالث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 151
رجب. فلما عاد أبرز ثلاثة آلاف دینار إلی أبی عبد اللّه الحسین بن الأقساسی نقیب الطالبیین. و أمره أن یفرقها علی العلویین المقیمین فی مشهد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب، و الحسین، و موسی بن جعفر علیهم السلام .

سنة 641 ه

و فیها، خلع علی أمیر الحاج مجاهد الدین أبی المیا من ایبک المستنصری المعروف بالدویدار الصغیر ... و خرجت والدة الخلیفة المستعصم باللّه منحدرة فی شبارة الخلیفة إلی درزیجان متوجهة الی الحج. و خرج الخلیفة لأجل و داعها.
فلما نزل السرادق نثر علیه الشرابی ذهبا کثیرا .. ثم توجه إلی الکوفة و دخل جامعها، و قصد مشهد أمیر المؤمنین- علیه السلام- و زوره محمد بن کتیلة العلوی. فلما توجه الحاج، ودع الخلیفة والدته و عاد إلی بغداد .

سنة 643 ه

و فیها، تقدم الخلیفة بإرسال طیور من الحمام الی أربع جهات لتصنف أربعة أصناف، منها: مشهد حذیفة بن الیمان بالمدائن، و مشهد العسکری بسر من رأی، و مشهد علی بالکوفة، و القادسیة .

سنة 645 ه

و فیها، قلد تاج الدین الحسن بن المختار نقابة الطالبیین فعین علی ولده علم الدین اسماعیل فی نقابة مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام .

سنة 648 ه

و فیها، توفی عبد الغنی بن فاخر مهتر الفراشین بدار الخلیفة .. و کان متمهوسا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 152
لحدیث الجن؛ یزعم أنه یستحضرهم و ینفذفیهم امره. قال الشیخ تاج الدین علی بن انجب المعروف بابن الساعی، رحمه اللّه: «قال لی مرة ان جنّیا اسمه شمردل تمرد علی، و خالف أمری و انی تألمت منه الی ملک الجن فأمر بحبسه». فقلت:
«و أین ذلک الحبس؟» فقال: فی النجف .

سنة 649 ه

و فیها، توفی جلال الدین عبد اللّه بن المختار العلوی الکوفی .. و کان یحضر عند الخلیفة الناصر فی رمی البندق، و الفتوة، و لعب الحمام. و کان یفتی فیه، و یرجع الی قوله. و لم یزل علی ذلک إلی ایام الخلیفة المستنصر باللّه، فأشار علیه أن یلبس سراویل الفتوة، من أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- و أفتی بجواز ذلک، فتوجه الخلیفة إلی المشهد، و لبس السراویل عند الضریح الشریف.
و کان هو النقیب فی ذلک .

سنة 653 ه

و فیها، زاد الفرات فغرقت عانة و الحدیثة، و هیت، و الحله و أعمالها، و الکوفة، و أعمالها، و أحاط الماء بجامعها، و بلغ النجف .

سنة 664 ه

و فیها، توفی السید النقیب الطاهر رضی الدین علی بن طاووس، و حمل إلی مشهد جده علی بن ابی طالب- علیه السلام .

سنة 672 ه

فی منتصف ذی القعدة، توفی الملک عز الدین عبد العزیز بن جعفر النیسابوری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 153
ببغداد ... تولی شحّنکیّة واسط و البصرة .. دفن فی مشهد علی- علیه السلام

سنة 673 ه

و فیها، توفی السید جمال الدین محمد بن طاووس بالحله، و دفن عند جده أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- علیه السلام .

سنة 674 ه

و فیها، سقط رکن الدین بن النقیب محی الدین بن حیدر نقیب الموصل بفرسه الی دجله ببغداد، و کان مجتازا علی الجسر. فأصعد إلی مشهد علی- علیه السلام- فدفن هناک .

سنة 696 ه

فی المحرم، سار السلطان عازان یرید العراق .. ثم توجه الی الحله و قصد مشهد علی- علیه السلام- فزار ضریحه الشریف، و أمر للعلویین بشی‌ء کثیر

دوحة الوزراء

سنة 1153 ه

خلال هذه السنة أرسل الشاه [نادر شاه هدایا مالیة جسیمة و تحفا ثمینة إلی المراقد المقدسة .. و الخلیفة الرابع علی المرتضی- کرم اللّه وجهه- .

سنة 1156 ه

من بعد الحوادث الحربیة. الشاه أعلن الهدنة من قبله، و سافر الی زیارة العتبات المقدسة، و أمر بتعمیر مرقد الخلیفة الرابع. کما و أمر أن تطلی القبة بالذهب .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 154

سنة 1160 ه

قد أعلنت البشائر للخاص و العام فی المملکتین .. و قد تلاقی الوفدان [العثمانی و الایرانی و تبادلا التحیة و التسلیم. غیر أن الوفد الایرانی توقف فی بغداد ثمانیة ایام للاستراحة، و لزیادة العتبات المقدسة .

سنة 1234 ه

حدوث اضطرابات فی النجف الأشرف، أوری زنادها المتولی عباس الحداد؛ و ذلک بتحریضه قبیلتی الشمرت و الزکرت بعضها علی بعض لیتخلص بذلک من دفع ما فی ذمته من الأموال الأمیریة .

تاریخ العراق بین احتلالین‌

ان الأمیر سیف الدین البتکیجی التمس ان یرسل معه مائة من المغول الی النجف؛ لمحافظة مشهد أمیر المؤمنین علی- رض- و أهلیه، و من جاوره [سنة 656 ه] .
* توفی السید النقیب الطاهر رضی الدین علی بن طاووس، و حمل إلی مشهد جده علی بن ابی طالب .
و المترجم من العلماء المشاهیر .. کان بینه و بین الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی و اخیه و ابنه صداقة متأکدة. أقام ببغداد نحوا من 15 سنة ثم رجع إلی الحله، ثم سکن المشهد الشریف برهة، ثم عاد فی دولة المغول إلی بغداد، الی ان توفی فی 5 ذی القعدة [سنة 664 ه]
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 155
سنة 666 ه أمر علاء الدین؛ صاحب الدیوان ببناء رباط بمشهد الامام علی- رض- لیسکنه المقیمون المجاورون هناک. و وقف علیه وقوفا کثیرة و أدر لمن یسکنه ما یحتاج إلیه .
* فی منتصف ذی القعدة [سنة 672 ه] توفی الملک عز الدین عبد العزیز بن جعفر النیسابوری ببغداد. و کان شیخا جوادا مواصلا لکل من یسترفده.
و اشتهر ذکره بالکرم.
تولی شحنکیة واسط و البصرة. و کان حسن السیرة، عظیم الناموس. و دفن فی مشهد علی- رض- .
* الصاحب علاء الدین الجوینی ... من عماراته انه أجری نهرا من قصبة الأنبار الی النجف الأشرف. و صرف له مبالغ وافرة قدرها بمائة الف دینار ذهبا؛ فتأسست عمارات و قری فی جانبیه، و عددها مائة و خمسون قریة؛ فانقلبت تلک الأراضی القاحلة إلی مزارع متصلة.
و الظاهر ان النهر المذکور هو المعروف الیوم ب (کری سعده) کما انه اسس رباطا فی النجف .
* السلطان الشیخ حسین الجلایری [المتوفی فی شهر رجب سنة 757]: فی کلشن خلفا؛ انه اقام عمارات نفیسة و جمیلة فی بغداد و النجف الأشرف .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 156
الأمیر قاسم بن السلطان حسن [المتوفی سنة 769 ه]. توفی الأمیر قاسم أخو السلطان اویس بمرض الدق، فأجریت له مراسیم الحداد فنقل الی النجف الأشرف و دفن بجوار والده الشیخ حسن الایلکانی، و کان قد ولد فی جمادی الاولی سنة 748 ه. و مقبرتهم موجودة داخل الصحن. عثر علیها فی الأیام الأخیرة، فأعیدت الی ما کانت علیه .
* تیمور لنک .. خطا إلی اصبهان، و عراق العجم، و الری، و فارس و کرمان؛ فملک جمیعها من بنی المظفر الیزدی بعد حروب هلک فیها ملوکها، و بادت جموعها.
و شد أحمد ببغداد عزائمه، و جمع عساکره، و أخذ فی الاستعداد ثم عدل إلی مصانعته و مهاداته، فلم یغن ذلک عنه. و ما زال تیمور یخادعه بالملاطفة و المراسلة إلی أن فتر عزمه، و افترقت عساکره، فنهض إلیه یغذ السیر فی غفلة منه حتی انتهی إلی دجلة، و سبق النذیر إلی أحمد فأسری بغلس لیلة و حمل ما أقلّته الرواحل من أمواله و ذخائره، و حرق سفن دجلة، و مر بنهر الحلة فقطعه، و صبح مشهد علی- رض- و وافی تیمور و عساکره دجلة فی 11 شوال سنة 795 ه. و لم یجد السفن، فاقتحم بعساکره النهر و دخل بغداد، و استولی علیها، و بعث العساکر فی اتباع أحمد. فساروا الی الحلة- و قد قطع جسرها- فخاضوا النهر عندها، و ادرکو أحمد بمشهد علی- رض- و استولوا علی أثقاله و رواحله، فکرّ علیهم فی جموعه، و استماتوا. و قتل الأمیر الذی فی اتباعه، و رجع بقیة التتر عنهم، و نجا أحمد الی الرحبة من تخوم الشام .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 157
عزیز بن اردشیر الاسترابادی [مؤلف «بزم و رزم» فی الفارسیة] .. کان فی صباه جاء إلی بغداد، و قضی شبابه فیها.
و لما ورد تیمور بغداد فی 20 شوال سنة 795 ه، و ضبطها؛ فرّ المؤلف و السلطان أحمد إلی انحاء المشهد (النجف الأشرف). و قد وافی المشهد ثلّة منهم فقبضوا علی المؤلف، و جاؤا به إلی الحلة، و سلموه إلی میران شاه؛ ابن الأمیر تیمور، فعطف علیه، و لطف بحیاته، فبقی مدة عنده .
* و علی کل؛ نجا السلطان أحمد من تلک المملکة، و ان اعوانه کل واحد منهم سلک ناحیة. فتفرقوا فی الصحاری شذر مذر، فاختفوا فیها .. الخ .. فکان مع القوم من ضرب الی جهة النجف .
* ان فتح بغداد- کان بعد محاصرة دامت اربعین یوما- یوم السبت 7 ذی القعدة لسنة 803 ه، و قتل خلق لا یحصی، و اتخذت من رؤوسهم منارات.
و خرج منها فی العشرة الاولی من ذی الحجة؛ إلا انه لم یصل إلی العلماء منه ضرر.
و من هناک زار مشهد الأمام موسی الکاظم- رض-، و مضی الی الحلة فزار مشهد علی- رض- و قضی نحو عشرین یوما تثبیتا للسطوة و السیطرة علی تلک الأنحاء، و علی واسط، و تجمع الیه علماء العراق و آذربایجان و غیرهم. و کانت مجالسه مشغولة بالمناظرات العلمیة، و ما ماثل .
* و أما فضل اللّه الاسترابادی [المقتول سنة 804 ه]؛ فانه جاور النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 158
مدة عشرین سنة .. فلل کانت له علاقة بالاسماعیلیة، و هم یترددون إلی مشهد الأمام علی- رض- فاتصل بهم؟ .
* قبیله خفاجة .. و هم یسکنون بنواحی الکوفة. قال ابن بطوطة: «سافرت- من النجف إلی البصرة- دفعة کبیرة من عرب خفاجة. و هم أهل تلک البلاد، و لهم شوکة عظیمة، و بأس شدید. و لا سبیل للسفر فی تلک الأقطار الّا فی صحبتهم» .
* المشعشع [سنة 844 ه] .. حروبه فی الحویزة و الجزائر و واسط، و استیلاؤه علی النجف الأشرف .
* المولی علی المشعشع- فی الغیاثی أن میر علی کیوان خرج بالحجاج یوم السبت غرة ذی القعدة لسنة 857 ه؛ فخرج علیهم المولی المشعشع و نهب أموالهم و دوابهم و جمالهم، و أخذ المحمل و الآیة المذهبة، و قماش المحمل، و نجا أناس قلائل کانوا قد دخلوا المشهد. و حاصروا السادة فی حطیم المشهد، فأرسلوا یتضرعون إلیه فطلب منهم القنادیل و السیوف. و کانت خزانة الحضرة منذ سبعمائة سنة تجمع فیها سیوف الصحابة و السلاطین فکلما مات السلطان أو خلیفة بالعراق یحمل سیفه إلیها. فأرسلوا إلیه مائه و خمسین سیفا، و اثنی عشر قندیلا؛ ستة منها ذهبا، و ستة فضة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 159
فأرسلوا من بغداد عسکرا لمحاربته یقدمهم دوه بیک، و انضم إلیه بسطام حاکم الحلة بأجواد عسکر بغداد .
* و بتاریخ خامس الشهر دخل السلطان علی الحلة و نقل أموالها و أموال المشهدین إلی البصره .. و رحل یوم الأحد 23 ذی القعدة إلی المشهد الغروی و الحائری.
ففتحوا له الابواب، و دخل فأخذ ما تبقی من القنادیل، و السیوف، و رونق المشاهد جمیعها من الطوس و الاعتاب الفضیة و الستور و الزوالی و غیر ذلک و دخل بالفرس إلی داخل الضریح، و أمر بکسر الصندوق، و احراقه؛ فکسر و أحرق و نقل اهل المشهدین من السادات و غیرهم ببیوتهم .
* سنة 859 ه- فی هذه الأیام وصلت أخبار المشعشع الی بیر بوداق بشیراز؛ فأرسل سیدی علی مع جماعة نواکر (ضباط و أعوان) الی بغداد، فدخلها فی 3 ربیع الأول سنة 858 ه.
و بعد ذلک أرسل بیر بوداق جماعة عساکر من شیراز الی بغداد، و مقدمهم أمیر شیخ شی للّه، و حسین شاه المهردار، و عمه سورغان، و علی کرز الدین، و شیخ ینکی اوغلی. و أمر أن یتوجه سیدی علیّ، و یعمر الحلة و المشهدین، فدخل بغداد فی 2 جمادی الأولی سنة 859 .
* علی بن محمد بن فلاح [المشعشع مات سنة 863 ه .. و کان منفورا من الجمیع بسبب ما قام به من إهانة العتبات الشریفة فی النجف و فی کربلاء، و القتل و التخریب و النهب، ففی المجلس الثامن من مجالس المؤمنین: أغار المولی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 160
علی المذکور علی عراق العرب، و انتهب المشاهد المقدسة، و تجاسر علی العتبات بوقاحة، و استولی علیها .
* الشاه اسماعیل- استولی علی [بغداد] سنة 914 ه بواسطة قائده لا لا حسین .. و عقب ذلک جاء الشاه الی بغداد .. و بعد ذلک ذهب لزیارة مشهد الحسین و مشهد الامام علی- رض- .
* ثم رجع الی الحلة .. و منها ذهب الی النجف الأشرف للزیارة- أیضا- و قدم للحضرة هدایا جزیلة، و نوادر فاخرة، و أکرم سکان المدینة المشرفة و أنعم علیهم بوافر العطایا .
* السلطان سلیمان- تجول .. فی 28 جمادی الأولی سنة 941 ه فی أنحاء عدیدة من العراق؛ قضاها فی زیارة المراقد المبارکة فی الکاظمیة، و کربلاء، و النجف
* فی سفر الوالی [ایاس باشا .. و الی بغداد؛ سنة 953 ه] مر بالنجف لزیارة مشهد الامام علی- رض- .
* فی النجف تکیة للبکتاشیة .. لا شک أنها ترجع فی القدم الی مثل تکیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 161
کربلاء، إلّا أننا لا نقطع فی تاریخها لما قبل الفتح الثمانی .. و کان فی النجف فی تکیة البکتاشیة الحاج السید أحمد ویرانی سلطان؛ و هذا معتبر عند البکتاشیة و الکاکائیة معا. ناله الظهور و رفع الی السماء و صار أسدا. و لا تزال قلنسوته فی هذه التکیة موضوعة علی دکة یزورونها و یبدون لها غایة الاحترام و الخضوع.
فهو من أکابر شیوخ البکتاشیة، و لم یعین تاریخه. و لا شک انه سابق للتاریخ العثمانی بل ان تاریخ الحروفیة یتحقق فی تأریخ فضل اللّه الحروفی مؤسس الحروفیة، لازم الخلوة، و الطریقة؛ فی حضرة الامام علی- فی النجف- مدة طویلة. فلا ریب أنهم یرجعون فی طریقتهم الیه، و هی لا تختلف عن البکتاشیة بوجه .
* طریقة البکتاشیة- .. مؤسسها الأصلی الحاج بکتاش ولی، المتوفی سنة 738 ه .. و بدخول العثمانیین تأسست فی العراق، فاتخذت جملة تکایا .. فی النجف و کربلا و غیرهما .
* قتل القزلباشیة- ان الدولة [العثمانیة] أرادت أن تقطع دابر القزلباشیة؛ إذ علمت ان قد جاء أکثر من ثلثمائة منهم منهم من النجف الی الکاظمیة فأمر بقتلهم و ذلک قبل الفتح [سنة 1048 ه]، و اعطا، الامان و کذا قتل نحو ألف، ثم قتل نحو أربعمائة .
* کان کنج عثمان من الشجعان الأبطال، و هو من أتباع ابازه باشا المشهورین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 162
فجعل علی جیش تولی رئاسته، و أرسل لفتح الأنحاء العربیة. و هذا لاقی القزلباش أی الایرانیین أو الشیعة منهم بسیفه فدمرهم. و فتح قصبة کربلاء، و ذهب منها الی النجف [سنة 1049 ه] و کانت بلدة معمورة فاستولی علیها، و منها اکتسح الحلة، و ضبط الرماحیة.
و من ثم حط رکابه فی کربلاء. الا انه اهتم غایة الاهتمام بالبلدان و البقاع التی استولی علیها و راعی حسن ادارتها .
* الوزیر حسین باشا .. معروف ب «حسین باشا السلحدار». عزم [سنة 1082 ه] علی زیارة المشهدین ترویحا للنفس ثم عاد الی بغداد .
* الوزیر قبلان مصطفی باشا کان .. صافی القلب. له میل عظیم الی زیارة الأولیاء. و فی شعبان [سنة 1088 ه] ذهب لزیارة الإمام الحسین- رض- و الإمام علی- رض- فقضی بضعة أیام ثم، عاد .
* الشیخ سلمان بن عباس الخز علی؛ لم یذعن بل ضبط مقاطعات (الرماحیة) و (خالد کبشه) و (حسکه) و (بنی مالک) و (نهر الشاه) حتی انه لم یکتف بکل ذلک بل استولی علی النجف الأشرف [سنة 1112 ه] .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 163
فی شوال [سنة 1116 ه] ذهب الوزیر [حسن باشا] لزیارة کربلاء و النجف. و فی طریقه مرّ بنهر الشاه .
* لما أتم الوزیر [حسن باشا] أعماله [سنة 1118 ه] عاد لزیارة الإمام علی- رض- و منها جاء الی بغداد .
* توجه [و الی البصرة الوزیر حسن باشا سنة 1126 ه] الی زیارة الإمام علی- رض- و فی هذه المرّة جدد صندوق ضریحه. و لما تم، حضر القاضی و المفتی و النقیب، فأجری الاحتفال المهیب، و رفع الصندوق العتیق، فوضع مکانه الجدید، فغطاه بالستار، و وضع له یوسف عزیز المولوی صاحب قویم تاریخا باللغة الترکیة، و کان فی جملة من حضر الاحتفال .. ان النص المنقول عن قویم الفرج یعین ان الوزیر حسن باشا هو الذی عمل [الصندوق .
و ممن أرخه الحاج محمد جواد بن عواد. و فیه اشارة الی انه جدده الوالی، و لم یقل اصلحه، بل الشعر یشیر الی أنه من عمله .
* [فی سنة 1151 ه] أخبر الوزیر [أحمد باشا] بأن الأمیر سعدون [أمیر المنتفق جمع نحو عشرة آلاف مقاتل فنزل بین النجف و الکوفة، و تغلب علی بعض القری، و منع الزرّاع من الانتفاع .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 164
سنة 1153 ه- أرسل نادر شاه مع أحد أمرائه هدایا؛ نقودا وافرة الی ...
العتبات المقدسة المبارکة، و تحفا سنیة. و لما وردت بغداد کتب الوزیر بها دفترا و سلم ما یخص العتبات بواسطة السفیر الإیرانی، فأوصلها إلی محلها، و أکرم السفیر .
* [سنة 1154] .. قطاع الطرق عاثوا .. و عطلوا الأسفار من محل الی آخر .. اطلع الوزیر علی ذلک، فعزم علی تخریب هذه القری [التی اتفقت هذه العشائر مع بعض المفسدین من أهلها] فجهز علیها سریة بقیادة سلیمان باشا الکتخدا. و هذا فرق جیشه، و نبه أن یقتل جمیع رجالها و تنهب أموالها؛ عدا کربلاء، و الحلة، و الغری .
* فی سنة 1155 ه بدأ نادر شاه بتذهیب القبة و الایوان و المئذنتین لمشهد الإمام علی- رض- و تم ذلک فی سنة 1156 ه. فبذل أموالا کثیرة و قدم للخزانة الغرویة تحفا نفیسة. ورد فی تاریخ جهانکشای نادری، و فی بستان السیاحة، و للسید حسین بن میر رشید، و للسید نصر اللّه الحائری و غیرهما قصائد .
* أرسل [نادر شاه رسولا الی أحمد باشا، فی الصلح مع الدولة العثمانیة ..
فقبل الوزیر، و أرسل الیه کلا من محمد باشا الکتخدا السابق، و سلیمان باشا، و ولی أفندی کاتب الدیوان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 165
وصل هؤلاء الی الشاه، و أسّسوا الصلح بین الطرفین، علی أن یعود الی مملکته، و تعرض القضیة علی الدولة العثمانیة. و حینئذ عزم علی زیارة العتبات؛ فذهب أولا الی النجف الأشرف لمشاهدة القبة المذهبة- و کان أمر ببنائها- و منها ذهب الی کربلاء. و من هناک کتب الی الوزیر أحمد باشا أن یرسل إلیه عالما؛ بأمل التوفیق و التألیف بین السنّة و الشیعة؛ فأرسل إلیه الوزیر الشیخ عبد اللّه السویدی. فحضر یوم الأربعاء 24 شوال سنة 1156 ه.
أوضح ذلک فی کتابه (النفحة المسکیة فی الرحلة المکیة). ذکر نص محضر العلماء لمختلف الأقطار. و نشرت المذاکرات فی (حدیقة الزوراء)، و فی کتاب (الحجج القطعیة لاتفاق الفرق الاسلامیة). و طبعت مرارا، و آخرها طبعة الأستاذ محب الدین الخطیب. کما نقلت الی اللغة الترکیة و طبعت. و لخص الاستاذ عبد الحمید السباعی تلک المزاکرات باسم (السیوف العراقیة)؛ أملاها الشیخ محمد سعید السویدی ابن الشیخ عبد اللّه السویدی سنة 1188 ه فحکی ما جری و عندی مخطوطتها.
* و فی جهانکشای نادری للاستاذ مهدی منشی‌ء نادر شاه نص المحضر بالفارسیة و نسخته وضعت فی خزانة الامام فی النجف، و أذیعت فی مختلف البلدان .
* [أشهر من عرف من الأسرات و الافراد فی العلم آل الطریحی فی النجف [فی القرن الثانی عشر] و لا تزال بقایاهم .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 166
بناء سور النجف- [فی 1203 ه] کان بناء سور النجف بأمر الوزیر سلیمان باشا- کما فی المجموعة المخطوطة عندی .
* فی شهر شوال [سنة 1204 ه] جری تجدید شباک ضریح الأمام علی فعمل من الفضة أرسله محمد خان بن حسن خان القجاری؛ و یسمی اقا محمد خان مؤسس دولة القجاریة .
* سور النجف القدیم
* کان الوزیر یخشی من الوهابیین أن ینصرفوا الی النجف؛ فیوقعوا فیه ما أوقعوا فی کربلاء. و لذا راعی الحیطة فی نقل الخزانة التی فی النجف إلی الامام موسی الکاظم- رض- و عهد بأمر ذلک الی الحاج محمد سعید بک الدفتری.
فقام بما یجب و عاد الی بغداد [سنة 1216 ه] .
* لبث علی باشا فی الهندیة .. و أبقی فی النجف عسکر الموصل، مع مقدار من العقیلیین .
* رحل الوزیر [علی باشا سنة 1218 ه] الی جهة الشامیة و منها نزل قرب المشهد (النجف). و هناک رتب جموعا من عثمانیین و کرد و عرب و جعلهم تحت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 167
قیادة فارس الجرباء، و أمرهم بالذهاب إلی جبل شمر. و فی هذه الاثناء اعلم فارس الجرباء بان جمع الوهابیین وافی إلی هذه الجهات فأغار فارس بجموعه نحوهم بقصد الظفر بهم. فلم یروا أثرالهم، و قضوا لیلتهم قرب قصر الأخیضر فوق شفاثا.
و بیناهم فی استطلاع الأخبار؛ اذ جاءت الانباء بأنهم وصلوا إلی غربی المشهد الی القطقطانة (طقطقانه) فقاموا من ساعتهم فأغاروا علیهم، و لم یصلوا الّا وقت المغرب فوجدوا أثرا و لکنهم لم یعثروا علیهم، و عادوا بیأس؛ لأنهم علموا مؤخرا ان الوهابیین رجعوا إلی دیارهم .
* [سنة 1220 ه] سار سعود بجیوشه، و نازل المشهد، و فرق جیشه علیه من کل جهة، و أمرهم ان یتسوروا الجدار علی أهله. فلما قربوا منه فاذا دونه خندق عریض عمیق، فلم یقدروا علی الوصول إلیه و جرت بینه و بینهم مناوشة و قتال و رمی من السور و البروج؛ فقتل من جیش سعود عدة قتلی فرجعوا عنه .
* زبید و الخزاعل و سائر العشائر لم یؤدوا الرسوم الأمیریة. و کذا عشائر الجرباء، و الظفیر، و الرولة. فعاثت [سنة 1229 ه] بالقری و القصبات المجاورة لها مثل الحلة و کربلاء و النجف، فضج الناس من کل صوت .
* جهز داود [الدفتری جیشه و سار من بغداد. بتاریخ 14 ذی القعدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 168
[سنة 1229 ه] نحو الحلة و کانت آنئذ کربلاء و النجف مزدحمة بالعشائر فی کافة انحائها و حوالیها. و ان کثرتها کانت تعادل أضعاف الجیش فلم یبال بکثرتهم و مکث فی الحلة بضعة ایام للاستراحة فذاع أمره فاستولی الرعب علی العربان النازلة فی تلک الجهات .. و تفرقت دون أن یجرد سیفا. و انما ارسل مقدارا من الجیش لتخلیص الزوار المحصورین فجاءبهم الی الحلة ثم ذهبوا الی النجف، و منها عادوا الی الحلة. ثم توجهوا الی بغداد دون ان ینالهم خوف او یصیبهم ضرر
* مضی الوزیر [سعید باشا سنة 1230 ه] الی جلیحة لتحصیل المیری.
و فی طریقه زار النجف و کربلاء .
* طمعت قبیلة الظفیر [فی سنة 1233 ه] فی وقعة یحیی اغا الخازن، و کذا سائر العشائر فی قطع الطرق، و تجاوزت علی زوار العتبات. حتی ان وکیل متولی اوقاف النجف عباس الحداد تمکن من اشعال نیران الفتن بین حیین من أحیاء النجف؛ و هما الشمرت و الزکرت فأدی الأمر إلی هلاک الکثیرین. و کذا فی انحاء الخزاعل امتنع شیوخ جلیحة و عفک عن اداء المیری، فحاول الوزیر عبثا فی دعوتهم فم یحبیبوا و أصروا علی عنادهم.
و علی هذا أرسل من أغوات الداخل صالح اغا الکردی مع بیرق أو بیرقین من الخیالة لاتخاذ الوسائل الناجحة لالقاء القبض علی عباس الحداد أو قتله و اذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 169
لم یتیسر فیجب علیه أن یراعی المصلحة بالتزام من یناوئه باغرائهم علیه أو ما ماثل.
و أرسل محمد الکهیة بقوة عظیمة علی الصقور، و علی عشائر جلیحة و عفک لأجل تأدیبهم ...
و أما صالح أغا فلم یتیسر له القبض علی عباس الحداد حیا فانتهز الفرصة و قتله مع علی دبیس الشقی المشهور، و أرسل برأسیهما الی الوزیر. فزالت الفتنة بین الزکرت و الشمرت فی النجف، و هدأ الأهلون. و ان الباقین أذعنوا و خلدوا للسکینة. و حینئذ نصب علیهم وکیل متول محمد طاهر جلبی من أقارب السادن (الکلیدار) الأسبق، و زال النزاع .
* کتب الوزیر [محمد نجیب سنة 1260 ه] بخبر [محمد بن شبل العجمی مقدّم البابیّة] الی استنبول بأن اهل کربلاء و النجف و علماءها لم یقبلوه فجی‌ء به الی بغداد .
* غلت الأسعار [سنة 1268 ه] بالحسین (کربلاء)، و المشهد النجف
* الوزیر السردار الاکرم عمر باشا؛ سنة 1274 ه] لم یصبه فتور و صار یبعث بالجیوش متوالیا لاسکان الفتن. و استمر فی أخذ الجندیة من الحلة و النجف و کربلاء و ما جاورها من الأنحاء الفراتیة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 170
[ورد ناصر الدین شاه بغداد یوم الاثنین 28 شعبان سنة 1287 ه] و دامت سیاحة الشاه نحو ثلاثة اشهر؛ فی خلالها زار العتبات فی النجف و کربلاء و سامراء .
* و فی الموصل و البصره و النجف ظهر علماء .
* [سنة 1298 ه] انتشر الوباء فی بغداد. و امتدّ إلی النجف و الهندیة، و الی ایران فی أنحاء مراغة، و ازداد فی العراق .
* [سنة 1299 ه تحول قائمقام سوق الشیوخ إلی قائمقامیة النجف؛ و هو فتاح بک، و قائمقام النجف فتاح بک الآخر صار فی سوق الشیوخ .
* لواء کربلاء؛ و أقضیته [سنة 1302 ه] النجف، و الهندیة .
* فی ایام [الوالی سری باشا 1307- 1308 ه] کان فی کربلاء و النجف کثیرون یدعون أنهم من تبعة ایران، فاعطی الأمر بلزوم مراعاة الحیطة فی التحقیق و التثبت من هذه الأمور .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 171
أناب [و الی بغداد الحاج حسن باشا سنة 1310 ه] فضیلة عزیز بک القاضی، عنه. و تجول فی أنحاء کربلاء و النجف .
* وقع فی النجف [سنة 1327 ه] فتن بین الزکرت و الشمرت و طالت الحروب بینهما فصاروا مضرب المثل. و کان یعد من المسببین لهذه الحروب السید مهدی آل السید سلمان؛ من الزکرت، و کان أبوه رئیسا .
* السید مهدی السید سلمان
[الوالی حسین ناظم باشا سنة 1308 ه]
جعل باکورة أعماله اثر وروده بغداد بنحو اسبوع مهمة العشائر و دفع غوائلها فحصل علی فتاوی من العلماء فی لزوم تأدیب من یستحل الغزو المحرم .. و أخذ فتاوی من علماء الشیعة فأفتوا بانه یجب منع العشائر من هذه الأعمال بالنصائح و الوعظ، فان أبوا فحینئذ یرکن الی التهدید و التخویف، و الّا جاز التنکیل بهم. و من بین هؤلاء العلماء: الشیخ کاظم الخراسانی من النجف، و الشیخ عبد اللّه المازندرانی من النجف .. فکان لهذه الفتاوی اثرها .
علاقة المجتهدین من الایرانیین المقیمین فی النجف و کربلاء بایران کبیرة جدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 172

النجف فی الرحلات و الادلة

رحلة ابن جبیر سنة 580 ه

و أصبحنا بالنجف؛ و هو بظهر الکوفة کأنه حدّ بینها و بین الصحراء.
و هو صلب من الأرض منفسح متّسع للعین فیه مراد استحسان و انشراح .
و فی غربی المدینة [الکوفة] علی مقدار فرسخ منها المشهد الشهیر الشان المنسوب لعلیّ بن أبی طالب- رض- و حیث برکت ناقته و هو محمول علیها مسجّی میّتا علی ما یذکر. و یقال ان قبره فیه .. و فی هذا المشهد بناء حفیل علی ما ذکر لنا لأنالم نشاهده بسبب ان وقت المقام بالکوفة ضاق عن ذلک؛ لأنالم نبت فیها سوی لیلة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 173

الاشارات الی معرفة الزیارات‌

باطنة النجف؛ مشهد أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- رضه- و عنده جماعة من العلویین و الأشراف .

رحلة ابن بطوطة

نزلنا مدینة مشهد علی بن أبی طالب- رضی اللّه عنه- بالنجف و هی مدینة حسنة فی أرض فسیحة صلبة. من أحسن مدن العراق و أکثرها ناسا، و أتقنها بناء. و لها أسواق حسنة نظیفة.
دخلناها من باب الحضرة فاستقبلنا سوق البقالین و الطباخین و الخبازین، ثم سوق الفاکهة، ثم سوق الخیاطین، و القساریة، ثم سوق العطارین، ثم باب الحضرة- حیث القبر .. قبر علی بن أبی طالب- علیه السلام- و بإزائه المدارس، و الزوایا، و الخوانق؛ معمورة أحسن عمارة، و حیطانها بالقاشانی- و هو شبه الزلیج عندنا، لکن لونه أشرق، و نقشه أحسن.

ذکر الروضة و القبور التی بها

و یدخل- من باب الحضرة- إلی مدرسة عظیمة یسکنها الطلبة و الصوفیة من الیشعة. و لکل وارد علیها ضیافة ثلاثة أیام من الخبز و اللحم و التمر مرتین فی الیوم.
و من تلک المدرسة یدخل الی باب القبة. و علی بابها الحجاب و النقباء و الطواشیة.
فعندما یصل الزائر، یقوم الیه أحدهم أو جمیعهم- و ذلک علی قدر الزائر فیقفون معه علی العتبة، و یستأذنون له، و یقولون: عن أمرکم- یا أمیر المؤمنین- هذا العبد الضعیف، یستأذن علی دخوله للروضة العلیة، فان أذنتم له، و إلّا رجع. و إن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 174
لم یکن أهلا لذلک؛ فأنتم أهل المکارم و الستر». ثم یأمرونه بتقبیل العتبة- و هی من الفضة، و کذلک العضادتان- ثم یدخل القبة. و هی مفروشة بأنواع البسط من الحریر و سواه، و بها قنادیل الذهب و الفضة؛ منها الکبار و الصغار.
و فی وسط القبة مسطبة مربعة، مکسوة بالخشب؛ علیه صفائح الذهب المنقوشة المحکمة العمل؛ مسمرة بمسامیر الفصة، قد غلبت علی الخشب؛ بحیث لا یظهر منه شی‌ء. و ارتفاعها دون القامة، و فوقها ثلاثة من القبور .. أحدها قبر آدم- علیه الصلاة و السلام- و الثانی قبر نوح- علیه الصلاة و السلام- و الثالث قبر علی- رضی اللّه تعالی عنه.
و بین القبور طسوت ذهب و فضة؛ فیها ماء الورد و المسک و أنواع الطیب.
یغمس الزائر یده فی ذلک، و یدهن به وجهه تبرکا.
و للقبة باب آخر عتبته- أیضا- من الفضة، و علیه ستور من الحریر الملون.
یفضی الی مسجد- مفروش بالبسط الحسان- مستورة حیطانه و سقفه بستور الحریر.
و له أربعة أبواب عتباتها فضة، و علیها ستور الحریر.
و أهل هذه المدینة کلهم رافضیة. و هذه الروضة ظهرت لها کرامات ..
فمنها ان فی لیلة السابع و العشرین من رجب- و تسمی عندهم لیلة المحیا- یؤتی إلی تلک الروضة بکل مقعد من العراقین، و خراسان، و بلاد فارس، و الروم.
فیجتمع منهم الثلاثون و الأربعون و نحو ذلک. فاذا کان بعد العشاء الآخر جعلوا فوق الضریح المقدس و الناس ینظرون قیامهم- و هم ما بین مصلّ، و ذاکر، و تال، و مشاهد للروصة- فاذا مضی من اللیل نصفه أو ثلثاه، أو نحو ذلک قام الجمیع أصحاء من غیر سوء؛ و هم یقولون: لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه، علی ولی اللّه. و هذا أمر مستفیض عندهم سمعته من الثقات. و لم أحضر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 175
تلک اللیلة، لکنی رأیت بمدرسة الأضیاف ثلاثة من الرجال؛ أحدهم من أرض الروم، و الثانی من اصبهان، و الثالث من خراسان و هم مقعدون. فاستخبرتهم عن شأنهم، فأخبرونی أنهم لم یدرکوا لیلة المحیا، و أنهم منتظرون أوانها من عام آخر. و هذه اللیلة یجتمع لها الناس من البلاد، و یقیمون سوقا عظیمة مدة عشرة أیام.
و لیس بهذه المدینة مغرم، و لا مکاس، و لا وال. و إنما یحکم علیهم نقیب الأشراف. و أهلها تجار؛ یسافرون فی الأقطار. و هم أهل شجاعة و کرم، و لا یضام جارهم. صحبتهم- فی الأسفار- فحمدت صحبتهم.
و من الناس- فی بلاد العراق و غیرها- من یصیبه المرض فینذر للروضة نذرا إذا بری‌ء، و منهم من یمرض رأسه، فیصنع رأسا من ذهب أو فضة و یأتی به الی الروضة، فیجعله النقیب فی الخزانة. و کذلک الید و الرجل، و غیرهما من الأعضاء. و خزانة الروضة عظیمة فیها من الأموال ما لا یضبط لکثرته.

ذکر نقیب الاشراف‌

و نقیب الأشراف مقدم من ملک العراق، و مکانه عنده مکین، و منزلته رفیعة. و له ترتیب الأمراء الکبار فی سفره. و له الأعلام و الأطبال. و تضرب الطبلخانة عند بابه مساء و صباحا.
و إلیه حکم هذه المدینة، و لا والی بها سواه، و لا مغرم فیها للسلطان و لا لغیره. و کان النقیب- فی عهد دخولی إلیها- نظام الدین حسین بن تاج الدین الآوی؛ نسبة إلی بلدة آوة من عراق العجم، أهلها رافضة.
و کان قبله جماعة، یلی کل واحد منهم بعد صاحبه. منهم جلال الدین بن الفقیه. و منهم قوام الدین بن طاووس. و منهم ناصر الدین مطهر بن الشریف الصالح شمس الدین محمد الأوهری من عراق العجم. و هو الآن، بأرض الهند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 176
من ندماء ملکها. و منهم أبو غرّة بن سالم بن مهنی بن جماز بن شیحة الحسینی المدنی.
و لما تحصلت لنا زیارة أمیر المؤمنین علی- علیه السلام- سافر الرکب إلی بغداد، و سافرت إلی البصرة؛ صحبة رفقة کبیرة من عرب خفاجة. و هم أهل تلک البلاد، و لهم شوکة عظیمة، و بأس شدید، و لا سبیل للسفر فی تلک الأقطار إلا فی صحبتهم. فاکتریت جملا علی ید أمیر تلک القافلة شامر بن دراج الخفاجی، و خرجنا من مشهد علی- علیه السلام- فنزلنا الخورنق .

نزهة الجلیس و منیة الأدیب الأنیس سنة 1131 ه

أتینا علی أرض الأثیلة. و بینها و بین أرض النجف- مشهد علی بن أبی طالب (کرم اللّه وجهه)- نصف مرحلة .. فخرج إلینا أهل النجف بأنواع المأکول الطیب، و المشروب الهنی‌ء، و المشموم الذکی، و لطائف التحف.
و بتنا تلک اللیلة- یا صاح- بأکمل السرور، و أتم الأفراح. و التقی الخلان و الأصحاب، و اجتمع شمل الأحباب بالأحباب.
لئن عاد جمع الشمل فی ذلک الحمی‌غفرت لدهری کل ذنب تقدما
و زال عنا بؤس السفر و المحن، و أعاد اللّه کل غریب إلی الوطن .. فلما أسفر وجه الصباح، بالیمن و الفرح و النجاح؛ عن ثالث صفر، المقرون بالخیر و الظفر؛ دخلنا مشهد أمیر المؤمنین، و یعسوب الدین؛ لیث بنی غالب، إمام المشارق و المغارب، أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب ... فتشرفنا بزیارة الإمام المؤید بالنصر من ربه و الفتوح، و ضجیعیه الکریمین آدم و نوح. و قد عقدت علیهم قبة عظیمة، فی زینة و سیمة و أول من عقد هذه القبة عبد اللّه بن حمدان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 177
فی دولة بنی العباس. ثم عمّرها الملوک من بعده. و بها من الذهب الإبریز، و الجواهر، و خالص اللجین، و أنواع الفرش الفاخر؛ ما یکل عنه قلم الحاصر.
و البلدة رخیة أمینة، طیبة حصینة. سورها مکین. و هی جنة المتقین.
و أهلها سادة کرام؛ ملجأ الخاص و العام.
لا عیب فیهم سوی ان النزیل بهم‌یسلو عن الأهل و الأصحاب و الوطن
.. فأقمنا- هناک- شهرا (تام)، فی أرغد عیش مدام. و نزلت بدار العالم العامل النحریر الفاضل؛ مولانا الشیخ ابراهیم الخمیسی. و اجتمعت بالولی الشهیر، المجتهد الکبیر، العابد الزاهد، بحر المعارف و الفوائد؛ تاج السادة الأکارم مولانا السید هاشم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 178
و اجتمعت بالعالم العامل الفاضل، التقی النقی الکامل؛ الشیخ محمد یحیی الخمیسی.
و اجتمعت بالفاضل الأدیب، العاقل الکامل الأریب، الشاعر الماهر اللطیف، المؤنس الظریف، مولانا الشیخ یونس بن أنس- لا زالت أنوار الکمالات من أنوار کماله تقتبس-
و اجتمعت بالسند السید، المعتمد الأید، الأمجد الأنجد، الأسعد الأصعد؛ مولانا السید مراد، حاکم المشهد. و حصل لی منه الاکرام و القبول- أدامه اللّه (تعالی) بالریاسة و العز، ماهبت الدبور و القبول، و بلّغه من دنیاه و أخراه کل سول.
و اجتمعت بکثیر من العلماء، ورثة الأنبیاء الکرماء .
و سعدنا ثانیا [فتشرفنا بزیارته و ذلک من سعادته .

رحلة المنشی‌ء البغدادی سنة 1237 ه

النجف- و من ذی الکفل إلی النجف أربعة فراسخ. و هو مزار حضرة الإمام علی.
و فی الطریق یعبر من نهر الهندیة لمرات. و هذا النهر یأتی من نهر الفرات.
یذهب الی النجف. و فی موطنین علیه قناطر.
و ان النجف فی محل مرتفع. و هو قلعة محکمة، فیها نحو ألفی بیت من العرب و العجم. و هواؤها فی غایه اللطف و الجودة؛ و لا سیما لیالیها.
و ماء الآبار فی النجف ملح جدا. و لا تصل الحبال إلی الماء إلّا بعد عشرین لفة؛ لیصل الدلو إلی الماء .
و حاکم کربلا، و النجف؛ یقال له وکیل المتولی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 179

رحلات عبد الوهاب عزام سنة 1349 ه

برحنا کربلاء- و الساعة خمس من المساء- قاصدین النجف الأشرف.
فناوحنا الجنوب منحرفین قلیلا إلی الشرق؛ فی بیداء جرداء. فبلغنا النجف، و الساعة سبع.
و النجف؛ مدینة مسوّرة. بنی سورها- أیام ثورة الوهابیین الأولی- خیفة علی المدینة من عادیتهم.
نزلنا فی دار النائب الوجیه عبد الرزاق آل شمسه، فاستقبلنا- هناک- حاکم البلد (القائمقام) و کثیر من العلماء و الفضلاء.
ثم سرنا إلی مشهد الإمام علی، و المسجد إحدی آیات البناء عظمة و أبهة و نظاما.
فیه فناء عظیم، تحیط به أبنیة کثیرة رفیعة؛ فیها معاهد للدرس، و مساکن للطلاب و العلماء.
و قد حدّثت أن طلاب العلم فی النجف یزیدون علی عشرة آلاف. و لا عجب؛ فهو مشهد تهفو لذکراه أفئدة المسلمین عامة، و لا سیما الشیعة منهم.
یحیط الفناء بمسجد عظیم، یزیغ البصر فی جلاله و أبهته. مقدم المسجد کله و المنارتان الشامختان علی جانبیه- کل هذا مغشی بصفائح الذهب الخالص. و لکن أنّی للداخل- إلی حضرة أمیر المؤمنین علی- أن یعبأ بالذهب و الزخرف.
دخلنا إلی المشهد العظیم، و للناس حوله جؤار بالدعاء و القراءة، فأطفنا به فی عشیة من جلال الموقف، و رهبة الذکری. و لم یمنعنی روعة المقام من تسریح الطرف فی القبة الهائلة، تبهر الأبصار فی حلل من البلور و الذهب. تتدلی منها المصابیح تزری بالتیجان المعلقة هنالک. و قد رأینا تاجین أحدهما فوق المرقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 180
الشریف، و هو تاج الشاه اسماعیل. و الآخر فی زاویة من القبة؛ یقال إنه تاج نادر شاه، و یقال إنه تاج أحد ملوک الهند.
و فی هذه القبة یقول بعض الناس :
قبة المرتضی علی إذا مافضّلوها أقول بالتفضیل
هی باء مقلوبة فوق تلک النقطة المستحیلة التأویل
ثم خرجنا إلی الرواق المحیط بالقبة، فمررنا بحجرة فیها قبر محمد شاه القاجاری، علیه صفیحة من المرمر مزینة بنقوش، و صورة ملکین ذوی أجنحة یحملان بینهما تاجا.
ثم خرجنا إلی الصحن، فعرجنا علی حجرة فی جانب منها مقصورة؛ أخبرنا أن فیها قبر الشیخ کاظم الیزدی، و ابنه، و قبر أمیر رامبور.
و رأینا صورة الشیخ کاظم (السید کاظم الیزدی) و صورة ابنه معلقتین علی سیاج المقصورة.
ثم توجهنا إلی مدرسة الشیخ کاظم الیزدی (السید کاظم)، و هبطنا بعض السرادیب هناک؛ فاذا طبقات ثلاث أو أربع تحت الأرض ینزل إلیها نحو خمسین درجة. و کل طبقة تستمد الهواء من کوة صاعدة إلی ظهر الأرض.
السید کاظم الیزدی
و فی السرادیب آبار مفضیة إلی قنوات تتشعب تحت المدینة من مجری واحد. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 181
و السرادیب- کما رأینا- أعجوبة ناطقة بذکاء أهل النجف و نشاطهم وجدهم. و هی مأواهم فی الصیف لا محیص لهم منها. فان النجف الأشرف فی صحراء جرداء شدیدة الحر. فاذا متع النهار هبط الناس جمیعا إلی هذه السرادیب فیجدون بلدا آخر بارد الهواء و قد حدّثنا أن المقیم فی السرادیب یحتاج أحیانا إلی اتقاء بردها بالغطاء بینما الحر علی ظهر الأرض یأخذ بأکظام الناس.
ثم شرفنا بزیارة العلّامة المحقق و المجتهد الکبیر السید محمد الحسین آل کاشف الغطاء. و هو أحد مجتهدین ثلاثة فی النجف؛ هو عربی، و الآخران ایرانیان.
فلما استقر بنا المجلس فی الطبقة الثانیة من داره شرع یحدثنا فعاتب الأستاذ أحمد أمین علی ما کتبه عن الشیعة فی کتاب «فجر الاسلام» و لامه بما کتب غیر راجع إلی أمهات کتب الشیعة. و تلک یقظة من اخواننا جدیرة بالاعجاب و الثناء، شاهدة باطلاعهم علی کل ما یکتب فی العالم الاسلامی.
ثم حدّث عن سفره إلی مصر منذ زمن بعید، و ما قال فیها من الشعر.
ثم اقترح علیه بعض الحاضرین أن یشهدنا درسا من دروسه، و ألحوا علیه فأجاب الدعوة إکراما لضیوفه، جزاه اللّه خیر الجزاء.
الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء
جلس الأستاذ العلّامة علی کرسی، و أحاط به طلابه- و کلهم رجال تلوح علیهم سن الأربعین أو ما یقرب منها، و کلهم وقور فی سمته و بزّته- تکلّم فی مسألة من علم الکلام، مسألة واجب الوجود، ثم ثنی بتفسیر الآیة: «و لا تؤتوا السفهاء أموالکم ..» و الطلبة- فی أثناء ذلک-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 182
یسألون و یجادلون قد رفعوا الکلفة بینهم و بین شیخهم. و قد سمعنا المعجب من بیان الأستاذ، و غزارة علمه- علی قصر الوقت-
ثم نزلنا الی المکتبة، فاطلعنا علی نوادر الکتب المخطوطة. و وددنا لو اتسع الوقت لنقضی اللبانة من هذه المکتبة المعمورة.
ثم رجعنا إلی الأستاذ فشکرناه و ودعناه فرحین بما أتیح لنا من السرور و الفائدة بلقائه و شهود مجلسه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 183

دلیل المملکة العراقیة لسنة 1935- 1936 (قضاء النجف الأشرف)

النجف، بلدة واسعة قائمة علی رابیة مرتفعة فوق أرض رملیة فسیحة.
تطل من الجهتین الشمالیة و الشرقیة علی مخیم واسع من القباب و القبور التی تعد بمئات الألوف، یدعی «وادی السلام».
و تطل من الجهة الغربیة علی بحر النجف الناشف، و یشاهد القادم من مسافة بعیدة مرقد الامام علی بن ابی طالب- علیه السلام- تتجلی فوقه قبة فخمة کأنها قطعة من الذهب الإبریز تناطح السماء علوا و تفاخرها سموا
و هی أرض عربیة قدیمة کانت مصیدا أو متنزها للمناذرة. و بعد انقراض تلک الدولة و دخول المسلمین فی العراق، و دفن الامام علی- ع فیها ابتدأ عمرانها علی عهد الرشید إثر معجزة ظهرت له فأقام قبة بیضاء، علی القبر الشریف، بعد ان کان مخفیا اتقاء له من تعرض الخوارج، و وضع علیه قندیلا من الفیروزج المرصع بالجواهر النفیسة. و عظم شأنها فی القرن الرابع للهجرة النبویة لما زارها عضد الدولة البویهی فی جمادی الأولی من سنة 371 للهجرة (981) م و بذل أموالا طائلة لتشیید العمارة الجسیمة حول المشهد المشرف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 184
ثم انتقل الیها ارباب الصنائع و الحرف و ابتدأت تتقدم عمرانیا فی القرن المذکور، فقصدها طلاب العلم و المعرفة، و أصبحت کعبة القصاد، و منهل العلماء، و هی- الیوم- فی العراق کالأزهر فی مصر؛ یخرج منها فی کل سنة عدد کبیر من دعاة الدین و رجال الفضل و العلم الغزیر.
هواء صیفها حار یابس، و فی الشتاء بارد قارس، و عندما تشتد الحرارة فی الصیف یلتجی‌ء سکانها إلی سرادیب منحوتة نحتا بدیعا یبلغ متوسط عمق الواحد منها عشرین مترا. و قد یخرج بعضهم الی المزارع و البساتین التی تبعد عن المدینة میلا واحدا، أو إلی جسر الکوفة؛ الذی یبعد عها سبعة أمیال طلبا لنقاوة الهواء. و قد أحصت الحکومة نفوسها أخیرا فکانوا 46064 نسمة.
شوارعها مستقیمة و فسیحة- الا البعض منها- و عمارتها جلیلة و مرتفعة، و أسواقها عریضة و منتظمة، و لا سیما السوق الکبیر الذی یبتدی‌ء من سور المدینة الشرقی و ینتهی عند الصحن الشریف، و لاستقامته فان الواقف علی سور البلدة یری داخل الحضرة الشریفة بکل سهولة.
و هی علی بعد 48 میلا من شرقی کربلاء، و فیها من المدارس الحکومیة ثلاث، و من الأهلیة ثلاث، و من العلمیة الروحیة العدد الکبیر، و من المساجد الشی‌ء الکثیر. و فی اکثر بیوتها مقابر خصوصیة للعلماء و أهل الوجاهة و الثراء.
و الذی یؤسف له کثیرا بعد البلدة عن الفرات، و الماء رکن من ارکان الحیاة- بلا ریب. و قد حفرت للنجف ترع و جداول کثیرة لایصال الماء الیها غیر ان ما یجری فیه منه لا یسد حاجة الأهلین فضلا عن الزائرین فی کل عام. فقد دلت الاحصاآت الرسمیة علی ان متوسط عدد الزائرین للنجف فی المواسم المخصوصة یتجاوز نصف ملیون نسمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 185
و فی التاریخ اساطیر کثیرة، و روایات غریبة عن المساعی التی بذلها الایرانیون و رجال الثراء لإرواء سکان القری تکاد تخرج عن المعقول.
و اخیرا- ای فی عام 1348 ه/ 1929 م ربطت الکوفة بانابیب کانت أحسن وسیلة لتأمین هذه الغایة.
و البلدة محاطة بسور فخم تصدعت بعض قطع منه بعد ثورة 1920 م. و کان لها أسوار عدیدة تهدمت فلم یبق غیر سورها الحالی، الذی شاده الصدر الاعظم نظام الدولة محمد حسین خان العلاف، وزیر فتح علی شاه (ال) قاجادی، فی عام 1232 ه/ 1816 م.
و لهذا السور أربعة ابواب تسمی بأسماء مختلفة، فالذی یؤدی الی الکوفة یسمی الباب الکبیر، و الذی الی جانبه- و منه یخرج الناس الی کربلا- یدعی الباب الصغیر أما المؤدی الی البرکة و مزارع النجف فیسمی باب الثلمة.
و یسمی الباب الرابع باب الحویش- بالتصغیر- او باب اشتابیة ای الطابیة، و قد وضع هذا السور علی هیئة حربیة تصد الهاجمین علی النجف و الواقف علی مرتفع ینظر الی هذا السور یلمحه علی هیئة أسد رابض یطوقه خندق وضع لهذه الغایة.
و للنجف أسماء؛ منها: النجف، و المشهد، و الغری، و سمیت بالنجف لأنها مرتفعة و النجف- لغة- طف الوادی، و حاشیته المرتفعة، و سمیت بالمشهد لأن فیها مرقد الامام علی بن ابی طالب- ع- و مشهده، و هو لفظ العامة للروضة.
أما سبب تسمیتها بالغری فحکایة تاریخیة لطیفة ینقلها المؤرخون فی کتبهم و یذکرها الحمویّ فی معجمه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 186
و کانت هذه البقعة تعرف عند رجال البلدان بالذکوات البیض. و الذکوات البیض هذه هی جبل الدیک فی محلة المشراق، و جبل شریشفان فی محلة العمارة، و جبل باب الکبیر، و آخر رابع.
و هی تبعد عن الثویة بثلاثة کیلومترات. و قد اختصت الثویة بمقابر قریش، و لکنها درست و لم یبق منها الا قبر کمیل بن زیاد؛ أحد المشاهیر من دعاة أهل البیت ... و یتوسط مدینة النجف الأشرف مشهد الامام علی بن ابی طالب علیه السلام. و هو وسط صحن عظیم مستطیل تتجلی فیه العظمة بأجلی مظاهرها، کما تتجلی فیه بداعة الفن، و نفاسة النقش، و جمال الریازة.
و یتقوم من طبقتین یبلغ ارتفاعهما زهاء 35 مترا. و یبلغ طول هذا الصحن 82 مترا، و عرضه 77 مترا. و فی کل ضلع من هذه الاضلاع 14 إیوانا، و فی کل ایوان غرفة هی مقبرة احد المشاهیر.
و فی الطبقة الثانیة عدد من الأواوین و الغرف بعدد الأواوین و الغرف الموجودة فی الطبقة السفلی.
و الصحن علی رحبه- مفروش بالرخام الابیض. و له خمسة أبواب. و جدرانه مغشاة بالآجر القاشانی الملون البدیع. و علی حواشی الجدران العلیا تجد الآیات القرآنیة مسطورة بأحرف عربیة جمیلة متداخلة تسر الناظرین الیها، و یحیط بالصحن بهو واسع یظلله من جهة الغرب فقط ساباط مرتفع تتوسطه سمایة مستدیرة.
و یلی هذا الصحن من جهة الشرق ایوان واسع کبیر، یبلغ ارتفاعه قراب أربعین مترا، کما یبلغ طوله 45 مترا، و هو مسقف؛ سقفه مع جدرانه کلها مغشاة بقطع الذهب، و فی رکنیه مئذنتان مرتفعتان مغشاتان بالذهب الإبریز- أیضا- تؤثران فی النفوس أثرا بلیغا، و قد انفق علی هذه التغشیة السلطان نادر شاه و ذلک فی عام 1156 ه- 1743 م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 187
و من هذا الرواق الجزئی یدخل إلی الرواق الکلی المسقف، و جدران هذا الرواق الأخیر مغشاة بقطع المرایا ذات الأشکال الهندسیة البدیعة و النخاریب المزوقة المختلفة.
و لهذا الرواق أربعة ابواب متقابلة، بابان منهما فضیان، یدعی احدهما الباب الکبیر، و یسمی الثانی باب المراد، و بابان من خشب الساج، أحدهما مغلق و الآخر مفتوح یسمیان باب الرحمة.
و یلی کل ما تقدم- الحضرة المقدسة؛ ذات الهیبة و الجلال، و الروعة الکریمة، و اللآلی‌ء الثمینة. کما علقت فیها الثریات التی توقد فیها الشموع طول اللیل.
و جدران هذه الحضرة مغشاة بالفسیفساء اللطیفة، و الرخام الایتالی البدیع و قطع المرایا المختلفة الاشکال و الحجوم، و المصابیح الکهربائیة العدیدة.
کما ان ارضها مفروشة بالرخام الازرق اللطیف، و فیها اربعة ابواب من الفضة، و خامسة من البرنز.
و یتوسط هذه الحضرة- المرقد الغروی المطهر یحیط به مشبکان؛ أحدهما من الفضة الناصعة البیاض، و هو الخارجی، و الآخر من الحدید الفولاذی، و هو الداخلی.
و تعلو المشبک الأول کتابات من القرآن مع ابیات من الشعر لابن ابی الحدید. و فی کل رکن من ارکانه الأربعة رمانة من الذهب الخالص، یبلغ قطرها زهاء النصف متر.
و و یتوسط المشبک الحدیدی الداخلی مصطبة من الخشب المرصع بالعاج و المنقوش علیه بعض الآیات القرآنیة، و تحتها المرقد الشریف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 188
و فوق الضریح قندیل معلق بسلسلة من الذهب الخالص، مرصع بأثمن الأحجار الیتیمة. و من جملتها؛ ماسة یبالغ فی ثمنها کثیرا
و تعلو الحضرة قبة جسیمة مغشاة بالذهب الابریز، و مرتفعة الی علو شاهق، و الظاهر أنها ارفع قباب آل البیت جمیعا، و قد غشیت هذه القبة بالذهب فی عام 1156 ه- و أنفق علی تغشیتها السلطان نادر شاه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 189
و فی التاریخ النجفی ان عدد القباب التی شیدت علی قبر الأمیر- علیه السلام- بلغ ثمان، أولها قبة الرشید- التی ألمعنا الیها فی صدر هذا الفصل- و آخرها القبّة الحالیة التی غشاها بالذهب نادر شاه فی سنة 1156 ه.

الدلیل العراقی الرسمی لسنة 1936

مرقد الامام علی بن ابی طالب- ع- و جامع هذا المرقد العظیم فی النجف الأشرف، و القادم إلی النجف یشاهد من مسافة بعیدة- القبة الذهبیة الفخمة، تناطح السماء علوا، و فی رکنیها مئذنتین مرتفعتین مصفحتین بقطع الذهب، و صحن جامع النجف کبیر جدا، و فخیم من حیث الهندسة، و البناء، و النقوش، و المرصعات، و للجامع خزانات و أقبیة مترعة بتحف و طرف ثمینة محفوظة فیها تعد من أندر تحف العالم و أثمنها، و لا تفتح هذه الکنوز إلا قلیلا
و مما یظهر للسائح جلیا هو کون النجف معهد علم و أدب و دراسة للأمة الاسلامیة، کجامع الأزهر فی مصر، فقد أخرجت من العلماء و الجهابذة ما یعد بالألوف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 190
و فیها عدد غیر قلیل من المدارس العلمیة،:
کمدرسة الصدر، و مدرسة الشیخ مهدی، و مدرسة القوام، و المدرسة السلمیة، و مدرسة الایر [و] انی، و مدسة القزوینی، و مدرسة البادکوبی، و مدرسة الهندی، و مدرسة الشربیانی، و مدرسة الحاج میرزا حسین الخلیلی، و مدرسة الآخوند، و مدرسة البخاری، و مدرسة السید کاظم الیزدی.
و غیرها فی الصبحن الأشرف کثیر. و اکثر هذه المدرس مبنیة بشکل شرقی غریب صرفت علیها بدر الأموال حتی صارت کعبة القصاد من مختلف انحاء العالم،

الجوامع و المساجد

جامع الانصاری، مسجد بیت الأمیر، تکیة البکتاشیة، جامع الترک، جامع الجواهری، جامع حسینیة السید هاشم، جامع حسینیة الصحن، مسجد الحنانة، جامع الخضراء، جامع الامام زین العابدین، جامع الامام زین العابدین حوالی النجف، مسجد الششترلیة، جامع الطریحی، جامع الطوسی، جامع و مرقد سیدنا علی بن ابی طالب، جامع عمران، جامع الغری، جامع کاشف الغطاء، جامع کمیل، جامع المهدی، مسجد مقام المهدی، جامع الهندی، مرقد هود و مصالح.

الدلیل الجغرافی العراقی‌

النجف- المدینة الرئیسیة فی اللواء [لواء کربلاء] بعد کربلاء، و هی مقدسة- أیضا- لوجود مشهد الإمام علی- ع- فیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 191
نفوسها (88809) نسمات، تقع علی بعد 75 کیلومترا من کربلاء شرقا.
کانت مصیفا للمناذرة ملوک الحیرة و بعد دفن الإمام علی (ع) فیها توسع عمرانها و انتقلت إلیها الحرکة العلمیة فنبغ فیها عدد من العلماء و الأدباء و الشعراء و فیها الیوم مدرسة دینیة کبری، یتخرج فیها عدد کبیر من رجال العلم و الدین .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 192

النجف فی المراجع الغربیة* ترجمه و کتبه جعفر الخیاط

اشارة

الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .SC . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی، و المفتش الاختصاصی، فی وزارة التربیة سابقا و مدیر التعلیم المهنی العام حالا
*
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 193

النجف فی کتابات الغربیین‌

مقدمة

کانت النجف و لم تزل، منذ أن قبرت فی ترابها الذکی رفات الأمام أبی الحسن الطاهرة، من المراکز الدینیة المقدسة التی ترنو الیها أبصار المسلمین فی مشارق الأرض و مغاربها و یقصدها الزوار من کل حدب وصوب. و لم یکن زوارها فی کثیر من الأحیان من المسلمین و الشرقیین فقط، و انما کان یزورها بین حین و آخر أناس من غیر المسلمین ممن کانت تدفعهم الی شد الرحال فی البلاد و التطویح فی الآفاق عوامل شتی منها: السیاحة وحب الاستطلاع، أو الدراسة و التتبع، او المجازفة و التمرس بالأخطار، او التجارة و المصالح المادیة. علی ان هذه المصالح و الغایات کان لا بد من ان تتطور بمرور الزمن فتصبح باحتلال الانکلیز للبلاد فی أعقاب الحرب العالمیة الأولی مصالح و اغراضا سیاسیة و اقتصادیة، لأن السلطات المحتلة التی کانت ترید تثبیت أقدامها فی العراق و جعله مرتبطا بعجلة الأمبراطوریة البریطانیة المترامیة الأطراف سرعان ما ارتطمت سفینتها بصخرة النجف الشماء للدور القیادی الذی ظلت تلعبه فی العراق و العالم الاسلامی فی مختلف العصور و الأدوار. و یعزی هذا الدور الذی تضطلع به النجف بطبیعة الحال الی وجود العلماء الأعلام فیها و حرصهم الشدید علی رعایة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 194
المسلمین و خیرهم، و الی الوعی المتوثب الذی لم تنطفی‌ء جذوته أو یخمد أواره ما بین سکان هذه العتبة المقدسة فی کل عصر او زمن، و فی شتی الظروف و الأحوال.
و لذلک یلاحظ ان عددا غیر یسیر من الغربیین الذین زاروا النجف، أو مروا بها، او الذین تصدوا للکتابة عن تاریخ المسلمین و معالجة شؤونهم، قد البحث و التفصیل. و سأحاول او الکثیر او عالجوا شؤونها بشی‌ء غیر یسیر من البحث و التفصیل. و سأحاول فی بحثی هذا أن اجمع ما یتیسر لی العثور علیه فیما کتبه الغربیون عنها مقتبسا، بطبیعة الحال، ما یجمع بین الطرافة و الفائدة التاریخیة فی الغالب.

النجف قبل سنة 1500 م‌

و علی هذا فأن أقدم ذکر للنجف فی کتابات الغربیین یرد فی عدد من الکتب الانکلیزیة المعروفة التی تستند فی معظم ما تورده علی المراجع العربیة فی الأعم الأغلب. و من أهم هذه الکتب کتاب (شیعة الهند) لمؤلفه الدکتور جون هو لیستر . فهو یذکر خلال بحثه عن الاسماعیلیة و أئمتهم ان الأمام الحسین ابن أحمد بن عبد اللّه المستور (او المکتوم) کان مقره السری فی السلمیة بالقرب من دمشق، و قد زار فی سنة 296 للهجرة قبر الامام علی علیه السلام فی النجف الأشرف. و هناک اتصل بأبی القاسم الحسن بن فرح بن حوشب أحد الشیعة الامامیة المعروفین، الذین کانوا علی اتصال دائم بالأمام الحسن العسکری علیه السلام. و اتصل فی النجف أیضا بعلی بن الفضل فأقنعهما بالذهاب الی الیمن و العمل علی نشر الدعوة الاسماعیلیة فیها. و من أهم الکتب کذلک کتاب (بلدان الخلافة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 195
الشرقیة) الذی ألفه البحاثة المعروف کی لسترانج فی 1905 و أعید طبعه فی 1930. فهو یبدأ بالقول ان النجف فیها مشهد الامام علی الذی یقدسه الشیعة، و انها ما تزال مدینة عامرة حتی الیوم. و یتطرق بعد هذا الی روایة المستوفی المعروفة عن کیفیة دفن الامام و إخفاء القبر عن الأمویین، و عثور هارون الرشید علیه حینما خرج للصید فی ظاهر الکوفة، ثم یشیر الی روایة ابن حوقل عن الأمیر الحمدانی أبی الهیجاء الذی حکم الموصل فی سنة 904، و یورد قول المستوفی عنه بأنه «ابتنی علی القبر قبة» عظیمة مرتفعة الأرکان من کل جانب لها ابواب، و سترها بفاخر الستور و فرشها بثمین الحصر السامانیه، و جعل علیها حصارا منیعا». و یضیف الی ذلک ما ذکره المستوفی من ان عضد الدولة البویهی قد شید الضریح فی سنة 977، و قامت حوله من بعد ذلک بلدة صغیرة یبلغ محیطها 2500 خطوة. ثم یورد ما ذکره ابن الأثیر من خبر دفن عضد الدولة فیها تنفیذا لما جاء فی وصیته، و دفن ابنیه شرف الدولة و بهاء الدولة من بعده کذلک .. و هو یقول ایضا ان ملکشاه السلجوقی قد زار المشهد مع وزیره نظام الملک فی 1086، و ان السلطان غازان الایلخانی بنی فیه مبنی خاصا للسادة سمی «دار السیادة»، و شید فیه تکیة خاصه للصوفیة «خانقاه».
و یورد لسترانج بالاضافة الی ذلک وصف ابن بطوطة لمدینة النجف التی زارها فی 1326 م فأعجب بها و اعتبرها «مدینة حسنة».
علی أنه من الملاحظ ان المستر (ریتشارد کوک ) صاحب کتاب (بغداد مدینة السلام) یذکر ان البویهیین الذین خلفوا معز الدولة کانوا أقل میلا الی الشیعة و منهم عضد الدولة الذی ذهب فی ذلک الی حد فرض الجزیة علیهم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 196
و مساواتهم بغیر المسلمین فی ذلک. و یقول کذلک انه عمد الی اضطهاد أغنی شیعی من شیعة بغداد فی ایامه، و هو ابو القاسم محمد الذی کان دخله السنوی یقدر بملیون و نصف الملیون من الدراهم. فقد غرمه فی یوم من الأیام ملیون دینار ذهب، و غرمه من بعده البویهیون الآخرون مثل هذه المبالغ أیضا.
و یستند کاتب البحث الموجز عن النجف فی (دائرة المعارف الاسلامیة) علی النبذة التی کتبها (لسترنج)، فیورد الروایات و الاقتباسات نفسها. ثم یرد ذکر النجف فی کتاب (تاریخ ایران) الذی کتبه السر بیرسی سایکس بالانکلیزیة، و لا سیما فی الجزء الثانی منه. فقد جاء فیه ان الأیلخان الکبیر غازان خان حینما انتقل الی دار البقاء سنة 1315 خلفه فی الحکم أخوه محمد خدابنده الملقب بلقب «أولجایتو». و کان السلطان محمد أحد أخوة ثلاثة ولدوا لأرغون خان من زوجته المسیحیة، و قد أنشأته أمه علی دیانتها و سمته نقولا بعد ان أجرت له مراسیم التعمید المعتادة. لکنه اعتنق الدیانة الاسلامیة حینما تقدم به العمر بتأثیر من زوجته، و أصبح محبا للمناقشات الدینیة التی صار یعقد مجالس کثیرة من اجلها. و قد أسمعه أعداء الدین الحنیف فی یوم من الایام ان الاسلام یبیح للمسلم التزوج بأمه او اخته او ابنته فارتعدت فرائصه، و صدق ما قیل له حینما هبت من بعد ذلک بالصدفة عاصفة رعدیة شدیدة قتل فیها عدد من رجال حاشیته و حسب حدوثها دلیلا علی غضب السماء علیه لأنه اعتنق الدیانة الاسلامیة. ثم أخذت تحدثه نفسه بترک الاسلام و العودة الی التمسک بدیانة المغول القدیمة، لکنه قصد النجف الاشرف فی تلک الأثناء لزیارة الضریح المطهر فیها، فحلم فی احدی اللیالی حلما اطمأنت به نفسه و قرر اعتناق المذهب الجعفری علی أثره. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 197
و مما یذکره (سایکس) عن السلطان خدا بنده أیضا انه انشأ فی سنة 1305 م مدینة السلطانیة علی بعد مئة میل من غرب قزوین، فکانت أهم مدینة مهدها الایلخانیون المغول فی ایران و غیرها. و قد کان فی نیته ان یحقق بذلک مشروعا ظل یحوم فی مخیلته ردحا من الزمن، و هو مشروع نقل رفات الامامین علی و الحسین علیهما السلام من النجف و کربلا الی المدینة الجدیدة هذه. و لذلک أنشأ فیها عتبة محکمة البناء بشکل مثمّن تقوم فوق کل زاویة من زوایاه مئذنة رشیقة عالیة، و تحیط هذه المآذن کلها بقبة ضخمة جمیلة یبلغ طول قطرها اربعة و ثمانین قدما. غیر ان أمنیته لم تتحقق بطبیعة الحال و أصبح المرقد المذکور مدفنا فخما له بعد ان توفی فی سنة 1316. و مما یذکر من الحوادث التی جرت فی ایامه ما یورده ریتشارد کوک فی (بغداد مدینة السلام من ان السید تاج الدین محمد نقیب بغداد یومذاک اتهمه السادة فیها بتهم خطیرة، منها تهم اخلاقیة شائنة و تهمة بقتل عدة أشخاص معروفین و جمع اموال وفیرة تقدر بثلاث مئة الف قطعة ذهب بطرق غیر مشروعة. و قد سلم علی أثر ذلک الی اهل النجف الأشرف لمعاقبته و الاقتصاص منه، فأخذوه الی شاطی‌ء الفرات و ظلوا یضربونه حتی قضی غیر مأسوف علیه.
و ما دمنا فی بحث الایلخانیین لا بد من ان نورد هنا ما یذکره المستر کوک کذلک عن مشروع یختص بایصال الماء الی ما یقرب من النجف. فهو یقول ان الطاغیة هولاکو حینما مات فی 8 شباط 1265 م خلفه فی الحکم ابنه أباقا (جدّ اولجیاتو الا علی) فأقر فی حکم بغداد المؤرخ علاء الدین شقیق رشید الدین وزیر هولاکو و مؤلف کتاب (جامع التواریخ) المشهور. و فی ایام علاء الدین هذا انتعشت الحالة فی بغداد و العراق اجمع، و حفر نهر جدید یستمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 198
ماءه من الفرات و یمر بالکوفة و النجف علی حد قوله. و یعتقد المستر کوک ان هذا النهر هو الفرع الغربی الحالی نفسه.
و یتکرر ذکر النجف مرات عدیدة اخری فی کتاب (شیعة الهند)، فی معرض البحث عن اهتمام الملوک المنتمین الی الأسر الشیعیة الحاکمة، التی حکمت الدکن، و کشمیر، و أورده، برجال الدین و العتبات المقدسة و بذلهم السخی من اجل ذلک. فمما ورد فی هذا الشأن ان فیروز و أحمد الاول من ملوک المملکة البهمنیة فی الدکن کانا میالین جد المیل الی العنایة بالسادة و رجال الدین الذین کانوا یردون علیهما من النجف و کربلا، و ان الامیر احمد أوقف علی عهد اخیه فیروز (1397) مقاطعة خانه بور و ما جاورها علی تعمیر العتبتین المقدستین المذکورتین و صیانتهما الدائمة.
و قد ورد فی الکتاب نفسه عن یوسف عادل شاه مؤسس المملکة العادل شاهیة فی بیجابور سنة 1489 انه مرض فی احدی حملاته العسکریة التی کان یجردها لتوطید حکمه فی المملکة، و حینما شفی من مرضه بعث بمبلغ ستین الف روبیة لیوزع علی السادة و رجال الدین فی النجف و کربلا و المدینة. و المعروف عن یوسف عادل شاه انه حینما استتب له الامر فی بیجابور، عقد اجتماعا حافلا شعبیا ذات یوم و أعلن فیه تمسکه بالمذهب الجعفری- الاثنی عشری علی ملأ من الناس. و طلب الی رجال الدین و أشراف البلد من امثال المرزا جهانکیر و حیدر بک و السید أحمد الهروی، و هم من رجال الشیعة المعروفین هناک، ان یعملوا علی نشر هذه العقیدة لأنه نذر ان یفعل ذلک بعد ان رأی النبی الکریم (ص) فی المنام فأمره بذلک. ثم ارتقی المنبر بأمر منه سید من سادات النجف یدعی نقیب خان فأذن فی الناس، و أدخل فی ضمن الاذان الشهادة بأن «علیا ولی اللّه»، و قرأ الخطبة باسم الأئمة الاثنی عشر علیهم السلام.
فکان اول عاهل هندی یجرأ علی اجراء المراسیم الدینیة هذه بصورة علنیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 199

النجف فی أوائل القرن السادس عشر

و فی سنة 1507 استولی الشاه اسماعیل الصفوی علی بغداد فأصبح العراق معظمه خاضعا لایران. و یشیر المستر ستیفن لونکریک فی کتابه (أربعة قرون من تاریخ العراق الحدیث) الی ان دخول العراق فی حوزة العرش الشیعی الجدید جاء بالشاه مسرعا لزیارة العتبات المقدسة فی الفرات، فزار النجف و أصلح نهرا من الأنهر بقربها فسماه باسمه. و لا شک انه یقصد بهذا ما کان یعرف یومذاک بنهر الشاه، و هو النهر الذی أمر الشاه اسماعیل بحفره من الفرات و ایصال مائه بقناة خاصة تمتد تحت سطح الارض الی النجف لارتفاع موقعها عن مستوی الفرات. ثم یضیف لونکریک قوله ان السنین المنحصرة ما بین زیارة الشاه اسماعیل و وفاته فی 1524 کانت تأثیرات العتبات المقدسة القویة خلالها تؤید الحکم الجدید، فتقاطر التجار الایرانیون علی بغداد و جذب نفوذ الصفویین الدینی حتی العشائر النهریة المتمردة الیهم .
و فی اواخر 1534 استطاع السلطان سلیمان القانونی ان یسترد العراق من الایرانیین و یعمل علی اصلاح الاحوال فیه، فزار کربلا و النجف قبل عودته الی استانبول. و یقول المستر لونکریک فی هذا الشأن ان السلطان سلیمان اهتم اهتماما خاصا بزیارة العتبات المقدسة فی الفرات الاوسط، و تقصّد ان یفعل فیها اکثر مما فعله الشاه الصفوی من الخیرات. و لذلک أصلح جدول الحسینیة فی کربلا و وسعه، ثم زار قبر الامام علی فی النجف و رجع الی بغداد. و هذه بلا شک الزیارة التی تقول بعض الروایات فیها ان رجلا من رجال حاشیته الکبار حینما شاهد القبة المبارکة من بعید ترجّل عن فرسه، و حینما سأله السلطان عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 200
السبب أجابه بأنه ترجّل إجلالا لخلیفة من الخلفاء الراشدین الاربعة. فما کان من السلطان الا ان یترجل هو ایضا بعد ان تردد فی ذلک و استخار القرآن الکریم فاذا به یلاحظ فی الصفحة التی فتحها الآیة الکریمة (فاخلع نعلیک انک فی الوادی المقدس طوی). و تروی هذه الروایة عن السلطان مراد کذلک حینما زار النجف الأشرف.

بدء اتصال النجف بالغرب‌

و حینما تطورت الاحوال فی اوربه بعد ذلک، و اتسع نطاق النهضة الحدیثة فیها، بتأثیر الکثیر من العوامل و المؤثرات المعروفة فی التاریخ اتجهت الانظار الی الشرق و راح البحارة البرتغالیون و التجار البنادقة یمخرون عباب البحار و یطوحون فی البراری و القفار للوصول الی الهند و ما حولها من البلاد. و لم ینته القرن السادس عشر للمیلاد حتی أخذ عدد غیر یسیر من الاوروبیین، و لا سیما البنادقة، یتجهون الی هذه الجهات بقصد المتاجر و التبشیر و یمرون بالعراق باعتباره جسرا ارضیا یربط الشرق بالغرب. و کانوا فی طریقهم هذا ینزلون فی خانات بغداد او «بابل»، و یمرون بالنجف، او یتلبثون فی الزبیر. و کانت النجف بحکم موقعها الکائن علی حدود البادیة، و مرکزها الدینی و الاجتماعی الفرید فی بابه، تقع فی طریق الکثیر من القوافل التی تأتی من الغرب عن طریق حلب و تستهوی الکثیر من المسافرین فی تلک الایام فیمرون بها او یتوقفون فیها مدة الزمن. و یبدو مما جاء فی کتابات عدد من الرحالة الاوروبیین یومذاک ان القوافل التی کانت تسیر بین حلب و إصفهان کان بوسعها ان تسلک خمسة طرق عامة معروفة، غیر الطریقین اللذین کانا یمران بالأناضول فیربطان بین استانبول (او ازمیر) و إصفهان .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 201
و قد کان اول هذه الطرق یبدأ بحلب، و یقع الی یسار المتجه فی الاتجاه الشمالی الشرقی، لکنه یمر بدیار بکر و تبریز. و کان الطریق الثانی یتجه من حلب الی الشرق رأسا فیحاذی بلاد ما بین النهرین، و یمر بالموصل فهمذان. اما الطریق الثالث فقد کان ینحرف اکثر من ذلک نحو الجنوب، و یجتاز بادیة صغیرة ثم یمر بعانه و النجف و بغداد و البصرة. و کان الطریق الرابع یقع الی یمین الذاهب الی الجنوب الشرقی فیمر بالنجف و بغداد ایضا، و کان هناک طریق خاص یخترق البادیة الکبیرة بطولها نحو البصرة، و کانت القوافل التی تسلکه تمر بالنجف احیانا، لکنه لم یکن یسلک الامرة واحدة فی السنة ای حینما کان یقطعه تجار ترکیة و مصر لشراء الإبل.
و لا شک ان هذه الطرق هی التی کان یسلکها الرحالون الغربیون الذین أخذ تواردهم علی هذه الجهات یکثر بحلول القرن السابع عشر، و لا سیما بعد أن ثبّت البرتغالیون أقدامهم الاستعماریة فی الخلیج بأنشائهم قلعة هرمز العظیمة فی 1597

الرحالة تکسیرا فی النجف‌

و من أشهر الرحالة الذین زاروا النجف فی تلک السنین الخوالی الرحالة البرتغالی بیدرو تکسیرا الذی کتب رحلته بالبرتغالیة فی وصف الخلیج و البصرة و النجف و کربلا و بغداد وعانه. و قد ترجمت هذه الرحلة الی الانکلیزیة و طبعت فی لندن سنة 1902.
و کان تکسیرا قد وصل الی البصرة من الخلیج فی یوم 6 آب 1604، و بعد أن أقام فیها مدة تناهز الشهر غادرها متوجها الی بغداد مع قافلة من القوافل عن طریق البادیة و بعد أن غادر البصرة بسبعة أیام وصل الی موقع فی البادیة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 202
یسمی «عیون السید»، و هو یقول أنهم وجدوا فی هذا الموقع آثار بلدة قدیمة کبیرة مع عدد من النخیل و بعض الشجیرات. و بعد أن ترکت قافلته (عیون السید) و تابعت السیر ثلاثة أیام أخری بانت لهم من بعید بحیرة واسعة الأرجاء متکونة من میاه الفرات فی وسط البادیة، و لا یخفی انها «بحر النجف» علی حد تعبیر الناس فی یومنا هذا.
و بعد مسیرة یومین مرت فی اثنائهما القافلة بأما کن تتوفر فیها المیاه الغزیرة و تمتد من حولها حقول الشعیر و القمح و القطن و الخضراوات کما یقول تکسیرا، بانت لهم مدینة النجف من بعید و کأنها تطل من موقعها العالی علی بحر النجف نفسه. ثم وصلت القافلة الی مکان فی رأس البحیرة و نزلت فی موقع مناسب یقرب منه، فاستضافها هناک رجل یقال له الشیخ علاوی، و قد أصبح صدیقا حمیما لتکسیرا علی ما یظهر لانه یسمیه «صدیقی العظیم». و فی هذه المرحلة یصف بحر النجف بقوله انه یستمد ماءه من الفرات، و لذلک یلاحظ ازدیاد مقادیره فی مواسم الطغیان، و لیس لهذه البحیرة شکل معین لکنها تمتد بطولها حتی یبلغ محیطها خمسة و ثلاثین الی أربعین فرسخا. و هناک فیما یقرب من منتصفها ممر ضحل تستطیع الحیوانات اجتیازه خوضا فی المواسم التی یقل فیها ماء البحر، و یقول کذلک ان هذه البحیرة کانت شدیدة الملوحة، و لذلک کان یستخرج منها الملح الذی یباع فی بغداد و المناطق المجاورة، و مع ملوحتها هذه کان یکثر فیها السمک بحجومه و أنواعه المختلفة، و لهذا یسمیها الناس هناک بحیرة الرهیمة.
و قد وصلت قافلة تکسیرا الی النجف مساء السبت 18 أیلول (23 ربیع الثانی 1013) فقصدت خانا من الخانات الکبیرة التی کانت تشبه فی شکلها و منظرها العام الصوامع الموجودة فی البلاد الاوربیة علی حد قوله. و بعد ان یأتی فی رحلته علی الجوانب التاریخیة المعروفة للمکان و کیفیة دفن الامام علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 203
السلام فی هذه البقعة یأخذ بوصف الروضة المقدسة و بنائها و زخرفتها، لکنه لا یشیر الی القباب و المآذن بشی‌ء و انما یذکر ان البلدة کلها کانت تبدو فیها إمارات الخراب و الاهمال بوضوح. فبعد ان کانت تحتوی علی ستة آلاف الی سبعة آلاف دار مبنیة بأتقان فی الغالب أصبحت حینما زارها لا یزید عدد بیوتها علی الست مئة فقط. و قد علم من بعض الناس ان أهمالها و انحطاط شأنها کان قد حصل بعد وفاة الشاه طهماسب الصفوی (توفی فی 1576 م أو 984 ه) الذی کان یرعاها و یعنی بشأنها عنایة کبیرة.
و یقول أیضا ان البلدة کانت محاطة بسور امتدت الیه ید الأهمال کذلک، فاصبحت تلاحظ فیه الثغرات فی عدة أمکنة، و قد کانت البلدة تستقی ماءها من الآبار کما هو معروف، لکنه لم یکن عذبا یستسیغه الشارب، و لذلک کان علی الذین یریدون الماء العذب الفرات ان یأتوا به من جدول خاص کان السلطان سلیم قد حفره لا یصال الماء من الفرات الی البلدة بواسطته، لکنه لم یصل الا الی مسافة عنها بالنظر لارتفاع موقعها. علی ان (تکسیرا) یقول انهم لم یستطیعوا استساغة هذا الماء ایضا حینما وصلوا الیه لأنه کان کدرا متعفنا.
و یقول کذلک ان البلدة کانت بها حاجة ماسة الی الکثیر من الأشیاء المهمة کالخشب و الأغنام و الدجاج و الحنطة و الشعیر و الفاکهة و الخضراوات، و لذلک کان یؤتی بها من الخارج علی الدوام. و علی هذا کان طعام السکان معظمهم ینحصر فی التمر و الحلیب و خبز الحنطة و الشعیر. و مع ان بحیرة النجف یتیسر فیها السمک فان سکان البلدة لم یکونوا یستفیدون منه الا بمقدار قلیل.
و مما یذکره عن النجف فی تلک الأیام أیضا ان اهالیها ذو و سحنة بیضاء فی الغالب، و أنهم یحرمون الاختلاط بالنصاری و الیهود. و یقول کذلک ان آثار الأسواق العامرة المبنیة بالطابوق کانت ما تزال شاخصة للعیان، و ان الروضة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 204
الحیدریة کان فیها الکثیر من النفائس الثمینة و منها ثلاث ثریات من الذهب المطعم بالأحجار الکریمة. و کان عدد من الأمراء المسلمین و الملوک قد أهدوها الی الحضرة المطهرة. و لیس من المستبعد ان تکون معالم العمران فی الاسواق و غیرها، التی یشیر الیها هذا الرحالة، ناشئة عما کانت علیه حالة النجف فی 1325 م حینما زارها الرحالة المغربی المشهور ابن بطوطة فوجدها مکتظة بالسکان و علی أحسن ما یکون عمرانا و ازدهارا، و وجد أسواقها جمیلة نظیفة. فقد کان فیها من جهة باب الحضرة الخارجیة أسواق للعطارین و الطباخین و القصابین و الخیاطین، فضلا عن «القیصریة» و أسواق العطور و الفواکه.
ثم یتطرق (تکسیرا) فی رحلته الی ذکر الحکم فی البلاد و یقول ان النجف کانت تخضع فی تلک الأیام الی الأتراک الذین کان یدفع لهم أمیرها العربی شیئا من الأتاوی. و لعله یقصد بذلک ناصر المهنا أمیر جشعم الذی یقول عنه أنه کان یقیم بالقرب من کربلاء. و یذکر کذلک ان النجف کانت فیها حامیة عسکریة قوامها خمسون جندیا من الأتراک، و أن هؤلاء لم یکونوا موجودین فی البلدة یوم زارها هو لأنهم کانوا قد سحبوا الی بغداد بسبب الحرب التی کانت ناشبة مع الایرانیین، و لذلک کان السکان أحرارا فیما یفعلون، حتی ان قسما منهم کان یرتکب الکثیر من أعمال العنف و التعدی علی الناس من دون خوف أو حیاء. و یلاحظ ان المستر لونکریک یتطرق فی کتابه الی ذلک الشی‌ء نفسه عن نوع الحکم هذا. فهو یقول «.. غیر ان قوات البادیة التی یهمنا أمرها أکثر من هذا کانت لا تخرج عن کونها حلفین بدویین یمر من مناطقهما المسافرون من الخلیج الی حلب بعدة مراحل من طریقهم. فکان المیر ناصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 205
المهنّا فی 1604 (1013 ه) «ملک» القسم الجنوبی الممتد من النجف الی الفلوجة. و کانت بلدة النجف، ذات العصبیة الدینیة الدائمة، التی أفقدها انقطاع الخیرات عنها منذ موت الشاه طهماسب، معترفة بسلطة حاکم البادیة هذا. و کانت کربلاء، و هی اوسع و اکثر حرکة و لیست بأقل من اختها تعصبا، مرکز دیرته الخاصة. و کان یلاقی المسافرین- من بغداد الی الفلوجة، علی بضعة أمیال من العاصمة- و کلاؤه الذین یقبضون «الخاوة» له. و قد اعترف ناصر بولائه للسلطان. و من المحتمل ان شیئا من الهدایا التی کانت تقدم الی الباشا فی بغداد بین حین و آخر کانت تذکره بوجود مثل هذا «العبد الحقیر».
غیر ان أوتو قراطیته فی البادیة، و جمعه للخاوة، و الشدائد التی کان یصادفها المسافرون المارّون بدیرته، و إرها به للزوار کانت تقص لنا قصة أخری، و کانت الحامیات الترکیة الصغیرة ترابط کالعادة فی العتبات المقدسة، غیر ان مکثهم فیها لم یکن الا بسماح من الشیخ نفسه.»

تعلیق علی اقوال تکسیرا

و تعلیقا علی ما یذکره الرحالة تکسیرا عن مشکلة ماء النجف و صعوبة الحصول علیه فی تلک الأیام، و عن الخراب الذی أصابها بسبب ذلک، لا أری بدا من الاشارة هنا الی ان المرحوم یعقوب سرکیس کان قد نشر فی العدد الثانی من مجلة الاعتدال النجفیة للسنة 1937 عریضة قدیمة کان و الی بغداد سنان باشا جیغا لزاده قد رفعها فی أوائل القرن السادس عشر للمیلاد الی السلطان مراد الثالث یذکر فیها له ما یقاسیه سکان النجف من قلة الماء الصالح للشرب و شرائها الحمل منه بخمس او ست بارات، و یخبره بأن الکثیرین من النجفیین یومذاک قد اضطروا الی الجلاء عن بلدتهم المقدسة لهذا السبب. و یذکر الوالی فی العریضة قوله «.. و بعد ان کان فی النجف ثلاثة آلاف دار عامرة لم یبق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 206
منها الا عشرها و شربه الماء الأجاج و أکله خبز الشعیر، مفضلا هذه الحالة علی الجلاء. فلیس فی النجف الا الخطیب، و الامام، و الفراش، و الخدام، و الموظفون و قلیل غیرهم. و من اسباب الهجرة ان هذه القصبة بعیدة عما هو معمور، و ان الاعراب المجاورین لها عتاة، و ان سورها قدیم أکثره قد تهدم فأصبح کل أحد بوسعه دخولها من حیث أراد. فلا أمن من دخول الأعراب الیها علی حین غرة، و من غارتهم علی القنادیل الذهب و الفضة و غیرها من التحف و النفائس ..». و قد ناشد سنان باشا السلطان بان ینقذ النجف من محنتها بحفر نهر خاص لها کما أنقذ السلطان سلیمان القانونی مدینة کربلا بحفره جدول الحسینیة من قبل. و قد ذکر له بهذه المناسبة ان الخبراء و المهندسین بینوا له ان النهر یمکن حفره بسهولة، و انه سیروی عددا کبیرا من المزارع و الحقول التی یمکن ان تنتج فی ثلاث سنوات محصولا یفیض علی النفقات.
علی ان تشبثات الباشا المذکور لم تکن مثمرة علی ما یظهر لان مشکلة ماء النجف بقیت مستعصیة الی سنة 1682. و من جملة المستندات التاریخیة التی تشیر الی ذلک الحجّة الشرعیة التی نشرها یعقوب سرکیس فی المقال المشار الیه آنفا، و هی مؤرخة بتاریخ 11 شعبان 1093 ه (1682) م. فقد ورد فیها ما یلی: «اما بعد ... فقد حضر مجلس الشرع الخطیر شیوخ النهر الشهیر المسمی النهر الشاهی الآخذ من مراد (أی الفرات فی التعبیر الترکی) و حضر سکان قصبة الامام علی کرم اللّه وجهه بأسرهم فقالوا بدون جبر و لا إکراه:
«کانت أراضی هذا النهر قد غدت بمثابة الموات بمرور الأیام و السنین لعدم عنایة الحکام السالفین و قلة رغبتهم فی امور الخیر، و لتسلط أهل البوادی علی رعایا هذا النهر فأشرف علی الخراب و تضرر أهله و کانوا علی أهبة الهجرة.
فقام و الی بغداد ابراهیم باشا بتطهیره و حفره من صدره إلی مدینة الکوفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 207
و المسافة بینهما اثنتا عشرة ساعة فجاء بأهالیه النازحة عنه و أسکنهم محالّهم و قطع دابر أهل التعدی. و قد أنفق علی ذلک أثنی عشر ألف غرش و خمسة و أربعین غرشا فنجّی قصبة رابع الخلفاء علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه من محنة الظمأ العظیمة، و ذلک بتقریب الماء الیهم فکانوا فی رفاهیة.
و سکان قصبة الامام علی هم مشغولون صباحا و مساء بالدعاء للسکان.»
شهود الحال: السید عبد الرسول افندی متولی قصبة الامام علی، السید منصور أفندی بن السید حسین کمّونة، خطیب الجامع ملا حسین، الکلیدار ملا محمود بن ملا طاهر، الشیخ ابراهیم بن فرج اللّه، الحاج ابراهیم بن خیر اللّه، الخادم ملا حسین أفندی، المؤذن ملا علی رضا، محمد جلبی بن علی جلبی، السید محمد کمال الدین، ملا .. بن ملا علی، ملا علی بن ملا محمود، الخادم الحاج حسن، السید ابراهیم بن کمال الدین، و غیرهم» و لم یذکرهم.

النجف بین الصفویین و العثمانیین‌

و فی 1619 استأثر بالسلطة فی بغداد بکر الصوباشی و طردوا الیها یوسف باشا، ثم أخذ یساوم البادشاه فی الباب العالی علی تعیینه والیا فیها.
و اتصل بالشاه فی ایران فساومه علی الشی‌ء نفسه لیفک عنه الحصار الذی ضربته علی بغداد الجیوش الترکیة. و سرعان ما التقت جیوش الدولتین علی أبوابها، و بعد کثیر من المناورات السیاسیة و العسکریة و عدد من الوقائع استطاع الصفویون الاستیلاء علی بغداد فی لیلة 28 تشرین الثانی سنة 1623، فعاد احتلالهم للعراق، و وضعت الحامیات الایرانیة فی النجف و کربلا و غیرهما، من مدن الفرات الأوسط.
و فی خلال حکم الایرانیین للعراق هذا مر بالنجف و کربلا، قادما من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 208
البصرة الی بغداد، الرحالة البرتغالی دیلافاله . و هو یقول ان النجف کانت فی أیدی (القزل باش) أی الأیرانیین بعد ان کانت فی ایدی الاتراک الذین یحکمون بغداد، و هو لا یذکر شیئا فی رحلته یمکن ان یدون عن النجف و انما یشیر الی بحر النجف فیسمیه (البحیرة الکلدانیة)، و یذکر انه مر مما یقرب من النجف فی 26 حزیران 1625 فلم یجد للکوفة وجودا. و یشیر کذلک الی سیطرة المیر ناصر المهنا علی المدنیتین المقدستین، و یذکر ابنا له یسمی أبا طالب.
و لم یثن ذلک الاحتلال من عزم العثمانیین، فقد کان طموح البلاط العثمانی ملحا فی استعادة بغداد منذ اللحظة التی أضیعت منهم علی حد قول المستر لونکریک فی (أربعة قرون من تاریخ العراق الحدیث). و عهد بتحقیق ذلک الی حافظ أحمد باشا الذی کان قد أشغل الصدارة العظمی من قبل. و حینما سارت الجیوش العثمانیة الی العراق من جدید فی 1625 کان اول اصطدام لها مع جیش الصفویین فی موسم من مواسم زیارة النجف و مما یکتبه لونکریک فی هذا الشأن قوله «.. و قضی الوزیر الرئیس الصیف فی المعسکر، حیث و ردت أنباء تفید ان جند حامیة بغداد الایرانیة رخص لهم فی زیارة النجف بمناسبة احدی الزیارات الکبری، فظلت بغداد مفتقرة الی معظم المدافعین عنها و بناء علی هذه الأخبار أرسل الیاس باشا، بحکربکی الأناضول، مع قوة خفیفة لیقطع طریق بغداد- النجف و یمنع المدافعین عن الرجوع. ففشلت المحاولة، غیر انه مما لا شک فیه ان ذلک العمل أضاف الی ضعف ثبات الایرانیین فی الفرات و طرد حامیتهم منه مدة من الزمن.»
و قد أعقبت ذلک وقائع و اشتباکات کثیرة اشترک فی بعضها الشاه عباس موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 209
بنفسه فآلت الی فشل الحملة الترکیة فی مهمتها من جدید. و کانت قد تخللت ذلک کله اتصالات عدة بین الفریقین المتناحرین للوصول الی حل نهائی للنزاع المریر، فکانت النجف من أهم مواضیع البحث و المناقشة فی هذه المفاوضات.
فیذکر لونکریک عن المفاوضات النهائیة قوله «.. و بعد مضی اسبوعین اقترح الشا، عودا علی بدء الدخول فی مفاوضات فبعث حافظ أحمد رئیس مرافقیه و جماعة من الضباط الآخرین الی المعسکر الایرانی، ثم عادوا مع سفیر الشاه فجدد الایرانی ادعاءه ببغداد، و فی جلسة متأخرة جلسوها قبل إبقاء بغداد علی الترک اذا ما أعطی النجف فی مکانها. فکان جواب الوزیر العثمانی «ان کل حجر من النجف یعادل عنده الف انسان، و ما بغداد الاحماها» و لم یجد بحث لتوافق نفعا فی تقریب وجهات النظر ..» و هکذا بقیت بغداد، و العتبات المقدسة، بأیدی الایرانیین حتی تسنی للسلطان مراد الرابع ان یفتحها بنفسه و یتقبل خضوعها فی یوم عید المیلاد من سنة 1638 علی حد قول المستر (لونکریک)

الرحالة الفرنسی تافیرنییه فی النجف‌

و بعد عشرین یوما من هذا التاریخ کان الرحالة الفرنسی الشهیر المسیو جان بابتیست تافیرنییه نازلا فی منزل من منازل السفر فی البادیة یبعد عن حلب بمسافة عشرین یوما، فی طریقه الی البصرة. و هناک علم من ثلاثة أعراب نزلوا فی المنزل نفسه انهم کانوا قد أرسلوا الی حلب و غیرها من المدن بأخبار استیلاء السلطان مراد علی بغداد. و قد مر هذا الرحالة فی اثناء رحلته هذه بالنجف الأشرف، و کان آخر منزل له فی البادیة قبل وصوله الیها موقعا یعتقد انه (خان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 210
العطشان) الذی یصفه وصفا تفصیلیا طریفا یشیر فیه الی انه یبعد عن الفرات بمسافة تزید علی العشرین فرسخا، و هو یقول ان قافلته و اصلت السیر من هناک فی اتجاه شمالی شرقی لمدة خمسة ایام وصلت بعدها الی «بلدة صغیرة کانت تدعی سابقا الکوفة و الآن تعرف بمشهد علی» ، و لا شک انه یخلط بقوله هذا بین النجف و الکوفة. و هو یذکر شیئا عن الضریح المطهر و یقول بانه کانت تشاهد من حوله أربعة شمعدانات مضاءة، و قنادیل مدلاة من السقف، من دون ان یشیر الی کونه استطاع الدخول الی الحضرة أم لا، و فیما عدا القنادیل و الشمعدانات التی کانت تضاء فی اللیل و النهار، کان هناک قارئان یتلوان القرآن الکریم علی الدوام.
ثم یتطرق الی ماء الشرب فی البلدة فیقول انه ماء غیر عذب یستقیة الناس من آبار أربع موجودة فیها، و یشیر کذلک الی وجود قناة جافة یظن ان الشاه عباس الصفوی کان قد مدها من الفرات الی النجف، و الأصح فی کثیر من المراجع ان القناة المذکورة کان الشاه اسماعیل الصفوی قد أمر بحفرها فی بادی‌ء الأمر غیر ان الشاه عباس أمر بتطهیرها، و یقول المسیو تافیرنییه ایضا ان الطعام کان شحیحا فی البلدة، و انه لم یجد فیها غیر شی‌ء قلیل من التمر و العنب و اللوز مما کان یباع بأسعار عالیة. و مما یذکره کذلک ان الزوار حینما کان یکثر وجودهم فی مواسم الزیارات کان الشیخ یوزع علیهم عند الحاجة الرز المطبوخ بالماء و الملح، و المضاف الیه شی‌ء قلیل من السمن.
و یشیر تافیرنییه الی موضوع یتطرق الیه عدد غیر یسیر من المؤرخین الأجانب و الرحالة الآخرین، و هو موضوع منع الزوار الایرانیین من زیارة النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 211
و غیرها من العتبات المقدسة فی العراق من قبل الشاه عباس الصفوی. لأن الزوار کان لا بد لهم من ان یمروا ببغداد قبل الوصول الی النجف، و هناک کان یترتب علی کل منهم ان یدفع رسما قدره ثمانیة قروش. و کان هذا الرسم فی نظر الشاه تحدیا و إهانة لرعیته و حکومته، و لذلک عمد الی تعمیر ضریح الامام الرضا علیه السلام فی مشهد خراسان لیکتفی الایرانیون بزیارته و ینصرفوا عن زیارة العتبات الاخری، و قد اقتدی به ملوک ایران الذین جاءوا من بعده أیضا فی کثیر من الظروف و الأحیان
و یقول السر بیرسی سایکس فی (تاریخ ایران) ان عبقریة الشاه عباس و براعته قد ظهرت فی اضطلاعه بمهمة توحید القبائل و الأقوام المختلفة التی کانت تسکن ایران. و قد فعل ذلک فی الغالب عن طریق تشجیع فکرة أن مشهد الأمام الرضا هو فی الحقیقة المرکز القومی الذی یجب ان یقصده الزوار الأیرانیون، و انه فخر العالم الشیعی و محط آماله. و لیقرن القول بالعمل کان یکثر الزیارة هو نفسه لهذه العتبة المقدسة. و قد قطع فی إحدی زیاراته المسافة الطویلة الممتدة بین إصفهان و المشهد (800 میل) مشیا علی الأقدام. و کان یقوم بمهمة إسراج آلاف الشموع التی کانت تضی‌ء الروضة المقدسة و تنظیفها.
و من بین الهدایا التی قدمها الشاه عباس هذا للمرقد الشریف قوسه الذی یحمل اسمه، و هو هدیة لا یقدرها الأیرانیون حق قدرها علی ما یقول سایکس. و قد کان یزور النجف أیضا و یتولی کنس الحضرة المطهرة التی تعود لجده الأکبر.
و یورد تافیرنییه کذلک، فی معرض وصفه الحالة فی بغداد، قوله «.. و تجارة المدینة رائجة، و لکنها لیست بما کانت علیه فی أیام ملک إیران. لأنه عندما استولی علیها الترک اغتالوا کثیرا من أثریاء التجار، و مع ذلک فان الناس ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 212
زالوا یتوافدون علی بغداد من کل حدب وصوب. و لا أدری أکان ذلک للتجارة أم للعبادة، فان شیعة علی یعتقدون ان علیا عاش فی بغداد. ان کل من یرغب فی الحج الی مکة برا علیه ان یمر ببغداد، و علی کل حاج ان یدفع الی باشا بغداد أربعة قروش.»

فی أواسط القرن السابع عشر

و مما تذکره بعض المراجع الأجنبیة ان السلطان مراد حینما تم له فتح بغداد کتب أمانا لسکان النجف علی ید أحد قواده باشارة من الشیخ مدلج، لأن الفتح کانت قد أعقبته فی بغداد و ما جاورها فوضویة غیر یسیرة قتل خلالها مئات عدیدة من الناس. و مدلج هذا هو الذی ورد ذکره فی رحلة الاب (یا سیفیک الکبوشی) الفرنسی (الص 239) حینما غادر حلب متوجها الی بغداد فی 28 حزیران 1628 (24 شوال 1037)، و یسمیه فیها ملک العرب و المعروف ان هذا الامیر العربی هو ابن أبی ریشة أمیر البادیة الذی ظل مسیطرا علی نواحی بغداد و الموصل ردحا طویلا من الزمن فی تلک الأیام. هذا و قد ورد فی بعض المخطوطات الترکیة ان السلطان مراد نفسه رحل من بغداد یوم الاثنین 18 رمضان 941 ه لزیارة الأمامین علی و الحسین علیهما السلام و بصحبته السرعسکر و الباشوات و الأغوات جمیعهم .
و هناک رحّالة آخرون مرّوا فی هذا العهد بالنجف فی أثناء رحلتهم من حلب الی بغداد فایران، من دون أن یذکروا شیئا مهما عنهما فی رحلاتهم. و من هؤلاء (بیترو دیلا فاله) الرحالة الأیطالی الذی تزوج امرأة مسیحیة من بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 213
(أشیر الیه من قبل)، و الأب الکرملی الفرنسی فیلیب (1629) و المسیو تیفنو الذی تتضمن رحلته وصف شاهد عیان لاستیلاء السلطان مراد علی بغداد فی 1638.
و یرد ذکر النجف بعد هذا فیما کتبه (لونکریک) أیضا فی اثناء وصفه (لخاصکی محمد باشا) الذی انتهت مدة ولایته ببغداد فی منتصف صیف 1659 (1070 ه)، و لبعض الولاة الآخرین. فهو یذکره بقوله: .. «و کان خاصکی محمد، و هو المتدین من الطراز القدیم، قد بعث بالذهب الی المدینة لتزیین القبة، ثم أضاف منارة الی مشهد النجف، و قول بثناء أعظم عندما هدم کنیسة نصاری لیشید فی موقعها جامعا.» و هو یقصد بذلک جامع الخاصکی المعروف الیوم ببغداد. و فی خریف 1667 (1078 ه) جرد و الی بغداد (قره مصطفی باشا) حملة کبیرة علی البصرة لتأدیب حسین باشا أفراسیاب و ارجاعها الی حظیرة الحکم العثمانی. فکان سیره بطریق الفرات، و حینما وصل الی الحلة تأخر فیها عن الجیش و توجه منها الی النجف الأشرف لزیاره الأمام علیه السلام مع البعض من امرائه و قادة جیشه، ثم تابع سیره فلحق بالجیش الزاحف. و فی أواسط عام 1671 (1082 ه) قصد الوالی (حسین باشا) السلحدار النجف، و کربلاء لأداء الزیارة و الترویح عن النفس، ثم عاد الی بغداد بعد أیام قلائل. و کذلک فعل الوالی قبلان مصطفی باشا سنة 1677 (شعبان 1088 ه)، و قد اشتهر بولعه فی زیارة الأئمة و الأولیاء و بتشییده لجامع القبلانیة المعروف ببغداد.
و یقول (لونکریک) کذلک ان الاشهر الاولی من القرن الثامن عشر ظهرت فیها عناصر جدیدة للفوضی فی العراق بحدوث فیضانات عظیمة فی الفرات الأوسط و الجنوبی، لأن ذلک أدی الی انعزال البلدان و المراکز المهمة و من جملتها النجف الأشرف. فاستغلت لقبائل هذا الوضع وهبّ رؤساؤها للأفادة مما حدث. و کان أهم هؤلاء سلمان بن عباس شیخ الخزاعل الذی استولی علی الرماحیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 214
و کبشه، و حسکه، و منطقة نهر الشاه، ثم استولی علی النجف کذلک.
و المعروف فی المراجع الاخری ان الحکومة لم تستطع الوقوف فی وجهه و تخلیص العتبة المقدسة من شره حتی حینما عمدت الی سد نهر ذیاب عن القبائل المنضویة تحت لوائه.

النجف و مسلمو الهند

ان مما یمکن ان یذکر هنا من کتابات الغربیین مما له علاقة مباشرة أو غیر مباشرة بالنجف الأشرف، و سائر العتبات المقدسة، ما یتطرق الیه بالتفصیل الدکتور جون هولیستر مؤلف کتاب (شیعة الهند) من البحث عن ظهور مملکة (أوده) الشیعیة فی شمال الهند، و توالی حکامهم و ملوکهم علی الحکم فی لکناو.
فقد استقامت هذه المملکة من سنة 1722 (1135 ه) الی 1856 (1273 ه) حین عمد الانکلیز الی تنحیتهم عن الحکم، فکانت حلقة الوصل ما بین الامبراطوریة المغولیة و وضع الشیعة فی الهند و الباکستان فی یومنا هذا.
و یأتی المؤلف فی بحثه هذا علی الأعمال التی قام بها کل واحد من نوابی هذه المملکة الذین ظلوا یعترفون بالتابعیة الی الامبراطور المغولی فی دلهی حتی تولی النواب غازی الدین حیدر فتتوج ملکا فی مملکة (أوده) یوم 29 تشرین الثانی 1819.
و مما جاء فی هذا الکتاب عن ملوک و نوابی (أوده) جمیعهم تعلقهم بالمذهب الشیعی و صرفهم الباذخ علی الطقوس و مظاهر العبادة، و علی إقامة الشعائر الدینیة و مساعدة السادة و العلماء. و یذکر المؤلف عن عساف الدولة مثلا (1775) أنه کان مبذرا تمام التبذیر، و انه کان یصرف علی الشعائر و المراسیم فی شهر محرم من کل سنة خمسة أو ستة لکات من الروبیات. و کان یصرف ما یکاد یساوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 215
هذا المبلغ فی کل سنة أیضا علی تعمیر المساجد و الحسینیات (إمام باره) و تجهیزها و یذکر عن باهو بکم زوجة شجاع الدولة أنها بعثت تجلب شیئا کافیا من تراب کربلاء و النجف لیفرش فی قبرها حینما تدفن فیه، و قد تم ذلک بالفعل و صرف علی بناء هذا القبر مبلغ یناهز ثلاثة ألکاک من الروبیات، و ظل ألف رجل من القراء یقرأون القرآن الکریم حوله خلال اللیل کله لعدة أیام. و یتطرق المؤلف کذلک الی ذکر الحسینیات الثلاث المشهورة فی لکناو فیقول انها کلها تستحق الزیارة و المشاهدة، و ان کل واحدة منها تختلف عن الاخری و تسمی أحداها «شاه نجف» لأن الملک غازی الدین حیدر بناها بحیث یکون الضریح الموجود فیها مشابها لضریح الأمام علیه السلام فی النجف. و یشیر الدکتور (هولیستر) کذلک الی مجالس التعزیة التی تقام فی محرم الحرام و غیره و یقول ان إقامة هذه المجالس قد تتجاوز مدتها الایام العشرة الاولی من هذا الشهر، و ان البعض من ملوک (أوده)، مثل ناصر الدین (1827) کانوا یقیمون هذه المجالس لمدة أربعین یوما من کل سنة.
علی ان أهم ما یذکر فی کتاب (شیعة الهند) مما یختص ببحثنا هذا منشأ وقف (أوده) الذی توزع وارداته فی کل سنة علی مستحقیه فی النجف و کربلاء.
فیقول المؤلف ان ملوک (أوده) کانوا قد وضعوا للاستثمار فی قروض حکومیة مبلغا یقدر بثلاثة ملایین و نصف الملیون باون استرلینی، لیصرف علی أفراد أسرهم و متعلقیهم. و ظل نسل هؤلاء یتقاضون ربح ذلک المبلغ بالنسبة الأصلیة بحیث یبلغ مجموعه فی کل سنة شیئا یزید علی اربعة عشر لکا من الروبیات.
و قد کان البعض من مستحقی هذا الوقف متعودین علی توزیع بعض المبالغ فی العتبات المقدسة الموجودة فی مکة و المدینة و کربلاء و النجف الأشرف، و نظرا لان قسما منهم لم یخلف وریثا أو وصیة خاصة فی هذا الشأن فقد ظل ما یستحقونه یبعث کله الی العتبات المذکورة.
و تورد المس (غیر ترودبیل) سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی ببغداد، فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 216
تقریرها عن الادارة المدنیة فی العراق أیام الاحتلال البریطانی (1914- 1920)، تفصیلات اخری فی هذا الموضوع. فهی تقول انهم قد تعرفوا بالنجف و کربلاء و مرکز زعمائها الروحانیین قبل الحرب بمدة طویلة لان الحکومة الهندیة فی 1849 کانت لها علاقة بهاتین المدینتین فیما یختص بوقف (أوده) فقد کان (غازی الدین حیدر) ملک أوده. قد أوقف مبلغا قدره (000، 121) روبیة فی السنة لتصرف صدقات الی مستحقیها فی المدینتین المقدستین. فرجدت حکومة الهند، التی ورثت مسؤولیات، شرکة الهند الشرقیة، نفسها فی موقف الناظر علی هذا الوقف. و کان توزیع هذا المبلغ فی کل سنة یثیر عدة مشاکل، لکنه انتظم فی 1910 باجراء ترتیبات خاصة اصبح التوزیع فیها یجری عن طریق لجنتین خیریتین، واحدة منهما فی کل من النجف و کربلاء، و تتألف کل منهما من مجتهدین و أناس محترمین آخرین، بعد ان یحول المقیم البریطانی فی بغداد المبلغ لهما رأسا.
علی ان السر أرنولد ویلسن یورد فی کتابه (بین النهرین 1917- 1920)، الذی ستأتی الاشارة الیه بالتفصیل فی مرافیع قادمة، عن هذا الموضوع روایة اخری تختلف عن الروایتین المذکورتین فی أعلاه. فهو یقول ان الانکلیز ما ان دخلوا بغداد فی آذار 1917 حتی لفت نظر السر بیرسی کوکس من جهات ذات تأثیر و نفوذ فی النجف و کربلاء الی ان واردات وقف (أوده) لم توزع منذ ان أعلنت الحرب العامة، و طلب منه ان یتخذ الاجراءات العاجلة لیستأنف تحویل المبالغ التی کانت تحول فی أثناء السلم عن طریق القنصل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 217
العام البریطانی فی بغداد. و کان منشأ هذا الوقف ان اللورد (أمهرست)، حاکم الهند العام، کان قد استقرض مبلغا جسیما من ملک (أوده) بمناسبة الضائقة المالیة التی حصلت بنشوب الحرب فی بورما سنة 1825. و کان القرض بقیمة عشرة ملایین روبیة، لکن ملک (أوده) قد اشترط بدلا من تسدیده الیه ان تقوم حکومة الهند بصرف الربح المستحق علیة الی الأبد، بنسبة 5%، علی جهات خاصة منها بعض الناس و الطبقات فی النجف و کربلاء. و قد حصلت بعد ذلک تعقیدات کثیرة بسبب غموض الوقفیة و الشروط المدرجة فیها و خشی الاتراک من ان تتخذ مدفوعات هذا الوقف لاغراض تخریبیة تتجاوز حدود الوقفیة.
ثم نشأت صعوبات اخری فی کیفیة توزیع هذه المبالغ التی کانت تثیر الضغائن و الأحقاد فی کثیر من الاحیان. علی ان واجب اتخاذ ترتیبات مناسبة وقع علی عاتق النواب محمد حسین خان فی الغالب، فبرهن فی هذا الشأن علی کونه رجلا حکیما کثیر التعاون مع الموظفین لا داریین المتعاقبین، و دبّر توزیع هذه الهبات بأقل ما یمکن من الاحتکاک و التصادم.

النجف بین نادر شاه و العثمانیین‌

و حینما ظهر اسم (نادر قلی خان) أو نادر شاه فیما بعد، علی مسرح الحوادث الجاریة فی العراق و إیران فی أواسط القرن الثامن عشر، صار اسم النجف الأشرف یتردد فی کل فرصة أو مناسبة. فقد اصطدم مع الدولة العثمانیة ما بین سنتی 1731 و 1746 اصطدامات متکررة عنیفة، و حاصر بغداد و الموصل حصارات طویلة مخیفة، و نازل الجیوش الترکیة علی أسوار بغداد و الموصل و فی میادین القتال الأناضولیة و العراقیة الأخری و کان یعقب تلک الاصطدامات و الحروب کلها مفاوضات و مطالیب کانت تدور معظمها حول الحدود المشترکة بین البلدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 218
من جهة، و حول الاستیلاء علی النجف و کربلاء و الاعتراف بالمذهب الجعفری مذهبا خامسا من جهة اخری. و توجد تفصیلات هذه الحوادث فی کتابی السر بیرسی سایکس عن تاریخ إیران، و المستر لونکریک عن تاریخ العراق الحدیث، المار ذکرهما، و کتاب الدکتور لوکهارت عن حیاة نادر شاه نفسه.
و أهم ما حدث من المطالیب و المفاوضات فی هذا الشأن ما حدث علی أثر انتصاره فی معرکة (بغاوند) بالقرب من قارص، و قضائه علی (عبد اللّه باشا کویر یللی) و جیشه فیقول (لونکریک) فی هذا الشأن .. «فتحرک الی ارضروم، و سار السفراء فوق العادة بین الفریقین، فاشتط نادر بمطالیبه و طلب الدیة زیادة علی معاهدة بغداد السابقة، و لذلک لم یتوصل الطرفان الی نتیجة ما مدة أشهر عدیدة ... و قد أوضح فی الاحتفال الذی أجری لذلک اصلاحاته المهمة التی أشار الیها من قبل فی کتاباته الی البلاط الترکی. فأعلن تمسک الشیعة بالعقائد الدینیة الأصلیة و انضمامهم الیها باسم المذهب الخامس و هو المذهب الجعفری.
و قد کان یرمی بذلک الی تسهیل معاملاته مع ترکیة و إیجاد أهمیة لاسرته السنیة، ثم تم توحید العناصر الترکمانیة و الکردیة و الافغانیة التی فی جیشه لیعادل بها العناصر الشیعیة التی فیه و ما زالت مقیمة علی میلها الی الصفویین.» و کان ذلک فی سنة 1736
و حینما عاد نادر شاه مرة اخری الی العراق و حاصر الموصل فی 1743 لم یستطع الاستیلاء علیها بعد ان قصفها و حاصرها مدة تناهز الأربعین یوما و لذلک اضطر لعقد الصلح مع و الیها (الحاج حسین باشا الجلیلی) بشروط خفیفة، و الی ان یعود الی بغداد فیدیم محاصرته لها، ثم توجه من هناک الی النجف الأشرف لأداء واجب الزیارة و طلب منها الی و الی بغداد (أحمد باشا) الذی کان واقفا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 219
فی وجهه طوال هذه المدة، أن یبعث الیه بوفد من العلماء السنة للبحث فی قضیة التوفیق بین الفریقین المسلمین. فندب الیه (الشیخ عبد اللّه السویدی) و ذهب الی النجف و جرت فیها مناظرات و مناقشات فی عدة جلسات ترأسها الشاه نفسه. و یقول (لونکریک) ان المناقشات الطویلة مع العلماء فی النجف لم تثمر شیئا. و فی الأخیر اضطر الشاه و قد انتبه لاستفحال السخط و الفتنة فی بلاده و للاستعدادات الترکیة فی الشمال، الی عبور الحدود و الرجوع من دون ان یضرب ضربة ما أو یوقّع علی شی‌ء من العهود. و تقول بعض المراجع الاخری، و منها الدکتور لوکهارت فی کتابه عن نادر شاه، ان محضر المناظرات قد حفظت نسخة فارسیة منه فی خزانة الأمام علیه السلام فی النجف.
ثم جرت حروب اخری بین الشاه و الاتراک فی أرمینیة و أذربایجان، فأحرز انتصارا جدیدا علیهم فی صیف 1745 (1158 ه) و یذکر (لونکریک) فی هذا الشأن أنه أعقب هذا الانتصار بشروط صلح لا تطاق. فقد طلب الاعتراف بالمذهب الجعفری، و تسلیم (و ان) و کردستان و العراق بأجمعه و فی ضمنه العتبات المقدسة. ثم تنازل عن قسم من ذلک، لکنه أصرّ علی المطالبة بالنجف و کربلاء.
و کان نادر شاه قد بعث فی 1740 (1153 ه) بهدایا نفیسة الی العتبات المقدسة فی کربلاء و النجف و سامراء، و الی مرقد الامام الاعظم فی بغداد.
و قد أمر بتذهیب القبة و الأیوان، و المآذن، فی النجف سنة 1742، و لم ینته العمل فیها الا فی 1743، و هی السنة التی عقدت المناظرة فیها- المناظرة بین العلماء- و مما یجدر ذکره فی هذه المناسبة ان الترجمة الفرنسیة (المطبوعة سنة 1780) لرحلة الرحالة الالمانی (نیبور) فیها حاشیة تنص علی انه ورد فی (جهانکشای نادری) لمحمد مهدی خان المنقول الی الالمانیة بان الشاه أنفق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 220
مبالغ طائلة علی تغلیف القبة بالذهب. و ان السور قد أمرت بترمیمه الامبراطورة (کوهر شاه بکم) فأنفق علیه مبلغ یناهز المئة الف نادری، أو ما یساوی حوالی ستین الف و ست مئة «أیکو» ألمانی. و أنها أهدت مبخرة مرصعة بالاحجار الکریمة، و إناء من الذهب الخالص لیحرق فیه البخور فی الروضة المقدسة .
علی اننی لا بد لی من ان اذکر هنا إتماما للبحث حقیقة موقف نادر شاه من جمیع ما تفاوض به مع الاتراک عن النجف و المذهب الجعفری و ما أشبه. إذ یظهر مما یذکره (سایکس) فی کتابه عن تاریخ إیران، و النبذة الاخیرة المقتبسة من (لونکریک) فی البحث، ان نادر شاه لم یکن مخلصا فی إنفاقه علی الروضة الحیدریة و العنایة بها، و لا فی الدعوة الی اعتراف السنة بالمذهب الجعفری، و إنما اتخذ ذلک وسیلة لتثبیت عرشه و مرکزه فی إیران الشیعیة بعد ان اغتصبه من الصفویین. و یذهب سایکس الی أبعد من هذا فیقول انه حینما طلب الیه ان یقبل العرش الأیرانی (بعد ان خلع آخر الملوک الصفویة) سنة 1736 (1148 ه) اشترط فی قبوله إیاه علی القادة و الوجوه، بعد ان رفض الطلب عدة مرات، ان تبادر الامة الایرانیة الی نبذ العقیدة الشیعیة التی أدخلها مؤسس الدولة الصفویة الی ایران و تعود الی العقیدة السنیة. و یذکر کذلک ان المجتهد الاکبر الذی کان حاضرا فی حفلة التتویج نهض محتجا فی الحال، و أشار علیه بان یحصر جهوده فی شؤون الحکم و غیرها من الشؤون الدنیویة، لکن موته المفاجی‌ء أخرس المعارضة التی کان یمکن ان تصدر من زملائه. و یستنتج سایکس من ذلک ان التبدیل المطلوب فی العقیدة قد صودق علیه فی ذلک الجمع الحافل بصورة رسمیة فقط و لأجل ان یجعل نادر شاه هذا التبدیل الجدید للعقیدة شیئا مستساغا أعلن عن عزمه علی ان یضیف الی المذاهب السنیة الأربعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 221
مذهبا خامسا هو المذهب الجعفری نفسه. و قد کان یؤمل من ذلک بطبیعة الحال أن ینسی الأیرانیون ما قامت به الاسرة الصفویة المالکة من اعمال. و ربما کانت تداعب أطماعه کذلک أحلام السیطرة علی العالم الاسلامی و توحیده فی امبراطوریة إسلامیة واحدة تضم فی حظیرتها الممتلکات العثمانیة کلها أیضا.
یضاف الی ذلک ما نجده فیما کتبه سایکس فی مناسبة اخری من ان نادر شاه وافق فی المفاوضات التی اعقبت انتصاره علی کویر یللی باشا فی بغاوند علی التخلی عن مطالبته بالاعتراف بالمذهب الجدید، و عقد الصلح بالشروط التی کان قد تم الاتفاق علیها بین الدولتین فی أیام السلطان مراد من قبل.
و یضیف الی ذلک کله ما یکاد یکون غریبا جد الغرابة. فهو یقول فی أثناء تجلیله لشخصیة نادر بانه لما کان قد نشأ سنیا فی عقیدته فقد أظهر عداء شدیدا لرجال الدین الشیعة، و صادر الأموال الطائلة التی کانت ترد الیهم. و قد حاول توحید المسلمین بالغاء المذهب الجعفری لکنه فشل فشلا ذریعا فی مسعاه.
ثم راح یحلم بابتداع دیانة جدیدة، و من أجل هذا أمر بأن یترجم له توراة الیهود و انجیل المسیحیین (العهد الجدید).
و فی ربیع 1764 تربع علی دست الحکم فی ولایة بغداد الوالی عمر باشا بعد ان اشترک فی مؤامرة قتل فیها سلفه علی باشا الذی کان مملوکا من أصل فارسی. و فی أیام هذا الباشا ساءت العلاقة مع ایران التی کان علی رأسها الوصی کریم خان زند، و ازدادت التعرضات بالزوار الأیرانیون و فرضت الرسوم الفادحة علیهم، حتی انقطع سیل الزوار علی النجف و غیرها من العتبات. و فی هذا الشأن یقول (لونکریک) «.. غیر ان أسباب الاحتکاک و التصادم کانت تعمل طی الخفاء. فقد أثارت منذ سنین خلت حفیظة الأیرانیین المعاملات القاسیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 222
التی کان یعامل بها زوار العتبات المقدسة فی الفرات .. و کانت العتبات نفسها قد وصلت أخطار السفر فیها الی الأوج بالتعدیات المزعجة و التکالیف الجشعة التی کانت تفرض علی الزوار.» فکانت هذه من أهم الأسباب التی أدت الی التصادم بین البلدین المتجاورین، لأن کریم خان جرد فی الأخیر حملة قویة علی البصرة فی 1775 بقیادة أخیه صادق خان بعد ان بعث یهدد عمر باشا باحتلال العراق و یطالب برأسه ثمنا لتعدیاته المتکررة علی زوار النجف و سائر العتبات علی حد قول السر بیرسی.

مشاهدات الرحالة نیبور فی النجف‌

علی أن أهم ما یرد ذکر النجف فیه من کتابات الغربیین خلال تلک السنین ما کتبه الرحالة الالمانی الشهیر کارستن نیبور فی رحلته التی کتبها علی أثر تجواله فی البلاد العربیة و سائر انحاء الامبراطوریة العثمانیة آنذاک. فقد جاء الی العراق عن طریق الخلیج سنة 1765، بمناسبة اشتراکه فی بعثة استکشافیة علمیة جهزها فردریک ملک الدانیمارک و بعث بها الی هذه الجهات. و قد وصل البصرة فی خریف تلک السنة، و توجه منها الی الحلة فی احدی السفن الصغیرة بالطریق النهریة. غیر انه ما وصل (لملوم)، التی کان یقیم فیها شیخ الخزاعل حتی ارتأی ان یترک السفینة و یسلک الطریق التی تذهب من لملوم الی النجف الاشرف مارة (بالرماحیة) و بعد مسیرة سبع ساعات و نصف علی ظهور الخیل وصل (نیبور) و جماعته الی (الرماحیة) التی یقول عنها انها بلدة تحتل رقعة کبیرة من الارض، و تضم فی داخل أسوارها العالیة المبنیة باللبن ما یقرب من اربع مئة بیت. و قد شاهد فیها جامعا یؤمه الناس للصلوة، و حماما عاما بحال موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 223
جیدة جدا، و للبرهنة علی ازدهار الحالة الاقتصادیة فیها یشیر الی ان شیخ الخزاعل کان یتقاضی رسوما کمرکیة طفیفة علی البضائع التی کانت ترد الیها.
و قد توجه من الرماحیة الی النجف، التی یطلق اسم «مشهد علی» علیها لا غیره فی یوم 22 کانون الأول فوصل الیه مع خادمه و أحد (الملالی) بعد مسیرة سبع ساعات علی ظهور الخیل، خلال حقول و مزارع معمورة. و یذکر فی رحلته أنه صادف فی طریقه ما بین الرماحیة و النجف أربع جنائز تنقل للدفن فی وادی السلام، و هو یورد بالمناسبة احصاء عن عدد الجنائز التی کانت تصل الیها من مختلف الأنحاء، فیقول إنه کان یتجاوز الألفین فی السنة أی بمعدل سبع جنائز فی الیوم الواحد. و یضیف الی ذلک قوله ان الذین کانوا یریدون الدفن بالقرب من الروضة المقدسة کان علیهم أن یدفعوا مبالغ کبیرة من المال، و ان الذین یدفعون مبالغ معتدلة کان یسمح لهم بالدفن فی داخل أسوار البلدة. أما الذین کانوا یدفعون مبالغ زهیدة فقد کانوا یدفنون موتاهم فی خارج السور، و هؤلاء کان یتراوح ما یدفعونه عن الجنازة الواحدة بین أربعة و ثمانیة «ستوفرات». و کانت ستون ستوفر تعادل «تالیر» ألمانی واحد، و التالیر یساوی ثلاثة مارکات.
و بعد أن یأتی (نیبور) علی ذکر الروضة و الجامع و تعلق الشیعة المنتشرین فی البلاد الاسلامیة کلها بهذه البقعة المقدسة، یقول انها تقع فی منطقة مجدبة لا یتیسر فیها الماء بسهولة. ثم یشیر الی ان الماء الذی کان الناس یحتاجونه للطبخ و الاغتسال کانوا یستقونه من قنوات خاصة تمتد فی باطن الأرض، لکن الماء الصالح للشرب کان یؤتی به محملا علی ظهور الحمیر من مسافة ثلاث ساعات.
و مما یذکره عن عمران البلدة ان جهة من جهاتها یکثر فیها الکلس، الذی کان یحرق للحصول علی مادة البناء منه، و ان الخشب کان یندر وجوده و یرتفع ثمنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 224
فیها. و لذلک کانت البیوت تشید کلها بالطابوق و الجص و تعقد سقوفها علی شکل قبب و عقود، فتکون متینة البنیان عادة. و یشیر کذلک الی وجود منطقة منخفضة متسعة الأرجاء فی خارج البلدة، یکسوها الملح، کان یسمیها الناس «بحر النجف» و هو الاسم الحالی نفسه بطبیعة الحال.
و مما یتطرق الیه نیبور عن طبقات السکان قوله ان بعض سکانها کانوا من أهل السنّة، و إن العلاقة بین أهل السنة و الشیعة فی النجف و کربلا کانت علاقة حسنة الی حد غیر یسیر. علی انه یقول من جهة أخری ان الشیعة کان لا بد لهم من ان یلتزموا جانب الهدوء لئلا یغضب علیهم الباشا فی بغداد فیعمد الی منع الزوار الإیرانیین من زیارة العتبات المقدسة، أو یفرض أتاوی باهظة علیهم.
و یقدر (نیبور) عدد الزوار الذین کانوا یقصدون العتبتین المقدستین فی المشهدین یومذاک بحوالی خمسة آلاف زائر فی السنة. و مع ان العدد یبدو قلیلا للقاری‌ء فی یومنا هذا، فانه غیر بعید عن الحقیقة بالنسبة لظروف السفر الشاقة و غیرها فی تلک الأیام الخالیة. و مما یذکره (نیبور) فی هذا الشأن کذلک ان الزیارة لیس لها أیام معیّنة کما هی الحالة فی الحج الی مکة المکرمة، و مع هذا فان الشیعة یعتقدون بأن دعاءهم تزداد الاستجابة له فی أوقات و ایام خاصة. و لذلک فهم یؤدون الزیارة فی أیام رمضان المبارک، و العاشر من محرم الحرام، و السابع و العشرین من رجب، و غیر ذلک.
و لم یفت (نیبور)، و هو الرجل العالم المدقق، ان یرسم مخططا خاصا لمشهد علی کما یسمیه یشیر فیه الی معالم البلدة المهمة و شکلها العام فهو یشیر قبل کل شی‌ء الی أنها کانت فی تلک الأیام محاطة بسور غیر عامر یمکن الدخول الی البلدة من عدة فجوات فیه، و ان هذا السور کان فیه بابان کبیران هما «باب المشهد» و «باب النهر» و باب ثالث یسمی «باب الشام» لکنه یقول ان الباب الأخیر کانت قد سدت فتحته بجدار خاص من دون ان یذکر السبب فی ذلک. و یضیف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 225
الی هذا قوله ان الشکل الخارجی للبلدة یشبه شکل مدینة القدس، و ان سعتها تقارب سعة القدس أیضا.
و یقول کذلک ان النجف کان فیها، عدا الجامع الکبیر المشید حول الضریح المطهّر، ثلاثة جوامع صغیرة أخری. و قد عمد (نیبور) الی تخطیط رسم خارجی عام للجامع الکبیر، کما یسمیه، و هو یذکر ان سقفه قد صرفت مبالغ طائلة علی تزیینه و طلیه بالذهب بحیث لا یمکن ان یوجد مبنی آخر فی العالم أجمع یضاهیه بکلفة تسقیفه الباهظة. و لا شک انه یقصد بذلک القبة العظمی المذهبة التی یقول ان نادر شاه الطاغیة قد أنفق تلک المبالغ علیها لیکفر بها عن الأعمال الشریرة التی ارتکبها فی إیران. فقد بلغت کلفة لوحة النحاس المربعة بالذهب مبلغا یزید تومان ذهب واحد (عشر تالیرات ألمانیة). و هو یشید کذلک بالمنظر الأخاذ الذی یبین للناظر الی القبة المذهبة، و لا سیما حینما تسقط أشعة الشمس علیها، او حینما تبین للرائی من بعد ستة أمیال ألمانیة علی حد قوله.
و مما یذکره بالمناسبة ان القبة کان یعلو قمتها «کف علی» بدلا من الهلال الذی کان یشاهد فوق القباب الموجودة فی الجوامع الترکیة عادة.
و یستمر فی وصف المظاهر الخارجیة فیقول ان الجامع الکبیر هذا کان محاطا بساحة واسعة یقام فیها السوق کل یوم. و کان هناک بین یدی الباب الکبری شمعدان کبیر جدا یحمل عددا کبیرا من الأضواء. و قد کانت تطل علی هذه الساحة من جمیع الجهات بیوت السادة و الخدم التابعین للحضرة المطهرة، الذین کان یتجاوز عددهم المئة علی ما قیل له.
اما بالنسبة لداخلیة الحضرة و زینة جدرانها و سقوفها فهو یقول انه لم یستطع التقرب کثیرا من الجامع و الدنو منه بحیث یشاهد شیئا منها بنفسه. لأنه کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 226
یخشی ان یجبر، لو فعل ذلک، علی اعتناق الاسلام جریا علی العادة التی کانت متبعة مع غیر المسلمین فی هذا الشأن، و لم یکن یرغب ان یکلفه حب الاستطلاع مثل هذا الثمن الغالی علی حد قوله. علی انه یذکران (الملّا) رفیقه فی السفر، و عددا من شیعة النجف، قد أکدوا له ان الحضرة کان فیها أشیاء ثمینة جدا ینبهر بها الناظرون. فقد کان هناک عدا القبة المذهبة و الآیات القرآنیة المطعمة بالمیناء و کتابات کثیرة مکتوبة بحروف من ذهب، و عدد غیر قلیل من (الشمعدانات) الفضیة و الشمعدانات الذهبیة المطعمة بالأحجار الکریمة. و یشیر ما خاصة إلی بصورة قیل له عن خنجر من الطراز الهندی کان معلقا فی شباک الضریح المطهر، فأنه کان مرصعا بأحجار کریمة نادرة لا تقدر بثمن. و قد قیل له ان أحد أسلاف (أورنک زیب) أمبراطور المغول فی الهند کان قد أهداه علی سبیل التبرک قبل بضع مئات من السنین. لکن الملاحظ فی التاریخ ان أورنک زیب (و هو شاه جهان) نفسه تولی الحکم فی 1659 و توفی فی 1707، و ان امبراطوریة المغول قد أسسها (باببر شاه) فی الهند سنة 1529. و لم یغفل نیبور عن الأشارة فی رحلته الی انه کان من المعتاد فی کل سنة ان یوفد و الی بغداد رجلا من کبار ضباطه الی النجف الأشرف للتحقق من وجود هذه الأعلاق النفیسة و التحف الثمینة التی کان یؤتمن علیها الکلیدار، و یسال عنها الباشا الوالی کذلک.

نیبور فی الکوفة

و یظهر من رحلة نیبور انه کان قد قصد الکوفة أیضا و زار معالمها خلال مدة وجوده فی النجف. فانه یشیر الی أهمیة الکوفة القدیمة فی تاریخ الاسلام، و یقول انها کانت خالیة من السکان تقریبا حینما زارها. و قد شاهد فی طریقه لیها مجری کری سعده الجاف، الذی یعتقد انه (الیالاکوباس) الذی حفره سکان العراق الأقدمون. لکن الذی لفت نظره بطبیعة الحال مسجد الکوفة لذی قتل فیه الأمام علیه السلام. و هو یقول ان هذا الجامع الکبیر لم یبق منه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 227
شی‌ء یذکر سوی الجدران، و بعض المعالم المشهورة، و قد عمد الی رسم مخطط خاص له نشره فی الرحلة و أشار فیه الی الاسماء کما استقاها من الدلیل النجفی الذی کان بصحبته.
و من المواقع التی یشیر الیها فی الجامع باب الفیل، و السفینة، (و السقاخانه) و الموقع الذی کان الأمامان الحسن و الحسین علیهما السلام یصلیان فیه، و المحراب الذی کان یصلی أزاءه الأمام موسی الکاظم علیه السلام. کما یشیر الی الاعمدة الدالة علی مقامات الأنبیاء عیسی و موسی و ابراهیم الخلیل، و الموضع الذی من عادة الأمام السجاد علیه السلام ان یصلی فیه، و المکان الذی شید فیه نوح أول بیت له بعد مغادرته السفینة علی ما یعتقد، و مقام الأمام الصادق علیه السلام، و ضریحی مسلم بن عقیل و هانی بن عروة. و قد علم نیبور من الکتابة التی کانت منقوشة علی البناء المشید فوق قبری مسلم بن عقیل و هانی ان (محمدا بن محمود الرازی) و (أبا المحاسن بن أحمد التبریزی) هما اللذان شیداه سنة 681 للهجرة.
و مما یذکره أیضا ان السیدة عادلة خاتون بنت أحمد باشا الحاج حسن باشا، و زوجة الوالی سلیمان باشا أبی لیلة، و کانت قد توفیت قبل وصول (نیبور) ببضع سنوات فقط، هی التی شیدت جدران مسجد الکوفة من ناحیة الشمال الغربی، و هی التی أنشأت علی حسابها الخاص بنایة صغیرة ذات قبة قرب الجامع تخلیدا لذکری النبی نوح علیه السلام. و قد زار (نیبور) جامع السهلة أیضا؛ و هو یقول ان الدلیل قص علیه قصة تختض بالجامع لم یفهم شیئا منها.
و قد غادر (نیبور) النجف فی یوم 25 کانون الأول 1765 متوجها الی الکفل بعدان بقی فیها ثلاثة أیام. و آخر ما یذکره فی هذا الشأن ان (مشهد علی) لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 228
یصل الیه أی أوربی قبله هو. و لا شک انه مخطی‌ء فی قوله هذا لأن الرحلات المطبوعة تشیر الی ان عددا من الرحالین الأوربیین قد زاروا النجف قبله أو مرّوا بها، و أهمهم تکسیرا البرتغالی 6 آب (1604) و (بیترو دیلافاله) الأیطالی (1619) و تافیرنییه الفرنسی (1639). لکنه فی الحقیقة کان أحسن من کتب عنها، و ان المعلومات التی أوردها کانت أوسع مما کتبه غیره کما یلاحظ مما أوردناه فی هذا البحث.

هجمات الوهابیین‌

و فی الربع الأخیر من القرن الثامن عشر انتشرت الدعوة الوهابیة فی نجد و ما جاورها من الأصقاع المتاخمة للعراق، و صار الوهابیون بما عرف عنهم من عنف و تعصب یهاجمون المناطق المطلة علی البادیة من هذه البلاد بین حین و آخر خلال مدة طویلة من الزمن. و کان نصیب النجف و کربلاء، بحکم موقعهما القریب من البادیة و صبغتهما الدینیة المعروفة و ما فیهما من قبب و نفائس، شیئا غیر یسیر من هجماتهم المدمرة و غزواتهم الصاعقة العنیفة.
و کان أعنف ماشنه الوهابیون من غزوات علی العراق الغزوة التی هاجموا فیها مدینة کربلا فی یوم الغدیر من سنه 1216 للهجرة، المصادف للیوم الثانی من نیسان 1081 حینما کان معظم سکانها یؤدون الزیارة فی النجف. و یقول المستر (لونکریک) فی هذا الشأن ان وصول الکهیة المتأخر الی کربلا لم یجدها نفعا و لکنه قصد النجف بعد ذلک و نقل ما کان فی خزینتها من نفائس و تحف الی بغداد خوفا من ان یعود الوهابیون الیها فینهبوها کما فعلوا فی غزوتهم لکربلا، و الکهیة المقصود فی هذه الروایة هو علی باشا کهیة و الی بغداد المملوک سلیمان باشا الکبیر. و تقول مراجع أخری ان الوالی أمر بنقل النفائس التی کانت موجودة فی خزانة النجف الی خزانة الامام موسی الکاظم علیه السلام، و عهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 229
بذلک الی الحاج محمد سعید بک الدفتری. و أمر کذلک بتعزیز حامیة النجف فأبقیت فیها ثلة من عسکر الموصل و شرذمة من العقیلیین.
و بعد هذا الحادث بسنتین أی فی 1803 م (1218 ه)، هاجم الوهابیون النجف، و شنوا علیها غزوة عنیفة. و یقول المستر لونکریک فی هذا الشأن ان الغزو الوهابی للنجف فی الأیام الأخیرة من تلک السنة کان بقوة أشد من القوی الاعتیادیة، و ان قبة علی بن أبی طالب بقیت ثابتة الأرکان فی داخل سورها المنیع و حینما خفت الیها قوات علی باشا الکهیة عاد الغزاة من حیث أتوا و اختفوا عن الانظار. و المعروف فی المراجع النجفیة الموثوقه ان الوهابیین حینما وصلوا الی البلدة وجدوا أبواب السور مغلقة، و من بقی فیها من السکان قد تهیأوا للدفاع عنها حتی النفس الاخیر. و قد تولی هذا الدفاع و الاشراف علیه سماحة الشیخ جعفر کاشف الغطاء بنفسه، و اشترک فیه عدد من العلماء و الاعلام و غیرهم.
و فی ربیع 1806 هاجم الوهابیون العراق من عدة جهات من جملتها النجف کذلک. و مما یذکر لونکریک بهذه المناسبة ان جماعاتهم الغازیة ظلت تغزو قری الحدود من الطف و لکن سور النجف القدیم
من غیر ان تنال نجاحا فی غزواتهم. و کان سکان البلدان من الزبیر الی السماوة مع حلفائهم من القبائل یصدون هجماتهم بسهولة. و قد أوشکوا ان ینجحوا فی غارتهم المفاجئة علی النجف الاشرف لو لا أن عاجلهم النجفیون من السور فکسروهم شر کسرة . و یؤید ذلک ما جاء فی (تاریخ العراق بین احتلالین) من ان سعودا سار بجیشه الی المشهد و أحاط بها ثم أمر رجاله بتسوّر السور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 230
و مهاجمة البلد. لکن وجود الخندق العمیق حوله حال دون نجاحهم فی ذلک.
و قد جرت مناوشات عنیفة و قتال بین الطرفین و رمی الوهابیون من السور و أبراجه فقتل عدد غیر یسیر منهم فردوا علی أعقابهم .
و قد کانت الهجمات الوهابیة المتکررة علی النجف هذه و استدامة الخطر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 231
الناجم عنها، سببا مهما من الاسباب التی أدت الی انتظام سکانها فی جماعات و أحزاب تستهدف تنظیم الدفاع عن البلدة و العمل علی صد الخطر الوهابی عنها.
و کانت اهم هذه الجماعات جماعتی الزکرت و الشمرت المعروفتین. و قد تطورت الاحوال بین هاتین الجماعتین بمرور الزمن و اشتد النزاع بینهما زمنا طویلا. و الی ذلک یشیر (لونکریک) أشارة مختصرة یفهم منها ان هذا النزاع العریق فی القدم قد اشتد فی أیام الوالی سعید باشا (1815) حتی انقلب الی عراک علنی. و تطور الی أکثر من هذا بعد ذلک حتی تحدی فیه عباس الحداد رئیس الزکرت الحکومة، و ظلم الناس و اعتدی علیهم، فاضطر داود باشا فی السنة الثانیة من حکمه (1818 أو 1234) الی تجرید قوة خاصة لتأدیبه. و یقول صاحب دوحة الوزراء ان صالح أغا الاندرونی انتدب لهذا العمل و کلف بأن یأتی بعباس الحداد حیا، غیر انه تعذر علیه ذلک فقتله فی معرکة جرت بینه و بین الجیش الترکی و قتل صاحبه (دبیس) معه، ثم جی‌ء برأسیهما الی بغداد فانتهت الفتنة بین الزکرت و الشمرت. و یؤید ذلک فی مذکراته التی کتبها بالفرنسیة تاجر أرمنی من أهالی استانبول کان مقیما ببغداد آنذاک یدعی أو انیس مرادیان .

النجف فی 1824- 1852

و فی سنة 1824 (1240 ه) مر المسیو فونتانییه ، نائب القنصل الفرنسی فی البصرة یومذاک، ببغداد و زار و الیها داود باشا. و قد کتب فی وصفها ما یشیر به الی النجف کذلک؛ فهو یقول «.. إن بغداد و قد مررت بها فی 1824 لم تکن بغداد الموصوفة فی الف لیلة و لیلة و إنما لها طابعها الشرقی، فانها اصبحت مجمعا للمسلمین نظرا لوجود ضریح الأمام علی علی مسافة منها، و لا شک ان وجوده موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 232
یدعو شیعته الی زیارته و القدوم الیه .. و یقال ان مئة الف اجنبی یمرون سنویا بمدینته (أی ببغداد) للذهاب الی زیارة ضریح الامام علی. و هذا الازدحام یجعل من أیة نقطة فی البر وسطا تجاریا کبیرا» و لا بد من الاشارة بهذه المناسبة هنا الی السائح الفرنسی أدریین دوبریه کان قد مر ببغداد أیضا فی 1807 و أقام فیها مدة من الزمن فوصف أشیاء کثیرة فیها بالتفصیل. و کان من جملة ما أشار الیه قوله ان عدد الزوار الذین کانوا کانوا یمرون ببغداد سنویا فی طریقهم الی الزیارة فی النجف و کربلاء کان یتراوح بین خمسة عشر الف و عشرین الف نسمة، و کان مرورهم من بغداد بهذا الشکل یؤثر علی تجارتها و مصنوعاتها بطبیعة الحال . غیر ان هذه الاحوال لا بد من أن تکون قد تبدلت حینما داهم بغداد و العراق الأوسط و الجنوبی بأجمعه الطاعون الکبیر فی 1831، فدمرها و قضی علی معالم الحیاة فیها.
فتسنی لعلی رضا باشا علی أثره القضاء علی داود باشا و تنحیة الممالیک عن الحکم الی الابد. و قد زار بغداد هذه الفترة الرهیبة، أی فی 1834، الرحالة الانکلیزی المستر بیلی فریزر فشهد آثار الخراب فیها و وصف فی رحلته الطاعون و ما خلفه فی أرجائها وصفا مخیفا . و مما یقوله فریزر فی الرحلة عن زوار العتبات المقدسة ان الطرق ما بین بغداد و بینها قد سدت فی وجوههم، و انهم صاروا یتعرضون للسلب و النهب بکثرة و بصورة مؤسفة. و هو یقول کذلک ان الکثیرین منهم کانوا یجازفون بالسفر الیها فیعودون الی بغداد بعد أیام معدودة و قد سلبوا الی حد العری، و من دون ان یتسنی لهم الوصول الی العتبات. و یشیر إشارة عابرة الی انقطاع حبل الامن فی النجف نفسها فی أیام داود باشا و اضطراره الی سوق الجیش علیها. و لا شک أنه یقصد بذلک عصیان عباس الحداد و قتله مما أتینا علی ذکره قبیل هذا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 233
و حینما تولی الحکم فی بغداد نجیب باشا (1842) کانت الخطة التی انتهجها فی تصریف شؤون البلاد تستهدف القضاء علی العشائر من دون رحمة و تفکیک کیانها بقدر المستطاع؛ و لذلک عرفت أیامه بالحملات العشائریة المتتالیة، و قد سار فی احدی حملاته هذه الی النجف کذلک فقمع اضطرابا کان ناشبا فیها علی حد قول المستر (لونکریک)، و کان ذلک فی عام 1845. علی اننا لاحظنا ان بعض المراجع العربیة عن مثل (ماضی النجف و حاضرها) تجعل سیر نجیب باشا لقمع الأضطرابات فی النجف سنة 1258 ه (842)، أی بعد ان انتهی من تنکیله بکربلاء و سکانها. لکن (لونکریک) یعود فیذکر حادثة مماثل فی النجف یومذاک لم تکن أحسن مما کانت فی کربلاء، لان فریقیها المتخاصمین، و هما الزکرت و الشمرت، لم یعبأ بالباشا و لا بالسلطان، و کان کل شی‌ء فی المدینة یتم بموجب فتاوی المجتهدین النافذة و رغبات الرؤساء و قد أدی نزاع اعتیادی فی البلدة سنة 1852 الی ثورة فخفت القوات الترکیة الیها؛ و بعد عراک شدید فی الشوارع دام یوما واحدا تمکن الاتراک من انزال العقاب بالبلدة. و وقع مثل هذا الحادث فی 1854 کذلک، حینما بعث الوالی نامق باشا ضابطا من قبله فدخل البلدة بالرغم من قوة الفریقین الموحدة.

النجف فی رحلة لوفتس‌

و فی 1853 زار النجف رحالة انکلیزی یدعی لوفتس، و قد کان عضوا من أعضاء لجنة الحدود التی تجولت فی منطقة الحدود العراقیة الأیرانیة فی 1849 فعملت علی تثبیتها. و فی سفرة ثانیة الی العراق لأغراض علمیة آثاریة تجول فی البلاد فکتب رحلته المعروفة فی وصف الموصل فبغداد فالفرات الأوسط فالبصرة فعربستان. و قد جاء الی النجف الأشرف فی صیف 1853 من الحلة و فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 234
معیته درویش باشا متصرف الحلة و طاهر بک الحاکم العسکری فیها، مع ثلة من الجنود الاتراک. و لذلک نراه یذکر شیئا عن الکوفة التی وصل الیها من الکفل قبل وصوله الی النجف بطبیعة الحال. فیورد عددا من الروایات عنها، منها، أن موقع الکوفة کان هو الموضع الذی نزل فیه جبرائیل الی الأرض فصلی للّه عز و جل، و منه انبثقت میاه الطوفان الطاغیة علی عهد نوح علیه السلام فاستقل فلکه هربا منها. و یزعم العرب بالأضافة الی ذلک ان الحیّة حینما أغوت حواء نفیت الی هذا المکان عقوبة لها؛ و من هذا نشأت فکرة اتصاف أهالی الکوفة بالمکر و الخداع. و بعد ذلک یأتی علی ذکر الکوفة فی أیام العرب، و أهمیة الخط الکوفی، و مقتل الأمام علیه السلام فیها من قبل الخوارج؛ ثم یشیر الی أنها لم یبق منها فی وقت زیارته لها (أی فی 1853) سوی عدد من التلول و بقایا جدار من جدرانها مع أنها کانت تمتد علی ما یقال الی ما یقرب من کربلاء (مسافة 45 میلا).
و حینما ینتقل الی ذکر النجف یقول انها أسست علی أنقاض مدینة الحیرة القدیمة، التی نشأت الأسر العربیة المالکة المعروفة فیها، و لا شک أنه یشیر بذلک الی المناذرة. و کانت الحیرة علی حد قوله قد التجأ الیها خلال القرن الثالث للمیلاد کثیرون من النصاری الیعاقبة هربا من الاضطهاد و الفوضی التی انتابت أحوال الکنیسة. و بهذه الوسیلة اعتنق ملک الحیرة و رعایاه الدیانة المسیحیة قبیل مولد النبی محمد (ص). و یتطرق الی فتح خالد بن الولید للحیرة و یقول انها فتحت بسهولة بعد قتل ملکها فی المعرکة، و بذلک فرضت علیها الجزیة التی کان مقدارها (7000) قطعة ذهب فی السنة. و تعد الحیرة أول بلد فتحه المسلمون خارج الجزیرة العربیة؛ کما تعد الجزیة التی فرضت علیها أول جزیة فرضوها علی أی بلد من البلاد الأجنبیة.
و یصف لوفتس موقع النجف الجیولوجی و شکلها العام کذلک فیقول انها تقع فوق هضبة من الحجر الرملی المیال الی اللون الاحمر، و ترتفع الی أربعین قدما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 235
فوق السهول المحیطة بها. و قد وجد أسوارها عامرة ممتازة، یحیط بها خندق عمیق خال من الماء. ثم یتطرق الی بحر النجف فیقول انه یمتد نحو الجنوب الشرقی الی مسافة أربعین میلا، و ینشأ من نهایته السفلی نهران یقال لهما: شط الخفیف(Khufif) و شط العطشان. و حینما یطغی الفرات طغیانه السنوی المألوف یفیض الی بحر النجف فتصبح المسافة الممتدة بینه و بین السماوة کلها قطعة واحدة من المیاه، یطلق علیها «خور اللّه» أما ماء هذا البحر فیکون عذبا صالحا للشرب حینما تصب فیه میاه الفرات، و یصبح ملحا أجاجا حینما تنقطع عنه، و عند ذلک یضطر الاهالی الی جلب الماء من الکوفة.
و یبدو مما کتبه لوفتس انه دخل الصحن الشریف بمعیة درویش باشا و طاهر بک؛ و بحراسة من الجنود الاتراک المدججین بالسلاح. و هو یقول فی هذا الشأن انه کان من النادر ان تسنح لای مسیحی الفرصة للدخول الی أماکن عبادة المسلمین و لا سیما فی مکان مقدس مثل مشهد الامام علی. و حینما أبدی فکرة الدخول الی طاهر بک وجد تشجیعا منه علی ذلک. و لما مرت جماعتهم بالسوق المؤدی الی الصحن کان الناس علی عادتهم الشرقیة ینهضون للتحیة؛ فیردونها لدرویش و طاهر لکنهم کانوا ینظرون شزرا الی (الأفرنج). و قد تجمع حشد من الناس وراءهم، و حینما قاربوا باب الصحن کانت النظرات التهدیدیة و الهمسات الخافتة تدل علی انهم کانوا أناسا غیر مرغوب فیهم. لکن الجند اصطف فی مدخل الصحن فاجتازوا من بینهم دون تردد.
و یقول لوفتس انه لا یمکن ان یصف الشعور الذی یخالج الناظر الی جمیع ما کان فی داخل الجامع من زینة فی البناء و تناسق فی الالوان، لان ما یراه کان لا بد من ان یولد انطباعا خالدا فی نفسه. و یصف شکل الصحن الشریف و الضریح المطهر الموجود فی وسطه، مشیرا الی زینة القاشانی المحتویة علی الرسوم المتناسقة للطیور و الأوراق النباتیة و الکتابات المذهبة ثم یذکر ان أرکانا ثلاثة من ارکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 236
الصحن کانت تقوم فوقها مآذن ثلاث کسیت الاثنتان الأمامیتان منها بالآجر المغلف بالذهب الذی یکلف تذهیب الواحدة منه مبلغ تومان واحد، أو ما یعادل باونین استرلینیین. و هذه مع القبة کانت تؤلف منظرا فخما یعجز عنه الوصف.
و کانت القبة الکبری المکسوة بالذهب و هی تتوهج فی نور الشمس تبدو للرائی من بعید و کأنها تل من الذهب یقوم من البراری الممتدة من حوله. کما کانت توجد بین یدی الضریح المطهر برکة من النحاس تزید فی جمالها أشعة الشمس المتراقصة فوق سطحها الصقیل اللماع الذی یکاد یحاکی سطح القبة نفسه فی بهائه و تلألؤه.
و لم یدخل لوفتس الی الحضرة، لکنه یذکر ان داخلیتها کانت علی النمط نفسه من البهاء و الرونق الاخاذ. لأنه علم ان أرضیتها کانت مبلطة بقطع منتظمة من الأبریز المصفی، و ان عددا غیر یسیر من الأعلاق الفنیة المهداة من المسلمین المؤمنین کانت تزین الداخل کله.
و یذکر کذلک ان الصحن کانت تباع فیه أشیاء و حاجات کثیرة، فیقارن ذلک بالمعبد فی بیت المقدس الذی دخل الیه المسیح قبل ثمانیة عشر قرنا فوجد الناس یبیعون فیه الثیران و الأغنام، و الصرافین یتاجرون بالعملة. و قد لفتت نظره علی الأخص طیور الحمام الکثیرة کذلک.
و یقول لو فتس انه حینما خرج مع جماعته بعد مدة غیر طویلة لاحظ فی السوق ان الوجوه کانت مکهفرة و الجو مکهربا، فأدرک السبب الذی حدا بطاهر بک الی أن یأتی بالجند المسلح معه.
و لقدسیة النجف هذه کان یقصدها الزوار الشیعة من جمیع الانحاء علی حد قوله، و علی هؤلاء کانت تعیش البلدة بأجمعها. و هو یقدر معدل عدد الزوار الذین کانوا یفدون علیها فی کل سنة بمقدار (000، 80) شخص، کما یقدر عدد الجنائز التی کان یؤتی بها للدفن بشی‌ء یتراوح بین (5000) و (8000) جنازة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 237
فی السنة و کانت الجثث تنقل من بعید علی ما یقول بصنادیق مغلفة باللباد الخشن، و تحمل علی ظهور البغال، و لذلک کانت کل قافلة تصل الی بغداد من ایران علی الأخص لا بد من ان یکون من بین أحمالها عدد من هذه الصنادیق التی کان منظرها مألوفا فی الطرق المؤدیة الی النجف.
و کانت الأجور التی تفرض علی دفن الجنائز تتراوح ما بین عشرة توامین و مئتی تومان (خمسة الی مئة باون استرلینی)، و اکثر من ذلک أحیانا. و کثیرا ما کانت الجنائز تتکدس خارج السور مدة من الزمن حتی یتم الانفاق علی الأجرة التی یتحتم علی الاقارب دفعها.
ثم یذکر ان توارد الزوار علی النجف بکثرة قد أغناها غناء غیر یسیر فی تلک الأیام، کما یستدل من التوسع التی طرأ علیها فی تلک السنین و السور الجدید الذی أنشی‌ء لها. و کذلک یشیر الی انه وجد أن نهرا کان یحفر لا یصال الماء الی البلدة من الفرات، و حل مشکلته، و الی فضول أهالی النجف و تجمعم حول الأجانب القادمین من الخارج الی حد أن البعض منهم کان یأتی بأهله و نسائه للتفرج علیهم.

فی أواسط القرن التاسع عشر

و مما یذکره ریتشارد کوک صاحب کتاب (بغداد مدینة السلام) عن النجف فی هذه الحقبة من السنین ان الحکومة الترکیة مدت شبکة التلغراف الیها فربطتها و کربلاء بخط الفرات التلغرافی. و کانت قد تعاقدت فی 1857 مع الحکومة البریطانیة علی قیام المهندسین الانکلیز بانشاء خط تلغرافی علی نفقة الحکومة الترکیة. و بعد أربع سنوات ربطت بغداد بالعالم الخارجی بواسطة الخطوط التلغرافیة، ثم أضیفت خطوط اخری فی السنوات التی أعقبت تلک موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 238
المدة ما بین بغداد و الخلیج عن طریق الفاو، و ما بینها و بین خانقین. و کان الفاو یمر بطریق الفرات، فمد فرع منه الی النجف و کربلاء
و قد زار بغداد فی 1855، أی فی عهد الوالی کوزلکلی رشید باشا، سائح المانی مشهور و مستشرق یجید العربیة و قواعدها، یدعی (بیترمان) فأقام فیها مدة تناهز الخمسة أشهر، و کتب کثیرا عما شاهده فیها فضمنه رحلته التی طبعها بالالمانیة فی لا یبزیغ سنة 1864. و هو یذکر فیها ان زوار النجف و غیرها من العتبات المقدسة کانوا یتواردون من إیران الی بغداد باستمرار، و قد بلغ عددهم فی تلک السنة حوالی ستین ألف زائر کما یستنتج من عدد التذاکر التی أصدرتها السلطات التی کانت مسؤولة عن الحجر الصحی یومذاک فی خانقین.
و فی 1869 (1286 ه) تعین فی ولایة بغداد الوالی المصلح مدحت باشا، فعمل علی تجدید الولایة و حکومتها و ادخال الحیاة العصریة الی البلاد. غیر أنه اصطدم بأشیاء کثیرة کانت تحول دون اقتران الکثیر من أعماله بالنجاح الذی یعود بالمنفعة علی البلاد، فقد کانت العقبة الکبری فی طریقه هذا عدم تیسر المال اللازم لمشاریعه، و لذلک فکر فی جمعه بطرق و وسائل شتی. فکان من جملة ما فکر به فی هذا الشأن ان یبیع التحف و النفائس الموجودة فی خزانة النجف و غیرها من العتبات المقدسة، غیر انه لم یستطع تحقیق ذلک بطبیعة الحال. و یقول المستر لونکریک فی هذا المقام انه لم یکن قادرا علی تحقیق مشروع کان عزیزا علیه، و هو بیع خزائن النجف و إنفاق مبالغها علی الأشغال العامة. و یمکن ان نذکر بالمناسبة ما ورد فی المراجع العربیة عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 239
بعض محاولاته المماثلة فی الاصلاح. فقد أعلنت الحکومة الترکیة علی عهده فی أوائل محرم الحرام سنة 1287 اعلانا یمنع فیه اخراج مواکب العزاء الحسینیة المعتادة و یحدّد نطاقها. و حینما قدم الی بغداد ناصر الدین شاه فی طریقه لزیارة النجف و سائر العتبات سنة 1870 (28 شعبان 1287) مکث فی العراق حوالی ثلاثة أشهر، و قد جرت خلال هذه المدة مفاوضات بینه و بین مدحت باشا حول الکثیر من المسائل التی کانت معلقة بین البلدین. فکانت من جملة النقاط التی تم الاتفاق علیها قضیة نقل الجثث من مسافات بعیدة و دفنها فی النجف الأشرف.
فقد اشترط فی ذلک، دفعا للمحاذیر الصحیة، ان لا یسمح بنقل الجثث للدفن الا بعد ان تکون قد قبرت فی مواطنها أولا و مرت علیها هناک سنة واحدة علی الأقل .
و بمناسبة ذکر الجنائز و الزوار أری من المناسب ان أثبت هنا ما ذکرته الرحالة الفرنسیة المعروفة مدام (دیو لا فوا) فی رحلتها، و کانت قد جاءت الی العراق فی ولایة تقی الدین باشا الثانیة علی العراق سنة 1881 (1299 ه) مع زوجها عالم الآثار الفرنسی المسیو (مارسیل دیو لافوا.) فهی تقول عن الجنائز «.. و فی حوالی الغروب ظهرت من بعید بنایة کبیرة من الآجر هی خان کبیر شیده المحسنون بجهودهم و مالهم، و فیه بضع حجر واسعة معدة لاستراحة زوار العتبات المقدسة ... و لما کان الجو باردا لم نر بدا من اختیار إحدی تلک الحجر للنزول فیها، و لکننا ما کدنا نترجل من جیادنا حتی علت الی أنوفنا عفونة أو شکت ان تزکمها، و لفتت نظری أشیاء مرکومة بعضها فوق بعض فتقدمت منها أتفحصها، و ما کدت أمد یدی حتی ارتدت إلیّ و کأنها قد مسها تیار کهربائی و اضطربت أشد الاضطراب، فقد کانت هذه الأشیاء المحترمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 240
المرکومة جثث موتی بعضها قد لفت فی بساط أو سجاد و حزمت بحبال و بعضها فی توابیت خشب یبدو من بین شقوقها اللحم الناشف المسود لهؤلاء الموتی، و علی أثر هذا خرجنا سریعا تارکین هذا الخان الغریب و نزلنا فی محل یبعد عنه کثیرا لنقضی فیه لیلتنا .. و علی رغم ابتعادنا عن الخان بمسافة لیست قلیلة کانت رائحة العفونة تضایقنا کلما هب النسیم من جانبه .. و الواقع ان دفن الموتی فی النجف و سائر المراقد المقدسة أصبح عادة لفریق من المسلمین منذ أوائل عهد الأسلام ..»
و تقول عن الزوار أنهم کانوا یتواردون من إیران علی بغداد فی طریقهم إلی الکاظمیة و النجف، و کانوا عند دخولهم الیها من بابها الشرقی یتعرضون الی الکثیر من عبث الأطفال و هرجهم، و الی الرمی بالحجارة فی أغلب الأحیان.
و مع جمیع الأذی الذی کان یصیبهم من ذلک کانوا لا یفکرون فی یوم من الأیام بتقدیم الشکوی الی السلطات الترکیة أو اقامة أیة دعوی فی المحاکم، لأنهم کانوا؟؟؟ انهم لا یحصلون علی نتیجة ملموسة یتجنبون المصاعب بها.
فالمسؤولون الأتراک کانوا یشجعون هذه الأعمال علی حد قولها، و کانت کل شکوی تقدم من الزوار الیهم تقابل بالهزء و السخریة.

جون بیترز فی النجف‌

علی ان أهم من کتب عن النجف من الغربیین فی تلک السنین الاستاذ الأمر بکی (جون بیترز) رئیس بعثة بنسلفانیا للتنقیب عن الآثار القدیمة فی نفّر (منطقة عفج)، الذی زارها فی سنة 1890. فقد جاء الی النجف من السماوة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 241
بعد أن کتب منها الی (شاؤول) الصراف الیهودی فی الحلة بتدبیر شؤونه المالیة و موافاته فیها. و هو یروی قبل أن یذهب الی النجف حادثا یتعلق بوضع الزوار فی الطرق العامة فی تلک الأیام. فبینما کان المستر بیترز یزور قائمقام السماوة خلیل بک فی دائرته الرسمیة إذ دخل علیهما رجل من زوار الهنود و هو نصف عاری، و أخذ یشکو بتوسل و خضوع ما فعل به رجال الأمن «الضابطیة»، فقد مسکوه فی قارعة الطریق و سلبوا منه جمیع ما کان عنده من مال و معظم ألبسته و حاجاته.
و نظرا لمخاطر الطریق البری ما بین السماوة و النجف قرر المستر (بیترز) أن یسلک الطریق النهری برغم ما فیه من متاعب و صعوبات. فاستأجر طرادة من السماوة و استقلها مع خدمه و جماعته، و بعد أن سارت بهم فی الفرات بضع ساعات سلکوا طریق شط العطشان حتی وصلوا الی الشنافیة. و من هناک دخلوا بحر النجف، و بعد ساعات عشر وصلوا الی جزرة صغیرة فی وسطه یقال لها «أم الرغلات» و فیها شاهدوا عددا من الزوارق کانت تقل الکثیرین من الزوار الایرانیین الذین نزلوا للمبیت. ثم أقلعوا منها قاصدین ساحل البحر المذکور حیث کانت توجد مزرعة صدیقه الحاج (طرفه) شیخ مشایخ (عفج) و من هناک دخلوا جدول المشرب، ثم نزلوا بعد ساعات فی أبی صخیر.
و حینما رکبوا الدواب و توجهوا الی النجف مروا فی طریقهم بخرائب مدینتین کان اسم إحداهما «طعیرزات»، و هی علی ما یعتقد موقع الحیرة القدیمة. و یفهم من کتابات بیترز ان النجف کانت تسد أبوابها عند الغروب، و لذلک أجهدوا أنفسهم فی السیر لئلا یتأخروا فی الوصول الیها فتوصد أبوابها فی وجوههم. لکن المکاری طمّنهم من هذه الناحیة لأنهم کان بوسعهم أن یدخلوا الی النجف من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 242
ثلمة یعرفها فی السور فیما لو تأخروا فی الوصول علی أنهم لم یضطروا الی ذلک فی الأخیر، لأنهم وجدوا عند وصولهم ان الأبواب کانت ما تزال مفتحة و علموا من شاؤول الصراف، الذی کان ینتظرهم عند الباب، بأنه کان قد عرف بوصولهم الی أبی صخیر و رجا القاثمقام بأن یوعز بابقاء الأبواب مفتحة حتی یتم وصولهم الی النجف.
و أول ما یدوّنه بیترز عنها انه کان یتوقع ان یلاقی صعوبة فی الدخول الیها و التجول فی انحائها، بالنظر لما قرأه عنها و عن تعصب أهلها فی رحلة لوفتس (المار ذکرها). لکنه وجد ان الأمر بعکس ما کان ینتظر، لانه استطاع التجول فی البلدة بکل حریة و تمکن من تصویر مناظر عدة من بینها منظر الجامع الکبیر نفسه.
و کان فی معیته شخصان أرمنیان یدعیان: (آرتین) و (نوریان)، و قد استطاع خدامه العرب إدخالهما معهم الی داخل الصحن و الحضرة المطهرة کذلک، أحدهما بصفة زائر ایرانی و الآخر بصفة ترکی من استانبول. ثم قص علیه (نوریان) جمیع ما شاهده فی الداخل. إذ قال له انه اجبر علی تقبیل السلسلة الکبیرة و جانبی الباب الکبیر. و حینما دخل الی الصحن المحاط بالاروقة ألفی الجدران مزینة بالقاشانی، و المرایا المنزلة بالفضة. و وجد أن مئذنتین کانتا مکسوتین بالذهب من علو قامة واحدة الی القمة، کما وجد الضریح فی الداخل تعلوه القبة الکبری المذهبة بذهب یأخذ بالابصار. و بعد ان خلع هو و من کان معه أحذیتهم دخلوا الی الحضرة المطهرة یصحبهم عدد من الجنود، و یتقدمهم سید بعمامة خضراء. ثم یصف الزینة الفاخرة و القاشانی و الفضة و المرایا التی کانت تدل کلها علی فخامة بربویة علی حد تعبیره. و تأتی کذلک کیفیة اداء الزیارة وراء المزوّر و مسک الشباک، لکنه یقول انه کان علی درجة متناهیة من الاضطراب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 243
و الخوف من افتضاح أمره. و لذلک لم یستطع ملاحظة جمیع ما کان یرید ان یلاحظه بالتمام، و کذلک کان الآخرون و من أجل هذا عزم علی الدخول الی الزیارة فی الیوم الثانی، لکنه صادف فی السوق رجلا من تجار بغداد یعرفه تمام المعرفة فخشی من ان یشی به فلم یفعل.
و یقول (بیترز) أنه وجد النجف مدینة مزدهرة، یتراوح عدد نفوسها ما بین العشرین و الثلاثین ألف نسمة و قد ألفاها محاطة بسور متداع، مشرف علی السقوط. و کانت البیوت، مثل السور، مبنیة بالطابوق المستمد من خرائب الکوفة، و لذلک کانت الحمیر تشاهد و هی تنقل هذا الطابوق یومیا من الکوفة الی النجف. و کان ماء النجف أحسن ماء شربه (بیترز) فی هذه البلاد! و قد کان یؤتی به الیها بقناة تمر من تحت الأرض. علی انه یقول ان طعم الماء المستقی من الآبار کان یغلب فیه طعم الکلس.
و بعد ان یشیر الی المساحة الکبیرة التی کانت تحتلها القبور فوق الهضبة الرملیة فی خارج السور، یأتی علی ذکر الجنائز ایضا و نقلها من مسافات بعیدة فیقول ان النجفیین مع کثرة ما یرد الی بلدتهم من الجنائز علی الدوام فانهم لا تتسرب الیهم عدوی الامراض، کما لوحظ بالفعل فی أثناء انتشار الهیضة فی العراق سنة 1879. و یعلل ذلک بحصول نوع من المناعة عندهم مستندا فی ذلک علی أقوال الاطباء. و هذا قول غیر صحیح من الناحیة العلمیة بطبیعة الحال، لکن (بیترز) معذور فیه لان نظریة العدوی و المیکروبات العلمیة لم تکن قد اکتشفت فی تلک الفترة من الزمن.
و لما کان (بیترز) عالما من علماء الآثار القدیمة فانه یعتقد بان العرب فی المنطقة الجنوبیة یعیشون عیشة تشبه عیشة البابلیین قبل أربعة آلاف سنة فی کثیر من الاشیاء. و یقارن بین الطقوس الدینیة القدیمة و الحالیة، و بین ما یلاحظ فی الوقت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 244
الحاضر من نقل الموتی و دفن جثثهم فی الاماکن المقدسة، و من وجود (الاکشاک) فی أبواب الصحن لبیع الکثیر من الحاجات و اللوازم، و ما کان یحصل فی أبواب معبد (بیل) فی (نفّر) من قبل.
و قد زار (بیترز) الکوفة أیضا. و هو یقول ان الرحالة الذین جاءوا الیها فی بدایة القرن التاسع عشر یشیرون الی وجود الکثیر من آثار البلدة العربیة القدیمة فیها لکنها لم یبق منها حینما زار ما هو سوی بعض التلول و الاساسات لان طابوقها قد نقل کله للاستفادة منه فی بناء أبنیة النجف نفسها. و یذکر فی کتابه ان هناک فی غربی الکوفة نهرا مندرسا کبیرا یسمی «کری سعده».
و یروی الخرافة التی تروی عن تسمیته بهذا الاسم، و هی ان تاجرا غنیا من تجار البصرة کان قد أحب امرأة جمیلة اسمها «سعده» من أهالی المنطقة الکائنة ما بین هیت وعانه فی شمال البلاد. و کانت هذه المرأة تهوی ضفاف الانهر المظللة، فاشترطت علیه حینما خطبها من أهلها ان تنقل الی البصرة فی طریق النهر الذی یمر بالاماکن التی یجللها الظل. فما کان منه إلا أن یحفر لها هذا النهر و یغرس الاشجار علی ضفافه. و یعتقد بیترز ان «کری سعده» هو الجدول الکبیر الذی حفره (نبوخذ نصر) فمده من موقع یقرب من هیت الی الخلیج لیحیی به مساحات شاسعة من الارض الموات.
و قد توجه بعد ذلک الی کربلاء، بعد ان دفع أجور الخان و قیمة أکواز الماء التی شرب فیها لانها قد تنجست بعد ان استعملها فاقتضی کسرها و الاستغناء عنها. و فی خان الحماد الذی نزل لیستریح فیه وجد رجلا من أهالی النجف یصطحب عددا من الزوار الأیرانیین معه. فعلم منه ان خزائن النجف التی لا تقدر بثمن کانت تتألف فی الحقیقة من خمس خزائن: واحدة للجواهر الثمینة و الأعلاق النفیسة، و اخری للأموال، و ثالثة للسجاد و الطنافس، و رابعة للاسلحة الفاخرة، و خامسة لأنواع «البهارات».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 245

فی أوائل القرن العشرین‌

و فی اوائل القرن العشرین جاءت الی هذه البلاد سائحة انکلیزیة تدعی المسز (رولاند ویلکنس) فلفت نظرها حینما کانت فی طریقها من بغداد الی الحلة لزیارة أطلال بابل سفر الزوار الایرانیین بجماعات و قوافل خاصة. فهی تقول فی کتابها عن الرحلة الی هذه الجماعات انها مرت فی طریقها الی بابل بجماعات الزوار الایرانیین الذین کانوا فی طریقهم لزیارة الامام الحسین فی کربلاء، و الامام علی فی النجف. و کان الکثیرون منهم یأتون من بلادهم مشیا علی الاقدام، لکن بعضهم کان یرکب البغال و یحمل معه فوق ظهورها حاجاته القلیلة فی اخراج سفریة خاصة. و تقول کذلک ان هؤلاء الزوار کانوا یأتون معهم بالجنائز مشدودة بصورة مستعرضة فوق أظهر الحمیر؛ لان أمنیة المؤمن الحق هنا ان لا یقتصر فی أیام حیاته علی زیارة الأئمة فقط بل یطمح أیضا فی ایام حیاته علی زیارة الأئمة فقط بل یطمح ایضا فی ان تقبر رفاته بسلام بعد الموت فی الارض المقدسة التی استشهد فیها الحسین و أبوه علیهما السلام.
و فی تقریر عسکری مکتوم، أعدته رئاسة الارکان البریطانیة العامة فی 1911، عن المنطقة الممتدة من بغداد الی الخلیج، یرد ذکر النجف بتفصیلات تفید الاغراض العسکریة عنها. فقد ورد فیه ان النجف، أو مشهد علی، بلدة یبلغ عدد نفوسها زهاء (12000) نسمة منهم عدد من الهنود المسلمین. و تصل الیها حوالی ستة آلاف جثة فی السنة لتدفن فی مقابرها نظرا لقدسیة المکان و یرد فی التقریر کذلک انها تقع علی مسافة ثلاثین میلا عن الحلة، و تقوم علی هضبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 246
من الحجر الرملی ترتفع عن السهول المحیطة بها بحوالی مئة و خمسین قدما (؟) و هی محاطة بأسوار یبلغ ارتفاعها خمسة و عشرین قدما، و سمکها خمسة الی ستة أقدام، من دون ان یحیط بها أی خندق، و یکون محیط الاسوار کله شکلا مربعا تقریبا، یضم فی داخله کتلة کبیرة من البیوت المتحاشکة. و ماؤها قلیل یؤتی بالعذب منه بقرب من الجلد من فرع الهندیة (الفرات) الکائن علی بعد أربعة أمیال عن البلدة، و یعتبر ماء الآبار ماء أجاجا. و تعتمد البلدة فی حاصلاتها علی قبائل بنی حسن (؟). و توجد فیها حامیة عسکریة تتکون من فوج واحد.
أما طریق بغداد- النجف فقد کانت الأزواد وفیرة فیه علی ما یرد فی هذا التقریر و یبلغ عدد الزوار الذین یمرون فیه ما یزید علی الالفی زائر فی الیوم خلال موسم الزیارة الذی یمتد لاربعة أشهر فی السنة علی ما یقول. و فی التقریر بعض التفصیلات عن الطریق الممتد ما بین النجف و کربلاء، و لا سیما عن الخانات المعروفة فهناک منزل خان النخیلة الذی یقول انه یتألف من ثلاثة خانات و ستة مقاهی، و آبار عذبة للماء، و عدد من الاکواخ البسیطة من دون ان تکون فیه بیوت. و کان منزل خان الحماد یتألف من عشرة خانات و مئة بیت و عدد من الآبار التی یصلح ماؤها للشرب. أما منزل خان المصلی فکانت فیه ثلاثة خانات و ستة مقاهی من دون بیوت.
و فی الیوم السادس من اذار 1911 کانت المس (غیر ترود بیل) تتجول فی البادیة علی مقربة من النجف فی طریقها الی بغداد. و کانت المس (بیل) هذه، التی أصبحت فیما بعد سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی فی بغداد و تحکمت بمقادیر العراق مدة من الزمن، قد تجولت کثیرا فی نجد و سوریا و بادیة الشام و العراق فکتبت کثیرا عن جولاتها هذه و مما جاء فی رسائلها المعروفة عن جولتها موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 247
فی هذه الجهة أنها بینما کانت فی طریقها الی النجف فی هذا التاریخ خطر ببالها ان تستقضی آثار اللخمیین فی تلک الجهات و تشاهد الکهوف الغریبة التی قیل لها انها موجودة فی الاجراف المحیطة ببحر النجف من بعض الجهات، فاصطحبت معها الی هناک الشیخ سلمان أحد شیوخ بنی حسن. لکنها لا تذکر شیئا عما عثرت علیه فی هذا الشأن.
و فی یوم 7 مارت 1911 وصلت الی النجف بعد ان مرت فی قسم من طریقها بقاع بحر النجف الجاف. و هی تصف فی رسالتها المؤرخة 10/ 3/ 1911 البلدة بکونها بلدة مسورة تقوم علی حافة الجرف المرتفع بجنب البحر الجاف، و تشیر الی القبة و المآذن و المقابر و قد سیة البلد من دون أن تذکر شیئا یستحق التدوین. لکنها تقول انها نصبت خیامها خارج البلدة فی الجهة الخالیة من القبور، و ذهبت لزیارة القائمقام الترکی الذی أمر مدیر الشرطة بان یرافقها للتجول فیها. و حینما عادت الی خیمتها زارها عدد من المعممین و الرجال الرسمیین علی حد قولها. و لاجل المحافظة علی مخیمها فی اللیل وضع ثلاثون جندیا لحراستها غیر انها لم یرقها ذلک فاحتجت بشدة و انسحب الجند. و هی تذکر فی هذا الشأن ان الحراسة کان لا بد منها نظرا للحوادث الکثیرة التی کانت تحدث خلال اللیل فی منطقة القبور. لأن بعض الناس، و منهم أفراد القبائل، کانوا یأتون بالجنائز و یحاولون دفنها تحت جنح الظلام تهربا من اللیرات العشر التی کانت تفرضها سلطات البلدة رسوما للدفینة و کانت الدوریة تطلق علیهم النار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 248
بسبب ذلک فیردون علیها بالمثل. و قد سمعت هی و جماعتها إطلاق النار فی تلک اللیلة مع ما صحبها من صراخ النساء و عویلهن عن بعد ثم خرجت فی الیوم الثانی مع رجل من «الضابطیة» لمشاهدة خرائب الخورنق فلم تجد فیها علی ما تقول سوی بعض التلول، لکنها سرها ان تشاهد الموقع و ما یحیط به.
و قد مرت المس بیل بالنجف مرة أخری یوم 13 آذار 1914، حینما کانت عائدة من نجد فی طریقها الی بغداد. و لا تذکر شیئا هنا عن النجف لکنها تقول انها حینما خرجت من حائل کان بودها ان تسلک طریق الحج القدیم الیها غیر أنها علمت أنه لم یکن طریقا آمنا فعدلت عن رأیها فسلکت الطریق الآخر و هو الطریق الغربی.
و فی صبیحة 27 نیسان 1912 زار النجف الأشرف الاستاذ النمساوی ألواموسیل لدراسة الأحوال الطبوغرافیة فی المنطقة کلها، فکتب شیئا عن البلدة و ما شاهده فیها. و قد دخلها من الباب الشمالیة فألفی فیها سوقا کبیرة تمتد فی اتجاه جنوبی حتی تصل الی الجامع الکبیر، و هو یقول ان المنطقة الواقعة فی غرب السوق کانت تعود الی الشمرت و المنطقة الواقعة الی الشرق منها کانت لفریق الزکرت. و علم فی البلدة ان أبرز رجل و أقوی شخصیة فیها کان کلیدار الحضرة المطهرة السید جواد. و مما یذکره کذلک أن الاتراک کانوا قد شیدوا فی النجف ثکنتین عسکریتین واحدة منهما فی البلدة نفسها و أخری فی الضاحیة الجنوبیة الشرقیة التی تسمی (الحویش) علی حد تعبیره. و کان فی الثکنتین معا حینما زارها المسیو (موسیل) حوالی (250) جندیا راجلا و بغالا من قوات الدرک (الجندرمة). اما البلدیة فقد بنیت بنایتها فیما یقرب من الباب الشمالی الغربی. و حینما استقل «التراموای» و ذهب الی الکوفة شاهد المدافن علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 249
جهتی الخط، و هو یقول بالمناسبة ان المجلس البلدی فی النجف هو الذی بنی خط التراموای علی حساب البلدیة نفسها فی سنة 1909 .
و قد کتب المقیم البریطانی فی بغداد سنة 1912 عن انتعاش الروح الوطنیة فی العراق بین مختلف الطبقات، و انتشار فکرة القومیة العربیة فی بغداد و النجف و غیرهما فهو یقول ان الذی یلفت النظر هو الحریة المتزایدة التی أخذ یعرب عن نفسه فیها الشعور المعادی للأتحاد و الترقی و للأتراک هنا، حیث کان هذا یعد خیانة عظمی من قبل. و یذکر کذلک ان الأبن الأکبر للکلیدار فی النجف و عبد الرحمن الباجه جی کانا یرحبان بتشکیل حزب جدید یدافع عن مصالح العرب. و یقول المستر (فیلیب آیرلاند) کذلک فی کتابه عن العراق (الذی سنشیر الیه کثیرا بعد هذا) ان مؤتمرا عربیا عقد فی المحمرة خلال شهر مارت 1913، فحضره شیخ الحمرة نفسه، و شیخ الکویت، و السید طالب النقیب، و موظف ترکی کبیر. فدار البحث فیه حول مستقبل العراق و الحکومة الموجودة فیه، فتم الاتفاق علی قیام الرؤوساء المذکورین ببذل الجهود لتحقیق مطالیب العراق فی الاستقلال. ثم أوفد الرسل الی النجف و کربلا لاستمداد التأیید منهما و تهیئه الناس للحرکة، کما أخبر القومیون العرب فی بغداد و استانبول و سوریة و مصر و غیرها بقرارات هذا المؤتمر.

النجف فی أیام الحرب العالمیة الأولی‌

و فی خلال 1914 تطورت الأحوال فی العالم تطورا جذریا و اعلنت الحرب العامة الأولی ما بین الحلفاء و الدول المرکزیة. فانحازت الدولة العثمانیة التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 250
کان العراق بولایاته الثلاث ینضوی تحت لوائها، الی جانب الدول المرکزیة و علی هذا الأساس أعلنت بریطانیة العظمی الحرب علیها فی 29 تشرین الأول 1914، و فی الیوم السادس من تشرین الثانی نزلت القوات البریطانیة التی کانت محتشدة فی البحرین الی البر فی مصب شط العرب و تقدمت لاحتلال البصرة فدخلت الیها فی الثانی و العشرین منه.
و تلت ذلک عدة معارک محلیة بین الجیشین العثمانی و البریطانی، و کان أهم هذه المعارک ما جری فی موقعة الشعیبة التی وقعت فی یوم 12 انیسان 1915.
و کانت قد اشترکت مع الجیش العثمانی فی القتال قوات المجاهدین الذین هبوا للجهاد من النجف و غیرها بقیادة المغفور له محمد سعید الحبوبی بعد ان أفتی هو و غیره من العلماء الاعلام به انتصارا للاسلام و علی اثر هذه المعرکة التی اندحرت فیها القوات العثمانیة اندحارا شنیعا انتحر بسببه قائدها سلیمان عسکری باشا، حدثت تطورات مهمة فی أنحاء العراق کافة و من جملتها النجف. و قد شرحت هذا الموضوع باسهاب، تتطرق فیه الی ما وقع فی النجف أیضا، المس (غیر ترودبیل) فی تقریر رسمی مفصل رفع الی الحکومة البریطانیة عن الوضع العام فی العراق خلال سنی الاحتلال البریطانی التی انتهت ببدایة عهد الانتداب علی العراق فی صیف 1920.
فهی تقول ان الحکومة العثمانیة کانت قبل دستور 1908 تعترف بأن المدن المقدسة تختلف اختلافا بینا عن سائر ممتلکاتها، و لذلک فقد منحتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 251
یعض الامتیازات التی کان أهمها إعفاء سکانها من الخدمة العسکریة. و بعد موقعة الشعیبة التجأ عدد من الفارین من الخدمة العسکریة الی النجف الاشرف، فأعلن الأتراک عن عزمهم علی إعادة الفارین الی الخدمة و هددوا بفرض التجنید علی السکان الأصلیین فیها کذلک. و قد علم بالأضافة الی هذا ان الاتراک کانوا قد قرروا مصادرة محتویات «الخزائن» الموجودة فی العتبة المقدسة للانفاق علی شؤون الجهاد منها. و راحوا یجبرون الشبان علی الخدمة فی الجیش، و من أجل هذا فتشوا البیوت خلال اللیل، و تعرضوا بالنساء بحجة ان الرجال کانوا یتخفون بزی النساء للتهرب من الجندیة. ثم فرضوا «بدلات» باهظة للأعفاء منها، فهب الناس و استحکموا فی الشوارع و الدور، ثم وضعوا القوات المدافعة فی صحن العتبة المقدسة. فوجه الأتراک مدافعهم نحو الثوار و أنزلوا أضرارا بالمآذن سهوا او علی سبیل التقصد. و عند ذاک طیر السید کاظم الیزدی برقیة احتجاج الی استانبول، فکان جوابها الیه انه یجب ان ینصرف الی مهنته کدرویش متعبد و ان لا یتعرض لشؤون الحکومة و قد تلا ذلک قتال دام ثلاثة أیام استسلم بعدها الجنود الأتراک للأهلین الثائرین فجردهم الرعاع من سلاحهم.
ثم نهبت بنایات الحکومة و أحرقت، و هذه بیت القائمقام الترکی و طرد هو نفسه.
السید کاظم الیزدی
و تعود المس بیل فتذکر ان النجف صار یحکمها بعد حوادث نیسان هذه الشیوخ الأربعة: سید مهدی السید سلمان (الحویش)، و الحاج عطیة أبو کلل (العمارة) و کاظم صبیّ (البراق)، و الحاج سعد الحاج راضی (المشراق)، بأنفسهم و بمشورة السید کاظم الیزدی الذی کان یمثله عندهم ابنه السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 252
محمد . و لذلک تأزم الوضع علی الاتراک فی الفرات بحیث عمدت السلطات الترکیة الی تغییر سیاستها و الالتجاء الی المسالمة و الصلح.
فتألفت لجنة من الوجهاء لتسویة الأمور، و تم الاتفاق علی ان یعود القائمقام الی وظیفته فی النجف مع حرس هزیل للحمایة. علی ان السطوة فی البلد بقیت فی أیدی الثوار، لأن القائمقام أصبح ألعوبة فی أیدی الشیوخ المذکورین و لأن الناس أخذوا یهزأون بحراسه علنا فی الشوارع.
الحاج عطیة أبو کلل
غیر ان التهدئة هذه لم تکن إلا نصرا أجوف للأتراک علی حد تعبیر (المس بیل) لانها ما لبثت قلیلا حتی أخذ الحاج عطیة، بمؤازرة السید کاظم الیزدی، یتصل سرا برئیس الحکام السیاسیین المرتبط بقوات الاحتلال . و قد عرض علیه استعداد النجف و القبائل المحیطة بها للانضمام الی الأنکلیز لقاء احترامهم للعتبة المقدسة و عدم التعرض بها. و کان رد رئیس الحکام السیاسیین علی ذلک أنه أشار علیهم بالاطلاع علی البیانات التی کانت السلطات البریطانیة قد أذاعتها علی الملأ عند أول نشوب الحرب و ادعت فیها بأنها لم تکن فی خصام مع العرب و لا مع المسلمین. و ذکّرهم کذلک بالمعاملة الحسنة التی لقیها من الأنکلیز رجال الدین الذین وقعوا فی أیدیهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 253
و بعد ذلک تسنی للأنکلیز ان یثأروا لأنفسهم عن الاندحار الشنیع الذی أصابهم علی ید خلیل باشا فی سلمان باک، و حصار الکوت الذی استسلم فیه بعض الشیوخ الذین حکموا النجف برهة من الزمن و یری کاظم صبی الأول من الیمین (الجالسین)
الجنرال (طاونزند) مع قواته المحاصرة فی 29 نیسان 1916، فاسترد الجنرال مود الکوت فی نهایة 1916 و تم له احتلال بغداد فی 11 آب 1917. و علی أثر ذلک بعث علماء النجف و کربلاء، علی ما ترویه المس بیل فی تقریرها هذا، برقیة تهنئة الی صاحب الجلالة البریطانیة فأجابهم علیها معترفا بتسلمها و مبدیا ان رغبته الخالصة هی انتعاش العراق و سکانه و المحافظة علی عتباته المقدسة و استعادته الی رخائه القدیم. و لا شک أنها تعنی بذلک بعض المعممین الذین کان یسیئهم تصرّف الأتراک و موظفیهم المتعجرفین، او الذین کانوا یمالئون الانکلیز فصاروا یعرفون بعد ذلک بعلماء «الحفیز» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 254
ثم تشیر الی ان مکتب رئیس الحکام السیاسیین فی بغداد قد ازدحم فی الایام القلائل الاولی من أیام الاحتلال بالزوار من جمیع الطبقات بدون ان یستثنی منهم حتی أبناء الاسر المسلمة البارزة. و فی اثر وجهاء بغداد جاء شیوخ القبائل الصغیرة المجاورة لزیارته متعجبین من انهیار العهد القدیم المفاجی‌ء و مستبعدین دوام العهد الجدید. و کان من بین الاوائل الذین قدموا من الاماکن البعیدة (محمد علی کمونة) من کربلاء و الحاج (عطیة أبو کلل) من النجف، و أعقبهما بعد ذلک بقلیل شیوخ بلدة النجف الآخرون. فعینت لهم المخصصات، و رجعوا الی أهلهم مخولین بالمحافظة علی الأمن حتی یکون بامکان السلطة المحتلة معالجة شؤون المدینتین المقدستین بصورة مباشرة.

زیارة السر رونالد ستورز للنجف‌

و بینما کان الوضع الحکومی فی النجف علی مثل هذا زار بغداد رجل من رجال الانکلیز الذین کان یتألف منهم «المکتب العربی» فی القاهرة، المشرف علی شؤون الاستخبارات البریطانیة الخاصة بالبلاد العربیة جمعاء، و هو (السر رونالد ستورز) الذی تعین فیما بعد حاکما فی القدس بمعیة (هربرت صموئیل) المندوب السامی الصهیونی فی فلسطین بعد احتلال الانکلیز لها. و أصبح بعد ذلک حاکما عاما فی قبرص حینما نفی الیها الملک حسین علی أثر ابعاده عن الحجاز، و فی رودیسیا الشمالیة کذلک. و کان الجنرال ستورز، و هو ملم بالعربیة تمام الالمام، قد زار النجف فی 19 مایس 1917 قادما من کربلا فاتصل ببعض وجوهها و علمائها، و دوّن فی کتابه المعروف أشیاء مهمة عنها فی هذا الدور.
فهو یبدأ بوصف الطریق ما بین کربلا و النجف و یقول انه کان طریقا سهلا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 255
و بعد ان تجاوز منتصفه مع صحبه بانت له من بعید القبة المذهبة و هی تتوهج بلمعانها فی نور الشمس. و حینما وصل الیها بعد الظهر خرج الألوف لاستقباله علی ما یزعم، لا سیما و قد کانت الاسواق مغلقة بمناسبة حلول یوم المبعث .
و قد مر بعد ذلک فی السوق المؤدیة الی العتبة المقدسة، و من هناک توجه الی دار السید عباس الکلیدار. و یأتی علی وصف البیت فیخص بالذکر منه السرداب الکبیر الذی تنخفض الحرارة فیه بمقدار عشر درجات عن الخارج. و حینما صعد وقت الغروب الی سطح الدار القریبة من الحضرة المطهرة شاهد منه القبة و المآذن و برج الساعة فی الصحن عن قرب، و صوّر مناظر عدة من هناک علی ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتی دقت الساعة مشیرة الی الثانیة عشرة غروبیة. و قد تذکر حینذاک ساعة کیمبرج او «بیک بین» المشهورة. و بعد ان مل من مقابلة اعضاء المجلس البلدی و کبار الشیوخ علی حد تعبیره ذهب الی الفراش فی التاسعة و النصف.
و قد استدعی الیه فی صباح الیوم الثانی (20 أیار) تجار الحریر و السجاد، ثم احضر فتاح الفتال الذی نفحه بعشر روبیات برغم عدم براعته فی مهنته. و تحدث مدة من الزمن مع الشیخ هادی أحد شیوخ الجعارة فأنبه علی ما کان یسمع عنه من تهریبه الطعام و الأرراق بواسطة عشائره الی ابن رشید حلیف الأتراک فی نجد، و هو یقول أنه فاتح شیوخ العشائر الآخرین بالموضوع نفسه و هددهم. و قد توجه الی الکوفة علی أثر هذا فقصد مع جماعته دار علوان الحاج سعدون شیخ بنی حسن الذی یسیطر علی الطریق الممتد من النجف الی المسیب علی حد تعبیره. و قد حرضه خلال حدیثه معه هناک علی مهاجمة ابن رشید و نهب العشرة آلاف جمل التی یملکها فتعهد هو و من کان معه من الشیوخ الآخرین علی تنفیذ ذلک ..؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 256
و بعد تناول الغداء مروا بجامع الکوفة و شاهدوا ما فیه من آثار و مواقع مهمة، و فی معیتهم السید عباس الکلیدار، ثم عادوا الی النجف لیرتاحوا فی السرداب البارد. و فی الساعة الخامسة من عصر ذلک الیوم توجه السر (رونالد ستورز) مع رفیقه المستر (غاریوت)، لزیارة العلامة الاکبر السید کاظم الیزدی الذی یمتد نفوذه من العراق الی إصفهان. و یذکر ستورز فی هذا الشأن ان الانکلیز لم یکونوا مطمئنین من موقف السید تجاههم، و انه کان قد رفض مبلغ المئتی باون الذی قدم الیه علی سببل الهدیة من قبل. و کان المستر غاریوت الذی رافقه فی السفرة من بغداد قد طلب الیه فی هذه المرة ایضا ان یتحایل علی السید الیزدی فیقدم له رزمة بألف باون هدیة من الحکومة. فاستثقل هذه المهمة الصعبة، و کلف السر (رونالد ستورز) نفسه بان یتولی المهمة عنه، فقبل بتحفظ. و دس الرزمة فی جیبه ثم توجها الی دار السید، و هناک انتظر برهة من الزمن فی خارج حجرته ریثما یخبر بحضورهما. فخرج لهما، و اذا به رجلا متقدما فی السن یلبس «زبونا» أبیض و یعتمر بعمة سوداء و قد تخضبت لحیته و أظافره بحنة حمراء لماعة. فحیاهما من بعید و أجلسهما علی الحصیرة بجنبه خارج الحجرة. و یقول (ستورز) بعد ان تبحر فی وجه السید انه أدرک فی الحال السر فی شهرته و نفوذه.
فهناک قوة فی سیمائه الواضحة و عینیه الرمادیتین المتعبتین، و سلطان فی وجوده و حدیثه الخافت مما لم یجد له مثیلا فی أی مکان آخر من بلاد المسلمین.
و یذکر کذلک أنه بعد أن أثنی علیه و علی مواقفه المشرفة، أخذ یسأله عما إذا کان هناک أی شی‌ء یریدان ان یفعله الأنکلیز له فبادره بقوله «حافظوا علی العتبات الشریفة، حافظوا علی العتبات الشریفة». فاعتبر (ستورز) أنه یقصد بذلک المحافظة علی العتبات و من فیها من جماعة العلماء و المجتهدین بوجه عام. ثم عاجله السید بجملة اخری طلب الیه فیها ان لا یعینوا فی المدن الشیعیة إلا الموظفین من أبناء الشیعة، و ان یطلقوا سراح بعض الشیعة الذین کانوا معتقلین و منهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 257
الدکتور مظفر بک، و ان یعینوا المرزا محمد (و هو المحامی محمد أحمد الموجود حالیا فی البصرة) قائمقاما فی النجف . و فی هذه المرحلة بدا السید الیزدی للسر (رونالد) و کأنه قد نزل من علیائه بعض الشی‌ء، لأنه أنعم علیه کما یقول بجملة ثناء أعقبها بکلمة فارسیة خاطب بها عالما آخر کان موجودا فی مجلسه، و قد علم بعد ذلک أنه قال له ان الاتراک لو کانوا یسلکون مثل هذا السلوک لما أضاعوا تعلق العرب بهم مطلقا. فما کان من السر رونالد الا ان یعده بنقل توجیهاته و مشورته هذه الی السر بیرسی کوکس فی بغداد. و بعد تردد و إحجام طلب الی السید ان یختلی به وحده لمدة ثلاث دفائق فقط، ثم ذکره بوجود عدد لا یحصی من الفقراء الذین کانوا ینظرون الیه فی اعاشتهم علی الدوام، و استرحم منه بأن یمد ید المساعدة للأنکلیز فی هذا الشأن. و حینما مد (ستورز) یده لتقدیم رزمة الباونات الی السید فی هذه الاثناء دفع السید الرزمة برفق مقرون بالعزم الاکید و هو یعتذر عن قبولها. فلم یجد (ستورز) من اللیاقة الألحاح علی تقدیمها، و عمد الی فتح موضوع الشریف معه. و هو یقول ان السید کان من المعجبین (بالشریف) و المؤیدین له. و بعد ساعة انقضت علی هذا المنوال عزم السر (رونالد) علی تودیع السید و العودة الی المنزل، غیر انه قبل ان یفعل ذلک حاول تقدیم الألف باون مرة ثانیة الیه، لکنه رفضها من جدید بکل مجاملة و أدب. و هو یعتقد ان الشی‌ء المهم الذی کان یعبأ به السید هو الأنفة و الأباء لا المال، و انه لا بد ان یخضع فی الاخیر بطریقة مناسبة حینما یکون الدافع لذلک شیئا لا مطعن فیه. و هذا موقف بعید تمام البعد عما یحدث فی مصر و الحجاز فی ظروف مماثلة علی حد تعبیره.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 258
و حینما عاد ستورز بعد ذلک الی منزل مضیفه السید عباس الکلیدار طلب الیه ان یشارکه فی تناول العشاء و یضحی بآداب المجاملة التی تدعوه الی الوقوف فی خدمة الضیف فی أثناء تناول الطعام و هو یذکر باعجاب ان السید عباس وقف بعد ذلک للعنایة بتقدیم العشاء للسواق أیضا علی المائدة نفسها. ثم آوی الی فراشه بعد مدة و قضی لیلة خالیة من النسیم تماما فوق السطح، و قد تسنی له خلالها ان یعجب بالهدوء التام و الصمت الغریب الذی کان یلف النجف ما بین الساعة الثانیة و الرابعة بعد منتصف اللیل و قبیل الفجر کذلک.
و قد غادر السر (رونالد) النجف صباح الیوم الثانی (21 أیار 1917) بعد أن وزع حوالی مئة و خمسین روبیة علی الخدم فیها. فمر عند خروجه منها الی طریق کربلاء بالمقابر التی یدفع فیها الناس ستین باونا لقاء السماح لهم بدفن مرتاهم و هو یقول انه سرّ تمام السرور لانه ابتعد عن ضیق لبیوت الی کانت تحتشه بالخمسین الف نسمة من سکانها المحصورین بین جدرانها الضیقة من دون ان تتهیأ الفرصة لأن یقع نظرهم علی أی نبات أخضر أو تشم أنوفهم الهواء النقی.

النجف فی أیام الاحتلال البریطانی‌

لقد کان قدوم السر رونالد ستورز الی النجف فی وقت لم یکن قد تشکل فیها أی نوع من أنواع الحکومة الجدیدة بعد احتلال بغداد سوی التخویل الذی خولت به سلطات الاحتلال شیوخ البلد من أمثال الحاج عطیة أبی کلل و جماعته بالمحافظة علی الامن و السکینة، کما تشیر الیه المس بیل فی تقریرها المذکور آنفا.
و قد بقی الوضع علی هذا المنوال حتی تعین حمید خان وکیلا حکومیا لأدارة النجف فی حزیران 1917، أی فی نفس الوقت الذی عین فیه للکوفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 259
رجل مسیحی من أهالی بغداد ذو خبرة إداریة یدعی سرکیس أفندی . و تقول المس بیل ایضا ان النقص فی المواد الغذائیة التی کانت متیسرة فی النجف قد أدی فی تشرین الاول 1917 الی حدوث اصطدام محلی فان أحد شیوخ عنزة الرحل، حلفاء الانکلیز فی بادیة الشام، جاء یحمل کتابا من الحاکم السیاسی المسؤول عن حدود البادیة الکولونیل (لیجمن) الی (حمید خان) یوصیه فیه بمساعدة الشیخ العنزی علی اکتیال مقدار غیر یسیر من الحبوب. فسمح حمید خان
للشیخ بشراء ما یحتاجه، لکن الخبر ما کاد یشیع فی البلدة حتی قفزت الاسعار و ارتفع مستواها فی السوق و من سوء الحظ ان (فهد بک بن هذال) شیخ مشایخ عنزة الشرقیة بعث فی الیوم الثانی الفا و مئتی بعیر لیبتاع اصحابها الحبوب من أسواق النجف ایضا برخص موقّعة منه. فکان هذا اکثر مما کان بوسع البلدة ان تجهزه للبادیة، فهب الأهالی مجتمعین صاخبین. و اخذوا یتصیدون من کان داخل البلدة من افراد عنزة، و فی 1- 2 تشرین الثانی نظموا مظاهرة صاخبة حول مخیمهم. و هناک وقع شجار تبودلت فیه بعض العیارات الناریة بین الفریقین، و قتل بعیر من الأباعر، ثم نهبت ثلاث بندقیات و حاجات کثیرة اخری. و لم یستطع (حمید خان) المسؤول، الذی لم تکن تدعم سلطته الحکومیة ایة قوة، معالجة الموقف أو منع الاصطدام .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 260
و قد ورد فی کتاب (بین النهرین- أنواع الولاء) الذی کتبه السر (أرنولد ویلسن) وکیل الحاکم الملکی العام فی تلک الأیام عن نتیجة هذا الحادث ان حمید خان لم تکن تحت تصرفه أیة قوة تمکنه من توطید الأمن و السیطرة علی الموقف، و لذلک طلب من الحاکم الملکی العام قبول استقالته. فما کان من الحاکم العام (و هو السر بیرسی کوکس) الا أن یقترح علی القائد العام للقوات المحتلة یومذاک تعیین ضابط بریطانی فی تلک المنطقة. و یؤید ذلک ما کتبه السر بیرسی نفسه فی الخلاصة التی کتبها عن المس بیل و نشرت فی رسائلها المشهورة. فهو یقول «و مع أن کربلا لم تسبب لنا مشکلة خطیرة فان النجب التی کانت فریسة فی أیدی شیوخ البلد المحلیین، قد بقیت شوکة فی جانبنا مدة من الزمن ..» و لذلک قمت بجولة فی المنطقة خلال کانون الأول 1917 لأکون فی وضع یؤهلنی لتقدیم المشورة الی القائد العام للقوات المحتلة بالنسبة لمختلف النقاط الاداریة التی تجعل من مرابطة مفرزات خاصة من الجیش فیها شیئا ناجحا.
و کان من غیر المرغوب فیه بطبیعة الحال، و مما لا یأتلف مع بیاناتنا السابقة، أن نبادر الی وضع قطعات من الجیش فی الأماکن المقدسة نفسها. و هذا الوضع بالذات هو الذی جعل من الصعب علینا أن نسیطر سیطرة تامة علی النجف التی کانت العناصر الخارجة علی النظام و القانون فیها خاضعة لتأثیر الدعایة الترکیة الالمانیة و استثارتها المستمرة. و قد وجدت الدلائل الواضحة علی هذه الاستثارة ما بین أوراق العدو التی وقعت فی أیدی قواتنا فی الرمادی وهیت بعید ذلک.
و علی هذا فقد تعین الکابتن (بلفور) الذی کان یتقن العربیة لاشتغاله السابق فی السودان، حاکما سیاسیا فی المنطقة للاطلاع علی الأوضاع فیها، فمر بالنجف موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 261
من دون أن یکون معه أحد لحراسته سوی البعض من شیوخ المنطقة نفسها.
و هناک اتخذ الترتیبات اللازمة لحل مشکلة النزاع الذی حدث مع عنزة بعد فرض الدیة و التعویضات علی شیوخ البلد فی النجف: ثم غادرها لاستئناف جولته فی تلک الأنحاء بعد أن أبقی حمید خان فی منصبه بصفة معاون له. و حینما عاد الکابتن بلفور بعد یومین الی النجف وجد ان الشروط المتفق علیها لم تنفذ.
و مما جاء فی تقریر (المس بیل) فی هذا الشأن ان الکابتن بلفور حینما عاد الی النجف بعد أیام قلائل لم یحضر لمقابلته الا اثنان من شیوخ البلد فقط، و هما الحاج عطیة و کاظم صبّی، فأدت المحاولة للضغط علی هذین الشیخین الی وقوع شغب فی البلدة أثاره الحاج عطیة نفسه بصورة سریة. فصمد بلفور لما حدث و ظل فی مکانه حتی عندما هو جمت الدائرة الحکومیة التی کان فیها ثلاث مرات متوالیات من المتجمهرین، لکنه قبل بعد ذلک أن یترک الدائرة بحمایة الکلیدار الی بیت الکلیدار نفسه الواقع علی مسافة من دوائر الحکومة. و لم یتوقف الشغب حتی بعد أن نهبت الدائرة المذکورة نفسها. و فی أواخر النهار وقعت اضطرابات مماثلة فی الکوفة، حیث دعا الوکیل الحکومی هناک الشیوخ المحلیین فسیطر علی الموقف بسرعة، و وقعت مثلها فی أبی صخیر أیضا، فنهبت الدائرة فیها و جردت من کل شی‌ء. و مع هذا کله فقد بقی (الکابتن) من دون قوة عسکریة تؤازره أو تحمیه، فالتجأ الی المجتهد الأکبر السید کاظم الیزدی طالبا المعونة. فدعی الحاج عطیة و کاظم صبی بإشارة منه، و صدر الأمر بالعفو عنهما فعادت البلدة الی أحوالها الاعتیادیة.

ثورة النجف‌

أما ما حدث بعد ذلک فی النجف فان السر (أرنولد ویلسن) و (المس غیر ترود بیل) یتفقان تمام الاتفاق فیما یذکرانه، فی کتابیهما المشار الیهما، عنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 262
من ناحیة التفصیلات و الأشخاص و غیر ذلک. فقد جعل (الکابتن بلفور) محل إقامته فی الکوفة، غیر أن العنایة الکبری التی کانت تتطلبها الشؤون الزراعیة فی المنطقة، و ضرورة حسم الامور بالقوة فی کثیر من الأحیان، جعلت من غیر الممکن إبقاء بلفور معتمدا فقط علی حسن نیة الشیوخ، و السادة الملاکین، تجاهه فی الوقت الذی کان یتعرض فیه الی موقف (عطیة أبی کلل) العدائی تجاههه علی حد تعبیر (أرنولد ویلسن) و لذلک زار الحاکم الملکی العام (السر بیرسی کوکس) منطقة الفرات کلها فی أوائل کانون الأول 1917، و بإشارة منه وضعت مفرزات عسکریة صغیرة فی مختلف النقاط الکائنة علی النهر و لیس فی النجف نفسها. لأن هذه البلدة بنفوسها البالغة (000، 40) نسمة کانت تستدعی وضع عدد کبیر فیها من الجنود، و قد تکهن من یعنیهم الامر بأن وجود قوة مختلطة فی الکوفة التی تبعد بمسافة سبعة أمیال عنها سیکون له التأثیر المهدی‌ء المطلوب بصورة غیر مباشرة علی ما تقوله (المس بیل) و قد قابل (السر بیرسی کوکس) خلال جولته شیوخ النجف فی الکوفة، عدا الحاج عطیة الذی تجنب الحضور خوفا من الإیقاع به. علی أنه تشبث بمقابلته حینما قام بزیارة قصیرة الی النجف، لکنه أفهم فی هذه المرة أنه یجب أن یأتی الی بغداد من أجل ذلک.
و بینما کانت الخیالة الهندیة التی وضعت فی الکوفة تقوم بإجراء تمرینات عسکریة فی السهل الواقع خارج النجف، یوم 12 کانون الثانی 1918، أطلقت النار علیها عصابة تتألف من مئة و خمسین رجلا من أتباع عطیة من سور البلدة فقتلت خیالا واحدا و جرحت آخر. ثم أطلقت النار مدة من الزمن علی طائرة بریطانیة کانت محلقة فی جو النجف، و نهبت دوائر الحکومة فیها فاضطر حمید خان و موظفوه الذین کانوا کلهم من العراقیین الی أن یفروا الی الکوفة. فزحفت الخیالة من دون أن تطلق الرصاص علی المدینة المقدسة فطوقتها، و عند ذاک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 263
أوصل الضابط قائد هذه القوة، الذی صادف أن کان موجودا فی النجف حینذاک، سالما الی خارج باب السور بواسطة شیخ محلة المشراق الحاج سعد. ثم قام الحاج سعد هذا و السید مهدی السید سلمان و هو أوقر شیوخ البلد علی الاطلاق علی ما تقول (المس بیل)، و آخرون أقل أهمیة منهما، بزیارة الکابتن بلفور فی الکوفة یوم 14 کانون الثانی فأعید الجمیع الی النجف بعد أن طلب الیهم أن یعملوا علی المحافظة علی الأمن و السکینة. و فی الیوم التالی أذعن کاظم صبّی لأمر حضوره بین یدی الحاکم السیاسی فی الکوفة، فوجد الحاج عطیة نفسه وحیدا فی المیدان ففر الی الشیخ عجمی السعدون الذی کان قد بقی علی ولائه للأتراک و قد لازم استیطان البادیة. و بعد هذا فرضت غرامة خمس مئة بندقیة و خمسین ألف روبیة بالنقد علی النجف، فدفع المبلغ و سلمت البنادق فی الیوم الأول من شباط و هو الیوم المعین لها. و فی الیوم ذاته أشغل (الکابتن مارشال) معاون الحاکم السیاسی الجدید مع شرذمة قلیلة من الحرس الخان الذی کان الحاج عطیة أبو کلل قد بناه لیقیم فیه هو نفسه فی خارج الباب الشرقی للنجف مباشرة.
و کان الکابتن مارشال قد نقل الی النجف من الکاظمیة التی أبدی فیها موجودیة خلال الأشهر العشرة التی اشتغل فیها، کما کان له إلمام غیر یسیر باللغة الفارسیة و شؤون العتبات المقدسة علی حد تعبیر (أرنولد ویلسن) و تقول (المس بیل) عن هذه الفترة من تاریخ النجف ان أول تدبیر و أهمه کان من الضروری ان یتخذ لتأمین الحالة فی البلدة هو إعادة تشکیل الشرطة فیها. لأن قوة الشرطة التی جندت الی هذا التاریخ فی النجف کان أفرادها من أهالی البلدة نفسها، و کانوا یمالئون شیوخها فی کثیر من الأحیان. و لذلک أرسل من بغداد و الکوت عدد من أفراد الشرطة الشیعة لیعملوا فیها، و جند عدد آخر من خارج النجف. ثم قطعت المخصصات التی کانت تمنح الی شیوخ البلدة حینما کانوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 264
موکلین عن سلطات الاحتلال فیها، و کان ذلک باشارة من الکابتن (مارشال) نفسه. و تقول (المس بیل) کذلک: ان جبایة رسوم البلدیة، التی کانت غیر منتظمة للغایة لعدة سنین خلت، قد وضعت فی هذه الفترة علی أسس قویمة.
و شرع بتنظیف البلدة التی کانت بحالة صحیة مزریة. و ما انتهی کانون الثانی 1918 حتی کان الکابتن مارشال منهمکا فی حل مشکلة الماء العذب و توفیره للبلدة بمقادیر کافیة.
لکن النجف علی ما یبدو کانت تغلی فی تلک الأثناء، بعد ما ترامی الی أهلها من عجرفة رجال الاحتلال البریطانی و تصرفاتهم البعیدة عن العدل و الإنصاف. و کانت تتهیأ فیها یوما بعد یوم عوامل الثورة العارمة و وسائلها الدافعة، و تنتشر بین شبانها روحیة الاستقلال فی الحکم و الشعور القومی الذی بدأت تباشیره تغزو هذه الجهات. غیر ان (المس بیل)، التی یؤیدها فی رأیها (أرنولد ویلسن) بطبیعة الحال، تحلل هذا الوضع علی غیر حقیقته و تحاول حصر الحرکة فی نطاقها المحلی الضیق.
فهی تقول ان الحکومة الصالحة التی جاءت بالکثیر من المنافع الی البلدة لم تکن مقبولة عند الجمیع. فان رعاع البلدة من العشائر، و حتی بعض السادة من صغار الشأن الذین وجدوا انتفاعا من التصیّد فی الماء العکر، کانوا یحملون شعورا عدائیا متسترا تجاهنا. لکن التجار و طبقة الرأی العام الفقیرة، و سماحة السید کاظم الیزدی و أتباعه، ارتاحوا ارتیاحا صریحا بکسر النیر الذی کان قد وضعه فی رقابهم شیوخ البلدة من قبل و بالعودة الی الحالة الاعتیادیة الرتیبة. ثم تحاول المس بیل وضع ما سیحدث بعید هذه الفترة بقالب آخر، و تعزوه الی أسباب غیر الأسباب الحقیقیة. و لذلک نجدها تشیر الی أن التسویة النهائیة لوضع النجف المضطرب قد صادفت تأخرا آخر، لأن الدسائس الترکیة فی المنطقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 265
نشطت الی العمل أکثر من نشاطها السابق. فعندما استولت الفرقة الخامسة عشرة البریطانیة علی (هیت) و غزت (عانة) وقع فی أیدی رجالها ضابط ارتباط ألمانی کانت فی حوزته أوراق و مستندات کثیرة. و قد دلت هذه المستندات علی أنه کانت توجد فی النجف لجنة خاصة لإشعال ثورة إسلامیة فیها، و جعلها مرکزا لخلق الاضطرابات و القلاقل بین العشائر. و کان مئة أو أکثر من رجال الدین مشترکین فیها، لکنها لم تکن تضم أناسا ذوی أهمیة من الدرجة الاولی.
و تروی کذلک ان رئیس هذه اللجنة کان شخصا من اسرة بحر العلوم العلویة ، و کان هذا نشطا فی الدعوة الی الجهاد ضد الانکلیز الی أن سقطت بغداد بأیدیهم. و قد عرفت الخطة تمام المعرفة، لأنها کانت ترمی الی استغلال التدابیر الفعالة التی یمکن أن تتخذها الحکومة البریطانیة ضد البلدة المقدسة و اتخاذها مادة صالحة للدعایة الترکیة الألمانیة فی المستقبل.
ثم تستمر فی هذا التحلیل فتقول ان شیوخ البلدة. الذین جردوا من الامتیازات التی ساءوا استعمالها. کانوا بطبیعة الحال حقلا خصبا لتلک الدعایة.
و هناک ما یحمل علی الاعتقاد بأن مؤامرة خاصة کانت قد حیکت لقتل الحکام السیاسیین الذین کانوا یعملون فی الفرات الأوسط. أما مقدار اشتراک ضابط الاستخبارات الألمانی فی هذا العمل، الذی تسمیه جریمة، فقد کان شیئا غیر أکید.
و هی تری ان الانفجار الذی وقع فی النجف کان من المحتمل أن یکون قد حصل قبل أوانه، أی قبل أن توضع الخطة وضعا تاما له. فکانت النتیجة ان الأدارة البریطانیة قد خسرت حاکما سیاسیا واحدا فقط فی هذه الجهات. فقد قتل (الکابتن مارشال) معاون الحاکم السیاسی فی داره الواقعة خارج البلدة علی ید عصابة متکونة من اثنی عشر قاتلا فی فجر یوم 17 مارت. و تقول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 266
(المس بیل) ان اثنین من القتلة کانا من أولاد الحاج سعد، و ثلاثة من الشرطة المسرحین، و کان الرئیس «شقیا» مأجورا. ثم تذکر ان المحرکین الأساسیین للمؤامرة کانا الحاج سعد و کاظم صبی.
علی ان المراجع المحلیة، التی یؤیدها (السر أرنولد ویلسن) فی روایته للحادث من دون ذکر الأسماء، تقول ان العصبة التی تطوعت لقتل الکابتن مارشال و إعلان الثورة کانت برآسة الحاج نجم البقال. و المعروف إنه کان رجلا من الأخیار حفزه الی الإقدام علی هذا العمل الخطیر تدینه و شعوره الوطنی.
و قد لبس هو و جماعته لباس «الشبانة» فی لیلة الحادث و انسلوا من کوة فی سور البلدة تقع فی محلة المشراق. ثم کمنوا فی المقبرة حتی الفجر، و بعد ذلک دخلوا البنایة التی کان الکابتن یسکن فیها و هی (خان عطیة) بخدعة و قتلوه کما قتلوا طبیبا ارلندیا کان معه. و قتل من المهاجمین رجل واحد و جرح آخر فحملا بعد انتهاء المعرکة. و مما یقوله (ویلسن) ان (الکابتن بلفور) وصل علی أثر ذلک من الکوفة الی النجف، و مع انه جوبه بنیران حامیة من ثوار البلدة فقد استطاع أن یدخلها فیخرج معه بعد ذلک نصف قوة الشرطة التی کانت مرابطة فی الداخل بعد أن قتل اثنان من المجموع و التجأ الباقون الی دار السید مهدی السید سلمان.
و تزعم (المس بیل) ان الرأی العام فی بغداد و کربلا و الحلة و الکاظمیة قد أجمع علی استنکار ما قام به أولئک الثوار فی النجف. و بقیت العشائر کلها محافظة علی الهدوء عدا شیخین صغیرین معروفین بتمردهما علی القوانین کانا مشترکین بالمؤامرة کما ظهر فیما بعد. غیر أنه لیس هناک شک بأن العشائر کانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 267
کلها ترمق النجف باهتمام، و ان أی تدابیر فعالة کانت ستتخذ ضد المدینة المقدسة کانت ستثیر شیئا لا یستهان به من النقمة و الغضب. لکن الخطر الرئیسی فی رأی (المس بیل) کان ینطوی فی عکس ذلک، لأن التقصیر فی الاقتصاص من قتلة ضابط بریطانی کان سیضع أرواح جمیع زملائه تحت رحمة أناس مثل الحاج سعد الحاج راضی الذین کان یحرضهم الذهب الترکی. و لا أدری کیف توفق (المس بیل) بین قولها هذا و بین اعتماد الإنکلیز علی الحاج سعد و زملائه فی تمشیة أمور البلد عند انسحاب الترک منها.
فبادر القائد العام لقوات الاحتلال البریطانی فی العراق، الجنرال (مارشال)، الی العمل السریع الحاسم علی حد تعبیر ویلسن فقد سیق الی النجف فی الحال لواء کامل من الجیش البریطانی فحاصرها بقیادة الجنرال (ساندرز) حصارا تاما.
ثم أعلنت علی الملأ الشروط المؤدیة الی رفع الحصار عنها. و کانت الشروط کالآتی:
(1) تسلیم المحرضین علی مهاجمة الکابتن مارشال و المشترکین فی قتله من دون قید أو شرط.
(2) دفع غرامة عینیة من السلاح قدرها ألف بندقیة.
(3) دفع غرامة نقدیة قدرها خمسون ألف روبیة.
(4) نفی مائة شخص الی الهند و اعتبارهم أسری حرب
(5) و الی أن تنفذ هذه الشروط بحذافیرها تحاصر البلدة حصارا تاما، و یقطع الماء و الطعام عنها.
و یضیف (أرنولد ویلسن) الی هذا القول ان العلماء الشیعة فی ایران و العزاق کله قد اتصلوا بأقرب الموظفین البریطانیین الیهم و أبدوا لهم تخوفهم من النقمة و السخط العام علی هذه التدبیر. و عبرت الحکومة الإیرانیة نفسها للوزیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 268
البریطانی المفوض لدیها عن مخاوفها من أن تؤدی أخبار هذه الحرکة الی قیام رجال الدین فی بلادها بما یتکون من نتیجة وضع مخطر فی البلاد. ثم وصلت الی القائد العام برقیات، من حکومة الهند فی کلکتا و وزارة الهند فی لندن، تدل علی التخوف الذی کان یساور المسؤولین مما قد تؤدی الیه مثل هذه التدابیر الحاسمة.
و فی الیوم السابع من نیسان احتل الحیش أکوام التراب المجاورة لمحلة الحویش، لأنها کانت تسیطر علی البلدة سیطرة تامة، و أخلی من بقی من الموظفین فی داخل البلدة عنها. و فی خلال الأیام القلائل التالیة استولی الجنود علی جمیع الحصون التی کانت موجودة فی السور. و فی أثناء سیر هذه الحرکات لم تطلق إطلاقة واحدة علی البلدة نفسها کما یؤکد السر (أرنولد ویلسن) و (المس بیل) فی کتابیهما، و حوفظ علی علاقات ودیة مستدیمة مع المجتهد الأکبر السید کاظم الیزدی.
و فی العاشر من نیسان 1918 بدأ استسلام القتلة (کما یزعم) و الرجال الذین ادخلت اسماؤهم فی قائمة المشتبه بهم. و لم یحل الیوم الاول من مایس حتی کان (102) من مجموع (110) اشخاص فی قبضة الجیش المحاصر و هوجم الحاج عطیة من قبل عنزة الموالین للانکلیز فسلم نفسه فی السماوة قبل نهایة نیسان، و فی 4 مایس رفع الحصار عن النجف. ثم عین ضباط ثلاثة من ذوی الکفایة و الاهلیة لمحاکمة القتلة، و جرت المحاکمة باللغة العربیة کما تزعم (المس بیل) فحکم علی ثلاثة عشر شخصا بالاعدام ، و أبدل القائد العام الحکم علی احدهم الی السجن المؤبد. کما حکم علی خمسة بالسجن المؤبد کذلک، و علی اثنین بالسجن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 269
لمدة أقصر، یضاف الی ذلک ان مائة شخص مشتبه بهم سفروا الی الهند کأسری حرب. و تم تنفیذ حکم الاعدام بحق المحکوم علیهم فی الکوفة فی الیوم الثلاثین من مایس.
و مما تذکره المس بیل ان اجتماعا قد عقد بعد ظهر الیوم نفسه فی دار کلیدار النجف، قدمت فیه الی الحاکم السیاسی الکابتن بلفور جماعة و قالت انها تمثل رجال الدین و الأهالی و شیوخ المحلات «سیف شرف» علی سبیل الهدیه .
و بعد عشرة أیام قام القائد العام بزیارة رسمیة للبلدة فذبحت له الذبائح عند دخوله من بابها بصورة لم یسبق لها مثیل منذ زیارة ناصر الدین شاه ملک ایران، ثم جرت حفلة استقبال فی بیت الکلیدار حضرها العلماء و الوجوه و الشیوخ علی ما تزعم (المس بیل) و فی الخطاب الذی ألقاه القائد العام بهذه المناسبة أوعز الحاکم السیاسی بتأسیس دائرة «بلدیة» تتولی شؤون البلد و تنظیمه، و وعد بالعمل علی تحسین میاه الشرب. و قد حضر هذه الحفلة السر (ارنولد ویلسن) نفسه کذلک. و هو یقول فی کتابه ان الکلیدار تکلم فیها مبدیا ارتیاحه و ارتیاح الناس المتناهی لأنقاذهم من ایدی «الأشرار». و حینما قدم السیف للکابتن بلفور الحاکم السیاسی ناشده ان یدافع به عن حریة البلدة و سکانها فی المستقبل کما فعل فی السابق. و یذکر ویلسن کذلک ان الکلیدار قدم له هو ایضا خاتما فخما من الذهب و مفتاحا من الفضة.
و المعروف بین المطلعین من الناس، و فی بعض المراجع المحلیة، ان الذین تم تنفیذ حکم الاعدام فیهم هم: کریم، و أحمد، و محسن، اولاد الحاج سعد الحاج راضی، و رابعهم عبدهم سعید، و عباس علی الرماحی، و علوان علی الرماحی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 270
و کاظم صبی، وجودی ناجی، و مجید بن مهدی الحاج دعیبل، و الحاج نجم، و محسن ابو غنیم. اما المنفیون من أهل النجف فقد کان من بینهم الشیخ محمد جواد الجزائری و السید محمد علی بحر العلوم، و سعد الحاج راضی و الحاج عطیة ابو کلل و أولاده و أقاربه. و قد تدخل الشیخ خزعل شیخ المحمرة بأمر الشیخ الجزائری و السید بحر العلوم فأعفیا من النفی و أقاما فی المحمرة برعایته.
عباس الخلیلی فی اول معرکة من معارک الاستقلال (ثورة النجف الاولی) و هو الوحید الذی نجا من حبل المشنقة و قد حکم علیه بالاعدام غیابیا
و لا شک ان معظم العراقیین، و النجفیین خاصة، یعتقدون ان ثورة النجف هذه کانت حرکة وطنیة مهدت الأمر لاندلاع نیران الثورة العراقیة المعروفة فی 1920، التی استحصلت للعراق استعلاله و حکمه الوطنی. و هذا کما لا یخفی مغایر لبعض ما یفهم من لهجة (المس بیل)، و (أرنولد ویلسن)، و غیرهما بطبیعة الحال. و تکاد المس بیل تعترف فیما کتبته بان هذه الثورة کانت مقدمة لثورة العشرین المعروفة، و لکن بلهجتها المعهودة. فهی تقول بعد سرد الحوادث المذکورة أن کربلا و النجف بقیتا تکوّنان قنبلة مزدوجة للفوران السیاسی الذی کانت تسهل اثارته برد الفعل للحوادث التی تقع فی ایران او بما یحدث من الأحداث فی العراق نفسه. ثم تضیف الی ذلک قولها: و لم تعر القبائل المجاورة التی کانت مشغولة بزراعتها التفاتا لما وقع، برغم أنه فی شتاء 1918- 1919 دبر المجتهدون المتحرکون اثارة بعضها کما سیذکر فیما بعد. بالاضافة الی قولها الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 271
اشرنا الیه من قبل و اعترافها بکون هذه الثورة ربما کانت تکون ذات قیمة لو جاءت فی وقتها المناسب اذ تقول عن ثورة النجف «.. ان الانفجار الذی وقع فی النجف کان من المحتمل ان یکون قد حصل قبل أوانه- أی قبل ان توضع الخطة وضعا تاما له-».

التفکیر بتأسیس حکم وطنی فی البلاد

و بعد هذه الحوادث المثیرة التی برهنت فیها النجف للانکلیز علی صلابة عودها وقوة شکیمتها، حدثت تطورات خطیرة فی احوال العراق و السیاسة العالمیة. فقد انتهت الحرب ما بین بریطانیة العظمی و الامبراطوریة العثمانیة.
و أعلنت الهدنة بینهما فی 30 تشرین الاول 1918. و فی 8 تشرین الثانی 1918 أعلن فی العراق التصریح الانکلیزی- الفرنسی الذی وعد فبه الانکلیز و الفرنسیون بتأسیس «حکومات و ادارات وطنیة حرة تنتخب وفق رغائب الأمة و تستمد سلطتها منها» للاقوام و البلاد المنسلخة عن الدولة العثمانیة و حکمها الجائر. و فی 11 تشرین الثانی 1918 سمحت السلطات المحتلة بأن تنشر فی العراق بنود الرئیس ویلسن الأربعة عشر، التی کانت الدول الحلیفة و المرکزیة قد اتفقت علی اتخاذها أسسا لعقد الصلح فیما بین الفریقین المتحاربین. فما کان من الجنرال (مارشال) القائد العام لقوات الاحتلال البریطانی فی العراق بعد أن اعلنت الهدنة إلا أن یدعو علی عجل وجهاء بغداد و رجالها المعروفین فیلقی علیهم خطابا طبعت نسخ کثیرة منه بالعربیة و الانکلیزیة، و وزعت فی جمیع انحاء المناطق المحتلة. و قد اشار الجنرال (مارشال) فی خطابه هذا الی بیان سلفه الجنرال (مود) الذی اذاع فیه بعد احتلال بغداد بأن الانکلیز قد جاءوا «محررین لا فاتحین». ثم أعلن علی الملأ رفع القیود الکثیرة التی کانت تقتضیها ظروف الحرب و القضاء علی العدو. و من جملة ما رفعت عنه القیود بمقتضی هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 272
الخطاب نقل الجنائز من مختلف الجهات و دفنها فی مدافن النجف و کربلا بشروط مناسبة علی حد قول (أرنولد ویلسن و فتح الطرق للزوار الذین یقصدون العتبات المقدسة فی ایام الزیارات المعتادة.
و قد أدت هذه التطورات الخطیرة، و الوعود الرسمیة المهمة، الی حدوث نشاط سیاسی فعال فی اندیة بغداد و محافلها السیاسیة فتأثرت به جهات البلاد الاخری، و لا سیما النجف و الفرات الاوسط کله، الی درجة لا یستهان بها، و تقول (المس بیل) فی تقریرها المشار الیه ان التصریح الانکلیزی الفرنسی الذی صدر بعد الهدنة کان له وقع مهم بین العراقیین. فان بعضهم کان یعتبره دالا علی عدم تأکد مذیعیه من المستقبل، و ذهب البعض الآخر الی نقیض ذلک و أخذ یفسر الرغبة التی اعرب عنها الحلفاء بتصریحهم فی تأسیس حکومة وطنیة فی العراق بأنه اعتراف بمقدرة العرب علی الاضطلاع بمسؤولیة الادارة الوطنیة من دون مساعدة او سیطرة. و ما مر اسبوع علی نشر التصریح فی بغداد، حیث تکون الاطماع السیاسیة علی درجة کبیرة من التطور بالنسبة لجهات العراق الاخری، حتی کانت فکرة تنصیب امیر عربی فی العراق موضع بحث فی کل مکان و قد صادفت قبولا عاما فی الاوساط المسلمة.
و قد وصلت الی الجهات المسؤولة ببغداد فی هذه الاثناء (30 تشرین الثانی) تعلیمات من لندن یطلب فیها ان تقوم السلطات المحتلة باجراء استفتاء عام فی العراق، لأن الحکومة البریطانیة کانت تتجه نیتها الی «قضیة تأسیس أحسن شکل للحکومة فیه ». و طلب ان یکون الاستفتاء علی النقاط التالیة!
1- هل یفضل العراقیون تأسیس دولة عربیة واحدة تستهدی بارشادات یریطانیة، و تمتد من حدود ولایة الموصل الشمالیة الی الخلیج؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 273
2- و فی هذه الحالة، هل یرون ان الدولة الجدیدة یجب ان یکون علی رأسها امیر عربی؟
3- و اذا کان الامر کذلک، من هو الذی یفضلون نصبه رئیسا للدولة؟
و حینما صرح السر (ارنولد ویلسن) وکیل الحاکم الملکی العام، بالأمر و اتخذ ما یلزم لاجراء الاستفتاء فی البلاد اصدر تعلیمات خاصة الی الحکام السیاسیین فی الالویة بأن یتأکدوا من الحصول علی نتائج تکون مطابقة لمقترحاته التی کانت تعارض فی تشکیل حکم وطنی فی البلاد، کما کان یرید البعض من رجال الإنکلیز. و لذلک اتخذت السلطات الإنکلیزیة جمیع التدابیر و الاحتیاطات للتأثیر علی النتائج الحقیقیة فی جمیع المناطق. فکان لها ما أرادت فی مناطق کثیرة، لکنها لم تستطع الحصول علی ما کانت نریده بسهولة من النجف و کربلا و الکاظمیة و بغداد. و یقول الدکتور فیلیب (آیرلاند) الأمیریکی فی کتابه (العراق- دراسة فی تطوره السیاسی) فی هذا الشأن ان سیر الاستفتاء فی المدن المقدسة مثل النجف و کربلا و الکاظمیة، و فی بغداد، لم یکن سهلا کما ان نتائجه لم تکن علی الوجه المطلوب. فقد مر فی النجف بمراحل ثلاث بالنسبة لموظفی الحکومة المسؤولین عن سیره. إذ استبان لأول وهلة بأنه سوف لا یجابه صعوبة کبیرة. و لما کان وکیل الحاکم الملکی العام یدرک أهمیة النجف الستراتیجیة، فقد واجه بنفسه الأشراف الذین کانوا یمثلون جال الدین و شیوخ العشائر و أوضح لهم ان المطلوب منهم الإجابة علی أسئلة ثلاثة لا غیر. فکانت النتیجة الاعتراف بتفضیل الحمایة البریطانیة علی البلاد الممتدة من الموصل الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 274
الخلیج من دون تعیین أمیر. ثم یقول آیرلاند انه بعد مرور یومین علی هذا الاجتماع وصل الی النجف من بغداد رجل شیعی ذو شهرة محلیة و حرض الوجهاء علی عدم إرسال العریضة الأصلیة. و عندما علمت السلطات بالأمر اتصلت بالوجهاء البارزین و منهم (السید کاظم الیزدی)، و بمساعدته توصلت الی «نتائج ناجحة» و نظمت سلسلة تتألف من أربع عشرة مضبطة استحصلت من بعض الأشخاص و الجماعات. و قد طولب فی بعضها بالحمایة البریطانیة و بتعیین أمیر علی رأس الدولة عندما تکون البلاد مستعدة لذلک. علی انه طولب بعدة مضابط أخری بحکومة عربیة یرأسها أمیر من دون أن یذکر شی‌ء عن بریطانیة العظمی مطلقا (انتهی قول آیرلاند).
و تقول (المس بیل) فی مذکرة قدمتها الی الجهة المختصة عن «الحکم الذاتی» فی العراق فی شباط 1919 (یوجد نصه فی ملحقات الجزء الثانی من کتاب ویلسن)، «.. ان أحد الشبان الشیعة فی بغداد زار النجف بعد یومین بحجة الأشغال الخاصة، و شرع بتنفیذ خطة موضوعة لإقناع أهالی النجف و الشامیة بالعدول عن التوقیع علی المضبطة المتفق علیها. و کان مثیر هذه الفتنة رجلا ذا شهرة غیر قلیلة ککاتب و أدیب، کما کان مستخدما عندنا فی دائرة الشرطة فأخرج منها بسبب خشونته قبل ما یقارب السنة . و لما کان هو نفسه قد وقع بعد ذلک علی إحدی مضابط بغداد التی تفضل الشیخ کاظم الدجیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 275
استمرار السیطرة البریطانیة فان توقیعه مع الجهة المقابلة لا قیمة له. و عند وصوله الی النجف ادعی بأنه «وکیل سری»، من وکلاء الحکومة فحکم علیه حاکم الشامیة السیاسی من أجل هذا بالحبس لمدة اسبوعین أعید بعدهما الی بغداد.
و بنتیجة النشاط الذی أبداه لم ترسل المضبطة الأصلیة من النجف و الشامیة، و إنما أرسلت بدلا عنها سلسلة من المضابط تختلف عملیا عن المضبطة الأولی.»
و یبدو من هذا کله ان الإنکلیز لم یستطیعوا الحصول علی النتیجة التی کانوا یریدونها من النجف، و إنما استحصلوا تواقیع الخائفین و الممالئین لهم بأسالیبهم المعهودة. و یؤید هذا ما تذکره (المس بیل) من ان النجف و منطقة الشامیة، التی تعد النجف تبعا لها فی الادارة یومذاک، کان الرأی العام فیهما له عدة أوجه لکنه کان من الممکن أن یستنتج من کل ذلک ان الناس هناک کانت تفضل تنصیب أمیر مسلم یستظل بالحمایة البریطانیة. و قد ذکرت أسرة شریف مکة بهذه المناسبة. و یعترف الکابتن بلفور الحاکم السیاسی لمنطقة الشامیة فی تقریره الأداری المقدم الی الجهات المختصة فی 1919 بأنه قد وجد من الضروری أن یضغط رسمیا علی (النجف) قبل أن تستحصل من وجهائها المضابط المرغوب فیها.

وحدة الصف الوطنی‌

و الظاهر ان إجراء الاستفتاء العام فی هذه المنطقة، و محاولة الإنکلیز الحصول علی نتائج مصطنعة تتفق و أغراضهم الاستعماریة، کان نقطة الانطلاق التی بدأت منها الحرکة الوطنیة فی بغداد و النجف، و غیرهما من معاقل النضال ضد الاحتلال البریطانی الغاشم، بالانتشار و التوسع. و کانت أولی ثمار هذه الحرکة اتفاق الکلمة بین السنّة و الشیعة فی جمیع أنحاء العراق علی العمل المشترک ضد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 276
السلطات المحتلة، و السعی للحصول علی الاستقلال التام للبلاد و تکوین حکومة وطنیة فیها و مما یرویه المستر (فیلیب آیرلاند) فی کتابه المشار الیه ان هذا «التحالف قد ظهرت أولی بوادره فی صیف 1919 حینما حضر رجال السنّة الحفلتین التأبینیتین اللتین أقیمتا بمناسبة وفاة المجتهد الشیعی الأکبر «السید محمد کاظم الیزدی.» و یذکر کذلک ان «الهوة» التی کانت تفصل بین الطائفتین قد ملئت بفضل الجهود الحثیثة التی بذلها الزعما، الوطنیون، و من أبرزهم الزعیمان الشیعیان السید محمد الصدر، و جعفر أبو التمن. ثم ینتهی الی القول بأن التوافق الذی حصل بین الطائفتین قد وسع مجال العمل للحرکة الوطنیة و زاد فی قوتها، فأدی ذلک الی أن تنطوی تحت لوائها العشائر الشیعیة و الجماهیر التی تقطن المدن و الأریاف التی کان تعصبها یتعالی و یخمد بمشیئة رجال الدین التی تکاد تکون غیر محدودة علیهم .. و قد وجد الوطنیون فی المدن المقدسة و بغداد ان المناطق التی تقطنها قبائل الفرات الأوسط و الأسفل، و هی شیعیة فی الغالب، کانت أخصب تربة یبذرون فیها بذور دعایتهم السیاسیة- الدینیة، بالإضافة إلی الدعایة التی کانت تبث بین قبائل بنی تمیم و العزة و القبائل المحیطة ببغداد و بعقوبة .
و هکذا تقدم سیر الحرکة الوطنیة فی البلاد، و تعاظمت شعلتها المتوسعة، حتی تهیأ الجو لاندلاع نیران الثورة العراقیة المعروفة فی 30 حزیران 1920.
و قد کان للنجف القدح المعلی فی تهیئة الظروف للثورة بطبیعة الحال، بالنظر للنفوذ الدینی و الاجتماعی الذی کانت تتمتع به ما بین القبائل الفراتیة التی قدحت فی زنادها، و لما کان یتوفر فیها من نخبة ممتازة من الشباب المثقف الذی کان یدرک معنی الوطنیة الحقة و الاستقلال التام تمام الادراک و نظرا لأن العلماء الاعلام کانوا فی مقدمة المکافحین من أجل الاستقلال التام للبلاد، و المناضلین ضد التسلط الأجنبی الغاشم، فاننا نجد فی کتابات عدد غیر یسیر من الانکلیز و غیرهم أنهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 277
یحاولون الحط من قیمة الثورة و جعلها مدفوعة بدوافع لیس فیها غیر التعصب الدینی الضیق. غیر أنی لاحظت ان المستر (فیلیب آیرلاند) (الأمیرکی) یعلل هذه النقطة تعلیلا بارعا و یجلوها بأحسن وجه. فهو یقول انه لیس من المستغرب أن نری فی بلاد توجد فیها الاختلافات الدینیة و الطائفیة بجانب الاختلافات العنصریة و القومیة، و یطغی فیها التعصب الدینی، و یفتقر وضعها العام إلی إحلال الولاء للدولة فی محل الإنقیاد للسلطة الدینیة، بأن تکتسب الوطنیة، التی نشأت کحرکة سیاسیة یؤازرها الناس من مختلف الطبقات، صبغة دینیة فتحظی بتعضید الطبقة الروحانیة و رجال الدین. فقد تذکر رجال الدین بأن الأمجاد العربیة الغابرة فی دمشق و مصر و شمالی أفریقیة و فی مدینة العباسیین العتیدة قد بلغت أوجها فی الأیام التی کان یسود فیها الإسلام، و عندما کان الخلیفة رئیسا للدولة و حامیا للمسلمین. و لذلک فان الوطیة کانت تعنی فی عرفهم، و لا سیما فی عرف علماء الشیعة، تأسیس دولة إسلامیة من جدید یکون للطبقة الروحانیة فیها مرکز شرعی مسیطر. و یعنی ذلک بلا ریب وجود دولة متحررة من رق التأثیرات الغربیة الملوثة، و مطهرة من رجس المیول و الانجاهات العلمانیة. و الواقع ان تقارب الاستقلال السیاسی و الدینی، و تعاون السیاسیین مع زعماء الدین، کانا یشبهان التوافق الذی جری بعد الحرب بین الطائفتین السنیّة و الشیعیّة. و معنی هذا بوجه عام توحید النواحی السیاسیة و الدینیة من الحرکة الوطنیة فی عمل واحد.
أما أرنولد ویلسن، وکیل الحاکم الملکی العام الذی یعتبر المسؤول الأول عن التصرفات الشائنة التی أدت الی الثورة، فیعاکس ذلک و یقول ان رجال الدین فی النجف و کربلا و الکاظمیة کانوا باستثناء البعض منهم یقاومون علنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 278
تشکیل حکومة دنیویة منظمة من أی نوع کان علی الرغم من ازدیاد وارداتهم ازدیادا کبیرا بعودة الزوار الی التوارد علی العتبات المقدسة من جمیع أنحاء العراق و إیران بمقیاس لم یسبق له مثیل من قبل. فقد بلغ عدد الزوار الذین زاروا النجف و کربلا فی یوم العید الأضحی (1920) حوالی الخمسین ألف .
و لا شک ان ما یقصده ویلسن بالحکومة الدنیویة الحکومة التی یرید تشکیلها هو بإشرافه و إشراف زملائه تأمینا لمصالح بریطانیة الاستعماریة فی البلاد. هذا و هو یستبعد علی العلماء الأعلام الإهتمام بشؤون البلاد و سکانها، و التمسک بالروح الوطنیة التی یقف منها الدین الحنیف موقفا مشجعا، و کأن کل ما یجب أن یهتموا به فی نظره هو ازدیاد الواردات و جمع الثروة و النظر الی الأمور بالمنظار المادی وحده.

نذر الثورة

ان جمیع المراجع المذکورة تشیر الی أن زعماء الحرکة الوطنیة فی النجف الأشرف و الفرات الأوسط کانوا علی اتصال بأقطاب الحرکة «الشریفیة» التی نشطت للعمل بعد تنصیب الملک فیصل علی رأس الدولة العربیة فی سوریة و قد کان معظم هؤلاء من الضباط العراقیین الدین حاربوا فی صفوف الجیش العربی الذی تشکل فی الحجاز بعد إعلان الثورة العربیة فی 9 شعبان 1916. فیقول (المستر آیرلاند) ان سلسلة من الرسائل مؤرخة فی 23 رجب (12 نیسان 1920) و معنونة الی ملک سوریة (فیصل) و ملک العراق (عبد اللّه) وقعت فی أیدی السلطات البریطانیة یومذاک. و کانت تنطوی علی تهنئة للأمیرین علی انتخابهما، و ترحیب (بعبد اللّه) من رعایاه الموالین. و قد کان الموقعون علیها شیوخ و سادة الشامیة و السماوة و الرمیثة (بنی حجیم) و قبائل المنتفک، و وجهاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 279
و سادة النجف و الکوفة و الحلة. ثم ینهی الموضوع بقوله ان کل واحد من الموقعین، إلا اثنین منهم، کان ممن قاموا بدور رئیسی فی ثورة 1920 .
و لا یخفی ان ذکر (عبد اللّه ملک العراق) یشیر الی قیام الضباط العراقیین، الذین اشترکوا فی حملة فیصل بن الحسین علی سوریة، بإعلان عبد اللّه فی الشام ملکا علی العراق بعد أن نودی بأخیه فیصل ملکا فی سوریة.
اما المس بیل فتقول فی هذا الشأن ان اول تأثیر للدعایة الشریفیة المنبثة من سوریة و بغداد قد ظهر فی منطقة الشامیة، حیث یکون تأثیر المدن المقدسة الدینی علی أشده ... و ان الشعور بعدم الاستقرار هناک قد ادی الی استقالة اعضاء المجلس المحلی الذی تشکل حدیثا. ثم تقول ان العنصر الدینی الشیعی فی المدن المقدسة کان منهمکا فی حبک الدساس قبل ان تبدأ الحرکات و القلاقل العلنیة فی بغداد. و ان وفاة (السید کاظم الیزدی) قد ادت الی انتقال السلطة الدینیة فی العالم الشیعی الی ایدی المرزا محمد تقی الشیرازی المتقدم فی السن الذی کان یصرّف أموره فی جمیع الشؤون ابنه المرزا محمد رضا. و کان هذا الابن رجلا سیاسیا فعالا لا یستقر علی حال ... ثم تعدد الحوادث التی کانت تعتبر نذرا لوقوع الثورة فتقول فی جملة ما تقوله عن ذلک ان الحاکم السیاسی فی الدیوانیة کتب فی احد تقاریره ان جثة احد افراد الشبانه لم یسمح بدفنها فی النجف علی الأصول الشیعیة المعروفة، و ان الاستقالات من خدمة الحکومة أخذت تزداد یوما بعد یوم. و بعد ان نودی بملکیة الأمیر عبد اللّه فی دمشق فی الیوم التاسع من مارت 1920 طلب الی شیوخ جمیع القبائل ان توقع علی وثیقة یطلب فیها منه ان یتوجه لتسلم مملکته.
و لا شک ان (المس بیل) کانت فی وضع یمکنها من الإحاطة بجمیع ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 280
یحدث، و لا سیما فی المدن المقدسة التی کانت تولیها عنایة خاصة و ترقب سیر الأمور فیها بعین بصیرة. و کثیرا ما کانت تزور النجف علی الأخص و تتفقد الاحوال و الاتجاهات فیها لتکون الاستخبارات التی تجمعها کاملة عندها من جمیع الوجوه. فقد زارتها فی الأیام الأخیرة من سنة 1919 قادمة من منطقة الشامیة مع الحاکم السیاسی (نوربری) و معاونه (الکابتن مان). و لذلک نجدها تکتب عن النجف فی رسالتها المؤرخة فی 4 کانون الثانی 1920 بأنها فرحت لأن منزلتها فی هذه المدینة المقدسة أصبحت تعلو و یزداد شأنها.
فقد کانت من قبل لا یمکنها ان تواجه المجتهدین و رجال الدین الکبار علی حد تعبیرها و لا تطمع فی ذلک، لأنهم لا یجیزون ان تقع عیونهم علی امرأة سافرة.
غیر انها فی هذه المرة استطاعت ان تواجه مجتهدا من الصنف الاول کما تزعم، و کان من العلماء العرب لا الایرانیین، بعد ان طلب الیها من تلقاء نفسه ان تأتی الی مقابلته. و هی تقول ان النجف مع کونها غامضة متعصبة فان المرء ینجذب الیها انجذابا غریبا یشوبه الاحجام، بجمالها و عمق غورها الذی لا یسبر.

فی ایام الثورة العراقیة سنة 1920

و حینما وقعت الواقعة الاولی من وقائع ثورة 1920 فی الرمیثة یوم 30 حزیران علی ایدی الظوالم، نری المستر (فیلیب آیرلاند) یشیر الی ان القلاقل المحلیة هذه هی التی أشعلت نیران الثورة الکبری فحاصرت القبیلة بأجمعها حامیة الرمیثة و دوائرها الحکومیة بإیعاز من النجف و الکوفة. و یعطف علی ذلک قوله فی صفحة اخری: و فی الثلاثین من تموز ظهر (السید هادی المکوطر) فی منطقة السماوة قادما من النجف و رکّز نفسه فی الخضر، و المزعوم انه کان موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 281
مزودا بمبالغ جسیمة من الذهب ... و قد انضم الیه عدد آخر من السادة و رجال الدین و راحوا یبشرون فی الغراف و الشطرة و الخضر بالجهاد الذی أعلن فی کربلا فی السادس من آب . و یستند (آیرلاند) فی ذلک علی تقریر الملازم (ب هیات) معاون الحاکم السیاسی فی الرمیثة المؤرخ فی 10 آب، و علی مذکرة (المیجر دیلی) الحاکم السیاسی فی الدیوانیة التی قدمها الی المراجع المختصة فی 26 آب حول نشوب القلاقل فی الرمیثة. اما (السر ارنولد ویلسن) فیؤید تحریک الوطنیین فی النجف (للظوالم) فی الرمیثة علی الثورة، و یضیف الی ذلک قوله ان الظوالم قد تشجعوا بالتطمینات التی بذلت لهم بأن شروط الانتداب کانت تحظّر علی البریطانیین استعمال القوة العسکریة ضدهم، و ان جمیع هذه القوات تقریبا کانت قد سحبت الی الهند و ایران .
اما سیر الحوادث فی الکوفة و النجف نفسها فیذکر ویلسن ان الحاکم السیاسی (المیجر نوربری) قد دبر تهدئة الحال فیها خلال ایام الثورة الأولی.
و قد ساعده علی ذلک انه کان قد ادخر کثیرا من الأرزاق و الأقوات التی حصل علیها محلیا، فساعد هذا السلطات العسکریة علی حریة العمل و المحافظة علی السکینة. کما یقول ان (المیجر نوربری) و (الکابتن مان) کانا محبوبین فی المنطقة، و ان عشائر الشامیة کانت قد بقیت هادئة لو لا الانتکاسات التی أصیب بها الانکلیز فی الحلة و الرمیثة و السماوة. و لا شک انه یقصد من ذکره الحلة فی هذا الشأن موقعة (الرارنجیة) المشهورة. ثم یقول ان الاعمال التأدیبیة التی جرت فی النجف علی أثر مقتل الکابتن مارشال معاون الحاکم السیاسی فیها کانت لا تزال تأثیراتها القمعیة فی الناس ساریة المفعول. و لهذا قوبل اعتقال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 282
المرزا محمد رضا نجل المرزا الشیرازی فی کربلا یوم 22 حزیران ببرود، و هدوء لم تکن تنتظره السلطات الإنکلیزیة نفسها من أهالی النجف. علی انه یذکر أیضا أن المیجر (نوربری) دبر مقابلة لرؤساء (آل فتله) فی مضیف الشیخ مجبل الفرعون فی الیوم الأول من تموز 1920 لتهدئتهم، لکن المقابلة لم تکن مثمرة علی ما یقول و کانت مقرونة بتجمعات و حرکات معادیة من بعض الأشخاص.
و فی یوم 5 تموز اجتمع (الکابتن مان) بالشیخ (مرزوق شیخ (العوابد) المجاورة لأم البعرور (الشامیة)، من دون أن یکون هذا الاجتماع مفیدا أیضا. علی أنه یذکر فی هذه الأثناء قولا للسید علوان الیاسری یعتقد أنه کان معبرا عن شعور الکثیرین فی تلک الجهات فقد خاطبه السید علوان قائلا «لقد قدمتم الاستقلال لنا، و نحن لم نطلبه و لم نکن نحلم بشی‌ء مثله حتی أدخلتم فکرته فی رؤوسنا.
و قد عشنا مئات السنین فی حالة بعیدة جد البعد عنه، و حینما جئنا نطلب الاستقلال منکم الآن أخذتم تسوقوننا الی السجون.» و لا ندری ما هو نصیب هذه الروایة من الصحة!
ثم یأتی ویلسن فی کتابه علی ذکر الحالة العشائریة بالتفصیل، و یتطرق الی قیام شیوخ (آل فتله) بالتأثیر علی عشائر بنی حسن و آل شبل و جرهم الی جانبهم بالمال، فقد تسلم منهم الشیخ علوان الحاج سعدون مبلغ ألف باون .
لکن الإنکلیز بادروا الی دفع ألفی باون الی آل شبل بواسطة شیوخ الخزاعل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 283
لیحافظوا علی السکینة. علی ان کفة الثوار قد رجحت فی الأخیر بتدخل السید (نور الیاسری) بنفوذه العریض و ثروته الطائلة فبدأت عشائر آل فتله محاصرة الکوفة فی 13 تموز، و تم احکام الحصار علیها فی یوم 20. ثم قتل (الکابتن مان) بعد یومین و هو یدافع عنها، و لم یرفع الحصار إلا فی 17 تشرین الأول أی بعد مدة تناهز الثلاثة أشهر، و مما یرویه ویلسن عن هذا الحصار ان الحامیة التی اضطرت الی أکل الرز و لحم الخیل فی الأسابیع الثلاثة الأخیرة من أیامه قتل منها خمسة و عشرون شخصا و جرح سبعة و عشرون لأنها کانت تتعرض لقصف المدفعیة من الثوار أحیانا، بواسطة المدفع (عیار 18) الذی غنموه من الإنکلیز بقایا حطام (فایر فلای) التی دمرها الثوار بالمدفع الذی غنموه فی معرکة (الرارنجیة)
یوم 24 تموز 1920. و قد استطاع الثوار تدمیر الزورق المسلح «فایر فلای» الذی کان یعود للانکلیز بواسطة هذا المدفع أیضا. و یثنی کذلک علی «الشبانة» الذین کان معظم جنود الحامیة فی الکوفة منهم، لأنهم صمدوا لضغط الثوار الحربی و المعنوی، و احتقار الناس و ازدرائهم بهم. ثم یشیر الی منع الذین ماتوا منهم فی خدمة الأدارة البریطانیة من الدفن، و إجبار زوجاتهم فی کثیر من الأحیان علی ترکهم و العودة الی آبائهم، و اضطهاد أبنائهم و أقاربهم فی الشوارع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 284
و الطرقات. و قد لاذ علماء النجف الکبار، و علی رأسهم المجتهد الأکبر السید کاظم الیزدی، بالصمت الوجل کما یزعم لکن رجال الدین الصغار شارکوا قادة الحرکة الوطنیة فی تحریض الجماهیر علی الثورة، و مناشدتها باسم الدین و القومیة العمل علی استئصال شأفة الاحتلال العسکری و القضاء علی آخر أثر من آثاره.
و من أهم ما یذکره ویلسن عن النجف فی هذا الشأن انها، و هی کائنة علی بعد أمیال قلیلة عن الکوفة، قد تجمع فیها حوالی مئة و سبعین أسیرا بریطانیا من اسری الحرب، و کان حوالی ثمانین أسیرا منهم ینتمی الی «کتیبة ما نشستر». و کان هؤلاء قد تم أسرهم فی یوم 24 تموز، و ورد أول خبر الی السلطات البریطانیة عن مصیرهم من حمید خان الذی کان قد تعین منذ شهر کانون الأول 1917 وکیلا عن الإدارة البریطانیة فیما بین النهرین فی النجف. و هنا یعزو الفضل فی المعاملة الحسنة التی عومل الأسری بها الی ما بذله حمید خان من جهود فی سبیلهم. لأن حمید خان کما یروی بقی صامدا فی النجف برغم تحذیرات أصدقائه و تهدید أعدائه. و قد أخبر السلطات البریطانیة بأن الاسری لم تعاملهم القبائل الثائرة معاملة حسنة، و أجبرتهم علی السیر علی الأقدام من الکوفة الی أبی صخیر و هم حفاة عراة تقریبا. علی ان قسما منهم کان قد احتجز فی النجف ثم نقل بعد ذلک الی الخارج بالنظر للموقف العدائی الذی کان یقفه الأهلون منهم. و مع هذا فقد جمعوا کلهم فی النجف مرة ثانیة، و هناک لم یدخر حمید خان وسعا فی السهر علیهم و تأمین راحتهم، و اعدا وجوه البلد و أعیانه بالتعویض عن کل ما یصرفونه علیهم من مال و نقود بعد أن تستقر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 285
الامور و تهدأ الأحوال. و مما یدل علی المعاملة الحسنة التی عومل الأسری بها علی علی هذا الأساس الحالة الصحیة الجیدة التی کانوا یتمتعون بها حینما تم إطلاق سراحهم فیما بعد، و لم یصب أحد منهم بسوء سوی موت أحدهم فی أیام الأسر . و هنا ینبری ویلسن لتنفیذ ما یذکره السر (أیلمر هولدین) ، قائد القوات البریطانیة فی أثناء الثورة، فی کتابه (الثورة العراقیة) عن سوء معاملة العرب فی العراق للاسری الإنکلیز. فهو یقول فی ذلک ان العرب و الأکراد لم تعرف عنهم حوادث قسوة و تمثیل تلفت النظر الا حینما کان الأتراک یوجهونهم الی ذلک. و هو یتذکر ان شیئا ذا بال قد ورد من هذا القبیل فی تقاریر الاستخبارات التی مرت علیه .
الحاج محسن شلاش‌

تهدئة الأحوال‌

و الملاحظ فیما یکتبه ویلسن عن الثورة تهجمه علی العلماء و رجال الدین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 286
و المرارة التی تتخلل سطوره تجاههم. و هذا شی‌ء منتظر بطبیعة الحال، و یعد من قبل المدح لهم لأنه یبرهن علی أنهم قاموا بواجبهم خیر قیام فی توعیة الناس و توجیههم فی شؤون دنیاهم و دینهم، و تحریرهم من السیطرة الأجنبیة. و آخر ما نذکره هنا من أقواله هذه قوله «ان استفحال أمر العلماء، و تدخل رجال الدین فی الشؤون العامة، قد استطاع الملوک المسلمون فی إیران و العراق و ترکیة علی السواء إیقافه عند حده فی کثیر من الأحوال و المناسبات خلال السنین الأخیرة (کتب الکتاب فی 1931). و ان الفوضیة و التحریکات الدینیة التی حصلت خلال أشهر الثورة العراقیة قد بلغت حدا من الشدة و الإنتشار بحیث کان یمکن بوجودها أن تکتسح العراق عصابات المتعصبین الغلاة، التی لا یقل تطرفها عن تطرف الوهابیین الذین ظهروا فی أواسط الجزیرة العربیة، لو تهیأت لها شخصیة قویة مثل شخصیة (حمدان قرمط) الذی ظهر فی الکوفة خلال القرن العاشر للمیلاد ».
و لا شک ان الثورة العراقیة هذه قد لقنت الإنکلیز درسا قاسیا فی حکم الشعوب و معاملتهم، و کادت ان تخرج العراق من قبضة أیدیهم لو تسنی لها ان تستقیم مدة أطول. لکنها انتهت بعد مدة تناهز بضعة شهور، و لم یکن بوسع الحکومة أن تأخذ ناحیة الامور بأیدیها إلا فی ربیع 1921 کما یقول (المستر آیرلاند). و یعقب علی هذا بقوله ان النهایة ربما کانت قد حلت بأعجل مما وقع لو لم یصدر رجال الدین فی النجف، المتصلبون فی مناوءتهم للانکلیز، علی ان تجری المفاوضات عن طریقهم فقط. و مما یدل علی تدخلهم هذا ما لاحظه الحکام السیاسیون فی مناطق الدیوانیة و المنتفک من وصول رسالتین الیهم، واحدة من الفرات الأوسط و أخری من الغراف، و قد سبکت اثنتاهما بنفس الجمل و عین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 287
اللغة. و کان فیهما طلب بوجوب تأسیس حکومة دینیة وفقا لقواعد المذهب الشیعی کما یقول الحاکم السیاسی الذی کتب التقریر الأداری عن المنتفک سنة 1919
و یعود (المستر آیرلاند) فیقول فی مناسبة أخری ان مهمة تهدئة البلاد بعد الثورة کانت أهم مهمة فی نظر العراقیین و الموظفین البریطانیین معا. و ان السر (بیرسی کوکس) کان قد ترک فکرة تأدیب العشائر بشدة، علی أنه کان یعتقد اعتقادا جازما بأنهم یجب أن یجبروا علی الخضوع حتی اذا تطلب الأمر استعمال القوة. و لذلک وقف بعزم و صلابة، کما وقف من قبله ویلسن، فی وجه الطلبات المتکررة التی کانت تأتی من رؤساء الدین فی النجف و کربلا بجعلهم وسطاء لدی القبائل التی طلبت هی نفسها ان تکون المفاوضات عن طریق المجتهد الأکبر الذی لا یلقون السلاح إلا بإشارة من عنده. و یذکر فی الحاشیة کذلک ان أهم الشیوخ الذین طلبوا هذا الطلب هو عبد الواحد الحاج سکر و مرزوق العواد.
ثم ینهی الموضوع بقوله: و برفض الاعتراف بمطالیب رجال الدین الشیعة ضرب السر (بیرسی کوکس) ضربته الأولی بالنیابة عن الحکومة الجدیدة التی کانت قوة الحل و العقد التی یتولاها العلماء بأیدیهم تکوّن عقبة کأداء فی طریق تأسیسها. علی ان نصف البلاد کانت فی حالة ثورة فعلیة حینما عاد کوکس لتهدئة الحال علی ما یقول آیرلاند. فقد کانت فی قبضة الثوار کربلا و النجف و طویریج و الرمیتة و هیت و قسم کبیر من وادی الفرات بما فیه القسم الأوسط من خطوط السکک، فضلا عن مناطق غیرها فی أنحاء العراق الأخری.
و حینما تألفت الحکومة الموقتة برآسة النقیب (السید عبد الرحمن الکیلانی)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 288
فی 11 تشرین الثانی 1920 عملت علی تهدئة الأحوال و إعادة المیاة الی مجاریها الطبیعیة فی البلاد، فأعید الوطنیون المنفیون و منهم بعض النجفیین، و وصل عدد من الضباط العراقیین الذین کانوا فی سوریة. ثم قویت الدعایة لتنصیب أحد أنجال الشریف علی رأس الدولة العراقیة المقبلة، و رجحت کفة الأمیر فیصل علی أخیه عبد اللّه فی الأوساط الإنکلیزیة و العراقیة، و لا سیما بعد أن حنثت فرنسة بالعهود فزحفت جیوشها علی سوریة و قوضت ملکیة فیصل فیها علی الوجه المعروف.

مجی‌ء الأمیر فیصل‌

لقد وصل فیصل الی البصرة فی 23 حزیران 1921، و بعد أسابیع ثلاثة نادی به مجلس الوزراء بالاجماع ملکا علی العراق. و حینما کان فی طریقه الی بغداد من البصرة مر بالمدن الفراتیة المعروفة (بالقطار) و نزل فی الحلة فاستقبل فیها استقبالا حافلا، و منها توجه الی النجف و فی صحبته (المستر کورنوالیس) الذی جاء معه من الخارج و (المستر فیلبی) الذی ذهب من بغداد لاستقباله ممثلا عن المندوب السامی. و قد جاء فی کتاب المستر فیلبی الموسوم (الأیام العربیة) عن هذه السفرة قوله: و فی الیوم التالی أقلتنا السیارات الی النجف لنکون ضیوفا علی رجال الدین الشیعة فی تلک المدینة المتعصبة، حیث یرقد آدم و علی تحت الطوق الأرضیة العمیقة و من فوقها الضریحان السامقان. و هنا أیضا کرّمنا تکریما ملکیا و بتنا لیلة واحدة. و قد ابتعدت أنا و (کورنوالیس) عن فیصل بکل تبصر لنفسح المجال له بالتعامل مع المتعصبین بطریقته الخاصة هو- إذ کان یتحتم علیه هنا علی الأقل ان یبذل کل ما بوسعه لیفند الإنطباع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 289
العام القائل بأنه مرشح الحکومة المسیحیة للعرش . لکن الدکتور (آیرلاند) یذکر عن سفرة فیصل هذه الی النجف ان العلماء فیها کانوا متحفظین إذا لم یکونوا قد اتخذوا موقفا عدائیا تجاهه .
و قد وصل الأمیر فیصل الی بغداد فی 29 حزیران متأثرا بعض التأثر من الاستقبال الفاتر الذی قوبل به فی بعض المناطق الفراتیة علی حد تعبیر المستر آیرلاند . غیر ان الحماس فی الترحیب به کان معیدا للاطمئنان فی العاصمة حیث حیّاه عند وصوله المندوب السامی و موظفوه و جمهور هائل من وجهاء العراقیین. کما ان الجماهیر المحتشدة الهاتفة التی غصت بها العاصمة المزدانة بالألوان الشریفیة، الأخضر، و الأحمر، و الأسود، و الأبیض، کانت تعطی دلیلا إضافیا علی ان المدینة قد قبلت به. و ان الاحتفال العظیم الذی قامت به الکاظمیة کان احتفاء شائقا یضاهی احتفاء بغداد به من قبل . و یعمد (آیرلاند) بعد ذلک الی وصف السلوک الذی سلکه فیصل عند اتصاله بالناس فیقول: .. و ان وقاره البسیط و ظرفه الشخصی و حدیثه الفصیح، الصمیمی المفعم بالحکمة، قد تضافر کله فی أن یحصل له علی ثقة الناس به و تأیید الطوائف التی کان یتصل بها کلها، أی المسیحیة و الیهودیة و السنیّة و الشیعیّة برغم ان استقباله فی النجف و کربلا کان استقبالا مکبوتا یلفت النظر .

بدایة الحکم الوطنی‌

لقد سر المندوب السامی و فیصل معا حینما قرر مجلس الوزراء بالإجماع، فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 290
یوم 11 تموز 1921، المناداة «بسمو الأمیر فیصل ملکا علی العراق، علی أن تکون حکومة سموه حکومة دستوریة نیابیة دیمقراطیة مقیدة بالقانون.» لکنهما کانا متفقین علی ان الحالة ما زالت تدعو الی إجراء استفتاء عام یثبت للعالم بأن الشعب قد أعطی رأیه الحقیقی لفیصل، علی ما یقول آیرلاند .. و عند البدء بإجراء الاستفتاء لم تأل المراجع المختصة جهدا فی التأکد من الحصول علی النتائج المطلوبة. و قد أبدی المتصرفون و المشاورون البریطانیون فی معظم الألویة آراءهم فی القرار المتخذ من قبل المجلس. أما فی الألویة الأخری، مثل لواء کربلا، فقد کان المشاور البریطانی أو الموظفون الحکومیون الذین یعتمد علیهم هم الذین یدعون الی عقد الاجتماع. و قد تم الاستفتاء بهدوء، إذ وقعت الصیغة الرسمیة من دون إضافة شی‌ء علیها فی النجف أو کربلا بفضل الحذق و المثابرة الذین أبداهما المتصرف بینما أضیفت بعض الجمل التی تشترط استمرار الانتداب الانکلیزی فی أماکن اخری .
و مع هذا کله فقد کانت نتیجة الاستفتاء علی تنصیب الأمیر فیصل ملکا فی العراق أن حصل فیصل علی 96% من أصوات الشعب علی ما یذکره (آیرلاند) و غیره من کتاب الغرب الذین کتبوا فی الموضوع. و علی هذا الأساس تمت مراسیم التتویج فی یوم 23 آب 1921، و هو الیوم الذی اختاره بنفسه، لأنه کان یصادف یوم «عید الغدیر» عند الشیعة، أی یوم مناداة النبی محمد بالإمام علی أمیرا للمؤمنین و خلیفة من بعده علی حد تعبیر آیرلاند .
و قد ترتب علی الدولة الجدیدة التی ظهرت للوجود بتتویج الملک فیصل ملکا علی رأسها، ان تنظم علاقتها بالدولة المنتدبة (بریطانیا العظمی) بمعاهدة تعقد بین الطرفین فتحل فی محل صک الإنتداب. غیر ان لائحة المعاهدة التی نظمها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 291
الانکلیز و طالبوا بالتصدیق علیها قد تضمنت فی تضاعیفها معظم القیود التی یفرضها علی العراق صک الانتداب نفسه. فتکونت بهذا السبب فی البلاد المعارضة، التی کانت تحظی بالمؤازرة و التأیید من الملک نفسه. و قد کان الرأی العام النجفی، و علی رأسه العلماء، یؤید هذه المعارضة و یعمل علی رفض المعاهدة التی أقرها مجلس الوزراء فی یوم 25 حزیران 1922 بشرط أن یصادق علیها المجلس التأسیسی عند التئامه. و مما یدل فی اشتراک النجف الفعلی فی هذه المعارضة ان علماءها انتهزوا فرصة اعتداء الوهابیین المتکرر علی الحدود العراقیة، و أبرقوا الی سماحة الشیخ مهدی الخالصی فی الکاظمیة بالدعوة الی عقد مؤتمر فی کربلا یحضره رؤساء العشائر وقادة الرأی العام فی البلاد لوضع خطة موحدة تستهدف دفع الخطر الوهابی عنها. و یذهب المستر (آیرلاند) الی ان الوطنیین و العلماء قد انتهزوا فرصة انعقاد المؤتمر فی یومی 12 و 13 نیسان 1922 فعقدوا اجتماعات عدة لوضع خطة خاصة لتنظیم الحرکة الوطنیة بوجه عام. و لذلک نجده یقول ان جلسات المؤتمر الرسمیة برغم أنها لم تؤد إلّا الی نتائج قلیلة لا تخرج عن تقدیم العرائض فان الاجتماعات الخاصة التی عقدت کانت أکثر إنتاجا. فقد نتج عن هذه الاجتماعات تنظیم الکثیر من الحرکات المتأخرة .
و حینما صدرت الإرادة الملکیة فی 19 تشرین الأول 1922 بأن تبدأ انتخابات المجلس التأسیسی فی یوم 24 تشرین الأول کان رد الفعل بعیدا کل البعد عما کان یتوقعه المعنیون بالامر علی ما یقول (آیرلاند) «فقد اتفق العلماء و الوطنیون و مجموع الشیعة فی معارضة تنفیذها، و أقنع علماء النجف و الکاظمیة باصدار الفتاوی فی أوائل تشرین الثانی فی تحریم أی اشتراک کان فی الانتخابات. و قد صدرت الفتاوی من علماء النجف و الکاظمیة مجتمعا فی 8 تشرین الثانی، ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 292
أعقبتها فتاوی اخری أصدرها العلماء علی انفراد. و علی هذا الأساس استقالت اللجان الانتخابیة فی النجف و کربلا و الحلة و الکوفة، و أعلن الموظفون فی الکاظمیة عن فشلهم فی تألیفها»
فبذلت جمیع المساعی لاسترضاء العلماء و لکنها لم تنجح، لأن الفتاوی أعید إصدارها فی حزیران 1923 و قد ذهبت المحافل البریطانیة الرسمیة الی ان العلاج الوحید للمشکلة هو اتخاذ الاجراءات الشدیدة ضد رجال الدین أنفسهم، لأن الفرصة لا یمکن أن تسنح لإلقاء الرعب فی نفوس الجماهیر بحیث یمکن للانتخابات أن تسیر فی مجراها الطبیعی إلا باسکاتهم. و کان رئیس الوزراء (عبد المحسن السعدون) یرتأی هذا الرأی أیضا، إلا ان الملک فیصلا تمادی فی أمله بأن یسترضی العلماء بالطرق الأخری. علی انه حینما حصلت اصطدامات فی 21 حزیران بین الشرطة و سکان الکاظمیة وجد الوزراء، بتحریض مستشاریهم الانکلیز، ضرورة لاتخاذ إجراءات صارمة للثأر لهیبة الحکومة. فأمر مجلس الوزراء بعد حصوله علی موافقة الملک فیصل الذی تلکأ فیها، باعتقال الشیخ مهدی الخالصی و نجلیه حسن، و علی، مع ابن أخیه و إبعادهم الی خارج العراق.
فنظمت علی أثر ذلک مظاهرة احتجاجیة فی الحال، و قد قام بها رؤساء الدین فی النجف، ثم ترک البلاد الی إیران جماعة مؤلفة من تسعة علماء مهمین مع خمسة و عشرین من أتباعهم إظهارا للسخط و احتجاجا علی هاتم . و الظاهر ان هذه التدابیر التعسفیة لم تؤد الی حل المشکل، و إنما أدت الی اضطرار الوزارة السعدونیة الی تقدیم استقالتها فی النهایة. و برغم ان تبدل الوزارة فی مثل هذا الوقت الحرج کان شیئا مقلقا علی ما یروی المستر (آیرلاند) فانه هیأ فرصة مناسبة للملق باسترضاء الشیعة الذی کان متلهفا الیه. و لا یعرف کیف حصل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 293
هذا «الاسترضاء» الذی یشیر الیه (آیرلاند)، و لکن المعروف ان الوزارة الجدیدة التی ألفها جعفر العسکری کان من بین أعضائها الحاج محسن شلاش و هو نجفی الأصل کما لا یخفی و محمد حسن أبو المعالی و هو من کربلا.

النجف فیما کتبه توماس لایل‌

لقد کتب عن النجف فی هذه الفترة اناس آخرون من الانکلیز، و تطرقوا الی شؤون الحیاة الاخری فیها غیر الشؤون السیاسیة التی أتینا علی شی‌ء کثیر منها حتی الآن. و من هؤلاء رجل استعماری ینتمی الی مدرسة (أرنولد ویلسن) وکیل الحاکم الملکی العام الذی أدت تصرفاته الطائشة الی اندلاع نیران الثورة العراقیة فی 1920، و هو المستر (أو الکابتن) (توماس لایل) و کان (لایل) هذا قد جاء مع الحملة البریطانیة من الهند و أشغل وظیفة معاون حاکم سیاسی فی قزلرباط (السعدیة) و الشامیة و النجف منذ 1918 الی 1921، ثم اشتغل معاونا لمدیر الطابو فی بغداد و حاکما فی محاکمها المدنیة بعد ذلک. و قد کتب کتابا عن العراق باسم (دخائل العراق) ، لکنه یفرد فیه فصلا خاصا للنجف و العتبات الشیعیة المقدسة و یبحث فی معظم صفحاته عن الشیعة و معتقداتهم و أحوالهم الاجتماعیة بوجه عام. و لم أجد بین الکتب الانکلیزیة التی کتبت عن العراق کتابا مثل هذا مشحونا بالطعن و السب و إیراد المثالب، و المغالطات و سوء الفهم للکثیر من أحوال العراق بوجه عام و أحوال الشیعة و معتقداتهم بوجه خاص. و یستبان من تحامله الذی سأذکر شیئا منه إنه رجل موتور من العراقیین، لا سیما و قد کتب کتابه فی أعقاب الثورة العراقیة التی اندلعت نیرانها من النجف و ما یحیط بها من مناطق الفرات الأوسط فأربکت خطط الانکلیز موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 294
الأمیرالیة و أسقطت ویلسن و جماعته المنتمین الی «مدرسة الهند» الاستعماریة البریطانیة.
و مما یدل علی ما جاء فی الکتاب قوله فی المقدمة «.. و لما کنت مقتنعا اقتناعا جازما، من تتبعی الشخصی، ان العقیدة الاسلامیة هی عقیدة غیر تقدمیة، مثبطة للهمم، و مدمرة لأیة غریزة من غرائز المواطنة الحقة، و الأمانی الوطنیة، فقد جهدت ان أبرهن فی الکتاب علی ان المسلمین و الشیعة منهم غیر صالحین بالکلیة للحکم الذاتی- و سیبقون کذلک مدة من الزمن- الحکم الذاتی الذی لا یرغب فیه المسلم إلا لکونه وسیلة من وسائل التهرب من حکم النظام و القانون» و لا شک ان التطورات التی حصلت فی البلاد الاسلامیة کلها منذ ذلک التاریخ حتی الیوم تکفی للبرهنة علی سخف هذا الرأی و هو یعتقد ان وجود عتبات الشیعة الأربع فی العراق- أی النجف، و کربلا، و الکاظمیة، و سامراء- یجعل من قسماته و أوصافه الممیزة شیئا فریدا فی بابه، و یعتبر مفتاحا لمعرفة أوجه الضعف و القوة فی سکانه. و لذلک فهو یحصر مباحث کتابه معظمها فی هذه العتبات و عقائد سکانها. لکنه مع جمیع ما یحاول إیراده من مثالب لا یستطیع طمس الحقائق الناصعة فی کثیر من الأحیان و المناسبات.
و یبدأ (لایل) بوصف النجف و معالمها، فیذکر ان عدد نفوسها یقدر بخمسة و أدبعین ألف نسمة، و لما کان محیط سورها الخارجی یقل عن ثلاثة أمیال فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 295
طوله فان أحوال النفوس المحتشدة فی داخله خیر للمرء ان یتصورها من ان یحاول وصفها بالعیان. و یبلغ عدد الزوار الذین یمرون من أبوابها فی بعض الأعیاد الکبری حوالی مئة و عشرین ألف شخص. و هو یشبه النجف فی موسم الزیارات باسفنجة کبیرة تمتص جمیع هذا العدد من الزوار، و تقذفهم الی الخارج بعد أربعه أو خمسة أیام و هم فارغی الجیوب لیجدوا طریقهم بوسیلة من الوسائل الی إیران و الهند و الحجاز أو فلسطین علی حد تعبیره. ثم یقول ان سکان النجف یجب ان یقسموا الی طبقتین بارزتین، طبقة رجال الدین المحترفین و طبقة العوام الاعتیادیین. و یعتبر النجف کلها جامعة دینیة واحدة یبلغ عدد طلابها حوالی (6000) طالب. و النجفی الاعتیادی فی نظره نتاج محیطه المشحون بالتعصب، و قد یکون غنیا لکنه لا بد له من أن یتظاهر. بالفقر، و ینظر الی الزوار و البدو الذین یأتون للاکتیال و کأنهم فرائس شرعیون له. أما التاجر النجفی فهو من طراز التجار فی القرون الغابرة، حینما کانت البضاعة تشحن بواسطة القوافل و تمر بأخطار لا حصر لها فلا یعرف ربحها أو خسارتها إلا بعد عدد من السنین، و یکون أقل ربح لهم منها بنسبة مئة بالمئة. و یعتبر الزائر الایرانی المتشبع بالروح الدینیة، و البدوی الذی یذهله حتی منظر البیوت، تحت رحمته علی الدوام. و من عاداته انه یحتفظ بتنکة الدهن ثلاثین سنة فی سردابه بأمل أن یرتفع سعرها قرشا واحدا.
والدین فی رأی المستر (لایل) یتخلل حیاة المجتمع النجفی من جمیع نواحیه.
فهو ینظم (نفسولوجیة) الناس فیه، و بسیطر علی أفکارهم و أعمالهم، و ینساب أبدا و دوما مع التیارات الخفیة المتخللة فی عقلهم الباطن. و بوسع المرء مهما ابتعد عنهم أن یسمع «نوطته» المدویة فی قلب ذاتیتهم واضحة جلیة . ثم یأتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 296
علی وصف رجال الدین، و الحیاة العلمیة بتفصیلاتها و أحوالها المعروفة للجمیع، بعد أن یعترف بأنها أقدس المدن الشیعیة و مقر أعظم المجتهدین و أکبرهم علی الدوام. کما یقارن ما بین الاجتهاد الموجود عند الشیعة و الالتزام بالنصوص الدینیة الأصلیة لدی المذاهب السنیة الأربعة، و یتطرق الی نفوذ المجتهدین و منزلتهم الکبیرة فی العالم الاسلامی. و مما یذکره للبرهنة علی هذا النفوذ الواسع قصة المجتهد الأکبر العلامة المرزا حسن الشیرازی الذی افتی بتحریم انحصار التبغ و إعطاء امتیازه الی شرکة روسیة کافرة علی حد تعبیره فی أواخر القرن الماضی فی إیران. و یذکر کیف ان تلک الفتوی قد أدت الی إبطال الامتیاز و تعویض الشرکة الأجنبیة عن خسارتها. و یعقّب علی هذه القصة بقوله ان عالما من علماء السنة لا یستطیع ان یفعل ذلک. و یشیر کذلک الی ان من حسنات الاجتهاد ان یسمح العلماء الشیعة بتناول الکحول المحرمة عند الضرورة و عند اعتباره دواء شافیا للمرضی فی بعض الحالات. ثم یعدد شروط الاجتهاد التفصیلیة التی ینقلها عن کتاب لقس من المبشرین یدعی (أدورد سیل).
و لا ینسی المستر (لایل) الاشارة الی وادی السلام الممتد خارج السور، الذی یرقد فی أرجائه رقدتهم الأبدیة الکثیرون من الملوک و الوزراء و الوجهاء و التجار، و الأغنیاء و الفقراء. و یشیر الی القراء الذین یقرأون القرآن علی الکثیر من القبور لینیروا ظلمتها الموحشة ببرکته و روحانیته، فیقول ان الزائر لوادی لسلام فی أمسیات الخمیس من کل اسبوع یجد حوالی ألفی قاری‌ء من هؤلاء القراء الذین یحصلون علی قوتهم من هذه المهنة المصطبغة بالتقی و الورع. و لا یحصل هؤلاء علی الکثیر من هذه المهنة، و لذلک فانهم یتقاضون أیضا حصتهم من الصدقات التی یفرقها المجتهد الأکبر علی المحتاجین من الناس عادة.
و یأتی بعد ذلک علی الطرق الضیقة و البیوت المحتشدة فی رقعة صغیرة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 297
الأرض. و أهم ما یذکره عنها ما یشیر به الی السرادیب النجفیة المعروفة التی یقول ان المزیة الفریدة فی النجف وجود طبقة واحدة منها فی کل بیت علی الأقل، و قد توجد فی بیوتها الکبیرة ثلاث أو أربع أو خمس طبقات من هذه السرادیب أیضا. و مزیة هذه السرادیب من الناحیة العملیة فی رأیه ان المرء یتحتم علیه لبس المعطف حینما ینزل الی ما تحت الطبقتین أو الثلاث منها، بینما تکون درجة حرارة الخارج فی حدود ال (125) بالمقیاس الفهر نهایتی. و تتصل کثیر من الدور بعضها ببعض عن طریق هذه السرادیب فتکون وسیلة للجرائم التی تقف مخیلة الرجل المتمدن مشدوهة مرتجفة تجاهها علی ما یقول . و یتطرق المستر (لایل) کذلک الی وجود بئر واحدة فی کل بیت یبلغ عمقها مئة قدم، و فیها ماء أجاج یتسبب عنه الزحار (دیزانتری) أحیانا.
و مع جمیع المغالطات و المئالب التی یوردها المستر لایل حینما یبحث عن الشخصیة النجفیة، و علاقة الشیعة بالسنّة، و جرائم المجتمع، و المتعة و الطلاق و القضایا الجنسیة، و وضع الانکلیز فی العراق مع حقهم بالبقاء فیه، فان الحقائق الناصعة عن الصوم و الالتزام بطقوس الحزن علی الإمام الحسین فی محرم، و شخصیة الإمام علی علیه السلام، لم یستطع بکل ما عنده من تعصب و تحیز أن یطمسها أو یحجب نورها عن نظر القاری‌ء.
فقد کان الإمام علی فی نظره ألمع الأئمة المسلمین و أعظمهم بمراحل. «و قال انه قد عرف فی شبابه و کهولته بالکثیر من المآثر و أعمال البطولة التی تخلذ شجاعته الفائقة فی التاریخ و تبرر لقب «الأسد» الذی لقبه به النبی الکریم، کما عرف فی شیخوخته بورعه و زهده و دماثة خلقه. و لا یسع المرء غیر المتعصب إلا ان یعجب بشخصیته الملهمة المحبوبة للغایة، لما عرف عنه من إخلاص تام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 298
و تفان متناه لمعلمه و سیده النبی محمد. و قد أدی قتله بالطریقة التی قتل فیها الی انتشار شهرته و ذیوع صیته فی الخافقین».
و قد کتب لایل فی کتابه حوالی عشرین صفحة عن محرم الحرام و استشهاد الامام الحسین فیه، و مراسیم اللطم و الضرب بالقامة و السلاسل إحیاء لذکراه و حزنا علیه مما یجری فی النجف کل سنة. و هو یقول فی هذا الشأن ان الحیاة العاطفیة المتطرفة عند العرب و المسلمین تجد متنفسها الکامل خلال الأیام العشرة الأولی من محرم. و إن یوم عاشوراء یعد من أقدس الأیام عند المسلمین لأن اللّه عز و جل خلق فیه آدم و حواء، و العرش و السماء، و جهنم و یوم الحساب، و لوح القدر و القلم و المعاد و الموت. و مما یذکره عن لیلة شهد فیها موکبا من مواکب «اللطمیة» قوله «.. ان السکوت التام الذی کان یخیم علی الجموع المحتشدة، و السماء الاستوائیة العمیقة التی کانت تحیط بکل شی‌ء، و ملاعبة النسیم لسعفات النخیل من وراء المحتفلین، و الصوت الصبیانی الرقیق المرتفع بالحداء المنطوی علی قصة یشعر بفجیعتها المتناهیة کل من یستمع الیها، قد رسمت کلها فی مخیلتی صورة لیس من الممکن لی أن أنساها قط». و یصف جماعات «اللطّامة» فیعجب بجماعة خدام الحضرة المتکونة کلها من السادة، و التی کانت تحتوی علی ما یقرب من مئتین و خمسین شخصا. و یقول عن صوت اللدم علی الصدور انه صوت فرید فی بابه و مفعم بالخوف الممزوج بحب الاستطلاع. و قد سمعه فی لیلة من اللیالی الهادئة و هو فی مکان یقع علی بعد ثلاثة أمیال من النجف.
أما «التشابیه» فیقول عنها إنها تمثل یوم عاشوراء، و تعتبر شیئا موقرا جدا بعد جمیع ما یحدث قبلها. لکنها تکون کثیرة الواقعیة فی بعض فصولها، لأن الجمهور یسلک کما لو کان کل ما یجری أمامه معرکة حقیقیة تقع بین یدیه. و لذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 299
فان الذی یقوم بدور یزید لابد من أن تکون له أعصاب من حدید لأن الجمهور یصبح مخیفا بتهدیداته. و یأخذ بعد هذا بوصف جمیع ما یحدث کما هو معروف لدی الجمیع فی هذه البلاد.
و فی إحدی المناسبات دعا کلیدار النجف المستر (لایل) لیصطحبه الی الصحن فیشهد معه دخول موکب الساده و خدام الحضرة الیه، و کان ذلک فی العاشرة و النصف من مساء الیوم التاسع من محرم الحرام. فجلسوا ینتظرون فی الساحة الخالیة من وجود أی نوع من أنواع الضیاء فی کل مکان، عدا النجوم التی کان یبدو بعضها متلألئا فی کبد السماء الصافیة الخالیة من القمر. و بعد الصمت الذی ظل مخیما علی الجمیع مدة من الزمن دخل الموکب نتخلله أربعة مشاعل ضخمة، تحیط بکل منها جماعة من السادة المعروفین لدیه. و قد کانوا من جمیع الطبقات و الأعمار علی حد قوله، من الأولاد الصغار الی الرجال الملتحین و المسنین الذین أحنت ظهورهم السنین. کما کانوا عراة الی المحزم مع العمائم الخضر التی کانت تجلل رؤوسهم. ثم نهض فجأة صبی لا یتجاوز عمره الثلاث عشرة سنة و ارتقی المنبر فأخذ یقرأ قصة الحسین الشهید بلهجة فصیحة أعجبت المستر (لایل) و لذلک نجده یقول انه کان یعتقد علی الدوام ان العربیة لغة موسیقیة ترتاح لها الآذان، و ان هذا الصبی لا بد من أنه کان قد اختیر لجمال صوته و إجادته فی القراءة. و کان الرائی یلحظ فی النور المختلط بدخان المشاعل مئات الأذرع ترتفع الی السماء و تهبط أکفها لادمة الصدور العاریة بحماسة ظاهرة حزنا علی الحسین و توجعا للامام الشهید، بینما ترتفع أسوات النسوة المولولات من فوق الجمع المحتشد. و یبدو ان المستر (لایل) قد تحسس بهذا المنظر، لأنه یعلق علیه بقوله: «و لم یکن هناک أی نوع من الوحشیة أو الهمجیة، و لم ینعدم الضبط بین الناس، فشعرت و ما زلت أشعر بأنی توصلت فی تلک اللحظة الی جمیع ما هو حسن و ممتلی‌ء بالحیویة فی الاسلام، و أیقنت بأن الورع الکامن فی أولئک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 300
الناس و الحماسة الدینیة المتدفقة منهم یمکنهما أن یهزا العالم هزا فیما لو وجها فی الطرق الصالحة و السبل القویمة. و لا غرو فلهؤلاء الناس عبقریة فطریة فی الدین ».
ثم یقول المستر لایل بعد ذلک ان المجتهد الأکبر نفسه قد أخبره و هو آسف فی لحظة من لحظات ثقته به بأن هذه المراسیم و الطقوس، بجمیع ما فیها من تطرف فی إظهار الحزن و الأسی، هی أشیاء محرّمة تحریما تاما، و إنه لا یستطیع السیطرة علی الناس فیها. فأهون علی المرء أن یصدّ موج البحر الطامی من أن یکبح جماح عاطفة أساسیة فی الجنس البشری مثل عاطفة التعبد للّه و التفانی فی سبیله. و هذه هی القاعدة الأساسیة التی تستند علیها جمیع الطقوس التی تجری فی محرم، مع ان أحدا من المشترکین بها لا یحمل أیة فکرة عن ماهیة هذا الشعور. و یعقب علی ذلک قائلا فی مکان آخر: ان الکثیرین من العرب، و لا سیما الصبیان منهم، هم أصدق معرفة بالدیانة الحقة من مئات (الانکلوساکسونیین) الذین یحضرون صلاة الأحد فی الکنائس و یشترکون فی طقوسها. لأن کل عربی یعلم تمام العلم بأن التدین یعنی احتمال شی‌ء غیر یسیر من التقشف الذی تحتمله الألوف المؤلفة ببهجة و سرور. لکن هؤلاء الناس کما قلت یتصفون بعبقریة طبیعیة فی شؤون الدین. و نحن لا نستطیع الاهتداء الی لمحات من القواعد الأساسیة للشخصیة العربیة و أهمیتها المادیة إلا فی محرم و رمضان .
أما رمضان فیتطرق الی ذکره فی کتابه بما یقرب من عشرین صفحة أیضا.
فیشرح فیها أهمیة الصیام عند المسلمین، و یورد عددا من الآیات الکریمة النازلة به مترجمة الی الانکلیزیة، ثم یقارن هذا الصیام بصیام المسیحیین فیذکر أنه یختلف تمام الاختلاف عن فکرة الصوم التی تتمسک بها الکنیسة الکاثولیکیة، و یکاد یستخف بها. و یتطرق بعد ذلک الی ما فی صیام المسلمین من صعوبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 301
و مشاق بسبب الامتناع عن تناول کل شی‌ء خلال ساعات النهار. و هنا یفنّد ما یذهب الیه بعض الأوربیین الذین عاشوا فی الشرق مدة من الزمن من ان الصیام عند المسلمین عبارة عن مظاهر فارغة لا غیر لأن الناس یسمح لهم بأکل ما یشتهون خلال اللیل. فیقول ان مثل هذا الاتهام المفعم بالجهل و التعصب لا یمکن أن یصدر ممن یکلف نفسه قلیلا فی تفهم أحوال الناس الذین یعیش بین ظهرانیهم و یتعاطف معهم. و یستشهد فی ذلک بأکبر حجة عن العرب و بلادهم، الرحالة الانکلیزی المشهور (ریتشارد برتون). و یستمد علی إیراد الکثیر من البراهین و المناقشات مما لا یتسع المجال لذکره، لکنه یعلق علی ما یقوله المستشرق المعروف (مارغلیوث) (بأن المتعبدین الذین یصومون رمضان فی سوریة و مصر هم فی العادة الفقراء المتعودون علی الجوع و التقشف) و یقول ان الشیوخ فی العراق لا یقلون عن فلاحیهم تمسکا برمضان و مراعاة لشعائره الحکیمة. ثم یعجب المستر (لایل) کیف یستطیع الخاص و العام الامتناع عن التدخین بالاضافة الی الامتناع عن الأکل من دون تذمر ملحوظ. فیصف کیفیة فتح المقاهی فی النجف وقت الافطار و تقاطر الناس علیها لتناول الشای من دون جلبة أو حدة ظاهرة أو تذمر یذکر فی الحصول علیه، سوی ذکر البسملة أو الحمدلة و سائر الجمل المناسبة. و هو یقول ان کرامة العربی الحقیقیة و عزة النفس الأصلیة یمکن ان تلاحظ هنا. و لذلک نراه یشیر الی ان هذا الصیام ینطوی علی الکثیر من ضبط النفس و کبت الشهوات، و یستخف بمن یقول ان حوادث الاحتکاک و المشاحنات تزداد بین الناس خلال الشهر الفضیل لأنه لم یلحظ ذلک حینما کان یشتغل حاکما فی محاکم بغداد المدنیة، و قد یکون الأمر بعکس ذلک علی حد تعبیره.
و قبل ان ینهی المستر لایل ما یکتبه عن رمضان یتطرق الی عید الفطر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 302
و مرسیمه، فیقول إنه شاهد تمتع الناس بهذا العید فی البادیة و المدن، و فی البواخر، فکان یتمنی علی الدوام ان یکون هو نفسه أحد المتمتعین به. ثم یأخذ بوصف مظاهره المختلفة فی النجف، و زیارة الناس بعضهم لبعض من أجل المعایدة، و ما أشبه.
غیر انه یعمد بعد ذلک الی تحلیل النظام الاسلامی بوجه عام، و یزعم فی ذلک انه نظام جاف ضیق الأفق، لا یعترف بالابداع و التقدم، فیربط أتباعه بقانونیة تقتل فیهم کل أمل و تقضی علی أی مجهود یبذلونه فی مهده. و مع هذا یبقی الاسلام الخصم الألد للمسیحیة علی حد تعبیره، و لا سیما فی البلاد الأفریقیة التی تشترک فیها الدیانتان فی منافسة حادة یکون فیها الاسلام هو المجلی فی الوقت الحاضر. ثم یخلص الی القول بأنه لا یستطیع أن یصدق بأن المسؤولین عن السیاسة البریطانیة فی العراق یجهلون حقیقة النظام الاسلامی الذی یتصوره هو فی البلاد الاسلامیة عامة و بین العرب علی الأخص، و یستغرب کیف یفکر المسؤولون فی منح الحکم الذاتی للعرب و هم الذین لا یمکن أن یضطلعوا بذلک إلا بعد مئة سنة . و هنا أیضا أقول ان ما حصل فی البلاد العربیة منذ أن کتب (لایل) هذا الکتاب حتی الیوم یبرهن علی جهله فی هذه الأمور و خطئه فی حکمه المتحیز.
و حینما یبحث عن مستقبل العراق، و علاقته ببریطانیة یعالج الموضوع بصورة «تجاریة» و بحساب الربح و الفائدة. و لذلک نراه یدعو الی وضعه تحت «الحمایة» البریطانیة و إبعاد الداعین الی الوحدة العربیة، لأن حکم سنة واحدة فی العهد الفیصلی قد أدی علی زعمه الی نقص کبیر فی الواردات و إزدیاد فی التفسخ و الفساد. و هذا أیضا حکم لا سند له من الصحة لأن حکم السنة الواحدة من العهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 303
الفیصلی التی یشیر الیها لم یکن حکما وطنیا إلا بشی‌ء من المظاهر، و انما کان حکما إنکلیزیا یسأل عنه الانکلیز فی الدرجة الاولی. و یدعو کذلک الی تقویة الأقلیات، و الالتفات الی الأقلیة الیهودیة التی لم یقدر وضعها و أهمیتها فی هذه البلاد و مع ان الیهود هم العنصر التقدمی فی جمیع البلاد علی ما یزعم، و هم الجماعة المسیطرة علی شؤون المال و التجارة. و من الغریب انه یولی هذه الأقلیة عنایة خاصة فی عدة مناسبات مع أنه غیر یهودی. و لا غرو فإن المستر (لایل) هو مثال الاستعماری البریطانی الذی أدی تصرفه و تصرف أمثاله الی نشوب الثورة العراقیة التی کان للنجف فیها قسط أوفر من الجهود التی یخلدها التاریخ بمداد الفخر و الإعجاب.

موقف النجف الی 1932

و إذا عدنا الی مجری الحوادث فی العراق، و تقصینا ما أسهمت فیه النجف منها، نجد ان قیام الوزارة السعدونیة، التی کان یحرضها الإنکلیز، بمضایقة العلماء فی النجف و الکاظمیة قد أدی الی هجرة بعضهم الی إیران و منهم المرحومان العلامة النایینی، و الحجة السید أبو الحسن احتجاحا علی نفی العلامة المرحوم الشیخ مهدی الخالصی بسبب معارضته فی إجراء الانتخابات للمجلس التأسیسی. و حینما استقالت الوزارة المذکورة علی أثر ذلک، و تشکلت وزارة جعفر العسکری الأولی أراد الملک فیصل أن یسترضی الشیعة علی ما یقول (آیرلاند) و لذلک نجد ان المستر (لونکریک) صاحب کتاب (أربعة قرون ...) یذکر فی کتابه الآخر عن العراق الموسوم (العراق بین 1900- 1950) ان الملک فیصلا زار النجف و کربلا زیارة رسمیة فی کانون الأول 1923، فلقیت زیارته الی تلک المناطق نجاحا باهرا. و الظاهر إنه ذهب الی هناک لیمهد الی إجراء الانتخابات موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 304
و جمع المجلس التأسیسی الذی کانت مهمته التصدیق علی المعاهدة و وضع الدستور.
و قد تم ذلک بالفعل فی وجه معارضة قویة. و یقول المستر (لونکریک) فی کتابه المشار الیه ان الوزارة العسکریة حینما استقالت بعد حل المجلس ألف الوزارة فی 2 آب 1924 یاسین الهاشمی فأشغل وزارة المعارف فی وزارته السیاسی النجفی المثقف الشیخ محمد رضا الشبیبی . لکن المعروف ان الاستاذ الشبیبی استقال بعد عدة أشهر احتجاجا علی منح الوزارة الهاشمیة امتیاز النفط للشرکة الإنکلیزیة بشروط مجحفة للعراق. و مما یذکره (لونکریک) عن هذه الفترة کذلک (1924) ان الحالة فی کردستان کانت غیر مستقرة، بینما کان المسؤولون فی الحکومة البریطانیة منهمکین فی المفاوضة مع ترکیة حول قضیة الموصل و إنهاء مشکلة الحدود بین البلدین. و قد عمد الشیخ محمود فی تلک الأثناء الی الإتصال بالأتراک و الاستعانة ببعض ضباطهم الذین انضموا الیه فی السلیمانیة، و الی إیفاد أناس خاصین الی کرکوک لتحریض الترکمان علی مناصرته فی حرکته، و الی النجف و کربلا بطلب العون و المساعدة.
و قد کانت سنه 1927 مفعمة بالنشاط العام الذی کانت تدیره الأحزاب المعارضة النشطة، مثل حزب الشعب برآسة یاسین الهاشمی و الحزب الوطنی الذی کان یرأسه جعفر أبو التمن و حزب النهضة برآسة أمین الجرجفجی، فی مقابل الحزب الممالی‌ء للانکلیز الذی کان یرأسه عبد المحسن السعدون، و هو حزب التقدم. و قد أدی هذا النشاط الی تخوف رئیس الوزراء جعفر العسکری من تقدیم المعاهدة، التی عقدها مع الانکلیز فی أواخر هذه السنة، علی المجلس النیابی و قیامه بتقدیم استقالته فی أیام 1928.
علی ان المستر (لونکریک) یذکر عن هذه السنة فی کتابه الثانی عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 305
العراق إنها تتمیز بثلاثة أمور ذات أهمیة سیاسیة خاصة. أولها ظهور العنصر الشیعی، من دون دلائل مسبقة، کقوة سیاسیة علی مسرح الحوادث فی البلاد.
و قد کان لا بد لهذه القوة من أن تظهر للوجود بعد أن زال عن الشیعة کابوس المضایقات الترکیة، و قل تأثیر السلبیة المزمنة التی کانت تتصف بها قیادة العلماء لهم فی 1923، و ظهور طبقة منهم تطالب بالاشتراک فی حیاة البلاد العامة و هی لا تقل عن غیرها فی الوطنیة و الثروة و الذکاء بشی‌ء. و لم تعد هذه الطبقة تکتفی بالأقلیة الشحیحة التی تعیّن فی الحکومة من أبنائها و لا بالکرسی الوزاری الوحید المقنن لها. و کان بوسعها أن تعتمد فی نشاطها السیاسی هذا علی طبقة مثقفة بدأت تأخذ بالنمو، و کتلة عشائریة قویة تترکز فی الفرات الأوسط، و مجموعة غنیة طموحة نهمة فی الاستحواذ علی الأراضی الزراعیة و التوسع بها من سادة المنطقة و علی ما بقی من نفوذ العلماء و المجتهدین فی المدن المقدسة و هو شی‌ء لا یستهان به.
و فی هذا الجو المشحون بالانقسامات و الاختلافات وقعت حادثة مؤسفة، فی أوائل 1927، کانت بدایة مناسبة لسلسلة من الحوادث الأخری التی کهربت الجو و استنفدت الکثیر من جهد المسؤولین فی الأوساط الوزاریة. فقد نشر أحد المدرسین (یشیر الی کتاب النصولی عن تاریخ العرب) کتابا اعتبر منافیا للعقائد الشیعیة، فانقسمت الأوساط السیاسیة فی عشیة و صحاها الی فریقین متنابذین، و عقدت الاجتماعات الصاخبة فی بغداد و النجف و سائر المدن المقدسة للمطالبة بحقوق الشیعة. ثم ظهر للوجود من جدید حزب النهضة، الذی لم یعرف له نشاط ملموس منذ 1922، بقیادة شیعیة خالصة. و حینما عرضت الحکومة علی المجلس النیابی «لائحة قانون الدفاع الوطنی» فی هذه الأثناء تضاعفت المعارضة الشیعة للحکومة بمناسبته. و استقال فی الحال الوزیر الذی یمثلهم فی الوزارة السید عبد المهدی، ثم انضم الیهم الأکراد خوفا من التجنید الاجباری الذی کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 306
یتهددهم. فاستبدل السید عبد المهدی بأمین زکی فی المعارف، و عین السید علوان الیاسری وزیرا للری و الزراعة. علی ان رئیس الوزراء عمد الی تأجیل المجلس النیابی لینقذ وزارته، لکن هذا التدبیر لم یؤد إلا الی انتقال النشاط السیاسی الرئیسی من بغداد الی الفرات الأوسط. و قوطع وزیر المالیة حینما قام بجولة الی النجف و ما حولها، و استطاع الملک فیصل بکل ما عنده من سخاء و لباقة معالجة حادث وقع فی الکاظمیة فی الیوم العاشر من محرم ما بین الجنود و المشترکین بالعزاء الحسینی المعتاد. ثم أخذ حزب النهضة یشنع بالوزیرین الشیعیین المشترکین فی الوزارة و یندد بتعاونهما مع الحکومة، و عمد الی تنظیم المظاهرات فی النجف و کربلا و کتابة المقالات الرنانة فی صحفه، فأدی ذلک بیاسین الهاشمی وکیل رئیس الوزراء الی سدها. و حینما اعترضت المقامات العلیا علیه قدم استقالته من الوزارة، و حذا حذوه رشید عالی الکیلانی .
و حینما تشکلت الوزارة السعدونیة الثالثة فی 14 کانون الثانی 1928 للعمل علی تصدیق معاهدة 1927 و إمرارها من المجلس، بعد أن عقدها جعفر العسکری رئیس الوزارة السابقة مع الانکلیز، کان من بین أعضائها الصراف النجفی محسن شلاش علی تعبیر (لونکریک) و مما یذکر عن الحاج محسن فی هذه الوزارة أنه کان مسؤولا عن عقد امتیاز أصفر لاستثمار اللطیفیة، حینما کان وزیرا للمالیة من قبل. و لما کان هذا الامتیاز مجحفا للجانب العراقی تجاه الانکلیز أصحاب الامتیاز، و مبنیا علی أغلاط فنیة غیر یسیرة، فقد طلبت المعارضة (جلسة 17 أیلول فی المجلس النیابی) حینما عرض علی المجلس من قبل هذه الوزارة إقالته و رفع الحصانة عنه تمهیدا لسوقه الی المحاکمة فلم ینفذ الطلب.
و بعد أن استقالت الوزارة السعدونیة الثالثة فی کانون الثانی 1929 تألفت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 307
الوزارة التی تلیها من بین أعضاء حزب التقدم أیضا برآسة توفیق السویدی، فبقی فیها الحاج محسن شلاش فی منصبه أیضا علی ما یذکر (لونکریک) و آخر ما یورد هذا المؤلف کذلک عن الحاج محسن اشتراکه فی وزارة نوری السعید السابعة فی تشرین الأول سنة 1942 و إشغاله منصب الوزیر فی وزارة الاقتصاد، و هنا یسمیه بالتاجر النجفی.

تثمین فی نهایة عهد الانتداب‌

و یتطرق المستر (لونکریک) فی نهایة الفترة التی انتهت بدخول العراق الی عصبة الأمم فی 1932 الی تثمین عام للتقدم الذی حصل فی العراق، فیذکر فی جملة ما یعدده فی هذا الشأن ان محاولات و تجارب أجریت فی الأشهر الأخیرة من هذه الفترة لفتح طریق النجف الی المدینة. ثم یعاود ذکر هذه النقطة بعد ذلک و یقول ان السیر فی طریق النجف- المدینة قد ازداد و توسعت أهمیته فی 1935- 37 (1). و یذکر فی مناسبة اخری کذلک ان الحجاج ظلوا یسافرون من النجف الی البلاد المقدسة عبر البلاد النجدیة سنة 1937.
و حینما یستطرد فی تثمینه للحالة الاجتماعیة و السیاسیة التی کانت تسود العراق فی ذلک التاریخ (1932) یأتی علی ذکر الطوائف و الطبقات الدینیة، و یتعرض علی غیر عادته فی المؤلفات الأخری الی النجف و تأثیراتها الدینیة و غیر الدینیة علی الوضع العام فی البلاد، و کأنه یأبی الا أن یبرهن علی مشارکته لزملائه الانکلیز الآخرین الذین کانوا یسیّرون العراق یوم نشبت الثورة العراقیة فی موتوریتهم من النجف و علمائها و استغلالهم للنعرات الطائفیة المقیتة فی کل فرصة أو مناسبة. فیبدأ بالقول ان إدارة أمة من الأمم، و صلاح أحوالهم السیاسیة، لا یتفقان مع وجود ثقافات و حضارات مختلفة متباعدة بین طبقات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 308
السکان، أو قنوع الولاء، أو مستویات متباعدة فی التطور الاجتماعی. لکن العراق فیه أفلیات غیر مندمجة فی أکثریة السکان، و تباین بارز فی تطور الطبقات الاجتماعیة و مستویاته ثم یتعرض الی وجود الأکراد و أوضاعهم، و وجود الآثوریین و الیزیدیین و الایرانیین و ما أشبه و بقائهم محافظین علی کیاناتهم المتباینة. کما یشیر الی الاختلافات الموجودة بین الطوائف المسیحیة المختلفة و یخلص منها الی القول بأن اختلافاتها لا یمکن أن تقارن بالاختلاف التاریخی العمیق الموجود بین السنّة و الشیعة الذی کان أبدا و درما و ما زال یفرق الوحدة السیاسیة فی البلاد و یملؤها مرارة و انشقاقا. و لئن أصبحت القیادة الشیعیة فی 1932 و ما بعدها أقل تعصبا و ابتعادا عن العراق، فإن علماء النجف ظلوا یحتفظون بالکثیر من السلطة و النفوذ و بقیت الشیعیة هی القوة الموحدة لکتلة کبیرة من السکان دائمة التذمر و الهیاج، و الفکرة التی تسمو علی ولاء العشائر و إخلاصهم. و کثیرا ما کانت الشیعیة فی الفرات، و هی تقترن بالابتعاد عن المرکزیة القریب من الفوضویة، منبعا رئیسیا لمشاکل الحکومة و مصاعبها.
و فی معرض البحث عن وزارة رشید عالی الکیلانی التی تشکلت فی 20 مارت 1933، علی أثر استقالة وزارة ناجی شوکت الضعیفة، و ما قوبلت به فی الأوساط السیاسیة، یقول ان الحکومة الجدیدة قوبلت بالترحاب لأنها اعتبرت ممثلة للأخاء لوطنی فی البلاد. لکنها سرعان ما خسرت مؤازرة الوطنیین لأن منهاجها لم یتضمن شیئا عن إعادة النظر بنصوص المعاهدة الجدیدة التی عقدها نوری السعید مع بریطانیة العظمی فی 1932. و لذلک أذاع أولئک الوطنیون بیانا فی حزیران یهاجمون فیه الوزارة، و ظهرت للحکومة دلائل علی ان هذا السخط فی محافل النجف و الفرات الأوسط المخطرة یمکن أن یکتسب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 309
طابعا طائفیا، و بالتأکید علی المطالیب الشیعیة یمکن أن یعد خطرا علی الأمن العام. و بذلک نشأ فی البلاد من جدید وضع یرید فیه عنصر واحد من العناصر السیاسیة فی الدولة إجبار حکومة وطنیة مؤتلفة علی تلبیة مطالیبه . علی ان موقف الوزارة الأخائیة هذه قد أنقذ بوقوع حرکة الآثوریین فی الشمال، و وقوف البلاد بسببها صفا واحدا وراء الحکومة لکنها سقطت بوفاة الملک فیصل الأول فی أیلول 1933.

فی عهد الملک غازی‌

و بعد أن یأتی المستر (لونکریک) علی وصف ما حصل فی الوزارات المختلفة التی تولت الحکم فی عهد الملک غازی، یشیر الی کیفیة انتهاز علی جودة فرصة وجوده فی الدیوان الملکی و تسلمه رآسة الوزارة فی 28 آب 1934. و یتطرق الی قیامه بحل المجلس النیابی و إتیانه بمجلس جدید محشو بمرشحیه و أصحابه، خال من الشخصیات التی تنطق بإسم العشائر، و لا یمثل فیه الشیعة تمثیلا عادلا.
و علی هذا الأساس نشطت المعارضة و العناصر المناوئة للوزارة الی مهاجمتها و بث الدعایة السیئة ضدها. و یقول المستر (لونکریک) ان الدعایة کانت موجهة الی الأکراد فی الشمال، و القبائل التی تسیطر علیها (النجف) بصورة اعتیادیة فی الفرات، حیث یوجد الشیوخ السیاسیون من أمثال شیخ آل فتلة عبد الواحد الحاج سکر الذی کان من غیر المعقول عدم انتخابه للمجلس النیابی. و قد کان مع عبد الواحد رجال من مثل السید محسن أبی طبیخ، و علوان الیاسری و غیرهما. علی ان طائفة أخری من الشیوخ لم تکن أقل منها حرکة و تمردا، و لا أقل اندفاعا للمطالبة «بحقوق الشیعة» أخذت تتقرب الی الحکومة و تنشد الحصول علی المنافع منها. و من دون القیام بحرکات عنف صریحة أخذت عشائر الدیوانیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 310
و الحلة تعقد الاجتماعات، و «تهوس الهوسات» و تتجاهر بحمل السلاح. ثم جرت اتصالات بعلماء النجف، و لا سیما بالشیخ محمد حسین کاشف الغطاء العلامة العربی الأکبر علی حد قوله، لتوحید الکلمة.
و مع جمیع البرقیات التی قدمت الی الملک، و المثول بین یدیه فی کانون الثانی 1935، لم تحصل أیة نتیجة. و قد جاهد علی جودة فی إعادة الأمور الی نصابها من جمیع الوجوه، لکنه لم یفلح فی البقاء فی الحکم و استقال فی 23 شباط 1935.
الشیخ محمد الحسین- کاشف الغطاء
و قد بذلت الجهود لتشکیل وزارة إخائیة، من دون حل المجلس الذی جاء به علی جودة، فلم تثمر شیئا. و لذلک شکل جمیل المدفعی وزارة جدیدة، غیر انه لم یحظ بالتأیید الشعبی و لا بمؤازرة الملک و لم یستطع حل أیة مشکلة من المشاکل و إنما نشط العلامة الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء الی العمل مع شیوخ العشائر اللائذین به فاستطاع تنظیم قائمة غیر معتدلة بمطالیب الشیعة تحمل العشرات و المئات من التواقیع. و فی الأخیر اضطر المدفعی الی تقدیم استقالته بعد ان لم تستقم وزارته فی الحکم أکثر من ثلاثة عشر یوما لا غیر. و عند ذاک تألفت وزارة إخائیة برآسة یاسین الهاشمی، فی 17 مارت 1935، من دون قید أو شرط. و کان ممن اشترک فیها الوزیر النجفی المعروف الاستاذ محمد رضا الشبیبی.
و مع ان تشکیل الوزارة الإخائیة قد أرضی عبد الواحد الحاج سکر و جماعته الذین عادوا الی حالتهم الاعتیادیة، فانها أقلقت مناوئیه من الشیوخ من أمثال (خوام العبد العباس. و جماعته. فألح هؤلاء الشیوخ علی الشیخ محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 311
حسین کاشف الغطاء، و أکثروا ترددهم علی النجف التی صار یتسرب الیها الدس السیاسی من بغداد أیضا، حتی تکهرب الجو فی الفرات الأوسط معظمه.
و یقول المستر (لونکریک) ان الوضع فی النجف و ما یحیط بها صار یذکر المرء بالوضع الذی کان سائدا فیها قبیل ثورة 1920، حینما استثیرت الدعایة ضد الانکلیز، و ان تاریخ المناطق الفراتیة تلک فی 1935 و 1936 یعتبر تکرارا بنطاق أضیق لتاریخها فی سنة 1920 نفسها. فلم تجد الحکومة بدا من الالتجاء الی الحزم و القوة، فسیقت القطعات الی الفرات الأوسط و رابطت مفرزة من الجیش فی النجف بالذات بعد أن استعانت الحکومة بالشیخ محمد حسین فی بذل ما عنده من نفوذ لتهدئة الحال فلم یتوفق فی مسعاه. و لذلک اصطدم الجیش الذی کان یقوده بکر صدقی بالشیخ خوام فقضی علی الحرکة التی کان یتزعمها بسهولة .

موقف النجف من حرکات العشائر 1935

علی ان التطوات السیاسیة التی وقعت فی العراق خلال هذه الفترة، و کان مسرحها النجف و سائر أنحاء الفرات الأوسط و الجنوبی، فأدت الی ثورة 1935 یحللها الکابتن (ا. د. ماکدونالد) ضابط الاستخبارات البریطانی المسؤول فی تلک الأیام تحلیلا یلقی ضوءا غیر یسیر علی ما جریات الأحوال یومذاک برغم تفسیراته الخاصة التی تعبر عن وجهة النظر البریطانیة المعروفة. فقد ألقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 312
محاضرة عن الموضوع فی لجمعیة الآسیویة الملکیة فی لندن یوم 2 تشرین الأول 1935، و نشرت بتفصیلاتها فی عدد کانون الثانی 1936 من مجلتها.
و یبدأ الکابتن (ماکدونالد) محاضرته بشرح التدخل السافر الذی کانت تقوم به الحکومة فی الانتخابات النیابیة، و تعیین النواب تعیینا کیفیا فی الغالب.
ثم یذکر ان علی جودة حینما تولی رآسة الوزارة جاء بمجلس فیه الکثیر من أعوانه و مریدیه حتی من المناطق العشائریة المعروفة فی لوائی الدیوانیة و المنتفک، و أبعد الرؤساء من أهالی المناطق المذکورة عنه. و کان ممن شطب اسمه من قائمة لواء الدیوانیة عبد الواحد سکر شیخ مشایخ آل فتلة و قد أدی ذلک الی التذمر الشدید، و استفحال أمر المعارضة التی استغلت هذه الفرصة فی الفرات الأوسط لأغراضها، بزعامة حزب الأخاء الوطنی وقادته من أمثال یاسین الهاشمی و رشید عالی الکیلانی و حکمة سلیمان.
أما ما یختص من ذلک بالنجف و الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، فیذکر ماکدونالد أنه کان من الواضح ان عبد الواحد لم یکن یأمل الحصول علی الکثیر من التجاوب المحلی إذا اقتصر فی دعوته علی تبدیل الحکومة فقط (حکومة جمیل المدفعی). و لذلک حجب نیاته الحقیقیة عن الناس و أظهر نفسه بمظهر البطل المدافع عن «حقوق الشیعة» فی البلاد، فتقمص بذلک دورا یمکن أن یؤمن له مؤازرة واسعة و تجاوبا بعید الانتشار. علی أنه لم یظفر بمؤازرة العشائر المطلقة فی ذلک لأن أربعین بالمئة فقط خفت لمؤازرته، و أحجم ستون بالمئة منهم عن الانحیاز الیه لأنهم کانوا یعتقدون ان حکومة المدفعی أقل شرا من الحکومة الإخائیة. لکن هؤلاء اضطروا الی مجاراة عبد الواحد فی دعوته الی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 313
تحسین الأحوال فی مناطق القبائل الشیعیة، بدلا من تأییده هو بالذات و لذلک التجأوا الی العلامة الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، للاسترشاد و طلب المشورة.
و هکذا تجزأت الکتلة العشائریة فی الفرات الأوسط الی مجموعتین: مجموعة نشطة فعالة یتزعمها عبد الواحد ترید الإتیان بحکومة إخائیة عن طریق الإخلال بالأمن، و مجموعة ثانیة أکبر من الاولی و علی جانب أکبر من عدم السیاسة و التدبیر. و قد ربطت هذه نفسها بالشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، و هی عازمة علی الحیلولة بذلک دون قیام عبد الواحد باستغلال البرکات التی تسبغها علیهم الدعوة العتیدة الشیعیة من أجل تحسین مرکزه علی حسابهم.
و یتابع الکابتن (ماکدونالد) شرحه للموضوع بقوله ان الأحوال فی الجنوب کانت تمر خلال هذه الفترة من شی‌ء الی أسوأ، و ما أن تسلمت وزارة المدفعی الجدیدة زمام الحکم حتی اندفعت جماعة عبد الواحد الی القیام بأعمال و إن کانت غیر منافیة للنظام فی الظاهر إلا أنها مع ذلک کانت تعتبر غیر قانونیة علی وجه التأکید. فقد بادر أبناء عشائر (آل فتلة) الی قطع طریق المشخاب الفرعی بتعطیل القناطر عن العمل، و سدوا طریق الدیوانیة- النجف ...
و لذلک سیق قسم من الجیش الی الجنوب، فنقلت ثلاثة أفواج الی المنطقة التی تأثرت بهذه الحرکة، و توجه فوج منها الی النجف نفسها.
و فی أثناء هذه التطورات لم یسمح للشیخ محمد حسین فی النجف بالبقاء فی معزل عن العمل. فقد کان موقفه صعبا فی الحقیقة، لأنه کان یتعرض من جهة الی ضغط القبائل غیر الإخائیة التی کانت تطالبه بأن یظهر بصراحة حقیقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 314
تغطرس عبد الواحد و ادعائه لنفسه ببطولة القضیة الشیعیة، و کان یتعرض من جهة أخری الی ضغط عبد الواحد نفسه، الذی کان و هو ینشد جعل مرکزه منیعا تجاه خصومه، و یطالب الشیخ بأن یساعده فیما یبذله من جهود مرعومة لإنصاف الشیعة و دعم قضیتهم العامة و لم یکن یهمّ العلامة الکبیر کثیرا أن تکون هذه الوزارة متربعة فی دست الحکم أو تلک، غیر انه کان من المهم الحیوی لنفوذه و سمعته ان العشائر اذا ما تحرکت مطالبة بالقیادة الدینیة فان هذه القیادة یجب ان یکون زمامها بیده. و هو بطبیعة الحال لم یکن ینطلی علیه الدافع الحقیقی الذی کان یدفع عبد الواحد الی العمل، لکن کثیرا من المؤازرة التی کانت تقدم بدافع الاعتقاد بأن القضیة الشیعیة کانت رائده فی عمله. و کان الشیخ کاشف الغطاء علاوة علی ذلک یکره الظهور بمظهر غیر العابی‌ء بهذه الناحیة من القضیة کلها فیجازف بسمعته بینهم و یثیر انتقادهم له. و لم یکن هناک شی‌ء بالنسبة لوجهة نظره أکثر ابتعادا عن رغبته الحقیقیة من أن یکون مجبرا بتأثیر المصالح الدنیویة العائدة لرؤساء العشائر، علی مناوءة مجموعة لا یستهان بها من أفراد القبائل أنفسهم. و لذلک حاول، بشی‌ء من النجاح، أن یبقی مسایرا لجمیع الفئات و یظل غیر ملزم بشی‌ء تجاه أی أحد منهم، حاصرا أحادیثه و أقواله فی مجال التوافه من الأمور، و مقتصرا فی أعماله علی تنظیم قائمة رسمیة بالمطالیب الشیعیة.
و حینما کانت تقرر هذه المطالیب کانت تنشر بصورة خاصة و تشیع بین الناس، و لکنها لم تقدم بصورة رسمیة مطلقا الی أن تسلمت حکومة الإخاء الحکم. و عندما تم تقدیمها کانت خالیا من تواقیع عبد الواحد علیها، و بعض الرؤساء المنضوین تحت لوائه و لیس کلهم
ثم یعود الکابتن (ماکدونالد) الی البحث فی «المطالیب الشیعیة» علی ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 315
یسمیها، فیقول ان ظلامات الشیعیة الحقیقیة أو الموجودة فی مخیلة الکثیرین منهم کانت تشغل العناصر المتحسسة بالأحوال السیاسیة فی الفرات الأوسط و المدن المقدسة و فی مقدمتها النجف منذ عدة سنین، فأخذت تصبح وسیلة بالیة فی أیدی الساسة البغدادیین. و قد نوقشت عدة مرات من قبل خلال السنین الفائتة، و رسمت، ثم قدمت فی بعض المناسبات و هی تحمل مطالیب کانت تنراوح بین الأشیاء المستحیلة و الأشیا، المعقولة العادلة. أما المطالیب التی وضعها الشیخ محمد حسین فی النجف فقد تکون أشد اعتدالا مما قدم منها حتی لآن . فقد کانت تنص علی أن یکون عدد الأعضاء الشیعة فی البرلمان متناسبا مع عدد الشیعة من سکان البلاد. و طالبت بتعیین الحکام العدلیین بعدد کاف منهم، و بحریة الانتخاب فی المناظق الشیعیة، و حریة الصحافة فی البلاد أجمع، و فیما عدا ما کان فیها من المطالیب المتطرفة التی تطالب بتخفیض الضرئب کانت تحتوی أیضا علی فقرات لم یکن بوسع أیة حکومة تعطف عطفا صادقا علی «القضیة الشیعیة» أن تمنحها لا عاجلا و لا بمرور الزمن.
و ینتقد (ماکدونالد) بعد ذلک تصرف الورارة المدفعیة مشککا بجدوی سوقها للجیش بالطریقة التی حصلت فأدت الی سقوطها. و یعود الی تدخل الشیخ محمد حسین فیقول ان التوفیق لم یحالف تلک الوزارة فیما بذلته من جهود فی أثناء مفاوضتها له، برغم ان الشیخ لم تکن تسیطر علیه بأی حال من الأحوال فکرة معاداة الحکومة القائمة بالذات، و إنما کان یهتم بصورة خاصة بنجاح القضیة الشیعیة علی حد قوله، التی کان بوسع وزارة جمیل المدفعی نفسها ان تحلها بقدر ما یمکن حلها عن طریق أیة وزارة إخائیة یمکن أن تأتی من بعدها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 316
و بعد أن جاءت وزارة یاسین الهاشمی الإخائیة الی الحکم هدأت الأحوال فی منطقة (آل فتله)، لکنها اضطربت فی منطقة خوام و جماعته. و لذلک عمدت الحکومة الی مفاوضة العلامة کاشف الغطاء، و الاستعانة به لتهدئة الحال.
و یذهب (ماکدونالد) الی ان الشیخ نفسه لم یکن یرید لدرجة ما أن یشترک فی النزاع منذ البدایة، لأنه لم یکن یرغب فی التورط بالشؤون الطائفیة ما لم یحصل علی إجماع قبائلی یؤیده. یضاف الی ذلک إنه کان من الفطنة بحیث یمکنه أن یلاحظ ان هذه العشائر التی وافق أن یکون ناطقا بإسمها، بینا یکون بوسع رؤسائها أن یتلاعبوا بعواطف أتباعهم السذج بالتحمس الظاهری للدفاع عن حقوق الشیعة و المطالبة بإنصافهم، فإنهم کانوا فی الحقیقة بعیدین عن ذلک کل البعد لأن الذی کان یشغل بالهم هو الشیخ عبد الواحد و الحکومة الاخائیة و توقع إعادة النظر فی قضایا الأراضی المتنازع علیها بینهم. و إذا کان موقف الشیخ محمد حسین و هو یرأس العشائر الموالیة للحکومة یعد موقفا غیر صریح له فی شهر مارت، فإن عدم ارتیاحه فی موقفه الجدید قد تضاعف و هو یرأس مجموعة من العشائر مناوئة للحکومة من دون أن تکون متماسکة فیما بینها أو متفقة علی رأی، و هی تضج ملحة علیه بوجوب وضع نفسه فی موضع عدائی لا یلین تجاه جماعة عبد الواحد القویة، و وزارة کانت تدل جمیع الدلائل علی کونها وزارة قویة. لکنه تردد و راوغ کالعادة و تکلم بکلام حسن مع الحکومة، و هو یرمی بذلک الی أن یبدد الشک الذی کان یخامرها تجاهه و یجعلها تعتقد بأنه غیر عازم علی إثارة الضغائن الدینیة . بینما راح یکلم رؤساء القبائل بکلمات التقوی و الورع العامة، و یشجعهم بأن یجعلوا قضیة المطالیب الشیعیة فی مقدمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 317
الأشیاء التی تخطر ببالهم، لکنه بذل عنایة خاصة فی عدم إلزام نفسه بشی‌ء من قبیل التحریض الصریح علی الإخلال بالأمن.
و قد صدر تحریض کثیر علی الثورة من النجف فی أواخر نیسان و أوائل مایس، علی ما یقول (ماکدونالد) و مع ان الشیخ محمد حسین المضغوط علیه الی أقصی ما یمکن أن تتحمله قابلیة رجل الدین المسلم فی الإبهام و الغموض، کان لا بد من أن یکون هو المسؤول عن شی‌ء منه فان معظم اللوم عن ذلک التحریض کان یجب أن یلقی علی عاتق رجال الطبقة الدینیة الأقل بروزا منه بالنسبة للنشاط الکثیر الذی کان یبدو منهم. و هناک أدلة کثیرة تدعو الی الشک کذلک فی تسرب التشجیع غیر الیسیر من بغداد الی الجنوب مرة ثانیة، و لکنه صار یصدر هذه المرة من جهات غیر إخائیة. و مع ان هذا التأثیر الهدام کان کله شیئا أقل قوة و عزما من التحریض السیاسی الذی أدی الی اقتلاع الوزارتین السابقتین عن کرسی الحکم، فقد کان له شی‌ء من التأثیر بلا ریب، و کان من شأنه أن یزید فی حراجة الجو المتوتر الذی کان سائدا فی البلاد.
هذا و الملاحظ فی هذا البحث، و فیما لم نشأ أن نثبته هنا بالتفصیل من أقوال ماکدونالد، إنه یعتقد ان العراق الشیعی هو عشائری فی نظرته و اتجاهه و ان الروحیة التی تنحو منحی شیعیا طائفیا علی حد تعبیره تسیر یدا بید مع اتجاه رجال العشائر الإقطاعی، و مناوءته لمفهوم الحکومة المرکزیة و تأییده التلقائی لکل شی‌ء یبشر بحلول حکم عشائری لا مرکزی أو یشیر الیه من بعید. و یری ان الفکرتین الشیعیة و العشائریة محبوکتان فی مخیلة رجال العشائر بحیث لا یمکن التفریق بینهما لحد ما. و لا شک ان رأی رجل الاستخبارات البریطانیة هذا فیه الکثیر من التجنی الذی قد یحمل علی تقصد خاص فی کیفیة سرد الحقائق و طریقة عرض ما یسمیه «القضیة الشیعیة» و «المطالیب الشیعیة» و غیر ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 318
مما نجده مؤکدا علیه أبدا و دوما فی جمیع ما یکتبه الإنکلیز الذین عاشوا فی هذه البلاد تقریبا، و لا سیما أولئک الذین شهدوا نیران الثورة العراقیة تندلع فی 1920 من النجف و سائر أنحاء الفرات الأوسط فتفسد علی رجال الاستعمار البریطانی أحلامهم و تقلب خططهم الجهنمیة رأسا علی عقب. و لا نری سببا لمثل هذا الموقف سوی الموتوریة الشدیدة من رجال الدین الذین قادوا الثورة العراقیة لانقاذ البلاد من ربقة الاستعمار.

تعلیق و توضیح‌

هذا و قبل أن ننتقل من موضوع حرکات 1935 و 1936 التی جرت فی النجف و الفرات الأوسط، لا بد من أن نثبت هنا بعض النقاط التوضیحیة خدمة للحقیقة و التاریخ. فإننا نری فی المراجع المحلیة عن هذه الفترة ان الوزارة المدفعیة الثالثة قد جاء تشکیلها اضطراریا، لأن الاخائیین لم یقبلوا بتشکیل الوزارة بعد فشل وزارة علی جودة الأیوبی و سقوطها إلا بحل المجلس النیابی الذی جاء به الأخیر. و کان هذا الشرط ضد رغبة الملک. و حینما تشکلت تلک الوزارة فی 4 مارت 1935 لم تبذل مجهودا کبیرا لحل المشکل، و إنما اکتفت بإیفاد السید عبد العزیز القصاب وزیر الداخلیة لدرس الأحوال فی لواء الدیوانیة فعاد منها بعد ان لم یفلح فی إقناع عبد الواحد و جماعته بالکف عما أقدموا علیه. ثم أوفدت الحاج عبد الحسین جلبی وزیر المعارف الی النجف لیتصل برجال الدین و یوسطهم لدی رؤساء القبائل بالتعاون مع الحکومة لکنه قوبل فی النجف الأشرف بالجفاء و البرود، و عاد بخفی حنین . و علی أثر هذا عزمت الحکومة علی التذرع بالقوة و سوق الجیش لتأدیب «المتمردین»، و کانت هذه فکرة جمیل المدفعی منذ أن کان عضوا فی الوزارة الأیوبیة التی تولت الحکم قبل هذه الوزارة.
فقد صرح علی جودة لصاحب (تاریخ الوزارت العراقیة) إنه کان من رأیه أن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 319
لا یساق الجیش، و ان تقتصر الحکومة علی قیام الشرطة بضبط المراکز المهمة و تحافظ علی الأمن. لکن وزیر الدفاع جمیل المدفعی کان یصر علی تجرید حملة تأدیبیة الی النجف و الفرات الأوسط لإخضاع القبائل بالقوة. و قد عمد الی تنفیذ فکرته حینما تولی الرآسة بعد ذلک، غیر أنه لم یتوفق فی مسعاه لأن الملک غازی کان من رأیه حقن دماء العراقیین و حل الأمور بصورة سلمیة. و لذلک اضطر المدفعی لتقدیم استقالته بعد أن بقیت وزارته فی الحکم ثلاثة عشر یوما لا غیر.
و کان الملک قد وقف هذا الموقف لأنه تسلم من عبد الواحد الحاج سکر ثلاث برقیات متتالیة، فی 11 و 13 و 14 مارت 1935 یعرض فیها إخلاصه و إخلاص قبائله للعرش و یدافع عن نفسه بما یراه صالحا، فاقتنع بأن حرکة العشائر لم تکن إلا حرکة سلمیة لا یقصد بها تعکیر الأمن. و تسلم برقیة أخری من سماحة الشیخ کاشف الغطاء فی یوم 14 منه یشیر بها علی الملک بتوقیف الحرکات. و تسلم برقیة غیرها، عن طریق رئیس الدیوان، فی یوم 13 مارت من العلامتین الشیخ عبد الکریم الجزائری و الشیخ محمد جواد صاحب الجواهر فی النجف یستنکران فیها سیاسة الارهاب التی اتبعتها الحکومة فی حل المشکل. و هاک نص برقیتهما التی تجلو الکثیر من التقاط:
«إخلاصا للعرش الهاشمی، و أداء للوظیفة الدینیة، و حقنا للدماء، نلفت نظر صاحب الجلالة للحالة الحاضرة فإنها سیئة جدا و إذا بقیت الحکومة علی الاصرار فی سیاسة الارهاب تکون أسوأ. لقد خاطبنا وزیر الداخلیة فی ذلک فلم نر منه ما یوجب الطمأنینة، و لم تزل البرقیات تردنا من أطراف العراق تطلب منا المداخلة فی إصلاح الأمر. نرجو تبلیغ الأمر الی صاحب الجلالة و لفت نظره نحو هذه الشدة التی تستعملها الحکومة مع أمة مخلصة للعرش و البلاد بدون مبرر شرعی و بدون ذنب سوی مطالبتها بتطبیق القانون الأساسی ..»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 320
و حینما تشکلت وزارة یاسین الهاشمی الاخائیة فی 17 مارت 1935، تطورت الأمور من جدید علی النحو المذکور من قبل و تحرک الشیخ خوام و جماعته ضدها. و لأجل أن یسبغوا علی الحرکة شکلا غیر شکلها الأصلی تظاهروا بعلاقتها بالشیخ محمد حسین کاشف الغطاء فی النجف، لکن سماحته لم یکن میالا الی استعمال العنف من لدن الحکومة و التمرد علی القوانین و الأنظمة من لدن الناس.
و لذلک أصدر «بلاغا للناس» بتاریخ 12 محرم الحرام 1354 یدعو فیه قبائل الفرات و زعماءها الی المحافظة علی الأمن و عدم القیام بأی حرکة یخشی منها اختلال النظام. و قد حذرهم من الانقیاد الی الأحزاب، و الاستماع الی رجالها، لأن الأحزاب هی التی أهلکت العباد علی حد قوله، و خربت البلاد و جرت الویلات علی هذه الأمة البائسة و المملکة العراقیة الفتیة، و لأن الأحزاب علی ما یقول مطایا یرکبها شیاطین معدودون فیعبرون بها الی مقاصدهم الشخصیة و منافعهم الذاتیة .
و قد اشترک فی وزارة یاسین الاخائیة الشخصیة النجفیة المعروفة فی عالم العلم و الأدب علی ما یقول (لونکریک) فی کتابه الأخیر، الاستاذ محمد رضا الشبیبی، فأشغل وزارة المعارف. لکن الشبیبی اضطر الی تقدیم استقالته منها فی 15 أیلول 1935، لأنه لم یلق التأیید فی مجلس الوزراء «بکثیر من الآراء و المقترحات التی سبق له أن اقترحها بشؤون المعارف»، فقبلت استقالته و اسند منصبه الی صادق البصام.
و بعد أن تولت وزارة حکمة سلیمان الحکم علی أثر الانقلاب العسکری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 321
الذی تزعمه الفریق بکر صدقی، هلل الکثیرون من الناس و تأملوا خیرا فیها.
و حینما حاول رئیس الوزارة الجدیدة حل المشاکل القائمة فی الفرات الأوسط لم یتوفق فیها کل التوفیق، و اضطر الی سوق الجیوش و استعمال الشدة کذلک.
و یقول المستر (لونکریک) فی هذا الشأن ان تخبط (حکمه) فی حل المشاکل الفراتیة التی بقیت غیر محلولة من قبل کان شیئا واضحا. فقد کان علیه أن یسترضی الناقمین من دون المس بحقوقهم، و یعفو عن المحکومین من دون إظهار شی‌ء من الضعف، و یحافظ علی الأمن من دون استعمال العنف الذی لا یستسیغه أحد. فأقدم علی ذلک کله بکل ما کان عنده من حسنة و براعة فی معاملة الناس، لکنه أخفق إخفاقا معروفا فی النتیجة. لأن خمیرة المصالح الذاتیة، و الانقسامات الدائمة، التی کانت تصطبغ بها الحیاة الاعتیادیة فی النجف و أوساط الفرات العشائریة و الدینیة، لم یمکن التخفیف من حدتها . ثم یأتی بعد ذلک علی وصف اصطدام العشائر بالحکومة و اضطرارها لتأدیبهم و نفی عدد من رؤسائهم المعروفین. و یعرج من هناک الی ذکر الاختلاف الذی حصل بین أعضاء الوزارة الحکمیّة، و التقدمیة التی کانت تتصف بها جماعة کامل الجادرجی التی یقول (لونکریک) ان وجودها شجع العمال علی القیام بإضرابات خطیرة فی مختلف الأماکن و المؤسسات، و من جملتهم عمال الحیاکة فی النجف نفسها و قد انتخب فی عهد هذه الوزارة الأستاذ محمد رضا الشبیبی رئیسا لمجلس لأعیان.

فرایا ستارک تکتب عن النجف‌

و فی 1937 زارت النجف الکاتبة الإنکلیزیة القدیرة، و الموظفة فی الاستخبارات البریطانیة، المس (فرایا ستارک) و بقیت فیها اسبوعا واحدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 322
ضیفا علی القائمقام الذی أنزلها فی جناح الضیافة الموجود فی نادی الموظفین. و قد کتبت فصلا خاصا عن النجف ضمنته ملاحظاتها عنها فی کتابها الموسوم (صور بغدادیة).
و تبدأ ملاحظاتها بما شاهدته فی الکوفة. فهی تستهل الفصل بوصف جلسة مسائیة علی شاطی‌ء الفرات، مع رئیس البلدیة و سبعة من «الأفندیة». و کان ذلک فی أوائل ربیع الأول بعد أن انتهی صفر، الشهر الثانی من شهری الحزن المعتادین فی کل سنة، و لذلک تقول إنها شاهدت و هی جالسة من بعید شعلات من النار طافیة فی النهر، و قد کانت تنساب منحدرة مع تیاره حتی تختفی.
و ترمی هذه فی النهر فی نهایة موسم العزاء (نهایة شهر صفر) لتأخذ معها أحزان السنة و تفرج الکربة عن الناس. و هذه علی ما تقول عادة قدیمة ترجع بقدمها الی تاریخ هذه البلاد العریق فی القدم. ثم تشیر بالمناسبة الی أن «الأفندیة» الذین شاهدوا معها النار الطافیة، لمحوا هلال الشهر الجدید (هلال ربیع الأول) و أخذ کل منهم یتمنی الخیر و الموفقیة لصاحبه من دون أن یشعروا بأن ما فعلوه یعتبر من قبیل عبادة القمر أو التبرک به. و لیس من المستغرب أن یحصل مثل هذا، فتبقی هذه الوثنیة، فی بلاد لا تبعد کثیرا عن قبر «الکفل» و «برج بابل» اللذین یدلان علی ذلک العالم الغابر.
و لکن المرء حینما یعبر جسر الکوفة المستند علی الزوارق ینتقل من العالم البابلی الی عالم الإسلام علی حد تعبیرها. و هی تری ان الحیرة توجد مدفونة تحت الرمال ما بین النجف و الکوفة، و ان التلال الرملیة المحیطة بالکوفة تحوی فی باطنها خرائب کوفة العرب الفاتحین الأولی. و بعد أن تشیر (فرایا ستارک) الی جامع الکوفة الکبیر و غیره من معالم البلد تقول ان (قصر الإمارة) هدمه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 323
عبد الملک بن مروان الأموی، لأنه بینما کان جالسا فیه ذات یوم سمع عجوزا من الاعراب یقول «ستکون الخامس». و حینما سأل عما کان یقوله هذا أجابه یقول: «عندما جئت لأول مرة الی الکوفة رأیت رأس الحسین (ع) بین یدی قاتله عبید اللّه هنا. فذهبت وعدت ثانیة الیها بعد مدة فشاهدت رأس عبید اللّه فی نفس المکان بین یدی المختار بن یوسف الذی قتله. و بعد أن خرجت منها وعدت مرة أخری ألفیت رأس المختار بین یدی مصعب بن الزبیر. ثم ذهبت فعدت هذه المرة، و ها إنی أری الآن بین یدیک رأس مصعب». و لذلک خرج عبد الملک من الکوفة و أمر بهدم قصر الإمارة الذی تشاهد خرائبه الآن بجنب دار الإمام علیه السلام
و قد کان الامام علی هنا یعمل للخیر و یتمسک بالامور المثلی علی حد تعبیرها، فأفنی نفسه و هو مریض الفؤاد ما بین أهل الکوفة المتلونین. و علی مسافة غیر بعیدة من هذه البقعة جعجع ابنه الحسین الی جهة البادیة و ظل یتجول حتی نزل فی کربلا، فقتل قتلة فظیعة مع أهل بیته بعد أن منع عنهم الماء. و قصة قتله هذه من القصص القلیلة التی تقول (فرایا ستارک) إنها لا تستطیع قراءتها من دون أن ینتابها البکاء. و تقول أیضا ان التاریخ قد توقف فی کربلا و النجف منذ یوم مقتله ذاک، لأن الناس أخذوا یعیشون فیهما علی ذکری الکراهیة لأعداء الحسین .
و قد أخذت النجف محل الکوفة، علی ما تری. و مع ان سکانها قد استقروا و تمدنوا فإنها لا تزال تعد من مدن البادیة، المحاطة بسور خاص ترتفع هی فی داخله فوق هضبة واطئة من الأرض کأنها تاج یعلوه ذهب القبة المتلألی‌ء. و ما زال بداة عنزة و شمر یقصدونها من رمال النفود البعیدة للتزود منها، بینما تسلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 324
السیلرات الطریق الممتدة منها الی مکة، و هی طریق الحج المسماة بإسم زبیدة و یرتفع (بفرایا ستارک) الخیال فیخترق نظرها الأفق البعید مع الطریق التی تتضح معالمها لعیون الایمان علی حد تعبیرها، و لذلک نجدها تقول ان المرء لا یسعه سوی أن ینحنی خاشعا أمام زهد الانسان و ورعه و تعجب کیف ان الساسة الانکلیز یعتقدون بأنهم یستطیعون السیطرة علی قلوب الناس بالوسائل المادیة وحدها
و قد دبر القائمقام لها مواجهة العلامة الأکبر الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، الذی کان آباؤه لخمسة أظهر من زعماء الدین. و لما کانت زیارتها للشیخ و هی امرأه شیئا یلفت النظر، فقد دبرت الزیارة فی أقل الأوقات تعرضا لأنظار الناس.
فجاء الشیخ هادی، نسّاخ الکتب، لبلقی نظرة علیها أولا، و بعد أن بعث أخبارا مناسبة عنها قادها مع خادمها خلال طرق و درابین متعرجة الی دار غیر کبیرة یعیش فیها الشیخ مع أهله عیشة بسیطة کما کان یعیش المسلمون الأقدمون من قبل. و بعد أن تأتی علی وصف الشیخ- الذی کانت لحبته مخضبة بالحناء- و وقاره و ذکائه تقول إنها فهمت من حدیثها معه بأنه کان بعرف (المس بیل) و السر (بیرسی کوکس)، و یعتبر الذین جاءوا بعدهما من الانکلیز أقل منهما شخصیة و قدرا. و حینما تطرق الی الحدیث معها عن العالم الشرقی، أخبرها برأیه عن بریطانیة و الاسلام بقوله «إنه لا یوجد الآن بیننا و بین الانکلیز سوی الصداقة لو لا الأخطاء التی ارتکبت ضد إخواننا العرب فی فلسطین. و ما زالت هذه الظلامة موجودة فإننا لا یمکن أن تحل المحبة و لا السلام بیننا من البحر المتوسط الی الهند. و آمل أن تبینی هذا الی حکومتک، و تقولی لهم ان ما بلعبون به هناک هو لیس أراضی فلسطین وحدها، و إنما یلعبون بالعالم الاسلامی کله الذی یقدر ینصف امبراطوریتم و یتشوقون الی الابقاء علی صداقته لهم».
و لما کان رأیه هذا یتفق تمام الاتفاق مع رأیها هی فی هذه المسألة الدقیقة کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 325
یسرها أن تعد الشیخ بأن تبذل جهدها فی نقله أمانة الی الجهات المختصة.
ثم رارت بعض المدارس، و معالم البلدة الاخری، بما فیها (المغتسل) الذی کان یقوم بتغسیل الموتی فیه رجل واحته بسعر زهید للجثة الواحدة. و قد تجولت ما بین القبور فی بعض الأمسیات کذلک، و أمضت أمسیة واحدة منها فی التفرج علی ما یجری عند الباب الکبیر المؤدی الی الصحن فکانت من أجمل الأمسیات التی قضتها فی حیاتها کلها. و کان ذلک من غرفة تعود للشرطة و تطل شبابیکها علی باب الصحن و قسم من السوق. و بعد أن تصف ما شاهدته هناک و فی الداخل نقول إنها خرجت تقطع السوق الذی امنلأ بالأضویة، و هی تشعر بحبها للعالم بأجمعه. و بینما هی کذلک لاحظت فی دکان بائع أحذیة رجلا کان یرمقها بنظرات شرزاء ممتلئة بالحقد و الکراهیة، فتأثرت أشد التأثر لأنها یحز فی نفسها أن یکرهها أحد من دون سبب. و هی تقول: «ان ذلک الرجل لو کان بوسعه ان یخترق جسمها الانکلیزی بنظره الی أعماق قلبها لوجد ان ما کان بمتلی‌ء به هو الاحترام الودی لعتبته المقدسة بالذات التی تعلو أرواح الناس کما تعلو قبة النجف المذهبة فوق أفق البادیة، فتجذبهم الیها من بعید» و تنهی الفصل بوصف جماعة من فقراء الأفغان کانوا یعیشون علی الکفاف، و یحصلون علی قوتهم من حیاکة بیوت الشعر، ثم ینتزع کل منهم فلسا واحدا من وارده الشحیح بین حین و آخر فیعطیه للانفاق علی العتبة. و تعلق علی ذلک بکل إکبار و إجلال قائلة: «من تکون نحن لننتقد عقیدة تعطی مثل هذا المقدار یا ثری؟»

النجف فی السنین الأخیرة

هذا و لم أعثر فیما کتبه الغربیون عن العراق ما بین هذه الفترة و سنة 1958 علی شی‌ء یذکره عن النجف سوی بعض الاحصاءات و المعلومات العابرة. فقد کتب (لونکریک) فی (1900- 1950) ان مدیریة الآثار القدیمة قامت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 326
بالتنقیب فی خرائب الحیرة الکائنة فی منطقة النجف- الکوفة سنة 1945.
و قد درست فی السنة نفسها مدیریة السکک الحدید العامة قضیة مد خط خاص للسکک ما بین کربلا و النجف و الکوفة، لکن ذلک لم یثمر شیئا. و یذکر کذلک ان (توفیق السویدی) أدخل معه فی الوزارة التی شکلها یوم 23 شباط 1946 المتصرف النجفی سعد صالح المعادی لصالح جبر. ثم یذکر عن الفترة نفسها ان الجو المتوتر المفعم بالتذمر و الخطر الذی کان یخیم فوق النجف و غیرها من المدن المقدسة لم یؤد الی وقوع اضطرابات مکشوفة یعبأ بها. و یعلق بالاضافة الی ذلک علی إحصاء النفوس الذی جری فی العراق سنة 1947 فیقول ان أکبر کثافة فی السکان بالنسبة للألویة العراقیة المختلفة تلاحظ فی لواء الحلة الذی تبلغ کثافة النفوس فیه (49) نسمة فی الکیلومتر المربع، و یأتی بعده لواء کربلا الذی تبلغ کثافة نفوسه (46) نسمة فی الکیلومتر المربع الواحد.
و فی خلال البحث عن التطورات التی حصلت فی المجتمع العراقی و أحواله ما بین تشکیل الحکم الوطنی فی البلاد و 1950، یذکر (لونکریک) و ستوکس فی کتابهما عن العراق ان مراکز النفوس و المواصلات الموجودة خارج بغداد و الموصل و البصرة بقیت منحصرة علی الأغلب فی کربلا و النجف و الحلة و کرکوک و السلیمانیة و اربیل. و ظلت النجف و کربلا و الکاظمیة و سامرا هی المراکز الکبیرة التی یؤمها الزوار الشیعة بأعداد کبیرة، و لا سیما من إیران. و یذکر ان کذلک من جملة الطرق المهمة فی البلاد طریق بغداد- کربلا- النجف، و الطریق ما بین هذه المدن و الحلة. ثم یتطرقان الی النواحی الدینیة فی البلاد فیشیران الی ان العلوم الاسلامیة، مع جمیع ما حصل من تأثیر التربیة الحدیثة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 327
و قوتها فی الناس، بقیت تدرس فی المدارس الدینیة العائدة لأهل السنة و الشیعة معا. و ان النجف ما زالت الجامعة الدینیة القدیمة مزدهرة فیها، و ما زال طلبتها یطبعون مؤلفاتهم الدینیة علی النمط الذی ظل متبعا فیها منذ قرون عدة.
و فی أواخر 1958 (أی بعد ثورة 14 تموز) ظهر الی عالم المطبوعات کتاب أمریکی عن العراق، فی ضمن سلسلة من المطبوعات تطبع عن حضارات الأمم و أحوالها المختلفة فی العالم. و قد بحث مؤلف الکتاب ، جورج هاریس، عن سکان العراق و مجتمعه و حضارته الحدیثة من نواحیها المختلفة. فوردت فی الکتاب، الذی یعد دراسة حدیثة فریدة فی بابها، إشارات غیر قلیلة الی النجف وجدت من المناسب أن أختم هذا البحث الشامل بها. فقد ورد فی موضوع السکان فی مدن العراق المختلفة ان هجرة واسعة النطاق من القری العراقیة الی المدن تقوم الآن علی قدم و ساق، و إن المدن التی یحصل فیها التوسع بهذه الطریقة هی البصرة و بغداد و کرکوک و النجف . و ورد فی بحث القومیات المختلفة ان النجف و الکاظمیة فیها حوالی ألف أفغانی شیعی، و هم علی صلة وثیقة بالجالیات الایرانیة من حیث اللغة و ما أشبه. و یذکر المؤلف فی بحث الحج و الزیارة ان الشیعة یجیزون إنابة أشخاص آخرین للحج عنهم عند الضرورة ، و قد یعتاضون عنه بالزیارة الی النجف (حیث یدفن الامام علی) أو کربلا. و لا شک ان المؤلف غیر مصیب فی هذا القول لأن الشیعة یعتبرون الحج من أرکان الاسلام مثل سائر المسلمین کما یذکر المؤلف نفسه فی الص 53 من نفس الکتاب. و یقول المؤلف فی موضع آخر ان النجف التی تعد مرکزا للثقافة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌6، ص: 328
الشیعیة و التعلم فی العالم الاسلامی کله قد ساعدت خلال الأزمات السیاسیة التی حصلت فی الحقبة التی نالت فیها البلاد استقلالها بعد الحرب العامة الأولی، علی تلقین طلبتها الروح الوطنیة أهمیة التراث العربی الخالد.
و فی أثناء البحث عن الحرکة الأدبیة یقول «ان النجف خلال الحرب العالمیة الأولی و ما بعدها کانت قد غرست فی طبقة جدیدة من الشعراء فکرة الوطنیة الحدیثة و الروح القومیة التی تؤکد علی التمسک بالتراث العربی المعروف. و قد أنتجت هذه المدرسة العربیة الحدیثة شعرا متشبعا بالشعور الوطنی المتسامی.
و کان لمفاخر الحضارة العربیة و مآثر العرب التاریخیة القدح المعلی فی تفکیر اولئک الشعراء، و نادرا ما کانوا یلتفتون الی موارد الثقافة الأخری أو یحاولون استخدام أسالیب جدیدة فی تطویر أفکارهم أو تغییر المواضیع التی یحصرون تفکیرهم فیها. و مع هذا فقد کان الجمهور و ما یزال یقدر هذا الشعر حق قدره و یعمل علی حفظه و التغنی به». ثم یقول عن الشعر العراقی خلال الحرب العالمیة الثانیة و ما بعدها إنه دخل فی طور جدید من اطواره فإن الاتجاهات الأدبیة القدیمة الموجودة فی النجف و بغداد لم تعد مسیطرة علی لب الشعراء و الکتاب الشان. لأن الطبقات المتعلمة أخذت تتعرض بازدیاد الی الآراء و الأفکار الجدیدة التی جاءت الیهم من أوربة و أمریکا بصورة مباشرة و غیر مباشرة، عن طریق السیل المتدفق علی البلاد من الکتب و النشرات المطبوعة فی مصر و لبنان.
***

الجزء السابع

[الجزء الثانی من قسم النجف

اشارة

موسوعة العتبات المقدّسة قسم النجف 7
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 3
موسوعة العتبات المقدّسة 7 الجزء الثانی من قسم النجف
تألیف جعفر الخلیلی منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- لبنان ص. ب 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة الطبعة الثانیة 1407 ه- 1987 م مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- شارع المطار- قرب کلیّة الهندسة- ملک الاعلمی- ص. ب: 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 5

[کلمة دار التعارف

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم و به نستعین
لم نزل نعتقد ان القسم الخاص بتاریخ النجف من موسوعة العتبات المقدسة لن یقل عن عشرة اجزاء نأمل ان نأتی فیها علی تاریخ هذه العتبة منذ اول دخول اسمها سجل التاریخ حتی هذا الیوم، متوخین فی ذلک الاحاطة التامة بجمیع ما یتعلق بهذه العتبة من جمیع وجوهها التاریخیة و العمرانیة، و الاجتماعیة، و العلمیة، و الادبیة، و السیاسیة فی غربلة یفرضها الاسلوب الحدیث، و العقلیة العلمیة، و لما کان مثل هذا المشروع لن یتم علی وجهه الکامل، و الوجه القریب من الکمال علی الاقل، الا علی ایدی المتخصصین من ارباب العلم، و المعرفة، فقد وضعنا لکل قسم و لکل جزء تخطیطا هو اشبه بتخطیط البناء و تصامیم المشاریع ثم نطنا کل جانب بأهل الخبرة و الاطلاع و ارباب الاختصاص.
و علی هذه الطریقة اتممنا الجزء الاول من (قسم النجف) و هذا هو الجزء الثانی الذی تمت مسوداته قبل غیره من الاجزاء الخاصة بالاقسام الاخری، و لما کنا قد التزمنا بطبع ای جزء یفرغ مؤلفوه من تألیفه دون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 6
مراعاة ای ترتیب آخر، فقد تقدمنا بطبع هذا الجزء علی ان نلحق به الاجزاء الاخری حتی نبلغ الجزء العاشر الذی نظن اننا سنستوفی به کل تاریخ النجف وفق الخطة الموسومة للتألیف.
و الجزء الثانی هذا کما یری القاری‌ء یشتمل علی معلومات ثقافیة تخص تاریخ الدراسة، و نوعها، و طریقتها، و مراحلها، و الکتب الخاصة بها، ثم المدارس و هندستها و سکانها و طریقة معیشة هؤلاء السکان من الطلاب منذ اول تاریخها حتی هذا الیوم، و ما جری علیها من تطور فی البناء و الهیکل و الوقف، ثم مکتبات النجف التی کسبت کتبها فی کثیر من الازمان شهرة کبیرة من حیث انفرادها و انحصارها بها، و قدم نسخها، و بهذا الجزء تم الحصول علی معلومات وافیة کافیة عن تاریخ الجانب المهم من الثقافة النجفیة فی دراستها، و مدارسها، و مکتباتها.
اما الادب النجفی و طریقته، و لونه، و طابعه، و الادباء النجفیون، و نشأتهم، و امزجتهم الادبیة، مما یمثل جانبا آخر من الثقافة فقد خصص له مکان آخر فی احد الاجزاء الاخری، و لا نبتغی من وراء هذا المسعی الا ان نکون قد وفقنا فی وضع لبنة و لو کانت صغیرة فی بناء هذا الصرح العظیم؛ صرح العتبات المقدسة الشامخ بالمجد و العظمة، و یخیل إلینا اننا قد وضعنا او علی الاقل بدأنا نضع هذه اللبنة سائلین اللّه ان یأخذ بایدینا الی النهایة.
بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 7

الدراسة و تاریخها فی النجف کتبه السید محمد بحر العلوم

اشارة

خریج کلیة الفقه و العضو الاداری لجمعیة الرابطة العلمیة و جمعیة منتدی النشر فی النجف الاشرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 9

تمهید

«انا مدینة العلم و علی بابها»
«الحدیث الشریف»
تشرفت النجف بمرقد مثال العلم و المعرفة الامام أمیر المؤمنین علی علیه السلام الانسان الذی قال فیه رسول اللّه (ص) الحدیث الشریف «انا مدینة العلم، و علی بابها».
و کان الحری بهذه المدینة المقدسة ان تصبح بعد زمان محطا لانظار العالم الاسلامی یهاجر الیها المئات من طلاب الفضیلة للتفقه، و الاشتغال العلمی، و تتوجه الیها نفوس الملایین من المسلمین فی اقطار العالم الاسلامی کافة، ینظرون الیها بعین ملؤها التعظیم، و الاجلال، و التقدیس، و تکون یوما ما مقرا للافتاء، و التقلید، و مرکزا للمرجعیة الکبری التی تدیر شؤون الشیعة فی العالم الاسلامی.
و برزت النجف الاشرف علی مسرح التاریخ کجامعة علمیة دینیة لها جذورها القدیمة، و لها تراثها الاصیل الخاص، و الذی یمثل الفقه و الاصول، و ان لم تعدم جوانب المعرفة الاخری، و الثقافة العامة، و خاصة الادب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 10
العربی فلقد اسهمت فیه هذه المدینة اسهاما کبیرا یتجلی ذلک فی الکتب الکثیرة التی اصدرتها فی میدان النثر و الشعر.
و حتی اصبحت النجف الاشرف بثروتها الادبیة مصدرا ثرا فی دنیا الادب یفرض نفسه علی التراث الادبی الاصیل بکل فخر و اعتزاز.
و من أجل ان نصل الی تحدید تاریخی للبنة الاولی لحیاة هذه الجامعة العلمیة، لا بد ان نستعرض تاریخ هذه المدینة المقدسة العلمی، لننتهی الی ما نصبو الیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 11

النجف قبل الشیخ الطوسی

یدور سؤال علی الشفاه: ما ذا کانت النجف الاشرف قبل هجرة الشیخ الطوسی الیها من الناحیة العلمیة؟.
و یبدو هنا اتجاهان:
احدهما- یذهب الی وجود حرکة علمیة فی هذه المدینة المقدسة.
و ثانیهما- ان النجف کانت قاحلة علمیا، و عند هجرة الشیخ الطوسی الیها أوجد فیها حرکة علمیة.
و عند استعراضنا لمثبتات الذاهبین الی القول بوجود حرکة علمیة قبل الشیخ الطوسی نراها تتلخص بما یلی:
1- أورد السید ابن طاووس - و هو من المختصین بتاریخ النجف-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 12
بان عضد الدولة زار المشهد العلوی الطاهر عام 371 ه، و تصدق، و اعطی الناس علی اختلاف طبقاتهم، و کان نصیب الفقراء و الفقهاء ثلاثة آلاف درهم.
2- صدور إجازات علمیة من النجف الاشرف قبل ورود الشیخ الطوسی الیها.
منها: ما نقلته المصادر بان من مشائخ الشیخ الصدوق ، محمد بن علی بن الفضل الکوفی ، سمع منه سنة 354 ه، عند وروده الی الکوفة و هو فی طریقه الی الحج، و کان سماعه بمشهد امیر المؤمنین» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 13
و منها: ما ذکره النجاشی فی ترجمة الحسین بن احمد بن المغیرة ابی عبد اللّه البوشنجی ما نصه:
«کان عراقیا مضطرب المذهب، و کان ثقة فیما یرویه، له کتاب (عمل السلطان) أجازنا بروایته ابو عبد اللّه (الحسین بن جعفر بن محمد المخزومی الخزاز المعروف) بابن الخمری الشیخ الصالح بمشهد مولانا امیر المؤمنین (ع) سنة اربعمائة».
3- ورد ذکر لبعض البیوت العلمیة التی لمعت فی النجف فی القرن الرابع الخامس کآل شهریار ، و آل الطحال ، و غیرهما. و قد جمعت هذه البیوت بین الفضیلة و خدمة الروضة الحیدریة.
4- النقابة فی النجف: و هذا المرکز اقرب الی الروحی من غیره، و لقد ذکرت الکتب المختصة ان عددا من الاعلام تولوا نقابة المشهد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 14
منهم السید شریف الدین محمد المعروف بابن السدرة ، اقام فی النجف عام 308 ه، حتی توفی فیه، و کذلک ناصر الدین مطهر بن رضی الدین محمد بن الحسین ، و قد تولی نقابة المشهدین العلوی و الحسینی)، بالاضافة الی الکوفة اشهرا.
5- علماء نسبوا الی النجف قبل عهد الشیخ الطوسی، منهم:
آ- احمد بن عبد اللّه الغروی، یروی عن ابان بن عثمان من اصحاب الامام الصادق (ع) .
ب- شرف الدین بن علی النجفی، وصفه الشیخ الطوسی بقوله: «کان صالحا فاضلا» .
ج- عبد اللّه بن احمد بن شهریار، ابو طاهر: کان معاصرا للشیخ المفید، یروی عنه ابو جعفر محمد بن جریر الطبری، و النجاشی فی کتاب الامامة .
د- احمد بن شهریار، ابو نصر الخازن للحضرة الغرویة، کان من رجال العلم و حملة الحدیث، معاصرا للشیخ الطوسی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 15
و غیر هؤلاء کثیرون لو حاولنا تتبع تراجمهم.
6- و ذهب البعض بأن الشاعر الحسین بن احمد المعروف بابن الحجاج اراد بهذا البیت:
و قل سلام من اللّه السلام علی‌أهل السلام؛ و اهل العلم و الشرف
الاشارة لأهل العلم الساکنین فی النجف الاشرف، و المجاورین لقبر الإمام علی علیه السلام و ذلک عند زیارته للنجف فی اواخر القرن الرابع الهجری، و انشد قصیدته المشهورة:
یا صاحب القبة البیضا علی النجف‌من زار قبرک و استشفی لدیک شفی
هذه هی أهم مقومات الذاهبین الی القول بأن الهیئة العلمیة فی النجف کانت قبل هجرة الشیخ الطوسی.
و من هذه المقومات انسابت الافکار فی التحدید التاریخی لتأسیس الجامعة النجفیة، و تکاد تنحصر فی اتجاهین:
الاول- انها تأسست علی ید الشیخ المفید - استاذ الشیخ الطوسی-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 16
و ذلک عندما انتقل الیها من بغداد، او (عند نفیه منها علی حد تعبیر بعض المترجمین) من قبل السلطة المسؤولة، و ذلک بسبب ما حصل هناک من الاختلافات و الثورات الطائفیة، فاختار الشیخ النجف الاشرف.
و یری البعض ان انتقال الشیخ المفید الی النجف کان برغبة من البویهیین الذین یؤیدون المذهب الشیعی، و لقد حدثتنا المصادر: بان فی ایام عضد الدولة نشطت الحرکة العلمیة فی بغداد و غیرها، و کان نصیب النجف الاشرف کبیرا، فقد کان یرغب فی تأسیس حرکة مناهضة للحرکة العلمیة فی بغداد، بدافع العقیدة، و لذا أخذ یبذل الأموال الطائلة فی تشیید مرقد الامام علی علیه السلام، و الاهتمام بالعلماء الذین فیها.
و نقلت المصادر: بأن عضد الدولة کان یحترم الشیخ المفید الی حد کان یحمله علی زیارته فی داره. و لعل هذا الاحترام للشیخ، و الاتصال الاکید به من قبل الوزیر عضد الدولة هو الذی دفع باصحاب هذا الاحتمال الی نسبة تأسیس الجامعة النجفیة الی الشیخ المفید.
و هذا الرأی، و هو نسبة تأسیس الجامعة النجفیة الی الشیخ المفید، یبقی مفتقرا الی الدعم التاریخی، فالذی نقرأه فی ثنایا التاریخ لم یشعرنا من قریب او بعید بأن الشیخ المفید انتقل الی النجف کمهاجر الیها سواء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 17
بمحض اختیاره، او بطلب من عضد الدولة، او بنفی من قبل الدولة.
و القول الاخیر خاصة- و هو موضوع النفی- بعید کل البعد، لأن الشیخ المفید عاش فی عهد البویهیین، محترما کل الاحترام، و مقدرا کل التقدیر. و لقد نقلت لنا الروایات بأن «یوم وفاته کان مشهورا، و شیعه ثمانون الفا من الرافضة و الشیعة».
اما فی حیاته فقد کانت ملوک الاطراف تعتقد به لکثرة المیل الی الشیعة فی ذلک الزمان، و کان یحضر مجلسه خلق عظیم من العلماء من جمیع الطوائف و الملل».
و قال الیافعی: «و کان یناظر أهل کل عقیدة مع الجلالة و العظمة فی الدولة البویهیة».
و اذا کان الامر بهذه المثابة من الاحترام و التقدیر فکیف نحتمل ان الشیخ المفید نفی من بغداد؟ بالاضافة الی اننا لم نعثر علی مصدر تاریخی یدعم هذا القول، و لهذا فلیس بالامکان اخذه بنظر الاعتبار.
الثانی- ان تأسیس الجامعة ینتهی الی أبعد من هذا. فهناک من یعتقد ان النجف فی واقعها امتداد الی معهد الکوفة العلمی، و الذی شید ارکانه الإمام علی علیه السلام، و بلغ أوجه فی عهد الامام الصادق (ع).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 18
فلقد اعتبرت مدرسته من ابرز المدارس العلمیة فی الکوفة، و کان رواة ابی عبد اللّه علیه السلام اربعة آلاف أو یزیدون.
یقول الحسن الوشاء : «إنی ادرکت فی هذا المسجد- و یعنی مسجد الکوفة- تسعمائة شیخ کل یقول: حدثنی جعفر بن محمد علیه السلام» .
و کان فی طلیعة اولئک الذین اخذوا عنه العلم: ابو حنیفة النعمان بن ثابت ، و مالک بن أنس ، و سفیان الثوری ، و ایوب السجستانی ، و محمد بن اسحاق بن یسار ،- صاحب المغازی و السیر-، و ابان بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 19
تغلب ، و زرارة بن أعین ، و المفضل بن عمر ، و هشام بن الحکم ، و جابر الجعفی ، و جابر بن حیان ، و غیرهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 20
و لما کانت الکوفة مرکزا کبیرا لتلامذة أهل البیت علیهم السلام، فلا بد لهم ان یتخذوا من مرقد الامام، و هو العتبة المقدسة مقرا لهم، خاصة عندما تبدلت ظروف الکوفة. فلقد تفرق علی اثرها علماء الکوفة، و انتقل بعضهم الی بغداد، و انتقل البعض الآخر الی النجف الاشرف متخذا من جوار هذا المرقد الطاهر مرکزا له للعبادة، و التحصیل العلمی.
و هذا الرأی الذاهب الی القول بأن الجامعة النجفیة امتداد الی مدرسة الکوفة مستبعد لأمرین:
الاول- ان مرقد الامام علی علیه السلام لم ینکشف أمره الا فی عهد هارون الرشید- الخلیفة العباسی- فی حدود سنة 170 ه، و جاء فی بعض المصادر؛ و بعد سنة 180 ه جاوره الناس . و هناک روایة تقول:
ان داود بن علی العباسی المتوفی عام 133 ه اکتشف قبر الامام، و عمل له صندوقا، و عندما وقف العباسیون ضد العلویین هجر القبر الشریف، و عفی أثر ذلک الصندوق، و انطمس رسمه، حتی جاء عصر الرشید فأظهره.
و فی هذه الحال، لم یظهر لنا من ثنایا التاریخ بأن النجف قد سکنت من قبل احد، اللهم الا ان ندعی بأن النجف و الکوفة واحدة، و هذا ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 21
یکذبه الوجدان، فلیس- علی ما نعتقد- من یوحد بین هذین البلدین.
الثانی- ان هذا الافتراض بأن النجف ضمت بعض الاعلام بعد انتقالهم من الکوفة یبقی محتاجا الی دلیل یدعمه، و لا دلیل لدینا لذلک.
* بعد هذا کله: فإنّا لا نستطیع ان نخفی کل هذا، کما لا نقبل کل ذاک، و انما المرجح ان نذهب الی حد وسط، و هو ان النجف قبل هجرة الشیخ الطوسی فی عام 449 ه کانت فیها جذور علمیة، و تضم بعض رجالات الفضل و العلم، اتخذوا من النجف الاشرف بعد ظهور القبر فیه مقرا لهم.
و یدعم رأینا هذا شیخنا اغا بزرک الطهرانی اذ یقول: اننی اذهب الی القول بأن النجف کانت مأوی للعلماء، و نادیا للمعارف، قبل هجرة الشیخ إلیها و ان هذا الموضع المقدس اصبح ملجأ للشیعة منذ انشئت فیه العمارة الاولی علی مرقد الامام أمیر المؤمنین علیه السلام، لکن حیث لم تأمن الشیعة علی نفوسها من تحکمات الامویین و العباسیین، و لم یستطیعوا بث علومهم، و روایاتهم کان الفقهاء و المحدثون لا یتجاهرون بشی‌ء مما عندهم، و کانوا متبددین حتی عصر الشیخ الطوسی، و الی ایامه، و بعد هجرته، انتظم الوضع الدراسی، و تشکلت الحلقات، کما لا یخفی علی من راجع (امالی الشیخ الطوسی) الذی کان یملیه علی تلامذته».
و کذلک یری الدکتور مصطفی جواد: بأن فی النجف اعلاما بثوا العلم قبل الشیخ الطوسی، و یصعب التصدیق، بأن الشیخ اول من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 22
جعل النجف مرکزا علمیا» .
و کیفما کان فوجود بعض الاعلام لم ینهض دلیلا علی حرکة علمیة فی النجف قبل هجرة الشیخ الطوسی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 23

من هو الطوسی؟

هو الشیخ ابو جعفر محمد بن الحسن بن علی بن الحسن الطوسی.- نسبة الی طوس من مدن خراسان- المعروف بشیخ الطائفة. من رجالات العلم و جهابذته المبرزین.
ولد فی طوس فی شهر رمضان عام 385 ه، و هاجر الی العراق، و حط رحله ببغداد عام 408، و هو فی الثالثة و العشرین من عمره.
و کان الاستاذ المبرز، و الشیخ المطلق للشیعة یومذاک محمد بن محمد ابن النعمان العکبری البغدادی، المعروف بالشیخ المفید، کما عرف ببعض المصادر (بابن المعلم).
صورة خیالیة لشیخ الطائفة الشیخ ابی جعفر محمد بن الحسن الطوسی
و عند وصول الشیخ الطوسی الی بغداد لازم الشیخ المفید، و تلمذ علیه، و بقی معه حتی سنة 413، حیث لبّی علم الطائفة الشیخ المفید نداء ربه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 24
فانتقلت الزعامة المطلقة الی أجل تلامذته علم الهدی الشریف المرتضی علی ابن الحسین الموسوی ، و بطبیعة الاستمراریة لازم الشیخ الطوسی استاذه علم الهدی السید المرتضی، و استفاد من علمه و ملازمته. و کان موضع عنایة و اهتمام کبیر لدی استاذه الشریف بحیث تمیز عن سائر تلامذته، و بقی ملازما له طیلة ثلاث و عشرین سنة.
قال السید علی خان : «و کان (السید المرتضی) یدرس فی علوم کثیرة و یجری علی تلامذته رزقا، فکان للشیخ أبی جعفر الطوسی ایام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 25
قراءته علیه کل شهر اثنا عشر دینارا، و للقاضی ابن البراج کل شهر ثمانیة دنانیر» .
و فی عام 436 ه استجاب السید المعظم الی دعوة ربه، و عند ذاک کان المرشح الوحید لمرکز الزعامة الدینیة الشیخ الطوسی، فأصبح علما للشیعة، و کانت داره فی کرخ بغداد مأوی الامة، یقصدونها للاستفادة من هذا الزعیم العلمی الکبیر. و التف حوله عدد کبیر من اهل الفضل و العلم للتلمذة علیه، و الانتهال من نمیر فضله، حتی حددت المصادر بأن عدد تلامیذه بلغ ثلاثمائة مجتهد من اعلام الشیعة، و من اهل السنة ما لا یحصی کثرة .
و باتساع أفق هذه الشخصیة العلمیة، و ما بلغ به من العظمة و المنزلة جعل له القائم بأمر اللّه العباسی ، کرسیا للکلام، و الافادة.
و هذا التقدیر من الخلیفة العباسی یومذاک کان له کبیر الاهمیة، إذ لم یسمح به إلا لمن بلغ فی العلم مرتبة سامیة یتمیز بها علی اقرانه، و لم یکن فی بغداد فی عهده من یفوقه قدرا، و یعلوه مکانة، و یفضل علیه علما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 26
لذا کان هو المتعین لهذا الشرف .
و لعلنا فی سبیل الاستشهاد علی عظمة الشیخ نذکر نصین یعکسان لنا مدی ما یتمتع به من المکانة و المنزلة عند الامة.
1- قال ابن تغری بردی : «ابو جعفر الطوسی، فقیه الامامیة الرافضة و عالمهم، و هو صاحب التفسیر الکبیر، و هو عشرون مجلدا، و له تصانیف اخر. مات بمشهد علی ... کان رافضیا، قوی التشیع» .
2- و قال الدکتور محمود محمد الخضیری: «... رجل واحد یقال له (الشیخ الطوسی) مع ان مدینة (طوس) التی ینتسب الیها لا تعتمد فی شهرتها و مجدها علی غیره- علی کثرة من أنجبت علی طول تأریخها المدید- من مشاهیر الرجال، فی عالم العلوم و الآداب و السیاسة و الحرب، و وفرة من ینتسب الیها قبل الشیخ و بعده من الشیوخ و العلماء ذلک لانه- فی الحقیقة- رجل فذ بین علماء الاسلام، رفعته مؤلفاته الکثیرة العدد و جهوده العلمیة المثمرة الی مرتبة عالیة ممتازة، لا ینافسه فیها أحد، فاستحق بذلک أن یمنحه مواطنوه هذا اللقب تشریفا له بین جمیع من ینتسبون الی مدینتهم- ذات المجد التلید- و استحق الشیخ عند الشیعة لقبا آخر یزید عن اللقب الأول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 27
فی مغزاه، و یعبر بفصاحة- لا مثیل لها- عن جمیل تقدیرهم ایاه، و یعیّن منزلته بین جمیع الطائفة الاثنی عشریة، و ذلک اذ یلقبونه (شیخ الطائفة)، و اذا اطلق أحد هذین اللقبین أو کلاهما علی شخص لم ینصرف ذهن العارفین إلی شخص سواه ...» .
هذان النصان القدیم و الحدیث یمکن ان نعرف منهما المنزلة الرفیعة التی یتمتع بها شیخنا العظیم عند المسلمین،
لقد بلغت منزلة الشیخ فی بغداد أوجها بین علماء العصر من جمیع الطوائف و بلغ قبول اهل السنة له ان اعتبره بعض مؤرخیهم من اعلام السنة علی نحو ما فعل السبکی ، إذ عده من علماء الشافعیة فقال:
«... أبو جعفر الطوسی، فقیه الشیعة، و مصنفهم، کان ینتمی الی المذهب الشافعی ..» .
و حذا حذو السبکی الحاج خلیفة ، فقد نقل فی کتابه (کشف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 28
الظنون) عبارة السبکی.
و هذه النسبة اذ ابعدنا السبکی عن الاشتباه و الغلط فما نفسرها الا بمدی المکانة التی یتمتع بها الشیخ الطوسی فی نفوس الاعلام من المسلمین، حتی ذهب الظن بالبعض انه شافعی، او معتزلی، او ای شی‌ء آخر.
و الحقیقة التی لا غبار فیها ان الشیخ من ارکان المذهب الجعفری.
و انه حاز الثقة التامة من طبقات الشیعة جمعاء فی روایة الحدیث و تحلیله .

العاصفة الطائفیة و تأثیرها علی الشیخ:

و ما کادت السنة 449 ه تشرف علی الانتهاء، حتی هبت عاصفة هوجاء خطیرة المغزی، عمیقة الجذور، هددت بغداد بالفناء. تلک هی حوادث الطائفیة الرعناء الدامیة.
و لم تکن هذه العاصفة ولیدة تلک الایام و انما بلغت ذروتها فی هذا العهد، و خاصة عندما قطعت الخطبة للقائم العباسی ببغداد، و خطب للمستنصر الفاطمی علی منابر بغداد و العراق کله، فکتب القائم بأمر اللّه الی طغرلبک السلجوقی فی الباطن یستنهضه الی المسیر الی العراق، و کان بنواحی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 29
خراسان، فدخلها سنة 447 ه . و تقوض حکم البویهیین بدخوله، و تولیه الحکم من قبل القائم العباسی.
فمنذ وروده الی بغداد اخذ یشن حملة شعواء علی الشیعة، و یقسو علیهم و قد عزّ علی هذا السفاح الاهوج ان یزدهر المذهب الجعفری، و ینتشر فقرر ان یعمل جادا فی بعث التفرقة الطائفیة بین المسلمین، او فی الحقیقة یؤجج لهیبها من جدید، فالمصادر التاریخیة تؤکد وقوع الحوادث الدامیة بین الشیعة و السنة، و قد استمرت من عام 441 ه الی دخول طغرلبک 447 ه فهی مثلا بین شدة و ضعف.
حتی اذا بلغت سنة 448 ه قال ابن تغری بردی «و فیها أقیم الاذان» فی مشهد موسی بن جعفر. و مساجد الکرخ ب «الصلاة خیر من النوم» علی رغم انف الشیعة و ازیل ما کانوا یقولونه فی الاذان من «حی علی خیر العمل» .
و اشتد هذا الجو المتأزم بالطائفیة علی مرور الایام، و انقلب الی حوادث دامیة، فقد ذکر لنا ابن الجوزی صورة من هذه الحوادث فی سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 30
448 ه فیقول:
«و فی هذه السنة اقیم الاذان فی المشهد بمقابر قریش، و مشهد العقبة و مساجد الکرخ ب «الصلاة خیر من النوم» و أزیل ما کانوا یستعملونه فی الاذان «حی علی خیر العمل» و دخل الی الکرخ (و هو معقل الشیعة) منشدو اهل السنة من باب البصرة فأنشدوا الاشعار فی مدح الصحابة، و تقدم رئیس الرؤساء الی ابن النسوی بقتل ابی عبد اللّه الجلاب (شیخ البزازین) بباب الطاق لما کان یتظاهر به من الغلو فی الرفض فقتل و صلب علی باب دکانه» .
و اذا فالفتنة الطائفیة بلغت ذروتها، و لم یسلم منها کل شیعی سکن بغداد و کان نصیب الشیخ الطوسی منها کبیرا باعتباره الشخصیة الشیعیة الاولی، و علمهم المبرز، فقد «کسبت دار ابی جعفر الطوسی (و یصفه ابن الجوزی ب (متکلم الشیعة.) بالکرخ. و أخذ ما وجد من دفاتره، و کرسی کان یجلس علیه للکلام، و أخرج الی الکرخ، و أضیف الیه ثلاث سناجق بیض- و هو اللواء-، کان الزوار من اهل الکرخ قدیما یحملونها معهم، اذا قصدوا زیارة الکوفة، فاحرق الجمیع. و هرب ابو جعفر الطوسی، و نهبت داره ...» .
اما ابن حجر العسقلانی : فیوضح السبب الذی دعا الی هذا الهجوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 31
المعاکس علی شیخ الطائفة بعد ان کان معززا مکرما، بحیث یبلغ الامر به ان تحرق کتبه، و تنهب داره، و یحدث ما حدث، و یقول: «قال ابن النجار : احرقت کتب الطوسی عدة نوب بمحضر من الناس فی رحبة جامع النصر، و استتر هو خوفا علی نفسه، بسبب ما یظهر من (انتقاص السلف) ...» .
و لعلنا وضعنا اصابعنا علی الاسباب الرئیسیة لهذه الحوادث الدامیة من خلال ما عرضناه من نصوص تاریخیة توضح لنا معالم المشکلة، و التی ذهب ضحیتها عدد کبیر من المسلمین. بفعل تلک الطائفیة الرعناء، و التعصب المخزی الاعمی الفظیع.

الشیخ الطوسی یهاجر الی النجف:

و من جراء هذه الحوادث المؤلمة، و الخطر المحدق، اختار الشیخ الطوسی- رحمه اللّه- النجف مقرا له، و مرکزا لحرکته العلمیة.
فالنجف الاشرف تمتعت بمیزات خاصة فضلت علی بقیة المدن العراقیة، فهی تضم مرقد امام العلم و الفضیلة، امیر المؤمنین علیه السلام، و فیها تربة قابلة للنمو العلمی و ذلک لوجود بعض الاعلام الذین سبقوا شیخنا الرائد من اتخاذ النجف مرکزا لهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 32
بالاضافة الی ان النجف تتکی‌ء علی الکوفة، و هذه المدینة علویّة فی ذاتها و هی و ان وقفت فی فترة ضد آل البیت علیهم السلام، الا أنها عادت الی رشدها بعد زمان، و اصبحت موئلا للشیعة، و مرکزا للتوابین، و منطلقا للثورات العلویة.
و اذا کان هذا الجانب متوفرا فی مدینة الامام علی (ع)، فلا بد ان یکون هو المفضل لدی الشیخ الجلیل، الذی اضطرته المشاکل الطائفیة، و حوادثها الدامیة الی ان یصمم علی ترک بغداد.
و انتقل الی النجف الاشرف عام 449 ه، و حط رحله فیها، و من الطبیعی ان یظهر دور جدید فی حیاته العلمیة. خاصة اذا لاحظنا انه عند هجرته الی مدینة النجف قد انصرف عن کثیر من المشاغل، و انصرافه انصرافا کاملا الی البحث الامر الذی ساعده کل المساعدة علی انجاز دوره العلمی العظیم، الذی ارتفع به الی مستوی المؤسسین.
و دبت فی النجف حرکة علمیة نشیطة بفضل شیخنا الرائد، و توطدت ارکانها بمرور الزمن، حتی برزت مظاهر الحیاة العلمیة المرتبة واضحة للعیان. و اصبحت الجامعة تضم عددا من طلاب المعرفة لا یستهان بهم، و اخذت تتکاثر یوما بعد یوم.

بین حوزتین علمیتین:

و لقد ذکرت کتب الرجال ان تلامذة الشیخ الطوسی بلغوا من الشیعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 33
فقط ثلاثمائة، اما من السنة فلا یحصی .
و هذا العدد الذی تکاد المصادر تجمع علیه نراها عند تعداد اسمائهم لا تصل بهم الی اکثر من ستة و ثلاثین اسما.
و لا بد ان نتساءل عن هذا العدد من الطلاب و المحصلین، هل هم من ارکان حوزته العلمیة فی بغداد، و قد انتقلوا معه الی النجف، أو انهم نشأوا فی النجف، و نمت الحوزة بهم علی عهده بالتدریج، بحیث برز فیها العنصر المشهدی- نسبة الی المشهد العلوی-.
و رجحت بعض المصادر الاصولیة: ان الشیخ عند هجرته الی النجف انفصل عن حوزته التی أسسها ببغداد، و أنشأ فی مهجره النجف حوزة جدیدة. و تستند فی دعواها الی عدة مبررات. نلخصها بما یلی:
اولا- ان مؤرخی هجرة الشیخ الطوسی الی النجف لم یشیروا إطلاقا إلی أنّ تلامذة الشیخ فی بغداد رافقوه، أو التحقوا به فور هجرته الی النجف.
ثانیا- ان قائمة تلامذة الشیخ التی یذکرها مؤرخوه نجد انهم لم یشیروا الی مکان التلمذة إلا بالنسبة الی شخصین جاء النص علی انهما تلمذا علی الشیخ فی النجف، و هما الحسین بن المظفر بن علی الحمدانی ، و الحسن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 34
ابن الحسین بن الحسن بن بابویه القمی.
ثالثا- و مما یعزز احتمال حداثة الحوزة الدور الذی اداه ابن الشیخ المعروف بابی علی ، فقد تزعم الحوزة بعد أبیه. و من المظنون انه کان فی دور الطفولة او أوائل الشباب حین هجرة والده، ذلک لانعدام تأریخ ولادته، و وفاته، و لکن الثابت تاریخیا انه کان حیا فی سنة 515 ه، ای انه عاش بعد هجرة الشیخ قرابة سبعین عاما، و یذکر عن تحصیله انه کان شریکا فی الدرس عند أبیه مع الحسن بن الحسین القمی، الذی ارجح کونه من الطبقة المتأخرة، کما یقال عنه ان أباه أجازه سنة 455 ه، أی قبل وفاته بخمسین سنة، و هو یتفق مع حداثة تحصیله.
فاذا عرفنا أنه خلف أباه فی التدریس و الزعامة العلمیة للحوزة فی النجف، بالرغم من کونه من تلامذته المتأخرین فی اغلب الظن استطعنا ان نقدر المستوی العلمی العام لهذه الحوزة، و یتضاعف الاحتمال فی کونها حدیثة التکون.
و الصورة التی تکتمل لدینا علی هذا الاساس هی: ان الشیخ الطوسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 35
بهجرته الی النجف انفصل عن حوزته الأساسیة فی بغداد، و انشأ حوزة جدیدة حوله فی النجف، و تفرغ فی مهجره للبحث و تنمیة العلم .
و اذا عدنا فألقینا نظرة علی هذا النص الذی یذکره المؤرخون بأن تلامذة الشیخ من الشیعة بلغوا ثلاثمائة، و من السنة ما لا یحصی کثرة، فمن المؤسف جدا ان هذا العدد الکبیر من التلامیذ لم یصل لنا من اسمائهم الا ما یربو علی الثلاثین و ان الشیخ منتجب الدین بن بابویه القمی و المتوفی بعد عصر الشیخ بقلیل، لم یستطع الوقوف علی اسمائهم، فلم یذکر منهم فی کتابه الفهرست، المطبوع فی آخر البحار إلا ستة و عشرین اسما، و زاد علیهم العلامة السید محمد مهدی بحر العلوم فی (الفوائد الرجالیة) اربعة.
فتمت عدتهم 30، و هؤلاء معروفون ذکرتهم مقدمات کتب الشیخ المطبوعة.
و اضاف شیخنا اغا بزرک الطهرانی لهذا الثبت اسماء ستة، فأصبح العدد ستة و ثلاثین، و قال بعد ذلک: «و هؤلاء ستة و ثلاثون عالما من تلامیذ الشیخ الطوسی المعروفین.
و ان کنا لا نستطیع القطع بأن هذه المجموعة من التلامیذ تمثل بحق الحوزة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 36
النجفیة او البغدادیة
و لا شک ان الحوزة العلمیة التی اسسها الشیخ الطوسی فی النجف الاشرف کانت فتحا کبیرا، و فی الوقت نفسه کانت نواة للجامعة العلمیة التی عاشت الاجیال.
و لکنها فی الوقت نفسه لم تتمکن ان ترقی الی مستوی التفاعل المبدع مع التطور الذی انجزه الشیخ الطوسی فی الفکر العلمی، و ذلک لحداثة هذه الحوزة. و ان کانت هذه الهجرة الی النجف قد هیأت له الفرصة للقیام بدوره العلمی العظیم لما اتاحت له من تفرغ تام لهذه الناحیة المهمة.
و کان لا بد لهذه الحوزة الفتیة ان یمر علیها زمان حتی تصل الی مستوی من التفاعل العلمی و النضج الفکری لقبول افکار الشیخ و آرائه العلمیة، و تواکب ابداعه بوعی و تفتح .
و من هذا التاریخ تدخل النجف المرحلة العلمیة المنتظمة، و تستمر بین شدة و ضعف، فتقطع اشواطا بعیدة فی مسیرتها الجامعیة، و هی تسجل لمؤسسها دور القیادة و الزعامة بکل تقدیر و اکبار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 37

أدوار الجامعة النجفیة خلال مسیرتها العلمیة

اشارة

فی خلال هذه المسیرة الطویلة- و التی تکاد تدق أبواب الألف عام- تمر هذه الجامعة بأدوار یمکننا أن نحصرها بثلاثة أدوار مهمة نعرضها بإیجاز.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 38

الدور الأول لجامعة النجف

اشارة

و یبدأ هذا الدور بانتقال الشیخ الطوسی- رحمه اللّه- الی النجف، حیث وجد فی هذه التربة الطیبة قابلیة تامة للغرس و الاستثمار، فأسس هیئة علمیة منظمة ذات حلقات، و نظما خاصة من حیث التدریس، و قد ظهر اثر ذلک فی کتابه المسمی (امالی الشیخ الطوسی) الذی کان یملیه علی تلامذته .
و کان من ألمع ما یذکر فی هذا الصدد تنسیقه للدراسة العلمیة فی اقسامها الثلاثة: الفقه، و الحدیث، و الاصول. فقد وضع فی هذه العلوم مؤلفات کانت موضع اهتمام الاعلام المبرزین من الفقهاء و الاصولیین.
ففی نطاق الفقه کان کتاب (المبسوط) یمثل مدی «التطور العظیم فی البحث الفقهی علی صعید التطبیق بالشکل الذی یوازی التطور الاصولی علی صعید النظریات».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 39
و کانت «مساهمة الشیخ فی الاصول- مثلا- مجرد استمرار للخط و انما کانت تعبر عن تطور جدید کجزء من تطور شامل فی التفکیر الفقهی العلمی له. أتیح لهذا الفقیه الرائد ان یحققه. فکان کتاب (العدة) تعبیرا عن الجانب الاصولی من التطور» .
و الی جانب هذین العملین، قام الشیخ الطوسی بعمل مهم و علی مستوی واسع النطاق فی جمع الاحادیث المنقولة عن ائمة اهل البیت علیهم السلام، و ذلک ب «دمج المجامیع الصغیرة فی موسوعات کبیرة، فما انتهی ذلک حتی حصل الفکر العلمی الامامی علی مصادر اربعة موسعة للحدیث» .
و کان نصیب الشیخ الطوسی من هذه الاصول اصلین کبیرین هما:
کتاب (التهذیب)، و کتاب (الاستبصار) فی ثلاثة مجلدات .
و لم یکن هذا کل تراث الشیخ الطوسی- رحمه اللّه- فالی جانب التراث الاصولی و الفقهی الضخم خلف تراثا رائعا فی التفسیر، فقد وضع (التبیان) فی عشرة مجلدات، و کان هذا النتاج الکبیر یعرب عن مستوی واسع و عمیق کما یدل علی احاطة و شمول فی آفاق المعرفة. و قد کانت الحاجة ملحة لهذا الجانب لافتقار المکتبة الامامیة الیه، و لذا اعتبر ظهور هذه الموسوعة التفسیریة الی حیز الامکان فتحا کبیرا.
و فی علم الرجال، و تحقیق درجاتهم العلمیة، و جمع الشتات عنهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 40
و تمیز طبقاتهم من عهد الرسول الاعظم (ص) الی ما بعد عهد الائمة علیهم السلام وضع کتاب الرجال) . و قد سد هذا الکتاب فراغا فی مجال الجرح و التعدیل و تمیز طبقات الاعلام و المحدثین، و اصبح مصدرا اولا للمشتغلین فی هذا الحقل.
و فی ذکر اصحاب الکتب و الاصول، خلف للمکتبة الاسلامیة کتابه (الفهرست) و هو یحتوی علی تسعمائة اسم من اسماء المصنفین و هو- فی الحقیقة- من الآثار الثمینة الخالدة، و قد اصبح موضع اعتماد علماء الامامیة و غیرهم فی هذا المضمار، لانه ضبط لتاریخ العلوم عند الشیعة حتی تاریخ تألیفه.
و الی هذا الصف العلمی اضاف فی مجموعة مؤلفاته القیمة ما کتبه فی اصول العقائد، و معرفة اللّه تعالی، و صفاته، و توحیده، و عدله، و النبوة، و الامامة و کل ما یعود الاخلال به بالضرر علی ما حصل له من المعرفة.
مثل کتاب (الاقتصاد) فی اصول العقائد، و کتاب (تلخیص الشافی) و (المفصح فی الامامة) و کتاب (الغیبة) فی امامة الحجة المهدی محمد بن الحسن العسکری علیهما السلام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 41
بالاضافة الی المؤلفات الاخری، و فی مواضیع مختلفة، کلها تدل علی اطلاع شیخنا الرائد فی آفاق المعرفة، و لقد أحصتها بعض المصادر فبلغت 47 مؤلفا فی جوانب متعددة .
و اذا اعتبر الشیخ الطوسی- رحمه اللّه- فی مجموع مؤلفاته المتنوعة موسوعیا، فهو من جانب آخر یعتبر مختصا بالفقه و الاصول. و لم یکن تصنیفه فی الفقه المتمثل فی کتابه (المبسوط) ثم، فی الحدیث (التهذیب و الاستبصار)، ثم فی الفقه المقارن ککتاب (الخلاف) الی غیرها من مؤلفاته الفقهیة، الا مثلا للتطور العظیم الذی نهجه الشیخ فی بحثه الفقهی.
و لقد عرض فی بحوثه الفقهیة منهج الفقهاء من الشیعة القدماء الذین مثلوا المرحلة البدائیة من التفکیر الفقهی، و هو ما یمکن ان نطلق علیها بمنهج الاخباریین، الذین یجمدون علی اخذ الاحکام من الاحادیث، و الروایات، و اتباع النصوص، و انصرافهم عن التفریع، و التوسع فی التطبیق، کما فی کتابی (التهذیب و الاستبصار).
کما عرض منهج الفقهاء الشیعة الاصولیین الذین یفکرون بذهنیة اصولیة و یمارسون التفریع الفقهی فی نطاق واسع، و ذلک فی کتاب- (المبسوط).
و الحقیقة ان «الفارق الکیفی بین اتجاهات العلم التی انطلقت من هذا التطور الجدید و اتجاهاته قبل ذلک یسمح لنا باعتبار الشیخ الطوسی حدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 42
فاصلا بین عصرین من عصور العلم، بین العصر العلمی التمهیدی، و العصر العلمی الکامل. فقد وضع هذا الشیخ الرائد حدّا للعصر التمهیدی، و بدأ به عصر العلم الذی اصبح فیه الفقه و الاصول علما له دقته، و صناعته، و ذهنیته العلمیة الخاصة» .
و بعد هذا فقد استمر شیخنا الرائد فی جهاده العلمی، و العمل الدائب فی تنظیم الوضع الدراسی، حتی خطا علی عهده الشریف خطوات سریعة بحیث اصبحت الحوزة العلمیة الفتیة فی النجف تربو علی المئات من رواد الفضیلة و العلم، و الطلبة الناشئین، و المؤلفة- علی حد رأی بعض المصادر- من اولاده، و بعض اصحابه، و مجاوری القبر الشریف، و ابناء البلاد القریبة منها کالحلة و نحوها، و نمت الحوزة علی عهده بالتدریج، و برز فیها العنصر المشهدی- نسبة الی المشهد العلوی- و العنصر الحلی، و تسرب التیار العلمی منها الی الحلة.

بعد الشیخ الطوسی:

و فی عام 461 ه لبنی الشیخ الطوسی- بانی مجد الجامعة النجفیة- نداء ربه، و قد منیت الجامعة بخسارة کبیرة، و لکن نموها العلمی لم یقف بوفاة الرائد الکبیر بل تحدثنا المصادر: بأن ولده الحسن بن محمد بن الحسن المعروف بابی علی الطوسی قام بدور کبیر فی ادارة دفة الجامعة، و زعامة حوزتها.
و کان ابو علی من ابرز تلامذة والده شیخ الطائفة، و اکثر قابلیة من سائر تلامذة الشیخ لتحمل اعباء المسؤولیة لأدارة شؤون الجامعة، و استمرار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 43
الحرکة العلمیة فیها زمانا لیس بالقصیر، و هی تؤدی عملها العلمی بصورة امتدادیة للشیخ الرائد.
و قد وصفته المصادر بعبارات الاجلال و التکریم، مما تدل علی مکانته الکبیرة فی الجامعة النجفیة، فمثلا یقول ابن حجر: «ثم صار فقیه الشیعة و امامهم بمشهد علی رضی اللّه عنه، و هو فی نفسه صدوق، مات فی حدود الخمسمائة، و کان متدینا، کافا عن السب» .
و تحدث عنه الشیخ اغا بزرک فقال: «و قد خلف اباه علی العلم و العمل و تقدم علی العلماء فی النجف، و کانت الرحلة الیه و المعول علیه فی التدریس و الفتیا، و القاء الحدیث و غیر ذلک، و کان من مشاهیر رجال العلم، و کبار رواة الحدیث، و ثقاتهم، و قد بلغ من علو الشأن، و سمو المکانة أن لقب ب «المفید الثانی» .
و الی جانب ما أفاد من والده شیخ الطائفة من الناحیة العلمیة کذلک عدّ من مشائخه: ابو الحسن محمد بن الحسین المعروف بابن الصقال. و حمزة ابو یعلی سلار بن عبد العزیز، و غیرهم.
کما انه کان شریکا فی الدرس مع الشیخ أبی الوفاء عبد الجبار بن عبد اللّه بن علی الرازی، و الشیخ ابی محمد الحسن بن الحسین بن بابویه القمی، و الشیخ ابی عبد اللّه محمد بن هبة اللّه الوراق الطرابلسی، عند قراءة کتاب «التبیان» علی والده الشیخ الطوسی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 44
و قد تخرج علیه کثیر من حملة العلم و الحدیث من الفریقین، و حاز المرجعیة عند الطائفتین، لذلک کثرت الروایات عنه، و انتهت الطرق الیه، و قد ذکر مترجموه کثیرا من تلامذته، فقد ذکر الشیخ منتجب الدین بن بابویه أربعة عشر رجلا، و اضاف الشیخ اغا بزرک الطهرانی ستة عشر شخصا، کما ذکر ابن حجر العسقلانی فی (لسان المیزان) ثلاثة اشخاص من العامة، فیکون المجموع اربعة و ثلاثین شخصا .
و فی طلیعة هذه المجموعة:
1- علی بن شهر اشوب المازندرانی السروی، والد صاحب (المناقب) و (المعالم).
2- الشیخ الفقیه الصالح أبو عبد اللّه الحسین بن احمد بن محمد بن علی ابن طحال المقدادی.
3- المؤلف الفقیه الثقة عماد الدین محمد بن ابی القاسم بن علی الطبری الاملی الکحی.
4- الشیخ الفاضل ابو طالب حمزة بن محمد بن أحمد بن شهریار الخازن.
5- ابو علی الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی صاحب تفسیر (مجمع البیان).
6- الشیخ محمد بن منصور الحلی الشهیر بابن ادریس، قال فی (الریاض):
علی المشهور من أن ابن أدریس یروی عن أبی علی هذا تارة بلا واسطة، و تارة مع الواسطة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 45
7- ابو علی محمد بن الفضل الطبرسی.
و الذین ذکرهم ابن حجر العسقلانی هم:
8- ابو الفضل بن عطاف.
9- محمد بن محمد النسفی.
10- هبة اللّه السقطی.
و لم یکن ذکر هؤلاء من بین المجموعة الکبیرة من تلامذة ابی علی الطوسی الا لغرض اعطاء نماذج عن المستوی الفکری لطلاب هذه الشخصیة.
و قد ترک اثرا قیما علمیا هو (شرح النهایة) و هو شرح لکتاب والده النهایة فی الفقه.
و توفی الشیخ ابو علی بعد سنة 515 ه، فقد کان حیا فی هذا التاریخ کما یظهر فی مواضع من اسانید کتاب (بشارة المصطفی).
و ما ان انتقل الشیخ ابو علی الی رحمة ربه، حتی تقدم ولده ابو نصر محمد بن ابی علی الحسن بن ابی جعفر محمد بن الحسن الطوسی. الی تزعم الجامعة النجفیة، و کان اهلا لهذا التزعم. فقد نقل عنه الشیخ اغا بزرک الطهرانی قائلا: «کان الشیخ أبو نصر محمد من أعاظم العلماء، و اکابر الفقهاء، و افاضل الحجج و اثبات الرواة و ثقاتهم، فقد قام مقام والده فی النجف، و انتقلت الیه الریاسة و المرجعیة، و تقاطر علیه طلاب العلم من شتی النواحی» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 46
و قال ابن العماد الحنبلی فی حوادث سنة: 540 «.. و فیها توفی أبو الحسن محمد بن الحسن ابی علی بن ابی جعفر الطوسی، شیخ الشیعة، و عالمهم، و ابن شیخهم و عالمهم رحلت الیه طوائف الشیعة من کل جانب الی العراق، و حملوا الیه، و کان ورعا عالما کثیر الزهد، و اثنی علیه السمعانی، و قال العماد الطبری: لو جازت علی غیر الانبیاء صلاة صلیت علیه» .
ثم فی هذه الفترة قام الاعلام من اسرة آل الخازن فی دعم الجامعة النجفیة، حتی انتهی الدور الی الموفق الخازن، علی بن حمزة بن محمد بن احمد بن شهریار، و وصفته المصادر بانه «اشهر خزنة الحرم العلوی، ضم الی سدانة الحرم السبق فی العلوم الدینیة و کانت الرحلة الیه سنة 572 حین کثر اهل العلم، و رواد الحدیث، و کان المعول علیه فی ادارة رحی العلم بعد شیخ الطائفة الشیخ الطوسی- قدس سره- و هو العاقد لحلقات الحدیث و المتکفل بالقائه، و کان عالما فاضلا و کان من رجال القرن السادس» .
و استمرت الجامعة النجفیة فی حرکتها العلمیة من بعد الشیخ الرائد شیخ الطائفة حتی اطل عهد ابن ادریس، و قد موج الحرکة العلمیة فی الحلة و نشطت الی حد کبیر.
و کان عهد هذا المجدد ایذانا بانتقال الحرکة العلمیة الی الحلة، و قد تکاملت عناصر هذا الانتقال فی اوائل القرن السابع الهجری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 47

بین الطوسی و ابن ادریس

و محمد بن احمد بن ادریس الحلی، من مشائخ الفقهاء فی الحلة، و سبط الشیخ الطوسی، توفی سنة 598 ه.
وصفه ابن داود : بأنه شیخ الفقهاء بالحلة متقنا فی العلوم» .
کما وصفه الحر العاملی : «و قد اثنی علیه علماؤنا المتأخرون، و اعتمدوا علی کتابه، و علی ما رواه فی آخره من کتب المتقدمین و اصولهم» .
و قالت بعض المصادر: «... و کان فقیها اصولیا بحتا، و مجتهدا صرفا، و هو أول من فتح باب الطعن علی الشیخ (الطوسی)، و الا فکل من کان فی عصر الشیخ او من بعده، انما کان یحذو حذوه غالبا الی ان انتهت النوبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 48
الیه» .
و هذه الفقرة تلقی لنا ضوءا علی ما قام به هذا الشیخ المجدد بالنسبة لآراء الشیخ الطوسی و افکاره، التی کادت تسیطر علی الجامعة العلمیة فی النجف طیلة مائة عام او اکثر، و تعیقها عن التجدید، و التفاعل الفکری.
فاننا نجد بعض المصادر تری ان المائة عام التی عاشتها الحوزة العلمیة بعد الشیخ المؤسس، و الی حد ما کان عامل التقلید فیها واضحا جلیا و من جراء ذلک تحملت الجامعة اعباء الوراثة العلمیة، و فی خلالها کانت هالة من التقدیس و الاحترام تحوط آراء و افکار الشیخ الطوسی الرائد. بحیث کان من الصعب علی احد ان ینالها بالاعتراض و النقاش، او یخضعها للتمحیص و التدقیق. و حتی ان اکثر الفقهاء الذین نشأوا بعد الشیخ کانوا یتبعونه فی الفتوی تقلیدا له لکثرة اعتقادهم فیه، و حسن ظنهم به .
و قد وضح الحمصی - و هو ممن عاصر تلک الفترة- هذه الحقیقة بقوله:
«و لم یبق للامامیة مفت علی التحقیق، بل کلهم حاک» .
و الحقیقة اننا علی رغم ما نجده فی بعض المصادر بان الفترة التی تلت وفاة الشیخ الطوسی من انشط العهود بالنسبة للحرکة العلمیة فی الجامعة النجفیة، و ان الوضع الدراسی قد بلغ أوجه و شدة عنفوانه فی عصر ابی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 49
علی الطوسی، و ولده ابی نصر، و ابن شهریار.
و لکن فی الوقت نفسه لم تتمکن المصادر من اعطائنا صورة واضحة من ملامح هذه الفترة بما یتعلق بازدهار الحرکة الفکریة فی الجامعة النجفیة، و تکاد تکون مظلمة، و الرکود العلمی فیها اقرب الی الواقع من غیره.
بالاضافة الی ان المصادر تحجم عن ذکر وضعیة الحرکة العلمیة فی النجف بعد ابن شهریار الخازن، و فی نفس الوقت نری نجم ابن ادریس قد لمع فی الحلة و برز بعنف علی مسرح النقد لآراء الشیخ الرائد، و کان هذا البروز الدفعی الجری‌ء قد حول الانظار الی الحرکة العلمیة التی تدور رحاها فی الحلة، و حتی تکاملت عناصر الانتقال فی عهد المحقق الحلی ، و ذلک فی اوائل القرن السابع.
«و هذه الحقیقة بالرغم من تأکید جملة من علمائنا لها تدعو الی التساؤل و الاستغراب، لان الحرکة الثوریة التی قام بها الشیخ فی دنیا الفقه و الاصول، و المنجزات العظیمة التی حققها فی هذه المجالات کان من المفروض و المترقب ان تکون قوة دافعة للعلم، و ان تفتح لمن یخلف الشیخ من العلماء آفاقا رحیبة للابداع و التجدید و مواصلة السیر فی الطریق الذی بدأه الشیخ. فکیف و لم تأخذ افکاره و تجدیداته مفعولها الطبیعی فی الدفع و الاغراء بمواصلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 50
السیر!» .
و تشیر بعض المصادر الاصولیة الی عدة اسباب من المحتمل ان تفسر الموقف، نلخصها بما یلی:
1- ان الشیخ الطوسی بهجرته الی النجف انفصل عن حوزته الاساسیة و انشأ حوزة جدیدة حوله فی النجف، و تفرغ فی مهجره للبحث و تنمیة العلم، و کان من الطبیعی ان لا ترقی الحوزة العلمیة الی مستوی التفاعل المبدع مع التطور الذی انجزه الشیخ الطوسی فی الفکر العلمی لحداثتها، و لهذا لم یتسرب الابداع الفقهی العلمی من الشیخ الی تلک الحوزة التی کان ینتج و یبدع بعیدا عنها، و لکی یتحقق ذلک التفاعل الفکری الخلاق کان لا بد ان یشتد ساعد الحوزة الفتیة حتی تصل الی المستوی من التفاعل من الناحیة العلمیة فسادت فترة رکود ظاهری بانتظار بلوغ الحوزة الفتیة الی ذلک المستوی.
2- أسند جماعة من العلماء ذلک الرکود الی ما حظی به الشیخ من تقدیر عظیم فی نفوس تلامذته رفعه فی أنظارهم عن مستوی النقد، و جعل من آرائه و نظریاته شیئا مقدسا لا یمکن ان ینال باعتراض، او یخضع لتمحیص.
و قد بلغ من استفحال تلک النزعة التقدیسیة فی نفوس الاصحاب أنّا تجد فیهم من یتحدث عن رؤیا لأمیر المؤمنین (ع) شهد فیها الامام بصحة کل ما ذکره الشیخ الطوسی فی کتابه الفقهی «النهایة»!! و هو یشهد عن مدی تغلغل النفوذ الفکری الروحی للشیخ فی اعماق نفوسهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 51
3- و السبب الاخیر یمکن ان یستنتج من حقیقتین تاریخیتین:
إحداهما: ان نمو الفکر العلمی و الاصولی لدی الشیعة لم یکن منفصلا عن العوامل الخارجیة التی کانت تساعد علی تنمیة الفکر و البحث العلمی، و من تلک العوامل عامل الفکر السنی، لان البحث الاصولی فی النطاق السنی، و نمو هذا البحث وفقا لاصول المذهب السنی کان حافزا باستمرار للمفکرین من فقهاء الامامیة لدراسة تلک البحوث السنی فی الاطار الامامی، و وضع النظریات التی تتفق معه فی کل ما یثیره البحث السنی من مسائل و مشاکل، و الاعتراض علی الحلول المقترحة لها من قبل الآخرین.
ثانیتهما: ان التفکیر الاصولی السنی کان قد بدأ ینضب فی القرن الخامس و السادس و یستنفد قدرته علی التجدید، و یتجه الی التقلید و الاجترار حتی ادی ذلک الی سد باب الاجتهاد رسمیا.
و اذا جمعنا بین هاتین الحقیقتین، و عرفنا ان التفکیر الاصولی السنی الذی یشکل عامل اثارة للتفکیر الاصولی الشیعی، کان قد اخذ بالانکماش، و منی بالعقم، استطعنا ان نستنتج بأن التفکیر العلمی لدی فقهائنا الامامیة قد فقد احد المثیرات المحرکة له. الامر الذی یمکن ان نعتبره عاملا مساعدا فی توقف النمو العلمی» .
و کیفما کان فان ابن ادریس فتح باب النقاش علی مصراعیه، و حمل بکل ما اوتی من مقدرة علمیة علی آراء جده لامه الشیخ الطوسی و بکل عنف.
و کان ذلک سببا لحملة شدیدة علیه من قبل بعض الاعلام امثال العلامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 52
الحلی الذی وصمه بأنه شاب مترف عفی اللّه عنه. و نقده غیره نقدا لاذعا، کما رمی بقلة الادب.
و مع هذا فان الحملات القاسیة التی شنها ابن ادریس علی آراء الشیخ الرائد «کانت بدایة خروج الفکر العلمی عن دور التوقف النسبی علی ید هذا الفقیه المبدع، إذ بث فی الفکر العلمی روحا جدیدة، و کان کتابه الفقهی «السرائر» إیذانا ببلوغ الفکر العلمی فی مدرسة الشیخ الی مستوی التفاعل مع افکار الشیخ و نقدها و تمحیصها».

من النجف الی الحلة:

و لکن بوادر النشاط العلمی، او التفتح الذهنی للتفاعل مع آراء الشیخ بدت تبرز بأجلی مظاهرها فی اوائل القرن السابع الهجری، و خاصة علی مسرح التفکیر الحلی، و الذی عبر عن اتساع کبیر فی الذهنیة العلمیة التی یتمتع بها الحلیون فی تلک الفترة، و یمکن ان تکون طلیعتها متجلیة فی الشیخ ابن ادریس، ثم المحقق الحلی، ثم العلامة الحلی. و امثالهم الکثیرین ممن حملوا رایة العلم فی الحلة، و اسسوا لها مجدا شامخا.
و اذا کان عهد ابن ادریس إیذانا بانتقال الحرکة العلمیة الی الحلة، ففی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 53
عهد المحقق الحلی انتقل المرکز العلمی الی الحلة تماما، و اصبح مجلس المحقق- کما تحدده بعض المصادر- یضم قرابة اربعمائة مجتهد .
و استمر التأجج العلمی ینیر آفاق مدینة ابن ادریس طوال قرون ثلاثة، و دام حتی اواخر القرن العاشر الهجری، فقد عادت المرکزیة العلمیة الی النجف، و بقیت فی الحلة حرکة علمیة بسیطة مفتقرة الی شی‌ء من الدفع و التوسع.
و فی خلال هذه المدة ضمت الحلة بیوتات کبیرة علمیة، و اعلاما فذة عرفوا بالفضیلة و الاجتهاد، امثال: آل ادریس، و آل شیخ ورام، و آل فهد، و آل طاووس و آل نما، و بنی سعید، و بنی المطیر، و بنی معیة و غیرهم من البیوتات العلمیة .
و یعترضنا هنا سؤال و هو:
- عند انتقال المرکز العلمی من النجف الی الحلة، ففی خلال هذه الفترة هل بقیت النجف خالیة من حرکة علمیة، و قاحلة من اعلام فضلاء؟
و الجواب: ان ثمة حرکة علمیة بقیت فیها. و دلیلنا علی ذلک:
1- ان الفاضل الرضی الاسترابادی ألف کتابه شرح الکافیة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 54
هذه الفترة فی النجف حینما أشار هو فی کتابه المذکور بأنه من برکات الحضرة العلویة المقدسة و ذلک عام 683 ه .
2- تحدث ابن بطوطة - ضمن زیارته للنجف خلال عام 727 ه- عن مدرسة عظیمة یسکنها الطلبة و الصوفیة من الشیعة- علی حد تعبیره- .
3- فی هذه الفترة بنیت مدارس ثلاث لطلاب العلم و المهاجرین فی النجف.
الاولی: بناها السلطان محمد خدابنده، او ابنه ابو سعید . فی القرن الثامن.
الثانیة: بناها المقداد السیوری فی القرن التاسع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 55
الثالثة: بناها الشیخ ملا عبد اللّه فی القرن العاشر.
و لو کانت النجف خالیة من حرکة علمیة فی هذه الفترة، لما شیدت فیها هذه المدارس العلمیة.
کما ان المصادر الرجالیة: تؤکد علی وجود طبقة من الاعلام فی النجف ضمن فترة الانتقال. نعرض عن ذکرهم لضیق المقام.
و ان هؤلاء تعهدوا الجامعة النجفیة فی خلال هذه الفترة فی ادارة دفتها و ان کانت الزعامة العلمیة کانت قد انتقلت الی الحلة.
و فی صدد تحدید الاسباب التی دعت الی انتقال الحرکة العلمیة و زعامتها الی الحلة، ذکرت بعض المصادر ما یلی:
1- لما اصاب طلاب العلم و علماءها من الاذی لقلة المیاه فی النجف.
2- هجوم الاعراب المتکرر علی النجف، حیث ذاق النجفیون آنذاک الامرین من هؤلاء الاعراب.
3- غلاء النجف.
4- انتقال زعیم الحرکة العلمیة العلامة الشیخ ابن ادریس صاحب السرائر الی الحلة، لانه کان حلیا» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 56
إن هذه الاسباب قد تکون وجیهة من جهة، و لکنها من جهة أخری قد یعوزها الدلیل فمثلا لم یتأکد لدینا ان ابن ادریس کان من طلاب الجامعة النجفیة، ثم انتقل الی الحلة بعدها، و الظاهر ان ثقافته العلمیة حلیة صرفة.
نعم ذکرت المصادر انه روی عن ابی علی الطوسی، او ولده ابی نصر، و ان جده لامه الشیخ الطوسی، لکن المصادر لم تذکر لنا انه تلمذ فی المدرسة النجفیة.
و لم نقتنع بأن الاسباب التی دعت الی انتقال الحوزة العلمیة هی هذه النقاط التی تقدمت، انما الذی یصلح للاعتقاد هو ان الحلة نبغ فیها ابن أدریس و أضرابه، و کانت من قبله تدار فیها حرکة علمیة، و عند ظهور ابن ادریس موج الحرکة و وجه الانظار الیه بحملاته القاسیة علی شیخ الطائفة الطوسی، و المشتغلون یتبعون المبرز فی عصره و قد حقق ابن ادریس هذه التبعیة بنبوغه و لهذا اثر علی حرکة الجامعة النجفیة و ان لم یشلها تماما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 57

الدور الثانی للجامعة النجفیة

اشارة

و یمکن ان یکون النصف الاخیر من القرن العاشر الهجری هو العهد الذی استعادت فیه النجف مرکزها العلمی، بعد ان فازت الحلة بزعامة المرکز العلمی مدة ثلاثة قرون.
و لقد حددت بعض المصادر زمن عودة الحیاة العلمیة بعهد المقدس الاردبیلی ، یقول السید حسن الصدر فی هذا الصدد: «ثم عادت الرحلة الی النجف فی زمن المقدس الأردبیلی، فقوی ذلک، و اشتد الناس الیه من اطراف البلاد، و صارت من اعظم مراکز العلم» .
و نقلت بعض المصادر: ان السبب فی عودة الهیئة العلمیة الی النجف «ان سحبت المیاه الیها، و اهتم بایصالها کثیر من السلاطین و العلماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 58
و غیرهم. فقد قام الصاحب عطاء الملک بن محمد الجوینی سنة 676 ه بحفر نهر التاجیة ثم جاء بعده الشاه اسماعیل الاول الی النجف فأمر بحفر نهر الشاه سنة 914 ه، و تلاه الشاه طهماسب الصفوی ، فأمر بحفر الطهماسیة نسبة الیه سنة 980 ه، ثم حفر الشاه عباس عند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 59
وفوده الی النجف نهر المکریة سنة 1032 ه. هذا بالاضافة الی الاحتیاطات التی عملت «کبناء الاسوار» لتقلیل اثر الاعراب التخریبی، و الی ما قامت به الحکومة من الأعمال لغرض تقلیل ذلک، أو ابادته، و کان هذا الانتقال فی بحر القرن التاسع بعد ان لبثت فی الحلة ما یقارب ثلاثة قرون» .
و لیس من البعید ان یکون عامل توفیر المیاه و الامن فی النجف سببا لعودة الحیاة العلمیة فی الجامعة النجفیة بعد ان رحلت عنها ثلاثة قرون.
و لکن الذی یخال لنا هو ان الدوافع الرئیسیة لبعث الحیاة الفکریة او تنشیطها فی هذه الجامعة یعود الی عامل سیاسی و طائفی دفع الی بعث الحرکة العلمیة فی النجف.
ذلک ان السلطة الجلائریة، و الایلخانیة- و التی حکمتا بغداد زمانا لیس بالقصیر- کانتا علی قصد فی احیاء الحرکة العلمیة فی الجامعة النجفیة و جعلها قوة دفاعیة للشیعة، و مرکزا مهما یقابل بغداد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 60
ففی بغداد حرکة علمیة سنیة تدار من قبل السلطة الحاکمة حینذاک فی العهد العباسی، ذات عروق و إصالة، و السلطتان المتقدمتا الذکر هما القوة المقابلة للخلافة، کما کان الامر فی عهد البویهیین.
و لهذا کان لهاتین السلطتین اثر فی دعم جامعة النجف، و اهتمامهم بها کمصدر للأشعاع العلمی المعبر عن علم اهل البیت علیهم السلام.
و ذهبت بعض المصادر الی ان المدة التی عاشتها الجامعة النجفیة فی دورها الثانی هو من عام 750- 1150 ه. غیر ان الدلائل تشیر الی ان العهد بدأ فی عهد المقدس الاردبیلی) الذی هو فی القرن العاشر. و حتی نهایة القرن الثانی عشر حیث انتقلت الی کربلا- کما سیمر علینا-.

المظاهر العلمیة لهذا العهد:

اما المظاهر العلمیة لهذا العهد فتتلخص بما یلی:
أولا- استمرار النمو العلمی فی مجالاته: الفقهی و الاصولی:
ففی البحث الفقهی تمثل بکتاب «مدارک الاحکام» للسید محمد بن علی الموسوی و قد جاء هذا الکتاب فی شرح شرایع الاسلام فی ثلاث مجلدات فرغ منه سنة 998 ه، و هو من احسن الکتب الاستدلالیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 61
صفحة من کتاب (المعالم) فی الأصول و علیه حواش و تعلیقات لبعض العلماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 62
و فی البحث الاصولی تمثل بکتاب «المعالم» الذی وضعه جمال الدین الحسن بن زین الدین الشهید الثانی ، و قد وصفته الکتب المختصة: «بانه «مثل المستوی العالی لعلم الاصول فی عصره بتعبیر سهل، و تنظیم جدید، الامر الذی جعل لهذا الکتاب شأنا کبیرا فی عالم البحوث الاصولیة، و حتی اصبح کتابا دراسیا فی هذا العلم تناوله المعلقون بالتعلیق و التوضیح و النقد» .
و قد طبع هذا الکتاب عدة طبعات فی ایران.
و أهم تلک التعالیق علی المعالم هو کتاب «هدایة المسترشدین» للشیخ محمد تقی الاصفهانی الذی بحث کتاب المعالم فی مؤلف یعادله باکثر من عشر مرات.
و اصبح هذان الکتابان من الکتب الدراسیة فی الجامعة النجفیة، و لم تکن حصیلة هذا الدور هذین الکتابین فی مجال البحث الفقهی و الاصولی فحسب. فهناک عدد کبیر من الکتب التی وضعت فی هذین المجالین لا یتسع المقام لذکرها.
ثانیا- و فی هذا الدور برز نشاط فکری عمیق، و نتاج علمی قیم نذکر منه:
فی المنطق- ألف الملا عبد اللّه النجفی کتابا اسمه «الحاشیة» و اصبح من الکتب الدراسیة فی الجامعة فی علم المنطق. و قد طبع الکتاب عدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 63
طبعات.
فی فقه القرآن و الحدیث- الف الشیخ فخر الدین الطریحی کتابا اسمه «مجمع البحرین» و قد طبع عدة طبعات فی ایران.
فی ایات الاحکام- ألف الشیخ أحمد بن اسماعیل الجزائری کتابا اسمه «آیات الاحکام» طبع فی ایران.
فی التفسیر- ألف الشیخ ابو الحسن الفتونی العاملی النجفی کتابا اسمه «مرآة الانوار» طبع فی ایران.
و فی العقائد و الامامة- الف الشیخ المتقدم الذکر کتابا اسماه (ضیاء العالمین) یقع فی ثلاثة أجزاء ضخام لم یکتب أوسع منه فی هذا البحث.
توجد نسخة بخطه الکریم فی مکتبة آل الجواهری، لا زال مخطوطا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 64
فی علم الرجال- ألف الشیخ حسن بن العباس بن الشیخ محمد علی البلاغی کتابا أسمه «تنقیح المقال فی علم الرجال» . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌7 ؛ ص64
فة إلی کثیر من الکتب الادبیة. و هذه الثروة الفکریة المتنوعة کان لها اکبر الاثر فی بلورة الذهنیة فی الجامعة النجفیة فی هذا الدور.

الحرکة الإخباریة و مظاهرها:

ثالثا- الحرکة الاخباریة:
ظهرت فی اوائل القرن الحادی عشر علی ید المرحوم المیرزا محمد امین الاسترابادی ، و استفحل امر هذه الحرکة بعده، و بخاصة فی اواخر القرن الحادی عشر، و خلال القرن الثانی عشر الهجری.
و کان اثر هذه الحرکة «ان صدمت علم الاصول، و عارضت نموه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 65
و عرضته لحملة قویة» جمدته زمانا، و ان لم یتوقف نهائیا، و کان علی الجامعة النجفیة باعتبارها المرکز العلمی العام للشیعة ان تتلقی هذه الصدمة بکل صبر.
و لا بد ان نتساءل عن طبیعة هذه الحرکة و بواعثها:
و بالرغم من ان المحدث الاسترابادی کان هو رائد الحرکة الاخباریة فقد حاول ان یرجع بتاریخ هذه الحرکة إلی عصر الائمة و ان یثبت لها جذورا عمیقة فی تاریخ الفقه الامامی لکی تکتسب طابعا من الشرعیة و الاحترام.
فهو یقول: ان الاتجاه الاخباری کان هو الاتجاه السائد بین فقهاء الامامیة إلی عصر الکلینی و الصدوق و غیرهما. من ممثلی هذا الاتجاه، و لم یتزعزع هذا الاتجاه إلا فی أواخر القرن الرابع و بعده حین بدأ جماعة من علماء الامامیة ینحرفون عن الخط الاخباری، و یعتمدون علی العقل فی استنباطهم و یربطون البحث الفقهی بعلم الاصول تأثرا بالطریقة السنیة فی الاستنباط ثم اخذ هذا الانحراف بالتوسع و الانتشار.
ان البواعث النفسیة التی دفعت الاخباریین و علی رأسهم المحدث الاسترابادی الی مقاومة علم الاصول ساعدت علی نجاح هذه المقاومة نذکر منها ما یلی:
1- عدم استیعاب ذهنیة الأخباریین لفکرة العناصر المشترکة فی عملیة الاستنباط، فقد جعلهم ذلک یتخیلون أن ربط الاستنباط بالعناصر المشترکة و القواعد الاصولیة یؤدی الی الابتعاد عن النصوص الشرعیة و التقلیل من أهمیتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 66
2- سبق السنة تاریخیا الی البحث الأصولی، و التصنیف الموسع فیه، فقد اکسب هذا علم الاصول إطارا سنیا فی نظر هؤلاء الثائرین علیه، فاخذوا ینظرون الیه بوصفه نتاجا للمذهب السنی.
3- و مما أکد فی ذهن هؤلاء الاطار السنی لعلم الاصول ان ابن الجنید- و هو من رواد الاجتهاد، و واضعی بذور علم الاصول فی الفقه الامامی- کان یتفق مع اکثر المذاهب الفقهیة السنیة فی القول بالقیاس.
4- و ساعد علی إیمان الاخباریین بالاطار السنی لعلم الاصول تسرب اصطلاحات من البحث الاصولی السنی الی الاصولیین الامامیین و قبولهم بها بعد تطویرها، و إعطائها المدلول الذی یتفق مع وجهة النظر الامامیة.
و مثال ذلک کلمة «الاجتهاد» اذ اخذها علماؤنا الامامیون من الفقه السنی و طوروا معناها، فتراءی للأخباریین الذین لم یدرکوا التحول الجوهری فی مدلول المصطلح ان علم الاصول عند اصحابنا یتبنی نفس الاتجاهات العامة فی الفکر العلمی السنی، و لهذا شجبوا الاجتهاد، و عارضوا فی جوازه المحققین من اصحابه.
5- و کان الدور الذی یلعبه العقل فی علم الاصول مثیرا آخر للأخباریین علی هذا العلم نتیجة لاتجاههم ضد الاخذ بالعقل.
6- و لعل أنجح الاسالیب التی اتخذها المحدث الاسترابادی و أصحابه لاثارة الرأی العام الشیعی ضد علم الاصول هو استغلال حداثة علم الاصول لضربه، فهو علم لم ینشأ فی النطاق الإمامی إلا بعد الغیبة، و هذا یعنی أن اصحاب الأئمة و فقهاء مدرستهم مضوا بدون علم اصول، و لم یکونوا بحاجة الیه. و ما دام فقهاء تلامذة الأئمة- من قبیل زرارة بن أعین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 67
و محمد بن مسلم، و محمد بن ابی عمیر، و یونس بن عبد الرحمن و غیرهم- کانوا فی غنی عن علم الاصول فی فقهم، فلا ضرورة للتورط فیما لم یتورطوا فیه، و لا معنی للقول بتوقف الاستنباط و الفقه علی علم الاصول .
و اذا کانت البواعث للحملات التی شنها الاخباریون قد اوجزت هنا بما تقدم، فما هی طبیعة الحرکة الاخباریة؟.
فالاخباریة تقول بمنع الاجتهاد فی الاحکام الشرعیة، و تعمل بالاخبار الواردة عن النبی (ص) و عن اهل بیته، و تری ان ما فی کتب الاخبار المعروفة الاربعة عند الشیعة قطعی السند، او موثوق بصدوره، فلا حاجة الی البحث عن سندها، کما تری عدم الحاجة الی تعلم أصول الفقه، و تسقط من أدلته دلیل الاجماع، و دلیل العقل، و تقتصر علی القرآن، و الخبر، فلذلک عرفت بالاخباریة أو الاخباریین، و تری جواز تقلید الفقیه المیت ابتداء خلافا للأصولیة، و غیرها من الفوارق الثابته بینهما.
و لقد حصرت بعض المصادر الفروق بین الاصولیین و الاخباریین فی اربعین فرقا، و قالت مصادر اخری: ان المهم منها تسعة و عشرون، و ان البقیة ترجع إلیها و هی: ان الاصولیین یقولون:
1- إن المجتهدین یوجبون الاجتهاد عینا أو تخییرا، و الاخباریون یحرمونه و یوجبون الأخذ بالروایة عن المعصوم علیه السلام.
2- یقول الاصولیون ان الادلة عندنا أربعة: الکتاب، و السنة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 68
و الاجماع، و دلیل العقل، و الاخباریون لا یقولون إلا بالأولین، بل بعضهم یقتصر علی الثانی.
3- إنهم یجوزون العمل بالظنون فی نفس الحکم الشرعی، و الاخباریون لا یعولون إلا علی العلم إلا أن العلم عندهم قطعی واقعی، و عادی أصلی و هو ما وصل عن المعصوم علیه السّلام ثابتا، و لم یجز فیه الخطأ عادة.
4- إنهم ینوعون الأحادیث الی الاربعة المشهورة، و الاخباریون إلی صحیح و ضعیف.
5- إنهم یفسرون الاربعة بما ذکروه، و الاخباریون یفسرون الصحیح بالمحفوف بالقرائن التی توجب العلم بالصدور عن المعصوم علیه السلام، و الضعیف بما عدا ذلک.
6- إنهم یحصرون الرعیة حینئذ فی صنفین: مجتهد، و مقلد، و الاخباریون یقولون الرعیة کلها مقلدة للمعصوم علیه السلام، و لا یجوز لهم الرجوع الی المجتهد بغیر حدیث صحیح صریح.
7- إنهم یوجبون تحصیل الاجتهاد فی زمان غیبة الامام علیه السلام و الأخذ عن المعصوم علیه السلام فی زمن حضوره، و الاخباریون یوجبون الأخذ عنه مطلقا و ان کان بالواسطة.
8- إنهم لا یجوزون لأحد الفتیا و لا سائر الامور الحسبیة إلا مع الاجتهاد، و الاخباریون یجوزونها للرواة عن المعصومین علیهم السلام المطلعین علی أحکامهم.
9- إنهم یقولون: ان المجتهد المطلق عالم بجمیع أحکام الدین بالملکة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 69
و الاخباریون یقولون: لا عالم بجمیع أحکام اللّه الا المعصوم علیه السلام.
10- إنهم یشترطون فی درجة الاستنباط علوما شتی أهمها عندهم علم اصول الفقه، و الاخباریون لا یشترطون الا المعرفة باصطلاحات أهل بیت العصمة علیهم السلام مع معرفة کون الخبر غیر معارض بمثله، و لا یجوزون الرجوع الی الأصول المأخوذة عن کتب العامة.
11- إنهم یعملون فی مقام الترجیح بین الأخبار المتعارضة بکل ما أوجب الظن الاجتهادی، و الاخباریون لا یعملون الا بالمرجحات المنصوصة عن الائمة علیهم السلام.
12- إنهم یعملون بجمیع ظواهر الألفاظ المظنونة الدالة عندهم من الکتاب و السنة، و بالعمومات و الاطلاقات المستفادة منهما بحکم المظنة مثل عموم «أوفوا بالعقود» و قوله (ص): «لا ضرر و لا ضرار فی الاسلام». و امثال ذلک فیجعلونها قواعد کلیة یرجعون الیها فی موارد الشکوک. و الاخباریون لا یعملون إلا بما هو مقطوع الدلالة عندهم من الایات المحکمة، و الأحادیث الصریحة غیر المشتبهة حالها و إن کانت من جملة العمومات.
13- ان الغالب منهم یقولون بقاعدة التسامح فی أدلة السنن و الکراهة و الاخباریون لا یفرقون بین الاحکام الخمسة.
14- ان اغلبهم لا یجوزون تقلید المیت، و لکن الاخباریین یجوزونه،
15- انهم یجوزون الاخذ بظاهر الکتاب، بل یرجحونه علی ظاهر الخبر و الاخباریون لا یجوزون الأخذ الا بما ورد تفسیره عنهم علیهم السلام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 70
16- إنهم یعتقدون بکون المجتهد مثابا و إن أخطأ، و الاخباریون یقولون: بل هو مأثوم مطلقا إذا حکم فی شی‌ء بغیر خبر صحیح صریح.
17- إنهم یعملون باصالة الاباحة أو البراءة فیما لا نص فیه، و الاخباریون یأخذون بطریقة الاحتیاط.
18- إنهم لا یجوزون أخذ العقائد من القرآن و اخبار الاحاد بخلاف الاحکام الفرعیة. و الاخباریون یقولون بعکس ذلک.
19- إنهم یجوزون الاختلاف فی الاحکام الاجتهادیة. و لا یخطئون من یقول بخلاف الواقع فی المسائل الفرعیة، و الاخباریون لا یجوزون ذلک و یفسقون من قال بالخلاف، و ان وافق اعتقاده بمقتضی اجتهاده.
20- إنهم لا یجوزون الرجوع الی غیر المعصوم علیه السلام فیما خفی نصه و الاخباریون یجوزون طلب الحدیث و لو من عامی.
21- إنهم لا یجوزون المصیر الی القول الشاذ الذی لا قائل به، و ان کان علیه دلیل واضح، و الاخباریون یتبعون الدلیل دون القائل.
22- إنهم لا یطلقون الثقة إلا علی الامامی العادل الضابط، و الاخباریون یکتفون فی الوثاقة بالمأمونیة من الکذب.
23- إنهم یقولون بوجوب إطاعة المجتهد مثل الامام علیه السلام، و الاخباریون لا یوجبونها.
24- إنهم یرجحون الدلیل باصالة البراءة، بخلاف الاخباریین.
25- إن اکثرهم یجوزون العمل بالاجماع المنقول و لو کان فی کلمات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 71
المتأخرین من الفقهاء بل و من غیرهم اذا کان موثقا. بخلاف الأخباریین.
26- إنهم لا یلتفتون فی الاجماع المحقق الی مخالفة معلوم النسب، و الاخباریون لا یفرقون بین معلوم النسب و مجهوله و یقولون بعدم تحقق مثل ذلک فالاتفاق الذی نقطع بدخول قول المعصوم علیه السلام فیه، فلا حجیة للاجماع عندهم مطلقا.
27- إنهم لا یعتقدون بصحة الکتب الاربعة: (الکافی، و من لا یحضره الفقیه و الاستبصار و التهذیب) لان فیها الصحیح و الموثق و الحسن، و الضعیف. بخلاف الاخباریین فانهم یرون أنّ جمیع ما فیها صحیح.
28- إنهم یجوزون العمل بالاستصحاب مطلقا، و الاخباریون لا یجوزونه الا فیما دلت علیه النصوص.
29- إنهم لا یجوزون تأخیر البیان عن وقت الحاجة لقبحه، و الاخباریون بعضهم یجوزه مثل الفاضل الاسترابادی فی الفوائد المدنیة المطبوع .
و کانت هذه الحرکة احدی مظاهر هذا الدور، و لقد اخذت مأخذها عند الفریقین: الاصولیین منهم، و الاخباریین بحیث انتقلت الی دور المناظرات العلمیة، و الطعن علی الفریق الاخر، و کانت حصیلة هذا الصراع الفکری بین الاصولیین و الاخباریین مجموعة من التألیف القیمة، و الموسوعات الضخمة فی الفقه و الاصول و غیرهما من جوانب المعرفة المختصة بها جامعة النجف. و کان لها فی اتجاه الدرس و تطویره شأن مشهود.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 72

مرکز الجامعة فی نهایة هذا الدور:

و رغم هذا کله فالجامعة النجفیة استمرت فی اداء رسالتها، حتی اواخر القرن الحادی عشر للهجرة فقد قلت الهجرة إلیها، و وفود الطلاب، و ما ان اطل القرن الثانی عشر حتی بدت فیه مظاهر الضمور، ثم ما کادت تمر علیها فترة حتی انتقلت منها الی کربلا.
و لو حاولنا ان نتقصی الاسباب التی دعت لهذا الانتقال، فنری ان بعض المصادر تعزوها الی سببین خارجیین، و بعض المصادر ترجعها الی ثلاثة اسباب داخلیة، و هی:
الاسباب الخارجیة:
أولا- تصادم المملکتین الصفویة، و العثمانیة، و الصراع الدامی،- و خاصة فی العراق مما ترک الناس فی انکماش شدید عن الهجرة الی العراق.
ثانیا- ضغط الدولة العثمانیة علی العلماء و رجال الدین بعد استیلائهم علی العراق، علی العکس مما کان علیه الصفویون من تقدیر العلم، و احترام رجاله .
اما الاسباب الداخلیة:
1- ما اصاب النجفیین من الوباء الذی انتشر آنذاک.
2- ما أصاب النجفیین من الاذی بسبب حادثة المشعشعین ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 73
و هجومهم علی النجف.
3- انتقال زعیم الحرکة العلمیة الشیخ احمد بن فهد الحلی الی کربلا .
هذه العوامل المتعددة الخارجیة منها، و الداخلیة هی التی سببت انتقال المرکز العلمی الی کربلا، و رغم هذا کله فان النجف لم تعدم فیها الحرکة العلمیة، و انما بقیت تواکب حرکتها رغم ان الزعامة العلمیة قد انتقلت الی کربلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 74

من النجف الی کربلا:

و کیفما کانت الاسباب و الدواعی فی نقل الحرکة العلمیة الی کربلا من عام 1150 ه الی 1212 ه فقد کانت الحرکة العلمیة فیها قد نضجت، و قد تجلی هذا النضج و التعمیق فی مدرسة الاستاذ الوحید البهبهانی الاصولة و کذلک برز فی نتاج العلامة الشیخ یوسف البحرانی الفقهی، و الذی ظهر فی کتابه الحدائق الذی یقع فی عدة مجلدات و طبع عدة طبعات.
غیر ان مدرسة الوحید البهبهانی قد «افتتحت عصرا جدیدا فی تاریخ العلم، و التی اکسبت الفکر العلمی فی العصر الثانی الاستعداد للانتقال الی عصر ثالث» .
و عاشت المدرسة قرابة السبعین عاما و هی تکاد تفتح افاقا جدیدة فی الکیان العلمی الکربلائی، کان له صدی حافل بالاکبار و التقدیر.
و من الجدیر ان نستمع الی مصدر یحدثنا عن اثر هذه المدرسة العلمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 75
و مدی ما نالته من اتساع فی القابلیات الفکریة الرائعة، یقول المصدر:
«و قد قدر للاتجاه الاخباری فی القرن الثانی عشر ان یتخذ من کربلاء نقطة ارتکاز له، و بهذا عاصر ولادة مدرسة جدیدة فی الفقه و الاصول، نشأت فی کربلاء أیضا علی ید رائدها المجدد الکبیر محمد باقر البهبهانی المتوفی سنة 1206 ه، و قد نصبت هذه المدرسة الجدیدة نفسها لمقاومة الحرکة الاخباریة، و تأیید علم الاصول، حتی تضاءل الاتجاه الإخباری، و قد قامت هذه المدرسة الی صف ذلک بتنمیة الفکر العلمی، و الارتفاع بعلم الاصول الی مستوی أعلی، حتی ان بالامکان القول بان ظهور هذه المدرسة و جهودها المتضافرة التی بذلها البهبهانی و تلامذة مدرسته المحققون الکبار قد کان حدا فاصلا بین عصرین من تاریخ الفکر العلمی فی الفقه و الاصول.
و قد یکون هذا الدور الإیجابی الذی قامت به هذه المدرسة فافتتحت بذلک عصرا جدیدا فی تاریخ العلم متأثرا بعدة عوامل:
1- عامل رد الفعل الذی أوجدته الحرکة الاخباریة، و بخاصة حین جمعها مکان واحد ککربلاء بالحوزة الاصولیة، الأمر الذی یؤدی بطبیعته الی شدة الاحتکاک و تضاعف رد الفعل.
2- ان الحاجة الی وضع موسوعات جدیدة فی الحدیث کانت قد أشبعت و لم یبق بعد وضع الوسائل، و الوافی، و البحار إلا ان یواصل العلم نشاطه الفکری مستفیدا من تلک الموسوعات فی عملیات الاستنباط.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 76
3- ان الاتجاه الفلسفی فی التفکیر الذی کان السید حسین الخونساری المتوفی 1098 ه قد وضع إحدی بذوره الأساسیة زود الفکر العلمی بطاقة جدیدة للنمو، و فتح مجالا جدیدا للابداع، و کانت مدرسة البهبهانی هی الوارثة لهذا الاتجاه.
4- عامل المکان: فان مدرسة الوحید البهبهانی، نشأت علی مقربة من المرکز الرئیسی للحوزة- و هو النجف- فکان قربها المکانی هذا من المرکز سببا لاستمرارها و مواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من الاساتذة و التلامذة، الامر الذی جعل بامکانها ان تضاعف خبرتها باستمرار، و تضیف خبرة طبقة من رجالاتها الی خبرة الطبقة التی سبقتها، حتی استطاعت ان تقفز بالعلم قفزة کبیرة و تعطیه ملامح عصر جدید. و بهذا کانت مدرسة البهبهانی تمتاز عن المدارس العدیدة التی کانت تقوم هنا و هناک بعیدا عن المرکز و تتلاشی بموت رائدها» .
اما بصدد الکشف عن حصیلة هذه الفترة العلمیة فی کربلاء فیکفی ان تشیر الی:
1- کتاب الحدائق- للمرحوم الشیخ یوسف البحرانی و قد وقع الکتاب فی عدة مجلدات، و تحدثت عنه المصادر المختصة بانه کتاب جلیل لم یصنف مثله جمع فیه جمیع الاقوال و الاخبار الواردة عن الائمة الاطهار، الا انه طاب ثراه لمیله الی الاخباریة کان قلیل التعلق بالاستدلال بالادلة الاصولیة التی هی امهات الاحکام الفقهیة، و عمد الادلة الشرعیة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 77
2- کتاب الریاض- للسید علی بن محمد الطباطبائی ، و قد وصف بأنه «فی غایة الجودة جدا بحیث لم یسبق له مثیل، ذکر فیه جمیع ما وصل الیه من الأدلة و الاقوال علی نهج عسر علی من سواه بل استحال .
3- کتاب الفصول- للشیخ محمد حسین بن عبد الرحیم الحائری ، و قد وصفه الخونساری بقوله: و کتابه هذا من احسن ما کتب فی اصول الفقه و اجمعها للتحقیق و التدقیق و اشملها لکل فکر عمیق، و قد تداولته جمیع ایدی الطلبة فی هذا الزمان و تقبلته القبول الحسن فی جمیع البلدان .
و لسنا بصددان نحصی حصیلة هذه الفترة لندل القاری‌ء علی مدی القابلیة العلمیة التی تمتع بها قادة الفکر و العلم فی کربلاء ضمن هذه الفترة، انما نرسم له ملامح هذه الفترة من خلال النتاج المبرز فیها. و یکفی ان نری ان للوحید البهبهانی، و هو استاذ هذه الفترة و رائدها ما یقرب من ستین کتابا فی الفقه و الاصول، و العقائد، و الرجال .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 78

الدور الثالث للجامعة النجفیة

اشارة

و یمکن ان نطلق علی هذا الدور «عصر الکمال العلمی» و هو العصر الذی افتتحته فی تاریخ العلم المدرسة الجدیدة التی ظهرت فی اواخر القرن الثانی عشر علی ید الاستاذ الوحید البهبهانی، و بدأت تبنی للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود متظافرة فی المیدانین الأصولی و الفقهی.
و قد تمثلت تلک الجهود فی افکار و بحوث رائد المدرسة الاستاذ الوحید و اقطاب مدرسته الذین واصلوا عمل الرائد حوالی نصف قرن حتی استکمل العصر الثالث خصائصه العامة و وصل الی القمة .
و عادت النجف الی میدانها العلمی کمرکز أول- من بعد هذه الفترة- للحرکة العلمیة التی تمثل مدرسة الوحید البهبهانی علی ید تلمیذه السید محمد مهدی بحر العلوم الطباطبائی. بعد ان عاشت زمانا و هی تتفاعل بتأثیرات المدرسة الفکریة فی کربلا.
و لنا ان نسمی هذا العصر بعصر النهضة العلمیة لکثرة من نبغ فیه من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 79
الفحول الکبار و العلماء، و لکثرة تهافت الناس علی العلم فیه، و ازدیاد الطلاب .
و لعل من أهم الخطوات التی منی بها هذا العصر، و علی ید زعیم الجامعة النجفیة السید بحر العلوم تنظیمه للقضایا و المشاکل التی تقتضیها طبیعة المجتمع، کما یقتضیها سیر الزعامة الدینیة فی النجف.
فمثلا رکز الشیخ جعفر کاشف الغطاء المتوفی سنة 1228 ه للتقلید و الفتوی حتی قیل: إنه اجاز لاهله و ذویه الرجوع فی التقلید للشیخ جعفر الکبیر تمشیا مع التنظیم و الترکیز.
کما عین الشیخ حسین نجف المتوفی سنة 1251 ه للامامة و المحراب، فکان یقیم الجماعة فی «الجامع الهندی» و یؤمه الناس- علی اختلاف طبقاتهم- بارشاد من السید بحر العلوم.
اما فی القضاء و الخصومات، فقد خص لها الشیخ شریف محی الدین فکان یرشد الیه فی ذلک، علما منه بمهارته فی القضاء، و تثبته فی الدین، و سعة صدره لتلقی الدعاوی و المخاصمات.
و اضطلع هو- باعباء التدریس، و الزعامة الکبری، و ادارة شؤونها العامة و الخاصة .
و کان هذا التقسیم منه لأدارة شؤون النجف العامة یدل علی وعی کبیر فی الذهنیة القیادیة الدینیة، و التی تبرز عصره بطابع یختلف عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 80
العصور السابقة من حیث النضج و الوعی.
و کانت مظاهر هذا الدور بارزة جلیة فی مجالی الفقه و الاصول الی جانب بقیة العلوم التی دللت النجف علی اختصاصها بها. بالاضافة الی الطابع الادبی.
ففی حقل الفقه: نری انه تطور فی هذا الدور تطورا محسوسا لما دخله من عنصری البحث و النقد، و لما تحلی به من قابلیة النقض و الابرام، و التعمق و التحلیل، و خاصة فی ملاحظة الروایات من حیث السند و الدلالة، و الفحص عن مدی وثوقها عند الماضین من العلماء الاعلام، و عرض المسائل الفقهیة حسب الأدلة الاجتهادیة و الفقهیة،
فالتجربة العلمیة التی عاشتها جامعة النجف فی دورها الثالث فی حقل الفقه کان لها الاثر الکبیر فی ابراز عطاء ناضج یدل علی سعة فی الافق، و وفرة فی الاطلاع، و لذا وصف «بدور التکامل و النضج».
اما فی حقل الاصول: فقد یکون من الواقع ان یطلق علی هذا الدور «دور الکمال العلمی» فان المرحلة الجدیدة التی دخلها علم الاصول کان «نتیجة افکار و بحوث رائد المدرسة الاستاذ الوحید البهبهانی، و اقطاب مدرسته الذین واصلوا عمل الرائد حوالی نصف قرن حتی استکمل العصر الثالث خصائصه العامة و وصل الی القمة ».
و ما ان بلغ العهد بالمحقق الانصاری الشیخ مرتضی، حتی اعتبر رائدا لأرقی مرحلة من مراحل الدور الثالث التی یتمثل فیها الفکر العلمی منذ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 81
اکثر من مئة سنة حتی الیوم .
و عندما اطل القرن الرابع عشر الهجری لمع اسم المجدد الشیخ ملا محمد کاظم الخراسانی الذی فتح آفاقا جدیدة للعلم، و قدر له و لمن خلفه کالمیرزا حسین النائینی، و الشیخ محمد حسین الاصفهانی، و الشیخ اقا ضیاء العراقی و غیرهم من اقطاب هذه المدرسة ان یرتفعوا الی القمة العلمیة، و التی خلفت تراثا ضخما تستنیر به الاجیال.
و الی جانب هذین العلمین الرئیسیین فقد قدمت الجامعة النجفیة عطاء ثرا فی مختلف العلوم سواء أکان لها مساس فی علومنا الفقهیة و الاصولیة او لها صلة بطبیعة النجف الادبیة.
الزعیم الروحانی المجدد الشیخ ملا محمد کاظم الاخوند الخراسانی
و لقد سبب ازدهار الجامعة النجفیة الی کثرة المدارس الدینیة فی هذا الدور، و التی نصطلح علیها فی عصرنا الحدیث بالاقسام الداخلیة لطلاب العلوم بالاضافة الی کونها مقرات للتدریس و البحث.
و تکاثر المدارس یدل علی ازدیاد الهجرة الی طلب العلم، و خاصة من البلاد النائیة. و نتیجة لهذا التوسع فی تکاثر الهجرة الی النجف اتسعت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 82
الاقسام الداخلیة لتضم الطلاب المتغربین عن بلادهم، و تحافظ علیهم، و تهی‌ء لهم المأوی و الرواتب، و المجال الاوسع فی حیاتهم الدراسیة .
و رغم تعرض النجف لهزات قویة و عنیفة فی دورها الاخیر سواء الخارجیة منها أو الداخلیة، أضف الیها الظروف الخاصة التی اظهرت قادة النجف من العلماء الاعلام بالموقف القیادی للزعامة السیاسیة و الدینیة، و من أجل مظاهر تلکم المواقف المشهورة ثورة العشرین، ظلت سیاسة البلد تدار من قبل رجال العلم و مجتهدی النجف و علمائها بزعامة الامام المیرزا محمد تقی الشیرازی.
و تاریخ العراق السیاسی یذکر هذه الحقیقة بکل اکبار، و یؤکد علی ان القیادة السیاسیة العامة کانت تلقی عصا ترحالها بید اهل العلم بین آونة و اخری، و کما هو الآن- من موقف الامام السید محسن الحکیم.
و کانت هذه الهزات التی مرت الاشارة الیها عاملا فی تقلیص نفوذ الجامعة او امتداد زعامتها تبعا للتیارات السیاسیة.
وثمة عامل آخر کان له اثر فی تقلیص نفوذ هذا المرکز العلمی، و هو انتقال المرجعیة من النجف فی بعض الاحیان، و فی فترات وجیزة، و تنقلها بین کربلاء، و الکاظمیة، و قم، و غیرها.
و لکن رغم هذه الفترات القصار التی کانت تتناوب بین النجف و المدن الاخری و تنقل عنها المرجعیة العامة فی عهد قصیر، و علی فترات متباعدة ظل هذا العهد محافظا علی طابعه العلمی، لا یتخلله ضعف أو وهن،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 83
فقد ادی رسالته العلمیة علی الوجه الاکمل.
و لقد قدر عدد المهاجرین و طلاب العلم فی هذه الجامعة فی دورها الاخیر بحوالی خمسة آلاف طالب من مختلف الاقطار الاسلامیة: کالهند، و باکستان، و ایران و افغانستان، و ترکیا و التبت، و بعض الدول الافریقیة، و لبنان، و سوریا، و الاحساء و الخلیج، و غیرها من الاقطار الاسلامیة.
و الدراسة فی الجامعة النجفیة مجانیة من حین تأسیسها حتی یومنا هذا، و بالاضافة الی ذلک تقوم (المرجعیة الدینیة العامة) و هی التی تمثل المرجع الاعلی للشیعة بتعیین رواتب شهریة لطلاب العلوم علی اختلاف طبقاتهم، و تخص المهاجرین منهم بزیادة نظرا لعدم وجود ای مورد آخر لهم فی هذا البلد.
و تعتمد فی مواردها المالیة علی الحقوق الشرعیة من الاموال التی یدفعها المؤمنون من مختلف الاقطار، و علی بعض التبرعات من المحسنین، و لیس لهذه الجهات الدینیة أی مورد حکومی، و لا علاقة لها بالحکومات علی اختلافها فی شؤونها الخاصة و العامة، مادیة او غیرها.

معالم النهضة العلمیة لهذا الدور:

اشارة

اما بالنسبة لأبراز معالم النهضة العلمیة لهذا الدور فیمکن تقسیم نتاجها الی عدة مراتب، حسب التسلسل الزمنی للمؤلفین- مع غض النظر عن اعتباراتهم العلمیة.
و لقد حصل هذا الدور علی مجموعة نفیسة فی مختلف العلوم و لکننا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 84
صفحة من کتاب (المکاسب) للشیخ الأنصاری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 85
تبعا لاختصاصنا فی هذا البحث بالفقه و الاصول، فسنقصر علیهما بحثنا

[یمکن تقسیم نتاجها الی عدة مراتب

المرتبة الأولی:

و تکاد تکون حافلة بالنتاج الفقهی، و أهم هذه الحصیلة العلمیة هی:
1- کتاب (المصابیح) للسید محمد مهدی بحر العلوم الطباطبائی المتوفی 1212 ه، و هو ما زال مخطوطا و یقع فی ثلاث مجلدات.
2- کتاب (مفتاح الکرامة) للسید محمد جواد بن السید محمد الحسینی العاملی النجفی المتوفی سنة 1226 ه، طبع بمصر و دمشق، یقع فی ثمانی مجلدات.
3- کتاب (کشف الغطاء) للشیخ جعفر بن الشیخ خضر الجناجی المعروف بکاشف الغطاء المتوفی سنة 1228 ه، مطبوع بایران فی مجلد واحد.
4- کتاب (مقابس الانوار) للشیخ أسد اللّه التستری المتوفی سنة 1234 ه طبع بایران فی مجلد واحد.
5- کتاب (مستند الاحکام) للمولی احمد بن المولی محمد مهدی النراقی الکاشانی المتوفی سنة 1245 ه، طبع بایران فی مجلدین.

المرتبة الثانیة:

1- کتاب (جواهر الکلام) الشیخ محمد حسن بن الشیخ محمد باقر النجفی، المعروف بصاحب الجواهر، المتوفی سنة 1270 ه، و هو کتاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 86
صفحة من کتاب (جواهر الکلام) فی الفقه للشیخ محمد حسن صاحب الجواهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 87
فقه استدلالی، طبع عدة مرات فی ست مجلدات.
2- کتاب (المکاسب) فی الفقه- للشیخ مرتضی الانصاری المتوفی سنة 1281 ه، طبع بایران فی مجلد واحد.
3- کتاب (الرسائل) فی الاصول- للشیخ مرتضی الانصاری طبع بایران فی مجلدة واحد.
4- کتاب (البرهان القاطع) فی الفقه للسید علی بن السید رضا بحر العلوم المتوفی سنة 1298 ه، طبع بایران فی ثلاث مجلدات.

المرتبة الثالثة:

1- کتاب (هدایة الانام) فی الفقه للشیخ محمد حسین الکاظمی النجفی المتوفی سنة 1308 ه طبع منه فی النجف ثلاث مجلدات، و اصله فی سبع و عشرین مجلدا شرح فیها کتاب (شرائع الاسلام) للمحقق الحلی.
2- کتاب (مصباح الفقیه) للشیخ آغا رضا بن محمد هادی الهمدانی المتوفی سنة 1322 ه طبع فی ثلاث مجلدات جزءآن فی النجف، و الثالث فی ایران.
3- کتاب (حاشیة علی رسائل الانصاری) فی الاصول- للشیخ آغا رضا الهمدانی، طبع فی ایران فی مجلد واحد.
4- کتاب (بلغة الفقیه) فی الفقه- للسید محمد بن السید محمد تقی ابن السید رضا بحر العلوم، المتوفی سنة 1326 ه، طبع عدة طبعات فی ایران فی مجلد واحد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 88
صفحة من کتاب (کفایة الأصول) للملا الشیخ محمد کاظم الاخوند الخراسانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 89
5- کتاب (کفایة الاصول) فی الاصول- للشیخ محمد کاظم الخراسانی المتوفی سنة 1331 ه، طبع عدة طبعات فی النجف و بغداد و ایران یقع فی جزئین.
6- کتاب (العروة الوثقی) و ملحقاتها للمرحوم السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی المتوفی سنة 1337 ه، طبع عدة طبعات. فی بغداد، و النجف، و ایران.

المرتبة الرابعة:

و لقد تجلی نتاج هذا الدور فی حقلی الفقه و الاصول بالشروح الکثیرة لکتابی «العروة الوثقی» فی الفقه، و «کفایة الاصول» فی اصول الفقه.
ففی الفقه: اصبحت «العروة الوثقی» مصدرا للبحوث و التعلیقات فیما بعد و حتی عصرنا الحاضر. و قد سجلت المصادر ما یزید علی العشرین شرحا لهذا الکتاب.
و هذا الکتاب صار المحور للدراسة الخارجیة (البحث الخارج) من حین ظهوره. و فی طلیعة هذه الحصیلة من شروح هذا الکتاب (مستمسک العروة الوثقی) للامام السید محسن الحکیم، و قد طبع من هذا الکتاب حتی الآن اثنا عشر مجلدا، و یعتبر الکتاب الشرح الاول للعروة. و للبحث الخارج الذی یدور علیه التدریس الیوم.
اما بالنسبة للأصول، فقد اصبحت «کفایة الاصول» هی القاعدة و الاساس لبحوث الباحثین و المدرسین، و لعل فی مقدمة النتاج العلمی، و الذی هو فی مقام الشرح و التعلیق بحوث المیرزا حسین النائینی الاصولیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 90
و الذی خلف تراثا ضخما من بحوث اصولیة مرکزة علی اقلام تلامذته و الذین علیهم مدار الهیئة العلمیة فی الجامعة النجفیة حتی الآن، امثال الامامین السید ابی القاسم الخوئی، و الشیخ حسین الحلی، و غیرهما من اقطاب هذه المدرسة الفکریة العلمیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 91

أسلوب الدراسة فی الجامعة النجفیة

اشارة

لا یختلف اسلوب الدراسة فی جامعة النجف کثیرا عن سائر الجامعات الاسلامیة القدیمة فی نوعیة التدریس، انما تمتاز هذه الجامعة بطریقة تحصیل ملکة الاجتهاد فی الفقه الذی تختص الامامیة بفتح بابه.
وثمة اختلاف آخر: هو ان الطالب الدینی فی مرحلة دراسته فی هذه الجامعة لا یفکر بان ینال شهادة، او یجتاز عقبة امتحان رسمی لیحظی بوظیفة، انما یفکر و یطلب العلم لنفسه.
و من ممیزات هذه الدراسة، ان الطالب حر فی اختیار المدرس و لم یسع المدرس التخلف بوجه- اذا کانت لدیه فرصة من الوقت-، و لم یکن هذا الدافع خوف السلطة الزمنیة، و ضغطها علی المدرس بالتخلف عن الاستجابة للتدریس انما هی طبیعة النجف الاشرف مبنیة علی هذا النهج، فهو باستجابته یلبی دعوة الواجب الدینی فقط. و التدریس فی الجامعة النجفیة بکل اقسامه مجانی لا یأخذ علیه المدرس اجرا، و لا یتقاضی فی سبیله راتبا، انما عمله خالص لوجه اللّه سبحانه.
و تمر علی الطالب ثلاث مراحل لیصل الی غایته المنشودة مرتبة (الاجتهاد).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 92
اولا- الدراسات التمهیدیة، او مرحلة (المقدمات) .
ثانیا- الدراسات الوسطی، او مرحلة (السطوح) .
ثالثا- الدراسات العلیا، او مرحلة (بحث الخارج) .

مراحل الدراسة:

المرحلة الاولی: دراسة المقدمات
و فی هذه المرحلة تکون الدراسة فردیة علی الاکثر، و ان کان من الممکن ان یشترک عدد من الطلاب فی درس من دروس هذه المرحلة، کما تتوفر للطالب حریة اختیار المدرس بالکتاب الذی یروم درسه، و فی ای مکان او زمان یتفق علیه الاستاذ و التلمیذ. و للطالب حریة النقاش مع استاذه، و لکنه محدد بالقدر الذی یسعه افق الطالب و تفکیره، و الغرض من هذه الحریة التوجیه و التمرین علی قوة الملاحظة.
و مدة الدرس الیومی من نصف ساعة الی ساعة حسبما یناسب الاستاذ و التلمیذ و الکتاب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 93
اما المواد المقررة للتدریس فی هذه المرحلة فهی:
النحو و الصرف- و کتبهما: الاجرومیة لمؤلفها عبد اللّه بن هشام، و قطر الندی لابن هشام، و شروح الفیة ابن مالک، لابن الناظم، او ابن عقیل، و ابن هشام، و الاشمونی
و قد یستعاض عن الاجرومیة، و قطر الندی بکتاب النحو الواضح.
و یعتمد الطلاب الایرانیون علی کتاب جامع المقدمات، و صرف میر.
و لغایة التوسع یتّبعون کتاب السیوطی فی العربیة، و شرح الرضی، و الجامی.
و لغرض التوسع فی العربیة یدرس کتاب مغنی اللبیب لابن هشام و شذور الذهب لابن هشام، و الکتاب لسیبویه، و غیرهم.
البلاغة و المعانی و البیان- و کتبها:
المطول- للتفتازانی.
المختصر- للتفتازانی اختصر فیه تلخیص المفتاح.
جواهر البلاغة- للسید احمد الهاشمی.
المنطق- و کتبه: حاشیة ملا عبد اللّه النجفی، و الشمسیة لقطب الدین الرازی، و المنطق للشیخ محمد رضا المظفر، و ربما توسع الطالب فیدرس شرح المطالع.
اصول الفقه: و کتبه- المعالم للشیخ حسن بن زین الدین الشهید الثانی و اصول المظفر الجزءآن الاولان منه، و اصول الاستنباط للسید علی نقی الحیدری، و کتاب المعالم الجدیدة للسید محمد باقر الصدر، الذی صدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 94
صفحة من (العروة الوثقی) و علیها شرح الإمام السید محسن الحکیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 95
حدیثا .
الفقه: و کتبه- تبصرة العلامة الحلی، مختصر النافع، للمحقق الحلی شرائع الاسلام للمحقق الحلی، و قد تدرس بعض الرسائل العملیة کالعروة الوثقی للسید کاظم الطباطبائی، و وسیلة النجاة للسید ابی الحسن الاصفهانی، و منهاج الصالحین للسید محسن الحکیم الطباطبائی.
و ربما ینضم الی هذا کله دراسة علم الکلام، و العلوم الریاضیة، و بعض العلوم الادبیة: کعلوم العروض، و القافیة، و البدیع، و النصوص الادبیة، و هذا کله حسب رغبة الطالب، و استعداده فی المشارکة بهذه المعارف و ما الی ذلک.
و مدة هذه المرحلة من ثلاث الی خمس سنوات.
المرحلة الثانیة: دراسة السطوح:
و هی دراسة متن الکتب الموضوعة فی الفقه الاستدلالی، و اصول الفقه و یتبع فیها محاکمة الآراء و مناقشتها بحریة کاملة، و علی الأکثر تجری هذه المرحلة علی اسلوب الحلقات، حیث یجتمع أکثر من طالب واحد فی مجلس احد المدرسین المعروفین و یختلف عدد الطلاب فی کل حلقة حسب اختلاف المدرس و تفوقه فی اسلوب التدریس، و سعة اطلاعه، کما ان الحریة مطلقة للطالب فی اختیار الکتاب و الدرس.
و اهم الکتب المقررة لهذه المرحلة هی:
فی الفقه: (شرح اللمعة الدمشقیة) للمرحوم زین الدین الشهید الثانی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 96
و المکاسب للمرحوم الشیخ مرتضی الانصاری، و قد یدرس کتاب (ریاض العلماء) للسید علی الطباطبائی، و کتاب (مسالک الافهام) لزین الدین العاملی الشهیر بالشهید الثانی.
فی الاصول: القوانین- للقمی، الفصول للحائری، کفایة الاصول للشیخ محمد کاظم الخراسانی، رسائل الشیخ مرتضی الانصاری، الجزء الثالث من اصول الشیخ محمد رضا المظفر، و للتوسع یقرأ الطالب الاصول العامة- دراسة للأصول مقارنة- للسید محمد تقی الحکیم- طبع حدیثا .
و هناک مراجع اخری أوسع دائرة و بحثا لا یستغنی عنها الطالب الباحث و اذا انتهی الطالب من هذه المرحلة باتقان استحق أن یسمی (مراهقا) .
و لما کانت کتب السطوح کلها استدلالیة فان دراستها و الاستفادة منها توسع ذهن الطالب، و تمنحه مقدرة خاصة لإقامة الدلیل، اورد البراهین و الدعاوی.
و قد ینضم الی هذه المرحلة دراسة علم الکلام، و الحکمة، و الفلسفة الالهیة، و التفسیر و الحدیث، و اصول الحدیث، و احوال الرواة.
و مدة مرحلة (السطوح) عادة من ثلاث الی ست سنوات، و قد تزید احیانا عن ذلک.
المرحلة الثالثة- بحیث الخارج:
و هی المرحلة التی یحضر فیها الطالب دروس کبار العلماء المجتهدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 97
فی الفقه و الاصول، و هذه هی آخر مراحل الدراسة التی قد یوفق فیها الی بلوغ درجة الاجتهاد و هی اعلی درجة، و بها امتیاز هذه الجامعة الاسلامیة فی اسلوب التدریس و فی حریة المناقشة و الرأی، و فی درجتها العلمیة العالیة.
تتکون هذه المرحلة عادة فی دورات یتولاها کبار العلماء المجتهدین، و یبتدی‌ء المدرس منهم بدورة بحوث أصولیة، او فقهیة یلقیها بشکل محاضرات یومیة فیشرح المسألة شرحا وافیا بعرض الاقوال من مختلف المذاهب الاسلامیة، و مناقشة الآراء فیها، و أدلتها المختلفة، و یختار ما ینتهی الیه رأیه مع الدلیل، و لکل مدرس طریقة خاصة فی اسلوب البحث، و سعة المنهج، و الاسس العلمیة التی یعتمدها.
و هذه الدورات لا تکون الا جماعیة یحضر فیها عدد کبیر، و جم غفیر من الطلاب و ذلک تبعا لشهرة المدرس فی تفوقه العلمی، و دقة منهجه، و اسلوب تدریسه، و قد سمیت هذه المرحلة (بحث الخارج) نظرا الی ان التدریس فیها لا یعتمد علی رأی خاص، و لا علی کتاب معین الا ما قد یتخذ علی سبیل تسهیل المراجعة علی الطلاب او التحضیر قبل الدرس.
و للطلاب فی هذه الدورات کامل الحریة فی المناقشة، و ابداء الرأی فی اثناء المحاضرة و بعدها، و قد یکون کثیر من طلابها مراهقین للاجتهاد فی انفسهم.
و میزة هذه الدورات عمق البحث و دقته، و سعة أفقه، و الحریة الکاملة فی نقد الآراء و مناقشتها مهما کان صاحبها، و بهذا الاسلوب یغذی الطلاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 98
لیتمکنوا من الاعتماد علی آرائهم، و الثقة بنفوسهم حیث یرجع الیهم الناس، و تقلدهم الامة فی امورها.
الی هذا النهج الدراسی یعزی السر فی تطور الدراسات الفقهیة و الاصولیة فی جامعة النجف علی مر القرون، و من یقرأ کتابا فی الفقه و اصوله لاحد اعلام القرنین الرابع و الخامس مثلا، ثم یقرأ کتابا فیها لأحد اعلام هذا القرن یلمس مدی التطور الذی بلغه البحث فی هذا الشأن.
و الطلاب الذین فی حلقات الدروس الخارجیة، یحضرون عدة سنوات، او دورة کاملة فی الفقه او الاصول، ثم یعرضون کتاباتهم، و تقریراتهم علی الاستاذ، و اذا ما حازت الرضا و القبول یمنحه الاستاذ شهادة کتابیة، یقال لها (اجازة الاجتهاد) و عندما یحصل الطالب علی هذه الاجازة یصبح (مجازا) و فی ذلک الوقت یکون قد بلغ مقام الاجتهاد، و قد صار باصطلاح العلماء (مجتهدا) .
و قد قسمت بعض المصادر درس الخارج الی ثلاث مراتب:
- ادناها: ان یحضر قوم فرغوا من السطوح درسا یسیر علی عناوین کتاب من کتب التدریس، و یتعهد الاستاذ ببیان مطلب الکتاب بایضاح من دون تقید بعبارة الکتاب، و یضیف الی مطالب الکتاب المناقشات التی ناقش العلماء فیها صاحب الکتاب و قد یقبلها و قد یردها، و قد یضیف الیها مناقشات أخری، و هو فی الوقت نفسه یحاول تصحیح ما فی الکتاب، الا اذا کان فساده بمکان من الوضوح، و ذلک لان الطلاب اعتادوا الایمان بما فی الکتاب، ثم بما یقوله الاستاذ.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 99
و أوسطها: ما مر باضافة ما فی کتب التدریس الاخری، او ما فی بعض الکتب المهمة مثلا: یکون عنوان الدرس الجزء الثانی من الکفایة، فیتعهد الاستاذ ببیان ما فیها، مع ما فی الرسائل، مع ما فی تقریرات درس (النائینی) مثلا، ثم یحاکم آراءهم، ثم یختار.
و أعلاها: و هو المرتبة الاخیرة، و ذلک بأن یشرع الاستاذ فی مسائل العلم علی نهج خاص به، ترتیبا و تبویبا، و تحقیقا، و تنمیقا، فانه یحرر المسألة من تلقاء نفسه، و یشیر الی جهاتها و أقوالها بحسب ما یراه من استحقاقها للایجاز و الاطناب، و یذکر النظریات و یلغی الادلة الضعیفة، و یناقش باقی الادلة، و ینتهی الی رأی جدید، و مطلب ناضج قد یختلف مع کثیر من آراء متقدمیه .
و للمجتهد الحق فی ان یصنف فی احکام الدین کتابا یسمی ب (الرسالة) طبقا لاجتهاده- أی بحثه و استنباطه- او ان یکتب الحواشی، و یصادق علی رسائل العلماء السابقین، و یفتی فی الاختلافات و الاشتباهات و الاشکالات التی تفرض لاتباع المذهب- ای المقلدین- بمعنی انه یبدی رأیا و حکما یأخذ به المقلدون فیعملون بمقتضاه.
کما انه یخلف اساتذته فی التدریس الخارجی، و یتسنم مرجعیة المسلمین فی التقلید و ادارة الشؤون العلمیة، و الاجتماعیة، و الاقتصادیة لجامعة النجف، و باقی الحوزات العلمیة الدینیة فی العتبات المقدسة، بعد تأهیله لذلک بواسطة الشهرة الساحقة للطلبة من اهل العلم، او شهادة اثنین عادلین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 100
من کبار العلماء فی حقه.
و الشی‌ء الذی یجب ان نشیر الیه قبل ختام هذا الفصل هو (لغة التدریس) و التدریس بصورة عامة فی النجف الاشرف باللغة العربیة، و باللغة الفصحی طبعا، و هذه اللغة تتماشی فی کل مراحل التدریس.
اما الطلاب الاجانب: کالایرانیین، و الافغانیین، و الهنود، و التبتیین و النکر، و غیرهم، فانهم یتلقون الدروس السطحیة باللغة العربیة، ثم یترجمها اساتذتهم بلغاتهم.
اما دروس الخارج فالطابع العربی هو البارز علیها، اللهم الا بعض الشواهد، او شرح المصطلحات، زیادة للتوضیح، فقد تکون غیر اللغة العربیة لها مجال فی هذا الموضوع.

أشهر الکتب الدراسیة فی جامعة النجف

لم تقتصر الجامعة النجفیة علی کتاب محدود یدرسه الطالب فی علم من العلوم، فللطالب ان یتوسع و یقرأ و یدرس ای کتاب شاء، و یرغب فیه، و یستطیع ان یتفهمه و ینسجم معه. و لکن هناک کتبا مشهورة فی نطاق الحوزة العلمیة تداول علیها المشتغلون و المحصلون، فأصبحت بحکم التداول و الاستمراریة هی المعروفة دون غیرها، و لشهرتها نذکرها:
فی النحو:
1- کتاب (قطر الندی، وبل الصدی) لمؤلفه عبد اللّه بن یوسف ابن احمد بن هشام المتوفی سنة 761 ه، من ائمة العربیة، طبع عدة مرات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 101
و هذا الکتاب یدرسه الطالب فی المرحلة الاولی من تعلیمه، و هو یلمّ بجمیع ابواب النحو بصورة مختصرة.
2- کتاب (الفیة ابن مالک) ارجوزة فی النحو فی الف بیت ناظمها محمد بن عبد اللّه بن مالک الطائی المتوفی 672 ه، احد ائمة النحو طبعت، و لقد شرحها جمع من ائمة النحو کابن هشام، و الاشمونی، و ابن عقیل، و ابن الناظم بدر الدین محمد المتوفی سنة 686 ه، و یتمیز شرحه بغزارة المادة، و تعقید العبارة، و اختارته الجامعة النجفیة لثروته العلمیة لانه یوسع ذهن الطالب.
3- کتاب (مغنی اللبیب) لمؤلفه ابن هشام- صاحب کتاب قطر الندی- المتقدم الذکر و هو کتاب واسع الجوانب یقع فی مجلدین اشبه بالقاموس للمصطلحات النحویة، و هذا الکتاب یدرسه الطالب فی المرحلة الاخیرة لدراسته النحویة بغیة التوسع.
فی البلاغة:
1- (المختصر) لمؤلفه مسعود بن عمر بن عبد اللّه التفتازانی المتوفی سنة 791 ه من ائمة العربیة، و البیان، و المنطق، اختصر بهذا الکتاب تلخیص المفتاح،
و اغلب الطلاب یکتفون بهذا الکتاب عن (المطول) لانه اخصر. طبع عدة طبعات.
2- (جواهر البلاغة) لمؤلفه السید احمد بن ابراهیم الهاشمی من رجال القرن الرابع عشر الهجری، وضع هذا الکتاب بصورة مبسطة لیسهل تناوله علی الطلاب. و قد بحث فی البلاغة، و المعانی و البیان، و البدیع.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 102
صفحة من کتاب (ألفیة ابن مالک) فی النحو لمحمد بن مالک الجیانی الأندلسی الشافعی المتوفی سنة 672 ه و الشرح لولده بدر الدین و قد اخترنا هذه النسخة التی یعود تأریخها الی ما قبل 400 سنة علی سبیل النموذج للکتب القدیمة، و الکتاب مطبوع عدة طبعات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 103
فی المنطق:
1- کتاب (الحاشیة فی المنطق) لمؤلفها الملا عبد اللّه بن شهاب الدین حسین الیزدی، المتوفی سنة 981 ه، من المختصین بعلم المنطق طبع فی طهران.
2- کتاب (المنطق) للشیخ محمد رضا المظفر- عمید کلیة الفقه فی النجف الاشرف سابقا- یقع فی ثلاثة اجزاء؛ کتبه لطلاب الکلیة و عند طبعه تداولته ایدی طلاب الجامعة باعتباره اسلس عبارة، و اکثر اختصارا من الحاشیة و قد طبع مرتین فی النجف و بغداد.
فی الفقه:
1- (مختصر النافع) لابی القاسم نجم الدین جعفر بن الحسن الحلی المعروف بالمحقق الحلی، المتوفی سنة 676 ه. طبع هذا الکتاب ثلاث طبعات واحدة منها فی القاهرة قدمه احمد حسن الباقوری وزیر الاوقاف السابق للعربیة المتحدة، یقع فی مجلد واحد. یتمیز بعبارة بسیطة من غیر تعقید لخص فیه کتاب «شرائع الاسلام فی مسائل الحلال و الحرام» الذی یعتبر متنا من المتون الحیة الی الآن. و هو مرتب علی أربعة اقسام: العبادات، و العقود، و الایقاعات، و الاحکام.
2- کتاب (شرائع الاسلام فی مسائل الحلال و الحرام) لنفس المؤلف المتقدم الذکر، و هو یقع فی مجلدین، فقه استدلالی طبع فی ایران، و فی بیروت.
3- کتاب (الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة) لمؤلفه زین الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 104
صفحة من کتاب (شرائع الإسلام) فی الفقه المحقق ابی القاسم نجم الدین جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الحلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 105
ابن نور الدین علی بن احمد العاملی الجبعی المعروف بالشهید الثانی المقتول سنة 965 ه، یقع فی مجلدین شرح المؤلف اللمعة الدمشقیة للشهید الاول محمد بن الشیخ جمال الدین بن مکی النبطی العاملی الجزینی المقتول سنة 786 ه.
و الکتاب من المصادر الفقهیة الاستدلالیة الرائعة. طبع عدة طبعات و آخرها فی مصر.
4- (المکاسب) للمجدد الشیخ مرتضی بن محمد امین التستری الانصاری المتوفی سنة 1281 ه، و هو کتاب فقه استدلالی جلیل فی نواحی المعاملات طبع الکتاب عدة طبعات فی ایران و بغداد.
و مراتب هذه الکتب حسب التسلسل المذکور فالطالب یبدأ فی المختصر و عند اتمامه ینتقل الی الشرائع، ثم إلی اللمعة، ثم إلی المکاسب، و بذلک یکون قد اکمل دورة فقهیة کاملة.
فی اصول الفقه:
1- کتاب (معالم الاصول) الشیخ حسن بن زین الدین الشهید الثانی المتوفی سنة 1011 ه، حوی الکتاب ابواب الاصول بصورة مختصرة، و قد طبع عدة طبعات فی ایران، و یدرسه الطالب عند ما یبدأ فی علم الاصول و یقع فی مجلد واحد.
2- کتاب (قوانین الاصول) للمیرزا ابی القاسم بن محمد حسن الجیلانی القمی المتوفی سنة 1231 ه، تناول فیه أبواب الاصول بصورة تفصیلیة و یقع فی مجلد کبیر طبع بایران. و یأتی بالمرتبة الثانیة للطالب المبتدی‌ء.
3- کتاب (کفایة الاصول) للمحقق الشیخ الملا محمد کاظم الخراسانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 106
الشهیر بالاخوند المتوفی سنة 1329 ه. یقع فی ثلاثة أجزاء، و وصف کتابه بانه صار کتابا نهائیا لمدرسة الاصول لما حوی من تحقیق و تدقیق فکری عال فی علم الاصول. طبع فی ایران و بغداد عدة طبعات.
4- کتاب (الرسائل) للشیخ مرتضی الانصاری المتوفی سنة 1281 ه من اهم الکتب الاصولیة یقع فی مجلد واحد عبر بحق عن الفکر العلمی الذی تمثل فی هذه المرحلة من النضج الذهنی، و العمق و السعة.
و هذان الکتابان (الکفایة و الرسائل) بالمرتبة الاخیرة یتناولهما الطالب الدینی فاذا اکملهما فقد اکمل دورة اصولیة عامة.
5- (اصول المظفر) لمؤلفه الشیخ محمد رضا المظفر المتوفی سنة 1383 ه یقع فی ثلاثة اجزاء و هی محاضرات القاها مؤلفها علی طلاب کلیة الفقه فی النجف الاشرف بصورة منظمة تناول فیها بحوث الاصول باسلوب خال من التعقید، و عندما صدر الی عالم الظهور، اخذ طلاب الجامعة النجفیة بدراسته للمیزات التی یتمتع به.
هذه هی اشهر الکتب المقررة للتدریس فی الجامعة النجفیة، و عند ما نذکر هذه الکتب فلیس معناه ان هذه المجموعة هی الاول و الآخر، انما هناک عدد من المؤلفات القیمة فی جمیع العلوم التی مرّ ذکرها، و لکنها اما لیست بالمستوی الفکری للجامعة، او انها غیر متعارفه لعمق بحوثها و عدم تمکن الطالب من استیعابها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 107

محلات الدراسة فی النجف

لم تتقید جامعة النجف بمحل واحد للدراسة، انما نراها تتخذ من الجوامع و المدارس (الاقسام الداخلیة) و الصحن الشریف مکانا للتدریس. و من أجل تنویر الباحث نعطی صورة موجزة عن هذه المرافق التدریسیة:
آ- الصحن الشریف:
لم یکن اتخاذ الصحن الشریف الحیدری مکانا للتدریس حدیثا، انما یرجع تاریخه الی العهد البویهی، حینما بناه عضد الدولة البویهی فبنی غرفا للصحن،
و لقد اعتاد طلاب العلم ان یعقدوا فی هذه الغرف و الایوانات الحلقات التدریسیة، و ربما تعدی الی ساحة الصحن نفسه .
ب- الجوامع (المساجد):
فی النجف جوامع کثیرة قدیمة العهد، منتثرة هنا و هناک، و لقد اتخذ طلاب العلوم الدینیة من بعضها مرکزا للتدریس و البحث، و نأتی علی ذکر اهمها:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 108
1- مسجد عمران: و هو المسجد المنسوب الی عمران بن شاهین ، و هو من اقدم المساجد النجفیة، و ابعدها صیتا، و یمکن ان ندعی انه کان من قدیم الزمان مرکزا للتدریس فهو یقع فی مدخل الصحن الحیدری من جانب باب الطوسی، و یرجع عهده الی اواسط القرن الرابع الهجری. و یعقد الآن فیه بحث الامام السید محسن الحکیم.
2- مسجد الخضراء: و ینسبه البراقی الی علی بن المظفر، و هو من المساجد القدیمة البعیدة العهد، و موقعه شرقی الصحن بالقرب من الجهة الشمالیة، و له باب من الصحن الحیدری، کما له باب من الشارع العام.
و قد اتخذ مقرا للتدریس و البحث، و یعقد فیه الآن بحث الامام السید ابی القاسم الخوئی.
3- مسجد الشیخ الطوسی: و هو من المساجد القدیمة، کان دارا لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی، و بعد وفاته عام 460 أوصی ان یجعل مسجدا من بعده، و یعتبر هذا الجامع مرکزا للعلم و التحصیل فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 109
کل ادواره، و یقع فی محلة المشراق من الجهة الشمالیة من الصحن فی اول شارع الطوسی الیوم، و بازائه مقبرة السید محمد مهدی بحر العلوم.
4- مسجد الهندی : و اسس هذا المسجد فی اوائل القرن الثالث عشر الهجری فی عصر الشیخ حسین نجف الکبیر، و من حین تأسیسه اتخذه طلاب العلوم الدینیة مرکزا للدرس، یجتمع فیه اکثر اهل العلم، و تعقد فیه عشرات الحلقات لفضلاء العصر. بالاضافة الی بحث الامام السید محمود الشاهرودی و یقع فی آخر سوق البزازین الواقع قبلة الصحن الشریف، و له باب الیوم علی شارع الرسول.
5- مسجد الشیخ مرتضی: و لم یکن هذا المسجد بالمرتبة الاولی غیر انه من حین تعمیره حتی الآن اتخذ محلا للتدریس و التحصیل، فلقد اسس- بایعاز من الشیخ مرتضی الانصاری المتوفی سنة 1281 ه، و قد اتخذه الامام السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی مرکزا لدرسه، ثم اتخذه الامام السید عبد الهادی الشیرازی مقرا لبحثه، و الیوم یلقی فیه الامام الخمینی درسه.
هذه هی المساجد التی کانت، و ما زالت مرکزا للتدریس، و الابحاث الخارجیة المهمة، و هناک عدد من المساجد غیر رئیسیة قد اتخذت للبحوث الصغیرة، کمسجد الرأس الذی یقع فی الصحن الحیدری تحت الطاق، و مسجد الصاغة و الذی یقع فی آخر سوق الصاغة من السوق الکبیر، کذلک مسجد آل الجواهری، و الذی یقع فی محلة العمارة و کذلک مسجد العلامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 110
الشیرازی المتوفی سنة 1312 ه، و کان محلا لدرس الزعیم الروحانی السید میرزا محمد حسن الشیرازی قبل هجرته إلی سامراء، الی غیر ذلک من المساجد الکثیرة التی تعقد فیها الحلقات الخاصة للدرس.
ج- المدارس:
و هذا مرفق ثالث، اتخذ منه المدرسون مقرا لحلقاتهم الدراسیة، و ان کثیرا من هذه المدارس الیوم تعتبر بمثابة قاعات للمحاضرات و التدریسات الی جانب کونها اقساما داخلیة و منازل للطلاب من الغرباء او الذین لم تتوفر لهم فی بیوتهم غرف للمطالعة و الدرس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 111

اهم المصادر التی اعتمدها الکاتب

1- فرحة الغری
2- الکنی و الالقاب
3- رجال العلامة الحلی
4- رجال الماقمقانی
5- من لا یحضره الفقیه
6- رجال النجاشی
7- ماضی النجف و حاضرها
8- تاریخ الکوفة للبراقی
9- یتیمة الدهر للثعالبی
10- الاعلام للزرکلی
11- حدیث الجامعة النجفیة
12- رجال الطوسی
13- خصال الصدوق
14- البدایة و النهایة لابن کثیر
15- مرآة الجنان
16- الصادق- للمظفر
17- الامام الصادق و المذاهب الاربعة للشیخ اسد حیدر
18- نزهة القلوب للمستوفی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 112
19- تفسیر التبیان للشیخ الطوسی
20- نظرات فی الذریعة- للدکتور مصطفی جواد
21- دمیة القصر
22- الدرجات الرفیعة
23- تاریخ الخلفاء للسیوطی
24- النجوم الزاهرة لابن تغری
25- طبقات الشافعیة للسبکی
26- کشف الظنون
27- المنتظم لابن الجوزی
28- لسان المیزان لابن حجر
29- المعالم الجدیدة للسید محمد باقر الصدر
30- تلخیص الشافی- المقدمة
31- الذریعة الی تصانیف الشیعة للشیخ اغا بزرک
32- شذرات الذهب فی اخبار من ذهب
33- رجال ابن داود
34- أمل الآمل
35- روضات الجنات
36- بغیة الوعاة
37- رحلة ابن بطوطة
38- تأریخ العراق بین احتلالین
39- تحفة العالم للسید جعفر بحر العلوم
40- دلیل القضاء الشرعی للسید محمد صادق بحر العلوم
41- تاریخ الشعشعینی
42- رجال السید بحر العلوم
43- جامعة النجف فی عصرها الحاضر للشیخ محمد تقی الفقیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 113

مدارس النجف القدیمة و الحدیثة کتبه محمد الخلیلی عضو جمعیة الرابطة العلمیة فی النجف الاشرف

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 115

مدارس النجف القدیمة و الحدیثة

لا یستبعد ان یکون تأریخ قیام المدارس فی النجف یبتدی‌ء مع تأریخ الدراسة و ان لم تکن لهذه المدارس بنایة خاصة تسمی باسمها، و یکفی فی ذلک أن یکون اجتماع بقصد تلقی الدرس، و الوعظ، و المناقشة، و الانشاد، و هذا ما کان یحدث فی الاسواق کسوق عکاظ، و سائر اسواق العرب، و مسجد النبی فی الحجاز، و کسوق المربد فی البصرة و مسجد علی فی الکوفة، و قد اشتهر هذا المسجد فی الکوفة علی غرار شهرة مسجد النبی فی المدینة، بما استمع فیه المستمعون من آراء و افکار، و خطب، و موعظة، و درس، و ما أخرج من الفحول فی مختلف العلوم، و الفنون، و علی هذا کان قیام أول مدرسة نجفیة مرتبطا بقیام اول دراسة للعلوم اللسانیة و العقلیة و الروحیة فی النجف و تأریخ هذه المدرسة قدیم جدا، فکم من معاهد أدبیة توارثت الحرکة الفکریة معهدا بعد معهد مثل (عاقولا) الواقعة حول الکوفة او هی الکوفة فی الزمن القدیم.
لقد کانت (عاقولا) مدرسة سریانیة، و بقیت الی عهد الرومان فی العراق و قد انتقلت الیها دراسات یونانیة، و لما اندرست (عاقولا) نهضت الحیرة. فکانت واجهة کبری للادب، تری فیها الکثیر من الافکار المبثوثة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 116
بین العاصمة الحیرة و ما حولها من الدیارات، و انتقل ما فی الحیرة الی الکوفة ثم انتقل ما فی الکوفة الی النجف .
و أول ما نزل علیّ (ع) فی العراق نزل الکوفة، و نزل مسجدها لا قصورها کما فعل غیره من الولاة، و قد اتخذ مسجد الکوفة مصلی له، و معبدا و مدرسة یدرس و یخطب و یقضی فیه بین الناس، و قد تخرج من هذه (المدرسة) المدرسة العلویة أو مدرسة الکوفة الکبری امثال (ابی الاسود الدؤلی) و (عبد اللّه بن عباس) حبر الأمة، و قد قام بعد علی (ع) فی التعهد بمدرسته اولاده و احفاده حتی جاء دور الامام الصادق (ع) و علی قلة استیطان الامام الصادق (ع) بالکوفة فقد تخرج علیه علماء کثیرون حتی ألف الحافظ ابو العباس ابن عقدة الهمدانی الکوفی کتابا فی اسماء الرجال الذین رووا الحدیث عن الامام الصادق فذکر ترجمة أربعة آلاف شیخ .
و اذا عرفنا سعة العلوم الاسلامیة فی الکوفة و شهرتها بالفنون الادبیة اتضحت لنا قیمة مدرسة الکوفة التی انتقلت الی النجف و انتقل معها ما حملت الکوفة من الافکار المتبلورة بالدراسات السریانیة و العربیة و الروحیة الاسلامیة و هی و ان لم تکن مدارس علی نمط هذا العصر من حیث البناء و المکان فهی مدارس علی نمط عصرها من حیث الاجتماع فی المساجد او الساحات او الاسواق و الاستماع و المناقشة و المباهلة الادبیة و القراءة و الکتابة.
أما متی بنیت هذه المدارس بمثل هذه الهیاکل المشتملة علی الغرف و الابهاء لسکنی الطلاب فلیس من وسیلة الی تعیینه تعیینا مضبوطا ذلک. لان هذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 117
المدارس لم تکد تشید و یقف علیها الواقفون بعض الاوقاف للانفاق علیها ثم یمر علیها بعض الزمن و یتقادم العهد حتی تتلف الاوقاف، او یستبد بها البعض، فلم یعد هنالک من ینفق علیها و تتهدم و لا یعود لها اثر او بعض أثر، ثم تذوب بین البیوت و تصبح من الاملاک المشاعة بین الناس فلا یعرف عنها أحد شیئا ..!!
و هنالک عدة ادلة یستنبط منها القاری‌ء ان عددا کبیرا من المدارس کان قد شید فی النجف ثم اضمحل.
یقول ابن بطوطه الذی زار النجف فی سنة 737 ه، و هو یصف الاسواق «... ثم سوق العطارین ثم باب الحضرة حیث القبر الذی یزعمون (کذا) انه قبر علیّ علیه السلام و بإزائه المدارس و الزوایا، و الخوانق معمورة أحسن عمارة و حیطانها بالقاشانی و هو شبه الزلیج عندنا لکن لونه اشرق و نقشه أحسن».
ثم یقول: «و یدخل من باب الحضرة الی (مدرسة عظیمة) یسکنها الطلبة و الصوفیة من الشیعة و لکل وارد علیها ضیافة ثلاثة أیام من الخبز و اللحم و التمر مرتین فی الیوم، و من تلک (المدرسة) یدخل الی باب القبة ... الخ ».
و لیس من شک ان عددا من المدارس کان قد شید فی النجف ثم اندثر باندثار البیوت و لم یصلنا من اخبار هذه المدارس إلا ذکرها عرضا و فی اثناء الرحلات کما ورد فی رحلة ابن بطوطة، و کما ذکر زین العابدین الشیروانی فی عرض ذکره لما أسسه السلطان محمد خدابنده، و ابنه ابو سعید، من أبنیة و عمارات فی النجف و قد عد من تلک العمارات احدی المدارس، و غیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 118
ذلک مما وجد مشروحا علی هوامش الکتب من اسماء المدارس، و نحن نثبت هنا ما وقفنا علیه بطریق التتبع و البحث فی الکتب و ما وقفنا علیه بطریق السماع الموثوق بصحته، أو ما وقفنا علیه بطریق المشاهدة و العیان من المدارس القدیمة التی لم یبق لها الیوم غیر الاسم، و المدارس التی لم تزل قائمة، او المدارس الحدیثة التی لم یتطرق لها بعد تأریخ النجف الثقافی الحدیث.

الحیاة المدرسیة لسکان المدارس الدینیة

لکل مدرسة من مدارس النجف الدینیة القدیمة منها و الحدیثة انظمة خاصة تعینها صیغة الوقف، لان جمیع هذه المدارس قد شیدت من الموقوفات التی وقفها العلماء، او المحسنون علی طلاب الدین، و لکل مدرسة شروط خاصة یقبل بموجبها اسکان الطلاب فی غرفها.
و أغلب سکان هذه المدارس من الغرباء الذین یؤمون النجف بقصد الدراسة و وصول مرتبة الاجتهاد و قد یقضون فیها عشرات السنین حتی یبلغوا المرام و یعودوا الی بلدانهم مزودین بالاجازات التی یمنحها لهم اساتذتهم من المراجع الروحانیة الکبری.
و منذ الف سنة و النجف مزدحمة بالطلاب الذین یأتون الیها من مختلف الاصقاع، کالهند، و التبت، و الافغان، و بلوجستان، و ترکستان، و قفقاسیة، و ایران، و افریقیا الشرقیة، و لبنان فضلا عن المدن العراقیة.
و حین یقبل الطالب فی المدرسة یعطی غرفة فیها و تکون هذه الغرف فی بعض المدارس مفروشة و مجهزة بالکهرباء و ذات منح نقدیة تمنح للطالب فی کل شهر او فی کل موسم، و موائد تقام علی حساب المدرسة فی اوقات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 119
معینة و ذلک تبعا لامکانیة المدرسة، و اوقافها، و ازمانها اذ ان عددا من المدارس لیس لها مثل هذه الامتیازات و لا بعضها.
یقول السماوی فی (عنوان الشرف) عن هذه المدارس:
فبعضها تکون ذات راتب‌ینفق فی الشهر لکل طالب
و بعضها فی الجمعات تجلومائدة و الباقیات تخلو
الشیخ احمد الطرفی أحد أساتذة مدرسة الجامعة فی النجف
و لبعض الطلاب فی مختلف المدارس مخصصات یومیة من الخبز یتناولها من الخباز، و راتب شهری تدفعه له المراجع الدینیة کلا حسب مؤهلاته، و حسب امکان المرجع الدینی الذی یساعده.
الشیخ نزیه محمد البعلبکی من طلاب بعلبک فی النجف
و البعض من هؤلاء الطلاب یأتون النجف و هم مزودون بجمیع ما یحتاجون الیه فیستأجرون بیوتا مستقلة و یأتون معهم بعائلاتهم و اطفالهم و یعیشون عیشة لا تشوبها شائبة من الاحتیاج بفضل امکانیة ذویهم، و آبائهم الذین ینفقون علیهم بسخاء، و یمطرونهم بالحوالات فلا یحتاج مثل هؤلاء سکنی المدارس إلا اذا قصد منهم أحد الانعزال عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 120
البیت تهربا من ضوضاء الاطفال و زیارات العائلات، و ان اغلب الذین ینزلون البیوت المستقلة و ینفقون علی انفسهم انفاق الموسرین هم الطلاب الایرانیون و الترک و الاذربایجانیون.
الشیخ غلام محمد التبتی من طلاب التبت فی النجف
و الطالب فی المدرسة لا یفید غیر السکن للانصراف الی الدرس حین لا یتسنی له محل آخر یضمن مثل هذا السکن الهادی‌ء المعد للبحث و الدرس و التتبع، و معظم طلاب هذه المدارس هم من الذین لم یتزوجوا بعد، و لم تخل هذه المدارس من طلاب نجفیین الی جانب الطلاب الغرباء ممن لا طاقة له علی توفیر مثل هذا الجو فی بیته سواء کان متزوجا او غیر متزوج، لان معظم المدارس لا تفرق بین الطالب الغریب و غیر الغریب، علی ان هنالک مدارس خاصة ببلد معین کمدرسة (الایروانی) الخاصة بالترک من الطلاب و مدرسة (العاملیین) الخاصة بالطلاب اللبنانیین علی الاکثر، و مدرسة (الهندی) الخاصة بالطلاب الهنود.
السید جود السید محمود الجوادی من طلاب الباروک فی النجف
أما الدروس فیتلقاها الطالب فی خارج المدرسة فی اکثر الاحیان و فی الاماکن التی یتخذ منها الاستاذ محلا للدرس کالصحن الشریف، او الجوامع، او المساجد، فالطالب حر فی اختیار استاذه، و اخذ الدروس داخل المدرسة او خارجها، لأن الدراسة فی هذه المدارس لیست علی مستوی واحد لتتألف منها صفوف، فالمدرسة ذات الغرف الستین مثلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 121
قد یسکنها ستون طالبا و کل منهم فی مراحل مختلفة و مستویات متباینة من الدرس و التتبع.
السید باقر النقوی الهندی من طلاب الهند فی النجف
و لکل طالب مفتاح یفتح به باب المدرسة متی جاء، و حین یغلق باب الحرم فی المشهد المقدس لیلا یکون الطلاب غالبا قد أموا مدارسهم، و تری معظم الغرف فی هذه المدارس مضاءة الی وقت متأخر من اللیل.
الشیخ خلیل الشیخ جلیل مشکینی من الطلاب الأذربایجانیین فی النجف
و الطالب الغریب هو الذی یعد بنفسه طعامه فی غرفته، و غالبا ما یکون هذا الطعام مؤلفا من الخبز، و التمر، و اللبن، و قد روی الراوون روایات کثیرة عن عدد من کبار العلماء النابغین الذین عاشوا فی مثل هذه المدارس علی الخبز وحده، و کثیر منهم من کان یطوی الیوم و الیومین دون ان یحصل علی قوت یومه ملتذا بالصبر، و الفناء فیما هو فیه من التتبع. و لقد القی الدکتور زکی مبارک خطابا مرة فی جمعیة الرابطة العلمیة فی النجف مشیرا الی مثل هؤلاء الطلاب، و قال انه سبق له ان عاش نظیر عیش الطلاب النجفیین، لانه لم یکن لدیه ما یشتری به الرغیف الحار، فکان یکسر کسر الخبز الیابس بیدیه، و أقسم فی خطابه ان هذه الکسر قد جرحت مرة اصابعه، و هو یعالج کسرها فسال منها الدم و مع ذلک فقد کان یمشی فی الدرس و المطالعة کما مشی طلاب النجف منذ مئات السنین حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 122
الآن ..!!
و لطلاب العلم و سکان هذه المدارس عطلة یومین فی الاسبوع و عطل أخری فی مواسم زیارات العتبات المقدسة فیقضون فیها هذه العطل بأنواع من الالعاب البریئة، و اکثر مسارح متنزهاتهم تکون فی الکوفة بین البساتین اذ یصحبون معهم بعض القطع من السجاد او البسط الخفیفة و دیوانا أو دیوانین من الشعر و یفترشون البساتین و الحدائق و ینصبون (سماور) الشای و یفتحون دیوان الشعر و یبدوؤن بالتقفیة، و فی الصیف ینتحون بعیدا عن الناس و ینزلون النهر سابحین، و بین هؤلاء الطلاب عدد غیر قلیل من مهرة السباحین.
الشیخ حسن الأوحدی من طلاب الأفغان فی النجف
و لم تقتصر ریاضة ارواحهم علی تقفیة الشعر بل یعمدون الی نظم الشعر و دخول المباراة و حل الاحاجی الشعریة و الفکریة کما لم تقتصر ریاضة ابدانهم علی السباحة، و انما یعمدون الی ترویض ابدانهم بکل صنوف الریاضة من رکض و قفز و غیر ذلک من الریاضات البریئة و کل هذا یفعلونه بعیدا عن انظار الطبقات الاخری.
الشیخ فضل اللّه کریمی من طلاب طهران فی النجف
و من امتع الریاضات عندهم زیارة المراقد المقدسة مشیا علی الاقدام فکانوا یقطعون الطریق بین النجف و کربلا فی لیلتین و لا یزید متاعهم علی أربعة او خمسة ارغفة من الخبز و شی‌ء من التمر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 123
و فی کربلا یحل بعضهم ضیفا علی بعض اصدقائه من طلاب المدارس هناک کما یحل هذا البعض من طلاب کربلا ضیوفا علیهم عند زیارتهم النجف.
و فی امسیة کل یوم ثلاثاء یقصد جمع غیر قلیل من هؤلاء الطلبة کما یقصد غیرهم مسجد الکوفة و مسجد السهلة و هما علی مسافة تسعة کیلومترات فیسهمون فی اداء طقوس من الصلاة و الادعیة بقصد الاستتابة ثم لیغیروا بذلک الجو الخانق الذی یحیط بهم و لینشطوا من عقال هذا الدرس الذی لا ینتهی.
الشیخ أحمد القوجانی من طلاب قوجان فی النجف
و فی الاعراس العامة، و مجالس الفاتحة التی تقام للشخصیات الکبیرة و المآتم الحسینیة مجال واسع للتنفیس عن انفسهم سواء باسهامهم فی نظم الشعر تهنئة أو تعزیة لوجه الشعر و للتسلیة و المباراة لیس غیر، او بحضورهم هذه المجالس العامة لیستمتعوا بما یسمعون أو بمن یجدون من رفاقهم الذین تلهیهم دروسهم عن الالتقاء بهم فی غیر هذه المناسبات.
و هکذا کانت بالاجمال حیاة هذه الطبقة من طلاب العلم، و سکان المدارس، و لم تزل تجری علی هذه الوتیرة مع شی‌ء من الفروق القلیلة.
الشیخ علی کورانی من الطلاب السوریین فی النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 124

هندسة المدارس العلمیة الدینیة:

لقد روعی فی هندسة المدارس العلمیة فی النجف طبیعة البلد فکان لا بد من حساب (للسرادیب) فی اغلب ابنیة المدارس و تقوم هذه السرادیب فی جهة واحدة من عمارة المدرسة او جهتین او الجهات الثلاث او الجهات الاربع من العمارة ینزل الیها بواسطة سلالم، و تسمی بالسرادیب الفوقانیة فی مصطلح النجفیین، و فی بعض المدارس الاخری سرادیب تقام تحت السرادیب الفوقانیة و هی ما تسمی بالسرادیب (نیم سن) و الکلمة فارسیة معناها الشیخ غلام علی الأصفهانی من طلاب اصفهان فی النجف
منتصف (السن) و السن طبقة من الرمل المتحجر ینحت فیه الناحت سردابا آخر، و هنالک من السرادیب ما هو أعمق من (النیم سن) و یسمی بسرداب (السن) و یخفر (للسن) أو (للنیم سن) فی وسط المدرسة حفیرة علی هیئة متوازی الاضلاع بقطر مترین أو أقل من ذلک و فی عمق عشرین مترا أو أقل من ذلک لینفذ هذا الحفر من متوازی الاضلاع الی وسط السرداب بقصد ایصال النور و سحب الماء البارد الی الاعلی کما تحیط بالسرادیب من اطراف اعالیها شبابیک لنفوذ النور و الهواء، فضلا عن عدد من المنافذ السید سجاد علی نکری من الطلاب النکریین فی النجف
الهوائیة المتصلة من اعلی سطح العمارة بالسرادیب الفوقانیة و هی التی تسمی (بالبخاریات) ثم تبنی هذه السرادیب فی الغالب بالآجر و تزخرف و قد تترک سرادیب السن علی حالها و هی منحوتة من طبقة السن التی تشبه الصخور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 125
أو تزین جدرانها بالآجر و قد تزین الجدران و ارض السرادیب بالکاشانی کما هو الحال فی مدرسة السید کاظم الیزدی.
و کثیرا ما تفتح فی السرادیب منافذ تتصل ببئر المدرسة اذ المفروض ان یکون فی کل بیت و فی کل عمارة بئر ماء تتصل بالبئر المجاورة لها و هذه تتصل ببئر أخری. و هکذا حتی تتجمع المیاه فی بئر کبیرة تستمد میاهها من نهر الفرات عن طریق قناة تجلب الماء من مناطق تسمی (بابو فشیکه) و قد قیل ان هندسة بناء السرادیب فی البیوت و فی المدارس قد انتقلت الی النجف من مدینة شوشتر لان طبیعتها تحاکی طبیعة النجف و تأریخ حفر السرادیب فی شوشتر قدیم جدا و علی اننا لا نعرف مبلغ صحة هذه الروایة فی انتقال تصمیم السرادیب الی النجف من شوشتر فلسنا نستبعد ذلک.
الشیخ جعفر الهندی من طلاب الهند المشالیة فی النجف
و یتحول السکن فی الصیف فی وسط البیت او وسط المدرسة الی هذه السرادیب و تتم فیها المطالعة و تناول طعام الغداء و القیلولة و قد تمسی فی بعض لیالی الصیف عند اجتیاح العواصف الرملیة المدینة ملاذا للطلاب یقضون فیها اللیل نیاما.
الشیخ محمد التقوی من طلاب کناباد فی النجف
و حین یراد بناء المدرسة تقام فی کل رکن من ارکانها القواعد الاساسیة فی اعماق مناسبة من السرداب و تقام اساطین و اعمدة ترتفع من الاعماق حتی تبلغ سطح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 126
الدار فتوصل هنالک بین اسطوانة و اخری بطبقات تبنی بالاجر و یتألف من هذه الطبقات المتصل بعضها ببعض سقف السرداب و قد تعمل فی هذا السقف من الزخرفة و الاشکال الهندسیة بالآجر ما یستلفت النظر.
و هنا یأتی دور الطابق الارضی او الطابق الاول کما یسمیه البعض بعد ان یکون السرداب قد تم بناؤه. و الدور الاول او الطابق الاول الذی یقوم علی اسس السرداب عبارة عن عدة غرف تقام فی الجوانب الاربعة اذ ان اغلب المدارس تکون مربعة الشکل او مستطیلة، تارکة وسط المدرسة فارغا لتؤلف صحنا واسعا کثیرا ما اقیم فی وسطه حوض ماء کبیر، و تبنی الغرف غرفة الی جنب غرفة حتی تستوعب الجهات الاربع و تکون مساحة کل غرفة تتراوح بین 2- 5، 2 مترا مربعا او 2- 3 مترا مربعا و امام کل غرفة ایوان صغیر فی الغالب و هو مسقف بسقف مسنم و مزین بزخرفة من الآجر او الکاشانی فیستقل کل طالب بغرفة من هذه الغرف و ایوانها المستقل.
و علی هذه الوتیرة یجری بناء الطابق الثانی فوق الطابق الاول مع فارق بسیط تقتضیه المصلحة و هو ان الغرف من الطابق الثانی تکون بدون أواوین لان هذه الاواوین من الاعلی تتحول الی ممر عام یخترقه الطالب فی طریقه الی غرفته.
و من الطابق الثانی یرقی الطالب بواسطة السلالم الی سطح المدرسة الواسع.
هذه بالاجمال هندسة المدارس التی دخلت النجف مع دخول الصفویین.
أما المدارس التی بنیت اخیرا و فی السنین القریبة فقد تغیرت هندسة البناء فیها تغییرا کبیرا کما تبدلت مواد البناء و لم یعد الآجر و الجص و الخشب هو المقوم الاول فی البناء و انما صار للسمنت و (الکونکریت) و الحدید الاهمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 127
الکبری فی تشیید المدرسة و زاد عدد الطوابق من طابقین الی ثلاثة او اربعة، و تبنی هذه الغرف متصلة بعضها ببعض فی الجهات الاربع کما هو الحال فی البناء القدیم و لکن کثرة الشبابیک و النوافذ من اهم ممیزات المدارس العلمیة الحدیثة.
و قد روعی فی تصامیم المدارس الجدیدة بناء قاعة للدرس و المحاضرات و بناء مکتبة خاصة، و تخصیص مسجد للصلاة بالاضافة الی الحمامات و المغاسل الحدیثة مما لم یکن لها وجود فی ابنیة المدارس القدیمة.
أما المدارس الحکومیة فلها طراز خاص یختلف عن طراز المدارس الدینیة فهی لا تلتزم بالبناء فی جمیع اطراف الساحة و انما تتخذ جانبا واحدا تبنی فیه الغرف متقابلة علی الغالب یفصل الصفین المتقابلین ممر عریض و هکذا یکون الطابق الثانی، او أنها تبنی صفا واحدا من الغرف و تقیم الطابق الثانی علی نسقه و تخص جوانب من البناء لقاعة المحاضرات و المختبرات و تبعد عنها المغاسل فی جانب آخر من المدرسة و فضلا عن هذا فان هندسة البناء فی المدارس الحکومیة للعلوم الحدیثة لیست متقاربة فی التصمیم مثل هذا التقارب الملحوظ فی هندسة المدارس الدینیة حتی لیکاد یکون لکل مدرسة عصریة شبه تصمیم مستقل یفرضه موقع المدرسة و حاجتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 128

ما قبل القرن العاشر الهجری

1- مدرسة المقداد السیوری (السلیمیة)

تقع هذه المدرسة فی سوق المشراق احدی محلات النجف الاشرف مقابل مسجد الصاغة المعروف. و یقول الشیخ جعفر محبوبه «ان الذی یظهر من خطوط بعض طلابها علی بعض کتبهم المخطوطة انها کانت مسکونة بالطلاب الدینیین فی اوائل القرن التاسع الهجری فقد شوهد علی کتاب (مصباح المتهجد) المخطوط للشیخ الطوسی و کان عند المغفور له المرزا حسین النایئنی ما نصه: «کان الفراغ من نسخه یوم السبت 12 جمادی الاولی سنة 832 علی ید الفقیر الی رحمة ربه و شفاعته عبد الوهاب بن محمد بن جعفر بن محمد بن علی بن السیوری الاسدی بالمشهد الشریف الغروی علی ساکنه السلام و ذلک فی مدرسة المقداد السیوری ».
الشیخ غلام عباس الزنکباری من طلاب افریقیا الشرقیة فی النجف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 129
و هذه المدرسة باقیة حتی الیوم و قد تغیر اسمها و صارت تعرف الیوم باسم المدرسة السلیمیة نسبة الی بانیها الثانی (سلیم خان الشیرازی) فإنها تهدمت بالاهمال فعمرها هذا المحسن سنة 1250 فنسبت الیه» اه.
الشیخ احمد محمود طراد من الطلاب العاملیین (جبل عامل)
و قد دخلناها فوجدناها مدرسة صغیرة لا تتجاوز مساحتها (100) مترمربع، و شاهدنا ستة حوانیت قد اقتطعت منها لیصرف ریعها علی ما تحتاجه من کهرباء و ماء و اجور خادم، و اصلاحات اخری. و المنقول انه کان لها اوقاف ما لبثت اغتصبت و قد کتب علی بابها الخارجی بالقاشانی انها عمرت (اصلحت) بهمة السید ابی القاسم (الوکیل السابق) فی سنة 1340 ه و هذا هو آخر تعمیر لها.
أما غرفها فعشر و أما عدد طلابها فائنا عشر و کلهم من المهاجرین الواردین من الخارج.
الشخ علی أیوب العارفی من طلاب الأفغان الشمالی
و السیوری البانی الأول لهذه المدرسة هو الشیخ جمال الدین ابو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه ابن محمد بن الحسین بن محمد السیوری الاسدی الحلی الفحص صاحب کتاب (کنز العرفان) فی فقه القرآن و هو من أجل تلامذة الشهید الاول و فخر المحققین. و قد توفی سنة 828 فی عام الفراغ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 130
من بناء المدرسة و علیه فإن هذه المدرسة التی بقیت حتی الیوم و ان کانت قد تغیرت معالمها عدة مرات لتعتبر من أقدم مدارس النجف.

مدرسة الشیخ عبد اللّه

تعتبر مدرسة الشیخ عبد اللّه من أقدم المدارس التی وصلنا خبرها و التی یعود تأریخ وجودها الی منتصف القرن العاشر الهجری و قد عرفت بکونها معهدا مهما یقصده طلاب العلم من کل مکان و یتلقون فیه علومهم و الشیخ عبد اللّه هذا هو المعروف بالملا و صاحب (الحاشیة) فی المنطق و هو الکتاب الذی تجی‌ء قراءته بعد الفراغ من الفیة ابن مالک فی سلسلة الدروس القدیمة.
السید محمد الحسینی من طلاب سیستان فی النجف
و الشیخ عبد اللّه هو ابن شهاب الدین الیزدی و هو جد اسرة الملالی و هی أسرة نشأ فیها غیر واحد من العلماء و کان منهم من جمع بین حکومة النجف و سدانة الحرم المقدس. و قد کان الشیخ ملا عبد اللّه من ألمع العلماء و قد کانت مدرسته اشهر مدرسة علمیة عرفت فی زمانها، أما موقعها فقد کان فی محلة المشراق. و یقول الشیخ جعفر محبوبة عن هذه المدرسة ان بعض المتتبعین للآثار من النجفیین قد عینوا موقعها من هذه المحلة و هی الآن دار لبعض السادة الاشراف و کانت معرسا لاهل العلم فی أیام المقدس الاردبیلی (رض) و من کان بعده من العلماء .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 131
أما کیفیة بناء هذه المدرسة و ما قبلها من المدارس فأغلب الظن انها تختلف عن ابنیة المدارس التی استحدثت بعدها لما قد دخل بعد ذلک علی المدارس من هندسة جدیدة و ریازة خاصة جاء بها الصفویون لان اغلب البیوت کانت تتألف من طابق واحد قبل القرن العاشر الهجری و ان اکثر سقوفها کانت عبارة عن طبقات معقودة تملأ أعالی زوایاها من السطح بالتراب، و تفتح فی وسط سطح الغرفة فتحة صغیرة لینزل النور منها و ذلک لقلة الشبابیک و الکوی. و لیس من البعید ان یکون بناء المدارس یومذاک فیما یشابه هذه الابنیة و لم یزل فی النجف بیت یرجع تأریخه الی القرن الرابع السید علی نقی قاضی یور من طلاب اردبیل فی النجف
الهجری و الی العصر البویهی علی ما یروی الراوون و هذا البیت واقع فی شارع آل الحلو من محلة العمارة و کان ذات یوم مقرا للمطبعة العلویة و قد سکنه بعد ذلک آل الجزائری، و هو جد محکم بحیث قد یتعذر قبول رجوعه الی ذلک التأریخ علی رغم ان هندسة بنائه من حیث القبب و السقوف متصفة بالصفات المتعارفة فی ذلک العصر.
الشیخ غلام حیدر کلکیّ من طلاب الباکستان فی النجف
و حین جاء الصفویون و وسعوا بناء الصحن الشریف و أقاموا أول مدرسة حدیثة فی الصحن تغیرت هندسة المدارس منذ ذلک الحین کما بدأت تتغیر هندسة البیوت تبعا لذلک التغییر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 132

ما بعد القرن العاشر الهجری حتی الیوم مدرسة الصحن الشریف الأولی أو المدرسة الغرویة

اشارة

مدرسة الصحن الشریف الاولی و المدرسة الغرویة یغلب علی الظن انهما اسمان لمدرسة واحدة و قد تأسست فی اوائل القرن الحادی عشر الهجری و قبل مدرسة الصحن الکبری و کان ابتداء تخطیطها مع تخطیط الصحن الشریف الاول. و ینسبها (البراقی) الی الشاه عباس الصفوی الاول، و موقعها فی الجهة الشمالیة من الصحن و بابها من الایوان الثانی بعد الایوان الاول من الصحن الشریف. و قال الشیخ جعفر محبوبة «و قد اید هذا حصول بعض المخطوطات المعتبرة التی خطها بعض طلابها بایدیهم علی کتبهم بعد اکمال نسخها مثل کتابة الشیخ یوسف بن عبد الحسین النجفی الشهیر (بالصلینباوی) سنة 1069 علی أحد کتبه، و مثل الشیخ ابراهیم بن عبد اللّه بن موسی المغربی فی استنساخه لکتاب (مشیخة الاستبصار) فی نفس السنة و نفس المدرسة و رأیت ایضا نسخة من الاستبصار فی آخرها ما نصه:
کتبه فرج اللّه فیاض الجزائری النجفی سنة 1043 فی المدرسة الرواقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 133
بکنف القبة الغرویة و الظاهر انها هی هذه المدرسة» .
و هکذا بقیت هذه المدرسة عامرة بطلابها الی سنة 1286 ه حیث عینتها الحکومة الترکیة مدرسة خاصة بطلاب العلوم الدینیة الذین یعفون بعد الامتحان من خدمة الجندیة حسب قانونهم العسکری.
الشیخ حکمة الموصلی من طلاب العراق الشمالی (الموصل)
و لم تزل هکذا حتی اوائل القرن الرابع عشر فقد استغنت عنها الحکومة و هجرت فتهدمت جدرانها و اغلق بابها و جعلت مخزنا لبعض اثاث الصحن، و لوازم خدام الحرم الی ان تولی تعمیرها السید هاشم زینی فعمرها من جدید و ذلک فی سنة 1350 ه و جعلها دار ضیافة و منزلا للزوار الذین یفدون الی زیارة النجف، و لیس لهم مأوی، و خرجت بذلک عن صفتها المدرسیة الی ما یسمی دار ضیافة.
السید عبد الکریم ابو شامة من طلاب العراق الجنوبی (الحیرة)
و جاء عنها فی ارجوزة (السماوی) بعد ذکر مدرسة الصحن الکبری قوله:
ثم التی فی الجانب الشمالی‌و بابها فی الصحن ذی العلالی
و هذه صیرت الآن محل‌للزائرین حین وفد العلم قل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 134
و قد ارخ بناءها الجدید الشیخ محمد علی الیعقوبی بقوله:
حزت یا هاشم زیی رتبةلم یحزها ابدا من قد سلف
دارک الخلد غدا إذ ارخوا(شدت للزوار دارا بالنجف)
1350 ه
و ارخها السید مهدی الاعرجی بقوله:
رئیس نحاة الندی هاشم‌الم تر اعرابه مستبینا
فمذ شاد ارخت (دار النوال‌بناها علی الفتح للزائرینا)
1350 ه

مدرسة الصحن الکبری

هذه اول مدرسة شیدت علی طراز من الهندسة المعماریة الصفویة من حیث بناء الغرف و تزیینها بالکاشانی و هی البنایة التی یتألف الیوم منها صحن الامام علی بن ابی طالب (ع). و قد کان هذا الصحن اصغر مساحة یوم تصدی لبنائه الشاه عباس الصفوی الاول فی اوائل القرن الحادی عشر، و حین زار النجف الشاه صفی حفید الشاه عباس الاول الصفوی قام بشراء مساحات اخری من الارض و هدم الجدران و وسع بها مساحة الصحن، ثم بناه فی طابقین فخمین فبنی فی کل ضلع من ضلعی الصحن الشرقی و الشمالی خمس عشرة غرفة، و امام کل غرفة ایوان زینه بالکاشانی. اما الضلع الغربی و الجنوبی فقد بنی فی کل منهما اربع عشرة غرفة و امام کل غرفة ایوانا علی نفس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 135
الطراز من الضلعین الشرقی و الشمالی ثم اقام الطابق الثانی علی الطابق الاول بنفس الطراز و النقوش الکاشانیة و کل هذه الاضلاع قد قامت علی ارتفاع واحد و مستوی واحد و قد خص الطابق بطلاب العلم. و کان تأسیس هذا البناء یرجع الی سنة 1042 هجریة و قد تناقل الناس الاحادیث عن کثیر من الطلاب الذین سکنوا هذه الغرف و کانوا من المتفوقین فی العلوم.
یقول الشیخ السماوی عن مدرسة الصحن هذه فی ارجوزته:
و فی الغری لذوی العلوم‌مدارس معلومة الوسوم
مشیدة فی حجرات و غرف‌من اربع الجهات صفا فوق صف
و من ثلاث و اثنتین وجهةاو حجرات افردت للترفهة
اشهرها (مدرسة الصحن) السنی‌قد بنیت للدارسین اذ بنی
ثم ما لبثت ان توسعت حرکة المدارس فی النجف فانتقل الطلاب من مدرسة الصحن و ترکت الغرف فی هذه المدرسة خالیة یشغل بعضها الیوم من لهم ارتباط بخدمة الصحن الشریف.

مدرسة الصدر

هذه المدرسة من المدارس الواسعة و موقعها فی السوق الکبیر و هو السوق الطویل المستقیم المتصل بالصحن الشریف ابتداء و بباب البلد القدیمة و هی المسماة (ساحة الامام) الیوم انتهاء، و تعد من المدارس القدیمة و تحتوی علی ما یزید علی (30) غرفة فی طابق واحد و مساحتها مع ملحقاتها من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 136
مساجدها و مقبرة مؤسسها و مطبخها الواسع المعد للطبخ فی بعض المناسبات العامة تربو علی (900) مترمربع.
أسسها المحسن الکبیر الصدر الاعظم نظام الدولة الحاج محمد حسین خان العلاف الاصفهانی وزیر السلطان فتح علی شاه القاجاری بعد اکمال بناء سور النجف (السادس) و هو الاخیر و ذلک فی سنة 1226 ه و قد احصیت مصاریف بنائها مع بناء السور فی ذلک العصر فکانت (94) ألف تومان أشرفی، و الاشرفی یساوی یومذاک وزن اللیرة الذهبیة العثمانیة.
و هذه المدرسة منذ ذلک الیوم حتی هذه الساعة مزدحمة بطلاب العلوم الدینیة و فضلاء المحصلین. و کان قد اوقف لها مؤسسها موقوفات تقوم ببعض مقتضیات سکانها، و خصص للطلاب اطعاما مستمرا فی لیال معینة من الاسبوع و الشهر و السنة. و الصدر هذا هو جد الاسرة المعروفة فی النجف (بآل نظام الدولة) و قد آل بعض جوانب هذه المدرسة الیوم الی الانهدام فتبرع لاصلاحها بعض ذوی الخیر علی ید الحاج الشیخ نصر اللّه الخلخالی و قد شرع بهدم جانب من مدرسة الصدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 137
الجانب الشمالی منها علی ان یشرع بالجانب الآخر بعد اتمام بناء هذا الجانب و هکذا حتی یتم تشییدها من جدید.

مدرسة المعتمد أو مدرسة الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء

موقعها فی محلة العمارة و بجنبها من جهة القبلة المسجد المعروف بمسجد الشیخ موسی، و فی جهة الشرق مقبرة الشیخ الکبیر الشیخ جعفر صاحب کتاب (کشف الغطاء) و ابنائه الاعلام. ان ساحة هذه المدرسة و المسجد و المقبرة کلها من موقوفات (امان اللّه خان) و هو أحد الامراء الایرانیین و قد وقفها علی الشیخ الکبیر فی الثلث الاول من القرن الثالث عشر لیعمل بها ما شاء فاقتطع الشیخ منها للمدرسة ما یربو علی 800 مترمربع لبناء المدرسة.
قال صاحب ماضی النجف: «حدثنی المعمر الحافظ العالم السید عبد الحسن الدزفولی عن العلامة السید حسین آل بحر العلوم (رض) ان معتمد الدولة و هو المحسن الکبیر (عباسقلی خان) وزیر محمد شاه القاجاری المتوفی فی ایران سنة 1249 ه بعث بأموال کثیرة علی ید العلامة الشیخ مهدی بن الشیخ علی آل کاشف الغطاء لیعمل صندوقا فضیا علی قبر امیر المؤمنین علیه السلام، فعمله و زاد من المال شی‌ء فبنی به هذه المدرسة» علی هذه الساحة الموقوفة علی الشیخ الکبیر، و المعروف ان الذی بنی هذه المدرسة هو الشیخ موسی بن الشیخ جعفر الکبیر علی ما عرفنا و اخذت هذه المدرسة بحظ وافر من العمران و کانت زاهیة بأهل الفضل حتی اوائل القرن الرابع عشر، ثم تهدمت لقلة العنایة بها و سقطت سقوف غرفها، و سد بابها و أصبحت غیر صالحة للسکن حتی تصدی لها الامام الشیخ محمد الحسین آل کاشف الغطاء و جدد عمارتها و هی الیوم آهلة بالسکان من طلاب العلم، و صارت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 138
تسمی بمدرسة الامام کاشف الغطاء و هی من جهة القبلة ذات طابقین فی کل طابق خمس غرف و امام کل غرفة ایوان فی الطابق الارضی و ممر عریض امام غرف الطابق الثانی، أما عکس القبلة فغرفتان کبیرتان و فوقهما السطح، و فی الغرب علی الارض غرفتان و اربع غرف فوقهما فیکون المجموع (26) غرفة. اما جانب الشرق و منه شروع الباب ففی یسار الباب غرفة واحدة لادارة المدرسة و تقابل الباب غرفة کبیرة للمطالعة و فی داخلها المکتبة العظیمة العامرة و هی مدفن الشیخ علی والد الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء، و قد اتخذ منها الامام دارا للمکتبة.
أما عدد طلابها فیقارب الثلاثین طالبا و معیشتهم کسائر طلاب العلم فی النجف یقوم بها العلماء الاعلام.
جانب من مدرسة کاشف الغطاء و یری الإمام و الی جانبه السید جعفر بحر العلوم، و الشیخ محمد جواد الجزائری، و الشیخ قاسم محیی الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 139
و کان الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قد اتخذ جانبا من هذه المدرسة دیوانا یجلس فیه للناس صباحا و مساء و فی أیام الصیف کان صحن المدرسة یفرش بالسجاد و یجلس الشیخ فیجلس رواد مجلسه و زواره فی صف علی طول اضلاع الساحة و من جهاتها الاربع.
و من هذه المدرسة صدرت کل الفتاوی السیاسیة، و الشرعیة، و الرسائل الادبیة التی کتبها الشیخ، و لذلک کان لهذه المدرسة تأریخ حافل فی صفحات تأریخ العراق السیاسی فضلا عن التأریخ الدینی، و قد اعتاد الامام کاشف الغطاء ان یشیر الی هذه المدرسة فی کل ما کان یصدر منه من فتاوی و رسائل فیقول: صدر من مدرستنا بتأریخ کذا ...

المدرسة المهدیة

تقع هذه المدرسة فی محلة المشراق احدی محلات النجف مقابل مقبرة الحجة السید مهدی بحر العلوم و شیخ الطائفة الشیخ الطوسی مجاورة لمدرسة (القوام).
أسسها و شیدها الشیخ مهدی بن الشیخ علی بن الشیخ جعفر الکبیر صاحب (کشف الغطاء) فی عام 1284 ه بأموال کثیرة ارسلت الیه من بلدة (قره داغ) فی آذربیجان کما بنی مثلها فی کربلا و هما معروفتان باسمه.
ان ارض هذه المدرسة البالغة مساحتها ما یقارب (700) مترمربع کانت فی السابق مرکزا (سرایا) لسادن الروضة. و حاکم البلد یومذاک و هو الملا یوسف الشهیر، و لما توفی باعها ورثته للشیخ محمد بن الشیخ علی کاشف الغطاء فبناها دارین، و بعد وفاته بیعتا علی الشیخ عبد الحسین الطهرانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 140
ثم اشتراها منه الشیخ مهدی کاشف الغطاء المذکور سنة 1284. و فی نفس السنة بناها مدرسة ذات طابقین و عدد غرفها 22 غرفة یسکنها نحو 30 طالبا
و فی سنة 1365 ه اشرفت علی الانهدام فتولی الاهتمام ببنائها الشیخ محمد علی ابن الشیخ عبد الکریم آل کاشف الغطاء، و اعاد تعمیرها بمساعدة السید ابی الحسن الاصفهانی فعادت مأهولة بأهل العلم. و قد اخرجت هذه المدرسة عددا من فحول أهل العلم و الادب. و من طلبتها الشیخ صالح الجعفری و هو أحد اساطین الشعر و الادب الیوم.

مدرسة القوام

مدرسة شهیرة عامرة مساحتها (700) مترمربع تقع فی محلة المشراق مجاورة للمدرسة المهدیة و مقابلة لمقبرة العلمین شیخ الطائفة الطوسی و السید بحر العلوم. و تعرف ایضا بالمدرسة الفتحیة نسبة الی بانیها (فتح علی خان الشیرازی) قوام الملک و قد تم بناؤها سنة 1300 ه. و کانت تحتوی علی 26 غرفة، فی صف واحد غیر ان «طرف الشمال» منها الذی کان ذا طابقین قد آل الی الانهدام فتصدی لتعمیره الشیخ نصر اللّه الخلخالی علی نفقته و نفقة بعض المحسنین و هو الیوم مشغول بتشییدها لاحیائها من جدید.
و قد کانت لها الی زمن قریب اوقاف کثیرة تصرف علی طلابها شهریا و سنویا، و کانت فی جانبها ساحة یلج الیها الداخل من ممر باب المدرسة و قد اعدت هذه الساحة للطبخ و الطهی فی بعض المناسبات و خصوصا فی لیالی رمضان و المحرم. و قد انقطع واردها الیوم فانقطع الاطعام، و رأینا علی جبهة بابها ابیاتا عربیة و مطعمة بالفارسیة و فیها ثلاثة تواریخ عن تأسیس هذه المدرسة منها: موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌7 ؛ ص141
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 141 یا من بنی هذا الاساس المتین‌إنا فتحنا لک فتحا مبین
بعهد خاقان فلک بارکاه‌ناصر دین خسرو ایران زمین
تاج السلاطین سراج الملوک‌و العروة الوثقی و حبل المتین .. الخ
سألت عن تأریخ هذا البناءفقیل لی أضف الی: «الغین شین)

مدرسة الایروانی

مدرسة شهیرة معروفة واقعة فی محلة العمارة بجنب دار الزعیم الروحانی السید ابی الحسن الاصفهانی، و هی ذات طابقین تشتمل علی تسع عشرة غرفة و فی جنب بابها فی الطرف الشمالی مقبرة مؤسسها الحاج مهدی الایروانی الذی شادها علی ید الشیخ ملا محمد الایروانی علی ارض مساحتها نحو (300) مترمربع. و قد کمل بناؤها فی سنة 1307 ه ثم أوقفها بأمر الشیخ الایروانی و جعل تولیتها بید الفاضل، ثم من بعده بید انجاله و اولاده علی التعاقب. و عدد طلابها 24 طالبا جلهم من الاتراک. و قد خصها لسکنی الطلاب الاتراک فقط و لا سیما أهل (ایروان) و ذلک لسبب حادث وقع أمام الباذل علی بنائها، و هو ان هذا الباذل کان عند الشیخ الایروانی حین جاءه طالب ترکی و شکا الیه ما لقی من معاملة طلاب المدرسة التی یسکنها حتی طردوه منها.
و هنا هاجت اریحیة هذا المحسن و فی الحال أمر بشراء هذه الدار و بناها مدرسة للاتراک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 142
أما معیشة طلابها فهی مما تنفقه علیهم المراجع الروحانیة من رواتب و خبز و احیانا مما یصل لوکیل المدرسة من الحقوق الشرعیة لانفاقها علی سکانها من الطلاب الاتراک. أما عدد طلابها فهم عشرون طالبا فی الوقت الحاضر.
و قد کانت لهذه المدرسة شهرة فی احدی معارک الزکرت و الشمرت اذ کان کاظم صبی قد اتخذ منها قلعة احتمی بها فی المعرکة و هاجم منها آل السید سلمان فی مذبحة دارت الدائرة فیها علی الشوافع من انصار آل السید سلمان.

مدرسة المرزا حسن الشیرازی

شیدت هذه المدرسة علی ارض لا تزید مساحتها علی (120) مترا مربعا و بناها المرجع الروحانی الکبیر السید مرزا حسن الشیرازی نزیل سامراء و ذلک سنة 1310 ه. و قد انفق علی بنائها أحد أثریاء الهند و المقلدین للسید الشیرازی، و هی واقعة بجنب (باب الطوسی) من ابواب الصحن الحیدری الشریف من جهة الشمال و المتصلة من جهة الجنوب بجدار الصحن.
و المدرسة صغیرة ذات طابقین بنیت فی الطابق الثانی منها ثمان غرف یسکنها عدد من طلبة العلوم الدینیة و فی الطابق الارضی شیدت مقبرة الامام الشیرازی و فیها حوض وسیع بنی خصیصا لوضوء المصلین و الزائرین الذین یفدون للزیارة من باب الطوسی.

مدرسة الحاج مرزا حسین الخلیلی الکبری

مدرسة واسعة الساحة تبلغ مساحتها (600) مترمربع و موقعها فی رأس شارع السلام فی محلة العمارة، و فی جوار مرقد الشیخ خضر شلال.
و تعرف عند العامة بمدرسة القطب لان مؤسسها الحاج میرزا حسین الخلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 143
کان قد اشتراها من صاحبها السید علی القطب، و کانت قیصریة فی ایام القطب یشغل حوانیتها الخیاطون. و قد اشتراها الشیخ الخلیلی بمال معتمد السلطنة (امیر بنج) و قد کمل تشییدها سنة 1316 ه و فی نفس السنة اجریت وقفیتها. و قد شاهدت فی بعض المجامیع الخطیة تأریخا لعام تکمیل تعمیرها لم یذکر فیه اسم المؤرخ الناظم و هو:
دار علوم لذوی التحصیل‌عمرها الحسین ذو التبجیل
قد قیل لما کملت ارخ (لهامعهد علم شاده الخلیلی)
1316 ه
و فی جهة الجنوب الشرقی من المدرسة عمر امیر تومان صمصام الملک العراقی المقبرة الشهیرة باسم مقبرة الخلیلی، و هی المقبرة التی دفن فیها ایضا هذا المعمر الی جانب الشیخ الخلیلی، ثم شاد الجهات الثلاث الاخر من المدرسة مجد الدولة جهان کیر خان. و هی ذات طابقین من جهاتها الاربع و عدد غرفها (50) غرفة مبنیة بالکاشانی و فی هندسة سداسیة، و فیها سرداب یدور حول جهاتها الاربع.
جانب من مدرسة الخلیلی الکبری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 144
أما باب المدرسة فهو من جهة الشمال الشرقی علی الشارع المعروف بشارع السلام.
و قد استخرجت من الجانب الشرقی ثمانیة دکاکین وقفت علی مصاریفها الضروریة من کهرباء و ماء و اجور خدم، و عدد طلابها الیوم (85) طالبا.
و قد انشئت فیها مکتبة عامرة للطلاب فیها من الکتب القیمة ما یربو علی (1000) کتاب و کانت لهذه المدرسة مکانة مرموقة فی المجتمع اذ کانت عامرة بالفضلاء و العلماء المبرزین یوم کان مؤسسها الخلیلی المرجع الروحانی الکبیر، و لا تزال تضم نخبة من الفضلاء و الادباء و هم یصدرون من هذه المدرسة سلسلة شهریة بعنوان (مختارات اسلامیة) تتضمن فلسفة الفکرة الاسلامیة و البحوث الدینیة باقلام کتابهم و یشرف علیها السید عبد الکریم القزوینی. و لهذه المدرسة تأریخ حافل فی مختلف القضایا الدینیة و السیاسیة فقد کانت محل اجتماع العلماء کلما کان یجد ما یستوجب ذلک. و قد احتفل بها العلماء سنة 1227 فی 2 رجب عند خلع محمد علی شاه القاجاری و نصب ابنه أحمد شاه مکانه. و اشترک فی هذا الاحتفال الایرانیون و العثمانیون فکان احتفالا تأریخیا مشهودا.
و قد کان وقفها فی 17 ذی القعدة سنة 1316 کما یحکیه صک الوقفیة المختوم بخواتیم علماء عصره کالاخوند الملا محمد کاظم الخراسانی، و السید محمد کاظم الیزدی، و الشیخ محمد طه نجف، و غیرهم من مشاهیر العلماء و قد اخرجت هذه المدرسة اعلاما فی الفقه و الشعر و الادب و کانت لهم شهرة کبیرة منهم الشیخ محسن شرارة، و عباس الخلیلی، و احمد الصافی النجفی، و محمد علی الحومانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 145

مدرسة البخاری

تقع فی محلة الحویش ملاصقة لمدرسة الاخوند الکبری و تبلغ مساحتها (300) مترمربع قام بتعمیرها محمد یوسف البخاری و هو من اصحاب الوزیر (خان میرزا) و قد بنیت علی ید الشیخ کاظم البخاری، و فرغ من تشییدها سنة 1319 ه. ثم آلت الی الانهدام حتی کادت تغلق، فتدارکها الحاج غلام الکویتی الشیرازی، و وصی بأن تبنی من ثلثه بعد وفاته. و هکذا فعل ورثته و اعانهم علی اکمالها بعض المحسنین الآخرین فکمل بناؤها من اطرافها الثلاثة عدا الطرف الشمالی منها و هی تحتوی الیوم علی (19) غرفة من طابقین، و فی الطرف الآخر من الجنوب قاعة للاجتماع و الدرس و فیها مکتبة صغیرة خاصة بالطلاب و هی جدیدة الانشاء. اما تجدید بنائها فقد تم سنة 1380 ه. و عدد طلابها (40) طالبا اذ یسکن فی کل غرفة طالبان او ثلاثة لان بعضهم یحضرون فی الغرفة للدرس و المطالعة فقط، و یذهبون لیلا الی دورهم الخاصة. و المدرسة هذه مبنیة من الحدید و الکونکریت الیوم و علی الطراز الحدیث من هندسة المدارس الجدیدة.

مدرسة الشربیانی

من المدارس الشهیرة فی النجف الاشرف لما ضمت من الفضلاء و العلماء البارزین فی الحوزة العلمیة، و هی واقعة فی محلة الحویش فی آخر الشارع من مدرسة السید محمد کاظم الیزدی و المعروف سابقا (بشارع الهنود).
و کان الشیخ محمد المعروف بالفاضل الشربیانی قد اختطها فی سنة 1320 ه، ثم شادها من تبرعات أصحابه و مقلدیه التجار الاتراک فی ابان زعامته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 146
الدینیة، و هی ذات طبقة واحدة لا تتجاوز غرفها العشرین غرفة و قد اصبحت لتقادم عهدها شبه متداعیة و تحتاج الی تعمیر و ترمیم و مع ذلک فانها لم تزل مسکونة من قبل عدد من الطلاب.

مدرسة الخراسانی الکبری

مدرسة وسیعة ذات مکانة فی المجتمع العلمی لما ضمّت من أهل العلم و الفضل، تقع فی محلة الحویش و فی الشارع المبتدی بالساحة المعروفة (بفضوة الحویش) و المنتهی بباب سور البلد القدیم المسمی (بباب السقائین) مساحتها (730) مترا مربعا ذات طابقین و غرفها (48) غرفة، و کلها معمورة بالطلاب و عددهم یناهز (100) طالب و فی کل غرفة طالبان یسکنها احدهما نهارا للتدریس و البحث و الثانی لیلا للمطالعة و النوم، و فی الطابق الثانی من الشرق مکتبة عامرة تقدر کتبها بنحو (2000) کتاب مع بعض المخطوطات الاثریة القیمة.
و فی زوایاها الاربع ساحات صغار فیها عدد من الغرف الصغیرة و جدرانها محلاة بالقاشانی الثمین، و قد اسست سنة 1321 ه و کان المنفق علی عمارتها الوزیر الکبیر للسلطان عبد الاحد البخاری بأمر من الملا کاظم الخراسانی المرجع العام فی عصره و المتوفی سنة 1329 ه.
و قد أرخ بناء هذه المدرسة بعض شعراء عصره کما هو مکتوب علی بابها بقوله:
مدرسة (الکاظم) قد أرخوا (اساسها علی التقی و الرشاد) 1321 ه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 147
مدرسة الاخوند الکبری و قد جللها السواد بمناسبة یوم عاشوراء
و کان من اشهر طلاب هذه المدرسة فی العقد الرابع من هذا القرن هو السید ابو القاسم الخونساری العالم الکبیر فی الفلک و الریاضیات و کان جمیع الطلاب یقصدونه لتلقی العلوم الریاضیة منه، و کان یتلقی علی ما نقل الناقلون عددا کبیرا من الرسائل من مختلف الجهات یسألونه فیها عن حل بعض المسائل الریاضیة و قد وضع قاعدة سهلة لمعرفة قابلیة القسمة علی العدد 7.
و قد ادرکناه کهلا لا یقل تضلعه بالریاضیات عن تضلعه بالفقه و الاصول.
و من اشهر طلاب هذه المدرسة السید کاظم و هو ممن حصل علی شهادة الدکتوراه فی القانون من السوربون و جاء الی النجف للحصول علی شهادة الاجتهاد، فاستعانت به المدرسة العلویة فی النجف لتدریس الفرنسیة و کان من انبغ اساتذة الفقه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 148

مدرسة الخلیلی الصغری

مدرسة صغیرة مساحتها (230) مترا ذات طابقین و عدد غرفها (18) غرفة محکمة البناء عدا الجانب الغربی منها فانه لا غرف فیه. و لکل غرفة من الغرف السفلیة فی الطابق الاول ایوان صغیر. اما الغرف العلویات فأمامها ممر مسقف، و عند مدخل المدرسة غرفة صغیرة و هی مقبرة الباذل لتعمیرها بأمر الحاج مرزا حسین الخلیلی و هو المرزا محمد علی خان الکرکانی.
و موقعها فی محلة العمارة فی الشارع الذی یبتدی‌ء بدار الامام الشیخ محمد رضا آل یاسین و ینتهی بدار الامام السید محسن الحکیم. و یجاورها من طرف الشرق الخانقاه الذی کان قد عمره السید محمد کاظم الیزدی و وقفه للزائرین.
و قد شید الیوم مدرسة بعد ان انتفت الفائدة المطلوبة منه بسبب کثرة الفنادق و المساکن.
و قد کان ابتداء تأسیس هذه المدرسة سنة 1322 ه و کانت التولیة بید أولاد الشیخ الخلیلی علی التعاقب. و الیوم یتولاها نجله الشیخ محمود الخلیلی و قد انشئت فیها مکتبة صغیرة لاستفادة الطلاب علی قدر حاجة الدرس و البحث و المطالعة.
و قد ارخ عام تأسیسها بعض شعراء عصره بقوله:
و بیت معارف شاد الخلیلی‌لاهل العلم اذ کان العمیدا
و لما تم حط الفضل فیه‌فأرخنا (لاهل الفضل شیدا)
1322 ه
و کان من فحول طلابها الشیخ حسین الزین العاملی و الشیخ حسین مروة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 149
و هو شیخ بلغ الاجتهاد و مع ذلک ظل ملازما سکنی هذه المدرسة.

مدرسة القزوینی

تقع هذه المدرسة فی محلة العمارة و فی سفح التل المعروف (بالطمة) و بالقرب من مسجد (الهندی) الشهیر و الذی یذکره المعمرون فی النجف ان هذا التل مجموع من الاتربة التی نقلت من الصحن الشریف عند بنائه و تعمیره و القیت هنا حتی صارت تلا و بقیت حیث هی و قد سمیت بالطمة.
و هذه المدرسة اسست علی ارض مساحتها تزید علی (300) مترمربع و ذلک فی سنة 1324 ه و کان الباذل علی تعمیرها الحاج محمد آغا الامین القزوینی- و هو من البیت المشهور باسم (الکروری) و کانت ارضها قبل ذلک خانا للمسافرین و الزوار و قیل انها کانت مفخرا للکیزان.
و هی مؤلفة من طابقین، فی الطابق الاول منها (15) غرفة أقیمت علی سقف السرادیب الممتدة فی اطراف العمارة دون ان یکون لها ایوان امامها کسائر المدارس. و الطابق الثانی الاعلی و فیه (18) غرفة و امام هذه ممر یحوطها من جمیع جهاتها الاربع و قد عمر الجانب الجنوبی منها الذی کان قد اشرف علی الانهدام محسن من أهل الکویت، و احدث فی وسط هذا الجانب و مقابل باب المدرسة مکتبة رأینا فیها ما یناهر (700) کتاب، و کان تأریخ تجدید بنائها من قبل هذا المحسن الکویتی فی سنة 1384. و قد وقف علیها الباذل اراضی زراعیة فی ایران لیصرف ریعها سنویا علی الطلاب و بعض حاجیاتها الضروریة و فی نیة بعض تجار قزوین الذین زاروا النجف ان یجددوا تعمیر باقی جهاتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 150

مدرسة البادکوبی

مدرسة عامرة بطلاب العلوم فی محلة المشراق و فی الشارع المنتهی شرقا بساحة الامام مقابل مدرسة الغری الاهلیة و الممتد الی الغرب حتی ینتهی بالثلمة فی طرف العمارة و هو المسمی (بشارع زین العابدین) و بازائها من جهة الغرب مسجد کبیر شیده معمر المدرسة الحاج علی نقی البادکوبی فی حدود سنة 1325 ه عندما زار النجف و مکث فیها مدة تقارب السنة.
و هی ذات طابق واحد و غرفها لا تتجاوز 28 غرفة. و فی جنبها الشرقی ساحة صغیرة بمساحة (100) مترمربع بنیت فیها ثمان غرف اخری فی طابقین و لها طریق واسع یوصلها بهذه المدرسة. و کل هذه الغرف یسکنها طلاب بخاریون من أهل بخاری و بادکوبیون اتراک من قفقاسیة علی الاغلب و عددهم اکثر من عشرین طالبا.
و فی سنة 1383 ه هدمت الحکومة المحلیة ما یقارب النصف من هذه المدرسة عندما احدثت شارع (زین العابدین) المذکور و لم یبق من غرفها الیوم سوی (16) غرفة یسکنها مثل هذا العدد من الطلاب بعد ان بنی للمدرسة جدار حاجز عن الشارع. و قد بقیت هذه المدرسة علی قدمها من حیث البناء.

مدرسة الآخوند الوسطی

تقع هذه المدرسة فی محلة البراق علی شارع (الصادق) الحدیث و الممتد من شارع دورة الصحن الی خارج البلد من (ساحة الامام علی) و یفتح بابها من شارع آل الاعسم و هی من المدارس العامرة بأهل العلم معبدة الساحة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 151
بالرخام و منقوشة الجدران بالکاشی مساحتها (420) مترا مربعا ذات طابقین و عدد غرفها (36) غرفة و طلابها حوالی 60 طالبا و لها سرداب تحت الطبقة الاولی و فیه ثلاثة حمامات و لها مکتبة فی الطابق الثانی و عدد کتبها نحو (1300) کتاب. و قد سمیت الوسطی لانها متوسطة المساحة بین المدرسة الکبری و الصغری. و هذه المدارس الثلاث للزعیم الملا کاظم الخراسانی عمرها و قام بمصاریفها الوزیر البخاری (استان قلی بک) وزیر السلطان البخاری عبد الاحد الذی عمر مدرسة السید محمد کاظم الیزدی. اما سنة تأسیسها و تعمیرها فهی سنة 1326 ه و قد ارخ ذلک الشیخ ابراهیم اطیمش بقوله و هو مکتوب علی بابها بالکاشانی:
هذی مدینة علم‌و باب سر العوالم
للعلم شیدت فأرخ لمعدن العلم کاظم)
1326
و قد اکتسبت هذه المدرسة شهرة کبیرة بمن سکنها من رجال العلم و بمن خرجت من العلماء و المجتهدین، و قلما توفرت الشروط الکاملة للطلاب المجدین کما توفرت لطلاب هذه المدرسة. و من طلابها الذین سکنوها و درسوا فیها کان الشیخ نصر اللّه الخلخالی القائم الیوم بالانفاق علی اکثر المدارس الدینیة و طلابها فی النجف.

مدرسة السید کاظم الیزدی

هذه المدرسة من اشهر المدارس فی النجف الاشرف عمارة، و زخرفة، و فخامة، تقع فی محلة الحویش و فی الشارع الواقع بین شارع الرسول فی الشرق و سوق الحویش فی الغرب و قد بنیت بناء بدیعا و فی هندسة رائعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 152
کانت فی وقتها و لا تزال حتی الیوم مضرب المثل. ارضها مبلطة بالرخام الصقیل و جدرانها مکسوة بالحجر الکاشانی البدیع. و فیها من فن الهندسة و الریازة ما جعلها محط انظار السواح و الزائرین، و تحتوی علی (80) غرفة فی طابقین. و امام کل غرفة ایوان صغیر کهندسة سائر المدارس المشیدة فی النجف الاشرف منذ العصر الصفوی، و لها عدة سرادیب محکمة جمیلة باردة الهواء. و ارض هذه السرادیب و الجدران مکسوة بالحجر الکاشانی، و تعتبر هذه السرادیب المبنیة طابقا فوق طابق من اغرب العمارات و افخمها تحت الارض. یزورها فی کل سنة عدد من السواح فیعجبون بهذه العمارة القائمة تحت الارض. أسسها و عمرها بأمر الامام السید محمد کاظم الیزدی الوزیر البخاری (استان قلی) الذی عمر مدرسة الاخوند الوسطی علی ارض مساحتها (750) مترا مربعا. و قد ابتدأ بتعمیرها سنة 1325 ه و اکمل بناءها فی سنة 1327 ه و عند ما کمل تشییدها فضل من الاموال التی ارسلها الوزیر المذکور لتعمیرها مبلغ کبیر اشتروا به نصفا من حمامین، و أحد عشر دکانا و فندقا من سوق الخلخالی بقضاء الکوفة، کما ابتیعت لها أیضا سبعة حوانیت اخری رکن من أرکان مدرسة الیزدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 153
و خان هو الآن معمل لاستخراج الدبس من التمور مع ساحة کبیرة خلف هذا المعمل فی سوق الکوفة المتوسط. و قد اوقفت کلها علیها علی ان تصرف وارداتها فی شؤون المدرسة من ماء و کهرباء و ما تحتاجه من الاصلاحات. و قد کان المباشر لتعمیرها و الساعی فی ادارتها و تنظیمها السید محمد الیزدی نجل الحجة السید محمد کاظم الیزدی، و قد اسس فیها بعد اکمالها مکتبة عامرة بالمصادر المهمة و بعدد من المخطوطات القیمة.
و قد أرخ بناءها بعد الاکمال بعض الادباء و کتب التأریخ بالکاشانی علی جبهة الباب و هو:
قد ابهج المصطفی و عترته‌بذا و قالوا شیدت دعائمنا
یا طالبی فقهنا و حکمتنادونکم هذه معالمنا
مدارس الدین ارخوا (لکم‌جدّدها للعلوم کاظمنا)
و قال الشیخ علی المازندرانی مؤرخا ایضا:
أسسها بحر العلوم و التقی‌محمد الکاظم من آل طبا
و فی بیوت اذن اللّه اتی‌تأریخها (لکن بحذف ما ابتدا)
أی بحذف الواو التی ابتدأت بها الآیة، فان التأریخ یزید مع الواو ستة بحساب الجمل لدی المؤرخین و لذلک اشار المؤرخ الی حذف الواو لیصح التأریخ.
و من سکان هذه المدرسة شیخ جاء النجف طالبا للعلم من ایران و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 154
شاب لم یبلغ الثامنة عشرة فمکث فی النجف ستین سنة و لم ینل الاجتهاد.
و قد توفی فی اوائل العقد الرابع من هذا القرن و کان مضرب المثل للمتأخرین فی الدراسة.

مدرسة الهندی

مدرسة اقیمت علی ارض مساحتها (600) مترمربع فی محلة المشراق بجنب دور اسرة آل کمونه خدمة الروضة الحیدریة الشهیرة، مدخلها فی دریبة ضیقة طویلة یقع بابها فی آخرها و هی مؤلفة من طبقة واحدة و مجموع غرفها (22) غرفة. و طرفها الجنوبی متصل بمدرسة القوام المتقدمة الذکر.
و قد آلت الی الانهدام فأصلحها الامام السید محسن الحکیم قریبا و انما عرفت بمدرسة الهندی لان المحسن ناصر علی خان أحد أهالی (لاهور) من ملحقات بنجاب الهندیة کان قد اشتراها و شیدها مدرسة للهنود سنة 1328 ه و عدد طلابها الیوم لا یتجاوز (38) طالبا.

مدرسة الآخوند الصغری

موقعها فی محلة البراق. و فی الشارع المشهور بشارع (صد تومانی) و هی صغیرة مساحة ارضها (210) امتار مربعة ذات طبقة واحدة و فیها (12) غرفة فقط، امام کل غرفة ایوان صغیر و عدد طلابها (20) طالبا اکثرهم افغانیون. عمرها و شاد بناءها الحاج فیض اللّه البخاری خازندار الوزیر خان میرزا و قد کمل تعمیرها فی عام 1328 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 155

مدرسة السید عبد اللّه الشیرازی

تقع هذه المدرسة فی الجادة الخامسة من شارع الرسول الاعظم فی محلة الجدیدة احدی محلات النجف الحدیثة مساحتها (725) مترا مربعا و تحتوی علی (24) غرفة؛ و هی ذات طابقین من جهة الجنوب فقط و عدد طلابها (30) طالبا و فیها مکتبة علی رغم صغرها تکفی طلابها. و موقع هذه المکتبة فی الطابق العلوی و لا یتجاوز عدد کتبها فعلا (800) کتاب و هی خاصة بالطلاب لغرض الدرس و المطالعة، و لها نظام داخلی خاص بسیر طلابها.
أسسها و سعی فی تعمیرها السید عبد اللّه الشیرازی عام 1372 ه من تبرعات المحسنین و ذوی الثراء من محبی الخیر و لا سیما الایرانیین. أما نفقات طلابها و معیشتهم فیجریها المؤسس نفسه و بعض المراجع العالیة من العلماء فی النجف الاشرف.

مدرسة البروجردی الکبری

تقع هذه المدرسة التی تضافر علی هندستها و بنائها ابداع الفن الایرانی و الفن الهندی فی محلة البراق و فی الشارع المتوسط بین سوق التجار و شارع الدورة المحیط بالصحن الشریف فی الطرف الشرقی من الصحن. و مساحتها (700) مترمربع ذات اربعة طوابق. اما الطابق الاول فهو السرداب الواسع و المحتوی جانب منه علی ثلاثة حمامات صیفیة. و اما غرفها فعددها اثنتان و ستون غرفة و کلها فی الطابق الثانی و الثالث و الرابع دون ان یکون لکل غرفة ایوان کغیرها من المدارس الاخری. و عند مدخل المدرسة ساحة صغیرة فی طابقین. اما العلوی ففیه عدد من الغرف و الطابق الارضی فیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 156
أحد أرکان مدرسة البروجردی و تری صورته معلقة فی الطابق الثانی
غرف للخدم و مداخل للسرداب و سلم للطبقة الثانیة و کل غرفة مؤثثة بالسجاد الایرانی الذی حیک خصیصا لها فی ایران، و لها فی الطابق الاول قاعة محاضرات کبیرة، و صالة للصلاة و البحث و التدریس کما ان لها فی الطابق الثانی مکتبة عامرة منظمة احسن تنظیم و حافلة بالکتب القیمة العلمیة و الفقهیة و بعض المخطوطات القدیمة، و عدد کتبها نحو (8000) کتاب.
و عدد طلابها (60) طالبا یسکن کل طالب فی غرفة واحدة و یشترط فی قبوله فیها ان یکون من متوسطی الدراسة الدینیة و بشهادة یحملها من أحد الاعلام، و ان یکون مجردا من العائلة. و هؤلاء الطلاب کانوا یتقاضون مرتبا شهریا کل بحسب درجته العلمیة فی زمن مؤسس المدرسة الامام السید حسین البروجردی. و یعین الیوم السید أحمد الخونساری القاطن بطهران لکل طالب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 157
من طلابها دینارا واحدا فی کل شهر، و تدفع المراجع العالیة من العلماء مخصصات اخری لهؤلاء الطلاب.
و قد کان تأسیسها سنة 1373 ه. و المباشر المشرف علی بنائها هو الشیخ نصر اللّه الخلخالی، و هو نفسه المتولی علیها الآن بالاشتراک مع السید محمد حسن البروجردی نجل الامام البروجردی فیقومان بتنظیم امورها و ادارة شؤونها. و قد ارخ عام اکمالها الشیخ محمد تقی الجواهری ذاکرا اسم المؤسس و المباشر اذ قال:
و جامعة بجنب الطهر شیدت‌لترعاها من الکرار عین
فأرخها (علی التقوی بناءبنصر اللّه اسسها حسین)
و أرخها السید موسی بحر العلوم بقوله و قد کتبت بالحجر الکاشانی داخلا
هذه مدرسة شیدت لمن‌طلب العلم و من ادی فروضه
اسسته ید أعلی مرجع‌زاده اللّه من الجاه عریضه
للحسین بن علی اجرهاجبر اللّه به الحق مهیضه
و عن الصادق قد ارختها(طلب العلم کما جاء فریضه)
و أرخها السید محمد الحلی بقوله:
و عظیم قد سمت اعماله‌فغدت تجلب للناس الرشادا
کیف لا یسمو لدی اللّه و قدشاد للعلم و للدین العمادا
سید عمّ البرایا نفعه‌فلذا عظمه الناس وسادا
ان یفز بالفخر تاریخی (له‌فحسین معهد التدریس شادا)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 158

مدرسة العاملیین

تقع هذه المدرسة فی محلة الجدیدة التی حدثت فی جانب خان المخضرات و قد اسست علی ارض مساحتها (1500) مترمربع تحتوی علی (40) غرفة؛ منها سبع عشرة غرفة علی جانبی مسلک باب المدرسة فی شرقها و غربها.
و فیما بین کل صفین من الغرف صالون وسیع، ثم بعد هذه المجموعة ساحة کبیرة؛ و فی مقابل هذین الجناحین من الغرف المذکورة بنیت حدیثا غرف اخری و عددها 23 غرفة غیر انها لم تسکن بعد اذ لم تکمل تماما.
و فی هذا البناء الجدید ایوانان واسعان شمالی و جنوبی، و قاعة کبیرة تحتها سرداب بمساحة (200) مترمربع، کما بنیت فیه مکتبة و صالون للمطالعة و غرفة لادارة المدرسة.
اما طلابها فعلا فعددهم (26) طالبا و اکثرهم عاملیون من جبل عامل بلبنان.
و کان الساعی فی انشائها و صاحب الفکرة الاولی هو الشیخ محمد تقی الفقیه العاملی، فانه بعد استشارة اخوانه العاملیین و موافقتهم علی شد ازره رفعوا ذلک الی السید محسن الحکیم، فأقرهم علیه و تبرع لهم اولا بمبلغ (1500) دینار حین شرع فی بنائها بعد شراء الارض سنة 1377 ه.
ثم ذهب فریق من العاملیین فی وفد الی الکویت و جمعوا لها من تبرعات المحسنین هناک مبلغا وافرا ساعدهم علی تشییدها و ما زالوا یسعون فی اکمالها.
و متولیها الیوم هو صاحب الفکرة المؤسس الشیخ الفقیه و وکیله فی النجف هو الشیخ العسیلی. أما نفقات هؤلاء الطلاب فهی من المراجع الدینیة و بعضها من اهالیهم فی جبل عامل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 159

المدرسة الطاهریة

مدرسة کبیرة الساحة تبلغ مساحة ارضها (3000) مترمربع تقع فی الجادة (13) من شارع الرسول الاعظم و هی فی رکن تحیط بجوانبها الاربعة جادات واسعة.
اسسها السید عبد اللّه الشیرازی بعد اشادة مدرسته الاولی و کان ذلک فی عام 1377 و بنی فیها حتی الآن (14) غرفة و اسکن فیها 14 طالبا و لا یزال یجد فی اکمالها. و قد اسماها (بالطاهریة) نسبة الی جده السید طاهر الشیرازی.

مدرسة البروجردی الصغیرة

تقع هذه المدرسة المشیدة علی ارض مساحتها (350) مترا مربعا فی رأس سوق العمارة الصغیر. الذی ینتهی بشارع دورة الصحن مقابل باب الصحن المسمی (بالباب السلطانی) نسبة الی السلطان ناصر الدین شاه القاجاری الذی فتحه عند زیارته للنجف الاشرف و قد کانت دارا معروفة باسم (بیت القاضی) ذات طابقین تشبه فی هندستها مدرسة البروجردی الکبری و عدد غرفها (20) غرفة و طلابها اربعون طالبا. و فی کل غرفة یسکن اثنان من الطلاب، و قد تبرع بشراء ارضها و تعمیرها السید هاشم البهبهانی بأمر من الامام الحاج آغا حسین البروجردی، کما عین لکل طالب فیها دینارا واحدا شهریا مشترطا فی نظامها الداخلی ان لا یکون الطالب رب عائلة أو رب دار فی البلد. و قد کان اکثر سکانها من الباکستانیین. ثم عین السید هاشم لکل غرفة من غرفها سجادة ایرانیة علی قدر مساحة الغرفة. و جعل المتولی علیها الشیخ نصر اللّه الخلخالی. و قد کان تأسیسها فی عام 1378 ه و أرخها الخطیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 160
السید علی الهاشمی بقوله. و قد کتب التأریخ بالحجر الکاشانی علی الجبهة المقابلة للداخل:
معهد علم بالغری شاده‌الهاشمی هاشم بن أحمد
باسم فقیه العصر موئل الوری‌سیدنا (الحسین) فخر المقتدی
نادی به رائد ارباب الهدی‌ارخ (لقد شید خیر معهد)
1378

مدرسة الرحباوی

تقع هذه المدرسة فی محلة الجدیدة فی الرکن الذی هو عند ملتقی شارع المدینة و شارع الهاتف؛ مساحتها (1000) مترمربع و بابها من جانب الشمال من شارع المدینة.
اسسها صاحبها الحاج عباس محسن ناجی الرحباوی النجفی سنة 1378 ه باسم الحسینیة أولا، ثم رجح له ان یبنی فیها غرفا لطلاب العلوم لتکون اکثر نفعا و اعم فائدة فبناها فی طابق واحد و جعل فی جانبیها الشرقی و الغربی اثنتی عشرة غرفة اسکن فیها ما یزید علی العشرین طالبا. ثم ابتنی فی الجنوب حسینیة بمساحة (200) مترمربع و خصها باقامة مأتم الحسین فی الاوقات المناسبة علی ان تکون فی عین الوقت قاعة محاضرات و مصلی للطلاب.
ثم عیّن لها اوقافا یصرف ریعها فی حاجاتها الضروریة و ان اوقافها هذه:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 161
ستة حوانیت من خارجها مع دار صغیرة فی جانبها.
و یشرف علیها الیوم نفس مؤسسها الحاج عباس و لها وقفیة و نظام للمتولی و للطلاب.

مدرسة الجوهرجی

اسس الحاج محمد صالح الجوهرجی فی محلة المناخة فی شارع المدینة فی النجف الاشرف مسجدا واسعا کبیرا و بجنبه حسینیة ثم اخرج منها (12) دکانا و بنی فی جوارها حماما للرجال باسم (حمام الکوثر) و جعل هذه المنشآت کلها وقفا للمسجد و الحسینیة غیر انه رأی اخیرا ان الانفع و الاصلح للوقف و ادامته و منعا لتضرر المجاورین من وجود الحمام و تسرب میاهه الی اسس دورهم ان یزیل الحمام و یضیف مساحته الی الحسینیة مع قسم من ارض ملکه المجاور و هکذا فعل و اعاد بناء المسجد بأقوی مما کان و جعله حرما و جعل الساحة (حسینیة) و حرم المسجد صفحة من الطابق الثانی و المکتبة فی مدرسة الجوهرجی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 162
هذا واقع فی الطابق السفلی من الساحة، و شید علی القسم الباقی المحیط بالمسجد و الحسینیة من الجهات الاربع خمسین حانوتا و بنی فی الطابق العلوی فوق الحوانیت المذکورة مدرسة لطلاب العلوم الدینیة تتألف من اثنتین و خمسین غرفة و کلها الیوم مسکونة بالطلاب و قد بنی لهم حماما عصریا فی الطابق الثالث ثم وقف جمیع هذه المنشآت وقفا خیریا یصرف واردها علی لوازم المسجد، و الحسینیة، و المدرسة، و المکتبة، و المقبرة، فی اجور ماء، و کهرباء و خادم، و قراءة قرآن، و امامة المسجد و ما تحتاج المکتبة من راتب الناظر و الامین الی غیر ذلک.
و قد أرخ عمارة مسجدها محمد جواد مطر بابیات مکتوبة بالکاشانی علی جبهة بابه و هی:
صالح ما اسس مسجدا هناإلا و فی الجنة بیتا أسّسا
فقلت فی التأریخ (زده انه‌لمسجد علی التقی تأسّسا)
3- سنة 1382 ه

مدرسة جامعة النجف الدینیة

اسست هذه المدرسة فی محلة (حی السعد) احدی محلات النجف الواقعة علی طریق (الکوفة و النجف) و شیدت علی ارض مساحتها (5000) مترمربع و قد شرع فی بنائها فی سنة 1376 ه و استمر التعمیر حتی سنة 1382 ه.
و قد کانت فکرة تأسیسها و القیام بتنفیذ هذا المشروع تعود للسید محمد اسولموی الشهیر (بکلانتر)، اما الباذل علی تعمیرها فهو المحسن الحاج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 163
محمد تقی اتفاق الطهرانی و قد انفق علیها من خالص ماله و لیس من الحقوق الشرعیة و ارصد لها مبلغ (150) الف دینار عراقی، اما ما انفق علیها من الضروریات و الکمالیات بعد اکمالها فقد کان کثیرا جدا، و قد اشتریت ارض المدرسة، و عمرت و سجلت بالطابو باسم المباشر السید محمد کلانتر.
اما نفقاتها الحالیة و نفقات طلابها فانها تجری من نفس المؤسس و من بعض تبرعات المحسنین، و فی نیة المؤسس ان یوقف لها و لا عاشة طلابها موقوفات من املاک و اراض زراعیة تدر علیها و علیهم سنویا ما یضمن لها و لهم سد الحاجة کما عین للطلاب نظرا لبعدها عن الصحن و حوزات التدریس فی داخل البلد سیارة ذات (24) مقعدا تحمل الطلاب من المدرسة الی الصحن ثم تعود بهم الی مدرستهم کل یوم صبحا و عصرا و لیلا.
و هذه المدرسة تحتوی علی (208) غرف للسکن قائمة فی ثلاثة طوابق عدا الطابق الارضی الذی هو عبارة عن سردابین یقعان تحت بنایة العمارة، و ثلاثة سرادیب واسعة اخری تقع تحت صالوناتها و فیها مرافق واسعة للطبخ و الغسیل.
اما الطابق الاول فمنه مدخل المدرسة و علی یمین الداخل الی المدرسة شیدت مکتبة بمساحة (225) مترا مربعا فی طابقین. و قد وضعت قماطر الکتب فی الطابق العلوی، و اما المساحة السفلی فهی للمطالعین یجلسون علی کراس و مناضد خاصة اعدت لراحتهم، و علی یسار الداخل یقع مسجد الجامعة البالغة مساحته (225) مترا مربعا اعد لاداء الصلوات الخمس و التدریس، و البحث و الحفلات الدینیة الخاصة، و بجانب هذا المسجد غرفة لقلم الجامعة تقع تحتها مقبرة خاصة للمؤسس و عائلته و للمتولی الفعلی السید محمد کلانتر وحده.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 164
أحد أرکان مدرسة الجامعة
و فی وسط المدرسة ساحة کبیرة و فی جانبها ردیفان من الغرف یفصل بینهما صالون کبیر و مثله فی الجانب الغربی من الساحة کما تری فی الجانب الشمالی و الجنوبی غرف امامها ایوانان کبیران مسقفان، و مجموع غرف الطابق الاول (62) غرفة و فیه ثمانیة حمامات و اثنتا عشرة مغسلة أما الطابق الثانی فیشتمل علی (54) غرفة و ثلاث قاعات للتدریس تقع فی الجهة الغربیة منها، و فی جهتی هذا الطابق الغربیة و الشرقیة صالونان کبیران بین ردیفین من الغرف کالطابق الاول و فیه ثمانی حمامات و اثنتا عشرة مغساة.
اما الطابق الثالث و فیه (92) غرفة و صالونان کبیران فی الشرق و الغرب یتصلان ایضا بین ردیفین من الغرف کالسابق و فیه ایضا ایوانان وسیعان شمالا و جنوبا و ثالث دائری مسقف فی جهة الشمال.
و المتولی لامورها هو السید محمد کلانتر بالوکالة عن مؤسسها و متولیها الاصلی و المدرسة مقیدة بأنظمة الامتحانات و یمنح الناجح منهم بدرجة الامتیاز زیادة فی راتبه و مخصصاته و تعتبر هذه المدرسة الیوم افخم و اوسع مدرسة بنیت فی تأریخ مدارس النجف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 165

مدرسة عبد العزیز البغدادی الدینیة

مدرسة متقنة البناء اسست علی ارض مساحتها (1900) مترمربع تقع فی مقدمة محلة حی السعد من المدینة و فی رکن یجعل جانبها الجنوبی علی الشارع الرئیسی بین الکوفة و النجف و الجانب الغربی علی طریق کربلاء و منه طریق بابها و قد شیدت فی طابقین عدا الطابق السفلی المشتمل علی سردابین کبیرین مجهزین بعدد کبیر من المراوح الکهربائیة مبالغة فی راحة الطلاب صیفا.
اما الطابق الاول الذی منه طریق الباب فانه یشتمل علی ساحة کبیرة تحیط بها خمسون غرفة و فی اطراف الساحة و زوایاها عشرة حمامات، و مطبخان، و عدد من المغاسل ثم قاعة کبیرة للمحاضرات و قاعة اخری للحفلات، و فیها مسجد لاداء الصلوات الخمس یقع فی الرکن الذی یفصل إحدی جهات مدرسة عبد العزیز البغدادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 166
بین شارع الکوفة و شارع کربلا، و تحته مقبرة خصها مؤسسها و واقفها الحاج عبد العزیز البغدادی بنفسه و أهل بیته و بجانب هذا المصلی محل للوضوء.
و فی الطابق الثانی العلوی اثنتان و خمسون غرفة و عشرة حمامات و مغاسل و مطابخ علی غرار الطابق الاول فیکون مجموع غرفها (102) غرفة و کلها عامرة بالطلاب الفضلاء. و قد جهزها مؤسسها بالفرش و الاثاث الکامل من المکیفات الهوائیة الاتوماتیکیة و تبرید الماء و المراوح.
و تحیط بهذه المدرسة حدیقتان جانبیتان غربا و جنوبا کما شید بجنبها دار سکنی للقائم بادارتها و لزائریها من آل (البغدادی) و اصدقائه، و اخوانه.
و هی مشرفة علی الحدیقة، و بعد ان تم بناء هذه المدرسة قرر مؤسسها وقف عمارة کبیرة بشارع الرشید، فی بغداد علیها. و قد افتتحها بحفلة کبیرة حضرها الامام السید محسن الحکیم کما حضرها وفود من انحاء العراق و کان ذلک فی یوم 28 جمادی الثانیة سنة 1383 ه و قد جعل تولیتها لنفسه ما دام حیا و من بعده لولده کامل و جعل ابنیه رؤوفا و عبد الجبار، ناظرین علیه.
و قد أرخ سنة انتهاء تعمیرها بعض الشعراء بقوله:
عبد العزیز عندما أسسهامدرسة دینیة و شیدا
رام له الحکیم ان یعظم فی‌الدنیا و فی اخراه ان یخلدا
فبلدة الغری ارخنا (بهاعزیز بغداد اقام معهدا)
سنة 1383 ه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 167

مدرسة الافغانیین

مدرسة حدیثة البناء واقعة فی محلة (الجدیدة) اختصت بالافغانیین و البلوجیین البربر، و هی واقعة فی وسط الدور التی یسکنها الافغانیون و البربر علی الغالب و خلف حدیقة (غازی) الکبیرة کانت ارضها البالغة مساحتها (400) مترمربع ملکا للحاج الشیخ حسن الافغانی، فوقفها علی ان تکون مدرسة دینیة للطلاب منهم فعمروها بما جمعوه من تبرعات المحسنین منهم و من غیرهم و شرعوا فی بنائها سنة 1384 ه و شیدوا فیها سبع غرف فی الجانب الجنوبی منها بعد ان سورها و هی فی الطابق الاول السفلی فقط و بنوا امام کل غرفة ایوانا صغیرا علی طراز هندسة المدارس الدینیة فی النجف. و اسکنوا فیها سبعة طلاب من الافغانیین و البلوجیین اما المتولی لشؤونها الداخلیة و الخارجیة الیوم فهو السید عوض الافغانی و الشیخ محمد الرحمانی الافغانی الخراسانی و هما یبذلان المساعی لتعمیر جوانبها الاخری بناء علی شدة الحاجة لسکنی الطلاب الافغانیین.

مدرسة الیزدی الثانیة

تقع هذه المدرسة الجدیدة فی محلة العمارة متصلة من الغرب بمدرسة الخلیلی الصغری و من الجنوب بمدرسة الخلیلی الکبری، و کانت هذه المدرسة منذ خمسین عاما (خانقاها) بناه العلامة السید کاظم الیزدی للزائرین یوم لم یکن فی النجف الاشرف فنادق او أماکن عامة تسع الوافدین الیها، فاشتری الارض و هی دار لبعض العلویین و شیدها (خانقاها) بماله، و ببعض الحقوق الشرعیة التی تنطبق علی مثل هذه المشاریع.
و لما رأی نجله السید أسد الیزدی ان هذا الخان قد اصبح عاطلا و لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 168
فائدة فیه الیوم بسبب کثرة الفنادق و المساکن للوافدین و الزوار رجح فی نظره ان یشید هذا الخان المسمی بخان الوقف مدرسة لطلاب العلوم الدینیة الذین هم الیوم فی حاجة ماسة الی مساکن، فعرض الفکرة علی السید الحکیم و استفتاه فی جواز هذا التصرف و التغییر. فامضی رأیه و ساعده بمبلغ لاخراج الفکرة الی حیز العمل. و قد کملت الیوم بهیکلها العام و هی مدرسة جمیلة ذات طابقین شیدت علی ارض مساحتها (600) مترمربع و عدد غرفها (51) غرفة منها (25) فی الطابق الاول المقام علی سرداب کبیر و (26) غرفة فی الطابق الثانی و فی الطابق الاول قاعة محاضرات کبیرة و هی التی یطلق علیها اسم (المدرس)، و فی الجنوب الشرقی منها أربعة حمامات صیفیة و مغاسل و امام الغرف کلها فی کلا الطابقین ممر بعرض مترین و نصف متر مسقف بالحدید و الآجر و قائم علی أعمدة من الکونکریت و الاسمنت، و الحدید، و هی مدورة الشکل و قد زینت دورتها من اعالی السقف الدائر بالآیات القرآنیة مکتوبة بالکاشانی الملون البدیع. و قد شرع فی بنائها سنة 1384 ه و حتی الیوم و العمل لم یزل مستمرا فیها.
و قد کان لهذا (الخان) المذکور اوقاف تصرف وارداتها علیه فرجعت کلها الی المدرسة و هی عبارة عن اربعة دکاکین، و دارین، و فندق صغیر، و کلها متصلة بنفس المدرسة و تصرف ایجاراتها علی المقتضیات اللازمة من ماء و کهرباء و اجور خادم و ما الی ذلک من ضروریاتها.
و قد ارخ عام الابتداء فی تعمیرها السید موسی بحر العلوم بقوله:
بشری بها مدرسة عائدةعلی هواة العلم بالفائدة
اسسها (الکاظم) من حلمه‌بنیة راسخة القاعدة
ثنی بها مدرسة فاغتدت‌فی حسنها الثانیة الواحدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 169 فأصبحت عیدا لمن هاجرواللعلم و السکنی بها المائدة
وعدها الدهر بتأریخه من حسنات السید الخالدة)

مدارس تحت الانشاء

أ- مدرسة الحکیم:
واقعة فی محلة المشراق قرب الساحة الکبیرة المعروفة (بفضوة المشراق) البالغة مساحة ارضها (714) مترا مربعا اشتراها الامام الحکیم لیشیدها مدرسة و هی عبارة عن دارین احداهما دار أمین شمسه و مساحتها (484) مترا مربعا و الثانیة دار لطیف (ابو اصیبع) و مساحتها (230) مترا مربعا و سوف یشرع بتعمیرها قریبا ان لم یکن قد بوشر بتعمیرها الآن.
ب- مدرسة الکلباسی
دار اشتراها الشیخ محمد علی الکلباسی النجفی بماله و بسعیه من تبرعات المحسنین من ایرانیین و غیرهم، اشتراها من الاخوین التغلبیین الشیخ عبد الحسین و الشیخ عبد العزیز و هی واقعة علی شارع دورة الصحن الشریف و متصلة من جانبها الغربی بمدرسة البروجردی الصغیرة و یفصل بینها و بین سوق العمارة دار واحدة و مساحتها (147) مترا مربعا و قد هدمت الدار لیشرع فی تعمیرها.
ج- و لا یستبعد ان تشاد عدة مدارس کبیرة فی الربع القرن المقبل بناء علی هذه الحرکة النشطة البادیة فی تأسیس هذا العدد من المدارس خلال ربع القرن الماضی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 170

نموذج لکیفیة إجراء وقف المدارس الدینیة فی النجف

هذه صورة للوثیقة التی تم بها وقف مدرسة (عبد العزیز البغدادی کنموذج لکیفیة وقف المدارس الدینیة و قد کانت صیغة الوقف تجری فی السنین السابقة دونما حاجة لتصدیقها فی المحاکم، اما الیوم فان المراسیم تتطلب تسجیل الوقف و تصدیقه من قبل المحاکم الشرعیة علی هذه الوتیرة:
العدد 17- 1964 بسم اللّه الرحمن الرحیم
ان قاضی محکمة شرعیة النجف الشیخ حسن الشمیساوی المأذون بالقضاء باسم الشعب سجل ما هو آت:
قدم المستدعی الحاج عبد العزیز الحاج طاهر الحاج کاظم البغدادی عریضة لهذه المحکمة مؤرخة فی 5- 3- 64 تتضمن ما یلی: استنادا الی الحجة الوقفیة الصادرة من المحکمة الشرعیة الجعفریة ببغداد فی 19- 3- 1962 المرقمة 61 اساس 55- 962 المتضمنة ایقافه قطعة الارض المرقمة 404- 1505 البالغة مساحتها الف و تسعمائة مترمربع الکائنة فی مدینة النجف الاشرف بحی السعد وقفا خیریا علی ان یشید علیها بناء و محدثات حسب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 171
رغبته و تکون جمیعها وقفا خیریا وفق الشروط التی یشترطها عند اکمالها و ایقافها و حیث قام بالبناء و فرغ من تعمیرها و هی تتکون من مدرسة مشیدة من طابقین تحتوی علی ما یزید علی مئة غرفة و مکتبة و عشرة حمامات، و دورات میاه، و ساحة و مطبخین و تحیط بها حدیقتان جانبیتان علی طریق الکوفة و طریق کربلا، و مصلی یقع فی الزاویة التی تربط شارع الکوفة و شارع کربلا، و تحته مقبرة و بجانب المصلی محل للوضوء، کما شیدت علی الارض المذکورة دار فی الجهة الشمالیة، تحتوی علی غرف و مرافق صحیة و بجانبها حدیقة، و قد اوقف جمیع ذلک خیریا وفق الشروط الآتیة:
علی ان یکون اسم المدرسة- مدرسة عبد العزیز البغدادی الدینیّة الخیریة و ان الشروط هی:
ان تکون المدرسة وقفا للاغراض الآتیة:
أ- مدرسة للعلوم الشرعیة الاسلامیة. و للعلوم التی لا تتعارض مع الاحکام الاسلامیة.
ب- إقامة الاحتفالات الدینیة بواسطة ذکری موالید الائمة الاطهار، و وفیاتهم، و ذکری وفاة الصدیقة الزهراء، و مولدها، و اقامة عزاء الحسین، ثم بالمناسبات المعروفة و غیرها من الاغراض الدینیة، کحفلات عقود الزواج، و اقامة الفواتح، و کل حفلة و اجتماع لا یتعارض مع الاغراض الدینیة.
ج- لاسکان طلاب العلوم الدینیة، و العلوم المشروعة سواء کان الطالب یدرس فی المدرسة نفسها ام فی غیرها من المدارس الدینیة فی النجف الاشرف اذا توفرت فی الطالب الشروط الآتیة:
اولا- ان یکون الطالب متمتعا بالاهلیة الشرعیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 172
ثانیا- ان یکون حسن السلوک و السیرة و سالما من الامراض المعدیة.
ثالثا- ان لا یسبب الضرر للمدرسة او للطلاب المقیمین فیها.
رابعا- ان یتجنب البحث فی الامور غیر المشروعة لا سیما المتعلقة منها بالامور السیاسیة او العقائدیة التی لا تتفق و العقیدة الاسلامیة.
صفحة من مدرسة البغدادی و قد جللت بالسواد بمناسبة أیام عاشوراء
خامسا- لا یجوز استصحاب النساء و اسکانهم فی المدرسة بأی حال من الاحوال.
سادسا- ان یأذن له المتولی بالسکن او من یوکله المتولی.
سابعا- ان یستمر الطالب علی الدراسة او التدریس فی المدرسة او فی غیرها کما تقدم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 173
ثامنا- یجوز للمتولی او وکیله اخراج من أخل باحدی الشروط المذکورة او اذا اعتقد بان وجوده مضر غیر صالح.
تاسعا- للمتولی ان یشترط فی قبول الطالب شروطا اخری تقتضیها مصلحة المدرسة.
2- یکون المصلی وقفا عاما للمسلمین لاقامة الصلاة و تلاوة القرآن الکریم.
3- اوقف المقبرة لدفن آل البغدادی علی الوجه الآتی:
اولا- لدفنه و دفن زوجاته و اولاده ذکورا و اناثا و زوجاتهم و دفن الذکور من اولاد اولاده الذکور منهم دون الاناث.
ثانیا- لدفن شقیقاته و دفن الذکور من اولادهن دون أولاد اولادهن.
ثالثا- لدفن اولاد عمه الحاج صالح و اولاد الحاج حسن و اولاد عمه محمد علی ذکورا و اناثا و دفن اولاد اولادهم. و للواقف فی حیاته ان یأذن بدفن من یشاء و لیس للمتولی بعده ذلک.
رابعا- لقد اوقف الدار لسکنی المتولی و الزائرین لمرقد الامام علی علیه السلام من اولاده و اولاد عمومته و شقیقاته ما تعاقبوا و تناسلوا طیلة مکثهم فی مدینة النجف الاشرف بقصد الزیارة و یستثنی من هذا الشرط المتولی و وکیله اذ لهما الاقامة فیها حیث رغبا دون تحدید مدة و للمتولی ایجار الدار المذکورة اذا وجد فی ذلک نفعا و یصرف بدل ایجارها علی صیانة الاعیان الموقوفة کما تقدم اولا و علی ما یلزم من المصروفات علی المدرسة و مرافقها ثانیا، و للمتولی ان یأذن فی اسکانها من یشاء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 174
خامسا- لقد جعل المکتبة وقفا خیریا عاما علی المسلمین للمطالعة و تدار من قبل المتولی او من ینیبه المتولی لادارتها و للمتولی ان یشرع لها نظاما خاصا لادارتها و مسک سجلاتها و المحافظة علیها و تعیین من یقوم بالخدمة فیها.
سادسا- لقد جعل التولیة بیده ما دام حیا و من بعده تکون التولیة لولده کامل و یکون کل من ولدیه رؤوف و عبد الجبار ناظرین علیه، و مشرفین علی اعمال المتولی المتعلقة بتطبیق هذه الوقفیة، و للواقف ان یعین شخصا او اکثر بالاضافة الی المشار الیهم بصفة المتولی او الناظر کما له الحق فی عزلهم مدة تولیته، و بقائه علی قید الحیاة، و علی المتولی من بعده و الناظرین ان یعین کل واحد منهم من یخلفه بعد وفاته، مع وجوب مراعاة الشروط الآتیة:
أ- ان یکون من یخلف المتولی و الناظرین متمتعا بالاهلیة الشرعیة و معروفا بالتقوی و الصلاح و حسن الادارة.
ب- ان یکون من ذکور اولاد الواقف ثم الذکور من اولاد الذکور من اولاد اولاده ما تعاقبوا او تناسلوا طبقة بعد طبقة.
ج- اذا فقد الذکر من اولاد اولاده الذکور منهم تکون التولیة و النظارة للذکور فی اولاد الذکور من اولاد جده الحاج کاظم، ما تعاقبوا و تناسلوا طبقة بعد طبقة.
د- اذا فقد من یصلح للتولیة او النظارة کما تقدم تکون التولیة و النظارة للذکور من بناته طبقة بعد طبقة.
ه- اذا فقد من یصلح للتولیة کما فی البند (د) تکون التولیة و النظارة للذکر من اولاد اناث جده الحاج کاظم طبقة بعد طبقة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 175
و- اذا فقد من یصلح للتولیة و النظارة کما تقدم فعلی المتولی الاخیر و الناظرین ان یجتمعوا و بعد الیأس من وجود من یصلح للتولیة او للنظارة من ذریته و ذریة جده کما تقدم ان یعینوا بالاتفاق ثلاثة من صلحاء المسلمین الجعفریین القادرین علی ادارة العین الموقوفة و یکون احدهم متولیا و الآخران ناظرین علیه، و تسری بحقهم شروط التعیین کما تقدم، و علی کل واحد منهم ان یعین فی حیاته من یخلفه متولیا کان او ناظرا.
ز- اذا فقد المتولی أو أحد الناظرین فان کان قد عین من یخلفه قام مقامه حتی زوال العذر فان استمر فقدان اهلیته حتی الموت استقر مکانه.
ح- اذا کان من فقد الاهلیة لم یعین من یخلفه بعد وفاته عینه الآخران الناظران او المتولی الناظر و قام مقام فاقد الاهلیة حتی زوال العذر و ان استمر حتی الموت استقر مقامه کما تقدم.
ط- اذا فقد شخص من الناظرین و المتولی الاهلیة عین الشخص الثالث ناظرا کان او متولیا من یقوم مقامهما حتی زوال العذر فان استمر العذر حتی الموت استقر مقامهما.
ی- تسری احکام الفقرتین السابقتین (ح. ط) علی من کان من الناظرین او المتولی دون ان یعین من یخلفه فیکون بید الباقی کما تقدم.
ک- اذا مات المتولی و الناظران دون ان یعین أحد منهم من یخلفه عین المرجع الدینی من علماء الشیعة الامامیة الاثنی عشریة من یخلفهم متولیا و ناظرین و وجب علی واحد منهم ان یعین من یخلفه کما تقدم مع وجوب مراعاة شروط هذه الوقفیة فی شروط التعیین
ل- اذا وقع خصام بین المتولی و الناظرین انفسهما وجب علیهم الرجوع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 176
الی من یتفقون علیه من علماء الجعفریة المشهورین لیحکم بینهم و یکون حکمه الفصل فی النزاع و لا فرق بین ان یکون النزاع و الخصام ناشئا بینهم بسبب الاختلاف فی التعیین او فی تطبیق الشروط لهذه الوقفیة.
(م) اذا فقد من یصلح للتولیة و عهد بها الی احد العلماء کما فی الفقرة (و) ثم وجد من یصلح لها من ذریة الواقف کانت التولیة له، و هکذا اذا وجد اکثر من واحد عین منهم الناظران وفق شروط هذه الوقفیة.
ن- لا یجوز للمتولی و الناظرین حصر التولیة أو النظارة فی ذریتهم و مخالفة شروط هذه الوقفیة فی التعیین کما فی الفقرات ا ب ج د ه و.
و علی هذا تم اجراء صیغة الوقف بتاریخ 21 شوال سنة 1383 الموافق 5- 3- 63 و طلب تسجیل ذلک وفق الاصول کما ابرز اعلاما صادرا من محکمة شرعیة بغداد الجعفریة و هی حجة بعدد 61 و عدد الاساس 55 و تأریخ 17- 3- 62 تتضمن ایقافه قطعة الارض المرقمة 404- 1505 الواقعة فی محلة حی السعد فی النجف الاشرف، و البالغة مساحتها 1900 مترمربع الموقوفة من قبله وقفا خیریا لانشاء مدرسة دینیة علیها، و کذلک ابرز سند طابو بعدد 87 و تأریخ آذار 962 و یتضمن کون قطعة الارض المنوه عنها اعلاه وقفا خیریّا من قبل العراقی الحاج عبد العزیز بن طاهر البغدادی کما اجری الکشف علی الملک المذکور من قبل الخبراء، و مهندس الطابو، تحت اشراف المحکمة، و قد ظهر بعد التطبیق ان الواقف قد شید علی الارض المذکورة بنایة متخذة مدرسة تتألف من طابقین الاول یحتوی علی خمسین غرفة، و مسجد، و قاعة للمحاضرات، و مکتبة، و سردابین، و مقبرة، تحت المسجد، و مطبخ و عشر حمامات، و مرافق صحیة اخری، و ساحة کبیرة، فی وسط المدرسة، و توجد کذلک دار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 177
ملاصقة للمدرسة تتألف من اربع غرف فی السفلی و سرداب و (هولین)، و مرافق صحیة، و غرفتین، و (هول) فی الطابق العلوی و حدیقة محیطة بالعمارة من جوانبها الثلاثة و قد ثبتت منشآت الملک و طبعت علی الخارطة و السند من قبل مهندسی الطابو، و قد اجری الواقف امام المحکمة و بحضور الشاهدین الموقعین ادناه صیغة الوقف علی المنشآت المذکورة آنفا، و علی الوجه المبین اعلاه، و نزع یده من ملکیة المنشآت المذکورة و تسلمها بصفته متولیا علیها و نظمت هذه الحجة الشرعیة، و سجلت تحریرا فی 5- 3- 1964.
القاضی حسن الشمیساوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 178

المدارس الحدیثة

اشارة

ابتدأت فکرة فتح المدارس الحدیثة و تلقی الدروس العصریة لاول مرة مع ابتداء القرن الرابع عشر الهجری و لا نعرف قبل هذا التأریخ مدارس مقیدة بنظام الصفوف، و الامتحانات و الحصول علی الشهادات التی تعین نوع التخصص، و تحدد درجاته، و کل ما نعرف ان اغلب العلوم الریاضیة، و الاجتماعیة و الفلسفیة، کانت مما یعنی بها الکثیر من طلاب العلوم الدینیة الی جانب عنایتهم بالعلوم الدینیة، و لکن الاقبال علی ذلک و تلقیه کان اختیاریا، و لم یکن له شأن کشأن العلوم الاخرویة، و العلوم الادبیة، حتی انبثق فجر القرن الرابع عشر الهجری فکانت أول مدرسة نظامیة فتحت فی النجف هی المدرسة الرشدیة العثمانیة.

المدرسة الرشدیة العثمانیة

هی مدرسة ابتدائیة للعلوم العصریة فی النجف و کانت تقع فی البنایة المتصلة بدائرة برید النجف الیوم و التی کانت سرایا للحکومة فی السابق، و کانت تسمی باسم المدرسة الرشدیة و قد تأسست فی نحو سنة 1300 ه و کان الاقبال علیها محدودا، و مقتصرا علی ابناء الذوات فقد کان الشائع بین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 179
الناس ان جمیع المنتسبین لها من الطلاب ستجندهم الحکومة، و تستخدمهم ضباطا، و علی رغم قدم هذه المدرسة فلم تکن تستطیع ان تقف الی جانب (المدرسة العلویة) التی تأسست بعدها بعدة سنین من حیث الدروس، و الاهمیة، اذ لم تزد صفوف المدرسة الرشدیة علی ستة صفوف، و بقیت هذه المدرسة حتی قیام ثورة النجف فی وجه الحکومة الترکیة فی اثناء الحرب العظمی الاولی فنهبت رحلاتها و کتبها فی ضمن ما نهب للحکومة الترکیة من اثاث، و اسباب، و اندثرت.

المدرسة العلویة

و فی خلال السنوات الاولی من الربع الاول للقرن الرابع عشر الهجری کان قد تسرب الوعی الجدید الی النجف، و التفت المدرکون الی ما یقتضیه العصر من وسائل جدیدة لاعداد النش‌ء اعدادا یضمن له حیاة جدیرة به کانسان و سرعان ما جالت فکرة فتح مدرسة عصریة لتدریس العلوم الحدیثة و اللغات الحیة فی صفوف تبدأ من الصف الاول الابتدائی الی نهایة الدراسة الاعدادیة (الثانویة) علی ان یجری التفکیر بعد ذلک فی الاستمرار لکی تکون هذه المدرسة کلیة علی قدر ما یتسع المجال و تساعد الظروف و کان من أهم العناصر التی فکرت بهذا:
الشیخ محمد تقی الخلیلی نجل الحاج میرزا حسین الخلیلی و المیرزا مهدی و المیرزا أحمد الخراسانی نجلا الملا کاظم الاخوند، و السید ابو القاسم الکاشانی الزعیم السیاسی الایرانی و السید مهدی اللاهیجانی و الشیخ محمد المحلاتی، و الشیخ اسحق الرشتی و غیرهم.
و قد حصل هؤلاء علی فتوی من الحاج میرزا حسین الخلیلی، و الملا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 180
کاظم الأخوند بانفاق الحقوق الشرعیة علی هذه المدرسة، ففتحت المدرسة باسم (المدرسة العلویة) لاول مرة فی البیت الواقع فی منتهی سوق الحویش، و تناول منهاج المدرسة جمیع الدروس الحدیثة من ریاضیات، و اجتماعیات، بالاضافة الی اللغة الفرنسیة و الانکلیزیة و الترکیة و الفارسیة و العربیة.
و استعانت هذه المدرسة ببعض الشیوخ من طلاب الدین و کان من بینهم بعض من درسوا فی السوربون و جاءوا الی النجف لیتخصصوا فی الفقه، و منهم من اکمل دراسته فی الهند و فی طهران و جاء الی النجف منتهجا الطریق الروحانی، و کان اول افتتاح هذه المدرسة سنة 1325 ه و استطاعت کما خططت لنفسها ان تکمل المرحلتین الدراسة الابتدائیة و الثانویة و قد تخرج منها عدد ذوو ملکات و مواهب ملحوظة، و لکن وقوع الحرب العظمی الاولی و ما اعقبها من حوادث قد شتت هیئتها المؤسسة، ثم التحق مدرسوها باهلیهم و اغلقت صفوفها العلیا، ثم الصفوف الاخری، و لم یبق منها غیر صفین اولیین یدیرهما بعض المعلمین الذین کانوا یتقاضون ثمن اتعابهم من اجور الطلاب، ثم استعان هؤلاء بوزارة المعارف الایرانیة ثم قامت بعد ذلک الحکومة الایرانیة بکل نفقاتها و اعتبرت مدرسة ایرانیة رسمیة، و هی الیوم ابتدائیة و متوسطة. و عدد طلابها نحو 800 طالب، و تعتبر اقدم مدرسة عصریة تأسست فی النجف،
و یقول الاستاذ عبد اللّه الفیاض: «و کانت المدرسة العلویة فضلا عن مهمتها الثقافیة بمثابة ناد ثقافی و سیاسی اتخذ منه المشتغلون بالحرکة الدستوریة الایرانیة مقرا لاعمالهم» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 181

المدرسة المرتضویة

اسسها المیرزا عبد الرحیم (بلبله بادکوبه) و کان المیرزا عبد الرحیم علی ما قیل من جملة الاعضاء المؤسسین للمدرسة (العلویة) ثم اختلف مع الاعضاء و اسس لنفسه مدرسة باسم المدرسة (المرتضویة) و اتخذ الدار المسماة بدار آل الفاضلی فی محلة المشراق محلا للمدرسة و قد انضم الیه بعض الشخصیات الترکیة اشهرهم کان الشیخ ابو القاسم الماقمقانی من العلماء و کان ذلک فی نحو سنة 1327 ه و قد استطاع هو الآخر ان یحصل علی فتاوی العلماء بوجوب مساعدة هذه المدرسة. و لکن هذه المدرسة لم تستطع اللحاق بالمدرسة العلویة لعدم توفر المدرسین الاکفاء لها و حین وقعت الحرب العظمی کان المیرزا عبد الرحیم یجوب الهند فی الحث علی مساعدة المدرسة و المکتبة التی اقامها بجنب المدرسة فحجز هناک باعتباره قفقاسیا و من رعایا الروس و أغلقت المدرسة، و کانت روسیا ترعی المدرسة المرتضویة و کان القنصل الروسی فی النجف و هو ابو القاسم الشیروانی یتفقد هذه المدرسة و یطلب لها من الحکومة العثمانیة امتیازات خاصة.

مدرسة الغری الأهلیة

لم تکن فی النجف من المدارس الحدیثة غیر مدرسة ابتدائیة واحدة باسم المدرسة الامیریة، و غیر بقیة مدرسة لم یبق منها غیر الاسم و هی المدرسة (العلویة) ذات الصیت الکبیر فی سنیّها الاولی نقول لم تکن هناک مدارس عندما فکر البعض فی تأسیس مدرسة لیلیة لمکافحة الامیة ثم تأسیس مدرسة نهاریة للصغار، فقد تألف جمع من الفضلاء و التجار و اسسوا مدرسة باسم مدرسة (الغری) ثم ما لبثوا ان اتخذوا من القلعة الترکیة الواقعة الی الیمین من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 182
الداخل من باب النجف الکبیرة و عند بدایة محلة المشراق محلا لها و قد تأسست هذه المدرسة فی سنة 1340 ه و اخذت مکانة مرموقة بین المدارس الابتدائیة، و اسدت الی الامیین من الکبار فی تدریساتها اللیلیة افضالا کبیرة، و بعد سنین عجزت الهیئة الاداریة عن مواصلة العمل فی هذه المدرسة فطلبت الحاقها بوزارة المعارف فألحقت بها و اصبحت ضمن المدارس الابتدائیة الرسمیة، و هی الیوم مدرسة ابتدائیة لیلیة و لها فضل السبق فی مکافحة الامیة فی مدینة النجف.

مدارس منتدی النشر

و هذه اول جمعیة دینیة فکرت فی تطویر الدراسة الدینیة، و ادخال نظام الصفوف و الامتحانات فی دراسة النجف، و هی (جمعیة منتدی النشر) التی اسسها رهط من شیوخ الدین و فضلاء النجف لغرض الاخذ بالعلوم الحدیثة إلزامیا الی جانب الاخذ بالعلوم الدینیة، و جمعیة منتدی النشر کانت ابعد غایة و اوسع غرضا من التعلیم کما تدل علیها انظمتها و الاغراض العلمیة و الثقافیة التی انشئت لاجل تحقیقها، و لکنها اعطت جانب الدراسة اهمیة کبیرة بعد ذلک و عنیت بها عنایة جد فائقة، و حاولت أن تقوم بمشروع خطیر ربما کان هو الاول من نوعه فی تأریخ العراق، و هو فتح صفوف لتدریس خطباء المنابر، و اعدادهم اعدادا منهجیا صالحا، و قد شرعت فعلا بفتح صف لهذا الفن و بوشر بالتدریس ثم جوبهت بموجة من المعارضة الشدیدة من قبل الخطباء الذین کانوا یأبون الخضوع لمثل هذه القیود حتی استحالت تلک المعارضة الی مظاهرات و احتجاجات ما لبثت ان عصفت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 183
بالفکرة و اغلق هذا الصف .
و بقی (المنتدی) یمشی فی سائر الدروس وئیدا نحو عشر سنوات حتی استطاع ان یضع أول حجر فی هذا الصرح الذی یعود له الفضل الاکبر فی تطویر الدراسة و جعل العلوم الدینیة تمشی جنبا الی جنب مع العلوم العصریة و قد قطع الیوم المنتدی اشواطا کبیرة فی جمیع مراحل الدراسة الابتدائیة، و الثانویة، و الجامعیة، و اصبحت له بنایات حدیثة مستقلة و حظی من جانب المراجع الدینیة بالتأیید الکامل و قد اصبح عدد طلابه فی جمیع مراحل الدراسة فی زیادة مستمرة.
اما الناهض الاکبر بهذه المشاریع التی آتت اکلها الیوم فهو الشیخ محمد رضا المظفر و قد کان من العلماء المجاهدین و یعتبر مثالا للتضحیة و الجهاد.

مدرسة المنتدی الابتدائیة

و هی ابتدائیة کاملة تأسست فی سنة 1949 و عدد طلابها یتجاوز الثلاثمائة طالب و تحمل اسم (مدرسة منتدی النشر الابتدائیة الاهلیة) و هی تعنی بالدروس الحدیثة، و اللغة العربیة، الی جانب الثقافة الدینیة علی مستوی المدارس الابتدائیة و تحل هذه المدرسة احدی الدور الواسعة بالایجار.

مدرسة المنتدی الثانویة

و هی ثانویة کاملة الصفوف تأسست سنة 1961 م و تضم نحو 250 طالبا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 184
و تحمل اسم (ثانویة منتدی النشر الاهلیة المسائیة) و تعنی بالاضافة الی المنهج المقرر للمدارس للثانویة الرسمیة بدراسة شی‌ء من الفقه و العقائد الاسلامیة و المنطق. و قد انشئت لها بنایة خاصة جدیدة مجهزة بالمختبرات و کل المقتضیات اللازمة للمدارس الحدیثة.

کلیة الفقه

و هی کلیة تمنح خریجیها شهادة (البکالوریوس) فی اللغة العربیة و علوم الشریعة، و قد أجیز فتحها من وزارة التربیة بتأریخ 30- 11- 1958 و فی تأریخ 29- 12- 962 اعتبرت جامعة بغداد شهادتها شهادة جامعیة اولیة، و فی 9- 7- 963 صادق مجلس الوزراء علی قرار الجامعة، و قرر تعیین خریجیها بالدرجة التی یعین بها خریجو کلیات جامعة بغداد و تضم الآن اکثر من 200 طالب مقسمین علی خمس شعب، و یقوم بمهمة التدریس فیها عدد من العلماء و الاساتذة بالاضافة الی ثمانیة محاضرین، ستة منهم بدرجة (دکتوراه).
و فی جامعة بغداد الیوم عشرة طلاب من خریجی کلیة الفقه لدراسة (الماجستیر) کما تضم أحد صفوف کلیة الفقه فی أثناء الامتحان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 185
جامعة القاهرة عددا آخر من خریجی هذه الکلیة لنیل الماستر و التخصص.
و تشغل کلیة (الفقه) الیوم احدی بنایات جمعیة منتدی النشر. و قد حصلت الجمعیة علی مساحات واسعة من الارض فی طریق الکوفة لتشید علیها الجامعة، و بذلک سیستغنی منتدی النشر عن ایفاد طلابه فی المستقبل بعض أساتذة کلیة الفقه و الطلاب، و یری بینهم المؤسس الحجة (المظفر) و فیاض، و الایروانی، و الحکیم، و بحر العلوم
للتخصص، و یکون لجمعیة منتدی النشر الفضل فی تأسیس اول جامعة فی النجف و تصدر جمعیة المنتدی مجلة باسم مجلة النجف، و یصدر طلابها مجلة اخری خاصة بهم.

مدرسة جمعیة التحریر الثقافی

لقد شعر جمع من الافاضل ان النجف لا تستطیع ان تستغنی بمدرسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 186
واحدة او اثنتین من المدارس التی تجمع بین العلوم الدینیة و الثقافة العربیة، و العلوم العصریة الحدیثة، و رأوا من الحزم ان یعنوا بهذه الناحیة ضمن ما یعنون به من خدمات ثقافیة ادبیة عامة، فتقدموا بطلب اذن بتأسیس جمعیة باسم (جمعیة التحریر الثقافی) و فی سنة 1945 حصل هؤلاء المؤسسون علی الاذن بتأسیس هذه الجمعیة، و فی سنة 1946 ای بعد تأسیس الجمعیة بسنة واحدة فتحت اول مدرسة ابتدائیة لهذا الغرض، ثم استطاعت الجمعیة ان تحصل علی قطعة ارض ما لبثت ان شیدت علیها جانبا خصته بادارة شؤون الجمعیة، و جانبا اتخذت منه مدرسة جهزت باحدث الاثاث و اللوازم المدرسیة. و وسائل الایضاح، و هی الیوم تضم ستة صفوف، و عدد طلابها نحو 300 طالب و هم فی ازدیاد سنة بعد اخری.
و قد کانت للجمعیة مجلة باسم (النشاط الثقافی) کانت وسیلة تبشیر نشطة للاغراض الثقافیة و خدمة الشعر و الادب و قد نالت هذه المدرسة و المجلة عطف الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء و تأییده مدة حیاته.
صورة تاریخیة للاحتفال بتدشین مدرسة جمعیة التحریر الثقافی و یری الإمام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء مستندا الی الجدار و بجنبه الشیخ محمد جواد الجزائری، و سید العراقین، و الشیخ حبیب العادلی و السید محمد الرفیعی و یری بین الواقفین الأستاذ محمد صالح الجعفری، و فی مقدمة الجالسین یری الشیخ عبد الغنی الخضری معتمد الجمعیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 187

المدرسة الأمیریة و المدارس الرسمیة

و فی ایام الاحتلال البریطانی للعراق کانت اول مدرسة فتحت هی المدرسة الابتدائیة الامیریة التی فتحتها نظارة المعارف یومذاک و کان مکانها خارج السور و فی احد الخانات من الشارع المتصل بالباب المسماة (بباب الولایة الکبیرة) و کان ذلک فی نحو سنة 1335 ه و حین قامت ثورة العراق الکبری اغلقت المدرسة و عادت بعد الثورة فاتخذت محل المدرسة (العلویة) الاول فی منتهی سوق الحویش باسم المدرسة الابتدائیة الامیریة، ثم توسعت حرکة المدارس الامیریة، و کلما ضاقت مدرسة بالطلاب فتحت مدرسة جدیدة فی مختلف المحلات و اصبحت تسمی باسماء مختلفة تمییزا لها.
و تعتبر (المدرسة الثانویة) اول مدرسة ثانویة فتحت فی العراق بعد بغداد و الموصل و البصرة، و لم تکن لهذه المدارس ابنیة خاصة، فکانت تستأجر البیوت الصالحة نسبیا لاتخاذها مدارس و حین وضعت وزارة المعارف تخطیطا لبناء المدارس العراقیة شرعت تبنی فی النجف بنایات خاصة لکل مدرسة من هذه المدارس، و تضم النجف الیوم و حتی هذا التأریخ من المدارس الاعدادیة ما یلی:
1- اعدادیة النجف للبنین، و عدد طلابها یزید علی 800 طالب (محلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 188
الجدیدة).
2- ثانویة النجف للبنات، و عدد طالباتها یقارب 500 طالبة (محلة الجدیدة).
3- ثانویة نقابة المعلمین المسائیة. (الجدیدة)

اما المدارس المتوسطة فهی:

1- متوسطة الخورنق، و تضم نحو 800 طالب (البراق).
2- متوسطة السدیر، و طلابها اکثر من 355 طالبا (الجدیدة).
3- متوسطة الجمهوریة، و تضم نحو 400 طالب (الجمهوریة).
4- متوسطة الاحرار، و طلابها اکثر من 400 طالب (الجمهوریة).
5- متوسطة الکندی، و طلابها اکثر من 200 طالب (حی السعد).
6- مدرسة صناعة النجف، و یزید طلابها علی 150 طالبا (الجدیدة).
7- متوسطة النجف للبنات، و عدد طالباتها اکثر من 500 طالبة (محلة الجدیدة).
8- متوسطة حی الامیر للبنات، و عدد طالباتها اکثر من 70 طالبة (حی السعد).
9- متوسطة نقابة المعلمین المسائیة، (البراق).

المدارس الابتدائیة الرسمیة للبنین

1- مدرسة الغفاری الابتدائیة، الجدیدة
2- مدرسة التهذیب الابتدائیة، الجدیدة.
3- مدرسة الامیر الابتدائیة، الجدیدة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 189
4- مدرسة الطالبیة الابتدائیة، المشراق.
5- مدرسة الرسول الابتدائیة، المیدان.
6- مدرسة المعرفة الابتدائیة، (المیدان)
7- مدرسة النعمان الابتدائیة، (المیدان)
8- مدرسة الصادق الابتدائیة، (المشراق)
9- مدرسة فلسطین الابتدائیة، الجمهوریة.
10- مدرسة الحیدریة الابتدائیة، الجدیدة.
11- مدرسة الاستقلال الابتدائیة، الجدیدة.
12- مدرسة الفتوة الابتدائیة، الجدیدة.
13- مدرسة النضال الابتدائیة، الجدیدة.
14- مدرسة المستنصریة الابتدائیة، الجدیدة.
15- مدرسة الثورة الابتدائیة، حی السعد.
16- مدرسة الاسکان الابتدائیة، حی السعد.
17- مدرسة الوثبة الابتدائیة، الجدیدة.
18- مدرسة الشعب الابتدائیة، الشوافع.
19- مدرسة البحر الابتدائیة، البحر.
20- مدرسة التوحید المسائیة الابتدائیة، المشراق.
21- مدرسة التضامن المسائیة الابتدائیة، الجدیدة.
22- مدرسة الکرامة المسائیة الابتدائیة، الجمهوریة.
23- مدرسة النبراس المسائیة الابتدائیة، الجدیدة.
24- مدرسة الرشید الابتدائیة، (الجمهوریة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 190
25- مدرسة وادی السلام الابتدائیة، العمارة.
26- مدرسة الوحدة الابتدائیة، حی السعد.
27- مدرسة التقدم الابتدائیة، الجدیدة.
28- مدرسة المحمدیة الابتدائیة، الحویش.
29- مدرسة الامانی الابتدائیة، الحویش.
30- مدرسة القادسیة الابتدائیة، الجمهوریة.
31- مدرسة الجنائن الابتدائیة، العمارة.
32- مدرسة الغدیر الابتدائیة، المشراق.
33- مدرسة الجهاد الابتدائیة، الجدیدة.
34- مدرسة القاسم الابتدائیة، الحویش.
35- مدرسة جنین الابتدائیة، الجمهوریة.

أسماء مدارس البنات الابتدائیة فی النجف

1- مدرسة العصمة الابتدائیة، المشراق.
2- مدرسة الجزائر الابتدائیة، العمارة.
3- مدرسة سکینة الابتدائیة، العمارة.
4- مدرسة السعادة الابتدائیة، الحویش.
5- مدرسة الحریة الابتدائیة، الحویش.
6- مدرسة النهضة الابتدائیة، الجمهوریة.
7- مدرسة الفضیلة الابتدائیة، حی السعد.
8- مدرسة الوطن الابتدائیة، الجدیدة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 191
9- مدرسة الرسالة الابتدائیة، الجدیدة.
10- مدرسة أم الشهید الابتدائیة،- حی السعد- الحنانة.
11- مدرسة الفراقد الابتدائیة، حی السعد- الاسکان.
12- مدرسة العرفان الابتدائیة، الجدیدة.
13- مدرسة القدوة المسائیة الابتدائیة، المشراق.
14- مدرسة المکاسب المسائیة الابتدائیة، الجدیدة.
15- مدرسة الکمال الابتدائیة، الحویش.
16- مدرسة الخنساء الابتدائیة، المشراق.
17- مدرسة الزهراء الابتدائیة، الجدیدة.
18- مدرسة الحوراء الابتدائیة، الجدیدة.
19- مدرسة الرباب الابتدائیة، الجدیدة.
20- مدرسة العفة الابتدائیة، الجمهوریة.
21- مدرسة الریاض الابتدائیة، الجدیدة.
22- روضة اطفال النجف (مختلطة من البنین و البنات)، الجدیدة.

عدد طلاب المدارس الدینیة و المدارس المدنیة

کان عدد طلاب المدارس الدینیة فی مد و جزر طوال الالف سنة السابقة تبعا للحوادث و الاحوال السیاسیة و غیر السیاسیة، فقد کان عدد طلاب العلوم الدینیة قبل الحرب العظمی الاولی و فی ایام الملا محمد کاظم الاخوند لا یقل عن 10 آلاف طالب، بینما هبط هذا العدد فی ایام الحرب الی اقل من الفی طالب علی ما یقدر المطلعون، اما الیوم فیقدر اولو الخبرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 192
من الواقفین علی میزانیة الانفاق فی النجف بأن عدد طلاب العلوم الدینیة لا یقل عن 5 آلاف طالب.
اما طلاب المدارس المدنیة فی مدینة النجف فهم نحو 26 الف طالب الی حد کتابة هذه السطور و فی ضمنهم طلاب الابتدائیة و المتوسطة و الثانویة من البنین و البنات، و هذا الاحصاء مستخلص من مستوصف المعارف فی النجف و علی اساس تلقیح الطلاب و قد اعتمدناه توخیا لصحة الاحصاء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 193

اهم المصادر التی اعتمدها الکاتب

1- رحلة ابن بطوطة
2- الاحلام للشیخ علی الشرقی
3- حدیث الجامعة النجفیة محمد رضا شمس الدین
4- عنوان الشرف للشیخ محمد السماوی
5- ماضی النجف و حاضرها
6- الحصون المنیعة للشیخ علی آل کاشف الغطاء (مخطوط)
7- هکذا عرفتهم لجعفر الخلیلی
8- جریدة الهاتف لجعفر الخلیلی
9- محکمة شرعیة النجف
10- طبابة مدارس النجف
11- دراسة و تتبعات خاصة.
12- مجلة الاعتدال
13- مجلة العلم للسید هبة الدین الحسینی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 194
14- مجلة النشاط الثقافی
15- جریدة الراعی
16- تتقیح المقال فی احوال الرجال
17- مجلة لغة العرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 195

مکتبات النجف القدیمة و الحدیثة کتبه جعفر الخلیلی

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 197

خزائن الکتب القدیمة و المکتبات التاریخیة

علاقة الثقافة بالکتاب و المکتبات کعلاقة الزراعة بالارض و الماء فکما ان الزرع لا یکون الا حیث تکون الارض و یکون الماء فان الثقافة و الحضارة لا تکونان الا حیث یکون الکتاب و تکون المکتبة، و تاریخ المکتبة و خزائن الکتب یرافق تاریخ الکتابة علی وجه التقریب، و الکتاب کان و لم یزل الوسیلة الکبری لنشر الثقافة و تیسیر حیاة الانسان و تهذیبه، و صقل افکاره، و اعداده للحیاة اعدادا یکفل له استغلال ثمرات الطبیعة، و کنوزها لمنفعته و منفعة المجموع العام من المخلوقات، فهو خلاصة تجاریبه، و تاریخ حیاته، و قانون عیشه، و سلوکه فی دنیاه، و قد فهم الانسان قیمة الکتاب فی حیاته منذ ان اکتشف الکتابة و سخرها لاغراضه، و صار یعنی بالکتب و جمعها و ادخارها، و تکوین الخزائن الخاصة بها علی قدر ما تستدعیه ثقافته المکتسبة فی کل عصر من عصوره.
و قد کشف المنقبون و علماء الآثار عن عدد جد کبیر من هذه الخزائن، یرجع تاریخها الی ازمان بعیدة تجاوزت اربعة آلاف سنة!! حینما کانت هذه الکتب تکتب بالحفر علی الطین غیر المطبوخ او الاجر المطبوخ، فکان کل کتاب عبارة عن لوح او اکثر من الالواح المکتوبة، ثم بدأت تکتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 198
علی البردی، و کانت هذه الخزائن او المکتبات معروفة، و موضع عنایة خاصة من الملوک.
و فیما ترک القدماء و علی الاخص سکان العراق الاقدمین، و ما ترک الفرس، و المصریون، و الاغریق، و الرومان، و الهنود، و الصینیون نعرف مبلغ ما حظیت به المکتبات من الاهتمام، و قد دل التاریخ علی ان عنایة السومریین و البابلیین و الآشوریین بصورة خاصة قد سبقت ایة عنایة اخری فی التاریخ القدیم بالمکتبات، فالمعروف عن الاشوریین انهم کانوا کثیری الاهتمام بتعلم القراءة و الکتابة علی الاجر، و کان ملوکهم یعنون عنایة خاصة بتعلیم اولادهم القراءة و الکتابة علی الآجر.
یقول الدکتور جیمس هنری بریستد: ان (آشور بانیبال) حفید سنحاریب و آخر ملوک الاشوریین کان یباهی بأن اباه الملک لم یقتصر فی تهذیبه و تعلیمه منظر عام للتنقیبات التی أجریت بتل حرمل و عثر فیها علی أکبر خزانة للکتب یرجع تاریخها الی ابتداء الألف الثانی قبل المیلاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 199
و هو صغیر علی استخدام وسائل الحرب و انما علمه الکتابة علی الاجر و خرّجه فی علوم زمانه.
و قد وجد الأثریون فی مکتبة (اشور بانیبال) فی نینوی اثنین و عشرین الف آجرة بقیت مطروحة علی ارض المکتبة مدة الفین و خمسمایة سنة، حتی نقلت الی المتحف البریطانی حیث لا تزال محفوظة، و هی فی مواضیع مختلفة ما بین دینیة، و علمیة، و ادبیة، جمعت و نسقت بأمر الامبراطور و هی اول مکتبة منظمة وجدت فی آسیا فیما نعلم .
و بین عامی 1959- 1960 عثرت التنقیبات الاثریة العراقیة فی سهل (شهرزور) علی مجموعة من ألواح الطین المنقوشة بالخط المسماری باللغتین البابلیة و السومریة یرجع تاریخها الی منتصف الالف الثانی قبل المیلاد، و قد اسفرت الدراسة عن ان هذه الالواح من اهم اصناف النصوص الکتابیة فی العراق القدیم.
یقول الدکتور طه باقر «و العادة ان مثل هذه الاصناف المهمة من النصوص لا یعثر علیها فی الغالب الا فی خزانات الکتب» .
و أجرت مدیریة الآثار العراقیة تنقیبات واسعة لعدة مواسم منذ سنة 1945 فی (تل حرمل) الواقع فیما یسمی (بتل محمد) الیوم بالقرب من بغداد، فظهر ان اسمها (شاذویه) و معناها (خزانة الکتب)، و ان هذا الموقع بمثابة (اکادیمیة) او جامعة تحتوی علی عدة آلاف من الواح الطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 200
التی تعد فی عداد الکتب، و هی فی مختلف اصناف العلوم و المعرفة، و ان من بین هذه الالواح ما یحتوی علی اصول شریعة سبقت شریعة حمورابی الشهیرة بنحو قرنین من الزمان و هذا و غیره مما یدل علی ان تاریخ المکتبات قدیم، و ان نصیب العراق القدیم منها کان نصیبا کبیرا جدا.
و قد اورد کورکیس عواد فی کتابه (خزائن الکتب القدیمة فی العراق) اوسع دراسة عن المکتبات العراقیة فیما قبل المیلاد و بعده و فیما قبل الاسلام و بعده، حتی العصور الاخیرة کان منها دراسة عن خزانة (نفّر) التی احتوت علی آلاف من الالواح فی مختلف العلوم الریاضیة، و الطب، و الفلک، و التاریخ، و خزانة (دریهم) بالقرب من (نفر) و خزانة مدینة ادب الواقعة هی الاخری بالقرب من نفر و التی تم الکشف علیها فی غرفة واسعة تکدست فی ارضها الالواح، و خزانة (سپار) و قد قیل ان عدد الالواح الطینیة المکتوبة التی عثروا علیها فی سپار و التی تعتبر بمثابة الکتب کان یتراوح بین 000، 40- و 000، 50 لوحة، و خزانة (الجمجمة) بالقرب من مدینة الحلة، و خزانة (کیش) الواقعة بالقرب من الحلة ایضا، و خزانة (تلو) الواقعة فی الضفة الشرقیة من شط الحی و التی یرجع تاریخها الی 4500 سنة و قد وجدوا فیها ما لا یقل عن 35 الف لوح من الکتب، و خزانة (الورکاء) فی جنوبی العراق، و خزانة (نوزی) بالقرب من کرکوک، و خزانة (المدائن) عاصمة الفرس الساسانیین فی العراق .
و حین غزا الاسکندر بلاد ایران عثر علی خزائن من الکتب فی (اصطخر)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 201
العاصمة فاستنسخها و احرقها، و مع ذلک فقد عثر فی اوائل القرن الرابع للهجرة علی مخابی‌ء غاصة بالکتب الفارسیة باللغة الفهلویة القدیمة .
و قد بلغ من العنایة بالکتب و المکتبات ان کان یخصها اصحابها باهتمام کبیر للمحافظة علیها من الرطوبة و الارضة، او ایة حالة من حالات التلف، و قد روی ابن الندیم فی الفهرست: «قال ابو معشر فی کتاب اختلاف الزیجات، ان ملوک الفرس بلغ من عنایتهم بصیانة العلوم و حرصهم علی بقائها علی وجه الدهر، و اشفاقهم علیها من احداث الجو، و آفات الارض ان اختاروا لها من المکاتب اصبرها علی الاحداث، و ابقاها علی الدهر، و ابعدها من التعفن و الدروس لحاء شجر الخدنک، و لحاؤه یسمی التوز، و بهم اقتدی اهل الهند و الصین و من یلیهم من الامم فی رقیم طین یتضمن قوانین تسبق شریعة حمورابی بقرنین و قد اکتشف فی تل حرمل و هو جانب من کتاب من کتب تلک العصور
ذلک، فلما حصلوا لمستودع علومهم اجود ما وجدوه فی العالم من المکاتب، طلبوا لها من بقاع الارض اصلحها تربة، و اقلها عفونة، فکانت اصفهان، و لما کان قبل زماننا هذا بسنین کثیرة تهدمت من هذه المصنعة ناحیة فظهروا فیها علی أزج معقود من طین الشقیق، فوجدوا فیه کتبا کثیرة من کتب الاوائل مکتوبة کلها فی لحاء التوز مودعة اصناف علوم الاوائل بالکتابة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 202
الفارسیة القدیمة» .
و قال ابن الندیم «اخبرنی الثقة انه انهار فی سنة 350 هجریة أزج آخر لم یعرف مکانه لانه قدر فی سطحه انه مصمت الی ان انهار و انکشف عن هذه الکتب الکثیرة» و قال ابن الندیم انه رأی هو نفسه ان ابا الفضل ابن العمید قد انفذ فی سنة نیف و اربعین کتبا منقطعة اصیبت باصفهان فی سور المدینة فی صنادیق و کانت بالیونانیة.
و کان کسری انوشروان قد اسس (بجندیسابور)- و هی المدینة التی بناها سابور مدرسة للطب- مکتبة حفلت بعدد کبیر من الکتب باللغات الیونانیة، و الفارسیة، و السریانیة.
جاء فی الجزء الاول من (ضحی الاسلام) منقولا عن طیفور «قال یحیی بن الحسن انی (بالرقة) بین یدی محمد بن طاهر بن الحسین علی برکة اذ دعوت بغلام له فکلمته بالفارسیة فدخل العتابی- و کان حاضرا فی کلامنا- فتکلم معی بالفارسیة فقلت له: ابا عمرو، ما لک و هذه الرطانة؟
قال فقال لی: قدمت بلدتکم هذه ثلاث قدمات، و کتبت کتب العجم التی فی الخزانة (بمرو) و کانت الکتب سقطت الی ما هنالک مع (یزدجرد) فهی قائمة الی الساعة» .
و کانت للکتب منزلة سامیة فی الیونان فکان فی مکاتب اهل الادب (بأثینه) مؤلفات هومیروس و سائر مشاهیر الشعراء القدماء مخطوطة علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 203
دروج مستطیلة من ورق البردی یبلغ طول الواحد منها مائة و خمسین او مائة و ستین قدما، فکان الاثینی المتعلم، یجلس امام الدرج و یطالع کما کان یفعل المصری قبله بزمن طویل و فضلا عن الکتب التی کانت تحفظ فی المکاتب اخذ الکتاب ینشرون کتبا اخری و تعتبر المکتبة الیونانیة من اقدم مکتبات العالم القدیم اذ یرجع تاریخها الی القرن السادس قبل المیلاد .
خارطة منقولة عن رقیم طینی تصور خریطة العالم و یرجع هذا الکتاب الی القرن السادس ق. م
و یقول بروکلمن «ان الجزیرة و العراق کانا منذ ایام الاسکندر متأثرین بالحضارة الیونانیة و کان فی الادیار السریانیة کثیر من الکتب المترجمة لا فی الآداب النصرانیة وحدها بل کان من ذلک ایضا تراجم لمؤلفات ارسطو، و جالینوس، و بقراط، اذ کان هؤلاء محور الدائرة العلمیة فی ذلک العصر» .
و هنالک عدد غیر قلیل من المکتبات القدیمة فی مختلف هذه الجهات مما یشیر الیها المؤرخون کمکتبة القسطنطینیة التی انشئت سنة 336 میلادیة و غیرها و کانت مکتبة الاسکندریة من اشهر المکتبات الوارد ذکرها فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 204
التاریخ و قد اسسها الملک بطلیموس سوتیر، و جلب لها من نفائس الکتب و ذخائر القرائح الشی‌ء الکثیر، و یقول المؤرخان (لوجیل) و (امیان مارسیلیان) انّه کان بمکتبة الاسکندریة سبعمایة الف مجلدة فی العلوم المختلفة و قد احترقت هذه المکتبة عند هجوم قیصر الرومان علیها ثم تجدد تأسیسها، ثم تلاشت مرة أخری فی نحو السنة (290) ق. م ثم اعیدت مرة اخری فی اوائل القرن السادس المیلادی و عند الفتوح الاسلامیة وقع المتتبعون و الباحثون عن الکتب علی طائفة من الکتب الیونانیة، و السریانیّة، و الفارسیة، دلت علی وجود عدد من المکتبات العامرة، و کان للسریان فیما بین النهرین نحو خمسین مدرسة تعلم فیها العلوم السریانیة، و الیونانیة، اشهرها مدرسة الرها، و قنسرین، و نصیبین. و کانت هذه المدارس تتبعها مکتبات و کانت الدیارات المسیحیة فی العراق خاصة مشحونة بالکتب فی مختلف العلوم، فقد کان لکل دیر من الدیارات المشهورة مکتبة عامرة و هذا ما کانت تقضی به انظمة الدیارات، و من اشهر خزائن الکتب فی هذه الدیارات خزانة (دیر متی)، و کان لدیر متی هذا الواقع بالقرب من الموصل خزانة حافلة بالکتب ازدادت اهمیتها فی المائة السابعة للمیلاد، و خزانة دیر میخائیل الواقع فی اعلی الموصل، و خزانة (دیر مار بهنام)، و قد اسست هذه الادیرة فی القرن الرابع المیلادی، و هنالک خزانة دیر (الربان هرمزد) الذی اسسه هرمزد الراهب الفارسی النسطوری فی المائة السابعة للمیلاد و قد اجتمع فی خزانة هذا الدیر شی‌ء کثیر من المصنفات الموضوعة باللغة الآرامیة و غیرها من خزائن الکتب الملحقة بالدیارات .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 205
و ان الکثیر من هذه المکتبات القدیمة التی استعرضناها هنا قد صارت بعد الفتوحات الاسلامیة نواة للمکتبات الاسلامیة حتی اذا مر قرنان او اکثر قلیلا کانت المکتبات الاسلامیة افخم، و اکبر، و اوسع، من ایة مکتبات اخری فی عصرها، و عن طریق المکتبات الاسلامیة انبعثت حرکة قیام المکتبات بصورة واسعة فی جمیع الاقطار، و کان للمکتبة الاسلامیة شأن کبیر فی فتح باب الثقافة لاول مرة فی وجه العالم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 206

المکتبات الاسلامیة القدیمة فی العراق

و حین ابتدأت الفتوح الاسلامیة و توغل الاسلام فی العراق و بلاد الشام، و اقبل سکان البلدان المفتوحة یدخلون فی الاسلام، و یقبلون علی تفهم التعالیم الاسلامیة، و تتبع نصوص الایات القرانیة، اشتدت الحاجة الی معرفة اللغة العربیة، و قواعدها، و التعمق فی التفسیر، و ضبط الکلمات و لهجتها، بسبب ابتعاد العرب عن الجزیرة و بسبب هذا الاختلاط الحاصل بین العرب و بین الشعوب الداخلة فی الاسلام، و زادت حاجة الاعاجم الی التمعن فی اللغة العربیة. و آدابها، کلما اتسعت رقعة الاسلام، و تغلغلت التعالیم الاسلامیة فی الاوساط، لعلاقة هذا الادب بنصوص الشریعة و تعالیمها، و لعل الدین الاسلامی هو الدین الوحید الذی لا یمکن الاحاطة به و معرفة اتجاهاته و مراسیمه عن غیر طریق الادب.
و کان المسلمون عند فتحهم العراق قد اتخذوا من موقع البصرة و الکوفة مقرا لهم، فابتدأت حرکة مدارسة اللغة، و الادب، و الشعر، و التفسیر، و تدوین اللغة العربیة، و ضبطها فی هذین البلدین، و قد کان لنزول الامام علی (ع) مدینة الکوفة شأن کبیر فی انعاش الحرکة الادبیة فی الکوفة، و البصرة، بالنظر لتفرده بین الخلفاء الراشدین، و ائمة الآداب العربیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 207
بزعامة الادب و ما عرف به من الملکات، کملکة الخطابة، و ملکة الشعر، و ملکة الانشاء، و الفقه، و استنباط الاحکام، و راحت البصرة و الکوفة تتلقفان من عرب البادیة الکلمات، و تعنی بضبطها، و تدوینها، و قد حدث بین هاتین المدینتین من التنافس فی المدارسة، و التتبع، ما ادی الی الاختلاف فی کثیر من القواعد العربیة، و کان ابو الاسود الدؤلی قد وضع حینذاک قواعد علم النحو فزاد الاختلاف بین البلدین فی تطبیق هذه القواعد، و ادی الی اتجاهین معاکسین فی طرق دراسة الادب و التفسیر، مما استوعب اسفارا کثیرة فی مبانی الکلم، و مفردات اللغة، و قواعد النحو، و ذکر ابن الندیم فی الفهرست ما شاهده بعینه فی عرض کلامه فی خزانة کتب اطلعه علیها احد جماعی الکتب فکان فی جملة ما فیها قمطر کبیر فیه نحو 300 رطل جلود فلجان، و صکاک، و قرطاس مصری، و ورق صینی، و ورق تهامی، و جلود ادم، و ورق خراسانی، و بینها اربع اوراق قال: «احسبها من ورق الصین ترجمتها: هذه فیها کلام فی الفاعل و المفعول من ابی الاسود رحمة اللّه علیه بخط یحیی بن یعمر، و تحت هذا الخط بخط عتیق: هذا خط علان النحوی و تحته: هذا خط النضر بن شمیل، ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر»
فالذین نقلوا اللغة و أسالیبها عن القبائل و اثبتوها فی الکتب، و صیروها علما؛ هم اهل البصرة و الکوفة و کان أکثر المشتغلین فی جمع اللغة و آدابها، هم العجم لحاجتهم الی ذلک اکثر من العرب.
أما اقدم الذین عنوا بجمع مفردات اللغة و الادب، و اشهر العلماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 208
القراء و ائمة الادب فقد کان عمرو بن العلاء التمیمی فی الکوفة، و تعتبر مکتبته اول مکتبة اسلامیة عربیة فی الکوفة، و قد توفی فی منتصف القرن الثانی للهجرة، و قد درس علیه عدد من اشهر ائمة الادب و اللغة، اما مکتبته فقد روی المؤرخون عنها انها کانت تملأ بیته الی قرب السقف و مع ذلک فقد قال هو:
«ما انتهی الیکم مما قالت العرب الا اقله، و لو جاءکم وافرا لجاءکم علم و شعر کثیر» .
و اشتهرت البصرة و الکوفة بما اخرجتا فی القرن الثانی و ما بعده من علماء افذاذ، کان لکل منهم شأن کبیر فی عالم التألیف و العلم، و الشعر، و الادب، کالخلیل بن احمد، و عبد اللّه بن المقفع، و الاصمعی، و ابو عبیدة، و سیبویه، و الکسائی، و غیرهم فکثرت الکتب، و کثرت المکتبات فی هذین البلدین، و حین قامت دولة العباسیین و اتخذت بغداد عاصمة لها، کثرت الی جانب کتب التفاسیر، و الروایة، و اللغة، و الادب، کتب الترجمة من الفارسیة و الیونانیة، و نشطت حرکة التألیف و الترجمة، و عظمت صناعة الورق، و تبع ذلک ظهور حرفة الوراقة، و وجود أمکنة للوراقین، تتخذ مباءة للعلماء و الأدباء یتزودون منها العلم و المعرفة، فبدأ وجود المکتبات یکثر و یزخر بالکتب بحیث أدی سقوط رف من الکتب علی رأس الجاحظ فمات.
و قد بلغ من العنایة بالکتب و المکتبات، ان عدّد ابن الندیم فی الفهرست طائفة من اسماء الخطاطین، و الناسخین، و الوراقین، و مجلدی الکتب،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 209
و مذهبها فی العراق، و قد عنی کورکیس عواد فی کتابه (خزائن الکتب القدیمة فی العراق) فأورد بحثا کافیا عن الوراقة و الوراقین و صناعة الکتب و مادتها.
و لقد قیل ان أکثر هذه المکتبات التی قامت ببغداد کان یتجاوز عدد مجلداتها مئات الالوف، و تجاوز بعضها ملیون مجلد. اعظمها کان للخلفاء العباسیین، و اصبحت المکتبات التی تضم الواحدة عشرات الالوف من المجلدات کثیرة، و تعد بالعشرات للامراء، و الوزراء. و العلماء، من المسلمین و غیر المسلمین و العرب، و غیر العرب، و اصبح اقتناء الکتب من علامات الحضارة، یتسابق الیها اصحاب الاموال، و طلاب الشهرة، و ان کانوا من غیر اهل العلم، و انما یتفاخرون باقتنائها و یبالغون فی اتقان خطها، و تزیین جلودها و زخرفتها، و یتنافسون فی استخدام النساخ الماهرین فی ذلک.
و یضیف جرجی زیدان الی هذا فیقول: «علی ان هذه الخزائن- خزائن الکتب- کان بعضها خاصا باصحابه او من یأذنون لهم من اصدقائهم فی الاطلاع علیها، و بعضها کان عاما انشی‌ء لخدمة طلاب الاستفادة من الادباء و غیرهم، و اکثر المکتبات العامة انشأها الخلفاء او غیرهم من الملوک مثل بیت الحکمة» .
و (بیت الحکمة) هذا اکبر مکتبة عرفت فی عصرها علی ما روی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 210
المؤرخون و قد تسمی (بخزانة الحکمة) و الغریب فی امر هذه المکتبة ان ما نقل عنها فی الکتب لم یکن کافیا لیلقی علیها ضوءا لا من حیث منشؤها، و انما من حیث ماهیتها، ا کانت هی معهدا؟ ام مرصدا؟ ام مدرسة؟
ام مکتبة؛ و کل ما قال عنها المؤرخون لم یتجاوز الاحتمالات و الاستنتاجات، سوی انها من المتفق علیه انها اکبر مکتبة اذا کانت مکتبة فی عصرها، تزخر بمختلف العلوم، و ان منشئها علی اغلب الظن انه هرون الرشید، و قد کان لخزانة الحکمة رئیس و موظفون، و کان فیها کتاب و مترجمون ینقلون الکتب الفارسیة و الیونانیة الی العربیة و هی اول مکتبة اسلامیة، عربیة، عامة، فی التاریخ.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 211

دور الکتب العامة فی العصور العباسیة ببغداد

و بلغ ازدهار العلم و الادب فی بغداد القمة فی العصر العباسی، و قد وجه العباسیون عنایة کبری الی الکتب و المکتبات، و لا سیما المأمون منهم، فتأسست مکتبات عامة یرتادها العلماء، و المؤلفون، و الادباء، فی کثیر من المحلات العامة، و فی المدارس، و المساجد، فضلا عن المکتبات الخاصة التی کان یمتلکها البعض، و یقصرها علی نفسه، و اهل بیته، و قد بلغ من الاهتمام بالمکتبات ان صار لکل خلیفة من الخلفاء العباسیین مکتبة عرفت باسمه فی بغداد، و انا نورد هنا عرضا باسماء دور العلم ببغداد و هی دور الکتب العامة فی العصور العباسیة، دون الخاصة منقولة من (دلیل خارطة بغداد المفصل) للدکتور مصطفی جواد، و الدکتور احمد سوسه:
1- بیت الحکمة او دار الحکمة بالجانب الغربی.
2- دار العلم السابوریة بین السورین بالجانب الغربی من بغداد.
3- دار علم الشریف المرتضی بالجانب الغربی
4- دار علم حبشی بن معز الدولة.
5- دار علم غرس النعمة بن الصابی بالجانب الغربی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 212
6- دار علم ابن العلقمی بالجانب الشرقی.
7- دار علم ابن المارستانیة بالجانب الشرقی
8- دار علم المدرسة النظامیة بالجانب الشرقی.
9- دار علم دار المسناة بالجانب الشرقی.
10- دار علم المدرسة المستنصریة بالجانب الشرقی.
11- دار علم الشریف الزیدی بالجانب الشرقی.
12- دار علم السیدة زمردة خاتون فی تربتها بجوار معروف الکرخی بالجانب الغربی.
13- دار علم رباط المأمونیة بالجانب الشرقی
14- دار علم (التربة السلجوقیة) بالجانب الغربی.
15- دار علم (الرباط السلجوقی) بالجانب الغربی.
16- دار علم مشهد ابی حنیفة بالجانب الشرقی.
17- دار علم المدرسة البشیریة بالجانب الغربی.
18- دار علم الناصریة بالنظامیة بالجانب الشرقی.
19- دار علم ابن القصاب بالجانب الشرقی .
و یقول المؤلفان: «و لم نذکر دور العلم الخاصة ای خزائن کتب الافراد التی لا تنتفع بعلمها العامة من الامة فانها لم تبلغ ان تسمی دور علم».
و کل مکتبة من هذه المکتبات العامة حوت آلافا مؤلفة من الکتب النفیسة العامة، و النادرة الخاصة، فما ورد عن مکتبة الوزیر ابن العلقمی مثلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 213
قول ابن الطقطقی:
«حدثنی ولده شرف الدین ابو القاسم علی- ح- (ای ابن الوزیر العلقمی) قال اشتملت خزانة والده علی عشرة آلاف مجلد من نفائس الکتب» و جاء فی حوادث سنة 644 من کتاب الحوادث «و فیها فتحت دار الکتب التی أنشأها الوزیر مؤید الدین بن العلقمی فی داره و نقل الیها کتبا فی انواع العلوم» و جاء فی آخر کتاب (الموشح) للمرزبانی ص 381 «و نقلته من نسخة الوزیر محمد بن العلقمی و علیها خطه، و هی بخط الناسخ محمد بن علی یعرف بالنقاش» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 214

مکتبات النجف القدیمة

ذهب بعض المؤرخین الی ان تاریخ النجف العلمی یبدأ مع ابتداء السکن ای منذ القرن الثانی الهجری او بعده علی الاقل، بدلیل ظهور بعض الاجازات العلمیة بالاجتهاد التی یرجع تاریخها الی القرن الرابع، و بدلیل وجود خزانة للکتب فی النجف کان ممن عنی بها عضد الدولة البویهی المتوفی سنة 372 ه و بدلیل ما استنتج البعض من احتکاک النجف بالکوفة منذ أول تمصیر النجف و سکناها، و من هؤلاء الشیخ علی الشرقی الذی یقول: «ففی القرن الثانی للهجرة بدأت العمارة و التشیید لمدینة النجف تدریجیا، فانتقلت المدرسة من الکوفة الیها، و بقیت الکوفة تصب فی بحر النجف، و من بدایة القرن الثالث للهجرة ظهرت شخصیات علمیة فی النجف، مثل شرف الدین ابن علی النجفی، و احمد بن عبد اللّه الغروی، و ابن شهریار.
و قد یدل علی وفرة طلاب العلم فی النجف کثرة ما بذله عضد الدولة فی القرن الرابع علی علماء النجف و فقهائها» .
اما الامر الذی لا شبهة فیه فهو ان تاریخ النجف العلمی قد بدأ فی منتصف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 215
القرن الخامس الهجری، علی اثر هجرة الشیخ ابی جعفر محمد بن الحسن ابن علی بن الحسن الطوسی المعروف (بشیخ الطائفة)، فقد کان الشیخ الطوسی قد انفرد بزعامة الشیعة فی بغداد بعد وفاة الشریف السید المرتضی، و کان للشیخ الطوسی مکان مرموق فی الاوساط العلمیة، و کان له کرسی للبحث و الدرس، و کانت داره فی الکرخ مأوی الرواد و المتتبعین من رجال العلم و التألیف، و قد بلغ من العظمة و الرفعة العلمیة ان صارت عدة تلامیذه الذین یحضرون بحثه و کلهم من المجتهدین نحو (300) مجتهد.!!
و حین حدوث الفتنة بین الشیعة و السنة و استفحال امرها فی ایام طغرل بک اول ملوک السلجوقیین الذی ورد بغداد سنة 447 هجریة، و الذی شن علی الشیعة حملة شعواء هاجر الشیخ الطوسی الی النجف بعد ان نهب بیته و أحرقت کتبه.
قال ابن الجوزی فی حوادث سنة 449: «و فی صفر من هذه السنة کبست دار ابی جعفر الطوسی متکلم الشیعة بالکرخ، و اخذ ما وجد من دفاتره و کرسی کان یجلس علیه للکلام، و اخرج الی الکرخ و اضیف الیه ثلاثة سناجیق بیض کان الزوار من اهل الکرخ قدیما یحملونها معهم اذا قصدوا زیارة الکوفة فاحرق الجمیع» .
و کانت للشیعة ببغداد مکتبة انشأها (ابو نصر سابور ابن اردشیر) وزیر بهاء الدولة البویهی، سنة 381 ه بین السورین فی الکرخ، و کانت هذه المکتبة أهم المکتبات علی الاطلاق بالنظر لما کانت تحتوی علیه من کتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 216
قیمة منفردة، فقد جمع لها هذا الوزیر الکتب من مختلف الجهات و الاماکن من العراق، و فارس، و الهند، و الصین، و الروم علی ما ذکر محمد کرد علی .
و قد جاء فی المنتظم: ان محتویاتها لم تقل عن عشرة آلاف مجلد، و کان فیها مائة مصحف بخطوط بنی مقلة، و قد ضمت نوادر الکتب و اعلاقها، و من ذلک نسخة من دیوان عدی بن زید، الی مئات من الکتب التی انفردت بها هذه المکتبة السابوریة التی قد تسمی (بدار العلم) ایضا.
و کانت هذه الدار موئلا للعلماء و الباحثین یترددون الیها للدرس و المناظرة و المباحثة و من اشهر روادها کان الشاعر الفیلسوف ابو العلاء المعری فقد طالما ذکرها و ذکر بعض القائمین علی امرها، و آثر الاقامة بها یوم کان ببغداد .
و کان جماعة من العلماء یهدون مؤلفاتهم لهذه الخزانة و کان اکثرها بخظوط المؤلفین انفسهم، قال یاقوت الحموی: «و بها خزانة الکتب التی اوقفها الوزیر ابو نصر سابور بن اردشیر وزیر بهاء الدولة بن عضد الدولة و لم یکن فی الدنیا احسن کتبا منها، کانت کلها بخطوط الائمة المعتبرة و اصولهم المحررة» .
و کان یشرف علی هذه المکتبة و یتعهدها عدد من کبار الرجال و ائمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 217
العصر، و قد اورد التاریخ اسم الشریف المرتضی ضمن المعنیین بهذه المکتبة، و قد اکثر المؤرخون من ذکر هذه المکتبة، و ما تحتوی علیه من نفائس المخطوطات، التی مثلت اکبر مجموعة من مختلف الثقافات، و قد امر طغرلبک باحراقها ، فضاعت بذلک ثروة لا تعوض من العالم الاسلامی، و العالم العربی، و العالم الشیعی خاصة، فکان لا بد اذن من ان تتجه الفکرة بعد انتقال الشیخ الطوسی الی النجف و اتخاذها مرکزا علمیا، الی التعویض عن تلک الخسارة الجسیمة التی سببها احراق المکتبة السابوریة، فکان هذا مبدأ انتعاش المکتبة التی یسمیها البعض (بالمکتبة العلویة) و البعض (بالمکتبة الحیدریة) و البعض الآخر (بمکتبة الصحن الشریف) فی النجف، و هی المکتبة التی قیل ان تاریخ تأسسها یرجع الی القرن الثالث او ما بعده علی الظن القریب.
و بانتقال الشیخ الطوسی إمام الشیعة فی عصره الی النجف انتقل النتاج الفکری من جمیع المدن الاسلامیة الشیعیة لغرض التلمذة علی منبر النجف، و هاجر الجمع الغفیر من سائر الاقطار الشیعیة، بالادب و مواعین الأدب علی حد تعبیر الشیخ علی الشرقی، فأوجدوا فی النجف حرکة فکریة تمتاز عن الحرکة الفکریة فی أمهات المدن العراقیة، و کانت المکتبات و ما بدأت تجمع من الکتب النادرة، من أعظم أحداث الثقافة، و اهم ما تتمیز به النجف، حتی لقد ندر ان یکون هنالک عالم دینی دون أن تکون له مکتبة خاصة، تحتوی علی الکثیر او القلیل من نوادر الکتب الخطیة الفریدة.
یقول الدکتور صالح احمد العلی «... و بدأت العنایة الشعبیة و الرسمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 218
فی حفظ التراث و منعه من التسرب، و قامت محاولات متعددة لجمع المخطوطات و صیانتها فی مکتبات عامة موحدة یتاح للراغبین فیها القراءة و البحث، و اظهر تلک المحاولات هی التی قام بها نفر من (الغیورین) و العلماء فی النجف و البصرة لهذا الغرض» .
و لقد بلغ من شأن الکتاب و حتی الکتاب (العادی) ان یتقبله البزاز، و البقال، و غیرهما، رهینة عن مبلغ ربما تجاوز ثمنه اضعافا مضاعفة، و کثیرون اولئک الذین رهنوا مکتباتهم کلها أو بعضها فی الأجیال- الماضیة للخروج من ضائقة مالیة کبری .. و انحصرت الثروة الکبیرة- ان جاز ان تسمی ثروة- عند هذه الطبقة من أهل العلم، و البحث، و الدرس بالکتب، فراجت تجارتها، و راح یطوف تجار الکتب فی أغلب الأقطار الاسلامیة کالهند، و ایران، و یجمعون الکتب النادرة الفریدة و غیر الفریدة، من المخطوطات القدیمة فیأتون بها الی النجف و یزفون البشارة الی هواة الکتب، و العلماء، و الأدباء، بما احتوی علیه تطوافهم من نفائس الکتب، و نوادرها قبل وصول الصنادیق، أو قبل فتحها، فیستعد الشراؤون للشراء، قبل وصول البضاعة بأیام، و من الذین عرفوا بمثل هذه التجارة فی الحقبة الأخیرة کان آل الدشتی، و آل زاهد، و آل العاملی، و آل الشیخ صادق الکتبی، و کان هذا أشهرهم.
و قد التزم الوراث حین یموت المورث من أصحاب الکتب و الخزائن بالمحافظة علی المخلفات من هذه الکتب، و رعایتها، فلا یفرطون فیها إذا کان الوارثون من أهل العلم و المعرفة ما لم تکن هنالک حالة اضطراریة ترغمهم علی اقتسام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 219
هذه الکتب، او بیعها، فاذا ما اضطروا لبیع کتبهم نزلوا بها الی سوق (المزاد) و سوق (المزاد) هذا سوق خاص بالکتب، یقام فی کل یوم خمیس، و یوم جمعة، من کل اسبوع، و هما الیومان اللذان تعطل فیهما الدراسة فی النجف، فینتهز باعة الکتب هذه الفرصة، و ینزلون بالکتب التی یعهد الیهم ببیعها الی السوق، و تبدأ المزایدة من قبل الاساتذة و شیوخ العلم، و الهواة، و الطلاب، و لم یزل هذا السوق قائما منذ العصور القدیمة حتی الیوم،
و عرفت النجف فی عصرها الاخیر جماعة من العلماء عدّوا حججا فی معرفة الکتب النادرة من المخطوطات و قیمتها، و قد کسب هؤلاء من الشهرة ما استدعی ان یذکرهم التاریخ الحدیث کخبراء بالکتب، و مؤلفیها، خبرة ابن الندیم، و قد ادرک جیلنا منهم الشیخ علی کاشف الغطاء، و الشیخ محمد السماوی، و السید جعفر بحر العلوم، و الشیخ عبد الحسین الحلی، من المتوفین، و من مشاهیر اهل الخبرة من الاحیاء الیوم الشیخ اغا بزرک، و الشیخ محمد رضا فرج اللّه.
و فی یوم (المزاد) تتجه الانظار کلها الی الخبراء الذین یعرفون قیمة الکتب النادرة و المخطوطات، و خطاطیها، فینافسونهم فی شراء الکتب التی یحاول هؤلاء الخبراء شراءها، لذلک کثیرا ما اضطر هؤلاء الخبراء للاستعانة بالبعض لشراء الکتب التی یغیعونها لهم، و هم یجلسون عن کتب منهم خوفا من منافسة الجهلة التی قد تسبب ارتفاع ثمن الکتاب اکثر من ثمنه المتعارف.
و یقول جرجی زیدان «و فی النجف عادة قدیمة لا توجد فی سواها من بلاد العراق و هی انه فی کل نهار خمیس، و جمعة، تقوم سوق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 220
تعرض فیها الکتب، و تباع فی المزایدة، فمنها ما یباع بثمن بخس و هو ثمین، و منها ما یباع بثمن غال و هو لا یساوی فلسا، و ما ذلک الا من جهل البعض و درایة البعض الآخر و ذکائهم فی مشتری المصنفات» .
و کثیرا ما تعرض فی سوق (المزاد) هذا رزم من اوراق و کتب و کراریس مشدود بعضها الی بعض، فینزّلها من (یدلّل) بالکتب و ینادی علیها فی میدان البیع باسم (الصفقة) و ینادی علیها بصوت عال قائلا: «انها صفقة لا تباع الا جملة واحدة علی کل عیب شرعی» و کثیرا ما یعثر المشترون فی هذه (الصفقات) علی نفائس لا تثمن من المواثیق التاریخیة، و الکتب المفقودة، و النصوص الضائعة.
و لم یکن الانتقال فی العصور السابقة من بلد الی آخر خصوصا اذا کانت المسافة شاسعة بالامر الهین الیسیر، لذلک فان الکثیر ممن یکون قد انهی دراسته، و راهق الاجتهاد، و ازمع النیة علی العودة الی بلده، انزل کتبه الی سوق المزاد، و باعها، او انه وقفها علی طلاب العلم و المعاهد فصار الکتاب الذی یدخل النجف لا یخرج منها الا نادرا و فی حالات استثنائیة، فتوسعت مکتبة النجف و صارت المخطوطات النادرة، سواء من المصاحف الفنیة، او الکتب التاریخیة، او الدینیة، و الادبیة، و الکراریس فی زیادة مستمرة جعلت مکتبات البیوت، و المکتبات العامة، تزخر بها و تنمو یوما بعد یوم.
یقول جورجی زیدان عن مکتبات بغداد «هی ام المکتبات الا ان کتب النجف اقدم خطا و اندر وجودا، و اتقن کتابة، و موضوعاتها مختلفة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 221
و تاریخ المکتبات النجفیة، لم یعرف مکتبة عاشت اکثر من 100- 150 سنة باستثناء (المکتبة العلویة) فقد تموت المکتبة بموت صاحبها، و تبعث فی مکان آخر بانبعاث شخص جدید، و کم تألفت مکتبات ذات صبغة عامة، حوت مئات الکتب الموقوفة، ثم ما لبثت ان زالت من الوجود، او استحالت الی مکتبات خاصة.
یقول الشیخ علی الشرقی: و من النوادر ان شیخا من شیوخ الادب یظهر انه کان رقیق الدین، عرض علی شراء کتب مخطوطة، کانت علیها شارة التحبیس، فقلت له کیف تبیع الوقف المحبّس؟ فقال انی لا اری الملکیة فی الکتاب، لان المؤلف یرید بث المعرفة و اشاعة افکاره، و ما ملکیة الکتاب الا استیعابه قراءة فقط، و علیه فالکتاب لا یملک، اما الثمن المبذول فهو عوض عن قراءته فقط، و لما کانت القاعدة الفقهیة القائلة (لا وقف الا فی ملک) فمن الغلط ان یقال هذا الکتاب وقف.
و قریب من هذا الرأی ما ذهب الیه جماعة من ذوی الفضل ایثارا و تسبیلا للمنفعة فی کتبهم لکل من یرید الاستفادة بقراءتها، قائلین: ان غلة الکتاب قراءته، و زکاة تلک الغلة اعارته، و یعاکس هذا الرأی من یوصد باب مکتبته فی وجوه الطلاب، شحة و ضنة، و کثیر اولئک الذین یقبضون علی الکتب قبضة الشحیح.
و یقول الشرقی: «اتفق لی و أنا صبی ان الج علی ضنین بالکتب، مکتبته التی صفت فیها الکتب النفیسة وراء ابواب الزجاج، و کانت المکتبة مفروشة بالطنافس، و السجاد الایرانی الممتاز، فوجدت صاحب المکتبة جالسا علی طراحة فی زاویة تلک المکتبة، و هو کفیف البصر، و الی جانبه قاری‌ء یتلو علیه ما یرید تلاوته، و بینا انا اطارحه الحدیث رفعت یدی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 222
فاصطدمت بباب الخزانة، و عندما سمع نقرها اضطرب انزعاجا، و استفهم بارتباک، و لم تهدأ روعته حتی عرف انها الصدفة و لم یحدث شی‌ء ..!!»
و یتابع الشرقی حدیثه فیقول: «و یدور الزمن، و یموت ذلک الجمّاعة للکتب، و یهم وارثه بحمل ما فی المکتبة الی معرض الکتب للبیع فیستعین بی. و برفیق لی لنعرفه بالمهم من تلک النفائس، و تثمینها و عند دخولی المکتبة دهشت حین وجدتها شعثاء، موحشة، قد فارقت رونقها، و کان التراب فراشها و الغبرة تعلو خزاناتها، و مد لنا حصیر جلسنا فوقه، و کان رفیقی لا یعلم بما یخالجنی، و بینا نحن منهمکون باستعراض بعض الکتب المبثوثة فی تلک المزبلة لا المکتبة، اذا برجة تهز الغرفة، فحولت بصری و وجدت احد الورثة قد وضع سلما خشبیا و صعد علیه واضعا یده وراء النضدة من الکتب، یدفعها لتطیح علی الارض لانه تعب من تناولها کتابا کتابا، فتذکرت ذلک الکفیف و فزّته من نقرة الباب، و کیف اربکته، و قلت من لی به لیسمع و یشاهد ما فعله هذا العابث البطر» .
لذلک فلیس الیوم اثر، و لا بعض اثر للمکتبات العامة التی الحقت بالمدارس الدینیة العلمیة قدیما.
اما المکتبات الخاصة فکم بالاولی ان تزول من الوجود، بعد زمن قصیر، حین یکون الوارثون لها مضطرین لبیعها، او مهملین لرعایتها، و علی هذا فما کان من المکتبات فی القرون الاخیرة کالرابع عشر و الثالث عشر مثلا هو غیر ما کان فی القرن الثانی عشر و الحادی عشر و ما قبل ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 223
و ما کان یملکه آل (الملالی) مثلا من نفائس المخطوطات فی اوائل القرن الثالث عشر هو الیوم من ممتلکات طوائف کثیرة من اهل العلم فی النجف و هو یؤلف جزءا من مکتبات لم یکن لها ای وجود قبل هذا القرن، و هذا ما جعل من الصعب علی المؤرخین ان یعرضوا لتأریخ هذا العدد الهائل من المکتبات التی کانت تنشأ فی جیل و تزول فی جیل آخر، لقلة المراجع التی یعول علیها المؤرخ و مع ذلک فاننا سنعرض هنا کل ما وسعنا أن نستخلصه من المصادر المثبتة، او الذی حققناه بأنفسنا مما یدخل ضمن معلوماتنا الخاصة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 224

المکتبة العلویة

اشارة

و قد تسمی بالمکتبة (الحیدریة) او (الخزانة الغرویة) او (الخزانة العلویة) او (مکتبة الصحن) و هذا اسم اطلق علیها مؤخرا، و لم یعرف بالضبط مقر هذه الخزانة او المکتبة القدیم، فقد طرأت علی المرقد الشریف و ما یحیط به من بناء تطورات کثیرة، ذکر التاریخ کیفیة تطور بعضها و اغفل بعضها الآخر، لذلک لم یعرف قبل القرن الثامن اکثر من ان خزانة کانت للکتب خصت بالحضرة العلویة، و ان هذه الخزانة یرجع تاریخها الی القرن الرابع إن لم یکن اقدم من ذلک، و ان عضد الدولة البویهی المتوفی سنة 372 ه 982 م کان من المعنیین بها، و ان شهرتها بسبب ما وقفه علیها الملوک، و الامراء، من المخطوطات بدأت تتسع باتساع رقعة النجف، و اهمیتها العلمیة، خصوصا بعد منتصف القرن الخامس الذی شرع فیه طلاب العلم یقصدون النجف من مختلف الجهات و الاقطار.
یقول الشیخ علی الشرقی: «ان الجالیات و الرواد الهابطین علی المدرسة النجفیة من بلاد ایران، و الهند، و اذربایجان، و ماوراء النهر، و القوقاز، و عاملة، و الخلیج، و بعض نواحی الیمن، کانوا یفدون علی النجف بثرواتهم المادیة، و الادبیة، و اهمها امهات الکتب المخطوطة من کتب الفلسفة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 225
و الریاضیات، و الادب، و الفلک، و التاریخ، و المسالک، و الممالک، و قد کان رواد العلم و طلابه یسکنون علی الاغلب المدرسة العلویة الکبری (الصحن) و منهم المقیم فی غیرها من المدارس، و الدور الخاصة، و کان لهم نقیب ینظّم شؤونهم، و کانت فی المدرسة العلویة- ای الصحن الشریف- خزانة کتب نفیسة تجمعت مما یحمله المهاجرون، و کانوا بعد ما یتزودون بزاد العلم و یعتزمون العودة الی اوطانهم، یترکون ما حملوه من نفائس الکتب و ما الفوه من رسائل و اطروحات فی خزانة المدرسة العلویة محبّسة علی طلابها» .
و فی المنتصف الثانی من القرن الثامن الهجری نری نشاطا منقطع النظیر یعم الاوساط فی جمع الکتب و شرائها، و جلبها الی النجف، و وقفها علی (المکتبة العلویة)، کما لو کان تأسیس هذه المکتبة یبتدی‌ء لاول مرة، و السبب فی ذلک هو ان حریقا قد شب فی المشهد العلوی، بسبب النار التی اندلعت من احد القنادیل المعلقة و تسربت الی الاخشاب، ثم اتصلت بهذه المکتبة فأحرقتها، و کان ذلک فی سنة 755 هجریة 1354 میلادیة علی ما روی ابن عنبة المتوفی سنة 828 ه اذ قال: «و قد کان بالمشهد الشریف الغروی مصحف فی ثلاثة مجلدات بخط امیر المؤمنین علیه السلام احترق حین احترق المشهد سنة خمس و خمسین و سبعمایة» .
و قد ضمن الشیخ محمد السماوی ارجوزته هذه الواقعة، مؤرخا وقوع الحریق و قیام بناء المشهد من جدید، اذ قال عن المشهد یصفه قبل ان یحترق:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 226 و وضعوا التبر به و الفضّةمعززین و استهانوا القضّة
ثم قال:
و اکثروا الساج هناک فاحترق‌بضوء قندیل به قد اعتلق
فی عام خمسة و خمسین ورامئاته السبع علی ما حررا
فقام فی بناء ذاک الدائراویس بن الحسن الجلائری
و اعتاض من اخشابه الرخاماهیاکلا منحوتة ضخاما
موصوفة علی اعتدال سمت‌فی حسن شکل و بدیع نحت
ثم یقول:
رأیت منها قطعا رواقی‌فی جوف سرداب من الرواق
و من هنا تأسست (المکتبة العلویة) من جدید و قد قام بتأسیسها السید صدر الدین بن شرف الدین بن محمود بن الحسن بن خلیفة الکفی المعروف بالآوی، مستعینا بفخر المحققین ابی طالب محمد بن الحسن الحلی، المتوفی سنة 771 ه و سمیت (بالخزانة العلویة) و ذلک سنة 760 ه.
و حین مات (الآوی) اوصی ابن اخیه بأن یشتری بثلثه من المیراث الکتب و یقفها علی (الخزانة العلویة)، و فی خلال خمس سنوات من تأسیس هذه المکتبة تکاملت کتبها المهمة و عادت لها تلک الاهمیة السابقة، بما ابتیع لها من الکتب النادرة التی تم شراؤها من بغداد خاصة، فقد صادف ان اصیبت بغداد بقحط شدید من جراء قلة الغلّة، فاضطر الکثیر من ارباب موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌7 ؛ ص226
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 227
المکتبات ببغداد الی بیع کتبهم، و کان اکثر المشترین من النجف.
و قد ذکر الواعون من النجفیین فی اوائل القرن الحالی انهم قد رأوا علی رفوف (الخزانة العلویة) عشرات الالوف من الکتب بما فیها من نسخ القرآن الاثریة، و کتب الادعیة و الاوراد .
یقول الشیخ محمد السماوی عن تأسیس هذه المکتبة.
و تم فی خمس سنین تهیئةفی سنة الستین و السبع مئة
بعزمة (الصدر الکفی الآوی)و (الفخر) ذی التحقیق فی الفتاوی
و خزنا کتبا به لا تحصی‌لا سیما (الآوی) حین أوصی
لابن اخیه فی شراء الصحف‌من ثلثه و جعلها فی الوقف
و کانت الکتب بذلک الزمن‌تحصل للمبتاع فی ادنی الثمن
لان بغداد اصیبت بغلافصیرت کتب العلوم ما کلا
و استبدلت کتبهم بالغلةاهل (الغریین) و اهل (الحلة)
و قد تواترت الروایات عن کثرة الکتب التی کانت تضمها المکتبة العلویة، و عما کانت تحتوی علیه من المخطوطات التی انحصرت بها دون مکتبات العالم الاسلامی، و خصوصا المصاحف الثمینة المزرکشة، و المکتوبة بالذهب، و بأقلام مشاهیر الکتاب فی عصورهم، مما اعتبرت من الاعلاق الثمینة مما کان یهدیها الملوک، و الامراء، و علی الاخص ملوک ایران.
و یظهر من استعراضنا لتاریخ النجف الثقافی ان کان لهذه المکتبة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 228
الموکلین و الامناء، و القائمین برعایتها فی مختلف الازمنة، من یرجع الیهم فضل المحافظة علیها طوال السنین الماضیة، و قد تسرب الاهمال الیها و فترت المراقبة، و الرعایة، منذ اواخر القرن الثالث عشر الهجری فامتدت الایدی الیها بالسرقة من جهة، و عاثت الارضة بکتبها من جهة اخری، حتی لم یبق منها الیوم غیر الاسم اذ لا تتجاوز کتبها الیوم المئات و هی محصورة محصورة فی خزانة مقفلة لا تفتح الا للزائرین الاجانب و للخاصة.
و کان الشیخ کاظم الدجیلی قد زار هذه الخزانة فی سنة 1332 ه- 1914 م فذکرها قائلا: «ان الکتب الموجودة فی خزانة الامیر تقسم الی ثلاثة اقسام، قسم لصقت اوراقه بعضها ببعض من الرطوبة، و قسم اکلته الارضة و تمزقت اوراقه، و قسم بین ناقص و تام» و یعلق کورکیس عواد علی الدجیلی قائلا:
«و فی هذا القول علی ما فیه من اسراف دلیل علی ما اصاب کتب الخزانة من محن» . و لقد قام فی السنین الاخیرة باستعراض هذه المکتبة و التحقیق فی کتبها جماعة من اهل الخبرة و سجلوا بعض کتبها النادرة، و نشر البعض منهم تحقیقه فی المجلات، و الصحف، و الکتب، و لم یزل بعض التحقیق عما تحتوی علیه هذه المکتبة من المخطوطات النفیسة و النادرة مخطوطا فی مجامیع اولئک المحققین، و کان من اشهر من عرف من المتأخرین بالتحقیق فی کتب هذه المکتبة، الشیخ علی آل کاشف الغطاء، صاحب کتاب (الحصون المنیعة) المخطوط، و صاحب کتاب (نهج الصواب فی المکاتب و الکتابة، و الکتاب) المخطوط، کما عرف به أیضا الشیخ محمد السماوی، و السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 229
هبة الدین الحسینی، و السید جعفر بحر العلوم، و الشیخ اغا بزرک، و الشیخ علی الشرقی، و الشیخ کاظم الدجیلی، و الشیخ محمد رضا فرج اللّه، و الشیخ جعفر محبوبة، و کورکیس عواد. و التحقیق الذی قام به الشیخ جعفر محبوبة بنفسه، و الذی اورده فی کتابه (ماضی النجف و حاضرها) معتمدا علی (نهج الصواب) و ما استعرضه من الکتب المخطوطة التی انفق من اجلها وقتا طویلا فی الفحص و التفتیش، لیعتبر من اهم المصادر الموثوقة فی معرفة هذه المکتبة فی تاریخها الاخیر، کما یعتبر تحقیق کورکیس عواد، الذی لخصه من امهات الکتب، و استقاه من المصادر الموثوقة عن هذه المکتبة، و الذی اورده فی کتابه (خزائن الکتب القدیمة فی العراق) من اهم المراجع التاریخیة و اننا و نحن نعرض لاسماء النادر مما بقی من هذه المکتبة نعتمد هذه المصادر کلها، ثم ما استطعنا ان نقف علیه نحن ممن عرفنا من أهل الخبرة الثقاة الذین ادرکناهم.

أهم مخطوطات المکتبة العلویة

اشارة

یقول کورکیس عواد و بالرغم مما حل بهذه الخزانة العظیمة الشأن من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 230
رزایا و ملمات فی خلال مئات السنین، فانها ما زالت الی یومنا هذا تحوی کتبا عدیدة بینها العتیق، و الفرید، و النفیس، لا سیما المصاحف الثمینة، و قد وصف بعض الباحثین جملة من هذه الاسفار و لا یسعنا ذکرها هنا کلها بل نذکر منها اقدمها و اشهرها.

المصاحف

فمن المصاحف:
1- مصحف قدیم جدا مکتوب علی الرق بالخط الکوفی، و تنسب کتابته الی الامام علی (ع).
2- مصحف قدیم جدا مکتوب علی الرق بالخط الکوفی و تنسب کتابته الی الامام الحسن (ع) بن الامام علی بن ابی طالب (ع) و کلا هذین المصحفین من انفس الآثار الخطیة فی هذه الخزانة و أثمنها و اقدمها عهدا.
صفحة من القرآن المنسوب خطه للإمام علی (ع)
3- مصحف بالخط الکوفی کتب سنة احدی و ثلثمائة ه 913 م.
4- عدة مصاحف ثمینة لاشهر الخطاطین محلاة بالذهب، و هی من هدایا سلاطین الشیعة و وزرائهم فی مختلف العصور، و هی مختلفة الخطوط ففیها الکوفی، و الاندلسی، و الیمانی، و احدها بخط یاقوت المستعصمی، و الآخر بخط احمد النیریزی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 231
5- و بین هذه المصاحف قطعة من مصحف بقطع سفینة، مکتوب علی رق بخط کوفی، و کتب فی آخره: «تم سنة اربعین من الهجرة، کتبه علی بن (ابو طالب) .
6- و هنالک ما یقرب من اربعمایة مصحف بخطوط مختلفة، و یرجع خط البعض منها الی سنة اربعمایة الهجریة، و اغلبها خطوط تعتبر آیة فی الفن و الابداع، و غایة فی الزخرفة و الجمال و التلوین،

المخطوطات

و من المخطوطات:
1- کتاب قوی الاغذیة- و لعله من مؤلفات حنین بن اسحق، و هی نسخة قدیمة جدا، کتبها محمد بن یوسف الوراق بخط کوفی.
2- المسائل الشیرازیة- تألیف الشیخ ابن علی الحسن بن عبد الغفار (الفارسی النحوی) نقلت علی نسخة المصنف، و علیها اجازة بخط المصنف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 232
کما یلی:
«قرأ علی ابو غالب احمد بن سابور هذا الکتاب و کتب الحسن بن احمد الفارسی سنة 363 ه» و هی من کتب السید جلال الدین عبد اللّه بن شرفشاه لحسینی، وقفها سنة 810 هجریة .
3- شرح مقصورة ابن درید لابن خالویه و قد قرئت علی شارحها ابن خالویه و علیها اجازة بخطه، و قد قرأها علیه ابو الحسن السلامی و علیه صورة قراءته و هذا نصها:
«بلغت قراءة علی ابی عبد اللّه محمد بن عبید اللّه العجمی حرسه اللّه، و فرغت منها لیلة السبت لخمس بقین من شعبان سنة 375 ه (985 م)، و کتب سلامة بن محمد بن حرب و حسبنا اللّه وحده» و هی من موقوفات السید صدر الدین بن السید شرف الدین مجدد المکتبة العلویة یرجع تاریخ وقفها الی سنة 775 م.
4- شرح شعر النابغة، و مقصورة ابن درید، و قصائد للاعشی، و امری‌ء القیس، قطعة صغیرة منه کتبت فی نحو المائة الخامسة للهجرة.
5- شرح دیوان المتنبی لابن العتایقی، بخط الشارح سنة 781 ه- 1374 م، و یقول الشیخ جعفر محبوبة: «وقفت علی الجزء الثانی منه و هو بخطه، و فی هذا المخزن من مؤلفات هذا الشیخ المتنوعة فی سائر الفنون ما یقرب من ثلاثین مؤلفا و قد فرغ من تألیف بعضها سنة 887 ه».
6- کتاب المعتبر فی الحکمة، لابی البرکات هبة اللّه بن علی بن ملکا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 233
البغدادی، طبیب المستنجد باللّه (قطعة منه کتبت فی بغداد سنة 538 ه 1143 م).
7- الجزء الثانی من التبیان فی تفسیر القرآن: لابی جعفر محمد بن الحسن ابن علی الطوسی، المتوفی فی النجف سنة 460 ه 1067 م، کتب فی سنة 576 ه 1180 م، کتبه محمد بن محمد و صححه فی التاریخ المذکور علی ابن یحی، و هو من موقوفات السید جلال الدین عبد اللّه بن شرفشاه الحسینی وقفه فی العاشرة من شعبان سنة 810 ه .
و یقول الشیخ جعفر محبوبة الذی تتبع هذه الکتب بنفسه، و وقف علیها فی الخزانة العلویة: ان هناک اوراقا کثیرة مبعثرة من هذا التفسیر و لا یبعد ان تتألف منها نسخة تامة.
8- معجم الادباء: لیاقوت الحموی المتوفی سنة 626 ه 1228 م الجزء الاول منه بخط المؤلف یاقوت، و قال الشیخ جعفر محبوبة: توجد اوراق مبعثرة منه کثیرة، و یعلق کورکیس عواد علی هذه النسخة الفریدة المکتوبة بخط یاقوت نفسه فیقول:
«فی سنة 1907 م نشر المستشرق الشهیر مرجلیوت (D .S .Margoliouth) الجزء الاول من معجم الادباء، ثم اعاد طبعه مصححا فی سنة 1923، و قد ذکر هذا الناشر انه لم یعثر الا علی نسخة خطیة واحدة من هذا الجزء محفوظة فی خزانة بادلیان باکسفورد، و هی نسخة حدیثة الخط، کثیرة التصحیف، و التحریف، کتبت فی نجو المائة السابعة عشرة للمیلاد، فما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 234
انفس نسخة الخزانة الغرویة و ما أعظمها شأنا».
9- کتاب فی اللغة: (علی غرار فقه اللغة للثعالبی، کتب فی حلب سنة 640 ه 1242 م و لیس علیه اسم مؤلفه).
10- الاسرار الخفیة، للعلامة الحلی المتوفی سنة 726 ه 1325 م و هی و هی کتاب فی المنطق، و الطبیعی، و الالهی من العلوم، یقع فی ثلاثة اجزاء و بخط المؤلف.
11- التقریب: لابی حیان اثیر الدین محمد بن یوسف الاندلسی النحوی المتوفی سنة 745 ه 1344 م مکتوب بخط المؤلف الاندلسی.
12- شرح کتاب الایلاقی فی الطب: لابن العتایقی الحلی من ابناء المائة الثامنة للهجرة، و قد کتبه شارحه سنة 755 ه 1354 م فی المشهد الغروی، و یقول کورکیس عواد: و فی خزانة هذا المشهد من تصانیف ابن العتایقی نحو ثلاثین کتابا، و یقول صاحب کتاب (ماضی النجف و حاضرها) فیما رآه هو فی هذه الخزانة: ان هناک کتبا کثیرة فی الطب و غیره، و بعضها مقطوعة الاول و الاخر لم یعرف اسم الکتاب و المؤلف.
نموذج من خط یاقوت المستعصمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 235
13- التصریح فی شرح التلویح الی اسرار التنقیح، فی الطب لابن العتایقی الجزء الثانی کتبه شارحه بخطه فی سنة 772 ه- 1370 م فی المشهد الغروی .
14- شرح الملخص لعلی بن عمر الکاثبی القزوینی، الجزء الثانی وقف سنة 779 ه 1374 م.
15- شرح صفوة المعارف فی الهیئة لابن العتائقی و هی بخط الشارح کتبها سنة 787 ه 1385 م فی المشهد الغروی.
16- (الشهدة شرح تعریب الزبدة) فی الهیئة لابن العتائقی، و هی بخط الشارح.
17- نهایة الاقدام فی علم الکلام: لفخر الدین الرازی کتبت فی حدود السبعمائة.
18- کتاب الملتقط، للزمخشری فی اللغة، و هو بخط قدیم و مختار من کتابه المحکم.
19- کتاب تقریب المقرب فی النحو لابن عصفور.
20- کتاب المباحثات، للشیخ الرئیس، کتبت النسخة سنة 718 و هی من موقوفات صدر الدین الآوی.
و هناک کتب اخری لمؤلفین للعروفین و فی ازمنة مختلفة منها کتب لابن کمونة الیهودی البغدادی بخطه و قد کتبت فی حدود 670 ه- 1271 م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 236
و قد ذکر هذه الخزانة عدد من المؤرخین و المتتبعین الذین شهدوا کتبها، و نقلوا ظنها، و اشاروا الی قیمتها.
یقول الشیخ جعفر محبوبة فی (ماضی النجف و حاضرها) عن هذه الخزانة: انه قد ذکرها السید علی بن طاووس فی کتاب (الطرائف) فانه ذکر فیه کتابا لاحمد بن حنبل فی مناقب اهل البیت (ع) و هو من جملة کتب (المخزن العلوی) و فی (ریاض العلماء) المخطوط قال فی ترجمة الشیخ ابراهیم الکفعمی ما لفظه: «و سماعی انه ورد المشهد الغروی و اقام و طالع فی کتب الخزانة الغرویة، و من تلک الکتب الف کتبه الکثیرة فی انواع العلوم و من تلک الکتب مؤلفاته».
و اضاف محبوبة: «و توجد فی خزانة السید عیسی العطار ببغداد بعض الکتب الثمینة مستنسخة علی کتب هذا المخزن».
و ذکر الشیخ علی حفید صاحب المعالم فی کتابه (الدر النضید) کتاب (الانوار الالهیة فی الحکمة الشرعیة) تألیف السید علی النیلی النجفی و اطال فی وصفه، و هو من جملة کتب هذا المخزن.
و آخر من ذکر هذا المخزن علی روایة (ماضی النجف و حاضرها) هو السید عبد اللطیف الشوشتری فی کتابه (تحفة العالم) المطبوع فی بمبی فانه جاء الی النجف فی حدود 1200 هجریة و اجتمع بأعلام النجف فی عصره کالسید بحر العلوم، و الشیخ جعفر کاشف الغطاء، و السید محمد زینی و غیرهم و ذکر منهم الملا محمود بن الملا صالح الکلیدار و قال:
«اطلعنی علی کتب الامیر (ع) و فیها من نفائس العلوم المختلفة التی لم توجد فی خزائن السلاطین».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 237
و یبدو مما ورد فی (تحفة العالم) ان (المکتبة العلویة) الی اوائل القرن الثالث عشر الهجری بل الی ما بعد هذا التاریخ کانت لم تزل علی روعتها، و ضخامتها و احتوائها علی عدة آلاف من الکتب و یؤید هذه الفکرة ما رواه المعمرون ممن ادرکهم جیلنا بأنهم قد شاهدوا عشرات الالوف من الکتب مصفوفة فی الرفوف کما اشرنا الی ذلک قبلا.
و قد وردت فی تاریخ هذه المکتبة اسماء عدد ممن تولوا الاشراف علی هذه الکتب و رعایتها، مما یدل علی شدة الاهتمام بها فی العصور السابقة، و من اشهر من ورد ذکره من خزنة هذه المکتبة:
1- یحیی بن علیان: کان من کبار علماء عصره، و قد ورد ذکره فی (فرحة الغری) .
2- محمد بن احمد بن شهریار: یقول کورکیس عواد: وقفنا علی ذکره فی اول کتاب الصحیفة السجادیة فی قول القائل: «حدثنا السید الاجل نجم الدین بهاء الشرف ابو الحسن محمد بن الحسن بن احمد بن علی ابن محمد بن عمر بن یحیی العلوی الحسینی رحمه اللّه، قال: اخبرنا الشیخ سعید ابو عبد اللّه محمد بن احمد بن شهریار الخازن لخزانة امیر المؤمنین علی بن ابی طالب (ع) فی شهر ربیع الاول من سنة ست عشرة و خمسمایة 1122 م قراءة علیه و انا اسمع قال ..».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 238
3- و یقول الشیخ جعفر محبوبة: «و کان فی اوائل القرن العاشر و الحادی عشر رجال العلم یترددون الی هذا المخزن للمطالعة و الاستنساخ فرأیت بعض الکتب المستعارة من هذا المخزن و علیها اسم المستعیر و المعیر، و یظهر من بعضها ان هناک غرفتین احداهما صغیرة و الاخری کبیرة، فیها الکتب و علیها قیّم معلوم، و فی یده اعارتها، و اصلاحها، منهم محمد جعفر الکیشوان و هو آخرهم».
4- و من الذین وردت اسماؤهم کخزنة و قیمین علی المکتبة العلویة فی الصحن الشریف کان محمد حسین الکتابدار و قد افاد هذا من هذه الخزانة فقد ذکر بعض الاعلام فی کتاب (عمدة الطالب) انه رآه بخط محمد حسین (الکتابدار) و قد فرغ من کتابته سنة 1095 ه- 1683 م و علیه حواش بخطه، و قد عرف بأنه من العلماء فی الانساب.
هذا کل ما بقی الیوم من تلک المکتبة الزاخرة بالآلاف من الکتب القدیمة، و لو لم یهتم بها الشیخ محمد السماوی الذی عنی بما بقی منها ثم السید محمد الرفیعی یوم کان نائبا لسادن الروضة الحیدریة قبل ما یقرب من ثلاثین سنة، و یجمعها فی احدی غرف الصحن بمعرفة الشیخ محمد السماوی و تصنیفه لها، لذهبت هذه البقیة من المصاحف و الکتب التی اوردنا اسماءها و غیرها ضیاعا، فکان للشیخ محمد السماوی فضل کبیر علی هذه المکتبة.
و لقد سمعنا من الامام السید محسن الامین و نحن فی حدیث عن (المکتبة العلویة) قال: ان تألیف موسوعة (اعیان الشیعة) کان یتطلب منی ان ازور الکثیر من المکتبات العامة و الخاصة سواء فی لبنان، او سوریا، او
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 239
العراق، او ایران، و اقلب المخطوطات خاصة بحثا عن تراجم الرجال، و قد وجدت فی عدد کبیر من هذه المکتبات و لا سیما مکتبات النجف نسخة او اکثر من الکتب الموقوفة علی (خزانة الصحن) ..
و سمعنا هذا القول من الشیخ محمد السماوی عن کتب هذه المکتبة، و کیفیة امتداد الایدی الیها حتی صار کثیر من کتبها الموقوفة من ممتلکات الکثیر من المکتبات الخاصة.
و یقول الشیخ علی الشرقی عن هذه المکتبة: لم یبق الیوم الا ما یقارب الاربعمایة نسخة و قد وقفت بنفسی علی کتاب فی علم المنطق کان فی بیت احد الفضلاء من النجفیین، کتب علی ظهره ما نصه:
«هذا کتاب من کتب الخزانة العلویة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 240

المکتبات العامة قدیما و حدیثا

اشارة

و لم یحدثنا تاریخ النجف بعد (الخزانة العلویة) عن المکتبات العامة القدیمة او المکتبات الشخصیة الا حدیثا عرضیا، مقتضبا لا یکاد ینقع غلة، ذلک لان تاریخ المکتبات العامة فی النجف ذو اتصال مباشر بتاریخ المدارس الدینیة، فحیث وجدت المدرسة الدینیة و وجد ساکنوها من الطلاب، وجدت فی الغالب المکتبة العامة فیها، فیرجع الیها طلابها او غیر طلابها، یستعیرون منها الکتب الموقوفة علیها، ثم لا یمر بعض الزمن حتی تزول المدرسة من الوجود، فتزول المکتبة معها اما بسبب تقادم عهدها، و انهدامها، او انعدام موارد الانفاق علیها، فتقوم مدرسة اخری، و مکتبة و خری، فی محل آخر من النجف، ثم تزول هذه من الوجود کما زالت مدارس من قبل، و نحن الیوم اذ نستعرض تاریخ المدارس الدینیة الحاضرة، و تاریخ مکتباتها العامة، فلن نجد بینها مدرسة معمورة یرجع تاریخها الی القرن الثانی عشر، فاین ذهبت المدارس التی اسسها الملوک، و الامراء، و التجار، ما ورد ذکرها فی التاریخ عرضا.
یقول ابن بطوطة فی الثلث الاول من القرن الثامن الهجری حین یمر بالنجف عن مرقد الامام علی (ع): «و بازائه المدارس، و الزوایا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 241
و الخوانق، معمورة احسن عمارة» ثم یقول: «و یدخل من باب الحضرة الی مدرسة عظیمة یسکنها الطلبة و الصوفیة من الشیعة» و هو یقصد الصحن الشریف الذی کان قد اتخذ مدرسة، و ما من شک ان لکل مدرسة أو لاغلب هذه المدارس کانت مکتبة من المکتبات العامة، و قد ذهبت بذهابها، و لم یبق لهذه المکتبات من ذکر الا ما یعثر علیه فی حاشیة علی کتاب او وثائق تاریخیة تشیر الی مکتبة من تلک المکتبات، او کلمة وقف تعین المکتبة التی وقفت علیها الکتب، و من ذلک ما رواه الشیخ جعفر محبوبة قال:
«و من حسن الصدف انی وقفت علی کتاب (مصباح المتهجد) للشیخ الطوسی (ره) مخطوط عند الشیخ الامام العلامة المیرزا محمد حسین النائینی دام علاه و فی آخره ما نصه:
«کان الفراغ من نسخه یوم السبت ثانی عشر من جمادی الاولی سنة 832 علی ید الفقیر الی رحمة ربه و شفاعته عبد الوهاب بن محمد بن جعفر بن محمد بن علی بن السیوری الاسدی عفی عنه بالمشهد الشریف الغروی، علی ساکنه السلام، و ذلک فی مدرسة المقداد السیوری ».
اما ما هو موجود من المکتبات العامة فی المدارس الیوم، فهو فی الغالب بقیة من مکتبات کانت ذات شأن فی الماضی القریب، و لکن المستعیرین لکتبها من غیر الامینین قد عبثوا بها و بددوها، و من هذه المکتبات لم یبق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 242
الا اسمها، او التی بقیت فیها بعض الکتب، او المکتبات المستحدثة الجدیدة و التی بدأ یتکاثر عددها فی السنوات الاخیرة، و من اهم هذه المکتبات العامة التی عرفت بها النجف فی الماضی و الحاضر هی:

مکتبة الملالی

و هی مکتبة منسوبة لآل (الملّا) او الملالی کما هو المشهور، الذین جمع بعضهم بین النقابة و الحکومة، و الزعامة الروحانیة، و سدانة الروضة الحیدریة، مدة ثلاثة قرون، و قد انحدر من هذه الاسرة عدد من اکابر العلماء، و الفقهاء الذین کان لهم صیت فی البحث، و الدرس، و التألیف، و ان کتاب (الحاشیة علی تهذیب المنطق) هو من بعض مؤلفات جدهم الملّا عبد اللّه بن شهاب الدین الیزدی المتوفی سنة 981 ه و المعروف بالشهاب آبادی، و الذی لا یزال کتابه هذا و منذ اربعة قرون و هو یدرس فی المدارس العلمیة، و قد کانت للملا عبد اللّه مدرسة فی النجف باسمه، و قد ورد ذکر لکثیر من اسماء کتبها، و ازدهارها بالعلم، فی عرض المرور بتراجم رجالات هذه الاسرة، و من الذین أشار الی ذلک السید حسن الصدر فی (تکملة الآمل) و السید محسن الامین فی (اعیان الشیعة)، و الشیخ اغا بزرک، و الشیخ محمد السماوی الذی یقول عن هذه الاسرة فی ارجوزته التی یستعرض بها سدنة الروضة الحیدریة فیقول:
و منهم الحماة آل الملّاو مکثرو النوال حتی ملّا
مثل الفتی المحسن یوم الجودو ذی الصلاح و التقی محمود ..
و لا یبعد ان تکون کتب هذه المدرسة من انفس الکتب و اثمنها بالنظر لما تعاقب علی رعایتها من رجالات هذه الاسرة من العلماء، و الفقهاء،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 243
و الشعراء، الذین لو جمع ما قیل فیهم من الشعر لالّف دواوین واسعة، و هی اقدم مکتبة عامة لاقدم مدرسة وصل الینا خبرها، و لیس الیوم لهذه المکتبة اثر او بعض اثر.

مکتبة مدرسة الصدر

و مکتبة الصدر کانت ذات یوم اشهر مکتبة من المکتبات العامة فی النجف فهی مکتبة أسسها الحاج محمد حسین خان الصدر الاعظم الذی کان رئیسا للوزارة الایرانیة فی ایام فتحعلی شاه القاجاری، و ذلک حوالی النصف الاول من القرن الثالث عشر الهجری، و قد اسس هذه المکتبة لیستعین بها طلاب المدرسة الدینیة التی کان قد بناها (الصدر) عند مدخل السوق الکبیر، و قد بذل الصدر الکثیر من المال لشراء اهم المصادر الخطیة و المطبوعة من الکتب، و علی الرغم من تخصیص المبالغ الکافیة للانفاق علی هذه المدرسة و مکتبتها، و طلابها، و وقف عدد من الحوانیت لانفاق ریعها علی کل ما ینقصها، فقد بدأت هذه الکتب تستل من المکتبة یوما بعد یوم حتی لم یبق الیوم ما یعتد به و خصوصا المخطوطات، و الکتب الاثریة، التی کان عددها فی هذه المدرسة کبیرا حتی الربع الاول من القرن الرابع عشر الهجری. علی انها اول مکتبة عامة انشئت کما کانت مدرسة الصدر اول مدرسة دینیة انشئت بعد مدرسة الصحن الشریف و قد افاد کثیر من العلماء و الطلاب من هذه المکتبة فی حینها.

مکتبة الإمام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء

هی المکتبة التی اسسها الشیخ علی آل الشیخ محمد رضا آل الشیخ موسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 244
کاشف الغطاء، و لم تکن یوم تأسست مکتبة عامة، موقوفة للمطالعة کما هی الآن، و انما کانت مکتبة خاصة یمتلکها الشیخ علی والد المرجعین الدینیین الشیخ احمد کاشف الغطاء، و الشیخ محمد الحسین آل کاشف الغطاء، و یرجع تاریخ اول تأسیسها الی اواخر القرن الثالث عشر الهجری، فقد شبت مع الشیخ علی رغبة ملحة فی البحث عن الکتب النادرة و جمعها، و استنساخها، و کانت لآل کاشف الغطاء و لا سیما لجدهم الشیخ جعفر الکبیر مکتبة کانت من اندر المکتبات، و اوسعها جمعا للکتب المخطوطة، کما سیجی‌ء الحدیث عنها فی بحث المکتبات الخاصة، و الکثیر من هذه الکتب کانت فریدة فی بابها و قد جمعها الشیخ جعفر الکبیر من مختلف الاقطار الاسلامیة إما بطریق الشراء او مما کان یهدی الیه، ثم انتقلت هذه المکتبة الا القلیل منها الی ابنه الشیخ موسی بطریق الوراثة و منه الی اخیه الشیخ علی، و قد تسرب من ذلک القلیل شی‌ء الی البیوت، و من هذا القلیل المتسرب ما قد وصل شراء و إرثا الی الشیخ علی آل الشیخ محمد رضا والد الامامین الشیخ احمد و الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء، فکان هذا بمثابة النواة و المحفزّ للشیخ علی علی الاهتمام بالکتب النادرة اکثر، مما ضاعف هوایته، و ولعه، فی اقتناء الکتب النادرة و قد اشتد هذا الولع عند الشیخ علی حتی دفع به الی التجوال و التطواف فی ایران و الهند و الحجاز بحثا عن الکتب و شرائها و استنساخها.
جانب من مکتبة الامام کاشف الغطاء
جاء فی کتاب (هکذا عرفتهم) عن الشیخ علی و مکتبته: «و هنالک شی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 245
آخر له قیمته فی شهرة الشیخ علی ثم فی نشأة ولدیه- الشیخ احمد الذی صار بعد ذلک مرجعا من اکبر المراجع الدینیة، و زعیما کاد ینفرد بزعامة الشیعة وحده، ثم تلاه اخوه الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء الذی صار هو الآخر من اکبر الزعماء الروحانیین بعد اخیه- الا و هو المکتبة فقد کان للشیخ علی کاشف الغطاء مکتبا انفردت بالکثیر من الکتب العربیة المفقودة، و ضمت مئات من الکتب النادرة التی بذل الشی‌ء الکثیر للحصول علیها، و کانت تعتبر المکتبة الاولی فی الشرق من حیث جمعها للنادر و المفقود من الکتب، و علی الرغم مما بیع منها بعد وفاته، فهی الیوم لا تزال فی عداد المکتبات المهمة و ان کان مجموعها لا یزید علی بضعة آلاف کتاب جمعها بشق الانفس کما یقولون، و لقد روی فیما روی عن حرصه فی اقتناء الکتب: انه بینما کان منهمکا مرة فی استنساخ کتاب خطی فی احد الجوامع باسطنبول اذ جاءه احد الضباط للقبض علیه بناء علی امر السلطان عبد الحمید الثانی متهما إیاه بالتواطؤ مع (ابی الهدی) فی تدبیر مؤامرة سیاسیة نمت علیها قصیدة نسب نظمها الی ابی الهدی، و ابو الهدی هذا کان من اقرب المقربین الی السلطان عبد الحمید، و لکن الشیخ علی قال للضابط:
- کل من حدثک بانی سأترک عمل استنساخ هذا الکتاب قبل ان اصل الی نهایة الفصل الذی یستلزم الانتهاء من استنساخه نحو ساعة، او اکثر، فلا تصدق ذلک.
و هکذا اضطر الضابط بداعی الاحترام الی الانتظار حتی یتم الشیخ نقل هذا الفصل من الکتاب! و لقد کان الشیخ یجمع کتبه علی هذا النحو من الحرص و الاستماتة حتی اتم جمع تلک المکتبة النفیسة الثمینة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 246
و عن هذه المکتبة یقول جرجی زیدان «و مکتبة الشیخ علی بن الشیخ محمد رضا الجعفری کاشف الغطاء و هی مکتبة قدیمة حوت امهات الکتب، و یتیمات المصنفات، فی نفائس العلوم، و الفنون، و اکثرها مکتوب فی العصور الخالیة، و من محتویاتها کتاب (مقاییس اللغة) الذی یطبع الیوم فی مصر و (الطراز) للسید علی خان فی اللغة و (المجمل) لابن فارس، و غیرها و هی اکبر مکتبة فی النجف» .
و کان الشیخ علی من الهمة و النشاط بحیث لم یفتر عن الاستنساخ و الکتابة و التعلیق علی الکتب و تدوین الوثائق التاریخیة و هو فی اقصی حدود الشیخوخة، حتی استطاع ان یجمع هذا الکنز الثمین من الکتب النادرة التی انفردت بها مکتبته.
یقول الشیخ علی الشرقی «و لعشاق الکتب نوادر کثیرة فی وادی غرامهم هذا، منها انی دخلت علی احد هؤلاء الغلاة فی هذا المذهب، و هو الشیخ علی آل کاشف الغطاء فی مکتبته الصغری التی اقتصرت علی ما ورّقه بیده، و نسخه بخطه، فوجدته جالسا علی الارض، و امامه طاولة صغیرة علیها کتاب مفتوح و محبرة، و قد شد علی عضده مساطر خفیفة من الخشب شدا محکما یمنع الرعشة التی فی یده، لانه شیخ وهنت قواه، و قد شارف علی التسعین من عمره، و کان لابسا ثوبا سمیکا خصص للکتابة، تراه مخططا بالوان، و الوان من مسح القلم، و رذاذه، و کان فی یده قلم من الخیزران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 247
القوی، و کان مشغولا بالنسخ فسألته عن عمر ذلک الثوب قال: بأن عمره یناهز السبعین و هو عندی اطیب من الغلالة التی یصفها الشاعر بقوله:
کاذیال خود اقبلت فی غلالةمصبّغة و البعض اقصر من بعض»
و حین توفی الشیخ علی تولی المکتبة الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء و قد بیعت بضع مخطوطات منها بعد وفاة الشیخ علی، ثم نالت هذه المکتبة من عنایة الامام کاشف الغطاء الشی‌ء الکثیر، و هو الذی اخرجها من حیز الملکیة الخاصة، الی المنفعة العامة، و اضاف الیها کتبه الخاصة و افرد لها مکانا فی مدرسته الواقعة بمحلة العمارة بجوار مقابر آل کاشف الغطاء و عین لها مشرفا، و اصبحت منذ ذلک الیوم و حتی هذا الیوم مرتادا للباحثین و المؤلفین، و الزائرین، الذین یؤمون النجف و هی مسماة باسم الامام کاشف الغطاء لانه هو الذی وقفها و جعلها وقفا للعموم.
و من هذه الرسالة التی اجاب بها الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء الشاعر القروی المتشبع شعره بالروح الوطنیة حین کتب للامام بانه سیهدی دیوانه لهذه المکتبة نعرف مدی اعتزاز الامام بالکتب النفیسة ثم نعرف نظرته لهذه المکتبة او نظرة الناس لها علی الاصح.
لقد کتب الامام کاشف الغطاء الی رشید سلیم الخوری الشاعر القروی یقول:
«أطّلت علینا منک یوما سحابةبدا برقها یعلو و أبطا رشاشها
فلا غیمها یصحو فییأس طامع‌و لا ودقها یهمی فتروی عطاشها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 248
عزیزی الشاعر القروی، بل شاعر الدنیا، بل شاعر الملأ الاعلی، أ فلیست هذه الدرر التی تنظمها فی سلک العروض، و القوافی، و الحکم التی ترسلها آیات باهرات فی قوالب الفاظ، تملک القلوب و تسحر الالباب، أ لیست هی وحی الملأ الاعلی، و عالم المثال، بل المثل العلیا؟ أ لیست هی الحکمة المتدلیة من ارواح الازلیة، و الواح الاحدیة، (و من یؤت الحکمة فقد اوتی خیرا کثیرا) فاذا الشاعر القروی هو الشاعر النبوی، و الثائر العلوی، اتانی کتاب، نعم کان قد اتانی کتاب منک، و ما هو بکتاب، بل هو علی ایجازه، و اعجازه، کتائب، کتائب عوارف، و سحائب معارف، بل عواطف، تعدنا فیه بارسال دیوانک لیس لنا بل لعامة ادباء النجف، و ان شئت فقل لادباء الدنیا فان (مکتبتنا العامة) هی للدنیا بل و للآخرة.
نعم و ما احلی المواعید و الامانی کما قال الشاعر: (امانی من لیلی حسان کانما) الخ .. نعم ثملنا او سکرنا بوعدک قبل ان نشرب الخمرة، او قبل ان نراها، او کما قال العارف للصوفی، او کما فرض ابن الفارض (سکرنا بها من قبل ان یخلق الکرم) فنحن کما فی الکلام الدارج: نشکرک سلفا سواء وفیت، او نفیت، و بررت بوعدک، أم ابیت، فان کتابک یکفینا عن دیوانک، نجعله غرة دیواننا، و طرة عنواننا، و نحتفظ به کما تحتفظ الملوک بخزائنها، و الارض بمعادنها، فاسلم للعروبة و العبقریة و الاسلام، و السلام، و لابیک الروحی».
صدر من مدرستنا العلمیة 9 رجب الأصم 1373 ه محمد حسین آل کاشف الغطاء
و المکتبة تحتوی الیوم علی عشرة آلاف مجلد یبلغ عدد المخطوط منها نحو (2100) مجلد و بین هذه المخطوطات کتاب (الحصون المنیعة) فی طبقات الشیعة، بخط مؤلفه الشیخ علی کاشف الغطاء، مؤسس هذه المکتبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 249
الاول، و هو فی تسعة مجلدات، یعد من اکبر و اهم المصادر لتراجم الرجال، و احوالهم، و قد اعتمده کل المؤلفین الذین عنوا بتاریخ الادب الحدیث، و تاریخ البیوتات النجفیة، و قد سأل منا مرة الامام محمد الحسین ما اذا کنا نستطیع الاشراف علی تصنیفه، و تبویبه، لنتولی إخراجه کله او استخراج مواضیع مستقلة منه، فعظم علینا الأمر و تهیبناه. و من اشهر ما احتوت علیه هذه المکتبة من المخطوطات هو:
1- (سلوة العارفین و انس المشتاقین) لمحمد بن الملک الطبری مخطوط یرجع تاریخه الی 459 هجریة.
2- الانوار النبویة فی صحاح الاخبار المصطفویة) للحسن بن محمد الصاغانی مخطوط یرجع خطه الی سنة 692 هجریة.
3- (المعرفة فی اصول الحدیث) للحاکم ابن عبد اللّه صاحب المستدرک، مخطوط یرجع تاریخه الی سنة 425 هجریة.
هذه حاشیة کتبها الشیخ البهائی علی المصحف المنسوب خطه للامام علی (ع) و الموجود بخزانة الامام الرضا (ع) 4- (شرح الشاطبیة) لمؤلفه محمد بن مهدی مخطوط سنة 700 ه تقریبا.
5- (انوار الیقین فی امامة امیر المؤمنین) لمؤلفه المنصور باللّه امیر المؤمنین الحسن بن محمد بن احمد بن یحیی بن یحیی الهادی الی الحق احد امراء الیمن و قد فرغ من تألیفه سنة 1108 هجریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 250
6- (النهایة) لابن الاثیر فی باطن مدینة الموصل سنة 605 ه و علیها خط المؤلف.
7- (نسمة السحر فی ذکر من تشیع و شعر) لضیاء الدین بن یوسف ابن یحی احد ائمة الزیدیة (جزأن).
8- الایمان من کتاب (الکافی) للکلینی مخطوط سنة 708 ه.
9- (مناقب امیر المؤمنین) لاحمد بن اسماعیل بن یوسف القزوینی مخطوط سنة 805 ه.
10- (شرح المعالم) فی اصول الدین لمؤلفه فخر الدین الرازی مخطوط سنة 801 ه.
11- (تحفة الازهار) للسید ضامن بن شدقم.
و هنالک عدد کبیر من قوامیس اللغة (کجوهرة القاموس) لیحی بن شفیع القزوینی، و من التفاسیر (کالوجیز فی تفسیر القرآن العزیز) للشیخ علی العاملی، و الدواوین الشعریة کدیوان (الساعاتی) و (شرح دیوان المتنبی) لابن جنی المخطوط سنة 700 ه و (شرح دیوان المتنبی) للواحدی المخطوط سنة 750 ه و عشرات المصاحف المخطوطة بالخطوط الفنیة مما تنفرد بها مکتبة الامام کاشف الغطاء.

مکتبة حسینیة الشوشتریة

من اقدم مکتبات النجف العامة فی العصر الاخیر الموقوفة لجمیع المطالعین بدون تخصیص، و قد اسسها الحاج میرزا علی محمد النجف آبادی، و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 251
النجف آبادی هذا من رجال العلم الاتقیاء، و قد اسسها فی اواخر القرن الثالث عشر الهجری، و وقفها للجمیع، و حین بنی التاجر المعروف الحاج محمد رضا الشوشتری (حسینیة الشوشتریة) فی سنة 1319 هجریة (بعقد السلام) من محلة العمارة نقلت هذه جانب من مکتبة الحسینیة الشوشتریة
المکتبة بناء علی وصیة صاحبها الواقف، الی هذه (الحسینیة)، و کان عددها یومذاک نحو (2000) کتاب و اصبحت منذ ذلک الیوم تعرف بمکتبة (الشوشتریة) ثم بدأت تتسع بما کان یضیف الیها بعض المحسنین من الکتب و بما کان یوصی الموصون بنقل کتبهم الیها و وقفها علیها، بعد موتهم، و من هذه الکتب کانت کتب السید محمد رضا النجفی الحلی، فقد نقلت کتبه بعد وفاته من الحلة الی النجف، و قد اجری علیها المیرزا حسین النائینی المرجع الروحانی صیغة الوقف بخطه علی ما روی الشیخ جعفر محبوبة .
و من هذه الکتب التی ضمت الیها، کانت بقیة الکتب الخاصة بالمکتبة المرتضویة العامة، التی کان قد اسسها الحاج میرزا عبد الرحیم (بلبله بادکوبه) و منها کتب الشیخ جواد الزنجانی، و منذ مدة و المکتبة محدودة لیس لها من الموارد ما یضمن لها الاتساع غیر بیت سکن کان قد وقفه مؤسسها (النجف آبادی) لانفاق ثمن ایجاره علیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 252
و فی هذه المکتبة التی تحتوی علی عشرة آلاف نسخة من الکتب الیوم عدد من المخطوطات النفیسة، و اغلبها مستنسخة من نسخها الاصلیة و بخط مؤسسها (النجف آبادی) فقد کان رجلا، عالما، فاضلا، و یبلغ عدد مخطوطاتها نحو (1000) کتاب.
و من نوادر کتبها:
1- کتاب ضیاء العالمین
2- کتاب انوار التوحید
3- کتاب الصوارم الحاسمة.
4- تلقیح المناظر- تألیف ابن الهیثم، و هو من کبار علماء الفلسفة و العلوم الریاضیة.
5- تهذیب الأحکام لمؤلفه محمد بن الحسن الطوسی.
6- نتائج الافکار لزین الدین بن علی بن احمد العاملی مخطوط بسنة 950 هجریة.
7- شرح الیاقوت مخطوط بسنة 787 ه.

مکتبة مدرسة القوام

و من المکتبات العامة: المکتبة التی تأسست مع مدرسة القوام الواقعة فی مجلة المشراق و بجوار مقبرة الطوسی، و التی بنیت بنفقة فتح علی خان الشیرازی فی اوائل القرن الرابع عشر الهجری و قد تناقل اخبار کتبها العلماء و الفضلاء، و کان لمکتبتها فضل فی تسهیل مهمة الطلاب و جلهم کان من فحول العلماء و هی الاخری لم یعد لها ذکر الیوم و قد آلت کتبها الی الضیاع و التلف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 253

مکتبة مدرستی الخلیلی

و للحاج میرزا حسین الخلیلی مدرستان احداهما تسمی بمدرسة الخلیلی الکبری، و هی واقعة عند (راس عقد السلام) من محلة العمارة، و الثانیة تسمی بمدرسة الخلیلی الصغری و هی واقعة فی الشارع الذی یلی (عقد السلام) المذکور، و قد عنی الحاج میرزا حسین الخلیلی ایام زعامته الدینیة بمکتبة هاتین المدرستین فضم الیهما کتبه الخاصة ثم حمل بعض الجهات علی شراء بعض الکتب و وقفها علیهما، و قد اسهم فی شراء هذه الکتب عدد من التجار، و الامراء، و اهل الفضل، کان منهم (معتمد السلطنة محمد حسین خان امیر ینج) و (امیر تومان) و اکثر من خصها بالعنایة بعد وفاة الحاج میرزا حسین ابنه الشیخ محمد الخلیلی، و قد کسبت المکتبتان فی وقتهما شهرة کبیرة بما احتوتا علیه من المصادر المهمة فی التاریخ، و العلوم، و الفقه المخطوطة و المطبوعة، مراعاة لطبیعة الوقف الذی وقفه الحاج میرزا حسین الخلیلی الذی قصر سکنی هذه المدرسة علی طلاب مراحل دراسة (الخارج)، فکان لا بد ان تکون کتب هاتین المدرستین من کتب الاختصاص العالی فی مختلف العلوم، و کان تأسیس هاتین المکتبتین فی زمن متقارب لا یتجاوز الخمس الاول من القرن الرابع عشر الهجری، و ما کان قد طرأ علی مکتبات المدارس الدینیة فی النجف من الضیاع قد طرأ علی هاتین المکتبتین فاختفی الکثیر من کتبهما و تلف البعض لکثرة الاستعمال، و لم یبق الا عدد قلیل لا یتجاوز الیوم (2000) کتاب عددا.

مکتبة مدرستی الاخوند

و للشیخ محمد کاظم الخراسانی المشهور (بالاخوند) ثلاث مدارس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 254
بناها فی ایام زعامته الروحیة فی نحو الربع الاول من القرن الرابع عشر الهجری، و لما کان الشیخ (الآخوند) اکبر مرجع روحانی فقد عنی عنایة خاصة باسلوب التدریس و تغییر طرق البحث، خصوصا فی علم (الاصول) فقد اکتظت المدارس و دور البحث بعدد الطلاب من جمیع الاقطار الاسلامیة و اصبحت الحاجة الی الکتب اکثر من ای وقت آخر بسبب الاقبال علی الدرس، و حضور بحث (الاخوند) خاصة، فاهتم الاخوند اهتماما کبیرا بمکتبة المدرسة الکبری الواقعة عند نهایة (فضوة الحویش الصغری) من محلة الحویش، و مکتبة المدرسة الوسطی الواقعة فی شارع (آل الاعسم) و القاموسی من محلة البراق، حتی لقد ضاقت الغرف المخصصة للکتب فی هاتین المدرستین، و قد امتازت مکتبة المدرسة الکبری بانها حوت جمیع الکتب و المصادر التی یحتاج الیها الطالب من اول دراسته المبتدیة حتی آخر مراحل التدریس، و قد احتوت علی کثیر من النسخ المکررة بقصد تسهیل الاستعارة، و المطالعة لأکبر عدد من طلاب العلم، اما مکتبة المدرسة الوسطی فعلی انها اقل عددا من المکتبة الاولی فقد کانت تضم الکتب النادوة للدراسات العلیا علی غرار مکتبتی مدرستی الخلیلی و ان حال المکتبتین الیوم بسبب فقدان العنایة و مرور الزمن، کحال مکتبات المدارس الاخری من التلف و فقدان الکتب المهمة و مع ذلک فان مکتبة المدرسة الکبری لا یقل عددها عن (2000) کتاب و بضمنها المخطوطات النادرة المهمة.

مکتبة مدرسة الیزدی

و هی مکتبة انشئت فی نحو الثلث الاول من القرن الرابع عشر الهجری، بعد انتهاء بناء المدرسة الکبیرة الفخمة التی بناها السید محمد کاظم البزدی فی الشارع المسمی الیوم باسم مدرسة الیزدی، من سوق الحویش، و میزة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 255
هذه المکتبة لیس فی وفرة کتبها و ما تضم من المصادر التی یحتاج الیها طلاب العلم فحسب، و انما لان ما طرأ علی کتبها من طواری‌ء الفقدان و التلف کان اقل من مکتبات المدارس الاخری، و السبب ان هذه المکتبة کانت موضع عنایة خلفه السید علی الیزدی، و قد کان من المراجع الروحانیین بعد ابیه، ثم موضع عنایة اولاده و احفاده حتی الیوم، و لما کان انفراد السید محمد کاظم الیزدی بالزعامة الروحانیة الشیعیة انفرادا قل نظیره فی التاریخ، فقد سهّل ذلک تأسیس اکبر مکتبة بالنسبة لمکتبات المدارس فی افخم مدرسة فی یومها و هی الیوم احدی مکتبات المدارس المهمة فی النجف.

المکتبة المرتضویة

و من اهم المکتبات العامة التی نسقت تنسیقا عصریا فی برامج منتظمة کانت (المکتبة المرتضویة) التی تأسست فی نحو الربع الاول من القرن الرابع عشر الهجری، و قد اسسها المیرزا عبد الرحیم (بلبله بادکوبه) و هو رجل من افاضل اهلم العلم جاء النجف من (بادکوبه) بالقفقاس، فأسس مدرسة عصریة للعلوم الحدیثة فی قبال المدرسة (العلویة) باسم (المدرسة المرتضویة) و الی جانبها اسس مکتبة عامرة بجمیع صنوف الکتب فی الدار الواسعة المعروفة بدار (آل الفاضلی) فی محلة المشراق، و قد امتازت هذه الکتب بما کان یصلها من المجلات و الصحف من جمیع الانحاء الی ما کانت تحتوی علیه من امهات الکتب، و علی ان الانفاق علیها کان من اهل الفضل و من المحسنین، فقد قیل یومها ان لروسیا یدا فی معونتها لان تکالیفها کانت جد کبیرة، و عدد کتبها تجاوز عشرة آلاف نسخة، علی ما یذکر الذین ادرکوها، و کانت المکتبة مکتظة بروادها صبحا و عصرا، و حین وقعت الحرب العظمی الاولی، کان مؤسسها الحاج عبد الرحیم فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 256
الهند، فالزم بالاقامة الجبریة فی بمبی، و انقطعت النفقات، و قد تصدی الشیخ ابو القاسم الماقمقانی لحفظ کیان المدرسة و المکتبة زمنا، و لکن سوء الاحوال قد قضی علی المشروع، و اغلقت المدرسة و المکتبة، و باقتراح من الشیخ ابی القاسم نقلت بعض کتب هذه المکتبة الی مکتبة حسینیة (الشوشتریة) و نقل البعض الاخری الی مکتبات المدارس الاخری و ختم بذلک تاریخ احدث مکتبة عامة تأسست علی الانظمة الجدیدة فی النجف.

مکتبة الرابطة

تأسست مکتبة الرابطة لاول مرة فی البیت التابع لمدرسة آل الخلیلی بعقد السلام، مع تأسیس جمعیة الرابطة العلمیة، ثم انتقل مرکز الجمعیة و انتقلت المکتبة معه الی بیت آل العاملی المتصل بمقبرة آل الخلیلی، و هنا ازدهرت المکتبة و الف القراء ارتیادها، و لقیت من السلطات الرسمیة تشجیعا مادیا، استطاعت ان تستعین به فی شراء بعض المصادر المهمة کدائرة المعارف الانکلیزیة، و دائرة معارف البستانی، و دائرة معارف القرن العشرین لفرید وجدی، و اهم المراجع التاریخیة، و اللغویة و حین بنت جمعیة الرابطة بنایتها خلف السور مما یلی محلة البراق، خصصت لمکتبتها جانبا منها و ناطت الاشراف علیها باحد اعضائها، و لقد تم تأسیسها فی نحو السنة 1351 هجریة، و لیس فیها من المخطوطات الا القلیل مما اهدی الیها، و یبلغ مجموع کتبها نحو 3500 مجلد.

مکتبة الامام أمیر المؤمنین

شعر الشیخ عبد الحسین الامینی حین شرع بتألیف موسوعته (الغدیر) بنقص کبیر فی عدد المصادر المطبوعة، و المخطوطة، لمن یرید ان یقدم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 257
علی اصدار موسوعة، کاملة، مهما کان نوعها و موضوعها، و ذلک اما لانعدام هذه المصادر فی المکتبات العامة فی النجف، او لقلتها بحیث یتعذر تتبعها من قبل قاری‌ء واحد، و لمدة طویلة، و هذا ما دعاه الی ان یطوف بعدد کبیر من المکتبات فی کثیر من الاقطار الاسلامیة بحثا عن تلک المصادر التی کثیرا ما ورد ذکرها فی بطون الکتب و الفهارس، دون ان یتسنی العثور علیها بسهولة، حتی استطاع ان یجمع لموسوعته کل هذه المادة، و من هنا انبعثت فی نفسه فکرة القیام بتأسیس مکتبة واسعة یجمع فیها اکبر عدد ممکن جانب من طوابق مدرسة الامام
من امهات الکتب المخطوطة، و المطبوعة، لیسهل بذلک مهمة الدارسین، و المتتبعین، و المؤلفین، و یوفر علیهم المشاق التی کابدها هو حین اضطره تألیف موسوعة الغدیر الی التجوال و التطواف، بکثیر من المدن التی عرفت بخزائن کتبها، و قد ساعدته علی انجاز هذا المشروع الخطیر شخصیته، فاستعان بعدد من اهل الفضل، و الاحسان، و المعرفة، من ایران، و ما هی الا جولة حتی قامت فی النجف مکتبة تعد من اکبر المکتبات العلمیة الاسلامیة من حیث الکیفیة، ثم ما لبث ان اشتری لها بیتا بتلک المساعدات عند منتهی سوق الحویش، و هدمه و شاد منه خزانة علی احدث هندسة لحفظ الکتب، و قاعة منظمة للقراءة، و المطالعة، ثم اشتری لها بیوتا اخری ستدخل ضمن هذه المکتبة، و علی ان عمر هذه المکتبة لم یزد الیوم علی ثلاثین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 258
سنة الا قلیلا، فقد حوت نحو 30 الف کتاب تغنی الکثیر من المتتبعین عن طلب المزید لما جمعت من نوادر الکتب المطبوعة، اما المخطوطة فهی فی حدود (3600) کتاب و قد تأسست سنة 1353 و الکتب لا تزال منذ اول تأسیسها حتی الیوم فی زیادة مطردة.
اما محتویاتها من المصاحف النفیسة الفنیة فهی من نوادر المخطوطات المذهبة التی قل نظیرها فی المتاحف الفنیة، و قد جمعت من مختلف المتاحف من بیوت الامراء، و الاکابر، فی ایران، و الهند، علی سبیل الهدیة، و غیر هذا فان لمخطوطاتها من الکتب القدیمة النفیسة (کمفاتیح الغیب) و هو تفسیر الامام ابی عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسین بن علی التمیمی البکری الطبرستانی الشافعی المعروف بفخر الدین الرازی المتوفی عام 606 ه و الذی اکمل تفسیره نجم الدین القمولی، و شهاب الدین الخویی، و هو مطبوع احدی قاعات المطالعة فی مکتبة الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 259
و لکن النسخة الخطیة فی مکتبة الامام تعتبر من انفس الآثار بین الکتب المخطوطة.
و من اهم مخطوطاتها:
1- من لا یحضره الفقیه و یرجع خطه الی 981.
2- غرر الحکم و درر الکلم یعود الی سنة 740 ه.
3- التبیان للشیخ الطوسی، یرجع تاریخ خطه الی سنة 500 ه.
4- الکشاف للزمخشری مخطوط بسنة 736 ه.
5- صحاح اللغة للجوهری یرجع خطه الی سنة 713.

مکتبة المنتدی

تأسست مع تأسیس جمعیة منتدی النشر و نمت بذرتها اول ما نمت فی بیت السید موسی آل بحر العلوم فی محلة المشراق و ذلک فی نحو سنة 1354 هجریة و حین انتقلت جمعیة المنتدی الی بیت (البانو) فی شارع (الصد تومان) کانت المکتبة فی ابان ازدهارها و نمت اکثر فی البیت الواقع بشارع آل دوش حتی انتقلت اخیرا الی بنایة جمعیة المنتدی الجدیدة الملتصقة بالصحن الشریف من جانب السوق الکبیر، و نواة هذه المکتبة قد تألفت من مجموعة الکتب التی تبرع بها أعضاء الجمعیة و لم یزد مجموعها علی (3000) کتاب و کلها مطبوعة و لیس فیها من المخطوطات الا القلیل الذی لا یزید علی 50 کتابا اهمها (المختلف) للعلامة الحلی، و (الکفایة) للزیزواری، و (المفاتیح) للکاشانی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 260

المکتبة العامة

و هی المکتبة التی اسستها وزارة المعارف فی سنة 1355 هجریة ثم التحقت بعد ذلک بالادارة المحلیة و هی واقعة فی مدخل مدینة النجف و خلف حدیقة (ابو کشکول) فی بنایة بنتها الادارة المحلیة خصیصا لها.
اما کتب هذه المکتبة فلا تزید علی 9000 مجلدة و کلها من الکتب المطبوعة و المصادر التی تقتضیها المراجعات العامة من تاریخ، و لغة، و ادب.

مکتبة جمعیة التحریر

هی الیوم فی بنایة (جمعیة التحریر الثقافی) الواقعة فی جهة السور من محلة العمارة شمالا و قد اسّستها الجمعیة لتکون مرجعا لطلابها، فعنیت اکثر ما عنیت بالمصادر الضروریة للغة، و الادب، و التاریخ، و کان تأسیسها سنة 1356 هجریة و هی السنة التی تأسست فیها جمعیة التحریر فی النجف، و تحتوی علی 1255 کتابا بینها عدد من المخطوطات القدیمة و هی کسائر المکتبات العامة مفتوحة الابواب فی وجوه مرتادیها من القراء و المطالعین.

مکتبة حنوش

مؤسس هذه المکتبة هو الحاج کاظم حسون آل حنوش و علی ان الحاج کاظم رجل امی لا یعرف القراءة و الکتابة فقد کان محبا للعلم و اهله، و حین هاجر من النجف الی البصرة اقام فی بیته مکتبة ما لبثت ان عمرت بطائفة من الکتب الجلیلة و المراجع المهمة فی مختلف العلوم و قد کان یوصی باعة الکتب بأن یحجزوا له من کل ما یرد الیهم من الکتب الجلبلة نسخة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 261
فیدفع بها للتجلید، ثم یصّفها الی جانب کتبه، و قد قال لنا و هو فی البصرة انه انما یفعل ذلک لکی یبنی له مقبرة فی النجف و الی جانبها یقیم مکتبة عامة یقفها علی القراء بقصد الاستثابة، او الکفارة عن عمر قضاه محروما من فضیلة القراءة و الکتابة، و هکذا قامت مکتبة حنوش الی جانب قبره فی محلة البراق. و قد تأسست سنة 1370 هجریة، اما عدد کتبها فهو نحو 3000 کتاب فی مواضیع مختلفة و لیس فیها من المخطوطات الا بضعة کتب او اقل من ذلک و لم تعدم هذه المکتبة عددا من القراء یقصدونها فی کل یوم.

مکتبة الشیخ اغا بزرک

الشیخ آغا بزرک صاحب موسوعة (الذریعة الی تصانیف الشیعة) من تلامذة الامام الشیرازی بسامراء، و من الباحثین و المتتبعین، و قد تملکته رغبة البحث عن الکتب منذ بدایة اشتغاله بطلب العلم، و منذ ذلک الحین و هو یفکر ان یضع قاموسا واسعا باسماء جمیع الکتب المصنفة من قبل الشیعة من اول تاریخهم حتی الیوم فابتدأ یعد لهذه الرغبة عدتها و شرع منذ منتصف القرن الرابع عشر الهجری بوضع اساس هذه المکتبة بسامراء حیث کان یقیم، و حین اتخذ النجف مسکنا نقل مکتبته إلیها، و اولاها کل عنایة ممکنة لا مثاله، و قد تیسر له جمع الکتب من مختلف الجهات و علی الاخص من مصر و ایران، حتی أصبحت مکتبته الیوم من المکتبات المرموقة لما تجمّع فیها من نفائس الکتب المطبوعة و المخطوطة التی یرجع لها الفضل بعد ملکاته العلمیة فی مده بهذا الفیض الذی الف به هذه الموسوعة الکبیرة الخطیرة التی صدر منها الیوم نحو بضعة عشر مجلدا ضخما، فی خزائن مثبتة فی الجدران و فی قماطر مستقلة، و مصنفة، تصنیفا جیدا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 262
بعض القماطر من مکتبة الشیخ اغا بزرک
و ان مجموع مکتبة الشیخ آغا بزرک هو (5000) مجلد، و من هذا المجموع:
100 نسخة من المخطوطات النادرة و اهم هذه المخطوطات هو:
1- مناهل الضرب للسید جعفر النسّابة الاعرجی.
2- (مصباح السید ابن طاووس) فی الادعیة.
3- (مصباح الشیخ الطوسی» فی الادعیة.
4- (آداب المناظرة) للعضدی.
5- (ابواب الجنان) للمولی محمد رفیع القزوینی
6- (اثبات الواجبات الجلالیة) للمولی جلال الدین الدوّانی.
7- (احکام اهل الآخرة) للسید الشریف المرتضی.
8- (اخلاق ناصری)- فارسی- للشیخ نصیر الدین الطوسی.
9- (ارشاد الاذهان) للعلامة الحلی.
10- (بعض المباحث فی علم الکلام) للسید الشریف المرتضی.
و منذ عشر سنوات وقف الشیخ آغا بزرک مکتبته هذه علی طلاب العلم فی النجف و اخرجها من ملکیته الخاصة الی الملکیة العامة و ذلک فی سنة 1375 هجریة، و عدت منذ ذلک الحین فی عداد المکتبات العامة، و هی فی بیته الواقع فی الشارع الثانی من الجدیدة فی النجف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 263

مکتبة الامام الحکیم

تعتبر مکتبة الحکیم اوسع المکتبات العامة فی النجف تنظیما، و انتشارا، و محتوی، و ذلک بفضل العنایة الفائقة التی اولاها ایاها الامام السید محسن الحکیم بناء علی ما لمس من شدة الحاجة للکتاب و المکتبات عند الطلاب و القراء و المتتبعین الذین زاد عددهم فی السنین الاخیرة، فقد اتسعت حرکة الدراسة فی هذه السنین اتساعا لم تعد المکتبات الموجودة فی النجف تکفی لسد الحاجة.
ثم ان النجف لم تکن وحدها التی اثارت اهتمام الامام الحکیم و انما رأی ان یشمل النشاط فی تأسیس المکتبات اکبر عدد من المدن و بأقصی الاستطاعة فخطا الخطوة الاولی فی شراء الدور المجاورة للمسجد الهندی عند باب القبلة من الصحن الشریف فی موقع یعتبر من اهم المواقع المناسبة لقیام مکتبة عامة علیها، و هدّم هذه الدور، و شید منها مکتبة راعی فیها کل المقتضیات
الطابق الاعلی من مکتبة الامام الحکیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 264
التی تضمن لها الاتساع و لمرتادیها حریة العمل من المطالعة، و النقل، و الاستنساخ، ثم شجع افتتاح الفروع لها حتی بلغ عدد فروعها الیوم ستین فرعا ألحق أغلبها بالحسینیات، و المساجد فی المراکز و المدن العراقیة المهمة، کما اصبح لها فی خارج العراق ثمانیة فروع و کلها تستمد المعونة من الامام الحکیم.
تأسست مکتبة الحکیم فی سنة 1377 ه و تألفت نواتها من کتب الحکیم الخاصة اولا، ثم شرع بالبذل فی شراء الکتب بنشاط منقطع النظیر بحیث صار مجموع کتبها لا یقل عن (15000) مجلد من الکتب المطبوعة و نحو (2500) من الکتب المخطوطة و بینها عدد غیر قلیل من الکتب النفیسة النادرة و عمرها لم یزد علی بضع سنوات ..!!
و الی جانب الکتب المخطوطة النادرة فان مکتبة الحکیم تضم عددا من المصاحف المخطوطة بأقلام اشهر الخطاطین، و الرسامین المعروفین بهندسة الزرکشة الفنیة و التلوین فی القرون الماضیة و علی الاخص فی القرن الحادی عشر، و الثانی عشر، و الثالث عشر الهجری، مما تعتبر من آیات الفن الخالدة.
و هنالک میزة ذات أهمیة کبری امتازت بها هذه المکتبة العامة التی لم یسبقها الیها سابق و هی انها قد عنیت عنایة مخصوصة بتاریخ النجف العلمی و الثقافی، و المؤلفین النجفیین علی اختلاف نزعاتهم فجمعت کل ما خص النجف، و کل ما انتج المؤلفون النجفیون من مطبوع و مخطوط فی جناح خاص منها و بذلک سهلت للباحثین، و المتتبعین مهمة جد خطیرة و اغنت المؤرخین و الدارسین عن بذل الجهود الشاقة فی ملاحقة ای موضوع یتعلق بالتراجم و الکتب و المواضیع ذات العلاقة بالمؤلفات النجفیة و المؤلفین النجفیین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 265
اما اهم مخطوطات هذه المکتبة فتتلخص فیما یلی:
1- (المبسوط) للشیخ الطوسی المتوفی سنة 460 هجریة و هو بخط علی بن الحسین الوارانی و یرجع خطه الی سنة 586 هجریة.
2- (اجوبة المسائل) للشیخ ابن ادریس المتوفی سنة 598 هجریة و هو بخط جعفر بن احمد بن الحسین الحائری و قد املاه علیه ابن ادریس فی سنة 588 ه.
3- (منتهی المطلب فی تحقیق المذهب) للعلامة الحلی المتوفی سنة 726 هجریة و هو مخطوط بخط المؤلف، و (المختلف) و هو الآخر من مؤلفات العلامة الحلی و مخطوط بخطه فی سنة 699 ه و فی مجلدین، و (نهج الحق و کشف الصدق) للعلامة الحلی مخطوط فی سنة 734، و منتهی (السؤول) للعلامة الحلی مخطوط سنة 697 ه.
4- (نهج البلاغة) للشریف الرضی المتوفی سنة 406 ه بخط الحسین ابن اردشیر الطبری سنة 677 و علیه اجازة یحی بن الحسن بن سعید الهذلی الحلی بنفس التاریخ.
5- (شرح شواهد المفصل) للفاضل مظهر الدین محمد مخطوط سنة 772 ه.
6- (مختصر خلاف الشیخ الطوسی) مخطوط سنة 699.
7- (عصرة المنجود) فی علم الکلام لعلی بن یونس البیاضی العاملی مخطوط سنة 834 ه.
و تحتوی مکتبة الحکیم علی 450 مخطوطا من کتب الشیخ محمد السماوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 266
المخطوطة و هی الیوم فی نمو مطرد، و یشرف علیها موظفون دائمیون، و یجد فیها زوارها کل التسهیلات الممکنة للتزود من کتبها.

مکتبة البروجردی

هذه المکتبة من تأسیسات الامام الحاج آغا حسین البروجردی، الذی اسس المدرسة الجدیدة المعروفة باسم (مدرسة البروجردی) و الواقعة خلف السوق الکبیر من الیمین عند الخروج من باب الصحن الکبیر و قد الحقت بها هذه المکتبة لیستعین بها طلابها فی المراجعة و التتبع، و اکثر کتبها کأغلب مکتبات المدارس العامة تعنی بالفقه، و الاصول، و علم الکلام، و الرجال، بالاضافة الی مئات المراجع التاریخیة و الادبیة و تحتوی الیوم علی 8000 مجلد لامهات الکتب و بینها 200 کتاب من المخطوطات القدیمة فی التفسیر و الحدیث و الفقه، و علی کثرة عدد طلاب هذه المدرسة فان هذه المکتبة کافیة لاغراضهم العلمیة و اغراض المراجعین لها من الخارج و قد کمل تأسیس المکتبة کمکتبة تامة فی نحو سنة 1378 ه و اشتریت لها اخیرا کتب مکتبة النوری و ضمت الیها.

مکتبة جامعة النجف

هی المکتبة الملحقة بمدرسة (جامعة النجف)، الواقعة عند مفترق جانب من مکتبة (جامعة النجف) التی اسسها الحاج محمد اتفاق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 267
النجف و کربلاء، و طریق النجف و الکوفة، علی وجه التقریب، و قد بنیت هذه المکتبة وفق تصمیم خاص، انفق علیه المحسن الحاج محمد اتفاق کجزء من بناء المدرسة، و مدها بمبلغ جسیم تم به شراء نحو خمسة آلاف مجلدة من اهم المصادر و امهات الکتب و قد تم تأسیسها مع تأسیس المدرسة و ذلک سنة 1381 هجریة و هی تحتوی الیوم علی 8000 مجلدة و فی ضمنها 400 کتاب مخطوط، و تعتبر من اغنی مکتبات المدارس العامة فی النجف، لتوفر المصادر المطلوبة للتحقیق، و للسید محمد (کلانتر) الفضل الکبیر فی تحقیق فکرة هذه المکتبة الی جانب تحقیق قیام هذه المدرسة.

مکتبات أخری

و هناک مکتبات عامة اخری تابعة للمدارس الدینیة فی النجف اعرضنا عن ذکرها لقلة کتبها و اقتصارها علی مواضیع قلیلة و اغلبها فی الفقه و الحدیث کمکتبة مدرسة الحاج محمد صالح الجوهرجی و غیرها.
جانب من مکتبة مدرسة الجوهرجی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 268

مکتبات النجف الخاصة قدیما و حدیثا

اشارة

و مکتبات النجف الخاصة التی یمتلکها اصحابها فی بیوتهم، هی کالمکتبات العامة الملحقة بالمدارس، و المؤسسات، لا یکاد یمر علی وفاة مؤسسها بعض زمن حتی تزول من الوجود بالطرق التی اشرنا الیها من قبل، لذلک کان من النادر ان نسمع باسم مکتبة یرجع تاریخها إلی 150 سنة فقد عاش فی النجف ألوف من العلماء و البحاثین و رجال الادب فی مختلف القرون، و کان لکل واحد منهم فی الغالب مکتبة کبیرة او صغیرة، و لم یبق الیوم حتی اسمها فی الوجود، لذلک فاننا لن نستطیع ان نأتی الا علی مقروآتنا و معلوماتنا الشخصیة و علی بعض المصادر المطبوعة و المخطوطة عن تأریخ النجف الاخیر.

مکتبة الرحیم

هی اقدم ما وصل الینا من اخبار المکتبات الخاصة التی تألفت فی اواخر القرن التاسع الهجری و قد اسسها الشیخ عبد الرحیم و هو جد الاسرة المعروفة باسمه، و قال عنها الشیخ جعفر محبوبة: ان مکتبتها کانت تضم کتبا نفیسة کثیرة، و قد تلفت و لم یبق منها شی‌ء و قد اجیز الشیخ الرحیم من الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 269
الکرکی اجازة علمیة قال عنها الشیخ جعفر: انه وقف علیها و قال ان العلم انقطع عن هذه الاسرة و لم یبق منهم احد.

مکتبة آل الطریحی

و آل الطریحی من اقدم الاسر العلمیة فی النجف، و لیس من شک ان کانت لبعض علمائهم مکتبات خاصة، غیر ان اشهر هذه المکتبات التی جاء ذکرها فی تراجم الاسر و فی تاریخ المکتبات هی مکتبة الشیخ فخر الدین الطریحی، التی لم یبق الیوم الا ذکرها فقد تنوقلت کتبها من مکان الی مکان و لم یبق منها شی‌ء.
روی الشیخ جعفر محبوبة عن هذه المکتبة ان انقاضا منها لم تزل موجودة و هی مبعثرة متفرقة فی ذریته ثم قال: «و حدثنی بعض الاعلام انه رأی بعینه فی سرداب فی دار الشیخ نعمة الطریحی (ره) ما یقرب من ثلاثة أحمال أوراقا مبعثرة قد أتلفها المطر فنقلت و ألقیت فی البحر و هو (ره) کان قد رتب بعض الاوراق فکملت عنده بعض الکتب منها» و کان تأسیسها فی طلائع القرن الحادی عشر الهجری

مکتبة الجزائری

و الجزائری هذا هو الشیخ احمد جد الاسرة الجزائریة الشهیرة، و هی اسرة علمیة اشتهرت مکتبة جدهم بما کانت تضم من الکتب الخطیة النادرة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 270
و علی الاخص فی الفقه، و الحدیث، و الرجال، و من الحواشی التی وجدت، و الاجازات التی کتبت علی صفحات بعض الکتب القدیمة یستدل علی نفاسة تلک المخطوطات، و قد تأسست هذه المکتبة فی اواخر القرن الحادی عشر الهجری و تعتبر من اقدم المکتبات الخاصة التی وصلتنا اخبارها، و بعد وفاة الشیخ احمد انتقلت هذه المکتبة وراثة الی اولاده ثم توزعت، و کان لدی الزعیم الروحانی الشیخ عبد الکریم الجزائری و لدی اخیه الشیخ محمد جواد الجزائری عدد من هذه الکتب الموروثة.

مکتبة السید عبد العزیز

هو جد اسرة آل الصافی المعروفة فی النجف و قد کانت له مکتبة زاخرة بأنفس المخطوطات المجلدة و المذهبة، تعد بالالوف، و اشار الیها الشیخ جعفر فی ماضی النجف و حاضرها، و جاء فی (نهج الصواب) ان السید عبد العزیز قد وقفها علی اولاده و انها قد تفرقت بعد ذلک و تلفت، و اتت علی اغلبها الارضة حتی القیت جملة منها فی البحر، و فی الآبار، و قد رأینا نحن بعض هذه الکتب و علیها اشارة الوقف فی بیت السید محمد رضا الصافی احد احفاد السید عبد العزیز، اما تأسیس هذه المکتبة فقد کان فی منتصف القرن الثانی عشر.

مکتبة آل بحر العلوم

و هذه المکتبة من اقدم مکتبات النجف الخاصة التی وصلت الینا اخبارها ایضا فقد اقتناها الزعیم الروحانی الکبیر السید محمد مهدی بحر العلوم جد الاسرة العلمیة الکبیرة المعروفة باسمه فی النجف، و ان انفراده بالزعامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 271
الروحیة الواسعة جاء نتیجة لتبحره فی عدد من العلوم و المعارف بالاضافة الی تبحره فی الفقه و الحدیث، و اللاهوت، و قد تواترت الاخبار عنه بأنه قلما وجد کتاب فی العربیة و الفارسیة دون ان تکون نسخة لدیه منه، و قد قیل ان مکتبته نفسها مثلث هذا البحر من العلوم کما مثله هو، و جاء فی (المستدرک) عن السید محمد مهدی انه: «قد اذعن له جمیع علماء عصره و من تأخر عنه، بعلو المقام، و الریاسة فی العلوم النقلیة، و العقلیة، و سائر الکمالات النفسانیة و جاء فی (ماضی النجف و حاضرها) ان مکتبته کانت مشتملة علی نفائس المخطوطات، و کلها محلاة بالذهب، و مجدولة، جیدة الخط و القرطاس، و لم یوجد فیها مطبوع، و انتقلت بعده الی ولده السید رضا، و بعد وفاته انتقلت الی اولاده السید محمد تقی، و السید حسین، و السید علی، و قد جمع اکثرها السید علی آل بحر العلوم صاحب (البرهان القاطع) و کان تأسیس هذه المکتبة فی نحو الثلث الاخیر من القرن الثانی عشر الهجری.

مکتبة آل القزوینی

من اشهر المکتبات الخاصة بآل القزوینی کانت مکتبة جدهم السید احمد الکبیر، و قد حوت هذه المکتبة من النفائس ما اشار الیها غیر واحد فی ذکر الکتب، و المکتبات، و کل کتبها کان من المخطوطات النادرة، و المنحصر بعضها بهذه المکتبة، و لا یبعد ان تکون لهذه المکتبة آثارها فی نشأة عدد من علماء هذا البیت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 272
اما تأسیسها ففی حدود الثلث الاخیر من القرن الثانی عشر و قد انتقلت هذه المکتبة النفیسة بعد وفاة السید احمد الی اولاده، و توزعت علیهم.
و قد نقل الشیخ علی کاشف الغطاء: انه یملک فی مکتبته نفائس من کتبها، و قد جمع السید مهدی القزوینی بعد ذلک علی ما روی الشیخ جعفر محبوبة نقلا عن (نهج الصواب) کثیرا من الکتب العلمیة، و الادبیة، و کتب النسب، حین اقامة السید مهدی فی النجف، فضاهی بها اشهر مکتبات النجف، و اوسعها، و فیها مؤلفات من سائر الفنون و قد احتوت علی ما ینیف علی ألف مجلد من الکتب المخطوطة الجیدة، و جملة منها بخطوط مؤلفیها، و قد انتقلت الیه بالارث من ابیه السید حسن، و من کتب عمه السید باقر، و زادها اولاده من بعده، و هی الیوم متفرقة عند احفاده فی النجف و الحلة .

مکتبة الشیخ جعفر الکبیر

هو صاحب کتاب (کشف الغطاء) الذی لقب الاسرة باسمه، و قد کان شیخ الفقهاء، قال عن کتابه الشیخ الانصاری علی ما روی الرواة ان من اتقن القواعد الاصولیة التی اودعها الشیخ جعفر فی (کشفه) فهو عندی مجتهد، و جاء فی (مستدرک الوسائل) للمیرزا حسن النوری عنه «فان نظرت الی علمه فکتابه (کشف الغطاء) الذی ألفه فی سفره ینبئک عن امر عظیم، و مقام علی فی مراتب العلوم الدینیة اصولا و فروعا» و فی اسفاره الطویلة فی الحجاز و فی ایران استطاع ان یجمع اندر الکتب و انفسها، و امتازت مکتبته بکونها حوت نسخا فریدة انحصرت بها دون المکتبات الاخری فکانت هی و مکتبة السید بحر العلوم، باعتبارهما معاصرتین لبعضهما، مضرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 273
المثل، بید ان المخطوطات القدیمة النادرة فی مکتبة الشیخ جعفر کانت اکثر من المخطوطات النادرة فی مکتبة بحر العلوم بسبب الاسفار التی قام بها الشیخ جعفر و دأبه فی البحث عن الکتب فی جمیع مظانها فی تلک الاسفار و اقتنائه لها.
و کان تأسیس هذه المکتبة فی اواخر القرن الثانی عشر الهجری، و حین توفی مؤسسها انحصرت هذه المکتبة بابنه الکبیر ثم بأخیه الشیخ علی فی قصة سنأتی بخلاصتها فی تاریخ مکتبة الشیخ علی آل الشیخ محمد رضا الشیخ هادی الشیخ عباس کاشف الغطاء.

مکتبة آل محی الدین

هی مکتبة الشیخ محمد بن الشیخ یوسف محی الدین احد علماء هذه الاسرة؛ و کانت عنده کتب عدت بالالوف. و قد أشار الیها الشیخ علی کاشف الغطاء و عدها من المکتبات المهمة بما کانت تحتوی علیه من نفائس الکتب. و حینما مات بیعت هذه الکتب و قد رأیت انا البعض منها فی مکتبة الشیخ قاسم محی الدین و قد کتب علیها الشیخ قاسم انه اشتراها من بعض من وجدها عنده لان علیها حواشی بخط الشیخ محمد الشیخ یوسف، و کان تأسیس هذه المکتبة فی اواخر القرن الثانی عشر الهجری.

مکتبة الشیخ محمد باقر الأصفهانی

قال الشیخ جعفر محبوبة نقلا عن (نهج الصواب): جمع هذا الشیخ کتبا نفیسة فی سائر الفنون و کان یشتریها بأغلی القیم، و استنسخ جملة کثیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 274
منها، و هو من عشاق الکتب و الحریصین علیها و قد استأجر لها دارا خاصة، و عین علیها قیّما، و اباح المطالعة و الاستنساخ لکل من اراد، فکانت مکتبته عامة نافعة لسائر المحصلین، و المستفیدین، ثم لما اراد الرجوع الی وطنه اصفهان باع جملة منها فی النجف، و جملة منها فی کربلاء، و حمل ما اختار منها الی اصفهان علی ما روی الشیخ علی کاشف الغطاء.
و یستنتج من ترجمته الواردة فی (اعلام الزرکلی) بتعیین وفاته فی سنة 1313 هجریة ان تأسیس مکتبته کان بعد منتصف القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة السید احمد هلاله

هذا السید من وجهاء سادات القبائل فی البطائح، و کانت له فی النجف دور و املاک، و قد عرف بهوایته الکتب، و اقتنائها، و قد کان ینفق علی شراء الکتب کثیرا، و المروی عن کتبه انها کانت من النفائس النادرة، و جلها من الکتب المخطوطة، و قد شاهد بعض کتبه هذه الشیخ علی کاشف الغطاء علی ما روی فی کتابه (نهج الصواب)، و کان تأسیسها فی اوائل القرن الثالث عشر و لم یبق الیوم منها غیر ذکرها فی بعض حواشی الکتب و التراجم.

مکتبة السید میرزا الأصفهانی

و قال الشیخ جعفر محبوبة: نقلا عن (نهج الصواب) للشیخ علی کاشف الغطاء ان السید میرزا الاصفهانی کان من عشاق الکتب و ممن صبا الی جمعها و اقتنائها، و ان لم یکن من اهل الانتفاع بها، و کان حریصا علی کل کتاب فی ای علم و ای لغة، ا کان ملکا او وقفا، و بعد وفاته بیعت هذه الکتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 275
و ظهر ان جملة منها من موقوفات مدرسة (چهار باغ) فی اصفهان، و قد احتوت مکتبته علی جملة من المخطوطات القدیمة، و بعضها بخط مؤلفیها، او علیها اجازة منهم، و کان فیها (النهایة) لابن الاثیر قرئت علی مؤلفها، و علیها اجازة منه و هی النسخة التی تضمها الآن مکتبة الامام کاشف الغطاء، و قد مر ذکرها، و لم نجد للسید میرزا الاصفهانی ترجمة فیما تحت ایدینا من المصادر لنعین تاریخا لتأسیس مکتبته، و لکن المظنون من ترتیب ذکره فی (نهج الصواب) انه فی حدود اوائل القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة الحاج ملّا علی الخلیلی

و کان الحاج ملا علی الخلیلی مملقا، و زاهدا فی المال، و متقشفا غایة التقشف، فی ملبسه، و مأکله، و قد ورثت زوجته من ابیها اطیانا، و ثروة، فهی ابنة السید محمد الرحباوی الذی قامت معرکة الزگرت و الشمرت بسبب مقتل اخیه السید محمود، فوضعت کل ثروتها تحت نفوذ زوجها الحاج ملا علی و لکن زوجها لم تمتد یده الیها لزهده، و نسکه المعروف، غیر انه استعان ببعض المال منها فی شراء الکتب، و بذلک تألفت مکتبته الکبری.
و قد کانت هذه المکتبة تمتاز علی المکتبات الاخری فی عصرها بما کانت تضم من کتب الرجال، و التراجم، حتی لقد قیل ان کثیرا من کتب الرجال التی ورد ذکرها فی بطون التواریخ و التی اعتبرت مفقودة کانت لدیه منها نسخة، اذا لم تکن النسخة الاصلیة نفسها، و لذلک اعتبرت مؤلفاته فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 276
الرجال من ادق، و اصح ما اؤلف فی هذا الباب، و قد روی بعض افراد اسرة الخلیلی ان الکتب التی تخص علم الرجال، او تراجم احوالهم و سیرتهم، و علی الاخص رجال الحدیث، و الروایة، کانت وحدها تتجاوز الف کتاب!!! و هناک نحو الفی کتاب آخر فی سائر العلوم کان قد وقف الجمیع باستئذان زوجته علی طلاب العلم فوزعت بعد وفاته علی المدارس الدینیة و طلاب العلم .
اما مؤلفاته فقد انتقلت الی ورثته و لم یزل بعضها عند احفاده و منها بعض مؤلفاته و حواشیه علی الاسفار فی بعض المکتبات الخاصة فی النجف و منها احد مؤلفاته فی الرجال و غیره فی مکتبة الشیخ علی کاشف الغطاء.
و کان تأسیس مکتبة الحاج ملا علی فی حدود العشرات الاولی من القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة السید علی بحر العلوم

هو حفید السید محمد مهدی بحر العلوم، و قد رویت عن مکتبته روایات کثیرة لان جل مکتبة جده قد آلت الیه قبل بیعها، و لانه اضاف الیها ما استطاع ان یجمع من الکتب النفیسة النادرة. و قد روی عنه انه کان سخیا یبذل المال فی سبیل اقتناء الکتب، و الحق ان هذا السخاء فی شراء الکتب صفة لازمت اعضاء هذه الاسرة فی مختلف العصور حتی تکاد لا تجد بیتا من بیوت هذه الاسرة حتی هذه الساعة و لم تصف الکتب فی رفوفها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 277
الی السقف مما سنشیر الی المهم منها فی هذا الحقل، و عند وفاة السید علی بیعت هذه الکتب. و تفرقت و قد اشتری طائفة من کتبها الشیخ علی آل کاشف الغطاء کما احتفظ بعدد من مخطوطاتها بعض الورثة من اسرة بحر العلوم، و قد تأسست مکتبة السید علی فی منتصف القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة آل نظام الدولة

بین آل نظام الدولة- الذین بنی جدهم السور المحیط بمدینة النجف لحفظها من الغارات، و بنی مدرسة الصدر التی مر ذکر مکتبتها- عدد من العلماء، و الفضلاء و الادباء، و الذین عنوا بالکتب و اقتنائها، و کان علی محمد خان الملقب بنظام الدولة من اشهر اعضاء اسرته اعتزازا بالکتب لفضله و طول باعه فی العلوم الادبیة، و قد جمع من الکتب التی جلبها من مختلف الاقطار العربیة منها و الفارسیة عددا بلغ عشرین ألف کتاب، و اغلبها مخطوط بخط مؤلفیها فی العصور القدیمة، و قد قیل انه کان یوفد رسلا الی جهات بعیدة لیجمعوا له الکتب النادرة، و یشتروها بأغلی الاسعار حتی الف هذه المکتبة الزاخرة بما ندر من الکتب و التی انحصرت بعض نسخها بمکتبته وحده، و کان تأسیسها فی نحو القرن الثالث عشر الهجری و قد نقل الواقفون علیها: انها کانت کلها مجلدة تجلیدا فنیا، و المستنسخة منها کانت بخطوط عدد من الخطاطین المشهورین فی عصرهم، و حین توفی نظام الدولة فی نحو سنة 1276 هجریة انتقلت هذه المکتبة الی اولاده، ثم صارت بعد ذلک فی حوزة الحاج علی آغا من احفاده و عند موت الحاج علی آغا کان وصیه الشیخ عبد اللّه المازندرانی- و هو احد المراجع الدینیة- و کان الشیخ علی آل کاشف الغطاء ناظرا فی الوصیة، و یقول الشیخ عبد العزیز الجواهری: و حین توفی الحاج علی آغا کنت انا من شهود (مزاد) هذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 278
الکتب، و بین هذه الکتب کانت نوادر من المخطوطات النفیسة، کان منها (طراز اللغة) تألیف السید علی خان المدنی الشیرازی و کان فی مجلدین و هو یجمع بین لغة القاموس و القرآن الکریم و الحدیث، و التفسیر، و الامثال، بعبارات مختصرة، و لکنها وافیة کافیة، و کان قد وصل فی تألیفه الی باب (القاف) و (الصاد) من کلمة (قمص)، و قد طبعت نسخة من هذا الکتاب قبل سبعین سنة طبعا حجریا فی الهند، و رأیت نسختین خطیتین منها احداهما فی هذا (المزاد) و الثانیة فی مکتبة مدرسة (الصدر) بطهران، و کانت قد انتهت بحرف (الزای و الراء) ثم رأیت کتاب (صحاح الجوهری) فی مجلدین، و اغلب الظن انه بخط یاقوت المستعصمی فاشتریت انا هذین المجلدین، ثم رأیت کتاب (الحدائق الوردیة فی تاریخ الأئمة الزیدیة) کذلک رأیت (تاریخ قم) الذی الف بالعربیة و قدم للصاحب بن عباد فی القرن الرابع الهجری، و المعروف ان هذه النسخة فریدة و قد انحصرت فی هذه المکتبة .
و اشتری الشیخ علی کاشف الغطاء عشرات من کتب آل نظام الدولة فی (المزاد) و تنافس معه فی الشراء عدد من اصحاب المکتبات و هواة الکتب لذلک تناثرت هذه الکتب و توزعت فی أغلب البیوت- و قالت لنا ابنة الحاج علی آغا: ان اباها کان قد اوصی لامها بکتابین مخطوطین، احدهما لسعدی الشیرازی و الثانی لحافظ الشیرازی، و ترک هذین الکتابین فی خزانة الشیخ عبد اللّه المازندرانی بصفة امانة و قال لزوجته: لقد ترکت لک هاتین النسختین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 279
علی سبیل الهدیة و الهبة، و ارجو ان لا تفرّطی بهما، فهما نسختان عدیمتا النظیر من حیث الفن، و التخطیط، و التلوین، و الاخراج. و قد تولی بیع هاتین النسختین التاجر الحاج محمد رضا الشوشتری فی النجف بمائة لیرة ذهبا و باعهما المشتری ببغداد بعد اسبوعین فقط بألف لیرة ذهبا و اخرجهما هذا المشتری الی اوروبا.

مکتبة الحاج ملّا باقر

و کانت للحاج ملا باقر الشوشتری مکتبة نفیسة أسسها فی نحو الثلث الاخیره من القرن الثالث عشر الهجری و کانت تحتوی علی 3000 کتاب، و معظمها کان من الکتب المخطوطة النادرة التی انفردت هذه المکتبة بالحصول علیها بین المکتبات المعروفة بجمع النادر الفرید، و من اهم هذه الکتب:
1- نسخة من زبور داود یرجع تاریخ خطها الی اوائل القرن الرابع الهجری.
2- نسخة من (شرح الصحیفة السجادیة) قدیمة.
3- نسخة من کتاب (کشف اللثام فی شرح شرایع الاسلام) للفاضل الهندی، و هی بخطه.
و ان اغلب کتب هذه المکتبة قد انتقلت بعد ذلک من النجف الی بمبی و قد تلفت، بسبب الرطوبة و انعدمت من الوجود علی ما نقلوا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 280

مکتبة الخونساری

اسس هذه المکتبة الشیخ آقا محمد علی الخونساری فی نحو الثلث الاخیر من القرن الثالث عشر الهجری، و کانت تحتوی علی عدد کبیر من نفائس المخطوطات النادرة التی أفنی عمره فی جمعها سنین طویلة، و کان فیها علی ما نقلوا، ما لم یوجد فی غیرها من المکتبات من النسخ و الکثیر منها مخطوط بخطوط قدیمة، منها (سلوة الغریب) و (رحلة السید علی خان المدنی الشیرازی) إلی مکة و الهند، و هی التی اکتسبت شهرة کبیرة فی عالم الکتب بالنظر لاهمیة بحوثها و قد انتقلت وراثة الی أولاده، و کان لها فهرست بأسماء جمیع محتویاتها، و لم یبق لها أثر الیوم.

مکتبة النوری

و النوری هذا هو الحاج میرزا حسین النوری من ابناء القرن الثالث عشر الهجری، و من ابرز العلماء و اکثرهم انتاجا، و اوسعهم اطلاعا بالحدیث، و علم الرجال، و السیر، لذلک کثرت مؤلفاته فی مختلف المواضیع، و ان مثل هذه الوفرة من المعرفة و التألیف کان لا بد له من مؤونة وافرة من الکتب بجمیع اصنافها و ابوابها،
یقول خیر الدین الزرکلی فی (الاعلام) عنه انه: «فقیه امامی ولد فی قریة (یالو) من قری (نور) احدی «کور طبرستان) و توفی فی الغری (بالکوفة)، و من کتبه (نفس الرحمن فی فضائل سلمان)، و (دار السلام) فی الاحلام، مجلدان جمع فیهما ما یتناقله الناس فی ذلک، و (مستدرک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 281
الوسائل) فی الفقه ثلاثة أجزاء و (فصل الخطاب فی تحریف کتاب رب الارباب، و (معالم العبر). و (جنة المأوی) و (الفیض القدسی فی احوال المجلسی) و (کشف الاستار) و (اللؤلؤ و المرجان) فی نقد قراءة التعازی و تحیة الزائر فی الزیارات و له کتب اخری و رسائل بالفارسیة طبع اکثرها .
و اتسعت دائرة مکتبة النوری اتساعا لفت الیه الانظار فقد بلغ من شغفه باقتناء الکتب و استنساخها و جمعها من مختلف الاقطار، ان رویت عنه قصص کثیرة و اصبح هو بفضل علمه، و احاطته الواسعة، و مکتبته بفضل جمعها المصادر و الکتب النادرة، مرجعین مهمین للبحوث، و الدراسة، و التتبع بجمیع صنوفه.
جاء فی الاحلام للشیخ علی الشرقی ص 60: «و من نوادر هؤلاء الصرعی فی حب الکتب کان الشیخ الجلیل (النوری) و کان قد اعیاه الطلب لکتاب، و صدفة عثر علیه فی السوق، و قد عرضته امرأة للبیع، و صادف فراغ کیسه من النقود، فوقف وسط السوق بالقرب من تلک المرأة، و امسک بیده علی الکتاب حرصا، و صار لا یستطیع ان ینقل خطوة، و کانت علیه عباءة ثمینة فخلعها و دفع بها للمنادی فی المزاد فباعها هذا بثمن بخس، و سلم للمرأة ثمن الکتاب و مشی فی السوق، و الطریق، بدون عباءة، و هی مشیة لا تتناسب و امثاله من رجالات الفضیلة و لکنه کان مزهوا بها لامتلاکه الکتاب».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 282
و المروی ان هذا الکتاب الذی عثر علیه المیرزا النوری هو اصل من الاصول الاربعمایة المخطوطة التی ملک منها فی مکتبته اجزاء کان هو اول من حصل علیها.
و یقول الشیخ عبد العزیز الجواهری: ان من جملة الکتب النادرة الفریدة التی زخرت بها مکتبته و التی اشار الیها المیرزا النوری نفسه فی خاتمة کتابه (مستدرک الوسائل) هو کتاب: (الاشعثیات) او (الجعفریات) لاسماعیل ابن الامام موسی بن جعفر الصادق (ع) و یعتبر من اهم الکتب، و لما کان الراوی لمضامین هذا الکتاب هو محمد بن محمد الاشعث فقد سمی (بالاشعثیات) ثم کتاب (مسائل علی بن جعفر) و کتاب (سلیم بن قیس) و بعض الکتب النادرة التی لم یستطع الحصول علیها (المجلسی) لاعتمادها فی تألیف موسوعته (بحار الأنوار)، و الحر العاملی لاعتمادها فی تألیف کتابه.
(وسائل الشیعة) ثم نسخة من (ریاض العلماء) الوحیدة التی یمتلکها الیوم اقا محمد باقر بن اقا نجفی باصفهان، و اغلب هذه الکتب- علی ما قال الجواهری- اما ان تکون قد احترقت او تبعثرت باستثناء بعض النسخ التی انتقلت الی مکتبة الشیخ فضل اللّه النوری اما الواقع الذی نعرفه نحن فانه لم یتلف منها الی القلیل، و قد ابتیعت اخیرا و ضمت الی مکتبة البروجردی کما مر الحدیث عنها.
و یضیف علی هذا جرجی زیدان قائلا: «و کان فی النجف خزانة تسمی مکتبة الشیخ میرزا حسین النوری و کان فیها من جلائل المصنفات فی العلوم و الفنون شی‌ء کثیر، و کلها خطیة نادرة، الا انها کانت عزیزة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 283
المنال کأکثر کتب النجف، ثم تفرقت فی النجف بعد موت صاحبها منذ نحو عشر سنین، و کان له ثلاث مکتبات: هذه التی کانت فی النجف، و الثانیة کانت فی طهران، و الثالثة فی هندستان. و المیرزا النوری صاحب تآلیف شتی اکثرها طبع فی ایران» و یعتبر تاریخ تأسیس هذه المکتبة فی حدود الربع الاخیر من القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة السید محمد بحر العلوم

و نواة مکتبة السید محمد تکونت هی الاخری من مکتبة جده السید محمد مهدی بحر العلوم التی آلت الیه بعض کتبها شراء من مخلفات عمه، ثم عنی بها عنایة فائقة فأضاف الیها عددا کبیرا من المطبوعات و المخطوطات النادرة و یقول جرجی زیدان عنه: «مکتبة السید محمد بحر العلوم الطباطبائی فیها کتب نفیسة الخط، بینها جملة من الکتب القدیمة، منها دیوان الشریف الرضی کتب فی عهد مؤلفه و فیه من الاشعار اکثر مما فی النسخة المطبوعة» و مما حوت مکتبة السید محمد من النسخ النادرة نسخة فریدة من کتاب (بحر الانساب) لاحد علماء القرن التاسع عشر الهجری و نقل الشیخ جعفر محبوبة عن (نهج الصواب) لمؤلفه الشیخ علی کاشف الغطاء و قد اعتمده (محبوبة) فی جل ما نقل فی (ماضی النجف و حاضرها) عن مکتبات النجف؛ ان من محتویات مکتبة السید محمد بحر العلوم (المجسطی) و (الدرجات الرفیعة) للسید علی خان، و قال عن (بحر الانساب) ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 284
هذا الکتاب قد بیع بعد وفاة السید محمد و تناقلته الایدی حتی انقطع خبره:
و المروی عن السید محمد انه لم یترک کتابا نفیسا یعرض للبیع دون ان یتلقفه، و حتی بعد ان کف بصره فان همته فی جمع الکتب النادرة لم تصب بفتور، و حین توفی السید محمد بیعت کتبه فی المزاد العلنی، و یقول صاحب (نهج الصواب) علی روایة الشیخ محبوبة انه شاهد مزاد هذه الکتب العلنی فی الصحن الشریف و قد دام ثلاثة شهور!! و هذا دلیل علی سعة هذه المکتبة و ما کانت تحتوی علیه من الکتب و کان تاریخ تأسیس هذه المکتبة فی أواخر القرن الثالث عشر الهجری.

مکتبة شیخ الشریعة

هو المرجع الدینی الذی تولی زعامة الثورة العراقیة الکبری بعد المیرزا الشیرازی و بصفته استاذا من کبار اساتذة البحث و الدرس فضلا عن کونه مرجعا من المراجع الدینیة الکبیرة عند الشیعة فکان من الطبیعی ان تکون له مکتبة واسعة یستمد منها العون فی سعة الخبرة و الاطلاع و المناقشة
لذلک عنی بجمع الکتب عنایة کبیرة، و جلبها من مختلف الجهات الاسلامیة شراء و قد شهدنا مکتبته هذه فی بیته الواقع فی شارع (الصد تومان) من محلة البراق فی النجف، و لم یکن بمقدورنا فی ذلک الیوم ان نتفهم قیمتها، و قد حوت هذه المکتبة عددا کبیرا من الکتب القدیمة المخطوطة النادرة فی مختلف العلوم، و علی الاخص فی الفقه و الرجال و الحدیث و الاداب باللغتین الفارسیة و العربیة، و کان تأسیس هذه المکتبة فی أواخر القرن الثالث عشر الهجری و کان من بین کتبها الفریدة کتاب (جامع الرواة) فی تراجم طائفة کبیرة من مشاهیر أهل الحدیث و الروایة، و تمتاز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 285
هذه النسخة بکونها جامعة لحواشی و تعلیقات من قبل عدد من کبار العلماء المتقدمین بخطوطهم، و قد قیل: ان هذه النسخة صارت من ممتلکات السید حسن الصدر فی الکاظمین.
و کتاب (لسان الخواص) تألیف رضی الدین محمد بن الحسن، من علماء القرن الحادی عشر الهجری، و هو مصنف علی الحروف الأبجدیة، و لم یعثر المتتبعون علی غیر حرف (الالف) منه، و هو فی شرح و تفسیر المصطلحات و الکلمات العلمیة. و المنقول أنه انفس بحث فی موضوعه علی ما نقل (الجواهری) و لم یؤلف له نظیر للان.
و بالنظر لوجود قسم من اسرة شیخ الشریعة و هی الاسرة التجاریة الثریة فی الهند، و المعروفة (بالنمازیة)، فقد سهل علی (شیخ الشریعة) أن یحصل علی اکبر عدد من الکتب المطبوعة فی الهند، او المخطوطة شراء، و قد بیعت کتب هذه المکتبة و لم یبق منها الا بعض الشی‌ء عند اولاده و منهم الشیخ حسن المتوفی حدیثا و الشیخ محمد الشریعة و هو من المراجع الدینیة فی الباکستان الیوم.

مکتبات القرن الثالث عشر الأخری

اشارة

و هنالک عدد من مکتبات البیوت التی وردت اسماؤها فی بعض الکتب و علی الاخص فی کتاب (نهج الصواب فی المکاتب و الکتابة و الکتاب) للشیخ علی کاشف الغطاء، و قد نقل عنه الشیخ جعفر محبوبة فی کتابه ماضی النجف و حاضرها المکتبات التالیة:

أ- کتب بیت العبودی

و هذا البیت معروف بآل الشیخ مشهد، قال الشیخ علی کاشف الغطاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 286
«اننی وقفت علی جملة من کتبهم فوجدتها فی غایة الجودة، و لکن اخنی علیها الدهر فاتلفها، فانها مبعثرة تلعب بها صبیانهم، و اطفالهم، و قد استنقذت جملة منها و احییتها، و حفظتها من التلف و هی موجودة فی خزانة کتبی».

ب- کتب بیت المشهد

و هم غیر بیت الشیخ مشهد- و کانت لاهل هذا البیت کتب کثیرة نفیسة لم یزل بعضها موجودا حتی الیوم فی ایدی بعض احفادهم.

ج- کتب بیت نجف

و قد کانت عند أهل هذا البیت کتب کثیرة جیدة تلفت و لا یوجد منها الا القلیل.

د- کتب السید حسن الحکیم

و کانت عند هذا السید کتب کثیرة تفرقت بعد وفاته و لا یوجد منها شی‌ء .

مکتبة الشیخ علی آل الشیخ محمد رضا الشیخ هادی الشیخ عباس

نواة هذه المکتبة التی یملکها الشیخ علی آل کاشف الغطاء الیوم هی القسم الکبیر من مکتبة الشیخ جعفر الکبیر جد الاسرة المعروفة بآل کاشف الغطاء، نسبة لکتاب الشیخ المسمی (بکشف الغطاء) و المکتبة واقعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 287
فی بیت آل کاشف الغطاء القدیم، الواقع فی شارعهم من محلة العمارة فی النجف.
جانب من مکتبة الشیخ علی کاشف الغطاء
فحین توفی الشیخ جعفر آلت المکتبة الی ولده الشیخ موسی کاشف الغطاء، حتی اذا قضی هذا انتقل معظمها الی اخیه الشیخ علی، و کان الشیخ علی قد تزوج بأمرأتین احداهما من آل دخّیل و قد انجبت له الشیخ مهدی، و الثانیة و هی المدعوة (بخزنه) و هی عمة (وادی) رئیس قبیلة (زبید) و قد انجبت له الشیخ حبیب، و الشیخ عباس، و جاء فی روایة الرواة انه حین توفی الشیخ علی کان ولداه حبیب و عباس طفلین صغیرین، و عند القیام بتقسیم الارث رفضت (خزنه) قبول ای ارث غیر کتب زوجها، علی ما یتناقل الرواة فاجیبت الی طلبها، و انحصر الارث عندها بمعظم کتب تلک المکتبة، و احتفظت بها فی صنادیق خشبیة حتی اذا کبر الصبیان و بلغا رشدهما، قالت لهما الام علی ما تواترت علیه الروایة:
- إننی لم اتزوج أباکما إلا لعلمه!! لذلک لم أقبل منه میراثا غیر مناهل هذا العلم فان کنتما نجیبین فدونکما هذا المنهل و انهلا منه، و قد نهلا فعلا، و کانت هذه الصنادیق هی المنهل و الاساس لمکتبة الشیخ عباس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 288
ثم لابنه الشیخ هادی، و قد عنی بها الشیخ هادی بالنظر لمنزلته العلمیة عنایة کبیرة و اشتری کل ما وسعه ان یشتری من الکتب المطبوعة، و المخطوطة حتی نمت و صارت تنافس مکتبة الامام الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء فیما ضمت من نوادر الکتب، و اصبحت تسمی باسم الشیخ هادی کمؤسسة جدیدة، بناء علی ما اضاف الیها من الکتب، و حین توفی الشیخ هادی آلت المکتبة الی خلفه الشیخ محمد رضا، ثم انتقلت بعد وفاته الی حفیده الشیخ علی آل کاشف الغطاء و قد توسعت الیوم اکثر بما أضاف الیها الشیخ علی من الکتب و ما اولاها من رعایة و اهتمام.
و یشیر (دلیل الجمهوریة العراقیة) الی مکتبة الشیخ علی فیقول:
«اسسها فی النجف جده الشیخ هادی آل کاشف الغطاء فی مطلع القرن العشرین فیها (5000) مجلد فی مختلف الموضوعات الدینیة، و الأدبیة، و التاریخیة، و اللغویة، بینها (600) مخطوطة فیها نوادر مختلفة منها:
تحفة الازهار للسید ضامن بن شد قم (3 اجزاء) ..
و لا شک ان هذا العدد من الکتب المطبوعة و المخطوطة و تاریخ التأسیس الذی اورده (الدلیل) کان تقریبیّا. و الواقع أن تأسیسها الجدید علی ید الشیخ هادی کان فی مطلع القرن الرابع عشر الهجری، و أن مجموع کتبها الیوم هو (8000) مجلدة، و أما المخطوطات فهی ألف کتاب، و هی فی زیادة مطردة منذ ان آلت وراثتها الی الشیخ علی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 289
و عرفت هذه المکتبة بکونها أول مکتبة اهتمت الی جانب اهتمامها بالکتب القدیمة و المخطوطة بالکتب الحدیثة، و لکثرة اهتمام مؤسسیها و علی الاخص الشیخ محمد رضا فی حیاة ابیه ان کان یطلب کل کتاب جدید تصدره المطابع من مصر رأسا، و لا یبعد ان یکون دخول الکتب الجدیدة الی هذه المکتبة ایام الشیخ هادی کان قبل دخولها الی ایة مکتبة من مکتبات البیوت الخاصة فی معظم الاقطار العربیة ما عدا مصر. و قد امتازت هذه المکتبة بهذه الظاهرة الی جانب امتیازها بوفرة الکتب النادرة النفیسة.
جاء فی جریدة الهاتف من العدد 462 عن الشیخ علی حفید الشیخ هادی الذی آلت الیه المکتبة بعد وفاة جده الشیخ هادی و ابیه الشیخ محمد رضا، یوم کان الشیخ علی طالبا فی المدرسة الابتدائیة.
«و کان یتحفنی باعداد مجلة المقتطف کلما وصلت الی أبیه، و بکتاب او کتابین مما کان یصل الیهم بین آونة و اخری من الکتب الحدیثة التی کانت المکتبات المصریة تجریها فی حسابهم، و ترسلها بناء علی طلباتهم، فکنت اقرأ هذه الکتب و المجلات و أعیدها الیهم عن طریق الشیخ علی مصحوبة بالشکر مع الاعجاب برجل من الروحانیین یعنی مثل هذه العنایة بقراءة هذه الکتب، تلک العنایة التی لم تترک کتابا جدیدا فیما یتعلق بالادب، و الاجتماع و التاریخ یمر دون الوقوف علی زبدته و الاحاطة بموضوعه علی قدر الامکان» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 290
و جاء فی نفس الجریدة بعد ذلک: «و لقد علمت فیما بعد ان هنالک ناحیة اخری تستحق الاعجاب، و هی ان للشیخ محمد رضا، و أبیه الشیخ هادی، مکتبة نفیسة تحوی أندر الکتب و انفسها من مخطوطة و مطبوعة، کادت تنفرد بها هذه المکتبة دون المکتبات الاخری»
و یقول جرجی زیدان «ان عند الشیخ هادی بن الشیخ عباس آل کاشف الغطاء خزانة فیها من النفائس و الاعلاق ما لا شبیه له فی العراق» .
و الحق انها کما قال جرجی زیدان فان فیها من النفائس و نوادر الکتب العدد الکثیر مما لا یوجد فی غیرها من المکتبات الشهیرة و من هذه المحتویات:
- الجزء الخامس من (حقائق التأویل فی متشابه التنزیل)، و هو النسخة الخطیة الوحیدة من تفسیر السّید الشریف الرضی المنقولة عن نسخة فریدة بمکتبة (المشهد الرضوی) بخراسان، و قد قامت جمعیة منتدی النشر فی النجف بطبعها مشروحة شرحا وافیا بقلم الشیخ محمد رضا کاشف الغطاء، و بمقدمة غایة فی الاهمیة عن الشریف الرضی بقلم الشیخ عبد الحسین الحلی لم تزل مرجعا تاریخیا فی حیاة الشریف الرضی و سیرته و أدبه و لم یعثر الباحثون للآن علی بقیة اجزاء هذا الکتاب.
2- کتاب (الاستبصار) للشیخ الطوسی و هو الجزء الاول و قد خط فی حیاته.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 291
3- شرح (صدور مقالات اقلیدس) لابن الهیثم.
4- (شرح ما لا یحضره الفقیه) للمجلسی، الجزء الاول.
5- دیوان (القیراطی).
6- (الخلاف) للشیخ الطوسی و منه نسخة فی مکتبة الامام الحکیم.
7- (رجال الخلیلی) تألیف الحاج ملا علی الخلیلی فی علم (الرجال) و تراجمهم.
8- رجال (اللاهجی) للملا محسن فیض.
9- (درة التاج) فی الهندسة.
10- (غایة المرام) للصیمری.
11- کتاب (عن نبوخذ نصر) مکتوب علی رق الغزال و مخطوط قبل الاسلام.
12- (نثر الدرر) للوزیر الآبی، و یقول الشیخ جعفر محبوبة ان هذا الکتاب قد اخذه محمد امین الخانجی المصری عند مجیئه النجف لیطبعه فی مصر فلما وصل محله راجع الشیخ بضیاع الکتاب ثم اضاف الشیخ جعفر قائلا (هکذا فلیکن الامین)
13- (تذکرة العین) لعلی بن عیسی و لهذا الکتاب قصة ملخصها ان هذه النسخة فریدة و هی مفقودة و قد جاءنا من جامعة (مشیغن) عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 292
طریق المهندس حسن الرفیعی بأن نبحث عن هذه النسخة فی مخطوطات النجف و ان ندفع فی شرائها ای ثمن یفرضه صاحبها او الاذن باستنساخها لقاء مبلغ یساوی 100 باون، و قد اخبرنا الشیخ محمد السماوی بأن هذه النسخة موجودة فی مکتبة الشیخ هادی الشیخ عباس و حین اتصلنا بالشیخ علمنا بأن محمد امین الخانجی قد استعارها بموجب وصل لکی یطبقها علی نسخة زعم انها موجودة بمکتبة دار الکتب بمصر و حین طولب بعد ذلک بها قال انه فقدها ..!!

مکتبة السید محمد باقر الأصفهانی الرشتی

هو ابن الزعیم الروحانی السید اسد اللّه الاصفهانی الرشتی، المدفون بباب القبلة من الصحن الشریف و الذی انفق علی مد النجف بالماء العذب من نهر الفرات، و قد ارسل ابنه السید محمد باقر الی النجف لتحصیل العلم، و ما لبث ان تقدم و اصبح من العلماء و شغف باقتناء الکتب شغفا عظیما، و ساعد علی نمو هذا الشغف ما کان لابیه باصفهان و لجده الشهیر السید محمد باقر من کتب طالما اتخذ منها العلماء مراجع للبحث مما کان یعرفها الحفید، ثم ساعد اکثر فی ان تضم مکتبته اجل الکتب، و انفسها، و اغلاها، و اندرها وجودا ما کان علیه من سعة الحال و الثروة الطائلة فقد کانت له املاک و اطیان و مزارع واسعة باصفهان، ترسل وارداتها کلها الیه بعد وفاة ابیه، و کان بیته خلف بیت آل زینی و بجنب بیت الجواهری الکبیر، و قد اصبح ندوة علمیة ادبیة فی هذه المکتبة العامرة، و کان من روادها الشیخ عبد الکریم الجزائری، و السید جعفر الحلی، و الشیخ جواد الشبیبی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 293
و الشیخ هادی الشیخ عباس، و کثیرا ما اشیر الی هذه الندوة التی کانت تعقد فی هذه المکتبة الکبیرة من داره الواسعة.
و حین سافر السید محمد باقر الی اصفهان نقل بعض هذه الکتب التی حملتها بضعة بغال، و خزن الکتب الاخری فی سرداب کبیر بنیت علیها الأبواب و الشبابیک بعد ان غمروها بمسحوق التبغ لمکافحة الارضة، و حین توفی اخرجت هذه الکتب من السرداب و بیعت و توزعت علی بیوت النجف شراء، و یقدر العارفون عدد کتب هذه المکتبة ببضعة الاف کتاب و اغلبها من المخطوطات النادرة.
أما تأسیسها فکان فی طلیعة القرن الرابع عشر الهجری

مکتبة السماوی

لم یعرف التاریخ عالما فی العصور المتأخرة احاط بالکتب القدیمة و تواریخها، و مواضیعها، و قیمة الکتب الاثریة و نفاستها، کالشیخ محمد السماوی، خصوصا فیما یتعلق بالشعر، و الشعراء، و دوواینهم، فهو فی عصورنا المتأخرة کمحمد بن اسحق صاحب الفهرست فی عصره، فقد کان السماوی مرجعا فذا فی تثمین الکتب القدیمة، و مظان وجودها، بل کان (فهرست) یحتاجه المؤلفون لمعرفة بحوثهم، و مواضیعها، حین یریدون الاحاطة التامة بما یبحثون عنه، و قد جاءته هذه الملکة من افناء عمره الطویل فی جمع الکتب، و المخطوطات بصورة خاصة، و للکتاب فی نفسه منزلة ما حاکاها شی‌ء معزة، و حبا، و تقدیسا، و لقد روی الراوون عنه علی سبیل الفکاهة قوله: انه عمل قاضیا اکثر من ثلاثین سنة و کان یجنّب نفسه الاتصال بغیر اصدقائه الخلّص، المنتقین، و کان یرفض قبول ایة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 294
هدیة من ای شخص، حتی و ان لم تکن له حاجة فی المحکمة، حذرا من ان تشوب حکمه شائبة من العواطف، لقد قال: لقد حاول الکثیر اغرائی بشتی الطرق فلم یفلحوا لانهم لم یکتشفوا نقطة الضعف فی نفسی، و لو عرفوا قیمة الکتب عندی، و منزلتها فی نفسی، لافسدوا لی برشوة الکتب کل احکامی ..!!
و قد ضمت مکتبة السماوی اندر النسخ من الکتب القدیمة الثمینة و منها المخطوطة بخطوط اصحابها، و حین اشتری فی شارع آل الشکری بمحلة العمارة داره، خص الطابق الثانی بهذه الکتب، و وفر لنفسه مکانا فسیحا للمراجعة و العمل، و قد استخدم عددا غیر قلیل من الخطاطین فی استنساخ بعض الکتب التی لم یستطع ان یظفر بها شراء، لتکون فی مکتبته نسخة منها کما استعان بعدد من الذین یثق بهم لمعاونته فی استخراج ما کان یرید من المواضیع، من بین هذه الخزانة، اما الکتب النادرة المنحصرة بمکتبته، و الاثیرة عنده، فقد کان ینقلها بخطه، و لشدة خوفه علی تلک الکتب الفریدة و حرصه علیها، تعلم التجلید و اشتری الادوات اللازمة و راح یجلّدها بیدیه تجلیدا لا نظن انه کان یقل جودة عن تجلید المجلدین. اما المطبوعات فقد کان یملک منها اعز الکتب المطبوعة فی خارج العراق، (بلیدن) او غیرها. و کل مطبوعات بولاق علی وجه التقریب، و قد رأینا مکتبته هذه و أفدنا منها، و الذی لم یرها یستطیع ان یتبین قیمتها مما ترک السماوی من مؤلفات یحتاج کل واحد الی مئات المراجع و المصادر، و من مؤلفاته هذه:
1- (الطلیعة فی شعراء الشیعة) و هو فی ثلاثة مجلدات.
2- (ابصار العین فی أحوال انصار الحسین).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 295
3- (شجرة الریاض).
4- (ثمرة الشجرة فی مدح العترة المطهرة).
5- (قرط السمع) .
6- أ (عنوان الشرف فی وشی النجف)- ب- (مجالی اللطف بارض الطف)- ج- (صدا الفؤاد الی حمی الکاظم و الجواد) د- (وشائج السراء فی شأن سامراء) و کل هذه الاجزاء الاربعة منظومة بالشعر و مؤرخة جمیع حوادث تواریخها بالشعر ایضا، و عدد آخر من مؤلفاته المخطوطة الدالة علی کثرة المصادر التی یمتلکها.
و بلغت مکتبة السماوی من سمعة انفرادها بالنفائس ان صارت مقصد الزائرین من جمیع الجهات. و قد عدها جرجی زیدان فی ضمن مکتبات السماوة سهوا، و قال عنها انها تجمع طائفة حسنة من المخطوطات و اکثرها فی علم الفلک و الریاضیات.
و من اهم ما احتوت علیه مکتبة السماوی من المخطوطات:
1- (نسخة من المجسطی) منقولة عن نسخة المصنف
2- (شرح التذکرة) للسید الشریف الجرجانی صاحب کتاب التعریفات
3- (التحفة الشاهیة)
4- (المدخل) لکوشیار و قد کتب سنة 800 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 296
5- (شرح الجغمینی) لجمال الدین الترکمانی و قد خط فی نحو سنة ثمانمائة هجریة.
6- (کتاب التفهم) للبیرونی.
7- (کتاب الامکنة) للغدة، صاحب الاصمعی.
8- (نشوة السلافة) و هو ذیل علی سلافة العصر، للشیخ محمد علی آل بشارة النجفی و هذه النسخة فریدة و خاصة بهذه المکتبة.
9- (تفسیر نهج البیان) لمحمد بن الحسن الشیبانی و قد صنفه للمستظهر العباسی.
10- (ذیل الفصح) لابن فارس فی اللغة.
و من الدواوین عدد کبیر و الکثیر منها منحصر بهذه المکتبة و اهمها:
1- دیوان السید علی خان صاحب (السلافة).
2- (دیوان السید المرتضی) و هو فی اربعة مجلدات.
3- (دیوان عبد المحسن الصوری)
4- (دیوان صرّدر) و قد طبع
5- (دیوان الابله البغدادی)
6- (دیوان الغزی)
7- دیوان (السری الرفاء) و غیر ذلک من الدواوین الکثیرة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 297
اما تأسیس المکتبة فقد کان فی طلیعة القرن الرابع عشر، و حین توفی السماوی انحصرت الوراثة بابنته فعرضت المکتبة للبیع فتزاحم و تنافس علی شراء کتبها عدد من الافاضل و ارباب الخزانات الخاصة، و قد ابتاعت مکتبة الامام الحکیم منها نحو 450 کتابا من المخطوطات، و مئات من الکتب المطبوعة، و کان عدد کتب مکتبة السماوی نحو (6000) کتاب.
اما الدواوین الشعریة فان اغلبها قد انتقل شراء الی مکتبة الشیخ محمد علی الیعقوبی و الشیخ محمد رضا فرج اللّه، و المحامی صادق کمونه و صالح الجعفری، و هکذا انتهت حیاة هذه المکتبة کما قد انتهت و تنتهی حیاة المکتبات العامة و الخاصة فی النجف.

مکتبة السید جعفر بحر العلوم

و هذه مکتبة اخری من مکتبات النجف الخاصة المنسوبة لآل بحر العلوم، و قد جمعها السید جعفر مما استطاع ان یحصل علیه من کتب آله المتقدمین، و مما اشتراه من (المزاد)، و قد ساعده علی اتساع مکتبته ما هو فیه من سعة العیش، و الرفاه، حتی استطاع ان یضم الی مکتبته عیون الکتب القدیمة و الحدیثة، و قد أصبحت له خبرة بالکتب النفیسة، فکان یحرص علی الاحتفاظ بها، و من اهم ما احتوت علیه مکتبته کما اوردها الشیخ جعفر محبوبة کتاب (محبوب القلوب) لقطب الدین محمد الدیلمی، اللاهجی، و هو مرتب علی مقدمة فی حقیقة الفلسفة، و منشئها، و مبدأ سائر العلوم، و وصف عظماء و حکماء الیونانیین، و الفرس، و الهند، و سائر البلاد، و ثلاث مقالات: الاولی فی احوال الحکماء من لدن آدم الی بدایة الاسلام، و الثانیة فی احوال المتفلسفین من الاسلام، و علماء الکلام ممن یهم الاعتناء بهم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 298
و بشأنهم، و بکلامهم، و نقل مقالاتهم البدیعة، و مآثرهم البهیة، و قد ذیلها بأحوال عرفاء مشائخ الصوفیة الموحدین، و الثالثة فی احوال الأئمة (ع) و ذیّلها بذکر بعض المشاهیر من العلماء، و خاتمة فی أحوال المؤلف، و قد علق علی الکتاب حواشی نفیسة، و النسخة مخطوطة فی سنة 1078 قریبا من زمن المؤلف، و هو غیر مطبوع، و المطبوع منه مقالة واحدة، و من محتویات مکتبة السید جعفر کتاب (مآثر ملوک فارس) لصاحب حبیب السیر، و سلاسل الحدید فی تقیید ابن ابی الحدید للشیخ یوسف البحرانی، صاحب (الحدائق)، و حاشیة علی (اربعین الشیخ البهائی) و هو اکبر من الاربعین بثلاث مرات، للسید عبد اللّه حفید السید نعمة اللّه الجزائری الشوشتری .
و کانت مکتبة السید جعفر تعتبر رابع مکتبة مهمة فی وقتها بعد مکتبتی آل کاشف الغطاء و الشیخ محمد السماوی، و قد تأسست فی الثلث الأول من القرن الرابع عشر ثم صارت فی حوزة ابنه السید هاشم بحر العلوم بعد وفاة ابیه.

مکتبة السید هاشم بحر العلوم

تأسست مکتبة السید هاشم بحر العلوم فی حیاة ابیه السید جعفر، و بدأت هوایة جمع الکتب تظهر فیه قبل منتصف القرن الرابع عشر، و قد اضاف الی کتب ابیه طائفة من المخطوطات النادرة، و قد عرف فی الاوساط بهذه النزعة فراح یعرض علیه الوارثون ما یرثونه من المخطوطات، و قد صار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 299
حضور السید هاشم (المزاد العلنی) من کل اسبوع من قبیل الفروض الواجبة و الذی مکّنه من الحصول علی النفائس هو ما کان یسخو به من المال فقد کان فی یسر وسعة اکثر من غیره من الهواة، و علی ان مجموع کتب مکتبته لیس کبیرا، و لکنها تضم نسخا نادرة ذات قیمة و هی تبلغ نحو 4000 کتاب حسب الجرد الذی قامت به لجنة منتدبة بعد وفاته و قد اخرج السید هاشم هذه المکتبة من حوزة الملکیة الخاصة، و وقفها للجمیع، و لکنها لم تزل للیوم و هی فی بیته محبوسة لم یر وجهها النور علی رغم کونها وقفا للجمیع، اذ لم یتیسر لزوجته ان تخرجها للناس بعد.

مکتبة الشیخ فرج اللّه

من اهم مکتبات النجف الخاصة تأتی مکتبة الشیخ محمد رضا فرج اللّه، و هو من العلماء الذین یکاد الکتاب لا یسقط من بین ایدیهم، و قد وعی و لابیه الشیخ طاهر فرج اللّه مکتبة عامرة بالکتب، فانتقلت هوایة اقتناء الکتب و تتبّعها بالوراثة الیه مع انتقال المکتبة، و صار ینفق کل ما یقدر علیه علی اقتناء الکتب النادرة و البحث عنها فی جمیع المظان فقلما خلا (مزاد) للکتب من حضوره و علی انه سموح کل السماح للذین ینافسونه فی زیادة الثمن بحیث کثیرا ما یترک الکتاب للمنافس حین یراه متهالکا علیه و ینسحب خلافا لاغلب من یحضرون المزاد الذین لا یترکون الکتاب و خصوصا اذا کان نفیسا ان یفلت من بین ایدیهم، فقد حوت مکتبته طائفة من اهم الکتب المطبوعة النادرة مما کادت تنفرد به بین عدد کبیر من المکتبات و معظمها من الطبعات الاولی التی تم طبعها فی اوروبا و مصر، اضافة الی عدد من المخطوطات النادرة الثمینة و قد تأسست هذه المکتبة قبل منتصف القرن الرابع عشر الهجری، و حین بنی الشیخ محمد رضا بیته فی الشارع الفاصل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 300
بین محلة الحویش و البراق النافذ الی السور افرد لمکتبته هذا مکانا خاصا بها، و مجاورا لدیوانه، و نقلها الیه، ثم اشتد نشاطه فی اقتناء الکتب، فأصبحت مکتبته الیوم بما تحتوی علیه، من المکتبات المهمة التی افسحت لها بین تاریخ الکتب فی النجف مکانا مرموقا.
و تحتوی مکتبة فرج اللّه علی 8000 مجلد، اما عدد المخطوطة فیها فلا تقل عن 160 مخطوطة، و جلها من النفائس. و بخطوط یرجع بعضها الی عصر مؤلفیها و من اشهر هذه المخطوطات:
1- شرح (جمع الجوامع) فی الاصول، للعراقی، من مخطوطات سنة 800 هجریة
2- (شرح نهج المسترشدین) للعمیدی
طرف من مکتبة الشیخ محمد رضا فرج اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 301
3- (ربیع الابرار) للزمخشری.
4- (دیوان عبد المحسن الصوری) و هو نسخة نفیسة منقولة عن دیوان الصوری الاصیل
5- نسخة (السحر فیمن تشیّع و شعر) و من هذا الکتاب نسخة فی مکتبة الامام کاشف الغطاء.
6- (شرح نهج البلاغة) للراوندی، و غیر ذلک من مصادر خطیة و وثائق ذات أهمیة کبری عن تأریخ قبائل الجنوب کان قد جمعها الشیخ طاهر ثم زاد علیها الشیخ محمد رضا فرج اللّه و قد مکّنه من جمعها و شرح وقائعها کونه یجمع بین الریاستین الریاسة الروحیة و ریاسة قبائل (الاحلاف) فکان اعرف من غیره بتاریخ تلک القبائل.

مکتبة الیعقوبی

و الیعقوبی هذا شیخ الخطباء البحاثة الشیخ محمد علی بن الشیخ یعقوب الحلی، و کان ابوه ابرز خطباء المنابر الحسینیة فی الحلة، فجمع اکثر مما یستطیع احد ان یجمع من آثار السلف من نصوص ادبیة، و شعر منقول علی الالسن، و قد نشأ ابنه الشیخ محمد علی علی سجیته، و کانت وظیفته الخطابیة بالاضافة الی ملکاته الادبیة تتطلب مثل هذا الانهماک منه، فتألفت لدیه مکتبة من المخطوطات التی یعود الفضل الیه وحده فی جمعها، و حین انتقل الی النجف نقل هذه المکتبة معه، و لم یکن بیته الواقع فی احد الازقّة الضیقة من حدود محلة الحویش و البراق، لیساعده علی صف کتبه فخزنها فی صنادیق و اکیاس الی جانب ما تیسر له من الرفوف، و عند انتقاله الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 302
الی بیته الاخیر فی شارع آل الاعسم فی محلة البراق هیأ لها مکانا خاصا، و اقتصرت صنادیقه علی الکراریس، و النصوص الادبیة و الشعریة التی حصل علیها فی بیوت الاسر القدیمة، و تعتبر مکتبته هذه اثمن مکتبة شعریة لاحتوائها علی عدد جد کبیر من الشعر الضائع للشعراء المغمورین و غیر المغمورین، و انحصرت عنده دواوین ذات قیمة کبیرة حرص علیها زمنا طویلا حتی تناول حرصه هذا بعض الادباء فی مقالات نشروها فی جریدة (الهاتف) النجفیة عن صندوقه، و آخذوه علی حرصه، و حملوا علیه طالبین فتح هذه الصنادیق و اخراج کنوزها الی عالم الطباعة، و ما زال به الادباء یضایقونه فیما ینشرون عنه فی جریدة (الهاتف) حتی اندفع یخرج من صندوقه هذا بعض التراجم و بعض الشعر الضایع و ینشره فی الهاتف.
تقول النشرة التی أصدرتها جمعیة الرابطة الادبیة «و اغلب تلک الدواوین المخطوطة التی تضمها مکتبة الیعقوبی کان قد سهر اللیالی الطوال فی جمعها من مظانها و بذل من الجهد الشی‌ء الکثیر فی تدقیقها، و تنسیقها، و تبویبها، و التعلیق علیها، و ترجمة اعلامها، و سرد الحوادث التاریخیة المذکورة فیها» .
و حین بیعت کتب الشیخ محمد السماوی کان نصیب الیعقوبی من الدواوین المخطوطة کبیرا من الشراء، اما عدد کتبه فلم یتجاوز (3500) کتاب، و المخطوط لا یقل عن (500) و جلّه بین نادر و یتیم لیس له نظیر، و اغلب محتویات هذه المکتبة مصادر أدبیة، و مجامیع و دواوین شعریة و یعتبر تأسیسها قبیل منتصف القرن الرابع عشر الهجری، و هی الآن بعد وفاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 303
الیعقوبی تحت حوزة ابنه الشیخ موسی الیعقوبی.
و من اهم ما اشتملت علیه مکتبته من المخطوطات التی تم طبعها بعد تلک الحملة من جریدة الهاتف هی:
1- (البابلیات) و هی موسوعة ادبیة تاریخیة تقع فی اربعة اجزاء تبحث عن شعراء الحلة و ادبائها منذ أول تمصیر الحلة حتی الیوم و قد طبعت سنة 1370 ه.
2- (الجعفریات) و هی مجموعة شعریة للمیرزا جعفر القزوینی و قد طبعت سنة 1369 ه
3- (دیوان الشیخ عبد الحسین شکر) و قد طبع سنة 1374 ه
4- (دیوان الشیخ عباس الملا علی) و قد طبع سنة 1374 ه
5- (دیوان الشیخ یعقوب) و قد طبع سنة 1382 ه
6- (دیوان الشیخ محمد حسن ابی المحاسن) و قد طبع سنة 1383 ه
7- (دیوان الشیخ صالح الکواز) و قد طبع سنة 1384 ه
8- (دیوان الحاج حسن القیم) الحلی و قد طبع سنة 1385 ه .
و کان اکبر الفضل فی بعث هذه الدواوین التی لم یمتلکها احد کاملة غیر مکتبة الیعقوبی یعود الی توفیق الفکیکی الذی آخذه علی حرصه فی تلک المقالات التی کتبها عن (صندوق الیعقوبی» فی جریدة الهاتف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 304
اما الدواوین و المجامیع الشعریة التی لم تزل مخطوطة فی مکتبة الیعقوبی فهی کثیرة جدا، و منها:
1- (دیوان الشیخ میرا رشید الهندی)
2- (دیوان سبط ابن التعاویذی) و فیه من القصائد الیتیمة علی ما روی الراوون شی‌ء غیر قلیل.
3- (دیوان السید صادق الفحام)
4- (دیوان الشیخ علی الناصر) .

مکتبة السید محمد صادق بحر العلوم

و من المکتبات الکبیرة و الجلیلة بین مکتبات النجف الخاصة هی مکتبة السید محمد صادق بحر العلوم الذی ولع بجمع الکتب ولعا یستلفت النظر لعاملین مهمین، الاول بداعی بیئته و وراثته، و الثانی بداعی ملازمته للشیخ محمد السماوی فقد کان یلازمه ملازمة الظل، و بدأ یعنی بجمع الکتب قبل منتصف القرن الرابع عشر و ینبری لاستنساخ ایة نسخة من ای کتاب قدیم لا یستطیع شراءه من صاحبه حتی لقد اکتظت الیوم مکتبته بأنفس الکتب المطبوعة و الخطیة و بینها عدد من النسخ القلیلة الوجود.
و یبلغ عدد الکتب فی مکتبة السید محمد صادق نحو 15000 نسخة اما المخطوطات فلا تقل عن 100 نسخة و من اهمها (الوسیط) للمیرزا محمد الاسترابادی فی الرجال، و (الفرقة الناجیة) للحلی و (طرائف) للسید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 305
ابن طاووس و (منظومة السید مهدی القزوینی) الحلی فی الاصول.
صفحة من مکتبة السید صادق بحر العلوم

مکتبة السید صادق کمونه

شب ولعه بالکتب مع شبابه و هو طالب فی کلیة الحقوق، ثم ما لبث ان ولع بتتبع القضایا المعقدة من التاریخ الی جانب تتبع القضایا القانونیة، و ساقه هذا التتبع الی ان یبحث عن طائفة من الکتب الخاصة و المخطوطات منها حتی جمع مکتبة من انفس المکتبات من حیث مطبوعاتها، و مخطوطاتها،
جاء فی دلیل الجمهوریة العراقیة عن مکتبة السید صادق قوله: «أنشأها فی بغداد سنة 1935 م فیها من الکتب المختارة ما قد تنفرد به عن غیرها، و تدور موضوعاتها علی الفقه، و الفلسفة، و التصوف، و الادب، و التاریخ، و التراجم، و فیها مجموعة قیمة من المخطوطات» .
و الحقیقة ان هذه المکتبة قد تأسست فی النجف و لم تنقل الی بغداد الا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 306
اخیرا حین انتقل السید صادق کمونة الی بغداد و اتخذها سکنا، و قد تأسست بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجری بقلیل و تحتوی هذه المکتبة علی (8000) کتاب منها نحو (2000) کتاب فی القانون و الشرائع، و الباقی فی مختلف العلوم و المواضیع، و نحو (400) مخطوطة و فی ضمنها عشرات من الکتب المکتوبة بخط مؤلفیها.
و من هذه الکتب النادرة و التی لیس لبعضها نظیر فی المکتبات الاخری:
1- (کتاب المباحثات) للشیخ الرئیس ابن سینا، و هی مجموعة المسائل التی سأله عنها تلمیذه (بهمن یار).
2- (کتاب المنطق و خلاصة الحکمة) لنجم الدین النخجوانی الفیلسوف و هی نسخة فریدة لم یعثر لها علی نظیر علی ما نعلم.
3- کتاب (التعلیق العراقی) لسدید الدین محمود الحمصی الرازی فی عقیدة الشیعة، و هی نسخة یتیمة علی ما نعلم.
4- (کتاب المسائل الشیرازیة) او (الشیرازیات) لابی علی الفارسی النحوی فی الادب و هی بزیادة علی النسخة الموجودة فی المکتبة العلویة.
5- (النفحة العنبریة) فی انساب خیر البریة لمحمد ابن ابی الفتوح الیمانی.
6- (دیوان عبد المحسن الصوری) و هی امّ النسخ المنقول عنها شعر الصوری، و اغلب الظن انها النسخة التی اشتراها صادق کمونة من مکتبة السماوی.
7- (کتاب الصاهل و الشاعج) لابی العلاء المعری، و یغلب علی ظننا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 307
ان نسخته فریدة.
8- (دمیة القصر) للباخرزی، و هی نسخة مخطوطة کاملة تزید تراجمها علی النسخة المطبوعة بنحو 250 ترجمة.
9- (المستنصریات) من نظم عبد الحمید بن ابی الحدید و بخطه، یمدح بها المستنصر العباسی و یحذره من غز و التتر علی البلاد الاسلامیة، و علیها تقریظ لنقیب اشراف العراق و المهم فی الامر ان علیها حاشیة بخط محمد بن العلقمی الوزیر و توقیعه یشیر الی ان هذه النسخة من ممتلکاته.
10- (دیوان المشعشعی) للسید علی خان بن السید خلف بن السید مطلب المشعشعی الحویزی.
و قد حوت مکتبة کمونة نسخا غیر قلیلة من کتب السماوی التی اشتریت و ضمت الیها.

مکتبة البلاغی

محمد علی البلاغی صاحب مجلة الاعتدال النجفیة، کان اول عمل استقل به هو فتح مکتبة لبیع الکتب، و لربما کان عمله هذا هو الذی بعث فی نفسه هوایة اقتناء الکتب، و لقد ساعد علی توسع هذه الهوایة فی نفسه ما کان قد سمع او رأی من قیمة هذه الکتب عند الشیخ جواد البلاغی احد علماء هذه الاسرة الافذاذ، فقد کان الشیخ جواد یملک مکتبة و ان لم تکن کبیرة عددا، و لکنها کانت ذات قیمة کبیرة معنی، و نمت هذه الهوایة اکثر عند محمد علی البلاغی فی ایام اصداره مجلة الاعتدال فقد کانت تصل الیه بعض الکتب و الدواوین علی سبیل الهدیة، و من کل هذا تألفت النواة الاولی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 308
لمکتبة البلاغی ثم راح یبحث عن المصادر المطبوعة و المخطوطات القدیمة و یقتنیها و بجمعها فی مکتبته. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌7 ؛ ص308
ع اول تأسیس هذه المکتبة الی الأوائل المنتصف الثانی من القرن الرابع عشر الهجری، و یبلغ مجموع کتبها (؟؟؟)، اما المخطوطات منها فتقدر ب (500) مخطوطة، من؟؟؟ الاتقان فی علوم القرآن) لجلال الدین السیوطی و (الشفاء) للقاضی عباس المالی و غیرهما.

مکتبة یوسف عبد اللّه شهیّب

و هی مکتبة تضم عددا کبیرا قیل انه یزید علی (000، 10) مجلدة و کلها من الکتب الحدیثة و هو یعمل فی تجارة اصناف مختلفة و لکنه شدید الولع بالکتب و کثیر السخاء فی شرائها و بیته واقع فی الشارع الثانی من الجدیدة و عمر مکتبته الیوم لا یزید علی ربع قرن و هی فی نمو مستمر،

مکتبة فخر الدین

هی مکتبة الحاج عبد الزهرة فخر الدین تجمع بین طائفة من امهات الکتب العصریة فلا یکاد یصل کتاب الی النجف الا و یقتنیه، و قد عرف بهذه الهوایة، و صارت؟؟؟ علیه الکتب من الباعة، و کم یتفق ان یحضر المزاد و یخرج منه بعدد من الحمالین و قد حملوا اغلب کتب المزاد، و قد اعد فی بیته محلا وافیا لهذه الکتب، و الذی علمناه هو ان عدد کتب هذه المکتبة یتراوح بین (10) آلاف و (12) الف کتاب و بینها عدد غیر قلیل من المخطوطات، و یعتبر تأسیس هذه المکتبة حدیثا و فی حدود طلائع المنتصف الثانی من القرن الرابع عشر الهجری الحالی، و میزة هذه المکتبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 309
انها من اکثر المکتبات احتواء علی احدث ما تنتجه المطابع العربیة.

مکتبات الخطباء

و من اهم مکتبات النجف الخاصة: مکتبات خطباء المنابر الحسینیة الذین تلزمهم مهمتهم کخطباء الاحاطة بالتاریخ، و الشعر، و الادب، و اللغة، احاطة لا یمکن ان تتیسر بدون مکتبة زاخرة بالمصادر المهمة من امهات الکتب، و قد رأینا من هذه المکتبات الخاصة بالخطباء مکتبة الخطیب السید جواد شبرّ، و هی نموذج لما تحتوی علیه مثل هذه المکتبات، فهی مکتبة غنیة بالنفائس من المعاجم و التراجم، و کل المجامیع، و الدواوین، و الکتب التاریخیة و دوائر المعارف، و الموسوعات، بینما لم یزد عددها علی (2500) کتاب، و من نفائس مخطوطاتها عدد من کتب السید عبد للّه شبر و هو الجد الأکبر لهذه الاسرة، و تعتبر مؤلفاته من النوادر.
إحدی واجهات مکتبة الخطیب السید جواد شبرّ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 310
القیمة، و قد طبع للسید عبد اللّه شبر بعض الکتب فی السنوات الاخیرة کان آخرها کتاب جلیل فی (الاخلاق) و بقیت مخطوطاته- و الغالب منها انها بخط المؤلف نفسه- عند بعض ابناء الاسرة و قد رأینا طائفة منها فی مکتبة السید عباس شبر فی البصرة و فی ضمنها مذکرات یومیة غایة فی الاهمیة بخط السید عبد اللّه شبر نفسه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 311

أمثال لمکتبات أخر

و کانت فی النجف مکتبات اخری لم یعن احد بدرسها علی رغم قرب العهد بها مع ان قسما منها لا یقل شأنا عن المکتبات المهمة من حیث نوعیة الکتب و قیمتها العلمیة و التأریخیة، و لربما کان السبب فی عدم ذکرها من قبل المؤرخین، هو صعوبة إحصائها إذ ما من بیت من بیوت أهل العلم و لیس فیه مکتبة کبرت ام صغرت و الاتیان علی ذکرها قد یقارب المستحیل، و نحن هنا نذکر اشهر هذه المکتبات علی سبیل المثل و لیس علی سبیل الحصر.
1- مکتبة آل الشیخ راضی (القرن الثالث عشر) و هی مکتبة تعتبر من اعمر المکتبات و أزخرها بالکتب العلمیة، و هی الیوم موزعة فی بیوت هذه الاسرة و لعلها المکتبة الوحیدة التی لم یفرط فیها الوارثون بالبیع و التلف و مع ذلک فهی مشتتة بین افراد الاسرة.
2- مکتبة الشیخ الانصاری (القرن الثالث عشر) و قد بیعت بعده و توزعت و لم تبق الیوم منها بقیة.
3- مکتبة السید محمد الهندی- (القرن الثالث عشر)- و قد ورثها بعده اولاده ثم تفرقت و تألفت من اکثرها مکتبة السید صادق الهندی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 312
4- مکتبة الحاج میرزا حسین الخلیلی (القرن الرابع عشر) و قد توزعت بعده بین ورثته و اقتنی اکثرها ابنه الشیخ محمد الخلیلی و وهب قسما منها لمکتبتی مدرستی الخلیلی.
5- مکتبة الآخوند (القرن الرابع عشر) و قد توزعت بعد وفاته و لم یبق منها الا عدد عند اولاده.
6- مکتبة الشیخ عبد اللّه المازندرانی (القرن الرابع عشر) و قد بیعت بعد وفاته و لم یبق منها شی‌ء یذکر.
7- مکتبة السید محمد سعید الحبوبی- (القرن الرابع عشر) و هی من المکتبات المعروفة فی وقتها و لم یبق الیوم منها الا عدد فی بیوت (الاسرة).
8- مکتبة الیزدی- و کانت مکتبة فخمة اسسها السید کاظم الیزدی ثم أسس ابنه السید محمد لنفسه مکتبة مستقلة کانت تزخز بالنفائس من الکتب النادرة و کانت تستلفت النظر فی وقتها بین مکتبات العلماء فی (القرن الرابع عشر).
9- مکتبة الماقمقانی- (القرن الرابع عشر) و تمتد جذورها الی القرن الثالث عشر فقد أسسها الشیخ حسن الماقمقانی ثم انتقلت الی الشیخ عبد اللّه و هی الآن فی حوزة الشیخ محی الدین الماقمقانی.
10- مکتبة آل حرز- (القرن الرابع عشر) و قد انتقلت الی حفیده و هی تضم عددا کبیرا فی التفسیر و الحدیث.
11- مکتبة آل مظفر- (القرن الرابع عشر) و قد انتقلت نواتها من الشیخ عبد النبی الی الشیخ محمد حسن مظفر و کانت تخص جمیع الأخوة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 313
من آل مظفر ثم تجزأت.
12- مکتبة الجزائری- (القرن الرابع عشر) و هی بقایا مما احتفظ بها الشیخ عبد الکریم الجزائری و أخوه الشیخ محمد جواد و لیس لها بعدهما کیان مستقل.
13- مکتبة الشبیبی- (القرن الرابع عشر) أسسها الشیخ جواد الشبیبی و قد انتقلت من النجف الی بغداد علی أثر انتقال الأسرة و صارت باسم الشیخ محمد رضا الشبیبی، و هی من اهم مکتبات بغداد الخاصة الیوم.
14- مکتبة آل الجواهری- (القرن الرابع عشر) و قد کانت مکتبة فخمة یرجع تاریخها الی القرن الثالث عشر ثم توزعت و انتثرت هنا و هناک و لم یبق ما یسمی بالمکتبة الا عند الشیخ عبد الرسول الجواهری.
15- مکتبة هبة الدین الحسینی الشهرستانی- (القرن الرابع عشر) أسسها فی النجف ثم نقلها الی کربلاء و حین سکن بغداد نقلها الی بغداد، و کانت من المکتبات المذکورة.
16- مکتبة الشیخ عبد الحسین الحلی- (القرن الرابع عشر) و قد باعها و باع داره حین أعوز و لم یفرّط بکرامته، و کانت تضم أمهات الکتب الأدبیة و اللغویة بوجه خاص.
17- مکتبة البلاغی- و هی مکتبة الشیخ جواد البلاغی، و قد کانت علی قلة عدد کتبها مکتبة جامعة لأهم مصادر الشریعة و کتب المذاهب و النحل.
18- مکتبة آل الصافی- (القرن الرابع عشر) و هی مکتبة السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 314
محمد رضا الصافی و السید أمین الصافی و لم یبق منها الا ما احتفظ بها السید أمین و قد نقل بعضها الی البحرین.
19- مکتبة الشیخ قاسم محی الدین- (القرن الرابع عشر) و قد اضطر الی بیعها و انفاق ثمنها علی معالجته و کانت مکتبة تحتوی علی عدد قلیل من المخطوطات و الکتب القدیمة فی مختلف العلوم الدینیة.
20- مکتبة الشرقی- (القرن الرابع عشر) و قد ورث بعضها الشیخ علی الشرقی، من ابیه الشیخ جعفر الشرقی و أضاف إلیها و وسعها، و حین انتقل الی بغداد نقلها معه.
21- مکتبة السید علی شبر- (القرن الرابع عشر) و لآل شبر فی النجف عدة مکتبات نقلت الی خارج النجف بانتقال أصحابها و اشهر هذه المکتبات و اوسعها هی مکتبة السید علی شبر و هی تضم طائفة من کتب الفقه النادرة، و الحدیث و التفسیر.
22- مکتبة السید محمد البغدادی (القرن الرابع عشر) و تعتبر الیوم من المکتبات المذکورة بما تحتوی علیه من المخطوطات النادرة فی الحدیث و الفقه و التفسیر.
23- مکتبة السید علی السید هادی بحر العلوم (القرن الرابع عشر) و کانت من أوسع المکتبات تجمع بین الحدیث و القدیم و فیها عدد من المخطوطات النادرة و قد اضطرته الظروف الی بیعها فباعها و لم یبق منها الا بقیة اتخذ منها خلفه السید محمد نواة و لم تلبث ان اصبحت الیوم مکتبة مذکورة.
24- مکتبة المقرم- (القرن الرابع عشر) و هو السید عبد الرزاق المقرّم، و تعد الیوم من المکتبات المحترمة و فیها عدد من الکتب القدیمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 315
المهمة بالإضافة الی أمهات الکتب الحدیثة.
25- مکتبة الهمدانی- (القرن الرابع عشر) و هی الآن من المکتبات الخاصة لا یفوتها العد اذا عدت المکتبات.
26- مکتبة الجعفری- و هی مکتبة صالح الجعفری، مکتبة ثمینة جمع فیها الجعفری اهم المصادر و المراجع بالاضافة الی النسخ النادرة من الکتب المطبوعة و المخطوطة و بصفته من شعراء النجف المعروفین فقد اهتم بجمع عدد من الدواوین و المجامیع الشعریة التی یقل نظائرها فی المکتبات الاخری، و قد اشتری قسما من کتب الشیخ السماوی عند عرضها للبیع کما قد مر.
27- و لکل مدرسة رسمیة حدیثة مکتبة صغیرة لا یزید مجموعها علی محتویات دولاب او دولابین من الکتب لمراجعة المعلمین کما هو الحال فی جمیع المدارس الرسمیة فی العراق، کذلک هو الحال فی اغلب المدارس الدینیة فان فیها بعض القماطر المحتویة علی بعض الکتب النافعة، و بالاجمال فان النجف بمکتباتها تعتبر أهم مرجع فی البحوث العلمیة بمختلف مواضیعها و هی تحتوی علی عدد غیر قلیل من الکتب النادرة و الفریدة بین الکتب التی ضاعت اصولها و انحصرت بنسخ معینة ربما لم تملکها مکتبة غیر مکتبات النجف.
یقول صاحب جریدة (کل شی‌ء) البغدادیة انه زار فی اثناء مروره بالمانیا الدیمقراطیة البروفسور (هارفر) استاذ الدراسات الاسلامیة بجامعة (لیبزیج) و حین جاء حدیث الکتب و المکتبات قال البروفسور (هارفر) عن مکتبات النجف ما یلی و بهذا النص:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 316
«ما زال النجف الاشرف منطلق الاشعاع الفکری العربی، و ما زالت کنوزه الفکریة و الادبیة و الثقافیة تبث الانوار فی الافکار، و الخیر فی النفوس، و ما زالت مکتباته تعج بانفس الاسفار مما جعلها دائما فی مقدمة المکتبات العالمیة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 317

نموذج من نماذج وقف المکتبات و هو کیفیة وقف مکتبة الشیخ آغا بزرک

بسم اللّه الرحمن الرحیم و به ثقتی
الحمد للّه الواقف علی خطرات الضمائر، و المطلع علی خفایا السرائر، و العالم بما زبر فی کافة الدفاتر، و الصلاة و السلام علی من أوحی الیه کتاب الاسلام، الناسخ لما أنزل قبله علی الأنام، و علی أوصیائه المعصومین عن جمیع الآثام، حفظة شرعه و کتابه الی یوم القیام.
و بعد: فلما و افانی التحریض من أولادی الکرام، و بلغنی التأکید عنهم بابقاء کتبی فی مقبرتی فی النجف الأشرف لانتفاع عموم الفضلاء و الأعلام، و دعانی ترغیب الشرع الشریف الی تقدیم الصدقة الجاریة النافعة لأهل الاسلام.
اغتنمت الفرصة و استخرت اللّه جلّا جلاله، و أجریت صیغة الوقف علی کافة ما تحویه مکتبتی فی النجف، المؤسسة بعد نزولی الیها من سامراء فی سنة 1354 ه ما عدا المطبوعات من (الذریعة) و (طبقات أعلام الشیعة) فانها تباع و تصرف قیمتها فی طبع بقیة أجزائهما، و ما عدا ما کتبته بقلمی من تصانیفی و غیرها، ممّا سبق منی وقفها خاصة لخصوص أهل الفضل من أولادی الذکور، لانتفاعهم بها، و إقدامهم علی طبعها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 318
و قد جعلت تولیة هذه الکتب و نظارتها لصهری الحاج الشیخ حسین، و السید مهدی المدرسی، و أولادی الذکور القاطنین فی طهران، و أولادهم، و هم الذین یقومون بادارة المقبرة التی هی محل تلک الکتب، و یبذلون مصروفاتها و لو فرض و العیاذ باللّه انقراض هؤلاء أو عدم قیام أحد منهم ببذل مصروفات المکتبة فلتنقل الکتب الی (مکتبة أمیر المؤمنین «ع» العامة) التی أسسّها الشیخ العلامة الأمینی قبل سنین، و رغبنی فی ذلک من یوم تأسیسها.
و علی أیّ فهذه الکتب موقوفة ما بقیت أعیانها إلی أن یظهر الحجة المنتظر عجّل اللّه تعالی فرجه، و یعمل فیها بما أراد اللّه تعالی، و من بدله بعد ما سمعه فاثمه علیه. و کان وقوع صیغة الوقف، و قبض المتولی، فی یوم الجمعة الخامس و العشرین من شهر ذی الحجة الحرام من سنة خمس و سبعین و ثلثمائة و ألف، و ذلک بعد مضی شهر تام علی یوم دحو الأرض من تلک السنة، و بعد مضی ثلاثة أشهر و ثلاثة أیّام من إنشاء وصیتی الرسمیة المؤرخة یوم الخمیس الحادی و العشرین من شهر الصیام من السنة المذکورة و قد حررت ذلک بیدی المرتعشة فی داری فی النجف الأشرف و أنا:
بسم اللّه تعالی
اعترف شیخنا المعظم دام ظله بما رقمه بخطه الشریف لدی عبد اللّه ابن السید محمد طاهر الشیرازی
ختم
بسمه تعالی
اعترف شیخنا العلامة أدام اللّه أیامه بما فی الورقة الدی الاحقر حمد رضا الطبسی
ختم
بسم اللّه الرحمن الرحیم
اعترف شیخنا المعظم أمد اللّه ظل وجوده بما حرره بقلمه الشریف
حرره حسین الشیخ مشکور طاب ثراه
الفانی آغا بزرک الطهرانی عفی منه
ختم
بسم اللّه تعالی اعترف شیخنا العلامة أدام اللّه ایامه بما فی الورقة لدی الاحقر ابراهیم الحسینی الشیرازی الاصطهباناتی الشهیر بمیرزا
ختم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 319

اهم المصادر التی اعتمدها الکاتب

1- العصور القدیمة- لجیمس هنری بریستد
2- مجلة سومر ج 1- 2 مدیریة الآثار العامة
3- خزائن الکتب القدیمة فی العراق لکورکیس عواد
4- ما أخذ الشعر العربی من الفارسیة، و ما أخذ الشعر الفارسی من العربیة- محاضرة لجعفر الخلیلی.
5- الفهرست لابن الندیم
6- تاریخ بغداد
7- دائرة المعارف البریطانیة
8- نامه آستانه قدس بالفارسیة (مجلة)
9- دائرة معارف القرن العشرین- لمحمد فرید وجدی
10- ضحی الاسلام- احمد امین
11- المزهر
12- وفیات الاعیان
13- تأریخ التمدن الاسلامی
14- دلیل خارطة بغداد المفصل للدکتور مصطفی جواد و الدکتور احمد نسیم سوسه
15- الاحلام، للشیخ علی الشرقی
16- حیاة الشیخ الطوسی
17- خطط الشام
18- ابو العلاء و ما الیه، لعبد العزیز المیمنی (اخرجه کورکیس عواد)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 320
19- رسائل ابی العلاء المعری
20- معجم البلدان
21- المستدرک علی الکشاف- عبد اللّه الجبوری
22- تاریخ آداب اللغة العربیة- لجرجی زیدان
23- عمدة الطالب فی انساب آل ابی طالب لابن عنبه
24- عنوان الشرف فی وشی النجف- للشیخ محمد السماوی
25- مجلة لغة العرب 3- 4، 1914 (اخرجه کورکیس عواد)
26- ماضی النجف و حاضرها، للشیخ جعفر محبوبة
27- الذریعة الی تصانیف الشیعة، للشیخ اغا بزرک
28- الحصون المنیعة- للشیخ علی آل کاشف الغطاء (مخطوط)
29- نهج الصواب- للشیخ علی آل کاشف الغطاء (مخطوط)
30- رحلة ابن بطوطة- ج- 1
31- هکذا عرفتهم- لجعفر الخلیلی
32- الکنی و الالقاب
33- الاعلام، للزرکلی
34- اعیان الشیعة- للسید محسن الامین
35- دار السلام- للمیرزا حسین النوری
36- کتابخانهای ایران- بالفارسیة- للشیخ عبد العزیز الجواهری
37- دلیل الجمهوریة العراقیة- لسنة 1960
38- حقائق التأویل، للسید الشریف الرضی ج- 5
39- لمحات من حیاة الشیخ الیعقوبی
40- مجلة (الرسالة)
41- جریدة (البلد)
42- جریدة (کل شی‌ء)
43- جریدة (الهاتف)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 321

فهرست الجزء الثانی من قسم النجف

الموضوع الصفحة
کلمة دار التعارف 5
النجف قبل الشیخ الطوسی 11
من هو الطوسی؟ 23
العاصفة الطائفیة و تأثیرها علی الشیخ 28
الشیخ الطوسی یهاجر الی النجف 31
ادوار الجامعة النجفیة
الدور الاول 38
بعد الشیخ الطوسی 42
بین الطوسی و ابن ادریس 47
من النجف الی الحله 52
الدور الثانی 57
المظاهر العلمیة لهذا العهد 60
الحرکة الاخباریة و مظاهرها 64
الدور الثالث 78
معالم النهضة العلمیة 83
اسباب الدراسة فی الجامعة النجفیة 91
مراحل الدراسة 92
اشهر الکتب الدراسیة 100
مدارس النجف القدیمة و الحدیثة
الحیاة المدرسیة 118
هندسة المدارس الدینیة 124
مدرسة المقداد 128
مدرسة الشیخ عبد اللّه 130
مدرسة الصحن الشریف الاولی 132
مدرسة الصحن الشریف الکبری 134
مدرسة الصدر 135
مدرسة المعتمد 137
المدرسة المهدیة 139
مدرسة القوام 140
مدرسة الایروانی 141
مدرسة المیرزا حسن الشیرازی 142
مدرسة الخلیلی الکبری 142
مدرسة البخاری 145
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 322
مدرسة الشربیانی 145
مدرسة الخراسانی الکبری 146
مدرسة الخلیلی الصغری 148
مدرسة القزوینی 149
مدرسة البادکوبی 150
مدرسة الآخوند الوسطی 150
مدرسة السید کاظم الیزدی 151
مدرسة الهندی 154
مدرسة الاخوند الصغری 154
مدرسة السید عبد اللّه الشیرازی 155
مدرسة البروجردی الکبری 155
مدرسة العاملیین 158
المدرسة الطاهریة 159
مدرسة البروجردی الصغری 159
مدرسة الرحباوی 160
مدرسة الجوهرجی 161
مدرسة جامعة النجف 162
مدرسة عبد العزیز البغدادی 165
مدرسة الافغانیین 167
مدرسة الیزدی الثانیة 167
مدارس تحت الانشاء 169
نموذج لاجراء وقف المدارس 170
المدارس الحدیثة
المدرسة الرشدیة العثمانیة 178
المدرسة العلویة الایرانیة 179
المدرسة المرتضویة 181
مدرسة الغری الاهلیة 181
مدارس منتدی النشر 182
مدرسة جمعیة التحریر الثقافی 185
المدرسة الامیریة و المدارس الرسمیة
المدارس الرسمیة 187
عدد طلاب المدارس 191
مکتبات النجف القدیمة و الحدیثة
خزائن الکتب القدیمة 197
المکتبات الاسلامیة القدیمة فی العراق 206
دور الکتب العامة فی العصور العباسیة 211
مکتبات النجف القدیمة 214
المکتبة العلویة 224
اهم مخطوطات المکتبة العلویة 229
المکتبات العامة قدیما و حدیثا
مکتبة الملالی 242
مکتبة الصدر 243
مکتبة الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء 243
مکتبة الحسینیة الشوشتریة 250
مکتبة مدرسة القوام 252
مکتبة مدرستی الخلیلی 253
مکتبة مدرستی الآخوند 253
مکتبة مدرسة الیزدی 254
مکتبة المرتضویة 255
مکتبة الرابطة 256
مکتبة الامام امیر المؤمنین 256
مکتبة المنتدی 259
المکتبة العامة 260
مکتبة جمعیة التحریر 260
مکتبة حنوش 260
مکتبة الشیخ آغا بزرک 261
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌7، ص: 323
مکتبة الحکیم 263
مکتبة البروجردی 266
مکتبة جامعة النجف 266
مکتبات النجف الخاصة
مکتبة الرحیم 268
مکتبة آل الطریحی 269
مکتبة الجزائری 269
مکتبة السید عبد العزیز 270
مکتبة آل بحر العلوم 270
مکتبة آل القزوینی 271
مکتبة الشیخ جعفر الکبیر 272
مکتبة آل محی الدین 273
مکتبة الشیخ محمد باقر الاصفهانی 273
مکتبة السید احمد هلاله 274
مکتبة السید میرزا الاصفهانی 274
مکتبة الحاج ملا علی الخلیلی 275
مکتبة السید علی بحر العلوم 276
مکتبة آل نظام الدولة 277
مکتبة الحاج ملا باقر 279
مکتبة الخونساری 280
مکتبة النوری 280
مکتبة السید محمد بحر العلوم 283
مکتبة شیخ الشریعة 284
مکتبات القرن الثالث عشر
مکتبة الشیخ علی آل الشیخ محمد رضا 286 الشیخ هادی
مکتبة السید محمد باقر الاصفهانی 292
مکتبة السماوی 293
مکتبة السید جعفر بحر العلوم 297
مکتبة السید هاشم بحر العلوم 298
مکتبة الشیخ محمد رضا فرج اللّه 299
مکتبة الیعقوبی 301
مکتبة السید محمد صادق بحر العلوم 304
مکتبة البلاغی 307
مکتبة یوسف شهیب 308
مکتبة فخر الدین 308
مکتبات الخطباء 309
امثال لمکتبات اخر 311
نموذج لوقف المکتبات 317

الجزء الثامن‌

[مقدمة الناشر]

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم
و به نستعین
هذا هو الجزء الاول من (قسم کربلا) من موسوعة العتبات المقدسة، و یغلب علی الظن انه سیکون الجزء الاول لعشرة اجزاء یتم فیها عرض تاریخ کربلا عرضا کاملا یتناول هذه المدینة فی مختلف عصورها و منذ ابتداء نشأتها حتی هذا الیوم، و هی اجزاء نرجو ان تکون مستوفیة کل الشروط المطلوبة لتکون مصدرا علمیا، متقنا، و مرجعا یصح الرکون الیه فی تتبع کل شی‌ء یتعلق بهذه المدینة. من حیث تاریخها العلمی، و الثقافی، و الادبی، و السیاسی، و العمرانی، و الاجتماعی فقد هیأنا کل المقتضیات العلمیة اللازمة للمضی فی هذا المشروع الی النهایة، و قد انضمت الینا طائفة من ارباب الاختصاص و فی ضمنهم عدد غیر قلیل من اساتذة جامعة بغداد، و ارباب الفضل من الاساتذة و الکتاب الاخرین، و لم یزل العاملون من المتخصصین یزداد عددهم فی الانضمام الینا یوما بعد یوم لاخراج ما یتیسر من اجزاء کل عتبة من العتبات، اما الشی‌ء غیر المضمون فی عملنا هذا فهو الزمن، اذ لا ندری کم یتطلب عملنا هذا من الوقت و الی کم سیمدنا اللّه بعونه من حیث فسحه المجال لنخرج اکبر عدد من الاجزاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 6
عن کل عتبة من العتبات حتی تکون لکل عتبة موسوعة کاملة مستقلة.
و نحن حین قسمنا المواضیع علی الکتاب المتخصصین لم نلزم انفسنا بمراعاة الترتیب فی اخراج هذه الاجزاء حسب مکانة العتبة، و انما التزمنا بطبع ای جزء یتم تألیفه من هذه الاجزاء، و لو کنا راعینا الترتیب لظللنا الی حد هذا الیوم و نحن ننتظر صدور الجزء الاول من (مکة المکرمة) الذی لم تتم مسودته الی حین هذا الیوم، مع ان التصدی لکتابته قد سبق الأجزاء الاخری و تهیأت صوره و وثائقه و صور (المدینة المنورة) و وثائقها قبل ان تتهیأ صور العتبات الاخری، بینما قد جهرت مسودات عتبة الکاظمین التی ستمثل للطبع بعد الفراغ من طبع هذا الجزء، و لم تجهز مسودات العتبات الاخری.
و الجزء الاول من قسم کربلا یشمل عرضا لاسم کربلا و ما یحیط بها من المواقع، و معانیها، و صفاتها، و ما ورد باختصار عن کربلا فی بطون اهم الکتب التاریخیة القدیمة و الحدیثة، العربیة منها، و الغربیة، بحیث یصبح مرآة تعکس فی ذهن القاری‌ء ما یتطلبه العلم الصحیح، و الثقافة الحدیثة عن هذه المدینة العریقة. فهو علی هذا بمثابة التعریف لهذه المدینة الذی لا یستغنی عنه الباحث و القاری‌ء، و الذی یقتضیه التألیف الحدیث لیسهل بعد ذلک تتبع مواضیع کربلا الاخری فی اجزائها الاخری و تفهمها لکل قاری‌ء.
بغداد دار التعارف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 7

کربلاء قدیما کتبه الدکتور مصطفی جواد

اشارة

خریج جامعة السوربون فی التاریخ العربی
و الاستاذ بجامعة بغداد- کلیة التربیة
و العضو بالمجمع العلمی العراقی- و المجمع العلمی العربی بدمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 9

کربلاء قدیما

معنی کربلاء:

قال یاقوت الحمویّ: «... فأما اشتقاقه فالکربلة رخاوة فی القدمین، یقال: جاء یمشی مکربلا، فیجوز علی هذا أن تکون أرض هذا الموضع رخوة، فسمیت بذلک. و یقال: کربلت الحنطة إذا هززتها و نقیتها و ینشد فی صفة الحنطة:
یحملن حمراء رسوبا للثقل‌قد غربلت و کربلت من القصل
فیجوز علی هذا أن تکون هذه الأرض منقاة من الحصی و الدغل فسمیت بذلک. و الکربل اسم نبت الحماض، قال أبو و جزة السعدی یصف عهود الهودج:
و تامر کربل و عمیم دفلی‌علیها و الندی سبط یمور
فیجوز أن یکون هذا الصنف من النبت یکثر نباته هناک فسمی به».
و ذکر السید العلامة هبة الدین الشهرستانی أن «کربلاء» منحوتة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 10
من کلمتی «کور بابل» بمعنی مجموعة قری بابلیة ، و قال الأب اللغوی أنستاس الکرملی: «و الذی نتذکره فیما قرأناه فی بعض کتب الباحثین أن کربلاء منحوتة من کلمتین من (کرب) و (إل) أی حرم اللّه أو مقدس اللّه ،.
قلنا: إن رجع الأعلام الأعجمیة إلی أصول عربیة کان دیدنا لعلماء اللغة العربیة منذ القدیم، فقلما اعترفوا بأنّ علما من الأعلام أصله أعجمی، دون أسماء الجنس فانهم اعترفوا بعجمتها و سموها «المعربات»، لأن الذین یعرفون اللغة الفارسیة کثیر، و لأنهم یدرون أصول المعرّبات علی التحقیق و التأکید، و کان الذی یسهل علیهم اجتیال الأعلام و غیرها إلی اللغة العربیة کونها مشابهة و موازنة لکلمات عربیة، کما مرّ فی «کربلا» و الکربلة و الکربل، فهم قالوا بعروبة تلک الأعلام الأعجمیة ثم حاروا فی تخریجها اللغوی فبعثهم ذلک علی التکلف. کما فعلوا فی کربلاء و غیرها من الأعلام الأعجمیة.
و أنا أری محاولة یاقوت الحموی ردّ «کربلاء» الی الأصول العربیة غیر مجدیة، و لا یصح الاعتماد علیها، لأنها من بابة الظن و التخمین، و الرغبة الجامحة العارمة فی إرادة جعل العربیة مصدرا لسائر اسماء الأمکنة و البقاع، مع أن موقع کربلاء خارج عن جزیرة العرب، و أن فی العراق کثیرا من البلدان لیست أسماؤها عربیة کبغداد و صرورا و جوخا و بابل و کوش و بعقوبا، و أن التاریخ لم ینص علی عروبة اسم «کربلاء» فقد کانت معروفة قبل الفتح العربی للعراق و قبل سکنی العرب هناک و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 11
ذکرها بعض العرب الذین رافقوا خالد بن الولید القائد العربی المشهور فی غزوته لغربی العراق سنة 12 هجریة 634 م. قال یاقوت الحموی: «و نزل خالد عند فتحه الحیرة کربلاء فشکا إلیه عبد اللّه بن وشیمة النصری الذبان: فقال رجل من أشجع فی ذلک:
لقد حبست فی کربلاء مطیتی‌و فی العین حتی عاد غثا سمینها
إذا رحلت من منزل رجعت له‌لعمری و ایها إننی لأهینها
و یمنعها من ماء کل شریعةرفاق من الذبان زرق عیونها
و من أقدم الشعر الذی ذکرت فیه کربلاء قول معن بن أوس المزنی من مخضرمی الجاهلیة و الاسلام و عمّر حتی أدرک عصر عبد اللّه بن الزبیر و صار مصاحبا له، و قد کفّ بصره فی آخر عمره. و ذکر یاقوت الحموی هذا الشعر فی «النوائح» من معجمه للبلدان. و «المعبر» و ذکره قبله أبو الفرج الاصبهانی فی ترجمة معن من الاغانی «12: 63 دار الکتب» و قال و هی قصیدة طویلة:
إذا هی حلّت کربلاء فلعلعافجوز العذیب دونها فالنوائحا
فبانت نواها من نواک فطاوعت‌مع الشانئین الشائنات الکواشحا
توهمت ربعا بالمعبر واضحاأبت قرّتاه الیوم إلا تراوحا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 12 أربّت علیه رادة حضرمیةو مرتجز کأنّ فیه المصابحا
فقولا للیلی هل تعوض نادیاله رجعة قال الطلاق ممازحا
فان هی قالت لا تقولا لها بلی‌ألا تتقین الجاریات الذوابحا
و قال الطبری فی حوادث سنة 12: «و خروج خالد بن الولید فی عمل عیاض بن غنم لیقضی ما بینه و بینه و لاغاثته فسلک الفلوجة حتی نزل بکربلاء و علی مسلحتها عاصم بن عمرو، و علی مقدمته خالد الأقرع بن حابس، لأن المثنی بن حارثة کان علی ثغر من الثغور التی علی المدائن، فکانوا یغاورون أهل فارس و ینتهون إلی شاطی‌ء دجلة قبل خروج خالد من الحیرة و بعد خروجه فی إغاثة عیاض ... و أقام خالد علی کربلاء أیاما و شکا الیه عبد اللّه بن وثیمة الذباب، فقال له خالد: اصبر فانی إنما أرید أن استفرغ المسالح التی أمر بها عیاض فنسکنها العرب فتأمن جنود المسلمین أن یؤتوا من خلفهم و تجیئنا العرب آمنة غیر متعتعة، و بذلک أمرنا الخلیفة و رأیه یعدل نجدة الأمة. و قال رجل من أشجع فیما شکا ابن وثیمة:
لقد حبست فی کربلاء مطیتی ...» الأبیات.
و قال یاقوت الحموی فی کلامه علی الکوفة: «قال أبو عبیدة معمر بن المثنی: لما فرغ سعد بن أبی وقاص من وقعة رستم بالقادسیة و ضمن أرباب القری ما علیهم بعث من أحصاهم و لم یسمهم حتی یری عمر فیهم رأیه، و کان الدها قین ناصحوا المسلمین، و دلوهم علی عورات فارس، و أهدوا لهم و أقاموا لهم الأسواق. ثم توجه سعد نحو المدائن الی یزدجرد و قدم خالد بن عرفطة حلیف بنی زهرة بن کلاب، فلم یقدر علیه سعد حتی فتح خالد ساباط المدائن، ثم توجه الی المدائن فلم یجد معابر فدلوه علی مخاضة عند قریة الصیادین أسفل المدائن فأخاضوها الخیل حتی عبروا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 13
و هرب یزدجرد الی اصطخر، فأخذ خالد کربلاء عنوة و سبی أهلها، فقسمها سعد بین أصحابه، و نزل کل قوم فی الناحیة التی خرج سهمه فأحیوها، فکتب بذلک سعد الی عمر، فکتب الیه عمر أن حوّلهم. فحوّلهم الی سوق حکمة و یقال الی کویفة ابن عمر دون الکوفة ...».
و لقائل أن یقول إن العرب أوطنوا تلک البقاع قبل الفتح العربی، فدولة المناذرة بالحیرة و نواحیها کانت معاصرة للدولة الساسانیة الفارسیة و فی حمایتها و خدمتها، و الجواب أن المؤرخین لم یذکروا لهم إنشاء قریة سمیت بهذا الاسم- أعنی کربلاء غیر أن وزن کربلاء الحق بالأوزان العربیة و نقل «فعللا» إلی «فعللاء» فی الشعر حسب. فالأول موازن لجحجحی و قرقری و قهقری و الثانی موازن لعقرباء و حرملاء، زید همزة کما زید برنساء.
أما قول الأب اللغوی أنستاس ما معناه أن کربلا منحوتة من «کرب» و «إل» فهو داخل فی الامکان، لأن هذه البقاع قد سکنها السامیون و إذا فسرنا «کرب» بالعربیة ایضا دل علی معنی «القرب» فقد قالت العرب: «کرب یکرب کروبا أی دنا» و قالت «کرب فلان یفعل و کرب أن یفعل أی کاد یفعل، و کاد تفید القرب، قال ابن مقبل یصف ناقته:
فبعثتها تقص المقاصر بعدماکربت حیاة النار للمتنور
و قال أبو زید الأسلمی:
سقاها ذوو الأرحام سجلا علی الظماو قد کربت أعناقها أن تقطعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 14
و جاء فی لسان العرب «کرب الأمر کروبا: دنا» ... قال عبد القیس بن خفاف البرجمی:
أبنّی إن أباک کارب یومه‌فاذا دعیت الی المکارم فاعجل
... و کل شی‌ء دنا فقد کرب، و قد کرب أن یکون و کرب یکون ...
و کربت الشمس للمغیب: دنت، و کربت الشمس للغروب، و کربت الجاریة أن تدرک، و فی الحدیث: فاذا استغنی أو کرب استعفّ. قال أبو عبید: کرب أی دنا من ذلک و قرب، و کل دان قریب فهو کارب.
«فی حدیث رقیقه: أیضع الغلام أو کرب أی قارب الایفاع». فکرب البابلیة قریبة من العربیة.
و إذا فسرنا «إل» کان معناه «الاله» عند السامیین أیضا، و دخول تفسیر التسمیة فی الامکان لا یعنی أنها هی التسمیة الحقیقیة لا غیرها، لأن اللغة و التاریخ متعاونان دائما فهی تؤیده عند احتیاجه الیها و هو یؤیدها عند احتیاجها إلیه، فهل ورد فی التاریخ أنّ موضع کربلاء کان «حرم إله» قوم من الأقوام الذین سکنوا العراق؟ أو مقدس إله لهم؟ لا یجیبنا التاریخ عن ذلک و من الأسماء المضافة إلی «ال» بابل و أربل و بابلی ».
و من العجیب أنّ لفظ «کرب» تطوّر معناه فی اللغة العبریّة، قال بعض الأدباء الامریکیین: «مما یصور لنا فکرة عن سوء أسلوب الحیاة أن نجد الکلمة العبریة (کرب‌Karab - و معناها یقترب- تعنی فی الوقت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 15
نفسه (یقاتل و یحارب) و من هنا کانت کلمة (کراب‌Kerab ) بمعنی معرکة» . لذلک یمکن القول بتطوّر الاسم «کربلا» من الحقیقة الی المجاز و بذلک لا یجب الالتزام بأصل معناه بل یجوز، و مما قدمنا یفهم أن «کربلا» مقصور فی الأصل و أن الهمزة أدخلت علیها لضرورة الشعر الذی نقلناه آنفا و هو قول عبد اللّه بن وثیمة أو غیره «لقد حبست فی کربلاء مطیتی» فلو قال فی «کربلا» لم یستقم وزن البیت، و مد المقصور من ضرائر الشعر المعروفة و هو اثقل من قصر الممدود.
و علی حسبان «کربلا» من الأسماء السامیّة الآرامیّة أو البابلیة، تکون القریة من القری القدیمة الزمان کبابل و إربیل، و کیف لا و هی من ناحیة «نینوی » الجنوبیّة! قال یاقوت الحمویّ: «نینوی بکسر أوله و سکون ثانیه و فتح النون و الواو بوزن طیطوی ... و بسواد الکوفة ناحیة یقال لها نینوی منها کربلاء التی قتل بها الحسین، رضی اللّه عنه ».
و قال فی کتب له آخر: «نینوی موضعان: بکسر النون و یاء ساکنة و نون أخری مفتوحة و واو و ألف ممالة؛ نینوی بلد قدیم کان مقابل مدینة الموصل. «و نینوی کورة کانت بأرض بابل منها کربلاء التی قتل بها الحسین بن علیّ- علیهما السلام- ». و نینوی من الأسماء الآشوریة.
و لا نشک فی أنّ نینوی السفلی سمیت باسم نینوی العلیا احدی عواصم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 16
الدولة الآشوریة المشهورة فی التاریخ، سمّیت إمّا لمعارضتها و إمّا لادامة ذکراها، علی عادة الناس فی تسمیة البلدة التی ینشئونها بعد المهاجرة من بلادهم و الجلاء عنها و یسمونها باسم بلدتهم التی هاجروا منها. و هذا معروف قدیما و حدیثا، و هو من أجمل ضروب الوفاء، و إن کان لغیر الأحیاء.
و نقل بعض الفضلاء قول أحد الباحثین فی تاریخ کربلاء القدیم و هو «کل ما یمکن أن یقال عن تاریخها القدیم أنها کانت من أمّهات مدن طسّوج النهرین الواقعة علی ضفاف نهر بالاکوباس (الفرات القدیم) و علی أرضها معبد للعبادة و الصلاة، کما یستدل من الأسماء التی عرفت بها قدیما کعمورا، ماریا، صفورا، و قد کثرت حولها المقابر، کما عثر علی جثث موتی داخل أوان خزفیة یعود تاریخها إلی قبل العهد المسیحی، و أما الأقوام التی سکنوها فکانوا یعولون علی الزراعة لخصوبة تربتها و غزارة مائها لکثرة العیون التی کانت منتشرة فی أرجائها» . و من المعلوم أن کربلاء لیست علی ضفة الفرات و لا علی ضفافه، فالقائل لو قال «کورة کربلاء» لکان القول علمیا.
و مما یدل علی قدم کربلاء ایضا و وجودها قبل الفتح الاسلامیّ ما ذکره الخطیب البغدادی بسنده إلی أبی سعید التّیمی قال: «اقبلنا مع علی (ع) من صفین فنزلنا کربلاء، فلما انتصف النهار عطش القوم» و روی بعد ذلک بسنده أیضا عنه قال: «أقبلت من الأنبار مع علیّ نرید الکوفة و علیّ فی الناس، فبینا نحن نسیر علی شاطی‌ء الفرات إذ لجّج فی الصحراء فتبعه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 17
ناس من أصحابه و أخذ ناس علی شاطی‌ء الماء، فکنت ممن أخذ مع علیّ حتی توسط الصحراء، فقال الناس: یا أمیر المؤمنین إنا نخاف العطش، قال: إن اللّه سیسقیکم، و راهب قریب منا، فجاء علیّ الی مکانه فقال: احفروا هاهنا فحفرنا، و کنت فیمن حفر، حتی نزلنا- یعنی عرض لنا حجر- فقال علی: ارفعوا هذا الحجر، فأعانونا علیه حتی رفعناه، فاذا عین باردة طیبة، فشربنا ثم سرنا لیلا او نحو ذلک، فعطشنا فقال بعض القوم: لو رجعنا فشربنا. فرجع ناس و کنت فیمن رجع، فالتمسناها فلم نقدر علیها، فأتینا الراهب فقلنا: أین العین التی ها هنا؟
قال: أیّة عین؟ قلنا : التی شربنا منها و استقینا و التمسناها فلم نقدر علیها. فقال الراهب: لا یستخرجها إلّا نبی أو وصیّ. ثم ذکر الخطیب بسنده إلی إبراهیم بن یعقوب الجوزجانی أن «أبا سعید التیمیّ متروک الحدیث و غیر ثقة» .
و المهمّ من هذا الحدیث أن الامام علیا- ع- مرّ بکربلاء و لجّج فی الصحراء قبل سنة أربعین الهجریة، و لم یذکر أحد من المؤرخین إنشاء مدینة باسم کربلاء فی أثناء تلک السنین الأربعین، و هذا مرادنا بقولنا إنها غیر إسلامیة، و قد أشرنا الی مثل هذا المعنی آنفا. و هذا الخبر نقلناه لتأییده و تأکیده .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 18

الطف‌

و من المواضع التی عرفها العرب قدیما قرب کربلا «الطفّ» قال یاقوت الحموّی: «الطفّ بالفتح و الفاء مشدّدة و هو فی اللغة ما أشرف من أرض العرب علی ریف العراق ... و قال أبو سعید: سمی الطف لأنه مشرف علی العراق من أطفّ علی الشی‌ء بمعنی أطلّ، و الطف طف الفرات أی الشاطی‌ء و الطف أرض من ضاحیة الکوفة فی طریق البریة فیها کان مقتل الحسین بن علی- رضی اللّه عنه- و هی أرض بادیة قریبة من الریف فیها عدة عیون ماء جاریة منها الصید و القطقطانة و الرهیمة و عین جمل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 19
و ذوابها، و هی عیون کانت للموکلین بالمسالح التی کانت وراء خندق سابور الذی حفره بینه و بین العرب و غیرهم و ذلک أنّ سابور أقطعهم أرضها یعتملونها من غیر أن یلزمهم خراجا، فلما کان یوم ذی قار و نصر اللّه العرب بنبیّه- صلی اللّه علیه و آله و سلم- غلبت العرب علی طائفة من تلک العیون و بقی بعضها فی أیدی الأعاجم ثم لما قدم المسلمون الحیرة هربت الأعاجم بعد ما طمّت عامّة ما کان فی أیدیها منها، و بقی ما فی أیدی العرب فأسلموا علیه و صار ما عمروه من الأرض عشرا، و لما انقضی أمر القادسیة و المدائن وقع ما جلا عنه الأعاجم من أرض تلک العیون الی المسلمین و أقطعوه فصارت عشریة أیضا، و قال الأقیشر الأسدی من قصیدة:
انی یذکّر نی هندا و جارتهابالطف صوت حمامات علی نیق
بنات ماء معا بیض جآجئهاحمر مناقرها صفر الحمالیق
أیدی السقاة بهن الدهر معملةکأنما لونها رجع المخاریق
أفنی تلادی و ما جمعت من نشب‌قرع القواقیز أفواه الأباریق
و کان مجری عیون الطف و أعراضها مجری أعراض المدینة و قری نجد و کانت صدقتها الی عمال المدینة، فلما ولی إسحاق بن ابراهیم بن مصعب السواد للمتوکل ضمّها الی ما فی یده فتولی عماله عشرها و صیرها سوادیة، فهی علی ذلک الی الیوم ثم استخرجت فیها عیون اسلامیة یجری ما عمر بها من الأرضین هذا المجری ... قال أبو دهبل الجمحی یرثی الحسین بن علی- رضی اللّه عنه- و من قتل معه بالطف:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 20 مررت علی أبیات آل محمدفلم أرها أمثالها یوم حلّت
فلا یبعد اللّه الدیار و أهلهاو إن أصبحت منهم برغمی تخلّت
ألا إن قتلی الطف من آل هاشم‌أذلت رقاب المسلمین فذلت
و کانوا غیاثا ثم أضحوا رزیةألا عظمت تلک الرزایا و جلّت
و جا فارس الأشقین بعد برأسه‌و قد نهلت منه الرماح و علّت
و قال أیضا:
تبیت سکاری من أمیّة نوّماو بالطف قتلی ما ینام حمیمها
و ما أفسد الاسلام إلا عصابةتأمّر نوکاها فدام نعیمها
فصارت قناة الدین فی کف ظالم‌إذا اعوجّ منها جانب لا یقیمها

قصر مقاتل‌

قال یاقوت: «قصر مقاتل؛ قصر کان بین عین التمر و الشام، و قال السکونی: هو قرب القطقطانة و سلام ثم القریات و هو منسوب الی مقاتل ابن حسان بن ثعلبة بن اوس بن ابراهیم بن أیوب بن مجروف بن عامر بن غضیة ابن امری‌ء القیس بن زید مناة بن تمیم. قال ابن الکلبی: لا أعرف فی العرب الجاهلیة من اسمه ابراهیم بن أیوب غیرهما و انما سمیّا بذلک للنصرانیة و خرّبه- یعنی القصر- عیسی بن علی بن عبد اللّه ثم جدّد عمارته فهو له ...» و قال یاقوت: «النسوخ ... قال السکونی: و عن یسار القادسیة فی شرقیها علی بضعة عشر میلا عین علیها قریة لولد عیسی بن علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 21
ابن عبد اللّه بن العباس یقال لها النسوخ من ورائها خفان ». و أخبار قصر مقاتل کثیرة فی کتب الأدب و کتب التاریخ و ذکره کثیر ایضا فی الشعر قال عبید اللّه بن الحرّ الجعفی:
و بالقصر ماجرّ بتمونی فلم أخم‌و لم أک وقافا و لا طائشا فشل
و بارزت أقواما بقصر مقاتل‌و ضاربت أبطالا و نازلت من نزل
فلا بصرة أمی و لا کوفة أبی‌و لا أنا یثنینی عن الرحلة الکسل
فلا تحسبنی ابن الزبیر کناعس‌إذا حلّ أغفی أو یقال له ارتحل
فان لم أزرک الخیل تردی عوابسابفرسانها حولی فما أنا بالبطل
و قال طخیم بن أبی الطخماء الأسدی یمدح قوما من أهل الحیرة من بنی امری‌ء القیس بن زید مناة بن تمیم ثم من رهط عدیّ بن زید العبادی:
کأن لم یکن یوم بزورة صالح‌و بالقصر ظلّ دائم و صدیق
و لم أرد البطحاء یمزج ماءهاشراب من البرّوقتین عتیق
معی کل فضفاض القمیص کأنه‌إذا ما سرت فیه المدام فنیق
بنو السمط و الحداء کل سمیدع‌له فی العروق الصالحات عروق
و إنی و إن کانوا نصاری أحبهم‌و یرتاح قلبی نحوهم و یتوق

الحائر

جاء فی معجم البلدان عدّة معان للحائر أهمها قول الأصمعی: «یقال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 22
للموضع المطمئن الوسط المرتفع الحروف حائر و جمعه حوران .. قال أبو القاسم علی بن حمزة البصری رادا علی ثعلب فی الفصیح: هو الحائر إلا أنه لا جمع له. لأنه اسم لموضع قبر الحسین بن علی- رضی اللّه عنه- ...
ثم ذکر أن کربلاء تسمّی الحیر بلا اضافة. فالحائر اسم عربیّ و کانت أرض کربلاء من مساکن العرب منذ الجاهلیة، و لذلک سمیت اکبر مدینة فی هذا الصقع «عین التمر» و هذا الاسم المرکب الاضافی یحتوی علی اسمین عربیین خالصی العروبة فهل کانت تسمیة الحائر قبل الاسلام؟ و قد ذکر یاقوت فی معجم البلدان أیضا «یوم حائر ملهم» قال: «و یوم حائر ملهم أیضا علی حنیفة و یشکر» فهذا الحائر کان فی جزیرة العرب، فیجوز فیه الأمران أعنی أنه سمی فی الجاهلیة بالحائر و أنه سمّی فی الاسلام بهذا الاسم. و قد أطال الکلام مؤلف «تاریخ کربلاء» علی الحائر و سمی کتابه «تاریخ کربلاء و حائر الحسین علیه السلام» و قال: هو بحث علمی تحلیلی واسع عن الحائر المقدس و تاریخه فی اللغة و التاریخ و الفقه و الحدیث و ثم تاریخ عمارته و هدمه من الصدر الأول الی العصر الحاضر قال: «و قد نعتت کربلاء منذ الصدر الأول فی کل من التاریخ و الحدیث بأسماء عدیدة مختلفة ورد منها فی الحدیث باسم کربلاء و الفاخریة و نینوی و عمورا و شاطی‌ء الفرات و شط الفرات. و ورد منها فی الروایة و التاریخ أیضا باسم ماریة و النواویس و الطف و طف الفرات و مشهد الحسین و الحائر و الحیر الی غیر ذلک من الاسماء المختلفة الکثیرة إلا أن أهم هذه الأسماء فی الدین هو الحائر لما أحیط بهذا الاسم من الحرمة و التقدیس أو أنیط به من أعمال و أحکام فی الروایة و الفقه إلی یومنا هذا ..» و أعاد هذه القمشة الغریبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 23
بعد صفحة واحدة- ص 12- قال: «و لهذه البقعة التی جرت علیها أعظم مأساة تاریخیة أسماء مختلفة کما یحدثنا التاریخ، کانت تطلق علیها هذه الأسماء دون أی فرق أو تمییز (کذا)، فکان یطلق علیها کما سبق اسم الفاخریة و نینوی و ماریة و عمورا و النواویس و شط الفرات و شاطی‌ء الفرات و الطف و طف الفرات و الحائر و الحیر و مشهد الحسین و کربلاء و لم یکن الاسم الأخیر غیر أحد تلک الأسماء المختلفة الکثیرة ... فتغلب بمرور الزمن علی غیره من الاسماء شیوعا و انتشارا فی العرف و التاریخ حتی أصبح الآن هو الوریث الوحید لها ..». ثم قال فی الصفحة 51 «لم یرد فی التاریخ أو الحدیث ذکر لکربلاء باسم الحائر أو الحیر من قبل وقعة الطف او أثناء هذه الوقعة أو بعدها بزمن یسیر إذ أن الأحادیث النبویة المنبئة بقتل الحسین- علیه السلام- بأرض العراق تضمنت کل الأسماء عدا اسم الحائر فمنها ما ورد فیه اسم کربلاء و اسم نینوی و الطف و أرض الطف و شط الفرات و شاطی الفرات و لا واحد منها ورد فیه اسم الحائر او الحیر مع أنها جاءت بأسماء هذه الأرض کلها».
و قد ذکرنا أن الحائر اسم عربی و أن العرب سکنوا هذه البلاد منذ عصور الجاهلیة، فلا بد من أن یکون معروفا قبل استشهاد الحسین- ع- لأن هذه التسمیة هی و الحیر و الحیرة من أصل واحد، و قد قال یاقوت فی کلامه علی «الحیرة»- و اکثره مذکور فی تاریخ الطبری-: «و فی بعض أخبار أهل السیر: سار أردشیر الی الأردوان ملک النبط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 24
و قد اختلفوا علیه و شاغبه ملک من ملوک النبط یقال له بابا فاستعان کل واحد منهما بمن یلیه من العرب لیقاتل بهم آلاف فبنی الأردوان حیرا فأنزله من أعانه من العرب فسمی ذلک الحیر الحیرة کما تسمی القیعة من القاع و أنزل بابا من أعانه من الأعراب الأنبار و خندق علیهم .. و قال أبو المنذر هشام بن محمد: کان بدء نزول العرب أرض العراق و ثبوتهم بها و اتخاذهم الحیرة و الأنبار أن اللّه أوحی الی یوحنا ... أن ائت بختنصر فمره أن یغزو العرب الذین لا أغلاق لبیوتهم و لا أبواب و أن یطأ بلادهم بالجنود فیقتل مقاتلهم و یستبیح أموالهم و أعلمهم کفرهم بی، و اتخاذهم آلهة دونی و تکذیبهم أنبیائی و رسلی. فأقبل یوحنا من نجران حتی قدم علی بختنصر و هو ببابل فأخبره بما أوحی إلیه، و ذلک فی زمن معد بن عدنان، فوثب بختنصر علی من کان فی بلاده من تجار العرب فجمع من ظفر به منهم و بنی لهم حیرا علی النجف و حصنّه ثم جعلهم فیه و وکل بهم حرسا و حفظة ثم نادی فی الناس بالغزو، فتأهبوا لذلک، و انتشر الخبر فیمن یلیهم من العرب، فخرجت الیه طوائف منهم مسالمین مستأمنین، فاستشار بختنصر فیهم یوحنا فقال: خروجهم الیک من بلدهم قبل نهوضهم الیک رجوع منهم عما کانوا علیه، فاقبل منهم و احسن إلیهم. فأنزلهم بختنصر السواد علی شاطی‌ء الفرات و ابتنوا موضع عسکرهم فسموا الأنبار ، و خلی عن أهل الحیر فابتنوا فی موضعه و سموها الحیرة لأنه کان حیرا مبنیا، و ما زالوا کذلک مدة حیاة بختنصر، فلما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 25
مات انضموا إلی أهل الأنبار و بقی الحیر خرابا زمانا طویلا لا تطلع علیه طالعة من بلاد العرب، و أهل الأنبار و من انضم إلیهم من أهل الحیرة من قبائل العرب بمکانهم. و کان بنو معد نزولا بتهامة و ما والاها من البلاد ففرقتهم حروب وقعت بینهم فخرجوا یطلبون المتسع و الریف فیما یلیهم من بلاد الیمن و مشارف الشام و أقبلت منهم قبائل حتی نزلوا البحرین و بها قبائل من الأزد کانوا نزلوها من زمان عمرو بن عامر ماء السماء .. و کان من اجتماع القبائل بالبحرین و تحالفهم و تعاقدهم أزمان ملوک الطوائف الذین ملکهم الاسکندر و فرّق البلدان عند قتله دارا إلی أن ظهر أردشیر علی ملوک الطوائف و هزمهم و دان له الناس و ضبط الملک فتطلعت أنفس من کان فی البحرین من العرب الی ریف العراق و طمعوا فی غلبة الأعاجم مما یلی بلاد العرب و مشارکتهم فیه و اغتنموا ما وقع بین ملوک الطوائف من الاختلاف فاجمع رؤساؤهم علی المسیر الی العراق و وطن جماعة ممن کان معهم أنفسهم علی ذلک ... ثم قدمت قبائل تنوع علی الأردوانیین (و هم ملوک الطوائف) فأنزلوهم الحیرة التی کان قد بناها بختنصر و الأنبار و أقاموا یدینون للعجم إلی أن قدمها تبع أبو کرب فخلّف بها من لم تکن له نهضة فانضموا إلی الحیرة و اختلطوا بهم ... فصار فی الحیرة من جمیع القبائل من مذحج و حمیر و طی‌ء و کلب و تمیم، و نزل کثیر من تنوخ الأنبار و الحیرة إلی طف الفرات و غربیّه إلا أنهم کانوا بادیة یسکنون المظالّ وخیم الشعر و لا ینزلون بیوت المدر، و کانت منازلهم بین الأنبار و الحیرة فکانوا یسمون عرب الضاحیة، فکان أول من ملک منهم فی زمن ملوک الطوائف مالک بن فهم أبو جذیمة الأبرش
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 26
و کان منزله مما یلی الأنبار ثم مات فملک ابنه جذیمة الأبرش بن مالک ابن فهم، و کان جذیمة من أفضل ملوک العرب رأیا و أبعدهم مغارا و أشدهم نکایة و أظهرهم حزما و هو أول من اجتمع له الملک بأرض العرب و غزا بالجیوش، و کان به برص و کانت العرب لا تنسبه الیه إعظاما له و اجلالا، فکانوا یقولون جذیمة الوضاح و جذیمة الابرش، و کانت دار مملکته الحیرة و الأنبار و بقة و هیت و عین التمر و اطراف البر الی الغمیر الی القطقطانة و ما وراء ذلک، تجبی الیه من هذه الأعمال الأموال و تفد علیه الوفود ..
و نستدل بهذا الخبر علی إمکان کون «الحائر» من وضع العرب فی أیام الجاهلیة، لأنه لا صلة لاشتقاقه بالقتل و لا بالفتک و لا بالاستشهاد و لا بالدفن حتی یکون ظهوره مشروطا بأحد هذه المعانی، فینتفی کونه جاهلیا.
أما التسمیة بشط الفرات و بشاطی‌ء الفرات فهی عامة لا خاصة فلا یجب اختصاصها بکربلاء و الحائر و إنما سبیلها سبیل التحدید الشعری کقول الشاعر «و قد مات عطشانا بشط فرات»، لأن الشاعر لا یستطیع دوما التعیین الجغرافی المحقق لالتزامه بالوزن و القافیة. و أما «ماریة» فلم یذکرها صاحب معجم البلدان، إلا بکونها اسما لکنیسة بأرض الحبشة، و إنما ذکر «نهر ماری» قال: «بکسر الراء و سکون الیاء، بین بغداد و النعمانیة، مخرجه من الفرات و علیه قری کثیرة منها همینیا و فمه عند النیل من أعمال بابل».

عین التمر

کانت عین التمر اکبر مدینة فی منطقة کربلاء، و هی من المدن المشرفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 27
علی صحراء السماوة، قال یاقوت الحموی: «و بادیة السماوة التی هی بین الکوفة و الشام قفری أظنها مسماة بهذا الماء، یعنی ماءا بالبادیة کانت أم النعمان سمیت به و هو مستبعد، و الصحیح ما ذکره أبو المنذر و نقله یاقوت فی أول المادة و هو «إنما سمیت السماوة لأنها أرض مستویة لا حجر بها»
و قال یاقوت فی عین التمر: «بلدة قریبة من الأنبار غربی الکوفة بقربها موضع یقال له شفاثا منهما یجلب القسب و التمر الی سائر البلاد و هو بها کثیر جدا و هی علی طرف البریة و هی قدیمة، افتتحها المسلمون فی أیام أبی بکر علی ید خالد بن الولید فی سنة 12 للهجرة، و کان فتحها عنوة فسبی نساءها و قتل رجالها فمن ذلک السبی والدة محمد بن سیرین او سیرین اسم أمه، و عمران بن أبان مولی عثمان بن عفان. فیه یقول عبید اللّه بن الحر الجعفی فی وقعة کانت بینه و بین أصحاب مصعب:
ألا هل أتی الفتیان بالمصر أننی‌أسرت بعین التمر أروع ماجدا
و فرقت بین الخیل لما تواقفت‌بطعن امری‌ء قد قام من کان قاعدا
و قال البلاذری: «ثم أتی خالد عین التمر فالصق بحصنها ، و کان فیه مسلحة للأعاجم عظیمة ، فخرج أهل الحصن فقاتلوا ثم لزموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 28
حصنهم فحاصرهم خالد و المسلمون حتی سألوا الأمان، فأبی أن یؤمنهم و افتتح الحصن عنوة و قتل و سبی و وجد فی کنیسة هناک جماعة سباهم، فکان من ذلک السبی حمدان بن أبان بن خالد النمری ... و سیرین أبو محمد ابن سیرین و اخوته ... و نصیر أبو موسی بن نصیر صاحب المغرب ...
و قد قیل إن خالدا صالح أهل حصن عین التمر و أن هذا السبی وجد فی کنیسة ببعض الطّسوج ... عن الشعبی قال: صالح خالد بن الولید أهل الحیرة و أهل عین التمر و کتب بذلک الی أبی بکر فأجازه. قال یحی بن آدم: فقلت للحسن بن صالح: أفأهل عین التمر مثل أهل الحیرة إنما هو شی‌ء علیهم و لیس علی أرضیهم شی‌ء؟ فقال: نعم. قالوا: و کان هلال بن عقة بن قیس بن البشر النمری علی النمر به قاسط بعین التمر. فجمع لخالد و قاتله فظفر به (خالد) فقتله و صلبه. و قال ابن الکلبی: کان علی النمر یومئذ عقة بن قیس بن البشر بنفسه. قالوا: و انتقض ببشیر بن سعد الأنصاری جرحه فمات فدفن بعین التمر و دفن الی جنبه عمیر بن رئاب ... و کان أصابه سهم بعین التمر فاستشهد ».
و قال الطبری راویا: «قالوا: و لما فرغ خالد من الأنبار و استحکمت له استخلف علی الأنبار الزبرقان بن بدر و قصد لعین التمر و بها یومئذ (مهران بن بهرام جوبین) فی جمع عظیم من العجم و عفة بن أبی عقة فی جمع عظیم من العرب: من النمر و تغلب و إیاد و من لافّهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا و خالدا.
قال: صدقت لعمری، لأنتم أعلم بقتال العرب و انکم لمثلنا فی قتال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 29
العجم. فخدعه و اتقی به و قال: دونکموهم و إن احتجتم إلینا أعناکم.
فلما مضی نحو خالد قالت له الأعاجم: ما حملک علی أن تقول هذا القول لهذا الکلب؟. فقال: دعونی فانی لم أرد إلا ما هو خیر لکم و شرّ لهم، إنه قد جاءکم من قتل ملوککم و فلّ حدّکم فاتقیته بهم فان کانت لهم علی خالد فهی لکم و إن کانت الأخری لم تبلغوا منهم حتی یهنوا فنقاتلهم و نحن أقویاء و هم مضعفون، فاعترفوا له بفضل الرأی.
فلزم مهران العین- یعنی عین التمر- و نزل عقة لخالد علی الطریق و علی میمنته بجیر بن فلان ... و علی میسرته الهذیل بن عمران، و بین عقّة و بین مهران روحة أو غدوة، و مهران فی الحصن فی رابطة فارس، و عقّة علی طریق الکرخ کالخفیر، فقدم علیه خالد و هو فی بقیة جنده، فعبی خالد جنده و قال لمجنبتیه: اکفونا ما عنده فانی حامل، و وکل بنفسه حوامی، ثم حمل، و عقة یقیم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسیرا، و انهزم صفه من غیر قتال، فأکثروا فیهم الأسر، و هرب بجیر و الهذیل، و أتبعهم المسلمون. و لما جاء الخبر مهران هرب فی جنده و ترکوا الحصن .
و لما انتهت فلال عقة من العرب و العجم الی الحصن اقتحموه و اعتصموا به، و أقبل خالد فی الناس حتی ینزل علی الحصن و معه عقة أسیرا و عمرو بن الصعق، و هم یرجون أن یکون خالد کمن یغیر من العرب.
فلما رأوه یحاولهم سألوه الأمان، فأبی إلا علی حکمه، فسلسوا له به، فلما فتحوا دفعهم الی المسلمین فصاروا مساکا، و أمر خالد بعقة و کان خفیر القوم فضربت عنقه لیوئس الأسراء من الحیاة. و لما رآه الأسراء مطروحا علی الجسر یئسوا من الحیاة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه و ضرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 30
أعناق أهل الحصن أجمعین و سبی کل ما حوی حصنهم و غنم ما فیه، و وجد فی بیعتهم أربعین غلاما یتعلمون الانجیل علیهم باب مغلق فکسره عنهم و قال: ما أنتم؟ قالوا: رهن. فقسمهم فی أهل البلاد منهم أبو زیاد مولی ثقیف و نصیر أبو موسی بن نصیر ..»
و ذکر أبو الفرج الأصبهانی أن سابور الثانی الساسانی الملقب بذی الاکتاف حاصر مدینة الحضر بین دجلة و الفرات علی. الآثار و افتتحها و سبی النضیرة ابنة ملکها و أخرب المدینة و احتمل النضیرة فأعرس بها بعین التمر ، و اختیاره لعین التمر دلیل علی أن فیها بنیانا ملوکیا یصلح لأن یکون موضعا للفرس، و ما أحری حصن الأخیضر بذلک فانه حصن ملوکی حقا، غیر أن یاقوتا الحموی ذکر أن صاحب الخبر هو سابور ابن اردشیر المعروف بسابور الجنود لا سابور ذو الاکتاف و هو سابور ابن هرمز و قال یاقوت: «إنما ذکرت ذلک لأن بعضهم یغلط و یروی أنه ذو الأکتاف ». و الذی أیدته التواریخ الأخری و عضده علم الآثار أنّ سابور بن أردشیر هو الذی افتتح مدینة الحضر و أخربها، فهو الذی سبی ابنة ملکها و أعرس بها بعین التمر، و هذا یرفع تاریخ حصن الأخیضر الی القرن الثالث للمیلاد بدلا من القرن الرابع للمیلاد. و قد خربت عین التمر و بقی حصنها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 31

شفاثا

و من قری عین التمر المعروفة قریة «شفاثا» و قد نقلنا آنفا قول یاقوت فی معجمه فی الکلام علی عین التمر «بقربها موضع یقال له شفاثا منهما یجلب القسب و التمر الی سائر البلاد» و لا تزال شفاثا عامرة قرب حصن الأخیضر مشهورة بقسبها و تمرها و رمانها و عیونها المعدنیة، و اسمها یدل علی أصل کلمة آرامیة لا عربیة.
و مما یستغرب أن بعض المتطفلین علی مائدة الجغرافیة العراقیة القدیمة استبدل باسم شفاثا اسم «عین التمر» و صارت شفاثا تسمی «عین التمر» رسمیا و هذا تخلیط ما بعده تخلیط، فکلتا البلدتین لهما وجود تاریخی خاص، و لکل منهما تاریخ خاص بها، و قد خرجت عین التمر و بقیت شفاثا و ستبقی الی ما شاء اللّه و من العامة من یسمیها «شثاثة» علی سبیل الابدال، و بها یضرب المثل فی فساد الصحة بها، فالعامة یقولون «یرید من شثاثة عافیة». فشفاثا غیر عین التمر و عین التمر غیر شفاثا فالتغایر و التباین جد مبینین،.

الغاضریة

ذکرها یاقوت الحموی قال: «الغاضریة بعد الألف ضاد معجمة:
منسوبة إلی غاضرة من بنی أسد و هی قریة من نواحی الکوفة قریبة من «کربلا» و هذا الوصف یدل علی أن الغاضریة أنشئت بعد انتقال قبیلة بنی أسد الی العراق فی صدر الاسلام، فلیست الغاضریة قدیمة التاریخ جاهلیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 32

نینوی‌

قدمنا فی الکلام علی کربلاء قول یاقوت الحموی: «و بسواد الکوفة ناحیة یقال لها نینوی منها کربلاء التی قتل بها الحسین (رضی اللّه عنه)».
و زعم الأستاذ فیردهوفرFerd Hoefer أن أسترابون‌Strabon الجغرافی الیونانی المولود فی أواسط القرن الأول قبل المیلاد ذکر فی کتابه «وصف ما بین النهرین: آشوریة و بابل و کلدیة» ذکر نینوی ثانیة غیر نینوی الشمالیة فان صحّ زعمه کانت نینوی الجنوبیة هی المقصود ذکرها.
و قد سکن نینوی أبو القاسم حمید بن زیاد بن حماد الآتی ذکره و کانت علی نهر العلقمیّ.

نهر العلقمی‌

قال ابن الطقطقی فی ترجمة الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی: «هو أسدی أصلهم من النیل. و قیل لجده العلقمیّ لأنه حفر النهر المسمی بالعلقمیّ، و هو الذی برز الأمر الشریف السلطانی بحفره و سمی القازانی» و قال الدکتور أحمد سوسة فی الکلام علی نهر المحدود : «و الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 33
نراه فی هذا الصدد هو أن نهر محدود هذا لم یکن إلا أحد الأنهر التی فتحت فی زمن العرب علی ضفتی نهر الفرات، و لعله کان یأخذ من الضفة الیمنی من الفرات أما نهر الملک حیث نجد آثارا لسدّ قدیم علی نهر الفرات فی ذلک المکان، ثم یتصل بنهر کری سعده القدیم فی القسم الذی یمتد بین کربلاء و الکوفة، و یغلب علی الظن أن نهر (محدود) هذا هو النهر نفسه الذی سمی باسم العلقمی و الذی ذکر قدامة (880 م) أنه کان یأخذ من جنوب الأنبار ثم یجری فی الاتجاه الجنوبی الغربی فیمر بکربلاء و یصب فی الفرات فی منطقة الکوفة، و قد جاء ذکر العلقمی أیضا فی کتاب تواریخ السلجوقیین للاصفهانی حیث أیّد فی هذا المصدر أن جدول العلقمی کان یمرّ بالمشهدین أی کربلاء و النجف و قد أجری تطهیره و ترمیمه .. و یرجح أن آثار النهر القدیم التی نشاهدها غربی مدینة المسیب الحالیة تمثل بقایا نهر العلقمی المذکور» .
قلت: الذی ورد فی زبدة النصرة و نخبة العصرة، اختصار البنداری و الأصل لعماد الدین الاصفهانی خاصا بنهر العلقی هو قوله فی حوادث سنة 479 ه: «و وصل عماد الدولة سرهنک ساوتکین الی واسط و منها الی النبیل فی شهر رمضان وزار المشهدین الشریفین و أطلق بهما للأشراف مالا جزیلا و أسقط خفارة الحاج و حفر العلقمیّ و کان خرابا دهرا» .
و قال ابن الفوطیّ فی ترجمته و سماه «أبا نصر ساوتکین سرهنک»:
«ذکره ابن الهمدانی فی تاریخه و قال: و فی شوال سنة ست و سبعین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 34
و أربعمائة وصل عماد الدولة سرهنک ساوتکین الی بغداد و خرج لاستقباله الوزیر ظهیر الدین أبو شجاع وزیر المقتدی وزار المشهد المقدس و حفر العلقمی و استدعاه المقتدی و خلع علیه» ..
و السبب فی حفر العلقمی هو أن أبا الحارث ألب أرسلان البساسیری القائد الثائر علی بنی العباس الذی خطب بالعراق باسم الفاطمیین سنة 451 کان عازما علی حفره فلم تسعفه الأقدار، فقام ساوتکین بحفره دفنا لذکری البساسیری، قال ابو الفرج بن الجوزی فی حوادث سنة 451 «و فی بکرة الثلاثاء رابع هذا الشهر (صفر) خرج البساسیری الی زیارة المشهد بالکوفة علی أن ینحدر من هناک الی واسط، و استصحب معه غلة فی زورق لیرتب العمال فی حفر النهر المعروف بالعلقمی و یجریه الی المشهد بالحائر وفاءا بنذر کان علیه ».
و قد ذکرنا آنفا أن نینوی کانت قریة علی العلقمی فقد جاء فی ترجمة حمید بن زیاد بن حماد أبی القاسم الدهقان أنه کان «کوفیا و سکن سورا و انتقل الی نینوی قریة علی العلقمی الی جنب الحائر- علی صاحبه السلام- و کان ثقة وجها فیهم سمع الکتب و صنف کتابه الجامع فی أنواع الشرائع، کتاب الخمس، کتاب الدعاء، کتاب الرجال، کتاب من روی عن الصادق، و کتاب الفرائض، کتاب الدلائل، کتاب ذم من خالف الحق و أهله، کتاب فضل العلم و العلماء، کتاب الثلاث و الأربع، کتاب النوادر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 35
و هو کتاب کبیر (قال النجاشی): أخبرنا أحمد بن علی بن نوح قال حدثنا الحسین بن علی بن سفیان قال قرأت علی حمید بن زیاد کتابه: کتاب الدعاء.
و أخبرنا الحسین بن عبد اللّه قال حدثنا أحمد بن جعفر بن سفیان عن حمید بکتبه، قال أبو المفضل الشیبانی: أجازنا سنة عشر و ثلاثمائة. و قال أبو الحسن علی بن حاتم: لقیته سنة ست و ثلاثمائة و سمعت منه کتاب الرجال قراءة و أجاز لنا کتبه. و مات حمید سنة عشر و ثلاثمائة» و قال أبو علی:
«حمید بن زیاد من أهل نینوی قریة الی جنب الحائر- علی ساکنه السلام-:
ثقة کثیر التصانیف، روی الأصول اکثرها، له کتب کثیرة علی عدد کتب الأصول .» و ذکره الشیخ عبد اللّه الماقمقانی فی کتابه باسم «حمید ابن زیاد النینوی ... بنونین مفتوحتین. بینهما یاء مثناة من تحت ساکنة و بعدهما واو و یاء نسبة الی نینوی: موضع قرب کربلاء أو هی هی ..» و قال فی آخر الترجمة: «و علق الشهید الثانی- رح- علیه أن بخط السید فی کتاب النجاشی (سنة عشرین و ثلاثمائة)» یعنی تاریخ وفاته.
و ذکر الأب أنستاس ماری الکرملی، أن الملک أرغون بن أباقا بن هولاکو لما قهر عمه أحمد تکدار بن هولاکو سنة 683 بذل سعیا محمودا فی حفر نهر جدید یخرج من الفرات و یدفع ماءه فی سهل کربلاء . و المعروف المشهور فی التواریخ أن الذی أمر بکری العلقمی هو السلطان محمود غازان، کما مرّ نقله آنفا من کتاب تاریخ ابن الطقطقی، و یؤیده الأب أنستاس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 36
نفسه فقد قال فی ترجمة غازان: «و فی حین زحفة غازان الثالثة علی دیار الشام عبر الفرات الی الحلة فی 10 جمادی الثانیة من سنة 802 (30 کانون الثانی سنة 1403) و فی الیوم السادس من عبوره الفرات ذهب لزیارة قتیل کربلاء، و عیّن للسادة المقیمین بجوار التربة ثلاثة آلاف منّ من الخبز فی الیوم الواحد من ریع الأرضین التی کان یسقیها النهر الأعلی الذی حفره غازان و کان شقّه من الفرات الی مشهد الحسین ناقلا ماءا زلالا إلی بلدة مدفن الحسین. و قال (دوسون) فی کتابه تاریخ المغول:
أمر غازان فحفر فی أرض الحلة نهرا یأخذ ماءه من الفرات و یدفعه الی مرقد الحسین و یروی سهل کربلاء الیابس القفر و ما جری الماء الا و فرش علیها بساطا أخضر کله محاسن و لبست الأرضون ثیابا سندسیة سداها مختلف النبات و لحمتها ألوان الأشجار و کانت غلتها تزید فی السنة علی مائة ألف طغار من الحبوب تفوق حبوب بغداد حسنا و جوهرا، و أمر غازان أن یوزع کل سنة مقدار وافر من الحنطة علی السادة الفقراء الذین کانوا یأوون الی المرقد و عددهم کان هناک عدیدا و یسمی ذلک النهر (نهر غازان الأعلی) أو (النهر الغازانی الأعلی) تمییزا له عن النهر الذی کراه هو أیضا و یأخذ ماءه من الفرات و ینزل به الی مرقد السید أبی الوفاء، و کان الباعث علی شق هذا النهر أنه ذهب یوما یتصیّد فأفضی به الصید الی السهل القفر الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 37
فیه مرقد هذا السید و أراد حینئذ أن یورد دوابه و خیله فلم یجد ثمّة ماءا فآلی علی نفسه أن یجلب الماء إلی ذلک الوطن و یسقی أراضیه ففعل و سمی هذا النهر (نهر غازان الاسفل) أو النهر الأسفل الغازانی؛ و کأنه لم یکتف بهذین النهرین فحفر نهرا ثالثا فی الطف الشرقی من بادیة کربلا و اشتهر باسم (نهر غازان) و أوقف غلّات تلک الأنهر و ریعها لمرقد أبی الوفاء، و لأوقاف شنب. توفی غازان فی الریّ سنة 703 ه- 1303 م» .
و قال الغیاثی فی ترجمة غازان: «و من آثاره نهر أخرجه من الفرات ...
و عمل علیه کثیرا من العمارة و سمی بالنهر الغازانی و شق من الفرات الی مشهد أبی الوفاء » و قال لسترنج: «کان الطسوجان اللذان بین منقسم الفرات الأسفل و نهر سورا إلی شرقهما و عمود الفرات الی غربهما یعرفان بطسّوج الفلوجة العلیا و الفلوجة السفلی و فی أسفلهما یمر النهر بمدینة القنطرة و یضم نهر البداة ثم ینتهی الی الکوفة فی الجانب الغربی من الفرات تجاه الجسر. و فی جنوب الکوفة کانت میاه هذا النهر تنصب فی البطائح من فروع صغیرة له، و النهر القدیم سماه قدامة و المسعودی (نهر العلقمی) و هو علی ما یظهر یطابق نهر الهندیة الحالی الذی ینشطر الیوم من الفرات فی أسفل المسیّب و کان یمر بخرائب الکوفة القدیمة ثم یلتقی بعمود الفرات الحالی بعد أن یجری بین أهوار البطائح التی کانت فی العصر العباسی ».
و قول لسترنج یعتمد علی الظن و التخمین فانه لم یقدم العراق و لا زار موضعا من مواضعه فکان یعتمد علی الخرائط علی تحقیق المواضع و تطبیقها. و نهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 38
الهندیة یتجه نحو الجنوب مع أن المفهوم من نهر العلقمی أنّه یتجه أولا نحو کربلاء و یجوز أن تکون وجهته بعد ذلک نحو الجنوب کما نقلنا قبلا. فینبغی البحث عن مجراه المندفن علی حسب ذلک الوصف.
و کون جد الوزیر مؤید الدین بن العلقمی الحافر لنهر العلقمی، کما ذکر ابن الطقطقی و نقلناه فی هذا البحث یوجب أن یسمّی «نهر العلقمی» ای نهر الرجل «العلقمی» لا النهر العلقمی، لأن العلقمی صار اسما لرجل معین فوجبت الاضافة الیه عند إرادة تسمیة النهر.

العقر

العقر قال یاقوت الحموی: «العقر بفتح أوله و سکون ثانیه ... منها عقر بابل قرب کربلاء من الکوفة و قد روی أن الحسین- رضی اللّه عنه- لما انتهی الی کربلاء و أحاطت به خیل عبید اللّه بن زیاد قال: ما اسم تلک القریة؟- و أشار إلی العقر- فقیل له: اسمها العقر. فقال: نعوذ باللّه من العقر، فما اسم هذه الأرض التی نحن فیها؟ قالوا: کربلاء. قال:
أرض کرب و بلاء. و أراد الخروج فمنع حتی کان ما کان. قتل عنده- یعنی العقر- یزید بن المهلب بن أبی صفرة فی سنة 102؛ و کان خلع طاعة بنی مروان و دعا إلی نفسه و أطاعه أهل البصرة و الأهواز و فارس و واسط، و خرج فی مائة و عشرین ألفا، فندب له یزید بن عبد الملک أخاه مسلمة فواقعه فی العقر من أرض بابل، فأجلت الحرب عن قتل یزید بن المهلّب ».
و قال أبو العباس محمد بن یزید المبرد: «کان یقال: ضحی بنو حرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 39
بالدین یوم کربلاء و ضحّی بنو مروان بالمروءة یوم العقر، فیوم کربلاء یوم الحسین بن علی بن أبی طالب و أصحابه، و یوم العقر یوم قتل یزید بن المهلب و أصحابه » و قال أبو الفرج الاصبهانی و قد أسند الخبر الی حفص الأموی قال: «کنت أختلف الی کثیر أتروّی شعره، فو اللّه إنی لعنده یوما إذ وقف علیه واقف فقال: قتل آل المهلب بالعقر، فقال:
ما أجلّ الخطب! ضحّی آل أبی سفیان بالدین یوم الطفّ، و ضحّی بنو مروان بالکرم یوم العقر. ثم انتضحت عیناه باکیا. فبلغ ذلک یزید بن عبد الملک فدعا به، فلما دخل علیه قال: علیک لعنة اللّه، أترابیّة و عصبیة؟
و جعل یضحک منه ». و نقل هذا الخبر ابن خلکان فی وفیات الأعیان و جاء فیه «و أسبلت عیناه بالدموع» بدلا من انتضحت عیناه، ثم نقل ابن خلکان فی ترجمة یزید بن المهلب ما هذا نصه «قال الکلبی: نشأت و الناس یقولون ضحّی بنو أمیة پالدین یوم کربلاء و بالکرم یوم العقر ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 40

اهم مصادر البحث التی اعتمدها الکاتب‌

1- معجم البلدان
2- کتاب نهضة الحسین
3- مجلة لغة العرب
4- الصحاح
5- الکامل للمبرد
6- تأریخ الطبری
7- لسان العرب
8- تحفة الامراء فی تاریخ الوزراء
9- تاریخ بغداد لابن النجار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 41
10- المؤرخون و الشعر
11- المشترک وضعا و المفترق صقعا
12- مدینة الحسین أو مختصر تأریخ کربلا
13- تأریخ بغداد للخطیب البغدادی
14- بغیة النبلاء فی تأریخ کربلاء
15- احسن التقاسیم
16- فتوح البلدان
17- الاغانی
18- التأریخ الفخری
19- وادی الفرات و مشروع بحیرة الحبانیة
20- زبدة النصرة
21- تلخیص معجم الالقاب
22- المنتظم
23- رجال النجاشی
24- رجال ابی علی
25- تنقیح المقال
26- الفوز بالمراد فی تاریخ بغداد
27- التاریخ الغیاثی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 42
28- بلدان الخلافة الشرقیة
29- الوفیات
30-Chaldlei Anyrie Medie Babylonie p -51
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 43

عرض تاریخی مجمل لمصرع الامام الحسین فی عرصة کربلاء کتبه الدکتور حسین أمین‌

اشارة

استاذ التاریخ الاسلامی بجامعة بغداد الحائز علی درجة دکتوراه الشرف الاولی من جامعة الاسکندریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 45

عرض تاریخی مجمل لمصرع ابی عبد اللّه الحسین (ع)

کانت کربلاء من مراکز التجمعات الأسلامیة و میدانا من میادین الجهاد فی الفتوحات الأولی، و قد فتحت کربلاء اثر الانتصارات الرائعة التی أحرزها المسلمون بعد معارکهم الخالدة فی البویب و القادسیة و أضحت بلدة من بلاد الأسلام یعمها الایمان و تنتشر فی ارجائها العقیدة الاسلامیة.
و قد شید المسلمون الفاتحون مدینة الکوفة، لتکون مرکزهم فی العراق و مکان الوالی الذی یعینه الخلیفة، و بذلک أضحت الکوفة المعسکر الکبیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 46
و القاعدة التی ینطلق منها المسلمون نحو الشرق، و بمرور الزمن أصبحت للکوفة مکانة مهمة فی مجال السیاسة و الحرب، و فی مجال الحیاة الأجتماعیة و الثقافیة، و غدت کربلاء مکانا لقلّة من الناس امتهنوا الزراعة فی المناطق القریبة من موارد المیاه.
و کتب لهذه الأرض، أرض کربلاء، أن تشهد أروع حدث فی تاریخ المسلمین، و اعنف وقعة بین قوی الخیر و قوی الشر، أجل شهدت تلک الأرض وقائع حربیة أدمت القلوب و أفزعت النفوس و أدت نتائجها الی تصدع وحدة المسلمین، ففی رجب سنة 60 ه توفی معاویة بن أبی سفیان، و کان علی مکة عمرو بن سعید بن العاص و لم یکن لیزید بن معاویة حین ولی إلّا بیعة النفر الذین أبوا علی معاویة الأجابة الی بیعته و الفراغ من أمرهم فکتب الی الولید بن عتبة: «من یزید أمیر المؤمنین الی الولید ابن عتبة أما بعد فان معاویة کان عبدا من عباد اللّه اکرمه اللّه و استخلفه و خولّه و مکّن له فعاش بقدر و مات بأجل فرحمه اللّه فقد عاش محمودا و مات برا تقیا و السلام؛ و کتب له أیضا أما بعد فخذ حسینا و عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن الزبیر بالبیعة أخذا شدیدا لیست فیه رحضة حتی یبایعوا و السلام.»
و عندما أحسّ الحسین (ع) بضغط الأمویین علیه فی طلب البیعة لیزید خرج من المدینة الی مکة حیث دخلها لیلة الجمعة لثلاث مضین من شعبان و نزل شعب علیّ فأقبل أهل مکة و من کان بها من المعتمرین و أهل الآفاق بختلفون الیه و یجتمعون عنده.
و کانت الأخبار بوفاة معاویة قد تنوقلت الی مختلف الأمصار و بلغ أهل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 47
الکوفة ذلک الخبر کما علموا امتناع الحسین عن بیعة یزید بن معاویة و نزوله مکة، فاجتمع کبار أهل الکوفة فی منزل سلیمان بن صرد الخزاعی بالکوفة فذکروا وفاة معاویة و خطبهم سلیمان بن صرد و قال لهم: إن حسینا قد خرج من مکة و انتم شیعته، و شیعة أبیه، فان کنتم تعلمون انکم ناصروه و مجاهدو عدوه فاکتبوا الیه و ان خفتم الفشل و الوهن فلا تغرّوه، قالوا: لا بل نقاتل عدوه و نقتل أنفسنا دونه، فکتبوا الیه: بسم اللّه الرحمن الرحیم للحسین ابن علی علیهما السلام من سلیمان بن صرد و المسیب بن نجبة و رفاعة بن شداد البجلی و حبیب بن مظاهر و شیعته المؤمنین المسلمین من أهل الکوفة سلام علیک. فانا نحمد الیک اللّه الذی لا إله الا هو، أما بعد فالحمد للّه الذی قصم عدوک الجبار العنید الذی اعتدی علی هذه الأمة فابتزها أمرها و انتزعها حقوقها و غصبها فیئها و تأمر علیها بغیر رضا منها ثم قتل خیارها و استبقی شرارها و جعل ما؟؟؟ ل اللّه دولة بین جبابرتها و اغنیائها فبعدا له کما بعدت ثمود و انه لیس علینا امام فاقبل لعل اللّه ان یجمعنا بک علی الحق، و النعمان بن بشیر فی قصر الأمارة لسنا نجتمع معه فی جمعة و لا عید و قد حبسنا أنفسنا علیک و لو اقبلت الینا أخرجناه حتی نلحقه بالشام.
و قد أرسل الکتاب مع عبد اللّه بن مسمع الهمدانی و عبد اللّه بن وال، و اوصلاه الی الحسین (ع) فی العاشر من رمضان سنة 60 ه، و صار أهل الکوفة یتابعون بایفاد الرسل الی الامام الحسین مزودین بالکتب و یلحون علی الحسین بالمجی‌ء و مما جاء فی بعض رسائلهم: «ان الناس ینتظرونک لا رأی لهم غیرک فالعجل العجل ثم العجل العجل و السلام» و من رسالة بعث بها شبث بن ربعی و حجار بن أبجر و یزید بن الحارث و یزید بن رویم و عروة بن قیس و عمرو بن الحجاج الزبیدی و محمد بن عمیر بن عطارد التمیمی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 48
«أما بعد فقد اخضر الجناب و أینعت الثمار فاذا شئت فاقبل علی جند لک مجند و السلام». و قد روی الطبری ان أهل الکوفة کتبوا الی الحسین ان معک مائة ألف.
و کتب الحسین الی أهل الکوفة (بسم اللّه الرحمن الرحیم، من الحسین ابن علی الی الملأ من المؤمنین المسلمین، أما بعد فقد فهمت کل الذی اقتصصتم و قد بعثت الیکم بأخی و ابن عمی و ثقتی من أهل بیتی مسلم بن عقیل و أمرته أن یکتب إلیّ بحالکم و أمرکم و رأیکم فان کتب الی انه قد اجتمع رأی ملأکم و ذوی الحجی منکم علی مثل ما قدمت به رسلکم و قرأت فی کتبکم فانی اقدم الیکم و شیکا ان شاء اللّه فلعمری ما الامام الا العامل بالکتاب القائم بالقسط الدائن بالحق الحابس نفسه علی ذات اللّه و السلام».
و توجه مسلم بن عقیل نحو الکوفة، تلبیة لأمر الحسین بن علی (ع) لما وصلها نزل فی الدار التی تعرف بدار المختار بن أبی عبید ثم عرفت بدار المسیب، و صار الناس یختلفون الیه، یتعرفون علیه و یتلو علیهم کتاب الامام الحسین (ع) حتی بلغ عدد الذین بایعوه ثمانیة عشر ألفا، و کان علی الکوفة و قتذاک النعمان بن بشیر، و یبدو أن یزید بن معاویة لم یکن لیرتاح الیه لذا فانه اصدر أوامره بتولیة عبید اللّه بن زیاد ولایة الکوفة، فاتبع عبید اللّه هذا غایة الشدة فی تثبیت دعائم حکمه و توسل بوسائل مختلفة من العنف و الأغراء و الرشوة و التهدید. کما فرض احکاما و قوانین قسریة من أجل الحفاظ علی ولایة الکوفة و إفساد خطط أهلها من أن ینجحوا فی مطلبهم و غایتهم، و لما أحس مسلم بن عقیل بقدوم ابن زیاد و اتباعه تلک الأسالیب العنیفة تحول الی دار هانی بن عروة المرادی و هو من أشراف الکوفة و طلب منه أن یستضیفه و یجیره، و کان مسلم بن عقیل قد أرسل الی ابن عمه الحسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 49
(ع) یخبره بأن أهل الکوفة قد بایعوه و طلب منه أن یعجل فی القدوم. و شدد ابن زیاد الخناق علی أهل الکوفة و طارد أصحاب مسلم بن عقیل حتی بقی وحده و وقع أخیرا فی قبضة عبید اللّه بن زیاد فأمر بقطع رأسه کما أمر بقتل هانی بن عروة المرادی، و هکذا سال الدم الزکی فوقع مسلم بن عقیل شهیدا من اجل الفکرة السامیة و ذهب هانی بن عروة شهیدا من اجل الحفاظ علی الوفاء بالعهد، و کان ذلک بدایة الأعمال التعسفیة التی لم تشهد الکوفة لها مثیلا فی التاریخ:
و قدم الحسین (ع) أرض العراق و نزل ذات عرق فلما بلغ الحاجر کتب الی أهل الکوفة مع قیس بن مسهر الصیداوی، یعرفهم قدومه و یأمرهم فی الجد بأمرهم، و لما انتهی قیس الی القادسیة أخذه الحصین فبعث به الی ابن زیاد فقال له ابن زیادا صعد القصر فسبّ الکذاب إبن الکذاب الحسین بن علی!! فصعد قیس فحمد اللّه و اثنی علیه ثم قال: ان هذا الحسین ابن علی خیر خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه (ص) و أنا رسوله الیکم و قد فارقته بالحاجر فأجیبوه ثم لعن إبن زیاد و أباه و استغفر لعلی فأمر به ابن زیاد فرمی من أعلی القصر فتقطع و مات.
ثم مر الحسین بزرود حیث التقی بزهیر بن القین البجلی و کان عثمانیا.
و صار من أنصار الأمام الحسین و لازمه حتی قتل معه. و جاء للأمام الحسین علیه السلام خبر مقتل إبن عمه مسلم بن عقیل و هو فی الثعلبیة ثم انتقل الی زبالة و فیها أبلغ بمقتل اخیه من الرضاعة عبد اللّه بن یقطر و کان (ع) قد أوفده الی مسلم بن عقیل.
و جمع الأمام أنصاره و من انضم الیه من العرب فخطبهم و ابلغهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 50
مقتل ابن عمه مسلم بن عقیل و قال لهم: قد خذلنا شیعتنا فمن أحب منکم أن ینصرف فلینصرف لیس علیه منا ذمام؛ فتفرقوا یمینا و شمالا و لم یبق معه (ع) الا أصحابه المخلصون الذین جاوا معه من المدینة و نفر یسیر ممن انضموا إلیه، أولئک الذین بقوا علی العهد و استرخصوا النفس دفاعا عن المبادی‌ء السامیة و المثل العلیا.
و لما علم عبید اللّه بن زیاد بوجهة الأمام الحسین (ع) اتخذ احتیاطات عسکریة مختلفة و حاول جاهدا مراقبة تحرکات الأمام الحسین (ع) و کان قد أرسل الی حراسة البر قائدا من قواده (الحر بن یزید الریاحی) و التقی برکب الحسین (ع) فی (شراف) و کانت مهمة الحر علی ما یبدو قطع الطریق علی الحسین و عدم مفارقته حتی یأتی به الی الکوفة. و لما أحسّ الحسین بخذلان شیعته و بالاجراءات التعسفیة التی اتبعها عبید اللّه بن زیاد فی الکوفة و أهلها و بما ینتویه ضده و ضد أنصاره أمر أصحابه بالأنصراف نحو الحجاز و لکن القائد الأموی (الحر بن یزید) منعهم من ذلک، فقال له الحسین (ع): ما الذی ترید؟ قال الحر: أرید أن أنطلق بک الی الأمیر عبید اللّه بن زیاد. قال الحسین إذن و اللّه لا أتبعک. قال الحر: إذن و اللّه لا أدعک. و کثر الجدال بینهما فقال الحر: إننی لم أؤمر بقتالک و إنما أمرت أن لا أفارقک حتی اقدمک الکوفة، فخذ طریقا لا تدخلک الکوفة، و لا تردک الی الحجاز حتی اکتب الی الأمیر عبید اللّه، فلعل اللّه أن یأتی بأمر یرزقنا فیه العافیة و لا أبتلی بشی‌ء من أمرک، فسار الحسین متیاسرا من طریق العذیب و الحر بن یزید یسایره، و خطب الأمام الحسین (ع) فی الناس، فحمد اللّه و أثنی علیه ثم قال: «أیها الناس إن رسول اللّه (ص) قال من رأی سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناکثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه (ص) یعمل فی عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم یغیر ما علیه بفعل و لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 51
قول کان حقا علی اللّه أن یدخله مدخله الا و أنا أحق من غیری، و قد اتتنی کتبکم و رسلکم ببیعتکم و أنکم لا تسلمونی و لا تخذلونی فان بقیتم علی بیعتکم تصیبوا رشدکم و انا الحسین بن علی بن فاطمة بنت رسول اللّه (ص)، نفسی مع أنفسکم، و أهلی مع أهلکم، فلکم فیّ أسوة، و إن لم تفعلوا و نقضتم عهدی، و خلعتم بیعتی، فلعمری ما هی لکم بنکیر و المغرور من اغتربکم، فحظکم أخطأتم، و نصیبکم ضیعتم، و من نکث فانما ینکث علی نفسه، و سیغنی اللّه عنکم و السلام» فقال له الحر: انی اذکرک اللّه فی نفسک فانی أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال له الحسین: «أبالموت تخوفنی؟ و هل یعدونکم الخطب ان تقتلونی، و ما أدری ما أقول لک، و لکنی اقول کما قال أخو الأوس لأبن عمه و هو یرید نصرة رسول اللّه (ص) فخوفه ابن عمه این تذهب فانک مقتول، فقال:
سأمضی و ما بالموت عار علی الفتی‌اذا ما نوی خیرا و جاهد مسلما
و آسی الرجال الصالحین بنفسه‌و خالف مبتورا و فارق مجرما
فان عشت لم أندم و ان مت لم ألم‌کفی بک ذلا أن تعیش و ترغما»
و سار الأمام الحسین بأصحابه حتی بلغ عذیب الهجانات، و الحر بن یزید ملازما له، ثم وصل قصر بنی مقاتل، و کلما أراد الحسین (ع) أن یتیاسر لیمیل نحو البادیة ردّه الحر بن یزید نحو الکوفة حتی انتهی (ع) الی نینوی فنزل بها. و فی الثانی من محرم الحرام سنة احدی و ستین وصل (ع) مکانا قریبا من الفرات اسمه کربلاء.
و فی الیوم التالی من نزول الأمام الحسین (ع) کربلاء قدم عمر بن سعد من الکوفة فی اربعة الاف و کان سبب مسیره الیه ان عبید اللّه بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 52
زیاد کان قد بعثه علی أربعة آلاف الی (دستبی) و کان الدیلم قد خرجوا إلیها و غلبوا علیها و کتب له عهده علی الری فعسکر بالناس فی (حمّام أعین) ، فلما کان من أمر الحسین ما کان، دعا ابن زیاد عمر بن سعد و قال له: سر الی الحسین فاذا فرغنا مما بیننا و بینه سرت الی عملک، فاستعفاه. فقال: نعم علی ان ترد عهدنا، فلما قال له ذلک، قال: أمهلنی الیوم حتی انظر فاستشار نصحاءه، فکلهم نهاه، و اتاه حمزة بن المغیرة، و هو بن اخته، فقال: انشدک اللّه یا خالی أن لا تسیر الی الحسین فتأثم، و تقطع رحمک، فو اللّه لأن تخرج من دنیاک و مالک و سلطان الأرض،- لو کان لک- خیر من أن تلقی اللّه بدم الحسین. فقال:
أفعل، و بات لیلته مفکرا فی امره و تمثّلوه قائلا:
أأترک ملک الری و الریّ منیتی‌أم ارجع مذموما بقتل حسین
و فی قتله النار التی لیس دونهاحجاب و ملک الری قرة عین
و کان ابن سعد علی ما یبدو من الأخبار التاریخیة مترددا فی تنفیذ المهمة التی عهدت الیه و لکنه فضل أخیرا منازلة الأمام الحسین (ع) و محاربته و إستجابة أوامر أسیاده عبید اللّه بن زیاد، و یزید بن معاویة و غیرهما من الذین ناصبوا الحسین العداء.
و تقابل الأمام الحسین و عمر بن سعد أکثر من مرة و عرض الأمام الحسین ان یعود الی الحجاز، فکتب عمر بن سعد إلی عبید اللّه بن زیاد فی ذلک، ینصحه الموافقة علی ذلک، و بدت امارات الموافقة علی عبید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 53
اللّه بن زیاد و لکن (شمر بن ذی الجوشن) قال لعبید اللّه بن زیاد: «و اللّه لئن رحل من بلادک و لم یضع یده فی یدک لیکونن اولی بالقوة و العزة، و لتکونن اولی بالضعف و العجز، فلا تعطه هذه المنزلة، و لکن لینزل علی حکمک هو و اصحابه فان عاقبت فکنت ولیّ العقوبة و ان عفوت کان ذلک لک و اللّه لقد بلغنی ان الحسین و عمر یتحدثان عامة اللیل بین العسکرین» فقال ابن زیاد: نعم ما رأیت، أخرج بهذا الکتاب الی عمر فلیعرض علی الحسین و أصحابه النزول علی حکمی فان فعلوا فلیبعث بهم الیّ سلماوان أبوا فلیقاتلهم و ان فعل فاسمع له و اطع و ان أبی فانت الأمیر علیه و علی الناس و اضرب عنقه و ابعث الی برأسه.
و کتب ابن زیاد رسالة الی عمر بن سعد یستهجن تصرفاته و سیاسته تجاه الحسین (ع) و اخیرا قال له فی الرسالة: «فان نزل الحسین و أصحابه علی الحکم و استسلموا فابعث بهم إلیّ سلما و ان أبوا فازحف الیهم حتی تقتلهم و تمثل بهم فانهم لذلک مستحقون، فان قتل الحسین فأوطی‌ء الخیل صدره و ظهره، فانه عاق، شاق، قاطع، ظلوم، فان انت مضیت لأمرنا جزیناک جزاء السامع المطیع، و إن أنت أبیت فاعتزل جندنا و خل بین شمر و بین العسکر و السلام».
و جاء الشمر الی عمر بن سعد و ابلغه برسالة الامیر عبید اللّه بن زیاد و قرأها و تبین فحواها، فرکب عمر بن سعد مع نفر من اصحابه و اتجه صوب مضارب الامام الحسین (ع) عشیة الخمیس لتسع مضین من المحرم، و رأی العباس بن علی بن أبی طالب قدوم اهل الکوفة، فقال للامام الحسین (ع): أتاک القوم. فنهض الحسین (ع) و قال:
یا عباس ارکب بنفسی أنت یا أخی حتی تلقاهم فتقول لهم، مالکم؟ و ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 54
بدا لکم؟ و تسألهم عما جاء بهم، فأتاهم العباس فاستقبلهم فی نحو من عشرین فارسا، فیهم زهیر بن القین و حبیب بن مظاهر، فقال لهم العباس:
ما بدا لکم و ما تریدون. قالوا: جاء امر الأمیر بأن نعرض علیکم ان تنزلوا علی حکمه او ننازلکم. قال: فلا تعجلوا حتی ارجع الی ابی عبد اللّه فاعرض علیه ما ذکرتم. فوقف القوم و قالوا القه فأعلمه ذلک ثم القنا بما یقول. فانصرف العباس (ع) راجعا یرکض الی الحسین یخبره بالخبر و وقف اصحابه یخاطبون القوم، فقال حبیب بن مظاهر لزهیر بن القین:
کلم القوم إن شئت و إن شئت کلمتهم. فقال له زهیر: أنت بدأت بهذا فکن انت تکلمهم. فقال حبیب بن مظاهر، اما و اللّه لبئس القوم عند اللّه غدا قوم یقدمون علیه قد قتلوا ذریة نبیه علیه السلام و عترته و اهل بیته (ص)، و عباد اهل هذا المصر المجتهدین بالاسحار و الذاکرین اللّه کثیرا. فقال له عزرة بن قیس: إنک لتزکیّ نفسک ما استطعت. فقال له زهیر: یا عزرة إن اللّه قد زکاها و هداها، فاتق اللّه یا عزرة فإنی لک من الناصحین، انشدک اللّه یا عزرة ان تکون ممن یعین الضلال علی قتل النفوس الزکیة؛ قال: یا زهیر ما کنت عندنا من شیعة اهل هذا البیت إنما کنت عثمانیا. قال: أفلست تستدل بموقفی هذا أنی منهم، اما و اللّه ما کتبت إلیه کتابا قط، و لا ارسلت إلیه رسولا قط، و لا وعدته نصرتی قط، و لکن الطریق جمع بینی و بینه، فلما رأیته ذکرت رسول اللّه (ص) و مکانه منه، و عرفت ما یقدم علیه من عدوّه و حزبکم، فرأیت أن أنصره، و ان اکون فی حزبه، و ان أجعل نفسی دون نفسه حفظا لما ضیعتم من حق اللّه و حق رسوله علیه السلام.
و أقبل العباس (ع) یرکض حتی انتهی إلیهم، فقال: یا هؤلاء إن أبا عبد اللّه یسألکم ان تنصرفوا هذه العشیة حتی ینظر فی هذا الأمر فان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 55
هذا أمر لم یحر بینکم و بینه فیه منطق، فإذا اصبحنا التقینا إن شاء اللّه فإما رضیناه فأتینا بالأمر الذی تسألونه و تسومونه أو کرهنا فرددناه.
و یبدو ان الامام الحسین کان قد ایقن ان الامویین لیسوا بتارکیه و انهم لا یضمرون له و لاصحابه إلّا الشر، فاراد کسب تلک اللیلة لیوصی اهله و ذویه، و یتشاور مع اصحابه، و لیتفرغ فیها خالصا صادقا یدعو اللّه عز و جل، فقد قال الحسین (ع) لأخیه العباس: ارجع إلیهم فان استطعت أن تؤخرهم الی غدوة و تدفعهم عند العشیة لعلنا نصلی لربنا اللیلة و ندعوه و نستغفره، فهو یعلم أنی قد کنت أحب الصلاة له و تلاوة کتابه و کثرة الدعاء و الاستغفار.
و قال عمر بن سعد: ما تری یا شمر؟ قال: ما تری أنت؟ أنت الأمیر و الرأی رأیک. قال: قد اردت ألا أکون، ثم اقبل علی قومه فقال:
ماذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج: سبحان اللّه، و اللّه لو کانوا من الدیلم ثم سألوک هذه المنزلة لکان ینبغی لک ان تجیبهم إلیها، و قال قیس بن الأشعث: أجبهم الی ما سألوک فلعمری لیصبحنک بالقتال غدوة؛ فقال:
و اللّه لو اعلم ان یفعلوا ما اخرجتهم العشیة.
و جمع الامام الحسین (ع) اهل بیته و ذویه و انصاره فی تلک اللیلة الاخیرة من حیاة البطل الامام الحسین (ع) و حیاة اولئک الأفذاذ الذین وقفوا المواقف الرائعة التی دلت علی سمو فی النفس و ثبات فی المبدأ و علو فی الهمة. فوقف الامام الحسین (ع) و قال فی اصحابه: «أثنی علی اللّه تبارک و تعالی احسن الثناء، و أحمده علی السراء و الضراء، اللهم إنی أحمدک علی أن اکرمتنا بالنبوة، و علمتنا القرآن، و فقهتنا فی الدین، و جعلت لنا اسماعا و ابصارا وافئدة، و لم تجعلنا من المشرکین، اما بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 56
فإنی لا أعلم اصحابا أولی و لا خیرا من اصحابی، و لا أهل بیت أبرّ و لا اوصل من اهل بیتی، فجزاکم اللّه عنی جمیعا خیرا، ألا و إنی أظن یومنا من هؤلاء الاعداء غدا، ألا و إنی قد رأیت لکم فانطلقوا جمیعا فی حلّ لیس علیکم من ذمام، هذا لیل قد غشیکم فاتخذوه جملا، ثم لیأخذ کل رجل منکم بید رجل من اهل بیتی ثم تفرقوا فی سوادکم و مدائنکم حتی یفرج اللّه فان القوم إنما یطلبوننی و لو قد اصابونی لهوا عن طلب غیری».
فأجابه أخوته و ابناؤه و ابناء أخوته و ابناء عبد اللّه بن جعفر، و کل الذین کانوا معه: لم نفعل هذا لنبقی بعدک؟ لا أرانا اللّه ذلک أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علی، و قال مسلم بن عوسجة الأسدی: انحن نتخلی عنک؟ و لم نعذر الی اللّه فی اداء حقک؟ اما و اللّه لا أفارقک حتی اکسر فی صدورهم رمحی، و اضربهم بسیفی، ما ثبت قائمه بیدی، و اللّه لو لم یکن معی سلاحی لقذفتهم بالحجارة دونک حتی اموت معک، و تکلم أصحابه بنحو ذلک، و کانت مواقفهم رائعة دلت علی صدق و اخلاص و ثبات علی المبدأ.
و کان علی بن الحسین تلک العشیة مریضا، تمرضه عمته زینب فسمع اباه فی خباته و عنده (حویّ) مولی ابی ذر الغفاری یعالج سیفه و یقول:
یا دهر أفّ لک من خلیل‌کم لک بالإشراق و الأصیل
من صاحب أو طالب قتیل‌و الدهر لا یقنع بالبدیل
و انما الأمر الی الجلیل‌و کل حی سالک سبیلی
فأعادها مرتین أو ثلاثا فعرف علیّ ما أراد، و لزم السکوت، و سمعته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 57
زینب بنت علی أخته، فلم تملک نفسها أن و ثبت تجر ثوبها حتی انتهت الیه و نادت و اثکلاه! لیت الموت أعد منی الحیاة، الیوم ماتت أمی فاطمة، و علی أبی، و حسن أخی، یا خلیفة الماضی و ثمال الباقی.
فنظر الیها الحسین و قال: «یا أخیّة لا یذهبن حلمک الشیطان» و قالت: بابی انت و أمی استقتلت نفسی لنفسک، أفتغصبک نفسک اغتصابا فذلک أقرح لقلبی، و أشد علی نفسی، ثم لطمت وجهها و شقت جیبها و خرّت مغشیة علیها، فقام الیها الحسین فصب الماء علی وجهها و قال:
«اتقی اللّه و تعزی بعزاء اللّه و اعلمی ان أهل الأرض یموتون، و أهل السماء لا یبقون، و ان کل شی‌ء هالک إلّا وجه اللّه، أبی خیر منی، و أمی خیر منی، و اخی خیر منی، ولی و لهم و لکل مسلم برسول اللّه أسوة» فعزاها بهذا، و قال لها «یا أخیّه أنی اقسم علیک فابری قسمی» لا تشقی علیّ جیبا، و لا تخمشی علیّ وجها، و لا تدعی علیّ بالویل و الثبور ان أنا هلکت».
و طلب الأمام الحسین من أصحابه أن یقربوا البیوت و أن یدخلوا الاطناب بعضها فی بعض و یکونوا بین یدی البیوت فیستقبلون القوم من وجه واحد و البیوت علی ایمانهم و عن شمائلهم و من ورائهم، فلما امسوا قاموا اللیل کله یصلون و یستغفرون و یتضرعون و یدعون.
و اشرقت شمس العاشر من المحرم فی ذلک الیوم الألیم من تاریخ الأنسانیة، وقف الحسین و معه اثنان و ثلاثون فارسا، و اربعون راجلا، فجعل (ع) زهیر بن القین فی میمنة أصحابه، و حبیب بن مظاهر فی میسرتهم، و أعطی رایته لأخیه العباس، و جعلوا البیوت فی ظهورهم و أمر بحطب و قصب فالقی فی مکان منخفض من ورائهم کأنه ساقیة عملوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 58
فی ساعة من اللیل لئلا یؤتوا من ورائهم و اضرم نارا فنفعهم ذلک.
و وقف جیش الأمویین بقیادة عمر بن سعد و جعل علی ربع أهل المدینة عبد اللّه بن زهیر الأزدی و علی ربع ربیعة و کندة قیس بن الأشعث بن قیس، و علی ربع مذحج و اسد عبد الرحمن ابن أبی سبرة الجعفی. و علی ربع تمیم و همدان الحر بن یزید الریاحی. و جعل عمر بن سعد علی میمنة عمرو بن الحجاج الزبیدی، و علی میسرته شمر بن ذی الجوشن، و علی الخیل عروة بن قیس الأحمس، و علی الرجال شبث بن ربعی الیربوعی التمیمی و اعطی الرایة دریدا مولاه.
و رکب الحسین فرسه، و وضع مصحفا بین یدیه و استقبل القوم رافعا یدیه قائلا: «اللهم انت ثقتی فی کل کرب، و رجائی فی کل شدة، و انت لی فی کل أمر نزل بی ثقة و عدة، کم من همّ یضعف فیه الفؤاد، و تقل فیه الحیلة، و یخذل فیه الصدیق، و یشمت به العدو، انزلته بک، و شکوته الیک، رغبة الیک عمن سواک ففرجته، و کشفته، و کفیتنیه، فانت ولی کل نعمة، و صاحب کل حسنة، و منتهی کل رغبة» فلما رأی أصحاب عمر، النار تلتهب فی القصب، نادی شمر الحسین: تعجلت النار فی الدنیا قبل القیامة!! فعرفه الحسین (ع) فقال: أنت أولی بها صلیا، ثم رکب الحسین (ع) راحلته و تقدم الی الناس و نادی بصوت عال یسمعه کل الناس فقال: «أیها الناس أسمعوا قولی و لا تعجلونی، حتی أعظکم بما یجب لکم علی، و حتی اعتذر الیکم من مقدمی علیکم، فان قبلتم عذری، و صدقتم قولی، و انصفتمونی، کنتم بذلک أسعد، و لم یکن لکم علی سبیل، و ان لم تقبلوا منی العذر فاجمعوا أمرکم، و شرکاءکم، ثم لا یکن أمرکم علیکم غمة، ثم اقضوا الیّ و لا تنظرون، ان ولییّ اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 59
الذی نزل الکتاب و هو یتولی الصالحین» فلما سمعت اخواته قوله بکین، و صحن، و ارتفعت اصواتهن، فارسل الیهن أخاه العباس، و ابنه علیا لیسکتاهن، ثم عاد یواصل قوله: «أما بعد فأنسبونی، فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسکم فعاتبوها و انظروا هل یصلح و یحل لکم قتلی و انتهاک حرمتی؟ ألست ابن بنت نبیکم و ابن وصیه؟ و ابن عمه؟ و أول المؤمنین باللّه و المصدق لرسوله؟ أو لیس حمزة سید الشهداء عم أبی؟ أو لیس جعفر الشهید الطیار فی الجنة عمی؟ اولم یبلغکم قول مستفیض ان رسول اللّه (ص) قال لی و لأخی: انتما سیدا شباب أهل الجنة، و قرة عین أهل السنة، فان صدقتمونی بما أقول، و ما أقول هو الحق، و اللّه ما تعمدت کذبا مذ علمت ان اللّه یمقت علیه، و ان کذبتمونی فان فیکم من ان سألتموه عن ذلک أخبرکم. سلوا جابر بن عبد اللّه، أو أبا سعید الخدری، أو سهل بن سعد، أو زید بن أرقم، یخبروکم انهم سمعوه من رسول اللّه (ص). أما فی هذا حاجز یحجزکم عن سفک دمی؟» فقال شمر هو یعبد اللّه علی حرف ان کان یدری ما یقول. فقال له حبیب بن مظاهر:
و اللّه انی أراک تعبد اللّه علی سبعین حرفا و ان اللّه قد طبع علی قلبک فلا تدری ما یقول. ثم واصل الحسین قوله «فان کنتم فی شک مما أقول، أو تشکوّن انی ابن بنت نبیکم، فو اللّه ما بین المشرق و المغرب ابن بنت نبی غیری منکم و لا من غیرکم، أخبرونی أتطلبوننی بقتیل منکم قتلته، أو بمال لکم استهلکته، او بقصاص من جراحة».
تلک کانت مقالة الحسین و محاورته مع الذین وقفوا أمامه، فقد کان (ع) ینطق بالحق المبین و لم یحر احدهم جوابا، فنادی (ع) یا شبث بن ربعی، و یا حجار بن ابجر، و یا قیس بن الأشعث، و یا زید بن الحارث، الم تکتبوا الی فی القدوم علیکم؟ فانکر القوم و لکنه (ع) قال لهم بلسان طلق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 60
ینطق بالحق: بلی و اللّه لقد فعلتم.
و قد أحسّ (ع) حقا بخذلان أهل الکوفة له، و انقلاب معظمهم علیه، و یئس من معاونتهم و نصرتهم، قال: ایها الناس إذ کرهتمونی فدعونی أنصرف الی مأمنی من الأرض، فقال له قیس بن الأشعث:
أولا تنزل علی حکم ابن عمک- یعنی ابن زیاد- فانک لن تری الّا ما تحب؟ فقال له الأمام الحسین (ع) «أنت أخو أخیک أترید ان یطلبک بنو هاشم باکثر من دم مسلم بن عقیل؟ لا و اللّه و لا اعطیهم بیدی اعطاء الذلیل، و لا أقر إقرار العبد، عباد اللّه انی عذت بربی و ربکم ان ترجمونی، اعوذ بربی و ربکم من کل متکبر لا یؤمن بیوم الحساب» ثم اناخ راحلته و نزل عنها.
و هزت الشهامة العربیة زهیر بن القین، فخرج علی فرس له بسلاحه، فقال: «یا أهل الکوفة نذار لکم من عذاب اللّه نذار، ان حقا علی المسلم نصیحة المسلم و نحن حتی الآن أخوة علی دین واحد ما لم یقع بیننا و بینکم السیف و انتم للنصیحة منا أهل، فاذا وقع السیف انقطعت العصمة، و کنا نحن أمة و انتم أمة، ان اللّه قد ابتلانا و ایاکم بذریة نبیه محمد (ص) لینظر ما نحن و انتم عاملون، انا ندعوکم الی نصرهم و خذلان الطاغیة ابن الطاغیة عبید اللّه بن زیاد فانکم لا تدرکون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما کله لیسملان أعینکم، و یقطعان أیدیکم، و أرجلکم، و یمثلان بکم، و یرفعانکم علی جذوع النخل، و یقتلان أماثلکم و قراءکم امثال حجر بن عدی و اصحابه، و هانی بن عروة و اشباهه».
و یبدو ان کلمات ذلک الرجل لم تجد مکانا فی قلوب اولئک الذین أعمت ابصارهم الأموال. التی کان یغدقها علیهم عبید اللّه بن زیاد و الی الکوفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 61
من قبل الأمویین، فلم ینتبهوا الی تلک الأقوال المأثورة التی اندفعت من صدر ذلک المؤمن العظیم، ذلک لانهم صم، أغلقت آذانهم فهم لا یسمعون و لا یفقهون حدیثا.
و زحف عمر بن سعد نحو الحسین (ع)، فأوقفه الحر بن یزید و قال له: «أصلحک اللّه أمقاتل انت هذا الرجل؟» قال له «أی و اللّه قتالا أیسره أن تسقط الرؤوس و تطیح الأیدی». قال الحر: أفما لکم فی واحدة من الخصال التی عرض علیکم رضا؟ فقال عمر بن سعد: «و اللّه لو کان الأمر الیّ لفعلت و لکن أمیرک قد أبی ذلک» و أقبل الحر بن یزید یدنو نحو الحسین (ع) قلیلا قلیلا و اخذته رعدة، فقال له رجل من قومه یقال له المهاجر بن أوس: و اللّه ان أمرک لمریب، و اللّه ما رأیت منک فی موقف قط مثل ما أراه الآن، و لو قیل من أشجع أهل الکوفة لما عدوتک، فقال له: «انی و اللّه أخیّر نفسی بین الجنة و النار و لا أختار مع الجنة شیئا، و لو قطعت، و حرقت» ثم ضرب فرسه فلحق بالحسین فقال له: «جعلنی اللّه فداک یا ابن رسول اللّه انا صاحبک الذی حبستک عن الرجوع، و سایرتک فی الطریق، و جعجعت بک فی هذا المکان، و اللّه الذی لا إله إلّا هو ما ظننت ان القوم یردّون علیک ما عرضت علیهم ابدا، و لا یبلغون منک هذه المنزلة ابدا، فقلت فی نفسی: لا أبالی ان أطیع القوم فی بعض أمرهم، و لا یرون أنی خرجت من طاعتهم، و اما هم فیقبلون بعض ما تدعوهم الیه، و اللّه لو ظننت انهم لا یقبلونها منک ما رکبتها منک، و إنی قد جئتک تائبا مما کان منی، و الی ربی، مواسیا لک بنفسی حتی أموت بین یدیک، افتری لی فی ذلک توبة؟» و تقدم الحر أمام أصحابه ثم قال «ایها القوم ألا تقبلون من الحسین خصلة من هذه الخصال التی عرض علیکم فیعافیکم اللّه من حربه و قتاله». فقال عمر: لقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 62
حرصت لو وجدت الی ذلک سبیلا. فقال الحر: «یا أهل الکوفة لامکم الهبل و العبر . دعوتموه حتی اذا أتاکم اسلمتموه، و زعمتم انکم قاتلو انفسکم دونه، ثم عدوتم علیه لتقتلوه؟ امسکتم بنفسه، و احطتم به.
و منعتموه من التوجه فی بلاد اللّه العریضة حتی یأمن و یأمن أهل بیته. فأصبح کالأسیر لا یملک لنفسه نفعا و لا یدفع عنها ضرا، و منعتموه و من معه عن ماء الفرات الجاری، یشربه الیهودی و النصرانی و المجوسی، و یتمرغ فیه خنازیر السواد و کلابه، و ها هو و أهله قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا فی ذریته. لاسقاکم اللّه یوم الظمأ ان لم تتوبوا و تنزعوا عما انتم علیه» فرموه بالنبل فرجع الحر حتی وقف أمام الحسین، ثم قدم عمر بن سعد برایته و أخذ سهما فرمی به و قال: «اشهدوا لی انی أول رام» ثم رمی الناس، و برز یسار مولی زیاد، و سالم مولی عبید اللّه و طلبا البراز فخرج الیهما من انصار الحسین عبد اللّه بن عمیر الکلبی و کان قد أتی الحسین من الکوفة و سارت معه امرأته فقالا له: من انت؟ فانتسب لهما فقالا: لا نعرفک لیخرج الینا زهیر بن القین، أو حبیب بن مظاهر، أو بریر بن خضیر، و کان یسار أمام سالم فقال له الکلبی: یا ابن الزانیة و بک رغبة عن مبارزة أحد من الناس و لا یخرج الیک الّا و هو خیر منک.
ثم حمل علیه فضربه بسیفه حتی برد فاشتغل به یضربه فحمل علیه سالم فلم یأبه له حتی غشیه فضربه فاتقاه الکلبی بیده فاطار أصابع کفه الیسری، ثم مال علیه الکلبی فضربه حتی قتله، و أخذت أمرأته عمودا و کانت تسمی (أم وهب) و اقبلت نحو زوجها و هی تقول: فداک أبی و أمی: قاتل دون الطیبین ذریة محمد، فردها نحو النساء فامتنعت و قالت: لن أدعک دون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 63
أن أموت معک فناداها الحسین فقال: «جزیتم من أهل بیت خیر الرجعی رحمک اللّه لیس الجهاد الی النساء» فرجعت.
و زحفت میمنة الأمویین بقیادة عمرو بن الحجاج فلما اقتربوا من معسکر الحسین جثوا علی الرکب و اشرعوا الرماح نحوهم، و لم تقدم خیلهم علی الرماح فذهبت الخیل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا، و جرحوا آخرین، و تقدم رجل منهم یقال له، ابن حوزة، فقال: أفیکم الحسین؟ فلم یجبه أحد. فقالها ثلاثا فقالوا: نعم فما حاجتک؟ قال یا حسین ابشر بالنار، قال له الإمام الحسین (ع) «کذبت بل أقدم علی رب رحیم و شفیع مطاع، فمن انت»؟ قال: ابن حوزة: فرفع الحسین یدیه فقال «اللهم حزه إلی النار» فغضب ابن حوزة فاقحم فرسه فی نهر بینهما، فتعلقت قدمه بالرکاب، و جالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت فخذه و ساقه و قدمه و بقی جنبه الآخر متعلقا بالرکاب یضرب به کل حجر و شجر حتی مات، و کان مسروق بن وائل الحضرمی قد خرج معهم فقال: لعلیّ أصیب رأس الحسین فأصیب به منزلة عند ابن زیاد، فلما رأی ما صنع اللّه بابن (حوزة) بدعاء الحسین، رجع، و قال: لقد رأیت فی أهل هذا البیت شیئا لا أقاتلهم أبدا، و نشب القتال و خرج یزید ابن معقل حلیف عبد القیس فقال یا بریر بن خضیر، کیف تری اللّه صنع بک؟ قال: و اللّه لقد صنع بی خیرا و صنع بک شرا فقال: کذبت و قبل الیوم ما کنت کذابا و انا أشهد انک من الضالین، فقال له ابن خضیر:
هل لک ان ابا هلک ان یلعن اللّه الکاذب و یقتل المبطل ثم أخرج أبارزک، فخرجا فتباهلا: ان یلعن اللّه الکاذب و یقتل المحق المبطل، ثم تبارزا فاختلفا ضربتین، فضرب یزید بن معقل، بریر بن خضیر فلم یضره شیئا و ضربه ابن خضیر ضربة قدت المغفر و بلغت الدماغ فسقط و السیف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 64
فی رأسه، فحمل علیه رضی بن منقذ العبدی فاعتنق ابن خضیر فاعترکا ساعة، ثم ان ابن خضیر قعد علی صدره فحمل کعب بن جابر الأزدی علیه بالرمح فوضعه فی ظهره حتی غیب السنان فیه فلما وجد مس الرمح نزل عن رضی فعض أنفه و قطع طرفه، و اقبل الیه کعب بن جابر فضربه بسیفه حتی قتله، و قام رضی ینفض التراب عن قبائه، فلما رجع کعب قالت له امرأته: أعنت علی ابن فاطمة و قتلت بریرا سید القراء لا أکلمک ابدا، و خرج عمرو بن قرظة الأنصاری و قاتل دون الحسین فاستشهد، و قاتل الحر بن یزید قتالا شدیدا، و ممن برز للحر من الأمویین یزید بن سفیان فقتله الحر. و قاتل نافع بن هلال مع الحسین و انتصر علی غریمه مزاحم بن حریث و قتله، و أخذ عمرو بن الحجاج یحرض أهل الکوفة علی مقاتلة الإمام الحسین و یحثهم علی قتال انصاره. ثم حمل عمرو بن الحجاج علی معسکر الحسین من نحو الفرات فتمکن من قتل بطل من ابطال انصار الحسین (مسلم بن عوسجة الأسدی) و انصرف عمرو، و مسلم صریع فمشی الحسین إلیه و به رمق فقال: «رحمک اللّه یا مسلم منهم من قضی نحبه و منهم من ینتظر) و دنا حبیب بن مظاهر من مسلم و قال «عز علیّ مصرعک، ابشر بالجنة و لولا أنی أعلم اننی فی اثرک، لاحق بک، لأحببت ان توصینی حتی احفظک بما أنت له أهل» فقال مسلم: «أوصیک بهذا رحمک اللّه- و أومأ بیده نحو الحسین- أن تموت دونه» فقال: افعل. و مات مسلم بن عوسجة الاسدی شهیدا من أجل المبادی‌ء السامیة و من أجل ان تسود الکلمة الحقة فی ربوع الأنسانیة، و یتشدق القتلة المارقون و یتباهون بقتلهم مسلم بن عوسجة، فیستیقظ ضمیر واحد منهم هو (شبث بن ربعی) فیقول لهم «ثکلتکم امهاتکم انما تقتلون انفسکم بایدیکم و تذلون أنفسکم لغیرکم، أتفرحون بقتل مثل مسلم بن عوسجة؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 65
اما و الذی اسلمت له لرب موقف قد رأیته فی المسلمین فلقد رأیته یوم سلق أذربیجان قتل ستة من المشرکین قبل أن تنام خیول المسلمین افیقتل مثله و تفرحون؟».
و همّت میسرة الأمویین بقیادة شمر بن ذی الجوشن، و هاجموا الحسین ابن علی (ع) و انصاره من کل جانب، و برز لهم نصیر من انصار الحسین الذین بذلوا انفسهم من أجل أن تحیا کلمة اللّه دفاعا عن الحق و العدل و ذلکم هو عبد اللّه بن عمیر الکلبی و فتک برجلین من زمرة شمر بن ذی الجوشن، فتصدی له هانی‌ء بن بثیت الحضرمی، و بکیر بن حی التیمی من تیم اللّه ابن ثعلبة، و قتلاه بعد ان قاتل قتالا شدیدا، و جاهد جهادا عظیما، و کان مثلا رائعا فی الثبات علی المبدأ و الفداء بالنفس من اجل المثل الانسانیة السامیة.
و وقف انصار الحسین جمیعا مواقف رائعة و کانوا اثنین و ثلاثین فارسا و کانوا کالنسور العالیة فی انقضاضها علی صفوف الأعداء. و کأنها الأسود المنقضة علی الفلول الفزعة الخائفة، فما هجمت تلک العصبة المؤمنة علی جناح إلا کشفته، فاوقعوا الرعب و الجزع فی قلوب جیش الامویین، حتی بعث عروة بن قیس و کان یقود خیل الکوفة من قبل الأمویین، الی عمر بن سعد، یقول: الا تری ما تلقی خیلی هذا الیوم من هذه العدة الیسیرة ابعث الیهم الرجال و الرماة، فقال لشبث بن ربعی: الا تقدم الیهم؟ فقال شبث: سبحان اللّه شیخ مضر و اهل المصر عامة تبعثه فی الرماة لم نجد لهذا غیری؟ و لم یزالوا یرون من شبث الکراهة للقتال حتی انه کان یقول فی امارة مصعب «لا یعطی اللّه أهل هذا المصر خیرا أبدا و لا یسددهم لرشد، ألا تعجبون إنا قاتلنا مع علی بن ابی طالب و مع ابنه الحسن آل ابی سفیان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 66
خمس سنین ثم عدونا علی ابنه و هو خیر أهل الأرض نقاتله مع آل معاویة.
و ابن سمیة الزانیة، ضلال یالک من ضلال!» فلما قال شبث ذلک، دعا عمر بن سعد الحصین بن نمیر، فبعث مع المجففة و خمسمائة من المرامیة فلما دنوا من الحسین و اصحابه، رشقوهم بالنبل فلم یلبثوا أن عقروا خیولهم و صاروا رجالة کلهم، و قاتل الحر بن یزید راجلا قتالا شدیدا، فقاتلوهم الی أن انتصف النهار أشد قتال و لم یتمکنوا من اتیانهم إلا من وجه واحد، لاجتماع مضاربهم، فلما رأی ذلک عمر بن سعد، ارسل رجالا یقوضون البیوت عن أیمانهم و شمائلهم لیحیطوا بهم، فکان النفر من اصحاب الحسین الثلاثة و الأربعة یتخللون البیوت فیقتلون الرجل و هو یقوض و ینهب و یرمونه من قریب أو یعقرونه فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال لهم الأمام الحسین (ع) دعوهم فلیحرقوها، فانهم اذا أحرقوها لا یستطیعون ان یجوزوا الیکم منها فکان کذلک.
و مشت امرأة عبد اللّه بن عمیر الکلبی الی زوجها الذی استشهد فی المعرکة، و جلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه و تقول: هنیئا لک الجنة، فلمحها شمر بن ذی الجوشن و امتلأ قلبه غیظا، فأمر غلاما اسمه رستم بأن یضرب رأسها بالعمود، فنفذ رغبة القائد الأهوج، فضربها بالعمود فشدخ رأسها فماتت مکانها.
و حمل شمر حتی بلغ فسطاط الحسین و نادی علیّ بالنار حتی احرق هذا البیت علی أهله فصاحت النساء و خرجن و صاح به الحسین (ع) انت تحرق بیتی علی اهلی احرقک اللّه بالنار، فقال حمید بن مسلم، لشمر:
ان هذا لا یصلح، تعذب بعذاب اللّه و تقتل الولدان و النساء، و اللّه ان فی قتل الرجال لما یرضی به أمیرک، فلم یقبل منه، فجاءه شبث بن ربعی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 67
فنهاه فانتهی، و ذهب لینصرف و حمل علیه زهیر بن القین فی عشرة فکشفهم عن البیوت، و قتلوا ابا عزة الضبابی و کان من اصحاب شمر، و عطف الناس علیهم فکثروهم، و کانوا اذا قتل منهم الرجل و الرجلان یبین فیهم لقلتهم، و اذا قتل فی بنی أمیة لا یبین فیهم لکثرتهم، و لما حضرت الصلاة قال ابو تمامة الصائدی للحسین: نفسی لنفسک الفداء أری هؤلاء قد اقتربوا منک و اللّه لا تقتل حتی أقتل دونک و أحب ان ألقی ربی و قد صلیت هذه الصلاة التی قد دنا وقتها فرفع الحسین رأسه و قال: ذکرت الصلاة جعلک اللّه من المصلین الذاکرین، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن یکفوا عنا حتی نصلی، ففعلوا، و قال الحصین بن نمیر لهم: انها لا تقبل. فقال له حبیب بن مظاهر: زعمت ان لا تقبل الصلاة من آل رسول للّه (ص) و تقبل منک یا حمار فحمل علیه الحصین و خرج الیه حبیب ابن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسیف فشب فسقط عنه الحصین فاستنقذه اصحابه، و قاتل حبیب بن مظاهر قتالا شدیدا و اظهر من البطولات الرائعة ما جعلته فی طبقة الشجعان المیامین. و تبارز مع بدیل بن حریم التیمی، و انتصر حبیب و قتله و حمل علیه رجل آخر من تمیم فطعنه فوقع، و حاول القیام فوجّه الیه الحصین بن نمیر ضربة علی رأسه بالسیف، فوقع ثانیة و نزل الیه التمیمی فاحتز رأسه، فقال له الحصین: انا شریکک فی قتله، فقال التمیمی: لا و اللّه، فقال له الحصین: أعطنیه اعلقه فی عنق فرسی کیما یری الناس انی شرکت فی قتله ثم خذه و امض به الی ابن زیاد فلا حاجة لی فیما تعطاه، ففعل و جال به فی الناس ثم دفعه الیهم، فلما رجعوا الی الکوفة أخذ الرأس و جعله فی عنق فرسه ثم اقبل به الی ابن زیاد فی القصر و رآه القاسم بن حبیب بن مظاهر و اقبل مع الفارس لا یفارقه فارتاب به الرجل فسأله عن حاله، فأخبره و طلب الرأس لیدفنه، فقال: ان الأمیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 68
لا یرضی ان یدفن و أرجو أن یتبین الأمیر، فقال له القاسم بن حبیب:
لکن اللّه لا یثیبک إلا أسوأ الثواب، و لم یزل یطلب غرة قاتل ابیه حتی کان زمان مصعب، و غزا مصعب باضمرا، دخل القاسم عسکره فاذا قاتل ابیه فی فسطاطه فدخل علیه نصف النهار فقتله.
و لما علم الحسین (ع) باستشهاد حبیب بن مظاهر، قال (ع) احتسب حماة أصحابی. و قاتل الحر بن یزید و زهیر بن القین قتالا اثبتا فیه مروءتهما و شجاعتهما و دفاعهما عن المثل السامیة، و هجمت عصبة من الرجالة علی الحر بن یزید و قتلوه، و وقع شهیدا و هو یدافع عن قصد شریف و غایة نبیلة.
و تتجلی فی ذلک الیوم بطولات نادرة و تضحیات فذة، و ضرب کل اصحاب الحسین (ع) امثلة رائعة فی الشجاعة و الفداء، و هذا نافع بن هلال البجلی قد کتب اسمه فوق نبلة و کانت مسمومة فقتل بها اثنی عشر رجلا من جیش عمر بن سعد سوی من جرح حتی کسرت عضداه و أخذ أسیرا، فأخذه شمر بن ذی الجوشن فأتی به عمر بن سعد و الدم یسیل علی وجهه و هو یقول له: «لقد قتلت منکم اثنی عشر رجلا سوی من جرحت، و لو بقیت لی عضد و ساعد، ما أسرتمونی» فانتضی شمر سیفه لیقتله فقال له نافع: و اللّه لو کنت من المسلمین لعظم علیک ان تلقی اللّه بدمائنا فالحمد للّه الذی جعل منایانا علی یدی شرار خلقه، فقتله شمر حقدا و غدرا، و راح نافع شهید الفکرة الأسلامیة السامیة و المثل العلیا النبیلة.
و هذا عابس بن ابی شبیب الشاکری، نزل الی میدان المعرکة طالبا البراز، فلم یجسر احد من الأعداء علی التقدم أو الخروج لمبارزته لشجاعته و عظیم بلائه فی سوح القتال، و لما وجد عمر بن سعد ذلک التردد و الخوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 69
من عساکره، اصدر اوامره بأن یرموه بالحجارة، یرموه من کل جانب، فلما رأی عابس ذلک، القی درعه و مغفره و حمل علی الناس فهزمهم أمامه، ثم رجعوا علیه و ضیقوا علیه الخناق و الضرب الشدید حتی وقع شهیدا کریما فی ارض المعرکة.
و تقدم أصحاب الحسین (ع) بطلا اثر بطل شهید و تساقط ابناء البیت الطاهر و الأصحاب الکرام، و اشتد العطش بالحسین (ع) فدنا من الفرات لیشرب فرماه (حصین بن نمیر) بسهم فوقع فی فمه، فجعل یتلقی الدم بیده ثم رمی به الی السماء، ثم حمد اللّه و اثنی علیه ثم قال «اللهم انی اشکو الیک ما یصنع بابن بنت نبیک، اللهم احصهم عددا، و اقتلهم بددا، و لا تبق منهم احدا» و قیل ان الذی رماه رجل من بنی أبان بن دارم فمکث ذلک الرجل یسیرا ثم صب اللّه علیه الظمأ فجعل لا یروی فکان یروح عنه و یبرد له الماء فیه السکر، و عساس فیها اللبن و یقول: اسقونی، فیعطی القلة أو العس فیشربه، فاذا شربه اضطجع هنیهة ثم یقول: اسقونی، قتلنی الظمأ، فما لبث الا یسیرا حتی انقدت بطنه انقداد بطن البعیر.
ثم باغت شمر بن ذی الجوشن مع رجاله الذین امتلأت قلوبهم بالحقد و اتسمت بالقسوة، اجل باغتوا الحسین (ع) و کان شمر یحرض رجاله علی قتل الحسین، و کان (ع) کلما تقدم الیهم انکشفوا عنه و تراجعوا، ثم احاطوا بالحسین و قد حاول (بحر بن کعب بن تیم اللّه بن ثعلبة) ان یهوی بسیفه علی الحسین (ع) فاتقی الضربة غلام من أهل الحسین (ع) بیده فاطنها الی الجلدة فنادی الغلام یا أماه فاعتنقه الحسین (ع) و قال له:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 70
یا ابن اخی اصبر علی ما نزل بک فان اللّه یلحقک بآبائک الطاهرین الصالحین برسول اللّه (ص) و حمزة و جعفر و الحسن (ع) و قال الحسین (ع) «اللهم أمسک عنهم قطر السماء، و امنعهم برکات الأرض، اللهم فان متعتهم الی حین، ففرقهم فرقا، و اجعلهم طرائق قددا، و لا ترض عنهم الولاة ابدا، فانهم دعونا لینصرونا فغدوا علینا فقتلونا».
و لما رأی العباس بن علی بن ابی طالب (ع) کثرة القتلی فی اهله و انصاره و اشتداد الحرب و ضراوتها، طلب من اخوته من أمه و هم عبد اللّه و جعفر و عثمان ان یتقدموا الی القتال دفاعا عن المبادی‌ء السامیة و ذودا عن اخیه الامام الحسین (ع) فقاتلوا قتالا شدیدا و استشهدوا علیهم السلام جمیعا و نالوا رضا اللّه و رسوله و الأئمة الطاهرین، و اشتد العطش بالامام الحسین (ع) و رکب یرید الفرات و بین یدیه العباس فاعترضته خیل عمر بن سعد و کان فیهم رجل من بنی دارم فقال لعصابته: و یلکم حولوا بینه و بین الفرات و لا تمکنوه من الماء، فقال الحسین (ع): اللهم اظمأه؛ فغضب الدارمی، و رماه بسهم فاثبته فی حنکه. فانتزع الحسین (ع) السهم و بسط یده تحت حنکه فامتلأت راحتاه من الدم، فرمی به، ثم قال: اللهم انی اشکو إلیک ما یفعل بابن بنت نبیک، ثم رجع الی مکانه و قد اشتد به العطش، و احاط القوم بالعباس، فاقتطعوه عنه، فجعل یقاتلهم بشجاعة نادرة، و کان (ع) ینزل علیهم بسیفه فیتفرقون خوفا و فزعا، و باغته (زید ابن ورقاء) بضربة غادرة علی یمینه فقطعها، فأخذ (ع) السیف بشماله و حمل علی المعتدین و هو یرتجز:-
و اللّه ان قطعتم یمینی‌انی احامی دائما عن دینی
و عن امام صادق الیقین‌نجل النبی الطاهر الامین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 71
و ضربه حکیم بن الطفیل علی شماله فقطعها، و حمل علیه من المعتدین وحش لئیم فضربه بعمود من حدید، فوقع شهیدا عزیزا کریما و کان مثلا من الأمثلة الصادقة للجهاد فی سبیل اللّه و الدفاع عن المبادی‌ء الاسلامیة السامیة و الوفاء بالعهد لأخیه الحسین (ع)، و حزن الامام الحسین حزنا شدیدا لمقتل اخیه العباس و بکی بکاء ألیما، و کان العباس بن علی (ع) حامل الرایة فی وقعة الطف، مشهورا بالشجاعة و سیما جمیلا و کان یقال له قمر بنی هاشم، یرکب الفرس المطهم و رجلاه تخطان فی الارض.
و استعد الإمام الحسین للنزال الأخیر، و وقف (ع) امام شراذم الأمویین و لکعة أهل الکوفة من الخونة المارقین وقفة الأسد الهصور یذود عن حیاض الدین و یدافع عن المثل العلیا و یضرب للأنسانیة مثلا صادقا للثبات علی المبدإ و الصمود من أجل الحق .. أجل وقف الأمام الحق وقفة رجل بنی هاشم العزیز الأجل ... و تکاثرت حوله الأعداء و صار یقاتل قتال الصنادید الأبطال، ینقض علی هذا و یطارد ذاک و یضرب بسیفه من قرب منه و صار شمر بن ذی الجوشن یحرض علی قتله، و التشدید فی الضرب، و هو ینادی «و یحکم ماذا تنتظرون بالرجل اقتلوه ثکلتکم امهاتکم» فحمل اولئک المرتزقة من عبید المال و ضعفاء النفس و المتقلبین و الانتهازیین، أجل حملوا علی الحسین (ع) من کل جانب، و وجّه زرعة بن شریک التمیمی ضربة من سیفه علی کفه الیسری فقطعها، و ضربه آخر علی عاتقه فکبا منها لوجهه، ثم ابتعدوا عنه و هو (ع) یقوم و یکبو، و حمل علیه فی تلک الحال سنان بن أنس النخعی فطعنه بالرمح، فوقع الأمام صریعا، و بدر إلیه خولی بن یزید الأصبحی فنزل من فرسه لیحتز رأسه، فضعف و أرعد، فقال له سنان: فتّ اللّه فی عضدک و نزل الیه فذبحه و احتزّ رأسه ثم دفع به الی خولی بن یزید، ثم تهالک الجناة علی سلب ما کان علی الحسین، فسلب قمیصه اسحق بن حیوة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 72
الحضرمی، و اخذ سراویله بحر بن کعب، کما سلب قطیفته قیس بن الأشعث، و کانت من الخز، و استحوذ علی عمامته أخنس بن مرثد الحضرمی، و سیطر علی نعلیه الأسود الأودی، و أخذ سیفه رجل من دارم، و مال الرعاع علی الفرش، و الحلل، و الأبل، فانتهبوها کما نهبوا ثقاله و متاعه و سلبوا نساءه حتی کانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتی تغلب علیه فیؤخذ منها.
و علا الضجیج فی ارض المعرکة ان الحسین قد قتل فبلغ ذلک الضجیج مسمع رجل من انصار الحسین کان مثخنا بالجراح ذلکم هو البطل سوید ابن المطاع الذی قاتل طیلة یومه و وقع من شدة نزفه فتحرکت فی عروقه حمم الحیاة، و تعاظمت أمامه النتائج، أیعیش و قد قتل الحسین، و ها هو یسمع الأراذل یهزجون بقتل الحسین، فتلمس سیفه فلم یعثر علیه، فقد سلبه الجناة، و ظل یفتش عن شی‌ء یجاهد به، فوقعت یده علی سکین له، فوثب وثبة بطل یزأر زئیر الأسد، فذعر الجبناء فهاجمهم سوید بن المطاع فاوقع بهم طعنا ساعة من النهار، فتعاون علیه رجلان: عروة بن المطان الثعلبی، و زید بن رقاد التغلبی، فهاجماه و قتلاه، و کان آخر من قتل من انصار الحسین فی ذلک الیوم. و وجد بالحسین ثلاث و ثلاثون طعنة و اربع و ثلاثون ضربة غیر الرمیة، و کان عدة من قتل من اصحاب الحسین اثنین و سبعین رجلا و کان عمر الحسین یوم استشهد خمسا و خمسین سنة و قیل احدی و ستین و کان قتله یوم العاشر من المحرم سنة احدی و ستین من الهجرة بعد صلاة الظهر، و حمل رأسه الشریف الی عبید اللّه بن زیاد مع خولی بن یزید الأصبحی، و حمید بن مسلم الأزدی، و أمر عمر بن سعد برؤوس أصحاب الحسین و أهل بیته فقطعت و کانوا اثنین و سبعین رأسا، و سرّح بها مع شمر بن ذی الجوشن، و قیس بن الأشعث، و عمرو ابن الحجاج، و عروة بن قیس، لیقدموا بها علی ابن زیاد. و ذکر ثقاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 73
المؤرخین ان الرؤوس حملت علی أطراف الرماح. و اقام عمر بن سعد یومین بعد مقتل الحسین ثم رحل الی الکوفة، و لما بعد عن موقع المعرکة خرج قوم من بنی اسد کانوا نزولا بالغاضریة الی الحسین و اصحابه فصلوا علیهم، و دفنوا الحسین حیث قبره الآن، و دفنوا ابنه علیّ بن الحسین عند رجله، و حفروا للشهداء من أهل بیته و أصحابه الکرام الذین استشهدوا معه فی المعرکة مما یلی رجلی الحسین، و جمعوهم فدفنوهم جمیعا معا، و دفنوا العباس بن علی فی موضعه الذی قتل فیه علی طریق الغاضریة.
و هکذا کانت النهایة المؤلمة، للأمام الحسین (ع) و صحبه الکرام الذین ضربوا اروع الامثلة فی الثبات علی المبدأ، و سمو النفس، و انطوت بذلک صفحة من صفحات الجهاد ستظل مشرقة أبدا ذکری لکل مجاهد أصیل، و عبرة لکل شهم نبیل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 74

مراجع البحث‌

1- ابو مخنف: مقتل الحسین
2- الطبری: تاریخ الرسل و الملوک
3- ابن قتیبة: الامامة و السیاسة
4- المسعودی: مروج الذهب
5- ابن الأثیر: الکامل فی التاریخ
6- ابن کثیر: البدایة و النهایة
7- ابن عنبة: عمدة الطالب
8- الاصفهانی: مقاتل الطالبیین
9- ابن حجر: الاصابة فی معرفة الصحابة
10- الشیخ المفید: الارشاد
11- ابن عبد ربه: العقد الفرید:
12- عماد زاده: قمر بنی هاشم
13- محسن العاملی: لواعج الاشجان، اعیان الشیعة.
14- الخونساری: روضات الجنات
15- محمد السماوی: ابصار العین فی انصار الحسین
16- ابن طاووس: اللهوف فی قتلی الطفوف
17- الشهرستانی: نهضة الحسین
18- الطوسی: رجال الطوسی
19- الدینوری: الاخبار الطوال
20- القندوزی الحنفی: ینابیع المودة
21- سبط بن الجوزی: تذکرة الخواص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 75

کربلاء فی المراجع العربیة کتبه الدکتور حسین علی محفوظ

اشارة

دکتوراه الدولة من جامعة طهران
و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا
و الاستاذ فی کلیة الآداب بجامعة بغداد الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 77

کربلاء فی الحدیث‌

قال أبو عبد اللّه (الصادق (علیه السلام)) : شاطِئِ الْوادِ الْأَیْمَنِ؛ الذی ذکره اللّه- تعالی- فی القرآن هو الفرات. و الْبُقْعَةِ الْمُبارَکَةِ هی کربلاء .
* ابو عبد اللّه الصادق- علیه السلام: ... إذا صار (زائر الحسین)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 78
فی الحایر کتبه اللّه من المصلحین المنتجبین .
* عن أبی بصیر؛ قال سمعت أبا عبد اللّه (الصادق) علیه السلام:
من احب ان یکون مسکنه الجنّة، و مأواه الجنة فلا یدع زیارة المظلوم.
قلت: من هو؟ قال: الحسین بن علی صاحب کربلا. من أتاه شوقا إلیه، و حبّا لرسول اللّه، و حبّا لفاطمة، و حبّا لأمیر المؤمنین (صلوات اللّه علیهم أجمعین) أقعده اللّه علی موائد الجنة یأکل معهم و الناس فی- الحساب .
* عن أبی جعفر (الباقر) علیه السلام قال: ان الحسین صاحب کربلا قتل مظلوما مکروبا عطشانا لهفانا. و حق علی اللّه- عز و جل- ان لا یأتیه لهفان، و لا مکروب، و لا مذنب، و لا مغموم، و لا عطشان، و لا ذو عاهة- ثم دعا عنده و تقرب بالحسین (علیه السلام) إلی اللّه (عز و جل) إلّا نفسّ اللّه کربته، و أعطاه مسألته، و غفر ذنوبه، و مدّ فی عمره، و بسط فی رزقه، فاعتبروا یا أولی الأبصار .
* قال الصادق (ع): أربع بقاع ضجت إلی اللّه- أیام الطوفان- البیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 79
المعمور؛ فرفعه اللّه، و الغری، و کربلا، و طوس .
* عن أبی جعفر (ع) قال:
خلق اللّه- تبارک و تعالی- ارض کربلا ... و قدسها و بارک علیها.
علیها. فما زالت قبل خلق اللّه الخلق مقدسة مبارکة، و لا تزال کذلک، حتی یجعلها اللّه أفضل أرض فی الجنة و أفضل منزل و مسکن؛ یسکن اللّه فیه أولیاءه فی الجنة .
* قال علی بن الحسین (ع): اتخذ اللّه أرض کربلا حرما آمنا مبارکا ..
و انه اذا زلزل اللّه- تبارک و تعالی- الأرض و سیرها رفعت- کما هی بتربتها- نورانیة صافیة، فجعلت فی أفضل روضة من ریاض الجنة، و أفضل مسکن فی الجنة. لا یسکنها الا النبیون و المرسلون (أو قال: أولو العزم من الرسل).
فانها لتزهر بین ریاض الجنة؛ کما یزهر الکوکب الدری بین الکواکب لأهل الأرض. یغشی نورها أبصار أهل الجنة جمیعا، و هی تنادی: أنا أرض اللّه المقدسة الطیبة المبارکة؛ التی تضمنت سید الشهداء، و سید شباب أهل الجنة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 80
قال أبو جعفر (الباقر)- ع: الغاضریة ... اکرم أرض اللّه علیه.
و لو لا ذلک ما استودع اللّه فیها اولیاءه و أبناء نبیّه؛ فزوروا قبورنا بالغاضریة .
* قال أبو عبد اللّه (الصادق) (ع): الغاضریة من تربة بیت المقدس .
* ابو عبد اللّه (الصادق) (ع): زوروا کربلا و لا تقطعوه؛ فإن خیر اولاد الأنبیاء ضمنته .. .
* ابو عبد اللّه (الصادق) (ع): ... ان کربلا، و ماء الفرات اول ارض و اول ماء قدس اللّه- تبارک و تعالی- و بارک علیها .. .
* ابو عبد اللّه (الصادق) (ع): ان اللّه اتخذ کربلاء حرما آمنا مبارکا ..
* مؤضع قبر الحسین بن علی (صلوات اللّه علیهما)- منذ یوم دفن فیه-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 81
روضة من ریاض الجنة .
* موضع قبر الحسین ترعة من ترع الجنة .
* ابو الحسن علی بن محمد (الهادی) (ع): ... ان للّه- تبارک و تعالی- بقاعا یحب أن یدعی فیها؛ فیستجیب لمن دعاه، و الحیر منها .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 82

کربلاء فی التواریخ‌

تاریخ الرسل و الملوک

سنة 60 ه

أقبل حسین بن علی بکتاب مسلم بن عقیل کان موجها إلیه حتی إذا کان بینه و بین القادسیة ثلاثة أمیال لقیه الحر بن یزید التمیمی: فقال له: أین ترید؟
قال: أرید هذا المصر. قال له: ارجع؛ فانی لم أدع لک خلفی خیرا أرجوه.
فهمّ أن یرجع- و کان معه اخوة مسلم بن عقیل: فقالوا: و اللّه لا نرجع حتی نصیب بثأرنا أو نقتل. فقال: لا خیر فی الحیاة بعدکم. فسار فلقیته أوائل خیل عبید اللّه فلما رأی ذلک، عدل إلی کربلاء، فأسند ظهره إلی قصیاء و خلا، کی لا یقاتل إلّا من وجه واحد. فنزل و ضرب أبنیته و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 83
أصحابه خمسة و أربعین فارسا و مائة راجل .
* ان ابن زیاد أمر بأخذ ما بین و اقصة إلی طریق الشام إلی طریق البصرة، فلا یدعون أحدا یلج، و لا أحدا یخرج. فأقبل الحسین و لا یشعر بشی‌ء حتی لقی الأعراب فسألهم، فقالوا: لا و اللّه ما ندری. غیر أنا لا نستطیع أن نلج و لا نخرج.
فانطلق یسیر نحو طریق الشام نحو یزید فلقیته الخیول بکربلاء، فنزل یناشدهم اللّه و الاسلام .

سنة 132 ه

سار حمید (بن قحطبة) حتی نزل کربلاء .
* أجمع القوّاد علی الحسن بن قحطبة فولّوه الأمر، و بایعوه. فقام بالأمر و تولّاه، و أمر بإحصاء ما فی عسکر ابن هبیرة. و وکّل بذلک رجلا من أهل خراسان یکنی أبا النصر فی مائتی فارس. و أمر بحمل الغنائم فی السفن إلی الکوفة. ثم ارتحل الحسن بالجنود حتی نزل کربلاء .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 84

سنة 193 ه

بعث الرشید الی ابن ابی داود، و الذین یخدمون قبر الحسین بن علی فی الحائر ... فأتی بهم فنظر إلیه الحسن بن راشد، و قال: مالک؟ قال:
بعث إلیّ هذا الرجل- یعنی الرشید- فأحضرنی. و لست آمنه علی نفسی.
قال له: فاذا دخلت علیه، فسألک. فقل له: الحسن بن راشد وضعنی فی ذلک الموضع. فلما دخل علیه. قال هذا القول، قال: ما أخلق أن یکون هذا من تخلیط الحسن، أحضروه .. فلما حضر، قال: ما حملک علی ان صیرت هذا الرجل فی الحیر (- الحائر) قال: رحم اللّه من صیّره فی الحیر، أمرتنی امّ موسی ان اصیّره فیه، و ان اجری علیه فی کل شهر ثلاثین درهما. فقال: ردّوه إلی الحیر، و أجروا علیه ما أجرته أم موسی.
و أم موسی هی امّ المهدی ابنة یزید بن منصور .

سنة 264 ه

.. کان سلیمان بن جامع «و هو عامل من قبل قائد الزنج» وجّه إلی عمیر بن عمّار خلیفته بالطفّ، حین توجّه إلی ابن حبیب .. .

سنة 268 ه

مالک بن اخت القلوص (- احمد بن موسی بن سعید) .. وجّه إلی البطیحة رجلین من أهل قریة بسمی، یعرف أحدهما بالریان، و الآخر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 85
الخلیل؛ کانا مقیمین بعسکر الخبیث (صاحب الزنج) فنهض الخلیل و الریّان، و جمعا جماعة من اهل الطفّ و أتیا قریة بسمی فأقاما بها یحملان السمک من البطیحة اوّلا أولا إلی عسکر الخبیث .. .
* المنتخب من کتاب ذیل المذیّل.
ولد الحسین (ع) علیا الأکبر. قتل مع أبیه بالطفّ .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 86

المنتظم فی تاریخ الملوک و الأمم‌

سنة 398 ه

احمد بن ابراهیم، ابو العباس الضبی. توفی فی صفر هذه السنة، و کان أوصی أن یدفن فی مشهد کربلاء. و بعث ابنه إلی ابی بکر الخوارزمی شیخ الحنفیین یسأله أن یبتاع له تربة یدفن بها، و یقوم بأمره. فبذل للشریف أبی أحمد والد الرضی خمسمائة دینار مغربیة ثمن تربة، فقال: هذا رجل لجأ إلی جوار جدی فلا آخذ لتربته ثمنا. و أخرج التابوت من بغداد و شیعه بنفسه، و معه الاشراف و الفقهاء، و صلوا علیه بمسجد براثا. و أصحبه خمسین رجلا من رجالة بابه .

سنة 407 ه

فی شهر ربیع الأول؛ احترق مشهد الحسین (علیه السلام) و الأروقة.
و کان السبب أن القوام أشعلوا شمعتین کبیرتین، فسقطتا فی جوف اللیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 87
علی التأزیر، فأحرقتاه، و تعدت النار .
* و فی ربیع الآخر؛ خلع علی ابی محمد الحسن بن الفضل الرامهرمزی خلع الوزارة، من قبل سلطان الدولة. و هو الذی بنی سور الحائر بمشهد الحسین ..

سنة 479 ه

فی ذی الحجة؛ قدم السلطان ابو الفتح ملک شاه الی بغداد .. وزار مشهد الحسین (علیه السلام) و أمر بعمارة سورة .

سنة 501 ه

صدقة بن منصور بن دبیس بن علی بن مزید، ابو الحسن، الأسدی؛ الملقب ب «سیف الدولة».
کان کریما ذا ذمام، عفیفا من الزناء و الفواحش؛ کأن علیه رقیبا من الصیانة. و لم یتزوج علی زوجته قط، و لا تسرّی. و قیل إنه لم یشرب مسکرا و لا سمع غناء، و لا قصد التسوق فی طعام، و لا صادر أحدا من أصحابه. و کان تاریخ العرب و الأماجد کرما و وفاء.
و کانت داره ببغداد حرم الخائفین. فلما خرج سرخاب الحاجب عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 88
طاعة السلطان محمد، التجأ إلیه فأجاره. ثم طلبه السلطان فلم یسلمه، فجاء السلطان محاربا له .. فی هذه السنة. و هو ابن خمس و خمسین سنة.
و کانت امارته اثنتین و عشرین سنة- غیر أیام- و حمل فدفن فی مشهد الحسین (علیه السلام) .

سنة 513 ه

ورد الخبر بأن دبیس بن مزید، کسر المنبر- الذی فی مشهد علی (علیه السلام)، و الذی فی مشهد الحسین (علیه السلام)- و قال: لا تقام ها هنا جمعة، و لا یخطب لأحد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 89

الکامل فی التاریخ‌

سنة 13 ه

لم یبق الّا غلام یدعی یزدجرد؛ من ولد شهریار بن کسری و أمّه من اهل بادوریا. فأرسلوا إلیها، و طلبوه منها- و کانت قد أنزلته ایام شیری ..
حین جمعهن فقتل الذکور، و أرسلته إلی أخواله. فلما سألوها عنه، دلتهم علیه- فجاؤا به، فملکوه- و هو ابن اخدی و عشرین سنة. و اجتمعوا علیه فاطمت فارس و استوثقوا، و تباری المرازبة فی طاعته و معونته؛ فسمّی الجنود لکل مسلحة و ثغر، فسمی جند الحیرة، و الأبلة، و الأنبار، و غیر ذلک.
و بلغ ذلک من أمرهم المثنیّ و المسلمین، فکتبوا إلی عمر بن الخطاب بما ینتظرون من أهل السواد، فلم یصل الکتاب الی عمر، حتی کفر اهل السواد من کان له عهد و من لم یکن له عهد. فخرج المثنی حتی نزل بذی قار و نزل الناس بالطف فی عسکر واحد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 90

سنة 14 ه

استغاث اهل السواد إلی یزدجرد، و أعلموه ان العرب قد نزلوا القادسیة، و لا یبقی علی فعلهم شی‌ء، و قد أخربوا ما بینهم و بین الفرات، و نهبوا الدواب و الأطعمة. و إن أبطأ الغیاث أعطیناهم بأیدینا. و کتب- إلیه بذلک- الذین لهم الضیاع بالطفّ، و هیجوه علی إرسال الجنود .

سنة 40 ه

فی هذه السنة خرج عبد اللّه بن عباس من البصرة ... و استدعی أخواله من بنی هلال بن عامر فاجتمعت معه قیس کلها فحمل مالا، و قال: هذه أرزاقنا اجتمعت فتبعه أهل البصرة فلحقوه بالطفّ یریدون أخذ المال.
فقالت قیس: و اللّه لا یوصل إلیه- وفینا عین تطرف- فقال صبرة بن شیمان الحدّانی: یا معشر الازد؛ ان قیسا اخواننا، و جیراننا، و أعواننا علی العدوّ. و ان الذی یصیبکم من هذا المال لقلیل، و هم لکم خیر من المال. فأطاعوه فانصرفوا .
* تزوّج (أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب- ع م-) بعدها (أی؛ فاطمة بنت رسول اللّه- صلعم-) أمّ البنین بنت حرام الکلابیة فولدت له العباس، و جعفرا، و عبد اللّه، و عثمان. قتلوا- مع الحسین- بالطفّ .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 91

سنة 61 ه

موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌8 ؛ ص91
ل رأس جالوت ذلک الزمان: ما مررت بکربلاء الّا و أنا ارکض دابّتی حتی اخلف المکان لأنا کنّا نتحدّث ان ولد نبی یقتل بذلک المکان.
فکنت: اخاف، فلما قتل الحسین أمنت، فکنت أسیر و لا أرکض
* خرج المختار الی الحجاز، فلقیه ابن العرق وراء و اقصة .. فقال المختار ..
انّ الفتنة أرعدت و أبرقت، و کان قد ابتعث. فاذا سمعت بمکان قد ظهرت به فی عصابة من المسلمین، أطلب بدم الشهید المظلوم المقتول بالطف؛ سید المسلمین، و ابن بنت سید المرسلین، و ابن سیدها الحسین بن علی؛ فو ربّک لاقتلنّ بقتله عدّة من قتل علی دم یحیی بن زکریاء ...

سنة 68 ه

لما مات معاویة، و قتل الحسین بن علی؛ لم یکن عبید اللّه (بن الحرّ الجعفی) فیمن حضر قتله. تغیب عن ذلک تعمدا. فلما قتل جعل ابن زیاد یتفقد الأشراف من أهل الکوفة فلم یر عبید اللّه بن الحرّ. ثم جاءه بعد أیام- حتی دخل علیه. فقال له: این کنت یابن الحرّ؟ قال: کنت مریضا. قال:
مریض القلب، أم مریض البدن؟ فقال: أما قلبی؛ فلم یمرض. و أما بدنی؛ فلقد منّ اللّه علیّ بالعافیة.
فقال ابن زیاد: کذبت. و لکنک کنت مع عدونا. فقال: لو کنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 92
معه، لرأی مکانی. و غفل عنه ابن زیاد، فخرج، فرکب فرسه. ثم طلبه ابن زیاد، فقالوا: رکب الساعة. فقال علیّ به. فأحضر الشرط خلفه.
فقالوا: أجب الأمیر. فقال: أبلغوه عنی: انی لا آتیه طائعا أبدا.
ثم أجری فرسه و أتی منزل أحمد بن زیاد الطائی، فاجتمع إلیه أصحابه، ثم خرج حتی أتی کربلاء، فنظر إلی مصارع الحسین و من قتل معه، فاستغفر لهم، ثم مضی إلی المدائن، و قال فی ذلک:
یقول أمیر غادر و ابن غادرألا کنت قاتلت الحسین ابن فاطمه
و نفسی علی خذلانه و اعتزاله‌و بیعة هذا الناکث العهد لائمه
فیا ندمی أن لا اکون نصرته‌الا کل نفس لا تسدد نادمه
و انی؛ لأنی لم اکن من حماته‌لذو حسرة ما إن تفارق لازمه
سقی اللّه أرواح الذین تبادرواالی نصره سقیا من الغیث دائمه
وقفت علی اجداثهم و مجالهم‌فکاد الحشا ینقض و العین ساجمه
لعمری لقد کانوا مصالیت فی الوغی‌سراعا الی الهیجا حماة خضارمه
تأسّوا علی نصر ابن بنت نبیهم‌بأسیافهم آساد غیل ضراغمه
فان یقتلوا فکل نفس تقیةعلی الأرض قد أضحت لذلک و اجمه
و ما ان رأی الراؤون أفضل منهم‌لدی الموت سادات و زهرا قماقمه
أتقتلهم ظلما و ترجو ودادنافدع خطة لیست لنا بملائمه
لعمری لقد راغمتمونا بقتلهم‌فکم ناقم منا علیکم و ناقمه
أهمّ مرارا أن اسیر بجحفل‌الی فئة زاغت عن الحق ظالمه
فکفوا و إلّا ذدتکم فی کتائب‌أشدّ علیکم من زحوف الدیالمه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 93
و أقام ابن الحرّ بمنزله علی شاطی‌ء الفرات إلی أن مات یزید ..

سنة 122 ه

فی هذه السنة قتل زید بن علی بن الحسین (بن علی بن ابی طالب علیهم السلام) ... و سار ابنه یحیی نحو کربلاء، فنزل بنینوی علی سابق مولی بشر ابن عبد الملک بن بشر .

سنة 236 ه

فی هذه السنة؛ أمر المتوکل بهدم قبر الحسین بن علی (عم) و هدم ما حوله من المنازل و الدور. و ان یبذر و یسقی موضع قبره. و ان یمنع الناس من إتیانه.
فنادی بالناس- فی تلک الناحیة: من وجدناه عند قبره- بعد ثلاثة- حبسناه فی المطبق. فهرب الناس و ترکوا زیارته، و خرب و زرع. و کان المتوکل شدید البغض لعلی بن ابی طالب (عم) و لأهل بیته. و کان یقصد من یبلغه عنه انه یتولی علیّا و أهله بأخذ المال و الدم.
و کان من جملة ندمائه عبادة المخنث. و کان یشدّ علی بطنه تحت ثیابه مخدة و یکشف رأسه و هو أصلع. و یرقص بین یدی المتوکل و المغنون یغنّون:
قد أقبل الأصلع البطین‌خلیفة المسلمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 94
یحکی بذلک علیّا (عم)؛ و المتوکل یشرب و یضحک. ففعل ذلک یوما و المنتصر حاضر. فأومأ إلی عبادة یتهدّده، فسکت خوفا منه. فقال المتوکل:
ما حالک؟ فقام، و أخبره. فقال المنتصر: یا أمیر المؤمنین ان الذی یحکیه هذا الکاتب، و یضحک منه الناس هو ابن عمک، و شیخ أهل بیتک، و به فخرک. فکل أنت لحمه إذا شئت، و لا تطعم هذا الکلب و أمثاله منه.
فقال المتوکل للمغنین: غنّوا جمیعا:
غار الفتی لابن عمه‌رأس الفتی فی حر، امّه ..

سنة 294 ه

فی هذه السنة من المحرم ارتحل زکرویه من نهر المثنیة یرید الحاج، فبلغ السلمان، و أقام ینتظرهم. فبلغت القافلة الاولی و اقصة سابع المحرم. فأنذرهم أهلها، و اخبروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتهم. و سار القرامطة إلی و اقصة، فسألوا أهلها عن الحاجّ فأخبروهم أنهم ساروا. فاتهمهم زکرویه فقتل العلّافة، و أحرق العلف، و تحصن أهل و اقصة فی حصنهم. فحصرهم أیّاما ثم ارتحل عنهم نحو زبالة. و أغار- فی طریقه- علی جماعة من بنی أسد. و وصلت العساکر المنفذة من بغداد إلی عیون الطف .
* لمّا توفی القدّاح قام بعده ابنه أحمد مقامه، و صحبه انسان یقال له
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 95
رستم بن الحسین بن حوشب بن داذان النجّار؛ من أهل الکوفة. فکانا یقصدان المشاهد. و کان بالیمن رجل اسمه محمد بن الفضل کثیر المال و العشیرة من أهل الجند، یتشیع فجاء إلی مشهد الحسین بن علی یزوره فرآه أحمد بن رستم یبکی کثیرا. فلما خرج اجتمع به احمد و طمع فیه لما رأی من بکائه. و ألقی إلیه مذهبه، فقبله، و سیّر معه النجار إلی الیمن .

سنة 398 ه

و فیها؛ توفی ابو العباس احمد بن ابراهیم الضبی وزیر مجد الدولة ببروجرد .. و أوصی ان یدفن بمشهد الحسین (عم) فقیل للشریف أبی أحمد والد الشریف الرضی أن یبیعه بخمس مائة دینار موضع قبره. فقال: من یرید جوار جدّی لا یباع. و أمر أن یعمل له قبر. و سیّر معه من أصحابه خمسین رجلا، فدفنه بالمشهد .

سنة 400 ه

و فیها؛ توفی النقیب أبو أحمد الموسوی، والد الرضی- بعد أن أضرّ- و وقف بعض أملاکه علی البرّ. و صلی علیه ابنه الأکبر المرتضی. و دفن بداره. ثم نقل إلی مشهد الحسین (عم) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 96

سنة 407 ه

فی هذه السنة- فی ربیع الأول- احترقت قبة مشهد الحسین، و الأروقة.
و کان سببه انهم أشعلوا شمعتین کبیرتین، فسقطتا فی اللیل علی التأزیر فاحترق.
و تعدّت النار .

سنة 422 ه

اعترض اهل باب البصرة قوما من قم أرادوا زیارة مشهد علی و الحسین (عم) فقتلوا منهم ثلاثة نفر .
* زار (الملک جلال الدولة ابو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بویه) مرّة مشهدی علی و الحسین (عم) و کان یمشی حافیا قبل أن یصل إلی کل مشهد منهما نحو فرسخ؛ یفعل ذلک تدیّنا .

سنة 436 ه

مضی (الملک ابو کالیجار) إلی زیارة المشهدین بالکوفة و کربلا .

سنة 479 ه

مضی السلطان (ملکشاه) و نظام الملک إلی الصید فی البریّة، فزارا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 97
المشهدین؛ مشهد أمیر المؤمنین علی، و مشهد الحسین (عم) .

سنة 489 ه

و فیها؛ أغارت خفاجة علی بلد سیف الدولة صدقة بن مزید، فأرسل فی أثرهم عسکرا مقدّمه ابن عمه قریش بن بدران بن دبیس بن مزید، فأسرته خفاجه، و أطلقوه. و قصدوا مشهد الحسین بن علی (عم) فتظاهروا فیه بالفساد و المنکر. فوجه إلیهم (صدقة) جیشا فکبسوهم. و قتلوا منهم خلقا کثیرا فی المشهد؛ حتی عند الضریح. و ألقی رجل منهم نفسه و هو علی فرسه من علی السور، فسلم هو و الفرس .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 98

الجامع المختصر فی عنوان التواریخ و عیون السیر

سنة 597 ه

ابو هاشم بن المختار نقیب مشهد الحسین- علیه السلام- کان صالحا دیّنا ذا عبادة، توفی فی هذه السنة- رح- .

سنة 600 ه

ابو الفتوح، نصر بن علی بن منصور؛ النحوی الحلی؛ المعروف بابن الخازن. کان حافظا للقرآن المجید، عارفا بالنحو و اللغة العریبة.
قدم بغداد و استوطنها مدة. و قرأ علی ابن عبیدة و غیره. و سمع الحدیث علی ابی الفرج بن کلیب و غیره. و لم یبلغ أوان الروایة.
توفی شابا بالحلة فی ثالث عشر من جمادی الآخرة من سنة ستمائة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 99
و دفن فی مشهد الحسین- علیه السلام- .

سنة 604 ه

فلک الدین آقسنقر بن عبد اللّه الترکی الوزیری؛ مملوک نصیر الدین ناصر ابن مهدی العلوی.
توفی یوم الأحد خامس عشر جمادی الاولی من سنة اربع و ستمائة.
و صلی علیه بالمدرسة النظامیة، و شیعه خلق کثیر، و حمل إلی مشهد الحسین- علیه السلام- فدفن هناک .

مختصر أخبار الخلفاء

أمر (المتوکل) بهدم قبر الحسین السبط و أهل بیته فهدمت کلها، و فی ذلک یقول الشاعر:
تاللّه ان کانت امیة قد اتت‌فی قتل ابن نبیها مظلوما
فلقد أتاه بنو ابیه مثله‌هذا لعمرک قبره مهدوما
أسفوا علی ان لا یکونوا شارکوافی قتله فتتبعوه رمیما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 100

الحوادث الجامعة

سنة 634 ه

و فیها؛ قصد الخلیفة (المستنصر باللّه) مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فی ثالث رجب. فلما عاد، أبرز ثلاثة آلاف دینار إلی ابی عبد اللّه الحسین بن الاقساسی نقیب الطالبیین و أمره أن یفرقها علی العلویین المقیمین فی مشهد أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب، و الحسین، و موسی ابن جعفر علیهم السلام .

سنة 635 ه

و فیها، توفی الأمیر شرف الدین علی بن الأمیر جمال الدین قشتمر.
أمه إیران خاتون ابنة ابی طاهر ملک المر .. کان شابا جمیلا کریما شجاعا.
قد أمّر، و أضیف إلیه عدة من الممالیک، و رفع وراءه سیفان، و توفر اقطاعه، فاخترمته المنیة فی عنفوان شبابه، و دفن عند والدته- بمشهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 101
الحسین علیه السلام .

سنة 637 ه

و فیها، توفی الأمیر جمال الدین قشتمر الناصری، ببغداد. و حمل إلی مشهد الحسین علیه السلام، فدفن هناک، و فی تربة له فیها زوجته و ولده.
و کان حسن السیرة، شجاعا کریما جوادا متعففا، ذا همة عالیة، کثیر المعروف و البر. و کان عمره نحوا من سبعین سنة.
کان اولا لقطب الدین سنجر الناصری، و انتقل منه الی الخلیفة الناصر لدین اللّه، فأسکنه فی البدریة، ثم جعله (سرخیل) جماعة من الممالیک، و سلم الیه اصطبله الخاص، و نقله الی الدار المنسوبة الی بنفشا مجاورة باب الغربة، ثم خوطب بالامارة. و زوج بابنة الامیر بهاء الدین ارغش المستنجدی .

سنة 646 ه

و فیها، توفی جمال الدین أبو الحسن علی بن یحی بن المخرمی، المعروف بالمخرمی، شاب فاضل أدیب، حافظ للقرآن المجید. کان ینوب أخاه فخر الدین المبارک بن المخرمی الی أن عزل و وکل بهما. فلما أفرج عنهما تشاغل جمال الدین بالعلم و زیارة اصحابه و اخوانه، و ألف کتابا مختصرا سماه «نتائج الأفکار» .. أوصی أن یدفن فی تل قریب من مشهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 102
الحسین علیه السلام، و أن یکون تابوته مکشوفا لیس علیه غطاء و لا ثوب، و لا یقرأ بین یدیه قراء الألحان بل جماعة فقراء یقرأون تلاوة و جماعة یسبحون اللّه تعالی و یهللونه و یحمدونه .

سنة 653 ه

توفی أمین الدین کافور الخادم الظاهری، و کان کثیر الخیر و الصدقات و المواصلات. حج مرارا کثیرة و تولی دار التشریفات. و کان قریبا من اقبال الشرابی حاکما فی دولته. و دفن فی مشهد الحسین علیه السلام .

سنة 696 ه

فی المحرم، سار السلطان غازان یرید العراق ... ثم توجه إلی بغداد ثم توجه إلی الحلة و قصد مشهد علی- علیه السلام- فزار ضریحه الشریف و أمر للعلویین بشی‌ء کثیر. ثم قصد مشهد الحسین- علیه السلام- و فعل مثل ذلک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 103

منتخب المختار «تاریخ علماء بغداد»

ابو الیمن السکینی:
ریحان بن عبد اللّه الحبشی السکینی، ابو الیمن، و کناه ابن الظاهری ابا الطیب. الخادم؛ شهاب الدین؛ عتیق محمد بن محمد بن سکینة. سمع من ابی محمد عبد العزیز بن محمود بن الاخضر جزء الأنصاری، و من أبی العباس احمد بن یحی بن برکة بن الدبیقی، و احمد بن علی الغزنوی، و یحیی بن ابراهیم الکرخی، و سلیمان بن الموصلی و غیرهم.
و حدّث. سمع منه الحافظ الدمیاطی بمنزله شرقی بغداد، و ذکره فی معجمه.
توفی ببغداد، فی تاسع ربیع الآخر سنة 653 ه (1255 م) و صلی علیه بجامع القصر، و حمل إلی مشهد الحسین علیه السلام فدفن به .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 104
الفخری
کان المتوکل شدید الانحراف عن آل علی (علیه السلام) و فعل من حرث قبر الحسین (علیه السلام) ما فعل، و أبی اللّه إلّا أن یتم نوره .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 105

تاریخ العراق بین احتلالین‌

سنة 662 ه

ابن الدواتدر، شرع فی بیع ماله من الغنم و البقر و الجوامیس و غیر ذلک.
و اقترض من الاکابر و التجار مالا کثیرا، و استعار خیولا و آلات السفر، و أظهر أنه یرید الخروج إلی الصید، و زیارة المشاهد، و أخذ والدته، و قصد مشهد الحسین (ع) ثم توجه إلی الشام، فتأخر عنه جماعة ممن صحبه من الجند لعجزهم .

سنة 763 ه

(توفی) شمس الدین محمد بن عیسی بن کر، و هو مروانی بغدادی ثم مصری حنبلی ...
ولی مشیخة الزاویة التی بجوار المشهد الحسینی، و أخری بالقرب من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 106
الدکة ..

سنة 796 ه

میران شاه ابن الأمیر تیمور .. عبر الفرات، و سار یتعقب أثر السلطان احمد (الجلایری) .. و هذا مال إلی طریق الشام فسلکه خائفا و جلا ..
عثر علیهم القوم فی صحراء کربلاء؛ فلم ینج هو و أعوانه إلّا بشقّ الأنفس .. و علی کل نجا السلطان أحمد من تلک المهلکة، و ان اعوانه و کل واحد منهم سلک ناحیة. فتفرقوا فی الصحاری شذر مذر فاختفوا فیها .

سنة 797 ه

أما السلطان أحمد؛ فإنه لما هرب علی طریق مشهد الحسین (رضه) صل إلی الرحبة، فأکرمه نعیر و أنزله فی بیوته، ثم تحول إلی حلب ..

سنة 824 ه

قبیلة خفاجة؛ من قبائل العراق القدیمة. مواطنها فی انحاء المنتفق، فی قضاء الشطرة، و تفرق منها جماعات کبیرة و صغیرة فی جهات اخری کالحلة و کربلاء و بغداد و دیالی ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 107

سنة 841 ه

ابن فهد الحلی:
هو الشیخ العلّامة أحمد بن محمد بن فهد الحلی الأسدی. و له شهرة کبیرة و مکانة بین علماء الشیعة؛ سواء فی الأصول، أو فی الفروع، أو فی التصوف. أخذ عن الشیخ مقداد السیوری، و عن الشیخ فخر الدین أحمد بن المتوج البحرانی، و علی بن الخازن الحائری، و السید بهاء الدین أبی القاسم علی بن عبد الحمید النیلی النسابة النقیب؛ صاحب کتاب الأنوار الالهیة.
و روی عنه الشیخ علی بن هلال الجزائری، و الشیخ عبد الشفیع بن فیاض الأسدی الحلی، و السید محمد بن فلاح المشعشع.
و من تصانیفه:
1- المهذب البارع إلی شرح النافع.
2- کتاب المقتصر.
3- شرح الارشاد.
4- الموجز الحاوی.
5- عدة الداعی.
6- استخراج الحوادث المستقبلة من کلام أمیر المؤمنین ..
توفی سنة 841 ه و هو ابن 58 سنة. و قال آخرون ولد سنة 757 ه و قبره فی کربلاء، و لا یزال معروفا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 108

سنة 857 ه

بتاریخ خامس الشهر (ذی القعدة) دخل السلطان علی (المشعشع) الحلة، و نقل أموالها و أموال المشهدین إلی البصرة. و أحرق الحلة و خربها.
و قتل من بقی فیها من الناس، و مکث فیها 18 یوما.
و رحل یوم الأحد 23 ذی القعدة إلی المشهد الغروی و الحایری، ففتحوا له الأبواب و دخل فأخذ ما تبقی من القنادیل و السیوف و رونق المشاهد جمیعها من الطوس، و الاعتاب الفضیة، و الستور، و الزوالی، و غیر ذلک. و دخل بالفرس إلی داخل الضریح، و أمر بکسر الصندوق و احراقه فکسر و أحرق. و نقل أهل المشهدین من السادات و غیرهم ببیوتهم .

سنة 859 ه

فی هذه الأیام وصلت أخبار المشعشع إلی پیر بوداق بشیراز فأرسل سیدی علی مع جماعة نواکر (ضباط و أعوان) إلی بغداد فدخلها فی 3 ربیع الأول سنة 858 ه، فمکث سیدی علی مدة من الزمان.
و بعد ذلک أرسل پیر بوداق جماعة عساکر من شیراز إلی بغداد و مقدمهم أمیر شیخ شی للّه، و حسین شاه المهردار، و عمه سورغان، و علی کرز الدین، و شیخ ینکی اوغلی. و أمر أن یتوجه سیدی علی و یعمر الحلة و المشهدین. فدخل بغداد فی 2 جمادی الأولی سنة 859 ه. و عند ذلک توجه (سیدی علی) إلی الحلة یوم السبت 18 شعبان سنة 859 و عمر سوقها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 109
و عمر بها قلعة .

سنة 861 ه

(وفاة المولی علی المشعشع). کان منفورا من الجمیع بسبب ما قام به من إهانة العتبات الشریفة فی النجف و فی کربلاء، و القتل و التخریب و النهب. (قال) فی المجلس الثامن من مجالس المؤمنین: ... أغار المولی علی المذکور علی عراق العرب، و انتهب المشاهد المقدسة، و تجاسر علی العتبات بوقاحة، و استولی علیها .

سنة 914 ه

بتاریخ 25 جمادی الثانیة سنة 914 ه وافی الشاه اسماعیل بغداد.
و قد فرح به السواد الأعظم، و قدموا له الذبائح و احتفلوا بقدومه .. و فی الیوم التالی ذهب إلی زیارة کربلا المشرفة، و صنع الصندوق المذهب للحضرة، و وقف فیه اثنی عشر قندیلا من ذهب، و فرش رواق الحضرة بأنواع المفروشات القیمة.
و اعتکف- هناک- لیلة ثم رجع فی الیوم التالی، متوجها إلی الحلة ..
و رجع إلی بغداد، و عین رواتب إلی خدام الأعتاب المقدسة، و أمر بجمع نجارین و مهندسین من أطراف الممالک لیصنعوا ستة صنادیق منقوشة بنقوش
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 110
خطائیة أو اسلمیة (سلیمیة) فی غایة الاتقان و الإبداع، لیضعها علی المراقد المشرفة، و یرفع الصنادیق العتیقة ..
ثم عین بولایة بغداد (خلیفة الخلفاء) و کان قبل هذا یدعی (خادم بیک) فلقّبه بخلیفة الخلفاء، و کناه بأبی منصور، و أوصاه بتمشیة الأمور، و العنایة بمراقد الأئمة .
* النهر الذی حفره عطا ملک الجوینی، و أجری ماءه إلی النجف .. اندرس بمرور الأیام و تخرب، فلم یصل ماؤه. و لذا أمر الشاه (اسماعیل) بتجدید حفره و اتمامه فاشتهر ب (نهر الشاه). و أرصد ریعه لخدام المشهدین الشریفین و وقفه علیهم .
* و فی الیوم التالی (لفتح بغداد) ذهب الشاه لزیارة کربلاء المشرفة فأدی الزیارة، و أنعم علی مجاوری الروضة المطهرة بإنعامات جزیلة. و أمر بعمل أنواع الزینة و الزرکشة الذهبیّة، و بصنع الصندوق المذهب للحضرة، و ان ینقش ببدائع النقوش.
وقف الشاه فی الحضرة 12 قندیلا من ذهب، و فرش رواق الحضرة بأنواع السجاد الثمین، و اعتکف لیلة هناک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 111

سنة 941 ه

کان دخول السلطان (سلیمان القانونی) بغداد، یوم الاثنین 24 جمادی الأولی سنة 941 ه- 1534 م.
ثم تجول السلطان فی 28 جمادی الأولی سنة 941 ه فی أنحاء عدیدة من العراق قضاها فی زیارة المراقد المبارکة فی الکاظمیة، و کربلاء، و النجف ..
* نهر الحسینیة: هذا النهر من أعظم أعمال السلطان (سلیمان القانونی) کان یسمی باسمه «النهر السلیمانی» و الآن یسمی بالحسینیة. أجراه إلی کربلا فأحیاها. و لم یوفق السلاطین السابقون- أیام غازان و غیره، و منهم الشاه اسماعیل، و الشاه طهماسب.
و أعتقد أن السلطان کان یملک أکابر المهندسین، فتمکن من العمل، و تم المشروع علی یده. و یقال: إن هندسته کانت فائقة تدل علی خبرة و مقدرة ممن أحضرهم من المهندسین. و لا شک أنه کان اقرب لاستخدام أعاظم المهندسین و هو من أعظم الملوک. و لیس لدینا ما یوضح الأعمال الهندسیة، و وصف خطورة المشروع و الخطط التی قام بها رجاله، و لا علمنا عن هؤلاء المهندسین. و الأعمال تنسب الی السلطان وحده، و النهر بوضعه شاهد العظمة.
و الآن- کربلاء قائمة بدوامة، و العمارة المشهودة فی کربلاء و الحیاة الزراعیة، و البساتین فیها قامت بسبب من هذا الاثر، فتجددت حیاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 112
اللواء ... و صار یعد من أعظم المشاریع الإصلاحیة، بل کان حقیقة مشروعا جلیلا فی حیاة البلد و ما جاوره من بقاع تصل میاهه الیها.
ثم بعد مشروعه هذا بمدة طویلة، قامت (سدة الهندیة) و اکتسبت شکلا أعظم، و نتائج مهمة خصوصا بعد اتخاذ الابواب و استخدام لوازم العمارة و الارواء الحدیثة.
فعلیه الآن عمارة اللواء، و قوام حیاته.
و علی ما حققه بعض المؤرخین أن المهندسین کانوا یرون أن کربلاء فی محل عال و نهر الفرات منخفض عنها، فیستحیل إیصال الماء إلیها. فکان ایصال الماء الیها یحتاج الی خبرة هندسیة کاملة، فتمت فی عهد هذا السلطان.
وعد صاحب کلشن خلفا ذلک کرامة من کراماته و برکة من برکات توفیقه و إقباله. و أظن أنه یقصد بذلک التفاته لهذا المشروع و اهتمامه فی انجازه ...
* السلطان بعد عودته من زیارة المراقد المبارکة فی النجف و کربلاء نصب (- الوالی سلیمان باشا) والیا بلقب (بکلربکی) .

سنة 961 ه

عبر (سیدی علی رئیس بغداد) الفرات من أمام قصبة المسیب فوصل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 113
الحائر (کربلا) و هنا زار حضرة الامام الحسین، و مشهد الشهداء، و الحر الشهید، ثم مضی من جهة شفاثه (شفاثی) من طریق البر إلی المشهد (- النجف) .
بدخول العثمانیین تأسست فی العراق (طریقة البکتاشیة) فاتخذت جملة تکایا، فتمکنوا من تکوین طریقتهم فی بغداد و الانحاء العراقیة الأخری.
فتکونت لهم .. تکایا أخری فی النجف و کربلا و غیرهما .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 114

فضولی البغدادی

سنة 963 ه

هو محمد بن سلیمان، الملقب ب «فضولی». من عشیرة بیات؛ و هی بطن من أغز، قبیلة من الترک.
ولد- بالعراق- فی العشر الآخر من القرن التاسع الهجری (ظ).
و لاقی حمامه فی مدینة الشهید المقدسة «کربلاء» بطاعون سنة 963 ه.
و دفن بها فی مقبرة الدده، عند تکیة البکتاشیة، علی خطی جنوبیّ صحن الروضة الحسینیة تجاه باب القبلة.
شاعر مخضرم؛ أدرک الفرس و الترک فی العراق، و نظم الشعر بالفارسیة و الترکیة؛ عدّ عن العربیة. و هو أدیب ألمعی، کاتب حاذق، عالم جامع، صوفی عارف.
هذا- و قد قطن فضولی ببغداد، و أقام بها برهة، فنسب إلیها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 115
و عرف بالبغدادی. و عزم- فی جلال السن- علی الاعتزال و الزهادة، و آثر الانقطاع، و اختار زاویة الوحدة، و قنع بالکفاف. فاعتکف فی کربلاء- التی سماها «اکسیر الممالک» و قبع فی کسر بیت، جوار قبر الحسین- علیه السلام- لا شغل له بغیر العبادة. و یقال انه قلّد- فی شیخوخته- تنویر المشهد الحسینی، و فوض إلیه إسراج مصابیحه. ترک فضولی نحوا من عشرین کتابا و رسالة فی الشعر و النثر؛ منها:
1- ترجمة أربعین حدیثا، بالترکیة.
2- حدیقة السعداء، بالترکیة.
3- دیوان فضولی، بالترکیة.
4- دیوان فضولی، بالفارسیة.
5- رند و زاهد، بالفارسیة.
6- شکایتنا معه، بالترکیة.
7- لیلی و مجنون، بالترکیة.
8- مطلع الاعتقاد، فی علم الکلام بالعربیة

سنة 991 ه

فی هذه السنة، عمر الوالی (الوند زاده علی باشا) مرقد الحسین (رضی اللّه عنه) و جامعه . بأمر من السلطان مراد الثالث؛ عمر جامع الحسین (رضی اللّه عنه) سنة 984 ه، و مرقده المبارک سنة 991 ه، و منارته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 116
سنة 982 ه .
* کلامی: کربلائی شاعر صوفی، کان فی الخانقاه، فی مشهد الحسین (رض) نزعت نفسه إلی التطلع إلی العالم و مشاهدة الأقطار، یعرف ب (جهان دده).
و الظاهر أن آل الدده- فی کربلاء الآن- ممن یمتون إلیه. و الخانقاه لا یزال فی ایدیهم. و هم فی الأصل من البکتاشیة .
* کلامی: فی کربلاء. منطق بارع، و عارف وحید فی العالم .
* محیطی: من القضاة. ولد فی جزیرة رودس، و درس العلوم عن بوستان زاده محمد چلبی. من الموالی العظام، تولی النیابة فی الشام و أدرنة و الاستانة أمدا طویلا.
و قد تقلب فی مناصب شرعیة، حتی صار قاضی الفیلق. و له وقوف علی العلوم العربیة، و شعر لطیف. و عین ابنه أحمد أفندی دفتریا لبغداد سنة 996 ه. ذهب لزیارة مشهد الحسین (رض) و نظم قصیدة فی الغزل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 117
قدمها للحضرة .
* فی کربلاء (من تکایا البکتاشیة) فی صحن الامام الحسین (تکیة الددوات) و هی تکیة البکتاشیة. و تولیتها بید (آل الدده) لا تزال موجودة.
و کانت بید السید الفاضل المرحوم حسین الدده مدة طویلة إلی ان توفی فی صیف سنة 1948 م؛ فی خراسان فی المشهد الرضوی.
و یرجع عهدها إلی أول الفتح العثمانی. و ان من مشاهیرها (کلامی) المعروف ب (جهان دده). و ان فضولی الشاعر ممن دفن فیها. و هناک مراقد آل الدده. و التولیة منحصرة فیهم، و هم شیعة إمامیة، و لا تعرف عنهم البکتاشیة، و لا اعتناق طریقتها، فهم اصولیة.
و هذه التکیة من أقدم تکایا البکتاشیة فی العراق، و لم ینقطع اتصالها بالبکتاشیة من الترک إلّا بعد الحرب العامة الاولی لسنة 1914.
و زاد الانقطاع بالغاء التکایا فی الجمهوریة الترکیة .

سنة 1035 ه

فی خلال (حصار بغداد) .. تم الاستیلاء علی الحلة و کربلاء. کما أدی إلی حرب دامیة قتل فیها الألوف ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 118
نظمی البغدادی .. شهد الحادثة، و کان قد فر أثناء سقوط بغداد، و ذهب مع أمه بصفة درویش إلی کربلاء و الحلة و بقی هناک إلی ان اتصل بحافظ أحمد باشا .

سنة 1049 ه

نقیب سادات بغداد (السید دراج) کان سادن حضرة الامام الحسین (رض) و کان من الأعیان المشهورین. و هو صاحب قوة و مکنة. فلما استولی شاه العجم (الشاه عباس) علی بغداد أحسن الظن به، و اعتقد فیه الاعتقاد الجمیل، فرعاه و أکرمه. فکان فی مقام الخدمة، یفکر فی العواقب، فلم یغفل أمر العثمانیین.
و کان فی ذلک الحین أراد الشاه أن یقتل أهل السنة قتلا عاما، فتوسط السید دراج فقال له سأختار محبی آل علی، و ما عداهم فاقتلهم. و بهذه الوسیلة أنقذ خلقا کثیرا من القتل.
و هذا العمل المشکور کله لم یمنع الوالی من الوقیعة به بعلة انه کان شیعیا معروفا بتشیعه، فلم یتحمل شهرته و مکانته، فاتخذ ذلک وسیلة للقضاء علیه (قتله)، و استولی علی أمواله الوافرة فی حین یدعی أنه درویش، فلم تردعه هذه الخدمة النبیلة، و لا المکانة المقبولة.
أراد هذا الوالی ان یستقل بنفوذ العراق وحده، و ان تکون بغداد و الانحاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 119
العراقیة خالصة للدولة العثمانیة.
و قد جاء ذکر ذلک فی تاریخ نعیما، و فی فذلکة کاتب جلبی، و فی خبر صحیح.
و الآن؛ من بقایا السید دراج (أسرة نقیب کربلاء). و منهم النقیب الحالی؛ صدیقنا السید الفاضل حسن النقیب. و هو من الأخیار .

سنة 1049 ه

کان گنج عثمان من الشجعان الأبطال. و هو من أتباع ابازه باشا المشهورین، فجعل علی جیش تولی رئاسته، و أرسل لفتح الأنحاء العربیة. و هذا لاقی القزلباش ای الایرانیین، او الشیعة منهم بسیفه فدمرهم، و فتح قصبة کربلاء، و ذهب منها إلی النجف- و کانت بلدة معمورة- فاستولی علیها.
و منها اکتسح الحلة، و ضبط الرماحیة. و من ثم حط رکابه فی کربلاء.
إلا انه اهتم غایة الاهتمام بالبلدان و البقاع التی استولی علیها، و راعی حسن إدارتها .

سنة 1088 ه

کان الوزیر الحالی (قبلان مصطفی باشا) صافی القلب، له میل عظیم الی زیارة الأولیاء، و فی شعبان ذهب لزیارة الامام الحسین (رض)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 120
و الامام علی (رض) فقضی بضعة أیام. ثم عاد .

سنة 1116 ه

ذهب الوزیر (حسن باشا، و یعرف هذا الوزیر ب «حسن باشا الجدید») إلی زیارة سلمان الفارسی (رض) .. و فی شوال ذهب لزیارة کربلاء و النجف.
و فی طریقه مرّ بنهر الشاه .

سنة 1118 ه

أغار (الوزیر حسن باشا) فی شعبان (علی قبیلة شمر) .. و هذه الوقعة کانت السبب فی انفصال شمر طوقة (طوگه) و بعض العشائر مثل المسعود فتبدد شملهم فصاروا شذر مذر. فالمسعود استقروا فی اطراف المسیب و کربلاء .

سنة 1126 ه

أبدی (الوزیر حسن باشا) عزمه فی زیارة الامام الحسین (رض) فذهب وزار، خیم خارج البلدة مدة یومین. ثم توجه الی زیارة الامام علی (رض) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 121

سنة 1127 ه

فی هذه السنة عمر الوزیر (حسن باشا) طارمة الحضرة الحسینیة، و مدحه یوسف عزیز المولوی بقصیدة .
* عمر (الوزیر حسن باشا) بعض المراقد المبارکة، و بنی صدرا جدیدا لنهر الحسینیة فی کربلاء. و کان معروفا بالنهر السلیمانی. و بنی خانات بین کربلاء و بغداد، و عمر المندثر منها .

سنة 1152 ه

آل قشعم سلکوا طریق النهب و الغارة، و شوشوا علی الحکومة ..
و لما رأی الوزیر (أحمد باشا) ذلک عزم علی القضاء علی غائلتهم. جعل جیشه قسمین؛ قسما منه تحت قیادة کتخداه سلیمان باشا، و کانت وجهته بلدة هیت، و الآخر تحت قیادته و توجه به من أنحاء کربلاء و أغاروا من الجانبین .

سنة 1154 ه

العشائر اتفقت مع بعض المفسدین من أهل القری و الضیاع .. اطلع الوزیر علی ذلک فعزم علی تخریب هذه القری و إهلاک أهلها، فجهز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 122
علیها سریة بقیادة سلیمان باشا الکتخدا. و هذا فرق جیشه و نبّه ان یقتل جمیع رجالها و تنهب أموالها؛ عدا کربلاء و الحلة و الغری ..
* السید نصر اللّه من أهل کربلاء، و أسرتهم لا تزال معروفة .. و هو أشهر من عرف بالأدب و الشعر .

سنة 1194 ه

وصل (الوزیر سلیمان باشا) الی کربلاء، و حینئذ رخص الشیخ ثوینیا (شیخ المنتفق) و أعاده مکرما. ثم زار مرقد الامام الحسین، و توجه الی بغداد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 123

غارة الوهابیة علی کربلاء

سنة 1216 ه

فی هذه الاثناء ورد الخبر من شیخ المنتفق حمود الثامر أن سعود ابن الأمیر عبد العزیز توجه الی هذه الأنحاء بجموع کثیرة العدد و العدید. و لذا وجه الوزیر کتخداه علی باشا إلی جهة الهندیة و نزل فی منزل الدورة مع جمع قلیل. و کان فی انتظار بعض القبائل لتوافیه.
و بینما هم فی هذه الحالة إذ فاجأ سعود کربلاء، و تمکن من الدخول فی المدینة فاغتنم الفرصة دون حیطة من أهل البلدة، فغنم منها أموالا کثیرة، و انتهب أمتعة لا تحصی. و فی (عنوان المجد) لابن بشر الحنبلی:
«ان سعودا سار- فی سنة 1216 ه- بالجیوش ... من حاضر نجد و بادیها، و الجنوب، و الحجاز، و تهامة، و غیر ذلک. و قصد أرض کربلاء، و نازل أهل بلد الحسین فی ذی القعدة فحشد علیها قومه. تسوروا جدرانها، و دخلوها عنوة، و قتلوا غالب أهلها فی الأسواق و البیوت، و هدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فیها- علی قبر الحسین. و اخذوا ما فی القبة، و ما حولها. و اخذوا النصیبة التی وضعوها علی القبر و کانت مرصوفة بالزمرد و الیاقوت. و أخذوا جمیع ما وجدوا فی البلد من أنواع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 124
الأموال و السلاح و اللباس و الفرش و الذهب و الفضة و المصاحف الثمینة، و غیر ذلک مما یعجز عنه الحصر. و لم یلبثوا فیها إلّا ضحوة، و خرجوا منها قرب الظهر بجمیع تلک الأموال، و قتل من أهلها نحو ألفی رجل.
ثم ان سعودا ارتحل منها علی الماء المعروف بالابیض فجمع الغنائم، و عزل أخماسها و قسم باقیها بین جیشه غنیمة للراجل سهم، و للفارس سهمان. ثم ارتحل قافلا إلی وطنه».
و فی مطالع السعود: «... صبح أرض کربلاء تسوّر سور البلدة؛ التی فیها مدفن الحسین (رض) .. فقتل عددا جما، و جمع من المال جمعا لما.
و أجری دم القتلی فی الزقاق ... ثم ثنی عنان العود إلی نجد ...»
و لما وصل خبر ذلک الی علی باشا توجه نحوهم بقصد الانتقام، و لکنهم بعد أن حصلوا علی الغنائم ترکوا البلد، و ذهبوا إلی الأخیضر. و ان الباشا لبعض المقاصد، توقف فی الحلة بضعة أیام. و عندئذ وصل سلیم بک- صهر الوزیر- متسلم البصرة المعزول بصحبة (عثمان طوبال أسهیر) فورد المنزل المذکور، و تحرک من هناک فنزل الهندیة، و صار یراقب جمیع الأنحاء ...
و لبث علی باشا فی الهندیة شهرین و نصف شهر. و بناء علی أمر الوزیر أبقی بیارق الخیالة فی ذی الکفل (ع) و العقیلیین فی کربلا .. و أبقی فی النجف عسکر الموصل مع مقدار من العقیلیین. و بنی لکربلاء سورا منیعا، و اتخذ للحلة خندقا صعب الاجتیاز.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 125

سنة 1218 ه

کان فی بغداد رجل أفغانی الأصل یدعی (ملا عثمان) عزم علی قتل عبد العزیز السعود، فتوجه الی الدرعیة؛ وصل إلیها بصفة درویش ..
و قیل إن القاتل من أهل کربلاء .. و کان القتل فی العشر الأواخر من رجب سنة 1218 ه.

سنة 1222 ه

عشائر الجرباء و الظفیر و الروله .. عاثت بالقری و القصبات المجاورة لها؛ مثل الحلة، و کربلاء، و النجف. فضجّ الناس من کل صوب ...
و فی هذه الأثناء اتفق ان أربعین ألف زائر من الایرانیین کانوا فی قصبة کربلاء علمت بهم العشائر فتوجهت إلیهم من کل صوب و صارت تنتظر خروجهم للوقیعة بهم. و أحاطت بالمدینة من أطرافها فلم یجد الزوار طریقا للخروج.
بقی الزوار محصورین، و کان فیهم حرم الشاه (فتحعلیشاه) و فی صحبتها بعض الخانات. و ان خدام الحضرة عرضوا الأمر مرارا علی الوزیر (سعید باشا) فلم یصغ و لم یتخذ أی تدبیر.

سنة 1236 ه

فی أوائل هذه السنة .. ظهر مرض لم یسمع باسمه (قولیرا) أو الهواء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 126
الأصفر، أو الهیضة .. سماه ابن سند ب (الوباء) .. ثم جاء إلی الحلة و کربلاء و مکث فی هذه الأماکن مددا تتراوح بین عشرة أیام و عشرین یوما.

سنة 1242 ه

(توفی الشیخ أحمد الإحسائی) و انتشار الشیخیة فی العراق بین الشیعة کان بهمة زعمیها السید محمد کاظم الرشتی؛ و توفی سنة 1259 ه و لا یزال عقبه فی کربلاء.
الشیخ أحمد الإحسائی المتوفی سنة 1242 ه و هی بریشة مصور فتحعلی شاه القاجاری الخاص‌

واقعة کربلاء

سنة 1258 ه

کان التغلب فی کربلاء قد استمر من أیام داود باشا، إلی آخر عهد علی رضا باشا اللاز. و لما ورد محمد نجیب باشا و علم بذلک جهز جیشا فی ذی القعدة سنة 1258 ه فحاصر البلدة. و فی 11 ذی الحجة سنة 1258 ه استولی علیها. و جاء تاریخ ذلک (غدیر دم) ...
و فی أیام علی باشا حاصرها، و خرج إلیه سادات البلد، و علماؤهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 127
و تکفلوا له بزیادة الإیراد، فارتحل عنهم، و کان ذلک الوزیر لا یبالی بعصیانهم، و مرامه الدراهم، و قد ادّوا له سبعین ألف قران، (المثل اثنین) عما یؤدونه إلی داود باشا، فرضی و ترکهم.
السید کاظم الرشتی المتوفی عام 1259 ه
و هذا الوزیر محمد نجیب باشا حاصرها ثلاثة و عشرین یوما و یوم الجمعة التالی فی الثانی من عید الأضحی جاء البشیر إلی بغداد بفتحها عنوة (مبینا) صورة الفتح. و کان قد تولی أمر العساکر فریق النظام کرد محمد باشا و بدأ یرمی الأطواب (المدافع) من جهة واحدة. فلم یستقر أحد یقابل الاطواب إلی ان ثلم ثلمة من سور البلد (من محلة باب النجف) و دخل العسکر من تلک الثلمة. فانهزم البرطازیة عسکر البلد و خرجوا منه. و شرذمة قلیلة و أکثرها من أهل البلد دخلت حضرة العباس و بدأوا یرامون العساکر السلطانیة. فوقف العساکر النظامیة أمامهم، و رموهم دفعات بالتفک (البنادق) فتساقط أکثر الذین فی الحضرة من الباغین من سکنة البلد و فقراء الناس، و نهب الجیش البلد مقدار أربع ساعات، و نادی منادی الأمان، و التجأ أکثر الناس إلی بیت السید کاظم الرشتی المجتهد العالم المخالف لأصول مذهب الشیعة و لقب مذهبه؛ ب (الکشفی)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 128
أو (پشت سری) کما ان مذهب الشیعة الذین هم أقدم منهم یسمی ب (البالاسریة) و هم الشیعة الأصولیة، و کان بین الفریقین هؤلاء مقلدی السید کاظم، و الشیعة الذین هم من مقلدی الشیخ محمد حسن البالاسری عداوة شدیدة ظاهرة.
و الذی قتل من ولایة کربلاء مقدار أربعة آلاف نفس. و من العسکر مقدار خمسمائة نفر. و من بعد فتحها أمسکوا السید ابراهیم الزعفرانی؛ و جاؤوا به إلی بغداد و السید صالح من کبار البلد و کم واحد.
فالسید صالح نفوه إلی کرکوک، و ترجاه قونصلوص الانکلیز. و ابن الزعفرانی بقی أیاما قلائل فی بغداد، و تمرض بالدق و مات. و بعضهم عفا عنهم الوزیر محمد نجیب باشا، و جعل علیهم والیا واحدا ..».
و من هذا یعلم أشخاص الواقعة، و عواملها و من أهمها ضعف الحکومة و تسلط المتغلبین ..
و ذکر هذه الواقعة السید عبد الغفار الأخرس .. و جاء ذکر (ها) ..
فی کتاب هدایة الطالبین لکریم خان الکرمانی و بین ان الجیوش کانت تحترم بیوت الشیخیة. و کل من التجأ إلیهم کان آمنا علی نفسه و ماله. و لم یقتل أحد من أصحاب السید کاظم الرشتی مع ان الذین التجأوا إلی المشاهد قد قتلوا بلا رحمة. و یقول ان الباشا دخل بجواده فی المکان المقدس.
و فی تاریخ نبیل المعروف (نبیلی) من البهائیة تفصیل و تعیین لوجهة نظرهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 129
و بین انها جرت فی لیلة عرفة من ذی الحجة سنة 1258 ه .. و فیها قتل 9 آلاف شخص و سلب ما فی الجوامع من نفائس.
و جاء ان محمد شاه کان مریضا فلم یشأ رجال دولته إخباره، فلما علم حنق، و عزم علی أخذ الثأر إلا أن التدخل السیاسی من روسیة و بریطانیا هدأه.
و فی کتاب قرة العین فی تاریخ الجزیرة و العراق و بین النهرین تألیف محمد رشید السعدی ان الواقعة جرت فی التاریخ المذکور. قال: جاهر أهل کربلاء بالعصیان، فأرسل و الی بغداد محمد نجیب باشا علیهم الجنود المظفرة العثمانیة، فانتصروا علی العصاة، و قتلوا رؤساءهم و عاد الأمن و السکینة».
و فی تاریخ الشاوی جاء تفصیل أیضا إلّا أنه لم ینسبها للعصیان من الأهلین بل بیّن ان بنتا من شهزادات الدولة القجریة قد تعرض لها العصاة. و اختطفوها و فعلوا ما فعلوا بها. و فی نتیجة المخابرات السیاسیة اضطرت الدولة للقضاء علی عصیان هؤلاء، اتخذت هذه الحادثة وسیلة انذرهم الوالی ان یسلموا الاشقیاء تنفیذا للارادة السلطانیة فأبوا. و من ثم ضربهم .. و الحال أن ما ذکره کان ایام داود باشا.
و عندی کتاب لأهل کربلا ذکروا فیه تفاصیل الواقعة ایام داود باشا.
و کان مبدأ العصیان سنة 1241 ه و دام إلی المحرم سنة 1242 و هو (ای
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 130
الکتاب) المسمی (نزهة الاخوان فی واقعة بلد المقتول العطشان) ..

سنة 1259 ه

توفی السید کاظم الرشتی فی 9 ذی الحجة سنة 1259 ه. و عقائد الکشفیة؛ هی عقائد الشیخیة موسعة فی شرح المطالب .. و آل الرشتی معروفون فی کربلاء. و هم من ذریة السید کاظم ..

سنة 1260 ه

کان ظهور الباب (علی محمد الشیرازی) فی ایران بتاریخ 5 جمادی الأولی سنة 1260 .. و فی هذه السنة کان مقدّمهم فی بغداد محمد بن شبل العجمی .. کتب الوزیر (محمد نجیب) بالخبره الی استنبول بأن اهل کربلاء و النجف و علماءها لم یقبلوه ..

سنة 1262 ه

العلامة السید ابراهیم القزوینی فی کربلاء. توفی فی الوباء فی هذه السنة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 131

سنة 1268 ه

غلت الاسعار بالحسین (کربلا) و المشهد (النجف) و الحلة.

سنة 1274 ه

استمر (الوالی؛ الوزیر السردار الأکرم عمر باشا) فی أخذ الجندیة من الحلة و النجف و کربلاء و ما جاورها من انحاء الفراتیة ..
* و علی اهل الحسین (کربلاء) جعل خمسین نفسا، و أخذ منهم بالبدلیة.
ثم تحرکوا بحرکات فاسدة و قتلوا اثنین من أهل البلد؛ واحد من کربلاء و آخر نظام.
* فلما عاین أهل النجف ما فعل بأهل الحلة و أهل کربلاء أبانوا وجه الطاعة، و مسکوا ثلاثین نفسا بدلا عنهم .

سنة 1278 ه

نال (محمد نامق باشا) منصب بغداد للمرة الثانیة .. و یعرف عندنا ب (نامق باشا الکبیر). کان قد جاء قبل ذلک فی قضیة کربلاء لما أن فتحها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 132
نجیب باشا .. .

سنة 1286 ه

لم تظهر تشکیلات فی (لواء کربلاء) .. أیام مدحت باشا ..
* علم الوالی (مدحت باشا) ان متصرف کربلاء اسماعیل باشا کان سی‌ء الإدارة مرتشیا و کذا بعض الموظفین ممن علی شاکلته، فذهب بنفسه إلی کربلاء، و أجری التحقیق فثبت له ما کان قد عزی إلی المتصرف، فعزله فی الحال. و أمر بأخذه للمحاکمة، و نصب مکانه حافظ أفندی قائمقام کوستندیل سابقا.
* و فی أثناء مهمته- هناک- رأی أن هذه البلدة صغیرة و ضیقة نظرا للزحام الموجود فیها، فأمر بلزوم تشکیل محلة جدیدة فیها و تنظیم خارطة بذلک، و ترتیبها بالوجه المطلوب علی أن تباع العرصات إلی الأهلین لکل من أراد أن یبنی دارا أو دکانا أو أی بناء. و ان تصرف المبالغ المستحصلة فی سبیل تنظیم طرقها .. و هذه المحلة هی المعروفة قدیما بالمحلة الجدیدة، و تعرف الیوم ب (العباسیة). التفت الوالی الی هذه المهمة، و لم یؤخر العمل بها .. و کان قد أقام فی کربلاء خمسة أیام أو ستة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 133
عزل الاستاذ سلیمان فائق من البصرة ... و نصب مکانه متصرف کربلاء حافظ باشا، و منح رتبة میرمیران أی أمیر الأمراء.

سنة 1287 ه

زار (ناصر الدین شاه) العتبات فی النجف و کربلاء و سامراء .

سنة 1301 ه

تجول الوالی (تقی الدین باشا آل المدرس) فی أنحاء الحلة و کربلاء .

سنة 1302 ه

بنیت قنطرة علی نهر المسعودی الکبیر الواقع فی جادة الحلة- کربلاء.
و لها أهمیة.
* ذهب إلی کربلاء محاسب الأوقاف عبد القادر، و معه سلیمان فائق الشواف (صهر آل الشواف) و حرّروا موجودات الخزانة بمعرفة مجلس الادارة. فوجدت أشیاء نفیسة للغایة خمنت بمبلغ ینوف علی 22 ألف لیرة.
و یوجد مصحف شریف بخط زین العابدین (رض) کتابته کوفیة علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 134
رق غزال، و مصحف آخر مذهب بنقش أبیض علی قرطاس ترمه بالقطع الکبیر، و بین أوراقه رق غزال لئلا یأتی خلل علی صفحاته. و هما نفیستان للغایة، یقال إن قیمتهما تساوی نحو ألف لیرة.
المصحف المنسوب خطه للإمام علی بن الحسین ابن علی بن ابی طالب السجاد (ع)
و من جملة ما فی الخزانة شمعدانان کبیران معمولان من الذهب؛ أهداهما السلطان عبد المجید. و کانا بقیمة (2500) لیرة و تاج بقیمة أربعین ألف قرش.
و وجدت سجادة نفیسة للغایة مزینة بلؤلؤ و ذهب.
و عند ختام تفتیش المعلقات و سائر النفائس اتخذ المحاسب دفترا ختمه السادن، ثم بوشر بتحریر النفائس التی فی مشهد العباس (رض) فوجدت أشیاء مهمة و نفیسة. و هی کثیرة فدونت و ختم دفترها کلیدار العباس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 135
لواء کربلاء و أقضیته النجف و الهندیة، و نواحی مرکز القضاء المسیب و الرحالیة، و شفاثا، و کان متصورا قلبها إلی قضاء لأهمیتها .

سنة 1304 ه

جری (الحج) فی هذه السنة من طریق کربلاء- الجبل (جبل شمر)

سنة 1309 ه

أجری الاحتفال بشعرات الرسول (ص) و کسوة البیت المحرم فی بغداد و کربلاء. و قیلت الأشعار.

سنة 1324 ه

(عزل الوالی مجید بک) و کان سبب عزله حرکة کربلاء حینما وجه رشید باشا ابن الاستاذ محمد فیضی الزهاوی وکیل المتصرف فوقع قتال بین العجم و بین الجند بسبب أخذ الرسوم.

سنة 1325 ه

کان حدث فی کربلاء قتل أربعین شخصا من الإیرانیین الأمر الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 136
دعا إلی توجیه منصب الولایة إلی (ابو بکر حازم بک و الی بغداد) فوردها براتب ثلاثین ألف قرش.

سنة 1326 ه

افتتح مجلس المبعوثین (النواب) فی 23 ذی القعدة سنة 1326 ه.
و هذه هی الدورة الأولی. و انتخب فیها عن کربلاء الحاج عبد المهدی الحافظ.
الزعیم السیاسی و الشاعر عبد المهدی الحافظ المتوفی سنة 1334

سنة 1327 ه

أودع الوالی (نجم الدین منلا) أعمال الولایة بالوکالة إلی الفریق الأول محمد فاضل باشا الداغستانی نهار السبت 23 ربیع الآخر سنة 1327 ه .. ثم ان الوالی السابق توجه فی ذلک الیوم إلی کربلاء للزیارة و عاد یوم الاثنین فی 25 منه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 137

سنة 1329 ه

ذهب الوالی (جمال بک) .. إلی کربلاء.

سنة 1330 ه

المبعوثین (للمرة الثانیة) .. عن کربلاء:
1- فؤاد الدفتری البغدادی، والد معالی محمود صبحی الدفتری.
2- نوری بک البغدادی رئیس تحریر القسم الترکی فی جریدة الزهور البغدادیة.

سنة 1334 ه

توفی عبد المهدی آل حافظ الکربلائی فی کربلاء .. فی ربیع الآخر ..
و کان مبعوث کربلاء الأسبق، ذکیا تعلم اللسان الافرنسی جیدا فأحسن القراءة و الکتابة فیه. و کان ذا سلطة و جرأة، و فی مقدمة القیام علی مأموری الحکومة فی کربلاء و اخراجهم منها بعد نهب أموالهم و اهانتهم حتی اعیدوا إلیها بمظاهرة الولایة و سکنت الفتنة فی أثناء الحرب العامة الأولی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 138

کربلاء فی الجغرافیا

کتاب سمیر اللیالی‌

مدینة کربلا؛ و هی مدینة علی حافة البادیة. و تحتوی علی نحو ستة آلاف دار، و بینها و بین بغداد طریق شوسه.
و فیها؛ استشهد الحسین (رضی اللّه عنه) سنة 60 للهجرة. و بها مقام بدیع ینسب إلیه. تؤمه الزوار؛ سیما الشیعة، من کل حدب. و أهلها خمسة عشر ألف شخص.
و علی مقربة منها قلعة متینة من بقایا الأکاسرة، بناها النعمان بن المنذر.
و لها أربع قضوات .

الثمار الشهیة فی جغرافیة المملکة العثمانیة

کربلاء؛ و تسمی مشهد الحسین، و هی بلدة إلی جنوب غربی بغداد مکانها 000، 65 نسمة. اشتهرت بأنها مقتل الحسین بن علی بن أبی طالب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 139
و فیها مقامه. و لذلک تعد من الأماکن المقدسة عند الشیعة، و فیها جامع علی غایة الاتقان، فی داخله مزار للحسین یؤمه کثیرون؛ و لا سیما فی شهر محرم .

جغرافیة العراق الثانویة

کربلاء؛ قصبة کربلاء؛ مرکز اللواء المسمی باسمها. و تقع فی طرف البادیة. و هی- کالنجف- بعیدة عن شط الهندیة؛ غیر أنها تتصل به بجدول الحسینیة الذی یستفید الأهلون من مائه للشرب، و سقی مزارعهم و بساتینهم. و تحیط البساتین بالقصبة، و هی- علی الغالب- منتشرة علی جوانب جدول الحسینیة.
و فیها، مرقد الامام حسین، و اخیه العباس. و هی فی الدرجة الثانیة من حیث الخطورة الدینیة. فیؤمها الزوار من کل حدب و صوب لزیارة مرقدی الامام و أخیه، و التبرک بهما. و یقیم العلماء الأعلام و رجال الدین فیها.
و تتألف المدینة من قسمین؛ یزدحم القسم القدیم منهما بالدور و المساکن، و هو ضیق الشوارع و الطرقات.
أما القسم الحدیث- و قد خط فی عهد مدحت باشا- فذو شوارع واسعة متوازیة.
و اشتهرت کربلاء بصنع أوانی البرنز و النحاس، و نسج الحریر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 140

کربلاء فی الرحلات‌

کتاب الاشارات إلی معرفة الزیارات‌

کربلا؛ قریة بها جسد الإمام الحسین بن علی بن أبی طالب- رض- و رأسه بمصر؛ عمره ست و خمسون سنة، ولد بالمدینة. و عنده جماعة من أهله قتلوا- هناک- معه؛ مثل:
القاسم بن الحسن بن علی بن أبی طالب (رضه) و أبی بکر بن علی بن أبی طالب (رضه)، و العباس الأکبر، و عثمان، و جعفر، و عبد اللّه، و محمد الأصغر، و علیّ الأکبر، و عبد اللّه بن مسلم بن عقیل، و محمد بن عبد اللّه ابن جعفر (رضهم). و هناک جماعة من الأشراف (رضهم).

رحلة ابن بطوطة

و قد ورد ذکرها فی قسم المراجع الغربیة، من هذا الجزء فلا حاجة لذکرها مرة ثانیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 141

نزهة الجلیس و منیة الأدیب الأنیس

لما أسفر الصباح عن وجه الهنا و الانشراح، رابع ربیع الأول عام ألف و مائة و أحد و ثلاثین، من هجرة النبی المرسل؛ توکلنا علی الرب العلی، و رحلنا من مشهد علی، قاصدین زیارة الشهید المبتلی، المدفون بکربلا، الحسین بن علی- و من معه من الشهداء الصابرین (رضوان اللّه علیهم أجمعین).
ففی خامس الشهر المذکور؛ أتینا علی موضع یقال له الخان الأخیر، و مررنا فی طریقنا بقبر النبی ذی الکفل (علیه السلام) فزرنا و بلغنا المرام.
و فی سادس الشهر، دخلنا أرض الحائر، مشهد الحسین الطاهر (سلام اللّه علیه، و علی أخیه، و علی جدّه و أبیه، و أمه و بنیه، و سائر موالیه و محبیه:
للّه ایام مضت بکربلامحروسة من کل کرب و بلا
بمشهد الطهر الحسین ذی العلاو نسل خیر الخلق من کل الملا
فحفّنی بجوده تفضلاو نلت ما کنت له مؤمّلا
من زاره بالصدق فیه و الولایعود مجبورا بلا شک و لا ...
فاسمع لما قد قال ذو الفعل الحسن‌محمد الحرّ الأصیل ابن الحسن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 142 قد أرّخ المولد فی رجیزه‌مفیدة جلیلة و جیزه
فقال فی ذکر الحسین بن علی‌نظما بدیع القول کالصبح الجلی
و کیف لا و هو الامام الرحله‌نجل ثقاة قادة أجلّة
خادم شرع المصطفی و المذهب‌الطیب ابن الطیب ابن الطیب
من ذکره فی العرب سار و العجم‌و الشام و الروم إلی أقصی إرم
بالفضل و التقوی مع العفاف‌و البر و الاحسان و الالطاف
علیه من رب العباد الرحمةتعمه و لجمیع الأمة
فاسمع؛ فهذا قوله المفید قد قال- و هو الفاضل المجید:
«و اسمع وقیت صولة الحوادث‌نظمی تاریخ الإمام الثالث
روحی الفداء للحسین بن علی‌ذی المجد و السؤدد و القدر العلی
مولده فی عام أربع مضت‌فی شهر شعبان لخمس انقضت
یوم الخمیس سیدی قد ولداقیل: بل السابع کان المولدا
و قیل: فی عام ثلاث فاعقل‌آخر یوم من ربیع الأول
یکنی بعبد اللّه و هو السبطلم یک مثله کریم قط
نسبه من أشرف الأنساب‌حسبه من أکرم الأحساب
نص علیه بالإمامة النبی‌فیاله من فضل مجد عجب
و بعده بوه و أخوه‌و نال ذاک بعده بنوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 143 خیر الوری فی العلم و الزهادةو الفضل و الحلم و فی العباده
کرمه وجوده قد بلغاما لم یحط به مقام البلغا
و لذة الکرام فی الاطعام‌و لذة اللئام فی الطعام
فاق الوری فی الجود و السماحةو المجد و الکمال و الفصاحه
أولاده ست و قیل عشرو قیل تسع فانقدوه و ادروا
منهم؛ علی بن الحسین الأکبرثم علی بن الحسین الأصغر
فالأول ابن بنت کسری الملک‌و لم یکن فی دینه بالمشرک
و الثانی من لیلی الفتاة فاعرف‌بنت أبی مرة أعنی الثقفی
و جعفر و الأم من قضاعةکانت علی نقل ما الجماعة
سکینة أخت لعبد الله‌فاحفظ و فکر لا تکن کاللاهی
من الرباب الحرة الأبیه‌بنت امری‌ء القیس الفتی الکلبیّه
و فاطم و أمها فی القوم‌بنت لطلحة الشهیر التیمی
قیل و من اخوتهم محمدعلی الأوسط و هو الأسعد
و ذاک زین العابدین الأشهرو زینب بنت الحسین یذکر
و قتله بکربلاء اشتهرامضی شهیدا و بها قد قبرا
أمر یزید و عبید الله‌ابن زیاد الخبیث اللاهی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 144 قاتله سنان و ابن سعدتعوّضوا بنحسهم عن سعد
احدی و ستون بها حلّ البلابقتله مع شهداء کربلا
فی عاشر المحرم المنحوس‌فی یوم سبت ما خلامن بوس
او یوم الاثنین و قیل الجمعه‌حل البلا به بتلک البقعه
و عمره سبع و خمسون سنه‌و بعدها مضی و حل مدفنه
عشر سنین اختص بالامامةبعد أخیه إذ مضی أمامه
صلی علیه اللّه ثم سلماو زاده من فضله و کرما
و النص فیه جاء بالامامه‌کما أتی لمن مضی أمامه
من ربه وجده و الوالدو من أخیه، ویل کل جاحد .. الخ
ثم قال: فتشرفت- و الحمد للّه- بالزیارة، و لاح لی من جنابه الشریف اشاره؛ فإنی قصدته لحال، و ما کل ما یعلم یقال.
و قرت عینی بزیارة الشهید علی الأصغر، ابن مولانا الحسین الشهید الأکبر، و زیارة سیدی الشهید العباس بن علی بن أبی طالب (رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین).
و أما ضریح سیدی الحسین؛ فیه جملة قنادیل من الورق المرصع و العین ، ما یبهت العین. و من أنواع الجواهر الثمینة، ما یساوی خراج مدینة. و أغلب ذلک من ملوک العجم.
و علی رأسه الشریف؛ قندیل من الذهب الأحمر، یبلغ وزنه منین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 145
بل أکثر.
و قد عقدت علیه قبة رفیعة السماک، متصلة بالأفلاک. و بناؤها عجیب، صنعة حکیم لبیب.
و قد أقمت شهرین، بمشهد مولای الحسین؛ بلدة من کل المکاره جنّة کأنها من ریاض الجنة. نخیلها باسقات، و ماؤها عذب زلال من شط الفرات.
و أقمارها مبدره، و أنوارها مسفره، و وجوه قطانها ضاحکة مستبشره .
و قصورها کغرف من الجنان مصنوعة؛ فیها سرر مرفوعة ، و أکواب موضوعه ، و فواکهها مختلفة الألوان . و أطیارها تسبح الرحمن علی الأغصان. و بساتینها مشرقة بأنوار الورود و الزهور، و عرف ترابها کالمسک و لونه کالکافور .
و أهلها کرام أماثل؛ لیس لهم فی عصرهم مماثل؛ لم تلق- فیهم- غیر عزیز جلیل، و رئیس صاحب خلق و خلق جمیل، و عالم فاضل، و ماجد عادل. یحبون الغریب، و یصلونه من برهم و برّهم بأوفر نصیب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 146
و لا تلتفت إلی قول ابن ایاس فی نشق الأزهار ؛ بأنهم من البخلاء الأشرار؛ فلله خرق العادة، فانهم فوق ما أصف و زیادة:
هینون لینون أیسار ذوو کرم‌سواس مکرمة أبناء أیسار
ان یسألوا الحق یعطوه و ان خبروافی الجهد أدرک منهم طیب أخبار
لا ینطقون عن الفحشاء ان نطقواو لا یمارون إن ماروا باکثار
فیهم و منهم یعد المجد متلداو لا یعد ثنا خزی و لا عار
من تلق منهم تقل لاقیت سیدهم‌مثل النجوم التی یسری بها الساری
و اجتمعت بالرئیس المعظم، و العظیم المفخم، ذی الشرف الباذخ و الفخر الوضاح، مولانا السید حسین الکلیدار ؛ یعنی «حامل المفتاح».
و بأخیه الشهم النجیب الکریم، النبیل العظیم؛ مولانا السید مرتضی (حماه اللّه تعالی من حوادث القضا). و بالعالم العلامة، الحبر النحریر الرحلة الفهامه، ذی الوصف الجمیل و الذکر الحسن، مولانا الفاضل الملا أبو الحسن. فجمع بینی و بین الأمیر المظفر، الشجاع الغضنفر، البحر الغطمطم، الأسد الغشمشم، بحر الاحسان و معدن الکرم؛ الأمیر حسین اوغلی بیک ایشک اغاسی باشی حرم سلطان العجم. و کان قد استأذن من السلطان فی ذلک العام، أن یسیر إلی العراق لزیارة الأئمة أعلام الهدی و مصابیح الظلام. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌8 ؛ ص146
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 147
و هذا الأمیر من أکابر امراء أصفهان. و هذا الخطاب الذی هو خطاب لرئیس الحجاب علی أبواب حریم السلطان، فأشار علی ذلک الأمیر المنصور المعان، بالمسیر صحبته إلی دار السلطنة اصفهان؛ لکی یجمعنی بالشاه حسین السلطان فلما تبسم ثغر الصباح، و تغنی القمری علی الأغصان و صاح، عن رابع جماد الأوّل، عام ألف و مائة و أحد و ثلاثین من هجرة النبی المکمل، رحلنا من کربلا مشهد الحسین زین العباد، إلی دار الخلافة بغداد.

رحلة المنشی‌ء البغدادی‌

کربلا:

من قری بغداد قصبة کربلا. و فیها نحو خمسة آلاف بیت. و هناک روضة الحسین (علیه السلام).
و من بغداد إلی کربلا 15 فرسخا. و فی الطریق قد بنیت خمسة خانات، و ببعد فرسخین (خان الکهیة). و الثانی یبعد عن بغداد أربعة فراسخ، و هو (خان زاد). و یبعد ستّة فراسخ عن بغداد خان البیر، أو خان النصف. و ببعد ثمانیة فراسخ خان المزراقچی. و عشرة فراسخ المسیب علی جانب من الفرات- و هناک نحو أربعمائة بیت- و منه یعبر جسر ممدود علی الفرات، فیسار إلی کربلا بمسافة خمسة فراسخ .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 148

نهر الحسینیة:

و من الفرات یشتق نهر یذهب إلی کربلا؛ یقال له (نهر الحسینیة).
و فی کربلا، و لمسافة أربعة فراسخ بساتین، تمرها مشهور بالجودة.

رحلات عبد الوهاب عزام‌

أصبحنا یوم الثلاثاء نتجهز للسفر إلی کربلاء- و معنا الأخ النجیب السید عزیز سامی المفتش بوزارة المعارف- عبرنا دجلة خارجین من بغداد- و الساعة عشر من الصباح- و سرنا إلی الجنوب؛ فمررنا بقریة اسمها المحمودیة ثم أخری تسمی السکندریة، ثم ملنا قلیلا إلی الغرب حتی بلغنا المسیّب علی شاطی‌ء الفرات- و الساعة اثنتا عشرة.
و فی المسیب، قابلنا من بها من رجال التعلیم فساروا معنا إلی الهندیة، حیث القناطر، التی تسمی (سدة الهندیة)؛ قناطر علی الفرات لحبس المیاه و توفیرها للری. و هی شاهدة بما یبلغه العراق من الخصب و الرفاه حین تقام أمثالها فی مواضع الحاجة من دجلة و الفرات.
فهناک یتشعب من الفرات أربع شعب عظیمة، اثنتان فی الغرب إحداهما نهر الحلة، و اثنتان فی الغرب إحداهما نهر کربلاء.
عبرنا الفرات علی قنطرة الهندیة میمین کربلاء. فاتجهنا نحو الشمال الغربی- و الساعة واحدة- مؤملین أن نبلغ غایتنا بعد نصف ساعة. و قد تحول الأوحال دون الآمال!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 149
کان بعض الطریق وحلا، فارتطمت فیه بعض السیارات مرة بعد أخری، ثم استقام لنا الطریق من بعد؛ فإذا حدائق کربلاء- و الساعة اثنتان و ربع- و فی کربلاء نخیل و أشجار کثیرة مرت علیها السیارات نصف ساعة، حتی دخلنا البلد. فسرنا إلی المدرسة المتوسطة، حیث ألفینا مدیرها و معلمیها منتظرین معدّین کل وسائل الحفاوة و الإکرام.
استرحنا قلیلا ثم یممنا المسجد المبارک- الذی به ضریح الحسین بن علی- (رضی اللّه عنهما) فرأینا مسجدا عظیما علی نسق مسجد الکاظمیة فی بنائه و زینته.
و لجنا الباب إلی ساحة واسعة؛ فإذا إلی الیسار جماعة قد وقفوا صفوفا یدقون صدورهم دقات موحدة موزونة، و أمامهم منبر علیه خطیب یتکلم علیهم. و إلی الیمین أبصرنا جماعة من النساء جالسات یولولن فی الحین بعد الحین مستمعات إلی محدث آخر. و ذلک أن الیوم کان من أیام ذکری مقتل الإمام علی بن ابی طالب . و قد دخلنا المسجد فإذا هو یدوی بالقارئین و الداعین. فزرنا الضریح المبارک، و منعنا جلال الموقف أن نسرح أبصارنا فی جمال المکان، و ما یأخذ الأبصار من زینته و حلیته و روائه.
و بجانب المسجد مسجد آخر فیه ضریح العباس بن علیّ. و فیه سرداب یهبط فیه نحو عشر درجات إلی مکان مغطی بشبکة من الحدید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 150
یسمونه «المذبح»، و یقولون إن دم الحسین (رضی اللّه عنه) سال فیه حینما قتل فی فاجعة کربلاء، و هناک زاویة یقال إنها مولد المسیح عیسی ابن مریم.
ثم هناک حجرة فی ناحیة من المسجد، دفن فیها من ملوک القاجاریین، آخرهم أحمد ، و أبوه محمد علی ، وجده مظفر الدین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 151

کربلاء فی الأدلة

دلیل المملکة العراقیة لسنة 1935- 1936

من بین الألویة العراقیة التی تمتاز بقدسیتها، و بتاریخها الوضاء الحافل بجلائل الأمور، و عظام الحوادث فی تاریخ هذا القطر، لواء کربلاء ..
فقد أخبرتنا الأسفار التاریخیة عن معارک خطیرة دارت رحاها فی ربوع هذا اللواء؛ تجلت فیها الفضائل و المعجزات کما تجلی النبل و الثبات علی المبادی‌ء المقدسة. و أخبرتنا- أیضا- عن مدن کبیرة، و حصون منیعة أنشئت فی أرجائه لم یبق منها غیر الأنقاض و لم یعرف عن تاریخها إلّا النزر الیسیر ...
قاعدة لواء کربلاء- الیوم- مدینة کربلاء المشهورة فی التاریخ؛ التاریخ القدیم، و التاریخ الحدیث. و هی بلدة عرفت بهذا الاسم قبل الاسلام بزمن بعید. و استیفاء البحث عن قدمها یکلف کثیرا من متاعب الاستقصاء و التنقیب؛ لعدم وجود منابع تاریخیة وافیة و موثوق بصحتها، یصح الرکون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 152
إلیها ...
و ان اطالة البحث فی قدم کربلا، و التوصل إلی معرفة تاریخها عن طریق التحلیل اللفظی یعیی المؤرخ، فیجعله یتخبط فی دیجور من التوهمات و الاحتمالات الدینیة و التاریخیة. و قد لا یصل بها إلی نتیجة یقینیة. و ربما کان فی تلک الطلول و الخرائب المتفرقة ما یکشف لنا عن تاریخ کربلا القدیم الغامض، و لکن فی المستقبل.
ثم جاء فی الدلیل بعد ذلک قوله:
هذا معظم ما لهذه الأرض من قیمة تاریخیة تحفظها لها أسفار التاریخ القدیم. و قد حصل کثیر من التغییر و التبدیل فی مجری الفرات و تقسیمه لمدنه و قراه.
و قد یمکن ضبط تعیین مواقع المدن المشهورة التی أنشأها البابلیون، و من جاء بعدهم بتتبع الآثار و الحفریات التی لها علائم تعرف بالقرینة، و لکن ذلک یحتاج إلی مجهود کبیر و وقت طویل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 153

کربلاء فی التاریخ الحدیث‌

أما کربلا- الیوم- فتبعد عن بغداد 74 میلا، و تربطها بها سکة حدیدیة ثابتة.
و هی مدینة واسعة جالسة علی ضفة ترعة (الحسینیة) الیسری یحیط بها شجر النخیل الوارف، و تحفها البساتین المحتویة علی أشجار الفواکه الباسقة المختلفة الصنوف. و هی- الی ذلک- ذات جادات واسعة،
و مؤسسات فخمة، و اسواق منتظمة، و مبان عامرة، و ریاض و غیاض کثیرة.
و تقسم کربلا- من حیث العمران- إلی قسمین. یسمی الأول (کربلا القدیمة) و هو الذی أقیم علی أنقاض کربلا العریقة فی القدم و الشهیرة فی التاریخ، و یدعی الثانی (کربلا الجدیدة) و هو الذی خطط فی عهد ولایة المصلح الکبیر مدحت باشا فی عام 1285 ه (1867 م).
و بنی- بعد عام 1300 للهجرة- علی طراز یختلف عن الطراز القدیم.
الا انه تهدم معظمه- مع الأسف- حیث أقیم علی أرض سبخة تنز فیها المیاه، فتأکل أسس الجدران.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 154
و لهذا السبب؛ یحیط بکربلا- إلی الیوم- مستنقع کبیر هو علة وجود أمراض مزمنة فی هذه المدینة، تجعل الأهلین صفر الوجوه، هزیلی الأجسام، معرضین للأمراض المختلفة.
و مع ان الحکومة لا تزال تبذل همما محمودة فی سبیل دفنه، فان خطره لا یزال یفعل فعله فی الأهلین .
و یؤم کربلا- فی کل عام- الألوف المؤلفة من الزائرین لضریح سید الشهداء الحسین بن علی (علیهما السلام)؛ و لا سیما فی أیام الزیارات المخصوصة. فان معدل عدد الزوار لها یبلغ 000، 250 نسمة فی کل موسم.
و قد هجم الوهابیون علی عهد الدولة العثمانیة علی هذه المدینة المقدسة فی عام 1216 للهجرة (1801 م) و هدوا أرکان الحضرتین (حضرة الحسین و حضرة العباس) و نهبوا ما فی الحضرة الحسینیة من نفائس و مجوهرات ثمینة. و تدل التقاریر علی ان کنوز هذه الحضرة من اثمن الکنوز رغم ما سلب منها.
و لما قتل (ع) فی العاشر من محرم الحرام لسنة 61 هجریة (680 م) دفن فی الحایر- الذی أشرنا إلیها آنفا- و ضریحه- الیوم- مقام وسط صحن عظیم تتلألأ فیه القبة مع مأذنتیها المغشاتین بالذهب الابریز فتشع هیبة و جلالا.
و قد أنفق علی هذه التغشیة السلطان ناصر الدین شاه فی عام 1273 ه- 1857 م کما هو مکتوب علی حائط القبة بسطر من ذهب. و یبلغ ارتفاع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 155
القبة من أسفلها إلی أعلاها 15 مترا .
و لما کانت حضرة الحسین (ع) و ما یحیط بها لا تختلف عن حضرة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) الّا من حیث المساحة و عدد الغرف فی الصحن، و لما کنا وصفنا حضرة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) و صحنه و قبته و ما شاکل ذلک ؛ فقد اقتصرنا فی هذا البحث علی وصف ضریح الحسین (ع) فقط.
ضریح الحسین؛ عبارة عن مصطبة من الخشب المرصع بالعاج یعلوها مشبکان احدهما من الفولاذ الثمین- و هو الداخلی- و الآخر من الفضة الناصعة البیاض- و هو الخارجی-.
و تعلو الضریح الأوانی الذهبیة المرصعة بالأحجار الکریمة. و فی کل رکن من ارکانه رمانة من الذهب الخالص، یبلغ قطرها قراب النصف متر.
و یتصل بهذا المشبک الخارجی مشبک آخر لا یختلف عنه بمزیة من مزایاه، و لا یوجد ای حاجز بینهما الا انه یقصر بمتر واحد من کل من جانبیه.
و قد رقد تحته علی بن الحسین؛ الذی استشهد- مع أبیه فی یوم واحد فدفن إلی جنبه (ع).
و أمام هذا المشبک ساحة مقدسة تضم مراقد الشهداء الذین استشهدوا مع الامام.
و فی زاویة من هذه الساحة مشبک من الفضة یتصل بالحائط. و یعرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 156
- أیضا- بمراقد الشهداء، الذین استبسلوا فی حومة الوغی معه (ع).
و فی صحن الحسین مئذنة منفردة؛ یقال لها (منارة العبد) و هی مغشاة بالقاشانی الملون. و یروی عن سبب انشائها فی هذا المحل المنعزل؛ ان زنجیا کان یسکن الصحن، و یکتسب کسبا ضعیفا، فاقتصد علی نفسه حتی جمع ثروة مکنته من تشیید هذا الأثر الخالد له .
و علی مسافة قصیرة من صحن الحسین؛ یشاهد ضریح العباس بن علی ابن ابی طالب المقتول مع أخیه الحسین فی یوم واحد- و هو- أیضا- وسط صحن کبیر، لا یقل عن بقیة صحون الأئمة من حیث هندسة البناء و ضخامته، و کثرة المجوهرات و المرصعات التی اعتاد المسلمون ان یزینوا بها المراقد المقدسة.
و علی بعد ثلاثة أمیال من غربی کربلا، مرقد الحر بن یزید الریاحی الزعیم العراقی، الذی جاهد مع الحسین- ضد جیش یزید بن معاویة.
و قبره بدیع؛ تعلوه قبة من القاشانی الملون. و یزوره اکثر الذین یزورون کربلا. کما یقصده أکثر الأهلین؛ للنزهة و الرفاهة لما یحیط به من البساتین و الجنان
و علی باب قبة القبر کتابة نصها: «قد عمر هذا المکان بهمة أقا حسین خان شجاع السلطان فی محرم 14 سنة 1325 هجریة».
و کان أول من أظهر و شاد هذا القبر الشاه اسماعیل الصفوی، یوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 157
دخل بغداد، و حکمها.
و علی مسافة سبعة أمیال من شرقی کربلا- بینها و بین المسیب- تشاهد قبة مزینة بالقاشانی- أیضا- تلک هی قبة عون بن عبد اللّه بن جعفر الطیار؛ و أمه زینب بنت علی، و قیل الخوصاء. یقصده الزائرون لکربلا. فی اکثر لأوقات للزیارة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 158

الدلیل العراقی الرسمی لسنة 1936

مرقد الحسین بن علی (ع): یقوم ضریح الحسین (علیه السلام) وسط صحن عظیم فی کربلاء؛ تتلألأ فیه القبة الذهبیة، مع مئذنتیها الابریزیتین.
أما الصحن؛ فمن أفخم الجوامع فی العراق.
مرقد العباس بن علی (ع): و هو- أیضا- وسط صحن عظیم فی کربلاء، لا یقل عن بقیة صحون الأئمة- علیهم السلام- من حیث هندسة البناء، و ضخامته، و قببه، و مآذنه، و مجوهراته، و مرصعاته.
مرقد الامام عون: یقع علی بعد ثمانیة أمیال، من شرقی مدینة کربلاء .

الدلیل العام لتسجیل النفوس العام لسنة 1957

مدینة کربلاء (مرکز لواء کربلاء و ناحیة الحسینیة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 159
الحدود الإداریة:
شرقا: نهر بلیبل، و نهر فرحه، و مقاطعة 43 الحسینیة.
غربا: مقاطعة 22 الحسینیة، و مقاطعة 15 الحسینیة.
شمالا: مقاطعة 7 السلالمة، و مقاطعة 19 الحسینیة.
جنوبا: نهایة حدود مقاطعة 61 الجزیرة، و شابات المطار الجنوبیة .

الدلیل الجغرافی العراقی‌

مدینة کربلاء (مرکز اللواء) نفوسها (60804) نسمات. تقع علی الضفة الیسری لجدول الحسینیة علی مسافة 104 کیلومترات من بغداد؛ تقطع بالسیارة علی جادة مبلطة. و طریقها یتفرع من طریق بغداد- الحلة العام، فیتجه إلی المسیب، حیث یعبر نهر الفرات، علی جسر حدیدی.
و قبل وصوله المدینة بقلیل یدخل منطقة البساتین، فیسیر محاذیا لجدول الحسینیة، حتی یدخل المدینة.
و مدینة کربلاء؛ مدینة إسلامیة، مقدسة، عریقة فی القدم. تحیط بها البساتین الکثیفة؛ ذات أشجار الفواکه و النخیل.
کان قد وسعها السلطان سلیمان القانونی سنة 941 ه (1534 م)، ثم خططت من جدید، فی ولایة مدحت باشا عام 1286 ه (1869 م) و بعد الحرب العالمیة الأولی- أنشئت فیها مبان عصریة، و شوارع عریضة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 160
و جففت اراضیها بانشاء مبزل لسحب المیاه.
و فی کربلاء؛ مرقد الحسین (ع) الذی استشهد فی الیوم العاشر من المحرم، عام 61 ه.
و الضریح مقام فی وسط صحن واسع، فوقه قبة مغشاة بالذهب؛ ارتفاعها 35 مترا. و فی رکنیها مئذنتان مطلیتان بالذهب- أیضا-.
و قد جدد السلطان سلیمان القانونی القبة مع مئذنتیها أثناء زیارته کربلاء عام 941 ه.
و إلی جانب مرقد الحسین (ع) دفن ابنه علی- الذی قتل معه.
و علی مسافة قلیلة من غربی الصحن الحسینی مرقد أخیه العباس. و فوقه قبة من القاشانی الملون. و فی جانبیها مئذنتان مطلیتان بالذهب. و علی بعد سبعة کیلومترات من کربلاء غربا- یقع قبر الحر بن یزید، و کان قد استشهد مع الحسین (ع) و دفن حیث قتل.
و إلی الشرق من المدینة- علی بعد 12 کیلومترا منها- یقع مرقد عون ابن عبد اللّه بن جعفر؛ و امه زینب بنت علی (ع). و کان عون قد قتل فی هذا الموقع فدفن فیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 161

أهم المصادر التی اعتمدها الکاتب‌

1- القرآن الکریم.
2- وسائل الشیعة.
3- کامل الزیارات.
4- بحار الأنوار.
5- تاریخ الرسل و الملوک.
6- المنتخب.
7- المنتظم فی تاریخ الملوک و الامم.
8- الکامل فی التاریخ.
9- الجامع المختصر.
10- مختصر أخبار الخلفاء.
11- الحوادث الجامعة.
12- منتخب المختار.
13- الفخری لابن الطقطقی.
14- تاریخ العراق بین احتلالین.
15- فضولی البغدادی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 162
16- سمیر اللیالی.
17- الثمار الشهیة فی جغرافیة المملکة العثمانیة.
18- جغرافیة العراق الثانویة.
19- کتاب الاشارات إلی معرفة الزیارات.
20- رحلة ابن بطوطة.
21- نزهة الجلیس و منیة الادیب الانیس.
22- کتاب نشق الأزهار فی عجائب الأمصار.
23- رحلة المنشی‌ء البغدادی.
24- رحلات عبد الوهاب عزام.
25- دلیل المملکة العراقیة.
26- الدلیل العراقی الرسمی.
27- الدلیل العام لتسجیل النفوس.
28- الدلیل الجغرافی العراقی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 163

مقتطفات عابرة مما ورد فی المظان التأریخیة و الأدبیة العامة عن کربلا کتبه الدکتور صفاء خلوصی‌

اشارة

خریج جامعة لندن و الأستاذ بکلیة التربیة من جامعة بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 165

کلمة

لم تشتهر مدینة فی تاریخ العتبات المقدسة شهرة کربلاء فهی خالدة فی تاریخنا السیاسی و الأدبی، و هی الرکیزة التی تدور حولها طائفة من القصص و القصائد التی تعرف «بأدب الطف» و تبدأ القصة بسنة 60 ه عندما مات معاویة و تولی ابنه یزید الحکم فأصبحت الخلافة (الشورویة) ملکا (کسرویا) و هنا ظهرت المعارضة و کان علی رأسها الحسین بن علی الذی ابی ان یرضخ لغیر الحق، و العدل، و شرعة الاسلام، و شایعه فی ذلک فریق من اهل الورع الذین اعتبروا البیعة لیزید انتهاکا لحرمات الدین الحنیف ، فلما طولب الحسین بمبایعة یزید اخذ سمته الی مکة و کان هذا ایذانا منه برفض البیعة و البدء بصراع عنیف ضد الجور و الخروج علی النهج اللاحب للاسلام، و کان معظم أنصار الحسین فی الکوفة فکاتبوه و توسلوا الیه للقدوم إلی الکوفة لمبایعته و استرداد حق ابیه السلیب ففعل، و لکنه ما کاد یقترب من الکوفة حتی شعر بصدق ما قاله الفرزدق: بأن قلوبهم معه، و لکن سیوفهم مع بنی أمیة، و کانت النتیجة أن بعث عبید اللّه بن زیاد عامل الامویین علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 166
الکوفة یومذاک بجند لمحاربته و انتهی القتال غیر المتکافی‌ء بمصرع الحسین فی العاشر من محرم الحرام سنة 61 ه؛ کما قد یری القاری‌ء فی مکان آخر من هذا الجزء؛ و من یومها غدت کربلاء نقطة تحول عظیمة فی تاریخ الاسلام و المسلمین؛ فلنقتطف إذن بعض ما تذکره المصادر و المظان علی سبیل النموذج عن هذه المدینة التی یدل جزءا اسمها علی انها کانت کربا، و بلاء بحقّ لا مریة فیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 167

معجم البلدان‌

یقول یاقوت الحموی- المتوفی سنة 626 فی «معجم البلدان» ، مادة «کربلاء»:
(کربلاء) بالمد و هو الموضع الذی قتل فیه الحسین بن علی رضی اللّه عنه فی طرف البریة عند الکوفة ...

کربلاء فی کتاب أحسن التقاسیم فی معرفة الأقالیم للمقدسی المعروف بالبشاری

ورد ذکر کربلاء فی هذا الکتاب و هو من تراث القرن الرابع للهجرة- العاشر للمیلاد (اذ ولد المقدسی سنة 335 ه- 946 م و وضع کتابه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 168
هذا سنة 375 ه ) و هو حین یذکر المشاهد فی العراق یقول «و المشاهد به کثیرة بکوثا ولد ابراهیم، و أوقدت ناره، و بالکوفة بنی نوح سفینته و فار تنوره، و ثمّ آثارات سیدنا علیّ و قبره؛ و قبر سیدنا الحسین رضی اللّه تعالی عنهما بکربلا. خلف قصر ابن هبیرة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 169

کربلا فی کتب التاریخ العام‌

المسعودی و کربلاء

فلما بلغ الحسین القادسیة لقیه الحر بن یزید التمیمی فقال له: این ترید یا ابن رسول اللّه؟ قال: ارید هذا المصر، فعرّفه بقتل مسلم و ما کان من خبره، ثم قال: ارجع فانی لم أدع خلفی خیرا ارجوه لک، فهمّ بالرجوع فقال له اخوة مسلم: «و اللّه لا نرجع حتی نصیب بثأرنا او نقتل کلنا، فقال الحسین: لا خیر فی الحیاة بعدکم، ثم سار حتی لقی خیل عبید اللّه بن زیاد علیها عمرو بن سعد بن ابی وقاص، فعدل إلی کربلاء- و هو فی مقدار خمسمائة فارس من اهل بیته و أصحابه نحو مائة رجل.
*** و لما قتل الحسین بن علی رضی اللّه عنهما بکربلاء و حمل رأسه ابن زیاد إلی یزید خرجت بنت عقیل بن أبی طالب فی نساء من قومها حواسر حائرات لما قد ورد علیهن من قتل السادات، و هی تقول (من البسیط):
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 170 ماذا تقولون إن قال النبی لکم:ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم؟
بعترتی و بأهلی بعد مفتقدی‌نصف أساری و نصف ضرّجوا بدم
ما کان هذا جزائی اذ نصحت لکم‌أن تخلفونی بشر فی ذوی رحمی
*** و تتبّع (المختار) قتلة الحسین فقتلهم: قتل عمرو بن سعد بن ابی وقاص الزهری، و هو الذی تولی حرب الحسین یوم کربلاء و قتله و من معه، فزاد میل أهل الکوفة إلیه و محبتهم له .
*** و کان جمیع من حضر مقتل الحسین من العساکر و حاربه و تولی قتله من أهل الکوفة خاصة، لم یحضرهم شامیّ، و کان جمیع من قتل مع الحسین فی یوم عاشوراء بکربلاء سبعة و ثمانین، منهم ابنه علی بن الحسین الأکبر .
و وردت «کربلاء» ایضا فی المسعودی باسم «الطفّ» فکان مما قاله:
و فی قتیل «الطفّ» یقول سلیمان بن قتة یرثیه علی ما ذکره الزبیر بن بکار فی کتاب «انساب قریش» من ابیات (من الطویل):
فان قتیل الطفّ من آل هاشم‌أذلّ رقابا من قریش فذلّت
و ذکر «الطفوف» فی حدیثه عن الفرات اذ قال:
و اما الفرات فمبدؤه من بلاد قالیقلا من ثغور ارمینیة ... ثم ینتهی الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 171
بالس و یمر بصفّین موضع حرب اهل العراق و أهل الشام ... و ینتهی الفرات إلی بلاد سوری، و قصر ابن هبیره، و الکوفة، و الجامعین و أحمدآباد، و الفرس، و الطفوف .
و یقول فی فصل خاص ب «ذکر ملوک الطوائف»: «اول ملوک الدنیا الاسکیان». و کانوا من ملوک الطوائف، و کانوا بأرض العراق مما یلی قصر ابن هبیرة و سقی الفرات و الجامعین و سورا و احمدآباد و النرس الی خبا و تل فحار و الطفوف و سائر ذلک الصقع .

کربلاء فی «التنبیه و الاشراف» للمسعودی (ص 263)

و دفن (الحسین بن علی) بکربلاء من ارض العراق و له سبع و خمسون سنة، و قتل معه من ولد ابیه ستة و هم العباس و جعفر و عثمان و محمد الاصغر و عبد اللّه و ابو بکر.

ابن الأثیر و الطف‌

و اورد ابن الاثیر لفظة «الطفّ» فی بیت من الابیات التی نقلها فی مجموعة حوادث سنة 61 ه التی نقلها بالحرف الواحد من تاریخ الطبری و البیت من الطویل:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 172 لهام بجنب الطفّ ادنی قرابةمن ابن زیاد العبد ذی الحسب الوعل

کربلاء فی (الفخری) لابن الطقطقی‌

و لعل اکثر المؤرخین استفظاعا لمأساة الحسین هو محمد بن علی بن طباطبا المعروف بابن الطقطقی فقد کتب فی کتابه «الفخری فی الآداب السلطانیة و الدول الاسلامیة» باسلوب قوی عنیف جوانب من هذه الفاجعة فقال:
«هذه القضیة لا احب بسط القول فیها استعظاما لها و استفظاعا، فانها قضیة لم یجر فی الاسلام اعظم فحشا منها؛ و لعمری ان قتل امیر المؤمنین علیه السلام هو الطامة الکبری؛ و لکن هذه القضیة جری فیها من القتل الشنیع و السبی او التمثیل ما تقشعر له الجلود، و اکتفیت ایضا عن بسط القول فیها بشهرتها فانها اشهر الطامات» ثم یسرد القصة بایجاز و لم یذکر کربلاء بل اکتفی بالقول: «فلما قرب من الکوفة علم بالحال و لقیه ناس فأخبروه بالخبر (ای مصرع مسلم بن عقیل و هانی‌ء بن عروة) و حذروه فلم یرجع، و صمم علی الوصول إلی الکوفة لامر هو اعلم به من الناس». ا ه

ابن عماد الحنبلی و کربلاء

و اورد اخبار کربلاء المؤرخ الفقیه ابو الفلاح عبد الحی بن العماد الحنبلی المتوفی سنة 1098 ه فی کتابه «شذرات الذهب فی اخبار من ذهب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 173
فی اخبار سنة احدی و ستین اذ قال: «استشهد فیها فی یوم عاشوراء ابو عبد اللّه الحسین بن علی بن ابی طالب سبط رسول اللّه (ص) و ریحانته بکربلاء عن ست و خمسین سنة و من اسباب ذلک انه کان قد ابی من البیعة لیزید بایع له ابوه الناس رابع اربعة عبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن الزبیر و عبد الرحمن ابن ابی بکر فلما مات معاویة جاءت کتب أهل العراق إلی الحسین یسألونه القدوم علیهم فسار بجمیع أهله حتی بلغ کربلاء موضعا بقرب الکوفة فعرض له عبید اللّه بن زیاد فقتلوه ... و اتفقوا علی قتله یوم عاشوراء قیل یوم الجمعة و قیل السبت و قیل الأحد بموضع یقال له الطفّ و قتل معه إثنان و ثمانون رجلا».

کربلاء فی التوفیقات الالهامیة تألیف محمد مختار

جاء فی محرم (الاربعاء) 61 ه الموافق لسنة 397 قبطیة و سنة 680 میلادیة (10 تشرین الأول) ما یلی:
«فی 10 منه (ای محرم) کانت واقعة کربلا قتل فیها سیدنا الحسین بن علی بن ابی طالب رضی اللّه عنهما، قتله الشمر بن ذی الجوشن و قتل معه من اخوته لابیه جعفر و عتیق و محمد و العباس الأکبر بنو علی و ابن الحسین الأکبر المسمی علیا و هو غیر علی زین العابدین و غیرهم».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 174

کربلاء فی المراجع العراقیة المتأخرة

دوحة الوزراء للشیخ رسول حاوی الکرکوکلی

فی شهر ذی القعدة من السنة المذکورة (1216 ه- 1801 م) ظهر وباء الطاعون فی مدینة بغداد، و بدأ ینتشر و یسری إلی ضواحیها و اطرافها، مما اضطر الوزیر سلیمان باشا إلی الهروب نحو مدینة الخالص و المکوث فیها ریثما ینجلی کابوس الطاعون عن بغداد.
و فی هذه الاثناء ورد الیه کتاب من حمود الثامر شیخ عشائر المنتفک یخبره ان (سعود بن عبد العزیز) و جموعا غفیرة من الوهابیین قد انحدروا نحو العراق، فأصدر امره الی علی باشا بالسفر لصد غاراتهم، و نزولا علی امر الوزیر تحرک الموما الیه الی الدورة، و انتظر هناک ریثما التحقت به القوات المطلوبة کما التحقت به بعض العشائر.
و بینما کان یزمع مواصلة السفر وردت الانباء بأن الوهابیین هجموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 175
علی کربلاء و استولوا علی مرافقها و نهبوها و قتلوا منها حوالی الألف نفس ، فأوفد علی باشا محمد بک الشاوی إلی الوزیر لیخبره بهذه الحادثة، ثم سافر مسرعا نحو کربلاء علی أمل أن یظفر بالوهابیین و ینتقم منهم، و ینقذ البلدة من قبضتهم.
الا ان الاخبار وردته و هو حینئذ فی الحلة بأن الوهابیین بعد ما نهبوا و قتلوا خرجوا قبیل العصر نحو الاخیضر، فتوقف علی باشا فی الحلة لاسباب اضطرته الی هذا التوقف، و لعدم بقاء ما یدعو للسفر إلی کربلاء بعد هروب الوهابیین منها.
*** و من جهة أخری وردت الاخبار بأن الطاعون اخذ یفتک بسکان بغداد فتکا ذریعا ... و هذه الاخبار المحزنة، قد اقلقت الحملة و اقعدتها عن تنفیذ مهمتها، فاکتفی علی باشا بارسال بعض القوات إلی کربلاء من باب الاحتیاط، و قد التحق بهذه القوات متصرف بابان ابراهیم باشا و اتباعه أیضا.
هذا و قد نقلوا خزینة النجف الاشرف خوفا علیها من غارات الوهابیین و ضموها إلی خزینة موسی الکاظم رضی اللّه عنه.
*** و بعد مکوث علی باشا فی الهندیه حوالی الشهرین و نصف الشهر وردته التعلیمات بوجوب تقسیم القوات التی تحت ادارته و قیادته الی عدة اقسام، یقیم قسم منها فی ذی الکفل، و قسم فی کربلاء، و قسم فی الحلة و ان یتخذوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 176
التحصینات فی هذه الامکنة ثم یعود إلی بغداد، و قد فعل ما أمر به.

حدیقة الزوراء للسویدی‌

و یحتل ذکر المراقد الشریفة، و بینها کربلاء إلی جانب مکانها فی الکتب القدیمة مکانا فی کتب تاریخ العراق فی العصور المتأخرة و من ذلک ما أورده عبد الرحمن السویدی (1722- 1805 م) فی کتاب: «حدیقة الزوراء فی سیرة الوزراء» اذ قال فی فصل بیان زیارات الوالی حسن باشا لمشاهد الصلحاء و مراقد الشهداء الاولیاء: «و فی شوال هذه السنة (1117 ه- 1705 م) رفع اللواء بالمسیر إلی کربلاء لزیارة سید الشهداء، و إمام الصلحاء، و قرة عین اهل السّنّة، و سید شباب اهل الجنة، ابی عبد اللّه الحسین، رضی اللّه عنه، و الی زیارة اللیث الجسور و الشجاع الغیور، قاطع الانفاس، من کل ضال کالخناس، أبی الفضل العباس، فدخل کربلاء وزار أصحاب العباء و اطلقت المباخر، و ظهرت المفاخر، فأجزل علی خدامها، و اجمل فی فقرائها، و دعا بحصول المراد، و زوال الانکاد، و دعی له بما یروم، و أنجح سعیه بالقدوم؛ و بقی یوما واحدا لضیق القصبة باحزابه و أعوانه و أصحابه ، ثم ارتحل قاصدا ارض الغری و النجف» ا ه.
و فی هذه السنة (1153 ه) ارسل نادر شاه .. مع رسول من خانانه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 177
و سفیر من أصحابه و اغواته ... الی سیدنا امیر المؤمنین علی بن ابی طالب و ولده الحسین و إلی موسی الکاظم رضی اللّه عنهم دراهم لا تعد و لا تحصی
و فی السنة الرابعة و الخمسین بعد المائة و الالف و عرت المسالک و خوّف منها السالک و ذلک ان رجالا تغصب من المارة أثقالهم و تأخذ أحمالهم و لم یعرفوهم من ای قبیلة فیشکونهم إلی الوزیر فیعاملهم بسوء الکیلة و لما کثر هذا الاختلال و دامت الطرق علی هذا الحال أخبر الوزیر بذلک فأرسل عیونا و فرقهم فی البوادی و القری کی یستخبروا عن اولئک الارجاس فیریح بابادتهم الوری فبعد أیام قلائل جاءته العیون و اخبروه بأن هؤلاء الذین یقطعون السبل من عشائر متفرقة و قبائل غیر متفقة قد حالفوا اهل القری علی ان یعطوهم مما ینهبونه و یواسوهم فیما یأخذونه علی ان یؤوهم نهارا و لا یذیعوا لهم اسرارا فحین سمع الدستور الغیور الشجاع الجسور بفعل أهل المخالیف و الضیاع من ایوائهم اهل الفساد و مشارکتهم لهم فی نهب المتاع ارسل سریّة سرّیة و کتیبة عنتریة مؤمرا علیها کتخداه سلیمان باشا الی أولئک الارجاس علی شرط ان یخمدوا منهم الانفاس و یأخذوا الاموال و یترکوهم فی اسوأ حال، و لما خرج العسکر من بغداد فرّقه أمیر السریّة فی الاغوار و الانجاد و ارسل کل فرقة منهم الی قریة و اوصی کلا منهم ان یری فی القتل و النهب رأیه فنهبوا جمیع القری التی فی الجانب الغربی ما عدا الحلة و الغریّ و کربلاء، و لکنهم نهبوا ما حولها من أخبیة الاعراب .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 178
و یبدو ان عبد اللّه السویدی والد عبد الرحمن السویدی مؤلف کتاب «حدیقة الزوراء» أصبح سنة 1145 ه بأمر من الوالی أحمد باشا «مفتیا فی قصبتی المشهدین الشریفین مشهد الامام علیّ بن أبی طالب و مشهد ولده الحسین رضی اللّه عنهما » و یروی کیف ان حصار نادر شاه لمدینة بغداد لم یبق عندهم غیر ثلاث و زنات من الحنطة و یمضی لیقول: «فعملنا من تلک الحنطة متاعا و اعطینا الباقی لبعض أقاربنا و خرجنا إلی المرقدین المذکورین، ثم إنا لم نزل هناک مسرورین بقرب اولئک الأکابر، مغبوطین باولی الشرف الظاهر، فبینا نحن فی السرور و الفرح، و زوال الشرور و الترح و اذا بالخبر قد جاءنا من بغداد بأن الخارجی الخبیث قد عاد، فهرب والدی مع عسکر حملة ابن دبیس و مع متولی قصبة الحسین الی الموصل علی طریق شفاثه و اودعنی و اودع سائر أهلی و اقاربی عند بعض السادة ...
و لساداتهم شیمة حسنة و اخلاق مستحسنة.»

کربلا فی موجز تاریخ البلدان العراقیة

و خلاصة ما ورد فیه عنها:
ان لواء کربلاء من بین الالویة العراقیة التی تمتاز بقدسیتها و هو منحصر بین الویة الحلة و الدلیم و الدیوانیة ... و قاعدة لواء کربلا الیوم مدینة کربلاء المشهورة فی التاریخین: التاریخ القدیم و التاریخ الحدیث، و هی بلدة عرفت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 179
بهذا الاسم قبل الاسلام بزمن بعید، بل الظاهر من الاخبار الدینیة المتواترة ان هذا الاسم لهذه البقعة یرتقی إلی زمن آدم ابی البشر کما تؤید ذلک اخبار الطوفان و غیرها ... و یحتمل ان تکون لفظة کربلا منحوتة من «کوربابل» العربیة بمعنی مجموعة قری بابلیة کثیرة: منها نینوی القریبة من أراضی سدة الهندیة و منها الغاضریة المشهورة بأراضی الحسینیة او کربلّه- بتفخیم اللام- و هی القریبة من مدینة کربلا شرقا و جنوبا؛ ثم کربلا او عقر بابل و هی قریة فی الشمال الغربی من الغاضریة و بأطلالها اثریات مهمة ثم النواویس التی کانت مقبرة عامة قبل الفتح الاسلامی ثم الحیر و یقال لها الحایر، و فی الروایات الروحیّة التخییریة بین القصر و التمام ان الحائر اسم لموضع فیه قبر الحسین (ع) و قد اختلف لسانها فی تحدیده، و هی الیوم موضع قبر الحسین (ع) الی رواق بقعته الشریفة او الی حدود الصحن الشریف و غیر ذلک من القری الکثیرة .
و یری بعضّهم ان اسم کربلا مرکب من «کرب» ای حرم و (ایل) ای «اللّه» و معناهما «حرم اللّه» و هو لفظ آشوری یدل علی ان هناک منسکا یسمی «حرم اللّه» و هذا و هم ظاهر.
و قرأت فی رسالة مخطوطة للسید الصدر احتمال کون کلمة «کربلا» مشتقة من الکربه بمعنی الرخاوة و لما کانت ارض هذا الموضع رخوة سمیت کربلا او من النقاوة من کربت الحنطة اذا هزیتها و نقیتها و لما کانت هذه الأرض منقاة من الحصی و الدغل سمیت کربلا او ان اکربل نبت الحماض کان کثیرا نبته فی هذه الارض فسمیت به و الا ظهر من هذه الوجوه الثانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 180
و الاوسط» ا ه.
و قد روی ان الحسین (ع) لما انتهی إلی کربلا و احاطت به خیل عبد اللّه ابن زیاد قال: «ما اسم تلک القریة و اشار الی العقر فقیل له اسمها العقر فقال: نعوذ باللّه من العقر، فما اسم هذه الارض التی نحن فیها قالوا:
کربلا فقال (ع) ارض کرب و بلاء و اراد الخروج منها فمنع حتی کان ما کان و قد سبق ان نزلها ابوه الامام علی بن ابی طالب (ع) فی سفره إلی حرب صفین و شوهد فیها متأملا فی ما بها من أطلال و آثار فسئل عن السبب فقال ان لهذه الأرض شأنا عظیما فها هنا محط رکابهم و ها هنا مهراق دمائهم، فسئل فی ذلک فقال: «ثقل لآل محمد ینزلون ههنا» .
اما کربلا الیوم فتبعد عن بغداد 74 میلا و تربطها بها سکة حدید ثابتة و هی مدینة واسعة علی ضفة ترعة «الحسینیة» الیسری یحیط بها شجر النخیل الوارف و بساتین أشجار الفواکه الباسقة المختلفة الصنوف.
و تقسم کربلا من حیث العمران إلی قسمین یسمی الاول «کربلا القدیمة» و هو الذی اقیم علی انقاض کربلا العریقة فی القدم و الشهیرة فی التاریخ و یدعی الثانی «کربلا الجدیدة» و هو الذی خطط فی عهد ولایة المصلح الکبیر مدحت باشا فی عام 1285 ه- 1868 م و بنی بعد عام 1300 ه علی طراز یختلف عن الطراز القدیم الا انه تهدم معظمه- مع الاسف- حیث اقیم علی ارض سبخة تنز فیها المیاه فتأکل اسس الجدران و لهذا السبب یحیط بکربلا إلی الیوم مستنقع کبیر ... و یبلغ معدل عدد الزوار لها 000، 250
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 181
نسمة فی کل موسم.
و قد هجم الوهابیون علی هذه المدینة المقدسة عام 1216 ه- 1801 م و هدموا ارکان الحضرتین (حضرة الحسین و حضرة العباس) و نهبوا ما فی الحضرة الحسینیة من نفائس و مجوهرات ثمینة، و تدل التقاریر علی ان کنوز هذه الحضرة من اثمن الکنوز رغم ما سلبه الغزاة منها ..
و ضریح الحسین الیوم مقام وسط صحن عظیم تتلألأ فیه القبة مع مئذنتیها المغشاتین بالذهب الابریز فتشع هیبة و جلالا و قد انفق علی هذه التغشیة السلطان ناصر الدین شاه فی عام 1273 ه- 1856 م کما هو مکتوب علی حائط القبة بسطر من ذهب و یبلغ ارتفاع القبة من أسفلها الی اعلاها 15 مترا.
و یرتقی تاریخ تأسیس الحضرة الی ایام قتل الحسین (ع) فقد جاء فی کامل الزیارة لابن قولویه- و هو من الکتب الخطیة النفیسة- ما نصه:
«ان الذین دفنوا الحسین اقاموا رسما لقبره و نصبوا علما له و بناء لا یدرس اثره؛ و لعل المراد بقوله: ان الذین دفنوه بنو أسد، و قد خرب هذه البنایة هارون الرشید بدلیل ما جاء فی کتاب «تسلیة الجالس و زینة المجالس» لمحمد بن أبی طالب- و هو من الکتب الخطیة- و هذا نصه: «و کان قد بنی علیه مسجد و لم یزل کذلک بعد بنی امیة، و فی زمن بنی العباس، إلا علی زمن الرشید، فانه خربه و قطع السدرة التی کانت نابتة عنده و کرب موضع القبر ثم أعید علی زمن المأمون و غیره الی ان حکم المتوکل فأمر بتخریب قبر الحسین و قبور أصحابه و کرب مواضعها و أجری الماء علیها إلی ان قتل المتوکل و قام بالامر بعده ابنه المنتصر فعطف علی آل ابی طالب و أحسن الیهم و فرق فیهم الأموال و اعاد القبور فی ایامه» و قد تهدمت بنایة المنتصر هذه فی عام 273 ه- 886 م کما فی آمال الاخطار للسید ابن طاووس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 182
فقام صاحب طبرستان محمد بن زید الراعی وجدد العمارة خلال المدة التی حکم فیها المعتضد و هی من عام 279 الی 289 ه کما فی (فرحة الغری) ثم جدد البناء عضد الدولة البویهی فاحترقت عمارته فی 14 ربیع الاول من سنة 407 ه- 1016 م فقام وزیر الدولة الدیلمی الحسن بن اسماعیل و جددها اما العمارة الموجودة الآن فقد شیدت فی عام 767 ه- 1365 م کما هو مسطور فوق المحراب مما یلی الرأس فراجعه.
و ضریح الحسین عبارة عن مصطبة من الخشب المرصع بالعاج یعلوها مشبکان احدهما من الفولاذ الثمین و هو الداخلی و الآخر من الفضة الناصعة البیاض و هو الخارجی و تعلو الضریح الاوانی الذهبیة المرصعة بالاحجار الکریمة و فی کل رکن من ارکانه رمانة من الذهب الخالص یبلغ قطرها قرابة النصف متر.
و یتصل بهذا المشبک الخارجی، مشبک آخر لا یختلف عنه بمزیة من مزایاه و لا یوجد أی حاجز بینهما الا انه یقصر بمتر واحد من کل جانبیه
و قد رقد تحته علی بن الحسین الذی استشهد مع ابیه فی یوم واحد فدفن إلی جنبه (ع).
و امام هذا المشبک ساحة مقدسة عند الشیعة لا یطأها أحد بقدمیه لانهم یعتقدون بأنها مراقد الشهداء الذین استشهدوا مع الامام و فی زاویة من هذه الساحة مشبک من الفضة یتصل بالحائط و یعرف بمراقد الشهداء الذین استبسلوا فی حومة الوغی معه (ع) أیضا.
و فی صحن الحسین مأذنة منفردة یقال لها منارة العبد و هی مغشاة بالقاشانی الملون و یروی عن سبب إنشائها فی هذا المحل المنعزل ان زنجیا کان یسکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 183
الصحن و یکتسب کسبا ضعیفا فاقتصد علی نفسه حتی جمع ثروة مکنته من تشیید هذا الاثر الخالد له.
و علی مسافة قصیرة من صحن الحسین یشاهد ضریح العباس بن علی بن ابی طالب المقتول مع أخیه الحسین فی یوم واحد، و هو ایضا وسط صحن کبیر لا یقل عن بقیة صحون الائمة من حیث هندسة البناء و ضخامته و کثرة المجوهرات و المرصعات التی اعتاد المسلمون ان یزینوا بها المراقد المقدسة.
و علی بعد ثلاثة أمیال من غربی کربلا، مرقد الحر بن یزید الریاحی الزعیم العراقی الذی جاهد مع الحسین ضد جیش یزید بن معاویة و قبره بدیع تعلوه قبة من القاشانی الملون و یزوره اکثر الذین یزورون کربلا کما یقصده أکثر الأهلین للنزهة و الرفاهة لما یحیط به من البساتین و الجنان و علی باب قبة القبر کتابة نصها: (قد عمر هذا المکان بهمة أقا حسین خان شجاع السلطان فی محرم 14 سنة 325 ه) و کان اول من اظهر و شید هذا القبر الشاه اسماعیل الصفوی یوم دخل بغداد و حکمها.
و علی مسافة سبعة امیال من شرقی کربلا، بینها و بین المسیب، تشاهد قبة مزینة بالقاشانی ایضا تلک هی قبة عون بن عبد اللّه بن جعفر الطیار و امه زینب بنت علی (ع) و قیل الحفصاء یقصده الزائرون لکربلا فی اکثر الاوقات للزیارة و الثواب .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 184

کربلا فی المحاضرات من الاحتلال حتی الاستقلال لعبد الرحمن البزاز

یذکر المؤلف فی فصل الثورة العراقیة (ص 29):
«و کان الحکام السیاسیون و معاونوهم فی الاقضیة یتبعون سیاسة العنف ذاتها المتبعة فی بغداد؛ و تجلی ذلک فی کربلا و الحلة و الدیوانیة و قبل ذلک اتبعت سیاسة القمع فی النجف».
و یستعرض میادین الثورة و عندما یتحدث عن «میدان الفرات» یقول:
«کانت مدینتا النجف و کربلا- و هما المرکزان الدینیان العظیمان فی العراق- قد اصبحتا من المراکز الاساسیة للشعور الوطنی و الحرکة القومیة فی العراق.» (ص 32).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 185
و فی مدینة کربلا کان شعور القلق و روح التحفز بادیة، و خاصة بعد ان نفت السلطات البریطانیة اثنی عشر شخصا من بینهم الشیخ محمد رضا نجل المجتهد الکبیر الشیرازی و قد نقل أولئک الاشخاص الی الحلة و منها الی البصرة ثم إلی جزیرة «هنجام» فی الخلیج؛ و بعد مراسلات طویلة بین بعض المجتهدین و السلطات البریطانیة کان الغرض منها حمل البریطانیین علی الرجوع عن سیاستهم التعسفیة، و التسلیم بحقوق العراقیین، نجد ان الشیخ الشیرازی قد افتی فتواه المشهورة التی نصت علی ان «مطالبة الحقوق واجبة علی العراقیین، و یجب علیهم ضمن مطالباتهم رعایة السلم و الامن» و یجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعیة اذا امتنع الانکلیز عن قبول مطالبهم ».
و قد کان لهذه الفتوی اثرها فی نفوس أبناء القبائل خاصة، و کان رسل الثورة قد انتشروا فی الحاء الفرات الاوسط و اشاعوا مضمونها». (ص 33- 34).
و یعود ذکر کربلا مرة اخری فی صدد کلامه عن «المیادین الاخری» اذ یقول:
«لم تقتصر الثورة علی الفرات و ان کان الفرات اعظم المیادین کما قلنا فقد استطاع دعاة الثورة فی بغداد و الکاظمیة و کربلا ان یثیروا الحماس ضد البریطانیین فقام نفر من شباب بغداد فی الثالث من شهر آب باشعال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 186
النار فی مستودع الآلیة فأتلف جمیع الوقود و الذخیرة و کاد هذا العمل یشل حرکة النقلیات البریطانیة فی جمیع انحاء العراق» (ص 37).
و فی موضوع «اختیار الملک» و المرشحین للعرش الجدید یقول:
و قد رشح البعض «آغاخان» لعرش العراق، و هو ترشیح غریب فلیس له رابطة دینیة او جنسیة مع العراق و العراقیین، و لیس له من الاتباع الا افراد، و ربما بعض الاقرباء الذین یسکنون کربلاء و بغداد (ص 49).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 187

کربلاء فی المراجع الاستشراقیة تاریخ العرب الأدبی رینولد نکلسن‌

اشارة

من المحدثین الذین ذکروا «کربلاء» المستشرق رینولد نکلسن فی کتابه «تاریخ العرب الأدبی» . ففی الصفحة 196 یقول ما ترجمته:
ترعرع یزید بدویا بکل غرائز و اذواق البدو- حب اللذة و کره التقی و عدم اکتراث استهتاری بقوانین الدین و قد تحدد مستهل حکمه بحادث قلما یتحدث عنه المسلمون حتی فی الوقت الحاضر دون ان یشعروا بقشعریرة الفظاعة و الرعب، و هذه هی الحقائق باختصار: فی خریف سنة 680 م غادر الحسین بن علی مکة مع اسرته کافة و عدد من اصدقائه المخلصین، مدعیا بأحقیته فی الخلافة لانه سبط النبی (ص)، و قد اخذ سمته قاصدا الکوفة حیث کان یتوقع من اهلیها الذین کانوا کلهم شیعة تقریبا ان ینضووا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 188
تحت لوائه مؤیدین قضیته، غیر انها کانت مخاطرة غیر مأمونة؛ و کان الفرزدق الشاعر الذی یعرف طبیعة مواطنیه المتقلبة قد أخبر الحسین (ع) بأن قلوبهم معه و سیوفهم مع بنی أمیة؛ غیر ان تحذیره کان دون طائل و فی الوقت ذاته بعث عبید اللّه بن زیاد عامل الکوفة الذی ارعب الثوار فی المدینة بقطع رأس زعیمهم مسلم بن عقیل ابن عم الحسین (ع)، بعث بقوة من الفرسان لا یقاف زحف سید الثائرین و کان مجال التراجع لا یزال مفتوحا أمامه غیر ان اتباعه صرخوا ان لا بد من الثأر لدم مسلم فلم یسع الحسین (ع) ان یتردد فاتجه شمالا محاذیا الفرات و حط رحاله فی کربلاء مع جماعته الصغیرة التی بلغت عدتها، بما فیها النساء و الاطفال، نحوا من مائتی نسمة؛ و فی هذا الموقف الذی لا رجاء فیه تقدم بعروض ربما کانت تقبل لو لم یقنع شمر بن ذی الجوشن، و هو اسم ملعون سی‌ء الصیت الی الأبد، عبید اللّه علی الإصرار علی التسلیم بلا قید أو شرط؛ فرفضت العروض وصفّ الحسین (ع) أصحابه- و هم زمرة صغیرة من الرجال و الصبیان- للمعرکة ضد الجمع الحاشد الذی أحاط بهم.
لیس بمقدور جمیع التفاصیل المرعبة التی انبثقت من الحزن و العاطفة العمیقة ان تزید من مأساة المشهد الأخیر؛ و یبدو أن ضباط بنی أمیة انفسهم أحجموا من ولوج بشاعة مجزرة عامة، و کانوا یأملون فی أن یأخذوا سبط الرسول (ص) حیا؛ علی ان الشمر لم یکن لدیه أی تقید أو تحرج من هذا النوع إذ غضب من التأخیر و حث جنوده علی الهجوم و سرعان ما انتهی الصراع غیر المتکافی‌ء: صرع الحسین (ع) و قد اخترقه سهم و قتل اشیاعه الشجعان حوالیه عن آخرهم.
إن الروایات الاسلامیة التی هی باستثناءات نادرة، معادیة باتساق للاسرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 189
الامویة، یعتبرون الحسین (ع) شهیدا و یزید قاتله ... و المسألة بالنسبة للمسلمین تقرره علاقة الامویین بالاسلام، فلا یمکنهم و قد خرقوا قوانینه و سخروا من مثله العلیا، ان یکونوا غیر طغاة و ما دامو طغاة فلا یحق لهم قتل المؤمنین الذین یشقون عصا الطاعة فی وجه سلطتهم الغاصبة! و عند التمحیص نجد ان ما یسمی بحکم التاریخ هو حکم الدین، و قضاء الاسلام الالهی، و علی هذا الاساس فان الامویین قد ادینوا بحق .
و کان للامویین بالتأکید سبب قوی لندمهم علی یوم کربلاء، فقد منح الشیعة صرخة التجمع الا و هی: «الثأر للحسین!»- تلک الصرخة التی تلقفتها جمیع الجهات.
و اصبحت کربلاء بالنسبة للشیعة ما کانت علیه النهروان بالنسبة للخوارج و قد ذکرها الشاعر کثیر عزة المتوفی سنة 105 ه- 723 م بقوله (من الوافر):
ألا إن الأئمة من قریش‌ولاة الحق أربعة سواء
علیّ و الثلاثة من بنیه‌هم الأسباط لیس بهم خفاء
فسبط سبط ایمان وبرو سبط غیّبته کربلاء
و سبط لا تراه العین حتی‌یقود الخیل یقدمها اللواء
تغیّب لا یری عنهم زمانابرضوی عنده عسل و ماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 190
و خلال بضع سنوات من مصرع الحسین (ع) اصبح ضریحه فی کربلاء محجا تشد الیه رحال الشیعة و عندما ثار (التوّابون) سنة ه- 684 م قصدوها و رفعوا عقائرهم منتحبین بصوت واحد و بکوا و تضرعوا الی اللّه ان یغفر لهم لتنکرهم لسبط الرسول (ص) فی ساعة شدّته و ضیقه و صاح زعیمهم: «رب ارحم الحسین، الشهید بن الشهید، المهدی بن المهدی، الصدیق بن الصدیق! ربّ! اشهد اننا اتباع دینهم و سبیلهم و اننا اعداء قاتلیهم و احباء محبیهم» . هنا تکمن نواة «التعازی» و المشاهد الدینیة التی تمثل کل سنة فی العاشر من محرم حیثما وجد الشیعة.
غیر ان موسی الشیعة، الرجل الذی أراهم الطریق إلی النصر و لو انه لم یقدهم الیه هو دون شک «المختار» .
و لقد أثر المصیر المفجع للحسین فی کربلاء علی الشاعر الفرزدق تأثیرا عمیقا فدعا مواطنیه ان یبرؤا ذمتهم کرجال فقال (من)
فان غضبت العرب لابن سیدها و خیرها فاعلموا انه سیدوم عزها و تبقی هیبتها و ان صبرت علیه و لم تتغیر لم یزدها اللّه إلا ذلا الی آخر الدهر و انشد فی ذلک:
فان انتم لم تثأروا لابن خیرکم‌فالقوا السلاح و اغزلوا بالمغازل
و قد تقلبت الأحداث علی کربلاء ... ففی سنة 1801 م نهب الوهابیون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 191
مشهد الامام الحسین (ع) و هو المکان الذی یعرف عادة بکربلاء أو مشهد الحسین ... المدینة القریبة من بغداد؛ فقتلوا خمسة آلاف شخص و حطموا قبة ضریح الحسین (ع) فتقدیس جمیع الشیعة لذلک الضریح کما یقول برکهارت‌Burckhardt کان سببا کافیا لاثارة غیظ الوهابیین ضده .
و قد أشار إلی ذلک الشیخ رسول حاوی الکرکوکلی فی کتابه: «دوحة الوزراء فی تاریخ وقائع بغداد و الزوراء» تحت عنوان «ظهور و باء الطاعون و خروج الوزیر من بغداد و هجوم الوهابیین علی کربلاء»

کربلاء فی «بلاد العرب» لمؤلفه دی جی هوکارث Arabia «By D .G .Hogarth »

و عندما تبعه «الضمیر یعود علی الامام علی (ع)» ولداه الحسن و الحسین فی ظرف عشرین عاما الی القبر بالعنف بالنسبة لاحدهم ان لم یکن بالنسبة لکلیهما دون ان یتمتع ای منهما بحقه، کان عبادة الاسرة کمجموعة ابطال امرا لا مناص منه و قد دلت صفوف الحجاج التی تحج إلی مشهد علی فی النجف و مشهد الحسین فی کربلاء و العواطف التی ما تزال تؤججها التشابیه فی العاشر من محرم فی العالم الاسلامی بأسره- کل هذه المظاهر استمرت لتدل علی ان الموت ینفع القدیس اکثر من کل ایام حیاته مجتمعة (ص 75).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 192
اما فی الصفحة 102 من الکتاب ذاته فیشیر المؤلف إلی هجمات الوهابیة علی کربلاء.

کربلاء فی کتاب «الاسلام فی القرون الوسطی»MEDIEVAL ISLAM A Study in Cultural Orientation لغوستاف فون کرونه باوم

ورد ذکر کربلاء فی هذا الکتاب فی الصفحتین 191 و 193.
إذ جاء فی الصفحة 191 ان ابن علی و حفید الرسول (ص) قتل سنة 680 م فی کربلاء نتیجة ثورة غیر موفقة ... و قد اقتبس فون کرونه باوم صفحة من کتاب مسرحیة الخوارق عن الحسن و الحسین‌The Miracle Play of Hasan and Husain (لندن 1879) ج 2 ص 101- 102 تألیف السر ل. پلی‌L .Pelly
حیث یصف الشمر نفسه و انه ما ولدته امه الا لقتل الحسین (ع) و یعلق فون کرونه باوم قائلا: «بهذه الصورة اعید تفسیر حادث کربلاء کقضیة ذات خطورة کونیة و کمسرحیة تذکرنا بعنف و قوة بموت المسیح (ع) (ص 193).
اما ذکر الحسین (ع) فقد ورد فی الصفحات 123، 191- 193 و 196 و 219 من الکتاب المذکور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 193

فیلیب حتی و کربلاء

و قد اورد الاستاذ فیلیب حتّی استاذ التاریخ الاسلامی فی جامعة برنستن بامیرکا ذکر کربلاء فی مواضع من کتابه المشهورHistory of the Arabs «تاریخ العرب» فی الصفحات 183 و 190- 191 و 440 من النسخة الانکلیزیة.
ففی الصفحة 183 یقول ما ترجمته:
ان حشود الزوار التی ما تزال تتدفق إلی مشهد علی فی النجف و مشهد ولده الحسین سید القدیسین و الشهداء عند الشیعة فی کربلاء القریبة من النجف و المسرحیة الدینیة التی تمثل سنویا فی العاشر من محرم فی العالم الشیعی باسره، کل ذلک یشهد علی ان الموت قد ینفع القدیس اکثر من الحیاة.
و یشیر فی الصفحتین 190 و 191 الی فاجعة کربلاء و نکتفی هنا بترجمة الجمل التی ورد فیها ذکر المدینة ففی الصفحة 190 و ما یلیها یقول ما ترجمته:
فی العاشر من محرم سنة 61 ه (10 تشرین الاول 680 م) احاط عمر ابن القائد الشهیر سعد بن ابی وقاص علی رأس 4000 مقاتل بالحسین و جماعته الصغیرة المؤلفة من مائتی نسمة فی کربلاء، فی ما یقرب من خمسة و عشرین میلا شمال غربی الکوفة و بما انهم رفضوا الاستسلام فقد اعمل فیهم السیف و قد استشهد الحسین سبط الرسول بعد ان اصیب بعدة جروح و ارسل رأسه الی یزید فی دمشق، و اعید الرأس بعد ذلک الی أخت الحسین و ابنه اللذین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 194
ذهبا معه الی دمشق (ابن حجر، ج 2 ص 17) و دفن مع الجسم فی کربلاء.
و قد اوجد المسلمون الشیعة احیاء لذکری استشهاد الحسین مراعاة مراسیم الحزن فی العشرة الاولی من محرم الحرام سنویا و وضعوا مسرحیة عاطفیة دینیة تؤکد صراعه «البطولی» و آلامه و هذه المسرحیة الدینیة السنویة تمثل فی فصلین یعرف الاول ب «عاشوراء» (الیوم العاشر) یمثل فی الکاظمیة (علی مقربة من بغداد) إحیاء لذکری المعرکة و الفصل الثانی بعد العاشر من محرم باربعین یوما فی کربلاء و عنوانه: «مرد الرأس».
لقد برهن دم الحسین اکثر من دم ابیه علی انه الاساس الذی تقوم علیه العقیدة الشیعیة فقد ولد التشیع فی العاشر من محرم و منذ ذلک الوقت فصاعدا اصبحت الامامة فی سلالة علیّ مبدأ عقائدیا فی المذهب الشیعی کرسالة محمد فی الاسلام.
و قد منح (یوم کربلاء) الشیعة شعارا فی المعارک یتلخص فی الثأر من أجل الحسین، و قد برهنت الایام فیما بعد علی انه احد العوامل التی قوضت اسس الدولة الامویة.
اما فی الصفحة 440 فیشیر إلی المتوکل و یقول: «و سرعان ما جاء المتوکل الذی استأنف سنة 850 م عادة اضطهاد الشیعة القدیمة فقد هدم ضریح علیّ فی النجف و الضریح الأکثر قداسة فی کربلاء و هو ضریح الحسین فأکتسب بذلک کراهیة الشیعة الابدیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 195

کربلاء فی المعاجم‌

لویس معلوف الیسوعی و کربلاء

یقول الاب لویس معلوف الیسوعی فی المنجد فی اللغة و الادب و العلوم (بیروت 1956) فی مادة «کربلاء» (ص 453):
«لواء فی العراق محصور بین الویة الحلة و الدلیم و الدیوانیة (200، 21 کم) (951، 145) فیه قضاء النجف (و ناحیته الکوفة ) و ناحیتان ملحقتان بمرکز اللواء و هما الحسینیة و عین تمر؛ و کربلاء مدینة فی العراق (لواء کربلاء) (000، 35) یکرمون فیها مشهد الحسین بن علی و فاطمة و مقام المرزه شفیع خان رئیس الفرقة الشیخیة، و مقام السید کاظم الرشتی صاحب الفرقة الکشفیة، و مقام حسین علی شاه رئیس الطریقة الصوفیة و مقام مؤمن ده‌ده رئیس الطریقة البکتاشیة؛ و یوم کربلاء وقع فی العاشر من محرم 61 ه الموافق للعاشر من تشرین الاول 680 م فیه قتل الحسین بن عسلی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 196

کربلاء فی «قاموس الاسلام»A Dictionary of Islam

لم یزد توماس باتریک هیوزThomas Patrick hughes فی معجمه الموسوم ب «قاموس الاسلام» علی الکلمات الآتیة فی مادة کربلاء.
کربلاء او مشهد الحسین: مدینة فی العراق اشتهرت بمصرع الحسین و بکونها مثواه الاخیر و مستقر ضریحه. تقع علی مسافة خمسین میلا جنوب غربی بغداد و حوالی ستة أمیال غربی الفرات .

کربلاء فی معجم «لاروس» الفرنسی‌

و اکتفی «لاروس» فی معجمه الفرنسی المشهور ببضع کلمات، اذ لم یزد علی ان قال ما ترجمته:
«مدینة فی العراق لا تبعد عن الفرات کثیرا. نفوسها 000، 65 نسمة و هی مقدسة عند الشیعة» .

کربلاء فی «الموسوعة الاسلامیة الموجزة»Shorter Encyclopaedia of Islam

فی الطبعة الاخیرة للموسوعة الاسلامیة الموجزة التی طبعت بالانکلیزیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 197
بطلب من الاکادیمیة الهولندیة الملکیة تحت اشراف ه. ا. ر. جب و جی ه. کرامرز سنة 1961 فی مادة «مشهد الحسین» (کربلاء) المعلومات الآتیة نترجمها هنا لفائدة القراء:
مشهد الحسین موضع للحج غربی الفرات حوالی 60 میلا جنوب غربی بغداد علی مشارف الصحراء (یاقوت، معجم البلدان، طبعة و ستنفیلد، ج 4 ص 249) و تقع بمواجهة قصر ابن هبیرة (الاصطخری‌BGA ج 1 ص 85، قارن البلاذری، فتوح البلدان، طبعة دی غویه، ص 287، المقدسی‌BGA ، ج 3 ص 121) و من المحتمل ان اسم کربلاء مرتبط باللفظة الآرامیّة «کربیلا» (سفر دانیال 3، 21) و اللفظة الآشوریة «کربلّاتو» (و هی نوع من لباس الرأس، راجع ج. جاکوب؛ «المکتبة الترکیة» ج 9 ص 35 الهامش رقم: 2) و هی غیر مذکورة فی تاریخ ما قبل العرب.
و یقال ان خالد بن الولید، بعد ان استولی علی الحیرة، اقام معسکره فی «کربلاء» (یاقوت، 4- 250) و فی یوم عاشوراء (10 محرم) 61 ه (10 تشرین الاول 680 م) استشهد الامام الحسین بن علی (ع) فی زحفه من مکة علی العراق حیث کان مصمما علی المطالبة بحقوقه فی الخلافة، فی سهل کربلاء فی منطقة نینوی (الطبری: 3- 2190؛ یاقوت: 4- 870 و هی الآن علی رأی ماسینیون «خیمة قاعة » و علی رأی موسیل‌Musil : «إشان نینوی) فی معرکة مع جیش عامل الکوفة و دفن فی الحائر (یاقوت: 2- 188 و ما یلیها، الطبری: 3- 752).
و سرعان ما أصبح الموضع الذی دفن فیه جثمان سبط الرسول (ص) المفصول عن رأسه (راجع فیما یتعلق بمصیر الرأس الذی قطع و ارسل الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 198
دمشق الی یزید الأول، فان بیرشیم‌Festschrift ED Sachau Gewidm ، برلین 1915 ص 298- 310) المعروف بقبر الحسین موضعا مشهورا لحجیج الشیعة (راجع مادة «شیعة»).
و فی فترة مبکرة لا تتجاوز سنة 65 ه- 684- 685 م نجد سلیمان ابن صرّد یذهب مع اتباعه الی ضریح الحسین (ع) حیث یقضی یوما و لیلة (الطبری، طبعة دی غویة، 2- 545 و ما یلیها) و یذکر ابن الاثیر (الکامل: طبعة تورنبرغ ج 5 ص 184؛ ج 9 ص 358) رحلات حج اخری فی السنتین 122 ه- 739- 740 م و 436 ه- 1044- 1045 م و اسبغت ام موسی، والدة الخلیفة المهدی فی تاریخ مبکر خیراتها علی رجال الدین القائمین علی العنایة بالضریح (الطبری 3- 752).
و قد هدم الخلیفة المتوکل سنة 236 ه- 850- 851 م الضریح و ملحقاته و امر بتسویة الارض و زراعتها و منع تحت طائلة العقاب الصارم زیارة العتبات المقدسة (الطبری: 3- 1407؛ حمد اللّه المستوفی: «نزهة القلوب» طبعة لسترانج، ص 32) علی ان ابن حوقل (طبعة دی غویه:
ص 166) یذکر حوالی سنة 367 ه- 977 م «مشهدا» عظیما و غرفة ذات قبة لها بابان باب من کل جانب و فی داخلها ضریح الحسین (ع) الذی کان کثیرا ما کان یتوافد علیه الزائرون فی زمانه. و قد دمّر ضبّه بن محمد الاسدی الذی هو فی الاصل من عین تمر و شیخ مشایخ مجموعة من القبائل، مشهد الحائر (کربلاء) مع عتبات مقدسة أخری فأرسلت حملة تأدیبیة الی عین التمر سنة 369 ه- 979- 980 م فلاذ بالهرب الی الصحراء قبل وصولها (ابن مسکویه، «تجارب الامم»، طبعة امیدروز فی کتاب «کسوف الخلافة العباسیة». (بالانکلیزیة) ج 2 ص 338، 414) و فی السنة ذاتها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 199
وضع عضد الدولة البویهی الشیعی العتبتین المقدستین: مشهد علیّ (ع) (فی النجف) و مشهد الحسین (ع) (فی الحائر) تحت حمایته الخاصة (ابن الاثیر: 8- 518؛ حمد اللّه المستوفی، نفس المصدر).
و قد اقام الحسن بن فضل المتوفی سنة 414 ه- 1023- 1024 م سورا حول الضریح المبارک فی مشهد الحسین (ابن تغربردی، النجوم الزاهرة فی ملوک مصر و القاهرة، طبعة بوبرPopper 2- 123، 141 علی نحو ما صنع فی مشهد علی (بالنجف) (ابن الاثیر: 9- 154.
و فی ربیع الاول سنة 407 ه- آب- ایلول 1016 م نشب حریق هائل (بسبب سقوط شمعتین عن موضعهما) احال القبة (او البناء الرئیسی) و الاروقة (او القاعات المفتوحة) الی رماد (ابن الاثیر: 9- 209).
و لم یغفل السلطان السلجوقی ملکشاه زیارة مشهدی علی و الحسین (ع) بعد دخوله بغداد (ابن الاثیر: 9- 103) و کانت هاتان العتبتان المقدستان یطلق علیهما فی هذا الوقت «المشهدان» (البنداری الاصفهانی «تواریخ آل سلجوق» طبعة هوتسما، فی مجموعة «منتجات من النصوص» ج 2 ص 77) علی غرار المثنیات المعروفة و هی: العراقان، البصرتان، الحیرتان، المصران الخ ...
و قد زار غازان الایلخانی سنة 703 ه- 1303 م کربلاء و قدم هدایا سخیة الی هذه العتبة المقدسة و یعود الفضل له او لأبیه «أرغون» فی جلب الماء الی المنطقة بواسطة قنال یمتد الی الفرات (و هو نهر الحسینیة الحدیث) (ا. نولدکه:Das Heiligtum Al -Husains Zu Kerbela ' برلین، 1909، ص 40).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 200
و قد زار ابن بطوطه (طبعة دفر یمیری و سانکوینیتّی، ج 2 ص 99) کربلاء سنة 727 ه- 1326- 1327 م قادما الیها من الحلة و یصفها بأنها مدینة صغیرة تقع بین بساتین النخیل و تستمد ماءها من الفرات و فی وسطها الضریح المبارک و الی جنبه مدرسة کبیرة و «الزاویة» الشهیرة حیث یقیم الزوّار و لا یمکن الدخول الی المرقد الشریف الا بسماح القیّم و الزوار یقبّلون السیاج الفضی المحیط به و فوقه المصابیح الذهبیة و الفضیة و علی الابواب ستائر حریر و سکان المدینة منقسمون الی اولاد رخیک و اولاد فایز و کانت منازعتهم المستمرة تلحق الضرر بالمدینة رغم انهم کانوا جمیعا من الشیعة.
و یقدر حوالی الوقت ذاته حمد اللّه المستوفی محیط المدینة ب 2400 خطوة و یذکر هناک کذلک قبر الحرّ بن یزید الذی کان اول من استشهد مقاتلا فی سبیل الحسین بکربلاء.
و قد قام الشاه الصفوی اسماعیل الأوّل (المتوفی سنة 930 ه- 1934 م- بزیارة الی النجف و مشهد الحسین (ع).
و زار السلطان سلیمان القانونی الضریحین سنة 941 ه- 1934 م- 1535 م و اصلح قنال مشهد الحسین (الحسینیّة) و أحال الحقول التی کانت مطمورة فی الرمال الی جنائن کرة اخری؛ و قد بنیت «منارة العبد» (انظر فی ادناه) و التی کانت تسمی سابقا «أنکوشتی یار» سنة 982 ه- 1574- 1575 م، و أمر مراد الثالث و الی بغداد علی باشا بن الوند سنة
.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 201
991 ه- 1583 م ان یبنی او بالاحری ان یرمم ضریح الحسین (ع) و بعید احتلال بغداد سنة 1623 م احرز عباس الکبیر المشهدین و اضافهما الی الامبراطوریة الایرانیة وزار نادرشاه کربلاء سنة 1743 م و علی حین انه یعزی الیه تذهیب قبة مشهد الامام علی (ع) فقد قیل عنه کذلک انه صادر أوقافا مخصصة لائمة کربلاء.
و یزداد الرخاء العظیم فی موضع الزیارة و العدد الضخم من القاطنین فیه بمناسبة زیارة عبد الکریم و هو احد المقربین الاثیرین عند نادر شاه؛ و قد قدّمت رضیّة سلطان بیکوم ابنة الشاه حسین (1694- 1722 م) 000، 20 نادریّة لاصلاح مسجد الحسین.
و قدّم مؤسس الاسرة القاجاریّة، أغا محمد خان، حوالی نهایة القرن الثامن عشر الغطاء الذهب للقبة و المنارة فی مشهد الحسین (جاکوب فی کتاب ا. نولدکه، سبق ذکره، ص 65، ه 4).
و فی نیسان (ابریل) 1802 و فی غیاب الزوار الذین ذهبوا الی النجف دخل 000، 12 من الوهابیین بقیادة الشیخ سعود کربلاء فذبحوا ما ینوف علی الثلاثة آلاف منی سکانها هناک و نهبوا البیوت و الاسواق و حملوا معهم بصورة خاصة الصفائح النحاسیة المذهبة و کنوزا أخری من المشهد و حطموا الضریح غیر ان التبرعات تدفقت بعد هذه الکارثة الی المشهد من العالم الشیعی بأسره.
و قد افلح نجیب باشا سنة 1843 م، بعد احتلال الفرس الموقت لکربلاء، فی فرض السیطرة العثمانیة علی المدینة بقوة السلاح، و قد هدمت الآن اسوار المدینة القدیمة الحاضرة الی حد کبیر و شرع الوالی مدحت باشا سنة 1871
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 202
ببناء دوائر الحکومة التی بقیت غیر کاملة و وسع السوق المجاور (مصادر تاریخ مشهد الحسین عند «ا. نولدکه» و قد سبق ذکره،).
و کربلاء فی الوقت الحاضر بسکانها الذین یربو عددهم علی الخمسین الف نسمة- ثانی مدینة من حیث السعة و لعلها أغنی مدینة فی العراق، و هی لیست مدینة برخائها الی العدد الهائل من الزوار الذین یزورون ضریح الحسین (ع) فحسب بل کذلک لحقیقة انها اهم نقطة انطلاق لقوافل الزوار الفرس الذاهبة الی النجف و مکة و بموقعها علی حافة السهل الغرینی فهی «میناء صحراوی» مهم للتجارة مع القسم الداخلی لبلاد العرب.
و المدینة القدیمة بشوارعها الملتویة محوطة بضواح عصریة؛ و حوالی نصف الی ثلاثة أرباع السکان من الایرانیین و ما تبقی من الشیعة العرب و اهم قبائلهم هم بنو سعد و السلالمه و الوزوم و الطهامزة، و الناصریّة؛ و آل الدده أغناها: فقد کوفئت لشقّها نهر الحسینیة بمقاطعات واسعة من قبل السلطان سلیم.
و لا یطلق اسم «کربلاء» بصورة دقیقة الّا علی الجزء الشرقی من بساتین النخیل التی تحیط بالمدینة بنصف دائرة فی جهتها الشرقیة (موسل: «الفرات الأوسط»، ص 41) و تعرف المدینة نفسها «بالمشهد» او «مشهد الحسین».
و یقع ضریح الإمام الثالث فی صحن مساحته 354- 270 قدما یحوطه عدد من الأواوین و الغرف و قد زینت اسواره بشریط زخرفی أزرق مستمر یقال انه یضم القرآن کله مکتوبا بحروف بیض علی صفحة زرقاء، و مساحة البنایة نفسها 156- 138 قدما و البنایة الرئیسیة المستطیلة التی یدخل الیها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 203
بطریق «القاعة الذهبیة الخارجیة» (الصورة عند گروثة، صور تشخیصیة جغرافیة، اللوحة 78، الصورة: 136) محاطة بممر مسقّف (تسمی الآن ب «الجامع»،) ا. نولدکه، سبق ذکره، ص 20) حیث یقوم الزوّار بالطواف حول الضریح (فیها وزن‌Reste Arab .Heidentums ' ص 109- 112) و فی وسط الصالة المرکزیة المقببة هو الضریح او (صندوق) الحسین (ع) و هو حوالی 6 اقدام ارتفاعا و 12 قدما طولا و محاط بمشربیّة فضیة یقف بازائها ضریح ثان اصغر منه و هو ضریح ابنه و رفیقه فی السلاح:
علی الأکبر (المسعودی، التنبیة و الإشراف، طبعة دی غویة فی‌BGA » «المکتبة الجغرافیة العربیة»، 8- 303).
«ان الانطباع العام الذی یحصل علیه الانسان داخل المشهد لا یماثله الا ما یروی فی الأساطیر، و ذلک عند الشفق او حتی أثناء النهار فهو معتم فی الداخل دوما- فضوء العدید من المصابیح و الشموع حول المشربیة الفضیة ینعکس ألف مرة، و الف مرة أخری من سطیحات بلوریة صغیرة لا عد لها و لا حصر فتحدث تأثیرا سحریا خارج نطاق احلام المخیلة ثم یفقد الضوء قوته فی سقف القبة فلا نجد الا بضع سطیحات بلوریة متألقة هنا و هناک کنجوم فی السماء» (ا. نولدکه، سبق ذکره).
«ئی. هونیکمان‌E .Honigmann »
و یزدان المشهد فی الواجهة القبلیة بزخرف فخم و ثمین و علی جناحی المدخل منارتان و تشمخ المنارة الثالثة و هی «منارة العبد» امام المبانی فی الجهة الشرقیة من الصحن؛ و تتراجع واجهة المبانی المحیطة بالصحن جنوبا حوالی 50 قدما و فی هذه البقعة مسجد سنّیّ و تلاصق الصحن من الجهة الشمالیة مدرسة کبیرة مساحة فنائها حوالی 85 قدما مربعا مع مسجد خاص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 204
بها وعدة محاریب (عن الوضع الحاضر للمشهد قارن ا. نولدکه، سبق ذکره، ص 5- 26 و عن تاریخه: ص 35- 50 و عن تاریخ هندسته المعماریة: ص 51- 66).
و علی مبعدة نحو 600 یاردة شمال شرقی مشهد الحسین (ع) ضریح شقیقه (اخیه لابیه) العباس و فی الطریق المفضی غربا خارج المدینة بقعة خیمة الحسین (ع) (خیمکاه) و للبنایة المشادة هناک (المخطط عند نولدکه، ص 7، و الصورة الفوتوغرافیة عند غروتةGrothe ، رقم اللوحة 84 الصورة: 145) مخطط خیمة و علی جانبی المدخل نسختان حجریتان لهودجین للجمال.
و تمتد فی الهضبة الصحراویة (حمّاد) غربی المدینة أضرحة من المخلصین الشیعة و تقع فی شمالی بساتین کربلاء الضواحی و جنائن و حقول «البقیرة»، شمال غربی القرّة، جنوبی الغدیریة (یاقوت: 3- 768) و یذکر یاقوت بین الأماکن المجاورة «العقر» (3- 695) و النّوایح (4- 816).
و یربط خط حدیدی فرعی یتفرع شمالی الحلّة کربلاء بسکة حدید بغداد- البصرة، و تفضی طرق القوافل الی الحلة و النجف و لا یزال لمشهد الحسین سمعة احراز الدخول الی الجنة لأولئک الذین دفنوا فیه؛ لذلک فان الکثیر من الزوار المسنین و الذین یعانون من سوء الصحة یذهبون الی هناک لیموتوا فی البقعة المقدسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 205

کربلاء فی الأدب‌

اشارة

هذا باب یضیق به افخم المجلدات و اوسعها لکثرة ما طرقه فحول الشعراء نظما، و کثرة ما تناوله کبار العلماء نثرا فی الادعیة و الابتهالات، و یجد القاری‌ء فی محل آخر من هذا الجزء نماذج لبعض ما ورد عن کربلاء فی الشعر مما دعانا الی الوقوف هنا و الاکتفاء بذکر جزء من قصیدة ابی فراس الحمدانی علی سبیل الاستشهاد.

ابو فراس الحمدانی و کربلاء

و قد أومأ أبو فراس الحمدانی الی کربلاء فی میمیّته التی مطلعها (من البسیط):
الدین مخترم و الحق مهتضم‌و فی‌ء آل رسول اللّه مقتسم
الی ان یقول:
یا للرجال! اما للّه منتصف‌من الطغاة؟ اما للدین منتقم!
«بنو علیّ» رعایا فی دیارهم‌و الامر تملکه النسوان و الخدم
لا یطغینّ «بنو العباس» ملکهموا«بنو علیّ» موالیهم و ان زعموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 206 قام النبی بها «یوم الغدیر» لهم‌و اللّه یشهد و الاملاک و الامم
ثم ادعاها «بنو العباس» ارثهم‌و ما لهم قدم فیها و لا قدم
أأنتمو آله فیما ترون و فی‌اظفارکم من بنیه الطاهرین دم؟
یا عصبة شقیت، من بعد ما سعدت،و معشرا هلکوا من بعدما سلموا
لبئس ما لقیت منهم و ان بلیت‌بجانب «الطفّ» تلک الاعظم الرمم
و البیتان الاخیران یشیران الی حادثة امر المتوکل عام 236 ه بهدم قبر الحسین کما فی الطبری، و مروج الذهب، و الفخری- و الطفّ فی یاقوت:
3- 539 واقع غربیّ الکوفة حیث کربلاء.
و الذی دفع ابا فراس الی نظم هذه القصیدة ان محمد بن سکّرة الهاشمی کان عمل قصیدة یفاخر فیها ولد ابی طالب و ینتقص ولد علیّ و یذکر فیها التحامل علیهم و اولها:
بنی علیّ! دعوا مقالتکم‌لا ینقض الدرّ وضع من وضعه
فلم یجبه ابو فراس تنزّها عن مناقضته، لسفاهة شعره، و قال فی أهل البیت- علیهم السلام- القصیدة التی اوردنا ابیاتا منها فی اعلاه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 207

أهم المصادر العربیة و الغربیة لذکر الإمام الحسین و مدینة کربلاء

الطبری: طبعة دی غویه، الفهارس، ابن الاثیر: الکامل؛ طبعة تورنبرغ، الفهارس،
الاصطخری‌BGA «المکتبة الجغرافیة العربیة» 1- 85،
ابن حوقل‌BGA 2- 166، المقدسی:BGA 3- 130؛ الادریسی: «نزهة المشتاق» 4- 6، ترجمة جوبیرت‌Jaubert 2- 158؛ یاقوت: معجم البلدان، طبعة و ستنفیلد 2- 189؛ 3- 695؛ 4- 249 و ما بعدها؛ المسعودی: «کتاب التنبیه»BGA 8- 303؛ البکری، معجم، طبعة و ستنفیلد، ص 162، 456، 471، الزمخشری، المعجم الجغرافی، طبعة دی کریف‌De Grave ، ص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 208
139؛ حمد اللّه المستوفی القزوینی: «نزهة القلوب» طبعة لسترانج، ص 32، الترجمة: ص 39؛ ابن بطوطة، تحفة، طبعة دیفریمیری سانکوینیتّی: 2- 99 و ما یلیها؛
او. دپار
Umbstandliche und: O. Dapper EiGentliche Beschreibung Von Asia
نورمبرغ، 1681 ص 137، کارستن نیبور:R eisebeschreibung
Nach Arabien U. A. Umliegenden Landern, ii.
کوبنهاغن، 1778، ص 254 و ما یلیها؛ جی. ب. ل. جی روسّو: «وصف لپاشویة بغداد» (بالفرنسیة) باریس 1809، ص 71 و ما یلیها؛C .J .Rich سی. جی. ج:
Fundgruben Des Orients, iii
فینّا 1813، ص 200؛J .L .Burkhardt جی. ل.
Bemerkungen Uber Die Beduinen Und Wahaby
. فایمار، 1831؛ ایم. فی. ثیلمان:
M. V. Streifzuge Im Kaukasus, Thielmann In Persien Und In Der Asiatischen Turkei
لا یبزغ، 1875، ص 398- 401؛ و نولده‌Nolde :
«رحلة فی بلاد العرب»Reise Nach Innerarabien
براونشفایک، 1895، ص 113 و ما یلیها، ایم. فی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 209
اوبنهایم:Vom Mittelmeer Zum Persischen Goif ,ii برلین 1900.
ج. لسترانج: «بلاد الخلافة الشرقیة» کمبرج 1905 (اعادة طبع، 1930) ص 78 و مایلیها؛ ا. نولدکه:Das Heiligtum Al -Husains ZuKerbela
برلین، 1909 (- المکتبة الترکیة، طبعة: ج. جاکوب 11، ص 30- 34، مصادر اخری)؛
ه. کروثه
Geographische Cha- rakter Bilder Aus Der Asiatisehe Turkei, i.
لا یبزغ، 1909، لویس ماسینیون، «بعثة فی بلاد ما بین النهرین» (بالفرنسیة) (1907- 1908) القاهرة، 1910 ص 48 و ما یلیها (-Mifao «مذکرات مطبوعة لاعضاء المؤسسة الفرنسیة للحفریات الشرقیة فی القاهرة»، 27) لامبیرتو فانّوتیللی‌Anatolia Meridionale E Mesopotamia
روما، 1911، ص 361- 363؛ کیرترود بیل:
G. L. Bell Amurath To Amurath
من آموراث الی آموراث لندن 1911 ص 116- 159،
موسوعة العتبات المقدسة (14)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 210
ستیفن هیمسلی لونکرک «اربعة عصور من العراق الحدیث» (بالانکلیزیة) (اوکسفورد، 1925، الفهرس التفصیلی،
ا. موسل‌A .Musll «الفرات الأوسط» (بالانکلیزیة) نیویورک 1927 (- الجمعیة الجغرافیة الامیرکیة، استکشافات و دراسات شرقیة، رقم 3) د. م. دونالدسن: «الدین الشیعی» The Shi'Ite Religion (بالانکلیزیة) لندن، 1933 ص 88 و ما یلیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 211

کربلاء فی الشعر جمعه و نسقه حسب الحروف الأبجدیة فؤاد عباس‌

اشارة

من خریجی الجامعة الأمیرکیة ببیروت و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 213

الشیخ ابراهیم الکفعمی 840- 900

فانی به جار الشهید بکربلاسلیل رسول اللّه خیر مجیر
*
اتیت الامام الهدی سیدی‌الی (الحائر) الجار للمستجیر

ابن هانی‌ء الأندلسی‌

64- عجبا لمنصلک المقلّد کیف لم‌تسل النفوس علیک منه مسیلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 214 74- سمّاه جدّک ذا الفقار و انماسمّاه من عادیت عزرائیلا
75- و کأن به لم یبق وترا ضائعافی کربلاء و لا دما مطلولا ...
*
هو السیف سیف الصدق اما غراره‌فعضب و اما متنه فصقیل
یشیع له الافرند دمعا کأنّماتذکّر یوم الطف فهو یسیل ...
**
و اولی بلوم من امیّة کلّهاو ان جلّ أمر من ملام و لوّم
اناس هم الداء الدفین الذی سری‌الی رمم بالطف منکم و اعظم
هم قدحوا تلک الزناد التی ورت‌و لو لم تشبّ النار لم تتضرّم ..

أبو تمّام‌

و الهاشمیون استقلّت عیرهم‌من کربلاء بأعظم الأوتار
فشفاهم المختار منه و لم یکن‌فی دینه المختار بالمختار ...

أبو دهبل الجمحی‌

تبیت سکاری من امیة نوّماو بالطف قتلی ما ینام حمیمها
و ما افسد الاسلام الا عصابةتأمّر نوکاها فدام نعیمها ...
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 215

أبو فرّاس الحمدانی‌

یا عصبة شقیت من بعد ما سعدت‌و معشرا هلکوا من بعد ما سلموا
لبئس ما لقیت منهم و ان بلیت‌بجانب الطف تلک الاعظم الرمم

أبو محجن بن حبیب‌

أنّی تسّرت نحونا أمّ یوسف‌و من دون مسراها فیاف مجاهل
الی فتیة بالطف نیل سراتهم‌و غودر افراس لهم و رواحل
مررت علی الانصار وسط رحالهم‌فقلت لهم: هل منکم الیوم قافل؟

السید احمد الرشتی المقتول سنة 1295

ان الذی قد حل عرصة کربلابحر و منه اولو المکارم نغرف
السید احمد الرشتی‌

الشیخ جابر الکاظمی‌

سناهم عمّ نورا کالدراری‌فخصّ ضیاؤه اهل السماء
و بغداد و سامرّا فطوس‌فیثرب فالغریّ فکربلاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 216 فمضی شبل حیدر لانتقام‌غیر کاب- کلّا- و لا مرتاب
أمّ فی رکبه الی ارض کرب‌و بلاء من (کربلاء) یباب
* و قال رحمه اللّه- حین افتتح جناب عماد الدولة بابا لحرم الحسین- ع-
باب فضل قد بناها للعبادماجد للدولة العلیا عماد
صاغها للحضرة القدس التی‌قد سمت رفعتها السبع الشداد
افرغت من نور قدس خالص‌لم یزل باق سناه باتّقاد
فحسبنا انه من فضّةشابهت فی صفوها منه الفؤاد
و منها:
حضرة قد حوت السبط الذی‌ضاق فی انعمه وسع المهاد
و حوت اصحابه الغرّ الألی‌ملکوا الفضل جمیعا و الرشاد
ان ترم تاریخ باب اهدیت من عماد الدولة السامی العماد
قل أیا (عبد الحسین) افخر فقدصرت تدعی (عبده) دون العباد
لا رأیت السوء دع أقصی العناابدا عنّا تنل اقصی المراد
او ترم رشدا کما أرّختها(فاعتمد باب عماد للرشاد) ...
1280- 1- 1279 ه

الحسین بن علی أبو القاسم المغربی الوزیر

إذا کنت مشتاقا إلی الطف تائقاإلی کربلا فانظر عراص المقطم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 217 تری من رجال المغربی عصابةمضرجة الأوساط و الصدر بالدم

السید حیدر الحلی‌

یا تربة الطفّ المقدّسة التی‌هالوا علی ابن محمد بوغاءها
حیّت ثراک فلاطفته سحابةمن کوثر الفردوس تحمل ماءها
و منها:
و لتفد خاتمة الرجاء طریدةلأغرّ ینقع برده احشاءها
فحشی ابن فاطمة بعرصة کربلابردت غلیلا و هو کان رواءها
و منها:
إذ ألقح ابن طرید احمد فتنةولدت قلوبهم بها شحناءها
حشدت کتائبها علی ابن محمدبالطفّ حیث تذکّرت آباءها
*
سل بهم امّا تسل کربلااذ واجهوا فیها البلا المکربا
یا بأبی بالطفّ اشلاؤهاتنسج فی الترب علیها الصبا ...
*
و لا مثل یوم الطف لوعة واجدو حرقة حرّان و حزّة مکمد
*
بنی الغالبیین الألی لست عالماأ أسمح فی طعن أکفّک أم قری!!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 218 الی الآن لم تجمح بک الخیل وثبةکأنّک لا تدرین بالطفّ ما جری
و لا کدم فی کربلا طاح منکم‌فذاک لأجفان الحمیّة أسهرا
کأنک یا اسیاف غلمان هاشم‌نسیت غداة الطفّ ذاک المعفّرا
*
اما لک فی شمّ العرانین اسوةفتسلک ما سنّته منها الافاضل
و اجروا بأرض الغاضریّة ابحرامن الدم لم یبصر لهنّ سواحل
و لم یر یوم الطفّ اصبر منهم‌غداة بها للموت طافت جحافل

خضر عباس الصالحی‌

وقفت علی نهر الحسینیة الذی‌تدفق سلسالا خلال الربی الخضر
علی ضفتیه ینبت الحب یانعافیقطف منه العاشقون جنی الطهر
خضر عباس الصالحی‌

دعبل الخزاعی‌

فاما الممضات التی لست بالغامبالغها منی بکنه صفات
قبور بجنب النهر من ارض کربلامعرسهم فیها بشط فرات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 219

رجل من اشجع‌

لقد حبست فی کربلاء مطیتی‌و فی العین حتی عاد غثّا سمینها
اذا رحلت من منزل رجعت له‌لعمری و أیها اننی لأهینها
و یمنعها من ماء کل شریعةرفاق من الذبان زرق عیونها

رشید الهاشمی‌

یا ابن النبی و ذاک جدک راقدحول الفرات علی الصعید الطاهر
و دم الحسین السبط مطلول علی‌خد التراب بسیف ذاک الغادر
یستصرخانک لست منا ان تکن‌الهاک عنا لبس ثوب فاخر
السید رشید الهاشمی‌

سبط ابن التعاویذی‌

و یوم الطف قام لیوم بدربأخذ الثأر من آل النبی
****
سأهدی للأئمة من سلامی‌و غرّ مدائحی أزکی هدیّ
لطیبة و البقیع و کربلاءو سامرا و فید و الغریّ موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌8 ؛ ص219
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 220 و زوراء العراق و ارض طوس‌سقاها الغیث من بلد قصیّ
فحیا اللّه من وارته تلک القباب البیض من حبر نقیّ

سلمان هادی طعمه‌

یا کربلاء و أنت فخر قداسةیستوجب التعظیم و التبجیلا
یا موطن الاحرار منه تألّفت‌سور الجهاد و فصلت تفصیلا
و بثورة العشرین دوّت صرخةقد طیرت لب الدخیل ذهولا
اذ أصدر اللیث (التقی) نداءه فتوی) تحاکی الصارم المصقولا
سلمان هادی طعمه*
هی صرخة الثوار کانت رعدةترکت صروح الاجنبیّ طلولا
هذی مآثر کربلاء و انهاسفر یخلد فی الزمان طویلا

سلیمان بن قتّه (قتبة؟)

مررت علی ابیات آل محمدفلم ارها عهدی بها یوم حلّت
فلا یبعد اللّه الدیار و أهلهاو ان اصبحت من اهلها قد تخلّت
و کانوا رجاء ثم صاروا رزیةألا عظمت تلک الرزایا و جلّت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 221 و ان قتیل الطف من آل هاشم‌أذلّ رقاب المسلمین فذلّت

شبرمة بن الطفیل‌

کأن اباریق المدام علیهم‌إوّز بأعلی الطف عوج الحناجر

الشریف الرضی‌

کربلا لا زلت کربا و بلاما لقی عندک آل المصطفی
کم علی تربک لمّا صرعوامن دم سال و من دمع جری
***
سقی اللّه المدینة من محلّ‌لباب المزن و النطف العذاب
و جاد علی البقیع و ساکنیه‌رخی الذیل ملآن الوطاب
و اعلام الغریّ و ما استباحت‌معالمها من الحسب اللباب
و قبر بالطفوف یضمّ شلواقضی ظمأ الی برد الشراب
و بغداد و سامرّا و طوس‌مطول الودق منخرق العباب
***
قد قلت للرکب الطلاع کأنهم‌ربد النسور علی ذری اطوادها
قف بی و لو لوث الازار فانماهی مهجة علق الهوی بفؤادها
بالطف حیث غدا مراق دمائهاو مناخ أینقها لیوم جلادها
القفر من اوراقها و الطیر من‌طرّاقها و الوحش من عوّادها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 222 تجری لها حبب الدموع و انماحب القلوب یکنّ من امدادها

الصاحب بن عبّاد

یا کربلاء تحدّثی ببلائناو بکربنا إنّ الحدیث یعاد
***
یا أیها الکوفیّ هذی غرّةفی جبهة الدنیا لها إفراد
و اذا سئلت لقصدها و مقرّهافالحیر او کوفان او بغداد ...
**
انا من شیعة الرضاسید الناس حیدره
یا تباریح کربلاان نفسی محیّره
للذی نال سادتی‌من رزایا مشمّرة ...
**
لهیب بقلبی حین اذکر کربلافیهلکنی بعد النحیب نحیب

طلائع بن رزیک (الملک الصالح)

أیا نفس من بعد الحسین و قتله‌علی الطفّ هل ارضی بطول حیاتی
*
هذا الحسین بکربلا ...ء ثوی و لیس له نصیر
فغدا بفتیته الکرا ...م الی مصارعهم یسیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 223 حتی تلقّاهم بجنب الطفّ یوم قمطریر ... *
و اذا ذکرت من الحسین مصابه‌بالطفّ ضاقت بی له سعة الفضا
*
یا تربة بالطفّ جادت‌فوقک الدیم الهموعه
و منها:
غدرت هناک و ما وفت‌مضر العراق و لا ربیعه
شاع النفاق بکربلافیهم و قالوا: نحن شیعه
هیهات ساء صنیعهم‌فیها و ما عرفوا الصنیعة ...
*
و إنّنی لقتیل الطف مکتئب‌اذ راحتی لبنی اللخناء لم تطل
*
بنی امیّة انی لست ذاکرکم‌اذ لی بذکر سواکم اکبر الشغل
کفی الذی دخل الاسلام اذ فتکت‌أیمانکم ببنی الزهراء من خلل
منعتم من لذیذ الماء شاربهم‌ظلما و کم فیکم من شارب ثمل
ابکیهم بدموع لو بها شربوافی کربلاء کفتهم سورة الغلل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 224 لهفی علی عصب بالطفّ ظامیةنالت من القتل فیهم أعظم المحن
*
یا راکبا قطع القرینابالعیس اذ تشکو البرینا
بلّغ رسالة مؤمن‌تسعد بها دنیا و دینا
فی کربلاء ثوی ابن‌بنت رسول رب العالمینا
قف بالضریح و ناده‌یا غایة المتوسّلینا ...
*
یا بقعة بالطفّ حشوترابها دنیا و دین
اضحت کأصداف یصادف‌عندها الدرّ الثمین ...
و قال هذه القصیدة عندما أمر فی وزارته ان یستعمل فی طراز خاص برسم کسوة المشهدین الشریفین العلوی و الحسینی من الستور الدبیقی لابواب الحرمین و عرضها هناک و قد أرصد من أمواله مبالغ طائلة لهذا الغرض و تحرّی فیها أن تکون الستور فی غایة الحیاکة و الابداع مع تطریز آیات قرآنیة حولها، فلمّا تمّ عملها أرسلها مع نفر من خدمه و عبیده و جعل فیها قصیدة ذکر فیها عمله الذی تفرّد بشرفه و فخره و فاز دون ملوک الاسلام بجزیل ذخره و جمیل ذکره:
هل الوجد إلّا زفرة و أنین‌أم الشوق إلّا صبوة و حنین؟
و منها:
اذا عنّ لی تذکار سکان کربلافما لفؤادی فی الضلوع سکون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 225
و منها:
ألا کلّ رزء بعد یوم بکربلاو بعد مصاب ابن النبیّ یهون ...

(عاتکة بنت زید زوجة الحسین- ع-)

و حسینا فلا نسیت حسیناأقصدته أسنّة الاعداء
غادروه بکربلاء صریعالا سقی الغیث جانبی کربلاء

عبد الباقی العمری‌

هذا الکتاب المنتقی و المجتبی‌من نعت اهل البیت اصحاب العبا
فی کل شعب من شعاب طیبةو لا بتیها طیبه تشعّبا
و فی بقیع الغرقد استراحت الأرواح اذ ذرّ علیها زرنبا
نسا؟؟؟ م هاتیک ام لطائم‌طیب شذاها ملأ المحصّبا
تلطم وجه (الطفّ) بالکفّ علی‌ما قد جری فیه و ما تسرّبا
و منها:
حتی جری بکربلاء ما جری‌و سال حتی بلغ السیل الزبی
دم کسا خدّ الطفوف رونقایلوح فی توریده مشرّبا
شنّوا بنو حرب علی ابن سلمهم‌للحرب یوم الطف خیّلا شزّبا
*
تبّت یدا من فضّ فی خیزوره‌ثغرا أعار الدین ثغرا اشنبا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 226 قد عزلوا عن الوجود رأس من‌لا یرتضی سوی المعالی منصبا
ابدت سما وجوده أهلّةو انجما من وقع سمر و ظبا
و رأسه الشریف شمسها التی‌تخیّرت من کربلاء مغربا
*
فان ذکرت بالطفوف ما جری‌علی السحاب ذیل دمعی انسحبا
***
قضی نحبه فی کربلاء ابن حاشرو لن ینقضی نحبی علیه الی الحشر
قضی نحبه فی نینوی و بها ثوی‌فعطّر منها الکائنات ثری القبر
قضی نحبه فی الطف من فوقه طفانجیع کسا الآفاق بالحلل الحمر ...
*
لیت المحرّم لیلة استهلاله‌سلخت عشیّتها بنصل هلاله
شهر به شهر البلاء بکربلاعضبا تأنّق قینه بصقاله
قدر حرمته الجاهلیة و اجترت‌عدوا بنو حرب علی استحلاله ...
و قال مخمسا و الاصل لغیره:
علی فقد من تبکی علیهم تهامةو تندبهم للحشر و النشر رامة
و من بهم أمّ القری مستهامةلقد هتفت فی جنح لیل حمامة
صبیحته بالطف قامت مآتم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 227 و ناحت بوادی کربلاء و عدّدت‌علیهم و فی نادی الغریین غرّدت
و فی نعیهم کم رجعّت ثم ردّدت‌و قد ایقظت کل الهواجع إذ بدت
علی فنن تنعی و انّی نائم‌و کنت ارانی فی الموالاة سابقا
بزعمی و فیها لم أجد لی لاحقاأأزعم انّی فی و لا الآل صادقا
کذبت و ایم اللّه لو کنت عاشقالبتّ و طرفی بالمجرّة عائم
و اجریت دمعا لا یزال مسلسلاعلی ما دهی آل النبی بکربلا
لقد سبقت منی الحمامة بلبلاو لو کنت ممن یدّعی السبق فی الولا
لما سبقتنی بالبکاء الحمائم .. *
إذا رامت الاقلام تحریر ما جری‌علی آل طه فی قرارة حائر
تمنّت عیون العین لو بسوادهاامدّت بلا جزر مداد المحابر ...
و قال فی وصف هلال قبة الحسین (ع):
علی قبة السبط الحسین اذ انبری‌هلال حکی الکف الخضیب و لا بدعا
علی عقبیه اللیل ادبر ناکصاو اعطی قفاه بات یشبعه صفعا
و قال مهنئا و مؤرخا لما أنشأ جناب احمد شکری بک افندی سلیل حضرة المشیر (محمد نجیب باشا) فی قصبة کربلاء فی صحن حضرة سید الشهداء الحوض و السلسبیل و کان اتمام ذلک فی یوم عاشوراء و طرح فیه قناطیر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 228
السکّر فشرب الزوّار و کانوا ألوفا مؤلفة و قد امر بتحریر هذه الابیات فوق ذلک الحوض بالکاشی فتحررت بالخط الحسن:
احمد من انشأ هذا السبیل‌و روّق المنهل لابن السبیل
ما هو الّا ذو العلی (احمدشکری) له یستقصی (؟) جیلا فجیل
نجل محمد النجیب الذی‌فی الوزراء ما له من عدیل
محافظ الزوراء فی حکمه‌بالعدل عن طرق الهدی لا یمیل
مشیر بغداد بآرائه‌معظم القدر الخطیر الجلیل
و فی مساعیه الحسان اقتدی‌مخدومه هذا النبیه النبیل
و یوم عاشورا غدا زائراسلیل ساقی الحوض نعم السلیل
من أمّه بضعة طه التی‌فی العالمین ما لها من مثیل
و جدّه روح الوجود الذی‌تشرّف الروح به جبرئیل
فشاهد الزوّار تأوی الی‌مشهده الاعلی القبیل القبیل
فاترع الحوض لهم سکّرامزاجه الکافور و الزنجبیل
حوض هو الکوثر فی عینه‌علی حسین مثل دمعی یسیل
عذب فرات ذاک لکنّ ذاملح اجاج ماؤه مستحیل
صعّده حزنی و وجدی و قدصوّبه منی البکا و العویل
کأنه عین الحیاة التی‌لاحظت الخضر بعمر طویل
مسلسلا یروی حدیث الشفاعنه و قد صحّ شفاء العلیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 229 کم صادر عنه و کم واردمنه لقد برّد فیه الغلیل
کالشهد فی الصحن حلا ذوقه‌فراته بلّ الصدی منه نیل
فی کل ثغر ساغ سلساله‌فشاع فی الریّ و فی اردبیل
اجری له وقفا و فی ما جری‌قد نال اجرا و ثوابا جزیل
ورّق لما راق تاریخه:لاحمد الحوض مع السلسبیل ...
سنة 1264 ه.

عبد الحسین الحویزی‌

ایها السائل عن افق السماکیف ابدت حمرة بالشفق؟
و صحیح القول عندی انهاحمرة من دمعها المنطلق
لم تزل تبکی دما اعینهالدم منه ثری (الطف) سقی ...
الشیخ عبد الحسین الحویزی* و قال واصفا المصابیح المعلقة فی منارة سیّد الشهداء الحسین (ع):
شاهدت لیلا مصابیحا معلقةفی الجو مملوءة الاجواء بالعلق
قد احدقت بمقام السبط باکیةحمر مدامعها لکن بلا حدق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 230
و قال فی تشیید منارة الامام الحسین (ع):
منارة السبط بأنوار الهدی‌ساطعة و الافق منها منجلی
و کیف لا تسمو علی الشهب علاو قد أعدّت للحسین بن علی
بفیصل الأول کان بدؤهاارخ (مناط ختمها بفیصل)
سنة 1348 ه

شباک أبی الفضل (ع)

«علیّ» للعلی أوفی‌مواعید بلا مطل
بنی احسن شباک‌حدید جلّ عن مثل
بایوان ابی الفضل‌علی قاعدة العدل
نعم أرّخ (شباک‌بایوان ابی الفضل)
سنة 1347 ه ...

عبد الغفار الأخرس‌

و قال مؤرخا عام تسخیر کربلا و ذلک بأیام الوالی نجیب باشا سنة 1258 ه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 231 لقد خفقت فی النحر ألویة النصرو کان انمحاق الشر فی ذلک النحر
و فتح عظیم یعلم اللّه انه‌لیستصغر الاخطار من نوب الدهر
علت کلمات اللّه و هی علیةبحد العوالی و المهندة البتر ..!!
تبلّج دین اللّه بعد تقطب‌و لاحت اساریر العنایة و البشر ..!!
محا البغی صمصام الوزیر کما محادجی اللیل فی اضوائه مطلع الفجر
و کرّ البلا فی (کربلاء) فأصبحت‌مواقف للبلوی و وقفا علی الضر
غداة أبادت مفسدی اهل کربلاو کرت مواضیه بها أیما کرّ
فدانت و ما دانت لمن کان قبله‌من الوزراء السابقین الی الفخر
و ما ادرکوا منها مراما و لا منی‌و لا ظفروا منها بلب و لا قشر
و حذرّهم من قبل ذلک بطشه‌و أمهلهم شهرا و زاد علی الشهر
و عاملهم هذا الوزیر بعدله!!و حاشاه من ظلم و حاشاه من جور.!!
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 232 و أنذرهم بطشا شدیدا و سطوةو بالغ بالرسل الکرام و بالنذر
و لو یصبر القرم الوزیر علیهم‌لقیل به عجز و ما قیل عن صبر
وصال علیهم عند ذلک صولةو لا صولة الضرغام بالبیض و السمر
و سار بجیش و الخمیس عرمرم‌فکا للیل اذ یسری و کالسیل اذ یجری
من الترک لم تترک علی الأرض مفسدایعود بها نظم المفاسد فی نثر
و قد افسدوا شر الفساد بأرضهم‌الی ان أتاهم منه بالفتکة البکر
رمتهم بشهب الموت منه مدافع‌لها شرر فی ظلمة اللیل کالقصر
رأوا هول یوم الحشر فی موقف الردی‌و هل تنکر الاهوال فی موقف الحشر
فدمرهم تدمیر عاد لبغیهم‌بصاعقة لم تبق للقوم من أثر
ألم ترهم صرعی کأن دماءهم‌تسیل کما سالت معتقة الخمر
و کم فئة قد خامر البغی قلبهاعلی انها صیدت باحبولة الحصر
فراحت بها الاجساد و هی طریحةتداس علی ذنب جنته لدی الوزر
فان مراد اللّه جار علی الوری‌و لا بد ان یجری و لا بد أن یجری
تجول المنایا بینهم بجنودهابحیث مجال الحرب اضیق من شبر
تلاطم فیها الموج و الموج من دم‌تلاطم موج البحر فی لجة البحر
فلاذوا بقبر ابن النبی محمدفهل سرّ فی تدمیرهم صاحب القبر
فان ترکوا لا یترک السیف قتلهم‌و ان ظهروا باءوا بقاصمة الظهر
سیول دم القتلی غداة أبادهم‌تسیل بهاتیک الازقة و الجدر
و لا برحت ایامه الغرّ غرّةتضی‌ء ضیاء الشمس فی طلعة الظهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 233 و لا زال فی عید جدید مؤرخا:«فقد جاء یوم العید بالفتح و النصر»
1258 ه
*** و قال مخمّسا ابیات عبد الباقی العمری : یشیر إلی سفینة الماء:
و کانت تحلیّ قبل هذا تجمّلاو قد غذیت فیما أمرّ و ما حلا
اظن علی فقد الشهید (بکربلا)(کساها الاسی ثوب الحداد و من حلی)
(تجمّلها بالصبر لاعجها أعری)

الشیخ عبد اللّه العلایلی‌

فیا کربلا کهف الاباء مجسماو یا کربلا کهف البطولة و العلا
و یا کربلا قد حزت نفسا نبیلةو صیرت بعد الیوم رمزا الی السما
و یا کربلا قد حزت مجدا مؤثلاو حزت فخارا ینقضی دونه المدی
فخار لعمری سطرته ضحیةفکان لمعنی المجد اعظم مجتلی
فللمسلم الاسمی شعار مقدس‌هما قبلتان للصلاة و للابا

الشیخ فلیح حسون الکربلائی المتوفی 1296

زهت کربلا لما حللت بأرضهافکل بلاد لست من اهلها قفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 234 تبا لساکن کربلا یا لیتهاانقلبت او اصطلم الردی سکانها

کاظم الأزری‌

افدی القروم الاولی سارت رکایبهم‌و الموت خلفهم یسری علی الأثر
للّه من فی مغانی کربلاء ثوی‌و عنده علم ما یأتی من القدر
*
سل کربلا کم حوت منهم هلال دجی‌کأنها فلک للانجم الزهر ..
*
و اصفقة الدین لم تنفق بضاعته‌فی کربلاء و لم یربح سوی الضرر
*
للّه صخرة وادی الطف ما صدعت‌الا جواهر کانت حلیة الزمن
یهنیک یا کربلا و شی ظفرت به‌من صنعة الیمن لا من صنعة الیمن
*
لم تدر ای رزایا الطف تندبهاضربا علی الهام ام سبیا علی البدن

کثیّر عزّة

الا ان الأئمة من قریش‌ولاة الحق اربعة سواء
علی و الثلاثة من بنیه‌هم الاسباط لیس بهم خفاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 235 فسبط سبط ایمان وبرّو سبط غیّبته کربلاء
و سبط لا یذوق الموت حتی‌یقود الخیل یقدمها اللواء ...

الکمیت بن زید الأسدیّ‌

و قتیل بالطف غودر منهم‌بین غوغاء امة و طغام

الشیخ محسن أبو الحب‌

ما کنت إلا واحدا فی کربلااضحی لأعین اهلها انسانا
*
(الطف) فیک تباشرت و رحابهاأضحت بمقدمک الکریم ترحب
الشیخ محسن أبو الحب‌

الحاج محمد حسن أبو المحاسن‌

نعلل النفس بالوعد الذی وعدواأنّی و قد طال فی انجازه الامد
ان کان غیّر بعد العهد ودّهم‌فودّنا لهم باق کما عهدوا
ما انصفونا سهرنا لیلنا لهم‌صبابة و هم عن لیلنا رقدوا
ابو المحاسن وزیر المعارف العراقیة الأسبق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 236 تبکیهم مقلتی العبری و لو سعدت‌بکت مصاب الألی فی کربلا فقدوا
مصالت کسیوف الهند مرهفةفرندها کرم الاحساب و الصید
وافی بها الاسد الغضبان یقدمهااسدا فرائسها یوم الوغی أسد
* و قال یشکر متصرف کربلاء (عبد اللطیف باشا) علی إجرائه الماء فی جدول (الحسینیة) سنة 1316 ه و یؤرخ ذلک العام:
هذا حمی الرمل و ذاک معهده‌فعج بنا نبثّه ما نجده
یا ناعس الاجفان سهّدت فتی‌کان لنیل العز قدما سهده
لولا الهوی لاقیت منی أغلبامستبسلا صعبا یکون مقوده
أیدت بالحسن و سلطان الوری عبد الحمید) ربه مؤیّده
ولیّ علینا عادلا منتصفالکل مظلوم أتی یستنجده
(عبد اللطیف) ذلک الشهم الذی‌یسترفد التیار من یسترفده
یا مدرکا شأو علا و سؤددیفوت سبق الطالبین أمده
طوبی لاهل کربلا فانهم‌فازوا بجحجاح کریم محتده
جلوت اذ أجریت ماء نهرهم‌همومهم فلیشکرن من یرده
و کیف یعصیک الفرات بعدمااصبح من فیض نداک مدده
أجری لنا عبد اللطیف منهلاکجوده أرّخت (ساغ مورده)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 237

الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء

این الذین ببشرهم و بنشرهم‌یحیا الرجاء و تأرج الارجاء
ضربوا بعرصة کربلاء خیامهم‌فأطل کرب فوقها و بلاء
للّه ای رزیة فی کربلاعظمت فهانت دونها الارزاء
الامام الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء
***
یا هل تری مضرا درت ماذا لقت‌فی کربلا ابناؤها و بناتها
خفرت لها ابناء حرب ذمةهتکت لهم ما بینها خفراتها
جارت علی تلک المنیعات التی‌تهوی النجوم لو انها جاراتها
***
الی ان دبت تسری بسم نفاقهم‌الی کربلا رقش الافاعی النوافث
فأخنت علی آل النبی بوقعةبها عاث فی شمل الهدی کل عابث

الشیخ محمد علی کمونه‌

فواحزنی اذ لم اکن یوم کربلاقتیلا و لم ابلغ هناک مآربی
فان غبت عن یوم الحسین فلم تغب‌بنو أسد أسد الهیاج أقاربی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 238 للّه طائفة بعرصة کربلابفنائها طاف البقا بصفائها
فئة اباة الضیم تدری انهاورثت إباء الضیم من آبائها ...
عن کربلا و بلائها سل کربلاسل کربلا عن کربها و بلائها ...
**
بکر الغمام فجاء عرصة کربلاارضا بها نور الهدایة یغرب ...
*** و قال فی بناء مرقد ابی الفضل العبّاس (ع) مؤرخا عنایة السلطان عبد المجید خان ببنائه:
مثوی، ابو الفضل عباس ثوی فیه‌مأوی تودّ الثریا ان تدانیه
قصر مشید و بیت عزّ جانبه‌من ان یساویه بیت او یضاهیه
عبد المجید علا سلطانه شرفاو زاده بسطة فی الحکم باریه
ارسی علی الشرف الاعلی قواعده‌فجازت الفلک الاعلی اعالیه
أنّی یضاهی علا قل یا مؤرّخه مأوی ابی الفضل و السلطان بانیه)
سنة 1266 ه

مرسی شاکر الطنطاوی‌

فی کربلاء مآتم لا تنتهی‌حتی یداهمنا الحمام صؤولا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 239

مصعب بن الزبیر (متمثلا)

و ان الألی بالطفّ من آل هاشم‌تأسّوا فسنّوا للکرام التأسّیا

معن بن أوس المزنی‌

اذا هی حلّت کربلاء فلعلعافجوز العذیب دونها فالنوایحا
فبانت نواها من نواک و طاوعت‌مع الشانئین الشانئات الکواشحا

مهدی الجواهری‌

ابت سورة الاعراب الا وقیعةبها انتکص الاسلام رجعا الی الورا
و نکس یوم الطف تاریخ امةمشی قبلها ذا صولة متبخترا
مهدی الجوهری**
و احسب لو لا أنّ بعد مسافةزوت عندما لاقی الحسین و ما جری
و لو لا ذحول قدمت فی معاشرتقاضوا بها فی الطف دینا مؤخّرا
لزعزع یوم الطفّ عن مستقرّه‌و غیّر من تاریخه فتطوّرا ...
* و فی اشارته إلی المؤتمر العراقی الشهیر الذی انعقد فی کربلاء فی شعبان سنة 1340 ه و ضمّ سائر طبقات العراقیین علی اختلافهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 240
للاجتماع و المداولة مع فیصل بن الحسین، قال الجواهری یذکر جهود علماء النجف و کربلاء و زعماء العشائر:
تذکّر لعل ادّکار العهودیراح به نفس رازح
غداة استضمّک فی کربلاءو ایاهم المجلس الفاسح
هم القحوا الامر حتی اذاتمخّض لم یجنه اللاقح
فیا جبر اللّه ذاک الکسیرو یا خسر الصفقة الرابح ...
**
فداء لمثواک عن مضجع‌تنوّر بالابلج الاروع
باعبق من نفحات الجنان‌روحا و من مسکها اضوع
ورعیا لیومک یوم الطفوف‌و سقیا لأرضک من مصرع

مهیار الدیلمی‌

ابا حسن ان انکروا الحق واضحاعلی أنه و اللّه انکار عارف
سلام علی الاسلام بعدک انهم‌یسومونه بالجور خطّة خاسف
و جدّدها بالطفّ بابنک عصبةاباحوا لذاک القرف حکّة قارف
***
بآل علی صروف الزمان‌بسطن لسانی لذم الصروف
و لیس صدیقی غیر الحزین‌لیوم الحسین و غیر الأسوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 241 هو الغصن کان کمینا فهبّ‌لدی کربلاء بریح عصوف ...
***
خمد الجمر و وجدی‌ببنی الزهراء ذاکی
یا ابنة الطاهر کم تقشر بالظلم عصاک‌غضب اللّه لخطب
لیلة الطفّ عراک‌یا قبورا بالغریین
الی الطفّ سقاک‌کل محلول عری المرزم
محلوب السماک‌حامل من صلوات الله ما یرضی ثراک ...
**
و شهید بالطف ابکی السماوات و کادت له تزول الجبال
یا غلیلی له و قد حرّم الماء علیه و هو الشراب الحلال
قطعت وصلة النبی بأن تقطع‌من آل بیته الاوصال
**
اضالیل ساقت مصاب الحسین‌و ما قبل ذاک و ما قد تلا
اعیة لابسة عارهاو ان خفی الثأر او حصّلا
فیوم السقیفة یا ابن النبیّ‌طرّق یومک فی کربلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 242

السید موسی الطالقانی‌

یا نازلین بکربلا کم مهجةفیکم بفادحة الخطوب تصاب
***
هل نسیت السبط یابن المصطفی یوم الطفوف‌یشتکی حرّ الظما ما بین هاتیک الصفوف
***
جرّعوه عن لذیذ الماء کاسات الحتوف‌ثم داروا ببنات المصطفی کل بلاد
*
لست انساه طریحا فی محانی کربلافی الثری یبقی ثلاثا عاریا منجدلا
*
و اصریعا بین اجراع الطفوف‌و زعت اعضاؤه بین السیوف
قد کسا شمس الضحی برد الکسوف‌و ارتدی البدر علیه بالسواد
*
کل واد اری لهم فیه قبرالشهید بالسم او لقتیل
قد حوت طیبة من الطیّبین الغرّازکی قوم و خیر قبیل
و بوادی الغریّ أیّ امام‌هو دون الانام نفس الرسول
و بأرض الطفوف ایّ قتیل‌عافر من دم الورید غسیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 243

میر علی أبو طبیخ‌

یا ابن النبی لأنت ارفع جانباعن ان یلمّ بوصف کنهکم فمی ...
هلا شهدت الطف حین توازرت‌زمر الضلال علی ابن فاطم ترتمی
من بعد ما صرعت اخاه سیوفهم‌فقضی ظما بضفاف نهر العلقم (ی)
*
نزعت تخطّ بکل نفنف‌فلها ادیم الأرض مصحف
تأبی مسایرة النسیم‌و من خفوق البرق تأنف
یا خطفة الخفّ اقصری‌ان صافحتک معالم الطفّ
فبه ابن فاطم زاجرااطیاره و به تعیّف
لیث اذا شام الظبابیضا تغطرس أو تغطرف
*
تطوی الذمیل علی الرسیم‌و تفلّ ناصیة الأدیم
تدع البروق وراءهاو تجرّ ارسنة النسیم
فالغرب شرق عندهاو الشرق غرب حین تومی
قد شاقها وادی الطفوف‌فنکّبت وادی الغمیم
تهفو لمعهد فتیةهم نجدة الحیّ المضیم
غرّ بها لیل الوجوه‌قوارع الصید القروم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 244

للحاج هاشم الکعبی المتوفی سنة 1231 ه

و مطرحون تکاد من انوارهم‌یبدو لعینک باطن الاسرار
نفست بهم ارض الطفوف فأصبحت‌تدعی بهم بمشارق الانوار
لولا السقیفة و الذین تبرموانقضا لحکم الواحد القهار
فنفوا مقام نبیهم عن ربه‌و مضوا بنحلة بضعة المختار
لم یلف سبط محمد فی کربلایوما بهاجرة الظهیرة عاری
تطأ الخیول جبینه و ضلوعه‌بسنابک الایراد و الاصدار
کلا و لا راحت بنات محمدیشهرن فی الفلوات و الامصار
حسری تقاذفها السهول الی الربی‌و تلفها الانجاد بالاغوار
**
ان تکن کربلا فحیوا رباهاو اطمئنوا بنا نشم ثراها
و الثموا جوها الأنیق علی ماکان فی القلب من حریق جواها
و اغمروها بأحمر الدمع سقیافکرام الوری سقتها دماها
باللّه ان جئت الطفوف‌مبلغا عنی سلامه
من بعد أن قبلت تربته‌و اکثرت التثامه
و شفیت داءک اذ مسحت‌بوجهک العالی رغامه
و معارج الأفلاک حیث‌قیامها یتلو قیامه
و سمعت اصوات الدعاءو قولهم: لهم الکرامه
فاذکر له الشوق الملح‌و کیف هیمه (هیامه)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 245 و اخبره ان الصب بعدلقاک لم یعرف منامه
ما لذ برد العیش من‌ذکراه بعدک (و انصرامه)
یشتاق برقا کلمااستعلی عراقیا فشامه
أنفاسه قید الزفیرو سجعه سجع الحمامه
*
ترید من اللیالی طیب عیش‌و هل بعد الطفوف رجاء طیب؟
سقی اللّه الطفوف و ان تناءت‌سجال السحب مترعة الذنوب
فکم لی عندها من فرط وجدو حر جوی لاحشائی مذیب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 246

اهم المصادر التی اعتمدها الکاتب‌

1- تبیین المعانی فی شرح دیوان ابن هانی
2- دیوان ابی تمام.
3- معجم البلدان.
4- دیوان ابی فراس.
5- فتوح البلدان (البلاذری).
6- دیوان الشیخ جابر الکاظمی.
7- دیوان السید حیدر الحلی.
8- دیوان دعبل الخزاعی.
9- دیوان رشید الهاشمی.
10- دیوان سبط ابن التعاویذی.
11- زهر الآداب.
12- لسان العرب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 247
13- دیوان الشریف الرضی.
14- دیوان الصاحب بن عباد.
15- دیوان طلائع بن رزیک.
16- التریاق الفاروقی.
17- دیوان الحویزی.
18- دیوان الاخرس.
19- سمو المعنی فی سمو الذات.
20- دیوان الشیخ کاظم الازری.
21- الاغانی.
22- مروج الذهب.
23- دیوان ابی المحاسن.
24- مقتل الحسین للشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء.
25- دیوان ابن کمونه.
26- مسرح العین.
27- انساب الاشراف.
28- دیوان الجواهری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 248
29- دیوان مهیار الدیلمی.
30- دیوان السید موسی الطالقانی.
31- دیوان (الانواء) للسید میر علی ابی طبیح.
32- دیوان الکعبی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 249

کربلاء فی المراجع الغربیة کتبه و ترجمه جعفر الخیاط

اشارة

الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .S .C . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة سابقا و مدیر التعلیم المهنی العام حالا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 251

کربلاء فی المراجع الغربیة

اشارة

لنن کانت النجف أول عتبة دینیة یقدسها العالم الإسلامی، بعد مکة و المدینة، و یقصدها الزوار من جمیع أنحائه، فقد کانت کربلا و لم تزل تضاهی النجف فی ذلک و تعتبر فی مقدمة العتبات الإسلامیة المقدسة التی یؤمها الزوار من کل حدب و صوب. و لا غرو، فهی البقعة التی قبرت فیها رفات الإمام الشهید الطاهرة، و أهل بیته و صحبه المضحین الخالدین، و شهدت أروع معرکة فی التاریخ جال فیها الباطل علی الحق و سقط فی حومتها الشهداء من أجل المبدأ القویم.
و لم یقتصر زوار هذا البلد الأمین علی المسلمین من ملوک و أمراء، و علماء و رحالین، أو فقراء و متعبدین، و إنما کان بینهم عدد من الباحثین و المستشرقین و السیاح و الرحالین الذین جاءوا الیه من الغرب و قد استهوتهم قدسیته و بهرتهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 252
روحانیته، فاجتذبتهم أهمیته الفریدة فی بابها. و قد کان لا بد لهذا البلد الفذ فی وضعه و ماهیته من ان تخلده الکتب الغربیة و الشرقیة علی السواء، و یستقصی أخباره مشاهیر العلماء و المؤلفین. و لذلک سأحاول فی بحثی هذا أن أجمع أهم ما کتب من هذا القبیل، مما ینطوی علی الطرافة و الأهمیة التاریخیة فی الوقت نفسه، و یدل علی ان واقعة الطف التی نشأت عنها کربلا فی وضعها هذا لم تکن فی الحقیقة سوی مأساة انسانیة عامة لا یقتصر الاهتمام بها علی المسلمین و العرب وحدهم.

کربلا فی بدایة عهدها

ان أول ما تجب الإشارة الیه فی هذا الشأن هو ما ورد عن کربلا فی (دائرة المعارف الإسلامیة) التی تلخص الخلاصة الواردة فیها أهم ما یختص بها و بالحیر الحسینی المقدس فی مختلف العصور و الأدوار. و لا شک ان ما جاء فی هذه الخلاصة یستند علی المراجع العربیة فی الدرجة الأولی، مثل کتابات البلاذری، و المقدسی، و الاصطخری، و الطبری، و یاقوت، و المستوفی، و غیرهم. لکنه یستند إضافة الی ذلک، علی ما کتبه الغربیون انفسهم من تحقیق خاص بهم کالمستشرق الالمانی المعروف نولدکه فی کتابه بالألمانیة عن کربلا و مشهد الحسین علیه السلام، و المستشرق البحاثة لسترانج صاحب (بلدان الخلافة الشرقیة) و غیرهما.
و تبدأ هذه الخلاصة بالأشارة الی ان کربلا تقع فی جنوب غربی بغداد علی حافة البادیة، فی موقع یقابل قصر ابن هبیرة. ثم تشیر الی ان اسم کربلا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 253
نفسه قد تکون له صلة بالاسم الآرامی «کاربیلا» الوارد فی (سفر دانیال 3، 21) أو بالاسم الآشوری «کاربلاتو» الذی یدل علی اسم لباس من ألبسة الرأس. غیر ان هذا الاسم لم یرد له ذکر قبل الفتح الإسلامی علی کل حال.
و من المعتقد ان خالد بن الولید کان قد خیّم فی موقع کربلا نفسه بعد ان احتل الحیرة فی أیام الفتح الإسلامی. و فی یوم عاشوراء (10 محرم سنة 61 ه) او (10 تشرین الأول 680 م)، بینما کان الحسین بن علی فی طریقه من مکة إلی العراق، الذی کان یعتزم إظهار حقه فیه، أجبر علی النزول فی سهل کربلا الکائن فی منطقة «نینوی»، و هناک اضطر للاشتباک مع قوات الحاکم الأموی فی الکوفة فقتل و دفن فی الحیر. و سرعان ما أصبح المکان الذی دفن فیه جسم سبط الرسول الکریم، بعد ان قطع رأسه، مزارا مهما من مزارات الشیعة.
و بالنظر لاختصار ما کان من أمر الحسین الشهید و مقتله فی هذه الروایة، لا بد من ایراد ما یأتی علی الموضوع بشی‌ء من التفصیل. و خیر ما یمکن الاستشهاد به فی هذا الشأن ما کتبه المؤرخ الهندی المسلم الشهیر السید أمیر علی بالانکلیزیة فی کتابه (مختصر تاریخ العرب) . و کان السید أمیر علی هذا عضوا فی مجلس شوری الملک بانکلترة، و مؤلفا لکتب عدة أخری کتبها بالأنکلیزیة عن الإسلام و تاریخه منها (روح الاسلام) و (القانون الاسلامی) و غیر ذلک. فهو یقول عن موقعة کربلا و تحلیلها ما یأتی:
«... و قد کان الصلح المعقود بین الحسن و معاویة ینص علی الاعتراف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 254
بحق الحسین فی الخلافة، لکن معاویة نقض العهد و أخذ البیعة لابنه فحنق الحسین، و زاد فی حنقه فساد یزید. و عندما طلب الیه أهل الکوفة ان یعاونهم علی رفع نیر بنی أمیة و ینقذهم من استبدادهم لبیّ طلبهم فی الحال، و باستثناء عبد اللّه بن الزبیر الذی شجعه علی المسیر لیزیحه عن طریقه و یخلو له الجو من بعده فقد حاول جمیع أصدقائه ان یثنوه عن عزمه و نصحوه الّا یأخذ بمواعید العراقیین الذین و ان کانوا متصفین بالحماسة و شدة البأس الا أنهم قوم قلّب یعوزهم الثبات و الحزم ... غیر ان التأکیدات التی وردت الیه من أهل العراق قد حملته علی الشخوص الی الکوفة، فاجتاز الصحراء دون ان یلقی أیة مقاومة. و کان یصحبه جماعة من أهل بیته و أصحابه و أتباعه المخلصین و أطفاله و نسائه، فلما اقترب من حدود العراق لم یر أثرا لجیش الکوفة الذی وعده بالموت دونه. فروّع لتلک المفاجأة و دخلت علی قلبه الوحشة من مظهر البلد العدائی، و شمّ فی الجو رائحة الغدر و الخیانة فخیّم مع جماعته الصغیرة فی الموقع المسمی الآن (کربلا) علی مقربة من شاطی‌ء الفرات الغربی. و لم یلبث أن تکشف له الغدر، و حسرت له الخدیعة لثامها عن جیش یزید بامرة عبید اللّه بن زیاد بن أبیه. فحاصرت هذه القوة خیام الحسین عدة أیام، و سدت علیهم منافذ النجاة، کما حالت بین جماعته و بین الماء.
«لکن جنود عبید اللّه لم یجرؤوا بالرغم من کل ذلک علی الدنو من الحسین الذی کان قد اقترح علی رئیسهم عمر بن سعد ثلاث خصال، و هی: 1- اما أن یترکه یرجع الی المدینة. 2- أو أن یسیّره إلی حدود الترک یقاتلهم حتی یموت. 3- أو یسیره إلی یزید. غیر أن أوامر الطاغیة ابن زیاد کانت لا تقبل التأویل، و هی ان یحملوهم إلی الخلیفة لیری رأیه فیهم کمجرمین.
ثم عاد الحسین فعرض علیهم أن یبقوا علی حیاة الأطفال الابریاء و النساء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 255
الضعیفات و یقتلوه وحده فیضعوا حدا لهذا القتال غیر المتکافی‌ء، بید أن الرحمة لم تتسع لها قلوبهم. و عندئذ ألح علی أصحابه ان یترکوه وحده، فرفضوا ان یتخلوا عنه قائلین: «لا خیر فی الحیاة بعدک». و قد أحجم عن القتال رئیس من رؤساء جیش یزید حینما تیقن ان الدائرة ستدور بلا ریب علی ابن بنت الرسول، و ترک الجیش فی ثلاثین من أتباعه.»
«و کان الحسین فی کل التحام یقع یعقد له النصر علی أعدائه، غیر أن النبال کانت تحصد أصحابه من بعید فیسقط الواحد تلو الآخر حتی قتلوا جمیعا الا ابن بنت الرسول الذی تحامل علی نفسه و یمم وجهه شطر النهر لیطفی‌ء ظمأه،، فسددوا الیه السهام و رموه بالنبل لیحولوا بینه و بین الماء. فعاد أدراجه إلی خیمته و أخذ بین یدیه ابنه الرضیع فرشقه أحدهم بسهم قضی علیه فی الحال. و علی هذا النحو فتکوا بأولاده و اولاد أخیه و هم فی أحضانه، و لما أرهقه الجزع و ألفی نفسه وحیدا خائر القوی حیال أعدائه خرج من خیمته فناولته إحدی النساء بعض الماء لکنه ما کاد یرفع الوعاء إلی شفتیه حتی سددوا الیه سهما ملأ فمه دما. فرفع یده إلی السماء یستمطر الرحمة علی الأحیاء و الأموات من جماعته، ثم نهض واقفا صادق البأس، ثابت الجنان، و حمل علیهم حملة مستمیتة ففروا من أمامه. لکن الضعف کان قد بلغ منه منتهاه لکثرة ما نزف من دمه فسقط علی الأرض، و فی الحال هجموا علیه و احتزوا رأسه، ثم حملوه إلی قلعة الکوفة»
ثم یستشهد السید أمیر علی بقول المؤرخ الانکلیزی الأشهر غیبون‌Gibbon الذی یقول عن هذه الفاجعة: «.. إن مأساة الحسین المروعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 256
بالرغم من تقادم عهدها و تباین موطنها لا بد ان تثیر العطف و الحنان فی نفس أقل القراء إحساسا و أقساهم قلبا» و یعلق علی ذلک بقوله إن مذبحة کربلا قد هزت العالم الاسلامی هزا عنیفا و خلقت فی فارس شعورا ساعد أحفاد العباس فیما بعد علی استغلاله لمصلحتهم الشخصیة و تقویض دعائم الدولة الأمویة. و کان السخط قد بلغ منتهاه فی المدینة، حتی اضطر یزید الی ان یولی علیها عاملا خاصا لتهدئة خواطرهم.
و یقول السیر برسی سایکس فی کتابه (تاریخ ایران)، عند استعراضه الموجز لموقعة کربلا، ان الامام الحسین و عصبته القلیلة المؤمنة عزم علی الکفاح حتی الموت و قاتلوا ببطولة و بسالة ظلت تتحدی أعجابنا و اکبارنا عبر القرون حتی یومنا هذا. و یذکر فی معرض وصفه «للتشابیه» التی تخرج فی ایران مع مواکب العزاء الحسینی فی یوم عاشوراء، أنه رأی بعینیه ان شخصا کان یقوم بدور الشمر انقض علیه المشاهدون المتجمهرون فأوسعوه ضربا و لکما و لم ینج الا حین استطاع ان یفلت منهم و هو یرتجف خوفا و هلعا، و یلتجی‌ء الی الحاکم العام طالبا حمایته و مخبرا ایاه أنه طباخه الخاص. ثم یذکر انه سمع حوادث متعددة قد وقعت من هذا القبیل و قتل فیها من کان یقوم بدور الشمر.

أول من زار الضریح‌

و لقد جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة کذلک انه یلاحظ فی أخبار سنة 65 للهجرة (684- 85 م) بعد ذلک ان سلیمان بن صرد الخزاعی قد قصد المکان مع أتباعه لزیارة القبر المطهر، و أقام بالقرب منه نهارا و لیلة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 257
کما یلاحظ فی أخبار سنتی 122 ه (739- 40 م) و 436 ه (1044- 45) ان الزوار کانوا یتقاطرون علی الضریح المقدس و یتبرکون به. و یذکر نقلا عن الطبری کذلک، ان خدم المشهد الحسینی کانوا یتسلمون الهبات الخیریة من أم موسی والدة المهدی الخلیفة العباسی.
علی ان الدکتور جون هولیستر یروی فی کتابه (شیعة الهند) خبرا مفاده ان أول من زار قبر الحسین، بعد مرور أربعین یوما علی دفنه کان الصحابی المعروف جابر بن عبد اللّه. و یقول کذلک ان إحدی الروایات الشیعیة تنص علی ان بعض المؤمنین المحبین لآل البیت کان قد أشر علی مکان القبر المطهر بزرع شجرة (عنجاص) بالقرب منه. لکن هذه الشجرة قد اجتثت فیما بعد بأمر من الخلیفة هارون الرشید، و حرثت الأرض المحیطة بها. غیر ان بعض النازلین علی مقربة من الموقع بادروا الی وضع علامة غیر ظاهرة فیه. ثم یذکر ان الضریح المقدس تعرض الی الکثیر من التقلبات منذ ان أعاد عضد الدولة البویهی تشیید القبة فوقه، و خصه بخزینة خاصة، و ان الجدول الموجود فی کربلا کان قد حفر فی 957 للهجرة.
و یذکر الدکتور هولیستر فی مکان آخر ایضا، أی فی معرض البحث عن شهاب الدین أحمد شاه ولی ملک الدکن (1429 م)، ان سیدا بارزا من سادات کربلا یدعی ناصر الدین، زار هذا الملک فی الهند و تسلم منه مبلغا کبیرا من المال لانشاء قناة فی کربلا. و یورد فی هذه الاثناء قصة طریفة مفادها ان رجلا من أشراف الدکن تجاوز علی هذا السید و أنزله من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 258
فوق فرسه بالقوة، لأنه شعر بأنه لم یقدّر تقدیرا کافیا عند زیارة السید المشار الیها. فشکا السید هذا الرجل الی الملک، فلم یکن منه الا ان یبعث علیه فیزجه بین أرجل الفیلة لتسحقه حتی یموت. ثم خاطب من کان حوله من الرجال بقوله ان الاهانة التی توجه لرجل من سلالة النبی الکریم لا بد من ان یقتص لها من فاعلها علی هذه الشاکلة، و ان حمایة الاسلام و رجاله لفرض علی الجمیع.

هدم المتوکل لقبر الحسین‌

و مما جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة أیضا ان المتوکل العباسی کان قد عمد فی 236 ه (850- 851) الی هدم الضریح المطهر فی کربلا و ملحقاته، و زرعه بعد تسویة أرضه. ثم منع زیارة المکان و غیره من البقاع الشیعیة المقدسة، و هدد الزوار بفرض عقوبات صارمة علیهم. علی ان المعروف فی المراجع العربیة ان الخلیفة المتوکل هذا قد أمر بهدم قبر الحسین و مخره و حرثه أربع مرات متتالیات خلال مدة حکمه البالغ حوالی خمس عشرة سنة (232- 247 ه)، بعد ان کان الخلیفة المأمون علی ما یعتقد قد أمر بتعمیر القبة و توسیع الحیر الذی کان قد هدم بایعاز من أبیه هارون الرشید قبل ذلک.
و کانت أول مرة هدم فیها المتوکل قبر الحسین الشهید علی أثر ذهاب إحدی جواریه المغنیات الی زیارة شعبان فی کربلا سنة 232 ه (846 م).
و المرة الثانیة سنة 236 (850 م) و هی المرة التی تشیر الیها دائرة المعارف الإسلامیة إشارتها هذه، أما المرة الثالثة ففی سنة 237، ای فی السنة التالیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 259
بینما کانت المرة الرابعة فی سنة 247، فقتل علی أثرها بتدبیر من ابنه الخلیفة المنتصر لأنه کان تقیا ورعا یمیل الی أهل البیت. و یقول السید امیر علی فی کتابه المکتوب بالانکلیزیة المار ذکره ان المتوکل بلغ به کرهه لعلی بن ابی طالب و آل بیته ان هدم قبر الحسین فی کربلا و أمر بزرعه و سقیه، کما منع الناس من زیارته مهددا من یخالف أمره بأقصی العقوبات. و یلاحظ ان السید أمیر علی یسمی المتوکل من أجل هذا، و غیره من الاعمال المنکرة، بنیرون العرب.
هذا و المعروف فی المراجع العربیة ان المتوکل کان یعهد بمهمة الهدم الی رجل من أصل یهودی اسمه ابراهیم الدیزج، و الدیزج کلمة فارسیة تعنی الحمار الأدغم و قد ورد اسمه فی عدة مناسبات أخصها القصیدة العصماء التی نظمها الشاعر المعروف ابن الرومی فی رثاء العلویین الشهداء و هجاء العباسیین الذی تناول فیه المتوکل و هدمه للقبر المطهر، کما یلاحظ من الأبیات التالیة:
أفی الحق ان یمسوا خماصا و انتم‌یکاد اخوکم بطنه یتنعج
و تمشون مختالین فی حجراتکم‌ثقال الخطی أکفالکم تترجرج
ولیدهم بادی الطوی و ولیدکم‌من الریف ریان العظام خدلج
تذودونهم عن حوضهم بسلاحهم‌و یشرع فیه أرتبیل و أبلج
و قد الجمتهم خیفة القتل منکم‌و فی القوم حاج فی الحیازیم حوّج
و لم تقنعوا حتی استثارت قبورهم‌کلابکم منها تهیم (و دیزج)
و ان دلت أعمال الهدم المتکررة هذه، و ما کان یتبعها من تعمیر سریع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 260
للقبر، علی شی‌ء فانما تدل علی انحراف ظاهر فی عقلیة المتوکل من جهة، و مدی القوة فی عقیدة الرأی العام المسلم الذی کان یأبی یومذاک الا أن یخلد الحسین الشهید بتعمیر ضریحه و تقدیس تربته برغم جمیع ما کان بریده الغاشمون من اضطهاد و تنکیل.
و لذلک تقول دائرة المعارف الإسلامیة انه یلاحظ من اخبار سنة 367 (977 م) ان مشهدا کبیرا ذا قبة عالیة کان موجودا یومذاک حول قبر الحسین، و ان الزوار کانوا یقصدونه بأعداد کبیرة فیدخلون الیه من الأبواب المختلفة التی کان یوجد واحد منها فی کل جانب من جوانبه.

کربلاء فی 369- 727 ه

و قد جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة بعد هذا ان حملة تأدیبیة خاصة سیقت فی 369 (979- 980 م) الی عین التمر (شفاثة) للاقتصاص من ضبة بن محمد الأسدی لأنه کان قد أغار مع بعض العشائر علی مشهد الحسین فی کربلا و غیره من الأماکن المقدسة الاخری فنهبها و هدمها، فولی هاربا أمامها الی البادیة. و جاء فیها کذلک ان عضد الدولة البویهی قد وضع المشهدین المقدسین فی کربلا و النجف خلال السنة نفسها تحت حمایته. و ضبة ابن محمد هذا کان یتزعم عصابة من اللصوص و قطاع الطرق فی أیام الطائع للّه العباسی. و یتخذ عین التمر مقرا له، فاستطاع ان ینهب خزائن الحائر و نفائسه تلک السنة و یحدث بعض التخریبات فیه. و فیما یلی نص الخبر الذی أورده ابن الأثیر فی هذا الشأن: «.. و فی هذه السنة أرسل عضد الدولة سریة الی عین التمر و بها ضبة بن محمد الأسدی، و کان یسلک سبیل اللصوص و قطاع الطرق، فلم یشعر الا و العساکر معه فترک أهله و ماله و نجا بنفسه فریدا، و أخذ ماله و أهله و ملکت عین التمر. و کان قبل ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 261
قد نهب مشهد الحسین صلوات اللّه علیه فعوقب بهذا ..» و یبدو ان عضد الدولة قد أمر بعد هذه الحملة بتجدید الحائر و تعمیره، حیث ان ابن الأثیر یورد کذلک قوله ان عضد الدولة أصلح فی هذه السنة الطریق من بغداد الی مکة، و أطلق الصلات لأهل البیوتات و الشرف و الضعفاء المجاورین بمکة و المدینة، و فعل مثل ذلک فی مشهدی علی و الحسین علیهما السلام .
و مما ورد فی دائرة المعارف المذکورة کذلک ان الحسن بن الفضل المتوفی سنة 414 (1023) شید سورا حول الضریح المقدس فی مشهد الحسین.
و ان حریقا هائلا حدث سنة 407 (آب- أیلول 1016 م) علی أثر انقلاب شمعتین کبیرتین بالقرب من القبر المقدس، فتقوضت بذلک القبة و الأروقة و استحالت الی رماد. و یلاحظ فی المراجع العربیة ان هذا الحریق قد وقع فی منتصف اللیل قضاء و قدرا (ربیع الأول 407) فی عهد القادر باللّه العباسی. غیر ان الدکتور عبد الجواد الکلیدار یمیل الی الاعتقاد بأن هذا الحادث قد لا یکون وقع عفوا نظرا لما عرف عنه من نزعات و میول متطرفة و بث روح البغضاء بین الطوائف الإسلامیة الدینیة التی کان یستحصلها من الفقهاء. هذا بالاضافة الی الحوادث المریبة التی وقعت قبیل الحریق بین الطوائف الاسلامیة فی أفریقیة فذهب ضحیتها عدد کبیر من الشیعة، و الفتن الداخلیة من النمط نفسه التی أعقبت حدوث الحریق. و یستند الدکتور الکلیدار علی روایات ابن الجوزی و ابن الأثیر فی رأیه هذا.
و تورد دائرة المعارف الإسلامیة خبر زیارة السلطان ملکشاه السلجوقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 262
الی کربلا و النجف سنة 479 (1086 م)، و زیارة الأیلخان غازان للضریح المقدس فی کربلا سنة 703 (1303 م) و تقدیمه هدایا کثیرة له .. و یری کاتب البحث فی هذا المرجع ان غازان خان أو أباه أرغون یعزی الی أحدهما سحب الماء الی منطقة کربلا بشق قناة من الفرات الیها. و لا شک انه یقصد بذلک شق جدول الحسینیة الحالی. و تستند هذه الروایة علی ما أورده المستشرق الألمانی نولدکه فی کتابه المشار الیه فی صدر هذا المبحث.
و تشیر أیضا الی زیارة الرحالة المغربی المعروف ابن بطوطة الی کربلا فی 727 (1326- 1327 م) و تورد مضمون وصفه لها. و لزیادة التوضیح ندرج فیما یأتی نص الوصف الوارد فی رحلة ابن بطوطة نفسها: «... ثم سافرنا الی مدینة کربلا مشهد الحسین بن علی علیهما السلام، و هی مدینة صغیرة تحفها حدائق النخل، و یسقیها ماء الفرات، و الروضة المقدسة داخلها و علیها مدرسة عظیمة و زاویة کریمة فیها الطعام للوارد و الصادر. و علی باب الروضة الحجّاب و القومة لا یدخل أحد الا عن اذنهم فیقبل العتبة الشریفة و هی من الفضة. و علی الضریح قنادیل الذهب و الفضة، و علی الأبواب أستار الحریر. و أهل هذه المدینة طائفتان: أولاد زحیک، و أولاد فائز و بینهما القتال أبدا. و هم جمیعا إمامیة یرجعون الی أب واحد، و لأجل فتنتهم تخربت هذه المدینة.»
و مما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة علاوة علی ذلک ان حمد اللّه المتوفی یذکر فی حوالی التاریخ نفسه ان محیط کربلا کله کان یبلغ حوالی (2400) خطوة، و ان قبر الحر بن یزید الریاحی الذی کان أول من سقط من الشهداء فی معرکة کربلا دفاعا عن الحسین کان موجودا فی تلک الفترة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 263

الشاه أسماعیل فی کربلاء

و جاء کذلک ان الشاه اسماعیل الصفوی زار کربلا و النجف فی 930 ه (1542 م)، لکن الملحوظ ان زیارته للعتبتین المقدستین فی الفرات الأوسط قد وقعت فی أثر سقوط بغداد بید قائده المعروف لالا حسین فی 914 (1508) و لیس فی سنة 930. اذ یقول المستر لونکریک فی (اربعة قرون من تاریخ العراق الحدیث) ان الشاه اسماعیل الذی کان یعجل بنصر بعد آخر بعث لالا حسین لفتحها فکان له ما أراد بسهولة. و بذا خضعت بغداد فی أواخر سنة 1508 و طویت صفحة أخری من صفحاتها. ثم یقول بعد ذلک ان دخول العراق فی حوزة العرش الشیعی الجدید جاء بالشاه مسرعا لزیارة العتبات المقدسة ... و حینما زار العتبات المقدسة فی الفرات أصلح نهرا من الأنهر فسماه باسمه «نهر الشاه»، و شیّد بنایة فخمة علی قبر موسی الکاظم.
و یلاحظ من جهة أخری ان بعض المراجع العربیة تشیر الی ان الشاه اسماعیل الصفوی هذا حینما فتح بغداد فی 914 ه ذهب فی الیوم الثانی لزیارة المشهد الحسینی، و أمر بتذهیب حواشی الضریح، ثم أهدی اثنی عشر قندیلا من الذهب. و هذا أول عهد إدخال الذهب علی العمارة. ثم جاء الشاه إسماعیل الصفوی الثانی فی 932 ه. فأهدی شبکة بدیعة الصنع من الفضة لتوضع علی القبر. و لعل اشارة دائرة المعارف الإسلامیة إلی مجی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 264
الشاه اسماعیل فی سنة (930) یقصد بها هذا الخبر.
علی انه لا بد من ان یذکر قبل هذه النبذة شی‌ء عن کربلا فی عهد التیموریین إتماما لتسلسل البحث الزمنی التاریخی. فقد جاء فی کتاب دونالدسن (عقیدة الشیعة)، نقلا عن کتاب هوارث فی تاریخ المغول، ان التیموریین لم یمنعوا الناس من زیارة مراقد الأئمة القریبة من بغداد، و ان أمراء المغول المتأخرین کان بینهم من سمی باسم حسن أو حسین، الأمر الذی کان یدل علی تسامحهم تجاه العتبات الشیعیة و عطفهم علیها. ثم یذکر ان تیمور لنک حینما وصل إلی بغداد فی یوم 13 آب 1393 فتح الناس أبواب بغداد له، بعد ان کان السلطان احمد الجلائری قد هرب إلی الحلة. فاضطر جنوده إلی تمشیط البلاد المجاورة للتفتیش عنه حتی عثروا علیه فی النهایة، و اصطدموا به فی سهل کربلا، و کان ذلک فی یوم قائظ شدید الحرارة، فلم یؤد الاشتباک إلی نتیجة حاسمة فیما عدا تمکن السلطان من الفرار. و قد خشی الرؤساء التیموریون من الهلاک عطشا، ففتشوا عن الماء حتی وصلوا الی ساحل الفرات فی محل یقال له «مشهد» کان الحسین بن علی قد قتل فیه.
و هنا قبّل کل منهم عتبة المکان المقدس، و أدی المراسیم المعتادة التی کان من المألوف ان یؤدیها الزوار. و هذا یدل علی ان الفاتحین التیموریین لم یکونوا یضمرون أی عداء تجاه الشیعة، و غیر میالین إلی التعرض بأماکنهم المقدسة.
و حتی حینما احتلت بغداد و نهبت للمرة الثانیة، بعد ثمانی سنوات، من قبل التیموریین و جرت مذابح خالیة من الرحمة بین سکانها لم یرد أی ذکر موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 265
لتخریب أو هدم أیة عتبة من العتبات البعیدة عنها.

السلطان سلیمان فی کربلاء

و تشیر دائرة المعارف الإسلامیة أیضا الی زیارة السلطان سلیمان القانونی للمشهدین المقدسین فی کربلا و النجف سنة 941 للهجرة (1534 م)، و قیامه بإصلاح جدول الحسینیة بحیث استحالت الحقول المدفونة بالرمال إلی جنائن و بساتین من جدید. و یقول المستر لونکریک فی کتابه (أربعة قرون ..) ان السلطان سلیمان کانت عنایته الثانیة أن یزور العتبات المقدسة فی الفرات الأوسط، و یفعل هناک أکثر مما فعله الزائر الصفوی فی العهد الأخیر. فوجد مدینة کربلا المقدسة حائرة فی حائرها بین المحل و الطغیان.
إذ کان الفرات الفائض فی الربیع یغمر الوهاد التی حول البلدة بأجمعها من دون ان تسلم منه العتبات نفسها. و عند هبوط النهر کانت عشرات الألوف من الزوار یعتمدون علی الاستقاء من آبار شحیحة قذرة. فرفع مستوی «روف السلیمانیة»- و هی سدة ما تزال تقوم بعملها حتی الیوم- لوقایة البلدة من الفیضان. ثم وسع الترعة المعروفة بالحسینیة و زاد فی عمقها لکی تأتی بالماء المستمر، و لتجعل الأراضی الخالیة المغبرة حولها بساتین و حقولا یانعة للقمح. و صارت هذه الترعة تنساب فی أرض کان الجمیع یظنونها أعلی من النهر الأصلی. فاستبشر الجمیع بالمعجزة و اقتسم الحسین الشهید و السلطان القانونی جمیع الثناء و الأعجاب. و بعد أن زار سلیمان قبر الأمام علی فی النجف رجع الی بغداد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 266

منارة العبد

و تتطرق دائرة المعارف الإسلامیة فی بحثها الموجز عن کربلا الی ذکر «منارة العبد» فتقول انها شیدت فی 982 (1574- 1575)، و انها کانت تسمی «انکوشتی یار» ، و ان السلطان مراد الثالث أمر و الی بغداد علی باشا و ندزاده فی 991 (1583) بترمیم الحائر و إعادة تعمیره. و منارة العبد هذه هی مأذنة مرجان (مشید جامع مرجان فی بغداد) عبد السلطان أویس الجلائری الذی تعین والیا علی العراق فرفع رایة العصیان ضده و استبد ببغداد حتی اضطر السلطان أویس أن یسیر الیه من تبریز فیقضی علی حرکته.
و حینما فشلت الحرکة التجأ الی کربلا مستجیرا بحرم الإمام الشهید علیه السلام.
فعلم أویس بذلک و صفح عنه ثم استدعاه الیه فأکرمه و أعاده إلی وظیفته والیا علی العراق من جدید. و کان حینما استجار بالحرم المطهر قد نذر ان یبنی مئذنة خاصة فی الصحن الحسینی الشریف اذا خرج ناجیا من الغمة، ففعل ذلک و بنی حولها مسجدا خاصا، ثم أجری لهما من أملاکه فی کربلا و بغداد و عین التمر و الرحالیة أوقافا یصرف واردها علی المسجد و المأذنة، و أصبحت تلک الأملاک الموقوفة أوقافا حسینیة منذ ذلک الوقت .
و قد تم ذلک کله فی سنة 767 للهجرة، غیر ان الشاه طهماسب بن الشاه اسماعیل الصفوی أمر بترمیمها و تحسینها فی سنة 982، و لا شک ان هذا التاریخ هو الذی توهم به کاتب الخلاصة الواردة فی دائرة المعارف الإسلامیة المنقوله أعلاه فاعتبره تاریخا لبدایة تشیید المئذنة. و قد رأی أحد الفضلاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 267
ان یؤرخ هذا العمل الخیری بالأبیات التالیة:
ثم تداعی ظاهر المنارةللعبد و استدعی له العمارة
فمد کفه لها طهماسب‌و عمرت بما لها یناسب
و أرخت ما بین عجم و عرب أنکشت یار» تعنی «خنصر الأحب»
و الکلمتان الأخیرتان تنطویان علی تاریخ التعمیر. و هذا ما یشیر الیه صاحب البحث الوارد فی أعلاه، و یعتبر خطأ انه الأسم الثانی للمنارة.
و قد ظلبّ هذه المئذنة قائمة فی مؤخرة الحائر المقدس، وسط الجانب الشرقی من الصحن، حتی هدمت عن جهل و ضلال فی عام 1937 بحجة میلانها الی الانهدام. و کانت مأذنة متینة البنیان یبلغ قطر قاعدتها حوالی عشرین مترا، و ترتفع إلی ما یناهز الأربعین، کما کانت مزینة بالفسیفساء النادر و القاشانی البدیع .

کربلا فی القرنین السابع و الثامن عشر

ان أهم ما یرد فی المراجع الغربیة عن کربلا فی هذه الحقبة الطویلة مما یشیر الی النزاع المحتدم بین العثمانیین، المستولین علی العراق، و الإیرانیین الذین کانوا ینافسونهم فیه. و من أهم مظاهر هذا التنافس و التناحر مطالبة الایرانیین بالعتبات المقدسة فی مختلف الفرص و المناسبات، و احتلال الشاه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 268
عباس الصفوی لبغداد، و محاصرتها من قبل نادر شاه ثلاث مرات، و استئثار القبائل العربیة بالسیطرة علی المناطق المحیطة بکربلا و النجف، و غیر ذلک.
فقد جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة أن الشاه عباس الصفوی ما ان تم له احتلال بغداد فی 1623 حتی سارع فی الاستحواذ علی المشهدین المقدسین فی کربلا و النجف و الفوز بهما للدولة الإیرانیة علی حد تعبیرها. و تتطرق إلی ذکر نادر شاه بعد ذلک فتقول انه زار کربلا فی 1743، و بینما نجد ان هذا الشاه یعزی الیه الفضل فی تذهیب قبة الإمام علی فی النجف فانه تعزی الیه من جهة أخری مصادرة الأوقاف و الهبات الخیریة العائدة للامامین الشهیدین فی کربلا. علی ان ازدهار کربلا و رفاهیة سکانها الکثیرین کانا موضع رعایة عبد الکریم خان، أحد الشخصیات المقربة الیه. و تذکر هذه الخلاصة کذلک أن رضیة سلطان بکم (زوجة نادر شاه) و ابنة الشاه حسین (1694- 1722) أهدت مبلغ عشرین ألف نادری لترمیم العتبة فی کربلا و ترمیم مسجدها. و ان آغا محمد خان مؤسس الدولة القاجاریة فی إیران هو الذی صرف علی تغلیف قبة الإمام الحسین و منارتیه بالذهب، فی أواخر القرن الثامن عشر.
و تشیر المراجع العربیة الی أن الشاه عباس الصفوی کان قد أدخل تحسینات کثیرة علی الحائر المقدس و تزیینه، کما یلاحظ من الأبیات التالیة التی تؤرخ سنة فتحه لبغداد (1032 ه) علی أثر حادثة الصوباشی المشهورة:
ثم أتی العباس فی الأملاک‌فصیر الصندوق فی شباک
و زین القبة بالکاشانی‌و البهو فی شأن یغیظ الشانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 269 و روق الرواق و الصحن نظم‌و استجلب الفراش من صنع العجم
و أطلق الکف بفضل وافرلسادن الروضة و المجاور
للاثنتین و الثلاثین قفاألف فأرخوه (بالحسن صفا)
و مما یمکن ان یذکر بمناسبة استیلاء الشاه عباس علی بغداد الخبر التالی الذی قد تکون له علاقة و لو غیر مباشرة بکربلا. إذ یشیر المستر لونکریک فی (أربعة قرون ..) الی ان کلیدار کربلا (السیددراج) استطاع ان ینقذ حیاة الکثیرین من سکان بغداد الذین تعرضوا للقتل فی أثناء الفتح. فیقول «.. و قد صرفت فکره- عن نیاته الوحشیة بعدم إبقاء أی سنی حیا- التماسات کلیدار کربلا. فقد فاز السید من دون صعوبة بحفظ حیاة الشیعة فی بغداد، و عند تقدیم قائمة بهم أدخل فی عدادهم کثیرا من السنة ..»
و مما عثرنا علیه فی المراجع الانکلیزیة بالنسبة لکربلا فی أواخر القرن السابع عشر ما أورده المستر لونکریک عن زیارة والی بغداد قبلان مصطفی باشا لها تیمنا و تبرکا، و هو منشی‌ء جامع القبلانیة فی بغداد. و هو یذکر کذلک ان فتنة کبیرة نشبت بین الجند الحکومی فی حامیة کربلا فنهبت علی أثرها المدینة المقدسة نهبا فظیعا، علی عهد والی بغداد اسماعیل باشا (1698) الذی کان حاکما سابقا فی مصر. فأدی ذلک الی احتجاج الشاه لدی الباب العالی فی استانبول، و تحویل الباشا المذکور الی وال بعد شهرین من حکمه فقط.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 270
و یرد ذکر کربلا فیما کتبه لونکریک عن محاصرة نادر شاه لبغداد عدة مرات، و مفاوضاته حول العتبات المقدسة فی کربلا و النجف و مطالبته بهما (1746) مما هو مذکور بشی‌ء من التفصیل فی الجزء الأول من (قسم النجف) من هذه الموسوعة. و مما یورده من الأخبار أیضا ان الفوضی ظلت ضاربة أطنابها فی ضواحی کربلا و الحلة مدة من الزمن فی أواخر القرن الثامن عشر حتی استطاع والی بغداد سلیمان باشا ابو لیلة من إعادة الأمن إلی نصابه فیها.
اما بالنسبة لآغا محمد خان القاجاری فان المراجع العربیة توید ما جاء فی دائرة المعارف الإسلامیة من أنه صرف علی تذهیب القبة و المآذن لأول مرة، بعد ان کانت مکسوة بالقاشانی الممتاز، و تزید علی ذلک بأنه صرف أیضا علی توسیع الجانب الغربی من الصحن و جعله بالسعة التی هو علیه الیوم.
و کان ذلک فی أواخر أیام حیاته، أی قبل الغارة الوهاببة الکبیرة علی کربلا بعشر سنوات.

هجوم الوهابیین‌

و کانت الغارات الوهابیة التی شنت علی کربلا. و الحدود العراقیة بوجه عام، فی نهایة القرن الثامن عشر و اوائل القرن التاسع عشر قد ذکرت فی کثیر من المراجع الغربیّة و الشرقیة. علی ان أهم من أشار الیها، او تطرق لها بالتفصیل، دائرة المعارف الإسلامیة و المستر لونکریک فی کتابه المعروف عن تاریخ العراق الحدیث. فقد جاء فی المرجع الأول قوله «.. و فی نیسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 271
1802 هاجم کربلا، حینما کان معظم سکانها قد ذهبوا إلی الزیارة فی النجف، اثنا عشر ألف وهابی برآسة الأمیر سعود فذبحوا فیها ما یزید علی ثلاثة آلاف من السکان و نهبوا البیوت و الاسواق و نفائس الضریح المقدس.
و قد أخذوا علی الأخص صفائح الذهب بعد أن اقتلعوها من مکانها، ثم هدموا الضریح المطهر. غیر ان التبرعات قد انهالت بعد هذه النکبة الألیمة علی العتبة المقدسة من جمیع انحاء العالم الإسلامی.»
غیر ان المستر لونکریک یسهب فی ذکر هذه النکبة و وصفها و یجعل وقوعها فی 1801. و إظهارا للحقیقة علی وجهها الأکمل لا بد من ایراد روایته بنصها فی هذا المجال. فهو یقول:
علی أن الفاجعة الکبری کانت علی قاب قوسین او أدنی، تلک الفاجعة التی دلت علی منتهی القسوة و الهمجیة و الطمع الأشعبی، و استعملت باسم الدین. فقد حدث فی أوائل سنة 1801 ان تفشی الطاعون فی بغداد، فاضطر الباشا (سلیمان باشا الکبیر) و حاشیته للالتجاء الی الخالص حیث ابتعد عن منطقة المرض. و ما استتب حاله هناک حتی فوجی‌ء بنبأ من المنتفک علم به أن القوات الوهابیة تحرکت للغزو الربیعی المعتاد. فأرسل الکهیة إلی الهندیة، الا أنه ما کاد یغادر بغداد حتی وافت أخبار هجوم الوهابیین علی کربلا و نهبهم إیاها، و هی أقدس المدن الشیعیة و أغناها.
إذ انتشر خبر اقتراب الوهابیین من کربلا فی عشیة الیوم الثانی من نیسان عندما کان معظم سکان البلدة فی النجف یقومون بأداء الزیارة، فسارع من کان فی المدینة لاغلاق الأبواب. غیر أن الوهابیین و قد قدروا بست مائة هجّان و أربع مئة فارس نزلوا و قسموا قوتهم الی ثلاثة أقسام.
و من ظل أحد الخانات هاجموا أقرب باب من أبواب البلدة فتمکنوا من فتحه عنوة و دخلوا. فدهش السکان و اصبحوا یفرون علی غیر هدی بل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 272
کیف ما شاء خوفهم. اما الوهابیون الخشن فقد شقوا طریقهم الی الأضرحة المقدسة و أخذوا یخربونها. فاقتلعت القضب المعدنیة و السیاج ثم المرایا الجسیمة.
و نهبت النفائس و الحاجات الثمینة من هدایا الباشوات و ملوک الفرس و الأمراء، و کذلک سلبت زخارف الجدران و قلع ذهب السقوف و أخذت الشمعدانات و السجاد الفاخر و المعلقات الثمینة و الأبواب المرصعة، و جمیع ما وجد من هذا الضرب فسحبت إلی الخارج. و قتل زیادة علی هذه الأفاعیل قراب خمسین شخصا بالقرب من الضریح فی الصحن. أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فیها فسادا و تخریبا، و قتلوا من دون رحمة جمیع من صادفوه کما سرقوا کل دار. و لم یرحموا الشیخ و لا الطفل، و لم یحترموا النساء و لا الرجال، فلم یسلم الکل من وحشیتهم و لا من أسرهم. و لقد قدر بعضهم عدد القتلی بألف نسمة، و قدر الآخرون خمسة أضعاف ذلک.
و لم یجد وصول الکهیة إلی کربلا نفعا. فقد جمع جیشه فیها و فی الحلة و الکفل و نقل خزائن النجف الأشرف إلی بغداد، ثم حصّن کربلا نفسها بسور خاص. و علی هذا لم یقم بأی إنتقام للفعلة الشنیعة الأخیرة التی قام بها العدو الذی لا یدرک. و قد کان ذلک الحادث الألیم للباشا الشیخ فی عمره هذا صدمة ممیتة. و انتشر الرعب و الفزع فی جمیع انحاء ترکیة و إیران. و بذلک رجع وحوش نجد الکواسر إلی مواطنهم ثقالا علی ابلهم التی حمّلت بنفائس لا تثمن.
و یقول لونکریک کذلک فی إحدی الحواشی ان مرزا أبا طالب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 273
صاحب الرحلة المشهورة یلوم فی هذا الحادث عمر آغا الذی لم یعمل شیئا لحمایة البلدة، و قد قتله سلیمان باشا فی الأخیر. لکن الملاحظ فی الرحلة المذکورة نفسها ان عمر آغا هرب إلی قریة قریبة من کربلا أول ما علم بالخطر فلم یدافع قط، مع ان الناس کانوا یتهمونه بمخابرة الوهابیین و التواطؤ معهم.
و من طریف ما یرویه المرزا أبو طالب فی هذا الشأن أیضا (الص 399 من الترجمة الفرنسیة) أنه لقی بکربلا عمته المسماة «کربلائی بکم» و نسوة من حاشیتها، و کان الوهابیون قد سلبوهن کل ما یملکن فأعانهن هو نفسه بکل ما استطاع من المعونة. و یروی فیها کذلک ان الوهابیین قتلوا فی هذا الحادث خمسة آلاف إنسان و جرحوا عشرة آلاف.
هذا و یذهب المستر ریتشارد کوک مؤلف کتاب (بغداد مدینة السلام) الی تأیید هذا الوصف عند ذکره للحادث بصورة موجزة لکنه یضیف الیه قوله ان الحادث الألیم قد أحدث رعبا و قلقا فی بغداد کلها، و سرعان ما انعکس ذلک فی استانبول و إیران. ثم یقول: ان الإیرانیین فی الحقیقة قد اشتد هیاجهم بحیث ان فتح علی شاه لم یمنعه عن التدخل السافر و سوق الجیوش الی العراق لهذا السبب، الا إرسال مبالغ طائلة من بغداد إلیه فی الوقت المناسب إرضاء لجشعه المسنون.
و هناک روایات کثیرة فی المراجع العربیة تؤید هذا الوصف و تزید علیه، لکن أهم ما نجد ضرورة لایراده من هذه الروایات ما جاء فی (تاریخ کربلا المعلی الص 20) من وصف للحادث، و اشارة تفصیلیة إلی النفائس التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 274
نهبها الوهابیون فیه. إذ تقول الروایة «.. حتی إذا جاءت سنة 1216 للهجرة جهز الأمیر سعود الوهابی جیشا عرمرما یتألف من عشرین ألف مقاتل و هجم بهم علی مدینة کربلا ... فدخل المدینة بعد أن ضیق علیها و قاتل حامیتها و سکانها قتالا شدیدا، و کان سور المدینة مرکبا من أفلاک نخیل مرصوصة خلف حائط من طین. و قد ارتکب فیها من الفظائع ما لا یوصف حتی قیل انه قتل فی لیلة واحدة عشرین ألف نسمة. و بعد أن أتم الأمیر سعود مهمته التفت نحو خزائن القبر و کانت مشحونة بالأموال الوفیرة و کل شی‌ء نفیس، فأخذ کل ما وجد فیها، و قیل انه فتح کنزا کان فیه جمة جمعت من الزوار. و کان من جملة ما أخذه لؤلؤة کبیرة و عشرون سیفا محلاة جمیعا بالذهب و مرصعة بالحجارة الکریمة، و أوان ذهبیة و فضیة و فیروز و ألماس».
«و قیل من جملة ما نهبه سعود أثاث الروضة و فرشها، منها أربعة آلاف شال کشمیر و ألفا سیف فضة و کثیر من البنادق و الأسلحة. و قد صارت کربلا بعد هذه الواقعة فی حال یرثی لها، و قد عاد إلیها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعض خرابها و أعاد الیها العمران رویدا رویدا. و قد زارها فی أوائل القرن التاسع عشر أحد ملوک الهند فأشفق علی حالتها، و بنی فیها أسواقا حسنة و بیوتا قوراء أسکنها بعض من نکبوا. و بنی للبلدة سورا حصینا لصد هجمات الأعداء، و أقام حولها الأبراج و المعاقل، و نصب له آلات الدفاع علی الطراز القدیم».
و لقد أرخ هذا الحادث المروع بالأبیات الآتیة، المنقولة عن (مجالی اللطف الص 42) :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 275 فشد لا یثنی هواه الثانی‌و مزّق الکتاب و المثانی
و هدم الشباک و الرواقاو استلب الحلی و الأعلاقا
و قتل النساء و الأطفالاإذ لم یجد فی کربلا رجالا
لأنهم زاروا الغدیر قصدافأرخوه (بغدیر) عدا
و مما یذکره لونکریک عن وفاة الوالی سلیمان باشا الکبیر الذی وقع هجوم الوهابیین علی کربلا فی آخر أیامه قوله ان آخر الضربات التی رکس بعدها انزعاجه من الطاعون الذی کان قد أخرجه من بغداد، و الرعب الذی أصابه من فاجعة کربلا.

فی اوائل القرن التاسع عشر

و یذکر لونکریک عن أیام الوالی سلیمان باشا الصغیر (1808- 1811) ان أخبارا وردت تنبی‌ء بظهور قوة کبیرة من الوهابیین حوالی کربلا، فسببت هذه الأخبار المبالغ فیها هلعا و رعبا فی بغداد نفسها فتسلح أصحاب الدکاکین و التجار بأجمعهم. الا أن الوهابیین لم یعبروا الفرات، و کانت الحقیقة ان قسما منهم استولوا علی شفاثة و غزوا القری و المرزات الممتدة إلی الحلة فی عبر فرع الهندیة لکنهم رجعوا بمجرد وصول الباشا إلی الحلة. ثم یشیر فی معرض تهدیدات الوهابیین المتکررة للعراق الی ان عصابة وهابیة سالبة یقودها عبد اللّه بن سعود، وصلت إلی ما یقرب من بغداد فی 1810. و کان الوکلاء الوهابیون یجبون «الخوّة» من الرعایا العراقیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 276
فی مستنقعات کربلا عدة سنین خلت من هذا العهد.
و حینما نأتی إلی عهد الوالی سعید باشا (ابن سلیمان الکبیر) الذی تولی الحکم فی بغداد سنة 1813 نجد المستر لونکریک یذکر فی (أربعة قرون ..) ان داود أفندی (الذی أصبح أشهر ولاة الممالیک فی العراق بعد سعید) تولی وظیفة الکهیة و اضطلع فی سنتی 1813 و 1814 بسلسلة من الحملات التأدیبیة علی عشائر دجلة و الفرات، فأعاد بذلک الشیخ شفلح الشلال الی رآسة زبید و مر بالخزاعل فأرهبهم، ثم أزال الحصار القبائلی الذی کان یفرض علی کربلا فی موسم الزیارات علی حد قوله.

واقعة نجیب باشا

و أهم ما یرد عن کربلا فی المراجع الغربیة بعد عهدی داود باشا و علی رضا باشا الطویلین، الإشارة الی وقعة الوالی محمد نجیب باشا فی کربلا الذی تولی الحکم فی بغداد سنة 1842. فقد ورد فی دائرة المعارف الإسلامیة التی أشرف علی تحریرها و إعدادها المستشرقان الشهیران غیب‌Gibb و کریمرزKramers ، قولهما «.. و بعد إحتلال إیرانی موقت لکربلا توفق الوالی نجیب باشا فی 1843 الی فرض التابعیة الترکیة علی البلدة و الاعتراف بها بقوة السلاح. و کانت قد تهدمت معظم أجزاء السور فی هذه الحادثة.» ثم یعقب باشارة عن کربلا فی عهد الوالی المصلح مدحت باشا فیقول إنه بدأ فی 1871 بتشیید الدوائر الحکومیة فیها، لکنها بقیت غیر تامة البناء، ثم وسع السوق فی البلدة.
علی اننا لا بد من أن نصحح ما ورد فی هذه النبذة فنقول إن کربلا لم تکز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 277
خاضعة لاحتلال إیرانی موقت حینما زحف علیها نجیب باشا لفرض سیطرة الحکومة فیها. فان المراجع العربیة و الغربیة الأخری تجمع کلها علی أن کربلا فی ذلک العهد ظلت تتحکم فیها، و تتحدی حکومتها و حکومة الولایة فی بغداد، عصابات «الیرماز» التی سار لتأدیبها قبل نجیب باشا الوالیان داود باشا و علی رضا باشا کذلک. لکن المعروف فی هذه المرة أن أهالی کربلا حینما حاصرتهم الجیوش الترکیة و وقفوا یدافعون عن البلدة انضمت الیهم قوات «البرطاسیة» الإیرانیة بعددها المحدود. و کانت هذه القوة موکلة بحراسة القنصلیة الإیرانیة فی کربلا، و قد جی‌ء بها باتفاق خاص بین حکومة بغداد و محمد شاه القاجاری لحمایة الرعایا الایرانیین و مصالحهم من قبل.
و لعل وجود هذه القوة الأجنبیة فی کربلا کان شبیها بوجود الزورق البریطانی المسلح فی دجلة و حرس السپاه الهندی الذی کان موکلا بحراسة القنصلیة البریطانیة العامة فی بغداد منذ أواخر القرن الثامن عشر.
و خیر من یوجز حادثة نجیب باشا هذه من المؤلفین الغربیین المستر لونکریک فی (أربعة قرون ..) . فهو یقول «.. و فی 1843 وقعت حادثة العقاب الشدید الذی أنزل بکربلا. و لو تطلعنا ببحثنا الی کربلا فی هذا العهد لرأینا أنها کانت منذ عدة سنوات ملجأ للهاربین الخبثاء من (ماردین) إلی (المحمرة) فکانت بذلک بعیدة «عن حکم الحکومة الترکیة تقریبا. فلم یتسن لداود باشا و لا لعلی رضا الدخول الیها. و آلت فی سنة 1842 حکومتها الداخلیة لی رؤساء العصابات من «الیرماز» الذین کان یخضع لسوء تصرفهم العالم لمجتهد و الحاکم الموجود علی حد سواء. و قد ألزم نجیب باشا فی أواخر 1841 البلدة بقبول الحامیة الترکیة و بقائها فیها، فرفضت و تبع ذلک الرفض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 278
الحرکات العسکریة، فدوفع عن البلدة بکل حماسة، و أعقب العراک فی البساتین المجاورة حصار منتظم کانت نتیجته ان دخل الجند الأتراک البلدة، فارتکبوا فیها شناعات کثیرة سرعان ما بولغ بها. ففزع من ذلک الایرانیون و الدیبلوماسیون فی استانبول ..»
اما خلاصة ما جاء فی کثیر من المراجع العربیة عن هذا الحادث، و منها کتاب (العراق بین احتلالین)، فهو ان کربلا بمقتضی کونها بلدة مقدسة ذات مرکز مرموق فی العالم الإسلامی، و حرمة یقدرها الناس فی شتی الظروف و المناسبات، کثیرا ما کانت تصبح ملاذا للشقاة و الهاربین و ملجأ للعصاة و الخارجین علی القوانین، لأنها کانت حرما آمنا یعصمهم من الأذی و یجعلهم فی منأی عن طائلة العقاب. و قد أدی ضعف الحکومة تجاهها خلال العشرینات و الثلاثینات من القرن التاسع عشر الی ان تتحکم بها عصابات الأشرار الأهلیة الذین کان یسمیهم الأتراک «یرماز»، و قد بلغ الأمر بهذه العصابات أنها صارت تعتدی علی الزوار و سائر طبقات الناس، و تتحدی الحکومة الضعیفة. و أخذت تبتز الأموال و تصادر الأملاک و تنتهک الحرمات، حتی أنها تجرأت فی یوم من الأیام علی أحد المجتهدین (السید ابراهیم القزوینی) و هاجمت داره فی حلکة اللیل فاختطفته و لم تطلق سراحه الا بعد أن أدی لها مبلغا من المال یناهز الأربعة آلاف قران ایرانی من سکة محمد شاه. کما اختطفت فی أیام داود باشا قبل ذلک بنتا من بنات شاهزادات الأسرة القاجاریة المالکة فی إیران، فأدی ذلک الی توتر العلاقات بین الدولتین الایرانیة و العثمانیة.
و بدلا من ان یستعین محمد نجیب باشا بالرویة و العقل فی معالجة المشکل بادر إلی استعمال القوة. فقد جرد علی البلدة المقدسة قوة کبیرة مجهز بالأسلحة الحدیثة، و حاصرها لمدة خمسة و عشرین یوما. فاتفقت فئات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 279
الکربلائیین جمیعها علی الدفاع عن النفس بکل عزم و قوة، و لذلک لم یجد القائد الترکی سعد اللّه باشا، أو کرد محمد باشا فی روایة أخری، بدا من تسلیط نیران مدافعه علی السور من جهة باب النجف فحدثت ثغرة واسعة فیه. و عند ذلک تدفقت منها جموع المدافعین الی الخارج، و التحمت مع الجیش الترکی فی معرکة حامیة الوطیس اشترکت فیها الی جانب الکربلائیین قوة منجدة من عشائر الفتلة و الیسار و المعدان. لکن الجیش الترکی تغلب فی النهایة و دخلت قواته الی البلدة فی الیوم الثانی من أیام عید الأضحی المبارک.
و حینما التجأ قسم من الناس و القوة المدافعة إلی صحن الامام العباس و حضرته المطهرة تتبعتهم إلیهما القوات الترکیة، و لم تتورع عن قتل المئات من اللائذین بهذا المرقد المقدس. هذا مع أنها کانت قد أمنّت من لجأ الی بیوت الشیخیة و بیت السید کاظم الرشتی، رئیس الکشفیة، علی ما یقال.
و المقول فی إحدی الروایات ان نجیب باشا نفسه انتهک حرمة المکان المقدس فدخل الیه و هو یمتطی صهوة جواده. و تقدر الروایات المعتدلة ان عدد القتلی بلغ أربعة آلاف نسمة من الأهالی، و خمس مئة من الجیش المهاجم. و علی أثر ذلک قبض علی السید ابراهیم الزعفرانی رئیس العصاة و جی‌ء به مکبلا الی بغداد فقضی نحبه فیها بعد قلیل، ثم طورد السید عبد الوهاب آل طعمة سادن الروضتین حتی عفی عنه بشفاعة نقیب بغداد السید علی الکیلانی فسلم نفسه. و قبض کذلک علی أشراف کربلا الآخرین بتهمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 280
التحریض علی هذه الحرکة و المقاومة، مثل السید صالح الداماد و علی کشمش و طعمة العبد و بعض السادة من آل نصر اللّه و النقیب .

بعض مظاهر التجدید

و مما ورد فی المراجع الغربیة عن کربلا فی أوائل النصف الثانی من القرن التاسع عشر الاشارة إلی ربطها بالعالم الخارجی بواسطة الخطوط التلغرافیة لأول مرة فی تاریخها. فقد اتفقت الحکومة الترکیة فی 1857، أی فی عهد والی بغداد السردار الأکرم عمر باشا، مع الحکومة البریطانیة علی إنشاء شبکة خاصة للخطوط التلغرافیة فی العراق، علی أن یتولی إنشاءه المهندسون الانکلیز و یمولها العثمانیون. و بعد أربع سنوات تم إیصال بغداد بالعالم الخارجی، و من بعد ذلک بسنوات قلیلة مدت خطوط إضافیة بین بغداد و الفاو فی الجنوب من جهة و بغداد و خانقین من جهة أخری. و علی هذا الأساس ارتبطت العاصمة العراقیة بایران. و کان الخط التلغرافی الی الفاو یمر بطریق الفرات، فربط به خط تلغرافی فرعی یصل الی کربلا و النجف.
هذا و بعد ان أوصلنا مثل هذا البحث الی أیام الوالی المصلح مدحت باشا (1871)، الذی بنیت فی أیامه الدوائر الحکومیة فی کربلا و تم توسیع السوق فیها، لا بد لنا من ان نعود الی اکماله من ناحیة أخری بایراد ما کتبه الرحالون عنها بعد أن شدوا الرحال لزیارتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 281

مشاهدات تکسیرا فی کربلاء

و أقدم ما یمکن ان نثبته هنا من هذا القبیل ما کتبه الرحالة البرتغالی المعروف بیدرو تکسیرا الذی قدر له أن یزور هذه المدینة المقدسة و یصل الیها فی سنة 1601. و کان هذا السنیور من الرحالة الذین طوحوا فی الآفاق، و زاروا المناطق التی خضعت للامبراطوریة البرتغالیة یومذاک ردحا من الزمن، و علی الأخص منطقة الخلیج و ما یحیط بها من الأمصار و البلاد.
و قد أقلع فی إحدی رحلاته من جزیرة غواGoa الهندیة متوجها الی ایطالیة عن طریق الخلیج و ما بین النهرین فحلب فقبرص. و کان قد سلک طریق البادیة من البصرة إلی النجف الأشرف بعد ان مرّ بعیون السید، و الرحبة، و الرهیمة، و غیر ذلک. و مما یذکره عن النجف أنها کانت تخضع فی تلک الأیام الی الأتراک الذین کان یدفع لهم أمیرها العربی غیر شیئا یسیر من الأتاوی. و هو یقصد بذلک ناصر المهنا- أمیر جشعم- الذی یقول انه کان یقیم بالقرب من کربلا.
و حینما ارتحلت قافلة (تکسیرا) و جماعته عن النجف توجهت إلی کربلا فوصلت إلیها فی یوم الجمعة المصادف 24 أیلول 1604. و قد نزلت فی أحد الخانات العامرة التی کان بناؤها للزوار یعد من الأعمال الخیریة المبرورة.
و یقول تکسیرا أن کربلا، التی یسمیها مشهد الحسین، کانت بلدة تحتوی علی أربعة آلاف بیت معظمها من البیوت الحقیرة. و کان سکانها من العرب، و بعض الایرانیین، و الأتراک، الذین کانوا یعینون للأشراف علی المناطق المحیطة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 282
بها کذلک. لکن الأتراک کلهم کانوا قد انسحبوا یومذاک الی بغداد بسبب الحرب مع الایرانیین فأدی ذلک الی رحیل العجم عنها أیضا لأنهم لم یعودوا یشعرون بالطمأنینة و الأمان.
و قد کانت أسواقها مبنیة بناء محکما بالطابوق، و ملأی بالحاجات و السلع التجاریة لتردد الکثیرین من الناس علیها. و بعد ان یشیر الی وجود الروضة الحسینیة و توارد المسلمین لزیارتها من جمیع الجهات یتطرق الی ذکر السقاة الذین کانوا یسقون الماء للناس فی سبیل اللّه و طلبا للأجر، أو إحیاء لذکری الامام الشهید الذی قتل عطشانا فی هذه البقعة من الأرض. و یقول انهم کانوا یدورون بقربهم الجلدیة الملأی بالماء، و هم یحملون بأیدیهم طاسات النحاس الجمیلة. ثم یشیر الی تیسر الأرزاق و رخصها، و توفر المأکولات و الحبوب بکثرة مثل الحنطة و الرز و الشعیر و الفواکه و الخضروات، و اللحوم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 283
و إلی لطف الهواء فیها و کون الجو فیها أحسن منه فی جمیع الأماکن التی أتی علی ذکرها من قبل. و قد وجد فی کربلا عددا من الآبار العامة الحاویة علی الماء العذب الجید جدا و کثیرا من الأشجار، و بعض أنواع الفاکهة الأوربیة علی حد تعبیره. و کانت الأراضی فیها تسقی من جدول خاص یتفرع من الفرات الذی یبعد عن البلدة بثمانیة فراسخ. و کان هناک بالاضافة إلی ذلک عدد کبیر من الأغنام و الماشیة التی شاهدها ترعی فی المراعی المحیطة بالبلدة. و فی نهایتها من جهة الفرات کانت هناک برکتان کبیرتان من الماء مربعتا الشکل، و هو یعتقد أنهما کانتا قد أنشئتا للنزهة و التسلیة، مستدلا علی ذلک بما شاهده من أطلال بعض الأبنیة و الملاجی‌ء الموقتة من حولهما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 284
و لعلها مواقع الأمکنة و المخیمات التی کانت تنصب للزوار فی مواسم الزیارات الکبیرة.
و هنا یشیر کذلک الی ان کربلا و النجف کانتا تخضعان یومذاک الی المیر ناصر المهنا الذی یطلق علی نفسه لقب «ملک» کما یشیر الی أنه کان تابعا للأتراک الذین کانوا یغتصبون واردات الأراضی الممتدة فی المنطقة کلها. و مع هذا فقد شاهد تکسیرا بنفسه الأعراب التابعین للمیر ناصر یبیعون فی وضح النهار: خیول، و ملابس، و أثاث، و أسلحة: اربعة و ثلاثین ترکیا من رجال الحکومة الترکیة فی کربلا بعد ان قتلوهم و سلبوهم ما یملکون. و هذا یدل بلا ریب علی مقدار الفوضی التی کانت تضرب أطنابها فی تلک الجهات، و هو یعزو هذا الی انشغال الحکومة یومذاک بالحرب مع إیران.
و مما یذکره فی هذه المناسبة أیضا أنه وجد فی الخان الذی کان ینزل فیه أربعین (سگمانیا) مع ضابطهم الخاص، و (السکمانیون) هم من الجیش المحلی التابع للحکومة. و قد کان الناس یخشونهم لأنهم کانوا متعودین علی التجاوز علی الناس فی کل فرصة أو مناسبة، و کانوا من دون وجدان أو ضبط علی حد قوله.
و بعد إقامة ثمانیة أیام فی کربلا توجه تکسیرا الی بغداد مع القافلة فی الیوم الثانی من تشرین الأول. فسلکت القافلة طریق الحسینیة المعروف علی ما یبدو و عبرت الفرات من مکان کان فیه خان حصین واسع الأرجاء بعد أن قضوا لیلتهم فیه. و قد تم العبور بعبّارتین خاصتین تقاضی أصحابهما من أفراد القافلة «معدنا» واحدا عن الشخص الواحد أو الحمل الواحد، و هی عملة فضیة تعادل فی سعرها أحد عشر «ماقریدی» أو بنسا و نصفا. و قد استغرق عبور القافلة من طلوع الشمس حتی العاشرة زوالیة قبل الظهر. و هو یقول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 285
إنهم وجدوا فی الجهة المقابلة، و هی جهة ما بین النهرین علی حد تعبیره، خانا کبیرا آخر یقوم فی موقع مناسب علی الفرات فوق أنقاض مدینة قدیمة کانت تسمی «المسیب» علی ما یقول. و الظاهر ان بلدة المسیب کانت موجودة قبل ذلک التاریخ (1604) و تهدمت، ثم عادت الی الوجود من جدید أو انتقلت الی مکان ثان. و قد کان یبدو للمناظر هناک بقایا سورها المحاط ببساتین و حقول یانعة تستمد ماءها من الفرات بواسطة (ماکنة خاصة تتألف من عدة قرب و تسحبها الثیران).
و تعلیقا علی ما اورده تکسیرا فی وصفه لکربلا، و تطرقه خلال ذلک إلی سیطرة المیر ناصر المهنا علیها لا بد من أن نورد هنا النبذة التالیة التی یذکرها المستر لونکریک فی (أربعة قرون ..) فی هذا الشأن. فهو یقول «.. غیر ان قوات البادیة التی یهمنا أمرها أکثر من هذا کانت لا تخرج عن کونها حلفین بدویین یمر من مناطقهما المسافرون من الخلیج الی حلب بعدة مراحل من طریقهم. فکان المیر ناصر- أی ناصر بن مهنا- فی 1604 (1013 ه) «ملک» القسم الجنوبی الممتد من النجف إلی الفلوجة.
و کانت بلدة النجف .. معترفة بسلطة حاکم البادیة هذا. کما کانت کربلا، و هی أوسع و أکثر حرکة و لیست أقل من أختها تعصبا، عاصمته و مرکز دیرته. و کان یلاقی المسافرین من بغداد إلی الفلوجة، علی بضعة أمیال من العاصمة، و کلاؤه الذین یقبضون الأتاوة «الخاوة» له. و قد اعترف ناصر، و هو أحد أفراد سلالة من الشیوخ- موالی أو عنزة- مسیطرة فی ذلک العهد بولائه للسلطان. و من المحتمل ان شیئا من الهدایا التی کان یرسل بها بین حین و آخر للباشا یذکره بهذا العبد الحقیر! غیر أن أوتوقراطیته فی البادیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 286
و جمعه للخاوة، و ارهابه للزوار کانت تقص لنا قصة أخری. و کانت الحامیات الترکیة الصغیرة تقیم بحسب العادة فی العتبات المقدسة، غیر ان مکثهم هناک لم یکن الا بسماح من الشیخ. و فی 1604 کانت عاقبة هذه الحامیة فی کربلا و خیمة علی ما قیل».

کربلاء فی رحلة نیهور

و أشهر من زار کربلا من الرحالین الأوربیین بعد تکسیرا الرحالة الألمانی کارستن نیبور، الذی جاء إلی العراق عن طریق الخلیج کذلک فی سنة 1765 بمناسبة اشتراکه فی بعثة استکشافیة علمیة جهزها فردریک الخامس ملک الدانیمارک و بعث بها إلی بلاد العرب و سائر أنحاء الشرق الأدنی. و قد وصل إلی البصرة فی خریف تلک السنة بأمل ان یتوجه منها الی حلب عن طریق بغداد، فسلک طریق الفرات النهری و بعد أن مر بالقرنة، و المنصوریة، و العرجة، و السماوة، و لملوم، و الرماحیة، وصل إلی النجف التی یسمیها (مشهد علی)، مع ملا من الملالی الفقراء کان قد استصحبه معه من البصرة.
ثم توجه إلی کربلا، أو (مشهد احسین) علی حد تعبیره، عن طریق الحلة. ثم خرج من الحلة علی ما یظهر عن طریق الطهمازیة، لأنه یذکر ذلک بالذات و یقول انها قریة کبیرة محاطة بالکثیر من النخیل و البساتین.
و قد وصل کربلا فی أواخر أیام السنة المیلادیة، و هو یوم 27 کانون الأول 1765 بعد ان استغرق فی قطع المسافة بینها و بین الحلة حوالی سبع ساعات علی ظهور الدواب. و یقارن نیبور کربلا بالنجف من حیث کثرة النخیل موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 287
فیها و ازدیاد عدد سکانها. لکنه یقول ان بیوتها لم تکن متینة البنیان لأنها کانت تبنی باللبن غیر المشوی. و کانت البلدة علی ما یظهر مما جاء فی الرحلة محاطة بأسوار من اللبن المجفف بالشمس أیضا، کما کانت لها فی هذه الأسوار خمسة أبواب، علی أنه وجد الأسوار متهدمة کلها فی تلک الأیام الغابرة.
و لا شک أن أهم ما لفت نظره فی کربلا الروضة الحسینیة المطهرة التی رسم لها رسما تقریبیا خاصا استقی تفصیلاته من الدوران حولها و التقرب الیها، و من دخوله الیها فی إحدی الأمسیات لفترة و جیزة بصحبة الملا البغدادی الذی کان معه بعد ان لبس عمامة ترکیة مناسبة فی رأسه. و الظاهر أنه فعل ذلک فی موسم أحد الأعیاد و الزیارات المهمة، لأنه یقول ان أطراف الحضرة و الصحن کانت مضاءة کلها، و کان لها بذلک منظر فرید فی بابه نظرا للشبابیک الکثیرة التی کانت موجودة فیها. و قد کان ذلک یکاد یکون غریبا فی هذه البلاد التی کان یقل فیها زجاج النوافذ یومذاک. و مما یأتی علی ذکره فی هذه المناسبة ان الحضرة تقوم فی ساحة کبیرة تحیط بها من أطرافها الأربعة مساکن السادة و العلماء علی حد قوله، و لا شک أنه یقصد بذلک ساحة الصحن الکبیرة. و کان یوجد بین یدی الباب الکبری شمعدان نحاسی ضخم یحمل عددا من الأضویة، علی شاکلة ما کان موجودا فی مشهد الامام علی. لکنه یقول أنه لم یلاحظ وجود الکثیر من الذهب فی الروضة الحسینیة یومذاک، و لا سیما عندما یقارن ضریح الامام الحسین بضریح الامام علی فی هذا الشأن.
و یذکر نیبور أیضا أن العباس بن علی علیهما السلام قد شید له جامع کبیر کذلک تقدیرا لبطولته التی أبداها فی یوم عاشوراء، و تضحیته بنفسه من أجل أخیه. و هنا یروی قصة العباس المعروفة فی الموقعة التی قطعت فیها یداه الکریمتان حینما اخترق حصار الاعداء الأخساء لمعسکر الامام الحسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 288
و ذهب لیأتی بالماء إلیه و إلی الاطفال و النساء، و یشیر أیضا الی وجود مزار خاص خارج البلدة فی أول الطریق المؤدی الی النجف، و یقول أنه شید فی الموضع الذی سقط فیه جواد الحسین براکبه الشهید، و یضیف إلی ذلک ذکره لموقع المخیم «الخیمکاه» الذی یطنب فی وصف ما شاهده فیه. فهو یقول ان هذا الموقع قد أصبح حدیقة غناء واسعة الأرجاء تقع فی نهایة البلدة.
و تشاهد فیه برکة کبیرة من الماء، و موقع هذه البرکة هو نفس الموقع الذی کان الإمام العباس قد حفر فیه لایجاد الماء فلم یعثر علی شی‌ء منه. و یروی نیبور بالمناسبة ان الناس هناک کانوا یعتقدون بأن ظهور الماء فی البرکة بعد ذلک یعتبر من المعجزات. و قد أشار إلی وجود هذه البرکة الکبیرة فی الموقع نفسه الرحالة البرتغالی تکسیرا الذی زار کربلا فی 1604، أی قبل مجی‌ء نیبور إلیها بمئة و ستین سنة، کما ذکر قبل هذا. و مما یذکره کذلک ان موقع المخیم کان یوجد بقربه مرقد غیر کبیر، دفن فیه القاسم بن الامام الحسن منظر عام لصحن و قبة العباس القدیمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 289
علیهما السلام و عدد من الشهداء الآخرین الذین سقطوا فی معرکة التضحیة و البطولة یوم عاشوراء. و یسرد بالمناسبة قصة القاسم الشاب و عرسه المعروفة.
و یذکر بالاضافة إلی ذلک ان کربلا کان یوجد فیها عادة عدد کبیر من الاشرار، و لا سیما من الانکشاریین المطرودین لسوء سلوکهم. و کثیرا ما کان هؤلاء یعتدون علی الأهالی و الزوار الایرانیین علی الأخص فیسیئون بذلک إلی سمعة الأتراک کما یقول. و لذلک کان وضعهم هذا یستوجب التحفظ و الاحتراز بالنسبة للسائح و غیره، لا سیما اذا کان من الشیعة. و یروی أن أحد هؤلاء حاول التعرض به هو نفسه لأنه کان یحسبه تاجرا أرمنیا، غیر أنه تحاشاه حینما عرف أنه کان رجلا أوربیّا. کما یروی أنه شاهد فی أثناء إقامته بکربلا أناسا کانوا قد عادوا من متابعة السفر بعد ان نهبتهم خیالة الحکومة التی کان یفترض فیها حفظ الأمن و حمایة الناس- حامیها حرامیها- و رأی أناسا غیر هؤلاء کانوا قد عادوا من الخارج بعد أن سلبهم الأعراب جمیع ما کانوا یملکون ...
و من طریف ما یتطرق إلیه نیبور فی رحلته إلی کربلا کثرة طیور الحمام فی الجوامع و عدم تحرش الناس بها، و وجود «الترب» و المسبحات المصنوعة من طین کربلا، و صور الأضرحة المطهرة، و البراق، و الکعبة، و سیف الإمام علی (ذو الفقار) و ما أشبهه. و هو یقول أن (الترب) کانت تصنع فی معمل خاص تحتکر فیه العمل لنفسها أسرة من سادات کربلاء، و کانت هذه الاسرة تدفع مبلغا کبیرا من المال فی کل سنة إلی والی بغداد لقاء هذا الامتیاز. و قد طلب نیبور من صاحبه الملا البغدادی أن یشتری له عددا من الترب بحجومها و أشکالها المختلفة، فرسمها و نشر صورها فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 290
رحلته المطبوعة بالألمانیة فی بادی‌ء الأمر. و هو یقول إنها کانت مصبوبة بأشکال جمیلة، کما یقول انه اشتری ورقة ملفوفة یبلغ طولها ستة أقدام و عرضها ثمان بوصات، و قد کانت مرسومة فیها رسوم الکعبه المقدسة، و الحرم النبوی الشریف، و أضرحة الأئمة الأطهار، و غیر ذلک من الصور الکثیرة التی تهم المسلمین بوجه عام و زوار العتبات المقدسة بصورة خاصة. و کانت کلها ملونة و مذهبة بطریقة تکاد تکون بدائیة علی حد قوله.
هذا و قد عاد نیبور الی الحلة لیتابع السفر منها الی بغداد. و کان فی القافلة التی رجع معها ما یقرب من مئتی زائر من زوار العتبات، و هو یذکر بهذه المناسبة ان الطریق بین کربلا و بغداد کان یستغرق حوالی ست عشرة ساعة، و أن المسافة منها الی المسیب کانت تقطع بخمس ساعات، و کانت المسیب علی حد قوله قریة علی الفرات لها جسر یمتد فوق عدد من السفن. و کانت المسیب الی خان «بیر النص» تقطع بأربع ساعات، و منه الی بغداد بسبع ساعات.

لوفتس فی کربلاء

و قد زار النجف فی 1853 عالم من علماء الآثار الأنکلیز یدعی (لوفتس) بعد ان کان قد زار العراق من قبل فی 1849 باعتباره عضوا دولیا فی لجنة الحدود التی انتدبت لتعیین الحدود و تثبیتها ما بین العراق و ایران.
و کانت زیارته هذه بمعیة درویش باشا العضو الترکی فی لجنة الحدود الدولیة و طاهر بک الحاکم العسکری فی الحلة، مع ثلة من الجنود الأتراک. و بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 291
ان انتهی من زیارته للنجف توجه الی کربلا أیضا، بصحبة الشخصیات المذکورة نفسها. و هو یقول ان الطریق المباشر ما بین النجف و کربلا یمر بحواشی البادیة، لکنه نادرا ما یستطرق خوفا من نهایة البدو. و یلاحظ المسافر فیه من الجهة الأخری أهوار الهندیة الممتدة علی مد النظر. ثم یذکر ان مدخل کربلا أکثر جمالا من مدخل النجف، لوجود الکثیر من بساتین النخیل حول المدینة و لأن الأبنیة الکثیرة المبنیة فی خارج الأسوار توحی بشی‌ء أکثر من الطمأنینة و الأمان بالنسبة لخطر القبائل البدویة.
و یوجد فی ضواحی کربلا کذلک عدد من (الکور) المعدة لصنع الطابوق الذی یشبه طابوق بابل فی الشکل و الحجم.
و حینما وصل موکب (لوفتس) و جماعته فی صباح أحد الأیام استقبل استقبالا حافلا فی مدخل کربلا. فقد خرج الحاکم و بصحبته عدد من الموظفین و الوجهاء و المعممین بالعمائم الکبیرة المصنوعة بأنعم القماش من الموسلین و أدقه، و المزرکشة بخیوط الذهب او غیر المزرکشة، لتقدیم احتراماتهم. و علی الطریقة الشرقیة قال الجمیع للضیوف ان بیوتهم و جمیع ما یملکون تحت تصرف القادمین الکرام. و هو یقول ان هذه الأقوال جمیعها لیست سوی مجاملات لا قیمة لها، أو «بوش» علی حد قول العثمانیین.
و بهذا الالتفات الزائد دخل لوفتس و جماعته إلی کربلا خلال عاصفة من الغبار المثار من خیول المستقبلین و وسائط نقلهم، حتی نزلوا فی السرای، حیث أعلن الحاکم الذی کان علی علم مسبق بمجی‌ء الضیوف بأنه سیتشرف بتناول طعام الافطار معهم بعد ان کان قد قدم القهوة و (الغلایین) و کانت أطعمة الافطار تتألف من الپلاو (الرز) و قلیل من الخضر وات المطبوخة بمختلف الأشکال، و صحن صغیر من اللحم. و کان الطبیخ جمیعه مطیبا بعصیر اللیمون، لکنه کان مشبعا بأکثر مما یجب من السمن و الشحم بحیث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 292
لا یمکن أن یستسیغه سوی الذین کان قد أخذ الجوع منهم مأخذه. و مع ذلک فقد أفرغت الصحون کلها حینما امتدت الأیدی لها. و أنهیت الضیافة بتقدیم کاسة کبیرة من (الشربت) سرعان ما أدخلت فیها ملاعق الخشب ذات الأشکال الغریبة.
و بعد تناول الأفطار خرجت جماعة المستر لوفتس تطوف فی البلدة و تتجول، قاصدة قبر الإمام الحسین. لکنه یقول ان الأخبار فی الشرق تنتقل بسرعة البرق. فقد وصلت الی کربلا أخبار زیارة لوفتس للنجف و دخوله و هو المسیحی إلی صحن الإمام علیه السلام فیها، بعد ان اصطفت فی الباب الکبیرة ثلة الجنود التی کانت ترافقهم بأسلحتها، و لذلک وجدوا عند باب الصحن الحسینی الشریف تجمع عدد کبیر من الرعاع المسلحین بصورة مخیفة. و کان علی رأس هؤلاء درویش مسلح بشکل یلفت النظر علی ما یقول، لأنه کان یترصد حرکاتهم علی ما یبدو منذ أول وصولهم إلی المدینة المقدسة. و لذلک لم یجد الجمیع من الحکمة ان یحاولوا الدخول، لأنهم رأوا الجمهور المحتشد متهیئا للمقاومة. علی أنهم کان بوسعهم، علی حد قوله ان یحصلوا علی فکرة کاملة عن داخلیة الحیر من البیوت المحیطة به. غیر ان عددا من خدمهم المسیحیین استطاعوا الدخول مع بعض الخدم المسلمین إلی صحن الإمام الحسین، لکنهم سرعان ما اکتشف أمرهم فأخرجوا عنوة بعد ان ضربوا ضربا مبرحا. و یقول المستر لوفتس إنهم یجب ان یهنأوا علی خروجهم غیر مقتولین بمثل هذه السهولة. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌8 ؛ ص292
یعمد (لوفتس) فی رحلته الی وصف موقعة کربلا و یشید ببطولة لإمام علیه السلام، و أهل بیته و أنصاره الذین خروا صرعی معه و عددهم ثنان و سبعون شهیدا. کما یشیر الی بقاء الإمام السجاد علیه السلام و تحدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 293
السادة الحالیین من نسله.
و یذکر بعد ذلک ان جامع الإمام الحسین علیه السلام کثیر الشبه فی تصمیمه بمشهد الإمام علی علیه السلام، لکنه لا یمکن ان یقارن به من حیث النظافة و الزینة و العمران. فان قبة الحسین وحدها مکسوة بالذهب فی کربلا، و ان إحدی المنارات الثلاث تبدو متداعیة و توشک علی السقوط. و یعلل لوفتس ذلک بقوله ان هذا یعزی الی احتلال جنود داود باشا والی بغداد لکربلا بالقوة بعد أن أصبحت وکرا لعصابات «الیرماز» الذین ظلوا یعیثون فسادا فیها مدة من الزمن، و یتحدون الأتراک فی حکمهم. و لا شک أنه یقصد بذلک وقعة نجیب باشا، و لیس وقعة داود باشا، التی مر ذکرها بالتفصیل فی هذا المبحث. و قد حصلت هذه الوقعة، التی یشیر الیها بشی‌ء طفیف من الاختلاف، سنة 1843 أی بعد داود باشا بعدة سنین، و قبل مجی‌ء لوفتس إلی کربلا بست سنین فقط (1849).
لکن أهم ما یذکره فی هذا الشأن ان طاهر بک، حاکم الحلة العسکری الترکی الذی جاء لوفتس بحمایته لزیارة العتبات، کان أحد الضباط المشترکین فی هذه الحملة المتصفة بالقسوة و العنف علی ما یقول، و قد حصل علی ترفیعه بنتیجة ذلک. و قد روی طاهر للمستر لوفتس انه کان قد قتل بیده ثلاثة من الیرماز، بینما أخرج رجاله سبعین منهم من مخابئهم التی التجأوا الیها ما بین الأطفال و النساء فقتلوهم صبرا فی أماکنهم ...
و هو یذکر کذلک عن هذا الحادث الفظیع ان علامات هذا الحصار کانت ما تزال ظاهرة للعیان فی مختلف أنحاء کربلا. فقد تهدمت الدور المقابلة للسرای، و لم یعد تشییدها فبقیت دلائل واضحة للخراب و التهدیم. و تعرضت المساجد إلی الخراب و التدمیر بصورة خطیرة، فظلت آثار القنابل و الشظایا واضحة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 294
للعیان فی قبابها، و جدران البلدة التی لم تسد الفجوات و الثقوب الحاصلة فیها.
و لم یسلم النخیل فی البساتین من آثار القصف کذلک، فبقی عدد کبیر منه تبدو الثقوب فی جذوعه بارزة للمشاهدین، بینما احترق عدد آخر منه هنا و هناک و تجرد من سعفه.
و مما یشیر الیه لوفتس کذلک ان دفن الجنائز التی کان یؤتی بها إلی کربلا کان أشبه ما یکون بما یحصل فی مشهد علی بوجه عام، لکن عددها لا یصل إلی العدد الذی یدفن منها فی النجف. و الغریب فی الأمر انه یقول ان عملیة صورة لنقل الجنائز- منقولة من رحلة لوفتس 1850 م
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 295
الدفن لا یبذل فیها الاهتمام اللازم فی کربلا، لأن الحفر لا تحفر بأعماق کافیة، و انما تحفر بحیث لا تغطی الجثث المدفونة فیها الا بالکاد، و بسرعة تخلو من المراسیم. ثم یقول ان المقابر فی الشرق أجمع یعتنی بها بوجه عام، لکنه لم یجد هذه العنایة المطلوبة فی کربلا. فالقبور فیها مهدمة البنیان، و الکلاب یمکن ان تشاهد مع بنات آوی و هی تحفر فی داخلها، و تعبث بقطع من الأکفان و الجثث هنا و هناک . و مع جمیع ما یلاحظ من مثل هذا العبث و الإهمال فان الجثث لا ینقطع ورودها إلی کربلا للدفن، لأن الرغبة فی الدفن هنا فی التربة التی امتزج بها دم الإمام الشهید تعد أمنیة غالیة من أمنیات المسلمین، و هذا الاعتبار یفوق أی اعتبار آخر عندهم.
و یشیر لوفتس إلی وجود مصلی صغیر خارج أبواب کربلا، یقال إنه کان قد أنشی‌ء فی المکان الذی شاهد فیه الإمام علی رؤیا معروفة فی خیمته.
و لذلک یطلق علی هذا المصلی «خیمة علی». و هو بناء إثنا عشری الأضلاع له ستة مداخل، و محاط بشرفة لها سقف یستند علی أعمدة. و حینما همّ لوفتس و من معه بالدخول الیه طلب الیهم ان یخلعوا أحذیتهم قبل الدخول ففعلوا، لکن الضابط الترکی الذی کان یصحبهم لم یلتفت إلی ذلک الطلب فدخل إلی المصلی بحذائه. و حینما اعترض علیه أحد الخدم الموجودین فیه أجابه یقول «إن حذائی لا یقل نظافة عن مصلاکم القذر»!!
ثم یذکر لوفتس ان أسواق کربلا کانت ممتلئة بأنواع الحبوب، و بالسلع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 296
التی کان یحملها الزوار الیها من جمیع أنحاء العالم. و هی تشتهر بصناعة المصوغات المخرمة، و الحفر المتقن علی الأصداف المستخرجة من مغاصات البحرین فی الخلیج.
و قد غادر لوفتس کربلا إلی بغداد مباشرة عن طریق المسیب، لکنه یقول إنه خرج قبیل بزوغ الشمس و سقوط أشعتها الباهتة فی أول الأمر علی القبة الذهبیة، و قبة العباس المکسوة بالقاشانی الأزرق المعتم التی کانت لا تزال محاطة بغلالة خفیفة من الضباب. فکان لذلک منظر مؤثر فی نفسه.

کربلاء فی رحلة جون أشر

و قد زار کربلا فی سنة 1864 المستر جون أشر، عضو الجمعیة الجغرافیة الملکیة فی لندن، حینما مر بالعراق إلی إیران لزیارة آثار «تخت جمشید» بالقرب من شیراز. و کان قد وصل الیها عن طریق المسیب التی عبر الفرات من فوق جسرها المصنوع من الزوارق. فوجد المسیب ذات سوق صغیرة یتیسر فیها الکثیر مما یحتاجه الزوار و المسافرون، و علی الأخص المأکولات التی تناول منها اللبن الخاثر (الیوغورت) و الزبد و الخبز الحار. و قبل الوصول إلی المدینة المقدسة مر فیها بین البساتین الممتدة علی جانبی الحسینیة.
و هو یقول انه شاهد عددا من الکرود (التی یسمیها مکائن رفع الماء) منصوبة علی طول هذا الجدول من الجانبین. و کان المستر أشر قد بعث رسولا قبل وصوله یحمل کتب توصیة إلی قائمقام کربلا، و لذلک فتح باب السور لقافلته عند أول وصولها بعد مغیب الشمس. فمرت ما بین أزقة البلدة الضیقة التی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 297
کانت تضی‌ء ظلمتها الفوانیس المعتمة التی بعثها القائمقام لتحمل أمامه.
و حینما وصلوا إلی داره استضافهم فی بیته و أنزلهم فی غرفة خربة تقع فی إحدی زوایاه.
و قد ألفی البلدة عندما تجول فیها خلال الیوم الثانی بلدة ذات حرکة غیر یسیرة و نشاط ملموس برغم عدم اتساعها، لأن أسواقها کانت تزدحم بالزوار الذین أتوا لزیارة ضریح الإمام الحسین علیه السلام.
و هنا نجده یسرد فی الرحلة قصة الإمام الشهید مع یزید، و کیفیة مجیئه الی کربلا فی طریقه إلی الکوفة، و قتله ظلما و عدوانا من قبل عبید اللّه بن زیاد و أتباعه، و یأتی علی ذکر الکثیر من الحوادث التاریخیة المعروفة بشی‌ء غیر قلیل من الدقة و الانصاف نقلا عما کتبه المؤرخ (غیبون) فی تاریخ الإسلام.
و یختم سرد القصة بقوله ان الشیعة من المسلمین یقیمون فی کل سنة مراسیم العزاء الألیمة تخلیدا لبطولة الحسین و استشهاده، فینسون أرواحهم فیها من شدة ما ینتابهم من الحزن و الأسی.
و الظاهر ان کربلا قد أعجبت هذا الرحالة، فهو یقول انه لم یجد فیها علامات الرکود و الانحطاط التی شاهدها فی البلاد التی مر بها خلال رحلته.
و قد کان کل شبر متیسر فیها من الأرض مشغولا بالبیوت المتراصة، او التی کانت فی مرحلة التشیید. و قد وجد فیها عددا من مسلمی الهند مقیما فی بیوت قریبة من الضریح المقدس، کما لاحظ بین الزوار کثیرا من الإیرانیین و الأفغانیین الذین تحملوا مشاق السفر البعید من أجل التبرک بزیارة الإمام الشهید. و علی هذا یذکر ان البلدة بالنظر لقدسیتها لا یمکن ان یسمح للمسیحیین بالاقامة فی داخل أسوارها. فکان من الصعب ان یسمح له و لحاشیته بالدخول فی بعض الأماکن برغم وجود اثنین من قواسی القائمقام فی صحبته. و لم یسلم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 298
من النظرات الشزراء المخیفة حینما کان یمر بالأسواق و الطرق.
و حینما وصل إلی الفضوة الممتدة بین یدی الباب الکبیر للصحن الشریف للتفرج من بعید استعجله القواسون خوفا من تجمع الناس و المتعصبین من حولهم، و وقوع ما لا تحمد عقباه. علی أن أحد القواسین أخذهم إلی دار تاجر من التجار کان قد سکن بغداد ردحا من الزمن فاتصل بالمقیم البریطانی فیها لقضاء حاجة له. و لذلک رحب بهم فی بیته حینما علم ان المستر (أشر) کان رجلا انکلیزیا، و أخذهم إلی شباک من شبابیک البیت یطل علی الصحن الشریف و یتسنی لهم منه ان یلقوا نظرات مطمئنة علی الجامع بأجمعه.
و یقول فی وصف ما وجده ان ساحة الصحن المحیط بالضریح المقدس، و المحاطة هی نفسها بالبیوت، لم تکن مبلطة. و ان جنائز المتنفذین من الشیعة و الموسرین الذین کان بوسعهم دفع الرسوم و المصاریف المطلوبة کانت تدفن فیه. فان ثمن هذا الامتیاز یمکن أن یکلف مبلغا کبیرا جدا من المال فی بعض الأحیان، و من الممکن فی بعض الحالات دفن بعض الناس بالقرب من الضریح المطهر کذلک بعد دفع مبالغ باهظة. لکن المألوف علی ما یقول هو ان تزوّر الجنائز التی یؤتی بها إلی کربلا و یطاف بها حول الضریح المقدس، ثم تؤخذ للدفن فی أی مکان آخر من المقابر المعروفة فی البلدة. و تجبنی الحکومة الترکیة صورة لقافلة الجنائز فی طریقها الی کربلاء منقولة من رحلة جون أشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 299
ضریبة قلیلة علی الجنائز فی باب البلدة، لکن محاولات کثیرة کانت تجری بین حین و آخر للتهرب منها بطرق شتی. و هو یروی بعض القصص فی هذا الشأن. لکنه یذکر بالمناسبة ان الجهات المسؤولة فی باب المدینة لا تسمح بادخال عدد کبیر من الجنائز الی البلدة مرة واحدة، لأنها تصل بأعداد کبیرة فی بعض المواسم بحیث یؤدی دخولها الی انتشار الأمراض و ازدحام الطرق و الأزقة فی داخل البلدة بها. فقد تصل فی قافلة واحدة من إیران ألف جنازة فی وقت واحد، و کل واحدة منها یکون فی صحبتها شخص أو أکثر من أقارب المتوفی. و قد رأی المستر أشر فی طریق عودته إلی بغداد قافلة لا یقل عدد المسافرین فیها عن مئة شخص، و کان قسم منهم یمتطی الخیول و قسم آخر یمتطی الأبل، و کانت النساء یحملن فی (التخت روان) الذی یحمل علی البغال. علی ان قسما کبیرا منهم کان یسافر راجلا خلال سفرته الطویلة المتعبة.
و بعد ان یصف القبة و المنائر المذهبة، و الجدران و الأفاریز المزینة بالقاشانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 300
الجمیل و غیره بالوصف المألوف المعروف، یقول إنه ذهب لمشاهدة مرقد الإمام العباس علیه السلام کذلک. فشاهده من سطح أحد المنازل القریبة من الصحن، و هو یقول إنه کثیر الشبه بمرقد الحسین علیه السلام. و یشیر فی وصفه الی ان الصحن الضیق المحیط بالحضرة کان غیر مبلط، و کان یستعمل للدفن کذلک. علی انه وجد صحن العباس مکتظا بالمعممین الذین کانوا یجلسون فیه للتسکع و تزجیة الوقت، أو لأداء الصلاة علی حد قوله. و لم یستطع فی کلتا الحالتین معرفة شی‌ء عن داخلیة الحضرة.
الزعیم الروحانی المصلح السید هبة الدین الحسینی
و حینما تجول فی الأسواق الضیقة بعد ذلک وجدها محتشدة بالناس الی أقصی الحدود، و ألفی السلع المعروضة للبیع فیها لا تتجاوز حاجات الأعراب المحیطین بالبلدة و لوازمهم مثل الکفافی و الأعقلة و العبی و ما أشبه، الی جانب الأطعمة و المؤن. و لذلک کان الزوار یتسوقون ما یحتاجون إلیه من أسواق بغداد عادة. علی أنهم وجدوا أنواعا عدة من الأحجیة و التعاویذ یصنعها الجوهریون فی البلدة و یعرضونها للبیع إلی الزوار. و عندما اشتری القواس الذی کان بصحبة المستر (أشر) واحدة منها له انزعج البائع و استرجعها من القواس بغضب لاعتقاده بأن المسیحی لا ینبغی أن یحملها و فی داخلها بعض آیات القرآن الکریم.
و قد تسنی للرحالة و جماعته ان یتجولوا بعد الظهر فی البساتین الکائنة فی خارج أسوار المدینة المقدسة، فوجد فیها سواقی المیاه تخترق تربتها الخصبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 301
بکثرة. و هو یقول ان هذه البساتین تعتبر منتجعات مؤنسة لأهالی کربلا فی أیام الصیف، فهم یخرجون الیها لیجلسوا فی ظلها السمین و یتمتعوا بال «کیف» علی حد قوله ، الذی یمیل الیه الشرقیون بوجه عام، و یشربوا القهوة و الشربت.

مدام دیو لافوا فی کربلاء

و فی ولایة تقی الدین باشا الثانیة فی بغداد زارت العراق سنة 1881 (1299 ه) الرحالة المعروفة مدام (دیولافوا) مع زوجها المهندس المعماری و عالم الآثار الفرنسی مارسیل دیولافوا، قادمین من ایران فزارا من العتبات المقدسة الکاظمیة و کربلا، و کتبت فی رحلتها شیئا عنهما. و قد ذهبت إلی کربلا عن طریق الحلة خلال کانون الأول 1881، و بعد ان زارت مع زوجها و أصحابها آثار بابل توجهت الیها. و هی تقول ان کربلا تعد من مراکز الشیعة المهمة، و ان فیها عددا من المدارس الدینیة الکبیرة التی یقضی فیها طلبة العلم عشرین سنة أو أکثر فی بعض الأحیان. و یلاحظ مما ورد فی الرحلة ان اللیل أدرک القافلة و المطر یتساقط علیها ما بین الحلة و کربلا، فاضطرت الی النزول فی قریة صغیرة تبعد عن الأهوار المحیطة بالطریق بمسافة لا تزید علی الکیلومترین. و هناک نزلت فی خان صغیر یحیط به عدد من الدکاکین، و تنیره بعض الفوانیس النفطیة. و لعلها تقصد أحد الخانات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 302
الموجودة فی الطریق بین کربلا و النجف .
و قبیل ان تصل قافلة المدام (دیولافوا) فی صبیحة الیوم الثانی الی کربلا، مرت فی طریق زاهر تحفه البساتین و الحدائق، و تکتظ فی جانبیه أشجار النخیل و اللیمون. و کانت حرکة المرور نشطة فی هذا الطریق، کما کان الکثیرون من المارّة نسوة یمتطین الدواب او یقطعن الطریق سیرا علی الأقدام.
و حینما وصلت القافلة إلی باب البلدة القدیمة، التی کانت تمتد بین یدیها ساحة واسعة الأرجاء، لاحظت المدام دیولافوا وجود عدد غیر یسیر من الحجّارین الذین کانوا منهمکین فی صقل أحجار القبور و الکتابة علیها بحبث تکون جاهزة للبیع إلی أصحاب الجنائز التی ترد بکثرة من الخارج للدفن فی المدینة المقدسة. و کثیرا ما کان هؤلاء الحجّارون یحیطون بالجنّازة الغرباء و یلحون علیهم فی بیع ما عندهم من بضاعة إلیهم. و بعد أن یتم الاتفاق علی الثمن، کانت تکتب الأسماء علی الأحجار فتؤخذ لتبنی فوق القبور.
و تقول المدام ان حراس الباب لم یسمحوا لها و لجماعتها بالدخول منه، بل أشاروا علیهم بالدخول من خلف السور و النزول فی البیوت الحقیرة الکائنة فی آخرها. و حینما ذهبوا فی طریقهم إلی هناک مروا بالکثیر من مخیمات الزوار الفقراء الذین لم یکونوا یستطیعون دفع الأجور اللازمة إلی أصحاب المنازل و الخانات. و قد اضطرت الی النزول فی منزل قذر مظلم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 303
ذی حجر ضیقة، لأن البلدة کانت تزدحم بالزوار، و لأنها کانت تفضل الإبتعاد عنهم.
و ما ان استقر بها المقام فی هذا المنزل حتی صعدت إلی سطحه لتتطلع من فوقه إلی منظر البلدة الفرید علی حد قولها، و لتشاهد من بعید قبة الضریح المقدس المکسوه بالذهب من الجهة الیسری، و القبة المکسوة بالقاشانی الأزرق من الجهة الأخری و کانت من صنع العهد الصفوی الأخیر علی ما تقول.
و یبدو مما تذکره فی الرحلة انهم قد اتعظوا بالحادث الذی کان قد وقع لزوجها فی الکاظمیة من قبل، و لذلک کان من رأیهم ان یتأکدوا من کل ما یفعلونه و یعدوا خطة محکمة یتمکنون فیها من الدخول إلی الحضرة المطهرة التی یقدسها الشیعة غایة التقدیس. و من أجل هذا کله، و حرصا علی تحقیق ما صرفوا الکثیر من أجله و تجشموا المصاعب فی سبیله، فقد جاء زوجها معه من بغداد بعدد من التوصیات إلی رجال الدین و المسؤولین الحکومیین فی کربلا، و إلی عدد من وجوهها.
و کان أول ما فعلوه أنهم توجهوا إلی زیارة القنصل الإیرانی فی محله فوجدوه رجلا لطیفا رحب بهم و أحسن لقاءهم، ثم وعدهم بأن یبذل غایة جهده فی تحقیق رغبتهم. و لذلک بادر فی الحال الی استدعاء الکلیدار للحضور عنده و عرض الأمر علیه. لکن الخادم الذی بعث به سرعان ما عاد إلیه لیخبره بأن السید الکلیدار کان قد ترک البلدة منذ مدة «لتغییر الهواء» و الترویح عن النفس، و لا یؤمل رجوعه الا بعد أسبوع! غیر ان هذا لم یفت فی عضدهم بسهولة، لأن المسیو دیولافوا نفسه أخرج له کتاب التوصیة الذی کان یحمله من الوالی فی بغداد إلی رجال الحکومة فی کربلا. فتشجع القنصل بذلک و رکب لمقابلة الکلیدار بنفسه، و التداول معه فی الموضوع العویص، و وعدهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 304
بأن یبعث لهم بالنتیجة.
و قد زارهم فی عصر ذلک الیوم «جماعة من القراء و أصحاب العمائم»، و بعد أن هنأوهم بسلامة الوصول و رحبوا بهم ترکوا الحدیث إلی أحدهم.
فأخذ هذا یسهب و یطنب فی القول، و یصف سرور القنصل الایرانی لو شرفوه بالنزول فی بیته، و مقدار الشرف الذی أصاب الکلیدار بتسلم التوصیة من الباشا الوالی فی بغداد. ثم أفاض بحدیثه عن جلال الضریح المقدس الذی زاره شاه إیران مشیا علی الأقدام (کان ناصر الدین شاه قد زار العتبات قبل مجی‌ء مدام دیولافوا)، و طلب الیهم ان یشکروا اللّه علی هذه الفرصة الذهبیة التی سنحت لهم فی المجی‌ء إلی هذا المکان الذی لم یسمح لغیرهم من الأجانب قبل هذا به. و بعد اللتیا و التی عرض علیهم فقط أن یشاهد المشهد الشریف من سطح احد الدور القریبة الیه، بشرط ان یضعوا فوق رؤوسهم الطرابیش الترکیة الحمراء دفعا للشک و الریبة بهم.
غیر ان المسیو دیولافوا اعتذر عن وضع الطربوش الترکی فوق رأسه بأی حال من الأحوال، و هو الذی کان لا یکره أحدا بقدر ما یکره الأتراک أنفسهم علی ما تقول زوجته المدام فی رحلتها.
فبدا أن زوارهم قد اقتنعوا بوجهة نظره، و ضربوا لهم موعدا فی صباح الیوم التالی بأن یأخذوهم إلی الدار المجاورة. لکن الیوم التالی (28 کانون الأول 1881) قد حل و لم یأت إلیهم أحد فی الموعد المضروب، فخرجت المدام و زوجها للتفرج علی البلدة.
و هی تقول إنهم مروا بعدة مقابر متسعة، کانت تظللها الأشجار الکثیرة. و قد لاحظوا ان بعض المقابر هذه کانت للتجار. و سراة القوم، و هی مظللة بالأشجار و قریبة من حدود الصحن الشریف، و ان بعضها الآخر کان للفقراء و؟؟؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 305
و هو الذی یمتد إلی خارج البلدة. و تذکر کذلک أنهم کانوا یصادفون أصحاب العمائم من مختلف الأعمار أینما اتجهوا فی البلدة. و تضیف إلی ذلک قولها ان کربلا کانت عبارة عن جامعة دینیة کبیرة یقصدها طلبة العلم من کل حدب و صوب فی أنحاء العالم الإسلامی، فیقضون معظم سنیّ حیاتهم فیها. و ان هؤلاء کانوا یعیشون علی الهبات و التبرعات التی یقدمها الناس من مختلف الطبقات عن طیبة خاطر. ثم تتطرق إلی ما کان یقدم للحضرة المطهرة من أثاث فاخر و سجاجید ثمینة، و أوان نفیسة ابتغاء مرضاة اللّه و الفوز بالثواب.
علی ان الطریف فی الأمر، أنهم حینما عادوا إلی المنزل وجدوا بانتظارهم رجلا جاء یفاوضهم بلبس الطربوش من جدید متجاهلا جمیع ما سبق ان اتفقوا علیه من قبل. فضاق المسیو مارسیل ذرعا بهذا المطل و التملص، و قرر الرجوع فی الحال إلی بغداد، فعاد بخفی حنین.

زیارة جون بیترز لکربلاء

و فی 1890 تسنی (لجون بیترز)، رئیس بعثة بنسلفانیا للتنقیب عن الآثار القدیمة فی نفّر (منطقة عفج)، ان یزور کربلا بعد ان زار النجف قادما من السماوة. و فی طریقه من النجف الی کربلا مر بخان کان یجری بناؤه علی نفقة رجل من المحسنین یدعی مرزا ، و کان قد انتقل مؤخرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 306
الی دار البقاء فدفن فی النجف. و فی حوالی الظهر وصلت قافلة بیترز الی خان الحماد، و کان عبارة عن خمس خانات فی خان کبیر واحد. و قد کان بوسعهم ان یشاهدوا من بعید عبر أهوار الهندیة بلدة الکفل، و برز نمرود، علی ما یقول.
و حینما مالت الشمس إلی الغروب تابعوا السیر إلی کربلا و لم یصلوا الیها الا قبیل الفجر، و کان سیرهم علی ضوء القمر. و قد صادفوا فی الطریق عددا کبیرا من الزوار یرکبون الحمیر مثلهم، لأن البغال و الخیول کانت قد جمعتها الحکومة لأسباب لم یعرفها بیترز. و کان وصولهم قد تم حینما کان المؤذن یؤذن لصلاة الصبح فخف خادمه عباس، الذی أصبح متدینا فجأة، إلی الحضرة لیؤدی الفریضة. فاضطر خادمه الآخر، الأرمنی الذی دخل الحضرة فی النجف کذلک مع هذا الخادم، الی ان یرافقه الیها.
و یقول بیترز ان (نوریان) و هو اسم خادمه الأرمنی، یعتقد ان مشهد الحسین أکبر و أوسع من مشهد علی بکثیر، و فیه الکثیر من أعمال الحفر الخشبی، لکنه لا تکثر فیه الزینة بالذهب، و لا تغلف منائره بالذهب الا الی حد الحوض فقط. کما أخبره ان الصحن الکبیر کانت فیه منارة ثالثة مزینة بالکاشی البدیع، و هی من تشیید أحد العبید المعتقین. و لا شک انه یقصد بذلک «منارة العبد» التی مر ذکرها فی هذا البحث.
لکن الغریب فی ما لاحظناه عن جون بیترز هذا أنه مع کونه رئیسا للبعثة الآثاریة التی جاءت للتنقیب، و برغم ما یؤمل منه من ثقافة و اطلاع واسع فی الشؤون التاریخیة، فقد وقع فی عدد کبیر من الأغلاط الفظیعة بالنسبة لما کتبه فی الرحلة. فهو یجهل ان العباس (ع) هو أخو الحسین علیه السلام، و یقول انه شیخ من شیوخ العرب القساة یشتهر بسرعة الغضب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 307
و الشدة!! و یقول کذلک ان الحسین قتل من قبل جنود (معاویة) المنافس له علی الخلافة!! و ان الجامع الکبیر او المشهد الحسینی یوجد فی داخله ضریح آخر یقال أنه لاخیه (الحسن)!! الذی هو مدفون فی الحقیقة فی البقیع فی المدینة. و لا شک ان مثل هذا الخلط و الخبط قد اعتمد فیه علی أقوال خادمه الأرمنی نوریان!!
ثم یذکر ان کربلا تقع علی حافة السهل الرسوبی الخصب الذی یتصل بهضبة الجزیرة العربیة. و یبلغ عدد نفوسها حوالی ستین ألف نسمة، و یبدو انها بلدة مزدهرة. اما القسم الجدید منها الذی انشی‌ء خارج السور القدیم ففیه شوارع واسعة و أرصفة منتظمة بحیث تبدو و لها مظهر أوربی حدیث.
و مع أن اسوارها مهدمة قدیمة فان أبوابها کانت لا تزال قائمة تجبی فیها المکوس و رسوم الدخولیة.
و مما یذکره کذلک أنهم صادفوا فی کربلا موجة حر شدیدة من موجات منتصف الصیف بحیث بلغت درجة الحرارة فیها 110 الی 120 درجة فهر نهایتیة فی الظل. و لم یستطیعوا مغادرة کربلا و الفرار من حرها لأن شاؤول الصراف الذی یدبر شؤونه المالیة فی الحلة لم یستطع تحویل المبالغ اللازمة له بالسرعة المطلوبة منذ أن فارقه فی النجف من قبل. و هو یقول انه نظرا لشدة الحرارة کانت تعلق علی الشبابیک فی البیوت العامرة طبقات من العاقول المنقع بالماء، لکن اللیالی کانت طیبة بالنسبة له.
و یذکر بیترز بالنسبة لتحویل المبالغ فی تلک الأیام انه حینما کان فی السماوة صرف جمیع ما عنده من مال، و لما کانت السماوة تخلو من وجود الیهود فیها فانه لم یستطع الحصول علی المبالغ التی کان بأمس الحاجة لها، لان کل مکان یخلو من الیهود کان یتعذر تحویل المبالغ أو صرف الحوالات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 308
فیه، او استدانة ای مبلغ من المبالغ بسهولة. و لذلک کتب الی شاؤول الصراف فی الحلة لیوافیه بالمال الکافی فی النجف. و حینما عزم علی السفر إلی کربلا فارقه شاؤول إلی الحلة لیدبر إرسال مبالغ أخری له الیها، حیث لا یوجد یهودی فی النجف أیضا و لا یمکن ان تصرف الحوالات فیها علی هذا الأساس.
لکنه وجد التجار الإیرانیین مستعدین للبیع بالنسیئة، فترک النجف و هو مدین (15) باونا.
هذا و یشیر بیترز أیضا إلی أن من الصناعات الخاصة بکربلا صناعة تزویر الآثار القدیمة. و هو لا یتورع عن الاشارة فی هذا المجال إلی ان الذی لم یستطع شراءه او الحصول علیه فی کربلا أو النجف «المشروبات الکحولیة» التی قیل له ان بائعها یعاقب بقطع یده الیمنی. علی انه یقول ان الموظفین الأتراک کان یوجد عندهم شی‌ء کثیر من العرق المحلی الذی یتناولونه برغم تعصّب الأهلین، لأن الأتراک یتبعون حرفیة التحریم الشرعی فقط الذی یحرم النبیذ المخمر لا المشروبات المقطرة!! یضاف إلی ذلک انهم کانوا یلتذون باغاضة الشیعة المتعصبین- و کان الشیعة فی مقابل ذلک یکرهون الأتراک علی حد قوله و یمقتونهم، و یرحبون بأیة دولة «کافرة» تستطیع إخراجهم من البلاد لأنهم یعتقدون أن الأوربیین برغم «کفرهم» یحکمون بشی‌ء أکثر من العدل و یحسبون الحساب لتعصب الأهلین.
و قد وجد بیترز الأغنام النجدیة لأول مرة فی کربلا، و هی الأغنام التی یکون لها صوف طویل جدا حریری الملمس. و هذه تکاد تشبه فی شکلها الماعز مع الاحتفاظ بسیماء الخرفان البلیدة، و ذنبها الدهنی الضخم أی الألیة التی تتمیز بها الأغنام الآسیویة.
و آخر ما یذکره عند کتابته عن کربلا ان الزوار الإیرانیین یأتون عادة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 309
إلی بغداد أولا، و منها یزورون الإمام موسی الکاظم القریب منها، ثم یقصدون کربلا و النجف. و من ثم یتوجهون إلی الرحبة التی یذهبون منها، بحمایة الأمیر وکیل إبن رشید فی نجد، إلی مکة المکرمة فیصلون الیها فی الوقت المعین للحج، فیؤدون فریضته خلال العید الأضحی (قربان بیرم).
و من یعود حیا منهم إلی بلده یطلق علیه لقب (حاج)، أما الذین یقضون نحبهم خلال ذلک کله فیذهبون إلی الجنة رأسا.
و أخیرا وصل العامل حمزه أحمد من الحلة و معه المال الذی دبره له شاؤول الصراف، فتحرکوا نحو الحلة بواسطة الزوارق علی حد قوله بعد ان أرسلوا خیولهم لتقطع الطریق خوضا فتنتظرهم فی قریة الجمجمة الواقعة فی موقع بابل نفسها. و قد استقلوا الزوارق من ساحل هور السلیمانیة التی وصلوها بعد ساعة رکوب واحدة علی ظهور الحمیر. و هناک وجدوا صعوبة فی استکراء الزوارق لأن الرجال هربوا و اختفوا عن الأنظار حینما لاحظوهم من بعید خوفا من ان یکونوا من رجال الحکومة الممقوتة.

زیارة المس بیل قبل الحرب العظمی‌

و فی سنة 1909 زارت المس غیر ترودبیل،- المستشرقة و الرحالة البریطانیة المشهورة، التی أصبحت فیما بعد سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی فی بغداد- کربلا قادمة الیها من حلب بطریق البادیة، بعد ان مرت من حلب إلی التل الأحمر، فالبصیرة، فهیت، فالاخیضر، فوصلت فی 30 مارت 1909.
و بعد ان بقیت حوالی اثنی عشر یوما فی المدینة المقدسة رحلت إلی بابل عن طریق المسیب. و قد کتبت مشاهداتها فی هذه الجهات، فی ضمن ما کتبته عن رحلاتها الأخری یومذاک، و نشرته فی کتابها القیّم الموسوم (مراد إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 310
مراد) .
و تستهل کتابتها عن کربلا بالکتابة عن شؤون السفر فی تلک الأیام، و تقارن بین البادیة و البحر فی هذا الشأن. ثم تبدأ بوصف ما کان یخالجهما حینما وصلت الیها، فتقول إنها وصلت الی عالم جدید علیها من أوجه کثیرة.
فقد انتقلت من الجو المعروف فی شمالی سوریة الی بلدة عریقة فی التقالید الشرقیة المتصلة بالأماکن المقدسة، التی ترتبط ارتباطا وثیقا بالانقسام و الانشقاق الکبیر الذی حصل فی الإسلام. فقد کانت البقعة مسرحا للمأساة الألیمة التی وقعت فیها فأسفرت عن قتل الحسین بن علی علیهما السلام. ثم نشأت حول الجامع، الذی یضم الضریح المطهر فی داخله، البلدة التی أصبحت بالنسبة لنصف المسلمین محجا لا یقل عن مکة فی أهمیته.
و لیس الذی یتحدی المخیلة و یلح علیها بشدة هنا القبة المذهبّة، و لا وجود الکثیرین من الإیرانیین بألبستهم الخضراء، و أوجههم العبوسة الکالحة، و لا ثروة هذه العتبة الشیعیة التی سارت بذکرها الرکبان. و انما یفعل ذلک الشعور بالوصول إلی هذه المناطق و الربوع التی شهدت تأسیس الامبراطوریة الإسلامیة، فبقیت ردحا طویلا من الزمن مقرا لعاهلها الأکبر، خلیفة المسلمین و ظل اللّه فی أرضه. فعلی مسیرة یومین من هنا یقع میدان القادسیة الذی حطم فیه خالد بن الولید (الصحیح هو سعد بن أبی وقاص) الدولة الساسانیة حال اشتباکه بها و قضی علیها إلی الأبد. و بذلک تخطی بقدومه إلی هذه الجهات کسری بأتباعه، و أقیاله، و حلفائه العرب- أمراء المناذرة الذین کانت عاصمتهم من مراکز الحضارة العربیة الأولی- الی ظل الماضی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 311
المعتم، و اختفت من الوجود المدن. و القصور التی اشتهرت یومذاک مثل الحیرة، و الخورنق، و طیسفون، و غیرها من الأماکن التی نسی ذکرها و عفی حتی رسمها. و سقط ما شهدته الأزمنة القدیمة من عظمة و أبهة و أمجاد کما تسقط جیوش الأحلام عند أول اصطدامها بجیوش الحقیقة و الایمان، التی ما زالت تسیطر فی المیدان حتی هذه الساعة. و حل بعد ذلک یوم البأس و الحیویة فأضیفت به الاصقاع و الممالک واحدة بعد أخری، و مصرت المدن الإسلامیة العظمی مثل الکوفة، و واسط، و البصرة، و آخرها و أعظمها بغداد مدینة السلام.
لقد کانت هذه القصة هی التی خطرت ببالی- کما تقول المس بیل- و انفتحت صفحاتها بین یدی حینما کنت أقف فوق سطح دار من الدور المجاورة لأتفرج علی الساحة المزینة بالقاشانی الجمیل الفخم، التی یقوم فی وسطها الضریح المقدس، و لا یسمح بالدخول فیها الا للمسلمین. و حینما رفعت ناظری و سرحت الطرف نحو الغرب لمحت من بعید البادیة التی کانت جیوش النبی الکریم قد عبرتها لتقضی بعزمها الشدید و إیمانها الأکید علی المدینة القدیمة و تدک عروشها المشیدة. و ألفیت إلی الشرق من ذلک الطریق الممتدة إلی بغداد عاصمة الإسلام الکبری، التی قام فیها أحفاد أولئک الفاتحین بتنمیة الفنون السلمیة و تهذیبها تهذیبا مقرونا بما لا یقل عما سبق من الشهرة و الصیت الحسن. و هکذا زحفت روحیة الإسلام و شعلته الخالدة من أوعار البادیة لتستولی علی الأرض المثمرة.
ثم تقول عن أحوال کربلا المحلیة یومذاک، ان برتقالها کان من النوع الجید، و قد تکدست فی دکاکینها أکوامه بجانب اکوام اللیمون الحلو الأصفر بلونه. و لذلک کانت تشتری الکثیر منه هنا و هناک فتأکله و هی تمشی فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 312
الطریق لتروی غلیلها الصدی‌ء الذی التهب سعیره حینما عبرت البادیة الی هنا من حلب. و کانت تتکوم مع أکوام البرتقال و اللیمون أکوام الورد الارجوانی، الذی کان یأخذ منه المارة بین آن و آخر حفنات یشمّونها فی سیرهم.
و حینما خیّم اللیل بظلامه فی یوم من الأیام دعیت إلی ولیمة عشاء فاخرة أکلت فیها القوزی المحشی بالفستق، و شربت الشربت بالملاعق الخشبیة الکبیرة. ثم استمعت إلی ما قصه علیها الحاضرون من حدیث السیاسة و أحوالها فی تلک الأیام کما تقول. و کان ذلک الحدیث علی ما یظهر یمت بصلة إلی الروحیة الجدیدة التی انبعثت فی أطراف الامبراطوریة العثمانیة و أجزائها علی أثر حصول الانقلاب العثمانی (1908) و اعلان المشروطیة.
فقد حدثها أحد الحاضرین یقول ان الولایات العراقیة لا یستسیغ فیها الناس وجود حکومة دستوریة، لأن الملاکین رجعیون فی قلوبهم کلهم، و قد جمعوا ما حصلوا علیه من ثروة و مال بالقوة و الغصب. و لذلک لا یمکن ان یتحملوا من یحاسبهم علی ما امتلکوه بتلک الکیفیة، و یکرهون ما یوجه الیهم من نقد و ملاحظات صریحة علی صفحات الجرائد. یضاف إلی ذلک ان أکثریة موظفی الحکومة کانوا علی شاکلة هؤلاء أیضا. و لا یخفی ان القضاء علی الفساد بین هؤلاء کان یعنی جوعهم بطبیعة الحال، ما لم تتخذ التدابیر لزیادة رواتبهم فی مقابل ذلک. فان الحاکم (القائمقام) مثلا کان یعین لمدة سنتین و نصف فقط، و کان یتقاضی خلال هذه المدة راتبا قدره خمس عشرة لیرة ترکیة فی الشهر، و هذا المبلغ لم یکن من الممکن له ان یتعیش به هو و أسرته فی ظروف ینبغی له ان یحافظ فیها علی مرکزه و منزلته. أضف إلی ذلک انه کان یتحتم علیه أن یداری مرؤوسیه لیستفید منهم فی تجدید تعیینه حینما تنتهی المدة المضروبة له ... و لذلک فان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 313
(أحد عشر رجلا) من کل عشرة کانوا یقدمون علی أخذ الرشوة علی ما یقول المحدث!! و علی کل فان اعلان الدستور لم یأت لنا الا بلبس الطربوش الأسود (لأن الأحمر کان قد انقطع وروده من النمسا فی تلک الأیام لحصول إضرابات أدت إلی تعطیل معامله)، و حریة الکلام، و إنشاء ثکنتین متینتین فی بنائهما: واحدة فی کربلا و أخری فی النجف، تخلیدا لحلول عهد الحریة.
و کانت کربلا، علی ما تقول المس بیل نقلا عن محدثیها، قد حصلت بحلول العهد الجدید علی متصرف تروی عنه قصة غیر مشرفة لسمعته، ذات تأثیر شی‌ء علی مقدرته فی العمل فیها. فقد کان الرجل من المنتمین الی جماعة الأحرار، و کان قد بدأ حیاته فی الوظیفة بتعیینه سکرتیرا للوالی فی بغداد. لکن أهالی بغداد کانوا قد اشتکوا منه خلال اشتغاله فیها لأنه شوهد فی یوم من أیام رمضان المبارک یجاهر بالافطار و یدخن علی ملأ من الناس فی السوق فأقصی عن منصبه. و لما کان ینتمی الی جماعة الأحرار کان لا بد ان یحظی بمساعدة الکثیرین من ذوی الشخصیات المرموقة فی استانبول، و لذلک أعید تعیینه متصرفا فی کربلا مؤخرا. علی ان سمعته السابقة لم تفسح له المجال للاشتغال المثمر فی هذه البلدة المتعصبة، برغم أهمیة الأعمال و الإصلاحات التی شرع فی تنفیذها. فبالنظر للجور الأعمی الذی کانت تمارسه الحکومة فی کربلا، و إهمال شؤون الری فیها، أخذت الأمور تتدهور فیها یوما بعد یوم و ساءت أحوالها المالیة بحیث أصبح من المتعذر جبایة أی نوع من الضرائب منها. و کانت خزانة البلدة من جهة أخری مرهقة برواتب المستخدمین الکثیرین، و المبالغ التقاعدیة و غیرها التی کانت تدفع إلی الکثیرین من الناس علی اختلاف طبقاتهم، و معظمهم من طبقة رجال الدین علی ما تقول، و لذلک جوبه هذا المتصرف بمقاومة غیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 314
یسیرة حینما عمد إلی الاقتصاد بالنفقات، و قطع الرواتب عن مثل هؤلاء لیجد المال اللازم إلی تنفیذ بعض الإصلاحات و القیام ببعض الأعمال العمرانیة.
و حینما انتهت مدة بقاء المس بیل فی کربلا کان فی نیتها أن تتوجه إلی بابل عن طریق طویریج (الهندیة)، لکنها تقول انها کانت تجهل استحالة ذلک لأن المسافة بین کربلا و طویریج کان یشغل معظمها هور الهندیة الذی کانت تغذیه میاه الفیضان و «الکسرات» من فرع الحلة. فان المنطقة الکائنة فی غرب هذا الفرع، التی تقع فیها مدینة کربلا نفسها، ینخفض مستواها عن مستوی النهر، کما ان قاع النهر کانت ترتفع سنة بعد أخری بتراکم الغرین المترسب فیه. و لذلک فکثیرا ما کانت المیاه تفیض الی هور الهندیة الذی تتوسع رقعته فی بعض السنین فیهدد کربلا بالذات، حتی ان میاهه قد تسربت إلی شوارعها فعلا فی سنة من السنین. فکان یترتب علی الملاکین و أصحاب الأراضی فی هذه الحالة السهر علی إنشاء الروف الواقی و السداد القویة لاتقاء خطر المیاه، غیر انهم کثیرا ما کانوا یهملون هذا الواجب فیشتد الخطر.
و قد حدث ذات یوم ان جاء أحد الهنود المسلمین و اشتری مساحات کبیرة من الأراضی التی تتعرض للفیضان هذا، و کان فی نیته ان یحافظ علیها بالسداد و یستثمرها کما یرید. فصرف مبالغ طائلة علی ذلک و أوقف الخطر الزاحف علی البلدة عند حده مدة من الزمن. لکنه عجز عنه فی النهایة و ترک المشروع المرهق، فتجدد الخطر لا سیما حینما وجد نفسه وحیدا فی المیدان من دون أن تتعاون معه الحکومة أو الجهات الأخری و علی الأخص العشائر المجاورة التی کانت تبذر تبذیرا مسرفا فی إستخدام الماء للسقی فیؤثّر سوء تصرفها علی توسع الهور. غیر أن المتصرف أراد إجباره علی الاستمرار فی العمل، لکنه لم یتمکن من ذلک نظرا لأن الرجل الهندی المسلم ذاک کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 315
یتمتع بالحمایة البریطانیة.
و لما کانت الحالة علی هذا المنوال توجهت المس بیل الی بابل لمشاهدة آثارها، عن طریق المسیب التی وجدت فیها جسرا من الزوارق، و هی تقول انه کان أول جسر حصل لها شرف عبور نهر الفرات علیه.

المس بیل فی الأخیضر

و فی أوائل 1911 تعود المس بیل فتأتی إلی ما یقرب من کربلا من جهة البادیة، لتزور الأخیضر فتعمل علی وصفه و رسم الخرائط التفصیلیة له.
و قد کان ذلک فی عهد والی بغداد المشهور ناظم باشا کما یفهم مما جاء فی رسائلها المعروفة. و کان مجیئها الی الاخیضر من سوریة بطریق الفرات أیضا، فمرت بکبیسة و هیت و الرمادی، و من هناک قصدت الرحالیة و شفائه فوصلت الیه فی 28 شباط 1911. و کانت قد جاءت یومذاک بکتاب توصیة الی صخیل شیخ الزقاریط، إحدی قبائل شمر المقیمة بالقرب من القصر یومذاک. فخف الیها مسرعا و مرحبا ثم ساعدها فی أثناء الاقامة فی الاخیضر ریثما تنتهی من مهمتها الأثریة علی ما یظهر.
و هی تقول ان أفراد الزقاریط الذین جاء بهم صخیل للحراسة و المساعدة کانوا یقومون بخیاطة ملابسهم بأنفسهم، و حینما سئلوا عن السبب أجابوا بأن نساءهم لا یفعلون شیئا سوی الجلوس و تزجیة الوقت بالتوافه. و قد خرجت للصید مع صخیل فی یوم من الأیام فلاحظت علی مسیرة ساعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 316
من الأخیضر وجود «معمل» قدیم للجص و الملاط علی ما تقول. و هی تعتقد أن الجص کان یؤتی به لتشیید الاخیضر من هذا المعمل نفسه، و لذلک بادرت إلی تخطیطه و رسمه قبل ان تعود الی مخیمها. أما مقلع الأحجار التی شید بها الاخیضر فیقع علی مسیرة ساعة فی الجهة المقابلة. و تقول المس بیل ان الخارطة الدقیقة التی رسمتها للاخیضر و موقعه تعتبر أول خارطة له. لکنها لا تتطرق فی الرسائل الی تاریخ الاخیضر و کیفیة بنائه، و الظاهر انها اکتفت بما کتبته عنه فی الکتب الأخری.
و حینما غادرت موقع الاخیضر متجهة الی بابل فبغداد مرت علی مسیرة اربع ساعات منه بأول أثر من الآثار القدیمة یقال له (مجده)، و هو برج مدور مشید بالآجر تشییدا دقیقا. و هی تعتقد بأنه من الأبراج التی کانت مقامة لحراسة الطریق، یرجع تاریخه إلی القرن التاسع للمیلاد. ثم مرت بخرائب (خان العطشان) الذی یقوم فی وسط سهل منبسط کانت تنتشر فیه قطعان بنی حسن و خیامهم، لأن قسما منهم کان یخیم علی مقربة من الخان نفسه. و هی تقول إنه أثر جلیل من الآثار القدیمة، یعود تاریخ تشییده إلی القرن التاسع المیلادی أیضا، ای الی عهد الخلافة العباسیة فی سامراء علی رأیها. و قد کان المنظر رائعا فی نظرها حینما حل اللیل و خیم الظلام فبانت نیران بنی حسن منتشرة هنا و هناک فی ذلک السهل الممرع الدال علی جمال الربیع فی البادیة. و بعد ان ترکت الخان فی الیوم التالی مر رکبها بالمخیمات المتروکة التی کان الوفر المتساقط قبل شهر من ذلک الوقت قد خلف آثاره فیها. فقد شاهدت الکثیر من جثث الأغنام و الحمیر منتشرة حولها. و هی تقول ان الوفر یعد شیئا غیر مألوف فی تلک الجهات، و ان مدیر ناحیة شفائه کان قد قال لها حینما زارها فی الاخیضر بأن الناس حینما استیقظوا فی الصباح هناک و وجدوا الأرض مکتسیة به ظنوا أنه طحین منثور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 317
و بعد ان أکملت رسم خارطة الخان و موقعه توجهت مع الرکب نحو نقطة تقارب منتصف الطریق بین کربلا و النجف بعد ان رخصت حراسها الزقاریط و استصحبت حراسا من رجال بنی حسن. و بعد ساعات قلیلة من المسیر بان للرکب برج بابل من بعید، ثم اتضح لهم بعد ذلک فصار یبدو کأنه قائم فی وسط بحر من النخیل المنتشر، و شاهدوا بعد قلیل خان الحماد محاطا بالنخیل من بعید، غیر انهم اتجهوا نحو خان المصلی فخیّموا علی مقربة منه. و هی تقول إنه کان محاطا بعدد قلیل من الدور و الآبار، و أنهم وجدوا هناک عددا من الجنود، و أمکنهم شراء الدجاج و معظم «وسائل الترف» الأخری علی حد قولها الذی تستدرکه فتقول ان ذلک ینطبق علی القادمین من البادیة علی الأقل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 318

کربلاء فی التقاریر البریطانیة قبل الحرب‌

و قد جاء فی تقریر عسکری مکتوم، أعدته رآسة الأرکان البریطانیة العامة فی 1911، عن المنطقة الممتدة ما بین بغداد و الخلیج، ان کربلا تقع فی سهل یبعد عشرین میلا من جهة الغرب عن الفرات الذی تتصل به عن طریق جدول الحسینیة. و تحتوی البلدة علی خمسة آلاف بیت واسع حسن البناء، و لیس لها أسوار، لکنها تحاط بالجنائن و البساتین التی یختبی‌ء فیها عدد من البیوت. و تستمد ماءها، الذی ینقطع أحیانا، من الجدول المذکور.
و حینما ینقطع الماء یستقی الماء العکر من الآبار.
و یبلغ عدد نفوس کربلا حوالی ستین ألف نسمة، أکثریتها من العرب مع عدد غیر یسیر من الایرانیین و الهنود المسلمین و بعض الیهود. أما الأتراک القلیلون الموجودن فی البلدة فهم موظفون.
و لجامع الحسین، الذی یوجد فیه ضریحه أیضا، منزلة دینیة عظمی عند الایرانیین علی الأخص. و لذلک یقصد هذه المدینة المقدسة علی الدوام عدد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 319
کبیر من الشیعة المتدینین من جمیع أنحاء العالم.
و السوق فی کربلا ممتلی‌ء بالحاجات و السلع، و کثیر الحرکة و المشغولیة لأن البلدة تعد مرکزا لمنطقة زراعیة مهمة. و قد أصبحت فی الأیام الأخیرة مقرا لفرقة من فرق الردیف، و مرکزا لمتصرفیة تتبع بغداد. و یوجد فیها الیوم وکیل بریطانی یقوم بالأعمال القنصلیة.
و فی هذا التقریر کذلک معلومات تفصیلیة مفیدة عن الطریق ما بین بغداد و کربلا، الذی یبلغ طوله حوالی خمسة و ستین میلا. و یذکر ان جدول الحسینیة تبلغ سرعة الماء فیه میلا واحدا فی الساعة، و هو عمیق یتراوح عرضه بین عشرین و خمس و عشرین قدما، و تتفرع منه عدة فروع لا ینساب فیها الماء الا حینما یبلغ مقداره فی الجدول الأصلی 8- 12 قدما. و مما یذکر فی تفصیلات الطریق بالنسبة للجهة القریبة من کربلا. ان قلعة مربعة الشکل تسمی قلعة الشیخ ابراهیم تقع فی المیل الثانی و الخمسین من بغداد، و الجانب الأیسر من الجدول، و یوجد حول هذه القلعة مئة کوخ من الطین او الخصاص.

فی أیام الحرب العظمی‌

ان أهم من کتب من الغربیین عن کربلا فی هذه الفترة هی المس غیر ترود بیل، التی مرت الأشارة الی البعض من مؤلفاتها قبل هذا. و یأتی ذکر کربلا فی هذا العهد ضمن ما کتبته فی تقریرها المسهب عن العراق فی فترة الحرب. و أول ما تشیر به إلی کربلا هو فی أثناء بحثها عن (العلماء و المدن المقدسة)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 320
بوجه عام، حیث تقول انها بنیت فی موقع الحومة التی قاتل فیها الحسین علیه السلام، و فیها ضریحه المقدس و قبور عدد من أقاربه و أتباعه .. ثم تذکر أن معرفة البریطانیین بمجتهدی کربلا و النجف قد بدأت قبل الحرب العظمی بمدة طویلة. فقد کانت للحکومة الهندیة منذ 1849 علاقة خاصة بهاتین المدینتین لها اتصال بوقف أوده، لأن غازی الدین حیدر، ملک أوده، کان قد أوقف مبلغا قدره (000، 121) روبیة فی السنة لتصرف صدقات إلی مستحقیها فی المدینتین المقدستین فوجدت حکومة الهند، التی ورثت مسؤولیات شرکة الهند الشرقیة، نفسها فی موقف الناظر علی هذا الوقف.
و کان توزیع هذا المبلغ یثیر فی کل سنة عدة مشاکل لنا، لکنه انتظم فی 1910 حین أجریت ترتیبات مقبولة خاصة، أصبح التوزیع فیها یجری بواسطة لجنتین خیریتین، واحدة فی کل مدینة، تتألف کل منهما من مجتهدین و أناس محترمین آخرین بعد أن یحول المقیم البریطانی فی بغداد المبلغ لهما .
و تستمر المس بیل فی بحثها فتقول ان الحکومة العثمانیة کانت تعترف قبل دستور 1908، بأن المدن المقدسة تختلف إختلافا بینا عن سائر ممتلکاتها فمنحتها بعض الامتیازات التی کان أهمها إعفاء سکانها من الخدمة العسکریة .. لکن مبدأ المساواة الذی کانت تنادی به جمعیة الاتحاد و الترقی کان یعنی زوال الامتیازات التی کانت تتمتع بها الرعایا غیر العثمانیة فی البلاد، و صار یبدو حتی قبل الحرب ان الحکومة الترکیة کانت تظهر تجاهلا لوضع کربلا و النجف الخاص. و بعد موقعة الشعیبة التجأ عدد من الفارین من الخدمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 321
العسکریة الیهما، فأعلن الأتراک عن عزمهم علی اعادتهم إلی الخدمة و هددوا بفرض التجنید علی جمیع السکان.
فثارت النجف ... و فی حزیران 1915 بدأت الفتن و النزاعات العلنیة فی کربلا. و یبدو أن منشأها کان هجوما شنته علی البلدة قبیلة بنی حسن المجاورة، التی کان بینها و بین سکان کربلاء عداء مستحکم قدیم لم تعمل الحکومة العثمانیة شیئا لتسکینه جریا علی سیاسة «فرق تسد» التی کانت تلتجی‌ء الیها. و فی هذه المناسبة بالذات لم تجن الحکومة شیئا من المشاحنات التی ربما تکون قد استثارتها هی بالذات، لأن بنی حسن أحرقوا السرای و نهبوه، ثم هبت الغوغاء و طردت الحکومة فتولی شؤون البلد شیوخها و علی رأسهم آل کمونة. و وقعت الشیخ محمد علی کمونه حوادث مماثلة فی الکوفة و الحلة و طویریج، و فی کل منها أجبر موظفو الحکومة و الحامیات الترکیة علی الفرار. و علی هذا أصبحت الحالة فی الفرات خطیرة بحیث غیرت السلطات الترکیة سیاستها و التجأت إلی المسالمة و الصلح .. و دبرت بالنسبة لکربلا وسیلة لاستعادتها و تعزیز مرکزها فیها.
و تقول المس بیل بعد ذلک ان اتصالا بشأن کربلا جری مع البریطانیین فی أیلول 1915. و بعد شهر واحد أوجد الشیخ محمد علی کمونة، رئیس أسرة کمونة زاده، علاقة خاصة بالسر بیرسی کوکس الذی کان لا یزال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 322
فی الکوت حینذاک ، و بعد تبادل بعض الرسائل التمهیدیة اقترح علینا ان نتعهد بتنصیبه حاکما وراثیا مستقلا فی ولایة مقدسة تمتد من سامراء إلی النجف. و قد کنا فی تلک الآونة منشغلین بالزحف الذی سبق معرکة سلمان باک. و کان یبدو محتملا بأننا سرعان ما سوف نتصل إتصالا وثیقا بکربلا. فأرسل السر بیرسی إلی محمد علی ردا ودیّا و لکن لا لون له، مع هدیة مالیة صغیرة. و قد ترک الأمر علی هذا الحال موقتا لأن انسحابنا من سلمان باک کان قد بدل الموقف السیاسی العام بأجمعه. علی اننا بقینا علی اتصال تام بممحد علی، و واصلنا ارسال المال له من وقت الی آخر لأجل ان یساعده ذلک علی الاحتفاظ باتباعه و التمسک بموقفه المسیطر فی کربلا.
ثم اتخذت السلطات العسکریة سیاسة حرة فی السماح بمرور المواد الغذائیة فی المناطق الفراتیة لرفع الضیق و الضنک عنها. و بذلنا ما بوسعنا لارسال حوالات صغیرة من المال، و کل وکیل کان یمکن ارساله الی الناصریة کان یدفع له شی‌ء من اموال (أوده) الوقفیة لایصاله الی المدن المقدسة.
علی أن الاتراک بذلوا فی نیسان 1916 جهدا ثانیا یقترن بمقدار أکثر من العزم و الشدة لاخضاع کربلا. فقد اتهموا فخر الدین کمونة، أخا محمد علی، بتحریض شیوخ (آل یسار) علی مساعدة أهالی کربلا ضد بنی حسن فأحاطوا بداره و اعتقلوه. و علی هذا ثارت ثائرة البلدة، و بعد اصطدام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 323
عنیف جرب الترک فی أثنائه مدافعهم ضد کربلا، و أنزلوا بعض الأضرار بالعتبات، ثم طردوا من البلدة و أسست إدارة محلیة یرأسها الأخوان من آل کمونة. و حذت حذو کربلا النجف و الحلة فأفلت الزمام من أیدی الأتراک فی الفرات مرة ثانیة. و أوفد الرسل من النجف إلی البصرة یحملون طلبا الی القبائل، و الی الدولة الإیرانیة، یشرحون فیه ما کانت تعانیه کربلا. و کان بین الموقعین علیه عدد من المجتهدین المعروفین، فلم یقصر رئیس الحکام السیاسیین (ای السر بیرسی کوکس) فی نشر هذه الوثیقة بنطاق واسع .
و کان محمد علی کمونة، الذی استمر علی تبادل الرسائل معنا، یکرر إعرابه عن مخاوفه من عودة الأتراک، کما ازداد قلق المدن المقدسة ازدیادا شدیدا من الأعمال الفظیعة التی وقعت فی الحلة خلال تشرین الثانی 1916.
فقد اقترب من الحلة جنود من الأتراک یحملون عتادا و سلاحا الی عجمی السعدون (و کان مع الجانب الترکی فی الحرب)، و طلبوا المرور منها.
و حینما خرجت جماعة من الوجهاء للاتفاق علی الشروط ألقی القبض علیهم، و شنق فی الیوم الثانی عدد منهم. فنجا السید محمد علی القزوینی رجل الدین الأقدم فی الحلة من مثل هذا المصیر بأعجوبة، ثم دخل الجنود البلدة فهدموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 324
و أحرقوا، و نهبوا و قتلوا، و تحدوا شعور المسلمین أکثر من ذلک بسبی نساء الأسر المحترمة و ارسالهن إلی بغداد و غیرها. و لا شک انها تقصد بالنبذة الأخیرة هذه ما سمی بوقعة عاکف، و هی ترویها بشی‌ء غیر یسیر من التحریف المفید لوجهة النظر البریطانیة.

کربلاء فی بدایة الاحتلال‌

لقد احتل الانکلیز بغداد فی الحرب العظمی یوم 11 مارت 1917، و أذاع الجنرال مود بیانه المشهور لأهالیها یقول فیه انه جاء محررا لا فاتحا.
و أول ما تقوله المس بیل فی هذا الشأن ان «علماء» کربلا و النجف بعثوا برقیة تهنئة الی صاحب الجلالة البریطانیة فی أثر ذلک، فأجابهم باعترافه بتسلمها و رغبته الخالصة فی انتعاش العراق و سکانه و المحافظة علی عتباته المقدسة، و استعادته لرخائه القدیم. و لا شک انها تقصد بهؤلاء «العلماء» البعض من المعممین الذین کانوا یمالئون السلطة الغاشمة، و ما أدرانا ان البرقیة المشار الیها ربما تکون قد أبرقت من قبل الموظفین الانکلیز أنفسهم .
و تقول المس بیل کذلک ان مکتب رئیس الحکام السیاسیین ازدحم فی الأیام القلائل الأولی بالزوار من جمیع الطبقات بدون ان یستثنی منهم أفراد الأیسر البارزة من المسلمین ... و فی أثر وجهاء بغداد جاء شیوخ القبائل الصغیرة المجاورة، متعجبین بعض التعجب من انهیار العهد القدیم المفاجی‌ء و مستبعدین دوام العهد الجدید. و کان بین الأوائل الذین قدموا من الأماکن البعیدة محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 325
علی کمونة من کربلا و الحاج عطیة من النجف، و أعقبهما بعد ذلک بقلیل شیوخ النجف الآخرون. فعینت للجمیع المخصصات، ثم رجعوا لأهلهم مخولین بالمحافظة علی الأمن حتی یکون بامکاننا ان نعالج شؤون المدینتین بصورة مباشرة.
و مما جاء فیما کتبته المس بیل ایضا فی تقریرها المهم هذا عن کربلا قولها :
و کانت أهم قضایا الفرات قضیة العشائر و المدینتین المقدستین. فقد رجع شیوخهما من بغداد و هم موکلون عنا وقتیا بتصریف شؤون الإدارة التی کانوا قد أسسوها عند إخراج الأتراک الأخیر فی 1917، بعد ان منحوا من أجل هذه الخدمة بعض المخصصات المالیة. و کانت هذه الطریقة الوحیدة التی امکننا الالتجاء إلیها، لأن تعیین ضابط بریطانی مع ما یکفیه من الحرس لم یکن ممکنا من الوجهة العسکریة. و قبل مضی عدة أسابیع اتضح بأن هذا الترتیب لم یکن شیئا مرضیا للمدینتین نفسیهما. فقد قیل ان آل کمونة فی کربلا کانوا یستخدمون مرکزهم الممتاز فی قضاء مآربهم الشخصیة، فأثار ذلک علیهم سخط شیوخ البلدة الآخرین و أهمهم أسرة آل عواد التی کان یمثلها عبد الکریم العواد، الرجل الذی کانت عروبته أعرق بکثیر من عروبة آل کمونه الذین هم نصف ایرانیین فی نسبهم نظرا لمصاهرتهم الأسرة القاجاریة المالکة. و برغم ان آل کمونة کانوا یعکرون بلا شک صفو الجو فی رائعة النهار، یبدو انه لم یکن هناک ما یبرر ذلک التذمر الخطیر تبریرا کافیا، لأن محمد علی کان یصرّف شؤون الأدارة بوجه عام تصریفا حسنا کما أنه کان یحافظ علی الهدوء فی البلدة. غیر انه کانت هناک من وجهة النظر البریطانیة اعتراضات أشد خطورة علی الأخوین. فقد شرعا بتسییر قوافل کبیرة کانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 326
ترد من الشام و حلب فی طلب المواد الغذائیة، کما کانت القوات الترکیة العاملة فی الفرات تتزود بصورة مستمرة من کربلا . و کان أهالی کبیسة، التی لم تکن داخلة فی ضمن منطقة احتلالنا، یلعبون دورا مهما فی هذا المسعی. و عندما عقدنا فی حزیران اتفاقیة خاصة مع فهد بک شیخ مشایخ.
عنزة توقف نقل البضائع بطریق البادیة لدرجة ما، لکن تجاهل آل کمونة و إغضاءهم قد أدیا الی إستئناف هذه التجارة بصورة تهریبیة علی طول الفرات عن طریق مناطق (آل مسعود) و الجنابیین الذین لم یتسن لفهد بک فرض سیطرته علیهم.
و قد کان من المستحیل ان یکون محمد علی کمونة جاهلا بما کان یجری من هذا القبیل، بل کانت هناک بیّنات کثیرة تدل علی عکس ذلک. و أحسن ما یمکن ان یقال عن محمد علی فی هذا الشأن انه تجاهل وجود هذه الحرکة بصورة إیجابیة، بینما کان فخری کمونة مشترکا فعالا فیها. فقد کانت شرطة البلدة التی استخدمها محمد علی باعتبارها مؤسسة تمثل الحکومة تستخدم فی توصیل البضائع و الأرزاق المرسلة للعدو الی خارج البلد بسلام، و کان اثنان من خدم آل کمونة یوقعان الرخص المطلوبة عادة. و کانت أهم هذه الصادرات الأقمشة و الرز و القمح و القهوة. و فی الوقت الذی کانت الأرباح الطائلة، المستحصلة من جبایة الرسوم بمقدار باون واحد او حتی باونین عن کل بعیر محمل، قد تکون کافیة وحدها لتفسیر سلوک آل کمونة فی هذا الشأن، فانه من المحتمل أیضا أنهم أخذوا یدرکون ان أطماعهم الشخصیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 327
المزوقة لا یمکن ان تتبلور فی ظل الحکم البریطانی فقرروا تلبیة صوت العاطفة.
و مما لا شک فیه ان الاتراک کانوا یقومون بدعایة واسعة النطاق بین القبائل الفراتیة و یبذلون الوعود بالاستقلال عندما یسترد العراق الی حکم الباب العالی. لکن تزوید الجیش الترکی بما یرید کان لا یمکن ان یسمح به مهما کانت الأسباب التی أدت الیه.
فخر الدین کمونه أو الشیخ فخری و قد أخذت صورته هذه فی منفاه (بهلادری) فی الهند
و فی یوم 7 أیلول 1917 دعا السر بیرسی کوکس، الحاکم الملکی العام، فخری کمونة للحضور الی بغداد فی الیوم التاسع منه. فانصاع للأمر، و عند حضوره شرح له اشتراکه الذی لا ریب فیه فی المتاجرة مع العدو و تشجیعه لها، کما أفهم بأن وضعه هذا یجعل بقاءه فی کربلا لا یتفق مع المصلحة العسکریة، و انه سوف یؤخذ إلی الهند بصفة ضابط أسیر من أسری الحرب. فقبل طائعا بالقرار الذی یستبعد عدم تکهنه به من قبل. و فی الیوم التالی تسلم محمد علی کمونة أیضا دعوة شفهیة بالحضور الی بغداد بواسطة ضابط استخبارات کربلا. فأعرب عن رغبته فی السفر صبیحة الیوم التالی، لکنه سمع بخبر إعتقال فخری فعدل عن ذلک برغم «الحظ و البخت» اللذین أعطاه إیاهما ضابط الاستخبارات نفسه. و لذلک بعث له الحاکم الملکی العام برسالة خاصة شرح له فیها الأسباب التی دعت لاعتقال فخری، و أضاف الی ذلک أنه بالنظر لما وقع فلیس من المصلحة بشی‌ء أن یبقی هو وکیلا عن الحکومة، و من الضروری ان یعین فی مکانه ضابط بریطانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 328
بصفة معاون حاکم سیاسی. ثم أخبر بأنه اذا کان یفضل بالنسبة للظروف الراهنة ان یبتعد عن کربلا فان الحکومة ستتخذ الترتیبات اللازمة لاقامته بصورة مریحة فی أی مکان آخر من العراق یتم الاتفاق علیه.
و بعد شی‌ء من التردد قرر الشیخ محمد علی الاذعان للدعوة و جاء الی بغداد. و قد اقنعه فی اتخاذ هذا القرار الشیخ حسین المازندرانی، من مجتهدی کربلا البارزین، الذی ألح علیه بشدة و أشار علیه بأن لا یتمرد علی أوامر الحاکم الملکی العام. و لم یکن الدور الذی لعبه السید محمد کاظم الیزدی فی النجف أقل استثارة للامتنان، حیث أنه رد علی طلب تقدم به الیه محمد علی کمونه فی توسط قضیته بانه اعتزل عن العالم مند مدة.
و قد بیّن بصورة عرضیة انه لم یکن ینوی الشیخ هادی کمونه الافتاء بالجهاد صد الطیارات و السیارات، علی انه وافق علی ان یتوسط بعدم اسناد منصب الکلیداریة الی شخص من أسرة أخری فأعطی المنصب الی حمید بن الشیخ محمد علی کمونة.
و فی النهایة تعین معاون حاکم سیاسی بریطانی فی کربلا، و اختار محمد علی کمونة الاقامة فی بغداد. و قد سر بتنحیة الأخوین من آل کمونة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 329
کمونة رؤساء الدین سرورا بالغا، بعد ان کانوا مضطرین من أجل سلامتهم الی ان یحافظوا علی علاقات ودیة ظاهریة معهما برغم ان ازدیاد سلطة الکمونیین کان مثیرا للقلق المفعم بالحسد بینهم. علی ان الأسرة المذکورة لم یقض علیها بهذا الترتیب، لأن محمد علی ظل یتمتع بوارد أملاکه، و تعین ولده فی منصب الکلیداریة کما تعین أخوه الشیخ هادی رئیسا للبلدیة ، غیر ان محمد علی اکتشف فی خریف تلک السنة بأنه کان متمرسا فی بث الاشاعات المعادیة، کما لوحظ ان الشیخ هادی کان یجنی أکثر من الأرباح المشروعة من منصبه. فألحق الأول بأخیه فی الهند، و حوکم الثانی أمام لجنة قضائیة خاصة فوجد مذنبا ثم أعید منصب الکلیداریة فی الوقت نفسه الی أحد أفراد الأسرة التی کانت تشغله من قبل.

السر رونالد ستورز فی کربلاء

و فی هذه الأیام التی بدأ بها الاحتلال البریطانی للعراق بشکل مضطرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 330
غیر مستقر، و قبل أن یضطر الانکلیز الی تنحیة محمد علی کمونة عن کربلا کما یلاحظ من البحث السابق؛ زار بغداد قادما من القاهرة السر رونالد ستورز. و کان رونالد ستورز هذا من الاستعماریین الانکلیز الذین کان یتألف منهم «المکتب العربی» فی القاهرة، و کانت بعهدة هذا المکتب شؤون الاستخبارات البریطانیة التی دبرت فی جملة ما دبرت فی أیام الحرب العالمیة الأولی قضیة الاتصال بالشریف حسین فی مکة، و أوفدت لورنس لمساعدة قواته بعد إعلان الثورة العربیة علی الأتراک فی 1916 (9 شعبان) و قد تقلب ستورز فی مناصب عدة، فکان منها حاکمیة القدس فی أول عهد الاحتلال البریطانی لها و حاکمیة قبرص التی نفی الملک الحسین بن علی الیها خلال مدة وجوده فیها. فکتب کتابا مهما علی شکل مذکرات یومیة، ضمنه الکثیر مما صادفه خلال مدة تقلبه فی الوظائف المختلفة و زیاراته العدیدة لکثیر من البلاد، و من جملتها العراق.
و حینما زار العراق کان أهم ما فعله فی الأیام القلائل التی بقی فیها، أنه زار کربلا و النجف بصحبة المستر غاربوت و المستر غولدسمیث من کبار موظفی الاحتلال، و استصحب معه فی الطریق الی کربلا (17 مایس 1917) النواب خان صاحب محمد حسین خان، معاون الحاکم السیاسی فیها، الذی کان یحمل معه فی السیارة علی ما یذکر ستورز صندوقا کبیرا یحتوی علی (000، 29) روبیة . و قد اضطرتهم عاصفة شدیدة من الغبار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 331
صادفوها بالقرب من الاسکندریة الی المبیت فی المسیب. و فیها زاره بعض شیوخ العشائر فی المنطقة، و الشیخ محمد علی کمونة مضیفه فی کربلا علی ما یقول.
و قبل الوصول إلی المدینة المقدسة فی الیوم التالی استوقفهم فیما یقرب من مقام عون ذی القبة الزرقاء أحد الشیوخ العرب، و قدم هم فی خیمته الأنیقة شیئا من الشای و القهوة الممتازة. و حینما وصل رکب السر روتالد إلی ما یقرب من البلدة استقبله الوجهاء و الأشراف ما بین صفوف النخیل المکتظة استقبالا حافلا، فنزل للسلام علیهم ثم انصرفوا فأثار انصرافهم فی عرباتهم و علی ظهور الجیاد غبارا متعالیا حجب عن ستورز و جماعته مناظر البساتین الخضراء العامرة بالنخیل و أشجار اللیمون، و الکروم و شجیرات الدفلی الزاهرة. و قد کان ذلک کله مصحوبا بهتاف من جموع المتفرجین الزاخرة و زغارید النساء. و بعد الوصول الی کربلا استقر بهم المطاف فی قصر آل کمونة الذی کان محاطا ببستانهم العامرة. و قد استقبلهم فی باب البستان شقیق محمد علی کمونة، و ساروا الی القصر مخترقین المماشی المحفوفة بصفوف النخیل الباسقة، و شجیرات الدفلی الزاهرة، و أشجار المشمش و الکوجة. و کان جلوسهم فی ظل الکروم التی کانت عرائشها غنیة بأوراق الأعناب الغضة.
و بعد ان استراحوا، قدم لهم الغداء فی مائدة کبیرة صفت فیها صحون الطعام الکثیرة مرة واحدة فی البستان نفسها. و یقول ستورز انه أکل البامیة اللذیذة فی هذا الغداء لأول مرة فی حیاته، فکانت شیئا شهیا. و فی حوالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 332
الرابعة و النصف بعد الظهر أخذهم معاون الحاکم السیاسی للتجوال فی أسواق البلدة و التفرج علی معالمها العامة. و صعدوا بعد ذلک فوق سطح «بیت الیزدی»، فشاهد هناک قبة الحسین المذهبة، و المنارتین المذهبتین، و برج الساعة المذهب، مع اللقالق التی کانت تسرح و تمرح فوقها بحریة. کما شاهد الصحن المزین بأفخر أنواع القاشانی و أزهاه.
و قد زار ستورز فی المساء عدد من الوجوه و الأشراف، فعلم منهم ان ثورة الشریف حسین فی مکة کان قد رحب بها العالم الشیعی لأنها جاءت ضد الأتراک فضلا عن أنها کانت مشرفة للعرب. و یذکر فی هذا الشأن ان مضیفهم محمد علی کمونة کان شخصا مکروها فی کربلا، و لذلک لم یشأ أکبر عالمین مجتهدین فی کربلا علی ما یقول ان یزوراه هو نفسه فی بیته .
فقرر ان یذهب هو إلی زیارتهما فی بیتهما فی صباح الیوم التالی، أی فی 19 مایس 1917. فزار أولا العلامة حسین المازندرانی الذی یقول أنه أهم مجتهد فی کربلا علی الاطلاق. و کان رجلا مسنا رقیق الشمائل، یجلس عادة فی مکتبته الصغیرة التی تضم حوالی أربع مئة کتاب أکثرها مخطوط.
و قد کانت براعته فی العربیة و الفارسیة و الهندستانیة تدهش المتحدث إلیه، و علم من تحدث الیه أنه کان معجبا بالحسین شریف مکة و مؤیدا لحرکته.
و لما رأی الشیخ اهتمام السر رونالد بکتبه و مخطوطاته طلب ان یؤتی له بمفتاح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 333
و أراه مکتبته الأخری بفخر و اعتزاز. لکنه اعتذر عن تصویره بصورة غیر مباشرة، بل قدم له نسخة جاهزة من تصویره بعد ان کتب علیها صیغة الاهداء بنفسه. و قد لاحظ السر رونالد ان بیت العلامة المازندرانی مثل غیره من البیوت الأخری کان یخلو من الکراسی، و ان الجمیع کانوا یجلسون علی الأرض و یتکئون بالحائط. هذا و قد ردت الزیارات له حتی من قبل المازندرانی نفسه علی ما یقول. و هو یذکر بالمناسبة ان الشیخ العلامة حینما یدخل لزیارة بیت من البیوت یکرر قوله «یا اللّه» بصوت مرتفع ثمانی مرات قبل ان یصعد السلم لیشعر النساء بأنه قد حضر فیتوارین عن الأنظار ان وجدت واحدة منهن .
ثم زار المدرسة الإیرانیة فی کربلا فرأی الطلاب الصغار فیها یضعون أنواع العمائم فوق رؤوسهم، و منها العمائم الخضر (السیدیات) علی ما یقول، و بعد ان صوّر المناظر فیها عاد إلی منزله فی بستان کمونة. و بعد أن تناول طعام الغداء مع جماعته غادر کربلا الی النجف، و هو یقول انه رأی خارج البلدة من جهة الغرب أربع قباب شذریة اللون، و من بینها قبة الحر .

الاستفتاء العام‌

و کانت هذه الفترة قد أعقبتها تطورات خطیرة فی أحوال العراق و السیاسة العالمیة. فقد انتهت الحرب ما بین الدولة العثمانیة و بریطانیا العظمی، و أعلنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 334
الهدنة بینهما فی 30 تشرین الأول 1918. و فی 8 تشرین الثانی أعلن فی العراق التصریح الانکلیزی الفرنسی الذی وعد فیه الانکلیز و الفرنسیون بتشکیل «حکومات و إدارات وطنیة حرة تنتخب وفق رغائب الأمة و تستمد سلطتها منها» للأقوام و البلاد المنسلخة عن الدولة العثمانیة و حکمها المنهار.
و فی 11 تشرین الأول 1919 سمحت السلطات المحتلة بأن تنشر فی العراق بنود الرئیس و یلسن الأربعة عشر، التی کانت الدول التابعة للفریقین المتحاربین قد اتفقت علی اتخاذها اسسا لعقد الصلح فیما بینها.
و یبدو ان السلطات البریطانیة أرادت بعد انتهاء الحرب مع الأتراک ان تعود بالبلاد الی حالة السلم، فدعا الجنرال مارشال القائد العام لقوات الاحتلال البریطانی فی العراق علی أثر اعلان الهدنة و جهاء بغداد و رجالها البارزین، فألقی فیهم خطابا أشار فیه الی بیان سلفه الجنرال مود الذی ذکر فیه ان الانکلیز جاءوا «محررین لا فاتحین». و أعلن رفع القیود التی کانت قد اقتضتها ظروف الحرب، و من جملتها إباحة نقل الجنائز من مختلف الجهات و دفنها فی مدافن کربلا و النجف بشروط مناسبة علی حد قول أرنولد و یلسن فی کتابه المشار الیه من قبل.
و قد کان لا بد من أن تؤدی هذه الوعود و التطورات التی حصلت فی البلاد الی تنبه الأذهان بین الناس، و لا سیما فی کربلا و النجف، و حصول نشاط سیاسی فعال فی الأوساط السیاسیة المختلفة. فقد أخذت الفئات جمیعها و الطبقات التی یهمها وضع البلاد بعد ان خضعت الی دولة جدیدة غیر مسلمة، تفکر فی التکتل و المطالبة بشکل من أشکال الحکم یؤمن للبلاد حقوقها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 335
المشروعة و یحقق ما کانت الجمعیات الوطنیة فی البلاد تطالب به السلطات الترکیة قبل الحرب. و کان لحرکة الشریف حسین و ثورته العربیة التی أعلنها مع أنجاله فی الحجاز علی الدولة العثمانیة، سنة 1916، تأثیر غیر یسیر علی تهیئة الأفکار فی هذا الشأن و دفع الشباب الوطنی الی العمل المثمر، لا سیما و ان الثورة العربیة فی الحجاز کان قد اشترک عدد غیر یسیر من الضباط العراقیین فیها و اسهموا فی حملة فیصل علی الشام حتی أوصلوه الی عرشه فیها.
و فی غمرة هذه الأحداث و التطورات صدرت أوامر الحکومة البریطانیة فی لندن بأن یقوم وکیل الحاکم الملکی العام فی بغداد بالتعرف علی آراء العراقیین فی شکل الحکم الذی یریدونه، باجراء استفتاء عام حول النقاط التالیة:
1- هل یفضل العراقیون تأسیس دولة عربیة واحدة تستهدی بارشادات بریطانیة، و تمتد حدودها من حدود ولایة الموصل الشمالیة الی الخلیج؟
2- و فی هذه الحالة، هل یرون ان الدولة الجدیدة یجب أن یکون علی رأسها أمیر عربی؟
3- و اذا کان الأمر کذلک، فمن هو الذی یفضلون نصبه رئیسا للدولة؟
لکن رجال الاحتلال البریطانی فی العراق یومذاک، و علی رأسهم أرنولد ویلسن وکیل الحاکم الملکی العام، کانوا غیر میالین الی تأسیس أی شکل من أشکال الحکم الوطنی فی العراق علی ما یظهر. و لذلک بادروا الی اتخاذ التدابیر اللازمة للحصول علی نتائج استفتائیة تتفق و ما یرتأون، بالتأثیر علی الناس فی کل منطقة من مناطق العراق عن طریق الحکام السیاسیین البریطانیین الذین کانوا یعملون فیها، و بتزییف آراء الشعب و تحریفها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 336
و لما کانت العتبات المقدسة تعتبر ذات دور قیادی فعال فی هذا الشأن، بالنظر لوجود العلماء فیها و للوعی المتوثب عند أبنائها، فقد صدرت تعلیمات خاصة باستحصال نتائج مرضیة للانکلیز منها علی الأخص.
غیر ان مثل هذه النتائج «المرضیة» لم یکن من السهل استحصالها من العتبات. و فی هذا الشأن تقول المس بیل فی تقریرها المشار الیه قبلا ان المجتهدین فی کربلا و الکاظمیة حرموا علی المسلمین ان یصوتوا لغیر تشکیل حکومة إسلامیة، فبلغ الاختلاف حدا أوقف سیر الاستفتاء. لکنها تشیر بعد ذلک الی امکان استحصال بعض العرائض من الممالئین للانکلیز، فتقول «.. و قدمت بعد ذلک عدة عرائض یفضل فیها الموقعون علیها بقاء الإدارة البریطانیة، و کان بین الموقعین علیها شیوخ و رجال ذوو مکانة فی البلد ..» و المعروف فی هذا الشأن ان العلامة الأکبر المرزا محمد تقی الشیرازی أصدر فی کربلا فتوی تنص علی:
«لیس لأحد من المسلمین ان ینتخب و یختار غیر المسلم للامارة و السلطنة علی المسلمین. 20 ربیع الثانی 1337» و لذلک أخذ الکربلائیون ینظمون مضابط تعبر عن حقیقة رأی الناس فی حکم البلاد و تتفق مع مصلحتها، و لما وجدت السلطات البریطانیة فیها انها لم تکن قادرة علی تنفیذ ما ترید فی هذا الشأن ألقت القبض علی ستة من الوجهاء و أبعدتهم، و هم عمر الحاج علوان، و عبد الکریم العواد، و السید محمد علی الطباطبائی، و محمد علی أبو الحب، و السید محمد مهدی المولوی، و طلیفح الحسون. فاحتج المرزا محمد تقی علی ذلک احتجاجا خطیا شدید اللهجة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 337
و تعود المس بیل فتعطی تفصیلات أکثر عن الموضوع فی مذکرة سریة خاصة کتبتها فی شباط 1919، بعنوان «الحکم الذاتی فی العراق» .
إذ تقول ان التحریکات بقیت مستمرة مدة من الزمن فأصابت نجاحها الجزئی الآخر فی کربلا. فقد أصدر العالم الأکبر فی البلدة فتوی بتکفیر أی شخص یرغب فی تشکیل حکومة غیر مسلمة. فتردد رجال البلد البارزون بسببها فی الافصاح عن رأیهم کتابة، فی الوقت الذی کانوا یطمنون معاون الحاکم السیاسی فیه بصورة شفهیة عن موالاتهم لنا. اما العشائر التی لا یمکن تضلیلها بسهولة فقد طالبت بابقاء الإدارة البریطانیة من دون تبدیل. ثم تستمر فی تفصیل الوضع فی کربلا بالنسبة للعمل ضد الاستفتاء بحیث تتجاوز علی المرزا محمد تقی فی لهجتها، الأمر الذی یعد موضع فخر له بطبیعة الحال. فهی تقول «.. و کان ابرز شخصیة علی الاطلاق فی حرکة کربلا ابن المرزا محمد تقی المتقدم فی السن. و کانت منزلة محمد تقی فی العالم الشیعی لا تفوقها الا منزلة محمد کاظم الیزدی، لکنه کان یکاد یکون خرفا بحیث یستولی علیه بالکلیة ابنه محمد رضا الذی کان علی اتصال بمشاغبی النجف.»
و یؤید هذا کذلک الکاتب الأمریکی المستر فیلیب آیرلاند، فی کتابه المعروف عن العراق باسم (العراق- دراسة فی تطوره السیاسی) .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 338
فهو یقول «.. علی ان سیر الاستفتاء فی المناطق الأخری، و لا سیما فی المدن المقدسة مثل کربلا و النجف و الکاظمیة، و فی بغداد، لم یکن سهلا کما ان نتائجه لم تکن مرضیة علی الوجه المطلوب .. و أما فی مدینة کربلا فقد أصدر المجتهدون فتاوی تجعل کل من یرغب فی حکومة غیر مسلمة من الناس مارقا عن الدین. و بتأثیر هذه الفتوی تردد سکان المدینة فی اعطاء أی رأی کان. و عندما نظموا المضبطة المطلوبة کانت فیها آراؤهم علی غیر ما ارتآه النجفیون. و من حسن الحظ ان خطوات الاستفتاء فی النجف کانت قد أصبحت قطعیة و یتعذر النکوص عنها، بینما لم یحصل أی تقدم فی کربلا و لم یفصح أحد عن الآراء التی تکونت فیها رسمیا».
الامام المیرزا محمد تقی الشیرازی زعیم الثورة العراقیة الکبری‌

کربلاء تمهد للثورة العراقیة

و کانت حرکة الاستفتاء و مقاومتها بهذا المنوال سببا قویا فی تعاظم الحرکة الوطنیة، و توجیهها ضد السلطات الانکلیزیة المحتلة، و لا سیما فی کربلا التی اضطر فیها الانکلیز الی ابعاد عدد من رجالها البارزین. فقد تطورت الأحوال فی هذه المدینة المقدسة حتی استقطب فیها الکفاح الوطنی و قیادته، و علی الأخص بعد ان توفی العلامة السید کاظم الیزدی و أصبح حجة الإسلام المرزا محمد تقی الشیرازی المقیم فی کربلا هو المرجع الأعلی للشیعة. و بقی الحال علی هذا المنوال الی ان اندلعت نیران الثورة العراقیة فی 30 حزیران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 339
1920، و اضطلع بها رجال القبائل الفراتیة التی کانت تتلقی الرأی و المشورة من کربلا و غیرها من المدن المقدسة فی الدرجة الأولی. و تقول المس بیل فی هذا الشأن (تقریرها المشار الیه قبلا) ان القلاقل و الاضطرابات العلنیة قبل ان تحدث فی بغداد کان العنصر الدینی الشیعی فی المدن المقدسة ینهمک فی حبک الدسائس لها ضد السلطات الحاکمة. و ان وفاة السید کاظم الیزدی قد أدت الی انتقال السلطة الدینیة فی العالم الشیعی الی أیدی المرزا محمد تقی المتقدم فی السن، الذی کان یقوده فی جمیع شؤونه ابنه محمد رضا. و کان هذا رجلا سیاسیا فعالا لا یستقر علی حال، و معارضا للاتفاقیة الایرانیة- البریطانیة معارضة عنیدة مرة، و لذلک کرس جهوده و مساعیه لمناوأة الحکومة البریطانیة فی العراق. و مع انه لم تکن له منزلة دینیة، و حتی لم یکن یعترف به کعالم، فانه کان یتمتع بالاحترام الذی کانت تعامل به أسرة المجتهد الأکبر فی البلاد، و قد جعله تأثیره علی أبیه مرجعا أعلی فی الرأی کذلک.
و فی خریف 1919 أدی اکتشاف مؤامرة لقتل الضباط البریطانیین و الموظفین فی کربلا الی توقیف بعض الأشخاص، لکن اولئک المشبوهین أطلق سراحهم بکفالة المرزا محمد تقی نفسه فعادوا الی سیرتهم الأولی فی الحال. و شجع هذا الحادث علی حبک الدسائس بدلا من إیقافها عند حدها.
و فی أوائل مارت 1920 قیل ان المرزا محمد تقی أصدر فتوی یحرم فیها توظف المسلمین فی الادارة البریطانیة، فکتب الحاکم السیاسی فی الدیوانیة یقول ان جثة أحد أفراد الشبانة المقتولین لم یسمح بدفنها بموجب القواعد الشیعیة المتبعة، و ان الاستقالات من خدمة الحکومة أخذت تزداد یوما بعد یوم. و بعد ان نودی بملکیة الأمیر عبد اللّه علی العراق فی دمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 340
یوم 9 آذار طلب الی شیوخ جمیع القبائل الفراتیة ان توقع علی وثیقة یطلب فیها منه ان یتوجه لتسلم مملکته. و المعتقد ان عریضة بهذا المعنی بعثت الیه من الشامیة بالفعل. و حینما بلغت حرکة بغداد الوطنیة أشدها تضاعفت جهود الوطنیین فی کربلا. فوصلت إلی القبائل و سکان المدن کتب لا یحصی عددها تحمل تواقیع المرزا محمد تقی، مفادها ان الوقت قد حان للقیام بحرکة متناسقة واحدة تسیر بموجب خطوط دستوریة من أجل تشکیل حکومة مسلمة، و تدعوهم الی ارسال ممثلین عنهم فی بغداد. و لذلک لم یکن یخلو الوضع من عوامل مهیجة تدعو إلی الثورة، لأن شیوخ منطقة الحلة البارزین کذلک صمدوا تجاه هذه التحریکات لکنهم أعربوا عن تخوفهم الشدید من ان الحالة اذا قدر لها ان تستمر علی ما کانت علیه فلن یکون بوسعهم السیطرة علی قبائلهم.
هذا و قد وجدت من المناسب ان أدرج فیما یأتی نص الکتاب الذی و زعت نسخه بعدد لا یحصی علی ما تقول المس بیل نفسها:
الی إخواننا العراقیین
السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته. اما بعد فان إخوانکم فی بغداد و الکاظمیة و کربلا و النجف، و غیرها من أنحاء العراق قد اتفقوا فیما بینهم علی الاجتماع و القیام بمظاهرات سلمیة. و قد قامت جماعة کبیرة بتلک المظاهرات، مع المحافظة علی الأمن طالبین حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء اللّه بحکومة إسلامیة. و ذلک بأن یرسل کل قطر أو ناحیة الی عاصمة العراق وفدا للمطالبة بحقه متفقا مع الذین سیتوجهون من أنحاء العراق عن قریب إلی بغداد. فالواجب علیکم بل علی جمیع المسلمین الاتفاق مع إخوانکم علی هذا المبدأ الشریف، و إیاکم و الاخلال بالأمن و التخالف و التشاجر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 341
بعضکم مع بعض، فان ذلک مضر بمقاصدکم و مضیع لحقوقکم التی صار الآن اوان حصولها فی أیدیکم. و أوصیکم بالمحافظة علی جمیع الملل و النحل التی فی بلادکم فی نفوسهم، و أموالهم، و أعراضهم، و لا تنالوا احدا منهم بسوء أبدا. وفقکم اللّه جمیعا لما یرضیه، و السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته».
کربلا فی 9- 10 رمضان 1338 الاحقر محمد تقی الحائری الشیرازی
و یبدو من ماجریات الأحوال فی کربلا، و مما عرف عن أخبار بغداد و النجف و القبائل فی الفرات الأوسط، و من کتاب حجة الاسلام الشیرازی هذا، أن خطة ما قد وضعت لاضرام الثورة فی الفرات الأوسط و غیره یتزعمها العلماء الأعلام فی کربلا و النجف و الکاظمیة و علی رأسهم العلامة الشیرازی، و ان میثاقا خاصا قد تم التوصل الیه و تم توقیع شیوخ العشائر الفراتیة علیه. کما یلاحظ ان حلقة الوصل بین مختلف الفئات التی المیرزا محمد رضا نجل الامام المیرزا محمد تقی الشیرازی کانت تعمل من أجل الثورة و تدبر شؤونها کان المرزا محمد رضا نجل الامام الشیرازی المقیم فی کربلا. و لذلک اضطرت السلطات البریطانیة الغاشمة الی ملاحقته و اعتقاله عدة مرات.
و یؤید هذا ما ورد فی کتاب المستر أیرلاند الذی یقول ان الحرکة الوطنیة لم تتبلور الاتدریجیا فی خلال 1919. فقد اشتدت التحریکات الدینیة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 342
العتبات المقدسة ضد البریطانیین و أصبحت أشد عداء لهم حینما تولی قیادتهما المیرزا محمد رضا بن المیرزا محمد تقی الشیرازی المجتهد الأکبر الجدید الذی کان خاضعا لتأثیر ولده بالکلیة، بعد ان بقیت تلک العتبات هادئة هدوءا نسبیا مدة حیاة المجتهد الأکبر السید کاظم الیزدی الذی کان یقبض المنح الکبیرة من «الادارة الملکیة» . و قد زعم البعض ان المیرزا محمد رضا کان علی اتصال مع البلاشفة و الأتراک. فأوقف هو و المشترکون معه فی أیلول 1919 بتهمة إثارة القلاقل، غیر انه أطلق سراحه بکفالة أبیه. و یلاحظ من قول آیرلاند هذا انه استمد المعلومات من المصادر الانکلیزیة بطبیعة الحال بعد ان أدخل علیها شیئا من التحویر. و لذلک نجده یشیر الی اتصال المیرزا محمد رضا بالبلاشفة و یعتبره زعما، بینما تعتبر التقاریر الانکلیزیة ان ذلک کان شیئا أکیدا.
ثم یذکر المستر آیرلاند فی مناسبة أخری قوله ان هیاج بغداد بینما کان یشتد و یتعاظم قبل وقوع الثورة العراقیة، کان علماء الشیعة فی المدن المقدسة یضاعفون جهودهم فی اثارة القبائل و الناس فی مراکز الألویة، فنشرت المناشیر الطویلة، و الرسائل و الوثائق التی کان یحمل قسم منها التوقیع المزور للمجتهد الأکبر المیرزا محمد تقی فی کربلا. و قد کانت هذه تناشد المؤمنین الصادقین ان یهبوا للدفاع عن بیضة الاسلام ضد الکفار، و تستحثهم علی إرسال المندوبین الی بغداد لتشکیل حکومة إسلامیة. و وقّع عدد من الشیوخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 343
علی میتاق یجمع القبائل علی الثورة فی وقت واحد .
و حینما یتابع آیرلاند وصف الحالة التی کانت علیها الألویة الجنوبیة قبل الثورة یقول: و یستبان بأن خطط الثورة کانت قد وضعت بصورة أکیدة فی کربلا فی منتصف حزیران (1920) عندما کانت جماعات من الوجهاء و شیوخ العشائر تؤدی واجب الزیارة هناک. و فی اجتماع عشائری عقد بعد ذلک فی الشوملی اتفق کبار شیوخ البلاد الکائنة ما بین الشنافیة و الحلة علی أن ینضووا تحت لواء السید محمد الصدر و یوسف السویدی . و بذلک أصبحت القبائل و البلدان فی حالة اضطراب متزاید بنتیجة التحریضات المنبثة من بغداد و المدن المقدسة و سوریة. فأخرج قطار عن سکته فی أوائل مایس، کما أخرجت قطارات أخری علی مقربة من الحلة فی أوائل حزیران، و أخذ الموظفون العرب یستقیلون من خدمة الحکومة واحدا بعد آخر. ثم ازدادت الصعوبة فی جبایة الضرائب عن الحاصلات الشتویة. و فی شطرة المنتفک نصح الکابتن مید معاون الحاکم السیاسی فی 17 مایس بأنه اذا ما أصر علی قیاس المساحات المزروعة بالحبل أو السلسلة فسوف یجابه بقوة و عنف.
و قد أدی توقیف ستة من المشاغبین فی الحلة الی زوال التوتر الذی کان سائدا فیها، غیر ان توقیف المیرزا محمد رضا فی کربلا و تسفیره الی هنجام مع تسعة آخرین منها فی 29 حزیران قد شددا من خطورة الموقف فی الفرات الأوسط کله. و لم یجد توقیف الحاج مخیف فی الدیوانیة نفعا فی ایقاف الوضع عن التدهور. فقد ظهرت امارات الاضطراب فی کل مکان، و کان من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 344
الواضح ان الوضع قد أصبح لا یعوزه غیر الشرارة لاشعال نار الثورة العارمة.
أما المس بیل فتکاد تؤید ما جاء به آیرلاند فی هذا الشأن لکنها تختلف عنه فی الاسلوب الذی تتوخی منه الدس و الحط من شأن المشتغلین فی الحرکة الوطنیة بطبیعة الحال. فهی تقول : «.. و هناک أعلن خطیب له اتصال برجال بغداد ان البریطانیین سیجلون عن البلاد فی عید الفطر، کما نشرت معلومات مماثلة بین القبائل التی طلب الیها التعجیل باعلان الثورة و النهب (؟) و اتبعت فی کربلا نفس الأسالیب التعبویة مقرونة بالمساعی المضنیة التی کانت تبذل من أجل الحصول علی التواقیع للمیثاق الذی ارتبطت به جمیع العشائر العراقیة و تعهدت بالوقوف صفا واحدا لنیل حقوقها. و کان الوضع یزداد حراجة بسرعة، و فی 22 حزیران أوقف المرزا محمد رضا بن المجتهد الأکبر مع تسعة من أتباعه و أعوانه، بعد أن أوقف فی الحلة قبل بضعة أیام ستة من الشخصیات غیر البارزة .. و کان معظم العلماء قد رفضوا الاشتراک مع المرزا محمد رضا فی الحملة التی وضع خطتها . و قد تسلمنا بعضا من کتب الاحتجاج أو التوسط له منهم، لکنه أطلق سراحه بتوسط الحکومة الایرانیة بعد ان قضی حوالی الشهر فی المعتقل و سمح له بالسفر الی ایران.
و من المهم ان نذکر هنا ان المرزا محمد رضا قد ورد اسمه مذکورا فی برقیة صدرت من البولشفیک فی رشت بأنه کان «یشتغل للدعوة البولشفیة فی کربلا» . و المعروف فی المراجع العربیة ان الذین اعتقلوا مع المیرزا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 345
محمد رضا فی کربلا کانوا: عبد الکریم العواد، و محمد شاه الهندی، و أحمد القنبر، و عمر الحاج علوان، و عثمان الحاج علوان، و السید محمد علی الطباطبائی، و السید أحمد البیر، و الشیخ کاظم أبو ذان، و عبد المهدی القنبر، و الشیخ هادی کمونة، و ابراهیم ابو والدة.
و تقول المس بیل کذلک ان الدعایة الشدیدة للثورة فی الوقت نفسه کانت تبث من کربلا و بغداد و تنتشر فی الدیوانیة عن طریق الشامیة. و یبدو ان خطة معینة قد وضعت للثورة، حیث زار کربلا فی العید الذی صادف وقوعه فی منتصف حزیران عدد کبیر من الشیوخ و الوجهاء. و جری فی أواخر حزیران اجتماع عشائری فی الشوملی الکائن علی الفرات فی شمال الدغارة حضره کبار الرؤساء من الحلة الی الشنافیة فقرروا بالاجماع السیر وراء السید محمد الصدر و یوسف السویدی. و کان أکثر الأشخاص نشاطا فی تنفیذ الخطة فی الدیوانیة الحاج مخیف ... و یؤید أرنولد ویلسن ، وکیل الحاکم الملکی العام الذی أدی سلوکه الخشن الی التعجیل باضرام نیران الثورة، جمیع النقاط المارة فی هذا الشأن لکنه یعمد علاوة علی ذلک الی تحلیل وضع الامام الشیرازی بلهجة نابیة لا یستغرب صدورها من مثله فی تلک الأیام، لأن العلامة الأکبر هو الذی تزعم الثورة فکانت وبالا علی ویلسن و دولته المعظمة. ثم یعمد کذلک الی مدح المرزا محمد خان بهادر، معاون الحاکم السیاسی فی کربلا خلال تلک الفترة العصسة، و یشید بذکره و تقدیر مواقفه الصعبة فی کربلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 346
فهو یقول «.. و مع ان المشاکل و الصعوبات التی واجهناها فی النجف کانت مشاکل عظیمة، فان المشاکل و المصاعب التی ترتب علینا أن نواجهها فی کربلا کانت تساویها، اذا لم تکن تزید علیها، حیث أقدمت الشرطة المحلیة علی اعتقال عشرة من الوجهاء فیها یوم 22 حزیران بمساعدة المرزا محمد خان بهادر الذی کان یمثل الادارة المدنیة فی معقل التعصب الدینی هذا.
و کان من بین المعتقلین ابن المجتهد الأکبر المرزا محمد تقی، الذی بذلت محاولات عدة لأحصل منه علی انکار الوثائق المتعددة الموزعة بین العشائر بتوقیعه المزور فلم انجح. و قد کان هذا الرجل العجوز، علی حد تعبیر (غیبون) فی وصف البابا لیو التاسع، قدیسا بسیطا ذا مزاج میال جدا الی تضلیل نفسه و العالم. و شخصیته و قورة کثیرا ما تتخذ باسم التقوی و التدین تدابیر بعیدة جد البعد عن واقع الدین.!! قد أبدی قبل عدة أشهر أقل ما یمکن من المجاملة لشاه ایران حینما قدم للزیارة فی کربلا، لما کان یدور فی مخیلته من ادعاءات دنیویة یعتقد أنها ملازمة لمرکزه الدینی المرموق. علی انه فی الحقیقة کان قد رفض التوقیع علی فتوی تدعو أتباعه المسلمین، الذین تدخل فی ضمنهم عشائر الفرات و دجلة السفلیین جمیعها الی الجهاد فی جانب الأتراک.
و قد رفض کذلک حتی إعلان حالة الدفاع رسمیا بین أتباعه، و هی الحالة التی یصبح من واجب المسلم فیها ان یتخذ إجراءات الدفاع ضد أعداء الإسلام الروحیین او المدنیین، فی حالة تعرضه لخطر الکفار. و مع هذا فحینما زوّر توقیعه علی الوثائق المذکورة لم تکن عنده الشجاعة الکافیة، أو القناعة، لاعلان تنصله منها. و مع هذا لم یکتب له العیش بحیث یتسنی له ان یشهد الانتکاسات التی مسنی بها اتباعه المضللون (بفتح اللام) بعد ذلک بأشهر معدودة، لکن التحسس بالطائفیة الذی کان هو و أصدقاؤه أبرز مفسریه و واضعی نهجه ظل إلی ما بعد عقد کامل من السنین مصدرا للحیرة و الارتباک اللذین کانت تتورط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 347
بهما الحکومة الوطنیة فی العراق بین حین و آخر.»
اما المرزا محمد خان بهادر، معتمد السلطات البریطانیة المحتلة فی کربلا، فبعد ان یشیر و یلسن الی ثقافته و علمه و نشأته فی بوشهر، و الی اشتغاله مع الانکلیز فی مقیمیة الخلیج و اشتراکه فی مفاوضات عمان باشراف السیر بیرسی کوکس، یقول انه کان علیه فی موقفه الصعب ان یتحمل تأنیبات أبناء وطنه له و تهدیدات الوطنیین الذین کانوا أکثر قوة فی کربلا منهم فی النجف.
لأن أسالیبهم کانت علی جانب أکبر من الدهاء و المکر، و لأن المطبعة کانت مسخرة لهم علی الدوام لتخرج صفحات طویلة عریضة من المنشورات و المطبوعات التی کانت تنشر ببراعة و تفنن.
فقد نشر أحد هذه المنشورات و هو یدق علی وتر الصلیبیة، و یعرض الخطاب الذی خاطب به لوید جورج اللورد اللنبی فاتح فلسطین، معتبرا حملته فیه «آخر الحملات الصلیبیة و أعظمها شأنا فی التاریخ». کما ذکر شیئا کثیرا عن المذابح و الشناعات البربریة التی اقترفها الصلیبیون الأولون، و دعا جمیع المسلمین الی امتشاق الحسام ضد المحاولات الخبیثة التی تقوم بها الدول المسیحیة فی فلسطین أو سوریة أو العراق للقضاء علی الدین الإسلامی بالطرق و الأسالیب المختلفة .. و قد کان لمثل هذه الاستفزازات بعض التأثیر فی کربلا، لکنها لم یلتفت لها فی الأماکن الأخری لأنها خرجت عن الحد المألوف. و یبدو ان البولشفیة أیضا قد وجدوا ضالتهم الروحیة لوقت ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 348
فی کربلا، فلم یدخلوا فی برنامجهم تحریر القومیات و الشعوب المستعبدة فقط بل أدخلوا أیضا قضیة القضاء علی الملاکین و الاقطاعیین و أصحاب الحظوة و الامتیاز فی المجتمع. علی أن التعریض الصریح بالأطماع العشائریة کان أکثر مما یتحمله القادة الوطنیون الذین سرعان ما أخذوا یتملصون من مثل هذا الحلیف المخطر برغم ما جاء به من مساعدات مالیة غیر یسیرة. و قد کان یعمل فی کربلا وکلاء عدة دول أخری کذلک، و منها بعض الدول الحلیفة، لکنهم لم یحرزوا نجاحا یذکر لأنهم کانت تعوزهم البراعة و المعرفة الکافیة فی استثمار الأموال الموضوعة تحت تصرفهم و استغلالها فی المجالات و الأسالیب الناجعة.
و یعود ویلسن الی المرزا محمد خان بهادر فیقول انه استطاع ان یسیر فی ذلک الخضم المتعالی من الأحداث علی خط مستقیم. فمع انه کان علی علم تام بأسالیب المکر و الخدیعة التی یعتبرها الدیبلوماسیون الشرقیون شیئا معجبا فقد استطاع، کما فعل آغا حمید خان فی النجف، ان یحصل علی سمعة طیبة لدی الاصدقاء و الأعداء معا بالسلوک المشرف الذی لا یمکن أن ینسی طالما وجد علی قید الحیاة أناس یمکنهم ان یعودوا بالذاکرة الی تلک الأیام المضطربة فیقلبوا صفحاتها. و لذلک کان انسحابه من کربلا شیئا یخلو من المضایقة، فأعقبه فی 14 آب قطع الجدول الذی کان یأتی بالماء العذب إلی البلدة المقدسة. و لم یکن لهذه الخطوة أی تأثیر یذکر علی تطور الحوادث و سیرها، لکن الجنرال (هولدین) یذهب إلی القول بأن انقطاع الماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 349
فی هذا الجدول کانت له نتائج خطیرة ...
و فی برقیة مفصلة بعث بها السر أرنولد ویلسن هذا إلی الجهات المختصة فی لندن، حینما استفسرت منه برقیا (فی 5 آب) عن أسباب نشوب الثورة العراقیة التی انفجرت فی 30 حزیران 1920، ذکر النقاط المار ذکرها کلها. لکنه اضاف الی ذلک تأکیده علی ان تأثیرات أجنبیة غیر یسیرة أخذت تعمل عملها فی کربلا، و ان مبالغ طائلة قد وزعت فیها. و یقول بهذه المناسبة ان سبعة آلاف لیرة ترکیة ذهب قد وصلت الی أیدی المتطرفین فی کربلا خلال شهری مایس و حزیران.
و یضیف إلی ذلک قوله أیضا ان العشائر کانت قد حملت علی الاعتقاد بأن الثورة هی جهاد مقدس، و ما یزال المجتهد الأکبر فی کربلا یدعو بکل نشاط إلی الجهاد فی سبیل اللّه، و قد بعث بالمئات من الوکلاء و الرسل إلی جمیع أنحاء الفرات الأوسط لیدعو الناس إلی الثورة .
و قبل الانتهاء من هذا البحث الخطیر أرجو ان لا یفوت القاری‌ء الکریم ان المسؤولین البریطانیین، مثل ویلسن و المس بیل و غیرهما، کانوا یحاولون فیما یکتبون و یزعمون الحط من قیمة الحرکة الوطنیة و رجالها بکل الوسائل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 350
الممکنة. فقد کانوا تارة یعزونها إلی تحریکات أجنبیة ترکیة أو بولشفیة أو حتی حلیفة، و تارة أخری کانوا یعتبرونها حرکة دینیة یدفعها التعصب الدینی الضیق و طمع العلماء الأعلام فی الاستئثار بالسلطة لأنفسهم. و لا شک أنهم کانوا یستکثرون بذلک علی البلاد بوجه عام ان یستیقظ فیها الروح الوطنی و تنتعش فی أبنائها القومیة الحقة فتهب للمطالبة باستقلالها و تحقیق آمالها بالتخلص من الاحتلال الأجنبی الذی أخذ یرهق کاهلها. کما کانوا یستبعدون ان یکون بین علماء الأمة و عقلائها من یتصدی لقیادتها و یرشدها الی السواء السبیل.
و لذلک نری ویلسن و المس بیل یذکران بأن الفتاوی و المناشیر التی کانت توزع بتوقیع الامام الشیرازی کانت تحمل تواقیعه المزورة. و لا یخفی ما کان فی هذا الافتراء من دس مقصود یتجاهلون فیه بأن قیادة الثورة کانت فی یده، و ان النسخ الکثیرة التی کانت تستنسخ خطیا بعلم منه کانت تحمل اسمه الکریم فی أسفلها و لیس توقیعه المزور کما یدعون. و علی کل فلیس من المستغرب ان یصدر هذا و غیره من مثل هؤلاء لأن الثورة العراقیة قلبت الخطط البریطانیة رأسا علی عقب و أفسدت علی رجالها أحلامهم المزوقة، و آمالهم المعسولة.

بعد الثورة

و کانت الثورة العراقیة التی مهدت لقیامها مدینة سید الشهداء قد أثبتت للعراق موجودیته، و برهنت للرأی العام البریطانی و حکومته بأن هذه البلاد لا یمکن ان تدار کما تدار سائر المستعمرات. و لذلک قررت الحکومة البریطانیة ان تعمل علی تشکیل حکم وطنی فی العراق، بالشکل الذی تریده، فأعادت الیه السیر بیرسی کوکس بعد ان کانت قد عینته سفیرا لها فی ایران، و عهدت له بهذه المهمة الشاقة. و کان علیه منذ ان و طأت قدماه الأرض فی العراق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 351
من جدید أن یعمل علی تهدئة الحال بالحسنی، و ینهی حالة الثورة فی البلاد قبل أی شی‌ء آخر. لکنه اصطدم فی هذه المهمة بصخرة العلماء الذین آلی الثوار علی أنفسهم فی الفرات الأوسط ان لا یلقوا السلاح إلا برأیهم، و لا یقطعوا بأمر من أمور الصلح قبل ان یعرضوه علیهم.
فکان موقف السیر بیرسی کوکس فی هذا الشأن کما یصفه کتاب المستر آیرلاند الذی أشرنا الیه من قبل. فهو یقول «.. و کان السیر بیرسی کوکس قد ترک فکرة تأدیب القبائل بشدة، علی أنه کان یعتقد اعتقادا جازما بأنهم یجب ان یجبروا علی الخضوع حتی اذا تطلب الأمر إستعمال القوة من جدید و لیست هناک طریقة أخری غیرها تجردهم من السلاح او تعید سلطة الحکومة إلی نصابها. و لذلک وقف بعزم و صلابة .. فی وجه الطلبات المتکررة التی کانت تأتی من رؤساء الدین فی کربلا و النجف بجعلهم وسطاء لدی القبائل التی طلبت هی نفسها ان تکون المفاوضات عن طریق المجتهد الأکبر الذی لا یلقون سلاحهم إلّا بأشارة من عنده. و برفض الاعتراف بمطالیب رجال الدین الشیعة، ضرب السر بیرسی کوکس ضربته الأولی بالنیابة عن الحکومة الجدیدة التی کانت قوة الحل و العقد التی یمسکها العلماء بأیدیهم تکوّن عقبة کأداء فی طریقة تشکیلها». و المعروف ان أهم الشیوخ الثائرین الذین کانوا یطالبون بمثل هذا هم عبد الواحد الحاج سکر شیخ مشایخ الفتله، و مرزوق العواد شیخ العوابد.
و یتابع المستر آیرلاند قوله فی هذا الشأن فیقول إنه وجد من الضروری تأجیل اعلان العفو العام الذی طالب به مجلس وزراء الحکومة الموقتة التی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 352
ألفها النقیب لیسهل أمر التهدئة فی البلاد الی أن تقدم العشائر خضوعها و تحل القضایا السیاسیة الأخری. علی ان المندوب السامی (کوکس) وافق علی اقتراح المجلس فی 9 تشرین الثانی 1920 باطلاق سراح ستة عشر مبعدا من المبعدین السیاسیین الذین کانوا قد سفروا الی هنجام علی عهد الادارة السّابقة لقاء ضمانات معقولة. و لا شک ان هؤلاء کان بینهم عدد من الکربلائیین و حینما تألفت الحکومة الموقتة برآسة نقیب الأشراف السید عبد الرحمن الکیلانی لم یکن بینها و لا وزیر شیعی واحد (مع وجود وزیر یهودی مهم هو ساسون حسقیل)، فشعر المندوب السامی بأن ذلک لا یسهل مهمته فی تهدئة الفرات الأوسط و المدن المقدسة علی ما یروی المستر آیرلاند.
و لهذا وجد ضرورة للتصلب أمام مجلس الوزراء فی تعیین الموظفین الشیعة فی الأماکن التی یکثر وجودهم فیها علی الأقل.
«و بعد تقنیعات لا یستهان بها وجد مکان السید محمد مهدی الطباطبائی اول وزیر معارف فی الحکومة العراقیة فی مجلس الوزراء لوزیر شیعی، فنیطت وزارة التربیة بالسید محمد مهدی الطباطبائی الکربلائی.» و بذلک یکون اول وزیر استوزر من الشیعة فی العراق، وزیر من هذه المدینة المقدسة.
و إتماما لمشروع تشکیل نوع من أنواع الحکم الوطنی فی العراق قررت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 353
الحکومة البریطانیة، بعد مؤتمر عقد فی القاهرة برآسة المستر تشرشل و حضور السر بیرسی کوکس، و المس بیل، و ساسون حسقیل، و جعفر العسکری من العراق، ان تسمح للأمیر فیصل بن الحسین شریف مکة بأن یرشح نفسه لعرش العراق، و حملته طرادة بریطانیة الی البصرة فوصل الیها فی 23 حزیران 1921، و بعد اسابیع ثلاثة نادی به مجلس وزراء الحکومة الموقتة ملکا علی العراق بالاجماع. غیر انه برغم الاستقبال الحافل الذی استقبل به فی البصرة لاحظ وجود فتور واضح فی استقباله فی محطات القطار الکائنة علی طول الطریق ما بین البصرة و بغداد. «.. اما کربلا فان القائممقام الهندی، الذی کانت عقیدته ضعیفة فی الحکم الذاتی للعرب، کان قد ترک البلدة قبل وصول فیصل إلیها بیوم واحد من دون ان یستدل منه علی الموقف الرسمی بالنسبة للاستقبال. علی أنه عاد الی کربلا بعد التداول مع المندوب السامی و حاول ان یهی‌ء استقبالا لائقا لکن ذلک لم یکن بدافع الرغبة الشخصیة. و لذلک بقی العلماء مبتعدین بصورة تلفت النظر. و کان العلماء فی النجف متحفظین اذا لم یکونوا قد اتخذوا موقفا عدائیا تجاهه.» و یقول آیرلاند کذلک:
ان فتور الحماس فی الاستقبال و عدم اتخاذ الاستعدادات الکافیة فی مناطق الفرات الأوسط و الجنوبی کان یعزی إلی میل مستشار الداخلیة الانکلیزی یومذاک (المستر فیلبی)، الذی کان مسؤولا عن اجراء هذه الترتیبات، الی الجمهوریة و عدم میله الی الشریف و أبنائه. و یستند فی ذلک علی خلاصة تاریخیة کان السر بیرسی کوکس قد کتبها لرسائل المس بیل المعروفة عند نشرها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 354
و حینما أجری الاستفتاء العام فی البلاد لانتخاب الأمیر فیصل ملکا علی العراق، کما قرر مجلس الوزراء فی 11 تموز، و نجح فیه بنسبة 96% کان لواء کربلا کله من المصوتین علی تنصیبه فی الملکیة. إذ یقول المستر آیرلاند «.. اما فی الألویة الأخری فقد تم الاستفتاء بهدوء. فقد وقعت الصیغة الرسمیة من دون إضافة شی‌ء علیها فی کربلا و النجف، و ذلک بفضل الحذق و المثابرة اللذین أبداهما المتصرف» .

الموظفون الانکلیز فی کربلاء

و بانتهاء عهد الاحتلال و تشکیل الحکم الوطنی الذی وضع أسسه الملک فیصل الأول بالاشتراک مع الانکلیز یجدر بنا هنا ان نورد أسماء الموظفین الانکلیز الذین اشتغلوا فی کربلا خلال تلک المدة منقولة عن القائمة التفصیلیة الموجودة فی ضمن ملحقات کتاب السر أرنولد ویلسن المشار الیه من قبل .
فقد عین المیجر أیج سی (بولی) معاون حاکم سیاسی فی کربلا بتاریخ 15- 9- 917 نقلا من بغداد، و بقی فیها حتی نقل الی بوشهر. ثم عین الکابتن ن. أی. (بری) فی الوظیفة نفسها بتاریخ 5- 5- 918، و بقی فیها حتی نقل الی البحرین. و قد حل فی محله بعد ذلک المیجر دبلیوجی (بوفیل) الذی تعین بتاریخ 5- 11- 918، و استمر فی وظیفته هذه حتی نقل إلی طویریج بتاریخ 7- 9- 919. ثم أشغل هذه الوظیفة بعد ذلک المیرزا محمد خان بهادر منذ 14- 9- 19 حتی نقل الی بغداد بتاریخ 15- 8- 920. و کان محمد سروار خان رسلدار الهندی یشتغل فی معیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 355
معاون الحاکم السیاسی فی کربلا منذ 24- 1- 919 حتی 12- 9- 19 حین نقل إلی الکاظمیة.
و قد اشتغل فی کربلا عدد من الموظفین الانکلیز فی الدوائر غیر السیاسیة کذلک. فقد عین اللفتنانت سی أی روبی معاون ضابط ریّ بتاریخ 1- 4- 19 و ظل یشتغل فی وظیفته هذه حتی نقل الی المسیب، فتعین بعده المستر أی أیس (منزیس) فی 23- 6- 19 نقلا من المسیب أیضا. و فی 27- 3- 19 تعین الدکتور مرسیدی جراحا مدنیا فی کربلا، و ظل فیها حتی نقل الی بغداد فی 22- 8- 920. هذا و قد وجدت بین الأسماء الانکلیزیة أسماء بعض الموظفین العراقیین کذلک. و منهم الشیخ محمد فاضل الذی عین نائبا فی المحکمة الشرعیة الجعفریة بتاریخ 6- 1- 920.

مؤتمر کربلاء

و ما ان تسنم الملک فیصل الأول العرش فی بغداد حتی نشأت قضیة تحدید العلاقات بین العراق و بریطانیة العظمی بشکل معاهدة ترسم فیها الخطوط العریضة لهذه العلاقات و تنظیمها. و کان من رأی بریطانیة ان تکون هذه المعاهدة وسیلة لتبدیل الانتداب الذی منحته لها عصبة الأمم، و تنظیم علاقاتها التی تؤمن مصالحها فی العراق بأقل کلفة ممکنة. و لذلک استقر رأیها علی ان تضمّن المعاهدة فی جملة ما تضمنه معظم بنود الانتداب التی تؤمن موقفها تجاه العصبة فی هذا الشأن. و قد علم الرأی العام العراقی، و المحافل الوطنیة، بهذه القیود فثارت ثائرة المعارضة و العلماء فی العتبات المقدسة، و أخذت الحرکة الوطنیة تنظم صفوفها لمقاومة المعارضة و الحیلولة دون عقدها و التوقیع علیها.
فحدثت فی هذه الأثناء اعتداءات الاخوان الوهابیین المتکررة علی حدود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 356
العراق الجنوبیة بصورة أثارت الرعب و الفزع بین طبقات السکان فی الألویة الوسطی و الجنوبیة من العراق علی الأخص. و عقدت اجتماعات فی النجف تقرر علی أثرها ان یطالب العلامة الأکبر الشیخ مهدی الخالصی فی الکاظمیة بعقد مؤتمر عراقی عام فی کربلا یدعی الیه نخبة من وجوه الناس و شیوخ العشائر العراقیة کافة فی یوم 11 نیسان 1922. فتم ذلک بعد ان أوجست السلطات العراقیة و البریطانیة خیفة منه، و حاولت عرقلته من بعید. لکن قادة الحرکة الوطنیة استغلوا هذا الاجتماع فعمدوا الی المذاکرة فی توحید الجهود من أجل العمل علی استحصال الحقوق المشروعة للبلاد و عدم تصدیق المعاهدة بالشکل الذی کان یریده الانکلیز، و معظم أعضاء الوزارة النقیبیة یومذاک.
و یقول المستر آیرلاند فی هذا الشأن «.. و قد رحب بالاجتماع العظیم الذی اجتمع فیه الوطنیون، أهل السنة و الشیعة، من جمیع أنحاء العراق فی کربلا بتاریخ 12 و 13 نیسان 1922. و قد دعا الی عقده الشیخ مهدی الخالصی، و الغرض الظاهری منه النظر فی التدابیر الدفاعیة اللازمة لصد الوهابیین الذین أحدثت غاراتهم فی أوائل مارت هیاجا عاما و انفعالا عصبیا فی جمیع انحاء العراق. فاعتبر هذا الاجتماع أعظم أهمیة من المجلس التأسیسی المرتقب لأنه اجتمع برغبة الأمة من دون تأثیر الحکومة علیه.
و برغم ان جلسات الاجتماع الرسمیة لم تؤد الا الی نتائج قلیلة الأهمیة لا تتعدی تقدیم العرائض المعتدلة التی حلت محل المطالیب المتطرفة الأصلیة، فان الاجتماعات الخاصة التی عقدت بمناسبته کانت أکثر جدوی و انتاجا.
فقد نتج عن هذه الاجتماعات تنظیم الکثیر من الحرکات التی وقعت بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 357
ذلک ..» و قد استند المستر آیرلاند فی نبذته هذه علی ما جاء فی جریدة الأوقات البغدادیة (عدد 17 نیسان 1922) التی کانت تصدر بالانکلیزیة حینئذ، و تمثل وجهة نظر السلطات المحتلة.
الإمام الشیخ مهدی الخالصی
و یذکر المستر لونکریک صاحب کتاب (اربعة قرون ..) فی کتابه المهم الثانی الموسوم (العراق بین 1900 و 1950) أن المداولة فی المعاهدة بینما کانت تجری فی اوائل 1922 فی مجلس الوزراء، کانت طبقات الرأی العام قد اتضح موقفها تجاهها. فقد أخذ الوطنیون المتطرفون، و من ضمنهم علماء الشیعة و المؤیدون البارزون للملک و حتی المتصلون به اتصالا وثیقا، ینادون عالیا ضد عبودیة الانتداب و یطالبون بالجلاء البریطانی التام.
و طالب الوطنیون المعتدلون، الذین کان الملک یشارکهم الرأی، بالغاء الانتداب و عقد معاهدة صداقة بین الفریقین علی أسس متساویة، و استمرار العون البریطانی للعراق. و أصبح الاختلاف فی الرأی أکثر وضوحا و تخصصا بعد ان دعا الی عقد مؤتمر فی کربلا خلال نیسان 1922، للاحتجاج علی غارات الاخوان فی الظاهر، الشیخ مهدی الخالصی أحد علماء الشیعة المنصرفین موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 358
الی الاشتغال فی السیاسة. و کانت الأحزاب المعتدلة تنظر بعدم ارتیاح إلی هذا المؤتمر الذی اجتمع فیه مئتان من وجهاء الشیعة و علمائهم و شیوخ عشائرهم.
و برغم القرارات غیر المجدیة التی اتخذها فی النهایة، فقد وحّد المؤتمر المجتمعین و جمعهم حول معارضة المعاهدة و العمل علی مناوءتها.
و المعروف فی المراجع العربیة ان المؤتمر عقد أول جلساته فی دار الامام الشیرازی، ثم عقد الجلسات الأخری فی مختلف الأماکن، و کانت آخر جلسة له الجلسة التی عقدت فی صحن الحائر الحسینی المطهر فکان اجتماعا حضره حوالی مئتی ألف نسمة علی ما یروی. و قد خطب المغفور له الحاج جعفر ابو التمن فی هذه الجلسة خطبة أتی فیها علی أغراض المؤتمر و خلاصة ما توصل الیه. ثم نظمت (مضبطة) أدرجت فیها جمیع المطالیب و رفعت الی الملک فیصل، ثم قدمت نسخ منها إلی العلماء البارزین. و کانت الحکومة توجس خیفة من هذا الاجتماع، فانتدبت وزیر الداخلیة توفیق الخالدی لمراقبته عن کثب و موافاة الملک و الحکومة بما یدور فیه.

معارضة المجلس التأسیسی و انتخابه‌

و کان مجلس الوزراء قد صادق فی 25 حزیران 1922 علی عقد أول معاهدة عراقیة بریطانیة برغم معارضة الوطنیین لها. و ما ان أعلنت علی الملأ حتی بادرت الحکومة الی اتخاذ ما یلزم لانتخاب المجلس التأسیسی، فصدرت الإرادة باتخاذ ما یلزم لبدء الانتخابات فی 24 تشرین الأول. و یقول المستر آیرلاند ان رد الفعل لذلک کان بعیدا کل البعد عما کان یتوقعه المعنیون بالأمر مقدما. فقد اتحد العلماء و الوطنیون و الشیعة فی معارضة تنفیذها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 359
و أقنع العلماء فی کربلا و النجف و الکاظمیة .. باصدار الفتاوی فی أوائل تشرین الثانی لتحریم الاشتراک فی الانتخابات. و کان تأثیر الفتاوی المباشر ان وقف إجراء الانتخابات فی المراکز الشیعیة. فقد استقالت اللجان الانتخابیة فی کربلا و النجف و الحلة و الکوفة، و أعلن الموظفون فی الکاظمیة عن فشلهم فی تألیف اللجان المذکورة.
ثم یستطرد آیرلاند و یقول بعد ذلک ان المساعی بذلت لاسترضاء العلماء، لکنها لم تنجح و أعید اصدار الفتاوی فی حزیران 1923. و قد ذهبت المحافل البریطانیة الرسمیة الی ان العلاج الوحید للمشکلة هو اتخاذ الاجراءات المشددة ضد رجال الدین أنفسهم. لأن الفرصة لا یمکن أن تسنح، لالقاء الرعب فی نفوس الدهماء بحیث یمکن للانتخابات ان تجری من دون معارضة فعالة، إلا باسکاتهم. و کان رئیس الوزراء (السعدون) یرتأی هذا الرأی لکن الملک فیصلا تمادی فی أمله بأن یسترضی العلماء بطرق أخری.
غیر أنه یبدو ان الانکلیز کانوا قد أصروا علی رأیهم فآزرتهم الوزارة و رئیسها فی ذلک، و تم سوق المغفور له الشیخ مهدی الخالصی إلی الخارج.
و لذلک یقول المستر آیرلاند ان مظاهرة احتجاجیة قد نظمت فی الحال، و قد قام بها رؤساء الدین فی النجف، ثم غادر البلاد الی ایران جماعة مؤلفة من تسعة علماء مهمین مع خمسة و عشرین من أتباعهم مشیرین بذلک الی سخطهم- و مع ان الحکومة کانت تستنکر عمل هؤلاء العلماء فانها أبدت لهم جمیع التسهیلات لتعجل فی رحیلهم. و یبنی آیرلاند معلوماته هذه علی «تقریر إداری» کتبه أحد الموظفین الانکلیز فی 1923- 24. و المعروف ان عددا من رجال الدین الذین غادروا العراق کانوا من کربلا نفسها، و منهم آیة اللّه السید الکاشانی الذی اشتهر فی مناوءة الانکلیز علی عهد مصدق فی إیران.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 360
و یعرف کذلک فی هذا الشأن ان متصرف کربلا فی ذلک الوقت کان السید مولود مخلص الذی سهل خروج العلماء تنفیذا لأوامر الحکومة.
و حینما حاولت الحکومة البدء بالانتخابات من جدید فی 12 تموز 1923 لم تنجح کذلک بسبب رفض الشیعة تشکیل اللجان الانتخابیة علی ما یقول آیرلاند. و لذلک استقالت وزارة عبد المحسن السعدون، فألف الوزارة الجدیدة جعفر باشا العسکری. و یقول آیرلاند ان الملک اتخذ تشکیل هذه الوزارة فرصة لاسترضاء الشیعة. و لا ندری کیف تم هذا الاسترضاء، لکن المعروف ان هذه الوزارة، التی تشکلت فی 22 تشرین الثانی 1923، کانت تضم بین وزرائها الثمانیة وزیرین شیعیین من لواء کربلا هما المرحومان الحاج محسن شلاش (للمالیة) من النجف و الحاج محمد حسن ابو المحاسن (للمعارف) من کربلا الذی استوزر السید أبو القاسم الکاشانی الزعیم الدینی السیاسی بعد تشکیلها بمدة. و مع جمیع هذه المشاکل فقد انتهی التسجیل و تمت الانتخابات فی 25 شباط 1924، و دعی المجلس التأسیسی إلی الاجتماع فی 4 آذار. و کان یمثل لواء کربلا فیه مندوب واحد فقط هو عمر الحاج علوان.
و قد عرضت المعاهدة علی هذا المجلس للتصدیق تنفیذا للشرط الذی کان قد اشترطه مجلس الوزراء الذی صادق علیها من قبل، فلم تتم المصادقة الا بکثیر من الصعوبة و المشقة نظرا للمقاومة العنیفة التی أبداها الشعب فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 361
بغداد، و الرأی العام القوی الذی أخاف المندوبین. و کان عدد الموافقین 37 مندوبا، و عدد المستنکفین ثمانیة، و عدد المخالفین أربعة و عشرین و منهم مندوب کربلا عمر الحاج علوان.

دونالدسون فی کربلاء

هذا و قد تسنی للدکتور دوایت دونالدسون فی 1928 ان یزور العتبات الشیعیة المقدسة فی العراق کلها، و کربلا منها علی الأخص، إتماما لمشروعه فی کتابة مؤلف خاص عن عقائد الشیعة و تاریخهم. و کان قد سلخ ستة عشر عاما من عمره، قضاها فی مشهد الإمام الرضا علیه السلام فی خراسان، یبحث و ینقب لهذا الغرض. فأخرج فی 1933 کتابا ضخما سماه «عقیدة الشیعة» ، و کتب فیه فصلا کبیرا عن کربلاء، و آخر عن الامام الحسین علیه السلام.
و مع ما فی هذا الکتاب من مبالغات و أغلاط غیر متفقة مع الواقع، و مع أنه یحاول اعتبار الکثیر من الخرافات و الغرائب التی تعب فی جمعها کأنها جزء من العقائد الإسلامیة الشیعیة فقد آثرت ان أورد هنا انطباعات المؤلف عن کربلاء، و بعض ما توصل الی معرفته عن المعتقدات الاسلامیة عند الشیعة.
فقد تحرک دونالدسون من بغداد فی فجر یوم من أیام الصیف الحارة، و حینما وصل الیها فی الصباح المبکر جلس فی مقهی کان یستطیع أن یری منه تزیینات القاشانی و زخرفته الدقیقة فوق مدخل الصحن الحسینی الشریف،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 362
و المنائر. و قد لاحظ فی هذا المدخل علی ما یقول السلسلة الحدید التی تعتبر حاجزا یتحتم علی «الکافر النجس» عدم تخطیه. و یقول فی هذا الشأن کذلک ان زیارة الزائر لهذا الضریح، و هو یؤمن بنبوة محمد و یعتقد بامامة الحسین المنزلة من اللّه، تعتبر عملا فی غلة الأهمیة لأنه یؤهله للتمتع بامتیازات مثل عدم سقوط سقف منزله علیه قط!!، و بقائه فی حرز حریز عن الغرق و الحریق و التعرض للحیوانات الوحشیة المفترسة (؟). اما غیر المسلم فان تخطیه الی ما وراء السلسلة المانعة فیه انتهاک یمکن ان یعاقب علیه بالموت علی أیدی الجماهیر الساخطة، لأن مثل هذا العمل یعتبر تدنیسا للبقعة المقدسة المحیطة بالضریح.
و یلاحظ فی الکتاب ان دونالدسن یتحسّر و یتحرّق لأنه لا یستطیع الدخول إلی مثل هذا المکان المقدس، مع السهولة التی جاء بها من بغداد الی کربلا. ثم یقارن نفسه فی هذا الشأن بالزوار الذین وجدهم فی نفس المقهی الذی کان جالسا فیه، و قد خرجوا من الحمام و هم عراة الا من الوزرة الحمراء التی کانوا یتزرون بها، و أخذوا یرتشفون شایهم بهدوء و سکینة قبل ان یرتدوا ملابسهم و یهرعون إلی الزیارة.
و حینما دقت ساعة الصحن فی برجها الخاص معلنة الثالثة غروبیة تمشی من المقهی الی السلسلة الحاجزة و أخذ یحدق بتشوق و اهتمام فیما هو موجود فی الداخل. و قد تمنی ان یکون قادرا علی الدخول الی فناء الصحن الشریف علی الأقل لیقضی فیه یوما کاملا یدرس خلاله الزخارف و الکتابات المنتشرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 363
فی کل مکان. ثم یعمد إلی الاشارة الی جمیع النقاط الواردة فی کتاب (بلدان الخلافة الشرقیة) للمستشرق المعروف لسترانج نقلا عن المؤلفین العرب مثل المسعودی و المستوفی و الطبری و من أشبه، مما أتینا علی ذکره فی صدر هذا المبحث بصدد الاشارة الی ما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة عن کربلا.
و بینما کان دونالدسون فی موقفه هذا، و هو یتأمل المواقف التاریخیة التی یستوحیها الواقف فی هذا المکان، طرق سمعه ما یشبه الغناء الترتیلی علی ما یقول. و اذا به یری عندما التفت قافلة من الزوار یتقدمها دلیل خاص، و ما ان وصلوا حتی أخذوا یکررون ما کان یرتله الدلیل بین یدیهم. ثم یتطرق إلی مجی‌ء الزوار من الأماکن النائیة، و ما یتحملونه من المشاق و المصاعب فی المسافات البعیدة التی یستغرقون فی قطعها علی ظهور البغال مدة تتراوح ما بین أربعة الی ثمانیة أسابیع فی بعض الأحیان. و مما لفت نظره بین اولئک الزوّار وجود عدد من عجائز النساء، او الجدات اللواتی تتحقق أمنیات حیاتهن بهذه الزیارة.
و یقول الدکتور دونالدسون کذلک إن أناسا کثیرین لا یستطیعون ان یدرکوا أهمیة الزیارة و عظم شأنها عند هؤلاء الزوار. فهم یتوقون الیها فی جمیع الفرص و المناسبات التی تعرض لهم فی أیام حیاتهم کلها، و یتسمعون إلی قصة الحسین و مقتله المفجع حتی فی حفلات الختان و الزواج و مآتم الوفاة.
و بهذه الوسیلة یقفون علی أهمیة البرکات العجیبة التی یعدهم الأئمة الأطهار بها حینما یقومون بواجب الزیارة لقبر الامام الشهید. و یسمعون منذ نعومة أظفارهم ان ضریح الحسین المطهر یحف به أربعة آلاف ملک، یبکون آناء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 364
اللیل و أطراف النهار، و یخفون لاستقبال کل زائر من الزوار، حتی و لو کان فی أطراف الحدود. و اذا ما ابتلی بمرض من الأمراض ینبرون لمساعدته، ثم یذهبون الی أبعد من ذلک فیحیطون بقبره و یستغفرون له ذنوبه عندما یموت.
و قد قیل لهم ان اللّه سبحانه عز و جل هو المسؤول عن تدبیر حاجات الزوار المادیة جمیعها، و أنه هو یغفر ذنوبهم لمدة أربعین عاما. و لذلک یأتی أغلبهم إلی الزیارة و لیس فی جیبه سوی دراهم معدودة، مع علمه بمقدار ما یتطلبه سفره من مال خلال مدة مکثه فی کربلا و عودته الی بلاده بعد ذلک. ثم یورد اقوالا و خرافات کثیرة فی هذا الشأن فیبالغ بها و بأهمیتها العقائدیة بلهجة غیر مستبعدة من رجل مبشر مثله یتسقط المثالب و النواقص و خرافات العوام فیفسرها کما یرید.
و بعد ما یأتی علیه من سرد قصة الحسین فی کربلا و الموقعة التی استشهد فیها مع الشهداء من آل بیته و صحبه، و بعد ان یشید ببطولة أخیه العباس، مستندا علی روایة الدینوری فی (الأخبار الطوال)، یعود فیقول ان حقبة تنیف علی الألف سنة قد مرت علی تلک الموقعة المفجعة فی کربلا و الزوار ما زالوا یتوافدون علیها بعشرات الألوف فی کل سنة من العراق و إیران و سائر أنحاء العالم الإسلامی لزیارة الضریح المقدس فیها. و کثیرا ما یحملون معهم رفات الموتی من أعزائهم و أقاربهم، أو الذین یوصون قبل الموت بدفنهم فی هذا المکان المقدس. و یوجد إلی یمین الداخل الی الحضرة الحسینیة المطهرة سلّم یؤدی الی سرداب أرضی متسع ربما یبلغ طوله مئتی یاردة. و یؤتی بالجثث فی صنادیق، و ما یقبل للدفن منها هنا یکدس فی هذا المدفن الفسیح.
و هناک ترتیب للدفن یشبه هذا فی حضرة العباس کذلک، و قد قیل للدکتور دونالدسون ان الدفن فی هذین المکانین لا یسمح به ما لم یدفع عن کل جنازة مبلغ خمس مئة روبیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 365
و یذکر دونالدسن ان قبة العباس حینما شاهدها کانت غیر مذهبة، و یعزو ذلک الی قصة یرویها عن نادر شاه الذی أمر بتشییدها. فقد شاهد هذا الشاه فی الطیف رجلا ظن أنه الامام أبو الفضل العباس، و سمعه یقول:
«بما أنی أصغر من أخی الحسین، و أنی بمثابة التراب العالق بقدمی سیدی الأکبر، فلا بد من ان تمیزوا الفرق بین السید و العبد عند تشیید القبتین».
علی انه یذکر کذلک ان (حضرة) العباس یوجد فیها عدد کبیر من السجاد الایرانی الفاخر الذی کان قد أهداه التجار و الموسرون بعد ان حیکت أسماؤهم فی أطرافه. و هناک ثریات ذهب و فضة معلقة فی داخل القبة الکبری، أما القبر فهو محاط بشباک فضة بسیط علی حد قوله. و فی داخل الشباک توجد فوق القبر العمامة التی کان یعتم بها العباس فی یوم المعرکة و السیف الذی قاتل به قبل ان یستشهد کما تؤید الروایات المختلفة. و أخیرا یشیر الی أن أغلبیة الشیعة یخشون القسم الکاذب بأبی الفضل العباس و یهابونه جدا.
اما قبر الامام الحسین الموجود تحت القبة المکسوة بالذهب فیحیط به شباکان، أحدهما مصنوع من الذهب و هو الداخلی و الثانی مصنوع صنعا متقنا من الفضة. و قد أهدی الشباک الفضة ناصر الدین شاه الذی یوجد اسمه منقوشا فی إحدی زوایاه. و کثیرا ما یأتی الزوار بالهدایا علی شکل دراهم أو مصوغات ثمینة فیرمونها فی داخل الشباک. و یحصل ذلک علی الأخص حینما ینذرون من أجل الحصول علی مساعدة الامام فی تحقیق رغباتهم، و عند ذاک یرمون هدایاهم فی داخل الشباک الذهب. و یفتح هذان الشباکان بین حین و آخر، فتجمع النذور و الهدایا و تحسب بصورة رسمیة قبل ان تباع فتدخل أقیامها فی مدخولات العتبة المقدسة. و یتم فتح الشباکین بمراسیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 366
خاصة عادة یحضرها ممثل خاص عن الحکومة.
و لقد قص علیّ شاهد عیان، اسعده الحظ ذات یوم بمشاهدة هذه المراسیم.
کیفیة وقوع هذه العملیة. فقد انتخب اثنان من الملائیة الأخیار بالقرعة لهذا العمل، و أول ما فعلاه انهما بادرا الی الاستحمام و التطهر فی خزان الماء البارد الموجود فی الصحن. ثم لف جسماهما بقماش أبیض نظیف یشبه قماش الأکفان، و عقد بعقد محکمة حول رقبة کل منهما و معصمه و رسغه لئلا یتمکن من إخفاء شی‌ء مما قد تحدثه نفسه بأخذه من المصوغات الثمینة التی یکلف بجمعها من الداخل. ثم انبطح کل منهما علی الأرض بحیث یتمکن من الدخول إلی داخل الشباک مشیا علی الأربع. فشرع کل منهما بتنظیف المصوغات التی عثر علیها فی الداخل من الغبار، الذی اهتم اهتماما خاصا بجمعه و عدم التفریط به لانه هو بدوره یعتبر شیئا ثمینا کذلک. و بعد ما یقرب من ثلاث ساعات قضاها کل منهما فی الکنس و التنظیف. فضلا عن جمع الهدایا و تصنیفها، خرجا بما جمعاه منها و من الغبار المقدس الذی اهتما اهتماما خالصا بجمعه علی حدة. و قد أخذت المصوغات علی اختلاف أنواعها إلی خزینة العتبة، باعتبارها جزءا مهما من دخلها الاعتیادی، لکن الرجلین أخذ کل منهما ما استطاع ان یجمعه من الغبار لیوزعه علی صرر صغیرة من القماش تکون جاهزة للبیع إلی الزوار المتلهفین الیها لأنهم یعتقدون بأن شیئا قلیلا منه اذا دفن مع الشخص المتوفی یضمن له غفران ذنوبه بأجمعها.
هذا و قد عمد دونالدسون فی کتابه الی تدوین أشیاء کثیرة عن الحسین .
بالاضافة إلی ما کتبه عن کربلا و الحائر المقدس. فقد کتب عن أهل البیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 367
و موقف بنی أمیة منهم، و عن معاویة و الامام الحسن علیه السلام، ثم کتب عن الحسین و موقفه من یزید، و عن موقعة کربلا و البطولات التی أبدیت فیها إزاء الفظاعات و الأعمال الدنیئة التی اقترفها أعداؤه و أعداء الاسلام.
و مع ان جمیع ما جاء فی هذا الفصل لا یخرج عما جاء فیما کتبه المؤرخون العرب مثل المسعودی و الدینوری و زیدان و ما أشبه، فقد آثرت ان أذکر هنا بعض النقاط التی یؤکد علیها دونالدسن. فهو یذکر، بمناسبة تفکیر معاویة فی جعل الخلافة ملکا وراثیا عضوضا، ان أول من اقترح علیه هذه الفکرة و زیّنها له مساعده المقتدر، علی ما یقول دونالدسون، المغیرة بن شعبة الذی کان أول مسلم من المسلمین اشتغل بتزویر النقود و تزییفها. و لذلک بادر معاویة إلی إجراء الترتیبات اللازمة لأخذ البیعة لابنه یزید قبل ان یموت.
و یذکر کذلک ان الامام الشهید کان أول رجل من بنی هاشم علقت جثته المطهرة للملأ، و احتز رأسه الشریف فحمل الی دمشق. ثم یقول: ان الذین أسهموا فی قتل الحسین کانوا کلهم من الکوفة، و لم یکن بینهم و لا رجل واحد من سوریة. و ان الذین استشهدوا فی عاشوراء معه کان عددهم سبعة و ثمانین، و کان من بینهم ابنه علی الأکبر، و أبناء الامام الحسن عبد اللّه و القاسم و أبو بکر، و إخوانه العباس، و عبد اللّه، و جعفر، و عثمان، و محمد الصغیر. أما سائر الشهداء فقد کان بینهم أربعة من الأنصار، بینما کان الباقون من مختلف القبائل العربیة المعروفة.
و قد وجدت فی جثة الامام الشهید بعد وفاته ثلاث و ثلاثون طعنة رمح، و أربع و ثلاثون طعنة سیف.

«التربة» الحسینیة

و قد کانت التربة الحسینیة و ما تزال تلفت نظر الکثیرین من الغربیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 368
و غیرهم حینما یزورون کربلا، او یتعرفون علی المجتمعات الشیعیة فی کل مکان. و لعل أول من أشار الیها و الی استعمالها فی الصلاة من الغربیین الرحالة الالمانی کارستن نیبور حینما زار کربلا سنة 1765 کما ورد فی صدر هذا البحث فقد ذکر ان الترب کانت تصنع فی معمل خاص تحتکر العمل فیه لنفسها أسرة من سادات کربلا، و کانت هذه الأسرة تدفع مبلغا کبیرا من المال فی کل سنة الی والی بغداد لقاء الامتیازات. علی ان الدکتور دونالدسون لاحظ فی سوق کربلا حینما زارها عدة دکاکین فیها المئات من الترب، و قیل له ان التربة لا یصح بیعها بیعا لأن أحد الأئمة کان قد قال بأن من یبیع.
التربة التی تقدست بدم الحسین الشهید کمن یبیع اللحم المجتث من جسمه لکنه لاحظ ان سائق سیارته حینما اشتری علبة شخاط و دفع عشرین فلسا أعطی عددا من هذه الترب لتسدید ما بقی له من الحساب. و هو یقول ان باعة الترب المتجولین یأتون و فی ایدیهم صوانی مملوءة بها فیحاولون تقدیمها لمن یتوسمون فیه الکرم من الزوار علی سبیل الهدیة، و یقولون له أنهم یقبضون منه الثمن یوم القیامة. و بهذه الطریقة یحصلون علی اکرامیات غیر یسیرة من المال. کما یشیر الی ان التجار الهنود یدبرون شراءها بسعر ثلاث روبیات للمئة تربة، و ان هناک سرادیب فی عدة أمکنة من کربلا تکون ملأی بها فی العادة.
و المفروض ان یؤخذ الطین الذی تصنع منه الترب من المکان الذی صرع فیه الحسین علیه السلام. و ما یستعمل من هذا الطین یذهب فی الغالب لصنع المسبحات الحسینیة السود، التی تتألف من أربع و ثلاثین خرزة. و هذه یستعملها المؤمن المتدین فی لحظات فراغه و عبادته للتسبیح، فیکرر ذکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 369
«اللّه أکبر» اربعا و ثلاثین مرة و «شکرا للّه» و «سبحان اللّه» بمقدار ثلاث و ثلاثین مرة لکل منهما. و من حسن حظ الشیعی الذی یقضی نحبه ان یتهیأ له من یضع فی رقبته قلادة من هذا الطین المقدس، و خاتما منه فی إصبع یده الیمنی، و «زنادی» فی کل من ذراعیه، و صرة من التراب المکنوس من حول القبر فی کفه الأیمن. و من المستحب له ان یکون الکفن الذی یکفن به قد کتبت علیه بعض الآیات القرآنیة بهذا الطین أیضا. ثم یستمد دونالدسون فی ذکر فوائد التربة و أهمیتها الشفائیة، مستندا علی ما جاء فی کتاب «تحفة الزائرین» للعلامة المجلسی الذی ینقل فیه أقوالا کثیرة عن الامامین موسی الکاظم و علی الرضا علیهما السلام فی هذا الشأن.
و یذکر الدکتور هولیستر فی کتابه (شیعة الهند) المار ذکره أن تربة کربلا یقدسها الشیعة دون غیرها من ترب العتبات المقدسة الأخری. فهم یتمنون الدفن فیها و التبرک بها. و یروی بالمناسبة ان (باهو بکم) أرملة شجاع الدولة أحد ملوک أوده المعروفین (تسنم الملک فی 1753 م) کانت قد أحضرت لنفسها مقدارا من تراب کربلا قبل ان یتوفاها اللّه لأجل أن یفرش فی قبرها عندما تدفن فیه، فتم لها ذلک و ظل ألف قاری‌ء من القراء یقرأون القرآن علی قبرها من المساء حتی الصباح عدة أیام. و یروی کذلک عن الخوجات الاسماعیلیة فی الهند ان الفرد منهم قبل أن یلفظ أنفاسه الأخیرة عند الموت یقطرون له و یرطبون شفتیه بشی‌ء من الماء الذی تحل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 370
فیه التربة المستوردة من کربلا، ثم یرشون علی وجهه و عنقه و صدره مثل هذا الماء کذلک لیجنبوه الألم الذی قد یعانیه فی سکرات الموت علی یقولون.

محرم الحرام‌

و من النادر ان نجد أحدا من الکتاب الغربیین یهمل التطرق إلی ذکر محرم الحرام و ما یجری خلاله فی البلاد الشیعیة، حینما یکتب عن کربلا و غیرها من العتبات الشیعیة المقدسة او یأتی علی ذکر الحسین علیه السلام. و معظم ما یذکر فی هذا الشأن بطبیعة الحال یدور حول إحیاء الذکری السنویة لاستشهاد الامام و أهل بیته و صحبه فی یوم عاشوراء، و الطقوس او المراسیم المتخذة فی إقامة العزاء و «السبایا» و ما أشبه. و کثیرا ما یشیر الغربیون فی کتاباتهم هذه الی «التشابیه» فیسمونها «المسرحیة الألیمة» او التمثیلیة العاطفیة، فیتحسسون بها تحسسا عمیقا فی الغالب.
فنجد مثلا ان السر بیرسی سایکس مؤلف کتاب (تاریخ إیران) یقول بعد تفصیل فاجعة الحسین و استشهاده علیه السلام «.. ان هذه الفاجعة کانت أساسا لتمثیل «المسرحیة الألیمة» سنویا، لیس فی ایران التی تعتبر العقیدة الشیعیة مذهبا رسمیا فیها فقط، بل فی کثیر من البلاد الآسیویة التی یتیسر فیها وجود المسلمین الشیعة أیضا. و قد شاهدت هذه المأساة تمثل أمامی مرات عدیدة، و لذلک یمکننی ان اعترف و أقر بأن الاستماع الی و لولة النساء الصارخة و مشاهدة الحزن الذی یغشی الرجال کلهم یؤثر تأثیرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 371
عمیقا فی المرء بحیث لا یسعه الا ان یصب نقمته علی الشمر و یزید بن معاویة، بقدر ما یصبه سائر الناس الحاضرین. و الحقیقة أن هذه المسرحیة الألیمة تدل علی قوة عاطفیة جامحة تمتلی‌ء بالحزن و الأسی الذی لا یمکن ان یقدر بسهوله، و ان المناظر التی شهدتها بأم رأسی ستبقی غیر منسیة فی مخیلتی ما دمت علی قید الحیاة».
و قد کتب عن هذه المأساة کذلک، و محرم الحرام بوجه عام، المستر توماس لایل الذی اشتغل فی العراق معاونا للحاکم السیاسی فی الشامیة و النجف فی 1918- 21 و معاونا لمدیر الطابو فی بغداد و حاکما فی محاکمها المدنیة، فی کتابه (دخائل العراق) ما یقرب من عشرین صفحة. و هو یقول بعد ان شهد مواکب العزاء و لطم اللاطمین فیها «.. و لم یکن هناک أی نوع من الوحشیة أو الهمجیة، و لم ینعدم الضبط بین الناس، فشعرت و ما زلت أشعر بأننی توصلت فی تلک اللحظة الی جمیع ما هو حسن و ممتلی‌ء بالحیویة فی الإسلام، و أیقنت بأن الورع الکامن فی أولئک الناس و الحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن یهزّا العالم هزّا فیما لو وجها توجیها صالحا و انتهجا السبل القویمة. و لا غرو فلهؤلاء الناس عبقریة فطریة فی شؤون الدین.»
علی اننی لاحظت ان الدکتور هولیستر صاحب کتاب تاریخ الشیعة فی الهند قد أفرد فصلا خاصا فیه عن محرم الحرام و أهمیته الدینیة مع مراسیم العزاء التی تقام خلاله فی الهند بمختلف الوسائل و الأشکال. فهو یقول ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 372
مقتل الحسین فی کربلا برغم کونه قد وقع قبل مدة تزید علی ثلاثة عشر قرنا فان فجیعته کانت واضحة جلیة لکل شیعی، و کثیرین غیرهم، بواسطة المراسیم و الاحتفالات الدینیة التی تقام سنویا فی محرم الحرام.
و یقول کذلک ان شهر محرم له أهمیته عند کل مسلم. فقد کان حتی قبل عهد النبی محمد یعرف بالمهرجان السنوی الذی کان یقام فیه. و ان الیوم العاشر منه، الذی یسمی بیوم عاشوراء، کان یعرف بکونه الیوم الذی تسقط فیه أول مطرة فی السنة، و الذی خلق فیه آدم و حواء، و السماء التاسعة، و منحت فیه الرسالة المقدسة لأرواح العشرة آلاف رسول. و فی الوقت الذی یکون فیه الیوم العاشر بمثل هذه الأهمیة و غیرها لجمیع المسلمین، فإن محرم کما یعرفه الشیعة ینطوی علی العشرة الأولی من الشهر کله و أهمها الیوم العاشر نفسه.
و قد کان معز الدولة البویهی، فی أیام تفوق البویهیین و حکمهم فی بغداد.
هو الذی أدخل عادة إحیاء الذکری المؤلمة للحوادث التی وقعت فی محرم، و عین فترة الحداد. فکانت بموجب ذلک تغلق الأسواق، و یعطل القصابون أعمالهم، و یتوقف الطباخون عن الطبخ، و تفرغ الأحواض و الصهاریج مما فیها من الماء، و توضع الجرار مغلفة باللباد فی الشوارع و الطرق. و کانت النساء یمشین بشعور منثورة، و أوجه مسودة، و ملابس ممزقة، یلطمن الخدود و یولولن حزنا علی الحسین الشهید. و کانت تقرأ فی ذلک الیوم المراثی و المناحات کذلک.
اما دونالدسون فیقول فی هذا الشأن: ان عادة إعلان الحداد العام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 373
خلال العشرة الأولی من محرم الحرام کانت أعظم ابتداع ابتدعه معز الدولة البویهی. و کان هذا الأمر قد أصدره فی 963 للهجرة، فحتم فیه علی الناس إحیاء الذکری السنویة لمقتل الحسین. و قد استمرت هذه العادة منذ ذلک الوقت، و أصبحت أشهر العادات و أبعدها صیتا بین العادات و الأعراف الشیعیة المألوفة. اما بالنسبة للموکب العام الذی ینظم فی الیوم العاشر من محرم بقصد إظهار الولاء لآل البیت فقد عمد الذین یعلنون الحداد فیه الی أبشع الطرق و أکثرها استثارة للرثاء فی إهراق دمائهم و تشویه أجسامهم.
ثم یعود هولیستر و یقول إن احیاء مراسیم محرم و طقوسه قد انتشرت بانتشار الشیعة فی البلاد. و یمکن ان تلاحظ فی الهند علی الأخص فی (لکناو) حیث لا یزال شی‌ء من البهاء و الرونق، اللذین کانت تعرف بهما أیام ملوک (أوده) الاولین، محتفظا به حتی الیوم مع ان البذخ الذی کان یبدو من النوابین، الذین صرف أحدهم فی سنة من السنین علی مراسیم محرم و حفلاته الدینیة ثلاث مئة ألف باون، قد انتهی أمره و أصبح نسیا منسیا. و مع ذلک فان الهبات و الأوقاف التی اوقفها محمد علی شاه هناک تجعل المراسیم المقامة فی محرم الیوم مفعمة بالحیویة و النشاط منذ أول ابتدائها فی مساء الیوم الذی یتقدم أول یوم منه. و لا بد من ان نذکر هنا المناسبة ان هولیستر یذکر فی موضع آخر من کتابه ان عسّاف الدولة ملک أوده (تولی فی 1775) قد صرف علی مراسیم العزاء خلال شهر محرم فی إحدی السنین ستة ألکاک روبیة .
و یصف الدکتور هولیستر فی فصله عن محرم الحرام کیفیة احتفال المسلمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 374
فی الهند خلال أیام الحداد العشرة من محرم، ثم یعدد أنواع هذه الاحتفالات و أشکالها فیبدأ بوصف مجالس التعزیة التی تقرأ فیها قصة مقتل الحسین بصورة متسلسلة موزعة علی عشرة أیام، مبتدئة بدعوة أهل الکوفة للامام علیه السلام و منتهیة باستشهاده المفجع.
و هو یقول ان الیومین الأولین یروی فیهما للمحتفلین المحتشدین تهیؤ الحسین للسفر و زیارة المقربین له، و مذاکراته معهم، و المشورات التی قدمت له، ثم سفره و وصوله الی کربلا. و تروی فی الیوم الثالث اخبار المخیم الذی خیم فیه الحسین و أصحابه، و تردده ما بینه و بین النهر، و مذاکرة بنی أسد حول دفن القتلی الذین یمکن ان یخروا صرعی فی ساحة القتال.
اما فی الیومین الخامس و السادس فتقص علی المحتفلین فیهما مصاعب الامام و صحبه، و البطولة التی أبداها علی الأکبر قبل استشهاده. و فی الیوم السابع تروی قصة القاسم بن الحسن و بطولته فی القتال، علاوة علی قصة زواجه بابنة عمه الحسین. و یخصص الیومان الثامن و التاسع لأخبار العباس علیه السلام و أصحاب الحسین الاثنین و السبعین، بینما تروی فی الیوم العاشر الظروف الألیمة و الشکل الفظیع الذی قتل فیه الامام الشهید، و هو بیت القصید فی مجالس التعزیة کلها.
و مما یذکره هولیستر ان هذه «المجالس» کما یسمیها الهنود المسلمون لا تقام فی المساجد و الجوامع التی تخصص للصلاة فقط، و إنما تقام عادة فی أماکن خاصة او «حسینیات» یطلق علی الواحدة منها فی الهند «امام باره». و هذه تخصص لمجالس التعزیة وحدها فی الغالب أیضا. و یذکر بالمناسبة ان إحدی (الامام بارات) هذه قد بنیت فی جلال بور بمبالغ جمعت من حاکة البلد و نساجیه بعد ان فرضوا علی کل قطعة من منتجاتهم مبلغ «بیزة»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 375
واحدة . و یقال ان (الامام بارة) الکبری التی شیدت فی (هوگلی) بالبنغال کانت قد کلفت لکین من الروبیات. و هناک فی (لکناو) ثلاث (امام بارات) کان ملوک أوده محمد علی شاه، و عساف الدولة، و غازی الدین حیدر، قد شیدوها بصورة تدعو للاعجاب، و یطلق علی التی شیدها غازی الدین «شاه نجف» لأنها تضم بین جدرانها «ضریحا» یعتبر تقلیدا لضریح الامام علی فی النجف. و علی الشاکلة نفسها توجد فی شاه جهانبور (امام بارة) فیها «ضریح» یعتبر تقلیدا لضریح الحسین علیه السلام کذلک
ثم یصف هولیستر ما یسمی فی الهند «التعزیة» و یعتبرها من أبرز ما یلفت النظر فی احتفالات الحداد فی الهند فی أثناء محرم. و الظاهر ان کلمة «تعزیة» تطلق فی شمال الهند علی الهیکل المصغر لقبر الحسین، الذی یحمل مع مواکب العزاء الحسینی فی یوم عاشوراء. و تطلق علی هذا فی جنوب الهند کلمة «تابوت». و قد نشأت عادة حمل هذه الهیاکل المصغرة فی مواکب العزاء، علی ما یقال، منذ أیام تیمور لنک (سنة 1405 م) الذی جاء بمثل هذا الهیکل الی الهند من کربلا نفسها.
و تصنع هذه «التعازی»، علی اختلاف حجومها و مظاهر الزینة فیها، فوق هیکل من الخیزران فتحمل علی أکتاف الرجال الذین یکونون عادة من الهندوس المستأجرین. و تزین بأنواع الزینة و الزخارف من الخارج، و قد یعمد الأثریاء و الموسرون الی انشائها من الخشب المغلف بالعاج، او الأبنوس او الفضة. و مما یذکر فی هذا الشأن ان أحد ملوک أوده کان قد أوصی فی انکلترة بصنع «تعزیة» مثل هذه من النحاس الأصفر و الزجاج الأخضر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 376
و قد شاهد هولیستر بنفسه «تعزیة کبیرة من هذا النوع یبلغ ارتفاعها عشرین قدما و لها أربعة طوابق. و لا تحمل مثل هذه «التعزیة» الکبیرة عادة، و انما توضع و تزین فی أماکن خاصة للتبرک بها. و قد تحمل «التعزیة» بشکل هیکل حصان یعلوه سرج من دون خیال لیمثل حصان الامام الشهید المسمی «دلدل».
و یتوسع هولیستر فی وصف هذه التعزیات و زینتها و کیفیة التبرک بها و حملها فی المواکب و ما أشبه. ثم یأتی کذلک علی ذکر الأعلام التی ترفع بالتفصیل من حیث الشکل و اللون و الرأس، و یقول ان شیعة لکناو محظوظون لأن عندهم بین ظهرانیهم نفس «البنجة» او الکف المعدنیة التی کانت تعلو علم الحسین فی کربلا. و هی محفوظة فی «درکاه» شید خصیصا لها.
أما کیفیة أخذها الی الهند فیذکر قصة تروی عنها، و هی ان أحد الحجاج الهنود فی مکة رأی فی الطیف ذات لیلة «عباس علی» حامل لواء الحسین علیه السلام، فدله علی المکان الذی توجد مدفونة فیه فی کربلا نفسها.
و حینما ذهب الحاج الهندی الی ذلک المکان وجد «البنجة» عینها فجاء بها الی النواب عساف الدولة عاهل (لکناو) یومذاک، فعمد هذا إلی تشیید مزار خاص لها و عهد بسدانته الی الحاج المحظوظ الذی جاء بها من کربلا بلد الحسین. و بعد مدة من الزمن تمرض سعادت علی خان و شفی فشید علی أثر ذلک درکاها أجمل للبنجة المقدسة. و یأتی الناس فی الیوم الخامس من محرم إلی هذا المزار کل سنة لیلمسوا البنجة بأعلامهم. و یقدر ان الأعلام التی یؤتی بها لهذا الغرض کانت تبلغ فی الأیام السالفة حوالی أربعین أو خمسین ألف علم .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 377
و مما یشیر الیه بالتفصیل کذلک المرائی التی تلقی فی مواکب العزاء التی یقول عنها انها تکون عبارة عن قطع أدبیة رائعة فی بعض الأحیان. و یشیر من بینها الی مرثیة (المیر أنیس) علی الاخص، التی یقول انها مع ما فیها من طول و اغراق فی الغلو و المبالغة قطعة أدبیة بلیغة تثیر أعمق العواطف و أقوی الأحاسیس حینما تقرأ خلال الأیام العشرة کلها. و تنطوی بین تضاعیفها علی قوة بالغة فی الوصف لا بد لأقوی الرجال من أن تدمع عیناه عند سماعها .
المرجع الدینی السید أبو الحسن الأصفهانی اما فی یوم عاشوراء فتستعد مواکب العزاء للخروج منذ الصباح الباکر فی الهند، و بعد مراسیم مختصرة ترفع «التعزیة» العائدة لکل موکب من مکانها فی (الامام بارة) مع الأعلام و تؤخذ مشیا علی الأقدام إلی حیث تدفن فی أماکن یطلق علی کل منها «کربلا»، الزعیم الدینی المصلح السید محسن الأمین اما فی (بومبی) فتؤخذ إلی البحر و ترمی فیه. لکن (التعزیات) الثمینة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 378
و الکبیرة تعود بها المواکب الی مکانها الأول حیث تحفظ للسنین المقبلة.
و یسیر الموکب سیرا بطیئا فی العادة، و علی خط معین، لکنه یتوقف عن السیر بین حین و آخر لالقاء المراثی و قراءتها. و یقوم عدد کبیر من الناس خلال السیر باللطم علی الصدور و التنادی بجملة «یا حسین، یا حسین» بین حین و آخر، بینما یقوم آخرون بضرب ظهورهم یمنة و یسرة بسلاسل الحدید أو الخشب ذی المسامیر الحادة فیخرجون الدم منها. و یذکر هولیستر أن نظام (حیدر آباد) کان قد أصدر فی 1927 فرمانا یمنع فیه الضرب علی الصدور أو الظهور بالسلاسل و المسامیر خلال محرم فی ممتلکاته. ثم یقول ان الکثیرین من الشیعة فی الهند و غیرها یستهجنون هذه العادة برغم عقیدتهم الراسخة بالحسین ضجیع کربلا .
و قد تمسح الدموع التی تذرف خلال محرم بالقطن أحیانا، و یجمع هذا القطن بالذات من قبل الشخص الحزین نفسه أو شخص مختص آخر.
و المعروف عن هذا القطن انه مفید لشفاء بعض الأمراض و الأوجاع (؟).
و من طریف ما یذکره هولیستر عن جمیع هذه المآتم و الاحتفالات العزائیة التی تقام فی الهند خلال محرم، ان عددا غیر یسیر من أهل السنة و الهندوس یشارکون فیها و یعتقدون بها کذلک. و المقول هناک ان الطبقات الدنیا من الهندوس فی مقاطعة (بیهار) یعبدون الحسن و الحسین بالفعل و یعتبرونهما فی صف الآلهة، و ان النساء و الرجال من بین الطبقات العلیا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 379
کذلک (مثل الکیاشثا و الأغاروالا و الراجیوت) ینذرون من أجل الحصول علی النسل و الأولاد ان یقوموا ببعض الأدوار فی مواکب محرم لعدة سنین؛ و خلال مدة حیاتهم کلها فی بعض الأحیان. و هؤلاء یمتنعون خلال محرم عن تناول الملح، و الطعام الحیوانی، و یهجرون جمیع وسائل الترف.
و تعتبر مختلف طبقات الهندوس فی بارودا «التعزیات» التی تحمل فی مواکب العزاء أشیاء مقدسة، و هم یمارسون بعض الحرکات للتبرک بها مثل المرور من تحتها أو رمی أنفسهم علی الأرض فی طریقها.
و لقد روی أحد الصحفیین ان الهندوس فی جنوب الهند من جمیع الطبقات، عدا البراهمة، یطلقون علی کل علم من أعلام محرم «بیر»، و لهذا صار یدعی علم الأمام علی «لال صاحب». کما یعرف عن النساء العقیمات هناک انهن یرمین أنفسهن أمام أعلام محرم و ینذرن النذور لها من أجل الحصول علی الأولاد. و حینما یرزقن بهم یطلقون علیهم أسماء مثل (هوسانا) أو حسینا او فاطمة، او فقیرا، أو ما أشبه. و قد کان من المعروف فی بارودا ان الرئیس، أو (الفیکوار) الهندوسی یرعی مراسیم العزاء فی محرم بنفسه، و ان المهراجا الهندوسی فی (غوالیور) یقود المواکب کل سنة فی عاصمته. و یقال ان منشأ هذا هو ان المهراجا کان قد مرض قبل خمسین او ستین سنة، فرأی ذات لیلة من لیالی مرضه الأمام الحسین فی المنام فقیل له انه سوف یشفی و یبل من مرضه فی الحال اذا ما أقام مجلسا من مجالس التعزیة فی محرم باسم الحسین علیه السلام، و وزع الصدقات فیه. و قد فعل ذلک فشفی بأذن اللّه، فبقیت العادة حتی یومنا هذا، لکن المهراجا الحالی من نسله صار یکتفی الیوم برکوب حصان فاره یتقدم به موکب العزاء فی یوم عاشوراء. و تقوم خزینة الدولة هناک بتسدید مصاریف الموکب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 380
و قبل ان أنهی البحث عن محرم و عاشوراء لا بد لی من أن أشیر هنا الی ان الکاتبة الانکلیزیة القدیرة (فرایاستارک) کانت قد کتبت فصلا صغیرا عن عاشوراء فی کتابها المعروف بأسم «صور بغدادیة» . و تبدأ هذا الفصل بقولها ان الشیعة فی جمیع أنحاء العالم الإسلامی یحیون ذکری الحسین و مقتله و یعلنون الحداد علیه فی عشرة محرم الأولی کلها، حتی یصل بهم مد الأحزان البطی‌ء الذی یستولی علی أنفسهم الی أوجه بمواکب العزاء التی تخرج فی الیوم الأخیر حاملة النعش بجثته «المذبوحة». ثم تشیر الی مواکب العزاء، و «السبایا» التی تمثل فیها وقائع معرکة کربلا کلها. و هی تقول ان هذه المواکب التی تقام فی بغداد و المدن المقدسة یعرف مجیئها من بعید بصوت اللدم علی الصدور العاریة. ثم تأخذ بوصف مجلس تعزیة للنساء فی الکویت أخذت الیه بصورة متنکرة. و تنتهی من الفصل بالأشارة الی ان الأطفال الأیرانیین الموجودین فی الکویت یؤخذون الی (الملا) فی الیوم العاشر من محرم لیمرر تحت ذقونهم امرارا رمزیا سکیّنه الکبیرة، دلالة علی فروض التضحیة و الفداء. ثم تعقب علی ذلک قائلة و هکذا تمر الحقیقة الناصعة من المیثولوجیا الی الدیانة الحقة، و من الدیانة الی التصوف. و من المفید ان نجدهم یتمسکون الیوم بهذه الطقوس البسیطة التی تدل علی أول یوم فتحنا فیه أعیننا للوجود فی هذا العالم، لئلا ننسی الأخوة الإنسانیة.
و فی فصلها الکبیر عن النجف الذی کتبته فی هذا الکتاب تأتی المس فرایا ستارک علی ذکر کربلا و الحسین کذلک، فتقول : «.. و علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 381
مسافة غیر بعیدة من هذه البقعة جعجع ابنه الحسین الی جهة البادیة و ظل یتجول حتی نزل فی کربلا .. و هناک نصب مخیمه، بینما أحاط به أعداؤه و مناوئوه و منعوا موارد الماء عنه. و ما تزال تفصیلات تلک الوقائع واضحة جلیة فی أفکار الناس فی یومنا هذا کما کانت قبل (1257) سنة. و لیس من الممکن لمن یزور هذه المدن المقدسة ان یستفید کثیرا من زیارته ما لم یقف علی شی‌ء من هذه القصة لأن مأساة الحسین تتغلغل فی کل شی‌ء حتی تصل الی الأسس. و هی من القصص القلیلة التی لا استطیع قراءتها قط من دون ان ینتابنی البکاء.» ثم تقول ان التاریخ قد توقف فی کربلا و النجف منذ ان وقعت تلک الفاجعة، لأن الناس أخذوا یعیشون فیهما علی ذکری الکراهیة لأعداء الحسین المظلوم.
و فی 1943 کتب المستر سیتون لوید ، خبیر الآثار القدیمة فی بغداد لعدة سنوات، کتابه الموجز تاریخ العراق من أقدم العصور إلی یومنا هذا و نشره باسم «الرافدان». و قد حلل فی عدد من صفحات کتابه تحلیلا بارعا موقف الامام علی من معاویة، و خرج منه الی مقتل الحسین فی کربلا.
و هو یقول ان الفظاعة التی اقترفت فی المعرکة و الفزع الذی أصاب المسلمین بقتله یکوّنان أسس «المسرحیة الألیمة» التی تثیر الطوائف الشیعیة فی العالم الإسلامی کله الی حد الحنق الدینی فی عشرة عاشوراء من کل سنة. فقد أحیط بالحسین و أتباعه، و غلبته کثرة الأعداء غلبة تامة، و مع أنه کان بوسعه ان یهرب فیعود الی المدینة غیر ان عقیدته الصادقة بعدالة قضیته دفعته الی ان یسیر فیما أقدم علیه قدما الی الأمام. و فی اللیلة التی سبقت یوم المعرکة عزمت عصبته الصغیرة علی الصمود فعمدت إلی القیام بعمل دراماتیکی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 382
طویل بحفر خندق عریض من وراء المخیم، و ملئه بحزم الحطب الملتهبة لیحول دون تقهقرهم فیها. و فی صباح الیوم التالی قاد الحسین، و هو یمسک باحدی یدیه القرآن و السیف بیده الأخری، عصبته المستشهدة الی الموت المحتم.
و لم یفعل جند یزید أکثر من ان یحیطوا بهم من بعید و یمطرونهم بوابل من نبالهم فسقطوا واحدا بعد آخر حتی بقی الحسین فریدا لوحده. و کان من الممکن ان یستبقی هو نفسه، لکن ذلک لم یکن هو المطلوب فی ذلک الیوم التاریخی المشهور. فقد تجمع ثلاثة و ثلاثون من أتباع بنی أمیة و تضافروا بأسلحتهم فصوبوها إلیه، و دیست جثته المثخنة بالجراح ثم احتز رأسه فأخذ إلی الکوفة .
ثم یقول المستر لوید ان من بقی علی قید الحیاة من أسرة الامام علی علیه السلام قد أطلق سراحهم یزید و سمح لهم بالعودة إلی مکة (الصحیح انهم عادوا الی المدینة). و ما زال آلهم و المتحدرون من نسلهم موضع احترام المسلمین و تبجیلهم حتی یومنا هذا. لکن الأئمة من آل البیت و هم علی، و الحسن، و الحسین، و التسعة من أولادهم یقدسهم الشیعة و یعتبرونهم هم الخلفاء المحقین الوحیدین. و تعد قبورهم فی الفرات الأوسط و خراسان نماذج بدیعة للفن الإسلامی الرفیع، کما یعد کل واحد منها محجا للزوار الشیعة.
ثم یأسف لأن جمال هذا الفن لا یمکن ان یتمتع به غیر المسلمین، فیقول انه من المؤسف المفجع حقا ان یبقی جمال المسجدین المقدسین فی کربلا و النجف محجوبا إلی الأبد عن أعین الناس من غیر المسلمین. و یستشهد فی هذا الشأن بما کانت قد قالته (المس بیل) من قبل فی نفس المآل خلال وصفها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 383
لکربلا الذی أوردناه فی ضمن هذا البحث من قبل بصدد مجیئها الیها فی 1909. و یعقب لوید علی ملاحظات المس بیل هذه بقوله: «.. ان ثلاثین سنة قد مرت علی ما کتبته هی، و فی هذا الیوم أجد نفسی منهمکا فی تأسیس متحفین صغیرین فی کربلا و النجف لیضما بین جدرانهما بعض النفائس التی تأتی المس بیل علی ذکرها حتی یکون من الممکن فی النهایة ان یشارک الشیعة فی التمتع بهذا الجمال الفنی غیر المسلمین أیضا.»

کربلاء فی دائرتی المعارف البریطانیة و الاسلامیة

و تصف قبل ما یقرب من ثلاثین سنة وصفا مقتضبا دائرة المعارف- البریطانیة المعروفة کربلا .. فتقول انها بلدة من بلدان العراق الشهیرة تقع علی درجة 32 و 40 ثانیة شمالا، و 44 ثانیة شرقا، و تبعد عن بغداد بمسافة ستین میلا فی اتجاه جنوبی غربی و عن فرع الهندیة من الفرات بعشرین میلا، علی حاشیة بادیة الشام. و قد بلغ عدد نفوسها فی 1935 (000، 65) نسمة. و سکانها کلهم من المسلمین الشیعة تقریبا، و هی کالنجف لا یمکن أن یقیم فیها غیر المسلمین من الناس. و یتفرع الیها من موقع یقع فی شمال الحلة فرع خط سکة حدید بغداد- البصرة. و البلدة هی عاصمة لواء کربلا الذی یسمی بأسمها. و یبلغ عدد النفوس فیه کله (احصاء 1935) 290، 124 نسمة. و لا یخفی ان الاحصاء الأخیر الذی جری فی هذه السنة (1966) قد بلغ عدد نفوس المدینة وحدها فیه (301، 83) نسمة، و عدد نفوس اللواء کله (692، 339) نسمة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 384
ثم یقول: و تعد کربلا من المراکز الدینیة المقدسة التی یقصدها الشیعة للزیارة من أنحاء العالم الإسلامی کله، و تأتی فی القداسة بعد مکة و النجف.
و یزورها الزوار من جمیع الطبقات، کما یؤتی الیها بالجنائز للدفن باعتبارها طریقا آمنا الی الجنة. و لما کانت فی مثل هذا الوضع بالنسبة للزوار، و لکونها میناء من موانی‌ء البادیة فی الوقت نفسه، فان حرکة تجاریة غیر یسیرة تنشط فیها عادة. و تتألف صادراتها فی الدرجة الأولی من التمور و الجلود و الصوف و السلع الدینیة. و تشتری کربلا لقاء ذلک بضائع مابخستر و السجاد و الشموع و التوابل و القهوة و الشای. کما تعد الأراضی المحیطة بها من الأراضی الخصبة التی یسهل ارواؤها، و هناک مساحة غیر قلیلة منها مزروعة ببساتین النخیل و غیرها من الأشجار المثمرة.
و للقسم الخارجی الحدیث منها شوارع واسعة نسبیا، لکن قسمها القدیم الذی کان الأتراک قد هدموا أسواره فی 1843 تتعرج فیه الطرق و الأزقة الضیقة تعرجا غیر یسیر کما هی الحال فی المدن الشرقیة معظمها.
و فی موقع هذا القسم من کربلا کان یزید قد جرد جیشا لقتل الحسین بن علی شهید المسلمین سنة 680 م. و تحیط المدینة الیوم بضریحه المقدس الذی تعلوه قبة مکسوة بالذهب و ثلاث منائر مذهبة کذلک. (الظاهر ان هذه الخلاصة قد کتبت قبل ان تهدم المنارة الثالثة و هی منارة العبد التی لم تکن مذهبة کذلک کما بینا قبل هذا).
و کربلا، مثل النجف، تدخلها واردات دینیة کثیرة جدا لکنها لما کانت واقعة علی حافة السهل الرسوبی الوسیع فانها لا تعتبر مرکزا لتبادل السلع الذی تجد طریقها إلی البادیة فقط و انما یمکن ان تزرع فیها المحاصیل الزراعیة بنجاح تام أیضا. و بالاضافة الی کونها مرکزا دینیا مرموقا هی نفسها فانها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 385
تعد مرکزا مهما کذلک یقع فی طریق الزوار الذاهبین الی النجف و الحجاج إلی مکة المکرمة فی الحجاز.
أما دائرة المعارف الإسلامیة التی مرت الاشارة الیها بکثرة فی صدر هذا البحث فهی تصف کربلا فی عهدها الأخیر وصفا موجزا أیضا. إذ تقول ان کربلا التی یبلغ عدد نفوسها ما یزید علی الخمسین ألف نسمة، تعد أغنی المدن العراقیة و أکثرها ازدهارا. و یعزی ازدهارها لا إلی تقاطر العدد الکبیر من الزوار علیها لزیارة قبر الحسین فیها فقط، بل لأنها أهم نقطة یمر منها المسافرون الی النجف و مکة المکرمة کذلک. و هی بحکم موقعها علی حافة السهل الرسوبی الفسیح تعد میناءا صحراویا مهما للتجارة مع داخلیة الجزیرة العربیة. و لعل هذه النبذة مستقاة من دائرة المعارف البریطانیة کما بظهر من فحواها.
ثم تقول ان القسم القدیم من البلدة، و ما فیه من أزقة و طرق متموجة متعرجة یحاط بضاحیة حدیثة. و مع وجود عدد غیر قلیل من الایرانیین بین سکانها فان أغلبیة السکان هم من العرب الشیعة. و أهم العشائر التی ینتمی الیها هؤلاء بنو سعد، و السلالمة، و الوزون، و الطهامزة، و النصاروة. و تعد أسرة آل الددة أغنی أسرة فیها ، لأن السلطان سلیم (الصحیح هو السلطان سلیمان) کان قد أقطعهم مقاطعات واسعة الأرجاء حولها مکافأة لهم علی اشرافهم علی حفر نهر الحسینیة و تعمیره.
و تطلق کلمة کربلا بمعناها الضیق علی القسم الواقع الی الشرق من بساتین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 386
النخیل التی تحیط بالمدینة علی شکل نصف دائری، أما البلدة نفسها فتسمی المشهد، او مشهد الحسین
و تقع الحضرة فی صحن تبلغ مساحته 354* 270 قدما، و یحاط هذا الصحن بحجر و اواوین متعددة. و یلاحظ ان جدرانه مزینة بنطاق متواصل من الزینة التی یقال انها تنطوی علی آیات القرآن الکریم جمیعها مکتوبة بالأبیض فوق أرضیة زرقاء و تشغل الحضرة نفسها مساحة قدرها 156* 138 قدما. و یحاط الفناء الأساسی المستطیل الذی یکون الدخول الیه من الفناء المذهب الخارجی برواق مقبب یسمی الآن الرواق العجمی، و فیه یطوف الزوار حول الضریح المقدس الذی یبلغ ارتفاع صندوقه ست أقدام و طوله اثنتا عشر قدما. و هو محاط بمشربیة من الفضة، یقوم بجنبها ضریح ثان أصغر فی حجمه، هو ضریح ابنه و رفیقه فی السلاح (علی الأکبر).
هذا و ان الانطباع العام الذی تولده داخلیة الحضرة فی نفس الداخل الیها عند الأصیل لا بد من ان یعد انطباعا مؤثرا خلابا، لأن ضوء المصابیح و الشموع التی لا یحصی عددها من حول الشباک الفضة ینعکس ألف مرة، و ألف أخری، من السطوح البلوریة الصغیرة التی لا عد لها فیولد تأثیرا سحریا لا تدرکه أحلام الخیال. و یتناقص لآلاء هذه الانعکاسات، کما یقل سطوع الأنوار المنعکسة بالتدریج، کلما ارتفعت أشعتها إلی أعلی القبة فیقتصر الاشعاع و الانعکاس علی عدد قلیل من البلورات التی ینعکس عنها الضوء هنا و هناک فیلتمع فی الجو المعتم کما تلتمع النجوم فی کبد السماء .
و یزین الحیر من جهة القبلة بزینة خلابة غالیة الثمن. کما تقوم منارتان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 387
من جهتی المدخل فتعلوان فی السماء بین یدی القبة، اما المنارة الثالثة، و هی منارة العبد، فتقوم بین یدی الأبنیة فی الجهة الشرقیة من الصحن. و تتراجع الجدران المحیطة بالصحن من الجهة الجنوبیة بمسافة تناهز الخمسین قدما.
و لا شک ان هذا الوصف یسبق التعدیلات التی أدخلت علی الصحن سنة 1937 فأدت الی قلع منارة العبد و توسیع الصحن نفسه.
و جاء فی دائرة المعارف هذه کذلک ان البقعة هذه یوجد فیها مسجد لأهل السنة. و فی لصق الصحن من الجهة الشمالیة توجد مدرسة کبیرة تبلغ مساحتها حوالی (85) قدما مربعا، و لهذه المدرسة مسجدها الخاص. و علی بعد ست مائة یاردة من شمالی شرقی الروضة الحسینیة یقوم ضریح أخیه العباس بن علی، و علی الطریق المؤدی إلی خارج البلدة من جهة الغرب یقع موقع المخیم الذی نصب فیه الحسین مخیمه الأصلی، أی (الخیمکاه). و تتخد البنایة المشادة فیه شکل خیمة من الخیم، و علی جهتی المدخل منها صورتان حجریتان لسروج الابل.
و فی الهضبة الصحراویة، الحماد، الممتدة فی غرب البلدة تقوم مقابرها و مدافنها الکبیرة. و فی شمال البساتین المحیطة بکربلا تقع ضاحیة البقیر و حقولها و بساتینها، کما تقع فی شمالها الغربی ضاحیة القرة، و فی جنوبها ضاحیة الغاضریة و بساتینها. و من بین الأماکن القریبة التی یأتی علی ذکرها یاقوت الحموی: العقر، و النوایح.

نتف متفرقة

هذا و لم أعثر علی کتب غربیة أخری، غیر ما ذکرت، تشیر الی کربلا بشی‌ء یلفت النظر أو یستحق التدوین، لا سیما بالنسبة للسنوات العشرین الأخیرة. علی اننی وجدت بعض النتف و الأخبار فی کتاب لونکریک الموسوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 388
(العراق بین 1900 و 1950) الذی أشرت الیه من قبل، و فی کتاب أمریکی ظهر فی 1958 لمؤلف یدعی جورج هاریس تحت عنوان (العراق- سکانه و مجتمعه و حضارته) .
فقد جاء فی کتاب لونکریک ان خط سکة الحدید ما بین بغداد و البصرة قد أعید فتحه بعد انتهاء الحرب العامة الأولی فی نیسان 1921، و بعد ذلک بمدة و جیزة انشی‌ء الفرع الممتد من المسیب و السدة الی کربلا.
و جاء فی موضع آخر من الکتاب نفسه عن کربلا ان مظاهرات قد حصلت فیها سنة 1927، و هی السنة التی نشر فیها کتاب النصولی عن تاریخ الاسلام و العرب الذی اعتقد ان بعض ما جاء فیه کان منافیا لآراء الشیعة و معتقداتهم علی حد قوله. و کانت تلک المظاهرات قد تمت بتحریض من حزب النهضة الشیعی الذی کان یرأسه الحاج أمین الجرجفجی. علی ان هذا التحریض لم یکن سببه حادثة کتاب النصولی وحدها، و انما حدثت حوادث سیاسیة أخری کان یعارض فیها الحزب المذکور. و هاک ما یقوله المؤلف بالنص:
«.. ثم أخذ حزب النهضة یشنع بالوزیرین الشیعیین المشترکین فی الوزارة و یندد بتعاونهما مع الحکومة، و عمد الی تنظیم المظاهرات فی کربلا، و النجف، و کتابة المقالات الرنانة فی صحفه، فأدی ذلک بیاسین الهاشمی وکیل رئیس الوزراء الی سدها. و حینما اعترضت المقامات العلیا علیه قدم استقالته من الوزارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 389
و حذا حذوه رشید عالی الکیلانی» .
و حینما یعمد المستر لونکریک فی کتابه هذا إلی تحلیل احوال العراق الاجتماعیة و تقدمه، نراه یحلل تکاثف النفوس و احتشادهم فی مختلف الأماکن و یذکر کربلا بالمناسبة مستندا علی إحصاء 1947. فقد ظهر بنتیجة هذا الاحصاء ان کثافة النفوس فی کربلا تبلغ (46) نسمة فی الکیلومتر المربع الواحد، بینما تبلغ الکثافة فی الحلة (49) و هی اکثر المدن العراقیة کثافة فی السکان، و (40) فی بغداد. و یتطرق إلی الموضوع نفسه فیؤید ما أوردناه هنا المستر هاریس.
و یعمد المستر هاریس کذلک الی تحلیل إحصاء النفوس من نواح أخری علاوة علی هذا، فیأتی ذکر کربلا فیه. فهو یذکر ان الأجانب الموجودین فی العراق بلغ عددهم فی هذا الاحصاء (828، 73) نسمة أی حوالی واحد و نصف بالمئة من سکان العراق. و هم یترکزون غالبا فی بغداد التی یوجد فیها (204، 29) منهم، و کربلا التی یوجد فیها (670، 21) منهم، و البصرة التی یوجد فیها (012، 13) منهم.
ثم یتطرق إلی عدد البدو الموجودین فی العراق، فیرد اسم کربلا بالمناسبة أیضا. فهو یذکر بالاستناد الی احصاء 1947 ان عدد سکان البدو فی العراق یبلغ حوالی (000، 250) نسمة، و ان نصف هؤلاء تابعون للواء کربلا. و لا شک انه یعنی بذلک قبائل عنزة التی یعیش قسم کبیر منها فی منطقة شفاثة و الأخیضر. اما النصف الآخر فیتبع الی بعض الألویة الأخری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 390
علی الوجه الآتی:
لواء الموصل 000، 70، لواء المنتفک 000، 30، لواء الدلیم 000، 25.
اما من النواحی الأخری فیقول المستر هاریس ان رجال الدین الشیعة، و لا سیما فی کربلا و النجف و مناطق الفرات الأوسط التی یحیط بهما کان یتکون منهم جهاز قیادة یستطیع تحریک المعارضة و توجیهها ضد سیاسة الحکومة و مشاریعها فی عهد الانتداب و ما بعده.
و فی معرض البحث عن المرأة العراقیة و مستواها الاجتماعی یتطرق هاریس الی ذکر الحجاب و الاختلاط بین المرأة و الرجل فی المجتمع العراقی و مقدار انتشارهما فی المدن و المناطق الریفیة، و یقول ان الحجاب و انعزال المرأة معروفان فی المدن علی الاخص مع ان دخول المدنیة الغربیة الی الیلاد قد ادی الی اختفائهما تقریبا من بین نساء الطبقتین الوسطی و الراقیة فی بغداد. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌8 ؛ ص390
یعود فیشیر الی ان انعزال المرأة عن الرجل فی المجتمعات ما زال هو القاعدة العامة فی مراکز الألویة، و یحصل التشدد به علی الأخص فی کربلا و النجف حیث یندر ان تسیر المرأة غیر متحجّبة فیهما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 391

فهرس الموضوعات‌

الموضوع الصفحة
کربلا قدیما
کربلا قدیما 9
الطف 18
قصر مقاتل 20
الحائر 21
عین التمر 26
شفاثا 31
الغاضریة 31
نینوی 32
نهر العلقمی 32
العقر 38
عرض تاریخی مجمل لمصرع الحسین (ع)
مصرع ابی عبد اللّه الحسین (ع) 45
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 392
الموضوع/ الصفحة کربلا فی المراجع العربیة
کربلا فی الحدیث 77
کربلا فی تاریخ الرسل و الملوک 82
کربلا فی تاریخ المنتظم 86
کربلا فی الکامل 89
کربلا فی الجامع المختصر 98
فی مختصر اخبار الخلفاء 99
فی الحوادث الجامعة 100
کربلا فی منتخب المختار 103
فی تاریخ العراق بین احتلالین 105
کربلا فی الجغرافیا 138
کربلا فی الرحلات 140
کربلا فی الأدلة 151
ما ورد فی المظان التاریخیة
کلمة 165
کربلا فی معجم البلدان 167
کربلا فی احسن التقاسیم 167
المسعودی و کربلا 169
ابن الاثیر و الطف 171
کربلا فی الفخری 172
ابن عماد الحنبلی و کربلا 172
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 393
الموضوع الصفحة کربلا فی التوفیقات الالهامیة 173
فی دوحة الوزراء 174
کربلا فی حدیقة الزوراء 176
فی موجز تاریخ البلدان العراقیة 178
کربلا فی المحاضرات 184
کربلا فی المراجع الاستشراقیه 187
کربلا فی المعاجم 195
کربلا و ابو فراس الحمدانی 205
اهم المصادر العربیة و الغربیة لذکر کربلا و الحسین (ع) 207
کربلا فی الشعر
الشیخ ابراهیم الکفعمی 213
ابن هانی‌ء الاندلسی 213
ابو تمام 214
ابو دهبل الجمحی 214
ابو فراس الحمدانی 215
ابو محجن بن حبیب 215
السید احمد الرشتی 215
الشیخ جابر الکاظمی 215
الحسین المغربی الوزیر 216
السید حیدر الحلی 217
خضر عباس الصالحی 218
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 394
الموضوع الصفحة رشید الهاشمی 219
سبط ابن التعاویذی 219
سلمان هادی الطعمة 220
سلیمان بن قته 220
شبرمة بن الطفیل 221
الشریف الرضی 221
الصاحب بن عباد 222
طلائع بن رزیک (الملک الصالح) 222
عائکة بنت زید 225
عبد الباقی العمری 225
عبد الحسین الحویزی 229
عبد الغفار الاخرس 230
عبد اللّه العلایلی 233
فلیح حسون 233
کاظم الازری 234
کثیر عزة 234
الکمیت بن زید الاسدی 235
محسن ابو الحب 235
محمد حسن ابو المحاسن 235
محمد الحسین کاشف الغطاء 237
محمد علی کمونه 237
مرسی شاکر الطنطاوی 238
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 395
الموضوع الصفحة مصعب بن الزبیر 239
معن بن اوس المزنی 239
مهدی الجواهری 239
مهیار الدیلمی 240
موسی الطالقانی 242
میر علی ابو طبیخ 243
هاشم الکعبی 244
کربلا فی المراجع الغربیة
کربلا فی المراجع الغربیة 251
اول من زار ضریح الحسین (ع) 256
هدم المتوکل لقبر الحسین 258
کربلاء فی 369- 727 ه 260
الشاه اسماعیل فی کربلا 263
السلطان سلیمان فی کربلا 265
منارة العبد 266
کربلا فی القرن السابع عشر و الثامن عشر 267
هجوم الوهابیین 270
کربلا فی اوائل القرن التاسع عشر 275
واقعة نجیب باشا 276
بعض مظاهر التجدید 280
مشاهدات (تکسیرا) فی کربلا 281
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌8، ص: 396
الموضوع الصفحة کربلا فی رحلة نیبور 286
(لوفتس فی کربلا) 290
کربلا فی رحلة (جون أشر) 296
(مدام دیولافوا) فی کربلا 301
الموظفون الانکلیز فی کربلا 354
مؤتمر کربلا 355
معارضة المجلس التأسیسی و انتخابه 358
دونالدسون فی کربلاء 361
التربة الحسینیة 367
محرم الحرام 370
کربلا فی دائرة المعارف 383
البریطانیة و الاسلامیة نتف متفرقة 387

الجزء التاسع

[المقدمة]

بسم اللّه الرحمن الرحیم و به نستعین
فی هذا الجزء من قسم الکاظمین نکون قد اصدرنا ستة اجزاء من موسوعة العتبات المقدسة اختص جزء منها (بالمدخل) و جزء (بمکة المکرمة) و جز آن (بالنجف) و جزء (بکربلا) و نحن ماضون فی نشر کل جزء یتم تألیفه حتی ینتهی العمل کله من تاریخ عتبة واحدة او ینتهی معظم العمل فی بعض العتبات اذا شاء اللّه ذلک، اما انتهاء العمل من تاریخ العتبات کلها فأمر یتجاوز حدود المعقول، ذلک لان مثل هذا العمل یتطلب عمرا طویلا و جهودا متواصلة لیس من السهل توفیرها بأقل من ربع قرن علی الأقل، فالأمل کله معقود علی من یجی‌ء بعدنا لیواصل العمل علی هذه الطریقة، مستعینا بعدد من الأساتذة المتخصصین حتی ینجز العمل کله، و حتی یضع لهذه العتبات تاریخا صحیحا مستخلصا من الحوادث و الوقائع الصحیحة المجردة من شوائب الروایات و هو التاریخ الذی ظلت المکتبة الاسلامیة العربیة فی أمسّ الحاجة الیه منذ قیام هذه العتبات حتی الیوم.
و انه لمما یسرنا کل السرور ان نکون قد وفقنا فی هذه المدة القصیرة الی ان نقطع مرحلة ربما کانت طویلة اذا ما قیست بوفرة الانتاج، و وعورة الطریق، حتی لقد أصبحت الأجزاء التی صدرت من هذه الموسوعة موضع اهتمام من لدن عدد غیر قلیل من الجامعات الغربیة المحترمة اضافة الی الجامعات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 6
الاسلامیة، و هی الیوم تحتل من مکتبات 25 جامعة کبیرة مقاما محترما من قسم الاستشراق.
و مما زاد نشاطنا فی تألیف هذه الموسوعة و المضی فی تألیفها بجد مستمر هو انضمام عدد آخر من کبار اساتذة الجامعات و حملة الاقلام من ارباب الاختصاص الی حظیرتنا و المشارکة معنا فی تألیف و تصنیف و ترجمة البحوث التی یستلزمها تألیف هذه الاجراء.
و اننا لنتوقع ان یکون عدد اجزاء قسم الکاظمین عشرة اجزاء ای بما یقارب ان یکون عشرة امثال هذا الجزء، و کل ما نرجوه هو ان یزید اللّه من توفیقنا، و یبارک عملنا الذی من ورائه لم نبتغ غیر الخدمة الخالصة للعلم الخالص، و للحقیقة التی کادت تضیع بسبب ما احاط بتاریخ هذه العتبات من غموض آنا، و مبالغات آنا آخر، و غمط للواقع بحیث اساء البعض منها الی التاریخ الاسلامی العام، و التاریخ العربی الخاص اساءآت غیر مغتفرة، و اللّه من وراء القصد.
بغداد دار التعارف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 7

الکاظمیة قدیما بحث یتناول منطقة مدینة الکاظمین و ما یحاذیها و یجاورها من المدافن و المساجد قبل تمصیرها

اشارة

کتبه الدکتور مصطفی جواد خریج جامعة السوربون بباریس فی التاریخ العربی و الاستاذ بجامعة بغداد و عضو المجمع العلمی العراقی ببغداد و المجمع العلمی العربی بدمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 9

الکاظمیة قدیما

الکاظمیة منسوبة إلی لقب الامام موسی بن جعفر الصادق العلویّ الحسینیّ، الملقب بالکاظم (ع)، و قد عرفت بهذه التسمیة فی عصرنا هذا، و کانت تعرف عند العامة بالکاظم علی تقدیر «بلدة الکاظم» و بالکاظمین علی تقدیر «بلدة الکاظمین» و عرفت قدیما بالمشهد الکاظمیّ و بمشهد موسی ابن جعفر- ع- و بمقبرة قریش، و من المؤرخین من یرید الاعمام و الابهام فیسمیه «مشهد باب التبن» لقرب مقبرة قریش من مقبرة باب التبن الواقعة- کانت- فی شرقی مقابر قریش و سنأتی علی ذکرها مع المواضع الخاصة بها القریبة منها.
کانت أرض مقابر قریش أی دارة الکاظمیة الحالیة من الأرضین القدیمة المسکونة التابعة لدولة الکشیین الذین جاؤوا فی أواسط القرن الخامس عشر قبل المیلاد من الجبال الشمالیة الشرقیة من منطقة لورستان فی ایران یقودهم زعیم لهم اسمه «کندش» فاحتلوا مدینة بابل و قارضین دولة بابل الأولی المعروفة باسم «الأموریة»، و اتخذوها مرکزا لتنظیم أمورهم و ترکیز سیطرتهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 10
و سلطانهم و تثبیت اداراتهم لأواسط ما یسمی بعد ذلک «العراق» و جنوبیه و قد ذکرت الکتابات التاریخیة المسماریة أن عدّة ملوکهم الذین حکموا فی هذه البلاد «76» ستة و سبعون ملکا حکموا «576» سنة قمریة. و قد تعلم الکشیون اللغة البابلیة السامیة مع انهم کانوا من الآریین، و کتبوا بها و استعملوا ایضا اللغة السومریة الآریة فضلا عن لغتهم الکشیة فی جملة من أخبارهم و اقتبسوا الحضارة البابلیة و اعتّدوا بها، و کانت لهم اتصالات دولیة واسعة بالملوک المثیانیین و الملوک الحثیین و الفراعنة بمصر و الشعوب المجاورة لهم فازدهرت التجارة فی عصورهم و عم الرخاء البلاد فی عهود العظماء من ملوکهم و کان منهم الملک «کاریکالزو» و هو الذی شید للدولة عاصمة جدیدة اطلق علیها اسمه المذکور و تعرف اطلالها و تلّها العظیم الیوم بعقرقوف، و هذا التلّ هو بقیة زقورة المدینة، و قد استحاثت مدیریة الآثار العامة فی المدینة لقی أثریة نفیسة من مصوغات و أوان من الفخار و کتابات یشاهدها الزائر معروضة فی القاعة البابلیة من المتحفة العراقیة ، و لم نقف علی اسم منطقة الکاظمیة فی عصر الکشیین و لا فی عصور من حکموا قبلهم کالأکدیین السامیین و البابلیین و لا فی عصر من حکموا بعدهم کالکلدانیین و الاخمینیین الایرانیین، و إنما نستطیع أن نذکر اسما لها یشبه الأسماء الیونانیة و هو «قطربل» و هذا یدل علی أن الاسم کان معروفا فی أواخر القرن الرابع قبل المیلاد و هو القرن الذی أنشئت فیه دولة السلوقیین الیونانیین بعد وفاة الاسکندر المکدونی، و قد دلت الاستحاثات القدیمة علی وجود نقود یونانیة فی تلک المنطقة مخلوطة مع نقود غیرها و ذلک یدل علی أن أحد سکان هذه المنطقة فی العهود الاسلامیة عثر علیها فی أثناء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 11
حفر أسس لداره أو لعمارة أخری من العمارات، ففی سنة «647» ه أمر الخلیفة المستعصم باللّه أمر بعمارة مشهد الامام موسی بن جعفر- ع- فی مقابر قریش المذکورة. فلما شرع الفعلة و البناة فی ذلک وجدوا برنیّة أی بستوقة فیها ألف درهم قدیمة منها یونانیة علیها صور و منها ضرب بغداد و منها ما هو ضرب واسط، فعرضت علی الخلیفة. المذکور آنفا فأمر أن تصرف فی عمارة المشهد فاشتراها الناس بأوفر الأثمان و أهدی منها إلی الأکابر، فنفّذوا إلی المشهد أضعاف ما کان حمل الیهم منها .
و وجدت دراهم یونانیة أیضا فی مقبرة الشهداء الآتی ذکرها من بعد و کانت فی الغرب الجنوبی من مقابر قریش، و علی صلة بمقابر باب حرب من الغرب فقد جاء فی الکتاب الذی نقلنا منه خبر العثور علی الدراهم الیونانیة و غیرها فی أخبار سنة 641 أن میتا حمل الی مقبرة الشهداء لیدفن فیها فلما حفر الحفار قبرا له فوجد فی الحفر جرّة مملوءة دراهم یونانیة و دراهم اسلامیة مما ضرب بالمدینة المنورة فأحضرها الی المحتسب ببغداد فحملها المحتسب الی دار الوزیر نصیر الدین أحمد بن الناقد وزیر الخلیفة المستعصم باللّه فأمره بالمضنی الی المقبرة و اعتبار الحفر أی فتشه فحضر و حضر حول القبر فوجدوا جرة أخری کان بها نحو عشرة آلاف درهم .
و کانت المنطقة التی فیها مقابر قریش تعرف فی أیام الساسانیین بطسّوج قطربل أی کورة قطربل و کانت تروی من نهر یتفرع من الجانب الأیمن من دجلة و یعرف بنهر دجیل و لا یزال عقیقه و مجاری شعبه و شاخاته ظاهرة بین البلدة المعروفة باسم «بلد» و بغداد، و کان نهر یفصل بین طسّوج قطربّل و طسّوج بادوریا فی الجنوب یعرف بنهر الصراة یتخلج من نهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 12
عتیق یأخذ ماءه من الفرات و عرف فی أیام الساسانیین باسم نهر رفیل و فی أیام العباسیین و بعدهم باسم نهر عیسی بن علی عم أبی جعفر المنصور.
و مقبرة الشهداء التی ورد ذکرها آنفا هی علی المشهور مقبرة الشهداء المسلمین الذین حاربوا الخوارج قرب أرض الکاظمیة فأثخنتهم الجراح و ماتوا فدفنوا هناک أعنی فی غربی الکاظمیة الجنوبیّ سنة 37 ه.
و قیل بل حملوا من ساحة الوغی فی وقعة النهروان و هم مرتثّون فأدرکهم الموت فی ذلک الموضع، قال الخطیب البغدادی:
«و بالقرب من القبر المنسوب الی هشام (بن عروة بن الزبیر بن العوام) بالجانب الغربی قبور جماعة تعرف بقبور الشهداء لم أزل أسمع العامة تذکر أنها قبور قوم من أصحاب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب، کانوا شهدوا معه قتال الخوارج بالنهروان و ارتثّوا فی الوقعة ثم لما رجعوا أدرکهم الموت مدینة الکاظمین من الطائرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 13
فی ذلک الموضع فدفنهم علی هناک و قیل انّ فیهم من له صحبة و قد کان حمزة بن محمد بن طاهر ینکر أیضا ما اشتهر عند العامة من ذلک و سمعته یزعم أن لا أصل له و اللّه اعلم» .
قلنا: إن اعتداد الخطیب البغدادی لحمزة بن محمد بن طاهر من المنکرین یشیر الی غیره ممن یلقی الکلام علی عواهنه، فقد ذکر الخطیب فی تاریخه قبل ذلک فی الکلام مسجد العتیقة المعروف قدیما و حدیثا بمسجد المنطقة القائم المعمور الیوم بین بغداد و الکاظمیة ما هذا نصه: «قال الشیخ أبو بکر: و فی سوق العتیقة مسجد تغشاه الشیعة و تزوره و تعظمه، و تزعم أنّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلی فی ذلک الموضع و لم أر أحدا من أهل العلم یثبت أنّ علیّا دخل بغداد و لا روی لنا شی‌ء غیر ما أخبرنا به القاضی ابو عبد اللّه الحسین بن علی الصیمریّ قال أنبأنا أحمد بن محمد بن علی الصیرفی أنبأنا القاضی محمد بن عمر الجعابی الحافظ- و ذکر بغداد- فقال: یقال إن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب اجتاز بها إلی النهروان راجعا منه و أنه صلیّ فی مواضع منها فان صحّ ذلک فقد دخلها من کان معه من الصحابة.
قال الشیخ أبو بکر و المحفوظ أن علیّا سلک طریق المدائن فی ذهاب النهروان و فی رجوعه و اللّه أعلم. حدثنی أبو الفضل عیسی بن أحمد بن عثمان الهمذانی قال سمعت أبا الحسن بن زرقویه یقول: کنت یوما عند أبی بکر الجعابی فجاءه قوم من الشیعة فسلموا علیه و دفعوا إلیه صرّة فیها دراهم ثم قالوا له: أیها القاضی إنک قد جمعت أسماء محدثی بغداد و ذکرت من قدم إلیها و أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب قد وردها فنسألک أن تذکره فی کتابک. فقال: نعم یا غلام هات الکتاب. فجی‌ء به، فکتب فیه (و أمیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 14
المؤمنین علی بن أبی طالب یقال إنه قدمها) قال ابن زرقویه: فلما انصرف القوم قلت له: أیها القاضی هذا الذی ألحقته فی الکتاب من ذکره؟ فقال:
هؤلاء الذین رأیتهم، أو کما قال:
قلنا: و زاد الخطیب و غیره توهین ما ذکره الشیعة من مرور الامام علیّ ابن أبی طالب بهذه المواضع و نفی دخوله بغداد فی العصر الذی کانت فیه قریة من القری المشهورة المسکونة، و هؤلاء المنکرون کانوا من القرون المتأخرة بالنسبة الی وقعة النهروان، فلا حق لهم فی انکار ذلک من غیر رجوع الی التواریخ المعتمدة و الأخبار المسندة، و من یقرأ أخبار وقعة النهروان فی تاریخ الطبری محمد بن جریر یعلم أن جیش الامام علی- ع- قد وطی‌ء هذه الأرض القریبة من أرض الکاظمین، و سنذکر من غیر تاریخ الطبری أن الامام علیا- ع- مرّ بقریة تعرف بقطفتا باسمها الآرامی الدال علی قطف الثمار و هی التی صارت محلّة من محال بغداد الغربیة أیام بنی العباس و وصفها یاقوت فی معجم البلدان و ذکرها غیره.

[اخبار وقعة الخوارج

قال الطبری فی حوادث سنة 37 و هو یروی أخبار وقعة الخوارج:
«و أرسل عدیّ بن حاتم الطائی إلی سعد بن مسعود الثقفی عامل علی علی المدائن یحذره أمرهم- یعنی أمر الخوارج- فحذر و أخذ أبواب المدائن و خرج فی الخیل و استخلف بها ابن أخیه المختار بن أبی عبید و سار فی طلبهم، فأخبر عبد اللّه بن وهب الراسبی خبره فرابأ طریقه و سار علی بغداد و لحقهم سعد بن مسعود الثقفی بالکرخ فی خمسمائة فارس عند المساء، فانصرف إلیهم عبد اللّه فی ثلاثین فارسا فاقتتلوا ساعة، و امتنع القوم منهم، و قال أصحاب سعد لسعد: ما ترید من قتال هؤلاء و لم یأتک أمر؟ خلّهم فلیذهبوا و اکتب الی أمیر المؤمنین فان أمرک باتباعهم اتبعتهم و إن کفاکهم غیرک کان فی ذلک عافیة لک. فأبی علیهم فلما جنّ اللیل خرج عبد اللّه بن وهب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 15
الراسبی فعبر دجلة إلی أرض جوخا و سار إلی النهروان فوصل الی أصحابه و قد أیّسوا منه و قالوا: إن هلک و لینا الأمر زید بن حصین أو حرقوص ابن زهیر، و سار جماعة من أهل الکوفة یریدون الخوارج لیکونوا معهم فردّهم أهلوهم کرها ... قال ابو مخنف حدثنی یوسف بن یزید عن عبد اللّه ابن عون قال: لما أراد علی المسیر إلی أهل النهر من الأنبار قدّم قیس بن سعد بن عبادة و أمره أن یأتی المدائن فینزلها حتی یأمره بأمره، ثم جاء مقبلا الیهم و وافا قیس سعد بن مسعود الثقفی بالنهر و بعث إلی أهل النار:
ارفعوا إلینا قتلة اخواننا منکم نقتلهم بهم ثم أنا تارککم و کافّ عنکم حتی ألقی أهل الشام فلعل اللّه یقلب قلوبکم و یردکم إلی خیر مما أنتم علیه من أمرکم ... قال أبو مخنف: حدثنی مالک بن أیمن عن زید بن وهب أنّ علیا أتی أهل النهر فوقف علیهم فقال: أیتها العصابة التی أخرجها- عداوة- المرار و اللجاجة، و صدّها عن الحق الهوی، و طمح بها النزق، و أصبحت فی اللبس و الخطب العظیم، إنی نذیر لکم ان تصبحوا تلفکم الأمة غدا صرعی بأثناء هذا النهر و باهضام هذا الغائط» .
و إذا استخلصنا هذا الخبر نستطیع أن نقول إن الخوارج فی هربهم من الکوفة أرادوا التوجه إلی المدائن أیام کانت من مدن العراق الکبیرة الحصینة لیتخذوها معقلا، فمنعوا من دخولها فارتفعوا نحو الشمال و مرّوا ببغداد حین کانت قریة من القری المشهورة علی دجلة فی أرض الصالحیة الحالیة من غربی بغداد، و تعقبهم قائدان من قواد الامام علی- ع- و عامل من عماله هو سعد بن مسعود الثقفی فلحق بهم فی الکرخ أیام کانت قریة کبیرة محصنة کما یدل علیها اسمها، و کانت بین أرض الشالحیّة و الفلاحات من الجانب الغربیّ، و الشالحیة مجاورة لأرض العتیقة المعروفة بقریة «سونایا» قدیما و فی عهد الامام علی- ع- و قبله و بعده حتی عصر العباسیین فقد سمّوها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 16
«العتیقة» لأنها أقدم زمنا و وجودا من مدینة السلام التی أنشأها أبو جعفر المنصور فی شمالها الغربیّ، و کان قریبا من الشالحیة موضع مقبرة الشهداء المذکورة آنفا، و نستخلص أیضا أن جیش سعد بن مسعود الثقفی و عصبة الخوارج اقتتلوا ساعة قرب الکرخ، و لم یکن بد من أن تکون بین الفریقین جراحات مثخنة فیهم أدّت الی موت عدة فرسان من جنود الامام علیّ فدفنوا هناک، و تسمّوا الشهداء، و نستخلص بعد ذلک أن الخوارج قد هرب معظمهم من نواحی الکرخ متجهین إلی الشرق بعد عبورهم دجلة و بقی عبد اللّه بن وهب الراسبی مع الباقین من الثلاثین فارسا الذین حاربوا جنود الامام علی- ع- فلما أطلّ علیه اللیل لحق بأصحابه عابرا دجلة أیضا قرب أرض الکاظمیة، ثم اتجه نحو طریق بعقوبا و التقی القوم عند فم النهروان وقعت وقعة النهروان قبل عبور الخوارج النهروان. و نستخلص أخیرا أن الامام علیا- ع- فی تعقیبه الخوارج سلک طریق الأنبار و أقام فیها و قدم علیه بها قیس بن سعد بن عبادة الخزرجی الأنصاری ثم انحدر الامام- ع- من الأنبار نحو الخوارج و هذا معناه أنه سلک طریق الفلوجة فبغداد لیعبر دجلة إلی نواحی النهروان من المعبر المشهور عند قصر سابور قرب موضع مدرسة الکرخ الثانویة الحالیة و هو المعبر الذی عبرت منه سریة خالد بن الولید سنة 12 ه و لکن من الشرق الی الغرب لا من الغرب الی الشرق کما فعل الامام علی- ع-. و فی أثناء قدوم علی بغداد و نواحیها، و فراغه من حرب الخوارج مرّ بقریة «قطفتا» التی قدمنا ذکرها و مظنة خبرها، قال مؤلف کتاب إثبات الوصیة: «و روی أنه- ع- اجتاز فی طریقه إلی الشام ببادوریا فخرج أهل قریة منها یقال لها قطفتا فشکوا إلیه ثقل الوضائع فی الخراج و أنها مخالفة لسائر وضائع السّواد بالعراق، فقال لهم و بالنبطیة «و غرار و طاموغزریا» ، یعنی (رب جحش صغیر خیر من حمار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 17
کبیر) فکانوا کلموه بالنبطیة فأجابهم بکلامهم ثم قال لهم: أنتم تبیعون ثمارکم بضعف ما یبیعها غیرکم من أهل السّواد» .
و بعد نقلنا هذه النصوص التاریخیة الواضحة تتهادی فی درک الباطل و البطلان أقوال من أنکر قدوم الامام علیّ- ع- بغداد و نواحیها و صلی فی براثا إحدی القری المجاورة لها و دخل حماما هناک فاستحم فیه، و بطل أیضا إنکار یاقوت الحموی فی الکلام علی براثا من معجم البلدان، و بقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 18
الاختلاف فی الموضع الذی استحم فیه و صلی أهو براثا علی التحقیق أم سونایا المعروفة بعد ذلک المعروفة بعد ذلک باسم العتیقة؟ و إنّا ذاکرون مختلف الأقوال فیما یلی السطر.

براثا و مسجدها

قال یاقوت الحموی فی معجم البلدان: «براثا بالثاء المثلّثة و القصر ..
و کانت قبل بناء بغداد قریة یزعمون أنّ علیا مرّ بها لما خرج لقتال الحروریة بالنهروان و صلی فی موضع من الجامع ... و ذکر انه دخل حماما کان فی هذه القریة و قیل: بل الحمام التی دخلها کانت بالعتیقة: محلة ببغداد خربت» و قال قبل ذلک «براثا ... محلة کانت فی طرف بغداد فی قبلة الکرخ و جنوبی باب محوّل و کان لها جامع مفرد تصلی فیه الشیعة و قد خرب عن آخره و کذلک المحلّة و لم یبق لها أثر (أی سنة 625 ه) فأما الجامع فأدرکت بقایا من حیطانه و قد خربت فی عصرنا و استعملت فی الأبنیة ...»
و فی هذا الخبر تمییز من جامع براثا و موضعه و من موضع العتیقة و سوقها اللذین قدمنا الکلام علیهما آنفا نقلا عن تاریخ الخطیب و تعیین الموضع الجامع بأنه کان فی قبلیّ الکرخ، و قد ذکرنا تعیین الکرخ سابقا بأنه کان بین موضع الشالحیة و الفلاحات، فجامع براثا کان فی غربیّ هذه المواضع، و قال الخطیب البغدادی: «و کان فی الموضع المعروف ببراثا مسجد یجتمع فیه قوم ممّن ینتسب إلی التشیع و یقصدونه للصلاة و الجلوس فیه فرفع الی المقتدر باللّه أن الرافضة یجتمعون فی ذلک المسجد لسبّ الصحابة و الخروج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 19
عن الطاعة فأمر بکبسه یوم جمعة وقت الصلاة فکبس و أخذ من وجد فیه فعوقبوا و حبسوا حبسا طویلا و هدم المسجد حتی سوی بالأرض و عفی رسمه و وصل بالمقبرة التی تلیه و مکث خرابا إلی سنة ثمان و عشرین و ثلاثمائة فأمر الأمیر بجکم باعادة بنائه و توسعته و إحکامه فبنی بالحصّ و الآجر و سقف بالساج المنقوش و وسع فیه ببعض ما یلیه اسما مما ابتیع له من املاک الناس و کتب فی صدره اسم (الخلیفة) الراضی (باللّه) و کان الناس ینتابونه للصلاة فیه و التبرک به، ثم أمر المتقی للّه بعد بنصب منبر فیه کان بمسجد مدینة المنصور معطلا مخبوءا فی خزانة المسجد علیه اسم هارون الرشید، فنصب فی قبلة المسجد و تقدم الی أحمد بن الفضل بن عبد الملک الهاشمی- و کان الامام فی جامع الرصافة- بالخروج إلیه و الصلاة بالناس فیه الجمعة، فخرج و خرج الناس من جانبی مدینة السلام حتی حضروا هذه فی هذه المسجد و کثر الجمع هناک و حضر صاحب الشرطة فأقیمت صلاة الجمعة فیه یوم الجمعة لثنتی عشرة لیلة خلت من جمادی الأولی سنة تسع و عشرین و ثلاثمائة، و توالت صلاة الجمعة فیه و صار من مساجد الحضرة (یعنی بغداد) و أفرد أبو الحسن أحمد بن الفضل الهاشمی بامامته و أخرجت الصلاة بمسجد جامع الرصافة عن یده» و قال الخطیب بعد ذلک: «فأدرکت صلاة الجمعة و هی تقام ببغداد فی مسجد المدینة (یعنی مدینة المنصور) و مسجد الرصافة، و مسجد دار الخلافة (یعنی مسجد سوسق الغزل) و مسجد براثا، و مسجد قطیعة أم جعفر و تعرف بقطیعة الرقیق، و مسجد الحربیة، و لم تزل علی هذا إلی أن خرجت بغداد سنة إحدی و خمسین و اربعمائة تم تعطلت فی مسجد براثا فلم تکن تصلی فیه» . و جاء فی أخبار سنة «420 ه» ما یفید أن الشیعة کانوا مسیطرین علی جامع براثا فی ذلک العصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 20
و قد وهم یاقوت الحمویّ فی خبر کبس جامع براثا فی معجم البلدان و قال: «فکبسه الراضی باللّه و أخذ من وجده فیه و حبسهم و هدمه حتی سویّ بالأرض و انهی الشیعة خبره الی بجکم الماکانی أمیر الأمراء ببغداد فأمر بإعادة بنائه و توسیعه و إحکامه و کتب فی صدره اسم الراضی، و لم تزل الصلاة تقام فیه الی بعد الخمسین و أربعمائة تم تعطلت الی الآن». إن یاقوتا جعل الکبس باسم الراضی مع أنه کان بأمر المقتدر کما نقلنا من تاریخ الخطیب البغدادی. و قد ایّد ابن عبد الحق البغدادی قول الخطیب فی کتابه مراصد الاطلاع.

مسجد العتیقة و مشهدها «المنطقة»

ذکرنا اختلاف المؤرخین و الرواة فی الموضع الذی صلی فیه الامام علی- ع- و استحم فیه، و قد ذکرنا تاریخ أحد الموضعین، و هو براثا، أما الموضع الثانی فهو مشهد العتیقة و مسجدها و هو المعروف قدیما و حدیثا باسم «المنطقة» و کانت قریة تعرف قدیما باسم سونایا الارامی قال ابن عبد الحق البغدادی فی مراصد الاطلاع: «سونایا، بضمّ أوّله بعد الواو الساکنة و بعد الألف یاء مثناة من تحت و ألف مقصورة، قریة قدیمة کانت ببغداد ینسب العنب الأسود الیها الذی یتقدم و یبکّر علی سائر العنب مجناه، و لما عمرت بغداد صارت محلّة من محالها و هی (العتیقة) و بها مشهد لعلی بن أبی طالب- ع- یعرف بمشهد «المنطقة» ففی هذا النص تصریح باسم المنطقة المعروف المتعارف حتی فی هذه الأیام، و هو نصّ یدحض الی أبد الآبدین قول من یسمّی مسجد المنطقة «بجامع براثا».
و لا تمام ذکر النصوص المویدة لما قدمنا ننقل ما ذکره ابن عبد الحق و غیره قال ابن عبد الحق: فی مراصده: «العتیقة بفتح أوله و کسر ثانیه: محلة ببغداد بالجانب الغربی ما بین طاق المرانی الی باب الشعیر و ما اتصل به من شاطی‌ء دجلة و إلیها تنسب القنطرة العلیا التی علی الصّراة، و سمیت العتیقة لأنها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 21
کانت قبل بناء بغداد قریة یقال لها سونایا و إلیها ینسب العنب الأسود، و مساکن هذه القریة مکان هذه المحلّة» .
فتأمل توحید ابن عبد الحق بین ما سمّاها سونایا و ذکر فیها «مشهد المنطقة» القائم حتی الیوم و إن کان مجدّدا و بین العتیقة، و لکنه حین ذکر جامع براثا میّزه عن العتیقة و سونایا أوضح التمییز قال: «براثا بالثاء المثلثة و القصر: محلة کانت فی طرف بغداد فی قبلیّ الکرخ و بنی بها جامع کانت تجتمع به الشیعة و یسبون الصحابة فیه فأخذ الراضی من وجد فیه و هدمه ثم ثم أعاده بجکم و وسعه و کتب اسم الراضی فی صدره و أقیمت به الجمعة الی ما بعد الخمسین و اربعمائة ثم قطعت منه و خرب، و آثاره باقیة الی الآن».
بقی إلی ما بعد سنة سبعمائة الهجریة أی البرهة التی ألف ابن عبد الحمید الکتاب لأنه توفی سنة 739 ه. و قد اختصر ابن عبد الحمید کلام یاقوت علی هذا المسجد و قد نقلناه آنفا و وهم مثله فی اسم الخلیفة الذی هدمه و هو المقتدر باللّه کما نقلنا من تاریخ البغدادی لا الراضی باللّه، و أفاد ابن عبد الحق ان آثار الجامع کانت باقیة فی القرن الثانی للهجرة و لکنها آثار لا عمارة قائمة کاملة المرافق المسجدیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 22

مقابر قریش

قدمنا فی أول هذا البحث أن دارة الکاظمیة کانت تعرف بمقابر قریش و نذکر أن السبب فی تسمیتها بهذا الاسم هو أن أبا جعفر المنصور بعد أن أنشأ مدینته المعروفة بمدینة السلام تفاؤلا بسلامة دولته من الخطر و الضرر، سنة 145 ه أصابه الزمان بوفاة ابنه جعفر الأکبر الذی حقق باسمه کنیته و کانت الوفاة سنة «150» ه فاتخذ مقبرة جدیدة فی أرض دارة الکاظمیة الحالیة و سمّاها «مقبرة قریش» أو «مقابر قریش» بالجمع، و هذا الاسم یدل علی أن الموتی الذین کانوا یدفنون فیها کانوا من قریش خاصة کالعباسیین و العلویین، و لکن هذا الشرط لم یحافظ علیه بعد ذلک. و قد دفن أبو جعفر جعفرا المقدم ذکره فیها ثم دفن فیها أبو یوسف القاضی الأنصاری سنة 182 ه. و لم یکن قرشیا کما هو معلوم، ثم دفن فیها الامام موسی الکاظم ابن الامام جعفر الصادق- ع- سنة 183 ه و بعد ذلک بعدة سنین دفن إلی جنبه الامام محمد الجواد حفیده سنة 219 ه، قال الخطیب البغدادی:
«بالجانب الغربی فی أعلی المدینة مقابر قریش دفن فیها موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب و جماعة من الأفاضل معه ...
سمعت الحسن بن ابراهیم أبا علی الخلال یقول: ما همنی أمر فقصدت قبر موسی بن جعفر فتوسلت به الا سهّل اللّه تعالی لی ما أحب» ثم أسند الی محمد بن خلف وکیع قال: «و کان أول من دفن فی مقابر قریش جعفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 23
الأکبر بن المنصور» ثم قال الخطیب: «سمعت بعض شیوخنا یقول:
مقابر قریش کانت قدیما تعرف بمقبرة الشوینیزی الصغیر، و المقبرة التی وراء التوثة تعرف بمقبرة الشوینزی الکبیر، و کان أخوان یقال لکل واحد منهما الشونیزی، فدفن کل واحد منهما فی إحدی هاتین المقبرتین و نسبت المقبرة إلیه» . أما الشوینیزیة الحقیقیة فهی المعروفة الیوم بمقبرة الشیخ جنید البغدادی الصوفی غربی قبر معروف الکرخی .
و أثر التخلیط واضح علی هذا الخبر، فلم یرد ذکر الشوینزی الصغیر إلا فیه، و لو کانت مقابر قریش تعرف بمقبرة الشوینیزی الصغیر لقیل إنها کانت مقبرة قبل اتخاذ المنصور لها، بالتحقیق و التأکید، و لورد ذکرها فی الأقل فی خبر وفاة جعفر الأکبر و قیل إنه دفن فی مقبرة الشوینیزی الصغیر التی عرفت بعد ذلک بمقبرة قریش أو مقابر قریش، ثم یقال: کیف یدفن الأخوان متباعدا قبراهما هذا التباعد؟ هذا و قد ذکر یاقوت الحموی و مؤلف المراصد أن المنصور هو الذی جعل أرض مقابر قریش مقبرة، قال فی المراصد: «مقابر قریش ببغداد مقبرة و محلة فیها خلق کثیر و علیها سور، بین مقبرة الامام أحمد و الحریم الطاهری و بها مشهد قبر موسی بن جعفر و ابن ابنه الجواد، و کان أول من دفن فیها جعفر الأکبر ابن المنصور و جعلها المنصور مقبرة لما ابتنی مدینته».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 24
و قال یاقوت الحموی فی معجم البلدان: «مقابر قریش ببغداد و هی مقبرة مشهورة و محلة فیها خلق کثیر و علیها سور، بین الحربیة و مقبرة أحمد ابن حنبل- رض- و الحریم الطاهریّ و بینها و بین دجلة شوط فرس جید و هی التی فیها قبر موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الامام الحسین بن علی بن أبی طالب، و کان أول من دفن فیها جعفر الأکبر بن المنصور أمیر المؤمنین فی سنة (150 ه) و کان المنصور أول من جعلها مقبرة لما ابتنی مدینته سنة 149». و قال فی قریش من معجم البلدان أیضا: «و هی عدة مواضع سمیت بأصحابها منها مقابر قریش ببغداد و هی مقابر باب التبن التی فیها قبر موسی الکاظم بن جعفر الصادق و ابن محمد الباقر بن علی زین العابدین ابن الحسین الشهید بکربلاء بن علی بن أبی طالب- رضی اللّه عنهم- فنسب إلی قریش القبیلة».
قلنا: و فی تسمیة یاقوت مقابر قریش بمقابر باب التبن تسامح بل تهاون، فالمقبرتان مختلفتان و إن کانتا متجاورتین، فهو یقول فی باب التبن:
«باب التبن بلفظ التبن الذی تأکله الدواب- اسم محلة کانت ببغداد علی الخندق بازاء قطیعة ام جعفر، و هی الآن خراب صحراء یزرع فیها و بها قبر عبد اللّه ابن أحمد بن حنبل- رضی اللّه عنه- دفن هناک، بوصیة منه و ذاک أنه قال: قد صحّ عندی أنّ بالقطیعة نبیّا مدفونا و لأن أکون فی جوار نبی أحب إلیّ من أن أکون فی جوار أبی. و بلصق هذا الموضع مقابر قریش التی فیها قبر موسی الکاظم ابن جعفر الصادق و ابن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الامام الحسین بن الامام علی بن ابی طالب- رضی اللّه عنهم- و یعرف قبره بمشهد باب التبن، مضاف إلی هذا الموضع و هو الآن محلة عامرة و ذات سور مفردة».
فقوله و یعرف قبره بمشهد باب التبن جدیر بأن یضاف الیه: «عند من یرید أن یغمض اسمه من المغمضین. المدلّسین، فقبر عبد اللّه بن أحمد ابن حنبل أولی أن یسمی تلک التسمیة لأنه کان فی تلک المقبرة نفسها و أمّا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 25
قبر الامام موسی فهو المعروف بمشهد الامام موسی بن جعفر و بالمشهد الکاظمی کما ذکرنا من قبل.

المواضع المجاورة لمقابر قریش قدیما

ذکرنا أن منطقة الکاظمیة کانت قدیما من نواحی عقرقوف التی کانت تسمی فی عصور الدولة الکشیة «دورکاریکالزو» و قد سمّاها الآرامیون «عقرقوف» قال یاقوت فی معجم البلدان: «عقرقوف هو عقر أضیف الیه فصار مرکبا مثل حضر موت و بعلبک ... و هی من نواحی دجیل بینها و بین بغداد أربعة فراسخ و إلی جانبها تل عظیم من تراب یری من خمسة فراسخ کأنه قلعة عظیمة لا یدری ما هو، إلا أن ابن الفقیه ذکر أنه مقبرة الملوک الکیانیین و هم ملوک کانوا قبل آل ساسان من النبط و إیاه عنی أبو نواس بقوله:
إلیک رمت بالقوم هوج کأنماجماجمها تحت الرحال قبور
رحلن بنا من عقرقوف و قد بدامن الصبح مفتون الأدیم شهیر
فما نجدت بالماء حتی رأیتهامع الشمس فی عینی أباغ ثغور
و قد ذکر أهل السیر أن هذه القریة سمیت بعقرقوف بن طهمورث الملک ...
و کان زید بن ودیعة (الحبلی) قد قدم العراق فی خلافة عمر بن الخطاب- رضی اللّه عنه- فنزل بعقرقوف. سمعت أن ابن أبی قطیفة یقول: ما أخذ ملک الروم أحدا من أهل بغداد إلا سأله عن تلّ عقرقوف فان قال له:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 26
اته بحاله قال: لا بد أن أطأه. فصار ولده (أی ولد زید بن ودیعة) بها یقال لهم بنو عبد الواحد بن بشیر بن محمد بن موسی بن سعد بن زید بن ودیعة، و لیس بالمدینة منهم أحد، و شهد زید بن ودیعة بدرا واحدا».
و لم ننقل أخبار عقرقوف القدیمة فی معجم البلدان اعتمادا علی صحتها، فلا صلة لعقرقوف بالکیانیین و لا الملک المزعوم أنه عقرقوف بن طهمورث، و الصحیح ما ذکرناه من تاریخها فی أول هذا البحث و کرّرنا بعضه فی صدر الکلام علی هذا الموضع هنا.
أسلفنا من القول أن المنطقة القائمة فی عصرنا بین الکاظمیة و بغداد کان یعرف موضعه باسم «سونایا» الآرامی، و سمّی فی أول قدوم المنصور منطقة بغداد «العتیقة» و نقلنا من مراصد الاطلاع أنّ فی سونایا أی مشهدا منسوبا إلی الامام علیّ بن أبی طالب- ع- یعرف بمشهد المنطقة، و لا یزال هذا الاسم هو الغالب علی هذا المسجد الشیعی المقدس، و أظهرنا خطأ من سماه «مسجد براثا» لأن ذلک المسجد کان فی جهة قبلة الکرخ و قد زال منذ عصور، و مسجد المنطقة فی شرقی الکرخ الشمالیّ، و قد ذکر یاقوت الحموی سونایا و العتیقة فی معجمه قال: «سونایا بضمّ أوله و بعد الواو الساکنة نون و بعد الألف یاء یاء مثنأة من تحت و ألف مقصورة: قریة قدیمة کانت ببغداد ینسب إلیها العنب الأسود الذی یتقدم و یبکّر علی سائر العنب مجناه، و لما عمرت بغداد دخلت هذه القریة فی العمارة، و صارت محلّة تعرف بالعتیقة و بها مشهد لعلیّ بن أبی طالب- رضی اللّه عنه- و قد درست الآن». یعنی المحلّة.
اخر صورة لبهو جامع براثا الیوم
ثم قال: «العتیقة، بفتح أوله و کسر ثانیه بلفظ ضد الجدیدة: محلّة ببغداد فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 27
الجانب الغربی ما بین طاق الحرانی إلی باب الشعیر و ما اتصل به من شاطی‌ء دجلة، و سمیت العتیقة، لأنها کانت قبل عمارة بغداد قریة یقال لها سونایا و هی التی ینسب الیها العنب الأسود. و کانت منازل هذه القریة فی مکان هذه المحلة و ما حولها مزارع و بساتین».

قطربل

قال یاقوت الحمویّ: «قطربل بالضم ثم السکون ثم فتح الراء و باء موحدة مشدّدة مضمومة و لام، و قد روی بفتح أوله و طائه، و أما الباء فمشدّدة مضمومة فی روایتین و هی کلمة أعجمیّة: اسم قریة من بغداد و عکبرا ... و قیل هو اسم المسوّج طساسیج بغداد أی کورة، فما کان شرقیّ (نهر) الصراة فهو بادوریا، و ما کان غربیّها فهو قطربل» و کان قبل ذلک قد قال إنها قریة کما نقلناه و اتبعه قوله: «ینسب الیها الخمر، و ما زالت متنزها للبطالین و حانة للخمارین و قد اکثر الشواء من ذکرها ...
قال الببّغاء یذکر قطربّل و هی شمالیّ بغداد و کلواذا و هی جنوبیّها:
کم للصبابة و الصّبا من منزل‌ما بین کلواذا إلی قطربّل
جادته من دیم المدام سحابةأغنته عن صوب الحیا المتهلّل
غیث إذا ما الراح أو مض برقه‌فرعوده حثّ الثقیل الأوّل
نطقت مواقع صوبه بسحابةتهمی علی کرب الفؤاد فتنجلی
راضعت فیه الکأس أهیف ینثنی‌نحوی بجید رشا و عینی مغزل
فأتی و قد نقش الشعاع بنانه‌بمموّج من نسجها و مبقّل
و کسا الخضاب بها بنانا یاله‌لو أنه من وقته لم ینصل
و قال جمظة البرمکی:
قد أسرفت فی العذل مشغولةبعذل مشغول عن العذل
تقول هل أقصرت عن باطل‌أعرضه عن دینک الأوّل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 28 فقلت ما أحسبنی مقصراما أعصرت راح بقطربّل
و ما استدار الصدغ فی ناعم‌مورّد کاللهب المشعل
قالت فأین الملتقی بعدذافقلت: بین الدنّ و المبزّل»
و قال یاقوت فی المشترک وضعا المختلف صقعا: «قطربل موضعان، کفتح القاف و سکون الطاء و فتح الراء و تشدید الباء الموحدة و ضمّها و لام، قطربل: قریة مشهورة بین بغداد و عکرا، کانت مجمعا للخلفاء و مألفا لأهل القصف و الشعراء و قد أکثروا فیها الشعر». و لقطربل ذکر حسن فی کتاب الدیارات للشابشّی.
و قد کرّر یاقوت کون «قطربل» بین بغداد و عکبرا. و هو عندی و هم من اعتماد علی ما أنا ناقله من کتاب مراصد الاطلاع لأن عکبرا کانت فی الجانب الشرقی من دجلة و قطربل فی الجانب الغربیّ و بعد القرن السادس تحوّل مجری دجلة نحو الشرق عدة کیلومترات فصارت عکبرا فی الجانب الغربی، فکان الصواب ان یقول إنها کانت بین بغداد و المزرفة. و قد ذکرنا و هم یاقوت فی عقرقوف قال ابن عبد الحق فی مراصد الاطلاع: «قطربّل ...
قال (یاقوت): قریة بین بغداد و عکبرا. قلت: بین بغداد و المزرقة لأن عکبرا من الجانب الشرقی و هی فی الغربیّ و بینها فراسخ و الیها ینسب الطسّوج الذی هی فیه فیقال: طسّوج قطربل و ما فوق الصراة من أسافل سقی الدجیل فهو من طسّوج قطربل و هی شمالی بغداد، یضاف الیها الخمر و الحانات و هی الآن سنه 739 خراب.

المزرفة

قال یاقوت فی معجم البلدان: «المزرفة بالفتح ثم السکون وراء مفتوحة وفاء: قریة کبیرة فوق بغداد علی دجلة بینها و بین بغداد ثلاثة فراسخ و إلیها ینسب الرمان المزرفیّ، کان فیها قدیما، فأما الیوم فلیس بها بستان البتة و لا رمان و لا غیره و هی قریة قریبة من قطربّل ...»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 29

مقبرة الشهداء

بسطنا القول آنفا فی موضع مقبرة الشهداء و السبب فی تسمیتها بهذا الاسم و ذکرها یاقوت فی معجم الأدباء و لم یعرف سبب التسمیة، قال: «مقابر الشهداء ببغداد، إذا خرجت من قنطرة باب حرب فهی نحو القبلة عن یسار الطریق، لا أدری لم سمیّت قال أبو الفرج بن الجوزی فی ترجمة السمرقندی المتوفی سنة 536 ه انه دفن فی مقبرة الشهداء» و ذکر إنکار ابن الجوزی لحقیقتها و جاء فی مختصر مناقب بغداد «و أما المقبرة التی یقال إنّها مقبرة الشهداء فوق قبر أحمد بن حنبل فان العوام یقولون: هؤلاء جماعة کانوا مع علی- علیه السلام- فی قتال الخوارج بالنهروان و ماتوا هناک. و هذا شی‌ء لا أصل له» و قد نقلنا مثل ذلک من قبل عن تاریخ الخطیب و فندناه تفنیدا مبیّنا، إلا أن الراجح هو أن أولئک استشهدوا قبل وقعة النهروان بقلیل و کانت الوقعة بینهم و بین الخوارج قرب أرض الکاظمیة و فی نواحیها و منها مقبرة الشهداء المذکورین، غیر أن مقبرتهم و مقبرة باب حرب و غیرهما قد زالت و لم یبق لها أثر.

قبر هشام بن عمرو بن الزبیر

قال الخطیب البغدادی: «کان المشهور عندنا أن قبر هشام بن عروة فی الجانب الغربیّ وراء الخندق أعلی مقابر باب حرب، و هو ظاهر معروف هناک و علیه لوح منقوش فیه أنه قبر هشام مع ما أخبرنا به الحسن بن علی الجوهری (عن أبی الحسین بن المنادی) قال: أبو المنذر هشام بن عروة ابن الزبیر بن العوام القرشیّ، مات أیام خلافة أبی جعفر فی سنة ست و أربعین و مائة و دفن بالجانب الغربیّ خارج السّور نحو باب قطربّل» ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 30
المدخل الرئیسی الجامع براثا الیوم
روی عن بعض الشیوخ أنه «سمع أبا الحسین أحمد ابن عبد اللّه بن الخضر ینکر أن یکون قبر هشام ابن عروة بن الزبیر هو المشهور بالجانب الغربیّ قال: هذا قبر هشام بن عروة المروزی صاحب ابن المبارک و إنما قبر هشام بن عروة ابن الزبیر بالخیزرانیة من الجانب الشرقی ... و نری أن قول أحمد بن عبد اللّه بن الخضر هو الصواب، إلا أنّا لا نعرف فی أصحاب ابن المبارک من یسمی هشام بن عروة و لا نعلم أیضا روی العلم عن أحد سمی هشاما و اسم ابیه عروة سوی هشام بن عروة بن الزبیر بن العوام و اللّه أعلم».
و قد نقلنا هذه الأخبار لأن فیها ذکرا لباب قطربّل خاصة و لقبر هشام الزبیریّ علی أضعف الروایات، و المراد بالسور المذکور فیها هو سور مدینة المنصور المعروفة بمدینة السلام. و فیها میل ناس الی التزویر فی تسمیة القبور، و میل ناس آخرین إلی التساهل فی تحقیق التاریخ و التسامح فی ذکر الاخبار.

قطفتا

قال یاقوت الحموی فی معجم البلدان: «قطفتا بالفتح ثمّ الضمّ و الفاء ساکنة و تاء مثناة من فوق و القصر، کلمة أعجمیة لا أصل لها فی العربیة فی علمی و هی محلّة کبیرة ذات اسواق بالجانب الغربیّ من بغداد مجاورة لمقبرة الدیر التی فیها قبر الشیخ معروف الکرخی- رض- و بینها و بین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 31
دجلة أقل من میل و هی مشرفة علی نهر عیسی إلا أن العمارة متصلة الی دجلة بینهما القریّة: محلّة معروفة، ینسب الیها جماعة ...» و ذکر ابن عبد الحق البغدادی موجز هذا القول فی کتابه مراصد الاطلاع، و کلاهما لم یذکر عن قدمها و کونها قریة عتیقة، کما نقلنا من کتاب- اثبات الوصیة- شیئا.

براثا و مسجدها

ذکرنا آنفا أن براثا کانت قریة فی جهة قبلة الکرخ و أن مسجدها هناک و أن لا صلة لمسجد براثا بمسجد المنطقة المعروف باسم هذا قدیما و حدیثا.
و یسمی مسجد العتیقة و مشهد العتیقة، و قد جاء فی کشف الغمة فی معرفة الأئمة لعلی ابن عیسی الکردی الأربلیّ ما هذا نصه خاصا ببراثا «و عن علی ابن الحسین عن آبائه- ع- قال: لما رجع علی- ع- من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس: إنها الزوراء فسیروا و جنّبوا عنها، فان الخسف أسرع إلیها من الوتد فی النخالة فلما أتی موضعا من أرضها قال: ما هذه الأرض؟ قیل أرض بخرأ فقال: أرض سباخ جنّبوا و یمنّوا، فلما أتی یمنة السّواد إذا هو براهب فی صومعة، فقال له یا راهب أ أنزل هاهنا؟ فقال له منارتا جامع براثا الحدیثتان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 32
الراهب: لا تنزل بجیشک هذه الأرض. قال: و لم: قال: لأنه لا ینزلها إلا نبیّ أو وصیّ نبیّ بجیشه یقاتل فی سبیل اللّه- عز و جل- هکذا نجد فی کتبنا. فقال له أمیر المؤمنین- ع-: فأنا وصی سید الأنبیاء و سید الأوصیاء. فقال له الراهب: فأنت إذن أصلع قریش وصیّ محمد.
قال له أمیر المؤمنین- ع-: أنا ذلک. فنزل الراهب إلیه فقال: خذ علیّ شرائع الاسلام إنی وجدت فی الانجیل نعتک فانک تنزل أرض براثا بیت مریم و أرض عیسی. فقال له أمیر المؤمنین: قف و لا تخبرنا بشی‌ء. ثم.
أتی موضعا فقال: الکزوا هذا. فلکزه برجله فانبجست عین خرّارة فقال: هذه عین مریم التی أنبعث لها. ثم قال: اکشفوا هاهنا علی سبعة عشر ذراعا. فکشفوا فإذا بصخرة بیضاء. فقال علی: علی هذه الصخرة وضعت مریم عیسی من عاتقها وصلت هاهنا. فنصب أمیر المؤمنین الصخرة و صلی علیها، و أقام هناک أربعة أیام یتمّ الصلاة و جعل الحرم فی خیمة من الموضع (کذا) ثم قال: أرض براثا هذه بیت مریم- ع- هذا الموضع المقدّس صلی فیه الأنبیاء. قال أبو جعفر محمد بن علی- ع-: و لقد وجدنا أنه صلیّ فیه ابراهیم قبل عیسی- ع-» قال بهاء الدین الأربلی بعد ذلک:
«قلت: أرض براثا هذه عند باب محوّل علی قدر میل أو أکثر من ذلک من بغداد و جامع براثا هناک و هو خراب و حیطانه باقیة الا شی‌ء منها (کذا)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 33
دخلته وصلیت فیه و تبرّکت به» . و هذا الجبر من أخبار الملاحم و أمرها معروف و ربما أرید بموضع مریم و عیسی دیر من الدیارات التی یذکران فیها .

بناورا

بناورا قریة قدیمة کانت من قری الجانب الغربی من دجلة قال یاقوت فی الکلام علی قطیعة الربیع من معجم البلدان: «... و کانت قطیعة الربیع بالکرخ مزارع الناس من قریة یقال لها بناورا من أعمال بادوریا». قلت:
و هی غیر بنورا التی ذکر بعض المعلقین علی معجم البلدان أنها من نواحی الکوفة من ناحیة نهر قورا قرب بلدة سورا بینها نحو من فرسخ. و ذکر ابن عبد الحق أنها تحت الحلة المزیدیة. و لا بنورا الأخری.

و رثال

قال یاقوت: «و رثال بالفتح ثم السکون و ثاء مثلّثة و آخره لام: اسم الموضع الذی بنیت فیه قطیعة الربیع و سویقة غالب قبل بناء بغداد». و کان قال فی الکلام علی نهر القلائین جمع قلّاء للذی یقلی السمک و غیره و هی محلّة کبیرة ببغداد فی شرقی الکرخ ... و کان مکانه (کذا) أی النهر قبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 34
عمارة بغداد قریة یقال لها ورثال و فی غربیه الشوینیزیه: مقبرة الصالحین ببغداد ..».

الشونیزیه

قال یاقوت: «الشونیزیّة بالضمّ ثم نون مکسورة و یاء مثناة من تحت ساکنة و زای و آخره یاء النسبة: مقبرة ببغداد بالجانب الغربی دفن فیها کثیر من الصالحین منهم الجنید و جعفر الخلدی و رویم و سمنون المحبّ و هناک خانقاه للصوفیة». و ذکرها ابن عبد الحق فی اختصاره لمعجم البلدان و زاد علی قول یاقوت أن فیها مسجد الجنید و ذکر الخانقاه أیضا یعنی المتعبّد المتعبّد الصوفی المعروف عند العراقیین بالرباط و فی العصر الحدیث بالتکیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 35

عرض جامع لحیاة الامامین الجوادین کتبه جعفر الخلیلی مؤلف موسوعة العتبات المقدسة

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 37

الامامان موسی الکاظم و محمد الجواد

اشارة

یقول الشاعر:
لذ إن دهتک الرزایاو الدهر عیشک نکّد
بکاظم الغیظ (موسی)و بالجواد (محمد) و الکاظمیة هی مدفن الامام موسی الکاظم و حفیده الامام محمد الجواد و قد شملت صفة کظم الغیظ الحفید فسمیا بالکاظمین، کما شملت صفة الجواد الجد فسمیا بالجوادین، و لذلک یقول الشاعر فیهما
ما خاب من أمّ جوادا فهل‌یخیب من أمّ جوادین؟

الامام موسی الکاظم

اشارة

هو موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، بن علی زین العابدین بن الحسین الشهید، بن علی بن ابی طالب (ع) و هو الامام السابع عند الشیعة الامامیة ولد بالابواء و هو منزل بین مکة و المدینة فی الیوم السابع من صفر سنة 128 ه المصادف 745 م فأولم ابوه الامام الصادق بعد ولادته و اطعم الناس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 38
ثلاثا و قیل کانت ولادته یوم الثلاثاء و قبل طلوع الشمس من سنة 129 ه
و امه أم ولد یقال لها (حمیدة) بنت صاعد (المغربیة) و قیل (الاندلسیة) و کانت حمیدة الصفات حتی وصفت باللؤلؤة، و وصفت (بالمصفاة) و قال عنها الامام الصادق: ان حمیدة مصفاة من الادناس کسبیکة الذهب.
و کانت للامام موسی بن جعفر القاب متعددة یعرف بها کالصابر، و العبد الصالح، و الامین، و النفس الزکیة، و الزاهر، و الوفی، و زین المجتهدین، و لکن صفة (الکاظم) کانت اشهر صفاته حتی لقد التصقت باسمه کجزء متمم فعرف بموسی الکاظم، و کظم الرجل غیظه اذا اجترعه، و فی التنزیل:
«و الکاظمین الغیظ» و قد فسره ثعلب فقال: یعنی الحابسین الغیظ لا یجازون علیه، و قال الزجاج: معناه: أعدّت الجنة للذین جری ذکرهم، و للذین یکظمون الغیظ، و روی عن النبی (ص) انه قال: ما من جرعة یتجرعها الانسان اعظم أجرا من جرعة غیظ فی اللّه عز و جل، و فی الحدیث، من کظم غیظا فله کذا و کذا، و کظم الغیظ: تجرّعه، و احتمال سببه، و الصبر علیه .
و قد سمی بالکاظم لکثرة کظمه الغیظ، و صبره علی ما لقی من الظلم و الاذی و الحبوس.
و قال کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی فی (مطالب السؤول عن مناقب الرسول) عن الکاظم: «و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدین علیه دعی کاظما، فکان یجازی المسی‌ء باحسانه الیه، و یقابل الجافی علیه بعفوه عنه، و کان اذا بلغه عن احد انه یؤذیه ارسل الیه بالذهب و التحف و قال ابن الاثیر و کان یلقب بالکاظم لانه کان یحسن إلی من یسی‌ء الیه و کان هذا عادته أبدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 39

مثل من حلمه

و رویت عن حلمه و عن مجازاته المسیئین الیه بالاحسان روایات کثیرة فی بطون التاریخ، و من هذه الروایات ما اثبته ابو الفرج الاصفهانی قال:
ان رجلا من آل عمر بن الخطاب کان یشمّ علی بن ابی طالب اذا رأی موسی بن جعفر، و یؤذیه اذا لقیه، فقال له بعض موالیه و شیعته: دعنا نقتله، فقال:
لا. ثم مضی راکبا حتی قصده فی مزرعة له فتواطأها بحماره متعمدا، فخرج الیه الرجل زاجرا، و لکنه لم یصغ الیه بل قصده حتی بلغ منزله، و نزل عنده، و بدأ یلاطفه و یضاحکه ثم سأله بعد ذلک:
- کم تظن قد لحق بک من الخسارة بسبب تواطؤ حماری لمزرعتک؟
قال- (و هو یرید المغالاة فی الضرر) مائة درهم
قال- و کم ترجو ان تربح لو کانت قد سلمت مواطی‌ء الحمار من الضرر؟
قال- لا ادری ...
قال- انما سألتک کم ترجو؟
قال- مائة درهم اخری
فأخرج له ثلثمایة دینار (لا درهم) و وهبها له، فقام الرجل و قبل رأسه، و منذ ذلک الحین صار الامام الکاظم لا یدخل المسجد حتی یثب ذلک العمری و یسلم علیه و یقول: «اللّه اعلم حیث یجعل رسالته»
و تقول الروایة: و لقد وثب اصحابه علیه لائمین- ای علی العمری- و معنفین علی عمله هذا فکان یشاتمهم و یقف فی وجوههم
و قال موسی لمن کان یرید ان یجزی الاساءة بالاساءة:
«ایما کان خیرا ما اردتم انتم او ما ارید انا؟»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 40

صفات الامامة و صفات الکاظم العامة

و للامامة عند الشیعة صفات لا یمکن للامام ان یکون اماما دونها، و هی صفات الانسان الکامل التی ترفع قدره حتی تجعله فوق مستوی الناس من حیث التقوی، و العدل، و الامانة، و حب الخیر، و اسداء المعروف، و البعد عن کل خلق شائن، اضافة إلی غزارة العلم وسعة الاطلاع لکی یصلح ان یکون قدوة فی دنیا الناس، و لقد اوتی الامام الکاظم کل الصفات التی اوتیها آباؤه الأئمة من قبله.
قال الشیخ المفید فی (الارشاد) و کان موسی بن جعفر علیه السلام أجل ولد ابی عبد اللّه (یعنی الامام الصادق) قدرا، و أعظمهم محلا، و أبعدهم فی الناس صیتا، و کان اعبد أهل زمانه، و اورعهم، و أجلّهم و أفقههم
و قال کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی: هو الامام الکبیر القدر، العظیم الشأن الکثیر التهجّد، الجاد فی الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب علی الطاعات المشهور بالکرامات یبیت اللیل ساجدا و قائما، و یقطع النهار متقصدا و صائما
و قال ابن شهر آشوب: کان افقه اهل زمانه، و احفظهم لکتاب اللّه، و کان اجل الناس شأنا، و اعلاهم فی الدین مکانا، و افصحهم لسانا، و اشجعهم جنانا قد خصه اللّه بشرف الولایة، و حاز إرث النبوة، و بوّء محل الخلافة، سلیل النبوة و عقید الخلافة،
و روی انه دخل مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فسجد سجدة فی اول اللیل و سمع و هو یقول فی سجوده:
«الهی عظم الذنب عندی فلیحسن العفو من عندک، یا اهل التقوی، و یا اهل المغفرة» و جعل یرددها حتی اصبح
و قد بلغ من رقة الحاشیة و التواضع حتی اصبح حدیث اهل زمانه علی الرغم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 41
مما کان یحوطه من الوقار الذی یفرض احترامه علی الناس عفوا، هذا الوقار و التواضع الذی یعود الیه بعض تخوف هرون الرشید من اقبال الناس علیه.
قیل ان الرشید لما حج لقیه موسی بن جعفر علی بغلة، فقال له الفضل بن الربیع:- ما هذه الدابة التی تلقیت علیها امیر المؤمنین؟ فأنت ان طلبت علیها لم تدرک، و ان طلبت لم تفت؟
قال- انها تطأطأت عن خیلاء الخیل، و ارتفعت عن ذلة العیر، و خیر الامور اوسطها
و روی انه مر برجل من اهل السواد، دمیم المنظر، فسلم علیه و نزل عنده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 42
و حادثه طویلا، ثم عرض علیه نفسه فی القیام بحاجة إن عرضت،
فقیل له یا ابن رسول اللّه، اتنزل إلی هذا ثم تسأله عن حوائجه و هو الیک احوج؟
(ای احوج ان ینزل الیک) فقال: عبد من عبید اللّه، واخ فی کتاب اللّه، و جار فی بلاد اللّه، یجمعنا و ایاه خیر الاباء: آدم، و افضل الادیان الاسلام، و لعل الدهر یرد من حاجتنا الیه فیرانا بعد الزهو علیه متواضعین بین یدیه ثم قال
نواصل من لا یستحق وصالنامخافة أن نبقی بغیر صدیق

سجیة الکرم

و الکرم سجیة ما عرف بها بیت فی العرب کبیت هاشم و آل عبد المطلب و قد ورث الامام موسی بن جعفر فیما ورث الشی‌ء الکثیر من هذه السجیة حتی روی التاریخ الاعاجیب عن کرمه، و قیل ما ردّ قاصدا خائبا، یقول ابن خلکان عنه: و کان سخیا کریما، و کان یصر الصرر ثلثمایة دینار و اربعمایة دینار و مائتی دینار ثم یقسمها بالمدینة و یوجز الزرکلی ما یستخلصه من کتب التاریخ فیقول کان من سادات بنی هاشم و من اعبد اهل زمانه، و أحد کبار العلماء الاجواد
و اهدی له مرة عبد (مملوک) عصیدة، فاشتراه و اشتری المزرعة التی هو فیها بألف دینار و اعتقه، و وهب المزرعة له
و یقول الخطیب: و کانت صراره بین الثلثمایة إلی المائتین دینار فکانت صرار موسی مثلا و قال الشیخ المفید فی (الارشاد): و لم یر فی زمانه اسخی منه و لا اکرم نفسا و عشرة، و کان اسخاهم کفا، و اکرمهم نفسا، و کان اوصل الناس لاهله و رحمه، و کان یتفقد فقراء المدینة باللیل فیحمل الیهم الزنبیل فیه العین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 43
(الذهب) و الورق (الفضة) و الادقة (الطحین) و التمر، فیوصل الیهم ذلک و لا یعلمون من ای جهة هو،
و فی عمدة الطالب: کان موسی الکاظم عظیم الفضل رابط الجأش، واسع العطاء، و کان یضرب المثل بصرار موسی، و کان اهله یقولون: «عجبا لمن جاءته صرة موسی فشکا القلة»
و روی الخطیب فی (تاریخ بغداد) و المفید فی (الارشاد) بسندیهما عن محمد بن عبد اللّه البکری قال: قدمت المدینة اطلب بها دینا فأعیانی، فقلت، لو ذهبت إلی ابی الحسن موسی بن جعفر فشکوت ذلک الیه، فاتیته فی صنیعته ثم سألنی عن حاجتی فذکرت له قصتی، فدخل فلم یقم الا یسیرا حتی خرج الی فقال لغلامه: اذهب ثم مدّ یده فدفع الی صرة فیها ثلثمائة دینار ثم قام فولی و قمت فرکبت دابتی و انصرفت
ثم روی الخطیب فی (تاریخ بغداد) عن عیسی بن محمد بن مغیث القرظی قال: زرعت بطیخا و قثاء و قرعا فی موضع بالجوانیة علی بئر یقال لها (ام عظام) فلما قرب الخیر و استوعب الزرع بغتنی الجراد فأتی علی الزرع کله، و کنت غرمت علی الزرع و فی ثمن جملین مائة و عشرین دینارا، فبینما انا جالس إذ طلع موسی بن جعفر بن محمد فسلم ثم قال: أیئس حالک؟ فقلت: اصبحت کالصریم بغتنی الجراد فاکل زرعی، قال و کم غرمت فیه، قلت مائة و عشرین دینارا، مع ثمن الجملین، فقال: یا عرفة، زن لابی المغیث مائة و خمسین دینارا فنربحک ثلاثین دینارا و الجملین

باب الحوائج

و لکثرة هباته و عطایاه و قضائه حاجات الناس و حل مشکلاتهم صار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 44
یقصده المحتاجون من جمیع الاطراف و استوی فی ذلک شیعته و غیر شیعته و بصفة الامام الذی یوجب مذهب الشیعة الامامیة الرجوع الیه فی امور دینهم و الائتمام به و دفع الاخماس من الاموال التی تفیض حتی تبلغ حدود التخمیس الیه فقد کان ما یصل الیه من هذه الاموال کثیرا و من مختلف الاقطار فکان ینفقه کله بسخاء علی الفقراء و المحتاجین و یحل به عقدة الهم لدی المهمومین و یفرج کرب المکروبین فضلا عما کان یستخدم من جاهه و مکانته من النفوذ لا زالة الغمة عن البیوت و الاسر المنکوبة، و لذلک سمی (بباب الحوائج) و ظلت هذه الصفة ترافقه حتی الیوم اذ یزور ضریحه المکروبون، و البرمون السائمون و هم یطوفون بضریحه و یدعون اللّه عند قبره و هم مفعمون بالایمان بانهم قد طرقوا (باب الحوائج) و ان اللّه سیقضی حاجاتهم و یستجیب دعاءهم و یخرجون من ضریحه و قد اطمأنت نفوسهم، و سکنت خواطرهم و ازال ایمانهم کل قلق یساورهم.

مذهبه فی الحیاة

هذا الامام الذی عرف بالعبد الصالح لکثرة صلاته و طول عبادته و قضاء جانب کبیر من لیله بذکر اللّه کان إلی جانب ذلک مثلا اعلی لما ینبغی ان تکون علیه حیاة الانسان فی دنیا لیس من حیث التواضع و الرقة و اللطف و انما من حیث المأکل و الملبس و التمتع بما احل له من دنیاه، و یتجلی کل هذا فی سیرته و فیما ترک من آثار ادبیة، فقد جاء فی احد مواعظه و ارشاداته قوله.
«اجعلوا لانفسکم حظا من الدنیا باعطائها ما تشتهی من الحلال، و ما لا یثلم المروءة و ما لا سرف فیه، و استعینوا بذلک علی امور الدین فأنه روی لیس منا من ترک دنیاه لدینه، او ترک دینه لدنیاه».
و فی قول الامام زبدة ما تتطلبه الحضارة و المدینة فی القرن العشرین و لیس من شک ان المقصود بالدین هو المعاملة، المعاملة مع اللّه، و مع الناس،
و کان الامام الکاظم انیقا فی ملبسه، جمیل الثیاب، و قد روی عبد اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 45
بن جعفر الحمیری عن والده الامام الثامن علی بن موسی الرضا قال:
انه قال:
قال لی ابی (ای الکاظم) ما تقول فی اللباس الحسن؟
فقلت- (یقول الرضا) بلغنی ان الحسن (ع)- الحسن بن علی بن ابی طالب (ع)- کان یلبس (ای یلبس اللباس الجید الحسن).
فقال لی- إلبس، و تجمّل، فأن علی بن الحسین کان یلبس الجبة الخز بخمسمایة درهم، و المطرف الخز بخمسین دینارا فیشتو فیه، فاذا خرج الشتاء باعه و تصدق بثمنه،
و تلا هذه الایة:
(قل من حرم زینة اللّه التی اخرج لعباده و الطیبات من الرزق)
و من فلسفته فی الحیاة: الواقعیة و البعد عن التزمت و الانکماش علی النفس و وجوب استقبال ما تأتی به الظروف باطمئنان وسعة صدر و ارتیاح قوله:
کثرة الهم تورث الهرم.
و قوله: التدبیر نصف العیش، و التودد الی الناس نصف العقل
و سمع مرة رجلا یتمنی الموت فقال له:
- هل بینک و بین اللّه قرابة یحابیک بها؟
قال- لا
قال- فهل لک حسنات قدمتها تزید علی سیئاتک؟
قال- لا
قال- فأنت اذن تتمنی هلاک الابد
و اکثر ما یتجلی مذهبه الواقعی فی الحیاة فأنما یتجلی فی قوله:
اجتهدوا فی ان یکون زمانکم اربع ساعات: ساعة لمناجاة اللّه، و ساعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 46
لأمر المعاش، و ساعة لمعاشرة الاخوان و الثقات الذین یعرّفونکم عیوبکم و یخلصون لکم فی الباطن، و ساعة تخلون فیها للذاتکم فی غیر محرم،
و قوله ایاک و الضجر، و الکسل، فأنهما یمنعان حظک من الدنیا و الآخرة.
و قوله:
لا تحدثوا انفسکم بفقر، و لا بطول عمر، فانه من حدث نفسه بالفقر بخل. و من حدثها بطول العمر حرص،
جعلوا لانفسکم حظا من الدنیا باعطائها ما تشتهی من الحلال
و من وصیته التی یقول فیها: «ان قول اللّه هل جزاء الاحسان الا الاحسان، جری فی المؤمن و الکافر و البر و الفاجر» و من وصیته هذه تعرف مدی افقه الواسع الذی یستوی عنده المؤمن و الکافر فی میادین المعروف و هی فلسفة انسانیة یتمثل فیه سمو الروح بابهی صوره

العلم و الحکمة و الادب

و کان من بعض مظاهر العظمة عند الامام موسی بن جعفر انه کان عالما و کان حکیما و کان ادیبا، و قد نقل المؤرخون الشی‌ء الکثیر من آثاره الدالة علی سعة علمه، و عمق حکمته، و رفعة ادبه، و قد ترک من المواعظ و الحکم، و الوصایا ما یضرب به المثل، و قد توسم فیه الامام ابو حنیفة هذا النبوغ و علو الکعب و هو لم یزل بعد غلاما: فقد روی الحسن بن علی بن شعبة عن ابی حنیفة انه قال:
جحجت فی ایام ابی عبد اللّه الصادق (ابی الامام موسی الکاظم) فلما اتیت المدینة دخلت داره فجلست فی (الدهلیز) انتظر اذنه، اذ خرج صبی فقلت:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 47
- یا غلام .. این یضع الغریب الغائط من بلدکم؟ (و کان ابو حنیفة یسأل عن الخلاء طبعا لقضاء حاجته)
فقال الغلام- علی رسلک ... ثم جلس مستندا إلی الحائط ثم قال:
- توق شطوط الانهار، و مساقط الثمار، وافنیة المساجد، و قارعة الطریق و توار خلف جدار، و شل ثوبک، و لا تستقبل القبلة، و لا تستدبرها، وضع حیث شئت،
یقول ابو حنیفة- فاعجبنی ما سمعت من الصبی فقلت له:
- ما اسمک؟
فقال- انا موسی بن جعفر
ان صبیا مهما بلغ من النضج لا یمکنه ان یحدد الموضوع هذا التحدید الفقهی الجامع ما لم یکن فوق مستوی اقرانه من الفطنة و الذکاء و الاحاطة الکافیة بالفقه و الشریعة، و علی ان الادلة علی علم الامام الکاظم و حکمته و ادبه کثیرة و مبثوثة فی بطون امهات الکتب التاریخیة و الفقهیة و التراجم فان وصیته لهشام بن الحکم کافیة لضرب المثل عن مدی هذه الملکات فی نشأة هذه الشخصیة الفذة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 48
فمن بعض وصیة الامام الکاظم لهشام بن الحکم علی ما جاء فی کتاب (تحف العقول) للحسن بن علی بن شعبة قوله:
یا هشام لو کان فی یدک جوزة و قال الناس فی یدک لؤلؤة ما کان ینفعک و انت تعلم انها جوزة؟ و لو کان فی یدک لؤلؤة و قال الناس انها جوزة فما ضرک و انت تعلم انها لؤلؤة؟
ما من عبد الا و ملک آخذ بناصیته فلا یتواضع الا رفعه اللّه، و لا یتعاظم الا وضعه اللّه،
ان للّه علی الناس حجتین، حجة ظاهرة، و حجة باطنة، فاما الظاهرة فالرسل و الانبیاء و الائمة، و اما الباطنة، فالعقول،
ان کان یغنیک ما یکفیک فادنی ما فی الدنیا یغنیک، و ان کان لا یغنیک ما یکفیک فلیس شی‌ء من الدنیا یغنیک،
لا تمنحوا الجهال الحکمة فتظلموها، و لا تمنعوها اهلها فتظلموهم.
لا دین لمن لا مروءة له، و لا مروءة لمن لا عقل له،
ان العاقل لا یحدث من یخاف تکذیبه، و لا یسأل من یخاف منعه، و لا یعد ما لا یقدر علیه، و لا یرجو ما یعنف برجائه، و لا یتقدم علی ما یخاف العجز عنه.
الغضب، مفتاح الشر، و أکمل المؤمنین ایمانا أحسنهم خلقا، و ان خالطت الناس فان استطعت ان لا تخالط احدا منهم الا من کانت یدک علیه العلیا فافعل.
علیک بالرفق، فان الرفق یمن، و الخرق شؤم، ان الرفق و البر، و حسن الخلق یعمر الدیار، و یزید فی الرزق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 49
قول اللّه: هل جزاء الاحسان الا الاحسان جری فی المؤمن و الکافر و البر و الفاجر، فمن صنع الیه معروف فعلیه ان یکافی‌ء به، و لیست المکافأة ان تصنع کما صنع حتی تری فضلک، فان صنعت کما صنع فله الفضل بالابتداء.
لیس منا من لم یحاسب نفسه فی کل یوم فان عمل حسنا استزاد منه، و ان عمل سیئا استغفر اللّه منه و تاب الیه.
ایاک و مخالطة الناس و الانس بهم الا ان تجد منهم عاقلا و مأمونا فأنس به و اهرب من سائرهم کهربک من السباع الضاریة.
من اکرمه اللّه بثلاثة فقد لطف به: عقل یکفیه مؤونة هواه، و علم یکفیه مؤونة جهله، و غنی یکفیه مخافة الفقر، الخ ..

قوة الحجة و سرعة البدیهة

و مما اشتهر به الامام موسی بن جعفر هو قوة الحجة، و سرعة البدیهة و الجرأة فی معرض المناظرة و المحاججة یفرغها فی اسلوب بعید کل البعد عن التبجح و المکابرة و الاستظهار و قد روی الراوون و المؤرخون عنه مواقف تثیر الاعجاب، و لا سیما مع هرون الرشید، فلقد سأله الرشید مرة:
- کیف صرتم ذریة لرسول اللّه و أنتم بنو علی، و انما ینتسب الرجل لجده لأبیه دون جده لأمه، (و طلب الرشید أن یأتیه بحجة من کتاب اللّه علی ما ذکرت الروایة).
فقال الکاظم- بسم اللّه الرحمن الرحیم (و من ذریّته داود، و سلیمان، و أیوب، و یوسف، و موسی، و هارون، و کذلک نجزی المحسنین، و زکریا و یحیی و عیسی) و سأل الکاظم الرشید:
- فمن هو ابو عیسی؟
قال الرشید: لیس لعیسی أب
قال الکاظم- و انما ألحق بذراری الأنبیاء من قبل امه، فلماذا لا نلحق بذریة النبی من قبل أمنا فاطمة؟ ثم قال الکاظم: و قال اللّه عز و جل:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 50
(فمن حاجّک فیه من بعد ما جاءک من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و ابناءکم و نساءنا و نساء کم و انفسنا و انفسکم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه علی الکاذبین) و هو یشیر بذلک الی المباهلة التی ضمّت علیا و فاطمة فی صف النبی کما تذکر الروایات عن یوم المباهلة.
ثم قال الکاظم للرشید: لو نشر رسول اللّه، و خطب الیک کریمتک، أکنت تزوجه؟
قال الرشید- نعم، و افتخر بذلک علی العرب و العجم.
قال الامام: اما انا فان النبی لا یخطب منی و لا ازوجه لانه و لدنا و لم یلدکم.
و ذکر ایضا ان هرون الرشید حین حج و أتی قبر النبی زائرا و حوله قریش و أفناء القبائل و معه موسی بن جعفر فوقف هرون مسّلما علی قبر النبی و قال:
- السلام علیک یا رسول اللّه یا ابن عم
و فی هذا السلام و معه موسی بن جعفر و هذه الکثرة من قریش و افناء القبائل لا یخلو من بعض التحدی لموسی بن جعفر أو المفاخرة، فدنی موسی من قبر النبی و قال:
- السلام علیک یا أبت
و هنا تغیر وجه هرون الرشید و قال:
هذا هو الفخر یا أبا الحسن حقا
یقول ابن الاثیر و هو یستعرض شخصیة الامام موسی بن جعفر و جرأته:
«و لما کان محبوسا- أی الامام الکاظم بسجن الرشید- بعث الی الرشید برسالة انه: لن ینقضی عنی یوم من البلاء الا و ینقضی عنک معه یوم من الرخاء، حتی ینقضیا جمیعا الی یوم لیس له انقضاء یخسر فیه المبطلون» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 51

حبسه و قتله

لم یقلّ خوف بنی العباس من العلویین عن خوف بنی امیة ان لم یزده بمراتب فقد کانت للعلویین (شعبیّة) قلما حظی بها قوم کما حظی العلویون، و کان من ولاء الناس لهم ان عرّض الألوف انفسهم للقتل و السجن و التشرد بسبب محبتهم و ولائهم لآل البیت، و کان خوف الأمویین و العباسیین من العلویین هو ان ینتزع العلویون الملک و الحکم منهم لذلک بالغوا فی قتل النبغاء و النابهین منهم، حتی لقد تناول ابو الفرج الأصفهانی فی کتابه (مقاتل الطالبیین) ترجمة اکثر من مائتی شخصیة من الشخصیات العلویة النابهة التی جمعت بین عدد من الفضائل التی لم تستطع کل بنی امیة و کل بنی العباس ان یجمعوا بعضها، ممن قتلوا صابرین، هذا عدا المئات الذین فات ابا الفرج ذکرهم، و عدا الذین تم قتلهم و البطش بهم بعد ابی الفرج الأصفهانی.
و الاجیال التی مرت لم یخل تاریخها من وجود شخصیات علویة تتجمع فیها الفضائل من جمیع اطرافها لذلک کان الخوف یلازم الامویین و العباسیین دائما من ظهور علوی جدید تتوفر فیه کل مقتضیات الزعامة، اذا ما قضی علی ای نابه منهم.
یقول عباس محمود العقاد «و انک لتنحدر مع اعقاب الذریة فی الطالبیین ابناء علی و الزهراء مائة سنة و مائتی سنة و أربعمائة سنة ثم یبرز لک رجل من رجالها فیخیل الیک ان هذا الزمن الطویل لم یبعد قط بین الفرع و أصله فی الخصال و العادات کأنما هو بعد ایام معدودات لا بعد المئات وراء المئات من السنین، و لا تلبث ان تهتف عجبا: ان هذه الصفات صفات علویة لا شک فیها ..» .
و اذا علمنا ان هذه الثورات القائمة فی وجه بنی أمیة قد قام بها العلویون و اشیاعهم و اتباعهم لکی یردوا الحق الی نصابه و یقضوا علی حکم الفردیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 52
المشتعلة التی صیرت من الخلافة الشوریة ملکیة غیر محدودة بحدود فی البطش و القتل و سلب اموال الناس، ثم صارت النتیجة ان یتولی بنو العباس هذا الحکم هان علینا ان نعلم لم یتملک الخوف بنی العباس کل هذا التملک؟
و لم یحاذر بنو العباس من العلویین؟ و لم یتعقبون النابه و النابغة منهم؟
یقول السید احمد صقر فی مقدمة شرحه و تحقیقه (لمقاتل الطالبین):
«و لا یعرف التاریخ اسرة کأسرة أبی طالب بلغت الغایة من شرف الارومة، و طیب النجاد ضلّ عنها حقها (الی ان یقول) و قد اسرف خصوم هذه الاسرة الطاهزة فی محاربتها، و أذاقوها ضروب النکال، و صبوا علیها صنوف العذاب، و لم یرقبوا فیها إلّا و لا ذمّة، و لم یرعوا لها حقا و لا حرمة .. الخ» .
فمن الطبیعی- و قد کان هذا شأن موسی بن جعفر- ان یتخوف منه العباسیون علی خلافتهم و یحسبون لمقامه و مکانته و (شعبیته) ألف حساب، لذلک ارسل علیه المهدی فی ایام خلافته فجی‌ء به من المدینة و زجّه فی السجن دون أن یکون هنالک ما یستدعی ذلک غیر الخوف المجرد، و مکث فی السجن مدة طویلة الی ان اطمأن منه المهدی و اطلقه، و حکی الربیع قال رأیت المهدی یصلی فی بهو له فی لیلة مقمرة فما أدری أهو أحسن، أم البهو ام القمر ام ثیابه؟ قال فقرأ (فی صلاته) هذه الآیة:
(فهل عسیتم إن تولّیتم أن تفسدوا فی الأرض و تقطّعوا أرحامکم).
قال فأتم صلاته و التفت الی و قال یا ربیع قلت لبیک یا أمیر المؤمنین، قال علیّ بموسی و قام الی صلاته فقلت فی نفسی من موسی اهو ابنه او موسی بن جعفر و کان محبوسا عندی، قال الربیع: و جعلت افکر و قلت ما هو الا موسی بن جعفر، فاحضرته، قال: فقطع صلاته و قال: یا موسی انی قرأت هذه الآیة (فهل عسیتم إن تولّیتم ان تفسدوا فی الارض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 53
و تقطعوا ارحامّکم). فخفت ان اکون قد قطعت رحمک فوثّق لی انک لا تخرج علی. قال فقال: نعم فوثق له و خلاه .
و یروی بعض المؤرخین هذه الحکایة عن الرشید و یزعمون ان الرشید قد رأی فی الحلم الامام علی بن ابی طالب و قرأ علیه هذه الآیة فحین استیقظ أمر باطلاق سراحه و اعادته الی المدینة، و لیس هنالک ما یؤید موثقا حبس الرشید للامام موسی بن جعفر غیر الحبس الذی سنورده هنا و هو الحبس الذی قتل فیه الامام الکاظم مسموما.
و لما آل الحکم الی هرون الرشید و بلغه عن مکانة الامام موسی بن جعفر و احتفاف شیعته به، و جلال مقامه من حیث العلم و الادب و سمو الخلق و الکرم خشیه و تخوف منه، و قد اورد بعض المؤرخین ان یحیی بن برمک قد استخدم بعض العیون و کان منهم علی بن اسماعیل ابن اخی الامام موسی الکاظم و اغراه بالمال ثم جلبه من المدینة علی ان یشی بعمه الامام الکاظم، و هذه الأخبار مردودة و غیر مقبولة عقلا لا سیما حین نتابع هذه الوشایة فلا نجدها تزید علی ان علی بن اسماعیل قد نقل للرشید بأن الأموال تنقل الی الامام الکاظم من المشرق و المغرب، و ان له بیوت اموال و انه اشتری ضیعة بثلاثین ألف دینار فسماها (الیسیرة) الی غیر ذلک. و ان الرشید قد أثابه علی هذه الروایة بمائتی ألف درهم فلم یتمتع بهذا المال بل مات قبل ان یتسلمه.
و یکذب العقل هذه الروایة لانتفاء الوشایة فیها فان کل ما قاله علی بن اسماعیل- اذا صح انه قد قال شیئا- لم یزد ان لم ینقص عما کان یعرفه الرشید و جمیع الناس عن الامام الکاظم و کرمه و ما کان یحمل الیه من اموال و ما کان ینفق منه علی المعوزین و المحتاجین فلیس فی الأمر ما یستدعی ان یسمی وشایة و ان یثاب الرجل علیه لأهمیة هذه الوشایة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 54
و الواقع الذی لیس فیه من شک هو ان الرشید قد خاف من الامام موسی کما خاف المهدی من قبل، و خاف من مغبة الأمر و عاقبته لو انه اصدر امره بالقاء القبض علیه و جلبه من المدینة الی بغداد،
و لربما قد خاف اللّه إن انزل بالامام الکاظم البلاء، لذلک حین حج فی تلک السنة بدأ بقبر النبی صلی اللّه علیه و آله و قال: «یا رسول اللّه انی اعتذر الیک من شی‌ء ارید ان افعله، ارید ان احبس موسی بن جعفر فانه یرید التشتت بین امتک و سفک دمائها» ثم أمر به فأخذ من المسجد فأدخل الیه، و هناک قیده، و اخرج من داره بغلین علیهما قبتان مستورتان و جعل الامام الکاظم فی احداهما و وجه مع کل قبة خیلا، فأخذوا بواحدة علی طریق البصرة، و الاخری علی طریق الکوفة لیعمّی علی الناس و کان موسی فی التی مضت الی البصرة، و امر الرسول ان یسلم موسی الکاظم الی عیسی ابن جعفر بن المنصور، و کان علی البصرة حینئذ فمضی به فحبسه عیسی عنده سنة کاملة، و یبدو ان عیسی لم یطق ان یحتمل اماما عرف عن صفته کل شی‌ء ان یحبس عنده سنة کاملة بدون ذنب فکتب الی الرشید أن:
«خذه منی و سلمه إلی من شئت، و الا خلیت سبیله، فقد اجتهدت ان آخذ علیه حجة فما قدرت علی ذلک، حتی انی لا تسمّع علیه اذا دعا لعله یدعو علیّ او علیک فما اسمعه یدعو الا لنفسه، و یسأل اللّه الرحمة و المغفرة» .
فوجّه الرشید من تسلمه منه و حبسه عند الفضل بن الربیع ببغداد ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 55
فبقی الامام الکاظم فی حبس الفضل مدة طویلة.
و یقول ابو الفرج الأصفهانی: «و اراده الرشید علی شی‌ء من امره فأبی» ای طلب منه ان یقتل الامام الکاظم بکیفیة ما فأبی الفضل ذلک، فکتب الرشید للفضل ان ینقله من حبسه الی حبس الفضل بن یحیی، فتسلمه الفضل منه، و اراد الرشید ذلک منه فلم یفعله علی ما ذکر ابو الفرج .
و بلغ الرشید و کان الرشید حینذاک (بالرقة): ان الامام الکاظم یلقی رعایة من لدن الفضل بن یحیی و انه فی سعة و رفاهیة، فأنفذ (مسرورا) الخادم الی بغداد علی البرید، و امره ان یدخل من فوره علی موسی لیعرف له خبره، فان کان الأمر کما قد بلغه اوصل کتابا منه الی العباس بن محمد و أمره بامتثاله، و اوصل کتابا منه الی السندیّ بن شاهک یأمره بطاعة العباس ابن محمد .
و یقول ابو الفرج الأصفهانی: فقدم مسرور و نزل دار (الفضل بن یحیی) لا یدری أحد ما یرید، ثم دخل علی موسی بن جعفر فوجده علی ما بلغ الرشید من الرفاهیة و الاستقرار، فمضی من فوره الی العباس بن محمد، و السندی بن شاهک، و اوصل الکتابین الیهما، فلم یلبث حتی رأی الناس خروج الرسول یرکض الی الفضل بن یحیی رکضا، فرکب الفضل معه و خرج مشدوها دهشا حتی دخل علی العباس، فدعا العباس بالسیاط و وجه بذلک الیه (السندی) و امر الفضل فجرد من ثیابه ثم ضربه مائة سوط، و خرج متغیر اللون بخلاف ما دخل و ذهبت قوته، و جعل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 56
یسلّم علی الناس یمینا و شمالا علی ما جاء فی (مقاتل الطالبیین).
و کتب مسرور بالخبر الی الرشید، فأمر بتسلیم موسی الی السندی بن شاهک و تولت حبسه اخت السندی بن شاهک، و کانت تتدین، فحکت عنه «انه کان اذا صلی العتمة، حمد اللّه و مجده، و دعاه الی ان یزول اللیل، ثم یقوم فیصلی، حتی یصلی الصبح، ثم یذکر اللّه تعالی حتی تطلع الشمس ثم یقعد الی ارتفاع الضحی، ثم یرقد، و یستیقظ قبل الزوال، ثم یتوضأ و یصلی، حتی یصلی العصر، ثم یذکر اللّه حتی یصلی المغرب، ثم یصلی ما بین المغرب و العتمة، فکان هذا دأبه الی ان مات» .
و قال ابن الأثیر عن اخت السندی بن شاهک: «و کانت اذا رأته قالت:
خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح».

وفاته

و بقی فی الحبوس اربع سنوات ثم تولی السندی قتله فی سم جعله فی طعّام قدم الیه؛ و یقال انه جعله فی رطب، فأکله و أحس بالسم و لبث ثلاثا بعده موعوکا منه ثم مات فی الیوم الثالث و لعل ما أخّر قتله طوال هذه المدّة هو عدم حصول المناسبة التی تضمن رکود الاحاسیس و هیاج الناس، و حدوث الثورة، و مع ان القتل قد وقع فی الوقت المناسب مما رأته السلطة فقد دل علی خوف الرشید من الرأی العام ما قامت به حکومته من اخذ التدابیر و السعی للبرهنة علی ان الکاظم قد مات موتة طبیعیة، اذ ما کاد یتوفی (الکاظم) حتی ادخل السندی بن شاهک علیه الفقهاء و وجوه اهل بغداد و فیهم الهیثم بن عدی و غیره فنظروا الیه لیتحققوا بأنفسهم ان لا اثر به من جراح، و لا خمش و قد اشهدهم علی انه مات حتف انفه فشهدوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 57
علی ذلک و لکن من منهم کان یستطیع ان ینفی قتله بالسم و نفی القتل بالسم فی هذا العصر لیس من اختصاص کل احد.
و فی تاریخ الدول الاسلامیة: «و کان الرشید بالرقة فامر بقتله فقتل قتلا خفیا، ثم ادخلوا علیه جماعة من العدول بالکزخ لیشاهدوه اظهارا أنه مات حتف انفه صلوات اللّه علیه و سلامه» .
و روی انه لما حضرته الوفاة طلب من السندی ان یحضر له مولی کان ینزل عند دار العباس بن محمد فی مشرعة القصب لیتولی غسله و تکفینه ففعل ذلک، قال السندی: و کنت قد سألته ان یأذن لی فی ان اکفنه فأبی، و قال: «إنا اهل بیت مهور نسائنا، و حج صرورتنا ، و اکفان موتانا، من طاهر اموالنا، و عندی کفنی» .
و یستدل من هذا انه کان یحمل کفنه معه منذ ان قبض علیه فی المدینة، او انه قد هیّأه بعد ذلک و فی اثناء حبسه، و قد تولی مولاه غسله و تکفینه، و دفن فی مقابر قریش التی سمیت (بالکاظمیة) بعد ذلک نسبة له و أصبحت من أهم المدن الاسلامیة المقدّسة الیوم.
و قال البعض ان جنازته قد وضعت علی الجسر قبل دفنها لیراها الناس و یؤمنوا بوفاته و کونه مات موتة طبیعیة.
و کانت وفاته یوم الجمعة ببغداد لخمس او لست بقین من رجب من سنة 183 ه المصادف 799 م و قال المسعودی: و قبض موسی بن جعفر ابن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب ببغداد مسموما لخمس عشرة سنة خلت من ملک الرشید سنة ست و ثمانین و مائة و هو ابن اربع و خمسین سنة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 58
و اختلف البعض من غیر الامامیة الاثنی عشریة فی موته فقالوا: لا ندری أمات الامام الکاظم ام لم یمت، و یقال لهؤلاء (الممطورة) و قد سماهم بذلک علی بن اسماعیل بن الامام جعفر الصادق فقال ما انتم الا کلاب ممطورة و منهم من توقف علیه و قال انه لم یمت، و انه غاب و سیخرج من بعد الغیبة و یقال لهؤلاء (الوقفیة) .
و قد قیل انه نودی علی الامام موسی بن جعفر یوم وفاته: «هذا موسی بن جعفر الذی تزعم الرافضة انه لا یموت فانظروا الیه فنظروا» قاصدین بذلک (الوقفیة).

اولاده

و اختلف المؤرخون فی عدد اولاده من الذکور و الاناث، و المشهور انهم سبعة و ثلاثون ما بین ذکر و انثی و هم:
الذکور: علی الرضا، ابراهیم، القاسم، العباس، لأمهات اولاد.
اسماعیل، جعفر، هارون، الحسن، لام ولد.
احمد، محمد، لام ولد.
عبد اللّه، اسحاق، عبید اللّه، زید، الحسن، الفضل، الحسین، سلیمان، لامهات اولاد.
الاناث: فاطمة الکبری، فاطمة الصغری، رقیة، حکیمة، ام ابیها، رقیة الصغری، ام جعفر، لبابة، زینب، خدیجة، علیّة، آمنة، حسنة، بریهة، عائشة، ام سلمة، میمونة، ام کلثوم، لامهات اولاد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 59

نصوص الادعیة و الزیارة

یتجاوز زوار المراقد المقدسة الملایین فی مواسم معینة من السنة فضلا عن الزیارات الاعتیادیة التی یغص بها الحرم المقدس فی کل یوم منذ الصباح الباکر حتی ما یقرب من منتصف اللیل، و من هذه المراقد التی تزار طوال ایام السنة دون استثناء هو مرقد الکاظمین.
و لیس لهذه الزیارات التی یقوم بها الزوار من المواطنین و الاجانب من مختلف الأقطار الإسلامیة فروض و التزامات، و کل ما فی الأمر هو أن یصلی الزائر و یدعو الی اللّه بأن یغفر له و أن یحقق أمانیه الدنیویة و الاخرویة بلغته الخاصة و بأسلوبه کما یفعل الانسان فی المساجد و الجوامع بعد کل صلاة باعتبارها بقاعا مقدسة ینصرف فیها الانسان بکل قلبه الی ربه، علی ان هنالک من زار المراقد المقدسة من الاولیاء و العلماء و البلغاء فنقل الناقلون عنهم أقوالهم و أدعیتهم ثم ما لبثت هذه الأقوال ان صارت نصوصا بدأ الزائرون یجدون فیها خیر تعبیر عن ولائهم للأمة مستشفعین بقدسیة هذا المرقد الی اللّه بأن یمنحهم عفوه و یتوب علیهم، و قد کثرت هذه النصوص لکثرة من زار هذه المراقد من العلماء البلغاء الذین زاروا العتبات المقدسة و قد حفظ البعض شیئا مما کان یدعو به هؤلاء البلغاء الصالحون و هذا مثل لبعض ما یستحسن الزائر تلاوته عند زیارة الإمام موسی بن جعفر اذ یقف امام المرقد و یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 60
«اللّهمّ صلّ علی محمد و اهل بیته، و صلّ علی موسی بن جعفر وصیّ الابرار، و إمام الأخیار، و عیبة الأنوار، و وارث السّکینة و الوقار، و الحکم و الآثار، الذی کان یحیی اللیل بالسهر إلی السحر بمواصلة الاستغفار، حلیف السجدة الطویلة، و الدموع الغزیرة، و المناجاة الکثیرة، و الضراعات المتصلة، و مقرّ النهی و العدل، و الخیر و الفضل، و الندی و البذل، و مألف البلوی و الصبر، و المضطهد بالظلم، و المقبور بالجور، و المعذّب فی قعر السجون، و ظلم المطامیر، ذی الساق المرضوض بحلق القیود، و الجنازة المنادی علیها بذل الاستخفاف، و الوارد علی جدّه المصطفی، و أبیه المرتضی، و أمه سیدة النساء، بارث مغصوب، و ولاء مسلوب، و أمر مغلوب، و دم مطلوب، و سمّ مشروب، اللّهمّ و کما صبر علی غلیظ المحن، و تجرّع غصص الکرب، و استسلم لرضاک، و أخلص الطاعة لک، و محض الخشوع، و استشعر الخضوع، و عادی البدعة و أهلها، و لم یلحقه فی شی‌ء من أوامرک و نواهیک لومة لائم صلّ علیه صلاة نامیة منیفة زاکیة توجب له بها شفاعة أمم من خلقک، و قرون من برایاک، و بلّغه عنّا تحیّة و سلاما و آتنا من لدنک فی موالاته فضلا و إحسانا، و مغفرة و رضوانا انک ذو الفضل العمیم و التجاوز العظیم، برحمتک یا أرحم الراحمین» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 61

الامام محمد الجواد

اشارة

هو الامام محمد الجواد بن علی الرضا بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الحسین بن علی بن ابی طالب (ع) و هو حفید الامام موسی بن جعفر و الامام التاسع عند الشیعة الامامیة الاثنی عشریة.
ولد فی المدینة لیلة الجمعة فی 19 رمضان او للنصف منه او 10 رجب یوم الجمعة، و یدل علیه ما فی مصباح المتهجد: قال ابن عیاش: خرج علی ید الشیخ الکبیر ابی القاسم رضی اللّه عنه: «اللهم أنی أسألک بالمولودین فی رجب: محمد بن علی الثانی و ابنه علی بن محمد المنتجب الدعاء» قال:
و ذکر ابن عیاش انه کان یوم العاشر من رجب مولد ابی جعفر الثانی أ ه .
اما ابن خلکان فیقول ان ولادته کانت یوم الثلاثاء خامس شهر رمضان و قیل فی منتصفه و ذلک فی سنة 195 ه 810 م.
و فی تعلیق للزرکلی علی (نزهة الجلیس) القائل ان ولادته کانت سنة خمس و سبعین و مائة ان ذلک قد یکون من خطأ النسخ او الطبع، لان کثیرا ممن ترجموه ذکروا انه عاش خمسا و عشرین سنة، و اورد بعضهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 62
وفاته سنة 219 ه .
و امه ام ولد و یقال لها شبیکة و کانت (نوبیة)، و قیل إنها من اهل (ماریة القبطیة) و تکنی بأم الحسن، و مما کنی به الامام محمد بن علی و عرف به من الصفات و الأسماء هو (ابو جعفر الثانی) لان جده الامام (محمد الباقر) کان یکنی بأبی جعفر الأول، و علی هذا سمی الذبیلی محمد ابن وهبان الکتاب الذی ألفه فی سیرته: «اخبار أبی جعفر الثانی» و من أشهر ألقابه المرتضی، و القانع، و المنتجب، و التقی، و الجواد، و قد تغلبت شهرته بالجواد علی سائر القابه حتی شارک جده موسی الکاظم فی هذا اللقب فأطلق علیهما لقب (الجوادین) و (الکاظمین) کما مر من قبل.

ملکاته العلمیة و مذهبه فی الحیاة

المعروف عن العلویین انهم کانوا واقعیین فی حیاتهم الخاصة و العامة، و قد ترک لهم الامام علی بن ابی طالب قاعدة ساروا علیها و حثوا شیعتهم علی تفهمها و السیر علی اسسها و هی: «إعمل لدنیاک کأنک تعیش أبدا و اعمل لآخرتک کأنک تموت غدا» فکانوا یلبسون أحسن اللباس و یدعون إلی التلذذ بالحلال من رزق اللّه، و یوصون بالترفیه علی انفسهم و عیالهم و اشراک الآخرین فی نعمتهم، فی حین ینغمسون غایة الانغماس فی عبادة اللّه و التبحر فی العلم و الفقه و الأدب، و قد کانوا یغالون فی تنشئة اولادهم و تعلیمهم حتی کثرت الشواهد علی نبوغ هؤلاء الأولاد و احتلالهم مکانة مرموقة فی عالم الشعر و الأدب و الفقه و الحکمة، و قد ظهرت هذه الملکات فی اولاد الأئمة بأجلی صورها و هم لم یزالوا أطفالا لم یبلغوا الحلم، و کان من هؤلاء الامام محمد الجواد، قال الطبرسی فی (اعلام الوری).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 63
کان الامام محمد الجواد قد بلغ فی وقته من الفضل و العلم و الحکم و الآداب مع صغر سنه ما لم یساوه فیها أحد من ذوی الاسنان من السادة و غیرهم، و قد نقل عن اتساع دائرة فقهه و احاطته بالاحکام و عمق تفکیره العجائب و الغرائب. فلقد کان أفضل أهل زمانه علما و عملا، و ورعا، و عبادة، و سخاء، و فی جمیع صفات الفضل .
و قد دلت آثاره التی ترکها فی الأقوال و المواعظ علی عمق ما کان یملک من مواهب الأدب و الحکمة، و قد روی الرواة الشی‌ء الکثیر من الحکم و الآداب و الأدعیة التی تصور اتجاهاته و تعبر عن غور معرفته، و من هذه ما جری علی الالسن مجری الأمثال قوله:
من اطاع هواه اعطی عدوه مناه.
و من هجر المداراة قاربه المکروه.
و من عمل علی غیر علم کان ما یفسد اکثر مما یصلح.
و من لم یعرف الموارد أعیته المصادر.
و من انقاد الی الطمأنینة قبل الخبرة فقد عرّض نفسه للهلکة و العاقبة المتعبة، لا تستقال لراکب الشهوات عثرة.
کفی بالمرأ خیانة أن یکون امینا للخونة.
عزّ المؤمن غناه عن الناس.
لا یغرک سخط من رضاه الجور.
قال المفید: و کان المأمون قد شغف بأبی جعفر علیه السلام لما رأی من فضله مع صغر سنه و بلوغه فی العلم و الحکمة و الأدب، و کمال العقل ما لم یساوه فیه أحد من مشایخ اهل زمانه.
و کان الی جانب ذلک یرتدی أفخر الثیاب و اغلاها، و قد روی الصدوق عن علی بن مهزیار قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 64
«رأیت أبا جعفر الثانی (الجواد) یصلی الفریضة و غیرها فی جبة خزّ طاروی و کسانی جبة خز، و ذکر انه لبسها علی بدنه و صلی فیها، و أمرنی بالصلاة فیها »
و روی الکلینی فی (الکافی) عن ابی جعفر- و قال السید محسن الأمین ان الظاهر ان الکلینی اراد بأبی جعفر (الجواد)- انه قال: انا معشر آل محمد، نلبس الخز و الیمنة .

استدعاء المأمون لابی جعفر و عزمه علی تزویجه ابنته ام الفضل

و بعد وفاة الامام علی بن موسی الرضا (ع) بخراسان، دعا المأمون ابا جعفر من المدینة الی بغداد و کان الامام یقیم (بصربا) و هی ضاحیة من ضواحی المدینة لا تبعد عن المدینة الا قلیلا، و یستدل مما ورد فی الاخبار ان الامام موسی بن جعفر هو الذی انشأها و بنی فیها قصرا.
و قد استقبله المأمون استقبالا فائقا و قربه الیه و انزله بالقرب من داره، و عزم علی ان یزوجه ابنته (ام الفضل) لما کان قد شغف به مما بلغه عن علمه و أدبه و ذکائه و هو فی سن مبکرة، فبلغ ذلک الوجوه من العباسیین فشق علیهم ان یخطو المأمون خطوة اخری فی تقریب العلویین الی الحکم و کان المأمون قد خطا الخطوة الأولی حین جعل الامام علی بن موسی الرضا (ع) ولیا للعهد، و کتب له ذلک العهد التاریخی المشهور الذی کانت الخلافة العباسیة ستنتقل الیه لو لم یسمّوه، و یتوفی مسموما علی بعض الروایات حتی قال فی ذلک دعبل الخزاعی:
بأووا بقتل (الرضا) من بعد بیعته‌و أبصروا بعض یوم رشدهم و عموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 65
و اجتمع العباسیون علی ما جاء فی (الارشاد) و علی ما جاء فی (تحف العقول) عند المأمون و معهم أهل بیته الادنون و قالوا للمأمون: ننشدک اللّه یا أمیر المؤمنین ان تقف عند هذا الحد فلا تقدم علی تزویج (الجواد) من ابنتک «لانا نخاف ان تخرج به عنا أمرا قد ملکّناه اللّه، و تنزع منّا عزّا قد ألبسناه اللّه، فقد عرفت ما بیننا و بین هؤلاء القوم (آل علی) قدیما و حدیثا، و ما کان علیه الخلفاء الراشدون قبلک من تبعیدهم و التصغیر بهم، و قد کنا فی وهلة من عملک مع (الرضا) ما عملت حتی کفانا اللّه المهم من ذلک، فاللّه اللّه ان تردنا الی غمّ قد انحسر عنا، و اصرف رأیک عن ابن (الرضا) و اعدل الی من تراه من اهل بیتک یصلح لذلک دون غیرهم».
و الوارد فی (الارشاد) للشیخ المفید، و فی (تحف العقول) لابن شعبة الحلبی و ما لخصه السید الأمین فی أعیان الشیعة: انه قال المأمون:
صورة حدیثة لمنظر داخلی لضریح الامامین موسی بن جعفر و محمد الجواد (ع)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 66
«اما ما بینکم و بین آل ابی طالب فأنتم السبب فیه، و لو انصفتم القوم لکانوا اولی بکم، و اما ما کان یفعله من قبلی بهم، فقد کان قاطعا للرحم، و اعوذ باللّه من ذلک، و و اللّه ما ندمت علی ما کان منی من استخلاف (الرضا) و لقد سألته ان یقوم بالأمر و أنزعه عن نفسی فأبی، و کان امر اللّه مقدورا، و اما ابو جعفر محمد بن علی، فو اللّه لا قبلت من واحد منکم فی امره شیئا، فقد اخترته لتبریزه علی اهل الفضل فی العلم و الفضل مع صغر سنه، و الاعجوبة فیه بذلک، و انا ارجو ان یظهر للناس ما قد عرفته منه فیعلموا ان الرأی ما رأیت فیه».
فقالوا: یا امیر المؤمنین أتزوج ابنتک و قرة عینک صبیا لم یتفقه فی دین اللّه، و لا یعرف حلاله من حرامه، و لا فرضه من سنته؟ ان هذا الفتی و ان راقک منه هدیه، فانه صبی لا معرفة له، و لا فقه فأمهله لیتأدب و یتفقه ثم اصنع ما تراه.
و لکی یروا المأمون صواب رأیهم و خطأ رأیه و یحولوا بینه و بین تزویجه ابنته من الجواد، طلبوا من المأمون ان یسمح لهم بامتحان الجواد بمحضر منه لیتأکد بنفسه خطأه- و الفقه یوم ذاک هو عنوان ثقافة العالم الخبیر و لم یکن بامکان احد ان یتفقه و یتعمق ما لم یمر بمراحل طویلة من الاحاطة التامة باللغة و الأدب و کان العلویون- کما قد مرّ- یبالغون فی تعلیم اولادهم فنون العلم و الفروسیة، و استعمال السیف الی جانب تمرینهم و ترویضهم فی عبادة اللّه و طاعته و التمسک بدینه و عدم التفریط فی اوامره و نواهیه- فوافق المأمون و قال لهم شأنکم و ذاک متی اردتم.

نموذج من عمق تبحره فی الفقه و العلم و مدی غوره

فاجتمع هذا الرهط من العباسیین فی یوم کانوا قد عینوه للاجتماع و فوضوا لیحیی بن اکثم، و کان یومذاک قاضی القضاة ببغداد القیام بامتحان الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 67
الجواد، و کان یحیی طویل الباع فی الفقه و ما یمکن ان یتوصل الیه التشریع من التصور و مدی الاحکام، و امر المأمون أن یفرش لأبی جعفر دست و یجعل له فیه مسورتان ، ففعلوا ذلک، و خرج ابو جعفر، و قد بالغ اصحاب الروایة و الاخبار فی صغر سنه فی هذا الوقت و هو أمر یناقض بلوغه المرحلة التی تؤهله للزواج- و الواقع انه کان شابا، و جلس بین المسورتین، و جلس یحیی بن أکثم بین یدیه، و قام الناس فی مراتبهم و المأمون جالس فی دست متصل بدست ابی جعفر، فقال قائل القوم:
- یا امیر المؤمنین، هذا القاضی إن أذنت له ان یسأل أبا جعفر.
فأقبل یحیی بن أکثم و قال للجواد: أتأذن لی فی مسألة؟
قال أبو جعفر: سل إن شئت ...
قال یحیی: ما تقول یا أبا جعفر اصلحک اللّه فی مجرم قتل صیدا؟
قال ابو جعفر: أقتله فی حل او حرم؟ عالما کان المحرم ام جاهلا؟
قتله عمدا ام خطأ؟ حرّا کان المحرم ام عبدا؟ صغیرا کان ام کبیرا؟ مبتدئا بالقتل ام معیدا؟ أمن ذوات الطیر کان الصید ام من غیره؟ و من صغار الصید کان ام من کباره؟ مصرا علی ما فعل او نادما؟ افی اللیل کان قتله للصید فی اوکارها ام نهارا و عیانا؟ محرما کان بالعمرة اذ قتله او بالحج کان محرما؟
و لقد دلت هذه الأسئلة علی مبلغ تنوع الاحکام و مدی احاطة الجواد و تغلغله فی التشریع، و قد تحدث مؤرخو هذا الخبر عن حیرة القاضی و ذهوله حتی لقد بان العجز علی وجهه و التلجلج علی لسانه و ارفض الجمع ذاهلین.
و لقد سأل المأمون بعد ذلک ابا جعفر ان یفصل له الوجوه الشرعیة فیما ذکر، فقال ابو جعفر:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 68
1- ان المحرم اذا قتل صیدا فی الحل و کان الصید من ذوات الطیر، و کان من کبارها فعلیه شاة.
2- فاذا اصابه فی الحرم فعلیه الجزاء مضاعفا.
3- فاذا قتل فرخا فی الحل فعلیه حمل قد فطم من اللبن، و لیست علیه القیمة لانه لیس فی الحرم.
4- و اذا قتله فی الحرم فعلیه الحمل و قیمة الفرخ.
5- و ان کان من الوحش و کان حمار وحش فعلیه بقرة.
6- و إن کان نعامة فعلیه بدنة ، فان لم یقدر فاطعام ستین مسکینا، فان لم یقدر فلیصم ثمانیة عشر یوما.
7- و ان کان بقرة فعلیه بقرة، فان لم یقدر فلیطعم ثلاثین مسکینا، فان لم یقدر فلیصم تسعة أیام.
8- و ان کان ظبیا فعلیه شاة، فان لم یقدر فلیطعم عشرة مساکین، فان لم یجد فلیصم ثلاثة ایام.
9- فان قتل شیئا من ذلک فی الحرم فعلیه الجزاء مضاعفا هدیا بالغ الکعبة
10- و إذا اصاب المحرم ما یجب علیه الهدی فیه، و کان احرامه بالحج نحره بمنی، حیث ینحر الناس.
11- و ان کان احرامه بالعمرة نحره بمکة فی فناء الکعبة و یتصدق بمثل ثمنه حتی یکون مضاعفا.
12- و کذلک اذا اصاب ارنبا او ثعلبا فعلیه شاة، و یتصدق بمثل ثمن شاة.
13- و ان قتل حماما من حمام الحرم فعلیه درهم یتصدق به و درهم یشتری به علفا لحمام الحرم، و فی الفرخ نصف درهم، و فی البیضة ربع درهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 69
14- و کل ما اتی به المحرم بجهالة او خطأ فلا شی‌ء علیه الا الصید فان علیه فیه الفداء- أکان بجهالة ام بعلم، و بخطأ کان ام بعمد.
15- و جزاء الصید علی العالم و الجاهل سواء و فی العمد له المأثم، و هو موضوع عنه فی الخطأ.
16- و الکفارة علی الحرّ فی نفسه، و علی السید فی عبده.
17- و الصغیر لا کفارة علیه، و هی علی الکبیر واجبة.
18- و النادم یسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، و المصرّ یجب علیه العقاب فی الآخرة.
19- و ان دل علی الصید و هو محرم، و قتل الصید فعلیه فیه الفداء، و ان اصابه لیلا فی اوکارها خطأ فلا شی‌ء علیه ان لم یتصید.
20- فإن تصید بلیل فعلیه فیه الفداء؟
و اعجب المأمون بسعة اطلاع الامام (الجواد) و زاد تعلقه به و أمر أن تکتب هذه الأحکام فکتبت.
و مما ورد: ان المأمون طلب من الامام الجواد ان یوجه هو لیحیی بن أکثم بعض الأسئلة الفقهیة، فقال یحیی بن أکثم لأبی جعفر:
- سل فان عرفت جواب ما تسألنی عنه و إلّا استفدته منک؛
فقال ابو جعفر: أخبرنی عن رجل نظر الی امرأة فی أول النهار فکان نظره الیها حراما علیه؟
فلما ارتفع النهار حلّت له
فلما زالت الشمس (ای عند الظهر) حرمت علیه.
فلما کان وقت العصر حلّت له.
فلما غربت الشمس حرمت علیه.
فلما دخل علیه وقت العشاء الاخرة حلت له.
فلما کان انتصاف اللیل حرمت علیه.
فلما طلع الفجر حلت له.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 70
فما حال هذه المرأة؟ و بماذا حلّت له؟ و حرمت علیه؟
فقال یحیی بن أکثم: و اللّه ما أهتدی الی جواب هذا السؤال و لا اعرف الوجه فیه فان رأیت أن تفیدنا به؟
فقال ابو جعفر: هذه أمة لرجل من الناس نظر إلیها أجنبی (نظرة مریبة) فی أول النهار فکان نظره الیها حراما علیه.
فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له.
فلما کان عند الظهر أعتقها فحرمت علیه.
فلما کان وقت العصر نزوجها فحلت.
فلما کان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت علیه .
فلما کان وقت العشاء الاخرة کفّر عن الظهار فحلّت له.
فلما کان فی نصف اللیل طلقها واحدة فحرمت علیه.
و لما کان عند الفجر راجعها فحلت له.
و فی (تحف العقول) روایة اخری یستدل منها مبلغ عمق (الجواد) فی الفقه و حسن استخلاصه الاحکام الشرعیة و استخدام العقل فی تلک الاحکام فقد روی ان یحیی بن اکثم قد سأل أبا جعفر عن رجل نکح امرأة علی زنا أحل له ان یتزوجها فقال الجواد:
- یدعها حتی یستبرئها من نطفته و نطفة غیره، إذ لا یؤمن منها ان تکون قد أحدثت مع غیره حدثا کما أحدثت معه ثم یتزوجها اذا اراد، فانما مثلها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 71
مثل نخلة أکل رجل منها حراما، ثم اشتراها فأکل منها حلالا.
و قال ابن خلکان عن ابی جعفر: «و کان یروی مسندا عن آبائه الی علی ابن ابی طالب رضی اللّه عنه، إنه قال (أی الإمام علی بن أبی طالب علی ما روی أبو جعفر) بعثنی رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم الی الیمن، فقال و هو یوصینی: یا علی ما خاب من استخار، و لا ندم من استشار، یا علی:
علیک بالدلجة فان الأرض تطوی باللیل ما لا تطوی بالنهار ، یا علی اغد باسم اللّه فان اللّه بارک لأمتی فی بکورها».
و کان یقول: «من استفاد أخا فی اللّه فقد استفاد بیتا فی الجنة» .

زواجه من ام الفضل

و مما روی ان المأمون حین هم بتزویج الجواد ابنته قال له: أتخطب یا ابا جعفر؟ قال: نعم.
قال له المأمون- إخطب- فقد رضیتک لنفسی و انا مزوّجک (ام الفضل) ابنتی و ان رغم قوم لذلک.
فقال ابو جعفر- الحمد للّه إقرارا بنعمته و لا إله الا اللّه اخلاصا لوحدانیته، و صلی اللّه علی محمد سید بریته، و الاصفیاء من عترته، اما بعد، فقد کان من فضل اللّه علی الانام أن اغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه:
«وَ أَنْکِحُوا الْأَیامی مِنْکُمْ وَ الصَّالِحِینَ مِنْ عِبادِکُمْ، وَ إِمائِکُمْ، إِنْ یَکُونُوا فُقَراءَ یُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ».
ثم ان محمد بن علی بن موسی (یعنی نفسه) یخطب أم الفضل بنت عبد اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 72
المأمون، و قد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم، و هو خمسمائة درهم جیادا، فهل زوجته یا أمیر المؤمنین علی الصداق المذکور؟
قال المأمون: نعم قد زوجتک یا ابا جعفر ام الفضل ابنتی علی الصداق المذکور .
و روی السید محسن الأمین نقلا عن (تحف العقول (قال:
فأولم المأمون الولائم و اجاز الناس علی مراتبهم اهل الخاصة، و اهل العامة، و الاشراف و العمال، و اوصل الی کل طبقة برا علی ما تستحقه .
و اورد الکثیر من الرواة و المؤرخین اوصافا مسهبة عن هذه الولائم و ما دارت فیها من اطباق الفضة و قد حوت ببنادق مسک و زعفران معجون فی اجواف تلک البنادق و فیها رقاع مکتوبة بأموال جزیلة، و عطایا سنیة و اقطاعات فنثرت علی القوم من الخاصة الی غیر ذلک من الأبهة التی حاطت هذه الولائم.
و یضیف بعض المؤرخین الی اعجاب المأمون بشخصیة الامام و مکانته الذی حمله علی تزویجه ابنته مقتضیات سیاسیة فی تقریب العلویین الی العباسیین و ازالة ما علق فی قلوب شیعة العلویین من الکره و البغض للعباسیین الذی اولده العباسیون و لا سیما المنصور بما عامل به العلویین من قساوة
و یقول الدکتور احمد فرید الرفاعی عن المأمون:
و کان سیاسیا فذّا فی تزوجه من بوران بنت الحسن بن سهل لیکتسب الحزب الفارسی، و فی تزویجه علی بن موسی الرضا (ام حبیب) و محمد ابن علی بن موسی إبنته (أم الفضل) لیکتسب الحزب العلوی رامیا بذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 73
کله الی ضمان تأیید الاحزاب له، عارفا لنفسیات الجمهور و امزجة الجماعات .

رجوعه إلی المدینة و وفاته

و رجع الامام (الجواد) بعد زواجه الی المدینة و معه زوجته (ام الفضل) و جاء علی ما ذکر الشیخ المفید: انه لما توجه قاصا المدینة صار الی شارع باب الکوفة و معه الناس یشیعونه حتی انتهی الی دار (المسیب) عند مغیب الشمس فنزل و دخل المسجد و صلی فیه، ثم توجه الی الحج، و بعد اداء الحج توجه إلی المدینة مستوطنا.
و حین توفی المأمون و خلفه اخوه المعتصم فی الخلافة ارسل یستدعی الجواد الی العراق، و یختلف المؤرخون فی سبب دعوته و یفسر البعض هذا الاستدعاء بالحذر من التفاف الشیعة حول (الجواد) و الخشیة من انتقال الخلافة الی العلویین، و یقول المسعودی فی (اثبات الوصیة) ان المعتصم بن هرون، و جعفر بن المأمون لم یزالا بعد قدوم الجواد الی بغداد و استیطانه فیها یعدّان العدّة و یعملان الحیلة فی قتله و کان ذلک سنة 220 هجریة.
و یقول ابن الأثیر «و فی هذه السنة ای 220 هجریة توفی محمد بن علی ابن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی علیه السلام ببغداد و کان قدمها و معه امرأته ام الفضل ابنة المأمون فدفن بها عند جده موسی ابن جعفر، و هو احد الأئمة عند الامامیة، و صلی علیه الواثق، و کان عمره خمسا و عشرین سنة، و کانت وفاته فی ذی الحجة، و قیل فی سبب موته غیر ذلک» . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌9 ؛ ص73
ا ابن خلکان فیقول عنه: «هو أحد الأئمة الاثنی عشر ایضا، قدم الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 74
بغداد وافدا علی المعتصم و معه امرأته (ام الفضل) بنت المأمون فتوفی بها و حملت امرأته الی قصر عمها المعتصم فجعلت مع الحرم» .
و اضاف ابن خلکان یقول: و توفی یوم الثلاثاء لخمس خلون من ذی الحجة فی سنة عشرین و مائتین و قیل تسعة عشرة و مائتین ه، و هناک من یقول ان وفاته کانت یوم السبت من اواخر ذی القعدة من سنة 220 ه 835 م
و خلف الامام الجواد اربعة أولادهم:
علی الهادی، و هو الامام العاشر عند الشیعة الاثنی عشریة، و موسی بن محمد ، و فاطمة، و إمامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 75

الکاظمین فی الشعر جمعه و نسقه حسب الحروف الابجدیة فؤاد عباس من خریجی الجامعة الامیرکیة ببیروت و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 77

الشیخ جابر الکاظمی

قال فی تعمیر حضرة الجوادین (ع)
فقل لمن قصد الزوراء معتمداقطع الفدافد یطوی کل بیداء
ان صرت غربیّ بغداد و شمت سنا(الوادی المقدّس) مأوی کلّ آلاء
قل للمنیبین رشدا من مؤرخه نادوا المهیمن هذا طور سیناء)
1281 ه
*** و قال مؤرخا عام تزخرف ایوان (باب المراد) من الحضرة الکاظمیّة بالزجاج:
و ایوان صفا مرآه حتی‌علی الافلاک فضّل بالضیاء
(1) هذه امثال لعدد من الشعراء فی مختلف العصور ممن ورد ذکر الکاظمین فی شعرهم لمناسبة ما و قد عنی الکاتب بجمعها و تنسیقها کنماذج مختلفة للشعر العربی فی الاغراض المختلفة من الکاظمین، و لیس للاختیار، و لا للاحصاء ای شأن فی هذا الجمع و التنسیق و الأستخلاص، و لما کنا قد اتبعنا عرض اسماء الشعراء فی الجزء الاول من قسم النجف، و الجزء الاول من قسم کربلا، و الجزء الاول من قسم مکة المکرمة حسب الحروف الهجائیة، فقد اتبع الکاتب هنا نفس الطریقة التی اتبعها فی تقدیم المقدار الکافی من الشعر الذی یضمن تکوین فکرة کاملة عن الوان النهج المتبع فی ذکر الکاظمیة و الکاظمین فی الشعر مرتبا علی الحروف الهجائیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 78 و فی مرآته التکوین طرّاتراءی للعیون بلا غطاء
فزخرفه و زیّنه کرام‌سموا بعلائهم قمم العلاء
لموسی و الجواد السبط سبطی‌رسول اللّه خیر الانبیاء
و أقصی الوجد زال فأرّخوه أراه شبه مرآة السماء)
1288- 4 1284 ه
*** و قال فی باب الحرم الکاظمی مؤرخا تفضیضها:
باب لبابی اله العرش قد فتحاو فیه نهج الوری و الحق قد وضحا
من فضّة صیغ ودّت ان تذهبّه‌شمس النهار فیحمی (؟) المنحا
فی عهد (عبد العزیز) المرتقی لذری‌عزّ به الدین بالاعزاز قد لقحا
و عهد (ناصر دین اللّه) قد نصرت‌به الهداة فزند الرشد قد قدحا
بمنتهی الرشد ناد (؟) یا مؤرخه باب لباب اله العرش قد فتحا)
4+ 1820 1284
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 79

السید حیدر الحلی

قال یمدح صحن الامامین الکاظمین و المتولی لتعمیره و الباذل له. و هی طویلة اخترنا منها ما له صلة بالوصف و التاریخ:
حزت بالکاظمین شأنا کبیرافابق یا صحن آهلا معمورا
لک فخر المحّارة انفلقت عن‌درّتین استقلّتا الشمس نورا
و هما قبّتان لیست لکلّ‌منهما قبة السماء نظیرا
صاغ کلتیهما بقدرته الصائغ‌من نوره و قال: أنیرا
حول کلّ منارتان من التبریجلیّ سناهما الدیجورا
کبرت کلّ قبّة بهما شأنافأبدت علیهما التکبیرا
کعروس بدت بقرطی نضارفملت قلب مجتلیها سرورا
بورکت من منائر قد اقیمت‌عمدا تحمل العظیم الخطیرا
***
أنت بیت برفعه أذن اللّه ل (فرهاد) فاستهلّ سروراو بعصر سلطانه (ناصر الدین) فاخلق بأن یباهی العصورا
یا مقیل العثار تهنیک بشری‌ترکت جدّ حاسدیک عثورا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 80 من رأی قبل ذا کعمّک عمّا لیس تغنی عنه الملوک نقیرا
قد کسا هذه المقاصیر وشیافسیکسی وشیا و یحیی قصورا
***
سعد قرّط مسامع الدهر انشادک‌تسمع من شئت حتی الصخورا
و علی (بلدة الجوادین) عرّج‌بالقوافی مهنّیا و بشیرا
قل لها لا برحت فردوس أنس‌فیک تلقی الناس الهنا و الحبورا
ما نزلنا حماک الّا وجدنابلدا طیّبا و ربّا غفورا
و امامین ینقذان من النارلمن فیهما غدا مستجیرا
طبت اهلا و تربة و هواءکم نشقنا بجوّه کافورا

دعبل الخزاعی

من تائیته المشهورة :
قبور بکوفان و اخری بطیبةو اخری بفّخ نالها صلواتی
و اخری بأرض الجوزجان محلّهاو قبر بباخرمی لدی الغربات
و قبر ب (بغداد) لنفس زکیّة نضمّنها الرحمن فی الغرفات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 81

الشریف الرضی

ولی قبران (بالزوراء) أشفی‌بقربهما نزاعی و اکتئابی
أقود إلیهما نفسی و اهدی‌سلاما لا یحید عن الجواب
لقاؤهما یطهّر من جنانی‌و یدرأ عن ردائی کلّ عاب

الشیخ صالح التمیمی

قال یمدح الامامین موسی الکاظم و محمد الجواد علیهما السلام:
اذا ضلّ حادیها الطریق بدا له‌سنا بارق (بالکرخ) یهدی الی الرشد
سنانور (موسی) و الجواد (محمد)سناء یعید البرء للأعین الرمد
هما شرعا من لجّة العلم مورداجداوله للناس أحلی من الشهد

صالح القزوینی البغدادی المتوفی سنة 1306 ه

فی مدح الامامین الکاظمین (ع) و قد خمّسها الحاج محمد علی کمّونةا الاسدیّ الکربلائی و اکتفینا هنا فی ذکر الاصل دون التخمیس:
اقول لرکب حیث بانوا و یممواسراعا الی الزوراء عوجوا و ألممو
اذا جثّم من جانب الکرخ غرّبواالی الطور حیث النور یبدو و یکتم
قفوا حیث نار الطور اشرق نورهاو لاح سناها و الظلام مخیّم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 82 و حیث تراءت نار (موسی) فادلجواالیه مع السارین و اللیل مظلم
قفوا بی اذا ما جئتم ذروة الحمی‌علی قبر (موسی) و (الجواد) و سلّموا

عبد الباقی العمری

قال مهنئا بها حضرة ذی المدد الدائم أبی الرضا و جدّ القائم الامام الهمام موسی الکاظم (ع) بقدوم الستر الشریف النبوی و الرواق المنیف المرتضوی و اتحاف مرقده الانور بقطعة من ذلک الازار الازهر. :
وافتک یا (موسی بن جعفر) تحفةمنها یلوح لنا الطراز الاول
رقمت علی العنوان من دیباجهادیباجة الشرف الذی لا یجهل
کم جاورت قبرا لجدّک فاکتست‌مجدا له الحطّ السماک الاعزل
و تقدّست اذ جللّت جدثا ثوی‌فی لحده المدّثر المزّمل
فاشتاق ستر العرش لو بمحلّهایوما علی تلک الحظیرة یسبل
اعطیت ما لم یحظ یعقوب به‌اذ جاءه بشذا القمیص الشمأل
طوبی لکم من وارثین فقد غدت‌آثار جدّکم الیکم تنقل
شملتکم معه (العبا) بحیاته‌و مماته استاره لک تشمل
***
لمّا به ساروا و أعلام لهم‌خفقت بأثواب الجلالة ترفل
شاموا السنا من (قبّتیک) و عنده‌وجدوا منار هدی یشبّ و یشعل
فتهافتوا مثل الفراش و احدقوافغشاهم النور القدیم الأول
قد سبّحوا لما أتوک و کبّروااذ شاهدوا منک الضریح و هلّلوا
فاقبل هدیّة امة الهادی التی‌منک الاغاثة فی الشدائد تسأل
بضجیع حضرتک (الجواد محمد)و حفیدها هذا الامام الافضل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 83
و قال لمّا زار مع المفتّش راشدا فندی الوارد من الاستانة الی بغداد حضرة الامام موسی الکاظم (ع):
وافی من الروم یبغی (راشد) رشداالی طریق هدی سعیا علی الراس
و یرتجی العفو من مولاه ملتجئابالکاظم الغیظ و العافی عن الناس
و جاء فی التریاق الفاروقی لعبد الباقی العمری ما یلی:
فی وصف حضرة الامامین الکاظمین و حظیرة الهمامین الجوادین و ما احتوت علیه من محاسن المعلقات و القنادیل الزاهیات و نفائس السرادقات علیهما اسنی التسلیمات:
حضرة (الکاظمین) منها المرایاقد حکت قلب صبّ اهل الطفوف
صبغتها ید التجلّی بکفّ‌کبرت عن تشبیهها بالکفوف
وروت عن غدیر خمّ صفاءفتراءت لطرفی المطروف
صور الکائنات فوجا بفوج‌سابحات فی موجها المکفوف
من قنادیل عسجد زیّنوهابصفوف تلوح إثر صفوف
رسم تعلیقها الانیق تبدّی‌کسطور منضودة من حروف
روضة للصدور فیها ورودبأکفّ الالحاظ ذات قطوف
قد اظلّت شمسا بغیر کسوف‌و أقلّت بدرا بغیر خسوف
و طوت (کاظما) و لفّت (جوادا)فازدهت بالمطویّ و الملفوف
شرّفت فیهما و ما کل ظرف‌حاز تشریفه من المظروف
***
و هی لمّا علی السماء أنافت‌بهما قلت: یا سما المجد نوفی
لا تلمنی علی وقوفی بباب‌تتمنی الاملاک فیه وقوفی
هو باب مجرّب ذو خواص‌کان منها اغاثة الملهوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 84 ملجأ العاجزین کهف الیتامی‌مروة المرملین مأوی الضیوف
أنا عنه حیّا و میتا بدنیای‌و أخرای لست بالمصروف
فلیلمنی من شاء إنی موال‌رافل من ولائهم بشغوف
و یقول عبد الباقی العمری فی مورد آخر:
خلعنا نفوسا قبل خلع نعالناغداة حللنا مرقدا منک مأنوسا
و لیس علینا من جناح بجعلهالأنک بالوادی المقدّس یا (موسی)
***
زر حضرة، مجمع البحرین ساحتهاابان عن (قبّتیها) سرّه القدر
تر (ابن جعفر) موسی فی حظیرته موسی) و لکن له من نفسه (خضر)
*** و قال عبد الباقی العمری حین تشرّف بزیارة مقام الکاظمین الهمامین الجوادین و شاهد فی سماء مشهدهما تجاه مرقدیهما ثریّا من البلّور ساطعة بالنور معلقة فی سلسلة، و سرادقات من الدیباج مظلّلة، لهما و علیهما مجلّلة:
مقام الکاظمین سماء مجدحوت شمسی علا بدری کمال
ممنطقة بمنطقة افتخارمسردقة بدیباج الجلال
امام الفرقدین بها الثریاتضی‌ء ضحی و تشرق فی اللیالی
محلّقة بسلسلة عراهامعلّقة بعرنین الهلال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 85
و کان فی قصبة الکاظمین فی أثناء موسم الزیارة فی رجب الاصمّ من شهور عام 1269 ه فقال:
زیارة الکاظمین فی رجب‌تنقذ یوم اللقا من اللهب
تعدل حجا و وقفة بمنی‌و عمرة کلّها بلا نصب
إی و أبی لا یخاف هول غدمن حازها فی الزمان إی و أبی
من شاهد الفرقدین قبلهمافی سفطی قبتین من ذهب؟؟
*** و قال عبد الباقی مؤرخا عام تعمیر مرقد ابناء حضرة سیدنا الامام الکاظم (ع) الذی عمّره سلیم باشا الفریق:
فریق جند النصر سمح الیدین‌اعنی سلیم القلب من کلّ رین
آثاره انوارها قد بدت‌باهرة تزهر بالقبتین
إذ شاد ما کان بها داثرافأشرقت فی حضرة النیّرین
شلبی جناب الکاظم المرتجی‌سلالة السبط الامام الحسین
عترة طه المصطفی احمداشرف من صلّی الی القبلتین
لما رأی تعمیرها واجبابل انما شاهده فرض عین
بنی بطوع لهما مرقداببذله التبر و نقد اللجین
جزاه ربی عنهما خیر ماجزی به مستوجب الحسنیین
بعون اصحاب العبا أرخوا:«شاد سلیم مرقد الفرقدین »
1264 ه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 86

عبد الغفار الاخرس

و قال یمدح الامام الهمام حضرة موسی الکاظم سلیل النبوّة و أبا المکارم و ذلک حین ورد الیه ستر جدّه جناب سیّد المرسلین من خیر السلاطین :
یا امام الهدی و یا صفوة اللّه و یا من هدی هداه العبادایا بن بنت الرسول یا بن علیّ
حیّ هذا النادی و هذا المنادی‌قد أتینا بثوب جدّک نسعی
و اتیناک سیدی وفّادافأتیناک راجلین احتراما
و احتشاما و هیبة و انقیادانتهادی به إلیک جمیعا
و به کانت المطایا تهادی‌طالبات (موسی بن جعفر) فیه
و کذا القدوة الامام (الجوادا)من نبیّ قد شرّف العرش لمّا
أن ترقی باللّه سبعا شداداشرف فی ثیاب قبر نبیّ
عطّرت فی ورودها بغدادا(کاظم) الغیظ سالم الصدر عاف
ما حوی قط صدره الاحفاداقد وقفنا لدی علاک و القینا ... الی بابک الرفیع القیادا
موطن تنزل الملائک فیه‌و مقام یسرّ فیه الفؤادا
أیها الطاهر الزکیّ اغثناو أذلنا الاسعاف و الاسعادا
و (علیّ) أتاک یا ابن علیّ‌کی ینال المنی بکم و المرادا
فعلیک السلام یا خیرة الخلق‌سلام یبقی و یأبی النفادا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 87

الشیخ عبد المحسن الکاظمی

تقول (رباب) لا تسؤک نوی المنی‌فقد یتدانی بالمنی السبب النزر
و لیس سواء من خطبت و انماعلی قدر ذات الحسن یشترط المهر
فقلت لها قد مسّنا الضرّ فاسلکی‌الی النفع نهجا دونه یقف الضر
فقالت و ثغر (الکاظمیّة) باسم‌لک البشر لا تجزع فقد قرب البشر
*** قال یخاطب عبد اللّه بن الحسین
لقریش بغداد مضی‌ء جوّهاو لهاشم النجف الاغرّ منیر
الکاظمون الغیظ و العافون من‌اجدادک الغرّ الکرام حضور
قد جاهدوا فی اللّه حق جهاده‌و مضوا کراما و الرداء طهور
الشیخ عبد المحسن الکاظمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 88
محمد بن عبید اللّه (سبط ابن التعاویذی) 519 ه- 584 ه
قال یعاتب فخر الدین محمد بن المختار العلوی نقیب مشهد الکوفة علی ساکنه أفضل السلام و کان وعده بوعد و لم ینجزه و اتفق بمقیب وعده ایاه عزل الوزیر:
یا سمیّ النبیّ یابن علیّ قاتل الشرک- و البتول الطهور
أنت تسمو علی البریّة طرّابمحلّ عال و بیت کبیر
عنکم یؤخذ الوفاء و منکم‌یجتدی الناس کلّ خیر و خیر
کیف اخلفتی و ما الخلف للمیعاد ... من عادة الموالی الصدورو لقد کان لائقا بک ان تحمل ... ضعفیه عند عزل الوزیر
فاخو الفضل من یساعد فی الشدّة ... لا فی الرخاء و المیسورو متی ما استمرّ خلفک للوعد و لم تعتذر عن التأخیر
صرت من جملة النواصب لا آکل غیر الجرّیّ و الجرجیرو تغسّلت و اکتحلت ثلاثا
و طبخت الحبوب فی عاشورو طویت الاحزان فیه و لم أبد سرورا فی یوم عید الغدیر
و تبدّلت من مبیتی فی (مشهد موسی) بجامع المنصورو تطهّرت من اناء یهودیّ و فضلته علی الخنزیر
و رآنی أهل التشیّع فی الکرخ بتاسومة و ذیل قصیرزائرا قبر (مصعب) بعد ما کنت أوالی دفین (قبر النذور)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 89 و تخیّرت أن یکون الزبیریّ رفیقی فی العرض یوم النشورو ترانی فی الحشر (فاطمة) الطهر
و کفّی فی کفّه المبتورو تکون المسؤول عن مؤمن ألقیته أنت فی سواء السعیر

الشیخ محسن أبو الحبّ

قال راثیا السید محمد آل شدید
مضیت فأوریت القلوب بشعلةمن الحزن لا تخبو و لا هو یخمد
لقد خسرتک (الکاظمیة) واعظاخطیبا له فنّ الخطابة یعهد
***
ألا یا قاصد (الزوراء) عرّج‌لتحظی بالامان و بالامانی
و حث الرکب ان تبغی (؟) نجاحاعلی (الغربیّ) من تلک المغانی
فطف واسع و حجّ بها و لبّ (؟)و سلّم فی جنانک و اللسان
و نعلیک اخلعن و اخضع خشوعااذا لاحت لدیک (القبّتان)
فتحتهما لعمرک نار (موسی)أضاءت حین نودی لن ترانی
فتلک النار نور اللّه فیهاو نور (محمّد) متقاربان
الشیخ محسن أبو الحب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 90

السید موسی الطالقانی

و ب (بغداد) قد ثوی سید الکونین (موسی) أسیر کفّ الذحول‌کاظما غیظه یرید رضا اللّه فیلقی الردی بصبر جمیل
عابد زاهد تقیّ نقی‌غوث داع و غیث عام محیل
قد اصاب (الرشید) فی قتله الغنی‌و قد ضل عن سواء السبیل
و الی جنبه ثوی من بنیه‌خیر شبل له و خیر سلیل

مهیار الدیلمی

قال یرثی الصاحب عمید الجیوش ابا علی بن استاذ هرمز، الذی نشر الأمن و کف الأذیّة عن اهل الفضل، و اخاف العصاة و الشقاة ... و بموته عمت الفجیعة و دفن فی المشهد بباب التبن علی صاحبه السلام:
فتحوا ضریحک فی مساکن تربه‌جاورتها فختمت طیب ختام
و نزلت فی (مضر)- و قومک غیرهم-بعد الممات بأشرف الاقوام
أنّی التفتّ فأنت فی حرزین من‌حرمی شهید سیّد و إمام
اصبحت منهم بالنزول علیهم‌یا رحب ما بوئت من إکرام
فاذا تزخرفت الجنان بهم غداصاحبتهم فدخلتموا بسلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 91

الکاظمیة فی المراجع العربیة کتبه الدکتور حسین علی محفوظ دکتوراه الدولة من جامعة طهران و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و الأستاذ بکلیة الآداب فی جامعة بغداد الیوم

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 93

الکاظمیة فی التواریخ

الکامل فی التاریخ

سنة 183 ه

فیها، مات موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب، ببغداد، فی حبس الرشید.
و جاء فی الکامل انه تولت حبسه اخت السندی ابن شاهک. و کانت تتدین. فحکت عنه؛ انه کان اذا صلی العتمة، حمد اللّه، و مجده، و دعاه، الی ان یزول اللیل. ثم یقوم فیصلی، حتی یصلی الصبح. ثم یذکر اللّه- تعالی- حتی تطلع الشمس. ثم یقعد الی ارتفاع الضحی.
ثم یرقد و یستیقظ- قبل الزوال- ثم یتوضأ، و یصلی، حتی یصلی العصر.
ثم یذکر اللّه حتی یصلی المغرب. ثم یصلی المغرب، ثم یصلی ما بین المغرب و العتمة. فکان هذا دأبه الی ان مات.
و کانت- اذا رأته- قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح.
و کان یلقب «الکاظم»، لأنه کان یحسن الی من یسی‌ء الیه. کان هذا عادته أبدا ... الخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 94

سنة 219 ه

فی هذه السنة توفی ببغداد الجواد؛ محمد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی (ع م). توفی ببغداد .. فدفن بها عند جده موسی بن جعفر. و هو احد الأئمة- عند الامامیة- و صلی علیه الواثق و کان عمره خمسا و عشرین سنة. و کانت وفاته فی ذی الحجة .

سنة 312 ه

کان المحسن بن الوزیر بن الفرات مختفیا .. عند حماته حزانة- و هی والدة الفضل بن جعفر بن الفرات- و کانت تأخذه کل یوم إلی المقبرة، و تعود به إلی المنازل التی یثق بأهلها عشاء؛ و هو فی زی امرأة- فمضت یوما إلی مقابر قریش و ادرکها اللیل، فبعد علیها الطریق. فأشارت علیها امرأة معها ان تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخیر تختفی عندها. فأخذت المحسن و قصدت تلک المرأة. و قالت لها معنا صبیة بکر نرید بیتا نکون فیه. فأمرتهم بالدخول إلی دارها و سلمت الیهم قبة فی الدار .

سنة 367 ه

فیها، زادت دجلة زیادة عظیمة، و غرقت کثیرا من الجانب الشرقی ببغداد. و غرقت ایضا مقابر بباب التبن بالجانب الغربی منها. و بلغت السفینة باجرة وافرة، و اشرف الناس علی الهلاک. ثم نقص الماء فأمنوا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 95

سنة 406 ه

فیها، توفی الشریف الرضی، محمد بن الحسین بن موسی بن ابراهیم بن موسی بن جعفر، ابو الحسن؛ صاحب الدیوان المشهور.
و شهد جنازته الناس کافة. و لم یشهدها اخوه (الشریف المرتضی)؛ لأنه لم یستطع ان ینظر الی جنازته. فأقام بالمشهد (الکاظمیة) إلی ان اعاده الوزیر فخر الملک إلی داره .

سنة 422 ه

اعترض اهل باب البصرة قوما من (قم) أرادوا زیارة مشهد علی، و الحسین- عم- فقتلوا منهم ثلاثة نفر. و امتنعت زیارة مشهد موسی بن جعفر .

سنة 435 ه

سار (الملک العزیز) متخفیا، فقصد نصر الدولة بن مروان، فتوفی عنده بمیافارقین، و حمل إلی بغداد، و دفن عند ابیه بمقابر قریش، فی مشهد باب التبن. سنة احدی و اربعین .

سنة 436 ه

فیها، نقل تابوت جلال الدولة، من داره إلی مشهد باب التبن، إلی تربة له هناک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 96

سنة 443 ه

فی هذه السنة، فی صفر، تجددت الفتنة، ببغداد، بین السنة و الشیعة.
و عظمت اضعاف ما کانت قدیما ..
و کان سبب هذه الفتنة، ان اهل الکرخ شرعوا فی عمل باب السماکین.
و أهل العلائین فی عمل ما بقی من باب مسعود. ففرغ اهل الکرخ، و عملوا أبراجا، کتبوا علیها بالذهب (محمد و علی خیر البشر). و انکر السنة ذلک.
و ادعوا ان المکتوب: (محمد و علی خیر البشر. فمن رضی فقد شکر، و من أبی فقد کفر). و أنکر أهل الکرخ الزیادة. و قالوا: ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا، فیما نکتبه علی مساجدنا. فأرسل الخلیفة القائم بأمر اللّه ابا تمام نقیب العباسیین، و نقیب العلویین و هو عدنان بن الرضی؛ لکشف الحال و انهائه. فکتبا بتصدیق قول الکرخیین. فأمر حینئذ- الخلیفة و نواب الرحیم بکف القتال، فلم یقبلوا و انتدب ابن المذهب القاضی، و الزهیری و غیرهما من الحنابلة اصحاب عبد الصمد یحمل العامة علی الاغراق بالفتنة فأمسک نواب ملک الرحیم عن کفهم؛ غیظا من رئیس الرؤساء لمیله إلی الحنابلة، و منع هؤلاء السنة من حمل الماء من دجلة إلی الکرخ .. و تشدد رئیس الرؤساء علی الشیعة، فمحوا خیر البشر، و کتبوا (علیهما السلام). فقالت السنة؛ لا نرضی ألا ان یقلع الآجر الذی علیه (محمد و علی) و ان لا یؤذن (حی علی خیر العمل)، و امتنع الشیعة من ذلک.
و دام القتال إلی 3 ربیع الأول. و قتل فیه رجل هاشمی من السنة، فحمله أهله علی نعش، و طافوا به فی الحربیة، و باب البصرة، و سایر محال السنة.
و استنفروا الناس للأخذ بثاره. ثم دفنوه عند احمد بن حنبل. و قد اجتمع معهم خلق کثیر، أضعاف ما تقدم.
فلما رجعوا من دفنه، قصدوا مشهد باب التبن، فاغلق بابه. فنقبوا فی سورها و تهددوا البواب، فخافهم، و فتح الباب. فدخلوا و نهبوا ما فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 97
المشهد من قنادیل، و محاریب ذهب و فضة، و ستور و غیر ذلک. و نهبوا ما فی الترب و الدور.
فلما کان الغد؛ کثر الجمع، فقصدوا المشهد، و احرقوا جمیع الترب و الازاج، و احترق ضریح موسی، و ضریح ابن ابنه محمد بن علی الجواد، و القبتان الساج، اللتان علیهما. و احترق ما یقابلهما، و یجاورهما من قبور ملوک بنی بویه؛ معز الدولة، و جلال الدولة.
و من قبور الوزراء و الرؤساء، و قبر جعفر ابن ابی جعفر المنصور، و قبر الأمین محمد بن الرشید، و قبر أمه زبیدة.
و جری من الامر الفظیع ما لم یجر فی الدنیا مثله.
فلما کان الغد، خامس الشهر، عادوا و حفروا قبر موسی بن جعفر، و محمد بن علی؛ لینقلوهما إلی مقبرة احمد بن حنبل، فحال الهدم بینهم و بین معرفة القبر، فجاء الحفر إلی جانبه.
شیخ الطائفة الشیخ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسی
و سمع ابو تمام، نقیب العباسیین و غیره من الهاشمیین السنة- الخبر، فجاؤوا، و منعوا عن ذلک ...
و لما انتهی خبر احراق المشهد إلی نور الدولة دبیس بن مزید، عظم علیه و اشتد، و بلغ منه کل مبلغ- لانه و اهل بیته، و سائر اعماله؛ من النیل.
و تلک الولایة کلهم شیعة- فقطعت فی اعمال خطبة الامام القائم بأمر اللّه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 98
فروسل فی ذلک و عوتب، فاعتذر بأن اهل ولایته شیعة، و اتفقوا علی ذلک.
فلم یمکنه ان یشق علیهم. کما ان الخلیفة لم یمکنه کف السفهاء الذین فعلوا بالمشهد ما فعلوا .

سنة 449 ه

فیها، نهبت دار ابی جعفر الطوسی بالکرخ؛ و هو فقیه الامامیة. و أخذ ما فیها. و کان قد فارقها إلی المشهد الغربی .

سنة 466 ه

فی هذه السنة، غرق الجانب الشرقی، و بعض الغربی من بغداد .. و غرق من الجانب الغربی مقبرة احمد، و مشهد باب التبن، و تهدم سوره. فأطلق شرف الدولة الف دینار؛ تصرف فی عمارته .

سنة 502 ه

فی هذه السنة، فی شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة و الشیعة و خرج الشیعة لیلة النصف منه إلی مشهد موسی بن جعفر و غیره، فلم یعترضهم أحد من السنة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 99

سنة 517 ه

عاد الخلیفة (المسترشد باللّه) الی بغداد، فدخلها یوم عاشوراء، من هذه السنة. و لما عاد الخلیفة إلی بغداد، ثار العامة بها، و نهبوا مشهد باب التبن، و قلعوا أبوابه، فأنکر الخلیفة ذلک، و أمر أمیر الحاج بالرکوب إلی المشهد، و تأدیب من فعل ذلک، و أخذ ما نهب، ففعل و أعاد البعض، و خفی الباقی علیه .

سنة 593 ه

فی جمادی الآخرة، توفی قاضی القضاة، ابو طالب علی ابن البخاری، ببغداد، و دفن بتربته، فی مشهد باب التبن .

سنة 614 ه

فیها، زادت دجلة زیادة عظیمة، لم یشاهد فی قدیم الزمان مثلها ...
أما الجانب الغربی؛ فتهدم اکثر القریة، و نهر عیسی، و الشطیات، و خربت البساتین و مشهد باب التبن، و مقبرة أحمد بن حنبل، و الحریم الطاهری ... .

الجامع المختصر

سنة 597 ه

ابو الفتح، صدقة بن أبی الرضا محمد بن احمد بن صدقة؛ الملقب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 100
ظهیر الدین. من بیت أهل تقدم، و وزارة، و ولایة. تولی نیابة الوزارة فی الأیام الناصریة .. فی 15 المحرم من سنة 580. و کان قبل نیابة الوزارة یتولی حجابة باب النوبی الشریف، ثم رتب مشرفا بالدیوان العزیز، فی جمادی الآخرة، من سنة 597، فمرض عقیب ذلک، و توفی، فی لیلة الجمعة حادی عشری رجب من سنة 97 المذکورة. و دفن بمقابر قریش بباب التبن .

سنة 598 ه

ابو منصور، محمد بن محمد المبارک، الکرخی؛ المنشد. شیخ حافظ للقرآن المجید. قرأه بالقراآت. و کان حسن القراءة، جید الأداء، طیب الصوت، شجیه. و کان یتشیع، و ینشد فی المواسم بالمشاهد المقدسة، و یعظ فی الأعزیة. توفی فی حادی عشر المحرم من سنة 598 المذکورة. و دفن بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام .
* ابو الحسن، علی بن ابی عبد اللّه محمد بن ابی الحسن علی بن ابی نصر محمد بن الحسین بن ابراهیم بن یعیش؛ سبط قاضی القضاة ابی الحسن علی ابن محمد الدامغانی .. مولده ... یوم الاثنین، مستهل شعبان، من سنة 519. و توفی فی یوم السبت حادی عشر صفر، من سنة 98 المذکورة.
و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- ع- .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 101

سنة 599 ه

ابو البدر بن حیدر. شاب عنده فضل، و تمیّز، و کتابة، کان یتولی دیوان الترکات الحشریة . توفی فی عاشر شهر رمضان، من سنة 599 ه المذکورة؛ من مرض ایام قلائل. و صلی علیه بالمدرسة النظامیة، و دفن بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام-. بلغنی انه کان یقول: قد عینت علی فلان و فلان، و یعد مشایخ ارباب الأموال، الذین لا وارث لهم سوی بیت المال، فمات هو شابا، و بقی اولئک بعده .
* ابو الفضل، أحمد بن علی بن هبة اللّه بن محمد بن علی؛ ابن البخاری.
کان شابا جمیلا؛ من بیت معروف بالولایات و القضاء و العدالة و الروایة ..
استنابه والده فی القضاء و الحکم بحریم دار الخلافة المعظمة، و ما یلیها ...
و لم یزل علی ذلک إلی أن توفی والده فی جمادی الأولی، من سنة 593، فانعزل بوفاته، و لزم منزله؛ إلی أن ولی اقضی القضاة شرقا و غربا، و خلع علیه .. ثم عزل فی اواخر ذی الحجة من سنة 595 فلزم منزله، إلی ان توفی فی یوم الاربعاء 4 ذی الحجة من سنة 599 .. و صلی علیه بالمدرسة النظامیة، و دفن- عند ابیه- فی تربة لهم بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- .

سنة 600 ه

الرضی بن حبشی؛ کاتب المخزن المعمور. کان کاتبا ضابطا، متواضعا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 102
حسن الکتابة. کانت وفاته، فی یوم الاربعاء 13 جمادی الأولی، من سنة 600 و صلی علیه بالنظامیة. و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- ع- .
* ابو اسحاق، خلیل بن محمود بن خلیل التبریزی؛ أحد أمناء الحکم، بمدینة السلام. شیخ خیر ولد ببغداد. و لاه قاضی القضاة، أبو الحسن ابن الدامغانی أمینا علی أموال الأیتام، و لم یزل علی ذلک، إلی أن توفی، فی لیلة الجمعة، 15 ذی الحجة، من سنة 600، و دفن بمقبرة مشهد موسی ابن جعفر- ع- .

سنة 601 ه

فی لیلة النصف من شعبان؛ هبت ریح شدیدة، و معها غبرة و قترة- و الناس قاصدون المشهد الکاظمی (علی ساکنیه السلام) و مقبرة احمد (رض)؛ فقصدوا المشهد، و ازدحموا فی بابه الأول، و رکب بعضهم بعضا، فاختنق- فی ذلک الزحام- سبعة عشر رجلا، و امرأتان، و قیل:
تسعة عشر رجلا، و امرأة، و صبی، و صبیة.
و ذهب من الناس- عمائم و مداسات کثیرة. و انکشف الأمر بین المغرب و العشاء. و قد هلک المذکورون، و تفقدهم الناس. فمن عرف أحدا من الهلکی أخذه. و دفنوا فی تلک اللیلة. و بقی منهم جماعة لم یعرفوا، کانوا من السواد، فدفنهم الناس. و غرق- فی تلک الحال- أیضا، عدة سفن، کانت مصعدة و منحدرة فی دجلة، و غرق فیها خلق کثیر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 103
ابو علی، الحسن بن محمد بن عبدوس؛ شاعر من اهل واسط. قدم بغداد، و استوطنها .. و هو احد شعراء الدیوان العزیز .. کانت وفاته ... فی یوم الجمعة خامس صفر، من سنة 601. و صلی علیه بالمدرسة النظامیة، و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- .

سنة 602 ه

ابو شجاع؛ الذهبی، المعروف بالخوص. شیخ من ساکنی الغلة .
کان- أولا- ذهبیا، ثم ضمن دار الذهب. و کان تاجرا. توفی فی یوم الأربعاء، رابع شهر ربیع الأول، من سنة 602. و دفن فی مقبرة المشهد الکاظمی- علی ساکنیه السلام- .
* ابنة ارغش، مقطع دقوقا، و زوجة الأمیر جمال الدین قشتمر الناصری.
توفیت، هذه السنة؛ بمرض السل. و کان سبب مرضها- فیما ظهر- ان زوجها قشتمر؛ وقع بینه و بین الوزیر ناصر بن مهدی ما اقتضی ان رأی سیده الامام الناصر الدین اللّه- رض- ایفاده إلی رام هرمر، و اقطاعه ایاها، فمرضت لفراقه. فلما بلغها انه قد تزوج بابنة ابی طاهر، اشتد حزنها و تزاید مرضها. و کان له منها ابن صغیر اسمه محمد، و لقبه قطب الدین.
فکانت تبکی اللیل و النهار؛ شوقا إلیه، و تأسفا علیه. و کانت- اذا سلیت عنه- لا تسلی، و أیست من عوده، و اجتماعها به. و بلغنی؛ انها امتنعت من الطعام و الشراب، حتی ماتت- رح- و فتح لها جامع القصر الشریف، و حضر جماعة الأمراء، و الأعیان، و الأکابر؛ للصلاة علیها. و دفنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 104
فی تربة لها بمشهد موسی بن جعفر- ع- .
* جاریة المسکین ابی الحسن محمد بن محمد بن عبد الکریم، القمی؛ کاتب دیوان الانشاء- یومئذ- و ام أولاده.
توفیت فی ثامن صفر من سنة 602. و صلی علیها بالمدرسة النظامیة، و دفنت فی تربة لهم بالمشهد الکاظمی- علی ساکنیه السلام- و شیع جنازتها خلق کثیر .

سنة 604 ه

ابو منصور، احمد بن علی بن هبة اللّه، ابن (الصاحب)؛ الملقب بالربیب، اخو استاذ الدار العزیزة- یومئذ- .
توفی یوم الأحد 9 المحرم، و صلی علیه فی جامع القصر الشریف. و دفن بمشهد موسی بن جعفر- علی ساکنیه السلام- و کان عمره نحوا من خمسین سنة. و قد روی شیئا من الحدیث .
* أبو محمد، الحسین بن یحیی بن عمارة؛ کاتب نهر عیسی. شیخ من اعیان الکتاب؛ عنده فضل و معرفة بالکتابة.
توفی فی خامس عشری شهر ربیع الأول (سنة 604) و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 105
ابو القاسم، الحسن بن نصر بن علی بن احمد بن محمد بن الناقد؛ صدر المخزن المعمور. من بیت معروف بالولایات، و التقدم، و الریاسة. ربی فی ظل الخدمة الشریفة الناصریة، و شمله انعامها طفلا، و یافعا، و محتلما، فسما قدره، و تولی الولایات، و تنقل فی الخدمات ..
توفی والده، فی 18 جمادی الآخرة، من سنة 592. و کان یتولی صدریة المخزن المعمور، فجعل عوضه .. إلی أن عزل عنه، یوم الخمیس 14 جمادی الأولی سنة 598 ... و لم یستخدم بعد ذلک، إلی أن توفی، فی لیلة الأربعاء 9 شهر رمضان، من سنة 604 .. و دفن فی تربة لهم، فی مشهد موسی بن جعفر- ع- .

سنة 605 ه

ابو الفوارس، نصر بن ناصر بن لیث بن مکی؛ الکاتب، المدائنی، انتقل إلی بغداد. و أقام بها، و استوطن، و تقدم فی خدمة الدیوان العزیز» و علت مرتبته ... ثم تولی صدریة المخزن المعمور ..
کانت وفاته فی لیلة الأربعاء، 9 شعبان، من سنة 605؛ عن مرض ایام قلائل. و صلی علیه، فی جامع القصر الشریف، و حضر جنازته جمیع ارباب الدولة، و وجوه الناس کافة، و دفن فی حضرة موسی بن جعفر- علیهما السلام- و کان الجمع وافرا جدا .
* ابو جعفر، المبارک بن علی بن أحمد بن محمد بن الناقد. اخو ابی طالب نصر .. تولی حجبة باب النوبی الشریف بعد ابن اخیه القاسم الحسن بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 106
نصر، فی یوم الاربعاء 18 جمادی الآخرة، من سنة 592 .. توفی فی شهر رمضان، من سنة 605 .. و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- ع- .

سنة 606 ه

فی یوم الخمیس حادی عشر (ربیع الأول) عزل عز الدین عدنان بن المعمر بن المختار الکوفی، عن نقابة مشهد موسی بن جعفر- ع- .

مختصر اخبار الخلفاء

کانت ایام (الناصر) غرة فی وجه الدهر .. و کان یتشیّع، و یمیل إلی مذهب الإمامیة؛ بخلاف آبائه. و قد جعل مشهد الامام موسی الکاظم- علیه السلام و الرضوان- أمنا لمن لاذ به. فکان الناس یلتجئون إلیه، فی حاجاتهم، و مهماتهم، و جرائمهم؛ فیقضی الناصر لهم حوائجهم، و یسعفهم فیما أهمهم، و یعفو عن جرائمهم .

فی فرحة الغری

و الذی بنی مشهد الکرخ، سباهی الحاجب؛ مولی شرف الدولة ابی الفوارس عضد الدولة. و بنی قنطرة الیاسریة، و وقف دباهی علی المارستان، و سد شق الخالص، و حفر ذنابة دجیل، و ساق الماء إل موسی بن جعفر- علیهما السلام- .

فی الفخری

حدث عن (الوزیر مؤید الدین محمد بن محمد بن عبد الکریم برز القمی)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 107
مملوکه بدر الدین ایاز؛ قال: طلب لیلة- من اللیالی- حلاوة النبات، فعمّل فی الحال منها صحون کثیرة، و حضرت بین یدیه فی ذلک اللیل.
فقال لی: یا آیاز؛ تقدر تدخر هذه الحلاوة لی موفرة إلی یوم القیامة؟
فقلت: یا مولانا، و کیف یکون ذلک؟ و هل یمکن هذا؟
قال: نعم؛ تمضی فی هذه الساعة- إلی مشهد موسی و الجواد (علیهما السلام)، و تضع هذه الأصحن، قدام أیتام العلویین. فانها تدخر لی موفرة إلی یوم القیامة. قال: آیار، فقلت: السمع و الطاعة، و مضیت- و کان نصف اللیل- إلی المشهد، و فتحت الأبواب، و أنبهت الصبیان الأیتام، و وضعت الأصحن بین یدیهم، و رجعت .
* لم یجر فی أیام (الظاهر بأمر اللّه بن الناصر لدین اللّه) .. سوی احتراق القبة الشریفة، بمشهد موسی و الجواد- علیهما السلام- فشرع الظاهر فی عمارتها، فمات، و لم تفرغ، فتممها المستنصر .

الحوادث الجامعة

سنة 634 ه

فیها، قصد الخلیفة (المستنصر باللّه) مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فی ثالث رجب. فلما عاد، أبرز ثلاثة آلاف دینار إلی أبی عبد اللّه الحسین بن الأقساسی؛ نقیب الطالبیین، و أمره أن یفرقها علی العلویین المقیمین فی مشهد أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب، و الحسین، و موسی ابن جعفر- علیهم السلام- .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 108

سنة 635 ه

فی ربیع الآخر، تقدم إلی المدرسین، و الفقهاء، و مشایخ الربط، و الصوفیة، و أرباب الدولة من الصدور و الأمراء؛ بحضور جامع القصر؛ لأجل الصلاة علی ابنة بدر الدین لؤلؤ؛ صاحب الموصل؛ زوجة الأمیر علاء الدین الطبرسی الدویدار الکبیر. و صلی علیها فی القبلة. و شیع الکل جنازتها، إلی المشهد الکاظمی. و دفنت فی الایوان المقابل للداخل إلی مصف الحضرة المقدسة- فی ضریح مفرد .

سنة 637 ه

فیها، توفی ابو الفتح نصر اللّه بن محمد بن عبد الکریم؛ المعروف بابن الاثیر، الجزری الأصل، الموصلی الدار.
کان کاتبا عالما متفننا فی علم الکتابة مقتدرا علی الإنشاء. ورد إلی بغداد مرارا فی رسائل من بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل؛ منها فی هذه السنة.
فمرض ببغداد، و مات و دفن فی صحن مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- کان مولده سنة 558 .

سنة 641 ه

فیها، تقدم الخلیفة (المستنصر باللّه) إلی جمال الدین عبد الرحمن ابن الجوزی المحتسب؛ بمنع الناس من قراءة المقتل، فی یوم عاشوراء، و الانشاد فی سائر المحالّ بجانبی بغداد سوی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 109

سنة 641 ه

فی سابع عشری رجب المبارک، قصد الخلیفة (المستعصم» زیارة مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- و کان یوما مطیرا. و نزل عن مرکوبه من باب سور المشهد .

سنة 643 ه

الوزیر نصیر الدین، ابی الأزهر، أحمد بن الناقد .. عرض له اسهال، فتوفی لیلة الجمعة سادس ربیع الأول من السنة، فدفن فی مشهد موسی ابن جعفر- علیه السلام- فی تربة اتخذها لنفسه .
* و فیها، توفی خواجه حسین بن محمد بن محمد بن عبد الکریم بن برز فی دار مجاور داره. و انقضی عمره علی ذلک، و دفن فی مشهد موسی ابن جعفر- علیه السلام- .
* فی لیلة الجمعة، حادی عشر شهر رمضان؛ نقل مؤید الدین أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الکریم بن برز؛ القمی الوزیر، من مدفنه بمقبرة الزرادین بالمأمومنیة، إلی تربة؛ کان أنشأها بالمشهد الکاظمی، و وقف علیها وقوفا. و ذلک بعد ثلاث عشرة سنة و أحد عشر شهرا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 110

سنة 646 ه

فی شوال، تواترت الغیوث حتی امتلأت البوالیع، و استجد عوضها و امتلأت أیضا. و تعطل علی الناس معظم أشغالهم. و کان ذلک عاما ببغداد، و تستر، و اربل، و الموصل، و غیر ذلک من البلاد.
و دام حتی منع الناس عن الزرع، و غرقت القری، و هدمت الدور، و امتلأت الزابات، و تجمر الماء بدجلة، و زادت زیادة عظیمة؛ غرقت الشطانیات بالجانب الغربی من بغداد.
و من فتحة انفتحت- فوق قبر احمد بن حنبل- غرق منها محلة الحربیة، و الکرخ، و المارستان، و الخلد ، و دار بختیار، و السوق بأسره- من رباط الخلاطیة إلی القنطرة- و قطعة من محلة قطفتا، و الشیخ بأسره، و الجنبشة (؟)، و وقع قطعة من جامع فخر الدولة الحسن بن المطلب، و قطعة من سور المشهد الکاظمی- علی ساکنه السلام- و جامع الحربیة بأسره. و انتقل الناس من مساکنهم القریبة من دجلة الی المواضع العالیة ..
و لم تبلغ هذه الزیادة تلک التی کانت سنة 614 .
* ثم زادت (دجلة) فی ذی الحجة، زیادة مفرطة أعظم من الأولی ...
أما الجانب الغربی فغرق بأسره .. و أما المشهد الکاظمی- علی ساکنه السلام- فإنه هدم سوره و دوره، فأقام علی الضریحین الشریفین؛ بحیث لم یبن من الرمامین سوی رؤوسها .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 111

سنة 647 ه

فیها، نقل فخر الدولة الحسن بن المطلب، من مدفنه بالایوان، الذی فی جامعه علی شاطی‌ء دجلة، حیث وقع حائطه- إلی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- تولی نقله النواب الذین ینظرون فی وقوفه. و ارادوا نقله إلی موضع فی الجامع، فلم یجوّز الفقهاء ذلک. و ذلک بعد نیف و ستین سنة من موته .
* و فیها، أمر الخلیفة بعمارة سور مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فلما شرعوا فی ذلک، وجدوا برنیة، فیها ألفا درهم قدیمة؛ منها یونانیة علیها صور، و منها ضرب بغداد، سنة نیف و ثلاثین و مائة، و منها ما هو ضرب واسط، یقارب هذا التاریخ. فعرضت علی الخلیفة، فأمر أن تصرف فی عمارة المشهد، فاشتراها الناس بأوفر الأثمان، و أهدی منها إلی الأکابر، فنفذوا إلی المشهد أضعاف ما کان حمل إلیهم .
* و فی حادی عشر ذی القعدة، امر الخلیفة بحمل مشدتین إلی مشهد موسی ابن جعفر- علیه السلام- و تعلیقهما علی القبتین الشریفتین، ثم تقدم بازالتهما، فی خامس عشری الشهر المذکور .

سنة 648 ه

فیها، توفی عبد الغنی بن فاخر، مهتر الفراشین بدار الخلیفة ...
و بنی تربة فی المشهد الکاظمی- علی ساکنه السلام- و عمل ضریحا و صندوقا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 112
و جعل فی التربة فرشا، و ربعة، و قنادیل، و خادما. و وقف أملاکه علی التربة و الخادم، و من یختار القعود- هناک- من معتقیه و مقری‌ء و فراش

سنة 650 ه

فی شوال توفی علاء الدین الطبرسی الظاهری، المعروف بالدویدار الکبیر. کان دویدار الخلیفة الظاهر، و کان حظیا عنده.
و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فی الایوان المقابل لباب الدخول- عند زوجته ابنة بدر الدین؛ صاحب الموصل .

سنة 656 ه

توفی الوزیر مؤید الدین محمد بن العلقمی، فی مستهل جمادی الآخرة، و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام-

سنة 663 ه

فیها، توفی جمال الدین ابو الحسن علی بن برز القمی، المعروف بأمیران؛ و هو ابن أخی الوزیر مؤید الدین القمی. و دفن فی تربة عمه، بمشهد (موسی بن جعفر)- علیه السلام- .

سنة 672 ه

توفی .. خواجه نصیر الدین أبو جعفر محمد بن الطوسی، فی ثامن عشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 113
ذی الحجة، و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فی سرداب قدیم البناء، خال من دفن. قیل: إنه کان قد عمل للخلیفة الناصر لدین اللّه ..
کان مولده سنة 597 .
و فیها، ظهر جراد کثیر؛ أکل الغلات، و سائر الزروع، و خوص النخل، و ورق الأشجار، فی الحلة، و الکوفة، و بغداد .

سنة 674 ه

و فیها، عزل أمین الدین مبارک الهندی الجوهری، من نقابة مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- و عین فی النقابة نجم الدین علی ابن الموسوی.
و لما کان مبارک نقیبا المذکور نقیبا، قال فیه بعض الشعراء:
رأیت فی النوم امام الهدی‌موسی حلیف الهم و الوجد
یقول ما تنکبنی نکبةإلا من الهند أو السند
تحکم (السندی) فی مهجتی‌و حکّم (الهندی) فی ولدی
فلعنة اللّه علی من به‌تحکم السندی و الهندی

سنة 677 ه

فیها، رأی الناس فی اللیلة التاسعة من شهر رمضان- بظاهر بغداد- نورا متصلا بالسماء، و فی صبحتها.
قال بعضهم: انه رأی قبرا فیه أحد أولاد الحسن «بمحلة الهرویة»،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 114
فانهال الناس لزیارته. ثم شرعوا فی عمارته. و تواتر بعد ذلک اخبار العوام برؤیة المنامات، و کثرة الظواهر. و تحدّثوا بقیام الزمنی و المرضی، و فتح أعین الأضرّاء. و نقل قوم عن قوم أشیاء لا أصل لها غیر أهویة العوام.
و بطل الناس من معایشهم و أشغالهم بسبب ذلک. فتقدم صاحب الدیوان بنقل کل من یوجد له قبر إلی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- ففعلوا ذلک، و سکن العوام .

سنة 688 ه

فیها، تقدم الملک شرف الدین السمنانی؛ صاحب دیوان العراق، بإعادة الزین- عمید بغداد- إلی التمغات، بعد أن استوفی ما علیه من بقایا الضمان بالضرب و العذاب. ثم عزم الملک علی التوجه إلی الاردو المعظم، فقصد سعد الدولة المشرف علیه- مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- و زار ضریحه الشریف، و أخذ المصحف متفائلا به، فخرج له: «یا بنی اسرائیل قد أنجیناکم من عدوکم و واعدناکم جانب الطور الأیمن، و نزلّنا علیکم المن و السلوی»؛ فاستبشر بذلک، و أطلق للعلویین و القوام مائة دینار.
فلما وصلوا إلی حضرة السلطان، عزل الملک شرف الدین و رتب سعد الدولة .

سنة 693 ه

توفی النقیب غیاث الدین، عبد الکریم؛ ابن طاووس، فی مشهد موسی ابن جعفر، و قد حمل إلی جده أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- علیه السلام- .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 115

سنة 694 ه

فخر الدین مظفر بن الطراح، صدر واسط و البصرة .. ناب عن الملک فخر الدین منوجهر بن ملک همدان، فی واسط .. آلت حاله إلی القتل.
و دفنت جثته فی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- و کان قد تجاوز فی العمر ستین سنة .

تاریخ بغداد

عمر أبو أحمد الموسوی مسجد (قطیعة ام جعفر من الجانب الغربی) ..
کبّره، و بناه .. و استأذن الطائع للّه، فی أن یجعله مسجدا، یصلی فیه فی أیام الجمعات .. فأذن فی ذلک، و صار جامعا یصلی فیه الجمعات.
فأدرکت صلاة الجمعة، و هی تقام ببغداد، فی مسجد المدینة، و مسجد الرصافة، و مسجد دار الخلافة، و مسجد براثا، و مسجد قطیعة ام جعفر ..
و مسجد الحربیة. و لم تزل علی هذا، إلی أن خرجت من بغداد، فی سنة 451 ه .
* بالجانب الغربی- فی أعلی المدینة- مقابر قریش، دفن بها موسی بن جعفر .. و جماعة من الأفاضل معه .. و کان أول من دفن فی مقابر قریش؛ جعفر الأکبر بن المنصور .. و کذلک (دفن) .. جماعة من العلماء و المحدثین و الفقهاء بمقبرة باب التبن. و هی علی الخندق، بازاء قطیعة أم جعفر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 116

المنتظم فی تاریخ الملوک و الأمم

سنة 353 ه

عمل فی عاشوراء .. تعطیل الأسواق، و إقامة النوح. فلما أضحی النهار- یومئذ- وقعت فتنة عظیمة، فی قطیعة ام جعفر، و طریق مقابر قریش؛ بین السنة و الشیعة. و نهب الناس بعضهم بعضا، و وقعت بینهم جراحات .

سنة 354 ه

فی هذه السنة، عمل یوم عید غدیر خم ببغداد .. اشعال النار فی لیلته و ضرب الدبادب و البوقات، و بکور الناس إلی مقابر قریش .

سنة 355 ه

توفی (محمد بن عمر بن سلم بن البراء بن سبرة بن سبار، ابو بکر) قاضی الموصل .. ابن الجعابی .. صلی علیه فی جامع المنصور، و حمل إلی مقابر قریش، فدفن بها .

سنة 358 ه

فی ذی الحجة، نقل الأمیر عز الدولة معز الدولة، من داره، إلی تربة بنیت له فی مقابر قریش .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 117

سنة 367 ه

فی شهر رمضان، تناهت زیارة دجلة، حتی انتهت إلی إحدی و عشرین ذراعا ...
و انفجر بثق من الخندق، غرق مقابر باب التبن، و قطیعة أم جعفر.
و خرج سکان الدور الشارعة علی دجلة منها. و غار الماء من آبارها و بلالیعها.
و انهم الناس نفوسهم خوفا من غرق البلد کله، ثم نقص الماء .

سنة 373 ه

فی یوم عاشوراء- و هو عاشر المحرم- اظهرت وفاة عضد الدولة و حمل تابوته إلی المشهد الغربی، و دفن فی تربة بنیت له هناک، و کتب علی قبره فی ملبن ساج: هذا قبر عضد الدولة، و تاج الملة، ابی شجاع، ابن رکن الدولة. أحب مجاورة هذا الامام التقی؛ بطمعه فی الخلاص، یوم تأتی کل نفس تجادل عن نفسها. و الحمد للّه و صلی اللّه علی محمد و عترته الطاهرة .

سنة 393 ه

منع (عمید الجیوش) اهل الکرخ، و باب الطاق- فی عاشوراء- من النوح فی المشاهد، و تعلیق المسوح فی الأسواق .

سنة 402 ه

فخر الملک أذن لأهل الکرخ، و باب الطاق؛ فی عمل عاشوراء، فعلقوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 118
المسوح، و اقاموا النیاحة فی المشاهد .
و فی رجب، و شعبان، و رمضان؛ و اصل فخر الملک الصدقات، و الحمول إلی المشاهد بمقابر قریش، و الحائر، و الکوفة، و فرق الثیاب، و التمور، و النفقات؛ فی العید علی الضعفاء .

سنة 408 ه

توفی، فی شوال؛ شباشی الحاجب؛ ابو طاهر المشطب- مولی شرف الدولة ابی الفوارس ابن عضد الدولة- السعید ذو العضدین، المناصح.
سدّ بثق الخالص، و حفر ذنابة دجیل، و ساق الماء منها إلی مقابر قریش .. .

سنة 436 ه

فی سادس رمضان؛ نقل تابوت جلال الدولة، و بنته الکبری، من دار المملکة، إلی تربة لهم فی مقابر قریش .

سنة 443 ه

فی اول صفر، تجددت الفتنة بین السنة و الشیعة .. فلما کان یوم الأربعاء، لسبع بقین من صفر؛ اجتمع من اهل السنة عدد یفوت الاحصاء .. و استنفر البلد. و نقب مشهد باب التبن، و نهب ما فیه، و اخرج جماعة من القبور، فأحرقوا؛ مثل العوفی و الناشی، و الجذوعی. و نقل من المکان جماعة موتی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 119
فدفنوا فی مقابر شتی، و طرح النار فی الترب القدیمة و الحدیثة. و احترق الضریحان و القبتان الساج.
و حفروا أحد الضریحین، لیخرجوا من فیه، و یدفنوه بقبر أحمد.
فبادر النقیب و الناس، فمنعوهم .. و أظهر اهل الکرخ الحزن، و قعدوا فی الأسواق للعزاء، و علقوا المسوح علی الدکاکین .. .

سنة 448 ه

فی هذه السنة، أقیم الأذان، فی المشهد، بمقابر قریش، و مشهد العتیقة، و مساجد الکرخ ب (الصلاة خیر من التوم). و ازیل ما کانوا یستعملونه فی الاذان (حی علی خیر العمل). و قلع جمیع ما کان علی ابواب الدور و الدروب من (محمد و علی خیر البشر) .
* (سبب اسلام هلال بن المحسن، الصابی الذی توفی فی هذه السنة) قال: رأیت فی المنام سنة 399 رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم .. فانتبهت، و دخلت إلی الحمام، و جئت إلی المشهد، وصلت فیه، و زال عنی الشک.
فبعث إلیّ فخر الملک .

سنة 450 ه

عبر قریش (بن بدران) لیلة الاربعاء، التاسع من ذی الحجة، الی الجانب الغربی، و ضرب خیمة بقرب جامع المنصور. و حمل الخلیفة إلی المشهد بمقابر قریش. و قال له: تبیت فیها. فامتنع، و قال: هؤلاء العلویون،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 120
الذین بها، یعادوننی .. فالزم الدخول، و بات لیلته فی بعض الترب.
و حضر- من الغد- جماعة من اصحاب البساسیری، و أصحاب قریش، فتسلموه من موضعه، و أقعدوه فی هودج علی جمل، و سیروه إلی الأنبار ..

سنة 451 ه

و لما عاد القائم من الحدیثة .. اشرف- فی بعض الأیام علی البنائین و النجارین فی الدار- فرأی فیهم روز جاریا فأمر الخادم بإخراجه .. فسئل الخلیفة عن السبب، فقال: ان هذا الروز جاری بعینه أسمعنا- عند خروجنا من الدار- الکلام الشنیع. و بعثنا بذلک إلی المکان الذی نزلناه من مشهد باب التبن.
و لم یکفه ذلک، حتی نقب السقف فاذا أنا بغباره و تبعنا الی عقرقوف .

سنة 466 ه

غرقت مقابر قریش، و مقبرة أحمد بن حنبل، و دخل الماء شبابیک المارستان العضدی، فوقف فیه .
* و فی اول یوم من شوال؛ حضر الموکب النقیبان، و الأشراف، و القضاة، و الشهود. فنهض بعض المتفقهة، و أورد أخبارا فی مدح الصحابة. و قال ما بال الجنائز تمنع من ذکر الصحابة علیها بمقابر قریش، و ربع الکرخ- و السنّة ظاهرة، و ید أمیر المؤمنین قاهرة- فطولع بما قال. فخرج التوقیع بما معناه: أنهی ما ارتکب بمقابر قریش من إجمال ذکر صاحبی رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم، و رضی عنهما- و تورطهم فی هذه الجهالة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 121
و استمرارهم علی هذه الضلالة، التی استوجبوا بها النکال، و استحقوا عظیم الخزی و الوبال.
و انما یتوجه العتب فی ذلک، نحو نقیب الطالبیین. و لو لا ما تدرّع به من جلباب الحکم، و اسباب یتوخاها، لتقدم فی فرضه ما یرتدع به الجهال.
فلیؤجر باظهار شغل السنة، فی مقابر باب التبن، و ربع الکرخ، من ذکر الصحابة علی الجنائز، و حثهم علی الجمعة و الجماعة، و التثویب بالصلاة خیر من النوم، و ذکر الصحابة علی مساجدهم و محاربهم اسوة بمساجد السنة، و التقدم بمکاتبة ابن مزید لیجری علی هذه السیرة، فی بلاده. و لیحذر الذین یخالفون عن أمره أن تصیبهم فتنة، أو یصیبهم عذاب عظیم .

سنة 517 ه

لما عاد الخلیفة، من حرب دبیس؛ ثار العوام ببغداد، فقصدوا مشهد مقابر قریش، و نهبوا ما فیه، و قلعوا شبائکه. و أخذوا ما فیه من الودائع و الذخائر.
و جاء العلویون یشتکون هذه الحال إلی الدیوان؛ فأنهی ذلک. فخرج توقیع الخلیفة- بعد أن اطلق فی النهب- بانکار ما جری، و تقدم إلی «نظر» الخادم بالرکوب إلی المشهد، و تأدیب الجناة. ففعل ذلک، و ردّ بعض ما أخذ .

سنة 552 ه

توفی فی لیلة الجمعة، ثالث عشرین، من جمادی الأولی، من هذه السنة؛ علی بن صدقة؛ ابو القاسم؛ الوزیر، و صلی علیه فی جامع القصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 122
- قبل صلاة الجمعة- و قبر بمشهد باب التبن .

سنة 554 ه

و غرقت مقبرة الامام أحمد، و غیرها من الأماکن و المقابر. و انخسفت القبور المبنیة، و خرج الموتی علی رأس الماء. و اسکر المشهد و الحربیة، و کانت آیة عجیبة .

سنة 558 ه

توفی، یوم الاثنین، تاسع عشر رجب، محمد بن عبد الکریم بن ابراهیم ابن عبد الکریم، ابو عبد اللّه ابن الانباری؛ الملقّب بسدید الدولة؛ کاتب الأنشاء. و صلی علیه یوم الثلاثاء، بجامع القصر. و حضر الوزیر، و غیره من أرباب الدولة. و دفن بمشهد باب التبن .

سنة 562 ه

توفی، فی ذی القعدة، من هذه السنة؛ محمد بن الحسن بن محمد بن علی بن حمدول؛ أبو المعالی، الکاتب؛ (مصنف) کتاب التذکرة و دفن بمقابر قریش .

سنة 569 ه

فی یوم الأحد، عاشر رمضان؛ زاد (دجلة) علی کل زیادة تقدمت. و اسکرت الحربیة، و المشهد. و وقع اکثر سور المشهد، و نبع من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 123
داخله الماء، فرمی الدور، و الترب .. .

مرآة الزمان فی تاریخ الاعیان

سنة 575 ه

فیها، توفی محمد بن محمد بن عبد الکریم؛ ابو الفرج؛ ابن الانباری؛ کاتب الانشاء بدیوان الخلیفة.
ولد سنة 507 ه. ناب فی الدیوان، من حین مات والده سدید الدولة، سنة 558 إلی هذه السنة. و کانت وفاته فی ذی القعدة. و صلی علیه بجامع القصر، و دفن عند والده بمقابر قریش
* و فیها، توفی ابن العطار؛ صاحب المخزن و نائب الوزارة. و اسمه منصور بن نصر بن الحسین ابو بکر. و یلقب بظهیر الدین ...
کان مسیئا إلی الخلق الخاص و العام و العسکر و الرعیة؛ و خصوصا إلی اهل المختارة، و الکرخ، و مشهد موسی بن جعفر. و قطع ارزاقهم، و بدد شملهم .

سنة 597 ه

فیها، استناب الخلیفة نصیر الدین ناصر بن مهدی (من اهل مشهد موسی بن جعفر) فی الوزارة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 124
و فیها، توفی .. (ابو الفرج) عبد الرحمن .. ابن الجوزی .. و قام الناصر العلوی الموسوی، من اهل مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فأنشد:
الدهر عن طمع یغرّ و یخدع‌و زخارف الدنیا الدنیة تطمع
... الأبیات

سنة 608 ه

فیها، أمر الخلیفة أن یقرأ مسند الإمام احمد بن حنبل- بمشهد موسی بن جعفر- بحضرة صفی الدین محمد بن معد الموسوی، باجازة عن الخلیفة ..
و اول ما قرأ منه مسند ابی بکر الصدیق- رضی اللّه عنه- و حدیث فدک، و ما جری فیها .

سنة 613 ه

فیها، توفی یحیی بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد، اربع مرات؛ أبو جعفر العلوی، الحسنی، البصری. و یعرف بابن ابی زید. ولی نقابة الطالبیین بالبصرة.
و کانت وفاته ببغداد- فی رمضان- و دفن بمقابر قریش .

سنة 615 ه

فیها، توفی نجاح بن عبد اللّه الشرابی؛ شرابی الخلیفة .. مملوک الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 125
الناصر .. و تصدق عنه الخلیفة من مال نجاح بعشرة آلاف دینار، علی المشاهد. و بعث بمثلها إلی مکة و المدینة ..

سنة 622 ه

فیها، توفی الإمام الناصر لدین اللّه، ابو العباس أحمد بن الامام المستضی‌ء باللّه.
ولد فی رجب سنة 553، و بویع بالخلافة غرة ذی القعدة، سنة 575 ..
و کانت وفاته لیلة الأحد، سلخ رمضان عن تسع و ستین سنة. و کانت خلافته سبعا و اربعین سنة إلّا شهورا ... و کان قد عمل له ضریحا عند موسی بن جعفر فأمر الظاهر بحمله إلی الرصافة .

منتخب المختار

ذو الفقار بن محمد بن اشرف بن ابی جعفر محمد بن ابی الصمصام بن الحسن بن احمد بن حمیدان بن اسماعیل بن یوسف بن موسی بن عبد اللّه بن الحسن المثنی بن الحسن السبط ... ابو جعفر .. العلوی الحسنی؛ الملقب شرف الدین .. الشافعی .. مدرس المستنصریة .. توفی یوم الجمعة 27 من شعبان، سنة 685. و دفن عند والده بالمشهد الکاظمی. و شیعه قاضی القضاة و الجماعة إلی مدفنه . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌9 ؛ ص125
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 126
محمد بن محمد بن محمود بن النجیب؛ الواسطی، الشرقی، ابو البدر ..، الشافعی المعدل؛ کمال الدین؛ نزیل بغداد .. توفی فی لیلة الجمعة 3 ذی الحجة سنة 681 ه .. و دفن بمشهد باب التبن بمقابر قریش .

دوحة الوزراء فی تاریخ وقائع بغداد الزوراء

سنة 1153 ه

خلال هذه السنة، أرسل الشاه (نادر شاه) هدایا مالیة جسیمة، و تحفا ثمینة، إلی المراقد المقدسة؛ مرقد .. علی المرتضی- کرم اللّه وجهه- و سید الشهداء الامام الحسین، و الإمام موسی الکاظم .

سنة 1164 ه

أخذ یتوارد علی بغداد؛ بقصد الحج و الزیارة الکثیر من الإیرانیین و لا سیما أهالی خراسان و اصفهان .

سنة 1216 ه

و قد نقلوا خزینة النجف الأشرف خوفا علیها من غارات الوهابیین.
و ضموها إلی خزینة موسی الکاظم- رضی اللّه عنه- و قد انتدب لنقلها الدفتری الحاج محمد سعید بیک. و اخبروا الحکومة الایرانیة بما حدث، و بما اتخذ من الاجراآت .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 127

سنة 1229 ه

لم تتخذ الحکومة أی اجراء، لإعادة الأمن إلی نصابه. فزاد سکوتها المتمردین تجاسرا، و اقتربوا من مدینة الکاظمیة، و الجانب الغربی من بغداد.
و من غریب الاتفاق مجی‌ء ما یقرب من الأربعین ألف زائر من الدیار الإیرانیة فی تلک الظروف المحفوفة بالمخاطر لزیارة العتبات المقدسة. و تحرش الثوار بهم. مما اضطرهم إلی التکتل و المکوث فی العتبات المقدسة؛ فی شبه حصار؛ لعدم تمکنهم من التنقل من بلد إلی بلد.
و کان بین هؤلاء الزوار حرم حاکم ایران، و عیاله- مع جماعة من رؤساء الحکومة الایرانیة، و خوانینها، و وجوهها.
و لما ضاق علیهم الأمر، اتصلوا بالحکومة المحلیة، و بالوزیر مباشرة لإیجاد مخرج لهم، و لتأمین نقلهم، و عودتهم- بعد أداء الزیارة.
و عندئذ فقط، تحرک الوزیر، و رأی من الضروری اتخاذ اجراء فوری؛ لضبط النظام، و إعادة الأمن إلی هذه الأمکنة؛ التی یرتادها الأجانب، من کل مکان للزیارة. و قرر- بعد التداول- مع جماعته؛ أن یعهد بمعالجة هذه الأوضاع، إلی داود أفندی الدفتری السابق. و عینه قائدا علی حملة عسکریة قویة .

مختصر مطالع السعود بطیب اخبار الوالی داود

سنة 1201 ه

رجع سلیمان بن شاوی إلی الخابور، و انضم إلیه کل مفسد و مغرور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 128
و صاروا یغیرون و یغزون حول بغداد، و یلتجئون إلی الغابات. فلما بلغ الوزیر ذلک، أرسل إلیهم عسکرا یقوده محمو؟؟؟ بک ابن نمر بک، و خالد آغا کتخدا البوابین. فالتقوا مع عرب ابن شاوی ... و قد طمع ابن شاوی فی محاصرة بغداد. فکرّ علیها بکله و کلیله. و هجم علی شریعة الکاظم، و غنم أموالا و خیلا .. فقامت عرب نجد المعروفون ب (عقیل) و صدّوه عن بغداد .. و حفظوا الجانب الغربی منها .

تاریخ العراق بین احتلالین

سنة 656 ه

بتاریخ 5 صفر سنة 656 ه استولی المغول علی بغداد ... و قد احرقت اکثر المواقع الشریفة، فی هذه الوقعة؛ کجامع الخلیفة، و مشهد موسی (و) الجواد، و مراقد الخلفاء .

سنة 803 ه

فتح تیمور بغداد- کان بعد محاصرة دامت أربعین یوما- یوم السبت 7 ذی القعدة لسنة 803 ه .. و خرج منها فی العشرة الأولی من ذی الحجة ..
لم یصل إلی العلماء منه ضرر .. و من هناک زار مشهد الامام موسی الکاظم- رض- و مضی إلی الحلة، فزار مشهد الامام علی- رض- و قضی نحو عشرین یوما؛ تثبیتا للسطو و السیطرة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 129

سنة 836 ه

کان الأمیر اسبان قد اکتسح کافة أنحاء بغداد .. و جاء فی نصف میل إلی سور بغداد، یوم الخمیس 18 شعبان سنة 836 .. و أخذ البلد. و جاؤوا إلی بیت شاه محمد فوجدوه مغلقا، فضربوا الباب بالدبابیس، و کسروه فهرب شاه محمد، و نزل فی سفینة، و مضی إلی الجانب الغربی، و توجه راجلا إلی مشهد الامام موسی الکاظم، و صحبه ولده شاه بوداق، و محمود الحمال. و کان السید الجوسقی فی المشهد، فأعطاه حمارا، رکبوه إلی الدجیل .

سنة 914 ه

باشر (الشاه اسماعیل) تعمیر مشهد الامام موسی الکاظم- ع- فی هذا التاریخ. و أحال ذلک إلی أمیر الدیوان خادم بیک .
* فی هذه السنة، شرع فی بناء حضرة الامام موسی الکاظم- رض- و فوض حکومة بغداد، إلی أمیر الدیوان، خادم بیک، و عاد هو إلی ایران ..
و بعد ان استولی الشاه علی الدیار، تشرف بزیارة المشاهد المقدسة لحضرات الأئمة الأطهار .. و عین لها حفاظا، و مؤذنین، و خداما. و قدم أنواع القنادیل من ذهب و فضة، و المفروشات اللائقة، و الصنادیق. و أنعم بالذهب و الفضة علی سائر الناس ...

سنة 941 ه

کان دخول السلطان (سلیمان القانونی) بغداد، یوم الاثنین 24 جمادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 130
الأولی، سنة 941 ه .. ثم تجول السلطان فی 28 جمادی الأولی، سنة 941 ه فی أنحاء عدیدة من العراق، قضاها فی زیارة المراقد المبارکة، فی الکاظمیة، و کربلاء، و النجف .
* ثم ان السلطان زار مرقدی الامامین؛ موسی الکاظم، و محمد الجواد.
و رتب لخدام الحضرات وظائف من خزانة بغداد.
و کان الشاه اسماعیل بدأ بعمارة الحضرة و الجامع، فلم یتمهما، فأصدر فرمانه بتکمیلهما.
و فی هذا، و فی (گلشن خلفا)، ما یؤید أن الجامع و الحضرة قد بنیا و لم تتم عمارتهما . فأتم السلطان سلیمان ذلک، بل لم یتم کل ما هنالک. فان المنارة لم تکمل إلّا فی سنة 978 ه ایام السلطان سلیم الثانی .. و کان ناظم تاریخ بناء المنارة الشاعر فضلی بن فضولی البغدادی:
و جاء فی کتاب (تاریخ کاظمین) الفارسی؛ ذکر ما جری من تعمیرات تالیة؛ منها: أن الشاه عباس الکبیر، أمر سنة 1033 ه بعمل ضریح من فولاذ لحفظ الصنادیق من الخاتم. کما أنه حدث غرق، ببغداد، و الکاظمیة سنة 1042 ه؛ فتضعضعت جدران الحضرة الکاظمیة. فأمر الشاه صفی بترمیم ما اختل تعمیره، و اودع القیام بذلک إلی قزاق خان أمیر الأمراء السابق فی شیروان.
و فی سنة 1045 ه، أجریت بأمره- أیضا- بعض الاصلاحات و الترمیمات، فی سلم المنارة، و بعض التعمیرات فی المواطن الأخری المختلة.
و جاء فیه أیضا، ان الجیش العثمانی- عندما اکتسح بغداد- نهب ما فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 131
الحضرة من قنادیل فضیة و مرصعة و بعض المزینات .

سنة 978 ه

فی هذه السنة تمت منارة هذا الجامع و بذلک تم بناؤه فی سنة 978 ه.
و کان فی 6 ربیع الثانی سنة 926 قد أتم عمارة المشهد، الشاه اسماعیل الصفوی.
و لم یتعین لنا تاریخ بناء الجامع و اتمامه أیام السلطان سلیمان. و لقد استمر إلی أیام السلطان سلیم، فتمت منارته أیام هذا الأخیر. ینطق تاریخها بذلک بلسان الشاعر فضلی ابن الشاعر فضولی البغدادی. و ما جاء فی تاریخ مساجد بغداد مغلوط فی التاریخ، و فی الأعلام و الألفاظ ... و جاء التاریخ (بالترکیة):
اولدی» بوجانفزا مناره تمام» فی بناء المنارة سنة 978 ه .

سنة 1034 ه

جاءت الأخبار، بأن العجم خرجوا من بغداد، و ذهب اکثرهم لزیارة الامام علی- رض- و علی هذا سیر (مراد باشا، کان والی حلب، فمنح منصب دیار بکر برتبة الوزارة) قائدا علی حملة تبلغ خمسة عشر ألفا لتکون کمقدمة للجیش- إلی الحلة- و الکاظمیة؛ لیحاصر بغداد، و لیمنع اتصال العجم بها .

سنة 1048 ه

قتل القزلباشیة: ان الدولة أرادت ان تقطع دابر القزلباشیة؛ اذ علمت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 132
أن قد جاء اکثر من ثلثمائة منهم، می النجف إلی الکاظمیة، فأمر بقتلهم، و ذلک قبل الفتح، و إعطاء الأمان. و کذا قتل نحو ألف، ثم قتل نحو أربعمائة .

سنة 1162 ه

ربح سلیمان باشا المعرکة فی الحلة، و طوق بغداد، حتی جاء إلی الکاظمیة، فوصل إلی الشریعة البیضاء، و تبعد عن بغداد نحو ساعتین .
* ان والی بغداد اتخذ سلوکا ردیئا نحو سکان العراق- لا سیما زوار العتبات و ساکنیها من القزلباشیة .. و استمر فی ظلمه و قسوته أکثر؛ بحیث انه قبض علی جماعة من سکان الکاظمیة، و عذبهم بالضرب بالعصی، فأدی ذلک إلی وفاة واحد منهم. و لما جاء هذا الخبر إلی الشاه، لم یهدأ و لا قرّ له قرار، فأرسل أخاه محمد صادق خان الزندی، و أحد أبناء عمه (نظر علی خان) و کانت لهم الید الطولی فی قیادة الجیش، و حسن ادارته- ففوض إلیهما أمر الاستیلاء علی البصرة .

سنة 1221 ه

ارسل الشاه سفیرا آخر یؤکد فیه لزوم توجیه ایالة الکرد الی عبد الرحمن باشا بعد عودة سلیمان الفخری بنحو شهرین.
و فی الأثناء کان أحد التجار الإیرانیین متوطنا قصبة الکاظمیة، فطلب مرة مواجهة الوزیر، و أخبره أن شاه إیران یزید علی توجیه إیالة الکرد إلی عبد الرحمن باشا، طلب مبلغ مائتین و خمسین ألف تومان، یریدها من بغداد مع هدایا کثیرة. و ان هذا السفیر- إن اعید خالیا- فسوف تضبط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 133
دیار الکرد قسرا، بواسطة أمیر سنه. و عبد الرحمن باشا. و لم یکتف- حینئذ- بهذا، بل سوف یهدد بغداد، فتکون عرضة للأخطار. و قال أخبره بذلک أحد أقاربه؟! .

سنة 1229 ه

صار عشائر الجزیرة و الشامیة یتعرضون بالمارة، فازداد البغی و العتو من کل صوب.
و من هؤلاء زبید و الخزاعل، و سائر العشائر .. و کذا عشائر الجرباء، و الظفیر، و الرولة. فعاثت بالقری و القصبات المجاورة لها .. لحد ان النهب و السلب وصل إلی القصبات المجاورة؛ مثل الکاظمیة، و حوالی الکرخ؛ فصار الناس فی خوف علی نفوسهم و أموالهم .

سنة 1247 ه

قاسم باشا جاء بفیلقه إلی محل قریب من الکاظمیة، فصارت تسمع أصوات المدافع من هناک .

(محاصرة بغداد)

(سور الجانب الغربی تهدم بسبب طغیان دجلة) .. و حینئذ، وظف عسکر عقیل مع سلیمان أغا الخازن، لمحافظة باب الکاظمیة .
ان هزیمة سلیمان الغنام مما بعث النشاط و الأمل فی البغدادیین. و لذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 134
تأهبوا للهجوم علی فیلق الکاظمیة- و کانت تحت قیادة الحاج أبی بکر، و بسبب ما شوهد من مستنقعات اضطروا إلی العودة، و کانوا بقیادة الملا حسین .

سنة 1286 ه

(التشکیلات الاداریة، ایام مدحت باشا) قضاء الکاظمیة (من) أقضیة لواء بغداد
*** احصاء بغداد، و فی ضمنها الکاظمیة .

سنة 1287 ه

تراموای الکاظمیة

الکاظمیة أشبه بالمحلة من محلات بغداد. لا تبعد کثیرا عن بغداد ...
و الناس هناک بین زائر، و صاحب شغل، أو مقیم. و الاتصال ببغداد دائم بلا انقطاع ...
من جراء هذا ... تکونت شرکة التراموای، فصارت تباع السهام بکثرة.
و فی عشرة أیام، او اثنی عشر، بلغت 784 حصة، لما حصل من تشویق و اقبال، ثم استمر بیع الأسهم.
تم الانشاء، و للوالی (مدحت باشا) الفخر فی ذلک ..
و فی نیسان سنة 1941 م، صدر حکم بتصفیة شرکة تراموای بغداد- الکاظمیة .. کانت اسست بتشویق من الوالی، و تأمین الحکومة، و جعلت کل حصة 250 قرشا، علی أن تکون 6000 حصة. فیکون رأس مالها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 135
000، 500، 1 قرش ... کان هذا من أجل اعمال مدحت باشا، و لذلک حصل منه الربح، و سهّل علی الزوّار فکان عملا نافعا .. مدّوا السکة لمسافة 7 کیلومترات بین بغداد و الکاظمیة. رتبت شرکة أسهم (آبونیم). و کانت تجر بالخیول لا بالبخار أو الکهرباء. فتم انشاؤها فی تلک السنة ..
و قامت هذه المؤسسة بکل ما تحویه، بمبلغ 18 ألف لیرة. و لم تصرف سهامها جمیعها، و إنما صرف نحو ألف سهم منها.
بلغ ربح المشروع فی السنة 18% أو 20% فصرف بعضه لأرباب الحصص، و البعض الآخر، جعل تسدیدا للدین، فی نهایة کل سنة. فبلغت شرکة التراموای خمسة آلاف حصة .

سنة 1299 ه

ابو الفضل میرزا، من أبناء الملوک فی إیران. اختار الکاظمیة محل إقامة له. و ذهب فی هذه السنة إلی الحجّ .

سنة 1309 ه

وصل الحاج حسن رفیق باشا؛ والی بغداد، یوم الاثنین 19 المحرم سنة 1309 ه. و کان وکیل الوالی نصرت باشا المشیر المرافق السلطانی ..
و .. أتم الزیارة فی الکاظمیة .

سنة 1317 ه

وضع الحجر الأساسی لبناء سرای الکاظمیة، و أجریت المراسم، یوم السبت 24 رجب سنة 1318 ه، حضرة الوالی نامق باشا، و المشیر أحمد فیضی باشا، و حاکم الشرع کمال الدین بک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 136

سنة 1328 ه

أخذ الوالی حسین (ناظم باشا) فتاوی من علماء الشیعة لمنع الغزو و هو عادة جاهلیة فأفتوا بأنه یجب منع العشائر من هذه الأعمال؛ بالنصائح و الوعظ، فان أبوا- فحینئذ- یرکن إلی التهدید و التخویف. و إلّا جاز التنکیل بهم. و من بین هؤلاء العلماء:
الشیخ کاظم الخراسانی؛ من النجف.
و الشیخ عبد اللّه المازندرانی، من النجف.
و السید محمد القزوینی؛ من الحلة.
و الشیخ محمد حسین؛ من کربلاء.
و الشیخ محمد باقر؛ من کربلاء.
و السید اسماعیل الصدر؛ من الکاظمیة.
الزعیم الروحانی الکبیر الشیخ ملا کاظم الخراسانی (الاخوند)
فکان لهذه الفتاوی أثرها ... .
* و من أعمال الوالی ناظم باشا ... کان یأمل أن یقوم .. بتشغیل تراموای الکاظمیة- بغداد بالکهرباء .

سنة 1334 ه

وصل إلی بغداد، وکیل رئیس القیادة العامة و ناظر الحربیة؛ أنور باشا بقطار خاص، فی 17 رجب سنة 1334 ه. و فی 18 مایس سنة 1916، فأجریت له المراسم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 137
و صلی الجمعة فی حضرة الشیخ عبد القادر الکیلانی، و أهدی لجامعه مصحفا غلافه ذهب مرصع بالجواهر و الدرة الیتیمة .. للأعظمیة و الکاظمیة، و قدم لکل منهما مصحفا بعد أن زارهما .

سنة 1335 ه

ان الحکومة سحبت عاکف بک (قائمقام الخیالة، بعد حادثة الحلة 17 المحرم سنة 1335 ه) و بعثت عبد المجید بک القائمقام. و هذا طیّب خاطر الأهلین ... فکان .. خیر مرهم لتسکین الحالة. و کان فی شعبة التجنید، و ادارة المستشفی فی الکاظمیة .

الامام الثائر

فی سنة 1332 ه داهمت الجیوش الانکلیزیة العراق من جهة البصرة، فاستغاثوا بالزعیم الدینی الکبیر السید مهدی الحیدری کما استغاثوا بغیره من العلماء الاعلام، و ابرقوا لهم من مختلف الاطراف یطلبون منهم ان ینهضوا بالأمر، و یعلنوا الجهاد و النفیر العام، و هذا نص احدی البرقیات التی ارسلها الی الکاظمیة رؤساء البصرة و زعماؤها:
«ثغر البصرة، الکفار محیطون به، الجمیع تحت السلاح، نخشی علی باقی بلاد الاسلام، ساعدونا بالعشائر بالدفاع».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 138
فاستجاب العلماء، و فی طلیعتهم السید مهدی الحیدری، و اصدر فتواه بوجوب الدفاع، و محاربة الغزاة المعتدین، دعا الی الاجتماع العام فی الصحن الکاظمی الشریف عدة مرات فکان الصحن یزدحم علی رحبه بالناس، فیرقی المنبر بنفسه و یدعوهم إلی الجهاد، و یخبرهم بأنه خارج بنفسه و اولاده و جماعة من اسرته، و اصحابه الی محاربة الانکلیز، و ابرق بعد ذلک الی علماء النجف و کربلا و سامراء یخبرهم بعزمه، و جاء من علماء النجف الی الکاظمیة قبل حرکته الی میدان الحرب حجج الاسلام: شیخ الشریعة الاصفهانی، و السید مصطفی الکاشانی، و السید علی الداماد، و غیرهم من العلماء، و جرت فی الکاظمیة مفاوضات حول الخطط و التصامیم ثم تواردت علی الکاظمیة وفود العلماء الزاحفین نحو المعرکة من النجف الأشرف و کربلاء، و کانت البلدة- الکاظمین- تستقبل کل واحد منهم بمنتهی الترحاب و التکریم، و تودعه بمثل ذلک.
الامام السید مهدی السید حیدر
اما الامام المیرزا محمد تقی الشیرازی فانه لما بلغته- و هو فی سامراء- فتوی السید مهدی الحیدری و عزمه علی الجهاد بنفسه ارسل معه ولده الأکبر المجاهد المیرزا محمد رضا علی سبیل التأیید و ابرق الی جمیع انحاء العراق یبلغهم وجوب التضامن مع العلماء الاعلام، و کان الامام السید کاظم الیزدی قد ارسل ولده الأکبر السید محمد، و اما المجاهد الکبیر السید محمد سعید الحبوبی و جماعة من علماء النجف فقد توجهوا من النجف الی ساحات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 139
القتال و معهم عدد غفیر من المجاهدین .
و فی عصر یوم الثلاثاء- الثانی عشر من محرم الحرام سنة 1333 ه تحرک السید مهدی الحیدری من الکاظمین و تحرک الامام الشیخ مهدی الخالصی و جموع غفیرة من الرؤساء و الزعماء و فی طلیعتهم الشیخ عبد الحمید الکلیدار و خرجت البلدة بأسرها لتشییع رکب الجهاد الزاحف.
و قد امر العلماء ان یسیر الناس جمیعا إلی بغداد فی رکاب السید مهدی الحیدری و تحت لوائه و کانت الهتافات الشعبیة تتعالی من الجماهیر التی احتشدت فی کل مکان فمرة تردد بلغتها الدارجة:
سید مهدی رکن الدین
نمشی للجهاد اویاه
و اندوس العده بحذاه
و اخری تهتف:
حجة الاسلام طالع للجهاد
محصّن بموسی بن جعفر و الجواد
بهذا الشکل من الأبهة و الجلالة وصل الموکب الکبیر بمجاهدیه و مودعیه الی ساحل النهر فی بغداد حیث اعدت لهم هناک السفن و المراکب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 140
ثم سارت بهم متجهة نحو (العمارة).
و کانت الحرب قائمة فی ذلک الوقت فی القرنة و هی القلب، فقصد السید مهدی بجموعه الغفیرة من المجاهدین المسلحین ساحة الحرب، و فی أثناء الطریق صادف اندحار الجیش العثمانی و انسحابه بعد سقوط (القرنة) بید الانکلیز و طلب من السید مهدی ان یرجع بجموعه الی العمارة و لکن السید مهدی أبی و أمر المجاهدین بالاستعداد للهجوم و قد رابط بجموعه فی منطقة (القرنة) و هی القلب، اما الجناح الأیمن و هو (الشعیبة) فقد رابط فیها المجاهدان الکبیران السید محمد سعید الحبوبی و الشیخ باقر حیدر و اما الجناح الأیسر و کان (الحویزه) فقد کان یرابط فیه الامام الشیخ مهدی الخالصی و معه ولده الکبیر الشیخ محمد الخالصی، و الشیخ جعفر الشیخ راضی، و السید محمد الیزدی.
المجاهد الکبیر الامام السیدمحمد سعید الجبوبی
و تقدمت صفوف (القلب) و نزلت تحت قیادة السید مهدی موضعا یسمی (حریبة) و هی ارض وعرة و کانت علی مقربة من الجیش الانکلیزی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 141
و عند الصباح التقی الجیشان جیش المجاهدین و الجیش الانکلیزی الذی کانت تخوض سفنه نهر دجلة مصعدة و کان جیشه یقطع زاحفا تلک الأرض الوعرة تسنده المدافع و المعدات الحربیة فاحتدم القتال فی ذلک الیوم من قبل طلوع الشمس إلی ما بعد زوالها و کان السید مهدی ینفخ من روحه الحماس فی نفوس المجاهدین و یثیر نخوتهم و کان یتقلد سیفه، و یحمل قرآنه، و یحض المجاهدین علی الصمود فی وجه العدو الزاحف، و اتخذوا من نهر قدیم کان یقطع الطریق حصنا یهاجمون منه العدو و هو علی مقربة منهم و الجیش العثمانی فی المؤخرة بعید عن المجاهدین قلیلا، ثم یلوذون بالنهر مدافعین حتی تم لهم ان یهزموا الجیش الانکلیزی و یضطروه الی الانسحاب بعد ان تکبد خسائر جسیمة فی الأرواح و السلاح و المعدات، و تحطمت له باخرة حربیة، و قتل من جنوده ما یناهز الالف او الالفین علی اختلاف الروایتین، و جرح منهم اکثر من ذلک، اما من قتل من جیش المسلمین فلم یتجاوز عددهم الأربعة عشر قتیلا، و اما الجرحی فلم یبلغوا الخمسین .
و تعرف هذه الواقعة بواقعة یوم الاربعاء لانها صادفت یوم الاربعاء 5 ربیع الاول 1333 و تعرف ایضا بمحاربة (الروطة) لانها کانت قریبة من نهر هناک یسمی (نهر الروطة).
یقول الدکتور عبد اللّه فیاض فی کتابه (الثورة العراقیة الکبری) «و قد نجح المجاهدون الذین کان یقودهم- ای الامام السید مهدی الحیدری- فی دحر الجیش البریطانی فی معرکة الروطة فی 5 ربیع الأول 1333 ه» .
**** لم یلبث السید مهدی بعد رجوعه من ساحة الجهاد قلیلا حتی ثارت فتنة عمیاء بین الحکومة العثمانیة و بین مشایخ کربلا کادت ان تهلک البلاد و العباد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 142
و سبب هذه الفتنة امران: احدهما: ضغط الحکومة علی الاهلین و تعسفها فی الحکم، و ثانیهما: محاولة بعض زعماء کربلاء التمرد علی السلطة الحاکمة، و قد ارسل خلیل باشا قوة کبیرة و اسلحة کثیرة و امر القوة بمهاجمة المدینة المقدسة، فاستغاث اهل کربلا بالامام السید مهدی فاضطلع السید مهدی بتلک المهمة و ارسل الی القائد العام جماعة من الوجوه و فی مقدمتهم کلیدار الکاظمیة الشیخ عبد الحمید، و نظام الس؟؟؟
و فی تلک الآونة ورد إلی زیارة السید ناظر الحربیة العام (انور باشا) و قدم له التعظیم و التبجیل و الاحترام و فاوضه السید حول اطفاء الفتنة فی کربلاء بالطرق السلمیة دون اللجوء إلی القوة و العنف فأجابه انور باشا الی ذلک و استقر الرأی علی ان المشکلة لا یمکن حلها الا اذا تصدی السید بنفسه، فتوجه السید من الکاظمیة الی کربلاء بعد ان صحب معه اولاده و جماعة من العلماء و الزعماء و الوجوه کالشیخ عبد الکریم الجزائری، و المیرزا محمد رضا الشیرازی و الشیخ عبد الحمید الکلیدار و رهم؟؟؟ و من الحکومة عبد الحلیم بک مدیر الشعبة العربیة و موظف آخر، و دل؟؟؟ کربلاء صبیحة الیوم السابع و العشرین من شهر رجب سنة 1334 و هو وم؟؟؟ المبعث النبوی الشریف .
*** و کم للسید احمد الحیدری من المواقف الدالة علی صلابته فی الحق و خشونته فی ذات اللّه منها موقفه مع جماعة من العلماء فی حمایة مرقد الشریف المرتضی حتی اضطرت الحکومة القائمة الی الرضوخ و التسلیم و ترک القبر الشریف علی مکانه المعلوم دون ای تبدیل او تغییر.
و منها موقفه القوی فی منع رجال السلطة من التصرف غیر المشروع بمسجد (باب الدروازه) فی الکاظمیة الذی لا یزال قائما .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 143

الحقائق الناصعة فی الثورة العراقیة سنة 1920

اشارة

(کتب اللورد بلفور وزیر خارجیة بریطانیا، فی الیوم الثانی من تشرین الثانی سنة 1917 «وعد بلفور»، إلی اللورد روتشیلد زعیم القضیة الصهیونیة) .. و لم یقف العراقیون بجهودهم لخدمة العراق و الوقوف امام البریطانیین و سیاستهم فحسب، بل راحوا یعملون لخدمة البلاد العربیة أجمع، و العرب کافة، لتخلیصهم من الاستعمار .. و کان علماء الدین فی النجف الأشرف، و الکاظمیة، و کربلاء، و زعماء عشائر الفرات الأوسط هم الذین یحملون هذا الروح القومی العام .
**** علی أثر بیان اذاعة المسیو بیشون؛ وزیر خارجیة فرنسا، فی مجلس النواب الفرنسی. لم یسع رجال الدین، و زعماء العشائر، إلّا ان یجتمعوا، فی دار آیة اللّه الشیخ محمد مهدی الخالصی- قدس اللّه سره- فی الکاظمیة.
و قرروا الاحتجاج علی بیان الوزیر. فنظموا احتجاجا رفعوه إلی حکومة فرنسا، و بقیة الحکومات للدول العظمی، و وقعوا علیه، و هذا هو الاحتجاج:
«ان الخطاب الذی ألقاه مؤخرا مسیو بیشون ناظر خارجیة فرنسا، فی مجلس النواب الفرنسوی، و الذی أظهر فیه أن للأمة الفرنسویة حقوقا فی سوریا و لبنان و فلسطین نشأت عن التقالید التاریخیة. و ان هذه الحقوق قائمة- أیضا- علی آمال، و رغائب السکان، الذین هم زبائن فرنسا- منذ زمن طویل- و ان المعاهدات السابقة التی وردت بها هذه الحقوق، و ما زالت کما کانت علیه. و ان یکون لمؤتمر السلم القول الفصل.
فنحن- العراقیین- بصفتنا عربا، و یهمنا ما یهم سوریا و لبنان و فلسطین؛ لا نعتقد بأن لأمة من الأمم- فی بلادنا العربیة- حقوقا قدیمة و لا حدیثة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 144
و لم تکن الصلات التجاریة المؤسسة علی حریة التجارة بین الشعوب وفقا لقوانین حقوق الدول- سببا یکسب البلاد المتاجرة حق الأرجحیة فی البلاد علی أهلها، و التصرف بحریتهم الوطنیة، و استقلالهم الذاتی. و لما کانت کل تصریحات رجال الدول العظمی- و نخص منهم بالذکر رئیس الولایات المتحدة المشهور- تفید أن غایة الحرب الکبری هی تحریر الشعوب، و نسخ کل سیاسة دولیة یقصد منها تقیید حریّة الأمم، و اتخاذ شکل لها یخالف ارادتها؛ فنحن- کأمة قامت تطالب باستقلالها، و تهرق دماء ابنائها، و تضحی زهرة شبانها علی مجازر الظلم فی سبیل استقلالها، و قامت تنتصر للحلفاء ایام کانت الحرب غیر باسمة لهم- و علی الخصوص فی الساحات الشرقیة- نأبی کل معاهدة عقدت بشأننا من هذا القبیل بین دولة نعتقد أننا محونا بدماء أبنائنا کل معاهدة، او اتفاق، أو مفاوضة، جرت بدون معرفتنا.
هذا؛ و لیست الأمة العربیة أقل مجدا تاریخیا، أو حضارة زاهرة، أو جدارة بالاستقلال؛ من الأمم الیونانیة، و السربیة، و البلقانیة، و الرومانیة، و الجبلیة، و غیرها من الدول؛ التی أجمع الخلفاء- فی أشد أزمات السیاسة الدولیة- علی اجابة مطالیبها الاستقلالیة. و لم تبذل تلک الدول أکثر مما بذلنا و لا کانت- عند استقلالها- أعظم رقیا منا.
فنحن- بناء علی ما أوردناه من الحقائق المعروفة بالبداهة لدی مقامکم المعظم، و استنادا علی بیانات، و وعود رجال الدول العظمی العلنیة، التی اتخذناها، و اتخذها العالم بأجمعه سندا- نحتج علی البیانات التی أوردها ناظر خارجیة فرنسا المحترم، و نطلب باسم الحریة و الانسانیة؛ اللتین دعتاکم لتحریر الیونان؛ اعترافا بحضارتها القدیمة، و مجدها الغابر، ان تعضدونا فی هذا الأمر الحیوی؛ لأن تاریخنا من الحضارة، و العظمة، و المجد؛ ما یدعوکم لنجدتنا و معاضدتنا؛ فی طلب حقوقنا الطبیعیة؛ التی یرمز الیها الیها علمنا العربی الذی نستظل بظله الآن فرحین، و بالختام اقبلوا فائق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 145
احتراماتنا ».
*** فی یوم الأربعاء، الموافق 25 ربیع الثانی 1337 ه؛ اجتمع علماء و أشراف و وجوه مدینة الکاظمیة، و وقعوا علی المضبطة التالیة:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم: بناء علی الحریة التی منحتنا إیاها الدولتان المفخمتان بریطانیا و فرنسا، و حیث اننا ممثلو جمهور کبیر من الأمة العربیة العراقیة المسلمة؛ فإننا نطلب أن تکون للعراق- الممتدة أراضیه فی شمالی الموصل إلی الخلیج- حکومة عربیة إسلامیة، یرأسها ملک عربی مسلم؛ هو أحد أنجال جلالة الملک حسین؛ علی ان یکون مقیدا بمجلس تشریعی وطنی. و اللّه ولی التوفیق».
و قد وشح العریضة بتوقیعه آیة اللّه الشیخ مهدی الخالصی- رضوان اللّه علیه- کما وقع فی صدرها من رجالات الدین:
آیة اللّه السید حسن الصدر، و العلامة السید محمد مهدی الصدر، و العلامة الشیخ ابراهیم السلماسی، و العلامة السید (مهدی) بن السید احمد آل السید حیدر، و العلامة الشیخ عبد الحسین آل یاسین- رضوان اللّه علیهم أجمعین- .
الامام الشیخ مهدی الخالصی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 146
بعد أن اسندت رآسة الثورة الروحیة الی الامام آیة اللّه (میرزا محمد تقی الشیرازی) أسس مجلسا من کبار العلماء العاملین للمشورة، فکانوا- و الحق یقال- ساعده الأیمن، و لسانه الذرب، و عونه فی الشدائد و الصعاب، و هم:
الشیخ مهدی الخالصی،
و السید ابو القاسم الکاشانی،
و السید محمد علی هبة الدین الشهرستانی،
و مرزا أحمد الخراسانی،
و الشیخ محمد رضا الشیرازی .

[صدور الرسائل من آیة الله الشیرازی الی جمیع الجهات

بعد ان وثق آیة اللّه الشیرازی بصدق عزائم القوم، و حرصهم الشدید علی القضیة، أصدر کتابا إلی جمیع الجهات؛ طالبا من کل جهة ان تنتخب ممثلین عنها، یذهبون إلی بغداد؛ لمواجهة الحاکم العام، و مطالبته بتحقیق آمال الشعب و رغباته بتأسیس حکومة وطنیة، و برفع الظلم و الحیف، عن الأمة العراقیة المضطهدة، و ها هو ذا نص کتاب سماحته:
«إلی إخواننا العراقیین؛ السلام علیکم جمیعا و رحمة اللّه و برکاته:
(أما بعد) فإن اخوانکم المسلمین، فی بغداد، و الکاظمیة، و النجف، و کربلاء، و غیرها من أنحاء العراق؛ قد اتفقوا فیما بینهم بمظاهرات سلمیة. و قد قام جماعة کثیرة بتلک المظاهرات- مع المحافظة علی الأمنیة- بوجه واحد، طالبین حقوقهم المشروعة، المنتجة لاستقلال العراق- ان شاء اللّه تعالی- بحکومة إسلامیة. و لقد بلغتنا احساساتکم الاسلامیة، و تنبهاتکم الوطنیة.
و الواجب علیکم، بل علی جمیع المسلمین، الاتفاق مع اخوانهم بهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 147
القصد الشریف. و ان یرسل کل قطر و ناحیة بمقصده، إلی عاصمة العراق بغداد، للطلب بحقه، مع الذین سیتوجهون من أنحاء العراق- عن قریب- إلی بغداد.
و إیاکم، و الإخلال بالأمن، و التخالف، و التشاجر؛ بعضکم مع بعض؛ فان ذلک مضر بمقاصدکم الاسلامیة، و مضیع لحقوقکم، التی صار- الآن- أوان حصولها بأیدیکم.
و أوصیکم بالمحافظة علی جمیع الملل و النحل- التی فی بلادکم- فی نفوسهم، و أموالهم، و أعراضهم، و لا تنالوا واحدا منهم بسوء.
وفقکم اللّه جمیعا لمراضیه، و السلام علیکم جمیعا، و رحمة اللّه و برکاته.
الأحقر- محمد تقی الحائری الشیرازی
و لم تصل صور هذا الکتاب، إلی جمیع المدن، بجمیع النواحی، و یقع بین أیدی الزعماء، و الرؤساء، و الوجوه، و الأعیان، و سائر طبقات الناس؛ حتی فعل فعله المطلوب، و أثار القلوب بحماس إلی تلبیة نداء المجتهد الأکبر، فانتخب سکان کل بلدة جماعة یمثلونهم، و وقعوا علی مضابط التوکیل حسب الاصول .
*** ألقی أحد الشبان (فی الحفلة التی أقیمت فی جامع الحیدر خانه فی بغداد، لیلة 6 رمضان 1338 ه- 24 أیار 1920) قبضت السلطة، من أجل ذلک علیه، یوم 7 رمضان .. فاغتنم البغدادیون هذه الفرصة، و اعتبروا نفی هذا الشاب أول تعدّ من السلطة البریطانیة علی البلاد، فأقفلت المخازن و الحوانیت احتجاجا علی هذا العمل .. و اقیمت مظاهرة کبری فی بغداد، اشترکت فیها جماهیر غفیرة من الکاظمیین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 148
و بعد ان سارت المظاهرة فی الشارع دخل المتظاهرون جامع الحیدر خانه، و ألقی احدهم خطابا وطنیا حماسیا، طلب فی آخره ان ینتخبوا خمسة عشر شخصا لیمثلوهم، و یظهروا شعورهم فی عرض مطالیبهم علی السلطة البریطانیة، اجابة لفتوی الامام الشیرازی، و اسوة باخوانهم الفراتیین.
و علی اثر انتهاء الخطیب .. انتخب الحاضرون ..: محمد جعفر او التمن، السید ابو القاسم الکاشانی، الشیخ أحمد الظاهر، السید محمد الصدر، السید عبد الکریم السید حیدر، یوسف السویدی، فؤاد الدفتری، عبد الوهاب النائب، سعید النقشبندی، السید محمد مصطفی الخلیل، رفعت الجادرجی، علی البزرکان، احمد الشیخ داود، عبد الرحمن الحیدری، یاسین الخضیری .
*** اجتمع المندوبون .. و تذاکروا بالأمر .. فقرروا ارسال عریضة إلی الحاکم الملکی العام، یطلبون فیها تعیین وقت للاجتماع به، و بعد ان رفعت العریضة عیّن لهم یوم 14 رمضان، الموافق 20 تموز موعدا لعقد هذا الاجتماع، بعد ان دعا عشرین رجلا من وجوه بغداد و الکاظمیة لیحضروا الاجتماع ایضا، و هم: السید جعفر عطیفة، عبد الحسین الحلبی، محمود الاطرقجی، محمود الاسترابادی، عبد الکریم الحلبی ... و فی الیوم المقرر ..
فی الساعة العاشرة زوالیة .. اجتمع المندوبون و المدعوون فی دائرة الحاکم الملکی العام .. و اقفلت المخازن و الحوانیت فی بغداد و الکاظمیة، و وقف الناس صفوفا امام دار الحاکم الملکی العام .
*** و بعد أن القی خطاب الحاکم العام- الذی کان .. وعودا و وعیدا- قام السید محمد .. الصدر ... و قال معقبا علی الخطاب:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 149
«ان الحرکة القائمة- الآن- فی البلاد، هی حرکة سلمیة، لا یقصد منها اثارة القلاقل، و جل مطلبنا؛ هو تألیف حکومة وطنیة، تؤلف علی حسب تصریحات الحلفاء، و فی مقدمتهم بریطانیا و فرنسا، فی تصریحهما الذی أذاعتاه فی 8 تشرین الثانی 1918، و عملا بمقررات مؤتمر سان ریمو.
و قد انتدبتنا الأمة للمفاوضة معکم بهذا الأمر، و هی تنتظر بفارغ الصبر تحقیق ذلک، و طلب الاسراع فی تنفیذ هذه القرارات؛ لتطمئن قلوب الأمة. أما طلبنا- الیوم- فهو عقد مؤتمر وطنی- یمثل الأمة؛ ینتخب اعضاؤه من کافة أهالی البلاد العراقیة؛ وفقا لأصول تألیف الحکومة.
فیقتضی أن تمنح الحریة فی المخابرات، بین سائر أنحاء هذا القطر، و تطلق الحریة للصحافة. و ان الذی أوردته شفهیا قد تقرر بین أعضاء الوفد، و کتب و وقع علیه الجمیع.
و هنا قام یوسف السویدی، و سلم المضبطة (مذکرة مندوبی الکاظمیة و بغداد ). و هذا هو نص المذکرة:
«إلی سعادة الحاکم الملکی العام المحترم:
تعلمون ان الشعب قد انتدبنا بمظاهرته، التی أقامها لیلة 7 رمضان، الموافق 26 مایو؛ للنیابة عنه فی مطالبة السلطة المحتلة، و مفاوضة رجالها بشأن تنفیذ ثلاثة مطالیب جوهریة، یری جمهور الشعب، و معظم قادة آرائه- الیوم- ضرورة تطبیقها، و تنفیذها حالا، و هی:
اولا- الاسراع فی تألیف مؤتمر یمثل الأمة العراقیة، لیعین مصیرها؛ فیقرر شکل إدارتها فی الداخل، و نوع علاقتها بالخارج.
ثانیا- منح الحریة للمطبوعات؛ لیتمکن الشعب من الافصاح عن رغائبه و افکاره.
ثالثا- رفع الحواجز الموضوعة، فی طریق البرید و البرق، بین انحاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 150
القطر أولا، و بینه و بین الاقطار المجاورة له و الممالک الأخری ثانیا؛ لیتمکن الناس هنا من التفاهم مع بعضهم، و من الاطلاع علی سیر السیاسة الراهنة فی العالم. فبصفتنا نوابا عن أهالی بغداد و الکاظمیة، نطلب إلیکم ان تصادقوا حالا علی تنفیذ هذه المطالب، المذکورة، و لا یغرب عن بال سعادتکم ما فی قبول هذه المطالب، و احلالها محل الاجراء و التنفیذ، من صیانة الأمن، و حفظ النظام و السلام العام.
و إننا ننتهز هذه الفرصة، فنقدم إلی سعادتکم فائق الإحترام و الاکبار» ...
و بعد ان تسلم الحاکم الملکی العام المذکرة .. نشر فی یوم 4 شوال 1338- 21 حزیران 1920: ... ان حکومة جلالة ملک بریطانیا قد قررت ..
تکلیف السیر برسی کوکس بتنفیذ هذه المهمة .. فی موسم الخریف ..
بعد ان رأی مندوبو بغداد و الکاظمیة ان تأجیل المؤتمر إلی الخریف حتی یعود السیر برسی کوکس ما هو إلّا تخدیر للأعصاب و ملهاة للرأی العام ..
قرروا ان یکتبوا کتابا إلی حاکم بغداد السیاسی و العسکری، یردون به علی فکرة التأجیل. و فعلا کتبوه و وقعوه و قدموه ... و علی ذلک ابتکرت سلطة الاحتلال فکرة جدیدة .. فعمدت علی تألیف جمعیة الشوری، و مرکزها فی بغداد، و ذلک قبل تأسیس المؤتمر .. فکتب حاکم بغداد السیاسی إلی جماعة من سکان الکاظمیة و بغداد یعلمهم بذلک .
و قد ارسل الحاکم الملکی العام جدولا بأسماء أعضاء المجلس علی ان یکون حاکم بغداد العسکری رئیسا، و معاونه نائبا.
عارض سکان بغداد و الکاظمیة هذا التعیین الذی ساءهم، و قطع فیهم کل أمل بوفاء السلطة البریطانیة بعهودها لتألیف حکومة وطنیة، الأمر الذی أدی بتصلب الوطنیین الشدید. و عندما ضاقت السلطة المحتلة ذرعا ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 151
استعانت بسیاسة القوة و الشدة، فأمرت بإلقاء القبض علی أربعة من مندوبی بغداد و الکاظمیة .. و فی فجر یوم 27 ذی القعدة 1338 13 آب 1920 هاجمت الشرطة دور المذکورین .. تمکن السویدی أن یهرب الی الکاظمیة، حیث اعتصم هناک فی دار المرحوم السید حسن الصدر .. .

[حول حرکات فی بغداد]

ان حرکات بغداد کانت تسیر وراء قیادة فراتیة، و ان اول حرکة من هذه الحرکات قد ولدت فی الکاظمیة من قبل آیة اللّه السید ابی القاسم الکاشانی لقد عمل الکاشانی فی مدینة الکاظمیة من وقت بعید، قبل ان تصبغ بغداد بلون الثورة، ضد السلطة البریطانیة المحتلة.
فقد کان یطبع المنشورات فی الکاظمیة، و توزع سریّا بتوقیع «الجمعیة الاسلامیة العربیة» فأقضّ مضجع السلطة العسکریة المحتلة. فبثت العیون و الجواسیس لمعرفة اعضاء الجمعیة، فعاد کل هؤلاء بخفی حنین، لا یعرفون عن الجمعیة الّا التواقیع التی کانت تحملها المنشورات، و هی؛ الرئیس:
السید ابو القاسم الکاشانی. السکرتیر: الشیخ جواد الزنجانی .
* قر رأی (رؤساء المواکب الحسینیة، و هم عادة یکونون رؤساء المحلات و متنفذی الکلمة) ان یرجو (آیة اللّه الشیخ مهدی الخالصی) لیعود إلی الکاظمیة (من کربلاء) فیقود حرکة الثورة فی بغداد فأرسلوا إلیه الکتاب التالی:
«2 صفر 1338
شیخنا و مولانا، حضرة حجة الاسلام الشیخ مهدی الخالصی دامت برکاته:
بعد اهداء التحیات الفائقة، و تقدیم الاحترامات اللائقة، و السؤال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 152
عن تلک الذات الشریفة. نصدع حضرتکم بأن طال الفراق، و اشتعل لهیب الأشواق. و غیر خفی علی سعادتکم ان تمام أنسنا إلیکم، و دفع الاحزان و الاشجان بزیارتکم.
و الناس- ایضا- مشتاقون إلی قدوم حضرتکم خصوصا رؤساء الأنصار ؛ لیکمل الشعار المنوط بوجودکم الشریف، فالمأمول من الطافکم القدوم إلی الکاظمیة، لتأیید هذه الهیئة المحترمة، الباذلة أنفسهم لاقامة شعائر الدین.
و من المعلوم من سماحتکم و اخلاقکم الحمیدة، الاجابة. و السلام علیکم و علی أعتاب حضرة آیة اللّه روحی فداه و رحمة اللّه و برکاته».
الفقیر إلی اللّه- السید ابو القاسم الکاشانی
خادم زوار الحسین، علی الحاج محمد.
خادم زوار الحسین، یاس.
خادم زوار الحسین، السید جابر.
خادم زوار الحسین، عبد الباقی.
خادم زوار الحسین، أمین کنعان.
خادم زوار الحسین، الحاج مجید گصیّد .
(کتب محمد جعفر ابو التمن إلی میرزا محمد تقی الشیرازی، فی 7 رمضان سنة 1338) و قد تفضل .. الشیرازی .. فأجاب عن هذه الرسالة ..:
«.. بعد السلام علیکم: لا یخفاک؛ وصلنا کتابک المشتمل علی بیان الحرکة الاسلامیة، فی بغداد ... فسرنا اتحاد کلمة الأمة البغدادیة، و اندفاع علمائها، و وجوهها، و أعیانها؛ إلی المطالبة بحقوق الأمة المشروعة، و مقاصدها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 153
المقدسة ... و اننا نوصیکم؛ ان تراعوا فی مجتمعاتکم قواعد الدین الحنیف، و الشرع الشریف، فتظهروا أنفسکم دائما بمظهر الأمة المتینة الجدیرة بالاستقلال التام المنزه عن الوصایة الذمیمة. و أن تحفظوا حقوق مواطنیکم الکتابیین، الداخلین فی ذمة الاسلام، و ان تستمروا علی رعایة الأجانب الغرباء، و تصونوا نفوسهم، و أموالهم، و اعراضهم؛ محترمین کرامة شعائرهم الدینیة؛ کما أوصانا بذلک نبینا الأکرم- صلی اللّه علیه و آله- و السلام علیکم، و علی العلماء، و الأشراف، و الأعیان ..»
و عند ما وصل هذا الکتاب إلی ابی التمن، اتصل مع زعماء الکاظمیة، و اخبرهم أن یدعوا الناس إلی اجتماع فی الصحن الکاظمی الشریف ...
و فی الیوم المحدد، تواردت من بغداد عشرات الالوف الی الکاظمیة؛ یتقدمهم رجال الدین و الوجوه. بعد ان اغلقت الحوانیت، و خانات التجارة. و کذلک الکاظمیون اجتمعوا فی الصحن عن بکرة أبیهم. فضاق الصحن الشریف بالمجتمعین الکاظمیین و البغدادیین؛ علی سعة ساحاته ..
کما امتلأ الطابق الثانی «السور» فقرأ السید باقر السید أحمد .. الرسالة الکریمة بصوته الجمهوری اکثر من مرة، تنقلا من ساحة إلی اخری ...
و کان المجتمعون یقاطعون الکتاب بالتکبیر و التهلیل .. و فی الیوم الثانی ذهب- من بغداد الی الکاظمیة- رؤساء الطوائف المسیحیة و الیهودیة، و علی رأسهم البطارکة، و القسس، و الرهبان، و الحاخامیون؛ حیث قابلوا علماء الکاظمیة، و شکروهم .. کما انهم اعلنوا انضمامهم إلی الثورة ...
و فی الیوم التالی، أرسل علماء الکاظمیة السید محمد الصدر إلی بغداد لإعادة الزیارة للبطارکة و الحاخامیین، و اخبارهم بأن علماء الکاظمیة قد کتبوا إلی .. الشیرازی .. ما عرضوه أمس .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 154
عند ما وصلت انباء تهیج الرأی العام فی النجف الأشرف، و الفرات الأوسط- الی الکاظمیة- و کانت یومذاک عاصمة الشعور الوطنی، و توجیه الرأی العام فی منطقة بغداد؛ هاجت الجماهیر و ماجت. و اعرضوا عن الاستفتاء سائرین وراء علماء الکاظمیة. فلم یر علماء الکاظمیة بدا من الإلتجاء إلی وطن الثورة .. و هذه رسالة من العلامة الشیخ محمد الخالصی الی میرزا محمد تقی الشیرازی؛ تعبر عن هذه الاحاسیس و العواطف ...
«... ثم لا یخفی علی حضرتکم؛ وقوع الهرج و المرج فی بلادنا، من طرف مسألة الانتخاب. حتی ان جملة من اهالی بلادنا کتبوا الاعلانات و وضعوها فی الاسواق و الطرقات. و کان حاصلها؛ انا لا نرید هذه الحکومة، و نرید رئیسا علینا من عنصرنا؛ رجلا عربیا ... فالرجاء ... أن تبینوا تکلیفنا. و بماذا نتکلم، و ماذا نفعل.
و المرجو ان یکون بکتاب موجه إلی عموم المسلمین .. ».
العلامة الشیخ محمد الخالصی
* (اجتمع الزعماء مع عبد الواحد الحاج سکر. و بعد المداولة، قرروا تنفیذ عدة قضایا ..) و أرسلوا .. إلی مندوبی الکاظمیة و بغداد: .. حیث انکم نواب الأمة، و ممثلوها، و ان سیاستکم تقضی بالمواظبة علی العمل السلمی، و المطالبة الأدبیة البحتة؛ فقد رأینا أن نخبرکم بأن صبرنا قد عیل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 155
و ها إننا مستعدون للقیام بوجه السلطة .. .
*** کان السید عبد المهدی (المنتفکی) قد ذهب إلی بغداد، و اجتمع- فی الکاظمیة- مع آیة اللّه الشیخ مهدی الخالصی، و جماعة آخرین من رجال الکاظمیة و بغداد. فوجدهم علی جانب عظیم من التهیؤ لطلب الاستقلال.
و کان ذلک فی عام 192. و لما کان السید عبد المهدی ممن ینشدون هذه الغایة .. فقد زاد ایمانه بوجوب الجهاد .. فاتصل مع رسل النجف الأشرف، و زعماء الثورة فی الشامیة و أبی صخیر.
ثم أشار علیه الامام الخالصی و أصحاب السید ..
ببغداد .. أن یعود إلی لواء المنتفک لیفاتح العشائر بوجوب الثورة.
ترک السید عبد المهدی الکاظمیة؛ قاصدا الناصریة یوم 23 رمضان .
السید عبد المهدی المنتفکی
* غادر الشیخ رحوم (الظالمی) النجف .. فجمع الرؤساء و الشیوخ ..
ثم سلمهم نسخة من فتوی ... الشیرازی. و بعد ذلک سلم إلی المرحومین شعلان (ابو الحون) و (غثیث الحرچان) کتاب آیة اللّه الشیرازی: «... أما بعد؛ فإن اخوانکم المسلمین فی بغداد، و الکاظمیة، و النجف، و کربلاء، و غیرها من أنحاء العراق، قد اتفقوا- فیما بینهم- علی الاحتجاج، بمظاهرات سلمیة ...» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 156
و لم یقف الأمر عند الطبقة الروحانیة و العلمیة فی النجف الأشرف، و کربلاء، و الکاظمیة علی الأئمة المجتهدین فحسب، بل ان العلماء و الفقهاء ..
قد عملوا الشی‌ء الکثیر .. کما ان المنابر الحسینیة قد قامت بواجبها أحسن قیام .. و الشعر- و هو لغة العاطفة- و قد قام بواجباته فی الثورة أحسن قیام ..
کما ... کانت لاقلام الأدباء حصة فی هیاج الرأی العام، و اثارة الشعور ..
و من هؤلاء .. السید محمد عبد الحسین .. و سلمان الصفوانی .. الذی لازم آیة اللّه الخالصی- رحمة اللّه علیه بالکاظمیة .
*** عندما انتهت الثورة ... و تشکلت الوزارة النقیبیة، تحت ظل الانتداب ..
فی الوقت الذی اتفق فیه العراقیون- و علی رأسهم الأئمة المجتهدون، و بقیة رجال الدین، و زعماء العشائر- علی انتخاب فیصل بن الحسین ملکا.
و ارسلوا الشیخ محمد رضا الشبیبی- فی أثناء الثورة- إلی مکة المکرمة؛ لمقابلة الملک حسین، و تقدیم المضابط إلی جلالته؛ ملتمسین إرسال ولده فیصل إلی العراق.
و بعد ذلک اجتمع رجال الدین، و زعماء العشائر فی الکاظمیة، بدار آیة اللّه الشیخ مهدی الخالصی- قدس اللّه سره- و بعد أن تداولوا بالامر ملیا، برعایة الخالصی، و بحثوا نوایا الانکلیز للطعن بالأغراض الوطنیة، و التنکر لمبادی‌ء الثورة العراقیة. فقر رأیهم أن یبرقوا إلی الملک حسین طالبین فی برقیاتهم إرسال نجله الأمیر فیصل؛ لیکون ملکا علی العراق؛ مقیدا بمجلس نیابی.
وصلت الأخبار إلی الدوائر المسؤولة، فأوعزت إلی دوائر البرق بعدم استلام هذه البرقیات ... و أحس الزعماء بوجود لعبة بریطانیة جدیدة ..
فاجتمعوا مرة اخری فی دار الامام الخالصی- رضوان اللّه علیه- و بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 157
أن درسوا الموضوع قرروا رفع احتجاج إلی المندوب السامی. غیر ان الخالصی.
أوقفهم و أخذ الأمر علی عهدته، و رأی ان یکتب إلی نوری السعید ..
فکتب إلیه .. (فی 10 شعبان 1339) .. و عندما سلم رسول الخالصی الکتاب .. تلقی .. «... انه لا یوجد ادنی مانع ..» و عند وصول الرسالة أمر الزعماء و الرؤساء بإرسال برقیاتهم، فأرسلت المئات منها، فالألوف .. .
*** ان الذین کانوا عیون الانکلیز و جواسیسهم، و الساخطین علی الثورة و الثوار؛ هم الذین یحکمون، و ینعمون بنتائج الثورة .. فتذمر الاحرار من هذا الحال .. و قد اجتمع الزعماء و الاحرار عند العلماء الاعلام؛ و ذلک فی دار .. الشیخ مهدی الخالصی بالکاظمیة .. و لم یسمع الانکلیز بذلک الا و ضاقوا ذرعا، فألقوا القبض علی الامام الشیخ مهدی الخالصی، و بعض العلماء من أعوانه، و الزعماء، و الأحرار، و نفوهم إلی خارج العراق .. ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 158

الکاظمیة فی التواریخ البغدادیة

تاریخ مساجد بغداد و آثارها

جامع الکاظمیة

.. إن هذا الجامع؛ رحب الفناء، مشید الأرجاء، رصین البناء. قد زخرفه الشیعة أتم الزخرفة، و زینوه بأبدع النقوش.
و فیه قبر الامام موسی الکاظم، و الإمام محمد الجواد. و علیهما قبة عظیمة، غشی سطحها بالذهب. و تری الشیعة یطوفون حولهما طواف الحجیج بالکعبة المعظمة. و لهم مواسم للزیارة. یجتمع منهم هنالک الالوف المؤلفة. و یحضرون لها من بلاد شاسعة. و کانت هذه المقبرة تسمی مقابر قریش. فلما توفی موسی الکاظم- رحمه اللّه- دفن خارج القبة؛ قبة جعفر بن أبی جعفر المنصور. و ذلک لخمس بقین من رجب سنة 183 من الهجرة.
ثم وسع المحل بموت الأمین محمد بن هرون الرشید، و أمه زبیدة بنت جعفر. و بنی علی قبری موسی و محمد مشهد؛ علقت فیه القنادیل، و أنواع الآلات ..
و لما استولی الشاه اسماعیل الصفوی علی العراق، سنة 914 ه؛ نقض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 159
المشهد و القبة. و أعاد بناءها علی وضع بدیع. و غشیت الجدران بالذهب الخالص داخلا و خارجا. و علقت النفائس و التحف، و لما تم ذلک حسبما أمر؛ کتب علی جدرانها ما نصه: «بسم اللّه الرحمن الرحیم. أمر بانشاء هذه العمارة الشریفة سلطان سلاطین العالم، ظل اللّه علی جمیع بنی آدم، ناصر دین جده الأحمدی، رافع أعلام الطریق المحمدی، ابو المظفر الشاه اسماعیل بن الشاه حیدر بن جنید الصفوی الموسوی- خلد اللّه تعالی ألویة الدین المبین بملکه و سلطانه، و أیده لهدم قواعد اهل الضلال بحجته و برهانه- و حرر ذلک، فی سادس شهر ربیع الثانی سنة ست و عشرین و تسعمائة الهلالیة».
و یقال: ان کثیرا من المبانی، التی أمر بانشائها و عمارتها لم تکمل. و انه مات سنة ثلاثین و تسعمائة.
فلما استرد العراق السلطان العادل الغازی سلیم خان العثمانی، و جاء بنفسه الی بغداد و ذلک سنة 941 ه أمر حینئذ باکمال تلک العمارة. و أنشأ حولها جامعا عظیما تقام فیه الجمع و الجماعات. و هو- إلی الیوم- علی رصانته و وضعه.
و بنی منارة فی الرکن الذی بین الشرق و الشمال. و هی أول منارة شیدت هناک. و تحتها- عند باب الدرج الأسفل، علی ارتفاع قامة عن الأرض- صخرة منقوش فیها بحروف بارزة أبیات باللغة الترکیة .
و فی صحن جامع الکاظمیة، حجرة صغیرة. فیها قبر ابراهیم، و قبر أخیه جعفر؛ ابنی موسی الکاظم. و قد عمرها سلیم باشا الفریق. و شاد القبة التی علیها. و ذکر ذلک عبد الباقی الفاروقی بأبیات نذکر منها شطر التاریخ، و هو قوله: «شاد سلیم مرقد الفرقدین» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 160
و فی سنة ثلاثمائة و الف ؛ استأذن من الحکومة العثمانیة «فرهاد میرزا»، أحد اکابر الفرس؛ أن یجدد سور الجامع، المشهد. و ان ینشی‌ء بعض العمارات. فأذنت له، فبنی السور کله بالحجر الکاشانی الملون، و فرش الساحة بالمرمر، و عمق الأسراب؛ التی هی مدفن أموات الشیعة. و کتب علی السور سورة العادیات، و القدر، و الضحی، و الحاقة، و بعض الأخبار، نحو ما یعزی إلی النبی- صلی اللّه علیه و سلم، انه قال: «مثل أهل بیتی کمثل سفینة نوح، من رکبها نجا، و من تخلف عنها غرق» .
و کتب- من جهة- تاریخ العمارة، و هذا نصه: «بسم اللّه الرحمن الرحیم. وقع الفراغ من هذا الصحن؛ بأمر من قصد بعمله وجه المنان، و بلوغ غرفات الجنان؛ الجناب المستطاب الأشرف الأمجد؛ معتمد الدولة فرهاد میرزا- أدامه اللّه تعالی، و أعز إجلاله و إقباله، بجاه محمد و آله الطاهرین- سنة ثمان و تسعین بعد المائة و الألف من الهجرة النبویة المقدسة علی صاحبها آلاف التحیة و الثناء».
و قد اتصل بهذا الجامع و الصحن جامع الامام أبی یوسف یعقوب بن ابراهیم، صاحب أبی حنیفة، و قبره عن شمال مصلاه، و علیه قبة کبیرة.
و الجامع تقام فیه الجمع، و الأعیاد، و الصلوات، و هو رصین البناء، قویم الأرجاء .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 161

بغداد مدینة السلام

أشهر المساجد القدیمة (فی الجانب الغربی) مسجد الکاظمین. و هو المسجد المشتمل علی ضریح الإمام موسی الکاظم بن جعفر الصادق، و حفیده.
محمد الجواد- علیهم الرضوان- و هو مسجد واسع الأکناف، واقع فی وسط بلدة الکاظمین، التی تقابل بلدة الأعظمیة. و یربط بینهما جسر عائم علی دجلة. و بینها و بین الجانب الغربی من بغداد- الیوم- نحو ثلاثة أمیال.
و لا یعلم بالضبط التاریخ الذی أقیم فیه هذا المسجد؛ غیر ان المؤرخین یذکرون أن الخلیفة الطائع (363- 381) صلی الجمعة إماما، فی هذا المسجد أکثر من مرة.
و قد ذکر ابن جبیر هذا المسجد، فی جملة المشاهد التی زارها. و قد ذکر المؤرخون أن النار قد التهمت هذا المسجد سنة 622- فی خلافة الظاهر باللّه- فأسرع الخلیفة إلی إعادة بنائه. و لکن المنیة عاجلته، فأتمه ابنه المستنصر و عند حصار المغول لبغداد، سنة 656؛ أصیب هذا المسجد بتدمیر کبیر. و لکن هولاکو أمر- بعد ذلک- بإصلاح ما دمّر. و قد أصیب بالغرق عدة مرات. و لکنه استمر ثابتا.
و یقوم- الیوم- علی هذین الضریحین مسجد؛ واسع الأکناف؛ رفعت قبابه فی السماء، و زینت بضروب من الزینة. و أحیطت بأربع مآذن شوامخ. و قد غشی کل ذلک بصفائح من النحاس، مطلیة بالذهب؛ تظهر للناظر علی مسافة أمیال من بغداد؛ یکاد لمعانها یأخذ الأبصار.
و زینت سائر جدران المسجد بالقاشانی الجمیل. أما داخل المسجد، فیقصر الوصف عما فیه من ضروب الزینة، و صنوف الفن .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 162

تاریخ الامامین الکاظمین- علیهما السلام و روضتهما الشریفة

اشارة

الظاهر أن قبور (جعفر بن ابی جعفر المنصور .. و محمد الأمین بن هرون الرشید .. و الست زبیدة بنت جعفر .. زوجة هرون الرشید) .. و غیرهم، من الهاشمیین و القرشیین، هی فی قبلة الامام موسی بن جعفر- علیه السلام- ..
و تسمیة الشونیزی بمقابر قریش کانت لهذه المناسبة، أی مناسبة دفن الهاشمیین و غیرهم، من قریش، فیها .
* أما البقعة الخاصة بالامامین- علیهما السلام- فقد نقل عن کتاب (الدر النظیم)؛ للشیخ جمال الدین یوسف بن حاتم العاملی؛ تلمیذ المحقق الحلی ..
«ان الامام موسی بن جعفر- علیه السلام- ابتاع البقعة التی دفن فیها، لنفسه، قبل وفاته» ... و لما توفی الامام محمد الجواد- علیه السلام- کان مدفنه عند جده الامام موسی بن جعفر- علیه السلام- و فی مقبرته الخاصة، خلف ظهره.
و بنیت علی قبریهما بنیة، و سمیت البقعة ب (الکاظمین) من باب التغلیب.
و کان الزائرون من الشیعة یزورون الامامین- علیهما السلام- من مسجد کان هناک؛ یعرف بمسجد باب التبن، أو من وراء حجاب آخر؛ خوفا من ذوی الأغراض و الأمراض.
و کانت قطیعة للسیدة زبیدة بنت جعفر؛ زوجة الرشید، قریبة من هذه المقبرة؛ تسکنها جماعة من الشیعة. فاتخذ قوم منهم السکنی حول بنیة الامامین، یحترفون غسل الأموات، و حفر القبور، و غیر ذلک من المهمات.
و جاورهم غیرهم من الشیعة لتأمین راحة زوار الامامین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 163
و فی قلیل من الزمن، أصبحت مقابر قریش، و حوالیها، شبه قریة من قری بغداد. و وضع- علی القبرین الشریفین- ضریحان، بعد قلع البنیة و تجدیدها. و کان الضریحان منفصلین عن بعضهما.
و لما کان زمن الدیالمة، و ارتفع الخوف و الحذر عن الزائرین، و کثر الازدحام، من الشیعة؛ لزیارة الامامین علیهما السلام- کثرت البیوت حول بقعتهما المبارکة.
و فی سنة 336، أمر معز الدولة؛ السلطان ابو الحسین، أحمد بن بویه، بقلع العمارة المبنیة علی القبرین، و رفع الضریحین المذکورین، و بنی عمارة جلیلة فی مکانها. و وضع علی القبرین الشریفین ضریحا خشبیا من الساج، جمیل الشکل، حسن الطراز. و تعلو العمارة قبتان بدیعتان؛ إحداهما؛ لمولانا الکاظم- علیه السلام- و الثانیة لمولانا الجواد. و امام العمارة القائمة صحن واسع، رفیع الجدران، محکم البنیان.
و زین داخل العمارة بالتزیینات، و علق فیها المعلقات، و الأضویة، و غیر ذلک؛ مما یزید فی حسنها، و روعتها.
و أنزل ثلاثة من الجنود الدیالمة، و غیرهم، مقابل المشهد المبارک؛ للخدمة، و للمحافظة أولا، و لتأمین الزائرین ثانیا.
فکان الناس یقصدون الزیارة أفواجا أفواجا، و هم آمنون علی أنفسهم و أموالهم. و کثرت المجاورة، حول المشهد الشریف. و صار الإمامان- علیهما السلام- ملجأ للخائفین، و کعبة للطائفین.
و کان معز الدولة- مع وزرائه، و أعیان دولته- یزور الامامین- علیهما السلام- فی کل خمیس. و کان یبیت- مع هؤلاء- لیلة الجمعة، فی بیت فخم؛ کان اتخذه حول المشهد، ثم یرتحل نهار الجمعة- بعد تجدید الزیارة- إلی محل الحکم.
و فی سنة 352، أمر بإقامة العزاء، لسید الشهداء الحسین بن علی- علیهما السلام- فی شهر محرم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 164
و أمر الناس ببغداد أن یغلقوا دکاکینهم- فی الیوم العاشر منه- و یبطلوا الأسواق، و البیع و الشراء. و أن یظهروا النیاحة. و یلبسوا قبابا- یحملونها- بالمسوح. و أن یخرج الرجال و النساء لاطمی الصدور و الوجوه.
و کانوا- بهذه الحالة- یأتون مشهد الإمامین- علیهما السلام- یعزونهما، بالحسین- علیه السلام-.
و بقیت هذه السنّة فی العراق مدة الحکم البویهی، و العزاء الحسینی؛ الذی یقام الیوم، من آثار تلک السنّة الکریمة .. .
* و فی سنة 369، بنی (عضد الدولة) سورا حول أبنیة المشهد الکاظمی.
و زاد فی تعمیر داخل المشهد و خارجه. و أضاف إلی التزیینات، و الأضویة، و غیرها؛ أضعافا مضاعفة.
و فتح المارستان العضدی؛ فی غربی بغداد؛ بین الکرخ و الکاظمیة؛ سنة 371، و نقل إلیه جمیع ما یحتاجه من الأدویة و الآلات و غیرها. و ذلک؛ تسهیلا للکرخیین، و الزائرین .
و فی سنة 377، أوصل الماء إلی الکاظمیة- مشهد الامامین؛ موسی و الجواد علیهما السلام- أبو طاهر، سعید الحاجب، مولی شرف الدولة بن عضد الدولة؛ بحفره نهرا کبیرا، ساقه من دجیل، إلی داخل صحن المشهد. و أصبح مجاورو المشهد و الزائرون غیر محتاجین إلی نقل الماء من بغداد، و لا إلی حفر الآبار. و کثرت الهجرة إلی المشهد المقدس، من بغداد، و نواحیها، و زادت البیوت هناک .
* و فی سنة 441؛ منعت الشیعة- فی الکرخ، و مشهد الکاظمین من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 165
النوح، و العزاء علی الحسین (علیه السلام) یوم عاشوراء، و عن قول: «حیّ علی خیر العمل» من الأذان. و ذلک فی ایام وزارة رئیس الرؤساء، أبی القاسم بن مسلمة؛ الذی کان شدید التعصب علی الشیعة.
و استوزر للخلیفة القائم بأمر اللّه سنة 437 ه.
و قامت- فی أیامه- فتن عدیدة بین الشیعة و السنة. و من جملتها الفتنة القائمة بعد هذا المنع (سنة 443)، التی قتل فیها خلق کثیر، من الطرفین، و تلفت أموال کثیرة .
* و فی سنة 445، عادت الفتنة، و حصل قتال شدید بین الفریقین، و بقی الأذان علی حاله، فی الکرخ و مشهد الکاظمین .
* و منذ وقوع الحریق، و التهدیم، و الخراب؛ فی المشهد المقدس؛ أخذ ابو الحارث ارسلان بن عبد اللّه؛ المعروف بالبساسیری- القائد العظیم للجیش الترکی- فی تعمیره؛ بین آونة و أخری. و استعان بابی نصر فیروز ابن ابی کلیجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بویه؛ الملقب ب (الملک الرحیم)؛ فنصبت- علی القبر الشریفین- صندوقان من الساج، أفخم من الصندوقین الأولین و عمر الصحن الشریف، و المئذنتان. و اعیدت الزینة للقبة الشریفة، و داخل المشهد. إلی غیر ذلک، من الخدمات المشکورة.
و ذلک فی سنة 444. و قیل إن إتمام هذا التعمیر کان سنة 445 .
* و فی سنة 490، قام مجد الملک، أبو الفضل، الأسعد بن موسی القمی؛ أحد وزراء برکیاروق بن ملکشاه السلجوقی. و عمر المشهد الکاظمی الشریف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 166
- علی مشرفیه الصلاة و السلام- و بنی الروضة المقدسة، ببناء محکم الاساس، و زین الجدران بالقاشانی، و وضع صندوقین من الساج، علی القبرین الشریفین.
و عمر مسجدا شمال الروضة، و مئذنتین رفیعتین- حول الروضة المقدسة- و بیتا وسیعا کثیر الغرف؛ لراحة زوار الإمامین- علیهما السلام-.
و بقی هذا التعمیر- الذی قام به مجد الملک، لم یمد احد إلیه یدا بسوء.
و بواسطته کثرت البیوت و العمارات حول المشهد المقدس، إلی سنة 517. وقع حرب بین الخلیفة المسترشد باللّه، و بین دبیس بن صدقة.
و کان دبیس- قبل نشوب الحرب- أودع بعض نسائه فی مشهد الکاظمین- علیهما السلام- .. .

[طغیان دجلة فی سنة 569]

و فی سنة 569، طغی شط دجلة طغیانا عظیما. و زاد الماء زیادة لم یسبق بمثلها، و نبع الماء فی البلالیع.
و خربت بیوت کثیرة ببغداد. و دخل الماء إلی البیمارستان الذی- کان بناه عضد الدولة- بین الکرخ و الکاظمیة- و دخلت السفن من الشبابیک.
لأن الماء قلعها من أساسها.
و سری الماء إلی الکاظمیة، حتی دخل الصحن الشریف، و منه الی الروضة المقدسة. و هدم بعض الأبنیة، ثم نقص الماء، و زال الخطر .
* و فی سنة 575، قام بالخلافة بعد (المستضی‌ء) ولده الناصر لدین اللّه. و کان من الموالین للأئمة المعصومین ..
و أول ما بدأ بالمشهد الکاظمی الأنور، و تدارک ما أتلفته ید الغیر، من تعمیر، و زینة للصندوق الشریف، و الرواق، و المآذن. و وسع الصحن.
و زاد فی الحجرات. و کل ذلک؛ بمراقبة وزیره السعید، مؤید الدین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 167
محمد بن محمد؛ القمی- رحمه اللّه-. و جعل المشهد المبارک؟ أمنا لمن لاذ به. فکان الناس یلتجئون إلیه فی حاجاتهم، و مهماتهم و جرائمهم؛ فیقضی الناصر لهم حوائجهم، و یعفو عن جرائمهم .
* و فی سنة 604، فی شهر رمضان؛ أمر الناصر ببناء دور؛ فی المحال ببغداد- و من جملتها؛ الکاظمیة- لیفطر فیها الفقراء، و سمیت «دور الضیافة» یطبخ فیها اللحم الضأن و الخبز الجید.
و جعل فی کل دار؛ من یوثق بأمانته؛ یعطی کل انسان قدحا مملوءا من الطبیخ؛ و اللحم، و مقدارا من الخبز. فکان کل لیلة یفطر- فی هذه الدور- خلق من الناس، لا یحصی عددهم.
و فی أیامه؛ بنی سور حول بلدة الکاظمیة؛ لأن سور الصحن لم یکن کافیا لرد الأیدی الفاسدة عن الروضة المنورة. و أحکم لیکون سدا لطغیان الماء .
* و فی سنة 608؛ اتخذت حجرات الصحن الشریف الکاظمی مدرسة للعلوم الدینیة و العربیة؛ بأمر الخلیفة الناصر. و من کتب السنة؛ أمر بقراءة مسند الامام أحمد بن حنبل- رضی اللّه عنه- علی صفی الدین؛ محمد بن معد الموسوی الفقیه الإمامی.
و وقف جماعة من الفقهاء و العلماء کتبا کثیرة علی هذه المدرسة، و أجری الخلیفة أرزاقا لطلابها.
و من آثار الناصر لدین اللّه؛ أنه بنی دارا للأیتام، تحاذی الصحن الشریف، تصلها الأرزاق من ناحیته الخاصة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 168
و فی سنة 614، زادت دجلة زیادة عظیمة .. و وصل الماء إلی المشهد الکاظمی، و عم الغریق الدور و البیوت، و تلاشی السور الجدید، و سور الصحن، و داخل الروضة، و تهدمت الحیطان، و خربت الجدران. و بعد أن أغار الماء، جدد الخلیفة الناصر البناء .
و کانت وفاة الناصر .. آخر لیلة من شهر رمضان سنة 622. و قام بالأمر ولده الظاهر .. و فی أیامه، وقع حریق عظیم فی مشهد الکاظمین- علیهما السلام- فاحترق الأثاث، و الفرش، و المصاحف، و الکتب.
و سرت النار إلی الصندوق، و الضریح، و القبة الشریفة. فأمر الخلیفة وزیره مؤید الدین القمی؛ بتعمیر المشهد المقدس. و فی أثناء التعمیر مات الخلیفة.
و ذلک سنة 623.
و قام- بعده- ولده المستنصر .. فأکمل التعمیر بأروع مما کان. و الصندوق الساج المستنصری باق إلی یومنا هذا، فی المتحف العراقی. لأن الشاه اسماعیل الصفوی- بعد أن جاء بصندوقی الخاتم المرصعین بالعاج، و نصبهما علی قبری الإمامین (علیهما السلام)- أرسل هذا الصندوق إلی المدائن، و نصب علی قبر سلمان الفارسی؛ صاحب رسول اللّه- صلی اللّه علیه و آله و سلم- و عند تأسیس دار الآثار العراقیة، نقل من المدائن إلیها.
و علی هذا الصندوق؛ کتابات لطیفة. و فیه من حسن الفن و دقائقه مالا یوصف؛ من تذهیب و تحسین. و فی کتائبه اسم المستنصر باللّه، و تاریخه سنة 624.
و للمستنصر خدمات أخری للروضة الشریفة الکاظمیة؛ من قنادیل ذهب، و فضة، و شمعدانات، و معلقات، و ستائر، و غیرها .
* لما فتح هولاکو خان بغداد، أحرق معظم محلات البلد من البیوت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 169
و الأسواق. و وصلت النار إلی مشهد الکاظمین- علیهما السلام- و عبثت فیه.
و لما ولی علاء الدین عطا ملک الجوینی العراق، سنة 657، من قبل السلطان هولاکو خان؛ قام بترمیم المشهد الشریف، و زین الجدران من داخل الروضة و خارجها، و الرواق، و الصحن؛ بالقشانی النفیس، و زاد فی الزینة و المعلقات و غیرها .
* و فی سنة 765، حصل طغیان عظیم بدجلة. و عم الغرق بغداد. و هدمت الدور، و الأسواق. و عبث الماء فی مشهد الکاظمین. و حصلت من ذلک أضرار کثیرة، بقیت علی حالها. حتی جاء السلطان اویس بن الحسن الجلایری سنة 769؛ فقام فی تعمیر ما کان یحتاج إلی التعمیر، و ترمیم ما کان یحتاج إلی الترمیم .
و عمّر الرواق و الصحن. و بنی هناک رباطا؛ لاستراحة الزائرین. و وضع صندوقین من الخاتم علی المرقدین الأنورین، علیهما النقوش الجمیلة، و الکتائب الجلیلة، من الآیات القرآنیة و غیرها.
و کذلک؛ زین الروضة الشریفة بالقاشانی البدیع. و بنی قبتین و منارتین رفیعتین. و بذل الأموال الکثیرة لخدام الروضة، و لفقراء الساکنین فی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 170
المشهد. و بنی لهم بعض البیوت، و أصلح فی المشهد ما یحتاج إلی الإصلاح من الدور .
* و فی سنة 776، زادت دجلة زیادة عبثت ببغداد عبثا لم یترک فی دور محلاتها، و دکاکین أسواقها إلا القلیل.
و هلک تحت الانهدام خلق کثیر، لا یحصی عددهم، و غرق المشهد الشریف. و انهدمت بعض بنایته، و تشوق ما بقی منها. و خربت دور کثیرة من المجاورین. فقام بتعمیر ما انهدم. و اصلاح ما بقی؛ وجیه الدین اسماعیل بن الأمیر زکریا الوزیر، الذی حکم العراق، من قبل السلطان اویس- یومئذ- و خدم الروضة المقدسة، و سائر المشهد الشریف؛ بخدمات مشکورة .
* و فی سنة 926؛ قام فی تجدید عمارة المشهد الشریف الشاه اسماعیل الصفوی، و قلع جمیع البناء من أساسه.
و بنی الروضة و الرواق، و الصحن الأقدس؛ ببناء مشید، جاد فی إحکامه الأساسی و فی تزویقه.
و بنی القبتین الشریفتین بطرز جمیل، و زینهما بالقاشانی الملون. و عوّض المنارتین بأربع منائر. و زین الجدران- داخلها و خارجها- بالقاشانی الملون.
و بنی الجامع المعروف- الیوم- بالجامع الصفوی، فی شمال الروضة المطهرة. و وسع الصحن، و بنی فیه حجرات لأهل العلم و الزائرین. و فضض أبواب الروضة بصفائح من الفضة الخالصة.
و نصب علی القبرین الشریفین صندوقین؛ من النوع المعروف بالخاتم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 171
و علق علی سقف الروضة القنادیل و المعلقات و فرش الروضة و رواقها بالفرش الثمین.
و کان إکمال هذه الخدمات، سنة 935؛ علی ید أخیه السلطان محمد خدابنده- الذی کان یحکم العراق یومئذ- و هذا التاریخ، کتب فی الکتیبة التی داخل الروضة المنورة.
و کان إنعام الشاه اسماعیل الصفوی علی السدنة، و المعتکفین، و الخدمة، و المؤذنین کثیرا؛ یتجدد علیهم مدة أیامه .
و فی سنة 941، استرد العراق- من ایدی الفرس- السلطان سلیمان العثمانی (القانونی) أمر ببناء المنبر الموجود الیوم فی الجامع الصفوی ، .
*** و فی سنة 978، ورد ولده السلطان سلیم الثانی بغداد. و بعد زیارته الکاظمیة، أکمل بناء المنارة الواقعة ما بین المشرق و الشمال .
* و فی سنة 1032، زار الشاه عباس الصفوی الکبیر العتبات العالیة.
و هی المرة الثانیة لزیارته. أمر بأن یصنع للکاظمین- علیهما السلام- ضریح من الفولاذ؛ لحفظ صندوقی الخاتم ... فصنع، و وضع علی الصندوقین الکریمین.
و علق بعض النفائس و المعلقات فی الروضة، و زین الرواق، و الروضة بشی‌ء من الزینة فوق ما کان لها .
* و فی سنة 1042، زادت دجلة زیادة هائلة، و عبث الماء ببغداد، و الکاظمیة. و حصلت أضرار کثیرة. فأمر الشاه صفی الصفوی؛ بترمیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 172
الروضة، و الرواق، و الصحن، و ارجاع الزینة لها .
* و فی سنة 1045، أمر الشاه صفی المزبور، بإحکام المنائر- التی فی المشهد الکریم- و أحدث أربع منائر صغیرة، فی زوایا سطح الروضة المقدسة .

[محاصرة بغداد فی سنة 1047]

و فی سنة 1047، دخل السلطان مراد الرابع بن السلطان أحمد الأول بغداد- بعد أن حاصرها أربعین یوما- فنهب الجنود و العساکر البلدة.
و دخلوا المحلات، و قتلوا من وجدوه أمامهم من الناس. و ازدخموا علی مشهد الکاظمین- علیهما السلام- و نهبوا قنادیل الذهب و الفضة، و جمیع ما کان فی الروضة المقدسة من النفائس و الستائر و غیرها .
* و فی سنة 1111 أو سنة 1112، جدّد الوزیر حسن باشا سقف الروضة شریفة، و عمل فیها بعض الترمیمات .
* و فی سنة 1115؛ فی أیام الشاه سلطان حسین الصفوی ... فی جمادی الثانیة من هذه السنة، حج بیت اللّه الحرام محمود آقا التاجر- و معه الشباک لحرم الکاظمین- علیهما السلام-. و کان معه من أهل حرم السلطان و أعیان الدولة و غیرهم زهاء عشرة آلاف. الحجاج منهم ثلاثة آلاف ... .
و فی سنة 1211، أمر السلطان محمد شاه الأول؛ رأس الدولة القاجاریة، و أول ملوکهم .. بتذهیب القبتین الکریمتین، و رؤوس المنائر الشریفة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 173
و أضاف إلیها ثلاث منائر اخری، علی طرز المنارة، التی بناها السلطان سلیم العثمانی. و أمر بتذهیب الایوان الصغیر الذی فی طریق الرواق الجنوبی.
و أمر بفرش الرواق و الروضة بالمرمر الأبیض الجذاب. و عمر من الصحن ما هدمته أیدی الحوادث. و زاد فی سعته بابتیاع بعض البیوتات المجاورة له، من الجنوب و الغرب .
* و فی سنة 1231، قام السلطان فتحعلی شاه القاجاری بشی‌ء من التعمیر؛ داخل الروضة المنورة. و غشی الجدران بقطع المرایا الصغیرة لإکمال زینتها.
و نقش باطن القبتین بالنقوش الجمیلة؛ بالمیناء، و ماء الذهب، و أنواع الأصباغ الخلابة.
و فی مجموعة .. السید علی الصدر ..: ان الزخرف الذی داخل القبة من المرایا و النقوش، هو من المیرزا شفیع، وزیر الشاه محمد المزبور .
* و فی سنة 1255، غشی الوزیر معتمد الدولة منوچهر خان، ایوان الروضة المقابل للجنوب بوجهه، بالذهب الابریز. و زین صدره بأسماء الأئمة الاثنی عشر- علیهم السلام- ثم عمل الصفة الشرقیة (طارمة باب المراد)، و بعد هذه أقیمت الصفة الجنوبیة (طارمة القبلة) ، .
* و فی سنة 1282، تغشی الایوان الشرقی بالذهب، من فاضل قبة العسکریین- علیهم السلام- بأمر ناصر الدین شاه القاجاری. و ذلک قبل زیارته العتبات العالیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 174
و کذلک رمتت السقوف، و المرایا، و النقوش- التی علیها- داخل الروضة. و زینت جدران الرواق الخارجیة بالقاشانی .
* و فی سنة 1283، أمر السلطان ناصر الدین المذکور، بنصب ضریح فضی، علی الضریح الفولاذی. و ذهّب جملة من کتابات الروضة الشریفة، و اماکن من الرواق الأقدس، و ترمیم ما یحتاج إلی الترمیم منها .
* و فی سنة 1278، زار السلطان المزبور؛ ناصر الدین شاه العتبات المقدسة؛ فقیل عن لسانه فی تاریخ زیارته، أو هو قال مؤرخا: «تشرفنا بالزیارة» 1287 و کانت الروضة الشریفة، تحتاج إلی شی‌ء من الاصلاح، فأمر بذلک، و أنعم علی العلماء، و السادن، و الخدمة، المبالغ الطائلة ..
* و فی سنة 1293؛ ابتدأ اعتماد الدولة فرهاد میرزا بن العباس میرزا ابن فتحعلی شاه القاجاری عم السلطان ناصر الدین شاه، ببناء الصحن الکاظمی الأنور، و تجدید عمارته. فقلع البنیان السابق من أساسه، و ابتاع جملة من البیوت المجاورة بأثمان باهظة، و أضافها إلی سعة الصحن، و طوله و عرضه. و فی ابتداء هذا التعمیر یقول .. امام الحرمین المیرزا محمد آل داود الهمدانی، رحمه اللّه:
لما بنی سبط ملوک الفرس‌صحنا یضی‌ء نوره للکرسی
لنور عرش اللّه موسی الکاظم‌و سبطه الجواد ذی المکارم
فاق علی الفردوس و القصورقلت مؤرخا (ریاض النور)
و قد أنشأ بدل الصحن القدیم صحنا مشیدا، رفیع البنیان، محکم الأساس و الأرکان. و أنشأ فی اطرافه الحجرات الجمیلة، و الأواوین البدیعة؛
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 175
فوقانیة و تحتانیة. و الجمیع مزدانة بالقاشانی.
و نظّم السرادیب التی فی الصحن؛ لدفن الأموات، و فرش الصحن بالصخور التمینة؟؟؟، التی جلبها من ایران، و نصب ساعتین کبیرتین فی الصحن- أیضا- ... و فی تاریخ انتهاء عمارة الصحن الشریف، یقول المیرزا محمد المذکور:
صحن موسی حظیرة القدس‌فاق طور الکلیم فی سعد
یا لها من بنیّة شهدت‌کعبة، انها منی الوفد
حرم فاق حسنه إرمالیس فیه ذکری سوی الحمد
صرح هامان خرّ من خجل‌مذ بناه (فرهاد) ذو المجد
قلت لما شاد البنا أرخ هو صحن کجنة الخلد»
و فی سنة 1299، جدد المرحوم فرهاد میرزا تذهیب المآذن المقدسة.
و وکل المرحوم الحاج عبد الهادی الاسترابادی؛ أحد أعیان البلد فی ذلک.
و کان إتمام خدمات فرهاد میرزا، سنة 1301. و قد أجاد المرحوم الشیخ صادق الأعسم؛ فی قوله مؤرخا ذلک العام؛ یخاطب الإمامین- علیهما السلام-:
خذا بیدی (فرهاد) فی یوم حشره‌فقد تم عن سرّ بتاریخه (خذا)
1301 .
* فی المجموعة .. «الحقیبة» للسید .. علی الصدر: الباذل لفضة الضریح الکاظمی، الموجود- الآن- الحاجة سلطان بیکم بنت المرحوم مشیر الملک الشیرازی؛ علی ید المرحوم المیرزا کاظم الطباطبائی، الأصبهانی، التاجر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 176
و الذی صاغ هذا الضریح ثلاثة من الصاغة؛ السید محسن بن السید هاشم آل ابی الورد الکاظمی، و السید محمد علی الصائغ الکاظمی، و المیرزا محمد الشیرازی النجفی ... و أما النجار؛ الذی صنع الخشب، الذی تحت فضة الضریح؛ فکان الحاج محمد علی النجار رحمه اللّه.
أما مقدار فضة هذا الضریح، فهو مائتان و خمسون ألفا مثقال و ربع مثقال. و کانت مصارفه من الصیاغة و النجارة، و غیر ذلک حتی نصبه خمسین ألف تومان. عدده ثمانیة عشر شباکا.
و کان نصبه فی الیوم السادس، من شهر جمادی الأولی سنة 1324.
فی زمان الکلیدار المرحوم، الشیخ عبد الحمید بن الشیخ طالب» . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌9 ؛ ص177
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 177

الکاظمیة فی الموسوعات و المراجع العامة

احسن الودیعة

کاظمین- مدینة الخیر و السرور، و بلدة طیبة و رب غفور. کثیرة البساتین و الأشجار، وافرة الفواکه و الثمار. رخیصة الأسعار. صحیحة الهواء، عذبة الماء، قلیلة الداء، جیدة التربة، رافعة الهم و الکربة.
لیس فیها حرّ یؤذی فی القیظ، و لا برد یؤذی فی الشتاء.
معدن الشیعة و الأبرار، و مرکز العلماء و الأخیار. فیها أسواق کثیرة؛ سوقها الکبیر، لیس لها فی العراق نظیر؛ معروفة بسوق الاسترابادی.
اسسها بیت الاسترابادی، بعد سنة 1339 ه، مقابلة لباب القبلة من صحن الکاظمین. و کان محل هذا السوق قبلا خانا و خلفه- الی ان ینتهی الی آخر السوق- بستانا خلفه خان المرحوم السید صالح الچراغچی. و کان من أشراف سدنة الکاظمین- ع- فلما نقل مرکز السکة الحدیدیة فی هذا الموضع الحالی، صار الخان سوقا. و کان مرکز السکة الحدیدیة- الممتدة إلی بغداد سابقا- قرب سرای الحکومة الحالی، الواقع علی طریق الأعظمیة، و قرب تل الأحمر؛ مقبرة الکاظمین- ع-.
و أما بیت الاسترابادی؛ فمن البیوتات الکبیرة فی الکاظمین. و هم بیت نجابة تقیم العزاء الحسینی، فی أیام محرم و صفر. و یطعمون الطعام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 178
فی هذه الأیام، للسادة و العلماء و سائر طبقات أهل البلدة؛ من ثلث آبائهم.
و کان جدهم الکبیر الحاج عبد الهادی الاسترابادی، المعروف بالورع و الایمان، هو الذی سعی فی عمارة الصحن الکاظمی.
و فیها- أیضا- حمامات کثیرة:
احداها- حمام الدروازة، و هو أقدمها.
و الثانی- حمام الأمیر، واقع، فی محلة القطانة، قرب العلاوی.
و الثالث- حمام المیرزا هادی، واقع خلف صحن الکاظمین، من الجانب الغربی.
و الرابع- حمام الجرموقة. بناه شیخنا العلامة الشیخ مهدی الجرموقی- رض- فی ایام ترکیا- قبل حادثة المشروطة. و کان دائرا برهة من الزمان، لکنه خرب و اساسه باق حتی الیوم.
الخامس- حمام الملوکی، الواقع مقابل مدرسة المرحوم الخالصی.
بنی سنة 1349 و الیوم دائر.
و فی هذه البلدة؛ مساجد کثیرة، و خانات غفیرة. و فی دورها سرادیب تحت الأرض ..
و من هذه البلدة إلی بغداد طریقان؛ احدهما من الجانب الغربی، و فیها السکة الحدیدیة .. و الثانی من الجانب الشرقی، الواقع علی طریق تل الأحمر ..
أخذت هذه البلدة فی الرقی، و اجتمعت الشیعة من جمیع الأقطار یوما فیوما و قطنوا فی جواره، و لاذوا بقبره، و استفاؤوا بأشعة أنواره، و بنوا دورا لأنفسهم.
قال فی ص 307، س 9، من کتاب ریاض السیاحة؛ المطبوع فی طهران .. سنة 1338 ه ما ترجمته: «الکاظمین؛ قصبة تفتح القلب،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 179
و مکان یمد الروح. علی فرسخ من بغداد. جوانبها الأربعة واسعة، علی الضفة الغربیة من الشط. اکثر فواکهها .. غایة فی الجودة و لا سیما تمرها ..
و تشتمل علی حوالی ثلاثة آلاف دار» .

اعیان الشیعة

الکاظمیة- أو بلد الکاظمین (علیهما السلام) بلد کبیر، کثیر الخیرات. و هی التی کان یقال لها مقابر قریش، و باب التبن. و لما دفن الإمامان موسی بن جعفر؛ الکاظم، و حفیده محمد بن علی الجواد- علیهما السلام- صارت حضرتهما مزارا. و سکن الناس فی جوارهما. حتی صارت بلدة کبیرة. و جمیع أهلها شیعة. و خرج منها کثیر من اعاظم العلماء .

تاریخ الشیعة

الکاظمیة- مرقد الامامین موسی الکاظم، و حفیده محمد الجواد- علیهما السلام- و کانت تعرف بمقبرة قریش قبل أن یقبرا فیها. و اتخذت مقبرة بعد سکنی بغداد. و تمصرت بعد أن تشرفت بجسدیهما الطاهرین.
و صارت مسکنا للشیعة، شأن البلاد المقدسة، التی یرغب الشیعة بسکناها لجوار ضرائح الأئمة من أهل البیت؛ لأنهم یرون ان فی مجاورة و زیارة تلک المشاهد الکریمة فضلا- عند اللّه تعالی- و جاءت من طرقهم أحادیث جمة تدلهم علی ذلک الفضل.
و سکنها الشیعة، ایام بنی العباس، و تمصرت من ذلک العهد؛ کما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 180
هو الشأن فی غیرها من مراقد الأئمة من اهل البیت. و قد منیت کما منی سواها من مدن العراق الشیعیة بشی‌ء من زلازل السیاسة المذهبیة زمن بنی العباس و آل عثمان. غیر ان الشیعة فی بغداد کانوا اشد محنة و بلاء من شیعة الکاظمیة. و کثیرا ما تسلم من تلک المعارک الدمویة المذهبیة فی بغداد أیام العباسیین و العثمانیین علی قربها من بغداد.
نعم، حادثة عام 443؛ التی وقعت بین الشیعة و السنة ببغداد. و التی قال عنها ابن الاثیر: و جری من الأمر الفظیع ما لم یجر مثله فی الدنیا ..
تطایر شررها العظیم، حتی بلغ الکاظمیة، فأحرق قبر الامامین- علیهما السلام- فکأنما أبت الناس إلّا ان تقتدی بالرشید، و المتوکل فی الجرأة علی القباب الرفیعة لأهل البیت. و قد یمنع العباسیون الشیعة؛ فی محلات بغداد الشیعیة، کمحلة الکرخ، و المختارة، و غیرهما، عن قراءة مقتل الحسین- علیه السلام- و اظهار شعائر الحزن علیه، و قد یحدث الشغب و الاضطراب من جراء ذلک المنع، إلا انهم قد یرخصون ذلک فی مشهد الامامین- علیهما السلام- کما فعل ذلک المستعصم آخر ملوکهم ... عام 641 و 648 و 653. و کانت لها أمثال أیام الملوک من أسلافه کما جری علی تلک السیرة آل عثمان فی بعض السنین.
و ما زالت، و لم تزل- شأن غیرها من البلاد المقدسة- موردا من موارد العلم الجعفری. و نبغ فیها من العلماء الجم الغفیر؛ ممن کان منهلا لعلوم اهل البیت، و مصدرا لأهل الفضل، و مقصدا لطلاب العلم ... و لکل من هؤلاء الأعلام ذریة من اهل العلم؛ أصبحت أسرا واسعة، تحتفظ بکرامتها. و هی ما تزال تقطن بلد الکاظمیة.
و هی غیر ناضبة من الأدب. و قد نبغ فیها شعراء عدیدون؛ أمثال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 181
الشیخ جابر (الکاظمی) الطائر الصیت، و عبد المحسن الکاظمی؛ الذی قطن مصر؛ و سارت الرکبان مغنیة بشعره. و افتخرت الصحف بنشره.
و فیها الیوم حرکة أدبیة محمودة .

زهر الربیع

قبر (أبو یوسف) لم یکن معروفا. و فی عشر السبعین بعد الألف، حفروا حفرا متصلا بفناء الروضة الموسویة- علی مشرفها السلام- فظهر قبر علیه صخرة، فیها اسم (أبو یوسف)، فبنوا علیه بنیانا، مجاور القبة المقدسة .

نزهة الالباء فی طبقات الادباء

أبو معاویة، شیبان بن عبد الرحمن التمیمی، النحوی. توفی ببغداد، سنة 164، .. و دفن فی مقابر قریش بباب التبن .

معجم الأدباء

علی بن عبد اللّه بن وصیف الناشی‌ء .. کان یعمل الصفر، و یخرّمه.
و له فیه صنعة بدیعة .. و من عمله قندیل بالمشهد، بمقابر قریش، غایة فی حسنه

الفتح القسی فی الفتح القدسی

وصل یوم الاثنین، سادس عشر ربیع الأول (سنة 586 ه) رسول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 182
دار الخلافة .. و هو الشریف فخر الدین نقیب مشهد باب التبن بمدینة السلام.
فتلقاه السلطان (صلاح الدین الأیوبی) بالاحترام و الاکرام، و احتفل لوصوله، و استقبله لقبوله ..

وفیات الاعیان

معز الدولة .. عم عضد الدولة، أحد ملوک الدیلم، و کان صاحب العراق و الأهواز .. کانت مدة ملکه العراق احدی و عشرین سنة و أحد عشر شهرا.
توفی یوم الاثنین 17 شهر ربیع الآخر سنة 356، ببغداد، و دفن فی داره، ثم نقل إلی مشهد بنی له فی مقابر قریش .
* ابو عبد اللّه الحسین بن احمد بن محمد بن جعفر بن محمد؛ ابن الحجاج، الکاتب الشاعر المشهور. توفی یوم الثلاثاء 27 من جمادی الآخرة، سنة 391، بالنیل. و حمل إلی بغداد، رحمه اللّه تعالی، و دفن عند مشهد موسی بن جعفر- رضی اللّه عنه- و أوصی أن یدفن عند رجلیه، و أن یکتب علی قبره: «و کلبهم باسط ذراعیه بالوصید» .
* ابو الحسن سریّ بن المغلّس، السقطی؛ أحد رجال الطریقة، و أرباب الحقیقة. و کانت وفاته سنة إحدی و خمسین. و قیل: یوم الأربعاء، لست خلون من شهر رمضان، بعد الفجر سنة ست و خمسین، و قیل 257،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 183
ببغداد. و دفن بالشونیزیة .. وراء المحلة المعروفة بالتوثة .. و .. مقابر قریش کانت قدیما تعرف بمقابر الشونیزی، و المقبرة التی وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونیزی الکبیر .
* ابو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن صیفی، التمیمی، الملقب شهاب الدین، المعروف بحیص بیص، الشاعر المشهور.
کانت وفاته لیلة الأربعاء، 6 شعبان سنة 574، ببغداد، و دفن من الغد فی الجانب الغربی، فی مقابر قریش .
* ابو الحسن علی بن عبد اللّه بن وصیف، المعروف بالناشی‌ء الأصغر، الحلّاء، الشاعر المشهور. و هو من الشعراء المحسنین.
توفی سنة 366. و قیل: انه توفی یوم الاربعاء لخمس خلون من صفر، سنة خمس و ستین. ، .
* ابو القاسم علی بن اسحاق بن خلف، البغدادی، المعروف بالزاهی، الشاعر المشهور. ولد یوم الاثنین، لعشر لیال بقین من صفر، سنة 318.
و توفی یوم الأربعاء، لعشر بقین من جمادی الآخرة، سنة 352 ببغداد.
و دفن فی مقابر قریش .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 184
ابو طالب، یحیی بن ابی الفرج سعید بن أبی القاسم هبة اللّه بن علی بن فرغلی بن زبادة؛ الشیبانی، الکاتب، المنشی‌ء الواسطی الأصل، البغدادی المولد و الدار و الوفاة. کان من الأعیان الأماثل، و الصدور الأفاضل، انتهت إلیه المعرفة بأمور الکتابة و الانشاء و الحساب.
ولد یوم الثلاثاء 25 من صفر، سنة 522. و توفی لیلة الجمعة، 27 من ذی الحجة، سنة 594، و صلی علیه بجامع القصر، و دفن بالجانب الغربی، بمشهد الإمام موسی بن جعفر- رضی اللّه عنهما- .
* ابو یوسف یعقوب بن صابر بن برکات بن عمار بن عمان بن علی بن الحسین بن علی بن حوثرة، الحرّانی الأصل، البغدادی المولد و الدار، المنجنیقی، الملقب نجم الدین، الشاعر المشهور.
توفی .. فی لیلة 28 من صفر، سنة 626، ببغداد. و دفن یوم الجمعة، غربیها بالمقبرة الجدیدة، بباب المشهد المعروف بموسی بن جعفر .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 185

الکاظمیة فی الرحلات

رحلة ابن جبیر

عدّ ابن جبیر قبر موسی بن جعفر من مشاهد الجانب الغربی المعروفة فی بغداد، و محلاتها؛ التی (کل محلة منها مدینة مستقلة) .
«و فی الطریق الی باب البصرة مشهد حفیل البنیان داخله قبر متع السنام، علیه مکتوب: هذا قبر عون و معین، من اولاد امیر المؤمنین علی بن ابی طالب (ع)، و فی الجانب الغربی ایضا قبر موسی بن جعفر، رضی اللّه عنه، الی مشاهد کثیرة ممن لم تحضرنا تسمیته من الأولیاه الصالحین و السلف الکریم رضی اللّه عن جمیعهم».

الاشارات إلی معرفة الزیارات

و أشار ابو الحسن علی بن أبی بکر الهروی إلی قبر الامام الکاظم، و الامام الجواد، و الأشراف؛ فی مقابر قریش ببغداد .

رحلة ابن بطوطة

«و فی هذا الجانب (الغربی، من بغداد) قبر موسی الکاظم .. و إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 186
جانبه قبر الجواد. و القبران داخل الروضة؛ علیهما دکانة ملبسة بالخشب، علیه ألواح الفضة ..»

رحلة المنشی‌ء البغدادی

فی الجانب الغربی من بغداد؛ مرقد الامام موسی الکاظم، و الامام محمد .. (الجواد)، و أبی یوسف القاضی الحنفی.
و من بغداد البها مسافة فرسخ. و هناک نحو ثلاثة آلاف بیت، من العرب و العجم. کلهم شیعة أخباریة المذهب ، .

رحلة ادیب الملک سنة 1273 ه

فی الکاظمین 1000 بیت غیر ان اهلها لا یتوسدون مخدة الراحة ..
و السارقون لا یعدّون .. فیها خمسة رباطات (خانات)، و أربعة حمامات، حدائقها کثیرة، و نخیلها أکثر من القول و البیان.
صحن الکاظمین المبارک 130 ذراعا .. و الامام موسی، و الامام (الجواد) مدفونان فی ضریح واحد من الفولاذ .. القبة واحدة، و لکنها فی الخارج إثنتان. و هما من الذهب. و فیها أربع منارات کبیرة، طول کل واحدة 50 ذراعا. و أربع منارات صغیرة. مذهبة من النصف إلی الأعلی. و کل ما کان من الجواهر؛ فهو فی محله، خلف رأس الامام مسجد کبیر جدا، إحدی ابوابه من وسط القبة المطهرة. و قد صنع القبة المطهرة- أیضا- سلاطین الصفویة .. و ایوانان مبارکان واحد فی طرف القبلة، و الآخر فی طرف المشرق.
یأتی کل سبت- من دار السلام بغداد- نحو ألفین او ثلاثة آلاف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 187
امرأة و رجل یزورونها .. من بغداد القدیمة إلی الکاظمین علیهما السلام اکثر من فرسخ واحد .

رحلة ناصر الدین شاه سنة 1287

اول آثار العمران، التی شاهدتها منائر الکاظمین و بقاعها .. جاء اهالی الکاظمیة لاستقبالی، و کانت النسوة یهلهلن .. ترجلت قبل باب الصحن و خرج الشیخ طالب الکلیدار، و جمع من الخدّام. طرفا القبلة المطهرة، و الایوان، و العمود، و السقف، صنعت بجودة، و الکاشی جید جدّا.
و یعنون الآن بتذهیب الایوانات من فاضل ذهب قبة العسکریین- علیهما السلام- لم یکن فرش الروضة و الرواق جیدا. فأمرت ان تقاس، و ان یجلب لها من زوالی فراحان. و کانت الجدران حول الصحن تحتاج إلی الترمیم.
و قلت للشیخ أخی المرحوم الشیخ عبد الحسین (الطهرانی) أن یحسب نفقة ذلک .. ذهب محیط القبة .. من الشاه محمد الشهید. و بناء القبة الأصلی صنعه الشاه اسماعیل الصفوی، تزجیج وسط القبة من میرزا شفیع الصدر الأعظم للخاقان المغفور له.
الکاظمان فی ضریح فولاذ واحد، کبیر جدّا. و الصندوقان الفضة فی وسط الضریح الجدید بینهما فاصل صغیر.
ازار الروضة من الکاشی المعرّق الممتاز جدّا، الذی یمکن أن یعدّ من الجواهر .. دعا السید صادق علماء الکاظمیة. و کان یعرّف بهم ..
و أسماء العلماء و الوجوه الذین کانوا حاضرین هم:
الشیخ محمد حسن یاسین. الشیخ حسن الشوشتری. الاقا السید احمد.
الاقامیرزا اسماعیل، امام الجماعة. الاقا الشیخ محمد بن الاقا الشیخ محمد علی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 188
الاقا الشیخ صالح، امام الجماعة. الاقا السید محمد بن السید محسن. الحاج میرزا باقر. الاقا میرزا محمد الهمدانی. الاقا الشیخ مهدی الشیخ عبد الغفار.
الاقا الشیخ محمد بن المرحوم سید العلماء. الاقا السید ابو الحسن، صهر الشیخ محمد حسن القزوینی. و خدام الکاظمین. الشیخ طالب الکلیدار. الشیخ حسن بن الکلیدار. الشیخ جواد؛ رئیس الخدّام. الشیخ سلمان بن الکشیک. الحاج محمد هادی چراغچی باشی. الشیخ محمد مؤذن باشی. الشیخ هادی قابوچی باشی. الشیخ محمد؛ اخو الکلیددار. الخدام 70 شخصا ... .

رحلات عبد الوهاب عزام

قصدنا الکاظمیة، و هی علی مقربة من بغداد؛ غربی دجلة. و بها مسجد الإمام الکاظم، و الإمام الجواد.
بلغنا المسجد المبارک؛ فلما دخلنا، بهرنا مرآه جمالا و زینة. رأینا فناء واسعا، یحیط به أبنیة، فیها مکتبات و مدارس. و یحیط الفناء بمسجد رائع. یواجه القادم بباب جمیل، قد غشیت علیاؤه بصفائح الذهب، و ارتفعت من فوقه ظلة عظیمة من الخشب. ینهض بها عمودان رفیعان، یغشیهما البلور.
و قد لاحت- فوق المسجد، و علی جانبیه- قبة و منارتان فی حلة من الذهب الوهاج.
وقفنا عند الباب، فدعونا. ثم اجتزنا العتبة، فاذا قباب صغیرة، حول القبة الکبیرة، فی لألاء من البلور، و الذهب، و الفضة، یحسر الطرف دون تأملها. و لیس یفی الوصف بهذه المشاهد الجمیلة ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 189

الکاظمیة فی الادلة و کتب الجغرافیة دلیل المملکة العراقیة لسنة 1935- 1936 ان عدد سکان [الکاظمیة] الذین یسکنون المنازل، هم: 47795

الدلیل العراقی الرسمی لسنة 1936

جامع الکاظمین:
جامع عظیم، فخم، رحب الفناء، مشید الأرجاء، رصین البناء؛ مزخرف بأتم الزخرفة، و مزین بأبدع النقوش.
و فیه قبر الامام موسی الکاظم، و الامام محمد الجواد- علیهما السلام- تعلوهما قبتان عظیمتان، غشی سطحاهما بالذهب الخالص.
اعتنی فیه الملوک، فعلقوا فیه النفائس داخلا و خارجا. و شیدوا المآذن الذهبیة الوهاجة، التی تخلب الألباب.
یؤمه عشرات الألوف من الزوار؛ سنویا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 190
بعد تأسیس الحکم الوطنی- فی العراق- سعی بعض المتمولین لإنشاء المعامل. و قد کانت فاتحتها .. معمل فتاح باشا بالکاظمیة، لنسج الأقمشة و جدل الغزل. ، .. الذی یزود العراق، و الممالک المجاورة له بالأقمشة الصیفیة، و الشتویة؛ القطنیة منها، و الصوفیة. و التی صارت تضاهی بشکلها و متانتها أحسن الأقمشة الأوربیة.
کما ان هذا المعمل یزود الجیش و الشرطة، و طلاب المدارس العراقیة قاطبة .

دلیل تاریخی علی مواطن الآثار فی العراق مرقد موسی الکاظم

هذا المرقد، الکثیر الزخرف، قائم فی مقابر قریش- فی اصطلاح الخطط البغدادیة. و قد سمی أولا؛ (قبر موسی)، ثم (مشهد موسی)، ثم (المشهد الکاظمی)؛ نسبة إلی لقب الإمام المذکور.
ثم أسست حوله قریة، فنسبت إلی اللقب، و قیل لها الکاظمیة. و هی بهذا الاسم معروفة الیوم.
صمم هذا البناء- و هو التربة، ذات الأروقة، التی یصح علیها أن تعد من الآثار. و قد تم بناؤها فی سنة 926 ه- 1515 م کما جاء فی نص الکتابة التی فی کاشی بابها الشرقی.
و قد اضیفت إلیها طرمات، و أکشاک، و مآذن صغیرة و کبیرة، و زخرف أکثرها بالزخارف الزجاج، و المعدن الوهاج؛ علی الطریقة الفارسیة الحدیثة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 191
و عثر- تحت صندوق الروضة- علی صندوق؛ مرضع بالعاج؛ یع؟؟؟ آیة من آیات الفن. و هو من آثار الشاه اسماعیل الصفوی؛ المتوفی سنة 930 ه- 1523 م .

اطلس بغداد

مدینة الکاظمیة

عدد المحلات 5
مساحة اراضی المحلات/ 12/ اولک/ 1449/ دونم
مساحة المزارع المجاورة للمحلات/ 12/ اولک/ 10927/ دونم
مساحة نهری دجلة و الخر/ 13/ اولک/ 923/ دونم
مجموع المساحة/ 12/ اولک/ 13300/ دونم
عدد النفوس «العراقیون» 42272
«الأجانب» 6404
مجموع عدد النفوس 48676
عدد الدور و القصور 4264
عدد الاکواخ و الصرائف 979
معدل الکثافة 4، 3 لکل دونم عراقی ...
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 192

المساحات و السکان

لمحلات الکاظمیة و ضواحیها

(1) أحصی عدد سکان هذه المنطقة الریفیة ضمن المحلات المجاورة.
(2) احصی عدد سکان هذه المنطقة ضمن محلة العطیفیة.
(3) تبلغ مساحة نهری دجلة و الخر- ضمن حدود الکاظمیة- (923) دونما و (13) اولک و بهذا یکون مجموع مساحة هذا القسم من العاصمة (300 و 13) دونم،، و (12) اولکا.
(4) بلغ عدد الأجانب فی هذه المحلات (6404) نسمة. منهم (3357) من الذکور، و (3047) من الإناث.
و بذلک یکون مجموع عدد نفوس المحلات المذکورة (48676) نسمة، منهم (24363) من الذکور، و ما تبقی و هو (24313) من الاناث.
و قد دلّ الإحصاء علی أن حوالی (9130) یقرأون و یکتبون. أی نسبة الذین یقرأون و یکتبون تبلغ (19) فی المائة من السکان .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 193

الدلیل العام لتسجیل النفوس العام لسنة 1957

قصبة الکاظمیة «مرکز قضاء الکاظمیة»:
شرقا: نهر دجلة.
غربا: أراضی الغرابیة؛ الفاصلة بین مرکز شرطة الکاظمیة و مرکز شرطة الهور.
شمالا: أراضی التاجیة، الفاصلة بین مرکز شرطة الکاظمیة، و مرکز شرطة التاجی.
جنوبا: منطقة الباغات، و أراضی العکیدات؛ الفاصلة بین مرکز شرطة الکاظمیة و مرکز شرطة الوشاش ..

دلیل خارطة بغداد المفصل

خرج المنصور بنفسه یرتاد له موضعا یسکنه و یبنی فیه مدینة له، و لعیاله و لأهله، و لجنده .. ثم أرسل جماعة من الحکماء .. فاختاروا له مدینته التی تسمی «مدینة المنصور». و هی بالجانب الغربی، قریبة من مشهد موسی و الجواد- علیهما السلام- .. و فی هذا النص ما نستدل به علی أن مدینة المنصور کانت قریبة من مقابر قریش التی دفن فیها الإمامان المذکوران ..
* و من اهم المواضع التاریخیة فی هذه المنطقة؛ المشهد الکاظمی. فهو زیادة علی قدسیته- أهم مرجع خططی فی تاریخ بغداد الغربیة؛ لمحافظته علی موقعه الأصلی؛ لمدة أکثر من الف و مائة و خمسین عاما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 194
و کان المنصور أول من جعل هذا الموضع مقبرة، لما ابتنی مدینته.
و أول من دفن فیها کان ابنه جعفر الأکبر. فقد توفی سنة 150 ه (767 م).
ثم صارت تدعی بالکاظمیة؛ نسبة إلی الامام موسی الکاظم. و دفن معه حفیده محمد الجواد- ع- فالأول دفن فیها فی سنة 183 ه (799 م)، و الثانی فی 220 ه (835 م).
و کانت تعرف هذه المقبرة بمقابر قریش. کما کانت تسمی أحیانا «مقبرة الشونیزی الصغیرة»؛ لتمییزها عن مقبرة الشونیزی الکبیر.
التی دفن فیها الشیخ جنید. و لا یزال القسم الغربی من صحن المشهد یسمی «صحن قریش» إلی الیوم. و یروی المؤرخون أن زبیدة- زوجة هرون الرشید، و قد توفیت فی سنة 216 ه (831 م)- و ابنها الخلیفة الأمین، دفنا فی هذه المقبرة أیضا.
و دفن فیها- أیضا- الأمیران البویهیان؛ معز الدولة، و قد توفی سنة 356 ه (967 م)، و جلال الدولة، المتوفی سنة 435 ه (1044 م).
و کان قد دفن فیها- قبلا- القاضی أبو یوسف یعقوب بن ابراهیم بن حبیب الکوفی؛ صاحب کتاب الخراج، المتوفی سنة 182 ه (798 م).
و الإمام ابو یوسف من أصحاب الإمام أبی حنیفة. و قد تولی القضاء فی بغداد سنة 166 ه. فکان أول من دعی قاضی القضاة فی الإسلام.
و لا یزال قبره ملاصقا لسور المشهد الکاظمی من جهة الشرق.
و قد احتوت هذه المقبرة علی قبور کثیر من الوزراء، و الأعیان، و السادة، و العلماء. فمن أبناء الامام یوسف بن جعفر ابو شجة موسی ابن ابراهیم. کان متعبدا صالحا ورعا فاضلا، راویا للحدیث. قال مؤلف غایة الاختصار: «توفی أبو شجة - ببغداد- و قبره بمقابر قریش، مجاورا لأبیه وجده- علیهما السلام- فحصت عن قبره، فدللت علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 195
و إذا موضعه فی دهلیز حجرة صغیرة ملک مبارک الجوهری الهندی».
قال: «و أبوه الامام إبراهیم المرتضی. کان سیدا أمیرا، جلیلا عالما،، فاضلا. روی الحدیث عن آبائه- علیهم السلام- مضی،
إلی الیمن، و تغلب علیها- فی ایام أبی السرایا. و یقال إنه ظهر داعیا إلی أخیه الرضا- علیه السلام- فبلغ المأمون ذلک، فیشفعه؟؟؟ فیه و ترکه.
توفی فی بغداد. و قبره بمقابر قریش عند أبیه- علیهم السلام- فی تربة مفردة معروفة- قدس اللّه روحه و ضریحه-».
و الظاهر أن لقب ابراهیم (المرتضی) التبس باسم الشریف المرتضی علم الهدی، علی بن الحسین أخی الشریف الرضی؛ المدفونین فی حائر کربلاء؛ عند جدهما الإمام الحسین بن علی. فظن بعضهم أن قبر ابراهیم هو قبر المرتضی علم الهدی، أو قبر ابن المرتضی الآتی ذکره.
و ممن دفن فی مقبرة الامام موسی بن جعفر «ابن المرتضی» ابو الحسن علی بن المرتضی بن علی العلوی الحسنی؛ المعروف بالأمیر السید.
قال محب الدین ابن النجار: «ولد جده بنیسابور، و کذلک والده المرتضی. و نشأ باصبهان، ثم قدم بغداد. و ولد له علی هذا بها. و قرأ الفقه علی مذهب أبی حنیفة، حتی برع فیه و فی الخلاف. و قرأ الأدب، و حصل منه طرفا صالحا. و سمع الحدیث. ثم ولی التدریس بجامع السلطان (ملکشاه فی محلة المخرم قرب دار السلطنة السلجوقیة) و انتهت إلیه ریاسة أصحاب الرأی. و کان عالما بالمذهب، متدینا زاهدا فی الرتب، و الولایات المنیفة، کریم النفس. کانت داره مجمعا لأهل العلم و الأدب. و کان یکتب خطا ملیحا. و له کتب کثیرة أصول، بخطوط العلماء، أسمع .. و حدّث بالیسیر .. مولده .. فی لیلة الثلاثاء 12 ربیع الآخر، سنة 521، ببغداد بدرب الشاکریة .. توفی .. فی لیلة الجمعة لثمانی عشرة لیلة خلت من رجب، سنة 588، و دفن من الغد بمقابر قریش ..
و کان فی الشمال الشرقی من مشهد الکاظمین مقبرة تدعی مقبرة باب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 196
التبن. تقع فی القطیعة الزبیدیة. و کان قد دفن فیها عبد اللّه بن احمد بن حنبل، فی سنة 290 ه (903 م)؛ بوصیة منه. إلّا ان توغل نهر دجلة- فی الجانب الغربی من هذه المنطقة- و فیضان المیاه أدیا إلی انهیار قبره فی الماء. و کان ذلک، فی حدود منتصف القرن الثامن عشر المیلادی، قبیل زیارة نیبهر لبغداد .. .

الدلیل الجغرافی العراقی

و یقع فی الجانب الغربی من دجلة، شمال غربی الکرخ. و یتکون من مدینة الکاظمیة، و من مدینة المنصور و ما یجاورها من مزارع و بساتین.
و یرتبط هذا القسم بجانب الأعظمیة بجسر حدیث؛ یعرف بجسر الأئمة.
و اهم ما فی هذا القسم بلدة الکاظمیة. و هی احدی المدن المقدسة فی العراق. یقع وسطها المشهد الکاظمی، الذی یضم ضریحی الامامین؛ موسی الکاظم، و محمد الجواد- علیهما السلام-.
و یقال: ان المنصور کان اول من جعل هذا الموضع مقبرة، لما ابتنی مدینته المدورة، فی جواره. و ان اول من دفن فیها کان ابنه جعفر الأکبر.
ثم صارت تدعی بالکاظمیة؛ نسبة إلی الامامین الکاظم و الجواد (ع)؛ اللذین دفنا فیها، فی سنة 183، سنة 220 ه (799 و 835 م) علی التوالی.
و کانت هذه الترب، تسمی قبل ذلک «مقابر قریش» .
* مشهد الکاظمیة- و هو یقع فی الکاظمیة، فی شمال غربی بغداد.
و یعد هذا المشهد من أهم المواضع التاریخیة ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 197

الموسوعة الإحصائیة عن التقسیمات الاداریة فی الجمهوریة العراقیة

الکاظمیة (نفوسها) 126443
مرکز القضاء 93676

فی تقویم العراق

تألف الفوج العراقی الأول (موسی الکاظم)، فی بغداد، فی 28 تموز، سنة 1921. و انتقل الی الکاظمین، فی 17 آب.
ثم انتقل من 7 إلی 9 تشرین الأول، من الکاظمین إلی الحلة؛ حیث حل محل الحامیة البریطانیة، و فی سدة الهندیة. و منحه جلالة الملک فیصل، حین مغادرته الحلة لقب «فوج الکاظم» .
و تألف فوج المشاة العراقی الثانی، فی 10 آب، سنة 1921، و توجه إلی الکاظمین، فی 7 تشرین الثانی، سنة 1921 .
و تألفت «البطریة الجبلیة الأولی» فی بغداد، فی 12 تشرین الأول، سنة 1921، و توجهت إلی الکاظمین، فی 12 تشرین الثانی .
و تألفت البطریة الجبلیة الثانیة، فی الکاظمین، فی 1 کانون الثانی، سنة 1922 .
و تألف القسم الطبی، فی بغداد، فی تموز، سنة 1921، و أرسل منه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 198
مفرزات، إلی الموصل، و الحلة، و الکاظمین.
* تأسست الکشافة فی بغداد، فی زمن الحکومة الترکیة؛ سنة 1915 و قد انتشرت فی أنحاء العراق سنة 1916 .. و بعد ان تقدم المنخرطون فی سلک الکشافة .. اقامت نظارة المعارف احتفالا للکشافة سنة 1919 ..
و علی اثر احتفال الکشافة الأول، انتشرت حرکة الکشافة فی بغداد .. حیث تألفت فرقة دار المعلمین، الکاظمیة، السریان .. و أخیرا اقامت نظارة المعارف احتفالا ثانیا للکشافة، سنة 1920 .
**** قدرت نفوس بغداد ب 000، 200 نسمة .. و الکاظمیة ب 000، 15 .

جغرافیة العراق الثانویة

تقع قصبة الکاظمیة، فی شمالی مدینة بغداد؛ علی ضفة دجلة الیمنی، و بعیدة عنها.
و تحیط بها البساتین، من جمیع الجهات. و فیها مرقد الإمامین موسی الکاظم، و محمد الجواد؛ اللذان یحیط بهما صحن واسع، مستطیل الشکل.
و زینت جدرانه بالکاشی المزخرف البدیع.
و فوق المرقدین قبتان مذهبتان، فی أطرافهما أربع مآذن عالیة، مغطاة بصفائح ذهبیة.
و بناء الحضرة من أفخم الأبنیة المشیدة علی الطراز الفارسی، بالعوامید الخشبیة العالیة، و السقوف المزخرفة المطعمة. أما الجدران؛ فمزینة بالکاشی المزخرف.
و یؤم القصبة الزوار، من جمیع الأنحاء؛ لزیارة الإمامین، و التبرک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 199
بمرقدیهما. و قد جاورهما العلماء الأعلام، و رجال الدین الکرام. و تعد القصبة من المراکز الدینیة الخطیرة. و تتصل ببغداد بخط ترام ..
(و نفوسها 000، 28) .

العراق قدیما و حدیثا قضاء الکاظمیة

الکاظمیة- و یسمیها البعض «الکاظم»، و «الکاظمین»؛ إحدی المدن المقدسة فی العراق.
تحیط بثلاث جهات منها البساتین الکثیرة، ذات الأشجار المختلفة، و النخیل الوارف. و تجاورها من الجهة الرابعة مستنقعات و مدابغ. و کور عدیدة للطاباق ... تبعد عن بغداد شمالا خمسة کیلومترات. و کانت تربطها بها سکة ترام ... رفعت عام 1946 م ...
أما شوارعها الحدیثة؛ فعریضة مزفتة، و فنادقها الحادثة أنیقة. فهی تجمع بین القدیم و الجدید ...
و تدل إحصاآت سنة 1947 .. أن عدد نفوس قضاء الکاظمیة کانت (760، 115) نسمة ..
و یروی حمد اللّه المستوفی .. أنّ الکاظمیة بلدة قائمة بنفسها یقدر محیطها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 200
بستة آلاف خطوة، و فی وسطها قبر الإمامین ..
یقع المشهد الکاظمی فی وسط مدینة الکاظمیة. و یحیط به سور ضخم مستطیل؛ طوله 123 مترا، و عرضه 118 مترا. و له تسعة ابواب ذوات أسماء خاصة لدی الأهلین .
و فی کل من ضلعیه الکبیرین 25 إیوانا، و فی ضلعه الشرقی 23 إیوانا.
(و) لقضاء الکاظمیة ناحیتان؛ هما:
1- ناحیة الطارمیة.
2- ناحیة أبی غریب ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 201

الکاظمیة فی المراجع الغربیة کتبه و ترجمه من مختلف المصادر الغربیة جعفر الخیاط الحائز علی درجة استاذ علوم‌m .s .c . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة سابقا و مدیر التعلیم المهنی العام حالا 1967

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 203

الکاظمیة فی المراجع الغربیة

مقدمة

یعد المشهد الکاظمی فی مقدمة العتبات المقدسة التی یقصدها المسلمون للزیارة و التبرک، و یتعبد فیها الزوار للأجر و الثواب. و لم یکتب لهذا المشهد المطهر بأن تحظی تربته الزکیة بمثل هذا التقدیس و الاعتبار إلا لکونها تضم بین طیاتها رفات الامامین الکاظمین، الذین جاهدا فی سبیل العقیدة الحقة و الدین القویم، و حملا مشعل الامامة المضطهدة عالیا فی أحلک الاوقات و أصعبها. و لئن شاء اللّه العلی القدیر أن یلاقی الامامان الکاظمان ما تنوء به الکواهل من العنت و الاضطهاد، و یلاحقا فی کل مکان او بلد، فقد کتب لهما فی الوقت نفسه ان یخلدا فی قلوب الناس الی الابد و یقدسهما المسلمون الی یوم الدین.
و لذلک فلیس من المستغرب ان یقصد هذا المشهد القاصدون من غیر المسلمین ایضا، فیزور الکاظمیة الرحالون و المستشرقون، و یمر فیها التجار و المسافرون، و یتطرق الی ذکرها الکتاب و الباحثون و رجال السیاسة من الغربیین الذین کانت و لم تزل تجتذبهم هذه البلاد بما فیها من مزایا و کنوز.
و قد تکون الکاظمیة اکثر حظا من سائر المدن المقدسة فی هذا الشأن،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 204
لموقعها القریب من بغداد مدینة الخلفاء و اتصالها الوثیق بتاریخ العباسیین و حضارتهم.
و قد کتب عن الکاظمیة عدد غیر یسیر من المؤرخین الغربیین، کما أشار الیها او تطرق الی ذکرها فی مختلف المناسبات عدد آخر غیرهم، و لذلک سنحاول فی بحثنا هذا أن نورد أهم ما کتب فی هذا الشأن و لا سیما ما تکون له قیمة تاریخیة أو أهمیة انسانیة حضاریة فی الأعم الأغلب، الی جانب ما کتبه الموظفون الانکلیز فی ایام احتلالهم للعراق، و فی خلال کفاح العراقیین لتکوین الحکم الوطنی فی البلاد.

الکاظمیة فی بدایة عهدها

أن أهم ما کتب عن الکاظمیة فی اول أمرها ما کتبه المستشرق الانکلیزی المعروف غی لسترنج فی کتابه (بغداد فی عهد الخلافة العباسیة) .
فقد أفرد فی کتابه القیم هذا، الذی یبحث فیه عن خطط بغداد فی بدایة عهدها بالتفصیل، فصلا خاصا (الفصل الثانی عشر) بعنوان «براثا، و المحول، و الکاظمین». و مما جاء فیه قوله :
و تقع شمال مقبرة الشهداء فی باب حرب، و أمام ضفة النهر، مقبرة قریش الکبری، و کان یعرف قسمها الشرقی علی الأغلب بمقابر «باب التبن»، و کانت تتصل بقطیعة الزبیدیة الواقعة بالقرب من هذا الموضع.
و کان المنصور أول من جعلها مقبرة حینما ابتنی مدینته، و أول من دفن فیها کان أبنه جعفر الأکبر الذی توفی سنة 150 (767 م). و لم یمض زمن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 205
طویل علیها حتی صارت تدعی بالکاظمیة و ما زالت تعرف بهذا الأسم، نسبة الی الأمامین المدفونین فیها. و کان بالقرب منها قبر زبیدة أرملة هارون الرشید، و قبر ابنها الخلیفة الأمین، و کان یقع بجوارها کذلک قبرا الأمیرین البویهیین معز الدولة المتوفی سنة 356 (967 م) و جلال الدولة المتوفی سنة 435 (1044 م).
اما الأمامان اللذان نسبت الیهما الکاظمیة فهما موسی الکاظم حفید حفید الحسین بن علی بن أبی طالب، و محمد الجواد أو التقی حفید موسی الکاظم الذی سبق ذکره. و أولهما هو سابع أئمة الشیعة، و ثانیهما تاسعهم.
و کان مقتل موسی علی ید هارون الرشید سنة 186 (802 م)، و یقال ان محمدا التقی توفی مسموما فی سنة 219 (839 م) فی عهد خلافة المعتصم.
و قد تذکر الکاظمیة أحیانا بانها قائمة فی الشونیزیة، فتکون مرادفة لمقابر قریش. و یروی الخطیب (مؤرخ بغداد) قائلا «.. سمعت بعض شیوخنا یقول ان مقابر قریش کانت قدیما تعرف بمقبرة الشونیزی الکبیر.
فقد کان هناک اخوان یقال لکل منهما الشونیزی، و دفن واحد منهما فی إحدی هاتین المقبرتین فنسبت المقبرة الیه».
و قد عرفت المقابر الشمالیة فی بغداد الغربیة بعد ذلک بمقابر «باب التبن»، غیر انه یظهر من موقع باب التبن ان هذا الأسم کان قد أطلق بوجه الأجمال علی القسم الشرقی منها فقط .
و لا یعلم من هو الذی قام بتشیید الکاظمیة أولا، غیر ان یاقوت یصفها فی سنة 623 (1226 م) بقوله «.. و هی مقبرة مشهورة و محلة فیها خلق کثیر و علیها سور»، و تقع دورها فی هذا التاریخ علی مسافة من دجلة تقدر بألف یاردة تقریبا. و یروی المؤرخ الایرانی حمد اللّه المستوفی الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 206
جاء بعد یاقوت بقرن، ان الکاظمیة کانت بلدة قائمة بنفسها و کان محیطها یقدر بستة الاف خطوة، و کان فی وسطها ضریحا الأمامین الکاظمین. و قد أصبحت فی عهودها الأولی مرکزا للشیعة فی أثناء الخلاف الذی حصل بینهم و بین أهل السنة. و فی خلال المنازعات التی أعقبت ذلک هوجمت الکاظمیة و نهبت، غیر ان أمراء آل بویه کانوا من جهة أخری یقدمون الهدایا لهذه العتبة المقدسة علی الدوام. و المقول أن الخلیفة الطائع، الذی حکم من 363 الی 381 (974- 991 م)، کان قد أم صلاة الجمعة فی جامع الکاظمین أکثر من مرة.
و قد نهبت الکاظمیة و أحرقت فی سنة 443 (1051 م)، ثم أعید بناؤها بعد مدة وجیزة لأن الملحوظ ان ملکشاه السلجوقی قد زارها سنة 479
(1089 م)، و ان الرحالة ابن جبیر ذکرها باکبار و اجلال خلال وصفه لبغداد. و قد التهبت النار قبة الأمامین سنة 622 (1225 م)، فی خلال حکم الخلیفة الظاهر القصیر الأمد، فبدأ الخلیفة بأعادة تعمیرها غیر ان المنیة عاجلته فی السنة التالیة، فأتم المستنصر الذی تولی الخلافة بعده عمل أبیه.
علی أن اعظم ما حل بالکاظمیة من نهب و تدمیر ما حصل فی فتنة سنة 443 (1051 م)، فورد بالمناسبة ذکر قبر زبیدة و قبر ابنها الخلیفة الأمین للمرة الأولی بأنهما کانا قائمین فیما یقرب من هاتین التربتین الشیعیتین.
و المعروف ان الأمین، بعد ان قطع رأسه و بعث به الی المأمون فی خراسان، قد دفنت جثته فورا فی بستان قریب من باب الحدید علی خندق طاهر.
و أبعدت زبیدة مع أحفادها أبناء الأمین فی أول الأمر، الی الهمانیة فی منحدر دجلة، و لکنه سمح لهم أخیرا بالعودة الی بغداد حیث توفیت زبیدة سنة 216 (831 م) أی بعد الحصار العظیم بنحو سبع عشرة سنة و قبل وفاة المأمون بسنتین. و قد جاء فی الطبری ذکر وفاتها، لکنه لم یتطرق الی موضع دفنها، غیر اننا نتذکر ان قطیعة زبیدة التی أقامت حاشیتها فیها، تقع عند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 207
باب التبن تماما و تتصل بالکاظمیة. و لذلک فمن المرجح ان تکون قد دفنت فی هذه المقبرة.
و حدث فی سنة 443 (1051 م) خلاف بین السنة و الشیعة فی بغداد الغربیة، علی باب فی الکرخ اراد الشیعة نقش کتابة علیها لم یوافق أهل السنة علی ما جاء فیها. و قتل زعیمهم خلال النزاع فدفن فی الیوم الثانی فی مقبرة الشهداء عند قبر ابن حنبل، و تجددت الاضطرابات فی هذا الیوم مرة أخری فقصد أصحابه مشهد الکاظمین و نهبوا ما فیه من قنادیل و محاریب ذهب و فضة و ستور و غیر ذلک. و لما کان الغد قصدوا المشهد ثانیة و أشعلوا النار فیه فاحترقت قبابه المصنوعة من خشب الصاج، و امتد لهیب النار أیضا الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 208
القبرین المجاورین للأمیرین البویهیین معز الدولة و جلال الدولة. و حینما استنفدت النار؟؟؟ هذین القبرین التهمت قبر جعفر بن الخلیفة المنصور و قبر الأمین مع قبر أمه زبیدة، و کانت الجموع تقوم بأعمال وحشیة مرعبة فی الوقت نفسه. و یعد ابن الأثیر الذی یصف لنا هذا الحادث بأسهاب أول مؤرخ یعین موضع قبر زبیدة، و لما لم یکن هناک سبب یدعونا الی الشک فی هذه المعلومات فیمکننا ان نقول ان قبر زبیدة کان موجودا بالقرب من الکاظمین فی منتصف القرن الخامس (الحادی عشر المیلادی). و لا ریب فی ان ذلک یقضی علی الزعم الشائع الآن بأن قبر زبیدة هو البناء الحدیث القائم بالقرب من قبر معروف الکرخی علی بعد ثلاثة أمیال جنوبی الکاظمیة ..
و آخر ما یورده لسترنج فی هذا الشأن کذلک ما یشیر الی وجود قبر مشهور آخر فی مقابر قریش، و هو قبر عبد اللّه بن أحمد بن حنبل المتوفی سنة 290 (903 م). فهو یقول ان عبد اللّه هذا کان قد أوصی بأن یدفن هنا أی فی المقبرة التی وراء باب التبن و لیس بالقرب من قبر أبیه لأنه کان یقول: (صح عندی ان بالقطیعة نبیا مدفونا، و لأن أکون فی جوار نبی أحب الی من ان أکون فی جوار أبی.) و علی هذا فقد کان قبره ما بین الکاظمیة و قطیعة زبیدة، و قد ظل قائما الی حین قیام یاقوت بتدوین کتابه فی القرن السابع الهجری (الثالث عشر میلادی) و لو انه کان متهدما معظمه.
و یشیر لسترنج فی موضع آخر من کتابه هذا (الفصل الرابع و العشرون) الی ما أصاب المشهد الکاظمی من حریق و تدمیر فی أثناء استیلاء هولاکو علی بغداد. فیقول ان فتح هولاکو لبغداد أعقبه نهبها و أباحتها لمدة أربعین یوما و ان النیران التی اندلعت السنتها بهذه المناسبة التهمت ما جاء أمامها و خربت جامع الخلیفة و مشهد الأمام موسی الکاظم، مع قبور الخلفاء فی الرصافة.
و فی کتابه الآخر (بلدان الخلافة الشرقیة) یشیر لسترنج کذلک الی ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 209
المقابر الشمالیة التی کانت تقع ما وراء محلة الحربیة من بغداد الغربیة فی عهد العباسیین، اشتهرت مؤخرا بأسم الکاظمین و سمیت بهذا الأسم نسبة الی أثنین من أئمة الشیعة العظام.
و یؤید ذلک أیضا ما جاء فی کتاب (الرافدان) لمؤلفه المستر سیتون لوید، الذی عمل خبیرا لمدیریة الآثار القدیمة فی العراق مدة طویلة من الزمن. فهو یقول بعد الأشارة الی نشوء القسم الشرقی من بغداد فی بادی‌ء الأمر، ان مقبرتین قد دشنتا فیها: أحداهما فی موقع مقبرة زردشیته قدیمة تسمی الأعظمیة فی یومنا هذا، و الأخری فی شمال المدینة المدورة حیث تحوط جامع الکاظمین الیوم بضریحی أثنین من الأئمة الأثنی عشر. ثم یشیر الی ان الخلیفة المنصور نفسه قضی نحبه بعد الانتهاء من تشیید بغداد، و لئلا یتسنی لأی عدو من أعدائه العبث برفاته فی یوم من الایام حفر له مئة قبر ثم دفن سرا فی قبر آخر غیرها. و یقول لوید فی مناسبة أخری ان المنصور حینما عزم علی أنشاء بغداد انتخب لها بعد مداولات متطاولة مع مشاوریه، و مع الفلاحین النازلین فی دورة من دورات دجلة علی مقربة من جنوبی الکاظمیة الحدیثة.

الکاظمیة فیما کتبه دونالدسون و ریشارد کوک

اشارة

و یأتی الدکتور دوایت دونالدسون فی کتابه (عقیدة الشیعة) الذی سبقت الأشارة الیه بکثرة فی هذه الموسوعة، علی الکثیر مما یلقی الضوء علی الکاظمیة فی بدایة عهدها کذلک. فقد زارها مع زوجته فی 1928، و هو یقول ان کل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 210
من یصل الی بغداد من الشمال أو الغرب لا بد من أن یجتذبه منظر المآذن المذهبة الأربع فی الکاظمیة التی یوجد فیها المشهد الکاظمی المشهور فی العالم الأسلامی.
ثم یقول عن المشهد المطهر نفسه ان البنیان بشکله الحالی یرجع بتاریخه الی بدایة القرن السادس عشر، و قد أبقی بحالة ممتازة من العمران حتی الیوم. و هو یمثل التجدید الذی کان قد أمر بأجرائه الشاه اسماعیل الصفوی (1502- 1524)، برغم التزیینات التی أدخلها فیه السلطان سلیمان القانونی حینما فتح بغداد سنة 1534 و مکث فیها أربعة أشهر قام خلالها بزیارة العتبات الشیعیة المقدسة. علی أن الألواح او الصفائح الذهب التی کسیت بها القبتان کان قد صرف علیها فی 1796 أغا محمد خان أول شاهات الأسرة القاجاریة المالکة. و فی سنة 1870 أمر ناصر الدین شاه بأصلاح هذه الصفائح فی المآذن و أحدی القبتین. و یستد دونالدسون فی قوله هذا علی ما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة.
سقف المدخل لضریح الامامین الکاظمین
ثم یتابع دونالدسون بحثه فی تاریخ المشهد الکاظمی فیقول أنه یحب ان یؤخذ بنظر الاعتبار ان الأمامین الکاظمین المدفونین فی هذا المشهد قد توفیا فی بدایة القرن الثامن للمیلاد، و أنه یلاحظ من هذا ان سبع مئة سنة کانت موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 211
قد مرت علی الضریحین المطهرین قبل ان یقوم الشاه اسماعیل الصفوی بتجدیدهما. و کان الأمامان علیهما السلام قد عاشا فی ایام بغداد الأولی حینما کانت أسوار مدینة المنصور المدورة لا تزال قائمة فی الجانب الغربی من دجلة. و کانت هناک مدافن فی شمالها و شمالها الغربی تسمی بأسماء مختلفة: مقبرة باب الشام، و مقبرة العباسیین، و مقبرة باب التبن، و قد دفن الأمامان الکاظمان فی غرب مقبرة باب التبن مباشرة. و لکن المنطقة الشمالیة کلها أصبحت تسمی مقبرة قریش بوجه عام حینما کتب یاقوت کتابه المعروف. هذا و یذکر دونالدسون کذلک ان الشیعة یدعون بأن الأمامین قد قتلا بالسم، بأمر من الخلیفتین الحاکمین. لکنه من المهم ان یذکر أیضا بالنسبة لوفاة الأمام الجواد ان مراسیم الدفن و الفاتحة کان قد قرأها علی روحه الطاهرة ممثل عن الأسرة المالکة، و هذا من شأنه ان یمیز الأمام علیه السلام باعتباره من الشخصیات المهمة. و یستند دونالدسون فی روایته هذه علی خبر یرویه الکلینی فی کتابه (اصول الکافی الص 203).
اما ما یختص بزیارة الضریحین المقدسین فی المشهد الکاظمی المطهر، و الوقت الذی بدأ فیه الناس بها، فیقول دونالدسون ان المعلومات الوحیدة المتیسرة بشأنها هی ما یروی عن ما قاله الأمام الرضا علیه السلام لأتباعه عن کیفیة زیارة قبر والده الأمام الکاظم فی الظروف التی کانت السلطات الحکومیة فی بغداد تمنع الناس فیها عن الزیارة. فقد أشار علیهم بتأدیة واجب الزیارة، و الصلاة علیه، من وراء سور المشهد المطهر او فی المساجد المجاورة له. و قد أخبرهم أن ذلک یعادل زیارة قبر الأمام الحسین فی کربلاء، أو ضریح الأمام علی فی النجف. و ما یستنتج من هذا هو ان نوعا من أنواع البناء حول الضریح المطهر کان قائما فی ذلک الوقت المبکر من تاریخ المشهد المقدس، و أن سورا کان یقوم من حوله. و المعروف ان هناک روایة مماثلة أخری تروی عن الأمام علی الهادی الذی بدأت أمامته بعد ذلک، فی أواخر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 212
خلافة المعتصم. أذ یروی عنه أنه أوصی بالتوصیات التالیة من أجل زیارة الضریح المقدس:
«فأذا أردت زیارة قبر موسی بن جعفر و قبر محمد بن علی بن موسی فعلیک أولا أن تستحم و تطهر نفسک، و أن تتضمخ بالطیب و تلبس البستک النظیفة، و علیک بعد ذلک ان تقول ما یأتی عند قبر الأمام موسی:
السلام علیک یا صدیق اللّه
السلام علیک یا دلیل اللّه
السلام علیک یا نور اللّه
ایها النور الذی ینیر الظلمة فی أنحاء الأرض
جئتک زائرا، معترفا بحقک
کارها لأعدائک، و مصادقا لأصدقائک
فتشفع لی عند ربک.

[کیف کان الوضعیة فی زمان البویهیین فی بغداد]

و حینما تسنی للبویهیین ان یأخذوا زمام السلطة فی بغداد بأیدیهم، أعلنوا اعتبار العشرة الأولی من شهر محرم الحرام من أیام الحزن و الحداد علی الحسین علیه السلام، و کثیرا ما کانوا یتحفون المشهد الکاظمی بالهدایا و الهبات.
و یروی عن الخلیفة الطائع أنه کان یوم المصلین فی جامع الکاظمیة أیام الجمع و لذلک یلاحظ ان المشهد الکاظمی قد أصبح له شأن یذکر فی ظل البویهیین.
و یقول دونالدسون ان هذه الفترة بالذات ألفت فیها الکتب الشیعیة الأربعة، التی تحتوی علی معظم عقائد الشیعة و تقالیدهم. فقد توفی الکلینی فی بغداد سنة 939 م بعد الأنتهاء من تألیف کتابه العظیم (الکافی فی أصول الدین). و کان ابن بابویه قد جاء الی بغداد من خراسان فی 966 فکرّس وقته کله للکتابة و التعلیم، حتی أصبح کتاب (من لا یحضره الفقیه) الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 213
ألفه من أعظم کتب الشیعة فی الفقه و العقائد. و بعد ان توفی ابن بابویه بستة عشر عاما قدم الطوسی الی بغداد من خراسان کذلک، و فیها کتب الکتابین الآخرین من کتب الشیعة الکبیرة الأربعة، و هما کتاب (تهذیب الأحکام) و کتاب (الاستبصار).
علی ان هذا الدور الذی استطاع فیه الشیعة ان یمارسوا عباداتهم و طقوسهم بحریة، تحت ظل البویهیین، لم یمر بسلام علیهم فی بغداد. فقد هوجموا سنة 1051 فی الکرخ، و هوجم المشهد الکاظمی فنهب و أحرق کما مر ذکره فیما کتبه لسترنج عن الموضوع. لکن هذا الحادث الألیم لم یمر علیه سوی مدة وجیزة حتی حل سلاطین الأتراک السلجوقیین فی محل البویهیین الفرس فی الاستئثار بالسلطة، و عزل الخلیفة عن شؤون الدولة و مهامها الجسیمة.
غیر ان السلجوقیین هؤلاء لم یصدر منهم ما یسی‌ء الی المشهد الکاظمی بشی‌ء، و حینما زاره السلطان ملکشاه فی سنة 1086 کانت الأضرار التی لحقت به من جراء مهاجمته قبل خمسة و ثلاثین عاما قد تلوفیت علی ما یبدو.
و قبل ان تنقضی مئة عام علی هذا الحادث، قدر للمشهد الکاظمی المطهر ان تشب فیه النیران من جدید فتنزل به أضرارا فادحة. و قد اعتبر هذا شیئا بالغ الأهمیة بحیث أصبح أمر إعادة تعمیره المشهد المهمة الکبیر الوحیدة التی اضطلع بها الخلیفة الظاهر خلال مدة حکمه القصیرة، کما یذکر ابن الطقطقی فی (الفخری). و کان ابن الطقطقی هذا قد خلف یومذاک والده فی الأشراف علی شؤون العتبات الشیعیة القریبة من بغداد. و یقول الدکتور دونالدسون ان هذا مع أنه یدل علی تمتع الأقلیة الشیعیة فی بغداد بشی‌ء من الحقوق فی نطاق ضیق، فأن مقرهم لم یعد له وجود فی بغداد نفسها و انما انتقل الی الحلة و أعصیت أهمیة أکبر الی النجف و کربلاء باعتبارهما من مراکز الزیارة المهمة.
و تعلیقا علی ما یذکره دونالدسون حول التعمیرات التی أجریت فی المشهد الکاظمی بأمر من أقا محمد شاه القاجاری نقول ان المراجع العربیة (العراق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 214
بین احتلالین) تذکر ان العمل بدأ بها فی سنة 1207 ه، و کان یتضمن أتمام ما کان الصفویون قد بدأوا به من قبل. و تشتمل هذه التعمیرات علی أنشاء المنائر الکبری الثلاث، و کانت الرابعة قد شیدت فی عهد السلطان سلیم العثمانی کما مر سابقا. و من تلک الأعمال کذلک تأسیس صحن واسع یحیط بالحرم من جهاته الشرقیة و الجنوبیة و الغربیة، و تخطیط الصحن بحیث اتخذ شکله الحالی. و قد استمرت التحسینات و التعمیرات فی ایام فتح علی شاه کذلک بعد ان توفی أقا محمد شاه، فنقش باطن القبتین بماء الذهب و المیناء و قطع الزجاج الملون. علی أن أبرز أعمال هذا الشاه کان عمله فی تذهیب القبتین و المنائر الصغار الأربعة، و کان ذلک فی سنة 1211 للهجرة.
اما المستر ریتشارد کوک فیورد فی کتابه (بغداد مدینة السلام) کثیرا مما یختص بتاریخ الکاظمیة و أحوالها، مما یقارب بوجه العموم ما یورده المؤرخون الغربیون الآخرون. فهو یقول عن نشوء الکاظمیة، فی معرض بحثه عن خطط بغداد، ان مقبرة کبیرة کانت قد اتخذت فی خارج باب التبن فکان من اول من دفن فیها جعفر بن الخلیفة المنصور. و قد أصبحت هذه المقبرة فیما بعد مدفنا لأمامین من أئمة الشیعة، و تسامت فوق ضریحها عتبة الکاظمیة الفخمة، التی لا تزال من ابرز المعالم فی یومنا هذا .. و استدعت کثرة العبور و التنقل بین جانبی المدینة أنشاء جسرین آخرین من الزوارق: أحدهما فی الشمال و الآخر فی الجنوب، و صار الجسر الشمالی یربط القسم الشمالی من ربض الحربیة، أی الزبیدیة و باب التبن، بالقسم الشمالی من الرصافة. و یمثل هذا الجسر الیوم علی وجه التقریب الجسر الذی یربط الأعظمیة بالکاظمیة.
اما الآخر فقد کان یربط الکرخ بالقسم الجنوبی من المخرم، و یمثله تقریبا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 215
هذا الیوم معبر القطار (ای الجسر الحدید فی الصرافیة الذی أنشی‌ء بعد کتابة ریتشارد کوک لکتابه).
ثم یقول فی موقع آخر .. و فی هذه المقبرة الکائنة فی خارج باب التبن، ربض بغداد الغربیة، دفن فی سنة 802 موسی الکاظم سلیل الحسین من الظهر الرابع و شهید کربلاء الذی یقدسه الشیعة باعتباره الأمام السابع من أئمتهم و قد کانت وفاته تعزی الی الحبس الذی فرضه علیه هارون الرشید بعد ان صار یخشی نفوذه و تأثیره فی الناس. و بعد ثلاثین سنة دفن حفیده محمد التقی تاسع أمام، فی البقعة نفسها فأصبحت تسمی فی النهایة «الکاظمین». و دفن هنا أیضا القاضی الحنفی المشهور أبو یوسف معتمد الرشید و موضع ثقته، و ما زال قبره قائما هناک حتی الیوم. و بانحطاط بغداد الغربیة فی السنین المتأخرة، و تقلص حجمها. بطل استعمال المقبرة للدفن فنشأ ربض مستقل حول ضریحی الأمامین له اسواقه و اسواره. و من المحتمل ان تکون زبیدة زوجة هارون الرشید قد دفنت هنا، و کذلک ابنها الخلیفة الأمین السی‌ء الطالع، لکن قبورهم قد اختفت وقت الاحتلال المغولی فی القرن الثالث عشر الذی دمر المشهد الکاظمی فیه تدمیرا غیر یسیر .. و أخیرا فأن أحد المؤرخین فی القرن الثالث عشر، و هو ابن الأثیر، یذکر بالفعل ان زبیدة کانت قد دفنت فی الکاظمیة صراحة، مع انه الوحید فی ایراد هذا الخبر.
و یشیر المستر کوک کذلک (الص 108)، عند بحثه عن البویهیین و تشیعهم الی ان معز الدولة قد دفن بعد موته فی الکاظمیة، و کان متطرفا فی تشیعه بحیث کان یفکر عند دخوله الی بغداد فی عزل الخلیفة العباسی لکنه عدل عن ذلک برأی من مشاوریه السیاسیین- کما یشیر فی موضع آخر الی ان الخلیفة الطائع العباسی کانت له میول شیعیة قویة، حتی انه کان فی بعض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 216
المناسبات یؤم الناس فی صلاة الجمعة فی جامع الکاظمیة.
و حینما یأتی المستر کوک علی أخبار سنة 1051 للمیلاد (فی الص 114) یقول انها عرفت فی تاریخ بغداد بوقوع شغب فیها ما بین السنة و الشیعة بسبب کتابة خاصة کان یراد کتابتها علی احد الابواب فی الکرخ فاعتبرها اهل السنة شیئا و ثنیا فی لهجته. و قتل فی اثناء النزاع رئیس من رؤسائهم، فاغتنم انصاره فرصة تشییع الجنازة فی الیوم الثانی فی مقبرة باب حرب و جددوا النزاع فهاجمت الجموع الکاظمیة و احتلت المشهد المقدس، و بعد أن نهبوا الذهب و النفائس جمیعها اضرموا النار فی البناء. فلحقت اضرار واسعة بجمیع القبور المجاورة بما فیها قبر زبیدة و ابنها الخلیفة الأمین.
و یتطرق کذلک (الص 132 و 133) الی وصف الرحالة ابن جبیر لبغداد، ثم یذکر الحریق الشهیر الذی وقع فی الکاظمیة فدمر قبتی الأمامین علیهما السلام فی عهد الخلیفة الظاهر الذی أسرع فی المباشرة بأعادة البناء المقدس فی عهده. و یقول المستر کوک کذلک ان جامع قمریة المشهور فی الکرخ، و الذی کان یعرف بأن أصح قبلة توجد فیه، کان قد بنی فی ذلک الوقت أیضا.

الکاظمیة فی عهد المغول

و حینما شاخت دولة العباسیین و أخذ نجمهم بالأفول قیض اللّه لدولتهم جموع المغول المتوحشة، فزحفت علی بغداد أم البلاد بجیش عرموم یکتسح الأخضر و الیابس، و علی رأسه هولاکو حفید جنکیز خان. فلم تسلم الکاظمیة مما أصاب بغداد من سلب و نهب و تدمیر عند فتحها بالطریقة الأثیمة المعروفة. و یقول المستشرق لسترنج فی (بغداد فی عهد الخلافة العباسیة) أن هولاکو أمر بنهب الکاظمیة و أضرام النار فیها فی أثناء حصار المغول لبغداد سنة 656 (1258 م)، غیر أنها أعید تشییدها فی الحال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 217
و حینما ألف صاحب کتاب المراصد کتابه سنة 700 (1300 م) کان الجامع الکبیر ما زال قائما علی مقربة من دجلة برغم ان القسم الأعظم منه کان قد تهدم من جراء ما أصابه من الغرق مرتین متتالیتین.
اما دونالدسون فیشیر الی التدمیر الذی أصاب الکاظمیة کذلک عند استیلاء المغول علی بغداد، مستندا علی ما جاء فی کتاب هاورث فی تاریخهم .
فهو یقول ان المغول حینما جاؤوا الی بغداد بجموعهم الکاسحة سنة 1258 أنزلوا الدمار التام فیها و ما حولها. علی ان المقول هوان تفاهما کان قد حصل حول عدم التعرض للعتبات الشیعیة المقدسة بشی‌ء، لکن الحقیقة ان الکاظمیة کانت العتبة الوحیدة التی أصیبت بالخراب و التدمیر فی هذه الأثناء. و قد یعزی السبب فی ذلک الی تدمیر القسم الغربی من بغداد قبل غیره. و ربما کان قد حصل، خلال المدة التی ضرب فیها الحصار حول أسوار بغداد الشرقیة بعد ذلک، أن وفدا شیعیا وصل من الحلة فتوفق فی اجراء ترتیب خاص معه یحافظ فیه علی سلامة کربلا و النجف، و علی کل فالمعروف ان بغداد قد دمرها المغول تدمیرا کاملا، و أن الضریحین فی الکاظمیة قد أضرم النار فیهما، فهلک فی أثناء ذلک جمیع سکان بغداد تقریبا الذی کان یبلغ عددهم حوالی ثمان مئة ألف نسمة علی ما یقول المؤرخ رشید الدین. و یقال ان الغنائم التی غنمها المهاجمون المتوحشون منها کانت عظیمة بحیث ان الکرج و التتار فی الجیش المغولی کانت تنوء کواهلهم بحمل الذهب و الفضة و الأحجار الکریمة و غیر ذلک من النفائس التی حملوها منها. و قد أثری أولئک الجنود بحیث صاروا یطعمون سروج خیولهم و بغالهم و حتی لوازمهم الاعتیادیة بالأحجار الکریمة و الذهب و اللؤلؤ.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 218
و قبیل انتهاء حکم المغول من أحفاد هولاکو- الذی دام اثنتین و ثمانین سنة- زار الرحالة المستوفی بغداد (1339) و ذکر انه شاهد ضریحی الأمام الکاظم و حفیده الجواد علیهما السلام، ثم أشار الی ان الکاظمیة کانت ضاحیة مستقلة نفسها من ضواحی بغداد، یبلغ طول محیطها حوالی ستة الآف خطوة، و عدد سکانها حوالی ستة الآف نسمة.
و یذهب ریتشارد کوک الی تأیید ما مر ذکره حول تدمیر الکاظمیة عند استیلاء الجموع المغولیة المتوحشة علی بغداد. فیقول ان الخراب النهائی الذی أصاب مدینة الخلفاء، قد تم بحریق کبیر انتشر انتشارا سریعا فی تلک الفوضی فدمر الأبنیة الرئیسیة. اما فی الضواحی فقد دمر المشهد الکاظمی، و جامع الرصافة، و قبور الخلفاء فی الرصافة، و معظم البیوت و المخازن.
و یذکر کذلک ان شیعة الحلة بعثوا الی هولاکو خلال الحصار و فدا یسترحم عدم التعرض بالعتبات الشیعیة المقدسة، فما کان منه ألا أن بعث مع الوفد ابن أخیه الی الحلة و تم الاتفاق معه فیها علی أن یرابط مئة مغولی فی کل من النجف و کربلاء للمحافظة علی المشاهد المقدسة.
و یروی فی موضع آخر عن حکم غازان خان فی العراق ان ایامه عرفت بتفشی الطاعون بنوعیه: الأسود و الاحمر، و بحصول فیضان هائل فی بغداد أحدث أضرارا محلیة فادحة و استحال به المشهد الکاظمی، الذی کان قد أعید بناؤه من عهد قریب، الی انقاض متهدمة.
و تعلیقا علی ما جاء عن المشهد الکاظمی فی عهد المغول نقول انه ورد فی المراجع العربیة ان الامیر قره طای وصل الی بغداد بعد ان احتلها المغول فعین عماد الدین عمر بن محمد القزوینی نائبا عنه، و عین القزوینی بدوره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 219
شهاب الدین علی بن عبد اللّه صدرا فی الوقوف، و تقدم الیه بعمارة جامع الخلیفة و مشهد موسی و الجواد .
و یذکر کذلک ان السلطان اویس الجلائری قام فی 769 هجریة بتعمیر المشهد الکاظمی فبنی قبتین و منارتین، و أمر وضع صندوقین من الرخام الجید علی القبرین الشریفین، و زین الحرم بالطابوق الکاشانی الذی کتبت علیه سور من القرآن المجید، کما عمّر الرواق و رباطا کان فی الصحن، و أمر بأطلاق الأموال للخدام و السدنة .. و فی یوم السبت السابع من ذی القعدة سنة 803 دخل تیمور بغداد فاتحا لها للمرة الثانیة بعد محاصرة دامت اربعین یوما و خرج منها فی العشرة الأولی من ذی الحجة، و من هناک زار مشهد الأمام الکاظم و مضی الی الحلة .
علی ان دونالدسون یذکر ان تیمور لنک حینما هاجم بغداد سنة 1393 دمرها تدمیرا فظیعا أصاب الکاظمیة شی‌ء غیر یسیر منه، و بعد أن أقام فیها ثلاثة أشهر غادرها هاربا من الروائح الکریهة التی تتصاعد من جثث الضحایا المتکدسة فی کل مکان. غیر أنه أمر قبل أن یغادر بغداد بتعمیرها و إزالة معالم الخراب الذی حل فیها، لکن الکاظمیة لم یصبها شی‌ء من هذا التعمیر و التجدید. و قد بقیت علی تلک الحال خلال المدة التی حکمت العراق فیها القبائل الترکمانیة المتنازعة من بعده (الجلائریون و قبائل الخروف الأسود و الخروف الأبیض) حتی تسنی للشاه اسماعیل الصفوی ان ینتزع بغداد منها فی أواخر 1508، و لم ینته هذا الشاه من تجدید المشهد الکاظمی و أعادة تعمیره الا فی 1519. و بذلک أخذ هذا المشهد المطهر الشکل الذی نراه فیه الیوم بوجه عام.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 220
و المعروف فی بعض المراجع العربیة ان استعمال لقب (کاظمی) لمن کان یسکن الکاظمیة قد بدأ علی الأرجح فی أخریات؟؟؟ القرن السابع و أوائل القرن الثامن للهجرة. إذ یشیر الشیخ محمد حسن آل یاسین فی مقال له عن الکاظمیة (مجلة الاقلام عدد ت 2، 1964) ان الحسن بن داود ذکر فی ترجمة السید عبد الکریم بن طاووس أنه حلی المنشأ بغدادی التحصیل کاظمی الخاتمة.

الأمام الکاظم

ان أهم من یتطرق الی البحث فی حیاة الأمام الکاظم علیه السلام فی المراجع الغربیة الدکتور دونالدسون المار ذکره قبل هذا فی کتابه (عقیدة الشیعة)، و الدکتور جون هو لیستر فی کتابه (شیعة الهند) الذی سبقت الأشارة الیه فی أجزاء هذه الموسوعة الأخری، و دائرة المعارف الأسلامیة فی طبعتها الکبیرة غیر المختصرة، و المستر کانون سیل فی کتابه (الأثنا عشریة او أئمة الشیعة الإثنا عشر) .
و قد أفرد دونالدسون فصلا بأکمله، هو الفصل الرابع عشر ، لحیاة الأمام موسی الکاظم. و هو یقول فیه ان الأمام علیه السلام کان قد ولد فی أثناء النزاع الذی کان محتدما بین الأمویین و العباسیین، و کان قد بلغ الرابعة من عمره حینما تولی الخلافة ابو العباس السفاح و أصبح أول خلیفة عباسی یتولی السلطة فی الأمبراطوریة الاسلامیة. و ظل یعیش مدة عشرین عاما فی کنف والده الأمام جعفر الصادق علیه السلام، الذی توفی مسموما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 221
قبل انتهاء حکم المنصور الطویلة بعشر سنوات. و قد امتدت امامته خلال السنوات العشر التی بقیت من عهد الخلیفة المنصور، و استطالت بعد ذلک فشملت السنوات العشر التی تولی فیها المهدی، و السنة و بضعة الأشهر التی تولی خلالها الهادی، و حوالی اثنتی عشرة سنة من حکم الخلیفة هارون الرشید. و بذلک بلغ مجموع المدة التی تولی فیها الأمامة ثلاثا و ثلاثین سنة، فکانت أطول من أمامة والده الصادق (ع) بثمان سنوات.
و کانت والدته السیدة حمیدة بربریة الأصل مثل الخیزران زوجة الخلیفة المهدی ذات النفوذ المعروف، و یستند دونالدسون فی قوله هذا علی ما جاء فی (بحار الأنوار، الجزء التاسع) للعلامة المجلسی الذی ینقل بدوره عن (أصول الکافی) للکلینی. علی ان هناک من یدعی ان والدة الأمام الکاظم کانت من الأندلس التی تعرف نساؤها بکونهن أجمل نساء الأسپان. و یقول دونالدسون ان المؤرخ الیعقوبی لا یحاول الجزم بشی‌ء فی هذا الشأن، غیر انه یذکر أنها کانت أم ولد، و هذا ما کان یمیزها عن زوجات و إماء الإمام الصادق الأخریات. و قد نشأ الأمام فی بیت أبیه مع ستة أخوة آخرین و تسع أخوات. و کان أخوه الأکبر اسماعیل قد عین لیخلف والده فی الأمامة، غیر انه مات فی حیاة والده فأربک ذلک وضع الشیعة یومذاک بأجمعه.
فقد اختلفوا فیما بینهم حول الشخص الذی یجب ان یحل فی محله فی استخلاف والده، فقال بعضهم ان اسماعیل کان آخر أمام من الأئمة (ای السابع) و انکروا وفاته برغم اعترافهم باختفائه و صاروا ینتظرون ظهوره فی یوم من الأیام. بینما سلم آخرون بموته و أخذوا یعتقدون بتسلسل الأمامة من نسله هو. و لذلک عرف اولئک الذین یعتقدون بانتهاء الأمامة بالأمام السابع أسماعیل بأسم «السبعیة».
اما الشیعة الأثنا عشریة فیعتقدون بأن الأمام الصادق علیه السلام کان قد عین ابنه الأکبر اسماعیل لیخلفه فی الأمامة حقیقة، غیر انه اضطر الی تغییره لأنه کان مدمنا علی شرب الخمر. ثم عین فی مکانه ابنه الرابع الإمام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 222
موسی الکاظم . و یقول دونالدسون ان النزاع الذی نشأ عن هذا الاختلاف بین الشیعة قد أدی الی حصول انقسام بارز بینهم، و ظهرت عدة فرق و نحل علی أثره. و یفصل هذا کله الشهرستانی فی کتابه (الملل و النحل)، کما یوجد بحث مفصل عن فرق الأسماعیلیة من وجهة نظر الأثنی عشریة فی الفصل التاسع من کتاب (تبصرة العوام) للسید مرتضی علم الهدی المتوفی سنة 436 (1044 م).
و هناک ثلاث و عشرون معجزة تنسب الی الأمام الکاظم علی ما یقول؟؟؟
دونالدسون، و قد حصلت أولاها فیما جری بینه و بین أخیه الأکبر عبد اللّه.
فقد سارع هذا الی الادعاء بالأمامة حالما توفی والدهما الأمام الصادق، لکن الأمام الکاظم طلب ان تشعل النار فی کومة کبیرة من الأخشاب بحضور أخیه عبد اللّه و جمع کبیر من الاصدقاء و الاتباع. و بادرالی الوقوف فی وسط النار المشتعلة من دون ان یصاب بشی‌ء من الأذی او تحترق ملابسه.
ثم تحدی أخاه عبد اللّه ان یفعل مثله اذا کان محقا فی ادعائه بالأمامة، لکن عبد اللّه سرعان ما امتقع لونه و غادر الاجتماع .
و یقول دونالدسون ان الأمام الکاظم کان یشارک أباه فی حیاته الانعزالیة المنصرفة الی الدراسة و شؤون العبادة و الدین حینما عاش فی المدینة المنوره.
و استمر علی تلک الحالة حتی بعد ان توفی والده و تولی زمام الأمامة من بعده. و کان علی علم تام بان کل خلیفة من الخلفاء العباسیین فی بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 223
کان یتربص به الفرص و یتسقط عنه الأخبار لئلا تبدر منه أیة بادرة یشم منها رائحة الانحراف عن الولاء لهم. کما کان یدرک- و لا سیما بعد ان علم بوفاة والده مسموما بتدبیر من الخلیفة المنصور- ماذا ستکون عاقبته فیما لو صدر منه شی‌ء من هذا القبیل. علی ان ذلک القلق الاعتیادی لم یؤثر فی حیاة الأمام البیتیة علی ما یبدو، لأنه استطاع ان یعیل عائلة کبیرة هناک تتألف من ثمانیة عشر ابنا و ثلاث و عشرین بنتا. و هنا یورد دونالدسون روایة عن المؤرخ الیعقوبی یقول فیها ان الأمام علیه السلام أمر بأن لا تزوج أیة واحدة من بناته، و قد تم ذلک بالفعل و لم تتزوج منهن سوی أم سلمة التی کان زواجها فی مصر.
اما سجایا الأمام و خصاله فقد کان أبرز ما فیه صبره و اعتدال مزاجه حتی سمی «الکاظم» او «کاظم الغیظ»، کما سمی «العبد الصالح» أیضا لکثرة تعبده و انصرافه الی أمور الدین. کما عرف بالسخاء الذی اطال فی وصفه التاریخ.
و قد یکون هذا السخاء هو الذی أثار ریبة الخلیفة المهدی تجاهه فأدی به الی استدعائه الی بغداد و توقیفه فیها.
و یقول دونالدسون بعد ان یروی کیفیة جلب هرون للأمام موسی بن جعفر من الحجاز و حبسه: و حدث بعد سجن الأمام هذا ان ظهر للرشید فی المنام عبد حبشی أسود و فی یده حربة حادة، فقال له «أطلق سراح موسی بن جعفر من السجن فی هذه الساعة، و إلا سأذبحک بهذه الحربة.» فما کان من الرشید الا ان یستدعی الخزاعی آمر الحراس فی القصر و یطلب الیه ان یذهب فیطلق سراح الأمام فی الحال، و یعطیه ثلاثین ألف درهم، ففعل.
و قد قدر للأمام الکاظم ان یسجنه الرشید مرة أخری ، و کان ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 224
علی أثر وشایة من أقارب الأمام نفسه. فقد أخبر الرشید بأن الناس أخذوا یدفعون الخمس الی الأمام، و انه کان یعد العدة للأنتقاض علیه. و تکرر نقل هذا الخبر الی الرشید عدة مرات حتی قلق و اضطرب. فقصد الحج فی مکة تلک السنة، و حینما زار المدینة أمر بتوقیف الأمام، ثم جی‌ء به الی بغداد محمولا فی محفة و أودع السجن فیها بعهدة السندی بن شاهک.
و یقول دونالدسون ان هذه الروایة تتفق مع ما ذکره العلامة المجلسی الذی ذکر ان الرشید أخذ الأمام الکاظم من المدینة قبل انتهاء شوال سنة 177 بعشرة أیام، و بعد ذلک توجه الی مکة و عاد الی بغداد عن طریق البصرة فسلم الأمام الی أمیرها عیسی بن أبی جعفر لیودعه فی سجنه. ثم أخذه بعد ذلک الی بغداد و سجنه فی سجن السندی بن شاهک. و یذکر المجلسی کذلک أن الأمام توفی فی سجنه و دفن فی مقابر قریش. اما کتاب الفخری فیضیف الی ذلک قوله ان الرشید کان فی الرقة فبعث یطلب منها قتل الأمام علیه السلام. و بعد ذلک جاءوا الی الکرخ بعدد من الرجال المعروفین لیشهدوا علی ملأ من الناس بأن الأمام قضی نحبه بحالة طبیعیة. و یؤید الیعقوبی هذه الروایة کذلک مع شی‌ء أکثر من التفصیل.

تعلیقات علی أقوال دونالدسون

اشارة

یلاحظ مما أورده دونالدسون من الأخبار و الروایات عن حیاة الأمام الکاظم ان معظم ما جاء به یستند علی ما هو مدون فی المراجع العربیة بطبیعة الحال. غیر ان هذه الروایات تحتاج الی الکثیر من التعلیق و التوضیح.
فقد ذکر دونالدسون نقلا عن الیعقوبی ان الأمام الکاظم أوصی بعدم تزویج بناته فنفذت الوصیة فیما عدا زواج أم سلمه التی تزوجت فی مصر.
و لا بد لنا هنا من أن نضیف الی ذلک ان ام سلمة تزوجت من القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد، فجری فی هذا بینه و بین أهله شی‌ء شدید حتی حلف انه ما کشف لها کنفا، و انه ما أراد الا ان یحج بها. غیر ان هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 225
بأجمعه یبدو غیر منطبق علی الواقع لأن وصیة الأمام لم تنص علی منع بناته منعا باتا من الزواج، و انما جعلت ذلک منوطا بالأمام الرضا (ع). فقد جاء فیها «.. و ان أراد رجل منهم ان یزوج اخته فلیس له ان یزوجها الا بأذنه فأنه أعرف بمناکح قومه ..» یضاف الی ذلک ان روایة الیعقوبی فی هذا الخصوص لم یذکرها سواه.
و تجمع الروایات العربیة و الأجنبیة علی ان الأمام الکاظم کان أعبد أهل زمانه، و لذلک لقب بالعبد الصالح و بزین المجتهدین. و کل هذه المراجع تشیر الی کثرة سجوده الذی أفضی الی توسع ثفنات جبینه بحیث کان یکلف غلامه بقص اللحم الزائد من جبینه و عرنین أنفه، و تذکر بصورة خاصة السجدات الطویلة التی کان یسجدها و منها سجدة استغرقت اللیل بطوله علی ما أشار إلیها دونالدسون، و هی التی سمع یردد فیها و هو یبکی بخشوع قوله علیه السلام «الهی عظم الذنب عندی، فلیحسن العفو من عندک یا أهل التقوی و أهل المغفرة». و قد کان یقضی مدة بقائه فی السجن بالصلاة و التعبد، حتی قال حینما سیق الیه یوما «اللهم انی طالما کنت أسألک ان تفرغنی لعبادتک، و قد استجبت منی فلک الحمد». و علم هارون الرشید بذلک فکان یقول «أما ان هذا من رهبان بنی هاشم».
اما ذریة الأمام الکاظم فقد اختلف فی عددها الرواة اختلافا کبیرا علی ما یلاحظ فی المراجع جمیعها. غیر ان الملحوظ هو ان عدد البنین و البنات کان شیئا غیر قلیل (37 او أکثر). و من البنین الأمام الرضا (ع) و اسماعیل، و ابراهیم الأکبر، و ابراهیم الأصغر، و صالح، و شرف الدین، و جعفر، و عبد اللّه، و عبید اللّه، و هارون، و حمزة و أحمد، و محمد، و القاسم، و زید و حسین. اما البنات فمنهن آمنة و فاطمة (الملقبة بمعصومة و المدفونة بقم فی ایران) و فاطمة الصغری و أم عبد اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 226
و قسیمة و لبابة و أم جعفر و أم سلمة و أمامة و کلثم و امینة الکبری و رملة و حکیمة و عائشة و اسماء و زینب و علیة .
و قد کان من الطبیعی فی تلک الظروف و الأحوال ان یحصل التصادم ما بین الرشید و الأمام الکاظم لما بین الشخصیتین من اختلاف فی المیول و الاتجاهات، و تناقض فی النزعات و الأهواء. فقد کان الرشید رجلا دنیویا، مغترا بالسلطة الزائفة التی ورثها عن أسلاف اغتصبوها من العلویین، مولعا بالغناء و القیان و شرب الخمر علی غیر ما یقتضیه مرکزه و منزلته، معتادا علی مظاهر الأبهة و البذخ، و مجبولا علی الأسراف و التبذیر. و کان الأمام الکاظم علی النقیض من ذلک، فقد نشأ فی البیت النبوی الطاهر المجبول علی الخیر و المکرمات، و رضع لبان العلم و التقوی فانصرف الی الزهد و التعبد و إشاعة الفضیلة بین الناس. و کان الرشید یؤثر الحیاة الدنیا علی الآخرة، و یحرص علی الملک و السطوة، فیرتاب من منافسیه و أنداده، بینما کان الأمام قواما صواما یعمل للآخرة و یعاف الحیاة الدنیا، صلبا فی مبادئه، مستهینا بالسطوة و الملک، لا یخشی فی الحق لومة لائم، و لا یداجی فی دینه. و لذلک فلیس من المستغرب ان یعیش الرشید أیامه و لیالیه و هو یضمر الحقد للعلویین الذین تتمثل فیهم المعارضة بطبیعتها، و یحمل لزعیمهم و أمام المسلمین غیر المنازع کل کره و ضغینة. و لیس من غیر الطبیعی ان یعمد الی مراقبة الأمام فی حرکاته و سکناته، و یتسقط عنه الأخبار أو یسمع الوشایات.
و قد کانت حصیلة ذلک کله، بطبیعة الحال، ان الرشید أخذ یصب علی العلویین و ابلا من العذاب الألیم، و یسوقهم الی القبور و السجون،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 227
ثم یطاردهم حتی یهربوا هائمین علی وجوههم خائفین و جلین. «.. و زاد هارون علی اسلافه فی إرهاق العلویین فدفنهم و هم أحیاء، و أشاع فی بیوتهم الثکل و الحزن و الحداد، و استعمل جمیع امکانیاته للبطش بهم، ففرض علیهم الاقامة الإجباریة فی بغداد، و جعلهم تحت المراقبة، و لم یسمح للاتصال بهم، و حرمهم من جمیع حقوقهم الطبیعیة. و کان أبغض شی‌ء علیه ان یری عمید العلویین و سیدهم الإمام موسی (ع) فی دعة و اطمئنان و أمان فلم یرقه ذلک من دون ان ینکل به، فدفعه لؤمه و عداؤه الموروث الی سجن الأمام (ع) و حرمان الأمة الأسلامیة من الاستفادة بعلومه و نصائحه و توجیهاته.»
و قد کانت للامام الکاظم علیه السلام مواقف عدة مع الرشید تفضح هذا الحقد، و تدل علی مقدار الاختلاف بین الشخصیتین، و ما أدی الیه من عزم الرشید علی إیداعه السجن و التخلص منه بطریقة یندی منها جبین الانسانیة خجلا. و من هذه المواقف موقف اشار الیه دونالدسون عن التقاء الأمام و الرشید حول ضریح الرسول الأعظم، و هو ما یذکره جمیع المؤرخین و قد ورد ذکره فی هذا الجزء من سیرة الامام الکاظم.

[شهادة الإمام موسی الکاظم (ع)]

و حین توفی الامام مسموما بسجن السندی بن شاهک عمد هذا الی القاء جثة الامام فوق جسر الرصافة تحوطها الشرطة و تریها للرائح و الغادی من الناس، بعد ان أوعز للمنادین بأن یجوبوا الأزقة و الشوارع و ینادوا فیها بأعلی صوتهم «هذا موسی بن جعفر الذی تزعم الرافضة أنه لا یموت فانظروا الیه میتا». و قد بقی الجدث علی مثل هذه الحالة أیاما ثلاثة من دون أن یواری التراب.
و فی زحمة هذه «التمثیلیة» المحزنة سمع سلیمان بن أبی جعفر المنصور من قصره المطل علی دجلة لغط الناس و ضوضاءهم، و رأی بغداد قد ماجت و اضطربت، فسأل عن الخبر و أخبر بجلیة الأمر. فثارت نخوته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 228
و تدفقت عاطفته، ثم استولت علیه موجة من الغیظ صاح علی أثرها بولده «انزلوا مع غلمانکم فخذوه من أیدیهم، فأن مانعوکم فاضربوهم و خرّقوا ما علیهم من سواد .»
و قد قام سلیمان بن أبی جعفر نفسه بتجهیز الأمام من عنده، فغسله و کفنه، و لفه بحبرة کتبت علیها آیات القرآن الکریم بأجمعها، و قد کلفت ألفین و خمس مئة دینار. و هرعت بغداد الی تشییع الأمام عن بکرة أبیها، فکان یوم التشییع یوما مشهودا حافلا خرج فیه الصالح و الطالح و البر و الفاجر. و سار الموکب الحزین یجوب الشوارع وراء النعش یتقدمه الرشید نفسه و هو واجم حزین، یترحم علی الأمام و یظهر البراءة من دمه، و من خلفه البرامکة و کبار الموظفین و المسؤولین من رجال الحکم و معهم سلیمان ابن أبی جعفر حافی القدمین. و کان من خیر ما قیل من الشعر فی هذا الخطب الجلل الأبیات الآتیة:
قد قلت للرجل المولی غسله‌هلا أطعت و کنت من نصحائه
جنّبه ماءک ثم غسلّه بماأذرت عیون المجد عند بکائه
و أزل أفاویه الحنوط و نحّهاعنه و حنطّه بطیب ثنائه
و مر الملائکة الکرام بحمله‌کرما ألست تراهم بأزائه
لا توه أعناق الرجال بحمله‌یکفی الذی حملوه من نعمائه
و کانت الجماهیر و هی تسیر الی محلة باب التبن حیث تقع مقابر قریش، تتسابق الی حمل النعش و تتبرک به، حتی أوصلته الی حیث حفر له القبر.
و قد أنزله فی مقره الأخیر سلیمان ابن أبی جعفر المنصور أیضا و هو مذهول اللب، و بعد الانتهاء من مراسیم الدفن أقبلت علیه الناس تعزیه و تواسیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 229
و وقف یشکرهم و یتقبل العزاء . و هکذا انتقل الأمام موسی الکاظم الی دار الخلود، و أصبح قاتلوه سبة للأجیال.

الأمام الکاظم فی کتاب هو لیستر

و یفرد الدکتور جون هو لیستر فی کتابه (شیعة الهند) المشار الیه من قبل فصلا صغیرا عن الأمام الکاظم. و هو یستند فی کثیر مما أورده علی کتاب دونالدسون، و لذلک نجد معظم ما فیه مطابقا لما أورده دونالدسون.
علی أنه یذکر أشیاء أخری لا بد من الأشارة الیها هنا. فهو یبدأ الفصل بقوله ان وفاة الأمام الصادق أتاحت الفرصة لحصول أعظم انقسام فی العالم الشیعی. ثم یستمر فی شرح تکون الأسماعیلیة و عقائدهم. لکنه یقول بالاستناد الی ما وجده فی کتاب الأمیر مأمور، أحد امراء الهند المسلمین، فی کتابه (مناقشات حول أصل الخلفاء الفاطمیین) ، ان هذا الانقسام الذی حصل قد ساد علی منوال قومی تقریبا. فقد قبل الأیرانیون بالأجماع بأمامة موسی الکاظم (ع)، بینما التزم الشیعة فی البلاد العربیة و البلاد الواقعة فی غربها بتابعیة اسماعیل. و کانت الأسرة الصفویة المالکة التی نشأت فی ایران خلال القرن السادس عشر تنتسب فی أصلها الیه. و یذکر خلال بحثه عن ثورات العلویین فی تلک الأیام أن أحدهم استطاع الفرار الی مصر فالمغرب بمساعدة من صاحب البرید حتی وصل الی طنجة فوضع فیها الأسس لنشوء أسرة الأدارسة. و یشیر هو لیستر کذلک الی حصول انقسام فی صفوف الشیعة بعد وفاة الکاظم أیضا، فادعی بعضهم ان سلسلة الأمامة قد انقطعت بوفاته و صاروا یطلقون علی أنفسهم اسم «الموسویة». موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 230
بینما ادعی البعض الآخر بان الأمام علیه السلام قد اختفی، و انه لا بد من ظهوره فی آخر الزمان.

الأمام الجواد

اشارة

أن خیر المراجع الانکلیزیة التی تبحث فی حیاة الأمام محمد الجواد، ضجیع جده الکاظم فی مقابر قریش، هو أیضا کتاب دونالدسون الذی یخصص فصلا خاصا (الفصل السابع عشر ص 188- 197) عنه.
و هو یبدأ الفصل المسهب بالبحث فی وضع المأمون و دخوله المظفر الی بغداد، و بالأشارة الی قول الشیعة بأنه هو الذی سم الإمام الرضا بعد ان قربه الیه و عینه ولیا للعهد، و الی کونه هو الذی أمر بقتل وزیره الفضل ابن سهل، ثم یخلص من ذلک الی القول بأنه مع ذلک کله قد بقی علی تقدیره الأول للشیعة و میله الیهم، حتی بعد ان استبدل اللون الأخضر باللون الأسود العباسی. و قد کان موقفه ذلک شیئا بالغ الأهمیة بالنسبة لحیاة الأمام الجواد علی حد قوله. و یقول دونالدسون ان المأمون فعل ما فعل، و استبدل الأخضر بالأسود، ضد رغبته الشخصیة لأن ذلک کان ضرورة سیاسیة بالنسبة الیه فی تلک المرحلة من مراحل خلافته و حکمه. فلم یستمر علی تعیین الشخصیات الشیعیة المرموقة فی المناصب المهمة فقط، و انما ظل یشمل أسرة الأمام المتوفی بفضله و عطفه علنا. فقد انتخب أخا من أخوان الرضا علیه السلام و عینه أمیرا للحج، و لم تمض علی ذلک غیر فترة قصیرة حتی زوج ابنته أم الفضل الی الأمام الجواد. و یقول دونالدسون- مستندا علی الیعقوبی- أنه أنعم علی الزوج النبیل بمئة ألف درهم فی هذه المناسبة، و صرح بأنه یرید ان یتشرف بأن یکون جدا فی نسب یمت الی رسول اللّه و الأمام علی بن ابی طالب بصلة.
و قد کان الأمام الجواد- المسمی بالتقی أیضا- فی التاسعة (او السابعة علی قول البعض) من عمره حینما توفی والده الأمام الرضا. و کان یعیش
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 231
فی المدینة یومذاک، فکان الکثیرون من الشیعة یلاحظون صغر سنه و یشکون فی کونه أصبح اماما بعد والده. علی ان عددا من المتعلمین و الرجال المرموقین کانوا یأتون سنویا الی الحج من جمیع الجهات فیتأثرون تأثرا بالغا بشخصیته و مواهبه و تتبدد شکوکهم فی صحة أمامته. و یقول دونالدسون ان الکلینی یذکر ان المتولی امتحن الإمام الفتی امتحانا استطال عدة أیام، و قد أجاب فیه علی ثلاثین ألف سؤال إجابة کانت موضع اعجاب الجمیع .
و لم یکن الجواد علیه السلام ابن الرضا من زوجته ام حیب بنت المأمون، و انما کانت أمه جاریة اختلف الرواة فی اسمها و أصلها. فیقول الکلینی انها کانت تسمی حبیبة، و انها من أصل نوبی، لکن المرجع نفسه یذکر ایضا آخرین کانوا یقولون انها کانت تدعی خیزران، و انها کانت بنتا رومیة الأصل. و هناک روایة ثالثة تذکرها بعض المراجع، مؤداها انها کانت من بیت مریم القبطیة زوجة الرسول (ص) و أم ابنه ابراهیم .
و یقول دونالدسون کذلک ان القصة التی یرویها الشیعة عن أول لقاء جری بین المأمون و الجواد علیه السلام، هی قصة طریفة للغایة. فالظاهر ان الأمام الجواد کان قد قدم الی بغداد بعد وفاة والده بمدة قصیرة، و بینما کان المأمون خارجا للصید مع حاشیته و بزاته مر بقریة کان عدد من الأولاد یلعبون فی طریقها، و کان من بینهم الجواد و هو فی الحادیة عشرة من عمره تقریبا. و حینما دنا موکب المأمون منهم عجل الأولاد بالفرار و اختفوا عن الأنظار، عدا الجواد الذی ظل واقفا لا یریم. فلفت ذلک نظر المأمون و وقف یتمعن فیه، ثم سأله «ما الذی أخرک عن الفرار یا ولدی؟»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 232
فأجاب الفتی السید یقول «لم یکن الطریق ضیقا یا أمیر المؤمنین بحیث أخشی ان یتعذر علیک المرور، و لم اقترف ذنبا یخیفنی، ثم فکرت بانک لا تنزل الأذی بمن لم یرتکب أی خطأ.» فسر الخلیفة جد السرور،
و بعد ذلک الحادث بزمن غیر طویل جمع المأمون مجمعا حافلا دعی الیه حشدا من العلماء و الفقهاء و وجوه البلد و أعیانه، و اخذ یناقش الأمام الجواد بحضورهم و طلب توجیه الاسئلة الیه، فکان ما أبداه من علم و سداد رأی خلال الاجتماع الذی امتد الی أیام عدة موضع دهشة للجمیع.
و هناک أعلن المأمون رسمیا انه سیزوج الامام بابنته و یهبه مهرا کبیرا.
و المقول ان الأمام نکس رأسه حیاء و خجلا، فمات العباسیون الحساد بغیظهم.
و علی هذه الشاکلة کان المأمون یبدی اهتمامه الدائم، و رعایته البالغة للشیعة، و قد جعل ابن الأمام الرضا الراحل فی عهدته و حمایته الخاصة.
و کان الفتی النبیل یأتی بین حین و حین الی القصر الملکی للدراسة و التحدث الی العلماء الذین کان یصادفهم فیه. و یأسف دونالدسون لتأکید الرواة علی المعجزات فی حیاة الجواد (ع) و أهمالهم ذکر الحوادث التی کانت تدل علی عقله الراجح و علمه الغزیر. فمن المؤسف مثلا، علی ما یقول دونالدسون ان یقرأ المرء شهادة یحی بن أکثم بأمامة الجواد بعد مناقشته و مساجلته فیجد جل ما یذکر عنها ان ابن أکثم حینما سأل الأمام، بعد الاعتذار عن استقامته و صراحته، «من هو الأمام؟» فیکون الجواب «انا» و حینما سأله یقول «ما هو الدلیل؟» أجابت العصا قائلة «ان سیدی هذا هو أمام العصر و حجة اللّه فی أرضه».
و بعد مرور سنة علی زواج الأمام سمح له الخلیفة، و لزوجته الشابة، بالذهاب الی المدینة المنورة و الأقامة فیها. و قد کان هذا التدبیر موضع قبول العباسیین بأجمعهم، لأنهم کانوا یکرهون ما کان یتمتع به الأمام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 233
من أرجحیة و رعایة فی بغداد. فعاش فی المدینة عیشة بسیطة، کما کان یعیش الأئمة الأطهار من قبله، لمدة ثلاث سنوات و هو یقابل من کان یفد علیه و یعطف علی الفقراء بسخاء، و یمتنع عن التدخل فی الشؤون العامة.
و قد کانت حیاته الزوجیة مع ابنة الخلیفة زینب، التی صارت تعرف فیما بعد بأم الفضل، حیاة غیر سعیدة علی ما یذکر الرواة لأنها «لم تکن تبعث علی العشرة الطیبة و الحب المتبادل الذی یجب ان یتوافر بین الزوج و زوجته فی العادة. فقد کانت زوجته تحاول إثارة والدها علیه و تکتب له رسائل مشحونة بالذم و الحط من قدر زوجها، زاعمة انه کان یقضی الوقت کله مع إمائه و جواریه- فانبها لاتهامها بهذه التهم. » و المعروف ان الجواد کان قد عاد من المدینة الی بغداد مع زوجته لیحضرا عرس الخلیفة الذی اشتهر ببذخه و روعته، حینما زفت الیه ابنة الحسن بن سهل التی کانت فی الثامنة عشرة من عمرها. فکان هذا العرس فرصة مناسبة للأمام یشاهد فیها مثل هذا الحفل الباذخ علی ما یقول دونالدسون، لان الزوج السامی کانت تنثر علیه حبات اللؤلؤ بغزارة بدلا من حبات الر؟؟؟
التی تنثر فی حفلات الزواج الاعتیادی. و کانت حبات اللؤلؤ هذه تلتقط لتقدم الی الزوجة التی کانت تتشح هی الأخری برداء من اللؤلؤ المتلألی‌ء خلعته علیها السیدة زبیدة أرملة الرشید. و قد أضیئت غرفة العرس بشموع من العنبر الغالی، و لأجل ان یعبر والد الزوجة، و هو أغنی رجل بین المتنفذین فی بغداد یومذاک، عن تقدیره للالتفات السامی الذی حظی به وزع مبالغ خیالیة طائلة الی جمیع الناس من حوله. و صارت کرات المسک تنثر ما بین المحتفلین المحتشدین فیتسابقون الی الفوز بها. و کان مکتوبا فی کل منها اسم مقاطعة من المقاطعات أو جاریة أو فرس أصیلة أو أیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 234
جائزة ثمینة أخری یحظی بها من یفوز بالکرة. و قد نقل دونالدسون هذا الخبر عن کتاب (الخلافة، تقدمها و انحطاطها و سقوطها) للمستشرق البریطانی السر مویر .

[مشکلات بین الامام الجواد (ع) و ام الفضل

و من المشکلات التی حدثت بعد ذلک بین الأمام الجواد و أم الفضل مشکلة ورطت الأسرة المالکة توریطا غیر یسیر. ففی روایة تنسب الی السیدة حکیمة أخت الإمام الرضا ان أم الفضل جاءتها ذات یوم فقالت لها ان امرأة بارعة الحسن و الجمال دخلت علیها فی یوم من الأیام و أخبرتها بأنها کانت من زوجات الأمام أیضا. فغضبت أم الفضل لذلک و حزنت أشد الحزن حتی قامت فی لیلتها تلک و ذهبت شاکیة لأبیها المأمون، و اخبرته بأن زوجها لم یلحق بعمله ذاک الأهانة بها هی وحدها فقط و انما أساء به أیضا الی أبیها و الی الأسرة العباسیة المالکة ایضا. و صادف فی تلک اللیلة ان المأمون کان مخمورا بحیث أخذ حسامه و امتطی جواده ثم ذهب مع مرافقیه فی الحال الی دار الإمام علیه السلام. و هناک وجده مستغرقا فی نومه، فما کان من المأمون الا ان استل حسامه و ضرب به الأمام عدة ضربات حتی أیقن المرافقون انه قطع الامام الی عدة قطع. لکن المأمون حینما أحس علی نفسه فی صباح الیوم التالی ندم علی فعلته المتسرعة، و بعث یستفسر عن صحة الأمام، فرجع الیه الرسول یقول انه رأی الأمام بنفسه یؤدی صلاة الصبح کالمعتاد. علی انه بعث یحقق عن التفصیلات ثانیة فعلم ان الأمام ذکر لأهله و المحیطین به ان الرداء الخاص الذی کان یلبسه هو الذی انقذه و حماه. و لأجل ان یعبر الخلیفة عن خجله و أسفه لما وقع أهدی الجواد الذی امتطاه فی تلک اللیلة الی الأمام مع الحسام الذی انتضاه. ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 235
قالت أم الفضل ان المأمون التفت الیها بالأضافة الی ذلک و أنبها تأنیبا شدیدا، فأخبرها بأنها ذا ما عادت تشکو زوجها الیه مرة أخری فأنه سوف یرفض مواجهتها طول عمرها .
و یقول دونالدسون ان السنوات الثمان التی قضاها الجواد فی بغداد کان ینشغل فیها بالوعظ و التدریس. و قد رویت عنه أقوال و أحادیث مأثورة کثیرة خلال هذه المدة، التی وقع المأمون خلالها تحت تأثیر المعتزلة و لا سیما رئیسهم القاضی أحمد بن أبی دؤاد. و اضطر بموجب هذا الی ان یعلن مبدأ «خلق القرآن» علی رؤس الأشهاد، و کان ذلک فی سنة 212 (827 م). و لقد روی فی هذا الشأن أن المأمون کان قد اطلع علی کتاب أرسل الیه من کابل بعنوان «العقل الخالد»، و کان مجمل ما فیه منافیا لأصول الدین لأنه ینص علی ان العقل هو المصدر الوحید للأدیان.
و مع جمیع ما أصاب أهل السنة من محن خلال هذه الفترة التی کان المعتزلة الأحرار فیها أشداء فی معاملتهم، علی ما یقول دونالدسون، فأن العلویین کانوا یعاملون خلالها بمنتهی الاعتبار و التقدیر، و لم یمس الأمام الجواد بشی‌ء من قبیل الأزعاج أو التوقیف فی أیام المأمون. و قد یعزی ذلک الی «التقیة» التی کان یلجأ الیها الشیعة فی الشدائد.
غیر ان المأمون اضطر الی مغادرة بغداد فی سنة 215 (835 م) علی رأس حملته الکبری التی قادها ضد الامبراطور ثیوفیلس البیزنطی. و یذکر دونالدسون ان السبب المباشر لهذه الحملة یکتنفه الغموض. علی ان المعروف فی هذا الشأن ان الامبراطور البیزنطی کان یمد ید المساعدة حینذاک الی الثائر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 236
بابک الحزمی، و أنه شجع هجرة الأیرانیین النصاری بالآلاف من ممتلکات الخلیفة العباسی . و یری البعض ان سبب الحملة یعزی الی ان الامبراطور رفض السماح للفیلسوف لیو السالونیکی بقبول دعوة المأمون لزیارة بغداد.
و علی کل فقد دامت الحرب سنتین کاملتین، و توفی المأمون . فجأة فی بلدة تقع بالقرب من طرسوس فی کیلیکیة. و هناک فی طرسوس أشعلت الشموع و أحرق البخور تقلیدا لما کان یفعله المسیحیون فی تلک الأیام، حینما صلی المصلون علی جنازة المأمون قبل الدفن، و کان ذلک بوصیة منه علی قول دونالدسون.
و بعد ان توفی المأمون عاد الجواد مع أسرته الی المدینة، و لم یمکث فیها الا سنة و بضعة أشهر حتی استدعاه المعتصم، الخلیفة الجدید، و طلب الیه العودة مع أسرته الی بغداد. و کان ذلک فی بدایة السنة التی توفی فیها الأمام، أی سنة 220 (835 م). و مع أنه لیس هناک ما یدل علی ان العلاقة الحسنة بین الأمام و المعتصم کانت مفقودة، فان الکتب التی یتداولها الشیعة فی یومنا هذا تدل علی ان الأمام علیه السلام قد سمته زوجته أم الفضل بتحریض من المعتصم نفسه. غیر ان الأتفاق فی تفصیلات هذه الأخبار معدوم، فیقول البعض ان زوجته سلمته مندیلا مسموما فی أثناء وجوده بالفراش، بینما یقول البعض الآخر أنها اطعمته عنبا مسموما. و یقول غیر هؤلاء ان المعتصم نفسه بعث الی الأمام شربة مسمومة لیسقیه أیاها خادم من خدامه، بینما یقول آخرون ان الخلیفة دعاه الی بیته فمزج له السم بالطعام.
و قد دفنت جثته فی مقابر قریش الی جنب ضریح جده الکاظم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 237
و صلی علیه الواثق بن الخلیفة المعتصم.
اما الدکتور هولیستر فیورد فی کتابه (شیعة الهند) عن الأمام الجواد معظم ما یذکره دونالدسون و یستند علیه، لکنه یذکر بالأضافة الی ذلک أشیاء کثیرة أخری. فیشیر مثلا الی ما یذکره السید أمیر علی فی کتابه (روح الاسلام) من أن بعض الروایات تقول أیضا ان أم الجواد علیه السلام کان أسمها سبیکة أو ریحانة.
و یقول کذلک ان الأمام الرضا (ع) حینما ترک المدینة و توجه الی مرو أخذ معه ابنه الصغیر محمدا، و طاف محمد فی مکة حول الکعبة علی کتفی خادمه، و کان ذلک فی سنة 200 للهجرة. و یبدو ان الرضا علیه السلام تابع سفره الی مرو بینما عاد ابنه الی المدینة لان الرضا حینما توفی فی خراسان کان الجواد موجودا فی المدینة و هو فی الرابعة من عمره. و کان الواقفیة یزعجون الرضا علیه السلام و یلحون علیه بالتصریح عمن سیخلفه فی الأمامة لأنه لم یکن له ولد، و لکنه حینما ولد له محمد صار یجیبهم بأنه الأمام من بعده. و حینما کانوا یعترضون علی کونه حدثا صغیر السن کان یشیر الی الآیة الکریمة التی نزلت عن عیسی بن مریم:» قال أنی عبد اللّه، آتانی الکتاب، و جعلنی نبیا» و لذلک لم یکن صغر سن الجواد لیحول دون تولیه الأمامة. و مع کل هذا لم یقتنع الواقفیة بهذا الجواب، و صاروا یعتقدون بأن الأمامة تنتهی بالأمام علی بن موسی الرضا نفسه. اما سیرة الجواد فلا یختلف ما یورده هولیستر عما یورده دونالدسون، سوی أنه یزید علیه بقوله أنه توفی مسموما فی بغداد و هو فی الخامسة و العشرین من عمره الشریف.

الشاه اسماعیل و سلیمان القانونی فی الکاظمیة

کان من أمنیات الشاه اسماعیل، مؤسس الأسرة الصفویة المالکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 238
فی أیران، حینما سیطر علی بلاده و تغلب علی العثمانیین فی عدد من الوقائع الحربیة ان یفتح بغداد، و یستولی علی العتبات الشیعیة المحیطة بها فیلحقها بأیران. و یقول المستر ستیفن لونکریک فی (أربعة قرون من تاریخ العراق الحدیث) الذی کثرت الأشارة الیه فی هذه الموسوعة من قبل ان الشاه الذی کان یعجل بنصر بعد آخر بعث بقائده (لالا حسین) لفتح بغداد فکان له ما أراد بسهولة، و خضعت له فی 1508 .. و قد أفضی دخول العراق فی حوزة العرش الشیعی الجدید الی مجی‌ء الشاه مسرعا لزیارة العتبات المقدسة، فوصل الی بغداد و هدم ما کان فیها من قبور أئمة السنة .. ثم زار العتبات المقدسة فی الفرات و أصلح نهرا من الأنهر فسماه بأسمه «نهر الشاه» و شید قبة فخمة علی قبر الأمام موسی الکاظم .
و الملاحظ فی المراجع العربیة ان الکاظمیة عادت فأصبح لها شأن یذکر فی هذا العهد، و أجریت تنظیمات غیر یسیرة فیها. إذ یشیر الشیخ محمد حسن آل یاسین، فی مقال له (مجلة الاقلام، عدد ت 2- 1964) ان الکاظمیة دخلت فی أوائل القرن العاشر الهجری عهدا جدیدا من الشأن و الاستقلال الأداری الداخلی، و اصبحت مدینة لها کیانها و دورها فی الشؤون العامة. و بدأت المقدمات التمهیدیة لهذا العهد الجدید فی سنة 914 ه، و هی سنة احتلال الشاه اسماعیل الصفوی بغداد و سیطرته علی العراق. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌9 ؛ ص238
د زار الکاظمیة و أمر بتشکیل إدارة خاصة فی البلدة و محکمة شرعیة یرأسها قاض یحمل لقب «شیخ الأسلام» إضافة الی أمره بتشیید المشهد الکاظمی تشییدا رائعا فخما و تعیین الرواتب لخدام المشهد و المسؤولین عنه.
و یقول الشیخ آل یاسین فی بحث آخر له عن المشهد الکاظمی (مجلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 239
سومر ج 1 و 2 سنة 1963) ان عهد الترکمان قد انتهی فی یوم 25 جمادی الثانیة 914 ه بدخول الشاه اسماعیل الصفوی الی بغداد. و بعد مرور فترة من الزمن علی بقائه فی العراق مضی الی زیارة المشهد الکاظمی، فأنعم علی من کان هناک بأنواع الأنعام، و عین الرواتب لخدم المشهد، و أصدر أمره بقلع عمارة المشهد من أساسها و تجدیدها تجدیدا یشمل توسیع الروضة، و تبلیط الأروقة بالرخام، و صنع صندوقین خشبیین یوضعان علی القبر الشریفین، و تزیین الحرم و أطرافه الخارجیة بالطابوق الکاشانی ذی الآیات القرآنیة و الکتابات التاریخیة، کما أمر بأن تکون المآذن أربعا بعد ان کانت اثنتین و بتشیید مسجد کبیر فی الجهة الشمالیة للحرم متصل به. و أحال أمر تنفیذ ذلک الی أمیر الدیوان خادم بیک، و عاد الی أیران.
و یقول کذلک، و أمر بتقدیم ما یحتاجه المشهد من فرش و قنادیل- و کان منها الفضی و الذهبی، و عین للمشهد عددا من الحفاظ و المؤذنین و الخدم .. و بدأ العمل علی قدم و ساق، فتم تشیید هیکل الحرم و روضته و أروقته- و هو الهیکل القائم الیوم- و القبتین و الصندوقین و المسجد، و بلغت المآذن الکبیرة الأربع ارتفاعا یعلو عن سطح الحرم بمقدار ذراع، کما تم صنع الکاشانی و وضعه فی محله المقدر، کذلک وضع الرخام فی موضعه، و لم یبق شی‌ء مما أمر به الا و قد نفذ منه- ما وسعه الوقت- بأمانة و أخلاص.
الجامع الصفوی فی الکاظمین کما هومئذ العهد الصفوی.
و لکن العهد الصفوی لم یدم طویلا، بل سرعان ما أزاله السلطان سلیمان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 240
القانونی الذی دخل بغداد فاتحا فی یوم الاثنین الرابع و العشرین من جمادی الأولی سنة 941 ه، و لکنه لما زار الکاظمیة بعد برهة من الزمن أمر بأبقاء أوضاعها علی ما کانت علیه و بأکمال بعض ما لم یتم من عمارة المشهد، و أقر رواتب خدام المشهد و سدنته . و یؤید المستر لونکریک عنایة السلطان سلیمان بالعتبات السنیة و الشیعیة معا، و یشیر بشی‌ء من الأطناب الی ما فعله فی کربلاء علی الأخص مما سبق أن أشرنا الیه من قبل فی الجزء الأول من قسم کربلاء فی هذه الموسوعة (الص 265).
و فی المراجع العربیة الأخری ان السلطان سلیمان القانونی دخل بغداد فی یوم الاثنین 24 جمادی الأولی سنة 941 ه، و فی 28 منه تجول فی أطراف بغداد و زار المشهد الکاظمی. و حینما زار ضریح الأمامین الکاظمین أمر بدفع رواتب الخدم من خزانة بغداد، و أصدر فرمانا باتمام النواقص الطفیفة التی لم تنجز فی أیام الصفویین. و فی سنة 978 ه تم بناء المنارة الواقعة فی شمال شرقی الحرم المطهر، بعد ان کانت أسس المنائر الأربع الکبری قد بوشر ببنائها فی عهد الصفویین و ارتفع بناؤها الی ما فوق سطح الحرم بقلیل. و قد أکمل البناء بأمر من السلطان سلیم الثانی و کان الانتهاء منه فی عهد مراد باشا والی بغداد .. و قد أمرت والدة السلطان سلیم ببناء برکة للمشهد الکاظمی فی هذه السنة أیضا.
اما المستر کوک فیذکر فی (بغداد مدینة السلام) علاوة علی ذلک أن الشاه اسماعیل بدأ بتشیید منزل کبیر للزوار الأیرانیین فی الکاظمیة، و بعد ان زار العتبات فی النجف و کربلا عاد الی أیران و خلف وراءه أبراهیم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 241
خان الذی کان أول حاکم أیرانی یعین فی بغداد. و یشیر کوک أیضا الی ان السلطان سلیمان القانونی حینما أخذ بغداد من الأیرانیین أجری أصلاحات کثیرة، و عمر العتبات المقدسة، ثم زار المشهد الکاظمی، و جامع أبی حنیفة و مرقد معروف الکرخی.

السلطان مراد فی الکاظمیة

و یأتی ذکر الکاظمیة بعد ذلک بصورة غیر مباشرة حینما یصف مؤرخ العراق الحدیث المستر لونکریک فی (اربعة قرون ..) ما جری فی بغداد عندما توفق السلطان مراد الرابع فی فتح بغداد و استرجاعها من الصفویین فی أواخر سنة 1638. فیقول «.. علی ان حادثة مفجعة حدثت فجددت المشاهد الدمویة، فی المعسکر و فی المدینة. فقد احترق مخزن البارود فی بغداد و انفجر فجأة، فسبب أضرارا و ضیاع نفوس کثیرة .. فأمر مراد بذبح جمیع الأیرانیین اینما وجدوا و کان الکثیر منهم قد التجأ الی المعسکر العثمانی. فقتل الجمیع، و کان بین المقتولین ثلاث مئة زائر کانوا قد عبروا فی تلک الأیام لزیارة الکاظمین . علی ان المراجع العربیة تذکر بالنسبة للسلطان مراد نفسه انه زار المراقد و المشاهد المقدسة قبل ان یعود الی استانبول بعد انتهاء حملته علی بغداد، فزار المشهد الکاظمی یوم 12 رمضان 1048 ه. لکن جنوده حینما قاموا بالمذبحة التی أمر بها هاجموا الکاظمیة و نهبوا أشیاء کثیرة منها. و کان من جملة ما نهبوا قنادیل کثیرة من الذهب و الفضة و جمیع ما کان فی الروضة مما خف حمله و غلا ثمنه.

فی النصف الثانی من القرن السابع عشر

و فی عهد محمد باشا الخاصکی ببغداد (1656) ثارت الجیوش المحلیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 242
علیه لبلاهته و سوء تصرفه، علی ما یقول لونکریک ، فاضطر الی الهرب من بغداد و اللجوء الی الکاظمیة التی مکث فیها حتی هدأت الفتنة و عاد الی مقره منها.
و قد زار بغداد فی عهد الوالی قره مصطفی باشا (1664) الرحالة الفرنسی المعروف (المسیو ثیفنو و مکث أسبوعا واحدا فیها. فذکر فی رحلته ان نساء بغداد کان من عاداتهن المفضلة ان یقصدن زیارة الأمام موسی الکاظم فی أیام الجمع، الذی یقع ضریحه علی مسیرة ساعة فی البر.
ثم یقول و یبدو ان المنطقة المجاورة للکاظمیة کان یکثر فیها وجود السباع التی تروی قصص کثیرة عن مهاجمتها للقوافل و التجائها للبساتین.

فی عهد نادر شاه

و حینما تسنی لنادر شاه ان یغتصب الحکم من الأسرة الصفویة المالکة فی ایران اصطدم مرات عدیدة بالدولة العثمانیة، فحاصر فی بعضها بغداد ثلاث مرات متتالیات غیر انه لم یستطع الاستیلاء علیها. و فی کل مرة کان یتفاوض فیها لأنهاء النزاع المحتدم بین الطرفین کان یرد ذکر الکاظمیة فی المفاوضات لأن نادر شاه کان یطالب بالعتبات الشیعیة المقدسة. و قد وجه الی أحمد باشا والی بغداد فی خریف 1732 الرسالة التالیة فی إحدی المرات:
«لیکن معلوما لدیکم، یا باشا بغداد، اننا نطالب بحق لا نزاع فیه فی زیارة قبور الأئمة علی و الحسین و المهدی و موسی الکاظم .. و نحن سائرون موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 243
حالا علی رأس جیشنا المظفر لنتنسم هواء سهول بغداد العلیل، و نستریح فی ظل أسوارها .»

الرحالة نیپور فی الکاظمیة

و لقد زار بغداد فی سنة 1765 الرحالة الألمانی المشهور کارستن نیپور، فی رحلة علمیة الی بلاد العرب جهزها ملک الدانیمارک، و أقام فی البصرة و بغداد و غیرهما مدة من الزمن فکتب فی رحلته الکبیرة شیئا غیر یسیر عن العراق و تاریخه. و قد ذکر فی خلال کتابته هذه شیئا عن الکاظمیة وجدنا من المناسب أدراجه هنا نقلا عن ترجمة الدکتور مصطفی جواد لها فی مجلة سومر (ج 1 و 2 سنة 1964). فقد قال: ... و فی شمال بغداد الغربی، علی ثلاثة أرباع الساعة سیرا، غربی دجلة قریة کبیرة تسمی (الکاظم). و هناک مسجد کبیر مع تربتین لأمامین من أئمة الشیعة هما الأمام موسی الکاظم (أی الصبور) و حفیده محمد الجواد. و هذا المسجد الأسلامی مدعاة للفخر فان قبتیه الشاهقتین و المنارة کانت قد زینت ظواهرها علی الطراز الأسلامی بحجارة مطلیة و هی الیوم فی تکسر مستمر، و موضع هذا المسجد لیس بمنفسح الأطراف کما هو حال مشهد علی و مشهد الحسین فأن المنازل و الدور قائمة علی حفافیه و حیاله. و قد قتل موسی بن جعفر سنة 185 (الصحیح 183) ه بأمر من الخلیفة القائم (کذا) یومئذ لأنه تدخل فی أمور تستوجب التهمة، و هی ان جماعة کبیرة من شیعة العلویین اجتمعوا فی دار، فلذلک تراه الشیعة «شهید الشهداء» و یزورونه زیارات مختلفة للتعبد لدیه. و سکان قریة الکاظم هم من الشیعة علی التقریب، و اذا لم یکن لأصحاب هذا المذهب و أتباعه حریة فی الأعلان بمذهبهم و واجباته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 244
ببغداد نفسها یزور هذا المسجد کل یوم ناس کثیر منهم من أهل بغداد و ان أکثر الشیعة الذین لا یستطیعون نقل موتاهم الی مشهد علی لعجزهم عن الأنفاق أو غیر ذلک یدفنونهم فی مقبرة موسی الکاظم، و فی هذا ما یکسب المشهد أموالا وفیرة.
ان بغداد التی أنشأها الخلیفة المنصور کانت فی غربی دجلة، و لا شک فی أنها کانت فی الموضع المذکور آنفا، أعنی القسم الشمالی من الربض الحالی، بالقرب من تربة موسی الکاظم. و فی شرق النهر کانت قد بنیت قلعة و أنشی‌ء ربض الا انه لم یبق منها الا قریة (المعظم) التی بأزاء قریة (الکاظم) علی التقریب مع انحراف قلیل علی مسافة کیلو مترین من بغداد الحالیة.

أواخر القرن الثامن عشر

و فی 1786 ثار الحاج سلیمان باشا الشاوی، شیخ مشایخ العبید المقیم ببغداد، علی الوالی سلیمان باشا الکبیر فأقلق الباشویة مدة من الزمن و تغلب علی الجیوش الحکومیة بعشائره فحاصر بغداد و نزل بالقرب من الکاظمیة أیاما عدیدة، و صار یهدد بغداد منها. و فی هذه المناسبة یذکر المستر لونکریک فی (أربعة قرون ..) قوله: .. ثم ضغط (العبید) و من یتبعهم بالتضییق علی بغداد بعد ان سکروا بخمرة الظفر، حتی استدعی ذلک تنظیم أمور الدفاع و التحصن .. و بقیت الفوضویة مستفحلة- و الأمن مفقودا لحد لم تتمکن الحکومة فیه من المحافظة علی الکاظمیة و الکرخ الابشق الأنفس .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 245

النصف الأول من القرن التاسع عشر

و تذکر الکاظمیة فی هذا الدور فی رحلة الرحالة الانکلیزی کیرپورتر، و هو عالم آثاری و رسام بارع، الذی مر ببغداد فی طریقه الی أیران سنة 1818 (فی عهد الوالی داود باشا) و نزل ضیفا علی القنصلیة الانکلیزیة فیها .. فقد ذکر نبذة قصیرة عنها فی رحلته المطبوعة سنة 1822، یقول فیها ان المدینة الجدیدة الواقعة علی الساحل الشرقی لدجلة (یقصد جانب الرصافة) توجد فی مقابلها محلة تقع فیها قلعة الطیور (قوشلر قلعة سی)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 246
و فی شمالها مرقد الأمام موسی الکاظم أحد الأئمة الأثنی عشر الذی یعرف بکظمه للغیظ و قد استشهد بالسیف (کذا)، ثم دفن الی جنبه بعد ذلک حفیده الأمام التاسع محمد التقی.
و یقول کذلک ان الکاظمیة سکنها عدد کبیر من الشیعة، بعد ان نهب الوهابیون العتبات المقدسة فی الفرات الأوسط سنة 1801، و اصبحت مدینة مقدسة کبیرة ترتفع فی وسطها قباب جوامعها المذهبة و تلمع ما بین بساتین النخیل المحیطة بها، و یقصدها الزوار بأعداد کبیرة.
و حینما شق والی بغداد داود باشا عصا الطاعة علی الدولة العثمانیة، و تحداها فی امور و أحوال کثیرة، قررت تنحیته بالقوة، و سیرت جیشا تأدیبیا علیه سنة 1831 بقیادة علی رضا باشا (اللاظ) فأزاحته عن الولایة بعد مقاومة غیر یسیره، فکان آخر الولاة الممالیک فی بغداد. و کان علی رضا باشا قد انتدب من الموصل قبل زحفه علی بغداد متسلما عنه قاسم باشا العمری متصرف الموصل، فوقف هذا مع ثلة من الجیش فی الکاظمیة قبل ان یدخل بغداد. و یقول لونکریک فی (اربعة قرون ..) ان الأخبار وصلت الی عاصمة الولایة المحاصرة تفید بوصول قاسم باشا الی الکاظمیة مع سلیمان غنام العقیلی (الذی رافق علی رضا من استانبول) و الشیخ صفوک. و فیها قرئ الفرمان بعزل داود علی الملأ و رکع الجمیع لأوامر الپادشاه، ثم ارسل عشرون وکیلا الی بغداد. فحدث بنتیجة ذلک أول هیاج قام به رعاع محلة باب الشیخ الذین ساروا الی السرای و أحرقوا بابا من أبوابه.
و علی أثر النکبات المتتالیة المفجعة التی حلت ببغداد سنة 1831، یوم داهمها الطاعون المبید و أغرقها فیضان دجلة المخیف، فی الوقت الذی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 247
کانت تحاصرها جیوش علی رضا باشا التی سیقت لتنحیة داود باشا عن الحکم، زار بغداد قادما من أیران الرحالة الانکلیزی جیمس بیلی فریزر، و کان ذلک فی تشرین الثانی 1834.
و قد تنسی؟؟؟ له أن یزور الکاظمیة فی یوم 17 کانون الأول فیذکر شیئا عنها فی رحلته، و قد آثرنا ایراد ما ذکره عنها هنا برغم ما فیه من بعض الأغلاط التاریخیة التی لا تخفی علی القارئ. فهو یقول: .. و قد رکبنا فی المساء الی الکاظمیة، و هی قریة تقع علی بعد أمیال ثلاثة من شمال بغداد، حیث یوجد ضریح الأمام موسی الکاظم إمام الشیعة الذی قطع رأسه (کذا) هارون الرشید علی ما اعتقد. و کان قد حبس فی جب لا یزال یری الی یومنا هذا، و هرب منه بمعجزة علی ما یقال. و یزعم آخرون ان رأسه قد قطع بأمر من الخلیفة، و مع هذا یمکن ان یشاهد فی بعض الأحیان حتی فی هذه الأیام جالسا فی مکانه القدیم فی الجب. و الظاهر ان هذا المزار واسع جدا، و له قبتان مطلیتان بالذهب و اربع منارات رشیقة. و قد طلیت القبتان من قبل نادر شاه (کذا)، الذی یبدو انه التجأ الی هذا الأسلوب فی تزیین قبور الأئمة و الاولیاء تکفیرا عن شناعاته. و هذا مزار عظیم یقصده الزوار المسلمون بکثرة- أی ان جمیع الذین یزورون کربلا لا بد من ان یأتوا لزیارة هذا المکان أیضا. و هو مثل سائر الأماکن الشبیهة به یزدهر بما ینفقه هؤلاء الزوار فیه، و یمتلی‌ء بالمتشردین و المنبوذین الذین یلوذون بحمایته.
و لم أحاول الدخول فیه لأنی قد رأیت الکفایة من مثل هذه الأشیاء، و أرید ان أتحاشی اللغط الذی یثار حینما یحاول الأجانب زیارته أیضا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 248

فیلکس جونز فی الکاظمیة

و فی ربیع سنة 1850 قام الکوماندر جیمس فیلکس جونز بسیاحات جغرافیة للمسح و الاستقصاء العلمی فی المنطقة الواقعة غربی دجلة فی شمال بغداد، و کتب عنها مذکرة بعنوان (تتبعات فی جوار سور المیدیین، و فی المنطقة الواقعة علی مجری دجلة القدیم، و تثبیت موقع أوییس القدیمة).
فرفعت هذه المذکرة الی الحکومة البریطانیة فی الهند خلال شباط 1851.
و طبعت فی سلسلة المختارات الجدیدة من سجلات حکومة بومبی، المجلد الثالث و الأربعون لسنة 1857.
و فی خلال هذه الأعمال مر جونز بالکاظمیة فکتب یقول عنها: ..
و بعد ان خرجنا من بغداد و اجتزنا اسوارها المتهدمة (فی جانب الکرخ) سرنا فی طریق لا بأس به مدة خمسین دقیقة فوصلنا الی الکاظمیة. التی کانت قبابها المطلیة بالذهب و منائرها الرشیقة تکون منظرا خلابا و هی ترتفع فی الأفق البعید، و تتلألأ ما بین بساتین النخیل الخاشعة من حولها.
علی ان ذلک المنظر سرعان ما تبین حقیقته حینما یدنو الناظر الیه من البلدة فیجد ذلک المشهد الجمیل محاطا بمجموعة متراصة من البیوت الحقیرة المتهدمة، المبنیة بالطین و الطابوق المفتت. و یسکن البلدة سکانها العرب مع عدد غیر یسیر من الأیرانیین، و الهنود الشیعة المنفیین من بلادهم لاسباب سیاسیة او المقیمین للعبادة و التبرک. و یزور الضریح المقدس فی هذه البلدة کل سنة عدد هائل من الزوار الذین یتواردون علیه من أنحاء العالم الأسلامی کله، و حیثما یقدس الأمام علی و ذریته. و لذلک یجتمع هنا خلیط عجیب غریب یجمع بین مظاهر الثراء و الأبهة و مباذل الفقر و الشحاذة، کما یجمع (1)
Jones. Commander J. Felix- Reserhes in the Vicinity of the Medion Wall of Zenopbon. Alongthe Old Cou??? se of the Rive Tigris. iDscovery of Ancient Opis.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 249
بین ملابس الحریر و الأسمال أو الخرق البالیة. و من المحظور علی النصاری و الیهود التقرب من المشهد المقدس، غیر اننا استطعنا أن نشاهد ما یعجب من الأشیاء، و ما یجعل المرء یأسف علی عدم مشاهدة الکثیر من أمثال هذا المبنی الجمیل الضخم فی بلاد یمکن ان یبنی فیها علی طرازه.
فقد وجدنا الصحن المربع المحیط بالحضرة مزدانا بزینة الموزاییک الغنیة بالقیم الفنیة، و الجدران مزوقة بالآیات القرانیة و الجمل الدینیة المکتوبة بالأحرف العربیة الجمیلة. و لما کنا و نحن نمرّ بالبلدة المقدسة فی عشیة یوم النوروز فقد کان من الممکن للمرء أن یشاهد فی کل مکان امارات الفرح و الحبور ترتسم علی وجوه الناس و تمتزج بتعابیر العبادة و الخشوع الظاهرة علیهم. و قد کان ذلک یبدو علی شی‌ء غیر یسیر من الروعة حینما کانت الشمس المائلة الی المغیب ترسل أشعتها الأخیرة الباهته علی المنائر و القباب المذهبة فتلوح للرائی کالنجوم المتلألئة التی تجتذب الزوار الیها من بعید.
هذا و قد مررنا فی طریقنا بأناس قادمین من کل حدب وصوب، و منتمین الی کل عنصر و عرق، فمن سکان التیبت و کشمیر و الأفغان و أیران، جانب من صحن الامامین الکاظمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 250
الی المغول و العرب المواطنین. و کانوا یغذون السیر- و هم- راکبین أو راجلین لیصلوا الی مبتغاهم فیستطیعوا إداء الزیارة فی صباح الیوم التالی من دون تأخیر. کما مررنا بآخرین کانوا قد فرشوا سجادهم أو عباءاتهم.
علی قارعة للطریق، و أخذوا یؤدون الصلاة بکل نشاط و أخلاص. و قد کانوا، و هم یستقبلون القبلة للقیام بهذا الواجب الدینی المفروض، تبدو فی وجوههم شتی المشاعر و الأحاسیس و مختلف المخائل و السمات. و من المکن ان یقال أنه لا یوجد أی مکان آخر فی العالم یجتمع فیه مثل هذا الخلیط من الناس و هذا الاختلاف فی المشاعر و التعبیر. علی ان تقاسیم وجه العربی المعبرة، اذا ما ضمت الی لباسه الجذاب وحدة نظره و استقلال شخصیته، مع سلاحه المطروح الی جانبه، لتدل کلها علی مخائل عرق ممتاز متفوق حتی عندما یلاحظ فی حالات الانحناء و السجود.
و بعد ان یبتعد المرء قلیلا عن البلدة تبدأ منطقة التاجی التی تمتد البادیة من حولها الی جنب بساتین النخیل التی لا تمتد عن ساحل النهر الی أبعد من ثلاث مئة یارده. و تأتی بعد ذلک مستنقعات عقرقوف المتکونة من فیضان الفرات الذی یبعد عنها بمسافة خمسین میلا، و یتصل بدجلة عن طریقها. فتحاط الکاظمیة و بساتینها علی هذه الشاکلة بالماء من جمیع الأطراف، و تصبح و کأنها جزیرة فی وسط بحر متلاطم بالأمواج.

الکاظمیة فی رحلة نایهولت

و فی سنة 1866- 67 جاء الی العراق الرحالة الهولندی لکلاما نایهولت (نیجهولت)، و مکث فی بغداد مدة من الزمن درس فیها الکثیر من شؤونها و أحوال مجتمعها، فکتب رحلته القیمة التی ترجمت الی الانکلیزیة.
و کان مما کتبه فی هذه الرحلة نبذة وجیزة عن الکاظمیة آثرنا ان نوردها هنا نقلا عن الترجمة العربیة التی اضطلع بها الأستاذ میر بصری. فهو یقول: .. و کانت من الزیارات الممتعة التی قمت بها زیارة الکاظمیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 251
و هی بلدة صغیرة أقامها أخلاص الشیعة حول جامع الأمام موسی علی مسافة فرسخ من بغداد. و لأجل الذهاب الی الکاظمیة، نخرج من السوق الکبیر الی شاطی‌ء دجلة الأیمن و نصعد عدة دقائق الی منحنی النهر حیث نطل علی منظر جمیل لمدینة بغداد. و بعد مسیرة نصف ساعة علی الشاطی‌ء نصل الی غابة صغیرة رائعة من النخیل. و نلتقی فی کل دقیقة بالعرب و العجم و الهنود، مما یضفی علی الطریق حرکة عظیمة. و یمتطی‌ء أکثرهم ظهور الحمیر، و هذه الدواب تکری قرب قصر أخی شاه أیران حیث یقف عدد کبیر منها. و هذه الحمیر من جنس ممتاز أصله من جزیرة العرب (لعله یقصد الحمیر الحساویة المعروفة) و تتفوق بکل صفاتها علی حمیر أوربة. و هی بیضاء اللون تسیر کالخیل. فاذا ما ترکنا الغابة التی أشرت الیها، أدرنا ظهورنا الی دجلة و لاحت لنا فی البعد قبتان ذهبیتان لجامع الأمام موسی الأکبر. و لا تمر نصف ساعة حتی نصل الی أولی منازل الکاظمیة.
و الکاظمیة بلدة صغیرة حسنة البناء، فیها سوق کامل التجهیز.
و الشیعة هنا شدیدو التعصب. و قد تحملت سیلا من الشتائم لمجرد تقربی من ابواب السور الذی یحیط بالبناء الواسع الذی یقوم المسجد العظیم فی داخله. و ابواب السور مغلقة بالسلاسل التی یقبلها المؤمنون باحترام عند الدخول و الخروج. و مما سمح لی برؤیته ظهر لی ان هذا الأثر المقدس یتألف من المسجد الذی تزینه منارة جمیلة فی کل رکن من أرکانه الأربعة و من مشتملات واسعة تضم المساکن و المدارس و حجر الدرس للملالی و تلامیذهم. و یقال أن داخل المسجد جمیل جدا، و لکن محاولة الدخول تؤدی مؤکدا الی القتل فی الحال. و مع اننی وقفت علی مسافة بعیدة، فان أحد ابناء الشعب رأی ان وقوفی قد طال فی رأیه فأخذ یسبنی و یهددنی حتی رأیت الأفضل ان انسحب. و قد عدت من هذه الزیارة بنفس الطریق الذی سلکته فی الذهاب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 252

أصلاحات مدحت باشا فی الکاظمیة

و تذکر الکاظمیة فی المراجع الغربیة بعد هذا بمناسبة البحث فی اصلاحات مدحت باشا فی بغداد و ما حولها. فیقول ریتشارد کوک فی کتابه عن بغداد ان روحیة الأصلاح المتوثبة التی کانت تتجلی فی مدحت باشا قد کانت السبب فی إدخال أحدث المبتدعات الی المدینة، و هی فکرة أنشاء خط (التراموای) فقد کانت شدة الازدحام فی تنقل الزوار بین بغداد و الکاظمیة قد جعلت تیسیر وسائط نقل کافیة شیئا أساسیا، فأنشأت الحکومة خط «تراموای» یسحب بالخیول. و لم یکن المشروع ناجحا من الناحیة المالیة، و لذلک نقلت عهدته الی شرکة محلیة ظلت تدیره الی یومنا هذا. و کان هذا الخط فی عهد مدحت نفسه ینظر الیه باعتزاز و فخر و یعتبر من أحدث المشاریع فی الشرق.
لکنه بقی منذ یومه ذاک محافظا علی وضعه من دون ان یصیبه أی تحسن ففقد شهرته المذکورة و سمعته. و قد کانت فکرة کهربته تراود مخیلة الکثیرین بین حین و آخر لکنها لم یمکن ان تتبلور و توضع فی موضع التطبیق.
اما لونکریک فیشیر الی تراموای الکاظمیة أشارة عابرة، فی ضمن الأعمال و الأصلاحات التی تحققت فی عهد الوالی المصلح مدحت باشا.
فهو یقول عنه أنه أکمل ما بدأ بتشییده نامق باشا من الأبنیة العامة و أضاف الیها شیئا کثیرا. کما ان أصدار جریدة فی أیامه و تأسیس المعامل العسکریة، و بناء مستشفی و دار للعجزه و میتمة و عدة مدارس، و مدّ خط تراموای الی الکاظمیة کانت کلها، مع الروح التجددیة التی دلت علیها، قد نورت بغداد و بعثت حیاة التجدد و الأحیاء فیها (انتهی قول لونکریک).
و الحقیقة ان ما اصاب الکاظمیة من اصلاحات مدحت باشا لم یقتصر علی مشروع التراموای الذی انشی‌ء لتسهیل أمور الزوار. فقد أصلح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 253
الجهاز الحکومی فیها أیضا بألغاء طریقة الالتزام و الأصول الاقطاعیة فی الحکم، و عین موظفین أداریین فیها یتناولون رواتبهم من خزینة الدولة، کما جعل الکاظمیة قضاءا یدیره قائمقام خاص بعد ان أضاف الی حدود البلدة الأداریة المقاطعات المجاورة. و حینما عزم ناصر الدین شاه القاجاری ملک أیران علی زیارة الکاظمیة و سائر العتبات المقدسة فی العراق سنة 1870 قامت الحکومة بأدخال بعض التحسینات و الاصلاحات فی طرق الکاظمیة و مرافقها البارزة تمهیدا لهذه الزیارة السامیة .
اما خط التراموای الذی یشیر الیه ریتشارد کوک و لو نکریک فقد مدت سکته الی مسافة سبع کیلومترات، و حینما وجدت الحکومة انه مشروع غیر رابح یومذاک مالیا شجعت تشکیل شرکة أهلیة لأدارته تتکون مالیتها من ستة ألاف سهم بیعت معظمها بسرعة لأن مدحت تولی تشجیعها و تصریفها بنفسه، و کانت قیمة الحصة الواحدة مئتین و خمسین قرشا. و یقول المطلعون الیوم انه طلب الی الحاج عبد الهادی الاسترابادی، و هو من أبرز وجوه الکاظمیة و تجارها فی تلک الأیام، ان یبدأ بتشکیل هذه الشرکة ففعل ذلک بالاشتراک مع علی چلبی و آخرین، علی انه انسحب من الشرکة بعد ذلک. و قد نجحت نجاحا غیر یسیر، حتی بلغت نسبة ارباحها 18 و 20% فی بعض السنین. و استمرت فی عملها هذا الی ما قبل سنوات حینما تضاءل شأنها و قلت أهمیتها بشیوع استعمال السیارات الحدیثة فانحلت.
و لأجل ان نعطی القاری‌ء الکریم فکرة واضحة عن هذا التراموای، و کیفیة سیره فی تلک الأیام الخالیة، نستشهد بما کتبته الرحالة الفرنسیة المدام دیولافوا عنه حینما استقلت إحدی عرباته مع زوجها لزیارة الکاظمیة سنة 1886. فهی تقول:
.. و فی هذا الیوم رکبنا التراموای لیوصلنا الی الکاظمیة بفترة ربع ساعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 254
أو عشرین دقیقة علی أبعد احتمال، و لکنه لم یکد یقطع نصف الطریق حتی توقف عن السیر و هبط السائق من العربة و رجا منا ان نترک التراموای.
و سألت عن سبب هذا التوقف فقیل لی أن أرض منعطف الطریق الضیق الذی بلغناه قد خسفت، و اذا کان لا بد من ان یتابع التراموای سیره فلا محالة أنه سیسقط .. و لقد وضعوا هنا عددا من الحمالین لدفع حافلة التراموای و نقلها الی الجهة الأخری بعد ان یترکها الرکاب. و هذه العملیة تتم فی دقائق ثقیلة و بجهد جهید یبذله اولئک المساکین.
و بعد ان عادت المدام دیولافوا من زیارتها للکاظمیة بالتراموای نفسه نجدها تقول: و بعد مدة من الانتظار تحرک التراموای ینهب الأرض نهبا، و لما کانت هذه آخر مرة یقود السائق فیها العربة فی هذا الیوم أخذ یلهب ظهر الجیاد بالسوط بقساوة و ضراوة لیزید من سرعتها فیصل الی منزله فی أقرب فرصة من دون ان یفکر بعواقب عمله المخطر لا سیما و الحافلة کانت مکتظة بالرکاب الذین کانوا من طبقات مختلفة و أدیان شتی، و کانوا کالسمک الطری الذی یوضع فی الأناء لشیه، یرتفعون و یهبطون وفقا لسیر الحافلة و اهتزازها .. و قد زاد السائق من الهاب ظهر الجیاد بسوطه، و کانت سرعة الحافلة تزید بنسبة ذلک، و لم یعمل علی تخفیف السرعة حتی عند وصولنا الی الطرق و الأزقة الضیقة التی کانت حرکة مرور الناس فیها علی أشدها. و مررنا فی أحد الأزقة الضیقة تلک بعدد من الحمیر التی کانت تحمل السمک .. فذعرت الحمیر من التراموای و رمت أحمالها علی الأرض و أخذ أصحابها یسبون و یلعنون السائق .. و الواقع ان ذلک کان مشهدا تمثیلیا رائعا .
ترموای الکاظمین (احدی عربات السکة) التی لم یبق منها الیوم لا عین و لا اثر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 255

زیارة مدام دیولافوا

اشارة

و قد زارت بغداد فی ولایة تقی الدین باشا الثانیة سنة 1881 (1229) ه الرحالة الفرنسیة المعروفة مدام دیولافوا، مع زوجها المهندس المعماری و عالم الآثار الفرنسی مارسیل دیولافوا، قادمین من أیران. فزارا من العتبات المقدسة الکاظمیة و کربلا، و کتبت فی رحلتها المطبوعة شیئا غیر یسیر عنهما.
و حینما عقدت المدام النیة علی زیارة الکاظمیة مع زوجها استصحبا معهما رجلا من رجال القنصلیة الفرنسیة فی بغداد التی کانا یقیمان فیها و رکبا التراموای الذی أوردنا وصفها له فی الفقرة السابقة من هذا البحث- و کان التراموای یمر فی قسم من طریقه من بین البساتین الیانعة. و لذلک نجد المدام تطنب فی وصف المناظر و جمالها، و تقول ان ما بقی من أشجار تلک البساتین کان له منظر خلاب جمیل أخذ بمجامع قلبها، و ان رائحتها الزکیة العطرة جعلتها کالمنتشیة، و کم تأسفت علی أنها قطعت هذا الطریق و هی راکبة فی هذه الحافلة و حرمت نفسها من التمتع بذلک المنظر (الص 91 من الترجمة العربیة). ثم تصف المنائر المذهبة رؤوسها الأربع التی کانت تبین عن بعد من بین قمم النخیل السامقة، و تشبه القبتین المتلألئتین بقبة المشهد الذی زارته (فی قم) بأیران.
و أول ما تذکره عن بلدة الکاظمیة انها وجدت أزقتها أنظف من أزقة بغداد. ثم تقول انها وصلت مع مرافقیها الی الساحة الکبیرة الممتدة بین یدی الباب المؤدیة الی المشهد الکاظمی، و کانت محاطة بدکاکین تمتلی‌ء بالکثیر من الخضروات و الفواکه و أکوام البطیخ و الرقی و الکلم. و ما اقتربوا من الباب حتی تجمهر الناس حولهم و منعوهم من الدخول لکونهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 256
غیر مسلمین، إذ لا یجوز للنصاری و غیرهم من غیر المسلمین الدخول الی هذا المشهد الشریف. فکان النقاش الذی أعقب ذلک. ما بین المتجمهرین و مرافقیهم من رجال القنصلیة، أن یؤدی الی ما لا تحمد عقباه. و لذلک فقد عادوا من دون ان یشاهدوا کثیرا من داخلیة المشهد المطهر.
غیر انها تقول بالنسبة لما شاهدته من الخارج: .. و فی أثناء تلک الحوادث التی کان زوجی مارسیل یتحمل فیها ضربات و الفاظ ذلک الجمع المتجمهر الحانق لم أفوت الفرصة من یدی، فاستغللت فرصة انشغال الجمهور و أخذت أتطلع من شق باب المرقد الذی کانت مفتوحة علی النصف فاستطعت أن الاحظ بعض مرافقه و الباب الذی کان مجازه ینتهی بصحن جمیل واسع. و أمام هذا الباب کان یقع رواق طویل تحیط به من الجوانب أعمدة ضیقة مزینة بقطع من المرایا علی أشکال هندسیة .. و فی زوایا البنایة أربع منائر مرتفعة مطلیة أعالیها بالذهب، اما بقیة اقسامها فهی من الکاشی الأخضر (لعلها تقصد الأزرق). و فی جوانب القبتین کانت تتراءی لی أبراج صغیرة شبیهة الی حد بعید بمحلات الرقابة فی أعالی القلاع البحریة ..
و ما ان نجونا من حلقة ذلک الجمهور المحتشد و ابتعدنا عنه حتی أخذنا نتجول فی أطراف المرقد، و نتفرج علی جدرانه من الخارج متحررین من کل قید أو خوف. ثم کان ان تشجعنا قلیلا فأخذنا ننظر خلال فتحات الأبواب و استطعنا ان نری ما یحتویه البناء. فکان هناک الی جانب المرقد و المسجد الحاج عبد الهادی الاسترابادی
کبیر تجار الکاظمین فی عصره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 257
مدرسة و بضع خانات (لعلها تقصد الحجر) و حمامات أنشئت خصیصا للزوار المصلین.
ثم یقول: و مسجد الکاظمین هذا أنشی‌ء فی العهود الأسلامیة الاولی بصورة بسیطة ساذجة، لکن الشیعة أضافوا الیه قسما من المرافق کما زینوا جدرانه بنقوش و فسیفساء وفقا للفن المعماری الأسلامی منذ قریب بحیث ما زال الملاط ندیا، و ما زال قسم من تلک الجدران لم یتم عمله حتی الآن، مع ان أقساما من القبب المذهبة تبدو متهدمة تشوه المنظر الجذاب .
و نقول تعقیبا علی قول المدام دیولافوا هذا ان بعض الأضافات و التعمیرات قد أجریت فی المشهد الکاظمی فی أیام مدحت (1869- 71) أی قبل مجی‌ء المدام بعشر سنوات. و قد تم ذلک علی نفقة (فرهاد مرزا) القاجاری عم ناصر الدین شاه، الذی أوکل العمل فیها الی الحاج عبد الهادی الاسترابادی فتم بناء سور محکم جدید بعد ان کان من اللبن، کما شیدت الحجر المحیطة بالصحن و الساعات الکبیرة فیه و السرادیب المعدة للدفن، فضلا عن بعض الأصلاحات الأخری. و لذلک یلاحظ الیوم ان فرهاد مرزا دفن فی الصحن الشریف الی یمین الداخل الیه من باب المراد فی غرفة خاصة به.
هذا و تذکر المدام دیولافوا علاوة علی ذلک أنهم حاولوا التملص من الجمهور الذی التف حولهم فی الکاظمیة بکل وسیلة لأن أحد الصحفیین الأنکلیز کان قبل مدة قلیلة قد دخل فی نزاع مع بعض الأهلین فیها فقتل و قطع جسمه إربا إربا بالسکین. و مع ان القنصل الانکلیزی فی بغداد کان قد اهتدی لمعرفة القاتل، و مع انه کانت لدیه أدلة کثیرة تثبت جریمته، فأنه لم یفلح فی إدانته عند المسؤولین فی هذه البلاد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 258
و تذکر کذلک أنهم تعرفوا فی بغداد علی مهندس أجنبی یدعی المسیو موکل. فزودهم بتوضیحات کافیة عن المشهد الکاظمی المقدس بعد ان حدثوه بما رأوه. و لم یستطع هو أیضا الدخول الی داخل المشهد المطهر فی مبدأ الأمر لکونه نصرانیا، لکن الساعة الکبیرة فی الصحن توقف دقاقها الکبیر فی یوم من الأیام فاستدعی هو لأصلاحها. فحمل أدواته الهندسیة، و آلة تصویره الدقیقة فی الوقت نفسه، و التقط عدة صور من فوق السطح و الجوانب.
احدی منائر ضریح الکاظمین الذهبیة الشامخة امام باب المراد، و تظهر الساعة خلفها.
و تقول أیضا ان قوافل الزوار الذین کانوا یفدون من الخارج لزیارة الأمامین الکاظمین علیهما السلام کانوا یمرون بمدینة بغداد فیلاحقهم أطفال الشوارع و یسمعونهم أقوالا بذیئة.
ثم یهجمون علی لوازمهم المحملة فوق ظهور الحیوانات فیسرقون منها ما یسرقون و یهربون فیختفون فی الدرابین و الأزقة الضیقة. و قد یرمونهم بالحجارة من بعید فینزلون بهم الأذی. و مع کل هذا فلا یستطیع الزوار المساکین عمل شی‌ء سوی ان یسکتوا و یتحملوا الإهانات من دون ان یفکروا بالشکایة لدی السلطات الحکومیة الترکیة لأنهم یعلمون ان ذلک لا یمکن ان تکون له نتیجة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 259
مجدیة. «فالمسؤولون الأتراک فی الواقع یشجعون تلک الحوادث او تحدث بوحی منهم، و ان کل شکوی من هذا القبیل تقابل بسخریة و استهزاء» علی حد قول المدام دیولافوا.

[ورود السر ارنست ألفرد و الیس الی بغداد]

و فی سنة 1888 جاء الی بغداد عن طریق الخلیج عالم من علماء الآثار البریطانیین یدعی السر ارنست ألفرد و الیس. ج (1857- 1935)، و أقام فیها أشهرا عدة. و کان السر و الیس هذا قد جاء لدراسة الآثار القدیمة فی العراق، و الحصول علی ما یمکن الحصول علیه منها بمختلف الطرق و الوسائل، فتوفق فی مهمته تلک الی حد بعید. و قد کتب عن رحلته هذه شیئا غیر یسیر عن تاریخ بغداد و آثارها، و لخص ما کتبه بعض الرحالین الآخرین عنها، فضمنه فی مجلدیه اللذین نشرهما سنة 1920 بعنوان «علی ضفاف النیل و دجلة» . و یتناول المجلدان خبرة السر و الیس معظمها فی العراق و مصر من الناحیة الآثاریة، ما بین سنتی 1886 و 1913.
و قد تسنی للسر و الیس، خلال مدة وجوده فی بغداد، أن یزور الکاظمیة و یکتب شیئا عنها. و کان ذهابه الی هناک بصحبة القبطان بتر روث، ربان الباخرة المسلحة «کومیت» التابعة الی البحریة الهندیة و الموضوعة تحت تصرف القنصلیة البریطانیة العامة فی بغداد بترتیب مع الحکومة العثمانیة یستند علی امتیاز خاص کانت تتمتع به یومذاک. و لأجل ان تسهل زیارتهم لهذه المدینة المقدسة أخذوا کتاب توصیة من المستر تویدی، أحد رجال القنصلیة، الی صدیق له فی الکاظمیة یدعی محمد حسین مرزا (الصفوی.
و کان هذا أمیرا من أمراء الفرس یقیم فی جوار الأمامین الکاظمین. و قد استقلوا الی الکاظمیة «التراموای» الذی کان قد أنشأه مدحت باشا، علی ما مر ذکره.
و یقول السر و الیس انهم حینما مروا بالسوق فی طریقهم الی باب المشهد موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 260
الکاظمی المقدس کانت نظرات الناس الیهم نظرات غیر مریحة، و ان أصحاب الدکاکین رفضوا بیعهم الأشیاء التذکاریة التی حاولوا شراءها منهم. و کانت من جملتها بعض الآثار المزیفة و الأختام الأسطوانیة التی کان یصنعها الیهود علی ما علم من بعض الناس. و قد اشتد الموقف العدائی تجاههم فی السوق بحیث اقترح علیهم دلیلهم متابعة السیر، حتی وصلوا الی باب المشهد الذی أبطأوا السیر بقربه و ظلوا یشاهدون ما فی الداخل من فتحة الباب. فأعجب السر و الیس جد الأعجاب بالمنائر و القبتین المذهبتین، و بالقاشانی الزاهی الذی کانت تتزین به أسوار الصحن و الروضة المقدسة طارمة القبلة و تظهر فیها براعة صناعة الکاشانی فی العهد الصفوی و قد عز الیوم الحصول علی امثاله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 261
فی الوسط، و هو یعتقد ان الزینة و الألوان کانت شیئا رائعا لم یر مثلها من قبل.
و یشیر کذلک الی وجود الساعة الکبیرة فی الصحن، و الی أنها کانت تدور حولها قصص مضحکة. ثم یذکر فی الحاشیة ان هذه الساعة کانت قد توقفت ذات یوم فاقتضی ان یؤتی لها بشخص له معرفة خاصة بتصلیحها، لکنه کان مهندسا فرنسیا لم یمکن السماح له بالدخول الی الصحن الشریف لأنه کان نصرانیا بطبیعة الحال. غیر ان رجلا من خدم الروضة المقدسة تذکر ان النبی الکریم علیه السلام کان قد سمح یوما بأن یدخل الی المسجد حمار محمل بالآجر، و علی هذا القیاس یمکن ان یسمح لهذا المهندس الفرنسی بالدخول الی الصحن الشریف لتصلیح الساعة الدقاقة. فتم ذلک و أصلحت الساعة. و مما یجدر ذکره هنا ان المهندس المذکور هو المسیو موجیل الذی تشیر الیه المدام دیولافوا فی رحلتها الفرنسیة التی اشرنا الیها فی هذا المبحث، و ذکرنا شیئا عما جاء فی رحلتها الی الکاظمیة. فهی تشیر الی ان المسیو موجیل نفسه قد روی لها انه قام بتصلیح الساعة. فتسنی له بهذه الوسیلة ان یأخذ بعض الصور.
و مما یذکره السر و الیس ان المرزا الصفوی أخذهم الی بیته، فصعدوا الی السطح، و من هناک تسنی لهم ان یروا الصحن المقدس و واجهة المشهد.
و هو یقول ان الأمیر الصفوی هذا قد حدثهم کثیرا عن النفائس الموجودة فی خزانة المشهد الکاظمی، و منها ستارة نفیسة جدا مرصعة بالأحجار الکریمة من الحجم الکبیر. فتذکروا بمناسبة حدیثه هذا ما تذکره قصص (ألف لیلة و لیلة) عن الجواهر التی کانت توجد مکدسة فی الکهوف.
و قد اقترح الأمیر الصفوی علی ضیوفه ان یزوروا مرقد أقبال الدولة، النواب الهندی الذی أقام فی الکاظمیة بعد نفیه من بلاده الی العراق. ففعلوا ذلک، و قدمت لهم القهوة و الحلوی المصنوعة من أوراق الورد. و عملوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 262
مما دار فی الحدیث حوله هناک مع قیم المقبرة، و الدلیل الذی کان یرافقهم، ان الناس کانوا یعتقدون بان صاحب القبر کان موجودا فی المحل الذی زاروه و لو لم یستطیعوا رؤیته، و ان القیم أکد لهم انه معنی بشؤونه و لا یستطیع الالتقاء بهم شخصیا!! کما علموا من الدلیل ان اللّه عز و جل یستجیب لکل دعاء یتلی فی هذا المرقد، و ان البرکة ستسبغ علیهم بسبب زیارتهم لهذا المکان.
و حینما مروا بالسوق فی طریق عودتهم الی بغداد احتشد وراءهم الناس، و ظل هذا الحشد یتکاثر حتی وصلوا الی ساحل النهر الذی کانت تنتظرهم فیه قفة خاصة أقلتهم الی الباخرة کومیت، فوصلو الیها سالمین.
بعد ان ظل القوم یرشقونهم بالحجارة.

نهایة القرن التاسع عشر و بدایة القرن العشرین

هذا و قد زار الکاظمیة عدد من السواح الأجانب فیما بین مجی‌ء المدام دیولافوا و نهایة القرن التاسع عشر، مثل بیترز و کاوبر و بیندیه، غیر أنهم لم یذکروا شیئا یستحق النشر عنها: لکننا لاحظنا ان بعض المراجع العربیة تشیر الی أن جسرا عائما بین الکاظمیة و الأعظمیة قد شید فی 1884 (1302 ه) بأمر من قائد الفیلق العسکری السادس المشیر هدایت باشا، فتم بذلک ربط الکاظمیة بالجانب الشرقی من بغداد أیضا بعد أن کانت قد ربطت بالجانب الغربی بواسطة خط التراموای. و ان سرای الکاظمیة قد وضع حجره الأساسی فی یوم 24 رجب 1318 (1900 م) فی إحتفال حضره الوالی نامق باشا، و المشیر أحمد فیضی باشا، و قاضی الشرع کمال الدین بک.
و تذکر الکاظمیة فی کتاب المستر ریتشار کوک من جدید بصدد تطرقه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 263
الی موقف الاتحادیین، بعد تولیهم الحکم فی ترکیة، من الأنکلیز و الامتیازات التی کانوا یتمتعون بها علی العموم. فهو یقول ان حکومة الثورة الترکیة قد اعترضت علی عدد من الامتیازات البریطانیة و زورق البحریة الهندیة المسلح الذی کان یرسو فی أسفلها علی الدوام، و حتی علی حجم الأراضی المتسعة التی کانت تحیط بها. و لذلک وجدت الحجج المبررة فی صیف 1910 لتهدیم مکاتب شرکة لنج) بیت اللنج (و شرکة عبد العلی الهندی) الشرکة الهندیة البریطانیة ببغداد (باعتبار أنها کانت مائلة الی الانهدام و یخشی من خطرها علی أرواح الناس فتملصت السلطات المسؤولة بذلک عن دفع التعویضات اللازمة لهما. و فی أیلول من السنة نفسها هدمت الممتلکات الهندیة البریطانیة فی الکاظمیة لأسباب مماثلة کذلک.
اما المستر ستیفن ه. لونکریک فیقول فی کتابه الثانی) العراق بین 1900 و 1950 (عن الفترة التی سبقت الحرب العالمیة ان اتصال البریطانیین بالعراق قد ازداد توثقا و اتساعا، و ان المصالح الهندیة البریطانیة لم تقل أهمیتها.
فقد استمرت مکاتب البرید البریطانیة التی کانت تعمل بموجب شروط الامتیازات الأجنبیة علی عملها برغم استیاء الموظفین الأتراک منها، و ظل وکلاء الزوار الهنود فی الکاظمیة و سامراء یخدمون أبناء بلادهم الذین یزورون العتبات المقدسة مع جمیع ما کانوا یصادفونه من عراقیل رسمیة.

أعلان الجهاد فی الکاظمیة

و حینما نشبت الحرب العالمیة الأولی، و اشتبکت الدولتان البریطانیة و العثمانیة فی حرب ضروس بینهما، جردت بریطانیة حملة عسکریة علی العراق تمکنت من النزول فی الفاو یوم 6 تشرین الثانی 1914. و قدر للکاظمیة ان تلعب دورها المشرف فی مقاومة الانکلیز المحتلین، بصفتها مدینة من موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 264
المدن المقدسة التی ینظر الیها العالم الاسلامی بکل تقدیر و تقدیس، منذ تلک الأیام. فقد أعلن الجهاد فیها ضد المحتلین غیر المسلمین، و أصبحت مرکزا لتجمع المجاهدین و سوقهم إلی میادین القتال فی الشعیبة و مزیرعة و خوزستان. و قد شعر بأهمیة ذلک الانکلیز أنفسهم فأشار الی ما حصل فی هذا الشأن علی الأخص أرنولد ویلسن، وکیل الحاکم الملکی العام فی العراق علی عهد الاحتلال فی کتابه المشهور (ما بین النهرین 1914- 1917) فقد قال بصدد البحث عن اصطدام الأتراک ببریطانیة لأول مرة ان الحکومة العثمانیة بذلت جهدا کبیرا لتجعل من القتال الذی جری حربا مقدسة ضد الکفار، فأثمرت جهودها و أتت أکلها فی کانون الثانی 1915. إذ أعلن الجهاد فی المدن المقدسة و الجوامع المنتشرة فی سوریة و العراق، و راح وکلاء العلماء ینشرون الدعوة بین القبائل و سکان المدن و یهیبون بالناس للنهوض من أجل الذب عن حیاض الدین و العقیدة. و کان التأثیر علی أشده ما بین القبائل الشیعیة فی الجنوب، و بدأت الجموع تلتف حول القوة الترکیة فی الشعیبة.
و المعروف عن الکاظمیة فی هذا الشأن ان حرکة المجاهدین ضد الانکلیز قد بدأت فیها خلال الحرب العامة الأولی. و قد أصدر العلماء أمرا بوجوب الدفاع عن کل مسلم، و أبرقوا بهذا المضمون الی العشائر المحیطة بالبصرة، ثم توالت الاجتماعات فی الصحن الشریف منذ العشرین من ذی الحجة الی 12 محرم الحرام سنة 1332، و ألقیت الخطب المثیرة، و تشکلت علی اثر ذلک فی اواخر ذی الحجة 1333 جمعیة باسم «الجمعیة الأرشادیة» برآسة قائمقام الکاظمیة یومئذ محمد أمین أفندی و عضویة جملة من الفضلاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 265
و الأشراف لغرض جمع التبرعات النقدیة و العینیة للمجاهدین.
و خرج السید مهدی قاصدا ساحة الحرب، و بصحبته الشیخ مهدی الخالصی و الشیخ عبد الحمید الکلیدار، و جماعة من المجاهدین، و خرجت البلدة بأسرها لتشییع رکب الجهاد الزاحف. ثم تواردت علی الکاظمیة وفود العلماء الزاحفین نحو المعرکة من النجف الأشرف و کربلاء، و کانت البلدة تستقبل کل واحد منهم بمنتهی الترحاب. و فیما یلی أسماء جماعة من هؤلاء الأعلام:
شیخ الشریعة الأصفهانی، السید علی الداماد، السید مصطفی الکاشانی، الشیخ جعفر عبد الحسن النجفی، الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء، الشیخ عبد الکریم الجزائری، الشیخ حسن علی القطیفی. السید محمد ابن السید کاظم الیزدی. المرزا محمد نجل الآخند الخراسانی. المرزا محمد رضا الشیرازی. الشیخ عبد الرضا آل الشیخ راضی.
الامام شیخ الشریعة الذی خلف الامام الشیرازی فی الثورة العراقیة.
و فی أواخر صفر 1333 خلت الکاظمیة من شبابها، و لم یبق فیها غیر العجزة و النساء و الأطفال، و جمیع رجالها بین جندی فی صفوف الجیش النظامی أو مجاهد فی ساحات القتال. حتی أنفذ اللّه أمره و تراجع الغائبون زرافات و وحدانا. و عاد السید مهدی السید حیدر الی الکاظمیة فی 28 ذی القعدة 1333 بعد ان أبلی هو و من معه بلاء حسنا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 266
و یقول ارنولد ویلسن عن انتهاء موقعة الشعیبة باندحار الأتراک و عودة المجاهدین ان المجاهدین المتطوعین الذین تجمعوا فی الشعیبة قد تفرقوا بعد ذلک، و لم یظهروا ثانیة فی میدان الحرب. و قد وضعت معاملة الأتراک لسکان العتبات المقدسة بعد ذلک حدا لأمکان عودة الحماسة الدینیة الی التفجر مرة أخری فی تلک الجهات .
المیرزا محمد الاخوند

أنسحاب الأتراک من بغداد

و من غرائب الصدف ان تشهد الکاظمیة آخر یوم من أیام الأتراک العثمانیین فی بغداد کذلک فیکون جلاؤهم عن مدینة الخلفاء العتیدة من الکاظمیة نفسها بعد ان حکموها حکما مفعما بالمآسی و الأحداث أربعة قرون متتالیة. و بذلک تسنی لبغداد ان تقلب صفحة جدیدة من تاریخها الحافل لتبدأ تاریخا جدیدا تتطلع فیه إلی حیاة عصریة سعیدة تبنی فیها کبناء الأبوة الأمجاد.
و خیر من یصف یوم الأتراک الأخیر هذا من المراجع الغربیة المستر ریتشارد کوک فی (بغداد مدینة السلام) . فهو یقول ان لیلة الیوم العاشر من شهر مارث 1917 کانت لیلة لیلاء فی تاریخ مدینة السلام. ففی مجلس حربی عقد فی مخیم الخر بحث خلیل باشا مع قواده قضیة الصمود فی الدفاع عن بغداد أو الانسحاب منها. و کانت البرقیات الملحة أخدت تتری علیه من أنور باشا فی استانبول بوجوب الثبات فی وجه العدو المتقدم، لکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 267
قادة الجبهة فی المیدان کانوا یضعون نصب أعینهم الاعتبارات العسکریة الصرفة و یشیرون الی عدم کفایة القوات الموضوعة تحت تصرفهم لمقاومة الهجوم البریطانی الجازم، و النتائج المرعبة التی یمکن ان تؤدی الیها الهزیمة المفاجئة أو التقهقر غیر المنتظم عن طریق المدینة نفسها. فطالبوا بالانسحاب العاجل خلال اللیل الی نقطة تقع علی خط السکة الحدید، حیث یکون بوسعهم الاتصال بقاعدتهم فی سامراء و حیث تستطیع القوات المنهکة ان تستریح و یعاد تشکیلها من جدید. و لذلک طلب خلیل باشا المذاکرة مع رئیس أرکانه حتی یکون قادرا علی اصدار حکم قطعی فی الموضوع، و انسحب معه الی غرفة ثانیة. فعاد الی قادة جنده بعد عشر دقائق و صادق علی الانسحاب. و فی الساعة الثامنة من مساء الیوم نفسه صدرت الأوامر الی الجیش بالتّقهقر الی نقطة تقع علی بعد أحد عشر میلا من شمال الکاظمیة علی دجلة، و الی الفلوجة علی الفرات. ثم أبرق خلیل باشا البرقیة التالیة الی استانبول:
«فی وجه هذا الهجوم الذی ظل العدو یشنه خلال ثلاثة أشهر من دون انقطاع، بقوات متفوقة فی العدد و عتاد متیسر بکثرة، أجد ان الفیلق الثامن عشر یکاد یکون عاجزا عن الحرکة و ان معنویاته من قائده الی أصغر جندی فیه باتت محطمة. و انی لمقتنع بأن الجیش اذا ما اشتبک مع العدو بکامل قواته غدا فان بغداد سوف نخسرها و قواتنا کلها مع ما یعود لها من مدافع سوف تقع فی الأسر. و إدراکا منی لضرورة ایقاف العملیات، و اعادة المعنویات و القوة المادیة الی الجیش فی مبعدة عن العدو، أجد نفسی مجبرا علی اتخاذ القرار المؤلم بالتخلی عن بغداد و الانسحاب منها».
و عند ذاک رکب خلیل باشا و ضباط رکنه الی محطة الکاظمیة و استقلوا القطار منها إلی سامراء. و تم بعد ذلک مباشرة تدمیر النقاط العسکریة المهمة القریبة من المدینة، بما فیها محطة اللاسلکی القویة الجدیدة) التی نقلت فی آخر برقیة لها الی برلین خبر الانسحاب نفسه (، و باب الطلسم التاریخیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 268
التی نسفت بما فیها من ذخیرة و بارود. و کان المنظر فی محطة الکاظمیة بحالة من الفوضی لا یمکن وصفها. فقد داهمت وحدات الجیش المتراجعة من المیدان ما کان ینتظر التحمیل فی المحطة نفسها من احمال الذخیرة الکبیرة، و الطیارات المدمرة، و الجرحی من الجنود. و مما زاد فی الفوضی العامة التی کانت تضرب أطنابها فی کل مکان أن عاصفة هو جاء مفاجئة من العواصف الترابیة، المعروفة فی بلاد ما بین النهرین، قد هبت علی الجمیع فزادت فی الطین بلة و الحالة سوءا. و کان مما سببته هذه العاصفة کذلک انقطاع جسر بغداد الذی سحبت جاریاته الی الشاطی‌ء الشرقی و أتلفت کلها. و فی منتصف اللیل غادر بغداد قائدها العسکری. و فی معیته شرطة المدینة و الموظفون، بعد ان نقل ما یمکن نقله من السجلات الرسمیة، و أتلف ما یمکن إتلافه منها. و لم یکتشف البریطانیون هذا الجلاء الا بعد ان کان الوقت قد تجاوز منتصف اللیل.

السر رونالد ستورز فی الکاظمیة

و قد زار بغداد قادما من القاهرة، فی هذه الأیام التی بدأ بها الاحتلال البریطانی للعراق بشکل مضطرب غیر مستقر، السر رونالد ستورز. و کان السر رونالد هذا من الاستعماریین الانکلیز الذین کان یتألف منهم «المکتب العربی» فی القاهرة. و قد تقلب فی مناصب عدة، فکان منها حاکمیة القدس فی أول عهد الاحتلال البریطانی لها و حاکمیة قبرص التی نفی الیها الملک حسین بن علی خلال مدة وجوده فیها. فکتب کتابا مهما علی شکل مذکرات یومیة، ضمنه الکثیر مما صادفه خلال مدة تقلبه فی الوظائف المختلفة و زیاراته العدیدة لکثیر من البلاد، و من جملتها العراق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 269
و من جملة المدن التی زارها عند مجیئه إلی العراق العتبات المقدسة، و منها الکاظمیة التی قصدها من بغداد بمعیة المستر ویلیام مارشال معاون الحاکم السیاسی فیها یوم 11 مایس 1917. فقد توجه الیها فی صباح هذا الیوم، عن طریق الکرخ الذی کان لا بد له من أن یعبر الیه عن طریق الجسر القدیم، لکنه وجده مقطوعا علی ما یقول و لم یستطع العبور الا فی حوالی الساعة الثانیة عشرة و ثلث. و حینما وصل الیها خف الی مقابلته و السلام علیه فی دائرة الحاکم السیاسی (الشیخ حمید الکلیدار)، و السید جعفر عطیفة رئیس البلدیة، و حسین الصراف. و هو یقول ان الشیخ حمید الکلیدار کان قبل الاحتلال مسلما متعصبا جند ألفا و خمس مئة مجاهد ضد الانکلیز عند أول نزولهم إلی البر فی منطقة البصرة.
و یقصد بذلک بطبیعة الحال سیر المجاهدین المتطوعین من الکاظمیة الی الشعیبة بتأثیر فتاوی العلماء الأعلام کما مر ذکره ثم یذکر ان (الشیخ حمید) أخذ یطنب فی حب الناس للانکلیز فی کل مکان، فأجابه ستورز بأنه مسرور لذلک و انه یعتبر ما کان سمعه فی القاهرة عن خصومة المجتهدین للانکلیز و شایة لا أساس لها من الصحة. فرد علیه الشیخ یقول من دون تلکؤ ان أولئک القلة من المضللین (بفتح اللام) قد بدلوا رأیهم حالما أدرکوا حقیقة السیاسة الالمانیة و ما کانت تنطوی علیه من فظاعة. و یلاحظ ان السر رونالد یصف حسین الصراف بالمسخ الذکی البشوش. هذا و یقدر نفوس منطقة الکاظمیة یومذاک بخمس و عشرین ألف نسمة، و نفوس البلدة بخمسة عشر ألف، ثم یقول ان سکان الکاظمیة کلهم عرب فی الحقیقة لکنهم تجنسوا الحاج حسین الصراف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 270
بالجنسیة الایرانیة تهربا من الخضوع للخدمة العسکریة.
و ذهب السر رونالد بعد ذلک مع الجمیع. مخترقا الأزقة الضیقة التی تعجب من نظافتها، الی دار من دور أحد الوجهاء حیث تسنی له ان یتفرج علی القباب و المنائر المذهبة التی تعلو ضریحی الامامین الکاظمین. و لقد أخرس جمالها فی الحقیقة لسانه الذرب بخجل و تعجب- علی ما یقول- و هی التی کان سطحها الذهبی الخالص یتقبل أشعة الشمس فتنعکس علیه انعکاسا غنیا غیر قابل للوصف. و قد أخذ من هناک التصاویر بأربعة أفلام للمناظر الفریدة فی بابها.
و من هناک توجه لزیارة السید مهدی السید حیدر المجتهد الشیعی الأکبر فی بیته، و السید حسن السید هادی الصدر. و هو یقول عن السید الصدر انه رجل ذکی نبیه متقدم فی السن، له لحیة بیضاء طویلة، و حالما علم أن لی بعض الالمام بالعربیة أخذ یرشقنی بسیل من بیانه المتدفق، بادئا بفضائل السفر الخمس. ثم راح یخوض فی حدیث ممتع عن السیاسة، و کانت له معرفة واسعة بجرائد مصر و شخصیاتها. و قد قضیت معه عشرین دقیقة طلبت خلالها فنجانا ثانیا من القهوة. و یقول ستورز کذلک انه علم من معاون الحاکم السیاسی المستر مارشال ان السید حسن الصدر کان أعظم سکان الکاظمیة نفوذا فی البلد.

الکاظمیة فی تقاریر الحکام السیاسیین

کان الکابتن ویلیام مارشال معاون الحاکم السیاسی الذی زار السر رونالد ستورز الکاظمیة فی عهده قد نقل الی النجف الأشرف، بعد ان حصلت له الخبرة الممتازة فی ادارة العتبات الشیعیة علی ما یقول المسؤولون الانکلیز فی ذلک العهد ، فتعین فی مکانه الکابتن رید. و کان من عادة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 271
الحکام السیاسیین تقدیم تقاریر، أو یومیات شهریة، الی مراجعهم المختصة یتطرقون فیها الی جمیع الشؤون الإداریة فی منطقتهم. و قد عثرت علی تقریر من مثل هذا قدمه الکابتن رید عن منطقة الکاظمیة الی مرجعه رئیس الحکام السیاسیین فی بغداد، یتضمن یومیاته فی شهر تشرین الثانی من سنة 1918، فآثرنا تلخیص ما جاء فیه هنا علی سبیل المثال و الدلالة مستّلا من بین مجموعة کبیرة من تقاریر مماثلة مطبوعة بالانکلیزیة عن مناطق ولایة بغداد کلها للشهر نفسه.
و یستهل الکابتن رید تقریره هذا بذکر شی‌ء عن العشائر و یقول أن أفخاذ شمر التی ذکرها فی تقریره السابق قد رحلت فی طریقها الی الجنوب فی بدایة الشهر، و ان قبیلة الشعر ما تزال متمادیة فی العبث بالأمن الی حد أنها أطلقت النار علیه حینما زار مع جماعته منطقة أبی غریب فی الرابع و العشرین من الشهر، فأعلن عصیانها و هو یأمل جلبها الی الطاعة فی القریب العاجل. ثم یأتی علی ذکر حوادث الأمن و النظام فی المنطقة و یذکر ان حادثة القتل التی وقعت فی الشهر الماضی قد أحالها الی الحاکم العسکری فی بغداد، و ان حادثة أخری قد وقعت و قتل فیها رجل من بنی تمیم یدعی ابراهیم بن کاظم عن ثأر قدیم فعین الشیخ حسن السهیل للبت فیها عن طریق الفصل. و هنا أیضا یشیر الی اقتراف عرب الشقر ای (الخیم) للجرائم.
و یأتی بعد ذلک علی ذکر «الشبانة» او الجنود المرتزقة الذین کانو تحت تصرفه، و یقول ان المئة الذین کانوا عنده منهم قد أعاد النظر فیهم بقصد خلق قوة فعالة من بینهم فأخرج العاجزین منهم و أبقی النشطین فقط حتی أنزلهم إلی حد الأربعین. ثم یذکر ان الانخراط فی هذا المسلک بطی‌ء لأن الناس یخجلون من ذلک، و لا سیما بنی تمیم الذین کان یعول علیهم فی هذا الشأن. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 272
أما بالنسبة للشؤون الزراعیة فیذکر الحاکم السیاسی فی التقریر أنه کان هناک شی‌ء من الحرکة و عدم الاستقرار بین الفلاحین فی منطقة أبی غریب لأنهم مدینون للحکومة، و هم غیر واثقین مما ستفعله تجاههم. علی ان هذا قد عولج بتأخیر استیفاء سلفة البذور التی کانت قد سلفت لهم فی العام الماضی. و یذکر کذلک ان جدول الیوسفیة الجدید قد جلب الیه عدد من فلاحی هذه الجهات.
و جاء فی التقریر هذا عن الواردات و شؤونها ان قاسم أفندی، مأمور أبی غریب، قد فصل من الوظیفة و أعطیت الفرصة الی حسن أفندی لیحل فی محله. و قد وجد معاون الحاکم السیاسی من الضروری ان یوقف دفع مبالغ کبیرة من سلفات البذور فی أبی غریب، و هو یظن ان السر اکیل سیدرکون ان الحکومة لا بد من ان تدفع لهم هذه السلف علی أیة حال و علیهم ان یستقروا فی أرضهم فیعملوا جهدهم للحصول علی حاصل جید منها.
و یذکر فی التقریر ان أراضی منطقة التاجی کانت یومذاک موضع نزاع بین دائرة الأوقاف و بعض الملاکین فی الکاظمیة و کربلا، فأحیلت قضیتهم الی بغداد. و لکن معاون الحاکم السیاسی قد علم فی الوقت نفسه ان جمیل أفندی وکیل الأوقاف قد توصل إلی اتفاق ودی مع الجهة المقابلة.
اما عن البلدیة فیقول أنها کانت مدینة حوالی عشرة آلاف روبیة.
و قد قدمت اقتراحات عن إنارة البلدة بالکهرباء، و المؤمل ان توضع تلک المقترحات فی موضع التنفیذ فی القریب العاجل.
و بالنسبة لشؤون الری و السداد فان التقریر یذکر ان جدول أبی غریب قد فتح فی فی الخامس و العشرین من الشهر، و ان الترتیبات اللازمة قد اتخذت لوضع المحافظة علی السداد فی عهدة الشیوخ الذین تقدم لهم المساعدات اللازمة عن الحکومة. و سوف یشرف علی الأعمال بأجمعها مأمور عام و مساعدان فقط.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 273
و مما جاء فی التقریر عن الناحیة الصحیة ان الترتیب الذی کان جاریا یومذاک بحضور طبیب زائر ثلاث مرات فی الاسبوع لمدة ساعتین فی کل مرة کان شیئا غیر واف بالمرام. فان العودة الی السماح بنقل الجنائز، و بدأ الناس بالتنقل من أجل الزیارة، و ما یترتب علی هذین الأمرین من ازدیاد الفرصة لانتشار العدوی بالأمراض المختلفة، تجعل من الضروری وجود طبیب متفرغ للعمل علی الدوام فی الکاظمیة.
هذا و هناک نقاط متفرقة أخری یتطرق الیها هذا التقریر الشهری، منها أن زیارة صفر فی کربلا قد حل أوانها فی یوم 22 من الشهر (ت 2) فذهبت جموع غفیرة من أهالی الکاظمیة الی هناک، و لم یعد عدد کبیر منهم الی حد الیوم الذی کتب فیه التقریر. و منها ان توقیع الهدنة مع ألمانیة، و نشر البیان الانکلیزی الفرنسی، قد نبه الأذهان بین الناس الذین صارت السیاسة العربیة تستأثر بالکثیر من تفکیرهم و اهتمامهم.

المس بیل فی الکاظمیة

لقد زارت المس بیل غیر ترود بیل، سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی فی بغداد، الکاظمیة عدة مرات فکتبت عن زیارتها هذه أشیاء مهمة فی رسائلها المعروفة. و أول رسالة من رسائلها التی تذکر فیها الکاظمیة رسالتها المؤرخة فی 21 أیلول 1917. فهی تقول:
«خرجت بعد ظهر یوم من أیام هذا الاسبوع، فذهبت و الجنرال کوبی الی الکاظمیة الکائنة علی بعد میلین او ثلاثة من بغداد، و هی بلدة شیعیة فیها مسجد مقدس للغایة. و أ تذکر الآن کیف أنی، حینما کنت هنا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 274
آخر مرة سنة 1909، مررت مرورا مسرعا بباب المسجد و ألقیت نظرة جانبیة خاطفة علی ما فی داخل الصحن. اما الیوم فقد کرمنا السادة أصحاب العمائم و رافقونا عند دخولنا من الباب إلی حافة الصحن. و فیما عدا تمتعنا بامتیاز لم یکن له مثیل من قبل فی دخولنا هذا، لم نجد شیئا کثیر الأهمیة لأن کل ما شاهدناه لم یکن الا أسوأ ما ینتجه العمل الحدیث من أشیاء بشعة سفسافة، قد تقفع فیها القاشانی الذی بنی قبل ثلاثین سنة عن الجدران.
و مع هذا فقد قوبلت بحفاوة فی کل مکان لأنی لم أذهب الی أی مکان آخر منذ قدومی الی بغداد».
و الملاحظ فی هذا القول ان انطباع المس بیل السی‌ء عن عمارة المشهد الکاظمی فی هذه الرسالة یناقض ما کتبته عندما شاهدت المشهدین العلوی و الحسینی من قبل. فقد أعجبتها الألوان و الزخارف هناک فضلا عن الفن الاسلامی المتجلی فی أجزاء العمارة جمیعها، و لا یحفی ان ما یلاحظ فی المشهد الکاظمی لا یختلف کثیرا عما یلاحظ فی المشاهد المقدسة الأخری.
هذا و قد زارت المس بیل الکاظمیة مرة أخری فی آذار 1920، فکتبت عن تلک الزیارة فی رسالتها المؤرخة فی الرابع عشر من الشهر نفسه ما یدل علی اهمیة هذه المدینة المقدسة و رجال الدین فیها. فهی تقول:
«سررت لأن سفری الی البصرة لم یکن فی هذا الاسبوع لأننی أصبت ببرد شدید. و أشعر کأن صدری قد أصبح قطعة صلبة واحدة. و لم یتحسن حالی حینما قصدت الکاظمیة یوم أمس و عدت منها فی وقت متأخر من النهار، و لکن الزیارة کانت لها فائدة جلی ..
فمن المشاکل التی تواجهنا هنا صعوبة الاتصال بالشیعة، و لا أقصد بهؤلاء العشائر منهم لأننا علی اتصال وثیق بهم کلهم، و انما أقصد سکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 275
المدن المقدسة المتطرفین فی التدین و علی الأخص المجتهدین قادة الرأی العام الدینی الذین یمکنهم ان یحلوا و یعقدوا بکلمة واحدة مستمدة من سلطة تستند علی اتقانهم التام لضروب المعرفة القدیمة التی لا تمت الی الشؤون الانسانیة بصلة مطلقا، و لا تکون ذات فائدة لأی فرع من فروع المسعی الانسانی (کذا). و هم یجلسون هناک فی جو مفعم بامارات القدم وفد تراکم فیه غبار القرون بطبقات کثیفة لا یستطیع المرء ان یتبین شیئا خلاله، و لا یستطیعون ذلک هم أیضا. و یکون هؤلاء فی الأعم الأغلب شدیدی العداء لنا، و مثل هذا الشعور تجاهنا لا یمکن تغییره لاننا یصعب علینا الاتصال بهم. ان کلامی هذا ینطبق بوجه خاص علی المتطرفین منهم، فهناک عدد قلیل من هؤلاء لنا علاقات ودیة بهم. و قد کنت الی وقت متأخر جدا بعیدة جد البعد عنهم لأن تقالیدهم تمنعهم من النظر الی امرأة غیر متحجبة، کما تمنعنی تقالیدی عن التلفح بالحجاب- و اعتقد اننی مصیبة فی ذلک لأن تحجبی یعد اعترافا صریحا بالضعة التی تجعل اتصالنا فی غیر نصابه منذ البدایة.
و لیس من المفید کذلک ان نکوّن صداقات عن طریق النساء، لأن نساءهم اذا کان من المسموح لهن بقبول زیارتی فانهن یتحجبن بحضوری أیضا کما لو کنت رجلا من الرجال. و علی هذا ترون اننی أبدو أشد أنوثة تجاه جنس الرجال، و أشد رجولة تجاه الجنس الآخر.
الشیخ کاظم الدجیلی
و هناک مجموعة من هؤلاء الذوات فی الکاظمیة، المدینة المقدسة الواقعة علی بعد ثمانیة أمیال من بغداد، المتطرفة فی ایمانها بالوحدة الاسلامیة و المتشددة فی مناوأة الانکلیز. و فی مقدمة هؤلاء اسرة الصدر التی قد تکون أبرز أسرة عرفت بالتعلیم الدینی فی العالم الشیعی کله. و قد وقعت سلسلة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 276
الحوادث أدت بهم إلی محاولة الاتصال بی فأبدیت لهم أنهم اذا کانوا یریدوننی ان أزورهم فسیسرنی التشرف بذلک .. و أخیرا ذهبت یوم أمس و فی صحبتی رجل شیعی متقدم من شیعة بغداد کنت أعرفه جیدا ، و اعتقد انه حر التفکیر فی الباطن. فسرنا فی أزقة الکاظمیة المتعرجة الضیقة، حتی وقفنا أمام مدخل صغیر مظلم، ثم قادنی صاحبی خلال خمسین یاردة من ممر طویل قاتم الظلمة أوصلنا الی بیت السید فی النهایة. و کان البیت قدیما، یرجع الی مئة سنة علی الأقل فی أول عهده، تشاهد فیه المشابک الخشبیة الجمیلة التی تقادم عهدها و هی تحجب الدیوان فی الطابق الأعلی. کما کانت الغرف کلها تفتح أبوابها من فناء الدار، الذی کان عبارة عن برکة من السکون و الهدوء معزولة عن الشارع بخمسین یاردة من المبانی السریة التی مررنا من تحتها عند الدخول.
و کان نجل السید حسن. السید محمد، یقف فی الشرفة للترحیب بنا و قد تسربل بلباس أسود. و بانت فی وجهه لحیة سوداء، تنتصب علی رأسه من فوقها عمة نیلیة قاتمة اللون من العمائم التی تعرف بها طبقة المجتهدین.
و کان السید حسن و هو یجلس فی الداخل شخصیة مهیبة قویة بلحیته البیضاء المتدلیة الی منتصف الصدر، و عمامته التی کانت تبدو أکبر من عمامة السید محمد. و قد جلست علی السجادة الی جنبه، و بعد أن تبادلنا التحایا الرسمیة بدأ یتکلم بلهجة العلماء، أو لغة الکتب التی لا یسمعها المرء علی لسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 277
سائر الناس. و عند المجتهدین أشیاء کثیرة یقولونها فی العادة، فان الکلام جزء من صنعتهم، و لا شک ان ذلک یوفر علی الزائر شیئا کثیرا من العناء.
فتکلمنا عن أسرة الصدر بجمیع فروعها، فی ایران و سوریة و العراق، و عن الکتب و مجموعاتها العربیة فی القاهرة و لندن و باریس و روما. انه یملک قوائم الکتب فی المکتبات جمیعها. و تطرقنا بعد ذلک الی طقس سامراء الذی شرح لی بأنه أحسن من طقس بغداد بکثیر لأن سامراء تقع فی المنطقة المناخیة الثالثة فی عرف الجغرافیین. و کان یتحدث بعنف و قوة بحیث کانت عمامته تزحف نازلة إلی الأمام باستمرار حتی تصل إلی حاجبیه، الأمر الذی کان یضطره الی دفعها الی وراء بعصبیة. و قد کان یخالجنی، و أنا فی موقفی هذا، شعور جاد بأنه لم یتسن لامرأة غیری من قبل مطلقا ان تدعی لتناول القهوة مع عالم مجتهد و تستمع الی حدیثه، و کنت حریصة فی الحقیقة علی ان أترک انطباعا حسنا عنده.
و لذلک قلت له بعد ثلاثة أرباع الساعة بأننی أخشی أن أکون قد أزعجته، و طلبت منه ان یأذن لی بالخروج فرد علی یقول فی الحال «کلا کلا، لقد خصصنا بعد ظهر الیوم هذا لک». و عند ذاک تأکدت بأن زیارتی کانت ناجحة فمکثت ساعة أخری. لکننی استخدمت الساعة الأخری هذه بمقدار أکبر من الاطمئنان و الثقة. فقلت له أرید أن أحدثکم عن سوریة، و نقلت له جمیع ما کنت أعرف عنها أی الی آخر برقیة تلقیناها عن قرب تتویج فیصل ملکا علیها. فاستفسر منی باهتمام مفاجی‌ء قائلا:
«علی سوریة کلها الی حد البحر؟» فأجبته قائلة «کلا فان الفرنسیین سیبقون فی بیروت»، و هنا رد علی یقول «ان هذا شی‌ء غیر حسن إذن» ثم أخذنا نبحث فی الأمر من جمیع نواحیه. و انتقلنا بعد ذلک إلی التحدث عن البولشفیة، فاتفق معی علی أنها بنت الفقر و الجوع ثم قال «لکن العالم کله أصبح فقیرا جائعا منذ وقوع الحرب». و قد قلت علی أثر ذلک بأننی یبدو لی ان البولشفیة تنطوی فکرتها علی تهدیم کل شی‌ء و بناء أشیاء جدیدة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 278
مکانه، و أخشی ان یکون البولشفیک جاهلین بفن البناء. فأیدنی فی قولی هذا.
و حینما تململت مبدیة الرغبة فی انهاء الزیارة بادرنی السید یقول «من «المعلوم جیدا أنک أعلم امرأة فی زمانک، و اذا کان هذا القول یحتاج الی دلیل فهو أنک ترغبین فی التردد علی العلماء و أندیتهم. و هذا هو سبب مجیئک عندنا الیوم.» فأبدیت شکری الجزیل علی هذا الامتیاز، و خرجت مودعة بسیل من الدعوات بالعودة فی أی وقت أشاء .. و فی طریقی الی البیت ذهبت لأعود فرانک بلفور الذی کان قد لزم الفراش لحمی أصابته، فسمعت منه خبر تتویج فیصل ملکا علی سوریة و عبد اللّه ملکا علی العراق ..»
و قد کتبت المس بیل فی رسالة أخری، مؤرخة بتاریخ 23 أیار 1920، ما شاهدته فی الکاظمیة حینما ذهبت الیها بمناسبة وصول أحمد شاه، آخر ملوک القاجار فی ایران، لزیارة الامامین الکاظمین علیهما السلام. فهی تقول :
«و فی صباح الیوم الثانی رکبت مع فرانک بلفور و المیجر های الی الکاظمیة لمشاهدة الشاه الذی جاء للزیارة فیها .. و حینما وصلنا الی هناک نظرت إلی ما فی داخل الصحن الشریف من خلال باب الجامع الکبیر فوجدت فی فناء الصحن الذی لا یسمح لنا بالدخول الیه أنه کان ممتلئا بصفوف خدام المشهد الکاظمی الذین کانوا یلبسون العمائم الخضر، و جماعات العلماء ذوی العمائم البیض و السود و الأردیة الطویلة. فکان المنظر یبدو و کأنه صورة من الصور الدینیة التی ینتجها (جنتایل بلینی) و قد جاء الشاه بزورق بخاری، و لذلک رکبنا قبل ان یصل الی ضفة النهر حیث ألفینا السید جعفر عطیفة رئیس البلدیة (الذی کان والدی قد شرب الشای عنده فی مناسبة سابقة) و اثنین من الوجهاء فی انتظاره. فانتظرنا هناک فی ظل النخیل، مقابل بلدة الأعظمیة. و کان النهر ینساب مستأنیا بلونیه الأزرق و الفضی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 279
و الهواء کأنه عسجد مذاب، و بساتین الأعظمیة و دورها تلتمع و تتلألأ فی الضفة المقابلة من حول منارة المرقد السنی المرتفعة الی السماء. فکان ذلک منظرا مبهجا ما ألیقه للزیارة الملکیة» ..
اما الرسالة الأخری التی کتبتها المس بیل عن الکاظمیة فکانت بتاریخ 4 کانون الأول 1920، و قد ذکرت فیها زیارتها للأمیرة الإیرانیة (بانو عظمی) إبنة ناصر الدین شاه. فهی تقول فیها:
«رکبت بعد ظهر أمس الی الکاظمیة لأزور أمیرة إیرانیة متقدمة فی السن تلقب (بانو عظمی)، و هی ابنة ناصر الدین شاه .. فقد جاءت الی الکاظمیة لاداء الزیارة و استأجرت دارا صغیرة تنزل فیها. و هناک وجدتها فی غرفة صغیرة تطل علی صحن الدار، و قد فرشت بالسجاد و علقت فیها الستائر لتدفئتها. و أکمل أثاثها ب «منقلة» فحم فی الوسط و قفص فیه ببغاء.
و کانت الأمیرة متمددة علی حشیة مفروشة علی الأرض، و متکئة علی عدد من الوسائد، کما کانت تتغطی بلحاف سمیک. و کان ما یمکن رؤیته من جسمها متشحا بالسواد الی حد الحاجبین من فوق و الذقن من أسفل الوجه.
و جل ما بقی غیر مغطی منها یدان طلیقتان و وجه دقیق القسمات تزینه عینان وسیعتان تحدقان من وراء النظارات. و قد کانت هذه الأمیرة جمیلة جدا فی یوم من الأیام علی ما یبدو، و لا غرو فان نساء القاجار یشتهرن بجمالهن. و کانت و هی متمددة بحالتها تلک تتکلم بلهجة فارسیة شیقة، سریعة عذبة و خافتة کأنها خیال الصوت المسحور. ان أولائی الأمیرات القاجاریات اللواتی یأتین الی هنا بین حین و آخر، للزیارة فی الغالب، جذابات الی آخر حد، انهن سیدات عظیمات، لکننی أحببت بانو عظمی من دونهن».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 280
و آخر رسالة تذکر فیها المس بیل الکاظمیة هی رسالتها (1) المؤرخة فی 13 شباط 1924. فقد ذکرت فیها جولتها حول الکاظمیة للتفتیش عز منزل قیل لها ان صاحبه کان یحبی‌ء فیه تمثالا أثریا من التماثیل الآشوریة، قاهتدت بعد تجوال غیر یسیر الی دار خربة کانت تعود الی اقبال الدولة.
و کان التمثال شبیها بتمثال سمیرامیس الذی کان قد اکتشف فی مدینة آشور الأثریة من قبل، غیر أنه کان قد جی‌ء به من بابل علی ما ترامی الیها. فنقلته الی المتحف علی ما یفهم من الرسالة.

الحرکة الوطنیة فی الکاظمیة

لم تکن الکاظمیة أقل اندفاعا فی مکافحة الأجنبی المحتل، و تنمیة الحرکة الوطنیة المناضلة فی البلاد، من شقیقاتها العتبات المقدسة الأخری فی العراق. فقد بدأت بذلک منذ ان تطوع علماؤها الأعلام، و شبانها المتحمسون، للجهاد ضد الانکلیز عند أول نزولهم الی البر فی البصرة کما مر ذکره فی بحث سابق. و حینما تم احتلال بغداد و أعقب فترته حدوث تطورات خطیرة فی أحوال العراق و السیاسة العالمیة، و بعد ان انتهت الحرب ما بین الدولة العثمانیة و بریطانیة العظمی و أعلنت الهدنة بینهما فی 30 تشرین الأول 1918، بادر الانکلیز فی 8 تشرین الثانی الی اعلان التصریح الانکلیزی الفرنسی الذی وعدت فیه الدولتان بتشکیل «حکومات و إدارات وطنیة حرة تنتخب وفق رغائب الأمة و تستمد سلطتها منها» للأقوام و البلاد المنسلخة عن الدولة العثمانیة و حکمها المنهار. ثم سمحت السلطات المحتلة فی یوم 11 تشرین الأول 1919 بأن تنشر فی العراق بنود الرئیس ویلسن الأربع عشرة، التی کانت الدول التابعة للفریقین المتحاربین قد اتفقت علی اتخاذها أساسا لعقد الصلح فیما بینها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 281
و قد کان یبدو من ذلک ان السلطات البریطانیة کانت عازمة علی ان تعود بالبلاد الی حالة السلم، بعد الحرب الطاحنة التی کلفت الفریقین خسائر فادحة، فدعا الجنرال مارشال القائد العام لقوات الاحتلال البریطانی فی العراق (الذی تعین بعد الجنرال مود) علی أثر اعلان الهدنة وجهاء بغداد بغداد و رجالها البارزین، فألقی فیهم خطابا أشار فیه إلی بیان سلفه الجنرال مود الذی ذکر فیه ان الانکلیز جاءوا «محررین لا فاتحین». و أعلن رفع القیود التی کانت قد اقتضتها ظروف الحرب، و من جملتها اباحة نقل ألجنائز من مختلف الجهات و دفنها فی العتبات بشروط مناسبة علی حد قول ارنولد ویلسن فی کتابه المشار الیه قبلا.
و کان من الطبیعی ان تؤدی هذه الوعود و التطورات التی حصلت فی البلاد إلی تنبه أذهان الناس و أفکارهم، و لا سیما فی بغداد و الکاظمیة، و حصول نشاط سیاسی فعال فی الأوساط السیاسیة المختلفة. و لذلک راح المعنیون بالأمر، بعد ان خضعت البلاد إلی دولة جدیدة غیر مسلمة، یعملون علی التکتل و التنظیم من أجل المطالبة بتشکیل حکم وطنی فی البلاد. و کان لحرکة الشریف حسین و ثورته العربیة التی أعلنها مع أنجاله فی الحجاز سنة 1916 تأثیر غیر یسیر علی تهیئة الأفکار فی هذا الشأن، و دفع الشباب الوطنی الی العمل المثمر.
و فی غمرة هذه التطورات و الأحداث صدرت أوامر الحکومة البریطانیة فی لندن بأن یقوم وکیل الحاکم الملکی العام (ویلسن) فی بغداد باستمزاج رأی العراقیین فی نوع الحکم الذی یریدونه، باجراء استفتاء عام تعرض تعرض فیه النقاط التالیة:
1- هل یفضل أهالی العراق تأسیس دولة عربیة واحدة تستهدی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 282
بإرشادات بریطانیة العظمی، و تمتد حدودها من حدود ولایة الموصل الشمالیة الی الخلیج؟
2- و فی هذه الحالة، هل یرون ان الدولة الجدیدة یجب ان یکون علی رأسها أمیر عربی؟
3- من هو الذی یفضلون نصبه رئیسا للدولة؟
و لما کان رجال الاحتلال البریطانی فی تلک الأیام، و علی رأسهم ارنولد ویلسن، غیر مؤمنین بوجوب تشکیل أی نوع من أنواع الحکم الوطنی فی العراق فقد اتخذوا التدابیر اللازمة لاستحصال نتائج من الناس تتفق و ما یریدون، و أصدروا الأوامر اللازمة للحکام السیاسیین و معاونیهم بالتأثیر علی الناس بمختلف الوسائل و تزییف المضابط المقدمة أو تحریفها عند الحاجة. لکن هذه الأسالیب لم تنطل علی الوطنیین و رجال الدین فی العتبات المقدسة التی أخذت دورا قیادیا فعالا فی هذا الشأن. فنظمت المقاومة فیها، و أصدرت الفتاوی و من جملتها فتوی الإمام الشیرازی التی ندرجها فیما یأتی:
بسم اللّه الرحمن الرحیم
لیس لأحد من المسلمین ان ینتخب او یختار غیر المسلم للامارة و السلطنة علی المسلمین. الأحقر
20 ربیع الثانی 1337 محمد تقی الحائری الشیرازی
و قد کان لهذا الموقف تأثیره علی سیر الاستفتاء، و تعقد الأمور فی الکاظمین و کربلا علی الأخص بحیث اضطرت السلطات الی استعمال أسالیب القمع و الاکراه. و تقول المس بیل فی تقریرها المسهب (الص 123 من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 283
الترجمة العربیة عن العراق فی فترة الحرب «.. ان المجتهدین فی الکاظمیة و کربلا حرموا علی المسلمین التصویت لغیر تشکیل حکومة إسلامیة، فبلغ الاختلاف حدا أوقف سیر الاستفتاء. و قدمت بعد ذلک عدة عرائض یفضل فیها الموقعون علیها بقاء الادارة البریطانیة، و کان بین الموقعین علیها شیوخ و رجال ذوو مکانة فی البلد ..» و لا شک أنها تعنی بالعرائض الأخیرة التی استحصلت بالاکراه أو التی وقع علیها الممالئون للسلطة المحتلة.
و فی مذکرة سریة خاصة، کتبت فی شباط 1919، بعنوان الحکم الذاتی فی العراق تعزو المس غیر ترود بیل الحرکة المناوئة ضد الاستفتاء الذی کان یریده الانکلیز الی «.. أن العرب الذین کانوا منخرطین فی سلک الخدمتین الترکیتین المدنیة و العسکریة، و الذین کانوا قد رحلوا مع الأتراک بعد الاحتلال، و أعضاء جمعیة الاتحاد و الترقی الفعالین، و غیرهم ممن لم یجازفوا بالبقاء فی بغداد بسبب نزعتهم الترکیة المعروفة- عادوا وکلهم من الموصل فی أوائل تشرین الثانی و أخذوا لتوهم یبثون الدعایة المناوئة للبریطانیین. و یبدو ان نفوذهم المباشر کان منحصرا فی بغداد و الکاظمیة ..»
و تشیر فی مکان آخر من هذه المذکرة الی ان المقاومة فی الکاظمیة کانت عنیفة، فتقول: «.. و قد وصلت قصص مبالغ فیها عما کان یجری فی النجف و کربلا الی أهالی الکاظمیة المدینة الشیعیة المقدسة الثالثة حیث کان الشعور الوطنی آخذا فی الطغیان. و هناک أدلة تثبت ان الکاظمیة کان یشتغل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 284
فیها وکلاء من استانبول بعد أن وجدوا فیها مادة تناسب أغراضهم. و لذلک فعندما طلب الی بلدة الکاظمیة ان تعطی رأیها حول النقاط الثلاث التی مر ذکرها هدد العلماء أی شخص یصوت للاحتلال البریطانی بالمروق عن الدین و الطرد من الجوامع. و بالرغم من التحریم الوشیک صمد عدد من المواطنین البارزین و الشیوخ المحلیین، و لم تکن شجاعتهم تلک شیئا هینا.
و قد أخذت المضبطة المناوئة للبریطانیین الی الجامع الأکبر فی اللیل فکسب لها عدد من المحجمین عنها، لکن الفصاحة و البیان المتناهی لم یغیرا من رأی رئیس البلدیة (السید جعفر عطیفة)، الذی یعد أبرز تجار البلدة فی الوقت نفسه، و اشتغاله فی تهیئة مضبطة مقابلة فی صالح الحکم البریطانی.
فقد استحصل لها تواقیع التجار الآخرین و معظم الشیوخ المحلیین و رعایا الهند البریطانیین. و ینتمی الأخیرون الی أسر کانت تقیم فی الکاظمیة منذ مدة طویلة و تتمتع بسمعة طیبة. و اذا ما اعتبر هؤلاء من الأجانب بالنسبة لوجهة النظر العراقیة فان العلماء الایرانیین الذین أصدروا الفتوی لا یمکن ان یتملصوا من نقد کهذا أیضا » (انتهی). و نترک التعلیق علی مثل هذا المنطق الی رأی القاری‌ء و حصافته. علی اننا لا بد من أن ندرج فیما یأتی نص المضبطة الوطنیة التی قدمها الکاظمیون، و هی تدل علی وطنیتهم و جهادهم الحق من اجل استقلال هذه البلاد و حصولها علی حقوقها المشروعة:
السید جعفر عطیفة فی الوسط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 285

بسم اللّه الرحمن الرحیم

بناء علی الحریة التی منحتنا إیاها الدول العظمی، و فی مقدمتها الدولتان الفخیمتان انکلترة و فرنسة، و حیث اننا ممثلو جمهور کبیر من الأمة العربیة العراقیة المسلمة فاننا نطلب ان تکون للعراق الممتدة أراضیة من شمال الموصل الی الخلیج حکومة عربیة إسلامیّة یرأسها ملک عربی مسلم هو أحد أنجال الملک حسین، علی ان یکون مقیدا بمجلس تشریعی وطنی، و اللّه ولی التوفیق.
حرر یوم الاربعاء 5 ربیع الثانی 1337 التواقیع: محمد مهدی
الصدر، الشیخ ابراهیم السلماسی، الشیخ مهدی الخالصی، عبد الحسین آل الشیخ یاسین، أحمد آل السید حیدر، السید حسن الصدر، و تواقیع کثیرة أخری بحیث یکون المجموع 143 توقیعا. (مضبطة الکاظمیة رقم 8 «الکاظمیة»).
و یؤید ما جاء عن هذا الموقف الوطنی الذی وقفته الکاظمیة الکاتب الأمریکی فیلیب آیرلاند فی کتابه المعروف عن العراق باسم (العراق- دراسه فی تطوره السیاسی ). فهو یقول: «.. علی ان سیر الاستفتاء فی المناطق الأخری، و لا سیما فی المدن المقدسة مثل الکاظمیة و النجف و کربلا، و فی بغداد لم یکن سهلا و لم تکن نتائجه مرضیة کما یجب .. و کان الشعور المعادی لبریطانیة فی الکاظمیة شعورا قویا جدا. فقد هدد العلماء جمیع من یصوت للاحتلال البریطانی بالمروق عن الدین و الطرد من الجوامع، غیر أنه أمکن ایجاد جماعة من السکان استطاعت تنظیم مضبطة أجل فیها النظر بأمر الحمایة الی ما بعد مؤتمر الصلح (انتهی).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 286
و لا یخفی ان المعارضة التی أبداها الوطنیون ضد الاستفتاء المزیف الذی کان یریده الانکلیز قد عملت علی تقویة الروح الوطنیة بین الناس و توعیتهم فی شؤون البلاد و مستقبلها. و قوی شأن هذه المعارضة بالتدریج، و علی الأخص بعد ان أذیع قبول بریطانیة الانتداب علی العراق فی 3 مایس.
(فقد أثار ذلک فی الوطنیین نشاطا جدیدا)، و عملوا علی تکوین جبهة متحدة من الطائفتین المسلمتین الشیعیة و السنیة، و بانت نذر هذا التقارب لأول مرة فی صیف 1919 عندما حضر السنة فی بغداد اجتماعین دینیین لتأبین المجتهد السید کاظم الیزدی. لکن الأهمیة السیاسیة لهذا التقارب لم تظهر بصورة جلیة الا فی شهر رمضان الذی بدأ فی 19 مایس 1920. حیث أخذت حفلات المولد تقام فی الجوامع الشیعیة و السنیة بالتناوب .. و کانت فی بعض الاحیان تعقب قراءة المولد، التی هی من المراسیم السنیة البحتة قراءة «التعزیة» التی هی من المراسیم الشیعیة التی تقرأ فی تأبین الحسین و تقدیس استشهاده.
لکن الطابع البارز علی هذه الحفلات الدینیة کان فی جمیع الحالات القاء الخطب السیاسیة و انشاد الشعر الوطنی متلوا بالمراسیم الدینیة المعتادة .. و لا شک ان الکاظمیة کان لها القدح المعلی فی ذلک، حیث ان عددا من هذه الاجتماعات و حفلات المولد التی تشیر الیها المس بیل قد عقد فی المشهد الکاظمی، کما ان قادة الحرکة الوطنیة هذه کان فی مقدمتهم السید محمد الصدر الکاظمی مولدا و نشأة. و تشهد بذلک المس بیل کذلک، حیث تقول «.. و کان قادة الحرکة و منظمو حفلات المولد رجالا تختلف منزلتهم الاجتماعیة و قابلیاتهم، و کان أکفأهم و أبرزهم قدرة رجلان شیعیان هما السید محمد الصدر المنسوب إلی اسرة دینیة معروفة فی الکاظمیة، و جعفر ابو التمن و هو تاجر من تجار الشیعة فی بغداد. کما کان من أبرز السنة فی هذا الشأن یوسف افندی السویدی و الشیخ أحمد الداود و علی افندی البزرکان».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 287
و حینما أراد الوطنیون اتخاذ تدابیر فعالة للحصول علی استقلال البلاد و حقوقها المشروعة فی تألیف حکومة وطنیة» ... تألفت لجنة من خمسة عشر عضوا، انتخبوا أنفسهم بأنفسهم و تسموا باسم المندوبین عن بغداد و الکاظمیة من أجل مقاومة الانتداب، و طلبوا مواجهة الحاکم الملکی العام لیعرضوا علیه آراءهم «. علی ما تقول المس بیل . لکن الحقیقة ان الذی انتخب اللجنة المشار إلیها هو الجمهور الذی احتشد فی الاجتماع الشعبی المنعقد فی جامع الحیدر خانة، و لم ینتخب أعضاؤها أنفسهم کما تزعم سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی. و کان من بین هؤلاء اثنان من الکاظمیة هما محمد الصدر و السید أبو القاسم. و قد دفع هؤلاء المندوبون مذکرة خاصة یطالبون فیها: (1) بتألیف مؤتمر یمثل العراقیین و یقرر مصیر البلاد و (2) بمنح الحریة فی الکتابة و الخطابة (3) برفع القیود المفروضة علی وسائل الاتصال بالخارج. و جاء فیها ایضا قول «.. فبصفتنا نوابا عن أهالی بغداد و الکاظمیة نطلب إلیکم ان تصادقوا حالا علی تنفیذ هذه المطالیب الثلاثة بکل سرعة ممکنة ..»

الکاظمیة و الثورة العراقیة

و هکذا یلاحظ مما مرّ ان الکاظمیة قد اشترکت بعلمائها و رجالها، و الرأی العام فیها، اشتراکا فعلیا فی إشعال نار الثورة و التمهید لها. و یقول المستر آیرلاند فی کتابه الذی مرت الأشارة الیه من قبل فی هذا الشأن «.. و بینا کان هیاج بغداد یتعاظم کان علماء الشیعة فی المدن المقدسة یضاعفون جهودهم فی إثارة القبائل و مراکز الألویة. فنشرت المناشیر الطویلة و الرسائل و الوثائق التی کان یحمل قسم منها توقیع المجتهد الأکبر المیرزا محمد تقی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 288
و کانت هذه تناشد المؤمنین الصادقین الدفاع عن بیضة الإسلام ضد الکفار و تستحثهم علی إرسال المندوبین الی بغداد لتشکیل حکومة إسلامیة. و وقع عدد من الشیوخ علی میثاق یجمع القبائل فیه علی الثورة فی وقت واحد.» و إظهارا للدور الذی قامت به الکاظمیة فی هذا الشأن نورد فیما یأتی نص الکتاب الذی وجهه قائد الثورة الأکبر حجة الإسلام المرزا محمد تقی:
الی اخواننا العراقیین
السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته. اما بعد فان إخوانکم فی بغداد و الکاظمیة و النجف و کربلا قد اتفقوا فیما بینهم علی الاجتماع و القیام بمظاهرات سلمیة. و قد قامت جماعة کبیرة بتلک المظاهرات مع المحافظة علی الأمن طالبین حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق ان شاء اللّه بحکومة اسلامیة، و ذلک بأن یرسل کل قطر و ناحیة الی عاصمة العراق وفدا للمطالبة بحقه متفقا مع الذین سیتوجهون من أنحاء العراق عن قریب الی بغداد. فالواجب علیکم بل علی جمیع المسلمین الاتفاق مع إخوانکم علی هذا المبدأ الشریف، و ایاکم و الإخلال بالأمن و التخالف؟ و التشاجر، فان ذلک مضر بمقاصدکم و مضیع لحقوقکم التی صار الآن أوان حصولها بأیدیکم. و أوصیکم بالمحافظة علی جمیع الملل و النحل التی فی بلادنا فی نفوسهم و أموالهم و أعراضهم، و لا تنالوا أحدا منهم بسوء. وفقنا اللّه جمیعا لما یرضیه، و السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته.
9- 10 رمضان 1338 الأحقر محمد تقی الحائری الشیرازی
هذا و قد لاحظنا فی بعض المراجع العربیة التی دونت أخبار الثورة العراقیة ان الکاظمیة لعبت دورا فعالا قبل الثورة و بعدها، و ان الذی نشط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 289
لهذا العمل فیها علی الأخص الشیخ مهدی الخالصی و السید أبی القاسم الکاشانی، بعد ان توجه السید الصدر الی جهات الثورة الأخری. و یعتقد الشیخ فریق المزهر الفرعون مؤلف (الحقائق الناصعة) ان أول حرکة من الحرکات الثوریة التی وقعت فی منطقة بغداد کانت فی الکاظمیة و لیس فی بغداد نفسها، و قد تم ذلک علی ید آیة اللّه السید الکاشانی الذی کان مقیما فی الکاظمیة.
فهو یقول:
«لقد عمل الکاشانی فی مدینة الکاظمیة من وقت بعید قبل ان تصبغ بغداد بلون الثورة ضد السلطة البریطانیة المحتلة، فقد کان یطبع المنشورات فی الکاظمیة و توزع سرا بتوقیع (الجمعیة الإسلامیة العربیة) فأقض مضجع السلطة العسکریة المحتلة بذلک، فبثت العیون و الجواسیس لمعرفة أعضاء الجمعیة فعاد کل هؤلاء بخفی حنین .. و الکاشانی هذا و هو الذی قام بأعمال جبارة خلال الثورة و قبلها .. لم یکن الا غصنا من شجرة الافتاء فی النجف الأشرف، و فذا من الأفذاذ الذین جمعتهم رابطة الجهاد من العلماء و الزعماء فی الفرات الأوسط من أجل الحصول علی الاستقلال قبل ان تتوارد فکرة الثورة فی رؤوس سکان بغداد، و عندما وجدت القیادة الروحیة عنده الاخلاص و قوة التفکیر و سداد الرأی وجه الی الکاظمیة لیبث الدعوة للثورة هناک» (انتهی).
و الظاهر ان المغفور له الشیخ مهدی الخالصی کان قد انتقل الی کربلا خلال المدة التی کان الکاشانی یشتغل فی الکاظمیة من أجل الثورة فیها، فثقل العب‌ء علی الکاشانی و سیّر له وفدا من مواکب العزاء یرجوه فیه العودة للعمل علی قیادة الثورة فی منطقة بغداد فتم له ذلک. و المعروف ان السید الکاشانی قد ظل یکافح الانکلیز و یعمل علی إحباط خططهم حتی اضطر إلی الهجرة من العراق الی ایران مع عدد آخر من العلماء احتجاجا علی تسفیر الشیخ مهدی الخالصی الی الخارج فی سنة 1923، بعد ان أصرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 290
علی معارضة عملیة الانتخاب للمجلس التأسیسی. و ظل یعمل علی مناوئة الانکلیز فی ایران کذلک حتی اشتهر أمره علی عهد مصدق فی الغاء امتیاز شرکة النفظ الانکلیزیة الایرانیة.

الکاظمیة و فیصل الأول

کانت الثورة العراقیة قد أحدثت التأثیر المطلوب لدی الرأی العام البریطانی فاضطرت الجهات المختصة فی بریطانیة الی التعجیل بتشکیل نوع من أنواع الحکم الوطنی فی العراق تضمن فیه مصالحها، و تنفذ بواسطته شروط الانتداب الذی ألقی علی عاتق بریطانیة العظمی فی عصبة الأمم الأمم. فتقرر فی اجتماع عقد فی القاهرة برآسة المستر تشرشل السماح للأمیر فیصل الذی قوضت فرنسة عرشه فی سوریة، بأن یرشح نفسه لعرش العراق.
فتوجه فیصل الی العراق و وصل البصرة فی 23 حزیران 1921، و بعد اسابیع ثلاثة نادی به مجلس وزراء الحکومة الموقتة المنعقد برآسة السید عبد الرحمن النقیب ملکا علی العراق بالاجماع. و حینما وصل إلی بغداد استقبل استقبالا حافلا، برغم الفتور الذی لاحظه عند مروره بمحطات القطار ما بین البصرة و بغداد. و احتفت به الکاظمیة عندما زارها فی الیوم الثانی.
و یقول المستر آیرلاند فی هذا الشأن: «.. غیر ان الحماسة فی الترحیب کانت معیدة للاطمئنان فی العاصمة حیث حیاه عند وصوله المندوب السامی و موظفوه مع جمهور کبیر هائل من وجهاء العراقیین و سراتهم، و کانت الجماهیر المحتشدة الهاتفة التی غصت بها العاصمة المزدانة بالألوان الشریفیة الأخضر و الأحمر و الأسود و الأبیض، تقدم دلیلا أضافیا بأن المدینة تقبل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 291
به. کما ان الاحتفاء العظیم الذی قابلته به الکاظمیة، عندما ذهب الیها فی الیوم التالی لتأدیة الصلاة فی الجامع المقدس وفقا لتعالیم المذهب الشیعی، کان احتفاءا شائقا لا یقل عما حدث فی بغداد نفسها» (انتهی).
و حینما جرت عملیة الاستفتاء العام فی البلاد حول قبولها بتنصیب فیصل علی العراق وقفت الکاظمیة موقفا وطنیا اشترطت فیه، علی لسان مجتهدها و زعیمها الأکبر الشیخ مهدی الخالصی، تحرر العراق من الحکم الأجنبی عند التنصیب بخلاف ما کان یریده الانکلیز بطبیعة الحال. و یقول المستر آیرلاند فی هذا الخصوص: «.. و مع ذلک فان الحکومة لم تستطع السیر فی طریقها تماما. فان المضبطة الرسمیة لم تلق قبولا عند الشیعة فی منطقة بغداد، فقد کتب الشیخ مهدی الخالصی أحد علماء الشیعة الکبار المضبطة بصیغة تنطوی علی اصرار شدید علی التحرر من الحکم الأجنبی، و تشکل حزب خاص لیثیر الناس من اجل ذلک. و فی اجتماع عام عقد ببغداد فی 28 تموز، للتصدیق علی المضبطة الرسمیة ظاهریا، قدمت مضبطة محوّرة فصودق علیها من دون صوت مخالف. و عرض هذا الشکل المحور منها علی مصوتی بغداد فی 29 تموز فکانت النتیجة أن ستة و ستین ممثلا من مجموع ممثلی بغداد البالغ عددهم الثمانین جعلوا قبول ملوکیة فیصل منوطا بنقتطین هما: ان یکون العراق مستقلا عن السیادة الأجنبیة، و ان یجتمع المجلس التأسیسی خلال ثلاثة أشهر» (انتهی).

المعارضة فی الکاظمیة

و حینما سار الحکم الوطنی سیرا لا یکفل الشرط الذی اشترطته الکاظمیة علی لسان زعیمها الخالصی، و أصبح خاضعا للسیادة الأجنبیة منذ البدایة رفعت الکاظمیة لواء المعارضة و تمادت فی موقفها المناوی‌ء للتسلط الأجنبی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 292
المدافع عن القضایا الوطنیة بوجه عام، مدة طویلة من الزمن خلال حکم الملک فیصل الأول. فقد اقتضی بتربع فیصل علی دست الحکم فی بغداد ان تنظم علاقة العراق ببریطانیة عن طریق معاهدة تعقد بین الطرفین و أرادت بریطانیة ان تضمن هذه المعاهدة جمیع النقاط الواردة فی صک الانتداب علاوة علی نقاط الاستغلال الأخری. غیر ان الوطنیین فی البلاد، و الکاظمیون فی مقدمتهم، کانوا یعارضون هذا بطبیعة الحال، و یأبون ان یکبل العراق بقیود جائرة عند أول تشکیل الحکم الوطنی فیه. و کان الملک فیصل یؤید من طرف خفی موقف الوطنیین فی هذه المعارضة، و یتصل سرا بهم.
و قد حدث فی تلک الظروف ان تفاقمت غارات الوهابیین علی الحدود العراقیة خلال شهر مارث 1922 و انتشر الرعب و الفزع بین طبقات السکان فی الألویة الوسطی و الجنوبیة من العراق. فعقدت إجتماعات فی النجف تقرر فیها ان یطالب العلامة الخالصی فی الکاظمیة بعقد مؤتمر عراقی عام فی کربلا یدعی الیه نخبة من وجوه الناس و شیوخ العشائر العراقیة کافة فی یومی 12 و 13 نیسان 1922. فتم ذلک، و استغل زعماء الحرکة الوطنیة هذا الاجتماع فعمدوا الی المذاکرة فی توحید الجهود من أجل العمل علی استحصال الحقوق المشروعة للبلاد و عدم تصدیق المعاهدة بالشکل الذی یریده الانکلیز. و قد کان من المعروف لدی الساسة المطلعین ان الملک فیصلا یشجع تلک الحرکة و یعمل علی تقویتها. إذ یقول المستر آیرلاند :
«.. و لم یکن احجام الملک البیّن، و وزرائه، عن تصدیق المعاهدة علی علاتها خالیا من التأثیر الذی کان یحدثه الشعور المتزاید المناوی للانتداب، الذی کان یغذیه الوطنیون بحذق و مهارة، و یمیل الملک لتأییدهم فیه دعما لموقفه.
و قد رحب الجمیع بعقد الاجتماع الکبیر الذی اجتمع فیه الوطنیون السنة و الشیعة من جمیع أنحاء العراق فی کربلا بتاریخ 12 و 13 نیسان 1922،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 293
بعد ان دعا الی عقده الشیخ مهدی الخالصی و الغرض الظاهری منه النظر فی اتخاذ التدابیر الدفاعیة اللازمة لصد الوهابیین ..».
و جریا علی الخطة التی رسمت بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر شنت حملة واسعة النطاق فی الجرائد و غیرها ضد المعاهدة، و فی هذه الأثناء صرح المستر تشرشل (23 مایس 1922) فی مجلس العموم البریطانی ان الملک و الحکومة العراقیة لم یرفضا الانتداب فاضاف تصریحه خطبا جدیدا الی اللهیب المندلع. و لذلک یقول آیرلاند «.. ففی اجتماع عقد فی الکاظمیة وضع منهج جدید لعقد اجتماعات أخری فی الجوامع و تقدیم العرائض و البرقیات الی الحکومة البریطانیة و جمیع الحکومات الأجنبیة الأخری. و قد أجریت الترتیبات لعقد اجتماع کبیر فی جامع الحیدر خانة و صدر عدد خاص من جریدة الاستقلال لحث الناس علی الحضور فیه. الا أن إجراء عاجلا اتخذه الملک فیصل حال دون وقوع الاضطرابات فی الجامع. لکن لجنة خاصة انتخبت لتتصل بالملک فتقدم له احتجاجها علی تصریح المستر تشرشل.
و کتبت برقیات احتجاج الی الدول الأجنبیة بلغت کلفتها (1500) روبیة او (115) باونا، و لکن ابراقها منع من المندوب السامی.»
و قد أدت هذه المعارضة، التی کانت الکاظمیة نشطة فیها، و تأیید الملک فیصل لها، الی استقالة وزارة النقیب، و شاع فی الأندیة و المحاقل أن الملک سیکلف الوطنیین بتألیف وزارة یرأسها السید محمد الصدر. ثم أصدر الصدر من مقره فی الکاظمیة منشورا الی الشعب یشیر فیه علی الناس بأن یثابروا علی المطالبة بالاستقلال التام، و رفض الانتداب البریطانی بجمیع الوسائل المشروعة .. و فکر الحزبان السیاسیان الوطنیان، الحزب الوطنی و حزب النهضة، بأن الفرصة قد حانت لهما لیرمیا بثقلهما فی الاحتجاج ضد الانتداب. و فی جلسة مشترکة عقدت فی 20 و 21 آب برآسة السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 294
محمد الصدر نظم الحزبان احتجاجا قدم للملک ».
و کان أهم ما تضمنه هذا الاحتجاج فی نظر المستر آیرلاند: اولا:
الکف عن اتباع السیاسة المتبعة یومذاک و عدم تدخل الانکلیز فی الشؤون الاداریة للبلاد ثانیا: تألیف وزارة من الأکفاء المخلصین الذین تطمئن الیهم البلاد ثالثا: عدم عقد أیة معاهدة أو اجراء أیة مفاوضات قبل تألیف المجلس التأسیسی.
غیر ان الأزمة قد انحلت بعد اصطدام الملک بالمندوب السامی و تراجعه عن الاتصال بالوطنیین و تشجیعهم، و لا سیما بعد ان دبرت مظاهرة سلمیة یوم عید التتویج (23 آب) أهین فیها المندوب السامی حینما صادف مروره من بین المتظاهرین لتهنئة الملک. فألف النقیب وزارة جدیدة فی أثر ذلک.

معارضة الکاظمیة للمجلس التأسیسی

کانت المضبطة التی نظمها الشیخ مهدی الخالصی فی الکاظمیة بتأیید انتخاب فیصل للملکیة فی العراق قد اشترطت: (1) ان یکون العراق مستقلا عن السیادة الأجنبیة. و (2) ان یجتمع المجلس التأسیسی فی البلاد خلال ثلاثة أشهر. غیر أن تنفیذ النقطة الأولی لم یکن شیئا ممکنا فی تلک الأیام، و حینما أزف الوقت لتنفیذ النقطة الثانیة، و صدرت الارادة الملکیة فی 19 تشرین الأول 1922 بأن تبدأ انتخابات المجلس التأسیسی فی 24 تشرین الأول بدل العلامة الخالصی موقفه من هذا المجلس و أصبح معارضا لتشکیله بطبیعة الحال. و من الغریب أن یتجاهل المستر آیرلاند فی کتابه الأسباب التی أدت الی هذا التبدیل فی الموقف الوطنی حین یقول فیه:
«.. علی أنه عندما صدرت الارادة الملکیة بأن تبدأ انتخابات المجلس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 295
التأسیسی، بعد تأخیر سنتین، کان رد الفعل بعیدا کل البعد عما کان یتوقعه المعنیون بالأمر مقدما. فقد اتحد العلماء و الوطنیون و الشیعة فی معارضة تنفیذها. و أقنع علماء الکاظمیة و النجف، بما فیهم الشیخ مهدی الخالصی الذی کان یدعو بقوة مع الوطنیین لتشکیل المجلس التأسیسی، باصدار الفتاوی فی أوائل تشرین الثانی لتحریم الانتخابات. و کان تأثیر الفتاوی المباشر أن وقف إجراء الانتخابات فی المراکز الشیعیة. فقد استقالت اللجان الانتخابیة فی النجف، و کربلا، و الحلة و الکوفة، و أعلن الموظفون فی الکاظمیة عن فشلهم فی تألیف اللجان المذکورة» (انتهی).
و ندرج فیما یأتی نص واحدة من هذه الفتاوی:
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الی کافة أخواننا المؤمنین المتدینین المتمسکین بشریعة سید المرسلین صلوات اللّه و سلامه علیه و علی آله الطیبین الطاهرین. لا یخفی علی کل ذی لب انه قد صدر منا الحکم بحرمة الانتخاب و أعلنا الی کافة المؤمنین، و کتبنا ان الداخل فیه و المساعد علیه کمن حارب اللّه و رسوله و أولیاءه صلوات اللّه علیهم أجمعین. و قد بلغنا ان بعض ذوی الأغراض و الأمراض الذین لا خلاق لهم فی الاسلام ربما یلقی فی قلوب المتدینین أننا قد سکتنا عن ذلک، فلا یدخل بذلک فی قلب أحد شک و لا شبهة. و لیعلم ان حکم اللّه تعالی لا یتغیر و ان الجهة التی دعتنا إلی التحریم لم تتبدل. و الآن کما کان و لم نسکت عن ذلک، و نعلن جدیدا انه لا یجوز لمسلم یؤمن باللّه تعالی و الیوم الآخر المساعدة علی الأمر و الدخول فیه، و ان المساعد علیه معاد للّه و لرسوله صلوات اللّه علیه و علی آله الطیبین الطاهرین، أعاذ اللّه المسلمین عن ذلک و السلام علی اتبع الهدی. 228 ج 2، 1341.
و مع هذا فقد بذلت مساع جدیدة لاسترضاء العلماء و لکنها لم تنجح، فأعید إصدار الفتاوی فی حزیران 1923. و لذلک نجد المستر آیرلاند یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 296
«.. و قد ذهبت الدوائر البریطانیة الرسمیة الی ان العلاج الوحید للمشکلة هو اتخاذ الاجراءات المشددة ضد علماء الدین أنفسهم. لأن الفرصة لا یمکن ان تسنح لالقاء الرعب فی نفوس الدهماء بحیث یمکن للانتخابات أن تستمر من دون معارضة فعالة الا باسکاتهم. و کان رئیس الوزراء (عبد المحسن السعدون) یرتأی هذا الرأی، إلا ان الملک فیصلا تمادی فی أمله بأن یسترضی العلماء بطرق أخری. علی أنه عندما حصلت اصطدامات فی 21 حزیران بین الشرطة و سکان الکاظمیة حول إلصاق الفتاوی علی باب الجامع، و نظمت المظاهرات علی أثرها ضد الحکومة، و لعب فیها الشیخ مهدی الخالصی و أسرته دورا بارزا، وجد الوزراء بتحریض من مستشاریهم الانکلیز ضرورة لاتخاذ اجراءات صارمة للثأر لهیبة الحکومة.
فأمر مجلس الوزراء، بعد حصوله علی موافقة صاحب الجلالة الملک الذی تلکأ فیها و هو یزور البصرة یومذاک، بأن یعتقل الشیخ مهدی الخالصی و نجلاه الشیخ حسن و الشیخ علی مع ابن أخیه، و کلهم من رعایا ایران و یبعدوا جمیعا الی الخارج بموجب المرسوم الصادر فی 9 حزیران فی تخویل الحکومة حق إبعاد غیر العراقیین بسبب تجاوزهم السیاسی. فنظمت علی علی أثر ذلک مظاهرة احتجاجیة فی الحال، و قد قام بها رؤساء الدین فی النجف، ثم غادرت البلاد الی ایران جماعة مؤلفة من تسعة علماء مهمین مع خمسة و عشرین من أتباعهم لیعبروا عن سخطهم. و مع أن الحکومة کانت تستنکر عمل هؤلاء العلماء فانها أبدت لهم جمیع التسهیلات لتعجل فی رحیلهم » (انتهی).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 297
هذا و قد لاحظنا ان مرجعا من المراجع العربیة یقول فی هذا الشأن ما یأتی:
.. و لما شعرت الوزارة ان العالم الکاظمی الکبیر الشیخ مهدی الخالصی هو الذی یرأس الهیئات القائمة بمقاطعة الانتخابات، و الضغط علی الدوائر العلیا للحد من التدخل البریطانی فی شؤون العراق الداخلیة، قررت اخراجه من العراق مهما کلف الأمر یساعدها علی ذلک رئیس بلدیة الکاظمیة السید جعفر عطیفة و معاون شرطتها عبد الرزاق الفضلی. و قد أخرج الامام و صحبه الی ایران فی یوم 28 حزیران 1923. و لما هم زملاؤه فی النجف و کربلا الاحتجاج علی هذا النفی أوعزت الی متصرف لواء کربلا مولود مخلص فأخرجهم من البلاد أیضا، و نشرت الوزارة بیانا ملیئا بالمغالطات لتبریر هذا العمل (انتهی).
فأقدمت الحکومة بعد ذلک علی اجراء الانتخابات من جدید، و لکن العراقیل کانت ما تزال قائمة بسبب امتناع الشیعة عن تشکیل اللجان الانتخابیة فی مناطقهم، و الخوف من الجندیة، و استقالة وزارة السعدون و حینما شکل جعفر باشا العسکری الوزارة بعد السعدون وجدت الفرصة للملک، علی ما یقول آیرلاند، بأن یسترضی الشیعة. فانتخب المجلس و دعی للاجتماع فی 4 مارث 1923. و بذلک انتقلت المعارضة الی المجلس و خارجه، و خفت صوتها فی الکاظمیة مدة من الزمن.

حادث 1927

لقد حدث فی عهد الوزارة العسکریة الثانیة (وزارة جعفر باشا العسکری) ان وقعت حادثة مؤسفة فی الکاظمیة فی یوم عاشوراء (10 تموز 1927)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 298
بین البعض من جنود الجیش العراقی المتمتعین بالعطلة و الکاظمیین المشترکین فی مواکب العزاء الحسینی التی تقام فی مثل هذا الیوم الفضیل فی العتبات المقدسة و غیرها کل سنة. و یقول المستر لوبکریک فی کتابه الثانی عن العراق .. و قد قوطع وزیر المالیة (یاسین الهاشمی) خلال الجولة التی مر فیها بالنجف، و تطلب الحادث المؤسف الذی وقع فی الکاظمیة، بین جنود الجیش العراقی و المتعبدین الشیعة، فی یوم 10 محرم المحظر علی الدوام جمیع الحذق و السخاء الذی کان عند الملک للحیلولة دون تطوره أو حصول عواقب خطیرة بسببه. و کان الوزیران الشیعیان (عبد الحسین جلبی و علوان الیاسری) المشترکان فی الوزارة موضع سخط حزب النهضة فی ذلک الوقت ..»
و المعروف عن هذا الحادث ان الجماهیر الغفیرة التی کانت محتشدة فی یوم عاشوراء فی الصحن الکاظمی الشریف کان بینها عدد من جنود الجیش العراقی الذین جاءوا للفرجة. و قد حدث من جراء الازدحام الشدید ان حصل تدافع و خلاف بینهم و بین بعض الکاظمیین، فتطور ذلک الی نزاع و تصادم. و فی خلال ذلک عمد أحد الضباط الحاضرین الی اطلاق عدة طلقات من مسدسه للتخویف، غیر انها سمعت فی نیابة وزارة الدفاع علی ما یقال، و خفت ثلة من الجند الذی کان مرابطا فیها الی التوجه الی الکاظمیة لانجاد الجنود الذین سری نبأ اهانتهم و الاعتداء علیهم کما قیل فی الحال. لکن أحد موظفی جسر الأعظمیة أدرک الخطر فی ذلک حالا، و بادر إلی قطعه فورا فانتهی الحادث بسلام. و قد أصدرت وزارة الداخلیة بیانا مقتضبا علی أثر ذلک لتوضیح الأمر و تهدئة الخواطر.
و یقول البیان :
وقع نزاع طفیف فی 10 محرم فی الکاظمیة بین امرأة و صبی نشأ عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 299
حیلولة بینهما و بین مشاهدة المواکب، فأدی الی مشاجرة و مضاربات مؤسفة بین الرعاع و الجنود الذین حضروا المأتم حسب العادة غیر مسلحین.
و قد أسفر ذلک عن أربع حوادث وفاة أحداها من الجند و ثلاث من الأهلین، مع ثمان و أربعین حادثة جرح، أربعون من الجند و واحدة من الشرطة و سبع من الأهلین. و قد أعیدت السکینة حالا من قبل الشرطة.

صحفی أمریکی فی الکاظمیة

و فی 1928 زار بغداد صحفی أمریکی یدعی روبرت کیسی، بعد ان زار عددا غیر یسیر من مدن البلاد العربیة الأخری. فکتب عن سفرته هذه کتابا بلهجة صحفیة فیها الکثیر من الخلط و تشویه الحقائق. و قد أفرد فی هذا الکتاب فصلا خاصا بالکاظمیة عنوانه (شعلة الاسلام)، فبدأه بمقدمة موجزة عن ظهور الدعوة الاسلامیة بشکل مفاجی‌ء فی العالم و انتشارها فی البلاد العربیة و ما جاورها انتشارا سریعا لا یکاد یصدق. و هو یقول بالمناسبة ان جیوش محمد اندفعت الی الاستیلاء علی الجزیرة العربیة کلها کما یندفع و باء الجراد فی البلاد (کذا)، بعد ان ضمنت لأفرادها الغنیمة فیما لو ظلوا علی قید الحیاة و الجنة فی حالة الاستشهاد. ثم یتطرق الی اختلاف المسلمین فیما بینهم بعد ان انتقل النبی الأعظم الی دار الخلود، و نشوء الفرق الإسلامیة علی النحو المعروف. و یخلص من هذا الی تمسک الشیعة بآل البیت، و تقدیس الأئمة الاثنی عشر من أبناء علی علیه السلام.
و هو یری ان الخلافة الأمویة فی دمشق کان من الممکن لها ان تبقی المسیطر الوحید فی المیدان علی مر الأیام لو لا مقتل الامام علی و ابنه الحسین بصورة مفجعة، و تخلیدهما بهذه الطریقة فی قلوب اتباعهما و عقولهم. فقد أدی ذلک الی نشوء عتبات مقدسة حول مدفنیهما، و مدفن الأئمة الباقین من أبنائهما، موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 300
و صار الزوار یقصدون هذه العتبات فی کل عصر او زمان.
ثم یقول ان بغداد ظهرت الی الوجود فی عهد العباسیین، و ان الاسلام هو الذی جعل منها عاصمة للرومانتیکیة، و أنشأ فوقها المجد الحضاری الذی یکلؤها الیوم من عیون العالم الناقدة بنقاب وردی اللون. و یذکر کذلک ان المدن المقدسة کلها تقع بالقرب من بغداد، و یمکن ان تعتبر الکاظمیة بقبابها المذهبة ضاحیة من ضواحی مدینة الخلفاء العتیدة. و هذه قد لا تضاهی فی شهرتها العظیمة النجف التی یقبر الامام علی فی تربتها، أو سامراء بکلفها السری الذی اختفی فیه آخر الأئمة عن الأنظار، أو کربلا التی ظل الحسین الشهید یرزح فیها تحت وطأة العطش. انها تعرف عند الشیعة بکونها البقعة التی دفن فیها امامان من الأئمة الذین عاشوا قبل اختفاء الحجة المهدی.
و المقول، علی ما یذکر هو، ان زیارة باب المشهد الکاظمی المطعمة بالمیناء الزرقاء تعتبر ضمانا ضد آلام الوضع عند النساء، و بوعد مثل هذا ربما تکون هذه الزیارة قد اقترنت بالقدرة الالهیة علی التنبؤ بجنس الأطفال قبل الولادة او التأثیر فی مصیر العرق و مستقبله. و لا ندری من این جاء المستر کیسی بمثل هذا الخلط!!
و ینتقل المستر کیسی بعد ذلک الی القول بأن الکاظمیة یصل الیها الناس بأقدم خط تراموای و أغربه فی العالم. فان قضبانه التی تسیر علیها الحافلات من الخشب (کذا) لا الحدید، و أنها صفت فوق الأرض کما تسلمها المهندسون من البائع. و تعتمد السکة علی برکات اللّه و عنایته، التی یجب ان یحظی بها زوار العتبات المقدسة علی الدوام، أکثر من اعتمادها علی أیة قاعدة من من القواعد الهندسیة المعروفة فی مد السکک. اما العربات التی یحشر فیها الزوار الی الکاظمیة فی الذهاب و الایاب فتشبه عربات الحصان الواحد التی کان یشیع وجودها فی المدن الأمریکیة قدیما .. و اذا ما وجدت فی خرائب بابل، او تحت طاق کسری الکبیر، فلا یمکن ان یعتبرها الرائی شیئا فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 301
غیر محله. اما الزوار فهم، بخلاف الرکاب فی أی مکان آخر فی العالم، لا یجدون سببا للاعتراض علی کیفیة سیر مثل هذه العربة العجیبة .
و یقول کیسی عن البلدة نفسها أنها، لو لا المشهد الشریف الفاخر فیها، تشبه بغداد القدیمة التی ظلت علی حالتها ما بین انهیار الخلافة العباسیة و احتلال الانکلیز لها. فأزقتها ضیقة، ملأی بالقذارة و الأوساخ، و جدران الکثیر من بیوتها قدیمة متداعیة. و أسواقها تبدو فیها آثار القرون البالیة، و أمارات الاهمال و التسیب، حیث یعرض السجاد الفاخر فیها فوق ساحات موحلة، و توجد الکلاب المیتة إلی جنب باعة العطور. و یتقاطر الزوار فی أزقتها الضیقة باعداد کبیرة .. و هم بین امرأة محجبة تدعو اللّه لیوفق أطفالها و یرعاهم بعین عنایته، او شیخ طویل القامة یلتمس اللّه ان یرزقه بنسل صالح، او متعصب یلوذ بقبری الامامین بأمل ان یحظی منهما بمعجزة. علی ان علی ان المرء لا بد ان ینتابه العجب حینما یری ان الغربی لا یستغرب وجوده فی مثل هذه البقعة التی تؤمن بالقول القائل بأن الشرق شرق، و ان الغربی یجب ان لا یرحب به. و یبدو علی الزوار المتشحین بالأردیة السوداء، و هم یمرون من تحت الأقواس الزرقاء، کأنهم یعتزون و یفخرون حینما یرون حتی الکافر الضال معجبا بجمال المشهد و حسن تشییده.

تقریر عن تقدم العراق 1920- 1931

و فی التقریر الخاص الذی قدمته حکومة صاحب الجلالة البریطانیة موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 302
الی عصبة الأمم فی 1931، عن تقدمه خلال الفترة المنحصرة بین 1920 و هذه السنة یرد ذکر الکاظمیة و سائر العتبات فی صدد التطرق الی الأحوال الأحوال الصحیة فی البلاد و علاقتها بنقل الجنائز. فقد جاء «.. ان نقل الجنائز للدفن فی کربلا و النجف و سامراء و الکاظمیة کان لا بد من تنظیمه و الاشراف علیه. و هذه المدن هی العتبات المقدسة الأربع فی العراق التی یؤمل أی شیعی ان یدفن فی إحداها. فمن مجموع العشرین ألف جنازة التی تدفن فی کل سنة فی هذه المدن تأتی حوالی (12000) من الخارج، و معظم هذه من ایران. و قد کان هذا النقل یراقب بدقة فی عهد الأتراک، کما کانت تجبی الرسوم فی الحدود علی الجنائز التی کانت ترد من خارج البلاد. فأوقف هذا الترتیب خلال الحرب العامة، و ما حل عام 1920 حتی کان عدد کبیر من الجنائز بانتظار الترخیص للدخول الی العراق، بینما کان عدد آخر یهرب کالمعتاد. فنقح نظام السیطرة القدیم و أعید النظر فیه فصدر (قانون نقل الجنائز) فی 1924. و منذ ذلک الحین سار العمل فی هذا المجال دون ان یعکره شی‌ء، و من غیر ان یترتب علی ذلک حصول أی خطر علی الصحة العامة.

فرایا ستارک فی الکاظمیة

و قد تسنی للکاتبة الانکلیزیة القدیرة المس فرایاستارک ان تزور الکاظمیة، و تدخل الی الحضرة المطهرة محجبة کما یتحجب المسلمات، فی 1931 فتکتب عنها فصلا بعنوان «زیارة الی المشهد الکاظمی» فی کتابها) صور بغدادیة .
و هی تقول فی مقدمة هذا الفصل أنها ذهبت إلی الکاظمیة لأول مرة کسائحة یرافقها رجل متیقظ من أفراد الشرطة العراقیة، و لم تستطع رؤیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 303
شی‌ء منها لأن الناس قد تجمهروا من حولها بحالة کان یخشی منها. و لذلک قالت لصدیقها نوری (و لا ندری أی نوری تقصد) أنها تود ان تزور هذا المشهد المقدس بشکل لا یلفت الأنظار الیها، فان النصاری لا یسمح لهم بالدخول الی داخل المشهد مطلقا، و تود ان یکون ذهابها هذه المرة فی أمسیة من أمسیات رمضان المبارک لان المشهد المقدس یبقی مفتوحا فیها الی ساعة متأخرة من اللیل، و ان حلول العتمة یسهل الکثیر من الأمور.
و قد کان لنوری أصدقاء من الشیعة فی المدینة المقدسة یوافقون علی أخذها الی داخل الروضة، فتم الاتفاق علی أن تذهب إلیهم مع اثنتین من أخواته بواسطة التراموای مع سائر الزوار.
و فی مساء أحد الأیام جاءها نوری بشدّة من الألبسة السوداء تحتوی علی عباءة من عباءات النساء المعروفة، و قطعة صغیرة من الشیفون الأسود تسمی «بوشی» لتتقنع بها. و فی (دربونة) قریبة من الدرابین لبست فرایا ستارک العباءة و تقنعت بالبوشی، ثم خرجت و کأنها امرأة بغدادیة متحجبة علی ما تقول، ثم استقلت سیارة أجرة بصحبة نوری متوجهة الی دار فی أحد الأزقة. و هناک وجدت أختیه متهیأتین لمرافقتها، و بعد بعض الوصایا و التمنیات توجه النسوة الثلاث مع خادمة تحمل الفانوس أمامهن الی تراموای الکاظمیة.
و بعد ان تصف فرایا ستارک التراموای و عرباته، و من کان فیها من النسوة، تقول «.. و بعد ان ترکنا ضاحیة الکرخ، مدینة المنصور القدیمة، خرجنا إلی العراء و اصبحنا تحت النجوم و من حولنا صفوف النخیل و بساتینها بأشباحها المتحرکة. و ما هی إلا فترة قصیرة حتی بانت لنا فجأة قمم المنائر المذهبة الأربع فی المدینة المقدسة و کأنها واقفة لوحدها فی الفضاء الرحیب، ما بین الأضواء التی تبقی مشعلة فی لیالی رمضان کلها، کما بانت من بینها القبتان المغمورتان بالأضواء المنعکسة علیهما. و قد کان للسماء العمیقة الممتدة من وراء البناء نصف المضاء و العربة الممتلئة بالزوار و هم فی تجردهم المعتم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 304
منظر تجلله مهابة غریبة. اما الظلمة المحیطة بذلک المنظر کله فقد أخفت جمیع البشاعة و القذارة اللتین کثیرا ما نجدهما یقتربان من حول الجمال فی الشرق. و حینما توقفت العربة نزلنا من الترام البالی، و بعد شی‌ء من الصعوبة اهتدینا فی الأخیر الی بیت أصدقائنا الشیعة».
ثم تتابع الوصف و تقول: «.. و هنا خطونا الی داخل القرن العشرین.
فقد کان رب الدار مهندسا سافر الی مصر و غیرها من البلاد، و درس أخوه الحقوق فی الاسکندریة، اما زوجته التی تقرر ان ترافقنا الی داخل المشهد الکاظمی فقد صففت شعرها فی جمة حدیثة و وضعت لباسا فرنسیا صغیرا للرأس تحت قناعها. و قد صرحوا لی فی الحقیقة بأنهم لا تخالجهم أیة ریبة مما سنقدم علیه اذا ما حافظت انا علی السکوت و لذت بالصمت، لئلا تفضحنی لهجتی فی الحدیث. فقد سبق لهم ان رافقوا بعض المسیحیین الی داخل الحضرة من قبل لکنهم لم یأخذوا أی أوربی الی هناک. مع ان عددا من الأوربیات کن قد دخلن فی وقت أو آخر . و بعد ان شربنا القهوة و تناولنا بعض الحلوی توجهنا إلی مبتغانا مع خادم یحمل الفانوس بین أیدینا لنکتشف علی ضوئه الحفر التی کانت تبین فاغرة فاها فی الطریق، لأننا ترکنا القرن العشرین وراءنا فی البیت من جدید و أخذنا نسیر من تحت بیوت مظلمة معلقة فی الأسواق غیر المضاءة. و کانت تحدق بنا عند مرورنا أشباح معتمة تقعد القرفصاء هنا و هناک الی جانب الدکاکین، و فی أیدیها مسبحات تعبث بخرزها أصابعها الکسلة. و أخیرا وصلنا الی باب الظلیلة و مجازها العالی الذی کانت عدة أوجه حاسدة خلال النهار قد منعت تقدمنا منه قبل هذا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 305
و قد عبرنا المجاز من تحت السلسلة ذات العری، التی یلمسها الزوار لتمنحهم البرکة، الی الصحن الکبیر المحیط بالحضرة فبدا لی متسعا جد الاتساع: فان البرج الجبار کله کان یبدو معلقا فی أعماق السماء المظلمة من فوقه. و کانت تحیط بجوانبه الثلاثة أروقة تزین واجهاتها بالقاشانی المورد، کما کانت الأضواء من فوقه و الضوء المنبعث من برج الساعة تشع نورا غسقیا مبهجا یغمر الأشباح المتجلببة بالعباءات و هی تروح و تغدو فی طریقها. و کان هناک فی إحدی الزوایا عدد من الناس یقرأون الصحف، و لا غرو فان المدن المقدسة و الجوامع علی الأخص تعتبر أماکن عظیمة تفرخ فیها الفتنة و الشغب. و یبدو فناء الصحن علی درجة من الاتساع بحیث ان أعدادا کبیرة من الناس یمکنها ان تتمشی فی أرجائه من دون أن یلاحظ الازدحام فیه.
ثم أتینا بعد ذلک الی ایوان مذهّب یستند سقفه علی أعمدة خشبیة رشیقة، توجد فیه الباب الخارجی للروضة المقدسة بالذات. فأخذ أحذیتنا رجل کان یجثم هناک، و أضافها الی سائر الأحذیة المرتبة فی صفوف متتابعة.
و حینما وقفنا علی الباب بالقرب من ستارة کثیفة راح السید المعمم بعمامة احدی زوایا صحن الامامین الکاظمیین و تتجلی فیها روعة الفن الکاشانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 306
خضراء یرتل الدعاء لنا، و یستأذن بابتهال نیابة عنا للدخول الی الروضة المطهرة، بصوت عذب لم أسمع بشی‌ء أکثر تأثیرا منه. ثم انتهی باللّه و اللّه اکبر و أومأ لنا بالدخول.
و أول ما صادفناه بعد الدخول رواق مسقف بمقر نصات من قطع المرایا المشعة فی العتمة، و مرایا غیرها مثبتة فی اطارات رخیصة تدور من حولها.
ثم أتینا علی ستارة أخری مسدلة لتغطی بابا مزدوجا مرتفعا جدا، و مغلفا بفضة مطروقة، و تنتشر فیه هنا و هناک نماذج من «کف العباس»، و منها دخلنا إلی الحضرة المحیطة بالضریح المقدس. فکانت عبارة عن بهو له سقف کثیر الارتفاع و بابان یتعامدان علی بعضهما، و تتدلی فیه ثریات زجاجیة عدیدة. أما الجدران فقد کانت مزینة بزخرفة عربیة ملونة فوق أرضیة سوداء. و کانت الأرض مفروشة بسجاد منحط النوعیة.
و کان الضریح یقوم فی الوسط داخل قفص ثلاثی، یتعرض الخارجی الفضی منه الی الصقل و التلمیع الدائم بأیدی الزوار و تقبیلهم و هم یطوفون من حوله بمواکب لا نهایة لها. و قد قدرت ارتفاعه بعشرة أقدام، و لاحظت الزینة و هی تخفف من تربیع حواشیه العلیا، و من حولها کلها الأعلام الخضراء الصغبرة المنسوبة الی العلویین.
و إذا ما وقف المرء بجانب الشباک و ضغط بوجهه علی العوارض الفضیة فیه، ثم نظر الی ما فی داخله یجد من شباک حدید آخر، و من خلال صندوق من الزجاج، القبرین الخشبیین اللذین تقبر فیهما رفات الامامین الکاظمین.
و لأجل ان یفعل الناس ذلک یسیرون الیه طول الطریق من افغانستان، و الهند، و أبعد الأیالات فی ایران. و لذلک وجدت هناک أناسا ملتحین، و وجوها مغولیة، خالیة من الشعر، الی جانب الإیرانیین النحیفین و شیعة العراق متبسطی الوجوه. و قد کان یجلس أمام الشمعدان العظیم المقام فوق الأرض، بتجرد تام، زوار ذوو عمائم کبیرة یرتلون الآیات الکریمة و یتمایلون برفق و هدوء. و فی زاویة من الزوایا کان النساء بأحجبتهن السوداء یدمدمن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 307
سویة و هن یجلسن علی الأرض. فتبعت السیّد ضاغطة یدی علی العوارض و متحرکة ببطء من الیمین الی الیسار حول الضریح. و کانت بجانبی امرأة تبکی و تنتحب بیأس. و تقبل الفضة الصقیلة، ثم تضغط بیدیها علی کل کعبرة فی الشباک یمکن ان تصل الیها بیدیها. و علی هذه الشاکلة تقوم آلاف بل ملایین مثل هذه الأیدی بلمس هذا المعدن الأصم فتصقله بآمالها و صلواتها، مدفوعة بعقیدة البشر التی یرثی لحالها.
و قد کان الجو نفسه فی تلک الغرفة متکهربا بالعاطفة و الأحاسیس و لیس بوسع المرء ان یقف هناک من دون ان یشعر بذلک الجو و یتحسس به، و بکمال تلک العاطفة الکلی، و قسوتها القدیمة المنطویة وراء ذلک علی الهدوء التام فی أثناء الصلوات التی تؤدیها تلک الشخوص الواقفة بأید مبتهلة و أوجه ضائعة فی غیبوبة و ذهول. و أنی لأحسب ان الأجنبی الذی یکتشف وجوده فی تلک البقعة یندر ان یصل سالما الی الباب الخارجی، الذی یأتی بعده السوق. و کانت صدیقتی الصغیرة ترتجف بین یدی و تستعجل فی زیارتها باستعجال معیب. و لذلک لم یکن هذا الجو قمینا حتی بالشرقی الآخذ بأسباب الغرب (المتغرب)، انه الشرق القدیم الذی لا ینسجم مع جمیع ما نأتی به و نفعله. و لا بد من ان یستقل احد الفریقین فیه، هم أو نحن، و لهم الحق فی قتلنا اذا ما اکتشفوا وجودنا فیه، هنا حیث یکون هذا القانون هو السائد.
و حینما وصلنا الی الجانب الأبعد عن الباب الذی دخلنا منه، أخذ السید یرتل دعاءا آخر بینما کنا نقف الی جنبه بأید مبتهلة. و هنا أیضا لاحظت جمال الکلمات، و عاطفة الورع و التدین، و قد أحاطت بی من جمیع الجهات فأنستنی بأننی کنت غریبة عن هذا المحیط، و علی کل فلیس هناک سوی لهجة واحدة للعقیدة یلهج بها البشر جمیعا علی سواء.
ثم شققنا طریقنا ببطء علی طول الضلع الرابع. و من حسن الحظ أننا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 308
کنا نساء کلنا، و لم یکن یترتب علینا ان نشکر السید. لکن مضیفتنا فعلت ذلک بینما انسللنا نحن من الایوان الی محل (الکیشوان) الذی یتفوق علی المسؤول عن حفظ المعاطف فی أوتیل سافوی بلندن، لأنه أعاد لنا أحذیتنا کلها من دون أن نشیر علیه بشی‌ء، مع انه لم یستطع رؤیة شی‌ء من عندنا سوی خیالنا التی لا شکل له و الجوارب القطن التی کنت قد تعمدت ان أترکها تهدل الی الرسغ لأجل ان أجعل التخفی یبدو شیئا حقیقیا یشبه ما تفعله نسوة بغداد.
و بینما کنا نقف هناک جاء أحد السقاة و هو یحمل جرته المنبلة معلقة فی کتفه، و یمسک بیده کاسة صفراء. و أخذ ینادی بقوله «ماء، ماء للطریق، الماء الذی منع عن الحسین الشهید فی کربلا»، فدفعت له أربع آنات کما فعلت الباقیات من صویحباتی، و بقیت حائرة فیما اذا کنت قد رتکبت خطأ من الأخطاء الفاضحة باراقة الماء الذی قدم لی علی الأرض، لأن الطاسة التی یشرب بها الجمیع لا بد من ان تکون قد شرب بها المریض و المقعد و غیره بحیث یکون الشرب بها شیئا غیر مغر. لکن أحدا لم یعلق بشی‌ء علی ما فعلت. ثم خرجنا من البقعة المقدسة مارین بالمجاز العالی من تحت السلسلة الی السوق المظلم. و قد عدنا بالترام الذی سار بنا علی ضوء النجوم النیرة، بعد أن ألقینا نظرة أخیرة علی القبتین المذهبتین عندما کانت المنارات الأربع تسطع بنورها الوهاج و ترتفع فی سماء منتصف اللیل».
و هکذا استطاعت الکاتبة الانکلیزیة فرایا ستارک ان تدخل الی روضة الامامین المطهرین متخفیة بزی امرأة مسلمة من نساء الکاظمیة أو بغداد، فی صحبة أسرة من الأسر الشیعیة المسلمة.

فاجعة الکاظمیة فی 1935

و فی معرض البحث عن الوزارة الهاشمیة الثانیة (یاسین الهاشمی) و تعداد أعمالها، و الحوادث التی وقعت فی أیامها، یتطرق المستر لونکریک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 309
فی (العراق بین 1900 و 1950 الی حادثة مؤسفة وقعت فی الکاظمیة فذهبت ضحیتها أرواح بریئة، و کان ذلک ناتجا عن تحریکات حزبیة لا تستهدف الصالح العام علی ما قیل یومذاک. لکنه یقول: «.. و قد وقعت حادثة فی الکاظمیة أریقت فیها الدماء علی أثر اصطدام وقع بین الشرطة و جمهور کبیر من الناس خرجوا یتظاهرون احتجاجا علی نبش مقبرة من المقابر، و لم یکن لها معنی سیاسی فأمکن تسویتها من دون ان یتسع تأثیرها.» علی أن المفهوم من الأخبار المدونة فی المراجع العربیة ان وزارة یاسین الهاشمی الثانیة بینما کانت منهمکة فی تهدئة الأحوال فی الفرات الأوسط، بعد ان ساءت علی عهد وزارة علی جودت الأیوبی من قبل، وقعت حادثة مؤسفة فی یوم 23 مارث 1935 فکان لها أسوأ الأثر فی النفوس. و خلاصة هذه الحادثة ان الحکومة کانت تقوم بتشیید دائرة جدیدة للبرق و البرید فی بلد الکاظمیة، علی أرض مقبرة قدیمة مهجورة کانت قد انتخبت لها من قبل.
و حینما تألفت الوزارة الجدیدة استغل البعض سخط الکاظمیین علی هذا العمل الصادر من الحکومة، و حرّض علی تنظیم مظاهرة خرجت فی ذلک الیوم و قصدت المبنی الجدید فأخذت بتهدیم ما بنی منه و أشعلت النار فیه.
فأدی ذلک الی اصطدام المتظاهرین بالشرطة، فاتصل القائمقام شاکر سلیم فی الحال بمتصرف بغداد عبد الرزاق حلمی الذی توجه فورا الی محل الحادث و فی صحبته مدیر شرطة بغداد وجیه یونس. و قد استصحبا معهما سیارات مصفحة تقل عددا من أفراد الشرطة کذلک، و حینما وصلا الی الکاظمیة لم یستطیعا معالجة الموقف بالحکمة و التعقل و عمدا الی استعمال الرشاشات بکل تهور لتفریق المتظاهرین. فأسفر الاصطدام بین الأهلین و الشرطة عن عن وقوع عدد من القتلی و الجرحی بطبیعة الحال. و کان عددهم ثلاثة عشر قتیلا و ما یزید علی الثمانین جریحا. و هناک روایة أخری تقول ان هذا العدد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 310
من القتلی و الجرحی قد سقط قبل وصول المتصرف و مدیر الشرطة الی الکاظمیة لأن القائمقام فشل فی معالجة الموقف منذ البدایة. غیر ان البیان الآتی یذکر رقما آخر عن القتلی و الجرحی المذکورین:

بیان رسمی

وقع حادث مؤسف فی قصبة الکاظمیة صباح أمس (23 الجاری) و تتلخص المعلومات الآتیة الی الآن حول الحادث بما یلی:
کانت المقبرة الواقعة قرب المغیسل قد هجرت منذ مدة و بوشر الدفن فی مقبرة جدیدة أخری، الا أنه صباح أمس راجع بعض وجوه الکاظمیة قائمقام القضاء مبینین عدم ملائمة المقبرة الجدیدة فوعدهم بتلبیة طلبهم.
و لکن بعد خروجهم تجمهر قسم غیر قلیل من الناس حول المقبرة القدیمة و باشروا بهدم دائرة البرید التی بوشر ببنائها بالقرب من المقبرة القدیمة منذ أشهر، و لما جاءت الشرطة و طلبت منهم الکف و التفرق قابلوها بالرمی بالحجارة، ثم أوقد المتجمهرون النار فی البناء المذکور. و لما أنذرتهم الشرطة باستعمال القوة اذا لم یتفرقوا أجابوها بطلقات ناریة، و استعمال أسلحة جارحة أدت الی جرح أحد المفوضین و استمروا علی اطلاق النار علی الشرطة.
و قد اطلقت الشرطة طلقة فی الفضاء بغیة إنذارهم، و لکنهم رغم ذلک استمروا علی اطلاق الرصاص علی الشرطة مما اضطرها الی استعمال السلاح لتفریقهم. فوقع بسبب هذه الحادثة من المتجمهرین سبعة قتلی و تسعة جرحی، و من الشرطة قتیل شرطی واحد، و جرح أربعة اثنان منهم مفوضان و اثنان شرطیان ثم تفرق المتجمهرون و أعید الأمن الی نصابه. و انتشرت دوریات الشرطة لمحافظة الأمن، و التحقیق جار لمعرفة الأسباب التی أدت الی هذه الحادثة المؤسفة. 24- 3- 1935
و تمهیدا لاجراء التحقیق عمدت الشرطة الی توقیف البعض من أشراف الکاظمیة و وجوهها بتهمة التحریض علی تنظیم المظاهرات، و استمر توقیفهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 311
ثلاثة أشهر حکم بنتیجتها علی سبعة من الموقوفین بالحبس الشدید المؤبد (یوم 22 حزیران 1935) و أفرج عن الباقین: غیر ان الحکومة أصدرت فی 4 أیلول 1935 عفوا خاصا عن المحکومین لتهدئة الخواطر و انتهت الفتنة.

حوادث الرمیثة

و یستطرد المستر لونکریک فی کتابه (العراق بین 1900 و 1950 ) فی سرد ما وقع علی عهد الوزارة الهاشمیة الثانیة عام 1935 فیذکر ما یأتی:
.. لقد وقعت أول حرکة ثوریة فی مایس، و کان قد قام بها بنو زریج بالقرب من الرمیثة مرکز الحرکات و الزعازع التقلیدی. فبوجود عوامل الاختلاف المشوب بالانتقام علی الأراضی بین العشائر، و تشجیع بعض الساسة غیر المقیمین فی المنطقة، أدی توقیف رجل روحانی من رجال الدین الی وقوع حرکة ثوریة. فقطع خط سکة الحدید، و تم الاستیلاء علی دائرة حکومیة، و طلب العون و النجدة من سائر القبائل. لکن الحکومة بادرت الی العمل السریع فی هذه المرة. فقد قصفت الثوار قوات عسکریة یقودها بکر صدقی و شتتت شملهم، ثم ألقت القبض علی خوام العبد العباس قائدهم، و دخلت الرمیثة .. لکن الحرکة انتشرت فی الجنوب، فثارت بعض قبائل سوق الشیوخ و قطعة سکة الحدید فی تل لحم، و أحرقت سجلات الحکومة فی عکیکة، ثم تغلبت علی الشرطة فی معرکة ضاریة.
الشیخ احمد اسد اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 312
اما علاقة هذه الحرکات بالکاظمیة فهی ان الرجل الروحانی المشار الیه، الذی قبضت علیه سلطات الدیوانیة و أوقفته کان رجلا من أهالی الکاظمیة یدعی الشیخ أحمد أسد اللّه، و کان یقیم فی الرمیثة یومذاک .
و قد تم إلقاء القبض علیه بحجة أنه کان یحرض القبائل علی العصیان وشق عصا الطاعة ضد الحکومة. فاستفز هذا العمل قبائل الرمیثة و غیرها، و حسبت ان الحکومة أقدمت علی هذا العمل بتحریض من الشیوخ الموالین لها، و استغل هذا الاستیاء الشیخ خوام العبد العباس فأعلن الثورة و العصیان کما جاء فی نبذة المستر لونکریک المقتبسة أعلاه.

الکاظمیة فی حوادث 1941

و قد عثرنا علی اسم الکاظمیة فی عدد من المراجع الغربیة، خلال بحثها فی الحوادث التی وقعت فی العراق سنة 1941 فأدت الی احتلال الجیوش البریطانیة للکثیر من المناطق العراقیة و استخدامها لأغراض عسکریة لم یکن للعراق فیها ناقة و لا جمل طول أیام الحرب العالمیة الثانیة. فقد التجأ علی أثر الحرکة التی قام بها الجیش العراقی الوصی علی عرش العراق الی عمه الأمیر عبد اللّه. فی الأردن، و فی معیته عدد من ساسة العراق و أعوان ذلک العهد، فاتفق الأمیر عبد اللّه علی مساعدة الجیوش البریطانیة التی سیقت لانجاد الحبانیة التی حاصرها الجیش العراقی. و انتدب لهذه المهمة لواء من ألویة الجیش العربی فی الأردن بقیادة کلوب باشا (ابو حنیک) فزحف علی العراق مع جیوش بریطانیة أخری و أنجدت الحبانیة ففکّ الحصار عنها و أخذت الجیوش البریطانیة دور المبادءة بعد ذلک و راحت تعد العدة للزحف علی بغداد و استرجاعها لاعادة الوصی الیها. غیر ان الجیش العراقی کسر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 313
ضفاف الأنهر و أغرق مساحات شاسعة من الأرض لاعاقة تقدم الانکلیز، فارتأی کلوب باشا مهاجمة بغداد من الشمال بعد اجتیاز الجزیرة من الفلوجة الی حیث تمتد سکة حدید بغداد- الموصل من شمال الکاظمیة. فتم له ذلک و وصل الی خان المشاهدة فصار یهدد العهد الذی کان قائما فی بغداد یومذاک من الجهة الشمالیة.
و یقول لونکریک (الص 294) فی (العراق بین 1900 و 1950) ان ثلة من الجیش العربی (الاردنی) عبرت الجزیرة، و قطعت خط القطار الصاعد الی الموصل فیما یقرب من سامراء ثم عادت. و عبرت الی دجلة مرة ثانیة مع قوات أخری فاحتلت المشاهدة، ثم توجهت جنوبا فی اتجاه بغداد. و قد صادفت هذه القوة مقاومة من العدو بالقرب من التاجی، فاتخذت لها موقعا بین معامل الطابوق القریبة من الکاظمیة. و قد ألقی القبض فی الطریق العام علی متصرف بغداد (جلال خالد) و أطلق سراحه فأعید الی أهله.
علی ان هذه الحرکات، و الاشتباکات العنیفة التی شهدتها منطقة الکاظمیة بالقرب من معامل الطابوق یأتی علیها بالتفصیل کلوب باشا فی کتابه الموسوم «قصة الجیش العربی» . و خلاصة ما فی هذه الصفحات ان ثلة من الجیش العربی التی کان یقودها کلوب باشا رافقت لواء ال (هاوسس هولد) الذی عبر الجزیرة ما بین الفرات و دجلة من قرب الرمادی و تقدمته فاحتلت المسافة المحیطة بخان المشاهدة و قطعت سکة حدید بغداد- الموصل الی ضفة دجلة. ثم زحفت القوة بکاملها جنوبا فی اتجاه بغداد فلقیت مقاومة عنیفة من الجیش العراقی بالقرب من التاجی، فاضطرت الی التوقف هناک و استحکمت فی وسط معامل الطابوق فی الکاظمیة مدة من الزمن، بعد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 314
ان أخفقت فی هجومین عامین شنتهما علی القوات العراقیة المدافعة. و یبدأ المستر کلوب بوصف الزحف قائلا «.. و من محطة المشاهدة تقدم الرتل بسرعة نحو الجنوب علی طول الطریق المؤدی الی بغداد. و کان یمتد علی بعد عدة مئات من الیاردات یمینا خط سکة حدید بغداد- الموصل فوق سدة واطئة. و علی بعد میل واحد من الیسار کانت تمتد ضفاف دجلة المکسوة ببساتین النخیل. و فی الأفق الممتد أمامنا کانت تلوح لنا من بعید منائر و قباب الجامع الأکبر المذهبة فی الکاظمیة، ضاحیة بغداد الشمالیة». و یقول فی مکان آخر «.. و کان رتل الهاوس هولد کافلری قد شن هجوما مرکزا وقت الفجر فتقدم ثلاثة أمیال. اما الآن فقد أوقف تقدمه بالمقاومة العنیفة التی أبداها العدو فی منطقة معامل طابوق الکاظمیة، و بذلک فشل فی هجومه الثانی».

بعد حوادث 1941

هذا و لم نعثر فی المراجع الغربیة علی ذکر یستحق التدوین للکاظمیة بعد سنة 1941، الا فی بعض النتف التی تذکر عرضا. فقد جاء فی کتاب لونکریک (العراق بین 1900 و 1950) ان شغبا سببه فی الکاظمیة حزب التحرر الوطنی غیر المجاز فأدی الی الاصطدام بالشرطة، علی عهد الوزارة السعیدیة التاسعة التی ألفها نوری السعید فی 21 تشرین الثانی سنة 1946.
و المعروف ان هذه الوزارة قد تألفت علی أثر إرغام أرشد العمری علی الاستقالة بعد ان فشل فی تسییر دفة البلاد، و خاب فی معالجة الوضع الراهن یومذاک بحکمة و تعقل. و قد عمد نوری السعید الی حل مجلس النواب الذی جاء به سلفه فی نفس الیوم الذی تولی فیها أعمال وزارته و اتخذ ما یلزم لاجراء انتخابات جدیدة. لکن الانتخابات سرعان ما أخذت تقاومها بعض الفئات،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 315
و منها الأحزاب الشیوعیة غیر المجازة، و الجماعات التی تشایعها مثل جماعة التحرر الوطنی التی یشیر الیها لونکریک فیسمیها حزبا.
و حینما تولت الحکم وزارة السید الصدر فی یوم 29 کانون الثانی سنة 1948، علی أثر الحوادث التی أعقبت تصدیق معاهدة بورتسموث و سقوط وزارة صالح جبر بسببها، عمدت الوزارة الجدیدة الی إلغاء المعاهدة التی لم یمر علی تصدیقها الا أیام معدودة، و حلت مجلس النواب، ثم اتخذت تدابیر أخری مهمة أخری. غیر ان هذه الوزارة اصطدمت بمشاکل و صعوبات لم تفسح لها المجال التام للعمل، و حینما بدأت عملیة الانتخابات للمجلس النیابی الجدید، التی قرر مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة یوم 21- 3- 48 البدء بها، وقعت حوادث مؤسفة عدیدة فی عدة جهات و منها الکاظمیة.
و یقول المستر لونکریک فی هذا الصدد «.. و قد اجتمع المجلس فی یوم 26 حزیران، بعد انتخابات بذلت فیها الأحزاب المجازة و غیر المجازة أقصی الجهود، فکانت سببا فی وقوع معارک شوارع فی الکاظمیة و بغداد و السلیمانیة. فحصل حزب الاستقلال علی أربعة مقاعد، و الحزب الوطنی الدیمقراطی علی مقعدین، و حزب الأحرار علی مقعد واحد فقط.» و تذکر بعض المراجع العربیة ان حادث الکاظمیة کادت تقع فیه مجزرة بین الأهلین لو لا لطف اللّه و عنایته، و ان حوادث مؤسفة قد وقعت فی الصویرة و العمارة أیضا، و ان ما وقع فی بغداد قد أدی الی مقتل سبعة أشخاص و جرح سبعة و أربعین فی جانب الکرخ من جماعة الحاج مظهر الشاوی التی کانت تساند شاکر الوادی.
و جاء فی کتاب (العراق لمؤلفیه المستر لونکریک و المستر فرانک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 316
ستوکس 1958)، خلال البحث عن سکان العراق و طبقاتهم، قول المؤلفین «.. لکن علماء النجف و الکاظمیة و کربلا و سامراء لم یعودوا یکوّنون العائق غیر الموالی للحکومة المنظمة کما کان بوسعهم ان یکونوا فی أوائل العشرینات من القرن الحالی». و لا یخفی ان هذه وجهة نظر البریطانیین الذین شهدوا اندلاع نیران الثورة العراقیة التی لعب فیها العلماء الأعلام دورا قیادیا أدی إلی إرباک الخطط الانکلیزیة و قلبها رأسا علی عقب، کما سبق ان بینا فی مبحثی النجف و کربلا من هذه الموسوعة.
و یتطرق الکتاب نفسه (کتاب لونکریک و ستوکس) الی ذکر الکاظمیة فی مناسبة أخری (الص 132) و یقول «.. و ما زالت النجف، و الکاظمیة و کربلا، و سامراء، مراکز کبری للزیارة یقصدها الزوار الشیعة من کل مکان فی العالم الإسلامی، و لا سیما من ایران ..»
هذا و قد عثرنا علی ذکر للکاظمیة کذلک فی کتاب امریکی ظهر فی 1958 بعنوان (العراق، سکانه و مجتمعه و حضارته) لمؤلفه المستر جورج هاریس . فهو یقول (الص 38): «.. و ان معظم هؤلاء الفلاحین لا یتمیزون بشی‌ء عن عرب خوزستان الواقعة فی ایران، و یعمل علی تقویة الرابطة الموجودة بین الطرفین وجود عتبات شیعیة مقدسة فی العراق مثل النجف، و الکاظمیة، و کربلا، و سامراء». و یذکر المستر هاریس فی مکان آخر من کتابه هذا ایضا، ای فی معرض التطرق الی ذکر الأجانب الموجودین فی العراق (الص 45)، ان حوالی الف شیعی أفغانی یعیشون فی المدینتین المقدّستین الکاظمیة و النجف، و ان هؤلاء یتصلون اتصالا وثیقا بالجالیة الایرانیة من حیث اللغة و العقیدة.» و یأتی فی بحث شؤون الزوار علی موضوع یلاحظ ذکره و تکراره علی الدوام فی المراجع الغربیة، موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 317
لا سیما المراجع الانکلیزیة التی کتبت فی عهد الاحتلال الانکلیزی الأوّل و ما بعده. و هو «.. ان توارد الزوار بکثرة من ایران علی الکاظمیة، و النجف، و کربلا و سامراء، و کان یتیح للسلطات السنیة خلال عقود عدة من السنین الفرصة لمضایقة الشیعة بطرق تختلف ما بین الابتزاز و وضع العراقیل فی متطلبات الحجر الصحی و التأشیرة علی الجوازات و ما أشبه. و کان الزوار الشیعة علی طول الطرق الممتدة بین المدن یتعرضون الی تعسف أصحاب الخانات و الحمالین، و حتی العاملین حول العتبات المقدسة نفسها. و قد ترکت هذه المضایقات العامة و الخاصة أثرها السی‌ء من المرارة و الحقد فی النفوس» . و الغریب فی الأمر اننا لاحظنا ان من جملة المشتغلین مع مؤلف الکتاب هذا، و المساعدین له فی جمع المعلومات رجل عراقی مسلم یدعی مختار العانی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 318

فهرست

صفحة لکاظمیة قدیما
الکاظمیة قدیما 9
براثا و مسجدها 18
مسجد العتیقة و مشهدها (المنطقة) 20
مقابر قریش 22
المواضع المجاورة لمقابر قریش قدیما 25
قطربل 27
المزرفة 28
مقبرة الشهداء 29
قبر هشام بن عمرو بن الزبیر 29
قطفتا 30
براثا و مسجدها 31
بناورا 33
ورثال 33
الشونیزیة 34
حیاة الإمامین الجوادین
الإمام موسی الکاظم 37
مثل من حلمه 39
صفات الإمامة و صفات الکاظم العامة 40
سجیة الکرم 42
باب الحوائج 43
مذهبه فی الحیاة 44
العلم و الحکمة و الأدب 46
قوة الحجة و سرعة البدیهة 49
حبسه و قتله 51
وفاته 56
أولاده 58
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 319
نصوص الأدعیة و الزیارة 59
الامام محمد الجواد 61
ملکاته العلمیة و مذهبه فی الحیاة 62
استدعاء المأمون لأبی جعفر 64
نموذج من عمق تبحره 66
زواجه من أم الفضل 71
رجوعه الی المدینة و وفاته 73
الکاظمیة فی الشعر 75
الکاظمیة فی المراجع العربیة
الکاظمیة فی تاریخ الکامل 93
فی الجامع المختصر 99
فی مختصر أخبار الخلفاء فی فرحة الغری. و فی الفخری 106
الحوادث الجامعة 107
فی تاریخ بغداد 115
فی المنتظم فی تاریخ الملوک و الأمم 116
فی مرآة الزمان 123
فی منتخب المختار 125
فی دوحة الوزراء 126
فی مختصر مطالع السعود 127
فی تاریخ العراق بین احتلالین 128
فی الحقائق الناصعة 143
الکاظمیة فی التواریخ البغدادیة 158
بغداد مدینة السلام 161
تاریخ الامامین الکاظمین 162
الکاظمیة فی الموسوعات العامة 171
الکاظمیة فی الرحلات 185
الکاظمیة فی الأدلة الجغرافیة 189
الکاظمیة فی المراجع الغربیة
الکاظمیة فی المراجع الغربیة 203
الکاظمیة فی بدایة عهدها 204
الکاظمیة فیما کتبه دونالدسون و ریشارد کوک 209
الکاظمیة فی عهد المغول 216
الإمام الکاظم 220
تعلیقات علی أقوال دونالدسون 224
الامام الکاظم فی کتاب هولیستر 229 موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌9 ؛ ص319
مام الجواد 230
الشاه اسماعیل و سلیمان القانونی فی الکاظمیة 237
السلطان مراد فی الکاظمیة 241
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌9، ص: 320
فی النصف الثانی من القرن السابع عشر 241
فی عهد نادر شاه 242
الرحالة نیبور 243
اواخر القرن الثامن عشر 244
النصف الأول من القرن التاسع عشر 245
فیلیکس جونز فی الکاظمیة 248
اصلاحات مدحت باشا فی الکاظمیة 252
زیارة مدام دیولافوا 255
نهایة القرن التاسع عشر 262
اعلان الجهاد فی الکاظمیة 263
انسحاب الأتراک من بغداد 266
السر رونالدستورز 268
الکاظمیة فی تقاریر الحکام السیاسیین 270
المس بیل فی الکاظمیة 273
الحرکة الوطنیة فی الکاظمیة 280
الکاظمیة و الثورة العراقیة 287
الکاظمیة و فیصل الأول 290
المعارضة فی الکاظمیة 291
معارضة الکاظمیة للمجلس التأسیسی 294
حادث 1927 297
صحفی امریکی فی الکاظمیة 299
تقریر عن تقدم العراق 1920- 1931 301
فرایا ستارک فی الکاظمیة 302
فاجعة الکاظمیة فی 1935 308
بیان رسمی 309
حوادث الرمیثة 311
الکاظمیة فی حوادث 1941- 312
بعد حوادث 1941 314

الجزء العاشر

[القسم الأول

اشارة

السلک الناظم لدفناء مشهد الکاظم
کتبه المرحوم الدکتور مصطفی جواد
خریج جامعة السوربون بباریس المتخصص فی التاریخ العربی و عضو المجمع العلمی العراقی ببغداد و المجمع العلمی العربی بدمشق و المتوفی بعید الانتهاء من کتابة هذا البحث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 7

کلمة التصدیر

کان المقتضی أن یخرج هذا الجزء، و الجزء الأول من المدینة المنوّرة قبل سنة أو سنتین من هذا التاریخ حسب ما ألف متتبعو سلسلة موسوعة العتبات المقدسة التی التزمنا أن نعد منها جزئین کاملین فی کل سنة علی قدر الامکان، و لکن الظروف- و للظروف أحکامها کما یقولون- و التی لا یستطیع أحد أن یتحکم فیها و یجعل الالتزام ممکنا فی کل وقت و بصورة متقنة کاملة کما یتوقع القراء هی التی حالت بیننا و بین صدور هذین الجزئین فی الموعد المقرر المنتظر، فلقد اشتد عارض المرض لأحد کبار عمداء التألیف فی هذه الموسوعة و هو العلامة الفذ الدکتور مصطفی جواد فحال اضطراره للسفر إلی خارج العراق بقصد المعالجة دون مواصلة بحثه، و کان هذا القسم من بحثه من الأهمیة بحیث لا یجوز تجاوزه إلی غیره من البحوث، و لکن الخوف بدأ یشتد علی صحته یوما بعد یوم، فرأینا أن یکون ختام حیاته الغالیة المثمرة المفیدة بشی‌ء یکون من أغلی- ان لم یکن أغلی علی الاطلاق- ما جادت به ملکاته العلمیة، و ما توصلت إلیه بحوثه العمیقة فی جذور التاریخ.
و لقد أصابت الظروف بما وضعت من عراقیل فی تأخیر إعداد هذین الجزئین، إذ مکنت الدکتور مصطفی جواد من الحصول علی فترة استجمام نسبیة ربما کانت بمثابة صحوة موت طویلة استطاع فیها أن یکمل ما بدأ به من تحقیق عن المشاهیر الذین کان لهم شأن ملحوظ فی التاریخ ممن قبروا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 8
فی مقابر الکاظمین و التعریف بهم و عرض نبذ من ترجمة حیاتهم و ذلک خلال سبعة قرون تبدأ من القرن الثانی الهجری و تنتهی بالقرن الثامن، علی أن یواصل- لو مدّ فی عمره- عرض هذه التراجم فی الجزء الثالث من قسم الکاظمین حتی ینتهی به فی القرن الرابع عشر الهجری، و هو القرن الحالی و لکن مشیئة اللّه التی لا رادّ لها اقتضت ان توثره برحمته فیودع هذه الدار بعد أن ملأها بأثمن الذکریات من مجهوده العلمی و الأدبی واقفا من هذه التراجم عند القرن الثامن الهجری.
و میزة هذه التراجم التی کتبها الدکتور مصطفی جواد فی هذا الجزء و هو علی فراش الموت هی أنها خلاصة لبحوث مغربلة منخولة من الحوادث التاریخیة التی انطمس بعضها و لم یعرف التاریخ شیئا عنها لو لا عثور المرحوم الدکتور مصطفی جواد علی وثائق مهمة و لو لا استنتاجات أخرجها من بین العروض الضمنیة فی بحوث- لا شک أن بعضها قد غاب عن ذهن أکثر العلماء و الباحثین- إن لم یکن کلهم- حتی اجتمع لدینا من هذا المجهود: هذا القدر الکبیر من التراجم التی ستصبح بعد نشر هذا الجزء مصدرا مهما آخر و مرجعا للمحققین و المؤرخین.
تغمد اللّه الفقید برحماته و أثابه علی ما قدم من خدمات جلیلة للعلم و العرفان، و طاب ثراه.
بغداد دار التعارف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 9

السلک الناظم لدفناء مشهد الکاظم و هو فی سیر دفناء المشهد الکاظمی من الأعیان القسم الأول

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحیم و صلاته علی نبیه الصادق الأمین و سلامه علی آله الطیبین الطاهرین و رضوانه عن صحابته الأکرمین و بعد فهذه تراجم لثلّة من الأعیان من وزراء و علماء و متصرفین و أدباء و شعراء و کتاب و محدثین من الأعیان دفنوا فی مشهد الإمام موسی بن جعفر- علیهما السلام- وقفت علی سیرهم فی أثناء مطالعتی کتب التاریخ فوددت أن أجمعهم هنا ذاکرا لهم فیه علی حسب سنی الوفاة، و لم أقتصر فی الترجمة علی قول واحد و لا مرجع واحد ما اتسع لی المجال لاستقصاء الأحوال، و قد التزمت إیراد أقوال المؤرخین و الأدباء بنصوصها لأنی لم أرد إلا الجمع المتقصّی و الذکر المستقصی، و ذلک أضمن للأمانة فی النقل و أحوی للفوائد و أروی لأوام الباحث، و هذا هو القسم الأول من بحث الجزء الثانی من موسوعة العتبات المقدسة، فإن یسّر اللّه و أطال فی العمر و أدام الصحّة اجتهدت فی جمع تراجم القسم الثانی للجزء الثالث من موسوعة العتبات المقدسة لقسم الکاظمین و إلا فالعمل مفتوح المجال لکل من یقوم به من الأدباء الفضلاء من أسرة موسوعة العتبات المقدّسة القلمیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 10
و مما یجب أن نذکره قبل ذکر الأعیان المدفونین فی مقبرة مشهد الإمام موسی بن جعفر- علیه السلام- هو أن مدفنه لم یعرف باسم المشهد إلا بعد وفاته سنة 183 و دفنه فیه و لذلک لا یصح أن یقال لمن دفنوا فی مقابر قریش قبل ذلک التاریخ إنهم مدفونون فی المشهد و الصحیح أنهم مدفونون فی مقابر قریش. فالمدفونون فی المشهد یبدأ تاریخهم من بعد وفاة الإمام و لو بیوم أو یومین أو ثلاثة أیام.
مصطفی جواد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 11

دفناء المشهد الکاظمی الذین دفنوا فی الکاظمین بعد دفن الإمام

القرن الثانی الهجری سنة 185

1- و أبو اسحاق إبراهیم بن سعد بن ابراهیم بن عبد الرحمن بن عوف الزّهری المدنی من أهل المدینة، قال الخطیب البغدادی: «کان قد نزل بغداد و أقام بها إلی حین وفاته و لم یزل ببغداد من عقبه جماعة یروون العلم حتی انقرضوا بآخرة» و ذکر الشیوخ الذین روی عنهم ثم قال: و ابراهیم ابن سعد من أکثر أهل المدینة حدیثا فی زمانه: و روی عن بعضهم أن الإمام أحمد بن حنبل قال له: کفّ عن حدیث إبراهیم بن سعد ثم حدث عنه بعد. قال الراوی: قلت لم؟ قال: لا أدری إبراهیم ثقة. و روی عن آخر قال: إبراهیم بن سعد صدوق من أهل المدینة و أبوه کان من جلّة المسلمین و کان علی قضاء المدینة. قلت: و ما الذی یغنیه عنه کون أبیه من جلّة المسلمین و الحدیث فی کونه صادق الروایة أو کاذبها؟ و نقل الخطیب أن إبراهیم بن سعد الزهری قدم العراق سنة 184 ه و أتاه بعض أصحاب الحدیث لیسمع منه أحادیث فسمعه یتغنی. فقال: لقد کنت حریصا علی أن أسمع منک فأمّا الآن فلا سمعت منک حدیثا أبدا. فقال إبراهیم: إذن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 12
لا أفقد إلا شخصک، علیّ و علیّ إن حدّثت ببغداد ما أقمت حدیثا حتی أغنی قبله. و شاعت هذه عنه ببغداد فبلغت الرشید فدعا به فسأله عن حدیث المخزومیة التی قطعها النبی (ص)- فی سرقة الحلی، فدعا بعود فقال الرشید: أعود المجمر؟ قال: لا و لکن عود الطرب. فتبسم، ففهمها إبراهیم بن سعد فقال: لعله بلغک یا أمیر المؤمنین حدیث السفیه الذی آذانی بالأمس و ألجأنی إلی أن حلفت؟ قال: نعم. و دعا الرشید بعود فغنی:
یا أم طلحة إن البین قد أفداقلّ الشواء لئن کان الرحیل غدا
فقال الرشید: من کان من فقهائکم یکره السماع؟ قال: من ربطه اللّه. قال: فهل بلغک عن مالک بن أنس فی هذا شی‌ء؟ قال: لا و اللّه إلا أن أبی أخبرنی أنهم اجتمعوا فی مدعاة کانت فی بنی یربوع و هم یومئذ جلّة و مالک أقلّها من فقهه و قدره و معهم دفوف و معازف و عیدان یغنون و یلعبون و مع مالک دف مربع و هو یغنّیهم:
سلیمی أجمعت بینافأین لقاؤنا أینا؟
و قد قالت لأتراب‌لها زهر تلاقینا
تعالین فقد طاب‌لنا العیش تعالینا
فضحک الرشید و وصله بمال عظیم، و قال الخطیب قبل ذلک: أکرمه الرشید و أظهر برّه و سئل عن الغناء فأفتی بتحلیله. ثم روی الخطیب أن إبراهیم الزهری توفی سنة 184 أو سنة 185 أو سنة 183 علی روایة ضعیفة عن خمس و سبعین و دفن فی مقابر باب التبن .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 13

القرن الثالث الهجری

سنة «207» ه

2- یحیی بن الحسین بن زید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب-- علیهم السلام- ذکره الخطیب البغدادی قال:
«سکن بغداد و حدث عن أبیه و روی عنه علی بن حفص بن عمر العبسی. أخبرنا علی بن محمد بن عیسی البزاز فیما أذن أن نرویه عنه، حدثنا محمد بن عمر بن سالم الحافظ قال: یحیی بن الحسین بن زید بن علی ابن الحسین بن علی قالوا: کان ببغداد و مات یوم الأربعاء لأربع خلون من شهر ربیع الآخر من سنة سبع و مائتین و دفن فی مقابر قریش ببغداد و صلی علیه عبد اللّه بن هارون (المأمون) و دخل قبره ».
و قال السید ابن عنبة فی الکلام علی عقب الحسین ذی الدمعة: «أما یحیی أبو الحسین ابن ذی الدمعة و فی ولده البیت و العدد فأعقب من سبعة رجال «و جاء فی هامش العمدة: «و کانت وفاة یحیی بن الحسین هذا فی سبع أو تسع و مائتین ببغداد و صلی علیه المأمون ». و قد أید السبع أی سنة 207 ما فی تاریخ الخطیب، کما أوضح الخطأ الوارد فیه ما ورد فی هامش طبعة بمبی للکتاب المذکور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 14

سنة «210» ه

3- و فی سنة عشر و مئتین قتل المأمون إبراهیم بن محمد المعروف بابن عائشة ثم أمر بصلبه علی الجسر الأسفل ثم أنزل و دفن فی مقابر قریش، قال أحمد بن أبی طاهر طیفور الکاتب المؤرخ: «لما کان سنة عشر و مئتین أخذ إبراهیم بن عائشة و مالک بن شاهی و أصحابهم یوم السبت لست خلون من صفر، و أمر المأمون بحبسهم (فی المطبق) و کان مقتل ابن عائشة و محمد ابن إبراهیم الأفریقی و أصحابهم لیلة الثلاثاء لأربع عشرة لیلة بقیت من جمادی الآخرة، و صلبوا یوم الثلاثاء و صلب البغواری معهم للیلة بقیت من رجب، و کان سبب حبسهم أنّهم کانوا یدعون إلی ابراهیم بن المهدی ... قال القاسم بن سعید فقلت للفضل، بلغنا أن ابن عائشة شتم المأمون فی وجهه تلک اللیلة و أنّ ذلک دعاه إلی قتله. فقال: لا و لا کلمة واحدة البتة» .
و قال هذا المؤرخ نفسه: «قال ابن شبانة: أقام المأمون إبراهیم بن عائشة فی الشمس ثلاثة أیام علی باب المأمون و ضربه یوم الثلاثاء بالسیاط و حبسه فی المطبق، و ضرب مالک بن شاهی و أصحابه و کتبوا للمأمون تسمیة من دخل معهم فی هذا الأمر من القواد و غیرهم فلم یعرض لهم المأمون، و کانوا قد اتعدوا أن یعطفوا الجسر إذا خرج الجند یستقبلون نصر بن شبث، فغمز بهم فأخذوا و دخل نصر وحده، لم یستقبله أحد ... قال عیاش بن الهیثم: لما کان فی لیلة المطبق حضرت فی واسط من القوم فرآنی المأمون، فقال: یا بائع العساکر یا صدیق عیسی بن أبی خالد، تأخر إلی الساعة؟
ما أملکه صدقة و قتلنی اللّه إن أقتلک. فاختفیت منه، ثم قلت: إن لم یرنی فذاک أسرع لذکره، فظهرت له و قد خرج من الطاقات فنظر إلیّ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 15
فقال: أدن. فدنوت. فقال: من حلف علی یمین فرأی غیرها خیرا منها فلیأت الذی هو خیر (منها) و لیکفّر و الکفارة أصلح من قتلک، و لا تعد،
قال ابن شبانة: و فی سنة عشر و مئتین قتل إبراهیم بن عائشة و من کان محبوسا معه و فیهم رجل یقال له أبو مسمار من شطار بغداد و رجل آخر لم یسمّه، و کان السبب فی قتلهم بعد حبسهم أن أهل المطبق رفع علیهم أنّهم یریدون أن یشغبوا و أن ینقبوا السجن، و کانوا قبل ذلک بیوم قد سدّوا باب السجن من داخل فلم یدعوا أحدا یدخل علیهم، فلما کان اللیل و سمعوا شغبهم و أصواتهم و بلغ أمیر المؤمنین (المأمون) خبرهم رکب إلیهم و دعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم، فلما کان بالغداة صلبهم علی الجسر الأسفل و ذلک فیما ذکر محمد بن الهیثم بن شبانة فی لیلة الأربعاء لأربع عشرة لیلة بقیت من جمادی الآخرة، و لما کان من غد یوم الأربعاء أنزل إبراهیم ابن عائشة فکفن و صلی علیه و دفن فی مقابر قریش، و أنزل الأفریقی فدفن فی مقابر الخیزران من الجانب الشرقی و ترک الباقون علی حالهم. و قد ذکروا أن ابن عائشة و أصحابه کانوا دسّوا من أحرق سوق العطارین و الصیارفة و الصفارین و الفرّائین و أصحاب الراهدار و بعض الزیّاتین و ذلک لیلة السبت للیلة بقیت من جمادی الأولی، و قبل ذلک أو بعده أحرقوا أصحاب الحطب فی البغیّین و قال بعضهم لیلة الجمعة لأربع خلون من رجب و قال بعضهم قبل ذلک. و قال القاسم بن سعید سمعت الفضل بن مروان یقول: کان أبو اسحاق المعتصم باللّه فی اللیلة التی رکب المأمون فیها لقتل ابن عائشة علیلا.
قال: فبعث المأمون إلی أبی اسحاق: إبعث إلی بکاتبک الفضل و لیکن معه جمیع قوادک و جندک. فرکبت أناوهم جمیعا معی و قلت: لیس هو إلی شی‌ء أحوج منه إلی شمع، و کان فی خزانة أبی اسحاق یومئذ سبع مئة شمعة، فحملتها معی و رفعت إلی کل واحد من الرجالة عشرا یحملها ثم دخلنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 16
المدینة فلم نصل إلی المأمون من کثرة الناس. فقلت له: بلغنی أن حمیدا کان أول من لحق به. فقال: لا. و جاء اسحاق بن إبراهیم فلم یصل من الزحام و کان شاربا- یعنی اسحاق- کان یشرب عنده تلک اللیلة عمیر الباذغیسی، و کان المأمون أیضا شاربا و لم یکن بالممتلی‌ء. قال: فوقفت فی طریقه فی المدینة ، فلما انصرف بعد قتل ابن عائشة فبلغ إلی موضعی نزلت عن دابتی. فقال: من هذا؟ قلت: الفضل جعلنی اللّه فداء أمیر المؤمنین. فقال: أرکب معک القواد و الجند؟ قلت: نعم. قال: و معک الشمع؟ قلت: نعم. فأمرت حینئذ بعض من یقرب منی أن یقف ثلاث مئة رجل من الرجالة مع کل واحد منهم شمعة علی باب خراسان. ففعلوا، فلما انتهی الیهم قال: ما هذا. قلت: الشمع الذی سألنی عنه أمیر المؤمنین قال: بارک اللّه علیک. ثم قال لی: خلّف جمیع من معک ها هنا. و فیهم الأفشین و أشناس، و تقدم إلیهم أن یقفوا- یعنی فی المدینة- علی ظهور دوابهم و یفقوا قشّهم فان تحرک شی‌ء أتوا علیه قال الفضل فامرتهم بذلک ثم قال امض إلی أخی فاقرئه السلام و قل له: قد قتل اللّه عدوا لک من حاله و أمره. و من قبل ذلک قد أمرنی بالمقام فی المدینة ثم قال: لهذا غیرک، فحینئذ أمرنی أن أخلّف من معی هناک مستعدّین، ثم بکر هو علی ابن اسحاق فخبّره الخبر و قال له: قام الفضل بما نحتاج إلیه. فکان أبو اسحاق بعد ذلک لا یخلی خزائنه من خمسة آلاف شمعة عدّة ... قال:
و لما رکب المأمون فی اللیلة التی قتل فیها إبراهیم بن عائشة و الافریقی و أصحابه التفت فإذا هو بعبد الرحمن بن اسحاق فقال له: جزاک اللّه خیرا فأنت و اللّه للسار و الغار و الخیر و الشرّ و الشدّة و الرخاء لا کالمنتفخ الأعفاج، الکثیر اللجاج لا یمت بقدیم حرمة و لا بحدیث خدمة أکثر من کان فی الفتنة شاطرا و فی السلامة مقامرا. قال: و إذا عیاش بن القاسم صاحب الجسر قد طلع،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 17
فقال له: یا ابن اللخناء یحضر الحاکم ضرب الأعناق و صاحب الشرطة مشغول بمجالسة الفسّاق ... و استقبله الجعفری الملقب بکلب الجنة و معه لحاف قد تترس به و عصا قد أخذها من حطب البقال، فقال: ما هذا؟ فقال:
یا سیدی لم یحضرنی غیر لحافی فجعلته مجنّا و عصا وجدتها مع حطب البقال فاختلستها منه. فقال: للّه أبوک فقد جدت بنفسک و أسرعت إلی إمامک.
و أمر له بعشرین ألف درهم ... قال ابن مسعود القتات: لما قتل المأمون ابن عائشة و أصحابه تمثل بشعر مسلم بن الولید فقال:
«أنا النار فی أحجارها مستکنّةفان کنت ممّن یقدح النار فاقدح»

سنة 216 ه

اشارة

4- و أمة العزیز زبیدة بنت جعفر بن أبی جعفر المنصور، ذکرها الخطیب البغدادی قال: «زوجة هارون الرشید و أم ولده الأمین، کانت معروفة بالخیر و الافضال علی أهل العلم و البرّ للفقراء و المساکین و لها آثار کثیرة فی طریق مکة من مصانع حفرتها و برک أحدثتها و کذلک بمکة و المدینة، و لیس فی بنات هاشم عباسیة ولدت خلیفة إلا هی، و یقال إنها ولدت فی حیاة المنصور فکان المنصور یرقصها و هی صغیرة فیقول لها:
أنت زبیدة و أنت زبیدة، فغلب ذلک علی اسمها «ثم روی أنها ماتت ببغداد فی جمادی الأولی سنة ست عشرة- یعنی و مائتین- و لزبیدة ترجمة حسنة فی وفیات الاعیان لابن خلکان و قد علمنا انها دفنت فی مقابر قریش مما ذکره عز الدین ابن الأثیر فی فتنة سنة «443» بین الامامیة و الحنابلة قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 18
و احترق ضریح موسی و ضریح ابن ابنه محمد بن علی الجواد و القبتان الساج اللتان علیهما و احترق ما یقابلهما و یجاورهما من قبور ملوک بنی بویه:
معز الدولة و جلال الدولة و من قبور الوزراء و الرؤساء و قبر جعفر بن أبی جعفر المنصور و قبر الأمین محمد بن الرشید و قبر أمه زبیدة» .

إبراهیم المرتضی ابن موسی الکاظم- ع-

5- قال ابن الطقطقی فی کتابه الأنساب المطبوع باسم غایة الاختصار فی أخبار البیوتات العلویة المحفوظة من الغبار المنحول لتاج الدین بن زهرة الحلبی و قد ذکر السید إبراهیم بن الإمام موسی- ع-: «کان سیدا أمیرا جلیلا عالما فاضلا، روی الحدیث عن آبائه علیهم السلام. مضی إلی الیمن و تغلب علیها فی أیام أبی السرایا و یقال إنه ظهر داعیا إلی أخیه الرضا- علیه السلام- فبلغ المأمون ذلک فشفعه فیه و ترکه. توفی ببغداد و قبره بمقابر قریش عند أبیه- علیهم السلام- فی تربة مفردة معروفة- قدس اللّه روحه و نوّر ضریحه-» .
قال جمال الدین القفطی فی ترجمة عبد اللّه بن سهل النوبختی: «و کان المأمون قد رأی آل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب متخشین مختفین من خوف المنصور و من جاء بعده من بنی العباس و رأی العوام قد خفیت عنهم أمورهم بالاختفاء فظنّوا بهم ما یظنونه بالأنبیاء و یتفوهون فی صفتهم بما یخرجهم عن الشریعة من التغالی فأراد معاقبة العامة علی هذا الفعل ثم أفکر أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراءا فنظر فی هذا الأمر نظرا دقیقا و قال:
لو ظهروا للناس و رأوا فسق الفاسق منهم و ظلم الظالم لسقطوا من أعینهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 19
و لا نقلب شکرهم لهم ذمّا ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا و استتروا و ظنوا بنا سوءا و إنما الرأی أن نقدّم أحدهم و یظهر لهم إماما فإذا هذا أنسوا و ظهروا و أظهروا ما عندهم من الحرکات الموجودة فی الآدمیین، فیتحقّق العوام حالهم و ما هم علیه مما خفی بالاختفاء فإذا تحقق ذلک أزلت من أقمته ورددت الأمر إلی حالته الأولی، و قوی هذا الرأی عنده و کتم باطنه عن خواصه و أظهر للفضل بن سهل أنه یرید أن یقیم إماما من آل أمیر المؤمنین علی- صلوات اللّه علیه- و أفکر هو و هو فیمن یصلح فوقع اجماعهما علی الرضا فأخذ الفضل بن سهل فی تقریر ذلک و ترتیبه و هو لا یعلم باطن الأمر، و أخذ فی اختیار وقت لبیعة الرضا فاختار طالع السرطان و فیه المشتری. قال عبد اللّه بن سهل بن نوبخت هذا: أردت أن أعلم نیة المأمون فی هذه البیعة و أن باطنه کظاهره أم لا، لأن الأمر عظیم، فأنفذت إلیه قبل العقد رقعة مع ثقة من خدمه- و کان یجی‌ء فی مهم أمره- و قلت له إن هذه البیعة فی الوقت الذی اختاره ذو الرئاستین لا تتم بل تنقص لأن المشتری و إن کان فی الطالع فی بیت شرف فان السرطان برج منقلب و فی الرابع و هو بیت العاقبة المریخ و هو نحس و قد أغفل ذو الرئاستین هذا. فکتب إلی «قد وقفت علی ذلک أحسن اللّه جزاءک فاحذر کل الحذر أن تنبّه ذا الرئاستین علی هذا فإنه إن زال عن رأیه علمت أنک أنت المنبّه له». فهمّ ذو الرئاستین بذلک، فما زلت أصوّب رأیه الأول خوفا من اتهام المأمون لی و ما أغفلت أمری حتی مضی أمر البیعة فسلمت من المأمون» . و قال ابن الفوطیّ «المرتضی أبو أحمد إبراهیم بن موسی الکاظم ابن جعفر الصادق ابن محمد (الباقر) العلوی العابد کان من العباد الزهاد، العلماء الأفراد، و کان یترنم دائما بهذه الأبیات:
لا تغبطنّ إذا الدنیا تزخرفها و لا للذة وقت عجلت فرحا
فالدهر أسرع شی‌ء فی تقلبه‌و فعله بیّن للخلق قد وضحا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 20 کشارب عسلا فیه منیته‌فکم تقلد سیفا من به ذبحا

موسی بن ابراهیم أبو سبحة

6- قال ابن الطقطقی فی کتابه المذکور المغیر الاسم: «کان صالحا متعبدا ورعا فاضلا یروی الحدیث. قال: رأیت له کتابا فی سلسلة الذهب یروی عن المؤالف و المخالف، کان یقول: أخبرنی أبی إبراهیم قال حدثنی أبی موسی الکاظم قال حدثنی الإمام الصادق جعفر بن محمد قال حدثنی أبی محمد الباقر قال حدثنی أبی زین العابدین قال حدثنی أبی الامام شهید کربلا قال حدثنی أبی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- علیهم السلام- قال حدثنی رسول اللّه- صلی اللّه علیه و (آله) و سلم قال حدثنی جبرائیل عن اللّه تعالی أنه قال: لا إله إلا اللّه حصنی فمن قالها دخل حصنی و من دخل حصنی أمن من عذابی «توفی أبو سبحة ببغداد و قبره بمقابر قریش مجاورا لأبیه وجده- علیهما السلام- فحصت عن قبره فدللت علیه و إذا موضعه فی دهلیز حجرة صغیرة ملک مبارک الجوهری الهندی» .
و مبارک الهندی هو أمیر الدین الجوهری نقیب مشهد الامام موسی بن جعفر- ع- جاء فی تاریخ الحوادث فی حوادث سنة 674.» و فیها عزل أمین الدین مبارک الهندی الجوهری من نقابة مشهد موسی بن جعفر- ع- و عین فی النقابة نجم الدین علی بن الموسوی، و لما کان مبارک المذکور نقیبا قال فیه بعض الشعراء:
رأیت فی النوم إمام الهدی‌موسی حلیف الهم و الوجد
یقول ما تنکبنی نکبةإلا من الهند أو السند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 21 تحکم السندی فی مهجتی‌و حکّم الهندی فی ولدی
فلعنة اللّه علی من به‌تحکم السندی و الهندی
و قال السید ابن عنبة: «و أما ابراهیم المرتضی بن موسی الکاظم و هو الأصغر، و أمه أم ولد نوبیة اسمها نجیة قال الشیخ أبو الحسن العمری:
ظهر بالیمن أیام أبی السّرایا. و قال أبو نصر البخاری: إن ابراهیم الأکبر ظهر بالیمن و هو أحد أئمة الزیدیة و قد عرفت حاله و أن لم یعقب. و أعقب إبراهیم المرتضی ابن الکاظم من رجلین موسی أبی سبحة و جعفر ....
أما موسی أبو سبحة ابن المرتضی فله أعقاب و انتشار و البیت و العدد فی ولده أعقب من ثمانیة رجال؛ أربعة مقلّون و أربعة مکثرون .

سنة 253 ه

(7)- و أبو العباس محمد بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسین بن مصعب أبو العباس الخزاعی بالولاء، ذکره الخطیب البغدادی فی تاریخ بغداد قال:
«کان شیخا فاضلا و أدیبا شاعرا ... و کان مألفا لأهل العلم و الأدب و قد أسند حدیثا عن أبی الصلت الهروی» و قال: «ولی إمارة بغداد أیام المتوکل.
و هو أمیر ابن أمیر ابن أمیر» و أسند إلیه حدیثا و ذکر أنه قال فی إسناده:
«کنت واقفا علی رأس أبی و عنده أحمد بن محمد بن حنبل و إسحاق بن راهویه و أبو الصلت الهروی فقال أبی: لیحدثنی کل رجل منکم بحدیث.
فقال أبو الصلت: حدثنی علی بن موسی الرضا- و کان و اللّه رضا کما سمّی- عن أبیه موسی بن جعفر عن أبیه جعفر بن محمد عن أبیه محمد بن علی عن أبیه علی بن الحسین عن أبیه الحسین بن علی عن أبیه علی قال قال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 22
رسول اللّه- ص-: الإیمان قول و عمل. فقال بعضهم: ما هذا الاسناد؟! فقال له أبی: هذا سعوط المجانین إذا سعط به المجنون برأ. ثم قال الخطیب:
«أخبرنی أبو القاسم الأزهری أخبرنا أحمد بن إبراهیم حدثنا إبراهیم بن محمد ابن عرفة قال: و فی هذه السنة- یعنی سنة 253- لاحدی عشرة لیلة خلت من ذی القعدة انکسف القمر فی أول اللیل حتی ذهب أکثره فلما انتصف اللیل مات محمد بن عبد اللّه بن طاهر و کان به خراج فی حلقه فاشتد فعولج بالفتائل ... و دفن فی مقابر قریش ».
و قال الطبری فی حوادث هذه السنة: «و لیلة أربع عشرة من ذی القعدة منها انخسف القمر فغرق کله أو غاب أکثره و مات محمد بن عبد اللّه بن طاهر مع إنتهاء خسوفه فیما ذکر و کانت علته التی مات فیها قروحا أصابته فی حلقه و رأسه فذبحته و ذکر أن القروح التی کانت فی حلقه و رأسه کانت تدخل فیها الفتائل» .

سنة 288 ه

8- و فی شهر ربیع الأول من سنة 288 توفی أبو علی بشر بن موسی ابن صالح الأسدی المحدث. ولد سنة «190» ببغداد و نشأ بها و طلب الحدیث فسمع من روح بن عبادة حدیثا واحدا و من حفص بن عمر العدنی حدیثا واحدا و سمع کثیرا من هوذة بن خلیفة و الحسن بن موسی الأشیب و أبی نعیم و علی بن الجعد و الأصمعی و غیرهم و کان آباؤه من أهل البیوتات و الفضل و الرئاسة و النبل، قال أبو الفرج بن الجوزی: «و کان هو فی نفسه ثقة أمینا عاقلا رکینا و کان أحمد بن حنبل یکرمه» و نقل بسنده قوله:
ضعفت و من جاز الثمانین یضعف‌و ینکر منه کلّ ما کان یعرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 23 و یمشی کالأسیر مقیّداتدانی خطاه فی الحدید و یرسف
قال ابن الجوزی بعد ذلک: «توفی بشر فی ربیع الأول من هذه السنة- یعنی سنة 288- و صلی علیه محمد بن هارون بن العباس الهاشمی صاحب الصلاة و دفن فی مقبرة باب التبن و کان الجمع کثیرا» .

سنة 297 ه

9- و قال عریب بن سعد القرطبی فی وفیات سنة 297: «و فی شوال منها توفی محمد بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر المعروف بالصنادیقی و دفن فی مقابر قریش و صلی علیه القاضی أحمد بن اسحاق بن البهلول» و ذکره الخطیب فیمن روی الحدیث النبوی بنسب النیسابوری و قال: «دفن إلی جنب عمه محمد بن عبد اللّه بن طاهر» و لم یذکر الموضع فی الترجمة هذه و إنما ذکره فی ترجمة عمه محمد بن عبد اللّه بن طاهر و قد ذکرناها آنفا.

سنة 300 ه

10- و قال عریب فی حوادث هذه السنة: «و فی شوال من هذا العام توفی عبید اللّه بن عبد اللّه بن طاهر و کان أکثر الناس أدبا و جلالة و فهما و مروءة و هو ابن إحدی و ثمانین سنة و صلی علیه أحمد بن عبد الصمد الهاشمی و دفن فی مقابر قریش» و لعبید اللّه الطاهری هذا ترجمة و أخبار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 24
حسنة ذکرها أبو الحسن علی بن محمد الشابشتی و ذکرها الخطیب البغدادی و قال فیما قال: «ولی إمارة بغداد و حدث عن أبی الصلت الهروی و الزبیر ابن بکار و روی عنه محمد بن یحیی الصولی و عمر بن الحسن الأشنانی و أبو القاسم الطبرانی و کان فاضلا أدیبا شاعرا فصیحا» و کان مما روی عن أبی الصلت عن الامام الرضا- ع- قول النبی (ص): «أسرع الذنوب کفران النعم» و قوله: «الایمان عقد بالقلب و نطق باللسان و عمل بالأرکان».
و ذکر أن مولده کان سنة 223 و لم یذکر أنه دفن بمقابر قریش. و ذکر ابن خلکان أنه ألف کتاب «الاشارة فی أخبار الشعراء» و کتاب «الرئاسة فی السیاسة الملوکیة» و کتاب «مراسلاته لعبد اللّه بن المعتز» و کتاب «البراعة و الفصاحة» ثم قال: «و کانت وفاته لیلة السبت لاثنتی عشرة لیلة خلت من شوال سنة ثلاثمائة ببغداد و دفن بمقابر قریش- رحم-» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 25

القرن الرابع الهجری

سنة «304» ه

11- و قال عریب القرطبی فی حوادث سنة 304: «و فی المحرم من هذه السنة توفی عبد العزیز بن طاهر بن عبد اللّه بن طاهر أخو محمد بن طاهر و کان عبدا صالحا حسن المذهب کثیر الخیر و دفن فی مقابر قریش، و صلی علیه مطهر بن طاهر» .

سنة 305 ه

و فی ذی الحجة من سنة 305 توفی أبو موسی سلیمان بن محمد بن أحمد المعروف بالحامض النحوی، قال أبو الفرج بن الجوزی: «کان من علماء الکوفیین، أخذ عن ثعلب و صحبه أربعین سنة و هو المقدّم من أصحابه و الذی جلس بعده فی مجلسه و صنف کتبا منها غریب الحدیث و خلق الانسان و الوحوش و النبات. یروی عنه أبو عمر الزاهد و کان دیّنا صالحا و توفی فی ذی الحجة من هذه السنة- یعنی سنة 305- و دفن بباب التبن» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 26

سنة 317 ه

13- و فی سنة 317 توفی عبد اللّه بن محمد بن عبد العزیز بن المرزبان ابن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم ابن بنت أحمد بن منیع أی سبطه. ترجمه الخطیب و ذکر ما خلاصته أنه «بغوی الأصل. ولد ببغداد و نشأ فیها و طلب الحدیث النبوی و سمع علیه بن الجعد و طبقته من الشیوخ المحدثین و روی عنه یحیی بن محمد بن صاعد و جماعة من طبقته من الرواة» قال الخطیب: «و کان ثقة ثبتا مکثرا فهما عارفا» و روی بسنده إلیه أنه قال:
«رأیت أبا عبید القاسم بن سلام إلا أنی لم أسمع منه شیئا و شهدت جنازته» و قال: «ولدت سنة ثلاث عشرة و مئتین» و قال ابن شاذان: و مات فی لیلة الفطر من سنة سبع عشرة و ثلاث مئة سنة و أربع سنین. و نقل الخطیب روایة أخری بأن مولده سنة 214 و أول ما کتب الحدیث سنة 225. ثم قال:
«أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا إسماعیل بن علی الخطبی قال:
توفی أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن منیع الوراق لیلة الفطر من سنة سبع عشرة و ثلاث مئة و دفن یوم الفطر و قد أستکمل مئة سنة و ثلاث سنین و شهرا واحدا. قلت: و دفن فی مقبرة باب التبن» .

سنة 317 ه

14- و أبو القاسم عبد للّه بن محمد بن عبد العزیز بن المرزبان بن سابور ابن شاهنشاه ابن بنت أحمد بن منیع، ذکره لخطیب البغدادی قال:
«بغوی الأصل ولد ببغداد» و ذکر أن مولده بها کان سنة 214 و أنه روی الحدیث بعد سماعه إیاه علی الشیوخ المشهورین الذین أدرکهم و کان ثقة ثبتا مکثرا و ذکر أنه حکی عن نفسه قال: «کنت أورّق فسألت جدّی احمد بن منیع أن یمضی إلی سعید بن یحیی بن سعید الأموی یسأله أن یعطینی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 27
الجزء الأول من المغازی عن أبیه عن ابن اسحاق حتی أورقه علیه، فجاء معی و سأله فأعطانی الجزء الأول فأخذته و طفت به فأول ما بدأت بأبی عبد للّه المغلّس و أریته الکتاب و أعلمته أنی أرید أن أقرأ المغازی علی سعید الأموی فدفع إلی عشرین دینارا و قال: اکتب لی منه نسخة. ثم طفت بعده بقیة یومی فلم أزل آخذ من عشرین دینارا إلی عشرة دنانیر و أکثر و أقل إلی أن حصل معی فی ذلک الیوم مائتا دینار، فکتبت نسخا لأصحابها بشی‌ء یسیر من ذلک و قرأتها لهم و استفضلت الباقی». ثم روی الخطیب بسنده عن إسماعیل بن علی الخطبی قال: توفی أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن منیع الوراق لیلة الفطر من سنة سبع عشرة و ثلاثمائة و دفن یوم الفطر و قد استکمل مائة سنة و ثلاث سنین و شهرا واحدا» قال الخطیب: «و دفن فی مقبرة باب التبن» .

سنة 352 ه

15- و ذکر محمد بن عبد الملک الهمذانی فی حوادث سنة 352 وفاة أبی محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهیم بن عبد اللّه بن یزید بن حاتم ابن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة الأزدی المهلبی وزیر معز الدولة أحمد ابن بویه، بعد خروجه فی جمادی الآخرة لفتح عمان، و نقل قول أبی حیان التوحیدی إن المهلبی «کان یطرب علی اصطناع الرجال کما یطرب سامع الغناء علی الستائر و یرتاح لذلک کما یرتاح مدیر الکأس علی العشاء و قال:
لأکوننّ فی دولة الدیلم أول مذکور إذ فاتنی أن أکون فی دولة بنی العباس- رح- آخر مذکور» و نقل قول التنوخی: «شاهدت المهلبی و قد اشتری له ورد بألف دینار فی ثلاثة أیام فشرب علیه و أنهبه» ثم قال المؤرخ: «و دفن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 28
المهلبی بالنوبختیّة بمقابر قریش» .
و لأبی محمد المهلبی أخبار تاریخیة فی تجارب الأمم لمسکویه قال فی آخرها فی حوادث سنة 352: «و منها خرج الوزیر أبو محمد المهلبی و معه الجیش لفتح عمان و ذلک یوم الأربعاء لست خلون من جمادی الآخرة فانحدر و بلغ إلی هلتا من فم البحر و اعتلّ، فکنت أسمع من طبیبه فیروز بأنه مسموم لا محالة و کنت أسأله عمّن سمّه فلا یصرّح باسمه إلی أن کان بعد ذلک بمدة، و انقضت تلک الأیام فذاکرته بذلک، فقال: کان خرج معه فرج الخادم و کان أستاذ داره و المستولی علی خاص أمره و معه جماعة من الخدم یطیعونه و کان قد فارق نعمة ضخمة و خرج من خیش و ثلج و تنعم إلی حرّ شدید و شقاء کثیر، و توجه إلی عمان فواطأ الخدم علی سمّه و قتله و الراحة من ذلک السفر و ظنّوا أنهم یسلمون و یعودون إلی نعمهم، ثم ذکر أنه مات محمولا علی شبه محفة عائدا إلی بغداد، و کانت وفاته بزاوطا .
و ترجم له یاقوت فی معجم الأدباء إلا أن أوائل ترجمته سقطت من النسخة المطبوعة ، و نقل یاقوت من تاریخ هلال ابن الصابی شیئا من مکارمه و قول هلال: «اللهم أنت جدّد الرحمة و الرضوان علیه إنک العلیّ تحب معالی الأمور و أشرافها و تبغض سفسافها» قال هلال: «و حدث إبراهیم ابن هلال- یعنی جدّه- قال: کان أبو محمد المهلبی یناصف العشرة أوقات خلوته و یبسطنا فی المزح إلی أبعد غایة فإذا جلس للعمل کان امرءا و قورا و مهیبا و محذورا، آخذا فی الجدّ الذی لا یتخونه نقص و لا یتداخله ضعف» . و لم یذکر یاقوت مدفنه، و ترجم له ابن خلکان، و ذکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 29
أن استیزار معز الدولة له فی سنة 339 و أنه کان من ارتفاع القدر و اتساع الصدر و علو الهمة و فیض الکف علی ما هو مشهور به و کان فی غایة الأدب و المحبة لأهله، و کان قبل اتصاله بمعز الدولة فی شدة عظیمة من الضرورة و الضائقة» ثم قال: «و کانت محاسن الوزیر المهلبی کثیرة و کانت ولادته لیلة الثلاثاء لأربعین بقین من المحرم سنة إحدی و تسعین و مائتین بالبصرة و توفی یوم السبت لست بقین من شعبان من سنة اثنتین و خمسین و ثلاثمائة ...
و دفن بمقابر قریش فی مقبرة النوبختیة- رح- ».
و قال ابن النجار: «الحسن بن محمد بن هارون أبو محمد المهلبی، کاتب معز الدولة أبی الحسن أحمد بن بویه، و کان من ولد المهلب بن أبی صفرة و کان ینوب أبا جعفر الصیمری وزیر معز الدولة ببغداد فلما مات الصیمری قلّده معز الدولة الوزارة مکانه و خلع علیه و قرّبه و أدناه و تخصص به و تمکنت منزلته عنده. حدث أبو عبد اللّه الصوفی قال: کنت أنا و أبو محمد المهلبی بسیراف فی أیام حداثته و صعلکته فأنشدنی لنفسه و قد مسّته إضاقة:
ألا موت یباع فاشتریه‌فهذا العیش مالا خیر فیه؟
ألا رحم المهیمن روح میت‌تفضل بالوفاة علی أخیه
ثم وردت بعد سنین کثیرة فألفیته بها وزیرا مالکا للأمور فکتبت إلیه:
قصدت إلی الوزیر بلا احتشام‌اذکّره زمانا قد نسیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 30 زمانا کان ینشدنی و قیذا«ألا موت یباع فاشتریه»
فوقّع علی ظهر ورقتی المتضمنة هذه الأبیات:
رقّ الزمان لفاقتی‌ورثی لطول تحرّقی
فأنالنی ما أشتهی‌و أدال مما بقی (کذا)
فلأغفرن له الکثیرمن الذنوب السّبق
حتی جنایته بمافعل المشیب بمفرقی
و وصلنی و أحسن إلیّ و أغنانی. و من شعر الوزیر المهبلی:
قال لی من أحبّ و البین قد جلّه و فی مهجتی لهیب الحریق
ما الذی فی الطریق خلفی (قل لی) قلت أبکی علیک طول الطریق
و له:
أعطیتنی للّهو بی خاتمااسمک مکتوب علی فصّه
ما روّعتنی زفرات الهوی‌إلا تروّحت إلی مصه
و له:
یا هلالا یبدو فتهتاح نفسی‌و هزارا یشدو فیزداد عشقی
زعم الناس أن رقّک ملکی‌کذب الناس أنت مالک رقی
مولده بالبصرة فی یوم الثلاثاء لأربع لیال بقین من المحرم سنة إحدی و تسعین و مائتین، و ذکر أبو القاسم التنوخی أنه توفی فی شعبان سنة اثنتین و خمسین و ثلاثمائة بزاوطا- رحمه اللّه تعالی- و حمل تابوته إلی بغداد فدفن بمقابر قریش و کانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة و ثلاثة أشهر» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 31
و فصّل قصة المهلبی أبو اسحاق الحصری أحسن تفصیل مع أنه مغربیّ قال بعد ذکر اشعار فی مدح المهلبی الوزیر: «و المدح فی أبی محمد المهلبی کثیر و إنما یؤخذ من کل شی‌ء ما اختیر، و کان قبل تعلقه بحبال السلطان سائحا فی الأرض علی طریق الفقر و التصوف قال أبو علی الصوفی کنت معه فی بعض أوقاته، أماشیه فی بعض طرقاته، فضجر لضیق الحال، فقال:
ألا موت یباع فاشتریه- و ذکر البیتین المذکورین آنفا- قال: فاشتریت له رطل لحم و طبخته له، ثم تصرّف بنا الدهر، و بلغ المهلبی مبلغه فاجتزت بالبصرة فاجتزت (کذا) بمسماران فاذا أنا بشطیّان و حرّاقات و ربازب و طیّارات فی عدّة و عدد، فقلت لمن هذا؟ فقیل للوزیر أبی محمد المهلبی فنعتوا لی صاحبی، فتوصلت إلیه حتی رأیته، فکتبت رقعة و احتلت حتی دخلت فسلمت و جلست، حتی إذا خلا المجلس دفعت إلیه الرقعة و فیها «ألا قل للوزیر بلا احتشام» (و ذکر البیتین الآخرین باختلاف یسیر) فنظر إلیّ و قال نعم، و نهض و أنهضنی معه فی مجلس أنسه و جعل یذکر لی کیف توافت حاله، و قدم الطعام فأطعمنا (کذا) و أقبل ثلاثة من غلمان علی رأس أحدهم ثلاث بدر، و مع آخر تخوت ثیاب رفیعة و مع آخر طیب و بخور و أقبلت بغلة رائعة بسرج ثقیل، فقال لی: یا أبا علیّ تفضل بقبول هذه و لا تتأخر عن حاجة تعرض لک فشکرته و انصرفت، فلما هممت بالخروج من الباب استردنی و أنشدنی بدیها: رق الزمان لفاقتی- و ذکر الأبیات الأخری-» ثم قال الحصری: «و لما مات المهلبی وجد علیه أحمد بن بویه وجدا شدیدا و لم یستوزر أحدا بعده و بلغ منه أبو الفضل العباس بن الحسین بن فاخر بعد المهلبی مبلغا عالیا للمصاهرة التی کانت بینه و بین المهلبی و لأنه کان یخلفه فی الدواوین فکان یخطب درجة المهلبی فی الوزارة فلم یبلغها» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 32
و ترجم له ابن شاکر فی فوات الوفیات مع أنه مترجم له فی الوفیات قال: «کان کاتب معز الدولة بن بویه و لما مات الصیمری قلده معز الدولة الوزارة مکانه و قرّبه و أدناه و اختصّ به و عظم جاهه عنده و کان یدبّر أمر الوزارة للمطیع (العباسی) من غیر تسمیته الوزارة ثم جدّدت له الخلع من دار الخلافة بالسواد و السیف و المنطقة و لقبه المطیع بالوزارة و دبّر الدولتین و کان ظریفا نظیفا قد أخذ من الأدب بحظ وافر و له همة کبیرة و صدر واسع و کان جامعا لخلال الریاسة صبورا علی الشدائد. و کان أبو الفرج الاصبهانی و سخا فی ثوبه و نفسه و فعله فواکل الوزیر المهلبی علی مائدته، و قدمت سکباجة وافقت من أبی الفرج سعلة فندرت من فمه قطعة بلغم وقعت فی وسط الصحن، فقال المهلبی: ارفعوا هذا و هاتوا من هذا اللون فی غیر هذا الصحن. و لم یبن فی وجهه استکراه و لا داخل أبا الفرج حیاء و لا انقباض. و کان من ظرف الوزیر المهلبی إذا أراد أکل شی‌ء من أرز بلبن و هرائس و حلوی رقیق وقف إلی جانبه الأیمن غلام معه نحو من ثلاثین ملعقة زجاجا مجرودا فیأخذ الملعقة من الغلام الذی علی یمینه و یأکل بها لقمة واحدة ثم یدفعها إلی الغلام الذی علی یساره لئلا یعید الملعقة إلی فیه مرة ثانیة. و لما کثر علی الوزیر استمرار ما یجری من أبی الفرج جعل له مائدتین إحداهما کبیرة عامة و الأخری لطیفة خاصة یؤاکله علیها من یدعوه إلیها ...
و کان قبل وزارته قد سافر مرة و لقی فی سفره مشقة شدیدة و اشتهی اللحم فلم یقدر علیه و کان معه رفیق یقال له أبو عبد اللّه الصوفی فقال له المهلبی ارتجالا شعرا:
ألا موت یباع فاشتریه‌فهذا العیش ما لا خیر فیه
إذا أبصرت قبرا من بعیدوددت لو أننی مما یلیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 33 ألا موت لذیذ الطعم یأتی‌یخلصنی من الموت الکریه
ألا رحم المهیمن نفس حرّتصدق بالوفاة علی أخیه
فلما سمع هذه الأبیات اشتری له لحما بدرهم و طبخه و أطعمه و تفارقا و تقلبت الأحوال بالمهلبی و ولی الوزارة و ضاقت الأحوال برفیقه الصوفی فقصده و کتب إلیه شعرا: ألا قل للوزیر فدته نفسی ... فلما قرأ الأبیات تذکره و أمر له فی الحال بسبعمائة درهم و وقع له فی رقعته (مثل الذین ینفقون أموالهم فی سبیل اللّه کمثل حبة أنبتت سبع سنابل فی کل سنبلة مائة حبة) ثم دعاه و خلع علیه و قلده عملا یلیق به. و لما ترقت به الحال قال:
رق الزمان لفاقتی ... قال أبو اسحاق الصابی: کنت یوما عند الوزیر المهلبی و قد أخذ ورقة و کتب فیها. فقلت بدیها:
له ید أبدعت جودا بنائلهاو منطق دره فی الطرس ینتثر
فحاتم کامن فی بطن راحته‌و فی أناملها سحبان یستتر
و من شعره- رح-:
الجود طبعی و لکن لیس لی مال‌و کیف یصنع من بالقرض یحتال؟
فهاک حظی فخذه منک تذکرةإلی اتساع فلی فی الغیب آمال
و منه أیضا عفی عنه:
أتانی فی قمیص اللاذ یسعی ... و منه أیضا- رح-:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 34 تطوی بأوتارها الهموم کماتطوی دجی اللیل بالمصابیح
ثم تغنت فخلتها سمحت‌بروحها خلعة علی روحی
و کان أبو النجیب سدّاد بن إبراهیم الجزری الواعظ الملقب بالطاهر کثیر الملازمة للوزیر المهلبی فاتفق أن غسل ثیابه فأنفذ الوزیر یدعوه فاعتذر قلم یقبل و ألح فی استدعائه فکتب إلیه شعرا:
عبدک تحت الحبل عریان‌کأنه لا کان شیطان
... فأنفذ إلیه جبّة و قمیصا و عمامة و سراویل و خمسمائة درهم و قال:
أنفذت إلیک ما تلبسه و ما تدفعه إلی خیاط فإن کنت غسلت التکة و إلا عرفنی لأنفذ إلیک عوضها. و من شعر الوزیر المهلبی:
تصارمت الأحضان لما هجرتنی‌فما نلتقی إلا ولی عبرة تجری
و طوّل یاقوت ترجمته و کانت وفاته سنة اثنتین و خمسین و ثلاثمائة بطریق واسط و حمل الی بغداد- رحمه اللّه تعالی- ».

سنة 352 أو بعد سنة «360» ه

16- و أبو القاسم علی بن اسحاق بن خلف البغدادی المعروف بالزاهی الشاعر البارع، ترجم له الخطیب البغدادی قال: «علی بن اسحاق بن خلف أبو الحسن الشاعر المعروف بالزاهی، حسن الشعر فی التشبیهات و غیرها و أحسب شعره قلیلا، أنشدنا التنوخی قال أنشدنا محمد بن عبید اللّه بن حمدان الکاتب النصیبی قال أنشدنی علی بن إسحاق بن خلف الزاهی البغدادی القطان لنفسه- و کان دکانه فی قطیعة الربیع-:
قم نهنی‌ء عاشقین‌أصبحا مصطلحین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 35 جمعا بعد فراق‌فجعا منه و بین
ثم عادا فی سرور من‌صدود آمنین
فهم روح و لکن‌رکبت فی جسدین
قال لی التنوخی: مات الزاهی بعد سنة ستین و ثلاثمائة» .
و اختصر ترجمته من تاریخ الخطیب أبو الفرج بن الجوزی و أورد فی البیت الرابع «بدنین» مکان جسدین ، و ترجمه له ابن خلکان قال:
«کان وصافا محسنا کثیر الملح» و قال: «و ذکره عمید الدولة أبو سعید ابن عبد الرحیم بن عبد الرحیم فی طبقات الشعراء و قال: ولد یوم الاثنین لعشر لیال بقین من صفر سنة ثمانی عشرة و ثلاثمائة و توفی یوم الاربعاء لعشر بقین من جمادی الآخرة سنة اثنتین و خمسین و ثلاثمائة ببغداد و دفن فی مقابر قریش و شعره فی أربعة أجزاء و أکثر شعره فی أهل البیت و مدح سیف الدولة و الوزیر المهلبی و غیرهما من رؤساء وقته و قال فی جمیع الفنون، و له:
صدودک فی الهوی هتک استتاری‌و عاونه البکاء علی اشتهاری
و لم أخلع عذاری فیک إلا لماعاینت من حسن العذار
و کم أبصرت من حسن و لکن‌علیک لشقوتی وقع اختیاری
و له فی تشبیه البنفسج:
و لا زوردیة أوفت بزرقتهابین الریاض علی زرق الیواقیت
کأنها فوق طاقات صففن لهاأوائل النار فی أطراف کبریت
و من محاسن شعره قوله:
و مدامة کضیائها فی کأسهانور علی فلک الانامل بازغ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 36 رقت و غاب عن الزجاجة لطفهافکأنما الابریق منها فارغ
و من محاسن شعره قوله:
و بیض بالحاظ العیون کأنماهززن سیوفا و انتضین خناجرا
تصدّین لی یوما بمنعرج اللوی‌فغادرن قلبی بالتصبر غادرا
سفرن بدورا و انتقبن أهلةو مسن غصونا و التفتن جآذرا
و أطلعن فی الأجیاد بالدرّ أنجماجعلن لحبات القلوب ضرائرا
و هذا تقسیم عجیب و لقد استعمله جماعة من الشعراء لکنهم ما أتوا به علی هذه الصورة فانه أبدع فیه ... و قیل توفی الزاهی بعد سنة ستین و ثلاثمائة رحمه اللّه تعالی، و الزاهی بفتح الزای و کسر الهاء بعد الألف قال السمعانی:
هذه النسبة الی قریة من قری نیسابور و نسب إلیها جماعة ثم قال: و أما أبو الحسن علی بن اسحاق بن خلف الشاعر البغدادی المعروف بالزاهی فلا أدری ینسب إلی هذه القریة أم لا؟ غیر أنه بغدادی و کان حسن الشعر» .
و جاء فی الهامش «قوله- یعنی السمعانی- أبو الحسن الخ مع ما قال فی أول الترجمة إنه أبو القاسم فلینظر» قلت: القول الثانی هو للسمعانی و یجوز أن کانت له کنیتان فهذا مألوف و منهم من کانت له أربع کنی.
و أورد له ابن شهراشوب مقطعات من شعره فی مدیح آل البیت منها قوله فی مدح الإمام علی- ع-:
مفقّه الأمة و القاضی الذی‌أحاط من علم الهدی ما لم یحط
و النبأ الأعظم و الحجة و المصباح و المحنة فی الخطب الورط
حبل إلی اللّه و باب الحطة الفاتح بالرشد مغالیق الخطط
و القدم الصدق الذی سیط به‌قلب امری‌ء بالخطوات لم یسط
و نهر طالوت و جنب اللّه و العین التی بنورها العقل خلط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 37 الأذن الواعیة الصمّاء عن کل‌خنا یغلط فیه من غلط
حسن مآب عند ذی العرش و من‌لو لا ایادیه لکنا نختبط
و له من هذا الضرب غرر یستطیع الهوی الرجوع الیها

سنة 355 ه

17- و أبو بکر محمد بن عمر بن محمد بن سالم بن البراء بن سبرة بن التمیمیّ المعروف بابن الجعابی القاضی المولف، المحدّث، ولد ببغداد لست لیال أو لسبع مضین من صفر سنة 284 ه و کان یسکن بعض سکک باب البصرة من المحلات المجاورة لمدینة المنصور بالجانب الغربی من بغداد و أقبل علی سماع الحدیث عن شیوخ عصره المشاهیر و کان ذا حافظة قویّة جدا، و برع فی علم الحدیث، روی الخطیب عن بعضهم أنه کان «إماما فی المعرفة بعلل الحدیث و ثقات الرجال من معتلّیهم و ضعفائهم و أسمائهم و أنسابهم و کناهم و موالیدهم و أوقات وفاتهم و مذاهبهم و ما یطعن به علی کل واحد و ما یوصف من السّداد، و کان آخر عمره قد انتهی هذا العلم إلیه حتی لم یبق من یتقدمه فیه فی الدنیا » و کان قال: «کان أحد الحفاظ الموجودین (کذا) صحب أبا العباس بن عقدة و عنه أخذ الحفظ و له تصانیف کثیرة فی الأبواب و الشیوخ و معرفة الإخوة و الأخوات و تواریخ الأمصار و کان کثیر الغرائب و مذهبه فی التشیع معروف» . ثم قال الخطیب: «سألت أبا بکر البرقانی عن ابن الجعابی فقال حدثنا عنه الدارقطنی و کان صاحب غرائب، و مذهبه معروف فی التشیع. قلت: قد طعن علیه فی حدیثه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 38
و سماعه. فقال: ما سمعت فیه إلا خیرا» و قد کان الخطیب قال: «حدثنی أبو الفضل عیسی بن أحمد بن عثمان الهمذانی قال سمعت أبا الحسن بن زرقویه یقول: کنت یوما عند أبی بکر الجعابی فجاءه قوم من الشیعة فسلّموا علیه و دفعوا إلیه صرّة فیها دراهم ثم قالوا: أیها القاضی إنک جمعت أسماء محدثی بغداد و ذکرت من قدم إلیها، و أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب قد وردها فنسألک أن تذکره فی کتابک. فقال: نعم یا غلام هات الکتاب، فجاء به، فکتب فیه: و أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب، یقال إنه قدمها.
قال ابن زرقویه: فلما انصرف القوم قلت له: أیها القاضی هذا الذی ألحقته فی الکتاب من ذکره؟ فقال: هؤلاء الذین رأیتهم. أو کما قال» .
و ذکر الخطیب أن ابن الجعابی قلّد قضاء الموصل فلم یحمد فی ولایته، ثم قال: «حدثنی الحسن بن أحمد بن عبد اللّه الصوفی قال قال لنا علی بن أحمد بن عمر المقری‌ء: مات أبو بکر بن الجعابی الحافظ یوم ... من رجب سنة خمس و خمسین و ثلاثمائة و دفن من غد. حدثنی الأزهری أن ابن الجعابی لما مات صلّی علیه فی جامع المنصور و حمل إلی مقابر قریش فدفن بها، قال: و کانت سکینة نائحة الرافضة تنوح علی جنازته، و کان أوصی بأن تحرق کتبه فأحرق جمیعها و أحرق معها کتب للناس کانت عنده، قال الأزهری: فحدثنی أبو الحسین بن البواب قال: کان لی عند ابن الجعابی مائة و خمسون جزءا فذهبت فی جملة ما أحرق» . و اختصر أبو الفرج بن الجوزی ما ذکره الخطیب و أورده فی تاریخه و فیه التصریح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 39
بأنه دفن فی مقابر قریش، و اختصر الترجمة قبله تاج الاسلام السمعانی و لکنه لم یذکر مدفنه . و ترجم له فی کتب أخری. و منها کتاب الفهرست للطوسی «ص 151 طبعة النجف» ..

سنة 362

18- و فی سنة «362» ه توفیت السیدة «زینة بنت الوزیر أبی محمد الحسن بن محمد بن إبراهیم بن عبد اللّه بن یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب ابن أبی صفرة. و کانت زوجة العباس بن الحسین الشیرازی وزیر عز الدولة بختیار بن معز الدولة البویهیّ قال أبو اسحاق المصری: «کان العباس تزوّج زینة بنت المهلبی، و کانت قد بلغت بها الحال إلی أن اتخذت الجواری الأتراک حجّابا فی زیّ الرجال علی ما جری به رسم السلطان و کان لها کتّاب من النساء مثل سلمی النوبختیة و عائشة بنت نصر القشوری حاجب المقتدر و غیرهما من القهارمة و من تتصرّف فی الأعمال تصرف الرجال. و کان لها کرم وجود فی الأموال، فلما قبض علی زوجها أبی الفضل بعد وزارته الثانیة لبختیار بن أحمد، و قد صارت الوزارة لمحمد بن بقیة اختفت زینة ابنة الحسن و سائر أسبابها، فجعلت علیها العیون فی کل مکان، و استقصی علی أبی الفضل زوجها و سلّم إلی محمد بن عمر بن یحیی بن طاهر العلوی فخرج به من بغداد إلی الکوفة فأقام عنده مدة یسیرة ثم مات و دفن هناک فی النجف بجوار قبر علی بن أبی طالب- کرّم اللّه وجهه-. و لم یزل بختیار یطلب زینة و أسبابها فعثر علی أکثر أسبابها فلم یجد له موضعا، و کان سبب اختفائها منه أنه راسلها فی حین القبض علی أبی الفضل و أعلمها أنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 40
بسومه الترک لها (کذا) لیتزوج بها. فردّت أقبح ردّ و أنکرت ذلک فکان ذلک سبب اختفائها، و کان لها من الذخائر و الودائع فی أیدی جماعة مما کان یغنی کثیرا من الناس، فلما بلغ بها الأمر طمع کل واحد فیما فی یده و الغدر به. و لما کان بعد الیأس من وجودها ظهر بظاهر الخلد بقرب محلة تعرف بالتستیرین فرد محمل فیه إمرأة فی أخلاقه و عند رأسها رقعة مکتوب فیها (زینة بنت الحسن بن محمد المهلبی الوزیر) فاشتهر ذلک عند الخاصة و العامة و وافی القاضی أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمی المعروف بالزینبی فاحتملها لداره و تولی من أمرها ما یجب لمثلها و دفنها فی مقابر قریش و قد کانت تحت ولدیه أبی الحسن و أبی القاسم .
و ذکر مسکویه خبر القبض علی أبی الفضل الشیرازی و وفاته سنة 362 و قد نقلنا فی الحاشیة بعض ذلک ثم قال: «و قبل ذلک توفیت زینة بنت أبی محمد المهلبی- رح- و قد کان أخوها أبو الغنائم تقدمها و أکثر أهلها و انقرضت الجماعة ثم تتبعهم جمیع من اشترک فی دم أبی الفضل قتلا من غیر أن طال بهم الأعمار و سنذکر ذلک فی موضعه إن شاء اللّه» .

سنة 365 ه

19- و أبو الحسین علی بن عبد اللّه بن وصیف الملقب بالناشی‌ء و عند بعض المؤرخین بالناشی‌ء الأصغر لوجود شاعر أدیب عاش قبله و لقب بالناشی‌ء فجعلوه «الأکبر» قال السمعانی فی «الناشی‌ء» من الأنساب و إنما قیل له الناشی‌ء لأنه نشأ فی فن الشعر و المشهور بهذه النسبة علی بن عبد اللّه الناشی‌ء شاعر مشهور کان فی زمن المقتدر و القاهر و الراضی و هو بغدادی سکن مصر. هکذا ذکر أبو نصر بن ماکولا» و تفادی عز الدین بن الأثیر من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 41
التحقیق فقال: الناشی‌ء بفتح النون و بعد الألف شین معجمة. عرف- بهذا علی بن عبید اللّه ابن الناشی‌ء (کذا) الشاعر کان فی زمن المقتدر و القاهر و الراضی و بعدهم» . و قد وهم ابن ماکولا فی ذکره أن علی بن عبد اللّه الناشی‌ء سکن مصر و إنما قصد إلیها مادحا مسترفدا، فالذی سکن مصر هو الناشی‌ء الأکبر، ذکره المسعودی غیر مرة. قال مرة فی الکلام علی العروض: «و قد صنف ابو العباس عبد اللّه بن محمد الناشی‌ء الکاتب الأنباری علی الخلیل بن أحمد (ما خرج فیه) عن تقلید العرب إلی باب التعسف و النظر و نصب العلل علی أوضاع الجدل، کان ذلک له لازما و لما أورده کاسرا و للناشی‌ء أشعار کثیرة حسان منها قصیدة واحدة نحو من أربعة آلاف بیت قافیة واحدة نونیة منصوبة یذکر فیها أهل الآراء و النحل و المذاهب و الملل و أشعار کثیرة و مصنفات واسعة فی أنواع من العلوم، فمما جوری فیه قوله حین سار من العراق إلی مصر- و بها کانت وفاته و ذلک فی سنة ثلاث و تسعین و مائتین علی حسب ما قدمنا ذکره - ...» و کان المسعودی ذکره فی الکلام علی نسب یونان و دعوی یعقوب بن اسحق الکندی أن یونان أخ لقحطان قال: «و قد رد علیه أبو العباس عبد اللّه بن محمد الناشی‌ء فی قصیدة طویلة» .
و قال ابن خلکان: أبو العباس عبد اللّه بن محمد الناشی‌ء الأنباری المعروف بابن شرشیر الشاعر، کان من الشعراء المجیدین و هو من طبقة ابن الرومی و البحتری و أنظارهما و هو الناشی‌ء الأکبر و سیأتی ذکر الناشی‌ء الأصغر إن شاء اللّه تعالی ». ثم قال: «أبو الحسن علی بن عبد اللّه بن و صیف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 42
المعروف بالناشی‌ء الأصغر الحلّاء الشاعر المشهور و هو من الشعراء المحسنین ...
و الحلّاء بفتح الحاء المهملة و تشدید اللام ألف و إنما قیل له ذلک لأنه کان یعمل حلیة من النحاس» . و قال یاقوت ناقلا: قول بعضهم: «و کان یعمل الصفر و یخرّمه و له فیه صنعة بدیعة و من عمله قندیل بالمشهد بمقابر قریش مربع غایة فی حسنه» .
قال ابن عبد الرحیم فی کتابه الذی ضمّنه تراجم الشعراء نقلا عن الخالع الحسین بن محمد الأدیب الشاعر: «حدثنی الناشی‌ء قال: کان جدی و صیف مملوکا و کان عبد اللّه: أبی، عطارا فی الحضرة بالجانب الشرقی و کنت لما نشأت معه فی دکانه کان ابن الرومی یجلس عندنا و أنا لا أعرفه، و کان یلبس الدراعة، و ثیابه و سخة، و انقطع عنّا مدة، فسألت عنه أبی و قلت:
ما فعل ذلک الشیخ الوسخ الثیاب الذی کان یجلس إلینا؟ فقال: ویحک ذاک ابن الرومی و قد مات. فندمت أن لم أکن أخذت عنه شیئا و لا عرفته فی حال حضوره . و تشاغلت بالصنعة عن طلب العلم ثم لقیت ثعلبا و لم أخذ عنه إلّا أبیاتا و هی:
إن أخا الاخوان من یسعی معک‌و من یضرّ نفسه لینفعک
قال الخالع: و کان الناشی‌ء قلیل البضاعة فی الأدب قؤوما بالکلام و الجدل. یعتقد الامامة و یناظر علیها بأجود عبارة فاستنفد عمره فی مدیح أهل البیت حتی عرف بهم و أشعاره فیهم لا تحصی کثرة و مدح مع ذلک الراضی باللّه و له معه أخبار و قصد کافورا الأخشیدی بمصر و امتدحه و امتدح ابن حنزابة و کان ینادمه و طرأ إلی البریدیین بالبصرة و إلی الفضل بن العمید بأرجان و عضد الدولة بفارس و کان مولده علی ما خبرنی به سنة 271 و مات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 43
یوم الاثنین لخمس خلون من صفر سنة 365 و کنت حینئذ بالریّ فورد کتاب ابن بقیة إلی ابن العمید بخبره و قیل إنه- یعنی ابن بقیة الوزیر- تبع جنازته ماشیا و أهل الدولة کلهم و دفن فی مقابر قریش . و قبره هناک معروف و لم یخلف عقبا و لا علمت أنه تزوج قط و کان یمیل إلی الأحداث (کذا) و لا یشرب النبیذ و له فی المجون و الولع طبقة عالیة و عنه أخذ مجّان باب الطاق کلهم هذه الطریقة و کان یخلط بجدله و مناظراته هزلا مستملحا و مجونا مستطابا یعتمد به إخجال خصمه و کسر حدّه و له فی ذلک أخبار مشهورة و کانت له جاریة سوداء تخدمه ... حدثنی الناشی‌ء قال: أدخلنی ابن رائق علی الراضی باللّه و کنت مدّاحا لابن رائق و نافقا علیه فلما وصلت إلی الراضی قال لی: أنت الناشی‌ء الرافضی؟ فقلت: خادم أمیر المؤمنین الشیعی.
فقال: من أی الشیعة؟ قلت: شیعة بنی هاشم. فقال: هذا خبث جبلّة.
فقلت: مع طهارة مولد. فقال: هات ما معک. فأنشدته، فأمر أن یخلع علیّ عشر قطع ثیابا و أعطی أربعة آلاف درهم، فأخرج لی ذلک و تسلمته و عدت إلی حضرته فقبّلت الأرض و شکرته و قلت: أنا ممن یلبس الطیلسان فقال: هاهنا طیالس عدنیّة أعطوه منها طیلسانا و أضیفوا إلیها عمامة خزّ، ففعلوا فقال أنشدنی من شعرک فی بنی هاشم، فأنشدته:
بنی العباس إنّ لکم دماءاأراقتها أمیة بالذّحول
فلیس بهاشمی من یوالی‌أمیّة و اللعین أبا زبیل
فقال: ما بینک و بین أبی زبیل؟ فقلت: أمیر المؤمنین أعلم. فتبسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 44
و قال: انصرف. قال الخالع: و شاهدت العمامة و الطیلسان معه و بقیا عنده إلی أن مات. و کان أبو الحسن الناشی‌ء شیخا طویلا جسیما عظیم الخلقة عریض الألواح موفر القوّة، جهوری الصوت، عمّر نیفا و تسعین سنة، لم تضطرب أسنانه و لا قلع سنّا منها و لا من أضراسه» .
و قال ابن خلکان: «و للناشی‌ء فی أهل البیت قصائد کثیرة و کان متکلما بارعا أخذ الکلام عن ابی سهل اسماعیل بن علی بن نوبخت و کان من کبار الشیعة و له تصانیف کثیرة» ثم قال: «قال أبو بکر الخوارزمی: أنشدنی أبو الحسن الناشی‌ء بحلب لنفسه و هو ملیح جدا:
إذا أنا عاتبت الملوک فانماأخط بأقلامی علی الماء أحرفا
و هبه ارعوی بعد العتاب ألم تکن‌مودته طبعا فصارت تکلفا؟!»
و قال الخالع: حدثنی أبو الحسن الناشی‌ء قال: کنت بالکوفة فی سنة 325 و أنا أملی شعری فی المسجد الجامع و الناس یکتبونه عنی و کان المتنبی إذ ذاک یحضر معهم و هو بعد لم یعرف و لم یلقب بالمتنبی فأملیت القصیدة التی أولها:
بآل محمد عرف الصواب‌و فی أبیاتهم نزل الکتاب
و قلت فیها:
کأن سنان ذبله ضمیرفلیس عن القلوب له ذهاب
و صارمه کبیعته بخمّ‌مقاصدها من الخلق الرقاب
فلمحته یکتب هذین البیتین و منها أخذ ما أنشدتمونی الآن من قوله:
کأن الهام فی الهیجا عیون‌و قد طبعت سیوفک من رقاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 45 و قد صعت الأسنّة من هموم‌فما یخطرن إلا فی فؤاد
و قد ذکر ابن خلکان هذا الخبر إلا أنه ذکر أن المتنبی کان صبیا، و من تجاوز عمره عشرین سنة لا یعد صبیا، و ذکر قول من قال إنه توفی سنة 366 ه ، و القول الأول أشهر و أظهر منه.
و قال الخالع: کنت مع والدی فی سنة 346 و أنا صبی فی مجلس الکبودی فی المسجد الذی بین الوراقین و الصاغة و هو غاص بالناس و إذا رجل قد وافی و علیه مرقعة و فی یده سطیحة و رکوة و معه عکاز و هو أشعث، فسلّم علی الجماعة بصوت یرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء- صلوات اللّه علیها-. فقالوا: مرحبا بک و أهلا. و رفعوه. فقال: أتعرفون لی أحمد المزوّقة النائح؟ فقالوا: ها هو جالس. فقال: رأیت مولاتنا- علیها السلام- فی النوم، فقالت لی: امض إلی بغداد و اطلبه و قل له: نح علی ابنی بشعر الناشی‌ء الذی یقول فیه:
بنی أحمد قلبی لکم یتقطع‌بمثل مصابی فیکم لیس یسمع
و کان الناشی‌ء حاضرا فلطم لطما عظیما علی وجهه، و تبعه المزوقة و الناس کلهم، و کان أشدّ الناس فی ذلک الناشی‌ء ثم المزوّقة ثم ناحوا بهذه القصیدة فی ذلک الیوم إلی أن صلی الناس الظهر و تقوض المجلس، و جهدوا بالرجل أن یقبل شیئا منهم، فقال: و اللّه لو أعطیت الدنیا ما أخذتها فاننی لا أری أن أکون رسول مولاتی- ع- ثم آخذ عن ذلک عوضا. و انصرف و لم یقبل شیئا ..
قال: و من هذه القصیدة- و هی بضعة عشر بیتا-:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 46 عجبت لکم تفنون قتلا بسیفکم‌و یسطو علیکم من لکم کان یخضع
کأن رسول اللّه أوصی بقتلکم‌و أجسامکم فی کل أرض توزّع
و ذکر ابن حجر مختصر هذه الترجمة و نقل من تاریخ ابن النجار أن وفاته کانت سنة 366 و أنه مات فجأة . و أورد له ابن شهر اشوب مقطعات من شعره فی مدح آل البیت- ع-.

سنة 368

20- و فی سنة 368 توفی ببغداد الشیخ الفقیه أبو القاسم جعفر بن محمد ابن موسی المعروف بابن قولویه الملقب بالصدوق أحیانا البغدادی، و دفن فی مقابر قریش بالقرب من مدفن الامام الجواد- ع- قال الخونساری:
«هو من ثقات أصحابنا الامامیة و نبلائهم فی الفقه و الحدیث، یروی عن الشیخ أبی جعفر الکلینی و عن أبی نفسه الراویة الجلیل محمد بن قولویه الذی هو من مشایخ الکشی و خیار أصحاب سعد بن عبد اللّه القمی، کما فی الرجال، و کان من کبار شیخنا المفید و المدفون أیضا فی جنبه بالقرب من حضرة- مولانا الجواد- ع- کما فی البحار عن خط الشهید و اطلعت علی الأثر منهما أیضا هناک فی الرواق الأول الشرقی المتصل بالحضرة الکاظمیة- زادها اللّه شرفا و تعظیما. و فی ریاض العلماء أن قبره الآن بقمّ المحروسة معروف.
ثم ذکر أنّ کل ما یوصف به من جمیل وثقة وفقه فهو فوقه، و له تصانیف ذکرناها فی کتابنا الکبیر. و فی فهرست الشیخ (الطوسی) بعد ذکره و توثیقه أن له تصانیف کثیرة علی عدد کتب الفقه، إلی أن قال: و له کتاب جامع الزیارات، و کأن المراد به هو ما یعبّر عنه فی زماننا هذا بکامل الزیارات، و یرمز له فی نسخ البحار بلفظه (مل) و الغالب علیه أخبار الفضیلة دون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 47
الهیئات و الآداب، و له أیضا کتاب فهرست ما کان یرویه من الکتب و الأصول، و مات- رح- سنة ثمان و ستین و ثلاثمائة و قیل إن تاریخ وفاته:
(رحم اللّه الودود) فلیتأمل» . و جاء فی الکنی و الألقاب «و أما ابن قولویه الذی دفن بقم و له مقبرة معروفة قرب الشیخان الکبیر فهو والد هذا الشیخ الجلیل محمد بن جعفر»، و تناوله لسان المیزان کجمیع رواة الشیعة لأنهم شیعة و جاء فیه أنه «أبو القاسم السهمی» و أنه من کبار الشیعة و علمائهم المشهورین، و قال «متّهم» و قال: «و ذکره الطوسی و ابن النجاشی و علی ابن الحکم فی شیوخ الشیعة و تلمذ له المفید و بالغ فی إطرائه و حدث عنه الحسین بن عبد اللّه الغضائری و محمد بن سلیم الصابونی. سمع منه بمصر، مات سنة ثمان و ستین و ثلاثمائة» .

سنة 378 ه

21- و أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود بن علی، قال أبو العباس ابن أحمد النجاشی: «شیخ هذه الطائفة و عالمها و شیخ القمیین فی وقته و فقیههم، حکی أبو عبد اللّه الحسین بن عبد اللّه أنه لم یر أحفظ منه و لا أفقه و لا أعرف بالحدیث ... ورد بغداد و أقام بها. حدّث و صنّف کتبا:
کتاب المزار. کتاب الذخائر. کتاب البیان عن حقیقة الصیام. کتاب الردّ علی المظهر الرخصة فی المسکر. کتاب الممدوحین و المذمومین. کتاب الرسالة فی عمل السلطان. کتاب العلل. کتاب فی عمل شهر رمضان. کتاب صلاة الفرج و أدعیتها. کتاب السبحة. کتاب الحدیثین المختلفین. کتاب الرد علی ابن قولویه فی الصیام. حدثنا عنه جماعة أصحابنا- رح- بکتبه منهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 48
أبو العباس بن نوح و محمد بن محمد و الحسین بن عبد اللّه فی آخرین. و مات أبو الحسن بن داود سنة ثمان و سبعین و ثلاثمائة و دفن بمقابر قریش» . قال مصطفی جواد: هو غیر ابن داود الحلی المتأخر تلمیذ العلامة ابن مطهر الحلی.

سنة 391 ه

22- و أبو عبد اللّه الحسین بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج الکاتب الشاعر، ذکره ابن خلکان قال: «الشاعر المشهور ذو المجون و الخلاعة و السخف فی شعره، کان فرد زمانه فی فنّه فانه لم یسبقه إلی تلک الطریقة مع عذوبة ألفاظه و سلامة شعره من التکلف و مدح الملوک و الأمراء و الوزراء و الرؤساء، و دیوانه کبیر أکثر ما یوجد فی عشر مجلّدات و الغالب علیه الهزل و له أیضا فی الجدّ أشیاء حسنة و تولی حسبة بغداد و أقام بها مدة و یقال إنه عزل بأبی سعید الاصطخری الفقیه الشافعی ... و یقال إنه فی الشعر فی درجة امری‌ء القیس و إنه لم یکن بینهما مثلهما لأن کل واحد منهما مخترع طریقة ... و توفی یوم الثلاثاء السابع و العشرین من جمادی الآخر سنة إحدی و تسعین و ثلاثمائة بالنیل و حمل إلی بغداد- رح- و دفن عند مشهد موسی بن جعفر- ع- أوصی أن یدفن عند رجلیه و أن یکتب علی قبره (و کلبهم باسط ذراعیه بالوصید) و کان من کبار الشیعة الغالین فی موالاة أهل البیت» .
و ذکره الثعالبی فی یتیمة الدهر و أورد له کثیرا من شعره بعد أن ذکر أنه من سحرة الشعر و عجائب العصر و أنه فرد زمانه فی فنّه الذی اشتهر به
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 49
و أنه لم یسبق إلی طریقته. و لم یلحق شأوه فی نمطه، و لم یر کاقتداره علی ما یریده من المعانی التی تقع فی طرزه مع سلاسة الألفاظ و عذوبتها، و انتظامها فی سلک الملاحة و البلاغة و إن کانت مفصحة عن السخافة، مشوبة بلغات الخلدیّین و المکدّین و أهل الشطارة. و ترجم له یاقوت الحمویّ و نقل أکثر کلام الثعالبی و أفرد جملة من شعره، و ذکر ترجمته الخطیب البغدادی قال: «أکثر قوله فی الفحش و السخف و قد سرد أبو الحسن الموسوی المعروف بالرضیّ من شعره فی المدیح و الغزل و غیرهما ما جانب السخف فکان شعرا حسنا متخیرا جیدا» و أورد له مقطوعتین و ذکره أبو الفرج بن الجوزی فی تاریخه قال: «و کانت إلیه حسبة بغداد فی أیام عز الدولة فاستخلف علیها ستة أنفس کلهم لا خیر فیه ثم تشاغل بالشعر و تفرد بالسخف الذی یدل علی خساسة النفس، فحصل الأموال به و صار ممن یتقی لسانه، و حمل إلیه صاحب مصر عن مدیح مدحه به ألف دینار مغربیّة ...» و أورد له شیئا من شعره.
و قد نقلنا آنفا ما ذکره ابن سعید المغربیّ من أنه رأی قبره فی المشهد الکاظمیّ علی طریق الزوّار فسأل عنه فقیل له: هذا قبر الحسین بن الحجاج الشاعر و حقق مراده من وصیته أن تکتب علی قبره الآیة الکریمة «وَ کَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَیْهِ بِالْوَصِیدِ»، و له فی مناقب آل أبی طالب شعر «2؛ 344».
و ذکره قاضی قضاة الشافعیة عز الدین عبد العزیز بن جماعة المتوفی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 50
سنة 767 ه فی کتابه فی تراجم الأدباء و ذکر بعض ما نقلناه من التواریخ الأخری و قال: «قیل إنه کان غالیا فی التشیع و ما قدمناه من نظمه یقتضی أنه لم یکن غالیا فیه، توفی بالنیل فی الثالث و العشرین من جمادی الآخرة سنة إحدی و تسعین و ثلاثمائة ثم حمل إلی بغداد و دفن عند مشهد موسی بن جعفر» . و من شعره ما غنته عجیبة المغنیة المصریة و کانت مغنیة الملک الکامل ابن الملک العادل الأیوبیّ، و هو:
رفقا علیّ فما أبقیت من رمقی‌لا تأملی لی بأن أبقی و لا تثقی
هیهات أین البقا من موجع کمدعلیک صب بنار الشوق محترق
یا سائلی عن دمی لا تطلبوا أحدابعدی فان دمی المسفوک فی عنقی
إنی حملت علی نفسی لشقوتهامثل الجبال من البلوی فلم تطق
فمن رأی لیت شعری مثل موقفنایوم النوی أبحرا تجری من الحدق
یا آمری فی دموعی بعد ما فنیت‌بأن أصون و أحمی ما عساه بقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 51

القرن الخامس الهجری سنة 401 ه

اشارة

23- و أبو علی الحسن بن أبی جعفر أستاذ هرمز الملقب عمید الجیوش ولد سنة «350» و کان أبوه من حجاب عضد الدولة و جعل ابنه أبا علی الحسن برسم خدمة ابنه صمصام الدولة فخدمه و خدم بهاء الدولة و ولاه هذا تدبیر العراق و قال أبو الفرج بن الجوزی بعد ذکر ما قدمناه: «فقدم سنة اثنتین و تسعین و ثلاثمائة و الفتن کثیرة و الدعّار قد انتشروا فقتل و أغرق خلقا کثیرا و أقام الهیبة و منع أهل الکرخ یوم عاشوراء من النیاحة و تعلیق المسوح و أهل باب البصرة من زیارة قبر مصعب بن الزبیر، و أعطی بعض غلمانه صینیّة فضة فیها دنانیر و قال: خذها علی رأسک و سر من النجمیّ إلی المأصر الأعلی فان اعترض معترض فأعطه إیاها و اعرف الموضع الذی أخذت منک فیه. فجاءه و قد انتصف اللیل و قال: قد مشیت البلد جمیعه فلم یلقنی أحد. و أدخل الرخّجی علی عمید الجیوش سبعین مجلدة جزا و مندیلا کبیرا فیه مال و قال: مات نصرانی من أهل مصر و خلّف هذا و لیس له وارث. فقال عمید الجیوش: من حکم الاستظهار أن یترک هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 52
(المال) بحاله فان حضر وارث و إلا أخذ، فقال الرّخجی : یحمل إلی خزانة مولانا إلی أن یبین الحال. فقال: لا یجوز أن یدخل خزانة السلطان ما لم یصح استحقاقه. فکتب من بمصر باستحقاق تلک الترکة، فجاء أخو المیت و أوصل الکتاب من مصر بأنه أخو المتوفی، فصادف عمید الجیوش واقفا علی روشن داره. یصلی الفجر، فظنّه نقیبا فدفع إلیه الکتاب و سأله إیصاله إلی صاحب الخبر ، فقضی له حاجته. فدخل صاحب الخبر إلی عمید الجیوش ضاحکا و قال: یا مولانا قد صرفت عنک الیوم نفعا و مرفقا فان السوادی قال لی عند قضاء حاجته: بأی شی‌ء أخدم النقیب الذی أوصل کتابی إلیک؟ فقلت: ویحک هذا عمید الجیوش. فقال لی: هذا الذی تهابه ملوک الأطراف، فلما کان بعد مدة ورد کتاب ابن القمّی أبی عبد اللّه التاجر من مصر علی عمید الجیوش یعرفه أن ذلک الرجل (النصرانی) حضر فی مجمع من التجار و حکی القصة، فضجّ الناس بالدعاء و قالوا: لیتنا کنا فی جواره و ظله. ففرح عمید الجیوش و قال: قد أحسن (الرجل) المکافأة. بقی عمید الجیوش والیا علی العراق ثمانی سنین و سبعة أشهر و أحد عشر یوما، و هو الذی یقول فیه الببغاء کما ذکرنا فی ترجمته:
سألت زمانی بمن أستغیث‌فقال استغث بعمید الجیوش
و توفی فی هذه السنة عن إحدی و خمسین سنة و تولی أبو الحسن الرضی أمره و دفن فی مقابر قریش» . و أوجز هذه الترجمة ابن الفوطیّ فی تاریخه للألقاب و ذکره عز الدین ابن الأثیر فی کامله مرارا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 53

سنة 413 ه

24- و أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر ابن النعمان بن سعید بن جبیر بن وهیب بن هلال بن أوس بن سعید بن سنان ابن عبد الدار الحارثی القحطانی الملقب بالمفید، قال أبو العباس النجاشی:
«شیخنا و أستاذنا- رضی اللّه عنه- فضله أشهر من أن یوصف فی الفقه و الکلام و الروایة و الثقة و العلم له کتب» و ذکر له أکثر من «167» کتابا من تألیفه بین کبیر و صغیر و قال: «مات- رح- لیلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة و أربعمائة. و کان مولده یوم الحادی عشر من ذی القعدة سنة ست و ثلاثین و ثلاثمائة و صلی علیه الشریف المرتضی أبو القاسم علی بن الحسین بمیدان الاشنان و ضاق علی الناس مع کبره و دفن فی داره سنین و نقل إلی مقابر قریش بالقرب من السید أبی جعفر- علیه السلام- و قیل مولده سنة ثمان و ثلاثین و ثلاثمائة» .
و ترجم له الخطیب ترجمة خصم حاقد ننقل منها قوله «أبو عبد اللّه المعروف بابن المعلم، شیخ الرافضة و المتعلم علی مذاهبهم صنف کتبا کثیرة ..» و لم یشر إلی نقل رفاته إلی مقابر قریش، و ترجم له أبو الفرج بن الجوزی قال: «أبو عبد اللّه المعروف بابن المعلم شیخ الامامیة و عالمها صنّف علی مذهبهم و من أصحابه المرتضی و کان لابن المعلم مجلس نظر بداره بدرب ریاح یحضره کافة العلماء، و کانت له منزلة عند أمراء الأطراف یمیلهم إلی مذهبه، توفی فی هذه السنة و رثاه المرتضی ...» و ذکر ابن الجوزی شیئا من أخباره» و کذلک فعل ابن الأثیر فی حوادث سنة 392 ه و حوادث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 54
سنة 398 ه ثم ذکر وفاته سنة 413 قال: «و فیها توفی أبو عبد اللّه بن المعلم فقیه الامامیة و رثاه المرتضی» و ترجمه صلاح الدین الصفدی فی کتابه للتراجم .
و ترجم له ابن الفوطیّ فی لقب المفید قال: «المفید أبو بکر (کذا) محمد بن محمد بن النعمان الحارثی الفقیه الأصولی، یروی عن والده و له تصانیف منها کتاب نهج البیان فی حقیقة الایمان، رواه عبد اللّه بن جعفر ابن محمد بن موسی بن ابن جعفر بن محمد بن أحمد العباس الدوریستی عن جده أبی جعفر محمد بن موسی عن جده أبی عبد اللّه عن المصنف، و من تصنیف المفید الرسالة المقنعة فی شرائع الاسلام و وجوه القضایا و الأحکام و کتاب شرح المتعة، و کتاب الاشراف فی عامّة فرائض الاسلام علی مذهب آل الرسول- علیه الصلاة و السلام، و کتاب مختصر أحکام النساء فی شرائع الدین» و لم یذکر له تاریخ مولد و لا تاریخ وفاة و هو أمر عجاب من ابن الفوطیّ المؤرخ. و تناوله میزان الاعتدال للذهبی و لسانه لابن حجر العسقلانی کسائر علماء الشیعة الامامیة و رواتهم، جاء فی اللسان «محمد بن محمد بن النعمان الشیخ المفید عالم الرافضة أبو عبد اللّه بن المعلم صاحب التصانیف البدیعة و هی مائتا تصنیف طعن فیها علی السلف، له صولة عظیمة بسبب عضد الدولة شیّعته ثمانون ألف رافضی. مات سنة ثلاث عشرة و أربعمائة» ثم نقل، طعن الخطیب البغدادی علیه و قال ابن حجر:
«قلت: کان کثیر التقشف و التخشع و الاکباب علی العلم تخرج به جماعة و برع فی المقالة الامامیة حتی کان یقال: علی کل إمام منّة، و کان أبوه معلما بواسط و ولد بها و قتل بعکبراء و یقال إن عضد الدولة کان یزوره فی داره و یعوده إذا مرض و قال الشریف أبو یعلی الجعفری- و کان تزوج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 55
بنت المفید-: ما کان المفید ینام اللیل إلا هجعة ثم یقوم یصلی أو یطالع أو یدرس أو یتلو القرآن» .
و جاء فی روضات الجنات أنه نقل إلی مقابر قریش بالقرب من جانب رجلی سیدنا و إمامنا أبی جعفر الجواد إلی جانب قبر شیخنا الصدوق أبی القاسم جعفر بن قولویه» . و کان الطوسی فی کتابه: «من جملة متکلمی الامامیة انتهت إلیه رئاسة الامامیة فی وقته و کان مقدما فی العلم و صناعة الکلام، و کان فقیها متقدما فیه، حسن الخاطر، دقیق الفطنة. حاضر الجواب و له قریب من مائتی مصنف کبار و صغار و فهرست کتبه معروف ...
و کان یوم وفاته عظیما لم یر أعظم منه من کثرة الناس للصلاة علیه و کثرة البکاء من المخالف و الموافق» .
و ذکره ابن شهر آشوب فی معالم العلماء و قال فیما قال: «قرأ علی جعفر بن قولویه و علی أبی القاسم علی بن محمد الرفّاء و علی أبی الحبشی البلخی» و ذکر جملة من کتبه، و نقل الخونساری ما ذکره ابن کثیر الدمشقی فی ترجمته فی البدایة و النهایة و هو من المؤرخین المتعصبین تعصبا أعمی و هو: «توفی فی سنة ثلاث عشرة و أربعمائة عالم الشیعة و إمام الرافضة صاحب التصانیف الکثیرة المعروف بالمفید و بابن المعلم البارع فی الکلام و الجدل و الفقه و کان یناظر کل عقیدة بالجلالة و العظمة فی الدولة البویهیة و کان کثیر الصدقات عظیم الخشوع کثیر الصلوات و النوم و الصوم خشن اللباس و کان عضد الدولة ربما زار الشیخ المفید و کان شیخا ربعا نحیفا أسمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 56
عاش ستا و سبعین سنة و له أکثر من مائتی مصنف و کان یوم وفاته مشهودا و شیّعه ثمانون ألفا من الرافضة و الشیعة» . ثم قال: «و قد نسب صاحب مجالس المؤمنین ما نقله صاحب التعلیقات عن تاریخ ابن کثیر الشامی إلی تاریخ الیافعی المشهور، نعم إنما نقل عن ابن کثیر المذکور أنه قال فی ترجمة شیخنا المنظور: کان شیخ الروافض محامیا عنهم، متعصبا فی حقهم و کانت ملوک الأقطار یعتقدون له لأنّ کثیرا من أهل ذلک الزمان کانوا مائلین إلی مذهب الامامیة، و کان یحضر مجلسه خلق کثیر من العلماء من جمیع الطوائف و الملل و من جملة تلامذته الشریف المرتضی و قد رثاه بعد وفاته، بقصیدة غراء. إلی أن قال: «و لما أن بلغ نعیه إلی الشیخ أبی القاسم الخفاف المعروف فرح بموته کثیرا و أمر بتزیین داره و جلس فیها للتهنئة له بهذا الأمر و قال:
الآن طاب الموت» .
قال مصطفی جواد جامع هذه الأخبار و التراجم إن أبا القاسم بن النقیب هو عبید اللّه بن عبد اللّه بن الحسین قال الخطیب البغدادی: «و بلغنی أنه جلس للتهنئة لما مات ابن المعلم شیخ الرافضة و قال: ما أبالی أی وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلّم ... سألت ابن النقیب عن مولده فقال:
ولدت فی سنة خمس و ثلاثمائة ... و مات ابن النقیب فی یوم الجمعة سلخ شعبان من سنة خمس عشرة و أربعمائة» و نقل ترجمة الخطیب له بنصها أبو الفرج بن الجوزی، و هذا مثال شنیع للعداوة المذهبیّة فی ذلک العصر.
قال النجاشی: «محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعید بن جبیر بن وهیب بن هلال ...- شیخنا و أستاذنا- رضی اللّه عنه، فضله أشهر من أن یوصف فی الفقه و الکلام و الروایة و الثقة و العلم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 57
له کتب ... مات رحمه اللّه لیلة الجمعة لثلاث لیال خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة و أربعمائة، و کان مولده یوم الحادی عشر من ذی القعدة سنة ست و ثلاثین و ثلاثمائة ... و قیل مولده سنة ثمان و ثلاثین و ثلاثمائة ...
و صلی علیه الشریف المرتضی أبو القاسم علی بن الحسین بمیدان الأشنان و ضاق علی الناس مع کبره و دفن فی داره سنین و نقل إلی مقابر قریش بالقرب من السید أبی جعفر- علیه السلام-» .

سنة 421

25- و فی سنة 421 توفی أبو الحسن علی بن عبد العزیز بن إبراهیم ابن بیان المعروف بابن حاجب النعمان و قال أبو الفرج ابن الجوزی: «کان کاتب القادر باللّه، ولد سنة أربعین و ثلاثمائة و ذکر أنه سمع من أبی بکر النجار و (أبی بکر) الشافعی و ابن مقسم، و کان أبوه یخدم أبا عمر المهلبی فی أیام وزارته و کتب هو للطائع للّه ثم کتب بعده للقادر (باللّه) فی شوال سنة ست و ثمانین (و ثلاثمائة) فکتب للخلیفتین أربعین سنة و کان له لسان و بلاغة و توفی فی رجب من هذه السنة و دفن ببرکة زلزل ثم نقل تابوته إلی مقابر قریش و دفن بها فی سنة خمس و عشرین (و أربعمائة)» .
و قال ابن الأثیر فی حوادث سنة 421 مختصرا قول ابن الجوزی: «و فیها توفی أبو الحسن ابن حاجب النعمان و مولده سنة أربعین و ثلاثمائة، و کان خصیصا بالقادر باللّه حاکما فی دولته کلها و کتب له و للطائع أربعین سنة».
قال الخطیب البغدادی: «علی بن عبد العزیز بن إبراهیم بن بیان بن داود أبو الحسن المعروف بابن حاجب النعمان، کاتب القادر باللّه، ذکر أنه سمع من أحمد بن سلمان النجاد و أبی بکر الشافعی و أبی بکر بن مقسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 58
المقری‌ء و محمد بن جعفر بن الهیثم الأنباری و کان له لسان و عارضة و بلاغة، و لم یکن فی دینه بذاک، أخبرنا البرقانی قال أنشدنا الرئیس أبو الحسن علی بن عبد العزیز قال أنشدنا أبو بکر أحمد بن سلمان النجاد قال أنشدنا هلال بن العلاء الرقی لنفسه:
سیبلی لسان کان یعرب لفظه‌فیا لیته فی وقفة العرض یسلم
و ما ینفع الاعراب إن لم یکن تقی‌و ما ضرّ ذا تقوی لسان معجّم
سمعت التنوخی یقول: ولد أبو الحسن ابن حاجب النعمان فی سنة أربعین و ثلاثمائة و مات یوم الجمعة الثانی عشر من رجب سنة إحدی و عشرین و أربعمائة و دفن فی داره ببرکة زلزل ثم نقل تابوته إلی مقابر قریش فدفن بها فی لیلة الجمعة الخامس و العشرین من ذی القعدة سنة خمس و عشرین و أربعمائة».
و قال یاقوت الحموی: «علی بن عبد العزیز بن ابراهیم بن بیان ابن حاجب النعمان أبو الحسن، قد ذکرت معنی تسمیتهم بحاجب النعمان فی ترجمة أبیه ، و کان أبو الحسن هذا من الفصحاء البلغاء و قد صنف کتبا و أنشأ رسائل و له دیوان شعر کبیر الحجم و کان أبوه یکتب لأبی محمد المهلبی وزیر معز الدولة، و کتب أبو الحسن للطائع للّه ثم للقادر باللّه بعده فی شوال سنة 386 و خوطب برئیس الرؤساء و خدم خلیفتین أربعین سنة و مولده سنة (340) و مات فی رجب سنة 423 (کذا) و ولی ابنه أبو الفضل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 59
مکانه فلم یسدّ مسدّه فعزل بعد شهور. و حدث ابن نصر قال حدثنی أبو الفتح أحمد بن عیسی الشاعر المعروف بحمدین. قال: لما قبض القادر باللّه علی أبی الحسن ابن حاجب النعمان و استکتب أبا العلاء بن تریک، و هن النظر و قلّ رونقه، و اتفق أن دخل یوما إلی الدیوان فوجد علی مخاده قطعة من عذرة یابسة فانخذل و تلاشی أمره فقبض علیه و أعید أبو الحسن إلی رتبته و کانت بینی و بین أبی العلاء من قبل مماظّة فی بعض الأمور فامتدحت أبا الحسن بقصیدة أولها:
زمّت رکائبهم فاستشعر التلفا حتی بلغت منها إلی قولی:
یا من إذا ما رآه الدهر سالمه‌و ظلّ معتذرا مما جنی و هفا
قد رام غیرک هذا الطرف یرکبه‌فما استطاع له جریا بلی وقفا
لم یرجع الطرف عنه من تبظرمه‌حتی رأینا علی دست له طرفا
فدفع إلیّ صورة عنقاء فضة مذهبة کانت بین یدیه فیها طیب و قال:
خذ هذه الطرفة فانها أطرف من طرفتک. و قرأت فی المفاوضة: حدثنی الوزیر أبو العباس عیسی بن ماسرجیس قال: کنت أخلف الوزارة ببغداد مشارکا لأبی الحسن علی بن عبد العزیز ابن حاجب النعمان فدعانی یوما إلی داره ببرکة زلزل و تجمل و احتشد و دعا بکل من یشار إلیه بحذق فی الغناء من رجال و إماء مثل علیّة الخاقانیة و غیرها من نظرائها فی الوقت و حضر القاضی أبو بکر ابن الأزرق نسیبه و انتقلنا من الطعام إلی مجلس الشراب فلما دارت الکأس أدوارا قال لی: ما أراک تحلف علی القاضی لیشرب معنا، و یساعدنا و إن کان لا یشرب إلا قارصا. قلت: أنا غریب محتشم له، و أمره بک أمسّ و أنت به أخصّ. قال: فاستدعی فلانا و قال: امض إلی إسحاق الواسطی و استدع منه قارصا و تولّ خدمة القاضی- أیّده اللّه- و غاب ساعة ثم أتی و معه خماسیة فیها من الشراب الصریفینی الذی بین أیدینا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 60
إلّا أن، علی رأسها کاغدة و ختما و سطرا فیه مکتوب (قارص من دکان إسحاق الواسطی). قال: فتأمله القاضی و أبصر الخط و الختم، ثم أمر فسقی رطلا، فلما شربه و استوفاه قال للغلام: ویلک ما هذا؟ قال: یا سیدی هذا قارص. قال: لا بل و اللّه الخالص. ثم ثنّی و ثلث. فاضطرب أمر القاضی علینا و أنشأ یقول:
ألا فاسقنی الصهباء من حلب الکرم‌و لا تسقنی خمرا بعلمک أو علمی
ألیست لها أسماء شتّی کثیرةألا فاسقنیها واکن عن ذلک الاسم
فکان کلما أتاه بالقدح سأله فیقول تارة: مدام. و تارة: خندریس.
و هو یشرب، فاذا قال له: خمر. حرد و استخفّ به. فیتواری بالقدح ساعة ثم یعیده و یقول: هذه قهوة. فیشرب به. فلم یشرب القاضی إلّا بمقدار ستة أسماء أو سبعة من أسماء الخمر حتی تبطح فی المجلس و لفّ فی طیلسان أزرق علیه و حمل إلی داره» .

سنة 427 ه

26- و فخر الدولة أبو حرب کرشاسف بن مرداویج بن لیالشیر الدیلمی الاصفهسلار ، قال ابن الفوطیّ: «ذکره الرئیس أبو الحسین ابن الصابی فی تاریخه و قال: کان من الاصفهسلاریة الشجعان و تحت یده جماعة ینفذهم فی المهمات، و کان حسن المعاملة، مشفقا علی أصحابه، مفضلا علیهم، محسنا إلیهم، و توفی سنة سبع و عشرین و أربعمائة، و عمل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 61
الدیلم له عزاءا اجتمع فیه ما ینیف علی ألف إنسان و دفن بباب قبة الدیلم بالمشهد» . یعنی مشهد الامام موسی بن جعفر- ع- بمقابر قریش و قد ذکر هذه القبة ابن الفوطیّ فی ترجمة معز الدولة أبی الحسین أحمد بن بویه فی الترجمة 1328 من الجزء الخامس.

سنة 433 ه

27- و أبو الحسن محمد بن أحمد بن علی بن محمد بن جعفر بن هارون المعروف بابن أبی الشیخ، قال أبو الفرج بن الجوزی؛ «حدث علی محمد ابن المظفر و کان ثقة من الشهود المعتدلین. أخبرنا القزاز أخبرنا الخطیب قال: سمعت ابن أبی شیخ یقول: ولدت یوم السبت للنصف من ربیع الآخر سنة ست و خمسین (و ثلاثمائة) و سمعت من ابن مالک القطیعی جمیع مسند أحمد بن حنبل و سمعت من ابن المظفر شیئا کثیرا. و ذکر أنه کتب الشی‌ء الکثیر من الحدیث و لکن ذهبت کتبه. و مات فی لیلة الثلاثاء السادس عشر من جمادی الأولی من سنة ثلاث و ثلاثین و أربعمائة و دفن فی صبیحة تلک اللیلة بمقابر قریش» .

سنة 435

قال عز الدین ابن الأثیر فی حوادث سنة 416: «ذکر وفاة مشرف الدولة و ملک أخیه جلال الدولة: فی هذه السنة فی ربیع الأول توفی الملک مشرف الدولة أبو علی ابن بهاء الدولة (ابن عضد الدولة) بمرض حاد و عمره ثلاث و عشرون سنة و ثلاثة أشهر و ملکه خمس سنین و خمسة و عشرون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 62
یوما ... و لما توفی خطب ببغداد بعد موته لأخیه أبی طاهر جلال الدولة و هو بالبصرة و طلب إلی بغداد فلم یصعد إلیها و إنما بلغ إلی واسط و أقام بها فقطعت خطبته و خطب لابن أخیه الملک أبی کالیجار ابن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة فی شوال و هو حینئذ صاحب خوزستان و الحرب بینه و بین عمه أبی الفوارس صاحب کرمان بفارس فلما سمع جلال الدولة بذلک أصعد إلی بغداد فانحدر عسکرها لیردوه عنها فلقوه بالسیب من أعمال النهروان فردوه فلم یرجع فرموه بالنشاب و نهبوا بعض خزائنه فعاد إلی البصرة و أرسلوا إلی الملک أبی کالیجار لیصعد إلی بغداد لیملکوه، فوعدهم الاصعاد و لم یمکنه لأجل صاحب کرمان. و لما أصعد جلال الدولة کان وزیره أبا سعد ابن ماکولا» و قال بعد ذلک فی سنة 417: «فی هذه السنة کثر تسلط الأتراک ببغداد فأکثروا مصادرات الناس و أخذوا الأموال ... و دخل فی الطمع العامة و العیارون ... فلما رأی القواد و عقلاء الجند أن الملک أبا کالیجار لا یصل إلیهم و أنّ البلاد قد خربت و طمع فیها المجاورون من العرب و الأکراد راسلوا جلال الدولة فی الحضور إلی بغداد فحضر علی ما نذکره سنة ثمان عشرة و أربع مئة». ثم ذکر فی حوادث السنة المذکورة الخطبة ببغداد لجلال الدولة و إصعاده إلیها و دخوله دار المملکة البویهیة بالمخرّم أی الایلوازیة بعد زیارته مشهد الامام موسی بن جعفر- ع- و ذکر شغب الأتراک علیه سنة 419 ثم النزاع بینه و بین أبی کالیجار علی واسط و الأهواز سنة «420» ثم الحرب بین جیشیهما سنة 421 ثم استیلاءه علی البصرة ثم وثوب الجنود علیه و إخراجهم إیاه من بغداد سنة 423 ثم عوده إلی دار المملکة و إخراجه منها و إعادته إلیها سنة 424 ثم وثوب الجند علیه سنة 427 ثم تلقیبه بملک الملوک «شاهنشاه» سنة 429 ثم ملکه البصرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 63
سنة 431 و شغب الأتراک علیه سنة 432 ثم الوحشة بینه و بین الخلیفة القائم بأمر اللّه سنة 435 ثم وفاته سنة 435 قال: «ذکر وفاة جلال الدولة و ملک أبی کالیجار: فی هذه السنة فی سادس شعبان توفی الملک جلال الدولة أبو طاهر ابن بهاء الدولة ابن عضد الدولة ابن بویه ببغداد و کان مرضه ورما فی کبده، و بقی عدة أیام مریضا و توفی. و کان مولده سنة ثلاث و ثمانین و ثلاثمائة و ملکه ببغداد ست عشرة سنة و أحد عشر شهرا و دفن بداره و من علم سیرته و ضعفه و استیلاء الجند و النواب علیه و دوام ملکه إلی هذه الغایة علم أنّ اللّه علی کل شی‌ء قدیر یؤتی الملک من یشاء و ینزعه ممن یشاء، و کان یزور الصالحین و یقرب منهم وزار مرة مشهد علی و الحسین- علیهما السلام- و کان یمشی حافیا قبل أن یصل إلی کل مشهد منها نحو فرسخ، یفعل ذلک تدیّنا.» و لما توفی کان ولده الأکبر الملک العزیز أبو منصور بواسط علی عادته فکاتبه الأجناد بالطاعة و شرطوا علیه تعجیل ما جرت به العادة من حق البیعة فترددت المراسلات بینهما فی مقداره و تأخیره لفقده، و بلغ موته إلی الملک أبی کالیجار ابن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة فکاتب القواد و الأجناد و رغبهم فی المال و کثرته و تعجیله فمالوا إلیه و عدلوا عن الملک العزیز و أما الملک العزیز فانه أصعد إلی بغداد لما قرب الملک أبو کالیجار منها علی ما نذکره سنة ست و ثلاثین (و أربع مائة) عازما علی قصد بغداد و معه عسکره فلما بلغ النعمانیة غدر به عسکره و رجعوا إلی واسط و خطبوا لأبی کالیجار» تم قال فی حوادث سنة 436: «و فیها نقل تابوت جلال الدولة من داره إلی مشهد باب التبن إلی تربة له هناک»، و قد عجب ابن الأثیر مما لا یعجب منه.
و جاء فی النجوم الزاهرة فی ملوک مصر و القاهرة فی حوادث سنة 435 «و فیها توفی السلطان أبو طاهر جلال الدولة ابن بهاء الدولة فیروز ابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 64
عضد الدولة بویه (کذا) ابن رکن الدولة الحسن بن بویه. ولد سنة ثلاث و ثمانین و ثلاث مئة و کان ملکا محببا للرعیة، حسن السیرة و کان یحب الصالحین و لقی فی سلطنته من الأتراک شدائد و مات لیلة الجمعة خامس شعبان و غسّله أبو القاسم ابن شاهین الواعظ و ابو محمد عبد القادر بن السماک و دفن بداره فی دار المملکة فی بیت کان دفن فیه عضد الدولة و بهاء الدولة قبل نقلهما إلی الکوفة (فی مشهد علی- ع-) ثم نقل بعد سنة إلی مقابر قریش، و کان عمره لما مات إحدی و خمسین سنة و شهرا، و مدة ولایته علی بغداد ست عشرة سنة و أحد عشر شهرا و لما مات کان ابنه الملقب بالملک العزیز بواسط، فکتب إلیه الخلیفة القائم بأمر اللّه یعزّیه فیه. قلت: و جلال الدولة هذا أحسن بنی بویه حالا إن لم یکن رافضیا علی قاعدتهم النجسة» ، و کان ابن تغری بردی مؤرّخا عامیا جاهلا متعصّبا فلا تستغرب منه هذه الجمل الدالة علی رقاعة. فان جلال الدولة إن کان أحسن بنی بویه حالا لم یضرّه أن یکون علی مذهب فلان.

سنة 441

قال ابن الأثیر فی وفاة جلال الدولة بن بهاء الدولة ابن عضد الدولة سنة 435: «و لما توفی کان ولده الأکبر الملک العزیز أبو منصور بواسط علی عادته فکاتبه الأجناد بالطاعة و شرطوا علیه تعجیل ما جرت به العادة من حق البیعة فترددت المراسلات بینهما فی مقداره و تأخیره لفقده، فبلغ موته إلی الملک أبی کالیجار ابن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة فکاتب القواد و الأجناد فرغبهم فی المال و کثرته و تعجیله فمالوا إلیه و عدلوا عن الملک العزیز. و أما الملک العزیز فانه أصعد إلی بغداد لما قرب الملک أبو کالیجار منها، علی ما نذکره سنة ست و ثلاثین (و أربع مائة) عازما علی قصد بغداد و معه عسکره فلما بلغ النعمانیة غدر به عسکره و رجعوا إلی واسط و خطبوا لأبی کالیجار، فلما رأی ذلک مضی إلی نور الدولة دبیس بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 65
فرید لأنه بلغه میل جند بغداد إلی أبی کالیجار و سار من عند دبیس إلی قرداشا ابن المقلد (العقیلی) فاجتمع به بقریة خصّه من أعمال بغداد و سار معه إلی الموصل ثم فارقه و قصد أبا الشوک (الکردی) لأنه حموه، فلما وصل إلی أبی الشوک غدر به و ألزمه بطلاق ابنته، فقفل و سار عنه إلی إبراهیم ینال أخی طغرلبک، و تنقلت به الأحوال حتی قدم بغداد فی نفر یسیر عازما علی استمالة العسکر و أخذ الملک فثار به أصحاب الملک أبی کالیجار فقتل بعض من عنده و سار هو مختفیا فقصد نصر الدولة ابن مروان فتوفی عنده بمیّا فارقین و حمل إلی بغداد و دفن عند أبیه بمقابر قریش فی مشهد باب التبن سنة إحدی و أربعین (و أربع مئة) و قد ذکر الشیخ أبو الفرج ابن الجوزی أنه آخر ملوک بنی بویه و لیس کذلک ...» و ذکره ابن الفوطی مرتین و هو: «عز الدولة العزیز أبو منصور ابن جلال الدولة أبی طاهر ابن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بویه الدیلمی» قال: «ذکره أبو الحسن ابن الصابی فی تاریخه و قال: ولی الامارة بعد أبیه و أقام یسیرا ثم هرب من ابن عمه عز الملوک أبی کالیجار ابن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة ابن عضد الدولة فکانت ولایته خمس سنین و قد تأدب و اشتغل و کان جمیل الصورة یؤثر الدعة و الرفاهیة و کان مولده سنة أربع مئة و توفی سنة إحدی و أربعین و أربع مئة و علیه انقرض ملکهم» ثم قال: «الملک العزیز أبو منصور خسرو فیروز ابن جلال الدولة. صاحب واسط. ذکره الحافظ محب الدین محمد ابن النجار فی تاریخه و قال: ولاه أبوه واسطا فأقام بها مدة حیاته و أثّر بها آثارا حسنة و غرس بها بستانا بدیعا علی دجلة و کان مستترا بعمارته و کان مشغولا باللهو و القصف و الخلاعة و له شعر حسن قد دوّنه و روی عنه جماعة من الأدباء و کان کثیر المطالعة لکتب الأب ...» . و ذکره الباخرزی فی دمیة القصر و الصفدی فی الواقی و ابن جماعة فی معجم الأدباء و تألیفه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 66

سنة 478 ه

اشارة

28- و أبو سعد محمد بن علی بن المطلب الکاتب، قال البنداری نقلا من تاریخ السمعانی لبغداد: «أحد الرؤساء ذکروا الذهلی فقال: توفی الرئیس أبو سعد بن المطلب فی یوم الأحد الثانی و العشرین من ربیع الآخر سنة ثمان و سبعین و أربعمائة و دفن فی مقابر قریش» . و قال أبو الفرج ابن الجوزی فی حوادث سنة 478 ه «محمد بن علی بن المطلب أبو سعد، کان قد قرأ النحو و اللغة و السیر و الآداب و أخبار الأوائل و قال شعرا کثیرا إلا أنه کان کثیر الهجو ثم قال عن ذلک و أکثر الصوم و الصلاة الصدقة و روی الحدیث عن ابن بشران و إبن شاذان و غیرهما و غسل مسوّدات شعره و أحرق بعضها بالنار و توفی فی هذه السنة و هو ابن ست و ثمانین سنة» . و ذکر العماد الاصفهانی فی المزیدة و جاء فی الجزء المطبوع ببغداد:
«أبو سعد محمد بن علی بن عبد المطلب ، کان فی عهد الوزیر ابن المطلب وزیر الامام المستظهر- رضی اللّه عنه- متصرفا و کان هجّاما علی الهجاء و الکبراء» ، و لم یذکر العماد تاریخ مولد و لا تاریخ وفاة، و قال الذهبی فی تاریخه فی وفیات سنة 478: «محمد بن علی بن محمد بن المطلب أبو سعد الکرمانی الکاتب والد الصاحب الوزیر أبی المعالی هبة اللّه، قدم أبوه من کرمان و ولد هو ببغداد و نظر فی الأدب و أخبار الأوائل و سمع من أبی الحسین ابن بشران و أبی علی ابن شاذان، روی عنه یحیی البناء و شجاع الذهلی و کان شاعرا هجاءا بلیغ الفحش مقدما فی ذلک، عزل لهجوه فقال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 67
منظر عام لمرقد الامامین الکاظمین بالقبتین و المنائر الذهبیة و فی باحته عدة مدافن للمشاهیر
عزلت و ما خنت فیما ولیت‌و غیری یخون و لا یعزل
و هذا یدل علی أنّ من‌یولیّ و یعزل لا یعقل
و من شعره:
یا حسرتی مات حظی من قلوبکم‌و للحظوظ کما للناس آجال
تصرم العمر لم نحظی بقربکم‌کم تحت هذی القبور الدرس آمال
قال هبة اللّه السقطی: کنت أجتمع بأبی سعد کثیرا فقلّ أن انفصلت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 68
عنه إلا بنادرة أو شعر و لم تزل الحال به إلی أن تاب و ألهم الصوم و الصلاة و الصدقات. و غسل مسودات شعره قبل موته- رح- مات فی ربیع الآخر و له أربع و ثمانون سنة» .
و ذکره الصفدی فی تاریخه للأشخاص قال: «محمد بن علی بن محمد ابن المطلب الکرمانی أبو سعد الکاتب والد الوزیر أبی المعالی هبة اللّه، کان والده من کرمان و ولد هو ببغداد و قرأ طرفا صالحا من الأدب و أخبار الأوائل و سمع الحدیث .. و حدث بالیسیر. روی عنه أبو البرکات بن السقطی و یحیی بن الحسن بن أحمد بن البناء و سمع منه أبو عبد اللّه الحمیدی و أبو غالب الذهلی و کان کاتبا سدیدا ملیح الشعر إلا أنه ثلبة کثیر الهجاء دقیق الفکر، قال ابن النجار شبه هجوه بهجو ابن الرومی و جحظة و من شعره: عزلت و ما خنت فیما ولیت .. و ذکر البیتین المنقولین آنفا و کتب إلی الوزیر أبی نصر بن جهیر:
هبنی کما زعم الواشون لا زعمواأخطأت حاشای أو زلّت بی القدم
و هبک ضاق علیک العذر من حرج‌لم أجنه أیضیق العفو و الکرم؟
ما أنصفتنی فی حکم الهوی أذن‌تصغی لواش و عن عذری بها صمم
و من شعره:
یا حسرتا مات حظی من قلوبکم ...و ذکر البیتین الآخرین» .
و اختصر ابن شاکر الکتبی ترجمته من کتاب الوافی بالوفیات و ضمّنها کتابه فوات الوفیات علی حساب عادته فی الاغارة علی الوافی فی أکثر تراجمه إلا أنی وجدت فرقا بین الترجمتین ففی الفوات «إن مت شوقا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 69
و لم أبلغ بکم أملی» بدلا من «تصرم العمر لم نخطی بقربکم» و لم یذکر القصیدة الصفدی سنة وفاته و لا مدفنه و ذلک یدل علی نقصان النسخة المنشورة فقد قال ابن شاکر «توفی سنة ثمان و سبعین و أربعمائة و دفن بمقابر قریش- رح-» .
و قال العماد الاصفهانی: «أنشدنی مجد الدین ابن المطلب بدمشق لأبی سعد ابن المطلب:
تنانیرکم للنمل فیها مدارج‌و فی قدرکم للعنکبوت مناسج
و عندکم للضیف یوم یزورکم‌حوالات سوء کلها و سفاتج
إذا سهل الاذن العسیر و رفعت‌ستورک فانظرنی بما أنا خارج
و سیان بیت العنکبوت و جوسق‌منیف إذا لم تقض فیه حوائج

المردوستی

29- و فی سنة 478 توفی أبو عبد اللّه الحسین بن علی المردوستی الحاجب و دفن فی مقابر قریش قال ابن الجوزی: «کان رئیس زمانه و کان قد خدم فی زمن بنی بویه و بقی إلی زمان المقتدی و ارتفع أمره حتی کانت ملوک الأطراف تکتب إلیه (عبده و خادمه). و کان کامل المروءة لا یسعی إلا فی مکرمة، و کان کثیر البرّ و الصدقة و الصوم و التهجّد حفر لنفسه قبرا و أعد کفنا قبل وفاته بخمسین سنة و توفی عن خمس و تسعین سنة و دفن بمقبرة باب التبن» . و قال شمس الدین الذهبی فی وفیات السنة المذکورة آنفا:
الحسن بن علی بن أبی نزار الحاجب الصدر أبو عبد اللّه المردوستی، حاجب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 70
باب النوبیّ، محمود السیرة، دیّن خیر متعبد مات فی ذی القعدة و له أربع و تسعون سنة، لم یرو شیئا» .

سنة 490

قال أبو الفرج ابن الجوزی فی وفیات سنة 490: «المعمّر بن محمد ابن المعمّر بن أحمد بن محمد أبو القاسم (کذا) الحسینی الطاهر ذو المناقب نقیب الطالبیین و کان جمیل الصورة، کریم الأخلاق، کثیر التعبد لا یحفظ عنه أنه آذی مخلوقا و لا شتم حاجبا و سمع الحدیث و رواه و توفی بداره بالکرخ بنهر البزازین لیلة الجمعة ثامن عشر ربیع الأول و حمل من الغد إلی جامع المنصور فصلی علیه ثم حمل إلی مشهد مقابر قریش فدفن به، و مات عن اثنتین و سبعین سنة، ولی النقابة منها اثنتین و ثلاثین سنة و ثلاثة أشهر و تولی مکانه ابنه أبو الفتوح حیدرة و لقب بالرضیّ ذی الفخرین، و رثاه أبو عبد اللّه بن عطیة بأبیات منها:
هل ینفعنّ من المنون حذارأم للامام من الردی أنصار؟
هیهات ما دون الحمام إذا دناوزر و لا یسطاع منه حذار
نفذ القضاء علی الوری من عادل‌فی حکمه و جرت به الأقدار
مالی أری الآمال تخدع بالمنی‌عدة تطول و تقصر الأعمار
و الناس فی شغل و قد أفناهم‌لیل یکرّ علیهم و نهار
و ید المنیة شثنة مبسوطةفی کل أنملة لها أظفار (کذا)
لو کان یدفع بطشها عن مهجةو یرد حتفا معقل و جدار
لغدت ربیعة ذا المناقب و اشترت‌حبا له طول البقاء نزار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 71 خربت ذرا المجد المنیف و أصبحت‌عرصات ربع المجد و هی قفار
و خلا مقام النسک من تسبیحه‌و بکت علی صلواته الأسحار»
و ذکره ابن تغری بردی فی وفیات السنة المذکورة بایجاز و قال: «کان من کبار الشیعة» .

سنة 500 ه

31- و أبو طالب علی بن محمد بن المحسن بن یحیی بن جعفر بن علی ابن محمد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی ابن أبی طالب العلوی الحسینی نقیب المشهد الکاظمی، قال محب الدین محمد بن النجار: «سمع القاضی أبا الحسین محمد بن علی ابن المهتدی و غیره و حدث بالیسیر. روی عنه أبو القاسم المبارک بن محمد بن الحسین بن البزوری و أبو طاهر السّلفی و کتب عنه أبو عبد اللّه الحسین بن محمد البلخی و نقلت نسبه بخطه. أخبرنا عتیق بن الحسن الأنصاری بالقاهرة أنبأنا أبو طاهر أحمد ابن محمد السلفی أنبأنا أبو طالب علی بن محمد بن المحسن نقیب المشهد ببغداد- و أسنده إلی حکیم بن حزام- قال قال رسول اللّه- ص-: البیّعان بالخیار ما لم یتفرقا فان صدقا و بیّنا رزق برکة بینهما و إن کذبا و کتما محق برکة بینهما. و أنبأنا عتیق بن الحسن أن السلفی أخبره أنه سأل أبا طالب النقیب عن مولده فذکر أنه سنة ثلاث و أربعمائة و أنه سمع من ابن قشیش و آخرین.
قرأت فی کتاب أبی غالب شجاع بن فارس الذهلی بخطه قال» مات الشریف أبو طالب علی بن المحسن العلوی نقیب المشهد بمقابر قریش فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 72
یوم الاربعاء تاسع عشر المحرم سنة خمسمائة و قد جاوز المائة سنة من عمره» .
و ذکّره ابن عنبة فی کتابه أنساب الطالبیین قال: «و من ولد یحیی الصوفی ابن جعفر الکذاب أبو الفتح أحمد بن محمد بن المحسن بن یحی الصوفی المذکور و هو النسّابة المعروف بابن المحسن الرضوی و له أخ اسمه (علی) و یکنی أبا القاسم کان فاضلا دینا و یحفظ القرآن و یرمی بالنصب أعقب بمصر»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 73

القرن السادس الهجری

سنة 502 ه

32- و المرتضی أبو الفتح و قیل أبو الفتوح حیدرة بن المعمرّ الحسینیّ العبیدلیّ النقیب قدمنا ذکر أبیه النقیب المعمّر بن أحمد بن محمد، قال ابن الفوطیّ: «ذکره تاج الاسلام السمعانی فی کتاب المذیّل (علی تاریخ الخطیب) و قال: رأیت عند ابن أخیه أبی الحسین عبید اللّه بن الطاهر مصحفا بخطّه الملیح و کان راغبا فی الخیر و أهله و سمعت أبا الحسن علی بن أحمد ابن مکّی البزاز بالنهروان یقول: توفی النقیب فی العشرین من جمادی الآخرة سنة اثنین و خمسمائة و دفن بمقابر قریش عند أمّه و أخیه» . و قال أبو الفرج بن الجوزی فی وفیات سنة 501 من تاریخه: «حیدرة بن أبی الغنائم المعمر بن عبید اللّه أبو الفتوح العلوی نقیب الطالبیین و کان عفیفا متشاغلا بالعلوم غزیر الأدب، ملیح الصورة، توفی فی هذه السنة و عمره ثمان و ثلاثون سنة و مدة ولایة النقابة اثنتا عشرة سنة و ثلاثة أشهر و ولی بعده أخوه أبو الحسن علیّ» . و ذکره ابن النجار فی ترجمة أخیه علی ابن المعمر بن محمد قال: «ولی علی هذا النقابة علی الطالبیین ببغداد بعد وفاة أخیه أبی الفتوح حیدرة بن المعمر سنة 502 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 74

بعد سنة 506 ه

اشارة

33- و أبو الفضل علی بن ناصر بن محمد بن الحسن بن أحمد القاسم ابن محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن عبد اللّه بن جعفر بن محمد ابن الحنفیة ابن علی بن أبی طالب العلوی المحمّدی، ذکره السمعانی فی «المحمّدی» من الانساب نسبته إلی جده محمد بن الحنفیة- رض- قال: «من أهل بغداد نقیب مشهد باب التبن و کان یسکن الکرخ، له معرفة بالأنساب، سمع أبا محمد الحسن بن علی الجوهری و غیره، روی لی عنه أبو المعمر المبارک بن أحمد الأنصاری و أبو طالب بن خضیر الصیرفی، و کانت ولادته سنة إحدی و أربعین و أربعمائة، و توفی بعد سنة ست و خمسمائة فان أبا بکر ابن فولاذ الطیوری سمع منه فی هذه السنة» . و ذکر أکثر هذه الترجمة عز الدین ابن الأثیر فی اللباب ، و إذ کان اللباب مختصرا للانساب و لیس فی کلام ابن الأثیر زیادة و لا استدراک لم نجد حاجة إلی نقل کلامه لأنه یکون تکرارا بلا مسوّغ و لا باعث.

أحمد بن علی بن ناصر

34- و ابنه أبو جعفر أحمد بن علی بن ناصر ابن أبی الفضل العلوی المحمدی، قال جمال الدین محمد بن سعید المعروف بابن الدبیثی المؤرخ:
«من ولد محمد بن علی بن أبی طالب- علیه السلام- المعروف بابن الحنفیة، کان أبو جعفر نقیب العلویین بالکرخ و أبوه نقیب العلویین المحمّدیین بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فیما ذکر أبو بکر (المبارک) ابن کامل و قال: سمع أبو جعفر من أبی الحسین المبارک بن عبد الجبار الطیوری و روی عنه و سمعت منه. و أخرج حدیثا عنه فی معجم شیوخه»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 75

سنة 507 ه

35- و فی سنة 507 توفی أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن علی بن الحسن ابن عبید اللّه أبو نصر الساجی المقدسیّ. قال ابن الجوزی: «ولد سنة خمس و أربعین و أربعمائة و تفقّه علی أبی اسحق الشیرازی مدة و سمع من أصحاب المخلص و الکتانی و رحل فی طلب الحدیث إلی بیت المقدس و أصبهان- و خراسان و الجبال و قرأ علی عبد اللّه الأنصاری الحدیث و حصل الکثیر منه و کان حافظا عارفا بالحدیث معرفة جیدة خصوصا المتون و کان حسن القراءة و الخط، صحیح النقل، و ما زال یسمع و یستفید إلی أن مات کان فیه ظلف نفس، و قناعة و صبر علی الفقر، و صدق و أمانة، و ورع، حدثنا عنه أشیاخنا و کلهم وصفه بالثقة و الورع و قد طعن فیه محمد بن طاهر المقدسی و المقدسیّ أحقّ بالطعن و أین الثریا من الثری. توفی المؤتمن یوم السبت ثامن عشر صفر» و قد جاء فی نسخة من المنتظم أنه دفن بمقبرة باب حرب، و ورد فی هامش النسخة ص «صوابه باب التبن» . یعنی المشهد الکاظمی.

سنة 515 ه

قال محب الدین محمد بن النجار: «علی بن ناصر بن محمد بن الحسن ابن أحمد بن القاسم بن محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن عبد اللّه بن جعفر بن محمد بن علی بن أبی طالب أبو الفضل العلوی المحمدی، نقیب مشهد باب التبن. هکذا رأیت نسبه بخط محمد بن علی بن فولاذ الطبری و هکذا ذکره السلفی فی معجم شیوخه. کان یسکن بالکرخ و له معرفة بالأنساب، سمع أبا محمد الحسن بن علیّ الجوهری و حدث بالیسیر، روی عنه أبو المعمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 76
الأنصاری و أبو طالب بن خضیر و أبو طاهر السلفی ... قرأت بخط محمد ابن ناصر الیزدی: قال سألت المحمدیّ فقال: ولدت سنة ثلاث و أربعین و أربعمائة. و قرأت بخط أبی البرکات عبد الوهاب بن المبارک الأنماطی قال:
توفی الشریف أبو الفضل المحمدیّ فی یوم الخمیس ثالث شوال سنة خمس عشرة و خمسمائة و دفن یوم الجمعة بمقابر قریش بعد أن صلی علیه بباب دار الطاهر بنهر البزازین و حضرت ذلک و مضیت معه إلی قبره» .
و ذکر السمعانی فی «المحمدی» من الأنساب، قال: «هذه النسبة إلی محمد بن الحنفیة بن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- رض- و المنتسب إلیه أبو الفضل علی بن ناصر بن محمد بن الحسین (کذا) بن أحمد بن القاسم ابن محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن عبد اللّه بن جعفر بن محمد ابن الحنفیة ابن علی بن أبی طالب المحمدی، من أهل بغداد، نقیب مشهد باب التبن و کان یسکن الکرخ، و له معرفة بالأنساب، سمع أبا محمد الحسن بن علی الجوهری و غیره و روی لی عنه أبو المعمر المبارک بن أحمد الأنصاری، و أبو طالب ابن خضیر الصیرفی، و کانت ولادته سنة إحدی و أربعین و أربع مئة و توفی بعد سنة ست و خمس مئة فان أبا بکر ابن فولاذ الطیوری (کذا) سمع منه فی هذه السنة».
و ذکر ابن عنبة جدّه الحسن بن أحمد، قال فی ذکر ابن الشریف النقیب الأخباری أبی الحسن أحمد بن القاسم بن محمد: «من ولده أبو محمد الحسن بن أبی الحسن أحمد المذکور و هو السید الجلیل النقیب المحمّدی کان یخلف السید المرتضی علی النقابة ببغداد، له عقب یعرفون ببنی النقیب المحمدی کانوا أهل جلالة و علم و روایة و نسب ثم انقرضوا» . و لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 77
یعرف المشارف علی طبعة عمدة الطالب النجفیة شیئا من ترجمة أبی الفضل علی بن ناصر هذا لیعلقه علی قول ابن عنبة «له عقب یعرفون ببنی النقیب المحمّدیّ ...».

سنة 518 ه

قال محب الدین محمد ابن النجار: «علی بن نصر بن سعید بن سعد أبو تراب الکاتب ... ولد بعکبرا و نشأ بها و دخل بغداد فی صباه و قرأ الأدب علی أبی القاسم ابن برهان النحوی ثم انحدر إلی البصرة و صار کاتبا لنقیب الطالبیین بها و أقام هناک مدة ثم عاد إلی بغداد سنة تسعین و أربع مئة و نزل بالکرخ و ولی الکتابة لنقیب الطالبیین إلی حین وفاته و کان کاتبا حاذقا، روی عنه ولده (علی) شیئا من شعره. أخبرنی شهاب الحاتمی بهراة أنشدنا أبو سعید ابن السمعانی قال: أنشدنی علی بن علی (بن نصر) بن سعد الکاتب قال: أنشدنی أبی لنفسه:
حالی بحمد اللّه حال جیّدلکنه من کل حظ عاطل
ما قلت للأیام قول معاتب‌و الرزق یدفع راحتی و یماطل
إلا و قالت لی مقالة واعظ:الرزق مقسوم و حرصک باطل
أخبرنی الحاتمی قال: سمعت أبا سعید ابن السمعانی یقول: سألت علی بن علی بن سعد الکاتب عن مولد (أبیه) ، فقال: فی محرم سنة ثمان و عشرین و أربعمائة و توفی فی العشرین من جمادی الآخرة سنة ثمان عشرة و خمس مئة و دفن بمشهد باب التبن» . و ذکره یاقوت الحمویّ موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-1 ؛ ص78
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 78
بما یشبه کلام ابن النجار و الظاهر أنه نقله استملاءا منه لأنهما کانا متصادقین، و قد وقع فی طبعة مرغولیوث الأولی» ثم رجع إلی بغداد سنة 49 و أقام بالکرخ و الصواب (سنة 490) فقد سقط الصفر، و جاء فی قول یاقوت «و کان من أهل الأدب و الفضل ... و ابنه علی بن علی بن نصر بن سعد أبو الحسن ابن أبی تراب کان کاتب نقیب الطالبیین أیضا و کان شاعرا ولد بالبصرة سنة 482 ...» -
و ذکره العماد الأصفهانی بمثل ما نقلناه و أحال بترجمته علی تاریخ السمعانی «ذیل تاریخ بغداد» و ذکر له ما عدا الأبیات الثلاثة آنفا بیتین فی الحکمة فیهما جناس ناقص و فی الأول تصحیف و هما:
لا بد من آماله طمع‌إلی الدنایا موفرا ماله
فان أعماله تورّطه‌حین یراها فی الحشر أعمی له

سنة 537 ه

اشارة

36- و فی سنة «535» علی أرجح الأقوال دفن فی مقابر قریش جمال الملک أبو القاسم علی بن أفلح العبسی الشاعر الکاتب و لکن ابن الجوزی ذکره فی وفیات سنة 533 قال:
«علی بن أفلح أبو القاسم الکاتب، کان فیه فضل حسن و له شعر ملیح إلا أنه کان متجرئا کثیر الهجو و کان قد خلع علیه المسترشد باللّه و لقبّه جمال الملک و أعطاه أربع آدر فی درب الشاکریة و کان هو قد اشتری دورا إلی جانبها فهدم الکلّ و أنشأ دارا کبیرة و أعطاه الخلیفة خمسمائة دینار و أطلق له مائة جذع و مائتی ألف آجرة و أجری له إدرارا فی کل سنة، فظهر انه یکاتب دبیسا- یعنی الأمیر دبیس بن صدقة صاحب الحلّة- و سبب ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 79
أنه کان فی المسجد الذی یحاذی دار السماک رجل یقال له مکی یصلی بالناس و یقری‌ء القرآن فکان إذا جاء رسول دبیس أقام عند ذلک الامام بزی الفقراء فاطلع علی ذلک بواب ابن أفلح، و اتفق أن ابن أفلح غضب علی بوابه فضربه ، فاستشفع بالناس علیه فلم یردّه، فمضی و أطلع صاحب الشرطة علی ذلک فکبس المسجد و أخذ الجاسوس، و هرب ابن أفلح و إمام المسجد، و أمر المسترشد بنقض داره و کان قد غرم علیها (عشرین) ألف دینار، کان طولها ستین ذراعا فی أربعین، و قد أجریت بالذهب و عملت فیها الصور و فیها الحمام العجیب، فیه بیت مستراح فیه بیشون- یعنی حنفیة- إن فرکه الانسان یمینا خرج الماء حارا و إن فرکه شمالا خرج باردا و کان علی أبواب الدار مکتوب شعر (کذا):
إن عجب الزوّار من ظاهری‌فباطنی لو علموا أعجب
شیّدنی من کفه مزنةیخجل منها العارض الصیب
و دبّجت روضة أخلاقه‌فیّ ریاضا نورها مذهب
صدر کسا صدری من نوره‌شمسا علی الأیام لا تغرب
و کان علی الطرز مکتوب شعر (کذا):
و من المروءة للفتی‌ما عاش دار فاخره
فاقنع من الدنیا بهاو اعمل لدار الآخره
هاتیک وافیة بماوعدت و هذی ساحره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 80
و کان علی الحیری مکتوب شعر (کذا):
و ناد کأن جنان الخلودأعارته من حسنها رونقا
و أعطته من حادثات الزمان أن لا تلمّ به موثقا
فأضحی یتیه علی کلّ مابنی مغربا کان أو مشرقا
تظل الوفود به عکّفاو تمسی الضیوف له طرّقا
بقیت له یا جمال الملوک و الفضل مهما أردت البقا
و سالمه فیک ریب الزمان‌و وقیّت منه الذی یتّقی
قال ابن الجوزی: و قد رأیت أنا هذه الدار بعد أن نقضوها ثم ظهر أن ابن أفلح مضی إلی تکریت فاستجار ببهروز الخادم ثم آل الأمر إلی أن عفی عنه» .
و قال العماد الأصبهانی الکاتب: «جمال الملک أبو القاسم علیّ بن أفلح العبسی الشاعر، من أهل بغداد، و أصله من الحلّة السیفیّة ، شاعر سائر الشعر، طائر الذکر، مرهوب الشبا، حدید السنان، شدید الهجاء بذی‌ء اللسان، إذا اتضح له المعنی فی هجو أحد لم یبال به أکان محسنا أم مسیئا، عدوّا أو ولیّا و قلّ من أحسن إلیه إلا جازاه بالقبیح، و جاراه بالذمّ الصریح، و کان من جملة منعوشی العمّ الشهید عزیز الدین فانه نوّه بذکره و نبّه علی قدره و جذب بضبع فضله و آواه إلی ریع ظلّه، و ولیّ اشغاله جماعة من أقاربه و أهله حتی عرفوا و شرفوا و أثروا و اکتفوا، علی أنه لم ینج مع ذلک من قوارصه، و کان یحتمله لفضائله و خصائصه، و لما نقلنی والدی من أصفهان إلی بغداد، حین نبا، بعد النکبة، بنا الوطن، و ضاق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 81
العطن و لم نجد الأمن و السلامة، و الیمن و الکرامة إلا فی ظل الدار العزیزة النبویة الامامیة المقتفویة، فسکنّا مدینة السلام و اتخذناها دار المقام و ذلک فی سنة أربع و ثلاثین و خمسمائة، و قد بلغت سنّی خمس عشرة سنة و کان هذا ابن أفلح یجتمع بوالدی و یقصد نحوه و یبثه شجوه، و توفی بعد ذلک بسنتین أو ثلاث. و طالعت ما جمع من شعره و هو قلیل، لأن الخلیفة نفذ و أخذ من بیته أشعاره کلها، و کتبت منه قصیدتین فی مدح عمی فأثبتهما و لم ألغ منهما شیئا، إحداهما ما مدحه به و أنشده بأصفهان:
هاتیک دجلة رد و هذا النیل‌ما بعد ذین لحائم تعلیل
... و القصیدة الأخری مدحه بها و یعرّض بذکر جماعة من أعدائه نصره اللّه علیهم و ذلک فی سنة ست عشرة و خمسمائة و هی عندی أحسن من الأولی:
إلی متی یجحد للبلوی و تجهده‌قد بان ما کان یخفیه و یجحده
و له قصائد قد سارت، من جملتها:
ما بعد حلوان للمشتاق سلوان‌عزّ العزاء و بان الصبر إذ بانوا
... و من سیاراته:
هذه الخیف و هاتیک منی‌فترفّق أیّها الحادی بنا
و له:
أخی لم تزل فی کل لأواء منعشی‌فخذ لی بثأری من لحاظ یرنقشی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 82
... و کان هذا ابن أفلح فظیع المنظر کما وصفه سدید الدولة ابن الأنبار فی قوله:
یا فتی أفلح و إن‌لم یکن قطّ أفلحا
لک وجه مشوّه‌أسود قدّ من رحی
و کان هکذا ذکره قمر الدولة ابن دوّاس:
هذا ابن أفلح کاتب‌متفرد بصفاته
أقلامه من غیره‌و دواته من ذاته
... و له فی بعض وزراء عصره و کان نحیفا دقیقا:
لولا السّواد و ذقنه‌ما بان فی وقت السلام
کزریق دجلة کلّه‌ریش و باقیه عظام» .
و ذکر له أشعارا أخری.
و ترجم له محب الدین ابن النجار البغدادی قال: «علی بن أفلح بن محمد أبو القاسم البغدادی، کاتب أدیب فاضل، عالم کامل، شاعر مجید، مترسّل بلیغ، له دیوانا شعر و رسائل و یکتب خطا حسنا و قد أکثر القول فی الغزل و المدیح و سائر الفنون فأحسن ثم تعدّی إلی هجو الناس و الثلب لأعراضهم و الوقیعة فیهم، بأکثر من ذلک حتی أوجب له مقتا من الناس و خاف من جماعة من الصدور فخرج من بغداد هاربا إلی الشام و اتصل بملوکها و استشفع بهم إلی الدیوان فی ردّه إلی وطنه، فشفعوا فیه إلی الامام المسترشد باللّه فأجابهم إلی ذلک و قبله فعاد إلی بغداد و أقام بها إلی حین وفاته.
أنبأنا أبو الغنائم سعید بن حمزة بن أحمد بن سارح الکاتب قال: سمعت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 83
أبا القاسم ابن أفلح ینشد والدی لنفسه بدارنا:
ما بعد حلوان للمشتاق سلوان‌عن العراق و بان الصبر مذ بانوا
دعنی و تسکاب دمعی من مدامعه‌فللشؤون ولی من بعدهم شأن
ما العیش من بعدهم مما ألذّ به‌أنّی یلذّ بعیر النوم و سنان؟
هم الحیاة و قد باتوا الغداة فهل‌یصح بعد ذهاب النفس جثمان؟
یا صاحبیّ أقلّا من ملامکمافان لومکما ظلم و عدوان
أین الشجی من خلیّ ما أحب و لاهاجت له بنوی الأحباب أشجان؟!
... أنبأنا أبو البرکات الزیدی عن أبی الفرج صدقة بن الحسین ابن الحداد الفقیه قال: و فی یوم الخمیس ثانی شعبان من سنة خمس و ثلاثین و خمسمائة توفی أبو القاسم ابن أفلح الشاعر. و ذکر غیر صدقة أنه دفن بمقابر قریش و کان مولده فی سنة ثلاث و أربعین و أربعمائة» .
و قال ابن خلکان: «جمال الدین أبو القاسم علی بن أفلح العبسی الشاعر المشهور، کان شاعرا ظریفا حسن المدیح، کثیر الهجاء مدح الخلفاء فمن دونهم من أرباب المراتب و جاب البلاد و لقی أکابرها و رؤساءها.
رأیت دیوانه فی مجلّد وسط و قد جمعه بنفسه و عمل له خطبته و قفّاه و ذکر عدد ما فی کل قافیة من بیت و اعتنی بأمره و هذّبه، نقلت منه ... و له نوادر کثیرة و توفی سنة خمس و قیل ست و قیل سبع و ثلاثین و خمسمائة- رح- و عمره أربع و ستون سنة و ثلاثة أشهر و أربعة عشر یوما، و کانت وفاته ببغداد و دفن بالجانب الغربی بمقابر قریش ...» .
و کان ابن خلکان قد ذکر قبل ذلک فی ترجمة الأمیر سیف الدولة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 84
و کان ابن خلکان قد ذکر قبل ذلک فی ترجمة امیر سیف الدولة أبی الحسن صدقة بن منصور الأسدی الناشری مؤسس الحلّة أن أبا الحسن (کذا) علی بن أفلح الشاعر المشهور کان کاتبا بین یدیه فی شبیبته ثم ذکر ابن خلکان أن ابن أفلح کان ممن أنکروا دعوی الحریری لانشائه المقامات و أن من الأدباء من ینسب إلیه هجوه فی قوله:
شیخ لنا من ربیعة الفرس‌ینتف عثنونه من الهوس
أنطقه اللّه بالمشان کمارماه وسط الدیوان بالخرس
ثم ذکر له أبیاتا کتب بها إلی ابن التلمیذ الطبیب بعد أن نقه من المرض و هو یعالجه بشکو جوعه و قد نهاه عن استعمال الغذاء إلا بأمره، و أبیات ابن التلمیذ فی الجواب عنها ، و قال ابن الجوزی فی حوادث سنة 517:
«و فی محرم هذه السنة نقضت دار علی بن أفلح و کان المسترشد قد أکرمه و لقبه جمال الملک، فظهر أنه عین لدبیس فتقدم بنقض داره فهرب، و سنذکر حاله عند وفاته فی زمان المقتفی إن شاء اللّه تعالی» . و ذکر ذلک ابن الأثیر فی حوادث السنة المذکورة مقرونا بعزل نقیب العلویین علی بن المعمّر و لکن ابن الأثیر لم یذکر اسم النقیب و هو شی‌ء عجیب. ثم ذکر ابن الأثیر فی وفیات سنة 535 و جاء فیه اسمه «علی بن أفلح بن أفلح».
و الزیادة من النسّاخ المسّاخ.
و تابع سبط ابن الجوزی جدّه فی ذکره علی بن أفلح فی وفیات سنة 533 و فی أقواله زیادة فائدة فقد ذکر أنه الخلیفة المسترشد باللّه رتّب لابن أفلح راتبا ، و ذکر أن أفلح صوّر فیها فنون الصور، و ذلک أمر ذو بال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 85
فی تاریخ الحضارة الاسلامیّة، و قد اشتهر اختلاف العلماء فی جواز تصویر الحیوان دون الأشجار و الجماد.
و ترجم له ابن تغری بردی فی وفیات سنة 533 ترجمة حسنة موجزة جامعة ، و ذکره نصر اللّه ابن الأثیر قال: «و وقفت علی کتاب یقال له مقدمة ابن أفلح البغدادی قد قصرها علی تفصیل أقسام علم الفصاحة و البلاغة، و للعراقیین بها عنایة و هم وامقون لها و مکبون علیها و لما تأملتها وجدتها قشورا لا لبّ تحتها لأنّ غایة ما عند الرجل أن یقول: و أما الفصاحة فانها کقول النابغة مثلا أو کقول الأعشی أو غیرهما. ثم یذکر بیتا من الشعر أو أبیاتا، و ما بهذا تعرف حقیقة الفصاحة حتی إذا وردت فی کلام عرفنا أنه فصیح بما عرفنا من حقیقتها الموجودة فیه و کذلک یقول فی غیر الفصاحة.
و من أعجب ما وجدته فی کتابه أنّه قال: أمّا المعانی المبتدعة فلیس للعرب منها شی‌ء و إنما اختصّ بها المحدثون ثم ذکر للمحدثین معانی و قال: هذا المعنی لفلان و هو غریب. و هذا القول لفلان و هو غریب و تلک الأقوال التی خصّ قائلها بأنهم ابتدعوها قد سبقوا إلیها فإمّا أن یکون غیر عارف بالمعنی الغریب و إمّا أنه لم یقف علی أقوال الناظمین و الناثرین و لا تبحّر فیها حتی عرف ما قاله المتقدّم مما قاله المتأخر ...» .
و ذکر العماد الأصفهانی لابن أفلح عدة أشعار فی المدح و الهجاء فی کتابه «نصرة الفترة و عصرة الفطرة» فی تاریخ بنی سجلوق ، و أورد له ابن الجوزی شعرا و نثرا مفیدین جدا فی دراسة أدبه ، و ورد ذکره فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 86
کتابه صید الخاطر «ص 308» و ذکر له هندوشاه الصاحبی فی تاریخه الفارسیّ تجارب السلف «ص 297» أبیاتا بالعربیة. و ورد ذکره فی عیون الأنباء «1: 274» لابن أبی أصیبعة و مختصر الدول «ص 365» لابن العبری، و نشرت دراسة موجزة لأدبه فی مجلّة الغری النجفیة» مج 7 ج 1، 2» و درس تاریخ أدبه الدکتور علی جواد الطاهر فی کتابه الشعر العربی فی العراق و بلاد العجم فی العصر السلجوقی» ج 1 ص 188- 193» و هی دراسة بارعة.

أبی الضوء العلوی

37- و الشریف أبو محمد الحسن بن محمد بن أبی الضوء العلوی الحسنیّ ذکره العماد الأصفهانی قال بعد ذکر اسمه علی النحو الذی نقلناه: «نقیب مشهد باب التبن، توفی سنة 537 ه، له فی مدح الطاهر النقیب :
من لی بایناس الرقاد النافرفابیت أنعم بالخیال الزائر؟
و لقد أبیت النوم إلا أنه‌سبب إلی وصل الحبیب الهاجر
أشتاق علوة أن یمر خیالهابالعین بعض مروره بالخاطر
نذرت دمی فوفت و لم أعلم به‌أن الوفاء سجیة من غادر
فوقفت أجنح بین دمع واقع‌إثر الخلیط و بین لبّ طائر
حیران لا الکمد العنیف بغائب‌عنی و لا الجلد الضعیف بحاضر
أشکو اهضتام الغانیات تجلدی‌بصدودهنّ و لیس لی من ناصر
و لو أنّ ضیما کان غیر صبابةللجأت منه إلی جناب الطاهر
و له یرثیه:
قرّبانی إن لم یکن لکما عقر إلی عقر قبره فاعقرانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 87 و انضحا من دمی علیه فقد کان دمی من نداه لو تعلمان
و ذکره عز الدین بن جماعة الکنانی فی کتابه تاریخ الأدباء و قال:
«هو الحسن بن محمد بن علی بن أبی الضوء العلوی الحسنی البغدادی، أدیب فاضل، ولد یوم الخمیس السادس من رجب سنة اثنتین و ثمانین و أربعمائة و توفی فی شعبان سنة سبع و ثلاثین و خمسمائة- رح-» و أورد الأبیات المذکورة و فیها زیادة هی:
برزت فلم أخذل هناک بعاذل‌و لقد أرانی لا أعان بعاذل
عمر یجود علی اللّها لعفاته‌و یجیر من صرف الزمان الجائر
و أورد ابن خلکان فی ترجمة المهلب بن أبی صفرة مرثیة زیاد بن جابر ابن عبد القیس الأعجم لابنه المغیرة بن المهلب المتوفی سنة 82 ه و هی حائیة رائعة و قال «و قد أخذ بعض الشعراء معنی البیت الثالث و الرابع فقال:
إحملانی إن لم یکن لکما عقر ... (و ذکر البیتین) ثم قال: «و صاحب هذین البیتین هو الشریف أبو محمد الحسن بن محمد بن علی ابن أبی الضوء العلوی الحسینی نقیب مشهد باب التبن ببغداد و هما من جملة قصیدة یرثی بها النقیب الطاهر والد عبد اللّه ذکر ذلک العماد الکاتب فی الخریدة» .

سنة 541 ه

38- و فی سنة 541 توفی الشیخ أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن أحمد ابن السلّال الوراق، قال السمعانی فی الأنساب: «السلّال هذه النسبة إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 88
عمل السلّة و بیعها و هو شی‌ء یعمل من الحلفاء و لعل بعض أجداد المنتسب إلیه کان یعملها. و أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ابن السلّال الوراق، من أهل کرخ بغداد و کان له دکان عند باب النّوبی یبیع فیه الحبر و یکتب الرقاع، و کان شیخا مسنّا جلدا، غیر أنه کان متشیّعا، قلیل الصلاة - علی ما قیل- سمعت أبا الفضل محمد بن ناصر الحافظ یقول:
کنت أمشی إلی صلاة الجمعة و قد أغلقوا باب النوبیّ و ضاق الوقت و أبو عبد اللّه ابن السلّال قاعد علی دکانه، فارغ البال ما علی قلبه من صلاة الجمعة شی‌ء. سمع أبا جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة و أبا الغنائم عبد الصمد بن علی ابن المأمون و أبا الحسن جابر بن بشر المحبوبی و تفرد بالروایة عن أبی علی محمد بن وشاح الزینبی و أبی بکر أحمد بن محمد بن سیاوش الکازرونی. کتبت عنه و کنت أقرأ علی باب دکانه بباب النوبیّ و کان عسرا سی‌ء الأخلاق، کنا نسأله أن یدخل المسجد لنقرأ علیه فما کان یجیب إلی ذلک فکنا نقرأ علی باب دکانه بالشارع و یقف أصحابنا و أقف أنا فی بعض الأوقات و فی بعضها یجلسنی بین یدیه، و اللّه تعالی یرحمنا و إیاه و یتجاوز عنا و عنه. و کانت ولادته فی شهر رمضان سنة 447 بالکرخ و توفی فی جمادی الأولی سنة 541 و دفن بمقابر قریش بالقرب من قبر أبی یوسف القاضی».
و ذکره ابن الجوزی فی وفیات سنة 541 بما لا یخرج عن أقوال السمعانی و زاد أنه تفرد بالروایة عن أبی الحسن ابن البیضاوی و أنه سمع منه قال:
«و کان شیخنا ابن ناصر لا یرضی عنه فی باب الدین و قال شیخنا أبو بکر (محمد) بن عبد الباقی کذلک» و کان السمعانی قد ذکره فی «الحبّار» من أنسابه قال: «و شیخنا أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن أحمد ابن السلّال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 89
الحبّار، شیخ مسنّ یبیع الحبر عند باب النوبیّ ببغداد» و ذکر شیوخه و قال:
«و کان یتشیع و کنا نقرأ علیه فی دکانه و کنا نقول له أبو عبد اللّه الحبری» و ذکر مولده ثم ذکره فی «الحبری» من الأنساب أیضا قال: «و أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن أحمد ابن السلّال الورّاق، شیخ مسنّ من أهل الکرخ، کان یبیع الحبر عند باب النوبی و کنت أکتب عنه ... و قد ذکرته فی ترجمة الحبّار».

سنة 544 ه

39- و أبو الحسین عبید اللّه بن أبی الحق علی بن المعمّر بن محمد بن المعمّر بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبید اللّه بن علی بن عبید اللّه بن علی ابن عبید اللّه بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب- ع- العلوی الحسینی:
قال محب الدین بن النجار هو «أخو أبی عبد اللّه أحمد الذی قدمنا ذکره و کان الأسنّ و کان أبوهما وجدهما نقیبی الطالبیین ببغداد و سیأتی ذکرهما إن شاء اللّه، کان أبو الحسین هذا متأدبا حسن الطریقة أدرکه أجله شابا و قد روی عنه ابن السمعانی أناشید علقها عنه و کان أسنّ منه، أخبرنا شهاب الحاتمی بهراة قال أنشدنا أبو سعید ابن السمعانی قال أنشدنی أبو الحسین عبید اللّه بن علی بن المعمّر لأبی تمّام:
ألا یا خلیلیّ اللذین کلاهماملبیّک عند النائبات نجیب
أعینا علی ظبی جعلت نصیبه‌و ما لی فیه ما حییت نصیب
بلغنی أن أبا الحسین النقیب أبی الحسن ولد فی شعبان سنة تسع و خمسمائة أخبرنی الحاتمی قال أنبأنا ابن السمعانی قال: عبید اللّه (؟؟؟) بن المعمّر کان حسن الأخلاق و الصحبة متوددا لطیفا متواضعا، سمع بقراءتی الحدیث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 90
و علقت عنه أبیاتا من الشعر، مات یوم الاثنین تاسع صفر سنة أربع و أربعین و خمسمائة و دفن فی مقابر قریش» .

سنة 545 ه

40- و غرس الدولة أبو نصر محمد بن الحسن بن محمد بن علی بن حمدون، و ذکره ابن خلکان فی ترجمة أخیه بهاء الدین أبی المعالی محمد بن الحسن بن حمدون، قال: «و أخوه أبو نصر محمد بن الحسن الملقب غرس الدولة، کان من العمال و ممن یعتقد فی أهل الخبر و الصلاح و یرغب فی صحبتهم، ولد فی صفر سنة ثمان و ثمانین و أربعمائة و توفی فی ذی الحجة سنة خمس و أربعین و خمسمائة ببغداد و دفن بمقابر قریش و کان والدهما من شیوخ الکتاب و العارفین بقواعد التصرّف و الحساب و له تصنیف فی معرفة الأعمال، و عمّر طویلا و توفی یوم السبت عاشر جمادی الأولی سنة ست و أربعین و خمسمائة- رحمهم اللّه تعالی أجمعین-» .
و قال ابن الفوطی: «غرس الدولة أبو نصر محمد بن الحسن بن علی ابن حمدون البغدادی المنشی‌ء، أخو الصاحب بهاء الدین أبی المعالی محمد و کان ینوب فی دیوان الرسائل عن سدید الدولة (محمد بن عبد الکریم) ابن الأنباری و کتب فی الدیوان من سنة ثلاث عشرة و خمسمائة إلی أن مات و ذکره أبو سعد ابن السمعانی و قال: سمع أبا عبد اللّه الحسین بن علی ابن البشری، کتبت عنه بافادة شیخنا أبی الحسن علی بن أحمد الیزدی، قال:
و سألته عن مولده فقال: ولدت فی صفر سنة ثمان و ثمانین و أربعمائة، و ذکر أحمد. صالح بن شافع فی تاریخه أنه توفی فی ذی الحجة سنة خمس و أربعین و خمسمائة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 91

سنة 547 ه

41- قال ابن الجوزی فی وفیات سنة 547: «محمد بن هبة اللّه بن محمد بن علی بن المطلب الکرمانی أبو عبد اللّه ابن الوزیر أبی المعالی، سمع ثابتا و أبا غالب البقال و ابن نبهان و ابن ثابت و غیرهم، و حدّث ببعض مسموعاته و کان ظاهر الکیاسة، حسن الأخلاق، و توفی لیلة الجمعة رابع عشری المحرم و دفن فی مقابر قریش بالحضرة» .

سنة 552 ه

42- و أبو القاسم علی بن صدقة بن علی بن صدقة الوزیر الملقب قوام الدین، قال ابن الدبیثی: «ولاه الامام المقتفی لأمر اللّه صدریة المخزن المعمور فی جمادی الأولی سنة سبع و ثلاثین و خمسمائة ثم استوزره فی یوم السبت ثالث عشر جمادی الأولی سنة اثنتین و أربعین و خمسمائة و خلع علیه و رکب إلی الدیوان العزیز و معه أرباب المناصب و الولاة و لم یزل علی ذلک إلی أن عزل فی سنة أربع و أربعین و خمسمائة و قد سمع شیئا من الحدیث من أبی غالب أحمد بن الحسن بن البناء و غیره و ما أعلم أنه حدّث بشی‌ء لأن الروایة لم تظهر عنه. توفی یوم الجمعة ثالث عشری و قیل خامس عشری جمادی الأولی سنة اثنتین و خمسین و صلی علیه فی الیوم المذکور بجامع القصر الشریف، و دفن بالمشهد بالجانب العربی بحضرة الإمام موسی بن جعفر- علیهما السلام - و ترجم له بایجاز مخلّ أبو الفرج بن الجوزی و قال: «صلی علیه فی جامع القصر قبل صلاة الجمعة و قبر بمشهد باب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 92
التبن» و ذکر فی حوادث التاریخ عدة أخبار، فکأنه استغنی بها عند ذکرها فی الترجمة.
و ترجم له ابن الفوطی فی الملقبین بقوام الدین قال «قوام الدین أبو القاسم علی بن صدقة بن علی بن صدقة البغدادی الوزیر، ذکره الحافظ محب الدین أبو عبد اللّه بن النجار فی تاریخه و قال: «هو ابن أخی الوزیر جلال الدین أبی الحسن بن صدقة و قال: ولاه الإمام المقتفی النظر بالمخزن فی جمادی الأولی سنة اثنتین و أربعین و خمسمائة و لم یزل علی ولایته إلی أن عزل سنة أربع و أربعین و کان قد سمع الحدیث من أبی غالب أحمد بن الحسن بن البنّاء و غیره و توفی فی جمادی الأولی سنة اثنتین و خمسین و خمسمائة» .
و ترجمة ثانیة فی الملقبین بالمؤتمن و نسی الترجمة الأولی قال:
«مؤتمن الدولة قوام الدین أبو القاسم علی بن صدقة البغدادی، ذکره شیخنا جمال الدین أبو الفضل بن المهنا العبیدلیّ فی کتاب وزراء الزوراء و قال:
کان مؤتمن الدولة قوام الدین من بیت مشهور فی الوزارة، خدم صدرا بالمخزن و نقل إلی الوزارة یوم السبت ثالث عشر جمادی الأولی سنة اثنتین و أربعین و خمسمائة بتقدم السلطان أبی الفتح مسعود بن ملکشاه ثم إن الخلیفة تقدم إلی أستاذ الدار و مفتن الخادم أن یصیرا إلی الدیوان و یقبضا علی مؤتمن الدولة، فقبضا علیه و حمل ماشیا إلی الدار أستاذ الدار، و کان سبب ذلک أنه کان کثیر المیل إلی أعوان السلطان مسعود و إشارته إلی الخلیفة أن لا یجنّد، و صادره و عفا عنه و کانت وفاته فی شهر ربیع الأول سنة اثنتین و خمسین و خمسمائة عن نیف و ستین سنة ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 93
و ذکره ابن الطقطقی قال: «بیته مشهور بالوزارة معروف بالریاسة و کان مؤتمن الدولة حسن الصورة و الخلق، لکن لا علم عنده بقوانین الوزارة، و کان کثیر التعبّد و الصدقة، استوزره الخلیفة المقتفی بامر اللّه، قالوا: کان هذا مؤتمن الدولة الوزیر قلیل الاشتغال بالعلم و کان ضعیف القراءة فی الکتب، و کان قد أدمن فی قراءة جزء واحد من أجزاء القرآن و فی کتاب واحد من کتب الأدب، فکان لا یزال الجزء المذکور و الکتاب بین یدیه یقرأ فیها قراءة جیدة، فخفی علی الناس حاله مدة وزارته، فلما مات ظهر ذلک و لم یکن له من السیرة ما یؤثر ».

سنة 588 ه

43- و سدید الدولة أبو عبد اللّه محمد بن عبد الکریم بن إبراهیم بن عبد الکریم بن عبد القاهر بن زید بن رفاعة الشیبانی ابن الأنباری الکاتب الرئیسی، قال ابن الدبیثی بعد ذکر اسمه علی النحو الذی نقلناه:
«کاتب الانشاء بالدیوان العزیز- مجّده اللّه- کاتب فاضل له معرفة حسنة بالأدب و له ترسل و شعر جید، أقام بدیوان الانشاء المعمور مستخدما فیه أکثر من خمسین سنة و ناب فی دیوان المجلس عن الوزارة فی بعض الأزمنة و نفّذ فی الرسائل إلی الشام و خراسان مرارا، و کان مقدّما مأمونا، محمود المصادر و الموارد، له الرأی الصائب، و التدبیر الحسن، و السفارة الحمیدة، و کانت بینه و بین أبی محمد القاسم بن علی الحریری البصری مکاتبات و رسائل هی موجودة مدونة حسنة الألفاظ و المعانی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 94
سمع شیئا من الحدیث فی شبابه لا صبوته من أبی محمد عبد اللّه ابن أحمد السمرقندی و أبی القاسم هبة اللّه بن محمد بن الحصین و روی عن أبی عبد اللّه محمد بن أحمد الخیاط الدمشقی، و أبی عبد اللّه محمد بن نصر القیسرانی شیئا من شعرهما. سمع منه أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع و الشریف علی بن أحمد الزیدی و أبو الفرج المبارک بن عبد اللّه بن النقور و عبد المحسن بن خطلخ الأمیری المعروف بطغدی و غیرهم. أخبرنا أبو الفرج المبارک بن عبد اللّه بن محمد المعدّل إذنا قال قری‌ء علی سدید الدولة أبی عبد اللّه محمد بن عبد الکریم بن إبراهیم الأنباری و أنا أسمع- و أسنده الی أبی هریرة- قال قال رسول اللّه- ص-: إن اللّه عز و جل یرضی لکم ثلاثا و یکره لکم ثلاثا: یرضی لکم أن تعبدوه و لا تشرکوا به شیئا و أن تعتصموا بحبل اللّه و لا تفرّقوا و أن تناصحوا من ولاه اللّه أمرکم، و یکره لکم قیل و قال و کثرة السؤال و إضاعة المال .. سمعت أبا الفتح أحمد بن علی بن الحسن الواعظ یقول: کتب سدید الدولة أبو عبد اللّه ابن الأنباری إلی بعضهم و سمعته منه عقیب مرض لحقه: وهب اللّه له عافیة غیر (غافیة) و سلامة من الأدواء سالمة ما رقّت الشمائل و راقت الشمائل. و ذکر صدقة بن الحسین الناسخ فی تاریخه أن سدید الدولة ابن الأنباری توفی ما بین الظهر و العصر من یوم الاثنین تاسع عشر رجب سنة ثمان و خمسین و خمسمائة، و صلی علیه یوم الثلاثاء یجامع القصر الشریف و حضر الصلاة علیه الوزیر یحیی بن هبیرة، و أرباب المناصب و دفن بالجانب الغربی بالمشهد - یعنی مشهد الإمام موسی- رحمه اللّه- و کان من مشایخ الدولة القدماء و کان دون التسعین بسنة أو سنتین و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 95
فیه فضل و أدب. و قال غیره: مولده یوم الاثنین سادس ذی القعدة سنة سبعین و أربعمائة- رحمه اللّه و إیّانا ».
و ذکره أبو الفرج بن الجوزی قال: «کان شیخا ملیح الشیبة ظریف الصورة فیه فضل و أدب و انفرد بانشاء المکاتبات، و بعث رسولا إلی سنجر و غیره من السلاطین و خدم الخلفاء و السلاطین من سنة ثلاث و خمسمائة حتی قارب التسعین ثم توفی یوم الاثنین تاسع عشر رجب و صلی علیه یوم الثلاثاء یجامع القصر و حضر الوزیر و غیره من أرباب الدولة و دفن بمشهد باب التبن ».
و ذکر أحمد بن یوسف الأزق الفارقی جدّه إبراهیم بن عبد الکریم الأنباری قال فی حوادث سنة 455 «قیل و قد کان ورد إلی میافارقین الأجل أبو الفضل إبراهیم بن عبد الکریم بن الأنباری و کان ناظرا فی ولایة شرف الدولة قرواش (العقیلی) و انفصل عنه و قصد نظام الدین (نصر بن نصر الدولة المروانی) و أقام عنده مدة فلما سار الوزیر فخر الدولة (ابن جهیر) إلی الخلیفة (القاسم بأمر اللّه) استوزره نظام الدین و استقر فی الوزارة و کان کافیا ذا رأی و عقل و سداد ». ثم قال الفارقی فی حوادث سنة 458: «قیل و فی سنة ثمان و خمسین و أربعمائة مات الوزیر أبو الفضل إبراهیم بن الأنباری و دفن عند مشهد علی- ع- فی الجبل فی أزج عمله له فی غربی المسجد و ولی ولده أبو طاهر سلامة الوزارة» . و کان للوزیر المذکور أخ اسمه أبو الغنائم و یلقب بالسّدید و له ولدان الأکبر أبو القاسم و الأصغر أبو سعد و لابن أخیه ولد هو أبو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 96
عبد اللّه محمد بن السدید و أنا أحسبه سدید الدولة بن الأنباری فقد ذکرنا أن مولده سنة «470» و السنة التی ورد فیها ذکر هؤلاء الأبناء هی سنة «488» و فی سنة «489» قتل صبرا الوزیر أبو طاهر سلامة ابن الأنباری و طیف برأس الوزیر و ابنه و أخیه بالمدینة ثم دفنت الأبدان و الرؤوس فی قبر، قال الفارقی: و بقی النور ینزل علی ذلک القبر فی اللیل مدة طویلة و کان یراه جمیع الناس، و کان حدثنی بهذا الحدیث الأجل السعید مؤید الدین سدید الدولة أبو عبد اللّه محمد الأنباری قال:
لما سلّمت أخت جبق عمی و ابنه أبا القاسم إلی السلطان بقیت و ابن عمی أبو سعد عندها أیاما ثم خرجنا من خرتبرت و نفّذت معنا من أوصلنا إلی ماردین فدخلنا إلی ماردین و أخذنا الأمیر الجالستری و کان والیا بماردین فأقمنا عنده ثم جهّزنا و نزلنا إلی نصیبین فأقمنا بها مدة و نزلنا إلی بغداد و خدمت بدیوان الخلیفة و لقبت بسدید الدولة و نفّذت فی سنة اثنتین و تسعین و أربعمائة إلی میافارقین و استحضرت جثة أبی و رأسه و رأس عمی و ابنه إلی بغداد و بنیت علی ذلک تربة بمشهد باب التبن فی مقابر قریش بالجانب الغربی من بغداد عند موسی بن جعفر- رحمة اللّه علیهما- و دفنت الجمیع هناک و بقیت أتردد فی خدمة المستظهر وکیل الدار مدة ینفّذنی فی الرسائل إلی الجهات و بقیت کذلک إلی سنة سبع و خمسمائة.
و تلقّب بمؤید الدین و ناب فی الوزارة للمسترشد و للمقتفی و دعی للوزارة فی أیام المسترشد و أیام المقتفی و لم یتولها و ترقی إلی أعلی المنازل، و بقی فی دیوان الانشاء مدة ولایة المسترشد و المستظهر و المقتفی و فی أیام المستنجد توفی فی شعبان سنة ثمان و خمسین و خمسمائة- رضی اللّه عنه -».
و ذکره الصلاح الصفدی قال: «سدید الدولة الشیبانی المعروف بابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 97
الأنباری کاتب الانشاء بالدیوان العزیز، أقام بدیوان الانشاء خمسین سنة و ناب فی الوزارة و نفذ رسولا إلی ملوک الشام و بینه و بین الحریری صاحب المقامات رسائل مدونة، عاش نیفا و ثمانین سنة، سمع و روی و کان رائق الخط و اللفظ مدحه الغزّی و الأرجانی و القیسرانی. توفی سنة ثمان و خمسین و خمسمائة، و ذکر أبو بکر عبید اللّه بن علی المارستانی أنه سمع من أبی عبد اللّه أحمد بن محمد الخیّاط الدمشقی و مؤید الدین الطغرائی دیوانی شعرهما و أنه قرأهما علیه، ذکر ذلک محب الدین ابن النجار فی ذیله ... و من شعر سدید الدولة:
یا قلب إلام لا یفید النصح‌دع مزحک کم هوی جناه المزح
ما جارحة منک خلاها جرح‌ما تشعر بالخمار حتی تصحو
و خرج مع المسترشد لما سافر إلی لقاء مسعود (السلجوقی) و أسر و ترسّل عن الخلیفة إلی الملوک و من شعره أیضا:
لا تیأسنّ إذا حویت فضیلة من العلم من نیل المرام الأبعدبینا تری الابریز یلقی فی الثری
إذ صار تاجا فوق مفرق أصید و من شعره أیضا:
یا ابن الکرام نداء من أخی ثقةتطویه نحوک أشواق و تنشره
ما اختار بعدک لکن للزمان یدعلی خلاف الذی یهواه تجبره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 98
و من شعره:
إن قدم الصاحب ذا ثروةو عاف ذا فقر و إفلاس
فاللّه لم یدع إلی بیته‌سوی المیاسیر من الناس
قال مصطفی جواد: و سدید الدولة ابن الأنباری من أقدم من نظم علی وزن (الدوبیت) الفارسیّ إن لم یکن أقدمهم،.
قال العماد الأصفهانی الکاتب: «الأجل سدید الدولة أبو عبد اللّه محمد بن عبد الکریم ابن الأنباری منشی‌ء دار الخلافة، من بیت السؤدد و الفضل و هو شیخ الدولة، کتب لخمسة من الخلفاء و توفی فی الأیام المستنجدیة، سنة 558 و ولی ولده (محمد بن محمد بن عبد الکریم) مکانه، و کان غزیر الفضل، رائق الخط و اللفظ، و لمکان فضیلته لم یخل دیوان من مدحه کالغزی و الأرجانی، فاضل مفضال، منشی‌ء بالحقیقة لا بالأفکار . عارف بنقد الشعر و جهابذته، و کلّ ما زیّف علی محک انتقاده، أذن الدهر بکساده، و کنت أهابه من أن أستنشده فأثبت شیئا من رباعیاته الخالبة للخلب السالبة للّب فمنها: یا قلب إلام النصح» و ذکر الرباعی الذی قدمنا نقله ثم قال: «و قال:
الدهر یعوقنی عن الالمام‌مع ما أنی إلی التلاقی ظامی
لا تأخذنی یما جنت أیامی‌ما ذنب السهم حین یخطی الرامی؟
و قال:
یا ریح تحملی من المهجورشکواه إلی المعسکر المنصور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 99 قولی لمعذبی شبیه الحورما أنت عن الجواب بالمعذور »
و أورد له العماد الکاتب غیر ذلک مما لا یتجاوز فی قافیته البیتین.
و تکلم الأستاذ مصطفی صادق الرافعی علی «الدوبیت» قال:
«و هذا الاسم من کلمتین إحداهما فارسیة و هی دو بمعنی اثنین، و الأخری بیت العربیة، و سموه کذلک لأنه لا یکون أکثر من بیتین، و قد أخذه أدباء العرب عن الفرس و یعرف عندهم بالرباعی ... و لا یعرف أول من استعمل هذا النوع فی العربیّة و لکن نشأته کانت فی بغداد و لا ندری کیف یعدّه ابن خلدون من شعر عامتها، فإذا دخلها اللحن خرجت عن هذه الأسماء إلی أسماء أخری ... و نحن نرجح أنّ هذا النوع لم یکن فی العربیة قبل القرن السابع ، لأننا لم نجده فی شعر أحد قبل ذلک و لا وجدنا إشارة إلیه و لم نجد للشعراء ولعا به إلا فی أواخر تلک المائة و ما بعدها. و الرباعی یعد من المخترعات الحدیثة فی اللغة الفارسیة، لأن أول من وضعه أبو سعید بن الخیر المتوفی سنة 465 و بعضهم یقول إنه کان موجودا قبل ذلک و لا یرجع اختراعه إلی تاریخ معیّن غیر أنّ ممن عرفوا بنظمه أبا جعفر رودکی الشاعر المتوفی سنة 302 حتی أفتن فیه الخیّام و أجاده فاشتهر بما نظمه فیه شهرة بعیدة لأنّه ضمّنه أفکارا سامیة و انتقادات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 100
مرّة ثم أقبل الأدباء علیه من بعده. و قد عارضها فی العربیة سدید الدین الأنباری کما ذکر صاحب خلاصة الأثر (4: 390) و لم یقع لنا شی‌ء من رباعیته ».
قلنا: و قد وهم المجی فی اللقب فهو سدید الدولة لا سدید الدین، و قد وصل إلینا من رباعیته شی‌ء کما قرأت، و کانت وفاة الروذکی سنة 329 لا سنة 302 کما قال الرافعی- رح-.
و وهم ابن خلکان فی ترجمة الصاحب أبی القاسم اسماعیل بن عباد الطالقانی المتوفی سنة 385 ه قال: «و کان الصاحب قد صنع لأصحابه دعوة و أعرض عن غیرهم فعمل سدید الدولة أبو عبد اللّه محمد بن عبد الکریم الأنباری: «إن ندب الصاحب ذا ثروة» و ذکر البیتین المقدم ذکرهما مع إن سدید الدولة توفی سنة «558» فکیف یکون الصاحب ابن عباد هو الصاحب الذی عناه ابن الأنباری؟ ذلک محال. و ذکره ابن الأثیر قال: «کان فاضلا أدیبا تقدم کثیرا عند الخلفاء و السلاطین.
و ذکره ابن العماد الحنبلی فی تاریخه و قال: «الکاتب البلیغ ...
کان ذا رأی و حزم و عقل عاش نیفا و ثمانین سنة و کانت رسائله بدیعة المعانی، متینة المبانی، عذبة المجانی و مدحه الشعراء ». و ذکر ما هو معروف من سیرته و مقدم ذکره فی هذه السیرة، و قال ابن الطقطقی فی تاریخه فی ترجمة الوزیر أبی علی الحسن بن علی ابن صدقة: «کان الوزیر ابن صدقة یوما جالسا فی دست الوزراء فدخل علیه سدید الدولة ابن الأنباری کاتب الانشاء و فی کمّه أبیات قد هجا فیها الوزیر، فسقطت الرقعة من کمّه فمدّ الوزیر یده سریعا و تناولها فکان فیها من جملة أبیات:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 101 أنت الذی کونه فسادفی عالم الکون و الفساد
فلمّا رآها سدید الدولة فی ید الوزیر سقطت قوته خوفا و خجلا، فلما قرأها الوزیر فطن القصّة و صرف الهجو عن نفسه إلی سدید الدولة و قال: أعرف هذه الأبیات و من جملتها:
و لقّبوه السدید جهلاو هو بری‌ء من السّداد
و نظم الوزیر هذا البیت فی الحال، فاستحی السدید ابن الأنباری و أمسک عن الجواب ».
و لسدید الدولة ابن الأنباری أخبار فی حوادث زمانه لأنه کان یقوم بسفارة بین الخلفاء و الملوک و الأمراء.

سنة 561 ه

44- و أبو الحسن علی بن هبة اللّه بن علی بن سهلان البیّع، قال محب الدین ابن النجار بعد ذکر اسمه: «کان ذا مال و ضیاع و نعمة وافرة، سمع أبا بکر محمد بن الحسین المزرقی و أبا نصر غالب بن أحمد ابن محمد الأدمی القاری‌ء و أبا طاهر الخباز الدینوری الشاعر و حدث بالیسیر سمع منه أبو محمد عبد اللّه بن أحمد ابن الخشاب و القاضی أبو المحاسن عمر بن علی القرشی. أخبرنی أبو الحسن محمد بن المحسّن بن هبة اللّه بن محمد الواعظ لفظا و إذنا، أنشدنا أبو الحسن علی بن هبة اللّه ابن علی بن سهلان، أنشدنا الخباز الدینوری لنفسه:
و مشمر الأذیال فی ممروجة متتوج تاجا من العقیان موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 102 بالجاشریة ظلّ یهتف سحرةو یصیح من طرب إلی الندمان
هبّوا إلی شرب الصبوح فانهالصبوحکم لا للصلاة أذانی
طلعت کؤوس الراح فی أیدیهم‌مثل النجوم و غبن فی الأبدان
قرأت بخط القاضی أبی المحاسن عمر بن علی القرشی قال: سألته- یعنی أبا الحسن بن سهلان- عن مولده فقال: فی رجب سنة إحدی و ثمانین و أربعمائة، و توفی یوم الجمعة رابع عشری ذی الحجة سنة إحدی و ستین و خمسمائة. و ذکر أبو الفضل بن شافع وفاته کذلک ثم قال: و دفن بمقابر قریش، و أخبرنی أبو المحاسن الدمشقی أنه قرأ علیه شیئا و ما کان اهلا لذلک- سامحنا اللّه و إیاه. هکذا رأیت بخطه .

سنة 561

45- «و فی سنة 561 توفی شمس المعالی أبو الفضائل محمد بن الحسین بن ترکان، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه قال: «من أهل واسط، من بیت أهل کتابة و ریاسة، سکن أبو عبد اللّه (والده) و ابنه أبو الفضائل بغداد إلی أن توفیا بها. و أبو الفضائل کان خصیصا بالوزیر أبی المظفر یحیی بن محمد ابن هبیرة، قریبا منه، لم یزل فی خدمته و صحبته حتی توفی- أعنی الوزیر- و قد سمع کثیرا مما قری‌ء فی مجلس الوزیر من أبی الوقت (عبد الأول) السجزی و غیره، توفی شابا. قال أحمد ابن شافع فیما قرأت بخطه: توفی أبو الفضائل ابن ترکان یوم الاثنین ثانی عشر شعبان سنة إحدی و ستین و خمسمائة و دفن عند أبیه بالمشهد بمقابر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 103
قریش ».
و ذکر ابن رجب البغدادی أن أبا الفضائل المذکور کان حاجب الوزیر ابن هبیرة .

سنة 562

46- و بهاء الدین أبو المعالی محمد بن الحسن بن محمود بن علی بن حمدون الکاتب، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخ بغداد المذیل قال: «محمد ابن الحسن بن محمد بن علی ابن حمدون أبو المعالی بن أبی سعد الکاتب، شیخ فاضل له معرفة حسنة بالأدب و الکتابة، من بیت مشهور بالرئاسة و الفضل هو و أبوه و أخواه أبو نصر و أبو المظفر. و أبو المعالی هذا جمع کتابا حسنا سمّاه «التذکرة» یحتوی علی فنون من العلم أجاد فیه و أحسن جمعه. و کان له تقدم فی أیام الامام المستنجد باللّه- رضی اللّه عنه- و اختصاص بخدمته و ولی دیوان العرض مدّة، ثم دیوان الزمام فی سنة ثمان و خمسین و خمسمائة، و روی عنه إنشادا، سنذکره فی ترجمته إن شاء اللّه. سمع أبا القاسم إسماعیل بن الفضل الجرجانی و غیره و حدّث عنهم، سمع منه ولده أبو سعد و أحمد بن طارق القرشی (الکرکی) و أبو المعالی أحمد بن یحیی بن هبة اللّه و أبو العباس أحمد بن الحسن العاقولی و غیرهم، قرأت علی الأجل أبی سعد الحسن بن محمد بن الحسن بن علی ابن حمدون قلت له: أخبرک والدک أبو المعالی محمد بن الحسن قراءة علیه و أنت تسمع. فأقرّ به، قال أنبأنا أبو القاسم إسماعیل بن الفضل ابن اسماعیل التمیمی الجرجانی، قدم علینا بغداد، قراءة علیه و أنا أسمع فی صفر سنة عشر و خمسمائة بالمسجد المعلن المقابل لباب النوبی المحروس-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 104
و أسنده إلی ابن عباس- قال: أمرنا رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم- باسباغ الوضوء و نها- و لا أقول نهاکم- أن نأکل الصدقة و لا ننزی حمارا علی فرس. مولده فی رجب سنة خمس و تسعین و أربعمائة.
ذکر صدقة بن الحسین الناسخ فی تاریخه أن أبا المعالی ابن حمدون توفی یوم الثلاثاء حادی عشر ذی القعدة سنة اثنتین و ستین و خمسمائة، و قال أبو الفضل بن شافع مثل ذلک و دفن بمقابر قریش ».
و ذکره جمال الدین أبو الفرج بن الجوزی فی وفیات سنة «562» قال: «محمد بن الحسن بن محمد بن علی ابن حمدون أبو المعالی الکاتب، کانت له فصاحة و ولی دیوان الزمام مدة، و صنف کتابا سماه التذکرة و توفی فی ذی القعدة من هذه السنة و دفن بمقابر قریش » و قد کان قال فی حوادث سنة 558: «و فی ربیع الأول قبض علی صاحب الدیوان ابن جعفر و حمل إلی دار أستاذ الدار و وکّل به و جعل ابن حمدون صاحب الدیوان ».
و ترجم له ابن خلکان ترجمة حسنة و ذکر ما یؤکد أنه سجن و توفی مظلوما لهفوة لم یتعمدها و کیف یتعمد الانسان ما یجلب علیه البلاء و الفناء؟
قال بعد ذکر اسمه: «الملقب کافی الکفاة بهاء الدین البغدادّی، کان فاضلا ذا معرفة تامة بالأدب و الکتابة، من بیت مشهور بالرئاسة و الفضل هو و أبوه و أخواه أبو نصر و أبو المظفر. سمع أبو المعالی من أبی القاسم إسماعیل بن الفضل الجرجانی و غیره، و صنف کتاب التذکرة و هو من أحسن المجامیع، یشتمل علی التاریخ و الأدب و النوادر و الأشعار و لم یجمع أحد من المتأخرین مثله، و هو مشهور بأیدی الناس، کثیر الوجود،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 105
و هو من الکتب الممتعة. ذکره العماد الأصبهانی فی کتاب الخریدة فقال:
کان عارض العسکر المقتفوی ثم صار صاحب دیوان الزمام المستنجدی، و هو کلف باقتناء الحمد، و ابتناء المجد، و فیه فضل و نبل، و له علی أهل الأدب ظل، و ألف کتابا سماه التذکرة جمع فیه الغث و السّمین، او المعرفة و النکرة، فوقف الامام المستنجد علی حکایات ذکرها نقلا من التواریخ توهم فی الدولة غضاضة، و یعتقد للتعرض بالقدح فیها عراضة، فأخذ من دست منصبه و حبس، و لم یزل فی نصبه إلی أن رمس، و ذلک فی أوائل سنة اثنتین و ستین و خمسمائة، و أنشدنی لنفسه لغزا فی دوحة الخیش:
و مرسلة معقودة دون قصدهامقیّدة تجری حبیس طلیقها
تمرّ حفیف الریح و هی مقیمةو تسری و قد سدّت علیها طریقها
لها من سلیمان النبی وراثةو قد عزیت نحو النبیط عروقها
إذا صدق النوء السماکیّ أمحلت‌و تمطر و الجوزاء دال حریقها
تحیتها إحدی الطبائع إنّهالذلک کانت کل روح صدیقها
و أورد له أیضا:
و حاشی معالیک أن تستزادو حاشی نوالک أن یقتضی
و لکنما أستزید الحظوظو إن أمرتنی النهی بالرضا
و أورد له أیضا:
یا خفیف الرأس و العقل معاو ثقیل الروح أیضا و البدن
تدعی أنّک مثلی طیّب‌طیب أنت و لکن بلبن
انتهی کلام العماد. و قال غیره: إنه سمع الحدیث کثیرا و روی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 106
عن الامام المستنجد قول أبی حفص الشطرنجی فی جاریة حولاء:
حمدت إلهی إذ بلیت بحبّهاعلی حول یغنی عن النظر الشزر
نظرت الیها و الرقیب یخالنی‌نظرت إلیه فاسترحت من العذر
و هذا من المعانی النادرة العجیبة. و کانت ولادة ابن حمدون المذکور فی رجب سنة خمس و تسعین و أربعمائة، و توفی یوم الثلاثاء حادی عشر ذی القعدة سنة اثنتین و ستین و خمسمائة و دفن یوم الأربعاء بمقابر قریش ببغداد، و أخوه أبو نصر محمد بن الحسن الملقب عز الدولة کان من العمال و ممن یعتقد فی أهل الخیر و الصلاح و یرغب فی صحبتهم. ولد فی سنة ثمان و ثمانین و أربعمائة و توفی فی ذی الحجة سنة خمس و أربعین و خمسمائة ببغداد و دفن بمقابر قریش و کان والدهما من شیوخ الکتاب العارفین بقواعد التصرف و الحساب و له تصنیف فی معرفة الأعمال و عمّر طویلا و توفی یوم السبت عاشر جمادی الأولی سنة ست و أربعین و خمسمائة- رحمهم اللّه تعالی- أجمعین ».
و ذکره ابن الأثیر فی حوادث سنة «562» قال: «و فیها توفی أبو المعالی محمد بن الحسن ابن حمدون الکاتب ببغداد و کان علی دیوان الزمام، فقبض علیه فمات محبوسا » و قال ابن الفوطی: «کافی الدولة بهاء الدین أبو الفضل محمد بن الحسن ابن حمدون البغدادی العارض.
تقدم ذکره فی باب الباء ».
و ترجم له ابن تغری بردی نقلا من وفیات ابن خلکان و قال فی کتاب تذکرة ابن حمدون: «وقفت علیه و هو فی غایة الحسن» و عزا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 107
إلی ابن خلکان أنه ذکر أن وفاته کانت سنة «575» ه و لیس ذلک بصحیح. و خلّط ابن العماد الحنبلی فی ترجمته تخلیطا عجیبا فهو بعد أن ذکر وفاته فی سنة 562 ه و قال: «و فیها محمد بن الحسن ابن حمدون صاحب التذکرة الحمدونیة. ولاه المستنجد دیوان الزمام و وقف المستنجد علی کتابه فوجد فیه حکایات توهم غضاضة من الدولة فأخذ من دست منصبه و حبس إلی أن رمس ». قال فی حوادث سنة «608» ناقلا من کتاب العبر فی خبر من عبر للذهبی و مکملا و معقبا: «و فیها ابن حمدون صاحب التذکرة أبو سعد الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد ابن حمدون البغدادی ، کاتب الانشاء للدولة قاله فی العبر فکناه بأبی سعد و جزم بوفاته فی هذه السنة قال ابن خلکان: أبو المعالی محمد بن أبی سعد الحسن بن محمد بن علی ابن حمدون الکاتب الملقب کافی الکفاة بهاء الدین البغدادی» و استمر فی استخلاص کلام ابن خلکان فی ترجمة والد أبی سعد لا ترجمة أبی سعد، و کان السبب فی خلطه بین ترجمة الابن و الوالد نسبته الذهبی کتاب التذکرة إلی ابن مؤلفها أبی سعد الحسن المذکور، ثم قال ابن العماد فی آخر تخلیطه: «انتهی ما أورده ابن خلکان ملخصا فانظر التناقض بین کلامه و کلام العبر»؟ و فی الحقیقة أننا لم نجد تناقضا بل وجدنا غلطا فی نسبة التذکرة.
و کتاب التذکرة الحمدونیّة من الکتب الجامعة الرائقة و أجزاؤه و مجلداته مفرقة فی خزائن الکتب الخطیّة فی العالمین کخزائن استانبول، و طبع منها فصل فی القاهرة، و لم یعثر علیها کاملة فی خزانة واحدة و لا أظنّها کاملة الوجود مع تصریح ابن خلکان بأنها کانت فی أیدی الناس بعصره.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 108

سنة «568» ه

47- و یزدن الترکی الأمیر القائد قال ابن الجوزی: «کان من کبار الأمراء و تحکم فی هذه الدولة و تجرّد للتعصّب فانتشر بسببه الرفض تأذی أهل السنّة، فمرض أیاما بقیام الدم و توفی فی ذی الحجة من هذه السنة و دفن فی داره بباب العامة ثم نقل إلی مقابر قریش ». و قال عز الدین بن الأثیر فی حوادث سنة «558» ه تحت عنوان «ذکر إجلاء بنی أسد من العراق» ما هذا نصه «فی هذه السنة أمر الخلیفة المستنجد اللّه باهلاک بنی أسد أهل الحلة المزیدیة لما ظهر من فسادهم و لما کان فی نفس الخلیفة منهم من مساعدتهم السلطان محمدا (السلجوقی) لما حاصر بغداد فأمر یزدن بن قماج بقتالهم و إجلائهم من البلاد، و کانوا بنبسطین؟؟؟ فی البطائح و اللویر فلا یقدر علیهم، فتوجه یزدن إلیهم و جمع عساکر کثیرة من فارس و راجل و أرسل إلی ابن معروف مقدم المنتفق و هو بأرض البصرة، فجاء فی خلق کثیر، و حصرهم و سکر عنهم الماء و صابرهم مدّة، فأرسل الخلیفة یعتب علی یزدن و یعجزه و ینسبه إلی موافقتهم فی التشیع- و کان یزدن یتشیع- فجدّ هو و ابن معروف فی تالهم؟؟؟ و التضییق علیهم و سدّ مسالکهم فی الماء، فاستسلموا حینئذ نقتل منهم أربعة آلاف قتیل و نودی فیمن بقی: من وجد بعد هذا فی الحلّة المزیدیّة فقد حلّ دمه. فتفرقوا فی البلاد و لم یبق منهم بالعراق من یعرف و سلّمت بطائحهم إلی ابن معروف و بلادهم ». و ذکر ابن الأثیر فی حوادث سنة 562 وفاة قماج المسترشدی والد الأمیر یزدن قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 109
«و هو من أکابر الأمراء ببغداد » و ذکره ابن الأثیر فی خبر الائتمار بالخلیفة المستنجد و قتله بالحمام سنة 566 قال: «قیل إن الخلیفة (المستنجد) کتب إلی وزیره مع طبیبه ابن صفیة یأمره بالقبض علی أستاذ الدار و قطب الدین (قیماز المقتفوی) و صلبهما فاجتمع ابن صفیة باستاذ الدار و أعطاه خط الخلیفة- یعنی أمره المحرّر- فقال له: تعود و تقول إننی أوصلت الخط إلی الوزیر. ففعل ذلک و أحضر أستاذ الدار قطب الدین و یزدن و أخاه تنامش و عرض الخط علیهم، فاتفقوا علی قتل الخلیفة، فدخل إلیه یزدن و قایماز العمیدین فحملاه إلی الحمام و هو یستغیث و ألقیاه و أغلقا الباب علیه و هو یصیح إلی أن مات رح- ».
و ذکر وفاة الأمیر یزدن عز الدین ابن الأثیر فی النسخة الأولی من- کتابه و منها نصف محفوظ بدار الکتب الوطنیة بباریس و هو ینتهی بسنة 621، قال فیها: «و فیها- یعنی سنة 568- توفی الأمیر یزدن و هو من کبار أمراء بغداد و کان یتشیع فوقع بسببه فتنة بین السنة و الشیعة بواسط لأن الشیعة جلسوا للعزاء و أظهر السنة الشماتة به. فآل الامر إلی القتال فقتل بینهم جماعة و لما مات أقطع أخوه تنامش ما کان لأخیه و هی مدینة واسط و لقب علاء الدین ». و هذا قتال شنیع آخر للعداوة المذهبیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 110
و ذکره أبو المظفر یوسف المعروف بسبط ابن الجوزی فی ترجمة صدقة بن وزیر الواسطی سنة «557 ه» و قبله جدّه أبو الفرج بن الجوزی قالا : «و بنی صدقة رباطا و اجتمع فی رباطه جماعة فمرض و مات یوم الخمیس ثامن عشری ذی القعدة و صلّی علیه فی میدان الخیل داخل السّور و دفن فی رباطه بقراح القاضی، و بنی یزدن فی رباطه منارة و تعصّب لهم لأجل ما کان یمیل الیه (صدقة) فی التشیع فصار رباطه مقصودا بالفتوح و فیه دفن ». و ذکر ابن الأثیر فی حوادث سنة 568 ه خروجه إلی حرب بنی حزن المفسدین بالعراق و کانت له دار مشهورة .
و العجیب فی أمر هؤلاء الممالیک الأتراک أن أکثرهم یمیلون إلی التشیع بعد تقدّمهم فی السن مع أن أکثرهم کانوا ممالیک للخلفاء العباسیین منذ صباهم، منهم الأمیر مجیر الدین طاشتکین بن عبد اللّه المستنجدی الذی کان أمیر الحاج أکثر من ثلاثین سنة، و توفی سنة 606 و حملت جثته إلی مشهد الامام علی بن أبی طالب- ع-. و سیأتی من تراجمهم ما یؤید قولی هذا.
و نحن لم ننقل وفاة الأمیر یزدن من الکامل المطبوع الطبعة المشتهرة فی العالمین لأنّ فیها نقصا فقد سقطت منها وفاة الأمیر المذکور و التصق بقیة الجزء بحادثة أخری، کما یأتی «و فیها خرج برجم الایوائی فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 111
جمع من الترکمان فی حیاة ایلدکز و تطرّق أعمال همذان و نهب الدینور و استباح الحریم و سمع ایلدکز الخبر و هو بنقچوان فسار مجدا فیمن خف من عسکره فقصده فهرب برجم إلی أن قارب بغداد و تبعه ایلدکز فظن الخلیفة (المستضی‌ء بأمر اللّه) أنها حیلة لیصل إلی بغداد فجأة، فشرع فی جمع العساکر و عمل السّور فأرسل إلی ایلدکز الخلع و الألقاب الکبیرة، فاعتذر أنه لم یقصد إلا کفّ (فساد هؤلاء و لم یتعد قنطرة خانقین و عاد و فیها توفی الأمیر یزدن و هو من أکابر أمراء بغداد.»

سنة «571» ه

48- و أبو تراب علی بن علی بن الحسن النیسابوری الأصل الواسطی المولد، البغدادی الدار الفقیه الشافعی، قال ابن الدبیثی بعد ذکر اسمه علی النحو الذی ذکرته: «أحد الشهود المعدّلین، ولد بواسط و قدم بغداد و استوطنها و تفقه بها علی مذهب الشافعی و صارت له معرفة حسنة بالمذهب و أعاد بالمدرسة النظامیة الدروس لمدرسیها مدة و أقام بها فی الصلوات و شهد عند قاضی القضاة أبی طالب روح بن أحمد بن الحدیثی فی یوم الأحد خامس عشر ربیع الآخر سنة سبع و ستین و خمسمائة، و کان یکتب خطا حسنا و زکّاه العدلان أبو جعفر محمد بن عبد الواحد ابن الصباغ و أبو جعفر هارون بن محمد بن المهتدی باللّه و توفی یوم الخمیس ثالث عشرین رجب سنة إحدی و سبعین و خمسمائة و دفن بالجانب الغربی بمقابر قریش » و أوجز السبکی ترجمته و طوی اسم أبیه قال: «علی ابن الحسن النیسابوری أبو تراب، من فقهاء واسط أصله نیسابوری،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 112
استوطن بغداد و کان فقیها عارفا بالمذهب، کتب الخط الملیح، توفی فی رجب سنة إحدی و سبعین و خمسمائة ».

سنة «574» ه

49- و شهاب الدین أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن صیفی التمیمی المعروف بحیص بیص الشاعر المشهور، ذکره أبو الفرج ابن الجوزی فی وفیات سنة 574 من تاریخه قال: «سمع شیئا من الحدیث و مدح الأکابر و تقدم عندهم علی الشعراء» و ذکر شیئا من شعره، و ذکره العماد الأصفهانی فی الخریدة فقد قال تحت عنوان باب فی محاسن الشعراء: «و أفضلهم الأمیر الهمام شهاب الدین أبو الفوارس سعد بن محمد بن الصیفی التمیمی، من ولد أکثم بن الصیفی، ذو الجزالة و البسالة و الأصالة، جزل الشعر فحله، قد علا محله، و غلا فضله و أطاعه و عر الکلام و سهله » و ذکر شیئا من نثره ثم قال: «و له ابتداءات حسنة مخترعة، و مخالص مستطرفة مبتدعة» و ذکر شیئا منها و قال: «و له فی عمی العزیز مدائح من جملتها قطعة کتبها إلیه باصفهان فی قحط » و أورد کثیرا من شعره یشبه اختیارا من دیوانه، علی حسب حروف الهجاء.
و ترجم له ابن خلکان فی تاریخه قال: «کان فقیها شافعی المذهب، تفقه بالریّ علی القاضی محمد بن عبد الکریم الوزان و تکلم علی مسائل الخلاف إلا أنه غلب علیه الأدب و نظم الشعر و أجاد فیه مع جزالة لفظ و له رسائل فصیحة بلیغة. ذکره الحافظ أبو سعید السمعانی فی کتاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 113
الذیل (ذیل تاریخ بغداد) و حدّث بشی‌ء من مسموعاته و قری‌ء علیه دیوانه و رسائله و أخذ الناس عنه أدبا و فضلا کثیرا و کان من أخبر الناس بأشعار العرب و اختلاف لغاتهم و یقال إنه کان فیه تعاظم و کان لا یخاطب أحدا إلا بالکلام العربیّ ».
و قال تاج الدین السبکی: «کان یلقب بالحیص بیص و معناهما الشدة و الاختلاط قیل إنه رأی الناس فی شدّة و حرکة فقال: ما للناس فی حیص بیص؟ فلزمه ذلک لقبا. تفقه بالریّ علی القاضی محمد بن عبد الدائم الوزان و سمع الحدیث من أبی طالب الحسین بن محمد الزینبی و غیره. قال بعضهم: کان صدرا فی کل علم. مناظرا محجاجا ینصر مذهب الجمهور و یتکلم فی مسائل الخلاف، فصیحا بلیغا، یتبادی فی لغته و یلبس زی أمراء العرب و یتقلد بسیفین و یعقد القاف ت له دیوان شعر مشهور. «توفی الحیص بیص سنة أربع و خمسین و خمسمائة ». و کان ابن خلکان قال قبل السبکی: «و إنما قیل له حیص بیص لأنه رأی الناس یوما فی حرکة مزعجة و أمر شدید فقال:
ما للناس فی حیص بیص. فبقی علیه هذا اللقب و معنی هاتین الکلمتین الشدة و الاختلاط، یقول العرب: وقع الناس فی حیص بیص أی شدة و اختلاط ».
و قال عز الدین بن جماعة فی کتاب الأدباء: «قال ابن النجار إن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 114
جد الحیص بیص لأبیه سعدا فارق بنی تمیم قومه و نزل کرخ بغداد و ولد له به ابنه محمد و ابن ابنه سعد، و طلب الحیص بیص العلم و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سافر إلی الریّ و قرأ المذهب و الخلاف هناک علی رئیسها ابن عبد الکریم الوزان الشافعی و ناظر فی مسائل الخلاف و سمع الحدیث و کانت له معرفة تامة بالأدب و اللغة، و له باع فی النظم و النثر مع فصاحة بارعة تامة و حسن خط، فاق بذلک شعراء عصره، و له دیوان، و کان وافر الحرمة عند الخاص و العام، و مدح الخلفاء و الملوک و لقب بملک الشعراء، و کان یلبس القباء و العمامة و یتزیا بزیّ العرب العرباء و یتقعر فی کلامه، و سئل عن مولده فقال: أنا أعیش جزافا . و کان له أخ یلقب ب (هرج مرج) و لهما أخت لقّبها مجّان بغداد (بدخل خرج) و سبب تلقیبه بالحیص بیص أنه قال لبعض أصدقائه باصبهان فی جملة عبارات عامیّة فی جمع من الناس: وقعت معک فی حیص بیص أی شدة و تلا ذلک بالأبیات المتقدمة فی ذم الزمان فلقب بالحیص بیص و صار لا یعرف إلا به ». و الأبیات التی أشار إلیها هی:
لئن أصبحت بینکم مضاعاأبیع الفضل مجانا رخیصا
و عاقنی الزمان عن المعالی‌فصرت إلی حبائله قنیصا
فانی سوف أوقعکم ببأسی‌و إن طال المدی فی حیص بیصا
ثم قال ابن جماعة نقلا من تاریخ ابن النجار: «و ذکر الحیص بیص فی شعره أنه کان من بنی تمیم فبلغ ذلک (هبة اللّه) ابن الفضل الشاعر فمضی إلی أبیه و کان طوابیقیا، فحکی له قول ولده، فقال:
و اللّه ما عرفت أنی من بنی تمیم حتی أخبرنی بذلک ولدی، فعمل فیه ابن الفضل أبیاتا أنشدتها:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 115 کم تبادی و کم تطیل الطراطیر ما فیک شعرة من تمیم
فکل الضب و اقرظ الحنظل الیابس و اشرب ما شئت بول الظلیم
لیس ذا وجه من یضیف و لا یقری و لا یدفع الأذی عن حریم
و یقال إنه لما بلغته هذه الأبیات عمل:
لا تضع من عظیم قدر و إن کنت مشارا إلیک بالتعظیم
فالشریف الکریم ینقص قدرابالتعدّی علی الشریف الکریم
ولع الخمر بالعقول رمی الخمر بتنجیسها و بالتحریم
و روی أنه کان یزعم أنه من ولد الأکثم بن صیفی و لم یترک الحیص بیص عقبا ... ولد الحیص بیص فی سنة اثنتین و تسعین و أربعمائة و توفی فی لیلة الخامس أو السادس من شعبان سنة أربع و سبعین و خمسمائة ببغداد و دفن بمقابر قریش- رح-» . و ذکر ابن خلکان أن وفاته کانت لیلة سادس شعبان من السنة المذکورة قال: «و دفن من الغد بالجانب الغربی فی مقابر قریش- رح- و کان إذا سئل عن عمره یقول: أنا أعیش فی الدنیا جزافا لأنه کان لا یحفظ مولده. و کان یزعم أنه من ولد أکثم بن صیفی حکیم العرب، و لم یترک أبو الفوارس (الحیص بیص) عقبا» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 116
و قال یاقوت الحموی: «سعد بن محمد بن سعد بن الصیفی التمیمی شهاب الدین أبو الفوارس المعروف یحیص بیص، الفقیه الأدیب الشاعر، کان من أعلم الناس بأخبار العرب و لغاتهم و أشعارهم، أخذ عنه الحافظ أبو سعد السمعانی و قرأ علیه دیوان شعره و دیوان رسائله و ذکره فی مذیل (تاریخ مدینة السلام و أثنی علیه و أخذ الناس عنه علما و أدبا کثیرا و کان لا یخاطب أحدا إلا بکلام معرب، و إنما قیل له حیص بیص لأنه رأی الناس یوما فی أمر شدید فقال: ما للناس فی حیص بیص؟ فبقی علیه هذا اللقب. مات لیلة الأربعاء سادس شعبان سنة 574 .. و حدث نصر اللّه بن مجلی قال: رأیت فی المنام علی بن أبی طالب- رضی- فقلت یا أمیر المؤمنین تفتحون مکّة فتقولون: من دخل دار أبی سفیان فهو آمن، ثم یتم علی ولدک الحسین یوم الطف ماتمّ؟ فقال: أما سمعت أبیات ابن الصیفی فی هذا؟ فقلت: لا. فقال: اسمعها منه. فلما استیقظت بادرت إلی دار الحیص بیص. فخرج إلیّ، فذکرت له الرؤیا، فأجهش بالبکاء، و حلف باللّه أنه ما سمعها منه أحد و أنه نظمها فی لیلته هذه ثم أنشدنی:
ملکنا فکان العفو منّا سجیةفلما ملکتم سال بالدم أبطح
و حللتم قتل الأساری و طالماغدونا عن الأسری نعف و نصفح
فحسبکم هذا التفاوت بینناو کل إناء بالذی فیه ینضح»
و کان الحیص بیص یمیل إلی الدولة السلجوقیة و یمدح سلاطینها و وزراءها و کبراءها و یمدح بنی مزید أصحاب الحلة و هم ما هم فی مقاومة الخلافة العباسیة و استمداد السلطة من السلجوقیین، فلما مات السلطان المستبد الجائر الفاتک مسعود بن محمد بن ملکشاه السلجوقی سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 117
«547» هبّ الخلیفة الهمام المقتفی لأمر اللّه للانتقام و التأدیب قال أبو الفرج بن الجوزی و نقله سبطه أیضا: «و قبض علی الحیص بیص الشاعر و أخذ من بیته حافیا ماشیا مهانا و حمل إلی حبس اللصوص «و قال سبطه: «و فیها توفی السلطان مسعود و وصل الخبر إلی بغداد فقبض الخلیفة علی جماعة کانوا ینتمون إلی الأعاجم و یتسمّحون فی حق الخلافة بما لا یلیق علی المنابر و غیرها مثل أبی النجیب السهرودی و الحیص بیص الشاعر. و أهینا. و أخرج أبو النجیب إلی باب النوبی و ضرب سبع درر وردّ إلی الحبس ».
و ذکره السبط فی وفیات سنة «574» قال: «و فیها توفی الحیص بیص الشاعر و کان شاعرا فاضلا مدح الخلفاء و الوزراء و الأکابر و ما خرج علیه هذا الاسم إلا أنه لقی الناس فی شدة و اختلاط فقال: ما للناس فی حیص بیص فلقب به . و قال ابن الدبیثی و هو من أقدم المترجمین له کیاقوت الحموی: «و قد کان فاضلا عالما له معرفة حسنة باللغة العربیة و أشعار العرب. و قد تفقه علی مذهب الشافعی- رح- و تکلم فی مسائل الخلاف، ذکره تاج الاسلام أبو سعد ابن السمعانی فی تاریخه و قال: کان حسن الشعر فصیحا، بلغنی أنه تفقه علی القاضی محمد بن عبد الکریم ابن الوزان بالری، و ذکرناه نحن لأن وفاته تأخرت عن وفاته، قلت: و قد سمع الحدیث ببغداد من الشریف أبی طالب الحسین بن محمد الزینبی و بواسط من المجد محمد بن محمد بن جهور و غیرهما، و له دیوان شعر، أحسن القول فیه و أجاد، و رسائل فصیحة بلیغة جیدة الرصف تامة المعانی، حدّث بشی‌ء من مسموعاته و قری‌ء علیه دیوانه و رسائله و أخذ الناس عنه أدبا و فضلا کثیرا و أدرکته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 118
و لم یقدّر لی به اجتماع فکتبت عنه عن جماعة سمعوا منه. أنشدنی أبو العباس أحمد بن هبة اللّه بن العلاء الأدیب لفظا من حفظه قال أنشدنی أبو الفوارس سعد بن محمد ابن الصیفی لنفسه:
أجنّب أهل الأمر و النهی زورتی‌و أغشی امرءا فی بیته و هو عاطل
و إنی لسمح بالسلام لأشعث‌و عند الهمام القیل بالردّ باخل
و ما ذاک من کبر و لکن سجیّةتعارض تیها عندهم و تساجل
و أنشد أبو المعالی صاعد بن علی بن محمد قال أنشدنی أبو الفوارس ابن الصیفی لنفسه:
علمی بسابقة المقدور ألزمنی‌صمتی و صبری فلم أحرص و لم أسل
لو نیل بالقول مطلوب لما حرم الرؤیا الکلیم و کان الحظ للجبل
و حکمة العقل إن عزّت و إن شرفت‌جهالة عند حکم الرزق و الأجل
مدح ابن الصیفی الأئمة الخلفاء الراشدین - رضی- و الوزراء و الأکابر و اکتسب بالشعر وفرا و ذکرا، و توفی لیلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربع و سبعین و خمسمائة و دفن یوم الأربعاء بالجانب الغربی بمقابر قریش و لا عقب له» .
و ترجم له الصلاح الصفدی فی تاریخه للرجال ، و لم یذکر شیئا یخرج عما نقلناه بغرابة أو طرافة أو زیادة مطلقة، و ذکره ابن العماد الحنبلی فی تاریخه و قال «قال ابن شهبة فی تاریخ اسلام: «و سمّوا ابنه هرج مرج و ابنته دخل خرج ». و هذا باطل فقد أجمع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 119
المؤرخون علی أنه لم یعقب، و ذکرنا أن اللقب الأول أطلق علی أخیه و الثانی علی أخته.
و ترجم له محمد باقر الخونساری فی تاریخه و لم یذکر شیئا لم یذکره من سبقه من المؤرخین سوی قوله: «و بالبال الفاتر أنّ حیص بیص الشاعر من شعراء الشیعة الامامیة الحقة و مذکور فی بعض التراجم المعتبرة و غیرها أیضا بهذه الصفة و لعل فی مدفنه الشریف و أنبائه السابقة إیماءا إلی ذلک فلیتأمل و لیلاحظ ». قلت: إن قول الخونساری بکون الحیص بیص إمامیا مستبعد فقد نقل هو نفسه ککثیر من المؤرخین أنه کان فقیها شافعیا و تفقه علی فقیه شافعی کبیر و تکلم علی مسائل الخلاف ثم غلب علیه الأدب. أمّا أنه دفن فی مقابر قریش فلیس فیه دلیل علی إمامیته فقد دفن عشرات من أهل السنة فی هذه المقبرة خصوصا فی عصور بنی العباس الأخیرة التی منها عصر الحیص بیص. و هؤلاء الدفناء المتأخرون فی مقابر قریش دفنوا هناک إمّا لشدة حبهم لأهل البیت و إمّا لأن أهلهم أرادوا تشریفهم بذلک و إمّا لتقلیدهم أئمة زمانهم من الخلفاء العباسیین کالخلیفة الناصر لدین اللّه فانه کان یحبّ العلویین و قدّمهم و استعملهم فی دولته فوجد فیهم عنصرا صالحا لتأیید الدولة و رعایة مصالحها حتی استمر ذلک فی الدولة العباسیة إلی آخر أیامها. و کان الحیص بیص یحبّ العلویین و قد ذکر له ابن شهر آشوب فی کتابه المناقب قوله:
قوم إذا أخذ المدیح قصائداأخذوه عن طاها و عن یاسین
و إذا عصی أمر الممالک خادم‌نفذت أوامرهم علی جبرین
و وهم قبل الخونساری من ذکر فی لسان المیزان أن الحیص بیص کان إمامی المذهب فقد جاء فیه بعد ذکر ما هو معروف: «و ذکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 120
عبد الباقی بن رزین الحلبی- و کان من رؤوس الأمامیة- أن المذکور- یعنی الحیص بیص- کان مقدما فی عدة علوم و کان لزم الحلة و مدح آل مزید ثم دخل بغداد و مدح الخلیفة و کان إمامی المذهب. و قال ابن النجار: تفقه أیضا علی أسعد المیهنی و تکلم علی مسائل الخلاف و ناظرهم فی الأدب و مهر فی النظم و النثر و خدم الخلفاء بالمدح و کان وقورا وافر الحرمة ... کان یقول: ما عرفت أنی من بنی تمیم حتی أخبرتنی أمی بذاک فی سفرة ». و من أجل هذا الوهم ترجم له ابن حجر فی اللسان.
و ذکره ابن الأثیر فی وفیات سنة 574 من الکامل قال: «و کان قد سمع الحدیث و مدح الخلفاء و السلاطین و الأکابر و شعره مشهور فمنه قوله:
کلما أوسعت حلمی جاهلاأوسع الفحش له فحش المقال (کذا)
و إذا شاردة فهت بهاسبقت مرّ النعامی و الشمال
لا تلمنی فی شقائی بالعلارغد العیش لربات الجمال
سیف عزّ زانه رونقه‌فهو بالطبع غنیّ عن صقال.
و ذکر أبو شامة أن الحیص بیص قصد سیف الدین غازی بن زنکی و امتدحه بقصیدة من جید شعره فأجازه علیها بألف دینار سوی الاقامة و التعهد مدة مقامه بالموصل و سوی الخلع و الثیاب و أول تلک القصیدة:
إلام یراک المجد فی زیّ شاعرو قد نحلت شوقا فروع المنابر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 121
و ذکر أنه مدح الوزیر جمال الدین الاصفهانی المشهور بقصیدة غراء أولها:
یا للصوارم و الرماح الذّبل‌نصرا و من أنجدتما لم یخذل
و مدح زین الدین علی بن بکتکین الترکی و الی الموصل ثم إربل فقال له: أنا لا أدری ما تقول لکن أعلم أنک ترید شیئا. فأمر له بخمسمائة دینار و أعطاه فرسا و خلعة و ثیابا یکون مجموع ذلک ألف دینار .
و ترجم له ابن تغری بردی بما هو موجز ما قدمنا نقله و أورد له قوله:
لم ألق مستکبرا إلا تحوّل لی‌عند اللقاء له الکبر الذی فیه
و لا حلالی من الدنیا و لذتهاإلا مقابلتی للتیه بالتیه
و قال فی ترجمة زعیم الدین یحیی بن جعفر أبی الفضل صاحب المخزن المتوفی سنة «570»: «و قال العماد الکاتب: جلس یوما فی دیوان الوزارة فقام شهاب الدین ابن الصیفی فأنشده:
لکل زمان من أماثل أهله‌برامکة یمتارهم کل معسر
أبو الفضل یحیی مثل یحیی بن خالدیدا و أبوه جعفر مثل جعفر
و ذکر ابن خلکان ناقلا أنه کان بین جلال الدین بن جمال الدین الاصفهانی الکاتب البلیغ مکاتبات قال: «و لو لا خوف الاطالة لذکرت بعض رسائله، و فی جملة ما ذکره (مجد الدین أبو السعادات المبارک ابن الأثیر فی رسائل جلال الدین الاصفهانی) أن حیص بیص کتب الیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 122
علی ید رجل علیه دین رسالة مختصرة ». ثم قال فی ترجمة أبی القاسم هبة اللّه بن الفضل ابن القطان البغدادی الشاعر المقدم ذکره استطرادا فی هذا المجموع: «و له مع حیص بیص ماجریات، فمن ذلک أن الحیص بیص خرج لیلة من دار الوزیر شرف الدین أبی الحسن علی بن طراد الزینبی فنبح علیه جرو کلب، و کان متقلدا سیفا فوکزه بعقب السیف فمات، فبلغ ذلک ابن الفضل المذکور فنظم أبیاتا و ضمّنها بیتین لبعض العرب قتل أخوه ابنا له فقدّم إلیه لیقاد منه فألقی السیف من یده و أنشدهما و البیتان المذکوران یوجدان فی الباب الأول من کتاب الحماسة. ثم إن ابن الفضل المذکور عمل الأبیات فی ورقة و علقها فی عنق کلبة لها أجر و رتب معها من یطردها و أولادها إلی باب الوزیر کالمستغیثة، فأخذت الورقة من عنقها و عرضت علی الوزیر فإذا فیها:
یا أهل بغداد إن الحیص بیص أتی‌بفعلة أکسبته الخزی فی البلد
هو الجری‌ء الذی أبدی تشاجعه‌علی جریّ ضعیف البطش و الجلد
و لیس فی یده مال یدیه به‌و لم یکن ببواء منه فی القود
فأنشدت جعدة من بعد ما احتسبت‌دم الأبیلق عند الواحد الصّمد
أقول للنفس تأساءا و تعزیةإحدی یدی أصابتنی و لم ترد
کلاهما خلف من فقد صاحبه‌هذا أخی حین أدعوه و ذا ولدی
و هذا التضمین فی غایة الحسن و لم أسمع مثله مع کثرة ما یستعمل الشعراء التضمین فی أشعارهم إلا ما أنشدنی الشیخ مهذب الدین أبو طالب محمد المعروف بابن الخیمیّ ...» ثم قال: «و حضر لیلة الحیص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 123
بیص و ابن الفضل المذکور علی السماط عند الوزیر فی شهر رمضان فأخذ ابن الفضل قطاة مشویة و قدّمها إلی الحیص بیص» فقال الحیص بیص للوزیر: یا مولانا هذا الرجل یؤذینی. فقال الوزیر کیف ذلک؟ قال:
لأنه یشیر إلی قول الشاعر:
تمیم بطرق اللؤم أهدی من القطاو لو سلکت سبل المکارم ضلّت»
و کان الحیص بیص تمیمیا کما تقدم فی ترجمته .. و دخل ابن الفضل المذکور یوما علی الوزیر المذکور الزینبی و عنده الحیص بیص فقال:
قد عملت بیتین و لا یمکن أن یعمل لها ثالث لأننی قد استوفیت المعنی فیها. فقال له الوزیر: هاتها. فأنشده:
زار الخیال بخیلا مثل مرسله‌فما شفانی منه الضمّ و القبل
ما زارنی قط إلا کی یواقفنی علی الرقاد فینفیه و یرتحل
فالتفت الوزیر الی الحیص بیص و قال له: ما تقول فی دعواه؟ فقال إن أعادهما سمع الوزیر لهما ثالثا، فقال له الوزیر: أعدهما. فأعادهما، فوقف الحیص بیص لحظة ثم أنشد:
و ما دری أنّ نومی حیلة نصبت‌لطیفه حین أعیا الیقظة الحیل»
ثم قال ابن خلکان فی ترجمة الوزیر ابن هبیرة: «و کانت عوائدهم فی بغداد فی شهر رمضان أن الأعیان یحضرون سماط الخلیفة عند الوزیر و هم یسمون السماط (الطبق) و کان الحیص بیص من جملة من یحضر الطبق، و کانت نفسه أبیّة و همته عربیة، و إذا أحضروا الطبق تخطّاه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 124
و قعد فوقه من أرباب المراتب جماعة لیس فیهم فضل فیجد فی نفسه لذلک مشقة عظیمة فکتب إلی الوزیر عون الدین (ابن هبیرة) یستعفیه من الحضور:
یا باذل المال فی عدم و فی سعةو مطعم الزاد فی صبح و فی غسق
و حاشر الناس أغنتهم فواضله‌إلی مزید من النعماء مندفق
فی کل بیت خوان من مکارمه‌یمیرهم و هو یدعوهم إلی الطبق
فاض النوال فلولا خوف مفعمةمن بأس عدلک نادی الناس بالغرق
و کل أرض بها صوب و ساکبةحتی الوغی من نجیع الخیل و العرق
صن منکبی عن زحام ان مضیت له‌تمکّن الطعن من عقلی و من خلقی
فان رضیت به فالذل منقصةفکم تکلفته حملا فلم أطق
أنا المریض بأحداثی و سورتهاو لیس غیر أبائی حافظ رمقی
وهبه لی کعطایاک التی کثرت‌فالجود بالعزّ فوق الجود بالورق
إن اصفرار مجنّ الشمس من حزن‌علی علاها لمرماها من الأفق
و إن توهم قوم أنه حمق‌فربّما اشتبه التوقیر بالحمق
و أهدی إلی الوزیر عون الدین دواة بلور مرصعة بمرجان و فی مجلسه جماعة منهم الحیص بیص فقال الوزیر: یحسن أن یقال فی هذه الدواة شی‌ء من الشعر، فقال بعض الحاضرین- و کان ضریرا و لم أقف علی اسمه:-
ألین لداود الحدید کرامةیقدّره فی السّرد کیف یرید
و لان لک البلّور و هو حجارةو معطفه صعب المرام شدید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 125
فقال الحیص بیص: إنما وصفت صانع الدواة و لم تصفها. فقال الوزیر: من عیّر غیّر. فقال الحیص بیص:
صیغت دواتک من یومیک فاشتبهاعلی الأنام ببلّور و مرجان
فیوم سلمک مبیضّ بفیض ندی‌و یوم حربک قان «بالدم القانی»
قال ابن خلکان: «ثم وجدت البیتین الأولین فی کتاب الجنان تألیف القاضی الرشید أحمد بن الزبیر الغسانی المذکور فی أوائل هذا الکتاب و نسبهما القاضی الرشید إلی أحمد بن قاسم الصقلی قاضی مصر»
و نقل ابن خلکان سیرة الوزیر ابن هبیرة قول مؤلفها: «و مدحه جماعة من أماثل الشعراء عصره منهم أبو الفوارس سعد بن محمد المعروف بابن صیفی الملقب حیص بیص المقدم ذکره و له فیه مدائح منتخبة فمن ذلک قوله:
یهز حدیث الجود ساکن عطفه‌کما هزّ شرب الحیّ صهباء قرقف
و یرسو إذا طاشت صبا القوم و اغتدت‌صعاب الذّرا من زعزع الخطب ترجف
صروم الدنایا هاجر کلّ سبّةو لکنه بالمجد صبّ مکلف
یضیق بأدنی العار ذرعا و صدره‌بأهوال ما یدنی من الحمد نفنف
إذا قیل عون الدین یحیی تألق ال .....غمام و ماس السّمهری المثقّف»
و قال الحیص بیص یمدح الأمیر عنتر بن أبی العسکر الکردی الجاوانی :
إذا قلقت بیض السیوف ظماءةسقاها فروّاها من الهام عنتر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 126 و لم أرد العبسیّ لکن سمیّه‌و من هو أولی بالثناء و أجدر
فان فخرت عبس بفارس رعبهافان بنی الجاوان أعلی و أفخر
فتی هو للعافی من الجود موردو للخائف الجانی من الخوف مصدر
و فیه یقول:
و إنی و أمسیت سید دارم‌أناضل عن أحسابهم و أقارع
لمثن علی الجاوان من أجل عنترثناءا إذا کتّمته فهو ذائع
فتی الحیّ أمّا عذره فهو ضیق‌لعاف و أمّا جوده فهو واسع
مریر القوی نیطت حمائل سیفه‌إلی باسل تثنی علیه الوقائع
و ذکر العماد الاصفهانی الوزیر کمال الدین محمد بن علی الخازن الرازی و قال: و مدحه الأمیر ابن الصیفی المعروف یحیص بیص قوله:
الحمد للّه الذی نصر العلی‌بعد التجادل بالوزیر الفاضل
و أمات نفس الجور لما أن نشت‌فینا بعاطفة الکریم العادل
و أضاء لیل الحظ بعد ظلامه‌بأغرّ فضفاض الرداء حلاحل
و أعاد نقص المجد فضلا کاملالما تحلّی بالکمال الکامل
حامی ذمار الجار قبل صریخه‌مولی مکارمه بغیر مسائل
جبل احتمال أو ریاح عزیمةبالحزم من أفعاله و النائل
قال: و کانت وزارته فی أوائل سنة ثلاث و ثلاثین (و خمسمائة) ببغداد
ثم قال فی ذکر الوزیر شرف الدین علی بن طراد الزینبی: «ممدوح الأمیر جمال الدین سعد بن الصیفی المعروف بحیص بیص و له فیه قلائد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 127
فرائد و مقطوعات و قصائد و له فیه:
و أخلاف مجد موجفین إلی العلالهم من قصّی حیثما انتسبوا رهط
و ذکر الوزیر مؤید الدین المرزبان بن عبید اللّه قال: «و لحیص بیص یمدحه، أنشدنی لنفسه:
أضاء اللیل من زمن و خطیسار و الوزیر المرزبان
و أنشدنی فیه لنفسه:
و خاطر من حدیث المجد ساورنی‌و اللیل أسحم نائی الصبح غربیب
و ذکر رئیس الدین أبا تغلب بن حماد السهروردی قال: «و هو من ممدوحی الأمیر أبی الفوارس المعروف بحیص بیص، أنشدنی لنفسه فیه فی أول لقائه له:
و لما تلاقینا و للشوق سورةترد جیاد القول و هی بطاء
... و أنشدنی لنفسه فیه یهنئه بالعید و یصف العید:
أقول له و الزهر ینفض عطفه‌و زینته معسولة و شمائله
و ذکر جمال الدین أبا جعفر محمد بن علی الاصبهانی المعروف بالجواد الاصفهانی المقدم ذکره آنفا قال: «و ممن وفد إلیه الأمیر أبو الفوارس سعد ابن محمد بن الصیفی المعروف بحیص بیص، و أنشدنی لنفسه فیه قصیدة أوردت منها:
یا للصوارم و الرماح الذّبل‌نصرا و من أنجدتما لم یخذل
...» . و قال ابن حجر: «و من شعره ما أنشده ابن النجار عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 128
قیصر بن مظفر عنه قال أنشدنا ابن الصیفی لنفسه:
إذا قیل الکریم أخو العطایاو بذّال الرغائب و النوال
فاکرم منه ذو أنف أبیّ‌یصون الوجه عن ذل السؤال»
و قال ابن الدبیثی فی ترجمة المستضی‌ء بأمر اللّه العباسی: «مدحه أبو الفوارس سعد بن محمد بن الصیفی المعروف یحیص بیص یوم ولایته بما أنشدنا أبو شجاع زاهر بن رستم المقری‌ء عنه:
أقول و قد تولی الأمر حبرإمام لم یزل برّا تقیّا
و فاض الجود و الاحسان حتی‌حسبتهما عبابا أو أتیّا
سألنا اللّه یعطینا إمامانسرّ به فأعطانا نبیا
و قال ابن الفوطی فی ترجمة عز الدولة أبی المکارم جعفر بن المطلب:
«کان أستاذ الدار فی أیام المسترشد باللّه و هو الذی مدحه الحیص بیص بقصیدته التی أولها:
لمن الخیل کأمثال السعالی‌عادیات تتمطی بالرجال
ما عجات بغطاریف وغی‌جلبوا الموت بأطراف العوالی»
و قال فی ترجمة عز الدین أبی الفضل عبد السلام بن عبد الغنی المعدّل البغدادی المتوفی سنة 673: «أنشد فی مذاکرة (للحیص بیص):
لا خیر فی مثر بلا شاکرفإنما المال هو الشکر
أحجار سوء جعلت آلةو سرّها النفع أو الضرّ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 129 یصیب من یبذلها أجره‌و للذی یحرزها الوزر
و قال فی ترجمة عز الدولة علی بن هبة اللّه بن محمد بن علی ابن المطلب ناقلا: «کان عز الدولة یعمل للوزارة و تسمو نفسه إلیها فلما مات جلال الدین ابن صدقة وزیر المسترشد و تعداه الأمر و لم تطل حیاته و کان شابا لا یصلح سنّ مثله لها اتفق أنّ عز الدولة کان (ذات یوم) إلی جانب الوزیر ابن صدقة فدخل شهاب الدین الحیص بیص فأنشده قصیدة منها:
ظلّت تعنّفنی شیبی فقلت لهاالشیب أجدر شی‌ء بالذی أسل
فالتفت الوزیر إلی عز الدولة و قال: أتراه یروم الوزارة حتی قال هذا؟
و کانت وفاته فی تاسع عشر رجب سنة ثلاث و عشرین و خمسمائة ».
و قال محب الدین ابن النجار فی ترجمة أبی منصور الفضل بن أحمد المسترشد باللّه العباسی راویا بسنده: «لما عاد الشاعر المعروف بالحیص بیص إلی بغداد، و کان قد هجا الخلیفة المسترشد باللّه- طالبا لذمامه أنشده من شعره فیه:
ثنیت رکابی عن دبیس بن مزیدمناسمها ممّا تغذّ دوامی
فرارا من اللؤم المظاهر بالخناو سوء ارتحال بعد سوء مقام
لیخصب ربعی بعد طول محوله‌بأبیض و ضاح الجبین إمام
فان یشمل الطول العمیم برأفةبلفظ أمان أو بعقد ذمام
فإن القوافی فی البیان صریحةتناضل عن أحسابکم و تحامی
فخرج لفظ الخلیفة نثرا لا نظما «سرعة العفو عن کبائر المجرم استحقار للعفو عنه ». و قال ابن الفوطی فی ترجمة مظفر الدین أبی منصور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 130
یرنقش بن عبد اللّه البازدار الترکی الأمیر: «و مدحه الأمیر شهاب الدین الحیص بیص من قصیدة یصف فرسه:
مظفر الدین إن فاق الرجال فقدفاق الجیاد بیوم الطرد أشهبه
تعلم السبق منه فی مناقبه‌من فرط ماراح یجریه و یرکبه
یرنقش کسلیمان بأشهبه‌إذا غدا و رخاء الریح مرکبه
و ذکر ابن جماعة الکنانی فی تاریخه للأدباء أن الشیخ رشید الدین أبا العباس أحمد بن المفرج بن علی بن مسلمة الدمشقی قال: کتب إلی الادیب أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد ابن الصیفی التمیمی المعروف بحیص بیص (إجازة) بجمیع ما صح و یصح عنده من الروایات و الأشعار و ما یندرج تحت الروایة فمن شعره:
صاحب شرار الناس تسطو به‌یوما علی بعض شرار الزمان
فالرمح لا یرهب أنبوبه‌إلا إذا رکّب فیه السنان
***
مذ سافر القلب من صدری الیه هوی‌ما عاد بعد و لم أسمع له خبرا
هو المسی‌ء اختیارا إذ نوی سفراو قد رأی طالعا فی العقرب القمرا
و ذلک أن المنجمین یرون أن الرجل إذا سافر و القمر فی العقرب أنه لا یرجع ... و من شعره ما قال فی أبی منصور موهوب بن أحمد الجوالیقی و المغربی المعبر یهجوهما:
کل الذنوب ببلدتی مغفورةإلا اللذین تعاظما أن یغفرا
کون الجوالیقی فیها ملقیاأدبا و کون المغربی معبّرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 131 ... أصارنی معدما جفاکم‌و کنت من قبل ذا یسار
ولی افتقار إلی لقاکم‌فعن یمین إلی یسار
***
... و من کان علم النفس مما یسره‌فانی امرؤ قد طال ما ساءنی علمی
و لم أر فی الأشیاء و الحظ شاهدبما أدّعی شیئا أضرّ من الفهم
***
إذا شورکت فی حال بدون‌فلا یغشاک عار أو نفور
تشارک بالحیاة بغیر حلف أرسطالیس و الکلب العقور
***
منّة الدون فی الرقاب حبال‌محصدات کأحبل الحبّاق
غیر أن التحبیق مرد و هذاألم دائم مع الدهر باق
فاذا أخفق الرجاء من الدّون فأکرم بذاک من إخفاق
سورة السمّ فی التعزّز أولی‌من شفاء بالذل فی التریاق
***
اضطرار الحر الکریم إلی الدون و إن جاد غایة الاسراف
لا یشین المجد المنیف و لا ینقص‌قدر الشریف فی الأشراف
هل یعاب العطار یوما إذا أصبح فی حاجة إلی الکنّاف؟
***
لا تلبس الدهر علی غرّةفما لموت الحیّ من بدّ
و لا یخادعک طویل البقافتحسب الطول من الخلد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 132 ینفد ما کان له آخرما أقرب المهد من اللحد!
و قال ابن رجب فی ترجمة الوزیر عون الدین یحیی بن هبیرة من ذیل طبقات الحنابلة: «و قد مدحه الشعراء فأکثروا و قیل إنه رزق الشعراء مالم یرزقه أحد و من أکابرهم الحیص بیص و ابن بختیار الأبله و ابن التعاویذی و العماد الکاتب و أبو علی بن أبی قیراط و منصور النمری و خلق کثیر ..
و من قول الحیص بیص:
یفل غرب الرزایا و هی باسلةو یوسع الجار نصرا و هو مخذول
و یشهد الهول بسّاما و قد دمعت‌شوس العیون فذم القوم إحفیل
و یتقی مثلما ترجی فواضله‌و جوده فهو مرهوب و مأمول
عار من العار کاس من مناقبه‌کأنه مرهف الحدّین مسلول
سهل المکارم صعب فی حفیظته‌فبأسه و الندی مرّ و معسول
قالی الدنا و صنبوان العلی کلف‌فالعار و المجد مقطوع و موصول
الملک یحیی لدی قول و معترک‌إذا تشابه مقطوع و مفلول
جواد مجد له فی فخره شبه‌و فیه من واضح العلیاء تحجیل
و أخبار الحیص بیص کثیرة و ذکر المؤرخون له نوادر غریبة فی التفاصح و التقعر و التکلّف و مع وجود الغرابة فی ألفاظ شعره فهو قد تشدّق و تفاصح و تکلّف فی نثره، و ذلک أسلوب علی تبیان معرفته غریب اللغة کان مستثقلا مصدوفا عنه فلم نجد حاجة إلی ذکر نوادره فی التفاصح و لا تکلّفه فی الکتابه و إغرابه فی اللغة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 133

سنة «575» ه

50- و أبو الفرج محمد بن محمد بن عبد الکریم بن إبراهیم الأنباری ابن سدید الدولة المقدم ذکره، ذکره ابن الدبیثی قال: «کاتب الانشاء المعمور، من بیت مشهور بالفضل و الکتابة و قد تقدم ذکر أبیه- و أبو الفرج هذا تولّی دیوان الانشاء بعد وفاة أبیه و ذلک فی رجب سنة ثمان و خمسین و خمسمائة إلی حین وفاته، و ناب فی دیوان المجلس مدة یسیرة و کان مقدّما ذا حشمة و جاه، سمع (الحدیث) مع أبیه من أبی محمد عبد اللّه بن أحمد بن السمرقندی و حدّث عنه. ذکره القاضی أبو المحاسن الدمشقی فی معجم شیوخه الذین سمع منهم، قال عبید اللّه بن علی المارستانی: و مولد أبی الفرج بن الأنباری فی سنة سبع و خمسمائة و توفی یوم الجمعة السادس من ذی القعدة سنة خمس و سبعین و خمسمائة، و صلّی علیه بجامع القصر الشریف و دفن بالجانب الغربی بمقابر قریش عند أبیه - رحمه اللّه و ایانا -».
و أرخ سبط ابن الجوزی فی وفیات سنة «575» بما لا یخرج عما ذکرناه من کتاب ابن الدبیثی، و زاد علیه قوله: «و کان فاضلا عاقلا عفیفا ». و قال صلاح الدین الصفدی: «صاحب دیوان الانشاء ببغداد، ناب فی الوزارة و کتب الانشاء سبعة عشر عاما و أشهرا و کان ناقص الفضیلة ظاهر القصور فی الترسّل و إنما روعی لأجل والده سدید الدولة محمد بن عبد الکریم و سیأتی ذکر سدید الدولة » و ذکره هندوشاه الصاحبی فی أخبار الوزیر شرف الدین أحمد بن البلدی علی عهد الخلیفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 134
المستنجد باللّه . و قال ابن الدبیثی فی خبر استیزاز ابن البلدی «و جاء الوزیر فی الموکب إلی محاذی التاج و عبر فی الماء إلی دار الخلافة المعظمة شید اللّه قواعدها بالعزّ- و حضر أستاذ الدار العزیزة أبو الفرج (عضد الدین محمد بن عبد اللّه) و صاحب المخزن و قاضی القضاة و حاجب الباب و کاتب الانشاء أبو الفرج بن الأنباری» .

سنة 577

51- و أبو جعفر محمد بن محمد بن هبة اللّه بن محمد بن علی بن المطلب أبو جعفر بن أبی عبد اللّه ابن الوزیر أبی المعالی ابن ابی سعد قال ابن الدبیثی:
«من بیت أهل رئاسة و تقدّم، سمع أبا الفوارس محمد بن علی بن الکرخی و حدث عنه. سمع منه جماعة من أصحابنا منهم أبو القاسم تمیم بن أحمد ابن البندینجی و أبو الفتوح نصر بن أبی الفرج الحصری و أبو الحسن علی بن المبارک بن (عبد) الوارث و غیرهم. بلغنی أنه توفی فجأة فی لیلة الثلاثاء تاسع ذی القعدة سنة سبع و سبعین و خمسمائة، و دفن صبیحة تلک اللیلة بمقابر قریش- رحمه اللّه و ایانا-» .

سنة «581» ه

52- و مجد الدین أبو طالب عبد اللّه بن أحمد بن علی بن المعمر أبو طالب ابن أبی عبد اللّه العلوی الحسینی البغدادی النقیب قال ابن الفوطی فی التلخیص: «ذکره أبو الفتوح عبد السلام بن یوسف التنوخی فی کتابه أنموذج الأعیان من تألیفه و قال: کان مجد الدین یتولی النقابة علی الطالبیین و أنشدنی لنفسه ما یکتب علی قوس بندقة:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 135 حملتنی راحة فی‌جودها للخلق راحه
فأنا أهل بنبلی‌و هی أهل للسماحه
توفی رجب سنة إحدی و ثمانین و خمسمائة .
و ترجم له الصفدی فی کتابه الحافل للتراجم قال: «نقیب الطالبیین ببغداد بعد وفاة والده. و لم یزل علی ولایته إلی أن توفی سنة إحدی و ثمانین و خمسمائة و کان شابا سریا فاضلا أدیبا شاعرا مترسلا من شعره مما یکتب علی قوس بندقة و ذکر البیتین إلا أنّ نصه «فأنا للفتک أهل ».
و ذکر أبیاتا أخری فی قوس البندقة و ذلک یدل علی و لعه بها. و ذکره شمس الدین الذهبی فی وفیات سنة 581 و قال: «ولی النقابة بعد أبیه و له شعر جید ».
قال مصطفی جواد: دفن النقیب أبو طالب عبد اللّه فی مشهد الامام موسی بن جعفر- ع- صرّح بذلک من ذکر أن ابنه النقیب أبا الحسن علی بن عبد اللّه المتوفی سنة 595 کما سیأتی دفن عند أبیه فی المشهد المذکور .
53- و أبو الحسن علی بن المرتضی بن علی بن محمد بن الداعی بن زید بن حمزة بن علی بن عبید اللّه بن الحسن بن علی بن محمد بن الحسن ابن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب العلوی الحسنی الاصبهانی الأصل. البغدادی المولد و الدار، یعرف بالأمیر السیّد. قال ابن الدبیثی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 136
«کانت له معرفة بالفقه علی مذهب أبی حنیفة، درس بجامع السلطان مدّة، و کان من أعیان الناس و أماثلهم، سمع شیئا من الحدیث من أبی سعد أحمد بن محمد ابن البغدادی و غیره، سمع منه القاضی عمر القرشی و روی عنه فی معجمه. أنبأنا أبو المحاسن عمر بن علی القرشی قال أنبأنا أبو الحسن علی بن المرتضی العلوی- و أسنده إلی أبی هریرة- قال قال رسول اللّه- ص-: أکثروا ذکر هادم اللذات: الموت». سألت الأمیر السید أبا الحسن العلوی عن مولده، فقال: فی لیلة الثلاثاء ثانی عشر ربیع الآخر سنة إحدی و عشرین و خمسمائة ببغداد قلت: و توفی لیلة الجمعة ثانی عشر رجب سنة ثمان و ثمانین و خمسمائة و دفن یوم الجمعة بمقابر قریش ».
و ذکره محب الدین ابن النجار و قال: «ولد جده بنیسابور و کذلک والده المرتضی و نشأ باصبهان ثم قدم بغداد و ولد له علی هذا بها و قرأ الفقه علی مذهب أبی حنیفة حتی برع فیه و فی الخلاف و قرأ الأدب و حصل منه طرفا صالحا و سمع الحدیث ثم ولی التدریس بجامع السلطان و انتهت إلیه رئاسة أصحاب الرأی- یعنی الحنفیة- و کان عالما بالمذهب، متدینا زاهدا فی الرتب و الولایات، المنیفة، کریم النفس، کانت داره مجمعا لأهل العلم و الأدب و کان یکتب خطا ملیحا و له کتب کثیرة أصول بخطوط العلماء، سمع أبا سعد أحمد بن محمد ابن البغدادی و أبا الفضل محمد بن عمر بن یوسف الأموی و أبا منصور محمد بن عبد الملک ابن خیرون و موهوب بن أحمد ابن الجوالیقی و أبا الحسن سعد الخیر بن محمد بن؟؟؟
و أبا اسحاق ابراهیم بن محمد بن نبهان الغنوی الرقی و أبا الفضل محمد بن ناصر و غیرهم و حدث بالیسیر. سمع منه القاضی أبو المحاسن عمر بن موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-1 ؛ ص137
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 137
علی القرشی. و عمّر حتی أدرکناه. و لم یتفق لنا منه سماع. قرأت فی الخریدة لأبی عبد اللّه الکاتب بخطه للأمیر السید علی ابن المرتضی
صن حاضر الوقت عن تضییعه ثقةأن لا بقاء لمخلوق علی الدوم
و هبک أنک باق بعده أبدا(فلن یعود إلینا عین ذا الیوم )
*** و له أیضا:
..... و لا تجزع لآت‌و اغنم لنفسک خظها
فی البین من قبل الفوات قرأت بخط القاضی أبی المحاسن القرشی قال: سألته- یعنی الأمیر السید علی بن المرتضی عن مولده فقال: فی لیلة الثلاثاء ثانی عشر ربیع الآخر سنة إحدی و عشرین و خمسمائة ببغداد بدرب الشاکریة. توفی الأمیر السید علی بن المرتضی فی لیلة الجمعة لثمانی عشرة لیلة خلت من رجب سنة ثمان و ثمانین و خمسمائة. و دفن من الغد بمقابر قریش ».
و قال ابن الفوطیّ: «ذکره عماد الدین الکاتب فی الخریدة و قال: «کان والده من اصفهان فی خدمة الخاتون جهة المقتفی (فاطمة بنت محمد ابن ملکشاه)، و تفقه ولده هنا علی مذهب أبی حنیفة و وجب الکرامة الکلیّة من الخلیفة و أهل الرتب الشریفة و المناصب المنیفة. فلم یمل إلا إلی العلم و نشره، و لم یرغب إلا فی الفقه المؤذن برفع قدره ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 138
و ذکره ابن الأثیر فی وفیات سنة «588» من الکامل. و ذکره زکی الدین المنذری فی تاریخه للرجال قال فی وفیات سنة 588: «و فی لیلة الثانی عشر من رجب توفی الشریف الأجل الفقیه أبو الحسن علی ابن الشریف أبی الحسین المرتضی ... المعروف بالأمیر السید و دفن من الغد بمقابر قریش » و ذکر أمورا من سیرته کنا نقلناها من کتب غیره.
و من المستغرب أن محیی الدین القرشی لم یترجم له فی کتاب «الجواهر المضیة فی طبقات الحنفیة». و سیأتی ذکر ابنه أبی محمد الحسن بن علی ابن المرتضی فی وفیات سنة «630».

سنة «589» ه

54- و أبو منصور عبد اللّه بن محمد بن علی بن هبة اللّه بن عبد السلام ابن عبد اللّه بن یحیی الکاتب، ذکره ابن الدبیثی قال: «من بیت أهل کتابة و روایة، سمع أبا القاسم علیّ بن أحمد بن بیان و أبا علیّ محمد بن سعید بن نبهان و أبا القاسم هبة اللّه بن محمد بن الحصین و جدّه أبا الحسن علی بن هبة اللّه بن عبد السلام و أبا القاسم إسماعیل بن أحمد ابن السمرقندی و حدّث عنهم. سمع منه القاضی عمر القرشی و أحمد بن طارق (الکرکی) و عبد العزیز بن الأخضر (الجنابذی) و قال لی ابن الأخضر: سمعت منه و من أبیه و من جدّه. قلت: و قد أجاز لی. أنبأنا أبو منصور عبد اللّه ابن محمد ابن عبد السلام- و أخبرنی عنه أبو محمد عبد العزیز بن أبی نصر (ابن الأخضر) البزاز قراءة- و أسنده إلی جریر بن عبد اللّه البجلی- قال: کنا جلوسا عند رسول اللّه- ص- فطلع القمر لیلة البدر، فقال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 139
رسول اللّه- ص-: أما إنکم ترون ربّکم- عزّ و جل- کما ترون هذا القمر لا تضامّون فی رؤیته فان قدرتم أن لا تغلبوا علی رکعتین قبل طلوع الفجر ». ولد أبو منصور ابن عبد السلام فی سنة ست و خمسمائة و توفی یوم الاثنین عاشر شهر ربیع الأول سنة تسع و ثمانین و خمسمائة و دفن بالمشهد بالجانب الغربی ».

سنة «590» ه

55- قال ابن النجار: «علی بن یحیی بن علی بن إسماعیل أبو المکارم الکاتب المعروف بالربیب، من أولاد الکتبة و أرباب الولایات، أخذت له إجازة و هو طفل من مشایخ اصبهان ... و تفرد بالاجازة عنهم و عن أبی علی الحداد و غانم بن محمد البرجی و قری‌ء علیه کثیرا بالاجازة عن هؤلاء، و لم یکن الحدیث من شأنه، ذکر لی عنه أنه أول ما ظهرت له الاجازة و قصده أصحاب الحدیث للسماع منه أنکر ذلک و قال: ما سمعت شیئا من الحدیث، فقیل له: هذه إجازة أخذها لک بعض جیرانک.
فقال: ما رأیت أحدا أکثر فضولا من آخذها و ما دعاه إلی هذا؟.
أخبرنی أبو الفتوح نصر بن محمد ابن الحصری الحافظ بقراءتی علیه بمکة قال: قرأت علی أبی المکارم علی بن یحیی بن علی بن اسماعیل الکاتب ..
سألت شیخنا أبا الفتوح عن أبی المکارم فقال: کان جلیلا لا بأس به.
بلغنی أن أبا المکارم بن اسماعیل ولد فی سنة خمس مئة و توفی یوم السبت لثلاث خلون من ذی الحجة سنة تسعین و خمس مئة و دفن بمقابر قریش ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 140
و قال شمس الدین الذهبی فی وفیات سنة 590: «علی بن یحیی ابن اسماعیل أبو المکارم البغدادی الکاتب، له إجازات عالیة، روی بالاجازة ... و مولده بعد الخمسمائة و توفی فی ذی الحجة ».

سنة «591».

56- قال محب الدین محمد ابن النجار: «علی بن حسّان بن سالم بن علی ابن مسافر أبو الحسن الکاتب. شاعر ملیح حسن الشعر، مدح الخلفاء و الأکابر فأکثر، أنشدنی له أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطیعی (قال أنشدنی علی بن حسان بن مسافر الکاتب لنفسه من قصیدة:
زار و ثغر (الصباح) مبتسم‌فجرا و عقد النجوم منفصم
و البدر فی ربقة الغروب لمایستنجد اللیل و هو منهزم
و الجوّ فی حلّة معنبرةلها من البرق مومضا علم
و الأرض قد أصبحت مزخرفةو ازّینت نشر روضها فغم
و البان میّاسة معاطفه‌و السحب تبکی و الزهر یبتسم
و الورد قد فتقت لطائمه‌هیمه ثغر جوّها شبم
قد سل سیفا علی الشقائق فاحتزّ من رؤوسها القمم
إن شابهت لونه غلائلهاما کل قان مضرّج عنم
فقل لمن راقه معصفرهالا یزدهیک الهوی فذاک دم
و اصفرّ وجه النهار من وجل‌کمدنف ملّ قلبه السئم
و أطرق النرجس المضاعف إجبلالا کطرف فی جفنه سقم
و عاد شمل المنثور حین زها الورد من العجب و هو منتظم
و افتر ثغر الأقاح من جذل‌و الجدول الغمر ظلّ یلتطم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 141 و غنّت الورق فی الغصون فیاللّه تلک الألحان و النغم
أصنع من معبد و أفصح من‌قسّ فهنّ النواطق العجم
و أنشدنی أبو الحسن القطیعی أنشدنی أبو علی ابن مسافر لنفسه:
خیّم فی جفن عینی السّهرلما استسّرت بدورهم و سروا
قوم حمت بیضهم و قد ظعنوابیض عراض و سمرهم سمر
کم قرّبوا حسرة ببعدهم‌و کم فؤاد لما سروا أسروا
لم أجمل الصبر یوم بینهم‌و الصبر فی ساعة الهوی صبر
یا جیرة العمر قد تصرّم فی‌حزنی و شوقی الیکم العمر
کأنّ عینی عین و أدمعهاجداول فی الخدود تنحدر
و فی حدوج الغادین بدر دجی‌و غصن بان مهفهف نضر
قلبی کناس فی لحظ مقلته‌ظبی جلاها الفتور و الحور
مقرطق ساحر اللحاظ (و قد)زار فلیلی جمیعه سحر
أجفان عینیه للصوارم أجفان و سلّ الصوارم النظر
أغارنی خصره السقام و لم‌یشف غلیلی رضابه الخصر
لم أرو من خمرة بفیه و من‌أین و سمر القنا له خفر
أخفرت حق الذمام یا قمرایسّره فی تمامه الخفر
أفتیت فی قتل عاشق دنف‌شاب و ما شاب صفوه الکدر
یا حبذا العیش حین نغدو الی‌اللهو علی غرّه و نبتکر
فی جنح لیل من الشبیبة لم‌یبد لنا من صباحه نذر
أیام صبح المشیب لم یبد إشراقا و لیل الشباب معتکر
أخبرنی القطیعی أنه سأل ابن مسافر عن مولده فقال: سنة أربع و أربعین و خمسمائة. أنبأنا أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون و نقلته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 142
من خطه قال: مات علی بن مسافر الشاعر لیلة یوم الثلاثاء ثامن عشر جمادی الآخرة سنة إحدی و تسعین و خمسمائة و دفن فی هذا الیوم بمقابر قریش بالجانب الغربی ».

سنة «591» ه

57- و أبو الفتح مسعود بن جابر بن أبی الکرم بن أبی الفوارس الحاجب، ذکره زکی الدین المنذری فی تاریخه قال فی وفیات سنة 591 ه: «و فی الثامن و العشرین من رجب توفی الشیخ الأجل أبو الفتح مسعود بن جابر بن أبی الکرم بن أبی الفوارس الحاجب ببغداد و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -».

سنة «592» ه

58- و أبو فراس یحیی بن علی بن طراد بن الحسین بن محمد بن سلمان بن سعید البغدادی الحریمی المعروف بابن کرسا ، ذکره المنذری بهذه التسمیة و قال فی وفیات سنة 592: «و فی لیلة مستهل شهر رمضان توفی الشیخ أبو فراس یحیی بن علی ... ببغداد و دفن من الغد بمقابر قریش، سمع من أبی القاسم هبة اللّه بن محمد بن الحصین و حدّث، و مولده سنة ثلاث عشرة و خمسمائة ». و جاء فی مختصر الذهبی لتاریخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 143
ابن الدبیثی: «یحیی بن علی بن طراد ابن حسین بن کرسا أبو فراس قال: أنبأنا ابن الحصین قراءة، فذکر حدیثا، ولد سنة ثلاث عشرة و خمسمائة و توفی فی رمضان سنة اثنتین و تسعین (و خمسمائة) قلت:
روی عنه ابن خلیل ». و ذکره الذهبی فی تاریخ الاسلام فی وفیات السنة المذکورة آنفا، کذکر المنذری إیاه .

سنة «593» ه

59- و عماد الدین أبو طالب علی بن هبة اللّه بن محمد ابن البخاری قاضی القضاة و نائب الوزارة، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه قال: «أبو طالب بن أبی الحسن ابن أبی البرکات، من بیت معروف بالعدالة و الفقه، و علیّ هذا تفقه فی صباه علی أبی القاسم بن فضلان، و سافر عن بغداد إلی بلاد الروم لأنّ أباه کان قد خرج عن بغداد و أقام هناک و تولّی القضاء فی بعض بلادها و أقام عند أبیه إلی أن توفی، و تولّی القضاء بالموضع الذی کان به. و عزل بعد سنتین، فخرج إلی الشام ثم عاد إلی بغداد بعد عشرین سنة من سفره عنها، و کان قدومه إلیها فی ذی الحجة سنة إحدی و ثمانین و خمسمائة و ولّی أقضی القضاة بها فی صفر سنة اثنتین و خمسمائة، و تقدّم إلی الشهود بمدینة السلام بالشهادة عنده و علیه فیما یسجّله و أن یسجل عن الخدمة الشریفة الامامیة الناصریة- أعزّ اللّه أنصارها-. فسمع البیّنة و أسجل و قبل شهودا و لم یزل أمره یتزاید و حالته تنمو إلی أن توفی قاضی القضاة أبو الحسن ابن الدامغانی فی آخر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 144
ذی القعدة سنة ثلاث و ثمانین و خمسمائة فتولّی قضاء القضاة فی سلخ ذی الحجة من السنة المذکورة. و فی شهر ربیع الأول سنة أربع و ثمانین استنیب فی الوزارة و حضر الدیوان العزیز و معه الحجاب و الولاة، و لم یزل علی ولایته لقضاء القضاة و نیابة الدیوان، إلی أن عزل عن النیابة بالدیوان العزیز خاصّة فی أوائل شعبان سنة أربع المذکورة ثم عزل عن قضاء القضاة فی رابع شهر رمضان من السنة أیضا فلزم منزله إلی أن أعید متولیا لقضاء القضاة فی یوم الاثنین خامس عشر شهر ربیع الآخر سنة تسع و ثمانین و خمسمائة فکان علی ذلک إلی أن وصل نعی الوزیر أبی الفضل محمد بن علی ابن القصّاب من همذان فی رابع عشر شعبان سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة فاستنیب فی الوزارة فی خامس عشر شعبان المذکور.
فرکب إلی الدیوان العزیز علی عادته المتقدّمة. و لبث فی ذلک جامعا بین قضاء القضاة و النیابة بالدیوان العزیز إلی أن عزل عن النیابة خاصة فی شوال من السنة المذکورة و بقی علی القضاء إلی أن توفی. و کان فقیها مناظرا حسن الکلام فی المسائل، مطلعا علی العلوم الشرعیة، قد سمع الحدیث من أبی الوقت السجزی و غیره و ما أعلم أنه حدّث بشی‌ء لاستغراق وقته بغیر ذلک. مولده فی سنة ثمان و ثلاثین و خمسمائة و توفی لیلة الثلاثاء ثالث عشری جمادی الآخرة سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة و صلی علیه یوم الثلاثاء بجامع القصر الشریف و دفن بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -».
و ذکره زکی الدین المنذری فی وفیات سنة 593 قال: «و فی لیلة الثالث و العشرین من جمادی الآخرة توفی الوزیر الأجل قاضی القضاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 145
أبو طالب علی ابن القاضی أبی الحسن علی ابن الشیخ الأجل أبی البرکات هبة اللّه بن أبی نصر محمد بن علی بن أحمد بن البخاری ببغداد و دفن فی الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- و مولده فی سنة ثمان و ثلاثین و خمسمائة. تفقّه علی مذهب الامام الشافعی- رضی- علی الامام أبی القاسم یحیی بن علی المعروف بابن فضلان » و أوجز سیرته و لکنه ذکر أباه و جدّه.
و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بعماد الدین فی تاریخه للألقاب و نقل من تاریخ ابن النجار قوله: «کان فقیها فاضلا، حسن المناظرة، و فیه دهاء و حسن تدبیر و معرفة بالأمور » و أوجز تاج الدین السبکی ترجمته فی طبقاته الکبری و فی إیجاز و فائدة هی «و قری‌ء عهده بالجوامع » و هذا یدل علی أن عهود قضاة القضاة کانت تقرأ فی الجوامع أی المساجد العامة الجامعة. و قال عبد الرحمن الاربلی فی قضاة الناصر لدین اللّه:
«فأمّا قضاته فأبو الحسن الدامغانی ثم توفی فقلّد أبا طالب علی بن البخاری ثم عزله و قلّد أبا جعفر محمد بن جعفر العباسی ثم عزله و أعاد أبا طالب البخاری إلی أن توفی» و قال فی ذکر وزرائه فیما قال: «و استوزر أبا المظفر عبید اللّه بن یونس إلی أن خرج مع العسکر لقتال طغرل و حصل فی أسره فاستناب قاضی القضاة علی بن البخاری ثم عزله ». و یری الباحث مثل ذلک فی مختصر التاریخ لظهیر الدین الکازرونی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 146
و جاء فی مرآة الزمان فی حوادث سنة «590» ه ما هذا نصه «قال محمد القادسی: و فیها أهدر الخلیفة الطیور العتق و أمر بذبحها و محو أثرها و عمد إلی فراخ ذبح آباؤها و أمهاتها و استفرخ الأولاد و أرسلها إلی المشاهد لتطیر إلی بغداد و فوّض أمرها إلی قاضی القضاة ابن البخاری و یوسف العقاب مقدّم الفتیان ...» و ذکره ابن تغری بردی فی ثبت الوفیات الذی اعتاد تضمینه تاریخه نقلا عن الذهبی ، و ترجم له الذهبی فی تاریخ الاسلام و قال فی رجوعه إلی بغداد: «فأکرم مورده و زید فی احترامه ».
و قال عز الدین ابن الأثیر فی وفیات سنة 593: «و فی جمادی الآخرة توفی قاضی القضاة أبو طالب علی بن (علی بن) البخاری ببغداد و دفن بتربته فی مشهد باب التبن»، و قال تاج الدین أبو طالب علی بن أنجب المعروف بابن الساعی: «و لما عزل قاضی القضاة أبو طالب علی بن علی ابن البخاری عن قضاء القضاة فی یوم الجمعة رابع شهر رمضان من سنة أربع و ثمانین و خمسمائة قلّد فخر الدین أبو الحسن (محمد بن جعفر العباسی) هذا قضاء القضاة فی الیوم المذکور» ثم قال فی ترجمة أبی زکریا یحیی بن عمر ابن بهلیقا الطحان: «شهد عند قاضی القضاة أبی طالب علی بن البخاری فی ولایته الثانیة یوم الخمیس سابع عشر ربیع الآخر سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة» ثم قال فی ترجمة ابنه أبی الفضل أحمد: «شهد أحمد هذا عند أبیه قاضی القضاة أبی طالب علی فی ولایته الثانیة فی یوم الأحد تاسع عشری جمادی الأولی من سنة تسع و ثمانین و خمس مئة». ثم قال فی ترجمة أبی العباس أحمد بن علی الهاشمی المعروف بابن الغریق: «شهد عند قاضی القضاة أبی طالب علی بن علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 147
ابن البخاری فی ولایته الثانیة یوم السبت سادس عشر شعبان من سنة تسعین و خمسمائة» و قال فی ترجمة أبی المعالی أحمد بن أحمد الشهرابانی:
«شهد عند قاضی القضاة أبی طالب علی بن علی ابن البخاری فی ولایته الثانیة یوم الاثنین سادس عشری شعبان من سنة أربع و ثمانین و خمسمائة» ثم ذکر فی کتابه أنه کان أقضی القضاة سنة 580 ه . و ترجمة تاج الدین السبکی قال: «علی بن علی بن هبة اللّه بن محمد بن علی ابن البخاری أبو طالب ابن ابی الحسن بن أبی البرکات، من أولاد المحدثین.
ولد ببغداد و تفقه بها علی أبی القاسم بن فضلان و سمع الحدیث من أبی الوقت و غیره و خرج من بغداد إلی بلاد الروم ثم عاد إلی بغداد و ولاه الامام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین و خوطب بأقضی القضاة و لم یزل علی ذلک إلی أن توفی قاضی القضاة أبو الحسن الدامغانی فقلد ابن البخاری قاضی القضاة و خلع علیه و قری‌ء عهده بالجوامع و ناب فی الوزارة.
توفی سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة هذا کلام ابن النجار ...»
و ترجمه ابن العماد فی تاریخه فی وفیات سنة 593 قال: «و فیها قاضی القضاة أبو طالب علی بن علی بن هبة اللّه بن محمد ابن البخاری البغدادی الشافعی سمع من أبی الوقت و ولی القضاء سنة اثنتین و ثمانین ثم عزل ثم أعید سنة تسع و ثمانین ». و قد أخذ ابن العماد هذه الترجمة من کتاب العبر فی خبر من عبر للذهبی «4: 282»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 148

سنة «594» ه

60- و قوام الدین أبو طالب یحیی بن سعید بن هبة اللّه بن علی بن علی الواسطی ثم البغدادی المعروف بابن زبادة الحاجب الکاتب، ذکره ابن الفوطیّ نقلا من معجم الأدباء قال: «إلیه انتهت الکتابة فی زمانه و علیه یعتمد فی الانشاء، و الحساب مع فنون کان قیما بها من الفقه و الأصول و الأدب قرأ علی ابن الجوالیقی و سمع الحدیث من أبی الحسن علی بن عبد السلام الکاتب، و کان حسن العبارة، تولّی أعمالا جلیلة منها النظر بدیوان واسط و البصرة و الحلّة و ولی حجبة باب النوبی و لم یزل علی ذلک إلی أن توفی المستضی‌ء بأمر اللّه فی سلخ شوال سنة خمس و سبعین و خمسمائة، و لما قتل مجد الدین هبة اللّه بن الصاحب أستاذ الدار رتب مکانه سنة ثلاث و ثمانین ، و له رسائل مدوّنة و أشعار صحیحة و کانت وفاته فی ذی الحجة سنة أربع و تسعین و خمسمائة. و مولده فی صفر سنة اثنتین و عشرین و خمسمائة ».
و قال یاقوت الحموی: «ابن زبادة الشیبانی الواسطی ثم البغدادی، کان کاتبا أدیبا شاعرا، مشارکا فی الفقه و الکلام و الریاضی، أخذ الأدب عن أبی منصور الجوالیقی و غیره و ولی النظر بدیوان البصرة ثم بواسط و الحلّة ثم قلّد النظر فی المظالم و رتب حاجبا بباب النوبی ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 149
ثم قال: «و من شعره:
إنی لتعجبنی الفتاة إذا رأت‌أن المروءة فی الهوی سلطان
لا کالتی وصلت و أکبر همّهافی خدرها النقصان و الرجحان
و کذاک شمس الأفق برج علوهاحمل و برج هبوطها المیزان
*** و قال:
إن کنت تسعی للسعادة فاستقم‌تنل المراد و تغد أول من سما
ألف الکتابة و هو بعض حروفهالما استقام علی الجمیع تقدّما
*** و قال:
لا أقول اللّه یظلمنی‌کیف أشکو غیر متهم؟
نفسی فیما أوتیت قنعت و تمطّت فی العلی هممی
و لبست الصبر سابغةفهی من فرقی إلی قدمی
*** و قال:
باضطراب الزمان ترتفع الأنذال فیه حتی یعمّ البلاء
و کذا الماء ساکنا فاذا حرّک‌ثارت من قعره الأقذاء
و ذکره زکی الدین المنذری فی وفیات سنة «594» قال: «و فی لیلة السابع و العشرین من ذی الحجة توفی الشیخ الأجل الفاضل أبو طالب یحیی بن أبی الفرج سعید بن أبی القاسم هبة اللّه بن علی المعروف بابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 150
زبادة الواسطی الأصل البغدادی المولد الکاتب. ببغداد و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام-» ثم قال: «و حدث بواسط و بغداد و کان أحد الفضلاء بالعراق و انتهی الیه التقدم فی الکتابة و الانشاء مع ما ضمّ الیه من الفقه و الکلام و الأصول و الحساب و الشعر ».
و جاء فی المختصر المحتاج إلیه من تاریخ ابن الدبیثی «یحیی بن سعید بن هبة اللّه بن علی بن علی بن زبادة أبو طالب بن أبی الفرج الکاتب المنشی‌ء الواسطی الأصل البغدادی انتهت إلیه الرئاسة فی الکتابة و الانشاء و کان فقیها أصولیا سمع أبا الحسن بن عبد السلام و أبا القاسم ابن الصباغ و خدم فی عدة جهات. قرأت علیه أخبرکم عبد اللّه بن محمد. فذکر حدیثا و أنشدنا قال أنشدنا القاضی أبو بکر أحمد بن محمد الأرجانی سنة ثمان و ثلاثین و خمسمائة لنفسه :
و مقسومة العینین من دهش النّوی‌و قد راعها بالعیس رجع حداء
تجیب بإحدی مقلتیها تحیتی‌و أخری تراعی أعین الرقباء
رأت حولها الواشین طافوا فغیّضت‌لهم دمعها و استعصمت بخباء
فلما بکت عینی غداة و داعهم‌و قد روّعتنی فرقة القرناء
بدت فی محیاها خیالات أدمعی‌فغاروا و ظنوا أن بکت لبکائی
ولد أبو طالب بن زبادة فی سنة اثنتین و عشرین و خمسمائة. و توفی فی ذی الحجة سنة أربع و تسعین (و خمسمائة). قلت: روی عنه ابن خلیل ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 151
و ذکره ابن خلکان فی تاریخه و أورد مکان علی الثانی من أجداده «قزغلی»، و قال فی لقبه «قیل عمید الدین» و قد ذکرنا فی غیر هذا المجموع أن الدولة العباسیّة فی أواخر عهودها کانت تغیر ألقاب موظفیها بتغییر وظائفهم. قال ابن خلکان: «کان من الأعیان الأماثل، و الصدور الأفاضل، انتهت إلیه المعرفة بأمور الکتابة و الانشاء و الحساب مع مشارکته فی الفقه و علم الکلام و الأصول و غیر ذلک و له النظم الجید و جالس أبا منصور بن الجوالیقی و قرأ علیه و علی من بعده و سمع الحدیث من جماعة و خدم الدیوان من صباه إلی أن توفی عدة خدمات، و کان ملیح العبارة فی الانشاء، جید الفکرة، حلو الترصیع، لطیف الإشارة، و کان الغالب علیه فی رسائله العنایة بالمعانی أکثر من طلب السجع و له رسائل بلیغة و شعر رائق، و فضله أکبر من أن یذکر» إلی أن قال: «و قلّد النظر فی المظالم ثم عزل عن ذلک فی شهر ربیع الأول سنة سبع و سبعین (و خمسمائة) ثم أعید إلیه فی جمادی الأولی سنة اثنتین و ثمانین فلما ضریح الامامین موسی بن جعفر و محمد الجواد (ع) یحیط بهما عدد من مدافن المشاهیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 152
قتل أستاذ الدار و هو مجد الدین أبو الفضل هبة اللّه بن علی بن هبة اللّه بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب- و کان قتله یوم السبت تاسع عشر ربیع الأول سنة ثلاث و ثمانین و خمسمائة- ترتب ابن زبادة المذکور مکانه ثم عزل فی سنة خمس و ثمانین و عاد إلی واسط فأقام بها إلی أن استدعی فی شهر رمضان سنة اثنتین و تسعین و قلّد دیوان الانشاء فی یوم الاثنین الثانی و العشرین من شهر رمضان ثم ردّ الیه النظر فی دیوان المقاطعات فکان علی ذلک إلی حین وفاته، و کان حسن السیرة محمود الطریقة، متدینا حدث بشی‌ء یسیر و کتب الناس عنه کثیرا من نظمه و نثره» و ذکر له شعرا نقلنا بعضه من معجم الأدباء، فمما لم نجده فی المعجم قوله:
إنی لأعظم ما یلقوننی جلداإذا توسطت جوز الحادث النکد
کذلک الشمس لا تزداد قوتهاإلا إذا حصلت فی زبرة الأسد
و کتب الإمام المستنجد یهنئه بالعید:
یا ماجدا جلّ قدرا أن نهنئه‌لنا الهناء بظل منک ممدود
الدهر أنت و یوم العید منک و مافی العرف أنا نهنی الدهر بالعید »
ثم أورد له ابن خلکان:
لا تغبطنّ وزیرا للملوک و إن‌أناله الدهر منهم فوق همّته
و اعلم بأنّ له یوما تمور به‌الأرض الوقور کما مارت لهیبته
هارون و هو أخو موسی الشقیق له‌لو لا الوزارة لم یأخذ بلحیته »
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 153
ثم ذکر ابن خلکان روایة ابن زبادة لأبیات القاضی الأرجانی، نقلا من أصل تاریخ ابن الدبیثی و فیه أن الأرجانی أنشده إیاها لما قدم بغداد سنة 538 ثم قال: «و کتب إلیه أبو الغنائم محمد بن علی المعروف بابن المعلم الهرثی الشاعر المقدم ذکره و قد عزل من نظر؟؟؟ واسط:
و لأنت إن لم یبلل الغیث الثری‌تروی الوری بسماحک الهتان
لم یعزلوک عن البلاد لحالةتدعو إلی النقصان و الشنآن
بل مذ رأوا تیار جودک زاخراحفظوا بلادهم من الطوفان
ثم قال ابن خلکان: قال ابن الدبیثی المذکور: سألت أبا طالب ابن زبادة عن مولده فقال: ولدت یوم الثلاثاء الخامس و العشرین من صفر سنة اثنتین و عشرین و خمسمائة. و توفی لیلة الجمعة السابع و العشرین من ذی الحجة سنة أربع و تسعین و خمسمائة و صلی علیه بجامع القصر و دفن بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- رضی اللّه عنهما- یعنی ببغداد ».
و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 594 من تاریخ الاسلام و لیس فی ذکره زیادة سوی بداعة التعبیر فی قوله «و سارت برسائله المؤنقة الرکبان ».
و أرّخه قبله ابن الأثیر فی وفیات سنة 594 قال: کان عالما فاضلا له کتابة حسنة و کان رجلا عاقلا خیرا کثیر النفع للناس و له شعر جید » و کان قد قال فی حوادث سنة 593: «و فیها ولی أبو طالب یحیی بن سعید بن زبادة دیوان الانشاء ببغداد و کان کاتبا مفلقا و له شعر جید ».
و ترجم له أبو شامة و المعروف أنه یعتمد علی مرآة الزمان فی تراجم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 154
العراقیین لهذه الحقبة، قال: «کانت وفاته فی ذی الحجة و دفن فی مقابر قریش » و لم یطبع أصل مرآة الزمان. و له ترجمة فی العسجد المسبوک لأبی الحسن الخزرجی و البدایة و النهایة لابن کثیر الدمشقی و النجوم الزاهرة لابن تغری بردی و قد ذکر أنه «جالس أبا منصور بن الجوالیقی و درس علیه» قال: «و من شعره- و أحسن فیما قال- باضطراب الزمان ترتفع الأنذال ...» و ذکر البیتین المذکورین آنفا مع شعره و قال:
«قلت: و فی هذین البیتین شرح حال زماننا هذا- یعنی القرن التاسع بمصر- لکثرة من ترقّی من الأوباش إلی الرتب السنیة من کل طائفة ..»
و أوجز ترجمته ابن العماد الحنبلی و ورد اسمه استطرادا فی کتاب العمیان للصفدی مصحفا إلی «ابن زیادة» بالیاء، قال الصفدی فی ترجمة الخلیفة الناصر لدین اللّه العباسی: «و لما صرف ابن زبادة عن عمل کان یتولاه و لم یبن لابن زبادة سبب عزله رفع إلیه شعرا منه هذا البیت:
هب أنّ ذلک عن رضاک فمن تری‌یدری مع الاعراض أنک راضی؟
فوقّع له علی رقعته (الاختیار صرّفک و الاختبار صرفک، و ما عزلناک لخیانة و لا لجنایة، و لکن للملک أسرار لا تطلع علیها العامة و لتعلمنّ نبأه بعد حین ». و قال ابن الدبیثی: «أنشدنی أبو المفاخر بیان بن أحمد الواسطیّ قال أنشدنا الأجل أبو طالب بن زبادة الکاتب لنفسه:
کل ظلوم تزول دولته‌و لیس ما سنّ من أذی زائل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 155 کحیّة خوف سمّها قتلت‌و سمّها بعد قتلها قاتل »
و ذکر ابن النجار فی ترجمة أبی المکارم الفضل بن الحسن الحلیّ نقلا من کتاب «أنموذج الأعیان لأبی الفتوح عبد السلام بن یوسف الدمشقی، قال «أنشدنی أبو المکارم الحلیّ أبیاتا کتبها علی ظهر مجلّد استعاره من أبی طالب یحیی بن زبادة و کانا کلاهما متعطلین فی شهر رمضان سنة خمس و ستین و خمسمائة:
هذا الکتاب لسیّد الکتّاب‌و المستقلّ بسائر الآداب
و المعتلی ذروات کل فضیلةغرّاء تخبر عن کریم نصاب
عزّ العلی لما تقمص بردهانوکی الرجال و ناقصو الأحساب
لا تیأسنّ جمال دین محمّدمن فرحة تأتی بغیر حساب
و اصبر علی البأساء صبر أخی حجی‌یسمو عن الأشکال و الأضراب
إن کان حجّبک الاسار لحکمةخفیت علی الأبصار و الألباب
فالصول للعضب المهنّد کافل‌بمضائه فی مأزق و ضراب
و أورد له أبو شامة من الشعر:
قد سلوت الدنیا و لم یسلها من‌علقت فی آماله و الأراجی
و إذا ما صرفت وجهی عنهاقذفونی فی بحرها العجّاج
یستضیئون بی و أهلک وحدی‌فکأنی ذبالة فی سراج
و قال ضیاء الدین ابن الأثیر فیما عجب منه من الکتب: «و کذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 156
وجدت لابن زبادة البغدادی کتابا کتبه إلی الملک الناصر صلاح الدین یوسف المقدّم ذکره فی سنة ثلاث و ثمانین و خمسمائة و ضمّنه فصولا تشتمل علی أمور أنکرت علیه من دیوان الخلافة، فمن تلک الأمور التی أنکرت علیه أنه تلقب بالملک الناصر و ذلک لقب هو لأمیر المؤمنین خاصة فانه الامام الناصر لدین اللّه. فلما وقفت علی ذلک الکتاب وجدته کتابا حسنا قد أجاد فیه کل الاجادة و لم أجد فیه مغمزا إلا فی هذا الفصل الذی یتضمن حدیث اللقب فإنه لم یأت بکلام یناسب باقی الفصول المذکورة بل أتی فیه بکلام فیه غثاثة کقوله: ما یستصلحه المولی فهو علی عبده حرام. و شیئا من هذا النسق، و کان الألیق و الأحسن أن یحتج بحجة فیها روح و یذکر کلاما فیه ذلاقة و رشاقة، و حضر عندی فی بعض الأیام بعض إخوانی و جری حدیث ذلک، فسألنی عمّا کان ینبغی أن یکتب فی هذا الفصل فذکرت ما عندی و هو: قد علم أن للأنبیاء و الخلفاء خصائص یختصون بها علی حکم الانفراد، و لیس لأحد من الناس أن یشارکهم فیها مشارکة الأنداد، و قد أجری رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم- ذلک فی أشیاء نصّ علیها بحکمة، و منها أنه نهی غیره أن یجمع بین کنیته و بین اسمه ، و هذا مسوّغ لأمیر المؤمنین أن یختصّ بأمر یکون به مشهورا، و علی غیره محظورا، و قد وسم نفسه بسمة نزلت علیه من السماء، و تمیّزت به من بین المسمیّات و الأسماء، ثم استمرت علیها الأیام حتی خوطب بها من الحاضر و الباد، و رفعها الخطباء علی المنابر فی أیام الجمع و مواسم الأعیاد، و قد شارکته أنت غیر مراقب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 157
لمزیة التعظیم، و لا فارق بین فسحة التحلیل و حرج التحریم، و الشرع و الأدب یحکمان علیک بأن تلقی ما فرط منک بالمناب، و لا تحوج فیه إلی التقریع الذی هو أشد العتاب، و مثلک من عرف الحق فأمسکه بیده، و نسخ إغفال أمسه باستئناف التیقظ فی غده، و اللّه قد رفع المؤاخذة عمّن أتی الشی‌ء خطأ لا عمدا، و قبل التوبة ممن أخذ علی نفسه بالاخلاص عهدا، فانظر أیها المتأمل کیف جئت بالخبر النبوی و جعلته شاهدا علی هذا الموضع، و لا یمکن أن یحتج فی مثل ذلک إلا بمثل هذا الاحتجاج، و ما أعلم کیف شذّ عن ابن زبادة أن یأتی به مع أنه کان کاتبا مفلقا ارتضی کتابته و لم أجد فی متأخری العراقیین من یماثله فی هذا الفنّ ».
قلت: إن الکتاب الذی أشار إلیه الضیاء ابن الأثیر، ذکر العماد الاصبهانی الکاتب قصته فی کتابه الفتح القدسی و ذلک أن صلاح الدین لما فتح القدس سنة 583 و أرسل بالبشارة إلی الخلیفة الناصر لدین اللّه جندیا یعرف برشید الدین البوشنجی فغضب الناصر علیه و اغتاظ من هذا التهاون لأنّ تفاهة الرسول تدل علی هوان المرسل الیه، فأمر أستاذ الدار قوام الدین یحیی بن زبادة أن یکتب إلی الملک صلاح الدین کتابا شدیدا ذکروا بعضه و أشاروا إلی بعض آخر لشدّته علی صلاح الدین، قال العماد: «و وجد الأعداء حینئذ إلی السعایة طریقا، و طلبوا لشمل استسعاده بالخدمة تفریقا و اختلقوا أضالیل، و لفقوا أباطیل و قالوا:
هذا یزعم أنه یقلب الدولة و یغلب الصولة، و أنه ینعت بالملک الناصر، نعت الامام الناصر، و یدلّ بما له من القوّة و العسکر فأشفق الدیوان العزیز علی السلطان من هذه، و برز الأمر المطاع بارسال أخی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 158
و نفاذه » ثم قال العماد فی ذکر التذکرة التی بعث بها الناصر لدین اللّه إلی صلاح الدین: «و أحضر التذکرة. و قد جمعت المعرفة و النکرة. فقرأتها علیه بفصولها و خصوصها، و ألزمته حکمی عمومها و خصوصها، و وقفته علی ظواهرها و نصوصها، و کانت فی الکتب غلظة عدت من الکاتب غلطة و خیلت سقطه و جلبت سخطه، و قال- یعنی صلاح الدین- إن الامام أجلّ أن یأمر بهذه الألفاظ الفظاظ و الأسجاع الغلاظ. فقد أمکن إیداع هذه المعانی فی أرق منها لفظا و أرفق. و أوفی منها فضلا و أوفق. و معاذ اللّه (أن یحبط عملی و یهبط أملی ) و امتعض و ارتمض، ثم أعرض عما عرض، و رجع إلی الاستعطاف و انتجع بارق الاستسعاف ...»
قال أبو شامة: «وقفت علی کتاب کتبه الصاحب قوام الدین ابن زبادة من الدیوان العزیز ببغداد إلی صلاح الدین- و کان قوام الدین یومئذ أستاذ الدار العزیزة- یقول فیه: لو لا مکان صلاح الدین من الخدمة. و الشحّ به، و المنافسة فیه لما جوهر بالعتاب، و لا رفع دونه الحجاب، بل کان یترک الأمر معه علی اختلاله. و یدمل الجرح علی اعتلاله، و قد ذکرت الأسباب التی أخذها الدیوان العزیز علیه، و استغرب وقوعها من کماله، لیوعیها سمعه الکریم و یستوری فیها رأیه الأصیل، و ینصف فی استماعها، و الاجابة عنها، غیر عارج علی الجدل، و لا مؤتم بالمراء المذمومین عقلا و شرعا، بل یحمل قولی هذا علی سبیل المماحضة و الانتصاح، و صدق النیة فی رأب التنائی و الاصلاح، فان اتخاذ الدواء المقر لا یتهم فیه الطبیب المجتلب للعافیة، ثم ذکر من تلک الأمور: أن من انتفی من العراق بسبب من الأسباب لجأ إلی صلاح الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 159
فوجد عنده الاقبال علیه، و کان الأدب یوجب إبعاد من أبعد عنه و تقریب من قرّب إلیه. ثم قال: و إن مما أضحک بثغر الاستعبار ما انتهی عن العوام و أشباه الأنعام و طغام الشام من الخوض فی المذاهب، و الانتهاء فی التشیع إلی اختلاق کل کاذب، و منها ما جری من سیف الاسلام بالحجاز من إزعاج الحجاج، و إرهاج تلک الفجاج و الاقدام علی مناسک اللّه و شعائره، و إیقاد سعیر الفتنة فیها و نوائره، و احتذاء السیرة القاسطة، و إحیاء بدع القرامطة، ما نفر منه کل طبع. و مجّه کل سمع، فکیف جاز لصلاح الدین أن یرخی عنان أخیه، فیما یقرض سوابقه و أواخیه، و منها ما قضی الناس منه العجب، و فورق فیه الحزم و الأدب، و هو ما أوجب التلقب باللقب الذی استأثر به أمیر المؤمنین» ثم قال: «و قد ساوق زمان الدولة العباسیّة- ثبتها اللّه- خوارج دوّخوا البلاد و أسرفوا فی العناد، و جاسوا خلال الدیار و أخافوا المسالک، و استضافوا الممالک، و اقتحموا من الشقاق أشق المهالک، فما انتهی أحدهم فیما احتقب و ارتکب، إلی المشارکة فی اللقب و من الحکم الذائعة فی وجیز الکلام: الذی یصلح للمولی علی العبد حرام. و منها مکاتبة کل طرف یتاخم أعمال الدیوان من مواطن الترکمان و الأکراد، و مراسلتهم و مهاداتهم و قرع أسماعهم بما یعود باستزلال أقدامهم و فلّ عزائمهم و هم لا یعرفون إلا أنهم رعیة للعراق و خول للدیوان، یرثون الطاعة خالفا عن سالف. ثم قال فی آخر الکتاب: و هذا کله لا أقوله إنکارا لجلائل مقامات صلاح الدین، و مشاهیر مواقف جهاده فی سبیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 160
المؤمنین فانه- أدام اللّه علوه- رجل وقته، و نسیج وحده، و المربی علی من سلف من صنائع الدولة و علی من یأتی من بعده، و هو الولیّ المخلص الذی عهد فوفی، و استکفی فکفی و طبّ فشفی، فکیف یجوز له بسعادته أن یهجّن مساعیه الغرّ المجملة او یخرج من مکانته المکرمة المبجلة، و یبطل حقوقه الثابتة المسجلة. ثم قال: فقد علم کل من نظر فی التواریخ و الآثار، و نصحته بصیرته فی التبصر و الاعتبار، أنّ هذا البیت العظیم ما زال یرفع ذوی الأقدار الخاملة فینزون علیه بطرا فیغار اللّه له منتصرا، و یعقبه علیهم إظفارا و ظفرا، کدأب آل طولون و آل سامان و آل بویه و آل سلجوق، و قرون بین ذلک کثیرة، فمن الذی زلزلوه فثبت، و من الذی حصدوه فنبت، و أی نار أوقدوها فخبت؟ ثم قال فی آخره: اللهم قد بلغت و للرأی الصلاحی ما یزید علوه إن شاء اللّه تعالی ».
و قال القلقشندی فی ذکر ما کتب إلی من خلع الطاعة: «و من أحس الکتب المکتتبة فی هذا الباب ما کتب به قوام الدین یحیی بن زبادة وزیر أمیر المؤمنین الناصر لدین اللّه ببغداد إلی طغرل مقطع البصرة بأمر الخلیفة له فی ذلک و قد بلغه أنه نزح عنها قاصدا بعض الأطراف مفارقا لطاعة الخلیفة عند ما طلب من دیوانه شی‌ء من المال فأوجب ذلک انثناءه عن عزمه و توجهه إلی بغداد داخلا تحت الطاعة و مقابلته بالصفح و تلقیه بالقبول و هذه نسخته:
«أصدرت هذه الخدمة إلی الجناب الکریم الأمیری الاسفهسلاری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 161
الأجلیّ الکبیری السیّدی العمادی الرکنی الظهیری المحترمی العزی الجمالی أمیر الجیوش- أطال اللّه بقاءه و أدام علوه و نعمته- و أنا أدفع الأقوال المتواترة و الأحوال المتناصرة مستغربا لها، متعجبا منها کأنی أسمعها فی المنام و تخاطبنی بها أضغاث أحلام، فلو لا أن الأیام صحائف العجائب، و لا یأنس بمتجدداتها إلا من حنکته التجارب، لم أصدق هذه الحرکة المبارکة (کذا) التی وقعت منه بسعادته، فانی ما أراها إلا عثرة من جواد، و عورة علی کماله، و إلا فمن یرید أن یدخل الزلل علی ذلک الرأی السدید و العقل الراجح، و الفکر الصائب، الذی یعلم الآراء کیف تنیر، و یعرّف النجوم کیف تسیر، و یهدی غیره فی المشکلات إلی صواب التدبیر. و الفائت لا کلام فیه غیر أن العقل یقضی باستدراک الممکن و تلافیه، و بالانحراف عن الهوی إلی الرأی الصادق و الرجوع عن تأویل النفس إلی مراجعة الفکر الناضج فالعود إلی الحق أولی من التمادی فی الباطل، و أحب أن تسمع ما أقول باذن واعیة و قلب حاضر، و حوشی أن تستدفعه الکواذب عن تدبر الحقائق و عرفان النصائح فإن من القول ما برهانه لا یحتاج إلی شاهد من غیره. قبل کل شی‌ء ما الذی أحوج إلی هذه الحال القبیحة السمعة و رکوب الخطر فی هذه الحرکة و احتمال هذه المشاق و الانزعاج من غیر أن تدعو إلیه حاجة؟
هل هو إلا شی‌ء جرت العادة بمثله و مطالبة دیوانه بما کان یندفع الأمر ببعضه کما جرت عادة الدواوین و خدم السلاطین؟ ثم إنه عمد- أدام اللّه نعمته- بأول خاطره و بادی‌ء رأیه فی هذه الصلة من غیر تثبت و لا رویة. لم لم یراجع فکره الکریم و یقول لنفسه: إلی أین أمضی و لمن أخدم و علی أی باب أقف و تحت أیّ لواء أسیر و بأی غبار اکتحل و فضل من أطلب و علی حکم من أنزل؟ بعد أن دببت فی عرصة الخلافة و دار النبوة و حصن المملکة؟ أنشأنی نعیمها صغیرا و قدّمنی کبیرا و کنت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 162
مأمورا فجعلنی أمیرا، و طار صیتی فی الدنیا و لم أکن شیئا مذکورا؟
فأنا خیر من ملک أقصده، و أمثل من کلّ من أرجوه و استنجده، فأنزل من السماء إلی الحضیض، و أهدم ما بنی الانعام عندی فی الزمن الطویل العریض؟ هذا هو المکروه الأعظم الذی تعوّذ منه رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم- حین قال: اللهم إنی أعوذ بک من الحور بعد الکور. و من یکون حضین خلافته کیف یرضی أن یکون تابع إمارة؟
و لو لم یکن ما هجم علیه إلا هذا لکفی. ثم لم لا یلتفت فی هذه الحال التی هو علیها التی صحبته بوفائها و یسمع خطابها بلسان حالها، ثم تقول له: یا عماد الدین أما هذه خیام الأنعام علیک، أما هذه الخیل المسوّمة تحتک؟ أما هذه ملابسه الفاخرة مفاضة علیک، أما هذه ممالیکه حافة به؟ ألیس الاصطناع رفع قدرک إلی المنزلة التی ثقل علیک بعض الانحطاط عنها؟ و وهب لک الهمة التی أبیت الضیم بها؟ ... » فهذان الکتابان یمثلان اسلوب ابن زبادة فی الکتابة.

سنة 595

61- و أبو الحسن علی بن عبد اللّه بن أحمد بن علی بن المعمّر العلوی الحسینی، قال ابن الدبیثی بعد ذکر اسمه علی النحو الذی ذکرته مع طیّ الکنی ما عدا کنیته: «هو أخو النقیب أبی الفضل محمد الذی قدمنا ذکره، و علی هذا کان فیه فضل و یقول شعرا جیدا، کتب الناس عنه شیئا من شعره، و قد جالسته و سمع معنا من أبی الفرج عبد المنعم بن کلیب و ما علّقت عنه شیئا لأنّ ما سمعت منه جری فی مجلس السماع علی سبیل المذاکرة. توفی یوم السبت تاسع عشری شعبان سنة خمس و تسعین و خمسمائة و دفن فی الیوم المذکور عند أبیه بمشهد الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 163
موسی بن جعفر بالجانب الغربی ».
و ذکره ابن الفوطی فی تاریخه للألقاب بلقب «مجد الشرف» و ذکر أنه کان نقیبا قال: «مجد الشرف أبو الحسن علی ابن النقیب أبی طالب عبد اللّه بن أحمد بن علی بن المعمر الحسینیّ النقیب الطاهر، معرق فی النقابة، ذکره الحافظ أبو عبد اللّه بن النجار و قال: کان أدیبا فاضلا شاعرا کاتبا وجیها مقدّما متواضعا لطیف الأخلاق حسن الطریقة جمیل السیرة، رأیته فی مجلس شیخنا أبی الفرج بن کلیب غیر مرة یسمع منه الحدیث و قد و خطه الشیب، روی عنه نجم الدین عبد السلام بن یوسف الدمشقی و کتب عنه شعره و توفی فی شعبان سنة خمس و تسعین و خمسمائة ».
و ذکره المنذری فی وفیات سنة 595 و قال: «و دفن من یومه عند أبیه بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- سمع من أبی الفرج عبد المنعم بن کلیب و حدث بشی‌ء من شعره و کان فاضلا و له شعر جید ».

سنة «596» ه

62- و علوی بن عبد اللّه بن عبید المعروف بالباز الأشهب الشاعر، ذکره ابن النجار قال: «من أهل الحلّة السیفیّة، کان شاعرا محسنا من أرباب المعانی، متفننا فی علم الأدب، ملیح الایراد للشعر، قدم بغداد و مدح بها قاضی القضاة الشهرزوری و غیره و روی بها شیئا من شعره أنشدنا أبو الحسن القطیعی قال أنشدنی علوی بن عبید الحلی لنفسه ببغداد:
سل البانة الغناء هل مطر الحمی‌و هل آن للورقاء أن تترنّما؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 164 و هل عذبات الرند نبّهها الصّبالذکر الصّبا قدما فقد کنّ نوما
و إن تکن الأیام قصّت جناحهافقد طالما مدّت بنانا و معصما
بکتها الغوادی رحمة فتنفست‌و أعطت ریاض الحزن سرا مکتما
و شقّت ثیابا کن سترا لأمرهافلما رآها الأقحوان تبسّما
خلیلی هل من سامع ما أقوله‌فقد منع الجهّال أن أتکلّما
عرفت المعانی قبل تعرف نفسهاو ما سفرت وجها و لا فغرت فما
و أوردتها ماء البلاغة منطقافصارت بجید الدهر عقدا منظما
و کانت تناجینی بألسن حالهافأدرک سرّ الوحی منها توهمّا
فما للّیالی لا تقرّ بأننی‌خلقت لها منها بدورا و أنجما
و ربّ جهول قال لو کان صادقالأمکنت الأیام أن یتقدّما
و لم یدر أنی لو أشاء حویتهاو لکن صرفت النفس عنها تکرّما
أبی اللّه أن ألقی بخیلا بمدحه‌و قد جعل الشکوی إلی المدح سلّما
إذا المرء لم یحکم علی النفس قادرایمت غیر مأجور و یحیا مذمّما
فقد کنت لا أبغی سوی العز مطمعاو لا أرتضی ماءا و لو بلغ الظما
و کنت متی مثلت للنفس حاجةأری وجه إعراض و لو کن أینما
و أحسب أن الشیب غیر حالتی‌و صیّر حلّ الغانیات محرّما
رعی اللّه أیاما عرفت بها الهوی‌عشیة غازلت الغزال المنعّما
عشیة بات الدهر طوع مطالبی‌و أیامه تجلو علیّ التکرّما
فإن سلبت ما أکسبت من محاسن‌و أصبح دیناری من الحظ درهما
فقد ضمنت أبکار فکری ردّهاإذا قابلت قاضی القضاة المعظما
فتی عطّر الدنیا بأنفاس عدله‌و خط علی وجه المحامد میسما
بنی کأبیه بیت دین محمدعلوا و لو لا رأیه لتهدّما
رآه أمیر المؤمنین مسدّدافسدّ به ممّن بغی و تغرّما
أمولای قال الدهر صمّ إن رأیته‌فصمت و أضحی الدهر و الناس صوّما
أخبرنی ابن القطیعی أنّ علوی بن عبید الشاعر مات ببغداد فی یوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 165
الأحد لسبع خلون من ذی القعدة سنة ست و تسعین و خمسمائة و دفن بمقابر قریش ».

سنة «597» ه

اشارة

63- و أبو غالب محمد بن المبارک بن محمد بن میمون أبو غالب الکاتب، ذکره ابن الدبیثی قال: «شیخ متصرف قد قرأ شیئا من الأدب و قال الشعر و سمع الحدیث من القاضی أبی الفضل محمد بن عمر الأرموی و الشریف أبی المعمّر المبارک بن عبد العزیز الأنصاری و أبی الفضل (الأرموی) و ابن ناصر و أبی بکر بن الزاغونی و حدّث بشی‌ء من مسموعاته و رأیته و لم أسمع منه. بلغنی أنّ مولده فی سابع عشری محرم سنة ثلاث و عشرین و خمسمائة، و توفی فی یوم الجمعة تاسع عشری جمادی الآخرة من سنة سبع و تسعین و خمسمائة و دفن بالمشهد بمقابر قریش- رحمه اللّه و إیانا و جمیع المسلمین -».
و ذکره المنذری فی وفیات السنة المذکورة قال: «و فی لیلة التاسع من جمادی الآخرة توفی الشیخ الأدیب أبو غالب محمد بن المبارک بن محمد بن میمون الکاتب ببغداد و دفن من الغد بمقابر قریش، و مولده فی المحرّم سنة ثلاث و عشرین و خمسمائة و سمع من أبوی الفضل الأرموی و ابن ناصر و أبی بکر محمد بن عبید اللّه ابن الزاغونی و الشریف أبی المعمر المبارک بن عبد العزیز الأنصاری و غیرهم و حدّث و قرأ الأدب و قال الشعر و کان عارفا بشعر العرب ». و ذکره الذهبی فی وفیات السنة المذکورة و قال: «و له شعر جید و کان مکثرا من أشعار العرب ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 166
و ذکر الأستاذ المستشرق الکبیر کارل بروکلمان الألمعانی محمد بن المبارک هذا فی کلامه علی مصادر معرفة الشعر الجاهلیّ، و عدّة مصنفا لأشعار العرب مجهولا قال: «و جمع مصنف مجهول فیما عدا ذلک یسمی محمد بن المبارک بن محمد بن میمون مجموعة تحتوی علی ألف قصیدة و ذلک فی بغداد سنة 588- 589- 1192- 1193 و جعل عنوان هذه المجموعة «منتهی الطلب من أشعار العرب (انظر اقلید الخزانة 120) و قد بقیت ثلاثة من الأقسام العشرة لهذه المجموعة فی خزانه لاللی باستانبول 1941 و فی القاهرة ثانی 3: 389- 91 و انظر ایضا 3: 494 و راجع محمد حسین فی ج ر ا س سنة 1937 ص 433- 452» .
و التحقیق أنه لیس بمجهول و قد ذکر المنذری أنه کان عارفا بشعر العرب و قال الذهبی إنه کان مکثرا من أشعار العرب، و قد شرع الأستاذ المرجو له رحمة اللّه عز الدین علم الدین عضو المجمع العلمی العربی بدمشق فی إعداد بعض هذه المجموعة الشعریة النادرة للطبع و النشر إلا أنّ الموت عاجله و قطع علیه عمله

أبو الفتح ظهیر الدین

64- و أبو الفتح صدقة ابن أبی الرضا محمد بن أحمد بن صدقة الملقب ظهیر الدین، ذکره ابن الساعی بهذه التسمیة و هذا اللقب و قال:
«من بیت أهل تقدم و وزارة و ولایة، تولی نیابة الوزارة فی الأیام الناصریة بعد وفاة أبی المظفر (محمد بن هبة اللّه) ابن البخاری و ذلک فی خامس عشر المحرم من سنة ثمانین و خمسمائة و جلس بالدیوان العزیز منفذا للمراسم الشریفة الناصریة مجریا للأمور علی عوائدها، فکان علی ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 167
إلی أن عزل فی یوم الثلاثاء ثالث عشر من شهر ربیع الآخر من السنة، و کان قبل نیابة الوزارة یتولی حجابة باب النوبی الشریف ثم رتّب مشرفا بالدیوان العزیز فی جمادی الآخرة من سنة سبع و تسعین و خمسمائة، فمرض عقیب ذلک و توفی فی لیلة الجمعة حادی عشری رجب من سنة سبع و تسعین (و خمسمائة) المذکورة و دفن بمقابر قریش بباب التبن- رحمه اللّه و إیانا ».
و ترجم له قبله ابن الدبیثی إلا أنه لم یصرح بدفنه فی المشهد المذکور، قال فی ترجمته: «تقدّم ذکرنا لأبیه و صدقة هذا من بیت أهل تقدّم و وزارة و ولایة لأمور الدیوان العزیز- مجده اللّه- تولّی نیابة الوزارة فی أیام سیدنا و مولانا الامام المفترض الطاعة علی کافة الأنام الناصر لدین اللّه- خلد اللّه ملکه- بعد وفاة المتولی ذلک أبی المظفر ابن البخاری فی خامس عشر المحرم سنة ثمانین و خمسمائة و حضر الدیوان العزیز مجریا للأمور علی قواعدها و لم یزل علی ذلک إلی أن عزل فی یوم الثلاثاء ثالث عشری ربیع الآخر من السنة المذکورة ... و بعد عزله کان ملازما لمنزله إلی أن ولی الاشراف بالدیوان العزیز فی جمادی الآخرة سنة سبع و تسعین من هذه السنة ».

سنة «598» ه

اشارة

65- و أبو الحسن علی بن محمد بن الحسین بن ابراهیم بن یعیش، ذکره ابن الدبیثی قال بعد ذکر اسمه: «سبط قاضی القضاة أبی الحسن علی بن محمد الدامغانی (الحنفی). و قد تقدم ذکرنا لأبیه وجده و أخیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 168
عبد الرحمن، علی هذا من أبی القاسم هبة اللّه بن محمد بن الحصین و أبی القاسم زاهر بن طاهر الشحامی، و أبی القاسم هبة اللّه بن أحمد الحریری و القاضی أبی بکر محمد بن عبد الباقی الأنصاری و أبی البرکات عبد الوهاب ابن المبارک الأنماطی و روی عنهم علی کره منه. سمع منه قبلنا القاضی عمر القرشی و غیره، و کتبت عنه. قرأت علی أبی الحسن علی بن محمد ابن علی بن یعیش، قلت: أخبرکم أبو القاسم هبة اللّه بن محمد بن عبد الواحد الکاتب قراءة علیه و أنت تسمع. فأقر به- و أسنده إلی أسامة ابن زید- عن النبی- ص- أنه قال: لا یتوارث أهل ملّتین و لا یرث مسلم کافرا و لا کافر مسلما. و قرأ: و الذین کفروا. سألت أبا الحسن ابن یعیش عن مولده فقال: ولدت یوم الاثنین وقت إسفار الصبح مستهل شعبان سنة تسع عشرة و خمسمائة. و توفی عشیة السبت حادی عشر صفر سنة ثمان و تسعین و خمسمائة و دفن یوم الأحد ثانی عشرة بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام-» .
و ذکره ابن النجار و قال فیما قال: «کتبت عنه و ذکر لی أنه من ولد أبی ذر الغفاری، فان نسبه کان مکتوبا عنده خرقه بعض أهله، و کان شیخا حسن الأخلاق متواضعا له أصول صحیحة، و سماعات بخط الحافظ، و کان کاتبا بباب طراد من دار الخلافة ثم عزل عن ذلک و کان یلعب بالحمام، و کان یسکن بالمأمونیة مقابل الرباط. أخبرنا أبو الحسن علی بن محمد بن یعیش- ثم أسنده إلی أنس- قال: مرّ علینا النبیّ- ص- و نحن صبیان نلعب فقال: السلام علیکم یا صبیان أخبرنا أبو الحسن (ابن یعیش) الکاتب- و أسند إلی عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه- أن النبی- ص- نهی عن بیع الولاء و عن هبته» و ذکر ابن النجار بعد ذلک روایة بیتین عنه و تاریخ ولادته فقال: «و توفی لیلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 169
الأحد لاثنتی عشرة لیلة خلت من صفر سنة ثمان و تسعین و خمسمائة و دفن من الغد بمقابر قریش ».
و ذکره زکی الدین المنذری فی وفیات السنة المذکورة و قال فیما قال: «الأنباری الأصل البغدادی الدار و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- ... و أبوه محمد أحد العدول ببغداد سمع من غیر واحد وجده علیّ بن محمد أحد العدول ببغداد أیضا ».
و ترجم له ابن الساعی فی مختصره و روی بسنده عنه حدیث عدم التوارث المذکور آنفا و قال: «و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- » و ترجمته ضحلة، و قال الذهبی فی وفیات السنة المذکورة: «روی عنه ابن الدبیثی و ابن خلیل و الضیاء و ابن عبد الدائم و آخرون و بالاجازة ابن أبی الخیر و الفخر علی » و له ترجمة فی کتب أخری لا طائل فیها.

ابو البرکات

66- و أبو البرکات محمد ابن القاضی أبی الحسن هبة اللّه بن محمد ابن الحسن المعروف بابن أبی الحدید المدائنی، ذکره ابن الدبیثی قال:
«أبو البرکات ابن شیخنا القاضی أبی الحسن ابن أبی المعالی یعرف بابن أبی الحدید من أهل المدائن، کان أبوه أبو الحسن یتولّی القضاء بها و سیأتی ذکره إن شاء اللّه فیمن اسمه هبة اللّه. و أبو البرکات هذا کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 170
کاتبا ذکیا فهیما تولّی عدة أشغال تتعلق بخدمة المخزن المعمور، و کان معنا بالمدرسة النظامیة أیام نظرنا فی أوقافها. علقت عنه أناشید و استشهادات کانت تقع بیننا حال المذاکرة منها ما أنشدنی بقریة من قری دجیل لبعض المغاربة من حفظه:
و مهفهف صبغ الحیاء بخدّه‌دمه فطلّ دمی بذاک طلیقا
هذا یروق و ذا یراق و إنّماهذا یروق صفاؤه لیریقا
توفی أبو البرکات ابن أبی الحدید لیلة الثلاثاء حادی عشری من صفر سنة ثمان و تسعین و خمسمائة، و صلینا علیه یوم الثلاثاء و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- بالجانب الغربی ».
و ذکره المنذری فی وفیات السنة المذکورة و وصفه بصفة «الشیخ» و لم یکن شیخا بالمعنی الحقیقی لهذه الکلمة، و قال «و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- حدث بأناشید و کان ذکیا فهما کاتبا و والده أبو الحسین هبة اللّه کان قاضی المدائن و خطیبها و یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی ».
و ترجم له ابن الساعی فی السنة المقدم ذکرها و قال بعد ذکر اسمه:
«کاتب وقوف المدرسة النظامیة، کان فاضلا أدیبا موصوفا بالذکاء، و کان عنده فضل غزیر و کتابة ضبط تام و یقول الشعر. توفی شابا عن أربع و ثلاثین سنة فی حادی عشری صفر من سنة ثمان و تسعین المذکورة» و علقت أنا علی قول ابن الساعی حین نشرته: «هو أخو أبی حامد عز الدین عبد الحمید شارح نهج البلاغة و أخو القاضی موفق الدین أبی المعالی القاسم فهم من بیت مشهور بالعلم و الفضل ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 171

ابن المبارک الکرخی

67- و أبو منصور محمد بن محمد بن المبارک الکرخی المنشد، ذکره ابن الساعی فی وفیات سنة 598 قال بعد ذکر اسمه علی نحو ما نقلناه من کلامه: «شیخ، حافظ للقرآن المجید، قرأه بالقراءات و کان حسن القراءة جید الأداء طیب الصوت، شجیّه، و کان یتشیع و ینشد فی المواسم بالمشاهد المقدسة و یعظ فی الأعزیة، توفی فی حادی عشر المحرم من سنة ثمان و تسعین المذکورة و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -». و قال المنذری فی وفیات السنة المذکورة بعد ذکر اسمه و تاریخ وفاته و وصفه بالمؤدب المغربی: «و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام - قرأ القرآن الکریم بشی‌ء من القراءات ببغداد علی أبی محمد الحسن بن علی بن عبیدة و بواسط علی أبی بکر عبد اللّه بن منصور ابن الباقلانی و غیرهما و سمع من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و غیره ».
و ترجم له ابن الدبیثی ترجمة أحسن مما نقلناه آنفا قال: «محمد بن محمد بن المبارک الکرخی أبو منصور المقری‌ء المؤدب، کان یسکن الجانب الشرقی و له مکتب یعلّم فیه الصبیان الخط، و کان حافظا للقرآن المجید، حسن القراءة له، قرأ بشی‌ء من القراءات علی أبی محمد الحسن بن علی ابن عبیدة و بواسط علی شیخنا أبی بکر بن عبد اللّه بن منصور ابن الباقلانی و غیرهما، و کان ینشد الأشعار فی مدح أهل البیت علیهم السلام فی المشاهد و أوقات الزیارات. سمع شیئا من الحدیث من أبی الفتح محمد ابن عبد الباقی بن سلمان و غیره، و لم یعن بالروایة و لا حدّث بشی‌ء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 172
توفی یوم الخمیس لاحدی عشرة لیلة خلت من المحرم سنة ثمان و تسعین و خمسمائة و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- ع- رحمه اللّه و إیانا ».

ابن ضاعن الزبیری

68- و أبو أحمد عبد الصمد بن ظاعن بن محمد بن محمود الزّبیری، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخ رجال بغداد الذی اعتدنا النقل منه قال:
«عبد الصمد بن ظاعن بن محمد بن محمود الزبیری أبو أحمد ابن شیخنا أبی محمد- و قد تقدم ذکره. سمع أبا الوقت السجزی و أبا الفتح المعروف بابن البطی و أبا محمد بن المادح و أبا زرعة المقدسیّ و غیرهم و ما أظنه حدّث بشی‌ء. و اللّه أعلم. توفی یوم الأحد حادی عشری محرم سنة ثمان و تسعین و خمسمائة و دفن بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- رحمه اللّه و إیانا ».
و ترجم له المنذری فی وفیات هذه السنة قال: «و فی الحادی و العشرین من المحرم توفی الشیخ أبو أحمد عبد الصمد بن أبی محمد ظاعن ابن أبی بکر محمد بن محمود بن الفرج القرشی الزبیری البغدادی ببغداد و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- سمع من أبی الوقت عبد الأول بن عیسی و أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و أبی محمد محمد بن أحمد بن المادح و أبی زرعة طاهر بن محمد المقدسی و غیرهم و قد تقدم ذکر أبیه ». و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 598 بإیجاز قال:
«من أولاد الشیوخ روی » و ذکر شیوخا له.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 173

سنة «599» ه

اشارة

69- و أبو الفضل أحمد بن علی بن علی بن هبة اللّه بن محمد بن علی البخاری أقضی القضاة، ذکره ابن الدبیثی بهذه التسمیة التی ذکرناها نقلا من تاریخه و قال: «ابن قاضی القضاة أبی طالب بن أبی الحسن بن أبی البرکات، من بیت قدیم فی العدالة و القضاء معروف بالفقه و العلم و التقدم، و سیأتی ذکر أبیه وجده و أخیه عبد اللطیف، إن شاء اللّه فی مواضعهم من هذا الکتاب. شهد أحمد هذا عند أبیه فی ولایته الثانیة یوم الأحد تاسع عشر جمادی الأولی سنة تسع و ثمانین و خمسمائة و زکّاه العدلان أبو البقاء علی بن کردی و أبو الحسن علی بن المبارک بن جابر و استنابه والده فی القضاء و الحکم بحریم دار الخلافة المعظمة- شیدها اللّه بالعز- و ما یلیها، و أذن له بسماع البینة و الاسجال عنه بالتاریخ، و تقدم إلی الشهود بالشهادة عنده و علیه فیما یسجله، فلم یزل علی ذلک إلی أن توفی والده سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة، و انعزل بوفاته إلی أن تولی أقضی القضاة بمدینة السلام و غیرها شرقا و غربا یوم الأربعاء ثامن عشر رجب سنة أربع و تسعین و خمسمائة و خلع علیه خلعة سوداء و سلم إلیه عهد بذلک بمحضر من العدول و الفقهاء و الأعیان، ولّاه ذلک شرف الدین أبو القاسم نصر بن علیّ بن الناقد صاحب المخزن المعمور المتولی لأمور الدیوان العزیز- مجده اللّه- بداره فرکب و معه الشهود و الوکلاء و أتباع مجلس الحکم إلی داره بباب العامة المحروس و جلس و حکم و سمع البیتین و أسجل و لم یزل علی ذلک یحکم و یسجل عن الخدمة الشریفة الامامیة الناصریة- أعزّ اللّه أنصارها و ضاعف اقتدارها- إلی أن ولی قاضی القضاة أبو الفضائل (القاسم بن) یحیی ابن الشهرزوری فی ثامن عشری رمضان سنة خمس و تسعین و خمسمائة فتقدم إلیه بالاسجال عنه فأجاب إلی ذلک ثم عزله فی ذی الحجة من السنة المذکورة فلزم منزله إلی أن توفی فی یوم الأربعاء رابع ذی الحجة سنة تسع و خمسمائة و صلّی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 174
علیه بالمدرسة النظامیة و دفن عند أبیه بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -».
و ترجم له ابن الساعی بمثل ترجمة ابن الدبیثی و زاد علیه أنه «کان شابا جمیلا» و أن الخلعة کان فیها «طرحة کحلیّة» و أنه دفن عند أبیه بتربة لهم بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام -» و الغریب فی ترجمة ابن الساعی أنه مع موافقته لابن الدبیثی فی أن أبا الفضائل الشهرزوری أنابه فی الأسجال عنه سنة «595» و عزله فی ذی الحجة من تلک السنة قال فی حوادث سنة 599: «و فی ذی الحجة قلّد أحمد بن علی ابن البخاری أقضی القضاة و خلع علیه و تقدم إلی الشهود بالحضور فی مجلسه و الشهادة عنده علیه و له فیما یسجله عن الخدمة الشریفة الناصریة ».
و یؤید بطلان هذا الجزء قوله فی حوادث سنة 595: «و فی ذی الحجة عزل أقضی القضاة أبو الفضل أحمد بن علی بن علی ابن البخاری عما کان إلیه من الحکم و القضاء ».
و ترجم له المنذری بایجاز فی وفیات سنة 599 و وصفه بالقاضی الأجل أقضی القضاة و أکد دفنه بمشهد الامام موسی بن جعفر عند أبیه ، و ذکره أبو شامة فی تاریخه و أوجز سیرته أیضا و هو فی العادة ینقل من مرآة الزمان و الجزء المطبوع من مرآة الزمان هو مختصرة، و فی ترجمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 175
أبی شامة قوله «و کان نزها عفیفا » و هذه صفة جمیلة جلیلة فی تاریخ القضاة، و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 599 و جاءت ترجمته عنده مختلطة الأخبار، فقد قال: «ناب عن والده فی القضاء بالحریم و ولی بعد ذلک قضاء العراق سنة أربع و تسعین و عزل بعد سنة بأبی الفضائل القاسم بن یحیی الشهرزوری، توفی فی ذی الحجة و لا أعلم له ».
و بالمقابلة بین کلام الذهبی و کلام ابن الدبیثی یظهر بینهما فرق واضح و هو أنه ناب أشهرا عن ابن الشهرزوری، ثم عزله فقضاؤه کان وکالة لا أصالة. و وهم محی الدین القرشیّ فترجمه مع القضاة و الفقهاء و العلماء الحنفیّین و أحسب السبب فی وهمه کونه منسوبا «ابن البخاری» لأن أکثر البخاریین و عامتهم کانوا علی مذهب الامام أبی حنیفة- رضی- مع أن هذا النسب بخوری فجعله البغادّة «بخاریا» کما تقدّم.
و أبو الفرج المبارک بن أحمد بن إسماعیل البزاز البغدادی، ذکره المنذری فی وفیات سنة 599 قال: «و فی لیلة الثانی عشر من شوال توفی الشیخ أبو الفرج المبارک بن أحمد بن اسماعیل البزاز البغدادی بها و دفن من الغد بجانب الغربی بالمشهد- علی ساکنه أفضل السلام- یقال انه سمع من أبی محمد یحیی بن علی ابن الطراح و حدّث ».
قال أبو شامة فی وفیات سنة 599: «و فیها توفی القاضی أبو الفضل أحمد ابن قاضی القضاة أبی طالب علی بن هبة اللّه بن محمد ابن البخاری استنابه أبوه فی القضاء بحریم دار الخلافة فلم یزل علی ذلک حتی توفی والده فانعزل ثم ولی سنة أربع و تسعین فأقام حتّی ولی ضیاء الدین ابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 176
الشهرزوری فی رمضان المبارک سنة خمس و تسعین و خمسمائة فأقرّه علی حاله، ثم عزله فی ذی الحجة الحرام من السنة المذکورة، فلزم بیته إلی أن توفی فی ذی الحجة من هذه السنة و صلّی علیه بالنظامیة و دفن عند أبیه بمشهد موسی بن جعفر و کان نزها عفیفا ».

أبو البدر بن حیدر

70- و أبو البدر بن حیدر، ذکره ابن الساعی قال فی وفیات سنة 599: «شاب عنده فضل و تمیّز و کتابة، کان یتولی دیوان الترکات الحشریة ، توفی فی عاشر رمضان من سنة تسع و تسعین المذکورة من مرض أیام قلائل و صلّی علیه بالمدرسة النظامیة و دفن بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- بلغنی أنه کان یقول دائما: قد عینت علی فلان و فلان. و یعد مشایخ أرباب الأموال الذین لا وارث لهم سوی بیت المال، فمات هو شابا و بقی أولئک بعده ».

سنة «600» ه

اشارة

71- و أبو القاسم أحمد بن علی بن أحمد بن حراز المقری‌ء الخیاط ترجم له ابن الدبیثی فی تاریخه لبغداد قال بعد ذکر هذه التسمیة: «من أهل الکرخ، کان یسکن بدرب ریاح، سمع القاضی أبا بکر محمد ابن عبد الباقی الأنصاری و أبا منصور محمد بن عبد الرحمن بن محمد محمد القزاز و أبا عبد اللّه محمد بن محمد بن السلّال و أبا الفتح عبد الملک ابن أبی القاسم الکروخی و غیرهم. سمعنا منه، قرأت علی أبی القاسم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 177
أحمد بن علی بن حراز بالکرخ قلت له: أخبرکم القاضی أبو بکر محمد بن عبد الباقی (بن) أبی طاهر البزاز قراءة علیه و أنت تسمع فأقرّ به- و أسنده إلی عائشة رضی اللّه عنها- أن رسول اللّه- ص- قال:
ما نفعنی مال قط ما نفعنی مال أبی بکر. سألت أبا القاسم بن حرّاز عن مولده فقال: فی سنة أربع و عشرین و خمسمائة. و توفی یوم الاثنین خامس ذی القعدة سنة ستمائة و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر علیهما السلام -».
و ترجم له المنذری فی وفیات سنة «600» و أکد أنه دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- ع- و قال فی ضبط اسم جده و نعمت العادة ما فعل: «و حدث و لنا فیه إجازة. و حراز بضم الحاء المهملة و تشدید الراء المهملة و فتحها و بعد الألف زای ». و جاءت ترجمة مختصرة فی مختصر تاریخ ابن الدبیثی اختصار شمس الدین الذهبی و فیها زیادة هی قول الذهبی: «روی عنه النجیب عبد اللطیف و ابن النجار » و ذکره بإیجاز أیضا فی تاریخ الاسلام .

ابن حبشی

72- و الرضی بن حبشی، ذکره ابن الساعی فی وفیات سنة «600» قال: «الرضی بن حبشی، کاتب المخزن المعمور، کان کاتبا ضابطا متواضعا حسن الکتابة، کانت وفاته فی یوم الأربعاء ثالث عشری جمادی الأولی من سنة ستمائة و صلی علیه بالنظامیة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- ع-» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 178

أبو اسحاق التبریزی

73- و أبو اسحاق خلیل بن محمود بن خلیل التبریزی، ترجم له ابن الساعی فی وفیات سنة «600» قال: «أحد أمناء الحکم بمدینة السلام.
شیخ خیّر ولد ببغداد، ولاه قاضی القضاة أبو الحسن ابن الدامغانی أمینا علی أموال الأیتام و لم یزل علی ذلک إلی أن توفی فی لیلة الجمعة خامس عشری ذی الحجة من سنة ستمائة و دفن بمقبرة مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام-».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 179

القرن السابع الهجری

سنة «601» ه

اشارة

74- و أبو عبد اللّه أحمد بن علی بن ثابت أبو عبد اللّه الکاتب یعرف بابن الدنبان و ینسب «الدنبانی» ترجم له ابن الدبیثی فی تاریخ بغداد قال: «أحمد بن علی بن ثابت أبو عبد اللّه الکاتب یعرف بابن الدنبان، من أهل باب الأزج المتصرفین بالسّواد. وجد سماعه فی شی‌ء یسیر من القاضی أبی الفضل محمد بن عمر الأرموی. سمع منه آحاد الطلبة و لم یکن من أهل هذا الشأن و لا عرف به. توفی فی بعض قری السّواد و حمل إلی بغداد و دفن بالمشهد بمقابر قریش یوم الجمعة العشرین من شوال سنة إحدی و ستمئة ». و ذکره المنذری فی وفیات هذه السنة و قال: «و فی العشرین من شوال توفی الشیخ أبو عبد اللّه أحمد بن علی بن ثابت البغدادی الأزجی الکاتب المعروف بابن الدنبان ببعض قری السّواد و حمل إلی بغداد فدفن بالمشهد: مقابر قویش» و ذکر سماعه و تحدیثه. و قال: «و الدنبان بضمّ الدال المهملة و سکون النون و باء موحدة مفتوحة و بعد الألف نون ». و قال الذهبی فی کتابه المشتبه:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 180
«و بدال یابسة مضمومة و نون موحدة أحمد بن علی بن ثابت الأرجی الدنبانی . روی عن الأرموی. مات سنة 601» .
و ترجم له فی تاریخ الاسلام فی وفیات سنة «601» قال:
«أحمد ابن علی بن ثابت البغدادی الأزجی الکاتب أبو عبد اللّه الدنبانی حدّث» ...

ابن عبدوس

75- و أبو علی الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر، ذکره ابن الساعی فی وفیات سنة «601» قال بعد التسمیة: «شاعر من أهل واسط. قدم بغداد و استوطنها و کان أدیبا فاضلا ذا معرفة للنحو و اللغة و العربیة و له شعر حسن و کان یورد المدائح فی الهناءات و هو أحد شعراء الدیوان العزیز. أنشدت قطعا من شعره فمن ذلک قوله:
مراتع القلب بین الحضر و الحضرو نزهة العین بین الفتح و الحور
کم لی أکتّم وجدا قد عرفت به‌نعم عشقت و ما فی العشق من خطر
من شاء فلیدرع عذرا یعوذ به‌من الوشاة فانی غیر معتذر
قل ما تشاء فانی غیر سامعه‌لقد شککت مع البرهان فی الخبر
فالعذل کالرقم فوق الماء صورته‌موهومة النفع بل محسوسة الضرر
فلو رأیت بعین من کلفت به‌عرفت یا عمرو ما أنکرت من عمر
مهفهفا من بنی الأتراک لو طلعت‌بوجهه الشمس لم تحتج إلی القمر
أرقّ من دمعی الجاری لفرقته‌یکاد یجرح بالألحاظ و النظر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 181 لو جمشته الأمانی راقدا لبدافی وجهه أثر من ذلک الأثر
و دعته فتداعی من مکلّله‌طل علی الورد عن سحب من الخضر
و مدّ کفا شممنا من مقبّلهانشر الریاض صباح الغیم و المطر
فقلت ما قال قیس یوم فرقته‌لبنی فخاف بموسی صخرة الخضر (کذا)
ثم اعتنقنا فلو لا الدمع لالتهبت‌نار الصبابة بین الماء و الحجر
و کدت ألثمه لو لا مراقبتی‌واشی الزفیر و خوفی لفحة الوغر
فسرت تحملنی الآمال طائرةإلی الخلیفة أهدی الشعر للسّور
کانت وفاة ابن عبدوس الشاعر هذا فی یوم الجمعة خامس صفر من سنة إحدی و ستمائة المذکورة و صلّی علیه بالمدرسة النظامیة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام -».
و قال عز الدین ابن الأثیر فی حوادث سنة (601) ه: «و فیها فی صفر توفی أبو علی الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطی و هو من الشعراء المجیدین و اجتمعت به بالموصل، وردها مادحا لصاحبها نور الدین أرسلان شاه و غیره من المقدّمین و کان نعم الرجل، حسن الصحبة و العشرة ».
و ترجم له ابن الدبیثی قال: «الحسن بن محمد بن عبدوس أبو علی شاب من أهل واسط. قدم بغداد و استوطنها إلی حین وفاته و کان فیه فضل و له معرفة بالنحو و اللغة العربیة و قال الشعر الحسن و له مدائح کثیرة فی المواقف المقدسة الأمامیّة الناصریة- خلّد اللّه ملکها- سمعنا منه کثیرا من شعره حالة إیراده فی المواسم و الهناءات. توفی ببغداد فی لیلة الجمعة خامس صفر من سنة إحدی و ستمائة و صلی علیه یوم الجمعة بالمدرسة النظامیة و دفن بالجانب الغربی بالمشهد بمقابر قریش- علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 182
ساکنه السلام -». و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بقطب الدین و وهم فی وفاته فعدّها سنة «600» و أعاد ذکره فی الملقبین بمظفر الدین و نسی أنه ذکره أول مرّة مع أنّ مرجعه التاریخی واحد.
قال فی الجزء الرابع: «قطب الدین الحسن بن محمد بن عبدوس الواسطی، ذکره محمد بن سعید- یعنی ابن الدبیثی- و قال: استوطن بغداد و کان فیه أدب و له شعر و توفی فی صفر سنة ستمائة» ثم قال فی الجزء الخامس: «مظفر الدین أبو علی الحسن بن محمد بن عبدوس الواسطیّ المقری‌ء الأدیب، ذکره ابن الدبیثی فی کتابه» إلی أن قال:
ناقلا: «و توفی لیلة الجمعة خامس صفر من سنة إحدی و ستمائة و دفن بمقابر قریش ».
و ذکره القفطی فی الانباه إلا أن النسخة المنشورة بمصر ساقطة منها ترجمته و ترجمة آخرین غیره قال السیوطی فی تاریخ النحاة: «الحسن ابن محمد بن عبدوس- بضم العین- أبو علی الواسطی. قال القفطی:
سکن بغداد و قرأ الأدب علی مصدق بن شبیب (الواسطی) و کتب الصحاح بخطه و مدح الناصر لدین اللّه بقصائد و صار من شعراء الدیوان المختصین بالانشاد فی التهانی و التعازی و کان فاضلا قیما بالأدب حسن المعانی ملیح الایراد، ساکنا جمیل الهیأة طیب الأخلاق، متوددا ظریفا. مات لیلة الجمعة خامس صفر سنة إحدی و ستمائة و جاوز الأربعین بقلیل ».
و ذکر ابن سعید المغربی فی کتابه «الغصون الیانعة فی محاسن شعراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 183
المئة السابعة- ص 12- شاعرا اسمه «العبدوسی محمد بن عبدوس الواسطیّ ذکره مع من توفی سنة «601» و أحسبه ما أراد إلا إیاه و إنما سقط اسمه و بقی اسم أبیه فنسب إلیه. و ترجم له محب الدین ابن النجار کما یدل علیه مختصر تاریخه الموسوم بالمستفاد من ذیل تاریخ بغداد لأحمد ابن أبیک الدمیاطی قال: «الحسن بن محمد بن عبدوس أبو علی الشاعر من أهل واسط، سکن بغداد و مدح الامام الناصر لدین اللّه و کان فاضلا قیما بالأدب، جید الشعر، حسن المعانی ملیح الایراد، جمیل الهیأة کیّسا متواضعا . قرأت بخط أبی علی بن عبدوس قال: سئلت إجازة بیتین هما:
حباکم اللّه و أعیاکم‌و لا عدا الوابل مغناکم
نحن عدمنا الصبر من بعدکم‌فکیف أنتم لا عدمناکم؟
قال فقلت:
قد کان لی کنز فأنفقته‌أفقرنی الوجد و أغناکم
تشتاقکم عینی و قلبی فماأطیب رؤیاکم و ریّاکم
أکاد من فرط و لوعی بکم‌أغرق فی الذکری فأنساکم
سکنتم القلب فلا توحشواربعا حللتم فیه حاشاکم
إنی علی البعد لراج بأن‌یجمعنی اللّه و إیاکم
*** و له:
لو شاح من باح بالهوی کتمه‌و کیف یخفی عواده سقمه؟
قالوا مریض الفؤاد قلت لهم‌و الجسم ألقی بذلک التهمه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 184 فأوسعونی عذلا عدمتهم‌ما هکذا عاد سالم سلمه
نعم و إن ساءهم عشقت و مافی العشق عار عندی و لا نقمه
أهیف من شکله القضیب و من‌شبّه بالغصن قدّه ظلمه
أحسن من ضمّه القباء فلویستطیع من حبّه له التزمه
قد استوی سهمه و ناظره‌عذب فنفس أشقیتها نعمه
توفی أبو علی ابن عبدوس فی لیلة الجمعة لخمس خلون من صفر سنة إحدی و ستمائة و دفن من الغد بمقابر قریش، و أظنه جاوز الأربعین بقلیل- رحمه اللّه تعالی -».
و ذکره المنذری فی وفیات سنة 601 قال: «فی لیلة الخامس من صفر توفی الأدیب أبو علی ... بن عبدوس الواسطی نزیل بغداد الشاعر ببغداد و دفن من الغد بالمشهد بمقابر قریش، حدث بشی‌ء من شعره و کان فاضلا عارفا بالنحو و اللغة و قال الشعر الحسن ». و قال الذهبی فی وفیات تلک السنة: «الحسن بن محمد بن عبدوس الأدیب أبو علی الواسطی الشاعر نزیل بغداد، نحوی فاضل لغوی له شعر جید، مدح الکبار ».

ابن أبی الحدید عبد اللطیف

76- و عبد اللطیف بن هبة اللّه بن محمد بن محمد ابن أبی الحدید أبو محمد المدائنی المتفقه، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه قال بعد ذکر اسمه:
«من أهل المدائن، و هو ابن القاضی أبی الحسین قاضی المدائن، شاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 185
تفقه علی مذهب الشافعی- رضی اللّه عنه- و نظر فی علم الکلام و الأدب و کان فیه فضل و تمیّز، توفی ببغداد لیلة الأربعاء لثمان خلون من شهر ربیع الأول سنة إحدی و ستمائة، و صلّی علیه بالجانب الغربی و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- عند أخیه محمّد المقدم ذکره ».
و ذکره المنذری فی وفیات سنة «601» قال: «و فی لیلة الثامن من شهر ربیع الأول توفی الفقیه أبو محمد عبد اللطیف ابن القاضی أبی الحسین بن أبی المعالی هبة اللّه بن محمد بن محمد . و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- ع-. تفقه علی مذهب الامام الشافعی- رضی- و نظر فی علم الکلام و الأدب و کانت فیه فضیلة، و قد تقدّم ذکر أخیه أبی البرکات محمد. و والدهما أبو الحسین هبة اللّه کان قاضی المدائن و خطیبها، و سیأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی ».
و قال الذهبی فی وفیات سنة «601» ه: «عبد اللطیف ابن القاضی أبی الحسین هبة اللّه بن محمد ابن أبی الحدید الفقیه أبو محمد المدائنی الشافعی الأدیب المتکلم، کان أبوه قاضی المدائن و خطیبها. توفی فی ربیع الأول و هو أخو محمد ». و الذهبی ناقل من بعض الکتب و لعله التکملة و قد ذکر فیما نقل ما لا حاجة له فیه لأنه لم یذکر أخاه محمدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 186
فی وفیات سنة 598 من تاریخه فللقائل أن یقول: ما الباعث علی ذکره أخاه محمدا؟

سنة «602» ه

اشارة

77- و أبو شجاع المعروف بالخنّوص، الذهبی ، ذکره ابن الساعی فی وفیات سنة «602» بهذه التسمیة التی نقلتها من کتابه قال:
«شیخ من ساکنی الغلّة، کان أولا ذهبیا ثم ضمن دار الذهب، و کان تاجرا، توفی یوم الأربعاء رابع شهر ربیع الأول من سنة اثنتین و ستمائة المذکورة و دفن فی مقبرة المشهد الکاظمیّ علی ساکنیه السلام ».

جاریة مکین الدین

78- و جاریة مکین الدین ابی الحسن محمد بن محمد بن عبد الکریم المقدادی القمیّ، کاتب دیوان الانشاء، ذکرها ابن الساعی فی وفیات سنة «602» و قال: «أم أولاده، توفیت فی ثامن صفر من سنة اثنتین و ستمائة المذکورة، و صلّی علیها بالمدرسة النظامیّة و دفنت فی تربة لهم بالمشهد الکاظمی- علی ساکنیه السلام- و شیّع جنازتها خلق کثیر ».

ابنة الأمیر ارغش

79- و ابنة الأمیر أرغش زوجة الأمیر جمال الدین قشتمر الترکی الناصری، ذکرها ابن الساعی فی وفیات سنة «602» و قال: «توفیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 187
فی هذه السنة بمرض السلّ، و کان سبب مرضها فیما ظهر أن زوجها قشتمر المذکور وقع بینه و بین الوزیر ناصر بن مهدی ما اقتضی أن رأی سیده الامام الناصر لدین اللّه- رضی اللّه عنه- إیفاده إلی رامهرمز و إقطاعه إیاها، فمرضت لفراقه، فلما بلغها أنه قد تزوج بابنه أبی طاهر اشتد حزنها و تزاید مرضها و کان لها منه ابن صغیر اسمه محمد و لقبه قطب الدین فکانت تبکی اللیل و النهار شوقا إلیه، و تأسفا علیه، و کانت إذا سلیّت عنه لا تسلی، و أیست من عوده و اجتماعها به، و بلغنی أنّها امتنعت من الطعام و الشراب حتی ماتت- رحمها اللّه تعالی- و فتح لها جامع القصر الشریف و حضر جماعة الأمراء و الأعیان و الأکابر للصلاة علیها، و دفنت فی تربة لها بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام ».
و قد ذکر ابن الأثیر الحرب بین طاهر اللری و جیش الخلیفة الناصر لدین اللّه و استنجاد الأمیر قشتمر بجماعة من ملوک الأطراف و لم یذکر توبة قشتمر و رجوعه إلی بغداد و دخوله فی طاعة الناصر عودا علی بدء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 188
لأن ابن الأثیر کان منحرفا عن الناصر شدید البغض له إما لأمور ذاتیة شخصیّة و إما مجاراة لبعض ملوک زمانه، و ذلک یدل علی أنه کان مؤرخا غلب علیه الهوی و استبد به التحیّز و العیاذ باللّه من ذلک لکل من یعانی التاریخ و یتعاطاه و یعالجه.

سنة «604» ه

اشارة

80- و أبو الحسن علی بن أبی بکر محمد بن علی الجرجانی ثم البغدادی التاجر، ترجم له ابن الدبیثی قال: «من ساکنی دار الخلافة المکرّمة- شید اللّه قواعدها بالعز-. بلغنی أنه ولد بجرجان و قدم بغداد فی صباه، و استوطنها إلی ان مات بها، کان أحد التجار المعروفین بکثرة الأسفار، دخل الشام و خراسان و رکب البحر و دخل الصین، و سمع ببغداد من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد المعروف بابن البطی و غیره، و یقال إنه حدّث بدمشق عنه، فأما بغداد ما أعلم أنه روی شیئا، و ما ظفرنا بسماعه فی حیاته لنکتب عنه، قال لی من سمعه یقول: مولدی فی سنة تسع و عشرین و خمسمائة بجرجان. قلت: و توفی ببغداد فی لیلة السبت سابع عشری رجب سنة أربع و ستمائة، و دفن یوم السبت بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -».
و ذکره محب الدین ابن النجار و قال: «من أهل جرجان، سافر الکثیر و طاف البلاد فی طلبه الکسب ثم إنه قدم بغداد و استوطنها و کان یسکن بدار الخلافة، و کان من أعیان التجار، مکثرا من المال، سمع شیئا من الحدیث من أبی الفضل أحمد بن سعید المیهنی و أبی الفتح محمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 189
ابن عبد الباقی ابن البطی و غیرهما و حدّث ببغداد و دمشق، علقت عنه شیئا من الأناشید ببغداد فی مجلس شیخنا أبی أحمد (عبد الوهاب) ابن سکینة و کان شیخنا أبو أحمد . و کان شیخا متمیّزا ذا فهم و فضل و له معرفة بالأصول علی مذهب الأشعری، و أنس و فصاحة، و کان حسن الخلق و الخلق، ملیح الشیبة، مهیبا و قورا. أنشدنا أبو الحسن علیّ بن محمد بن علی الجرجانی من حفظه أنشدنا أبو الفتح محمد بن محمد بن الأدیب لنفسه من قصیدة یمدح بها أبا الفضل یحیی بن عبد اللّه ابن جعفر صاحب المخزن.:
لکل زمان من أماثل أهله‌برامکة یمتاحهم کل معسر
أبو الفضل یحیی مثل یحیی بن خالدندی و أبوه جعفر مثل جعفر
و ذکر مولده فی سنة 529 و قال: «و توفی لیلة السبت السادس و العشرین من رجب سنة أربع و ستمائة و صلی علیه من الغد بالمدرسة النظامیة و دفن بمقابر قریش ».
و ذکره المنذری فی وفیات سنة «604» قال: «و فی لیلة السابع و العشرین من رجب توفی الشیخ أبو الحسن علی بن أبی بکر محمد بن علی الجرجانی ... و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- ... و کان أحد من عرف بکثرة الأسفار من التجار و دخل خراسان و رکب البحر و دخل الصین و له ترجمة موجزة فی تاریخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 190
الذهبی الکبیر .
و ذکره ابن الساعی مرة ثانیة فی وفیات السنة المذکورة- أعنی سنة 604- باسم «أبی محمد الحسن بن یحیی بن أحمد بن الحسن بن عمارة الکاتب البغدادی» و قال: «أدیب له شعر فمن ذلک قوله:
تهنّ بالعید و إقباله‌یا منعش الخلق بافضاله
وابق منیع الجار فی نعمةما غنی اللیث بأشباله
إلیک یأوی کل ذی حاجةأتاک یحیی میت آماله
فکنزه کنت لاعدامه‌و خصبه کنت لا محاله
من کفلان الدین خیر الوری‌فی جود کفیه و إجماله
مولی بمسعاه سما فخره‌و شید المجد بأفعاله»
و قال بعد ذلک: «توفی ابن عمارة هذا فی شهور سنة أربع و ستمائة المذکورة، و قد سبق ذکر وفاته ».

ابن الناقد

81- و شرف الدین أبو القاسم الحسن بن نصر بن علی بن أحمد ابن الناقد، ترجم له ابن الدبیثی قال: «محمد ربی فی ظل الخدمة الشریفة المقدسة الامامیة النّاصریة- خلّد اللّه ملکها- و شمله إنعامها طفلا و یافعا و محتلما، فسما قدره، و شاع ذکره، و نفذ أمره، و تولّی الولایات، و تنقل فی الخدمات، فرتب حاجب باب النوبی المحروس .
فی یوم السبت ثالث المحرّم من سنة ست و ثمانین و خمسمائة فلم یزل علی ذلک إلی أن توفی والده فی ثامن عشر جمادی الآخرة من سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة، و کان یتولی صدریة المخزن فنقل إلی النظر بالمخزن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 191
المعمور فی هذا الیوم و ولی الصدریة به و بأعماله. و فی سنة أربع و تسعین و خمسمائة فوض إلیه النظر فی الدواوین جمیعها و رسم لأرباب الولایات و النظّار المصیر إلیه و المراجعة له فکانت الأعمال کلها مردودة إلیه ، و ولی النظر فی دیوان الزمام لأبی البدر (محمد) ابن أمسینا فی داره، و قاضی القضاة أبا الفضائل (القاسم بن یحیی) ابن الشهرزوری و قری‌ء عهده عنده، و رکب إلی الدیوان العزیز- مجّده اللّه- فی الأعیاد و جلس للهناء و حضر بباب الحجرة الشریفة فی المواسم التی کان یحضر فیها النواب عن دیوان المجلس ، و لم یزل سامیا، و أمره نافذا إلی صفر سنة سبع و تسعین و خمسمائة ففوّض النظر فی الأمور إلی ناصر بن مهدی، فرکب إلی الدیوان العزیز- مجده اللّه- نائبا عن الوزارة فی الشهر و استقلّ الحسن بن الناقد بتولی المخزن المعمور إلی أن عزل عن ذلک یوم الخمیس رابع عشری جمادی الأولی سنة ثمان و تسعین و خمسمائة و لم یستخدم إلی أن توفی فی لیلة الأربعاء سابع شهر رمضان سنة أربع و ستمائة و دفن یوم الأربعاء بمشهد الامام بن جعفر- علیهما السلام- بالجانب الغربی و کان سمع شیئا من الحدیث و لم یبلغ أوان الروایة لأنه توفی شابا» و ذکره المنذری فی وفیات سنة «604» بإیجاز و قال: «دفن ... بتربة لهم بمشهد الامام موسی ابن جعفر- علیهما السلام- و قد سمع شیئا من الحدیث توفی قبل أوان الروایة ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 192
و قال سبط ابن الجوزی فی وفیات سنة «604» ه: «و فیها توفی شرف الدین بن الناقد ابن قنبر و اسمه الحسن بن أبی طالب، ولاه الخلیفة (الناصر) حجبة الباب و ناب فی الوزارة ثم ولاه صاحب المخزن فتجبر و طغی و بنی دارا فی درب المطبخ و تناهی فی بنائها و شرع فی الظلم و الفسق و تجاهر به و مدّ عینه إلی أولاد الناس، و کان قبیح السیرة، فرفع أمره إلی الخلیفة فأخذه أخذ عزیز مقتدر و قبض علیه، و استأصله و نقض داره إلی الأساس و حبسه فأخرج فی رمضان میتا فدفن بمشهد باب التبن» و ذکره الذهبی فی تاریخه الکبیر و نقل کلام سبط بن الجوزی و زاد علیه قوله «و قد سبّه ابن النجار و بالغ فی مقته ». و قد قدمنا ما یشیر إلی أن ابن الساعی قد ترجم له ترجمة حسنة .
و ذکره أبو شامة فی تاریخه بمثل ما جاء فی مختصر مرآة الزمان، و قال فی داره الأنیقة «فلم یکن ببغداد مثلها » و تصحف فیه مشهد باب التبن إلی مشهد باب البیر.

ابن الصاحب

82- و الربیب أحمد بن علی بن هبة اللّه ابن الصاحب، ذکره ابن الساعی فی تاریخه المختصر فی وفیات سنة «604» قال بعد ذکر اسمه: «أخو أستاذ الدار العزیزة یومئذ، توفی یوم الأحد تاسع المحرم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 193
منها و صلی علیه فی جامع القصر الشریف و دفن بمشهد موسی بن جعفر- علی ساکنیه السلام- و کان عمره نحوا من خمسین سنة و قد روی شیئا من الحدیث ». و ترجمة المنذری فی التکملة و الذهبی فی تاریخ الاسلام.

ابن عمارة الکاتب

83- و فخر الدین أبو محمد الحسن بن یحیی بن عمارة الکاتب، ترجم له ابن الدبیثی قال: «بغدادی سکن واسط و عاد إلی بغداد و تولی الکتابة بمعاملة نهر عیسی. و قد کان سمع من الوزیر أبی المظفر یحیی ابن هبیرة و أبی زرعة طاهر بن محمد المقدسیّ و غیرهما، و ما أظنه روی شیئا، لاشتغاله بغیر ذلک، و کان فیه فضل و له شعر و ترسل.
توفی ببغداد لیلة الأحد خامس عشری ربیع الآخر سنة أربع و ستمائة و دفن یوم الأحد بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام -». و ذکره الزکی المنذری فی وفیات سنة «604» قال:
«و فی لیلة السادس و العشرین من شهر ربیع الآخر توفی الشیخ أبو محمد الحسن بن یحیی بن عمارة البغدادی الکاتب ببغداد و دفن من الغد بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام -» و ذکر ما ذکرناه الدبیثی، و قال ابن الساعی فی ترجمته: «شیخ من أعیان الکتاب، عنده فضل و معرفة بالکتابة » و ذکر دفنه بالمشهد المذکور، و قال ابن الفوطی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 194
فخر الدین ابو محمد الحسن بن یحیی بن عمارة البغدادی الکاتب » و أوجز ترجمة مختصرا کلام ابن الدبیثی و مصرحا باسمه. و کذلک فعل الذهبی فی تاریخه الکبیر .

أبو الحسن بن علی الجرجانی

84- قال زکی الدین المنذری فی وفیات سنة 604: «و فی لیلة السابع و العشرین من رجب توفی الشیخ أبو الحسن علی بن أبی بکر محمد بن علی الجرجانی المولد البغدادی الدار و الوفاة و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- و مولده سنة تسع و عشرین و خمس مئة. سمع ببغداد من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و غیره بدمشق و کان أحد من عرف بکثرة الأسفار من التجار و دخل خراسان و رکب البحر و دخل الصین ».
و قال شمس الدین الذهبی فی وفیات سنة 604: «علی بن محمد ابن علی الجرجانی ثم البغدادی التاجر، حدث بدمشق عن أبی الفتح ابن البطی و کان کثیر الأسفار للتجارة. دخل الصین و غیرها و توفی فی رجب ».

سنة «605»

85- و قوام الدین أبو الفوارس نصر بن ناصر بن لیث بن مکی المدائنی الکاتب. ذکره المنذری فی وفیات سنة «605» ه قال: «و فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 195
لیلة التاسع من شعبان توفی الشیخ الأجل القوام أبو الفوارس نصر بن ناصر بن لیث بن مکی المدائنی الکاتب ببغداد و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- کانت له معرفة بالأدب و قال الشعر و کتب الخط الحسن و کان صاحب المخزن المعمور و تولی الوکالة للدیوان العزیز و غیر ذلک من الخدم ». و ذکره ابن الساعی فی وفیات سنة «605» ه قال: «و تقدم فی خدمة الدیوان العزیز و علت منزلته و رتب مشرف دار التشریعات الشریفة المعمورة ثم الاشراف بالدیوان المفرد ثم تولی صدریة المخزن و خلع علیه فی دار الوزیر ناصر بن مهدی و أضیف إلیه النظر بأعمال السّواد، و أشهد له بالوکالة الشریفة الناصریة و لم یزل فی علو من شأنه، و إقبال من سلطانه إلی أن اخترمته المنیة شابا، و کان فیه فضل و کتابة و عنده أدب و یقول الشعر و یورد فی الهناءات مع الشعراء قبل هذه الولایات فمن شعره ما نقلته من خط أبی سعد بن حمدون الکاتب و هو ما رثی به والدة الامام الناصر لدین اللّه- رضی اللّه عنهما- بقوله:
قلبی لوقع النأی و البین یضطرب‌و غایة البین أن الدمع ینسکب
دعه عسی دمعه یطفی لحرقته‌فملّة الماء منها یخمد اللهب
و هی طویلة و قد ذکرتها فی مراثی الجهة السعیدة والدة الامام الناصر لدین اللّه (زمرد خاتون) کاملة. کانت وفاة القوام أبی الفوارس هذا فی لیلة الأربعاء تاسع شعبان من سنة خمس و ستمائة المذکورة عن مرض أیام قلائل و صلّی علیه فی جامع القصر الشریف و حضر جنازته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 196
جمیع أرباب الدولة و وجوه الناس کافة و دفن فی حضرة موسی بن جعفر- علیهما السلام- و کان الجمع وافرا جدا ».
و ذکره ابن الأثیر فی حوادث سنة «605» ه قال: «و فیه- یعنی صفرا- توفی القوام أبو الفوارس نصر بن ناصر بن مکی المدائنی صاحب المخزن ببغداد و کان أدیبا فاضلا، کامل المروءة، یحب الأدب و أهله، و یحب الشعر و یحسن الجوائز علیه ».

«607» ه

اشارة

86- و أبو الحسن علی بن عبد اللّه بن شاذان أبی الأزاهر المقری‌ء بن البتتی ، ذکره ابن الدبیثی بهذه التسمیة فی تاریخ بغداد و قال «من ساکنی المحلّة المعروفة بالأجمة، کان حافظا للقرءآن المجید، حسن القراءة له، سریع التلاوة، ذکر لی أنه سمع شیئا من الحدیث و کان بالقراءة أکثر اشتغالا و له فی کثرة القراءة طبقة لم یدرکها بعده أحد، و ذلک أنه قرأ علی شیخنا أبی شجاع ابن المقرون فی یوم واحد من طلوع الشمس إلی غروبها القرآن الکریم ثلاث مرّات و قرأ فی المرة الرابعة إلی آخر سورة الطور، و ذلک یوم الخمیس ثامن رجب سنة ثمان و خمسین و خمسمائة بمشهد من جماعة من القراء و غیرهم و لم یخف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 197
شیئا من قراءته و لا فتر و ما سمعنا أن أحدا قبله بلغ هذه الغایة. توفی عصر نهار الأربعاء ثامن شهر رمضان سنة سبع و ستمائة و دفن یوم الخمیس تاسعه بالجانب الغربی بمشهد الامام موسی بن جعفر- ع- ». و ذکره المنذری فی وفیات سنة «607» ه و کأنه نقل کلام ابن الدبیثی ، و ترجم له جمال الدین أبو حامد محمد بن علی المحمودی المعروف بابن الصابونی و نقل کلام ابن الدبیثی أیضا. ئلا أنه ضبطه قبل الذهبی بقوله: «بضم الباء الموحدة و بعدها تاء مفتوحة معجمة باثنتین من فوقها و تاء مثلها مکسورة بعدها یاء آخر الحروف معجمة باثنتین من تحتها». و أکد أنه دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام و قال: «هذا آخر کلام ابن الدبیثی ». و أوجز ترجمته الذهبی فی کتابه فی تاریخ القراء و المقرئین ، و أجاد ترجمته فی تاریخ الکبیر قال: «علی بن أبی الأزهر البغدادی المعروف بابن البتتی- بضم الباء الموحدة- مقری‌ء فصیح سریع القراءة إلی الغایة لا یکاد یجاری». و ذکر کلام ابن الدبیثی بعد ذلک ثم قال: «قال ابن النجار: أبو الحسن علی بن عبد اللّه بن علی بن إبراهیم بن یحیی بن ظاهر ابن یوسف بن إبراهیم بن الحسن بن شاذان القصّار البتتی أحد القراء المجودین، سألته عن مولده فقال: ولدت سنة ثمان و ثلاثین و خمسمائة. و أجاز لی و سمع الحلیة من یحیی بن عبد الباقی الغزال و ذکر لی أنه قرأ فی الیوم ثلاث ختمات و الرابعة إلی الطور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 198
إلی آخرها بمجمع کثیر من القراء و أخذ خطوطهم بذلک و أنه لم یخلّ بالتشدیدات و المدّات و إفهام التلاوة علی أبی شجاع بن المقرون و ذکر أنه ختم فی شهر رمضان اثنتین و ستین ختمة. إلی أن قال: و کان حسن الأخلاق متوددا محبا لأهل العلم متشیعا غالیا فی التشیع ».

کمشتکین

87- و أبو بکر قیصر بن کمشتکین بن عبد اللّه مولی ابن صلایا الکاتب ذکره المنذری فی وفیات سنة «607» قال: «و فی العشرین من جمادی الأولی توفی الشیخ الأصیل أبو بکر قیصر بن کمشتکین بن عبد اللّه مولی ابن صلایا، الکاتب بتستر و دفن بها ثم نقل بعد ذلک إلی بغداد و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- سمع من أبی محمد عبد اللّه بن أحمد بن أحمد ابن الخشاب و عبد اللّه بن منصور ابن الموصلی، و فخر النساء شهدة شهدة بنت الإبری و غیرهم و حدّث ».
و یفهم من کلام ابن الساعی أن قیصر هذا کان یعنی بجمع الأخبار فقد قال فی خبر قتل الأمیر قشتمر الناصری لزیاد بن عبید أمیر خفاجة:
«قد ذکر هذه الواقعة الحاجب قیصر بن کمشتکین و من خطه نقلتها و الظاهر أن قتله لم یکن فی هذه السنة (أی سنة 596) بل بعد ذلک » ثم قال فی خبر آخر: «قرأت بخط الحاجب قیصر بن کمشتکین: حدثنی یوسف بن سلام ...». و ذکره غیر تلک المرتین لمثل هذا الأمر و مما یهم المؤرخ منها قوله: «کنت فی بعض الأوقات فی خدمة الموکب الشریف المقتفوی و قد خرج للصید فاشتد حر الشمس فنفذ الشمسیة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 199
ورائه لولده أبی أحمد و الأجل فاضل لترد عنه وهج الشمس، فرأیت الشمسیة تظل الأمیر أبا أحمد و الأجل فاضل » یعنی فاضلا علی الصحیح.

سنة «608» ه

اشارة

88- و تاج الدین أبو سعد الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون الأدیب الکاتب، ذکره یاقوت الحموی فی معجمه لتراجم الأدباء و قد قال بعد ذکر تسمیته: «قد تقدم ذکر أبیه صاحب الدیوان بهاء الدین أبی المعالی و ذکر عمه أبی نصر محمد بن الحسن کاتب الانشاء مع أن یاقوتا لم یقدّم فی معجمه للأدباء المحمّدین، بل أخّرهم إلی المیم فهو ناقل فی هذا غیر عاقل لما نقل، و القسم الذی ضمّنه یاقوت ترجمتیهما لا یزال غیر منشور و لا معروف، ثم قال یاقوت: «و مولده فی صفر سنة 547 و کان- رحمه اللّه- من الأدباء العلماء الذین شاهدناهم، زکی النفس، طاهر الأخلاق، عالی الهمّة، حسن الصورة، ملیح الشیبة، ضخم الجثة، کث اللحیة طویلها، طویل القامّة، نظیف اللبسة، ظریف الشکل و هو ممّن صحبته فحمدت صحبته و شکرت أخلاقه، و کان قد ولی عدة ولایات عایتت منها النظر فی البیمارستان العضدی، و کانت هیبته فیه و مکانته منه أعظم من مکانة أرباب الولایات الکبار لأن الناس یرونه بعین العلم و البیت القدیم فی الرئاسة ثم ولی عند الضرورة کتابة السلّة بالدیوان العزیز ببغداد برزق عشرة دنانیر فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 200
الشهر. و سألته فقلت: هذا حمدون الذی تنسبون إلیه أهو حمدون ندیم المتوکل و من بعده من الخلفاء؟ فقال: لا نحن من آل سیف الدولة ابن حمدان بن حمدون من بنی تغلب. هذه صورة لفظه. و کان من المحبین للکتب و اقتنائها، و المبالغین فی تحصیلها و شرائها و حصل له من أصولها المتقنة، و أمّهاتها المعینة، ما لم یحصل للکثیر ثم تقاعد به الدهر و بطل عن العمل فرأیته یخرجها و یبیعها و عیناه تذرفان بالدموع کالمفارق لأهله الأعزّاء، و المفجوع بأحبابه الأودّاء. فقلت له: هوّن علیک أدام اللّه أیامک- فإن الدهر ذو دول و قد یصحب الزمان و یساعد، و ترجع دولة العز و تعاود، فتستخلف ما هو أحسن منها و أجود. فقال:
حسبک یا بنی هذه نتیجة خمسین سنة من العمر أنفقتها فی تحصیلها و هب أن المال یتیسر، و الأجل (أ) یتأخر؟ و هیهات فحینئذ لا أحصل من جمعها بعد ذلک إلا علی الفراق، الذی لیس بعده تلاق، و أنشد بلسان الحال:
هب الدهر أرضانی و أعتب صرفه‌و أعقب بالحسنی و فکّ من الأسر
فمن لی بأیام الشباب التی مضت‌و من لی بماقد مرّ فی البؤس من عمری؟
ثم أدرکته منیته و لم یدرک أمنیته ... و کان مع اغتباطه بالکتب و منافسته و مناقشته فیها، جوادا باعارتها و لقد قال لی یوما و قد عجبت من مسارعته إلی إعارتها للطلبة: ما بخلت باعارة کتاب قط و لا أخذت علیه رهنا. و لا أعلم أنه مع ذلک فقد کتابا فی عاریة قط. فقلت:
الأعمال بالنیات و خلوص نیتک فی إعارتها حفظها علیک» و قال قبل ذلک: «و کان حریصا علی العلم فجمع من أخبار العلماء و صنف من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 201
أخبار الشعراء و ألّف کتبا لا یجسر علی إظهارها خوفا مما طرق أباه مع شدّة احتراز ، و بالجملة فعاش فی زمن سوء و خلیفة غشوم جائر، کان إذا تنفّس خاف أن یکون علی نفسه رقیب یؤدی به إلی العطب .
و هو کان آخر من بقی من هذا البیت القدیم و الرکن الدعیم و لم یخلّف إلا ابنة مزوّجة من ابن الدوامی و ما أظنها معقبة أیضا» ثم قال: و کتب بخطه الرائق الکتب الکثیرة الکبار و الصغار المرویة و قابلها و صحّحها و سمعها علی المشایخ فکان ممن لقی من المشایخ أبو بکر محمد بن عبید اللّه الزاغونی و النقیب أبو جعفر أحمد بن محمد ابن العباسی المکی و أبو حامد محمد بن الربیع الغرناطیّ، مغربی قدم علیهم، و أبو المعالی محمد بن محمد ابن النحاس العطار و والده أبو المعالی بن حمدون و أبو الفتح محمد بن عبد الباقی بن سلمان المعروف بابن البطی، و جماعة بعدهم کثیرة کابن کلیب الحرانی و ابن بوش و غیرهم، و روی شیئا من مسموعاته یسیرا.
و کان مؤید الدین محمد بن محمد القمی نائب الوزارة ببغداد قد خرج إلی ناحیة خوزستان حیث عصی سنجر مملوک الخلیفة بها حتی قبض علیه و عاد به و فی صحبته عز الدین نجاح الشرابیّ، فخرج الناس لتلقیه عند عوده فی محرم سنة 608، و کان عبلا ترفا معتادا للدعة و الراحة، ملازما لقعر داره، و کان الحرّ شدیدا و الوقت صائفا، فلما انتهی إلی المدائن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 202
اشتد علیه الحرّ و تکاثف حتی أفضی به إلی التلف، فمات- رحمه اللّه- فی الوقت المقدم ذکره بالمدائن بینه و بین بغداد سبعة فراسخ، فحمل إلی بغداد و دفن بمقبرة موسی بن جعفر بباب التبن- رحمه اللّه و رضی عنه- ». و خروج تاج الدین ابن حمدون فی الاستقبال الذی یشیر إلیه یاقوت ذکر عز الدین بن الأثیر خبره قال فی حوادث سنة «607» قال: «ذکر عصیان سنجر مملوک الخلیفة بخوزستان و مسیر العساکر إلیه». و کان سنجر أراد أن یستقل بخوزستان ثم التجأ إلی أتابک شیراز فتهدده جیش الخلیفة الناصر و أجبره علی تسلیم الأمیر المملوک العاصی فسلمه إلیهم هو و أهله و ماله فعادوا به إلی بغداد کما حکی ابن الأثیر قال: «و وصل الوزیر- یعنی مؤید الدین القمی- إلی بغداد فی المحرّم سنة ثمان و ستمائة هو و الشرابی و العساکر و خرج أهل بغداد إلی تلقیهم فدخلوها و سنجر معهم راکبا علی بغل باکاف و فی رجله سلسلتان فی ید کل جندی سلسلة، و بقی محبوسا إلی أن دخل صفر، فجمع الخلق الکثیر من الأمراء و الأعیان إلی دار مؤید الدین نائب الوزارة، فأحضر سنجر و قرّر بأمور نسبت إلیه منکرة، فأقرّ بها. فقال مؤید الدین للناس:
قد عرفتم ما تقتضیه السیاسة من عقوبة هذا الرجل و قد عفا أمیر المؤمنین عنه. و أمر بالخلع علیه فلبسها و عاد إلی داره، فعجب الناس من ذلک .
و فی مرآة الزمان أن القضاة و الفقهاء أفتوا باراقة دم سنجر .
فانظر إلی عفو الناصر عن هذا الخارجی المشاقّ علی عظم ذنبه و کبر شقاقه، فکیف یزنه یاقوت بأنه إذا تنفّس الموظف فی دولته أو غیره خاف أن یکون علی نفسه رقیب یؤدّی به إلی العطب؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 203
و ترجم له ابن الدبیثی قال: «و أبو سعد هذا بقیته بیته و هو آخر من بقی من بنی حمدون، و قد کانوا جماعة کتابا فضلاء رواة للحدیث» و ذکر شیوخا روی عنهم الحدیث ثم قال: «و کتب بخطه و کان حسن الخط، صحیح النقل، وافر الهمة فی الطلب، حصل الأصول و جمع الکتب الکثیرة، و علّق فی الوفیات و أحوال الشیوخ و جمع شعر جماعة من الشعراء المتأخرین و دوّنها و حدث بشی‌ء من مسموعاته و وقف جملة من کتبه علی الطلبة و المستفیدین، سمع معنا الکثیر و سمعنا منه» و روی عنه بسنده حدیثا ثم قال: سألت أبا سعد بن حمدون عن مولده فقال:
ولدت فی صفر سنة سبع و أربعین و خمسمائة و خرج لتلقی مؤید الدین محمد بن محمد القمی نائب الوزارة لما قفل من خوزستان یوم الأحد العشرین من محرم سنة ثمان و ستمائة، فلما بلغ مدائن کسری و بینها و بین بغداد سبعة فراسخ عرض له ألم أوجبه حرّ الوقت و تزاید به فمات فی بقیة یومه و حمل من هناک فی سفینة إلی بغداد و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- بالجانب الغربی ».
و ترجم له المنذری فی وفیات سنة «608» قال: «و فی العشرین من المحرم توفی الشیخ الأجل أبو سعد الحسن ابن الشیخ الأجل الفاضل أبی المعالی محمد ابن الشیخ الأجل أبی سعد الحسن بن محمد ابن حمدون البغدادی الکاتب فجأة بشرقی المدائن و حمل إلی بغداد فدفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام » و ذکر ولادته و شیوخا من شیوخه و کتابته بخطه الکثیر و جمعه الفوائد. و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 608 و قال: «و هو ابن مصنف التذکرة.» و کان فاضلا بارعا مغری بجمع الکتب ولی المارستان العضدی و تأدب علی ابن العصار »
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 204
و ذکره فی وفیات سنة 608 من العبر فی خبر من غبر قال: «و ابن حمدون صاحب التذکرة أبو سعد الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد ابن حمدون البغدادی کاتب الانشاء للدولة » و هذا وهم من الذهبی فوالده بهاء الدین محمد هو صاحب التذکرة و هو کاتب الانشاء للدولة.
و سبقه إلی ذلک أبو شامة ققد قال فی وفیات سنة 608: «و فیها توفی أبو سعد الحسن بن محمد بن الحسن و یلقب بتاج الدین، ابن حمدون، مصنف کتاب التذکرة، قرأ اللغة علی أبی الحسن ابن العصار و سمع أبا الفتح ابن البطی و غیره و ولاه الخلیفة المارستان العضدی و أغری بجمع الکتب و الخطوط المنسوبة فجمع منها شیئا کثیرا و توفی بمدائن کسری و حمل إلی مقابر قریش فدفن بها و کان فاضلا بارعا ». و قد ذکرنا تخلیط ابن العماد الحنبلی فی ترجمته و اعتداده إیاه و اباه رجلا واحدا .
و لم یخل ابن الأثیر کامله من الإشارة الی وفاته و قال: «و هو ولد مصنف التذکرة و کان عالما ».

محمد بن یوسف النیسابوری

89- و سعد الدین أبو عبد اللّه محمد بن یوسف بن عبید اللّه النیسابوری الأصل البغدادی المولد و الدار الکاتب المعروف بابن المنتجب ذکره ابن الدبیثی بهذه التسمیة و قال: «کان أبوه مؤدبا و صوفیا بدرب زاخی، و محمد هذا کان یکتب خطا جیدا فی غایة الجودة و الحسن و قد قرأ شیئا موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-1 ؛ ص204
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 205
من الأدب علی أبی محمد الحسن بن علی بن عبیدة الکرخی، و کان یورّق للناس و تعلق فی آخر عمره بخدمة البدریة المعمورة و علّم بها الخط. توفی یوم الجمعة تاسع عشری ذی الحجة سنة ثمان و ستمائة و صلی علیه عصر الیوم المذکور و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- رحمه اللّه تعالی- و ایانا ».
و ذکره ابن الأثیر فی حوادث سنة «608» قال: «و فیها فی ذی الحجة توفی محمد بن یوسف بن محمد بن عبید اللّه النیسابوری الکاتب الحسن الخط و کان یؤدّی طریقة ابن البواب و کان فقیها حاسبا متکلما » و ذکره المنذری فی وفیات السنة المذکورة. فی وفیات الیوم التاسع و العشرین من ذی الحجة و قال: «و دفن من یومه بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام-.» و کتب خطا فی غایة الجودة و کان یورّق للناس و یعلم الخط ». و ذکره الذهبی فی مختصره لتاریخ ابن الدبیثی و أضاف الی اختصاره فائدة قال: «صاحب الخط المنسوب، کان (والده) مؤدبا صوفیا ببغداد فنشأ له محمد هذا و کتب الخط الفائق. قال ابن النجار:
سمعت جماعة یفضلونه علی ابن البواب فی قلم النسخ و کان أدیبا فاضلا له معرفة بالنحو و کان ضنینا بخطه جدا فیه بأو و کبر، کتب إلی مرة برقعة بخطه فی حاجة سألنیها ثم أرسل یطلب الورقة فامتنعت من ردها، فألح علیّ کثیرا و ردّد الرسول مرارا حتی أضجرنی فرددتها علیه.
توفی شابا فی ذی الحجة سنة ثمان و ستمائة ». و ذکره فی تاریخ الاسلام و لیس فی کلامه زیادة علی ما نقلنا سوی قوله «و کتب الخط المنسوب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 206
و کتب الناس علیه «و لقبه بسعد الدین» .

سنة «609» ه

90- و أبو محمد عبد اللّه بن هبة اللّه بن أبی القاسم البزاز المعروف بابن الحلیّ، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخ بغداد قال: «أخو علی بن هبة اللّه بن الحلی الذی یأتی ذکره، و کان لهما أخ أکبر منهما یکنی بأبی محمد و کان بکنیته معروفا و ربما سمی محمدا غیر مکنی. و هذا عبد اللّه کان باسمه مشهورا لا بکنیته فوجد بعض الطلبة سماع جماعة علی سبط الشیخ أبی محمد سبط الشیخ أبی منصور الحیّاط ببعض کتب القراءات تصنیفه و فیهم (أبو محمد عبد اللّه بن هبة اللّه بن أبی القاسم البزاز) فسأل عنه فدلوه الی عبد اللّه فجاءه بالکتاب و أراه السماع فاعترف به و قال:
هذا اسمی و قد سمعت من الشیخ أبی محمد هذا و غیره و من غیر الشیخ أبی محمد أیضا. و رؤی الکتاب، فسمعه علیه جماعة، ثم ظهر له سماع شی‌ء آخر علی أبی بکر بن الأشقر الدلال و الاسم فیه کما تقدم، فسمع علیه أیضا، و وجد له أیضا سماع من الأرموی مثل ذلک و سمع الناس منه مدیدة و هو متقبل بالسماع متصدّ لذلک من غیر إنکار حتی ردّ ذلک أبو نصر عبد الرحیم بن النفیس بن وهبان البزوری و قال: عبد اللّه الحی لیس بأبی محمد عبد اللّه الذی سمع من أبی محمد سبط الشیخ أبی منصور و لا من ابن الاشقر و لا من غیرهما. و هذا لم یعرف بطلب و لا باشتغال بالعلم و إنما ذاک أخ کان له أکبر منه یکنی بأبی محمد و اسمه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 207
أیضا عبد اللّه کان أبی یذکره و یقول: کان رفیقنا فی السماع من هؤلاء الشیوخ و توفی شابا و لم یرو شیئا. و أنکر علی من سمع من عبد اللّه هذا. و بلغ عبد اللّه هذا القول، فلم یقبله و ترک جماعة السماع منه لهذا الالتباس و موضع الشبه. و کنت سمعت منه أحادیث عن أبی بکر ابن الأشقر (الدلال) فترکتها و نزلت عن السماع لها منه، علی أنه کان مسنا لا یبعد سماعه من المذکورین، و لکن ترکناه لمحل الخلاف:
و اللّه الموفق. و قد سمع من عبد اللّه هذا جماعة من الغرباء و سافروا قبل ظهور هذه القصة و الوقوف علی التباسه بأخیه، و حصلوا علی الغرّة من أمره، و اللّه الهادی إلی سبیل الصواب. توفی عبد اللّه بن الحلی هذا یوم الأحد غرة محرم سنة تسع و ستمائة و بلغ من العمر خمسا و ثمانین سنة، علی ما کان یذکر، و دفن فی یومه بالجانب الغربی بالمشهد الشریف- علی ساکنیه السلام -».
و ذکره المنذری فی وفیات سنة «609» قال: «فی غرة المحرم توفی أبو محمد عبد اللّه بن هبة اللّه بن أبی القاسم البزاز المعروف بابن الحلی ببغداد و دفن من یومه بالمشهد الشریف- علی ساکنیه أفضل السلام- حدّث.» «و ذکر المنذری ما اقتصّه ابن الدبیثی فلا حاجة بنا إلی إعادته سوی قوله «کان أخوه یحفظ القرآن الکریم و قرأ علی الشیخ أبی محمد القرآن الکریم بالروایات و کان هذا لا یحفظ القرآن.
و هو منسوب إلی الحلة المزیدیة ». و أوجز الذهبی ترجمته .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 208
و عبد الرحیم بن النفیس بن هبة اللّه بن وهبان الطاعن فی ابن الحلی کان حنبلیا من أهل الحدیثة ترجمه ابن الدبیثی و ابن رجب.

سنة «610» ه

91- و أبو البرکات عمر بن أحمد بن محمد بن عمر العلوی الحسنی الزیدی نسبا، ذکره ابن الدبیثی بهذا الاسم قال: «أخو أبی الحسن علی الزیدی الزاهد الذی یأتی ذکره، و عمر هذا هو الأصغر. سمع من جماعة مع أخیه بافادته، منهم أبو بکر محمد بن عبید اللّه بن نصر ابن الزاعونی و أبو الفضائل أحمد بن هبة اللّه ابن الواثق الهاشمی و أبو محمد محمد بن أحمد ابن المادح و أبو المظفر هبة اللّه بن أحمد بن الشبلی و أبو المعالی عمر بن علی الصیرفی و أبو بکر هبة اللّه بن أحمد بن الحفار و أبو الفتح محمد بن عبد الباقی بن سلمان و أبو المعالی عمر و أبو العباس أحمد ابنا بتیمان و غیرهم. و کان سماعه فی کتب أخیه صحیحا و أمّ بالناس فی المسجد المعروف بأخیه بدار دینار إلی حین وفاته، حدث بالکثیر و سمعنا منه، و کان خیّرا. قرأت علی أبی البرکات عمر بن أحمد بن محمد العلوی الزیدی من أصل سماعه- و أسنده الی محمد بن عمار ابن سعید المؤذن أنه سمع أبا هریرة یذکر أن رسول اللّه- ص- قال: إن اللّه یحشر المؤذنین یوم القیامة أطول الناس أعناقا بقولهم لا إله إلا اللّه- عز و جل-. سألت عمر الزیدی عن مولده فقال: فی صفر سنة ثلاث و أربعین و خمسمائة. و توفی فجأة بعد أن صلّی العصر من یوم الاثنین العشرین من جمادی الأولی سنة عشر و ستمائة- و صلی علیه یوم الثلاثاء و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- بالجانب الغربیّ- رحمه اللّه و إیانا ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 209
و ترجمه محب الدین ابن النجار و اختلطت ترجمته فی الجزء المحفوظ بدار الکتب الوطنیّة بباریس بترجمة «عمر بن أحمد» آخر و بقی من الترجمة سند الحدیث الذی رواه عنه ابن النجار المسند إلی أبی أمامة و نصه «حججت مع رسول اللّه- ص- حجة الوداع، فحمد اللّه و أثنی علیه ثم قال: ألا لعلکم أن لا ترونی بعد عامی هذا- ثلاث مرات-.
فقام إلیه رجل طوال أشعث کأنه من أزد شنوءة. فقال: یا رسول اللّه فما الذی نفعل؟ قال: اعبدوا ربّکم و صلّوا خمسکم، و صوموا شهرکم، و حجوا بیت ربکم، و أدّوا زکاة طیبة بها أنفسکم تدخلوا جنّة ربکم- عز و جل-» و قال ابن النجار بعید ذلک: «سألت الشریف أبا البرکات الزیدی عن مولده فقال: فی صفر سنة ثلاث و أربعین و خمسمائة. و توفی یوم الاثنین العشرین من جمادی الأولی سنة عشر و ستمائة، فجأة، بعد أن صلی بالناس إماما صلاة العصر و دخل منزله فلحقه ألم بفؤاده فمات فی وقته، و صلی علیه من الغد بالمدرسة النظامیة و دفن بمقابر قریش ».
و ترجمه الزکی المنذری فی وفیات سنة «610» قال: «و فی العشرین من جمادی الأولی توفی الشریف الأجل الصالح أبو البرکات عمر ابن الشریف الأجل أبی العباس أحمد بن محمد بن عمر العلوی الحسینی الزیدی نسبا، فجأة، بعد أن صلی العصر ببغداد و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام». ثم ذکر شیوخه و قال: «و أمّ بالناس فی المسجد المعروف بأخیه بدرب دینار إلی أن مات ». و أوجز الذهبی ترجمته فلم نجد فیها ما یستحق النقل .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 210

سنة «611» ه

92- و الشیخ فخر الدین أبو البدر نفیس بن هلال بن بدر الصوفی، ذکره المنذری فی وفیات سنة «611» قال: «و فی لیلة الرابع و العشرین من رجب توفی الشیخ الصالح نفیس بن هلال بن بدر الصوفی البغدادی بها و دفن من الغد بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- و قد علت سنه صحب جماعة من الصوفیة و خدمهم و کان کثیر الحج و الزیارات و هو شیخ رباط الکاتبة شهده بنت الأبری و الناظر فی أمره الی حین وفاته ». و ذکره الذهبی فی وفیات سنة «611» و قال «صحب الکبار و حج مرّات » و ذکر النفیس هذا سبط ابن الجوزی فی قصة علیها أثر التولید و المجازفة ظاهر- و السبط من المؤرخین المزنّین بالمجازفة قال فی حوادث سنة 586:
«و فیها توفی الکرخی نجیم الصوفی و اسمه عبد الرشید بن عبد الرزاق، کان یتفقه بدار الذهب و کان ورعا عاقلا عابدا، و کان ببغداد رجل یقال له النفیس الصوفی یضحک منه و یسخر به و کان یدخل علی الخلیفة فدخل یوما بمدرسة دار الذهب، فجعل یتمسخر، فقال له الکرخی:
اتق اللّه نحن نبحث فی العلم و أنت تهزل ما هذا موضعه. فدخل علی الخلیفة و بکی بین یدیه، و قال: صیّرنی الکرخی و عیّرنی (کذا).
فغضب علیه الخلیفة و أمر بصلبه، فأخرج و علیه ثوب أزرق من ثیاب الصوفیة إلی الرحبة و نصبوا له خشبة لیصلبوه فقال: دعونی أصلی رکعتین. فصلّی و صلبوه، فجاء خادم من الخلیفة فقال: لا تصلبوه.
و قد مات الکرخی. فلعن الناس النفیس الصوفی، و بقی أیاما لا یتجاسر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 211
أن یظهر ببغداد ». و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بفخر الدین و قال:
«کان کثیر الحج ... و زیارات المشاهد و المقابر ... و کان مطبوعا دمث الأخلاق ».

منتجب الدین

93- و منتجب الدین أبو المرجی سالم بن أحمد بن سالم بن أبی الصقر النحوی العروضی، ذکره ابن الدبیثی بهذه التسمیة و قال:
«کانت له معرفة بالنحو و یقول الشعر و یعرف عروضه و أوزانه و له فی ذلک ید جیدة. سافر الکثیر و لقی جماعة من الأدباء و أخذ عنهم و نظم أرجوزة فی النحو علی الأبواب کلمحة أبی محمد بن الحریری البصری و مدح جماعة بقصائد من شعره. سمعنا منه قطعا کثیرة من قوله و قصائد من مدحه، و لم یحصل الآن عندی منها شی‌ء، و توفی یوم الأحد خامس ذی القعدة سنة إحدی عشرة و ستمائة، و صلی علیه فی هذا الیوم و حمل إلی الجانب الغربی فدفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- رحمه اللّه -».
و ترجم له ابن الفوطی فی الملقبین بالمنتجب قال ناقلا: منتجب الدین أبو المرجی سالم بن أحمد بن سالم ابن أبی الصقر التمیمی الأدیب العروضی، ذکره یاقوت الحموی فی کتاب معجم الأدباء و قال:
هو أول شیخ قرأت علیه الأدب ببغداد ، و کان قیما بعلوم العربیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 212
و العروض و القوافی، و کان تاجرا ذا ثروة حسنة مبخّلا، و کان قد قرأ النحو علی وجیه الدین المبارک بن المبارک الواسطی و محب الدین أبی البقاء العکبری، و له تصانیف منها کتاب فی صناعة الشعر، و أرجوزة فی النحو و له أشعار حسنة و کان قد سافر إلی خراسان. و ذکره ابن النجار و قال: سمع صحیح مسلم من شیخنا رضی الدین المؤید بن محمد الطوسی. و توفی فی ذی القعدة سنة إحدی عشرة و ستمائة و قد جاوز الخمسین». و کان قد ترجم له مع الملقبین بعز الدین و نسی ذلک .
و بین هذه الترجمة و ترجمة یاقوت له فی المطبوع من معجم الأدباء فرق واضح قال: «شیخنا أبو المرجی ابن أبی الصقر التمیمی الحاجب المعروف بالمنتجب النحوی العروضی البغدادی، کان أدیبا فاضلا نحویا متفردا بالعروض، سمع صحیح مسلم من مؤید الطوسی و کان محبوبا، حسن الأخلاق. قرأت علیه العربیّة و العروض ببغداد و له أرجوزة فی النحو و کتاب فی العروض و کتاب فی القوافی و کتاب فی صناعة الشعر و غیر ذلک مات ببغداد یوم الأحد خامس ذی القعدة سنة 611» . فالمطبوع من معجم الأدباء باسم الجزء السابع مختصر علی ما أحسب.
و ذکره المنذری فی وفیات سنة 611 و سماه کالتسمیة المنقولة آنفا و قال فیما قاله: «و دفن من یومه بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- ع- لقی جماعة من الأدباء و الشعراء و أخذ عنهم و کانت له معرفة بالنحو و العروض و مدح جماعة و حدث بشی‌ء من شعره ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 213
و ترجم له القفطی مرتین لأنه نقل من مرجعین بینها بعض الاختلاف و قال فی الثانیة: «من ساکنی درب القرنفلیین ببغداد» و فی کلتا الترجمتین ذکر أنه دفن فی مشهد الامام موسی بن جعفر - ع- و ترجم له الصلاح الصفدی بترجمتین أیضا غیر شاعر باتحاد الذاتیة ، و أوجز الذهبی ترجمته فی تاریخه .
و قال عز الدین ابن جماعة الکنانی: «أنشدنی الشیخ جمال الدین أبو العباس (بن محمد الظاهری) و غیره إجازة عن أبی عبد اللّه محمد ابن محمود بن الحسن بن هبة اللّه بن محاسن (ابن النجار) البغدادی قال أنشدنی یاقوت الحموی بحلب قال أنشدنی أبو طالب إسماعیل بن الحسن الحسینی بمرو و قال أنشدنی سالم بن أبی الصقر بخوارزم:
یا ماجدا جلّ أن یهدی لمکرمةلأنه بالدنایا غیر موصوف
إن قلت جد بعد دعوای التی سبقت‌من عفّتی و إبائی خفت تعنیفی
هب أننی بت لا أرجو ندی أحدیوما فهل تبت عن إسداء معروف؟
و ذکر بعد ذلک موجز سیرة سالم بما لم یخرج عما ذکرناه منقولا من تواریخ أخری. و ذکر السیوطی موجز سیرته و ورد فی کتابه بطبعة مطبعة السعادة سنة 1326 بمصر «المنتخب» تصحیفا للمنتجب.

سنة «613» ه

94- و أبو السعادات محمد بن علی بن أحمد ابن الناقد، ترجم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 214
له ابن الدبیثی قال: «محمد بن علی بن أحمد ابن الناقد أبو السعادات ابن أبی القاسم، کان أحد التجار و البزازین، سافر إلی الشام و أقام بدمشق و خراسان و ما وراء النهر و عاد و تولی وکالة الباب للجهة والدة سیدنا و مولانا الامام المفترض الطاعة علی کافة الأمام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین فی رجب سنة اثنتین و ثمانین و خمسمائة و خلع علیه و أضیف إلیه بعد ذلک وکالة الأمیر السید الکبیر ولد أمیر المؤمنین- خلد اللّه ملکه- و النظر فی المظالم، و حسن حاله، و نبه قدره، إلا أنه عزل عن وکالة الأمیر و المظالم و بقی علی خدمة الباب الشریف إلی حین وفاتها (سنة 599)- قدّس اللّه روحها- و جعلت إلیه النظر فی أوقافها علی الربط و المدارس و التربة و السّبل و الصدقات، فکان علی ذلک مدة حیاته. و کان قد سمع من أبی الوقت السجزی جمیع صحیح البخاری و من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن سلمان جزءا من أمالی أحمد بن عطاء الروذراوری، و طلبت منه السماع بشی‌ء من ذلک فوعد بذلک و سوّف حتی طال الوعد فترکته، و کذا سأله غیری فوعده، و مات و ما روی شیئا، و أظنه کان یکره الروایة، و اللّه أعلم. سألت الوکیل أبا السعادات ابن الناقد عن مولده فقال: فی سنة أربع و أربعین و خمسمائة. فقلت: فی أی شهر؟ فقال: فی جمادی الآخرة منها.
و توفی فی یوم الثلاثاء الثامن و العشرین من جمادی الأولی سنة ثلاث عشرة و ستمائة، و حضرت الصلاة علیه بعد صلاة الظهر من هذا الیوم بجامع القصر الشریف فی جمع کثیر، و دفن بمشهد الامام موسی بن جعفر- رحمهما اللّه تعالی- بتربة له هناک ». و ذکره زکی الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 215
المنذری فی وفیات سنة 613 قال: «و فی الثامن و العشرین من جمادی الأولی توفی الشیخ الأجل أبو السعادات محمد بن أبی القاسم علی بن أحمد ابن الناقد البغدادی بها و دفن من یومه بمشهد الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- بتربة له هناک » و اختصر ما ذکره ابن الدبیثی، و أوجز الذهبی ترجمته و قال: «و لم یحدّث و کان عسرا ممتنعا » و کان الذهبی قد اختصر ترجمته من تاریخ ابن الدبیثی و قال: «و مات و لم یحدّث لامتناع منه و مماطلة ».
یحیی بن أبی طالب
95- و أبو جعفر یحیی بن أبی طالب محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علی بن أبی زید العلوی الحسنی البصری النقیب الأدیب الشاعر المعروف بابن أبی زید، ذکره سبط ابن الجوزی فی وفیات سنة 613 قال: «و فیها توفی یحیی بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد- أربع مرات- أبو جعفر العلوی الحسنی البصری، یعرف بابن أبی زید، ولی نقابة الطالبیین بالبصرة بعد أبیه مدة و قرأ علم الأدب علی أبی محمد الأحمر الحمانی بالبصرة و سمع الحدیث من أبیه و غیره. و مولده فی سنة 548 و قدم بغداد و مدح الامام الناصر بقصائد و کان رقیق الشعر ملیح النظم، أجاز لی شعره و هو القائل:
هذا العقیق و هذا الجزع و البان‌فاحبس فلی فیه أوطار و أوطان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 216 آلیت و الحر لا یلوی ألیّته‌أن لا تلذ بطیب النوم أجفان
یا حبذا شجر الجرعاء من شجرو حبذا روضه المخضلّ و البان
إذا النسیم سری مالت ذوائبه‌کأنما الغصن الممطور سکران
فللنسیم علی الأغصان هینمةو للحمام علی الأفنان ألحان
و بارق لاح و الظلماء داجیةو النجم فی الأفق الغربی حیران
هذا یذکرنی هیفاء ضاحکةفلم أنم و عذابی هم و أحزان
کتمت حبّک و الأجفان تظهره‌و لیس للحب عند العین کتمان
غادرت بالغدر فی الأحشاء نارجوی‌و مذ هجرت ففیض العین غدران
و کانت وفاته ببغداد فی رمضان و دفن بمقابر قریش ». و نقل ابو شامة کلام السبط علی عادته فی ذکر تراجم العراقیین و اختار ثلاثة أبیات من القصیدة المنقولة آنفا. و جاء عنده «هذا العذیب و هذا الرند و البان ».
و ذکره کمال الدین المبارک ابن الشعار الموصلی فی معجم الشعراء المعاصرین له قال: «یحیی بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علی ابن أبی زید محمد بن أحمد بن عبید اللّه بن علی- و یلقب باغر- ابن عبید اللّه بن عبد اللّه بن الحسن ابن جعفر بن الحسن بن علی بن أبی طالب النقیب أبو جعفر ابن أبی طالب الحسنی، من أهل البصرة المعروف بابن أبی زید کان من الشرفاء الفضلاء و الأعیان النبلاء، ولی نقابة الطالبیین بالبصرة بعد أبیه مدة و کان ذا معرفة بالأدب و الأنساب و أیام العرب و أشعارها، و کان شاعرا ملیح الشعر، رائق الکلام، حسن المقاصد، و کان علی خاطره أکثر کتاب الأغانی و یذاکر به فی محاضراته لأنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 217
عند باب الصحن من الکاظمین (ع)- شباک لاحدی المقابر القدیمة و قد دفن فیها بعض الاعلام من المتقدمین و المتأخرین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 218
کان کثیر الاعتناء به. ورد مدینة السلام و امتدح الامام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین أبا العباس أحمد بن الحسن- رضوان اللّه علیه- و توفی بها فی لیلة الخمیس ثالث عشر رمضان سنة ثلاث عشرة و ستمائة و دفن یوم الخمیس بجانبها الغربی بمقابر الامام موسی بن جعفر- علیه أفضل السلام-. و کانت ولادته فی ربیع الأول سنة ثمان و أربعین و خمسمائة.
أنشدنی أبو الحسن علی بن محمد بن صدقة الخفاجی البغدادی قال أنشدنی نقیب البصرة أبو جعفر لنفسه یمدح الناصر لدین اللّه أبا العباس- رضوان اللّه علیه-:
یلوم علی محبتک العذول‌و لیس للومه عندی قبول
فطوّل فی ملامک أو فقصّرفإنی لست أسمع ما تقول
هوی عاشرته عشرین عاماتصرّمه للومک مستحیل
و کیف یطیق صبرا عنک صبریهیج غرامه لیل طویل
و عین فی محاجرها دموع‌و قلب فی جوانحه غلیل
إذا جحد الحبیب هوی محبّ‌فان شهود لوعته عدول
أمارات الهوی وضحت علیه‌جواه و التولّه و النحول
فیا من شیمتی و له علیه‌و شیمته التجنب و الذهول
سأسلو و المحب له سلوّإذا ما أفرط الحبّ الملول
و أعتقد الولاء لهاشمیّ‌و فی لا یملّ و لا یمیل
من القوم الذین لهم عهودکرام لا تخون و لا تحول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 219 خیار الناس آخرهم إمام‌یشرّفهم و أولهم رسول
تسمّی باسمه و حکاه هدیاو ضمّهما العمارة و القبیل
فما فی المرسلین له شبیه‌و لا فی الراشدین له عدیل
و منها:
أمیر المؤمنین دعاء عبدهداه ظلّ دولتک الظلیل
أقام به و غصن العمر نضرو قد أودی و أنحله الذبول
و إنی مثلما خبّرت شیخ‌ضعیف البطش ممراض علیل
فصیّر حسن رأیک لی وداعاأسرّ به فقد أزف الرحیل
و من أولی طوال العمر أولی‌بأن یولی و قد بقی القلیل
فکم لک من ید تجزیک عنهاغدا فی الحشر فاطمة البتول
تثیبک بنت عمک من أبیهافأنت لولدها بر وصول
و جاد الروضة الزهراء جودسقته و قد تحمل سلسبیل
ففیها من بنی المنصور خرق‌أغرّ کأنه سیف صقیل
*** و قال أیضا یمدحه:
لیهنک سمع لا یلائمه العذل‌و قلب قریح لا یمل و لا یسلو
کأنّ علیّ الحبّ أمسی فریضةفلیس لقلبی غیره أبدا شغل
و إنی لأهوی الهجر ما کان أصله‌دلالا فلو لا الهجر ما عذب الوصل
و أما اذا کان الصدود ملالةفأیسر ما همّ الحبیب به القتل
بنفسی إذا سال العقیق شعابه‌إذا ابتسم النوّار و اکتهل البقل
و یا حبذا خضراء روح بن حاتم-و ما طمّ وادیها و أجرعها السهل
فسلّت علی جوّ العقیق عقائق‌من البرق لا نزر العهاد و لا حفل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 220 و راح علی خضراء روح بن حاتم‌کجود أبی العباس أیسره الوبل
إمام هدی من هاشم فی أرومةزکا الفرع لما طاب من تحته لأصل
کفیل بأرزاق العباد نیابةعن اللّه کل من یدیه له کفل
*** و قال أیضا بمدحه:
لیلی بذی سلم أمیرو الصبح فی یده أسیر
عبّا کواکبه جیو ...شا لا تحول و لا تسیر
یا إخوتی من هاشم‌هل لی علی لیلی نصیر
نمتم و بین جوانحی‌داء ینمّ به الزّفیر
مالی و ما لبنات نعش لا أنام و لا تغور
أشکو الجوی و کأنّهافی جوّها درّ نثیر
و النسر مقصوص القوادم‌لا یدبّ و لا یطیر
لم أدر طال اللیل أم‌جفنی بذی سلم قصیر؟
و غریرة کالظبی یحسد طرفها الظبی الغریر
نشطت عقال صبابتی‌بلواحظ فیها فتور
سمراء تنعم لی بزورتها إذا رقد السّمیر
حتی إذا خفق السّماک و غارک الشعری العبور
و هوت مع الفجر الکواکب مثلما تهوی الصقور
و علا السبات علی الکلاب فلا نباح و لا هریر
جاءت کما اهتز القضیب‌الغضّ و اضطرب العبیر
بعدا لأیام الشباب فان أکثرها غرور
مالی و ما للهو و الاقتار یمنع و القتیر؟!
من شاء یسأل عن قریش إننی بهم خبیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 221 لهم النبوة و الخلافةو المنابر و السّریر
و لهم أبو العباس أحمدناصر الدین الغیور
ملک یغار علی أقاصی المسلمین و لا یغیر
بنداه تبتسم الثغور و باسمه تحمی الثغور
تدعو أعادیه الثبور و حلمه الراسی ثبیر
و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 613 بایجاز و قال: سمع من أبیه و حدّث و عاش بضعا و ستین سنة و کان ذا معرفة بالنسب و الأدب و أیام العرب و له شعر رائق، توفی فی رمضان. روی شعرا ».
و قال صدر الدین علی بن أبی الفرج البصری الأدیب مؤلف الحماسة البصریة فی ذکر خلافة الناصر: «أنشده یحیی بن محمد العلوی یوم ثالث البیعة:
و لیت و عام الناس أحمر ماحل‌فجدت و جاد الغیث فانقشع المحل
و کم لک من نعماء لیس بمدرک‌لها حاسب إلا إذا حسب الرمل»
و قال فی ذکر الخلیفة المستنصر: «و لقد حضرت بین یدی سدّته الشریفة لیلا إلی نصفه و أنشدته ما أنشده نقیب البصرة ابن أبی زید الحسنی لما حضر بین یدی الامام الناصر لدین اللّه:
لیلتی هذه کلیلة موسی‌حین ناجی الاله فوق الطور
لم یکن خوفه کخوفی و لا سرّبلقیا الاله مثل سروری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 222

سنة «616» ه

96- و أبو عبد اللّه محمد بن أبی العز منصور بن جمیل أبو عبد اللّه الجبیّ الکاتب الشاعر، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخ بغداد، قال:
«محمد بن أبی العز بن جمیل أبو عبد اللّه ولد بقریة تعرف بجبّا من نواحی هیت و قدم بغداد صبیا و استوطنها و قرأ بها القرآن الکریم و الأدب و الفرائض و الحساب و سمع الحدیث من جماعة منهم أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن کلیب و القاضی أبو الفتح محمد بن أحمد ابن المندائی الواسطی لما قدمها و قال الشعر و مدح سیدنا و مولانا الامام- المفترض الطاعة علی کافة الأنام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین- خلد اللّه ملکه- بقصائد کثیرة و کان یوردها فی المواسم و الهناءات، و خدم فی أشغال الدیوان العزیز- مجده اللّه- و نظر فی دیوان الترکات الحشریة و تولّی کتابة المخزن المعمور ثم ولی صدریة المخزن بعد عزل أبی الفتوح ابن أبی المظفر فی لیلة عاشر ذی القعدة سنة خمس و ستمائة مضافا إلی النظر بدجیل و طریق خراسان و الخالص و الخزانة و العقار و غیر ذلک من أعمال الحضرة و لم یزل علی ذلک إلی أن عزل فی یوم السبت الثالث و العشرین من شهر ربیع الأول سنة إحدی عشرة و ستمائة. و توفی یوم السبت النصف من شعبان سنة ست عشرة و ستمائة و دفن بمقابر قریش ».
و ذکره یاقوت الحموی قال: «محمد بن منصور بن جمیل أبو عبد اللّه (ابن أبی) العز الکاتب، نحوی لغوی أدیب من أفاضل العصر. قدم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 223
بغداد فی صباه و قرأ الأدب و لازم مصدق بن شبیب (الواسطی) النحوی حتی برع فی النحو و اللغة و قرأ الفقه و الفرائض و الحساب و قال الشعر و مدح الناصر فعرف و اشتهر و رتب کاتبا فی دیوان الترکات مدة ثم ولی نظره ثم ولی الصدریة بالمخزن ثم عزل و اعتقل و أفرج عنه بعد مدة و رتب وکیلا للأمیر عدة الدین ابن الناصر و کان کاتبا بلیغا ملیح الخط، غزیر الفضل، متواضعا ملیح الصورة، طیب الأخلاق. مات فی شعبان سنة 616 ». و ذکره فی الکلام علی «جبّا» من معجم البلدان قال: «و جبّا أیضا قربة قرب هیت قال أبو عبد اللّه الدّبیثی منها أبو عبد اللّه محمد بن أبی العز بن جمیل» و اختصر ما ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه. و ترجم له المنذری فی وفیات سنة 616 المذکورة قال: «و فی النصف من شعبان توفی الشیخ الأجل أبو عبد اللّه محمد بن أبی العز بن جمیل الجبائی المولد البغدادی الدار، ببغداد و دفن بمقابر قریش، قرأ القرآن الکریم و قرأ الأدب و الفرائض و الحساب» إلی أن قال «و تقلب فی خدمة الدیوان العزیز و هو منسوب إلی جبّا قریة من نواحی هیت و هی بضمّ الجیم و تشدید الباء الموحدة و فتحها و ألف و هی مقصورة ».
و ترجم له القفطی فی أحد کتبه قال: «محمد بن جمیل- و جمیل جده- و هو أشهر من أبیه و لا یعرف إلا به، و أبوه أبو العز ابن جمیل من أهل جبّا قریة (قرب) هیت. دخل إلی بغداد فی أول عمره و قرأ علی مشایخها المتأخرین، و تولی عدة خدم دیوانیة فی أیام الامام الناصر أحمد ابن المستضی‌ء، منها صدریة المخزن، و صرف دفعات، و کان فیه فضل و أدب و له شعر، و کان یظن بنفسه الکثیر حتی لا یری أحدا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 224
مثله، و قد کان أنشأ مقامات ظهر منها قطعة رأیتها فی جملة أجزاء أحضرت من بغداد إلی حلب للبیع و هی بخطه و کان خطا متوسطا صحیح الوضع، فیه تلتبس نقط ثابتة لا تکاد تتغیر، و شعره جید مشهور مصنوع لا مطبوع، و کان ظالم النفس فیما یتولاه، و تولی الترک الحشریة فی أول أمره ثم تولّی عدالة المخزن (کذا) ثم توصل حتی تولی صاحب مخزن، و قال یوما لبعض العاملین: خفّ عذابی فانه ألیم شدید. فقال له الرجل: فاذن أنت اللّه لا إله إلا هو. فخجل و لم یمنعه ذلک و لم یردعه عما أراده من ظلمه. و کان ببغداد تاجر یعرف بابن العینبری و کان صدیقا له، فلما حضرته الوفاة سأله الحضور إلیه، فلما حضر قال له: أنا طیب النفس بموتی فی زمان ولایتک لیکون جاهک (علی) أطفالی و عیالی. فوعده بهم جمیلا، فلما مات حضر إلی ترکته و باشرها فرأی فیها .... ألف دینار عینا، فأخذها و حملها إلی الامام الناصر و أصحبها مطالعة منه یقول فیها: مات ابن العنیبر- ورّث اللّه الشریعة أعمار الخلائق و قد حمل المملوک (یعنی نفسه) من المال الحلال الصالح للمخزن ... ألف دینار و هو فی عهدة تبعتها دنیا و آخرة و سأله بعض التجار و الغرباء العنایة بشخص فی إیصال حقه الیه من المخزن فوعده و مطله و کان ذلک بعد ان تولی صاحب المخزن و کانت جامکیته و هو عدل خمسة دنانیر فی الشهر فلما ولی الصدریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 225
قرّر له عشرة دنانیر، فقال التاجر الشافع- و کان یّدل علیه- فدفعت إلیه فی کل یوم بدانق . قال له: کیف؟ قال: لأنک کنت عدلا أقرب منک حالا الیوم. و أشار إلی أنه لما زید رزقه و رفعت مرتبته بجبر یصیر زیادة و هی سدس درهم و هو الدانق أهمل جانب اللّه و باعه بذلک. و ما بعد عهده و أخجله اللّه و صرفه عن ذلک و سجن مدة ثم بعد ذلک أنعم علیه بأن جعل کاتبا فی باب دار الأمیر عدة الدین أبی نصر (محمد) ولی العهد فأقام مدة و مات و هو علی ذلک (بعد) ستة شهور سنة (ست) عشرة و ستمائة ».
و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بمجد الدین قال: «مجد الدین أبو عبد اللّه محمد بن أبی العز منصور بن جمیل الجبّی صاحب المخزن، ذکره محب الدین ابن النجار فی تاریخه و قال: «ولد بالجبّة من أعمال هیت و قدم بغداد و قرأ بها الأدب حتی برع فی النحو و اللغة و الحساب، و کان مقبول الشکل. مدح الامام الناصر و رتب کاتبا فی دیوان الترکات ثم ولی صدریة المخزن سنة خمس و ستمائة. و کان کاتبا بلیغا ملیح الخط، غزیر الفضل، کتب شعره فی کتاب (نظم الدرر الناصعة ) و توفی فی منتصف شعبان سنة ست عشرة و ستمائة».
و ذکره أبو شامة و فی ذکره فائدة، قال فی وفیات سنة 616 ه:
«و فیها توفی ببغداد محمد بن جمیل صاحب مخزن الخلیفة و مولده بهیت و کان فاضلا بارعا، و قدم علینا بدمشق ابن ابنته (یعنی سبطه) و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 226
شاب فاضل یلقب فخر الدین له خط حسن و صورة جمیلة و نزل عندنا بالمدرسة العزیزیة ثم توجه إلی الحجاز مع جماعة فضلاء.» و جاوروا ».
و أرّخه الذهبی فی تاریخه بما هو موجز ما قیل قبله و قال فی إیجازه:
«مات کهلا» . و لم یخل الجلال السیوطی بغیة الوعاة من ذکره بما یشبه ما ذکره به یاقوت.
و قال ابن الساعی فی حوادث سنة 605: «و فی لیلة الأربعاء سابع ذی القعدة المذکور عزل عضد الدین أبو الفتوح ابن رئیس الرؤساء عن صدریة المخزن المعمور و حوّل من الدار التی کان یسکنها، و ولّی عوضه مجد الدین أبو عبد اللّه محمد بن جمیل و خلع علیه بالبدریة الشریفة و أنزل بالدار التی کان یسکنها ابن رئیس الرؤساء بالمسعودة و أعطی جمیع ما کان وصل إلیه من غلمان ابن ناصر و آلاته و کرائمه ».
و من إنشاء مجد الدین ابن جمیل توقیع کتبه بتفویض التدریس فی مدرسة الامام أبی حنیفة- رضی- إلی ضیاء الدین أحمد بن مسعود الترکستانی الفقیه المدرس الحنفی و النظر فی أوقاف المشهد سنة 604 قال ابن الساعی: «و کتب توقیع من المخزن المعمور بانشاء مجد الدین بن جمیل کاتب المخزن المعمور یومئذ و من خطه نقلت و هذه نسخته:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، الحمد للّه المعروف بفنون المعروف و الکرم، الموصوف بصنوف الاحسان و النعم، المتفرد بالعظمة و الکبریاء و القدم، الذی اختصّ الدار العزیزة- شید اللّه بناها، و أشاد مجدها و علاها،- بالمحل الأعظم، و الشرف الأقدم، و جمع لها شرف البیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 227
العتیق ذی الحرم، إلی شرف بیت هاشم الذی هشم، جاعل هذه الأیام الزاهرة الناضرة، و الدولة القاهرة الناصرة، عقدا فی جید مناقبها، و حلیا یجول فی ترائبها،- أدامها اللّه تعالی ما انحدر لثام الصباح، و برح خفاء براح- أحمده حمد معترف بتقصیره عن واجب حمده، مغترف من بحر عجزه مع بذل وسعه و جهده، و أشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شریک له، و هو الغنی عن شهادة عبده، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، الذی صدع بأمره، و جاء بالحقّ من عنده،- صلی اللّه علیه صلاة تتعدّی إلی أدنی ولده، و أبعد حده حتی یصل عبقها إلی أقصی قصّیة و نزاره و معده- و بعد فلما کان الأجل السید الأوحد العالم ضیاء الدین شمس الاسلام رضی الدولة، عز الشریعة علم الهدی رئیس الفریقین، تاج الملک، فخر العلماء أحمد بن مسعود الترکستانی- أدام اللّه علوه- ممن أعرق فی الدین منسبه، و تحلّی بعلوم الشریعة أدبه، و استوی فی الصحة مغیبه و مشهده، و شهد له بالأمانة لسانه و یده، و کشف الاختبار منه عفة و سدادا، و أبت مقاصده إلا أناة و اقتصادا، رئی الاحسان إلیه، و التعویل علیه فی التدریس بمشهد أبی حنیفة- رحمة اللّه علیه- و مدرسته، و أسند إلیه النظر فی وقف ذلک أجمع لاستقبال حادی عشری ذی القعدة سنة أربع و ستمائة الهلالیة و ما بعده و بعدها، و أمر بتقوی اللّه- جلّت آلاؤه، و تقدست أسماؤه، التی هی أزکی قربات الأولیاء، و أنمی خدمات النصحاء، و أبهی ما استشعره أرباب الولایات، و أدل الأدلة علی سبل الصالحات، و فاعلها بثبوت القدم خلیق، و بالتقدم جدیر، قال اللّه تعالی: إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ. و أن یذکر الدرس علی أکمل شرائط، و أجمل ضوابط، مواظبا علی ذلک، سالکا فیه أوضح المسالک، مقدما علیه تلاوة القرآن المجید، علی عادة الختمات فی التبکر و الغدوات، متبعا ذلک بتمجید آلاء اللّه و تعظیمها و الصلاة علی نبیه- صلی اللّه علیه صلاة یضوع أرج نسیمها، شافعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 228
ذلک بالثناء علی الخلفاء الراشدین- صلوات اللّه علیهم أجمعین- و الاعلان بالدعاء للمواقف الشریفة المقدسة النبویة الامامیة الطاهرة الزکیّة، المعظمة المکرّمة، الممجّدة الناصرة لدین اللّه تعالی- لاه زالت منصورة الکتب و الکتائب، منشورة المناقب مسعودة الکواکب و المواکب مسودة الأهب مبیضة المواهب، ما خطب الی جموع الأکابر و علا فروع المنابر خطیب و خاطب، و أن یذکر بن الأصول فصلا یکون من سهام الشبه جنّة، و لنصر الیقین مظنة، متبعا المذهب و مفرداته، و نکته و مشکلاته، ما ینتفع به المتوسط و المبتدی، و یتبیّنه و یستضی‌ء به المنتهی، و لیذکر من المسائل الخلافیة ما یکون داعیا إلی و فاق المعانی و العبارات، هادیا لشوارد الأفکار إلی موارد المنافسات، ناظما عقود التحقیق فی سلوک المحاققات ، مصوبا أسنّة البدیهة إلی نغر الأناة، معتصما فی جمیع أمره بخشیة اللّه و طاعته، مستشعرا ذلک فی علنه و سریرته. و المفروض له عن هذه الخدمة فی کل شهر للاستقبال المقدّم ذکره من حاصل الوقف المذکور لسنة تسع و تسعین الخراجیة و ما یجری معها من هلالیة و ما بعدها أسوة بما کان لعبد اللطیف ابن الکیّال من الحنطة کیل البیع ثلاثون قفیزا و من العین الامامیة عشرة دنانیر، یتناول ذلک شهرا فشهرا مع الوجوب و الاستحقاق، للاستقبال المقدم ذکره، من حاصل الوقف المعیّن للسنة المبینة الخراجیّة و ما بعدها بموجب ما استؤمر فیه من المخزن المعمور- أجلّه اللّه تعالی- و إذن فلیجر علی عادته المذکورة، و قاعدته و لتکن صلاته و جماعته فی جامع القصر الشریف فی الصفة التی لأصحاب أبی حنیفة- رحمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 229
اللّه علیه- و لیصرف حاصل الوقوف المذکورة فی سبلها بمقتضی شرط الواقف المذکور فی کتاب الوقفیة من غیر زیادة فیها و لا عدول عنها، و لا حذف شی‌ء منها، عالما أنه مسؤول فی غده عن یومه و أمسه، و أن أفعال المرء صحیفة له فی رمسه، و لیبذل جهده فی عمارة الوقوف و استنمائها و استثمار حاصلها و ارتفاعها، مستخیرا من یستخدمه فیها من الأجلاد الأمناء، ذوی العفة و الفناء، متطلعا إلی حرکاتهم و سکناتهم، مؤاخذا لهم علی ما لعله یتصل به من فرطاتهم، لتکون الأحوال متسقة النظام و المال محروسا من الانثلام، و لیبتدی بعمارة المشهد و المدرسة المذکورین، و إصلاح فرشها و مصابیحها، و أخذ القوام بالمواظبة علی الخدمة بها و إلزام المتفقهة بملازمة الدروس و تکرارها، و إتقان المحفوظات و أحکامها، و لیثبت ما بخزانة الکتب من المجلدات و غیرها، معارضا ذلک بفهرسته، متطلبا ما عساه قد شذّ منها، و لیأمر خازنها بعد استصلاحه بمراعاتها و نفضها فی کل وقت، و مرمّة شعثها و أن لا یخرج شیئا منها إلا إلی ذی أمانة، مستظهرا بالرهن عن ذلک، و لیتلق هذه الموهبة بشکر یرتبطها و یدر أخلافها و اجتهاد یضبطها و یؤمن إخلافها، و لیعمل بالمحدود له فی هذا المثال، من غیر توقف فیه بحال، إن شاء اللّه تعالی، و کتب لتسع بقین من ذی القعدة من سنة أربع و ستمائة، و حسبنا اللّه و نعم الوکیل، و صلی اللّه علی سیدنا محمد نبیه و آله الطاهرین الأکرمین و سلم ».
و قال العالم الفقیه القاضی الشیخ محمد بن طاهر السماوی- رح-:
«وجدت فی مجموعة شعر فیه مدائح للنبی- صلی اللّه علیه و آله و للأئمة- علیهم السلام- مدائح و مراث و فیها أن مجد الدین ابن جمیل صاحب المخزن للناصر غضب علیه فحبسه فضاق صدره فمدح أمیر المؤمنین-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 230
علیه السلام- بقصیدة ذات لیلة فی المحرّم و هی:
ألمت و هی حاسرة لثاماو قد ملأت ذوائبها الظلاما
و أجرت أدمعا کالطلّ هبت‌لها ریح الصّبا فجرت تؤاما
و قالت أقصدتک ید اللیالی‌و کنت لخائف منها عصاما
و أعوزک الیسیر و کنت فیناثمالا للأرامل و الیتامی
فقلت لها کذاک الدهر یجنی‌فقرّی و ارقبی الشهر الحراما
فإنی سوف أدعو اللّه فیه‌و أجعل مدح حیدرة اماما
و أبعثها إلیه منقحّات‌یفوح الشیح منها و الخزامی
تزور فتی کأن أبا قبیس‌تسنّم منکبیه أو شماما
أغرّ له إذا ذکرت أیادعطاء وابل یشفی الأواما
و أبلج لو ألم به ابن هندلأوسعه حیاءا و ابتساما
و لو رمق السّماء و لیس فیهاحیا لاستمطرت غیثا زکاما
و تلثم من تراب أبی تراب‌ترابا یبری‌ء الداء العقاما
فتحظی عنده و تؤوب عنه‌و قد فازت و أدرکت المراما
بقصد أخی النبی و من حباه‌بأوصاف یفوق بها الأناما
و من أعطاه یوم غدیر خمّ‌صریح المجد و الشرف القدامی
و من ردّت ذکاء له فصلّی‌أداءا بعد ما کست الظلاما
و آثر بالطعام و قد توالت‌ثلاث لم یذق فیها طعاما
بقرص من شعیر لیس یرضی‌سوی الملح الجریش له إداما
فردّ علیه ذاک القرص قرصاو زاد علیه فوق القرص جاما
أبا حسن و أنت فتی إذا مادعاه المستجیر حمی و حامی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 231 أزرتک یقظة غر القوافی‌فزرنی یا ابن فاطمة مناما
و بشرنی بأنک لی مجیرو أنک ما نعی عن أن أضاما
و کیف یخاف حادثة اللیالی‌فتی یعطیه حیدرة ذماما
سقتک سحائب الرضوان سحاکفیض یدیک ینسجم انسجاما
و نام فرأی أمیر المؤمنین- ع- فتلاها علیه، فقال له: الساعة تخرج. فانتبه فرحا و جعل یجمع رحله. فسأله من کان معه، فقال:
الآن اخرج. فظنّوا به الاختلال و تغیر العقل، فطرق باب السجن و دعی إلی الناصر، فخرج و أخبره الرسول أنه وجده متهیئا للخروج فلما مثل بین یدیه قال: أخبرت أنک عند مجی‌ء الرسول إلیک کنت متهیئا للخروج. قال: نعم. و من أعلمک باطلاقک؟ قال: أمیر المؤمنین علیه السلام. و حکی له القصّة. فقال الناصر: صدقت إنی رأیت أمیر المؤمنین- ع- فی منامی فأمرنی باطلاقک فی هذه الساعة و توعّدنی إن ترکتک للصبح. ثم أعطاه ألف دینار و أعاده فی محله من الدیوان وردّ إلیه ما صادره علیه» قال الشیخ محمد السماوی: «أقول: و لم أقف علی ترجمة مجد الدین هذا و لعلنی أقف علیها فیما بعد ». قال مصطفی جواد: من ذکرت ترجمته فی معجم الأدباء لیاقوت الحموی و بغیة الوعاة للسیوطیّ فمن السهل الوقوف علی ترجمته.
و لشرف الدین محمد بن عنین الشاعر الدمشقی المشهور فی مدح مجد الدین ابن جمیل:
و قالوا غدت بغداد خلوا و ما بهاجمیل و لا من یرتجی لجمیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 232 و کیف استجازوا قول ذاک و قد حوت‌لنا الفضل شمس الدولة ابن جمیل

سنة «617» ه

اشارة

97- و أبو الفتوح عبد اللطیف بن علی بن علی بن هبة اللّه بن محمد ابن البخاری القاضی، ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه قال «من بیت العدالة و القضاء و الولایة، تولی أولا القضاء بربع باب الأزج یوم الثلاثاء عاشر شوال سنة إحدی و ستمائة ثم ولی الحکم و القضاء بجمیع شرقی مدینة السلام فی یوم الاثنین عاشر شعبان سنة ثمان و ستمائة و أذن له فی الاسجال عن الخدمة الشریفة الامامیة الناصریة- أعز اللّه أنصارها و ضاعف اقتدارها- و تقدم إلی الشهود بحضور مجلسه و الشهادة عنده و علیه فیما یسجله و ردّ إلیه النظر فی دجیل من أعمال السّواد، فحکم فی الیوم المذکور و سمع البینة و أسجل و لم یزل علی ذلک إلی أن ولی صدریة المخزن المعمور و النظر فی أعماله فی یوم السبت ثالث عشری شهر ربیع الأول سنة إحدی عشرة و ستمائة و خلع علیه و رکب إلی المخزن المعمور فی جمع کثیر و ذلک مضافا إلی ما کان إلیه من الأعمال بالسّواد ثم أضیف إلی نظره واسط و البصرة و تکریت و الحلّة المزیدیة، فکان علی ولایته، و الأعمال المذکورة منوطة بنظره إلی أن عزل عن الجمیع یوم الأربعاء ثانی جمادی الآخرة سنة أربع عشرة و ستمائة ثم أعید إلیه النظر بالمخزن المعمور لیلة الخمیس عاشر شعبان سنة خمس عشرة و ستمائة.
ثم توفی لیلة الجمعة ثالث عشری ربیع الآخر سنة سبع عشرة و ستمائة و دفن بالمشهد (الکاظمی) عند أبیه » و ترجمه زکی الدین المنذری بما لا یخرج عما ذکره ابن الدبیثی و قال: «صلّی علیه بجامع القصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 233
الشریف أرباب الدولة و غیرهم و دفن من الغد بالمشهد عند أبیه ».
و ذکره الذهبی فی المختصر المحتاج إلیه من تاریخ ابن الدبیثی و معنی ذلک أنه اختصر ما نقلناه آنفا، و قال فی تاریخ الاسلام فی وفیات سنة 617: «عبد اللطیف ابن قاضی القضاة أبی طالب علی بن هبة اللّه ابن البخاری القاضی أبو الفتوح البغدادی ولی القضاء بالجانب الشرقیّ جمیعه و ولی النظر بالمخزن المعمور و هو من بیت القضاء و الحشمة.
توفی فی ربیع الآخر ».
قال مصطفی جواد: یظهر لی أن بین وفاته و الحدث الذی أحدثته زوجه اشتیاق صلة و أن ذلک الحدث أثر فی نفسه تأثیرا سیئا ربما أتی علیها، قال القفطی فی ترجمة أبی علی مسیحی ابن أبی الخیر العطار النیلی الأصل البغدادی المولد و المنشأ: «کان جاه أبیه (مسیحی) یستره فلما مات (سنة 608) زال من کان یحترمه لأجله و لازم هو ما کان علیه من قلّة التحفظ فی أمر دینه و دنیاه و اتفق أن کان علی بعض مسرّاته إذ کبس فی لیلة الجمعة حادی عشر شهر ربیع الأول من سنة سبع عشرة و عنده امرأة من الخواطی‌ء المسلمات تعرف بست شرف، فلما قبض علیه أقرّ جماعة من الخواطی‌ء المسلمات کنّ یأتینه لأجل دنیاه، من جملتهن امرأة تعرف ببنت الجیش الرکابدار و اسمها اشتیاق و کانت زوجة (عبد اللطیف) ابن البخاری صاحب المخزن أم أولاده، فخرجت الأوامر بالقبض علی النساء اللواتی ذکرهنّ، فقبض علیهن و أودعهن سجن (الطرّارات) ثم رسم باهلاک ابن مسیحی، ففدی نفسه بستة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 234
آلاف دینار و أظهر فیها بیع ذخائره و کتب أبیه ». فالحدث جری فی الیوم الحادی عشر من شهر ربیع الأول وفاته حدثت فی الثالث و العشرین من شهر ربیع الآخر.

ابو الحسن نصیر الدین

98- و نصیر الدین أبو الحسن ناصر بن مهدی العلوکی الحسنی المازندرانی الوزیر، ذکره ابن الطقطقی فی تاریخه قال: هو مازندرانی المولود الأصل، رازی المنشأ، بغدادی التدبیر و الوفاة، کان من کفاة الرجال و فضلائهم و أعیانهم، و ذوی المیزة منهم، اشتغل بالآداب فی صباه فحصّل منها طرفا صالحا ثم تبصر بأمور الدواوین ففاق فیها.
و کان فی ابتداء أمره ینوب عن النقیب عز الدین المرتضی القمیّ نقیب بلاد العجم کلّها و منه استفاد قوانین الرئاسة. و کان عز الدین النقیب من أماجد العالم و عظماء السادات، فلما قتل النقیب عز الدّین، قتله علاء الدین خوارزمشاه هرب ولده النقیب شرف الدین محمد و قصد مدینة السلام مستجیرا بالخلیفة الناصر، و صحبته نائبه نصیر الدین ابن مهدی. و کان (ابن مهدی) من عقلاء الرجال فاختبره الناصر فرآه عاقلا لبیبا سدیدا فصار یستشیره (کذا) سرا فیما یتعلق بملوک الأطراف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 235
فوجد عنده خبرة تامّة بأحوال السلاطین العجم و معرفة بأمورهم و قواعدهم و أخلاق کل واحد منهم، فکان الناصر کلما استشار به فی شی‌ء من ذلک یجده مصیبا عین الصواب فاستخلصه لنفسه و رتبه أولا نقیب الطالبیین ثم فوّض إلیه أمور الوزارة، فمکث فیها مدة تجری أموره علی أتم سداد، و کان کریما وصولا عالی الهمة شریف النفس. حدث عنه أنه کان یوما جالسا فی دست الوزارة و فی یده قطعة عود کبیرة، فرأی بعض الصدور الحاضرین و هو یلح بالنظر إلیها. فقال: أتعجبک هذه؛ فدعا له. فوهبه إیاها. و قام الرجل لیخرج، فلما بعد عن مجلس الوزیر استدعاه بسرعة و قال له: أترید أن تفضحنا و تصدق المثل فینا (بخّره عریانا» ؟! ثم أمر فخلع علیه و دفع إلیه تخت ثیاب و قال له: تبخّر فی هذه الثیاب.
و مدحه الأبهری الشاعر الأعجمی بقصیدة مشهورة فی العجم .. و أرسلها الأبهری صحبة بعض التجار مع بعض القفول و قال للتاجر: أوصلها إلی الوزیر و إن قدرت أن لا تعلمه من قائلها فافعل فلما عرضت القصیدة علی الوزیر استحسنها و طلب التاجر و دفع إلیه ألف دینار ذهبا و قال: هذه تسلمها إلی الأبهری و لا تعلمه ممّن هی.
و قبض الناصر علیه کارها لأمور اقتضت ذلک و کان القبض علیه فی سنة أربع و ستمائة، و نقل إلی دار الخلافة فأقام بها تحت الاستظهار علی حالة الإکرام و المراعاة إلی أن مات تحت الاستظهار فی سنة سبع عشرة و ستمائة» . و ذکره السید ابن عنبة فی عقب زید بن الحسن- ع- قال:
«و منهم زید بن حمزة بن محمد.» من ولده الوزیر أبو الحسن ناصر بن مهدی بن حمزة بن محمد بن حمزة (بن) مهدی بن الناصر بن زید المذکور، الرازی المنشأ المازندرانی المولد. ورد بغداد بعد قتل السید النقیب عز الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 236
یحیی بن محمد الذی کان نقیب الریّ و قم و آمل- و هو من بنی عبد اللّه الباهر- و کان محمد بن النقیب المذکور معه، و کان الوزیر ناصر فاضلا محتشما حسن الصورة، مهیبا فوضت إلیه النقابة الطاهریة ثم فوضت إلیه نیابة الوزارة فاستناب فی النقابة محمد بن یحیی النقیب المذکور ثم کملت له الوزارة و هو الأربعة الذین کملت لهم الوزارة فی زمن الخلیفة الناصر لدین اللّه، و لم یزل علی جلالته فی الوزارة و نفاذ أمره و تسلطه علی السادة بالعراق إلی أن أحیط بداره ذات لیلة، فجزع لذلک و کتب کتابا ثبتا یحتوی علی جمیع ما یملکه من جمیع الأشیاء حتی حلی ثیابه و کتب فی ظهره: إن العبد ورد هذا البلد و لیس له شی‌ء یلبسه و یرکبه و هذا المثبت فی هذا الثبت إنما استفدته من الصدقات الإمامیة و التمس أن یصان فی نفسه و أهله. فورد الجواب علیه: إننا لم ننقم علیک بما سترده و قد علمنا ما صار إلیک من مالنا و تربیتنا و هو موفر علیک. و ذکر له أمرا اقتضی له أن یعزل. فسأل أن ینقل إلی دار الخلافة لیأمن من سعی الأعداء و تطرقهم إلیه بشی‌ء من الباطل، فنقل إلی هناک و بقی فی داره مصونا إلی حین وفاته. و قد قیل فی سبب عزله أقوال منها أن الخلیفة الناصر ألقی إلیه رقعة و لم یعلم صاحبها و فیها هذه الأبیات :
ألا مبلغ عنی الخلیفة أحمداتوقّ و قیت الشرّ ما أنت صانع
وزیرک هذا بین شیئین فیهمافعالک یا خیر البریة ضائع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 237 فان کان حقا من سلالة أحمدفهذا وزیر فی الخلافة طامع
و إن کان فیما یدّعی غیر صادق‌فأضیع ما کانت لدیه الصنائع
و منها أنه کان لا یوفی الملک صلاح الدین بن أیوب ما (له) من الألقاب. و کان صلاح الدین هو الذی أزال الدولة العبیدیة من مصر و خطب للخلیفة الناصر بالخلافة هناک فیقال إن بعض رسله إلی دار الخلافة لما أنهی ما جاء لأجله قال: عندی رسالة أمرت أن لا أؤدیها إلا مشافهة فی خلوة.
فلما خلا به قال: العبد یوسف بن أیوب یقبل الأرض و یقول: تعزل الوزیر ابن مهدی و إلّا فعندی باب مقفل خلفه قریب من أربعین رجلا، أخرج واحدا منهم و أدعو له بالخلافة فی دیار مصر و الشام. فکان هذا سبب عزل الوزیر . و کان (نصیر الدین) جبارا مهیبا وجد ذات یوم رقعة فی دواته و استعبرها و لم یعلم من طرحها فإذا فیها شعر:
لا قاتل اللّه یزیدا و لامدّت ید السوء إلی نعله
فانه قد کان ذا قدرةعلی اجتثاث العود من أصله
لکنه أبقی لنا مثلکم‌أحیاء کی یعذر فی فعله
فقامت علیه القیامة، فاجتهد فلم یعرف من ألقاها» .
و قال ابن الأثیر فی حوادث سنة 592: «و فی شوال منها أثبت نصیر الدین ناصر بن مهدی العلوی الرازی فی الوزارة» و الصحیح نیابة الوزارة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 238
ألا تراه قال فی حوادث سنة 604 فی خبر عزله: «کان هذا نصیر الدین ناصر بن مهدی العلوی من أهل الریّ من بیت کبیر فقدم بغداد لما ملک مؤید الدین ابن القصّاب وزیر الخلیفة الریّ و لقی من الخلیفة قبولا فجعله نائب الوزارة ثم جعله وزیرا». ثم إن هذا مخالف للتاریخ قال ابن الساعی فی حوادث سنة 597: «و فی تاسع عشر صفر خلع علی نصیر الدین أبی الحسن ناصر بن مهدی العلوی الرازی و ولی نیابة الوزارة و رکب إلی الدیوان العزیز و جلس به و نفذ المراسم الشریفة الناصریة و وقع إلی الأطراف» و قال فی حوادث السنة المذکورة: «و فی خامس ذی القعدة خرج نصیر الدین ناصر بن مهدی المذکور و خرج معه الأمیر طاشتکین لاستعراض العساکر و کان علی عزم التوجه إلی الیمن لمحاربة إسماعیل ابن سیف الاسلام طغدکین لأنه ادعی أنه أموی و سمی نفسه خلیفة فأغناهم اللّه عن قصده و قصمه و طهر البلاد منه» .
و قال فی حوادث سنة «602: «و فی ثانی عشر جمادی الأولی منها أشهد الإمام الناصر لدین اللّه- رضی اللّه عنه- علی نفسه الشریفة بالوکالة الجامعة للوزیر نصیر الدین ناصر بن مهدی، العدلین أبا منصور ابن الرزاز و أبا نصر بن زهیر» و قال فیها: «و فی ثامن ذی الحجة من السنة خلع علی نائب الوزارة نصیر الدین ناصر بن مهدی بباب الحجرة الشریفة خلع الوزارة و خرج راکبا من هناک و جمیع أرباب الدولة بین یدیه رجالة و کذلک الأمراء إلی الدیوان العزیز و جلس فی دست الوزارة و کتب إنهاءا و عرضه فبرز الجواب عنه علی ید الأستاذ تاج الدین رشیق القادم الخاص فقرأه علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 239
الحاضرین و عاد إلی داره» ثم قال فی سنة 604: «و فی یوم السبت ثانی عشری جمادی الآخرة من سنة أربع و ستمائة المذکورة عزل الوزیر نصیر الدین أبو الحسن ناصر بن مهدی العلوی، حضر عنده لیلا من شافهه بالعزل و أغلق بابه و ضرب له الطبل فی تلک اللیلة بالرحبة جریا علی عادته و احتیط علی داره و أبوابه و کذلک دار ولده رکن الدین محمد المقدم، ذکر عزله (عن صدریة المخزن) ثم نقل هو و أولاده إلی دار بالصاغة من دار الخلافة المعظمة و نقل معه أمواله و أسبابه جمیعها و جعل معه غلمان من رجال الدار العزیزة یحفظونه» .
و قال ابن الأثیر فی حوادث سنة 604 تحت عنوان (ذکر عزل الوزیر نصیر الدین وزیر الخلیفة) و قد نقلنا بعضه آنفا: «فلما کان فی الثانی و العشرین من جمادی الآخرة من هذه السنة عزل و أغلق بابه و کان سبب عزله أنه أساء السیرة مع أکابر ممالیک الخلیفة فمنهم أمیر الحاج مظفر الدین سنقر وجه السبع فانه هرب من یدیه إلی الشام سنة ثلاث و ستمائة، فارق الحاج بالمرجوم و أرسل یعتذر و یقول: إن الوزیر یرید أن لا یبقی فی خدمة الخلیفة أحد من ممالیکه و لا شک أنه یرید أن یدعی الخلافة. و قال الناس فی ذلک فأکثروا و قالوا الشعر فمن ذلک قول بعضهم: ألا مبلغ عنی الخلیفة أحمدا ...
فعزله، و قیل فی سبب ذلک غیره و لما عزل أرسل إلی الخلیفة یقول: إننی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 240
قدمت إلی ها هنا و لیس لی دینار و لا درهم، و قد حصل لی من الأموال و الأعلاق النفیسة و غیر ذلک ما یزید علی خمسمائة ألف دینار . و یسأل أن یؤخذ منه الجمیع و یمکن من المقام بالمشهد أسوة ببعض العلویین، فأجابه (الخلیفة الناصر: إننا ما أنعمنا علیک بشی‌ء فنوینا إعادته و لو کان مل‌ء الأرض ذهبا، و نفسک فی أمان اللّه و أمامنا و لم یبلغنا عنک ما یستوجب به ذلک، غیر أن الأعداء قد أکثروا فیک، فاختر لنفسک موضعا تنتقل إلیه موقرا محترما. فاختار أن یکون تحت الاستظهار من جانب الخلیفة لئلا یتمکن منه العدو فتذهب نفسه، ففعل به ذلک. و کان حسن السیرة قریبا إلی الناس حسن اللقاء لهم و الانبساط معهم، عفیفا عن أموالهم، غیر ظالم لهم.
فلما قبض عاد أمیر الحاج سنقر و عاد أیضا قشتمر» .
و قال سبط ابن الجوزی فی حوادث سنة 602: «و فیها استوزر الخلیفة نصیر الدین ناصر بن مهدی العلوی الحسنی و خلع علیه خلعة الوزارة: القمیص و الدراعة و العمامة و خرج من باب الحجرة فقدم له فرس من خیل الخلیفة و بین یدیه دواة فیها ألف مثقال ذهب و وراء المهد الأصفر و ألویة الحمد و طبول النوبة و الکوسات تخفق و العهد منشور بین یدیه و جمیع أرباب الدولة مشاة بین یدیه و ضربت الطبول و البوقات له بالرحبة فی أوقات الصلوات الثلاث: المغرب و العشاء و الفجر. فقال الناس: یا لیت شعرنا ماذا بقّی الخلیفة لنفسه» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 241
و کانت صورة خطاب الوزیر ابن المهدی الرسمیة «المولی الوزیر الأعظم، الصاحب الکبیر المعظم، العادل المؤید المظفر، المجاهد نصیر الدین صدر الاسلام، غرس الامام، شرف الأنام عضد الدولة مغیث الأمّة، عماد الملک، اختیار بالخلافة المعظمة، مجتبی الأمة المکرمة، تاج الملوک. سید صدور العالمین ملک وزراء الشرق و الغرب غیاث الوری نصیر الدین أبو الحسن نصر بن مهدی، ظهیر أمیر المؤمنین و ولیه المخلص فی طاعته الموثوق به فی صحة عقیدته» .
و قال أبو الفضائل محمد بن علی الحموی و العهدة علیه فی تاریخه فی حوادث سنة 611: «سنة حادی عشرة و ستمائة کان قد تجهّز خوارزم شاه إلی العراق و فیها وصلت رسل خوارزم شاه یطلب الدار ببغداد و الخطبة و أن یخاطب بمخاطبة السلجوقیة، و یقال له فی الخطبة (قسیم أمیر المؤمنین) فما أجیب إلی ذلک، و أنکر علیه غایة الانکار، سبب عزل الخلیفة لوزیره نصیر الدین العلوی أنه کان قد سیّر ثلاثمائة جمل علیها قواصر التمر و أودع کل جمل ألف دینار، فتعرض لها بعض ولاة الخلیفة و طلب شیئا من ذلک التمر یأکله، فامتنعوا علیه من ذلک إلا أنه ألح علیهم، فأخذ جملین و فتح قوصرة تمر ففرقها علی الجماعة وجد الذهب، ففتح الثانیة فوجد کذلک فضبط الجمیع و طالع به الخلیفة، فأنکر ذلک علیه و عزله و نقله إلی دار الخلیفة هو و أولاده بعد أن أخذ جمیع الذی کان له فما وجد إلا القلیل لأنه کان قد نقله إلی العجم و استوفینا قصته فی البیان» .
و هذا الخبر مضطرب علیه سیما الکذب و یدل علی أن هذا المؤرخ کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 242
عامیا بعیدا عن التعقل، ثم إن الخبر أشبه بأخبار العوام منه بأخبار المؤرخین الأثبات و الأخباریین الثقات.
و ترجم له الذهبی بایجاز فی تاریخه الکبیر و لیس فی ترجمته الموجزة فائدة زائدة نذکرها .

قیصر بن المظفر

99- و أبو محمد قیصر بن المظفر بن یلدرک، ذکره المنذری فی وفیات سنة 617 قال: «و فی الثالث و العشرین من جمادی الأولی توفی الشیخ أبو محمد قیصر بن المظفر بن یلدرک ببغداد و دفن من الغد بمشهد باب التبن» .
و ذکره الذهبی فی تاریخه فی السنة المذکورة قال: «قیصر بن مظفر بن یلدرک أبو محمد البغدادی، أدیب فاضل أخباری ملیح الخط، صحب أبا الفوارس سعد بن محمد حیص بیص و انقطع له و سمع منه الکثیر و توفی فی جمادی الأولی و له ثمان و ثمانون سنة» .
و قد اشتهر فی هذا العصر کثیر من الرجال باسم قیصر منهم قیصر بن عبد اللّه الناصری الأمیر و قیصر العونی نسبة إلی الوزیرعون الدین ابن هبیرة و قیصر بن فیوز البواب و قیصر بن عبد اللّه البدری و غیرهم.

سنة 618 ه

اشارة

100- و محمد بن مبشر بن أبی الفتوح نصر بن أبی یعلی بن أبی البشائر بن أبی یعلی بن مبشر، ذکره القفطی بهذه التسمیة قال: «وکیل الباب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 243
العدّیّ . بغدادی کان فاضلا متمیّزا عالما بعلوم الأوائل و الهندسة و الفلسفة و علم النجوم و الحساب و الفرائض و تولی وکالة الأمیر عدة الدین أبی نصر محمد ابن الامام الناصر لدین اللّه أبی العباس أحمد و توفی ببغداد و هو علی منزلته و خدمته فی یوم الاثنین رابع رجب سنة ثمانی عشرة و ستمائة و دفن بمشهد موسی بن جعفر» .

ابن حفنا

101- و الشیخ أبو الفضل النفیس بن أبی البرکات بن معالی البغدادی الزعیمی المعروف بابن حفنا ذکره ابن البرثیّی بدلالة وجوده فی مختصر الذهبی للتاریخ المذکور و لم یعثر علی القسم الذی فیه ترجمته من تاریخ ابن البرثی فلذلک نذکر الاختصار قال الذهبی: «النفیس بن أبی البرکات بن معالی أبو الفضل المستخدم، سمع ابن البطی و ابن غبرة أنبأنا قال أنبأنا ابن غبرة و روی حدیثا. توفی فی صفر سنة ثمان عشرة و ستمائة.
قلت: روی عنه البرزالی و الضیاء و عبد الصمد بن أبی الحبیش و قال فی نسبه: ابن حفنی الزعیمی» .
و ذکره زکی الدین المنذری فی وفیات سنة 618 قال: «و فی لیلة الرابع عشر من صفر توفی الشیخ الصالح أبو الفضل النفیس بن أبی البرکات بن معالی البغدادی الزعیمی المعروف بابن حفنا ببغداد، و دفن من الغد بمشهد باب التبن سمع بالکوفة من أبی الحسن محمد بن محمد بن غبرة الحارثی و ببغداد من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و غیره و حدّث لنا منه إجازة.
و حفن بضم الحاء المهملة و سکون الفاء و فتح النون قیل کانت أمه من موالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 244
زعیم الدین یحیی بن جعفر صاحب المخزن فنسب إلیه و ربی مع أولاده و سمع معهم و قیل کان صاحبا لزعیم الدین» . و ذکره الذهبی فی وفیات سنة 618 قال: «النفیس بن أبی البرکات بن معالی بن حفنی أبو الفضل الزعیمی البغدادی المستخدم. سمع أبا الحسن ابن غبرة و أبا الفتح بن البطی، روی عنه البزازالی، و الضیاء و الشیخ عبد الصمد بن أبی الحبیش و الدبیثی و آخرون و کان رجلا صالحا. و حفنی بضم الحاء المهملة و فتح النون. توفی- رح- فی رابع عشر صفر» .

علی ابن نما الحلی

102- و کافی الدین أبو عبد اللّه الحسین بن أبی القاسم علی ابن نما الحلی الکاتب الشاعر من أسرة من الحلیة المشهورة، ذکره المنذری فی وفیات سنة 618 قال: «و فی الثانی و العشرین من شهر ربیع الأول توفی الشیخ الأدیب أبو عبد اللّه الحسین بن أبی القاسم علی بن نما الحلی الکاتب ببغداد و دفن من یومه بالمشهد، و هو من أهل الحلة المزیدیة و سکن بغداد و خدم الأمراء و کان له ترسل و شعر. حدث بشی‌ء من شعره و أخبر أن مولده فی سنة ثلاث و ثلاثین و خمسمائة. و قال مرة أخری: سنة تسع و عشرین و قال مرة أخری: سنة أربع و ثلاثین و خمسمائة».
و ذکره ابن الدبیثی فی «الحسینین» من تاریخه لبغداد قال: «الحسین ابن علی بن نما أبو عبد اللّه بن أبی القاسم الکاتب، قدم بغداد و استوطنها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 245
و خدم مع الأمراء و کان له ترسل و شعر. سمعنا منه قطعا من شعره. أنشدنا أبو عبد اللّه الحسین بن علی ابن نما ببغداد لنفسه مبدأ قصیدة له:
نفی و قدات الکرب عن روح قلبه‌نسیم سری من صوب رضوی و هصبه
فیا حبذا و انیه ضعفا إذا سری‌یلاعب غصنا من أراک بقضبه
جری روحه فی روح قلبی فزاده‌اشتیاقا إلی ریّا الحبیب و قربه
أری غصنا غضّا ثناه نسیمه‌ثنی مارنی عطفا لصوب مهبه
فأفلت قلبی من حبائل وقده‌و طوّقه روحا أریجا بقطبه (کذا)
دعانی داعی الشوق یوم تحملوافلبیته یا لیتنی لم ألبّه
متی حن قلبی أنّ صبری فبرده‌بمعترک فیه المنایا و نصبه (کذا)
تمر خطوب الافتراق تمرّداعنیفا فتّبا للفراق و خطبه
فوالهفتا إذ صار سهل فراقکم‌ببعدکم وعرا کقدس و شعبه»
و ذکر اختلاف أقواله فی تاریخ مولده و قال: «و توفی ببغداد فی لیلة الاثنین فی عشرین ربیع الأول سنة ثمانی عشرة و ستمائة و دفن یوم الاثنین» .
و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بالکافی قال: «کافی الدین أبو عبد اللّه الحسین بن علی ابن نما الحلی الأدیب، قدم بغداد و استوطنها و کان فاضلا أدیبا له دیوان و شعر حسن فی الفنون و کان مداحا و من شعره» و ذکر ثلاثة أبیات من التی ذکرناها و قال: ذکره ابن الدبیثی و قال: سمعنا علیه شعره و توفی سنة ثمان عشرة و ستمائة» . و کان قال فی ترجمة غرس الدین بدر الدولة من أبی الحسن علی بن أقسنقر الناصری الأمیر: «کتب الأدیب کافی الدین الحسین بن علی بن نما الحلی علی لسان غرس الدولة یذکر الصنع الذی أدرکه مالک رقه سنة سبع و تسعین و خمسمائة:
ملک الملوک أزلت عنی صدمةللیتم فانحرفت مصاحبة اللقا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 246 و بنیت لی رکنی و کان مهدّماو نظمت لی شملی و کان مفرّقا
لم یبلغا أبوای فیّ أمانیابلغتنیها یا رفیع المرتقی
و ذکره عز الدین بن جماعة قال: «أنبأنا الشریف تاج الدین الغرافی عن أبی عبد اللّه بن محمد (ابن النجار) البغدادی قال أنشدنا أبو عبد اللّه ابن نما الکاتب لنفسه:
أو میض برق بالأبیرق أومضاأم ثغر غانیة بلیل قد أضا؟
أسکنتم الأیام فیاض الحیاو کسوتم الأحشاء ألهوب الغضا
یا جامعی الأضداد لم لم تجمعواسخطا ممضّا للفؤاد به الرضا؟
زمن الوصال تقوضت أیامه‌یا لیت دهر الهجر کان تقوّضا
هو الحسین بن علی بن نما ابن حمدون الکاتب من أهل الحلة السیفیة له شعر و رسائل دوّنهما و الغالب علیهما رکاکة الألفاظ و قلة المعانی و کان رافضیّا. ولد فی ذی الحجة سنة تسع و عشرین و خمسمائة و توفی فی شهر ربیع الأول سنة ثمان عشرة ببغداد» .

سنة 620 ه

اشارة

103- و الشریفة کاملیة بنت محمد بن أحمد بن محمد بن عمر العلویة الزیدیة، ذکرها المنذری فی وفیات سنة «620» قال: «و فی الخامس و العشرین من المحرم توفیت الشریفة کاملیة بنت محمد بن أحمد بن محمد ابن عمر العلویة الزیدیة إبنة أخی الشریف أبی الحسن (علی بن أحمد) الزیدی ببغداد و دفنت بمشهد باب التبن سمعت بافادة عمها من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و حدثت» . و ذکرها ابن الدبیثی فی تاریخه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 247
بدلالة وجودها فی المختصر قال: «کاملیة بنت محمد بن أحمد العلویة سمعها عمها علی بن أحمد الزیدی من أبی الفتح ابن البطی. سمع منها الطلبة.
توفیت فی محرم سنة عشرین و ستمائة» .

ابن السبیع

104- و الشریف أبو محمد قریش بن السبیع بن المهنا بن السبیع بن المهنا بن السبیع بن المهنا بن داود بن قاسم بن عبید اللّه بن طاهر بن یحیی بن الحسن بن جعفر بن عبید اللّه بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب- علیهم السلام- العلوی الحسینی المدنی، ذکره المنذری فی وفیات سنة «620» ه قال و قد ذکر اسمه و نسبه «و فی لیلة الخامس و العشرین من ذی الحجة توفی الشریف أبو محمد قریش ... نزیل بغداد بها و دفن من الغد بمشهد باب التبن. و مولده بمدینة رسول اللّه- ص- فی شعبان سنة إحدی و أربعین و خمسمائة و قیل سنة أربعین و قیل سنة تسع و ثلاثین و خمسمائة.
قدم بغداد فی صباه و سکنها إلی حین وفاته و طلب الحدیث و سمع الکثیر و قرأ علی الشیوخ و کتب بخطه و سمع من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و أبی طالب المبارک بن علی بن خضیر الصیرفی و أبی زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسی و أبی الحسن علی بن أبی سعد الخباز و أبی بکر عبد اللّه ابن محمد بن أحمد بن النقور و أبی محمد عبد اللّه بن أحمد ابن الخشاب و جماعة سواهم من المتأخرین و حدّث، و لنا منه إجازة کتب بها إلینا من بغداد سنة تسع عشرة و ستمائة» . و ذکره ابن الدبیثی فی تاریخه بدلالة وجوده فی مختصر تاریخه قال الذهبی: «قریش بن سبیع بن المهنا بن السّبیع الحسینی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 248
أبو محمد المدنی قدم بغداد و سکنها و سمع ابن البطی و ابن النقور و أبا محمد ابن الخشاب و المبارک بن خضیر. قرأت علیه أخبرکم ابن البطی. فذکر حدیثا. ولد سنة إحدی و أربعین و خمسمائة بالمدینة، و توفی فی ذی الحجة سنة عشرین و ستمائة ببغداد» . و ترجم له جمال الدین محمد بن علی ابن الصابونی بعد ذکر اسمه و نسبه و جماعة من الشیوخ الذین روی عنهم:
«روی عنهم، أجاز لی غیر مرة، مولده فی شعبان سنة احدی و أربعین و خمسمائة بمدینة الرسول- ص- و ذکر الحافظ أبو عبد اللّه عبد اللّه محمد ابن محمود ابن النجار- و من خطه نقلت:- أن مولده فی سنة تسع و ثلاثین و خمسمائة و توفی لیلة الخامس و العشرین من ذی الحجة سنة عشرین و ستمائة و دفن بالمشهد» ، و ذکره الذهبی فی تاریخه و قال فیما قال: «قدم بغداد و طلب و سمع الکثیر و حصل و عنی بالحدیث ... روی عنه الدبیثی و ابن النجار و أهل بغداد و غیرهم، توفی فی ذی الحجة» . و ذکره ابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغة قال: «و جاء فی أخبار علی- ع- التی رواها أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل فی کتاب فضائله، و هو روایتی عن قریش بن السبیع بن المهنا العلوی عن نقیب الطالبیین أبی عبد اللّه ... بن المعمر» .
و ذکره الذهبی فی وفیات سنة «620» و لم یذکر فائدة جدیدة لم یذکرها من قبله .

سنة 621 ه

105- و أبو المظفر قطب الدین محمد ابن الملک جمال الدین قشتمر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 249
ابن عبد اللّه الناصری البغدادی الأمیر، ذکره ابن الفوطی قال: «ذکره لی الأمیر فخر الدین أبو سعد بغدی ابن الأمیر شرف الدین علی بن قشتمر و قال: کان عمی قطب الدین شابا و کان أعز الأولاد عند أبیه و أدّبه و خرج مع والده إلی دقوقا و أحبّه أهل تلک النواحی و مات بدقوقا فی جمادی الأولی سنة إحدی و عشرین و ستمائة، و حمل إلی بغداد و دفن فی تربة أنشأها بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام-» .
و قطب الدین هذا ابن إبنة ارغش التی تزوجها الأمیر قشتمر فولدت له قطب الدین محمد و قد ذکرناها فی وفیات سنة 602 و ذکرنا أنها قتلت نفسها بالحزن و الأسی و الإمتناع عن الطعام و الشراب لمفارقة زوجها لها و یأسها من رجوعه- رحمة اللّه علیها-.

سنة 622 ه

106- و أبو القاسم ظفر ابن الشیخ أبی الحسن سالم بن علی بن سلامة ابن البیطار البغدادی الحریمی الحیوانی المعروف بابن خضیر، ذکره المنذری فی وفیات سنة 622 و قال «و فی الرابع من جمادی الآخرة توفی الشیخ أبو القاسم ظفر ... ببغداد و دفن من الغد بالجدیدة من مشهد باب التبن.
سمع بإفادة أبیه من أبی القاسم سعید بن أحمد ابن البناء و أبی الوقت عبد الأول ابن عیسی و أبی المظفر هبة اللّه بن أحمد بن محمد بن الشبلی و أبی المعالی محمد ابن محمد بن محمّد اللحاس و غیرهم. و حدث و لنا منه إجازة کتب بها إلینا من بغداد. و سئل عن مولده فلم یحققه و ذکر ما یدل علی أنه فی سنة ثمان و أربعین و خمسمائة تقریبا، و قد ذکر غیر واحد من الثقات أنه سمع من أبی القاسم سعید بن أحمد بن البناء (المذکور) و هذا یدل علی أنه غلط فی تقریبه فی مولده فإن سعید بن البناء توفی فی ذی الحجة سنة خمسین و خمسمائة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 250
و قد تقدم ذکر أخیه أبی الفضل شجاع بن سالم و والدهما أبو الحسن سالم سمع من غیر واحد و حدث .

سنة 623 ه

اشارة

107- و أحمد بن عبد العزیز المعروف بالکزی، هکذا ذکره المنذری و لم یبین إلی أی شی‌ء أو أی إنسان أو أی بلد نسب، قال: «فی وفیات سنة 623: «و فی السابع من المحرم توفی الشیخ أحمد بن عبد العزیز المعروف بالکزی ببغداد و دفن بمقابر قریش» . قال مصطفی جواد: أحسبه (الکنرّی) نسبة إلی «کنر» قال یاقوت فی معجم البلدان: «کنرّ بالکسر و تشدید ثانیه و فتحه و آخره راء: قریة قریبة من بغداد من نواحی دجیل قرب أوانا و کان الوزیر علی بن عیسی یقول: لعن اللّه أهل کنّر و أهل نفر.
و هما بالعراق. ینسب إلیها من المتأخرین أبو الذخر خلف بن محمد بن خلف الکنرّی المقری‌ء ...».
و ورد اسمه فی شرح نهج البلاغة لعز الدین بن أبی الحدید استطرادا «أحمد بن عبد العزیز الکنری» قال ابن أبی الحدید: «کان له لسن و یشتغل بشی‌ء یسیر من کلام المعتزلة و یتشیع و عنده قحة و قد شدا طرفا من الأدب، و قد رأیت أنا هذا الشخص فی آخر عمره و هو شیخ یومئذ و الناس یختلفون إلیه فی تعبیر الرؤیا» . قال ابن أبی الحدید هذا: «حدثنی من أثق به
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 251
من أهل العلم حدیثا، إن کان فیه بعض الکلمات العامیّة إلا أنه یتضمن ظرفا و لطفا و یتضمن أیضا أدبا، قال کان ببغداد فی صدر أیام الناصر لدین اللّه أبی العباس أحمد ابن المستضی‌ء باللّه واعظ مشهور بالحذق و معرفة الحدیث و الرجال، و کان یجتمع إلیه و تحت منبره خلق عظیم من عوام بغداد و من فضلائها أیضا، و کان مشتهرا بذم أهل الکلام و خصوصا المعتزلة و أهل النظر، علی قاعدة الحشویة و مبغضی أرباب العلوم العقلیة، و کان أیضا منحرفا عن الشیعة یرضی العامة بالمیل علیهم، فاتفق قوم من رؤساء الشیعة علی أن یضعوا علیه من یبکته و یسأله تحت منبره و یخجله و یفضحه بین الناس فی المجلس، و هذه عادة الوعاظ یقوم إلیهم قوم فیسألونهم مسائل یتکلفون الجواب عنها، و سألوا عمن ینتدب لهذا فأشیر علیهم بشخص کان ببغداد یعرف بأحمد بن عبد العزیز الکزی (الکنری ... فأحضروه و طلبوا إلیه أن یعتمد ذلک فأجابهم، و جلس ذلک الواعظ فی یومه الذی جرت عادته بالجلوس فیه، و اجتمع الناس عنده علی طبقاتهم حتی امتلأت الدنیا بهم، و تکلم علی عادته فأطال، فلما مرّ فی ذکر صفات الباری‌ء- سبحانه- فی أثناء الوعظ قام إلیه الکزی فسأله أسئلة عقلیة، علی منهاج المتکلمین من المعتزلة، فلم یکن للواعظ عنها جواب نظری و إنما دفعه بالخطابة و الجدل و سجع الألفاظ. و تردد الکلام بینهما، طویلا، و قال الواعظ فی آخر الکلام: أعین المعتزلة حول، و أصواتی فی مسامعهم طبول، و کلامی فی أفئدتهم نصول، یا من بالاعتزال یصول، و یحک کم تحول و تجول، حول من لا تدرکه العقول، کم أقول و أقول: خلوا هذا الفضول؟. فارتج المجلس و صرخ الناس، و علت الأصوات، و طاب الواعظ و طرب، و خرج من هذا الفصل إلی غیره فشطح شطح الصوفیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 252
و قال: سلونی قبل أن تفقدونی. و کرّرها، فقام إلیه (أحمد بن عبد العزیز) الکزی فقال: یا سیدی ما سمعنا أنه قال هذه الکلمة إلا علی بن أبی طالب- علیه السلام- و تمام الخبر معلوم- و أراد الکزی بتمام الخبر قوله- علیه السلام-: لا یقولها بعدی إلّا مدّع. فقال الواعظ، و هو فی نشوة طربه، و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحدیث و الرواة: من علی بن أبی طالب؟
أهو علی بن أبی طالب بن المبارک النیسابوری أم علی بن أبی طالب بن إسحاق المروزی أم علی بن أبی طالب بن عثمان القیروانی أم علی بن أبی طالب بن سلیمان الرازی؟ و عدّ سبعة أو ثمانیة من أصحاب الحدیث کلهم علی بن أبی طالب، فقام الکزی، و قام من یمین المجلس آخر، و من یسار المجلس ثالث انتدبوا له و بذلوا أنفسهم للحمیّة و وطّنوها علی القتل. فقال الکزی:
أشا یا سیدی فلان الدین أشا، صاحب هذا القول هو علی بن أبی طالب زوج فاطمة سیدة نساء العالمین- علیهما السلام- و إن کنت ما عرفته بعد بعینه فهو الشخص الذی لما آخی رسول اللّه- صلی اللّه علیه و آله- بین الأتباع و الأذناب آخی بینه و بین نفسه و أسجل علی أنه نظیره و مماثله، فهل نقل فی جهازکم أنتم من هذا شی‌ء؟ أو نبت تحت حبّکم من هذا شی‌ء؟
فأراد الواعظ أن یکلمه، فصاح علیه القائم من الجانب الأیمن و قال:
یا سیدی فلان الدین محمد بن عبد اللّه کثیر فی الأسماء و لکن لیس فیهم من قال له رب العزّة: ما ضلّ صاحبکم و ما غوی و ما ینطق عن الهوی إن هو إلّا وحی یوحی. و کذلک علی بن أبی طالب کثیر فی الأسماء و لکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 253
لیس فیهم من قال له صاحب الشریعة: أنت بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبی بعدی:
و قد تلتقی الأسماء فی الناس و الکنی‌کثیرا و لکن میّزوا فی الخلائق
فالتفت إلیه الواعظ لیکلمه فصاح علیه القائم من الجانب الأیسر و قال:
یا سیدی فلان الدین، حقک تجهله، أنت معذور فی کونک لا تعرفه:
و إذا خفیت علی الغبیّ فعاذری‌أن لا ترانی مقلة عمیاء
فاضطرب المجلس و ماج کما یموج البحر و افتتن الناس و تواثبت العامة بعضها إلی بعض و تکشفت الرؤوس و مزّقت الثّیاب و نزل الواعظ و احتمل حتی أدخل دارا أغلقت علیه بابها . و حضر أعوان السلطان فسکنوا الفتنة و صرفوا الناس إلی منازلهم و أشغالهم، و أنفذ الناصر لدین اللّه فی آخر نهار ذلک الیوم فأخذ أحمد بن عبد العزیز الکزی و الرجلین اللذین قاما معه فحبسهم أیاما لتطفأ ثائرة الفتنة ثم أطلقهم» .

ابن المعوّج

108- و أبو الحسن علی بن محمد بن أبی نصر بن عبد اللّه بن الحسین ابن عبد اللّه بن السکن المعروف بابن المعوّج البغدادی، قال الزکی المنذری فی وفاة سنة 623: «و فی الخامس و العشرین من شهر ربیع الأول توفی الحاجب الأجل أبو الحسن علی ابن الحاجب الأجل أبی سعد محمد بن أبی نصر بن عبد اللّه ابن السکن البغدادی المعروف بابن المعوّج ببغداد و دفن بمشهد باب التبن. و مولده فی سنة ثمان و خمسین و خمسمائة و قیل إن مولده فی أواخر ذی القعدة سنة سبع و خمسین و خمسمائة، سمع من عم أبیه أبی عبد اللّه محمد بن محمد بن علی ابن السکن و حدّث و لنا منه إجازة کتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 254
بها إلینا من بغداد فی ذی الحجة سنة عشرین و ستمائة، و کان من حجاب الدیوان العزیز و لدیه فضل و أدب و هو من بیت مشهور بالروایة و الفضل و الرئاسة و التقدم، و والده أبو سعد محمد سمع من غیر واحد و کان حاجب الحجاب» . و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بغرس الدین و قال: «سمع من نسیبه محمد بن محمد بن علی ابن السکن» و قال: «ذکره العدل جمال الدین أبو عبد اللّه ابن الدبیثی فی تاریخه و قال: کان أحد حجاب الدیوان ... سمعنا منه و سأله عن مولده فذکر أنه ولد سنة ثمان و خمسین و خمسمائة. و دفن بمقابر قریش» .

أحمد بن أبی المظفر

109- و أبو العز أحمد بن أبی المظفر ابن أبی القاسم عبید اللّه بن محمد ابن المعمّر بن جعفر البغدادی، ذکره المنذری فی وفیات سنة «623» قال: «و فی لیلة الرابع عشر من جمادی الآخرة توفی الشیخ الأجل أبو العز أحمد ابن الشیخ الأجل أبی المظفر ... ابن أبی القاسم عبید اللّه بن محمد بن المعمر بن جعفر البغدادی، ببغداد و دفن بباب التبن، سمع من أبی طالب المبارک بن علی ابن خضیر، و والده أبو المظفر تولی دیوان الزمام و عمه أبو الفضائل یحیی سمع من غیر واحد و حدث و کان من أرباب المناصب و ولی نظر المخزن المعمور و ناب فی الوزارة» .

سنة 624 ه

110- و عمید الدین أبو الفرج الفتح بن عبد اللّه بن محمد بن علی بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 255
هبة اللّه بن عبد السلام الکاتب البغدادی، ذکره ابن الدبیثی فی أصل تاریخه و لکننا لم نجده بل وجدنا مختصر الترجمة فی مختصر تاریخه للذهبی، قال:
«الفتح بن عبد اللّه بن محمد بن علی بن هبة اللّه بن عبد السلام الکاتب أبو الفرج ابن أبی منصور بن أبی الفتح ابن أبی الحسن، من أهل بیت حدیث و کلهم ثقات، سمع محمد بن أحمد الطرائفی و محمد بن علی بن الدایة و أبا الفضل الأرموی و أبا منصور نشتکین و غیرهم، سمعنا منه. ولد یوم عاشوراء من سنة سبع و ثلاثین و خمسمائة. قلت: روی عنه أبو عبد اللّه البرزالی و أبو الفتح بن الحاجب و القاضی شمس الدین ابن العماد و السیف أحمد بن عیسی و أبو اسحاق بن الواسطی و أبو الفرج بن الزین و أبو المعالی الابرقوهی و عبد الرحمن المکبر البغدادی و جماعة کثیرة و کتب عنه أبو الفتح بن الحاجب و قال: شیخنا بقیة بیته، صارت إلیه الرحلة من البلاد و تکاثر علیه الطلبة و کان من ذوی المناصب و الولایات و ترک الخدمة و قنع بالکفاف و أضرّ بأخرة و کان کثیر الأمراض حتی أقعد و کان محققا لسماعاته إلا أنه لم یکن یحب الروایة لمرضه و اشتغاله بنفسه و کان کثیر الذکر ذا هیبة و وقار، و کان یتوالی و لم یظهر لنا منه ما نکره بل کان یترحم علی الصحابة و یلعن من یسبّهم، و کان صحیح السماع ثقة، سمع جده و أبا القاسم بن أبی شریک و علی بن نور الهدی الحسین الدبیثی و أبا الکرم الشهرزوری و أبا الوقت. و ذکر الذین ذکرهم ابن البدیثی و قال: توفی فی رابع عشر محرم سنة أربع و عشرین و ستمائة. قرأت ذلک کله بخط ابن الحاجب و عدّه الضیاء محمد فی الشیوخ الذین أجازوا له، و شیوخ الفتح فی مشیخة جده أبو الفتح و أحمد بن محمد ابن الاخوة و ابن الدایة و نور الهدی الزبنبی و ابن الطرائفی و أحمد المیهنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 256
و أبو الکرم الشهرزوری و نوشتکین و الأرموی و ابن الحاسب و سعید البناء و أبو بکر الزاغونی و أبو الوقت و ابن خضیر و ابن؟؟؟» .
و ذکره المنذری فی وفیات سنة 624 قال: «و فی الثالث و العشرین من المحرم توفی الشیخ الأجل الأصیل أبو الفرج الفتح ابن الشیخ الأجل أبی منصور عبد اللّه ابن الشیخ الأجل أبی الفتح محمد ابن الشیخ الأجل أبی الحسن علی ابن أبی غالب هبة اللّه بن عبد السلام الکاتب البغدادی بها و دفن بمشهد باب التبن» . و ذکر مولده و شیوخه و قال: «و لنا منه إجازة کتب بها إلینا من بغداد غیر مرة إحداهن فی ذی القعدة سنة ست عشرة و ستمائة.
و کان شیخا حسنا کاتبا أدیبا بلیغا و له شعر و تصرف فی الأعمال الدیوانیة و أضرّ فی آخر عمره و عمّر حتی انفرد بأکثر شیوخه و مرویاته» و ذکره ابن الفوطیّ فی کتابه التلخیص و نعته بالکاتب الناظر و بعمید الدین و قال:
«ولی الأعمال الجلیلة و سار فیها السیرة الجمیلة» . نقلا عن تاریخ ابن الدبیثی، و ذکره الخزرجی فی وفیات سنة 624 و ذکر أنه لقب بعمید الدین و لم یذکر شیئا من نعوته الجمیلة لم نذکره آنفا قبل الرجوع إلی کتابه .
و ذکره ابن تغری بردی و ابن العماد الحنبلی .

سنة 625 ه

111- و عفیف الدین أبو إبراهیم و أبو غلاب رسن بن یحیی بن رسن النیلی الصوفی، ذکره المنذری فی وفیات سنة 625 قال: «و فی لیلة الرابع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 257
من صفر توفی الشیخ أبو إبراهیم و یقال أبو الغلاب رسن بن یحیی بن رسن النیلی الکتّانی و قد نیّف علی الثمانین ببغداد و دفن بمشهد باب التبن، سمع من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و أبی الفضل منوجهر بن محمد بن ترکانشاه و حدّث و لنا منه إجازة. و رسن بفتح الراء و فتح السین المهملتین و آخره نون. و هو منسوب إلی النیل بکسر النون و سکون الیاء آخر الحروف و بعدها لام و هی بلیدة قریبة من الحلة المزیدیة ... و الکتانی بفتح الکاف و تشدید التاء ثالث الحروف و بعد الألف نون» .
و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بعفیف الدین و وصفه بالصوفی أیضا و قال: «ذکره شیخنا تاج الدین أبو طالب (ابن الساعی) فی تاریخه و قال:
«کان یعرف بصاحب الشیخ صدقة بن وزیر الواسطیّ، و کان یتشیع روی شیئا من الحدیث. و قال أبو عبد اللّه بن النجار فی تاریخه و قال (کذا) أبو الغلاب رسن من أهل النیل، سمع من الشیخ صدقة بن وزیر من أبی الفتح محمد بن عبد الباقی ابن البطی، کتبت عنه و کان شیخا لا بأس به، وقفت له علی کتاب یحتوی علی أمثال الخاصة و العامة، و توفی فی صفر سنة خمس و عشرین و ستمائة» .

سنة 626 ه

112- و نجم الدین أبو یوسف یعقوب بن صابر بن برکات بن عمار ابن علی بن الحسین بن علی بن حوثرة القرشی الحرانی الأصل البغدادی المنجنیقی الأدیب الشاعر، ذکره الزکی المنذری فی وفیات سنة 626 قال:
«و فی لیلة الثامن و العشرین من صفر توفی الأدیب أبو یوسف یعقوب بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 258
صابر بن برکات بن عمار بن علی بن الحسین بن علی بن حوثرة القرشی الحرانی الأصل البغدادی المولد و الدار المنجنیقی الشاعر، و مولده ببغداد فی الرابع من المحرم سنة أربع و خمسین و خمسمائة. سمع من أبی المظفر هبة اللّه ابن الحافظ أبی محمد عبد اللّه بن أحمد بن نصر ابن السمرقندی و غیره و له دیوان حسن، حدّث بشی‌ء من شعره، کتبنا شیئا من شعره عن بعض أصحابه» .
و ذکره ابن خلکان و قال فیما قال بعد تلقیبه بنجم الدین: «توفی ابن صابر المذکور فی لیلة الثامن و العشرین من صفر سنة ست و عشرین و ستمائة ببغداد و دفن یوم الجمعة غربیها بالمقبرة الجدیدة بباب المشهد المعروف بموسی بن جعفر- رضی اللّه عنهما-» .
و ذکره ابن النجار فی تاریخ بغداد الموسوم بالمجدّد، دل علی ذلک مختصره المستفاد فقد جاء فیه «کان أدیبا فاضلا ملیح الشعر، لطیفه ذا معان مطبوعة و ألفاظ سهلة، سمع أبا المظفر هبة اللّه بن عبد اللّه ابن السمرقندی و حدث و کان حسن الأخلاق. أنشدنا یعقوب بن صابر الحرانی لنفسه:
کیف یسخو لعاشق بوصال‌باخل فی الکری بطیف الخیال؟
علّق القرط حین بلبل صدغیه بداج من فرعه کاللیالی
فرأینا الدّجی و قد سحب البدر إلیه من قرطه بهلال
و أنشدنا أیضا لنفسه:
شکوت منه إلیه جوره فبکی‌و احمرّ من خجل و اصفرّ من خجل
فالورد و الیاسمین الغض منغمس‌فی الطلّ بین البکا و العذر و العذل
مولده فی رابع المحرم سنة أربع و خمسین و خمسمائة ببغداد و توفی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 259
بها فی لیلة ثامن عشری صفر سنة ست و عشرین و ستمائة و دفن بمقابر قریش» .
و قال ابن خلکان: «ذکره أبو عبد اللّه محمد بن سعید المعروف بابن الدبیثی فی تاریخه الذی جعله ذیلا لتاریخ الحافظ أبی سعد عبد الکریم بن السمعانی الذی ذیله علی تاریخ بغداد تألیف الحافظ أبی بکر أحمد بن علی ابن ثابت البغدادی ... فقال ابن الدبیثی: «کان یعقوب المذکور متقدما علی أهل صناعته- یعنی صنعة المنجنیق و ما یتعلق به- و کان فیه فضل و یقول الشعر، سمع شیئا من الحدیث من أبی المظفر ابن السمرقندی و أبی منصور ابن الشطرنجی، علقت عنه شیئا من شعره، و أنشدنی أبو یوسف یعقوب ابن صابر لنفسه:
قبلت و جنته فألفت جیده‌خجلا و مال بعطفه المیاس
فانهل من خدّیه فوق عذاره‌عرق یحاکی الطلّ فوق الآس
فکأننی استقطرت ورد خدوده‌بتصاعد الزفرات من أنفاسی»
... و قال غیر ابن الدبیثی: «کان ابن صابر المنجنیقی جندیا فی ابتداء أمره مقدّما علی المنجنیقیین بمدینة السلام بغداد و لم یزل مغری بآداب السیف و صناعة السلاح و الریاضة و اشتهر بذلک و لم یلحقه أحد من أهل زمانه فی درایته و فهمه لذلک، و صنف فیه کتابا سماه (عمدة السالک فی سیاسة الممالک) لم یتمّه و هو ملیح فی معناه، یتضمن أحوال الحروب و تعبثتها و فتح الثغور و بناء المعاقل و أحوال الفروسیة و الهندسة و المصابرة علی الحصار و القلاع و الریاضة المیدانیة و الحیل الحربیة و فنون العلاج بالسلاح و عمل أداة الحروب و الکفاح و صنوف الخیل و صفتها، و قد قسّم هذا الکتاب و رتّبه أبوابا کل باب منه یشتمل علی فصول. و کان شیخا هشا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 260
ملیحا لطیفا فکها طیب المحاورة، شریف النفس، متواضعا فیه تودد و بشر و سکون و هو مع ذلک شاعر مکثر مجید ذو معان مبتکرة، یقصد الشعر و یعمل المقاطیع و جمع من شعره کتابا مختصرا سماه (مغانی المعانی) و مدح الخلفاء ، و کانت له منزلة لطیفة عند الامام الناصر لدین اللّه أبی العباس أحمد خلیفة العصر ذلک الوقت». ثم قال ابن خلکان: «و کانت أخبار فی حیاته متواصلة إلینا و أشعاره تنقلها الرواة عنه ، و یحکون وقائعه و ماجریاته و ما ینظم فی ذلک من الأشعار الرائقة و المعانی البدیعة، و لم یتفق لی رؤیته مع المجاورة و قرب الدار من الدار، لأنه کان ببغداد و نحن بمدینة إربل و هما متجاورتان لکن لکثرة اطلاعی علی أخباره و ما یتفق له من النظم المنقول عنه فی وقته کأنی کنت معاشره و ما زلت مشغوفا بشعره مستعذبا أسلوبه و اجتمعت بخلق کثیر من أصحابه و الناقلین عنه منهم صاحبنا الشیخ عفیف الدین أبو الحسن علی بن عدلان المعروف بابن المترجم الموصلی فانه أنشدنی له شیئا کثیرا فمن ذلک قوله:
کلفت بلعب المنجنیق و رمیه‌لهدم الصیاصی و افتتاح المرابط
و عدت إلی نظم القریض لشقوتی‌فلم أخل فی الحالین من قصد حائط
و أنشدنی عنه أیضا و ذکر أنه لم یسبق إلیه:
لا تکن واثقا بمن کظم الغیظ اغتیالا و خف غرار الغرور
فالظبی المرهفات أقتل ما کانت إذا غاض ماؤها فی الصدور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 261
و أنشدنی أیضا له فی جاریة سوداء کان یهواها و هی جاریة حبشیة:
و جاریة من بنات الحبوش‌ذات جفون صحاح مراض
تعشقتها للتصابی فشبت‌غراما و لم أک بالشیب راضی
و کنت أعیّرها بالسوادفصارت تعیّرنی بالبیاض
و أنشدنی عنه أیضا:
و جاریة عبّرت للطواف‌و عبرتها حذرا تدمع
فقلت ادخلی البیت لا تجزعی‌ففیه الأمان لمن یجزع
سدانته لبنی شیبةفقالت و من شیبة أفزع
و أنشدنی عنه فی غلام یتعلم السباحة فی دجلة و قد لبس تبّانا أزرق و شدّ علی ظهره شکوة منفوخة- کما جرت عادة من یتعلم العوم- فقال فی ذلک:
یا للرجال شکیتی من شکوةأضحت تعانق من أحب و أعشق
جمعت هوی کهوای إلا أنّهاتطفو و یثقلنی الغرام فأغرق
و یغیظنی التّبان عند عناقه‌أردافه فهو العدو الأزرق
و قال صاحبنا الکمال (المبارک) بن الشعار الموصلی فی کتاب (عقود الجمان): أنشدنی ابن صابر لنفسه هذه الأبیات لکنه روی البیت الثانی منها علی صورة أخری فقال:
حملت هوی کهوای فهی بوصله‌تطفو و یبکینی الغرام فأغرق
و هذا من المعانی النادرة فإن العرب إذا وصفت العدو بشدة العداوة قالت هو العدو الأزرق و قد جاء هذا فی کلامهم و أشعارهم کثیرا ...
و أنشدنی عنه جماعة من الصوفیة أضافهم فأکلوا جمیع ما قدّمه لهم فکتب إلی شیخهم یذکر حاله معهم:
مولای یا شیخ الرباط الذی‌أبان عن فضل و علیاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 262 إلیک أشکو جور صوفیةبأتوا ضیوفی و أودّائی
أتیتهم بالزاد مستأثرا و بت تشکو الجوع أحشائی
مشوا علی الخبز و من عادةالزهاد أن یمشوا علی الماء
و هم إلی الآن ضیوفی فجدلهم بخبز أو بحلواء
أولا فخذهم و اکفنیهم فمایحسن فی مثلهم رائی
و أنشدنی عنه فی الصوفیة أیضا:
قد لبسوا الصوف لترک الصفامشایخ العصر لشرب العصیر
الرقص و الشاهد من شأنهم‌شعر طویل تحت ذیل قصیر
و أنشدنی عنه أیضا و هو من المعانی المستطرفة:
قالوا تراه بلّ شعر عذاره‌و سباله مستهترا بزواله
فتسلّ عنه و خذ حبیبا غیره‌فأجبتهم لا زلت عبد وصاله
هل یحسن السلوان عن حبّ یری‌ألا یفارقنی بنتف سباله
و أنشدنی له غیر ابن عدلان و قال: لما کبر ابن صابر و ضعفت حرکته صار إذا مشی یتوکأ علی عصاه فقال فی ذلک:
ألقیت عن یدی العصازمن الشبیبة للنزول
و حملتها لما دعاداعی المشیب إلی الرحیل
و کان ببغداد شخص یقال له ابن بشران و کان کثیر الأراجیف فمنع من ذلک، فقعد علی الطریق ینجم فقال فیه ابن صابر:
إن ابن بشران و لست ألومه‌من خیفة السلطان صار منجّما
طبع المشوم علی الفضول فلم یطق‌فی الأرض إرجافا فأرجف فی السّما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 263
ثم ذکر له ابن خلکان قوله:
قالوا بیاض الشیب نور ساطع‌یکسو الوجوه مهابة و ضیاءا
حتی سرت و خطاته فی مفرقی‌فوددت أن لا أفقد الظلماءا
و عدلت أستبقی الشباب تعللابخضابها فخضبتها سوداءا
لو أن لحیة من یشیب صحیفةلمعاده ما اختارها بیضاءا
و أخبرنی بعض الأدباء أن ابن صابر کتب إلی بعض الرؤساء ببغداد:
ما جئت أسألک المواهب مادحاإنی لما أولیتنی لشکور
لکن أتیت عن المعالی مخبرالک أن سعیک عندها مشکور
و وقفت بالقاهرة علی کراریس فیها شعره و قد أجاد فی کل ما انظمه، و رأیت فیها البیتین المشهورین المنسوبین إلی جماعة من الشعراء و لا یعرف قائلهما علی الحقیقة و هما:
ألقنی فی لظی فان أحرقتنی‌فتیقن أن لست بالیاقوت
جمع النسج کل من حاک لکن‌لبس داود لیس کالعنکبوت
فعمل ابن صابر جوابهما فقال:
أیها المدّعی الفخار دع الفخر لذی الکبریاء و الجبروت
نسج داود لم یفد لیلة الغار و کان الفخار للعنکبوت
و بقاء السمند فی لهب النار مزیل فضیلة الیاقوت
و کذاک النّعام یلتقم الجمر و ما الجمر للنعام بقوت
و ذکره مؤلف الحوادث فی وفیات سنة «626» قال: «و فیها توفی یعقوب بن صابر الحرانی الأصل البغدادی المولد المنجنیقی، کان شیخا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 264
فاضلا مقدما علی أهل صناعته و عنده أدب و یقول الشعر، فمن شعره:
هل لمن یرتجی البقاء خلودو سوی اللّه کل حی یبید؟
و الذی کان من تراب و إن عاش طویلا إلی التراب یعود
و مصیر الأنام طرّا إلی ما،صار فیه آباؤهم و الجدود
و منها:
أین حواء أین آدم إذ فاتهما الخلد و الثوا و الخلود؟
أین عاد بل أین جنة عادإرم أین صالح و ثمود
و هی طویلة آخرها:
لا الشقی الغوی من نوب الأیام ینجو و لا السعید الرشید
و متی سلّت المنایا سیوفافالموالی حصیدها و العبید
و ذکر البیتین السابقین اللذین أولهما «کلفت بعلم المنجنیق و رمیه» ثم قال: «و کان کثیر الدخول علی الوزیر ناصر بن مهدی ثم صار إذا جاء یجلس ظاهر الستر فقال:
قولوا لمولانا الوزیر الذی‌أضاع ودّی و نوی هجری
و صرت إن جئت إلی بابه‌أجلسنی فی ظاهر الستر
إن کان ذنبی أننی شاعرفاصفح فقد تبت من الشعر
ثم انقطع عنه مدة فلما دخل إلیه أنکر علیه انقطاعه فقال:
و قالوا قد صددت و ملت عنّافقلت أبیت تکرار المحال
أنفت من الوداد إلی أناس‌رأوا حالی و لم یرثوا لحالی
ثم هجاه» و ذکر الأبیات التی نقلناها فی ترجمة الوزیر ثم قال:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 265
«و له فی غلام ثقیل الروادف:
یقعده فی النهوض ردف‌قیامتی دونه تقوم
أفدیه من مقعد مقیم‌عندی به المقعد المقیم
و له فی زامر:
و زامر بات ندیما لناما بین سکران و مخمور
تقتلنا الخمر و نحیا به‌کأنه ینفخ فی الصّور
و أنشد یوما قول القاضی الفاضل عبد الرحیم البیسانی: ألقنی فی لظی فإن غیّرتنی» و ذکر البیتین المنقولین آنفا، و جوابهما بأربعة أبیاته. و العجیب فی ترجمته أننا لم نجد من ذکر مدفنه غیر ابن خلکان کما نقلنا من تاریخه آنفا من أنه «دفن غربی بغداد بالمقبرة الجدیدة بباب المشهد المعروف بموسی ابن جعفر رضی اللّه عنهما-» .
و قد وهم عبد الحمید عبادة الکاتب- رحمه اللّه- فی مقال له بظنّه أن القبر المجاور للحضرة الکاظمیّة الیوم من الشرق المنسوب إلی القاضی أبی یوسف هو قبر «نجم الدین أبی یوسف یعقوب بن صابر المنجنیقی» معتمدا- کما ظنّنا- علی تشابه الإسمین و الکنیتین «أبی یوسف و أبی یوسف و یعقوب و یعقوب» قال فی مقاله المشار إلیه و هو بعنوان «قبر الإمام أبی یوسف صاحب أبی حنیفة» ما هذا نصه:
«شاع منذ أجیال عدیدة و أیقنت الحکومة العثمانیة و علماؤها فی العصور الغابرة و الحاضرة مع مؤرخیها و کتابها أن القبر الذی فی باب مشهد الإمام موسی بن جعفر- رضی- و الواقع فی مقابر قریش (و هی الکاظمیة الیوم) هو قبر الإمام أبی یوسف صاحب الإمام أبی حنیفة- رضی- و لم تزل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 266
الحفاوة به و الاحترام لقبره یزدادان مع الأیام، و قد کانت الهدایا من سلاطین آل عثمان تتوارد الواحدة تلو الأخری، و یجدد مسجده کلما آل إلی الخراب، و تعتنی دائرة الأوقاف بصرف ما یحتاج إلیه مسجده من اللوازم و غیرها، بغیرة عظیمة بدعوی أنّ صاحب القبر هو الإمام أبو یوسف قاضی القضاة فی زمن الرشید و صاحب أبی حنیفة. و لکنی قرأت فی الجزء الثانی من وفیات الأعیان ... فی ترجمة أبی یوسف یعقوب بن صابر الملقب بنجم الدین الشاعر ما خلاصته: و توفی ابن صابر المذکور فی لیلة الثامن و العشرین من صفر سنة ست و ستمائة ببغداد و دفن یوم الجمعة غربیها بالمقبرة الجدیدة بباب المشهد المعروف بموسی بن جعفر- رضی اللّه عنهما- إنتهی.» و لما راجعت ترجمة الإمام المشار إلیه فی الکتاب نفسه وجدت ...
ما خلاصته: أن الإمام أبا یوسف توفی یوم الخمیس أول وقت الظهر لخمس خلون من شهر ربیع الأول سنة إثنتین و ثمانین و مائة ببغداد. إنتهی. و لم یعین محلّ دفنه. و قد أخبرنی بعض المعمّرین أن قبرا بجنب قبر الست زبیدة تحت القبّة التی فی الشونیزی (مقبرة معروف الکرخی) ینسب للإمام أبی یوسف و زاد أنه رأی کتابة علی جدار القبة عند رأسه تشعر بدفنه هناک، و هذا أمرثان لا بد من الرکون إلیه و التبصّر فیه و هو أنّ زبیدة زوج الرشید توفیت سنة (210) (کما فی) الوفیات: 1: 180، هذا فیما لو صح أنّ هذه القبة و هذا القبر لها و هو أمر لا یتفق و التاریخ لأن ابن الأثیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 267
یقول (ص 214، 215): إنها دفنت فی مقابر قریش ، و إن أبا یوسف توفی فهل کان دفنه تحت القبة قبل دفن زبیدة أم کیف کان الأمر) و لذلک اضطربت من هذه الملاحظات لشدة وقعها فی نفسی (کذا) و قلت متعجبا:
کیف فاتت العلماء و المؤرخین هذه الحقیقة الناصعة و کیف أخذ الناس بتعظیم قبر دفین مقابر قریش أبی یوسف نجم الدین الشاعر واهمین (کذا) أنه قبر الإمام أبی یوسف تلمیذ صاحب المذهب. هذا و قد راجعت کل ما لدی من کتب التراجم فرأیتها کلها تجری علی وجه واحد ضاربة صفحا عن ذکر محل دفنه ، و قد رأیت فی الجزء الثانی من کتاب حماة الإسلام (ص 85) تألیف المرحوم مصطفی بک نجیب المصری المطبوع بمصر فی العشر الأخیر من ذی الحجة سنة 1341 ه ما نصه: و توفی (أبو یوسف) سنة إثنین (کذا) و ثمانین و مائة فعزّی الإسلام بعضه بعضا بموته و مشی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 268
الرشید فی جنازته و صلی علیه و دفنه فی مقبرة أهله فی مقابر قریش بکرخ بغداد بقرب زبیدة و محمد الأمین. إنتهی. ففی قوله هذا خبط و خلط فی التاریخ إذ أنه یکذب من عدة وجوه بأدنی تأمل و یکذبه من له أقل إلمام بالتاریخ فقوله: و دفنه فی مقبرة أهله بمقابر قریش بکرخ بغداد خلاف للواقع لأن مقابر قریش هی الیوم مشهد الإمام موسی بن جعفر- ع- (معجم یاقوت ج 8 ص 107) أما کرخ بغداد فقال یاقوت عنه (ج 7 ص 234): فبین شرقها- کرخ بغداد- و القبلة محلة باب البصرة، و قال ابن بطوطة فی رحلته: و فی الجانب الغربی من المشاهد قبر معروف الکرخی- رضی- و هو فی محلّة باب البصرة» . و الیوم بین مقابر قریش و مقبرة معروف أی باب البصرة الواقعة فی شرقی کرخ بغداد مسافة ساعة و نصف للراجل، و أغرب من ذلک قوله: بقرب زبیدة و زبیدة کانت فی الحیاة لما توفی أبو یوسف کما ذکرنا آنفا ، و قوله: و محمد الأمین أی بقربه غلط فاحش أیضا لأن محمدا الأمین قتل سنة 198 و بین وفاة أبی یوسف و محمد الأمین ست عشرة سنة، و الصحیح فی مدفن أبی یوسف- رح- ما أسلفنا ذکره و حققنا عنه أی إنه لم یذکر له محل دفن معلوم. و بالختام أرجو من المؤرخین و الباحثین أن یفیدونی بما لدیهم من المعلومات فی هذا الباب علی صفحات جرائد بلادنا أو مجلاتها إظهارا للحقیقة و خدمة للتاریخ و اللّه ولی التوفیق» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 269
و أتبع الأب أنستانس هذه المقالة قوله ما هذا نصه «جاء فی کتاب تاریخ المساجد لأستاذنا الآلوسی (محمود شکری) فی ص 128، من نسختنا الخطیة ما هذا حرفه: و قد اتصل بهذا المسجد و الصحن (صحن الجوادین و الکاظمین) مسجد الإمام الثانی أبی یوسف یعقوب بن إبراهیم- علیهم الرحمة و الرضوان- و مشهده فیه و علیه قبة کبیرة و فی جنب مشهده مسجد تقام فیها الصلوات و تؤدی الطاعات و هو مسجد رصین البناء قویم الأرجاء فیه روحانیة و انشراح للصدور ... و هذه العبارة تختلف عما جاء فی النسخة المطبوعة ص 119 و لا نعلم علی أیّ کتاب أو مؤرخ اعتمد استاذنا المرحوم فی کلامه هذا مع ما بذلنا من الجهد فی الإهتداء إلی محلّه، و یخیّل إلینا أن أستاذنا الآلوسی استند إلی التواتر و اللّه أعلم» . و کلام الأب أنستاس یدل علی تأییده رأی عبد الحمید عبادة- رح-. غیر أنه بعد البحث عثر علی مرجع تاریخی یصرفه عن رأیه هذا فاستتر بأمضاء مستعار هو «ب م.
م» و قال فی موضع آخر ما هذا نصه تحت عنوان (قبر الإمام أبی یوسف) أیضا کأنه یخاطب نفسه «وقفت فی مجلتکم (6: 754 إلی 757 علی مقالة شائقة للکاتب الأدیب عبد الحمید أفندی عبادة فوجدت صاحبها یتطلب أوثق المصادر وصولا إلی أمنیته، و الخلّة حسنة ممدوحة إذ قلما تجد رجالا یتحرون المصادر الصادقة، بل یبنون غالبا أحکامهم علی قیل و قال ، و قد لاحظت أن حضرة الفاضل لم یعثر علی محل قبر الإمام أبی یوسف مع صرف جانب کبیر من وقته لهذه الغایة و فی الآخر أنکر أن یکون قبره فی مقابر قریش أی فی الکاظمیة. و لما کنت ممّن أنضی رواحل البحث (کذا) فی مثل الموضوع الذی یعالجه الکاتب الألمعی بکلمتی هذه لأدله علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 270
تصنیف یحل المعضلة و هو الرحالة البشاری فقد قال فی تألیفه (أحسن التقاسیم فی معرفة الأقالیم) المطبوع فی لیدن سنة 1906 فی ص 130 فی کلامه عن مشاهد العراق ما هذا حرفه: و ببغداد قبر أبی یوسف فی مقبرة قریش.
و إذا اعترض الکاتب و قال: هذا الکلام یتعلق بأبی یوسف الشاعر . قلنا له: لم یتعرض المؤلف لذکر قبور الشعراء و الفضلاء و الکتاب و من جری مجراهم، إنما تکلم علی مشاهد الأئمة و الصلحاء و من تزار قبورهم تبرکا، و لهذا لم یتعرض فی ذلک الفصل إلا لذکر من تستجاب دعوتهم ثم إن تعدادهم مع تسمیتهم کاف لاظهار الحقیقة، و لهذا أظن أن المرحوم محمود شکری الآلوسی کان قد استند إلی هذا المؤلف فی کلامه عن محل قبر أبی یوسف و أنه فی الکاظمیة: مقابر قریش. و أنت تعلم أن البشاری حجة فیما یقول أولا لأنه کان حیا فی المائة الرابعة للهجرة (المائة العاشرة للمیلاد) و لأن أبا یوسف توفی فی أواخر المائة الثانیة للهجرة أی سنة 182 ه أو 708 م فشهادته إذن من أحسن الشهادات لقدمها و لا سیما حین تعلم أن ابن خلکان هو من أبناء المائة السابعة للهجرة، أو الثالثة عشرة للمیلاد، ثانیا لأن البشاری کان ثبتا فیما یرویه و لا یلقی الکلام علی عواهنه و کتابه خال من ذکر الخرافات و الأوهام و أنواع الأضالیل و الإفرنج یجلونه کل الإجلال و یعرفونه بالمقدسی، أما السلف فلا یعرفونه إلا بالبشاری و هو محمد بن أحمد بن أبی بکر البناء أبو عبد اللّه البشاری المقدسیّ ...» .
ثم کتب الأستاذ عبد اللّه مخلص من حیفا بفلسطین ما هذا نصّه: «کنت تصفحت فی لغة العرب المحبوبة ما کتبه السید عبد الحمید عبادة عن الشک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 271
الذی خامره فی موضع قبر الإمام أبی یوسف صاحب أبی حنیفة و لم آبه کثیرا للتعلیق علی ما کتبه حتی جاء السید ب. م. م فکتب فی الصفحة من مجلد السنة الحاضرة یثبت بشهادة البشاری المقدسی صاحب أحسن التقاسیم فی معرفة الأقالیم وجود قبر أبی یوسف فی مقبرة قریش. فتنبهت إلی التثبت من ذلک و رجعت إلی نسختین مخطوطتین من رحلة أبی الحسن الهروی المعروفة بالأشارات إلی أماکن الزیارات ... فوجدت الهروی یقول ما نصه بالحرف: بغداد دار السلام و قبة الإسلام و مقر الإمام علیه السلام. بها الإمام موسی بن جعفر الکاظم علیهما السلام- عمره إثنان و ثمانون سنة و بها الإمام محمد بن علی بن موسی الجواد ولد بالمدینة، عاش سبعا و عشرین سنة و بها الإمام الأمین محمد بن الرشید- رضی اللّه عنهم- و جماعة من الأشراف فی مقابر قریش و قبر أبی یوسف یعقوب بن إبراهیم صاحب الإمام أبی حنیفة- رضی اللّه عنهما-» ثم یذکر محلة الرصافة و من دفن بها من الخلفاء. و لا یخفی أن أبا الحسن الهروی توفی سنة 611 ه (1214 م) بعد أن طوّف بالبلدان و بحث و تقصی، فشهادته تعتبر شهادة عیان بعد شهادة المقدسیّ الذی عدّه السید ب. ب. م. شاهد عدل و هو کما قال» .
قال مصطفی جواد: و ممن صرّح من المؤرخین بدفن القاضی أبی یوسف فی مقابر قریش ابن الفوطیّ قال: «قاضی القضاة أبو یوسف یعقوب بن إبراهیم بن حبیب بن سعد الأنصاری، نزیل بغداد الحنفی ... ذکره القاضی أحمد بن کامل فی تاریخه و قال: هو قاضی موسی الهادی و هارون الرشید ببغداد و لم یختلف یحیی بن معین و أحمد بن حنبل فی ثقته فی انتقل و هو أول من خوطب بقاضی القضاة و کان استخلف ابنه یوسف علی الجانب الغربیّ و کان یحفظ التفسیر و المغازی و أیام العرب و الفقه، و کان علی بن صالح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 272
اذا حدث عن أبی یوسف یقول: حدثنی فقیه الفقهاء و قاضی القضاة و سید العلماء أبو یوسف و کانت وفاته سنة إثنتین و ثمانین و مائة و دفن بمقابر قریش، و مولده سنة ثلاث عشرة و مائة» .
و الظاهر أن قبره لم یعن به و لا رمّ فدرس و بقیت رخامة الشاهد فی ترابه قال السید نعمة اللّه الجزائری: «قبر أبی یوسف لم یکن معروفا و فی عشر السبعین بعد الألف حفروا حفرا متصلا بفناء الروضة الموسویة (الکاظمیة) فظهر قبر علیه صخرة فیها اسم أبی یوسف فبنوا علیه بنیانا مجاورا للقبة المقدسة» .
قال مصطفی جواد: و کان دفن أبی یوسف بمقابر قریش قبل دفن الإمام موسی بن جعفر- ع- بسنة واحدة من حیث التعداد التاریخی لا العد المضبوط و لذلک لم نترجمه لأننا التزمنا ذکر من دفن هناک بعد دفنه- ع-. أما دعوی عبد الحمید عبادة- رح- فمع بطلانها فی علم الخطط فلیس فیها معتمد و ذلک أن ابن خلکان صرّح بأنّ أبا یوسف یعقوب المنجنیقی دفن بالمقبرة الجدیدة عند باب المشهد، و کان المشهد أیامئذ مسوّرا و کان قبر أبی یوسف علی کل تقدیر داخل المشهد.

سنة «627» ه

113- عضد الدین و أبو نصر المبارک بن الضحاک الأسدی أستاذ دار الخلافة، ذکره صلاح الدین الصفدی فی وفیات سنة «627» من تاریخه الذی علی الحوادث قال فیها: «و أستاذ دار الخلیفة أبو نصر المبارک بن الضحاک ... له شعر حسن فمن شعره:
و قد کان حسن الظن جلّ بضاعتی‌فأدّبنی هذا الزمان و أهله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 273 و أکثر من تلقی یسرّک قوله‌و لکن قلیل من یسرّک فعله
و ما کل معروف و إن قلّ قدره‌یخف علی عنق المروءة حمله
و دفن بمقابر قریش» . و جاء ذکره فی کتاب الحوادث فی وفیات سنة «627» قال مؤلفه: «و فیها توفی عضد الدین أبو نصر المبارک بن الضحاک. و کان شیخا دینا فاضلا أدیبا و کان من المعتدلین بمدینة السلام و رتب ناظرا بدیوان الجوالی و کتب فی دیوان الانشاء ثم نفذ رسولا إلی صاحب الشام فلما عاد رتّب أستاذ دار الخلافة فکان علی ذلک إلی أن توفی و کان له شعر حسن فمما نسب إلیه ما رثی به بعض أصحابه و هو:
لئن مضی أحمد حمیداما الموت فی أخذه حمید
أو بخلت مقلة بدمع‌فهی علی مثله تجود موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-1 ؛ ص273
ذکره ابن الفوطیّ فی الملقبین بعضد الدین قال: «عضد الدین أبو نصر المبارک بن أبی الرضا محمد بن أبی الکرم هبة اللّه بن الضحاک الأسدی القرشی البغدادی المعدّل أستاذ الدار. (هو) المبارک بن محمد بن هبة اللّه بن علی ابن محمد بن الحسن بن محمد بن القاسم بن أحمد بن محمد بن الضحاک بن عثمان بن الضحاک بن عبد اللّه بن خالد بن حزام بن خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصی. شهد عند قاضی القضاة محمد بن جعفر العباسی فی شعبان سنة خمس و ثمانین و خمسمائة و رتب ناظرا بدیوان الجوالی و کتب فی دیوان الانشاء و أنفذ رسولا إلی العادل محمد بن أیوب سنة خمس و ستمائة و لما عاد من الرسالة ولی أستاذیة الدار فی ربیع الآخر سنة ست و ستمائة فلم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 274
یزل علی ذلک إلی حین وفاته لیلة الجمعة الخامس و العشرین من المحرم سنة سبع و عشرین و ستمائة. و مولده سنة اثنتین و خمسین و خمسمائة، و له شعر و رسائل» .
و کان لقبه بهاء الدین ثم بدل لما رفعت رتبته، قال ابن الساعی فی حوادث سنة 605: «و فیه (أی شهر ربیع الأول) خلع علی رسولی الملک العادل و نفذ صحبتهما العدل بهاء الدین أبو نصر المبارک ابن الضحاک و الأمیر عماد الدین أزبک الناصری» ، ثم قال فی حوادث ذی القعدة من السنة المذکورة: «و فی یوم الاثنین سادس عشری وصل بهاء الدین أبو نصر المبارک ابن الضحاک و الأمیر عماد الدین أزبک من دمشق و تلقاهما حاجب الحجاب، و جماعة من الأعیان و دخلا و علیهما الخلع التی خلعهما علیهما العادل و قصد البدریة الشریفة» .
و قال فی حوادث سنة «606» فی شهر ربیع الآخر: «و فی لیلة الخمیس ثانی عشری ولی بهاء الدین أبو نصر المبارک ابن الضحاک أستاذیة الدار العزیزة و لقب عضد الدین و أسکن الدار المقابلة لباب الفردوس المحروس و ذلک بعد عزل أبی الفتح ابن رزین فی تلک اللیلة و نقله عنها» ، ثم قال فی حوادث السنة المذکورة فی جمادی الآخرة منها: «و فیه نفذ عضد الدین أبو نصر المبارک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 275
إبن الضحاک أستاذ الدار العزیزة یومئذ رسولا إلی الملک العادل و صحبته الأمیر نور الدین آقباش الناصری المعروف بالدویدار، و کان العادل إذ ذاک علی سنجار محاصرا لها و أمرا أن یرحّلاه عنها فمضیا و رحّلاه و عادا فی یوم الأربعاء ثانی شهر رمضان» . و مما قدمنا یعلم أنه أرسل رسولا إلی الملک العادل الأیوبی مرتین.
و ذکره کمال الدین المبارک ابن الشعار الموصلی قال: «من بیت معروف بالکتابة و تولی الأعمال الدیوانیة، و کان من أعیان أهل بیته دینا و فضلا و معرفة و أدبا. شهد عند قاضی القضاة محمد بن جعفر البغدادی العباسی فی شعبان سنة خمس و ثمانین و خمسمائة و رتب ناظرا بدیوان الجوالی ثم رتب أستاذ الدار العزیزة فی شهر ربیع الأول سنة ست و ستمائة، و لم یزل علی ذلک إلی أن توفی فی لیلة الجمعة خامس عشر محرم سنة سبع و عشرین و ستمائة- رح- و صلی علیه بجامع القصر و حضر جماعة أرباب الدولة و غیرهم فصلّوا علیه و حمل إلی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فدفن فی تربة له هناک. أنشدت له بمدینة السلام هذه الأبیات، حکی لی أنه کتبها علی بعض سطوح الحمام المعدّ للمهام و نقل الأخبار:
یا حجرة بنیت بأیمن طائرشیدت مبانیها بأحسن منظر
حفّت بأطیار کأن حفیفهاریح الشمال تضمّخت بالعنبر
وضعت لأصناف سوابق لم تکن‌لا لابن داود و لا الاسکندر
اللّه شادک نزهة المستبصرببقاء مولی خلقه المستنصر
مولی زکت أعرافه و جدوده‌فی الأطیبین و فی المحل الأطهر
فغمامه من رحمة و عراصه‌من جنة و یمینه من کوثر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 276
و أنشدت له فی المعنی:
برج سما بحمامه حوما ) علی الأبراج طرا
و حمامه سبق الریاح وفاتها برا و بحرا
و المبارک ابن الضحاک الأسدی هذا هو خال الوزیر مؤید الدین محمد ابن العلقمی الشهیر. و له أخبار کثیرة لأنه کان من شیوخ الدولة العباسیة و أعیانها. و هو الذی درّب ابن العلقمی علی شؤون الإدارة و السیاسة و الوزارة.
و إن لم یکن وزیرا. فانه کان مرشحا للوزارة و لکن انقطاع أجله حال دون ذلک.
قال کمال الدین الشعار فی ترجمة الوزیر نصیر الدین أحمد بن الناقد و توکیل الخلیفة المستنصر له: «و قال له أستاذ الدار أبو نصر المبارک ابن الضحاک و کانا قائمین بین یدی الشباک الشریف، و هو الذی قام بأمر البیعة لشیخوخته و ملابسته لأشغال الدار العزیزة: إن أمیر المؤمنین قد وکل أبا الأزهر أحمد ابن محمد بن ابن الناقد فی کل ما یتجدّد من بیع و إقرار و عتق و ابتیاع ...» .

سنة «629» ه

اشارة

114- و أبو الحسن علی بن إبراهیم بن علی الهاشمی المعروف بابن العطار الشاعر، ذکره ابن النجار قال بعد تسمیته و نسبه: «من أهل واسط، شاعر حسن القول، سکن بغداد إلی حین وفاته و کان من شعراء الدیوان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 277
فمن شعره قوله:
أتراه بعد قطیعة یتعطف‌بدر یمیل به قوام أهیف؟
أنت البری‌ء من الاساءة کلهایا عاذلی و أنا المحب المدنف
لا تلحنی فی حبّه فتتیمّی‌طبع و صبری عن هواه تکلف
کیف اصطباری عنه و القلب الذی‌هو عدّتی (و الصّبر ) لا یتألف
دقت معانی العشق عن أفهامهم‌و استعذبوا فیه الملام و أسرفوا
جهلوا الذی ألقاه من حمل الهوی‌فیه و لذة عشقه لم یعرفوا
بلغنی أن مولده فی سنة ثلاث و سبعین و خمسمائة بواسط، و توفی ببغداد فی یوم الأربعاء عاشر ربیع الآخر سنة تسع و عشرین و ستمائة، و دفن فی الغد بمقابر قریش» .

عبد اللّه بن قیصر

115- و أبو بکر عبد اللّه بن قیصر بن عبد اللّه الموصلائی، ذکره المنذری فی وفیات سنة 629 قال: «و فی الثامن من رجب توفی الشیخ أبو بکر عبد اللّه بن قیصر بن عبد اللّه الموصلائی الحاجب ببغداد و دفن من الغد بمشهد باب التبن، سمع من أبی الفتح عبید اللّه بن عبد اللّه بن شاتیل و حدث» .

ابن الغبیری

116- و أبو السعود إسماعیل بن الحسن بن أحمد بن أحمد بن الحسن ابن عبد الکریم النهروانی المعروف بابن الغبیری، ذکره المنذری فی وفیات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 278
السنة المذکورة قال: «و فی الحادی عشر من شعبان توفی الشیخ أبو السعود اسماعیل بن أبی محمد الحسن بن أبی السعود أحمد بن أحمد بن الحسن بن عبد الکریم النهروانی المعروف بابن الغبیری ببغداد، و دفن من یومه بمشهد باب التبن، و مولده فی شهر ربیع الآخر سنة إحدی و خمسین و خمسمائة باللوزیّة، سمع من عمة والده خدیجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الکریم و حدث و هو من بیت رئاسة و تقدم. و الغبیری: بضمّ الغین المعجمة و فتح الباء المواحدة و سکون الیاء آخر الحروف و راء مهملة و یاء النسب» .

سنة 630 ه

117- و الشریف أبو محمد الحسن بن علی بن المرتضی بن علی العلوی الحسینی المعروف بابن الأمیر السید ذکره المنذری فی وفیات سنة «630» ه قال: «و فی الخامس و العشرین من شعبان توفی السید الشریف أبو محمد الحسن ابن أبی الحسن علی بن أبی الحسن المرتضی بن علی العلوی الحسینی المعروف بابن الأمیر السید بالجوسق و حمل إلی مشهد موسی بن جعفر فدفن به من الغد. سمع من أبیه و حدث عن الحافظ أبی الفضل محمد بن ناصر السلامی بکتاب (الذریة الطاهرة) و الفوائد فی آخرها. و مولده فی الخامس و العشرین من ذی الحجة سنة أربع و أربعین و خمسمائة و قیل إنه آخر من حدث عن الحافظ أبی الفضل محمد بن ناصر بالسماع» . و ذکره الذهبی فیمن توفی سنة وفاة الحافظ عز الدین أبی الفتح عمر بن محمد المعروف بابن الحاجب- أعنی سنة 630- قال «و ببغداد المسند أبو محمد الحسن ابن الأمیر السید علی بن مرتضی العلوی الحسینی صاحب ابن ناصر».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 279
قال مصطفی جواد: و قد ذکرنا سیرة والده الأمیر السید علی بن المرتضی فی وفیات سنة «588» فالظاهر أنه دفن عنه أبیه فی مقابر قریش .

سنة 631 ه

118- و أبو محمد إسماعیل بن علی بن إسماعیل بن باتکین البغدادی الجوهری المحدث، ذکره المنذری فی وفیات سنة 631 قال: «و فی الرابع و العشرین من ذی القعدة توفی الشیخ الصالح أبو محمد إسماعیل بن علی بن إسماعیل بن باتکین البغدادی الجوهری ببغداد و دفن من الغد بالمشهد غربی بغداد، و مولده فی الثانی عشر من ذی الحجة سنة إحدی و خمسین و خمسمائة سمع من أبوی القاسم: هبة اللّه بن الحسن الدقاق، و یحیی بن ثابت بن بندار و أبی الفتح محمد بن عبد الباقی بن أحمد و أبی زرعة طاهر بن محمد بن طاهر و أبی المعالی عمر بن علی بن نصر الصیرفی و القاضی أبی عبد اللّه محمد بن عبد اللّه البیضاوی و أبی بکر أحمد بن المقرب و أبی المعمّر عبد اللّه بن سعد الوزان المعروف بخزیفة و أبی الفضل وفاء بن أسعد الترکی و شهدة الکاتبة و غیرهم، و حدث بالکثیر و لنا منه إجازة کتب بها إلینا من بغداد غیر مرّة إحداهن فی ذی القعدة سنة عشرین و ستمائة» . و أوجز إبن الدبیثی ترجمته قال:
«إسماعیل بن علی بن باتکین الجوهری أبو محمد، سمع أبا القاسم هبة اللّه ابن الحسن الدقاق و أبا الفتح المعروف بابن البطی و یحیی بن ثابت و غیرهم و روی عنهم، سمع منه أصحابنا» . و ورد ذکره فی النجوم الزاهرة فی وفیات هذه السنة و شذرات الذهب . و قد تصحف فی الأول باتکن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 280
إلی «ماتکین» قال نقلا عن کتب الذهبی «و له ثمانون سنة» و قال الثانی «تفرّد بأشیاء و کان صالحا ثقة» و صرّح بنقله ذلک من العبر للذهبی . و لم یذکر ابن الدبیثی وفاته لأنه ختم سنی الوفیات قبل هذا التاریخ.

سنة 634 ه

119- و أم عبد اللّه یاسمین بنت الشیخ سالم بن علی بن سلامة البغدادی الحربی المعروف بابن البیطار، ذکرها المنذری فی وفیات سنة «634» قال: «فی یوم عاشوراء توفیت الشیخة أم عبد اللّه یاسمین بنت الشیخ أبی الحسن سالم بن علی بن سلامة البغدادی الحربی المعروف بابن البیطار ببغداد و دفنت بمشهد باب التبن. سمعت من أبی المظفر هبة اللّه بن أحمد ابن محمد ابن الشبلی و حدثت. والدها أبو الحسن سالم سمع من جماعة و حدّث» و ذکر وفاتها أیضا ابن تغری بردی و ابن العماد الحنبلی .
و ترجم لها ابن الدبیثی فی تاریخه بدلالة وجودها فی المختصر المحتاج إلیه منه للذهبی قال: «یاسمین بنت سالم بن علی البیطار أم عبد اللّه. تقدم أبوها و أمّها، قرأت علیها: أخبرکم هبة اللّه الشبلی. فذکر حدیثا، قلت:
و أخوها ظفر مرّ. کتب عنها عمر بن الحاجب و روی عنها عبد الرحمن بن الزین و علی بن بلیان و إبراهیم بن الواسطی. توفیت بعد سنة أربع و ثلاثین و ستمائة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 281
و الظاهر لنا أن السیدة یاسمین هذه کانت حنبلیّة لانتساب والدها إلی محلة الحربیّة فإن هذه المحلّة و أکثر محال بغداد کانت یغلب علی أهلها المذهب الحنبلیّ، و الذی نراه من شیوع المذهب الحنفی ببغداد و أکثر مدن العراق إنما حدث بعد استیلاء العثمانیین الحنفیین علی البلاد.

سنة 635 ه

اشارة

120- و أبو علی محمد بن محمود بن یحیی بن محمد البغدادی الحمامیّ ذکره المنذری فی وفیات سنة 635 قال: «و فی مستهل صفر توفی الشیخ أبو علی محمد بن محمود بن یحیی بن محمد البغدادی الحمامی ببغداد و دفن بمشهد باب التبن، و مولده فی الثالث من المحرم سنة ثمان و خمسین و خمسمائة.
سمع من أبی محمد عبد اللّه بن أحمد بن هبة اللّه الغرسی و حدّث، و أضرّ فی آخر عمره و لنا منه إجازة» .

ابنة بدر الدین

121- و ابنة بدر الدین لؤلؤ الأتابکی الملقب بالملک الرحیم ملک الموصل و ما حولها أیامئذ، ذکرها مؤلف کتاب الحوادث فی وفیات سنة 635 قال:
«و فی ربیع الآخر تقدّم إلی المدرسین و الفقهاء، و مشایخ الربط و الصوفیة و أرباب الدولة من الصدور و الأمراء بحضور جامع القصر لأجل الصلاة علی ابنة بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل، زوجة علاء الدین الطبرسی الدویدار الکبیر و صلی علیها فی القبلة و شیع الکل جنازتها إلی المشهد الکاظمی و دفنت إلی جنب ولدها فی الایوان المقابل للداخل إلی مصف الحضرة المقدسة فی ضریح مفرد، قیل إنها کانت نفساء، عن نیف و عشرین سنة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 282
و مدة مقامها فی بغداد عشر سنین و عمل العزاء فی دار الأمیر علاء الدین (المذکور) و حضر النقیب الطاهر الحسین ابن الأقساسی، و موکب الدیوان و أقامه من العزاء، و نفذ المحتسب أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزی إلی بدر الدین لؤلؤ لیقیمه من العزاء (بالموصل)» .
و کانت ابنة بدر الدین لؤلؤ شیعیة کوالدها بدر الدین، قال ابن دقماق فی وفیات سنة 657: «فیها مات الملک الرحیم بدر الدین لؤلؤ علی فراشه بمرض أصابه بعد عوده من هولاکو ... و دفن بها- یعنی الموصل- و نقل فیما بعد إلی مشهد الإمام علی- رضی اللّه عنه- ... و کان یبعث فی کل سنة إلی مشهد الإمام علی بقندیل ذهب ألف دینار و شمعدان مطعم بالذهب و الفضة و ذلک أنه نذر فی أوائل أمره أنه کلما عاش سنته و هو ملک الموصل یکون علیه للمشهد قندیل من ألف دینار و لم یزل علی ذلک حتی مات فحکی أنه عد فی المشهد من جهته أربعون قندیلا و أربعون شمعدانا و علیها اسمه و کان یبعث مع ذلک بالصدقة الکثیرة» .

سنة 637 ه

122- و ضیاء الدین أبو الفتح نصر اللّه بن محمد بن محمد بن عبد الکریم ابن عبد الواحد الشیبانی المعروف بابن الأثیر الکاتب المنشی‌ء الوزیر الشهیر ذکره ابن النجار فی التاریخ المجدد لمدینة السلام استدللت علی ذلک بوجود الموجز من سیرته فی مختصر التاریخ المذکور، فقد جاء فیه «نصر اللّه بن محمد بن محمد بن عبد الکریم بن عبد الواحد الشیبانی أبو الفتح الکاتب المعروف بابن الأثیر من أهل جزیرة ابن عمر، ولد بها فی آخر شعبان سنة ثمان و خمسین و خمسمائة و قرأ الأدب و عانی البلاغة و الإنشاء و حاز قصب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 283
السبق فی ذلک و صنف مصنفات فی الأدب و ولی الوزارة للملک الأفضل علی ابن السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب ثم سکن الموصل، و کان ذا لسان، و عارضة و فصاحة و بیان. قدم بغداد رسولا من الموصل و حدّث ببغداد بکتاب المثل السائر فی أدب الکاتب و الشاعر، و من شعره قوله:
رضیت بما ترضی به لی محبةو قدت إلیک النفس قود المسلّم
و مثلک من کان الفؤاد شفیعه‌یکلّمه عنی و لم أتکلّم
قدم رسولا فی منتصف ربیع الآخر سنة سبع و ثلاثین و ستمائة فبقی أیاما و مرض و توفی فی تاسع عشری الشهر المذکور و دفن بمقابر قریش» و کتب فی الهامش ما هذه صورته «قال الشیخ زکی الدین فی وفیاته: توفی ابن الأثیر فی أحد الجمادین من السنة، و قال: مولده فی العشرین من شعبان سنة ثمان و خمسین و خمسمائة بجزیرة ابن عمر و کان یلقب ضیاء الدین- رحمه اللّه». و جاء فی حاشیة علی ترجمته فی کتاب التکملة لزکی الدین المنذری المذکور آنفا» قال الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن النجار فی ذیله: توفی فی تاسع عشر من ربیع الآخر و حدث بالمثل السائر» .
و ذکره زکی المنذری فی وفیات سنة 637 قال: «و فی إحدی الجمادین توفی القاضی الأجل الفاضل أبو الفتح نصر اللّه بن محمد بن محمد بن عبد الکریم ابن عبد الواحد الشیبانی المجزری المنعوت بالضیاء المعروف بابن الأثیر ببغداد، و له تصانیف مشهورة فی النظم و النثر منها المثل السائر فی أدب الکاتب و الشاعر و غیر ذلک، و مولده بجزیرة ابن عمر فی العشرین من شعبان سنة ثمان و خمسین و خمسمائة و قد تقدم ذکر أخویه أبی السعادات المبارک و أبی الحسن علی و کانا من الفضلاء المشهورین» . و ترجم له مؤلف الحوادث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 284
فی وفیات سنة 637 قال: «و فیها توفی أبو الفتح نصر اللّه بن محمد بن عبد الکریم المعروف بابن الأثیر الجزری الأصل الموصلی الدار، کان کاتبا عالما فاضلا متفننا فی علم الکتابة مقتدرا علی الانشاء، ورد إلی بغداد مرارا فی رسائل من بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل منها فی هذه السنة، فمرض ببغداد و مات و دفن فی صحن مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- کان مولده سنة ثمان و خمسین و خمسمائة» .
و أوجز ترجمته أبو شامة فی وفیات سنة 637 قال: «و فیها توفی الضیاء ابن الأثیر بالمزرقة من بغداد و هو مرسل إلیها و هو صاحب المثل السائر و الوشی المرقوم و کان قد وزر للأفضل» . و فصّل ترجمته ابن خلکان و قال فیما قال: «کان مولده بجزیرة ابن عمر و نشأ بها و انتقل مع والده إلی الموصل و بها اشتغل و حصل العلوم و حفظ کتاب اللّه الکریم و کثیرا من الأحادیث النبویة و طرفا صالحا من النحو و اللغة و علم البیان، و شیئا کثیرا من الأشعار حتی قال فی أول کتابه الذی سماه (الوشی المرقوم) ما مثاله:
و کنت حفظت من الأشعار القدیمة و المحدثة مالا أحصیه کثرة ثم اقتصرت بعد ذلک علی شعر الطائیین حبیب بن أوس- یعنی أبا تمام و أبا عبادة البحتری- و شعر أبی الطیب المتنبی فحفظت هذه الدواوین الثلاثة و کنت أکرّر علیها، بالدرس مدة سنین حتی تمکنت من صوغ المعانی و صار الادمان لی خلقا و طبعا، و إنما ذکرت هذا الفصل فی معرض أن المنشی‌ء ینبغی أن یجعل دأبه فی الترسل حل المنظوم و یعتمد علیه فی هذه الصناعة. و لما کملت لضیاء الدین المذکور الأدوات قصد جناب الملک الناصر صلاح الدین- تغمده اللّه برحمته- فی شهر ربیع الأول سنة سبع و ثمانین و خمسمائة فوصله القاضی الفاضل بخدمة صلاح الدین فی جمادی الآخرة من السنة، و أقام عنده إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 285
شوال من السنة ثم طلبه ولده الملک الأفضل نور الدین ... و حسنت حاله عنده، و لما توفی السلطان صلاح الدین استقل ولده الملک الأفضل بمملکة دمشق استقل ضیاء الدین المذکور بالوزارة، وردت أمور الناس إلیه و صار الإعتماد فی جمیع الأحوال علیه. و لما أخذت دمشق من الملک الأفضل و انتقل إلی صرخد ... و کان ضیاء الدین قد أساء العشرة مع أهلها فهمّوا بقتله فأخرجه الحاجب محاسن بن عجم مستخفیا فی صندوق مقفل علیه ثم صار إلیه و صحبه إلی مصر لما استدعی لنیابة ابن أخیه الملک المنصور ...
و لما قصد الملک العادل الدیار المصریة و أخذها من ابن أخیه ... و تعوض الملک الأفضل البلاد الشرقیة و خرج من مصر لم یخرج ضیاء الدین فی خدمته لأنه خاف علی نفسه من جماعة کانوا یقصدونه، فخرج منها مستترا و له فی کیفیة خروجه مستخفیا رسالة طویلة شرح فیها حاله و هی موجودة فی دیوان رسائله ، و غاب عن مخدومه الملک الأفضل مدیدة، و لما استقر الأفضل فی سمیساط عاد إلی خدمته و أقام عنده مدة ثم فارقه فی ذی القعدة من سنة سبع و ستمائة و اتصل بخدمة أخیه الملک الظاهر غازی صاحب حلب ... فلم یطل مقامه عنده و لا انتظم أمره و خرج مغاضبا و عاد إلی الموصل فلم یستقم حاله فورد إربل فلم یستقم حاله فسافر إلی سنجار ثم عاد إلی الموصل و اتخذها دار إقامته و استقر و کتب الإنشاء لصاحبها ناصر الدین محمود ابن الملک القاهر عز الدین مسعود بن نور الدین أرسلان شاه ... و أتابکه یومئذ الأمیر بدر الدین أبو الفضائل (لؤلؤ) النوری و ذلک فی سنة ثمانی عشرة و ستمائة و لقد ترددت إلی الموصل من إربل أکثر من عشر مرّات و هو مقیم بها و کنت أود الاجتماع به لآخذ عنه شیئا، لما کان بینه و بین الوالد- رح- من المودة الأکیدة فلم یتفق ذلک، ثم فارقت بلاد المشرق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 286
و انتقلت إلی الشام و أقمت به مقدار عشر سنین ثم انتقلت إلی الدیار المصریة و هو فی قید الحیاة ثم بلغنی بعد ذلک خبر وفاته و أنا بالقاهرة ... و توفی فی إحدی الجمادین سنة سبع و ثلاثین و ستمائة ببغداد و قد توجه إلیها رسولا من جهة صاحب الموصل و صلی علیه من الغد بجامع القصر و دفن بمقابر قریش فی الجانب الغربی بمشهد موسی بن جعفر- سلام اللّه علیهما- و قال أبو عبد اللّه محمد بن النجار البغدادی فی تاریخ بغداد: توفی یوم الاثنین التاسع و العشرین من شهر ربیع الآخر من السنة و هو أخبر لأنه صاحب هذا الفن و قد مات عندهم» و قال ابن خلکان أیضا: «و لضیاء الدین من التصانیف الدالة علی غزارة فضله و تحقیق نبله کتابه الذی سماه (المثل السائر فی أدب الکاتب و الشاعر) و هو فی مجلّدین، جمع فیه فأوعب و لم یترک شیئا یتعلق بفن الکتابة إلا ذکره و لما فرغ من تصنیفه کتبه الناس عنه فوصل إلی بغداد منه نسخة فانتدب له الفقیه الأدیب عز الدین أبو حامد عبد الحمید ابن هبة اللّه بن محمد بن حسین ابن أبی الحدید المدائنی و تصدّی لمؤاخذته و الرد علیه و عنّته و جمع هذه المؤاخذات فی کتاب سماه (الفلک الدائر علی المثل السائر) فلما أکمله وقف علیه لی أخوه موفق الدین أبو المعالی أحمد و یدعی القاسم أیضا فکتب إلی أخیه المذکور قوله:
المثل السائر یا سیدی‌صنفت فیه الفلک الدائرا
لکن هذا فلک دائرتصیر فیه المثل السائرا
... و له کتاب الوشی المرقوم فی حل المنظوم و هو مع و جازته فی غایة الحسن و الإفادة و کتاب المعانی المخترعة فی صناعة الانشاء و هو أیضا نهایة فی بابه و له مجموع اختار فیه شعر أبی تمام و البحتری و دیک الجن و المتنبی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 287
و هو مجلد واحد کبیر و حفظه مفید، و قال أبو البرکات (المبارک) ابن المستوفی فی تاریخ: نقلت من خطه فی آخر هذا الکتاب المختار ما مثاله:
تمتع به علقا نفیسا فانه‌اختیار کریم بالأمور حکیم
أطاعته أنواع البلاغة فاهتدی إلی الشعر من نهج إلیه قویم
و له أیضا دیوان ترسل فی عدة مجلدات و المختار منه فی مجلد واحد ...
و له رسالة یصف فیها الدیار المصریة و هی طویلة» .
و لضیاء الدین ترجمة فی أکثر کتب التاریخ التی استوعبت عصره، و لکننا لم نجد فیها فائدة من سیرته لم یذکرها ابن خلکان و قد عاصره معاصرة الشاب للشیخ، سوی قول الذهبی: «و کان بینه و بین أخیه عز الدین مقاطعة کلیة» . و قد عثر علی النسخة الأولی من کتابه فی الإنشاء و قد و سمها باسم «الجامع الکبیر فی صناعة المنظوم من الکلام و المنثور»، و قد حققته أنا و الدکتور الفاضل جمیل سعید و نشرناه بنفقات المجمع العلمی العراقی سنة 1956 م- 1375 ه و قد صدرنا الکتاب بتصدیر أدبی حدیث و کتبنا ترجمة المؤلف کتابة أدبیة حدیثة و ذکرنا سیرته الأدبیة فجاء جمیع ذلک فی سبع و ثلاثین صفحة وسطا. و لم یفتنا من سیرته إلا الاشارة إلی المقاطعة الکلیة بینه و بین أخیه عز الدین.

سنة 642 ه

اشارة

123- و منتجب الدین أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن مسعود بن أحمد الموصلی ثم البغدادی الشاعر، ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بالمنتجب و ما أحسبه إلا منتجب الدین قال: «المنتجب أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن مسعود بن أحمد الموصلی ثم البغدادی الشاعر، ذکره شیخنا تاج الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 288
أبو طالب (ابن الساعی) فی تاریخه و قال: کان شیخا فاضلا عنده أدب و حکمة و کتابة حسنة و یقول شعرا جیدا و کان منقطعا عن الناس، غالبا فی التشیع، و من شعره:
للصبر عاقبة ترجی و تنتظرفربّما بالتأنی یدرک الظفر
لا یبلغ المجد خوّار أخو ضرع‌و لا ینال الأمانی من به ضجر
و له أشعار کثیرة و کانت وفاته فی تاسع عشر شهر ربیع الأول سنة اثنتین و أربعین و ستمائة و دفن بالمشهد الکاظمی» .

أحمد ابن الناقد

124- و نصیر الدین أبو الأزهر أحمد ابن الناقد الوزیر الأدیب، ذکره مؤلف الحوادث فی وفیات سنة 642 من کتابه قال: «کان من أولاد التجار المعروفین، حفظ القرآن المجید و أدأب نفسه فی تحصیل الأدب و تجدید الخط، فلما توفی والده ردّ إلیه ما کان یتولاه و هو وکالة أم الخلیفة الناصر فی وقوفها ثم عزل و رتب خواجة نور الدین ککسنقر الحلفی (کذا) ثم عزل فانقطع فی بیته، فلما ولی الظاهر الخلافة أحضره و وکله لأولاده العشرة و کان بینهما رضاع و صحبة من الصغر، فلما توفی الظاهر و بویع ولده المستنصر باللّه أحضره یوم مبایعته و أشهد له بوکالته، فبقی علی ذلک إلی أن توفی أستاذ الدار (المبارک) ابن الضحاک فی سنة سبع و عشرین و ستمائة فأضاف إلیه أستاذیة الدار فلم یزل علی ذلک إلی أن قبض علی الوزیر مؤید الدین القمی فی سنة تسع و عشرین و ستمائة فنقل إلی الوزارة و الوکالة باقیة علیه، و کان یرکب فی أیام الجمع و یحضر عند الخلیفة و یفاوضه فی الأمور، فعرض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 289
له ألم المفاصل فعجز عن الرکوب و الحرکة و الکتابة و الجری فی الکلام و لم تتغیر منزلته و لا وهت حرمته ثم عرض له إسهال فتوفی لیلة الجمعة سادس ربیع الأول من السنة فدفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فی تربة اتخذها لنفسه و وجدوا فی خزانته صندوقا مملوءا ذهبا و رقعة فیها مکتوب بخطه: هذا من فواضل أنعم مولانا و صدقاته و هو من استحقاق بیت المال، فأمر بحمله إلی دار التشریفات فذکر أنه کان مائة ألف دینار. و کان حسن الطریقة، متدینا أدیبا یقول الشعر و ینشی‌ء الرسائل و کان مولده فی شوال سنة إحدی و سبعین و خمسمائة» .
و ترجم له کمال الدین ابن الشعار الموصلی قال: «أحمد بن محمد بن علی بن أحمد ابن الناقد أبو الأزهر بن أبی السعادات البغدادی، أحد الأعیان الفضلاء و السادة النبلاء، من البیت المعروف بالتقدم و المکانة و التجارة و الأمانة، کان أبوه من التجار المعروفین و الأمناء المشهورین، سافر إلی الشام و خراسان و عاد إلی بغداد و تولی وکالة الجهة الشریفة والدة الناصر لدین اللّه (زمرد خاتون) و تقلد أعمالا جلیلة، منها النظر فی المظالم و الوکالة و غیر ذلک و کان له خمسة بنین کلهم فاضل جمیل، فلما مات قام مقامه الأکبر من أولاده و هو أبو الأزهر فنظر فیما کان ینظر فیه أبوه من الأوقاف التی شرطت الواقفة لهم النظر فیها مدة ثم عزله الناصر لدین اللّه فلازم داره مواظبا علی تلاوة القرآن المجید إلی أن عیّن له علی نیابة بعض الأمراء و النظر فی حال جنده و إقطاعه، فکان علی ذلک مدة ثم انفصل عنه و انقطع إلی منزله منعکفا علی قراءة کتاب اللّه تعالی، علی أحسن قاعدة، و أجمل طریقة إلی أن مات الناصر لدین اللّه- رضی اللّه عنه- و بویع ولده الظاهر بأمر اللّه- رضی اللّه عنه- فاستدعاه لمبایعته ثم فوض إلیه وکالة السیادة الأمراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 290
من أولاده، فبقی علی ذلک إلی أن توفی الظاهر- رضی- و بویع ولده المستنصر باللّه- أعز اللّه أنصار دولته- فقرّبه و أدناه، و فضله علی من سواه، و أحضره فی یوم المبایعة و أحضر قاضی القضاة أبا صالح نصر بن عبد الرزاق (الجیلی) و قال له أستاذ الدار أبو نصر المبارک ابن الضحاک.
و کانا قائمین بین یدی الشباک الشریف، و هو الذی قام بأمر البیعة لشیخوخته و ملابسته لأشغال الدار العزیزة فقال له: إن أمیر المؤمنین قد وکل أبا الأزهر أحمد ابن الناقد فی کل ما یتجدد من بیع و إقرار و عتق و ابتیاع . فقال قاضی القضاة: أهکذا یا أمیر المؤمنین؟ قال: نعم. فقال له: ولّیتنی ما ولّانی والدک رضوان اللّه علیه؟ فقال: نعم قد ولّیتک ما ولّاک والدی.
فنزل و أثبت الوکالة الشریفة بالعلم و أشهد علیه بثبوتها عند سائر المعدلین.
ثم رد أمر الوکلاء بالأبواب الشریفة إلیه مضافا إلی الوکالة له و خلع علیه فی ذلک الیوم، و لم یزل یرتقی و یزداد وجاهة فی کل یوم إلی أن عزل الوزیر أبو الحسن محمد بن محمد بن برز القمی عن نیابة الوزارة و ذلک فی یوم السبت سابع عشر شوال من سنة تسع و عشرین و ستمائة فاستدعی أبو الأزهر إلی دار الخلافة و خلع علیه فی موضع البستان خلعة جمیلة سنیة، لنیابة الوزارة و قلّد سیفا محلیّ بالذهب. و کان قد حاز من الأوصاف الحمیدة فی نفسه من الفضل الشائع و الدین الذائع و غزارة الأدب و توفر الحیاء و العقل الرصین مع معرفة بالعلوم الأدبیة و إتقان من الصناعتین الکتابة و الشعریة و تفننه فی الانشاء و تصرفه فی ذلک علی حسب ما یشاء و ما یحفظ من صنوف الأشعار و نکت السیر مع إحکامه للقرآن المجید و تحصیله لفنون الأدب دراسة و بحثا، فانه نشأ عفیفا صیّنا عالی الهمّة، شریف النفس لم یطلع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 291
له علی ریبة قط، لا جرم حصل له ما لم یحصل لغیره و خدمته السعادة، و امتطی غارب السیادة، و انقاد لطاعته قلوب الأنام و امتثل أمره الخاص و العام، و مدحه الشعراء، و اعترف بفضله الفضلاء، و أثنی علیه العلماء، و دعا له الصلحاء، و له نظم صحیح المعانی، جید المبانی، و من شعره ما قال و کتبه علی بعض القصور الشریفة:-
للّه من قصر الخلافة منزل‌من دونه ستر النبوة مرسل
و رواق ملک فیه أشرف بقعةظلت تحار له العقول و تذهل
تغضی لعزّته النواظر هیبةو یردّ عنه طرفه المتأمل
حسدت مکانته النجوم فود لوأمسی یجاوره السماک الأعزل
و سما علوّا أن تقبّل تربه‌شفة فأضحی بالجباه یقبّل
و له:
أبدا لشمس سعودک الاشراق‌یا موطنا شرفت به الآفاق
بل یأمن الجانی و یقترب المدی‌للراغبین و تبسط الأرزاق
و له فی مثله:
و منزل تفخر القصور به‌لا زال یجری بسعده القدر
إن القصور التی تحف به‌کواکب هو بینها قمر» .
و ترجم له ابن الطقطقی و فی کلامه فائدة قال: «کان فی ابتداء أمره وکیلا للمستنصر فمکث مدة فی الوکالة ثم انتقل منها إلی أستاذیة الدار ثم منها إلی الوزارة فنهض بأعبائها نهوضا حسنا و قام بضبط المملکة قیاما مرضیا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 292
و کان عظیم الأمانة، قوی السیاسة شدید الهیبة علی المتصرفین، حاسما لمواد الأطماع و الفساد، قیل إنه هجی ببیتین فلما سمعهما استحسنهما و هما:
وزیرنا زاهد و الناس قد زهدوافیه فکل عن اللذات منکمش
أیامه مثل شهر الصوم خالیةمن المعاصی و فیها الجوع و العطش
و ما زالت السعادة تخدمه إلی آخر عمره فمن جملة سعادته- و هو من الاتفاقات العجیبة ما حدث عنه و هو أنه قبل الوزارة عمل فی بعض الأعیاد سنبوسجا کثیرا و أحب أن یداعب بعض أصحابه فأمر أن یحشی سبعون سبنوسجة بحب قطن و نخالة و تجعل مفردة، و عمل سبنوسجا کثیرا کجاری العادة و رکب إلی دار الخلیفة فطلب منه عمل شی‌ء من السنبوسج فذکر أن عنده شیئا مفروغا. و أمر خادما له بإحضار ما عنده من السنبوسج، فمضی الخادم عن غیر معرفة بذلک المحشو بحب القطن و مزج الجمیع و وضعه فی الأطباق لیحمله إلی دار الخلیفة، فجاء الجواری و الخدم و قالوا: أعطونا حصتنا من هذا. فأخذوا مائة سنبوسجة. و حمل الخادم الأطباق بما فیها إلی دار الخلیفة، فلما حمل السنبوسج و صار بدار الخلیفة و رجع ابن الناقد إلی داره سأل عن السنبوسج المحشو بحب القطن. فقالوا له: ما عرفنا بشی‌ء من ذلک و فلان الخادم جاء و مزج الجمیع و أخذه و مضی. فلم یشک أنه هالک و کادت تسقط قوته خوفا و خجلا. فقال: أما تخلّف منه شی‌ء قط؟ قالوا: قد اقتطع الجواری و الخدم منه حدود مائة سنبوسجة.
فقال: أحضروها، فأحضرت و فتحت بین یدیه فوجد السبعون سنبوسجة المحشوّة بحب القطن قد حصلت بأیدی الجواری و الخدم فی جملة ما أخذوه لأنفسهم، لم تشذ عنها واحدة إلی دار الخلیفة. و مات نصیر الدین فی سنة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 293
اثنتین و أربعین و ستمائة فی خلافة المستعصم» .
و من سعادة هذا الوزیر أننا نجد فی کل ترجمة من تراجمه فائدة جدیدة قال الخزرجی و هو أو معتمده من عادته النقل من تواریخ ابن الساعی، فی حوادث سنة 642: «و فیها توفی الوزیر الکبیر ملک العراق أبو الأزهر نصیر الدین أحمد بن محمد بن علی بن أحمد الناقد البغدادی و کان مولده فی الحادی عشر من شهر شوال سنة إحدی و سبعین و خمسمائة، و هو من أولاد التجار، نشأ فی الثروة و الحشمة، و حفظ القرآن و اعتنی بالخط و تجویده و حصل طرفا صالحا من الأدب نحوا و لغة و کان یقول الشعر و اشتغل بعلم الانشاء و الرسائل، و کان مواظبا علی تلاوة القرآن لا سیما فی لیالی الجمع، و کان له رأی صائب و دین وافر، ملیح الانشاء، حسن النظم، حفظة للأشعار، و النکت و الأخبار، حسن الخط مهیب الشکل، عفیف النفس، وقورا ورعا. توفی فی سادس شهر ربیع الأول من السنة المذکورة و نفذ جهازه من المخزن و فیه مائة و خمسون ظرفا من ماء الورد و أخرج عنه صدقة من البقر تسعون رأسا و من الخبز خمسة عشر ألف رطل و من التمر مائة و خمسون قوصرة و شیع جنازته کافة الأمراء و ذوو المناصب و أرباب الدولة».
«و لما فتحت ترکة الوزیر نصیر الدین أحمد ابن الناقد وجد فیها صندوق آبنوس فیه نیف و تسعوف ألف دینار، و فیه رقعة یذکر فیها أن ذلک من فواضل معیشته و ما أنعم علیه به فی الأیام المستنصریة و المستعصمیة و أن ذلک حق من حقوق بیت مال المسلمین، لا تستحق ورثته منه شیئا. فحمل إلی دار التشریفات و أنعم علی ورثته و أجریت لهم جرایات علی المخزن» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 294
قلت الظاهر لی أنه کان له جوار و لم یخلف زوجة حرّة و أنه کان عقیما حتی یصح هذا القول: أن ذلک حق من حقوق بیت مال المسلمین لا تستحق ورثته منه شیئا، فبیت المال کان یرث من لا وارث له علی مذهب الإمام الشافعی و هو آخر مذهب للدولة العباسیة. إلا أن خبرا ورد فی مرآة الزمان لا یترک للظاهر سبیلا.
و ذکره ابن کثیر الدمشقی فی حوادث سنة 642 قال: «الوزیر نصیر الدین أبو الأزهر أحمد بن محمد بن علی بن أحمد ابن الناقد البغدادی وزیر المستعصم و أبیه المستنصر، کان من أبناء التجار ثم توصل إلی أن صار وزیرا لهذین الخلیفتین و کان فاضلا بارعا حافظا للقرآن کثیر التأوه، نشأ فی حشمة باذخة و سعادة ثم کان فی وجاهة هائلة و قد أقعد فی آخر عمره و هو مع ذلک فی غایة الإحترام و الإکرام و له أشعار حسنة کثیرة أورد منها ابن الساعی قطعة صالحة، توفی و قد جاوز الخمسین- رحمه اللّه-» .
و قال ابن دقماق فی حوادث السنة المذکورة: «و فیها مات الوزیر نصیر الدین أبو الأزهر أحمد بن محمد بن علی ابن الناقد، أحد أولاد التجار المشاهیر و ذوی الثروة و الیسار ... و نشأ فی ریاض الإشتغال بالکتابة ففوض إلیه نظر أوقاف والدة الإمام الناصر فی سنة ثلاث عشرة و ستمائة و بقی مدة ثم صرف ثم استقر فی وکالة أولاد الإمام الظاهر ثم لما تولی الإمام المستنصر ولاه أستاذیة الدار بعد وفاة عضد الدین أبی نصر المبارک ابن الضحاک فی محرم سنة سبع و عشرین و ستمائة فقام بأمور الخدمة أحسن قیام ثم ولی الوزارة فی سابع عشر شوال سنة تسع و عشرین و ستمائة و عرض له ألم فی مفاصله بعد خمس سنین من ولایته امتنع به عن القیام و الحرکة، و لم یزل مبجلا مکرّما إلی حین وفاته فی لیلة الجمعة سادس ربیع الأول فتقدم إلی کبار الدولة و أعیان الأمراء و القضاة و مشایخ الصوفیة بالحضور إلی جامع القصر ثم غسّل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 295
الوزیر المذکور، و تولی غسله المدرس بالنظامیة نجم الدین عبد اللّه البادرائی ثم حمل تابوته و بین یدیه القراء و الحجاب و النواب و الکتاب و الداوداریة ثم صلی علیه أبو طالب الحسین بن المهتدی نقیب النقباء ثم حملت الجنازة و أدخلت بالغربة المستجدة و جعلت فی شبارة و شیعها کافة أرباب الدولة و الصدور و أستاذ الدار مؤید الدین ابن العلقمی و دفن بتربته بالمشهد الکاظمی، و کان أدیبا فاضلا مترسلا، للرعایا حافظا، و للعلماء رافعا و کان صالحا عفیفا متواضعا دیّنا قارئا للقرآن- رحمه اللّه-» .
و لهذا الوزیر الکبیر تراجم کثیرة منها فی عقد الجمان للعینی و هی لا تختلف عن الترجمة التی ذکرها ابن کثیر و فی تجارب السلف لهندوشاه الصاحبی الکاتب الشاعر بالفارسیّة و فیها فائدة و هی أن ألقاب نصیر الدین کانت کألقاب الوزیر ناصر بن مهدی الملقب بنصیر الدین أیضا و هی «المولی الوزیر الأعظم الصاحب الکبیر المعظم، العالم العادل المؤید المظفر المنصور المجاهد نصیر الدین صدر الاسلام غرس الامام عضد الدولة مغیث الأمة عماد الملک اختیار الخلافة المعظمة مجتبی الإمامة المکرمة تاج الملوک سید صدور العالمین ملک وزراء الشرق و الغرب غیاث الوری أبو الأزهر أحمد بن الناقد ظهیر أمیر المؤمنین و ولیه المخلص فی طاعته الموثوق به فی صحة عقیدته» .
و جاء فی مختصر مرآة الزمان خبر مشوّه خاص بالوزیر أبی الأزهر ابن الناقد قال فی سنة 642: «و فیها توفی وزیر الخلیفة و تولیّ خالی محیی الدین استاذ داره بعده» و هذا غامض و أراد به تولی خاله أستاذیة دار الخلافة بعد وفاة الوزیر و تلا ذلک بقوله: «و فیها توفی شهاب الدین أحمد بن الناقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 296
وزیر ... أولاده و صود روا و ذهب جاههم و أقاموا مدة إلی أن ولی المستنصر فاستوزر محمدا و لقبه مؤید الدین و کان رجلا فاضلا صالحا عفیفا دیّنا قارئا للقرآن» فالأوصاف الأخیرة تخص الوزیر ابن الناقد و ما قبلها من الکلام لا تظهر له صلة به فالمستنصر لم یستوزر محمدا من أبناء أرباب الدولة السابقین و لا لقبه مؤید الدین، و إنما لقب اثنان بمؤید الدین مؤید الدین محمد القمی نائب الوزارة للناصر و الظاهر و المستنصر و مؤید الدین محمد بن العلقمی فما هذا الکلام؟
هذا و قد ذکر ابن تغری بردی کصاحب المرآة أن لقب الوزیر هو «شهاب الدین» و لیس ذلک بصحیح و إنما کان لقبه «شمس الدین» فلما رفعت رتبته من أستاذیة الدار إلی نیابة الوزارة جعل لقبه «نصیر الدین» و هذا ثابت بما أورده مؤلف الحوادث من أخباره و ما ذکره هندوشاه فی سیرته من کتابه تجارب السلف .

سنة 643 ه

125- و مؤید الدین أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الکریم بن برز المقدادی القمی الوزیر، فقد ذکر مؤلف الحوادث نقله من مدفنه إلی مشهد الکاظمیة سنة «643» قال فی حوادث هذه السنة: «و فی لیلة الجمعة حادی عشری رمضان نقل مؤید الدین أبو الحسن محمد بن عبد الکریم بن برز القمی الوزیر من مدفنه بمقبرة الزرادین بالمأمونیة إلی تربة کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 297
أنشأها بالمشهد الکاظمی و وقف علیها وقوفا و ذلک بعد ثلاث عشرة سنة و أحد عشر شهرا»
قال مصطفی جواد: ذکر المؤرخ نفسه خبر القبض علی مؤید الدین القمی فی حوادث سنة 629 من کتابه هذا و معنی ذلک الخبر الأول أنه توفی فی سنة القبض علیه و یؤیده ابن الطقطقی فی تاریخه، و قد ذکره ابن الطقطقی قال: «وزارة مؤید الدین محمد بن محمد بن عبد الکریم بن برز القمی، هو قمی الأصل و المولد، بغدادی المنشأ و الوفاة ینتسب إلی المقداد بن الأسود الکندی، کان- رحمه اللّه- بصیرا بأمور الملک خبیرا بأدوات الرئاسة، عالما بالقوانین، عارفا باصطلاح الدواوین، خبیرا بالحساب، ریّان من فنون الأدب، حافظا لمحاسن الأشعار، راویا لطرائف الأخبار، و کان جلدا علی ممارسة الأمور الدیوانیة، ملازما لها من الغدوة إلی العشیة.
و کان فی ابتداء أمره قد تعلق بسلاطین العجم و کان یلوذ ببعض وزراء العجم بأصفهان فی حال صباه و لم یبلغ العشرین من عمره، و کان ذلک الوزیر قد ضجر من الکتاب الذین بین یدیه و نسبهم إلی أنهم یخالفون تقدماته فأبعدهم عنه و استکتب القمیّ ظنا منه أنه لمجرد حداثة سنه لا یقدم علی مخالفة ما یشیر به. فمکث القمی یکتب بین یدیه مدة، ففی بعض الأیام أحضرت بین یدی الوزیر جملة من الثیاب النسیج بعضها صحیح و بعضها مقطوع، فأحضر القمی بین یدیه، لیثبت عددها و یحملها إلی الخزانة و کان الوزیر یورد علیه کذا و کذا ثوبا صحاحا. فیکتب القمی کذا و کذا ثوبا و ما یکتب لفظة (صحاحا) فقال له الوزیر: لم لا تکتب ما أقول لک؟ فقال: یا مولانا لا حاجة إلی ذکر الصحاح فإنی إذا وصلت إلی ذکر ثوب مقطوع ذکرت تحته أنه مقطوع، فتخصیص المقطوع بالذکر یدل علی أن ما لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 298
یوصف بالقطع صحیح. فقال الوزیر، لا بل أکتب کما أقول. فراجعه القمی، فحرد الوزیر لذلک و ارتفع صوته و التف إلی الحاضرین و قال:
أنا عزلت الکتاب الکبار الذین کانوا عندی لأجل مخالفتهم و لجاجهم فیما أقوله و استکتبت هذا الصبی ظنا منی أن لحداثة سنّه لا یکون عنده من التجرؤ و المخالفة ما عندهم، فإذا هو أشد مخالفة من أولئک. فخرج بعض خدم السلطان من بین یدیه و کان جالسا قریبا من مجلس الوزیر، و سأل عن کثرة الصیاح و حرد الوزیر، فعرف الخادم صورة ما جری بین الوزیر و القمیّ، فدخل و حکی للسلطان ما قیل، فقال له: أخرج و قل للوزیر:
الحق ما اعتهده الصبیّ الکاتب. فنبل القمی فی عیون الناس و علت منزلته و أنس القمی بهذا الخادم و صار الخادم یستشیره و یسکن إلیه و یأنس به.
فاتفق أن السلطان عیّن علی هذا الخادم و علی رجل آخر لیتوجها فی رسالة إلی دیوان الخلیفة، فالتمس الخادم أن یکون القمی صحبته. فأرسل صحبته فتوجهوا إلی بغداد و حضر الخادم و رفیقه عند الوزیر ابن القصاب، فشافهاه بالرسالة و سمعا الجواب، و کان جوابا غیر مطابق للرسالة و لکنه کان نوعا من المغالطة، فقنع الخادم و رفیقه بذلک الجواب و ما تنبها علی فساده و خرجا، فرجع القمی و وقف بین یدی الوزیر و حادثه سرا و قال له: یا مولانا الجواب غیر مطابق لما أنهاه الممالیک. فقال له الوزیر: صدقت و لکن دعهم علی غباوتهم و لا تفطّنهم إلی ذلک. فقال السمع و الطاعة. ثم إن ابن القصاب کتب إلی الخلیفة (الناصر لدین اللّه) یقول له: إنه قد وصل صحبته خادم السلطان فلان شاب قمی قد جری من تنبهه کیت و کیت و مثل هذا یجب أن یصطنع و یحسن إلیه و یستخدم. فکتب الخلیفة إلیه یأمره بأن لا یمکّنه من التوجه معهم. فعمل له حجة و قطع عنهم فتوجهوا و أقام القمیّ ببغداد فعین علیه فی کتابة الانشاء، فمکث علی ذلک مدة ثم تولی الوزارة و تمکن فی الدولة تمکنا لم یتمکن مثله أحد من أمثاله، و کان أوحد زمانه فی کل شی‌ء حسن، کثیر البر و الخیر و الصدقات. حدث عنه مملوکه بدر الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 299
أیاز قال: طلبت لیلة من اللیالی حلاوة النبات فعمل منها فی الحال صحون کثیرة و أحضرت بین یدیه فی ذلک اللیل، فقال لی: یا أیاز تقدر تدّخر هذه الحلاوة لی موفرة إلی یوم القیامة؟ فقلت: یا مولانا و کیف یکون ذلک و هل یمکن هذا؟! قال: نعم تمضی هذه الساعة إلی مشهد موسی و الجواد- علیهما السلام- و تضع هذه الأصحن قدام أیتام العلویین فانها تدّخر لی موفرة إلی یوم القیامة. قال أیاز. فقلت: السمع و الطاعة. و مضیت، و کان نصف اللیل إلی المشهد و فتحت الأبواب و أنبهت الصبیان الأیتام و وضعت الأصحن بین یدیهم (کذا) و رجعت. و ما زال القمی علی سداد من أمره، تولی الوزارة للناصر ثم للظاهر ثم للمستنصر حتی قبض علیه المستنصر و حبسه فی باطن دار الخلافة مدة فمرض و أخرج مریضا فمات- رح- سنة تسع و عشرین و ستمائة» .
و قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 629: «ذکر عزل الوزیر مؤید الدین القمی ... فی یوم السبت سابع عشر شوال تقدم إلی مؤید الدین أبی طالب محمد بن أحمد ابن العلقمی مشرف دار التشریفات یومئذ أن یحضر عند أستاذ الدار شمس الدین أبی الأزهر أحمد بن الناقد و یتفقا علی القبض علی نائب الوزارة مؤید الدین القمی. فجمع أستاذ الدار رجال النوبتین و أمرهم بالمبیت فی دار الخلافة، و لم یشعر أحدا منهم بشی‌ء، فلما أغلق بابا النوبی و العامة عیّن علی جماعة مع ابن شجاع مقدم باب الأتراک بالقبض علی القمیّ إذا فتح باب النوبیّ، و عین علی جماعة مع حسن بن صالح المعمار للقبض علی ولده (فخر الدین أبی الفضل أحمد) فی الساعة المعینة، و عیّن علی جماعة للقبض علی أخیه و جمیع أصحابه و خواصه، فلما فتح باب النوبی خرج الجمیع بالسیوف و هجموا علیه و علی ولده و أخیه و جمیع أصحابه فی ساعة واحدة فلم یفلت منهم صغیر و لا کبیر فأما هو و ولده
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 300
فنقلا لیلا إلی باطن دار الخلافة فحبسا هناک و أما أخوه و ممالیکه و أصحابه فحملوا إلی الدیوان .
و کان المؤرخ نفسه قال فی حوادث سنة 628: «و فی صفر دخل بعض الأتراک إلی دار الوزیر مؤید الدین القمی و طلب غفلة الستری و انتهی إلی مجلسه فلم یصادفه جالسا و کان بیده سیف مشهور و کان آخر النهار، و قد تقوّض الجماعة من الدیوان فصاح علیهم خادم فتبادر الغلمان و أمسکوه و أنهی ذلک إلی مؤید الدین فجلس و أحضر الترکی بین یدیه و سأله عما حمله علی ذلک فلم یقل شیئا، فضرب ضربا مبرحا فذکر أن له مدة لم یصله شی‌ء من معیشته و هو ملازم الخدمة و قد أضرّ به ذلک فحمله فقره و حاجته و غیظه علی ما فعل، فأمر بصلبه فصلب و حط بعد یومین» .
و ذکره هندوشاه الصاحبی و ذکر أنه أنشأ مارستانا فی المشهد الکاظمی و زوّده و جهّزه بالأدویة و الأشربة و المعاجین و أنشأ مکتبا و دارا للقرآن لأیتام العلویین هناک و وقف علی ذلک أوقافا و أحسن الثناء علیه و ذکر ابنه فخر الدین أحمد و أنه کان أدیبا فاضلا و کان یتولی الشرطة و الاحتساب و کان قاسیا فی العقوبة ینتهی بها إلی قطع الأعضاء و لما نکب أبوه و حبس قال له: بخلّک انسلقنا. یعنی أنه کان السبب فی تلک النکبة و حبس عز الدین عبد الحمید بن أبی الحمید لأنه کان مفتونا بترکی اسمه عثمان فبعث إلیه بقصیدة من السجن یقول فیها:
و قد تبت من الغیّ‌و قد أقلع شیطانی
و قد ذکر ابنه فخر الدین أحمد کمال الدین ابن الفوطیّ قال: «فخر الدین أبو الفضل أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الکریم، القمی محتدا، البغدادی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 301
مولدا، نائب الوزارة یعرف بخداوند زاده. ذکره شیخنا جمال الدین أبو الفضل أحمد بن مهنا الحسینی فی کتاب وزراء الزوراء (قال) ظهر من فخر الدین فی وزارة أبیه من القوة و الحرمة و النقمة ما جاوز فیه حد التأدیب، و بلغ منه إلی الفظیع الغریب من قطع الأیدی و صلم الآذان و ازداد منه ذلک حتی ولی الشرطة و حجبة باب النوبی، و کان ذا فطنة و ذکاء و دهاء و ناب عن والده حین تخلف عن الرکوب إلی الترب. و فی سابع شوال سنة تسع و عشرین و ستمائة وکّل به و بأبیه الوزیر و نقلا إلی دار الخلافة و لم نقف لهما علی أمر» .
و ترجم له الصفدی بما یخالف ما نقلنا بعض المخالفة قال: «محمد بن محمد بن عبد الکریم بن برز القمی الوزیر مؤید الدین أبو الحسن القمی البلیغ الکاتب، قال ابن النجار: قدم بغداد صحبة الوزیر ابن القصاب و کان به خصیصا فلما توفی قدم بغداد و قد سبقت له معرفة بالدیوان و رتب ابن مهدی فی الوزارة و نقابة الطالبیین اختص به أیضا و کانا جارین فی قم و لما مات أبو طالب ابن زبادة کاتب الإنشاء رتب القمی مکانه و لم یغیر هیأة القمیص و الشربوش علی قاعدة العجم ثم ناب أبو الولید (محمد) ابن أمسینا فی الوزارة و عزل فی سنة ست و ستمائة فردت النیابة و أمور الدیوان إلی القمی و نقل إلی دار الوزارة و لما ولی الظاهر الخلافة أقرّه علی حاله و کذلک المستنصر قرّبه و رفع قدره و حکّمه فی البلاد و العباد و لم یزل فی سعده إلی أن عزل و سجن هو و ابنه بدار الخلافة فمات الابن أولا و أبوه بعده فی سنة ثلاثین و ستمائة و کان کاتبا بلیغا فاضلا کامل المعرفة بالانشاء یکتب بالعربی و العجمی کیف أراد و یحل المترجم المغلق و کان حسن الأخلاق ملیح الوجه، تخافه الملوک و ترهبه الجبابرة و له ید باسطة فی النحو و اللغة و مشارکة فی العلوم» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 302
و من إنشاء مؤید الدین القمی عهد نقابة الطالبیین الذی کتبه فی تولیة نقابتهم فخر الدین أبا الحسن محمد بن محمد ابن المختار الکوفی فی السابع عشر من شهر ربیع الأول سنة 603 قال ابن الساعی: و هو بخط المکین أبی الحسن محمد بن محمد بن عبد الکریم القمی کاتب دیوان الانشاء المعمور حینئذ و من إنشائه و من خطه نقلت و هذه نسخته:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، هذا ما عهد عبد اللّه و خلیفته الإمام المفترض الطاعة علی سائر الأنام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین إلی محمد بن محمد ابن المختار، حین وجده مرضی الخلائق، سوی الطرائق، محمود السجایا و الشیم، متمسکا من الدیانة بأمتن سبب و أوثق معتصم، سالکا فی الزکانة و الرصانة لا حب جدد، و أقوم لقم، متحلیا من التقی و الورع، بأحسن لباس و أبهی مدّرع، قد فاق بکفایته الأکفاء و برع، و استشرف إلی محامد الخلال، و محاسن الخصال کل مطّلع، فقلّده نقابة العترة الکریمة العلویة، و الأسرة الجلیلة الطالبیة، بمدینة السلام، و سائر بلاد الإسلام، شرقا و غربا، و بعدا و قربا، مقدّرا فیه الاضطلاع بالأعباء، و القیام بحسن الإستخدام و الإستکفاء، و النهوض بتأدیة شکر النعماء، و اللّه تعالی یقرن آراء أمیر المؤمنین بالتأیید و التوفیق فی کل ما ینتحیه للاسلام و المسلمین من المصالح، و یدنی لی فی کل ما یبتغیه من مناظم الدین کل بعید نازح، إنه سمیع مجیب، و ما توفیق أمیر المؤمنین إلا باللّه، علیه توکل و إلیه ینیب، أمره بتقوی اللّه تعالی و استشعاره مراقبته فی سرّه و علانیته، فانهما الفریضة اللازمة، و السنّة القائمة، و اللباس الأحسن الأروع، و الحرز الأحصن الأمنع، و أفضل ما اعتقده المعتقدون، و دعا إلیه الصالحون، و وزن به المرء مراجع لحظه، و مخارج لفظه، و مسارح خواطره، و مطارح نواظره، و أوضح سبل الرشاد، و خیر الزاد لیوم المعاد، قال اللّه تعالی: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوی و قال سبحانه: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فطوبی لمن سمع قوله فاتبعه، و تجلبب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 303
لباس مراقبته وادّرعه، و اقتدی بکتابه، فاستخرج کنوز المراشد من عیابه، و اقتنی ذخائر ثوابه، فتوقی به ألیم عقابه، أولئک الذین أنعم اللّه علیهم بالعقائد الصحائح، و أثقل موازین توفیقهم الرواجح، و هداهم بما کبت فی قلوبهم من الإیمان إلی الجدد اللاحب و المنهج الواضح، فعمل فی دنیاه لأخراه، و قوم بالهدی بالجد فی معاده جدواه، (أُولئِکَ عَلی هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).* و أمره بأن یتأمل أحوال من فوض أمره من أهل بیته إلیه، و عوّل فی زعامته من ذوی الرحمة علیه، و یعتبر طرائقهم و یختبر شیمهم و خلائقهم، و ینزلهم منازلهم التی یستوجبونها بکرم العناصر، و یستحقونها بتباین المساعی و المآثر قال اللّه تعالی: یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فلمن کان منهم رشید المنهج، متنکبا عن الطریق الأعوج، متحلیا من الدین بما یناسب نسبه، و یلائم محتده الکریم و منصبه، یحق له من الإکرام، و خصه من الأنعام، و التودد و الإحترام، بما یرفع منزلته، و یحث علی اکتساب فضیلة من تأخر عن غلوته لیشیع فیهم المناقب و الفضائل، و یسفروا عن المناظر المهیبة فی النوادی و المحافل و یستضیفوا إلی شرف الأبوة فضل النبوة، و یتقیلوا آثار من قال اللّه فیهم:
أولئک الذین آتیناهم الکتاب و الحکم و النبوة، فإنهم أغصان تلک الدوحة الشریفة، و الشجرة المبارکة المنیفة، و أمره بأن یعاملهم برفق لا یشینه ضعف، و تهذیب لا یهجنه عنف، فمن بدت منه بادرة، أو عثرة نادرة أقالها، و ألحق جناح المیاسرة أذیالها، و اتخذ له من التأنیب بما یجنبه أمثالها، قال اللّه و لیعفوا و لیصفحوا ألا تحبون أن یغفر اللّه لکم. و قال رسول اللّه- صلی اللّه علیهم و سلم-: أقیلوا ذوی الهیئات عثراتهم، فلیس من کانت زلته بادرة، و خطیئته مبتکرة کمن کان فی الغی متهوّکا، و بعرا الاصرار علیه متمسکا، و من صادفه جاهلا بقدره، و نابذا مصلحته وراء ظهره و عرف خلوص دخلته و سلامة صدره، إلّا أنه عن مصلحة شأنه غافل، و عن حلی العلم الذی هو قیمة المرء عار عاطل، أیقظه من هجوع الاعترار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 304
بالأمل، و نبّهه علی أن النسب لا یغنی بغیر عمل، و النبی- صلی اللّه علیه و سلم- أوحی إلیه: و أنذر عشیرتک الأقربین. و قال: یا بنی هاشم، یا بنی عبد المطلب إننی لا أغنی عنکم من اللّه شیئا، إئتونی بأعمالکم و لا تأتونی بأنسابکم، إن أکرمکم عند اللّه أتقاکم. و من ألفاه منهم ذاهبا فی مجاهل الجهّال، و سادرا فی مهاوی الضلال، و مشایعا فی احتقاب الأوزار، و هاتکا لأستار التصون و الاستتار، واجهه خالیا بالتقریع و التقیید، و زجره بالاخافة و الوعید، فإن أنجع ذلک و أفاد، و رجع عن جهالته و عاد، و إلّا قوّم من میده و اعوجاجه، و وقف به علی سبیل الحق و منهاجه، و إن قرف أحدهم بجریمة أو رمی بجریرة فلا یعجل علیه بالمؤاخذة أو لا یسرع إلیه بإجراء المقابلة، بل یتثبت إلی أن یقف بالبحث و الایضاح، علی الحق المحض الصّراح، قال اللّه تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ فان اتضح ما قرف به وزنّ بسببه، نظر فإن کان مما أوجب اللّه فیه حدا من الحدود أقامه، من غیر تعدّ علی سلکه المحدود فیه و نظامه، قال اللّه سبحانه و تعالی: تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها. و قال تعالی: وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ و قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ
و لا یجرمنّه احتقابه الجرائم من نظر اعتنائه، و لا إقامة حد اللّه فیه من ملاحظته و إرعائه، (فأهل) هذا النسب و إن تفاوتت أحوالهم، و تباینت أعمالهم، خصّوا بالاصطفاء، و وسموا بالاجتباء، قال اللّه تعالی: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ. و أمره بصرف همته إلی مصالح الیتامی و تخصیصهم من الإعناء، و تخویلهم من الارعاء بما ینسیهم ذلة الیتم و فقد الآباء، فمن کان منهم غنیا فیثمر ماله، و یهذب خلاله، و ینفق علیه بالمعروف، لا شطط و لا تبذیر، و لا تضییق و لا تقتیر، فاذا بلغ الأشدّ و أنس منه الرشد، سلم ماله موفورا إلیه، و أشهد بقبضه علیه، قال اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 305
تعالی: وَ ابْتَلُوا الْیَتامی حَتَّی إِذا بَلَغُوا النِّکاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوالَهُمْ إلی قوله: فَأَشْهِدُوا عَلَیْهِمْ و من کان فقیرا فلیثن عنان العنایة إلی ما یعود بإصلاح أمره، و لیصرف همه إلی جبر کسره، إلی حین استوائه، و تهذب أنحائه، و لیدر علیه من الوقوف بالمعروف و لیکن به عطوفا، و له أبا رؤوفا، و أمره بالنظر فی أمر الأیامی بعین الإعتناء، و تزویجهن من الأضراب و الأکفاء، و تحصینهن بالاحصان لا بالمنع و النسیان فإن التناکح مدد الوجود و قوامه، و به یستتب أمره و یتسق نظامه، قال اللّه تعالی:
وَ أَنْکِحُوا الْأَیامی مِنْکُمْ. و قال رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم-:
تناکحوا تناسلوا أباه بکم الأمم یوم القیامة. و لیتوخ تطهیر عقود نکاحهنّ من أدناس الالتباس، و ینزهها من أدران الأنجاس، قال اللّه تعالی: إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً. و أمره بصونه هذا النسب الکریم، و البیت الماجد العظیم، من تنحل الأدعیاء، و انتماء الزنماء، فإن صادف من یدعی من ذلک ما لا یقوم البرهان علی صحته، و لا تشهد الاستفاضة و الشیوع بدحض حجته، صب علیه سوط التأدیب، وردعه بزواجر التهذیب، فان کفه الرّدع، و زجره المنع، و إلّا وسمه بمیسم یعرف به تنحله، و یشیع به کذبه و تقوله، قال رسول اللّه- صلی اللّه علیه و سلم-: ملعون ملعون من انتسب إلی غیر أبیه و ادّعی إلی غیر موالیه. هذا عهد أمیر المؤمنین إلیک، و حجته علیک، هداک به إلی طریق الرشاد، و حداک فی سبیل السداد، فاهتد بأنواره، و اتبع لرشید آثاره، تظفر بمغانم الرشاد، و تفز فی المبدأ و المعاد، و اللّه ولی التوفیق، لأرشد جده و أقوم طریق، و کتب فی سادس عشر شهر ربیع الأول من سنة ثلاث و ستمائة و الحمد للّه وحده و صلواته علی سیدنا محمد النبی المصطفی و آله و سلامه، رب اختم بخیر. صورة العلامة الشریفة تحت البسملة (الناصر لدین اللّه).
صورة خط الوزیر نصیر الدین أبی الحسن ناصر بن مهدی العلوی بین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 306
سطوره ...». و لمکین الدین القمی أی مؤید الدین فی آخر عمره منشور کتبه بأمر الخلیفة الناصر فیه تجدید الفتوّة، قال ابن الساعی: «قرأ المنشور علیهم (علی رؤساء الفتیان) المکین أبو الحسن محمد بن محمد القمی کاتب دیوان الانشاء المعمور و هو من إنشائه و هذه نسخته:
بسم اللّه الرحمن الرحیم، من المعلوم الذی لا یتماری فی صحته، و لا یرتاب فی براهینه و أدلته، أن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب- کرم اللّه وجهه- هو أصل الفتوة و منبعها، و منجم أوصافها الشریفة و مطلعها، و عنه تروی محاسنها و آدابها، و منه تشعّبت قبائلها و أحزابها، و إلیه دون غیره تنتسب الفتیان، و علی منوال مؤاخاته النبویة الشریفة نسج الرفقاء و الاخوان، و أنه کان- علیه السلام- مع کمال فتوته، و وفور رجاحته یقیم حدود الشرع علی اختلاف مراتبها، و یستوفیها من أصناف الجناة علی تباین جنایاتها أو مللها و نحلها و مذاهبها، غیر مقصّر عما أمر به الشرع المطهّر و حرّره، و لا مراقب فیما رتبه من الحدود و قرّره، امتثالا لأمر اللّه تعالی فی إقامة حدوده، و حفظا لمناظمة الشرع و تقویم عموده، فانه علیه السلام فعل ذلک بمرأی من السلف الصالح و مسمع، و مشهد من خیار الصحابة و مجمع، فلم یسمع أن أحدا من الأمة لامه، و لا طعن علیه طاعن فی حد أقامه، و حقیق بمن أورثه اللّه مقامه، و ناط به شرائع الإسلام و أحکامه، و انتمی إلیه علیه السلام فی فتوته، و اقتفی شریف شیمه و کریم سجیته، أن یقتدی به علیه السلام فی أفعاله، و یحتذی فیما استرعاه اللّه تعالی واضح مثاله، غیر ملوم فیما یأتیه من ذلک و لا معارض فتوة و لا شرعا فیما یورده و یصدره، و قد رسم- أعلی اللّه المراسم العلیة، المقدسة النبویة الإمامیة و زادها نفاذا معضودا بالصواب، و تأییدا ممتد الأطناب محکم الأسباب- علی کل من تشرف بالفتوة برفاقة الخدمة الشریفة المقدسة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 307
المعظمة الممجدة المکرمة الطاهرة الزکیة النبویة الإمامیة، الناصرة لدین اللّه تعالی- شرّف اللّه مقامها و أخلد أیامها، و أعلی کلمتها و نصر رایتها- أنه من قتل رفیق له نفسا نهی اللّه تعالی عن قتلها و حرّمه، و سفک دما حقنه الشرع المطهر و عصمه، و صار بذلک ممن قال اللّه تعالی فی حقه، حیث ارتکب هذا المحرم، و احتقب عظیم هذا المأثم: و من یقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فیها (الآیة) أن ینزل عنه فی الحال فی جمع الفتیان عند تحققه لذلک و معرفته و یبادر إلی تغییر رفقته، مخرجا له بذلک عن دائرة الفتوة، التی کان متسما بها، مسقطا له من عداد الرفاقة التی لم یقم بواجبها :
ذلک لهم خزی فی الدنیا و لهم فی الآخرة عذاب عظیم. و أن کل فتی یحوی قاتلا و یخفیه، و یساعده علی أمره و یؤویه، ینزل کبیره عنه و یغیّر رفاقته، و یتبرأ منه و أن من حوی ذا عیب فقد عاب و غوی و من آوی طرید الشرع فقد ضل و هوی، و النبی علیه السلام یقول: من آوی محدثا فعلیه لعنة اللّه و الملائکة و الناس أجمعین، لا یقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا. و لا حدث أکبر من قتل النفس عدوانا و ظلما، و لا ذنب أعظم منه وزرا و إثما، و أن الفتی متی قتل فتی من حزبه سقطت فتوته و وجب أن یؤخذ منه القصاص عملا بقوله: و کتبنا علیهم فیها أن النفس بالنفس و العین بالعین و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسنّ و الجروح قصاص. و أن (من) قتل غیر فتی عونا من الأعوان أو متعلقا بدیوان فی بلد سیدنا و مولانا الإمام المفترض الطاعة علی کافة الأنام الناصر لدین اللّه أمیر المؤمنین و خلیفة رب العالمین فقد عیب هذا القاتل فی حرم صاحب الحزب بالقتل، فکأنما عیب علی کبیره فسقطت فتوته بهذا السبب الواضح، و وجب أخذ القصاص منه عند کل فتی راجح، و لیعلم الرفقة المیمونة ذلک و لیعملوا بموجبه و لیجروا الأمر فی أمثال ذلک علی مقتضی المأموریة، و لیقفوا عند المحدود فی هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 308
المرسوم المطاع، و یقابلوه بالانقیاد و الاتباع- إن شاء اللّه تعالی- و کتب فی تاسع صفر سنة أربع و ستمائة» .
و قال ابن الساعی: «و سلم إلی کل واحد من رؤساء الأحزاب منشور بهذا المثال فیه شهادة ثلاثین من العدول ثم کتب تحت کل مرسوم و منشور ما هذه صورته». و الظاهر أنه من إنشاء مؤید الدین القمی:
«قابل العبد ما تضمنه هذا المرسوم المطاع، و قابله بما یجب علیه من الانقیاد و الإتباع و الامثال و هو الذی یجب العمل به فتوة و شرعا، و هذا المعروف من سیرة الفتیان المحققین نقلا و قد ألزمت نفسی إجراء الأمر علی ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف فمتی جری ما ینافی المأموریة، المحدود فیه کان الدرک لازما لی، و المؤاخذة مستحقة علی ما یراه صاحب الحزب، ثبّت اللّه دولته، و أعلی کلمته و کتب فلان بن فلان فی تاریخه» .

سنة 647 ه

126- و فخر الدولة أبو المظفر الحسن بن هبة اللّه ابن المطلب الکرمانی ثم البغدادی الصوفی قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 647: «و فیها نقل فخر الدولة الحسن بن المطلب من مدفنه بالایوان الذی فی جامعه علی شاطی‌ء دجلة، حیث وقع حائطه إلی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- تولی نقله النواب الذین ینظرون فی وقوفه و أرادو نقله إلی موضع فی الجامع فلم یجوّز الفقهاء ذلک و ذلک بعد نیف و ستین سنة من موته» و کان المؤرخ قد ذکر أن سبب سقوط الحائط هو الغرق الذی حدث سنة 646 فأصاب بغداد بما أصابها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 309
و قد ترجم له ابن الدبیثی فی تاریخه قال: «الحسن بن هبة اللّه بن محمد ابن علی بن المطلب أبو المظفر الملقب فخر الدولة ابن الوزیر أبی المعالی ابن أبی سعد. زاهد تارک للدخول فی أمور الدنیا و تولی الولایات، مشهور بالتقدم و الرئاسة، أحب طریقة الصوفیة و التشبه بهم، فی ملبسه و أخلاقه، کثیر الحج و المجاورة بمکة- شرفها اللّه تعالی- له آثار حسنة منها مدرسة للفقهاء الشافعیة شرقی بغداد، مجاورة لعقد المصطنع و رباط للصوفیة، مصافها، و مسجد متصل بذلک و جامع تصلی فیه الجمعة علی دجلة بالجانب الغربی و رباط للنساء بقراح ابن رزین و غیر ذلک من مواضع الخیر، و وقف علی ذلک من أملاکه ما یصرف فی عمارته، و مؤونة ما یکون فیه. سمع الحدیث فی صباه من أبی الحسن علی بن محمد بن العلاف و قرأ الأدب علی أبی بکر ابن جوامرد القطان و امتنع فی کبره من الروایة فلم یسمع أحد منه إلا بجهد، و ذکرناه لأن وفاته تأخرت عن وفاته- یعنی وفاة أبی سعد السمعانی- و سمع منه بعده أبو الفضل بن صالح بن شافع و القاضی عمر بن علی القرشی، و رأیته و لم أقصد السماع منه. توفی فی لیلة الأربعاء العشرین من شوال سنة ثمان و سبعین و خمسمائة، و صلی علیه الخلق الکثیر بجامع القصر و تقدم فی الصلاة علیه الخطیب أبو جعفر بن المهتدی و دفن بالجانب الغربی بالجامع الذی بناه علی دجلة» .
و یحق لنا أن نسأل فنقول: إن کان أبو المظفر بن المطلب تارکا للدخول فی أمور الدنیا فکیف نال لقب «فخر الدولة» و هو من ألقاب الدنیا و أمورها الصمیم؟ الظاهر أنه کان لقب تشریف من الدولة العباسیة لأنه کان مستشارها، و أنه سعی فی خدمتها تطوعا و طلبا للأجر باعتبار أن خدمتها النزیهة خدمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 310
للاسلام، و إضافة اللقب إلی «الدولة» ظهر أول مرّة فی عصر بنی بویه الأول أعنی أواسط القرن الرابع للهجرة، و کان خاصا بأمرائها و استمر إلی أیام السلجوقیین فاستعمله سلاطینهم و من وازاهم من الأمراء، و لکن ظهر معه لأرباب الدولة لقب مضاف إلی الملک مثل «نظام الملک، و تاج الملک و بهاء الملک، و جمال الملک» و لما انتعشت الدولة العباسیة علی العهد الأخیر أضیف لقب الدولة إلی رجالها و من تشرفوا بخدمتها من أمراء و کبراء کثقة الدولة علی بن محمد الدرینی و فخر الدولة الحسن بن المطلب، و عز الدولة أبی المکارم جعفر بن المطلب أستاذ دار الخلافة فی أیام المسترشد باللّه و عز الدولة أبی جعفر الحسن بن عبد اللّه بن محمد ابن الکرخی الحاجب و کان خصیصا بخدمة الوزیر أبی الفرج عضد الدین محمد بن عبد اللّه ابن رئیس الرؤساء و عز الدولة أبی الحسن علی بن هبة اللّه بن محمد بن المطلب أستاذ الدار علی عهد المسترشد أیضا و قد توفی سنة 523 و عز الدولة أبی الثناء علی بن یلدرک ابن أرسلان البغدادی الکاتب الترکی الأصل المتوفی سنة 515 ه و الأمیر عز الدولة أبی المکارم محمد بن صدقة بن منصور الأسدی و عز الدولة أبی الخیر مختار بن عبد اللّه المسترشدی من أکابر رجال الدولة العباسیة علی عهد المسترشد باللّه و کان فی سنة «540» من عهد المقتفی لأمر اللّه حیا و حائزا للقب .
و ممن ترجم لفخر الدولة ابن المطلب عز الدین ابن الأثیر فی تاریخه قال فی حوادث سنة 578: «و فیها مات فخر الدولة أبو المظفر بن هبة اللّه ابن المطلب، کان أبوه وزیر الخلیفة و أخوه أستاذ الدار، فتصوف هو من زمن الصبا و بنی مدرسة و رباطا ببغداد عند عقد المصطنع و بنی جامعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 311
بالجانب الغربی منها» و قد کان قال فی حوادث سنة 572: «فی هذه السنة فی جمادی الأولی أقیمت الصلاة فی الجامع الذی بناه فخر الدولة ابن المطلب بقصر (بنی) المأمون بغربی بغداد». و جاء فی مرجع آخر فی ذکر المساجد الجامعة ببغداد «ثم مسجد بقصر عیسی عمره أبو المظفر الحسن بن هبة اللّه ابن المطلب و استأذن المضی‌ء بأمر اللّه فی عقد الجمعة فیه فأذن فی ذلک بشرط فتوی الفقهاء بجواز ذلک فأجاز بعض الفقهاء فعقدت الجمعة فیه فی أواخر سنة اثنتین و سبعین و خمسمائة ثم منع المستضی‌ء من الصلاة فیه فلما ولی الناصر لدین اللّه سئل ذلک فأجاب فصلی فیه فی أواخر ذی الحجة سنة خمس و سبعین و خمسمائة» .
و ذکر هذا الجامع سبط ابن الجوزی فی ترجمة فخر الدولة قال فی حوادث سنة 578: «و فیها توفی الحسن بن هبة اللّه بن علی أستاذ فخر الدولة و کان فاضلا سدید الرأی، یستشار فی الأمور الجسمیة، و کان کثیر الصدقات، دائم المعروف، مفیدا لأرباب البیوت، سخیا ذا مروءة ظاهرة، و له ببغداد آثار جمیلة منها خانقاه المعروف بفخر الدولة غربی بغداد، غرم علیه أموالا کثیرة، و منها رباطه شرقی بغداد عند عقد المصطنع عند دار الذهب وقف علیه أوقافا کثیرة و کانت وفاته فی شوال و دفن فی خانقاهه غربی بغداد و له شباک یشرف علی دجلة. قلت: و قد رأیت هذا الجامع فی سنة 645 و قد استولت دجلة علیه فأخربت الظاهر، و الظاهر أنها تخرب الباقی» .
و ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بفخر الدولة قال: «فخر الدولة أبو المظفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 312
الحسن بن هبة اللّه ابن المطلب الکرمانی ثم البغدادی الوزیر الصوفی، ذکره تاج الاسلام أبو سعد السمعانی و قال: کان من بیت الوزارة فأعرض عنها و جعل داره رباطا للصوفیة و (مال) إلی التصوف و کان حسن السیرة، کثیر الخیر، سمع أبا الحسن علی بن محمد ابن العلاف و عمر المدرسة الفخریة بعقد المصطنع فی المأمونیة و جعل بها خزانة کتب جامعة لأنواع العلوم، و عمر داره رباطا و أوقف علیها الوقوف الجلیلة و جاور، و إلیه ینسب الجامع بقصر ابن المأمون بالجانب الغربی الذی جدّده الوزیر سعد الدین محمد بن علی الساوی . و توفی فی شوال سنة ثمان و سبعین و خمسمائة و دفن إلی جانب الجامع و مولده سنة إحدی و تسعین و أربعمائة» .
و قال شهاب الدین إبراهیم بن أبی الدم الحموی القاضی المؤرخ فی حوادث سنة 575: «و فیها استدعی الإمام الناصر لدین اللّه فخر الدولة ابن المطلب و طلب منه أن یستوزره لعلمه و ورعه و کان المستنجد و المستضی‌ء طلباه للوزارة فامتنع فلما حضر بین یدی السّدة الشریفة قبّل الأرض و قال:
یا أمیر المؤمنین، المملوک رجل شیخ ما یجوز له أن یفتح دکانا بعد العصر:
فقال له بهاء الدین صندل: أجب أمیر المؤمنین. فقال له فخر الدولة:
لیس لک فی إجابتی مصلحة لأننی قبلت بهذه الولایة ما کنت أترکک علی ما بیدک من الاقطاع و الولایات بل کنت أجریک علی قاعدة بلال الحبشی و أزیل عنک هذه الثیاب و أمنعک من الرکوب و بین یدیک سیوف مشهورة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 313
احدی زوایا صحن الامامین و تتجلی فیها روعة الفن الکاشانی و ما بلغته هذه الصناعة من السمو و فیها مدافن عدد کبیر من المشاهیر الذین اختصت بهم بعض الغرف منها.
فضحک الامام الناصر و أعفاه و قال له: تشیر علینا بمن یصلح. فقال:
هذا یصلح- و أشار إلی مجد الدین (هبة اللّه) ابن الصاحب - فضاق صدر مجد الدین و تألم. فقال الامام الناصر: ألا یرضیک قوله و الوزارة أرفع درجات أرباب الدول؟ فقال له: یا مولانا لا أبیع حضوری فی هذه الخدمة بالدنیا و ما فیها. و سأل أن یقرّ علی خدمته. فأقره علیها. و قال لفخر الدولة:
تشیر علینا بمن نولیه. فقال: إن رأی مولانا أن یولی سلیمان بن جاورس نائب وزارة فرأیه أسمی و أعلی. فأمر الإمام الناصر بإحضار سلیمان بن جاورس و یلقب بحسام الدین، فأحضر و خلع علیه و رتب نائب الوزارة فأقام کذلک شهرا» .
و ذکره ابن جماعة الکنانی قال: «هو أبو المظفر ابن الوزیر المستظهر باللّه کان حسن السیرة، کثیر الخیر، و عرضت علیه الوزارة فلم یردها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 314
و زهد فی الدنیا و أحب طریقة التصوف و سلوک طریقهم فی ملبسه و أحواله، و أکثر الحج، و المجاورة بمکة، و أنفق أموالا فی وجوه البرّ و القربات، فعمل مدرسة لأصحاب الشافعی و رباطا للصوفیة إلی جانبها، و مسجدا کبیرا متصلا بها، و جامعا کبیرا لصلاة الجمعة و غیرها بالجانب الغربی، و بنی فیه بیوتا للمجاورین من الفقراء و أجری لهم الجرایات، و رباطا للنساء و وقف أکثر أملاکه و ضیاعه علی ذلک. و کان محترما معظما یقصده الناس فی منزله و لا یمضی هو إلی أحد. سمع الحدیث فی صغره من أبی الحسن ابن العلا و أبی علی بن نبهان و غیرهما و حدث بالیسیر، بعد جهد و کان عسرا فی الروایة، و ممن روی عنه أبو سعد ابن السمعانی. مولده بعد التسعین و أربعمائة، و توفی فی الحادی و العشرین من شوال سنة ثمان و سبعین و خمسمائة و دفن فی الجامع الذی بناه بقصر عیسی- رح- و قال الکنانی قبل ذلک:
«أنبأنی عبد الرحمن بن أبی الفرج البغدادی عن أبی أحمد عبد الوهاب بن علی الأمین قال أنشدنی فخر الدولة الحسن بن أبی المعالی هبة اللّه بن محمد بن علی ابن المطلب.
قال العذول و قد رأی من مقلتی‌دمعا جری یحکی الفرات و مده
ماذا البکاء و قد أباحک وصله‌إرفق بدمعک لست تأمن صده»
و ذکره الخزرجی فی العسجد المسبوک .

سنة 648 ه

127- و فیها توفی عبد الغنی بن فاخر مهتر الفراشین بدار الخلیفة، عبد الغنی بن فاخر مهتر الفراشین بدار الخلیفة، ذکره مؤلف الحوادث
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 315
فی وفیات سنة «648» قال: «کان شیخا ظریفا لطیفا، خالیا من العلم، حسن الزی، ملیح الملبوس، کثیر التنعم، متشبّها بالملوک فی ترتیب داره، و کانت داره تشتمل علی عدّة حجر، فی کل حجرة جاریة و خادم ، تسمی تلک الحجرة باسم ذلک الخادم، و کانت نفقته فی الشهر زیادة عن مائة و خمسین دینارا، عدا ما یحتاج إلیه سطح الطیور و هو نحو عشرین دینارا، و کان متهوسا بحدیث الجن، یزعم أنه یستحضرهم، و ینفذ فیهم أمره، قال الشیخ تاج الدین علی بن أنجب المعروف بابن الساعی- رحمه اللّه-:
قال لی مرة إن جنا إسمه شمردل تمرّد علیّ و خالف أمری و إنی تألمت منه إلی ملک الجن فأمر بحبسه. فقلت: و أین ذلک الحبس؟ فقال: فی النجف.
فکنت أسأله دائما عنه فیقول: هو علی حاله فی الحبس» قال: و شفعت فیه مرة لیطلقه فقال لی: أی شی‌ء یعجبک منه حتی تشفع فی إطلاقه فإنه وحش الصورة قذر أحمق مؤذ؟ قلت: فیستتاب. قال: لا و اللّه. و کنت أعجب منه کیف کان یقول ذلک بکلیة مع دهاء کان عنده و مکر و عدم غفلة. و رأیت فی حمام داره مخاد جلود کبارا و صغارا، فسألته عن ذلک.
فقال: هذه أجعلها تحت کعبی و رکبتی و رأسی إذا نمت لأجل تدلیک جسمی.
و وقف داره علی المارستان العضدی و بنی تربة فی المشهد الکاظمی- علی ساکنه السلام- و عمل ضریحا و صندوقا، و جعل فی التربة فرشا و ربعا و قنادیل و خادما، و وقف أملاکه علی التربة و الخادم و من یختار القعود هناک من مقتفیه و مقری‌ء و فراش، و کان عمره نیفا و سبعین سنة» .
و ذکره الخزرجی فی وفیات تلک السنة قال: «و مات الصلاح عبد الغنی ابن فاخر شیخ الفراشین بدار الخلافة، و کان شیخا ظریفا لطیفا مع خلوه من العلم، حسن الملبوس، ثاقب الرأی، کثیر التنعم، یتشبه بالملوک فی ترتیب داره، و کانت داره تشتمل علی عدة حجر فی کل حجرة جاریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 316
و خادمة ثم رتب لکل جاریة شغلا فواحدة طعامیة و شرابیة و أخری فراشیة و أخری غسّالة و أخری طباخة إلی غیر ذلک و کان مهوّسا بحدیث الجن یزعم أنه یستحضرهم و یستخدمهم و ینفذ فیهم أمره، یقول ذلک بکله مع ذکاء و عدم غفلة، و کان علی خاطره أشعار کثیرة و توفی سادس المحرم من السنة المذکورة و عمره نحو ثمانین سنة و اللّه أعلم» .

سنة 650 ه

128- و علاء الدین أبو شجاع الطبرس بن عبد اللّه الترکی الظاهری الدواتی الأمیر، ذکره ابن الفوطیّ فی معجمه لذوی الألقاب قال: «ذکره شیخنا تاج الدین (ابن الساعی) فی تاریخه و قال: اشتراه الإمام الظاهر بأمر اللّه و حصل له القرب و الاختصاص و لما بویع المستنصر باللّه قرّبه و اجتباه و جعله برسم حمل الدواة و أقره فی المحرم سنة خمس و عشرین و ستمائة، و رغب فیه بدر الدین لؤلؤ أن یکون صهره، فأذن له فی ذلک، و کان الصداق عشرین ألف دینار، و أقطع قوسان و تأثلت حاله، و کثر ماله، و کان حسن السیرة مع أصحابه و ممالیکه، و کان حاصله فی کل سنة ثلاثمائة ألف دینار، یخرج فی الهبات و الصلاة و کانت وفاته فی لیلة الجمعة سادس عشر شوال سنة خمسین و ستمائة و دفن فی إیوان الحضرة بمشهد الامام موسی ابن جعفر و الجواد- علیهم السلام- إلی جانب زوجته بنت بدر الدین لؤلؤ ورثاه شیخنا عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید بأبیات أولها:
لا تأمن الدنیا و قدغدر الزمان بالطبرس» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 317
و قال مؤلف الحوادث فی حوادث سنة 650: «و فی شوال توفی علاء الدین الطبرس الظاهری المعروف بالدویدار الکبیر . کان دویدار الخلیفة الظاهر، و کان حظیا عنده، ابتاعه من أیاز مملوک الشروانی و زوجه إبنة قراطاش و خوّله فلما استخلف المستنصر قدّمه و قرّبه و زوّجه إبنة بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل و أعطاه لیلة دخوله (مائة ألف دینار) و أقطعه قوسان، و کان یحصل له منها من أملاک استجدها حدود ثلاثمائة ألف دینار، و کان یحب العمارات و المتنزهات فممّا بناه داره التی بشرقی بغداد علی شاطی‌ء دجلة تجاه الرباط المعروف بدار الفلک و لم یکن ببغداد مثلها و عمل بها بستانا غرس فیه النخل و الشجر و النارنج و عمل له دولابا فاستحسنها الخلیفة المستعصم فطلبها منه، فلم یسمح له بها، فلما توفی أخذها.
و کان علاء الدین جوادا کریما حسن السیرة، مواصلا لأرباب البیوت، و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فی الإیوان المقابل لباب الدخول عند زوجته إبنة بدر الدین صاحب الموصل، ورثاه الشعراء فمما قاله عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید من أبیات:
بأبی الذی فقد الحیاة و عوده‌لدن و غصن شبابه فینان
تبکیک دار الشط فهی کئیبةو الجسر و الشرقیّ و المیدان
أبکیک للأنس القدیم و صحبةکانت و قد تتفرق الاخوان
من زعزع الطود الأشم فدکت الأبراج منه و هدّت الأرکان
فعلیک من رضوان ربک رحمةیغدوک منه الروح و الریحان
و مما قاله:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 318 لا تأمن الدنیا و قدغدر الزمان بالطبرس
و رماه من بعد المیامن و السعود بیوم نحس
و کساه ثوبا من تراب بعد أثواب الدمقس
فاحبس عنان النفس فهی مقیمة فی شر حبس
و اقنع من الدنیا بثوب لا یساوی نصف فلس
و تقدم بتأمیر ولده شرف الدین (إسحاق) و ولد مجاهد الدین أبیک الدویدار الصغیر (کشلوخان) و خلع علیهما» .
و ترجم له ابن تغری بردی فی تاریخه للتراجم قال: «الطبرس بن عبد اللّه الظاهر، الأمیر الکبیر، علاء الدین، مولی الخلیفة الظاهر ابن الخلیفة الناصر البغدادی العباسی، ترقی حتی صار من أکابر الأمراء، و کان خصیصا عند المستنصر و زوّجه بابنة بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل و وهبه لیلة عرسه مائة ألف دینار، و قیل إنه کان یدخل له من إقطاعه کل سنة ثلاثمائة ألف دینار إلی أن توفی سنة خمسین و ستمائة و دفن بمشهد الکاظم ورثاه الشعراء و کان أمیرا جلیلا شجاعا مقداما کریما جوادا حسن السیرة فی الرعیة- رحمه اللّه-» .
و نسی ابن تغری بردی هذه الترجمة فکرّر ترجمته فی باب الطاء أو عدّه رجلا آخر قال: «طیبرس بن عبد اللّه الأمیر الکبیر، علاء الدین الظاهری البغدادی الترکی، اشتراه الخلیفة الظاهر بأمر اللّه فحظی عنده و جعله داواداره، و لما آلت الخلافة للمستنصر قدمه أیضا و أدناه، و رفع قدره، فشاع ذکره، قال الخزرجی فی تاریخه المسمی بالعسجد المسبوک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 319
فی تاریخ دولة الإسلام و طبقات الخلفاء و الملوک : و زوجه لؤلؤ صاحب الموصل ابنته ...» .
قال مصطفی جواد: الذی فی العسجد المسبوک هو فی حوادث سنة (650) قال: «و فیها مات الأمیر علاء الدین الطیبرس» لا طیبرس، و قال بعد ذلک: «و کان جمیل الصورة، کامل المحاسن، اشتراه الظاهر بأمر اللّه فحظی عنده و جعله دویداره، و لما أفضت الخلافة إلی المستنصر باللّه قرّبه و أدناه و قدّمه علی من سواه، فارتفع قدره، و شاع ذکره» فکل ما قال ابن تغری بردی هو من تاریخ الخزرجی، و قال بعد ذلک: و زوّجه بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل ابنته، و کان العقد فی دار الوزیر بحضور قاضی القضاة علی صداق مبلغه عشرون ألف دینار، و وهب له المستنصر باللّه لیلة زفافه مائة ألف دینار ثم ألحقه بأکابر الزعماء و أرباب العمائم، و المشاد، و أقطعه قوسان، و کانت تعمل له فی کل سنة مائتی ألف دینار، و کان کریما جوادا، خلع علی ممالیکه و خدمه فی عید رمضان من سنة ست و عشرین (و ستمائة) ألفا و سبعمائة خلعة، و کان وهابا للخیل. قال ابن الخازن حدثنی ابن الأشقر کاتب دیوانه- و کان ثقة- أنه جمع عدة ما وهبه من الخیل منذ أنعم علیه بالأمارة و ذلک فی سنة خمس و عشرین (و ستمائة) إلی سنة وفاته فبلغ تسعة آلاف و خمسمائة و نیفا و سبعین فرسا . و توفی عن مرض متطاول یوم السادس عشر من شوال من السنة المذکورة، و صلی علیه فی الجامع خلق کثیر من الخاص و العام، و اشتد الزحام عند خروجهم فمات من الناس جماعة و دفن فی إیوان الصحن من مشهد موسی بن جعفر ورثاه جماعة من الشعراء منهم عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید، و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 320
وکیله و صرفه قبل موته، فلما هلک رثاه بقصیدة یقول فی أثنائها:
بأبی علاء الدین فاضت نفسه‌لم تغنه الأنصار و الأعوان
متخشع للموت قد غدرت به‌أیامه و زمانه الخوّان
ذهبت طلاوة وجهه فکأنه‌ترب و کان کأنه عقیان
بأبی الذی فقد الحیاة و عوده‌لدن و غصن شبابه فینان
من زعزع الطود الأشمّ فدکت‌الأبراج منه و هدّت الأرکان؟
أبکیک للأنس القدیم و صحبةطالت و قد تتفرق الجیران
و وراء ذلک منک إحسان مضی‌یذکی فلیس وراءه إحسان
و لئن هجرت قبیل موتک ناسیاعهدی فما من شأنی النسیان
ما کان ذلک منک بل من معشرخانوک أو کذبوا علیّ و مانوا
طلبوا القطیعة بیننا و وددت لوتبقی و یبقی بیننا الهجران
فعلیک من رضوان ربک رحمةیغدوک منها الروح و الریحان» .

سنة 651 ه

129- و الربیب عبد الوهاب بن نصر اللّه ابن الخیاط بدار التشریفات و بالمخزن فی دار الخلافة، ذکره الخزرجی فی وفیات سنة 651 قال: «و مات الرّبیب عبد الوهاب بن نصر اللّه الخیاط ، و کان عزبا لم یتزوج و لا تسرّی مع حسن طریقة، و کان له دور فسیحة ینتابها الأضیاف، و یصنع لهم الأطعمة و له طبق مبذول، و کانت حاله جمیلة، و طریقته محمودة، و نفسه وسیعة، یفضل علی قاصدیه، و یحب سائلیه. توفی فی شهر رمضان عن نیف و خمسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 321
سنة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر و شیعه خلق کثیر و کان موصوفا بالمروءة، قیل إن إنسانا شکا إلیه فقرا فأعطاه مائة دینار، و ان رجلا کان له دین علی علویّ مبلغه خمسون دینارا فألح علیه فی الطلب و اراد أن یحبسه، فأدّی عنه المبلغ و قبض کتاب (الدین) و خرّقه و لم یشعر العلوی، و لما اشتدّ به المرض و أحسّ بالموت أقرّ فی ذمته لیتیمة علویة بألف دینار، و ظهر له بعد موته أموال عظیمة عینا و ثیابا نفیسة و زرکشا ما یزید علی عشرین ألف دینار» .

سنة 654 ه

130- و مجد الدین أبو الفتح صدقة بن عبد اللّه ابن الناقد البغدادی الحاجب، ذکره ابن الفوطی فی معجمه للالقاب قال: «مجد الدین أبو الفتح صدقة بن عبد اللّه ابن الناقد البغدادی الحاجب، ذکره شیخنا تاج الدین علی بن أنجب (ابن الساعی) فی تاریخه و قال: و فی رجب سنة أربع و عشرین و ستمائة رتب مجد الدین حاجبا بالمخزن ثم ناب فی الوکالة فی وزارة عمه (نصیر الدین ابن الناقد)، و فی سنة اثنتین و أربعین (و ستمائة) رتب وکیلا فی وقوف أم الناصر (زمرد خاتون) و حجّ متولیا فی السبیل المختص بها، و رتب وکیلا لباب عنبر ابنة الإمام المستنصر باللّه، و لم یزل علی ذلک و أضیف إلیه وکالة باب الحجرة إلی أن توفی یوم الجمعة الخامس و العشرین من ذی القعدة سنة أربع و خمسین و ستمائة و دفن فی تربة لهم بالمشهد (الکاظمی)» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 322

سنة 656 ه

اشارة

131- و مؤید الدین أبو طالب محمد بن أحمد بن محمد ابن علی ابن العلقمیّ الأسدی الوزیر، ذکره مؤلف الحوادث فی وفیات هذه السنة أعنی سنة 656 قال: «ذکر من توفی الوزیر مؤید الدین محمد بن العلقمی فی جمادی الآخرة ببغداد و عمره ثلاث و ستون سنة، کان عالما فاضلا أدیبا یحب العلماء و یسدی إلیهم المعروف» و قال قبل ذلک: «فتوفی الوزیر مؤید الدین محمد ابن العلقمیّ فی مستهل جمادی الآخرة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فأمر السلطان (هولاکو) أن یکون ابنه عز الدین أبو الفضل وزیرا بعده» .
و قال الخزرجی فی وفیات سنة 656: «و فی هذه السنة توفی الوزیر مؤید الدین محمد بن محمد ابن العلقمیّ البغدادی الرافضی و کان عالما فاضلا أدیبا حسن المحاضرة دمث الأخلاق کریم الطباع خیر النفس، کارها للظلم خبیرا بتدبیر الملک لم یباشر قلع بیت و لا استئصال مال، اشتغل بالنحو و علم الأدب فی شبیبته بالحلة علی عمید الرؤساء (هبة اللّه بن حامد) بن أیوب ثم قدم بغداد و قرأ علی أبی البقاء عبد اللّه بن الحسین العکبری ثم انضمّ إلی خاله أستاذ دار الخلافة عضد الدین أبی نصر المبارک ابن الضحاک و کان شیخ الدولة فضلا و علما و رئاسة و تجربة فتخلق بأخلاقه و تأدّب بآدابه، و استنابه فی دیوان الأبنیّة و شغله بعلم الانشاء إلی أن توفی خاله، فانقطع و لزم داره، و استمر شمس الدین أبو الأزهر أحمد بن الناقد أستاذ الدار فاستدعی مؤید الدین إلی دار التشریفات و أمره بالتردد إلیها فی کل یوم و مشارکة النواب بها، فلما نقل أستاذ الدار أحمد بن الناقد إلی الوزارة نقل مؤید الدین إلی أستاذیة الدار فکان علی ذلک إلی أن توفی الوزیر أحمد ابن الناقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 323
فانتقل مؤید الدین إلی الوزارة و لم یزل علی ذلک إلی أن انقضت الدولة العباسیة و أقرّ فی الدولة التتریة علی الوزارة و تغیرت أحواله و لم یتمّ له ما أراد و لم یظنّ أن التتر یبذلون السیف مطلقا فانه راح تحت السیف الرافضة و السنة و أمم لا یحصون و ذاق الهوان و الذل من التتر و ذلک فی أول جمادی الآخرة من السنة المذکورة» . و قال المؤرخ نفسه فی ترجمة أبی المعالی القاسم بن أبی الحدید: «ثم استکتبه الوزیر نصیر الدین أحمد ابن الناقد بین یدیه إلی آخر أیامه و لما عجز الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی أجراه علی عادته فی الکتابة بین یدیه ثم جعله کاتب دیوان الانشاء» .
و القاری‌ء یتعجب کل العجب من قول هذا المؤرخ «و لم یتمّ له ما أراد و لم یظن أن التتر یبذلون السیف مطلقا» کأنّ ابن العلقمی هو الذی أنشأ الدولة المغولیة و ألهمها فکرة الفتوح مع أنها کانت تسیر بفکرة الفتوح قبل مولد الوزیر ابن العلقمیّ، و کیف لا یعلم أنّهم یبذلون السیف و قد اشتهر بذلهم السیف فی بلاد المسلمین منذ فتوحاتهم الأولی و اجتیاحهم البلاد الإسلامیة علی عهد خوارزمشاه محمد بن تکش سنة 617 ه.
و ما دخل ابن العلقمی فی حرکتهم؟ إنما اتّهم بذلک لأنه کان شیعیا و لو کان غیر شیعی ما اتهمه أحد، و اتهامه بأنّه حرّض التتر علی الاستیلاء علی بغداد کاتهام من نفخ نفخة من فمه فنشأ إعصار شدید فیه نار فقیل له:
أنت المحدث لهذا الإعصار، و کل ما ظهر من الرجل أنه علم أن لا قبل للدولة العباسیة بمقاومة الجیوش التتریة فمال إلی المصانعة و المصالحة، فاتهموه و کانت العاقبة و خیمة جدا.
و قال الصفدی: «محمد بن محمد بن علی أبو طالب الوزیر المدبّر مؤید الدین ابن العلقمی البغدادی الرافضی وزیر المستعصم ولی الوزارة أربع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 324
عشرة سنة فأظهر الرفض قلیلا ، و کان وزیرا کافیا خبیرا بتدبیر الملک و لم یزل ناصحا لأستاذه حتی وقع بینه و بین الدوادار (الصغیر مجاهد الدین أیبک) لأنه کان یتغال فی السنّة و عضده ابن الخلیفة (أحمد ولی العهد) فحصل عنده من الضغن ما أوجب له أن سعی فی دمار الإسلام و خراب بغداد (کذا) علی ما هو مشهور لأنه ضعف جانبه و قویت شوکة الدوادار بحاشیة الخلیفة حتی قال فی شعره:
وزیر رضی من بأسه و انتقامه‌بطیّ رقاع حشوها النظم و النثر
کما تسجع الورقاء و هی حمامةو لیس لها نهی یطاع و لا أمر
و أخذ یکاتب التتار إلی أن جرّ هولاکو و جرّأه علی أخذ بغداد و قرّر مع هولاکو أمورا انعکست علیه (کذا) و ندم حیث لا ینفعه الندم و کان کثیرا ما یقول: و جری القضاء بعکس ما أملته، لأنه عومل بأنواع الهوان من أراذل التتر و المرتدّة، حکی أنه کان فی الدیوان جالسا فدخل بعض التتار ممن لا له وجاهة راکبا فرسه فساق إلی أن وقف بفرسه علی بساط الوزیر و خاطبه بما أراد و بال الفرس علی البساط و أصاب الرشاش ثیاب الوزیر و هو صابر لهذا الهوان، یظهر قوة النفس و أنه بلغ مراده . و قال له بعض أهل بغداد: یا مولانا أنت فعلت هذا جمیعه و حمیت الشیعة حمیة لهم و قد قتل من الأشراف الفاطمیین خلق لا یحصون و ارتکب من الفواحش مع نسائهم و افتضت بناتهم الأبکار مما لا یعلمه إلا اللّه تعالی. فقال: بعد أن قتل الدوادار و من کان علی مثل رأیه لا مبالاة بذلک. و لم تطل مدته حتی مات غمّا و غبنا فی أول سنة سبع و خمسین و ستمائة، مولده فی شهر ربیع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 325
الأول سنة إحدی و تسعین و خمسمائة ... اشتغل بالحلة علی عمید الرؤساء (ابن أیوب) و عاد إلی بغداد و أقام عند خاله عضد الدین أبی نصر المبارک ابن الضحاک، و کان أستاذ الدار، و لما قبض علی مؤید الدین القمی و کان أستاذ الدار فوضت الاستاذ داریة إلی شمس الدین ابن الناقد ثم عزل و فوّضت الاستاذ داریة إلی ابن العلقمی، فلما توفی المستنصر باللّه و ولی الخلافة أمیر المؤمنین المستعصم و توفی الوزیر نصیر الدین أبو الأزهر أحمد ابن الناقد وزر ابن العلقمی و کان قد سمع الحدیث و اشتغل علی أبی البقاء العکبری و حکی أنه لما کان یکاتب التتار تحیل مرة إلی أن أخذ رجلا و حلق رأسه حلقا بلیغا و کتب ما أراد علیه بوخز الابر کما یفعل بالوشم و نفض علیه الکحل و ترکه عنده إلی أن طلع شعره و غطّی ما کتب، فجهّزه و قال:
إذا وصلت مرهم بحلق رأسک و دعهم یقرؤون ما فیه، و کان فی آخر الکلام قطّعوا الورقة. فضربت رقبته. و هذا غایة فی المکر و الخزی و اللّه أعلم» .
قلت: بل المکر و الخزی اللذان بلغا الغایة هما صفتا من ابتدع هذه التهمة علی ابن العلقمیّ، فلیت شعری من خبّر بهذا الفعل لو صحّ أ أبن العلقمیّ؟
أم الذی قطع رأسه أم المغول الذین إدّعی فی الخبر أنّهم روسلوا؟ و ذلک من أهم أسرار دولتهم لو کان صحیحا، و لکنه خبر مفتعل مولّد مختلق، لأن الوزیر کان یستطیع أن یوصل إلیهم کتابه بغیر تکلف لهذا العمل، لأنه کان وزیرا فلا یعترض رسوله أحد، بله أن طرق التسلّل کثیرة و طرائق الإیصال کثیرة و کیف یستجیز مسلم کابن العلقمیّ قطع رأس رسول مسلم و هو قطع محرّم لأنه قتل للنفس التی حرم اللّه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 326
و قال ابن الطقطقی و هو من أنصف المؤرخین: «وزارة مؤید الدین أبی طالب محمد بن أحمد ابن العلقمی، هو أسدی أصلهم من النیل و قیل لجده العلقمی لأنه حفر النهر المسمی بالعلقمی و هو الذی برز الأمر الشریف السلطانی بحفره و سمی القازانی. اشتغل فی صباه بالأدب ففاقه فیه و کتب خطّا ملیحا و ترسّل ترسلا فصیحا، و ضبط ضبطا صحیحا و کان رجلا فاضلا کاملا لبیبا کریما وقورا محبا للرئاسة کثیر التجمل، رئیسا متمسکا لقوانین الرئاسة، خبیرا بأدوات السیاسة، لبیق الأعطاف بآلات الوزارة و کان یحب أهل الأدب، و یقرّب أهل العلم، اقتنی کتبا کثیرة نفیسة. حدثنی ولده شرف الدین أبو القاسم علی- رح- قال: اشتملت خزانة والدی علی عشرة آلاف مجلد من نفائس الکتب، و صنّف الناس له الکتب، فممن صنف له الصاغانی اللغوی صنّف له العباب و هو کتاب عظیم کبیر فی لغة العرب و صنف له عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید کتاب شرح نهج البلاغة، یشتمل علی عشرین مجلّدا فأثابهما و أحسن جائزتهما. و کان ممدّحا مدحه الشعراء، و انتجعه الفضلاء، فممن مدحه کمال الدین ابن السبوقی بقصیدة من جملتها:
مؤید الدین أبو طالب‌محمد بن العلقمی الوزیر
و هذا بیت حسن جمع فیه بین لقبه و کنیته و اسمه و اسمه أبیه و صنعته.
و کان مؤید الدین الوزیر عفیفا عن أموال الدیوان و أموال الرعیة متنزها مترفعا قیل إن بدر الدین صاحب الموصل أهدی إلیه هدیة تشتمل علی کتب و ثیاب و لطائف قیمتها عشرة آلاف دینار، فلما وصلت إلی الوزیر حملها إلی خدمة الخلیفة و قال: إن صاحب الموصل قد أهدی لی هذا و استحییت منه أن أرده إلیه، و قد حملته و أنا أسأل قبوله. فقبل ثم إنه أهدی إلی بدر الدین عوض هدیته شیئا من لطائف بغداد قیمته إثنا عشر ألف دینار و التمس منه أن لا یهدی إلیه شیئا بعد ذلک. و کان خواص الخلیفة جمیعهم یکرهونه و یحسدونه، و کان الخلیفة (المستعصم) یعتقد فیه و یحبه، و کثّروا علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 327
عنده، فکفّ یده عن أکثر الأمور، و نسبه الناس إلی أنه خامر و لیس ذلک بصحیح و من أقوی الأدلة علی عدم مخامرته سلامته فی هذه الدولة فإن السلطان هولاکو لما فتح بغداد و قتل الخلیفة سلّم البلد إلی الوزیر و أحسن إلیه و حکّمه.
فلو کان قد خامر علی الخلیفة لما وقع الوثوق إلیه. حدثنی کمال الدین أحمد ابن الضحاک و هو ابن أخت الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی قال: لما نزل السلطان هولاکو علی بغداد أرسل یطلب الوزیر إلیه. قال: فبعث الخلیفة فطلب الوزیر فحضر عنده و أنا معه، فقال له الخلیفة: قد أنفذ السلطان یطلبک و ینبغی أن تخرج إلیه. فخرج الوزیر من ذلک و قال: یا مولانا إذا خرجت فمن یدبّر البلد و من یتولی المهام؟ فقال له الخلیفة: لا بد أن تخرج فلما حضر بین یدی السلطان و سمع کلامه وقع بموقع الاستحسان. و کان الذی تولّی تربیته فی الحضرة السلطانیة الوزیر السعید نصیر الدین محمد الطوسی- قدّس اللّه روحه- فلما فتحت بغداد سلمت إلیه و إلی علی بهادر الشحنة، فمکث الوزیر شهورا ثم مرض و مات- رح- فی جمادی الأولی سنة ست و خمسین و ستمائة» .
و ذکره ابن کثیر الدمشقی و هو أشد المؤرخین تعصّبا أعمی علی الشیعة و أکثرهم تخلیطا علیهم، و قد نشأ فی عصر کان قتل الشهید الأول السعید محمد بن مکی من أیسر الأمور علی أهل الشام و الحکام قال و هو المسؤول بین یدی اللّه تعالی عما قال من زور المقال: «الوزیر ابن العلقمی الرافضی محمد بن أحمد بن محمد بن علی بن أبی طالب الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی وزیر المستعصم البغدادی. خدم فی أیام المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طویلة ثم صار وزیر المستعصم، و کان وزیرا شؤما علی نفسه و علی الخلیفة و علی المسلمین مع أنه من الفضلاء فی الانشاء و الآداب، و کان رافضیا خبیثا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 328
ردی‌ء الطویة علی الإسلام و أهله و قد حصل من التعظیم و الوجاهة فی أیام المستعصم ما لم یحصل لغیره من الوزراء ثم مالأ علی الإسلام و أهله، الکفار أصحاب هولاکو خان حتی فعل ما فعل بالإسلام و أهله ما فعل مما تقدّم ذکره ثم حصل له بعد ذلک من الإهانة و الذل علی أیدی التتار الذین مالأهم و زال عنه ستر اللّه و ذاق الخزی فی هذه الحیاة الدنیا و لعذاب الآخرة أشد. و قد رأته إمرأة و هو فی الذل و الهوان و هو راکب فی أیام التتار برذونا و هو مرسم علیه (کذا) و سائق یسوق به و یضرب فرسه فوقفت إلی جانبه فقالت: یا ابن العلقمی هکذا کان بنو العباس یعاملونک؟ فوقعت کلمتها فی قلبه و انقطع فی داره إلی أن مات کمدا و غبینة و ضیقا و قلة و ذلة فی مستهل جمادی الآخرة من هذه السنة (سنة 656) و له من العمر ثلاث و ستون سنة و دفن فی قبور الروافض (یعنی مشهد الإمام موسی بن جعفر- ع-) و قد سمع بأذنیه و رأی بعینیه من الأهانة من التتار و المسلمین ما لا یحد و لا یوصف، و تولی بعده ولده الخبیث الوزارة ثم أخذه اللّه أخذ القری و هی ظالمة، سریعا، و قد هجاه بعض الشعراء فقال:
یا فرقة الاسلام نوحوا و اندبواأسفا علی الاسلام و المستعصم
دست الوزارة کان قبل زمانه‌لابن الفرات فصار لابن العلقم»
قلت: ما کان أجهل هذا الشاعر السخیف القول الذی شغلته المقابلة البدیعیّة عن الحقائق، فابن الفرات الوزیر الذی مدحه و جعله أهلا للوزارة کان شیعیا أیضا و قد قتله المقتدر باللّه و أعداؤه من أرباب الدولة العباسیة ظلما و عدوانا، صبرا و هو صائم بعد أن قتلوا ابنه و وضعوا رأسه بین یدیه، أفکان جدیرا بالوزارة و فعل به ذلک الفعل فکیف لم لو یکن بها قمینا؟.
و قال ابن کثیر قبل ذلک فی حوادث سنة 656 أیضا: «و کان قدوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 329
هولاکو بجنوده کلها و کانوا نحوا من مائتی ألف مقاتل فی ثانی عشر المحرم من هذه السنة إلی بغداد و هو شدید الحنق علی الخلیفة بسبب ما کان تقدم من الأمر الذی قدره اللّه و قضاه و هو أن هولاکو لما برز من همذان متوجها إلی العراق أشار الوزیر ابن العلقمی علی الخلیفة أن یبعث إلیه بهدایا لیکون ذلک مداراة له عما یریده من قصد بغداد و غیرها. قالوا: فخذل الخلیفة عن ذلک داواداره الصغیر (مجاهد الدین أیبک الشرکسی) و غیره و قالوا للخلیفة: إن الوزیر یرید بإرسال الهدایا إلی ملک التتار مصانعة عن نفسه و أهله. و أشاروا بأن یبعث إلیه شیئا یسیرا. فأرسل الخلیفة شیئا یسیرا، فاحتقره هولاکو خان و أرسل إلی الخلیفة یطلب منه داواداره المذکور و سلیمان شاه (الأیوقی) فلم یبعثهما إلیه و لا احتفل به حتی أزف قدومه و وصل إلی بغداد بجنود کثیرة فأحاطوا ببغداد من ناحیتیها الغربیة و الشرقیة و جنود بغداد فی غایة القلّة و نهایة الذلة لا یبلغون عشرة آلاف فارس و هم فی غایة الضعف، و بقیة الجیوش کلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتی استعطی کثیر منهم فی الأسواق و أبواب المساجد و أنشد فیهم الشعراء القصائد یرثون لهم و یحزنون علی الاسلام و أهله، و ذلک کله عن رأی الوزیر ابن العلقمی الرافضی فإنه کان وزیر سوء، و ذلک أنه لما کان فی السنة الماضیة کان بین أهل السنة و الرافضة حرب شدیدة نهبت فیها الکرخ محلة الرافضة حتی نهبت دور قرابات الوزیر ابن العلقمی فاشتد حنقه من ذلک، فکان هذا مما هاجه علی الإسلام و أهله حتی أضعف عسکر المسلمین و دبر علی الإسلام و أهله ما کان سبب فساده مما وقع فی هذا الأمر الفظیع الذی لم یؤرخ مثله و لا أشنع منه منذ بنیت بغداد و إلی الآن، و لهذا کان الوزیر هو أول من برز إلی التتار فی أهله و أصحابه و خدمه و حشمه فارا إلیهم فاجتمع بالسلطان هولاکو خان- علیهم لعنة اللّه- ثم عاد فأشار علی الخلیفة بالخروج و المثول بین یدیه لتقع المصالحة علی أن یکون نصف خراج العراق لهم و نصفه للخلیفة فاحتاج الخلیفة إلی أن خرج فی سبعمائة راکب من القضاة و الفقهاء و الصوفیة و رؤوس الأمراء و الدولة و الأعیان فلما اقتربوا من مخیم هولاکو حجبوا أولئک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 330
الذین مع الخلیفة إلا سبع أنفس، فخلص الخلیفة إلی هؤلاکو بهؤلاء السبعة و أنزل الباقون عن دوابهم و نهبت مراکبهم و قتلوا عن آخرهم، و أحضر الخلیفة بین یدی هولاکو خان فسأله عن أشیاء کثیرة، فیقال إنه اضطرب کلام الخلیفة من هول ما رأی من الاهانة و الجبروت ثم عاد إلی بغداد و فی صحبته خواجه نصیر الدین الطوسی و للوزیر ابن العلقمی و غیرهما، و الخلیفة تحت الحوطة و المصادرة، فأحضر من دار الخلیفة شیئا کثیرا من الذهب و الحلی و المصاغ و الجواهر النفیسة، و قد أشار أولئک الملأ و الرافضة و غیرهم من المنافقین علی هولاکو خان أن لا یصالح الخلیفة و قال الوزیر: متی وقع الصلح علی المناصفة لاستمر هذا إلا عاما أو عامین ثم یعود الأمر إلی ما کان علیه قبل ذلک، و حسّنوا له قتل الخلیفة. فلما عاد الخلیفة إلی هولاکو أمر بقتله، و یقال إن الذی أشار بقتله الوزیر و نصیر الدین الطوسی و کان النصیر عند هولاکو قد استصحبه فی خدمته لما فتح قلاع الألموت و انتزعها من أیدی الإسماعیلیة، و کان النصیر وزیرا لشمس الشموس (الإسماعیلی) و لأبیه من قبله علاء الدین ابن جلال الدین ، و کانوا ینتسبون إلی نزار ابن المستنصر العبیدی، و انتخب هولاکوخان النصیر لیکون فی خدمته کالوزیر فلما قدم بغداد و أراد قتل الخلیفة هوّن علیه هذان الوزیران قتله فقتلوه رفسا بأرجلهم و هو فی جوالق لئلا یقع من دمه شی‌ء إلی الأرض:
خافوا أن یؤخذ بثأره فیما قیل لهم. و قیل بل خنق و یقال: بل غرق و اللّه أعلم، فباؤوا بإثمه و إثم من کان معه من العلماء و الصلحاء و القضاة و الرؤساء و الأمراء من أولی الحل و العقد و ستأتی ترجمته فی الوفیات» .
و هاهنا إنتهی تخلیط ابن الأثیر، و من المؤرخین من امتد تخلیطه إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 331
ذکره ناقلا غافلا أن هولاکو قتل الوزیر ابن العلقمی قال محب الدین العینی فی حوادث سنة 656 و وفیاتها: «الوزیر ابن العلقمی الرافضی- قبحه اللّه- و اسمه محمد بن أحمد بن علی بن أبی طالب الوزیر مؤید الدین أبو طالب» و ذکر ما قال ابن کثیر و قال: «هذا کله ذکره ابن کثیر فی تاریخه و قال بیبرس فی تاریخه: و أما الوزیر فهو مؤید الدین ابن العلقمی فإن هلاوون استدعاه بین یدیه و عنّفه علی سوء سیرته و خبث سریرته و ممالأته علی ولی نعمته و أمر بقتله جزاءا بسوء فعله فتوسل و بذل الإلتزام بالأموال یحملها و إتاوة من العراق یحصلها. فلم یذعن لقبوله و لا أجابه إلی سوء فعله، بل قتله بین یدیه صبرا و أوقعه اللّه فی البئر التی احتفر و خانه فیما قدّر صرف القدر» .
قال مصطفی جواد: و نسبة بعض المؤرخین و من لفّ لفه تسریح الجنود إلی الوزیر ابن العلقمی تهمة أخری من هذه التّهم الکثیرة الباطلة التی اتهم بها هذا الوزیر فإن إدارة شؤون الجیش و التجنید و إعطاء الأرزاق کانت بیدی مقدّم الجیش مجاهد الدین أیبک الدویدار الصغیر خصم الوزیر و عدوه و لا شأن للوزیر فیها و لا نهی و لا أمر فبأی وجه یتهم الرجل باقلال عدة الجنود بالحل و التسریح؟ قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 650:
«و فیها فارق کثیر من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم و لحقوا ببلاد الشام ». و کانت شؤونهم قبل ذلک متعلقة بمقدم الجیوش إقبال الشرابی الملقب بشرف الدین ثم توفی، فقد ذکر المؤرخ نفسه فی حوادث سنة 640 ما عنوانه «ذکر وقعة الأتراک» قال: «و فی شعبان حضر جماعة الممالیک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 332
الظاهریة و المستنصریة عند شرف الدین إقبال الشرابی للسلام علی عادتهم و طلبوا الزیادة فی معایشهم و بالغوا فی القول و ألحّوا فی الطلب. فحرد علیهم و قال: ما نزیدکم بمجرد قولکم بل نزید منکم من نزید إذا أظهر خدمة یستحق بها. فنفروا علی فورهم إلی ظاهر السور و تحالفوا علی الاتفاق و التعاضد، فوقع التعیین علی قبض جماعة من أشرارهم، فقبض منهم اثنان و امتنع الباقون و رکبوا جمیعا و قصدوا باب البدریة و منعوا الناس من العبور، فخرج إلیهم مقدم البدریة و قبح لهم هذا الفعل، فلم یلتفتوا إلیه، فنفذ إلیهم سنجر الیاغر فسألهم عن سبب ذلک فقالوا: نرید أن یخرج أصحابنا و تزاد معایشنا. فأنهی سنجر ذلک إلی الشرابی، فأعاد علیهم الجواب: أن المحبوسین ما نخرجهما و هم ممالیکنا نعمل بهم ما نرید و معایشکم ما نزیدها فمن رضی بذلک یقعد و من لم یرض و أراد الخروج من البلد فنحن لا نمنعه. و طال الخطاب فی ذلک إلی آخر النهار ثم مضوا و خرجوا إلی ظاهر البلد، فأقاموا هناک مظهرین للرحیل، فبقوا علی ذلک أیاما، فاجتمع بهم الشیخ السبتی الزاهد و عرّفهم ما فی ذلک من الاثم و مخالفة الشرع. فاعتذروا و سألوه الشفاعة لهم و أن یحضر لهم خاتم الأمان لیدخلوا البلد، فحضر عند الشرابی و عرّفه ذلک و سأله إجابة سؤالهم، فأخرج لهم خاتم الأمان مع الأمیر شمس الدین قیران الظاهری و الشیخ السبتی، فدخلوا و الشیخ راکب حماره بین أیدیهم، و حضروا عند الشرابی معتذرین، فقبل عذرهم، و کانت مدة مقامهم بظهر السور سبعة أیام ».
فقضیة الجند و قلّة معایشهم و مطالباتهم لم تکن فی أیام الوزیر ابن العلقمی بل قبل وزارته، و لا شأن له فیها البتة کما ذکرنا آنفا.
و أما عزو التحریض علی قتل العلماء و الفقهاء إلی ابن العلقمی فهو تهمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 333
باطلة أیضا، و أذکر لتفنیدها ما ذکره ابن الفوطی فی ترجمة القاضی فخر الدین أبی بکر عبد اللّه بن عبد الجلیل الطهرانی قال: «و هو ممن کان یخرج الفقهاء إلی باب السور إلی مخیم السلطان هولاکو مع شهاب الدین الزنجانی لیقتلوا و توفی فی رجب سنة سبع و ستین و ستمائة و دفن بالخیزارانیة
و جاء فی کتاب الاجازات من بحار الأنوار نقلا من خط الشیخ محمد ابن علی الجبعی «مات الوزیر السعید العالم مؤید الدین أبو طالب محمد بن أحمد العلقمی سنة ست و خمسین و ستمائة، استوزره المستعصم باللّه آخر الخلفاء العباسیین و کان قبله أستاذ الدار فی عهد المستنصر ثم استوزره السلطان هولاکو مزیل الدولة العباسیة فلم تطل مدته حتی توفی إلی رحمة اللّه عام الواقعة سنة ست و خمسین و ستمائة ثانی جمادی الآخرة، و کان رحمه اللّه إمامی المذهب، صحیح الاعتقاد، رفیع الهمة محبا للعلماء و الزهاد کثیر المبار و لأجله صنف عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید شرح النهج فی عشرین مجلدا و السبع العلویات و غیرها ».
و قال الخونساری فی ترجمة نصیر الدین الطوسیّ: «و لما کان مؤید الدین العلقمی الذی هو من أکابر الشیعة فی ذلک الزمان وزیر المستعصم الخلیفة العباسی فی بغداد أراد المحقق (الطوسی) دخول بغداد و معارضته بما اختلج بخاطره من ترویج المذهب الحق بمعاونة الوزیر المذکور و أنشأ قصیدة عربیة فی مدح المستعصم الخلیفة، و کتب کتابا إلی العلقمی الوزیر لیعرض القصیدة علی الخلیفة، و لما علم ابن العلقمی فضله و نبله و رشده خاف من قربه للخلیفة أن تسقط منزلته عند المستعصم فکتب سرا الی المحتشم (الرئیس ناصر الدین الاسماعیلی) (حاکم قوهستان): إن نصیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 334
الدین الطوسی قد ابتدأ بارسال المراسلات و المکاتبات عند الخلیفة فی مدحه و أرسلها حتی أعرضها علیه، و أراد الخروج من عندک و هذا لا یوافق الرأی فلا تغفل عن هذا. فلما قرأ المحتشم کتابه حبس المحقق (الطوسی) و هذا ضد ما ذکره ابن الطقطقی من أن نصیر الدین الطوسیّ هو الذی ثبت فضل مؤید الدین ابن العلقمی و کفایته عند السلطان هولاکو، و هو یشبه الأخبار العامیة التی لا تستند إلی وثیقة و لا إلی حقیقة. لأن التصدیق به یوجب أن یکون نصیر الدین الطوسیّ عدوا للوزیر مؤید الدین العلقمی فهو الذی منعه علی زعمه من الاتصال بالخلیفة المستعصم باللّه و وشی به إلی حاکم قوهستان حتی حبسه فکیف یترکه سالما و یری استیزاره عند فتح بغداد و هو یجری یومئذ من بطانته مجری الوزیر؟
و قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 656: «و أما السلطان هولاکو فإنه وصل إلی ظاهر بغداد فی ثانی عشر المحرم فی جیش لا یحصی عدده و لا ینفد مدده و قد أغلقت أبواب السّور، فعرف بذلک ضعفهم عن لقائه، فأمر بحفر خندق فحفر و بنی بترابه سور محیط ببغداد و عمل له أبواب و رتب علیها أمراء المغول و شرعوا فی عمل ستائر للمناجیق، و نصبوا المناجیق و العرادات و استظهروا غایة الاستظهار و الناس یشاهدون ذلک من وراء السور و قد نصبوا أیضا علیه المناجیق إلا أنها لم تصح و لا حصل بها انتفاع ثم إن السلطان أمر بعقد جسر تحت بغداد لیمنع من ینحدر إلی واسط فعقد تحت قریة العقاب و لم یعلم أهل بغداد به فکانت السفن تصل إلیه فیؤخذ من بها و یقتل، فقتل عنده خلق کثیر. فلما کان الیوم الرابع عشر من المحرم خرج الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی إلی خدمة السلطان فی جماعة من ممالیکه و أتباعه، و کانوا ینهون الناس عن الرمی بالنشاب و یقولون: سوف یقع الصلح إن شاء اللّه فلا تحاربوا. هذا و عساکر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 335
المغول یبالغون فی الرمی و قد اجتمع منهم خلق کثیر علی برج العجمی الذی عن یمین باب سور الحلبة و نصبوا علیه المناجیق و واصلوا الرمی بالحجارة فهدموه و صعدوا علی السور فی الیوم الحادی و العشرین من المحرم و تمکنوا من البلد و أمسکوا عن الرمی، و عاد الوزیر إلی بغداد یوم الأحد سابع عشری المحرم و قال للخلیفة: قد تقدم السلطان أن تخرج إلیه.
فأخرج ولده الأوسط و هو أبو الفضل عبد الرحمن فی الحال، فلم یقع الاقتناع به، فخرج الخلیفة و الوزیر فی یوم الاثنین ثامن عشری المحرم و معه جمع کثیر، فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه و أفردوا له خیمة و أسکن بها. و خرج مجاهد الدین أیبک الدویدار الصغیر و شهاب الدین سلیمان شاه و سائر الأمراء، فی أول صفر و خرج ابن الخلیفة الأکبر أبو العباس أحمد یوم الجمعة ثانی صفر ثم دخل الخلیفة بغداد یوم الأحد رابع صفر و معه جماعة من أمراء المغول و خواجة نصیر الدین الطوسی و أخرج الیهم من الأموال و الجواهر و الحلی و الزرکش و الثیاب و أوانی الذهب و الفضة و الأعلاق النفسیة جملة عظیمة ثم عاد مع الجماعة إلی ظاهر السور بقیة ذلک الیوم فأمر السلطان بقتله فقتل یوم الأربعاء رابع عشر صفر و لم یهرق دمه بل جعل فی غرارة و رفس حتی مات و دفن و عفی أثر قبره و کان قد بلغ من العمر ستا و أربعین سنة و أربعة أشهر و کانت مدة خلافته خمس عشرة سنة و ثمانیة أشهر و أیاما، ثم قتل ولده أبو العباس أحمد و کان مولده سنة إحدی و ثلاثین و ستمائة و له من الأولاد أبو الفضل محمد و رابعة و هی التی تزوج بها خواجة هارون ابن الصاحب شمس الدین الجوینی و مولدها یوم عید النحر سنة خمس و خمسین (و ستمائة) و أختها ست الملوک، ثم قتل ابن الخلیفة الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن و مولده سنة ثلاث و ثلاثین (و ستمائة) و له من الأولاد أبو القاسم محمد و بنت واحدة. و أما ولد الخلیفة الأصغر مبارک و أخواته فاطمة و خدیجة و مریم فانهم لم یقتلوا بل أسروا، ثم عین علی بعض الأمراء، فدخل بغداد و معه جماعة و نائب أستاذ الدار ابن الجوزی و جاؤوا إلی أعمام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 336
الخلیفة و أنسابه الذین کانوا فی دار الصخر و دار الشجرة، و کانوا یطلبون واحدا بعد واحد فیخرج بأولاده و جواریه فیحمل إلی مقبرة الخلّال التی تجاه المنظرة فیقتل، فقتلوا جمیعا عن آخرهم ثم قتل مجاهد الدین أیبک الدویدار الصغیر و أمیر الحاج فلک الدین محمد بن علاء الدین الطبرس الدویدار الکبیر و شهاب الدین سلیمان شاه بن برجم و فلک الدین محمد بن قیران الظاهری و قطب الدین سنجر البکلکی الذی کان شحنة بغداد و حج بالناس عدة سنین و عز الدین ألب قرا شحنة بغداد أیضا و محیی الدین (یوسف) ابن الجوزی أستاذ الدار و ولده جمال الدین عبد الرحمن و أخوه شرف الدین عبد اللّه و أخوه تاج الدین عبد الکریم و شیخ الشیوخ صدر الدین علی بن النیار و شرف الدین بن عبد اللّه ابن أخیه، و بهاء الدین داود ابن المختار و النقیب الطاهر شمس الدین علی بن المختار و شرف الدین محمد بن طاوس و تقی الدین بن عبد الرحمن بن الطبال وکیل الخلیفة، و أمر بحمل رأس الدویدار (الصغیر) و ابن الدویدار الکبیر و سلیمان شاه إلی الموصل فحملت، و علّقت ظاهر سور البلد، و وضع السیف فی أهل بغداد یوم الاثنین خامس صفر و ما زالوا فی قتل و نهب و أسر و تعذیب الناس بأنواع العذاب و استخراج الأموال منهم بألیم العقاب مدة أربعین یوما فقتلوا الرجال و النساء و الصبیان و الأطفال فلم یبق من أهل البلد و من التجأ إلیهم من أهل السواد إلا القلیل، ما عدا النصاری فإنهم عین لهم شحانی حرسوا بیوتهم و التجأ إلیهم خلق کثیر من المسلمین فسلموا عندهم، و کان ببغداد جماعة من التجار الذین یسافرون إلی خراسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 337
و غیرها قد تعلقوا من قبل علی أمراء المغول و کتب لهم فرامین فلما فتحت بغداد خرجوا إلی الأمراء و عادوا و معهم من یحرس بیوتهم، و التجأ أیضا إلیهم جماعة من جیرانهم فسلموا و کذلک دار الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی فانه سلم بها خلق کثیر و دار صاحب الدیوان (فخر الدین ابن أحمد) ابن الدامغانی و دار حاجب الباب (تاج الدین علی) ابن الدّوامی، و ما عدا هذه الأماکن فإنه لم یسلم فیه أحد إلا من کان فی الآبار و القنوات و أحرق معظم البلد و جامع الخلیفة و ما یجاوره و استولی الخراب علی البلد، و کانت القتلی فی الدروب و الأسواق کالتلول، و وقعت الأمطار علیهم و وطئتهم الخیول فاستحالت صورهم و صاروا عبرة لمن یری ثم نودی بالأمان فخرج من تخلف و قد تغیرت ألوانهم و ذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التی لا یعبر عنها بلسان و هم کالموّتی إذا خرجوا من القبور یوم النشور من الخوف و الجوع و البرد ... و قیل إن عدة القتلی ببغداد زادت عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقی من الأطفال فی الوحول و من هلک فی القنی و الآبار و سرادیب الموتی جوعا و خوفا و وقع الوباء فیمن تخلف بعد القتل من شم روائح و شرب الماء الممتزج فی الجیف و کان الناس یکثرون من شم البصل لقوة الجیفة و کثرة الذباب فإنه ملأ القضاء و کان یسقط علی المطعومات فیفسدها و کان أهل الحلة و الکوفة و السیب یجلبون إلی بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلک و کانوا یبتاعون بأثمانها الکتب النفیسة و الصفر المطعم من الأثاث بأوهی قیمة فاستغنی بهذا الوجه خلق کثیر منهم. و رحل السلطان (هولاکو) من بغداد فی جمادی الأولی عائدا إلی بلاده و مقر ملکه و فوّض أمر بغداد إلی الأمیر علی بهادر و جعله شحنة بها و إلی الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی و صاحب الدیوان فخر الدین ابن الدامغانی و نجم الدین أحمد بن عمران و هو من أهل باجسرا، کان یخدم فی زمن الخلیفة عاملا فاتصل الآن ببعض الأمراء و حضر بین یدی السلطان و أنهی إلیه من حال العراق ما أوجب تقدیمه و تشریفه و تعیینه فی (22)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 338
الأعمال الشرقیة و هی الخالص و طریق خراسان و البندنیجن و أن یتفق مع الوزیر و صاحب الدیوان فی الحکم و لقب (الملک) و نجم الدین عبد الغنی ابن الدرنوس و شرف الدین العلوی المعروف بالطویل. و کان تاج الدین علی ابن الدوامی حاجب الباب قد خرج مع الوزیر (ابن العلقمی) إلی حضرة السلطان فأمر له أن یکون صدر الأعمال الفراتیة فلم تطل مدته و توفی فی ربیع الأول فجعل ولده مجد الدین حسین عوضه او حضر أقضی القضاة نظام الدین عبد المنعم البندنیجی بین یدی السلطان فأمر بأن یقرّ علی القضاء، فلما عاد الوزیر و الجماعة من خدمة السلطان قرّروا حال البلاد و مهدوا قواعدها و عینوا بها الصدور و النظار و النواب فعینوا سراج الدین ابن البجلی فی الأعمال الواسطیة و البصریة و نجم الدین بن المعین صدر الأعمال الحلیة و الکوفیة و فخر الدین المبارک ابن المخرمی صدر دجیل و المستنصری و عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید کاتب السلّة فلم تطل أیامه فرتب عوضه ابن الجمل النصرانی، و عز الدین ابن الموسوی نائب الشرطة و الشیخ عبد الصمد بن أبی الجیش إمام مسجد قمریة خازن الدیوان، و رتبوا فی جمیع الأعمال نوابا و شرعوا فی عمارتها فتوفی الوزیر مؤید الدین محمد بن العلقمی فی مستهل جمادی الآخرة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیه السلام- فأمر السلطان أن یکون ابنه عز الدین أبو الفضل وزیرا بعده ، و وصل الأمیر قرابغا بعد ذلک إلی بغداد و عیّن عماد الدین عمر ابن محمد القزوینی نائبا عنه فکان یحضر الدیوان مع الجماعة و کان ذا دین و مروءة و عین علی شهاب الدین (علی) بن عبد اللّه صدرا فی الوقوف و تقدم إلیه بعمارة جامع الخلیفة و کان قد أحرق کما ذکرنا ثم فتح المدارس و الربط، و أثبت الفقهاء و الصوفیة و أدرّ علیهم الأخباز و المشاهرات و سلمت مفاتیح دار الخلافة إلی مجد الدین محمد بن الأثیر و جعل أمر الفراشین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 339
و البوابین إلیه، و تقدم للجاثلیق بسکنی دار علاء الدین الطبرس الدویدار الکبیر التی علی شاطی‌ء دجلة فسکنها، و دق الناقوس علی أعلاها و استولی علی در الفلک التی کانت رباطا للنساء تجاه هذه الدار المذکورة و علی الرباط البشیری المجاور لها و هدم الکتابة التی کانت علی البابین و کتب عوضها بالسریانی ».
و مما نقلنا من الأخبار یظهر للقاری‌ء أن الوزیر مؤید الدین ابن العلقمی لم یکن السالم من القتل وحده حتی یتهم بالخیانة ذلک الاتهام الباطل، و إنما سلم معه و نال مرتبة فی الدولة المغولیة «فخر الدین أحمد ابن الدامغانی» الحنفی الذی کان صاحب الدیوان فی آخر أیام المستعصم، و تاج الدین علی ابن الدوامی الذی کان حاجب باب النوبی للمستعصم باللّه و نجم الدین أحمد ابن عمران الباجسری أحد عمال الخلیفة و الغالب علی أهل باجسری الحنبلیة و أقضی القضاة عبد المنعم البندنیجی الشافعی و سراج الدین ابن البجلی الشافعی و فخر الدین المبارک ابن المخرمی الحنبلی، و عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید الشافعی، و الشیخ عبد الصمد بن أبی الجیش الحنبلی المقری‌ء المشهور و ظهر أیضا أن جماعة من أعیان الشیعة الکبار و السادة منهم قتلوا فقد ذکر المؤرخ منهم بهاء الدین داود بن المختار العلوی و النقیب الطاهر شمس الدین علی ابن المختار و شرف الدین محمد بن طاوس.
و قال ابن العبری فی حوادث سنة 655: «و فیها فی شهر شوال رحل هولاکو عن حدود همذان نحو مدینة بغداد، و کان فی أیام محاصرته قلاع الملاحدة قد سیر رسولا إلی الخلیفة المستعصم یطلب منه نجدة، فأراد أن یسیّر و لم یقدر و لم یمکنه الوزراء و الأمراء و قالوا: إن هولاکو رجل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 340
صاحب احتیال و خدیعة و لیس محتاجا إلی نجدتنا و إنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فیملکها بسهولة، فتقاعدوا بسبب هذا الخیال عن إرسال الرجال. و لما فتح هولاکو تلک القلاع أرسل رسولا آخر إلی الخلیفة و عاتبه علی إهماله تسییر النجدة، فشاوروا الوزیر فیما یجب أن یفعلوه.
فقال: لا وجه غیر إرضاء هذا الملک الجبار ببذل الأموال و الهدایا و التحف له و لخواصّه. و عندما أخذوا فی تجهیز ما یسیّرونه من الجوهر و المرصعات و الثیاب و الذهب و الفضة و الممالیک و الجواری و الخیل و البغال و الجمال قال الدویدار الصغیر و أصحابه: إن الوزیر إنّما یدبر شأن نفسه مع التتار و هو یروم تسلیمنا إلیهم فلا تمکّنه من ذلک. فبطل الخلیفة بهذا السبب تنفیذ الهدایا الکثیرة و اقتصر علی شی‌ء نزر لا قدر له. فغضب هولاکو و قال: لا بد من مجیئه هو بنفسه أو یسیّر أحد ثلاثة نفر: إمّا الوزیر و إما الدویدار و إمّا سلیمان شاه. فتقدم الخلیفة إلیهم بالمضی فلم یرکنوا إلی قوله، فسیّر غیرهم مثل ابن الجوزی و ابن محیی الدین فلم یجدیا عنه. و أمر هولاکو بایجونوین و سونجاق أنوین لیتوجها فی مقدمته علی طریق إربل و توجه هو علی طریق حلوان. و خرج الدویدار (الصغیر) و نزل بجانب باعقوبا و لما بلغه أن بایجونوین عبر دجلة و نزل بالجانب الغربی ظن أنّ هولاکو قد نزل هناک، فرحل عن باعقوبا و نزل بحیال بایجو و لقی یزک المغول أمیرا من أمراء الخلیفة یقال له أیبک الحلبی فحملوه إلی هولاکو فأمنه إن تکلّم بالصحیح و طیّب قلبه فصار یسیر أمام العسکر و یهدیهم و کتب کتابا إلی بعض أصحابه یقول لهم: ارحموا أرواحکم و اطلبوا الأمان لأن لا طاقة لکم بهذه الجیوش الکثیفة. فأجابوه بکتاب یقولون فیه: من یکون هولاکو؟ و ما قدرته ببیت عباس؟ من اللّه ملّکهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 341
و لا یفلح من عاندهم و لو أراد هولاکو الصلح لما داس أرض الخلیفة و لما أفسد فیها و الآن إن کان یختار المصالحة فلیعد إلی همذان و نحن نتوسل بالدویدار لیخضع لأمیر المؤمنین متخشعا فی هذا الأمر لعله یعفو عن هفوة هولاکو. فلما عرض أیبک الکتاب علی هولاکو ضحک و استدل به علی غباوتهم. ثم سمع الدویدار أن التتار قد توجهوا نحو الأنبار فسار إلیهم و لقی عسکر سونجاق نوین و کسرهم و هزمهم و فی هزیمتهم التقاهم بایجونوین فردّهم و هجموا جمیعا علی عسکر الدویدار فاقتتلوا قتالا شدیدا و انجلت الحرب عن کسر الدویدار فقتل أکثر عسکره و نجا هو فی نفر قلیل من أصحابه و دخل بغداد. و فی منتصف شهر المحرم من سنة ست و خمسین و ستمائة نزل هولاکو بنفسه علی باب بغداد و فی یوم و لیلة بنی المغول بالجانب الشرقی سیبا أعنی سورا عالیا و بنی بوقاتیمور، و سونجاق نوین، و بایجونوین بالجانب الغربی کذلک و حفروا خندقا عمیقا داخل السیبا و نصبوا المنجنیقات بازاء سور بغداد من جمیع الجوانب و رتبوا العرّادات و آلات النفط و کان بدء القتال ثانی و عشرین محرم (کذا) فلما عاین الخلیفة العجز فی نفسه و الخذلان من أصحابه أرسل صاحب دیوانه (فخر الدین أحمد ابن الدامغانی) و (عبد الغنی) ابن الدرنوش إلی خدمة هولاکو و معهم تحف نزرة و قالوا: إن سیّرنا الکثیر یقول: قد هلعوا و خرعوا کثیرا. فقال هولاکو: لم؟ ما جاء الدویدار سلیمان شاه؟ فسیّر الخلیفة الوزیر (مؤید الدین) ابن العلقمی و قال: أنت أحد الثلاثة و ها أنا قد سیّرت، إلیک الوزیر و هو أکبرهم. فأجاب هولاکو: إننی لما کنت مقیما بنواحی همذان طلبت أحد الثلاثة و الآن لم أقنع بواحد. و جدّ المغول بالقتال بازاء برج العجمی و بوقا تیمور من الجانب الغربی حیث المبقلة و سونجاق نوین و بایجو نوین من جانب البیمارستان العضدی و أمر هولاکو البثیکتجیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 342
لیکتبوا علی السهام بالعربیة: إن الأرکاونیة و العلویین و الدادنشمندیة و بالجملة من لیس یقاتل فهو آمن علی نفسه و حریمه و أمواله. و کانوا یرمونها إلی المدینة و اشتد القتال علی بغداد من جمیع الجوانب إلی الیوم السادس و العشرین من محرم، ثم ملک المغول الأسوار و کان الابتداء من برج العجمی و احتفظ المغول الشط لیلا و نهارا مستیقظین لئلا ینحدر فیه أحد. و أمر هولاکو أن یخرج إلیه الدویدار و سلیمان شاه و أما الخلیفة إن اختار الخروج فلیخرج و إلا فلیلزم مکانه. فخرج الدویدار و سلیمان شاه و معهما جماعة من الأکابر ثم عاد الدویدار من الطریق بحجة أنه یرجع و یمنع المقاتلین الکامنین بالدروب و الأزقة لئلا یقتلوا أحدا من المغول فرجع و خرج من الغد و قتل، و عامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدین المراغی و شهاب الدین (محمودا) الزنکانی لیأخذ لهم الأمان. و لما رأی الخلیفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم یرد استأذن هولاکو بأن یحضر بین یدیه، فأذن له و خرج رابع صفر و معه أولاده و أهله، فتقدم هولاکو أن ینزلوه بباب کلواذا، و شرع العساکر فی نهب بغداد و دخل (هولاکو) بنفسه إلی بغداد لیشاهد دار الخلیفة و تقدم باحضار الخلیفة فأحضروه و مثل بین یدیه و قدّم جواهر نفیسة و لآلی‌ء و دررا معباة فی أطباق ففرّق هولاکو جمیعها علی الأمراء و عند المساء خرج إلی منزله و أمر الخلیفة أن یفرز جمیع النساء التی باشرهنّ هو و بنوه و یعزلهنّ عن غیرهن ففعل، فکنّ سبعمائة امرأة فأخرجهنّ و معهن ثلاثمائة خادم خصی . و بقی النهب یعمل إلی سبعة أیام ثم رفعوا السیف و بطلوا السبی.
و فی رابع عشر صفر رحل هولاکو من بغداد و فی أول مرحلة قتل الخلیفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 343
المستعصم و ابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصیان باللیل و قتل ابنه الأکبر و معه جماعة من الخواص علی باب کلواذا، و فوّض عمارة بغداد إلی صاحب الدیوان (فخر الدین ابن الدامغانی) و الوزیر (مؤید الدین ابن العلقمی) و (عبد الغنی) ابن الدرنوش. و أرسل بوقا تیمور إلی الحلة لیمتحن أهلها هل هم علی الطاعة أم لا؟ فتوجه نحوها و رحل عنها إلی مدینة واسط و قتل بها خلقا کثیرا أسبوعا ثم عاد إلی هولاکو و هو بمقام سیاه کوه .... و لما ملک هولاکو (بن تولی خان) بغداد و رتب بها الشحانی و الولاة أنفذ بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل إلیه ابنه الملک الصالح اسماعیل و معه جماعة من عسکره نجدة له فأظهر له هولاکو عبسة و قال: أنتم بعد فی شک من أمرنا و مطلتم نفوسکم یوما بعد یوم و قدمتم رجلا و أخرتم أخری لتنظروا من الظافر بصاحبه فلو انتصر الخلیفة و خذلنا لکان مجیئکم إلیه لا إلینا، قل لأبیک: لقد عجبنا منک تعجبا کیف ذهب علیک الصواب و عدل بک ذهنک عن سواء السبیل و اتخذت الیقین ظنا و قد لاح لک الصبح فلم تستصبح. فلما عاد الصالح إلی الموصل و بلغ أباه ما حمل من الرسالة الزاجرة أیقن بدر الدین أن المنایا قد کشرت عن أنیابها و ذلت نفسه و هلع هلعا شدیدا و کاد یخسف بدره و یکسف نوره فانتبه من غفلته و أخرج جمیع ما فی خزائنه من الأموال و اللآلی‌ء و الجواهر و المحرمات من الثیاب و صادر ذوی الثروة من رعایاه و أخذ حتی حلی حظایاه و الدرر من حلق أولاده و سار إلی طاعة هولاکو بجبال همذان فأحسن هولاکو قبوله و احترمه لکبر سنّه ورق له و جبر قلبه بالمواعید الجمیلة ».
و کان هذا المؤرخ قد قال من قبل فی ذکر الخلیفة المستعصم باللّه:
«و کان إذا نبّه علی ما ینبغی أن یفعله فی أمر التتار إما المداراة و الدخول فی طاعتهم و توخی مرضاتهم أو تجییش العساکر و ملتقاهم بتخوم خراسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 344
قبل تمکنهم و استیلائهم علی العراق فکان یقول: أنا بغداد تکفینی و لا یستکثرونها لی اذا نزلت لهم عن باقی البلاد و لا أیضا یهجمون علیّ و أنا بها و هی بیتی و دار مقامی. فهذه الخیالات الفاسدة و أمثالها عدلت به عن الصواب فأصیب بمکاره لم تخطر بباله ».
و قال رشید الدین فضل اللّه الهمذانی الوزیر المؤرخ فی تاریخه جامع التواریخ و نحن ننقل من الترجمة العربیّة التی ترجمها ثلاثة من المصریین و راجع الترجمة یحیی الخشاب، قال تحت عنوان (ظهور الفتنة و وقوع الخلاف بین الدواتدار (مجاهد الدین أیبک) و الوزیر (مؤید الدین العلقمی) و ابتداء نکبة الخلیفة (المستعصم باللّه).
«فی آخر صیف سنة أربع و خمسین حدث غرق عظیم أغرق مدینة بغداد لدرجة أن الطبقة العلیا من المنازل هناک غرقت فی الماء و اختفت تماما و قد استمر انهمار السیل فی تلک الدیار خمسین یوما ثم بدأ فی النقصان و کان من نتیجة ذلک أن بقیت نصف أراضی العراق خرابا یبابا و لا یزال أهالی بغداد حتی الیوم یذکرون الغرق المستعصمی».
«و خلال تلک الواقعة امتدت أیدی جماعة من الشطار و المشاغبین و الرعاع و العیارین بالسلب و الاعتداء و کانوا فی کل یوم یغتصبون بعض الأشخاص الأبریاء، و کان مجاهد الدین الدواتدار یحتضن بنفسه هؤلاء الرعاع و السفلة فصار فی مدة وجیزة صاحب شوکة و بأس. و لما لمس فی نفسه القوة و رأی الخلیفة المستعصم عاجزا لا رأی له و لا تدبیر و ساذجا اتفق مع طائفة من الأعیان علی خلعه و تولیة خلیفة آخر من العباسیین فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 345
مکانه. و عند ما علم مؤید الدین ابن العلقمی نبأ تلک المؤامرة أخبر الخلیفة علی انفراد قائلا: یجب تدارک أمرهم. فاستدعی الخلیفة الدواتدار علی الفور و أطلعه علی ما قاله الوزیر فی شأنه ثم قال له: لما کنت اعتمد علیک و أثق بک فانی لم أصغ إلی کلام الوزیر و هو یغمزک و إنی لأبلغک بأنه لا یجوز أن تخدع بأیة و لا تحید عن جادة الصواب. فلما أحس الدواتدار من الخلیفة الشفقة و العطف أجاب (قائلا): إن ثبت علیّ جرم فهذا رأسی و هذا هو السیف و مع هذا فأین یذهب عفو الخلیفة و صفحه و غفرانه؟ أما هذا الوزیر المزوّر المخادع فقد حمله الشیطان بعیدا عن الطریق المستقیم و اختمرت فی ذهنه المظلم فکرة الولاء و المیل إلی هولاکو خان و جیش المغول و إن سعایته فی حقی لمن أجل دفع هذه التهمة عن نفسه و إنه عدوّ الخلیفة فهو یتبادل مع هولاکو خان الجواسیس. فاستماله الخلیفة و قال له: منذ هذه اللحظة کن یقظا و عاقلا. بعد ذلک خرج مجاهد الدین من حضرة الخلیفة و علی سبیل المکابرة و عدم المبالاة أصرّ علی مهاجمته فجمع حوله شطار بغداد و أوباشها و کانوا یلازمونه لیل نهار فخشی الخلیفة مغبة الحال و جمع جیشا لدفع هذا الخطر. ثم زادت الفتنة و الاضطراب فی بغداد و کان الأهالی هناک قد ملّوا العباسیین و کرهوا حکمهم. و لما عرفوا أن دولتهم قد آذنت بالمغیب ظهرت الأهواء المختلفة بینهم، فخاف الخلیفة مغبة الأمر و عهد إلی فخر الدین ابن الدامغانی صاحب الدیوان بإخماد تلک الفتنة و کتب کتابا بخطه مؤدّاه: أن ما قیل فی حق الدواتدار إنما هو محض افتراء و بهتان و نحن نعتمد علیه اعتمادا کلیا و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 346
فی أماننا. و عند ما أرسلت تلک الرسالة علی ید ابن درنوش إلی الدواتدار حضر و مثل بحضرة الخلیفة، فاستماله هذا و عاد معززا مکرّما، ثم نودی فی المدینة بأن ما قیل فی حق الدواتدار إنما هو کذب، و صار اسم الدواتدار یذکر فی الخطبة بعد اسم الخلیفة و بهذا خمدت الفتنة فی یسر».
و قال هذا المؤرخ تحت عنوان «توجه هولاکو إلی بغداد و تردّد الرسل بینه و بین الخلیفة و عاقبة تلک الحال» قال: «بلغ هولاکو الدینور فی التاسع من ربیع الآخر سنة خمس و خمسین و ستمائة قاصدا بغداد ثم قفل راجعا و مضی إلی همذان فی الثانی عشر من شهر رجب من تلک السنة. و فی العاشر من رمضان أرسل إلی الخلیفة (المستعصم باللّه) رسولا یتهدده و یتوعده قائلا: لقد أرسلنا إلیک رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة و طلبنا مددا من الجند و لکنک أظهرت الطاعة و لم تبعث الجند، و کانت آیة الطاعة و الاتحاد أن تمدنا بالجیش عند مسیرنا إلی الطغاة. فلم ترسل إلینا الجند و التمست العذر و مهما تکن أسرتک عریقة و بیتک ذا مجد تلید (فإن لمعان القمر قد یبلغ درجة یخفی معها نور الشمس الساطعة) و لا بد أنه قد بلغ سمعک علی لسان الخاصّ و العام ما حلّ بالعالم و العالمین علی ید الجیش المغولی منذ عهد جنکیز خان إلی الیوم و الذل الذی حاق بأسر الخوارزمیة و السلجوقیة و ملوک الدیالمة و الأتابکة و غیرهم ممن کانوا ذوی عظمة و شوکة و ذلک بحول اللّه القدیم الدائم، و لم یکن باب بغداد مغلقا فی وجه أیة طائفة من تلک الطوائف و اتخذوا منها قاعدة ملک لهم فکیف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 347
یغلق فی وجهنا برغم ما لنا من قدرة و سلطان، و لقد نصحناک من قبل، و الآن نقول لک: احذر الحقد و الخصام و لا تضرب المخصف بقبضة یدک و لا تلطخ الشمس بالوحل فتتعب. و مع هذا فقد مضی ما مضی فاذا أطاع الخلیفة فلیهدم الحصون و یردم الخنادق و یسلم البلاد لابنه و یحضر لمقابلتنا و إن لم یرد الحضور فلیرسل کلا من الوزیر (مؤید الدین) و سلیمان شاه و الدواتدار لیبلغوه رسالتنا دون زیادة أو نقص فإذا استجاب لأمرنا فلن یکون من واجبنا أن نکن له الحقد، و سنبقی له علی دولته و جیشه و رعیته أمّا إذا لم یصغ إلی النصح و آثر الخلاف و الجدال فلیعبی‌ء الجند و لیعین ساحة القتال فإننا متأهبون لمحاربته و واقفون له علی استعداد، و حینما أقود الجیش إلی بغداد مندفعا بسورة الغضب (فإنّک لو کنت مختفیا فی السماء أو فی الأرض فسوف أنزلک من الفلک الدوار و سألقیک من علیائک إلی أسفل کالأسد و لن أدع حیا فی مملکتک و سأجعل مدینتک و إقلیمک و أراضیک طعمة النار ).
فإذا أردت أن تحفظ رأسک و أسرتک فاستمع لنصحی بمسمع العقل و الذکاء و إلا فسأری کیف تکون إرادة اللّه. و بعد ما بلغ الرسل بغداد و بلّغوا الرسالة أوفد الخلیفة شرف الدین ابن الجوزی و کان رجلا فصیحا و معه بدر الدین محمود و زنکی النخجوانی بصحبته الرسل و أجاب قائلا:
أیها الشاب الحدث المتمنی قصر العمر و من ظن نفسه محیطا و متغلبا علی جمیع العالم مغترا بیومین من الاقبال متوهما أن أمره قضاء مبرم، و أمر محکم، لماذا تطلب منی شیئا لم تجده عندی (کیف یمکن أن تتحکم فی النجم و تقیّده بالرأی و الجیش و السلاح ). ألا لیعلم الأمیر أنه من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 348
الشرق إلی الغرب، و من الملوک إلی الشحاذین و من الشیوخ إلی الشباب ممن یؤمنون باللّه و یعملون بالدین، کلهم عبید هذا البلاط و جنود لی.
إننی حینما أشیر بجمع الشتات سأبدأ بحسم الأمور فی إیران ثم أتوجه منها إلی بلاد توران و أضع کل شخص فی موضعه و عندئذ سیصیر وجه الأرض جمیعه مملوءا بالقلق و الاضطراب غیر أنی لا أرید الحقد و الخصام و لا أن أشتری ضرر الناس و إیذاءهم کما أننی لا أبغی من وراء تردد الجیوش أن تلهج ألسنة الرعیة بالمدح أو القدح، خصوصا أننی مع الخاقان و هولاکو خان قلب واحد و لسان واحد ، و إذا کنت مثلی تزرع بذور المحبة فما شأنک بخنادق رعیتی و حصونهم، فاسلک طریق الود وعد إلی خراسان و إن کنت ترید الحرب و القتال (فلا تتوان لحظة و لا تعتذر إذا استقرّ رأیک علی الحرب، إن لی ألوفا مؤلفة من الفرسان و الرجالة و هم متأهبون للقتال) و إنهم لیثیرون الغبار من ماء البحر وقت الحرب و الطعان».
«و علی هذا النحو بلغ الرسالة و صرف الرسل مع بعض التحف و الهدایا، و حینما خرج الرسل من المدینة (بغداد) وجدوا الصحراء کلها ممتلئة بالرعاع فأطلقوا ألسنتهم بسب هؤلاء الرسل و بادروهم بالسفاهة و أخذوا یمزقون ثیابهم و یبصقون فی وجوههم لعلهم یقولون شیئا یتخذونه ذریعة لایذائهم و الاعتداء علیهم. فلما علم الوزیر (ابن العلقمی) بذلک أرسل علی الفور بعض الغلمان فأبعدوهم. و عند ما وصل الرسل إلی حضرة هولاکو خان و عرضوا علیه کل ما شاهدوه غضب و قال: إن الخلیفة لیست لدیه کفایة قط، إذ أنه معنا کالقوس العوجاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 349
فلو أمدنی اللّه الأزلی بعونه فسوف أجعله مستقیما کالسهم. ثم دخل رسل الخلیفة و هم ابن الجوزی و بدر الدین و زنکی و بلغوا الرسالة، فغضب هولاکو خان من عبارة الخلیفة غیر اللائقة و قال: إن ارادة اللّه مع هؤلاء القوم أمر آخر إذ ألقی فی روعهم مثل هذه الأوهام ».
«و فی شهر ... من سنة الستین لوتیل الموافقة لسنة 655 أذن هولاکو لرسل الخلیفة فی الانصراف من موضع (پنج انگشت) علی حدود همذان التی کانت معسکرا له و أرسل یقول: إن اللّه الأزلی رفع جنکیز خان و منحنا وجه الأرض کله من الشرق إلی الغرب، فکل من سار معنا و أطاعنا و استقام قلبه و لسانه تبقی له أمواله و نساؤه و أبناؤه، و من یفکر فی الخلاف و الشقاق لا یستمتع بشی‌ء من ذلک. ثم عاتب الخلیفة (مراسلته) بشدة قائلا: لقد فتنک حب الجاه و المال و العجب و الغرور بالدولة الفانیة بحیث أنه لم یعد یؤثر فیک نصح الناصحین بالخیر و إن فی أذنیک وقرا فلا تسمع نصح المشفقین و لقد انحرفت عن طریق آبائک و أجدادک، و إذن فعلیک أن تکون مستعدا للحرب و القتال فإنی متوجه إلی بغداد بجیش کالنمل و الجراد و لو جری سیر الفلک علی شاکلة أخری فتلک مشیأة اللّه العظیم ».
«و بعد أن وصل رسل بغداد بلغوا رسالة ذلک الملک الفاتح إلی الوزیر (ابن العلقمی) فعرضها برمتها علی الخلیفة و قال: ماذا تری لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟ فأجاب الوزیر (قائلا)- ینبغی أن ندفعه یبذل الأموال لأن الخزائن و الدفائن تجمع لوقایة عزّة العرض و سلامة النفس ،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 350
فیجب إعداد ألف حمل من نفائس الأموال، و ألفا من نجائب الابل، و ألفا من الجیاد العربیة المجهزة بالآلات و المعدّات و ینبغی إرسال التحف و الهدایا فی صحبة الرسل الکفاة الدهاة مع تقدیم الاعتذار إلی هولاکو و جعل الخطبة و السکّة باسمه. فأعجب الخلیفة برأی الوزیر و أمر بانجاز ذلک، و لکن مجاهد الدین أیبک المعروف بالدواتدار الصغیر، بسبب الوحشة التی بینه و بین الوزیر- أرسل إلی الخلیفة رسالة بالاتفاق مع الأمراء الآخرین و شطار بغداد یقولون: إن الوزیر دبّر هذه الحیلة لمصلحته الخاصّة لکی یتقرب زلفی إلی هولاکو و یلقی بنا- نحن الجنود- فی البلاء و المحنة، و لکننا سوف نرقب مفارق الطرق و نلقی القبض علی الرسل و نأخذ ما معهم من أموال و ندعهم فی العذاب و العناء. فعدل الخلیفة بسبب هذا الکلام عن إرسال الأحمال، و بدافع من التهور و الغرور أرسل إلی الوزیر من یقول له: لا تخش القضاء المقبل، و لا تقل خرافة فإن بینی و بین هولاکو خان و أخیه منکوقاآن صداقة و ألفة لا عداوة و قطیعة و حیث إننی صدیق لهما فلا بد أنهما یکونان صدیقین و موالیین لی و إن رسالة الرسل غیر صحیحة. أما إذا أضمر الأخوان لی خلافا و غدرا فلا ضیر علی الأسرة العباسیة، إذ إنّ ملوک الأرض هم بمثابة الجنود لی، و هم منقادون و مطیعون لأمری و نهیی فأدعوهم من کل قطر و أسیر لدفعهما و أثیر إیران و توران علیهما، فقوّ قلبک و لا تخافنّ تهدید المغول و وعیدهم، فإنهم برغم کونهم أرباب دولة و أصحاب شوکة لا یملکون سوی الهوس فی رؤوسهم و الریح فی أکفهم. فاضطرب الوزیر لهذا الکلام و أیقن أن دولة العباسیین سوف تزول، و إذ کان إدبار هذه الدولة سیکون فی عهده فانه طفق یتلوی کالثعبان و یفکر فی کل تدبیر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 351
و قد اجتمع عند الوزیر أمراء بغداد و عظماؤها مثل سلیمان شاه بن برجم و فتح الدین بن کره و مجاهد الدین الدواتدار الصغیر و أطلقوا ألسنتهم بقدح الخلیفة و طعنه قائلین: إنه صدیق المطربین و المساخر و عدو الجیوش و الجنود و إننا أمراء الجیش بعنا کل ما ادّخرناه فی عهد والده (المستنصر). و قال سلیمان شاه: إذا لم یقدم الخلیفة علی دفع هذا الخصم القوی و لم یبادر إلی طلب العون و المساعدة فسیتغلب جیش المغول عن قریب علی بغداد، و حینئذ لا یرحم المغول أی مخلوق، کما فعلوا بسائر البلاد و العباد، فلا یبقون علی أی شخص من الحضر کان أو من البدو، قویا کان أو ضعیفا، و سیخرجون ربات الخدور من ستر العصمة، و لو أن المغول لم یحدّقوا بجمیع الجهات لکان من السهل حشد الجنود من الأطراف و لحملت علیهم بجیش فی غارة لیلیة و شتت شملهم، و لو جرت الأمور علی خلاف ذلک فأولی بالفتی أن یقتل فی حومة الوغی فی عزّة و شرف » و عند ما بلغ الخلیفة هذا الکلام أعجب به و قال للوزیر: إن کلام سلیمان شاه له الأثر فی النفس المنهکة فاستعرض الجند حسب تقریره لأغنیهم بالدرهم و الدینار، و سلم أمرهم إلی سلیمان شاه لیحقق خطته.
علی أن الوزیر (ابن العلقمی) عرف أن الخلیفة لن یمنح مالا، لکنه لم یبد علی الفور رأیا مخالفا لأعدائه، و أمر العارض أن یعرض الجنود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 352
بالتدریج فوجا فوجا، لیصل نبأ تعبئة الجنود فی حضرة الخلیفة إلی البعید و القریب و الترک و العرب فتفتر عزیمة العدو.؟؟؟ خمسة أشهر أبلغ العارض الوزیر أن الجند قد صاروا عددا وفیرا و جیشا جرارا و أن علی الخلیفة أن یمنح المال، فعرض الوزیر الأمر علی المستعصم و لکنه اعتذر فیئس الوزیر من مواعیده کلیة و رضی بالقضاء و وضع عین الانتظار علی نافذة الاصطبار (حتی یکشف الفلک نفسه عما وراء الستار). و لما کان الدواتدار فی تلک المدة خصما للوزیر فإن أتباعه من سفلة المدینة و أوباشها کانوا یذیعون بین الناس أن الوزیر متفق مع هولاکو خان و أنه یرید نصرته و خذلان الخلیفة، فقوی هذا الظن. ثم أرسل الخلیفة ثانیة هدیة صغیرة إلی هولاکو علی ید بدر الدین ریکی قاضی بندنیجان و بعث یقول:
لو غاب عن الملک فله أن یسأل المطلعین علی الأحوال إذ أن کل ملک حتی هذا العهد قصد أسرة بنی العباس و دار السلام بغداد کانت عاقبته وخیمة و مهما قصدهم ذوو السطوة من الملوک و أصحاب الشوکة من السلاطین فإن بناء هذا البیت محکم للغایة و سیبقی إلی یوم القیامة. و فی الأیام السالفة قصد یعقوب بن اللیث الصفار الخلیفة و توجه بجیش لجب إلی بغداد فلم یبلغ مأربه إذ مات بعلة الزحار و الأمر کذلک مع أخیه عمرو إذ قبض علیه إسماعیل بن أحمد السامانی و کبله و أرسله إلی بغداد لکی یجری علیه الخلیفة ما حکم به القضاء و کذلک جاء البساسیری بجیش عظیم من مصر إلی بغداد و قبض علی الخلیفة و سجنه فی الحدیثة . و فی بغداد جعل الخطبة و السکّة مدة عامین باسم المستنصر الذی کان خلیفة الاسماعیلیة فی مصر و فی النهایة علم طغرلبک بذلک فأسرع من خراسان و قصد البساسیری فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 353
جیش جرّار و قبض علیه و قتله، و أخرج الخلیفة من السجن و أعاده إلی بغداد و أجلسه علی عرش الخلافة و کذلک قصد السلطان محمد (بن محمود) السلجوقی بغداد فعاد منهزما و هلک فی الطریق، و جاء محمد خوارزم شاه بجیش عظیم قاصدا استئصال الأسرة فابتلی فی روابی أسد آباد بالثلج و العواصف بسبب غضب اللّه علیه، و هلک أکثر جنوده و عاد خائبا خاسرا ثم لاقی ما لاقی من جدک جنکیز خان فی جزیرة آبسکون فلیس من المصلحة أن یفکر الملک فی قصد أسرة العباسیین. فاحذر عین السّوء من الزمان الغادر. فاشتد غضب هولاکو بسبب هذا الکلام و أعاد الرسل قائلا: (اذهب فاصنع من الحدید المدن و الأسوار و ارفع من الفولاذ الأبراج و الهیاکل و اجمع جیشا من المردة و الشیاطین ثم تقدم نحوی للخصام و النزال فسأنزلک و لو کنت فی السّماء و سأدفع بک غصبا إلی أفواه السباع) .
ثم قال هذا المؤرخ الیهودی الأصل تحت عنوان «قصّة اشتغال هولاکو خان بترتیب الجیش و تجهیزه لفتح بغداد و ما حولها» قال:
«عند ما أعاد هولاکو الرسل کان یفکّر فی کثرة جند بغداد فاشتغل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 354
بإعداد الجیش و تجهیزه و أراد أن یرسل أغلب الجند إلی نواحی بغداد حیث الجبال الشاهقة المنیعة فیستولی علیها ، ثم أرسل رسولا لاستدعاء حسام الدین عکر الذی کان حاکما علی درتنک و ما حولها من قبل الخلیفة و کان حنقا علیه، فسلم حسام الدین درتنک دون تردد إلی ابنه الأمیر سعد و حضر بنفسه لتقدیم الطاعة لهولاکو فشمله بکثیر من العطف و الرعایة و أذن له فی العودة و منحه حصنی وروده و المرج و عدة قلاع أخری ثم قفل راجعا فأرسل إلی کل قلعة جیشا فخضع له أهلها جمیعا و سلموا إلیه القلاع. و لما تحققت أمنیة حسام الدین التی طالما تمناها و تجمعت عنده جنود سلیمان شاه بن برجم تعاظم و تکبر فأرسل إلی تاج الدین ابن الصلایا العلوی زعیم إربل یرجو منه أن یتوسط فی الصلح بین الدیوان العزیز و بینه و قال: لقد قدّرت هولاکو خان و ما هو علیه من کفاءة و کیاسة و مهما یکن له من العنف و التهدید فلیس له عندی قدر و لا وزن، فلو طیب الخلیفة خاطری و طمأن قلبی و بعث إلی بجیش من الفرسان لجمعت أنا أیضا ما یقرب من مائة ألف من فرق المشاة من کرد و ترکمان و لسددت الطرق فی وجه هولاکو و لا أدع أی مخلوق من جنده یدخل بغداد. فعرف ابن الصلایا الوزیر (ابن العلقمی) بذلک، فعرضه هذا بدوره علی الخلیفة، فلم یبد اهتماما کثیرا. و لما بلغ هولاکو خان هذا الکلام ثارت سورة غضبه و أوفد کیتو بوقا مع ثلاثین ألفا من الفرسان لدفعهم. و عند ما اقترب منهم استدعی حسام الدین قائلا: لقد صممنا علی قصد بغداد و نحن فی حاجة إلی مشاورتک. فحضر حسام الدین دون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 355
تفکر أو تدبیر و أوکل به کیتو بوقا و قال: إذا أردت النجاة و البقاء حاکما علی هذه القلاع فأنزل نساءک و أبناءک و أتباعک و جنودک جمیعا من هذه القلاع لکی أحصیهم و أقرر لهم الأموال و المؤن. فلم یجد حسام الدین بدا من الطاعة و أحضرهم جمیعا. فقال کیتو بوقا: إذا کانت میولک مخلصة للملک فمر بتخریب جمیع القلاع لیتحقق هذا المعنی.
فأدرک أن کلماته التافهة بلغت مسامعهم، فیئس من حیاته الغالیة و أرسل من یهدم کل القلاع. ثم قتله المغول مع کافة أتباعه و أشیاعه ما عدا أهل القلعة التی کان فیها ابنه الأمیر سعد، فقد طلبوا إلیه التسلیم تخویفا و إرهابا فلم یجبهم و قال: إن عهدکم غیر صحیح و لا أثق به. ثم ظل یجوّل مدة خلیع العذار فی تلک الجبال و أخیرا سار إلی بغداد و لقی من دیوان الخلیفة حسن الاستقبال إلی أن قتل فی حرب بغداد. و عاد کیتوبوقا مظفرا منصورا إلی حضرة هولاکو. و کان الخان یتشاور مع أرکان الدولة و أعیان الحضرة فی أمر تصمیمه علی الزحف إلی بغداد فکان منهم من یبدی رأیه حسب ما یعتقد، ثم طلب حسام الدین المنجم الذی کان مصاحبا له بأمر القاآن لیختار وقت النزول و الرکوب و قال له: بینّ کل ما یبدو لک فی النجوم دون مداهنة. و لما کانت له جرأة بسبب تقرّبه فقد قال بصورة مطلقة : إنه لیس میمونا قصد أسرة الخلافة و الزحف بالجیش إلی بغداد إذ أن کل ملک حتی زماننا هذا قصد بغداد و العباسیین لم یستمتع بالملک و العمر و إذا لم یصغ الملک إلی کلامی و ذهب إلی هناک فستظهر ستة أنواع من الفساد أولها أن تنفق الخیول کلها و یمرض الجنود و ثانیها أن الشمس لا تطلع و ثالثها أن المطر لا ینزل و رابعها تهب ریح صرصر و ینهار العالم بالزلزال و خامسها لا ینبت النبات فی الأرض و سادسها أن الملک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 356
الأعظم یموت فی تلک السنة . فطلب منه هولاکو شهادة بصحة هذا الکلام فکتبها المسکین و قال الکهان المغول و الأمراء: إن الذهاب إلی بغداد هو عین المصلحة .. و بعد ذلک استدعی هولاکو خان الخواجة نصیر الدین الطوسی و استشاره فخاف الخواجة و ظن أن الأمر علی سبیل الاختبار فقال: لن تقع أیة واقعة من هذه الأحداث. فقال هولاکو: إذن ماذا یکون؟ قال: ان هولاکو سیحل محل الخلیفة. ثم أحضر هولاکو حسام الدین لیتباحث مع الخواجة فقال الخواجة: لقد استشهد جمع کثیر من الصحابة باتفاق آراء الجمهور و أهل الإسلام و لم یحدث فساد قط و لو قیل إن للعباسیین مکرمة خاصة بهم فإن طاهر بن الحسین جاء من خراسان بأمر المأمون و قتل أخاه محمدا الأمین، و قتل المتوکل ابنه بالاتفاق مع الأمراء، کذلک قتل الأمراء و الغلمان المنتصر و المعتز و قتل عدد من الخلفاء علی ید جملة أشخاص فلم تختل الأمور (فأضاء قلب الملک من قول العالم کأنه زهرة اللعل فی الربیع الباکر)».
و قال هذا المؤرخ بعد ذلک تحت عنوان «تصمیم هولاکو خان و تحرکه بعد ذلک إلی بغداد و زحف الجیوش من کل ناحیة و صوب إلی مدینة السلام و الاستیلاء علیها و انتهاء الدولة العباسیة».
«بعد ذلک عقد هولاکو النیة علی فتح بغداد فأمر بأن تتحرک جیوش جرماغون و بایجونوین اللذین کانت معاقلهما فی بلاد الروم و أن تسیر علی المیمنة إلی الموصل عن طریق إربل ثم تعبر جسر الموصل و تعسکر فی الجانب الغربی من بغداد و ذلک فی وقت معین حتی إذا قدمت الرایات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 357
من المشرق تخرج إلیها من تلک الناحیة . و یسیر الأمیر بلغا بن شیبان بن جوجی و الأمیر توتار بن سکنقور، و قولی بن أورده بن جوجی و بوقا تیمور و سونجاق من المیمنة أیضا و یدخلون من مضیق سونتای نوین إلی ناحیة هولاکو خان. أما قوات کیتو بوقا نوین و قدخون و نرک ایلکا فعلی المیسرة کانت تزحف من حدود لرستان و البیات و تکریت و خوزستان التی تمتد إلی (ساحل بحر عمان. ثم ترک هولاکو المعسکرات و الأفواج فی مرج زکی من ضواحی همذان و أقر علیهم قیاق نوین. و فی أوائل المحرم سنة 655 سار بالجیوش فی القلب الذی یسمیه المغول (قول) نحو کرمانشاهان و حلوان و کان فی رکابه کبار الأمراء: کوکا ایلکا و أرقتو و أرغون آقا، و من الکتاب قرتای و سیف الدین البینکجی المدیر لشؤون المملکة و الخواجة نصیر الدین الطوسی و الصاحب السعید علاء الدین عطا ملک الجوینی مع کافة السلاطین و الملوک و کتاب بلاد إیران. و عند ما بلغ أسد آباد أوفد رسولا لدعوة الخلیفة مرّة أخری للحضور فکان یماطل و یتعلل و وصل ابن الجوزی إلی الدینور للمرة الثانیة قادما من بغداد یحمل رسالة بالوعد و الوعید و ملتمسا أن یعود هولاکو خان و یتراجع فی مقابل أن یسلم الخلیفة للخزانة کل ما یقرره هولاکو خان. فظن هذا أن الخلیفة یرید من وراء عودة الجیش أن یعد جنده و یهیئهم لمقاومة المغول فقال:
و کیف نترک زیارة الخلیفة بعد کل ما قطعناه من هذا الطریق؟! سوف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 358
نعود باذنه بعد الحضور للقائه و التحدث معه. و قد تحرک جنود المغول من هناک إلی جبال الأکراد و نزلوا بکرمانشاه فی السابع و العشرین من الشهر و قاموا بالقتل و السلب و أرسلوا رسولا لیحضر علی الفور الأمراء:
سونجاق و بایجو نوین و سونتای، فوصلوا إلی الحضرة فی طاق گری ثم قبضوا علی أیبک الحلبی و سیف الدین قلج اللذین کانا من طلائع جیش الخلیفة و أحضروهما إلی الحضرة فأعطی هولاکو الأمان لأیبک و فی نظیر ذلک قبل أن یقول الصدق ثم جعلهما هولاکو مرشدین لطلائع قوات المغول، بعد ذلک أعاد الأمراء مرموقین بالعطف و الرعایة لیعبروا نهر دجلة و یتوجهوا إلی غربی بغداد، و أحرقوا أکتاف الأغنام، جریا علی عادتهم، ثم عادوا و عبروا نهر دجلة قاصدین غربی بغداد. و فی تلک الجهة کان قائد الطلائع لجند الخلیفة ببغداد هو قبجاق المعروف بقراسنقر. و أما سلطان جو الذی کان من نسل الخوارزمیین فقد کان مع طلائع المغول، فکتب هذه الرسالة إلی قرا سنقر یقول فیها: إننی و أنت من جنس واحد و بعد البحث و التدقیق التحقت بخدمة هولاکو بسبب الفقر و الاضطرار و دخلت فی طاعته و هو الآن یعاملنی معاملة طیبة فأنقذ أنت أیضا حیاتک و ترفق بها و أشفق علی أولادک و قدّم الطاعة حتی تأمن علی دارک و أولادک و مالک و روحک من هؤلاء القوم، فکتب إلیه قرا سنقر مجیبا: من یکون هؤلاء المغول حتی یقصدوا أسرة العباسیین، لقد شاهدت هذه الأسرة الکثیرین من أمثال دولة جنکیز خان و إن أساسها لأکثر إحکاما و رسوخا من أساس أسرة جنکیز خان التی تترنح من کل ریح عاصف، ثم إن العباسیین قد استمروا حکاما أکثر من خمسمائة سنة و کل مخلوق قصدهم بسوء قضی علیه الزمان و إذن فلیس من العقل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 359
و الکیاسة أن تدعونی لأنضم إلی جانب الغصن الغض لدولة جنکیز خان، و کان الأولی بالود و المسالمة أن لا یتجاوز هولاکو خان الری بعد فراغه من فتح قلاع الملاحدة و أن یعود إلی خراسان و ترکستان لأن قلب الخلیفة متأثر و ساخط بسبب زحف هولاکو بجیوشه، فإذا کان هولاکو نادما حقا علی فعلته فعلیه أن یعید الجیش إلی همذان لکی نجعل الدواتدار شفیعا فیتضرع إلی الخلیفة علّه یزول ألمه و یقبل الصلح فیغلق بذلک باب القتال و الجدال. فلما عرض سلطان جوقه تلک الرسالة علی هولاکو ضحک و قال: إن اعتمادی علی اللّه لا علی الدرهم و الدینار فإن کان اللّه الأزلی مساعدا لی و معینا فماذا أخشاه من الخلیفة و جیشه؟ (تتساوی فی نظری النملة و البعوضة و الفیل کما یتساوی الینبوع و النهیر و البحر و النیل، و لو کان أمر اللّه علی خلاف ذلک فمن یدری سواه کیف یکون ذلک الکلام؟
ثم أرسل عودا علی بدء رسولا یقول: إن کان الخلیفة قد أطاع فلیخرج و إلا فلیتأهب للقتال و لیحضر إلینا قبل کل شی‌ء الوزیر و سلیمان شاه و الدواتدار لیسمعوا ما نقول».
«و فی الیوم التالی سار هولاکو و عسکره علی شاطی‌ء نهر حلوان فی التاسع من ذی الحجة سنة 655 حیث أقام إلی الثانی و العشرین من ذلک الشهر، و فی هذه الأیام استولی کیتو بوقا علی کثیر من بلاد لرستان طوعا و کرها. و فی الحادی عشر من شهر جقشاباط من سنة موعاییل الموافق التاسع من المحرم سنة 656 عبر بایجو نوین و باقا تیمور و سونجاق فی الوقت المقرّر نهر دجلة عن طریق نهر دجیل و وصلوا إلی نواحی نهر عیسی، و قد التمس سونجاق نوین إلی بایجو أن یکون قائدا لجیش غرب بغداد ثم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 360
سار بعد الاستئذان و جاء إلی حربی . و قبل ذلک کان مجاهد الدین أیبک الدواتدار الذی کان قائدا لجیش الخلیفة و معه (فتح الدین) ابن کر قد أقاما معسکرهما بین بعقوبا و باجسرا، و حینما سمعا بمجی‌ء المغول إلی الضفة الغربیة عبرا نهر دجلة و حاربا سونجاق و بوقا تیمور فی حدود الأنبار علی باب قصر المنصور فی أعلی المزرفة علی تسعة فراسخ من بغداد، فلوی جنود المغول العنان و جاؤوا إلی البشیریة من ناحیة دجیل، فلما لحقوا ببایجو و وصل هؤلاء أعادوهم، و فی تلک النواحی کان یوجد نهر کبیر ففتح المغول السدّ المقام علیه فغمرت المیاه کل الصحراء الواقعة خلف جیش بغداد. و فی فجر یوم الخمیس من نهار عاشوراء دهم بایجو و بوقا تیمور الدواتدار و ابن کر و انتصرا علیهما فهزم جیش بغداد و قتل فتح الدین ابن کر و قراسنقر اللذان کانا قائدی الجیش مع اثنی عشر ألف رجل فضلا عمن غرق أو قضی نحبه فی الوحل، اما الدواتدار فقد فرّ هاربا مع نفر ضئیل و عاد إلی بغداد، کما هرب البعض إلی الحلة و الکوفة.
و فی یوم الثلاثاء منتصف المحرم قدم بوقا تیمور و بایجو و سونجاق إلی بغداد و استولوا علی الجانب الغربی، و نزلوا فی أحیاء المدینة علی شاطی‌ء دجلة و وصل أیضا بوقا نوین و الأمراء الآخرون من ناحیة النّخاسیة و صرصر بجیش عظیم. و ترک هولاکو خان معسکراته فی خانقین و واصل سیره إلی بغداد و نزل فی الجهة الشرقیة منها فی السابع من شهر جقشباط من سنة موغا الموافق الحادی عشر من المحرم سنة 656 ثم تدفق الجیش المغولی موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-1 ؛ ص360
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 361
کالنمل و الجراد من کل جهة و ناحیة فحاصروا أسوار بغداد و احتموا بجدار أقاموه. و فی یوم الثلاثاء الثانی و العشرین من المحرم شرعوا فی الحرب و التحم الجیشان و کان هولاکو فی القلب من طریق خراسان علی الجانب الأیسر من المدینة فی مقابل برج العجمی ، و کان ایلکا نوین و فربا علی باب کلواذا، أما قولی و بولغا و توتار و شیرامون و أرقیو فقد نزلوا فی عرض (ظاهر) المدینة فی مواجهة باب سوق السلطان، و کان بوقا تیمور یقف فی جهة القلعة و جانب القبلة بموضع دولاب البقل، و کان بایجو و سونجاق یرابطان فی الجانب الغربی حیث المارستان العضدی و کان الجمیع یحاربون و قد صوبوا المجانیق مباشرة تجاه برج العجمی حتی أحدثوا فیه ثغرة. و عندئذ أرسل الخلیفة الوزیر و الجاثلیق إلی هولاکو یقول: إن الملک قد أمر بأن أبعث الیه بالوزیر و ها أنا ذا قد لبیت طلبه فینبغی أن یکون الملک عند کلمته. فرد الملک قائلا: إن هذا الشرط طلبته و أنا علی باب همذان أما الآن فنحن علی باب بغداد و قد ثار بحر الاضطراب و الفتنة فکیف أقنع بواحدة. ینبغی أن ترسل هؤلاء الثلاثة- یعنی الدواتدار و سلیمان شاه و الوزیر-. ثم ذهب الرسل إلی المدینة و فی الیوم التالی (لذاک) خرج إلی هولاکو الوزیر (ابن العلقمی) و صاحب الدیوان (فخر الدین ابن الدامغانی) و جمع من المعارف و المشاهیر، و لکنه أعادهم و قد دارت حرب طاحنة مدة ستة أیام، ثم أمر الملک بأن یکتب ستة منشورات تفید بأن القضاة و العلماء و الشیوخ و السادات و التجار و کل من لا یحاربنا لهم الأمان. و ربطوا هذه المنشورات بالنبال و ألقوها علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 362
المدینة من جوانبها الستة. و لما لم تکن توجد حجارة للمجانیق فی أطراف بغداد فإنهم کانوا یأتون بها من جبل حمرین و جلولاء و کانوا یقطعون النخیل و یرمون بقطعها بدلا من الحجارة، و فی یوم الجمعة الخامس و العشرین من المحرم هدم المغول برج العجمی و فی یوم الاثنین الثامن و العشرین و حیث کان یقف هولاکو تسلق جنود المغول السور عنوة و طهروا أعالی الأسوار من الجند، لکنهم لم یتسلقوا الأسوار من ناحیة سوق السلطان حیث کان یحارب بولغا و توتار، فعاتبهم السلطان، کذلک لم یذهب أتباعهم (کذا) و فی المساء تسلّم المغول جمیع الأسوار الشرقیة، بعد ذلک أمر هولاکو خان بأن یقیموا جسرا فی أعلی بغداد و آخر فی أسفلها و أن یعدّوا السفن و ینصبوا المجانیق و یعینوا المستحفظین، و کان بوقا تیمور قد رابط مع عشرة آلاف جندی علی طریق المدائن و البصرة لیصد کل من یحاول الهرب بالسفن. و لما حمی و طیس الحرب فی بغداد و ضاق الحال علی الأهالی أراد الدواتدار أن یرکب سفینة و أن یهرب إلی ناحیة السیب و لکنه بعد أن اجتاز قریة العقاب أطلق جند بوقا تیمور حجارة المنجنیق و السهام و قواریر النفط و استولوا علی ثلاث سفن و أهلکوا من فیها و عاد الدواتدار منهزما. فلما وقف الخلیفة علی تلک الحال یئس نهائیا من الاحتفاظ ببغداد و لم یر أمامه مفرا و لا مهربا قط فقال: سأستسلم و أطیع ثم أرسل فخر الدین الدامغانی و ابن الدرنوش
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 363
مع قلیل من التحف إلی هولاکو زاعما أنه لو بعث بالکثیر لکان ذلک دلیلا علی خوفه فیتجرأ العود، فلم یلتفت هولاکو إلی هذه الهدایا و عادا محرومین. و فی یوم الثلاثاء التاسع و العشرین من المحرم خرج من بغداد للقاء هولاکو أبو الفضل عبد الرحمن بن الخلیفة الثانی ، بینما ذهب الوزیر (ابن العلقمی) إلی المدینة، و کان صاحب الدیوان (فخر الدین ابن الدامغانی) و جماعة من العظماء مع أبی الفضل و قد حملوا أموالا کثیرة، فلم تقبل منهم، و فی غد ذلک الیوم آخر المحرم خرج ابن الخلیفة الأکبر (أبو العباس أحمد) و معه الوزیر (ابن العلقمی) و جماعة من المقربین للشفاعة فلم یجدوا فائدة و عادوا إلی المدینة. و قد بعث الملک الخواجة نصیر الدین (الطوسی) و ایتیمور برسالة إلی الخلیفة، فخرجا فی صحبة رسل بغداد غرّة صفر، و أرسل فخر الدین الدامغانی الذی
کان صاحب الدیوان و ابن الجوزی و ابن الدرنوش إلی المدینة لیخرجوا سلیمان شاه و الدواتدار و منحهم فرمانا و پایزة طمأنة لهم و تقویة لموقفهم و قال: إن الرأی للخلیفة فله أن یخرج أو لا یخرج و سیکون جیش المغول مقیما علی الأسوار إلی أن یخرج سلیمان شاه و الدواتدار.
و فی یوم الخمیس غرة صفر خرج الرجلان فأعادهما مرة ثانیة إلی المدینة لیخرجا أتباعهما حتی ینضموا إلی قوات مصر و الشام ، و عزم جند بغداد علی الخروج معهم و کانوا خلقا لا یحصون مؤملین أن یجدوا الخلاص فقسموهم ألوفا و مئات و عشرات و قتلوهم جمیعا. أما من بقی فی بغداد فقد هربوا إلی الأنفاق و مواقد الحمامات ثم خرج جماعة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 364
أعیان المدینة و طلبوا الأمان قائلین: إن ناسا کثیرین طائعون خاضعون فلیمهلوا لأن الخلیفة سیرسل أبناءه و یخرج بنفسه أیضا. و فی تلک الأثناء أصاب سهم عین هندو البتکچی و کان من أکابر الأمراء. فتملک هولاکو غضب عظیم وجد فی الاستیلاء علی بغداد و أمر الخواجة نصیر الدین (الطوسی) أن یقیم علی باب الحلبة أمانا للناس. فشرع الأهالی یخرجون من المدینة. و فی یوم الجمعة الثانی من صفر قتل الدواتدار و جی‌ء بسلیمان شاه مع سبعمائة من أقاربه و کان مکبل الیدین فاستجوبه هولاکو قائلا لقد کنت منجما و مطلعا علی أحوال السعد و النحس للبلاد فکیف لم تتنبأ بسوء مصیرک و لم تنصح مخدومک لکی یبادر إلینا عن طریق الصلح؟
فأجاب سلیمان شاه: لقد کان الخلیفة مستبدا برأیه منکود الطالع فلم یستمع لنصح الناصحین. ثم أمر بقتله مع کافة أتباعه و أشیاعه کما قتل الأمیر تاج الدین ابن الدواتدار الکبیر و أرسل رؤوس هؤلاء الثلاثة علی ید الملک الصالح ابن بدر الدین لؤلؤ إلی الموصل و کان بدر الدین صدیقا لسلیمان شاه فبکی و لکنه علق رؤوسهم خوفا علی حیاته. و بعد أن رأی الخلیفة المستعصم أن الأمر قد خرج من یده استدعی الوزیر (ابن العلقمی) و سأله ما تدبیر أمرنا؟. فأنشد الوزیر هذا البیت فی جوابه:
یظنون أن الأمر سهل و إنماهو السیف حدّت للقاء مضاربه
و بعد خراب البصرة خرج و معه أبناؤه الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن و أبو العباس أحمد و أبو المناقب مبارک و کان ذلک یوم الأحد الرابع من صفر سنة 656 و کان معه ثلاثة آلاف من السادات و الأئمة و القضاة و الأکابر و الأعیان ثم قابل هولاکو خان فلم یبد الملک غضبا قط و کلّمه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 365
بالحسنی ثم قال له: مر سکان المدینة حتی یضعوا أسلحتهم و یخرجوا لکی نحصیهم- فأرسل الخلیفة من ینادی فی المدینة لیضع الناس أسلحتهم و یخرجوا، فألقی الناس أسلحتهم زمرا زمرا و صاروا یخرجون فکان المغول یقتلونهم ثم أمر بأن تقام الخیام للخلیفة و أبنائه و أتباعه بباب کلواذا فی معسکر کیتو بوقا نوین و نزلوا فیها و عهدوا بحراستهم إلی عدد من المغول و کان الخلیفة (المستعصم) ینظر بعین الحقیقة إلی هلاکه و یأسه علی ترکه الحزم و إبائه قول النصح (قال فی نفسه: لقد فاز عدوی إذ رآنی قد وقعت فی الشرک کالطائر الحذر). و کان بدء القتل و النهب فی یوم الأربعاء السابع من صفر فاندفع الجند المغول مرة واحدة إلی بغداد و أخذوا یحرقون الأخضر و الیابس ما عدا قلیلا من منازل الرعاة و بعض الغرباء. و فی یوم الجمعة التاسع من صفر دخل هولاکو المدینة لمشاهدة قصر الخلیفة و جلس فی المثمنّة و احتفل بالأمراء ثم أشار باحضار الخلیفة فقال له: إنک مضیف و نحن الضیوف فهیا أحضر ما یلیق بنا. فظن الخلیفة أن هذا الکلام علی سبیل الحقیقة و کان یرتعد من الخوف و بلغ من دهشه أنه عاد لا یعرف مکان مفاتیح الخزائن فأمر بکسر عدة أقفال و أحضر لهولاکو ألفی ثوب و عشرة آلاف دینار و نفائس و مرصعات و عددا من الجواهر. فلم یلتفت هولاکو إلیها و منحها کلها للأمراء و الحاضرین ثم قال للخلیفة: إن الأموال التی تملکها علی وجه الأرض ظاهرة و هی ملک عبیدنا لکن اذکر ما تملکه من الدفائن ما هی و أین توجد؟ فاعترف الخلیفة بوجود حوض مملوء بالذهب فی ساحة القصر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 366
فحفروا الأرض حتی وجدوه کان ملآنا بالذهب الأحمر و کان کله سبائک تزن الواحدة مئة مثقال. بعد ذلک صدر الأمر باحصاء نساء الخلیفة فعدوا سبعمائة زوجة و سریة و ألف خادمة فلما اطلع الخلیفة علی تعداد نسائه تضرع فقال لهولاکو: منّ علیّ بأهل حرمی اللائی لم تطلع علیهن الشمس و لا القمر. فقال له هولاکو: اختر مائة من هذه النساء السبعمائة و اترک الباقی . فأخرج الخلیفة معه مائة امرأة من أقاربه و المحببات إلیه.
ثم رجع هولاکو خان إلی المعسکر لیلا. و فی الصباح أمر بأن یسیر سونجاق إلی المدینة و أن یعتبر أموال الخلیفة و یخرجها. و قصاری القول أن کل ما کان للخلفاء قد جمعوه خلال خمسة قرون وضعه المغول بعضه علی بعض فکان کجبل علی جبل، و قد احترق أکثر الأماکن المقدسة فی المدینة مثل جامع الخلیفة و مشهد موسی (و) الجواد علیها الرحمة و قبور الخلفاء. و أخیرا أوفد سکان المدینة شرف الدین المراغی و شهاب الدین (محمودا) الزنجانی و الملک (أحمد بن عمران الباجسری) دال رست أی المخلص إلی هولاکو و طلبوا الأمان، فصدر الأمر بالتوقف من بعد ذلک عن القتل و النهب (لأن بغداد أصبحت ملکا لنا فلیستقر الأهالی و لینصرف کل شخص إلی عمله) و بذلک وجد الأمان الذین نجوا من السیف.
و فی یوم الأربعاء الرابع عشر من صفر رحل هولاکو عن بغداد بسبب عفونة الهواء و نزل بقریتی الوقف و الجلابیة و أرسل الأمیر عبد الرحمن لفتح ولایة خوزستان ثم استدعی الخلیفة فأدرک هذا أنّ أمارات النحس تبدو علی مصیره و خاف خوفا شدیدا و قال للوزیر (ابن العلقمی): ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 367
حیلتنا؟ فأجاب الوزیر قائلا: لحیتنا طویلة. و کان مراده من ذلک أنه عند ما فکر فی أول الأمر فی أن ترسل أحمال وفیرة لدفع هذا البلاء قال الدواتدار مجاهد الدین: لحیة الوزیر طویلة. و حال دون الأخذ بهذا الرأی و استمع الخلیفة لکلامه و أهمل تدبیر الوزیر. و یئس الخلیفة من إنقاذ حیاته و استأذن فی أن یذهب إلی الحمام لیجدد اغتساله. فأمر هولاکو خان بأن یذهب مع خمسة من المغول، و لکن الخلیفة قال: أنا لا أرید أن أذهب بصحبة خمسة من الزبانیة، و کان ینشد بیتین أو ثلاثة من قصیدة هذا مطلعها:
و أصبحنا لنا دارکجنات و فردوس
و أمسینا بلا دارکأن لم نغن بالأمس
و فی مساء الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة 656 قضوا علی الخلیفة و علی إبنه الأکبر و خمسة من الخدم کانوا فی خدمته فی قریة الوقف ، و فی الیوم التالی قتلوا الذین کانوا قد نزلوا معه فی بوابة کلواذا، کذلک قضوا علی کل شخص وجدوه حیا من العباسیین اللهم إلّا أفرادا قلائل لم یأبهوا لهم. و قد سلم مبارکشاه الابن الأصغر للخلیفة إلی أولجای خاتون فأرسلته إلی مراغة لیکون مع الخواجة نصیر الدین ثم زوّجوه من امرأة مغولیة فأنجب منها بولدین. و فی یوم الجمعة السادس عشر من صفر ألحقوا الإبن الثانی للخلیفة بوالده و أخیه و بذلک قضی علی دولة خلفاء آل العباس الذین حکموا بعد بنی أمیة و کانت مدة خلافتهم خمسا و عشرین و خمسمائة سنة و عددهم سبعة و ثلاثون خلیفة حسب ما یأتی بالتفصیل». و ذکر المؤرخ الخلفاء بالترتیب ثم قال: «و فی نفس الیوم الذی قتلوا فیه الخلیفة أرسلوا إلیها مؤید الدین ابن العلقمی لیقوم بالوزارة و فخر الدین الدامغانی لیکون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 368
صاحب الدیوان و جعلوا علی بهادر شحنة لها و عینوا المحتسبین لمراقبة المقاییس و الأوزان و نصبوا عماد الدین عمر القزوینی نائبا للأمیر قراتای و هو الذی عمر مسجد الخلیفة و مشهد موسی (و) الجواد، و کذلک نصب نجم الدین أبو جعفر أحمد بن عمران الملقب براست دل (المخلص) والیا علی أعمال شرقی بغداد مثل طریق خراسان و الخالص البندنیجین ، و أمر هولاکو بأن یکون نظام الدین عبد المنعم البندنیجی قاضیا للقضاة و اختار إیلکانوین و قرابوقا و معهما ثلاثة آلاف من فرسان المغول و بعث بهم إلی بغداد لیقوموا بالعمارة فی الحال و لیعملوا علی استتاب الأمن. ثم بادر کل شخص بدفن قتلاه و طهّرت الطرق من جثث الحیوانات النافقة و عمرت الأسواق. و فی یوم الخمیس التاسع و العشرین من صفر حضر إلی الدرکاه شرف الدین ابن الوزیر و صاحب الدیوان لتلقی التعلیمات ثم عادا و فی یوم الجمعة الثالث من العشرین رحل هولاکو و نزل بقبة الشیخ مکارم ، و من هناک کان یسیر مرحلة بعد مرحلة إلی أن بلغ معسکراته فی خانقین. و فی أثناء حصار بغداد کان قدم إلیه بعض العلویین و الفقهاء من الحلة و التمسوا إلیه أن یعیّن لهم شحنة» .
و مما نقلنا من الأخبار المبسوطة فی فتح هولاکو لبغداد و العراق یظهر للقاری‌ء أن مؤید الدین ابن العلقمی کان أحد ثلاثة من أرباب دولة بنی العباس أراد هولاکو حضورهم لتمثیل الدولة العباسیة و بیان الأسباب فی تلکؤها عن الأذعان للدولة المغولیة و الدخول فی طاعتها، و أن اثنین من هؤلاء الثلاثة أمر بقتلهما بعد ثبوت جرمهما عندها و الثالث هو الوزیر ابن العلقمی نجا مع جماعة من أصحاب الدولة و استوزر فلو کان مخامرا لهولاکو و مباطنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 369
و مراسلا ما احتاج أن یدخله فی عداد الثلاثة و لا اهتم بحضوره و حمله الرسالة، فهذا یدل علی أن الرضا عنه وقع بعد سؤاله عن سبب اضطراب السیاسة العباسیة و تقدیمه الأعذار المقبولة فی أنه کان من رأیه الطاعة للدولة المغولیة التی یمثّلها هولاکو و استشهاده شهودا علی صدق قوله من أرباب الدولة نفسها کفخر الدین أحمد بن الدامغانی و تاج الدین علی بن الدوامی .

أدب ابن العلقمی

کان أبو طالب محمد بن أحمد ابن العلقمی أدیبا کاتبا منشئا ینظم الشعر الذی یسمی شعر المناسبات و قد حوت عدة تواریخ عدة قطع و مقطوعات من نثره و شعره، قال مؤلف الحوادث فی سنة 643 «و توفیت ابنة الخلیفة المستعصم باللّه، اسمها عائشة و عمل لها العزاء فی الرصافة علی جاری العادة و أنشد الشعراء المراثی و کتب الوزیر مؤید الدین محمد بن العلقمی إلی الخلیفة (إنما یوفی الصابرون أجرهم بغیر حساب. أجزل اللّه ثواب الخدمة الشریفة المقدسة النبویة الإمامیة المستعصمیة باللّه علی احتسابها، و جزاها أفضل جزاء الصابرین عند جزع النفوس و اکتئابها، و أفاء علیها ظلا من البقاء ظلیلا، و رجع طرف الحوادث عن حوزتها الشریفة حسیرا کلیلا، و عوّض عمّن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 370
عبر و ذهب بحراسة غیره مما وهب، و جعل السادة الموالی المعظمین فی حوز حیاطته، و کلأهم من کل حادث بعین حفظه التی لا تنام و رعایته، و أدام للدنیا و أهلها بقاء الخدمة الشریفة و استمرار عصرها، و خلود الدولة الحالیة بمضاء مراسمها العلیة و نفاذ أمرها:
فإذا سلمت فکل شی‌ء سالم‌و إذا بقیت فکل شی‌ء باقی
و لا زال ملکها محروسا من الغیر، لصون الموارد من الکدر، و لا أعاد إلی مواطن شرفها حادثا. و لا أنزل بمقدس ربعها الأمرع خطبا کارثا:
لا روعت بعدها الخطوب لکم‌سربا و لا فصلت لکم جملا (کذا)
بمحمد و آله» . و قال فی أخبار سنة 644 «فیها کتب الوزیر مؤید الدین محمد ابن العلقمی إلی الخلیفة ینهی حال بعض الأمراء و یقول فی آخر کلامه و هو «مدبر» فوقع الخلیفة علی مطالعته بقلمه:
و لا تساعد أبدا مدبراو کن مع اللّه علی المدبر
فکتب الوزیر فی الجواب من نظمه:
یا مالکا أرجو بحبی له‌نیل المنی و الفوز فی المحشر
أرشدتی لا زلت لی مرشداو هادیا من رأیک الأنور
فضلک فضل ما له منکرلیس لضوء الشمس من منکر
أن یجمع العالم فی واحدفلیس للّه بمستنکر
فاللّه یجزیک بما قلته‌خیرا و یبقیک مدی الأعصر
جعلت تقوی اللّه مقرونةبورد أفعالک و المصدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 371 من یجعل التقوی له متجرافذاک حقا رابح المتجر»
و قال الخزرجی فی أخبار سنة 646: «و فی شهر ربیع الأول أنعم علی الوزیر أبی طالب محمد بن العلقمی بدواة فضة مذهبة مدورة مثمنة بدیعة الصنعة جمیلة الوضع فقال بعض الشعراء» . و جاء فی کتاب الحوادث فی ذلک «و فیها أنفذ الخلیفة إلی الوزیر مؤید الدین محمد بن العلقمی دواة فضة مذهبة مع صلاح الدین عمر بن جلدک فی جوانة فخلع علیه و نظم الشعراء فی ذلک أشعارا کثیرة» .
و قال مؤلف الحوادث فی سنة 648: «و فیها أنفذ الخلیفة إلی الوزیر علی ید عمر بن جلدک شدة من أقلام فکتب الوزیر (قبل المملوک الأرض شکرا للانعام علیه بأقلام قلمت عنه أظفار الحدثان، و قامت له فی حرب صرف الدهر مقام عوامل المران، و أجنته ثمار الأوطار من أغصانها، و حازت له قصبات المفاخر یوم رهانها، فباللّه کم عقد ذمام فی عقدها و کم بحر سعادة أصبح من مدادها و مددها، و کم منآد خط إستقام بمثقفاتها، و کم صوارم خطوب فلت مضاربها بمطرور مرهفاتها، و اللّه تعالی ینهض المملوک بمفروض دعائه، و یوفقه للقیام بشکر ما أولاه من جمیل رأیه و جزیل حیائه، بمحمد و آله:
خولتنی نعما کادت تعید إلی‌عصر الشباب و تدنی منه أیاما
لم یبق لی أمل إلا و قد بلغت‌نفسی أقاصیه برّا و إنعاما
تعطی الأقالیم من لم یبد مسألةجودا فلا عجبا إن تعط أقلاما
لأفتحنّ بها و اللّه یقدرنی‌مصاعبا أعجزت من قبل بهراما
إذا نسبن إلی خط فإن لهاشبی إذا أعملته یخرق الهاما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 372 بالحمد و الشکر أجریها لدولتکم‌و الرأی یحصد من أعدائها الهاما
طالع المملوک بدعائه الصادر عن ناصع ولائه، و الأمر أعلی و أسمی إن شاء اللّه تعالی» .

سنة 663 ه

132- و جمال الدین أبو الحسن علی ابن برز القمی المعروف بأمیران و هو ابن أخی الوزیر مؤید محمد القمی، ذکره مؤلف الحوادث فی وفیات سنة 663 قال: «و فیها توفی جمال الدین أبو الحسن علی بن برز القمی المعروف بأمیران و هو ابن أخی الوزیر مؤید الدین القمی و دفن فی تربة عمه بمشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام-» .

سنة 672 ه

اشارة

133- و نصیر الدین أبو جعفر محمد بن محمد الطوسی الحکیم العالم الفیلسوف المتکلم، ذکره مؤلف الحوادث فی وفیات سنة 672 قال «فی منتصف ذی القعدة توفی الملک عز الدین عبد العزیز بن جعفر النیسابوری ببغداد ... و توفی بعده نصیر الدین أبو جعفر محمد ابن الطوسی فی ثامن عشر ذی الحجة و دفن فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- فی سرداب قدیم البناء، خال من دفن، قیل إنه کان قد عمل للخلیفة الناصر لدین اللّه، و کان فاضلا عالما کریم الأخلاق، حسن السیرة متواضعا لا یضجر من سائل و لا یرد طالب حاجة، کان مولده سنة سبع و تسعین و خمسمائة ورثاه الشعراء فمما قاله بهاء الدین ابن الفخر عیسی الأربلی المنشی‌ء فیه و فی الملک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 373
عز الدین عبد العزیز (بن جعفر النیسابوری) المذکور:
و لما قضی عبد العزیز بن جعفرو أردفه رزء النصیر محمّد
جزعت لفقدان الاخلان و انبرت‌شؤونی کمرفض الجمان المبدّد
و جاشت إلیّ النفس حزنا و لوعةفقلت تعزی و اصبری فکأن قد»
و کان قال فی حوادث سنة 658: «و فیها وضع نصیر الدین الطوسی الرصد بمراغة و عیّن فیه جماعة یتولون عمله إلی أن انتجز فی سنة اثنتین و سبعین (و ستمائة) ». و قال فی حوادث سنة 662: «و فیها وصل نصیر الدین محمد الطوسی إلی بغداد لتصفح الأحوال و النظر فی أمر الوقوف و البحث عن الأجناد و الممالیک، ثم انحدر إلی واسط و البصرة و جمع من العراق کتبا کثیرة لأجل الرصد» . و قال فیها: «و قبض علی نجم الدین أحمد بن عمران الباجسری و أخرج مکتوفا إلی ظاهر بغداد و نصبت هناک خیمة بها صاحب الدیوان علاء الدین (الجوینی) و خواجه نصیر الدین الطوسی (و جلال الدین) ابن الدویدار و جماعة من الأمراء فعمل له یارغو و قوبل علی أمور إلیه فوجب علیه القتل فقتل و أخذ ابن الدویدار مرارته ثم طیف برأسه علی خشبة و نهبت داره و کان حسن السیرة ذا مروءة ..».
و قال فی حوادث سنة 672: «و فیها وصل السلطان أباقا خان إلی بغداد فی خدمة الأمراء و العساکر و خواجه نصیر الدین الطوسی و عبر دجلة و تصید فی أراضی قوسان حتی بلغ قریبا من واسط ثم عاد إلی بغداد و نزل بالمحول ... فلما انقضی الشتاء عاد إلی مقر ملکه و أما خواجه نصیر الدین الطوسی فانه أقام ببغداد و تصفح أحوال الوقوف و أدرّ أخباز الفقهاء و المدرسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 374
و الصوفیة و أطلق المشاهرات و قرّر القواعد فی الوقف و أصلحها بعد اختلالها» .
و قال محمد باقر الخونساری: «الملک الرشید و الملک النشید و الفلک المشید سلطان المحققین و برهان الموحدین مولانا الخواجه نصیر الملة و الدین محمد بن محمد بن الحسن الطوسی- قدس سره القدوسی- هو المحقق المتکلم الحکیم، المتبحر الجلیل صاحب تجرید العقائد و التعلیم الکامل الزائد، کان أصله من جهورود ساوه أحد أعمال قم ذات النقاوة و إنما اشتهر بالطوسی لأنه ولد بطوس المحروس و نشأ فی ربعه المانوس و تمتع هناک بسمع مجالس الدروس، و من جملة أمره المشهور المعروف المنقول استیزاره للسلطان المحتشم فی محروسة إیران هلاکو خان بن تولی خان بن جنکیز خان من عظماء سلاطین التاتاریة و أتراک المغول، و مجیئه فی موکب السلطان المؤید مع کمال الاستعداد إلی دار السلام بغداد لإرشاد العباد و إصلاح البلاد و قطع دابر سلسلة البغی و الفساد و إخماد ثائرة الجور و الإلباس بابداد (کذا) دائرة ملک بنی العباس و إیقاع القتل العام من أتباع أولئک الطغام إلی أن سال من دمائهم الأقذار کأمثال الأنهار بها فی ماء دجلة و منها إلی نار جهنم (کذا) دار البوار، و محل الأشقیاء و الأشرار، و قد کفینا مؤونة تفصیل هذه الواقعة المشتهر (کذا) بما رسمه أرباب التواریخ المعتبرة فی أحوال السلاطین المغولیة المسیطرة، مع أنه کان فی الحقیقة یخرجنا عن طریق المقصود بالذات، و یدخلنا فی مصادیق المشتغلین بما لا یعنیهم من العمل باللذات و لا یغنیهم من الدخل فی الزلات، فالأولی لنا التجاوز عن هذه المرحلة، و الإکتفاء بما خصنی بالتکلم معی فیه رب النوع و صاحب السلسلة و المستوجب بعظیم حقه علینا من ربه صوب المغفرة، و من عبده صوب الرحمة و هو شیخنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 375
الأعظم و سمینا الأجل الأفخم و سیدنا الفقیه الأعلم و الحبر المسلم صاحب کتاب مطالع الأنوار، حیث دخلت علی حضرته المقدسة یوما و هو فی مقام خلوته لا یتنطر لذة و لا نوما، فأخذ قدّس سره الجلیل- فی توجیه الکلام معی من کل قبیل إلی أن انتهت النوبة إلی ذکر مقبولة : علماء أمتی کأنبیاء بنی إسرائیل، فأطال الکلام، فی بیان هذا المرام، و جعل یجول فرس تحقیقه، فی میادین النقض و الإبرام من لطائف معانی هذا الکلام، بل بجرّ ذیل صحبته المتفرقة نحو کل مجال، إلی أن قال فی جملة ما أطال الناس من المقال: و کثیرا ما کنت أفکّر فی وجه توجه المرحوم الخواجه نصیر الدین المذکور إلی جهة البلد المزبور (بغداد) فی موکب ملک الجور و الزّور و قبوله الوزارة من قبل ذلک المغرور، فتذکرت أنه- شکر اللّه سعیه و منه- لم یرد بین اللّه تعالی و بینه من رفع لواء هذه الهمة، و تحمل أعباء هذه الملّة، إلا دخولا فی زمرة علماء الأمّة و مشیا علی طریقة الأنبیاء بعد الأئمة- علیهم من اللّه آلاف التحیة و الرحمة- فی إعلاء کلمة الحق، عند انتشار الظلمة و اشتداد غیاهب الجهل کالغمة، و ترک التقیة و الحذر من الحزب الحائرین فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و إجراء حدود اللّه تعالی عن القوم الفاجرین (کذا) و إقامة الجمعة و الجماعة بین الجماعات متجاهرین لا متدابرین مع أئمتنا التسعة المصطفین لم یکن تکلیفهم کذلک بعد شهادة أبی عبد اللّه الحسین إلی أن یظهر إمامنا الحجة القائم- علیه و علیهم من اللّه السلام الدائم-.
ثم قال قدس سره المفضال: و کذلک الحال بالنسبة إلی سائر علمائنا العمال فمن کان منهم یرید أن یدخل فی جملة مصادیق هذا الحدیث فلیکن حدیثنا حثیثا فی نصر الشریعة المطهرة غیر رثیث، و جسورا فی نشر القوانین المقرّرة لاکفئة أصحاب الثأثیث (کذا) هذا و قد تقدم فی ذیل ترجمة الشیخ أبی القاسم المحقق- رضی- ذکر ما وقع بینه و بین هذا الرجل من المحاورات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 376
و المباحثات و کان من جملة معاصریه السید علی بن طاوس الحسنی الحلی و الشیخ میثم بن علی البحرانی الآتی ذکره و ترجمته- إن شاء اللّه- و هما شریکاه فی التلمذة عند الشیخ أبی السعادات الأصفهانی- المتقدم ذکره الشریف-. و عن بعض أفاضل المعتمدین أن مولانا الخواجه تلمذ عند الشیخ کمال الدین میثم المذکور فی الفقه، و المیثم تلمذ عنده فی الکلام و الحکمة، و إن تنظر صاحب اللؤلؤة فی هذه الحکایة من جهة أن مولانا العلامة- أعلی اللّه مقامه- یقول عند ذکر مولانا الخواجه فی نسخة إجازته الکبیرة لسادات بنی زهرة و کان هذا الشیخ أفضل أهل عصره فی العلوم العقلیة و له مصنفات کثیرة فی العلوم الحکمیة و الشرعیة علی مذهب الإمامیة و کان أشرف من شاهدناه فی الأخلاق- نور اللّه ضریحه- قرأت علیه إلهیّات الشفاء لأبی علی بن سینا و بعض التذکرة فی الهیأة، تصنیفه ثم أدرکه الأجل المحتوم (إنتهی) و فی نظره نظر لعدم منافاة أفضلیة الرجل فی العقلیات حصولها من جهة تلمذها علی ابن میثم المذکور فلیتفطن. و من جملة مشایخه أیضا الشیخ معین الدین سالم بن بدران المصری، و قد قرأ علیه بنصّ نفسه جمیع الجزء الثالث من کتاب الغنیة لابن زهرة، و ذکر اسمه الشریف فی إجازته له کما ذکره أیضا فی اللؤلؤة بعنوان (الإمام الفاضل العالم الأکمل الأورع المتقن المحقق نصیر الملة و الدین وجیه الإسلام و المسلمین سید الأئمة و الأفاضل فخر العلماء و الأکابر و أفضل أهل خراسان محمد بن محمد بن الحسن الطوسی- زاد اللّه فی علائه، و أحسن الدفاع عن حوبائه- و من جملة شیوخ روایته أیضا الشیخ برهان الدین الهمذانی الذی یروی عن الشیخ منجب الدین القمی صاحب الفهرست. و أما الروایة عنه- رضی- فهی أیضا لجماعة أجلّاء منهم شیخنا العلامة- قدس سره البهی- کما قد عرفت، و منهم غیاث الدین عبد الکریم بن طاوس المتقدم ذکره صاحب کتاب فرحة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 377
الغری و غیره مضافا إلی سائر تلامیذ حضرته المتعقب إلی أسمائهم الشریفة الأشارة من کلام صاحب مجالس المؤمنین. و أما مصنفاته الفائقة و مؤلفاته الرائقة، و هی أیضا کثیرة فی أفانین شتی منها کتاب تجرید العقائد، المتقدم إلی ذکره التمجید فی مراتب المعرفة و التوحید، و هو فی الحقیقة کتاب شامل فی شأنه کامل لجمیع ما یحتاج الطالب إلی بیانه مع غایة إیجازه البالغة إلی حد السحر الحلال و الفارغة عما یوجب الضلال و الکلال و إن کان فیه نهایة الأشکال و الأعضال و هو أولی ما کتب فی العقائد الحقة الإمامیة بهذا المنوال، و شرحه جماعة من الأعاظم منهم العلامة الحلی من علماء الشیعة و الشیخ شمس الدین الأصفهانی و المولی علی القوشجی الشافعی من غیرهم و منها کتاب التذکرة النصیریة فی علم الهیأة هو الذی شرحه نظام الدین حسن النیسابوری صاحب التفسیر الکبیر و منها تحریر أقلیدس و کتاب تحریر المجسطی و شرح الأشارات، و الفصول النصیریة و الفرائض النصیریة و الأخلاق و الفصول النصیریة و الأخلاق الناصریة و قد استخلصه من کتاب الطهارة لأبی علی بن مسکویه المتقدم ذکره، کما أخذه أبو علی المذکور من حکماء الهند و غیرهم و لذا کان یوجد فیه الرخصة فی شرب الخمر علی وجه مخصوص منحوس- نعوذ باللّه تعالی من أهواء النفوس و أدواء الرؤوس و کتاب آداب المتعلمین و رسالة الإسطرلاب المشهورة (بسی فصل) و رسالة فی صفات الجواهر و خواص الأحجار و کتاب نقد المحصل و کتاب نقد التنزیل (کذا) و کتاب الزبدة و کتاب (خلافت نامه) و الرسالة المعینیة مع شرحها جمیعا بالفارسیة فی علم الهیأة و رسالة خلق الأعمال و رسالة أوصاف الأشراف و کتاب قواعد العقائد و شرح رسالة العلم للشیخ جمال الدین علی بن سلیمان البحرانی أستاذ کمال الدین بن میثم المذکور، و کان قد أرسلها إلیه المصنف لیشرحها کما فی اللؤلؤة و کتاب أساس الإقتباس، و قد وجدت فی بعض المواضع المعتبرة نقل الفروق السبعة بین الکل و الکلی، عنه- رضی- فی ذلک الکتاب و کتاب معیار الأشعار و رسالة الجبر و الإختیار و له أیضا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 378
إنشاء الصلوات و التحیات المشهورات علی أشرف البریات، و عترته الطاهرین السادات، سریعة الأثر فی إنجاح المقاصد و کشف الملمّات إلی غیر ذلک من الحواشی و الرسائل و أجوبة الأرقام و المسائل و الأشعار و القصائد الفارسیة و العربیة. فی کثیر من المطالب و المشاکل، منها قصیدته اللامیة المشهورة فی اختیارات البروج الإثنی عشر لکل ما کان فی النظر بالنسبة إلی انتقالات جرم القمر یقول فی أولها:
هرمهی کآید بتأیید خدای لم یزل،جرم مه در خانه مریخ یعنی در زحل
... و ینسب إلیه أیضا هذه الرباعیة فی نظیر هذا المعنی مختصرا:
اختیار هر چه خواهی‌هفت چیز آور بجای
و من شعره العربی فیما نسبه إلیه صاحب أمل الآمل:
کنا عدما و لم یکن من خلل‌و الأمر بحاله إذا ما متنا
یا طول فنائنا و تبقی الدنیالا الرسم یفی لنا و لا اسم المعنی
و منه أیضا قوله:
ما للمثال الذی ما زال مشتهراللمنطقبین فی الشرطی تسدید
أما رأوا وجه من أهوی و طرته‌الشمس طالعة و اللیل موجود (کذا)
و منه أیضا بروایة غیره:
لو أن عبدا أتی بالصالحات غداو ودّ کل نبی مرسل و ولی
و صام ما صام صواما بلا ملل‌و قام ما قام قواما بلا کسل
و حج کم حج للّه واجبةفطاف بالبیت حاف غیر منتعل (کذا)
و طار فی الجو لا یأوی إلی أحدو غاص فی البحر مأمونا من البلل
و أکسی الیتامی من الدیباج کلهم‌و أطعمهم من لذیذ البرّ و العسل
و عاش ما عاش آلافا مؤلفةعار من الذنب معصوما من الزلل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 379 ما کان فی الحشر یوم البعث منتفعاإلا بحب أمیر المؤمنین علی
قلت: و فی هذا المعنی الشریف مضمون کثیر من الأحادیث الإمامیة و غیرها. و من جملة ما ینسب إلیه قوله بالفارسیة و هو: کما أفید أرفع کلام فی التوحید ... هذا و من جملة کلامه الحقیق الرشید و الصادر عن معدن الحق و التحقیق فی تعیین الفرقة الناجیة من الفرق الثلاث و السبعین، کما وقع فی حدیث سید المرسلین- صلی اللّه علیه و علی أهل بیته الطاهرین المعصومین بنقل فخر الدین ابن العلامة (الحلی) فی شرح دیباجة القواعد عن والده القمقام أعلا اللّه مقامه قوله شکر نوله و طوله: الفرقة الناجیة هی الإمامیة و ذلک أنی اعتبرت جمیع المذاهب و وقفت علی أصولها و فروعها فوجدت من عدّ الإمامیة مشترکین فی الأصول المعتبرة فی الإیمان و إن اختلفوا فی أشیاء تساوی نفیها و إثباتها بالنسبة إلی الإیمان ثم وجدت أن الطائفة الإمامیة هم یخالفون الکل فی أصولهم فلو کانت فرقة محمد عداهم ناجیة لکان الکل ناجین فدلّ علی أن الناجی هو الإمامیة لا غیر. و قال السید نعمة اللّه الموسوی الجزائری- أجزل اللّه برّه بعد نقله لهذه العبارة و تحریره إن جمیع الفرق مطبقون علی أن الشهادتین وحدهما مناط النجاة تعویلا علی قوله- ص-:
من قال لا إله إلّا اللّه دخل الجنة. أما هذه الفرقة الإمامیة فهم مجمعون علی أن النجاة لا تکون إلا بولایة أهل البیت إلی الإمام الثانی عشر و البراءة من أعدائهم و هی مباینة لجمیع الفرق فی هذا الإعتقاد الذی تدور علیه النجاة.
و من هذا یظهر لک سر ما حققناه فی تأویل تلک الأخبار المطلقة من أنها مقیدة بشروط ...».
«و قال الشیخ أبو القاسم بن نصر البیان الفارسی الأنصاری ... فی کتابه بسلم السموات عند ذکره لهذا الرجل فی جملة من ذکره من الحکماء أولی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 380
المقامات ... و من مصنفاته المشهورة کتاب تذکرته فی علم الهیأة و شرحه الجدید علی إشارات الشیخ الرئیس فی المنطق و الحکمتین و کتاب معنی التجرید فی علم الکلام و أصول العقائد ... و قال صاحب صحیفة الصفاء فی ذکر أهل الإجتباء و الإصطفاء من بعد الترجمة له بما ترجمناه: کان من جملة غرس التحقیق فی الفلسفة و الریاضی و الکلام، ولد سنة 597 و کان محبوسا فی حصن الدیلم بأمر خورشید شاه القرمطی فلما غلبت الترک علیه و قتلوه و أخذوا حصن الدیلم أطلقوا الفیلسوف الإلهی من الحبس و أکرموه لعلمه بالنجوم و کان فی عداد وزرائهم و قصته مع ابن الحاجب مجعولة لبعد بعید بین زمانیهما، توفی فی الثامن عشر من ذی الحجة سنة 672 و دفن بمقابر قریش.
له کتب معروفة فی العقلیات أشهرها رسالة تجرید العقائد إلی أن قال بعد تفصیله لسائر مصنفات الرجل: و کان جامعا بین مسلکی الإستدلال و العرفان، و للشیخ صدر الدین القونوی مساءلات إلیه و له جواباتها ... إلی أن قال بعد نقله عبارة إجازة العلامة- رح- فی حقه و بیان جملة من أشعاره العربیة التی ذکرناها: یروی عن عدة من المشایخ منهم الشیخ ابن میثم البحرانی و الشیخ معین الدین (سالم) المصری و الشیخ فرید الدین داما النیسابوری، و یروی عنه جماعة منهم العلامة الحلی و السید عبد الکریم ابن طاوس و قطب الدین محمد بن مسعود الشیرازی و شهاب الدین أبو بکر الکازرونی و (صح) بمعنی أنه ثقة صحیح الحدیث ... و هذا و من جملة من ذکر أحوال الرجل أیضا هو الشیخ قطب الدین محمد الأشکوری فیما نقل عن کتابه الکبیر الفارسی المتسم بمحجوب القلوب و المشتمل- کما حکی- عن وضعه المرغوب علی کل غض مطلوب و کأنه هو الشیخ قطب الدین محمد بن محمد البویهی الرازی الآتی ذکره و ترجمته إن شاء اللّه فی القسم الثانی صاحب کتاب المحاکمات و غیره أو المولی قطب الدین محمد بن علی الشریف الدیلمی اللاهجی المنتسب إلیه فی الآمل مصنفات ... و بالجملة فتلخیص ما ذکره هذا الشیخ الأمین و قرّره أیضا صاحب مجالس المؤمنین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 381
بناءا علی ما أخبره صاحب لؤلؤة البحرین أن هذا الرجل الإمام الذی قصة جنابه فی البین (کذا) کان فاضلا محققا دانت له رقاب الأفاضل، من المخالف و المؤالف فی خدمته لدرک المطالب المعقولة و المنقولة و خضعت جباه الفحول فی عتبته لأخذ المسائل الفروعیة و الأصولیة و قد تلمذ فی المعقولات علی أستاذه فرید الدین داماذ النیسابوری عن السید صدر الدین السرخسی نسبة إلی بلدة یقال لها سرخس و هو أخذ عن أفضل الدین الغیلانی من أهل غیلان و هو تلمیذ أبی العباس اللوکوی نسبته إلی بلاد یقال لها لوکو، و اللوکوی من تلامذة بهمنیار و هو من تلامذة الشیخ أبی علی الرئیس. و قد قرأ الشیخ المذکور کتاب الأشارات علی أستاذه فرید الدین المتقدم بالسند المتصل بمصنفه المذکور و قد شرحه المحقق بعد ذلک و کان فراغه من شرحه فی أواسط شهر صفر سنة أربعین و ستمائة. و أما فی المنقول فانه تلمذ علی أبیه محمد بن الحسن و أبوه تلمیذ فضل اللّه الراوندی و هو تلمیذ السید المرتضی و الشیخ الطوسی.
و کان مولده بمشهد طوس فی یوم السبت حادی عشر جمادی الأولی وقت طلوع الشمس سنة سبع و تسعین و خمسمائة و نشأ بها و اشتغل بالتحصیل و قرأ علی المشایخ المتقدم ذکرهم ثم اختلج فی خاطره الشریف ترویج مذهب أهل البیت إلا أنه بسبب خروج المخالفین فی بلاد خراسان و العراق مع استشهار مذهبه و اشتهار صیت فضله و کمالاته قد تواری فی زاویة التقیة و الاختفاء فی الأطراف حتی علم بأحواله الرئیس ناصر الدین المحتشم حاکم قوهستان، من أفاضل الزمان و أعاظم وزراء علاء الدین محمد ابن جلال الدین حسن ملک الإسماعیلیة، فوجّه بلطائف الحیل إلی المحقق المزبور لیتشرف بصحبته و اغتنم المحتشم صحبته و استفاد منه عدة فوائد و صنف المحقق الأخلاق الناصریة، و سماه باسمه و مکث عنده زمانا، و لما کان مؤید الدین بن العلقمی الذی هو من أکابر الشیعة فی ذلک الزمان وزیر المستعصم الخلیفة العباسی فی بغداد أراد المحقق دخول بغداد و معارضته بما اختلج بخاطره من ترویج المذهب الحق بمعاونة الوزیر المذکور و أنشأ قصیدة عربیة فی مدح المستعصم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 382
الخلیفة و کتب کتابا إلی العلقمی الوزیر لیعرض القصیدة علی الخلیفة و لما علم ابن العلقمیّ فضله و نبله و رشده خاف من قربه للخلیفة أن تسقط منزلته عند المستعصم فکتب سرا إلی المحتشم: إن نصیر الدین الطوسی قد إبتدأ بإرسال المراسلات و المکاتبات عند الخلیفة و أنشأ قصیدة فی مدحه و أرسلها حتی أعرضها علیه و أراد الخروج من عندک و هذا لا یوافق الرأی فلا تغفل عن هذا . فلما قرأ المحتشم کتابه حبس المحقق فلما أراد الخروج إلی علاء الدین ملک الإسماعیلیة بحصن ألموت صحب المحقق معه محبوسا، فمکث المحقق عند الملک و کان أکثر أهل ذلک الحصن من الملاحدة، و أقام الخواجة معهم ضرورة مدة و کتب هناک عدة من الکتب منها تحریر المجسطی و فیه حل عدة من المسائل الهندسیة ثم لما قرب إیلخان المشهور بهلاکوخان من أولاد جنکیز بقلاع الإسماعیلیة لفتح تلک البلاد خرج ولد الملک علاء الدولة من القلعة باشارة المحقق سرّا و اتصل بخدمة هلاکو خان فلما استشعر هولاکو خان کونه لجأ عنده بأشارة المحقق و مشورته و افتتح القلعة و دخلها أکرم المحقق غایة الإکرام و الإعزاز و صحبه و ارتکب الأمور الکلیة حسب رأیه، و إجازته، فرغبه المحقق- قدس سره- فی تسخیر عراق العرب، فعزم هلاکو خان علی فتح بغداد و سخر البلاد و النواحی و استأصل الخلیفة المستعصم العباسی ثم أمر هلاکو خان بالرصد و اختار محروسة مراغة من أعمال تبریز لبناء الرصد فرصد فیه و استنبط عدة من الآلات الرصدیة و کان من أعوانه من العلماء و تلامیذه جماعة أرسل إلیهم الملک هلاکو خان منهم العالم الأعلم العلامة قطب الدین محمود الشیرازی صاحب شرف الأشراف و الکلیات و هو فاضل حسن الخلق و السیرة مبرّز فی جمیع أجزاء الحکمة، محقق مدقق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 383
مفید مستفید فی صحبة المحقق الطوسی و مؤید الدین العرضی الدمشقی و کان متبحرا فی الهندسة و آلات الرصد توفی بمراغة فجأة فی سنة أربع (و ) و ستمائة و فخر الدین و کان طبیبا فاضلا حاذقا و نجم الدین القزوینی و کان فاضلا فی الحکمة و الکلام و محیی الدین الأخلاطی و کان فاضلا مهندسا متبحرا فی العلوم الریاضیة و محیی الدین المغربی و کان مهندسا فاضلا فی العلوم الریاضیة و أعمال الرصد و نجم الدین الکاتب البغدادی و کان فاضلا فی أجزاء الریاضی و الهندسة و علم الرصد کاتبا مصورا، و کان من أحسن الخلائق خلقا، و ضبطوا حرکات الکواکب و مات المحقق الخواجة و بان النقص فی کتاب الزیج، و لنقصهم عن ذلک لم یتمّوه (إنتهی). و کان من قلة وفاء الملوک الجبابرة و شدة جفائهم بالراکنین إلی مودتهم البائرة و سرعة قبولهم لسعایة السعاة الأراذل و لو فی حق الأفاضل و السلوک مع أهالی الإحسان إلیهم علی خلاف ما یخیله الإنسان الغافل صدر ما صدر من الناصر المحتشم بالنسبة إلی جنابه المحترم حسبما عرفته من هذه العبارة علی التفصیل، و من جملة ما یشهد بما ذکرناه ... ما ذکره بعض أرباب السیر المعتبر من أن السلطان هلاکو خان المذکور أیضا لم یبق مع حضرة الخواجة علی ما کان بل تغیر علیه قلبه و وجهه فی عین زمن اشتغاله بأمر الرصد و انحطت مرتبته لدیه فاتفق أن الملک کان ذات یوم فی صف للسلام و الصلا العام (کذا) یذکر جنابه المقدس ببعض المساوی و یظهر عنه الشکایة مع رجال الدولة و یعدد خیاناته معه إذ حضر ذلک الجناب عنده فلما رآه الملک صرف عنه وجهه و أظهر الکراهة من لقائه ثم التفت إلیه بعد طویل من الزمان و قال له: هونا علیک یا رجل، مهلا یا فلان و حذرا و سکونا فلو لا أن أمر الرصد یبقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 384
بفقدک بائرا لرأیت أنی بقتلک آمرا و لهتکک شاهرا. و قیل إن قطب الدین الشیرازی کان ثمة حاضرا ناظرا فلما سمع بعتابات الملک مع حضرة الخواجة إغتنم الفرصة و قال من شدة عداوته الباطنیة معه: أنا لاتمام أمر الزیج إن کان الرأی المبارک یقتضی شیئا فی حق الرجل. فلم یجبه الملک بشی‌ء و قام و تفرق المجلس، فلما خرجوا و تلاقی الخواجة المرحوم مع القطب الشیرازی فی الطریق قال له علی سبیل التجاهل عن سوء قصد و مکنون حسده و حقده: أما اتقیت اللّه فی سفک دمی بیدی هذا المغولی المتقلب القتال حتی واجهته بمثل ما جئت من المقال و هو لا یدری بأنک أردت به الهزل و المفاکهة دون الجد و المبادهة. فقال القطب: و کیف لی بالهزل و المفاکهة مع جنابک و أی حد لی فی المبادرة إلی غیر الجدّ بمحضرک أو غیابک. معرضا علیه- رضی- بأنه ما فعل ذلک إلّا عن قصد و عداوة و بغض شدید و لا یبالی من أن یفعل به الخواجه بعد ذلک ما یرید. أقول: و هذه الحکایة تنافی بظاهر ما یقتضیه التوافی کون قطب الدین الشیرازی المعهود الذی هو یسمی بمحمود ابن مسعود تلمیذا لمولانا الخواجة و آخذا منه سیره و منهاجه إلا أنه لیس بأول قارورة کسرت فی الإسلام و التعصب علی المذهب مذهبة للوفاء من الأیام، کما قد نقل مثل هذه الخیانة أیضا عن تلمیذه الآخر نجم الدین علی بن عمر المعروف بدبیران صاحب متن الشمسیة و کتابی حکمة العین و جامع الدقائق و غیرها و أنه سأل یوما حضرة الخواجة و هو فی معرکة القتال واضعا إحدی رجلیه علی الرکاب و الأخری علی الأرض عن أربعمائة مسألة من المعضلات و المشکلات الکلامیة فأجابها جمیعا فی مقدار نصف تقریبا فصار هذا سببا لانحرافه عن المذهب الحق بعد ما کان من المائلین إلیه، و وسوس إلیه الشیطان بأن یقول فی نفسه: إذا کان الرجل بهذه المثابة من الفهم و الذکاء و الحفظ و الإحتواء فلعله لبّس علیّ أیضا أمر المذهب بأمثال هذه الأمور- نعوذ باللّه من سوء المنقلب و تقلبات الدهر الغرور ... و توفی- رضی- فی دار السلام بغداد آخر نهار الإثنین المطابق لیوم عید الغدیر المبارک من شهور سنة إثنتین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 385
و سبعین و ستمائة عن سبعة أشهر و خمس و سبعین سنة و دفن بالمشهد الکاظمی- علی مشرفه السلام- فی سرداب وجد هناک مرتبا معینا و بالغضارات الملبنة المنقشة بالألوان مزینا مکتوبا علیه (هذا قبر قداد خره الناصر لدین اللّه العباسی لنفسه، فلم یجعله اللّه له لأنه دفن فی الرصافة) و نقش علی لوح ذلک المرقد المنور الذی ما له فی الشرف و الکرامة من مزید حین دفن فیه هذا المولی العمید و الملک الرشید بتقدیر إلهنا العزیز الحمید (وَ کَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَیْهِ بِالْوَصِیدِ)، و نقل أنه قیل له- رضی- فی مرض موته ألا توصی علی حمل جسدک إلی مشهد النجف الأشرف الأطهر؟ فقال: لا بل أستحیی من وجه سیدی الإمام الهمام موسی بن جعفر- علیهما السلام- أن آمر بنقل جسدی من أرضه المقدسة إلی موضع آخر» .
و ذکره ابن العبری فی تاریخه قال: «و فی هذا التاریخ- یعنی أواخر المائة السابعة- توفی خواجا نصیر الدین الطوسی الفیلسوف صاحب الرصد بمدینة مراغة، حکیم عظیم الشأن فی جمیع فنون الحکمة و اجتمع إلیه فی الرصد جماعة من الفضلاء المهندسین و کان تحت حکمه جمیع الأوقاف فی جمیع البلاد التی تحت حکم المغول و له تصانیف کثیرة منطقیات و طبیعیات و إلاهیات و أوقلیدس و مجسطی و له کتاب أخلاق فارسی فی غایة ما یکون من الحسن جمع فیه جمیع نصوص أفلاطون و أرسطو و الحکمة فی الحکمة العملیة و کان یقوی آراء المتقدمین و یحل شکوک المتأخرین و المواخذات التی قد أوردوا فی مصنفاتهم و کان من الفضلاء فی زمانه نجم الدین القزوینی منطقی عظیم صاحب کتاب العین و مؤید الدین العرضی و فخر الدین المراغی و قطب الدین الشیرازی و محیی الدین المغربی و من الأطباء المشهورین فخر الدین الأخلاطی و تقی الدین الحشائشی» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 386
و ذکره أبو علی فی کتابه قال: «محمد بن محمد بن الحسن الطوسی ...
نصیر الملة و الدین سلطان الحکماء من المتکلمین لا یحتاج إلی التعریف لغایة شهرته مع أنه کل ما یقال فیه فهو دون رتبته. و فی الوجیزة: ثقة معروف.
و فی النقد: روی عن أبیه محمد بن الحسن و کان أستاذ العلامة و روی عنه أحادیث و کان أصله من جهرود من توابع ساوة و الآن من توابع قم، له کتب، مات سنة اثنتین و سبعین و ستمائة ... »
و ترجمه الصفدی فی تاریخه للتراجم: «محمد بن محمد بن الحسن نصیر الدین أبو عبد اللّه الطوسی الفیلسوف صاحب علوم الریاضی و الرصد، کان رأسا فی علم الأوائل، لا سیما فی الأرصاد و المجسطی فانه فاق الکبار، قرأ علی المعین سالم بن بدران المصری المعتزلی الرافضی و غیره، و کان ذا حرمة وافرة و منزلة عالیة عند هولاکو و کان یطیعه فیما یشیر به علیه و الأموال فی تصریفه فابتنی بمدینة مراغة قبة و رصدا عظیما و اتخذ فی ذلک خزانة عظیمة فسیحة الأرجاء و ملأها من الکتب التی نهبت من بغداد و الشام و الجزیرة حتی تجمع فیها زیادة علی أربعمائة ألف جلد و قرّر بالرصد المنجمین و الفلاسفة و الفضلاء و جعل لهم الجامکیة ، و کان حسن الصورة، سمحا کریما، جوادا حلیما، حسن العشرة، غزیر الفضل جلیل القدر داهیة. حکی أنه لما أراد العمل للرصد رأی هولاکو ما ینصرف علیه فقال له: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته؟ أیدفع ما قدّر أن یکون؟
فقال: أنا أضرب لمنفعته مثالا: القان یأمر من یطلع إلی هذا المکان و یدعه یرمی من أعلاه طست نحاس کبیرا من غیر أن یعلم به أحد. ففعل ذلک فلما وقع ذلک کانت له وقعة عظیمة هائلة روّعت کل من هناک و کاد بعضهم یصعق. و أما هو و هولاکو فانهما ما تغیر علیهما شی‌ء لعلمهما بأن ذلک یقع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 387
فقال له: هذا العلم النجومی له هذه الفائدة یعلم المتحدث فیه ما یحدث فلا یحصل له من الروعة و الاکتراث ما یحصل للذاهل الغافل عنه. فقال:
لا بأس بهذا. و أمره بالشروع فیه، أو کما قیل. و من دهائه ما حکی له أنه لما حصل له غضب علی علاء الدین الجوینی صاحب الدیوان فیما أظهر فأمر بقتله، فجاء أخوه إلیه و ذکر له ذلک و طلب منه إبطال ذلک. فقال هذا القان و هؤلاء القوم إذا أمروا بأمر ما یمکن رده خصوصا إذا برز إلی الخارج. فقال له: لا بد من الحیلة فی ذلک. فتوجه إلی هولاکو و بیده عکاز و سبحة و اسطرلاب و خلفه من یحمل مبخرة و بخورا و النار تضرم.
فرآه خاصة هولاکو الذین علی باب المخیم، فلما وصل أخذ یزید فی البخور و یرفع الاسطرلاب ناظرا فیه و یضعه، فلما رأوه یفعل ذلک دخلوا إلی هولاکو و أعلموه و خرجوا إلیه فقالوا: ما الذی أوجب هذا؟ فقال:
القان أین هو؟ قالوا له: جوّا. قال: طیب معافی موجود فی صحة؟
فقالوا نعم. فسجد شکرا للّه تعالی و قال: طیب فی نفسه؟ قالوا: نعم.
و کرر هذا و قال: أرید أری وجهه بعینی إلی أن دخلوا إلیه و أعلموه بذلک، و کان وقت لا یجتمع فیه به أحد. فأمر بإدخاله. فلما رآه سجد و أطال السجود. فقال له: ما خبرک؟ قال: أقتفی الطالع أن یکون علی القان قطع عظیم إلی الغایة، فقمت و عملت هذا و بخّرت هذا البخور و دعوت بأدعیة أعرفها أسأل اللّه صرف ذلک عن القان و یتعین الآن أن القان یکتب إلی سائر ممالیکه و یجهز الألجیة فی هذه الساعة إلی سائر ممالکه بإطلاق من فی الاعتقال و العفو عمن له جنایة أو أمر بقتله لعل اللّه یصرف هذا الحادث العظیم، و لو لم أر وجه القان ما صدقت. فأمر هولاکو فی ذلک الوقت بما قال و أطلق صاحب الدیوان فی جملة الناس. و لم یذکره النصیر الطوسی، و هذا غایة فی الدهاء، بلغ به مقصده و دفع عن الناس أذاهم و عن بعضهم إزهاق أرواحهم. و من حلمه ما وقفت له علی ورقة حضرت إلیه من شخص ( (1) یعنی الاسماعیلیة.)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 388
من جملة ما فیها یقول له: یا کلب یا ابن الکلب. فکان الجواب: و أما قوله کذا فلیس بصحیح لأن الکلب من ذوات الأربع و هو نابح طویل الأظفار و أنا فمنتصب القامة بادی البشرة عریض الأظفار ناطق ضاحک فهذه الفصول و الخواص غیر تلک الفصول و الخواص. و أطال فی نقض کل ما قاله هکذا برطوبة و تأن غیر منزعج و لم یقل فی الجواب کلمة قبیحة.
و رأیت له شعرا کتبه لکمال الدین الطوسی علی مصنف صنفه المذکور و هو نظم منحط. و من تصانیفه کتاب المتوسطات بین الهندسة و الهیأة، و هو جید إلی الغایة و مقدمة فی الهیأة و کتابا وضعه للنصیریة و أنا أعتقد أنه ما (کان) یعتقده لأن هذا فیلسوف و أولئک یعتقدون إلاهیة علی. و اختصر المحصل للإمام فخر الدین (الرازی) و هذبه و زاد فیه و شرح الأشارات و ردّ فیه علی الإمام فخر الدین فی شرحه و قال: هذا به جرح و ما هو شرح. قال فیه إنی حررته فی عشرین سنة و ناقض فخر الدین کثیرا. و لقد ذکره قاضی القضاة جلال الدین القزوینی- رح- یوما و أنا حاضر و عظمه- أعنی الشرح- فقلت: یا مولانا ما عمل شیئا لأنه أخذ شرح الإمام و کلام سیف الدین الآمدی و جمع بینهما و زاده یسیرا. فقال: ما أعرف للآمدی فی الأشارات شیئا. قلت: نعم کتاب صنفه و سماه (کشف التمویهات عن الأشارات و التنبیهات). فقال: هذا ما رأیته. و من تصانیفه التجرید فی المنطق و أوصاف الأشراف و قواعد العقائد و التلخیص فی علم الکلام و العروض بالفارسیة و شرح الثمرة لبطلیموس و کتاب مجسطی و جامع الحساب فی التخت و التراب.
و الکرة و الاسطوانة و المعطیات و الظاهرات و المناظر و اللیل و النهار و الکرة المتحرکة و الطلوع و الغروب و تسطیح الکرة و المطالع و تربیع الدائرة و المخروطات أو الشکل المعروف بالقطاع و الجواهر و الإسطوانة و الفرائض علی مذهب أهل البیت و تعدیل المعیار فی نقد تنزیل الأفکار و بقاء النفس بعد بوار البدن، و الجبر و المقابلة و إثبات العقل الفعال و شرح مسألة العلم و رسالة الإمامة إلی نجم الدین الکاتبی فی إثبات واجب الوجود و حواش علی کلیات القانون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 389
الجامع الصفوی فی الکاظمین کما هو فی العهد الصفوی تحف به قبور عدد من الاعلام و المشاهیر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 390
و رسالة: ثلاثون فصلا فی معرفة التقویم، و کتاب (اکراماء نالاوس و إکراثا و ذودیوس و الزیج الایلخانی، و له شعر کثیر بالفارسیة، و قال الشمس ابن المؤید العرضی: أخذ النصیر العلم عن الشیخ کمال الدین ابن یونس الموصلی و معین الدین سالم بن بدران المصری المعتزلی و غیرهما قال: و کان منجما لأبغا بعد أبیه و کان یعمل الوزارة لهولاکو من غیر أن یدخل یده فی الأموال ، و احتوی علی عقله حتی أنه لا یرکب و لا یسافر إلا فی وقت یأمر به. و دخل علیه مرة و معه کتاب مصور فی عمل الدریاق الفاروق فقرأه علیه و عظمه عنده و ذکر منافعه و قال: إن کمال منفعته أن تسحق مفرداته فی هاون ذهب.
فأمر له بثلاثة آلاف دینار لعمل الهاون. و ولاه هولاکو جمیع الأوقاف فی سائر بلاده، و کان له فی کل بلد نائب یستغل الأوقاف و یأخذ عشرها و یحمله إلیه لیصرفه فی جامکیات المقیمین بالرصد و لما یحتاج إلیه من الأعمال بسبب الأرصاد و کان للمسلمین به نفع عظیم خصوصا الشیعة و العلویین و الحکماء و کان یبرهم و یقضی أشغالهم و یحی أوقافهم. و کان مع هذا کله فیه تواضع و حسن ملتقی، قال شمس الدین الجزری قال حسن بن أحمد (الأربلی) الحکیم صاحبنا سافرت إلی مراغة و تفرجت فی هذا الرصد و متولیه صدر الدین علی بن الخواجا نصیر الدین الطوسی و کان شابا فاضلا فی التنجیم و الشعر بالفارسیة و صادفت شمس الدین محمد بن المؤید العرضی و شمس الدین الشروانی و الشیخ کمال الدین الایکی و حسام الدین الشامی فرأیت فیه من آلات الرصد شیئا کثیرا منها ذات الحلق و هی خمس دوائر متخذة من نحاس الأول دائرة نصف النهار و هی مرکوزة علی الأرض، و دائرة معدل النهار، و دائرة منطقة البروج، و دائرة العرض، و دائرة المیل و رأیت الدائرة الشمسیة یعرف بها سمت الکواکب و اصطرلابا تکون سعة قطره ذراعا و اصطرلابات کثیرة، و کتبا کثیرة. قال: و أخبرنی شمس الدین ابن العرضی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 391
ان نصیر الدین أخذ من هولاکو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا یحصیه إلا اللّه، و أقل ما کان یأخذه بعد فراغ الرصد لأجل الآلات و إصلاحها عشرون ألف دینار خارجا عن الجوامک و الرواتب التی للحکماء و القومة. و قال نصیر الدین الطوسی فی الزیج الإیلخانی: إننی جمعت لبناء الرصد جماعة من الحکماء منهم المؤید العرضی من دمشق و الفخر المراغی الذی کان بالموصل، و الفخر الخلاطی الذی کان بتفلیس و النجم دبیران القزوینی و ابتدأنا ببنائه فی سنة سبع و خمسین و ستمائة فی جمادی الأولی بمراغة، و الأرصاد التی بنیت قبلی- و علیها کان الإعتماد دون غیرها- هو رصد برجس و له مذ بنی ألف و أربعمائة سنة و بعده رصد بطلیموس بمائتی سنة و خمس و ثمانین سنة، و بعده فی ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد و له أربع مائة سنة و ثلاثون سنة و الرصد البتافی فی حدود الشام و الرصد الحاکمی بمصر و رصد بنی الأعلم ببغداد، و أوفقها الرصد الحاکمی و رصد ابن الأعلم و لهما مائتان و خمسون سنة. و قال الأستاذون: إن أرصاد الکواکب السبعة لا یتم فی أقل من ثلاثین سنة لأن فیها یتم دور هذه السبعة، فقال هولاکو:
أجهد فی أن یتم رصد هذه السبعة فی اثنتی عشرة سنة. فقلت:
أجهد فی ذلک. و کان النصیر قد قدم من مراغة إلی بغداد و معه جماعة کثیرة من تلامذته و أصحابه فأقام بها مدة أشهر و مات و خلف من الأولاد صدر الدین علیها و الأصیل حسنا و الفخر أحمد. و ولی صدر الدین علی بعد أبیه غالب مناصبه فلما مات ولی مناصبه أخوه الأصیل و قدم الشام مع غازان و حکم تلک الأیام فی أوقاف دمشق و أخذ منها جملة و رجع مع غازان و ولی نیابة بغداد مدة فأساء السیرة فعزل و أهین فمات غیر حمید و أما أخوهما الفخر أحمد فقتله غازان لکونه أکل أوقاف الروم و ظلم. و مولد النصیر بطوس سنة سبع و تسعین و خمسمائة. توفی فی ذی الحجة سنة اثنتین و سبعین و ستمائة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 392
ببغداد و قد نیف علی الثمانین أو قاربها و شیعه صاحب الدیوان (علاء الدین عطا ملک الجوینی) و الکبار و کانت جنازته حفلة و دفن فی مشهد الکاظم» .
قال مصطفی جواد: هکذا فلتکن التراجم و إلّا فلا، و قد نقلها ابن شاکر الکتبی من الوافی إلی کتابه و لم یزد من عنده إلا قوله فی آخر الترجمة «رحمه اللّه تعالی آمین» و لم یشر إلی مرجعه الوافی و هذه عادته فی أکثر تراجمه.
و ترجم له قطب الدین موسی بن محمد الیونینی فی وفیات سنة 672 من تاریخه قال: محمد بن محمد بن الحسن أبو عبد اللّه نصیر الدین الطوسی صاحب علوم الریاضة و الرصد و غیر ذلک من علوم الأوائل، کان إماما منفردا بذلک، فاق أهل مصره و انتهت إلیه معرفة هذا الشأن و توفی بالجانب الغربی من بغداد یوم الاثنین ثامن عشر ذی الحجة و دفن فی مقابر موسی ابن جعفر- رحمة اللّه علیهما - و قد نیف علی ثمانین سنة، و قیل کانت وفاته فی صفر سنة أربع و سبعین و الأول أظهر- رحمه اللّه- قرأ العلم علی المعین سالم بن بدران بن علی المعتزلی المتشیع المصری و غیره و کانت له مصنفات کثیرة فی أنواع من العلوم العقلیة و إلیه المرجع فیها و له أشعار کثیرة فمن ذلک ما کتبه من شعره علی مصنف فی أصول الدین لکمال الدین الطوسی، سیّره إلیه لیجیب عن مسائل فیه سأله إیاها فأجاب عنها أحسن جواب و مده بهذه الأبیات:
أتانی کتاب فی البلاغة منته‌إلی غایة لیست تقارب بالوصف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 393 فمنظومه کالدر جاد نظامه‌و منثوره مثل الدراریّ فی اللطف
دقیق المعانی فی جزالة لطفه‌یخبّر فی ضمّ الغموض إلی الکشف
کغانیة حار العقول بحسنهافأمرض عیناها و مثلمها یشفی (کذا)
أتی عن کبیر ذی فضائل جمةعلیم بما یبدی الحکیم و ما یخفی
فأصبحت مشتاقا إلیه مشاهدابقلبی مخباه و إن عزّ فی طرفیّ
رجا الطرف أیضا فالفؤاد لقاوه‌و أن لا یوافی قبل إدراکه حتفی
قرأت من العنوان لما فتحته‌و قبّلت تقبیلا یزید علی ألف
و لما بدا لی ذکرکم فی مسامعی‌تعشقکم قلبی و لم یرکم طرفی
و صادفت هذا البیت فی شرح قصتی‌و إیضاح ما عانیته جملة، یکفی
وردت رسالة شریفة، و مقالة لطیفة، مشحونة بفرائد الفوائد، مشتملة علی صحائف اللطائف، مستجمعة لغرائس النفائس، مملوءة من زواهر الجواهر من الجناب الکریم السیدی العالمی الفاضلی السندی المحققی المدققی الکمالی- أدام اللّه جماله و حرس کماله- إلی الواعی الضعیف المحروم المتلهف محمد بن الطوسی فاقتبس من شرار ناره نکت الزبور و آنس من جانب جناب طوره أثر النور، فوجدتها بکرا حلت حلة کریمة، و صادفتها صدفة تضمّنت درة یتیمة و هی أوراق مشتملة علی رسائل فی ضمنها مسائل أرسلها و سأل عنها من کان أفضل زمانه، و أوحد أقرانه، الذی نطق الحق علی لسانه، و لوح الحقیقة من بنانه، و رأیت المورد- أدام اللّه فضله- قد سألنی الکلام فیها، و کشف القناع عن مطاویها، و أین أنا من المبارزة مع فرسان الکلام، و المعارضة مع البدر عند التمام، و کیف یصل الأعرج إلی قلة الجبل المنیع، و أتی الظالع شأو الضلیع، و لکنی بحرصی علی طلب التوصل الروحانی بإجابة سؤاله، و شغفی بنیل التوصل الحقیقی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 394
لدیه بإیراد الجواب عن مقابلة إجترأت فامتثلت أمره و اشتغلت بمرسومه فإن کان موافقا لما أراد فقد أدرکت طلبی و إلا فلیعذرنی إذ قدمت معذرتی؛ و اللّه المستعان، و علیه التکلان، و الأخذ فی تصفح الرسالة فصلا فصلا و تقریر ما یتقرر عندی منه أو یرد علیّ مستعینا باللّه و متوکلا علیه إنه الموفق المعین» .
و ذکره ابن کثیر فی وفیات سنة 672 قال: «النصیر الطوسی محمد ابن عبد اللّه (کذا) الطوسی، کان یقال له المولی نصیر الدین و یقال:
الخواجا نصیر الدین، اشتغل فی شبیبته و حصل علم الأوائل جیدا و صنف فی ذلک فی علم الکلام و شرح الأشارات لابن سینا و وزر لأصحاب قلاع الألموت الإسماعیلیة و وزر لهولاکو و کان معه فی واقعة بغداد و من الناس من یزعم أنه أشار علی هولاکو بقتل الخلیفة فاللّه أعلم و عندی أن هذا لا یصدر عن فاضل عاقل، و قد ذکره بعض البغادة فأثنی علیه و قال: عاقلا فاضلا کریم الأخلاق و دفن فی مشهد موسی بن جعفر فی سرداب کان أعد للخلیفة الناصر لدین اللّه، و هو الذی کان قد بنی الرصد بمراغة و رتب فیه الحکماء من الفلاسفة و المتکلمین و الفقهاء و المحدثین و الأطباء و غیرهم من أنواع الفضلاء و بنی له فیه قبة عظیمة و جعل فیها کتبا کثیرة جدا. توفی ببغداد فی ثامن عشر ذی الحجة من هذه السنة و له خمس و سبعون سنة و له شعر جید قوی و أصل اشتغاله علی المعین سالم بن بدران ابن علی المصری المعتزلی المتشیع فنزع فیه عروق کثیرة منه حتی أفسد اعتقاده». و کان هذا المؤرخ قد قال فی حوادث سنة 657: «و فیه عمل الخواجا نصیر الدین الرصد بمدینة مراغة و نقل إلیه شیئا کثیرا من کتب الأوقاف التی کانت ببغداد و عمل دار حکمة و رتب فیها فلاسفة و رتب لکل واحد فی الیوم و اللیلة ثلاثة دراهم و دار طب فیها للطبیب فی الیوم درهمان و مدرسة لکل فقیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 395
فی الیوم درهم و دار حدیث لکل محدّث نصف درهم فی الیوم» .
و قال ابن حبیب فی وفیات سنة 672 و سجع له کعادته: «و فیها توفی الخواجا نصیر الدین أبو عبد اللّه محمد بن الحسن الطوسی، و کان جزیل الفضائل، طبیب علل المسائل، کنز دقائق الدلائل، علما زاهرا، فی علم الأوائل، شرح کتاب الأشارات و غیره، و حسّن فی طرق الرئاسة سراه و سیره، و باشر وزارة القان هولاکو و تقدم عنده، أنشأ الرصد بمراغة و بذل فیه جهده، و کانت وفاته ببغداد عن خمس و سبعین سنة- تغمده اللّه برحمته-»
و قد کان قال فی سنة 657: «و فیها بنی الرصد بمدینة مراغة باشارة الخواجا نصیر الدین أبی عبد اللّه الطوسی، و اجتهد فی بنائه و عمارته، و أقامه شاهدا علی تمکنه فی وزارته و هو مشتمل علی دار الطلبة الحدیث و مدرسة للفقهاء و مقر حکمة للفلاسفة و مجلس للأطباء، و رفع قواعده، و شید معالمه و معاهده، و ثابر علی تحسین عقده المنظوم، و رتب لأهله ما یکفیهم من المعلوم، و نقل إلیه کثیرا من الکتب الموجودة ببغداد، و جعله حبسا علی مستحقیه إلی أن یرث اللّه البلاد و العباد» .
و ذکره ابن العماد الحنبلی فی تاریخه قال فی وفیات سنة 672: «و فیها أبو عبد اللّه نصیر الدین محمد بن محمد بن الحسن، کان رأسا فی علم الأوائل، ذا منزلة من هولاکو. قال العلامة شمس الدین ابن القیم فی کتابه إغاثة اللهفان من مکاید الشیطان، ما لفظه: لما انتهت النوبة إلی نصیر الشرک و الکفر و الإلحاد وزیر الملاحدة النصیر الطوسی وزیر هولاکو شفی نفسه من أتباع الرسول و أهل دینهم فعرضهم علی السیف حتی شفی إخوانه من الملاحدة و اشتفی هو فقتل الخلیفة و القضاة و الفقهاء و المحدثین و استبقی الفلاسفة و المنجمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 396
و الطبائعیین و السحرة، و نقل أوقاف المدارس و المساجد و الربط إلیهم و جعلهم خاصته و أولیاءه و نصر فی کتبه قدم العالم و بطلان المعاد و إنکار صفات الرب- جل جلاله- من علمه و قدرته و حیاته و سمعه و بصره و اتخذ للملاحدة مدارس و رام جعل إشارات إمام الملحدین ابن سینا مکان القرآن فلم یقدر علی ذلک فقال: هی قرآن الخواص، و ذلک قرآن العوام، و رام تغییر الصلاة و جعلها صلاتین فلم یتم له الأمر، و تعلم السحر فی آخر الأمر فکان ساحرا یعبد الأصنام. (إنتهی بلفظه) توفی فی ذی الحجة ببغداد و قد نیف علی الثمانین» .
و هذه الترجمة تمثل بذاء لسان ابن القیم الذی شحنها بالأباطیل و الأضالیل مما لیس له صلة بسیرة هذا الحکیم الفاضل الفلکی الکامل، قال الخونساری فی ذکر بعض کتبه: «و أورد النصیر الطوسی فی کتابه هذا برهانا علی حدوث عالم الأجسام بهذه العبارة: و الأجسام کلها حادثة لعدم إنفکاکها من جزیئات متناهیة متناسبة فانها لا تخلو عن الحرکة و السکون و کل منهما حادث و هذا ظاهر» . و کتابه قواعد العقائد یدل علی أنه کان مؤمنا صادق الایمان.
و لم یکن له دخل فی قتل المستعصم باللّه و إن ادّعی ذلک من لا علم له فالمستعصم قتل بحسب قانون جنکیز خان الذی کان یجری علیه هولاکو من قتل المخالفین له و استئصالهم من غیر رحمة و لا استثناء و کذلک کانوا یفعلون أولئک الطغاة الکافرون، و هولاکو هو الذی أجبره علی مصاحبته، و کان یستطیع قتله فی کل لحظة و قد ذکرنا خبر انحرافه عنه و غضبه علیه فی آخر حیاته و تهدده إیاه بالقتل.

عدد من المقبورین

134- و جماعة من السادة کانوا مقبورین فی بغداد فنقلوا إلی مشهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 397
الإمام موسی بن جعفر- ع- فی سنة 677 قال مؤلف الحوادث فی أخبار هذه السنة: «و فیها رأی الناس فی اللیلة التاسعة من شهر رمضان بظاهر بغداد نورا متصلا بالسماء و فی صبیحتها قال بعضهم إنه رأی قبرا فیه أحد أولاد الحسن بمحلة الهرویة فانهال الناس لزیارته ثم شرعوا فی عمارته و تواتر بعد ذلک أخبار العوام برؤیة المنامات و کثرة الظواهر و تحدثوا بقیام الزمنی و المرضی و فتح أعین الأضرّا ، و نقل قوم عن قوم أشیاء لا أصل لها غیر أهویة العوام، و بطل الناس من معایشهم و أشغالهم بسبب ذلک. فتقدم صاحب الدیوان (علاء الدین الجوینی) فی نقل کل من یوجد له قبر إلی مشهد موسی ابن جعفر- علیهما السلام- ففعلوا ذلک و سکن العوام» .

سنة 680 ه

135- و عماد الدین أبو ذی الفقار محمد بن الأشرف ذی الفقار بن أبی جعفر محمد بن أبی الصمصام ذی الفقار بن الحسن بن أحمد بن حمیدان بن إسماعیل بن یوسف بن موسی بن عبد اللّه بن الحسن المثنی بن الحسن السبط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 398
الحسنی المرندی الشافعی المدرس. ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بعماد الدین و قال: «کان شیخا فاضلا زاهدا قدم بغداد فی شعبان سنة ثلاثین و ستمائة و أنزل فی رباط الخلاطیة و لما فتحت المدرسة المستنصریة فی رجب سنة إحدی و ثلاثین (و ستمائة) رتب فقیها بها ثم عین علیه شرف الدین إقبال الشرابی مدرسا لمدرسته التی أنشأها بواسط سنة ثمان و أربعین فانحدر إلیها و درّس، و لما فتحت المدرسة المستنصریة بعد الواقعة سنة سبع و خمسین و ستمائة عین علیه مدرسا بها و کان قد اشتغل علی جده أبی الصمصام و سمع صحیح البخاری علی محمد بن القطیعی و کتب لی الاجازة و اجتمعت بخدمته لما قدمت من مراغة، و توفی فی شعبان سنة ثمانین و ستمائة و دفن فی حضرة الإمام موسی بن جعفر، و مولده بمرند سنة ست و تسعین و خمسمائة» .
و جاء فی کتاب الحوادث سنة 648 ه: «و فیها رتب شرف الدین إقبال الشرابی عماد الدین أبا ذی الفقار العلوی مدرسا بالمدرسة التی أنشأها بواسط.
حکی أنه لما حودث الشرابی فی ترتیبه دخل أحد الخدم و قال له: قد رأیت اللیل مناما، فسأله عنه، فقال: رأیت علیا- علیه السلام- و معه سیف فی غمد أخضر و قد ناوله إیاک و قال لک: هذا ذو الفقار، فأذن فی ترتیبه» و ذکر فی حوادث سنة 674 تأخر وقوع الغیث و خروج الناس للاستسقاء ظاهر بغداد و خطب الخطباء و منهم الشیخ عماد الدین أبی ذی الفقار مدرس الشافعیة بالمدرسة المستنصریة» . و استطرد إلی ذکره ابن الفوطی فی ترجمة کمال الدین أبی بکر مدنی بن صدیق بن محمود المرجی مرتب الشافعیة بالمستنصریة قال: «لبس خرقة التصوف من ید شیخنا السید المعظم عماد الدین أبی ذی الفقار محمد بن ذی الفقار الحسنی المرندی مدرس المستنصریة» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 399

سنة 681 ه

136- و کمال الدین محمد بن محمد بن محمود بن النجیب الواسطی الشرقی أبو البدر بن أبی طالب الشافعی المعدل، ذکره ابن رافع فی ذیل تاریخ ابن النجار کما دل علیه اختصار مختصره تقی الدین الفاسی، قال:
«نزیل بغداد سمع من أبی بکر محمد بن مسعود بن بهروز مسند عبد بن حمید و من أبی بکر محمد بن سعید بن الموفق ابن الخازن مسند الشافعی و حدث، سمع منه أبو العلاء (محمود بن أبی بکر) الفرضی و ذکره فی معجمه و قال: کان شیخا فقیها عالما فاضلا عدلا، سمع بواسط جماعة و قدم بغداد فی سنة 625 و تفقه بالمدرسة النظامیة (إنتهی) و قال ابن الفوطی: لم أسمع منه شیئا و أجاز لی جمیع مسموعاته. مولده سنة 603 و قال غیره: بشرقی واسط. و توفی لیلة الجمعة ثالث ذی الحجة سنة 681 و صلی علیه من الغد بجامع القصر الشریف و دفن بمشهد باب التبن بمقابر قریش غربی بغداد» .

سنة 685 ه

137- و شرف الدین ذو الفقار بن محمد بن أشرف بن أبی جعفر محمد ابن أبی الصمصام بن الحسن بن أحمد بن حمیدان بن إسماعیل بن یوسف ابن موسی بن عبد اللّه بن الحسن المثنی بن الحسن السبط ابن علی بن أبی طالب القرشی أبو جعفر بن أبی عبد اللّه العلوی الحسنی، ذکره ابن رافع فی ذیل تاریخ ابن النجار کما دل علیه اختصاره لتقی الدین الفاسی، قال: «سمع من أبی بکر محمد بن سعید الخازن مسند الشافعی و معجم الإسماعیلی و من إبراهیم بن عثمان الکاشغری و أبی إسحاق إبراهیم بن إسحاق المکناسی.
قرأت بخط ابن الفوطی عنه: السید العالم مدرس المستنصریة للشافعیة، کتبت عنه و کان کریم الصحبة، جمیل الأخلاق، توفی یوم الجمعة السابع و العشرین من شعبان سنة 685 و دفن عند والده بالمشهد الکاظمی و شیعه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 400
قاضی القضاة و الجماعة إلی مدفنه. و أجاز لابی محمد عبد العزیز البغدادی و للحافظ علم الدین البرزالی (إنتهی) مولده بخوی من أذربیجان فی صفر سنة 623» .
و قال السیوطی: «ذو الفقار بن محمد بن أشرف بن محمد أبو جعفر العلوی الحسنی الشافعی قال الذهبی: نحوی سمع ببغداد من الکاشغری و ابن الخازن و درس بالمستنصریة. ولد سنة ثلاث و عشرین و ستمائة، و مات فی شعبان سنة خمس و ثمانین (و ستمائة) ». قال مصطفی جواد: لم یکن نحویا بل کان فقیها شافعیا.

سنة 694 ه

138- و فخر الدین أبو اللیث المظفر بن محمد بن جعفر ابن الطراح الشیبانی العراقی الصدر الأدیب الشاعر. ذکره ابن الفوطی فی الملقبین بفخر الدین فی کتاب الألقاب قال: «فخر الدین أبو اللیث المظفر بن محمد بن جعفر الشیبانی العراقی یعرف بابن الطراح الصدر الأدیب، الصدر الکریم و الفاضل العلیم الذی طار صیته فی أقطار الآفاق بالکرم و الأدب و مکارم الأخلاق، ولی الولایات الجلیلة منها صدریة واسط و صدریة الحلة، فوض إلیه أعمال الحلة و نهر الملک فی شعبان سنة سبع و ثمانین (و ستمائة) و کان شجاعا، له فی قتال الأعراب الخارجین عن سنن الصواب الید البیضاء، ولی واسطا فی شهر ربیع الأول سنة أربع و تسعین و ستمائة فبقی إلی سابع عشری شعبان و وصل الملک نور الدین (عبد الرحمن بک تاشان) و معه بروجی متقدم الکلجیة فأخذه محاذی برت مرتا و دوشخه، و أخذ نوابه و أتی به إلی بغداد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 401
فوکل به بالمستجد ستة عشر یوما و أخرج فی بکرة نهار الخمیس رابع عشر رمضان و حمل إلی الدیوان و رجمه فی الطریق أولاد حصیة العلویون و بقی ثلاث لیال و قتل، و صلب نائبه جلال الدین ابن هاشم علی جسر واسط» .
و قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 694: «ثم إن جمال الدین الدستجردانی تقدم إلی نور الدین عبد الرحمن (بن تاشان) نائبه ببغداد بأخذ فخر الدین مظفر بن الطراح صدر واسط و البصرة و قتله، فانحدر إلی واسط و قبض علیه و علی أصحابه ثم دوشخ و طوّق و أسمع کل قبیح و أخذ خطه بأنه وصل إلیه شی‌ء کثیر من الأموال و أشهد علیه بذلک القاضی و العدول ثم حمله إلی بغداد و وکل به أیاما ثم ضرب و عوقب و قتل و حمل رأسه إلی واسط و علق علی الجسر بعد أن طیف به فی شوارعها و سوقها ... و دفنت جثته فی مشهد موسی بن جعفر- علیهما السلام- و کان قد تجاوز فی العمر ستین سنة».
و قال مؤلف الحوادث أیضا: «و کان جوادا سخیا کریما ذا ناموس عظیم و سیاسة یخافه الأعراب و سائر الرعایا، خدم فی أعمال العراق کلها و ناب فی صباه عن نجم الدین بن المعین فی الحلة ثم ولی ناظر طریق خراسان و ناب عن الملک فخر الدین منوچهر ابن ملک همذان فی واسط، فلما سافر إلی بلاده استقل بالحکم فیها، و أضیف إلیه قوسان و البصرة ثم عزل و رتب صدرا بالحلة و السیب ثم عزل و أعید إلی واسط مرة أخری ثم عزل و أعید صدرا بالحلة و السیب ثم نقل فی هذه السنة إلی صدریة واسط و قوسان و البصرة و آلت حالته إلی القتل ... و کان یقول الشعر الجید و له أشعار کثیرة مدح بها الصاحب علاء الدین بن الجوینی و أخاه شمس الدین و آخر ما قاله و هو فی السجن بدار النیابة ببغداد قبل أن یقتل بأیام، و وجدت بخطه:
القول فیما مضی من عمرنا هدرفدعه و اصبر لما یأتی به القدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 402 و استشعر الصبر إن نابتک نائبةفالصبر أجمل ما حلی به البشر
و لا ترعک من الأیام منقصةفشیمة الدهر فی أبنائه الغیر
فالشمس کم کسفت بعد البهاء و کم‌أمسی حلیف خسوف مثلها القمر
و بعد أن کسفا و اللّه مقتدرعادا و نورهما یعشو له البصر
فلا تضق خلقا من نعمة سلبت‌فالمال یرجع و الرزاق مقتدر
فکم مددت یدا بالعرف باسطةو کم قضی لی فی بذل اللهی وطر
و مثلما زال ذاک البشر و انقبضت‌کف السرور یزول الهم و الفکر
و إن أر الآن بعد النطق ذا حصرفسوف یذهب عنی العی و الحصر
و إن تصبنی سهام الخطب نافذةفلم تزل أسهم الأیام تعتذر
و کل حادثة فی الدهر هیّنةإذا غدا سالما فی طیها العمر
قل للعناة من الغابات و یحکم‌طیبوا فقد فقد الرئبالة الذمر
و قل لبیض السیوف المرهفات لدی‌الأعماد قری فقد أودی به القدر
مضی المظفر لیث الغاب عن کثب‌فلیهن أعداءه من بعده الظفر
و توفی نور الدین عبد الرحمن بعد قتله بمدة شهرین ... و لما قبض علی فخر الدین بن الطراح رجم بعض أصحابه قیل إنه زنی بامرأة و صلبت امرأة بادیة العورة قیل عنها إنها استودعت رحلا لبعض أصحاب ابن الطراح» .
و کان قتل المظفر ابن الطراح فی أول حکم السلطان غازان بن أرغون ابن أباقا بن هولاکو بن تولی بن جنکیز خان. و أخبار المظفر ابن الطراح مذکورة فی الحوادث کنیابته فی حکم أعمال واسط سنة 660 «ص 349» و ترتیبه صدرا بالحلة و الکوفة و السیب سنة 673 «ص 383» و ولایة الأعمال الواسطیة فی سنة 677 «ص 404» و إعادته إلیها بعد عزله و ذلک سنة 680 «ص 418» و ذکر فی أخبار المدعی أنه نائب صاحب الزمان، قال مؤلف الحوادث فی سنة 683: «و فی شهر رمضان من هذه السنة ظهر فی سواد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 403
الحلة رجل یعرف بأبی صالح ادعی أنه نائب صاحب الزمان و قد أرسل إلیه أن یعلم الناس أنه قد قرب ظهوره، و استغوی الجهال بذلک و انضم إلیه خلق کثیر من الناس فقصد بلاد واسط و نزل بموضع یسمی بلد الدحلة من معاملاتها و أخذ من أموال الناس شیئا کثیرا و سار إلی قریة کبیرة من واسط تعرف بالأرحاء و راسل صدر واسط فخر الدین ابن الطراح بأن یخرج إلیه فقال لرسوله: قل له یرحل عن موضعه و یحفظ نفسه و متی تأخر أنفذت العسکر لقتاله، فرحل و قصد الحلة فأرسل إلی صدرها ابن محاسن یستدعیه إلیه فأخرج ولده فی جماعة من العسکر فالتقوا و اقتتلوا قتالا شدیدا فقتل ابن محاسن و جماعة من أصحابه و انهزم الباقون، فکاتب والده الحکام ببغداد یعرفهم بذلک فرکب شحنة العراق و سار إلیه. و أما أبو صالح فانه قصد قبة الشیخ البقلی بناحیة النجمیة من قوسان فقتل کل من بها من الفقراء و الصالحین و نهب أموال أهل الناحیة فوصل شحنة العراق بعساکره إلیه و أحاط به و بأصحابه و وضع السیف فیهم فلم ینج منهم إلا نفر یسیر و حمل رأس أبی صالح و أصحابه إلی بغداد، و کفی اللّه شره، و لما رحل أبو صالح من واسط ظهر فی قریة من قراها تعرف بقریة الشیخ رجل اسمه (شامی) ادّعی ما ادّعاه أبو صالح و أمر الناس بالمعروف و نهاهم عن المنکر فمال الناس إلیه و تاب خلق کثیر علی یده و اعترف قوم بالقتل و غیره و سألوا أن یقتص منهم و اعترف آخرون أنهم (سرقوا) مال فلان و فلان یوم کذا، فکثر جمعه، فأرسل فخر الدین ابن الطراح إلیه ینهاه عن فعله و یتهدده فلما اتصل به ما جری لأبی صالح هرب و التجأ إلی العرب و تفرق جمعه» .
و ذکر مؤلف الحوادث عزل المظفر ابن الطراح عن الأعمال الواسطیة سنة 683 «ص 444» ثم ذکر أنه عزل عنها سنة 685 «ص 449» و أنه رتّب صدرا بالحلة سنة 687 «ص 455» و ذکر فی أخبار سنة (690)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 404
أنه حرّض جمال الدین الدستجردانی علی قتل مهذب الدولة ابن الماسیری الیهودی و قال له: ان ترک لا یؤمن. و خوّفه من عاقبة الحال حتی قال له.
جمال دین العلی یا ملک من یأملک‌عجل بقتل المهذب قبل أن یقتلک
................ ..و انظر إلی صاحب الدیوان مجد الملک
«ص 466» و ذکر فی حوادث سنة 694 أنه طلب و هو صدر الحلة و کان موکلا به مع أصحاب محمد السکورجی علی بقایا الحلّة فولّی قوسان و واسط و البصرة عوضا عن نور الدین عبد الرحمن بن تاشان «ص 482» و لم یذکر ابن الفوطی و لا مؤلف الحوادث السبب فی قتل المظفر ابن الطراح مع أنه ضمن لهم أموالا یدفعها إلیهم، و أنا أری و المؤرخ عمیق النظر أن القتل کان سیاسیا و ذلک أن الملک الأشرف خلیل بن قلاوون ملک مصر و الشام بعد أن افتتح آخر معقل للافرنج الصلیبیین فی بلاد الشام و هو قلعة بالروم عزم علی افتتاح العراق بانتزاعه من أیدی المغول فراسل فیمن راسل من حکام العراق فخر الدین المظفر ابن الطراح، قال ابن حجر: و أرسل له توقیعا و خاتما و علما و تقرر الحال (بینهما) أنه إذا دخل السلطان أرض العراق یقدم علیه (فخر الدین ابن الطراح) لحینه، فلم یتفق للأشرف دخوله العراق ثم قدم قوام الدین (الحسن بن محمد بن جعفر ابن الطراح أخوه) فی أیام سلار و الجاشنکیر و أحضر معه التوقیع و العلم و الخاتم فأکرم مورده و قرر له علی الصالح بدمشق راتب ثم قدم القاهرة فذکر أبو حیان (الأندلسی) أنه اجتمع به و أخبره أنه أول من تشیع من أهل بیتهم و لم یکن غالیا فی ذلک و کان ظریفا کریم العشرة و له معرفة بالنحو و اللغة و النجوم و الحساب و الأدب ..
و لما طرق غازان الشام رجع معه إلی العراق و کانت وفاته بها فی المحرم سنة 720 و فی قول آخر سنة 735».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 405
و قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 692: «و فیها سار الملک الأشرف صاحب مصر إلی قلعة الروم فأقام علیها شهرین یتابع الزحف و القتال حتی فتحها و ملکها فقتل من بها و سبی الذراری و نهب الأموال ثم هدمها و عاد إلی مصر و حدث نفسه بالمسیر إلی العراق و تجهز و عمل سلاسل و مروسا من القنب لأجل الجسر ثم برز من القاهرة إلی الصالحیة فی آخر السنة فقتل فی سنة ثلاث و تسعین علی ما نذکره» .
و کان الملک الأشرف قد مهّد لهذا الأمر الخطیر بأن أرسل باطنیا إلی العراق لاغتیال أمیر المسلحة المغولی بالعراق و قتله قال مؤلف الحوادث:
«و فیها أعنی سنة اثنتین و تسعین و ستمائة وثب باطنی علی نقاجو أمیر المسلحة بالعراق علی رأس الجسر العضدی ببغداد و ضربه بحجر عدة ضربات قتله بها و شد هاربا فمدّ له رجل إصفهانی رجلا علی الجسر فسقط فقبض علیه فجعل یقول: فداء الملک الأشرف. فداء الملک الأشرف فسلم إلی ابن نقاجو المغولی فمثل به و قطع أطرافه و هو حی ... ثم قال لقاتله: یا مخنث إنک لم تصنع شیئا إلّا و هو دون ما کان فی نفسی فاصنع ما بدا لک. فقتله و ألقاه فی المکان الذی قتل فیه أباه» .
قال مصطفی جواد: و الظاهر أن المغول المسیطرین علی العراق اطّلعوا علی اتصال فخر الدین المظفر ابن الطراح بدولة الممالیک بمصر فقتلوه و لو بعد حین. و قال أخوه قوام الدین الحسن بن محمد ابن الطراح: «کتب إلی أخی أبو محمد المظفر یعاتبنی علی امتناعی عنه و هو الذی ربّانی و کفلنی بعد الوالد فقال:
لو کنت یا ابن أبی حفظت اخائی‌ما طبت نفسا ساعة بجفائی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 406 و حفظتنی حفظ الخلیل خلیله‌و رعیت لی عهدی و حسن وفائی
خلفتنی قلق المضاجع ساهراأرعی الدجی و کواکب الجوزاء
ما کان ظنی أن تحاول هجرتی‌أو أن یکون البعد منک جزائی
فکتبت إلیه الجواب:
إن غبت عنک فان ودی حاضررهن بمحض محبتی و ولائی
ما غبت عنک لهجرة تعتدهاذنبا علیّ و لا لضعف وفائی
لکننی لما رأیت ید النوی‌ترمی الجمیع بفرقة و تنائی
أشفقت من نظر الحسود لوصلنافحجبته عن أعین الرقباء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 407

القرن الثامن الهجری سنة 702 ه

اشارة

139- و عماد الدین أبو هاشم عیسی بن أبی الفضل محمد بن أبی الفتوح یحیی الهاشمی العباسی الجوهری المحدث یعرف بابن البندار ذکره ابن الفوطیّ قال (هو) عیسی بن محمد بن یحیی بن أحمد بن علی بن محمد بن محمد بن اسماعیل بن إسحاق بن عیسی بن موسی بن محمد بن علی بن عبد اللّه بن العباس ابن عبد المطلب العباسی الهاشمی الجوهری، کان شیخا ظاهر البشر حسن الأخلاق، و کان معاقر العقار ثم أقلع و تاب. کان قد سمع فی صباه الأحادیث المسلسلات التی جمعها الحافظ أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، علی عفیف الدین أبی منصور محمد بن علی بن عبد الصمد المقری . بشرط التسلسل بظاهر حرّان فی رجب سنة ثمان ... و دلنا علیه العدل جمال الدین عبد اللّه ابن عبد الحمید الأنسیّ فسمعناها علیه فی داره بالبستان من محلة المأمونیة یوم الأحد ... 3 سنة خمس و ثمانین و ستمائة ثم سمعناها علی (الشیخ) جمال الدین احمد بن علی القلانسی و الحمد للّه کثیرا سنة إحدی و تسعین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 408
و ستمائة، فی جماعة، و توفی عماد الدین فی شهر رمضان سنة اثنتین و سبعمائة و دفن بمقابر قریش» .

سنة 749 ه

140- و علی بن عبد الکریم بن أحمد بن موسی بن جعفر بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد الحسینی البغدادی، ذکره ابن رجب فی معجمه و نقل منه ابن قاضی شهبة فی تاریخه فی وفیات سنة 749، و کان میالا إلی المذهب الحنبلی مع کونه علویا قال ابن رجب: «السید النقیب کان یعظ بمشهد موسی الکاظم و یرتجل الشعر الحسن و یسبّ الرافضة و یزور قبر الإمام أحمد (ابن حنبل) و یلازم السنّة ... سمع الکثیر من الکمال ابن الفوطی و غیره و توفی فی هذه ببغداد و دفن بالمشهد الکاظمی» قال مصطفی جواد: و هذا السید المتحنبل یذکرنا بما ذکره السید ابن عنبة نقلا من کتاب تلخیص مجمع الألقاب لابن الفوطی، قال: «و ذکر الشیخ الفاضل قوام الدین عبد الرزاق ابن الفوطی: زین الدین أبا محمد حبیب بن عبد المهیمن بن سپاهسلار بن سفیان بن أنس بن یحیی بن أحمد ذینب و ذکر أنه رآه ببغداد و هو کیلانی حنبلی المذهب و الأکابر یطایبونه کیف أنه حنبلی. هذا کلامه و لکن أحمد ذینب لم یکن له ابن اسمه یحیی و لا ذکره أحد من النساب و اللّه تعالی أعلم» .
و من هذا الضرب ما ذکره صلاح الدین الصفدی فی تاریخ العمیان فی ترجمة نور الدین أبی طالب عبد الرحمن بن عمر بن أبی القاسم البصری الفقیه الحنبلی مدرس الحنابلة بالمدرسة المستنصریة، أن تقی الدین أبا الولید محمد بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 409
إبراهیم الخالدی قال: حضرنا فی خدمة الشیخ نور الدین یوما فی دیوان المظالم و کان الصاحب بهاء الدین (علی) بن الفخر عیسی صاحب دیوان الانشاء بالعراق حاضرا فتکلم الجماعة و تکلم الشیخ فاستحسن الحاضرون کلام الشیخ فقال له الصاحب بهاء الدین بن الفخر عیسی: من أین الشیخ؟ فقال: من البصرة. فقال: ما المذهب! قال: حنبلی. قال: عجیب بصری حنبلی! فقال له الشیخ علی الفور: هنا ما هو أعجب من هذا. فقال له: ما هو؟
قال: کردی رافضی. فأفحم الصاحب بهاء الدین بن الفخر عیسی حتی لم یحر جوابا، و کان أصله کردیا و کان متشیعا»
و قریب منه ما ذکره جماعة من المؤرخین فی ترجمة وجیه الدین المبارک ابن المبارک الواسطی النحوی الضریر، قال یاقوت الرومی الحموی فی ترجمته:
«و کان الوجیه- رحمه اللّه- حنبلیا ثم صار حنفیا فلما درس النحو بالنظامیة صار شافعیا فقال فیه المؤید أبو البرکات محمد بن أبی الفرج التکریتی ثم البغدادی، و کان أحد تلامذته، و سمعته من لفظه غیر مرّة:
ألا مبلغ عنی الوجیه رسالةو إن کان لا تجدی لدیه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل‌و ذلک لما أعوزتک المآکل
و ما اخترت دین الشافعی تدیناو لکنما تهوی الذی هو حاصل
و عما قلیل أنت لا شک صائرإلی مالک فافطن لما أنا قائل» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 410
نموذج من خط العلامة الفذ المرحوم الدکتور مصطفی جواد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 411

الفهرس

کلمة التصدیر 7
القسم الأول من السلک الناظم 9
القرن الثالث الهجری
یحیی بن الحسین بن زید 13
ابراهیم بن محمد (ابن عائشة) 15
زبیدة بنت المنصور 17
ابراهیم المرتضی 18
موسی بن ابراهیم أبو سبحة 20
محمد بن عبد اللّه بن طاهر 21
بشر بن موسی بن صالح الأسدی 22
محمد بن طاهر الصنادیقی 23
عبید اللّه بن عبد اللّه بن طاهر 23
القرن الرابع الهجری
عبد العزیز بن طاهر 25
سلیمان بن محمد (الحامض النحوی) 25
عبد اللّه بن محمد بن المرزبان 26
أبو محمد الحسن الأزدی المهلبی 27
علی بن اسحق (الزاهی) 34
محمد بن عمر (ابن الجعابی) 37
زینة بنت الوزیر الحسن بن محمد 39
علی بن وصیف (الناشی‌ء) 40
أبو القاسم جعفر بن محمد (ابن قولویه) 46
محمد بن أحمد بن داود بن علی 47
أبو عبد اللّه الحسین بن الحجاج 48
القرن الخامس الهجری
الحسن بن أبی جعفر (عمید الجیوش) 51
أبو عبد اللّه محمد بن النعمان (المفید) 53
علی بن عبد العزیز (ابن حاجب 57 النعمان)
فخر الدولة الدیلمی الاصفهسلار 60
محمد بن أحمد (ابن أبی الشیخ) 61
مشرف الدولة، و جلال الدولة 61 البویهی
أبو سعد محمد بن علی بن المطلب 66
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 412
الحسین بن علی المردوستی الحاجب 69
المعمر بن محمد بن المعمر 70
أبو طالب علی بن محمد (نقیب 71 المشهد الکاظمی)
القرن السادس الهجری
المرتضی أبو الفتح العبیدلی النقیب 73
أبو الفضل علی بن ناصر العلوی 74 المحمدی
أبو جعفر أحمد بن علی العلوی 74 المحمدی
أبو نصر المؤتمن الساجی المقدسی 75
علی بن نصر (الکاتب) 77
علی بن افلح أبو القاسم (الکاتب) 78
أبو الضوء العلوی 86
محمد بن محمد ابن السلّال الورّاق 87
أبو الحسین عبید اللّه بن أبی الحق 89
غرس الدولة محمد بن الحسن بن 90 حمدون
علی بن صدقة (قوام الدین) 91
سدید الدولة ابن الانباری 93
علی بن هبة اللّه (البیّع) 101
شمس المعالی بن ترکان 102
بهاء الدین بن حمدون الکاتب 103
یزدن الترکی القائد 108
أبو تراب النیسابوری 111
شهاب الدین أبو الفوارس (حیص 112 بیص)
أبو الفرج الأنباری بن سدید الدولة 133
محمد بن محمد بن هبة اللّه 134
مجد الدین أبو طالب العلوی الحسنی 134 البغدادی
ابو منصور بن یحیی الکاتب 138
علی بن یحیی أبو المکارم (الربیب) 139
علی بن حسّان بن مسافر 140
مسعود بن أبی الفوارس الحاجب 142
أبو الفوارس یحیی (ابن کرسا) 142
عماد الدین ابن البخاری 143
قوام الدین أبو طالب (ابن زبادة) 148
أبو الحسن علی بن عبد اللّه العلوی 162 الحسینی
علوی بن عبد اللّه (الباز الأشهب) 163
محمد بن المبارک بن میمون 165
أبو الفتح صدقة (ظهیر الدین) 166
أبو الحسن علی بن محمد بن یعیش 167
أبو البرکات محمد بن القاضی (ابن 169 أبی الحدید)
أبو منصور بن مبارک الکرخی 171
عبد الصمد بن ظاعن الزبیری 172
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 413
أبو الفضل أحمد بن علی بن علی 173 البخاری
أبو البدر بن حیدر 176
أبو القاسم بن حراز المقری‌ء الخیاط 176
الرضی بن حبشی 177
أبو اسحاق بن خلیل التبریزی 17
القرن السابع الهجری
أبو عبد اللّه احمد بن علی (ابن 179 الدنبان)
الحسن بن محمد بن عبدوس 180
عبد اللطیف بن هبة اللّه بن أبی الحدید 184
أبو شجاع (الخنوص الذهبی) 186
جاریة مکین الدین المقدادی القمی 186
ابنة الأمیر أرغش زوجة قشتمر 186
أبو الحسن بن علی الجرجانی 188 البغدادی
شرف الدین ابن الناقد 190
الربیب أحمد بن علی ابن الصاحب 192
فخر الدین بن عمارة 193
أبو حسن بن علی الجرجانی 194
قوام الدین أبو الفوارس 194
أبو الحسن بن شاذان أبی الأزاهر 196
أبو بکر قیصر بن کمشتکین 198
تاج الدین أبو سعد بن حمدون 199 الکاتب
محمد بن یوسف النیسابوری 204
أبو محمد عبد اللّه (ابن الحلی) 206
أبو البرکا عمر بن أحمد الزیدی 208
فخر الدین أبو البدر بن بدر الصوفی 210
منتجب الدین النحوی العروضی 211
ابو السعادات محمد بن علی (ابن 213 الناقد)
یحیی بن أبی طالب (ابن أبی زید) 215
محمد بن أبی العز الجبیّ 222
أبو الفتوح ابن النجاری القاضی 232
نصیر الدین بن العلوکی الحسین 234 المازندرانی
قیصر بن المظفر بن یلدرک 242
محمد بن مبشر بن أبی الفتوح 242
أبو الفضل بن أبی البرکات (ابن 243 حفنا)
علی بن نما الحلی کافی الدین 244
الشریفة کاملیة بنت محمد العلویة 246 الزیدیة
الشریف أبو محمد قریش بن السبیع 247
أبو المظفر قطب الدین ابن الملک 248 قشتمر
أبو القاسم ظفر بن البیطار (ابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-1، ص: 414
خضیر) 249
أحمد بن عبد العزیز (الکزّی) 250
علی بن محمد بن السکنی (ابن 253 المعوج)
أحمد بن أبی المظفر 254
عمید الدین أبو الفرج 254
عفیف الدین بن رسن النیلی الصوفی 256
نجم الدین بن حوثرة القرشی الحرانی 257 المنجنیقی
عضد الدین بن الضحاک الأسدی 272
أبو الحسن علی بن ابراهیم (ابن 276 العطار)
عبد اللّه بن قیصر بن الموصلاتی 277
اسماعیل بن الحسن (ابن الغبیری) 277
الشریف أبو محمد الحسن (ابن 278 الأمیر)
أبو محمد اسماعیل بن باتکین 279 الجوهری
یاسمین بنت الشیخ سالم (ابن 280 البیطار)
محمد بن محمود الحمامی 281
ابنة بدر الدین لؤلؤ الأتابکی (الملک 281 الرحیم)
ضیاء الدین (ابن الأثیر) 282
منتجب الدین محمد بن الحسن 287 الموصلی
نصیر الدین أبو الأزهر (ابن الناقد) 288
مؤید الدین بن برز المقدادی 296
فخر الدولة بن المطلب الکرمانی 308
عبد الغنی بن فاخر مهتر الفراشین 314
علاء الدین الطبرس الدواتی 316
عبد اللّه بن نصر اللّه بن الخیاط 320
مجد الدین أبو الفتح ابن الناقد البغدادی 321
مؤید الدین أبو طالب محمد بن أحمد 322 ابن العلقمی
جمال الدین ابن برز القمی (امیران) 372
نصیر الدین الطوسی 372
عدد من المقبورین 396
عماد الدین محمد بن الأشرف ذی 397 الفقار
کمال الدین بن النجیب الواسطی 399
شرف الدین ذو الفقار 399
فخر الدین أبو اللیث ابن الطراح 400
القرن الثامن الهجری
عماد الدین أبو هاشم (ابن البندار) 407
علی بن عبد الکریم بن محمد الحسینی 408 البغدادی
نموذج من خط الدکتور مصطفی 410 جواد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 3

[القسم الثانی

موسوعة العتبات المقدّسة قسم الکاظمین تألیف جعفر الخلیلی منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- لبنان. ص. ب 7120

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة الطبعة الثانیة 1407 ه- 1987 م
مؤسسة الأعلمی للمطبوعات:
بیروت- شارع المطار- قرب کلیّة الهندسة. ملک الاعلمی- ص. ب. 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 5

مقدمة موجزة فی البدو و الحضارة و اسم الکاظمین و الکاظم کتبها جعفر الخلیلی

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 7

البدو و الحضارة

اشارة

قبل الدخول فی البحث عن اسم الکاظمین و مدینة الکاظمین و انساب الأسر التی تقیم فی هذه المدینة منذ العهود البعیدة او القریبة یستحسن ان نتناول شیئا- و لو باختصار- عن البدو و البداوة باعتبارها المصدر البدائی الاول للبشریة جمعاء و للامة العربیة و العراق منها بصورة خاصة، و لأن البدو کانوا سکان جزیرة العرب الاوائل و مستوطنی الصحراء و البوادی و الیهم یرجع أصل القبائل العراقیة و معظم سکان مدن العراق، فلیس هنالک من مدینة عربیة الا و قد انتقل سکانها کلا او بعضا من البادیة بعد ان اجتاز مراحل تفرضها طبیعة الحیاة و مقتضیات المعیشة.
یقول ابن منظور: و البدو، و البادیة، و البداة، و البداوة، و البداوة:
خلاف الحضر، و بدا القوم بدوا: ای خرجوا الی بادیتهم.
و قال اللیث: البادیة اسم للارض التی لا حضر فیها و اذا خرج الناس من الحضر الی المراعی فی الصحاری قیل قد بدوا.
أما الحاضرة فیقول عنها ابو منصور: و الحاضرة: القوم الذین یحضرون المیاه و ینزلون علیها فی حمراء القیظ، فاذا برد الزمان ظعنوا عن اعداد المیاه و بدوا طلبا للقرب من الکلأ، فالقوم حینذ بادیة بعد ما کانوا حاضرة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 8
و علی رغم ان تاریخ البداوة العربیة لم یخل من غموض لکثرة ما تکتنفه من الاساطیر و الحکایات التی کان اغلب مصادرها القصص التی کانت تتناقلها الألسن فقد ازاحت الآثار التی عثر علیها المنقبون فی العصور الاخیرة الستار عن حقائق ذات أهمیة کبری لا تصور حیاة البداوة العربیة فحسب و انما تصور حضارة مزدهرة فی بقاع کثیرة من الجزیرة و علی الاخص الیمن، و تنقل الشی‌ء الکثیر عن کیفیة انتقال البداوة الی الحضارة و الاستقرار فی قری صغیرة تضمن للساکنین ماء الشرب و سائر مقتضیات الحیاة ثم تتسع هذه القری علی قدر ما فیها من مؤهلات للاتساع حتی تصبح مدینة.
یقول جرجی زیدان، و حین امتد نفوذ العرب الی ما وراء الجزیرة و قرأ أهل الخبرة ما تیسر من تاریخ العرب اندهشوا لما کان من اکتساح العرب للعالم المتمدن و هم جماعات من اهل البادیة لا خبرة لهم، و لا دربة عندهم، فغلبوا الروم و الفرس فی صدر الاسلام و استولوا علی المملکتین فی بضع عشرة سنة مما لم یسمع بمثله فی تاریخ الأمم قدیما و لا حدیثا ثم أنشأوا الدول و نظموا الحکومات، و جندوا الجیوش فاصبح من اقصی امانی المحققین معرفة حقیقة ذلک الشعب، فاخذوا یبحثون فی تواریخهم القدیمة، و یطبقون ما رواه العرب علی ما ذکره الیونان و غیرهم فعرفوا اشیاء لم یعرفها العرب انفسهم فزادوا رغبة فی استیضاح ذلک التاریخ باستنطاق الاثار المکتوبة و غیر المکتوبة فی انقاض المدائن العربیة فی الیمن و الحجاز و مشارق الشام و لکنهم لم یکونوا یستطیعون الوصول الی تلک الاماکن الا بالعناء الشدید .
و من هذه الاثار المتبقیة ثم مما بقی حتی الیوم من العادات و الأخلاق التی انطبعت بها البداوة العربیة و التی لا نزال نشهدها بین البدو بل و حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 9
بین القبائل المتحضرة التی تسکن مختلف الأقطار العربیة کزراع و رعاة و علی الاخص القبائل العربیة التی تحتفظ بالشی‌ء الکثیر من طبیعة البدو و اخلاقهم مع ما مر علیهم من القرون الطویلة و هم یجاورون القری و المدن و یحتکون بأهلها، بل لقد بقی البعض علی الطبیعة البدویة القدیمة فی حین سکن منهم المدن و تحضر و ألف حیاة المدینة و تطبّع بطابعها. نلمس اثر البداوة فی الکثیر من المدن العربیة، و ندرک شیئا من عوامل البداوة فی الحضارة و عوامل الحضارة فی البداوة.

البداوة غذاء الحضارة

و عن کیفیة انتقال البدو الی التحضر و هجر الخیام و سکنی القری و المدن یقول جرجی زیدان ان أقدم الامم السامیة التی تمدنت و خلفت آثارا هم البابلیون فقد تمدنوا فی الالف الثالث قبل المیلاد و قد اعتمد جرجی زیدان علی (کلای)Clay فی هذا التاریخ و هو الزمن الذی نزح فیه الفینیقیون من الخلیج الی سوریا علی ما یظن، و کانت بابل بلاد حضارة و تمدن قبل ذلک الحین باجیال و سکانها السومریون، فاقام السامیون اولا فی غربیها ببادیة العراق و الشام و هم قبائل رحل یعیشون علی السائمة و الغزو مثل بدو هذه الایام هناک، و کما کان بنو لخم و غسان فی صدر الاسلام فکان السومریون یستعینون بهم فی محاربة اعدائهم کما کان الفرس و الروم یستعینون باللخمیین و الغساسنة لان الغلبة کانت یومئذ للقوة البدنیة، و ان الحضارة تبعث علی الرخاء و الترف و الانغماس فی الملذات و الرکون الی الراحة فتذهب تلک القوة و تؤول الی الضعف، و ان البداوة تقوی الابدان، و تربی النفوس علی الاستقلال، فلذلک کان اهل الحضارة او المدن یستعینون باهل البداوة او الجبال فیما یحتاج الی جهد، حتی اذا شاخت الدولة المتحضرة خلفها جیرانها البدو او الجبلیون بالفتح او نحوه، و قاموا مقامها، و اقتبسوا عادات اهلها و دیانتهم ثم لا یلبثون ان یدرکهم الهرم فیخلفهم سواهم من اهل البادیة، سنة اللّه فی خلقه، و کان اهل البادیة او الجبال مصدر الغذاء للمدن: یحیون اهلها بالنزول بینهم و التزوج منهم،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 10
و یربون لهم الماشیة و السائمة لغذائهم و رکوبهم، و کأن المدن مهلک الابدان و العقول یأتیها البدو بنشاطهم و أنفهتم فلا یلبثون ان یتحضروا و یرکنوا الی الرخاء حتی تنحل عزائمهم، و یتولاهم الضعف و یتفشی فیهم الذل، فیأتی من یقوم مقامهم.
هذا هو شأن العالم من قدیم الزمان حتی الآن فالعراق بلاد خصب و رخاء نزلها الطورانیّون قدیما: جاؤوها و هم أهل بادیة او جبال، فطاردوا قوما کانوا فیها من اهل الرخاء لم یصلنا خبرهم، و أنشأوا فیها تمدنا حسنا، و اتخذوا آلهة و شرائع، و استنبطوا کتابة صوریة تحولت بتوالی الاجیال الی الشکل المسماری المعروف، و لما تحضروا و غلب علیهم الرخاء، جاءهم السامیون من البادیة و غلبوهم علی ما فی ایدیهم، و اخذوا آلهتهم و شرائعهم، و زادوا فیها او حسّنوها، و قد تدرجوا فی التغلب و التحضر.
علی ان ما یذکره جرجی زیدان لیس فی الواقع ان کل التحضر قد جری علی اسلوب الغزو و انتهاز فرص ضعف المتحضرین و ما شابه و انما هنالک علل أخری یعود الیها تمصیر القری و المدن و تحضر اهل البادیة و انتقال جوانب من الحضارة الی البدو و تلوین حیاتهم بها ألا و هی الاحوال الاقتصادیة و مقتضیات المعیشة التی تتطلب من البدوی ان یدنو من القری و المدن بداعی تبادل المنفعة و تبادل البضاعة ثم لا تلبث هذه المصالح ان تقوی اسبابها فتجر البدوی الی الاتصال بالمدینة اکثر و اکثر حتی یؤول الأمر الی سکناه و قد یکون سکناه هذا سببا لاتباع اثره من الاقرباء و المعارف حین یرون ما اصاب من الرخاء فیؤمون القریة و المدینة کما أمّها هو و یعاف حیاة البادیة و عیشة الخیام و یسکن البیوت المسقفة و الحجر، و فی العراق الیوم قری بل و مدن تسکنها أسر و عائلات کانت بالاصل قبیلة واحدة من قبائل العراق التی جاءت اول ما جاءت من البادیة.
و علی ان هجرة البدو الی العراق قدیمة و نزولها فی اطراف المدن کرعاة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 11
ثم کمزارعین او ممتارین فقد جرت معظم الهجرة فی الفتح الاسلامی و دخول العراق و سکناه، و حین انتقل الامام علی بن ابی طالب الی العراق و اتخذ الکوفة عاصمة للخلافة هاجرت من قبائل البدو جماهیر غفیرة اخری و اقامت فی العراق و علی ضفاف نهر الفرات خاصة ثم طال مکثها فتحضرت و سکنت الکوفة و البصرة و واسط و الانبار بصورة خاصة و اکثر ما انطبعت و اتصفت به فی اول امرها هی الحروب فکان منها و لیس من غیرها جنود المعارک فی الحروب الداخلیة و الخارجیة، ثم عرفت برعی الابل و الغنم ثم القیام بزراعة الارض، و من هؤلاء البدو انحدرت معظم قبائل العراق و تألفت منهم سکان الکثیر من المدن و اختلط هولاء السکان سکان المدن لا سکان القبائل باجناس أخری.
و من المناسب ان نلخص هنا شیئا عن البدو و تکوین المجمع البدوی و عن بدو العراق الذین لم یستقروا بعد و یتحضروا و انما دیدنهم التجوال داخل العراق و اطرافة طلبا للکلأ معتمدین فی ذلک علی ما کتب الدکتور نوری خلیل البرازی فی دراسته عن البدو التی تناول فیها المجتمع البدوی من (فئة الرعاة) المتجولة فی بوادی العراق من الوجوه التالیة:
(1)- التکوین العام لمجتمع البدو
(2)- الوضع الاجتماعی
(3)- النشاط الاقتصادی

التکوین العام للمجتمع البدوی- 1-

اشارة

یعیش البدو فی البوادی الصحراویة علی هیئة مجتمعات بدائیة منعزلة، و تتحکم الموارد المائیة فی عدد هذه الجماعات و بمستواهم الاقتصادی، فالامطار و الابار أهم هذه الموارد فبعضهم یستقر حول الابار فی شکل تجمعات متصلة او منفصلة، و نتیجة لطبیعة هذا المورد المائی و خاصة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 12
الامطار یضطر البدوی للترحال بحثا عن المرعی و قد تأصلت فیه طبیعة التنقل و اصبحت له مثل و قیم و تقالید یتمسک بها و یعیش فی ظلها.
و هناک ملامح أساسیة مشترکة بین جمیع البدو الذین یجوبون البوادی مهما اختلفت مواطنهم سواء فی نظام حیاتهم القبلیة کالعادات و التقالید التی تسیطر علیهم، او فی تحرکاتهم الدوریة.
و یقوم المجتمع البدوی علی مجموعة من العناصر الحضاریة البدویة و القبلیة التی فی مقدمتها الأسرة.

الأسرة

تعتبر الاسرة القاعدة الاساسیة لتکوین القبیلة حیث تنمو الأسرة من ابسط صورها و تکبر علی مر الزمن و یزداد عدد أفرادها حتی تصبح قبیلة و تنقل السلطة من الأب الذی هو رب الأسرة الی الرئیس المتعارف علیه فی هذا المجتمع بالشیخ الذی یتولی جمیع السلطات، و یتوقف نفوذه علی مکانته و قوته و حکمته.
و تکون الریاسة وراثیة الا اذا کان الابن الاکبر غیر أهل لها فیختار مکانه اقرب الافراد الاخرین مکان (الشیخ) الراحل و الی جانب شیخ القبیلة الواحدة یوجد شیخ المشایخ و تکون هذه الظاهرة فی حالة اتساع حجم العشائر و انضمامها الی قبیلة واحدة، و هذا الانضمام یعود علیهم بالفائدة المعنویة و المادیة کما یحصل فی مراجعة السلطات فیما یتعلق بشؤونهم الخارجیة او فی حالة الازمات لیکونوا کتلة واحدة ضد القبائل الاخری التی تناهضها.
و الشیخ مسؤول عن کل ما یتعلق بامور القبیلة فمثلا یعنی اوقات الترحل، و مناطق النزول، و یقوم بواجبات الضیافة، و المفاوضات مع القبائل الاخری او مع سلطات الدولة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 13
و یکبر فی العادة حجم الاسرة البدویة التی تتألف من الأب و ابنائه و احفاده و زوجاتهم الذین یظلون مرتبطین به ما دام علی قید الحیاة، مکونین و ایاه شخصیة معنویة واحدة مسؤولة عن تصرف کل عضو من أعضائها، کما أن علیه إعالة افرادها فی حالة الشیخوخة، و المرض، و قد یشمل ذلک من یمتّ لهم بصلة القرابة البعیدة المتصلة معهم بالجد الخامس.
و تعتبر الارض المخصصة لمراعی الاسرة و زراعتها ان وجدت ملکا مشاعا لافرادها فیحق لمن یشاء فی القبائل البدویة ان یرعی إبله حیث ترعی أسرته و یصیبه من نتاجها ما یصیب غیره، و ینتسب الفرد البدوی الی أسرة ابیه دون اخواله، حیث یرتبط بهم بمختلف المسؤولیات المادیة و المعنویة، و لا یعتبر أخواله جزء من اسرته.
و تعتبر الاسرة نواة العشیرة و تسمی (بالبیت) و یتألف (الفخذ) من عدد من البیوت المرتبطة برابطة النسب المنحدرة من الجد الخامس، و تتألف العشیرة من عدة افخاذ ترتبط بمصالح مادیة و منافع مشترکة، و انسابها البعیدة، و قد تکون من افخاذ لا تمتّ لبعضها بهذه الصلة و انما المصلحة المشترکة هی العامل الذی یوحد فیما بینها للمحافظة علی کیانها و مراعیها و أرضها.
و بعد ما تصبح الاسرة عشیرة او قبیلة تتحد مع غیرها من القبائل، و بهذه الطریقة تتکون المجتمعات البدویة علی هیئة وحدات متکتلة تربط بینها المصالح المشترکة، و المنافع المتبادلة، و السکنی فی منطقة واحدة، و یختلف أثر العلاقات فیها قوة و ضعفا حسب اتصالها و ما یحیط بها من الظروف الطبیعیة، و الاحوال الاقتصادیة. بالاضافة الی ارتباطها بوحدتها القومیة و اللغویة و الدینیة، و نوع العمل، و خضوعها للاحکام المستمدة من العرف و العادات و التقالید.
و تتمیز العائلة البدویة بقوة الروابط المتینة و بالتعاطف و التجاذب، و بسیادة قیمها علی القیم الفردیة الشخصیة، و بالزواج المبکر، و بحجم العائلة الکبیر، و بسیطرة الرجل، و باحترام الشیوخ و الطاعنین فی السن، و الاسرة أو العائلة فی المجتمع البدوی هی اصل تنظیمهم الاجتماعی، و النواة الاساسیة التی تغذی الافراد فی طباعهم البشریة، ففیها ینال کل فرد أنماط سلوکه، و یتعلم خصائص الانسانیة کالفخر و العصبیة، و المباهاة بالنسب ، و لهذا تجد البدوی فی اطار قبیلته یغار علی سمعة أسرته و شرفها، و یعد نفسه للتضحیة إن مسّ ذلک الشرف عار، و یحترم البدوی العمر و یعتبره شیئا مقدسا، لذلک لا یمکن لأی فرد من الأسرة ان یبت بشی‌ء دون ان یأخذ رأی العضو الذی هو اکبر سنا، و العائلة فی هذا الوسط تقوم بکافة الوظائف التی یتطلبها المجتمع البدوی، و هی التی تعدّ الفرد و تجهزه بکل ما یتطلبه المجتمع، و من العرف المتبع فی هذا المجتمع الرعوی ان یسکن الاولاد و الاحفاد فی بیت عمید الأسرة حتی یصل الأمر بهم ان تری ثلاثة أجیال یعیشون تحت سقف واحد، و یجوز للولد المتزوج ان یسکن فی بیت وحده اذا رغب فی ذلک، و العائلة البدویة متضامنة و متکافلة فی جریمة احد أعضائها و قد یکون الفخذ و العشیرة امتدادا للعائلة، و کل فرد فی العائلة له حقوق و علیه واجبات و ادوار اجتماعیة.

القبیلة

ان القبیلة البدویة التی تمثل امتدادا لتطور الاسرة التی مرّ بحثها هی جماعة من الناس ینتمون الی جد واحد مشترک انحدروا منه، و یسکنون عادة فی منطقة واحدة یتجولون فیها و هم یحملون واجبات مشترکة فی الدفاع، و دفع الدیة التی هی اهم ما یمیّز القبیلة عن غیرها، و من الصعب تحدید عدد القبیلة لان عددها یتوقف علی قدرتها علی الدفاع و علی قابلیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 15
المرعی علی اعاشة مواشیها، و اذا کانت القبیلة لا تستطیع الدفاع عن نفسها و الاحتفاظ بکیانها، فانها تندمج بالقبائل الاخری، و فی الغالب تفضل الاندماج باقرب القبائل نسبا منها، و یهتم البدوی بالنسب لأنه یعتبره المرآة التی تظهر فیها نقاوة دم الفرد و ارتباطه بالقبیلة.

المفاهیم القانونیة التقالید و العرف

و لیس للبدو قانون منظم مکتوب، بل هناک تقالید و اعراف بسیطة یتمسکون بها کل التمسک و ان مفعولها یسری علی القبیلة و لا یتعداه الی غیرها من القبائل الاخری، و هی تقالید صلبة جامدة تناقلوها عن اسلافهم، و یصعب تغییرها.
و ان عدم وجود سلطة تنفیذیة تقتص للفرد او تنزل العقاب بالجانی قد اعطی الحق للمجنی علیه ان یقتص لنفسه، و یعتبر الجرم عندهم حقا خاصا، لذلک اذا عفا المجنی علیه عن الجانی فان العقاب یزول عن الجانی
و اذا قتل رجل شخصا من غیر قبیلته، فان الواجب یفرض علی قبیلة القتیل الاخذ بالثار و الاقتصاص من القاتل، و علی قبیلة القاتل فی الغالب حمایة القاتل و الدفاع عنه بحکم العرف و التقالید، الأمر الذی یؤدی فی کثیر من الحالات الی وقوع الحرب بین القبیلتین، علی انه کثیرا ما ینتهی الامر بالمصالحة فیدفع القاتل الدیة المقننة حسب اعرافهم، و قد یأبی أهل القتیل او المجنی علیهم اخذ الدیة فیظل الجانی فی حذر علی نفسه اذ لا یتخلی عنه المجنی علیهم دون ان یقتلوه او یقتلوا احد ارحامه او قبیلته، و علی هذا یسیر الکثیر من عشائر العراق.
- اما اذا وقعت ما بینهم خلافات و مشکلات فانهم یتقاضون عند رجل یدعی (العارفة) یحتکمون الیه، و المشترط ان یکون العارفة معروفا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 16
بالاتزان و اصالة الرأی و العدل و الاحاطة بشرایع القبیلة و انظمتها، و یجب ان یکون مشهودا له بالذکاء.
و لعل الدیة من ابرز التقالید المتبعة فی المجتمع القبلی، حیث تشترک القبیلة فی دفع دیة القتل و بذلک یتحاشون الثأر قدر المستطاع و ما یجره من مشکلات و ویلات.
و ظاهرة العصبیة فی هذا المجتمع هی فی الواقع دافع حیوی دموی فی الواقع دافع حیوی دموی فی صورتها العامة، فهی أصل من اصول حیاة القبیلة الاجتماعیة التی تعوّد علیها، و تعد اصلا من اصول السنن الاجتماعیة التی توارثها، کما تعدّ من اهم قواعد قانون القبیلة غیر المکتوب، و لذلک فهی جزء من تراث هذا المجتمع الجمعی حتی ورد فی امثلتهم:
(انصر اخاک ظالما او مظلوما)

التنظیمات السیاسیة

و القبیلة تمثل الوحدة السیاسیة عند البدو، و قد نشأ هذا التنظیم عن وجود العصبیة التی توحّد بین مجموعة من الناس تربطهم رابطة دم نقیة، فهی توجد فی المجتمعات التی تعیش فی بیئات منعزلة، و لما کانت قائمة علی اساس رابطة الدم فهی دائمیة و ثابتة و لها أهمیة کبری، اذ أنها قوة سیاسیة دفاعیة تربط بین أفراد القبیلة و بذلک تعمل علی بقاء القبیلة و تحفظ کیانها، فالعصبیة تشبه الشعور القومی فی العصر الحاضر، و تتمیز العصبیة بین البدو بالاجماع فی الرأی، و عدم الانقسام و عدم التنافر بین الافراد، لان القبیلة تمثل مصدرا للمسؤولیة المشترکة المتبادلة، و هی اساس لکل فعالیة موحدة متضامنة و جماعیة تجاه الاحداث التی یتطلبها نمط السلوک فی البادیة، لذلک فان افراد القبیلة یتضامنون تجاه القبائل الاخری فی الحروب و الدماء،- و الدفاع عن المصالح و المسؤولیات المشترکة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 17
و ان زمالة الدم هی مبعث کافة الالتزامات السیاسیة و الحربیة فی القبائل، فعلاقة الفرد بالقبیلة کعلاقته بعائلته، و لیس هنالک فرق بین الشی‌ء العام و الخاص، فافراد القبیلة فی العادة یقومون بواجباتهم نتیجة شعورهم بالمسؤولیة نحو روح الأخوة و الجوار، لا نتیجة إلزام سیاسی او قانونی، فالمجتمع البدوی لا یحتمل وجود طبقة مصطنعة فوقه لتحکمه حیث لا توجد محاکم اداریة، و لا ادارة مرکزیة للحکومة، و لا ضرائب او واردات و لا غیرها من التنظیمات المعروفة فی انظمة الحکومات فی المجتمع المتحضر.

المجلس

و لکل قبیلة عادة مجلس هو بمثابة ندوة لهم یستطیع کل فرد من افراد القبیلة حضوره و التحدث فیه، و فی الغالب یکون اجتماعهم یومیا فی المساء فی دیوان شیخ القبیلة، و احیانا یکون الاجتماع فی النهار فهو بمثابة برلمان و منتدی و قاعة محاکمة.
و یتحدثون فی هذا المجلس بمختلف الاحادیث، و یبحثون الامور و المسائل التی تخص القبیلة، و یناقشون الامور السیاسیة و الخارجیة فیه علی قدر مفاهیمهم و ما یترشح الیهم من الحضارة، و لکل فرد ابداء رأیه و الدفاع عنه ما لم یکن ذلک مخالفا لرأی رئیس القبیلة فی الغالب، و یبرز فی هذا المجلس من اختص بالذکاء، و اللباقة، و قوة المنطق، و الحجة حسب مفاهیمهم، و فی هذا المجلس کثیرا ما یسمع السامع قصصهم، و اساطیرهم، و اخبارهم.

الرئیس

و لکل قبیلة رئیس یدعی (شیخ القبیلة) و هو یتولی الرئاسة بطریق (2)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 18
الوراثة و اللیاقة مجتمعین، و یشترط ان تکون له عصبیة و قرابة تشد ازره و مال یستطیع ان ینفق منه ما یستعین به علی تنفیذ مطالبه.
و من مسؤولیات (شیخ القبیلة) ان یعدّ بیته للضیوف الوافدین، و من اعماله السیاسیة البارزة تولی المفاوضات الدبلوماسیة مع القبائل الاخری، و علیه ان ینهی النزاع بین الاطراف، و یحکم بین المتخاصمین او یحیل الأمر الی (العارفه) و یقوم هو بتنفیذ الحکم، و هو الذی یقود القبیلة فی الحروب.

الوضع الاجتماعی للبدو- 2-

مما مرّ یظهر ان الاسرة فی المجتمع البدوی هی المحور الاساسی لحیاتهم الاجتماعیة، فالاسرة أو القبیلة تتکون نظریا من افراد یرجعون فی نسبهم الی جد واحد، و مع ذلک فلا یلزم ان یجمع القبیلة کلها جد واحد بل کثیرا ما تتألف القبیلة من عدة حمایل (أسر) و قد تحالفت مع بعضها فتکونت القبیلة.
و من صفات البدوی الحریة فی ابداء رأیه و هو یمتاز بالبساطة و الصراحة و الکرم، و یتمسک البدوی بشجرة النسب، و قد ینتج عن هذه الظاهرة معارضتهم للزواج من اهل المدن و القری، و قد یعتبر الکثیر منهم ان السطو و السرقة هی من اعمال البطولة.
و من صفات البدوی حرصه علی سلاحه، و هو لا یحب لاول مرة الاقامة فی المدن و السکن فی المنازل المبنیة من الاحجار او الطین لشدة ألفته للصحراء و البوادی و النجوم و الرمال.
و من اقدس قوانین الصحراء هو الثأر لانه یعتبره من وسائل المحافظة علی ناموس القبیلة و کیانها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 19
و یقیم کل فرد فی خیمة محوکة من الشعر و هی تعتبر قلعته الحصینة یعمل فیها ما یشاء دون ان یجرأ احد من جیرانه او عشیرته منعه او الاعتراض علیه و تکاد تعتبر هذه الحریة قاعدة النظام السیاسی للبدو.
و اما مضیف الشیخ ای دیوانه فهو اشبه بالبرلمان و الندوة و ساحة المحکمة ففیه یتناقل الناس الاخبار الوافدة الی دیارهم من مختلف الاصقاع، و فیه تنزل الوفود القادمة من الجهات المختلفة و الضیوف و فیه تجری اخبار المراعی و این یکون المطر قد تساقط و ابن لم یتساقط- و فی ای مکان غمر العشب الارض من الصحاری، و کذلک یجری فیه السمر بذکر قصص الغزو و الحرب و السلم، و الترحال؛ کذلک تحسم فی هذا الدیوان الدعاوی و المنازعات التی تحدث بین افخاذ القبیلة و افرادها، و قد یودع رئیس القبیلة من هنا القضایا العویصة الی احد المحنکین المعروف باسم (العارفة) کما مرّ للبتّ فیها.
و بالرغم من ظروف قساوة البیئة الطبیعیة التی یعیشون بها و التی من شأنها ان تدفعهم الی حیاة التوحش و الابتعاد عن المفاهیم الانسانیة فان هنالک مزایا للبدو تثیر العجب منها حمایة اللاجی‌ء، و اکرام الضیف بکل ما هو میسور لدیه، و منها العطف علی الضعفاء من الشیوخ و النساء و الاطفال بل ان الاعتداء علی الضعفاء یعد عارا کبیرا فهم مثلا لا یغزون قبیلة (صلیب) و لا یسلبونهم و لا یتعرضون بهم، و صلیب هولاء قبائل اختلف المؤرخون فی اصلها و هی قبائل بدویة جوّابة مرتحلة غلب علیها الضعف فأصبحت فی أمان.
لقد انعکس الکیان الاقتصادی لدی البدو فی حیاتهم الاجتماعیة فنشأت عن الحیاة الرعویة: الحرکة، و الترحال، و عدم الارتباط فی بقعة معینة من الارض مما ادی الی ظاهرة الغزو و الحروب القبلیة.
و هذه الظاهرة تؤثر کثیرا فی العرف و التقالید و الاعتبارات الاجتماعیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 20
الاخری، و تحدد نوعیتها ایضا، و یمتاز اهل البادیة بالبساطة و عدم التکلف و التصنع الذی نجده فی المجتمع الریفی و المدنی.
و من المألوف ان القوانین و الانظمة هی التی تنظم المجتمع الحضری و الریفی، اما المجتمع البدوی فان العادات و التقالید الموروثة هی التی تقوم مقام القوانین و الانظمة و یتولی سلطتها شیخ القبیلة مع اعضاء آخرین من الشیوخ الذین دونه فی مقام الریاسة، فالشیخ له المقام الاکبر و الشیوخ الآخرون من قبیلته لهم المقام الثانی فی تصریف امور قبیلتهم، و فی هذا المجتمع یقوم نظام الأبوّة و هو النظام المعروف: (بالباتراریکیة) و معناه ان رئیس العائلة هو الذی یقوم بتنظیم أمور اسرته الکبیرة و یملی علیها اوامره،
اما علاقة الأسرة ببعضها فهی متینة فی الغالب و یؤکد ذلک نظام الزواج القائم بین القبائل، و بتعبیر آخر، یقوم شیخ القبیلة و مجلس مشایخها بممارسة السلطة التنفیذیة و التشریعیة المعروفة فی نظام الحکومات فی المجتمعات المتحضرة.
و یعامل الأب ابنه معاملة الصدیق و لیس له منه الا الرعایة، اما النساء فلیس لهنّ فی تقالید البدو منزلة فی المجتمع، و علیهن ان یقمن بمختلف الخدمات من رعی الأبل و رعی الغنم، و حلبها، و اعداد الطعام و حتی فلی رؤوس الرجال احیانا.
ان حجم المجتمع البدوی القبلی تحدده المصادر و الثروات الاقتصادیة الطبیعیة التی یمکن للقبیلة ان تعتمد هی و ماشیتها علیها کالمراعی الطبیعیة و آبار الماء مثلا،
و فی العادة یکون عدد افراد القبیلة محدودا و صغیرا فی منازلها اذ لکل جزء من القبیلة الکبیرة مناخ و منزل خاص و ذلک بسبب ظروف الصّحراء و طبیعة المناخ الجاف و لهذا یلزم ان یکون لکل فخذ او حمولة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 21
مراعیها و معالمها الخاصة فهی تضرب خیامها فی مواقع معینة علی الغالب فی مواسم الربیع، و قد تجتاز بعض القبائل حدود قبائل اخری فتنشأ بسبب ذلک الحروب فی السابق اما الیوم فان الحکومة هی التی تحل تلک المشکلات. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-2 ؛ ص21

النشاط الاقتصادی للبدو- 3-

و للعوامل الجغرافیة سیطرتها الطبیعیة فی البوادی الصحراویة و ان ما یحوط اهلها من تخلف انما مردّه شدة خضوع اقتصادهم الی عوامل البیئة حتی انها تصبح تابعة لها تبعیة مطلقة، و من ابرز هذه العوامل الامطار و المیاه الجوفیة، و درجة الحرارة، و نسبة الرطوبة التی تتطلبها الاعشاب، لذلک کان الکیان الاقتصادی للبدوی لا یتجاوز تربیة الماشیة من الأبل و الخیل و الاغنام بعد ان ترک البدو فی السنین الاخیرة الغزو و السلب لاتساع نفوذ الحکومات العربیة و استتباب الأمن.
و تتحکم کمیة الامطار و نزولها فی البوادی فی وضعهم الاقتصادی من حیث الغنی و الفقر النسبیین، فاذا کان الموسم حسنا فمعنی ذلک ان الامطار قد تساقطت بوفرة حتی انتعشت المراعی و کثر فیها العشب، و بهذا یفید البدو لما تصیبه مواشیهم مما تخرجه الارض من عشب و ما یفیدون هم من جذور النباتات أکلا و علی الاخص الکمأة بالاضافة الی صید الحیوانات التی یعتمد علیها البدویّ کثیرا فی حیاته مثل الظباء و الحباری، و الضب، و الیرابیع و ما شاکل.
و یزداد فی المواسم الجیدة انتاج المواشی و یتهیأ للبدو الکثیر من المنتوجات اللبنیة و فی مقدمتها السمن، اما الوبر و الصوف فانهم یتاجرون و یمتارون من قدیم الزمان بثمنه ما یحتاجون الیه من الحبوب و الثیاب و الفراء.
و کثرة الامطار تؤدی الی غنی المراعی و معناه جودة الموسم، و هذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 22
یدفع البدو عادة الی الخروج عن العزلة و الانفراد، الی الحرکة و الاختلاط، و الاحتکاک بغیرهم، فکل قبیلة تسابل ما جاورها من القری و البلدان و تختلط باهلها و تتاجر معهم، و تتبادل محصولاتهم و مصنوعاتهم بمنتوجاتها الحیوانیة .
*** و من هذا الطریق طریق الاحتکاک بالقری و المدن و لمس المنافع المادیة تجد المدنیّة فی نفس البدوی میلا لحیاة المدینة و علی قدر تأثر البدوی بمباهج حیاة المدینة و انظمتها تذوب التقالید التی نشأ علیها علی الرغم من صعوبة ذوبانها فی نفس البدوی.
و هنالک عوامل اخری فی تمدین البدوی و رکونه الی السکن و ترکه حیاة البداوة و التجوال فی الصحاری و هی عثوره علی ما یطمن حاجاته من الماء و العشب و الامتیاز؟؟؟ کأن تنزل القبیلة کلها او بعضها او بعض افرادها حول میاه و فیرة کافیة فی مختلف الفصول و خصوصا إذا کان هذا المنزل ممرا للقوافل فلا یلبث هذا الموقع ان یکون قریة ثم مدینة بالقدر المتوفر فیه من العوامل التی تجعل منه مدینة کبیرة مهمة او غیر کبیرة و غیر مهمة.
و ان جمیع القری و المدن العربیة القدیمة فی التاریخ القدیم تألف سکانها من مجموعة بدائیة بدأت اول ما بدأت بحکم الحاجة و افضلیة الاستقرار علی حیاة التجوال و الصید و الغزو، لقد بدأت قریة صغیرة ثم کبرت بمقتضی العوامل الجغرافیة التی تعمل فی اقتصادیاتها و لا سیما فی حیاتها الزراعیة، و ذلک قبل اتساع دائرة الصناعة، و هنا تبدأ القریة باخذ مکانتها فی عالم الاقتصاد علی قدر قابلیاتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 23
و علی هذه الطریقة قامت معظم المدن و القری فی التاریخ القدیم و قبل انتشار المدنیة و الحضارة باستثناء المدن التی أنشئت لتکون مدنا منذ اول یوم نشأتها .
و لیس من شک ان القبائل التی تتأثر بحیاة المدینة و طبیعتها تترک هی الاخری فی المدینة أثرا علی قدر ما فیها من قوة و قابلیة سواء فی العادات او التقالید او اللغة. و فی المدن العراقیة الیوم أثر کبیر من هذه التأثیرات التی خلفها افراد القبائل التی انتقلوا الیها و التی کانوا قد توارثوها من البدو .
و فی هذا النوع الذی یخرج البداوة من حیاة البداوة و یدخلها فی حیاة المدن فیتأثر السکان بعضهم ببعض لغة، و عادات، و تقالید، بسبب الاختلاط و الامتزاج یقول محمود شکری الالوسی عن العرب بما یشملون من بدو و حضر:
ان لفظ العرب فی الاصل اسم لقوم جمعوا عدة اوصاف: احدها ان لسانهم کان اللغة العربیة، و الثانی: انهم کانوا من اولاد العرب، و الثالث: ان مساکنهم کانت ارض العرب، و هی جزیرة العرب التی هی من بحر القلزم الی بحر البصرة، و من اقصی حجر بالیمن الی اوائل الشام بحیث کانت تدخل الیمن فی دارهم و لا تدخل فیها الشام، و فی هذه الارض کانت العرب حین المبعث و قبله، فلما جاء الاسلام و فتحت الامصار سکنوا سائر البلاد و من اقصی المشرق الی اقصی المغرب، و الی سواحل الشام و ارمینیة، و هذه کانت مساکن فارس، و الروم، و البربر، و غیرهم، ثم انقسمت هذه البلاد قسمین، منها ما غلب علی اهله لسان العرب حتی لا تعرف عامتهم غیره، او یعرفونه و غیره مع ما دخل فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 24
لسان العرب من اللحن، و هذه غالب مساکن الشام، و العراق، و مصر، و الاندلس، و نحو ذلک، و ارض فارس و خراسان کانت هکذا قدیما، و منها ما العجمیة کثیرة فیهم و غالبة علیهم، کبلاد الترک، و خراسان، و ارمینیة، و اذربایجان و نحو ذلک، فهذه البقاع انقسمت الی ما هو عربی ابتداء، و الی ما هو عربی انتقالا، و الی ما هو عجمی، و کذلک الانساب ثلاثة اقسام: قوم من نسل العرب و هم باقون علی العربیة لسانا و دارا، او لسانا لا دارا، او دارا لا لسانا، و قوم من نسل العرب بل من نسل بنی هاشم ثم صارت العربیة لسانهم و دارهم او احدهما، و قوم مجهولو الاصل لا یدرون أمن نسل العرب هم ام من نسل العجم؟ و هم اکثر الناس الیوم سواء کانوا عرب الدار و اللسان او احدهما، و کذلک انقسموا فی اللسان ثلاثة اقسام: قوم یتکلمون بالعربیة لفظا و نغمة، و قوم یتکلمون لفظا لا نغمة و هم المتعربون الذین لم یتعلموا اللغة ابتداء من العرب و انما اعتادوا غیرها ثم تعلموها کغالب اهل العلم ممن تعلم العربیة، و قوم لا یتکلمون بها الا قلیلا، و هذان القسمان منهم من تغلب علیه العربیة و منهم من تغلب علیه العجمة و منهم من قد یتکافأ فی حقه الامران إما قدرة و إما عادة .

بدو العراق

و معظم قبائل العراق کان من اصل بدوی و کان الکثیر منهم فی حدود العراق من ارض جزیرة العرب و البعض منهم کان فی العراق ایضا، و اختلف المؤرخون فی سبب ذلک فذهب ابن خلدون فی تاریخه عند الکلام علی الطبقة الثالثة من العرب و هم العرب التابعة للعرب أن بختنّصر ملک بابل هو الذی اسکن بعضهم فی الحیرة بسبب ما کان له مع التتابعة و غیرهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 25
من الوقائع و الحروب، و بعد موته انتقلوا منها الی الانبار فانتشروا بعد ذلک بارض العراق.
و قال الهمدانی فی کتاب جزیرة العرب: سار تبّع ابو کرب فی غزوته الثانیة، فلما اتی موضع الحیرة خلف هناک مالک بن فهم بن غنم ابن دوس علی اثقاله و تخلف معه من ثقل من اصحابه فی نحو اثنی عشر الفا، و قال: تحیّروا هذا الموضع فسمی الموضع الحیرة، و هو من قولهم تحیر الماء اذا اجتمع و زاد، و تحیّر المکان بالماء اذا امتلأ ،
و یقول جرجی زیدان: و قد اکثر العرب من تحلیل اسم (الحیرة) و تعلیله علی عادتهم فی ارجاع الاعلام الی مشتقات عربیة، فقالوا سمیت بذلک من الحیرة ای الضلال، لأن تبّعا لما بلغ موضع الحیرة- علی ما یزعمون- ضل دلیله و تحیّر، و زعم آخرون: ان مالکا لما نزلها جعلها حیرا- ای حظیرة او بستانا- و اقطعه قومه، ثم صارت الحیرة، و قال غیره بل سمیت الحیرة من الحوار، ای البیاض، لبیاض ابنتیها.
و الحقیقة أن لفظها سریانی معناه الحصن او المعقل حوله الخندق، و هی و الحیر العربیة من اصل واحد کما نری من تقارب اللفظ و المعنی و لذلک کانوا یعرفونها بقولهم (حیرة النعمان) او (حیرة المنذر) ای حصنه او معقله علی جاری العادة فی انشاء المدن یومئذ، فکان الملک او الامیر یبنی معقلا لنفسه و حاشیته، ثم یبنی الناس حوله فیتسع المکان بتوالی الأزمان و یصیر مدینة، و علی هذا النمط نشأت البصرة، و الکوفة
و لما کانت الحیرة علی طرف العراق فی الغرب و لیس بعدها غیر البادیة رغب فیها البدو فکان یؤمها البدوی لابتیاع بعض الحاجیات ثم لا یلبث ان یقیم فیها .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 26
و یقول الهمدانی: ان مالکا کان اول ملوک الحیرة و أباهم، و کانوا یملکون ما بین الحیرة و الانبار، و هیت، و نواحیها، و عین التمر، و اطراف البراری الغمیر، و القطقطانة، و حفیة.
و غیر الهمدانی یقول ان الحیرة بلدة علی حافیة البادیة، و حافة سواد العراق، و ان تبّعا لما سار من الیمن الی خراسان و انتهی الی موضعها لیلا تحیّر فنزل و أمر ببنائها فسمیت الحیرة، و صارت مقام الملوک اللخمیین من آل النعمان بن المنذر و بها تنصّر المنذر بن امری‌ء القیس و بنی بها الکنائس العظیمة، و اقام قصرا سماه (الزوراء) و هو المعنی بقول النابغة الذبیانی.
و تسقی اذا ما شئت غیر مصرّدبزوراء فی أکنافها المسک کارع
و علی هذا تکون الحیرة اول مدینة بناها العرب الذین جاؤوا من الجزیرة و یکون تبّع و قومه اول من دخلوا العراق و اختلطوا بالسکان و تطبعوا بالطبیعة المدنیة و اسسوا القری و المدن.
و کثر بعد ذلک دخول القبائل العربیة من جزیرة العرب الی العراق، و حین تم فتح المسلمین العراق دخلت اکبر موجة من الجزیرة فی بلاد العراق، و حین انتقلت عاصمة الخلافة من المدینة المنورة الی الکوفة فی خلافة الامام علی (ع) کما مرت الاشارة الیه من قبل کان عدد القبائل المتحضرة و نصف المتحضرة و قبائل البدو الذین دخلوا العراق کبیرا جدا، و قد نال بعضهم قسطا مناسبا من المدنیة کقبائل الحجاز، و بقی البعض الاخر علی فطرته، و قد وجدت هذه القبائل فی بلاد العراق ما یطمن لها رغد العیش فاقام منها البعض فی المدن و فی اطرافها و طبع بطابعها، و عاش البعض الاخر فترة من الزمن عیش البداوة فی مراعی العراق بعیدین بعض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 27
البعد عن مراکز المدن حتی تسنی لها بعد ذلک ان تذوب بالتدریج فی الحیاة المدنیة و تعمل فی الزراعة و من هولاء جلّ قبائل العراق و کانت آخر قوافل البدو التی قدمت العراق فی العصور الاخیرة و استقرت فیه و تمدنت و ألف رؤساؤها مدینة (الناصریة) هی قبیلة آل السعدون، و لم یدخل العراق بعد هذه القبیلة من قبائل البدو قبیلة اخری.
اما القبائل البدویة التی سبقت قبائل آل السعدون فی مجاورتها العراق و سکناها فی وسطه و اطرافه و ظلت علی بداوتها فهی:
1- قبیلة شمر و تسکن هذه القبیلة داخل العراق و فی المنطقة الواقعة بین الفرات و دجلة من شمال بغداد و المسماة بالجزیرة.
2- قبیلة عنزة و هی تسکن فی اعالی الفرات من الغرب و تتمرکز فی الرطبة.
3- قبیلة آل ظفیر و هی التی تتمرکز متجولة فی الفرات الجنوبی من المغرب و حول (السلمان).
اما شمر فقد بدا علیها الاستقرار بعد الحرب العظمی الاولی حین حبب رؤساؤها لقبیلتهم استثمار الارض و زراعتها، و منذ ذلک التاریخ بدأ التطور المدنی یبدو علیها، و اصبح لها منتوج زراعی یلزمها بالاستقرار و ترک حیاة البداوة و قد تألفت من مجامعها الزراعیة مجموعات تشبه القری
و اما آل ظفیر فقد انتقل منها البعض الی المدن و ترک حیاة البداوة، و هناک الان کثیر من العائلات التی تسکن مدن العراق الجنوبیة یرجع تاریخها الی هذه القبیلة و مع ذلک فقد بقیت القبیلة بمجموعها الکبیر علی بداوتها.
و اما قبیلة عنزة فقد بقیت علی فطرتها البدویة تتنقل کآل ظفیر ضمن حدود معینة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 28
و الشی‌ء المهم الذی لم یبق له اثر فی هذه القبائل هو الغزو و المعارک و السلب الذی کانت قد تطبعت به القبائل البدویة و ذلک لقوة الحکومة و لأن هذه القبائل بدأت تدنو بسبب الاحتکاک نحو حیاة المدینة کما دنت القبائل البدویة الاخری من قبل و ذابت، و لا یبعد ان یکون شأن (عنزة) و شأن (آل ظفیر) کشأن شمر ثم تصبح هذه القبائل البدویة کعشائر العراق لا سیما و ان الحکومات العراقیة بدأت تستعجل القبائل الرحل البدویة علی المکث و الاستقرار بما تهی‌ء لها من وسائل التمدین و تسهیل استغلال الارض فی الزراعة.
و یقول البرازی: لقد استقرت البداوة فی بوادی العراق منذ فترة طویلة، و نمّی البدوی مهاراته و اسالیب حیاته، و کانت البداوة طیلة هذه الادوار التاریخیة فی نزاع مستمر مع الحضارة الزراعیة المستقرة فی وادی الرافدین، و بالرغم من هذا النزاع ظلت بداوة الرعی مزدهرة فی هذه البوادی، و سارت جنبا الی جنب مع الزراعة المستقرة بعد ان انفصل مجالهما، فسکن المزارعون حول ضفاف الانهار و زرعوا الارض، بینما تکیف الرعاة مع طبیعة المرعی و طبیعة الحیوان، و اتخذوا مسارحهم فی المناطق الصحراویة و شبه الصحراویة فی هذه البوادی.
و ظلت هاتان الحضارتان الرعویة و الزراعیة، و ما انبثق منهما من نشاطات اقتصادیة و نظم اجتماعیة تمثلان حضارة الانسان فی العراق فی تاریخها الطویل حتی الوقت الحاضر الذی ظهرت فیه الحضارة الصناعیة، و لم یختف التناقض فی اسلوب الحیاة و الرأی بینهما .
اما الواقع فان الرعی لم یعد یختص بالبداوة و انما هو جانب من جوانب الزراعة الذی یتمشی مع استثمار الارض حتی لقد دخل الصناعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 29
فی العراق و اصبح الرعی مشمولا بالمدینة التی ابعدته عن حیاة البداوة.
هکذا انتقل البدو و بدو العراق خاصة من حیاة الترحل و التجوال و العیش المحدود الی حیاة المدینة یوما بعد آخر حتی تألفت منهم المدن العراقیة الکبیرة کالحیرة و البصرة و الکوفة.
و هذه مدینة الکاظمین ینحدر عدد غیر قلیل من سکانها من مختلف القبائل و علی الاخص العلویین من العدنانیین و الخزرج من القحطانیین اللذین شرعنا بدراسة اصول أسرتیهما ابتداء من هذا الجزء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 30

الکاظمین او المشهد الکاظمی

اشارة

المشهد الکاظمی، او مشهد الامام موسی بن جعفر هو الاسم الذی عرفت به هذه المدینة- مدینة الکاظمین- فی التاریخ و یرجع تاریخ هذه التسمیة- تسمیة هذه المدینة- بالمشهد الکاظمی، او مشهد الامام موسی ابن جعفر الی یوم دفن الامام موسی بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن علی زین العابدین بن الحسین ابی عبد اللّه بن علی بن ابی طالب- علیهم السلام- فی هذه البقعة، و ذلک فی سنة 183 ه، اما اسم الکاظمین او اسم الجوادین احیانا فقد عرفت به هذه المدینة فی السنین الأخیرة فتغلب علی الاسمین السابقین و اصبحت المدینة الیوم تدعی بمدینة (الکاظمین) أو (الکاظمیة) بعض الأحیان.
و بقعة الکاظمین هذه هی جانب من ممتلکات الکشّیین القدماء الذین جاءوا العراق فی اواسط القرن الخامس عشر قبل المیلاد، لقد جاءوا من الجبال الشمالیة الشرقیة من منطقة لرستان، یقودهم زعیم اسمه (کندش)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 31
فاحتلوا مدینة بابل، و تعلموا اللغة البابلیة السامیة و کان منهم الملک (کاریکالزو) و هو الذی شید للدولة عاصمة جدیدة اطلق علیها اسمه المذکور و التی تعرف اطلالها و یعرف تلّها العظیم الیوم باسم (عقرقوف) و تعتبر ارض مدینة الکاظمین جزءا من تلک العاصمة، و جانبا من جوانب هذا التل.
و فی معجم البلدان لیاقوت ان «عقر قوف هو عقر أضیف الیه فصار مرکبا مثل حضر موت و بعلبک، و هی من نواحی (دجیل) بینها و بین بغداد اربعة فراسخ، و الی جانبها تل عظیم من تراب یری من خمسة فراسخ کأنه قلعة عظیمة لا یدری ما هو، الا ان ابن الفقیه ذکر انه مقبرة الملوک الکیانیین، و هم ملوک کانوا قبل آل ساسان من النبط».
و فی (نزهة القلوب) لحمد اللّه المستوفی القزوینی المطبوع بلیدن:
ان الذی بنی (عقرقوف) هو کیکاووس الذی أطلق علیه اسم النمرود، و نسبت له قصة ابراهیم و الاصنام و قصة احراقه بالنار، و کیفما کان الأمر فان تاریخ هذه البقعة قدیم و یرجع الی ما قبل 3000 سنة.
و یقول الدکتور مصطفی جواد: و لم نقف علی اسم منطقة (الکاظمین) فی عصر الکشیّین و لا فی عصور من حکموا قبلهم کالأکدیین السامیین و البابلیین و لا فی عصر من حکموا بعدهم کالکلدانیین و الاخمینیین الایرانیین، و انما نستطیع ان نجد اسما لها یشبه الأسماء الیونانیة و هو (قطر بل) و هذا یدل علی ان الاسم کان معروفا فی اواخر القرن الرابع قبل المیلاد .
و کانت هذه المنطقة تعرف (بطسّوج قطر بل) فی أیام الساسانیین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 32

مقبرة الشهداء

و الغالب علی الظن ان هذه المنطقة قبل ان تکون مدفنا للامام موسی ابن جعفر و حفیده محمد الجواد، و قبل ان تکون مقبرة للقرشیین باسم (مقابر قریش) کانت مدفنا لعدد من الذین استشهدوا فی حرب الخوارج قرب الکاظمین و دفنوا هناک فی غربی الکاظمین الجنوبی و ذلک سنة 37 هجریة.
قال الطبری: «و بالقرب من القبر المنسوب الی هشام (ابن عروة بن الزبیر بن العوام) بالجانب الغربی قبور جماعة تعرف (بقبور الشهداء) لم ازل اسمع العامة تذکر انها قبور قوم من اصحاب امیر المؤمنین علی ابن ابی طالب کانوا شهدوا معه قتال الخوارج بالنهروان و ارتثوا فی الوقعة ثم لما رجعوا ادرکهم الموت فی ذلک الموضع فدفنهم علیّ هناک، و قیل ان فیهم من له صحبة و قد کان حمزة بن محمد بن طاهر ینکر ایضا ما اشتهر عند العامة من ذلک، و سمعته یزعم ان لا اصل له و اللّه اعلم ».
و ردّ الدکتور مصطفی جواد علی من کان ینکر مرور الامام علی بن ابی طالب (ع) بهذه المنطقة فی حرب الخوارج و علی الذین أنکروا دفن الشهداء هنا مفنّدا ثم استدرک و قال:
الا ان الراجح هو ان اولئک استشهدوا قبل وقعة (النهروان) بقلیل، و کانت الوقعة بینهم و بین الخوارج قرب ارض الکاظمیة و فی نواحیها، و منها (مقبرة الشهداء) المذکورین، غیر ان مقبرتهم و مقبرة (باب حرب) و غیرهما قد زالت و لم یبق لها أثر .
و فی اخبار سنة 641 ه من (الحوادث) ان میتا حمل الی (مقبرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 33
الشهداء) لیدفن فیها فلما حفر الحفار قبرا له وجد فی الحفر جرة مملوة دراهم یونانیة و دراهم اسلامیة مما ضرب بالمدینة المنورة فاحضرها الی المحتسب ببغداد فحملها المحتسب الی دار الوزیر نصیر الدین احمد بن الناقد وزیر الخلیفة المستعصم باللّه فأمره بالمضی الی المقبرة و اعتبار الحفر (ای فتشه)، فحضر و حفر حول القبر فوجدوا جرّة اخری کان بها نحو عشرة آلاف درهم.
و عن نفس المصدر من الحوادث اورد الدکتور مصطفی جواد فی الجزء الاول من قسم الکاظمین من موسوعة العتبات المقدسة عن قدم (مقبرة الشهداء) فی منطقة الکاظمین العثور علی نقود یونانیة فی تلک المنطقة مخلوطة مع نقود غیرها و ذلک یدل علی ان احد سکان هذه المنطقة فی العهود الاسلامیة عثر علیها فی أثناء حفر اسس لداره او لعمارة أخری من العمارات.
و فی سنة 647 أمر الخلیفة المستعصم باللّه بعمارة مشهد الامام موسی ابن جعفر- ع- فلما شرع الفعلة و البناة فی ذلک وجدوا برنیّة- ای بستوقة- فیها ألف درهم قدیمة منها یونانیة علیها صور، و منها ضرب بغداد و منها ما هو ضرب (واسط) فعرضت علی الخلیفة المذکور آنفا فأمر ان تصرف فی عمارة المشهد اضعاف ما کان حمل الیهم منها.
الی غیر ذلک مما دلت الحفریات علی قدم هذه البقعة التی اول ما اتخذت مدفنا فانما اتخذت للشهداء الذین حاربوا الخوارج فی النهروان او قبل معرکة النهروان کما یری الدکتور مصطفی جواد و ذلک قبل ان تشتهر هذه البقعة کمقبرة باسم (مقابر قریش) ثم باسم (المشهد الکاظمی) او (مشهد الامام موسی بن جعفر) فیما بعد.
و مقبرة الشهداء هذه- کما عیّنها الدکتور مصطفی جواد فی تحقیقه واقعة بالقرب من (الشالچیة) الحالیة، و هی جانب من المنطقة المعروفة باسم (سونایا) الآرامی الواقعة بین الکاظمین و بغداد من الغرب و المتصلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 34
بمقابر قریش (مشهد الامام موسی بن جعفر) الذی یسمی الیوم بالکاظمین، فکانت مقبرة الشهداء اول مقبرة قامت للمسلمین فی منطقة الکاظمین.
و یذکر العلامة المؤرخ الشیخ محمد السماوی تخطیط المنصور لمدینة بغداد فی ارجوزته فیذکر (المنطقة). و یذکر (براثا) و یذکر موقع (سونایا) الذی کان یشمل (مقبرة الشهداء) فیقول عن المنصور:
و عیّن الغرب لنهر دجله‌علی ازورار نهرها فی الجمله
و خطّها دائرة متّسقه‌و مرکز الخط بحیث (المنطقة)
و هی التی یدعونها (سونایا)خلف (براثا) إذ تقاس نایا
حیث (براثا) للجنوب سمت‌تبعد عما خطّه نوبخت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 35

مقابر قریش

و یتضح مما مرّ ان مدینة الکاظمین الحالیة لم تکن غیر جانب من مقاطعة کانت معروفة فی التاریخ القدیم و قد قامت علیها المدینة المعروفة باسم (قطر بل) و قد ورد لها ذکر کثیر فی التاریخ و فی الشعر العربی خاصة، و حین قام المنصور بتخطیط بغداد و بنائها سنة 149 لم نجد لهذه البقعة ای ذکر فی التاریخ حتی مات ابن المنصور (جعفر الاکبر) الذی تکنّی المنصور باسمه و دعی بابی جعفر فدفنه ابوه فی هذه البقعة و ذلک فی سنة 150 ه و خص هذه المقبرة بالقرشیین، علی ان یدفن هو فیها اذا مات فسمیت بمقابر قریش، ثم تکاثر الدفناء فی هذه البقعة من الاکابر و الوجوه و الاعلام و سائر الناس تبرکا بهذا المقام منذ أن جری دفن الامام موسی بن جعفر (ع) فیه و ذلک سنة 183 ه فلم تعد تعرف (بمقابر قریش) بل صارت مقبرة عامة للذین یلتمسون دفنهم فی جوار الامام الکاظم مثوبة عند اللّه لما عرف به الامام من صفات انفرد بها اولیاء اللّه و اصفیاؤه.
یقول الشیخ ابراهیم یحیی من قصیدة له فی الکاظم:
و حامی حمی الزوراء موسی بن جعفرملاذ جمیع الناس و الدهر مجحف
و ضامن دار الخلد للزائر الذی‌أتاه یؤدّی حقّه لا یسوّف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 36 و بحر الندی ذاک الجواد الذی جری‌رویدا فبذّ الغیث، و الغیث موجف
و جاء فی الحوادث: انه کان قد حفر للناصر لدین اللّه الخلیفة العباسی سرداب فی جوار الامام موسی بن جعفر و لکنه دفن فی الرصافة و قد دفن نصیر الدین ابو جعفر محمد بن محمد الطوسی فی هذا السرداب الذی کان قد حفر لیکون مدفنا للناصر لدین اللّه، و نقل انه قیل للطوسی- رض- فی مرض موته:
- ألا توصی بحمل جسدک الی مشهد النجف الأشرف الأطهر؟
فقال- لا، بل استحی من وجه سیدی الامام الهمام موسی بن جعفر- علیهما السلام- أن آمر بنقل جسدی من ارضه المقدسة الی موضع آخر .
و هکذا ما لبثت ان صارت هذه البقعة مدفنا للقرشیین و غیر القرشیین، و لطائفة کبیرة من الأعلام و أئمة المسلمین کما یری القاری‌ء من استعراض تراجمهم فی الجزء الثانی من قسم الکاظمین من موسوعة العتبات المقدسة التی قام بجمعها و تحقیقها الدکتور مصطفی جواد عن الدفناء الذین تم دفنهم فی الکاظمین خلال سبعة قرون و وافاه الأجل قبل ان یتم تراجم الذین دفنوا بعد القرن الثامن الهجری حتی القرن الرابع عشر الاخیر من الاعلام و المشاهیر.
و یقول یاقوت الحموی فی معجم البلدان عن مقابر قریش «و هی مقبرة مشهورة، و محلة فیها خلق کثیر و علیها سور بین الحربیة، و مقبرة احمد بن حنبل رضی اللّه عنه، و الحریم الطاهری، و بینها و بین دجلة شوط فرس جید، و هی التی فیها قبر موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، بن علی زین العابدین بن الامام الحسین بن علی بن ابی طالب، و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 37
اول من دفن فیها جعفر الاکبر بن المنصور امیر المؤمنین فی سنة 150 و کان المنصور اول من جعلها مقبرة لما ابتنی مدینته (بغداد) سنة 149».
و قال الخطیب البغدادی عن مقابر قریش:
«بالجانب الغربی فی اعلی المدینة (مقابر قریش) دفن فیها موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب و جماعة من الافاضل معه».
و یقول الخطیب بعد ذلک:
«سمعت بعض شیوخنا یقول: مقابر قریش کانت قدیما تعرف بمقبرة الشونیزی الصغیر، و المقبرة التی وراء التوثة تعرف بمقبرة الشونیزی منظر عام لمرقد الامامین الکاظمین موسی بن جعفر و محمد الجواد علیهما السلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 38
الکبیر و کان اخوان (کذا) یقال لکل واحد منهما الشونیزی فدفن کل واحد منهما فی احدی هاتین المقبرتین، و نسبت المقبرة الیه » و هذا القول مردود اذا ما استعرضنا اقوال المؤرخین و تتبعنا تحدید المواقع، و یبدو لنا ان الخطیب البغدادی و من ذهب مذهبه فی اعتبار الشونیزیه مقابر قریش واهمون.
اما الذی یجوز اعتباره من مقابر قریش و المتصل بها فهو (باب التبن) لورود نصوص بکون هذا الباب ضمن مدفن الامام موسی بن جعفر.
یقول یاقوت فی معجمه عن باب التبن:
«و هو بلفظ التبن الذی تأکله الدواب، اسم محلة کبیرة کانت ببغداد علی الخندق بازاء قطیعة ام جعفر، و بها قبر عبد اللّه بن احمد بن حنبل رضی اللّه عنه، دفن هناک بوصیة منه و ذاک انه قال: قد صح عندی ان بالقطیعة نبیا مدفونا، و لأن اکون فی جوار نبی احب الی من ان اکون فی جوار ابی، و بلصق هذا الموضع (مقابر قریش) التی فیها قبر موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الامام الحسین ابن الامام علی بن ابی طالب رضی اللّه عنهم، و یعرف قبره بمشهد باب التبن، مضاف الی هذا الموضع، و هو الآن محلة عامرة ذات سور مفردة ».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 39

الکاظمین

لیس بامکان التاریخ ان یعرف کل الاسباب التی استدعت. اطلاق الاسماء لاول مرة علی مسمیاتها من المدن و المحلات و المواقع و غیرها، فلم یزل المؤرخون و المتتبعون یجهلون حتی الیوم اسباب تسمیة عشرات الالوف من المدن و المحلات و المواقع باسمائها، فی حین ان الکثیر من هذه المواقع قریب عهد بالتسمیة بحیث لم یمر علیه بضعة قرون و حتی اقل من ذلک بکثیر، و مع هذا فلم تزل اسباب اطلاق الاسماء علیها و ما تعنی هذه الاسماء مجهولة لدی المؤرخین و هی محل اختلاف و جدل علی الأقل، و من هذه الاسماء التی یختلف المؤرخون فی معانیها او اسباب اطلاقها علی مسمیاتها من مدن العتبات المقدسة هی اسم (مکة) المکرمة، و اسم النجف الاشرف، و اسم کربلاء و غیرها، و مع ذلک فان هناک الکثیر من المدن و مدن العتبات المقدسة معروفة الاسماء و المعانی و الاسباب التی دعت لاطلاق تلک الاسماء علیها، و لیس فیها للاختلاف محل و لا شبهة، و من ذلک کان اسم مدینة الکاظمین.
و الکاظمین- کما أشرنا من قبل- اسم حدیث اطلق علی هذه المدینة بعد ان اصبحت مدینة، و بعد ان تمصرت و سکنها الناس، اما اسمها السابق و قبل ان تکون مدینة و حتی بعد ان صارت مدینة بقلیل فهو (مشهد الامام موسی بن جعفر) او (المشهد الکاظمی)، نسبة الی صفة الکظم التی اتصف بها الامام موسی بن جعفر الذی اشتهر بحلمه و کظمه الغیظ و عفوه عن الاساءة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 40
و الکاظم الغیظ لغة: هو الذی یحبس غیظه و یمسک علی ما فی نفسه منه.
و جاء فی لسان العرب: و کظم الرجل غیظه اذا اجترعه، و کظمه یکظمه کظما: ردّه و حبسه فهو رجل کظیم، و الغیظ مکظوم، و فی التنزیل العزیز: و الکاظمین الغیظ، فسّره ثعلب فقال: یعنی الحابسین الغیظ لا یجازون علیه.
و قال الزجاج: معناه: أعدّت الجنّة للذین جری ذکرهم، و للذین یکظمون الغیظ.
و روی عن النبی صلی اللّه علیه و سلم، انه قال: «ما من جرعة یتجرعها الانسان اعظم أجرا من جرعة غیظ فی اللّه عز و جل».
و فی الحدیث: من کظم غیظا فله کذا ... و کذا
و من حدیث عبد المطلب: ان له فخرا یکظم علیه- ای لا یبدیه و یظهره، و هو حسبه .
و فی الکشاف للزمخشری فی تفسیر الآیة الکریمة: «الَّذِینَ یُنْفِقُونَ فِی السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ، وَ الْکاظِمِینَ الْغَیْظَ، وَ الْعافِینَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ» قال:
و کظم الغیظ، هو ان یمسک علی ما فی نفسه بالصبر، و لا یظهر له اثرا و عن النبی صلی اللّه علیه و سلم: «من کظم غیظا و هو یقدر علی انفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا و إیمانا».
و عن عائشة رضی اللّه عنها: ان خادما لها غاضها فقالت: للّه درّ التقوی، ما ترکت لذی غیظ شفاء.
و فی قول اللّه (وَ الْعافِینَ عَنِ النَّاسِ) قال الزمخشری: الذین اذا جنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 41
علیهم احد لم یؤاخذوه، و روی: «ینادی مناد یوم القیامة: این الذین کانت اجورهم علی اللّه فلا یقوم الا من عفا».
و عن النبی صلی اللّه علیه و سلم «ان هؤلاء قلیل فی أمتی الا من عصم اللّه ».
و فی مجمع البیان للطبرسی فی تفسیر (و الکاظمین الغیظ) قال: ای المتجرعین للغیظ عند امتلاء نفوسهم منه فلا ینتقمون ممن یدخل علیهم الضرر بل یصبرون علی ذلک، و فی تفسیر قوله تعالی: (وَ الْعافِینَ عَنِ النَّاسِ) قال الطبرسی: انه یعنی الصافحین عن الناس المتجاوزین عما یجوز العفو و التجاوز عنه مما الی یؤدی الی الاخلال بحق اللّه تعالی .
*** و لقد صوّر الامام موسی بن جعفر- علیهما السلام- کظم الغیظ، و العفو تصویرا بلغ حد الاعجاز، اذ لم یرو عن احد فی اعلام التاریخ مثل ما روی عنه کظما للغیظ، و عفوا عن الاساءة، حتی لقب من دون خلق اللّه بکاظم الغیظ، و حتی اعتبره اصحاب التراجم و السیر قدوة لم یبلغ ذروتها احد من الأئمة الموصوفین باسمی صفات الحلم و التسامح.
و مما ورد عن الامام الکاظم انه احضر اولاده یوما فقال لهم:
«یا بنیّ انی اوصیکم بوصیة من حفظها لم یضع معها، إن أتاکم آت مکروها فاعتذر و قال: لم أقل شیئا، فاقبلوا عذره ».
و قد التقاه أبو نواس مرة فقال:
اذا أبصرتک العین من غیر ریبةو عارض فیک الشک اثبتک القلب
و لو ان رکبا أمّموک لقادهم‌نسیمک حتی یستدلّ بک الرکب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 42 جعلتک حسبی فی أموری کلهاو ما خاب من اضحی و انت له حسب
و یقول عبد الباقی العمری عن الامام الکاظم:
ملجأ العاجزین، کهف الیتامی‌مروة المرملین مأوی الضیوف
انا عنه حیا و میتا بدنیای‌و اخرای لست بالمصروف
فلیلمنی من شاء إنی موال‌رافل من ولائهم بشغوف
قال الربیع بن عبد الرحمن: کان و اللّه (ای الامام الکاظم) من المتوسمین فیعلم من یقف علیه بعد موته و یکظم غیظه علیهم، و لا یبدی لهم ما یعرفه منهم و لذلک سمی الکاظم.
و یقول فیه عبد الغفار الاخرس:
کاظم الغیظ سالم الصدر عاف‌ما هوی قط صدره الاحقادا
و حین توفی حفید الامام الکاظم محمد الجواد (ع) بعد وفاة جده بعدة سنوات، دفن الی جوار جده و عند ضریحه و کان الامام (الجواد) یحکی شیئا غیر قلیل من صفات حده موسی بن جعفر (ع) و لا سیما فی الجود و اسداء الجمیل و الحلم، و من هنا بدأ البعض یطلق صفة کظم الغیظ علی الامامین معا فسمیت المدینة باسم (الکاظمین) ای باسم صفة الجد و الحفید، و لما کان کلا الامامین موصوفین بالجود فقد اطلق البعض علی اسم المدینة اسم (الجوادین) ایضا، و لکن هذا الاسم کان و لم یزل علی شهرته دون شهرة اسم (الکاظمین).
یقول الشاعر:
ما خاب من أمّ جوادا فهل‌یخیب من أمّ جوادین؟
و کثیرة هی الشواهد الدالة علی سمو النفس عند الامام الکاظم و ما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 43
اتصف به من السماحة و العفو و الجود و کظم الغیظ، و هو فی اعلی مراتب العزة و عظمة النفس التی ترفعه عن الذلة و تصعد به الی اعلی القمم من الإباء و عزة النفس.
کان هرون الرشید یری بعینه و یسمع عن اقبال الناس علی الکاظم علیه السلام و القبول منه، و الأخذ عنه، و الرجوع الیه، و عند ما کان یراه الرشید و هو فی مثل هذه المنزلة مالکا قلوب الناس متمتعا بهذه الشعبیة المحبوبة کانت تساوره الهواجس فکان یحاذر علی سلطانه منه، فتراه یتصدی لاحراجه بکل ما اوتی من قوة حطّا لقیمته و لقد سأله الرشید ذات مرة:
- کیف صرتم ذریة رسول اللّه و انتم بنو علی؟ و انما ینتسب الرجل ضریح الامامین: موسی الکاظم و محمد الجواد علیهما السلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 44
الی جده لابیه دون جده لأمه؟
فیجیبه الامام موسی بالآیة الکریمة قائلا:
«وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ وَ أَیُّوبَ وَ یُوسُفَ وَ مُوسی وَ هارُونَ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ وَ زَکَرِیَّا وَ یَحْیی وَ عِیسی و لیس لعیسی أب و انما ألحق بذریة الأنبیاء من قبل امه، و کذلک نحن الحقنا بذریة النبی من قبل امنا فاطمة.
ثم اضاف الکاظم قائلا:
لو نشر رسول اللّه و خطب الیک کریمتک أکنت تزوجه؟
قال الرشید- نعم و افتخر علی العرب و العجم.
قال الامام موسی- و لکنه (ای النبی) لا یخطب منی، و لا ازوجه لأنه ولدنا و لم یلدکم
و لقد دعا تخوف الرشید من احتفاء الناس بالامام الکاظم و شدة الاقبال علیه، و کثرة ما کان یجود بالمال الذی کان یأتیه من جمیع الاطراف علی سبیل الهدیة و التبرک فیتفقد به فقراء المدینة و المعوزین فی الخفاء و فی منتصف اللیل اذ یحمل الیهم الزنبیل و فیه العین (الذهب) و الورق (الفضة) و الأدقّة (الطحین) و التمر، فیوصل الیهم ذلک فلا یعلمون من ایة جهة هو.
و فی عمدة الطالب: کان موسی الکاظم، عظیم الفضل، رابط الجأش، واسع العطاء، و کان یضرب المثل بصرار موسی حتی قیل:
«عجبا لمن جاءته صرّة موسی فشکا القلّة»
و یستبین المتتبع لصفات الکاظم و صفة السخاء و الکرم و منزلة هذه الصفة عنده من احدی و صایاه لهشام بن الحکم اذ یقول له:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 45
«یا هشام، کان امیر المؤمنین (ع) یوصی اصحابه فیقول:
اوصیکم بالخشیة من اللّه فی السر و العلانیة، و العدل فی الرضا و الغضب، و الاکتساب فی الفقر و الغنی، و ان تصلوا من قطعکم، و تعفوا عمن ظلمکم، و تعطفوا علی من حرمکم، و لیکن نظرکم عبرا، و صمتکم فکرا، و قولکم ذکرا، و طبیعتکم السخاء، فانه لا یدخل الجنة بخیل، و لا یدخل النار سخی ».
الی غیر ذلک من الکثیر الکثیر
نقول: لقد دعا تخوف الرشید من مکانة الامام موسی بن جعفر (ع) و حلمه الذی عرف به، و معروفه المشهور، و سخائه الذی ضرب به المثل، و تعلق الناس به من جمیع الاجناس. الی التفکیر فی ازاحته من طریقه، و زجّه فی السجن لیغیبّه عن اعین الناس و یمحو ذکره.
ففی الحجة التی قام بها الرشید الی مکة قبض علی الامام موسی الکاظم و قیده و أخرج من داره بغلین علیهما قبتان مستورتان، و جعل الامام الکاظم فی احداهما و وجّه مع کل قبة خیلا، فاخذ جنده بواحدة من القبتین علی طریق البصرة، و اخذ الجند القبة الأخری علی طریق الکوفة لیعمّی علی الناس و کان الامام الکاظم فی التی مضت الی البصرة، و أمر الرسول ان یسلم موسی الکاظم الی عیسی بن جعفر بن المنصور و عیسی هذا هو اخو الست زبیدة و ابن عم هرون الرشید، و کان علی البصرة حینذ، فجاء الجند بالامام الکاظم الیه فحبسه عیسی عنده سنة کاملة، و یبدو ان عیسی لم یحتمل ان یحبس اماما اشتهر بتلک المجموعة من الصفات من کظم الغیظ «الجود، و الحلم و العفو دونما ذنب او جنایة فکتب الی الرشید یقول:
«خذه منی و سلمه الی من شئت، و الا خلّیت سبیله، فقد اجتهدت أن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 46
آخذ علیه حجة فما قدرت علی ذلک. حتی أنی لأتسمّع علیه اذا دعا لعله یدعو علیّ او علیک فما اسمعه یدعو الا لنفسه، و یسأل اللّه الرحمة و المغفرة!!»
و لیس ادلّ علی کظم الغیظ و العفو عن الناس من ان یحبس رجل مظلوم و بدون ذنب سنة کاملة ثم لا یحمل لحابسه غیظا و لا للمنکّلین به غضاضة.
و حین نقله الرشید بعد ذلک الی حبس السندی بن شاهک کان السندی من اقسی السجانین قلبا، و اکثرهم شدة فضیق علیه بما استطاع و کان للسندی هذا اخت کانت متدیّنة و کانت تشرف علی سجنه و قد حکت عنه فقالت:
(انه کان اذا صلی العتمة حمد اللّه و مجّده، و دعاه الی ان یزول اللیل، ثم یقوم فیصلی، حتی یصلی الصبح، ثم یذکر اللّه تعالی حتی تطلع الشمس، ثم یقعد الی ارتفاع الضحی ثم یرقد ... الخ .. و کان هذا دأبه الی ان مات »
و قال ابن الأثیر عن اخت السندی بن شاهل هذه: «و کانت اذا رأته قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح».
و بقی فی الحبوس اربع سنوات ما سمعت له شکوی، و لا استغاثة، و لا دعاء علی احد، و قد تولی قتله السندی بن شاهک بان دسّ له السم فی طعام قدم الیه حسب اشارة الرشید، فمات و لم یحمل غیظا لأحد و لم یغضب علی احد من الناس.
و کل ما فعل الامام موسی بن جعفر هو انه وجه الی الرشید من اعماق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 47
سجنه رسالة یقول فیها:
«لن ینقضی عنی یوم من البلاء حتی ینقضی عنک معه یوم من الرخاء، حتی نقضی جمیعا الی یوم لیس له انقضاء یخسر فیه المبطلون».
و لقد جاء فی نصوص الادعیة التی یدعو بها الزائرون من عارفی فضل الامام موسی عند ضریحه ما یوضح مبلغ تجرع الامام الکاظم من الغصض و کظم الغیظ. و الصبر علی المکاره من قبیل قول الزائر:
«... اللهم و کما صبر علی غلیظ المحن.- و یرجع الضمیر للامام الکاظم- و تجرّع غصص الکرب، و استسلم لرضاک، و اخلص الطاعة لک، و محض الخشوع، و استشعر الخضوع، و عادی البدعة و أهلها ... (ثم یمضی الدعاء فیقول) امام الابرار، مقرّ النهی و العدل، و الخیر و الفضل، و الندی و البذل، و مألف البلوی و الصبر، و المضطهد بالظلم، و المقبور بالجور، و المعذب فی قعر السجون، و ظلم المطامیر، ذی الساق المرضوض بحلق القیود ... الخ».
الی غیر هذا من القصص و الاخبار و الادعیة و الاشعار التی تناولت خصاله و صفاته من کظم الغیظ، و العفو عن الاساءة، و الصبر علی المکاره، و الجود بما تملکه یداه و قضاء حاجات الناس حتی سمی بباب الحوائج، و اشتهر بهذا الاسم الی جانب شهرته بالکاظم.
قال ابن الصباغ المالکی فی (الفصول المهمة) عن الکاظم: هو المعروف عند اهل العراق بباب الحوائج لنجح قضاء حوائج المتوسلین به.
و قال کمال الدین محمد بن طلحة الشافعی فی (مطالب السؤول عن مناقب الرسول) عن الامام الکاظم:
هو الامام الکبیر القدر، العظیم الشأن، الکثیر التهجد، المشهور بالکرامات، یبیت اللیل ساجدا و قائما، و یقطع النهار متقصدا و صائما، و لفرط حلمه و تجاوزه عن المعتدین علیه دعی کاظما، کان یجازی المسی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 48
باحسانه الیه، و یقابل بعفوه الجانی علیه، و یعرف فی العراق: (بباب الحوائج الی اللّه) لنجح المتوسلین به الی اللّه.
و فی مقاتل الطالبین لابی الفرج الاصفهانی أن رجلا ممن تشبّع فی بغض الکاظم کان یشتم علی بن ابی طالب کلما رأی موسی بن جعفر و یؤذیه اذا ما لقیه فی الطریق، و کان الامام الکاظم یکظم غیظه و لا یرد علیه بشی‌ء، فقال له بعض موالیه و شیعته: دعنا نقتله، و بالطبع کان هذا من اکبر الکبائر عنده، فهو لم یستنکر مثل هذا العمل فقط و انما اراد ان یریهم کیف یمکن ان تروض اخلاق الناس بالعفو و بالاحسان ما داموا مصرّین علی ازاحة هذا العدو من الطریق، فمضی الکاظم راکبا الیه و قصده فی مزرعة له فتواطأها متعمدا بحماره، فخرج الیه الرجل زاجرا، و لکن الکاظم لم یصغ الیه بل قصده حتی بلغ منزله، و نزل عنده، و بدأ یلاطفه و یضاحکه ثم سأله بعد ذلک:
- کم تظن قد لحق بک من الخسارة بسبب تواطؤ حماری لمزرعتک؟
قال- و هو یرید المغالاة فی الضرر علی ما یصف ابو الفرج، قال الرجل- مائة درهم.
قال الکاظم- و کم ترجو ان تربح لو کانت قد سلمت مواطی‌ء الحمار من الضرر؟
قال- لا أدری
قال الکاظم- انما سألتک کم ترجو؟
قال الرجل- مائة درهم اخری
فاخرج له الکاظم ثلثمایة دینار (لا درهم) و وهبها له، فقام الرجل و قبل رأس الکاظم، و منذ ذلک الحین صار الامام الکاظم لا یدخل المسجد حتی یثب ذلک العدو و یسلم علیه و یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 49
«اللّه أعلم حیث یجعل رسالته »
و لقد أثر عن الامام الکاظم قوله:
«الغضب مفتاح الشر»
و لذلک حق له ان ینفرد بکظم الغیظ و الابتعاد عن الغضب و ظهوره بمظهر القدوة فی العفو و الحلم.
و من وصیة له قوله:
«ان قول اللّه: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ جری فی المؤمن، و الکافر، و البرّ، و الفاجر، فمن صنع الیه معروف فعلیه ان یکافی‌ء به، و لیست المکافأة ان تصنع کما صنع حتی تری فضلک، فإن صنعت کما صنع فله الفضل بالابتداء».
و یستبین المتتبع لصفة المعروف و الاحسان عنده فی کل اثر من آثاره حتی الشعر، فقد جاء فی مناقب ابن شهر آشوب عن الامام موسی بن جعفر علیهما السلام انه قال:
دخلت ذات یوم من المکتب و معی لوحی، فاجلسنی أبی بین یدیه و قال:
- یا بنی اکتب:
«تنحّ عن القبیح و لا ترده»
ثم قال لی أجز (أی اکمل الشطر بشطر آخر من الشعر علی رویه وقافیته کما هو المألوف).
یقول الامام موسی بن جعفر (فأجزت) و قلت:
«و من أولیته حسنا فزده»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 50
یقول: ثم قال لی أبی:
«ستلقی من عدوک کل کید»
(فأجزت) و قلت:
«اذا کان العدو فلا تکده»
*** من کل ما مرّ یخلص المتتبعون الی الاسباب التی دعت الی تسمیة هذا البلد (بالکاظمین) ثم (الجوادین) ثم الاکتفاء بتسمیة الامام موسی بن جعفر بالصفة التی عرف بها و هی (باب الحوائج) لتدل علی مدفنه و علی مرور الزمان صار البعض یکتفی بان یطلق علی الکاظمین اسم (الکاظم) و (الکاظمیة) و لکن الغالب ظل علی حاله، و ظلت الشهرة العامة مقتصرة علی (الکاظمین) کمدینة من اشهر مدن العتبات المقدسة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 51

مدینة الکاظمین و تمصیرها

لا یعرف بالضبط متی صار المشهد الکاظمی مدینة، و لکن المؤکد هو ان تمصیر هذه البقعة قد جری بالتدریج و سنة بعد سنة و منذ ان بدأ الناس یدفنون اعلامهم تبرکا بمقام الامام، و منذ ان بدأ المهمومون و المغمومون یقصدون هذا الضریح لیصلّوا عنده و لیدعوا اللّه بان یفرج کربهم، و یزیل همهم، و ینزل علی نفوسهم السکینة و هم مفعمون بالرجاء بان اللّه سیتلطف بهم ما داموا یدعونه من اعماق ایمانهم و هم فی هذا المقام المقدس عند ولی من اولیائه الذین لاقوا فی سبیله من العذاب و التنکیل و القساوة ما لاقوا فصبروا، و کظموا غیظهم، و عفوا، و تصدقوا بما استطاعوا ان یتصدقوا.
و من المؤکد ان کثرة الزائرین کانت تستلزم ان یکون هناک من یقوم بخدمتهم تکسبا، لذلک لا یبعد ان یکون اول ساکنی الکاظمین هم من القوّام و القائمین بخدمة المقام، کذلک لا یبعد ان یکون بعض الزهاد و تارکی الدنیا من الذین کانوا یجاورون الضریح حتی اذا ماتوا دفنوا هناک اذ طالما ألف المسلمون وجود الکثیر من الدراویش و الزهاد یقیمون حول اضرحة الاولیاء ما یشبه المساجد و التکایا و الخانقاهات، فیسکنونها او هم یقصدونها فی ایام و لیال من السنة المبارکة.
یقول یاقوت الحموی عن (الشونیزیة): انها مقبرة بالجانب الغربی ببغداد. دفن فیها جماعة کثیرة من الصالحین، منهم الجنید، و جعفر الخلدی، و روبم، و سمنون المحب، و هناک خانقاه للصوفیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 52
صحیح ان التصوف و الخانقاهات لم تکن معروفة فی العصر الذی تم فیه دفن الامام موسی بن جعفر (ع) بالمعنی الذی عرف به فی العصور العباسیة التالیة، و ما بعدها، و لکن شیئا کثیرا مما یدخل ضمن حدود الزهد، و التقشف، و العبادة، و الابتعاد عن الناس کان معروفا و مألوفا، فتألفت من کل هؤلاء، و اولئک القوّام، و الزائرین الذین کانوا یقصدون الضریح لیقضوا ساعة او یوما او یومین متبرکین متعبدین، لقد تألفت مجموعة من السکان ما لبثت ان توسعت و توسعت حتی غدت مدینة یقصدها المسلمون من جمیع الجهات لیعمّروا بها قلوبهم ببرکة الامامین و لیشفوا بزیارتهما امراضهم النفسیة بما تبعث هذه الزیارة من الاطمینان و الایمان فی النفوس.
یقول السید حیدر الحلی:
و علی بلدة (الجوادین) عرّج‌بالقوافی مهنیا و بشیرا
قل لها لا برحت فردوس أنس‌فیک تلقی الناس الهنا و الحبورا
ما نزلنا حماک الا وجدنابلدا طیبا و ربا غفورا
و امامین ینقذان من النارلمن فیهما غدا مستجیرا
و اکثر الظن ان الاستیطان فی الکاظمین قد بدأ منذ القرن الثالث الهجری و بعد دفن الامامین بقلیل، و ما لبثت المدینة تعمر و تعمر حتی صارت ملجأ و مأوی یأوی الیها المظلومون و الهاربون من مطاردة القساة و الظلمة، و لم یحل القرن الرابع و الخامس حتی عمرت البلاد و حتی قامت فیها المؤسسات الخیریة، و فی القرن السادس کان هناک بیت خاص، بالیتامی العلویین الذین نکلّ الحکام بآبائهم أو الذین فجعوا باهلیهم و لم یبق کافل لهم، مما یستنتجه القاری‌ء من حکایات المؤرخین.
جاء فی الفخری ان بدر الدین أیاز- و هو مملوک الوزیر مؤید الدین ابی الحسن المقدادی وزیر الناصر لدین اللّه- قال: طلب الوزیر مؤید الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 53
ذات لیلة من اللیالی حلاوة النبات فعمل منها فی الحال صحون کثیرة، و احضرت بین یدیه فی ذلک اللیل، فقال لی الوزیر: یا أیاز: أتقدر ان تدخر لی هذه الحلاوة موفّرة الی یوم القیامة؟
فقلت- یا مولانا، و کیف یکون ذلک؟ و هل یمکن مثل هذا؟
قال- نعم، تمضی هذه الساعة الی مشهد موسی و الجواد- علیهما السلام- و تضع هذه الاصحن قدام ایتام العلویین، فانّها تدّخر لی موفرة الی یوم القیامة.
قال أیاز- فقلت السمع و الطاعة
و مضیت- و کان نصف اللیل- الی المشهد، و فتحت الأبواب، و انبهت الصبیان الایتام، و وضعت الاصحن بین ایدیهم و رجعت
و حتی الیوم و الناس یقصدون ضریح (الکاظمین) للتنفیس عن کروبهم، او للتقرب الی اللّه بزیارة هذین الامامین، فیضیق المقام علی رحبه بکثرة الزائرین بالاضافة الی سکان المدینة انفسهم کلما شعروا بضیق صدورهم او قصدوا المثوبة فی الصلاة و الدعاء تحت قبتی الامامین.
یقول الخطیب البغدادی: «سمعت الحسن بن ابراهیم أبا علی الخلال یقول: ما همّنی أمر فقصدت قبر موسی بن جعفر فتوسلت به الا سهّل اللّه تعالی لی ما أحب»
و جاء فی شعر الشریف الرضی ما یعبر عن امنیات الزائرین للامامین الکاظمین و رجائهم المثوبة فی الدنیا و الاخرة قوله:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 54 ولی قبران (بالزوراء) أشفی‌بقربهما نزاعی و اکتئابی
اقود الیهما نفسی و أهدی‌سلاما لا یحید عن الجواب
لقاؤهما یطهّر من جنانی‌و یدرأ عن ردائی کل عاب
و شاعر آخر یمثل فی شعره هذا الایمان بکشف الکرب و زوال الهم لقاصد هذین الامامین و اللائذ بهما کولیین فیقول:
لذ إن دهتک الرزایاو الدهر عیشک نکّد
بکاظم الغیظ موسی‌و بالجواد محمّد
و حین قصد راشد افندی و هو احد مشاهیر رجالات الدولة العثمانیة ضریح الامام موسی بن جعفر و قد جاء من اسطنبول زائرا صحبه الشاعر المعروف عبد الباقی العمری، و قد رأی تلهفه و تفانیه فی الولاء و التمسک بمشهد الامام الکاظم متقربا الی اللّه قال:
وافی من الروم یبغی (راشد) رشداالی طریق هدی سعیا علی الراس
و یرتجی العفو من مولاه ملتجئابالکاظم الغیظ و العافی عن الناس
و الکاظمین الیوم مدینة عامرة تسکنها أسر یرجع تاریخها الی قرون بعیدة و تعتبر من اعمر مدن العتبات المقدسة، و قد اخرجت الکثیر من العلماء و الشعراء فی مختلف ادوارها التاریخیة کما کانت من اهم مقابر المسلمین من حیث قیمة دفنائها من الاعلام و المشاهیر کما مر ذلک فی الجزء الثانی من قسم الکاظمین من هذه الموسوعة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 55

الکاظم و الکاظمین فی الشعر

لو تصدی متصد لجمع ما قیل فی الامام الکاظم و فی مدینة الکاظمین من الشعر لتألف من ذلک عشرات الدواوین لکثرة ما قیل فی هذا الموضوع و کثرة الشعراء- من المتقدمین و المتأخرین- الذین صوروا نزعاتهم و خواطرهم و ولاءهم فیما استعرضوا من الصفات التی تحلی بها الامام الکاظم (ع) و الممیزات التی امتازت بها مدینة الکاظمین، و لقد اوردنا فی الجزء الاول من قسم الکاظمین من موسوعة العتبات المقدسة نماذج مجملة لبعض هذا الشعر فی صوره المختلفة و نکتفی الآن بان نورد علی سبیل النموذج قصیدة للعالم الشاعر الشیخ سلیمان الظاهر عضو المجمع العلمی بدمشق بالنظر لما تحتوی هذه القصیدة من التصاویر الصادقة المعبّرة عن خواطر واحد من کبار رجال العلم و الأدب و ولائه و ایمانه و هی قطرة من بحر واسع من الشعر الذی خص به الامام بصفة الکاظم، و خصت به المدینة بصفتها مدفن الامامین الکاظمین موسی بن جعفر و حفیده محمد الجواد علیهما السلام:

الامام الکاظم (ع)

کم فی مغان باللوی و معالم‌أقوت حشی صب و مهجة هائم
و نواظرا ترمی محاجرها و قدأضحی علیها السکب ضربة لازم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 56 للّه موقفنا نسائل مفحمامن دارس عن عهدها المتقادم
کانت مهبا للنسیم فأصبحت‌من بعد قاطنها مهبّ سمائم
و غدت مطاف هواجر من بعد ماکانت مطاف نواعم و غمائم
کانت بها تقضی المغارم فاغتدت‌و کأنها للدهر بعض مغارم
و مواسم اللذات کانت فاغتدت‌و کأنها للبین بعض مواسم
کان الزمان مسالما لحسابهافارتدّ و هو لهنّ غیر مسالم
غرس المشوق بها الهوی لکنه‌لم یجنه الا مریر علاقم
لم یبق منها غیر نؤی مثل منعطف الحنیّة او سوار معاصم
و ثلاث اعزبة أقمن مؤثلایمثلن فی صبر المشوق الهائم
و لکم تطیر بغیر اجنحة جواثم فی قلوب لم تکن بجواثم
و اذا بدت للصبّ سحم وجوههالم یلقها الا بوجه ساهم
و کأنما أحجارها السود اغتدت‌لفؤاده الملتاع سود أراقم
***
یا ناشدا أحبابه من طامس‌طلل و رسم بالثویّة طاسم
ما ان تری لک من مجیب غیر قلب واجم او جفن طرف ساجم
و تجاوب الأصداء فی دویّةفکأنها للیوم بعض مآتم
***
یا قلب أقصر عن هواک فما الهوی‌الا الهوان لکل ندب حازم
من جنّ فیه فما لداء جنونه‌راق و ما یجدیه رقش تمائم
حتّام یسلس من مقادتک الهوی‌فتقاد مجنونا بغیر شکائم
هل فیک أبقی للحسان و حبّهنّ بقیة حبّ الامام الکاظم؟
هو سابع لأئمة و أب لخمسة قادة هم خیر هذا العالم
هم آل بیت إن نماهم آدم‌فبهم أقال اللّه عثرة آدم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 57 هل کان للأعراف غیرهم رجالا یعرفون برغم انف الکاتم
من کان معتصما ففی الدارین لن یلفی له من عاصم
نفسی الفدی لمضیّع فی قومه‌و به یجعجع و هو أهدی قائم
و اذا نماهم هاشم کانت له‌من دونهم فی المجد ذروة هاشم
من کان یعزی للنبی محمدخیر الوری و لحیدر و لفاطم
لم تشأه من همة و لوانهاشمخت علی نسر السماء الجاثم
ضلّ الذی قد قاسه فیمن غدافی جنبه حلما بجفنی حالم
و من السفاهة ان تقارن عالمافی جاهل او بانیا فی هادم
هل کان (هارون) یجاری فی تقی موسی) و فی شأوی علا و مکارم؟
بهرت فضائله العقول فما یحیط بها الوری من ناثر او ناظم
هو عیلم العلم الخضمّ و لم یکن‌فی الناس لو لا علمه من عالم
کم راح مستجدی نوال بنانه‌فی المحل مجتدیا لعشر غمائم
لولاه ما کان ابن سالم اهتدی‌کلّا و لم یک من عماه بسالم
و عند ابن یقطین فکم من فتکةقد ردّها من قبل سلّ الصارم
***
أفدیه من متنقّل فی سجنه‌من عارم یهدی لآخر عارم
و السجن لم یک منقصا قدرا له‌أن یرتقی ابدا بوهم الواهم
ماذا به (السندیّ) یلقی ربّه‌و هو الخصیم أمام أعدل حاکم
أیریع حزب اللّه منه و لا یعضّ بحشره سبابة من نادم
و یذیقه السمّ النقیع بسجنه‌ظلما و لا یلقی جزاء الظالم
افدیه من متبتّل لألهه‌متسربل سربال لیل فاحم
و تراه افضل صائم بنهاره‌و بلیله الغربیب افضل قائم
و تری الضراغم کالظباء اذا دنامنها و تلقاه بقلب واجم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 58 قل للذی أغراه فیه حلمه‌و مشی به یسعی لأعظم ظالم
لم یرع فیه أواصر القربی و لم‌تحجزه عنه رقة من راحم
کم بدرة نفحتک فیها کفّه‌إن فیه قد أغرتک بیض دراهم
فقطعت موصولا و کم بسعایةفیه انغمست بموبقات مآثم
ان عنک نامت عینه فاعلم بأنّ اللّه عن مسعاک لیس بنائم
فجزاک ربّک عن صنیعک میتةما أعقبت لک غیر خزی الآثم
أظننت جهلا أن ربک تارک‌أحزابه او غافل عن غاشم
***
یا حجة اللّه الذی أضحت ولایة حزبه فی الناس ضربة لازم
ما زلت للحاجات بابا من یلجه فاز منه فی عظیم مغانم
ما کنت متخذا ولایة غیرکم‌لی شافعا فی مثقلات جرائمی
هل کان یلفی خاشعا أو جازعامن کان جنّته الولاء الفاطمی
جار الزمان علیکم فی حکمه‌و علیکم ما انفک أجور حاکم
ان الذی قلدتموهم صارماتخذوکم هدفا لذاک الصارم
و تقمّصوا بکم قمیصا لم یکن‌إلّا لکم فی غابر او قادم
و نسیجه من حکمة و سداه من‌حلم و لحمته سنیّ مکارم
ألحی بنی العباس لو أصغوا مسامعهم الی لاحیهم و اللائم
و اذا أمیّة منکم شهرت سیوف عداوة مطرورة و سخائم
فلکم تتبّعکم بنو العباس فی‌ظلم و قتل و اندراس معالم
لم یشف ضغن صدورهم احیاؤکم‌فتتبّعوا لکم عظیم رمائم
صلی الإله علیکم ما ارضعت‌للنبت طفلا مثقلات غمائم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 59

بیوتات الکاظمیة کتبه الدکتور حسین علی محفوظ دکتوراه الدولة و الاستاذ بکلیة الآداب فی جامعة بغداد حالا و المفتش الأختصاصی بوزارة التربیة سابقا

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 61

انساب المدن

قل من عنی بأنساب المدن العراقیة من المؤرخین و المتتبعین للتراجم و الأنساب، حتی لقد أوجد هذا الإهمال صعوبة کبیرة للذین یحاولون التصدی الیوم للتحقیق فی أنساب المواطنین من سکنة هذه المدن لضیاع قسم کبیر من المصادر و الأصول التی یجب ان یرجع الیها المحققون، فکم من أسرة ذات جذور بعیدة فی التاریخ لا نعرف الیوم عنها شیئا و لا تعرف هی عن تاریخها شیئا، و لقد کان فی بعض ما أخذت موسوعة العتبات المقدسة علی عاتقها هو التحقیق عن أشهر هذه الأسر التی تستوطن العتبات المقدسة علی قدر ما هو تحت ید المؤرخ من وثائق و دراسات و تتبع، و قد قام باخراج الجزء الثانی من قسم الکاظمین لموسوعة العتبات المقدسة العلامة الفذ المرحوم مصطفی جواد الذی تناول تراجم أشهر دفناء المشهد الکاظمی و توفی قبل ان یتم عمله کما قد أشرنا إلی ذلک فی مقدمة هذا الجزء أما الأنساب لأشهر الأسر المستوطنة حالیا فی الکاظمین فقد تولی التصدی لها الدکتور حسین علی محفوظ بهذا الجزء من الموسوعة و الدکتور محفوظ من أساتذة جامعة بغداد المعروفین بالتحقیق فی المخطوطات الإسلامیة و العربیة بصورة خاصة و تتبع تاریخ القبائل العراقیة و الأسر التی تستوطن أهم المدن و منها الکاظمیة و من المؤسف أن یضطرنا ضیق المجال و الاستعجال فی هذا الجزء إلی الاقتصار علی ذکر أسماء بیوت الکاظمین و أسرها و ذکر المشاهیر منهم و الوقوف عند هذا الحد دون التطرق إلی تراجم المشاهیر منهم بالتفصیل،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 62
کما اضطرنا ضیق المجال نفسه إلی حصر التعلیق فی کلمات محتصرة موجزة إذا لم تف بالغرض الکامل فقد تصلح ان تکون تعریفا موجزا بالأشخاص، و هذا الاضطرار- أی ضیق مجال هذا الجزء بسبب الاستعجال تلافیا للتأخر الحاصل فی تتابع صدور اجزاء الموسوعة- هو الذی حملنا علی ان نخص البعض بذلک التعریف الموجز و نغفل البعض الآخر علی ان نعود إلی هذا الموضوع و نعود للتعلیق فی أحد الأجزاء القادمة فنتناول تراجم المشاهیر و الأنساب و جذور الأسر المستوطنة بصورة واسعة و علی غرار ما تقدم من ترجمة مشاهیر دفناء مشهد الکاظم المار فی الجزء الثانی إن شاء اللّه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 63

البیوتات العلویة

- 1- الاسر الحسنیة

ذراری الإمام الحسن السبط بن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع)؛ و هم: بیت أبو نرگیله، و بیت البلاط، و بیت بهاء الدین، و بیت جوطه، و بیت الچراغچی، و بیت الحسنی، و بیت السید حیدر، و بیت خادم الجدید، و بیت دبشة، و بیت السرکشک، و بیت سید سعید، و بیت شکر، و بیت الصافی، و بیت الصرّاف، و بیت طرازه، و بیت عطیفه، و بیت الکردی، و بیت کشکش، و بیت الکشوان، و بیت المحامی، و بیت مشکور، و بیت النیص، و بیت هراته.
و عمود نسب السادات الحسنیة- الذی تتفرع عنه أنساب بیوتاتهم الأصیلة- هو نسب عطیفة بن رضاء الدین بن علاء الدین بن مرتضی بن محمد بن عز الدین بن الشریف حمیضة بن نجم الدین محمد أبی نمی بن الحسن ابن علی بن الشریف الأمیر قتادة ملک الحجاز بن ادریس بن مطاعن بن عبد الکریم بن عیسی بن الحسین بن سلیمان بن علی بن عبد اللّه الأکبر بن محمد الأکبر الثائر بن موسی الثانی بن عبد اللّه الشیخ الصالح بن موسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 64
الجون بن عبد اللّه المحض بن الحسن المثنی بن الحسن السبط بن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع).
و من فروع هذه الشجرة المبارکة؛ السادة الحیدریة؛ بیت السید حیدر بن السید ابراهیم، بن السید محمد العطار، بن علی، بن سیف الدین، بن رضاء الدین، بن سیف الدین، بن رمیثة، بن رضاء الدین، بن محمد علی، بن عطیفة؛ المذکور.
و قد طرأ علی الکاظمیة- أخیرا- بیت مشیرف، فی مدینة الهادی، و یسمون آل صرخه، و یدعون «الشکره» و هم من بنی مطاعن بن ادریس.
و جماعة من بیت العلّاگ، من آل مطاعن بن مکثر و آخرون من بیت الحکیم الطباطبائیین، و بیت بحر العلوم.
و نزلها قبلهم بیت زلزلة من الداوودیة، و نفر من آل زینی من بنی عطیفة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 65

- 2- الاسر الحسینیة

اشارة

ذریات الإمام الحسین السبط الشهید بن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع)؛ و هم: بیت أبو الحب، و بیت أبو الشعر؛ و بیت أبو الملح، و بیت أبو النشه، و بیت أبو الورد، و بیت الأعرجی، و بیت البزاز، و بیت البصیر، و بیت البیر، و بیت البیاع، و بیت التاجر، و بیت السید جابر، و بیت السید حسن جنی، و بیت الحکیم، و بیت الخانچی، و بیت السید خضیر، و بیت السید راضی، و بیت زواید، و بیت السبزواری، و بیت السید سعد، و بیت شبر، و بیت شدید، و بیت الشماع، و بیت الشهرستانی، و بیت الشوک، و بیت الصراف، و بیت الصولی، و بیت طه، و بیت العاملی، و بیت العاملی من بنی زهرة، و بیت العطار، و بیت العلوی اللاجوردیون الکاشیة، و بیت الفتال، و بیت فضل، و بیت فلیح، و بیت القزوینی، و بیت الکاشی، و بیت کافی، و بیت الکشوان «القزوینیون» و بیت السید محسن، و بیت المدامغة، و بیت المزین، و بیت المشکی، و بیت میر جبار، و بیت النجار، و بیت هدّو عدّ عن الأسر الموسویة، التی سیأتی تفصیلها-
و سکن الکاظمیة- أخیرا- الفؤادیة من الأقساسیة من بنی زید، فی مدینة الهادی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 66
و نزلها بیت التبریزی من الأفطسیة قبل بضع سنین. و قطن بها قبل مدة بیت المرعشی من ذراری الحسین الأصغر.
و فیها- الآن- جماعة من آل مرعب من ذریة زید، و البوفضیلة من ولد زید، و نفر من بیت جریو من الأعرجیة، و البوخطه من الزیدیة.
و من أعمدة أنساب البیوتات الحسینیة الأصیلة فی الکاظمیة:
1- نسب بیت أبی الورد عقب السید هاشم أبی الورد الملقب بالغاضری ابن السید جواد البغدادی بن رضا بن مهدی بن صادق الملقب بالباصی بن باقر بن علی بن حسین بن محمد بن خمیس بن یحیی بن هزال بن علی بن محمد ابن عبد اللّه الملقب بالبهائی (بن أبی القاسم بن أبی البرکات بن القاسم بن علی بن شکر بن أبی محمد الحسن الأسمر) بن النقیب شمس الدین أبی عبد اللّه أحمد بن النقیب أبی الحسن علی بن أبی طالب محمد بن الشریف الجلیل أبی علی عمر أمیر الحج بن نقیب النقباء أبی الحسین یحیی بن الحسین النسابة النقیب بن أحمد المحدث بن عمر بن أبی الحسین یحیی بن أبی عبد اللّه الحسین ذی العبرة بن زید الشهید بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی ابن أبی طالب علیه السلام.
و تتفرع من عمود هذا النسب أنساب بیت شدید؛ والد السیدین صالح و محمد؛ ابنی السید صادق الملقب بالباصی، و بیت التاجر، و بیت السید فلیح؛ الذی تتصل به أنساب بیت الشعرباف، و بیت العطار- و یسمّون أیضا بیت الشوک- و بیت السید حسن جنی و بیت ابو النشه، و بیت أبو الحب، و بیت المزین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 67
السادة الحسینیة فی الکاظمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 68
2- نسب بیت الأعرجی- تتصل أنساب السادة الأعرجیة فی الکاظمیة بالسیدین؛ السید محسن، و السید راضی؛ ابنی السید حسن بن مرتضی ابن شرف الدین بن نصر اللّه بن زرزور بن ناصر بن منصور بن موسی بن علی بن محمد بن عمار بن مفضل بن محمد بن أبی العباس أحمد البن بن أبی الحسین محمد الأشتر بن عبید اللّه الثالث بن أبی الحسن علی بن عبید اللّه الثانی بن أبی الحسن علی الصالح بن عبید اللّه الأعرج بن الحسین الأصغر ابن زید العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
و من البیوتات الأعرجیة فی الکاظمیة؛ بیت السید محسن، و بیت السید راضی، و بیت فضل، و بیت السید کافی، و بیت المشکی؛ من بنی شولة. و توطنها أخیرا بعض بیت شکاره.
3- نسب بیت زواید- عقب عباس زواید بن محمد زواید بن عباس ابن حسن بن طه بن صالح بن عبد الهادی بن ابراهیم بن خضیر- و هو أخو علی الطول جد العاملیین- بن یحیی بن زین الدین علی بن غیاث الدین حسین ابن عمید الدین علی بن جلال الدین حسن بن عمید الدین علی بن عز الدین حسن بن عز الشرف محمد بن نقیب النقباء کمال الشرف أبی الفضل علی ابن مجد الشرف أبی نصر أحمد بن أبی الفضل علی بن نقیب النقباء أبی تغلب علی بن الحسن الأصم السوراوی بن النقیب أبی محمد الحسن الفارسی بن الحسین النسابة بن أحمد المحدث بن عمر بن یحیی بن الحسین ذی العبرة بن زید الشهید بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
و تتفرع عن عمود هذا النسب أنساب بیت النجار، و بیت السید جابر، و بیت البزاز؛ الذین منهم بیت الصرّاف.
4- نسب بیت شبر- ذریة السید عبد اللّه شبر بن السید محمد رضا شبر بن محمد بن محسن بن أحمد بن علی بن احمد بن محمد بن ناصر الدین ابن شمس الدین محمد بن محمد بن نعیم الدین بن رجب بن حسن الملقب بشبّر- جد الشبریین آل شبر- ابن محمد بن حمزة بن احمد بن علی برطلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 69
ابن أبی عبد اللّه الحسین بن علی بن عمر شهید فخ بن الحسن الأفطس رمح آل أبی طالب بن علی الأصغر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).

نسب بیت الشهرستانی

5- نسب بیت الشهرستانی- السید محمد علی، هبة الدین الشهرستانی ، ابن حسین العابد بن محسن الصراف بن مرتضی ابن محمد بن الأمیر السید علی الکبیر بن منصور ابن شیخ الإسلام أبی المعالی محمد نقیب البصرة ابن احمد ابن شمس الدین محمد البازباز ابن شریف الدین محمد بن عبد العزیز النقیب ابن علی الرئیس بن محمد بن علی القتیل بن الحسن النقیب بن أبی الفتوح محمد بن شریعة الملة الحسن بن عیسی بن عز الدین عمر بن أبی الغنائم محمد بن محمد النقیب بن أبی علی الحسن بن أبی الحسن محمد التقی السابسی بن أبی محمد الحسن الفارس النقیب بن یحیی ابن الحسین النسابة بن أحمد المحدث بن عمر بن یحیی بن الحسین ذی العبرة بن زید الشهید بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع). و کان سلف الشهرستانی یدعون هبة الدین الشهرستانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 70
بیت الحکیم، و هم بنو عمّ السادة الطالقانیین.
6- نسب بیت العاملی الصولیین- عقب السید یوسف بن موسی ابن محی الدین یوسف بن ابراهیم بن أبی علی محمد بن أبی عبد اللّه حسین ابن علی بن مهنا بن قطب الدین علی الطول بن یحیی بن زید الدین علی بن نظام الدین أحمد بن زین الدین علی بن غیاث الدین حسین بن عمید الدین علی ابن جلال الدین حسن بن عمید الدین علی بن عز الدین حسن بن عز الشرف محمد بن نقیب النقباء کمال الشرف ابی الفضل علی بن مجد الشرف أبی نصر أحمد بن أبی الفضل علی بن نقیب النقباء أبی تغلب علی بن الحسن الأصم السوراوی بن النقیب أبی محمد الحسن الفارس بن الحسین النسابة ابن أحمد المحدث بن عمر بن یحیی بن الحسین ذی العبرة بن زید الشهید بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
و تتفرع عن عمود هذا النسب أنساب بیت السید خضیر، و بیت العاملی، و بیت الصولی، و بیت الفتال، و بیت البصیر، و بیت هدّو.
7- نسب بیت العاملی؛ من بنی زهرة- ذریة السید علی بن یوسف ابن درویش بن القاسم بن القاسم بن صلاح الدین بن القاسم بن زهرة بن أحمد ابن عبد اللّه بن احمد بن عبد اللّه بن حمزة بن عبد اللّه بن محمد بن محمد بن محسن بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن حمزة بن الحسن بن المحاسن زهرة ابن أبی المواهب علی بن أبی سالم محمد بن محمد بن محمد الحرائی بن احمد الحجازی بن محمد بن الحسین بن اسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 71

- 3- الاسر الموسویة

عقب الإمام موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
و منهم؛ بیت الأحول، و بیت الأصفهانی، و بیت أغامیر السندی، و بیت اغامیر العطار، و بیت بزون، و بیت البیاع، و بیت سید جابر، و بیت الخرده فروش، و بیت دروش، و بیت الرشتی، و بیت سید علو، و سادة القطانة، و بیت الساعاتی، و بیت السندی، و بیت الشانه ساز، و بیت شرف الدین، و بیت شقافی؛ و هم بیت الصابونی؛ و بیت الصدر، و بیت العاملی، و بیت الغریفی البحرانیون، و بیت قاسم خان، و بیت الکشوان القزوینیون ، و بیت المشاط، و بیت الموسوی العطارون، و بیت الموسوی؛ بیت الهندی، و بیت سید موسی الموسوی، و بیت النسلی، و بیت نصر اللّه، و بیت النواب، و بیت الهاشمی، و بیت الهندی النقویون، و بیت الهندی الرضویون، و بیت الهندی، و بیت الواعظ الخونساریون، و بیت ویّس.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 72
و من أعمدة أنساب البیوتات الموسویة فی الکاظمیة:
1- نسب بیت الأحول- ذریة الحاج السید سلطان بن السید قاسم ابن علی الأحول بن عبد اللّه بن حسن شاه بن قوام الدین عبد اللّه بن یحیی ابن نظام الدین حسین بن حسین المستوفی بن نظام الدین حسن بن قوام الدین محمود بن نظام الدین حسن بن شرف الدین حسن بن تاج الدین جعفر الموسوی.
و منهم بیت دروش، و بیت ویّس، و بیت جعفر؛ أسرة الدکتور ضیاء جعفر . و محمد جواد جعفر.
2- نسب بیت الأصفهانی الخونساریین- السید محمد مهدی الأصفهانی ابن السید محمد الأصفهانی الخونساری؛ المدعو بالواعظ؛ ابن محمد صادق بن الحاج میرزا زین العابدین الخونساری الأصفهانی ابن أبو القاسم ابن حسین بن جعفر بن حسین بن قاسم بن محب اللّه بن القاسم بن مهدی بن زین العابدین بن ابراهیم بن کریم الدین بن رکن الدین بن زین العابدین بن صالح القصیر بن محمود بن حسین بن حسن بن احمد بن ابراهیم بن عیسی بن حسن ابن یحیی بن ابراهیم بن حسن بن عبد اللّه بن الامام موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
3- نسب بیت الرشتی- عقب الحاج السید عبد الباقی الرشتی بن مرتضی بن هاشم بن حسن بن مرتضی بن تقی بن احمد بن علی بن جلال ابن رضی بن یوسف بن جمال الدین بن مصطفی بن جواد بن عیسی بن یعقوب بن ابراهیم بن اسماعیل .... ابن ابراهیم المجاب بن محمد العابد ابن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی ابن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 73
السادة الموسویّون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 74
4- نسب بیت السید علو بن عباس بن حسین بن احمد بن علی ابن محمد بن احمد بن سلمان بن یوسف بن محمد بن علی بن مرتضی بن اسحاق بن حسین بن موسی بن شریف بن حسن بن یوسف بن فضل اللّه ابن محمد بن احمد بن محمد بن ملک بن محمد بن فخر الدین أحمد بن الإمام موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع)؛ و منه بیت الفتال.
5- نسب سادة القطانة- ولد السید صالح بن مهدی بن احمد بن حسن الملقب بالحصری بن مهدی بن حسن بن کاظم بن علی بن عبد اللّه ابن جعفر موسی بن جعفر بن مسلم بن جعفر بن محمد بن مسلم بن محمد ابن موسی بن جعفر بن علی بن جعفر بن حسن بن موسی بن جعفر الحواری ابن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی ابن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
6- نسب بیت الصدر، و آل شرف الدین- عقب السید صالح بن محمد بن ابراهیم شرف الدین بن زین العابدین بن نور الدین علی بن نور الدین علی بن عز الدین حسین بن محمد بن حسین بن علی بن محمد بن تاج الدین ابن شمس الدین محمد بن جلال الدین عبد اللّه بن احمد بن حمزة الاصغر ابن سعد اللّه بن حمزة الاکبر بن ابی السعادات محمد بن نقیب النقباء أبی محمد عبد اللّه بن أبی الحرث محمد بن أبی الحسن علی بن ابی طاهر عبد اللّه ابن ابی الحسن محمد المحدث بن أبی الطیب طاهر بن الأمیر الحسن القطیعی ابن موسی أبی سبحة بن ابراهیم الأصغر المرتضی بن الامام موسی الکاظم ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی ابن أبی طالب (ع).
7- نسب بیت العاملی- أسرة السید علی بن السید رضا العاملی ابن الحسن بن الحسین بن علی بن هرون بن القاسم بن موسی بن الحسن بن أبی اسحاق ابراهیم بن الحسن بن علی بن المحسن بن ابراهیم العسکری بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 75
موسی أبی سبحة بن ابراهیم المرتضی بن الامام موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
هکذا وجد نسبهم، و هو ینقص أسماء بلا شک.
8- نسب بیت نصر اللّه - بن الحسین بن علی بن یونس بن جمیل ابن علم الدین بن طعمة بن شرف الدین بن نعمة اللّه بن أبی جعفر أحمد بن ضیاء الدین یحیی بن أبی جعفر محمد بن شرف الدین أحمد بن أبی الفائز محمد بن محمد بن أبی الحسن علی بن أبی جعفر محمد خیر العمال بن أبی فویرة علی المجدور بن أبی عاتقة، أبی الطیب أحمد بن محمد الحائری ابن ابراهیم المجاب بن محمد العابد بن الامام موسی الکاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
9- نسب بیت النواب- ذریة زین العابدین، مجاهد الدولة بهادر ابن محمد رضا خان بهادر بن کمال الدین حیدر بهادر بن جلال الدین شجاع الدولة أسد الحرب بن مقیم بن جعفر بن محمد بن منصور بن ناصر بن حسن ابن جعفر بن محمد طاووس السبزواری بن محمد عظیم بن غیاث الدین علی ابن سراج الدین بن اسحاق بن محمد بن یحیی بن محمد غیاث الدین بن محمد ابن موسی بن قاسم بن علی بن جعفر بن حسین المقدم بن عبد الحی بن عمر ابن ارقم بن عبد القادر بن تاج الدین بن محی الدین بن علی بن زید النار ابن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی ابن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 76
و من السادة فی الکاظمیة؛ بیت (أبو القاسم) و بیت (أبو الکبّه) و بیت الأصفهانی، و بیت الحکّاک، و بیت سید سلمان بیبی، و بیت طه، و بیت مصطاف، و بیت میرزا ربیع، و السادة الشکرچیة، و السادة القندرچیة ... و غیرهم.
و منهم؛ بیت الحکیم- و یسمّون ببیت العلوی، و سموا بیت آزرمی أخیرا، و بیت الهمدانی. و هم ذریة الأخوین: السید موسی الحکیم فخر الأطباء، و السید رضا؛ ابنی میر هاشم بن میر علی بن میر اسماعیل بن میر عقیل- صاحب باغ میر عقیل فی همدان- من ذریة السید علی سیاه پوش الهمدانی؛ الملقب شاه رودبند، المدفون بکشمیر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 77

البیوتات العلمیة مرتبة حسب الحروف الهجائیة

اشارة

و هی کثیرة و هذا مقتضب لتواریخ طائفة من سرواتها. فمن البیوتات التی تجلت العلماء، أو انتسبت إلیهم:

بیت أبی الورد

ذریة السید هاشم أبی الورد؛ المتوفی فی حدود سنة 1264 ه؛ ابن السید جواد الحسینی البغدادی؛ بیّاع اللؤلؤ التاجر المعروف فی الکرخ ببغداد. ترک جدهم السید جواد بغداد، فی أواخر القرن الثانی عشر، فسکن الغواضر ببلد، و لقب فیها بالبغدادی.
ثم هاجر ابنه السید هاشم إلی الکاظمیة قبل سنة 1215 ه، فسمّی فیها بالغاضری ثم لقب بأبی الورد نسبة إلی تقطیر ماء الورد، صنعة أهل زوجته الأولی، من بیت بلیل و من أعلامهم السید محسن الصائغ؛ المتوفی سنة 1339 ه، الذی صاغ ضریح الحضرة الکاظمیة الفضی، سنة 1324 ه.
السید هاشم أبو الورد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 78
و یسمون بیت الورد، و بیت الوردی، و بیت أبو الورد. و کانوا یدعون بیت الغاضری.

بیت الأحمر

ذریة الشیخ حسین الأحمر، المتوفی سنة 1313 ه؛ ابن الشیخ علی الأحمر، من آل الشیخ عیسی؛ من ذراری الشیخ عبد المهدی بن الشیخ عبد اللّه الخالصی؛ الذی ینتسب إلی علی بن مظاهر الأسدی.
السید عبد اللطیف الخطیب

بیت الأخباری

ذریة میرزا محمد الأخباری؛ المقتول سنة 1232 ه؛ ابن عبد النبی ابن عبد الصانع بن محمد مؤمن بن علی أکبر بن نور الدین علی بن محمد طاهر بن فضل علی ابن شمس الدین محمد الجوینی؛ النیسابوری؛ الهندی.
و یدعون- حالیا- بآل جمال الدین.
الدکتور علی الوردی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 79

بیت الازری

ذریة الحاج حسین الأزری؛ البغدادی، الکاظمی؛ المتوفی سنة 1337 ه. من عشیرة الشاعر المعروف، الملا کاظم، المتوفی سنة 1212 ه ابن محمد بن مراد بن مهدی بن ابراهیم بن عبد الصمد، التمیمی، الازری.
و إلیهم یعتزی الحاج عبد الحسین الازری الشاعر، المتوفی سنة 1954- انتسابا إلی أمهاته- ابن یوسف الأزری بن محمد الأزری بن محمود الحضیری بن ابراهیم الحضیری .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 80

بیت أسد اللّه

ذریة الشیخ أسد اللّه الأنصاری التستری الکاظمی؛ المتوفی سنة 1234 ه، ابن الحاج اسماعیل بن ملا محسنا بن مجد الدین بن معز الدین. یعرفون حالیا بالأسدیین نسبة إلی جدهم الأعلی؛ الذی کان من أعلام عصره فی العلم و التصدر و التألیف و الرآسة و الفضل. و هم ینتسبون إلی جابر بن عبد اللّه الأنصاری الصحابی المشهور بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن کعب بن غنم ابن کعب بن سلمة بن سعد بن علی بن أسد بن ساردة بن تزید بن جشم بن الخزرج.
الحاج عبد الحسین الأزری

بیت الأسدی

ذریة الشیخ کلب علی الکاظمی؛ المتوفی سنة 1141 ه؛ ابن غلام علی بن عبد علی بن محمد بن ابراهیم بن محمود بن محمد بن سعید بن محمد کاظم بن جابر بن سعد بن منیر بن وهب بن شجاع بن مظفر بن علی بن الحسین بن محمود بن مسعود بن مطرود بن مطر بن موهوب بن وهیب بن خزعل بن مناجز بن عبد اللّه بن حبیب بن مظاهر الأسدی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 81
و عقب الشیخ حسن الذی کان حیا سنة 1226 ه؛ ابن الشیخ هادی ابن الشیخ حسن بن الشیخ هادی؛ الأسدی الکاظمی.
و سلسلة الأسدیین هذه، بخط السید جعفر فی بعض أوراقه. ثم نسبهم فی إحدی کتبه المشجرة إلی أبی ذر الغفاری هکذا: کلب علی بن غلام علی بن عبد علی بن محمد بن حبیب بن ابراهیم بن بدیع الزمان بن جمال الدین بن احمد بن نظام الدین بن جلال الدین بن رفیع الدین بن علی بن ضیاء الدین بن یحیی بن فتح اللّه بن یحیی بن الحسن بن فخر الدین بن امیدوار بن فضل اللّه بن اسحاق بن فضل اللّه بن محمد بن أبی المکارم بن احمد بن علی ابن أبی المعالم بن أحمد بن أبی الغنائم بن محمود بن احمد بن أبی الفضل بن هاشم بن فاضل بن یحیی بن عقیل بن یحیی بن ذر بن أبی ذر الغفاری.
و انتسابهم إلی بنی أسد معروف مشهور تعرّضت له کتب التراجم.

بیت الأصفهانی

ذریة السید محمد الأصفهانی؛ الخونساری؛ المتوفی سنة 1355 ه، ابن محمد صادق بن الحاج میرزا زین العابدین الخونساری الأصفهانی.
هاجر السید محمد الأصفهانی إلی العراق سنة 1304 ه. فسکن کربلاء ثم توطن الکاظمیة.

بیت الأعرجی

ذراری السید محسن الأعرجی، من أعلام عصره فی الرآسة و التصدر و التألیف و التدریس؛ المتوفی سنة 1227 ه، و السید راضی الأعرجی؛ المتوفی سنة 1237 ه؛ ابنی السید حسن بن مرتضی- الذی انتقل إلی بغداد سنة 1165 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 82

بیت الأعسم

أسرة الشیخ صادق الأعسم؛ الذی توطن الکاظمیة فی أواخر أیامه، و توفی بها سنة 1306 ه؛ ابن الشیخ محسن الأعسم؛ المتوفی سنة 1238 ه، ابن مرتضی بن قاسم بن ابراهیم بن موسی بن الحاج محمد الأعسم. ثم توطنها- من بعد- بعض أقاربه، و هم فخذ من زبدی، من عوف، من بطون مسروح، من حرب، من مضر .

بیت البحرانی

بیت الشیخ أحمد؛ المتوفی سنة 1102 ه- و أخوته یوسف و حسین، أبناء محمد بن یوسف الخطی، البحرانی، المقابی.

بیت البغدادی

ذریة الشیخ عبد الحسین البغدادی، الکاظمی؛ المتوفی سنة 1365 ه، ابن الحاج جواد بن الحاج محمود العطار البغدادی؛ من ولد أبی ذر الغفاری؛ صاحب رسول اللّه (ص). و هو جندب بن جنادة بن سفیان بن عبید بن حرام بن غفار بن فلیل بن ضمرة بن بکر بن عبد مناة بن کنانة بن خزیمة ابن مدرکة بن الیاس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 83

بیت البلاغی

عشیرة الشیخ أحمد البلاغی الکاظمی؛ المتوفی سنة 1271 ه؛ ابن الشیخ محمد علی بن عباس بن حسن بن عباس بن محمد علی بن حسن البلاغی الربعی، العاملی؛ من ربیعة. و أقاربه من بعد .

بیت جرموگه

عالمهم؛ الشیخ مهدی جرموگه؛ المتوفی سنة 1339 ه؛ ابن الحاج ابراهیم بن الحاج هاشم؛ الدجیلی الکاظمی. من بیت جرموگه؛ من آل حدّاد من بنی سلامة، السلامیین؛ الذین یلحقون- فی الدجیل- بالخزرج، و ینتسبون إلی جابر بن عبد اللّه الأنصاری؛ الصحابی المشهور. و یدعون- الآن- بیت السلامی.
الشیخ محمد جواد البلاغی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 84

بیت الجزائری

عشیرة الشیخ ابراهیم الجزائری؛ نزیل الکاظمیة؛ الذی کان حیا سنة 1231 ه؛ ابن محمد بن عبد الحسین بن مظفر- جد آل المظفر فی النجف و بغداد- بن أحمد بن محمد بن علی بن حسین بن محمد بن أحمد بن مظفر بن عطاء اللّه بن أحمد بن قطر بن خالد؛ من عقیل، من آل مسروح، و هم حرب، آل علی؛ من مضر؛ من أهل العوالی .
الشیخ محمد حسن المظفر

بیت الجصانی

عترة الشیخ عباس الحصانی الکاظمی المتوفی سنة 1306 ه؛ ابن محمد حسین من البوگمر، من کنانة.

الجوادات

ذریة جواد بن أحمد بن خضر بن عباس بن محمد بن مرتضی بن أحمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 85
ابن محمود بن محمد بن ربیع؛ من ذراری المتلمّس، الشاعر المشهور؛ صاحب الصحیفة، من بنی ربیعة بن نزار بن معدّ بن عدنان.
و هم عشیرة الشاعر المعروف؛ الشیخ محمد جابر الکاظمی ؛ المتوفی سنة 1312 ه؛ ابن الشیخ عبد الحسین بن عبد الحمید؛ المدعوّ حمیّد بن جواد؛ جدّ الجوادات؛ الربعی.
الشیخ محمد حسین المظفر

بیت حجیجی

أسرة الشیخ محمد علی؛ المتوفی سنة 1273 ه بن الحاج درویش چلبی الحجیجی؛ من طیّ‌ء.

بیت الشیخ حسین

ذراری الشیخ ناصر بن الشیخ حسین المتوفی سنة 1281 ه، ابن الحاج یاس؛ من ذراری حبیب بن مظاهر الأسدی.
الشیخ محمد رضا المظفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 86

بیت الحسینی

أسرة السید هادی؛ المعروف بالتبریزی، ابن السید محمد بن حسین ابن میر خداداد؛ الحسینی القائممقامی، الفراهانی؛ نزیل الکاظمیة سنة 1958.

بیت الحیدری

السادة الحیدریة؛ ذریة السید حیدر؛ المتوفی سنة 1265 ه- من أعلام الرئاسة و العلم و التألیف فی عصره- بن السید ابراهیم العطار المتوفی سنة 1230 ه، بن محمد العطار المتوفی سنة 1171 ه، ابن علی بن سیف الدین بن رضاء الدین بن سیف الدین بن رمیثة بن رضاء الدین بن محمد علی ابن عطیفة- جد السادة الحسنیة- فی الکاظمیّة، و بغداد.
و هم أسرة السید العلم المجاهد السید مهدی؛ المتوفی سنة 1336 ه، ابن السید أحمد؛ المتوفی سنة 1295 ه؛ ابن السید حیدر .
السید مهدی الحیدری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 87
شجرة بیت الحیدری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 88
شجرة بیت أبی الورد و بنی عمهم علی بن حسین بن محمد بن خمیس بن الحسینی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 90

بیت الخالصی

و یسمّون الخالصیة، و بیت الشیخ عزیز، و هم ذراری الشیخ عبد العزیز المتوفی سنة 1286 ه، ابن الشیخ حسین؛ المتوفی سنة 1220 ه؛ ابن الشیخ علی بن الشیخ عبد اللّه؛ الذی یتصل نسبه بعلی بن مظاهر؛ أخی حبیب بن مظاهر، الشهید الأسدی.
سکن جدّهم الأعلی الشیخ عبد اللّه الکاظمیة من أجل طلب العلم، و قد أعقب ثلاثة بنین؛ هم:
(1) الشیخ علی جدّ آل الشیخ عزیز؛ رأس البیت الخالصی فی الکاظمیة و هم أسرة الشیخ محمد مهدی الخالصی- من أعلام عصره فی الریاسة و العلم و التصدر و التألیف و الجهاد- المتوفی سنة 1343 ه ابن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 91
الشیخ مهدی الخالصی
الشیخ محمد الخالصی
الشیخ محمد رضا الخالصی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 92
شجرة بیت الخالصی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 93
الشیخ حسین المتوفی سنة 1312 ه؛ ابن الشیخ عزیز الخالصی.
(2) الشیخ عبد المهدی؛ جد آل الشیخ عیسی، و آل الشیخ حبیب فی الخالص بدیالی، و بیت الأحمر فی الکاظمیة.
(3) الشیخ محمود؛ جد الصبابیغ، فی الکاظمیة، و الخالص، و الکوفة، و الرمیثة ..

بیت الخراسانی

أسرة السید مهدی الخراسانی؛ المتوفی سنة 1369 ه، ابن السید ابراهیم نزیل الکاظمیة بعد سنة 1312 ه، المتوفی سنة 1328 ه، ابن میر محمد علی، الدرودی، الخراسانی.

آل داود

أسرة إمام الحرمین، أبی المحاسن، محمد؛ المتوفی سنة 1305 ه، ابن عبد الوهاب، المتوفی سنة 1298 ه، بن داود، الهمذانی، الکاظمی.
من الیسار عبد الرسول الخالصی، و المؤلف جعفر الخلیلی و الحاج محمد حسن کبه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 94

بیت الرشتی

أسرة الشیخ حسین الرشتی؛ المتوفی سنة 1348؛ الذی هاجر إلی الکاظمیة فی سنة 1339 ه؛ ابن الشیخ عبد الکریم الرشتی؛ المتوفی سنة 1325 ه.

بیت السید رضا العاملی

أسرة السید علی؛ المتوفی سنة 1320 ه، ابن السید رضا بن السید حسن الموسوی، العیثیثی العاملی.
انتقل والده السید رضا من جبل عامل إلی العراق، و توطن الکاظمیة، و توفی بها فی حدود سنة 1290 ه.

بیت السید رضا علی الهندی

أولاد السید رضا علی الطبیب المدراسی؛ الهندی، الکاظمی؛ المتوفی سنة 1301 ه. و هم السید حسین الطبیب المقری‌ء المجوّد الشاعر الخطاط المعروف بالامام الهندی؛ المتوفی سنة 1336 ه، و اخوته؛ السید موسی، المتوفی سنة 1325 ه، و السید کاظم، المتوفی سنة 1320 ه.

بیت الزنجانی

أسرة میرزا علی ابن الشیخ أسد اللّه الزنجانی- نزیل سامراء، المتوفی فی النجف سنة 1354، بن علی أکبر بن رستم خان الزنجانی.

بیت الشیخ زین العابدین

أسرة الشیخ محمد رضا؛ المتوفی فی النجف سنة 1269 ه، ابن بهاء الدین محمد بن أحمد المدعو محسن- جدّ الأسرة؛ الذی هاجر إلی العراق فی فتنة أحمد باشا الجزار سنة 1197 ه- بن زین العابدین علی؛ المتوفی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 95
سنة 1143 ه، ابن محمد قاسم بن یوسف بن موسی بن محیی الدین بن جبران ابن علی بن حسین؛ الجبرانی، الأسدی، الحلی، من ذراری حبیب بن مظاهر.
کان والده محمد بهاء الدین من الشعراء، من تلامیذ السید محسن المقدس الأعرجی.

بیت الزینی

ذریة الشیخ علی الزینی؛ المتوفی فی حدود سنة 1220 ه؛ ابن محمد حسین بن الشیخ زین العابدین المتوفی سنة 1167 ه بن الشیخ محمد علی بن الشیخ عباس التمیمی الکاظمی.
و من عقبه الشیخ صالح التمیمی، الشاعر المشهور، المتوفی سنة 1261 ه ، ابن الشیخ درویش علی بن الشیخ علی الزینی.

بیت السبیتی

ذریة الشیخ عبد اللّه بن الشیخ محمد- المقتول سنة 1324 ه- بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 96
الشیخ حسن بن الشیخ محمد بن الشیخ أحمد بن الشیخ علی بن الشیخ یوسف، السبیتی، الکفراوی، العاملی. سکن الکاظمیة بعد الحرب العالمیة الأولی.

بیت السبزواری

ذریة السید محمد علی السبزواری؛ المتوفی سنة 1338 ه؛ ابن الحاج السید میرزا محمد تقی نزیل الکاظمیة، المتوفی فی شاهرود سنة 1312 ه، ابن اقا میرزا کاظم بن میرزا ابو القاسم بن میرزا رضی بن میرزا محمد بزرک، من ذریة الحسین الأصغر بن زین العابدین علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب.

بیت السلماسی

ذریة میرزا ابراهیم السلماسی الکاظمی، المتوفی سنة 1342 ه، ابن میرزا اسماعیل المتوفی سنة 1318 ه، بن میرزا زین العابدین، المتوفی سنة 1266 ه، بن میرزا محمد بن میرزا محمد باقر، و قد ولّاهم الأمراء الدنابلة عمارة الحضرة العسکریة فی سامراء.

بیت شبّر

ذریة السید عبد اللّه شبر؛ المتوفی سنة 1242 ه من اعلام عصره فی الرءآسة و التصدر و التألیف و التدریس وسعة العلم و وفور الفضل- بن السید
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 97
محمد رضا شبر؛ المتوفی سنة 1230 ه، ابن محمد بن محسن بن احمد بن علی ابن احمد بن علی بن احمد بن محمد بن ناصر الدین بن شمس الدین محمد بن محمد بن نعیم الدین بن رجب بن حسن الملقب بشبّر جدّ السادة الشبریین، آل شبر.

بیت شبیب

عترة الشیخ شبیب؛ المتوفی سنة 1250 ه- جد بیت الشبیبی فی بغداد و النجف؛ تلمیذ میرزا محمد الاخباری؛ ابن الشیخ راضی بن الشیخ ابراهیم ابن صقر الجزائری.
السید محمد شبر

بیت شدید

ذریة السیّدین صالح و محمد؛ ابنی السید صادق الباصی بن السید باقر بن علی بن حسین بن محمد بن خمیس بن یحیی بن هزّال بن علی بن محمد بن عبد اللّه الملقب بالبهائی؛ الحسینی.
و هم عشیرة السید عبد العظیم؛ المدعو بالسید عبد شدید؛ المتوفی سنة 1329 ه؛ ابن علی بن مهدی بن محمد بن السید صادق الباصی؛ المذکور.
السید علی شبر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 98
شجرة بیت شبّر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 99
السید عباس شبر
السید محمد شدید

بیت الشریف العسکری

اسرة میرزا نجم الدین الشریف العسکری- نزیل الکاظمیة- هاجر إلیها من سامراء، ابن میرزا محمد بن رجب علی العسکری.
و سبطهم السید مرتضی العسکری ، نزیل الکاظمیة سنة 1941؛ ابن شیخ الاسلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 100
شجرة بیت الصدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 101
ابو محمد، المتوفی بکربلاء سنة 1332 ه، ابن اسماعیل بن محمد بن رضی ابن محمد بن رضی بن حسن الحسینی.

بیت شطیط

عالمهم الشیخ هادی شطیط؛ المتوفی سنة 1379 ه؛ ابن الحاج حسن ابن الحاج هادی بن الحاج علی بن الحاج مبارک؛ من طیّ
الشیخ هادی شطیط

بیت الشهرستانی

اسرة السید محمد علی؛ هبة الدین الشهرستانی؛ المصلح المجدّد المتوفی سنة 1386 ه ابن حسین العابد بن محسن الصرّاف بن مرتضی بن محمد بن الأمیر السید علی الکبیر بن منصور بن أبی المعالی محمد نقیب البصرة.

بیت الصدر

ذراری السید اسماعیل الصدر- من أعلام عصره فی الرآسة و العلم و التقدم و التدریس و الفضل-؛ المتوفی سنة 1338 ه ابن السید صدر الدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 102
محمد؛ المتوفی سنة 1263- الذی ذهب لقبه علی أولاده، و ذراری أخیه السید محمد علی فی الکاظمیة- ابن السید صالح.
و السید هادی الصدر؛ المتوفی سنة 1316 ه- والد السید حسن الصدر؛ من شیوخ علماء عصره؛ المتوفی سنة 1354 ه- ابن السید محمد علی؛ المتوفی سنة 1241 ه، ابن السید صالح، المتوفی سنة 1217 ه؛ الذی هاجر إلی الکاظمیة فرارا من فتنة الجزار سنة 1197 ه بن السید محمد، المتوفی سنة 1139 ه، ابن السید ابراهیم شرف الدین؛ المتوفی سنة 1080 ه جد أل شرف الدین فی العراق و لبنان.
و منهم السید الزعیم الکبیر المقدّم؛ السید صدر الدین الصدر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 103
السید محمد الصدر؛ المتوفی سنة 1375 ه ابن السید حسن الصدر.

بیت العاملی

اسرة السید محمد العاملی؛ المجاهد المتوفی سنة 1365 ه، ابن السید محسن العاملی بن السید جواد بن السید علی بن السید یوسف؛ من بنی زهرة؛ الحلبیین.

بیت عبد الغفار

ذریة الشیخ مهددی؛ المتوفی سنة 1304 ه؛ ابن الشیخ عبد الغفار بن محمد تقی؛ الکشمیری، القزوینی؛ الهندی؛ الکاظمی؛ من ترک العجم.
السید حسن الصدر

بیت عبد النبی

اسرة الشیخ عبد النبی؛ المتوفی سنة 1256 ه؛ ابن علی بن احمد بن جواد؛ خازن الحضرة الکاظمیة؛ المدنی، الشیبی؛ من بنی شیبة.

بیت عطیفة

اسرة السید علی عطیفة؛ المتوفی سنة 1306 ه- فی سبزوار- ابن عطیفة بن مصطفی بن عیسی بن جلال الدین بن رضاء الدین بن سیف الدین بن رمیثة بن رضاء الدین بن محمد علی بن عطیفة؛ الحسنی.

بیت القابچی

اسرة الشیخ محمد علی القابچی؛ المتوفی سنة 1365 ه؛ ابن الشیخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 104
حسن القابچی؛ المتوفی سنة 1345 ه؛ ابن الشیخ محمد القابچی؛ الجمالی، الکاظمی.

بیت قندیل

اسرة الشیخ علی؛ المتوفی سنة 1168 ه تقریبا؛ ابن الشیخ محمد قندیل.
و هو استاذ السید نصر اللّه الحائری، الشاعر المدرس المعروف؛ و من شعره فی مدحه:
یا ایها الاستاذ (یا) من مدحه‌ان رمت احصره لسانی یحصر
یا ایها المولی الذی فی جوده‌دوح الأمانی کل حین یثمر
یا من غدا قندیل محراب العلی‌فالزیت منه بغیر نار یزهر

بیت الکاشانی

بیت الحاج السید مصطفی الکاشانی؛ نزیل الکاظمیة المتوفی 1336 ه، ابن السید حسین بن السید محمد علی بن رضا؛ الحسینی، الکاشانی. والد من الیمین عباس الخلیلی و امین خالص و السید ابو القاسم الکاشانی و المؤلف جعفر الخلیلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 105
بیت الکاظمی
اسرة شاعر العرب
الحاج علی بن الحاج محسن بن محمد بن صالح بن علی بن هادی النخعی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 106
شجرة بیت الکاظمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 107
الزعیم السید ابو القاسم الکاشانی؛ المتوفی سنة 1381 ه .

بیت الحاج کاظم

ذریة الحاج کاظم- الذی کان حیا سنة 1277 ه- ابن الشیخ درویش ابن الشیخ محمد بن الشیخ یحیی بن الشیخ محمد بن الشیخ یحیی؛ المتوفی سنة 1137 ه؛ ابن الشیخ محمد قاسم- ابن الوندی الفقیه الکاظمی- بن الشیخ محمد؛ المتوفی سنة 1100 ه؛ الشریف العمیدی الوندی؛ بن الشیخ محمد جواد؛ المعروف بالفاضل الجواد؛ المتوفی سنة 1065 ه بن سعد بن جواد، الکاظمی.
من بیوتات العلم القدیمة فی الکاظمیة. و قد نسبهم السید جعفر الأعرجی النسابة فی بعض کتبه إلی الشیخ المفید العکبری. و هم اسرة الشیخ محمد؛ رئیس الکاظمیة؛ المتوفی سنة 1313 ه بن الحاج کاظم. والد الشیخ راضی المدرس المشهور؛ المتوفی سنة 1349 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 108

بیت الکاظمی- 1-

ذراری الشیخ محمد حسین الکاظمی نزیل النجف، المتوفی سنة 1308 ه ؛ ابن الشیخ هاشم بن حسین بن ناصر بن زبالة. و هم ینتسبون إلی آل معتوق، فی الدویر، بلبنان. و فی ترجمة الشیخ محمد علی الخالصی، بخط الشیخ عبد المحسن الخالصی؛ المتوفی سنة 1370 ه: «ان الشیخ محمد حسین الکاظمی- قدس سره- ابن الشیخ هاشم بن الشیخ علی بن الشیخ عبد اللّه. فهو ابن عم الشیخ عبد العزیز (جدّ الخالصیة فی الکاظمیة)».

بیت الکاظمی- 2-

اسرة شاعر العرب؛ الشیخ عبد المحسن الکاظمی؛ المتوفی سنة 1354 ه ابن محمد بن عبد المحسن الکاظمی موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-2 ؛ ص109
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 109
الحاج علی بن الحاج محسن بن محمد بن صالح بن علی بن هادی؛ النخعی.
و الحاج محسن- هو اول من استوطن الکاظمیة من آبائهم، الذین کانوا من سراة التجار فی بغداد- و قد هاجر إلی العراق، فی أواخر القرن الثانی عشر الهجری. و کل الظن انه قطن الکاظمیة قبل قرنین.
و خلف من بعد الحاج محسن، ابنه الحاج علی پوست فروش؛ المتوفی سنة 1314 ه؛ ای بیاع الجلود، المشهور؛ الذی ینتسب إلیه بیت پوست فروش فی الکاظمیة؛ رهط الکاظمی الشاعر.

بیت کبه

عشیرة الشیخ الحاج محمد حسن کبه؛ المتوفی سنة 1336 ه ، ابن الحاج محمد صالح بن الحاج مصطفی بن الحاج درویش علی بن الحاج جعفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 110
ابن الحاج علی بن الحاج معروف، آل کبة، الربعی، البغدادی، الکاظمی.
من بنی ربیعة بن نزار بن معد بن عدنان.

بیت الکرکی

ذریة الشیخ حسین الکرکی؛ المتوفی سنة 1299 ه؛ ابن الشیخ علی الکرکی الجبعی، العاملی، نزیل الکاظمیة. و هو والد الشیخ عباس الکرکی، الکاظمی، الشاعر؛ المتوفی سنة 1336 ه.

بیت الکشوان

ذراری السید صالح الکشوان، المتوفی سنة 1309 ه؛ ابن السید مهدی ابن السید احمد؛ الموسوی؛ القزوینی الکاظمی. اسرة السید محمد مهدی القزوینی، المتوفی سنة 1358 ه؛ نزیل البصرة و اخوته الأفاضل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 111

بیت محفوظ

آل محفوظ- تنتهی أنساب آل محفوظ- فی العراق، و لبنان- إلی شمس الدین؛ أبی محمد؛ محفوظ بن وشاح بن محمد؛ الأسدی؛ الحلی؛ الذی کان من أکابر رجال الثقافة الفقهیة و الأدبیة فی العراق؛ و کانت وفاته، فی سنة 690 ه- علی قول الشیخ محمد السماوی-
الشیخ محمد جواد محفوظ
الدکتور حسین علی محفوظ
قال السید حسن الصدر، فی ذیل ترجمة محفوظ، فی تکملة أمل الآمل، ج 1 ص 150: «ان هذا الشیخ ابو طائفة کبیرة بالهرمل (فی لبنان) یعرفون إلی الیوم- بآل محفوظ، و بنی وشاح. خرج منها علماء أجلاء، رؤساء نبلاء».
و قال الشیخ اغا بزرک، فی نقباء البشر، ق 1 ص 342: «آل محفوظ؛ بیت علم و أدب و فضل- من قدیم- فی جبل عامل، و الکاظمیة، و الحلة».
و قال فی المخطوط ص 220: «آل محفوظ بیت قدیم للعلم، من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 112
شجرة بیت محفوظ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 113
عصر المحقق الحلی (المتوفی سنة 676 ه) إلی الیوم».
و قال المرحوم الشیخ محمد رضا الشبیبی، فی کتاب: العراق و آثار العلم و الأدب المنسیة فیه: «آل وشاح ... اسرة علم و أدب قدیمة .. من الأسر الکبیرة».
و آل محفوظ فی الکاظمیة، و کربلاء، و البصرة- و آخرون منهم فی لبنان- من ذریة الشیخ حسین محفوظ بن الشیخ علی محفوظ بن الشیخ محمد محفوظ العاملی؛ الهرملی.
هاجر بعض أسلافهم إلی لبنان فی اواسط القرن الثامن الهجری، و أقاموا بالهرمل، ثم ترک الشیخ حسین محفوظ بلدة الهرمل فی اوائل العشر التاسع من القرن الثانی عشر، و سکن الکاظمیة. و توفی بها فی جمادی الأولی سنة 1262 ه. و کان أوحد زمانه فی التأله و الزهد و التعبد و الفضل و التقوی و الکمال و العلم. و کان یعدّ من حسنات عصره، و یحسب قرن الشیخ حسین نجف فی الزهد و العبادة.
قال السید محمد بن مال اللّه بن معصوم القطیفی- فی ترجمة السید عبد اللّه شبر: «العالم الفاضل، و الفقیه الکامل، افضل أهل زمانه علی الاطلاق، و من لو لا تقاه لما کان فی ذا الزمان التقی. (التقی) النقی، و المولی الصفی، شیخنا و مولانا الشیخ حسین محفوظ».
و قال السید حسن الصدر؛ فی بغیة الوعاة فی طبقات مشایخ الاجازات:
«الشیخ الفقیه العابد الزاهد، امام الجماعة فی حرم الکاظمین، لم یشارکه أحد فی الإمامة حتی توفی .. کان نظیر الشیخ حسین نجف».
و قال الشیخ مرتضی الأنصاری؛ فی رسالة إلی السید محیی الدین آل فضل اللّه الحسنی العیناتی؛ سنة 1274 ه: «سلمان زمانه، و أبی ذر أوانه، المرحوم المبرور الشیخ حسین محفوظ العاملی».
(8)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 114
و آل محفوظ- فی الکاظمیة- ذریة الشیخ علی محفوظ؛ المتوفی 28 جمادی الآخرة سنة 1355 ه، و محمد محفوظ؛ المولود سنة 1315 ه؛ ابنی الشیخ محمد جواد محفوظ؛ المولود فی الکاظمیة سنة 1281 ه؛ المتوفی بالهرمل فی ذی الحجة، سنة 1358 ه- و کان من اعلام الرآسة و التصدر و التألیف و الأدب و الفضل- ابن الشیخ موسی محفوظ؛ المتوفی 28 شهر رمضان سنة 1320 ه؛ ابن الشیخ حسین محفوظ؛ المتوفی سنة 1262 ه؛ ابن الشیخ علی محفوظ؛ المتوفی سنة 1222 ه؛ ابن الشیخ محمد محفوظ.
و منهم؛ الدکتور حسین علی محفوظ- کاتب هذا الفصل- المولود فی الکاظمیة یوم الاثنین 20 شوال سنة 1344 ه- 3 أیار سنة 1926. و ناجی محفوظ؛ المولود فی الکاظمیة یوم الاثنین 20 ربیع الأول سنة 1348 ه- 1929 و علی حسین محفوظ؛ المولود فی بغداد 18 ربیع الأول 1385 ه- 18 تموز 1965 و إنما فصّلت القول- فی تراجم اسرتی و تواریخها- اقتداء بالمتقدّمین، من المصنّفین.

بیت المحقق

ذریة الشیخ علی؛ المدعو بالمحقق؛ الملقب بمحقق العراقین؛ المتوفی سنة 1382 ه؛ ابن الشیخ محمد حسین الکرهرودی، السلطان آبادی، الکزازی، ابن محمد مهدی بن محمد اسماعیل؛ من ذراری قاضی زاده الکرهرودی، صاحب کتاب «تحفه شاهی».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 115

بیت المرایاتی

سراة الشیخ مهدی المرایاتی الکاظمی؛ المتوفی سنة 1343 ه؛ ابن الحاج صالح بن الحاج عیسی بن الحاج محمد جواد بن الحاج مصطفی بن الحاج محمد علی بن الحاج محمد درویش المرایاتی، البغدادی؛ الأسدی.
الشیخ مهدی المرایاتی

بیت معتوق

ذریة الشیخ محمد؛ المتوفی سنة 1329 ه ابن الشیخ جواد- الذی کان حیّا سنة 1253 ه- ابن الشیخ علی؛ ابن فقیه اهل البیت شیخ علماء الکاظمیة فی عصره، الشیخ سلیمان بن معتوق العاملی الکاظمی.
هاجر الشیخ سلیمان إلی الکاظمیة. فرارا من فتنة احمد باشا الجزار؛ الذی طغی فی بلاد لبنان سنة 1197 ه. و توفی بها سنة 1227 ه.

بیت مقصود

اسرة الشیخ محمد علی؛ المتوفی سنة 1266 ه؛ ابن ملا مقصود علی، الکجوری، المازندرانی.
الشیخ عبد الرزاق آل معتوق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 116

بیت المنشی

ذراری محمود رضا؛ المتخلص (ظهور)، المتوفی سنة 1325 ه، و أحمد رضا؛ المتخلص (طور)؛ المتوفی سنة 1335؛ ابنی خورشید الدولة محمد رضا الهندی- الذی ورد العراق سنة 1275 ه، و توفی فی الطریق- ابن اعظم بیک بن اشرف بیک بن خرّم بیک بن سردار بیک؛ من ذریة مالک بن الاشتر النخعی.
و من اعلامهم؛ میرزا محمد رضا المنشی الطبیب، المتوفی سنة 1369 ه؛ ابن احمد رضا نور بن خورشید الدولة محمد رضا طور.

بیت نقدی

أولاد الشیخ جعفر نقدی؛ المتوفی سنة 1370 ه ؛ ابن الحاج محمد النقدی؛ المتوفی سنة 1332 ه؛ ابن عبد اللّه ابن محمد تقی بن حسن بن حسین ابن علی نقی، الربعی، من بنی ربیعة بن نزار بن معدّ بن عدنان.

بیت نوح

بیت الخطیب؛ ذریة خطیب الکاظمیة، الشیخ کاظم آل نوح المتوفی سنة 1379 ه : ابن الشیخ سلمان الحلی، نزیل الکاظمیة، المتوفی سنة 1308 ه ابن داود بن سلمان بن نوح بن محمد، آل غریب الکعبی؛
الشیخ کاظم آل نوح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 117
من بنی کعب، القبیلة المعروفة فی الأهواز؛ عشیرة الشاعر المعمر ملا حمادی نوح الحلی، المعروف، المتوفی سنة 1325 ه؛ صاحب الدیوان الکبیر «اختبار العارف و نهل الغارف».

بیت الهندی

بیت الموسوی؛ عترة السید محمد الهندی ؛ المتوفی سنة 1323 ه؛ ابن هاشم بن میر شجاعت علی الهندی الشاهجهان آبادی؛ الرضوی، الموسوی؛ النجفی.
السید رضا الهندی

بیت الهمدانی

اسرة الشیخ محمد علی الهمدانی الکاظمی؛ المتوفی سنة 1349 ه؛ ابن الشیخ محمد حسین الهمدانی الکاظمی؛ المتوفی سنة 1313 ه.

بیت یاسین

ذراری الشیخ محمد حسن آل یاسین الشیخ محمد رضا آل یاسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 118
المتوفی سنة 1308 ه- من اعلام عصره فی الرآسة و التصدر و التقدم و العلم- ابن یاسین بن محمد علی بن محمد رضا. اسرة الشیخ محمد رضا آل یاسین ؛ المتوفی سنة 1370 ه؛ الشیخ عبد الحسین؛ المتوفی سنة 1351 ه؛ بن الشیخ باقر؛ المتوفی سنة 1290 ه؛ ابن الشیخ محمد حسن آل یاسین. و کان من أعلام الفقهاء المجتهدین فی زمنه. و هم ینسبون الی الخزرج.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 119
من الیمین محمد توفیق الغصین و الدکتور عبد الحمید الهلالی و المؤلف جعفر الخلیلی و الدکتور محمد حسین آل یاسین و آخرین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 120
شجرة بیت یاسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 121

الخدّام و السدنة مرتبة حسب الحروف الهجائیة

اشارة

یقوم بخدمة الحضرة الکاظمیة المقدسة بیوتات معروفة من القوّام و الخدّام؛ منهم:
(1) بیت ابو العیس؛ السادة الموسویة.
(2) بیت ابو نرگیلة؛ السادة الحسنیة.
(3) بیت بلیبل؛ من بنی سعد. و من قدمائهم؛ علی بلیبل بن ناصر بلیبل، فی اواخر القرن الماضی. و هم عشیرة التاجر الصالح؛ الحاج محمد حسین بن حاج عبد الباقی؛ المتوفی سنة 1324 ه بن حمادی بن قدوری.
و کان سلافه یتولّون إیقاد المسرجة؛ و قفیة معتوق؛ التی عملها درویش عابد، سنة 1173 ه؛ و هی توقد لیلة اول رجب و لیلة منتصف شعبان کل عام و قد ترکت حوالی سنة 1380 ه تقریبا.
(4) بیت بهاء الدین؛ السادة الحسنیة.
(5) بیت الجمالی؛ ذریة جمال الدین؛ متولی سدانة مرقد ابی یوسف.
فی الکاظمیة سنة 1021 ه، ابن ملا علی متولی مرقد ابی یوسف، المتوفی سنة 1020 ه؛ ابن اسماعیل. من بنی شیبة بن عثمان بن طلحة بن ابی طلحة عبد اللّه بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار بن قصی بن کلاب بن مرة ابن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة بن خزیمة بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 122
مدرکة بن الیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
و هم عشیرة الدکتور محمد فاضل الجمالی بن الشیخ عباس بن الحاج محمد بن الشیخ جواد بن الحاج مهدی بن الحاج عبد اللّه بن الشیخ کاظم بن عبد الرحمن بن جمال الدین.
و قد نسبهم السید جعفر الأعرجی النسابة، فی الکتاب المشجّر الی علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 123
ابن ابراهیم بن جمال (جدّ الجمالات) بن طرفة بن شایب بن مختار بن هبار بن سوید بن مدرک بن حجر بن عوسج بن حنظل بن حرمل بن ناشد بن منشد بن خالد ابن عمرو بن نویل بن حفص بن ایاس بن عبد العزی بن حاجب بن غفار، قبیلة أبی ذر الغفاری؛ صاحب رسول اللّه (ص). و الخلاف و الاختلاف کبیر کثیر فی کتب السید الأعرجی؛ المشجرة و المبسوطة؛ علی سعة علمه، و وفور فضله، و کثرة اطلاعه.
(6) بیت جوطه؛ السادة الحسنیة.
(7) بیت الچراغچی؛ السادة الحسنیة.
(8) بیت الچوخچی. من البو محیی، من طی‌ء. و هم عشیرة الدکتور نعمة بن جابر بن محمد علی بن فتاح. و الشیخ حمید معلّم الکاظمیة، المکتب المؤدب؛ المتوفی سنة 1359 ه؛ ابن محمود بن عبد الحمید بن شریف بن هادی.
(9) بیت الحسنی؛ السادة الحسنیة.
(10) بیت خادم الجدید؛ السادة الحسنیة.
(11) بیت دبشة؛ السادة الحسنیة.
(12) بیت الساعچی؛ الساعاتیین؛ ذریة الشیخ محمد ابراهیم الساعاتی؛ المتوفی سنة 1313 ه؛ ابن الشیخ عبد اللطیف بن الشیخ جواد؛ ابن عم الشیخ طالب- جدّ بیت الکلیتدار- و یلقبون- الآن- ببیت الشیبانی انتسابا الی بنی شیبة.
(13) بیت السرکشک؛ السادة الحسنیة؛ من رؤساء الخدام؛ اسرة السید باقر الحسنی؛ المدعوّ بالبلاط، المتوفی سنة 1958 ابن السید احمد واحد العین .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 124

بیت السرکشک

الی الیمین السید باقر السرکشک و الی الیسار المؤلف جعفر الخلیلی
السید محمد عبد الحسین
(14) بیت السید سعد؛ السادة المدامغة الحسینیّین. ینتسب قدماؤهم إلی الامام موسی الکاظم بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع). و قد نسبهم السید جعفر الأعرجی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 125
النسابة الی علی الدماغ بن أبی البرکات محمد بن أبی طالب عبد اللّه بن علی ابن عمر المحدث بن أبی طالب عبد اللّه بن أبی محمد الحسن الفارس النقیب ابن یحیی بن الحسین النسابة بن احمد بن عمر بن یحیی بن الحسین ذی العبرة ابن زید الشهید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع). و یوافقه السید مهدی النسابة المعاصر؛ ابن السید عبد اللطیف الحسینی؛ الوردی
(15) بیت شقافی؛ من بنی شیبة.
(16) بیت شقافی؛ السادة الموسویة.
(17) بیت شکر؛ السادة الحسنیة.
(18) بیت الشماع؛ السادة الموسویة؛ من آل أبو علی.
(19) بیت الصابونی؛ بیت نسلی؛ السادة الموسویة.
(20) بیت الصافی؛ السادة الحسنیة.
(21) بیت طه؛ الأشراف؛ السادة.
(22) بیت طه؛ اسرة الشیخ علی طه؛ المتوفی سنة 1341 ه؛ ابن ملاطه- صاحب فرمان الأذان فی الحضرة الکاظمیة؛ المؤرخ سنة 1285 ه، ابن جواد بن مبارک. و کانوا یدعون «بیت مرگه» و «بیت ابو مرگ».
و هم ینتسبون إلی بنی شیبة بن عثمان بن طلحة بن ابی طلحة عبد اللّه بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار بن قصی بن کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی ابن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة بن خزیمة بن مدرکة بن الیاس ابن مضر.
(23) بیت الشیخ عبد اللطیف؛ من بنی شیبة.
(24) بیت عطیفة؛ السادة الحسنیة؛ اسرة السید محمد عطیفة؛ المتوفی سنة 1309 ه.
(25) بیت الکردی؛ السادة الحسنیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 126
(26) بیت کشکش؛ السادة الحسنیة.
(27) بیت الکشوان؛ من بیت المریض؛ السادة الحسنیة، اسرة السید جعفر الکشوان بن السید قاسم الحسنی. جدّ الدکتورة بهیجة الحسنی بنت السید باقر بن السید جعفر: المومأ الیه .
(28) بیت الکلیتدار؛ البواشیخ؛ سدنة الحضرة الکاظمیة المقدسة.
(29) بیت المؤذن؛ من بنی شیبة.
(30) بیت الحاج محمد صالح؛ عشیرة الشیخ محمد محسن الوجیه المصلح المعلم المؤدّب، المتوفی سنة 1946؛ ابن الحاج محمد صالح بن الشیخ سلیمان. ینتهی نسبهم إلی ذی النور، صاحب القصة الواقعة سنة 1190 ه و هم بنو عم بیت الکلیتدار لحّا؛ من بنی شیبة.
(36) بیت مشکور؛ السادة الحسنیة.
(32) بیت نعش؛ من بنی أسد. عشیرة الحاج ابراهیم نعش؛ التاجر المعاصر؛ ابن الحاج مهدی بن الحاج حسین. کانوا یدعون بیت الطویل.
و لقب بعضهم شماره انتسابا إلی أهل امه. و منهم الشیخ عبد اللّه بن یوسف ابن درویش نعش؛ والد سلیم نعش.
(33) بیت نسلی؛ السادة الموسویة.
(34) بیت النیص؛ السادة الحسنیة.
(35) بیت وهاب؛ ذریة وهاب بن جواد بن صافی بن الحاج زین العابدین؛ من طیّ‌ء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 127
و منهم جواد بن جعفر بن جواد؛ الحقوقی، سکرتیر رآسة جامعة بغداد.
و قد ولّی السلطان سلیم الأول العثمانی بنی شیبة، سدانة الحضرة المقدسة الکاظمیة؛ سنة 978 ه. و ما زالت السدانة و الکلیتداریة فیهم موصولة الإسناد.
و الکلیتدار؛ السادن- الیوم- الشیخ فاضل بن الشیخ علی؛ المتوفی سنة 1385 ه؛ ابن الشیخ حمید ؛ المتوفی سنة 1336 ه؛ ابن الشیخ طالب؛ المتوفی سنة 1292 ه؛ ابن الشیخ عبد الرزاق؛ المتوفی سنة 1262 ه؛ ابن الشیخ محمد؛ المتوفی سنة 1246 ه؛ ابن الشیخ احمد بن الشیخ عبد النبی بن الشیخ حسین بن مبارک بن محمد بن ربیعة من ولد عثمان بن حنظلة الشیبی. و کلهم ولاة سدانة الحضرة الکاظمیة.
هکذا وجدت نسبه- من أمالی- المرحوم الشیخ علی الکلیتدار- بخط السید جواد بن السید عبود بن حمودی بن حسین بن علی بن أبی الحسن ابن علی بن عیسی بن جمال الدین؛ العطیفی، الحسنی، فی ورقة تاریخها غرة رجب سنة 1372 ه ..
و رواه لی کذلک الشیخ علی الکلیتدار المومأ إلیه نفسه، فی حجرته، قبلی الصحن الشریف الکاظمی، قبل وفاته.
و شیبة- جدّهم و جدّ ولاة الکعبة إلی الیوم- بن عثمان بن طلحة ابن أبی طلحة عبد اللّه بن عبد العزی بن عثمان بن عبد الدار بن قصی بن-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 128
کلاب بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر بن مالک بن النضر بن کنانة ابن خزیمة بن مدرکة بن الیاس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
و من بنی شیبة؛ بیت ابو الرگ، و بیت الجمالی، و بیت حمزة، و بیت الساعچی، و بیت شقافی، و بیت الشیخ عبد اللطیف، و بیت الکاتب، و بیت الکلیتدار، و بیت المؤذن، و بیت الحاج محمد صالح.
و منهم؛ ذریة الشیخ حبیب- نزیل جبل عامل الذی عاد إلی العراق سنة 1263 ه- و هم ولد الشیخ محمد؛ المتوفی سنة 1324 ه ابن الشیخ حبیب بن الشیخ طالب بن علی بن احمد بن جواد؛ اسرة الدکتور کامل مصطفی الشیبی .

سدانة مرقد أبی یوسف

تولّی سدانة مرقد أبی یوسف- فی الکاظمیة- قدیما بیت الجمالی.
فقد تقلّد جدّهم جمال الدین السدانة سنة 1021 ه، بعد والده ملا علی المتوفی سنة 1020 ه- کما تقدم.
و الکلیتداریة- الیوم- فی بیت ابی یوسف؛ اسرة السید ابراهیم ابو یوسف؛ المتوفی سنة 1365 ه- من وجوه الکاظمیة و أبطالها الأعلام ابن احمد بن الملا مصطفی بن ملا عبد اللّه بن مصطفی أغا بن فتاح بن داود ابن محمد بن حسین بن ناصر بن حسن بن محمود بن محمود بن محمد بن قاسم ابن هاشم بن علی بن حسین بن حسن بن فلاح بن حمزة بن سلامت بن شهاب ابن جلال الدین بن اسحاق بن بابا علی بن یوسف بن منصور بن منصور بن اسحاق بن موسی بن اسماعیل بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب (ع).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 129

البیوتات المعروفة مرتبة حسب الحروف الهجائیة

اشارة

و هی کثیرة، نکتفی بالإشارة إلی نماذج منها تمثّل مختلف أصناف المجتمع و طبقاته و منها:

بیت أبو اللحم

أقارب بیت الکاظمی فی الکویت، اسرة الحاج زید الکاظمی. و هم فی الکاظمیة أولاد عباس، و جودی، و مراد؛ بنی کاظم الدجیلی، من البوطبّاخ، من بنی سلامة السلامیین فی الدجیل، بالقرب من بلد، فی طریق سامراء. هاجروا إلی الکاظمیة فی احدی الهجرتین. و لعلهم فارقوا الدجیل فی الهجرة الثانیة، سنة 1246 ه؛ أبان الطاعون الکبیر.

بیت الاسترابادی

عشیرة الحاج عبد الهادی الاسترابادی، المتوفی سنة 1316 ه، و أخیه الحاج مهدی الاسترابادی؛ المتوفی سنة 1308 ه. و هم من تلاد الاسر من الکاظمیة.
الحاج عبد الهادی الاسترابادی (9)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 130
و الحاج عبد الهادی، هو الذی ولّاه فرهاد میرزا عمارة صحن الحضرة الکاظمیة سنة 1296 ه .

بیت الأسود

ذریة مهدی بن درویش بن مانع بن أسود، من البو هلال، من بنی سلامة، السلامیین فی الدجیل.

بیت أغائی

المعلمون المکتّبون القدماء؛ و منهم، الشیخ محمد حسن الکاتب، المتوفی فی حدود سنة 1280 ه، بن الحاج الشیخ جواد البصیر المقری‌ء ابن الحاج محمد علی اغائی.

الأنباریین

الأنباریون الذین ینسب إلیهم طرف الأنباریین بمحلة التل شمالیّ الکاظمیة. و هم ینتسبون إلی ربیعة بن نزار بن معد بن عدنان، من ولد بکر بن حبیب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصی بن دعمّی بن جدیلة بن أسد بن ربیعة بن نزار بن معد بن عدنان.
هاجروا من بلد الأنبار؛ بالقرب من مدینة المسیب. و سکنوا الکاظمیة قدیما. و ما زالت بیوتاتهم فی الکاظمیة- مجموعین فی ظرف الانباریین إزاء (باب الکبیرة)- و المسیب، و کربلاء، و غیرها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 131
و من بیوتهم: بیت ابو الدهن، بیت الاصفر، بیت بادی، بیت البایر، بیت بربن، بیت برهم، بیت بکتاش، بیت تفاحة، بیت جروه، بیت جوید، بیت حمره، بیت حیس، بیت خلیفة، بیت خندوجه، بیت دامنی، بیت الدباغ، بیت دریوش، بیت الدلی «الدلالوه» بیت دیو، بیت رمضان، بیت زوله، بیت سعدون، بیت سعود، بیت سعود، بیت سلوم، بیت السلمان، بیت شاه، بیت شرموط، بیت صنگور، بیت طیطو، بیت عام، بیت عبد الحاج فاضل، بیت الحاج عبد الحسن، بیت عبدی، بیت عبل، بیت عبودی، بیت عجاج، بیت عجم، بیت عدوله، بیت العلو، بیت علاوی، بیت علی اغا «بیت علی رزیج» بیت عمران، بیت غدیّر؛ بیت فدعم، بیت فلیح، بیت قاو، بیت قوزی، بیت گرنوص، بیت مغامس، بیت الحاج مهدی، بیت مهیدی، بیت الحاج ناصر «بیت خردو»، بیت نرگز، بیت نشعة، بیت نمش، بیت النملة، بیت هادی، بیت هجهج، بیت الهلال، بیت هویدی، بیت واویة، بیت ویس، بیت یاس.
و من ربیعة؛ السمیلات: و منهم فی محلة السمیلات بمحلة التل؛ بیت حباشة، و بیت سریع، و بیت السمیلی، و بیت صورین.
و من افخاذهم فی ظاهر البلدة؛ البوبکر، و البوعبید و البومال اللّه، و البونهار.

بیت الانصاری

ولد الحاج عبد (من عبید) بن الحاج نجم الأنصاری، اسرة الشیخ جعفر بن الحسین التستری؛ المتوفی سنة 1303 ه. من ذراری جابر بن عبد اللّه الأنصاری؛ صاحب رسول اللّه (ص). و منهم أولاد الحاج حسین بن الحاج کاظم بن الحاج عبد، الذین تعرض لهم ظرافة الشیخ عبد المحسن الکاظمی شاعر العرب فی بعض قصائده.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 132

البحیّة

اشارة

البوحیة؛ الذین ینسب إلیهم طرف البحیة، فی محلة الدباغخانه، شرقی الکاظمیة. و هم من طی‌ء، من ولد سنیس بن معاویة بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طیّ‌ء. و هو جلهمة بن ادد بن یشجب بن عریب بن زید بن کهلان ابن سبأبن یشجب بن یعرب بن قحطان، و هم ثلاثة أفخاذ:

(1) آل حمد:

و من بیوتاتهم؛ بیت الأغبر، و بیت بارود «بیت سلیم» و منهم بیت فلیح. و بیت ثریا، و بیت حمد، و بیت سلطان، و بیت صکر، و بیت العلیوی، و بیت فلیح.

(2) آل حسین:

و من بیوتاتهم؛ بیت الأقچم، بیت جواد «بیت بازی»، و بیت سعیّد، و بیت عگله، و بیت علاوی «بیت قشعم»، و بیت مراد، و منهم بیت غضیب، و بیت النجم، و بیت هدب، و بیت یاسین.

(3) آل الچوخچی:

و منهم بیت جابر، و بیت فتّاح؛ من خدّام الحضرة الکاظمیة .

بیت البنّا

ذریة عبد علی البنا، المتوفی سنة 1949 بن الحاج محمد بن الحاج حسن ابن الحاج عبد النبی؛ من خفاجة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 133

بیت البیر

ذریة محمد صالح البیر بن الحاج علی بن مهدی بن الحاج محمد صالح البیتر، من بنی أسد. و کان الحاج محمد صالح هذا من اعیان التجار فی عصره. و قد مدحه الشیخ محمد جابر الکاظمی، الشاعر المشهور بأبیات حائیة؛ منها:
هل السعد الّا فی جبینک لائح‌او العیش الا فی ظلالک صالح
الا و اغتنم اسنی الثناء فاننی‌و مجدک ما دام البقا لک مادح

بیت جشعم

ذراری مهدی بن عبد بن سالم، من ولد ناصر بن مهنا من جشعم، من المناذرة و من بیوتهم؛ بیت النیار، و بیت المزیّن.

بیت جلال

أدیبهم، الشیخ محمد سعید جلال؛ المتوفی سنة 1354 ه؛ ابن الحاج محمد حسین بن علی بن الحاج محمد بن الحاج درویش بن الحاج اسماعیل ابن الحاج عبد اللّه بن الحاج احمد بن الحاج جلال.
و بیت جلال من بیوتات التجارة المعروفة فی الکاظمیة، و بغداد، و البصرة، و کربلاء.

بیت الجواهری

الجواهریة؛ الصوّاغ. ذریة الحاج محمد کاظم الجواهری، نزیل الکاظمیة، صاحب قریة مزرعة دوراه میان- التی کان اسمها قریة کاظم آباد فی بلوک برخار، فی دار السلطنة اصفهان، المؤرخة ورقتها فی سنة 1227 ه- ابن الحاج محمد علی. و یقول بعضهم انه سمع انهم ینتسبون إلی الصفویة فی تبریز، ثم هاجروا إلی اصفهان، و ورد جدهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 134
الحاج محمد کاظم الکاظمیة. و من ذریته ولد محمد هاشم الصائغ؛ المتوفی سنة 1299 ه.

بیت الجیلاوی

ذریة حسین و حسن، ابنی علی بن حسین بن علیوی، الغزال؛ من البوصگر، من الجنابیین، من الدجیل. و یلقبون- الیوم- بیت الدجیلی.

بیت الچلبی

اسرة الحاج عبد الهادی الچلبی بن الحاج عبد الحسین الچلبی؛ المتوفی سنة 1939 بن الحاج علی الچلبی المتوفی سنة 1320 ه- جد بیت علی چلبی فی الکاظمیة- بن محمد هادی بن الحاج حسن بن محمد اغا بن عبد الحاج عبد الحسین الچلبی
الحاج عبد الهادی الچلبی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 135
شجرة بیت الچلبی فی الکاظمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 136
الرضا بن درویش بن کاظم حچیجی بن عبد الحسین. من طیّ‌ء بن ادد بن یشجب بن عریب بن زید بن کهلان بن سبأ. و ینتهی نسبهم الی حاتم الجواد ابن عبد اللّه بن سعد بن الحشرج بن امری‌ء القیس بن عدیّ بن اخزم بن ابی اخزم بن ربیعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طیّ‌ء؛ من قحطان و الچلبی لقب و هبه لهم السلطان العثمانی.
کان الچلبیة فی جزیرة ابن عمر. ثم سکنوا بغداد، و توطن فریق منهم الکاظمیة فی اواخر القرن الحادی عشر الهجری. و منهم حکام الکاظمیة القدماء الذین ورثوا من آبائهم الرآسة و الحکم و الأمر، حتی سنة 1865 م.
و إلی عمود نسبهم تنتهی أنساب بیت الچلبی، و بیت حجیجی، و بیت الحجیّة، و بیت الحاج صالح، و بیت علی الجلبی، و بیت گوش، و بیت المعمار، و بیت لیلو.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 137

بیت الحجّی

اسرة الشاعر الحاج مهدی دوش- انتسابا إلی عشیرة أمّه- المتوفی سنة 1356 ه بن الحاج خضیر الشاعر المتوفی سنة 1309 ه بن عباس بن علی بن محمد بن علی بن حجی؛ البلدی، من العجیمات، من ربیعة.

بیت الحدّاد

شاعرهم، الحاج محمد حسن الحدّاد، المتوفی سنة 1958- من اعلام الثورة العراقیة و ألسنة الجهاد- ابن الحاج علی بن احمد بن مطر بن محمد بن سلمان بن علوّ بن سلمان بن کاظم بن حسین بن حسن؛ الذی هاجر من تکریت إلی بلد بالقرب من سامراء. و هم من البوقاسم، من بنی العباس، العباسیین.

بیت الحریری

اسرة الحاج محمد تقی الحریری- صاحب خان الحریری فی بغداد، و هو ابن الحاج محمد علی بن الحاج ابراهیم الحریری الکاظمی و قد توفی الحاج تقی الحریری سنة 1954 و هو نفسه صاحب خان الحریری المشهور الذی عمره سنة 1951.

بیت حسونه

عشیرة الصحفی الکاتب عبد المهدی الفائق بن عبد الحمید بن الحاج حسین بن الحاج عیسی حسّونه، من طیّ‌ء.

بیت الحلبی

من آل شمس الدین، ذریة الشهید الأول شمس الدین محمد بن مکی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 138
ابن محمد بن حامد بن طه بن علی، المطلبی، العاملی الجزینی؛ المقتول فی دمشق سنة 786 ه.

بیت حمودی

اسرة عبد الرسول بن حمودی بن خضیر بن عبد النبی، من زبید.

بیت الخلیلی

ذریة میراز خلیل الطبیب المشهور بن علی بن ملا ابراهیم بن محمد علی؛ نزیل النجف. هاجر إلی الکاظمیة سنة 1215 ه، و لبث فیها مدة. ثم انتقل إلی کربلاء، ثم اقام بالنجف، و توفی بها سنة 1280 ه .
و فی الکاظمیة من ذراریه جماعة سکنوها قدیما، و آخرون توطنوها حدیثا.

بیت دارا

اولاد میرزا احمد الشاعر الکاتب، المتخلص «دارا»، المتوفی سنة 1943 ابن الحاج حسین الکازرونی بن الحاج محمد تقی بن الحاج احمد الکازرونی.

بیت الدبیسی

ذریة ملا سلمان بن داوود- صاحب الوقف المعروف. من فخذ المصالحة من بنی تمیم. عشیرة ملا حماد الدبیسی بن ملا سلمان- رئیس بلدیة الکاظمیة المتوفی سنة 1919 م.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 139

بیت دروش

من الحمدانیین، من ربیعة.

بیت الدهوی

عشیرة الشاعر صالح الدهوی بن مهدی بن الحاج لطیف الدهوی.
و منهم الحاج عبد النبی الدهوی بن الحاج ابراهیم الدهوی المتوفی سنة 1926 م و منهم بیت دخیل؛ اسرة عبد الغنی بن حسن بن دخیل. و هم من عبید.

بیت رزوقی

عشیرة الحاج عبد الحسین؛ المتوفی قبیل الاحتلال؛ ابن الحاج رزوقی؛ المتوفی نحو سنة 1305 ه بن درویش بن موسی؛ من ربیعة.

بیت زینی

ذریة الشیخ احمد الزینی، اخی الشیخ علی الزینی؛ اللذین هاجرا من صیدا إلی بغداد، فی زمن أحمد باشا الجزار. و توطن الشیخ احمد الکاظمیة، و اقام الشیخ علی بالنجف.

بیت سریع

القصابون؛ فی الکاظمیة؛ ذریة علی سریع بن الحاج حسین بن قدری- جدّ بیت القدری- بن محمد بن قاسم خان، من السمیلات، من ربیعة.
هاجر جدهم قاسم خان الی الکاظمیة. و من کبارهم عبد علی بن الحاج محمد بن علی سریع. و الیهم ینسب خان سریع فی محلة ام النومی بالکاظمیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 140

بیت السعدی

اسرة جعفر عمران السعدی؛ و هو ابن عمران بن عیسی بن الشیخ هانی؛ المتوفی سنة 1310 ه؛ ابن الشیخ مهدی بن الحاج عمران السعدی، من بنی سعد.

بیت السعید- 1-

اسرة الدکتور نعمت عبد الحمید السعید، و هو ابن عبد الحمید بن الحاج هادی بن الحاج سعید بن علی. من عبده من الحجاز.

بیت السعید- 2-

اسرة الدکتور صادق مهدی السعید ؛ من البو عزّام، من الدلیم، و هم ذریة الحاج سعیّد بن محمد بن یونس بن طعمه بن سلمان بن عبد اللّه ابن عباس بن علی بن عزام.
هاجر جدهم عبد اللّه إلی الکاظمیة فی زمن عثمان چق، و کان ابوه عباس فی نهر ابو صدیره، فوق الصگلاویة، بالقرب من الفلوجه.

بیت السلطان

فخذ الشیخین؛ الشیخ محمد السلطان؛ المتوفی سنة 1958، و الشیخ حاتم السلطان المتوفی سنة 1965؛ من رؤساء تمیم. و هما ابنا سلطان بن محمد بن وهب بن حاچم بن سلطان بن محمد بن وهب بن حاچم، بحسب روایة السیدة الاعرجیة زوجة الشیخ حاتم السلطان کما کان یحفظّ ابنها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 141
و السلسلة علی روایة الشیخ محمد بن الشیخ حاتم السلطان؛ هکذا:
سلطان بن محمد بن وهب بن سلطان بن حاچم بن سلطان بن نهار. و هم من البونهار، من الطجاج؛ من بنی دارم بن حنظلة بن مالک بن زید مناة بن تمیم.

بیت سهیل

رؤساء تمیم- الآن- اولاد سهیل؛ المتوفی سنة 1921، بن نجم بن سهیل بن عبید بن سبهان بن صناع بن (زینی) بن عویّد (بن الحاج حسن) من فخذ المصالحة من بنی منقر بن عبید بن مقاعس بن عمرو بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم؛ و ینتسبون الی الحسن بن العباس بن الأحنف المنقری. و هم الشیخ حسین، المتوفی سنة 1946، و الشیخ الحاج حسن، المتوفی سنة 1957، و الشیخ علی المتوفی سنة 1962، و الشیخ محمد باقر المولود سنة 1321 ه .
الحاج حسن السهیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 142

بیت شالچی موسی

بیت الشالچی؛ عشیرة الحاج محمد عیسی چلبی بن الحاج محمد امین چلبی شالچی موسی زاده بن الحاج موسی، المعروف بشالچی موسی البغدادی؛ نسبة إلی بیع «شال ترمه». و هم من بیوتات التجارة و الأدب فی الکاظمیة و بغداد. و تنتهی أنسابهم إلی قبیلة زبید.

بیت الشامی

اسرة المقری‌ء المجوّد الصالح المتعبد الحاج الشیخ عباس البقال الشامی، ابن علی بن حسن بن حسین بن شامی؛ الشامی.

بیت شکیب

اولاد محمد هاشم بن الحاج محمد علی بن اسماعیل بن خلیل بن اسماعیل؛ سکن جدّهم الحاج محمد علی الکاظمیة؛ فی اواخر العشر التاسع من القرن الثالث عشر الهجری.

بیت الشماع

ذریة الحاج عبد الحسین الشماع المتوفی سنة 1956 والد محمد الشماع، ابن الحاج صادق الشماع، و بنو عمومته؛ من ذراری الحاج عبد الخالق ابن الحاج ابراهیم الحضیری التمیمی.
هاجر والدهم الحاج عبد الحسین إلی الکاظمیة بعد الحرب الأولی، نحو سنة 1923.

بیت شندی

ذریة درویش شندی؛ من العزّة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 143

بیت الصرّاف

اسرة الحاج حسین الصراف ، المتوفی سنة 1946؛ ابن الحاج ابراهیم ابن الحاج محمد جواد. و منهم عبد علی الصراف بن حسن بن الحاج ابراهیم ابن الحاج محمد جواد الصراف.
و هم، من البوسلمان الکبار، من شمّر الشمال.

بیت الصفار

اسرة الحاج عبد الرسول علی؛ الصفار رئیس غرفة تجارة بغداد السابق.

الحاج حسین الصراف

بیت صویلح

اسرة سعید بن جواد بن کاظم بن صالح- جدّ بیت صویلح- من الکراکله؛ الکرکوکیین.

بیت العبد

ذریة عبد بن علی بن حسین بن عبد اللّه- جدّ بیت العبد- بن علیوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 144
ابن حسن بن ناصر، من المحامده، من الدلیم. و کانوا یسمون بیت حسین العبد اللّه.

بیت عبد الغنی

اسرة الدکتور باقر عبد الغنی . و هو ابن عبد الغنی؛ المتوفی سنة 1963، ابن الحاج مهدی، المتوفی سنة 1947، ابن الحاج صالح بن حسین بن محمد؛ من الحرباویین فی بلد. سکنوا الکاظمیة سنة 1960.

بیت الشیخ عبود

ذریة الشیخ القاری الخطیب؛ الشیخ عبود؛ المتوفی سنة 1326 ه، ابن الشیخ درویش بن الشیخ ابراهیم الکعبی، الکاظمی. و منهم؛ بیت الخیاط.

بیت عبیده

ذریة اسماعیل، و محمد جواد؛ ابنی الحاج محمد- صاحب الوقف المؤرخ فی سنة 1246 و 1252 ه؛ المتوفی فی حدود سنة 1272 ه ابن الحاج عبد اللّه بن عبیدة الدبّاغ من طیّ‌ء.
کان عبیدة یتوطن الجزیرة، فی ناحیة السید محمد بالقرب من بلد.
و من اعیانهم الحاج حمودی عبیده، المتوفی سنة 1937 ابن صالح بن اسماعیل بن الحاج محمد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 145

بیت عسکر

اسرة عبد الوهاب عسکر، الذی ینتسب إلی بنی شیبان من بنی عنزة ابن اسد بن ربیعة بن نزار بن معد بن عدنان.

بیت العطار- 2-

اسرة الدکتور حسن سعید العطار؛ و هو ابن الحاج سعید العطار بن الحاج حسن بن الحاج تقی بن الحاج معصوم؛ الکاظمی.

بیت العطّار- 3-

المتطببون العطّارون. ذریة الشیخ عبد الوهاب العطار؛ المتوفی سنة 1326 ه؛ ابن الشیخ راضی؛ المتوفی سنة 1299 بن ابراهیم بن الحاج محمد ابن عبد اللّه بن مال اللّه البنا بن مصلح. عشیرة الشیخ عبد الکریم العطار الکتبی؛ المتوفی سنة 1351 ه، بن الشیخ عبد الوهاب العطار.
و کانوا یعرفون ببیت الطابوقچی، فی محلة صبابیغ الآل ببغداد، و قد ورد الکاظمیة جدهم الشیخ راضی.

بیت عطیه

ذریة الحاج عطیة بن صالح دوش؛ من الخزاعل؛ و هو أول من سکن الکاظمیة من آبائهم.
(10)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 146

بیت العطیّة

اسرة الشاعر الحاج محمد جواد بن الحاج کاظم بن عطیة بن حسین الملقب ب (السکنة) بن صالح بن مهدی، من آل گمر، من کنانة

بیت العگیلی

العکیلات؛ من الخیلة. ذریة الشیخ عبد اللّه، ابو الخیل- الذی سکن الکاظمیة سنة 1265 ه-؛ من المصالیخ، من بنی عنزة بن اسد بن ربیعة ابن نزار بن معدّ بن عدنان. و الیهم تنسب محلة العگیلات فی الکاظمیة.
و من أفاضلهم الحاج عبد الکریم؛ المتوفی سنة 1958، بن موسی بن هادی ابن حسین بن عبد اللّه العگیلی .

بیت عید

اسرة الشاعر جمیل احمد الکاظمی ؛ ابن احمد بن ملا خضر رئیس بلدیة الکاظمیة سابقا- بن الحاج عباس بن عید بن بریسم بن سلمان؛ من البوغزلان من بنی عامر.

بیت الحاج غانم

ذریة الحاج غانم الدباغ؛ المتوفی سنة 1948، ابن سلمان ابو اصبع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 147
الدباغ بن الحاج عیسی السمین بن صالح بن مهدی بن اسعد بن حسن بن حمود بن عواد بن لکال بن غزال بن عدی؛ الذی ینتهی نسبه إلی حسن باشا السلمان الخزاعلی؛ من الخزاعل.

بیت الغبّان

اسرة ابراهیم بن الحاج محمود بن الحاج کاظم الغبان، من زبید.

بیت الغریباوی

اسرة الحاج عبود الغریباوی؛ المتوفی سنة 1951 بن الحاج مرهون ابن الحاج صالح بن الحاج علاوی؛ الغریباوی، اصلهم من النعمانیة؛ بنی کلاب.

بیت قادریه

اولاد رشید بن درویش المزیّن بن عبد الحسین بن أمین؛ المعامیر؛ من عبید.

بیت القشدار

اولاد ابراهیم بن حمید بن الحاج حبیب «جدّ بیت القشدار» بن أحمد ابن فیاض. و یسمّون- الآن- بیت البیّاع.

بیت القصاب

اسرة الحاج عبد الباقی القصاب؛ المتوفی سنة 1950، ابن دروش ابن محمود بن عبد النبی، من بیت الأجرب، من طیّ‌ء.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 148

بیت القطیفی

و هم ذریة الحاج عبد اللّه القطیفی؛ المتوفی سنة 1361 ه؛ ابن حسن ابن فارس؛ من آل فارس. و یسمّون فی القطیف بیت بن فارس. و منهم الدکتور عبد الحسین القطیفی .

بیت الحاج قنبر

اسرة الشیخ محمد؛ المتوفی سنة 1314 ه، ابن الحاج قنبر بن عبد کور علی الکاظمی؛ المدنی.

بیت الکاظمی فی الکویت- 3-

و هم من بیت أبو اللحم فی الکاظمیة. و بیت ابو اللحم من البوطباخ؛ فی بلدة الدجیل، بالقرب من مدینة بلد، فی طریق سامراء.
رحلوا إلی الکاظمیة فی إحدی الهجرتین؛ و کل الظن ان ذلک کان فی الهجرة الثانیة.
ابان الطاعون الکبیر المعروف بطاعون گیر، سنة 1246 ه.
و هم من بنی سلامة السلامیین؛ الذین یلحقون فی الدجیل بالخزرج، و یعدّدون آباءهم إلی جابر بن عبد اللّه الأنصاری؛ الحاج زید الکاظمی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 149
صاحب رسول اللّه (ص). و إلیهم تنسب خرائب بنی سلامة جنوبیّ الدجیل. و ینتسب بنو عمهم؛ البوغنام، فی الرارنجیة؛ الذین یسمّون هنالک بالسلامات، إلی قبیلة شمّر. و هو الذی رواه بعض وجوه الکاظمیة عن الحاج عبد الحسین الکاظمی والد الحاج زید الکاظمی.
و ینتسب فریق من السلامیین إلی زبید. و تنتهی هذه الأصول کلها- علی کل حال- إلی قحطان.

بیت الکاظمی فی الکویت

و من بیت ابو اللحم- الکاظمیین هؤلاء- فی الکویت؛ بیت الکاظمی؛ اسرة الحاج زید الکاظمی التاجر النائب، و إخوته .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 150
هاجر جدهم حسن المقتول فی القطیف اغتیالا- و هو ابن محمد جواد ابو اللحم لقد هاجر فی زمان العثمانیین إلی الکویت و استوطنها. و کان من تجار التبغ. و هو والد الحاج عبد الحسین الکاظمی، وجد الحاج زید ابن الحاج عبد الحسین بن حسن بن محمد جواد ابو اللحم.
و بیت الکاظمی اقارب بیت ابو اللحم فی الکاظمیة الذی منهم- الحاج حسین أبو اللحم- المتوفی سنة 1956 ه- بن عبود بن کاظم بن جودی بن کاظم ابن عباس.

بیت الکاظمی فی البصرة- 4-

و هم ذراری مهدی، و سلمان، و علوان، و أمین؛ أولاد حسّون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 151
شجرة السلامیّین فی الکاظمیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 152
نجمه. هاجروا إلی البصرة، فی حدود سنة 1870. و هم فخذ من بنی سلامة، السلامیین. و ینتسبون إلی شمّر.

بیت الکاظمی- 5-

اسرة ملّا حسن للکاظمی الشاعر العامی المعروف؛ ابن محمد بن الحاج حسین بن علّو بن خلف الکاظمی؛ من عشیرة الکرخیة، من الشمیسات، من قیس.

بیت مؤید

اسرة الدکتور عبد القادر بن عبد اللطیف بن الحاج علی بن عبد الکریم ابن محمد جعفر بن عبد الکریم بن الحاج مؤید.

بیت المتهجّد

ذریة الشیخ محمد رضا المعلم المجوّد المکتب؛ المتوفی سنة 1381 ه، ابن الحاج علی المتجهد اللاری، الکاظمی.

بیت المحلّاتی

اسرة الشیخ سیفی المحلاتی، المتوفی سنة 1334 ه.

بیت الحاج محمد

ذریة الحاج محمد بن عبد النبی، من البغادیّ، من افخاذ شمرطوگه.

بیت المزیّن

اسرة استا امین المزیّن الجرّاح المطهر؛ المتوفی فی ربیع سنة 1939، ابن الحاج سعید بن ملا حیدر، من جشعم، بنو عم بیت النیار.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 153

بیت المشاط

اسرة الحاج عبد الواحد المشاط، المتوفی نحو سنة 1937؛ ابن الحاج علی اکبر الشیرازی المشاط ثم التاجر، ابن الحاج حسن الملقب پنیر، و یدعی بعضهم- الآن- بالواحدی .

بیت معطوش

اسرة الدکتور علی عبد الحسین الحاج راضی من البوسلطان، من زبید.

بیت الملائکة

ذریة عبد الرزاق بن الحاج علی بن الحاج محمد بن عبد الهادی بن الحاج درویش. و ینتسبون إلی اللخمیین.
و منهم بیت الشالچی؛ الحاج علی بن اسماعیل بن الحاج محمد؛ نسبة إلی صنعة أخیه الحاج عبد الکریم؛ صناعة الشال؛ القماش المعروف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 154

بیت الکظماوی فی قلعة سکر

فی قلعة سکر. و یسمّون «الکواظمة» و یدعون حالیا «بیت الکاظمی» ترکوا الکاظمیة فی اواخر العشر الثالث من القرن الرابع عشر. و هم ذراری الحاج حسون الکظماوی، و الحاج جواد الکظماوی.

بیت الکظماوی فی الدیوانیة

اسرة عباس کظماوی؛ الشاعر العامی؛ المتوفی سنة 1954؛ ابن عبود بن خضیر بن عواد.

بیت کنعان

ذریة الحاج عبد علی کنعان؛ من عشیرة حمد الحمود؛ المتوفی سنة 1191 ه؛ من الخزاعل، و إلیهم تنسب الکنعانیة فی الکاظمیة.

بیت گصید

من الخزرج.

بیت گلاوی

ذریة الحاج جاسم بن محمد بن درویش بن جعفر بن مرهون بن محمد صاحب الوقفیة المؤرخة فی سنة 1227 ه- بن سعید گلاوی؛ من بنی سعد. و یدعون الیوم بیت الدباس، و کانوا یلقبون بیت البزرچی.

بیت لیلو

من البو حاجی صالح؛ من الچلبیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 155

بیت المنذری

ذریة الشیخ محمد رضا، المتوفی سنة 1243 ه- جدّ بیت الشیخ خلف رئیس بلدیة الکاظمیة و معمارها، المتوفی سنة 1285 ه- ابن الحاج حمزة بن الحاج درویش بن الحاج محمد رضا بن الحاج عبد اللّه؛ اللخمی:
هاجر سلافهم إلی الکاظمیة فی سنة 700 ه. و کانوا یتوطنون الحیرة.
و الحاج حمزة، هو اخو عبد الهادی؛ جد بیت الملائکة فی الکاظمیة، و بغداد.

بیت المنشی

اسرة الدکتورین؟ جواد علی، و وصفی محمد علی؛ ابنی الحاج محمد علی المنشی؛ المتوفی سنة 1938 بن محمد حسین بن قاسم؛ من عگیل.

بیت الحاج مهدی

من رؤساء الانباریین و وجوههم فی الکاظمیة؛ اسرة الحاج شهاب، المتوفی سنة 1942. ابن الحاج احمد بن الحاج مهدی بن صالح بن سلطان، الأنباری.

بیت موسی راضی

من بنی عامر.

بیت مومن علی

ذریة الحاج بمانعلی؛ المتوفی سنة 1388 ه؛ بن عبد الخالق مصلح الیزدی، مؤسس الحسینیة المعروفة تجاه باب القبلة للحضرة الکاظمیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 156

بیت النجار- 1-

اسرة الحاج محمد علی النجار بن الشیخ جعفر.

بیت النجار- 2-

اولاد الشاعر محمد علی النجار الکوتی الشاعر المعاصر؛ نزیل الکاظمیة سنة 1938؛ ابن عرار بن عباس بن خمیس بن سعید بن محمد بن عبد اللّه ابن محمد بن سعید بن محمد بن گمر، من طی‌ء.

بیت النداف

عشیرة الحاج عبد الجلیل؛ النداف الشاعر العامی؛ المتوفی سنة 1386 ه؛ أولاد أخیه عبد الرضا بن الحاج سعید النداف بن حسن بن نعمة بن حیدر ابن عبد الکریم. من الأنصار. و بنو عمومتهم و أقاربهم.

بیت النقیب

عشیرة الشیخ جواد المعلم المقری‌ء المجوّد المکتب؛ المتوفی سنة 1387 ه؛ ابن الشیخ محمد سعید المعلم المجوّد المکتب؛ المتوفی سنة 1353 ه ابن الشیخ کاظم الهنوزی الکاتب المقری‌ء المکتب بن الشیخ جواد النقیب، أغاولی؛ من آل خطی؛ من بنی تمیم. و بقیتهم- الآن- أولاد صالح المزیّن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 157

بیت النعلبند

و یکتفی اولاد الحاج باقر النعلبند حالیا بالانتساب الی والدهم باقر و هم من خفاجة.
و منهم الدکتور فرحان باقر .

بیت النعمه

ذریة عبد الجلیل بن الحاج نعمة، ینتسبون إلی ربیعة.
الدکتور فرحان باقر

بیت نگو

اسرة الحاج سعید نگو- بائع الرزّ الشاعر- ابن داود بن جمعة بن مرتضی؛ من ربیعة.

بیت النّواب

ذریة محمد ابراهیم النواب المعروف بأغا ابراهیم؛ المتوفی سنة 1325 ه؛ ابن میرزا محمد حسین النواب؛ المتوفی سنة 1305 ه. من ولد خادم سبط النبی غلام محمد علی خان افسر الدولة النواب.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 158
و الیهم تنسب محلة النواب فی الکاظمیة، التی افتتح شارعها و اسست فی صیف سنة 1935.

بیت هادی

اسرة ملا سلمان بن حسین بن حسن بن هادی؛ من آل گعید، من آل سلیمان، الأنباری. هاجر گعید من الأنبار إلی الکاظمیة، مع بنی عمهم سائر الأنباریین.

بیت الهلالی

ذریة الحاج محمد علی الهلالی البزاز؛ ابن الحاج محمد الهلالی العطّار؛ ابن ابراهیم الهلالی المتطبب بن سلمان الهلالی بن نافع الهلالی، من بنی هلال.
و هم عشیرة امین الهلالی بن الحاج محمد علی الهلالی ، و الدکتور صادق الهلالی بن عبد المهدی بن الحاج محمد علی؛ المذکور.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 159

العشائر

یسکن ضاحیة الهبنة؛ بیت السرحان، و بیت شریف، و بیت الضایع، و المساره، و الهبنة.
و یقیم بالقرب من التاجی؛ البحیات، و الجبور، و الجمیلة، و البو عبید من الدلیم، و الفلاحات کذلک، و النداوات.
و کان فی ضاحیة البطة- یمنة محلة النواب؛ البطة من زبید؛ و أفخاذهم:
البو دوار- و منهم البودباش- و البو سندال، و البو سویچن، و الشلش، و البو عبید، و عویص، و همیّم.
و فی ضاحیة الچکوک مساکن الچکوک، و هم ألفاف؛ منهم: الجبور، و الفلاحات، و المساره، و البو مفرج، و البو هیازع.
و قرب الکاظمیة- أیضا- العگیدات، و المشاهدة.
أما المشاهدة؛ فهم ینتسبون إلی السید شمس الدین بن زامل بن غیث ابن زین الدین بن علی بن فارس بن ثابت بن مسلم بن أبی بکر بن ابراهیم بن أبی بکر بن ابراهیم بن اسماعیل بن جعفر بن اسماعیل بن یعقوب بن عبد اللّه ابن محمد بن علی بن جعفر بن علی الهادی بن محمد الجواد بن علی الرضا بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زین العابدین علی بن الحسین ابن علی بن أبی طالب (ع).
و من افخاذهم؛ البو ظاهر، و البو ابراهیم، و البو یاسین و البو عثمان،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 160
و البو یونس، و البو یوسف، و البو شیت، و البو صالح، و البو عمار، و البو علی، و البو عون الدین، و البو بکر، و البو تاج الدین، و البو کمولی، و البو حجازی، و البو مشیهد، و المطاردة، و البو سحاب، و البو عفان، و السعیدة، و البو هرموش، و البو لطیف، و البو شبلی.

بنو تمیم

و یحیط بالکاظمیة بنو تمیم، من أکبر قواعد العرب. و هم بنو تمیم ابن مر بنی اد بن طابخة بن الیاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. و هم فریقان:
(1) بنو منقر بن عبید بن مقاعس بن عمرو بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم. و هم؛ المصالحة، و البو حسن و البو حسان، و البو حمد، و العوینات، و الگواید.
(2) بنو دارم بن حنظلة بن مالک بن زید مناة بن تمیم؛ و هم سائر بنی تمیم.
و بنو تمیم فی الهور- هور عگرگوف- أربعة أقسام: المصالحة، الطجاج، و الخضیرات، و الگواید.

المصالحه

و من فروعهم:
البو طعمه- و منهم؛ البو سهیل (الشیوخ)، و البو شبیب، و البو زینی، و البو ریشه، و البو تاجی.
البو صبره- و منهم؛ بیت معیدی، و بیت خلف الصالح، و الزجالبه و البو حدادی، و المرامطة، و البو داود.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 161
البو حمد- و منهم؛ الزعیلات، و البو هویدی، و البو مهیدی، و البو علاوی و الخوینات، و البو علوش، و البو عگله.
العیایشة- و منهم؛ البو دریش، و البو کاظم الحبیب، و البو أسود، و البو محمد الحبیب، و البو علیوی العواد.
الشهابات- و منهم؛ الحلوین، و البو کاظم المحمد، و العفوش، و البو بیدر «البیادره»، و البو عواد، و البو وزیّر.
المراعیص- و هم فرع من البو صبره.
النصیف-
الرباگات- و هم من ربیعة.

الطجاج

و من فروعهم:
البونهار- و منهم؛ البو وهب، و البو خان، و البو حاچم، و البو گج، و البو عساف و البو محمد- و منهم؛ العساچرة، و البو علی، و البو یعگوب، و البو داود، و البو بعیّر.
الگصاعمه- و منهم؛ البو کاظم، و البو حیمد، و البو موله، و ألبودرّ، و البو ردینی، و البو عرّ.
البودده.-

الخضیرات

و من فروعهم:
البو بلال- و منهم؛ آل زگم، و البو ضامن، و بیت حطاب.
(11)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 162
البو عبد العالی- و منهم؛ بیت حمور، و هاوش و حسن الجایف.
العویسات- و منهم؛ البو شراد، و البو علی الجاسم.
البو وحیّد- و منهم؛ البو حبیب، و البو چاین، و البو علّو.

الگواید

و من فروعهم:
البو فرهود- و منهم؛ البو علی الجاسم، و البو عبد اللّه.
البو خلف- و منهم؛ البو علی الخلف، و البو ابراهیم، و البو عبد اللّه.
البو سعیده- و منهم؛ البو ضبعان، و الباشات، و البو عزاوی، البو جعیفص-
البو شرف-
البو عبّود-
البو خیلان- و منهم؛ البو علوان الشفلّح.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 163

الفهارس فهرس اسماء الاعلام و الأسر و البیوتات و القبائل

- آ-
آغا بزرک: 111.
آل جمال الدین: 78.
آل الچوخچی: 132.
آل عدّاد: 83.
آل حسین البوحیة: 132.
آل حمد البوحیة: 132.
آل داود: 93.
آل زینی: 64.
آل ساسان: 31.
آل شرف الدین: 74، 101.
آل شمس الدین: 137.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 164
ابراهیم ابو یوسف: 128.
ابراهیم بن حمید: 147.
ابراهیم بن محمد الجزائری: 84.
ابراهیم بن محمود الغبان: 147.
ابراهیم نعش: 126.
ابراهیم بن یحیی: 35.
ابن الصباغ المالکی: 47.
ابن الفقیه: 31.
ابن منظور: 7.
ابن یقطین: 57.
ابو ذر الغفاری: 81، 82، 123. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-2 ؛ ص164
و الفرج الاصفهانی: 48.
ابو القاسم الکاشانی: 104، 106.
ابو نواس: 41.
ابو یوسف: 128.
احمد باشا الجزار: 115، 139.
احمد الچلبی: 136.
احمد بن حنبل: 36.
أحمد رضا بن خورشید: 116.
احمد الرضوی الهندی: 118.
احمد الزینی: 139.
احمد بن محمد البحرانی: 82.
احمد بن محمد علی البلاغی: 83.
احمد بن الناقد: 33.
اسد اللّه الانصاری: 80.
الاسر الحسنیة:
الأسر الحسینیة: 65.
الأسر الموسویة: 71.
اسماعیل بن صدر الدین محمد: 101.
اسماعیل بن محمد عبیدة: 144.
الأعرجیة: 140.
ام نزار الملائکة: 153.
أمین بن حسّون الکاظمی: 150.
أمین خالص: 104.
أمین المزیّن: 152.
أمین الهلالی: 158.
الانصاری و هوه: 102.
الانباریون: 130.
اولاد صالح المزین: 156.
ایاز: 52.
- ب-
باقر الحسنی البلاط: 123.
باقر عبد الغنی: 144.
باقر النعلبند: 157.
باقر الهندی: 118.
البحیّات: 159.
البطّة، من زبید: 159.
بمانعلی بن عبد الخالق: 155.
بنو أسد: 81.
بنو تمیم: 160.
بنو دارم: 160.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 165
بنو سلامة: 148، 149.
بنو شیبة: 128.
بنو عامر: 155.
بنو لخم: 9.
بنو مطاعن بن ادریس: 64.
بنو منقر بن عبید: 160.
بهادر بن محمد رضا خان: 75.
بهیجة الحسنی: 126.
البو ابراهیم: 159.
البو بکر: 131، 160.
البو تاج الدین: 160.
البو تاجی: 160.
البو حجازی: 160.
البو حداری: 160.
البو حسّان: 160.
البو حسن: 160.
البو حمد: 160.
البو حیة: 132.
البو داود: 160.
البو دباش: 159.
البو دوار: 159.
البو ریشة: 160.
البو زینی: 160.
البو سحاب: 160.
البو سلمان: 143.
البو سندال: 159.
البو سهیل: 160.
البو سویچن: 159.
البو شبلی: 160.
البو شبیب: 160.
البو شیت: 160.
البو صالح: 154، 160.
البو صبرة: 160.
البو طعمة: 160.
البو ظاهر: 159.
البو عبید: 131، 159.
البو عثمان: 159.
البو عفان: 160.
البو علی: 160.
البو عمار: 160.
البو عو الدین: 160.
البو غزلان: 146.
البو غنام: 149.
البو فضیلة: 66.
البو فلاح: 149.
البو قاسم: 137.
البو کمولی: 160.
البو لطیف: 160.
البو مال اللّه: 131.
البو مسار: 149.
البو مشیهد: 160.
البو مفرج: 159.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 166
البو نهار: 131.
البو هرموش: 160.
البو هیازع: 159.
البو یاسین: 159.
البو یوسف: 160.
البو یونس: 160.
بیت آغائی: 130.
بیت آغا میر السندی: 70.
بیت آغا میر العطار: 71.
بیت ابو الحب: 65، 66.
بیت ابو الدهن: 131.
بیت ابو الرک: 128.
بیت ابو الشعر: 65.
بیت ابو العیس: 121.
بیت ابو القاسم: 76.
بیت ابو اللحم: 129، 148.
بیت ابو الکبة: 76.
بیت ابو الملح: 65.
بیت ابو نرگیلة: 63، 121.
بیت ابو النشة: 65، 66.
بیت ابو الورد: 65، 66، 78.
بیت ابو یوسف: 128.
بیت الأجرب: 147.
بیت الأحمر: 78، 93.
بیت الأحول: 71، 72.
بیت الاخباری: 78.
بیت الأزری: 79.
بیت الاسترابادی: 129.
بیت اسد اللّه: 80.
بیت الأسدی: 80.
بیت الأسود: 130.
بیت الأصفر: 131.
بیت الاصفهانی: 71، 72، 76.
بیت الأعسم: 82.
بیت الأعرجی: 65، 68.
بیت الأغبر: 132.
بیت الأقچم: 132.
بیت الأنصاری: 131.
بیت بادی: 131.
بیت بارود: 132.
بیت البایر: 131.
بیت البحرانی: 82.
بیت بحر العلوم: 64.
بیت بربن: 131.
بیت برهم: 131.
بیت البزرجی: 154.
بیت البزاز: 65، 68.
بیت بزون: 71.
بیت البصیر: 65.
بیت البغدادی: 82.
بیت بکتاش: 131.
بیت البلاط: 62.
بیت البلاغی: 83.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 167
بیت بلیبل: 121.
بیت بلیل: 77.
بیت البنّا: 132.
بیت بهاء الدین: 63، 121.
بیت البوخطة: 66.
بیت پوست فروش: 109.
بیت البیر: 65، 133.
بیت البیّاع: 65، 71، 147.
بیت التاجر: 65، 66.
بیت التبریزی: 66.
بیت تفاحة: 131.
بیت ثریا: 132.
بیت جابر: 65، 68، 71.
بیت میر جبار: 65.
بیت الچراغچی: 63، 123.
بیت جرموکة: 83.
بیت جروه: 131.
بیت جریو: 66.
بیت الجزائری: 83.
بیت جشعم: 133.
بیت الجصانی: 84.
بیت جعفر: 72.
بیت جلال: 133.
بیت الچلبی: 134، 136.
بیت الجمالی: 121، 128.
بیت جواد: 132.
بیت الجواهری: 133.
بیت الچوخچی: 123.
بیت جوطه: 163، 123.
بیت جوید: 131.
بیت الجیلاوی: 134.
بیت حباشة: 131.
بیت الحجی: 137.
بیت الحجیجی: 85، 136.
بیت الحجیة: 136.
بیت الحریری: 137.
بیت حسن جنی: 65، 66.
بیت الحسنی: 63، 123.
بیت حسّونة: 137.
بیت الحسینی: 86.
بیت حسین العبد اللّه: 144.
بیت الحکاک: 76.
بیت الحکیم: 64، 65، 70.
بیت الحکیم او بیت العلوی: 76.
بیت الحلبی: 137.
بیت الخلیلی: 138.
بیت حمد: 132.
بیت حمره: 131.
بیت حمزة: 128.
بیت حموری: 138.
بیت حیدر بن ابراهیم: 63، 64.
بیت عیس: 131.
بیت الحیدری: 86.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 168
بیت خادم الجدید: 63، 123.
بیت الخالصی: 90.
بیت الخانچی: 65.
بیت الخراسانی: 93.
بیت الخرده فروش: 71.
بیت خردو: 131.
بیت خضیر: 65، 70.
بیت خلف الصالح: 160.
بیت خلیفة: 131.
بیت خندوجة: 131.
بیت الخیاط: 144.
بیت دارا: 138.
بیت دامنی: 131.
بیت الدباس: 154.
بیت الدباغ: 131.
بیت دبشة: 63، 123.
بیت الدبیسی: 138-
بیت دروش: 71، 72، 139.
بیت دریوش: 131.
بیت الدلّی: 131.
بیت ریو: 131.
بیت الدهوی: 139.
بیت السید راضی: 65، 68.
بیت میرزا ربیع: 76.
بیت رزوقی: 139.
بیت الرشتی: 71، 72، 94.
بیت رمضان: 131.
بیت زلزله: 64.
بیت الزنجانی: 94.
بیت زواید: 65، 68.
بیت زوله: 131.
بیت زین العابدین: 94.
بیت الزینی: 95.
بیت الساعاتی: 71.
بیت الساعچی: 123، 128.
بیت السبزواری: 65، 96.
بیت السبیتی: 95.
بیت السرحان: 159.
بیت السرکشک: 63، 123.
بیت سریع: 131، 139.
بیت السید سعد: 65، 124.
بیت سعدون: 131.
بیت السعدی: 140.
بیت سعود: 131.
بیت السعید: 140.
بیت سید سعید: 63.
بیت سعیّد: 132.
بیت السلطان: 132، 140.
بیت السلماسی: 96.
بیت السلمان: 131.
بیت سلمان بیبی: 76.
بیت السلامی: 83.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 169
بیت سلوم: 131.
بیت السمیلی: 131.
بیت السندی: 71.
بیت سهیل: 141.
بیت الشالچی: 153.
بیت الشالچی موسی: 142.
بیت الشامی: 142.
بیت الشانه ساز: 71.
بیت شاه: 131.
بیت شبّر: 65، 68، 96.
بیت الشبیبی: 97.
بیت الشیخ حسین: 85.
بیت شدید: 65، 66، 97.
بیت شرف الدین: 71.
بیت شرموط: 131.
بیت شریف: 159.
بیت شطیط: 101.
بیت الشعرباف: 66.
بیت شقافی: 71، 125، 128.
بیت شکارة: 68.
بیت شکر: 63، 125.
بیت شکیب: 142.
بیت الشماع: 65، 125، 142.
بیت شندی: 142.
بیت الشهرستانی: 65، 69، 101.
بیت الشوک: 65، 66.
بیت شوله: 68.
بیت الصابونی: 71، 125.
بیت الصافی: 63، 125.
بیت الحاج صالح: 136.
بیت الصدر: 71، 74، 101.
بیت الصراف: 63، 65، 68، 143.
بیت صگر: 132.
بیت صنگور: 131.
بیت صورین: 131.
بیت الصولی: 65، 70.
بیت صویلح: 143.
بیت الضایع: 159.
بیت الطابوقچی: 145.
بیت طه: 65، 76، 125.
بیت طرازه: 63.
بیت طیطو: 131.
بیت العاملی: 65، 70، 71، 74، 103.
بیت عام: 131.
بیت عبد: 146.
بیت العبد: 143.
بیت عبدی: 131.
بیت الحاج عبد الحسن: 131.
بیت عبد الحاج فاضل: 131.
بیت عبد الغفار: 103.
بیت عبد الغنی: 144.
بیت عبد اللطیف: 125، 128.
بیت عبد النبی: 103.
بیت عبل: 131.
بیت عبود: 144.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 170
بیت عبودی: 131.
بیت عبیدة: 144.
بیت عجاج: 131.
بیت عجم: 131.
بیت عدوله: 131.
بیت عسکر: 145.
بیت العسکری: 99.
بیت العطار: 65، 145.
بیت عطیفة: 63، 103، 125.
بیت عطیة: 145.
بیت العطیة: 146.
بیت عکله: 132.
بیت العکلبی: 146.
بیت علو بن عباس: 74.
بیت العلو: 131.
بیت العلوی: 65.
بیت علاوی: 131، 132.
بیت علی آغا: 131.
بیت علی الچلبی: 136.
بیت العلیوی: 132.
بیت عمران: 131.
بیت الغاضری: 78.
بیت الحاج غانم: 146.
بیت الغبان: 147.
بیت غدیر: 131.
بیت الغریباوی: 147.
بیت الغریفی: 71.
بیت غضیب: 132.
بیت ابن فارس: 148.
بیت فتاح: 132.
بیت الفتال: 65، 70.
بیت فدعم: 131.
بیت فضل: 65، 68.
بیت فلیح: 65، 66، 131، 132.
بیت القابچی: 103.
بیت قادریه: 147.
بیت قاسم خان:
بیت قاو: 131.
بیت القزوینی: 65.
بیت القشدار: 147.
بیت القصاب: 147.
بیت سادة القطانة: 71.
بیت القطیفی: 148.
بیت الحاج قنبر: 148.
بیت قندیل: 104.
بیت قوزی: 131.
بیت الکاتب: 128.
بیت الکاشانی: 104.
بیت الکاشی: 65.
بیت الحاج کاظم: 107.
بیت الکاظمی: 108، 148، 150، 151، 152.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 171
بیت کافی: 65، 68.
بیت کبه: 109.
بیت الکردی: 63، 125.
بیت الکرکی: 110.
بیت کرنوص: 131.
بیت کشکش: 63، 126.
بیت الکشوان: 63، 65، 71، 110، 126.
بیت گصید: 154.
بیت الکظماوی: 154.
بیت الکلیتدار: 123، 126، 128.
بیت کنعان: 154.
بیت کلاوی: 154.
بیت کوش: 136.
بیت لیلو: 136، 154.
بیت المتهجد: 152.
بیت المحامی: 63.
بیت السید محسن: 65، 68.
بیت محفوظ: 111.
بیت المحقق: 114.
بیت الحاج محمد: 152.
بیت الحاج محمد صالح: 128.
بیت المحلّاتی: 152.
بیت المدامغة: 65.
بیت مراد: 132.
بیت المرایاتی: 115.
بیت المرعشی: 66.
بیت مرگه: 125.
بیت المزیّن: 65، 66، 133، 152.
بیت المشاط: 71، 153.
بیت مشکور: 63، 126.
بیت المشکی: 65، 68.
بیت مشیرف: 64.
بیت مصطاف: 76.
بیت معطوش: 153.
بیت المعمار: 136.
بیت معیدی: 160.
بیت مغامس: 136.
بیت مقصود: 115.
بیت المنذری: 155.
بیت المنشی: 116، 155.
بیت الملائکة: 153.
بیت الحاج مهدی: 131، 155.
بیت مهیدی: 131.
بیت المؤذن: 126، 128.
بیت موسی راضی: 155.
بیت الموسوی: 71.
بیت الموسوی الهندی: 117.
بیت مومن علی: 155.
بیت مؤید: 152.
بیت النجار: 65، 68، 156.
بیت النجم: 132.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 172
بیت النداف: 156-
بیت نرکز: 131.
بیت نسلی: 126.
بیت نشعة: 131.
بیت نصر اللّه: 71، 75.
بیت نعش: 126.
بیت النعلبند: 157.
بیت النعمة: 157.
بیت نقدی: 116.
بیت النقیب: 156.
بیت نگو: 157.
بیت نمش: 131.
بیت النملة: 131.
بیت النوّاب: 71، 75، 157.
بیت النیص: 63، 126.
بیت النیّار: 133.
بیت هاوی: 131، 158.
بیت الهاشمی: 71.
بیت هجهج: 131.
بیت هدب: 132.
بیت هدّو: 65، 70.
بیت هراتة: 63.
بیت الهلال: 131.
بیت الهلالی: 158.
بیت الهمدانی: 76.
بیت الهندی: 71.
بیت هویدی: 131.
بیت الواعظ الخونساری: 71.
بیت داویة: 131.
بیت الورد، و الوردی: 78.
بیت وهاب: 126.
بیت ویّس: 71، 72، 131.
بیت یاسین: 117، 132.
بیت یاس: 131.
- ت-
تمیم: 141.
- ج-
جابر بن عبد اللّه الانصاری: 80، 83 148.
جابر الکاظمی: 79.
جاسم بن محمد کلاوی: 154.
الجبور: 159.
جرجی زیدان: 8، 9، 10، 25.
جعفر آل یاسین: 118.
جعفر الأعرجی: 107، 122، 123، 124.
جعفر بن الحسین التستری: 131.
جعفر الخلدی: 51.
جعفر الشرقی: 109.
جعفر عمران السعدی: 140.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 173
جعفر کاشف الغطاء: 102.
جعفر الکشوان: 126.
جعفر بن محمد النقدی: 116.
جعفر بن المنصور: 35، 37.
الجکوک: 159.
جمال الدین الجمالی: 128.
جمال الدین بن علی: 121.
جمیل أحمد الکاظمی: 146.
جمیل الملائکة: 153.
الجمیلة: 159.
الجنید: 51.
الجوادات: 84.
جواد بن أحمد: 84.
جواد الچلبی: 136.
جواد بن جعفر بن جواد: 127.
جواد الحسینی: 77.
جواد شبّر: 97.
جواد علی: 155.
جواد الکظماوی: 154.
جواد بن محمد سعید النقیب: 156.
جودی بن کاظم الدجیلی: 129.
- ح-
حاتم السلطان: 140.
حازم الچلبی: 136.
حرب: 82.
حسن الچلبی: 136.
حسن السلمان الخزاعلی: 147.
حسن بن سهیل: 141.
حسن الشیرازی: 109.
حسن الصدر: 79، 102، 103، 111 113.
الحسن بن العباس بن الأحنف: 141.
حسن سعید العطار: 145.
حسن الشیرازی (میرزا): 102.
الحسن بن علی (ع): 63.
حسن بن علی الجیلاوی: 134.
حسن الکاظمی (ملا): 152.
حسن بن محمد جواد ابو اللحم: 150
حسّون الکظماوی: 154.
حسین بن ابراهیم الصراف: 143.
حسین ابو اللحم: 150.
حسین الأزری: 79.
حسین بن رضا الهندی: 94.
حسین بن سهیل: 141.
حسین بن عبد الکریم الرشتی: 94.
الحسین بن علی (ع): 65. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-2 ؛ ص173
حسین بن علی الأحمر: 78.
حسین بن علی الجیلاوی: 134.
حسین بن علی الکرکی: 110.
حسین علی محفوظ: 59، 61، 113، 114.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 174
حسین بن کاظم بن الحاج عبد: 131.
حسین بن محمد البحرانی: 82.
حسین المشاط: 153.
حسین نجف: 113.
حمادی نوح الحلی (ملا): 117.
حمزة بن درویش: 155.
حمزة بن محمد بن طاهر: 32.
حمودی بن صالح عبیدة: 144.
حمید بن طالب: 127.
حمید معلم الکاظمیة: 123.
حیدر الحلی: 52.
حیدر بن ابراهیم العطار: 86.
- خ-
الخزاعل: 145.
الخزرج: 83.
الخضیرات: 160.
الخطیب البغدادی: 37، 38، 53.
خلیل بن علی: 138.
درویش شندی: 142.
- ر-
راشد افندی: 54.
راضی آل یاسین: 118.
راضی بن حسن الأعرجی: 81.
راضی بن محمد بن کاظم: 107.
رباب الکاظمی: 109.
الربیع بن عبد الرحمن: 42.
ربیعة: 83.
رشدی بن عبد الهادی الچلبی: 136.
رشید بن درویش: 147.
رضا بن رضا العاملی: 94.
رضا بن میر هاشم: 76.
رضا الهندی: 94، 118.
رویم: 51.
- ز-
الزجالیة: 160.
زبید: 149.
زبیدة: 45.
الزمخشری: 40.
زینب (السیدة): 116.
زید الکاظمی: 129، 148، 150.
- س-
سعید بن جواد صویلح: 143.
سعید بن محمد یونس: 140.
سعید نگو: 157.
السعیدة: 160.
سلطان بن قاسم بن علی: 72.
سلمان بن حسّون الکاظمی: 150.
سلمان بن حسین بن هادی: 158.
سلمان بن داود الدبیسی: 138.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 175
سلیم الاول العثمانی: 127.
سلیم بن عبد اللّه نعش: 126.
سلیمان ظاهر: 50، 55.
سمنون المحب: 51.
السندی بن شاهک: 46، 57.
السلامات: 149.
سهیل بن نجیم: 141.
سیفی المحلّاتی: 152.
- ش-
شبیب بن راضی الجزائری: 97.
الشریف الرضی: 53.
الشکرچیة (السادة): 76.
الشلش: 159.
شمر: 27.
شمس الدین بن زامی؟؟؟: 159.
شهاب بن أحمد بن مهدی: 155.
الشهید الأول: 137.
- ص-
صادق الباصی: 66.
صادق بن محسن الأعسم: 82.
صادق الملائکة: 153.
صادق الهلالی: 158.
صالح التمیمی الزینی: 95.
صالح شدید: 66، 97.
صالح بن محمد بن ابراهیم شرف الدین 74.
صالح بن مهدی بن أحمد: 74.
صالح بن مهدی الدهوی: 139.
صالح مهدی السعید: 140.
صالح بن مهدی الکشوان: 110.
الصبابیغ: 93.
صدر الدین العاملی: 79.
- ض-
ضیاء جعفر: 72.
- ط-
الطالقانیون: 70.
الطبرسی: 41.
الطجاج: 160.
الطوسی، نصیر الدین: 36.
- ع-
عائشة ام المؤمنین: 40.
عباس باقر: 157.
عباس البقال الشامی: 142.
عباس بن حسین الکرکی: 110.
عباس زواید: 68.
عباس شبر: 96، 99.
عباس العزاوی: 149.
عباس القمی: 102.
عباس بن کاظم الدجیلی: 129.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 176
عباس کظماوی: 154.
عباس بن محمد حسین الجصّانی: 84.
عبد بن علی العبد: 143.
عبد بن نجم الانصاری: 131.
عبد الأمیر العگیلی: 146.
عبد الباقی بن دروش القصاب: 147.
عبد الباقی الرشتی: 72.
عبد الباقی العمری: 42، 95.
عبد الجلیل النداف: 156.
عبد الجلیل بن الحاج نعمة: 157.
عبد الحسین آل یاسین: 118.
عبد الحسین الأزری: 78، 79.
عبد الحسین الچلبی: 134.
عبد الحسین بن جواد البغدادی: 82.
عبد الحسین بن رزوقی: 139.
عبد الحسین شرف الدین: 101.
عبد الحسین بن صادق الشماع: 142.
عبد الحسین القطیفی: 148.
عبد الحسین الکاظمی: 149، 150.
عبد الحسین بن محمد علی الأعسم: 82
عبد الحمید کبه: 110.
عبد الحمید الهلالی: 119.
عبد الخالق بن ابراهیم الحضیری: 142
عبد الرزاق بن علی الملائکة: 153.
عبد الرسول بن حمودی: 138.
عبد الرسول الخالصی: 91.
عبد الرسول علی الصفار: 143.
عبد العزیز بن حسین الخالصی: 90.
عبد العظیم عبد الشدید: 97.
عبد علی البنا: 132.
عبد علی بن حسن الصراف: 143.
عبد علی کنعان: 154.
عبد علی بن محمد سریع: 139.
عبد الغفار الأخرس: 42.
عبد القادر بن عبد اللطیف مؤید: 152.
عبد الکریم بن موسی العکیلی: 146.
عبد اللطیف ابو الورد: 78.
عبد اللّه ابو الخیل: 38.
عبد اللّه بن أحمد بن حنبل: 38.
عبد اللّه بن حسن القطیفی: 148.
عبد اللّه الخالصی: 90.
عبد اللّه بن محمد رضا شبر: 68، 96 113.
عبد اللّه بن محمد السبیتی: 95.
عبد اللّه بن یوسف نعش: 126.
عبد المحسن الخالصی: 108.
عبد المحسن الکاظمی: 108، 109، 131.
عبد المطلب: 40.
عبد المهدی حسّونة: 137.
عبد المهدی الخالصی: 78، 93.
عبد النبی بن علی: 103.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 177
عبد الهادی الاسترابادی: 129، 130
عبد الهادی بن درویش: 155.
عبد الهادی عبد عبد الحسین الچلبی:
134، 136.
عبد الهادی محبوبة: 153.
عبد الواحد بن علی المشاط: 153.
عبد الوهاب عسکر: 145.
عبد الوهاب بن راضی العطار: 145.
عبود بن درویش: 144.
عبود الغریباوی: 147.
عبیدة: 144.
عثمان جق: 140.
عطیة بن صالح دوش: 145.
عطیفة بن رضاء الدین: 63.
العگیدات: 159.
العگیلات: 146.
علوان بن حسون الکاظمی: 150.
علی بن ابی طالب امیر المؤمنین: 26، 32، 45، 48.
علی بن اسد اللّه الزنجانی (میرزا): 94
علی بن اسماعیل الشالچی: 153.
علی بلیبل: 121.
علی پوست بن محسن الکاظمی: 109.
علی بن رضا العاملی: 74.
علی الزینی: 139.
علی سریع بن حسین: 139.
علی بن سهیل: 141.
علی سیاه پوش الهمدانی: 76.
علی شبر: 97.
علی الشرقی: 109.
علی عبد الحسین معطوش: 153.
علی بن عبد اللّه الخالصی: 90.
علی بن عطیفة: 103.
علی الکاظمی: 108.
علی المحقق بن محمد حسین الکرهرودی 114.
علی بن محمد جواد محفوظ: 114.
علی بن محمد الزینی: 95.
علی بن محمد قندیل: 104.
علی بن مظاهر الأسدی: 78.
علی الوردی: 78، 79.
علی بن یوسف العاملی: 70.
عنزة: 27، 28.
عوف: 82.
عویص: 159.
العوینات: 160.
عیسی بن جعفر بن المنصور: 45.
- غ-
غانم الدباغ بن سلمان الدباغ: 146.
غسّان: 9.
- ف-
فاضل بن علی الکلیتدار: 127.
(12)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 178
فرحان باقر: 157.
فرهاد میرزا: 130.
الفلاحات: 159.
الفؤادیة: 65.
- ق-
قاسم خان: 139.
القندرچیة: 76.
- ک-
کاریکالزو: 31.
کاظم آل نوح: 116.
کاظم الأزری: 79.
کاظم بن درویش: 107.
کاظم بن رضا الهندی: 94.
کامل مصطفی الشیبی: 128.
الکراکلة: 143.
کلب علی بن غلام علی: 81.
کلب علی الکاظمی: 80.
کندش: 30.
الکنعانیة: 154.
کلای: 9.
الگواید: 160.
- ل-
اللخمیون: 26.
اللیث: 7.
- م-
مالک بن الاشتر النخعی: 116.
المحامدة: 144.
محسن بن حسن الاعرجی: 81.
محسن الصایغ: 77.
محسن المقدسی الاعرجی: 95.
محفوظ بن وشاح: 111.
محمد ابراهیم الساعاتی: 123.
محمد ابراهیم النواب: 157.
محمد باقر: 157.
محمد باقر سهیل: 141.
محمد بهاء الدین بن زین العابدین: 95.
محمد تقی الحریری: 137.
محمد تقی الشیرازی: 102.
محمد توفیق الغصین: 119.
محمد جابر بن عبد الحسین الکاظمی:
84.
محمد جابر الکاظمی: 133.
محمد الجواد: 42، 37، 32.
محمد جواد البلاغی: 83.
محمد جواد جعفر: 72.
محمد جواد بن کاظم العطیة: 146.
محمد جواد بن محمد عبیدة: 144.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 179
محمد جواد بن معتوق (بیت معتوق):
115.
محمد بن حاتم السلطان: 141.
محمد حرز الدین: 149، 102، 95.
محمد حسن الحداد: 137.
محمد حسن الکاتب الأغائی: 130.
محمد حسن کبّة: 109، 93.
محمد حسن الکشوان: 71.
محمد حسن بن محمد رضا آل یاسین:
118.
محمد حسن بن محمد صالح کبّة: 109.
محمد حسن المظفر: 84.
محمد حسن بن یاسین: 118، 117.
محمد حسین بن عبد الباقی: 121.
محمد حسین الکشوان: 71.
محمد حسین المظفر: 84.
محمد حسین بن هاشم الکاظمی: 109.
محمد حسین آل یاسین (الدکتور):
119، 118.
محمد رضا الأزری: 79.
محمد رضا بن حمزة المنذری: 155.
محمد رضا الخالصی (شالچی موسی):
90.
محمد رضا الشیبی: 113.
محمد رضا المتهجد: 152.
محمد رضا بن محمد بن زین العابدین: 94.
محمد رضا المظفر: 84.
محمد رضا المنشی: 116.
محمد رضا آل یاسین: 118.
محمد سعید جلال: 133.
محمد سعید حبوبی: 109.
محمد السلطان: 140.
محمد السماوی: 111، 34.
محمد شدید: 66.
محمد بن صادق شدید: 99، 97.
محمد صالح البیر: 133.
محمد الصدر: 103، 102.
محمد بن طلحة: 47.
محمد طه نجف: 109.
محمد عبد الحسین الحسنی: 124.
محمد بن عبد الحسین الشماع: 142.
محمد بن عبد النبی: 152.
محمد بن عبد الوهاب بن داود: 93.
محمد عبده: 109.
محمد عطیفة: 125.
محمد علی بن الحسین الأعسم: 82.
محمد علی بن حسین الشهرستانی: 101.
محمد علی الخالصی: 108.
محمد علی بن درویش: 85.
محمد علی الصدر: 102.
محمد علی القابچی: 103.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 180
محمد علی بن محمد حسین الهمدانی:
117.
محمد علی بن مقصود: 115.
محمد علی بن میرزا السبزواری: 96.
محمد علی النجار الحاج: 156.
محمد علی النجار الشاعر: 156.
محمد علی هبة الدین الشهرستانی: 69.
محمد علی الهلالی: 158.
محمد علی آل یاسین: 118.
محمد عیسی بن محمد امین (شالچی موسی): 142.
محمد فاضل بن عباس الجمالی (الدکتور) 122.
محمد بن الحاج قنبر: 148.
محمد بن کاظم: 107.
محمد کاظم الجواهری: 134، 133.
محمد لایذ: 149.
محمد بن مال اللّه بن معصوم: 113.
محمد بن محسن العاملی: 103.
محمد محسن بن محمد صالح: 126.
محمد بن محمد جواد محفوظ: 114.
محمد بن محمد صادق الاصفهانی الخونساری:
81.
محمد المشاط: 153.
محمد مهدی الاصفهانی: 72.
محمد مهدی الخالصی: 90.
محمد بن مهدی الخالصی: 90.
محمد مهدی القزوینی: 110.
محمد مهدی کبّة: 109.
محمد هاشم الصایغ: 134.
محمد هاشم بن محمد علی شکیب: 142.
محمد بن هاشم الهندی: 117.
محمد یوسف الأزری: 79.
محمود رضا بن خورشید الطه محمد رضا:
116.
محمود بن عبد اللّه الخالصی: 93.
محیی الدین آل فضل اللّه: 113.
مراد بن کاظم الدجیلی: 129.
المرامطة: 160.
مرتضی الانصاری: 113.
مرتضی الخالصی: 90.
مرتضی العسکری: 99.
مرتضی آل یاسین: 118.
المسارة: 159.
المستعصم: 33- 32.
مسروح: 82.
المشاهدة: 159.
المصالحة: 160.
مصطفی جواد: 61، 36، 33، 32، 31.
مصطفی بن حسین الکاشانی: 104.
مصطفی الکاشانی: 107.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 181
مصطفی کبّه: 109.
مضر: 82.
المطاردة: 160.
المعامیر: 149.
المفید العکبری: 107.
المنذر بن امری‌ء القیس: 26.
المنصور ابو جعفر: 37.
مؤید الدین المقدادی: 52.
مهدی بن ابراهیم الخراسانی: 93.
مهدی بن ابراهیم جرموکه: 83.
مهدی بن احمد بن حیدر: 86.
مهدی الاسترابادی: 129.
مهدی بن حسون الکاظمی: 150.
مهدی الحیدری: 127.
مهدی بن درویش: 130.
مهدی دوش: 137.
مهدی بن صالح المرایاتی: 115.
مهدی بن عبد بن سالم: 133.
مهدی بن عبد الغفار: 103.
موسی بن جعفر الکاظم: 30، 32، 33، 34، 35، 36، 37، 38 39، 41، 42، 43، 44، 45 46، 47، 48، 49، 50، 52، 53، 55، 56، 57، 70، 124
موسی الحکیم فخر الاطباء: 76.
موسی بن رضا الهندی: 94.
میرزا احمد الشاعر: 138.
- ن-
النابغة الذبیانی: 26.
نازک الملائکة: 153.
ناصر بن حسین: 85.
الناصر لدین اللّه: 36، 52.
النبی علیه السلام: 40، 41.
نجم الدین الشریف العسکری: 89.
النداوات: 159.
نصر اللّه الحائری: 104.
نصر اللّه بن الحسین بن علی: 75.
نعمة بن جابر: 123.
نعمة الچوخچی: 132.
نعمت عبد الحمید السعید: 140.
النعمانیة: 147.
- ه-
هادی التبریزی: 86.
هادی بن حسن شطیط: 101.
هادی الصدر: 102.
هارون الرشید: 43، 44، 45، 46، 57.
هاشم ابو الورد الغاضری: 66، 77.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 182
هاشم نصر اللّه: 75.
الهبنة: 159.
هشام بن الحکم: 44، 45.
الهمدانی: 26.
همیّم: 159.
- و-
وصفی بن محمد علی المنشی: 155.
وهاب بن جواد: 126.
- ی-
یاقوت الحموی: 36، 38، 51.
یوسف بن محمد البحرانی: 82.
یوسف بن موسی العاملی الصولی: 70.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 183

الفهرست

الموضوع الصفحة
البدو و الحضارة
البداوة غذاء الحضارة 9
التکوین العام للمجتمع البدوی 11
الأسرة 12
القبیلة 14
المفاهیم القانونیة 15
التقالید و العرف 15
التنظیمات السیاسیة 16
المجلس 17
الرئیس 17
الوضع الاجتماعی للبدو 18
النشاط الاقتصادی للبدو 21
بدو العراق 24
الکاظمین او المشهد الکاظمی
الکاظمین و المشهد الکاظمی 30
مقبرة الشهداء 32
مقابر قریش 35
الکاظمین 39
الموضوع الصفحة
مدینة الکاظمین و تمصیرها
مدینة الکاظمین و تمصیرها 51
الکاظم و الکاظمین فی الشعر 55
الامام الکاظم 55
بیوتات الکاظمیة
انساب المدن 61
الاسر الحسنیة 63
الاسر الحسینیة 65
نسب بیت الشهرستانی 69
الاسر الموسویة 71
البیوتات العلمیة
بیت ابی الورد 77
بیت الاحمر 78
بیت الاخباری 78
بیت الازری 79
بیت اسد اللّه 80
بیت الاسدی 80
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 184
بیت الاصفهانی 94
بیت الاعرجی 81
بیت الاعسم 82
بیت البحرانی 82
بیت البغدادی 82
بیت البلاغی 83
بیت جرموکه 83
بیت الجزائری 84
بیت الجصانی 84
الجوادات 84
بیت جحیجی 85
بیت الشیخ حسین 85
بیت الحسینی 86
بیت الحیدری 86
بیت الخالصی 90
بیت الخراسانی 93
آل داود 93
بیت الرشتی 94
بیت السید رضا العاملی 94
بیت السید رضا الهندی 94
بیت الزنجانی 94
بیت الشیخ زین العابدین 94
بیت الزینی 95
بیت السبیتی 95
بیت السبزواری 96
بیت السلماسی 96
بیت شبر 96
بیت شبیب 97
بیت شدید 97
بیت الشریف العسکری 99
بیت شطیط 101
بیت الشهرستانی 101
بیت الصدر 101
بیت العاملی 103
بیت عبد الغفار 103
بیت عبد النبی 103
بیت عطیفة 103
بیت القابجی 103
بیت قندیل 104
بیت الکاشانی 104
بیت الحاج کاظم 107
بیت الکاظمی (1) 108
بیت الکاظمی (2) 108
بیت کبه 109
بیت الکرکی 110
بیت الکیشوان 110
بیت محفوظ 111
بیت المحقق 114
بیت المرایاتی 115
بیت معتوق 115
بیت مقصود 115
بیت المنشی 116
بیت نقدی 116
بیت نوح 116
بیت الهندی 117
بیت الهمدانی 117
بیت یاسین 117
الخدام و السدنة موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌10-2 ؛ ص184
ت ابو العیس 121
بیت ابو نرگیله 121
بیت بلیبل 121
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 185
بیت بهاء الدین 121
بیت الجمالی 121
بیت جوطة 123
بیت الجراغجی 123
بیت الحسنی 123
بیت خادم الجدید 123
بیت دبشة 123
بیت الساعجی 123
بیت السرکشک 123
بیت السید سعد 124
بیت شقاقی- من بنی شیبة 125
بیت شقاقی- الموسویة 125
بیت شکر 125
بیت الشماع- الموسویة 125
بیت الصابونی- بیت نسلی 125
بیت الصافی 125
بیت طه 125
بیت الشیخ عبد اللطیف 125
بیت عطیفة 125
بیت الکردی 125
بیت کشکش 126
بیت الکشوان 126
بیت الکلیتدار 126
بیت المؤذن 126
بیت الحاج محمد صالح 126
بیت مشکور- الحسنیة 126
بیت نعش 126
بیت نسلی- الموسویة 126
بیت النیص- الحسنیة 126
بیت وهاب 126
سدانة مرقد ابی یوسف 128
البیوتات المعروفة
بیت ابو اللحم 129
بیت الاسترابادی 129
بیت الاسود 130
بیت أغایی 130
الانباریین 130
بیت الانصاری 131
البحیة 132
آل حمد 132
آل حسین 132
آل الچوخجی 132
بیت البنا 132
بیت البیر 133
بیت جعشم 133
بیت جلال 133
بیت الجواهری 133
بیت الجیلاوی 134
بیت الجلبی 134
بیت الحجی 137
بیت الحداد 137
بیت الحریری 137
بیت حسونة 137
بیت الحلبی 137
بیت حمودی 138
بیت الخلیلی 138
بیت دارا 138
بیت الدبیسی 138
بیت دروش 139
بیت الدهوی 139
بیت رزوقی 139
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 186
بیت زینی 139
بیت سریع 139
بیت السعدی 140
بیت السعید (1) 140
بیت السعید (2) 140
بیت السلطان 140
بیت سهیل 141
بیت شالجی موسی 142
بیت الشامی 142
بیت شکیب 142
بیت الشماع 142
بیت شندی 142
بیت الصراف 143
بیت الصفار 143
بیت صویلح 143
بیت العبد 143
بیت عبد الغنی 144
بیت الشیخ عبود 144
بیت عبیدة 144
بیت عسکر 145
بیت العطار (2) 145
بیت العطار (3) 145
بیت عطیه 145
بیت العطیه 146
بیت العکیلی 146
بیت عید 146
بیت الحاج غانم 146
بیت الغبان 147
بیت الغریباوی 147
بیت قادریه 147
بیت القشدار 147
بیت القصاب 147
بیت القطیفی 148
بیت الحاج قنبر 148
بیت الکاظمی فی الکویت (3) 148
بیت الکاظمی فی الکویت 149
بیت الکاظمی فی البصرة (4) 150
بیت الکاظمی (5) 152
بیت مؤید 152
بیت المتهجد 152
بیت المحلاتی 152
بیت الحاج محمد 152
بیت المزین 152
بیت المشاط 153
بیت معطوش 153
بیت الملائکة 153
بیت الکظماوی (فی قلعة سکر) 154
بیت الکظماوی (فی الدیوانیة) 154
بیت کنعان 154
بیت کصید 154
بیت کلاوی 154
بیت لیلو 154
بیت المنذری 155
بیت المنشی 155
بیت الحاج مهدی 155
بیت موسی راضی 155
بیت مومن علی 155
بیت النجار (1) 156
بیت النجار (2) 156
بیت النداف 156
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 187
بیت النقیب 156
بیت النعلبند 157
بیت النعمه 157
بیت نکو 157
بیت نکو 157
بیت النواب 157
بیت هادی 158
بیت الهلای 158
العشائر
العشائر 159
بنو تمیم 160
المصالحة 160
الطجاج 161
الخضیرات 161
الکواید 162
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌10-2، ص: 188

هذه الموسوعة

علی الرغم من انتشار الحضارة و الثقافة التی دفعت بالکثیر من العلماء و المحققین و الباحثین فی العصور الأخیرة الی احیاء مختلف التراث الاسلامی و الآثار العربیة فیما بحثوا، و حققوا، و کتبوا، فقد ظلت هنالک کنوز ذات قیمة کبری فی تاریخ العالم الانسانی فضلا عن تاریخ الاسلام و العرب.
لقد ظلت هذه الکنوز مطمورة فی بطون الکتب المخطوطة و المطبوعة لم یمسها احد الا من بعض اطرافها، و لم یتطرق الیها باحث الا من بعض جوانبها، و هی کنوز لم تقتصر علی ناحیة دون ناحیة، فهی تخص العلم، و الادب، و الفن، و الفلسفة، بقدر ما تخص الفقه و التاریخ، متمثلة کلها فی تاریخ العتبات المقدسة:
مکة المکرمة- المدینة المنورة- القدس الشریف- النجف الاشرف- کربلاء- الکاظمین- مشهد الرضا- سامراء .. الخ
فلکل عتبة من هذه العتبات تاریخ ذو علاقة جد وثیقة بالثقافة و الحضارة الاسلامیة و العربیة، مما اختزنته من المخطوطات الاثریة، و الروائع الادبیة، و ما قامت به من المدارسة طوال العصور المظلمة، اذ لو لا هذه العتبات لما بقی الیوم بایدینا من تلک الکنوز الا النزر الیسیر.
و هذا هو الذی دفع بطائفة من اهل الفضل و اساتذة جامعة بغداد من ارباب الاختصاص الی ان تتضافر جهودهم فی اخراج موسوعة تاریخیة- علمیة- اثریة- ادبیة- عامة، تتناول جمیع العتبات المقدسة بالبحث المفصل الشامل منذ اول تمصیر العتبة المقدسة حتی الیوم- علی ان یکون لکل عتبة اجزاء خاصة، و ان یکون کل جزء منها مستقلا بمواضیعه.
و هو اول عمل من نوعه، و اول مجهود خطیر یقوم به مؤلفه، و یکفی ان یستدل القاری‌ء علی خطورته مما یقع تحت عینیه من اجزائه.

الجزء الحادی عشر

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة 11 الجزء الثالث قسم خراسان
تألیف جعفر الخلیلی
منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- لبنان
ص. ب 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة
الطبعة الثانیة 1407 ه- 1987 م
مؤسسة الأعلمی للمطبوعات
بیروت. شارع المطار. قرب کلیّة الهندسة. ملک الاعلمی. ص. ب: 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 5

خراسان قدیما إلمامة شاملة من أول یوم دخول خراسان التاریخ الی یوم مدفن الإمام الرضا (ع) کتبه جعفر الخلیلی

اشارة

موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 7

خراسان قدیما

خراسان من اهم ولایات ایران قدیما و لم تزل حتی الآن من اهم ولایات ایران، و کانت خراسان فی القدیم تشمل مساحة جد واسعة بحیث کانت تتجاوز حدود ماوراء النهر (جیحون) من بلاد الترک شمالا، و حتی اواسط بلاد الافغان و اکثر من ذلک نحو الشرق و الی جانب من حدود الصین الغربیة، و من الجنوب حتی حدود کرمان و الی ما یجاور بلاد السند، و قد اطلق بعضهم اسم خراسان علی بحر الخزر و سماه بالبحر الخراسانی الخزری لقربه من خراسان .
و قد اختلف المؤرخون فی تحدیدها فتوسع البعض و حدّد البعض هذا التوسع و قلّصه، و رأی یاقوت الحموی ان هذا الشمول الواسع لاسم خراسان عند بعض المؤرخین هو شمول للحکم اکثر مما هو للاقلیم و المنطقة، کأن یصل حکم الذین یحکمون خراسان الی ابعد من منطقتها فیسمی ذلک باسمها، اما البلاذری فیقول: ان خراسان اربعة ارباع.
فالربع الاول (ایرانشهر)- و هی نیسابور- و قهستان، و الطبستان، و هراة، و بوشنج، و بادغیس، و طوس، و اسمها (طابران).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 8
و الربع الثانی-: مرو الشاهجان، و سرخس، و نسا، و ابیورد، و مرو الروذ، و الطالقان، و خوارزم، و آمل، و الاخیرتان علی نهر جیحون.
و الربع الثالث-: و هو غربی (النهر) و بینه و بین النهر ثمانیة فراسخ! الفاریاب، و الجوزجان، و طخارستان العلیا، و خست، و اندرابه، و البامیان، و بغلان، و والج- و هی مدینة (مزاحم بن بسطام) و رستاق بیل، و بذخشان- و هو مدخل الناس الی تبّت، و من اندرابه مدخل الناس الی کابل، و الترمذ- و هو فی شرقی بلخ- و الصغانیان، و طخارستان السفلی، و خلم، و سمنجان.
و الربع الرابع: ماوراء النهر، و هو بخاری، و الشاش، و الطراربند، و الصغد، و هوکس، و نسف، و الروبستان، و اشروسنه، و سنام، قلعة المقنع، و فرغانة، و سمرقند .
و علی هذا الرأی کان ابن رسته، اذ عد جانبا کبیرا من بلاد ماوراء النهر کبخاری و سمرقند من جملة بلدان خراسان و فی مراصد الاطلاع علی اسماء الأمکنة و البقاع لعبد المؤمن صفی الدین بن الحق: ان حدود خراسان تبدأ مما یلی العراق، و آخرها حدود ما یلی الهند .
و جاء فی (اللباب) ان خراسان بلاد کثیرة، و اهل العراق یقولون انها من (الریّ) الی مطلع الشمس، و بعضهم یقول من (حلوان) الی مطلع الشمس .
و یعتبر الجزء الشمالی من خراسان جزءا من موطن الشعب الهندی الاوروبی فی العصر الحجری و قبل ان یتفرق هذا الشعب فی البلدان الاخری،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 9
و المرجح ان تاریخ ذلک الزمن یرجع الی اکثر من خمسة آلاف سنة قبل المیلاد بناء علی الآثار الخطیة المیدیة التی عثر علیها و التی سنشیر الیها فیما بعد و قد قدر الخبراء عمرها بما یقرب من اربعة آلاف سنة قبل المیلاد و اکثر.
و یقول الدکتور جیمس برستد: ان تاریخ ذلک الزمن الذی کان القسم الشمالی من خراسان ضمن وطن الشعب الهندی الاوروبی لیس بعد 2500 ق. م، و قد کان الشعب الهندی الاوروبی حینذاک قبائل منقسمین یتنقلون بقطعان غنمهم و مواشیهم من بقعة الی اخری، و کان لدیهم الکثیر من الحیوانات الاهلیة، أخصّها الخیل التی لم تعرف بین الامم المتمدنة الشرقیة الا بعد عصر حمورابی و لم یقتصروا فی استعمال الخیل علی الرکوب فقط و انما کانوا یستخدمونها فی جرّ العجلات ایضا، و کان عندهم بقر لحمل النیر و جرّ السکة، لان بعض تلک القبائل کان قد ألف عیشة الحضارة، و شرع فی زراعة الحبوب و لا سیما الشعیر .
و من هذا الشعب، و من آسیا المرکزیة التی تشمل الجزء الشمالی من خراسان انبعث الآریّون و بدأت هجرتهم الی ایران و الی الهند، و تدل الشواهد علی ان سکان ایران القدماء ای قبل الهجرة الآریة من آسیا المرکزیة کانوا اقزاما سود الوجوه و قد طردهم الآریّون و حلّوا محلهم علی مرور الزمن.
و تدل القرائن التاریخیة علی ان الآریین قد جرت هجرتهم الی آسیا الغربیة فی موجات تدریجیة و انهم لم ینتقلوا من طریق واحد و انما قد جرت هجرتهم من طرق مختلفة و فی ازمنة متفاوتة، فان (هومل) و (ادورد مایر) یعتقدان ان اسماء بعض امراء القسم الجنوبی من فلسطین کما عثر علیها فی (تل العامرنه) کانت آریة، و یری البعض ان ظهور الآریة فی غرب آسیا فیما یقارب 14- 20 قرنا ق. م .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 10
و تاریخ ایران القدیم ای قبل قیام الهاخمنشیین یعتمد علی القصص و الأساطیر و الاخبار المغرقة فی الغرابة باستثناء ما یعثر علیه من الآثار التی تعین المؤرخین علی کشف بعض الغموض و تکوین الرأی الصحیح، و قد ضاع معظم الکتب و المجامیع التی تحتوی علی قصص السکان القدماء، و اخبار ملوکهم- و تراجم ابطالهم و الملاحم الواردة فی اساطیرهم و حکایة الاسر التی حکمت ایران قدیما، او التی وجدت فی خراسان و علی الأخص اخبار (البیشدادیان) و (الکیانیان) التی تشیر الی کل اولئک او بعضهم ممن کانوا یسکنون خراسان دائما او موقتا، و لم یبق من تلک القصص و الاخبار الا عدد قلیل من مجامیع تتضمن سلسلة من المعلومات الطریفة ذات الالوان المتنوعة من الاحوال السیاسیة و الاجتماعیة، و العقائد و الأدیان ککتاب (خدای نامه) و کتاب (آیین نامه) و کتاب (رستم و اسفندیار) و کتاب (شهرزاد و ابرویز) و کتاب (التاج) و کتاب (دارا و الصنم الذهب) و کتاب (کشتاسب و ارجاسب) .

مصادر التاریخ الإیرانی و خراسان

و ان مصادر التاریخ الایرانی القدیم قائمة علی القصص و الاساطیر، و علی الآثار التی تم اکتشافها و التی لم تزل تحت التنقیب، و علی التاریخ الیونانی و ما کتبه هیرودوت (ابو التاریخ) الذی قام برحلات واسعة فی البلدان فیما یقارب سنة 480 ق. م و علی غیره من مؤرخی الیونان و علی التاریخ العربی الذی استقی الحوادث من مختلف المصادر الفهلویة و الیونانیة و التتبعات الشخصیة التی قام بها المؤرخون العرب و غیر العرب الذین سجلوا تاریخ الفرس بالعربیة فکانت الکتب العربیة اهم مصدر لتاریخ ایران العام الذی نستخلص منه تاریخ خراسان القدیم قبل الاسلام و تاریخ خراسان بعد الاسلام حتی اوائل القرن الثامن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 11

أهم مصادر العربیة

1- کتب ابن المقفع بوجه عام. 2- مضامین بعض کتب الجاحظ و لا سیما (البیان و التبیین) 3- تاریخ الیعقوبی. 4- تاریخ الامم و الملوک للطبری.
5- النساب، و فتوح البلدان للبلاذری. 6- المسالک و الممالک لابن خرداذبه.
7- الاخبار الطوال للدینوری. 8- تاریخ سنی ملوک الارض و الانبیاء لحمزة الأصفهانی. 9- الفهرست لابن الندیم. 10- مروج الذهب للمسعودی 11- (صور الاقالیم) و (مسالک الممالک) للاصطخری. 12- الأغانی لأبی الفرج الاصفهانی. 13- المسالک و الممالک و المفاوز و المهالک لابن حوقل.
14- الآثار الباقیة عن القرون الخالیة لأبی ریحان البیرونی. 15- غرر اخبار ملوک الفرس و سیرهم للثعالبی. 16- البدء و التاریخ للمقدیسی. 17- تجارب الامم و تعاقب الهمم لابن مسکویه. 18- الکامل لابن الاثیر. 19- معجم البلدان لیاقوت الحموی. 20- مختصر الدول لابن العبری. 21- (تقویم البلدان) و کتاب (المختصر فی اخبار البشر) لابی الفداء. 22- (مقدمة ابن خلدون) و (تاریخ ابن خلدون) لابن خلدون. 23- تحفة النظار فی غرائب الامصار لابن بطوطة . هذه اهم المصادر العربیة حتی اوائل القرن الثامن، و غیر هذه المصادر عشرات من الکتب العربیة التی یستخلص منها المؤرخ تاریخ خراسان مضافا الی ما بقی من الکتب الفارسیة و الآثار المکتشفة.
و قد ذکر المسعودی المؤرخ الرحالة انه: شاهد بنفسه کتابا فی السوانح و الاحداث التی جرت فی عهد سبعة و عشرین من الملوک الساسانیین خمسة و عشرین منهم کانوا من الرجال، و اثنتین کانتا من النساء، ثم یقول انه:
وجد صورة کل واحد من اولئک الملوک قد صورت فی ذلک الکتاب باسلوب دقیق، و الوان انیقة للغایة، اذ کانت تلک الصور تعرض کل ملک بشکله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 12
و هندامه، و ملامح وجهه، و مخطّ لحیته، و الالوان الخاصة بملابسه، الامر الذی دعا هشام بن عبد الملک سنة 113 ه، بأن یستقدم الفنیین المهرة من ایران الی الشام، و کذلک المترجمین لیقوموا من ناحیة بترجمة ذلک الکتاب العظیم، و یبادروا الی ترسیم و تصویر هیاکل الملوک الواردة صورهم و سوانحهم فی الکتاب المذکور من ناحیة ثانیة.
و قد تتبع المستشرق (ولیم جکسون) هذا الاثر التاریخی و قال فی وصفه إنه: النسخة الاصلیة للکتاب المعروف باسم کتاب (التاج)، و وافقه علی هذا الرأی المستشرق الدانمارکی (کریستنس) .
و کثیر مثل هذه الکتب التی کانت تتناول تاریخ ایران القدیم و التی یمکن استخلاص بعض الحوادث و الاخبار التی تخص خراسان منها قد ضاع و لم یبق منها بایدینا الا اسماؤها او بعض فصولها منها 32 کتابا غیر (الافستا) مما کان مکتوبا بالفهلویة، علی ما ذکر (پورداود) و من هذه الکتب الباقیة کتاب (درخت آسوریک) أی شجرة الأشوریین فی العراق، و کتاب (خسرو گواتان ریذگی) ای کتاب خسرو بن کیقباد الملک و خادمه ریذک، و کتاب (ریذک) و کتاب (خوتای نامک) ای کتاب اللّه، و کتاب (دین گرت) ای الأعمال الدینیة و غیرها من الکتب التی هی کل ما بقی مما کتب بالبهلویة، و قد اورد ابن الندیم فی (الفهرست) أسماء طایفة کبیرة ممن تولوا ترجمة بعض ما بقی من تلک الکتب و الاخبار و الملاحم القدیمة و الموغلة فی ابعد مدی من التاریخ الی العربیة و فی طلیعتهم ابن المقفع الذی اهتم بالجانب الاداری و الاجتماعی و الفلسفی من تلک الکتب، و مع ذلک فلم یتم تصنیف الملاحم القدیمة و جمع القصص التاریخیة، و الاساطیر فی کتاب واحد الا فی القرن الرابع الهجری الذی اصبح بعد ذلک اساسا یعول علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 13
- بالرغم مما تکتنفه من اساطیر- فی استخلاص ما یمکن استخلاصه من تاریخ ایران و تاریخ خراسان القدیم الذی یعنینا هنا عرضه بایجاز.

کتاب الشاهنامه

ففی المنتصف الاول می القرن الرابع الهجری وجّه اهل خراسان و امراؤها اهتمامهم الی جمع اخبار ملوک ایران و سیرهم فاجتمعت لهم اسفار عرفت فیما بعد باسم (الشاهنامه) او کتاب الملوک، و کان اکثر هذه الکتب ذیوعا و شهرة (شاهنامة ابی منصور) و الی طوس، و یبدو ان ثانیتهما کانت اجمع و اوفی من اولاهما، فأقبل الناس علی هذه المجموعة ایما اقبال، و صارت مادة للسمر و الشعر علی السواء .
ثم ظهر الشاعر الخراسانی الکبیر و الحکیم المعروف ابو القاسم الحسن بن محمد الطوسی، و کانت له ید فی جمیع فنون الشعر و اللغة و الادب، و راح یبحث فی بطون الکتب و المخطوطات و الاخبار مما کان یعثر علیه لیؤلف منه (شاهنامة) جدیدة یسجل فیها اخبار الملوک و ما کان قد روی عنهم و الحوادث التی وقعت فی عصورهم من حرب و سلم و قصص. فألّف (الشاهنامه) التی عرفت (بشاهنامة الفردوسی) التی قیل فی وصفها انها المرجع المهم فی التاریخ و الأدب الفارسی لجمیع الادباء و المؤرخین، و قد عرفوها بکنز اللغة الفارسیة و قاموسها، و قد قیل ان الفردوسی کان من دهاقین طوس و وجهائها، و قد نظم (الشاهنامه) بالشعر مبتدئا من اول زمن (کیومرث) اول ملوک (الپیشدادیین) الی زمن (یزدجرد) بن شهریار الساسانی فی ستین الف بیت من الشعر و فی مدة ثلاثین سنة کان آخرها سنة 384 ه، و توفی بطوس سنة 411 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 14
و صارت (الشاهنامة) بالاضافة الی ما سجلّه التاریخ الیونانی القدیم و التواریخ العربیة المؤلفة فی العصور الاسلامیة عن تاریخ ایران و ما عثر علیه من المصادر الفارسیة و المکتوبة باللغة القدیمة المرجع الأکبر لاستقصاء تاریخ ایران و تاریخ خراسان بصورة خاصة، و بهذا تکون خراسان الی جانب کونها المنطلق الاول للاریّین المرجع الاول للتاریخ الایرانی العام، لان مؤلف الشاهنامه کان خراسانیا.
و المتتبع لشاهنامة الفردوسی یری ان الفردوسی یرجع أهمیة اخباره و تاریخه الی کتاب یعود تاریخه الی ما قبل ألفی سنة من عصره ای ما یقرب من احد عشر قرنا قبل المیلاد، و فی هذا الکتاب الذی یشیر الیه الفردوسی الکثیر من الاخبار و القصص التاریخیة و الحوادث التی اعتمدها الفردوسی فی سرد تاریخ ایران القدیم و تاریخ ملوک خراسان.
الفردوسی من تصمیم الاستاذ جوادی‌پور
و یری الاستاذ ذبیح بهروز ان هناک کثیرا من الشواهد التی تدل علی ان صلة اللغة الفارسیة القدیمة و الکتابة بها لم تکن قد انقطعت بعد فی القرون الاسلامیة الاولی کما قد یظن البعض، بل ان اللغة الفارسیة القدیمة و الکتابة بها کانت لم تزل مفهومة حتی فی القرن الثالث الهجری و بعده، فلیس بالغریب ان یکون الفردوسی ممن یعرف تلک اللغة القدیمة، و لذلک تمکن ان یقرأ ذلک الکتاب الذی یعتبر احد الشواهد علی تقدم الحضارة فی تلک الازمان البعیدة بحیث استثار اعجاب الفردوسی اذ یقول:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 15 یکی نامه دیدم پر از داستان‌سخنهای ان پرمنش راستان
گذشته بر آن سالیان دو هزارگرایدون که برتر نیاید شمار
ای اننی رأیت کتابا ملیئا بالقصص و الاخبار الثمینة الذی یعود تاریخه الی الفی سنة من قبل.
ففی اوائل القرن العشرین عثر فی غربی الصین ای فی شرقی خراسان علی آثار کثیرة تحت تلول التراب و قد وجدت بینها خطوط و کتابات دلّت علی ان هذه اللغة و الخطوط کانت مفهومة او قریبة للفهم فی عصر الفردوسی من القرن الرابع الهجری، و هنالک من الآثار التی تم العثور علیها فی (صغد) و فی (خوارزم) و هما من اهم مدن خراسان الشمالیة یستطیع الباحث بالاضافة الی الآثار التی تم اکتشافها غربی الصین ان یعین مدی قدم تاریخ خراسان، و تاریخ حضارتها بکل سهولة.

ایران و خراسان

و قد عثرت مؤسسة (کارنه‌جی) الامیرکیة فی الحفریات التی أجرتها (بمرو) و (عشق‌آباد) علی آثار وجدت بینها و بین الآثار السومریة فی جنوب العراق شبها عظیما الأمر الذی جعل اکثر العلماء یحدسون بأن هناک صلة مدنیة و حضارة بین سومر و ماوراء بحر الخزر و هو جانب خراسان الشمالی.
و نشرت مجلة (الجمعیة الآسیویة الملکیة) الانکلیزیة فی عددها الصادر سنة 1945 (تقاویم) للسنة الشمسیة القمریة یرجع تاریخها الی 8- 11 قرن قبل المیلاد، و هی بعض ما عثر علیه بین الآثار التی اکتشفت فی غربی الصین من الآثار الایرانیة المشار الیها و هی تعنی حضارة خراسان لاتصالها بها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 16
و وجودها فی حدودها الشرقیة ان لم تکن ضمن حدود خراسان القدیمة.
صحیح انه لم یستطع التاریخ ان یعین بالضبط الوطن الاصلی الاول للشعب الهندی الاوروبی لانعدام المصادر الثابتة و المؤکدة غیر ان هناک بعض الادلة و الشواهد الدالة علی ان وطنهم الاول کان السهول الفسیحة الارجاء الواقعة الی الشرق و الشمال الشرقی من بحر قزوین و هی التی تشمل الجانب الشمالی من خراسان.
و لما کانوا لا یزالون شعبا واحدا کانوا یتکلمون بلغة واحدة ثم تفرعت من لغتهم جمیع اللغات التی تتکلم بها الامم المتمدنة فی اوروبا الحدیثة، و علی هذا فان خراسان او خراسان الشمالیة کانت موطن الآریین القدیم الأول، و منها مما جاورها من الاصقاع فی الشمال انطلق الآریّون الی ایران و الی غیرها من مواطن الآریین فی العالم.
اما اصل کلمة (ایران) فانها علی الظاهر مأخوذة او محرفة، من کلمة (ایریان) و کانت تطلق علی تلک القبائل من الشعب الهندی الأوروبی الذی کان یسکن کما قلنا فی بطاح آسیا الشمالیة، و قد نزحت منه القبائل بمواشیها و اغنامها طلبا للرعی و الکلأ الی الجهات الجنوبیة الغربیة فبلغت تلک الاراضی و طاب لها العیش فیها و القت هناک عصاها لملائمة الطبیعة لها .
و من أقوال زرادشت تأید هذا الرأی، و هو اول من سمی سکان هذه الهضبة- هضبة ایران- بالایرانیین، و هی تعنی (النجباء) و ذلک قبل المسیح بعدة قرون و اطلق ابن رستة اسم ایران شهر علی کل ایران .
و جاء فی (الافستا) کتاب زردشت المقدس عند الزردشتیین المکتوب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 17
باللغة الفهلویة القدیمة الذی یرجع تاریخه الی 1080 ق. م، علی بعض الروایات ما یستدل علی قدم خراسان و خصبها، و نضرتها، وجودة حاصلاتها، اذ یقول فی الفقرة 4-، 13- 14، 17- 18، 21، 25- 26 علی لسان الاله: (آهورمزدا):
«خلقت المکان الاول (ایرانفیج)، و المکان الثانی النضر من الارض لاجل سکن فاضل هو ارض (الصغد) و المکان الثالث النضر من بقاع الارض من اجل سکن فاضل هو (مورو) ای (مرو) البلد الحصین المقدس، و خلقت المکان الرابع النضر للسکن الفاضل (یخذی) او (بلخ) المتلألئة ذات الرایات العالیة، و خلقت المکان الخامس النضر من بقاع الأرض من اجل سکن فاضل هو (نیسا) المدینة الواقعة بین (مرو) و (یخذی) ...
الخ» .
و هذا و غیره یؤید أن خراسان، و خراسان الشمالیة بالذات هی و لیس غیرها کانت موطنا لایران القدیمة و من مواطن الآریین الذین تألفت فیما بعد منهم الشعوب و الامم و الدول الآریة فی آسیا و فی اوروبا، و انها کانت من اخصب البلدان، و کان سکانها من افاضل السکان.
و فی الاساطیر ما یدل علی قدم اسم خراسان فیما روی علی لسان دغفل النسّابة و هو ان (خراسان) کان ابن (عالم) بن (سام) بن (نوح) و قد خرج هو و اخوه (هیطل) لما تبلبلت الالسن ببابل فنزل کل واحد منهما فی البلد المنسوب الیه یرید ان (هیطل) نزل فی البلد المعروف بالهیاطلة و هو ماوراء جیحون، و نزل اخوه (خراسان) فی هذه البلاد التی تسمی بخراسان فسمیّت باسمه!! .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 18
و هناک من یری ان اسم خراسان قد اطلق علی هذا الاقلیم فی عهد الهاخمنشیین اما قبل ذلک التاریخ فقد کان یطلق غلیها اسم (پارت) و قد ورد ذکرها بهذا الاسم فی جمیع التواریخ .
و دلّت الآثار التاریخیة علی ان تاریخ خراسان بل و تاریخ حضارتها یمتد الی أبعد من ذلک بکثیر و ان موطن الشعب الهندی الاوروبی الأول و ان لم یتعین تاریخه تعیینا کاملا کما ذکرنا و لکنه کان معروفا قبل اکثر من اربعة آلاف سنة قبل المیلاد، لأن هنالک من الشواهد ما یستدل منها علی وجود (المیدیین) فی وسط ایران الحالیة و وجود حضارة ملحوظة لهم قبل اکثر من 4000 سنة ق. م فکیف لا تکون خراسان الشمالیة اقدم من ذلک بکثیر و هی موطن الشعب الهندی الاوروبی الذی انبعث منه (المیدیون) و حلّوا فی اواسط ایران الحالیة مثلما انبعث الفرس و حلوا فی فارس من جنوب ایران و کلاهما آریان من أصل واحد.
لقد کان بین الآثار التی عثر علیها فی هضبة (سیلک) التی کانت موطن المیدیین سبعة شواهد من الخطوط المحفورة و المنقوشة التی یرجع العالم المستشرق م. دیاکوف تاریخها الی اواخر الالف الرابع قبل المیلاد، اما هر تسفلد فیری ان تاریخ هذه الألواح یرجع الی ابعد من ذلک و یری انه فی نحو الالف الخامس قبل المیلاد، و لعل قدم الخط الهیرو غریفی الایرانی یؤید مثل هذا القول .

اسم خراسان

و فی اسم خراسان و سبب تسمیة البلاد بهذا الاسم اختلاف کاختلافه فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 19
سبب تسمیة الکثیر من البلدان التاریخیة، و قد قیل: ان خراسان مؤلفة من کلمتین احداهما (خر) و هی اسم الشمس بالفارسیة الدرّیة و (آسان) و تعنی الموقع و البلاد، ای انها بلاد الشمس او مطلع الشمس.
و قد یکون لهذه التسمیة بعض الوجه لوقوع خراسان شرقی البلاد الایرانیة و کون الشمس تشرق علی خراسان قبل شروقها علی الجهات الایرانیة الاخری، و قیل بل ان کلمة (خور) تعنی الاکل. و (آسان) تعنی الشی‌ء الهیّن السهل فی اللغة الفارسیة و معنی ذلک: (کل سهلا) علی ما ذکر یاقوت الحموی، و ربما انبعثت هذه التسمیة من طبیعة خراسان لکثرة فواکهها و حاصلاتها الزراعیة و وفرة خیراتها، و قیل غیر ذلک.
و یقال فی الانتساب الیها: (خراسانی)، قال سیبویه عن هذا الانتساب:
و هو أجود (ای قولک خراسانی) و قیل: و خراسیّ، و خرسیّ، و یقال:
هم خرسان کما یقال: هم سودان، و بیضان و منه قول بشار:
«فی البیت من خرسان لا تعاب».
یعنی (بناته) و یجمع علی (الخرسین) بتخفیف یاء النسبة کقولک (الأشعرین) و أنشد:
«لا تکرینّ بعدها خرسیّا» .

طبیعة خراسان الجغرافیة

و طبیعة خراسان تشبه طبیعة قارة کآسیا تجمع بین السهل و الجبل، و الخصب و الجدب، و وفرة المیاه و الانهار، وسعة الصحراء و الجفاف، فیشتد البرد فی جهات منها حتی یجمد ماء النهر من سیحون، کما یشتد الحر فی جهات اخری حتی تجف الارض، و یسود الاعتدال فی کثیر من جهاتها فی جمیع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 20
فصول السنة، و اغلب ارتفاع اراضیها کائن فی الشمال، و قد یشاهد الثلج فی الصیف فوق جبال خراسان التی لا یزید ارتفاعها علی بضعة آلاف قدم، و یقول (السر برسی سایکس): انه شاهد الثلج فی بعض جبال خراسان فی الصیف علی علوّ لا یزید علی تسعة آلاف قدم .
و کلما انحدرنا الی الجنوب انحسرت هذه الجبال و اتسعت رقعة السهول حتی تسفر عن صحراء واسعة الارجاء لا تلبث ان تتصل بالصحراء الملحیة المعروفة (بکویر لوت) من کرمان، و تحد هذه الصحراء اقلیم کرمان و السند جنوبا و اقلیم الری و قم و کاشان غربا حتی تحاذی اقالیم خراسان الخصبة شمالا و تسمی بصحراء (کرگس) ، و بسبب الامطار و الثلوج التی تجرف علی مرور الزمن طبقات من الجبال و تنحدر بها الی المنخفضات حصلت خراسان الحالیة علی مسافات واسعة من الاراضی الصالحة للزراعة الی جانب سهولها و اودیتها و اراضیها التی تسقیها انهارها المستمدة میاهها من العیون و الثلوج فی اعالی جبالها کنهر (تجن) و نهر (کشف رود) و نهر (اترک) و نهر (مرغاب) الذی کثیرا ما یرد ذکره فی التاریخ، و نهر گرگان و نهر (قراسو) و نهر سیحون فی تاریخ خراسان القدیم، فکثرت بسبب هذه الانهار و العیون و الطمی الذی تأتی به الامطار حاصالاتها الزراعیة، و الحیوانیة لکثرة مراعیها، و الخصب هذه المراعی فی مناطقها الشمالیة خاصة الی جانب بعض المعادن و وفرة الثروة التی مکنتها من ان تصنع، و تعمل، و تحصل علی انفس الذخائر من المصنوعات و المصوغات، و اکتناز الذهب و الفضة، و صوغ الحلی و الاسلحة، و قد ساعدت هذه المحصولات، و هذه الخیرات بالاضافة الی البیئة الطبیعیة الصالحة للسکن، و استعداد السکان الفطری علی قیام حضارة ذات الوان اختص مجموعها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 21
اکثر ما اختص- بالخراسانیین انفسهم- و خراسان نفسها، و قد تناولت هذه الحضارة صنوفا من الثقافة العامة من الفنون، و الصناعة و الدین، و الاداب، و البطولة فی میدان الحرب و میادین اخری متنوعة.
و یصف المؤرخون العرب (خراسان) منذ اوائل تاریخها و حتی الیوم باوصاف تشمل ارضها، و هواءها، و منتوجها الزراعی و الحیوانی، و الصناعی، و یشیرون الی سکانها و قابلیاتهم بالشی‌ء الکثیر من الاطراء و الثناء و الاعجاب مما ستمر الاشارة الیه.
لذلک کانت خراسان لوحة من ابهر اللوحات الفنیة فی تاریخ الحضارة الایرانیة القدیمة، و فی مختلف العصور و لا سیما العصور الاسلامیة لما تتمتع به من المواهب و ما تدر علیها من الخیرات من مختلف المنابع.
و ان التزام کثیر من ملوک ایران القدماء بالاقامة فی خراسان و اتخاذ بعض مدنها عواصم لمملکتهم، و تأسیسهم بعض المدن، و بناء القلاع، و المباشرة بتعمیر الارض، و الاخذ بید الفلاحین و المزارعین، و ایجاد نظم اجتماعیة متعددة الجوانب قد جعلت من خراسان منطقة متمتعة بالکثیر من المزایا الطبیعیة یعود الفضل فیها الی طبیعة البلاد الجغرافیة و الی العوامل التی خلقت من الخراسانیین اناسا ممتازین کان لهم فی تاریخ ایران الحضاری نصیب جد کبیر، و علی الرغم من عدم وجود احصاء صحیح للنفوس فی العصور القدیمة فبالامکان القول بان مدن خراسان کانت مکتضة بالسکان لتوفر اسباب الرفاه و النعمة و قد جاء ان عدد الذکور فی اغلب الاوقات کان اکثر من عدد النساء فی خراسان، و ورد ان النساء الخراسانیات یلدن ذکورا اکثر مما یلدن اناثا .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 22

أهمیة خراسان فی تاریخ الحضارة

و لخراسان اهمیة کبیرة فی تاریخ الحضارة الایرانیة فقد نبغ عدد غیر قلیل من الملوک و القواد و الامراء فیها قبل المیلاد بقرون بعیدة، فازدهرت علی ایدیهم کل الوان الحضارة، و کان ل (طهمورث) و هو من اشهر ملوک ایران (الشید ادیان) القدماء ید فی بناء عدد من المدن الخراسانیة و تعمیرها، و قد اتخذ (نیسابور) علی ما قیل موطنا له و عاصمة لملکه و قد وجه اهتمامه کما تقول القصص القدیمة الی احیاء الاراضی و زیادة الحاصلات الزراعیة، و ساعد علی العنایة بالحاصلات الحیوانیة، و حمل الرعایا علی الاهتمام باقتناء الکلاب لمساعدة الرعاة فی رعی اغنامهم، و حراسة بیوتهم، و شدد العنایة بتربیة الخیول و اکثر من العمارات و الابنیة فی عدد من الاقالیم.
و قد وجدت لطهمورث صور منقوشة علی الصخور بین الاثار الایرانیة القدیمة و هی تصوره ممتطیا الشیطان و معنی ذلک فی مفهوم عقیدة ذلک العصر أن عنصر الخیر الذی یمثّله طهمورث الملک قد رکب الشر الذی یمثله الشیطان و تغلب علیه.
و قد اورد الثعالبی ابیاتا لشاعر عربی مدح احد الملوک حین رآه یرکب فیلا مشبّها ایاه بطهمورث الذی رکب ابلیس و اخضعه قائلا:
یا لیت ملکی أصبحت‌له المعالی خیسا
و راکبا من فیله‌مستشرفا نفیسا
کأنه طهمورث‌لما امتطی إبلیسا
و طهمورث هو الذی ادخل رعی الاغنام و المواشی فی حیاة سکان الصحاری و البوادی و هو الذی حمل سکان القری علی زراعة الاراضی، و کان من آثاره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 23
العمرانیة بناء مدینة آمل، و طبرستان، و بابل، و کردآباد، و نیشابور، و سمنان، و قد قلت نسبة الموت فی زمانه فلم یکد یذکر الموت احد .
و کان دأب طهمورث التنقل و قد ساعد حبه للصید علی ان یطرق جهات مختلفة من البلاد و لذلک کان کانت اصلاحاته عامة و شاملة .
و یقول صاحب (لبّ التاریخ) ان طهمورث هو الذی ادخل استعمال الحریر و الافادة من الصوف علی اوسع نطاقه، و أمر بتدوین ما عرف من العلوم و الافکار فی ذلک العصر علی الصخور و لاول مرة عرف الصوم فی فی عهده فقد اصاب البلاد قحط دام نحو عشر سنوات کانت سنین عجافا للمحل الذی داهم البلاد، ففرض حینذاک الصوم و اتخذ له نظام خاص و مدة معینة، و قد فرض الصوم و العمل معا حتی استطاعت البلاد ان تتغلب علی تلک الشدة و اجتازت الازمة بسلام و ما لبث ان صار هذا الصوم وسیلة للتقرب الی اللّه، فخصص طهمورث نفقات صوم الیوم الواحد للفقراء و المعوزین و یقول المستوفی القزوینی ان من أهم ما عرفت به اصلاحات طهمورث هی الحریة الدینیة فقد ترک لکل شخص حریته الکاملة فی اداء طقوسه الدینیة و مراسیم عبادته و التعبیر عن افکاره، و کانت مدة حکم طهمورث 30 سنة علی ما یروی المؤرخون.
و ینسب المسعودی بناء (القهندز) فی مرو لطهمورث و قیل ان طهمورث کان اول من استعمل الخط (البهلوی) فی الکتابة کما سیأتی ذکر ذلک، و اذا صحّ هذا فأن مزیة أخری ستضاف الی مزایا خراسان فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 24
تاریخها الحضاری بکونها صاحبة الفضل الاکبر فی انتشار الخط الفهلوی القدیم و تعمیمه علی ایران جمیعا مما ساعد علی نشر الحضارة الایرانیة.
و لعل للملک (منوچهر) و هو یقیم فی خراسان لمحاربة افراسیاب و محاربة الترک فی شمال خراسان بعض الاثر فی نشر الحضارة و ازدهارها بخراسان، فقد عرف (منوچهر) فی تاریخ ایران القدیم بالعدل و الاحسان زیادة علی ما نسب له من الابتکارات و الانظمة للنهوض بالبلاد و رفع مستواها فهو- علی ما تروی هذه الکتب- اول من خندق الخنادق، و جمع آلة الحرب و اول من وضع (الدهقنة) فجعل لکل قریة دهقانا، و حدّ الحدود فی خراسان من ناحیة الشمال بالمعاهدات و المصالحة مع افراسیاب، و هو الذی بنی مدینة (بلخ) .
و بالنظر لاهمیة خراسان الکبری و مجاورتها للترک الذین طالما غزوا حدودها الشمالیة و توغلوا منها الی داخل خراسان و ایران فقد اقام غیر واحد من ملوک ایران القدماء فی خراسان و فی المدن الشمالیة خاصة للدفاع عنها فکانت هذه الاقامة- کما قلنا- عاملا ذا أهمیة کبیرة فی انتعاش الحرکة الاجتماعیة و ازدهار الحضارة، و نبوغ الابطال فی میادین الحروب، و جاء فی بعض التواریخ ان (منوچهر) اول من عنی بالحدائق و حث علی جمع الورود من مختلف الجبال و الاودیة و عنی بتربیة الازهار عنایة خاصة و اوجد لاول مرة حدیقة نموذجیة حوت انواعا من الورود و الازهار التی جمعها من مختلف الجهات فعمّ بعد ذلک حب الورد و غرسه و العنایة بحدائقه جمیع البلاد، و المعروف ان منوچهر هو اول من امر بضرب النقارة و تألیف جوقة موسیقیة تعزف صباحا و مساء فی ساحة معینة من البلد .
و کان الملک (زو) من الملوک الذین تولوا سوق الجیوش فی خراسان و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 25
طارد افراسیاب حتی تغلب علیه و اخرجه من بلاده، و کان ذلک فی:
(روز آبان) من شهر (آبان‌ماه) علی ما قیل فاتخذت ایران هذا الیوم عیدا لتخلصهم من الشرور و العسف الذی اتصف به افراسیاب. فجعلوه العید الثالث لعیدیهم: (النوروز) و (المهرجان) .
و کان الملک (زو) علی ما جاء فی هذه الاخبار و القصص: محمودا فی ملکه، محسنا الی رعیته، و قد أمر باصلاح ما افسده (افراسیاب) و بناء ما کان قد هدّمه من حصون و قلاع و کری ما اندفن من مجاری حتی أعاد کل ذلک الی أحسن ما کان علیه، و وضع عن الناس الخراج سبع سنین، فغمرت بلاد فارس فی ملکه، و کثرت المیاه فیها، و درّت معایش اهلها.
و المعروف عن (زو) انه کان اول من اتخذ الوان الطبیخ و أمر بها، و باصناف الاطعمة، و اعطی جنوده مما غنم من الخیل و الرکاب من اموال الترک و لا شک ان نصیب خراسان- و هی التی قامت جیوشها بالقسط الاکبر من الحرب لوقوع المعارک فیها- کان نصیبا کبیرا من تلک الغنائم، و من الاصلاح و التجدید و الرعایة لا سیما و فی بیئتها کل الاستعداد و القابلیة- و هو نصیب لم یقل عن نصیب بابل و ارض السواد من الاصلاح الذی نسبه التاریخ (لزو) فی تلک الاقالیم.
ثم ان ملازمة (کیقباد) لخراسان و هو من اقدم سلالة الملوک (الکیانیین) و اقامته بالقرب من نهر (بلخ) فی شمال خراسان لمنع الترک من غزو خراسان- و قد عمّر کیقباد مائة سنة او ان مدة ملکه کانت مایة سنة علی ما یروی الطبری- هی الاخری کانت من العوامل الکبیرة فی بعث روح الشجاعه و الاقدام فی نفوس الخراسانیین بالاضافة الی المزایا الاخری من الوان الحضارة، فقد قیل عن (کیقباد) انه قال یوم عقد التاج علی رأسه: انه سیجتهد فی اصلاح البلاد.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 26
و انه سیحدب علیها، و المعروف عنه انه هو الذی قدّر میاه الانهار و العیون لسقی الارض، و سمی البلاد باسمائها، و حدّها بحدودها، و کوّر الکور، و أمر الناس باستغلال الارض باقصی حدود الاستغلال.
یقول الطبری: و کان کیقباد فیما ذکر یشبه فی حرصه علی العمارة و منعه البلاد من العدو، و تکبره فی نفسه: بفرعون.
و جاء فی کتاب (السکیکین) الذی ترجمه ابن المقفع الی العربیة: ان عددا من الملوک (الکیانیین) مثل کیکاووس، و کیخسرو، و لهراسب کانوا یسکنون (بلخ) و کانت بلخ دار مملکتهم- و المقصود بنهر بلخ هو نهر جیحون- و فی بعض اخبار الفرس علی ما یروی المسعودی و الطبری ان لهراسب هو الذی بنی (بلخ) الحسناء و سمیت بالحسناء لما فیها من المیاه و الشجر و المروج، و قد عمّر لهراسب البلاد، و احسن السیرة لرعیته و شملهم بعدله .
و قد اکتسبت خراسان مما جاورها فی التاریخ القدیم حضارات امم مختلفة تسربت الیها عن طریق الحروب و التجارة، و التنقل، و قد افادت الشی‌ء الکثیر فی العصور الاولی من (المیدیین) و المیدیون هم الایرانیون الذین حلوا فی ایران القدیمة و طردوا سکان هذه الاقالیم المجهولی الاصل علی مرور الزمن و اقاموا فی مواطنهم من اواسط ایران الشمالیة و اتخذوا (اکباتان) ای (همدان) عاصمة لهم فاسسوا حضارة کبیرة تناولت عدة جوانب من الحیاة العامة، و علی ما تم من البحوث و الاکتشافات حتی الآن وجد ان المیدیین کانوا یعرفون صهر الحدید، و النحاس، و الذهب، و الفضة، کما یعرفون کیفیة تدریب الخیول و تربیتها، و انهم کانوا یصدرون الکثیر من المصنوعات الحدیدیة و النحاسیة، و المصوغات الی خارج بلادهم، و قد دلّ البحث علی انهم قد عرفوا النفط، و انهم استخدموه فی الشعال کما عرفوا القار و استخدموه فی البناء، و قد جاء فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 27
تاریخ (هیرودوت) ج 1 ص 119 ان الایرانیین القدماء کانوا یسمون النفط (رادنیاکا)، و ان سکان اوروبا القدماء کانوا یسمون النفط باسم المدیین و یطلقون علیه اسم (زیت المیدیین)
و اضافة الی ما اخذت خراسان من حضارة المیدیین فی ادوار التاریخ القدیمة و فی ادوار (الهاخمنشیة) فیما بعد التی کانت خراسان الجزء المهم من مملکتهم کما کانت الجزء المهم من مملکة الاسرة الکیانیة و الپیشدادیة و مملکة فارس الکبری فقد اکتسبت خراسان من الحضارة الصینیة، و الیونانیة قسطا و افرا.
و حتی الذین فتحوا خراسان من الاجانب کالاسکندر المکدونی فی القرن الرابع قبل المیلاد لم یستطیعوا ان یتجاهلوا قیمة خراسان و اهمیتها، و اهمیة سکانها، و قد عنی بها الاسکندر عنایة خاصة، و الیه ینسب بناء مدینة سمرقند و هراة و هو الذی اقام سورا حول مدینة (مرو الشاهجان) یقدر طوله بفرسخ واحد فی عرض فرسخ واحد کذلک هو الذی اخرج مدینة (نسا) من خراسان علی شکل حیة ملتویة علی ما روی الثعالبی .
و فی عصور ملوک الطوائف بعد عهد الیونانیین تقدم العلم فی خراسان و بوشر بتألیف الکتب و قد بلغ اهل العلم منزلة جد عالیة فی اوساط الناس، و فی هذا العصر تم تألیف کتاب السندباد و عدد آخر من الکتب المفیدة .
هکذا کانت اهمیة خراسان فی الدورین الپیشیدادی و الکیانی، و هکذا کانت فی الادوار التاریخیة الاخری ایام حکم الاسرة الهاخمنشیة و الاشکانیة محل عنایة جمیع الاسر و موضع اهتمامهم لما خصت به من ممیزات، و لقد بلغ من اهتمام الساسانیین بها ان افردها کسری انوشیروان بقسم إداری خاص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 28
فکانت خراسان القسم الشرقی الاول من جمیع اقالیمه الاربعة و ضم الیها کرمان و ناطها بحاکم مزود بامتیازات خاصة .
و لیس من شک ان النظم العامة التی تناولت الزراعة و العمران و الصناعة فی عهد الساسانیین و عهد انوشیروان خاصة قد فعلت فعلها فی خراسان بالنظر لما تمتاز به هذه البلاد من المؤهلات الجغرافیة و السکنیة و الحاصلات المختلفة.
و فی دور الاسلام کان لخراسان شأن کبیر سواء فی ایام الخلفاء الراشدین او الدولة الامویة او العباسیة او فی عهد الاسرة الطاهریة او الاسرة الصفاریة او الاسرة السامانیة او الغزنویة، او السلجوقیة و الخوارزمیة او العهود الاخری مما جعل لخراسان و حضارتها مکانة مرموقة فی التاریخ القدیم و الحدیث.
ابن سینا تصمیم الاستاذ (ابو الحسن صدیقی)
و لقد انصهرت کل تلک الحضارات المکتسبة فی مختلف الادوار بفضل عدد من العوامل الفعالة فطبعت خراسان و بلدانها، و سکانها بطابع خاص انفردت به، و امتازت بمعالمه بین الکثیر من حضارات البلدان.
و قد اخرجت خراسان فی العهود الاسلامیة الوفا من أئمة الفقه و الحدیث کالامام احمد بن حنبل و سفیان الثوری، و من أئمة الفلسفة و الطب و الحکمة کابن سینا، و من الأئمة فی مختلف العلوم و الفنون و الموسیقی کالفارابی، و من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 29
أئمة التفسیر و العلوم الدینیة و التبحر فی التشریع کابی جعفر الطوسی و الزمخشری و من أئمة العلوم و الحکمة و الفلسفة کابی حامد الغزالی، و من أئمة النحو اللغة کالاخفش الاوسط الذی فضل علی استاذه سیبویه، و من رجال الوزارة و الادارة و التدبیر کالبرمکی، و النوبختی، و آل سهل، و کیعقوب بن داود، و من علماء الفلک و الریاضیات کعمر الخیام
الامام الغزالی الطوسی
و من رجالات القیادة و الامارة کابی مسلم الخراسانی و طاهر بن الحسین و عبد اللّه بن طاهر، و من أئمة الشعر کالرودکی و الفردوسی، و کأبی منصور محمد بن احمد الدقیقی البلخی، و من أئمة التاریخ و الریاضیات کالبیرونی و آلاف غیرهم ممن اشار الیهم المؤرخون و قالوا انهم یفوقون الاحصاء، و لو ارید استخلاص اسمائهم من بین کتب التاریخ لاحتاج الامر الی عدد کبیر من القوامیس لاستیعابهم، بصفتهم مراجع عامة و ائمة لیس للاسلام وحده و انما لقسم کبیر من الامم التی افادت من علومهم فی السابق و لم تزل تتدارس الکثیر من علومهم و آثارهم حتی الیوم.
و سنمر هنا علی اهم العوامل التی جعلت لحضارة خراسان هذه القیمة فی جمیع ادوارها التاریخیة القدیمة علی قدر الامکان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 30

أهم معالم الحضارة الخراسانیة

الخط و الکتابة

و اول معالم الحضارة هو الخط و الکتابة، و لیس لدینا من الادلة التاریخیة ما یمکن الرکون الیها عن تاریخ انتشار الکتابة فی ایران عموما و خراسان خصوصا غیر تلک القصص القدیمة التی بقیت من العصور الموغلة فی القدم و التی بدأ المستشرقون یحققون فیها و فی قیمتها علی ضوء بعض الاکتشافات الاثریة و ما عثروا علیه من مخطوطات منقوشة فوق الصخور، و منحوتة فوق جهات من حفریات الجبال، و من هذه القصص التی وصلتنا عن طریق (شاهنامة الفردوسی) هو ان الخط و الکتابة کانت من مبتکرات (طهمورث) بخراسان، فقد جاءت فی الفصل السابع و العشرین من (مینوی خرد) و فی المجلد الاول من (الشاهنامة) ضمن القصص التی تتحدث عن الملوک القدماء و الابطال قصة تقول:
ان الملک (طهمورث)- و هو الذی اتخذ نیسابور من خراسان موطنا له- کان قد تغلب علی (الغیلان) حتی سمی بآسر الغیلان، و کان قد أسر عددا منهم و حین همّ بقتلهم عرض علیه هؤلاء (الغیلان) مقابل العفو ان یعلموه فنّ الخط و الکتابة فرضی بذلک و علّموه ثلاثین نوعا من الکتابة!!
ثم وردت هذه الاسطورة بعد ذلک فی صور کثیرة من القصص و الحکایات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 31
الخیالیة عند القصاصین حتی جاء المؤرخون الذین یعنون بالتحقیق و قاموا بتحقیق اصل الکتابة الایرانیة فتوصلوا الی ان تاریخ الخط و الکتابة فی ایران و فی خراسان کان قدیما جدا، و ان (طهمورث) الملک کان یتمتع بمزایا کثیرة، و مواهب عظیمة قد یعود له الفضل حقا فی معرفة الخط و الکتابة الفارسیة لاول مرة، فقد جاء فی (فارسنامة) ابن البلخی قوله: «و من آثار طهمورث انه کان اول من وضع الخط الفارسی».
و یقول الطبری مثل هذا القول بعد ان یعدّد لطهمورث ابتکارات کثیرة و یقول انه هو الذی علم رکوب الخیل، و أنسل البغال من الخیل و الحمیر، و اول من بادر بصید النمور، و هو اول من کتب الخط الفارسی
اما ابن الندیم فیقول: ان اول من کتب بالفارسیة کان (بیوراسب بن و نداسب) اما اول من صنف طبقات الکتاب و عین منازلهم فهو (لهراسب) ، و کثر بعد ذلک عدد الذین تخصصوا فی قراءة التاریخ و استقصاء آثار الخطوط المتبقیة فتأید ان الخط الفارسی قدیم جدا و هو یرجع الی نحو خمسة آلاف سنة قبل المیلاد، و حتی الاسطورة التی وردت عن (الغیلان) الاسراء الذین علّموا طهمورث الخط قد فهمها المتأخرون من ارباب الاختصاص بغیر ما کان فهمها الاخرون فقد اورد رکن الدین همایون فرخ ان (المیدیین) من سکان (طبرستان) کانوا یسمّون سراة القوم و الأکابر عندهم (بالدیو) ای الغیلان فالتبس الامر علی المؤرخین المتقدمین و ظنوا ان المقصود بالغیلان هم الوحوش الذین نسجتهم الأخیلة و أسکنتهم الصحاری و البراری.
و لا شک ان هؤلاء الاسراء الذین اسرهم طهمورث من المیدیین فی طبرستان کانوا یعرفون الخط و الکتابة، و حین استولی طهمورث علی طبرستان واسر الغیلان ای سراة القوم اشتروا منه انفسهم بتعلیمه ما کانوا یعرفون من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 32
فنون الخط و الکتابة لا الغیلان الذین یرد ذکرهم فی الاساطیر و الذین التبس مرهم علی الرواة و المؤرخین.
و یبدو ان هؤلاء الذین اطلق علیهم اسم (الدیو) کانوا من الناس المهیبین الذین یخشاهم المجتمع حتی آل بهم الامر الی ان یعبدوهم و یتخذوهم آلهة، و یستدل علی ذلک من النهی الوارد علی لسان زردشت عن عبادة (الدیو) و من قول الفردوسی فی الشاهنامه اذ یقول:
تو مر دیو را مردم بدشناس‌کسی کو ندارد ز یزدان سپاس
ای علیک ان تعد الدیو (الغیلان) اناسا غیر طیبین.
و لیس بالبعید ایضا و قد وصل الینا الشی‌ء الکثیر من اخبار طهمورث و قابلیاته من ان یکون هو الذی حسّن هذا الخط الذی تعلّمه ثم وسّع انتشاره فانبعث الخط الفارسی- اول ما انبعث- من خراسان، ثم عمّ اصقاع ایران، و دخلت علیه بعد ذلک تطورات الی ان تم انقراضه بعد فتح الاسلام لایران.
و اذا لم یصح ان تکون خراسان اول من ابتدعت الخط الفارسی فلیس من شک انها کانت قد افادت من الکتابة الشی‌ء الکثیر لملازمة عدد من الملوک للاستیطان بها، و تجییش الجیوش، و تسجیل الاوامر الملکیة. و کتابة الوصایا و العهد بها الی من یلیهم فی الحکم و ضبط الاموال و حصر الارزاق و غیر ذلک مما یتوقف علی الکتابة و البروز فیها و الاحاطة بفنونها.
و قد اورد ابن الندیم فی الفهرست ذکرا للوصایا التی یترکها الملوک فقال عن فریدون انه لما قسم الارض بین ولده: سلم، و طوج، و ایراج، خصّ کل واحد منهم بثلث المعمورة، و کتب کتابا بینهم .
و استعراض موجز لتاریخ خراسان القدیم یکفی لاعطاء فکرة لا یتسرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 33
الیها الشک بان حظ خراسان من الکتابة و الخطوط و تسجیل ما تطلبه الحیاة کان کبیرا قبل تغلغل الزردشتیة، و حین انتشرت الزردشتیة عمت الکتابة و اصبحت جزء کبیرا من حیاة الناس و حیاة خراسان بصفة خاصة و ذلک بسبب هجرة زردشت الی خراسان و نشر تعالیمه فیها مما سنشیر الیه.

الدین و العقیدة

و الدین عامل من اهم العوامل فی بناء الحضارة و تقویم المجتمع فی التاریخ القدیم، و تکون أهمیة کل دین بقدر ما یتضمن من الافکار و الانظمة الاجتماعیة و التشریع الذی یحفظ للمجتمع کیانه، و علی قدر ما یبنی الدین و یعمر من الافکار الصالحة و المعتقدات النافعة، و ما یغذی به النفوس من روح التأمل فی الوجود، و الدعوة الی المحبة و الخیر العام، و لم یخل دین صحت أسسه او بطلت من نزعة خیر عملت عملها فی تاریخ الانسان القدیم، و کان لها و لو بعض الاثر فی تلطیف مزاج الانسان و لفت نظره للوجهة التی تحقق له سعادة بنسبة ما یتضمن ذلک الدین من التعالیم الصالحة، و قد کانت لخراسان القدیمة حصتها من هذه الادیان التی ساعدت علی تفتح الذهنیة، و فتح المجال للتأمل و التفکیر فی الوجود الذی یحیط بالانسان، و فهم الاسباب و المسببات و الخوض فی فلسفتها، و نشر الثقافة العامة فی وسط الناس عن طریق الطقوس و الآداب و الفنون.
و من اقدم الادیان و اشهرها التی قامت فی خراسان و التی یرجع بدء تاریخها الی عهد طهمورث علی ما هو تحت ایدینا من الاخبار و القصص القدیمة هی: (الصابئیة)، و علی ان (المجوسیة) هی دین القبائل التی کانت تسکن ایران قبل نزول الآریین لهذه البلاد التی تم طردهم لسکانها الاصلیین و احتلال دیارهم بمرور الزمن علی ما جاء فی الروایات فاننا لا نعرف شیئا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 34
کافیا عن هذه (المجوسیة) فی تاریخ ایران العام فضلا عن تاریخ خراسان.
یقول محمد بدیع فی العدد 47 من (الاخاء) العربیة: «و قبل ظهور زردشت ای قبل ان تشکل دولة (میدیا) کان بین سکان ایران غیر الاریین دین یعرف بدین (مغان) ... و یظهر ان المجوس کالعیلامیین من سکنة ایران القدماء، و انهم لم ینتموا لاحد العنصرین الآری او السامی» ثم یقول: و بالرغم من ان الاکثریة الساحقة من المفسرین یفسرون المجوسیة بالزردشتیة فان المسلّم به هو ان کلمة المجوس هی تعریب لکلمة (مکوش) فی لغة الفرس القدیمة.
و اذا صح ان المجوس غیر الزردشتیین، و ان دینهم اقدم دین للقبائل المجهولة الاصل القدیمة التی کانت تسکن ایران قبل الآریین فاننا لم نعرف ای اثر لهذا الدین القدیم فی خراسان سواء کان ذلک قبل نزول الآریین بخراسان او بعد نزولهم.

الصابئیة

و لعل الصابئیة علی هذا اول دیانة او اقدم دیانة فی خراسان فتحت لاول مرة للاذهان کوی علی العالم السماوی و السفلی، و حملت النفوس علی التفکیر فی خلق الکون و التأمل فی الکواکب و اضوائها، و تعلیل وجودها فی هذا الفضاء اللانهائی المسمی بالسماء فکان لهذا الدین اثره من هذا الجانب علی الخراسانیین و توجیههم لاول مرة الی العالم العلوی اضافة الی العالم لسفلی.
و یقول المسعودی ان نبی هذا المدهب هو (أیو داسف) و انه هو الذی حدث مذاهب الصابئة، و روی عن (ابو داسف) انه قال: ان مغالی الشرف کامل، و البلاغ الشامل، و معدن الحیاة فی هذا السقف المرفوع (یرید السماء)، و ان الکواکب هی المدبرات و الواردات، و الصادرات، و هی التی بمرورها فی افلاکها، و قطعها مسافاتها، و اتصالها بنقطة، و انفصالها عن نقطة، یتم ما یکون فی العالم من الاثار من امتداد الاعمار و قصرها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 35
و ترکیب البسائط، و انبساط المرکبات، و تتمیم الصور، و ظهور المیاه و غیضها، و فی النجوم السیارة فی افلاکها التدبیر الاکبر.
و اضاف المسعودی قائلا: و یقال ان هذا الرجل اول من اظهر آراء الصابئة من الحرابیین- و الصحیح الحرانیین- و الکیمیاریین، و هذا النوع من الصابئة مباینون للحرانیین فی نحلتهم و دیارهم فی بلاد واسط و البصرة من ارض العراق و هناک من یقول ان الصابئة هم عامة المعروفین بالحرانیین.
اما ابن الندیم فیسمی مذهب (ایو داسف) بمذهب (السمنة) و لا بد ان تکون (السمنیة) غیر الشمنیة التی تطلق علی الرهبان البوذیین فی خراسان و ما وراء النهر، فالشمن صفة تخص الروحانیین من البوذیین، و یروی عنهم و عن عقیدتهم غیر ما روی المسعودی، اللهم الا ان یکون یوداسف غیر بوداسف و هذا بعید الاحتمال.
یقول ابن الندیم: قرأت بخط رجل من اهل خراسان قد الف (اخبار خراسان فی القدیم و ما آنت الیه فی الحدیث) و کان هذا الجزء یشبه الدستور، قال: بنی السمنیة (بو داسف) و علی هذا المذهب کان اکثر اهل ماوراء النهر قبل الاسلام و فی القدیم، و معنی (السمنیة) منسوب الی (سمنی) و هم أسخی اهل الارض و الادیان، و ذلک ان نبّیهم (بو داسف) اعلمهم ان اعظم الامور التی لا تحل و لا یسع الانسان ان یعتقدها و لا یفعلها هو قول (لا) فی الامور کلها، فهم علی ذلک قولا و فعلا، و ان قول (لا) عندهم هو من فعل الشیطان، و مذهبهم هو دفع الشیطان .
و اذا لم تکن الصابئیة اول دین عرف فی التاریخ لامتداد تاریخه الی ما قبل (الحنفیة) دین ابراهیم فقد انبعثت الصابئیة- اول ما انبعثت- من خراسان، و هذه میزة اخری لخراسان فی ان تکون مبعث الادیان القدیمة، و لا یبعد ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 36
تکون الصابئیة هی السبب فی اثارة التفکیر فی فلسفة المرئیات من الکواکب و علاقتها بالارض و السکان و معنی ذلک انها هی التی فسحت فی المجال و لو قلیلا للانسان القدیم لکی یتباعد عن معتقداته القدیمة بالسحر و الشعوذة و الاشباح التی کان یؤمن بها و التی کانت تسیطر علی عقول الشعوب القدیمة نتیجة الذعر و الخوف الذی کان یبعثه الظلام و الوحشة، و لیس بالبعید ان تکون خراسان قد افادت بعض الشی‌ء فی تجربة تمرین العقل و الاستعداد للمناقشة بسبب المعتقدات الصائبة التی تعزو الکثیر من الأمور الی الافلاک و النجوم، و لیس بالبعید أن یکون بروز عدد من العلماء الخراسانیین فی العصور الاسلامیة بالریاضیات و حساب النجوم و علم الهیئة السماویة بمثابة امتداد لتلک العقائد القدیمة بالفلک و النجوم.

البوذیة

و البوذیة لم تتولد فی خراسان و انما جاءت الیها من وسط الهند واجدة فی خراسان و فی بیئتها و فی قابلیة سکانها ما یساعدها علی الانتشار، و قد تأثرت خراسان بتعالیم البوذیة لحد بعید، حتی لقد کادت شهرة (بلخ) کمدینة بوذیة تفوق شهرة ایة مدینة عرفت باعتناق البوذیة، و علی ان هناک من یری ان ظهور البوذیة یرجع الی نحو اکثر من الف سنة قبل المیلاد فان المرجح ان یکون ذلک فی اواخر القرن الثامن او اوائل القرن السابع قبل المیلاد، و قد اعتنقت (بلخ) و الجانب الشمالی من خراسان البوذیة و من هذه الجهات انتشرت البوذیة و عم انتشارها بلدانا بعیدة.
و مذهب البوذیة یقوم علی اسس اربعة:
اولا- الاعتقاد بان الألم من لوازم الوجود
ثانیا- و ان الانسان قد یرجع الی هذه الدنیا مرة اخری، و ان سبب رجوعه هو الالتیاث بالشهوات فی حیاة سابقة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 37
ثالثا- ان الخلاص من اثر الشهوات هو الوسیلة الوحیدة للنجاة من العودة ثانیة الی حیاة علی الارض بعد مماته.
رابعا- و ان علی الانسان: ان یبعد عن نفسه العقبات التی تحول بینه و بین الخلاص من شهواته.
و تعتقد (البوذیة) ان الواجب یقضی علی الانسان ان یخلص نفسه و یخلّص غیره من أسر الشهوات، و ان یلتزم الطیبة، و الشفقة، و الحب، و التسامح، و لین المعرکة و التقشف .
و یقول الاستاذ (بارتولد)- تاریخ الحضارة الاسلامیة- ص 63:
«لم یکن لاقلیم من اقالیم الساسانیین القدیمة تأثیر فی رقی المسلمین دینا، و اقتصادا و علما، کتأثیر (بلخ) التی ظلت مرتبطة بالدیانة البوذیة حتی قدوم العرب، فمن بلخ نشأ البرامکة وزراء خلفاء بغداد» .
و من اشهر معابد البوذیین فی بلخ هو النوبهار، و هو اعظم بیت من بیوت الاصنام، فحین سمع ملوک ذلک الزمان- قبل الاسلام طبعا- بشرف و اهمیة اصنامها و احترام العرب لها بنوا هذا البیت (ای النوبهار) مضاهاة للکعبة و زینوه بالدیباج، و الحریر، و الجواهر النفیسة، و نصبوا الاصنام حوله، و کان الفرس و الترک یعظمونه و یحجون الیه و یهدون له الهدایا- و کان الهند و الصین یأتون الیه فاذا و افوه سجدوا للصنم .
و قد ذکر البلاذری فی (فتوح البلدان): ان احد ولاة معاویة خرّب معبد (النوبهار) فی بلخ .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 38
و من هذا یتضح ان الخراسانیین قد اخذوا من البوذیة الشی‌ء الکثیر من مختلف التعالیم خصوصا الدعوة الی تهذیب النفس، و تحمّل العذاب، و الصبر علی المکاره الذی اثبت التاریخ ان خراسان کانت متفوقة فیه.

الزردشتیة

و یستبان من تتبع الحوادث، و استقصاء الاخبار ان خراسان قد اتصفت فی تاریخها القدیم بنوع من حریة الرأی و الثقافة التی تمکن ارباب الرأی ان یجهروا بآرائهم و لو بقدر محدود، و یلاقوا من الخراسانیین آذانا مصغیة الی الحد المقبول و الا لما لقی اقوی الادیان اصولا مجالا للتبشیر هناک بدعوته و الاقبال علیه، فها هی ذی الصابئیة، ثم البوذیة، و الزردشتیه ثم الاسلام قد لقیت دعواتها فی خراسان قابلیة تهضم المعقول و تدین بفلسفة الواقع، و تماشی المنطق، و تکسب من کل ذلک ثقافة صهرها لها تضارب الافکار و الاراء حتی صارت العقلیة الخراسانیة مضرب المثل فی التاریخ القدیم و فی التاریخ الاسلامی الذی اخرجت فیه خراسان المئات من أهل النبوغ و العبقریة فی مختلف العلوم و الفنون التی ملأت بطون الکتب.
و الزردشتیة- دین جدید دخل خراسان قبل ان یدخل ای اقلیم آخر، و نبیّ هذا الدین عندهم هو (زرادشت) و هو من اولاد (بروشسب) من سلالة منوچهر أحد ملوک ایران القدماء بخراسان علی ما یقول البعض، و یعین الیونانیون فی تواریخهم ظهور (زرادشت) باذربایجان- قرب بحیرة رضائیة- بما یقارب الف سنة قبل المیلاد، و لکن البرفسور الالمانی (گولدنر) یعتقد ان ظهور الزردشتیة لم یتجاوز القرن السادس قبل المیلاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 39
و هناک غیر مؤرخی الیونان من یقول بأن زردشت قد ولد باردبیل (آذربایجان) و ما کاد یجهر بدینه حتی نفاه المیدیون فالتجأ الی خراسان، و لکن مثل هذا الرأی لم یزل مجال شک، و لا یزال مولده و منشأه الاول مجهولا و کل ما یعرف عن دینه انه ظهر فی شرقی ایران- ای خراسان- و ان (کشتاسب) الایرانی فی (بلخ) و من سلالة الکیانیین آمن به. و من هناک انتشرت التعالیم الزردشتیة حتی عمت کل ایران من المیدیین و الفرس و ترکستان، و الهند، و اسیا الصغری.
و الطبری ممن یری ان دعوة زرادشت قد ظهرت- اول ما ظهرت- فی آذربایجان ثم خرج زردشت منها متوجها نحو بشتاسب (کشتاسب) ببلخ و لکن المستشرقین و منهم کریستنس الدنمرکی یری ان اللغة و المدنیة التی جاءت فی اجزاء (جات) من کتاب (الافستا) و هو کتاب زرادشت تشیر الی ان ما فیها من اناشید انما تتعلق بالمناطق الشرقیة لایران، و قد اشار (بارتولومه) اعتمادا علی الملاحظات الجغرافیة الی ان تعالیم (الافستا) قد ظهرت فی شرق ایران علی اکبر تقدیر لذلک من الراجح ان تکون الزردشتیة قد بعثت فی خراسان و انتشرت من بلخ الی سائر الجهات .
و هذا دلیل آخر علی ما کانت علیه خراسان من حریة الفکر، و وجود القابلیات و المدارک التی یستطیع المبشرون ان یعتمدوها لقبول المناقشة و تبادل الاراء، و لقد قیل انه کانت لزرادشت احد معابد الزرادشتیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 40
مناظرات مع الحکماء، و قد دعاهم الی نبذ عبادة الاوثان، و الاتجاه الی عبادة اللّه الاوحد، و قیل ان هذه المناظرات مع رجال الفکر و مناقشه زردشت من لدنهم قد جرت بمحضر الملک (کشتاسب) ببلخ (خراسان) و حصلت فیها محاججات و مما حکات علمیة و عقلیة حتی آمن به الجمیع .
و تعالیم زردشت، کانت خطوة جدیدة فی الفلسفة یومذاک و هی تبنی دیانتها علی ثلاثة أصول:
1- هومت- أی النیة الحسنة (و هی ما عبّر عنها بالفارسیة: بپندار نیک)
2- هوخت- ای القول الحسن (و هو ما عبّر عنه بالفارسیة: بگفتار نیک)
3- هاورشت- أی العمل الحسن (و هو ما عبّر عنه بالفارسیة: بکردار نیک)
و هذه التعالیم تدعو الی عبادة اللّه و تسمیه (أهورامزدا) و ان کتابها الدینی هو (الافستا) و ان شرحه هو (الزند) و ترجع هذه الدیانة العالم الی اصلین:-
اصل الخیر- و هو (یزدان) و اصل الشر و هو (اهریمن).
و تذهب تعالیم زردشت الی ان هذین الاصلین او المبدئین فی نزاع دائم، و ان اصل الخیر هو النور، و قد خلق منه کل ما هو حسن، و خیر، و نافع، و ان اصل الشر هو الظلمة و قد خلق منها کل ما هو شر فی العالم، و ان الحرب بین هذین الروحین: الخیر و الشر سجال، و لکن الفوز النهائی سیکون للخیر، فالنور و الظلمة، اصلان متضادان هما مبدأ موجودات العالم، و قد حصلت التراکیب من امتزاجهما، و حدثت الصور من التراکیب المختلطة، و ان مبدعهما واحد لا شریک له، و لا ضد له، و لا ند، و لا یجوز ان ینسب الیه وجود الظلمة، و هو (اهورامزدا).
ثم یدعو زردشت بعد ذلک فی کتابه (الافستا) الی حب الخیر، و وجوب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 41
تجنب الشر، و توحید الفکرة فی العمل لاحیاء الارض، و التعمیر، و الاعتقاد بما وراء الطبیعة من قیام الاخرة، و وجوب التغلب علی الشر .
و قد اعتبر البعض دیانة الزردشتیة ثنویة و لکن التحقیق اظهر بعد ذلک ان زردشت کان موحّدا و انه یری ان العالم کله یخضع لاله واحد و الی هذا ذهب الشهرستانی فی (الملل و النحل) و القلقشندی فی (صبح الاعشی) و غیرهما .
و الانسان علی ما تقول الزردشتیة مختار فی اتباع احدی هاتین القوتین:
(اسپنت مینو) اصل الخیر، و (انکره مینو) اصل الشر، فاذا اخبار الخیر استحق الجنة، و ان اختار الشر استحق الجحیم، و ان السعادة تأتی من اباع؟؟؟ الاحکام التی تقود الی الخیر، و تقول الزردشتیة ان بمثل هذا الفکر یتحسس المرء بحریته فی الحیاة و یبتعد عن قبول الافکار الجبریة، و تعتفد الزردشتیه ان السعادة و الشقاء هو ما تقدمه ید الانسان فالانسان یستطبع ان یسعد نفسه او یشقیها .
و یقول محمد بدیع: و النار فی شریعة الزردشتیة عنصر طاهر و مطهر و لذلک فهی مقدسة.
و من أهم احکام الزردشتیة بعد ذلک الدعوة الی الزواج و یسمی زردشت الزواج: (اقدس اعمال العفة) یسنا 53- 5 من اجزاء الافستا.
و یستنکر زردشت تعدّد الزوجات، و یدعو الی مشارکة المرأة للرجل و مساواتها به فی جمیع الحقوق المدنیة و الاجتماعیة (و ندیدا- 11- 7) من اجزاء الافستا.
و الطلاق محرم فی الزردشتیة (یشته‌ها 104) من اجزاء الافستا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 42
و یقول الدکتور جیمس هنری برستاد: ان دین الزردشتیة قد نشأ من نفس جهاد الحیاة، و صار قوة عظیمة فی الحیاة، و کان من اشرف الادیان التی وجدت قبله و فی زمانه .
و فی تعالیم الزردشتیة بعد ذلک اتجاهات ادبیة و فنیة، و صور للشعر و الموسیقی کان لها تأثیر کبیر فی صقل الذهنیة الخراسانیة و افکارها و توسیع دائرة الثقافة العامة و جعل العقلیة الخراسانیة عقلیة خاصة زودت هذه المجموعة من السکان بمواهب انفردت بها بین الاقالیم الایرانیة فی کثیر من العهود.

المانویة

و قد بشّر بها (مانی) المولود ببابل و هی خلیط من العقائد البابلیة القدیمة و البوذیة، و الزردشتیة، و المسیحیة، و تتلخص هذه الدیانة فی ان الانسان خلق من أصل ربانی، و ان نجاته من الاذی و الشرور تتوقف علی فهمه لنفسه، و فهمه للعالم المحیط به، فبمقدوره التقرب الی الانسانیة الکاملة و بلوغ قمتها اذا استطاع ان ینزه نفسه من العیوب و الشرور، و هو یقول بالتناسخ، و یری ان الانسان متی بلغ تلک المنزلة من التفاوت و الانسانیة الکاملة کان مصیره للجنة اذا مات، اما اذا انصاع لشهواته، و انقاد للشر فستحل روحه بعد موته فی اجسام أخر، و لم تزل تنتقل من جسم الی جسم حتی تطهر.
و تری (المانویة): ان المعاصی و الشرور فی الانسان انما تنطلق من لسانه و عینه، و یده، و ان علیه- اذا أراد ان یکون صالحا- ان یحافظ علی لسانه و عینه و یده، لئلا ینطلق منها الشر و الأذی.
و قد حرّمت (المانویة) علی اتباعها التبذّل و الرکض وراء الشهوات،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 43
و دعت الی نوع من العرفان و الزهد، و النزوع الی معرفة الحقیقة، و ترمی فلسفتها الی البحث عن حقیقة الانسان و کیف جاء الی الدنیا، و ما هی ماهیته، و الی این ینتهی به المطاف، و هی تقسم الوجود الی ثلاثة ازمنة:
1- الزمان القائم- و به الخیر و الشر منفکّان.
2- و الزمان المتوسط- ای الحاضر- و قد اختلط فیه الخیر بالشر
3- و الزمان القادم- المستقبل- و هو آخر الأزمنة حیث یعود التضاد الی الانفصال مرة اخری.
و مآل العالم فی رأی (مانی) الی الفناء و ذلک لوجود قوی الخیر و الشر، و النور و الظلام، و تکون نهایة العالم بنشوب حرب عالمیة، او بنزول کارثة تدهم العالم و تقوض ارکانه.
هذه باختصار هی فلسفة المانویة و عقیدتها، و قد ضمتها عدة کتب مزینة بالصور، و اهم هذه الکتب ما عرف باسم (ارژنک) و کتاب (شاپورکان) و هو الکتاب الوحید الذی کتبه (مانی) باللغة البهلویة، و یعدّد ابن الندیم کل کتب (مانی) و یورد اسماءها فی الفهرست.
و لیس من شک ان خراسان قد عرفت (المانویة) عند ظهورها، فقد قام مانی حوالی الثلث الاول من القرن الثالث المیلادی بجولة فی ایران و ترکستان و الهند للتبشیر بالمانویة، و قد ورد اسم خراسان ضمن الاقطار التی بشّر فیها مانی بدینه، و قد نص الدکتور هادی طبیب‌زاده علی ذلک بقوله:
«و سافر مانی الی (مرو) و (خراسان) مبشرا بدینه» و هذا دلیل آخر علی ما کانت تمتاز به خراسان من حریة الرأی، و اتساع میدان المناقشات، و مدارک الثقافة المستندة الی العقل و المنطق العلمی بحیث جعلت من خراسان شبه محک لتماحک الادیان، و شبه ملجأ للمبشرین بارائهم من مضطهدیهم، و لا شک ان هذه التعالیم قد فعلت هی الاخری فعلها فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 44
نفوس الخراسانیین، فهضمت العقول منها ما یمکن ان یهضم، و نبذت ما لا تستسیغه عقولهم علی قدر حدود تلک العقول فی تلک الأزمنة .

و أدیان أخری

و لیس من البعید ان تکون خراسان قد عرفت ادیانا اخری کالوثنیة الیونانیة فی أیام فتح الاسکندر، و لکن هذه الوثنیة لم نجد لها أثرا ملحوظا فی تاریخ خراسان، و اذا کان هناک شی‌ء من ذلک فلا نحسبه الا و قد انقرض بانقراض عهد الیونانیین الذین لم یتجاوز حکمهم لایران اکثر من 80 عاما.
و علی ان المزدکیة قد انتشرت فی القرن الخامس المیلادی فی کثیر من جهات ایران فاننا لم نلحظ فی هذا الاقلیم ما یشیر الی ان المزدکیة قد وجدت فیه مرتعا او مجالا للانتشار، و اذا صح هذا فهو الاخر دلیل علی ان میزان العقل الخراسانی کان میزانا له قواعده و أصوله المنطقیة، فالمزدکیة کانت نوعا من أنواع الشیوعیة المتطرفة، و هی تعتقد ان اکثر الخصومات و المباغضات و القتال فی العالم انما تحدث بسبب النساء و الأموال، و ان التخلص من هذه الشرور هو فی اباحة النساء و الأموال، و جعل الناس شرکة حرة فیها کشرکتهم فی الماء، و النار، و الکلأ، و قد حکی ان مزدک قد أمر بقتل الانفس لیخلصها من الشر و المظالم ..!!
و أصول الدین عند مزدک ثلاثة: هی: الماء، و النار، و الارض، و معبوده قاعد علی کرسیه فی العالم الاعلی، و بین یدیه اربع قوی، هی التمیز، و الفهم، و الحفظ، و السرور.
و بعد هذه الخلاصة عن المزدکیة فلیس بالغریب اذا لم نجد المانویة فی خراسان قائمة قیام الأدیان المتقدمة، و غیر فاعلة شیئا فی نفوسها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 45
صحیح ان الأدیان المتقدمة قد فعلت فعلها العظیم فی یقظة جمیع الاقالیم الایرانیة لا الخراسانیة وحدها، و بنت لها حضارتها، و نشرت الثقافة العامة فی ربوعها و لا سیما فی (میدیا) و فی (فارس) بل ان کثیرا من الآثار التی خلفتها الأدیان و فلسفاتها المتجانسة و المتضادة المتضاربة، کانت بارزة کل البروز فی اصقاع ایران الاخری کبروزها فی خراسان و اکثر، و لکن فعل هذه الفلسفات الدینیة و اتجاهاتها قد اعطت خراسان صبغة معینة خاصة، و خلفت فیها أثرا اقتصرت ألوانه علیها وحدها بسبب تفاعل تلک الأدیان و ما کانت تحمل من تیارات فکریة، و اتجاهات مختلفة جعلت من خراسان عقلیة لها فهم خاص لبعض نواحی الوجود، و إدراک خاص لبعض صور الحیاة، فکان من نتائج هذا التفاعل. و انصهار الافکار الدینیة ان زاد الخراسانیون فی امعان النظر فی خلق السموات و الارضیین، و البحث عن فلسفة الوجود بحثا فیه الشی‌ء الکثیر من العمق، و فهم الدین فهما یرتکز الکثیر منه علی العقل و المنطق، و معرفة الحیاة و حیاة الانسان و الانسانیة بنحو خاص کثیرا ما ظهرت آثاره فیما خلفه الخراسانیون من افکار و آراء، و فلسفة، و کتب و مؤلفات فی العصور الاسلامیة نتیجة انعکاس مجموعة من الثقافات و الافکار.

الاسلام

و حین دخل الاسلام لم یعان من الخراسانیین ما اعتاد ان یعانیه فی ای بلد دخله الاسلام لاول مرة من قلة ادراک، و قلة استعداد لفهم روح الاسلام، بل ألفی عند أهل خراسان استعدادا للمناقشة، و فهما للواقع، و معرفة کاملة بفلسفة الادیان و أهدافها، و اعتزازا بالقیم التی خلقت منهم اناسا لهم شأن غیر شأن الکثیر من الناس فی الکثیر من الاقطار، یمحصون الافکار و الاراء دون ان یدعوا للعواطف طریقا للتغلغل الی محصهم و فحصهم.
یقول یاقوت الحموی فی وصف الخراسانیین: و کان محمد بن علی بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 46
عبد اللّه بن العباس قال لدعاته حین أراد توجیههم الی الامصار: اما الکوفة و سوادها فهناک شیعة علی و ولده، و البصرة و سوادها فعثمانیة تدین بالکف، و أما الجزیرة فحروریة مارقة و اعراب کاعلاج، و مسلمون اخلاقهم کاخلاق النصاری، و اما الشام فلیس یعرفون الّا آل ابی سفیان و طاعة بنی مروان، عداوة راسخة، و جهل متراکم، و اما مکة و المدینة فغلب علیها ابو بکر و عمر، و لکن علیکم بأهل خراسان، فان هناک العدد الکثیر، و الجلد الظاهر، و هناک صدور سلیمة، و قلوب فارغة لم تتقسمها الاهواء، و لم تتوزعها النحل، و لم یقدم علیها فساد .
فالمنطق و العقل و الخبرة و التجربة، کان فی نسبة جد کبیرة عند الخراسانیین و لذلک کان عدد النبغاء منهم فی مختلف العلوم و الفنون الاسلامیة، و غیر الاسلامیة و حتی فی النحو و اللغة العربیة و آدابها و فی الفقه و الحدیث و التفسیر کبیرا جدا مما سنشیر إلیه اشارة عابرة.
«قال عبد اللّه بن احمد بن حنبل: قلت لأبی: یا أبت ما الحفّاظ؟
قال یا بنی شباب کانوا عندنا من أهل خراسان و قد تفرقوا، قلت: و من هم یا ابت؟ قال: محمد بن اسماعیل ذاک البخاری، و عبید اللّه بن عبد الکریم ذاک الرازی، و عبد اللّه بن عبد الرحمن ذاک السمرقندی، و الحسن بن شجاع ذاک البلخی» و ما عدا (الرازی) فان الحفاظ کلهم خراسانیون عند الذین یخرجون الری من اقلیم خراسان، و قد کان الحسن بن شجاع البلخی اجمعهم للابواب علی ما روی احمد بن حنبل،
و قد لطّفت الأدیان من الخراسانیین أمزجتهم، و هذّبت منهم نفوسهم، و صقلت أفکارهم، و وسّعت دائرة عقولهم، و وضعتهم فی المکان اللائق بهم، و طبعتهم لحد کبیر علی حب الحریة، و التمسک باذیالها تمسکا استلفت انظار الکثیر من المؤرخین و مؤرخی الاسلام و العرب خاصة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 47
یقول زکریا بن محمد عن أهل خراسان:
«خراسان من احسن أرض اللّه و اعمرها، و اکثرها خیرا، و أهلها احسن الناس صورة، و اکملهم عقلا، و اقومهم طبعا» .
و قد وجد الاسلام فی خراسان بناء علی ما مرّ أرضا خصبة، و نفوسا جاهزة لتلقی تعالیمه بالقبول، و عقولا تهضم المنطق و المناقشة، فکانت النتیجة أن سجل التاریخ الاسلامی للخراسانیین صفحات مشرقة، فقد تمشت التعالیم الاسلامیة و أهدافها و فلسفتها مع ما جبل علیه الخراسانیون من امعان النظر فی الکون، و التأمل فی الحیاة و أسرارها، و کان للقرآن اثره فی نفوسهم من قوله:
«أَ فَلَمْ یَنْظُرُوا إِلَی السَّماءِ فَوْقَهُمْ کَیْفَ بَنَیْناها وَ زَیَّنَّاها، وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ، وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَیْنا فِیها رَواسِیَ وَ أَنْبَتْنا فِیها مِنْ کُلِّ زَوْجٍ بَهِیجٍ تَبْصِرَةً وَ ذِکْری لِکُلِّ عَبْدٍ مُنِیبٍ».
و فی قوله:
«وَ مِنْ آیاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِکُمْ وَ أَلْوانِکُمْ، إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِلْعالِمِینَ».
واجهة مقبرة الغزالی بطوس فی اثناء تعمیرها و لعل للمنطق العلمی و العقل الذی دعا الیه الاسلام و الادب الذی حث الاسلام علی التحلی به وجها آخر من وجوه الجاذبیة فی اقبال الخراسانیین علی الاسلام و ایمانهم ایمانا خالصا فی قوله تعالی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 48
«ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ».
و لربما کان للحریة الفکریة و الدینیة التی عرف بها الاسلام فی دعوته شأن آخر فی انجذاب الخراسانیین الذین کانوا یعطون الحریة المقام الاسمی من نفوسهم کما یدل علیه تاریخهم القدیم و ما کان للتعالیم من أثر علیهم، نقول لربما کان لهذه الحریة التی جبلوا علیها من عهد طهمورث، اثرها البلیغ فی انجذابهم الی الاسلام فاقبلوا علیه بلهفة و شوق منجذبین بقوله تعالی:
«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَی اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
و فی قوله:
«لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ».
و قوله تعالی:
«قُلْ یا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ».
و قوله تعالی:
«یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ».
و قوله تعالی:
«مَنْ کَفَرَ فَعَلَیْهِ کُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ یَمْهَدُونَ».
أجل لقد کانت الادیان القدیمة علی ما کان یعتور أسسها من علل و کان الدین الاسلامی الواسع فی أهدافه الاجتماعیة و مغازیة عاملا من أهم عوامل الحضارة، و قد افادت منه خراسان فی تنمیة مواهبها الروحیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 49
و وضعت کل امکانیاتها و بما فی قلوبها من رغبة خالصة تحت تصرف الاسلام، و اخلصت فی المحبة و الطاعة لمن توسمت فیه الایمان بالاسلام و مبادئه من الامراء و القواد و العمال،
کان الفضل بن عیاض من أهل مرو و من موالید القرن الثانی و قیل بل کان من أهل سمرقند و کان من قطاع الطرق و من المعروفین بالشرور و القساوة و قد سمع احدا یقرأ الآیة الکریمة: «أَ لَمْ یَأْنِ لِلَّذِینَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِکْرِ اللَّهِ» و ما کاد یعرف معناها حتی انجذب و تاب الی اللّه و اصبح من الصالحین .
و قد جاء عن أهل خراسان انهم لم یحبوا امیرا قط حبهم لسلم بن زیاد لما ظهر علیه اول الأمر من الصلاح فسمی فی تلک السنین التی کان بها سلم امیرا علی خراسان اکثر من عشرین الف مولود باسم (سلم) لفرط حبهم له ، و لقد بلغ من حب الخراسانیین لسلم أن أخذ سلم منهم البیعة علی الرضا، حین وصل الی خراسان خبر موت یزید بن معاویة، و معاویة بن یزید الی أن یستقیم أمر الناس علی خلیفة و قد مکثوا شهرین ینتظرون حتی رأوا من سلم ما لا یتفق و تعالیم الاسلام فاعرضوا عنه و نکثوا البیعة و لم یعد لسلم ذلک المقام، فکان ان أحبوه یوم توسموا فیه مثال المسلم الذی یدعو الیه الاسلام، و کرهوه یوم رأوه نقیض ذلک، و بهذه الروح استقبلوا اشرس بن عبد اللّه السلمی عامل هشام بن عبد الملک علی خراسان حتی لقد کبّر الناس فرحا به لما بدت علیه من مظاهر التقوی ثم لقبّوه (بجغر) و انکروه حین ساءت فعاله،
و یروی لنا التاریخ الشی‌ء الکثیر عن قصة الاسلام و مقام المسلمین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 50
الأتقیاء عند الخراسانیین، عمالا کانوا او قوادا او عربا مواطنین، فقد فهم الخراسانیون الاسلام فهما صحیحا و توقعوا فی تعالیمه تغییرا جوهریا فی النفوس و الحیاة العامة.
یقول یاقوت الحموی عن أهل خراسان: «ثم اتی الاسلام فکانوا فیه أحسن الامم رغبة، و أشدّهم الیه مسارعة، منّا من اللّه علیهم، و تفضلا لهم، فاسلموا طوعا، و دخلوا فیه سلما، و صالحوا عن بلادهم صلحا».
و لقد تبوأ غیر واحد من الخراسانیین مقام الزعامة الروحیة و الامامة فی الفقه الاسلامی و التشریع.
قال عبد الرحمن بن زید بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد اللّه بن عباس، و عبد اللّه بن الزبیر، و عبد اللّه بن عمرو بن العاص، صار الفقه فی جمیع البلدان الی الموالی، فصار فقیه أهل مکة: عطاء بن أبی رباح، و فقیه أهل الیمن طاووس، و فقیه أهل الیمامة: یحیی بن أبی کثیر، و فقیه أهل البصرة: الحسن البصری، و فقیه أهل الکوفة: النخعی، و فقیه أهل الشام: مکحول، و فقیه اهل خراسان: عطاء الخراسانی و قد أطری عطاء کبار ائمة المسلمین امثال: احمد بن حنبل، و یعقوب بن شیبة، و روی عنه مالک بن انس و غیره.
و کثیر غیر عطاء الخراسانی الذین تبوأوا مقام الامامة العامة فی الفقه و الحدیث من أهل خراسان لیس فی خراسان وحدها و انما فی العالم الاسلامی، اجمع کالامام احمد بن حنبل، و الجوینی امام الحرمین، و محمد بن اسماعیل البخاری، و الشیخ ابی جعفر محمد بن الحسن الطوسی المعروف بشیخ الطائفة، فازدهرت فی خراسان حضارة روحیة اجتماعیة بسبب تفاعل جمیع الأدیان و بسبب تعالیم الدین الاسلامی خاصّة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 51

الجند و الحرب

و الجیوش و الحروب عامل آخر من عوامل الحضارة الخراسانیة، فقد فرض موقع خراسان الاستراتیجی، و فرضت ثروة خراسان الطبیعیة و غناها أن تکون مطمح انظار الترک فی الشمال الذین طالما أعدّوا عدتهم لغزوها و الاستیلاء علی ثروتها کما جعلها مطمح انظار ملوک ایران انفسهم و سبب خصوماتهم للاحتفاظ بها کجزء من اهم اجزاء إیران لاستغلالها فی شد ازر دولتهم و دعم سلطنتهم سواء المیدیین او الفرس او الخراسانیین انفسهم، او الشعوب الآریة الاخری، و قد ساعد مثل هذا التنازع و بذل المجهود للاحتفاظ بها علی قیام حرب متواصلة إذا خمدت نارها فی جهة شبت من جدید فی جهات أخری مما استدعی ان تکون الجیوش الخراسانیة علی اهبة الاستعداد فی جمیع الاوقات، و ان یکون للشجاعة و الفروسیة و البطولة شأن کبیر عند الخراسانیین، فکان الخراسانیون یعلمون اولادهم فنون الحرب و خوض غمارها منذ الصغر، ثم ان التزام کثیر من ملوک ایران القدماء بالاقامة فی خراسان و علی حدودها الشمالیة خاصة علی رأس جیش مستعد متیقظ و بناء العشرات من القلاع و الصروح قد جعل الجیش الخراسانی معتزا بنفسه، مفتخرا بقوته، فلا یدخل المیدان الا و هو واثق من قدرته علی الظفر و کسب الحرب، معتقد بأنه قوة لن تغلب و قد کان السلاح لا یکاد یفارق الخراسانی فی روحاته و غدواته،
و قد جاء علی لسان یاقوت عن اهل (سجستان) و هی احدی معاقل الجیش المعروفة بخراسان قوله فی وصف أهلها:
«إن فی رجالهم عظم خلق و جلادة، و هم یمشون فی أسواقهم و بایدیهم سیوف مشهورة».
و بقیت لخراسان هذه المزیة طوال العهود القدیمة، یقول المسعودی عن نظام اردشیر انه جعل (الاصبهبذیین)- و الاصبهبذ هو المعروف الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 52
(بالسپهبد) و معناه القائد الکبیر- أربعة: الأول بخراسان، و الثانی بالمغرب، و الثالث ببلاد الجنوب و الرابع ببلاد الشام .
و لقد بلغت الجیوش الخراسانیة من القوة لخوضها الوانا من الحروب ان غررت بالکثیر من الملوک بأن یتجاوزوا الحدود فی طموحهم و الاندفاع لبسط نفوذهم علی اکبر منطقة من الدنیا کما فعل (کیکاووس) الذی ساق جیشه من (بلخ) لغزو الیمن!!
و سأل الحجاج ابن القریة عن بعض المدن فقال عن خراسان: «ماؤها جامد، و عدوها جاهد و بأسهم شدید، و شرهم عنید» .
و الاعتزاز بالقوة عند الخراسانیین قدیم جدا و یرجع الی ابعد مدی فی التاریخ بل ان الایرانیین جمیعا کانوا یفخرون بابطالهم و یروون مختلف القصص الغریبة عن شجاعتهم فی کتبهم و اسمارهم و قد حظی (رستم) الذی ظهر فی أیام (کیقباد) و حظی ابوه (زال) الذی کان فی أیام منوچهر بالشی‌ء الکثیر من الاساطیر و القصص التی تتحدث عن تلک البطولة، و قد وجدت لرستم صور منقوشة علی الصخور تحکی جانبا من بعض قصص بطولته و شجاعته، و رستم هذا خراسانی من (زابلستان) و لم یزل اسمه للیوم رمزا للقوة و الشجاعة و البطولة فی تاریخ ایران الأسطوری القدیم.
و کان وجود الخیل فی خراسان باعتبارها اول بقعة عرفت بتربیة الخیول و التی انتقلت منها الخیول الی سائر جهات العالم . عاملا من عوامل تشجیع الفروسیة، و الحرب، و قد قیل ان الملک (افراسیاب) کان اول من ابتدع استعمال الحبال التی یلقونها من فوق ظهور الخیل علی الاعداء و یلفّونهم بها نظیر الشباک التی یستعملها فرسان (المکسیک) کما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 53
قیل: ان (افراسیاب) کان اول من ابتدع السهام و النبال .
و کان الملوک خاصة یعنون بتنشئة اولادهم تنشئة عسکریة و یعلمونهم منذ الصغر الفروسیة و استعمال الاسلحة لیخلقوا منهم ابطالا یقودون الصفوف و یدخلون میادین الحروب و هم اکفاء .
و یروی العرب فی تاریخهم الشی‌ء الکثیر عن بطولة الجیش الخراسانی و شجاعته و اهمیته فی میادین الحرب، و قد أفاد الاسلام و الدول الاسلامیة من الجیش الخراسانی ما امتلأت بذکره صفحات کبیرة من تاریخ العرب و الاسلام، حتی لقد جاء ذکر الجیش الخراسانی بما یشبه التقدیس و اضفی علیه الشی‌ء الکثیر من التجلّة الروحیة.
و لضمان التغلب علی الخوارج الذین ضایقوا الدولة بحربهم و شجاعتهم اعتمد ابو العباس السفاح الخراسانیین فی حربهم و أرسل خازم بن خزیمة الی (عمان) لمحاربتهم فکان جیش خازم مؤلفا من الخراسانیین و من أهل (مرو الروذ) خاصة، و انضم الیهم فی البصرة بعض بنی تمیم، و قد قتل خازم فی هذه الحرب من الخوارج نحو عشرة الاف محارب و عاد منتصرا، فقد روی عن شریک بن عبد اللّه انه قال:
«خراسان کنانة اللّه إذا غضب علی قوم رماهم بهم» .
و فی روایة أخری:
«ما خرجت من خراسان رایة فی جاهلیة و اسلام فردت حتی تبلغ منتهاها»
و عن شکیمة الجیش الخراسانی و قوته، و شدة بأسه قال ابن قتیبة:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 54
«أهل خراسان أهل الدعوة، و انصار الدولة، و لم یزالوا فی اکثر ملک العجم لقاحا لا یؤدون الی احد أتاوة، و لا خراجا» .
و قد وصفهم یاقوت الحموی علی لسان محمد بن علی بن عبد اللّه بن العباس قائلا:
«... و هم جند لهم ابدان، و اجسام، و مناکب، و کواهل، و هامات، و لحی، و شوارب، و أصوات هائلة، و لغات فخمة تخرج من اجواف منکرة».
و فی قول قحطبة لاهل خراسان شی‌ء مما یتصف به جیوش خراسان فی قوة البأس و الشجاعة و البطولة التی عرفها لهم التاریخ منذ اقدم العهود، فقد قال قحطبة لاهل خراسان:
قال لی محمد بن علی بن عبد اللّه: أبی اللّه ان تکون شیعتنا الّا أهل خراسان لا ننصر الّا بهم، و لا ینصرون الابنا، انه یخرج من خراسان سبعون الف سیف مشهور، قلوبهم کزبر الحدید، اسماؤهم الکنی، و انسابهم القری، یطیلون شعورهم کالغیلان، جعابهم تضرب کعابهم، یطوون ملک بنی امیة طیا، و یزفون الملک الینا زفّا.
و علی اننا نفهم من قول قحطبة لاهل خراسان انه یرید تحفیزهم، و اثارة النخوة فیهم بهذا القول، و لکن قحطبة لم یتجاوز الحق فی وصف اهل خراسان و جیشهم، فقد کانت الجیوش الخراسانیة فی جمیع العهود من القوة بحیث اخضعت کثیرا من البلدان داخل ایران و خارجها، و فی القصص
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 55
القدیمة سرد لکیفیة سیر رستم بجیش من سجستان الی الیمن و هی بمثل تلک المسافة من البعد عن خراسان لتخلیص کیکاووس الملک من اسر (ذی الأذعار) ملک الیمن الی غیر ذلک من القصص المرویة عن الجیش الخراسانی و شجاعته و نظامه داخل اقلیم خراسان و داخل بلاد ایران و خارج الحدود الایرانیة منذ اقدم العصور، لذلک کثیرا ما استعملت الدول الاسلامیة الجیوش الخراسانیة و اعدتها فی حرب الصائفة، و هی الغزوة التی یقوم بها المسلمون فی الصیف.
یقول ابن الاثیر فی حوادث سنة 191: و فیها استعمل الرشید علی (الصائفة) هرثمة بن اعین فی حرب الروم قبل ان یولیه خراسان و ضم الیه ثلاثین الفا من اهل خراسان.
و حین تولی فرخ الخادم بأمر الرشید مهمة طرسوس سیّر الرشید الیها جندا من اهل خراسان ثلاثة آلاف .
قال خالد بن یزید بن معاویة لعبد الملک بن مروان- و کان عبد الملک یتوجس الخیفة من سجستان- أما اذا کان الفتق من سجستان فلیس علیک منه بأس، انما کنا نتخوف لو کان من خراسان .
قال ابو الفضل احمد بن ابی طاهر طیفور الادیب الشاعر المؤرخ:
«و حدثت ان المأمون و ابا اسحق المعتصم و آخر من القواد- ذهب عنی اسمه- اختلفوا فی ذکر الشجعاء من القواد و الجند و الموالی، فقال المأمون:
ما فی الدنیا احد اشجع من عجم اهل خراسان، و لا اشد شوکة، و لا اثقل وطأة علی عدو» .
و من لوازم الاهتمام بالجیش فی العصور القدیمة هی رعایة الخیل و السروج و الرکاب، و الاعنّة، و استعمال انواع الاسلحة من السیوف، و الرماح،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 56
و الدروع، و التروس، و القسی، و النبال، و المبالغة فی عمل هذه الاسلحة، و صیاغتها، و التفنن فی زینتها و هذا مما یستلزم اکتشاف الحدید و النحاس، و الذهب و الفضة، و فی (الافستا) اسماء کثیر من الاسلحة القدیمة، و الکثیر منها مصنوع من الذهب، و اذا ما تحققنا من ذلک تحقق لدینا ان کثیرا من المعادن کانت معروفة عند الخراسانیین منذ القدم، و ان لوازم الحرب، و التفنن فی عملها و زینتها قد اوجدت فی الخراسانیین ملکة أفادت منها الحضارة فی شؤون مدنیة متعددة، و ان الدفاع عن المواقع الاستراتیجیة یستلزم المبالغة فی هندسة القلاع، و ان مراعاة شؤون الدفاع مما یجعل للهندسة و التفنن فی البناء و الابتکار شأن فی نواحی اخری من العمران و بناء القصور و المعابد، و تشیید البیوت، و مراعاة مواقع المدن و هندستها.
و الحضارة المستخلصة من نشأة الجیوش الخراسانیة بعد ذلک هی النظام و الطاعة، و حب التفانی فی سبیل البلاد، و قد روی التاریخ حکایات کثیرة عن احتفاف الخراسانیین بملوکهم و تقدیسهم لهم باعتبارهم رموزا لعزة البلاد، و عناوین لمجد السکان و المواطنین، فکان لهذه الطاعة و الانقیاد للملوک و تقدیسهم ایاهم الاثر الکبیر فی توحید الکلمة للدفاع عن بلادهم، و غرس محبة الوطن فی نفوسهم و استرخاص کل نفیس فی سبیل اسعاد بلادهم و المحافظة علیه.
ذکر علی بن محمد بتسلسله عن الشعبی قال بعث علی (الامام امیر المؤمنین) (ع) بعد ما رجع من صفین جعدة بن هبیرة المخزومی الی خراسان فانتهی الی (ابرشهر) و قد کفروا و امتنعوا، فقدم علی علی فبعث خلید بن قرة الیربوعی فحاصر اهل (نیسابور) حتی صالحوه، و صالحه اهل (مرو) و اصاب جاریتین من ابناء الملوک نزلتا بأمان فبعث بهما الی علی (ع) فعرض علیهما الاسلام و ان یزوجهما، قالتا زوجنا ابنیک فأبی، فقال له بعض الدهاقین :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 57
ادفعهما الی فانه کرامة تکرمنی بها، فدفعهما الیه فکانتا عنده، یفرش لهما الدیباج، و یطعمهما فی آنیة الذهب، ثم رجعتا الی خراسان و لا شک ان فعل الدهقان هذا کان من قبیل الواجب الذی تفرضه علیه النشأة لاحترام ملکه و اسرته، و ان الاسلام لا یمنعه من ذلک، و هو مما نشأت علیه خراسان، بخلقت به.
و قد جاء فی الاساطیر ان (زال) و هو البطل الایرانی الشهیر و والد (رستم) الذی شغل من قصص البطولة فی تاریخ ایران القدیمة و اساطیرها، صفحات مطولة انه حین تعلق بحب ابنة أمیر کابل لم یستطع ان یتزوجها الا بعد ان أمّن رضا الملک، و بعد ان توسط له ابوه، و هذا الأب هو الآخر من کبار الامراء بسجستان لا لشی‌ء الا لأن الطاعة للملک فرض واجب حتی فی الشؤون الخاصة و فی الزواج عند ابطال کزال و امثاله من القواد و الامراء، فکان لهذه الطاعة، و الشجاعة التی عرفت بها الجیوش الخراسانیة، و ما کان یدخل علی خراسان من انظمة جدیدة و اسالیب فی حیاتهم من جراء الفتوحات التی یقوم بها الجیش الخراسانی فی ایران نفسها و خارج حدود ایران و ما یدخل فی حیاة خراسان من تجدید بسبب الغنائم قد خلقت لاهل خراسان نهجا حضاریا خاصا یعود له الفضل فی حب البلاد و التفانی فی محبتها و الاعتزاز بالنفس الذی تجلت به خراسان فی مختلف الأدوار التاریخیة و صار لونا من الوانها اشارت الیه اساطیر القرون القدیمة فی حکایات و قصص طویلة و ایدته الآثار التی عثر علیها، و لم یقتصر ذکره علی التاریخ الایرانی و انما اعطاه التاریخ الیونانی و التاریخ العربی الاسلامی اهمیة جد کبیرة و حظی منه بعنایة فائقة قلما حظی بها قطر من الاقطار الاسلامیة العریقة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 58

العلم و الأدب

و من ابرز معالم الحضارة فی الشعوب هو العلم و الادب و الفن، و قد دلّت التتبعات و البحوث التاریخیة أن حظ خراسان من العلم و الفن و الأدب کان کبیرا و ممتازا، و علی ان اغلب الکتب و المخطوطات التی تتضمن تاریخ خراسان القدیم قد ضاعت و اصابها البلی فقد بقی منها حتی العصور الاسلامیة الاولی ما یکفی للدلالة علی ما کان للعلم و الادب و الفن من منزلة فی هذه البلاد، فقد احتفظت (مرو) بالکثیر من الکتب القدیمة و صارت فیها مکتبة من مخلفات الملوک الساسانیین و اصبحت مرجعا یرجع الیها المتتبعون و البحاثون فی تاریخ ایران و تاریخ خراسان بصورة خاصة للوقوف علی سیر تلک العلوم و الآداب و الفنون و طبیعتها.
یحدثنا طیفور فیقول:
«قال یحی بن الحسن: انی بالرقّة بین یدی محمد بن طاهر بن الحسین علی برکة إذ دعوت بغلام له فکلمته بالفارسیة، فدخل العتّابی - و کان حاضرا فی کلامنا- فتکلم معی بالفارسیة، فقلت له: أبا عمرو، مالک و هذه الرطانة؟ قال: فقال لی: قدمت بلدتکم هذه- یرید بها خراسان- ثلاث قدمات، و کتبت کتب العجم التی فی الخزانة بمرو- و کانت الکتب قد سقطت الی ما هناک مع یزدجرد فهی قائمة الی الساعة- فقال کتبت منها حاجتی ثم قدمت (نیسابور) و جزتها بعشر فراسخ الی قریة یقال لها (ذودر) فذکرت کتابا لم أقض حاجتی منه فرجعت الی (مرو) فاقمت اشهرا، قال: قلت: أبا عمرو لم کتبت کتب العجم؟ فقال لی: و هل المعانی الا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 59
فی کتب العجم؟ و البلاغة لنا، و المعانی لهم، ثم کان یذاکرنی و یحدثنی بالفارسیة کثیرا» .
و فضلا عن هذه الکتب التی بقیت محفوظة فی خراسان و التی کانت تحوی شیئا من العلوم الفارسیة فی خراسان، فقد ظلت بیئة خراسان و طابعها الأدبی حتی سنین عدة من العصور الاسلامیة تنم عن منزلة العلم و الادب الخراسانی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 60
یقول یاقوت الحموی عن الخراسانیین: «فاما العلم فهم فرسانه و ساداته و اعیانه».
و قد اورد الحموی اسماء المکتبات و خزائن الکتب التی تحتوی علی عشرات الآلاف من المجلدات مما رآها بنفسه و افاد منها فی خراسان و التی سنشیر الیها عند استعراضنا لاشهر مدن خراسان التاریخیة فی الجزء الثانی من قسم خراسان.
یقول احمد امین «ان کثیرا من الشعراء و الادباء من العرب کانوا ینزلون فارس او العراق، و یخالطون اهله، و یرون مدنیّته فیکون لها الاثر فی شاعریتهم، و کان ینزل خراسان نهار بن توسعة، و ثابت قطنة، و ابن مفرع الحمیری، و المغیرة بن جبناء و غیرهم، و لا یخفی ما للبیئة من تأثیر فی النفس و الخیال» .
و کانت هذه البیئة العلمیة و الادبیة الخراسانیة التی عرفناها فی العصر الاسلامی الاول امتدادا لبیئة علمیة أدبیة قدیمة لم یستطع التاریخ ان یحدّد زمنها لقدمها، و قد مرّ کیف ان مناقشة علمیة جرت بمحضر (کشتاسب) ملک خراسان حول مذهب زردشت، و کیف نوقش زردشت فی هذا المحفل مما یدل علی ان عقلیة خراسان کانت عقلیة علمیة.
و من اقدم ما لدینا الیوم من الکتب التی توضح مقام العلم و الفلسفة و الأدب الفارسی القدیم هو (الافیستا) الذی انتهت الدراسة فیه الی ان هناک کان شعرا منظوما، و کانت اناشید، و کانت اغانی، فقد قام فی القرن التاسع عشر عدد من العلماء مثل (وسترکارد) و (وستفال) و (هرمن تریل)، و کان (اورل مایر) و (کولدنر) قد اکتشفا قواعد النظم فی الشعر الوارد فی (الافیستا) فوجدا ان عددا من اقسام (الافستا) تصور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 61
جانبا کبیرا من العلم و الفلسفة، کما تصور جانبا من الشعر المنظوم فی الاناشید و الاوراد من قسم (یسنا) .
و لما کانت (الافستا) قد انتشرت اول ما انتشرت فی خراسان فان من المحقق انها جاءت مسبوکة سبکا یتناسب و عقلیة المحیط و ادراکه و طبیعة ادبه و فهمه الشعر و النشید و الغناء.
و المعروف ان الملوک الخراسانیین کانوا یؤدّبون اولادهم و ینشؤونهم تنشئة علمیة ادبیة اخلاقیة الی جانب تعلیمهم اسالیب الحرب لیعدوهم اعدادا لائقا لتولی الحکم. و قد اورد ابن الأثیر عن نشأة (سیاوخش) بن کیکاووس من الاسرة الکیانیة القدیمة. ان الملک کیکاووس الذی کان یسکن (بلخ) قد ضمّ ابنه (سیاوخش) الی (رستم) و کان رستم هذا اصبهبذ (سجستان) و ما یلیها، ای القائد الاعلی لکی یربیه، فاحسن رستم تربیته، و علمه العلوم و الفروسیة و الآداب، و ما یحتاج الملوک الیه، فلما کمل ما اراد، حمله الی ابیه، فلما رآه سرّ به صورة و معنی .
و کان هذا البروز بالعلم و الادب و الفن فی خراسان نتیجة لانصهار عدة حضارات فی بوتقة الشعب الایرانی خصوصا حین توحدت البلاد الایرانیة فی عصر کورش، و کان من جراء ذلک ان توسعت رقعة ایران بسبب اشتباک الهاخمنشیین بالحرب مع امم متحضرة کبیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 62
کالبابلیین، و المصریین، و الیونانیین، و قد قبست خراسان فی عهد الهاخمنشیین خاصة شیئا کثیرا من هذه الحضارات، کما اصبحت من المراکز الایرانیة التی التقت فیها الثقافة الیونانیة و الهندیة لا سیما فی الایام التی کان یحکم ایران امراء الاغریق بعد فتح الاسکندر کامارة (باکتریان) .
اما فی عصر الاشکانیین الذی تلا عهد الاغریق فقد تأثر الفن الایرانی و حضارته بالفن الصینی فکانت خراسان هی الباب لتسرّب هذه الحضارة و الفن من الصین و الهند الی ایران لمجاورتها للصین و الهند.
و لهذه الاسباب و العوامل ساد خراسان جو علمی و ادبی فنی وجدت فیه الافکار العلمیة الکثیر مما تبتغی من الحریة التی ینشدها المفکرون لابداء الرأی و المناقشة و البعد عن التأثیرات العاطفیة دون حذر و وجل و قد صارت هذه الحریة عاملا آخر لرواج العلم و الادب و ظلت خراسان متمیزة بهذه الاجواء العلمیة و الادبیة و الحریة الفکریة حتی العصور الاسلامیة.
الرودکی تصمیم الاستاذ حسین بهزاد یقول البرفسور. أ. نکلسون عن یحی بن خالد البرمکی و هو خراسانی من (بلخ).
«ان یحی امتاز بحکمته و نبل تفکیره، و اناقة لغته، و مع انه کان یبتهج علی سجیته الفارسیة الصادقة بالمناقشات الفلسفیة التی من اجلها اعتاد العلماء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 63
المتسمون بحریة التفکیر، و الملحدون البارزون ان یلتقوا فی غالب الاحیان فی بیته فقد کان حذرا فی مراعاته الخارجیة للتقی» .
و یری المتتبع للتاریخ ان صفة العلم ظلت ملازمة لخراسان طوال العصور و ان الاعزاز الذی کان یلقاه اهل العلم من الناس و من خلفاء المسلمین و ملوکهم کان بمثابة التأیید لالتصاق هذه الصفة صفة العلم بالخراسانیین و ما عرف به اهل خراسان من المکانة العلمیة و الاقبال علی العلم و الادب کطبیعة اختصت بها خراسان منذ اقدم العصور.
ذکر بعض المؤلفین: «ان هرون الرشید قدم (الرقة) فاحتفل الناس خلف عبد اللّه بن المبارک و تقطعت النعال، و ارتفعت الغبرة، فاشرفت ام ولد الرشید من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: من هذا؟ قالوا:
عالم من خراسان یقال له عبد اللّه بن المبارک، فقالت: هذا و اللّه الملک، لا هرون الرشید الذی لا یجمع الناس الا بشرط و اعوان» .
یقول الدکتور زکی محمد حسن فی استعراضه لصناعة السجاد فی ایران:
«و لا عجب فی ان تکون خراسان مرکزا عظیما من مراکز صناعة السجاد فقد کان هذا الاقلیم فی طلیعة الاقالیم الایرانیة فی الأدب و السیاسة و الفن» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 64

الغناء و الموسیقی

و فن الغناء و الموسیقی هو الآخر قدیم فی خراسان قدم العلم و الادب، و لکن لیس لدینا ما یمکن الوقوف علی طبیعته غیر تلک القصص و الاساطیر التی یصعب الرکون الیها و التی یأتی حدیث الغناء و الرقص عرضا فیها، و من استعراضنا لهذه القصص نری ان خراسان ربما سبقت اقالیم ایران الاخری فی معرفتها للموسیقی و الغناء بسبب ظهور الزردشیة فیها قبل غیرها، و لان خراسان کانت معروفة بجیشها المحارب القدیم و ابطالها، و ان الحروب و الدیانة الزردشتیة ذات اتصال کبیر بالغناء و الموسیقی.
و قد کتب المؤرخ الاغریقی الشهیر (هیرودوس) یقول: «ان الموسیقی کانت تصاحب الاحتفالات الدینیة فی بلاد فارس، و ترافق المحاربین عند ذهابهم الی ساحات القتال» کما هی الحال الیوم فی (المارشات) العسکریة
و فی هذه القصص التی خلفها لنا التاریخ ذکر لسبق خراسان للاقالیم الاخری من ایران فی ابتداع آلات الطرب. فقد روی عن (افراسیاب) الملک انه کان یحب اللهو و الرقص و الغناء، و انه هو الذی ابتدع الآلة الموسیقیة (الهارب) المعروفة باسم (الحنک) عند الایرانیین، و قیل انه هو الذی ابتدع (هرباب) و لکن بعض المؤرخین یعتقدون ان (الحنک) لم یبلغ من القدم ما تشیر الیه تلک الحکایات و انه من مبتدعات (باربذ) فی العصر الساسانی.
و ان اول کتاب یمکن الرکون الیه فی دراسة الغناء و الموسیقی الخراسانیة هو کتاب (الافیستا) لزردشت الذی کشف علماء الاستشراق فی القرن التاسع عشر هذا الجانب من الفن فیه فألفوا ان کثیرا من عباداته، و ادعیته مفروغ فی قوالب شعریة و اناشید غنائیة، و کانت هذه الاناشید تشتمل علی ابیات ذوات اوزان مختلفة تعتبر من اقدم المنظوم و الاغانی، فکلمة (گاه)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 65
کما یقول الاستاذ محمد بدیع المستعملة الیوم بمعنی النشید و النظم و التی نراها تشغل محلا خاصا فی المقامات الموسیقیة نحو سیگاه (سه‌گاه) و چهارگاه، و ما شاکلها مأخوذة من لفظ (گاس) الپهلویة المشتقة من لفظة (گاتا) او (گاته) من لغة الفرس علی ما یقول.
و من المحقق ان هذه الاغانی و الاناشید التی وردت فی (الافیستا) قد رتّلت- اول ما رتّلت- فی خراسان، و غنی بها الخراسانیون فی معابدهم و بیوتهم قبل غیرهم، و مع ذلک فان الغناء و الموسیقی فی خراسان کان کما هو فی جمیع انحاء ایران لم تسجل قواعده و لم تضبط اصوله، و لم یبلغ ذروة الکمال الا فی عهد الساسانیین و لا سیما فی عهد کسری ابرویز (خسرو پرویز) الذی کان بلاطه مجمعا لاقطاب الموسیقیین و المغنین فی ذلک العصر.
اما علاقة خراسان بهذه النهضة الموسیقیة فهی ان احد المبتدعین الکبار و واضعی اصول الموسیقی و فنون الغناء و مقاماته، و هو (باربد) کان خراسانیا و من مدینة (مرو) و لو لم یکن لفن الغناء و الموسیقی شأن کبیر فی اوساط خراسان و قیمة مشهودة لما اتیح لمثل (باربد) ان ینبغ و یبلغ القمة و یصبح من ابرز أئمة هذا الفن فی العصور القدیمة، و لقد ساقه طموحه للسفر الی (طیسفون) عاصمة الساسانیین و ادخلته شهرته بلاط کسری ابرویز کمغن، ثم ما لبث أن بزغ نجمه، و بلغ اقصی حدود الشهرة، و دلل علی ان البیئة التی انحدر منها و هی خراسان کانت بیئة ذات اتصال وثیق بالغناء و الموسیقی، و فی العهود الاسلامیة زاد یقین التاریخ بعراقة هذا الفن فیما اخرجت خراسان من نوابغ الموسیقیین کالفیلسوف ابی نصر الفارابی من ابناء القرن الثالث الهجری و کشاعر ایران الکبیر و الموسیقار الخالد أبی عبد اللّه جعفر بن محمد الرودکی من ابناء القرن الرابع، و کالرئیس ابن سینا من ابناء القرن الرابع و غیرهم الکثیر الذین کان نبوغهم فی الموسیقی امتدادا لنبوغ خراسان القدیمة فی هذا الفن، مثلما کان العلم و کان الأدب.
ج 1- خراسان (5)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 66
و باربد المروزی الخراسانی هو صاحب المقامات المعروفة، و ان الالحان التی ترکها (باربد) تکاد لا تحصی، و اشهرها الالحان (الثلاثینیة) المعادلة لایام الشهر، و قد قیل انه نظم و لحن 365 لحنا علی عدد ایام السنة، و لقد صارت لباربد منزلة کبیرة عند الملک خسرو بسبب نبوغه حتی لقد جبن المقرّبون ذات مرة ان ینقلوا للملک خبرا محزنا فتولی باربد نقله الیه عن طریق لحن ابتکره و غناه .
اما الالحان الثلاثینیة التی سجلها التاریخ لباربد فهی کما یلی:
1- گنج بادآور (فی وصف باخرة رومیة اصطحبها القائد الایرانی شهر براز الی سواحل مصر). 2- گنج گاو. 3- گنج سوخته. 4- شادروان مروارید. 5- تخت طاقدیسی. 6- ناقوسی. 7- اورنگی.
8- حقه کاوس. 9- مآه برکوهان. 10- مشک دانه.
11- آرایش خورشید. 12- نیمروز. 13- سبز در سبز. 14- قفل رومی. 15- سروستان مآه. 16- سیروسهی. 17- نوشین باده. 18- رامش جان. 19- ناز نوروز، (او ساز نوروز). 20- مشگویه. 21- مهرگانی. 22- مروای نیک. 23- شبدیز (و هو لحن فی نعی فرس أدهم لکسری ابرویز). 24- شب فرح. 25- شب فرح روز. 26- غنچه کبک دری. 27- نخجیرگان. 28- کین سیاوش. 29- کین ایرج.
30- باغ شیرین .
و هناک انغام اخری ینسب اکثرها لباربد علی ما یروی الاستاذ محمد بدیع مثل: بالیزیان، و سبزبهار، و باغ سیاوش، و راه گل، و شادباد، و تخت اردشیر، و دل‌انگیز، و چکاوک، و خسروانی، و نوروز بزرگ، و کوچک و خارا، و جامه‌دان، و یزدان آفریده (و هو غناء دینی فی وصف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 67
الطبیعة و اسرار الخلیقة)، و پرتو فرخار، و لاسکویها.
و من بین هذه الاسماء نجد اسم: چکاوک، و خسروانی، و نوروز و نوروز بزرک، و نوروز کوچک، و نوروز خارا، و جامه دران، و زیرافکن لا تزال اسماؤها حتی الیوم باقیة فی قواعد الموسیقی الایرانیة و مما لا ریب فیه أنه قد جرت تطورات کثیرة علی هذه الألحان مع تطور العصور و توالی الایام .
و المقام المعروف بمقام (نیشابور) نسبة الی مدینة (نیشابور) بخراسان دلیل آخر علی قدم عهد خراسان بالموسیقی و الغناء.
و یذکر ابن خرداد أن الایرانیین هم الذین اخترعوا العود، و الکنارة، و ان الخراسانیین هم اول من استعملوا عودا فیه سبعة اوتار و سموه بالزنج (الصنج) . و من الجائز ان تکون هنالک آلات موسیقیة أخری تسربت من خراسان الی سائر الجهات و ان اصلها خراسانی و مخترعها خراسانیون، و المعروف ان اول عمل عمله الولید بن یزید بن عبد الملک هو انه کتب لعامله نصر بن سیار فی خراسان یطلب منه أن یتخذ له برابط و طنابیر، و لو لا شهرة خراسان بهذه الآلات لما کتب لنصر فی خراسان بذلک.
یقول حماد الترکی: کنت واقفا علی رأس المنصور فسمع جلبة فی الدار فقال ما هذا یا حمّاد انظر؟ فذهبت فاذا خادم له قد جلس بین الجواری و هو یضرب لهن (بالطنبور) و هن یضحکن، فجئت فأخبرته فقال: وای شی‌ء الطنبور؟ فقلت خشبة من حالها و امرها، و وصفتها له، فقال لی:
أصبت صفته فما یدریک انت ما الطنبور؟ قلت: رأیته بخراسان، قال نعم هناک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 68

أفانین الصناعة

و فی العصور الاسلامیة الاولی کانت افانین الصناعة الخراسانیة فی الصیاغة و النسج و النحت و الرسم و العمارة و سائر الفنون الاخری موطن الاعجاب فی مختلف الاقطار الاسلامیة و لا ریب ان هذه البراعة التی استلفتت الانظار و اثارت الاعجاب کانت احدی ثمار فنون قدیمة هی خلاصة انصهار حضارات راقیة فی ایران عامة و فی خراسان خاصة.
یقول الدکتور زکی محمد حسن: «و انا اذا استثنینا الفن الاغریقی القدیم لا نکاد نعرف ای فن آخر قدّر له ان یمتد امتداد الفن الایرانی، بل اننا نستطیع ان نقول فی ثقة و اطمئنان: انه لیس هناک فن عظیم لم یأخذ عن الفن الإیرانی شیئا من زخارفه أو أسالیبه، فان الفن المصری القدیم و الفنون الإغریقیة، و الرومانیة، و البیزنطیة و الصینیة، و الهندیة، کلها مدینة للفن الإیرانی ببعض اشکال التحف، و اسالیب العمارة، و الزخرفة، او اسرار الصناعات الفنیة الدقیقة» .
و لقد ساعد وجود بعض الأحجار الثمینة فی خراسان علی ان تکون للخراسانیین شهرة فی صیاغة التحف، و الابداع فی صیاغة الحلی قدیما و حدیثا ذلک لان نیسابور و خوارزم هما من اشهر مواطن الفیروزج فی العالم، و الفیروزج النیسابوی هو اجود انواع الفیروزج فی جمیع مواطنه، کذلک وجود بعض الاحجار الشفافة التی تشبه البلور البنفسجی فی بعض جبال خراسان هو الآخر قد ساعد منذ القدیم علی عنایة خراسان بصناعة التحف، و المنقول ان کثیرا من الاوانی و الادوات المصنوعة من البلور الملون الذی احدی مواطن معادنه فی العالم مدینة (طوس) قد قدّمت الی اسکندر علی سبیل الهدیة، فأمر بکسرها قائلا: اننی لا استطیع الاحتفاظ بهذه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 69
النفائس لأنها لا تخلو من ان یکسرها الخدم فی اثناء العنایة بها فیخافون منی و یحزنون، و یبلغنی ذلک فأغضب علیهم، لذلک أفضّل ان اتجنب إثارة الخوف فی نفوس خدمی و اثارة الغضب علیهم فی نفسی .
و یظهر ان هنالک احجارا منوعة اخری فی خراسان هی اشبه بالدّر و البلّور الطبیعی الملون، و من کل هذا کانت خراسان تصنع انواع الحلی من الاقراط، و القلائد، و الاساو، و لا تزال حتی الآن تصنع من تلک الاحجار و من حجر آخر رمادی اللون، و اسود، انواعا کثیرة من الحلی و ادوات الزینة.
و فی کنز کاتدرائیة (سان مارکو) بمدینة البندقیة (سلطانیة) من الزجاج الازرق الفیروزجی محفورة فیها کلمة (خراسان)، و قوام زخرفتها رسوم ارانب محفورة، و هی و ان ارجع الخبراء تاریخها الی ما بعد القرن الثالث عشر الهجری و لکنها قد تعتبر ذات اتصال بالفن الخراسانی القدیم.
و ان جمیع ما عثر علیه من التحف المعدنیة الایرانیة بین القرنین الثالث و السادس الهجری قد عثر علیه فی خراسان، و همدان، و الری، و سمرقند علی ما یقول الدکتور زکی محمد حسن.
کذلک فان وجود انواع من المرمر و الصخور الخاصة قد ساعد الخراسانیین علی ان یتفننوا فی تقطیعه و نحته و حفره و عمل الاباریق و الاوانی و الظروف الصخریة منه فضلا عن استعمال تلک الصخور و الأحجار فی بناء العمارات و تزیینها و هندستها، و ان معرفة خراسان للذهب و الفضة و النحاس من قدیم الزمان کما اشرنا الیه قبلا هو الآخر کان عاملا من عوامل ازدهار الحضارة من حیث الفن، فقد دلت الصناعة الخراسانیة فی عهد السامانیین و السلجوقیین علی وجود علاقة فنیة بالماضی القدیم، یؤکدها الدکتور زکی محمد حسن فی قوله:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 70
«ان خراسان کانت فی عصر الدولة السامانیة فی القرن الثالث مرکزا عظیما لانتاج التحف و الاوانی؟؟؟ من البرنز و تزیینها بالزخارف الایرانیة القدیمة».
و یضیف قائلا: «و نحن نعرف فی بعض المتاحف و المجموعات الاثریة الخاصة عددا کبیرا من التحف المعدنیة لا تزال علیها زخارف من الطرز التی سبقت العصر الاسلامی». فالذهب و الاحجار؟؟؟ الکریمة، و الفیروز، و وجود مختلف الادویة فی خراسان قد ساعدت کثیرا فی نمو الصناعة و التفن فیها.
اما النسیج فقد کانت صناعة المتفوقة معروفة فی خراسان منذ العهود القدیمة و تعتبر جودتها فی العصور الاسلامیة و ازدهارها نتیجة تطور هذه الصناعة فی التاریخ البعید، و لقد کان لملوک ایران و الملوک الذین سکنوا خراسان ألبسة خاصة و تخوت للعروش خاصة، کثیرا ما جاء وصفها و وصف ازیائها فی کتب القصص القدیمة و لا ریب انها کانت تنسج و توشّی فی خراسان و تصنع التخوت و تزخرف بالذهب فی خراسان ایضا، و قد جاء فی کتاب (الفنون الایرانیة): ان الاقالیم الشرقیة فی ایران (المقصود بها خراسان) کانت اکثر الدولة ازدهارا فی عصر بنی تیمور، و زاد ما کان لخراسان من شأن عظیم فی صناعة النسیج، و اصبحت سمرقند، و هراة، فی عصر تیمور و خلفائه مرکزا عظیما لنسج الأقمشة النفیسة التی کان الامراء و کبار رجال الدولة یلبسونها و یتخذون منها افخر الستائر و الفرش و الوسائد، و کل هذا یدل علی ان الصناعة و فنونها لم تکن حدیثة و جدیدة فی خراسان، و حتی السجاد الخراسانی الذی لم یعرف الا فی العصور الاخیرة ربما کان بعض صناعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 71
ولیدة طرائق قدیمة فی النسج، و ان هذه المنسوجات المعروفة (بالبرک) و المنسوجة من وبر الابل، و المنتشرة الیوم هی احدی الصناعات الخراسانیة القدیمة التی لا یستطیع الباحثون تعیین عهدها الاول، و کل ما طرأ علیها فهو التطور الذی تناول طریقة نسجها.
*** کل هذه العوامل من کتابة و خط، و دیانات، و علم، و أدب، و فن و صناعة، و حروب، و موقع استراتیجی قد اکسبت خراسان علی مرور الزمن لونا بهیجا من حضارة متنوعة الجوانب فی صورها و الوانها، و حین دخل الاسلام الی خراسان، و انصبت تعالیمه فیها تحولت هذه الحضارة العمیقة الی حضارة اسلامیة حکتها المئات من اعلام التاریخ الخراسانیین و صورتها المئات من الکتب التی خلفها الخراسانیون فی مختلف الفروع، و المئات من الآثار الفنیة الخالدة، و کما امتازت خراسان بحضارتها فی العصور ما قبل الاسلام فقد امتازت بهذه الحضارة فی العصور الاسلامیة، و اضفی علیها الاسلام لونا من الثقافة التی جعلت خراسان من اغلی و اثمن الحظائر الاسلامیة فی جمیع العهود.
و قلما حظی قطر من اقطار المسلمین بالثناء علیه ایمانا و تقوی، و شجاعة و بلوی، و ادبا و علما و حکمة، و سائر الصفات التی تحلی الانسان کأنسان کما حظیت خراسان، و قد قال یاقوت الحموی- و کان قد استوطن خراسان زمنا و عاشر اهلها، و خبر طبیعة بلدانها- قال:
«و قد طعن قوم فی اهل خراسان و زعموا انهم بخلاء، و هو بهت لهم، و من این لغیرهم مثل البرامکة، و القحاطبة، و الطاهریة، و السامانیة، و علی بن هشام و غیرهم ممن لا نظیر لهم فی جمیع الامم» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 72

انتهاء الحکم الساسانی فی إیران

حین اکتسحت الجیوش الاسلامیة معظم البلاد الایرانیة اتجه (یزدجرد) بن شهریار آخر ملوک ایران من السلالة الساسانیة الی کرمان و من هناک حشد الجیوش و اتجه الی خراسان و معه رهائن من الزعماء و اولاد الدهاقین یرید ان یجمع فی خراسان الجموع و یعود بها لمقاتلة المسلمین و اخراجهم من ایران، و کانت الدعوة الاسلامیة قد سبقت الفتح الاسلامی للبلاد الایرانیة و سبقت توغل جیوش المسلمین لایران و الا لما اضطر الملک یزدجرد ان یصحب الرهائن معه من اولاد الدهاقین و الرؤساء حذرا من انقلابهم علیه، و قد سار بمن معه الی (مرو) و لکن (مرو) لم تجب دعوته فالتجأ الی خاقان ملک الترک علی ما ذکر یاقوت و لکن الطبری و ابن الاثیر یقولان انه دخل (مرو)، و التجأ الی خاقان ملک الترک فیما وراء النهر، و عبر معه ملک الترک یدعمه و یسنده فی محاربة المسلمین، و لما طالت الحرب بین الترک و المسلمین انسحب جیش الترک و عاد الی (بلخ).
اما یزدجرد فقد جمع خزائنه التی کانت بمرو و کانت کبیرة عظیمة علی ما یصف ابن الاثیر- و اراد ان یلحق بخاقان قال له اهل فارس: ای شی‌ء ترید ان تصنع، قال ارید اللحاق بخاقان، فاکون معه او بالصین، قالوا له: هذا رأی سوء، ارجع بنا الی هؤلاء القوم- یعنون المسلمین- فنصالحهم فانهم اوفیاء، و هم اهل دین، و ان عدوّا یلینا فی بلادنا احب الینا مملکة من عدو یلینا فی بلاده و لا دین لهم و لا ندری ما وفاؤهم، فابی علیهم فقالوا:
دع خزائننا نردها الی بلادنا و من یلینا، لا تخرجها من بلادنا فأبی فاعتزلوه و قاتلوه فهزموه و اخذوا الخزائن و استولی علیها و انهزم منهم و عبر النهر و لحق بخاقان .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 73
و یقول الطبری: و من بلاد الترک کان یزدجرد یکاتب اهل خراسان، و فی زمن عثمان (ر ض) کفر اهل خراسان فعاد یزدجرد من بلاد الترک الی (مرو)، و قد اختلف هناک هو و من معه و اهل خراسان فکان ان آوی الی طاحونة فقتلوه فیها .
و یعود الطبری فیقول فی مکان آخر: ان یزدجرد حین هرب من کرمان کانت معه جماعة یسیرة و جاء الی (مرو) فسأل مرزبانها مالا، فمنعه، فخافوا علی انفسهم فارسلوا الی الترک یستنصرونهم علیه فأتی الترک فبیتوه و قتلوا اصحابه و هرب یزدجرد حتی اتی منزل رجل ینقر الارحاء علی شط (المرغاب) فأوی الیه لیلا، فلما نام قتله، ثم یروی روایة اخری ینفی فیها استعانة اهل مرو بالاتراک و یقول ان اهل (مرو) هم الذین قتلو اصحابه و خرج هر منهم هاربا و معه منطقته و سیفه و تاجه حتی انتهی الی منزل نقار علی شط المرغاب، فلما غفل یزدجرد قتله النقّار و اخذ متاعه و القی بجسده فی شط المرغاب .
و قد انتهی بقتل یزدجرد آخر الملوک الذین حکموا ایران قبل الاسلام.

خراسان فی عهد الخلفاء الراشدین

و اختلف الرواة فی تاریخ غزو المسلمین لخراسان فذهب بعضهم الی ان ذلک کان فی السنة الثامنة عشرة من الهجرة و فی زمن الخلیفة عمر بن الخطاب (ض) فهو الذی انفذ الاحنف بن قیس فدخلها هذا و تملک مدنها و بدأ بالطبسین، ثم هراة، و مرو الشاهجان، و نیسابور، و قال بعضهم بل ان ذلک کان فی زمن الخلیفة عثمان بن عفان (ض).
و یستبان من تتبع الاخبار ان خراسان بمجملها قد تلقت الدعوة الاسلامیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 74
بالقبول و الایمان، و ان کثیرا من مدنها قد دخل فی الاسلام طوعا او تلقی غزو المسلمین بالصلح، و قد تحدث الکثیر من المؤرخین عن اسلام خراسان و نوهوا به و اعتبروه مثلا طیبا حتی لقد کانت نظرة اهل (مرو) الی النبی محمد (ص) نظرة تجلة و احترام قبل ان یسلموا، و یستبان ذلک من تبادل الرسائل التی جرت بین مرزبان و الاحنف الذی اقبل علی محاربة (مرو) و حصارها، یقول المرزبان فی رسالته:
(... انه دعانی الی مصالحتک و موادعتک ما کان من اسلام جدی، و ما کان رأی من صاحبکم- یعنی النبی محمدا (ص)- من الکرامة و المنزلة فمرحبا بکم و أبشروا و انا ادعوکم الی الصلح بیننا و بینکم .. الخ» .
و یقول یاقوت و قد مرّ ذلک من قبل: «.. ثم اتی الاسلام فکانوا فیه- یعنی الخراسانیین- أحسن الامم رغبة، و اشدهم الیه مسارعة، منّا من اللّه علیهم، و فضلا لهم، فاسلموا طوعا، و دخلوا فیه سلما، و صالحوا عن بلادهم صلحا .. الخ».
*** و فی سنة 32 الهجریة و فی خلافة عثمان (ض) تم فتح (مرو الروذ) و (طالقان) و (الجوزجان) و (طخارستان) من اعمال خراسان.
و فی سنة 37 الهجریة بعث الامام علی (ع) بعد ما رجع من صفین جعدة بن هبیرة المخزومی عاملا من لدنه علی خراسان، فانتهی الی (ابرشهر) فامتنعوا علیه فبعث بخلید بن قرة الیربوعی فحاصر اهل (نیسابور) فصالحوه و صالحه اهل (مرو)، و قیل بل ان المبعوث کان خلید بن طریف.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 75

[خراسان فی عهد بنی أمیة

اشارة

و الی هنا کان لا یزال شمال خراسان و ماوراء النهر من بلاد الترک لم یدخل الاسلام بعد، و کان علی البصرة و الکوفة و المشرق و سجستان و فارس و السند، و الهند، زیاد بن ابیه عاملا من قبل معاویة بن ابی سفیان و الیه یعود تعیین العمال فی تلک الجهات.

[عمال بنی امیة فی الخراسان

الحکم بن عمرو الغفاری

و کان اول عامل عینه زیاد فی خراسان علی عهد بنی امیة هو الحکم بن عمرو الغفاری و کان ذلک سنة 47 ه فغزا الحکم جبال الغور و فراوندة و قهرهم بالسیف عنوة و فتحها و اصاب فیها مغانم کبیرة. و کان اول من شرب من نهر جیحون مولی للحکم اغترف الماء بترسه و شرب ثم ناول الحکم الماء فشرب الحکم و توضأ به و صلی بالناس، و قفل من غزوته هذه و مات بمرو و دفن بها، و کان من خیار الناس عدلا و تقی.

غالب اللیثی- و خلید الحنفی

فوجه زیاد غالب بن فضالة اللیثی عاملا من قبله علی خراسان سنة 48 ه علی ماروی البعض، و یری البعض الآخر ان الحکم بن عمرو الغفاری قد استخلف علی عمله بعد موته انس بن ابی ایاس و کتب بذلک الی زیاد، و لکن زیادا عزل أنسا و ولی مکانه خلید بن عبد اللّه الحنفی شهرا واحدا ثم عزله.

ربیع الحارثی- عبد اللّه بن الربیع

و ولی زیاد بعد عزله خلید بن الحنفی: الربیع بن زیاد الحارثی و ذلک فی اوائل سنة 51 ه ففتح الربیع (بلخ) صلحا، و فتح قهستان عنوة، و قتل الاتراک، و مات الربیع بن زیاد الحارثی فی سنة 53 ه بعد امارة دامت سنتین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 76
و اشهر و استخلف ابنه عبد اللّه بن الربیع فولی شهرین ثم مات هو الآخر بعد ان استخلف خلید بن عبد اللّه الحنفی.

عبید اللّه بن زیاد

و فی سنة 53 ه مات زیاد فی الکوفة بعد ان اتسعت منطقة اماراته و ضمت الیه امارة الحجاز، فقدم ابنه عبید اللّه بن زیاد و هو شاب فی نحو الخامسة و العشرین الشام و کان ذلک فی آخر سنة 53 ه و هو یطمع ان یولیه معاویة احدی الامارات، فقال له معاویة: لو کان ابوک قد استعملک لاستعملتک انا، فقال له عبید اللّه: انشدک اللّه ان یقولها الی احد بعدک: لو ولّاک ابوک و عمک لولیتک!! و یبدو ان معاویة قد افحمه قول عبید اللّه و اعجبه فعهد الیه بامارة خراسان. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌11 ؛ ص76
عبید اللّه هذا هو الذی تولی بعد ذلک امارة البصرة و الکوفة و حارب الامام أبا عبد اللّه الحسین (ع) و قتله فی عرصة کربلاء و حز رؤوس اصحابه و سبی عیالاته و بعث بالرؤوس و السبایا الی یزید بن معاویة فی الشام.
و قدم عبید اللّه خراسان و قطع النهر الی جبال بخاری علی الابل فکان اول من قطع جبال بخاری فی جند، و فتح بخاری، و أقام بخراسان سنتین.

أسلم بن زرعة

و عهد بالامارة الی اسلم بن زرعة الکلابی فاقام بخراسان امیرا سنتین

سعید بن عثمان

و فی سنة 57 ه عهد بالامارة الی سعید بن عثمان بن عفان و قد قطع سعید نهر جیحون الی سمرقند، و قاتل اهل (الصغد) و صالحوه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 77

عبد الرحمن بن زیاد

و فی سنة 59 ه وّلی معاویة بن ابی سفیان عبد الرحمن بن زیاد بن ابیه خراسان، و حین قدم خراسان اخذ اسلم بن زرعة امیر خراسان الاسبق و حبسه و اغرمه 300 الف درهم، و قد اقام سنتین اقاله بعد ذلک یزید بن معاویة الذی ولی الخلافة بعد ابیه سنة 61 ه، و کان عبد الرحمن قد استخلف علی خراسان قیس بن الهیثم بعد خروجه من خراسان.

سلم بن زیاد

و فی سنة 61 ه وّلی یزید بن معاویة سلم بن زیاد بن ابیه سجستان و خراسان معا، و کان علی سجستان اخوه عبّاد بن زیاد بن ابیه، فاقاله سلم و عین محله أخاه الآخر یزید بن زیاد علی سجستان، و تجهز سلم بن زیاد بعدة الاف من جیش البصرة و کان اخوه عبید اللّه بن زیاد یومذاک والیا علی البصرة و خرج سلم بالجیش نحو خراسان، و قبض علی قیس بن الهیثم الذی کان قد استخلفه اخوه عبد الرحمن بن زیاد حین خرج من خراسان و زجه فی السجن.

عبد اللّه بن خازم

و لما مات یزید بن معاویة و لحق به معاویة بن یزید خرج سلم بن زیاد من خراسان فاشلا و قد وّلی بکل ناحیة من خراسان امیرا و ناطها بقبیلة من القبائل العربیة فادی ذلک الی التنافس للاستیلاء علی امارة خراسان و اقتتلت الجیوش العربیة و وقعت الحرب بین مضر و وائل و دامت سجالا حتی سنة 65 ه. و قد اورد المؤرخون ان عدد القتلی من بکر بن وائل بلغ ثمانیة آلاف فی المعرکة التی خاضها عبد اللّه بن خازم فی سبیل الاستیثار بالحکم حتی خضعت له معظم القبائل و اصبح امیرا علی خراسان بعد قتال مریر بین بکر بن وائل و مضر و انصارهما، و ظل ابن خازم امیرا علی خراسان نحو عشر سنوات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 78
و فی سنة 65 کان الحجاز و العراق قد بایع عبد اللّه بن الزبیر خلیفة فاید عبد اللّه بن الزبیر امارة عبد اللّه بن خازم علی خراسان و کان الجوّ قد صفا لابن خازم بعد عدد من الحروب بین تمیم و ربیعة و صار لعبد اللّه بن خازم شأن کبیر فی خراسان بعد عدد من الغزوات و الفتوحات بحیث ادی الی ان یکتب له عبد الملک ابن مروان فی سنة 72 ه یمنّیه بامارة خراسان لمدة عشر سنوات بکل خراجها و محصولها بغیة استمالته الیه و نقضه لبیعة عبد اللّه بن الزبیر فسخر ابن خازم بعبد الملک.
و تقول بعض الروایات إن ذلک کان فی سنة 73 ه، و حین قتل عبد اللّه ابن الزبیر بعث عبد الملک بن مروان برأسه الی عبد اللّه بن خازم بخراسان، علی سبیل الشماتة فوضعه ابن خازم فی طست و غسّله، و حنّطه، و کفنه، و صلی علیه، و ارسله الی آل الزبیر بالمدینة لدفنه، و قال بعضهم ان الرأس کان لمصعب بین الزبیر و لیس لعبد اللّه، و کان ابن خازم من اشهر شجعان العرب و اهیبهم.

بکیر بن وشاح

و للتنکیل بعبد اللّه بن خازم ارسل عبد الملک بن مروان الی بکیر بن وشاح و کان بکیر خلیفة ابن خازم علی مرو یمنّیه بما منّی به عبد اللّه بن خازم و یعده بان یولیه خراسان عشر سنوات بکل خراجها ان هو نار؟؟؟ فی وجه ابن خازم و تغلب علیه، فصدع بکیر بن وشاح بالامر و قبل ابن خازم و مثل به تمثیلا فظیعا و ارسل برأسه الی عبد الملک و تولی هو امارة خراسان.

أمیة بن عبد اللّه بن أسید

و فی سنة 74 ه، عزل عبد الملک بن مروان (بکیر بن وشاح) من امارة خراسان لما وقع بینه و بین القبائل العربیة من مشاحنات و ولیّ أمیّة بن عبد اللّه ابن خالد بن اسید، و قد کثرت الفتن و الحروب بین اتباع أمیّة و اتباع بکیر ابن وشاح من القبائل حتی قتل أمیة (بکیر بن وشاح)، و قد غزا أمیّة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 79
سنة 77 ه، بلخ و عبر النهر.

المهلب بن أبی صفرة

و فی سنة 78 عزل عبد الملک بن مروان أمیة بن أسید عن خراسان و ناط حکمها و حکم سجستان بالحجاج بن یوسف الثقفی بالاضافة الی امارة البصرة و الکوفة، فولی الحجاج المهلب بن ابی صفرة امارة خراسان من قبله، و قدم المهلب خراسان سنة 79 ه، و غادرها امیة بن عبد اللّه فی هذه السنة، و فی سنة 80 ه، عبر المهلب نهر بلخ و ظل یحارب الترک فی شمال خراسان حتی سنة 82 ه، و قد توفی المهلب بخراسان و دفن فیها.

یزید بن المهلب

و خلف المهلب علی امارة خراسان ابنه یزید بن المهلب، و فی سنة 85 ه، عزل عبد الملک بن مروان یزید بن المهلب بطلب من الحجاج، و کان یزید ذا جاه و ذا کرم، و له مکانة و حشمة، و قد خشی الحجاج مکانته بعد ان رأی رسوخ قدمه فی خراسان فنحّاه، و زجّ به و باخوته فی السجن (بواسط) حتی اتیح لهم ان یهربوا من السجن و یستجیروا بسلیمان بن عبد الملک فی- خلافة الولید و هو فی فلسطین.

قتیبة بن مسلم

و استعمل عبد الملک بن مروان قتیبة بن مسلم بناء علی طلب الحجاج، و قدم قتیبة خراسان فی سنة 86، و قضی فی امارة خراسان عشر سنوات، و قد عبر قتیبة النهر، و حارب الترک فیما وراء النهر، و فتح خوارزم، و بخاری، و سمرقند، و الصغد، و اخضع اهم البقاع فیما وراء النهر، قاتل، و صالح، و عاهد، و توسعت رقعة خراسان فی امارته حتی اجتازت و حدود الصین، و هو الذی صیّر الطریق بین العراق و خراسان من (قومس)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 80
بعد ان کانت من فارس و کرمان، و قد أخذ المؤرخون علی قتیبة نقضة العهود فی بعض المصالحات، کما اخذ علیه العرب قسوته التی رووا عنها الشی‌ء الکثیر، ففی حرب ملک (خام جرد) فیما وراء النهر جی‌ء لقتیبة بأربعة آلاف أسیر فقتل بین یدیه الف أسیر، و عن یمینه قتل الفا، و عن یساره الفا، و خلف ظهره قتل الفا .
و عند قیام سلیمان بن عبد الملک بالحکم دعا قتیبة فی خراسان الی خلع سلیمان و لم یبایعه، و کانت القبائل العربیة قد سئمت حکم قتیبة فاتخذت من تمرده علی سلیمان بن عبد الملک ذریعة و ثارت تحت زعامة وکیع بن ابی سود التمیمی و قتلت قتیبة فی مرو.

عودة یزید بن المهلب

و عاد یزید بن المهلب الی امارة خراسان مرة اخری من لدن سلیمان ابن عبد الملک، و کان ذلک فی سنة 97 ه، و غزا یزید بن المهلب دهستان، و جرجان بجیش مؤلف من اهل الکوفة و اهل البصرة و اهل الشام، و اهل خراسان فیما یقارب مائة الف مقاتل سوی الموالی و الممالیک، و استولی علی دهستان من بلاد الترک، و اخضع جمیع الجهات المتمردة علیه و التی نقضت عهوده و عهود الولاة من قبله، و قد اخذ علیه التأریخ شدته و قسوته فی الحرب و معاملته الاسراء کما اخذت علی قتیبة ذلک قبله.

الجراح بن عبد اللّه

و حین تولی عمر بن عبد العزیز الخلافة فی سنة 99 ه، عزل یزید بن المهلب من امارة خراسان، و استدعاه الیه، و حبسه، و طالبه باعادة الأموال التی جباها و تصرف بها، و عیّن الجراح بن عبد اللّه امیرا علی خراسان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 81

عبد الرحمن القشیری

و بلغ عمر بن عبد العزیز شیئا عن ظلم الجراح للناس فعزله فی سنة 100 ه، و عین عبد الرحمن بن نعیم القشیری محله امیرا.

سعید خذینة

و فی سنة 101 ه، توفی عمر بن عبد العزیز فخلفه یزید بن عبد الملک، و فی سنة 102 عهد یزید بن عبد الملک امارة الکوفة، و البصرة، و خراسان الی اخیه مسلمة بن عبد الملک، فعین هذا من قبله ختنه (سعید خذینة) امیرا علی خراسان، و قد حارب (سعید خذینة) ختن مسلمة الترک، و کان لبنی تمیم تحت قیادة المسیّب شأن کبیر فی تلک الحرب.

سعید الحرشی

و فی سنة 103 ه، و کان یزید بن عبد الملک قد عزل اخاه مسلمة بن عبد الملک عن العراق و خراسان و عین مکانه عمر بن هبیرة، فعزل عمر هذا سعید خذینة عن خراسان و ولی علیها سعید بن عمرو بن الاسود الحرشی، فحارب الحرشی اهل (الصغد) و اخضع الاتراک ممن نقضوا العهد، و حاصر حصن (خجندة) و فتحه.

مسلم بن سعید

و فی سنة 104 عزل عمر بن هبیرة سعید بن عمرو الحرشی عن خراسان و ولاها مسلم بن سعید بن اسلم بن زرعة الکلابی و وقعت فی سنة 106 معارک بین القبائل العربیة حول بلخ و ماوراء النهر فقد کانت العصبیة قد بلغت القمة فی تلک السنة و قد قتل من القبائل العربیة عدد کبیر لتعصب کل قبیلة لقبیلتها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 82

اسد بن عبد اللّه القسری

و فی سنة 106 عزل هشام بن عبد الملک عمر بن هبیرة عن العراق و خراسان و ولی خالد بن عبد اللّه القسری فولی هذا اخاه أسد بن عبد اللّه القسری امارة خراسان، فتعصب اسد بن عبد اللّه علی مضر و ضربهم بالسیاط، و حلق رؤوسهم و شمّ اکابرهم و نکّل بهم، و حین کثرت الشکاوی من جوره عزله هشام عن امارة خراسان.

أشرس بن عبد اللّه

و فی سنة 109 استعمل هشام اشرس بن عبد اللّه علی خراسان و کانت سمعته حسنة حتی لقد کان یسمی بالرجل (الکامل) لفضله، و لما قدم اشرس کانت سمعته الطیبة قد سبقته الی خراسان فکبّر الناس فرحا بقدومه ثم ما لبث ان تغیر و تبدل، و قد غزا الترک، و قاتل اهل بخاری و السغد و کانت الحرب بینه و بینهم سجالا.

الجنید بن عبد الرحمن

و فی سنة 111 عزل هشام بن عبد الملک اشرس عن خراسان، و ولی الجنید بن عبد الرحمن الامارة، فحارب الجنید ماوراء النهر، و بخاری، و کانت له وقعة کبیرة مع ملک الترک خاقان سمیت بوقعة (الشعب) و فی سنة 116 ه مات الجنید بخراسان و دفن فیها.

عاصم بن عبد اللّه

و حین مات الجنید ولی هشام بن عبد الملک عاصم بن عبد اللّه الهلالی امارة خراسان فوقعت بینه و بین القبائل العربیة التی کان یقودها الحارث بن سریج معارک عنیفة راح ضحیتها کثیر من القبائل العربیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 83

أسد بن عبد اللّه

و فی سنة 117 ه عزل هشام بن عبد الملک عاصم بن عبد اللّه عن خراسان و ضم هذه الامارة الی عامله فی العراق خالد بن عبد اللّه، فولی خالد هذا اخاه أسد بن عبد اللّه امیرا علی خراسان من قبله، و حین قدم اسد خراسان اعلن الحرب علی الحارث بن سریج و من تبعه من القبائل العربیة التی کانت تدعو للبیعة علی سنة اللّه و رسوله و قسا اسد علی القبائل العربیة من الجیوش و علی الجیوش الخراسانیة غیر العربیة، و اتخذ مدینة (بلخ) مقرا له سنة 118 ه و نقل الدواوین الیها، و منها غزا الترک و تغلب علی (خاقان) ملکهم و قتل خاقان، کما قتل أسد بشرا کثیرا علی حد تعبیر (الطبری) و استولی علی غنائم کثیرة فی وقعة (سان) من (الختل)، و قد بقی الحارث بن سریج هو و تابعوه من القبائل یقیمون فی شمال خراسان یدعون لمن یبایع علی سنة اللّه و رسوله.

جعفر بن حنظلة- جدیع الکرمانی

و فی سنة 120 مات أسد بن عبد اللّه بعد ان استخلف جعفر بن حنظلة و ولی جدیع بن علی الکرمانی، و قد سمی بالکرمانی لولادته فی کرمان و فی نفس هذه السنة عزل الکرمانی من امارة خراسان و ولی نصر بن سیار.

نصر بن سیار

و یظهر من استعراض تاریخ خراسان ان اول استقرار نسبی شاهدته خراسان کان فی اوائل حکم نصر بن سیار فقد عمرت خراسان فی ابتداء امارته عمارة لم تعمر قبل ذلک فی ایام من سبقوه من العمال و قد وضع نصر بن سیار الخراج عن الناس، و أحسن الولایة و الجبایة، و مع ذلک فلم یخل حکمه من قسوة فقد غزا ماوراء النهر، و اسر (کور صول) و قتله، ثم صب علیه النفط و احرقه. و فی سنة 125 ه کان هشام بن عبد الملک قد مات و خلفه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 84
الولید بن یزید بن عبد الملک، و کانت خراسان تابعة لیوسف بن عمر عامل بنی امیة علی العراق، و اول عمل عمله الولید ان کتب الی نصر یطلب منه ان یتخذ له من الآلات الموسیقیة البرابط و الطنابیر و ان یجمع له اباریق الذهب و الفضة، و کل صناجة بخراسان یقدر علیها، و کل بازیّ و بروذن فاره، و یستعرض بهم اهل خراسان، کما کتب الولید للاقطار بان یبایعوا لابنیه: الحکم، ثم لعثمان بعده، فاخذ نصر بن سیار البیعة من اهل خراسان لهما، و فی هذه السنة نفسها فصل الولید خراسان عن تابعیة یوسف بن عمر عامله فی العراق و ولی خراسان کلها لنصر بن سیار مستقلا، و قد عزّ هذا الامر علی یوسف بن عمر فاشتری نصر و عماله فی خراسان من الولید بالمال و استعاد بذلک تابعیة خراسان له مرة اخری.
و فی هذه السنة نفسها ای سنة 125 کان یحیی بن زید بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب قد لجأ بعد مقتل ابیه زید فی العراق الی (بلخ) متخفیا عند الحریش بن عمرو فلاحقه نصر بن سیار فی جمیع البلدان الخراسانیة، و ما زال به حتی قتله فی احدی المعارک، و سلبه، و قطع رأسه.
و حین قتل الولید بن یزید خلفه فی الحکم یزید بن الولید بن عبد الملک فابقی نصر بن سیار علی امارة خراسان، و قد أمن یزید الحارث بن سریج، و اطلق نصر بن سیار من کان محبوسا عنده من اهل الحارث و قومه، و کان الحارث یدعو دائما الی کتاب اللّه و سنة رسوله فیعارضه عمال خراسان، و قد کثر تابعوه استجابة لدعوته، و اعتزل و من معه و اقام بشمال خراسان.
و فی الایام القصیرة التی تولی فیها ابراهیم بن الولید بن عبد الملک الخلاف بعد موت یزید بن الولید کان نصر بن سیار لم یزل امیرا علی خراسان، و قد بقی امیرا کذلک فی خلافة مروان حتی زوال دولة بنی امیة.
و حین تولی مروان بن محمد الخلافة عارض الحارث خلافته و لم یبایعه، و طلب من نصر بن سیار ان یدعو الی کتاب اللّه و سنة رسوله لان الخروج علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 85
التعالیم الاسلامیة من قبل العمال قد تجاوز الحدود فلم یوافق نصر بن سیار الحارث فوقعت الحرب بین نصر و الحارث و الکرمانی، و قد استولت القبائل علی (مرو) و احتدم القتال بین القبائل العربیة، و ذهبت فی هذه المعارک ضحایا کثیرة، و قد مات نصر بن سیار فی سنة 131 بساوه و دفن فیها، و کان آخر عامل لبنی أمیة فی خراسان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 86

العوامل التی قوضت حکم بنی أمیة فی خراسان

اشارة

کان هناک تباین جد کبیر بین الدعوة الاسلامیة و فلسفتها و اهدافها- التی کانت تساوی بین الشریف و الوضیع امام الشریعة الاسلامیة، و تحفظ للمسلمین و حتی لغیر للمسلمین نفوسهم، و احوالهم، و اعراضهم، و حریاتهم الدینیة الکاملة- و بین ما کان ینتهج الامراء و العمال و الحکام الذین کان یستعملهم بنو أمیة علی خراسان، فقد کان جمیع هؤلاء الامراء و الحکام باستثناء القلیل القلیل منهم لا یعملون بابسط الامور مما کان یدعو الیه الاسلام، فکانوا یفرضون الجزیة حتی علی المسلمین، و کانوا یستولون علی اموال الخراج، و اموال الرعایا، و یؤلفون منها ثروات کبیرة لانفسهم، و کانوا یسجنون، و یعذبون خصومهم باصناف العذاب، و یقسون فی التعذیب بما تقشعر منه الابدان وفق میولهم و دون محاکمة او مقاضاة علی خلاف نهج الخلفاء الراشدین الذی کان یحمل الخلیفة عمر بن الخطاب (ض) ان یقاضی حتی ابنه امام القضاء، و کان امراء خراسان یقتلون الاسری بالمئات بل بالالوف، و یمثلون بالجثت، و یطوفون بالرؤوس محمولة علی القنوات فی الاقطار الاسلامیة خروجا علی التعالیم الدینیة التی تحرم مثل هذه الاعمال، و کان الکثیر من اولئک الامراء و الحکام مبتلین بداء العصبیة التی یشجبها الدین الاسلامی و ینهی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 87
عنها و یکافحها حتی لقد کان الامیر الأموی یفرق بین القبائل العربیة فیعهد بشؤون الدولة و الولایة الی احدی القبائل و احلافها، و یحرم القبائل العربیة الاخری لا لسبب الا للعصبیة، الی غیر ذلک مما یفسد طبیعة الدین الاسلامی و دعوته، و اهدافه التی یعتز بها الاسلام بین مختلف الادیان السماویة، فکان هذا اهم الاسباب التی دعت لتقویض الحکم الاموی فی خراسان فی حین کان الامویون ینتخبون عمالهم لامارة خراسان انتخابا، و ینتقونهم انتقاء، و یبعثون بهم الی خراسان باعتبارهم خیر قادة لخیر ثغر من ثغور المسلمین، فکیف لو کانوا من عرض الناس و من سائر الطبقات؟ فحین تولی سلیمان بن عبد الملک الخلافة استعرض کثیرا من الرجال حتی وقع اختیاره علی یزید بن المهلب فنقله من امارة العراق الی امارة خراسان فی حین کان فی اشد الحاجة الیه فی العراق ثقة به و اعتمادا علیه.
و کان للخراسانیین من الحضارة و الثقافة ما یستطیعون ان یمیزوا بها حقیقة الدین الاسلامی، و یدرکوا ان الفساد کله فی الامراء و الحکام و لیس علی الدین الاسلامی ای مأخذ من المآخذ، و لذلک حین منّی وکیع بن ابی سود- القائم علی حرب خراسان بجعل خراج جانب نهر بلخ لحیّان مادام وکیع والیا، و ما دام حیّان حیا- قال حیان لقومه من العجم: «هؤلاء یقاتلون علی غیر دین» .
و من بعض الشواهد علی ان الدین کان لعقا علی السنة خلفاء بنی أمیة و حکامهم و انه لم یتجاوز حدود الصوم و الصلاة هو ان عمر بن عبد العزیز حین بلغه خبر استعمال یزید بن المهلب علی خراسان و هو من خیار امراء بنی امیة و قادتهم- و کان عمر حینذاک فی عرفات بالحج- قال عمر: «العجب لامیر المؤمنین- یعنی سلیمان بن عبد الملک- استعمل رجلا علی افضل ثغر للمسلمین فقد بلغنی عمن یقدم من التجار من ذلک الوجه انه: یعطی الجاریة من جواریه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 88
مثل سهم الف رجل، أما و اللّه ما اللّه أراد- یقصد سلیمان- بولایته» .
و لم یراع خلفاء بنی أمیة فی تولیتهم الامراء اهداف الاسلام بقدر ما کانوا یراعون مصلحتهم الشخصیة و تحقیق میولهم و رغباتهم الخاصة، و بلغ من الامران کان لا یمتنع البعض من الخلفاء من اخذ الرشوة فی مثل تلک التعیینات و تولیة الامارات، و من ذلک کان استعمال هشام بن عبد الملک الجیند بن عبد الرحمن علی خراسان سنة 111 ه لان الجنید کان قد أهدی لامرأة هشام قلادة فیها جوهر فاعجبت هشاما فاهدی الجنید لهشام قلادة اخری فاستعمله هشام علی خراسان .
و حین فصل الولید بن یزید بن عبد الملک امارة خراسان عن العراق و جرّدها من حکم یوسف بن عمر عامله علی العراق و خصّها بنصر بن سیار سنة 125 اشتری یوسف بن عمر اعادة تابعیة خراسان له من الولید بالمال!!.
و کان خلفاء بنی أمیة و عمالهم یعتبرون اموال المسلمین اموالهم الخاصة، و ممتلکات الاسلام ممتلکاتهم الموروثة فیهبون ما یشاؤون لمن یشاؤون، و لقد أطعم عبد الملک بن مروان: عبد اللّه بن خازم امارة خراسان سبع سنین، و قیل عشر سنین إذا ما بایعه عبد اللّه بن خازم، و حین رفض عبد اللّه بن خازم ذلک أطعم عبد الملک خراسان بکیر بن وشاح، و قد اصاب (بکیر) اموالا کثیرة من خراسان.
و بلغ الخروج علی مبادی‌ء الاسلام و الشریعة الاسلامیة عند الامراء و العمال الذین استعملهم الامویون علی خراسان أن طالب غیر واحد من قواد العرب و شیوخ القبائل فی خراسان بوجوب تجدید البیعة و اخذها علی الرضا لمن یبایعهم علی سنة اللّه و رسوله، و من هؤلاء کان الحارث بن سریج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 89
الذی طالب عاصم بن عبد اللّه الهلالی امیر خراسان بوجوب اخذ البیعة علی سنة اللّه و رسوله فقال له قطن بن عبد الرحمن بن جزی الباهلی- و من قوله هذا یستبان مبلغ التطرف فی عدم المبالاة بالدین- قال قطن: «یا حارث، انت تدعو الی الکتاب و السنة، و اللّه لو ان جبریل عن یمینک، و میکائیل عن یسارک ما اجبتک» فاعتزل الحارث القوم و تبعه الکثیر و بایعه الکثیر علی سنة اللّه و رسوله، و حارب، و بقی علی رأیه ینشد الخلیفة الذی یرضی بأن یبایع علی سنة اللّه و رسوله، و نزل بقومه شمال خراسان.
و فی عهد یزید بن الولید آمن یزید الحارث فدخل الحارث (مرو) و عرض علیه نصر بن سیار آخر عامل لبنی أمیة علی خراسان ان یبایع، فقال له الحارث:
«خرجت من هذه المدینة منذ ثلاث عشرة سنة إنکارا للجور، و انت تریدنی علیه». و انضم الی الحارث ثلاثة آلاف، و قد اطلق نصر بن سیار المساجین من اهل الحارث و اولاده، و عرض علیه ان یولیه و یعطیه مائة الف دینار فلم یقبل الحارث و ارسل الی نصر یقول:
«انی لست من الدنیا و اللذات فی شی‌ء، انما اسألک کتاب اللّه و العمل بالسنة، و استعمال اهل الخیر، فان فعلت ساعدتک علی عدوک» .
و الحارث هذا الذی حکی جانبا من جوانب الدعوة الاسلامیة و الهدف الذی یرمی الیه الاسلام لم یکن وحده الذی أیّد رأی الخراسانیین المستمد من حضارتهم و المدرک ان ما علیه هؤلاء الحکام و الامراء مغایر کل المغایرة لحقیقة الاسلام و دعوته فقد کانت هناک صور لبعض المسلمین یتمثل فیها الاسلام بحقیقته و جوهره یعود لها الفضل فی تأیید الرأی القائل بأن هؤلاء الحکام ابعد ما یکونون عن حقیقة الاسلام و نزعته و اهدافه و هی صور کثیرا ما یجدها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 90
الواجدون بین الطبقات العامة و سائر افراد المجتمع.
فحین تولی الحکم بن عمرو الغفاری امارة خراسان من لدن زیاد بن ابیه الذی کانت امارته تشمل العراق و ایران کتب زیاد الی الحکم بن عمرو یقول:
«ان امیر المؤمنین- یعنی معاویة بن ابی سفیان- قد کتب الی ان اصطفی له البیضاء و الصفراء فلا تقسمن شیئا من الذهب و الفضة» و لکن الحکم لم یلتفت الی قول زیاد و رفع الخمس و قسم الغنائم بین الناس و کتب الی زیاد یقول: «انی وجدت کتاب اللّه قبل کتاب امیر المؤمنین معاویة، و لو ان السماء و الارض کانتا رتقا علی عبد ثم اتقی اللّه لجعل اللّه له منها مخرجا و السلام» .
و اصاب یزید بن المهلب تاجا بجرجان فیه جوهر فقال: أترون احدا یزهد فی هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع الازدی، و قال له:
خذ هذا التاج فهو لک، قال: لا حاجة لی فیه!! قال: عزمت علیک، فأخذه و خرج، و لکنه لم یبعد کثیرا عن مجلس یزید حتی اعطاه لسائل فقیر ..!
و مثل هذا ما روی انه کان علی اقباض (خجندة) علباء بن احمر الیشکری فاشتری رجل منه جونة (خابیة) بدرهمین، فوجد فیها سبائک ذهب فرجع الی الیشکری وردّ الجونة له و اخذ الدرهمین ..!!
ان مثل هذه الروایات و سبق بعض الصحابة و بعض التابعین و تابعی التابعین دخول خراسان فی اول عهدها بالاسلام بالاضافة الی خصب افکار الخراسانیین و فهمهم الامور فهما عقلیا قد زاد الخراسانیین یقینا بأن هؤلاء الذین استعملهم بنو أمیة علی خراسان غیر الذین یدعو الیهم الاسلام و انهم و الاسلام من حیث الهدف و الفلسفة علی طرفی نقیض.
لقد قدم الی أسد بن عبد اللّه سنة 109 ه، و هو فی السوق برجل کانوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 91
قد طلبوا الیه ان یتنصل من دعوته لسنة اللّه و رسوله و کانت علی غیر ما یری بنو أمیة فلم یقبل الرجل فأشرف علیه اسد بنفسه و فی السوق نفسه و ضرب عنقه و الرجل یرتل قائلا: «رضینا باللّه ربا و بالاسلام دینا و بمحمد صلی اللّه علیه و سلم نبیا»!!

نماذج من الرشوة و الإثراء

و من اهم عوامل الفساد و سوء الحکم کان الاختلاس، و السرقة، و الاثراء علی حساب الرعیة عند الحکام و القواد و الامراء، و قلما اصبح ثغر من ثغور المسلمین نهبا للحکام و الامراء فی عهد بنی امیة کخراسان، و قد کانت خراسان- کما قد مرّ- علی جانب کبیر من الثروة و الذخیرة و الجواهر، و کان هذا مما یطمع الحکام فیها فیمدون ایدیهم الیها بشراهة و بشی‌ء کثیر من الظلم و القسوة حتی اذا انتهی دور هؤلاء الحکام و عادوا من خراسان عادوا و لدیهم من الاموال الملایین فضلا عن العقود و الجواهر و الذهب و الفضة.
و حین اقبل عبد الرحمن بن زیاد علی یزید بن معاویة و کان قد ولی خراسان فی زمن معاویة قال له یزید- و کان قد بلغه ما قد جنی من خراسان و حصل علیه-:
- کم قدمت به معک من المال من خراسان؟
قال: عشرون الف الف درهم!!
قال: ان شئت حاسبناک و قبضناها منک و رددناک علی عملک، و ان شئت سوغّناک و عزلناک.
قال: بل و تسوغنی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 92
و کان أمیة بن عبد اللّه بن خالد امیر خراسان فی سنة 77 ه، یقول:
«ما اکتفی بخراسان و سجستان لمطبخی»!! و قد اخذ أمیة الناس بالخراج و اشتد علیهم و کان لا بد له ان یعمل کل هذا ما دام علی مثل ما ذکر من البذخ و الاسراف الذی لا یکفی کل الخراج لمطبخه.
و فی غزوة قتیبة لبیکند، و بیکند هذه بلدة من بلدان بخاری أصابوا فیها من آنیة الذهب، و الفضة ما لا یحصی فأذابوا الآنیة و الاصنام و رفعوها الی قتیبة ثم رفعوا الیه خبث ما اذابوا (ای النفایة) فوهبها قتیبة للبعض فجاء منهم من یشتری منهم هذه النفایة و دفع بها المشترون اربعین الفا!!! فاعلم قتیبة بذلک فرجع عن هبته و أمر ان تذاب (النفایة) التی کان قد وهبها فأذیبت فخرج منها خمسون و مائة الف مثقال علی ما روی الطبری، و اصابوا فی (بیکند) ما لم یصیبوا بخراسان.
و لقد علم عمر بن عبد العزیز: ان یزید بن المهلب قد اصاب من خراسان ستة آلاف الف (أی ستة ملایین درهم) فی إحدی غاراته، و احتفظ بها لنفسه فکتب بذلک الی سلیمان، و مع ذلک فلم یردّ یزید المبلغ الی بیت المال علی ما روی المؤرخون.
و حضر أسد بن عبد اللّه امیر خراسان سنة 120 ه، المهرجان ببلخ فقدم علیه الامراء و الدهاقین بالهدایا فکان ممن قدم علیه ابراهیم بن عبد الرحمن الحنفی عامله علی هراة و خراسان، و معه دهقان هراة و قد قدّما هدیة قوّمت بألف الف، و کان فیما قدما به قصران، قصر من ذهب و قصر من فضة، و اباریق من ذهب و اباریق من فضة، و صحاف من ذهب و صحاف من فضة، و قد أقبلا و أسد جالس علی السریر، و اشراف خراسان علی الکراسی فوضعا القصرین ثم وضعا خلفهما الاباریق و الصحاف و الدیباج المروی، و القوهی، و الهروی و غیر ذلک حتی امتلأ السماط، و کان فیما جاء به
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 93
الدهقان (أسدا) کرة من ذهب فقسمها أسد بن عبد اللّه علی الرؤساء.
و قلّما عیّن أمیر علی خراسان و لم یلاحق العمال الذین کانوا قبله و اتباعهم اذا وجدهم هناک، متهما ایاهم بالسرقة و الاختلاس، و کثیرا ما یزج بهما فی السجن و یعذبهم، و یغرمهم، و ینکّل بهم اسوأ تنکیل، و قد فعل سلم ابن زیاد حین ولی خراسان سنة 61 ه، الشی‌ء الکثیر من هذا بالحارث بن قیس بن الهیثم.
و حین ولیّ سعید بن خذینة علی خراسان سنة 102 ه، اخذ العمال الذین ولّوا ایام عمر بن عبد العزیز فحبسهم و قال لقد رفع الی عنهم ان عندهم اموالا من الخراج فضمنهم عبد الرحمن بن عبد اللّه القشیری، بسبعمایة الف و اطلقهم، و قد رفع الیه ان ثمانیة من العمال الذین کان قد استعملهم یزید ابن المهلب علی کور خراسان و مقاطعاتها ان عندهم اموالا قد اختانوها من المسلمین فحبسهم و عذب بعضهم، و مات بعضهم تحت العذاب.
و فی ولایة عاصم بن عبد اللّه علی خراسان سنة 116 ه، زج فی السجن العمال الذین کانوا علی عهد الجنید و عذبهم بمثل هذه التهم.
و لما عین سلم بن زیاد والیا علی خراسان کان اخوه عباد بن زیاد عاملا بسجستان فخاف عبّاد اخاه سلم لأن سجستان کانت تابعة لخراسان و علم ان لیس له مقام فی سجستان بعد تعیین اخیه سلم امیرا علی خراسان و سجستان قام بتقسیم ما فی بیت المال فی عبیده، و سلّف بما فضل ممن اتاه طالبا، و خرج من سجتان، و کان سهم کل مملوک من ممالیکه- و کانوا الف مملوک- عشرة آلاف .
و استعارت امرأة سلم بن زیاد- الرجل الذی سمی اهل خراسان اولادهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 94
باسمه لما بلغهم عن صلاحه- لقد استعارت من زوجة صاحب (الصغد) الخراسانیة حلیها و لم تعدها الیها و ذهبت بها ، و غیر هذا الشی‌ء الکثیر مما قد نمر علی بعضه عند استعراضنا للمظالم.

نماذج من الظلم و القسوة

و عامل آخر لا یقل شأنا عن البعث بأموال المسلمین و السرقات و النهب الذی کان یقوم به عمال بنی أمیة و قوادهم فی خراسان ان لم یزد علیه ألا و هو الظلم و القسوة فقد لقیت خراسان من ظلم الولاة و العمال ما قد یتجاوز حدود الوصف المألوف فی البطش و کان من ذلک الظلم و تلک القسوة ان استخلف قتیبة علی سمرقند بعد أن فتحها عبد اللّه بن مسلم و اوصاه قائلا: «لا تدعنّ مشرکا یدخل بابا من ابواب سمرقند الا مختوم الید، و ان جفّت الطینة قبل ان یخرج فاقتله.!! و ان وجدت معه حدیدة!! سکّینا فما سواه فاقتله!!، و ان اغلقت الباب لیلا فوجدت فیها احدا منهم فاقتله، و قال: هذا العداء، لاعداء عیرین، لانه فتح خوارزم و سمرقند فی عام واحد، و ذلک ان الفارس اذا صرع فی طلق واحد عیرین قیل عادی بین عیرین» .
و کان الاتراک کثیرا ما یصالحون المسلمین ثم ینتقضون عهودهم و یقلبون لهم ظهر المجن، فحاصرهم یزید بن المهلب فی (البحیرة) ستة اشهر، و ارسل (صول) ملک الترک یطلب المصالحة علی ان یخرج بنفسه و ماله و بثلثمایة من اهل بیته و خاصته، و یترک له (البحیرة) فأجابه یزید الی ذلک، و دخل یزید الی البحیرة و قتل من الاتراک اربعة عشر الفا صبرا، و عفا عن الباقین!!
و دعی ادریس بن حنظلة لاحصاء ما فی (البحیرة) فلم یقدر علی احصاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 95
ما فیها . و تمردت منطقة (جرجان) للمرة الثانیة، و نقضت العهد الذی اعطته لیزید بن المهلب فأقسم لئن ظفر بهم ان لا یقلع عنهم، و لا یرفع عنهم السیف حتی یطحن بدمائهم و یختبز من ذلک الطحین و یأکل منه!! فقصدهم یزید بجنده، و هجم علی معسکر الترک، فاعطوا بایدیهم، و نزلوا علی حکم یزید، فسبی ذراریهم، و قتل مقاتلتهم، و صلبهم فرسخین الی یمین الطریق، و فرسخین الی یساره، و قاد منهم اثنی عشر الفا الی وادی جرجان و قال:
من طلبهم بثأر فلیقتل منهم من یشاء، فکان الرجل من جیش یزید یقتل الأربعة و الخمسة، و قد أجری الماء علی الدم، و علیه ارحاء لیطحن بدمائهم تبریرا لیمینه، فطحن، و خبز، و أکل، و قیل قتل منهم اربعین الفا!! .
و من فظائع القسوة التی عامل بها امراء الامویین الناس افرادا او جماعات عربا أو عجما فی خراسان ما یشیب لهولها الاطفال، فهذا أسد بن عبد اللّه امیر خرسان فی عهد هشام بن عبد الملک سنة 117 یقبض علی جماعة و شی بهم کدعاة لبنی العباس و یزج بهم فی السجن و یخرج منهم موسی بن کعب و یأمر به فیلجم بلجام حمار، و یأمر باللجام ان یجذب فجذب حتی تحطمت اسنانه، ثم یقول: اکسروا وجهه، فیدق أنفه، ثم وجأ لحیته، فندر ضرس له!!
ثم قبض أسد علی عمار بن یزید بنفس التهمة فأمر به فقطعت یده، و قلع لسانه، و سملت عینه، ثم سجنه، و قتله بعد ذلک و صلبه!!
و حین فتح أسد قلعة (التبوشکان) من طخارستان العلیا، و فیها بنو برزی التغلبیون و هم اصهار الحارث بن سریج الذی کان یلح علی وجوب تطبیق التعالیم الاسلامیة و المبایعة علی سنة اللّه و رسوله، فقتل مقاتلتهم، و قتل بنی برزی و سبی عامة اهلها من العرب و العجم و الذراری و باعهم بالمزایدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 96
فی سوق بلخ ..!!
و عند الاستیلاء علی بلخ، و کان اهل بلخ قد نزلوا علی حکم أسد بن عبد اللّه کتب أسد الی عامله (الکرمانی) ان یصیّر الذین بقوا عنده من الاسراء أثلاثا، فثلثا یصلبهم، و ثلثا یقطع ایدیهم و ارجلهم، و ثلثا یقطع ایدیهم دون ارجلهم، ففعل عامله ذلک، و أخرج اثقالهم، فباعها بالمزایدة، اما الذین قتلهم، و صلبهم فقد کانوا اربعمائة !!
و کان امراء خراسان یتفننون فی شروط الجزیة و فرض الاتاوة، علی غیر سنة اللّه و رسوله و یعقدون شروط الصلح لیثقلوا کاهل المصالحین آخذین بالاصعب و الاعسر من الامور حتی لیترکوا فی النفوس اسوأ الاثر للحکم، فحین حاصر یزید بن المهلب سنة 98 ه، طبرستان صالح (الاصبهبذ) علی ان یدفع له سبعمائة الف درهم، و اربعمائة الف نقدا، و مائتی الف و اربعمایة حمار موقرة زعفران!! و اربعمایة رجل علی رأس کل رجل برنس، و علی البرنس طیلسان و لجام من فضة، و سرقة من حریر الی ما هنالک من الشروط العجیبة!!
و المهلّب حین حاصر احدی مدن خراسان مما تلی خوارزم سنة 61 ه، سأل اهلها ان یذعنوا للطاعة، فطلبوا الیه ان یصالحهم فصالحهم علی نیف و عشرین الف الف، و کان فی صلحهم ان یأخذ منهم عروضا فکان یأخذ الرأس من الماشیة و الدابة و الخیل بنصف اثمانها فبلغ قیمة ما أخذ منهم خمسین الف الف ای خمسین ملیونا فی حین المصالحة کانت علی نیف و عشرین ملیونا.
و هذا أشرس بن عبد اللّه السلمی حین قدم خراسان سنة 109 ه، امیرا من قبل هشام بن عبد الملک کبّر الناس فرحا بقدومه لما کان قد بلغهم عن صلاحه و قد رکب حین قدم حمارا فقال له حیان النبطی: «ایها الامیر: ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 97
کنت ترید ان تکون والیا علی خراسان فارکب الخیل، و شدّ حزام فرسک، و الزم السوط خاصرته حتی تقدم النار و إلّا فارجع، قال اشرس: أرجع اذن و لا اقتحم النار، و کان الامراء قبله یأخذون الجزیة ممن اسلم و ممن لم یسلم من السکان علی حد سواء فرفع اشرس الجزیة عمن أسلم، ثم تبدلت حاله بعد ذلک فرکب الخیل، و کتب الی عماله بأخذ الجزیة من الجمیع بحجة ان فی الخراج قوة للمسلمین، فکتب له بعض عماله: ان الناس قد اسلموا، و بنوا المساجد، و جاءه دهاقین بخاری و قالوا له: ممن تأخذ الخراج و قد صار الناس کلهم عربا؟ و لکن اشرس کتب الی عماله: ان یستمروا فی اخذ الجزیة ممن کانوا یأخذونها سابقا ای ممن اسلم و ممن لم یسلم ..!!
و یقول الطبری: فألحّ العمال فی جبایة الخراج ممن اسلم، و استخفوا بعظماء العجم، و عومل الدهاقین معاملة سیئة، فاقیموا و خرّقت ثیابهم، و القیت مناطقهم فی اعناقهم، و اخذوا الجزیة ممن اسلم من الضعفاء، و کان اشرس هذا هو الذی کبّر الخراسانیون فرحا بقدومه.
و اغلب عمال بنی امیة علی خراسان کانوا یفعلون مثل هذا، و حین أمر نصر بن سیار عامل بنی امیة علی خراسان سنة 121 ه، برفع الجزیة عمن اسلم أتاه ثلاثون الف مسلم کانوا یؤدون الجزیة عن رؤوسهم .
و هناک قسم آخر من المظالم التی سلبت ثقة الخراسانیین بالحکام الامویین و بعثت الشکوک فی دیانة الامراء و اسلامهم و هو نقض العهود و الرجوع عن الامان الذی یعطونه فی المصالحة، اذ طالما اعطی الامراء عهد اللّه للمسالمین و المصالحین من منافسیهم او محاربیهم او مزاحمیهم علی الولایة و الامارة و السلطة من القبائل العربیة ثم نقضوا هذا العهد، و نکّلوا بهم، و عذبوهم، و قتلوهم شر قتل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 98
فعندما قطع سعید بن عثمان بن عفان والی خراسان من قبل معاویة سنة 56 ه، النهر الی سمرقند صالحه اهل (الصغد) بعد الحرب، و اعطوه رهنا منهم خمسین غلاما یکونون فی یده من ابناء عظمائهم، فعبر النهر، و اقام بالترمذ، و لم یف لهم.
و فی سنة 104 ه، طلب (الدیواشنی) و هو دهقان اهل سمرقند النزول علی حکم سعید بن عمرو الحرشی امیر خراسان من قبل یزید بن عبد الملک فألطفه الحرشی و اکرمه مکیدة، ثم حین فرغ من احتلال (کس) خرج الی (ربنجن) فقتل الدیواشنی و صلبه علی ناووس، و کتب علی اهل (ربنجن) کتاب جزاء بمائة الف ان فقد المصلوب من موضعه، و بعث برأس الدیواشنی الی العراق، و اقتطع یده الیسری، و بعث بها الی طخارستان.
و لقد روی الراوون عن الحرشی هذا انه کان محتارا فی فتح (خزر) لان خزر کانت منیعة، فقال له احدهم: ألا أدلّک علی من یفتحها لک بغیر قتال؟ قال: بلی فقیل له: انه المسربل بن الخرّیت بن راشد لانه صدیق ملک (سبقری) ملک (خزر) و کان هذا الملک یحب (المسربل) و جاءه المسربل مؤمّنا له و لقومه ان یترک الحرب و ینزل بأمان، فاقتنع و صالح فآمنوه و بلاده، و عاد الحرشی الی (مرو) من هذه الغزوة و معه (سبقری) الملک و فی الطریق قتل الحرشی سبقری و صلبه و معه أمانه ..!!

العصبیة و الکبریاء

و عامل آخر شارک فی هدم الدولة الامویة و کره الخراسانیین للامویین و تقویض حکمهم و هو العنجهیة التی اتصف بها الحکام الامویون و العصبیة القبلیة التی سببت کثیرا من الثورات بین القبائل العربیة فی خراسان الامر الذی طالما هدد الأمن و الاستقرار سنین طویلة، فهذا اسلم بن زرعة حین کتب له عبید اللّه بن زیاد سنة 56 ه، بولایة خراسان للمرة الثانیة- و قد کان العامل علیها یومذاک سعید بن عثمان بن عفان- طرق اسلم سعیدا لیلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 99
و اخبره بخبر تعیینه فی محله امیرا، و اتفق ان اسقطت فی تلک اللیلة جاریة لسعید بن عثمان غلاما فکان سعید یقول: (لا قتلنّ به رجلا من بنی حرب یرید آل معاویة-) ثم قدم علی معاویة شاکیا الیه اسلم بن زرع فغضبت القیسیة، و دخل همام بن قبیصة النمری فنظر الیه معاویة محمر العینین فقال له: یا همام ان عینیک لمحمرتان؟ قال همام کانتا یوم صفین اشد حمرة!! قدّم معاویة ذلک، و کفّ سعید عن الشکایة .
و کان اسد بن عبد اللّه امیرا علی خراسان سنة 117 ه، کما قد مر و قد قدل له جماعة اتهموا ببث الدعوة العباسیة فی خراسان فحملته العصبیة القبلیة، علی ان یأخذ البعض بالتهمة و یتغاضی عن البعض الآخر، و قد جی‌ء الیه بلاهز بن قریط، فقال لاهز: و اللّه ما فی هذا الحق ان تصنع بنا هذا و تترک الیمانیین و الربعیین، فضربه أسد ثلثمائة سوط، ثم قال اصلبوه .
و اول ما تسلم نصر بن سیار العهد بامارته علی خراسان سنة 120 ه، استعمل مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم علی (بلخ) و استعمل وشاح بن بکیر ابن وشاح علی (مرو الروذ) و الحارث بن عبد اللّه بن الحشرج علی (هراة) و زیاد بن عبد الرحمن القشیری علی (ابرشهر) و ابا حفص بن علی- و هو ختنه- علی (خوارزم) و قطن بن قتیبة علی (الصغد)، قال رجل من اهل الشام من الیمانیة: ما رأیت عصبیة مثل هذه؟ فقال: بلی التی کانت قبل هذه، فلم یستعمل اربع سنین الا مضریا .. !!
و لم تنج خراسان من شرور العصبیة و الغطرسة و الکبریاء حتی فی عهد عمر بن عبد العزیز الرجل التقی الورع، و کان عمر بن عبد العزیز قد عرف ما لقیت خراسان من عربها و عجمها من فساد حکامها و استبدادهم و عصبیتهم، لذلک کتب الی القائم بالخراج یقول له:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 100
«ان للسلطان ارکانا لا یثبت الا بها، فالوالی رکن، و القاضی رکن، و صاحب بیت المال رکن، و الرکن الرابع انا، و لیس من ثغور المسلمین ثغر أهم الی، و لا أعظم عندی من ثغر خراسان».
و قد احسن عمر بن عبد العزیز الظن بالجراح بن عبد اللّه فاستعمله والیا علی الثغر الذی هو أهم و اعظم الثغور عنده و ارسله الی خراسان، و بعد أن أقام الجراح بخراسان ارسل الی عمر بن عبد العزیز وفدا ممن یتوسم فیهم عمر الصلاح و الصدق لیطلعه علی احوال خراسان فی عهد عامله الجراح، و حین تکلم الوفد قال احدهم و هو من الموالی: «یا امیر المؤمنین: عشرون الفا من الموالی یغزون بلا عطاء و لا رزق، و مثلهم قد اسلموا من اهل الذمّة یؤخذون بالخراج، و أمیرنا عصبی جاف، یقوم علی منبرنا فیقول: أتیتکم حفیا و انا الیوم عصبی، و اللّه لرجل من قومی أحب الی من مائة من غیرهم؟» .
و یقول الطبری: و کان الجراح یقول: انا و اللّه عصبی عقبی- یرید من العصبیة- و قد عزله عمر بن عبد العزیز.
و استعان عمر بأبی مجلز لما بلغه من صلاحه فی ترشیح خلف للجراح علی خراسان، و عین عبد الرحمن بن نعیم، و عبد الرحمن القشیری علی خراسان و کتب عمر لأهل خراسان: «انی استعملت عبد الرحمن علی حربکم، و عبد الرحمن بن عبد اللّه علی خراجکم عن غیر معرفة منی بهما و لا اختیار الا ما اخبرت عنهما، فان کانا علی ما تحبون فاحمدوا اللّه، و إن کانا علی غیر ذلک فاستعینوا باللّه و لا حول و لا قوة الا باللّه» و قد سارع الناس فی خراسان الی الاسلام و دخل الآلاف منهم فی الاسلام علی عهد عمر ابن عبد العزیز.
و لقد عزّ وجود العمال الصالحین و الامراء الذین یقیمون شرائع الاسلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 101
حتی فی عهد هذا الرجل التقی الصالح فکیف بالعهود الاخری.
و تجاوز الاستهتار و العنجهیة و الغطرسة الحدود المألوفة حتی کان الامیر علی خراسان کثیرا ما یری فی نفسه ندا للخلیفة لیبرهن علی منزلته بما ینزل من القسوة دون اهتمام بالخلیفة و اوامره، فهذا معقل بن عروة و قد ارسل من العراق عاملا علی (هراة) فمضی الی هراة و لم یتح له ان یمر بالحرشی امیر خراسان فی مرو فأرسل (الحرشی) فجی‌ء به و جلده مائتین و حلقه؟
لأنه لم یمر به اولا و یسلم علیه!!
و ارسل جمیل بن عمران للتفتیش علی اعمال خراسان فی امارة الحرشی سنة 104 ه، و حین علم الحرشی بأن جمیلا لم یرقه وضع خراسان و حکم الحرشی فیها دسّ له السمّ فی بطیخة و أماته!!
و بلغ من الکبریاء و الغرور و الاستبداد ان مخلّد بن یزید بن المهلب کان عاملا علی (بلخ) و قد تلقی رسالة من حیان سنة 98 ه، یبدأ فیها حیان اسمه فیستهل الرسالة قائلا: «من حیّان مولی مصقلة الی مخلد بن یزید» فشکاه المخلّد الی ابیه یزید بن المهلب امیر خراسان فاغرم یزید حیانا مائتی الف درهم جزاء لجرأته فی تقدیم اسمه علی اسم ابنه مخلّد!!
فکان من جراء ذلک ان کثرت الفتن و الحروب بین القبائل العربیة و سقط عدد کبیر من القتلی لا سیما فی سنة 65 ه، بین قبائل مضر و وائل و غیرهم، و بین بنی تمیم و ربیعة، و عادت العصبیة کأشد ما تکون بین الیمانیة و النزاریة، و قد تساقطت الالوف من القتلی فی سنة 126 و ما بعدها من السنین، و تمکنت العصبیة الجاهلیة من نفوس القبائل بسبب امرائهم، و أهمل البلد، و عم الفساد، و فقد العدل.
و لقد حدث الرجل الذی بعث به قتیبة سنة 93 ه، الی الحجاج فی العراق لیبشره بفتح (سمرقند) قال: ان الحجاج قد وجهنی الی الشام، لأنقل الخبر الذی نقلته له الی الخلیفة لکی یسمعه منی- قال. و دخلت المسجد قبل طلوع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 102
الشمس و کان الی جنبی رجل ضریر فسألته عن شی‌ء من امر الشام، فقال لی أأنت غریب؟ قلت: أجل و من خراسان، قال: ما اقدمک؟ فأخبرته، فقال «و الذی بعث محمدا بالحق ما افتتحتموها الا غدرا، و انکم یا اهل خراسان الذین تسلبون بنی أمیة ملکهم، و تنقضون دمشق حجرا حجرا» .
*** کان هذا و امثاله هو الذی جعل خراسان تعتقد ان الدین الاسلامی شی‌ء لا یمثله اغلب هؤلاء الحکام بأی وجه من الوجوه بل و لا یمثله اغلب الخلفاء الامویین، فلا ریب فی ان الخراسانیین کانوا قد عرفوا القرآن، و تفقهوا فی الدین، و قد اقام فی هذا الدور من الفتح الاسلامی عدد کبیر من مشاهیر اهل الحدیث و الرواة من العرب فی خراسان، و سکنوا بها، و ماتوا فیها و دفنوا هناک، و من هؤلاء لفیف من الصحابة منهم: بریدة بن الخصیب الاسلمی المدفون بمرو، و ابو برزة الاسلمی، و الحکم بن عمرو الغفاری، و عبد اللّه بن خازم الاسلمی المدفون بجوین، و قتم بن العباس المدفون بسمرقند و جمع من التابعین الذین تولوا شرح اهداف الاسلام و فلسفته و تعالیمه.
و لا ریب فی ان الخراسانیین قد عرفوا شیئا کثیرا عن سیرة النبی (ص) و سیرة الخلفاء الراشدین (ر ض) فعلموا ان هناک طبقة غیر هؤلاء الخلفاء و الحکام هی التی تمثل الشریعة الاسلامیة و تعالیمها، و هی وحدها التی تأخذ بکتاب اللّه و سنة رسوله، و لقد آن الاوان للبحث عن تلک الطبقة بعد ان بلغ السیل الزبی، و لا ریب ان الخراسانیین کانوا قد سمعوا الشی‌ء الکثیر عن آل النبی و عترته من الرواة الذین کانوا یغدون و یروحون بین الحجاز و العراق و خراسان، و کانوا یسمعون بأن اولئک وحدهم الذین اتخذوا من القرآن و تعالیمه قانونا عاما، و کانت خراسان، و خراسان الوسطی- و هی خراسان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 103
الحالیة- و عاصمتها (مرو) اطوع ما تکون و اکثر ما تکون ایمانا باللّه و رسوله، و الا لما حارب جیشها مع الجیوش العربیة جنبا الی جنب بمثل ذلک الاخلاص و التفانی الذی ابدوه فی محاربة الترک و ماوراء النهر، و قد عرف دعاة العباسیین للخراسانیین هذا الایمان الی جانب ما امتاز به الجیش الخراسانی من القوة و الشجاعة و المقدرة، فاتخذ العباسیون من خراسان موطنا للتبشیر بدعوتهم، و نظرا لقرب العباسیین للنبی (ص) فقد کان من السهل اعتبارهم وجها من وجوه العلویین ان لم یکونوا الصورة الکاملة للعلویین الذین أحسن رؤساؤهم و أئمتهم تمثیل الاسلام بکامل شروطه، و الذین ثاروا فی وجه الأمویین غیر مرة مستنکرین نهجهم الخارج علی الشریعة الاسلامیة کثورة ابی عبد اللّه الحسین (ع) و ثورة زید بن علی بن الحسین و غیرهما من الثورات و ما لقی العلویون من الاضطهاد و التشرید و العذاب،
کل هذا کان معروفا عند الخراسانیین کما کان معروفا فی جمیع الاقطار الاسلامیة فأصغی الخراسانیون للدعوة العباسیة بکل جوارحهم و آمنوا بأهدافها کثورة فی وجه الظلم یقوم بها الهاشمیون دون ان یکون هناک فرق بین عباسی و علوی فی هذه الدعوة و هو فرق ظهر بعد ذلک حین ظفر العباسیون بالخلافة وحدهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 104

الدعوة العباسیة

اشارة

کانت خراسان بناء علی ما مر خیر تربة لغرس بذور الثورة فی وجه الحکم الاموی فراح بنو العباس یوفدون بین آونة و اخری بعض رجالاتهم للاتصال بالخراسانیین و اثارة نخوتهم و تحفیزهم علی جمع شملهم و الثورة فی وجه الامویین، و قد شخص ابو مسلم الخراسانی سنة 129 ه، (و اسمه عبد الرحمن بن مسلم) من خراسان الی ابراهیم الامام- و کان یختلف منه الی خراسان و یعود الیه- و کان ابراهیم الامام یقول لأبی مسلم: «انک منا اهل البیت» .
و طاف ابو مسلم باصقاع خراسان مبشرا، و هیأ فی کل مکان رجالا للنهوض بالامر و جمع الاموال، و کان یرسل بما یجتمع لدیه من الاموال التی یجمعها من الشیعة الذین آمنوا بالدعوة الی الامام ابراهیم، و ینفق البعض منها فی تنظیم الحرکة و اعداد الثورة، و کان یتلقی من الامام و من سائر جهات خراسان الکتب و الاخبار المؤیدة لحرکته حتی اذا تکاملت عنده الأسباب دخل مدینة (مرو) و هناک أطلع الوجوه و الأکابر علی توافق الانظار عند لخراسانیین و رجالاتها من التأیید و ما کان قد تلقی من کتب الامام من التشجیع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 105
فأیدته (مرو) العاصمة، و ناطت به ریاسة الدعوة، و توحدت الکلمة فی الدعوة الی خلع خلافة بنی امیة، و کثر هناک اتباع ابی مسلم، و اتسعت حرکته فوجه وفودا و دعاة من لدنه ال طخارستان، و بلخ، و خوارزم، و طالقان، و قد احکم امر الدعوة للثورة و اسلوبها و استخدم الوجوه المؤتمنة، و المعروفة بالصلاح کسبا للرأی العام و توحیده حتی اتاه فی لیلة واحدة أهل ستین قریة مبایعین و فی نحو الیوم الخامس من رمضان عقد ابو مسلم اللواء- الذی بعث به الامام و الذی دعی (بالظل)- علی رمح، و عقد الرایة التی دعیت (بالسحاب) علی رمح و هو یتلو:
«أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلی نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ» ثم لبس السواد هو و سلیمان بن کثیر، و اخوة سلیمان و الموالی، و من اجاب الدعوة، و اوقدوا النیران- و کان هذا الایقاد علامة اتفقوا علیها مع شیعتهم فی سفیذنج- فاجتمع الیه القوم فی کل صوب، و حینذاک بادر ابو مسلم بتحصین حصن (سفیذنج) و رمّمه، و سدّ الدروب التی تصل الیه حذرا من الجیوش الامویة، فقد عرف ابو مسلم بحسن القیادة و التدبیر و زادت هذه الشهرة بمقدرته یوما بعد یوم کما عرف الی جانب حسن قیادته و شجاعته بالبلاغة و الخطابة و نفوذ کلامه فی النفوس.
و کان عید رمضان قد حلّ فأقام دعوة طعام واسعة و أمر سلیمان بن کثیر ان یصلی بالناس و المبایعین من الشیعة، و نصب له منبرا بالعسکر، ثم کتب الی نصر بن سیار امیر خراسان ما یلی:
«اما بعد، فان اللّه تبارکت اسماؤه عیّر اقواما فی القرآن فقال: و أقسموا باللّه جهد أیمانهم لئن جاءهم نذیر لیکوننّ أهدی من إحدی الأمم، فلما جاءهم نذیر ما زادهم الا نفورا إستکبارا فی الأرض و مکر السّی‌ء، و لا یحیق المکر السّی‌ء إلا بأهله فهل ینظرون الا سنة الأولین فلن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 106
تجد لسنّة اللّه تبدیلا، و لن تجد لسنّة اللّه تحویلا».
و کان جواب نصر بن سیار ان ارسل جیشا لمحاربة ابی مسلم فتغلب علیه ابو مسلم و هزمه فکان ان قویت دعوة ابی مسلم لخلع مروان آخر خلفاء بنی امیة و دعا الی خلعه علانیة حینذاک.
و کان لسلوک ابی مسلم بین الناس شأن آخر فی اجتذابهم فقد کان ابو مسلم ینزل فی خباء و لم یتخذ له حرسا و لا حجابا، و قد عظم امره عند الناس و قالوا «ظهر رجل من بنی هاشم له حلم و وقار و سکینة» فانطلقت فتیة من اهل (مرو) نسّاک یطلبون الفقه الی ابی مسلم فسألوه عن نسبه فقال:
«خیری خیر لکم من نسبی» و سألوه اشیاء من الفقه فقال: «أمرکم بالمعروف و نهیکم عن المنکر خیر لکم من هذا، و نحن الی عونکم احوج منا الی مسألتکم فاعفونا».
و ارسل ابو مسلم جیشا الی (هراة) فاستولوا علیها، و طردوا عاملها، و اتسعت حرکته اکثر، اما نصر بن سیار فقد بث فی القبائل روح العصبیة و دعاهم الی جمع الکلمة لمحاربة ابی مسلم غیر العربی، و وقعت الحرب، و کان ابو مسلم اذا هزم جیش نصر بن سیار و أسر من اصحابه الاسراء کساهم و داوی جراحهم و اطلقهم فکان هذا عاملا آخر علی نجاح الدعوة.
و فی سنة 130 ه، کان ابو مسلم قد تغلب علی (مرو) العاصمة و دخلها فاتحا و نزل دار الامارة، و دعا هناک الی البیعة، و کان نص البیعة کما یلی:
«ابایعکم علی کتاب اللّه و سنة رسوله محمد صلی اللّه علیه و سلم، و الطاعة للرضا من اهل بیت رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، و علیکم بذلک عهد اللّه و میثاقه و الطلاق، و العتاق، و المشی الی بیت اللّه الحرام، و علی ان لا تسألوا رزقا و لا طعما حتی یبتدئکم به ولاتکم» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 107
و استبشر الخراسانیون و احسنوا الظن بالدعوة، و ایقنوا ان عهد الظلم و الفتک و الفساد باسم الاسلام و شریعته سیذهب بذهاب الامویین و حکامهم، لا سیما و نصوص البیعة التی جاء بها ابو مسلم کانت واضحة و صریحة، بأنها دعوة الی کتاب اللّه و سنة رسوله، یشترط فیها الرضا بمن یبایع علی هذا من آل بیت رسول اللّه، فاندفعوا بحماس منقطع النظیر الی جمع الاموال و ارسالها الی العراق لتموین الثورة و تغذیتها، و هبوا یجندون انفسهم، و یبذلون ارواحهم لترسیخ هذا الهدف الذی یرمی الیه الاسلام، و کان ابو مسلم الخراسانی یبذل قصاری الجهد فی جمع المال و تحویله الی الکوفة، و یحشد الجیوش بأقصی ما یملک من قوة و استطاعة مقابل الجیوش الامویة المحاربة، و مقابل جیوش الترک فیما وراء النهر، فبمال الخراسانیین، و بایمانهم بالاسلام، و بجیوشهم قامت الدعوة العباسیة علی ما توقع محمد بن علی بن عبد اللّه و علی ما اشار الیه داود بن علی و ابو جعفر المنصور و غیرهم من خلفاء العباسیین ، و لو لا الخراسانیون لما تم شی‌ء من هذا، یقول الدکتور زکی محمد حسن عن ذلک: «... و لا غرو فقد قامت الدولة العباسیة علی اکتاف الایرانیین فی خراسان» . و لم یدر الخراسانیون ان هذه البیعة هی الاخری ستکون حبرا علی ورق، و ان سیرة الحکام العباسیین و الخلفاء العباسیین فی الغالب ستکون کسیرة الخلفاء الامویین و عمالهم، جمعا للثروة علی حساب الشعب، و تقتیلا فی النفوس، و تمثیلا بالجثث. و تعذیبا للخصوم و المنافسین علی غیر سنة اللّه و رسوله و شریعة الاسلام فیما سنمر علیه بایجاز فیما یأتی:
و التحق قحطبة بن شبیب بجیش ابی مسلم، و هو احد النقباء الاثنی عشر الذین اختارهم ابراهیم الامام فقد عهد الیه ابو مسلم بقیادة الجیوش الخراسانیة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 108
فکان أینما حل بجیشه دعا اتباع بنی امیة من الجیوش و جلّهم من مضر الی المبایعة علی کتاب اللّه عز و جل و سنة نبیه صلی اللّه علیه و سلم و الی الرضا من آل محمد فاذا ابوا و لم یجیبوه قاتلهم، و قد جری قتال عظیم بین الجیوش الخراسانیة و الامویة ادی الی ان یبلغ عدد القتلی حول مدینة طوس وحدها نحو بضعة عشر الفا!! اما المعرکة التی قتل فیها (نباتة) فقد بلغ عدد القتلی فیها عشرة آلاف نسمة.!!
و قسا قحطبة قسوة قواد الامویین فقتل من اهل جرجان ما یزید علی ثلاثین الفا.
و هرب نصر بن سیار بجیشه من مدینة الی اخری و انسحبت جیوشه حتی خرج من خراسان کلها و سار بمن معه من الجیش الی (الری) منتظرا المدد من جیوش العراق، و هناک مات نصر و دفن بساوه سنة 131 ه، بعد ان اصبحت کل خراسان تحت قبضة ابی مسلم الخراسانی و إمرته، و قد بایعته کل خراسان و دون استثناء علی النص الذی اورده و علی الرضا من آل محمد و انضم الیه بعض الیمانیین، و بجیش خراسان هذا فتح قحطبة و ابنه الحسن (همدان) و (اصفهان) و (نهاوند) و سائر جهات ایران، ثم فتح بعد ذلک العراق، و مات غریقا فی الفرات، و تولی ابنه الحسن بن قحطبة قیادة الجیش و کان ابو مسلم یدیر حرکة الجیوش من مقره بخراسان و ینصب العمال و الولاة و ینفق علی الجیوش فی جمیع الجهات مما کان یجمع من الاموال، و هو الذی عین أبا مالک عبد اللّه بن أسید الخزاعی علی البصرة بعد فتحها.
و بویع ابو العباس السفاح سنة 132 فی مسجد الکوفة اول خلیفة من بنی العباس، فصعد المنبر بعد الصلاة و خطب، و کان موعوکا فاشتد علیه الوعک فجلس علی المنبر و قام عمه داود بن علی علی مراقی المنبر و اتم خطبته بخطبة امتدح فیها اهل خراسان و اعترف بفضلهم و قال فیما قال:
«یا اهل الکوفة، إنّا و اللّه ما زلنا مظلومین مقهورین علی حقنا حتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 109
اباح اللّه شیعتنا أهل خراسان فأحیا بهم حقنا، و ابلج بهم حجتنا، و اظهر بهم دولتنا، و اراکم اللّه بهم ما لستم تنتظرون» .
و فی معرکة (الزاب) و مروان بن محمد آخر خلفاء الامویین یقود جیشه- و قد رأی جیش خراسان و بسالته التی طوت کل هذه البلدان و جاءت تحاربه فی عقر داره- قال رجل کان مع مروان:
«لعن اللّه (ابو مسلم) حین جاءنا بهؤلاء یقاتلنا بهم؟» .
و حین اشتدت المعرکة و عبد اللّه بن علی یقود الجیوش قبال مروان نادی عبد اللّه:
«یا اهل خراسان! یا لثارات ابراهیم» .
و قتل مروان آخر خلفاء بنی أمیة- علی ما روی الطبری- بصیحة استفزازیة من عامر بن اسماعیل الحارثی باللغة الخراسانیة إذ نادی و هو یحمل علی مروان قائلا: «یا جوانکتان دهید» .
و فی حرب المنصور لابن هبیرة و حصاره لواسط کان یحوط حجرة المنصور عشرة آلاف من اهل خراسان، و کان السفاح لا یقطع امرا دون ابی مسلم.
یقول البرفسور (رینولد. أ. نکلسن):
«لقد حکم العباسیون الذین احیطوا بحرس خاص قوی من جند خراسان الذین کانوا یعولون علی اخلاصهم» .
و علی ان الخلافة العباسیة قد قامت بناء علی ما مر علی اکتاف الخراسانیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 110
و اموالهم فقد بدأ العباسیون ینهجون نهج الامویین فی خراسان و مع الخراسانیین، فقد قتل السفاح وزیره أبا سلمة لمجرد اتهامه بالمیل الی العلویین بعد ان کان العباسیون یسمون ابا سلمة (بوزیر آل محمد)، و قتل المنصور أبا مسلم الخراسانی لمجرد تخوفه من شخصیته بعد ان کان العباسیون یسمون ابا مسلم (بأمیر آل محمد)، و کان ابراهیم الامام یقول له: «انک منّا اهل البیت) بالاضافة الی سفک الدماء و التشرید و التعذیب و السلب و النهب الذی یقرأه القاری‌ء فی تاریخ العباسیین بخراسان.

عمال العباسیین فی خراسان

اشارة

و کان ابو مسلم الخراسانی اول عامل خراسانی لأول خلیفة عباسی فی خراسان و الجبال، و ذلک فی سنة 132 کما کان خالد بن برمک- و کان قد وافق الحملة الخراسانیة من خراسان حتی تم القضاء علی بنی امیة- اول خراسانی تولی دیوان الخراج.
و فی امارة ابی مسلم الخراسانی خرج شریک بن شیخ المهری ببخاری علی حکومة العباسیین، و نقم علی ابی مسلم قائلا: «و ما علی هذا اتبعنا آل محمد ان تسفک الدماء، و أن یعمل بغیر الحق» و تبعه علی رأیه اکثر من ثلاثین الفا، فوجه الیه ابو مسلم زیاد بن صالح الخزاعی و قتله.
و فی امارة ابی مسلم تم فتح ارض (فرغانة) و الدخول الی بلاد الترک، و الانتهاء الی ملک الصین.
و فی سنة 133 ه، وجّه ابو مسلم زیاد بن صالح الی حرب الترک فوقع القتال علی نهر (طراز) فظفر المسلمون بهم و قتلوا منهم زهاء خمسین الفا!! و اسروا نحو عشرین الفا، و هرب الباقون الی الصین.
و فی سنة 134 ه، اقبل جیش الصین و نزل فی (طلخ) فأخرج ابو مسلم یاد بن صالح الی حربه و انجده بجیش من الخراسانیین و وقعت معرکة کبیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 111
انتهت بانهزام الصینیین و توغل جیش المسلمین فی الصین .
و فی هذه السنة نفسها غزا ابو داود خالد بن ابراهیم اهل (کش) و قتل ملکها (الاخرید) و هو سامع مطیع، و قتل اصحابه، و اخذ منهم من الأوانی الصینیة المنقوشة المذهبة ما لم یر مثلها، و من السروج و متاع الصین کله من الدیباج و الطرف شیئا کثیرا فحمله الی ابی مسلم و هو بسمرقند، و قتل عدة من دهاقینهم!! و انصرف ابو مسلم الی (مرو) بعد ان أمر ببناء سور سمرقند.
و فی سنة 135 خرج زیاد بن صالح علی ابی مسلم فخرج ابو مسلم لحربه حتی تم له قتله، و اکتشف ابو مسلم فی هذه الحملة ان السفاح کان قد ارسل سباع بن النعمان الأزدی الی زیاد بن صالح یأمره بأن یثب علی ابی مسلم و یقتله ان حانت له فرصة، و ان زیادا لم یثب الا بتحریض من السفاح و لکنه اخفق و قتل.
و فی سنة 136 کتب ابو مسلم الی السفاح یستأذنه فی القدوم الی الحج و کان منذ قیامه بالثورة لم یفارق خراسان فکتب الیه السفاح باذنه علی ان لا یصحب معه اکثر من خمسمایة جندی، و یبدو ان السفاح کان یحاذر من ابی مسلم، فکتب له ابو مسلم بأنه قد وتر الناس، و انه لیس آمنا علی نفسه ما لم یتخذ الحیطة الکافیة من زیادة عدد الجنود فاذن السفاح له بألف جندی، و لا یبعد ان یکون ابو مسلم قد حاذر بطش السفاح به خصوصا و قد کان مسبوقا بذلک فی ثورة زیاد بن صالح علیه، لذلک سار فی ثمانیة آلاف و قد فرقّهم بین نیسابور و الری و خلّف علی خراسان أبا داود فی محله، و تلقاه السفاح بالبشر و الاکرام، و اذن له بالحج.
و کان المنصور قد اقنع السفاح بوجوب الغدر بأبی مسلم حذرا من شخصیته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 112
و مکانته فی الاوساط الخراسانیة، و امتنع السفاح فی اول الامر ثم رضی و سأل المنصور: و لکن کیف نقتله؟ قال المنصور: اذا دخل علیک و جاذبته الحدیث ضربته انا من خلفه ضربة قتلته بها، قال و کیف بأصحابه؟ قال ابو جعفر: لو قتل لتفرقوا و ذلّوا، ثم ندم السفاح علی ذلک و أمر أبا جعفر بالکف عنه .
و حج ابو مسلم، و کان الحاج بالناس ابو جعفر المنصور، و مات السفاح، و بویع المنصور بالخلافة و هو بمکة، و قیل ان ابا مسلم کان قد تقدم علی ابی جعفر المنصور فی الرجوع من الحج لذلک عرف بخبر موت السفاح قبل ان یعرف المنصور فکتب للمنصور:
«عافاک اللّه و متع بک، انه أتانی أمر أفظعنی، و بلغ منی مبلغا لم یبلغه منی شی‌ء قط، وفاة امیر المؤمنین، فنسأل اللّه ان یعظم اجرک، و یحسن الخلافة علیک، انه لیس من اهلک احد اشد تعظیما لحقک، و اصفی نصیحة لک، و حرصا علی ما یسرک: منی» .
و کان السفاح قبل ان یموت بعث بعمه عبد اللّه بن علی فی غزوة الصائفة للحرب مع الروم و معظم جنده من الخراسانیین فلما مات السفاح دعا عبد اللّه الناس الی نفسه و نایعه؟؟؟ الکثیر.
و عند عودة المنصور الی العراق دخل علیه ابو مسلم، و کان المنصور جازعا فقال له ابو مسلم ما هذا الجزع و قد اتتک الخلافة؟ قال انما اتخوف شرّ عمی عبد اللّه بن علی و شغبه علی، قال ابو مسلم: لا تحفه فأنا اکفیکه ان شاء اللّه فان عامة جنده و من معه هم من اهل خراسان و لا یعصوننی، فسّری عن المنصور.
و روی ابن الاثیر ان ابا مسلم بعد عودته من الحج قال للمنصور: «ان شئت جمعت ثیابی فی منطقتی و خدمتک، و ان شئت اتیت خراسان فأمددتک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 113
بالجنود، و ان شئت سرت الی حرب عبد اللّه بن علی» فأمره المنصور بالمسیر لحرب عمه عبد اللّه فسار ابو مسلم بالجنود و لم یتخلف عنه احد.
و کان عبد اللّه بن علی قد خشی ان لا یناصحه اهل خراسان الذین کانوا معه فأمر بقتلهم فقتل منهم نحوا من سبعة عشر الفا!! فکان هذا دلیلا آخر عند الخراسانیین بأن الحکم فی عهد العباسیین هی کالحکم فی عهد الامویین کلاهما خارج علی حدود الاسلام و الشریعة الاسلامیة.
و التحم الجیشان جیش ابی مسلم و جیش عبد اللّه، و بعد عدة شهور مضت بین کرّ و فر و حرب قاسیة تغلب ابو مسلم و فرّ عبد اللّه بن علی، و آمن ابو مسلم الناس بعد الهزیمة، و أمر بالکف عنهم، و عاد بجیشه الی حلوان، و هی بالقرب من حدود السواد من بغداد، و ساءت ظنون ابی مسلم بالمنصور کما ساءت ظنون ابی جعفر بأبی مسلم فأرسل المنصور من یطمن ابا مسلم و یستدعیه الیه و لکن ابا مسلم لم یعد، و تبادلا الرسائل و کتب له ابو مسلم یقول:
«اما بعد فانی اتخذت رجلا اماما و دلیلا علی ما افترض اللّه علی خلقه، و کان فی محلّة العلم نازلا، و فی قرابته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم قریبا، فاستجهلنی بالقرآن فحرّفه عن مواضعه طمعا فی قلیل قد نعاه اللّه الی خلقه فکان کالذی دلیّ بغرور، و أمرنی ان أجرد السیف و ارفع الرحمة و لا اقبل المعذرة، و لا اقیل العثرة، ففعلت توطیدا لسلطانکم حتی عرّفکم اللّه من کان جهلکم، ثم استقذنی اللّه بالتوبة، فان یعف عنی فقدما عرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 114
به و نسب الیه، و ان یعاقبنی فبما قدمت یدای، و ما اللّه بظلام للعبید».
و ما زال به المنصور یوفد له الوفود و هو بحلوان و یکتب له و یطمنه و یؤمّنه حتی قدم علیه و لم یأخذ بمشورة الذین حذروه من غدر المنصور و اشاروا علیه بالرجوع الی خراسان.
و کان المنصور قد دعا بأربعة من خاصته فأخفاهم عنده، و دعا أبا مسلم لتناول الغداء معه، و هناک طلب منه ان یریه السیف الذی قاتل به جیش عمه عبد اللّه بن علی فدفع ابو مسلم بسیفه الیه، و حینئذ صفّق المنصور- و کانت تلک علامة بهجوم المختبئین علیه، و هکذا انتهت حیاته قتیلا بتلک الصورة .
و اوصی المنصور حینذاک بتوجیه الجیش الخراسانی کل قسم منهم الی جهة و فرقهم قبل ان یعرفوا بمقتل ابی مسلم، و امر لهم بالجوائز.

ابو داود

و فی سنة 137 ه، استعمل المنصور ابا داود خالد بن ابراهیم علی خراسان و کان ابو مسلم قد استخلفه فی مکانه عند خروجه للحج و کان المنصور قد کتب له سرا قبل ان یقتل ابا مسلم بأنه سیستعمله علی خراسان امیرا ما دام حیا اذا قطع صلته بأبی مسلم.
و حین بلغ خبر مقتل ابی مسلم خراسان قام (سنباد) و هو مجوسی من (اهروانه) احدی قری نیسابور مطالبا بدم ابی مسلم، و لقیت دعوته رواجا فکثر اتباعه و کانت عامتهم من اهل الجبال، و تغلب علی نیسابور، و قومس، و الری، و تسمی بفیروز اصبهبذ، فوجه الیه المنصور جیشا کبیرا التقی به بین همدان و الری و تغلب علیه، و کان عدد القتلی من اتباع سنباد علی ما روی المؤرخون نحو ستین الفا!! و قد سبیت ذراریهم، و نساؤهم، ثم قتل سنباد بعد ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 115
و اصبح ابو داود خالد بن ابراهیم موضع اعتماد المنصور، فحین قبض المنصور علی اتباع اعمامه سلیمان بن علی، و عبد اللّه بن علی، و عیسی بن علی قتل المنصور بعضهم بمحضره و ارسل بالآخرین الی خراسان لیقتلهم ابو داود فقتلهم ابو داود.
و ظل الجیش الخراسانی ینتدب لکل مهمة مستعصیة. ففی سنة 138 ه، جهز المنصور خازم بن خزیمة بثمانیة آلاف من (المروروذیة) فی حرب (ملبد) فی طریق الموصل.

عبد الجبار الازدی

و فی سنة 140 ه، مات ابو داود عامل المنصور علی اثر حادث عصیان من بعض الجیش فسقط من احدی الشرفات و انکسر ظهره و مات، فاستعمل المنصور عبد الجبار بن عبد الرحمن الازدی علی خراسان، و لما قدمها اتهم جماعة من قواد الجیش بالدعاء الی ولد علی بن ابی طالب کان بین المتهمین مجاشع بن حریث الانصاری عامل بخاری، و ابو المغیرة خالد بن کثیر عامل قوهستان، و الحریش بن محمد الذهلی فأخذهم و قتلهم، و حبس جماعة منهم و بدأ یلح علی عمال ابی داود فی استخراج ما عندهم من الاموال کما کان یفعل عمال الامویین من قبل و قد بدأ عهد بنی أمیة فی طریقة الحکم یتجدد دوما فما کأن هناک بیعة، و نصوص بیعة، و کتابا للّه، و سنة لرسوله، و قد ساء ظن الناس بالحکام العباسیین کما ساء بالامویین من قبل، و اضطر المنصور الی استدعاء عبد الجبار فتمرد عبد الجبار علیه، و لما بلغ ذلک اهل (مرو الروذ) ثاروا فی وجه عبد الجبار، و حاربوه، و قاتلوه قتالا شدیدا حتی انهزم منهم ولجأ الی معطنة فتواری فیها فعبر الیه المجشّر بن مزاحم من اهل (مرو الروذ) و أسره و حمله الی المنصور و معه ولده و اصحابه، فبسط المنصور علیهم العذاب حتی استخرج منهم الاموال ثم امر فقطعت یدا عبد الجبار، و رجلاه و ضرب عنقه، کما کان یفعل خلفاء بنی امیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 116

المهدی

و المنصور اول من تنبّه الی اهمیة خراسان فی دعم الخلافة العباسیة بالأموال و الرجال، و اول من فکر فی السیاسة التی تضمن له ولاء هذه الامارة و تمدّه بالجیش و لا ریب انه قد افاد من تمرد عبد الجبار الازدی علیه فرشح فی هذه المرة ابنه المهدی و ارسله الی الری و طبرستان و عهد الیه امارة خراسان و ارسل معه خالد بن برمک لیعینه علی ادارة الامارة فکان مما قاله خالد للمهدی هو:
إن اباک یرید منک ان تکون ولی عهده، و ان ولایة العهد تتطلب منک ان تأخذ من الاموال التی تجبیها علی قدر ما یکفیک و تقسم الباقی علی مأموریک و جیوشک علی ان یکون ما تجبیه من اموال الناس و ما تدفعه لمأموریک متفقا مع مبادی‌ء العدل، و علی ان تمشی مع الناس فی حکمک بالاحسان و المعروف .
و کان ذلک سنة 141 ه، و المهدی لم یزل فتی لم یتزوج بعد، و کان المهدی قد سار الی خراسان و نزل نیسابور، و غزا من هناک طبرستان، و بعد قتال مریر طلب الاصبهذ الامان و سلم له قلعة طبرستان المنیعة، و اخلص له اهل (مرو) و تفانوا فی سبیله.
و فی سنة 150 ه، تمرد اهل (هراة) تحت قیادة (استاذ سیس) و انضمت الیه باذخیس، و سجستان، و بعض جهات خراسان، و التقی بهم اهل (مرو الروذ) فی قیادة الاجشم المرورذی و قاتلوهم دفاعا عن العباسیین، و وجه المنصور خازم بن خزیمة الی المهدی فولاه المهدی القیادة فی حرب (استاذ سیس) و ضم الیه بقیة القواد، و وقعت المعارک و دارت الدائرة علی (استاذ سیس) و قد روی المؤرخون ان عدد القتلی من اتباع (استاذ سیس) قد بلغ سبعین الفا!! اما عدد الاسری فقد کان اربعة عشر الفا، اما استاذ سیس فقد نجا بنفسه و یقول البعض ان استاذ سیس هذا هو جدّ المأمون لامه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 117

حمید بن قحطبة

و توجه المهدی الی الحج ثم اقتضی بعد ذلک ان یتوجه الی (الرقة) لذلک استعمل المنصور حمید بن قحطبة علی خراسان و کان ذلک فی سنة 152 ه، فغزا حمید (کابل) و اخضع الجانب الشرقی من خراسان، و بقی امیرا علی خراسان الی سنة 159 و هی السنة التی مات فیها، و کان ذلک فی خلافة المهدی.

ابو عون عبد الملک

و فی سنة 159 ه، استعمل المهدی علی خراسان أبا عون عبد الملک بن یزید و قد وقف الخراسانیون فی هذه السنة موقفا حازما فی تأیید المهدی بخلع عیسی بن موسی الذی کان یجب ان تعود الخلافة الیه بعد المهدی بمقتضی البیعة السابقة فحصروا ولایة العهد بعد المهدی بموسی بن المهدی حتی اضطر عیسی ابن موسی الی التنازل عن ولایة عهده و مبایعة موسی بن المهدی ولیا للعهد، و قد دفع له المهدی لقاء ذلک عشرة آلاف الف ای (عشرة ملایین) و قیل بل عشرین الف الف و قطائع کثیرة، و صعد المهدی المنبر و اعلن الناس بما اجمع علیه اهل بیته و انصاره من اهل خراسان (کذا).
و فی کتاب العهد الذی کتبه عیسی للمهدی علی ما روی الطبری جاء فیه: انه عهد یکتبه لامیر المؤمنین المهدی و لولی عهده موسی بن المهدی، و لاهل بیته، و جمیع قواده و جنوده من اهل خراسان (کذا).
ثم یقول فی العهد: و قد جعلت للمهدی و ولی عهده و لعامة المسلمین من اهل خراسان (کذا) و غیرهم الوفاء ... الخ و هذا ما یستدل به علی قیمة خراسان و شأنها فی کیان الدولة الاسلامیة بحیث ینصون علیها فی البیعة و فی الوصیة.
و فی سنة 160 ه، خرج یوسف بن ابراهیم علی المهدی بخراسان آخذا علی المهدی السیرة التی یسیر علیها فی خلافته، و اجتمع معه علی ذلک جمع کثیر من الاتباع، فتوجه الیه یزید بن مزید و اقتتل الجیشان و تغلب علیه یزید و أسره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 118
و بعث به من خراسان الی المهدی، فأمر المهدی بقطع یدی یوسف و رجلیه، و ضرب عنقه، و اعناق اصحابه و صلبهم علی جسر دجلة الاعلی، و تولی هرثمة قتل یوسف بنفسه لان یوسف کان قد قتل اخا لهرثمة بخراسان.
و لم ترض سیرة ابی عون عامل خراسان المهدی فما لبث ان سخط علیه و عزله. و المعروف ان ابا عون کان اول عامل عاش فی خراسان عیشة تقشف و زهد و کان بیته مبنیا باللبن حتی لقد ندم المهدی علی عزله و تعجب و قال:
کنت اظن ان بیته مبنی بالفضة و الذهب.

معاذ بن مسلم

و فی سنة 160 استعمل المهدی معاذ بن مسلم امیرا علی خراسان، و فی ایام ولایته کان خروج (حکیم المقنع) بخراسان مبشرا بدعوة دینیة ترمی الی القول بتناسخ الأرواح و قد آمن به کثیر حتی قوی و صار الی ما وراء النهر من بلاد الترک فحاربه معاذ بن مسلم و معه عقبة بن مسلم و سعید الحرشی الذی تولی اخیرا قیادة حربه و حصره بمدینة (کش) و شدد الحصار علیه، و حین یئس (المقنع) شرب سما و سقاه نساءه و اهله فمات و ماتوا معه خشیة ان یؤول بهم الامر الی السبی، و احتل الحرشی قلعته، و احتز رأسه، و بعث به من خراسان الی المهدی.

المسیب بن زهیر

و فی سنة 163 عزل المهدی معاذ بن مسلم من امارة خراسان و ولاها المسیب بن زهیر، و فی سنة 166 ه، اضطربت خراسان علی المسیب ابن زهیر فعزل من امارتها.

الفضل بن سلیمان

و استعمل المهدی الفضل بن سلیمان الطوسی سنة 166 ه، و وجه فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 119
سنة 167 ابنه و ولی عهده موسی الی جرجان لحرب المتمردین بطبرستان، و یستبان من الحوادث انه قد بدا للمهدی ان یعهد بولایة العهد من بعده الی هرون فقد ذکر بعض المؤرخین ان المهدی قد کتب لابنه موسی بجرجان ان یتنازل عن ولایة العهد لاخیه هرون و کان ذلک فی سنة 169 و لکن موسی تنمّر و لم یلبّ طلب ابیه، فصمم المهدی علی الخروج بنفسه الی جرجان و معالجته الامر هناک، و فی الطریق اعتل المهدی و مات، و قیل بل انه مات فی خروجه للصید و لم یکن یقصد جرجان.
و بقی الفضل امیرا علی خراسان حتی سنة 171 ه، فی خلافة هرون الرشید، و قد استدعاه الرشید و استوزره الی جانب یحی بن خالد.

جعفر بن محمد- العباس- الغطریف- حمزة

و استعمل هرون الرشید بعد استدعاء الفضل بن سلیمان الطوسی: جعفر ابن محمد بن الاشعث، و فی سنة 173 أقدم الرشید جعفر بن محمد الاشعث من خراسان و ولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد ثم عزله سنة 175 و ولاها خاله الغطریف بن عطاء، و فی سنة 176 عزل الرشید الغطریف بن عطاء عن خراسان و ولاها حمزة بن مالک بن الهیثم الخزاعی، و فی سنة 177 عزل الرشید حمزة بن مالک.

الفضل بن یحیی

و فی هذه السنة 177 ه، ولی الرشید امارة خراسان الفضل بن یحیی بن خالد اضافة الی ما کان قد ولاه سابقا من بلاد الجبال و الری و سجستان، و لم تکن خراسان علی ما یرام من حیث الاستقرار فکان عهد الفضل اول عهد عرفت فیه خراسان الامن و الاستقرار و العدل و العمران منذ اول عهدها بالعمال الامویین حتی ذلک التاریخ من العهد العباسی فقد روی الطبری ان الفضل حین قدم خراسان سنة 178 والیا احسن السیرة، و بنی المساجد،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 120
و الرباطات، و غزا ماوراء النهر، و اخضع ملک (أشروسنة) و کان ممتنعا، و اتخذ بخراسان جندا من اهل خراسان سماهم العباسیة، و جعل ولاءهم لهم، و قد بلغت عدتهم خمسمایة الف رجل، و قد قدم منهم بغداد عشرون الفا فسمّوا ببغداد (الکرنبیة) و خلف الباقی منهم بخراسان علی اسمائهم و دفاترهم و فی ذلک مما قاله مروان بن ابی حفصة:
ما (الفضل) الا شهاب لا أفول له‌عند الحروب اذا ما تأفل الشهب
أمست ید لبنی ساقی الحجیج بهاکتائب ما لها فی غیرهم أرب
کتائب لبنی العباس قد عرفت‌ما ألّف (الفضل) منها العجم و العرب
أثبتّ خمس مئین فی عدادهم‌من الالوف التی أحصت لک الکتب
یقارعون عن القوم الذین هم‌أولی بأحمد فی الفرقان إن نسبوا
و قد وجّه الفضل أحد قواده الی (کابل) فافتحها، و غنم غنائم کبیرة، و ازدهرت خراسان و عمرت، و ساد الامن جمیع ربوعها، و کثرت هبات الفضل، و عطایاه. و اصبحت خراسان اکثر من ای وقت ولاء للعباسیین و تعلقا بهم فی عهد الفضل بن یحی، و قد اشار الی ذلک بعض الشعراء عند عودة الفضل من خراسان سنة 179، و قد تضمنت احدی قصائد مروان بن حفصة هذا الازدهار، و سیادة العدل و استتباب الامن، و اطمئنان النفوس فی بعض ما جاء منها اذ یقول:
نفی عن خراسان العدو کما نفی‌ضحی الصبح جلباب الدجی فتفرّدا
لقد راع من أمسی (بمرو) مسیره‌الینا و قالوا شعبنا قد تبدّدا
علی حین ألقی قفل کل ظلامةو اطلق بالعفو الأسیر المقیّدا
و أفشی بلا من مع العدل فیهم‌أیادی عرف باقیات و عودّا
فأذهب روعات المخاوف عنهم‌و اصدر باغی الامن فیهم و اوردا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 121
و بذلک اعاد الفضل الاطمئنان الی النفوس و زال ذلک الاضطراب الذی کان سائدا خراسان یوم ارسل الفضل لیعید الیها السکینة.
یقول عمر بن عبد الرزاق: و فی هذه المدة التی شغل فیها الفضل امارة خراسان کانت خراسان مضرب المثل فی سیادة العدل، و تقدیر اهل العلم و لحسن اختیاره للذین ولاهم الحکم فی المدن ممن عرفوا بحسن التدبیر و التقوی عمّ العدل جمیع نواحی خراسان، و انتعشت الاحوال الاقتصادیة لحد کبیر حتی لهجت جمیع الالسن بفضله و احسانه و عدله و حسن تدبیره .

منصور- جعفر بن یحیی- عیسی بن جعفر

و فی سنة 179 ولی الرشید منصور بن یزید بن منصور الحمیری امارة خراسان و لم تمض سنة حتی ولاها جعفر بن یحی و لکن امارة جعفر لم تدم اکثر من عشرین یوما حتی عزله الرشید و ولی عیسی بن جعفر.

المأمون

و فی سنة 182 بویع لعبد اللّه بن الرشید بولایة العهد بعد اخیه الامین و سمی بالمأمون و ولاه الرشید امارة خراسان و ما یتصل بها الی همدان، و حینما حج الرشید سنة 186 سجل هذه البیعة فی کتاب تضمن وصیته من بعده و قد کتبه الأمین بطلب من ابیه بخطه یقول فیه:
«هذا کتاب لعبد اللّه هارون امیر المؤمنین کتبه محمد بن هارون (الأمین) و قد ولانی العهد من بعده، و ولی عبد اللّه (المأمون) العهد و الخلافة بعدی برضی منی طائعا غیر مکره، و ولاه خراسان و ثغورها و کورها، و حزبها، و جندها، و خراجها و طرزها، و بریدها، و بیوت اموالها، و صدقاتها،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 122
و عشرها، و عشورها، و جمیع اعمالها فی حیاته و بعده»، الی ان یقول:
«.. فان حدث بأمیر المؤمنین (هارون) حدث الموت، و افضت الخلافة الی محمد بن امیر المؤمنین (الامین) فعلی محمد انفاذ ما امره به هارون فی تولیة عبد اللّه (المأمون) خراسان، و ثغورها و من ضمّ الیه من أهل بیت میر المؤمنین»- ثم یعین المنطقة فیقول- «من لدن الری الی اقصی عمل خراسان لیس لمحمد (الامین) ان یحوّل عنه قائدا و لا مقودا، و لا رجلا واحدا ممن ضم الیه امیر المؤمنین و لا یحوّل عبد اللّه المأمون، عن ولایته التی ولاها ایاها هارون من ثغور خراسان و أعمالها کلها ما بین عمل الری مما یلی همذان الی اقصی خراسان و ثغورها، و بلادها، و ما هو منسوب الیها، و لا شخصه الیه، و لا یفرق احدا من اصحابه و قواده عنه، و لا یولی علیه احدا، و لا یبعث علیه و لا علی احد من عماله و ولاة اموره بندار و لا محاسبا و لا عاملا».
الی ان یقول:
«فان اراد محمد (الامین) خلع عبد اللّه (المأمون) عن ولایة العهد من بعده او عزل عبد اللّه عن ولایة خراسان و ثغورها و اعمالها و الذی من حد عملها مما یلی همذان و الکور التی سماها امیر المؤمنین فی کتابه ... الخ فلعبد اللّه ابن هارون الخلافة بعد امیر المؤمنین، و هو المقدم علی محمد بن امیر المؤمنین و هو ولی الأمر بعد أمیر المؤمنین و الطاعة من جمیع قواد امیر المؤمنین هارون من اهل خراسان و اهل العطاء ... الخ ».
و من هذه الوصیة یستبان قدر خراسان و اهمیتها بین جمیع الاقالیم الاسلامیة الاخری و مبلغ ما کان یعتمدها الخلفاء بحیث ینص الرشید علی خلع خلافة ابنه الامین اذا اراد ان یخل بشروط الولایة علی خراسان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 123

علی بن عیسی

و کان علی بن عیسی بن ماهان قد فوض الیه الرشید امارة خراسان باسم المأمون سنة 183 ه، و کان قد استشار یحی بن خالد فی تعیینه فأشار علیه یحی بأن لا یفعل، و لکن الرشید لم یعمل بمشورته و استعمل علی بن عیسی علی خراسان، فلما شخص علی بن عیسی الی خراسان ظلم الناس، و ضیّق علیهم، و جمع اموالا طائلة، و وجه الی هرون مما جمع هدایا قیل انه لم یجمع مثلها قط من الخیل و الرقیق، و الثیاب، و المسک، و صنوف الاموال، فجلّ هرون قدر علی بن عیسی و قال لیحی بن خالد علی سبیل الدعابة: «هذا الذی اشرت علینا ان لا نولیه هذا الثغر فخالفناک فیه فکان فی خلافک البرکة، فقد تری ما انتج رأینا فیه و ما قل من رأیک».
فقال یحی: «یا امیر المؤمنین جعلنی اللّه فداک، انا و ان کنت أحب ان اصیب فی رأیی، و أوفق فی مشورتی، فأنا احب من ذلک ان یکون رأی امیر المؤمنین أعلی، و فراسته أثقب، و علمه اکثر من علمی، و معرفته فوق معرفتی، و ما احسن هذا و اکثره ان لم یکن وراءه ما یکره امیر المؤمنین، و ما اسأل اللّه ان یعیذه و یعفیه من سوء عاقبته، و نتائج مکروهه».
قال الرشید: «و ما ذاک لأعلمه؟»
قال «ذاک انی احسب ان هذه الهدایا ما اجتمعت له حتی ظلم فیها الاشراف و اخذ اکثرها ظلما و تعدیا، و لو امرنی امیر المؤمنین لأتیته بضعفها الساعة من بعض تجار الکرخ».
قال الرشید: «و کیف ذاک؟»
قال یحی: «قد ساومنا (عونا) علی السقط الذی جاءنا به من الجوهر و اعطیناه به سبعة آلاف الف فأبی ان یبیعه، فابعث الیه الساعة بحاجبی یأمره ان یرده الینا لنعید فیه نظرنا، فاذا جاء به جحدناه و ربحنا سبعة آلاف ثم کنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 124
نفعل بتاجرین من کبار التجار مثل ذلک، و علی ان هذا اسلم عاقبة و استر امرا من فعل (علی بن عیسی) فی هذه الهدایا بأصحابها فاجمع لامیر المؤمنین فی ثلاث ساعات اکثر من قیمة هذه الهدایا بأهون سعی، و أیسر امر، و اجمل جبایة، مما جمع (علی بن عیسی) فی ثلاث سنوات» فسکت الرشید و لم یعلق بشی‌ء علی کلام یحی بن خالد.
و فی سنة 183 خرج (ابو الخصیب) بمدینة (نسا) من خراسان فسوی علی بن عیسی أمره و؟؟؟ و اکرمه، و فی سنة 185 عاد (ابو الخصیب) فتمرد و خرج و استولی علی طوس، و نیسابور، و زحف علی مرو، و قوی امره، فخرج علی بن عیسی بن ماهان من (مرو) لحربه و کان ذلک فی سنة 186 و قتله فی (نسا) و سبی نساءه و ذراریه.
و قبیل خروج (ابی الخصیب) للمرة الثانیة کان قد خرج (حمزة الشاری) فوثب (عیسی بن علی) و هو ابن علی بن عیسی علی حمزة الشاری و اتباعه و قد قدر المؤرخون عددهم بعشرة آلاف مقاتل فظفر بهم عیسی بن علی و قتلهم، و بلغ کابل، و زابلستان، و القندهار.
و لقد اصاب یحی بن خالد فی رأیه حین اشار علی الرشید بعدم استعمال علی بن عیسی، فقد عاث علی بن عیسی فی خراسان و وتر اشرافها، و اخذ اموالهم، و استخف برجالهم، فکتب الکثیر من کبراء القوم و الدهاقین و الاشراف و سکان الکور و الدساکر یشکون ظلم علی بن عیسی الی الرشید، و یستغیثون باللّه من جوره و سوء سیرته، و قد قیل للرشید ان علی بن عیسی قد اجمع علی خلافک فشخص الرشید الی الری، و هناک اعاد تثبیت البیعة لأولاده و اعاد تثبیت النص علی ان تکون خراسان ضمن ولایة (المأمون) التی یجب ان لا یعارصه فیها احد. و قد قدم علیه علی بن عیسی فی الری، و جاء معه من خراسان بالاموال و الهدایا و الطرف من المتاع و المسک و الجوهر،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 125
و آنیة الذهب و الفضة، و السلاح و الدواب علی ما یعدّد المؤرخون، و اهدی الی جمیع من کان مع الرشید من ولده و اهل بیته، و کتابه، و خدمه، و قواده علی قدر طبقاتهم و مراتبهم، فرضی عنه الرشید، و رده الی خراسان و کان ذلک فی سنة 189.
و فی سنة 190 خرج رافع بن اللیث بن نصر بن سیار و تبعه من الاتراک عدد کبیر و قد تم له قتل عیسی بن علی بن عیسی و هو القائد الذی ولاه ابوه علی بن عیسی قیادة الحیش لقتال رافع بن لیث، فساق علی بن عیسی الجیش لقتال رافع و کتب الی الرشید انه اضطر الی ان یبیع حلی نسائه و ینفق الثمن فی حرب رافع، فی حین کان یبلغ الرشید ان علی بن عیسی یجمع مالا کثیرا و انه قد أذلّ الاعالی من خراسان و اشرافهم، و کان یستولی علی اموال الناس قسرا، حتی لقد اشتری مرة درقة ثمینة علی کره من صاحبها بثلاثة آلاف و لم یدفع له ثمنها! فأقام صاحبها حولا ینتظر رکوب علی بن عیسی لیراه و لیبلغه بعدم تسلمه ثمن الدرقة، و حین رکب علی بن عیسی عرض له الرجل و اخبره، فصاح به علی بن عیسی و قذف أمّه، الی غیر ذلک مما استحوذ علیه من الضیاع و العقار و الجواهر فی حین یقول انه اضطر ان یبیع حلی نسائه لضیق ذات یده.
و قوی سلطان علی بن عیسی و بدرت منه بوادر تدل علی الخلاف علی الرشید حتی لقد خشی الرشید ان یعصی علیه لو امر بعزله او استدعائه الیه، و کانت ثورة (رافع بن اللیث) فی شمال خراسان قد اتسعت فاتخذ منها الرشید حجة لمعالجة الوضع مع علی بن عیسی و احتال علیه بأن عیّن (هرثمة ابن اعین) کقائد و وزیر لعلی بن عیسی و اوفده الی خراسان لیساعد علی بن عیسی فی حرب رافع بن اللیث فی الظاهر، اما فی الباطن فقد کتب الرشید لهرثمة بن اعین عهدا بالامارة علی خراسان، و جهزه بالجیش و الهدایا و الاموال لیقدمها الی علی بن عیسی لیستعین بها فی حرب رافع بن اللیث ظاهرا ثم لیقبض علیه و ینهی قضیته.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 126

هرثمة بن اعین

و اقبل ابن اعین فی سنة 191 الی خراسان متظاهرا بأنه إنما جاء فلکی یدعم قوات علی بن عیسی فی اخماد ثورة رافع بن اللیث، و قد احسن هرثمة تمثیل الدور، و أحسن التدبیر ففوض الی من یعتمد علیهم الوثوب علی علی ابن عیسی و اولاده و اصحابه فی الوقت المناسب و وفق الخطة التی اختطها، و قد تم له ذلک بکل سهولة و قبض علیه، و استصفی ماله فاذا به ثمانون الف الف الف (ثمانون ملیونا) هذا عدا ثلاثین الف الف کان قد خبأها ابنه عیسی قبل ان یقتل فی احد البساتین.
و حین قدم الرشید خراسان سنة 193 و افوه هناک بخزائن علی بن عیسی و کان یحملها 1500 بعیر!!
و هناک فی المسجد بمرو خطب هرثمة و قرأ عهد الرشید و کتابه الذی کتبه الرشید بخطه الی علی بن عیسی و الذی جاء فیه:
«یا ابن الزانیة، رفعت من قدرک، و نوهّت باسمک، و اوطأت سادة العرب عقبک، و جعلت ابناء ملوک العجم خولک و اتباعک، فکان جزائی:
أن خالفت عهدی، و نبذت وراء ظهرک امری، حتی عثت فی الارض، و ظلمت الرعیة ... و قد ولّیت هرثمة بن اعین مولای ثغر خراسان و أمرته ان یشد و طأته علیک و علی ولدک و کتّابک، و عمّالک، و لا یترک وراء ظهورکم درهما، و لا حقا لمسلم، و لا معاهد الا اخذکم به حتی ترده الی اهله» .
و کان هرثمة قد أعد معه عددا کبیرا من القیود الحدیدیة، و قد زج به جمیع من قبض علیهم، و ارسل علی بن عیسی مقیدا الی الرشید، فحبسه الرشید فی داره ثم استعمله الأمین حیث آلت الیه الخلافة مشاورا و قائدا حتی قتل فی معرکة الری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 127

هارون فی خراسان

و کان رافع بن اللیث قد استفحل امره فی شمال خراسان، و بدا ان وضعه اصبح خطیرا بحیث استدعی الرشید ان یشخص بنفسه الی خراسان و یعالج امر ابن اللیث عن کثب، و لم تکن صحة الرشید علی ما یرام و لکن خراسان کانت کل شی‌ء فی الاقطار الاسلامیة، فقدم من (الرقة) متجها لی خراسان، و لم یکن فی النیة استصحاب احد من اولاده، فقد استخلف ابنه القاسم فی (الرقة) و محمد الامین فی (بغداد)، و کانت نیته استبقاء عبد اللّه المأمون فی العراق، فجاء الفضل بن سهل الذی دعی بعد ذلک (بذی الریاستین) الی المأمون و قال له: انت لست تدری ما یحدث بالرشید فی سفره الی خراسان، و هی ولایتک، و اخوک الامین هو المقدم علیک، و ان أحسن ما یصنع بک ان یخلعک و هو ابن زبیدة و اخواله بنو هاشم، و زبیدة و اموالها، فاطلب الیه ان یشخصک معه، فسأل المأمون اباه الاذن فأبی علیه، فقال له (ذو الریاستین): قل له انک علیل، و انما اردت انا ان اخدمک اذا سرت معک، و لست بمکلف ایاک شیئا فأذن له الرشید، و سار معه المأمون و الفضل بن سهل یلازمه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 128
و التحم جیش هرثمة و جیش رافع بن اللیث، و تم فتح (بخاری) و أسر ابن اللیث اخو رافع و جی‌ء به الی الرشید، و کانت علّة الرشید قد اشتدت علیه. فطلب الرشید قصابا و قال له: لا تشحذ مداک بل أبقها علی حالها غیر مسنونة و قطّع هذا الفاسق و عجّل به، و لا تبق عضوا من اعضائه فی جسمه و انا حیّ!! و قد قطعه القصاب حتی جعله اشلاء، و عدّت الاعضاء المقطعة فاذا هی اربعة عشر عضوا ..! .
و المنقول ان الرشید اراد ان یعمل بجبریل بن بختیشوع ما عمل بأخی رافع ابن اللیث و هو حی لانه غلط و أخطأ فی کیفیة علاجه علی ما ظن الرشید فدعاه الیه، و لکن جبریل توسل الیه ان ینظره الی الغد و هو ضمین بأنه سیصبح فی عافیة و سیشفی و لکن الرشید مات فی نفس الیوم.
و من قبل عمل بابن المقفع بأمر من ابی جعفر المنصور مثل هذا. فقد أمر عامل المنصور بتنور فأسجر ثم امر بابن المقفع فقطع منه عضو ثم القی فی التنور و ابن المقفع ینظر حتی اتی علی جمیع جسده، ثم اطبق علیه التنور .
و ساءت ظنون الرشید بهرثمة فعهد للمأمون ان ینزل (مرو) و یباشر العمل بنفسه قبل وفاته بنیف و عشرین یوما، فتولی المأمون الامر و اقتصر عمل هرثمة علی حرب رافع بن اللیث.
و حین وصول الرشید خراسان و اشتداد و طأة العلة علیه نزل فی منزل الجنید بن عبد الرحمن فی ضیعة له تعرف (بسناباذ) و مات فی القصر القائم بذلک البستان و دفن فیه، و کان ذلک فی جمادی الآخرة، من سنة 193 ه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 129

خراسان و المأمون

و فی السنة التی مات فیها هارون و هی سنة 193 بویع لابنه محمد الامین ببغداد، و المأمون فی (مرو) بخراسان و قد اخذت البیعة للأمین فیها، و لکنه لم یمر بعض الوقت من هذه السنة حتی دب الخلاف بین الاخوین الامین الخلیفة و المأمون ولی العهد، و السبب فی ذلک هو ان (الامین) کان قد کتب حین بلغه تدهور صحة ابیه کتبا ارسلها مع بکر بن المعتمر و اوصاه ان لا یسلمها الی اصحابها فی خراسان الا بعد وفاة ابیه هارون، و کان من هذه الکتب کتاب کتبه الأمین الی اخیه صالح بن الرشید الذی کان یومذاک بمعیة ابیه بخراسان یوصیه فیه بأن ینصب و یعزل من یری من القواد و العمال، و ان یحمل له المال من خراسان، و ان یمکن الفضل بن الربیع، و کان الفضل ابن الربیع فی معیة هرون بخراسان- و قد فوض الامین للفضل فی کتابه جمیع الحقوق التی کان هرون قد خصها بابنه المأمون فی خراسان الی نهایة الحدود من همدان، فکان هذا هو مبدأ الخلاف بین الاخوین، اذ شق علی المأمون ان یتدخل الامین فی شؤونه و قد بدأ یری ان الذین تلقوا هذه الکتب من الامین سواء من اولاد الرشید او القواد و الزعماء صاروا یحلون انفسهم من بیعة المأمون کصاحب خراسان و والیها الذی لا یخلع، و قائد الجیش الذی لا ینازع حسب العهد الذی اخذه الرشید للمأمون.
و قد اوقع الفضل بن الربیع ما یشبه الفوضی فی امارة خراسان، و دعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 130
القواه، و العمال و القبائل و جیوشها الی مغادرة خراسان و الالتحاق بالامین لیفتّ فی عضد المأمون و یضعف من شأنه و یجعله امام الامر الواقع، و قد سجل علی الفضل بن الربیع و هو یغادر خراسان الی بغداد بقوله: «لا ادع ملکا حاضرا لآخر لا یدری ما یکون من امره» و رحل و رحل معه جمع لهم شأن و قوة کان لا یخلو ارتحالهم من خطر علی المأمون.
و جمع المأمون من بقی معه من قواد ابیه و اهل بیته و استشارهم فیما یفعل فأشاروا علیه بأن یلحقهم بالجیش و یردهم بالقوة من عرض الطریق، و دخل علیه الفضل بن سهل (ذو الریاستین) و قال له: ان فعلت بما اشاروا به علیک جعلت هؤلاء هدیة الی (الامین)، و لکن الرأی ان تکتب الیهم کتابا، و توجه الیهم رسولا و تذکّرهم بالبیعة و تسألهم الوفاء، و تحذرهم الحنث و ما یلزمهم فی ذلک فی الدین و الدنیا، و ان رسلک تقوم مقامک فتستبری‌ء ما عند القوم ...
و عمل المأمون برأی الفضل) و لحق رسولان له بالقوم فی نیسابور و عرضا علی القوم وصیة المأمون، فلقیا منهم ما لا یسر، فقد سبّوا المأمون، و نالوا منه، و حاولوا قتل الرسولین فرجعا.
فقال الفضل بن سهل للمأمون: انهم اعداء و قد استرحت منهم، فاصبر و انا اضمن لک الخلافة، فقال المأمون لقد فعلت و جعلت الامر الیک فقم به.
و یقول الطبری: بل قال الفضل: و اللّه لاصدقنک ان هؤلاء القواد و الامراء- و سماهم الفضل- انفع لک منی ان قاموا لک بالامر لرئاستهم المشهورة، و لما عندهم من القوة علی الحرب فمن قام بالامر کنت انا خادما له حتی تصیر الیّ محبتک و تری رأیک فیّ، فلقد لقیتهم فی منازلهم و ذکّرتهم البیعة التی فی اعناقهم، و ما یجب علیهم من الوفاء.
و یقول الطبری: فقال الفضل و کأنی جئتهم بجیفة علی طبق، فقال المأمون للفضل حین ذاک: فقم انت بالامر، فقال الفضل: فالرأی ان تبعث الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 131
من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم الی الحق و العمل به، و احیاء السنة و تقعد علی اللبود و تردّ المظالم.
ففعل المأمون، و بعث الی الفقهاء بمشورة من الفضل، و اکرم القواد و الملوک و ابناء الملوک،- و یقول الفضل: فکنا ندعو کل قبیلة الی نقباء و رؤساء الدولة کاستمالتنا الرؤوس، و حططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موضع ذلک منهم و سرّوا به- و اقام المأمون علی ما کان یتولی من عمل خراسان و نواحیها الی الری، و کان قد اخذ البیعة لأخیه الامین کما مرّ و کاتب اخاه الامین و اهدی الیه هدایا کثیرة، و تواترت کتبه الی اخیه بالتعظیم و الهدایا من الطرف و النفائس الخراسانیة و المتاع، و الآنیة، و المسک، و الدواب و السلاح.
و فی سنة 194 حسّن الفضل بن الربیع للامین،- و کان الفضل قد نکث عهده للمأمون و عاد من خراسان الی بغداد مع من عاد- ان یخلع المأمون من ولایة العهد و یعهد بها الی ابنه موسی من بعده.
و قد أیّد غیر واحد من المؤرخین: ان مثل هذا الرأی لم یکن من رأی محمد الامین و لا من عزمه و لکن الفضل بن الربیع لم یزل یصغّر شأن المأمون فی عین الامین و یزین له خلعه خوفا من المأمون اذا ما انتهت الخلافة الیه ذات یوم ان یحاسبه علی نقضه لبیعته بولایة العهد و امارة خراسان، و حمله القواد بخراسان علی نقض العهد و مغادرة البلاد الی بغداد، و ما زال الفضل یحسّن للأمین ذلک حتی ادخل فی ذهنه فکرة الکتابة الی الاقطار بالدعاء لابنه موسی بعده، و عزله لاخیه القاسم عن ولایة الجزیرة و کان الرشید، قد عهد بامارة الجزیرة الی القاسم و جعله ولیا للعهد بعد المأمون و ترک امر تثبیته و عزله عن ولایة العهد الی المأمون نفسه اذا ما اصبح المأمون خلیفة.
و کانت سیرة المأمون فی خراسان قد حببته الی جمیع السکان حتی حملت رافع بن اللیث الثائر فی شمال خراسان ان یطلب الأمان منه فأمّنه المأمون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 132
و عاد هرثمة من ساحة الحرب و کان معه من القواد الذین قادوا الجیوش فی حرب رافع بن اللیث طاهر بن الحسین، فولی المأمون هرثمة قیادة الحرس، فأنکر (الامین) مثل هذا التعیین و غیره من التصرفات علی (المأمون) و بعث بوفد علیه العباس بن موسی بن عیسی یطلب من المأمون ان یتنازل لابن اخیه موسی بن الامین عن ولایة العهد، و قد قام العباس بهذه المفاوضة و ذکر المأمون بأن جده عیسی بن موسی قد خلع نفسه فی ظروف کهذه الظروف اجابة لطلب المهدی فما یضر المأمون لو فعل ذلک و تنازل لابن اخیه، و هنا صاح به (ذو الریاستین) قائلا «ان جدّک کان اسیرا فی ایدیهم. اما المأمون فهو بین اخواله و شیعته» ثم انزل کل عضو من الوفد فی منزل وراح (ذو الریاستین) بما عرف به من الدهاء یفاوض العباس رئیس الوفد حتی أقنعه بمبایعة المأمون بالخلافة، و قال له ان لک عندی ولایة الموسم و لا ولایة اشرف منها و لک من مواضع الأعمال بمصر ما شئت، فکان بعد ذلک حین عاد العباس الی بغداد یکتب من بغداد بالاخبار للمأمون، و للفضل بن سهل، و یشیر علیهما بما یرتئی!!
یقول علی بن یحی السرخسی: ان العباس حین اوفد الی خراسان لاقناع المأمون علی التنازل مرّبی فوصفت له سیرة المأمون و حسن تدبیر (ذی الریاستین) و احتماله الموضع فلم یقبل ذلک منی، فلما رجع من (مرو) مرّبی، فقلت له: کیف رأیت (ذا الریاستین)؟ قال اکثر مما وصفت .
و اکثر الفضل بن الربیع الدسّ و الوقیعة علی قدر ما استطاع حتی ابعد الشقة بین الأمین و المأمون و اخیهما القاسم، و قد ارسل بمن ینتزع العهدین اللذین کتبهما هرون و علقهما فی الکعبة- و اللذین یتضمنان البیعة بالخلافة للأمین و ولایة العهد و امارة خراسان للمأمون- لیمحو ما یستطیع من آثار هذین العهدین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 133
من النفوس فجی‌ء بالعهدین من مکة الی الامین، و مزقهما الأمین،
و قد دارت مکاتبات و رسائل بین الامین و المأمون کما یرید الامین منها اعتراف المأمون بسیطرته علی خراسان علی خلاف ما تضمن العهد و البیعة و کان یطلب من المأمون بأن یبعث له بالاموال من خراسان لیکون ذلک اعترافا او شبه اعتراف منه بتابعیة خراسان للامین، أما المأمون فکان یرد علیه فی رسائله ردودا مفعمة بالتواضع و الطاعة، و کان الغالب من تلک الرسائل یحبّرها الفضل ابن سهل بنفسه أو تکتب بمشورة منه.
و طلب الامین مرة من المأمون ان یفوض له أمر البرید فی احدی الکور بخراسان فاستشار المأمون قواده، و اهل بیته فرجح اغلبهم التسلیم بذلک و التساهل فی مثل هذا الطلب الصغیر الا الفضل بن سهل و اخوه الحسن بن سهل اللذان قالا: من ذا الذی یضمن ان لا یکون هذا البرید عینا علینا و مرکزا تدار منه الحرکات و اثارة الشغب علی امارة المأمون؟ و من ذا الذی یضمن ان لا یکون تنفیذ هذا الطلب منا مشجعا لطلبات اخری قد تتجاوز الحدود فی حین ان مثل هذا الطلب لیس من حق الامین و لا من اختصاصه کما نصت علی ذلک البیعة و جری علیه العهد الذی أخذ علی الامین فی حیاة الرشید.
و أحس (ذو الریاستین) بمحاولات مختلفة یقوم بها الامین بقصد توغل العیون و الرسل الی خراسان و بذل الاموال لقلب الدولة علی المأمون فاتخذ کل الوسائل و الاحتیاطات للحیلولة دون وصول هؤلاء الرسل و العیون و المکاتیب التی یکتبها الامین الی بعض من یرجو منهم الطاعة و الانصیاع له، و ذلک بأن ضبط (ذو الریاستین) الحدود فلم یکن یسمح بعبورها للمشبوهین و من یشک فی امرهم الا بعد اجراء تفتیش دقیق بحثا عن المکاتیب و ما یحملون من نقود تتجاوز کمیتها الحدود المعقولة لاستعمالها فی الرشوة، و قد ثبت ان هذا التدبیر کان نافعا جدا، و قد أفاد هذا التفتیش و العیون التی وضعت فی مداخل الری و مداخل خراسان من قبل الفضل بن سهل کثیرا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 134
و استعان ذو الریاستین بعدد من القواد و الاصحاب الذین یقیمون مع الامین ببغداد لیمدوه بما یعرفون من نیات الامین و اخباره فکان یتلقی اخبارا متصلة عن کل شی‌ء یهم امره المأمون و حکومته.
و لقد تأزم الوضع بین الامین و المأمون، فالامین یتوخی عزل المأمون و تنصیب ابنه موسی ولیا للعهد و السیطرة علی خراسان، و المأمون یشتد فی التمسک بحقه من البیعة و العهد الذی اخذه له ابوه الرشید، لذلک القی بکل ثقل المهمة علی کاهل الفضل بن سهل (ذی الریاستین) و اطلق یده فی تدبیر الامر اطلاقا دون قید.
و قد صار الناس فی خراسان یشعرون ان عهد خراسان فی ایام الفضل ابن یحی بن خالد قد بدأ یتجدد، فقد ساد الاستقرار و عادت الطمأنینة الی النفوس، و اصبحت للمواطن حریته فی التصرف بأمواله و ادارة املاکه و تجارته و سائر اعماله بعد ان لقی من عمال العباسیین الأمرین کما لقوا من عمال الامویین، و مردّ ذلک الی سیرة المأمون و عقله و الی حسن تدبیر الفضل بن سهل و فکره، فتفانی الخراسانیون فی محبة المأمون و احتفوا به و بالغوا فی التنویه باسمه و الدعاء له، و شعروا بأن المعدل الذی یدعو الیه الاسلام بدأ یأخذ طریقه فی ادارة الحکم.
یقول الطبری: ان الفضل بن ربیع لما اراد ان یزن أثر خلع المأمون و یزن ردّ فعله فی نفوس الجیوش و السکان و علی الاخص الخراسانیین اذا ما أقدم الامین علی خلعه. سأل احد ارباب الرأی علی سبیل المشاورة فیما یری و یتکهن فلم یرجّح له هذا الرأی، و اعتبره نقضا للعهد، و ضربا من ضروب الغدر .
و حین سأله عن رأیه فی جنود المأمون؟ قال انهم قوم علی بصیرة من امرهم لتقدم سعیهم و ما یتعاهدون من خطبهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 135
و حین سأله عن السکان و عامتهم قال: انهم «قوم کانوا فی بلوی عظیمة من تحیّف ولاتهم فی اموالهم، ثم فی انفسهم، صاروا به الی الأمنیة من المال و رفاهة فی المعیشة، فهم یدافعون عن نعمة حادثة لهم، و یتذکرون بلیة، لا یأمنون العودة الیها فلا سبیل الی استفساد عظماء البلاد علیه لیکون محاربتنا ایاه بالمکیدة من ناحیته، و لا بالزحوف نحوه لمناجزته، لمحبة الضعفاء له قد صاروا الیها لما نالوا به من الامان و النصفة، و اما ذو و القوة فلم یجدوا مطعنا، و لا موضع حجة، و الضعفاء السواد الأکبر» . و المسؤول الذی سأله ابن الربیع و ان کان من الذین یمیلون للمأمون و لکنه صدق فی قوله، و لم یقل غیر الحق.
و لکن مثل هذه المشورة لم تصد الفضل بن الربیع عن تصمیمه فراح هو و علی بن عیسی یحثان الامین علی خلع المأمون حتی خلعه و قطع ذکره فی الخطبة و أمر باسقاط ما کان قد ضرب من الدراهم و الدنانیر فی خراسان باسمه، و اعلن ابنه موسی ولیا للعهد، ثم أمر علی بن عیسی بن ماهان بالمسیر لحرب المأمون.

معرکة الری

و هنا کان لا بد للمأمون ان یتخذ الحیطة الکافیة، و کان من رأی الفضل الاسراع بتجنید الجنود و تجهیزهم بالمؤن، و لذلک تم تجهیز الجیش و تجنیده، علی الحدود و أمر الجیش ان لا یتجاوز الحدود المعینة، و ان لا یطلقوا یدا بسوء فی عامة و لا مجتاز، ثم اشخص الفضل طاهر بن الحسین من خراسان الی الری و فوض الیه القیادة و ضم الیه بقیة القواد، و اسرع طاهر بن الحسین الی الری و نزل فیها و قسم جنوده و عیونه فی النقاط المعینة و المهمة و کان ذلک فی سنة 195.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 136
اما علی بن عیسی بن ماهان فقد خرج من العراق بخمسین الف محارب و هو عازم علی دخول خراسان و أسر المأمون معتمدا علی قوة جیشه و شجاعته و خبرته التامة بخراسان یوم کان عاملا علیها من لدن الرشید، و توغل جیشه فی ایران و اقبل علی الری.
و هنا و لأول مرة رأی طاهر بن الحسین وجوب المناداة بخلع الامین و تنصیب المأمون خلیفة حذرا من ان تکون لحملة علی بن عیسی علی الری صفة شرعیة ما دام قد قدمها باسم خلیفة قد اخذت له البیعة من جمیع الخراسانیین و التی توجب الطاعة علی جمیع المبایعین له، فنادی بخلع الامین و الدعوة للمأمون و کان اسم علی بن عیسی یدخل الرعب فی النفوس لما رافق حکمه فی خراسان ایام امارته من قساوة و تنکیل، و کان علی بن عیسی یستصغر شأن طاهر بن الحسین و یستهزی‌ء به کقائد یستطیع الوقوف امامه، و لکن طاهر بن الحسین کان شجاعا غیر هیاب، و کان کثیر الجلد و علی جانب کبیر من الاحاطة بفنون الحرب فلم تذهله هذه القوة الکبیرة التی جاء یقودها بطل من کبار ابطال الحروب و قائد ذو حنکة معروفة، فخرج طاهر فی اربعة آلاف محارب لمواجهة خمسین الفا بعد ان امعن النظر و درس وضع القتال فی حالة وقوفه محاصرا و مدافعا عن الری حتی یأتیه الامداد من خراسان او حالة القیام بهجوم من قبله، و أحسن تنظیم الحملة و توجیهها و تخطیط الجهات التی عینها للمعرکة فالتحم الجیشان حتی انهزم جیش علی بن عیسی امام جیش طاهر ثم انتهت المعرکة بقتل علی بن عیسی علی ید خراسانی یسمی (داود سیاه) ای داود الأسود، و هناک من یقول بأن قاتله رجل یسمی بطاهر الصغیر ، و قد قطع رأسه و جیی‌ء به الی طاهر بن الحسین، فکتب طاهر ابن الحسین الی المأمون و الی ذی الریاستین یقول:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم: کتابی هذا الی أمیر المؤمنین، و رأس علی بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 137
عیسی بین یدی و خاتمه فی اصبعی، و جنده مصرّفون تحت امری و السلام».
و حین تناول (ذو الریاستین) الکتاب دخل علی المأمون و هنأه بالفتح، و خرج الی الناس یأمرهم بأن یدخلوا علی المأمون، و یسلموا علیه بالخلافة، فأعلنت حینذاک خلافة المأمون لأول مرة و اتخذ (مروا) عاصمة له.
و ارجف الناس ببغداد و خافوا غائلة هذا الأمر، و ندم محمد الامین علی ما کان منه من نکث العهد و خلع اخیه المأمون، علی بعض القول. و مع ذلک فقد جهز عبد الرحمن بن جبلة الانباری عشرین الفا من المقاتلة الی همذان لیقاتلوا طاهر بن الحسین و من معه من الخراسانیة .
و کان للمأمون الف الف درهم کان الرشید قد وصله بها و قد خلفها المأمون عند نوفل الخادم ببغداد و کان نوفل وکیلا للمأمون و الناظر فی امر اولاده ببغداد، و کان الامین قد حال بین التحاق اولاد المأمون بأبیهم و نقل امواله الیه عند ما طلب المأمون منه ذلک. و قد أشار علیه الفضل بن الربیع بأن یصادر تلک الأموال و الممتلکات التی تخص المأمون فصادرها.

احتلال بغداد و قتل الامین

و فی سنة 196 کان المأمون قد ترکز خلیفة و بویع له بأمرة المؤمنین و خطب له، و کان الفضل بن سهل یشغل ریاسة الحرب و امور الوزارة و لذلک لقبه المأمون (بذی الریاستین) منذ ذلک التاریخ.
و کان حامل اللواء بخراسان علی بن هشام، و حامل القلم نعیم بن حازم، اما دیوان الخراج فقد عهد به الی الحسن بن سهل شقیق (ذی الریاستین).
و یمضی طاهر بن الحسین فی حرب جیش الأمین و یهزم جیش عبد الرحمن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 138
ابن جبلة الانباری و یهزم فی طریقه کل جیش یرسل به الامین لحربه حتی یدخل حلوان من العراق.
و کان المأمون قد جهز جیشا آخر من خراسان بقیادة هرثمة بن اعین لیحل محل طاهر بن الحسین لکی یقوم طاهر بن الحسین بجیشه فی حرب جیوش الأمین فی الاهواز و جنوب العراق التی کان یخشی من بأسها، اذ علیها یتوقف القضاء علی حکومة الأمین لما کان للبصرة و واسط و الکوفة من اهمیة کبیرة فی دعم الخلافة.
و انتقل طاهر بن الحسین بجیشه الی الاهواز و استولی علیها و زحف منها علی واسط فخضعت له البصرة و الکوفة، و اینما صار حمل الناس علی الاعتراف بخلع الأمین و مبایعة المأمون بالخلافة، و نصب العمال و الولاة من قبله علی الموصل، و الکوفة، و البصرة، و مکة، و المدینة، و الیمن.
و لما أخضع طاهر کل تلک الأقالیم و الاقطار زحف هو و هرثمة بن اعین و بعض القواد الآخرین علی بغداد و حاصروها، و قد اشتد القتال داخل بغداد حتی فتحها و قتل الأمین فیها.
و هنالک دخل طاهر المدینة، و صلی بالناس، و خطب للمأمون، و کان ذلک فی سنة 198، و کتب طاهر الی المعتصم، و قیل بل کتب الی ابن المهدی:
«اما بعد. فانه عزیز علی ان اکتب الی رجل من اهل بیت الخلافة بغیر التأمیر، و لکنه بلغنی انک تمیل بالرأی و تصغی بالهوی الی الناکث المخلوع، فان کان کذلک فکثیر ما کتبت الیک، و ان کان غیر ذلک فالسلام علیک ایها الامیر و رحمة اللّه و برکاته» .
و لما وصل خبر قتل الامین الی المأمون بخراسان أذن للقواد، و قرأ حینذاک الفضل بن سهل الکتاب علیهم فهنأوه بالظفر و دعوا له، و فی (البدایة و النهایة)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 139
انه حین جی‌ء برأس الامین قال ذو الریاستین یؤلب علی طاهر:
«أمرناه بأن یأتی به أسیرا فأرسل به الینا عقیرا».
فقال المأمون: «مضی ما مضی» .
و أمر طاهر بن الحسین بحمل موسی و عبد اللّه ابنی الأمین إلی عمهما المأمون بخراسان رعایة لهما و کانت الفتن قد هدأت، و الشرور قد خمدت، و أمن الناس، و طابت الانفس علی حد تعبیر (البدایة و النهایة)، و استعمل المأمون الحسن بن سهل اخا الفضل (ذا الریاستین) علی کل ما کان افتتحه طاهر من کور الجبال، و العراق، و فارس، و الأهواز، و الحجاز، و الیمن.
و لقی الفضل بن سهل و اخوه الحسن بن سهل حظوة کبیرة عند المأمون و عند الخراسانیین فبفضل تدبیرهما تمت خلافة المأمون، و تم الرخاء، و تنسم الناس الحریة، و ازدهرت البلاد و شعرت خراسان فی عصر المأمون بشی‌ء کثیر من الاطمئنان و استتباب الأمن و سیادة العدل، اکثر مما اشیر الیه قبل هذا، کما لقی طاهر بن الحسین مثل هذه الحظوة عند المأمون و عند الخراسانیین اذ بقیادته للجیش الخراسانی و الجیوش الاخری، و بفضل تدابیره العسکریة و تخطیطه للمعارک تمّ للمأمون الظفر بالخلافة، و القضاء علی الخلافات القائمة فی جمیع الانحاء من اقصی مشرق خراسان الی اقصی نقطة فی جنوب الیمن، و حین مات الحسین بن مصعب بن زریق والد طاهر بن الحسین بخراسان، و کان طاهر (بالرقة) یعدّ العدّة للقضاء علی نصر بن شبث العقیلی، حضر المأمون بنفسه جنازة الحسین، و نزل الفضل بن سهل بنفسه قبره، و وجّه المأمون الی طاهر یعزّیه بأبیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 140

الحالة الاجتماعیة و الرأی العام

کانت الخصومة بین العباسیین و العلویین علی اشدها منذ انفرد العباسیون بالحکم و تسنموا کرسی الخلافة، و لقد خشی العباسیون العلویین و خشوا مکانتهم فی النفوس فنکّلوا بهم اسوأ تنکیل، و استعملوا معهم من وسائل الترهیب العجائب و انزلوا بهم من صنوف التعذیب و الاذی و الفظاعة فی التقتیل و لا سیما فی عهد المنصور و عهد الرشید ما تقشعر منه الأبدان و ما تضیق بوصفه الکتب، و قد اورد قسما من ذلک ابو الفرج الاصفهانی فی کتابه (مقاتل الطالبیین) و کان العلویون یدعون الی مذهب و عقیدة تتلخص فی المبایعة علی سنة اللّه و رسوله قولا و فعلا و یرون فی سیرة الامویین و العباسیین علی تلک الصورة امورا تخالف جوهر الاسلام و اغراضه فکان الکثیر منهم یثورون فی کثیر من الاوقات فی وجه الخلفاء سواء فی ایام الامویین و العباسیین مطالبین بتطبیق حدود الشرع الذی یضمن للناس الحریة و العدل و الذی یلخصه قول الخلیفة عمر بن الخطاب (ر ض) لعمرو بن العاص حین أحسّ باخذه الناس بالقوة قائلا لابن العاص: (متی استعبدتم الناس و قد ولدتهم امهاتهم احرارا؟) فکان الناس یشدون ازر العلویین فی ثوراتهم تنفیسا عما لحق بهم من الظلم، و ایمانا بالسیرة التی شب علیها عدد من أئمة العلویین مما کانت تمثل دعوة الاسلام و مبادئه التی افتقدوها فی جمیع خلفاء بنی امیة و خلفاء بنی العباس باستثناء عمر ابن عبد العزیز، و ان وجود هذه الصور من العلویین فی سیرتهم التی تمثل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 141
ما یرمی الیه الاسلام من الاهداف هو الذی جعل الکثیرین یعتقدون ان الدین الاسلامی حقیقة ثابتة، و دعوة روحیة سماویة لم یمثلها إلا الخلفاء الراشدون و الا طائفة من العلویین و المتقین و هم وحدهم مرآة هذا الدین، و لولاهم لتضعضعت ثقة الناس بالدین نفسه لما کان یرتکب اولئک الخلفاء من المخالفات من قتل الاسری صبرا، و التمثیل بجثثهم، و سلب اموال الناس، و هتک الاعراض، و معاقرة الخلفاء للخمور، و الایغال فی الفجور، و مل‌ء القصور بالجواری و الغلمان، و الافراط فی تحقیق الشهوات.
و الناس- باستثناء المؤمنین بالعقیدة- قسمان، قسم و هو یمثل الأکثریة و هم الذین یخافون البطش و التنکیل فیجارون السلطة و یماشونها و یظهرون لها غیر ما یبطنون ممن وصفهم شوقی فی موقفهم من الامام ابی عبد اللّه الحسین و لسان حالهم یقول عن الحسین:
«لسانی علیه و قلبی معه ».
و قسم من الناس طامع یبیع الضمیر بالمال لیشتری به نعیم الدنیا فیقترف من الذنوب الفاحشة ما یقترف کقاتل ابی عبد اللّه الحسین (ع) الذی دخل علی یزید بن معاویة فخورا بقتله الحسین و هو یقول:
أوقر رکابی فضّة أو ذهبافقد قتلت الملک المحجّبا
یضاف الی ذلک ما یتصف به البعض من الخلفاء و العمال و الامراء من الحقد و الغل و القسوة التی یقف لهولها شعر الرأس و من ذلک ما فعل الولید فقد کتب الی عامله بالکوفة، و کان قد صلب جسد زید بن علی بن الحسین، و بقی مصلوبا علی جذعه امام باب الکوفة اربع سنوات- یقول له علی ما اورد الطبری:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 142
«اذا اتاک کتابی هذا فانظر عجل العراق- یعنی به جسد زید المصلوب- فاحرقه ثم انسفه فی الیمّ نسفا»!!
و قد نفّذ عامله- و کان یوسف بن عمر- أمره و انزل زیدا من جذعه و احرقه بالنار ثم رضّه فجعله فی قوصرة، ثم جعله فی سفینة، ثم ذرّه فی الفرت
و اشتدت النقمة علی الحکم الاموی و العباسی و ضاق الناس ذرعا و نفد صبرهم فاهتبلها رهط من العلویین فرصة للصرخة باسم الاصلاح، و باسم المطالبة بحقهم بکونهم اولی بالخلافة من ابناء عمهم العباسین، و بداعی الثأر مما انزله بهم العباسیون من التعذیب و التقتیل و التشرید فظهر ابن طباطبا العلوی بالکوفة یدعو لی البیعة علی الرضی من آل محمد (ع)، و تغلب زید بن موسی ابن جعفر بن محمد بن علی بن الحسن بن علی و هو الذی یسمی بزید النار علی البصرة، و تغلب الحسین بن الحسن الافطس علی مکة، و محمد بن سلیمان ابن دود بن الحسن بن علی علی المدینة، و ظهر ابراهیم بن موسی بن جعفر فی الیمن، ثم بویع لمحمد بن جعفر بن علی بن الحسین (ع) خلیفة و کان قد امتنع من قبول هذه البیعة لما عرف به من عزوف عن الدنیا و انشغال بالزهد و التقوی و لکنه رضخ لما لقی من اصرار الناس حتی غلبه الجمهور علی امره، الی غیر ذلک من ظهور العدد الکبیر من الثورات التی قام بها العلویون و غیر العلویین باسم الاصلاح و استنکار سیرة الخلفاء العباسیین فی حکم المسلمین فکان العباسیون و اتباعهم یخمدون تلک الثورات بالقوة و القسوة و البطش الذی مرّ بعض امثاله، فتزول الثورة و تبقی جذور الکراهیة کامنة فی النفوس، و ضج الناس الی اللّه لکثرة ما أصابهم من الفساد و الخوف، و التنکیل فی جمیع الاقطار الاسلامیة و فی کثیر من السنوات حتی لقد بلغ الحال فی بغداد کان الفساق کثیرا ما یقطعون الطریق علی المارة، و یأخذون النساء و الصبیان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 143
من اهلهم علانیة، فلا یقدر ان یمتنع منهم احد، و کم کانوا یطلبون من الرجل ان یقرضهم، او یصلهم فلا یقدر علی الامتناع، و کانوا ینهبون القری و لا یمنعهم السلطان، بل یغریهم علی ذلک لأنهم بطانته .
و لکثرة ما لقی الناس من هذا الجور و الفساد قام رجل من (الحربیة) یقال له سهل بن سلامة الانصاری من اهل خراسان و یکنی بأبی حاتم و دعا الی الامر بالمعروف و النهی عن المنکر، و العمل بالکتاب و السنة، و قد علق مصحفا فی عنقه و صار یبشر بدعوته بین الناس و سمی تابعوه (بالمتطوعة) و هی الدعوة التی کان یبثها العلویون بین الناس بصورة خاصة و التی حبّبت العلویین الی جماهیر الامة، و أجرت ذکر الصالحین منهم علی ألسنة الناس، و اعتبر تمم الأکثریة من الامة الاسلامیة- غیر الطامعین و الحاقدین و المنافسین- المثل الأعلی للاسلام و الشریعة الاسلامیة.
*** کان هذا مجمل الحالة یوم تولی المأمون الخلافة، و کان هذا هو الحاصل من حکم العباسیین الی تلک الساعة، تعلق شدید بالعلویین و ایمان شدید بقیمهم، و ثقة ما بعدها ثقة بالغالبة من أعلامهم و أئمتهم، بکونهم معدنا اصیلا له طابعه الخاص و جوهره الذی لا یتبدل علی مرور الزمن.
یقول عباس محمود العقاد:
«... و انک لتنحدر مع اعقاب الذریة فی الطالبیین ابناء علی و الزهراء مائة سنة و مائتی سنة، و اربعمایة سنة، ثم یبرز لک رجل من رجالها فیخیّل الیک ان هذا الزمن الطویل لم یبعد قط بین الفرع و اصله فی الخصال و العادات کأنما هو بعد ایام معدودات لابعد المئات وراء المئات من السنین، و لا تلبث ان تهتف عجبا: ان هذه لصفات علویة لا شک فیها، لانک تسمع الرجل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 144
منهم یتکلم و یجیب من یکلمه، و تراه یعمل و یجزی من عمل له، فلا یخطی‌ء فی کلامه، و لا فی عمله» .
ثم یذهب العقاد فی وصف العلویین فیقول:
«طبع صریح، و لسان فصیح، و متانة فی الأسر یستوفی فیها الخلق و الخلق، و نخوة لا تبالی ما یفوتها من النفع اذا هی استقامت علی سنة المروءة و الاباء» .
هذه السیرة التی مشی علیها کل أئمة العلویین و اللامعون من هذه الاسرة هی التی دعت الناس ممن لا یطمع و لا یخاف و علی الاخص المظلومین و هم اکثریة الشعب ان یحتفوا بالعلویین و یثوروا معهم باسمهم فی کثیر من الأوقات فیقضی علی ثورتهم الامویون و العباسیون بالمال و السیف و صنوف العذاب و التشرید.
هذه السیرة العلویة هی التی غرست فی النفوس العقیدة و الیقین بأن الخلافة هی من حق العلویین، و ان الامویین و العباسیین قد اغتصبوا هذا الحق، و ان الامة او الأکثریة من الامة علی الاصح لن تهدأ حتی یعود هذا الحق لاهله کی یقوم الاسلام علی قدمیه دینا عملیا لا خصام فیه، و لا عصبیة، و لا نهب، و لا سلب حریة، و لا تجاوز علی مال، و لا قتل اسراء صبرا، و لا تمثیل بالجثث، و لا ... و لا.
*** و المأمون رجل عالم، و سیاسی محنک فوض الرشید امر تنشئته الی جعفر بن یحی البرمکی منذ صباه فوجهه جعفر توجیها جدیرا بالخلافة من حیث الاحاطة و الخبرة، و یستخلص احمد فرید الرفاعی صفاته فیقول انه کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 145
وافر العلم، غزیر الاطلاع، و لیس ذلک بعزیز علی خلیفة، ملأ عصره بأنواع المعارف الانسانیة و نفخ فیه من روحه القوی، حتی استطاع الباحث ان یسمه بسمته، و ان یرجع فضل الحضارة العباسیة الیه، و لقد کان محوطا بشیوخ الاعتزال و الکلام امثال ثمامة بن اشرس، و یحی بن المبارک، و کان متأثرا بما ترجم من اخلاقیات الفرس و آدابهم، و فنونهم، و فلسفة الیونان و علومهم، و قد اکتسب من نهج الخراسانیین خاصة قواعد المنطق فی مناقشة المذاهب و الأدیان، و تقدیس حریة الفکر و الرأی فنشأ عنده ما یشبه المیل الی العقیدة العامة بالعلویین.
اما ابن الاثیر فیقول عنه: و کان المأمون شدید المیل الی العلویین.
و الاحسان الیهم، و خبره مشهور معهم، و کان یفعل ذلک طبعا لا تکلفا.

بیعة الامام الرضا بولایة العهد

و سواء کان الامر کما یقول ابن الاثیر و غیره من المؤرخین عقیدة راسخة و طبعا لا تکلفا و کما یصفه البعض اعتدال فی المیول فان الصلاح کان یتطلب ان یسعی لکسب رضا العلویین و التقرب الی تحقیق میول الشعوب الاسلامیة باستثناء الشام و بعض الجهات الاخری استجابة لعقیدته فی العلویین و کونهم اصحاب حق فی الخلافة، او اتباعا لسیاسة یکسب بها ثقة الغالب من الاقطار الاسلامیة لتقویة سلطانه و نفوذ امره فصمم علی ان یتقرب للعلویین، و ینتهج سیاسة تخالف سیاسة الامویین و العباسیین، و قد امعن النظر فلم یجد فی بنی علی و لا فی بنی العباس احدا، افضل، و لا اروع، و لا اعلم، من الامام الثامن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن ابی طالب (ع)
و کان الامام علی بن موسی یقیم فی المدینة من الحجاز، و المأمون یقیم (بمرو) من خراسان، فکتب المأمون الی علی بن موسی یستدعیه و یستقدمه الی خراسان.
و روی الصدوق ان الامام علی بن موسی اعتلّ علیه بعلل کثیرة معتذرا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 146
و لکن المأمون ما زال یکاتبه، و یسأله حتی تیقن الامام ان المأمون لن یکف عنه فأجاب رسول المأمون و کان الرسول رجاء بن ابی الضحاک الذی ارسله المأمون الیه علی ما یقول البعض، اما ابو الفرج فیقول ان رسوله کان الجلودی من اهل خراسان و طلب المأمون منه ان یشخص بالامام من المدینة، و ان یأخذ به علی طریق البصرة و الاهواز و فارس، و امر رسوله ان یحفظه بنفسه فی اللیل و النهار حتی یقدم به علی (مرو) و معه جماعة من آل ابی طالب، و یبدو ان سر هذا الحذر کله ناشئا من خوف المأمون من شغب آله من العباسیین و غدرهم اذا ما علموا بنیة المأمون،
و قدم الامام علی بن موسی حتی وصل نیسابور، و نزل هناک فی محلة تسمی بمحلة (القزوینی) و فیها حمام و هو الحمام الذی عرف بحمّام الرضا و کانت هناک عین ماء قد قلّ ماؤها، فأقام الرضا علیها من کراها و اخرج ماءها حتی توفر، و اتخذ من خارج الدرب حوضا ینزل الیه بالمراقی الی اصل العین و قد دخله (الامام) بعد توفر مائه، و اغتسل فیه، ثم خرج و صلی علی ظهره، و الناس یتناوبون ذلک الحوض، و یغتسلون فیه و یشربون منه الماء التماسا للبرکة، و یصلون علی ظهره، و یدعون اللّه عز و جل فی حوائجهم و هی العین المعروفة بعین (کهلان) و یقصدها الناس الی یومنا هذا .
و خرج الامام بعد ذلک من نیسابور الی (سناباذ) و نزل هناک دار حمید ابن قحطبة امیر خراسان المتوفی سنة 159، و دخل القبة التی دفن فیها هارون الرشید، و صلی هناک رکعات، و دعا بدعوات، ثم توجه الی (مرو) عاصمة المأمون قبل اتخاذ بغداد عاصمة له، و استقبل من لدن المأمون بحفاوة کبیرة و قد بالغ المأمون فی اکرامه و عظّم امره و انزله فی دار خاصة و انزل الحاشیة من آل ابی طالب فی دار اخری.
و جاء فی (عیون الاخبار) ان المأمون عرض علی الامام علی بن موسی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 147
الرضا الخلافة، و جرت فی ذلک مخاطبات و محادثات کثیرة فلم تسفر عن نتیجة، و ابی الامام قبولها اباء شدیدا.
و یقول (المفید) ان المأمون قد انفذ الی الامام بأنی ارید ان اخلع نفسی من الخلافة و اقلّدک ایاها فما رأیک فی ذلک؟ فأنکر الامام هذا الامر ، و قال اعیذک باللّه یا امیر المؤمنین من هذا الکلام و ان یسمع به احد، فرد علیه الرسالة، و قال فاذا أبیت ما عرضت علیک فلا بد من ولایة العهد من بعدی، فأبی الامام ذلک ایضا اباء شدیدا.
و فی روایة اخری ان المأمون قد استدعی الامام علی بن موسی الرضا و خلا به و معه الفضل بن سهل (ذو الریاستین) و لیس فی المجلس غیرهم، و قال: انی قد رأیت ان أولّیک امر المسلمین، و أفسخ ما فی رقبتی، واضعه فی رقبتک.
فقال له الامام: اللّه اللّه یا امیر المؤمنین، انه لا طاقة لی بذلک و لا قوة لی علیه، قال له: فانی مولّیک العهد من بعدی .
و یقول ابو الفرج الاصفهانی: ان المأمون حین همّ بذلک وجّه الی الفضل ابن سهل فاعلمه انه یرید العقد للامام علی بن موسی، و امره بالاجتماع مع اخیه الحسن بن سهل علی ذلک ففعل و اجتمعا بحضرته، و جعل الحسن بن سهل یعظّم ذلک علیه و یحذره من العاقبة و ما قد یلاقی من العباسیین و من اهل بیته إن هو أخرج الأمر من ایدیهم، مع ان الحسن بن سهل و اخاه من الموالین للرضا فقال المأمون:
«انی عاهدت اللّه أن أخرجها الی أفضل آل ابی طالب إن ظفرت بالمخلوع، و ما أعلم احدا أفضل من هذا الرجل» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 148
و حین أصرّ الامام علی بن موسی علی الرفض دعا به المأمون- علی ما قال ابو الفرج- و قال له قولا شبیها بالتهدید ثم قال:
«إن عمر جعل الشوری فی ستة أحدهم جدّک و قال: من خالف فاضربوا عنقه» .
و ما زال به المأمون حتی اجابه الامام علی بن موسی علی قبول ولایة العهد.
و جلس المأمون فی یوم الخمیس، و خرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأی المأمون فی علی بن موسی (ع) و انه ولی عهده، و قد سماه (الرضا) و امرهم بلبس الخضرة، و العود لبیعته فی الخمیس الآخر علی ان یأخذوا رزق سنة.
و یصف ابو الفرج الاصفهانی یوم أخذ البیعة للامام الرضا (ع) فیقول و لما کان ذلک الیوم رکب الناس من القواد و القضاة و غیرهم من الناس فی الحضرة، و جلس المأمون، و وضع للرضا و سادتین عظیمتین حتی لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضا علیهما فی الحضرة و علیه عمامة و سیف، ثم امر ابنه العباس بن المأمون فبایع له اول الناس، فرفع الرضا یده فتلقی بظهرها وجه نفسه و ببطنها وجوههم، فقال المأمون:
- ابسط یدک للبیعة.
فقال الرضا- ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله: هکذا کان یبایع.
فبایعه الناس، و وضعت البدر، و قامت الخطباء و الشعراء فجعلوا یذکرون فضل علی بن موسی و ما کان من المأمون فی أمره.
و یمضی ابو الفرج فی قوله فیقول: ثم قال المأمون للرضا: قم فاخطب الناس، و تکلم فیهم، فقال الرضا بعد حمد اللّه و الثناء علیه:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 149
«ان لنا علیکم حقا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله، و لکم علینا حق به، فاذا أدیتم الینا ذلک وجب علینا الحق لکم».
و لم یذکر عنه غیر هذا فی ذلک المجلس، و أمر المأمون فضربت له الدراهم، و طبع علیها اسم الرضا، و خطب له فی کل بلد بولایة العهد، و زوجّه المأمون ابنته (ام حبیب) و قیل بل زوجه اخته (ام حبیبة) و سمی (للجواد) ابن الرضا ابنته (ام الفضل)، و المنقول عن ریان بن الصلت ان الذین لم یرضوا ببیعة المأمون للرضا کانوا یقولون ان الفضل بن سهل هو الذی اقترح علی المأمون هذه البیعة، و یقول ریان ان المأمون سألنی ذات لیلة عما یقول هؤلاء الخاصة؟ فذکرت له ذلک، فقال المأمون: أتظن ان شخصا یستطیع ان یقترح علی شخص تنقاد له النفوس و بیده الحل و العقد ان یتنازل عنها لغیره؟ قال ریان: لا و اللّه ما هو الا ما قلت انت و لکن هؤلاء الخاصة یقولون ذلک .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 150

عهد المأمون للرضا بالخلافة من بعده

کتب المأمون هذا العهد بخطه و بانشائه، و قد ظهّره الامام علی بن موسی الرضا (ع) بخطه، و قال علی بن عیسی الأربلی فی (کشف الغمة): انه رأی بعینه سنة 670 ه، هذا العهد بخط المأمون و علی ظهره العهد الذی کتبه الامام الرضا (ع) بخطه، و قد اورد الکثیر من المؤرخین نص هذا العهد، و هذه نسخته نقلها القلقشندی فی (صبح الاعشی) عن صاحب (العقد) ابن عبد ربه.

نص العهد

«بسم اللّه الرحمن الرحیم: هذا کتاب کتبه عبد اللّه بن هارون الرشید امیر المؤمنین بیده لعلی بن موسی بن جعفر ولی عهده:
اما بعد، فانّ اللّه عزّ و جلّ اصطفی الاسلام دینا، و اصطفی له من عباده رسلا دالّین علیه، و هادین إلیه، یبشّر اوّلهم بآخرهم، و یصدّق تالیهم ماضیهم، حتی انتهت نبوّة اللّه الی محمد صلی اللّه علیه و سلّم علی فترة من الرسل، و دروس من العلم، و انقطاع من الوحی، و اقتراب من الساعة، فختم اللّه به النبیین، و جعله شاهدا لهم، و مهیمنا علیهم، و أنزل علیه کتابه العزیز الذی (لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 151
خَلْفِهِ تَنْزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ) فأحلّ و حرّم، و وعد و أوعد، و حذّر، و أنذر، و أمر به و نهی عنه لتکون له الحجة البالغة علی خلقه و (لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ، وَ یَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ، وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِیعٌ عَلِیمٌ) فبلّغ عن اللّه رسالته و دعا إلی سبیله بما أمره به من الحکمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالتی هی أحسن، ثم بالجهاد، و الغلظة حتی قبضه اللّه الیه، و اختار له ما عنده صلی اللّه علیه، فلما انقضت النبوّة، و ختم اللّه بمحمد صلی اللّه علیه و سلم الوحی و الرسالة جعل قوام الدین، و نظام أمر المسلمین بالخلافة، و اتمامها و عزّها، و القیام بحق اللّه فیها بالطاعة التی تقام بها فرائض اللّه و حدوده، و شرائع الاسلام و سننه و یجاهد بها عدوّه، فعلی خلفاء اللّه طاعته فیما استحفظهم و استرعاهم من دینه و عباده، و علی المسلمین طاعة خلفائهم، و معاونتهم علی اقامة حق اللّه و عدله، و أمن السبل، و حقن الدماء، و صلاح ذات البین، و جمع الالفة، و فی إخلال ذلک اضطراب حبل المسلمین و اختلالهم، و اختلاف ملّتهم، و قهر دینهم، و استعلاء عدوّهم، و تفرّق الکلمة، و خسران الدنیا و الآخرة، فحق علی من استخلفه اللّه فی ارضه، و ائتمنه علی خلقه ان یوثر ما فیه رضا اللّه و طاعته، و یعدل فیما اللّه واقفه علیه، و سائله عنه، و یحکم بالحق، و یعمل بالعدل فیما حمّله اللّه و قلّده، فإن اللّه عز و جل یقول لنبیه داود علیه السلام:
(یا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوی فَیُضِلَّکَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِینَ یَضِلُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِیدٌ بِما نَسُوا یَوْمَ الْحِسابِ) و قال عز و جل:
(فَوَ رَبِّکَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ عَمَّا کانُوا یَعْمَلُونَ).
و بلغنا ان عمر بن الخطاب قال (لو ضاعت سخلة بجانب الفرات لتخوّفت ان یسألنی اللّه عنها) و أیم اللّه ان المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف علی عمله، فیما بین اللّه و بینه لمتعرض لأمر کبیر، و علی خطر عظیم، فکیف بالمسؤول عن رعایة الأمّة، و باللّه الثقة، و الیه المفزع، و الرغبة فی التوفیق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 152
مع العصمة، و التسدید و الهدایة الی ما فیه ثبوت الحجّة، و الفوز من اللّه بالرضوان و الرحمة، و أنظر الأئمة لنفسه، و أنصحهم فی دینه، و عباده و خلافته فی أرضه من عمل بطاعة اللّه و کتابه، و سنّة نبیّه علیه السلام فی مدة ایامه، و اجتهد و أجهد رأیه و نظره فیمن یولّیه عهده، و یختاره لإمامة المسلمین و رعایتهم بعده، و ینصبه علما لهم، و مفزعا فی جمیع ألفتهم، و لمّ شعثهم، و حقن دمائهم، و الأمن باذن اللّه من فرقتهم، و فساد ذات بینهم، و اختلافهم و رفع نزغ الشیطان و کیده عنهم، فان اللّه عزّ و جلّ جعل العهد بالخلافة من تمام امر الاسلام و کماله و عزّه، و صلاح اهله، و ألهم خلفاءه من توسیده لمن یختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة، صفحة من المصحف المنسوبة کتابته الی الأمام الرضا (ع) نقلا من مجلة آستان قدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 153
و شملت منه العافیة، و نقض اللّه بذلک مکر اهل الشقاق و العداوة و السعی فی الفرقة، و التربّص للفتنة، و لم یزل امیر المؤمنین منذ أفضت الیه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها و ثقل محملها، و شدّة مؤونتها، و ما یجب علی من تقلّدها من ارتباط طاعة اللّه و مراقبته فیما حمّله منها فأنصب بدنه، و أسهر عینه، و أطال فکره فیما فیه عزّ الدین، و قمع المشرکین، و صلاح الأمّة، و نشر العدل، و اقامة الکتاب و السنة، و منعه ذلک من الخفض و الدعة، و محبّة ان یلقی اللّه مناصحا له فی دینه و عباده، و مختارا لولایة عهده، و رعایة الامّة من بعده، أفضل من یقدر علیه فی دینه و ورعه و علمه، و أرجاهم للقیام بأمر اللّه و حقّه مناجیا للّه تعالی بالاستخارة فی ذلک، و یسأله إلهامه ما فیه رضاه و طاعته، فی لیله و نهاره، و معملا فی طلبه و التماسه فی اهل بیته من ولد عبد اللّه بن العباس، و علی بن ابی طالب- فکره و نظره، و مقتصرا ممن علم حاله و مذهبه منهم علی علمه، و بالغا فی المسألة عمن خفی علیه أمره جهده و طاقته حتی استقصی أمورهم معرفة، و ابتلی اخبارهم مشاهدة (و استبری احوالهم معاینة) و کشف ما عندهم مساءلة، فکانت خیرته بعد استخارته للّه، و اجهاده نفسه فی قضاء حقه فی عباده و بلاده فی البیتین جمیعا (یقصد بیت بنی العباس و بیت علی بن ابی طالب)! علیّ بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی ابن ابی طالب، لما رأی من فضله البارع، و علمه الناصع، و ورعه الظاهر، و زهده الخالص، و تخلّیه من الدنیا، و تسلّمه من الناس، و قد استبان له ما لم تزل الاخبار علیه متواطئة، و الالسن علیه متفقة، و الکلمة فیه جامعة، و لما لم یزل یعرفه به من الفضل یافعا، و ناشئا، و حدثا، و مکتهلا، فعقد له بالعقد و الخلافة (من بعده واثقا بخیرة اللّه فی ذلک اذ علم اللّه انه فعله) ایثارا للّه و الدین، و نظرا للاسلام و المسلمین، و طلبا للسلامة، و ثبات الحجّة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 154
و النجاة فی الیوم الذی یقوم الناس فیه لربّ العالمین، و دعا امیر المؤمنین ولده، و اهل بیته، و خاصّته، و قواده، و خدمه، فبایعوه مسرعین مسرورین، عالمین بایثار امیر المؤمنین طاعة اللّه علی الهوی فی ولده و غیرهم ممن هو أشبک به رحما، و أقرب قرابة، و سماه (الرضا)، اذ کان رضا عند امیر المؤمنین، فبایعوا معشر اهل بیت امیر المؤمنین و من بالمدینة المحروسة من قواده، و جنده و عامة المسلمین لأمیر المؤمنین و للرضا من بعده علی اسم اللّه و برکته، و حسن قضائه لدینه و عباده، بیعة مبسوطة الیها أیدیکم، منشرحة لها صدورکم، عالمین بما اراد أمیر المؤمنین بها، و آثر طاعة اللّه، و النظر لنفسه و لکم فیها، شاکرین اللّه علی ما ألهم أمیر المؤمنین من قضاء حقه (من نصاحته) فی رعایتکم، و حرصه علی رشدکم و صلاحکم، راجین عائدة ذلک فی جمع ألفتکم، و حقن دمائکم، و لمّ شعثکم، و سدّ ثغورکم، و قوة دینکم، و رغم عدوّکم، و استقامة امورکم، و سارعوا الی طاعة اللّه و طاعة امیر المؤمنین فانه الأمر (الذی) ان سارعتم الیه و حمدتهم اللّه علیه، عرفتم الحظّ فیه ان شاء اللّه تعالی» .
و کتب هذا العهد بید المأمون و بخطه فی یوم الاثنین لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201 ه.

العهد الذی کتبه الامام علی بن موسی الرضا

و قد ظهّر الامام علی بن موسی الرضا (ع) عهد المأمون بیده و بخطه بما یلی:
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، الحمد للّه الفعّال لما یشاء، لا معقّب لحکمه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 155
و لا رادّ لقضائه، یعلم خائنة الأعین و ما تخفی الصدور، و صلاته علی نبیه محمد خاتم النبیین و آله الطیبین الطاهرین، اقول و انا علی الرضا بن موسی ابن جعفر: إنّ امیر المؤمنین عضده اللّه بالسداد، و وفّقه للرشاد، عرف من حقّنا ما جهله غیره فوصل ارحاما قطعت، و أمن نفوسا فزعت، بل أحیاها و قد تلفت، و أغناها إذ افتقرت مبتغیا رضی ربّ العالمین، لا یرید جزاء من غیره، و سیجزی اللّه الشاکرین، و لا یضیع اجر المحسنین، و انه جعل إلیّ عهده، و الأمرة الکبری إن بقیت بعده، فمن حلّ عقدة أمر اللّه بشدّها، و فصم عروة أحب اللّه ایثاقها فقد أباح حریمه، و أحلّ المسکوکات التی سکت باسم الامام الرضا بالخط الکوفی منقولة الی جانبها بالخط الحالی للتوضیح نقلا من مجلة (نامه آستان قدس)
محرمه، اذ کان بذلک زاریا علی الامام، منتهکا حرمة الاسلام، بذلک جری السالف فصبر منه علی الفلتات و لم یعترض بعدها علی العزمات خوفا من شتات الدین، و اضطراب حبل المسلمین، و لقرب امر الجاهلیة، و رصد فرصة تنتهز، و بائقة تبتدر، و قد جعلت اللّه علی نفسی إذ استرعانی أمر المسلمین، و قلدنی خلافته، العمل فیهم، و فی بنی العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته، و طاعة رسوله صلی اللّه علیه و آله و سلم، و ان لا أسفک دما حراما، و لا ابیح فرجا، و لا مالا الا ما سفکته حدود اللّه، و اباحته فرائضه، و ان أتخیّر الکفاءة جهدی و طاقتی، و جعلت بذلک علی نفسی عهدا مؤکدا یسألنی اللّه عنه فانه عزّ و جلّ یقول: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ کانَ مَسْؤُلًا، و ان أحدثت او غیرت، او بدّلت کنت للغیر مستحقا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 156
و للنکال متعرضا، و اعوذ باللّه من سخطه، و الیه ارغب فی التوفیق لطاعته، و الحؤول بینی و بین معصیته، فی عافیة لی و للمسلمین، و الجامعة و الجفر یدلان علی ضد ذلک (وَ ما أَدْرِی ما یُفْعَلُ بِی وَ لا بِکُمْ إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا لِلَّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَیْرُ الْفاصِلِینَ) لکنی امتثلت أمر امیر المؤمنین، و آثرت رضاه، و اللّه یعصمنی و ایاه، و اشهدت علی نفسی بذلک و کفی باللّه شهیدا، و کتبت بخطی بحضرة امیر المؤمنین أطال اللّه بقاءه، و الفضل بن سهل و سهل ابن الفضل و یحی بن اکثم و عبد اللّه بن طاهر و ثمامة بن اشرس و بشر ابن المعتمر و حماد بن النعمان فی شهر رمضان سنة احدی و مائتین» .

هیاج العباسیین و خلع المأمون

قال علماء السیر و المؤرخون: فلما تمت البیعة بولایة العهد للامام الرضا شغب بنو العباس ببغداد علی المأمون و خلعوه من الخلافة و بایع الکثیر منهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 157
ابراهیم بن المهدی بالخلافة و حدث هنالک ما یشبه الفوضی و وقعت الحرب بین اصحاب ابراهیم و اصحاب الحسن بن سهل الذی کان قد فوض له امر العراق و امارة الاقطار الاسلامیة الغربیة من قبل المأمون، و کان الفضل بن سهل یتلقی الأخبار فی برید اخیه الحسن بن سهل کل یوم فیخفی- علی ما یقولون- هذه الأخبار عن المأمون و یخفف من اهمیتها ریثما تتم سیطرة اخیه و تخمد الفتنة خصوصا و ان بغداد کانت محاصرة آنذاک من قبل جنود اخیه الحسن بن سهل، و ان وقوف المأمون علی تلک الاخبار المزعجة ربما کان یسبب اختلالا آخر فی الحکم بخراسان.
و یقول الطبری: ان الامام علی بن موسی الرضا هو الذی أخبر المأمون بما فیه الناس من الفتنة و القتال منذ قتل أخوه الأمین، و هو الذی اخبره بما کان الفضل بن سهل یستر عنه من الاخبار، و ان اهل بیته (العباسیین) ناقمون علیه اشیاء، و ان الفضل لم ینقل له الحقائق، و قال الرضا للمأمون، ان من جملة ما ینقم النّاس علیه هو مکان الحسن بن سهل فی العراق، و مکان اخیه الفضل بن سهل فی خراسان، و مکانه هو (ای الامام الرضا) و مکان بیعة المأمون له بولایة العهد من بعده و قد استشهد الامام الرضا بعدد من الثقات المصلحین علی ما کان یدور فی العراق یومذاک: منها تنحیة الحسن بن سهل لطاهر بن الحسین عن العمل و الزامه القعود بجیشه فی الرقة، و هو الذی أبلی فی طاعة المأمون و حارب، و فتح، و قاد الیه الخلافة مزمومة حتی اذا وطّأ الامر أخرج من ذلک کله و صیّر فی زاویة من الأرض بالرقة، و انه لو کان طاهر بن الحسین ببغداد لما ثارت الفتن .
و قال سبط ابن الجوزی فی (تذکرة الخواص) ان الامام علی بن موسی الرضا (ع) قال للمأمون: «یا امیر المؤمنین النصح لک واجب، و الغش لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 158
لا یحلّ لمؤمن، ان العامّة تکره ما فعلت معی، و الخاصة تکره الفضل بن سهل، فالرأی ان تنحینا عنک حتی یستقیم لک الخاصة و العامة فیستقیم امرک ».

توجه المأمون لبغداد

و اشیر علی المأمون بالرحیل من خراسان الی العراق، و حاول الفضل ابن سهل صرفه عن رأیه محذرا ایاه مما قد یقع له فی العراق، خصوصا و انه المتهم بقتل اخیه الامین و انه هو الذی احدث هذا الحدث الکبیر الذی اخرج الخلافة من بنی ابیه بعده و عهد بها الی الامام الرضا، و هو حدث یجمع علی خلافه العامة و الفقهاء و العلماء و آل العباس- علی ما قال الفضل- و ان قلوبهم متنافرة عنه، و ان من الرأی السدید ان یقیم بخراسان حتی تسکن قلوب الناس علی هذا. و لکن المأمون لم ینزل علی هذا الرأی و لم ینزل علی رأی الامام الرضا فی حلّه من البیعة، و خلعه من ولایة العهد، و یبدو انه کان قانعا من ان اثارة الفتن مقتصرة علی بنی العباس و ان الرأی العام مستصوب لما فعل و لذلک صمم علی التوجه الی العراق و الاشراف بنفسه علی شؤون الدولة. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌11 ؛ ص158
أعدت عدّة الرحیل من (مرو)، و ارتحل و معه الامام الرضا (ع) و الفضل بن سهل، و کبار القادة، و فی مدینة (سرخس) مدینة الفضل بن سهل و موطن آبائه، و هی من اشهر مدن خراسان شدّ قوم علی الفضل بن سهل و هو فی الحمام یغتسل و ضربوه بالسیوف حتی مات و کان ذلک فی سنة 202 و قیل بل فی سنة 203، و قبض علی قاتلیه و کانوا من حشم المأمون و ضربت اعناقهم و بعث المأمون برؤوسهم الی الحسن بن سهل (بواسط) فی العراق و مع ذلک فقد اتهم بعض المؤرخین المأمون بقتله، و قالوا انه هو الذی امر اولئک القتلة بقتله حین رأی استفحال امره، و ان قتله سیکون عاملا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 159
من عوامل التقرب الی الخاصة و القواد و رجال الدولة، و کادت تحدث بسبب هذه الاشاعة فتنة کبیرة فی خراسان فاستجار المأمون بالرضا (ع) فخرج الامام الرضا و خطب القوم فتفرقوا و اخمدت الفتنة .

وفاة الامام الرضا

و فی طریق المأمون الی العراق و قبل وصوله مدینة طوس بسبعة منازل علی ما روی الصدوق فی (العیون) عن یاسر الخادم اعتلّ ابو الحسن الرضا (ع) و قال یاسر: اننا دخلنا طوس و قد اشتدت بالامام العلة، فبقینا بطوس ایاما فکان المأمون یأتیه فی کل یوم مرتین، و اشتدت علّته، و قد ذهب عدد من المؤرخین الی ان اعراض السم کانت بادیة ظاهرة علی الامام، و قد اتهم المأمون بسمه بالعنب تخلصا من عهده و تقربا الی بنی العباس من اهل بیته.
و روی المفید فی (الارشاد) و فی (خلاصة تذهیب الکمال فی اسماء الرجال) عن سفن بن ماجة القزوینی، و کلاهما من علماء السنة: ان الامام الرضا مات مسموما بطوس، و اورد السید محسن الامین روایات اخری تشیر الی وفاة الامام الرضا مسموما، و قد اشار ابن الأثیر فی الجزء السادس الی هذه الروایات و استبعد روایة سمه.
و روی ابن خلکان انه قد اکل عنبا و اکثر منه، و قیل بل کان مسموما فاعتل منه و مات .
و یروی ابو الفرج الاصفهانی عن ابی الصلت الهروی قائلا: دخل المأمون الی الرضا یعوده فوجده یجود بنفسه فبکی و قال:
أعزز علی یا اخی بأن اعیش لیومک و قد کان فی بقائک أمل، و أغلظ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 160
علیّ من ذلک و أشد: ان الناس یقولون: انی سقیتک سما، و أنا الی اللّه من ذلک بری‌ء.
فقال الرضا: صدقت یا امیر المؤمنین انت و اللّه بری‌ء.
ثم خرج المأمون من عنده، و مات الرضا، فاهتزت الدولة لموته الفجائی الذی جاء عقب مقتل الفضل و یقول احمد فرید الرفاعی انه من المعقول فی مثل هذه الاحوال ان تنتشر الاشاعات، کما انه من المعقول ایضا فی مثل هذه الاحوال ان یصعب الوقوف علی الحقیقة لتضارب الاشاعات، و تناقض الاراجیف و اختلاف وجهات النظر .
و جاء فی کتاب (وفاة الامام الرضا) ان الامام الرضا کان ینصح المأمون بابعاد الفضل بن سهل و الحسن بن سهل عنه و ینهاه عن الاصغاء الیهما فعرفا ذلک عنه فجعلا یحطبان علیه عند المأمون و یذکران له عند ما یبعده منه و یخوفانه من جهل الناس و لم یزالا کذلک حتی قلبا رأیه فیه و عزم علی قتله الی غیر ذلک من الروایات المتضاربة.
و حضر المأمون الامام الرضا قبل ان یحفر قبره، و امر ان یحفر الی جانب ابیه و کان ذلک فی ضیعة من ضیاع طوس المعروفة (بسناباذ) و قد مر ذکرها فی بستان من قصر الجنید بن عبد الرحمن .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 161
و یقول الطبری: و کتب المأمون فی شهر ربیع الأول 203 ه الی الحسن بن سهل یعلمه ان علی بن موسی بن جعفر مات، و یعلمه ما دخل علیه من الغم و المصیبة بموته، و کتب الی بنی العباس و الموالی، و اهل بغداد یعلمهم بموته و انهم انما نقموا بیعته له من بعده، و یسألهم الدخول فی طاعته، فکتبوا الیه و الی الحسن بن سهل الجواب باغلظ ما کتب جواب لاحد، و لکن المأمون لم یعبأبهم لانه کان یعلم انهم انما یمثلون انفسهم و لو علم ان هذا هو رأی الامة للزم داره فی خراسان و لما توجه الی بغداد.
و کان المأمون هو الذی صلی علی علی بن موسی، و اشتهرت قریة سناباذ منذ ذلک الیوم، و سمیت بالمشهد، و اطلق علیها هذا الاسم و ذکرها بعضهم بالنسبة فقال (مشهد خراسان) و هی الیوم ثانیة مدن ایران من حیث عدد النفوس .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 162

خراسان فی عهد العباسیین الی حین وفاة الإمام الرضا

اذا استثنینا بعض الفترات التی تولی فیها الحکم بخراسان مثل الفضل بن یحیی و المأمون نفسه لم نجد کبیر فرق بین سیرة الامراء الذین استعملهم الامویون و الذین استعملهم العباسیون فی خراسان منذ اول قیام الدولة العباسیة حتی خروج المأمون من خراسان اذ لم یکن یهمّ اکثر الحکام شی‌ء غیر ابتزاز الاموال، و الاستیلاء علی الضیاع، و البطش بالخصوم، و المتمردین علیهم بفظاعة و قسوة شجعت الکثیر من الخراسانیین و خصوصا الاتراک فیما وراء النهر علی التمادی فی الثورات و معاملة المسلمین بنفس القسوة و الفظاعة و الاستهتار بالنوامیس و الاعراض مقابلة بالمثل لجیوش المسلمین حین کانوا یغزون و یأسرون و حین کانوا یحکمون مما کان الاسلام ینهی عنه و یعاقب علیه لو کان هناک من یستطیع ان یقیم حدود اللّه، و لو کان هؤلاء الحکام قد اتبعوا التعالیم الاسلامیة فی سیرتهم لما کلف انتشار الاسلام شیئا فی جمیع اصقاع الدنیا. و لم یخل حتی عصر المأمون واجهة مدخل مقبرة محمد المحروق بنیشابور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 163
الزاهر من الفظاعة التی نهی عنها الاسلام و حرمها، فقد قبض علی محمد بن محمد بن زید بن علی بنیشابور و کان قد ثار علی حکم المأمون فقتل و احرق جسده کما احرق جسد عمه یحیی بن زید و کما احرق جسد جده زید بن علی بن الحسین (ع) فی خلافة الامویین.
و کانت خراسان من اهم الاقطار بل واهم الثغور التی أمدّت الامویین و العباسیین باموال لا تحصی، و قومت خزانة الدولة، و موّنت بیوت الخلفاء و الامراء و القادة بمختلف النفائس و العلائق، و الکنوز الثمینة، فضلا عن انها کانت رکیزة من اکبر رکائز الاسلام فی مختلف میادین الحروب فی العصر الاموی و العباسی، و کان رجالها من اشهر رجال الدولة فی الحرب و فی الادارة و حسن التدبیر، و قد عرف لها النبهاء من خلفاء العباسیین قدرها و عدّوها سندهم، و دعامة خلافتهم، و اعترفوا بمالها من الحقوق علیهم و بذلوا کل المساعی للاحتفاظ بها، و دعوا لنشر العدل و الامن فیها، و لکن جلّ الحوادث کانت تؤید صعوبة تحقیق هذه الامنیة لفرط ما کان علیه الحکام و الامراء و القواد و حتی الخلفاء انفسهم من الشره، و الطمع، و الانغماس فی اللذات، و القصور او التقصیر فی کیفیة ادارة الحکم فی خراسان.
یقول الطبری: ان المنصور لما اخذ عبد اللّه بن الحسن و اخوته صعد المنبر و خطب فی اهل خراسان و فی استعراضه لبنی امیة قال:
«... ثم وثبوا علینا بنو أمیة فأماتوا شرفنا، و أذهبوا عزّنا، (الی ان یقول) فصرنا مرة بالطائف، و مرة بالشام، و مرة بالشراة، حتی ابتعثکم اللّه لنا شیعة و انصارا. فاحیا شرفنا و عزنا بکم اهل خراسان، و دفع بحقکم اهل الباطل و اظهر حقنا، و اصار الینا میراثنا عن نبینا صلی اللّه علیه و سلم، فقرّ الحق مقره و اظهر مناره، و أعز انصاره، و قطع دابر القوم الذی ظلموا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 164
و الحمد للّه رب العالمین الخ ».
و فی وصیة المنصور لابنه المهدی عند موته قوله.
«... و اوصیک باهل خراسان خیرا فانهم انصارک، و شیعتک الذین بذلوا اموالهم فی دولتک، و دماءهم دونک، و من لا تخرج محبتک من قلوبهم، ان تحسن الیهم، و تتجاوز عن مسیئهم، و تکافئهم علی ما کان منهم و تخلف من مات منهم فی اهله و ولده، و ما اظنک تفعل (کذا)!!» .
و قد عرف المنصور بثاقب رأیه ان القدرة علی مکافأة الخراسانیین غیر ممکنة لابنه و غیر ابنه و الا لما قال له «و ما اظنک تفعل».
و یستخلص المؤرخ طبیعة الخراسانیین و مکانتهم، و منزلتهم فی المجتمع الاسلامی من مشاورة المهدی لاهل بیته فی حرب خراسان، فقد قال له محمد بن اللیث:
«اهل خراسان- ایها المهدی: قوم ذوو عزة و منعة، و شیاطین خدعة، زروع الحمیة فیهم نابتة، و ملابس الأنفة علیهم ظاهرة،- و یستمر ابن اللیث فی وصف حسناتهم و سیئاتهم حتی یقول- و لیس المهدی وفقه اللّه فاطما عادتهم، و لا قارعا صفاتهم بمثل احد رجلین لا ثالث لهما، و لا عدل فی ذلک بهما: احدهما لسان ناطق موصول بسمعک، و ید ممثلة لعینیک، و صخرة لا تتزعزع، و بهمة لا یثنی- ای الشجاع الذی لا یهتدی من این یؤتی- و بازل لا یفزعه صوت الجلجل، نقی العرض، نزیه النفس، جلیل الخطر، قد اتضعت الدنیا عن قدره، و سما نحو الاخرة بهمته، فجعل الغرض الاقصی لعینه نصبا، و الغرض الادنی لقدمه موطئا، فلیس یقبل عملا،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 165
و لا یتعدی أملا .. الخ» .
و من المؤسف ان یکون الحصول علی مثل هؤلاء الولاة و الحکام و حتی الخلفاء لمثل خراسان التی امتازت بکل تلک الامتیازات بین جمیع الاقطار الاسلامیة یکاد یکون مستحیلا او شبه مستحیل، و لقد لقیت خراسان من الضیم و الظلم و البطش من لدن القواد و الامراء و العمال حتی صار عزل الحکام عن امارة خراسان سریعا و باقل ما یتصور المتصور فی کثیر من الاوقات، لا بداعی الاصلاح وحده بل بداعی الرشوة التی یقدمها بعض الحکام لبعض الخلفاء لینحّوا هذا و یقدموا ذاک، فهذا الرشید یولی جعفر بن یحیی امارة خراسان عشرین یوما فقط ثم یعزله و یستعمل علیها عیسی بن جعفر، ثم یستقدم علی بن عیسی من خراسان لیعزله و لکن لا یلبث ان یرده الیها امیرا علی رغم کثرة شکاوی السکان منه، ثم ینکشف ان لابنه عیسی بن علی بن عیسی الذی تولی القیادة ثلاثین الف الف، اما ابوه الذی کان یتظاهر بالتقشف حتی ادعی بانه اضطر لبیع حلی اهل بیته للانفاق علی الجیش فقد قدرت امواله بثمانین الف الف، و قد حملت خزائنه علی 1500 بعیر جی‌ء بها الی الرشید کما مر من قبل.
و یروی البیهقی عن ظلم الامراء الذین کانوا یرهقون کاهل اهل خراسان بجمع المال ظلما و عدوانا، و تشجیع الخلفاء لهم: قصة علی بن عیسی الذی أمره هارون الرشید علی خراسان و ماوراء النهر فاستأصل شأفة خراسان و ما وراء النهر و احرقها، و سکّ اموالا لا تعدّ و لا تحصی ثم جهز من تلک الاموال هدیة للرشید لم یقدم مثلها احد من قبل، و بلغت هذه الهدیة بغداد فسرّ الرشید بها و أمر باستعراضها فی یوم معین، و یقول البیهقی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 166
«و کانت هذه الهدایا تشتمل علی الف غلام ترکی بید کل منهم حلتان ملونتان من الششتری، و الاصفهانی، و السقلاطون، و الملحّم من الدیباج، و الدیباج الترکی و الدیداری، و غیر ذلک من الانواع،
و وقف الغلمان بهذه الحلل، و علی اثرهم جاءت الف جاریة ترکیة بید کل واحدة کأس من ذهب یحتوی علی الیاسمین، و ملؤه المسک، و الکافور، و العنبر، و اصناف العطر، و طرائف البلاد.
ثم مائة غلام هندی، و مائة جاریة هندیة فی غایة الجمال مرتدین ملابس ثمینة، و کان بید الغلمان السیوف الهندیة من اجود الانواع، و کانت الجواری تحمل الثیاب الرقیقة فی اسفاط احلی من القصب، و کان معهم خمسة افیال منها انثیان، و کان علی الفیلة سروج من الدیباج، و مرایا من الذهب و الفضة، و الفیلان الانثییان منها کان علیهما مهدان من الذهب احزمتهما و عدتهما مرصعتان بالجواهر البدخشیة و الفیروز!!
ثم خیول جیلانیة، و مائتا فارس من خراسان بسروج من الدیباج، و عشرون عقابا، و عشرون شاهینا، و الف جمل، منها مائتان بعدد و ألجمة مغطاة بالحریر و الدیباج، و کانت فی غایة الجمال، و ثلثمایة اخری علیها المحامل و المهود، منها عشرون علیها محامل مذهبة، و ما بین خمسمائة و ثلثمائة قطعة من البلور من شتی الاصناف، و مائة زوج من الابقار، و عشرون عقدا من الجوهر الغالی القیمة، و ثلثمایة الف حبة من اللؤلؤ، و مائتا قطعة من الصینی الفغفوری من الصحون و الکؤوس و غیرها مما لم یشاهد مثلها فی قصر ای ملک.
و الفا قطعة أخری من الصینی من الاوانی الکبیرة، و الکاسات الواسعة، و زهریات صینیة کبیرة و صغیرة و انواع اخری و ثلثمایة من الستائر الملکیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 167
و مائتان من سجاد القصور، و مائتان من السرر» .
و عرض بیان بکل هذه الهدایا، و حین تم عرض هذه الهدایا علی جماهیر الناس فی الموعد المعین ارتفعت اصوات الجند بالتکبیر، و دقت الطبول، و نفخت الابواق.
و حین کان الفضل بن یحیی البرمکی امیرا علی خراسان قبل امارة علی بن عیسی لم یقدم الی الرشید هدیة توازی هدیة ای عامل، فالتفت الرشید الی یحیی و هو یستعرض الهدایا و قال له:
«أین کانت هذه الاشیاء ایام ولایة ابنک الفضل؟».
فقال یحیی: «اطال اللّه عمر امیر المؤمنین، لقد کانت هذه الاشیاء ایام ولایة ابنی الفضل فی بیوت اهلها فی مدن العراق و خراسان» .
*** و لأهمیة خراسان کان الامین یخاف من تمکن المأمون منها، و هی بمثل ذلک الخصب و الثروة و العلم و الشجاعة، و کان تخوفه فی محله.
و عندما توفی الرشید کان فی بیت المال تسعمایة الف الف و نیف ، اما المنصور فقد مات، و فی بیت المال، مایة الف الف و ستین الف الف عین مثاقیل و لیس من شک ان اغلبها کان من خراسان. و من عهد الرشید للمأمون تستبان اهمیة هذا الاقلیم التاریخیة من حیث المال و الرجال، و الحضارة و الایمان بالاسلام الذی کان من بعض آثارهما ظهور العشرات من أئمة اهل العلم و الحدیث و الفقه و التفسیر و الفلسفة و العرفان و الادب فی مختلف المدن الخراسانیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 168
و الی اوائل القرن السابع الهجری کان کل شی‌ء فی خراسان یدل علی عظمة هذه البلاد- علی رغم ما لقیت من اضطهاد و عدم استقرار- من توفر عناصر الحضارة و المدنیة و الثقافة و الثروة، و خزائن الکتب، و خزائن التحف و الرخاء بحیث کان ثمن الحمار فیها بخمسة دراهم علی ما ذکر یاقوت، فغزاها المغول و قضوا علی کل ما کان فیها و لم یبق ما بین ایدینا من اخبارها القدیمة الا النزر الیسیر الذی تتحدث به الکتب، و الا بعض الاثار القائمة التی تتحدث ببعض ما کان لخراسان فی العهود القدیمة و فی العهود الاسلامیة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 169

خراسان فی الشعر جمعه و نسقه حسب الحروف الهجائیة فؤاد عباس

اشارة

من خریجی الجامعة الأمیرکیة ببیروت
و المفتش الاختصاصی
فی وزارة التربیة العراقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 171

خراسان فی الشعر

أسید بن المتشمّس المرّی

قال حین خلع أهل خراسان الطاعة أیام عثمان بن عفّان
ألا ابلغا عثمان عنی رسالةفقد لقیت منا (خراسان) بالغدر
فأذک هداک اللّه حربا مقیمة(بمروی خراسان) العریضة فی الدهر
و لا تفنرز عنا فان عدوّنالآل (کنازاء) الممدّین بالجسر

اشجع السلمی

قال مشیرا الی الرشید حین ولّی جعفر بن یحیی البرمکی امارة خراسان
إنّ (خراسان) و ان اصبحت‌ترفع من ذی الهمّة الشانا
لم یحب هرون بها جعفرالکنه حابی خراسانا

الأصمعی (عبد الملک بن قریب)

أنشد :
اذا ما بدا عمرو بدت منه صورةتدلّ علی مکنونه حین یقبل
بیاض (خراسان) و لکنة (فارس)و جثّة (رومیّ) و شعر مفلفل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 172

البحتری

قال یستسقی نبیذا من أبی أیوب احمد بن محمد بن شجاع و قد أتاه بنو حمید بن عبد الحمید:
لک الخیر ما مقدار عفوی و ما جهدی‌و آل حمید عند آخرهم عندی؟
تتابعت الطاءان (طوس) و طیّ‌ءفقل فی خراسان و ان شئت فی نجد
أتونی بلا وعد و ان لم تجد لهم‌براحهم راحوا جمیعا علی وعد
و لم أر خلّا کالنبیذ اذا جفاجفاک له خلّانه و ذوو الودّ
و قال یمدح ابا نهشل محمد بن حمید الطوسیّ من قصیدة
الا تریان الربع راجع أنسه‌و عادت الی العهد القدیم معاهده
(کقصر حمید) بعد ما غاض حسنه‌و أقوت نواحیه و أجدب رائده
تلافاه سیب الصامتیّ محمدفعادت له أیامه و مشاهده
و قال یرثی طاهر بن عبد اللّه بن طاهر و الحسین بن طاهر بن الحسین
فلّله قبر فی (خراسان) ادرکت‌نواحیه اقطار العلا و المآثر
مقیم بأدنی (أبر شهر) و طوله‌علی قصو آفاق البلاد الظواهر
عمیدا (خراسان) انبری لهما الردی‌بعامدتین من صنوف الدوائر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 173
و قال یهجو محمد بن طاهر (هو ابن المرثیّ فی الابیات السابقة، ولی إمرة خراسان بعد والده الی ان خرج علیه یعقوب بن اللیث الصفّار فحاربه و ظفر به یعقوب، و بقی عنده فی الاسر ثمّ نجا. و لم یزل خاملا ببغداد الی أن مات سنة 298 ه.)
علی مثل رأسک زال السرورو مال الزمان بنا و انقلب
اذا نحن شئنا رأینا البلاءبأعیننا و سمعنا العجب
ذخائر آبائک الأوّلی ...ن أتویتها فی مهور اللعب
و سلّمت سلطانهم حین صار إلیک، بمقتلعات الکتب
فلم لا تعدّ من الأجودی ...... ن، و ملک (خراسان) ممّا تهب!؟

البستی (ابو الفتح)

قال فی ابی علی ابن سیمجور
ألم تر ما ارتآه ابو علیّ‌و کنت اراه ذا لبّ و کیس
عصی السلطان فابتدرت إلیه‌جیوش یقلعون ابا قبیس
و صیّر (طوس) معقله فاضحت‌علیه (طوس) اشأم من طویس

ابو تمام

قال یمدح محمد بن حسّان الضبّی
ما الیوم اول تودیعی و لا الثانی‌البین اکثر من شوقی و احزانی
دع الفراق فان الدهر ساعده‌فصار املک من روحی بجثمانی
خلیفة (الخضر) من یربع علی وطن‌فی بلدة فظهور العیس اوطانی
بالشام اهلی، و بغداد الهوی، و أنابالرقمتین، و بالفسطاط اخوانی
و ما اظنّ النوی ترضی بما صنعت‌حتی تشافه بی اقصی (خراسان)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 174
و قال یصف شدّة البرد بخراسان
لم یبق للصیف لا رسم و لا طلل‌و لا قشیب فیستکسی و لا سمل
عدل من الدمع ان یبکی الحصیف کمایبکی الشباب و یبکی اللهو و الغزل
یمنی الزمان طوت معروفها و غدت‌یسراه و هی لباس بعده بدل
ما للشتاء و لا للصیف من مثل‌یرضی به السمع الا الجود و البخل
اما تری الأرض غضبی و الحصی قلقاو الافق بالحرجف النکباء یقتتل
من یزعم الصیف لم تذهب بشاشته‌فغیر ذلک امسی یزعم الجبل
غدا له مغفر فی رأسه یقق‌لا تهتک البیض فودیه و لا الاسل
یمسی و یضحی مقیما فی مباءته‌و بأسه فی کلی الاقوام مرتحل
من کان یجهل منه جدّ سورته‌فی القریتین و امر الحق مکتهل
فما الضلوع و لا الاحشاء جاهلةو لا الکلی أنّه المقدامة البطل
هذا و لم یشتمل للحرب دیدنه‌و ایّ قرن تراه حین یشتمل
اذا (خراسان) عن صنّبرها کشرت‌کانت قیادا لنا أنیابه العصل
فما صلائی- إن کان الصلاء بهاجمر الغضا الجزل- إلا السیر و الابل
المرضیاتک ما ارغمت آنفهاو الهادیاتک و هی الرشد و الضلل
تقرّب الشقّة القصوی اذا اخذت‌سلاحها و هی الارقال و الرمل
اذا تظلّمت من ارض فصلت بهاکانت هی العزّ الّا أنها ذلل
و قال و قد سمع مغنّیة تغنّی بالفارسیّة فاستحسن الصوت و لم یعرف المعنی
أیا سهری ببلدة (أبرشهر) ذممت إلیّ فی نومی سواها
شکرتک لیلة حسنت و طابت‌اقام سرورها و مضی کراها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 175 و ما سهد بمحمود و لکن‌قضی حاجات نفسی ما قضاها
اذا وهدات ارض کان فیهاهواک فلا تحنّ الی رباها
سمعت بها غناء کان أولی‌بأن یقتاد نفسی من غناها
و مسمعة یحار السمع فیهاو لم تصممه، لا یصمم صداها
مرت أوتارها فشفت و شاقت-و لو یسطیع حاسدها فداها
فما خلت الخدود کسبن شوقالقلبی مثلما کسبت یداها
و لم افهم معانیها و لکن‌ورت کبدی فلم أجهل شجاها
فبتّ کأنّنی اعمی معنّی‌یحبّ الغانیات و ما یراها

الشیخ جابر الکاظمی

قال- رحمه اللّه- عند ما زار مشهد الامام الرضا (ع) فی ایران
ثنینا عطف محمود الثناءلمغنی سبط ختم الانبیاء
لربع هدایة للّه فیه‌مواهب رحمة لذوی (الولاء)
لمغنی فیه للرضوان مأوی‌و فیه (للرضا) اسمی بناء
لمغنی تلثم الشمس اعتماداتراه فی الصباح و فی المساء
**** الی شمس الشموس و ما سواه‌أنیس فی الاسی للاصفیاء
الی شمس حبا (طوسا) بشمس‌تفوق الشمس باهرة الضیاء
(علیّ) الندب و ابن الندب (موسی)سلیل ذوی الهدی (أهل العباء)
إمام من إمام من إمام‌و ما للّه فیه من بداء
و (ثامن) سادة سادت بمجدسما ادناه مجد الأنبیاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 176 مودّة (ناصر الدین) المفدّی‌صفت لک و هو أهل للصفاء
أقام لکم قبابا شاهقات‌سمت فیها سماوات العلاء

آقا شیخ حسن هروی

من القصیدة المسمّاة (الوجیزة الطوسیّة فی المظالم الروسیّة)
در عهد جهانداری شاهنشه (قاجار)شد واقعه کرب و بلا تازه دگر بار
افسوس که در (طوس) بتوپ ستم روس‌شد منهدم الرکن حریم شه ابرار
سلطان خراسان شه اقلیم ولایت‌فرمانبر او نه فلک ثابت و سیّار
و هذا ملخص تعریبها: فی عهد الشاهنشاه القاجاری تجددت مأساة کربلا مرة اخری فقد صوّب الروس مدافعهم الی حرم الامام الذی تمتثل أوامره الافلاک التسعة الثابتة و السیارة و هدموه.

السید حیدر الحلّی

قال من قصیدة مهنئا الحاج مصطفی کبّه لما أقبل من زیارة الرضا (ع)
بلغته (الرضا) عزیمة نفس‌کبرت ان تری الخطیر خطیرا
کم طوی البید باسطا کفّ جودنشرت میّت الندی المقبورا
فأتی (مشهدا) لمن طاف فیه‌قد اعدّ الآله اجرا کبیرا
حاز اجرا لو الوری اقتسمته‌لغدا فیه کلّهم مأجورا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 177

قصیدة سنائی الغزنوی

هذه اقدم قصیدة فارسیة فی مدح الامام الرضا (ع) للشاعر ابی المجد مجدود بن آدم المعروف (بسنائی غزنوی) المتوفی سنة 535 ه. و یظهر ان سنائی قد نظم هذه القصیدة فی اثناء زیارته لخراسان و سفره الی نیشابور و یستبان ذلک من الرسالة التی کتبها سنائی الی الفیلسوف الشاعر عمر الخیام النیشابوری التی یرجوه فیها التوسط لدی السلطة التی قبضت علی خادم سنائی بتهمة السرقة.
و القصیدة هذه نقلتها مجلة (آستان قدس) التی تصدر من دار التولیة بخراسان من دیوان سنائی الذی حققه المدرس الرضوی، فی العدد الرابع من المجلد السادس.

قصیدة دعبل الخزاعی

و الی جانب قصیدة سنائی الفارسیة رأینا ان نثبت قصیدة دعبل بن علی ابن رزین الخزاعی باعتبارها من اقدم ما قیل من الشعر فی رثاء آل علی (ع) من الأئمة و مدحهم و ذکر الامام الرضا (ع) بالمدح و هی قصیدة محققة حذفت منها جمیع الأبیات التی تستوجب المناقشة من حیث الزیادة و النقصان فقد قیل ان زیادات کثیرة کانت قد ادخلت علی هذه القصیدة لشهرتها لذلک اجتهدنا ان نتثبت من الاصل فنقلناه من تحقیق الدکتور عبد الکریم الاشتر و قد کتبت هذه القصیدة و زینت بخط الشاعر الطیار کمال عثمان. و دعبل الخزاعی هذا هجا عددا من الخلفاء العباسیین لاضطهادهم العلویین فطلبوه و لم یظفروا به و کان یقول: ان لی خمسین سنة و انا احمل خشبتی علی کتفی ادور علی من یصلبنی علیها، فقد کان شدید الحب للأئمة متفانیا فی تشیعه، و هو کوفی و من موالید القرن الثانی الهجری.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 178
در مدح حضرت ثامن الائمّه علیّ بن موسی الرّضا علیه آلاف التحیّه و الثنا کوید
دین را حرمیست در خراسان‌دشوار ترا بمحشر آسان
از معجزهای شرع احمداز حجّت‌های دین یزدان
همواره رهش مسیر حاجت‌پیوسته درش مشیر غفران
چون کعبه پرآدمی ز هر جای‌چون عرش پر از فرشته هرنان
هم فرّ فرشته کرده جلوه‌هم روح وصیّ درو بجولان
از رفعت او حریم مشهداز هیبت او شریف بنیان
از دور شده قرار زیرانزدیک بمانده دیده حیران
از حرمت زایران راهش‌فردوس فدای هر بیابان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 179 قران نه درو واو اولوالامردعوی نه و با بزرگ برهان
ایمان نه و رستگار از او خلق‌توبه نه و عذرهای عصیان
از خاتم انبیا درو تن‌از سیّد اوصیا درو جان
آن بقعه شده به پیش فردوس‌آن تربه بروضه کرده رضوان
از جمله شرطهای توحیداز حاصل اصلهای ایمان
زین معنی زاد در مدینه‌این دعوی کرده در خراسان
در عهده موسی آل جعفربا عصمت موسی آل عمران
مهرش سبب نجات و توفیق‌کینش مدد هلاک و خذلان
مأمون چو بنام او درم زدبر زر بفزودهم درم زان
حوری شد هر درم بنامش‌کس را در می‌زدند زینسان
از دیناری همیشه تا ده‌نرخ درمی شدست ارزان
بر مهر زیاد آن درمهااز حرمت نام او چو قرآن
اینکار هر آینه نه بازیست‌این خور بچه گل کنند پنهان
زرّست بنام هر خلیفه‌سیمست بضرب خان و خاقان
بی‌نام رضا همیشه بی‌نام‌بی‌شأن رضا همیشه بی‌شأن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 180 با نفس تنی که راست باشدچون خور که ببابدار گریبان
بر دین خدا و شرع احمدبر جمله ز کافر و مسلمان
چون او بود از رسول نایب‌چون او سزد از خدای احسان
ای مأمون کرده با تو پیوندوی ایزد بسته با تو پیمان
این پیوندت گسسته پیوندوان پیمانت گرفته دامان
از بهر تو شکل شیر مسنددرنده شده بچنگ و دندان
آنرا که ز پیش تخت مأمون‌برهان تو خوانده بود بهستان
با درد حجود منگرش رااقرار دو شیر ساخت درمان
از معتبران اهل قبله‌در معتمدان دین دّیان
کس نیست که نیست از تو راضی‌کس نیست که هست بر تو غضان
اندر پدرت وصی احمدبیتیست مرا بحسب امکان
تضمین کنم اندرین قصیده‌کین بیت فرو گذاشت نتوان
ای کین تو کفر و مهرت ایمان‌پیدا بتو کافر از مسلمان
در دامن مهر تو زدم دست‌تا کفر نگیردم گریبان
اندر ملک امان علی راست‌دل در غم غربت تو بریان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 181
مرثیة شاعر آل البیت- الشهیدة دعبل بن علی بن رزین الخزاعی
مدارس آیات خلت من تلاوةو منزل وحی مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخیف من منی‌و بالرکن و التعریف و الجمرات
دیار علی و الحسین و جعفرو حمزة و السجاد ذی الثفنات
دیار عفاها جور کل منابذو لم تعف للایام و السنوات
قفا نسأل الدار التی خف اهلها:متی عهدها بالصوم و الصلوات
و أین الألی شطت بهم غربة النوی‌افانین فی الآفاق مفترقات؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 182 هم أهل میراث النبی اذا اعتزواو هم خیر قادات و خیر حماة
و ما الناس الا حاسد و مکذب‌و مضطغن ذو اخته و ترات
اذا ذکروا قتلی ببدر و خیبرو یوم حنین اسبلوا العبرات
و کیف یحبون النبی و اهله‌و قد ترکوا احشاءهم و غرات
لقد لا ینوه فی المقال و اضمرواقلوبا علی الاحقاد منطویات
قبور بکوفان و اخری بطیبةو اخری بفخ، نالها صلواتی
و قبر بارض الجوز جان محله‌و قبر بباخمرا لدی العرمات
و قبر ببغداد لنفس زکیةتضمنها الرحمن فی الغرفات
و قبر بطوس یا لها من مصیبةتردد بین الصدر و الحجبات
فاما الممضات التی لست بالغامبالغها منی بکنه صفات
الی الحشر حتی یبعث الله قائمایفرج منها الهم و الکربات
نفوس لدی النهرین من ارض کربلامعرسهم منها بشط فرات
اخاف بأن ازدارهم و یشوقنی‌معرسهم بالجزع من نخلات
تقسمهم ریب الزمان فما تری‌لهم عقوة معشیة الحجرات
سوی أن مهم بالمدینة عصبةمدی الدهر انضاء من الأزمات
قلیلة زوّار سوی بعض روزمن الضبع و العقبان و الزحمات
لهم کل جبن نومة بمضاجع‌لهم فی نواحی الأرض مختلفات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 183 و قد کان منهم بالحجاز و أهلهامغاویر نحارون فی السنوات
تنکب لأواء السنین جوارهم‌فلا تصطلیهم جمرة الجمرات
حمی لم تطره المبدیات و اوجه‌تضی‌ء من الأیسار فی الظلمات
اذا أورد و اخیلا تسعّر بالقنامساعر جمر الموت و الغمرات
و أن فخروا یوما أتوا بمحمّدو جبریل و الفرقان ذی السورات
أولئک، لامن شیخ هند و تربهاسمّیة من نوکی و من قذرات
ملامک فی اهل النبی فأنهم‌أجای ما عاشوا و أهل ثقاتی
تخیرتهم رشدا لأمری فانهم‌علی کل حال خیرة الخیرات
نبذت الیهم بالمودة جاهداو سلمت نفسی طائعا لولاتی
فیا رب زدنی من یقینی بصیرةو زدجّهم یا ربّ فی حسناتی
بنفسی أنتم من کهول و فتیةلفک عناة أو لحمل دیات
و للخیل لما قید الموت خطوهافأطلقتم منهن بالذریات
أحب قصی الرحم من أجل حبکم‌و اهجر فیکم أسرتی و بناتی
و أکتم حبّیکم مخافة کأشج‌عنید لأهل الحق غیر موات
لقد حفّت الأیام حولی بشرهاو انی لأرجو الأمن بعد وفاتی
ألم تر أنی مذ ثلاثین حجّةأروح و أغدو دائم الحسرات
أری فیئهم فی غیرهم متقسّماو أیدیهم من فیئهم صفرات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 184 فال رسول الله نحف جسومهم‌و آل زیاد غلّظ القصرات
بنات زیاد فی القصور مصونةو آل رسول الله فی الفلوات
اذا وتروا مدّوا الی واتریهم‌أکفا عن الأوتار منقبضات
فلو لا الذی أرجوه فی الیوم أو غدتقطع قلبی أثرهم حسرات
خروج أمام لا محالة خارج‌یقوم علی اسم الله و البرکات
یمیّز فینا کل حق و باطل‌و یجزی علی النعماء و النقمات
سأقصر نفسی جاهدا عن جدالهم‌کفانی ما القی من العبرات
فیا نفس طیبی ثم یا نفس أبشری‌فغیر بعید کل ما هو آت
و لا تجزعی من مدة الجور اننی‌کأنی بها قد آذنت ببتات
فأن قرّب الرحمن من تلک مدتی‌و أخرّ من عمری لیوم وفاتی
شفیت ولم أترک لنفسی غصةو رویت منهم منصلی و قناتی
عسی الله أن یأوی لذا الخلق انه‌الی کل قوم دائم اللحظات
أحاول نقل الشمس من مستقرهاو أسماع أحجار من الصلدات
فمن عارف لم ینتفع و معاندیمیل مع الأهواء و الشهوات
قصارای منهم أن أؤب بغصّةتردد بین الصدر و اللهوات
اذا قلت عرفا أنکروه بمنکرو غطوا علی التحقیق بالشبهات
کأنک بالأضلاع قد ضاق رحبهالما ضمنت من شدة الزفرات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 185

لدعبل بن علی الخزاعی

إربع (بطوس) علی قبر الزکیّ بهاإن کنت تربع من دین علی وطر
قبران فی (طوس) خیر الخلق کلّهم‌و قبر شرّهم هذا من العبر
ما ینفع الرجس من قرب الزکی و ماعلی الزکیّ بقرب الرجس من ضرر
هیهات کلّ امری‌ء رهن بما کسبت‌له یداه فخذ ما شئت أو فذر
*** قال یعاتب الفضل بن العباس و کان دعبل مؤدبه.
ألا ایها القطّاع هل أنت عارف‌لنا حرمة أم قد نکرت التحرّما؟
فهلّا (بطوس) و البلاد حمیدةتعول اللیالی و المطیّ المرسّما
و اسلمتنی من بعد ما صوّح الکلاو غاضت بقایا الحی و الماء أنجما
ستعلم إن راجعت نفسک أو سخت‌عن الضف یوما: أینا کان ألوما
و قال فی رثاء علی بن موسی الرضا:
ألا ایها القبر الغریب محلّه بطوس) علیک الساریات هتون
شککت فما أدری أمسقی شربةفابکیک، ام ریب الردی فیهون
و ایههما ما قلت: ان قلت شربةو ان قلت موت، إنه لقمین
ایا عجبا منهم یسمّونک (الرضا)و تلقاک منهم کلحه و غضون
أتعجب للاجلاف أن یتحیّفوامعالم دین اللّه و هو مبین
لقد سبقت فیهم بفضلک آیةلدیّ، و لکن ما هناک یقین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 186
و قال فی رثائه:
یا حسرة تتردّدو عبرة لیس تنفد
علی (علیّ بن موسی ب ...ن جعفر بن محمد
قضی غریبا (بطوس)مثل الحسام المجرّد
یا (طوس) طوباک قد صرت لابن احمد) مشهد
و یا جفونی استهلّی‌و یا فؤادی توقّد
*** و قال أیضا:
لقد رحل (ابن موسی) بالمعالی‌و سار بسیره العلم الشریف
و تابعه الهدی و الدین کلاکما یتتّبع الالف الالیف
فیا وفد الندی عودوا خفاف الحقائب،لا تلید و لا طریف
و قد کنّا نؤمّل ان سیحیاإمام هدی له رأی حصیف
تری سکناته فنقول: غرو تحت سکونه رأی ثقیف
له سمحاء تغدو کلّ یوم‌بنائله، و ساریة تطوف
فأهدأ ریحه قدر المنایاو قد کانت له ریح عصوف
أقام (بطوس) تلحفه المنایامزار دونه نأی قذوف
فقل للشامتین بنا رویدافما تبقی امرأ یمشی: الحتوف
سررتم بافتقاد فتی بکاه‌رسول اللّه و الدین الحنیف
و قال فی رثائه أیضا:
یا نکبة جاءت من الشرق‌لم تترکی منی و لم تبقی
موت (علیّ بن موسی الرضا)من سخط اللّه علی الخلق
اصبح عینی مانعا للکری‌و اولع الاحشاء بالخفق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 187 و اصبح الاسلام مستعبرالثلمة باینة الرتق
سقی الغریب المنتئی قبره‌بارض (طوس) سبل الودق

ربعی بن عامر

قال فی غزو خراسان سنة 18 ه .
و نحن وردنا من (هراة) مناهلارواء من (المروین) ان کنت جاهلا
و (بلخ) و (نیسابور) قد شقیت بناو (طوس) و (مرو) قد أزرنا القنابلا
أنخنا علیها کورة بعد کورةنفضّهم حتی احتوینا المناهلا
فللّه عینا من رأی مثلنا معاغداة أزرنا الخیل (ترکا) و (کابلا)

أبو سعید المخزومی

یرثی المأمون :
هل رأیت النجوم أغنت عن المأمون فی عزّ ملکه المأسوس
غادروه بعرصتی (طرسوس)مثلما غادروا أباه (بطوس)

شاعر

یا ارض (طوس) سقاک اللّه رحمته‌ماذا حویت من الخیرات یا (طوس)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 188 طابت بقاعک فی الدنیا و زیّنهاشخص زکیّ (بسیناباذ) مرسوس
یا قبره انت قبر قد تضمّنه‌علم و حلم و تطهیر و تقدیس
فخرا فانک مغبوط بجثّته‌و بالملائکة الاحرار محروس

الشریف الرضی

سقی اللّه المدینة من محلّ‌لباب الماء و النطف العذاب
و جاد علی (البقیع) و ساکنیه‌رخیّ الذیل ملآن الوطاب
و اعلام (الغریّ) و ما استباحت‌معالمها من الحسب اللباب
و قبرا (بالطفوف) یضمّ شلواقضی ظمأ الی برد الشراب
و (سامرّا) و (بغداد) و (طوسا)هطول الودق منخرق العباب
*** صلاة اللّه تخفق کلّ یوم‌علی تلک المعالم و القباب
اری شعبان یذکرنی اشتیاقی‌فمن لی ان یذکّرکم ثوابی
أجلّ عن القبائح غیر أنی‌لکم أرمی و أرمی بالسباب
فاجهر (بالولاء) و لا اورّی‌و انطق (بالبراء) و لا أجابی
محبّکم و لو بغضت حیاتی‌و زائرکم و لو عقرت رکابی

ابو الشیص

ابو الشیص (محمد بن عبد اللّه بن رزین) ابن عم دعبل الخزاعی کان احد شعراء الرشید و لما مات الرشید رثاه و مدح محمدا الأمین، قال :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 189 جرت جوار بالسعد و النحس‌فنحن فی وحشة و فی أنس
العین تبکی و السنّ ضاحکةفنحن فی مأتم و فی عرس
یضحکنا القائم الأمین و یبکیناوفاة الأمام فی الأمس
بدران: بدر هذا ببغداد فی ال ...خلد و بدر (بطوس) فی الرمس

الصاحب بن عبّاد

قال یمدح علیّ بن موسی (ع) :
یا زائرا سائرا الی (طوس)مشهد طهر و ارض تقدیس
ابلغ سلامی (الرضا) و حطّ علی‌اکرم رمس لخیر مرموس
و اللّه و اللّه حلفة صدرت‌عن مخلص فی الولاء مغموس
أنّی لو کنت مالکا أربی‌کان (بطوس) الغنّاء تعریسی
و کنت أمضی العزیم مرتحلامنتسفا فیه قوة العیس
(لمشهد) بالزکاء ملتحف‌و بالسنی و السناء مأنوس
یا سیّدی و ابن سادتی ضحکت‌وجوه دهری بعقب تعبیس
لما رأیت النواصب انقلبت‌رایاتها فی ضمان تنکیس
صدعت بالحقّ فی ولائکم‌و الحقّ مذ کان غیر مبخوس
یابن النبی الذی به قصم اللّه‌ظهور الجبابر الشوس
و ابن الوصیّ الذی تقدّم فی ال ...فضل علی البزّل القناعیس
و حائز الفضل غیر منتقص‌و لابس المجد غیر تلبیس
ان ابن عبّاد استجار بکم‌فما یخاف اللیوث فی الخیس
بلّغه اللّه ما یؤمّله‌حتی یحلّ الرحال فی (طوس)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 190

العباس بن الاحنف

قالوا (خراسان) ادنی ما یراد بناثم القفول فقد جئنا خراسانا
متی یکون الذی ارجو و آمله‌اما الذی کنت أخشاه فقد کانا
ما اقدر اللّه ان یدنی علی شحطسکّان دجلة من سکّان جیحانا
عین الزمان اصابتنا فلا نظرت‌و عذّبت بفنون الهجر ألوانا
یا لیت من نتمنّی عند خلوتنااذا خلا خلوة یوما تمنّانا

عبد الباقی العمری

ورد فی دیوانه (الباقیات الصالحات) ما یلی: هذان البیتان اللذان هما کآیتین منقولان من لغة الفرس، لجناب المؤید بروح القدس، الادیب الالمعی و الاریب اللوذعی الحاج محمد عیسی جلبی نجل المبرور الحاج محمد أمین جلبی شالچی موسی‌زاده البغدادی و هما کذا :
قبة للرضا حوت کل فضل‌مذ حوت من له بهاء و نور
قبّة للافلاک لم تبق فخراقال لبّی: لکلّ لبّ قشور
و قال مؤلف هذه الباقیات مشطّرا لهما اربعة تشاطیر، کل شطر منها أعطی شطر الحسن المنیر، واصفا قبة حضرة الامام، علی الرضا العلیّة المقام، و ناعتا حضرته الشریفة فی هذا النظام، البدیع الانتظام:
(قبّة للرضا حوت کل فضل)ما حواه وادی طوی و الطور
و تلا الوحی سورة النور فیها(مذحوت من له بهاء و نور)
(قبّة للافلاک لم تبق فخرا)تتباهی به غداة تمور
و هی تحکی بیض الانوق حفاظا(قال لبّی: لکلّ لب قشور)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 191

؟؟؟ الجرجانیّ

الدار داران: إیوان و غمدان‌و الملک ملکان: ساسان و قحطان
و الناس فارس، و الاقلیم بابل‌و الإسلام مکة، و الدنیا (خراسان)
و الجانبان العلندان اللذا خشنامنها بخارا و بلخ الشاهواران
قد میّز الناس اصنافا و رتّبهم‌فمرزبان و بطریق و طرخان
فالفرس کسری، و للروم القیاصر، و ال ...حبش النجاشیّ، و الاتراک خاقان

مالک بن الریب

قال یرثی نفسه :
لعمری لئن غالت خراسان هامتی‌لقد کنت عن بابی خراسان نائیا
ایا لیت شعری هل ابیتنّ لیلةبجنب الغضا أزجی القلوص النواجیا
فلیت الغضا لم یقطع الرکب عرضه‌و لیت الغضا ماشی الرکاب لیالیا
الم ترنی بعت الضلالة بالهدی‌و اصبحت فی جیش بن عفّان غازیا

المأمون العباسی

دخل ابو عبّاد ثابت بن یحیی الی المأمون و هو یختال فی مشیته فقال المأمون :
زهو (خراسان) وتیه النبطو نخوة الخوز و غدر الشرط
اجتمعت فیک و من بعد ذاإنّک رازی کثیر الغلط
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 192

محمد بن عبید اللّه (سبط ابن التعاویذی

قال فی أهل البیت (ع) :
ساهدی للأئمة من سلامی‌و غرّ مدائحی ازکی هدیّ
سلاما أتبع الوسمیّ منه‌علی تلک (المشاهد) بالولی
و اکسو عاتق الایام منه‌حبائر کالرداء العبقریّ
حسانا لا أرید بهنّ إلّامساءة کلّ باغ خارجیّ
یضیع لها اذا نشرت أریج‌کنشر لطائم المسک الذکی
کأنفاس النسیم سری بلیل‌یهزّ ذوائب الورد الجنیّ
(لطیبة) و (البقیع) و (کربلاء)و (سامرّا) و (فید) و (الغریّ)
و (زوراء) العراق و ارض (طوس)سقاها الغیث من بلد قصیّ
فحیّا اللّه من وارته تلک القباب البیض من حبر نقیّ
و اسبل صوب رحمته دراکاعلیها بالغدوّ و بالعشیّ
فذخری للمعاد ولاء قوم‌بهم عرف السعید من الشقی
کفانی علمهم أنّی معادعدوّهم موال للولیّ

السید موسی الطالقانی

قال :
و بنفسی افدی غریبا (بطوس)و قتیلا بالسّم أیّ قتیل
خیر من حلّ ارضها و سماهاخیر داع الی الهدی و دلیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 193

مشهد فی المصادر العربیة کتبه الدکتور حسین علی محفوظ

اشارة

دکتوراه الدولة من جامعة طهران
و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا
و الأستاذ بکلیة الآداب فی جامعة بغداد الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 195

مشهد فی التواریخ تاریخ مشهد خراسان سنة 1300 ه

أقوال المشارقة فی مشهد خراسان

... أغفل ذکر المشهد جماعة من علماء العرب، منهم؛ ابن خرداذبه، و المقدسی، و ابو الفداء. و ذکرها: الاصطخری، و ابن حوقل، و زکریا ابن محمد بن محمود القزوینی، فی کتاب آثار البلاد، و یاقوت الحموی، و ابن بطوطة.
و أما کتاب الفرس؛ فقد ذکرها: صاحب کتاب (نزهة القلوب)، و ذکرها الأمیر زین الدین محمد فی کتاب (زینة المجالس)، و القاضی نور اللّه التستری الحسینی فی (مجالس المؤمنین) المعروف، و احمد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 196
الرازی فی (هفت اقلیم)، و میرزا حسن الزنوزی فی (ریاض الجنة)، و فرهاد میرزا فی کتاب (جام جم)، و میرزا رضا قلی خان من مشاهیر حملة السیف و القلم، فی العهد القاجاری.

أقوال المغاربة

ذکر المشهد من الافرنج (فورشایر) الرخالة الانکلیزی، فی المجلد الثانی من رحلته، و قد اجتاز بها سنة 1783.
و السر جون ملکلم، سفیر انکلترا علی عهد فتح علی شاه.
(و) ذکرها صاحبه (ماکدونال کینیر) فی کتابه (جغرافیة ایران).
و الرحالة الانکلیزی (فیروزور) و قد اجاز علیها فی منتصف القرن التاسع عشر. و عاشر طائفة من خاصة اهلها، و تظاهر بالاسلام، توصلا إلی مقاصده، فنجح.
و المتجول (هانوی) فی رحلته إلی بلاد الروس و ایران، سنة 1743.
و قد تمکن من الدخول إلی نفس المشهد، و افاض فی تاریخه القدیم و الحدیث، و أورد فصولا شائقة عن البلدة، و أحصی مدارسها، و عدد طلابها، و ذکر أوقافها و اجناسها، إلی غیر ذلک.
و ذکرها ایضا- الدکتور (ریتر) الألمانی، من أساتذة جامعة برلین و أعضاء المجمع العلمی فی کتابه (خطط ایران) بالألمانیة. و کثیرا ما یعتمد علی کلام فیرزور المتقدم ذکره.
و المسیو (کنولی) و قد مرّ علیها مجتازا إلی الهند، سنة 1823.
و قال: ان مدینة طوس اوسع محیطا من هراة، الّا انها اقل منها سکانا.
و بحث عن التجارة و احوالها هناک.
و المسیو (فریه) الرحالة الفرنسوی- مارا بها- سنة 1845، فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 197
المجلد الأول من رحلته. وصف منظر البلاد الطبیعی، و أورد نبذة من تاریخها، و غیر ذلک.
و تعددت له اغلاط .. غیر ان اغلاط (خانیکوف) الرحالة الروسی ..
أکثر؛ فمنها قوله: ان مشهد طوس واقعة فی أقصی خراسان، مع ان اقصی دیار خراسان بلخ .
و قوله: ان الکتابات- فی آثار المشهد- لا یرتقی تاریخها إلی ابعد من عصور الصفویین. و الحالة ان قسما منها یرتقی تاریخه إلی زمان السلاجقة و المغول .. إلی غیر ذلک من أوهامه.

ظهور المشهد و عمران المدینة

.. ان مدینة مشهد خراسان، قائمة علی انقاض (سناباذ)، البلدة الفارسیة القدیمة، التی ولیها حمید بن قحطبة، من قبل الرشید. و کانت له فیها دار و بستان. و لما قبض الرشید فی خراسان دفن فی دار حمید هذه.
و أمر المأمون فأقیمت ثمة قبة، دعیت (القبة الهارونیة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 198
ثم دفن إلی جنبه الامام، ابو الحسن علی بن موسی الرضا؛ ثامن أئمة اهل البیت، سنة 203، فغلب اسمه علی القبر.
و قیل ان الدیالمة تقدموا بعد ذلک- بعمارة مشهده، ثم اخربه الأمیر سبکتکین.
و بالجملة؛ بقی المشهد خرابا، لا یجرأ الشیعة علی عمارته خوفا من غیرهم.
إلی ان تقدم بها السلطان محمود بن السلطان ناصر الدین سبکتکین، فجدد العمارة- کما ذکره ابن الاثیر.
ثم عمّره شرف الدین القمی، علی عهد السلطان سنجر السلجوقی. و لم تزل عمارته قائمة إلی ان اخربها التاتار.
ثم تقدم بتجدیدها السلطان محمد خدابنده، حفید هولاکو. و قد وصف عمارته هذه ابن بطوطة؛ مارا بمدینة طوس سنة 734.
و تقدم- بعد ذلک- غیر واحد؛ من الملوک، و الصدور، بتعمیر المشهد، و الانفاق علی زینته.
و قد رافق عمرانه عمران المدینة، الی ان استفحل شأنها علی عهد السلطان میرزا شاه‌رخ الکورکانی. فأمر بانشاء العمارات فی طوس سنة 808، و تقدمت بعد ذلک.

وصف المشهد

موقع بناء المشهد وسط المدینة، و هو مربع. و مساحة موضع الضریح عشرة اذرع فی عشرة. و ارتفاع القبة علیه عشرون ذراعا. و للسور المحیط به اثنا عشر بابا؛ غشی بعضها بالذهب، و بعض بالفضة. اثبت فیها نصوص آیات و احادیث کثیرة، و مقاطیع شعر عربیة و فارسیة. و علی موضع الضریح عدة مشبکات؛ اولها من الفولاذ، و لا تاریخ له.
و بینه و بین المشبک الثانی عدة مشبکات من النحاس، طلیت بالذهب؛
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 199
لحفظ المجوهرات التی داخله، و هی کثیرة.
أما القبة، فهی مغشاة بالذهب الوهاج، و فی دائرها کتابة عربیة واضحة، محصلها انه امر بتزیین هذه القبة الشاه عباس الکبیر حین شد الرحال الی زیارة الامام، من قاعدة مملکته اصفهان. آمر بذلک سنة 1010، و تمّ 1016 (عمل کمال الدین محمود الیزدی سنة 1015 کتبه علی رضا العباسی).
و هناک ایضا- کتابة عربیة اخری، یظهر منها ان الشاه سلیمان الصفوی أمر مرة اخری بتذهیب القبة، بعد سقوطها بزلزلة سنة 1084، و کان تذهیبها سنة 1086.

الکتابات فی المشهد

الکتابات داخل المشهد کثیرة مختلفة، یرتقی أقدمها إلی سنة نیف و خمسمائة.
جلها عربی الاسلوب و اللفظ. و بعضها بالخط الکوفی. یذکر فی اواخرها اسم الکاتب، و المتقدم بالعمل غالبا.
و فی جملة المکتوب ابیات ابی نواس المشهورة التی اولها:
مطهرون نقیات جیوبهم تجری الصلاة علیهم اینما ذکروا
و کتب تحتها (تقرب- بهذه العمارة الضعیف الذلیل المحتاج إلی رحمة ربه تعالی- مولی آل محمد، عبد العزیز بن آدم بن ابی نصر القمی).
و من الکتابات الکوفیة فی اطر بعض المحاریب؛ ما نصه (بسم اللّه الرحمن أحد مداخل الصحن الرضوی الشریف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 200
الرحیم شهد اللّه ان لا إله إلّا هو و الملائکة ..) إلی قوله (ان الدین عند اللّه الاسلام).
و عند هذا المحراب مکتوب (کن فی صلواتک خاشعا). و کتب بهذا الخط- ایضا- نص الآیة (إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ) (لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. اللهم اغفر لمن استغفر لأبی زید محمد بن ابی زید النقاش).
و کتبت- ایضا- سورة التوحید، بخط دقیق، تاریخه سنة 612. و یوجد داخل المشهد غیر ما ذکرنا رسم آیات، و احادیث، و کلم جامعة، و عظات کلها عربیة، تقرأ واضحة جاء فیها ما نصه: (من کلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله- انکم لن تسعوا الناس بأموالکم فسعوهم باخلاقکم. قال ابراهیم بن العباس الصولی: لو وزنت هذه الکلمة باحسن کلام الناس لرجحت.
قال رسول اللّه- صلی اللّه علیه- لا علم کالتفکر. لکل قلب شغل.
من رضی عن نفسه کثر الساخط علیه. قلب الأحمق فی فیه و لسان العاقل فی قلبه. رسول الموت الولادة.
و علی المحراب- الذی یلی الرأس- رسوم آیات، و احادیث کثیرة.
و هی عمل (علی بن محمد بن أبی طاهر- غفر اللّه ذنوبه) و غیر ذلک کثیر.

الآثار و العمارات

دار الحفاظ

و الآثار الماثلة ازاء المشهد کثیرة؛ من اهمها (دار الحفاظ). و هو بناء عال مربع مستطیل (کذا) طوله 18 ذراعا، فی عرض سبعة اذرع و نصف.
و ارضه مبلطة بالقاشانی. احدثته گوهرشاد، زوج الأمیر شاهرخ بن الأمیر تیمور الکورکانی، امیر هراة و خراسان.
و فی هذه الدار خمسة اضرحة لبعض ملوک الفرس و صدورهم. و فیه کتابات فارسیة، و غیر ذلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 201

دار السیادة

أیضا، من آثار گوهرشاد، و هی بنایة مستطیلة، طولها 32 ذراعا، و عرضها مختلف.
و فیها مسبل ماء عذب، و بعض الاضرحة.
و قد ضعضعتها الزلزلة علی عهد الشاه سلیمان الصفوی. فتقدم بترمیمها.
و فی بعض جدرها کتابات متأخرة؛ اکثرها شعر فارسی. غیر ان فی بعض دروبها کتابات قدیمة سابقة علی وجود هذه الدار، إذ ان تاریخها یرتقی إلی القرن السادس و الثامن.

قبة: اللّه یارخان

و هی من الأبنیة المشهورة المعظمة هناک محکمة البناء، عالیة مثمنة الشکل داخلها ثمانی صفف. کتب علی قاشانیها المعرق؛ موالید الأئمة الاثنی عشر، و وفیاتهم، و احادیث مأثورة عنهم. و ابیات فارسیة، و رسمت فی دائرها الأعلی سورة الجمعة، و غیر ذلک.

سائر الآثار

منها؛ الصحن العتیق، فی شمال المشهد. طوله 86 ذراعا، فی عرض 60 و هو من آثار الصفویین- کما تشهد بذلک الکتابات الظاهرة إلی الآن.
و منها؛ الصحن الجدید. و هو من آثار السلطان فتح علی شاه. طوله 72 ذراعا، فی عرض 49. و هو مغشی الجدر بالقاشانی البدیع الصنع. و ما یلی الارض منه بالرغام. و فیه کتابات عربیة کثیرة.
و من أهم آثار المشهد؛ مسجد گوهرشاد، و هو آیة فی إحکامه، و جمال هندامه. زین بالقاشانی المعرق، و غیره. طوله نحو 53 ذراعا، فی عرض ج 1- خراسان (14)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 202
48. و فیه قبة رفیعة، و مآذن عالیه، لم تتضعضع- بعد- مع ان بناءها یرتقی الی اوائل القرن التاسع.
و لهذا المسجد أربعة ابواب. و قد عمر فیه علی عهد الصفویین، و القاجاریین و فیه کتابة منحوتة علی الرخام، أو مفخورة فی القاشانی. جاء فی بعضها بعد ذکر المتقدمة بالعمارة گوهرشاد، و تمجیدها کثیرا، بالعربیة، مانصه:
(اتفق تحریرها، فی اوائل شهر اللّه المبارک، رجب المرجب، سنة 821 عمل العبد الضعیف، المحتاج لعنایة الملک الرحمن، قوام الدین بن زین الدین، الشیرازی، الطیان).
و من آثار المشهد؛ مقبرة البهائی و مقبرة الشاه طهماسب الصفوی ..
و مقبرة عباس میرزا ابن فتح علی شاه؛ المتوفی سنة 1249، و مقبرة ربیع بن ختیم من مشاهیر التابعین و الزهاد. و غیر ذلک من مدافن الملوک و الصدور.

حوادث المشهد التاریخیة

... اهم الحوادث التی طرأت علی المشهد خلال تسعة قرون تنطوی فی جملتها الأحداث الحربیة، و السیاسیة، و العمرانیة، و الطبیعیة، منذ عهد الدولة الغزونیة، و الدولة السلجوقیة، و غزوات قبائل الغزّ، و تغلب التاتار، و المغول، و تنازع القوم فی تلک الدیار، و مهاجمات عشائر الترکمان، و الاوزبک، و الافشار.
مقبرة الشیخ البهائی بجوار الصحن الرضوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 203
ثم ظهور الصفویین، و مناوشتهم ملوک تلک الارجاء، و قبائلها مدة طویلة. و لهم فیها آثار خطیرة. ثم حملة الأوزبک علیها، سنة 951، و قتلهم اهلها قتلا عاما، و استرداد الشاه عباس لها، سنة 981.
ثم انتزاء الذعار علیها، بعد اختلال الصفویین، سنة 1135، و تغلبهم و استردادها منهم. ثم قیام نادر شاه، و تغلبه علیها، و علی سائر البلاد، و قد استولی علیها ابن اخیه علی قلیخان، بعد مقتل نادر سنة 1160. ثم محاصرات امراء الافغان لها، ورد جنود الزندیة لهم. ثم استبداد بعض اوباشها فیها الی ان قام القاجاریون، فی مستهل القرن الثالث عشر، فامتلکوا هذه البلاد ...
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 204

تاریخ طوس أو المشهد الرضوی سنة 1346 ه

طوس

هی حاضرة ایالة خراسان، و من امهات بلاد ایران. و هی من المدن المقدسة، التی یؤمها سنویا آلاف من المسلمین، لزیارة قبر الامام علی الرضا علیه السلام. تبعد عن طوس القدیمة اربعة فراسخ. و هی محاطة بسور بناه الشاه طهماسب الصفوی. و محیط المدینة فرسخ واحد تقریبا، و لها 141 برجا.
و شکل المدینة علی شبه النمر النائم.
و هی ست محلات:
(الاولی) محلة نوقان. و تقع علی جهة شمالی الحرم.
(الثانیة) خیابان العلیا، و تقع علی جهة الغرب.
(الثالثة) خیابان السفلی، و تقع علی جهة الشرق.
(الرابعة) عیدگاه، و تقع علی جهة الجنوب.
(الخامسة) سرشور، و تقع فی الجنوب الغربی.
(السادسة) سراب، و تقع بین محلة سرشور، و بین محلة خیابان العلیا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 205
یبلغ عدد نفوسها «100000» نسمة تقریبا، عدا الزوار. و کلهم من الشیعة علی طریق الاصولیین القائلین بالاجتهاد و التقلید. و فیها عدد یسیر جدا من الیهود و الارمن.
و هواء طوس بارد.
اسمها القدیم «سناباد». و کانت قریة صغیرة، تابعة لطوس القدیمة.
و لما کانت طوس قد درست معاهدها، بهجوم الأمیر تیمور لنک المغولی، هاجر ما بقی فیها من الأهالی إلی سناباد، و تحصنوا بمرقد الامام الرضا (ع)، و عمروا حوله دورا، و ابنیة لیأووا إلیها.
و فی سنة 808 ه- 1406 م؛ عین الأمیر شاهرخ ابن الامیر تیمور الکورکانی الخواجا سید میرزا لیهاجر بالمتحصنین حول المرقد الشریف إلی مقامهم الأول «طوس» فامتنعوا عن ذلک، فأمر الأمیر شاهرخ ان یبنی حول دورهم سور. فبنی حولهم حصنا حصینا. و صار هذا المکان الشریف بلدة ذا أهمیة. و اشتهرت بطوس.
و ازدادت اهمیتها یوما فیوما، حتی نراها الیوم بلدة واسعة؛ تعد قاعدة بلاد خراسان.
مسجد گوهرشاد المجاور الصحن الرضوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 206

جوامعها

جوامعها کثیرة، لا تکاد تحصی، أشهرها، و أعظمها: جامع کوهر شاد و قد مر وصفه و جامع الشاه.
و هو یقع فی رأس الزقاق، الموجود فیه (حمام شاه). و قد بنی هذا الجامع الاوزبکیة. و له قبة و منارتان، و مصلیان (کلها بالقاشانی). و قد درست اطلاله، و هدمت آثاره. و مکتوب علی بقایا قاشانی الایوان، هکذا:
(الامیر ملکشاه عرج اللّه معارج ... فی رجب، سنة خمس و خمسین و ثمانمائة، سنة 855) و جامع الامام الرضا المتصل بمقبرة قتلگاه، عمّره الشاه عباس الصفوی، سنة 1011 ه/ 1603 م.

مقابرها المشهورة

مقبرة قتلگاه برّ فسیح، مترامی الأطراف. فیها قبر مئات من المسلمین.
و سبب تسمیتها بهذا الاسم؛ هو انه: لما قدم الطاغیة جنکیز خان التتری إلی خراسان؛ أمر بقتل الناس جمیعا، فقتلوا فی ذلک الموضع. و فی وسطها محل فیه حجر من رخام (یظهر انه حجر تاریخی). و بقربه قبر امین الاسلام الشیخ ابی علی الطبرسی؛ صاحب تفسیر مجمع البیان، و مغسل مقبرة قتلگاه.
و مقبرة الشاه‌زاده محمد (من اولاد الامام علی زین العابدین- ع- بثمانی عشرة واسطة): تقع فی محلة نوقان. و لها قبة من الآجر، بناها الشاه عباس الصفوی.
و مقبرة السید احمد مع ثلاثة من اولاد الامام موسی الکاظم. تقع علی الجهة الشرقیة، من مقبرة قتلگاه، بقرب سوق حکاکی الاحجار.
و مقبرة پیر پالان‌دوز: تقع فی پائین خیابان. بناها احد التجار الأعاظم؛ علی عهد السلطان محمد خدابنده.
و لها قبة مبنیة بالقاشانی. و لم تعرف حقیقة الشخص المدفون فیها. فقد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 207
روی فیه المدح، و الذم معا. و مقبرة المیرزا ابراهیم الرضوی: جدّ السادات الرضویة، و ناظر الحرم الشریف. تقع فی الجهة الجنوبیة، من المدینة. علی بعد نصف فرسخ منها. و هی علی جبل صخری. و مقبرة الخواجا ربیع بن خیثم: تقع فی الجهة الشمالیة، من المدینة، علی بعد فرسخ منها. عمرها، و اتمها الشاه عباس الصفوی، و ذلک بسعی «الغ الرضوی الخادم». و لها قبة کبیرة من القاشانی الملون. و تحتاج إلی الترمیم. و صحنها بستان واسع، یتنزه فیه اهل المدینة، ایام الصیف. و فی المقبرة؛ قبر فتح علی خان قاجار (حاکم استراباد، وجد القاجاریة)، و الخواجا ربیع؛ هو أحد الزهاد الثمانیة، و هو ثقة، عدل، من خیار المؤمنین، و کبار الصالحین. عینه سیدنا الامام علی بن ابی طالب- ع- والیا علی جهة الری. و لذلک لم یشهد وقعة صفین.
توفی سنة 63 ه، 684 م. و فی قرب الارک قبة خضراء، بناها احد الاطباء من العرفاء؛ لیدفن داخلها، و الیوم تجتمع الدراویش فیها.

مدارسها العلمیة القدیمة

ان مدارسها القدیمة، التی لها اوقاف: عشرون، اشهرها مدرسة میرزا جعفر المتصلة بالصحن العتیق. بنیت سنة 1059 ه/ 1649 م. و عمرها ناصر الدین شاه القاجاری. و بجوارها؛ قبر الحر العاملی؛ صاحب الوسائل. و یفضی إلی الصحن الشریف. و مدرسة مستشار المتصلة بالصحن العتیق أیضا.
بنیت علی عهد ناصر الدین شاه القاجاری. و مدرسة دودر: الواقعة فی سوق سرشور، مقابل مدرسة پریزاد. بنیت علی عهد ابی المظفر شاهرخ. و مدرسة فاضل خان: الواقعة فی بالاخیابان. بنیت علی عهد الشاه سلیمان صفوی.
و مدرسة نواب، الواقعة فی بالاخیابان أیضا. بناها صدر الممالک، سنة 1086 ه/ 1676 م، علی عهد الشاه سلیمان الصفوی. و مدرسة مولی محمد باقر: الواقعة فی بالاخیابان ایضا. بنیت علی عهد الشاه سلیمان الصفوی.
و مدرسة مولی حاج حسن: الواقعة فی بالاخیابان- أیضا. بنیت علی عهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 208
الشاه سلیمان الصفوی، أیضا. و مدرسة عباس قلی خان: الواقعة فی پائین خیابان. بنیت سنة 1077 ه/ 1676 م علی عهد الشاه سلیمان الصفوی.
و مدرسة خیرات حسان: الواقعة فی پائین خیابان أیضا. بنیت علی عهد الشاه عباس الثانی الصفوی. و مدرسة سلیمان خان: الواقعة فی زقاق حمام شاه.
بنیت علی عهد فتح علی شاه القاجاری. و مدرسة نو: الواقعة، بگندم‌آباد، فی جنوب جامع گوهرشاد. بنیت علی عهد ناصر الدین شاه. و مدرسة پریزاد: الواقعة فی سوق سرشور. عمرها الشاه سلیمان الصفوی. و مدرسة بالاسر: الواقعة فی سوق سرشور- أیضا- عند جهة رأس الامام. عمرها الشاه سلیمان الصفوی، أیضا. و مدرسة پائین پا: الواقعة عند رجلی الامام، عمرها ناصر الدین شاه القاجاری. و مدرسة ابد الخان: الواقعة فی پائین خیابان عمرت سنة 1297 ه/ 1880 م، علی عهد ناصر الدین شاه القاجاری.
و فیها عدة مدارس؛ ابتدائیة، و مدرسة واحدة عالیة .

صحفها

و فیها 13 جریدة اسبوعیة؛ و هی: چمن، و خورشید، و آزاد، و فکر آزاد، و طوس، و صاعقه مشرق، و طلیعه شرق، و آفتاب شرق، و صدای شرق، و مینو، و ترویج اسلام، و ناطق اسلام.
و أحسنها؛ خورشید؛ للفاضل مرتضی میرزا، و ناطق اسلام؛ للأدیب الشیخ حسین التربتی. و آزاد؛ للکاتب الحر عبد القدیر السبزواری
و فیها ثلاث مطابع جیدة، لا بأس بها. و هی: نور، و طوس، و خراسان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 209
و فیها؛ شارعان منتظمان، یمر من وسطهما نهر . و هو من آثار الأمیر علی شیر «وزیر السلطان حسین بایقرا». و یجنبه نهر آخر یعرف ب «ماء میرزا» و یمران بالصحن الشریف.

اشهر ولاتها

و اشهر الولاة، الذین خدموا هذه البلدة المقدسة؛ هو: نیر الدولة.
و من مآثره الخالدة انه أجری ماء میرزا المعروف؛ حیث حفر قناة من مسافة بعیدة، سنة 1330 ه/ 1912. و فتح نهرا یعبر من الصحن الشریف، و یمر بمحلة خیابان السفلی، و ینتهی الی نهایتها. و قد جعل حق شرب ذلک الماء لتنقیة القناة، و تعمیر الطریق الواقع بین شریف‌آباد و طوس.
و الصدقات الخیریة. و من اعماله الخیریة تسطیح الطریق الواقع بین شریف آباد و طوس، و تسویته.

اشهر الحوادث التی حدثت فی طوس

فی سنة 511 ه/ 1117 م، وقع نزاع بین الفقهاء، و بین سید علوی، فسبب ذلک النزاع بهب المدینة.
و فی سنة 604 ه/ 1207 م؛ زار الامام الرضا- ع- السلطان محمد خوارزمشاه.
و فی سنة 695 ه/ 1295 م؛ هجم علی طوس، مما وراء النهر داود ابن البراق؛ من احفاد جنکیز، و نهبها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 210
و فی شعبان سنة 821 ه/ 1418 م؛ زار الامام الرضا- ع- شاهرخ الکورکانی. و قدم له قندیلا ثقله 3000 مثقال ذهب. و قد صنعه لیعلق فی القبة الشریفة.
و فی سنة 996 ه/ 1587؛ حاصر طوس عبد المؤمن خان اوزبک؛ حاکم بلخ ابن عبد اللّه خان ملک الاوزبکیة؛ مدة أربعة اشهر. و عند فتحه ایاها قتل قتلا عاما، و نهب جمیع ما فی الحرم الشریف، من القنادیل و الخزائن، و الکتب.
و من جملة ما نهب، قطعة من الماس، کانت بقدر بیضة الدجاجة، و کان قد قدمها قطب شاه الدکنی، للحرم الشریف.
و فی 27 ذی الحجة 1007 ه/ 1598 م؛ زار الحرم الشریف، الشاه عباس الصفویّ و لم یر فیه غیر درابزین؛ ای محجر من الذهب، و شرع فی تعمیر الصحن الشریف.
و فی سنة 1009 ه/ 1600 م؛ عاد الشاه عباس الصفوی من هراة إلی طوس. و قدم یار محمد خان قطعة الألماس المنهوبة. فأرسلها الشاه عباس بفتوی الفقهاء الی الروم لیبیعها، و یبتاع بثمنها اراضی و املاکا، و یحبسها وقفا علی الامام (ع).
و فی سنة 1010 ه/ 1601 م؛ زار الشاه عباس طوس ماشیا علی قدمیه من اصبهان. و بعد قدومه، وسع الصحن، و نصب عند الرجلین بابا مرصعا.
و فی سنة 1016 ه/ 1607 م؛ حبس الشاه عباس نفائس، و کتبا، و املاکا علی الحرم الشریف.
و فی سنة 1020 ه/ 1611 م؛ بنی الشاه عباس الایوان الشمالی، و الشرقی، و الغربی. و جعل مدخل الصحن من الایوان الشرقی و الغربی.
و فی سنة 1058 ه/ 1648 م؛ حینما عزم الشاه عباس الثانی الصفوی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 211
السفر إلی قندهار، سار من (طرق) ماشیا علی قدمیه إلی طوس. و زین الصحن العتیق بالقاشانی الملون.
و فی سنة 1153 ه/ 1740 م؛ قدم نادر شاه للروضة المطهرة قندیل الذهب المرصع، الذی نذره فی فتح الهند، مع القفل المرصع الذهبی، الذی نذره لفتح ترکستان.
و فی سنة 1266 ه/ 1849 م؛ قامت فتنة سالار. و فی یوم الاحد 9 جمادی الاولی؛ فتحت طوس بید حسام السلطنة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 212

مشهد فی الرحلات

الإشارات الی معرفة الزیارات

مدینة طوس بها الامام علی بن موسی الرضا (رضه). ولد بالمدینة.
عمره تسع و أربعون سنة. و الامام الرشید (رضه) و قد ذکرتهما. و بها الامام الغزالی- رحمة اللّه علیه- و بجبّانتها خلق من المشائخ، و العلماء (رحمهم) .

رحلة ابن بطوطه

و رحلنا منها (أی، مدینة طوس) إلی مدینة مشهد الرضا. و هو، علی بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین ابن الحسین الشهید ابن امیر المؤمنین علی بن ابی طالب- رضی اللّه عنهم- و هی- أیضا- مدینة کبیرة، ضخمة، کثیرة الفواکه و المیاه، و الأرحاء الطاحنة.
و کان بها الطاهر محمد شاه. و الطاهر- عندهم- بمعنی النقیب عند أهل مصر و الشام و العراق. و أهل الهند و السند و ترکستان یقول (ون)،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 213
السید الأجل. و کان- أیضا- بهذا المشهد، القاضی الشریف جلال الدین.
لقیته بارض الهند. و الشریف علی، و ولده أمیر هندو، و دولة شاه.
و صحبونی من ترمذ إلی بلاد الهند. و کانوا من الفضلاء.
و المشهد المکرم، علیه قبة عظیمة، فی داخل زاویة، تجاورها مدرسة و مسجد. و جمیعها ملیح البناء، مصنوع الحیطان بالقاشانی. و علی القبر دکانة خشب، ملبسة بصفائح الفضة. و علیه قنادیل فضة معلقة. و عتبة باب القبة فضة. و علی بابها ستر حریر مذهب. و هی مبسوطة بأنواع البسط.
و ازاء هذا القبر، قبر هارون الرشید، أمیر المؤمنین- رضی اللّه عنه- و علیه دکانة یضعون علیها الشمعدانات، التی یعرفها اهل المغرب بالحسک، و المنائر.
و اذا دخل الرافضی للزیارة، ضرب قبر الرشید برجله، و سلم علی الرضا .

رحلات عبد الوهاب عزام

رکبنا و الساعة ثلاث و ربع بعد الظهر متوجهین تلقاء مشهد. و بینها و بین نیسابور 116 کیلا . فسرنا صوب الشرق و الجنوب، فی سهل کثیر الشجر. فبلغنا قریة اسمها قدمگاه، أی (موضع القدم). ثم اجتزنا بشریف‌آباد. و عندها انعطفت الجادة صوب الشرق، فارتقینا جبالا ضربنا فیها أربعین دقیقة. ثم هبطنا إلی المشهد المقدس. فدخلناه بعد مغرب الشمس.
افترق الرکب. فنزل جماعة بفندق هناک، و نزل آخرون فی دار أحد الکبراء جلیل بک نصیرزاده. و کنت و زمیلی الاستاذ العبادی ممن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 214
شرفوا بالنزول فی هذه الدار المعمورة. فلقینا من الحفاوة و الرعایة مالا ینسی .

مدینة المشهد

و قد لقیت المدینة- من غیر الزمان- سعادة و شقاوة، و تقلبت بها أحوال مختلفة. و لکن شأنها کان یزداد نباهة علی مر العصور.
و عنی عظماء المسلمین- منذ القرن الرابع الهجری- بمشهد الرضا، و المدینة التی نشأت حوله.
قال ابن الأثیر- فی أخبار السلطان محمود بن سبکتکین الغزنوی:
«و جدّد عمارة المشهد بطوس. و کان أبوه سبکتکین أخربه، و کان أهل طوس یؤذون من یزوره، فمنعهم من ذلک.
و کان سبب فعله، انه رأی أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب- علیه السلام- فی المنام؛ و هو یقول له: إلی متی هذا؟ فعلم أنه یرید أمر المشهد. فأمر بعمارته
ثم بنی ابنه السلطان مسعود سورا حول المشهد؛ لیقیه غارات القبائل المجاورة.
و فی القرن السادس الهجری؛ استولی الغز علی المدینة، و نهبوها.
و لکنهم أبقوا علی مشهد الرضا.
و کذلک نهبت فی القرن الثامن، فی عهد السلطان محمود غازان، من الملوک الایلخانیین.
و أعظم الملوک عنایة بالمشهد- قبل عهد الصفویین- السلطان شاهرخ ابن تیمور لنک (809- 850)، و زوجه گوهرشاد .
و کان عهد الصفویین عهد نماء و ازدهار للمدینة، فقد تنافس الملوک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 215
الصفویون فی تعمیر المشهد و تجمیله، و تعمیر المدینة کلها. و لا سیما الشاه طهماسب الأول (930- 948). و الشاه عباس الکبیر (995- 1039).
و لکن عنایة الصفویین لم تکفها الغارات و النهب. فقد غصبها أمراء الازبک، و الشیبانیة ثلاث مرات- علی رغم الصفویین- و سیطروا علیها أزمنة مختلفة.
و کذلک استولی علیها الأفغان حینما استولوا علی ایران.
ثم جاء البطل الکبیر نادر شاه، فأکثر الإقامة فیها، و اختط قبره بها.
و بنی فی المشهد الرضوی أبنیة رائعة.
ثم عادت الی الافغان، حینما زلزلت دولة نادر شاه، بتنازع خلفائه علی العرش. و تداولتها حوادث أخری، حتی استولی علیها آقا محمد خان إیوان نادر شاه الذهب کما هو علیه فی القرن الثامن عشر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 216
القاجاری. و قتل سلطانها شاهرخ الأفشاری، فی سنة 1210.
و فی العصر الأخیر؛ ثار بها- علی القاجاریین- بعض الثائرین، فتذرع الروس بهذا إلی الاستیلاء علیها، فأطلقوا مدافعهم علی المدینة فی 29 مارس 1912 م. و هی الآن تنال نصیبها من العمران و الطمأنینة السائدین فی ایران الیوم.
و المدینة علی ارتفاع 930 مترا، و طولها 59 و عرضها 36، فی وادی کشف رود (نهر کشف) الذی ینبع علی عشرین کیلا إلی الشمال الغربی من طوس. و یسمی أحیانا آب مشهد (نهر مشهد)، و یصب فی نهر هراة (هری رود) علی 150 کیلا إلی الجنوب الشرقی من مشهد.
و تبعد المدینة- عن شاطئه- سبعة کیلات إلی الجنوب. و یبلغ ارتفاع الجبال عندها ثلاثة آلاف متر. فهی باردة الشتاء، جیدة الهواء.
و نهر کشف لا یسقی المدینة، بل یأتیها الماء من عین اسمها چشمه کلاس، عند منبع نهر کشف، فی قنوات طولها 34 کیلا؛ جرّها إلیها الوزیر الکبیر، و الأدیب العظیم، و الشاعر المفلق (علی شیرنوائی) وزیر السلطان حسین بن منصور بن بایقرا، من أحفاد تیمور لنک (المتوفی سنة 912 ه).
و مشهد أکبر مدن خراسان- الیوم- و تسمی- أحیانا- خراسان.
و تجارتها رائجة. و لکنها لیست کعهدها الأول. فقد کانت ملتقی طرق القوافل، قبل أن یستولی الروس علی الترکستان، و ینشئوا سکة الحدید القزوینیة. و بالمدینة شارعان عظیمان مشجران یخترقانها. و کان بها- فی عهد نادر شاه- 60 ألف دار. و سکانها- الآن- زهاء 80 ألفا. و هی کثیرة المساجد و المدارس. بها زهاء عشرین مدرسة للعلوم الدینیة. أقدمها المدرسة التی أسسها شاهرخ، فی سنة 823.
و یقصدها الطلاب من ارجاء ایران، و من افغانستان، و الهند،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 217
فیحصلون العلوم الدینیة بها تسع سنین. و من شاء ان یزداد علما، توجه إلی النجف الشریف.
و یحج إلی مشهد- کل عام- آلاف کثیرة یختلف التقدیر فیها من ثلاثین ألفا إلی مائة ألف.
و بها مقابر کثیرة، یحرص الشیعة علی أن یدفنوا بها. فتنقل جثثهم إلیها من الأقطار البعیدة، و تختلف قیمة القبور بها؛ علی قدر قربها من الحرم و بعدها.
و هی- عند علماء الشیعة- فی المنزلة السابعة، بین الأماکن المقدسة مکة، فالمدینة، فالنجف، فکربلاء، فسامرا، فالکاظمیة، فالمشهد.
و فی روایة أخری؛ ان الترتیب بعد کربلاء؛ هکذا: الکاظمیة، فالمشهد، فسامرا، فهی السادسة .
و لکنها من حیث کثرة الزائرین، و اتساع المسجد، و ضخامته- تعدّ بعد مکة و المدینة، و قبل المزارات الأخری؛ فیما أظن.
و یری الوافد علی مدینة المشهد قبة عالیة مغشاة بالذهب، و منارتین مذهبتین رفیعتین. فهذا أول ما یسر البصر من مسجد الإمام علی الرضا. فاذا ذهب- إلی المسجد، الذی یسمی (الحرم الرضوی) أو (القبة المقدسة) «آستان مقدس»- رأی أبنیة جمیلة شامخة، جانب من الصحن الرضوی و القبة الشریفة فی اللیل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 218
واسعة، رائعة، لا یستطیع المشاهد- أن یعرف خططها، و یدرک أقسامها- الّا بعد تأمل طویل، و زیارات کثیرة.
و إذا دخل القادم المدینة من غربها، فسار فی الشارع الکبیر تلقاء الشرق، انتهی الی ابواب ضخام رائعات، وراءها طریق مبلط، ینتهی الی مدخل الحرم الرضوی. فیلجه الی الصحن القدیم (صحن کهنه). و هو فناء واسع، تجری فی وسطه قناة ماء. و تحیط به مساکن لطلاب العلم و غیرهم.
و إنی أشفق علی القاری‌ء من تفصیل الکلام- فی وصف هذا الحرم العظیم، الذی توالت علیه الأیدی بالتشیید و التزیین قرونا کثیرة- فحسبی ان اقول: ان فی وسط الحرم قبة الامام الرضا، و أروقة متصلة بها. و یمتد الصحن القدیم شمالی هذه الأبنیة، و الصحن الجدید شرقیها، و مسجد گوهرشاد جنوبیها. و یحار الطرف، فی جمال القبة الشریفة، و زینتها، و فیما فی المسجد کله من الکاشانی، و البلور، و الذهب الخالص. و القبة تقوم علی قبر الامام الرضا. و هو فی جانب منها. و یظن ان قبر هرون الرشید فی وسط القبة، و لکن لا یری الزائر منه أثرا.
و أقدم ما فی هذه الأبنیة یرجع إلی سنة 512، و هو بناء السلطان سنجر السلجوقی. و قد توالی الملوک و الکبراء- من بعده- علی البناء، و التنافس فیه.
و من هؤلاء: السلطان الجایتو؛ من الملوک الایلخانیة، و شاه‌رخ بن تیمور لنک، و زوجه گوهرشاد، و علی شیرنوائی؛ وزیر سلطان حسین بایقرا.
ثم الملوک الصفویون؛ و لا سیما؛ طهماسب، و عباس الکبیر.
و من القاجاریین؛ فتح علیشاه، و ناصر الدین شاه.
کل هؤلاء بذلوا جهدهم فی ان یؤثروا فی المشهد الرضوی أثرا خالدا، یکسف آثار من سبقهم؛ فترکوا هذا البناء الجلیل؛ الذی یعجز القلم عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 219
تصویره للقاری‌ء .
و قد وعدت ... أن أصف مسجد گوهرشاد؛ هذه الأمیرة النقیة الخیرة.
فهو؛ مسجد یمتد جنوبی المشهد الرضوی، من الشمال إلی الجنوب (95* 84 مترا). و أعظم أو اوینه؛ الایوان الجنوبی. و هو؛ عقد هائل، ارتفاعه 25 مترا. غشی کله بالکاشانی الجمیل. و علی حافته آیات من القرآن، بأحرف کبیرة جمیلة، کتبها- بخطه- الأمیر بایسنقر بن شاهرخ بن تیمور لنک.
و ذلک؛ إلی آثار أخری، دلیل علی عنایة أمراء المسلمین بالفنون الجمیلة، و لا سیما الخط. و فی هذا الایوان؛ کرسی من الخشب، یقال: ان المهدی سیجلس علیه أول ما یظهر للناس. و فی وسط المسجد مصلی، یسمی پیرزن (مسجد المرأة العجوز). و فیما یلی المشهد الرضوی؛ بنیة، اسمها دار الحفاظ. و تصل المسجد بالمشهد الرضوی أبواب صغیرة. زرنا المسجد الرضوی- صبیحة الجمعة، ثالث رجب، سنة ثلاث و خمسین و ثلاثمائة و الف- فرأینا أفواجا من الزائرین، و الزائرات؛ متزاحمین؛ بین مصل، و مسبح، و داع، و باک، و مقبّل للأعتاب، و مطیف بالضریح المقدس. و لهذا الحشر دویّ یملأ القلب خشوعا و رهبة. و سار بنا الدلیل إلی بناء فی ناحیة من الحرم؛ اسمه «حجرة التشریفات». فصعدنا إلی حجرة کبیرة، بها جماعة من القوّام علی الحرم، فأحسنوا لقاءنا، و قدموا إلینا الشای، و تحدثوا معنا بالعربیة و الفارسیة؛ معلنین سرورهم و اغتباطهم. متحدثین عن الاخوة الاسلامیة التی تجمعنا و إیاهم. ثم انصرفنا شاکرین، آملین أن نعود الی شرف الزیارة مرات، حتی تقضی النفس لبانتها من مشاهدة هذا الجمال و الجلال.
و یوم الأحد، التالی؛ زرت المکتبة الرضویة. و هی فی الصحن الجدید، فی الطبقة الثانیة. و قد اطلعت فیها علی مصاحف یحار الانسان فی مرآها، و یعجز
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 220
عن وصفها. و حدّثنی قیّم المکتبة؛ ان بها آلافا عدة من المصاحف المخطوطة.
رأیت: قطعة من مصحف بخط کوفی، آخرها: «کتبه علی بن ابی طالب»، و مصحفا کاملا بخط کوفی فی آخره: «کتبه الحسن بن علی بن ابی طالب».
و رأیت مصفحا، وقفه ابراهیم قطب شاه سنة 970، فیه 339 ورقة. و فی کل صفحة 12 سطرا، محلاة بالذهب و المینا. و طول الصفحة 56 قیراطا، و عرضها 37. و فیه من بدائع الصناعة ما یجل عن الوصف؛ فما یزال فیه حائر القلب و الطرف.
و مصحف آخر، وقفه السید محمد جعفر خان، سنة 1148، فیه 606 ورقات، کل ورقة لها نقش خاص، یخالف نقش الورقات الأخری. و فی هذه المصاحف- من عجائب النقش و الوراقة، و التجلید- ما لا یدرکه إلا الرائی. و قد قیل لی: ان بعض الاوروبیین بذل فی جلد مصحف منها مئات الجنیهات فلم یظفر به.
و رأیت ورقة واحدة من مصحف، فی طول قامة الرجال الطوال. و بها سبعة أسطر؛ بخط الأمیر بایسنقر.
و قد شهدنا فی- مدینة المشهد- افتتاح مستشفی الشاه رضا. و هو مستشفی کبیر مجهز بأجهزة حدیثة. و شهدنا معرض صناعات خراسان. و رأینا ألعابا ریاضیة- کالتی رأیناها فی میدان سلطنت‌آباد بطهران .. و کانت حفلات- للغداء و العشاء- دعا الیها رئیس الوزراء، و متولی الحرم الرضوی، ألقیت فیها خطب کثیرة.
و زرنا مدفن نادر شاه. و هو البطل الکبیر، الذی دفعته همته، من رعی الغنم إلی رعایة الأمم؛ و الذی أخرج الأفغانیین من ایران . و دبر الأمور باسم الصفویین حینا. ثم استبد بالأمر، و تسمی نادر شاه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 221
ثم فتح أفغانستان، و البنجاب، و غنم کنوزا لا تحصی من دهلی. و اضطر الدولة العثمانیة إلی مصالحته علی ما أراد لدولته. و توفی سنة 1160، بعد ان سیطر علی ایران عشرین سنة.
دخلنا حدیقة واسعة، فی وسطها بناء مرتفع قلیلا، یشتمل علی حجرات عدة. دخلنا واحدة منها، فقیل؛ هنا دفن نادر شاه و سیشاد له قبر ...
برحنا المشهد عائدین إلی طهران، و الساعة عشر إلا ربعا من صباح یوم الاثنین سادس رجب (15 اکتوبر) فمررنا بقریة اسمها قدمگاه (موضع القدم) ..
وقفت السیارة، فنزلنا، و ملنا ذات الیسار. فدخلنا ساحة بین جدارین، فیها طاقات لا أبواب لها. بناها بعض السلاطین لیأوی الیها المسافرون.
ثم صعدنا الی مستوی ینحدر منه مجری ماء، فانتهینا الی شجرات عادیّة، بجانبها حجرة کبیرة. و لقینا قیّم المکان .. فقال أنا خادم القدم المبارک.
و لجنا الباب، فرأینا علی یسارنا- بنیة، فیها حجر برکانی أسود، فیه أثر قدم. قال دلیلنا: هذا قدم الامام علی الرضا.
ثم خرج بنا إلی حجرة اخری؛ فی وسطها برکة صغیرة مستدیرة، بها ماء صاف، یشف عن سمکات صغیرات، یجلن بین سطحه و القاع. قال:
هذه عین الامام الرضا، فاشربوا. فغسلنا أیدینا، داعین منشدین:
و عین الرضا عن کل عیب کلیلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 222

جولة فی ربوع الشرق الأوسط

عادت الربی، فتسلقناها. ثم أشرفنا علی مشهد. و هی فی حجر الجبال ...
و هنا وقف السائق، و نبه القوم؛ أن‌ها هی مشهد، فارقبوها تبرکا. فأخذوا یحاولون رؤیة القبة- وسط الضباب، و الدخان المنبث- و کل من لمح منها قبسا، قرأ آیات التبریک ...
دخلنا مشهد، تحفها المزارع و البساتین. و هی فی منطقة غنیة بالفاکهة؛ و بخاصة العنب، و یسمی (انگور) ، و الخوخ .. ثم أخدنا نخترق طرقا فسیحة، یحفها الشجر، و تقوم علیها المبانی الحدیثة الوطیئة. و قد کانت- نّ قبل- أزقة مختنقة کسائر بلاد فارس. لکن ید الاصلاح تناولتها الیوم علی نحو ما فعلت فی طهران. و قد حللت نزل (مهمانخانه ملی) و هو جمیل نظیف .. قصدت زیارة ضریح الامام الرضا؛ الذی بدت لنه قبته الذهبیة البراقة من أمیال .. و اذا المسجد و الحرم فاخر إلی حد کبیر؛ مداخله عدة، الباب تلو أخیه؛ فی زخرف جذاب، و فن شرقی بدیع؛ بالقیشانی، و البلور، و المرمر، و الرخام.
و أمام کل واجهة رئیسیة- بهو أو (صحن) مربع، تحفه الحجرات المزرکشة، اقیمت لطلاب العلم، فی طابقین. و تتوسطه قناة الماء، یغترف منها الجمیع للشرب، و الغسل، و تنظیف الملابس، و الأحذیة، و مآرب اخری، و الباب الرئیسی للضریح یکسی کله بالذهب الخالص فی فجوات و تعاریج جذابة. و فوق الضریح قبة تکسی بالذهب الخالص. و للمسجد مئذنتان دقیقتان، علیهما غشاء من ذهب الی ذروتیهما. أما عن العالم المتراص کالموج المرتطم هنا و هناک، فحدث فی دهشة فائقة. کنت أسیر، و لا أکاد أشق لی طریقا بینهم. و منهم المثقف أنیق الهندام، و البائس فی الخرق البالیة ...
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 223
هذا إلی العلماء فی عباآتهم و عمائمهم السوداء للشرفاء منهم، و البیضاء لغیر الشرفاء؛ یخضبون لحاهم المرسلة بالحناء. و من زوار الأجانب خلق کثیر؛ عراقیون، و هنود، و أفغان، و من کافة العالم الاسلامی ...
و یتوسط احد الافنیة سبیل مذهب انیق، فی داخله نافورة حولها السلاسل، تحمل القعاب للمحتسین. و یشرف علیهم کهل توقد حوله الشموع صباح مساء. و بین اونة و اخری یمد مغرفة و یحرک بها الماء. و السعید من استطاع ان یتذوق هذا الماء الطاهر. و یسد الجماهیر المکان سدا.
أخیرا، دخلنا باب الضریح الفضی ، و اذا المدفن وسط شباک الفضة و الذهب ترصعه الجواهر الثمینة. و قد أتممت طوافی حوله فی ثلث ساعة، کدت اختنق خلالها من کثرة الزحام. و هنا رأیت عجبا؛ نواح، و صیاح، و لطم، و تقبیل، و استلقاء علی الأرض، و لمس للأعتاب بالخدود، و ما إلی ذلک.
خرجت إلی الفناء، و إذا فی کل رکن من أرکانه عالم یرتقی منبرا، و حوله خلق کثیر جلوس علی الأرض فی وجوم و شبه ذهول. و هو یقص علیهم أنباء علی، و الحسن، و الحسین، و الأسرة الشریفة کلها، و جمیعهم یبکون. و کلما أشار فی قوله إلی الفاجعة صاحوا عالیا، و لطموا جباههم و خدودهم فی فرقعة مؤلمة. و منهم؛ الطفل، و المراهق، و السیدة، و العجوز، و الکهل الفانی، و المثقف، و الأمی الجاهل، و کنت أعجب لسیل دموعهم و بکائهم المر. و ذاک التبشیر یظل طوال الیوم فی جمیع ارکان الأفنیة.
و ما أن أوشک الغروب، حتی سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولا تقرع فی نقرات مثلثة، ثم أعقبها صیاح، و تلا ذلک نفخات فی أبواق طویلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 224
مزعجة. و ظل ذلک حتی غربت الشمس. فکأنهم یودعونها کما یفعل المجوس بذاک الذی یدخل الرهبة، و یلقی الرعب فی القلوب.
و فی وقت الأذان، تری عددا کبیرا. کل یصیح فی ناحیة، ثم تقوم الصلاة، و یجلس صبیة صغار علی المنابر، یصیحون بعبارات التبلیغ، و القوم یصلون ...
و بجوار المسجد، مکتبة حوت مجموعة قیمة من المخطوطات، فی سائر العلوم الاسلامیة؛ حتی قالوا: إنها اکبر مکتبة إسلامیة فی الدنیا و فیها، بعض المصاحف بخط سیدنا علی نفسه. و فی وسط أحد الأفنیة مصلی یسمونها جوهر شاه. و کان بیتا لسیدة اسمها جوهر. فلما أراد الشاه إقامة المسجد رفضت ان تبیعه ایاه فترکه لها، و أقام مسجده حوله، و بعد اتمامه اقامت هی فی مکان منزلها مصلی و لذلک سمیت (جوهر شاه) . و یؤدی کثیر من ابواب الحرم إلی أسواق مشهد المسقفة الملتویة. و هی من اجمل اسواق فارس ..
أخذت اتجول فی القسم المستحدث من المدینة، و هو جمیل؛ طرقه فسیحة، بجانبها الشجر، و تجری الی جوارها قنوات الماء. و تقوم علیها المبانی الوطیئة.
و هناک بعض متنزهات لا بأس بتنسیقها. تکتظ بالمتریضین فی کثرة هائلة ..
قصدت زیارة الحضرة یوم الجمعة، فکان الزحام فوق کل تصور. و حاولت دخول الضریح فلم استطع .. و کان یسیر فی الطرقات کثیر من المهرجانات، یصیح الصبیة حولها؛ إحیاء لیوم الجمعة، و بأیدیهم الأعلام. و بعد صلاة الغروب، أخذ العلماء یقصون علی الناس نبأ فاجعة علی و الحسین .. و عند
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 225
مدخل المسجد مکان القصاص لمن أذنب داخل أرض الحرم، و الحکم لرئیس الحرم، فکأنها حکومة وحدها. و فی خارج الباب مضیفة یعد فیها رئیس الحرم طعام الغداء یومیا لمن طلب من الغرباء ذلک .. و للإمام الرضا من الأوقاف شی‌ء کثیر. فکل المبانی التی تقع فی الحی ملک له. هذا، غیر الاراضی الزراعیة، و الهدایا الثمینة، التی تقدم الیه. فکلما مات غنی، اوقف جل ماله علیه. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌11 ؛ ص225
فی احد ابواب المسجد فیروزة مغلفة فی حجم بیض النعام. یقولون بأنها لا تقوّم. و یقصون عنها .. ما لا یقبله العقل ... و حجر الفیروز کثیر هناک. و مناجمه فی قریة فیروزآباد فی جنوب شیراز .. .

مدینة المشهد

و قد رأینا ان نختم هذا الفضل بنبذة مما اورد الاستاذ عبد الوهاب عزام فی رحلته عن مدینة المشهد حیث قال:
فی عام اثنین و تسعین و مائة؛ سار هارون الرشید إلی خراسان، لحرب رافع بن اللیث بن نصر بن سیار. و کان قد ثار بخراسان و أعیا الولاة.
و فی صفر من سنة ثلاث و تسعین؛ اشتد به المرض- و هو بجرجان- فسار عنها إلی طوس. و نزل بضیعة اسمها «سناباذ» فی دار الجنید بن عبد الرحمن. فلما أحس أجله، أمر فحفروا له قبرا فی بستان الدار. و أمر جماعة فنزلوا فیه و قرأوا القرآن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 226
و توفی نصف اللیل، لیلة الست لثلاث خلون من جمادی الآخرة، و دفن فی القبر الذی أعدّه.
و فی سنة ثلاث و مائتین؛ کان الخلیفة المأمون بن هارون قافلا من خراسان یرید العراق- و قد ثار علیه عمه ابراهیم بن المهدی- فلما بلغ سناباذ، نزل عند قبر أبیه أیاما. و کان معه علی الرضا بن موسی الکاظم- ولی عهده- فمات الرضا فی ذلک المکان، فی شهر صفر. فدفن إلی جانب الرشید.
و فی هذا یقول دعبل بن علی الخزاعی- فیما یزعم الرواة.
قبران فی طوس خیر الناس کلهم‌و قبر شرهم هذا من العجب
اشتهرت قریة سناباذ، و سمیت «سناباذ المشهد»، ثم سمیت «المشهد» و بهذا الاسم ذکرها المقدسی. و سماها ابن بطوطة «مدینة مشهد الرضا».
و اتسعت المدینة، و نسیت علی مرّ الزمان مدینة «نوقان»، التی کانت بجانب سناباذ. و صار اسمها اسم محلة فی المدینة الجدیدة. و نافست مدینة المشهد مدینة طوس- فی اقلیم خراسان- حتی أخملتها، ثم اختفت طوس حین حاصرها میرانشاه تیمور، و فتحها فأخربها عام 791.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 227

المشهد الرضوی فی المراجع الغربیة کتبه و ترجمه من مختلف المصادر الغربیة جعفر الخیاط

اشارة

الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .S .C . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة سابقا
و مدیر التعلیم المهنی العام حالا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 229
المشهد الرضوی فی المراجع الغربیة

مقدمة

لا شک ان المشهد الرضوی من المشاهد الأسلامیة المقدسة التی یجلها المسلمون فی مشارق الأرض و مغاربها. و هو یعد أول مزار فی أیران، علی ما تقول دائرة المعارف الاسلامیة، و سابع مشهد فی العالم الاسلامی کله فی نظر علماء الشیعة، بعد مکة و المدینة و العتبات المقدسة الأربع الموجودة فی العراق. علی ان هناک من یری ان مشهد الأمام الرضا علیه السلام یقع فی المرتبة السادسة بین هذه المشاهد، أی بعد المشهد الکاظمی و قبل المشهد العسکری فی سامراء.
و یقول الدکتور دونالدسون ، المشار الیه فی الحلقات السابقة من هذه الموسوعة، فی فصل خاص أفرده للمشهد الرضوی المطهر بعنوان (المشهد البعید فی خراسان) ان دفن الامام الرضا (ع) فی مکان قصی مثل طوس قد حظی بحصته الکاملة من الرعایة و الالتفات فی أخبار الشیعة. حتی لیقال ان النبی محمدا نفسه قال ذات یوم «ستدفن بضعة منی بخراسان ما زارها مؤمن الا موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 230
أوجب اللّه له الجنة و حرم جسده علی النار».
و ینسب الی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) أنه تنبأ نبوءة جلیة حین قال: یقتل ابن من ابنائی مسموما فی خراسان، و یکون اسمه اسمی؛ و اسم أبیه موسی». و یقول بعد ذلک: و من زار ضریحه یغفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، و لو کانت ذنوبه بعدد النجوم، و قطرات المطر، أو بعدد أوراق الشجر، لغفرت جمیعها له.
و المقول أن الامام موسی بن جعفر، والد الامام الرضا، علیهما السلام کان یقول جازما «یقتل علی ابنی بالسم، ظلما و عدوانا، و یدفن الی جنب قبر هارون الرشید»

الموقع و تاریخه

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة ان المشهد هی عاصمة إیالة خراسان الایرانیة، و أعظم مزار من مزارات الشیعة فی ایران. و تقع علی ارتفاع (3000) قدم فوق سطح البحر، فی درجة 59 و 35 طول شرقی، درجة 16 و 17 شمال فی وادی کشف رود الذی یتراوح عرضه بین عشرة و خمسة و عشرین میلا، و یمتد من الجهة الشمالیة الغربیة الی الجهة الجنوبیة الشرقیة.
و ینشأ هذا النهر المسمی «آبی مشهد» ایضا، من نقطة تقع علی بعد اثنی عشر میلا من شمال شرقی خرائب طوس فی بحیرة «چشمه گیلاس»، ثم یلتقی بنهر «هیری رود» فی مکان علی الحدود الروسیة الایرانیة یبعد عن جنوب شرقی مشهد بمسافة مئة میل. و تقع مشهد نفسها علی بعد أربعة أمیال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 231
من جنوب ضفة نهر کشف رود. و ترتفع الجبال الممتدة علی طول الوادی الی علو ثمانیة آلاف قدم بالقرب منها.
و بالنظر لموقع (المشهد) المرتفع و قربها الی الجبال یکون الطقس فیها قاسیا فی الشتاء، علی أنه کثیرا ما یکون حرها استوائیا خلال الصیف. و مع هذا فیعد الطقس فیها صحیا.
و یمکن ان تعتبر مدینة المشهد الی حد ما وریثة طوس التی کانت موجودة هناک قبل الاسلام، و کثیرا ما تحشر خطأ معها فی الحقیقة. و بینما کان الخلیفة هارون الرشید یعد العدة للزحف فی حملة من حملاته علی خراسان و یقع مریضا فی قصر ریفی بقریة سناباذ، التی کان قد توقف فیها لوقت ما، ثم توفی بعد أیام معدودة سنة 193 (809 م). و یروی ان الخلیفة بعد ان عرف أنه أوشک علی مفارقة الحیاة أمر بحفر قبر له فی حدیقة ذلک القصر الریفی، و باحضار عدد من قراء القرآن.
و بعد موت هارون الرشید بعشر سنوات توقف الخلیفة المأمون عدة أیام فی هذا المکان، حینما کان فی طریقه من مرو الی بغداد، و کان فی معیته صهره علی بن موسی الرضا الامام الثامن للشیعة الاثنی عشریة الذی عین لولایة العهد و فی خلال ذلک توفی الامام الرضا فجأة هناک سنة 203 (818 م) من دون ان یعرف الیوم الذی حدثت فیه الوفاة بالضبط .
و قد کان قبر الامام المقدس، و لیس قبر الخلیفة، هو الذی جعل سناباذ (نوقان) تشتهر فی طول العالم الشیعی و عرضه، فنمت و توسعت بمرور الزمن من قریة صغیرة الی مدینة صارت تسمی «المشهد». و یطلق ابن حوقل علی الروضة المطهرة کلمة «مشهد» فقط بینما یسمیها یاقوت «المشهد الرضوی»، و یرد احیانا الاسم الفارسی «مشهد مقدس» کذلک موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 232
کما فی کتاب حمد اللّه المستوفی مثلا. علی ان أول ما یرد اسم «مشهد» لیدل علی المکان و البلد کان فیما کتبه المقدسی، أی فی الثلث الاخیر من القرن الرابع (العاشر المیلادی). و فی حوالی منتصف القرن الثامن (الرابع عشر المیلادی) نجد الرحالة ابن بطوطة یستعمل کلمة «بلدة مشهد الرضا». و یبدو أن الاسم «نوقان»، الذی ظل یکتب علی العملة فی أیام الأیلخانیین خلال النصف الأول من القرن الثامن (الرابع عشر)، قد استبدل فی أواخر القرون الوسطی بکلمة «المشهد» أو «مشهد». و کثیرا ما یسمی المشهد بالتسمیة الأدق الیوم، و هی «مشهد رضا» أو «مشهد مقدس» او «مشهد طوس». و قد یلاحظ فی الکتابات الأدبیة، و لا سیما الشعر، اسم «طوس» فقط بدلا من ذلک، أی طوس الجدیدة .
و ظلت تزداد أهمیة سناباذ- مشهد، بازدیاد الشهرة التی حظی بها المزار المقدس خلال السنین و الأیام، و بانحطاط شأن طوس التی تلقت ضربتها القاضیة فی 791 (1389) م علی ید میرانشاه أحد أولاد تیمورلنک. فحینما ثار الأمیر المغولی الذی کان یحکمها فی تلک الأیام و أعلن استقلاله انتدب تیمور لنک ابنه میرانشاه لتأدیبه، فهوجمت طوس هجوما صاعقا بعد ان حوصرت عدة أشهر، ثم نهبت و هدمت حتی أصبحت أنقاضا و رکاما.
و قد قتل من سکانها عشرة آلاف نسمة، اما الذین تمکنوا من الهرب و النجاة بأنفسهم من تلک المجزرة الرهیبة فقد التجأوا الی حمایة المشهد الرضوی.
و هکذا ترکت طوس منذ ذلک الحین، فأخذت (المشهد) مکانها و أصبحت عاصمة للمنطقة بأسرها.
و یعالج دونالدسون تاریخ المشهد الرضوی هذا بتفصیل أوفی. فهو یقول ان الامام علیا الرضا قد انتقل الی الرفیق الأعلی فی طوس فی أوائل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 233
القرن التاسع للمیلاد. و یعزی الفضل الی الیعقوبی الذی کتب تاریخه فی أوائل القرن نفسه. فیما عندنا من معلومات عن طوس التی یقول عنها انها کانت یومذاک اسما لمنطقة کبیرة و لیس لمدینة بالذات. و کانت البلدتان الرئیستان فی هذة المنطقة: نوقان و الطابران، کما کانت نوقان أکثر اتساعا من اختها، و کثیرا ما کانت تسمی باسم طوس. و کان سکانها العرب ینتمون الی قبائل طی، لکن أکثریة السکان کانت من الایرانیین. و لذلک فقد کانت نوقان هی التی توفی فیها الامام الرضا علیه السلام و هارون الرشید، مع ان الطابران هی التی صارت مدینة طوس المشهورة فی السنوات المتأخرة. و هذا الرأی، المبنی علی ما یذکره الیعقوبی، یؤیده ما یکتبه ابن رسته عن المراحل ما بین نیسابور و طوس، حیث انه یجعل نوقان هی المقصودة بالوصول و لیس الطابران.
و حینما قدم هارون الرشید الی طوس بات لیلة فی دار حمید بن قحطبة الطائی، حاکم المنطقة الذی کان یملک دارا و بستانا واسعة فی سناباذ الکائنة علی بعد میل واحد من نوقان. و قد دفن بناء علی طلبه فی غرفة من غرف الدار هذه (اما الروایة الأخری فتقول انه دفن فی البستان)، فأمر ابنه المأمون فیما بعد بأن تشاد قبة خاصة فوق قبره. و لذلک عندما توفی الامام علیه السلام فی بلدة نوقان نفسها، و دفن تحت نفس القبة قیل بحقه «أنه دخل دار حمید بن قحطبة الطائی، و دخل قبة هارون الرشید».
و یلاحظ ان ربع الطابران المجاور کان فیه خلال القرن العاشر حصن یتکون من مبنی کبیر شاهق یری من بعید، علی ما یذکر المقدسی، و ان أسواق هذا النصف من البلدة کانت ملأی بالسلع. و یلاحظ کذلک ان القبرین الشهرین فی سناباذ کانا فی القرن الرابع (العاشر) محاطین بأسوار محصنة تحصینا قویا، و ان المشهد المقدس کان یکتظ علی الدوام بالزوار المتعددین، علی ما یذکر ابن حوقل. إذ کان الأمیر فائق عمید الدولة قد شید ج 1- خراسان (16)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 234
بجانب ضریح الامام الرضا جامعا یقول عنه المقدسی أنه لا یوجد أجمل منه فی خراسان کلها. و قد جعل قبر هارون الرشید بجنب قبر الامام، کما بنیت دور کثیرة و سوق بالقرب من البستان الکبیرة. لکن البنایة الأولی هذه، علی ما کانت علیه من فخامة و جمال شهد بهما ابن حوقل و المقدسی حینما شاهداهما فی القرن العاشر، قد عجل بتهدیمها بعد ان تم بناؤها بقلیل الأمیر سبکتکین بدافع تعصبه الشدید ضد الشیعة. و قد ترک الضریح علی هذه الحالة من الاهمال و الخراب عدة سنین نظرا لخوف الناس و خشیتهم من الاضطهاد الدینی.
غیر ان المقول فی السنین الأولی من القرن الحادی عشر ان السلطان محمود ابن سبکتکین ظهر له الامام علی بن أبی طالب فی الرؤیا و قال له «الی متی سیظل هذا علی حاله؟» فأیقن ان الامام علیه السلام کان یقصد بذلک مشهد الامام الرضا، فبادر إلی تشیید بناء معتبر تعلوه قبة عالیة له. و قد تم البناء باشراف حاکم نیسابور سنة (1009) للهجرة، و لکن البنایة الثانیة هذه أیضا سرعان ما هدمتها تجاوزات اللصوص و القبائل الترکیة. و مما یدل علی حصول هذه التخریبات المستمرة عدم وجود کتابات تعود بتاریخها الی ذلک الوقت الباکر فوق البنایة الحالیة.
و فی عهد السلطان سنجر السلجوقی، فی القرن الثانی عشر، آعاد تشیید البناء رجل یقال له أبو طاهر القمی، و صرف علیه من ماله الخاص أو من مال السلطان. و لکن قبل ان یکون هذا المبنی الجدید قد مرت علیه مئة سنة أصیب بأضرار بالغة، من دون ان یتهدم فی أثناء احتلال المغول للمنطقة فبعد ان قام تلگوخان بتقتیل سکان نیسابور و تشریدهم، سنة 1220 م، اندفع الی طوس مع جموعه المتوحشة و فعل الشی‌ء نفسه فیها أیضا. فقد هدم طوس (الطابران) و نهب المشهد الرضوی المطهر، علی أنه لم یهدمه تهدیما کاملا لأن کتابات عدة موجودة الآن فی الحرم ترجع بتاریخها الی سنة 612 (1215 م) أی الی ما قبل واقعة المغول الأخیرة بخمس سنوات .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 235
علی أن المشهد المطهر قد أعید بناؤه و تصلیحه فی أوائل القرن الرابع عشر، علی عهد حکومة السلطان محمد أولجایتو، الذی کان أول من اعتنق المذهب الشیعی من الأسرة المغولیة الحاکمة. فقد سمح للجهات المعنیة بأن تستخدم المبالغ المجموعة من التبرعات و الهبات المقدمة للحضرة الرضویة فی الصرف علی اعادة البناء تنفیذا لوصیة المتبرعین. و المعروف ان هذا السلطان المغولی کانت أمه المسیحیة قد عمّدته عند ولادته فسمته نقولا، لکنه بدل دیانته فی الکبر و أصبح مسلما شیعیا فی النهایة. و لذلک یلاحظ ان العملة التی سکبت فی أواخر أیامه قد کتبت علیها أسماء الأئمة الأثنی عشر جمیعهم.
و قد زار الرحالة المغربی ابن بطوطة بنایة المشهد الرضوی الجدیدة بعد الانتهاء منها بسنوات معدودة خلال القرن الرابع عشر (1333 م) فوجد المشهد مدینة کبیرة کثیرة السکان، ملأی بالفواکه. و شاهد قبة کبیرة تعلو القبر مزینة بستائر من حریر و شمعدانات من ذهب. و لاحظ تحت القبة و فی مقابل ضریح الامام الرضا علیه السلام قبر الخلیفة هارون الرشید، الذی کانوا یضعون فوقه علی الدوام شمعدانات مضاءة، لکن «أتباع علی» حینما کانوا یدخلون کانوا یرکلون قبر الرشید بأرجلهم ثم یذهبون للتبرک بضریح الامام نفسه. و یشیر المستوفی أیضا، المعاصر لابن بطوطة، الی (سناباذ) نفسها فیسمیها «المشهد» و یقول أنها أصبحت بلدة صغیرة ثم یشید باللطف الذی کان یبدیه سکانها للعرباء، و بکثرة الفواکه الموجودة فیها.
علی ان هذه المشاهدات مرت علیها، بعد ان کتبت، سنوات معدودة جاءت فی أثرها غزوات تیمور لنک المدمرة، التی بدأت فی خراسان سنة 1380 م، فدمرت المشهد و طوس تدمیرا شدیدا من جدید. و کان من حسن الحظ ان یتعین شاه‌رخ، ابن تیمور، حاکما علی خراسان بعد ذلک فیبادر الی اشغال نفسه فی الحال بمهمة أعادة التعمیر و الاصلاح. و قد أزمع علی بناء طوس من جدید فی بدایة الأمر- سنة 1405 م- لکنه وجد أن اولئک الذین نجوا بأنفسهم من المذابح السابقة قد استقروا فی سناباذ، و بنوا لأنفسهم بیوتا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 236
من طین. فبذل بعض الجهد، بواسطة موظفیه، فی اقناعهم بالعودة الی طوس لکنهم لم یکونوا راغبین فی ذلک. لأنهم أصبحوا یعتبرون مکانهم الجدید ملجأ لهم و ملاذا، و لذلک استرخصوا شاه‌رخ بأن یسمح لهم ببناء الجدران و الأسوار اللازمة لدورهم، فکان هذا هو المکان الذی أصبح مدینة (المشهد) الشهیرة بینما ترکت طوس (التی کانت مشیدة فی موقع الطابران القدیم) بالکلیة.
و لیس هناک فی المدونات ما یدل علی حصول تدمیر آخر للمشهد الرضوی، قبل وقوع الزلزال الشدید الذی تصدعت به البنایة الرئیسیة فی أیام الشاه سلیمان الصفوی. و کان الرحالة الانکلیزی السر جون چاردین یومذاک فی أصفهان، فسجل الملاحظات الآتیة فی یومیاته: (11 آب 1673) : .. لقد وصل فی الیوم الحادی عشر رسولان مسرعان، أحدهما فی أثر الآخر، و هما یحملان أنباء سیئة تشیر الی ان ثلث المشهد، عاصمة خراسان، و نصف (نیکابور) البلدة الکبیرة الأخری فی الأیالة نفسها، و بلدة صغیرة بقربها، قد دمرها الزلزال. علی ان الذی حزن له الایرانیون أکثر من أی شی‌ء آخر، و لا سیما المتدینین منهم، هو التدمیر الذی أصاب جامع المشهد الکبیر الذی یوجد فیه ضریح الامام الرضا، و هو جامع مشهور جمیل فی أنحاء الشرق کافة. و قد أصاب التدمیر القبة علی الأخص، لکن بقیة البناء بقیت سالمة علی ما یقال. فما کان من الملک الا ان یوفد فی الحال رجلا مرموقا من رجاله لیوافیه بمفصل ما وقع، ثم بعث بعده برجلین من النبلاء و زودهما بالأوامر اللازمة فی هذا الشأن إلی ضباط الأیالة و موظفیها الکبار.
ثم یقول چاردین بعد شهرین: .. و فی الیوم التاسع (تشرین الاول) ذهبت الی «دار الصاغة الملکیین» الموجودة فی القصر الملکی نفسه لأتفرج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 237
علیهم و هم یصنعون الألواح الذهب، علی شاکلة البلاطات المألوفة، التی سوف تکسی بها القبة الکبیرة لجامع الامام الرضا فی المشهد الذی کان قد دمرها الزلزال، کما ذکرت من قبل. و کان یشتغل فی ترمیم هذا الجامع حوالی ألف عامل، علی ما یقال، و هم یشتغلون فیه بکل جد و مثابرة لأجل ان ینتهوا منه فی نهایة تشرین الأول. و هنا یصف البلاطات و قیاساتها، و یذکر بعد ذلک ان کل واحدة منها تکلف عشر «کراونات»، و أن عددها کلها سیبلغ فی بدایة الأمر ثلاثة آلاف بلاطة علی ما أخبره به رئیس الصاغة الذی کان العمل یجری تحت اشرافه .
و یذکر دونالدسون ان ترمیم القبة الذهب فی أیام الشاه سلیمان هذا مذکور فی کتابة خاصة منقوشة علی القبة نفسها، و منتهیة بالجملة الآتیة: لقد استطاع الشاه سلیمان الحسینی إکساء هذه القبة السماویة بالذهب، لیزینها و یرممها بعد أن أصابها ضرر من جراء زلزال شدید اهتز به هذا المکان المقدس سنة 1084 (1673 م). و هناک کتابة علی الباب المؤدیة الی الجامع من الایوان الذهب تدل علی ان الشاه سلیمان قد رمم مسجد گوهرشاد فی الوقت نفسه أیضا.
و علی حشوة فی افریز القبة الذهب من الداخل، توجد کتابة خاصة تخلد الشاه عباس الکبیر- الصفوی- الذی «نال حظوة المجی‌ء راجلا من أصفهان، عاصمة ملکه لزیارة المشهد الرضوی، و کان من حسن حظه ان یسهم من ماله الحلال بتزیین هذه القبة سنة 1010 (1601 م) حتی انتهی العمل سنة 1016 (1607 م).» و قد قام نادر شاه أیضا بتزیین القبة الذهب فی القرن الثامن عشر، و تقدیم هدایا ثمینة أخری إلی العتبة.
اما أهم ما قدمه شاهات الأسرة القاجاریة المالکة للروضة المطهرة فهو تعمیر بهو الاستقبال، و الایوان الذهب، من قبل فتح علی شاه. و قد زین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 238
هذین الأثرین و أدخل بعض التحسینات فیهما بعد ذلک ناصر الدین شاه سنة 1250 (1848 م).
علی ان آخر ضرر خطیر أصاب المشهد المقدس، علی ما یقول دونالدسون، کان من جراء قصف الروس له سنة 1911. فقد عمد اللصوص فی تلک السنة الی نهب المدینة و اتخاذ المنطقة المقدسة منها مقرا لهم، ثم اعلنوا الثورة ضد الحکومة الدستوریة التی کانت تحکم البلاد آنذاک. و لما کانت السلطات الایرانیة عاجزة فی تلک الأیام عن سوق عدد کاف من الجند الی المدینة المقدسة هذه فقد خولت الروس، الذین کانوا یحتفظون بعدد کبیر من الجند فی خراسان، بأن یتولوا توطید الأمن و اعادته الی نصابه فیها. و من نقطة مناسبة تقع خارج المدینة عمد هؤلاء الی قصف منطقة الحرم الشریف، التی جعل الثوار منها مقرا لهم. و فی خلال دقائق معدودة أنزل ضرر فادح بالقباب و المبانی العالیة، و قتل علی ما یقدر، حوالی مئة من الناس الذین لم یکن أکثرهم من المحاربین، بینما استطاع معظم اللصوص ان یلوذوا بالفرار و ینجوا بأنفسهم.
و قد استاء الناس من ذلک فی معظم انحاء ایران استیاء شدیدا، فصاروا یعتبرون الیوم الذی حصل فیه هذا الفعل السی‌ء یوما سنویا للحزن. و لم یقصروا فی الاعتقاد بأن ما أصاب روسیة من تقلبات و حوادث مؤسفة بعد ذلک کان عقابا من اللّه للروس علی ما افترفوه بحق المشهد المقدس. و لم یکتف الروس بقصف المشهد المقدس بالنار و انما احتلوه عدة أیام أیضا، و صاروا یدخلون فی کل مکان منه بأحذیتهم و یسمحون لکلابهم بهذا کذلک علی ما قال (دونالدسون).
صفحة من داخل القبة و الضریح الرضوی المطهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 239

المشهد فی کتابی لسترنج و سایکس

و یأتی علی ذکر النقاط المار بحثها کلها، مع شی‌ء من الاختلاف، المستشرق الانگلیزی المعروف العلامة لسترنج فی کتابه (بلدان الخلافة الشرقیة) الذی مرت الأشارة الیه فی حلقات هذه الموسوعة السابقة.
فهو یبدأ فصله عن خراسان عامة (الفصل 27) بقوله ان خراسان فی الفارسیة القدیمة معناها «البلاد الشرقیة». و کان هذا الاسم فی أوائل القرون الوسطی یطلق بوجه عام علی جمیع الأقالیم الاسلامیة الواقعة فی شرق المفازة الکبری الی حد جبال الهند. و لذلک کانت تضم فی مدلولها الواسع کل بلاد ماوراء النهر التی فی الشمال الشرقی، ما خلا سجستان و قوهستان فی الجنوب.
و کانت حدودها الخارجیة صحراء الصین و الپامیر من ناحیة آسیة الوسطی، و جبال هندکوش من ناحیة الهند. الا ان حدودها هذه صارت بعد ذلک، أکثر حصرا و أدق تعیینا. حتی لیمکن القول أن خراسان، و قد کان أحد أقالیم ایران فی القرون الوسطی، لم یکن یمتد الی أبعد من نهر جیحون فی الشمال الشرقی، و لکنه ظل یشتمل علی جمیع المرتفعات فیما وراء هراة، التی هی الیوم القسم الشمالی الغربی من أفغانستان. و الی ذلک فان البلاد فی أعالی نهر جیحون، من ناحیة الپامیر، کانت علی ما عرفها العرب فی القرون الوسطی، تعد ناحیة من نواحی خراسان البعیدة.
و کان أقلیم خراسان فی أیام العرب، أی فی القرون الوسطی، ینقسم الی أربعة أرباع: نسب کل ربع منها الی إحدی المدن الأربع الکبری التی کانت فی أوقات مختلفة، عواصم للأقلیم بصورة منفردة أو مجتمعة و هذه المدن هی: نیسابور، و مرو، و هراة، و بلخ. و بعد الفتح الاسلامی الأول،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 240
کانت عاصمتا خراسان فی مرو، و فی بلخ. الا أن الأمراء الطاهریین نقلوا دار الأمارة الی ناحیة الغرب فجعلوا نیسابور فی أیامهم عاصمة الاقلیم، و هی أیضا أکبر مدینة فی أقصی الأرباع غربا .
و یقول لسترنج بالنسبة لمدینة المشهد- او مشهد الامام- انها تقع فی الجهة الشرقیة من نیسابور، و تفصلها عنها سلسلة الجبال التی فیها مخارج أکثر أنهار سهل نیسابور. و هی الیوم قاعدة القسم الایرانی من خراسان. و علی بضعة أمیال من شمال المشهد أطلال طوس المدینة القدیمة. و کانت طوس فی المئة الرابعة (العاشرة) المدینة الثانیة فی ربع نیسابور من أرباع خراسان. و تتألف من المدینتین التوأمین: الطابران و نوقان. و علی مرحلتی برید عنها: البستان العظیم فی قریة سناباذ، حیث قبر الخلیفة هارون الرشید و قد توفی فیها سنة 193 (808 م) و قبر الامام الثامن علی الرضا و قد مات من سم دسه له المأمون سنة 202 (817)، و کان یقال لقریة سناباذ هذه برذعة أیضا، و تسمی کذلک المثقب. و یظن ان هذه التسمیة جاءت من الکوی التی فی الضریح او من سبب و همی آخر.
و کانت نوقان فی المئة الثالثة (التاسعة)، علی ما یذکر الیعقوبی، أکبر نصفی طوس، الا أن الطابران قد جاوزتها کبرا فی المئة التالیة لها، و بقیت المدینة الکبری حتی أیام یاقوت، حین أخربت جحافل المغول طوس. و کانت نوقان مشهورة بصنع البرام التی تحمل منها الی سائر البلدان، و یستخرج من جبالها معدن الذهب و الفضة و النحاس و الحدید. و بالقرب من طوس أیضا الفیروزج، و حجر یقال له الخماهن و الدهنج، و کانت هذه المعادن تجلب الی أسواق نوقان للبیع. و هذا القسم من طوس ماؤه قلیل. و کان الحصن المجاور للطابران بناء فخما عالیا یری من بعید علی قول المقدسی. و أسواق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 241
هذا النصف من المدینة عامرة و جامعها حسن البناء بدیع التزویق. و کان علی القبرین فی سناباذ، فی المئة الرابعة (العاشرة) حصن حصین منیع، و فیه قوم معتکفون علی ما ذکر ابن حوقل. و قال المقدسی ان الأمیر عمید الدولة فائقا بنی علی قبر الامام علی الرضا مسجدا ما بخراسان أحسن منه، و بنی قبر هارون الرشید بجانب ضریح الامام. و قامت فی أرض البستان الکبیرة دور کثیرة و سوق.
و لم یزد یاقوت فی وصفه مدینة طوس شیئا علی ما مر ذکره، غیر أنه ذکر أن من أشهر القبور فی الطابران قبر الفقیه السنی العظیم الامام الغزالی المتوفی سنة 505 (1111 م) و قد عاش فی بغداد بضع سنین مدرسا فی المدرسة النظامیة. و کان اسم طوس حین کتب یاقوت فی المئة السابعة (الثالثة عشرة) یدل فی الغالب علی ناحیتها، و کان بها أکثر من ألف قریة. علی ان هذه البلاد و بضمنها مدینتا طوس و القبران فی سناباذ (المشهد) قد خربتها و نهبتها جحافل المغول فی سنة 617 (1220 م). و الظاهر ان طوس لم تقم لها قائمة بعد نهب المغول لها، و لکن القبرین المجاورین لها نالا عنایة الأثریاء من الشیعة فاستعادا بهاءهما السابق، فکان المستوفی فی المئة الثامنة (الرابعة عشرة) من أوائل من أشار الی قریة سناباذ مسمیا أیاها «المشهد»، و هو الاسم الذی عرفت به منذ ذلک الحین.
و لما کتب المستوفی صارت المشهد مدینة عظیمة حولها قبور عدیدة مع قباب مشهورة کثیرا، منها قبر الغزالی و قد مر ذکره الآن و هو فی شرق قبة الضریحین، و هناک أیضا قبر الفردوسی الشاعر المشهور. و حول المدینة أرض سهلة خصبة یقال لها مرغزارتکان، طولها أثنا عشر فرسخا و عرضها خمسة یکثر فیها العنب و التین. و أهل ناحیة طوس، علی ما ذکر المستوفی، من أحسن الناس خلقا و ألطفهم مع الغرباء.
و انتهی الینا من ابن بطوطة، و قد زار مشهد الامام الرضا بعد ذلک ببضع سنین، وصف حسن للضریح، قال: مدینة کبیرة ضخمة عامرة الأسواق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 242
و حولها جبال، و علی المشهد قبة عظیمة، و تجاوره مدرسة. و هذه الأبنیة قد زوقت جدرانها بالقاشانی «و علی قبر الامام دکانة خشب، ملبسة بصفائح الفضة و علیه قنادیل فضة معلقة. و عتبة باب القبة فضة. و علی بابها ستر حریر مذهب، و هی مبسوطة بأنواع البسط». و ازاء هذا القبر قبر الخلیفة «و علیه دکانة خشب یضعون علیها الشمعدانات» و اذا دخل الشیعی للزیارة رکل قبر هارون الرشید برجله و سلم علی قبر الامام الرضا. و قد تنبه الی ضریح الامام و جلاله السفیر الاسبانی کلافیو الذی زار بلاط تیمور فی سنة 808 (1405) فقد مر فی طریقة بالمشهد. و مما یذکر ان النصاری فی تلک الأیام کان یسوغ لهم دخول المشهد، فلم یکن الشیعة الفرس علی ما هم علیه الیوم من تعصب فی هذا الأمر.
و یذکر السر برسی سایکس بالمناسبة فی (تاریخ ایران) سفارة هذا السفیر الاسبانی الذی بعثه ملک کاستیل فی (1403) لتمتین العلاقة مع تیمور لنک ضد العثمانیین الذین کان یخشی بأسهم. فهو یقول أن السفیر رای غونزالیس دی کلافیو عبر مع جماعته من رودس الی قره‌باغ فی آذربایجان عن طریق طرابزون و خوی، ثم توجه الی تبریز فالسلطانیة فگیلان. و من هناک الی طهران التی یأتی ذکرها بهذا الاسم لأول مرة، و لار، و منها خرجوا الی طریق المشهد فیما یقرب من دامغان و توجهوا من هناک الی نیسابور.
و قد سمح للکاستیلیین فی المشهد بزیارة مرقد الامام علی الرضا (ع)، الذی وجدوا فیه ضریحا کبیرا مغطی بشبابیک من فضة .
اما المشهد الرضوی نفسه، ای العتبة المقدسة، فیقول سایکس (الص 154، ج 2) ان المبنی العظیم فی مشهد، مجد العالم الشیعی، قد شید کما موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 243
شیدت الکنائس القوطیة الکبیرة فی أوربة خلال أجیال عدة أنجز خلال کل منها جناح خاص أو جزء من أجزائه. و کان أقدم ما شید من هذا المبنی الحضرة المطهرة التی یوجد فیها الضریح، التی یعتقد انها البناء الأصلی الذی بناه المأمون بالذات فوق رفات والده هارون الرشید، ثم قبر فیه بعد سنوات الجدث الطاهر للامام الرضا علیه السلام. و کانت القبة، التی بنیت علی ثلاثة و ثلاثین قدما مربعا، واطئة بدرجة تلفت النظر. و لذلک یقال ان القبة الذهب الحالیة قد بنیت فوق القبة القدیمة التی ما تزال قائمة. و قد أهمل الضریح مدة تناهز المئتی سنة، لکن محمودا الغزنوی رأی رؤیا فی المنام فی بدایة القرن الحادی عشر، فأوعز علی أثر ذلک الی حاکم نیسابور بأن یوسع المشهد المقدس و یشید جدارا من حوله.
علی ان هذا المشهد قد أهمل من جدید علی ما یبدو حتی تربع السلطان سنجر علی دست الحکم. و یقول سایکس ان کتابة من الکتابات المنقوشة فی الداخل قد نقلت له، فتبین له منها ان بنایة المشهد قد رممت بأمر من هذا السلطان سنة 512 (1118 م). و تدل هذه الکتابة، مع کتابة أخری یرجع تاریخها ال 612 (1215)، علی ان الحضرة المطهرة لم یخربها المغول، مع أنهم نهبوها و عبثوا بها. و لذلک یمکننا ان نقول علی هذا الأساس ان هذا البناء هو البناء الأصلی للمشهد کله. و قد کسیت الجدران بعد ذلک بالقاشانی، الذی ما تزال أقسام منه باقیة حتی الیوم.
و یشیر سایکس کذلک (الص 174، ج 2) الی استیلاء الاوزبک فی عهد ملکهم عبد اللّه الثانی علی مدینة المشهد، و کان ذلک فی أیام الشاه عباس عند أول عهده بالحکم. فقد سار لانجادها لکنه وقع مریضا بحیث تأخر عن هذه المهمة، فتسنی بذلک للأوزبک بأن ینهبوا المدینة و یذبحوا الکثیرین من سکانها، و یجردوا المشهد المقدس من نفائسه و خزائنه. و بقیت علی حالتها تلک الی سنة 1006 (1597 م) حین انتصر الشاه عباس علی الأوزبک انتصارا لامعا فأوقف تعدیاتهم عند حدها. و لأجل ان یحافظ علی الحدود المکشوفة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 244
من تلک الجهات عمد الشاه عباس الی نقل عدة آلاف من الأکراد من موطنهم فی کردستان الی خراسان الشمالیة مع أسرهم و قطعانهم، و قد استقروا فی موطنهم الجدید، و حافظوا علی لغتهم فیه، الی یومنا هذا.

وصف المشهد المقدس

لا حظنا فی المراجع الغربیة المتیسرة لدینا ان کتاب دونالدسون المشار الیه، و مختصر دائرة المعارف الاسلامیة، یأتیان بوصف یکاد یکون شاملا للمشهد المقدس، مع مرافقه و ملحقاته. و سوف نحاول هنا أن نورد النقاط المهمة منه.
و یبدأ دونالدسون (الص 178) فی ذلک بقوله ان مدینة المشهد یمتد فی صورة مدینة مشهد کما تبدو من الطائرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 245
وسطها شارع رئیس (خیابان) مرکزی من الجهة الشمالیة الشرقیة الی الجهة الجنوبیة الشرقیة علی طول المدینة . و یستطیع الزائر الدخول الی داخل المشهد المقدس أما من البوابة العلیا أو البوابة السفلی الواقعتین علی هذا الشارع، أو عن طریق السوق المسقفة. و هناک قناة للماء تمتد فی وسط الشارع العریض، لکن أشجار الحنار (شجر الدلب) التی زرعت فیه منذ سنین عدیدة ورآها فریزر فی 1825 قد تضخمت فی نموها بحیث سقط الکثیر منها الآن. و هناک شارع آخر یجری تعمیره حول المشهد بأجمعه لتسهیل المواصلات. و قد أدی فتح النصف الجنوبی من هذا الشارع الی ان یطل علی العالم الخارجی قسم قدیم من المدینة، کان یحتشد بأبنیة بالیة، مثل الحمامات و «المسافرخانات» القدیمة التی کانت تعتبر خطرا علی الصحة العامة فی المدینة، اما النصف الشمالی من هذا الشارع فیمر رأسا فی وسط المقبرة الواسعة، التی کان الشیعة المتدینون یدفنون فیها أمواتهم منذ عدة أجیال حتی یتسنی لأولئک الموتی ان یحشروا یوم القیامة مع الامام و ینجون من العقاب الأبدی بشفاعة منه. و کانت السواقی، التی فتحت لغرس الأشجار علی جانبی الشارع الکبیر، قد حفرت خلال ست أو سبع طبقات من القبور التی أخذت حجارتها لتستعمل فی أغراض التبلیط ایضا. ثم سویت المقبرة القدیمة التی تبلغ مساحتها حوالی عشرة أفدنة فی الجهة الشمالیة لتجعل حدیقة عامة یخترقها شارع الطبسی الجدید الذی یمتد من المشهد المقدس الی المحلة الواقعة فی قلب المدینة رأسا، و هی محلة نوقان القدیمة.
و حینما یصل المرء من الشارع الأعلی الی الحاجز الذی تقف عنده وسائط النقل و یمنع غیر المسلمین من تعدیه، فانه یستطیع ان یشاهد القاشانی الدقیق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 246
فوق طاق البوابة التی تؤدی الی الصحن القدیم البالغ (277) قدما فی طوله، و (105) أقدم فی عرضه. و یشاهد من فتحة البوابة برج الساعة غیر الجمیل، الذی یدق الساعات و أنصافها من طلوع الشمس الی طلوعها ثانیة. و فی الجهة المقابلة من الصحن القدیم هذا توجد بوابة مماثلة تؤدی منه الی الشارع الأسفل، و یعلوها برج آخر لا توجد فیه ساعة کبیرة، بل توجد غرفة یجلس فیها الطبالون و البوقیون الذین یدقون علی طبولهم، و ینفخون فی أبواقهم عند طلوع الشمس و عند غروبها فی کل یوم. و هذه تسمی «نقاره‌خانه». فقد کانت عادة ضرب الطبول احتفاء بحلول الیوم الجدید و طلوع الشمس فیه، و اداء للتحیة الملکیة، شیئا مألوفا فی ایران منذ القدم . و فی داخل الصحن القدیم یندهش الزائر بمنظر الذهب الوهاج الذی یشع من القبة المنیفة فوق الضریح.
و یزداد تأثر هذا حینما یقع نظره علی المنارة المتلألئة التی ترتفع من فوق «الایوان الذهب»، و علی المنارة المقابلة لها القائمة فوق «ایوان شاه عباس»، و علی مقربة من وسط الصحن من جهة الغرب یوجد حوض للماء، الذی صار یملأ فی السنین الأخیرة بواسطة الأنابیب التی تأتی من خزان نظیف یقع فی غرب البلدة، و لیس من القناة التی تجری علی طول الشارع. اما المساحة الکبیرة الواقعة خلف الصحن القدیم فیشغلها مبنی المشهد المقدس نفسه الذی یشتمل علی خمس عشرة غرفة و عدد من الممرات و زوایا الجلوس. و تبلغ مساحة الغرفة التی یوجد فیها الضریح المطهر حوالی (34) قدما مربعا، کما ترتفع القبة من فوقه الی علو 82 قدما.
و لیس هناک فی الوقت الحاضر ما یشیر الی قبر هارون الرشید سوی عمود غیر مؤشر علیه بشی‌ء فی زاویة الغرفة القربیة من ضریح الامام (ع).
اما عادة شتم الخلیفة المتوفی فلم یعد یتبعها الجمیع هذا الیوم کما کان یحصل فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 247
السابق. و قد زینت داخلیة هذه القبة بقطع المرایا الفاخرة بأمر من ناصر الدین شاه، کما زینت الجدران بحشوات من القاشانی الثمین الذی نقشت علیه آیات من القرآن الکریم و بعض الأحادیث و الأقوال المناسبة.
و یتم الدخول الی الحضرة فی العادة من الجهة الشرقیة، لکنه یوجد فی کل جهة من الجهات الأربع حنیة خاصة او نصف مدخل یمکن للزوار ان یقفوا فیها فیؤدون الصلاة المطلوبة. و قد کتبت فوق جدران هذه المداخل النصفیة عدة کتابات تشید بعظمة الروضة المطهرة و جلال قدرها.
و تحافظ علی الضریح ثلاث طبقات من الشبابیک تقع احداها داخل الأخری.
فهناک ناووس من الخشب مطعم بالذهب کتب علیه اسم الشاه عباس، و یحیط بهذا أول شباک من حدید الفولاذ البسیط الذی تغلفه شبکة من أسلاک النحاس معدة لتسلم الهدایا التی یودعها الزوار المخلصون. و تقوم سلطات العتبة المقدسة فی العادة بجمع هذه الهدایا قبیل أیام «النوروز» و بیعها بالمزاد فی کل سنة. و شباک الفولاذ الثانی مزین و مزخرف بالذهب و الجواهر، و تدل الکتابة المنقوشة فیه علی انه قد أهدی من الشاه حسین الصفوی. اما الشباک الثالث أو الخارجی، المصنوع من الفولاذ ایضا، فهو مزخرف بکتابة دقیقة کتبت بها سورة الانسان بأجمعها. و لکل من الشباکین الثانی و الثالث رمانات ذهب مرکبة فی الأرکان الأربعة. و هناک فوق القبر سقف من الخشب تکسوه أوراق من الذهب، و تتدلی منه معلقات زخرفیة مطعمة بالجواهر.
و یقول دونالدسون کذلک ان الزوار یبدأون طوافهم حول القبر المطهر من جهة الجنوب، و هناک یسلمون علی الامام الذی ینعتونه بالغریب، الشهید، المظلوم، المعصوم، المسموم، المحروم، المهموم، الهادی لأتباعه الی الصراط المستقیم. ثم ینتقلون الی الجهة الشرقیة عند رجلی الامام، و هناک یسلمون علیه کذلک، لکنهم یقولون فی زیارتهم هنا «.. قتل اللّه من قتلک بالأیدی و الألسن،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 248
و الألسن، و لعن اللّه من ظلمک بالید و اللسان». و یذهبون بعد ذلک الی ما وراء رأس الامام فیسلمون علیه من جدید و ینعتونه هذه المرة بوارث آدم و نوح و ابراهیم و موسی و عیسی و محمد. و أخیرا ینتقلون الی الجهة الغربیة و یقولون: و کن شفیعی عند اللّه عز و جل، و منقذی من نار جهنم، و مؤیدی فی الأرض، و مرشدی فی طریق الحیاة، و صدیقی و رفیقی فی القبر، و السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته.
.. و هناک فی وسط الصحن منصة مرتفعة من الحجر، تبلغ مساحتها سبعة و ثلاثین قدما مربعا، و تحاط ببرکة فی کل جانب من جوانبها. و هذه تسمی «مسجد المرأة العجوز» تخلیدا لذکری المرأة التی ظلت ترفض بیع تلک البقعة من الأرض ردحا طویلا من الزمن.
و فی شرق المبنی الرئیس للمشهد یوجد «الصحن الجدید» الذی بنی فی أیام فتح علی شاه. و یتوسطه أیضا حوض ماء، لأن وجود الماء الکثیر ضروری لجموع الزوار المحتشدة التی تقدره حق قدره لاحتیاجهم له فی کثیر من الحالات فقط، بل لیساعدهم أیضا فی التوضی اینما وجدوا فی أنحاء المشهد المقدس.
و تضاء الأصحن الثلاثة خلال شهر رمضان کله، و فی لیالی العطل و أیام الزیارة، إضاءة تامة. و نظرا لعدم وجود أضویة کهربائیة (کتب هذا البحث نقلا عن طبعة دائرة المعارف الاسلامیة المطبوعة فی 1913) فوق القباب و المنائر فان مرتسماتها الرشیقة و انعکاس الأضویة علیها، و ألوانها الزاهیة، یمکن ان تلاحظ لا فی کل مکان من أمکنة المدینة فقط بل یستطیع الزوار و المسافرون ایضا ان یشاهدوها من بعد خمسة عشر میلا تقریبا.

المشهد المقدس فی دائرة المعارف الإسلامیة

اما ما تذکره دائرة المعارف الاسلامیة عن الروضة المقدسة و موقعها من المدینة فیبدأ بالقول ان المنطقة المقدسة تقسم الشارع الرئیس فی المدینة الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 249
قسمین: الشارع الأعلی (بالاخیابان) فی الجهة الشمالیة الغربیة، و الشارع الأسفل (پایین خیابان) فی الجهة الجنوبیة الشرقیة، و یبلغ طول الأول ثلاثة أضعاف طول الثانی. و تسمی المنطقة المقدسة، التی یشغلها المشهد المقدس عادة «البسط». و کثیرا ما یطلق علیه کذلک اسم «الحرم الشریف» أو «الحرم المقدس» او «الحرم الرضوی». و یقع البسط، الذی تبلغ مساحته 900* 700 قدم فی النصف الأوطأ من الشارع الرئیس. و هو بأصحنه و جوامعه و مدارسه و خاناته و أسواقه و مساکنه و ما أشبه یکوّن بلدة قائمة بذاتها، و یعزله سور یلتف حوله عزلا تاما عن بقیة مدینة المشهد. اما المداخل الرئیسة التی تؤدی الیه من «الخیابان» فهی البوابة الکبیرة فی الشمال و البوابة الکبیرة فی الجنوب، لکن فتحة کل منهما تعترضها سلسلة کبیرة تمنع دخول أی حیوان او واسطة نقل الی الداخل. لأن أرض البسط أرض مقدسة لا یمکن ان توطأ الا بالقدم، و اذا ما دخل أی حیوان بالصدفة فیعتبر ملکا لادارة العتبة.
و للبسط حرمة خاصة للجوء أیضا، فان أی مدین یلجأ الیه یصبح فی مأمن عن الدائن، و لا یمکن ان یسلم المجرم الملتجی‌ء الی الحکومة الا بأمر من «المتولی باشی»، و لا یتم هذا الا بعد ثلاثة أیام علی الأقل. و یقوم بالمحافظة علی الأمن الدقیق و النظام فی داخله شرطة البسط الخاصة، و هناک سجن خاص للصوص فیه.
و یمنع غیر المسلمین منعا باتا عن الدخول الی البسط. غیر ان هذا لم یکن ثمة تشدید فیه سابقا علی ما یبدو، لأن کلافیو الاسبانی سمح له بالدخول الی الحرم الرضوی فی 1404، کما استطاع الرحالة التالیة اسماؤهم من الأجانب ان یدخلوا الی المنطقة المقدسة أیضا خلال القرن التاسع عشر: فریزر (1822 و 1832)، و کونولی (1830)، و برنز (1832)، و فیریر (1845)، و أیستویک (1862)، و فامبری (1863)، و الکولونیل دولمیج (أواخر الستینات)، و ماسی (1893). و لم یدخل من هؤلاء الی الروضة ج 1- خراسان (17)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 250
المقدسة فعلا سوی فریزر و کونولی و دولمیج و ماسی. و قد لبس فامبری و ماسی ملابس المسلمین حینما دخلوا، بینما احتفظ الباقون بملابسهم الأوربیة خلال الزیارة. و قد وصف جمیع هؤلاء تقریبا المنطقة المقدسة وصفا کاملا فی الغالب.
و برغم المرات العدیدة التی نهبت فیها هذه العتبة العلویة خلال السنین و الأیام فانها ما تزال تحتفظ بنفائس لا تحصی فی أبنیتها الخاصة، یمکن ان تغطی علی جمیع الموجود من مثلها فی العتبات الاسلامیة الأخری، بما فی ذلک کربلا و النجف أیضا، و ربما باستثناء مکة المکرمة فقط ..
ثم تقول دائرة المعارف الاسلامیة ان تقدیم معلومات مفصلة عن الحرم الشریف، و تاریخه المعماری، بالنسبة لما هو علیه الیوم شی‌ء غیر ممکن نظرا للمنع البات المفروض علی دخول الباحثین غیر المسلمین الیه. و اعتمادا علی وصف المنطقة المقدسة الذی یقدمه الأوربیون و المستشرقون، و علی الکتابات المدونة علی الجدران، یمکن ان یفترض باحتمال غیر یسیر ان الضریح الأصلی بشکله الحالی، یعود تاریخه، بالنسبة لما تذکره الکتابات المنقوشة علیه، الی أوائل القرن السادس (الثانی عشر) و لم یبق من آثار الحقب المتقدمة علی هذا التاریخ شی‌ء یذکر فیه. أما الحرم فهو بشکله الحالی من نتاج الخمس مئة السنة الأخیرة.
و تقوم العتبة فوق القبر و ملحقاته فی وسط البقعة المقدسة، فبحدها؟؟؟ من الشمال و الشرق صحنان کبیران هما: (صحن کهنه)، و (صحن نو) بینما یحدها من الجنوب مبنی جامع گوهرشاد واسع الأرجاء.
و أهم المداخل الی البسط، التی یفضلها الزوار فی العادة بوابة «بالاخیابان» التی تعترضها سلسلة ضخمة من السلاسل. و یمتلی‌ء الطریق الممتد فی هذا الشارع الی مسافة (250) یاردة بالدکاکین و المخازن، ثم ینتهی ببوابة کبری یدخل منها الزوار الی الصحن القدیم (صحن کهنه). و یرجع تاریخ القسم الشمالی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 251
من هذا الصحن الی أیام الشاه عباس الأول، بینما یرجع تاریخ القسم الجنوبی منه الی النصف الثانی من القرن التاسع (الخامس عشر)، لکنه کان قد أعید بناؤه کله فی عهد نادر شاه. و هناک أربعة أبراج کبیرة لها أواوین تسمح بدخول الناس الی هذا الصحن، و أبسط هذه الأبراج البرج الغربی و الشرقی اللذان شیدهما الشاه عباس الأول، و قد بنیت الساعة الکبری فی الأول منهما بینما تستعمل منصة الثانی بمقام «نقاره‌خانه» یقابل طلوع الشمس و غروبها منها بالنقر الموسیقی، جریا علی العادة القدیمة التی کانت موجودة فی المدن الایرانیة الملکیة الأخری. و یخرج المرء من الباب الشرقی الی سوق الشارع الأسفل «پایین خیابان». علی ان البوابة الشمالیة التی بناها الشاه عباس الثانی، و البوابة الجنوبیة للصحن التی شیدها نادر شاه، تعتبران من أفخم الأبواب من الناحیة المعماریة، و لا سیما الجنوبیة التی تعم أفخم و أجمل ما بناه نادر شاه فی الحرم أجمع. و تقوم فوق کل من هاتین البوابتین الکبیرتین منارة یبلغ ارتفاعها مئة متر، و یکون قسمها العلوی مکسوا بالذهب. و قد بنی نادر فی الوسط کذلک «بئر نادر» المثمنة الأضلاع المشهورة، المغطاة بما یسمی «سقاخانه نادری». و کانت هذه قد نحتت فی قطعة کبیرة من المرمر الأبیض کان نادر قد جاء بها من هراة بتکالیف باهظة. و یمتد فی جدران الصحن صفان من الأروقة، یشغل الصف الأسفل منهما الصناع، و المدارس الدینیة، و مساکن خدم الجامع، بینما یشغل موظفو الامام الکبار الطابق العلوی.
و قد بلط الصحن کله، الذی یبلغ طوله حوالی مئة یاردة و عرضه سبعین، بحجارة سوداء من حجر المشهد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 252
و تؤدی «باب نادر الذهب» الی حیث یثوی الجدث المقدس، مع الأبهاء و الغرف المحیطة به. و اذا ما توخینا الدقة فی التعبیر یجب ان تطلق کلمة الحرم، أو الحرم المقدس، أو الحرم المبارک، علی هذه النواة فقط. و قد تستعمل لذلک کلمة «الروضة المطهرة» أو (آستان). و بعد ان یدخل المرء من باب الذهب یصبح فی «دار السیادة» التی بنتها گوهرشاد، و هی أجمل بهو فی المنطقة المقدسة. و یوجد هنا معلقا علی أحد الجدران صحن مدور للأکل یقال أنه الصحن المشؤوم الذی قدم فیه العنب المسموم الی الامام علی الرضا (ع). و یستطیع الزائر من هنا ان ینظر الی داخل الروضة المقدسة من شباک فضة. و اذا ما استدار نحو الجنوب الشرقی یدخل الی غرفة أصغر أکثر بساطة فی زخرفتها، و هذه تسمی «دار الحفاظ».
و فی جوار دار الحفاظ من الشمال، تقع القبة التی یرقد فیها الامام علیه السلام، او الحضرة. و تضاء داخلیة الحضرة، و هی عبارة عن بقعة تکاد تکون مربعة تبلغ مساحتها 30* 27 قدما، لعدم وجود شبابیک فیها، بأضویة معتمة من مصابیح ذهب و شمعدانات عدة ، و تزین تزیینا فخما.
و یقع القبر نفسه فی الزاویة الشمالیة الشرقیة، فیحاط بثلاثة شبابیک جمیلة واحد منها یرجع بتاریخه الی 1747، و یعتقد أنه قد جی‌ء به من فوق قبر نادر شاه الذی لم یبق له وجود . و قد أهدی الشاه عباس الأول سقف القبر و کساءه الذهب، و فی امتداد أسفل القبر وضع فتح علی شاه بابا کاذبة من الذهب المطعم بالجواهر. و تحفظ فی حنیات أو أروقة صغیرة فی الجدار وراء زجاج نذور ثمینة مقدمة فی الغالب من الأسر الاسلامیة المالکة. و ثمة علی الجدار قطعتان من الکتابة العربیة یرجع تاریخهما الی 512 (1118) و 612
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 253
(1215)، و تعتبر الأولی منهما أول نموذج معروف لخط الثلث فی العربیة.
و قد تساعدنا هاتان القطعتان من الخط علی اعتبار تاریخ الغرفة الحالیة فی بدایة القرن السادس (الثانی عشر)، بینما لم تشید القبة المکسوة ببلاطات نحاسیة مکسوة بالذهب، التی ترتفع الی 65 قدما، الا فی 1607 من قبل الشاه عباس الأول، ثم جددها فی 1657 سلیمان الاول، کما یستفاد من الکتابة المنقوشة علیها فی الخارج. و لما کان خیط الأخبار المتواترة عن موقع قبر الامام لا یمکن ان یکون قد قطع مطلقا، فیمکن أن یقال بالتأکید تقریبا أن القبة الحالیة قد بنیت فی الموقع الأصلی. و لیس هناک أی أثر لقبر هارون الرشید فی الوقت الحاضر، و ربما کان موقعه فی وسط الغرفة التی تعلوها القبة حینما دفن الامام الرضا من بعده فی إحدی زوایا المکان نفسه.
و لن نذکر من الغرف و الأبنیة المنعزلة الأخری التابعة لمجموعة الحرم الأصلی هنا سوی «گمبد اللّه و یردی خان» (المنارة) الکائن فی الجهة الشمالیة الشرقیة، المسمی باسم بانیه، و هو من قادة الشاه عباس الأول المشهورین.
و اذا ما ترک المرء غرفة الحضرة المقدسة من الباب الشرقیة یصل، بعد ان یمر بغرفتین متجاورتین، الی بوابة ناصر الدین الذهب المؤدیة الی الصحن الجدید. و قد بدأ بتشیید هذا الصحن فتح علی شاه فی 1818، و أکمله خلیفتاه الاثنان من بعده فی 1855. اما اذا استدار المرء الی الجهة الجنوبیة من «دار السیادة» المار ذکرها فانه سرعان ما یصبح فی منطقة الجامع الجمیل الذی تبرعت بانشائه السلطانة گوهرشاد زوجة السلطان شاه‌رخ.

موظفو المشهد المقدس و خدامه

جاء فی (عقیدة الشیعة ) للدکتور دونالدسون ان المشهد الرضوی فیه عدد کبیر من الموظفین و المستخدمین الذین یقومون علی أمره کل یوم .. و ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 254
الوفر حینما یسقط بکثرة أول مرة فی السنة یبتهج الناس جمیعهم فی مدینة المشهد، لأن انحباس الوفر و الأمطار کثیرا ما یؤدی الی المجاعة و العسر فی البلاد. و لهذا أصبح من المعتاد ان یبادر موظفو المشهد الرضوی الکبار بهذه المناسبة الی اخذ المجارف بأیدیهم و الصعود بها الی سطح الحضرة، لینظفوا الوفر المتراکم عن قاعدة القبة الذهب. و یعد هذا من مظاهر التعبیر عن الشکر و المنة للامام حینما یوقن الناس ان الموسم الجدید سیکون موسم خیر و برکة للجمیع.
و أکبر هؤلاء الموظفین هو ال «متولی باشی» الذی یعینه الشاه لادارة شؤون العتبة بأجمعها، و ینتظر منه ان یدفع الی خزانة الحکومة المرکزیة 10% من مجموع وارداتها. و یأتی بعده «نائب التولیة» الذی یجب ان یکون من سلالة الامام رأسا، و تعهد الیه الرئاسة الدینیة. و لذلک یکون منصبه هذا منصبا وراثیا فی العادة، مثل منصب القائم مقام الذی یکون رئیسا لمجلس الأمناء. و بالاضافة الی هؤلاء الثلاثة هناک ستة او ثمانیة موظفین تناط بهم واجبات تنفیذیة و کتابیة یتسلمون لقاءها رواتب و أجور معینة. و لقد أثری عدد من هؤلاء بوجودهم فی مثل هذه المراکز و قیامهم بالاشراف علی ممتلکات العتبة و وارداتها.
علی ان الذی یرهق واردات العتبة إرهاقا شدیدا هو وجود عدد کبیر جدا من الخدم و المصاحبین. فقد کان هناک الی وقت قریب حوالی سبع مئة بواب (دربان) مسجلین فی قائمة الدفع، لیتسلم کل منهم خمسة و عشرین پاونا استرلینیا، و ألف پاون من القمح، فی کل سنة. و یتوزع هؤلاء البوابون الی جماعات، تتولی کل جماعة القیام بالواجبات المنوطة بها مدة أربع و عشرین ساعة، مرة واحدة کل خمسة أیام. و تنحصر واجباتهم غالبا فی اعمال الحراسة و التشریفات. و الی جانب هؤلاء کان هناک ألف خادم یتقاضون ضعف ما یتقاضاه البوابون ایضا، و یتوزعون الی خمس جماعات کما یتوزع البوابون أیضا. و حینما یتولی أحدهم عمله فی اللیل بقدم له طعام العشاء، المتألف من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 255
الرز المسلوق و لحم الضأن المألوف فی بلاد الشرق الأدنی. و یقدم لهم هذا عادة فی الایوان الذهب. و من واجبات الخدام الاعتیادیة تنطیف الصحن و الممرات و تطهیره تطهیرا شرعیا بمقدار کاف من الماء عندما یستدعی الأمر ذلک، و إشعال الشموع و الأضویة، و المساعدة فی أعمال الکنس، و ما أشبه.
و سواء کان هؤلاء الألف و سبع مئة مستخدم من الخدام او البوابین، فکل فرد منهم له الحق فی ان یدفن فی مقبرة العتبة نفسها خمسة أموات من أقاربه.
علی أن عدد هؤلاء قد أنقص حالیا بأمر من الشاه، فنقص المجموع الی ثلث ما کان علیه قبل خمس سنوات (طبع الکتاب فی 1933).
و بالاضافة الی هؤلاء المستخدمین، هناک عدد غیر یسیر من الناس یجعلون منطقة المشهد المقدس مکانا لأعمالهم التجاریة. فهناک طبقة تقلیدیة من «الوعّاظ» یرتقون المنابر المنتشرة فی الأصحن و الممرات. و هناک القراء الذین یحفظون القرآن عن غیب «الحفّاظ»، و هؤلاء یقسمونه الی ثلاثین قسما یقرؤون کل قسم منها فی یوم من أیام الشهر علی حسابهم، لکن ذلک کثیرا ما یکون باتفاق مع الآخرین. و یوجد کذلک حوالی أربعین او خمسین من قراء الزیارة.
«زیارة خوانان» الذین یقودون جماعات الزوار الأمیین و یستأذنون لهم بالدخول الی الحضرة و السلام علی الامام (ع) فی الأماکن المعینة عند الطواف حول ضریحه. لکن هؤلاء یتسلمون اکرامیات من الزوار عادة.
و قد کان هناک الی وقت قریب کذلک عدد من کتاب الأدعیة، یجلسون فی الصحن القدیم و یکتبون أدعیة یأخذها المشترون الأمیون منهم فیشدونها حول أذرعهم، أو أذرع أطفالهم، لیدفعوا عنهم شر الأمراض او یجلبون لهم الحظ السعید .. و یرتاد الصحن القدیم و الجدید أیضا عدد من باعة الطلاسم المتجولین أیضا فیستغلون الآلاف من الزوار الذین یأتون الی الزیارة فی کل سنة. علی أنه لا بد من ان یشاد بذکر الادارة الحالیة فی منع الکثیر من هذه الطفیلیات عن استغلال الزوار فی الایام الأخیرة.
اما الاستاذ ستریک کاتب بحث المشهد فی دائرة المعارف الاسلامیة فیقول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 256
أنه کان یوجد علی رأس الادارة فی الحرم، منذ القدم، متولی باشی. و هذا ینبغی ان یکون من العوام، و لیس من السادة. و نظرا لطبیعة هذا المنصب و أهمیة شاغله بصفته رئیسا لأعظم عتبة مقدسة فی ایران و مسؤولا عن مالیة أعظم مؤسسة استثماریة، فمن الطبیعی أن یکون التعیین لها شیئا مشرفا للغایة.
و لما کان من المؤمل جدا أن یحصل نزاع علی السلطة بین شاغل هذا المنصب، و ممثل السلطة الدینیة، و حاکم خراسان، فقد نیطت الناحیة الکتابیة منذ أواسط القرن التاسع عشر بالسلطة المدنیة فی المنطقة بجعل مکتب المتولی باشی تابعا للحاکم. و لما کان شاغل هذا المنصب یستفید استفادة جلی من وظیفته، لأنه یأخذ 10% من واردات الحرم و ممتلکاته، فقد حرم علی الشخص الواحد أن یشغله أکثر من فترة معینة من الزمن تطول لعدد من السنین فقط.
و تساعد المتولی باشی، علی ما یقول الاستاذ ستریک، هیئة من المتولین.
و تنضوی تحت لوائه کذلک طبقة من رجال الدین الذین یعد المجتهدون، بنفوذهم الواسع و معرفتهم بشؤون الشرع و أحواله، فی المقدمة من بینهم.
و یأتی بعد ذلک جیش الملائیة الذین یقومون بمختلف الخدمات الدینیة مثل القیام بالمراسیم الدینیة و تدریس «طلبة العلم»، و الطواف بالزوار، و ما أشبه.
و هناک عدد غیر قلیل من هؤلاء یعیشون علی کتابة وثائق دینیة رسمیة مختومة بختم الامام تتطرق الی مختلف الامور، و منها الاجابة علی ما یرد فی العرائض التی یودعها الزوار فی الضریح المقدس.

ممتلکات المشهد الرضوی و وارداته

توحد فی المنطقة المقدسة من مدینة المشهد، علی ما یذکر فی دائرة المعارف الاسلامیة، أغنی الأسواق و أکثرها ازدحاما و مشغولیة، و أغنی المدارس الدینیة فی أوقافها و وارداتها؟؟؟، و أکثر الخانات و المنازل أرباحا و ثروة، و أهم الحمامات و اکثرها فی الزبائن. و هذه کلها، مع جمیع البیوت و المساکن الموجودة فی المنطقة، تعد ملکا صرفا للامام (ع)، و العلویین المدفونین هناک،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 257
الذین ینتسبون الی الطبقة الدینیة التی تدیر الحرم بالنیابة عنه. و تعود لهذه الجهة کذلک ممتلکات أخری من الأراضی و المبانی و القنوات فی أیالات ایران الإخری، و لا سیما فی الجوار القریب و البعید لمدینة المشهد نفسها. و یضاف الی المبالغ الجسمیة و المنتجات التی ترد من هذه الممتلکات، علی شکل حاصلات و بدلات ایجار و ما أشبه، المدفوعات غیر القلیلة التی تقدم للمآتم و القبور و التی یدفعها الزوار و ما أشبه. غیر ان هذه المبالغ کلها تقابلها من جهة أخری مبالغ و مصروفات تدفع للموظفین الکبار و غیر الکبار و للخدم و غیرهم من المستخدمین، و الی ما یحتاجه الحرم الشریف من صیانة و ترمیم و أضاءة و زینة و غیر ذلک.
و یقدم دونالدسون (الص 183) من جهة أخری معلومات مفیدة فی هذا الشأن، برغم کونها قدیمة فی حالات کثیرة. فهو یقول ان نشرة خاصة نشرت سنة 1900، ذکر فیها جمیع الممتلکات التی تعود للمشهد الرضوی المقدس، و کان ناشرها شخصا یدعی عظیم الدولة. و هذه تدل علی أن هبات کثیرة قدمت الی المشهد المقدس من ملوک ایران و حکامها المتعاقبین علی شکل أملاک، فمسکت لها سجلات خاصة تسمی «طومارات». و فی هذه الطومارات تذکر الواردات السنویة بالنقد أو الحاصلات من الحقول الکثیرة و البساتین، و الدکاکین، و الحمامات، و المطاحن، و ما أشبه و برغم عدم وجود أرقام بمجموع الواردات فی هذه النشرة فقد قدّر مجموع الوارد السنوی من هذه الممتلکات بمقدار (000، 235) پاون استرلینی. ثم یقول دونالدسون، و لکن إحدی الجرائد الایرانیة نشرت بعد صدور هذه النشرة ما یفهم منه ان واردات هذه الممتلکات فی (1878) بلغ مجموعها (000، 250) پاون.
لکن ملک ایران الحالی (المقصود رضا بهلوی والد الشاه الحالی) قد نجح فی أخذ ادارة جمیع الأملاک و الأوقاف الدینیة فی جمیع البلاد و سلمها بید الحکومة فکانت النتیجة ان أصبح المصرف الوطنی الایرانی نفسه یتولی الآن الشؤون المالیة التابعة للمشهد المقدس. و المقول ان الواردات السنویة قد ازدادت بهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 258
زیادة ملحوظة .

مساجد المشهد و أماکن الزیارة الأخری

و یذکر الاستاذ ستریک، فی دائرة المعارف الاسلامیة، ان مدینة المشهد غنیة جدا بمساجدها المشیدة فی البقعة المقدسة، و المقابر، و المدافن الخاصة.
و ترتبط هذه فی الغالب بالمدارس الدینیة و سائر الأبنیة ذات الصبغة الدینیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 259
الخاصة. و هنا یجب ان یذکر کذلک «المصلی» الذی یقوم علی بعد نصف میل من باب الشارع الأسفل (پایین خیابان) علی طریق هراة. و هو عبارة عن ایوان یرتفع الی علو ثلاثین قدما، و یؤدی الی طاق جسیم یعلو الی ارتفاع ستین قدما.
و یعد جامع (کوهرشاد) أفخم جامع فی المنطقة المقدسة و أجملها بناء و زخرفة. و قد تبرعت ببنائه السلطانة گوهرشاد زوجة السلطان شاه‌رخ من أبناء تیمور لنک. و یشابه صحن هذا الجامع الصحن القدیم فی المشهد الرضوی، فهو یمتد من الشمال الی الجنوب بطول مائة یاردة تقریبا و عرض تسعین یاردة.
و یعترض طول کل ضلع من أضلاعه الأربعة ایوان جمیل، بینما یمتد فی الجدران الممتدة فی جهتی کل ایوان من هذه الأواوین صف من الأروقة المعد کل منها للسکنی. و أکبر و أجمل الأواوین الأربعة الموجودة فی هذا الجامع هو «ایوان المقصورة» الواقع فی الضلع الجنوبی، و یستعمل للصلوة. و تعلو ایوان المدخل فی هذا الجامع قبة زرقاء تفوق قبة الامام الرضا فی علوها و عرضها و تقوم بجانبها منارتان مرتفعتان مکسوتان بقاشانی مزجج أزرق. و یشغل وسط الصحن «مسجد پیرزن» او «مسجد المرأة العجوز»، و هو عبارة عن بقعة غیر مسقفة، مربعة الشکل، محاطة بدرابزین خشب یجری من حوله الماء فی قناة صخریة عمیقة.
و یقول دونالدسون (الص 182) عن جامع گوهرشاد هذا أن مساحته کله، بما فیه الصحن، تبلغ 181* 164 قدما. و له قبة فخمة زرقاء اللون، تقوم بجانبیها منارتان مزینتان بالقاشانی الأزرق، و ترتفعان مع القبة الی علو (140) قدما، و ارتفاعها 87 قدما، و هناک فی کل جانب من هذا الممشی الکبیر غرف تسمی «أماکن اللیل» . و هکذا لا یختلف الجامع بشکله عن شکل الکنیسة بکثیر، فیما عدا وجود الجبهة الکبیرة المکشوفة فیه، مع طاقه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 260
و منارتیه المزخرفتین بأشکال معقدة دقیقة بحیث یتکون منها تناسق مبهج من الألوان. و علی القبة الجسیمة المکسوة بالقاشانی الأزرق، الذی تتغیر صبغته بتبدل النور علی ما یبدو، تلاحظ کتابة شعار المسلمین المعروف: لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه. و قد نقشت فی قاعدة القبة الکبیرة اول (39) آیة من سورة یاسین التی یعیرها الشیعة أهمیة خاصة.
و فی وسط صحن المسجد توجد منصة مرتفعة مساحتها 37 قدما مربعا، و هی محاطة ببرکة من الماء فی کل جانب من جوانبها. و هذه تسمی «مسجد المرأة العجوز»، تخلیدا لذکری امرأة عجوز یزعم أنها بقیت مدة من الزمن تمتنع عن بیع هذه القطعة من الأرض بالذات.
و من الأماکن الصغیرة التی یزورها الزوار فی الحرم الرضوی الشریف لا بد من ان نذکر اثنین منهما هنا، علی ما تقول دائرة المعارف الاسلامیة.
و أولهما: «زیارة قدم مبارک» التی تسمی أیضا «جاسنک چهارپا»، و هی عبارة عن فسحة مدورة تغطیها قبة تقع فی شرق الایوان الشمالی فی جامع کوهرشاد. و فی هذه الفسحة تشاهد قطعة حجر بیضویة الشکل رمادیة غامقة فی لونها، یقال أن فیها اثرا منطبعا لقدم الامام الرضا (ع). اما الشی‌ء الثانی فهو عبارة عن عمود حجری طویل نحت فیه حوض ماء، و یعتقد أنه نیزک نزل فی هذا المکان من السماء بصفة قطعة حجر لا شکل لها.

المدارس الدینیة

جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة (المختصرة) ان مدینة المشهد تعد مرکزا للدراسات الاسلامیة الدینیة و الشرعیة فی ایران، و قد تخصص عددا من الکلیات أو المدارس الدینیة لتدریس هذه المواضیع فیها. و یذکر فی هذا المرجع ان الرحالة فریزر یورد فی رحلته قائمة بأربع عشرة مدرسة من المدارس الست عشرة الموجودة فیها الیوم، و ان المستشرق خانیکوف یذکر ثلاث عشرة منها، و ان السید مهدی العلوی یذکر فی مؤلفه عن المشهد الرضوی ان المشهد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 261
کانت فیه عشرون مدرسة دینیة، و لا یورد الا أسماء خمس عشرة فیها ..
و یلاحظ من هذه المراجع التی یتمم بعضها بعضا ان أقدم مدرسة من المدارس الموجودة حتی الیوم هی «مدرسة دودر»، التی شیدها سنة 823 (1420 م) شاه‌رخ و رمم بناءها سلیمان الأول. و قد بنیت فی عهد السلطان نفسه «مدرسة پریزاد»، فأعاد بناءها و غیّر شکلها بعده سلیمان الأول أیضا. ثم شیدت فی عهد الشاه عباس الثانی مدرسة «خیرت خان» (1058/ 1649 م) و مدرسة «مرزا جعفر» (1059/ 1650). علی أن غالبیة المدارس الدینیة القدیمة، التی لا یقل عددها عن تسع، تعود فی تاریخها الی عهد سلیمان الأول الذی أعاد بناء بعض الأبنیة لها (1666- 1694 م).
اما فی عهد القاجاریین، فقد تأسست واحدة فی أیام فتح علی شاه و اثنتان فی أیام ناصر الدین شاه الذی أعاد أیضا بناء مدرستین کانتا قد تهدمتا من قبل.
و أجمل مدرسة من ناحیة الفن المعماری هی مدرسة (مرزا جعفر)، التی بناها و أوقف لها أوقافا کثیرة رجل ایرانی یحمل هذا الاسم کان قد جمع ثروة کبیرة فی الهند. و هی تعتبر بوجه عام فی المرتبة الثالثة بین الأبنیة الجمیلة فی المشهد، أی أنها تأتی بعد المشهد الرضوی المقدس و جامع گوهرشاد.
و هی بتصمیمها و أواوینها المقببة، و بفنائها و أروقتها و زخرفتها، تتجانس مع طراز الأصحنة و المساجد الموجودة فی البقعة المقدسة المار وصفها آنفا، فتعد نمودجا لفن العمارة الاسلامی فی ایران. و هناک مدارس أخری لها أوقاف کثیرة غیر مدرسة مرزا جعفر، مثل مدرسة «پایین پا»، یرجع الفضل فی تشییدها الی الایرانیین الذین جمعوا ثروات جسیمة فی الهند. و أهم هذه الکلیات أو المدارس الدینیة، التی توجد فی منطقة البسط. هی المدارس التی مرت الاشارة الی کونها أقدم مدارس المشهد ای مدرسة (دودر) و مدرسة (پریزاد) و (خیرت خان)، و کذلک مدرسة (بالاسر) و مدرسة (علی نقی مرزا) و بعض المدارس الدینیة مثل مدرسة مرزا جعفر المار ذکرها، و مدرسة مستشار، لها أبواب تتصل بالصحن القدیم التابع لمنطقة الحرم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 262
و یعیش الطلاب أیضا فی المدارس الدینیة نفسها، فیصرف علی إعاشتهم من الأوقاف الدینیة. و اذا کان عدد الطلاب قلیلا، و نوعیة المدرسین الممتازین معدومة فی أیام المستشرق خانیکوف (1858)، فقد ارتفعت سمعة مدارس المشهد الدینیة فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر علی ما یستفاد مما کتبه سایکس سنة 1910 فی کتابه (مجد العالم الشیعی) ، حتی بلغ عدد طلبة العلم فیها (1200) طالب من ایران و الهند و سائر البلاد الشیعیة. و کان یتحتم علی الطالب الذی یرغب فی الدراسة الدینیة العالیة، بعد دراسة تسع سنوات فی المشهد، ان یذهب الی مشهد علی (النجف الأشرف) و یتلقی المحاضرات فیها علی رجال یعدون فی الدرجة الأولی بالعلوم الدینیة.
و هناک عدد من مدارس المشهد الدینیة توجد فیها مکتبات لا بأس بها.
و قد أسس شاه‌رخ المکتبة العائدة لادارة الحرم فی النصف الأول من القرن الخامس عشر. لکن النفائس الموجودة فیها فقدت معظمها حینما نهب الأوزبک مدینة المشهد فی عهد عبد المؤمن خان (1589). و منذ سنة 1926 أخذت تظهر نشرة خاصة عن مخطوطات المشهد بعنوان «فهرست کتابخانه مبارکه آستان رضوی»، فظهرت الأجزاء الثلاثة الأولی فی سنة 1305 ه، ثم طبع الجزء الرابع فی 1325 (1946 م). و لا بد لنا هنا من أن ننوه بنشاط الطباعة فی المشهد، الذی بدأ فی العقد الأخیر من القرن التاسع عشر.

الإمام الرضا

لقد أفرد الدکتور دونالدسون فصلا خاصا، کتب فیه بشی‌ء من التفصیل عن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 263
الامام الرضا علیه السلام، و عنونه بعنوان «علی الرضا، الامام المتورط بالسیاسة».
و یبدأ بحثه هذا بمقدمة تاریخیة و جیزة یقول فیها ان هارون الرشید قضی علی نفوذ البرامکة بقسوة متناهیة، و أصبح الفضل بن الربیع، المحب للعرب و الکاره للایرانیین، وزیرا من جدید. و کان الحرب العربی کثیر التوق الی ان یخلف هارون الرشید فی الخلافة ابنه الأمین من بین الأخوین الأمین و المأمون، لأنه کان عربیا خالصا فی أصله بینما کان أخوه المأمون من أم ایرانیة هی الجاریة مراجل. لکن هارون الرشید کان یعترف بقابلیة المأمون و أرجحیته للحکم.
و لما کان یخشی ان تنقسم الأمبراطوریة الاسلامیة علی نفسها بعد انتقاله الی الآخرة کانت تساوره علی الدوام حیرة تنم عن تخوفه من اختلاف ابنیه من بعده و انقسام الامبراطوریة لهذا السبب. و لأجل ان یحول دون هذا الانقسام فی حیاته بعث ذات یوم بجلاده مسرور لیأتی الیه من السجن بیحی البرمکی، الذی شعر بحاجة الی مشورته. فأخذ یشرح له ما فی فکره و یقول: .. یا أبا الفضل، ان رسول اللّه (ص) مات فی غیر وصیة و الاسلام جذع، و الایمان جدید، و کلمة العرب مجتمعة، قد آمنها اللّه تعالی بعد الخوف، و أعزها بعد الذل، فما لبث ان ارتد عامة العرب علی أبی بکر، و کان من خبره ما علمت، و ان أبا بکر صیّر الأمر الی عمر، فسلمت الأمة له، و رضیت بخلافته، ثم صیرها عمر شوری، فکان بعده ما قد بلغک من الفتن حتی صارت الی غیر أهلها، و قد عنیت بتصحیح هذا العهد و تصییره الی من أرضی سیرته، و أحمد طریقته، واثق بحسن سیاسته، و آمن ضعفه و وهنه، و هو عبد اللّه (المأمون)، و بنو هاشم مائلون الی محمد (الأمین) بأهوائهم، و فیه ما فیه من الانقیاد لهواه، و التصرف مع طویته، و التبذیر لما حوته یده، و مشارکة النساء و الأماء فی رأیه، و عبد اللّه المرضی الطریقة، الأصیل الرأی، الموثوق به فی الأمر العظیم، فان ملت الی عبد اللّه اسخطت بنی هاشم، و ان أفردت محمدا بالأمر لم آمن تخلیطه علی الرعیة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 264
و علی؟؟؟، ففی السنة 183 للهجرة، و هی السنة التی دبر فیها مسرور نفسه؟؟؟ القضاء علی حیاة الامام موسی الکاظم (ع) فی سجن السندی بن شاهک، أعلن هارون الرشید للملأ تعیین الأمین خلیفة له فی بغداد «مع حمایة الحرمین الشریفین و زعامة الاسلام الروحیة»، علی ان یحکم المأمون الأقالیم الشرقیة التی یکثر فیها وجود الایرانیین، و تکون عاصمته فی مرو. و فی حالة وفاة أحدهما یتولی الباقی منهما حکم الامبراطوریة بأجمعها .
و بعد تسع سنوات، أی فی 192 للهجرة، توجه الرشید الی خراسان و فی معیته ابنه المأمون. فقد کانت تحدث هناک ثورات متتالیة، و کان التبرم منتشرا فی خراسان، و لذلک کان هدف الرشید من رحلته هذا ان یقضی علی هذه الحالة و یثبت المأمون فی منطقته الجدیدة. و بقی الأمین فی العراق، لکن صدیقه المتیقظ الفضل بن الربیع ارتحل مع الرشید بینما کان فی صحبة المأمون مستشاره الرئیس الفضل بن سهل.
و بعد ان ساروا فی هذه السفرة الطویلة المتعبة و قطعوا جبال البرز بطولها، ثم عبروا الممر فی البلدة المسماة شریف‌آباد الیوم، و صلوا الی نوقان أکبر بلدة فی منطقة طوس. و هنا أصیب الرشید فجأة بمرض خطیر، و قضی نحبه فی اللیلة نفسها. و ربما کانت وفاته هذه ناتجة عن الاجهاد الشدید الذی أصابه خلال الرحلة، فی الوقت الذی کان یخفی فیه عجزا جسمیا کان یشکو منه من قبل. أو انه، کما یری البعض، قد أصیب بنوبة قلبیة عصبیة حینما أدرک بأنه وصل مریضا الی طوس التی تنبأ له المتنبئون من قبل أنه سیموت فیها. فدفن فی بستان تقع فی مکان یقال له سناباذ، علی بعد میل واحد من نوقان. فتوجه بعد وفاته الفضل بن الربیع راجعا الی بغداد فی الحال، ثم أمر الجیش الذی صادفه قادما مع الامدادات فی الطریق بالعودة أیضا.
غیر ان المأمون غضب غضبا شدیدا لارتداد الفضل بن الربیع، لکنه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 265
کان الی جانبه الفضل بن سهل الذی کان اخلاصه للجانب الایرانی لا یدانیه الا کرهه لسمیه وزیر الأمین. فأشار هذا الرجل علی سیده بأن یتهیأ للنزاع الحاسم، لأن أخاه کان یقصد بحرمانه من الجند فی الحقیقة القضاء علی تولیه الحکم من بعده بالنحو الذی کان والدهما قد قرره. و ذکّره کذلک بالدور الفعال الذی کانت ایران قد لعبته فی تسلیم الخلافة للعباسیین فی أیام أبی مسلم الخراسانی، ثم حثه علی تقویة مرکزه باسترضاء الایرانیین، و العمل بعد ذلک علی أخذ السلطة کلها بیده .
و علی هذا وطد المأمون السلم فی خراسان، و التفت التفاتا خاصا للتقرب من رعایاه فی ذلک الاقلیم. و تمسک فی الوقت نفسه تمسکا تاما بالعهد الذی کان قطعه علی نفسه بین یدی والده فی مکة، و اعترف بخلافة أخیه الأمین.
لکن الفضل بن الربیع ما أن وصل بغداد حتی أخذ یقنع الأمین بتجاهل ما تعهد به هو نفسه بین یدی أبیه، فیعین ابنه موسی لیخلفه بدلا من المأمون. و قد تم ذلک بالفعل سنة 194 للهجرة. و بسبب هذا التحرش أخذ المأمون یتأهب لسوق جیوشه من خراسان لیحافظ علی حقه الخاص بالخلافة. و کانت هذه الجیوش، التی یوازرها الألوف من الایرانیین الذین کانوا یفضلون المأمون علی الأمین، بقیادة القائدین القدیرین هرثمة و طاهر .. و بلغت المعرکة أوجها فی حصار بغداد الذی کان طویلا صعبا (196- 198 ه) لم ینته الا بارسال رأس الأمین من قبل طاهر بن الحسین الی خراسان «برهانا علی ان الحرب قد انتهت فی الحقیقة».
و مع ان المأمون قد أعلن خلیفة للمسلمین فی هذا الوقت تنفیذا للعهد، الذی قوی أمره بانتصار جیوشه، فانه لم یجرأ علی العودة الی بغداد بنفسه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 266
الا بعد مرور ستة عوام. و فی خلال هذه المدة استمر علی الخضوع الشدید لنفوذ وزیره الفضل بن سهل، الذی کانت میوله الایرانیة و الشیعیة معروفة للجمیع. و أخیرا فکر بخطة دیبلوماسیة بارعة، فی نظره، و هی ان یحاول ترضیة الشیعة بتسمیة امامهم لیکون وریثه فی الخلافة.
و کان امام الشیعة فی ذلک الوقت علی الرضا بن الامام موسی الکاظم علیهما السلام. و قد کانت أمه هو أیضا أم ولد ایرانیة اسمها تکتم، إذ کانت السیدة حمیدة نفسها قد اختارتها هی لابنها موسی الکاظم. و یروی المرجع الذی یورد هذه الروایة و هو (المجلسی) ان الرضا کان فی طفولته یتطلب کثیرا من الحلیب، و حینما سئلت أمه عما اذا کان حلیبها قد قل أجابت تقول:
ان حلیبی فی الحقیقة لم یکن غیر کاف، لکنه هو کان یریده علی الدوام بحیث أنی أجد صعوبة فی توفیر الوقت الکافی للصلوة. و یقول دونالدسون بعد ذلک ان والده، بنسائه الکثیرات و أبنائه الثمانیة عشر و بناته التسع عشرة کان یهمل سجلات أسرته علی ما یبدو لأن سنة ولادة الامام الرضا یضعها عدة مؤرخین فی سنة متأخرة أی فی سنة متأخرة أی فی سنة 153 هجریة، لکن التاریخ المقبول عند الشیعة المؤرخین بأجمعهم هو 11 ذو القعدة سنة 148 هجریة. و لذلک یکون عمره عندما تولی الامامة فی المدینة بعد وفاة والده عشرین أو خمسا و عشرین سنة، و بعد ذلک بثمانی عشرة سنة کان الخلیفة غیر واثق من میل الناس له فی العراق بحیث فکر فی ان یتقرب من الفئات الشیعیة الکثیرة الموجودة فیه بتعیین الامام علی الرضا خلفا له فی الخلافة.
و قد کان الخلیفة المأمون یومذاک بعیدا فی مرو فأرسل یستقدم علیا الرضا من المدینة الی مقره العسکری البعید. فلبی الامام دعوة المأمون، و تحرک من المدینة سنة 200 للهجرة، مبتدءا برحلته الطویلة الی مرو التی کانت تعد فی تلک الأیام الزاویة الشمالیة الشرقیة المتطرفة من ایران. و بعمله هذا تخلی الامام عن الخطة التی کان قد اتبعها أسلافه الأئمة الثلاثة فی هذا الشأن، لان الامام لا یمکن ان یکون ولیا للعهد فی الخلافة ما لم یصبح متورطا بشدة فی السیاسة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 267
علی أنه جاهد فی تفهیم الناس بأن ذلک لم یکن یتفق و رغبته، و انما کان یفعل بموجب ما دعی الیه.
و یفهم من قائمة المعجزات الطویلة التی تنسب الیه علیه السلام أنه کان رجلا مفکرا محبوبا. و هنا یملأ دونالدسون صفحة کاملة بسرد المعجزات التی یشیر الیها. ثم یقول بعد ذلک ان الامام قبل ان یبدأ بسفرته الطویلة المضنیة من المدینة المنورة الی مرو أدی حجة الوداع فی مکة، ثم توجه الی البصرة بحیث یمکنه الوصول الی بغداد من دون ان یمر بالکوفة (نقلا عن الکلینی). ثم سار من بغداد شمالا فعبر الممرات الجبلیة فی الجبال العالیة الی کرمنشاه فهمدان.
و سافر من هناک بمراحل قصیرة الی الری، القریبة من موقع طهران الیوم.
و سارت القافلة المستأنیة من هناک، و هی تحمل نور محمد المتجسد فی ابنه، نحو الشرق مدة تنهاهز الشهر حتی وصلت الی مدینة طوس. و من طوس سار الرکب الی مدینة مرو الکائنة فیما یسمی بالترکستان الی یومنا هذا. و من الممکن ان یکون الامام (ع) قد سافر علی مهل و قطع المسافة بأکثر مما تستغرقه القافلة من الوقت عادة ما بین بغداد و مرو، لأنه استقبل باحتفاء مشهود فی کل مکان فتأخر کثیرا لهذا السبب.
و حینما وصل علیه السلام الی مرو وجد الخلیفة مصرا علی رأیه، لکنه عامله بحفاوة بالغة، و وضع تحت تصرفه منزلا باذخا. و یذهب الکتاب الشیعة الی انه أجبر علی قبول ما عرضه المأمون علیه، لکنه افصح عن تفضیله الأکید لأن یکون فی حل عن واجبات الأدارة الدنیویة. و قد أعلن ولیا لعهد المأمون رسمیا فی یوم 27 رمضان سنة (201) للهجرة علی ما یذکر الیعقوبی، ثم أمر الخلیفة بسک اسم الامام مع اسمه علی عملات الذهب و الفضة.
و کان هذا یعنی. علی ما یقول دونالدسون، أکثر من مجرد إشغال الأمام للمنصب الرسمی فی الحقیقة لأن المأمون دعا بنی العباس رجالا و نساء لیجتمعوا به فی مرو. فکان اجتماعا کبیرا حافلا حضر فیه ثلاثة و ثلاثون ألف شخص، من البالغین و الأطفال، و بعد ان اکتمل عقد الحضارة دعی الخلیفة الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 268
الرضا (ع) و أجلسه فی المکان الشرقی ما بین أعظم النبلاء و أشرفهم منزلة.
ثم أعلن للذین حضروا بانه تأمل بعنایة فی أحوال بنی العباس، و بنی علی، جمیعهم فلم یجد بینهم رجلا أکثر لیاقة و أشد استحقاقا لیخلفه فی الخلافة من علی الرضا. و لذلک أخذه بیده و أعلنه خلفا له علی ملأ من الحاضرین (الکلینی). و بعد هذا زوجه من ابنته أم حبیبة. و بعث المأمون الی الخارج أیضا بأوامره فی ترک السواد فی الألبسة و الرایات و استعمال الخضرة فی مکانة، و کان اللون الأخضر لون آل علی بینما کان الأسود لون بنی العباس.
و لا شک أن هذا العمل الخطیر قد نقلت تفصیلاته الی الحزب العربی فی بغداد، الذی کان ناقما علی المأمون منذ مدة طویلة. فأدرکت فروع الأسرة العباسیة فی العراق ان هذا التعیین سیحرمهم مما عندهم من سلطة رئیسیة علی أکثر الاحتمال.
و لذلک اجتمعوا سویة فقرروا خلع المأمون و مبایعة عمه ابراهیم بن المهدی خلیفة للمسلمین، و کان ذلک فی الخامس محرم الحرام سنة 202 للهجرة.
و حینما کان الامام الرضا مع المأمون فی مرو نظم الفضل بن سهل مؤتمرا دینیا دعا الیه رؤساء الطوائف المختلفة، بما فیهم الزردشتیة و النصاری و الیهود، لأجل أن یستمعوا إلی ما یقوله الأمام و یستمع هو إلی ما یمکن ان یوردوه هم من أقوال أیضا. فأدی الاجتماع الأول الذی کان یجلس فیه الأمام بجنب المأمون، الی عقد اجتماع آخر بعده. و قد خصص أحد هذین الاجتماعین للبحث فی موضوع التوحید، فأدار الجدل فیه عالم من علماء خراسان یومذاک یدعی سلیمان المروزی. و تناول الاجتماع الآخر عصمة الأنبیاء، فتولی الأجابة علی قول الأمام فی هذا الشأن علی بن محمد بن الجهم. فأدی ذلک الی عقد اجتماع آخر بحث خلاله فی الموضوع نفسه و أسهم الخلیفة المأمون بمقدار غیر یسیر من المناقشة، و من المؤسف ان یکون ما عندنا من أخبار هذه الاجتماعات التی تسجلها المراجع الشیعیة، لم یکتب الا بعد مرور ما یقرب من مئتی سنة علیها. و یتضح انه من السهل علی الکاتب، ابن بابویه (431 ه) بعد مرور هذا الوقت الطویل ان ینسب أقوالا مناسبة للأمام و لا یخترع أجوبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 269
تنطوی علی الذکاء من معارضیه الیهود أو النصاری أو الزردشتیین. و من المحتمل ان یکون ثیودور أبو قره، کاهن حران، هو الجاثلیق غیر المعروف الوارد ذکره فی أخبار هذه الاجتماعات، و ان یکون ما ذکره عن المجادلة فی حضور الخلیفة المأمون شیئا صحیحا. علی ان الحبر الذی یورده یظهر ضعف معارضی الأمام کما یظهر ابن بابویه ایضا، کما ان ما یرد فیه عن التوراة و الانجیل یعتبر شیئا غامضا .. و یلاحظ من سرد دونالدسون لهذا القسم من البحث أنه یحاول التشکیک فی مقدرة الأمام علی الخوض فی هذا المضمار علی الرغم من تواتر الاخبار و اقوال المؤرخین بقدرة الأمام العلمیة حتی لقد جوزوا ان ینسبوا له المعجزات.
و لم یکن بوسع الأمام علی کل حال ان یبقی فی مرو أکثر من سنة واحدة، لأن المأمون حینما سمع ان عمه ابراهیم قد بویع بالخلافة فی بغداد قرر ان الوقت قد حان له بأن یعود من خراسان الی بغداد لیؤکد حقه فی الخلافة بنفسه.
و لذلک شرع فی السنة نفسها بالتأهب للعودة الی العراق (202 ه). و کان بصحبته، کما یؤکد الیعقوبی؟؟؟، الامام الرضا ولی عهده و الفضل بن سهل الذی کان یسمی بذی الریآستین، ای الوزیر و القائد العام. لکنهم عند ما وصلوا الی بلدة سرخس قتل الوزیر الذی کان فی نفس المنزل مع المأمون، فی حمامه من قبل غالب الرومی و سراج الخادم اللذین کان معهما عدد آخر من المؤازرین.
فقتل المأمون جمیع الذین کان لهم ضلع فی المؤامرة علی کل حال، الأمر الذی یؤید فکرة ان السبب فی ذلک یعزی الی الحسد الذی کان یساور نفوس الفئات العربیة تجاه القتیل، و لیس الی تدبیر المأمون نفسه نظرا لأن الفضل کان یخفی عنه الأخبار السیئة عن الوضع العسکری فی العراق. و فی خلال یوم أو یومین وصل الجیش الی منطقة طوس، فانتقل الامام الرضا الی الرفیق الأعلی فی قریة تسمی نوقان فی غرة سنة 203 للهجرة. و یقول الیعقوبی؟؟؟، الذی یورد وجهة نظر الشیعة، ان مرضه علیه السلام لم یطل أکثر من ثلاثة أیام. و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 270
روی أن علیا بن هشام کان قد قدم له رمانة مسمومة. علی أن المأمون أبدی کثیرا من الحزن و الأسی فی مأتم الأمام الرضا، لکن المسعودی یقول ان وفاة الأمام الرضا کانت بسبب عنب أکثر من أکله، علی ان البعض یقول ان هذا العنب کان مسموما.
و نذکر فی الآتی روایة المسعودی حرفیا فی هذا الشأن: و قبض علی بن موسی الرضا متوفیا لعنب أکله و أکثر منه، و قیل أنه کان مسموما، و ذلک فی صفر سنة ثلاث و مئتین، و صلی علیه المأمون و هو ابن ثلاث و خمسین سنة، و قیل سبع و خمسین سنة و ستة اشهر. و کان مولده بالمدینة سنة ثلاث و خمسین و مئة للهجرة، و کان المأمون زوّج ابنته ام حبیبة لعلی بن موسی الرضا، فکانت إحدی الأختین تحت محمد بن علی بن موسی (الجواد) و الأخری تحت أبیه علی بن موسی. أما روایة المسعودی عن قتل الفضل بن سهل فهی: و فی سنة اثنتین و مئتین قتل الفضل بن سهل ذو الرئاستین فی حمام غیلة، و ذلک بمدینة سرخس من بلاد خراسان، و ذلک فی دار المأمون، فی مسیره الی العراق فاستعظم المأمون ذلک و قتل قتله، و سار الی العراق.
ثم یقول دونالدسون ان ابن بابویه یورد اسبابا مختلفة أدت بالمأمون الی ان یدس السم الی الأمام الرضا، و یبین أیضا الظروف التی سمی فیها ابنه محمدا لیخلفه فی الأمامة (الجواد).
و ینهی دونالدسون فصله عن الأمام الرضا بقوله: .. و هکذا توفی الأمام علی الرضا فدفن غریبا بعیدا عن المدینة، موطن آبائه آل بیت النبی. و فی سناباذ الواقعة علی بعد میل عن صورة خیالیة قدیمة تصور أخذ الإمام الرضا العنب المسموم من ید المأمون
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 271
القریة التی قضی نحبه فیها وضعوه فی لحد داخل قبر اشهر الخلفاء العباسیین، لأن المأمون کان قد دفن والده هارون الرشید فی هذه البقعة نفسها من البستان قبل عشر سنوات. فوقف فی هذا الوقت، خلال عودته المتأخرة الی بغداد، فی المکان نفسه و صلی علی الأمام الذی کان من المؤمل ان یجعله خلیفة من بعده.
اما الدکتور جون هولیستر فیذکر فی (شیعة الهند) معظم ما یذکره دونالدسون من النقاط عن الأمام الرضا علیه السلام، مع شی‌ء من الاختلاف و الزیادة. فهو یقول ان أئمة الشیعة الاثنی عشریة ظلوا فی منأی عن النشاط السیاسی فی الامبراطوریة الاسلامیة مدة تناهز مئة و أربعین عاما. و مع ان ان الامام الرضا کان یصر علی عدم رغبته فی التورط بهذا المیدان، فانه یقول انه فعل ذلک إطاعة لأوامر الخلیفة الصادرة الیه. و بذلک اصبح بطلا فی الدراما التی أدت الی ان یلقب بالأمام «المتورط بالسیاسة». و علی کل فقد قارب الرضا ان یحقق ما کان الأئمة من أسلافه یدعون بحقهم فیه، سواء بالتخطیط المتعمد المتکتم او بطریق القدر و القسمة.
و کان المأمون، بن الرشید، قد وطد الملک لنفسه حتی أصبح المهیمن الوحید علی امبراطوریة بنی العباس بدحر أخیه الأمین فی الحرب. کما کان وزیره الفضل بن سهل قد کسبته الجهات الشیعیة الی جانبها حینما زار بغداد ذات مرة، و کان ذلک بتأثیر الأمام موسی الکاظم او الأمام علی الرضا نفسه، و بهذه الطریقة أصبح الخلیفة أیضا مهتما بالعقائد الشیعیة و میالا الی طائفة الشیعة. و ربما کان الدافع الذی دفع المأمون الی ان یرشح أمام الشیعة لیکون خلیفة من بعده رغبته فی ان یقوی مرکزه السیاسی فی الغرب حیث کان مرکز أخیه الأمین قویا، و ذلک باسترضاء الشیعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 272
و جلبهم الی جانبه، أو رغبته فی ان یجمع أهل السنة و الشیعة فی صعید واحد فیکوّن منهم جبهة قویة یعتز بها الأسلام .. ثم یذکر هولیستر کیفیة مفاتحة المأمون له بتولی الخلافة رأسا فی بادی‌ء الأمر و رفضه علیه السلام لها طالما کان اللّه قد قدر ان تؤول الی المأمون بعد قتل أخیه الأمین. کما یذکر قصة دعوة المأمون لبنی العباس و جمعهم، ثم اعلان الأمام ولیا للعهد علی ملأ منهم، و قصة تبدیل السواد باللون الأخضر شعار العلویین، و تزویج الأمام بابنة المأمون، و سک اسمه علی العملة الی جنب اسم الخلیفة نفسه.
و یشیر هولیستر کذلک الی ما کان من أمر بنی العباس فی بغداد، و قیامهم بخلع الخلیفة و تنصیب عمه ابراهیم فی مکانه. لکنه یشیر الی ان الفضل بن سهل وزیر المأمون کان یخفی حصول هذه التطورات عنه فاضطر الی ان یزیله عن طریقه و یدبر قتله، ثم یأمر بأعدام القتلة لیخفی معالم الجریمة التی ارتکبها فی هذا الشأن. و یقول بعد ذلک ان توترا کان قد حصل بین الخلیفة و الأمام، و صار یزداد شیئا فشیئا حتی بات الأمام یعتقد بدنو أجله. و قد حصل ذلک بالفعل، لکن هولیستر یقول ان کیفیة قتل الأمام علیه السلام تختلف الروایات فیها، لکن المدونات الشیعیة تقول «ان الأمام قد سمه المأمون علیه اللعنة» . و بعد ان تخلص المأمون من الأمام و الفضل بن سهل استقبل فی بغداد بحفاوة.
و قد دفن علی الرضا فی بستان یقع فی قریة سناباد بالقرب من قبر هارون الرشید. و المقول ان مکان القبر ظل منسیا لعدة أجیال بعد ذلک حتی حدث ذات یوم ان خرج للصید بالقرب منه ابن من ابناء وزیر السلطان سنجر فی طوس، فتوقفت فرسه علی مقربة من مکان القبر و حرنت عن السیر. و لذلک اضطر ابن الوزیر الی الترجل، ثم دخل المبنی الخرب و صلی فیه علی الأمام موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 273
فشفی من مرض کان یشکو منه فی الحال. فأدی ذلک الی ترمیم المشهد الخرب و تعمیره، و عظم امره بعد ذلک حتی صار المعنیون بالأمر یحافظون علیه باستمرار و یوسعون فی ابنیته و المرافق الملحقة به.
و یذکر هولیستر بعد هذا ان المشهد الرضوی قد ألحقت به مکتبة عامرة تضم کتبا کثیرة فی تفسیر القرآن علی الطریقة الشیعیة، علی ما یقول، فضلا عن الکتب الأخری فی أخبار الشیعة و تاریخهم و عقائدهم التی تستحق الدراسة بعنایة و اهتمام. و أصبح الضریح بعد ذلک محجا رئیسیا للزوار الشیعة، و صارت البلدة التی توسعت من حوله تسمی «المشهد» .. و هناک خط منتظم للسیارات ینقل الزوار من الهند الیه بصورة مستمرة، لأن زیارة هذه الروضة تعد من الأمنیات الکبیرة عند بعض الناس و هناک کثیرون ممن یفعل ذلک.
و قد تولی الرضا الأمامة منذ سنة 183 الی سنة 203 ه. و کانت امه أم ولد أیرانیة، کما کانت بشرته سمراء اللون. و یوصف بکونه رجلا مؤدبا رقیق الحاشیة حلو الشمائل، یتخذ موقفا ودیا مع الجمیع، رحیما سخیا مع خدامه. کما کان رجل ورع و تقوی، متواضعا فی سیرته بعیدا عن کل نوع من انواع العجرفة و الکبر.
و کان کذلک سخیا تجاه الفقراء عطوفا علی الشیعة المنکوبین، بالأضافة الی کونه متشددا فی اداء الواجبات الدینیة.
و تدل الألقاب التی یلقب بها علی قناعته، و ورعه، و کثرة الصبر عنده.
و یتکلم هولیستر ایضا عن الرضا و کونه زعیما لطائفته و عصره، فیقول جانب من ضریح الامام الرضا (ع) من داخل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 274
انه کان شجاعا فعالا فی هذه الناحیة المهمة من حیاته. و هناک ما یدل علی انه کانت هناک دعایة واسعة منظمة له، تتناول جماهیر الناس و موظفی الدولة علی سواء. و کانت قصة انقلاب الفضل بن سهل و انضمامه الی جانب الشیعة مما یدل علی نشاط هذه الدعایة فی اوساط المسؤولین، کما تدل القصة التی یوردها براون عن الحسین بن منصور الحلاج علی نشاطها بین طبقات الناس. فهو یقول ان الحلاج هذا کان من المبشرین الداعین الی علی بن موسی الرضا فی الأصل، و علی هذا الاساس أوقف و عوقب فی کوهستان بأیران.
و یتطرق الدکتور هولیستر بعد هذا الی الاجتماعات و المناظرات الفلسفیة و الدینیة التی کان یعقدها المأمون و یحضرها الأمام علیه السلام فیخوض المناظرات الطویلة مع الحاضرین فیها من مختلف الأدیان، و یبذل جهدا غیر یسیر فی شرح عقائد الشیعة و مبادئهم التی تدعو الی الاجتهاد و حریة الرأی. کما یتطرق الی اعتناق المأمون لمبادی‌ء المعتزلة، و یخرج من ذلک القول بان اهتمام المأمون بالدعوة الشیعیة لم یتوقف بعد انتقال الامام الرضا الی الرفیق الاعلی، و لا بعد عودته هو الی بغداد. یضاف الی ذلک انه کان یدرس مبادی‌ء المعتزلة بحماسة، و فی سنة 212 للهجرة أعلن للملأ بأمر خاص قبوله لحریة الأرادة بدلا من الجبریة، کما أعلن اعترافه بخلق القرآن لا بأزلیته کما کان یعتقد أهل السنة علی الدوام. و بعد مدة من الزمن أعلن قبوله للمبدأ القائل بأن علی ابن أبی طالب علیه السلام هو سید البشر قاطبة بعد النبی محمد علیه الصلاة و السلام، و حلل المتعة فی الشرع.
و یقول هولیستر علاوة علی ذلک أنه: اذا کان هناک آخرون من المعتزلة مسؤولون عن کسب الخلیفة الی جانبهم فی هذه العقائد، التی یمجها المتطرفون، و یسهم فیها الشیعة فی الوقت نفسه، فلا بد من ان یعزی الفضل موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 275
الکافی فی ذلک الی الأمام علی الرضا الذی أثار اهتمام المأمون الی هذه الاتجاهات منذ البدایة. و کان یعارض المأمون معارضة شدیدة فی هذه المبادی‌ء أحمد بن حنبل الذی جلد و حبس. و قد استمر الواثق بعد المأمون فی هذا الاتجاه بحماسة أشد. و بوفاة الأمام علی الرضا (ع) صار یعتقد البعض من اتباعه بتوقف الأمامة من بعده و انتهائها به، و لم یعترفوا بأمامة أحد من ذریته، فکوّنوا طائفة خاصة تعرف بالواقفیة. و یؤید ما ذهب الیه هولیستر من تأثر المأمون بآراء الأمام الرضا و فلسفته الدینیة السید أمیر علی (الهندی) فی کتابه (مختصر تاریخ العرب و التمدن الاسلامی) الذی کتبه بالأنکلیزیة . فهو یقول فی مدح المأمون: .. و لم یکن ثمة من یعادله فی الأخذ بناصر تلک النهضة الفلسفیة، إذ کان متفوقا علی معظم علماء عصره فی الحدیث و الفقه و دراسة القرآن و فهمه، فضلا عن أنه کان أحد تلامیذ الأمام الرضا الذی أخذ عنه حب الفلسفة و العلم و حریة الفکر .
و یشرح السید أمیر علی فی کتابه هذا، علاوة علی ذلک، علاقة الأمام الرضا بالمأمون منذ البدایة. فهو یقول: .. و فی سنة 200 ه بدأ المأمون بتنفیذ مشروعه الخطیر الذی طالما فکر فیه منذ زمن بعید، و هو نقل الخلافة الی آل البیت، و تحقیقا لهذه الغایة أرسل فی طلب الأمام الفاطمی «علی الثالث» بن موسی الکاظم من المدینة، و صرح علانیة بأنه نظر فی أبناء العباس و أبناء علی فلم یجد أحدا افضل و لا أحق بولایة العهد من «علی بن موسی الرضا» ..
و فی الیوم الثانی من رمضان سنة 201 ه أقام له حفلة البیعة بولایة العهد، لقبه ب «الرضا من آل محمد»، کما أمر باستبدال لون السواد شعار العباسیین باللون الأخضر شعار الفاطمیین الذی اختاره شعارا للدولة. فأثارت مبایعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 276
علی الرضا بولایة العهد غضب العباسیین غضبا شدیدا جعلهم یبایعون ابراهیم بن المهدی بالخلافة .. و فی هذه الأزمة الطاحنة توجه الأمام الرضا الی المأمون و شرح له الحقیقة. فأعلمه بأن الوزیر یموّه علیه الأمور و یحول دون تسرب الأخبار الیه. و أخبره کذلک أن أهل بیته قد بایعوا ابراهیم بن المهدی بالخلافة، و انهم ینقمون علیه بیعته له من بعده، و أعلمه أیضا بکل ما حدث منذ مقتل أخیه الأمین. فدهش الخلیفة و سأل بطبیعة الحال فیما اذا کان هناک من یعرف هذه الحقائق التی أفضی بها الیه فسمی له بعض القواد. و لما سألهم المأمون أخبروه بالخبر الصحیح بعد ان أمّنهم علی أنفسهم و ضمن حمایتهم من غضب الوزیر و نقمته، و زاد علی ذلک بقولهم: ان الخلیفة قد فقد بموت هرثمة خادما أمینا، و ان الفضل دس له من قتله انتقاما منه .. فزالت الغشاوة عن أعین الخلیفة و أمر بشد الرحال الی الغرب علی جناح السرعة، فسافر فی الیوم التالی و بصحبته جمیع موظفی البلاط. و لما أدرک الفضل ان مکیدته قد فشلت، و انه لا یستطیع الأیقاع بالأمام الرضا الذی کان منصبه یحمیه من اعتداء، أخذ یصب جام غضبه علی أولئک القواد الذین أیدوا کلام الأمام فجلد البعض و سجن البعض الآخر و ذبح عددا غیر قلیل ممن استطاع التنکیل بهم. و فی هذه المرة ذهب الأمام الرضا الی المأمون أیضا و شرح له أعمال الوزیر، فأجابه الخلیفة قائلا: انه لا یستطیع علی الفور تجرید الفضل من السلطة و النفوذ، انما یجب ان یفعل ذلک بالتدریج و یداری ما هو فیه، غیر ان أعداء الوزیر من أهل فارس قد توقعوا ان الخلیفة سیعزله من منصبه فشد علیه قوم منهم فی «سرخس» التی تبعد یوما واحدا عن مرو و ضربوه بسیوفهم حتی مات، فأمر بهم الخلیفة و بمحرضیهم فضربت اعناقهم.
ثم یقول: و لما وصل المأمون الی طوس، و هی البلدة التی دفن فیها أبوه الرشید مکث قلیلا من الزمن، و هناک فقد صدیقه الأمین و مستشاره المخلص الأمام علی الرضا الذی أنقذ فعلا الامبراطوریة من الانحلال و الخراب.
و قد توفی الأمام فجأة و خلفه ابنه محمد الجواد. فحزن علیه المأمون حزنا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 277
بالغا، و بنی له قبرا أصبح منذ ذلک الحین مقصد الزوار الشیعة یؤمونه من جمیع انحاء العالم و یسمی بالمشهد، أو المشهد المقدس. و بعد ان دفنه المأمون واصل سیره الی العاصمة و کان یقف فی کل مدینة مدة من الزمن تختلف باختلاف خطرها و أهمیتها. فمکث فی النهروان ثمانیة أیام حیث خرج الیه القواد و وجوه بغداد و أهل بیته، و کان الجمیع یلبس الملابس الخضراء، و لکنه نزولا علی طلب طاهر بن الحسین الذی جاء من الرقة لیسیر بمعیته و استجابة لرجاء الزعماء الآخرین رجع الی لبس السواد شعار العباسیین.
هذا و قد لا حظنا ان السرجون باگوت کلوب، أو گلوب باشا الرجل الأنکلیزی المعروف باشتغاله فی الاردن لسنوات عدة، یحلل فی کتابه (امبراطوریة العرب) وضع المأمون و امبراطوریته، و اضطراره لتعیین الأمام الرضا لولایة العهد، تحلیلا بارعا لا بد من إیراده هنا. فهو یقول أن قتل الأمین فی الفتنة التی نشبت بینه و بین المأمون قد أعقبته حدوث ثورات عدة قام بها عدد من السادة العلویین فی جهات مختلفة من الامبراطوریة. فقد بدأت أولا فی الکوفة خلال شهر شباط 815، و تبعتها حرکات أخری فی مکة و المدینة و واسط و البصرة. و حدثت ثورة أخری بعد ذلک فی الیمن فاستولی الشیعة فیها علی الحکم. و ازدادت نقمة أهالی بغداد علی المأمون لأنه عین الحسن بن سهل، شقیق وزیره الفضل بن سهل، لحکم العراق و بلاد العرب علی أثر مقتل الأمین. ثم استمرت ثورات العلویین فی الجهات المذکورة و اتخذت شکلا مهددا، فهوجم العباسیون و مؤیدوهم فیها و نهبت بیوتهم فحرقت، ثم قتل کل من کان یری متشحا بالسواد. و قد زاد فی الطین بلة ما یخالج نفوس العرب، و العباسیین علی الأخص، من مؤازرة الأیرانیین للمأمون خلال انتصاره علی أخیه الأمین بتلک الطریقة المؤلمة، و ارتفاع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 278
شأن الفضل بن سهل و أخیه الحسن بحیث صارا یلعبان فی مقدرات الدولة فی الحال و هما ما زالا قریبی عهد بالمجوسیة. و لذلک فقد کانت دعوة الأمام الرضا من المدینة الی مرو، و ترشیحه الی ولایة العهد شیئا فی محلة، و خطوة معقولة یقصد بها تهدئة الأمور و أطفاء ذلک الأتون المضطرم.
و مع ان المأمون کان قد تم الاعتراف به خلیفة للمسلمین فی کل مکان فقد بقی فی مقره البعید فی مرو، بینما کان کره الناس لنائبه الحسن بن سهل فی العراق یزداد یوما بعد یوم. فأدی ذلک الی قیام سکان بغداد بثورة عارمة، اضطر بها الحسن بن سهل الی ان یفر هاربا الی واسط. و قد حاول سکان بغداد تعیین المنصور بن المهدی عم المأمون خلیفة فی مکانه لکنه لم یقبل بذلک، و فضل ان یبقی نائبا للمأمون فی بغداد. فتکون من ذلک وضع مضحک مؤسف فی العراق، انقلبت به الحالة الی شی‌ء یشبه الحرب الأهلیة ما بین الحسن بن سهل نائب المأمون و عمه المنصور بن المهدی.
و بینما کانت الحالة فی مثل هذا الوضع من الفوضی و الاضطراب تسلم الحسن بن سهل فی آذار 816 م کتاب المأمون الذی یعلمه فیه بتنصیب الأمام ولیا للعهد. و قد امر المأمون بأن تؤخذ البیعة له علی هذا الأساس فی کل مکان، کما أمر بأن یترک لبس السواد و یستعاض عنه باللون الأخضر شعار العلویین.
فکان لهذا الأمر المفاجی‌ء وقع شدید مثل وقع الصاعقة فی شوارع بغداد المضطربة. و قد أذعن البعض لذلک فی الحال، و هم الشیعة علی الأرجح، بینما رفض الباقون التخلی عن انحیازهم لبنی العباس فی هذا الصراع. و قرّ القرار اخیرا (تموز 816) فی بغداد علی تعیین ابراهیم بن المهدی، عم المأمون الآخر الذی کان یشرب الخمر مع الأمین قبل مقتله بلیلتین علی ما یقول گلوب، خلیفة للمسلمین.
و یقول گلوب کذلک ان المأمون ادعی بان الأمام الرضا کان اکثر استحقاقا و لیاقة من أی فرد آخر من بنی العباس و أبناء علی بن أبی طالب لهذا المنصب.
علی ان الدکتور الدوری یری (العصر العباسی الأول) ان ذلک قد تم بدس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 279
بارع من الفضل بن سهل وزیر المأمون. فقد کانت بغداد فی الأساس مدینة عباسیة، و لا یمکن ان تقبل بحاکم علوی مطلقا. و اذا ما اصبح الخلیفة التالی علویا لا بد من ان تنتخب عاصمة جدیدة له، و عند ذاک یکون من السهل ان تصبح إحدی المدن الأیرانیة عاصمة له. و بذلک تنقلب امبراطوریة العرب الی امبراطوریة للفرس.
و من الصعب علینا ان نفهم لم بقی المأمون فی خراسان لمدة اربع سنوات بعد قتل الأمین، بینما کانت الامبراطوریة تنحدر فی سیرها نحو الفوضی و الاضطراب. لکن التفسیر الوحید لذلک، علی ما یبدو، هو ان الفضل بن سهل وزیر المأمون کان یخفی الأخبار عنه و لا یطلعه علی جلیة الأمر فی بغداد.
و حینما تأزمت الأمور بادر الأمام الرضا (ع) فی أوائل 818 الی أخباره بوجود حرب أهلیة فی العراق بین عمه ابراهیم بن المهدی و نائبه الحسن بن سهل، و بأن الفضل بن سهل کان یعتمد عدم أخباره بالوضع الحقیقی هناک. فما کان من المأمون الا ان یأمر فی الحال بالتأهب لنقل البلاط الی بغداد. و بعد ان بدأت الرحلة الملکیة بمدة وجیزة فاجأ اربعة رجال مدججین بالسلاح الفضل بن سهل فی حمامه و قتلوه، لکنهم اوقفوا و قطعت رؤوسهم لقاء ذلک، و هم یصرخون بان المأمون نفسه هو الذی أمرهم بذلک.
و بینما کان المأمون فی تشرین الأول 818 لا یزال فی طوس التی زار فیها قبر أبیه هارون الرشید، توفی الامام الرضا فجأة علی أثر تناوله شیئا من العنب.
و یقول گلوب ان الشیعة یقولون بأن الامام الرضا مات مسموما، و سمیت طوس التی توفی فیها ب «المشهد»، و لا تزال محجا للزوار الذین ینزلون اللعنات علی المأمون حینما یزورون الضریح المقدس.
و هکذا، فبعد ان توفی الامام الرضا، و قتل الفضل، و هما الشخصان اللذان انحطت سمعة المأمون عند العباسیین بسببهما، وصل الی همدان فی 819. و ما ان علم البغدادیون المتقلبون، (کذا) و رجال الجیش فی بغداد، کذلک؟؟؟ حتی عادوا فقرروا خلع ابراهیم بن المهدی بعد ان کانوا قد أجلسوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 280
علی کرسی الخلافة قبل سنتین فقط. و أخذ اسم المأمون أمیر المؤمنین یذکر فی المساجد من جدید بعد صلوة الجمعة.
اما المراجع العربیة فقد لاحظنا من بینها ان ابن الطقطقی یلقی بعض الأضواء علی علاقة الامام بالمأمون فی کتابه (الفخری). فهو یقول: کان المأمون قد فکر فی حال الخلافة بعده، و أراد ان یجعلها فی رجل یصلح لها لتبرأ ذمته، کذا زعم، فذکر أنه اختبر أحوال أعیان البیتین العباسی و العلوی، فلم یر فیهما أصلح و لا أفضل، و لا أروع، و لا أدین من علی بن موسی الرضا علیه السلام، فعهد الیه و کتب بذلک کتابا بخطه، و ألزم الرضا بذلک. فامتنع الرضا ثم أجاب، و وضع خطه فی ظاهر کتاب المأمون بما معناه (أنی قد أجبت امتثالا للأمر، و ان کان الجفر و الجامعة یدلان علی ذلک، و شهد علیها بذلک الشهود) .
و کان الفضل بن سهل وزیر المأمون هو القائم بهذا الأمر، و المحسّن له، فبایع الناس لعلی بن موسی من بعد المأمون و سمی الرضا من آل محمد. و قد أمر المأمون الناس بخلع السواد، و لبس الخضرة. و کان هذا فی خراسان، فلما سمع العباسیون ببغداد ما فعل المأمون، من نقل الخلافة عن البیت العباسی الی البیت العلوی، و تغییر لباس آبائه و أجداده بلباس الخضرة أنکروا ذلک، و خلعوا المأمون من الخلافة غضبا من فعله و بایعوا عمه ابراهیم بن المهدی، و کان فاضلا شاعرا، مغنیا حاذقا ...
و کانت تلک الأیام أیام فتن و وقائع و حروب، فلما بلغ المأمون ذلک قام و قعد فقتل الفضل بن سهل، و مات بعده علی بن موسی من أکل عنب.
فقیل ان المأمون لما رأی انکار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة الی بنی علی، و انهم نسبوا ذلک الی الفضل بن سهل، و رأی الفتنة قائمة، دسّ جماعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 281
علی الفضل بن سهل فقتلوه فی الحمام. ثم أخذهم و قدمهم لیضرب أعناقهم قالوا له: أنت أمرتنا بذلک ثم تقتلنا؟ فقال لهم: أنا اقتلکم باقرارکم، و اما ما دعیتموه علی من انی أمرتکم بذلک فدعوی لیس لها بینة. ثم ضرب أعناقهم و حمل رؤوسهم الی الحسن بن سهل، و کتب یعزیه و یولیه .. ثم دس الی علی بن موسی الرضا (ع) سما فی عنب، و کان یحب العنب فأکل منه و استکثر.
فمات من ساعته، ثم کتب الی بنی العباس ببغداد یقول لهم: ان الذی أنکرتموه من أمر علی بن موسی قد زال، و ان الرجل مات فأجابوه أغلظ جواب.
و کان الفضل بن سهل قد استولی علی المأمون، و مت أمتاتا کثیرة بقیامه فی أمره و اجتهاده فی أخذ الخلافة له، فکان قد قطع الأخبار عنه. و متی علم أن أحدا قد دخل علیه، أو أعلمه بخبر. سعی فی مکروهه و عاقبه، فامتنع الناس من کلام المأمون و انطوت الأخبار عنه.
فلما ثارت الفتنة فی بغداد و خلع المأمون، و بویع ابراهیم بن المهدی، و أنکر العباسیون علی المأمون فعله کتم ابن الفضل ذلک عن المأمون مدة.
فدخل علیه علی بن موسی الرضا (ع) و قال له؛ یا أمیر المؤمنین ان الناس ببغداد قد أنکروا علیک مبایعتی بولایة العهد، و تغییر لباس السواد، و قد خلعوک و بایعوا عمک ابراهیم، و أحضر الیه جماعة من القواد لیخبروه بذلک.
فلما سألهم المأمون أمسکوا، و قالوا: نخاف من الفضل فان کنت تؤمننا من شره أخبرناک فآمنهم و کتب لهم خطه فأخبروه بصورة الحال، و عرفوه بخیانة الفضل، و تعمیة الأمور علیه و ستره الأخبار عنه. و قالوا له الرأی ان تسیر بنفسک الی بغداد، و تستدرک أمرک و الا خرجت الخلافة من یدک. فکان بعد هذا بقلیل قتل الفضل، و موت الرضا علی ما تقدم شرحه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 282

زوار المشهد الرضوی

لقد أکد الدکتور دونالدسون بصورة خاصة علی حب الناس للامام الرضا، و تعلقهم الشدید به. فهو یقول ان التقلبات التی مرت علی مدینة المشهد و من دفن فیه قد أسهمت لدرجة کبیرة فی غرس الحب الذی یکنه الناس بصورة عامة للامام الرضا. و لیس من الغریب فی هذه المدینة المقدسة البعیدة عن التدخل السنی، بعد ان مرت سنین عدیدة تأصلت فیها التقالید و نمت نموا مطردا: ان ینسب الیه عدد غیر یسیر من المآثر المدهشة. و هنا یورد عددا من الکرامات و المعجزات المنسوبة للامام علیه السلام، ثم یقول بعدها ان هذا المزار البعید عن مرکز الحضارة الاسلامیة بحیث لا یمکن الوصول الیه الا بتحمل المشاق و المتاعب قد أصبحت زیارته رمزا حیا و دلیلا قویا علی حب الناس الشدید له و تعلقهم به.
و قد جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة ان المراجع العربیة المدونة فی القرون الوسطی تشیر الی ان زیارة الامام الرضا، و الطواف حول ضریحه المطهر، قد بدأت فی وقت مبکر.
و صار بعض الملوک و الامراء یزورون هذا المشهد بین حین و آخر منذ القرن الخامس الهجری (الحادی عشر) فصاعدا.
الباب الذهبی فی ضریح الامام الرضا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 283
اما عن عدد الزوار الذین یزورون المشهد سنویا، فلدینا تقدیرات مختلفة عما کان یحصل فی هذا الشأن خلال القرن التاسع عشر. فبینما یقدر الرحالة (ییت) عدد الزوار فی العقد الأخیر من القرن بمقدار ثلاثین الفا، فان الذین زاروا ایران قبله بکثیر (عدا الرحالة مارش 1872) یقدمون أرقاما أعلی بکثیر من هذا الرقم. فیقدر بیلیو (1872) عدد الزوار السنوی هذا بأربعین الی خمسین ألفا، و یقدرهم فیریر (1845) بخمسین ألفا، و خانیکوف (1859) و أیستویک (1862) بأکثر من خمسین ألفا، و یوصل کرزن (1889) العدد هذا الی مئة ألف لکن هذا شی‌ء کثیر بطبیعة الحال.
و لا شک ان هذه الارقام ترتفع ارتفاعا غیر یسیر حینما تحل المواسم و الزیارات الدینیة الخاصة، مثل یوم وفاة الامام الرضا و الثلث الأول من شهر محرم الحرام حینما تقام التعازی بمناسبة واقعة کربلا. و یصف کونولی مآتم محرم التی أقیمت فی 1830 وصفا مسهبا، کما یصفها ییت بایجاز فی سنة 1894 .
و من حق کل من یصل الی المشهد من الزوار ان یعیش و یسکن مجانا لمدة ثلاثة أیام. فهناک فی المنطقة المقدسة جنوبی الشارع الأعلی «بالا خیابان» مطبخ خاص یقدم الطعام الی الزوار فقط بمقدار خمس الی ست مئة وجبة أکل فی الیوم .. و هناک وصف للمراسم التی یقوم بها الزوار حینما یزورون الضریح فیما کتبه الرحالة ماسی. و من جملة هذه المراسیم یذکر بصورة خاصة الطواف ثلاثا حول القبر، و سب جمیع أعداء الامام ثلاثا، و لا سیما هارون الرشید و المأمون .. هذا و یسمی الزائر الذی یزور قبر الامام علی الرضا (ع) «مشهدی».
و ینزل الزوار الذین یقصدون المشهد الرضوی فی منازل و خانات خاصة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 284
کانت و لا تزال موجودة منذ القدم بعدد کاف. و یذکر فی دائرة المعارف الاسلامیة ان الرحالة فریزر (1822) وجد خمسة و عشرین الی ثلاثین خانا فی المشهد مخصصة للزوار یومذاک، الی جانب الخانات الأخری التی ترکت و تهدمت، کما یذکر خانیکوف وجود ستة عشر خانا لهذا الغرض، کانت ستة منها تقع فی داخل المنطقة المقدسة، و أحد هذه الستة و أقدمها کان «خان السلطان» الذی بناه الشاه طهماسب الأول. بینما ترجع الخانات الأخری هذه الی أیام سلیمان الأول فی تاریخها.

مدینة المشهد

و یفهم مما یکتبه دونالدسون فی هذا الشأن ان المشهد أصبح فی السنوات الأخیرة مدینة مستقلة عن الحرم الشریف و ما یحیط به من أماکن مقدسة، بعد ان کانت المدینة هی المشهد المقدس ذاته. و هو یقول بلهجة تقارب لهجة التشفی، ان التقدم السریع و انتشار التعلیم فی ایران کلها قد أدی الی ان یأخذ نفوذ المشهد الرضوی بالتضاؤل و التناقص. و لا یعنی الازدیاد الملحوظ فی وارداته السنویة ان الاقبال قد ازداد علی زیارته، و ان التعلق بالامام ما زال موجودا بمثل ما کان موجودا من قبل، و انما یدل علی ان الحکومة أخذت تستغل ممتلکات الامام استغلالا حکیما و تدیر موارده الکثیرة لأغراض عامة مفیدة بصفتها مؤسسة من المؤسسات العامة. فان انشاء مستشفی جدید واسع و أبنیة مدرسیة حدیثة للبنین و البنات، و فتح شوارع جدیدة، و تخطیط متحف و مکتبة واسعة، یدل کله علی وجود اتجاه مختلف لدی الحکومة بالنسبة لأوقاف المشهد الرضوی و صبغتها الدینیة. و لا یعد هذا نوعا من المصادرة، و انما یعد تخصیصا لبعض المبالغ و وارداتها لأغراض علی جانب أکبر من الجدوی و الفائدة العملیة. و لم یعد یمکن الصرف علی السادة المتحدرین من نسل الامام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 285
و إعاشتهم بحالة متنعمة علی حساب الصالح العام. کما ان إجبار الایرانیین قاطبة علی لبس القبعة الوطنیة یعتبر ضربة هادفة الی هذه الطبقات المفضلة التی کانت تتمیز بعمائمها الخاصة .
و هناک أغلبیة من الناس فی المشهد تتعاطف مع الاتجاه الجدید هذا، و علیه فان اولئک الذین یتصدون للاعتراض یجدون من الصعب علیهم مقاومة التبدل الجذری الحاصل فی الشعور الملحوظ بوضوح بین طبقات الناس. فقد أصبح الحق الالهی الذی یدعی به السادة النبلاء، من دون ان یکون مستندا الی مؤهلات عقلیة و خلقیة، یقابل بالسخریة و الاستهزاء. و کان عدد من الرحالة الأوربیین الذین زاروا المشهد فی القرن الماضی یعتقدون بأن المشهد الرضوی نفسه هو الذی یکوّن المدینة، لکن أهمیة المشهد کعاصمة لخراسان و مدینة تقع فی موقع مناسب للتجارة یجب عدم تجاهلها. فان مدینة المشهد الحدیثة بمعسکراتها البدیعة الواقعة فی الجنوب، و مطارها فی الشرق، و بالمنطقة السکنیة المشیدة حدیثا قرب سرای الحکومة، و مئات الأبنیة المجددة علی طول الشوارع العریضة الحدیثة، و بمصلحة الباصات المنتظمة التی تمتد خطوطها الی جمیع المدن الرئیسیة فی الأیالة، و الی روسیة و أفغانستان و الهند، و بجمیع مستشفیاتها و مدارسها و مکتباتها و حدائقها العامة و مطاعمها و مشاریع مائها وقاعة التمثیل الجدیدة، و دور السینما فیها، یمکن ان یقال عنها أنها أصبحت بحق مدینة مستقلة قائمة بذاتها، یبلغ عدد نفوسها، بالنسبة للاحصاء الجدید، حوالی مئة و ثلاثین ألف نسمة. و یجعلها هذا کله أکبر المدن المقدسة فی الاسلام و رابع أوسع مدینة فی ایران نفسها.
اما دائرة المعارف الاسلامیة (المختصرة) فقد جاء فیها بالنسبة لعدد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 286
النفوس فی مدینة المشهد ان هذا العدد بلغ حده الأعلی من قبل فی أیام نادر شاه، الذی کثیرا ما کان یفتح بلاطه فیها و یسهم بکل وسیلة فی تقدمها و ازدهارها. و کانت نفوس المشهد فی ذلک العهد لا تقل عن ستین ألف نسمة.
لکن نصف القرن الذی أعقب ذلک قد أدی بثوراته و نزاعاته و قلاقله، الی انحطاط شأن المشهد انحطاطا ملحوظا نزل فیه عدد البیوت المسکونة الی ثلاثة آلاف بیت سنة 1796. ثم أخذت تزدهر شیئا فشیئا فی القرن التاسع عشر و لکن ببطء حتی قدر (تروییه) عدد دورها فی 1807 بأربعة آلاف دار، و فریزر (1822) بسبعة آلاف و سبع مئة دار، کما قدر عدد النفوس بخمسة و عشرین الی ثلاثین ألف نسمة. ثم قدرها الرحالة کونولی (1830) و برنز (1832) بأربعین ألف نسمة، و قدرها فیریر (1845) و خانیکوف (1858) بستین ألف نسمة. و قد أصیبت خراسان کلها فی سنة 1874 بمجاعة فظیعة مات علی أثرها فی مدینة المشهد و حدها أربعة و عشرون ألف نسمة ..
و المقول انها یبلغ عدد نفوسها فی الوقت الحاضر مئة الف نسمة، الأمر الذی یجعلها بهذا، ثالث أکبر مدینة فی ایران علی کل حال علی ما جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة .

مقابر المشهد

ان أمنیة کل شیعی فی العالم، علی ما یقول الکاتب فی «دائرة المعارف الاسلامیة» هی ان یجد راحته الأبدیة فی ظل أحد الأئمة المعصومین، و لذلک صارت تتعدد المقابر و تتسع فی مراکز الزیارة الکبری منذ القدم. فان آلاف الجنائز تجلب للدفن فی المشهد کل سنة، و لا سیما من ایران، و من سائر المدن الشیعیة فی العالم بطبیعة الحال مثل بعض مدن الهند و باکستان و أفغانستان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 287
و الترکستان. و لما کان من المحتم ان تستعمل أراضی المقابر مرة بعد أخری علی الدوام فقد ترتب ان تغیر القبور ساکنیها کل بضع سنین. و لا تستعمل الأحجار الجمیلة المنحوتة لبناء القبور بل تستعمل قطع الحجر الخشنة من الغرانیت و الحجر الصابونی الموجود فی المقالع المجاورة للمدینة. و لا شک ان القبور فی ضمن المنطقة المقدسة هی القبور التی تفضل علی غیرها عادة، و لذلک یستفاد من کل فسحة فیها لهذا الغرض، و کثیرا ما تکون قطع التبلیط المرمر فی الأصحن المقدسة أحجار قبور للجثث التی تدفن تحتها. و تکوّن الأجور التی تستوفی عن الدفن فی ضمن المنطقة المقدسة موردا غیر یسیر لسلطات الحرم المسؤولة.
و تعد أهم مقبرة خارج المنطقة المقدسة «مقبرة قتل‌گاه» الواقعة فی شمالها، و فی شرقیها توجد مقبرة السید أحمد التی دفن فیها ثلاثة من أطفال الامام السابع موسی الکاظم (ع). و فی محلة «الشارع الأسفل» توجد مقبرة «پیری پالاندوز»، کما توجد فی جنوب شرقی القلعة مقبرة «گمبد سبز» ای مقبرة القبة الخضراء، و قد سمیت بهذا الاسم لوجود مرقد نصف خرب فیها یسکنه الدراویش فی الوقت الحاضر.
و توجد فی محلة نوقان مقبرة شاهزاده محمد. و یجب ان یذکر کذلک ان موقع بلدة نوقان القدیمة الکائن فی خارج باب نوقان توجد فیه بقایا مقبرة واسعة الأرجاء وجدت فیها أحجار قبور تعود فی تاریخها الی سنة 670- 1099 (1359- 1688).
و علی مسیرة نصف ساعة من جنوبی المشهد توجد علی أرض حجریة ممتدة مقبرة میرزا ابراهیم الرضوی، و علی بعد ثلاثة أمیال من شمال المدینة تقوم مقبرة «خواجه ربیع»، و یقول الکثیرون من الناس ان هذا الخواجة کان من السنة برغم علاقته بعلی، و هذه المقبرة یدفن فیها الناس من أهل السنة الذین یمکن ان یوجدوا فی خراسان. و مرقد «خواجه ربیع» من المراقد التی تلفت النظر بصورة خاصة فی جمیع خراسان، فهو بناء واسع مثمن الأضلاع، تعلوه قبة خاصة، لکنه فی حالة نصف خربة فی الوقت الحاضر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 288

قصف الروس للمشهد الرضوی فی 1912

کانت المنافسة بین الروس و الانکلیز قد بلغت أشدها فی ایران خلال العقد الأول من هذا القرن، و قد وصلت حدا کانت فیه هاتان الدولتان تتصرفان بشؤون ایران الداخلیة و تحتفظان ببعض القوات العسکریة احتفاظا یلفت النظر. و کان من جملة هذه التدخلات المکشوفة تشجیع فئة سیاسیة ضد أخری و انحیاز کل من الدولتین الی فئات دون غیرها لترویج المصالح التی تخدم أغراضها. و قد أدی هذا التنافس فی النهایة الی ان ینجح الوطنیون فی ایران سنة 1909 و یخلعوا محمد علی شاه القاجاری بعد ان التجأ الی المفوضیة الروسیة فی طهران. علی ان هذا العمل لم یضع حدا للدسّ الذی کان یقوم به ممثلو هاتین الدولتین فی أنحاء البلاد. و قد أخذ الروس علی الأخص یعملون علی تمهید الأمر لعودة الملک المخلوع الی العرش بعد ان نصب ابنه الفتی أحمد شاه فی مکانه.
قبة الإمام الرضا و تشاهد آثار القنابل التی اخترقتها من المدافع الروسیة فی حینما
و کان من جملة المدن و المناطق- التی اصبحت میدانا لهذا التدخل السافر، و هذه الدعایة التی قسمت البلاد الایرانیة الی فئات متناحرة عدة- مدینة المشهد التی کان القنصل البریطانی العام فیها یومذاک السربیرسی سایکس مؤلف کتاب (تاریخ ایران) المعروف، و کتاب (مجد العالم
.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 289
الشیعی) الذی ألفه بشکل روائی یتناول رحلة أحد الزوار الایرانیین من کرمان الی المشهد الرضوی المقدس. و قد لعب دورا فی مقاومة الحرکات و المناورات الروسیة فی خراسان کلها المتاخمة للحدود الروسیة، و لذلک أشار إلی ما وقع فی 1912 فی کتابه (تاریخ ایران). فهو یقول (الص 426، ج 2) انه لم یکن هناک ما یشین سمعة الروس فی ایران یومذاک أکثر من اقدامهم علی قصف المشهد الرضوی المقدس بالقنابل. فقد بذل زمیلی الروسی جهدا کبیرا فی العمل لمصلحة الشاه المخلوع ، و الکفاح ضد الوطنیین الایرانیین حتی انه ذهب الی حد تشجیع یوسف هراتی، الوکیل المشاغب، علی القیام بحملة دعایة خاصة فی مصلحته بحمایة القنصلیة الروسیة نفسها. فبلغت المفوضیة البریطانیة بذلک، و کانت النتیجة ان طرد یوسف و جماعته بأمر من السفیر الروسی نفسه. لکنه توجه فی الحال الی الروضة المقدسة حیث کان بوسع زمیلی الاستمرار علی استخدامه فیما یرید. و بعد ان ثبت أقدامه فی المنطقة المقدسة یمکن من جمع عدد کبیر من الرجال و النساء، بینهم مئات من الزوار أنفسهم، بقصد الاستماع الی خطبه الرجعیة المهیجة. و علی هذا الأساس أشاع الروس بأن رعایاهم قد اصبحوا معرضین للخطر، و بهذه الحجة جاؤوا بقوة غیر قلیلة من الجند. لکن وجوه المشهد، الذین کنت علی اتصال وثیق بهم، أدرکوا الحیلة فی ذلک و عرفوا شأن المصیدة أو الفخ الذی کان یعد لهم فلم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 290
یدخروا وسعا فی انقاذ الموقف، غیر ان جمیع ما فعلوه لم یجد نفعا. فقد قرر الروس أن یقصفوا الروضة المقدسة التی کان یسیطر علیها وکلاؤهم بالذات من دون تورع او التفات الی الحالة التی کان علیها السکان. و فی 29 آذار أطلقت مدافعهم نیرانها من دون ان تکون هناک أیة مقاومة لهم تقریبا، برغم أن یوسف و جماعته أطلقوا بعض الاطلاقات تنفیذا لما أمروا به، فقتل عدد من الزوار و الأهالی الأبریاء و جرح عدد آخر غیرهم. ثم أخذ یوسف و سائر الوکلاء، فی غسق اللیل، فی عربة خاصة الی خارج المدینة مستخدمین بذلک البوابة التی کان الروس قد فتحوها فی سور المدینة و فرضوا حراستهم علیها من قبل.
و بعد عدة أیام کتب لی یوسف هراتی نفسه شاکیا من أن زمیلی الروسی قد کافأه علی خدماته الثمینة له مکافأة مزریة، و جازاه کما جوزی سنمار.
ثم حرض الروس السلطات الایرانیة فی هذه المرحلة علی اتخاذ التدابیر المقتضیة، فقبض علی یوسف هراتی و أعدم من دون محاکمة، ثم طیف بعد ذلک بجثته التی لا تستطیع الاعتراف بما یخشی منه فی الشوارع.
و بعد ان عجزت عن الحیلولة دون القصف الذی قدمت احتجاجی الشدید علیه، أبدیت اصراری علی زیارة الروضة المطهرة فی الیوم التالی.
فکانت جثث القتلی قد نقلت الی الخارج و أخذ الجرحی الی بیوتهم أیضا، لکن التدمیر الذی أحدثه القصف الأهوج کانت آثاره بادیة للعیان. کما کانت خزانة الامام، المحتویة علی النفائس و الهدایا المقدمة من الملوک و سائر الزوار، قد أخذت الی عهدة البنک الروسی. و قد أعیدت الی مکانها بعد زیارتی هذه، مع ان بعض محتویاتها کان قد نهب، و أجبر الکلیدار الرسمی بتهدیده بالقتل علی توقیع مستند یقول فیه أنه استعاد الخزانة الثمینة سالمة کاملة. و قد اعتبرت زیارتی، علی خطأ أو صواب، هی السبب فی استعادة الخزانة فتسلمت رسائل عدیدة یشکرنی فیها الایرانیون، و حتی حاکم هراة السنی. و کتب زمیلی فی تقریره الأول ان الروضة المقدسة لم تصب بشی‌ء، لکننی تمکنت من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 291
دحض هذه المفتریات بارسال نسخ عدیدة من التصاویر التی أخذت بایعاز منی الی المفوضیة البریطانیة فی طهران و السفارة البریطانیة فی سنت بطرسبورغ.
و قد کان الاستیاء الذی سببه هذا العمل الأخرق فی أنحاء ایران المختلفة و غیرها من بلاد العالم الاسلامی، شیئا بالغا لأن المشهد یعد مزار ایران الرئیس علی الدوام. و من الغریب ان القصف لم یجلب انتباه الناس الیه فی انکلترا لأنه وقع فی نفس الوقت الذی وقعت فیه کارثة غرق «التیتانیک» التی کان الرأی العام البریطانی منغمسا فی الاطلاع علی تفصیلاتها، حیث أنها کانت تشغل أعمدة الجرائد کلها و تحجب کل شی‌ء آخر عن الناس تقریبا. اما بالنسبة لی، فان قصف الروضة المقدسة، الذی کنت قد تنبأت به قبل ان یقع و حذرت مفوضیتنا بشأنه، و الذی کنت مطلعا علی تفصیلاته کلها و وقعت علی مشهد منی، یعتبر انتهاکا لحرمة الروضة نفسها و اعتداءا صارخا علی أناس أبریاء، و یدل بوضوح علی الدوافع الشریرة التی کانت تنطوی علیها السیاسة الروسیة.

المشهد بعد إعلان الدستور 1909

و بعد ان أعید الدستور الی العمل فی طهران، علی أثر خلع الشاه محمد علی، وصل الی مدینة المشهد موظفون جدد لیشغلوا مناصب: نائب الحاکم و القائد العالم، و رئیس المحاکم، و مدیر الشرطة. فزارونی فی مکتبی و بینوا لی بأن الحکومة قد زودتهم بالصلاحیات التامة فی العمل، و انهم یریدون اصلاح الأمور من دون تأخیر. ثم اضافوا الی ذلک قولهم انهم قد تلقوا تعلیمات خاصة بأن یأخذوا بمشورتی و یطلبوا مساعدتی. و قالوا أنهم عازمون علی طرد الحاکم العام نفسه و «الکارگذر»، أو وکیل الخارجیة فی الحال، و کانوا مطمئنین بأنی سأوافق علی اتخاذ هذه الخطوات فی الحال. فأجبتهم ان الماکنة القدیمة کانت تسیر و تقوم بعملها علی قدر ما فی استطاعتها و لو کانت عدیمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 292
الکفایة، و اننی لا أری من المصلحة اخراج الموظفین القدامی فی الأیالة حتی یکون الموظفون الجدد قد تمکنوا من التعرف علی الوضع فیها و درسوا المشاکل المعقدة التی سیصادفونها فی عملهم. فأبدی زواری تفهما للحدیث و وافقوا علی ابقاء الموظفین المذکورین الی وقت الربیع.
و قد کنت بطبیعة الحال مهتما جد الاهتمام بدراسة سلوک الموظفین الجدد، و مؤملا کل خیر من تلقیح الادارة بدم جدید و عقلیة متجددة.
غیر أنی أصبت مع الأسف الشدید بخیبة أمل بالغة. فقد کان رئیس المحاکم ابن رئیسها السابق، و سرعان ما وقع فریسة للأسالیب المفعمة بالفساد و التفسخ بحیث أصرّ زملاؤه الموظفون علی وجوب استقالته خلال شهر واحد فقط.
و أبدی مدیر الشرطة نشاطا لا یستهان به، و افتقارا غیر یسیر للباقة و الکیاسة.
و قد امتنع هذا الموظف المهرج عن أخذ الرشوة فی بادی‌ء الأمر، لکنه سرعان ما أصبح فی مستوی أسلافه فی الفساد. و حینما تورط فی قتل رئیس التجار الروسی بعد ذلک فر هاربا فی ظلمة اللیل من المشهد.
و ان انس لا أنسی القائد العام الذی کان یشبه شخصیات القصة الایرانیة التی کتبها جیمس مورییر بعنوان «حاجی بابا الأصفهانی». فقد حدث بعد وصوله بقلیل اضطراب فی منطقة (دراگز) و طرد حاکمها. فجمع «القائد المقدام» قوة فی قوچان، لکنه رفض رفضا باتا الزحف علی (دراگز) ما لم یعد الحاکم المطرود بنفسه الی مکانه و یؤکد له بان الثوار قد انسحبوا و اختفوا عن الأنظار. و بعد ذلک تبع الحاکم مع القوة التی کانت تحت تصرفه، لکن المؤسف أنه أخطأ فی وفد من القرویین خرج یستقبله و یحمل الهدایا له فظن ان العدو کان ینصب کمینا لقتله، فما کان من بطلنا المغوار الا أن یسابق الریح بفرسه و یعود الی قوچان قبل أن یستطیع الضباط الذین کانوا فی معیته أقناعه بخطأه. و هکذا عاد الی السیر فی الأخیر، و أدرک رجاله فی الطریق، ثم دخل الی (دراگز) التی کانت قلاقلها قد أصبحت فی خبر کان. و عند ذاک أمر باغلاق الأبواب و وضع مفاتیحها بین یدیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 293
و طیّر برقیة الی الوصی فی العاصمة یقول فیها انه استطاع بعد اثنتی عشرة ساعة من القتال العنیف ان ینزل خسائر فادحة بالثوار، و أصبحت دراگز خاضعة للحکومة الأیرانیة من جدید. فقوبل من الحکومة بکل تقدیر و أجیب بأن أیران لو کان عندها عدد أکبر من مثل بطل دراگز الغازی لکان کل شی‌ء فیه علی الوجه المطلوب. و خرج بطلنا فی مناسبة أخری للصید مع عشرین من أتباعه، فأطلقت عصابة من اللصوص علیهم النار فی الطریق و إذا به یفر مذعورا من وجههم و یعود أدراجه الی البیت.
و هنا أیضا ابرق الی طهران یقول أنه بینما کان یدور فی دوریة علی الحدود الأفغانیة هاجمه مئتا أفغانی، فتمکن من قتلهم کلهم و تمزیق أشلائهم أربا أربا. و قد بقی هذا الجندی الرفیع الشأن سنتین فی المشهد، ثم رفع الی منصب أعلی.
اما نائب الحاکم فقد کان رجلا نزیها، لکن رأسه کان یمتلی‌ء بالمشاریع الخیالیة. فقد قال لی یوما ان کل فرد فی الأیالة قد وافق علی دفع ضعف الضرائب للحکومة، و انه لا یعوزه سوی ألف رجل، مسلحین تسلیحا کاملا و مزودین بالمدافع الرشاشة، لیصنع من خراسان جنة أرضیة.
و أضاف الی ذلک یقول أنه کان متأکدا من اننی استطیع تدبیر قرض مالی له بمئتی ألف باون، حتی یستطیع دفع المبالغ المطلوبة للذخائر و العدد التی تحتاجها هذه القوة. فبینت له أن الأغلبیة العظمی من الناس إذا کانت قد وافقت علی دفع ضعف الضرائب للحکومة فان نصف المبلغ الذی سیجمع سیکون کافیا لتلافی مصاریف القوة الجدیدة المزمع تجنیدها. لکنه لم یشأ ادخال ای تبدیل علی مشروعه العتید!! و من المؤسف ان أقول انه کان رجلا جبانا أیضا. فقد بعث لی رسالة فی لیلة من اللیالی یقول فیها ان أحد الکتبة قد هدده بالقتل، و انه لا یستطیع الاعتماد علی موظفیه و ضباطه، و لذلک یودّ ان أبعث له بأربعة من حراسی الهنود لحمایته. فبینت له ان وقوف مثل هؤلاء الحراس علی بابه سیقضی علی سمعته و منزلته فی الولایة، و اننی لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 294
استطیع الموافقة علی الطلب. و لذلک فر نائب الحاکم المقدام هذا تحت جنح الظلام الی خارج المشهد.
هذه هی الحقائق التی جمعتها یوما بعد یوم فی المشهد، و یمکننی ان أضیف الیها انه حتی اذا لم یکن موظفو العهد الجدید هؤلاء أسوأ من أسلافهم، فان أسلافهم کانوا علی الأقل یعرفون أین و کیف «یضغطون» من دون إثارة ای استیاء لا لزوم له، بینما کان القادمون الجدد متعجرفین متغطرسین تجاه الجمیع، حتی أنهم کانوا یقولون لی ان الایرانیین لا بد من ان یساقوا الی العمل و یضربوا کما تضرب الجمال. و کانوا یفتقرون کذلک الی الخبرة فی العمل الاداری، و الی المعلومات الکافیة فی الزراعة و الأحوال المحلیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 295

فهرست الکتاب

الموضوع الصفحة
خراسان قدیما
مصادر التاریخ الایرانی 10
اهم المصادر العربیة فی تاریخ ایران و خراسان 11
کتاب الشاهنامه 13
ایران و خراسان 15
اسم خراسان 18
طبیعة خراسان الجغرافیة 19
اهمیة خراسان فی تاریخ الحضارة 22
اهم معالم الحضارة الخراسانیة 30
الخط و الکتابة
الدین و العقیدة 33
الصابئیة فی خراسان 34
البوذیة فی خراسان 36
الزردشتیة فی خراسان 38
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 296
المانویة فی خراسان 42
الاسلام فی خراسان 45
الجند و الحرب 51
العلم و الادب 58
الغناء و الموسیقی 64
افانین الصناعة 68
انتهاء الحکم الساسانی فی خراسان 72
خراسان فی عهد الخلفاء الراشدین 73
خراسان فی عهد ولاة بنی امیة 75
العوامل التی قوضت حکم بنی امیة فی خراسان 86
نماذج من الرشوة و الاثراء غیر الشرعی 91
نماذج من الظلم و القسوة 94
العصبیة و الکبریاء 98
الدعوة العباسیة فی خراسان 104
عمال العباسیین فی خراسان 110
هارون الرشید فی خراسان 127
خراسان و المأمون 129
معرکة الری 135
احتلال بغداد و قتل الأمین 137
الحالة الاجتماعیة و الرأی العام 140
بیعة الإمام الرضا (ع) 145
عهد المأمون للرضا بولایة العهد 150
العهد الذی کتبه الامام الرضا (ع) 154
هیاج العباسیین و خلع المأمون 156
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 297
توجه المأمون لبغداد 158
وفاة الامام الرضا (ع) 159
خراسان فی عهد العباسیین الی حین وفاة الرضا (ع) 162
خراسان فی الشعر
اسید بن المتشمس- اشجع السلمی- الاصمعی، البحتری- البستی- ابو تمام- الشیخ جابر الکاظمی- آغا شیخ حسین الهروی- السید حیدر الحلی- سنائی- دعبل الخزاعی- ربعی ابن عامر- ابو سعید المخزومی- الشریف الرضی- ابو الشیص- الصاحب بن عباد- العباس بن الاحنف- عبد الباقی العمری، عصابة الجرجانی- مالک بن الریب- المأمون العباسی- سبط ابن التعاویذی- السید موسی الطالقانی 171- 192
مشهد فی المصادر العربیة
مشهد فی التواریخ 195
اقوال المغاربة 196
ظهور المشهد و عمران المدینة 197
وصف المشهد 198
الکتابات فی المشهد 199
دار الحفاظ 200
دار السیادة- قبة اللّه یارخان- سائر الآثار 201
حوادث المشهد التاریخیة 202
طوس 204
جوامعها- مقابرها المشهورة 206
مدارسها العلمیة القدیمة 207
ج 1- خراسان (20)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 298
صحفها 208
اشهر ولاتها- اشهر الحوادث التی حدثت فی طوس 209
مشهد فی الرحلات- رحلة ابن بطوطة 212
رحلات عبد الوهاب عزام 213
جولة فی ربوع الشرق 222
المشهد الرضوی فی المراجع الغربیة
الموقع و تاریخه 230
المشهد فی کتابی لسترنج و سایکس 239
المشهد المقدس فی دائرة المعارف الاسلامیة 248
موظفو المشهد المقدس و خدامه 253
ممتلکات المشهد الرضوی و وارداته 256
مساجد المشهد و اماکن الزیارة الاخری 258
المدارس الدینیة 260
الامام الرضا 262
زوار المشهد الرضوی 282
مدینة المشهد 284
مقابر المشهد 286
قصف الروس للمشهد الرضوی سنة 1912 288
المشهد بعد اعلان الدستور 1909 291
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 299

فهرست الاعلام

أ
آدم 248
آل یاسین (محمد حسن) 175، 189
آهورامزدا 17، 40
ابراهیم (الامام) 104، 107، 109
ابراهیم بن العباس 127
ابراهیم بن المهدی 257، 226، 268، 269، 272، 276، 278، 282
ابراهیم بن موسی بن جعفر 142
ابراهیم بن میمون الصائغ 113
ابراهیم بن الولید بن عبد الملک 84
ابراهیم الخلیل 248
ابراهیم (میرزا الرضوی) 287
ابراهیم قطب شاه 220
ابرویز (کسری) خسرو 69، 185
ابن ابی سود (وکیع) 80، 87
ابن ابی کثیر (یحیی) 50
ابن ابی طاهر علی بن محمد 200
ابن بابویه 270
ابن الاثیر 11، 53، 55، 61، 72، 93، 94، 100، 102، 106، 107، 109، 112، 143، 145، 159، 167
ابن برمک- خالد- 29، 110، 116
ابن الاحنف (العباس) 190.
ابن بطوطة 11، 195، 198، 209، 212، 214، 226، 232، 235، 241، 268
ابن حنبل (احمد) 28، 46، 50، 275
ابن حوقل 11، 195، 231، 233، 234 241
ابن خازم (عبد اللّه) 77، 78، 88
ابن خردادبه 11، 67، 195
ابن خزیمة 53، 115، 116
ابن الخطاب (عمر) 46، 73، 86، 140، 148، 151، 263
ابن خلدون 11، 63، 159
ابن الربیع (عبد اللّه) 75، 76
ابن رسته 8، 16، 233
ابن الزبیر (عبد اللّه) 50، 78
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 300
ابن الزبیر (مصعب) 78
ابن زیاد (سلم) 32، 77، 49، 93
ابن زیاد (عباد) 77، 93
ابن زیاد (عبد الرحمن) 77، 91
ابن زیاد (عبید اللّه) 76، 77، 98
ابن زیاد (یزید) 77
ابن سریح (الحارث) 82- 85، 88، 89، 95
ابن سیار (نصر) 67، 83- 85، 89، 97، 99، 105، 106، 108
ابن سینا 28، 65
ابن طباطبا 142
ابن الطقطقی 280
ابن عامر (ربعی) 187
ابن العاص (عمرو) 140
ابن عبد ربه 150
ابن العبری 11
ابن عمر (یوسف) 84
ابن عیینة 63
ابن الفقیه 21، 52
ابن قتیبة 53
ابن قحطبة (حمید) 117، 146، 172، 197، 233
ابن ماهان (علی بن عیسی) 123- 126، 134- 136، 165، 167
ابن المبارک (عبد اللّه) 63، 113
ابن مسکویة 11 موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌11 ؛ ص300
ن المعتز 188
ابن مفرغ (الحمیری) 60
ابن المقفع (عبد اللّه) 11، 12، 26، 128
ابن الندیم 10- 12، 31، 32، 35، 43
ابن المهلب (یزید) 79، 80، 87، 90، 92- 96
ابن هبیرة 54، 81، 82، 109
ابن هبیرة (جعدة) 74
ابن الهیثم 77
ابو برزة الاسلمی 102
ابو بکر 46، 263
ابو تمام 173
ابو حفص بن علی 99
ابو الخصیب 124
ابو سلمة 110
ابو الشیص (محمد بن عبد اللّه بن رزین) 188
ابو عباد (ثابت بن یحی بن یسار) 191
ابو علی ابن سیمجور 173
ابو عمر (کلثوم بن عمرو) 58
ابو الفداء 11، 195
ابو الفرج الأصفهانی 11، 140، 146، 147 148، 159
ابو الکلام آزاد 38
ابو مالک (عبد اللّه بن السید الخزاعی) 108
ابو مجلز 100
ابو مسلم الخراسانی 29، 54، 104- 112، 114
ابو منصور الدققیی (محمد بن احمد) 29
ابو نواس 195
ابو نهشل (محمد بن حمید الطوسی) 172
ابو ایوب (احمد بن محمد بن شجاع) 172
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 301
الأجشم المرورذی 116
احمد امین 59، 60
احمد شوقی 141
احمد فرید الرفاعی 127، 144، 160
الاحنف بن قیس 73، 74
الاخرید 111
الاخفش الاوسط 29
ادریس بن حنظلة 94.
ادورد مایر 9
الاربلی (علی بن عیسی) 150
اردشیر 51
الازدی (محمد بن واسع) 90
استاذ سیس 116
اسد بن عبد اللّه 90- 93، 95، 96، 99
اسلم بن زرعة 76، 77، 98، 99
الاسکندر 27، 44، 62، 68
اشرس بن عبد اللّه 82، 97
اشرس بن عبد اللّه السلمی 49، 96
الاصطخری 11، 195
الاصمعی (عبد الملک بن قریب) 171
افراسیاب 23، 24، 52، 53، 64
اللّه یارخان 201
ام حبیبة 269، 270
ام حبیبة اخت المأمون 149
ام حبیبة بنت المأمون 149
ام الفضل بنت المأمون 149
أمیة بن عبد اللّه بن أسید 78، 79
امیة بن عبد اللّه بن خالد 92
میر علی الهندی 275
امیر هندو 213
الامین (محمد) 121، 122، 127، 129، 130- 134، 136، 137، 139، 157 158، 168، 188، 263- 265، 271 272، 276- 279
انس بن ابی ایاس 75
انوشیروان- کسری 27- 171- 191
اهریمن 40
الاوزبکی عبد اللّه الثانی 243
اورل مایر 60
ایراج 32
الایلخانی (السلطان الجاینو) 218
ایستوتک 249، 283
أیوداسف 34، 35
ب
باربذ 64، 65، 66
بارتولد 37، 39
الباهلی قطن بن عبد الرحمن 89
الامیر بایسنقر بن شاهرخ بن تیمور لنک 219
البحتری 172
البخاری 46، 50
براون 274
البرمکی جعفر بن یحی 121، 144، 165، 171
البرمکی الفضل بن یحی 119، 120، 121، 134، 162، 167
البرمکی یحی بن خالد 62، 119، 123، 124 263
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 302
برنر 249، 286
بروشسب 38
بریده بن الخصیب الاسلمی 102
البستی ابو الفتح 172
بشر بن المعتمر 156
بشیر فرنسیس 239
بکر بن المعتمر 129
بکیر بن وشاح 78، 88
البلاذری 7، 11، 37
البلخی 46
بور داود 12
الشیخ البهائی 202
البهلوی رضا شاه 220
البهلوی محمد رضا شاه 219، 252
البیرونی ابو ریحان 11، 29
بیر بالان‌دوز 206
بیلیو 283
بیور اسب 31
البیهقی 165، 167
ت
التربتی (الشیخ حسین) 208
تروییه 286
التستری (القاضی نور اللّه الحسینی) 195
السیدة تکتم (ام الرضا (ع)) 266
تلکو خان 234
تیمور لنک 205، 216، 232، 235، 242
ث
ثابت البنانی 113
ثابت بن قطنة 60
الثعالبی ابو منصور 22، 27، 53، 171، 173، 187، 191
ثمامة بن اشرس النمیری 145، 156
ثیودور ابو قره کاهن حران 269
ج
الجاحظ 11
جبریل بن بختیشوع 128
الجراح بن عبد اللّه 80، 81، 100
الجرجانی (عصابة) 191
جعدة بن هبیرة 56
المیرزا جعفر 207، 261
جعفر بن محمد الاشعث 119
الجلودی 146
جلیل لباف 41
جمیل بن عمران 101
الجنید بن عبد الرحمن 82، 88، 93، 128، 160، 225
جنکیز خان 206، 209
الجواد محمد بن علی الرضا (ع) 270، 276
جوادی بور 14
السر جون جاردین 236
السر جون مالکولم 196
الجوینی 50
جیمس هنری برستد 9، 16، 42
جیمس مورییر 292
ح
الحارث بن عبد اللّه بن الحشرج 99
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 303
الحارث بن قیس بن الهیثم 93
الحارثی (ربیع) 75
الحجاج 52، 79، 101
الحر العاملی 207
الحرشی سعید بن عمرو 81، 84، 98، 101 118
الحریش بن محمد الذهلی 115
الحسن البصری 50
الحسن بن علی بن ابی طالب (ع) 220، 223 225
الحسن بن قحطبة 108
الحسن بن سهل 133، 137، 139، 147، 156، 157، 158، 160، 161، 277، 278، 279، 281
حسین (السلطان بایقرا) 209، 216، 218
حسین بهزاد 62
الحسین بن الحسن الافطس 142
الحسین بن طاهر 172
الحسین بن علی بن ابی طالب (ع) 76، 103 141، 223، 224
الدکتور حسین علی محفوظ 193
الشیخ حسین القطیفی 160
الحسین بن مصعب بن زریق 139
الحاج حسین الملک 116
الحکم بن عمرو الغفاری 102
حکیم المقنع 118
الحکم بن الولید 84
الحلاج (الحسین بن منصور) 274
الحلی (السید حیدر) 176
حماد الترکی 67
حماد بن النعمان 156
حمزة الشاری 124
حمزة الأصفهانی 11
حمزة بن مالک بن الهیثم الخزاعی 119
حمورابی 9
الحموی (یاقوت) 7، 11، 19، 45، 50، 51، 54، 60، 71، 72، 74، 195، 231، 240
السیدة حمیدة ام موسی الکاظم (ع) 266
حمید بن عبد الحمید 172
الحنفی (ابراهیم بن عبد الرحمن) 92
الحنفی خلید بن عبد اللّه 75، 76
حیان 87، 101
خ
خاقان 72، 82، 83، 191
خالد بن ابراهیم (ابو داود) 111، 114، 115
خالد بن کثیر (ابو المغیرة) 115
خالد بن یزید بن معاویة 55
خام جرد 80
خانیکوف (نیکولا) 197، 260، 262، 283، 284، 286
خدابنده (محمد) 198، 206
خراسان (اسم علم لشخص) 17
الخراسانی (الملا کاظم الآخوند) 289
الخزاعی (دعبل بن علی) 185، 188، 226
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 304
خسرو بن کیقباد 12
الخشاب (یحی) 167
الخطیب البغدادی 63
الخلیلی (عباس) 18
خلید بن طریف 74
خلید بن قره 56، 74
الخیام (عمر) 29، 172، 227
د
داود سیاه 136
داود بن علی 107، 108
داود قربان 9
داود النبی 151
دغفل 17
الدکنی (قطب شاه) 210
دولة شاه 213
دولمیج (الکولونیل) 249، 250
دونالدسون 229، 232، 237، 238، 244 247، 253، 257، 259، 265، 266، 267، 269، 270، 282، 284
دنلوب (الدکتور دی‌ایم) 111
دیاکوف 18
الدینوری 11
الدیواشی 98
ذ
ذبیح بهروز 14، 15
ذی الأذعار 55
ر
الرازی 46
الرازی (احمد) 195
رافع بن اللیث 125- 128، 131، 132، 225
ربیع (خواجة) بن خیثم 202، 207، 287
رجا بن ابی الضحاک 146
رستم 52، 55، 57، 61
الرشید (هارون) 55، 63، 119، 121- 129، 131- 137، 144، 146، 156 165، 167، 171، 188، 197، 212، 213، 218، 225، 226، 230، 231، 233، 240، 243، 246، 253، 263، 264، 272، 276، 279، 283
الرضا (الامام) علی بن موسی (ع) 145، 147- 150، 152- 155، 157- 162، 175 176، 186، 189، 190، 198، 204، 207، 209، 210، 212- 214، 218 221، 224، 225، 229، 231، 232، 234- 236، 240- 243، 251- 253 259، 260، 262، 263، 266، 268- 271، 273، 275، 276، 279- 283 288، 289
الرضی (الشریف) 188
رکن الدین همایونفرخ 18، 27، 29، 31
الرودکی 62، 65
ریاض رافة 275
ریان بن الصلت 149
ریتر (الدکتور) 196
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 305
ریذک 12
رینولد. آزنکلسن 109
ز
زال 52، 57
زبیدة 127، 134
زرادشت 16، 33، 34، 38، 39، 40، 41 60، 64
الزرکلی (خیر الدین) 54، 141
زکریا بن محمد 47
زکی محمد حسن (الدکتور) 63، 68، 69، 107
الزمخشری 29
الزنوزی (المیرزا حسن) 196
زو 23، 24
زیاد بن ابیه 75، 90
زیاد بن صالح الخزاعی 110، 111
زیاد بن عبد الرحمن القشیری 99
زید بن علی بن الحسین بن ابی طالب (ع) 84، 103، 141، 142، 163
زید بن موسی بن جعفر (زید النار) 142
زین الدین محمد 195
س
سام 17
سایکس (سر برسی) 20، 28، 234، 239، 242، 243، 262، 288
سباع بن النعمان الازدی 111
السبزواری (عبد القدیر) 208
سبط ابن الجوزی 157
سبقری 98
ستروثمن 231
ستریک 255، 256، 258
سراج الخادم 269
سعید خذینة 81، 93
سعید بن عثمان بن عفان 76، 98، 99
السفاح ابو عبد اللّه 53، 108، 109، 110، 111، 112
سفن بن ماجه 159
سفیان الثوری 28
السلمی (اشجع) 171
سلیمان بن عبد الملک 79، 80، 87، 88، 92
سلیمان بن علی 115
سلیمان بن کثیر 105
السمرقندی 46
سنباد (فیروز اصبهبذ) 114
سنجر (السلطان سنجر السلجوقی) 198، 218، 234، 243، 272
السندی بن شاهک 264
سهل بن سلامة الانصاری 143
سهل بن الفضل 156
سیاوخش 61
سیبویه 29
ش
شاهرخ بن تیمور لنک 198، 200، 205، 207، 210، 214، 216، 218، 235، 236، 253، 259، 261، 262
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 306
شاهین عطیة 173
شبیب الطائی 54
الشبیبی (محمد رضا) 195
شریک بن عبد اللّه 53
شریک بن الشیخ المهدی 110
الشعبی 56
الشریف علی 213
الشهرستانی 41
شهریار 72
شوستر (المسیو) 289
الشیرازی (قوام الدین بن زین الدین) 202
ص
الصاحب بن عباد 189
صادق نشأة 16، 167
صالح بن هرون الرشید 129
صدر الممالک 207
الصدوق 145- 159
صفاء خلوصی (الدکتور) 63، 109
الصفار یعقوب بن اللیث 173
الصفوی (الشاه اسماعیل) 201، 251
الصفوی (الشاه حسین) 247
الصفوی (الشاه سلیمان) 207، 208، 236 237، 253، 261، 284
الصفوی (الشاه طهماسب) 202، 204، 215، 218، 284
الصفوی الشاه عباس الاول (الکبیر) 199 203، 206، 207، 210، 215، 218، 237، 243، 244، 246، 247، 251، 252، 253
الصفوی (الشاه عباس الثانی) 208، 210، 251، 261
صنیع الدولة 195
صول 94
الصیرفی 172
ض
الضبی (محمد بن حسان) 173
ط
الطالقانی (محمد حسن) 192
الطالقانی (السید موسی) 192
الطاهر (محمد شاه) 212
طاووس 50
طاهر بن الحسین 29، 132، 135، 136، 137، 138، 139، 157، 265، 277
طاهر بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسین 172
الطبرسی (امین الاسلام الشیخ ابو علی) 206
الطبری 11، 25، 26، 27، 31، 39، 57، 67، 72، 73، 74، 80، 83، 92، 94، 97، 99، 100، 109، 117، 119، 124، 130، 134، 135، 141، 157، 161، 163، 164
طوج 32
الطوسی (ابو جعفر) 29، 50
طهمورث 22، 23، 30، 31، 32، 33، 48
طیفور 55، 58، 59
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 307
ع
عاتکة الخزرجی (الدکتورة) 190
عاصم بن عبد اللّه 82، 83، 93
عامر بن اسماعیل الحارثی 109
عالم بن سام 17
العاملی (السید محسن الأمین) 224
العیادی (عبد الحمید) 213
العباس بن جعفر بن محمد الأشعث 119
عباس قلی خان 208
العباس بن المأمون 148
عباس محمود العقاد 143، 144
العباس بن موسی بن عیسی 132
عباس میرزا بن فتحعلی شاه 202
العباسی (علی رضا) 199
عبد الجبار الازدی 115، 116
عبد الجلیل لباف 67
عبد الرحمن الازدی 115
عبد الرحمن بن جبلة الانباری 137
عبد الرحمن بن زید بن اسلم 50
عبد الرحمن بن نعیم 100
عبد العزیز الدوری (الدکتور) 278
عبد اللّه بن الامین بن الرشید 139
عبد اللّه بن الحسن 163
عبد اللّه بن خازم الاسلمی 102
عبد اللّه خان اوزبک 210
عبد اللّه بن طاهر بن الحسین 29، 156، 172
عبد اللّه بن العباس 46، 50، 54، 153
عبد اللّه بن علی 109، 112، 113، 114، 115
عبد اللّه بن عمرو بن العاص 50
عبد اللّه فیاض 37
عبد اللّه بن مسلم 94
عبد المجید بدوی 13
عبد الملک بن مروان 55، 78، 79، 88
عبد الملک بن یزید (ابو عون) 117، 118
عبد المنعم صفی الدین 8
عبد المؤمن خان اوزبک 210، 262
عبد الوهاب عزام 213، 214، 220، 221 224، 225
العتابی 58
عثمان بن عفان 73، 74
عثمان بن الولید 84
العریان (سعید) 165
عطاء بن ابی رباح 50
عطاء الخراسانی 50
العطار (الشیخ فرید الدین) 172
عقبة بن مسلم 118
العلوی (السید مهدی) 260
علی بن ابی طالب (ع) 46، 56، 74، 84، 115، 153، 214، 220، 223، 224، 230، 234، 274، 278
علی اکبر فیاض 62
علی شیر نوائی 209، 216، 218
علی بن الحسین 84
علی قلیخان 203
علی بن محمد 56
علی بن محمد بن الجهم 268
علی نقی میرزا 261
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 308
علی بن هشام 71، 137، 270
علی بن یحی السرخسی 132
عمار بن یزید 95
عکرمة 113
عمر بن عبد الرزاق 121
عمر بن عبد العزیز 80، 81، 87، 92، 93، 99، 100، 140
العمری (عبد الباقی) 190
عمید الدولة (فائق) 241
عون 123
عیسی بن جعفر 121
عیسی بن علی 115
عیسی بن علی بن عیسی بن ماهان 124، 125، 126، 165
عیسی بن مریم 248
عیسی بن موسی 117، 132
غ
غالب الرومی 269
غالب اللیثی 75
الغزالی (ابو حامد) 29، 47، 212، 241
الغزنوی (السلطان مسعود) 214
الغزنوی (السلطان محمود بن سبکتکین) 198، 214، 234، 243
الغطریف بن عطاء 119
الغفاری (الحکم بن عمرو) 75، 90
ف
فائق (عمید الدولة) 233
الفارابی 28، 65
فاضل (خان) 207
فامیری 249
فرخ 55
الفردوسی 13، 14، 15، 29، 30، 32، 59 241
فرهاد میرزا 196
فرید وجدی 37
فریزر 249، 250، 260، 284
فریدون 32
فریه (المسیو) 196
الفضل بن الربیع 129، 130، 131، 132، 134، 135، 137، 263، 264، 265
الفضل بن سلیمان (الطوسی) 118، 119، 127، 128، 130- 139، 147، 148، 149، 156- 158، 160، 264- 266 269- 272، 274، 276- 281
الفضل بن عباس 185
الفضل بن عیاض 49
فؤاد عباس 245، 169
فور شابر 196، 251، 252
فیروزور 196
فیض الهندی 272
فیریر 249، 283، 286
ق
القاجاری (احمد شاه) 288
القاجاری (فتحعلی شاه) 196، 201، 206 208، 218، 237، 248، 252، 261، 291
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 309
القاجاری (محمد علی شاه) 288، 289
القاجاری (ناصر الدین شاه) 176، 207، 218، 238، 247، 253، 261
القاسم بن الرشید 127، 131، 132
القاضی الشریف جلال الدین 213
قتیبة (بن مسلم) 79، 80، 92، 94، 101
قثم بن العباس 102
قحطبة 54، 108
قحطبة بن شبیب 108
القزوینی (زکریا بن محمد) 195
القسری (اسد بن عبد اللّه) 82، 83
القسری (خالد بن عبد اللّه) 82، 83
القشیری (عبد الرحمن) 81، 93، 100
قطن بن قتیبة 99
القلقشندی 41، 150، 154
القمی (ابو طاهر) 234
القمی (شرف الدین) 198
القمی (عبد العزیز بن ادم بن ابی نصر) 199
ک
کارنجی 15
الکاظمی (الشیخ جابر) 175
کبّة (الحاج مصطفی) 176
کرزن 283
الکرمانی (جدیع) 83، 96
کریستنس 12، 39
کشتاسب 39، 40، 60
کلافیو 242
کلوب (السر جون کلوب باشا) 277، 279
الکلینی 267، 268
کنولی (المسیو) 196، 249، 250، 283، 286
کورش الکبیر 38، 61
کور صول 83
کورکیس عواد 239
کولدنر 38، 60
کوهرشاد 200، 201، 202، 208، 214، 218، 219، 224، 237، 250، 252، 253، 258، 259، 260، 261
کیخسرو 26
کیقباد 25، 52
کیکاووس 26، 52، 55، 61
کیومرث 13
ل
لاهز بن قریط 99
لسترنج 239، 240
لهراسب 26، 31
م
مارس 283
المازنی (مالک بن الریبة) 172، 191
ماسین 249، 250، 283
ماکدونالد (کینی) 196
مالک بن انس 50
المأمون (عبد اللّه) 55، 58، 121- 124،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 310
127- 139، 143- 150، 154، 156- 163، 167، 187، 191، 197، 226 231، 233، 240، 243، 263- 272 274- 284
مانی 42، 43
مجاشع بن حریث الانصاری 115
المجشر بن مزاحم 115
المجلسی 266
محسن الامین (السید) 159
محمد (الشاه‌زاده) 206، 287
محمد النبی (ص) 74، 91، 102، 106، 108 110، 148، 150، 151، 155، 248، 260، 267
محمد اولجاتیو (المغولی) 235
محمد امین جلبی شالی 190
محمد باقر 207
محمد بدیع 9، 34، 41، 65، 66، 67
محمد بن جعفر بن علی بن الحسین 142
محمد بن سلیمان بن داود بن الحسن 142
محمد بن طاهر 173
محمد بن طاهر بن الحسین 58
محمد (التقی) بن عبد اللّه 274
محمد بن عبد اللّه بن عباس 113
محمد بن علی 45، 54
محمد بن علی بن عبد اللّه 107
محمد بن اللیث 164
محمد (المحروق) بن محمد بن زید 162، 163، 172
محمد تقی فخرداعی 20، 28
محمد ثابت 225
محمد (السید) جعفر خان 220
محمد جواد مشکور 17، 39
محمد (السلطان) خوارزم شاه 209
محمد رضا (شاه) 59
محمد عیسی (الحاج) جلبی 190
محمد مهدی (العلوی) 232
محمد مهدی (الدکتور) 102
محمود غازان 214
محمود هدایة 22، 27
المخزومی ابو سعید 187
المخلد بن یزید بن المهلب 101
مرتضی میرزا 208
مرجلیوث 192
مروان بن ابی حفصة 120
مروان بن محمد 84، 106، 109
المروزی بن سلیمان 268
مزاحم بن بسطام 8
المستشار 207 موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌11 ؛ ص310
مستوفی 235، 241
المستوفی حمد اللّه 232
المستوفی القزوینی 27، 230
المسربل بن الخریت بن راشد 98
المسعودی 11، 23، 26، 34، 51، 65، 263 270
مسلم بن سعید 81
مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم 99
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 311
مسلمة بن عبد الملک 81
المسیب 81
المسیب بن زهیر 118
مشیر الدولة 9
مصطفی حجازی 16
معاذ بن مسلم 118
معاویة 37
معاویة بن ابی سفیان 75- 77، 90، 91، 98 99، 225
معاویة یزید 49، 77
المعتصم بن الرشید 138
معقل بن عروة 101
المغیرة بن جبناء 60
المفضل 58
المفید (الشیخ) 147، 159
المقدسی 11، 195، 226، 233، 234، 240
مکحول 50
مکی البحرانی 38، 40
ملک شاه (الأمیر) 206
المنصور (ابو جعفر) 67، 107، 109- 117، 128، 163، 164، 167،
المنصور بن المهدی 278
منصور بن یزید الحمیری 121
منوجهر ستوده 20، 23، 38، 52، 70، 246
المکی ابو زید 113
موسی بن الأمین 131، 132، 134، 135، 139، 265
موسی بن عمران 248
موسی بن کعب 95
موسی بن المهدی 117، 119
موسی بن جعفر (الامام) 206، 230، 264 266، 271، 287
المهدی بن المنصور 116، 118، 119، 164
المهلب بن ابی صفرة 79، 96
میرانشاه تیمور 226، 232
میرزا (الخواجة السید) 205
میرزا رضا قلی خان 196
ن
نادر شاه 203، 211، 215، 216، 220، 221، 237، 251، 252، 286
نادر (میرزا) 252
نادر (نظام) 17، 39
نباته 108
النجاشی 191
النخعی 50
نصر بن شبث العقیلی 139
نصیرزاده جلیل بک 213
نعیم بن حازم 137
النقاش (محمد بن ابی زید) 200
نکلسون 62
النوبختی 29
نوح 17
نوفل الخادم 137
نهار بن توسعة 60
نیر الدولة 209
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 312
ه
هادی طبیب‌زاده 43
هانوی 196
هرتسفیلد 18
هرثمة بن اعین 55، 118، 125، 126، 128، 132، 138، 265، 276
هرمن تریل 60
الهروی اقا شیخ حسن 176
هشام بن عبد الملک 49، 82، 83، 88، 95، 96، 160
همام بن قبیصة النمری 99
هولاکو 198
هولیستر (جون هولیستر) 271، 272، 273، 274، 275
هومل 9
هیرودوت 10، 27، 64
هیطل 17
و
وستفال 60
وسترکارد 60
وشاح بن بکیر بن وشاح 99
الولید بن یزید بن عبد الملک 67، 79، 84، 88، 141
ولیم جاکسون 12
ونداسب 31
ی
یار محمد خان 210
یاسر الخادم 159
یحی بن اکثم 156
یحی بن الحسن 58
یحی بن زید 84، 163
یحی بن المبارک 145
یزدان 40
یزدجرد 13، 58، 72، 73
الیزدی (کمال الدین محمود) 199
یزید بن عبد الملک 81، 98
یزید بن معاویة 49، 76، 77، 91، 141
یزید بن مزید 117
یزید بن الولید بن عبد الملک 84، 89
الیشکری 90
یعقوب بن داود 29
یعقوب بن شیبة 50
الیعقوبی 11، 90، 233، 240، 267، 269
یوسف بن ابراهیم 117، 118
یوسف بن عمر 88، 142
یوسف مسکونی 111
یوسف هراتی 289، 290، 297
ییت الرحالة 283
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌11، ص: 313
هذه الموسوعة
علی الرغم من انتشار الحضارة و الثقافة التی دفعت بالکثیر من العلماء و المحققین و الباحثین فی العصور الأخیرة الی احیاء مختلف التراث الاسلامی و الآثار العربیة فیما بحثوا، و حققوا، و کتبوا، فقد ظلت هنالک کنوز ذات قیمة کبری فی تاریخ العالم الانسانی فضلا عن تاریخ الاسلام و العرب.
لقد ظلت هذه الکنوز مطمورة فی بطون الکتب المخطوطة و المطبوعة لم یمها احد الا من بعض اطرافها، و لم یتطرق الیها باحث الا من بعض جوانبها، و هی کنوز لم تقتصر علی ناحیة دون ناحیة، فهی تخص العلم، و الادب، و الفن، و الفلسفة، بقدر ما تخص الفقه و التاریخ، متمثلة کلها فی تاریخ العتبات المقدسة:
مکة المکرمة- المدینة المنورة- القدس الشریف- النجف الاشرف- کربلاء- الکاظمین- مشهد الرضا- سامراء .. الخ
فلکل عتبة من هذه العتبات تاریخ ذو علاقة جد وثیقة بالثقافة و الحضارة الاسلامیة و العربیة، مما اختزنته من المخطوطات الاثریة، و الروائع الادبیة، و ما قامت به من المدارسة طوال العصور المظلمة، اذ لو لا هذه العتبات لما بقی الیوم بایدینا من تلک الکنوز الا النزر الیسیر.
و هذا هو الذی دفع بطائفة من اهل الفضل و اساتذة جامعة بغداد من ارباب الاختصاص الی ان تتضافر جهودهم فی اخراج موسوعة تاریخیة- علمیة- اثریة- ادبیة- عامة، تتناول جمیع العتبات المقدسة بالبحث المفصل الشامل منذ اول تمصیر العتبة المقدسة حتی الیوم- علی ان یکون لکل عتبة اجزاء خاصة، و ان یکون کل جزء منها مستقلا بمواضیعه.
و هو اول عمل من نوعه، و اول مجهود خطیر یقوم به مؤلفه، و یکفی ان یستدل القاری‌ء علی خطورته مما یقع تحت عینیه من اجزائه.

الجزء الثانی عشر

اشارة

موسوعة العتبات المقدّسة 12

الجزء الأول من قسم سامراء

اشارة

تألیف جعفر الخلیلی
منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت- لبنان ص. ب. 712
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 4
جمیع الحقوق محفوظة و مسجلة
الطبعة الثانیة 1407 ه- 1987 م
مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات:
بیروت- شارع المطار- قرب کلیّة الهندسة- ملک الاعلمی- ص. ب: 7120
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 5

سامرا قدیما

اشارة

بحث یتناول منطقة مدینة سامرا و ما یحاذیها و یجاورها من المواقع التاریخیة الی حین تمصیرها
کتبه الدکتور مصطفی جواد
خریج جامعة السوربون بباریس المتخصص فی التاریخ العربی و الأستاذ المتفرغ بجامعة بغداد
و عضو المجمع العلمی العراقی ببغداد و المجمع العلمی العربی بدمشق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 7
سامرّا قدیما
سامرّا اسم آرامیّ و هو فی أصله مقصور کسائر الأسماء الآرامیة بالعراق مثل «کربلا و عکبرا و حرورا و با عقوبا و بتمّارا و تامرّا» و قد مدّ العرب کثیرا من هذه الأسماء الآرامیة المقصورة فی استعمالهم إیاها، و خصوصا ذکرها فی الشعر إلحاقا لها بالأسماء العربیّة أو توهما منهم أنّها عربیّة تجمع بین المدّ و القصر مثل کثیر من الأسماء التی انضمت علیها اللغة العربیّة ذات الأصول العربیّة.
رأیت «سامرا» مکتوبة فی نسخة تاریخ الطبری المطبوعة بمصر أعنی بالألف المقصورة و سیأتی النصّ و هکذا.
و لم یذکر لسترنج المستشرق المشهور العالم المحقق معنی «سامرّا» الآرامیة، و لا مترجما کتابه إلی العربیة فی الترجمة، و إذ کانت الآرامیة فرعا من فروع اللغة السامیة الأمّ، و کان الغالب علی سنیها أن تبدل شیئا فی العربیّة جاز أن یکون بین مادة «شمر» العربیّة و «سامرا» الآرامیة صلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 8
لفظیة و صلة معنویة، قال الأصمعی: «التشمیر: الارسال من قولهم:
شمّرت السفینة، أرسلتها و شمّرت السهم، أرسلته» و قال ابن سیده:
«شمّر الشی‌ء: أرسله، و خصّ ابن الأعرابی به السفینة و السهم» و قال أبو عبیدة فی التسمیر (بالسین) الوارد فی الحدیث: «و سمعت الأصمعی یقول: أعرفه بالشین و هو الارسال، قال: و أراه من قول الناس: شمّرت السفینة: أرسلتها، فحوّلت الشین إلی السین» . فغیر بعید أن کانت «سامرا» عند الآرامیین فرضة کبیرة لارسال السفن فی دجلة أو دار صناعة لها، و لدجلة عندها خلیج لا یزال علی حاله القدیمة یتبطّح فیه الماء عند الزیادة. مع هذا فتفسیری هذا لا یخرج عن عداد الحسان و ذلک لعسر تفسیر الأسماء الواغلة فی قدیم الزمان.
و قال الأب أنستاس ماری الکرملّی الطریقه: «لا جرم أن الذی أسس سامرا و بناها هو الخلیفة العباسی المعتصم باللّه ... أما اسم المدینة فلیس من وضع المعتصم نفسه بل هو قدیم فی التاریخ فقد ذکره المؤرخ الرومانی أمیانس مرقلینس الشهیر الذی ولد سنة 320 م و توفی سنة 390 بصورة (سومراSumera ) و نوّه به زوسیمس المؤرخ الیونانی من أبناء المائة الخامسة للمسیح صاحب التاریخ الرومانی بصورة (سوماSouma و یظن أهل النقد من أبناء هذا العصر أن سقط من آخر الاسم حرفان و الأصل (سومرا:Soumara و ورد فی مصنفات السریان (شومرا) بالشین المنقوطة و عرفها ابن العبری باسم السامرة (کذا) و هذه عبارته : فلما جدّوا (أی الناس فی زمن بناء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 9
برج بابل) فی ذلک بأرض شنعار و هی السامرة، قات نمرود بن کوش راصفی الصرح بصیده (راجع کتابه مختصر الدول ص 19 من طبعة الیسوعیّین فی بیروت)». و الغلط ظاهر إذ لیست السامرة فی بلادنا بل فی فلسطین لکن مجانسة اللفظة الواحد للآخر خدعته فقال ما قال ... أما الکلمة فلیست بعربیة صرفة و إن ذهب الی هذا الرأی کثیرون من المؤرخین و الکتبة و اللغویین و ذلک لعتقها کما أوضحناه و هی عندنا من أصل سامی قدیم و یختلف معناها باختلاف تقدیر اللفظة المصحفة عنه، فاذا قلنا: إن أصلها (شامریا) فمعناها (اللّه یحرس (المدینة) أو بعبارة أخری المحروسة)، و ان قدّرنا أصلها (شامورا) بامالة الألف الأخیرة فمعناها الحرس أی منزل الحرس أو موطن الحفظة بتقدیر حذف المضاف و إبقاء المضاف إلیه و هو کثیر الورود فی جمیع اللغات السامیة، و علیه نعتبر قولهم إن (سامرا) تخفیف سرَّ من رأی) أو (ساء من و أی) من قبیل الوضع و لهذا لم یقبل أحد من المستشرقین هذا الرأی و عدّوه فی منتهی السخف» .
و زعم الأستاذ هرزفیلد أن اسم هذه البلدة قد جاء فی الکتابات الآشوریة بصورة (سرمارتاSu -Ur -Mar -Ta و أنها کان لها فی أیام الفرس شأن کبیر فی محارباتهم الرومان» .
أما مدّ «سامرا» و جعلها سامراء فهو محدث أحدثه العرب إجراءا منهم لهذا الاسم مجری الأسماء العربیة کما ذکرت آنفا، و کانوا یفعلونه حتی مع اعترافهم بأن الاسم غیر عربیّ، قال یاقوت الحموی: «عکبرا بضمّ أوله و سکون ثانیه و فتح الباء الموحدة، و قد یمدّ و یقصر، و الظاهر أنه لیس بعربیّ ... و قال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 10
حمزة الاصبهانی: بزرج سابور معرب وزرک شافور و هی المسماة بالسریانیة عکبرا» .
و للاستاذ البارع کاظم الدجیلی مقالة جیّدة بعنوان: «آثار سامراء الخالیة و سامراء الحالیة» قال فیها: «أما اسمها فقد اختلفت الروایات فیه و فی معانیها (کذا) و کلها لا نصیب لها من الحقیقة، و أصدق لغة رویت فی اسمها هو (کذا) سامراء (بفتح السین بعدها ألف یلیها میم مفتوحة و بجانبها راء مثقلة مفتوحة ثم ألف ممدودة و فی الآخر همزة ). و أما قولهم: إن الروایة الصحیحة هی سرّ من رأی أو (سام راه) فهذه و غیرها من مخترعات المخیلة، و من التآویل التی انتجتها قرائح بعضهم إجابة للعقل الذی یحب الوقوف علی أسرار الکون و الاکتفاء بما یرضیه. و لو فکروا قلیلا لأقرّوا أن تأویلهم بعید لقدم ورود الاسم، و لعله من وضع البابلیین أو الآشوریین أو الکلدانیین أو غیرهم من الأمم الخالیة ، فکیف یطلب لها معنی فی اللغة العربیة ؟».
قلت: قد ذکرت رجحان المقصور «سامرا» علی الممدود «سامراء» فی کلام سابق لهذا، و بینت أسباب الرجحان، و أضیف هنا أن مدّ الأسماء الأعلام غیر مألوف فی غیر اللغة العربیة من اللغات السامیة، و الغالب علیها فیها القصر، و إذ کانت اللغة البابلیّة و اللغة الآشوریة و اللغة الکلدانیّة مع تشابههنّ من اللغات السامیة کاللغة العبریّة لم أر بأسا فی البحث عن معنی «سامرا» فی اللغة العربیة مع مراعاة أطوار الابدال و الاوزان فی اللغات المذکورة و هی فی الصعوبة بمکان، بحیث لا یعلمها الا متقن تلک اللغات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 11
و دارس علم الموازنة بینها و هو ما لم نوفق له یا للأسف، و مع ذلک لم أجد حرجا فی إقامة باعث علی التفکیر فی معنی الاسم، أو إحداث فکرة تدور حولها، و البحث عن معانی الأعلام المدنیة هو مما اعتاده المؤرخون المحدثون و الآثاریون العصریون، لأنه ذو فائدة لعلم التاریخ و الحضارة البشریة و علم اللغات، و اعتاده أیضا البلدانیون القدامی کما تری فی معجم البلدان لیاقوت الحموی، و إنما الذی یؤخذ علیهم أنّهم کانوا یحاولون رجع معظم الأسماء الأعلام و عامّتها إلی اللغة العربیة و هو الذی أنکره محقا الکاتب الفاضل، مع أن البلاد التی أنشئت فیها تلک المدن و البلدان و القری و النواحی المعمورة لم تکن قدیما من البلاد العربیّة، أما مواضع جزیرة العرب فکان لهم کلّ الحقّ فی البحث عن معانی أسمائها لأن واضعیها کانوا عربا.
و کان من الغلط المبین قول ابی محمد الحریری: «و یقولون: للبلدة التی استحدثها المعتصم باللّه (سامرا) فیوهمون فیه کما و هم البحتری فیها إذ قال فی صلب بابک:
أخلیت منه البذّ و هو قراره‌و نصبته علما بسامرّاء
و الصواب أن یقال فیها (سرّ من رأی) علی ما نطق بها فی الأصل لأن المسمی بالجملة یحکی علی صیغته الأصلیّة کما یقال: جاء تأبّط شرا ..
و حکایة المسمی بالجملة من مقاییس أصولهم و أوضاعهم، فلهذا وجب أن ینطق باسم البلدة المشار إلیها علی صیغتها الأصلیة من غیر تحریف فیها و لا تغییر لها و ذاک أن المعتصم باللّه حین شرع فی انشائها ثقل ذلک علی عسکره فلما انتقل بهم إلیها سرّ کل منهم برؤیتها فقیل فیها سرّ من رأی، و لزمها هذا الاسم و علیه قول دعبل فی ذمّها:
بغداد دار الملوک کانت‌حتی دهاها الذی دهاها
ما سرّ من را بسرّ من رابل هی بؤسی لمن رآها
و علیه أیضا قول عبید اللّه بن عبد اللّه بن طاهر فی صفة الشعری:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 12 أقول لما هاج قلبی ذکری‌و اعترضت وسط السّماء الشعری
کأنها یاقوتة فی مدری‌ما أطول اللیل بسرّ من را!
فنطق الشاعران باسمها علی وضعه و سابق صیغته و إن کان قد حذفا همزة رأی لاقامة الوزن و تصحیح النظم .
و لیس ما قاله الحریری- رح- بالمروی الصحیح و إنّما الصحیح أن المعتصم باللّه سأل عن ذلک الموضع فقیل له: اسمه سامرّا، فأراد التفاؤل علی عادة العرب، فقال: نسمیها سرّ من رأی ، قال العلامة أبو الثناء السید محمود الآلوسی معقّبا «و ما أنکر الحریری غیر منکر، قال ابن برّی عن ثعلب و ابن الأعرابی: و أهل الأثر یقولون کما قال أیضا: اسمها القدیم سامیرا، سمیت بسامیر ابن نوح- ع- لأنه أقطعه إیاها، فکره المعتصم ذلک فغیّرها و الأقرب أن یکون التغییر الی سامرا. و حکی بعض أهل اللغة أنها سمیت (ساء من رأی) فحذفت همزة ساء و همزة رأی لطول الکلمة و قیل سامرا.
و حکی بعض فیها ست لغات: سر من رأی، ببناء الفعل للمفعول، و (سرّ من رأی) ببائه للفاعل او (ساء من رأی) و (سامرا) بالقصر و (سامراء) بالمدّ، و (سامیرا). و فی القاموس (سر من رأی) بضم السین و الراء و بفتحهما و بفتح الأول و ضم الثانی و سامراء، و مدّه البحتری بالشعر و کلاهما لحن و ساء من رأی، و سرّاء ممدودة مشدّدة مضمومة، و النسبة سرّمری و سامرّی و سرّی» . و نقل بعد ذلک من معجم البلدان لیاقوت الحموی.
و أنا لم أنقل التعقیب علی الحریری علی أنه خبر تاریخی صحیح بکماله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 13
بل نقلته لاثبات أن من القدماء من قال بقدم الاسم «سامرا»، و إن کان فی رأیهم أنه «سامیرا» ففی اللغة یبدل أحیانا أحد الضعفین یاءا کما قالوا «إیبالة» فی الإبّالة و هی الحزمة من الحطب و الحشیش، و قالوا أصل الدینار «دنّار» بدلالة جمعه علی دنانیر، و قالوا باطراد فی مصدر «فعّل یفعّل» تفعیلا، و کان القیاس یوجب أن یقولوا «تفععلا» لأن فی الفعل عینا مضعفة، ینبغی ظهورها فی المصدر کما تظهر فی «تفعّل تفعّلا».
و یعلم مما قدمت أنّ جمیع لغات «سامرا» التی نقلناها، تلک التی یقول فیها یاقوت «سرّ من رأی و سرّ من ری و سرّ من راء و ساء من رأی و سام راه الفارسیّ و سرور من رأی و سرّاء» ما هی إلا تلعّبات باللفظ و تخریجات منه للتفاؤل تارة و للتشاؤم مرة أخری، إلا أنّ تسمیته المدینة بسرّ من رأی غلبت علی جمیع التسمیات لأن المعتصم شاء ذلک، ثم ضعفت بمرور الزمان، فکان من الناس من یسمیها «سامرّا، و کان منهم من یسمّیها «سر من رأی» علی اعتبار أنه الاسم الصحیح و لیس بذاک، کما بیناه هناک.
و سامرّا کثرت فیها الأساطیر ککل مدینة عریقة فی القدم، فقال حمزة الأصفهانی: «کانت سامراء مدینة عتیقة من مدن الفرس تحمل إلیها الاتاوة التی کانت موظفة لملک الفرس علی ملک الروم و دلیل ذلک قائم فی اسم المدینة لأن (سا) اسم الأتاوة، و (مرّة) اسم العدد و المعنی أنه مکان قبض عدد جزیة الرؤوس» . فحمزة استنتج تاریخها من تحلیل اسمها علی الطریقة الفارسیة لأن اللغة الفارسیة آریة أی ترکیبیة لا اشتقاقیة کاللغات السامیّة، و هذا التحلیل واه واهن، فانه یقال: ما الباعث علی حمل الاتاوة إلی اهل هذه المدینة و لم تکن من مدن الحدود بین المملکة الفارسیّة علی اختلاف أطوارها و الدولة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 14
الرومیة علی اختلاف فتوحاتها، لأن الدولة الرومیة کانت فی غرب المملکة الفارسیة، فالأولی أن یکون مکان القبض علی الفرات لا علی دجلة.
قال یاقوت: «و قال الشعبی: و کان سام بن نوح له جمال و رواء و منظر و کان یصیف بالقریة التی ابتناها نوح- ع- عند خروجه من السفینة ببازبدی و سمّاها ثمانین و یشتو بأرض جوخا ، و کان ممرّه من أرض جوخا إلی بازبدا علی شاطی‌ء دجلة من الجانب الشرقی، و یسمی ذلک المکان الآن (سام راه) یعنی طریق سام. و قال ابراهیم الجنیدی: سمعتهم یقولون إن سامراء بناها سام بن نوح- ع- و دعا أن لا یصیب أهلها سوء ». فهذه أمثلة لما ابتدع من الأهوال فی تاریخ سامرا، و قد نسب بعضها إلی رجال ثقاة رغبة فی ترویجها بین الناس، و هی طریقة مبتدعی الأساطیر المألوفة عندهم المعروفة عند ذوی الأفکار الناقدة.
و من الطریف ما ذکره ابن بشار المقدسی قال: «سامرا کانت مصرا عظیما و مستقر الخلفاء فی القدیم، اختطها المعتصم و زاد فیها بعده المتوکل و صارت مرحلة، و کانت عجیبة حسنة حتی سمیت سرور من رأی ثم اختصر فقیل سرمری ... فلما خربت و صارت الی ما ذکرنا سمیت ساء من رأی ثم اختصرت فقیل سامرا ». و قال مؤرخ آخر: «حکی فی بعض الکتب أن سرّ من رأی کانت مدینة عظیمة عامرة کثیرة الأهل فأخربها الزمان حتی حتی بقیت خربة و بها دیر عتیق و کان سبب خرابها فیما حکی فی الکتاب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 15
المذکور أن أعراب ربیعة و غیرهم کانوا یغیرون علی أهلها فرحلوا عنها» .

الطیرهان

و کانت منطقة سامرا تعرف فی أیام الساسانیین باسم «الطیرهان» قال أحمد بن أبی یعقوب: «کانت سر من رأی فی متقدم الأیام صحراء من أرض الطیرهان لا عمارة بها، و کان بها دیر للنصاری بالموضع الذی صارت فیه دار للسلطان المعروفة بدار العامة و صار الدیر بیت المال». و قال أبو الحسن المسعودی فی ذکر موضع سامرا: «و هو فی بلاد کورة الطیرهان ». و قال أیضا «فانتهی المعتصم الی موضع سامرا و کان هناک للنصاری دیر عادیّ، فسأل بعض أهل الدیر عن اسم الموضع، فقال: یعرف بسامرا. قال له المعتصم: و ما معنی سامرا؟ قال: نجدها فی الکتب السالفة و الأمم الماضیة أنّها مدینة سام بن نوح. فقال له المعتصم: و من ای البلاد هی و إلام تضاف؟
قال: من بلاد طیرهان ، و إلیها تضاف» . و یستفاد من وصف ابن سراخیون للنهر الاسحاقی أن الطیرهان کانت تشمل الجانب الغربی من هذه البقعة فقد ذکر ان الاسحاقی کان یمر بطیرهان حتی یجی‌ء الی قصر المعتصم «ص 18، 19».
و ذکرها ابن خرداذبه قال: «تکریت ... و الطیرهان و السن و الحدیثة ...
قال ذلک فی کتّه کور الموصل، و قال قدامة: «و إذ قد أتینا علی أعمال المشرق فلنرجع إلی أعمال المغرب فأولها حدّ الفرات تکریت و الطیرهان و السنّ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 16
و البوازیج و ارتفاعها علی أوسط العبر سبع مائة ألف ألف درهم» و کرر ذلک فی کتابه .
و هذه المنطقة کانت مشهورة منذ أواخر القرن الأول للهجرة علی عهد الولید بن عبد الملک و من بعده فقد جاء فی أخبار الجاثلیق النسطوری (صلیبا زخا) أنه کان من أهل الطیرهان و تعلم بالمدائن و أنه نصب فشیون الباجرمی أسقفا علی الطیرهان. و بقی هذا الاسم مستعملا بعد ذلک بدلالة ان الجاثلیق النسطوری سرجیس رتب قیّوما تلمیذه اسقفا علی الطیرهان و فی أیامه قتل المتوکل علی اللّه العباسی، و کان إیشو عزخا أسقفا بالطیرهان فی خلافة المعتمد علی اللّه العباسیّ، و فی الربع الأول من القرن الخامس للهجرة کان إیلیا الأول أسقفا علی الطیرهان، و فی أیام القائم بأمر اللّه العباسی کان مکیخا بن سلیمان القنکانی أسقفا علی الطیرهان، و کان نرسی أسقف هذه المنطقة فی بعض عهد الناصر لدین اللّه العباسی «575- 622 ه»، و قرض المغول الدولة العباسیة سنة 656 و کان عمانوثیل أسقفا علی الطیرهان بعد هذا التاریخ. و فی بعض عهد الملک أبا قاخان ابن هولاکو (663- 680 ه) کان بریخیشوع مطرانها .
و ذکر ماری بن سلیمان مؤرخ کرسی الفطارکة ما یفید أن «الطیرهان» کانت معروفة بهذا الاسم قبل 393 من تاریخ اسکندر المقدونی و هی السنة التی توفی فیها مار ماری السلیح . فالتسمیة قدیمة قد ترتقی إلی العصر الآرامی و العصر الیونانی بالعراق، و استمرت الی أواخر القرن السابع للهجرة و لعلها بقیت الی اکثر منه، إلّا أنّ اسمها مذکور فی الکتب النصرانیة أکثر مما فی الکتب الاسلامیّة، کما قدّمنا و نقلنا. و طیرهان فی صورته اللفظیة أقرب الی اللغة الفارسیة منه الی اللغات السامیّة، بالضد من سامرا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 17

قدم السکن فی سامرا

کانت مدینة «أربیل» الحالیة المعروفة فی التاریخ الاسلامی بإربل و فی التاریخ الآشوری بأربیلا تعد أقدم بلدة مسکونة فی عصرنا هذا لاستمرار السکن فیها من العصر الأشوری الی الیوم و بعده، ثم ظهر فی أن سامرا هی القدمی فقد أثبتت التنقیبات الأثریة فی أطلالها أن موضعها کان آهلا منذ أدوار ما قبل التاریخ و قد کشف الأستاذ الآثاری الألمانی هرزفیلد فیها عن مقبرة من تلک الأدوار بین السنّ الصخر و آثار العصر العباسی علی نحو من میل واحد من جنوب دار الخلیفة أی دار العامة القائمة الأواوین الثلاثة، و عثر علی نوع من الفخار المصبوغ اطلق علیه اسم (فخار سامرا) و هو یمثل دورا من أدوار ما قبل التاریخ المشار الیه آنفا و قد سمی (دور ثقافة سامرا) إضافة تماثیل عثر علیها فی تل الصوان فی الحفریات الأخیرة یرجع تاریخها الی الالف السادس قبل المیلاد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 18
له إلی الموضع الأثری الذی کشف فیه عن هذا الفخار أول مرة ثم عثرت مدیریة الآثار العراقیة علی موضعین آخرین فی سامراء یرتقی عصورهما إلی ذلک الزمن، أحدهما فی شمالی المقبرة المقدم ذکرها و الآخر فی جنوبی سامرا علی ضفة دجلة فوق صدر القائم و یسمّی تل صوان و قد جاء اسم هذا الموضع فی الکتابات الآشوریة بصورة «سرمارتاSu -Ur -mar -ta و کان لهذا الموضع فی أیام الفرس شأن کبیر فی محارباتهم الرومان خاصّة و لقربه من النهر المعروف بالقاطول الکسروی أی القناة الکسرویة » .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 19

منطقة سامرا علی عهد الساسانیین

استطعنا أن نجد وصفا لمنطقة سامرا علی عهد الساسانیین فی رحلة الکاتب الرومی «أمیانس مرقلانس» فقد رافق هذا الکاتب الحربیّ الانبراطور «یولیانس» فی حملته سنة 363 م علی بلاد الفرس فی عهد الملک «سابور الثانی» المعروف بذی الأکتاف، و قد سار الجیش الرومی من طریق حران فقرقیسیا و الفرات و استولی علی حصن عانة و أحرق حصونا و قری أخری حتی بلغ مخلج الأنهار التی تتخلّج من الفرات لتستقی مناطق بابل و منها نهر الملک و سمّاه «نهر ملکا» بالصیغة الآرامیة و قال إنه یسقی المدائن «کتیزیفون» من الجهة الغربیة بالبداهة، و کان الجیش الرومی دائم الازعاج للجیش الساسانی لأنه کان یردّ و یصدّ، و الجیش الرومی یسیر موغلا فی البلاد حتی بلغ الأنبار المعروفة أیامئذ عند الروم باسم «پیری سابور» أی فیروز سابور و قال إنها کبیرة محتشدة السکان، یحیط بها الماء کأنها جزیرة و کانت مسوّرة بسور مضاعف ذی أبراج و أضلاع و فی وسطها حصن مقام علی قمة مسطحة لجبل صعب المرتقی، و کان الحصن محدّب الوسط فکان یشبه ترسا أرگولیّا و کان مدوّرا إلا من الجهة الشمالیة، فقد کان یسدّ نقصانه من التدویر صخر قائم فی الفرات. و هو تحصین له أیضا، و کانت أفاریز شرف الحصن مبنیّة بالقیر و الآجرّ، فحاصرها الانبراطور یولیانس فکان السکان لا یهابون قوّة السهام قد نشروا علی السّور أبرادا مدلّاة و نسجا من الشعر، و کانوا هم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 20
أنفسهم متترّسین بترسة من الخیزران جدّ وثیقة، و مغشّاه بجلود الدببة، فکان ذلک من أشدّ دفاع عن أنفسهم ، و أغنتهم عن إتخاذ وجوه من الحدید، و کانت أعضاؤهم مغشّاة بصفائح معدنیّة محکمة التلئیم علیها فهی تقی جمیع أبدانهم، و بعد أن تراجعوا إلی حصنهم أخذوا یرمون بسهام خیزران ذات نصول من الحدید عن قسیّ کبار لا تنثنی إلا ببطء لکبرها ثم یرسلون الأوتار بعد نزع هائل من أصابعهم فأظهر الأنبراطور یولیانس کثیرا من الشجاعة فی هذا الحصار و لقی أذی فی بدنه فأمر بصنع مکینة تسمّی هلیبول «دبّابة » فلما رأی المحصورون هذه الآلة استسلموا، فأمر الانبراطور باحراق الموضع کسائر المواضع المأهولة الأخری.
و بعد أن سار أربعة عشر میلا وصل الجیش إلی موضع فیه مزارع قد أخصبتها میاه غزیرة، و کان الفرس قد علموا من قبل بوجهة طریقنا و زحفنا فکسروا سکور المیاه فتبطّح الماء فی الأرض و غمرها فکأنها مستنقع واسع، فلذلک اضطررنا لصنع قناطر صغیرة من ظروف جلد المعزی، و قوارب من الجلود و جسور من جذوع النخل، و أکثر هذه البقاع مفروشة کرما و أشجارا مختلفة مثمرة أخری، و النخل تکوّن فیها غابات طبیعیة تمتد الی میسان و البحر الکبیر، کنا نری أفنان الثمار فی کل مکان، و طلعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 21
تکون فیه ثمرة و فیرة العسل- یعنی الدبس- و النبیذ، و قیل إن النخل یتزوج بعضها بعضا، و یستطاع تمییز النخلة الأنثی من الفحال بسهولة، و إن الاناث تلقّح بأن تذرّ بذور الفحاحیل علیها، و إنها تجد لذة نوعیة فی ذلک، و الدلالة علی هذا أنّ بعضها منحن نحو البعض الآخر بحیث لا تفرّق بینها أعصف الریاح، و أن الأنثی إذا لم یؤثر فیها الفحال لا تحمل إلا طرح ثمر- یعنی الشیص- و إذا جهل الملقّح الفحّال الذی عشقته النخلة وجب رشّ بذر فحّال من الفحاحیل علی جذعها، فاذا انتشت بهذه الرائحة الطیبة أظهرت أنها ترید الاقتران.
و قد مرّ جنودنا الروم بعدّة جزر فوجدوا فیها أقواتا کثیرة، و إذ لم ینفک الفرس یزعجون الامبراطور یولیانس، بلغ الجیش حیث یتشعّب قسم کبیر من الفرات شعبا کثیرة فوضع النار فی مدینة هناک کان الیهود یسکنونها و لکنهم جلوا عنها لأن سورها کان خفیضا جدا. و تابع الامبراطور زحفه حتی وصل «ما أوک ملکا» و هی مدینة کبیرة و محفوفة بسور وثیق، إن هذه المدینة کانت محصنة جدا و فیها حصن مقام علی هضبة من الصخر، المهندم ببروج ضخمة هائلة، فنصب علیها یولیانس آلات الحصار، و هرب الذین کانوا یسکنون فی ضواحیها إلی المدائن «کتیزیفون» فی جذوع منقورة مجوّفة و سوق أشجار کذلک، أو فی زوارق صغیرة، و نشبت الحرب بین الروم و الفرس ببسالة و حماسة و بشآبیب السهام و الجلامید و المشاعل لموقدة و المطارق ذات الرأسین، و أعمل الروم منجنیقاتهم و عقاربهم الحربیّة و کباشهم الحصاریة، فاستولوا علی الموضع بعد معجزات من الشجاعة، و استعرص الانبراطور حامیة المدینة بالسیوف حتی أتی علیهم صبرا، و کان ناس من السکان لاذوا بالمغاور و کانت المغاور کثیرة فی هذه النواحی فسدّ الرومان علیهم منافذ المغاور بالتبن و حطب الکرم و أوقدوا فیها النیران، فهلک أولئک التاعسون اختناقا داخل المغاور.
و واصل الجیش الرومی زحفه ظافرا حتی وصل إلی غیاض و مزارع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 22
فیها غلّات و فیرة، و کان فیها قصر مبنی علی الطراز الرومیّ فترکه الروم علی حاله، و کان فی تلک الناحیة بعینها حیر و هو سور ضخم مدوّر، قد أنشی‌ء للاستراحات الملوکیّة، و قد رأینا فیه حیوانات وحشیّة و أسودا ذات ذوائب و خنازیر ذات أنیاب قویّة، و دببة کالتی تکون فی بلاد الفرس، مفترسة بحالة تفوق التصوّر و کان فی الحیر حیوانات أخری عظیمة الخلقة، فکسر الفرسان الروم أبواب الحیر و قتلوا حیواناته ضربا بالسیوف و رمیا بالنشّاب. و کانت الأرض خصبة و محسنة الزرع و الاستغلال و کانت مدینة «کوثی» و تسمّی أیضا «سلوقیة» غیر بعیدة عن ذلک الموضع، فاجتاز الانبراطور یولیانس هذه المدینة المتروکة و کان «ویرس» قد أخربها، و کان هناک عین ماء جاریة، قد أحدثت مستنقعا واسعا، یصبّ ماءه فی دجلة، فرأی یولیانس عندها ناسا کثیرا معلّقین علی المشانق، و کانوا ذوی قرابة الجنود الفرس الذین استسلموا و أسلموا «فیروز سابور» إلی الروم.
و من هنالک انتهی الروم الی شواطی‌ء نهر ملکا الجنوبیّة و کان «تراجان و سیقین» الأنبراطوران الرومیان قد وسّعا مجراه بالکری و الحفر لیکون قناة عریضة، آخذة میاهها من الفرات و حاملة السّفن الی دجلة، و کانت القناة جافّة إذ ذاک و مردومة فی بعضها بحجارة کبیرة، فأمر یولیانس بکسح الرّدم، فجری فیها الماء فی الحال، و استطاع الجیش الرومی أن یعبر فی سفنه الی الضفة الأخری من دجلة علی مرتفعات «کتیزیفون»، و ما کاد ینزل یولیانس فی الضفة الأخری حتی اختار للجیش موضع استراحة فی حقل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 23
خصیب زانته شجیرات و کروم و أشجار السّرو و الخضرة النضرة، و کان فی وسط الحقل قصر للتنزّه و ارف الظلال، قد زینت جمیع أقسامه بتصاویر تزویقیّة مستحسنة، تمثل الملک فی صیده قاتلا حیوانات وحشیة، ذلک لأن الفرس لا یصورون و لا ینحتون إلا مناظر المذابح و مشاهد الحرب.
و بالقرب من «کتیزیفون» أدار الانبراطور رحی حرب طحون هزم فیها الفرس- و علی حسب وصف أمیانس للعدو أی الفرس یعترف الانسان بصدق المنحوتات و التصاویر التی فی خورص آباد ففیها صور فیلة- إن الأنبراطور الظافر طارد العدو حتی سور «کتیزیفون» إلا أنّه عدل عن حصارها لأمرین أحدهما هو أنّها متعذّرة الفتح و الآخر هو أن الملک سابور (الثانی) قد اقترب من جیش الروم فی جیش عرمرم فأحرق یولیانس سفنه و ابتعد عن دجلة، للتوغل داخل البلاد، فأحرق الفرس بیادر حصادهم لیهلکوا بالقحط، فلم یجد یولیانس فی آخر الأمر بدّا من النکوص، و فکّر فی أیّ طریق یسیر؟ أینکص من موضعه هذا بمروره فی بلاد «أقور» أی آشور محاذیا الجبال أم یتقدم فی نواحی «کوردوین» فیعیث فی «شیلوکوم» إن العرّافین لم یشیروا بهذا و لا بذلک، علی أن الأنبراطور سار فی جیشه «فی الیوم السادس عشر من حزیران سنة 363 م» متقدما نحو أصقاع «کوردوین» و فی ذلک الیوم هب إعصار من التراب أشعرنا باقتراب قطعان من حمر الوحش أی الفراء ، و هی کثیرة الوجود فی هذه الأصقاع، و کانت قد تجمّعت علی ذلک النحو لتقاوم هجمات الأسود، فاستراح الجیش یومین عند القصر الصیفی «همبرا» فهناک وجد کثیرا من الأقوات ثم استأنف السّیر و بعد أن قطع سبعین استادا بلغ مارنگا». قال أمیانس: و لما تبلج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 24
الصبح بان لنا جحفل کبیر من الفرس یقودهم «میرین» أی مهران مقدّم الفرسان مع ابنین من أبناء الملک سابور و جماعة کثیرة من الأشراف و کانت هذه الفرق مدجّجة الصدور بالحدید و کل أعضائها مغشّاة بالصفائح المعدنیّة المعدنیّة التامّة التطبیق علی المفاصل، و قد غشّوا رؤوسهم بأغشیة تشبه الوجوه البشریة و هی من الصلابة و القوّة و من کونها حرشفیّة الشکل بحیث لا تنفذ فیها السهام إلا من وصاوص العیون، فالذین یقاتلون بالحراب کانوا ثابتین لا یتحرکون من مواضعهم کأنّهم مربوطون بالسّلاسل النحاس و کان بالقرب منهم الرّماة، و کانوا یبرزون سواعدهم و ینزعون فی قسیّهم المتأطّرة السهلة الانحناء بحیث تمسّ الأوتار حلمات ثندواتهم الیمن علی حین یمسکون بأیدیهم الیسر نصال السّهام الخیزران فتطیر و لها صفیر و تحدث جروحا خطرة، و وراء الرّماة کانت الفیلة مجهزة بأجهزة حربیة فخمة، و کانت خراطیمها الرهیبة تنشر الهول و تبث الرعب و خصوصا فی الخیل و ذلک بصئیّها و نئیمها و رائحتها و منظرها المستغرب. و کان فیّالوها یحملون بأیدیهم الیمن سکاکین ذات نصب، کانوا استعملوها منذ الهزیمة التی أصابتهم بازاء نصیبین، فاذا هاج هذا الحیوان عصی فیّاله، و لمنعه من أن یطأ الجیش بارتداده و یسحقه بدلا من أن یعینه یقتله الفیّال بأن یغرز المدیة بشدّة فی المستوی الأفقی من الفقارة للفقارة التی تصل بین الرقبة و الرأس.
إن التجربة أثبتت للقائد «هاسدرو بعل» أخی «هنّی بعل» أنه علی هذا النحو یستطاع قتل هذا الحیوان قتلا وحشیّا.
و إذ کان من عادة الفرس أن یقاتلوا أعداءهم علی بعد لم یثبت الجیش الفارسی لصدمة الجیش الرومی، فتهارب جنودهم کالمطر تفرّقه الریح،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 25
و کانوا فی أثناء هربهم یرشقون بسهام إلی ورائهم لکی یمنعوا الروم من أن یتعقبوهم. و بعد هذه الوقعة استراح الجیش الرومی ثلاثة أیام، و فی أثناء هذه الفترة ارتاع الانبراطور یولیانس من خوارق سماویة ناریة و شهب هاویة راجمة، فقوّض خیام جیشه بالیوم الرابع للرحیل، و واصل سیره محترزا الاحتراز المألوف. فلم یلبث أن أنبی‌ء بأنّ ساقة الجیش قد هجم علیها الفرس فأخذ ترسا و أسرع إلی الجانب المهدّد من الجیش و لم یلبس درعا، و فی ذلک الوقت أیضا هجمت علی قلب جیشه فرقة من الفرس «الفرثیین» مسلحة بکل سلاح، و فی وسط هذه الملحمة أصابته ضربة مزراق نفذت الی کبده من خلال الضلوع فانتزعه می کبده بعد أن انقطعت أوتار أصابعه لعسر انتزاعها علیه، فحمل مرتثّا إلی المخیّم و فیه ضمّدوا جرحه، و لما شعر بتناقص الألم امتطی هذا الأنبراطور المقدام فرسا و لکن خور قوّته خان شجاعته، فانتقض جرحه، و نزفه دم کثیر، فحمل ثانیة إلی المعسکر و هناک أسلم روحه بعد أن نطق بهذه الأقوال البدیعة:
«أنا غیر نادم علی شی‌ء، و لا آسف علی شی‌ء أتیته سواء فی ذلک زمن نفیی و زمن أخذی بزمام الحکم فی الانبراطوریة، فأنا تسلمتها من الخالدین ودیعة و افتخر بأنی حافظت علیها نقیّة، و ذلک بالحکم فیها باعتدال بحیث لم آت أو لم أؤید الحرب قط الا بعد اختبار نضیج، فان کانت الغلبة أو الفائدة التی کنت آملها لم تناسب ما کنت انتظره فان الحوادث من صنع الآلهة، و إیمانی بأن الحکومة العادلة لیست لها غایة سوی منفعة شعبها و سعادته، کنت و أنتم تعلمون ذلک، کثیر المیل إلی السّلام. و قد نزهت سیرتی عن الاباحة الخلقیة المخربة و الاباحة المبیدة فی الأشیاء، إن الجمهوریة التی عددتها دائما أمّا حاکمة عرّضتنی للخطر فی کل ناحیة من نواحیها، فصمدت إلیه بسرور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 26
و تعودت ازدراء سخط الحظ، و للناس الحق فی أن یعدّوا من یرید الموت، حین یجب أن لا یراد، جبانا نذلا، و کذلک من یخافه حین ینبغی أن یتقبّله برضا، إن قوّتی لا تعیننی علی أن أقول أکثر من ذلک، لقد تعمدت أن لا أسمی أحدا لولایة الحکم بعدی، إن أکن مستطیعا أن لا أعیّن من هو الأحق بالحکم، أو أسمّی الأجدر به معرّضا له لأعظم خطر بهذا التفضیل فانی مع ذلک کالولد الشفیق الذی یتمنّی أن تجد الجمهوریة لنفسها رئیسا تراه أهلا لها بعد موتی.
قال أمیانس مرقلانس: فهل فی العالم کثیر من الرؤساء یستطیعون أن یقولوا کهذه الأقوال؟ و لما مات یولیانس لم یکن له من العمر إلا اثنتان و ثلاثون سنة کعمر الاسکندر فی بابل، إن الموضع الذی هلک فیه ینبغی أن یکون قریبا جدا من بغداد .
و انتخب الجیش الرومی یوینیانس لرئاسة الانبراطوریة بعد حدوث عدّة دسائس، فعقد معاهدة مخزیة مع ملک الفرس سابور المذکور التزم فیها الروم أن یردوا علی الفرس فیما یردون الأصقاع الخمسة فی غربی دجلة و هی الأرزن و ماکسین و زبدیسین و رهیمین و کورداسین، و کانت مدة الصلح ثلاثین سنة، و کان من شروط هذه المعاهدة أن یتخلی الروم عن جمیع فتوحهم فیما بین النهرین حتی نصیبین، فنقل سکانها إلی آمد، إن ارتداد الجیش الرومیّ یحتوی علی قلیل من الأحداث المعتبرة، إن عدّة إشارات خططیّة، مستحقّة للتدقیق من حیث الصحة، إلی المواضع، یمکن لها فی سهولة و یسر، تعرّف طریق الروم فی ذلک النکوص، فبعد انتخاب «یوینیانس» بلغ الجیش قبیل المساء و الفرس یزعجونه دائما، حصن «سومیز» Sumeze فهناک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 27
اتصل به أشراف خدمة القصر الجمهوری و کانوا قد التجأوا إلی حصن «وکّات». و فی الیوم التالی لهذا الیوم خیّم الرومان فی واد یبدو للناظر محوّط بسور و لیس له إلا مخرج واسع بعض السعة، فغرز الجیش فیه، کما یدور، أوتادا مؤلّلة الرؤوس، و باللیلة التالیة لذلک الیوم خیّم الجیش فی «کرخا» و کان حیالها باشورات من التراب أی حواجز ترابیّة، فی طفوفها الشاطئیة لمنع العرب من العدوان علی بلاد آشور، ثم سار الجیش ثلاثین استادا فوصل إلی «دور» ، و هی مدینة فلبث فیها أربعة أیام، و فی أثناء هذه الاقامة عبرت باللیل نهر دجلة من الجیش کتیبة ثقیلة مؤلفة من رجال سبّاحین، و هزمت العدوّ الموکل بحفظ ضفة النهر، هذه الضربة ضربها الجیش الرومیّ فی أثناء زیادة الماء خاصّة، لأن الوقت کان فائظا، و سرعان ما عبر الجیش کله فمنهم من عبر بانحراف سباحة و عوما و منهم من عبره علی زقاق المعزی و آخرون حاولوا قیادة الکراع أی حیوانات النقل، فکانوا یعومون هنا و هناک علی إبّالات من الصفصاف، و آخر الأمر أنهم بلغوا الضفّة الیمنی لدجلة، عدا الذین هلکوا فی هذه العبرة . و بعد مسیرة سریعة وصل الجیش الی «حضرا» أی الحضر، مدینة عتیقة قائمة فی صحراء و مهجورة منذ زمن بعید، و کان الانبراطور «تراجان» و الانبراطور «سیفیر» حاولا تدمیرها فهلکا مع جیوشهما. قال أمیانس: و علمنا أن طول هذا السهل الفاصل سبعون فرسخا، فلیس فیه إلا ماء ملح آسن و لا طعام إلا القیصوم و الشّیح و اللوف و أعشاب أخری قلیلة التشهیة. و فی آخر مسیرة کان أمدها ستة أیام لم نجد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 28
شیئا حتی العشب، و لحسن حظّنا التحق بنا فی حصن «أور» الاطربون موریتیوس و دوق ما بین النهرین کاسین و أنقذانا من الجوع بما جاءا به إلینا من الأزواد، و لکنها سرعان ما نفدت و کدنا نأکل اللحوم البشریة لو لم یبق معنا لحم الحیوانات التی قتلناها بعض الزمان، و مع ذلک تابع الجیش سیره، فبلغ بعد أن کابد کثیرا من الجوع «تیسالفاتا» و من ثمّ وصل إلی نصیبین و فیها انتهت الأسواء التی أصابته، ثم دفن «پروکوپ» جثة الانبراطور یولیانس فی ربض «تارز» علی حسب مراده. و توفی یوینیاس بعد برهة قصیرة فی دودستان علی سنکاریوس، المدینة التی تفصل «بثینی» «عن کلاتی» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 29

دیارات سامرا و القاطول الکسروی

اشارة

کانت دیارات سامرا و نواحیها أقدم المواضع المسکونة قبل إنشاء المعتصم باللّه مدینته الجدیدة فیها و کانت الدیارات کما هو معلوم تقام علی ضفاف الأنهار الکبیرة و القنوات، و لذلک کان القاطول الکسرویّ أقوی أسباب السکن هناک و أدعی الدواعی إلی إنشاء الدیارات فلا حیاة بغیر ماء و لا نبات، قال ابن رافیون فی معرفة الأنهار التی تحمل من دجلة و إلیها تصب: «و یحمل منها أیضا من شرقیها (القاطول الأعلی الکسروی) أو له أسفل من دور الحارث بشی‌ء یسیر، مماسّ لقصر المتوکل علی اللّه المعروف بالجعفری و علیه هناک قنطرة حجارة ثم یمرّ إلی الایتاخیة و علیه هناک قنطرة کسرویة ثم یمر الی المحمدیة و علیه هناک جسر زواریق ثم یمرّ إلی الأجمة: قریة کبیرة ثم یمرّ الی الشاذروان ثم یمر إلی المأمونیة و هی قریة کبیرة ثم یمر الی القناطر. و هذه قری عامرة و ضیاع متصلة ثم یمرّ إلی قریة یقال لها (صولا) و باعقوبا و یسمّی هناک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 30
تامرّا ثم یمرّ إلی باجسرا و یجی‌ء إلی الجسر المعروف بجسر النهروان و یعرف النهر هناک بالنهروان ثم یمرّ الی الشاذروان الأعلی ثم یمرّ إلی جسر بوران ثم یمرّ الی عبرتا ثم إلی برزاطیة ثم إلی الشاذروان الأسفل . و هذه قری و ضیاع جلیلة، ثم یمر الی إسکاف بنی الجنید و هی مدینة فی جانبین و النهر یشقها ثم یمرّ بین قری متصلة و ضیاع مادة إلی أن یصب فی دجلة أسفل ماذرایا بشی‌ء یسیر فی الجانب الشرقی» .
و قال یاقوت الحموی: «القاطول فاعول من القطل و هو القطع ...
اسم نهر کأنه مقطوع من دجلة و هو نهر کان فی موضع سامرا قبل ان تعمر کان الرشید أول من حفر هذا النهر و بنی علی فوهته قصرا و سمّاه (أبا الجند) لکثرة ما کان یسقی من الأرضین و جعله لأرزاق جنده ... و فوق هذا القاطول (القاطول الکسروی) حفره کسری أنو شروان العادل، یأخذ من جانب دجلة فی الجانب الشرقی أیضا و علیه أیضا شاذروان فوقه یسقی رستاقا بین النهرین من طسّوج بزرج سابور و حفر بعده الرشید هذا القاطول الذی قدمنا ذکره تحته مما یلی بغداد و هو أیضا یصب فی النهروان تحت الشاذروان قال جحظة البرمکی یذکر القاطول و القادسیة المجاورة لها:
ألا هل الی الغدران و الشمس طلقةسبیل و نور الخیر مجتمع الشمل؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 31 و مستشرف للعین تغدو ظباؤه‌صوائد الباب الرجال بلا نبل
إل شاطی‌ء القاطول بالجانب الذی‌به القصر بین القادسیة و النخل
إلی مجمع للطیر فیه رطانةیطیف بها القنّاص بالخیل و الرّجل
فحانة مرعبد الیهودی إنّهامشهّرة بالراح معشوقة الأهل
و کم راکب ظهر الظلام مغلّس‌إلی قهوة صفراء معدومة المثل
إذا نفّذ الخمار دنّا بمبزل‌تبینت وجه السکر فی ذلک البزل
و کم من صریع لا یدیر لسانه‌و من ناطق بالجهل لیس بذی جهل
تری شرس الأخلاق من بعد شربهاجدیرا ببذل المال و الخلق السهل
جمعت بها شمل الخلاعة برهةو فرّقت مالا غیر مصغ إلی عذل
لقد غنیت دهرا بقربی نفیسةفکیف تراها حین فارقها مثلی» ؟
و قد ورد ذکر القاطول فی شعر علی بن الجهم و البحتریّ و غیرهما و فی عدة تواریخ .
و القاطول الکسروی له صلة بنهر یکاد یکون خیالیا لأن اسمه یعنی کل انکسار کان یحدثه الفیضان فی ضفته الیسری، قال یاقوت: «القورج:
بالضم ثم السکون وراء مفتوحة و جیم، هو نهر بین القاطول و بغداد منه یکون غرق بغداد کل وقت تغرق. و کان السبب فی حفر هذا النهر أن کسری لما حفر القاطول أضرّ ذلک بأهل الأسافل و انقطع عنهم الماء حتی افتقروا و ذهبت أموالهم، فخرج أهل تلک النواحی إلی کسری یتظلمون إلیه مما حل بهم، فوافوه و قد خرج متنزها، فقالوا: أیها الملک إنّا جئنا نتظلم. فقال:
ممّن؟ قالوا: منک، فثنی رجله و نزل عن دابّته و جلس علی الأرض،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 32
فأتاه بعض من معه بشی‌ء یجلس علیه، فأبی و قال: لا أجلس إلا علی الأرض إذ أتأنی قوم یتظلمون منّی. ثم قال: ما مظلمتکم؟ قالوا: حفرت قاطولک فخرّب بلادنا و انقطع عنا الماء ، ففسدت مزارعنا و ذهب معاشنا. فقال:
إنی آمر بسدّه لیعود الیکم ماؤکم. قالوا: لا نجشّمک أیها الملک هذا فیفسد علیک اختیارک و لکن مر أن یعمل لنا مجری من دون القاطول. فعمل لهم مجری بناحیة القورج یجری فیه الماء، فعمرت بلادهم و حسنت أحوالهم، و أمّا الیوم فهو بلاء علی أهل بغداد فانهم یجتهدون فی سدّه و احکامه بغایة جهدهم، و إذا زاد الماء فأفرط بثقه و تعدّی إلی دورهم و بلدهم فخرّبه».
و اختصر ابن عبد الحق کلام یاقوت و لم یعقب علیه و لا ذکر فوهة نهر القورج أین کانت فیما بین القاطول و بغداد و لا کون هذا النهر جاریا أو مندرسا أو مندفنا فی زمانه بخلاف عادته مع أنّه لما ذکر وصف یاقوت للقاطول الکسروی عقّب علیه باستحالة امتداده إلی نواحی بغداد کما زعم یاقوت، و قد نقلت ذلک التعقیب فی حاشیة سابقة. و العجیب فی أمر هذا النهر الخیالی أنه لم یرد ذکره فی تاریخ سوی من نقل من معجم یاقوت الحموی و منهم مؤلف عجائب المخلوقات «ص 163». و مؤلف جریدة العجائب «ص 111» و مؤلفات المراصد من التواریخ و لا ذکرت علیه قریة من القری و لا ضیعة من الضیاع و لا رآه جغرافی و لا بلدانی و لا سائح من القدامی و لا من المتأخرین، و کل ما ذکر من أخباره أنه انکسار عام فی ضفة دجلة، لیس له موضع معلوم و لا مجری خاص، و یسمّی بالعربیة «البثق» قال ابو الفرج بن الجوزی فی حوادث سنة 461؛ «و فی جمادی الأولی بلغت زیادة الماء إحدی و عشرین ذراعا و ثلثین و بلغ إلی الثریّا ، و فجّرت (بثقا)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 33
فوق الدار المعزّیة و بلغ الماء الی مشهد النذور و مشهد السبتی » فهذا البثق کان یسمّی باصطلاح ذلک العصر «القورج» و قد سمّاه المؤرخ نفسه بعد ذلک «القورج» قال فی حوادث سنة 466: «و فی جمادی الآخرة ورد الحاجب السلیمانی من عکبرا فدخل الدیوان، فرسم له تدارک القورج الذی هو فوق الدار المعزّیة و کانت دجلة قد زادت زیادة مفرطة و اتصل المطر بالموصل و الجبال و نودی بالعوام أن یخرجوا معه لذلک. فخرج من الدیوان و أراد قصد الموضع فرأی الماء قد حجز بینه و بین الطریق، فرجع إلی دار المملکة وجلا و جمع زواریق و طرح فیها رحله لیعبر فیهرب ...».
فقوله «القورج الذی هو فوق الدار المعزیة» یدل علی أنّ القورج لم یکن واحدا و أنه اسم جنس عام، و أنه بثق یجوز أن یحدث فی کل موضع من الضفة یثلمه الماء و مما نذکره هنا للبرهنة علی ذلک أن أبا الفرج ابن الجوزی قال فی حوادث سنة 489: «و فی هذه السنة حکم المنجمون بطوفان یکون فی الناس یقارب طوفان نوح ... فقبل ما یجتمع فی بلد ما یجتمع فی بغداد و ربّما غرقت فتقدّم باحکام المسنیات و المواضع التی یخشی منها الانفجار، و کان الناس ینتظرون الغرق» . و قال ابن تغری بردی فی کلامه علی هذه الحادثة:
«فأمر الخلیفة بأحکام المسنیّات و سد القوارج و کان الناس یتوقعون الغرق ».
فقوله: «و سد القورج أو القوارج» یفسّره قول ابن الجوزی «بأحکام المسنیات و المواضع التی یخشی منها الانفجار». و هذا المؤرخ نفسه یقول
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 34
فی حوادث سنة 516: «و فی هذه السنة زاد الماء حتی خیف علی بغداد من الغرق و تقدّم الی القاضی أبی العباس بن الرّطبی بالخروج الی القورج» و مشاهدة ما یحتاج إلیه، و لهذا (القورج) الذی غرق الناس منه فی سنة ست و ستین (و أربعمائة) تولی عمارته نوشتکین خادم أبی نصر بن جهیر و کتب اسمه علیه و ضرب علیه خیمة و لم یفارقه حتی أحکمه و غرم علیه ألوف دنانیر من مال نفسه ... و فی یوم الاربعاء رابع عشر صفر مضی الوزیر أبو علی بن صدقة و معه موکب الخلیفة الی القورج و اجتمع بالوزیر ابی طالب و وقفا علی ظهور مراکبهما ساعة ثم انصرفا» .
و قال سبط ابن الجوزی فی حوادث سنة 466 المذکورة آنفا: «فی جمادی الأولی زادت دجلة زیادة عظیمة لم یعهد مثلها و أمر الخلیفة العوام بالخروج مع الحاجب (السلیمانی) أیتکین إلی عمل القورج، فخرجوا، و إذا بالماء قد أقبل مثل الجبال، فرجع أیتکین و الناس، و جمع الزواریق و جعل فیها رحله و رحل أصحابه ...» ثم قال: «و انکسر القورج علی دار الخلافة و صار کالبحر ثم جاء من ناحیة الجانب الغربی من الفرات» فتأمل قوله:
«ثم جاء من ناحیة الجانب الغربی من الفرات» لتتحقق انه أراد مطلق انبثاق سد الماء أو ضفة النهر فی أی موضع کان. و قال عز الدین ابن الأثیر فی حوادث السنة المذکورة- أعنی سنة 467-: «فی هذه السنة غرق الجانب الشرقی و بعض الغربی من بغداد و سببه أن دجلة زادت زیادة عظیمة و انفتح القورج عند المسناة المعزیة و جاء فی اللیل سیل عظیم و طفح الماء من البریّة مع ریح شدیدة و جاء الماء الی المنازل من فوق، و نبع من البلالیع و الآبار بالجانب الشرقی و هلک خلق کثیر تحت الهدم ...» .
و قال العماد الأصفهانی فی حوادث سنة 554: «و عند عودة المقتفی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 35
غرقت بغداد و ذلک فی شهر ربیع الأول سنة 554 و ذلک لأن الماء زاد فی تلک السنة علی خلاف عادته و تهوّر بثق القورج و تقوّر و غلب و بلغ السور من صوب الظفریّة و تسوّر و طاف بتلک النواحی طوفان نوح ... و رکب الوزیر و أرباب الدولة فصدّوه و سدّوه» . و قال أبو الفرج إبن الجوزی فی حوادثها: «و فی ثامن عشر ربیع الأول کثر المدّ بدجلة و خرق القورج و أقبل الی البلد و امتلأت الصحاری و خندق السور و أفسد الماء السّور ففتح فتحة ... » ثم قال فی حوادث سنة 569: «و فی غرة رمضان زادت دجلة زیادة کبیرة ... ثم زاد الماء فی یوم الأحد عاشر رمضان فزاد علی کل زیادة ...
و تقدم بالعوام (أن) یخرجوا بالوعاظ الی القورج لیعملوا فیه فخرجنا و قد انفتح موضع فوق القورج بقریة یقال لها الزورتقیة و جاء الماء من قبله فتدارکه الناس فسدوه و بات علیهم الجند و تولی العمل الأمیر قیماز بنفسه وحده ثم انفتح یومئذ بعد العصر فتحة من جانب دار السلطان و ساح الماء فملأ الجواد ثم سدّ بعد جهد»،
و قال عز الدین بن الأثیر فی حوادث سنة 554: «فی هذه السنة ثامن ربیع الآخر کثرت الزیادة فی دجلة و خرق القورج فوق بغداد و أقبل المدّ إلی البلد فامتلأت الصحاری، و خندق البلد و أفسد الماء السور» . ثم قال فی حوادث سنة 568: «فی هذه السنة زادت دجلة زیادة کثیرة أشرفت بها بغداد علی الغرق فی شعبان ... و اشتغل الناس بالعمل فی القورج ثم نقص و کفی الناس شرّه » ثم قال فی حوادث سنة 569: «و زادت دجلة زیادة عظیمة و کان أکثرها ببغداد ... و خاف الناس الغرق و فارقوا البلد و أقاموا علی شاطی‌ء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 36
دجلة خوفا من انفتاح القورج و غیره، و کانوا کلما انفتح موضع بادروا بسدّه» ، و جاء فی کتاب آخر: «ثم إن دجلة زادت زیادة عظیمة فی سنة أربع و خمسین فی خلافة المقتفی لأمر اللّه و انفتح القورج و احاط بالسّور » و ورد فی مختصر الدول فی حوادث سنة 554: «و فی سنة أربع و خمسین (و خمسمائة) ثامن ربیع الآخر کثرت الزیادة فی دجلة و خرج القورج بغداد فامتلأت الصحاری و خندق البلد و وقع بعض السّور ».
و قال عز الدین ابن الأثیر فی حوادث سنة 614: «و فیها زادت دجلة زیادة عظیمة لم یشاهد فی قدیم الزمان مثلها و أشرفت بغداد علی الغرق، فرکب الوزیر و کافة الأمراء و الأعیان و جمعوا الخلق العظیم من العامة و غیرهم لعمل القورج حول البلد و قلق الناس لذلک و انزعجوا و عاینوا الهلاک و أعدّوا السفن لینجوا فیها» ، ثم قال فی حوادث سنة 623: «و فیها فی ربیع الأول زادت دجلة زیادة عظیمة و اشتغل الناس باصلاح سکر القورج و خافوا فبلغت الزیادة قریبا من الزیادة الأولة ثم نقص الماء و استبشر الناس» .
و جاء فی حوادث سنة 646 لمؤرخ ینقل من تاریخ ابن الساعی: «و فی السابع و العشرین من شوال زادت دجلة زیادة عظمیة و أغرقت بالجانب الغربی الدور و الدکاکین و المساکن و الحمامات ... و أمر الخلیفة علی نائب المخزن بملازمة القورج و إحکامه، و أطلق من الدیوان ذهب لاقامته الرجال و لزوم العمل لیلا و نهارا و خرج الوزیر فی غرّة ذی القعدة مسرعا قاصدا للقورج و تتابع خروج الناس فی أثره و نزل عن مرکوبه و حمل باقة حطب و سار إلی آخر القورج و نبّه الناس علی المواضع المستضعفة منه و نقص الماء فی ذلک الیوم أربع أصابع» . و جاء فی کتاب الحوادث فی الحادثة نفسها: «و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 37
من حیث تزاید الماء فی دجلة تقدّم باحکام القورج و خرج الوزیر ابن العلقمی إلی هناک و نزل عن فرسه و حمل باقة حطب فوافقه کافة الناس و اشتد العمل فاتفق أن دجلة نقصت» . و قال الخزرجی فی حوادث سنة 652 ناقلا أیضا: «و فی شهر ربیع الأول انفتحت فتحة فی القورج أغرقت قریة یحی و ما یجاورها ثم انفتحت فی السبت فتحة أخری أغرقت عدة نواح بنهر عیسی و نهر الملک ثم زادت الفرات زیادة جاوزت المقدار المعتاد» .
و جاء فی الحوادث فی سنة 654: «فی هذه السنة زادت دجلة زیادة عظیمة و انفتح فی القورج فتحة کبیرة عجز من یتولاها عن استدراکها فرکب الوزیر و کافة الولاة معه و أخذ الوزیر فی یده باقة شوک، ففعل سائر العالم مثل ذلک و لم یقع التمکن من سدّها فترکت و انهزم الناس کلهم و الماء فی أثرهم و أحاط ببغداد ». و قال الخزرجی فی حوادث سنة 654: «و زادت دجلة إزیادة أغرقت الجانب الغربی و وقع به دور کثیرة و انفتح فی القورج بعد حکامه فتحة عظیمة و منع الناس من تدارکها، و توالت الأهویة و خرج الوزیر و کافة الناس و أرادوا سدّ الفتحة فتعذر الوصول إلیها» .
و قال مؤلف الحوادث فی أخبار سنة 674: «و فیها زادت دجلة و غرق ببغداد عدّة أماکن و انفتح فی القورج فتحة عظیمة، فخرج علاء الدین صاحب الدیوان و کافة الولاة و الأکابر و العوام و أخذ الصاحب باقة شوک وضعها علی فرسه فلم یبق أحد الا فعل مثله و نزل الصاحب و عمل بیده و تکاثر الناس و تساعدوا فاستدرکوها و سدّوها» .
و ورد فی حوادث سنة 765 ه، أن الخواجة أمین الدین مرجان بن عبد اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 38
نائب السلطان أویس إبن السلطان الشیخ حسن الکبیر ببغداد «قد فتح سدود دجلة فأغرق أطراف بغداد لمسافة أربع ساعات، فقد کسر سد القورج و قطع الطریق، فلم یتمکن السلطان أویس من الاستیلاء علی البلد و مضت أیام و الوضع فی توقف و لم یتیسر الأمر» .
و مما یدل علی شیوع اسم القورج أنه کان بالقرب من واسط موضع یعرف بباب القورج منذ العصر الأموی فقد جاء فی حوادث سنة 127 فی حرب الخوارج ما هذا نصه «فشدّ منصور بن جمهور علی قائد من قواد الضحّاک کان عظیم القدر فی الشراة یقال له عکرمة بن شیبان فضربه علی باب القورج فقطعه باثنین فقتله» . و ذکر المقریزی أن عبد اللّه بن میمون القداحی- اعنی عبد اللّه- «کان أصله من موضع بالأهواز یعرف بقورج العباس» .
و قال الأستاذ الدکتور جمال الدین الشیال- رح-: «لم أجد فی المراجع التی بین یدی تعریفا لموضع هذا البلد ». قلت ذکره الطبری فی حوادث سنة 258 فی أخبار صاحب الزنج و قتل صاحبه یحی بن محمد البحرانی، و یفهم من النص التاریخی أنه کان فی نواحی البصرة لا فی الأهواز قال:
«فلما قربوا من نهر العباس جعل یحی بن محمد سلیمان بن جامع علی مقدمته فمضی یقود أوائل الزنج و هم یجرون سفنهم یریدون الخروج من نهر العباس و فی النهر للسلطان شذوات و سمیریات تحمی فوهته من قبل أصغجون و معها جمع من الفرسان و الرجالة فراعه و أصحابه ذلک، فخلّوا سفنهم و ألقوا أنفسهم فی غربی نهر العباس و أخذوا علی طریق الزیدان ماضین نحو عسکر الخبیث و یحی غارّ بما أصابهم، لم یأته علم شی‌ء من خبرهم و هو متوسط عسکره و قد وقف علی قنطرة قورج العباس» .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 39

دیر سامرّا

و الآن نشرع فی ذکر دیارات سامرا العتیقة فقد کانت أقدم زمانا من «سامرا المعتصم» و المألوف فی انشاء الدیارات أن تکون علی ضفاف الأنهار و القنیّ فی الأرضین الخصبة لتسهیل العیش علی الرهبان و الراهبات، و القدرة علی القیام بضیافة المضطرین من أهل الأسفار و الطرّاء و المنقطعین، فأول دیر نذکره هو «دیر سامرا» فانّا لم نجد له اسما و لکننا وجدنا له ذکرا فی الأخبار فقد ذکر جماعة من المؤرخین أن المعتصم اشتری دیرا بسامرا و بنی فی أرضه و صار هذا الدیر بعد إنشاء دار العامة فی أرضه «بیت المال» و لکنهم لم یذکروا اسم هذا الدیر الشائع أیامئذ و لا اسمه الحقیقی فمن الدیارات ما کان یشیع له اسم غیر اسمه الحقیقی بسبب قوی من أسباب الشیوع، قال الیعقوبی و هو و البلاذری أقدم من أرّخ إنشاء سامرا المعتصم: «و خرج المعتصم الی القاطول فی النصف من ذی القعدة سنة (220) فاختط موضع المدینة التی بناها و أقطع الناس المقاطع وجدّ فی البناء حتی بنی الناس القصور و الدور و قامت الأسواق ثم ارتحل من القاطول إلی (سر من رأی) فوقف فی الموضع الذی فیه (دار العامة) و هناک (دیر) للنصاری فاشتری من أهل الدیر الأرض و اختط فیه و صار إلی موضع القصر المعروف بالجوسق علی دجلة فبنی هناک عدة قصور للقواد و الکتاب و سمّاها بأسمائهم» . و قال فی کتاب البلدان: «قال أحمد بن أبی یعقوب: کانت سرّ من رأی فی متقدم الأیام صحراء من أرض الطیرهان لا عمارة بها و کان بها دیر للنصاری بالموضع الذی صارت فیه دار السلطان المعروفة بدار العامة و صار الدیر بیت المال» و کرّر الحدیث عودا علی بدء فقال: «ثم رکب المعتصم متصیدا فمرّ فی مسیره حتی صار إلی موضع (سرّ من رأی). صحراء من أرض الطیرهان لا عمارة بها و لا انیس فیها إلا دیر للنصاری فوقف بالدیر و کلّم من فیه من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 40
الرهبان و قال: ما اسم هذا الموضع؟ فقال له بعض الرهبان: نجد فی کتبنا المتقدمة أن هذا الموضع یسمی (سرّ من رأی) و أنه کان مدینة سام بن نوح و أنه سیعمر بعد دهور علی ید ملک جلیل مظفر منصور له أصحاب کأن وجوههم وجوه طیر الفلاة ینزلها و ینزلها ولده ...» .
و جاء فی تاریخ الطبری «ذکر عن أبی الوزیر أحمد بن خالد أنه قال:
بعثنی المعتصم فی سنة 219 و قال لی: یا أحمد اشتر لی بناحیة سامرّا موضعا ابنی فیه مدینة فانی أتخوف أن یصیح هؤلاء الحربیة صیحة فیقتلون غلمانی، حتی أکون فوقهم فان رابنی منهم ریب أتیتهم فی البرّ و البحر حتی آتی علیهم.
و قال لی: خذ مائة ألف دینار. قلت: آخذ خمسة آلاف دینار فکلما احتجت إلی زیادة بعثت الیک فاستزدت. قال: نعم. فأتیت الموضع فاشتریت سامرّا بخمس مئة درهم من النصاری أصحاب الدیر و اشتریت موضع البستان الخاقانی بخمسة آلاف درهم و اشتریت عدّة مواضع حتی أحکمت ما أردت ثم انحدرت فأتیته بالصکاک فعزم علی الخروج إلیها فی سنة (220) فخرج حتی إذا قارب القاطول ضربت له فیه القباب و المضارب و ضرب الناس الأخبیة ثم لم یزل یتقدم و تضرب له القباب حتی وضع البناء بسامرّا فی سنة 221» .
فهذا الخبر یؤکد وجود الدیر و ابتیاع المعتصم له و لمرافقه و ثبت وجود عمران فی تلک البقعة لا کونها صحراء لا عمارة بها و لا أنیس کما زعم الیعقوبی و إنما کانت هناک قری منشأة علی الأنهار کالقاطول الکسروی و فروعه.
و لم أجد فی المراجع النصرانیة و لا کتاب الدیارات للشابشتی و لا غیره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 41
من الکتب التی أرّخت الدیارات ذکرا لدیر سامرا، کما سمیته انا، فماری ابن سلیمان مؤرخ الفطارکة النساطرة و هم اهل المذهب النصرانی الغالب بالعراق أیامئذ یقول: «و فی السنة الثانیة من خلافة المعتصم وقع الحریق ببغداد و تلفت أموال التجار قربا و بعدا و لم یمکن طفیه- یعنی إطفاءه- و اخرج المعتصم مالا و سلّمه الی قاضیین لاستحلاف کل إنسان علی ما ذهب له و یدفع إلیه خمسه، و خرج إلی الطیرهان للتصید و صاد و جعل فی أعناق السباع الأطواق الحدید و وسم علی أفخاذ الظباء و حمیر الوحش اسمه و استطاب الموضع و ابتاع من سکان ذلک الموضع النصاری الخرابات المتصلة بالمطیرة و جدّد بناء «سرّ من رأی» . و لم یذکر دیرا بعینه بل ذکر خرابات کما قرأت.
هذا و قد جاء ذکر بنی الصقر و کان بموضع الایتاخیة التی سمیت بعد ذلک المحمدیة کما سیأتی فی الکلام علی الجوسق.

دیر مرماری

کان هذا الدیر فی الطیرهان عند سامرا قرب الموضع الذی عرف بعد تمصیر المعتصم لسامرا باسم قنطرة و صیف، قال الشابشتی: «و هذا الدیر بسرّ من رأی» ، و هو دیر عامر کثیر الرهبان، حوله کروم و شجر و هو من المواضع النزهة و البقاع الطیبة الحسنة» . و ماری الذی أضیف الیه هذا الدیر عرف فی تاریخ النصاری النساطرة و هو فطرکهم باسم «مارماری السلیم».
و هو الذی نشر النصرانیة النسطوریة فی الشرق و نصّر کثیرا من الناس ببابل و العراقیین و الیمن و الجزائر و بحر الیمن و بحر الهند و الأهواز و کور دجلة و فارس و کسکر و أهل الراذانین و حمل رجلا واسع الحال علی إنشاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 42
ثلاث مئة و ستین بیعة و عمرا و دیرا و وقف علیها الوقوف و توجه الی مدینة سلوقیة مقابل المدائن من الجانب الغربی و نشر فیها النصرانیة و قاوم المجوسیّة الثنویة، و عمل العجائب فی بناء البیع و من جملتها البیعة الکبیرة بالمدائن التی کانت مرکزا لنصب الجثالقة بالجدد و بیعة داورتا ببغداد قبل ان یمصرها المنصور و قبل الدولة الاسلامیة أصلا، و مضی الی الطیرهان منطقة سامرا ثم مضی الی دور قنّی و کان بها امرأة نبیلة جلیلة اسمها قنّی ، فسارعت الی تصدیقه و الایمان بدینه و وهبت له ضیاعها و بنی الدیر هناک و هو الذی دفن فیه و کان بیتا لنار المجوس ثم صار الی کسکر و کان اهلها و ثنیین فنصّرهم و حملهم علی کسر الوثنین اللذین کانا عندهم ثم انحدر الی دستمیسان و دخل الابلة و بنی البیعة التی عرفت ببیعة القدس فکانت الابلة هی المدینة الاصلیة هناک قبل الاسلام و بلغت دعوته البحر، و صوّر فی البیع صور السیدة مریم- ع- و ابرار النصاری ثم توفی سنة (82 م) و دفن بدیر قنّی عن یمین المذبح بعد فطرکة دامت ثلاثا و ثلاثین سنة» . هذا موجز ما ذکره المؤرخان النصرانیان النسطوریان المذکوران فی الحاشیة و علیهما عهدة اقوالهما، و فی هذا الدیر یقول الفضل بن العباس بن المأمون:
انضیت فی سر من راخیل لذاتی‌و نلت فیها منی نفسی و شهواتی
عمرت فیها بقاع اللهو منغمسافی القصف ما بین انهار و جنات
بدیر مرمار إذ نحیی الصبوح به‌و نعمل الکأس فیه بالعشیات
بین النواقیس و التقدیس آونةو تارة بین عیدان و نایات
و کم به من غزال اغید غزل‌یصیدنا باللحاظ البابلیات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 43
و ذکر الفضل هذا انه خرج ذات یوم مع المعتز للصید قال: فانقطعنا عن الموکب انا و هو و یونس بن بغا، فشکا المعتز العطش، فقلت له: یا أمیر المؤمنین ان فی هذا الدیر راهبا اعرفه له مودة حسنة، خفیف الروح و فیه آلات جمیلة فهل لأمیر المؤمنین أن نعدل الیه؟ قال: افعل فصرنا الی الدیرانی فرحب بنا و تلقانا أجمل لقاء و جاءنا بماء بارد فشربنا، و عرض علینا النزول عنده و قال: تتبردون عندنا و نحضرکم ما تیسر فی دیرنا فتنالون منه. فاستظرفه المعتز و قال: انزل بنا الیه فنزلنا. فسألنی الدیرانی عن المعتز و یونس بن بغا.
فقلت: هما من أبناء الجند. فقال: بل مفلتان من ازواج الحور. فقلت:
هذا لیس من دینک و لا اعتقادک. قال: هو الآن من دینی و اعتقادی .
فضحک المعتز. ثم جاءنا بخبز و أشاطیر و ما یکون مثله فی الدیارات، فکان من أنظف طعام و اطیبه و أحسن آنیة، فأکلنا و غسلنا ایدینا. فقال لی المعتز:
قل له بینک و بینه من تحب ان یکون معک من هذین و لا یفارقک؟ قال الفضل فقلت له. فقال: کلاهما و تمرا. فضحک المعتز حتی مال علی حائط الدیر من الضحک. فقلت للدیرانی: لا بدّ من ان تختار فقال الاختیار فی هذا دمار، ما خلق اللّه عقلا یمیز بین هؤلاء. ثم لحقنا الموکب فارتاع الدیرانی. فقال له المعتز: بحیاتی لا تنقطع عما کنا فیه فانی لمن ثم مولی و لمن ها هنا صدیق. فجلسنا ساعة و أمر له المعتز بخمسین الف درهم. فقال: و اللّه لا قبلتها إلا علی شرط.
قال: و ما هو؟ قال: یکون أمیر المؤمنین فی دعوتی مع من أحبّ. قال المعتز:
ذاک الیک. فاتفقنا لیوم جئناه فیه علی ما أحب، فلم یبق غایة و أقام بمن کان معه و جاء باولاد النصاری فخدمونا احسن خدمة. فسر المعتز سرورا ما رأیته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 44
سرّ مثله. و وصله فی ذلک الیوم بمال کثیر، و لم یزل یطرقه اذا اجتاز به و یاکل عنده و یشرب مدة حیاته» .

دیر السوسی

قال الشابشتی: «هذا الدیر لطیف علی شاطی‌ء دجلة بقادسیة سرّ من رأی و بین القادسیة و سر من رأی أربعة فراسخ، و المطیرة بینهما و هذه النواحی کلها متنزهات و بساتین و کروم و الناس یقصدون هذا الدیر و یشربون فی بساتینه و هو من مواطن السرور و مواضع القصف و اللعب ». و قال یاقوت:
«قال البلاذری: هو دیر مریم بناه رجل من أهل السوس و سکنه هو و رهبان معه فسمی به و هو بنواحی سر من رأی بالجانب الغربی» . و لابن المعتز فی دیر السّوسی:
یا لیالیّ بالمطیرة و الکرخ و دیر السّوسی باللّه عودی
کنت عندی انموذجات من الجنّ... ة لکنها بغیر خلود
أشرب الراح و هی تشرب عقلی‌و علی ذاک کان قتل الولید
و جاء فی مسالک الأبصار: «دیر السوسی و هو فی الجانب الغربی بسر من رأی و منه أرضها فابتاعها المعتصم من أهله». و هذا القول لا یصح بعد قول الشابشتی إنه بقادسیة سامرا بینها و بین سامرا، إلا ان یاقوتا الحموی ذکر انه بالجانب الغربی و قد نقلنا قوله، و قول الشابشتی أثبت و أقدم.
و قال الخالدی: «حدثنا جحظة عن احمد بن ابی طاهر قال: قصدت سرّ من رأی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 45
زائرا بعض کتابها بشعر مدحته به، فقبلنی و أحسن الی و أجزل صلتی و وهب لی غلاما رومیا حسن الوجه و رحلت أرید بغداد سائرا علی الظهر و لم ارکب الماء فلما سرت نحو الفرسخ أخذتنا السماء بأمر عظیم من القطر و نحن بالقرب من دیر السوسی، فقلت للغلام: اعدل بنا یا بنی الی هذا الدیر نقم فیه الی ان یخف هذا المطر ففعل و ازداد القطر و اشتد و جاء اللیل، فقال الراهب: أنت العشیة ها هنا و عندی شراب جید فتبیت و تقصف و یسکن المطر و تجف الطریق و تبکّر.
فقلت: أفعل. فأخرج الیّ شرابا ما رأیت قط اصفی منه و لا أعطر. فقلت:
هات مدامک. و أمرت بحط الرحل، و بتّ و الغلام یسقینی و الراهب ندیمی حتی مت سکرا، فلما اصبحت رحلت و قلت:
سقی (سرّ من را) و سکانهاو دیرا لسوسیّها الراهب
سحاب تدفق عن رعده الص.... فوق و بارقه الواصب
فقد بت فی دیره لیلةو بدر علی غصن صاحبی
غزال سقانی حتی الصباح صفراء کالذهب الذائب
علی الورد من حمرة الوجنتین‌و فی الآس من خضرة الشارب
سقانی المدامة مستیقظاو نمت و نام إلی جانبی
فکانت هنات لک الویل من‌جناها الذی خطّه کاتبی
فیا ربّ تب و اعف عن مذنب‌مقر بزلته تائب

دیر باشهرا

قال الشابشتی: «هذا الدیر علی شاطی‌ء دجلة (بین سامرا و بغداد ) و هو
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 46
دیر حسن عامر نزه، کثیر البساتین و الکروم، و هو احد المواضع المقصودة و الدیارات المشهودة، و المنحدرون من سرّ من رأی و المصعدون الیها ینزلونه، فمن جعله طریقا بات فیه و أقام به ان طاب له و من قصده أقام به فی ألذّ عیش و أطیبه و أحسن مکان و أنزهه، و لأبی العیناء فیه و کان نزله و أقام به و استطابه و قال فیه:
نزلنا دیر باشهراعلی قسیسه ظهرا
علی دین یسوعی فما أختی و ما أسری
فأولی من جمیل الفعل ما یستعبد الحرّا
و سقّانا و روّانامن الصافیة العذرا
و طاب الوقت فی الدیرفرابطنا به عشرا
و سقّینا به الشمس‌و أخدمنا به البدرا
و أحیت لذة الکأس‌و لکن قتّلت سکرا
و نلنا کل ما نهواه من لذاتنا جهرا
تصابینا و غنّیناو أرغمنا به الدهرا
و قد ساعدنا ربّن ...طوعا منه لا جبرا
جزاه اللّه عن خیربه قابلنا خیرا
فقد أوسعته شکراکما أوسعنا برّا

دیر عبدون

قال یاقوت الحموی: «دیر عبدون هو بسر من رأی الی جنب المطیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 47
و سمی بدیر عبدون لأن عبدون أخا صاعد بن مخلد، کان کثیر الالمام به و المقام فیه فنسب الیه و کان عبدون نصرانیا و أسلم أخوه صاعد علی ید الموفق و استوزره و زاد ابن فضل اللّه العمری «و بلغ معه المبالغ العظیمة. و حکی البحتری أنه کان مع عبدون فی هذا الدیر فی یوم فصح و معه ابن خرداذبه، قال فأنشدته قصیدتی التی مدحته بها و أولها:
لا جدید الصبا و لا ریعانه‌راجع بعد ما تقضی زمانه
فأمر لی بمائتی دینار و ثیاب خزّ و شهریّ بسرجه و لجامه، و أخوه حینئذ مع الموفق فی قتال العلوی البصری (صاحب الزنج)، فسرّ بذلک و قال لی:
یا ابا عبادة، قل فی هذا شعرا أنفذه الی ذی الوزارتین- یعنی أخاه- و کان لقّب بهذا، فقلت:
لیکتنفک السرور و المرح‌و لا یفتک الابریق و القدح
فتح و فصح قد و افیاک معافالفتح یقری و الفصح یفتتح
فانعم سلیم الاقطار تغتبق الصه......... باء کن دنها و تصطبح
فان أردت اجتراح سیئةفهاهنا السیئات تجترح
و أقمنا یومنا الی اللیل و خلع علی ابن خرداذبه و حمله و انصرفنا» .
و استطرد الشابشتی الی ذکر عبدون بن مخلد هذا بغیر باعث یبعثه علی الاستطراد و لعل فی کتاب الدیارات نقصانا حدث به زوال الباعث قال: «و کان عبدون بن مخلد اخو صاعد بن مخلد عند وفاة اخیه و اطلاقه من الحبس صار الی دیر قنی فأقام فیه و تعبّد .. و مات و هو مترهب بدیر قنی فی سنة عشر و ثلاث مئة» قال: «و کان عبدون هذا متخلف الصنعة شدید التخلف و بلغ مع ذلک مبلغا عظیما فی ایام اخیه. قال : فأهدت ریق المغنیة الی عبدون فاکهة مبکرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 48
مبکرة فیها تین و رمان و غیرهما، فقال لکاتبه: اکتب الیها جواب رقعتها بشعر. فحلف انه ما قال شعرا قط. فغضب عبدون غضبا شدیدا و قال:
أنت بین یدی منذ سنین لا تحسن القصائد السبع یا حمار اکتب الیها:
قد أتتنا هدیتانک‌فی یوم مهرجانک
و أکلنا من رمانک‌لأنک جانجاننا و نحن جانجانک
ثم ذکر خبر القبض علیه و علی اخیه و استصفاء أموالهما.
و ذکر ماری بن سلیمان و عمر بن متی فی اخبار فطارکة کرسی المشرق ان عبدون بن مخلد کان من اعیان النصاری النساطرة بسر من رأی، و شارک فی انتخاب الفطرک «یوحنا بن نرسی» و کان الاجتماع بالمطیرة و لعله کان بدیر عبدون. و قال یاقوت: «و فی هذا الدیر یقول ابن المعتز الشاعر:
سقی المطیرة ذات الظل و الشجرو دیر عبدون هطال من المطر
یا طالما نبهتنی للصبوح به‌فی ظلمة اللیل و العصفور لم یطر
اصوات رهبان دیر فی صلاتهم‌سود المدارع نقارین فی السحر
مزنّرین علی الأوساط قد جعلواعلی الرؤوس أکالیلا من الشعر
کم فیهم من ملیح الوجه مکتحل‌بالسحر یطبق جفنیه علی حور
لاحظته بالهوی حتی استقاد له‌طوعا و أسلفنی المیعاد بالنظر
و جاءنی فی ظلام اللیل مستترایستعجل الخطو من خوف و من حذر
فقمت افرش خدی فی التراب له‌ذلا و اسحب اذیالی علی الأثر
فکان ما کان مما لست اذکره‌فظن خیرا و لا تسال عن الخبر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 49
و قد ذکر ابن خلکان هذه الأبیات فی ترجمة عبد اللّه بن المعتز، و فی نقله زیادة هذا البیت:
و لاح ضوء هلال کاد یفضحنامثل القلامة قد قدت من الظفر

دیر صبّاعی

قال الشابشتی: «هذا الدیر شرقی . تکریت مقابل لها، مشرف علی دجلة، نزه عامر، له ظاهر عجیب فسیح و مزارع حوله علی نهر یصب من دجلة الی الاسحاقی و هو خلیج کبیر، فیقصد هذا الدیر من قرب منه فی أعیاده و أیام الربیع، و هو اذ ذاک منظر حسن فیه خلق کثیر من رهبانه و قسانه، و لبعض الشعراء فیه:
حنّ الفؤاد الی دیر بتکریت‌لبر صباعی و قس الدیر عفریت
و زاد یاقوت الحموی علی ما ورد فی الدیارات قوله: «و فیه مقصد لأهل الخلاعة» . و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر صباعی و هو علی شاطی‌ء دجلة الشرقیّ فوق تکریت بقلیل و هو کثیر الرهبان و له مزارع و جنینات، و لرهبانه یسار و غنی و فیه یقول بعض لصوص بنی شیبان:
ألا یا ربّ سلم دیر صبّاعا!؟و زد رهبان هیکله اجتماعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 50 فکم جئناه أمواتا سغاباو رحنا منه أحیاءا شباعا
فیا للقصف ما أسری نبیذاألذّ طلا و أحسنه شعاعا
لنعمته و منته علیناعمرناه و خرّبنا الضیاعا »
قال کورکیس عواد المحقق الفاضل بکتاب الدیارات: «تصحف اسم هذا الدیر تصحفا غریبا فی دائرة المعارف الاسلامیة (باللغات الفرنجیة) إلی (دیر سعابة) فلیصحّح، و فی نسخة الدیارات للشابشتی إلی (دیر ضباعی) بالضاد المعجمة و هو تحریف أیضا و الصواب (دیر صبّاعی) بصاد مهملة مفتوحة فباء مشددة. و المقصود به هنا القدیس الشهید (شمعون بر صباعی).
و بر صباعی لفظ سریانی بمعنی (ابن الصباغین) لأن أهله کانوا یصبغون ثیاب الملک و باسمه عرف هذا الدیر، کان شمعون بر صباعی جاثلیق المشرق فی المدائن و أصله من السّوس و قد ابتدأت جثلقته سنة 329 م ثم أذاقه سابور الثانی الملک الساسانی شدید الاضطهاد و مر العذاب إکراها له علی جحد النصرانیة لیدین بالمجوسیة، لکن شمعون لم یحد عن دینه، فکان مصیره القتل مع جملة کبیرة من رفاقه سنة 341 م فی مدینة کرخ لیدان من أعمال الأهواز، و لشمعون بر صباعی تآلیف سریانیة مختلفة ضاع أغلبها و بقی منها رسائل و قصائد دینیة اتخذها النصاری الکلدان فی صلواتهم الکنائسیّة و هی تعد من أقدم الآثار الأدبیّة فی السریانیّة و أنفسها» .
و ذکر عمرو بن متّی أن الفطرک شمعون بن صباعی کان من مدینة السوس و کان أکثر مقامه بالمدائن، و نصب للفطرکة فی السنة السادسة لسابور الثانی- یعنی سنة 316- و فی أیامه اشتد اضطهاده للنصرانیّة و تقتیله لهم، و ذلک لأنه عرض علی هذا الفطرک المجوسیّة لیدین بها هو و أتباعه فأبی کل الاباء و حرّض النصاری علی التمسّک بنصرانیّتهم حتی الموت و خصوصا نصاری
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 51
المدائن و اسفاین، فأمر سابور بالقبض علیه و لکنه لاطفه لیتمجّس فامتنع کل الامتناع فغضب علیه و علی مائة و ثلاثة من رجال النصرانیة و أمر بسجنهم ثم جمع من مملکته ستین ألف نصرانی و أخرجهم إلی المیدان بکرخ لیذان و طلب من الفطرک المذکور أن یأمر النصاری الحاضرین أن یکفروا بالمسیح- ع- و یدخلوا فی دینه فان فعلوا ذلک فانه یعطیهم ما أحبّوا من المال و الجاه و یجعلهم أشرافا ، و إن أبوا فانه یأمر بضرب أعناقهم بلا تأخیر.
فلما سمع شمعون ذلک حمّسهم و حضّضهم علی الاباء و الرفض، فغضب سابور و أمر أن تضرب رقابهم بحد الحسام و معهم الفطرک المذکور، و فی تمام تلک السنة أمر سابور بقتل النصاری فی باجرما و کرخ سلوخ و الأهواز و الدیر الأحمر و إربل و آشور و الموصل و نینوی و المرج و الجزیرة و الفرات فقتل منهم مائة ألف و تسعون ألفا و کان بینهم دخنان شاه بنت ملک الأهواز» .
و ذکر ماری بن سلیمان أنّ الفطرک شمعون بن صباعی کان یلبس الثیاب الدیباج، و لما رتّب فی منصب الفطرکة منع النساء من الاختلاط بالرجال فی الصلاة، و أنه فی عهده بسط سابور ذو الأکتاف أذیته علی النصاری و کان یعذبهم بأنواع العذاب من الجوع و الضرّ و الحبس و غیر ذلک و یسفک دماءهم و یبقر بطون الحوامل، و یمنع من دفنهم حتی تأکلهم الطیر، و أغراه أولیاؤه و الیهود بشمعون بن صباعی و قالوا له: لا ینفعک شی‌ء مما تفعل لأن شمعون یشجع النصاری و یمدهم بالنفقات فقبض علیه و علی مائة رجل و رجلین منهم مطارنة و أساقفة و قسّان و شمامسة، و طلب من ابن صباعی تطبیق الجزیة علی أصحابه و أخذها من أصحاب الصرف و غیرهم فقال له: إنی لست جابی مال لکن راعی غنم المسیح. و انتهی أمره إلی القتل علی النحو الذی ذکرت.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 52
و قال کریستنسن: «و لم یکن أول اضطهاد الحق النصاری أیام کسری راجعا إلی التعصب الدینی بل کان مرجعه إلی أمور سیاسیّة، و یحکی الکتاب السریانی الذی یصف حیاة القدیس أوجین أنّ سابور قد رغب فی رؤیة هذا الزاهد النصرانی و کان یجلّه کثیرا فقد شفی أوجین ولدین للملک ، کانا فریستین للشیطان، و حق أنّ کتاب حیاة أوجین مصدر مشکوک فیه کثیرا ...
و مع ذلک فان البغض الدفین الذی یحمله نصاری ایران للدولة کان خطرا دائما علیها، ذلک بعد أن اتخذ ملوک الروم شعارا الصلیب و لم یتردد سابور فی اضطهاد هذا العدو المواطن و قد استمر هذا الاضطهاد إلی نهایة عهده الطویل»

دیر العذاری

قال الشابشتی: «هذا الدیر اسفل الحظیرة ، علی شاطی‌ء دجلة، و هو دیر حسن، حوله البساتین و الکروم، و فیه جمیع ما یحتاج إلیه، و لا یخلو من متنزه یقصده للشرب و اللعب، و هو من الدیارات الحسنة و بقعته من البقاع المستطابة، و إنما سمّی بدیر العذاری لأن فیه جواری متبتلات عذاری هنّ سکانه و قطانه فسمی الدیر بهنّ، و ذکر یموت بن المزرع عن الجاحظ قال: حدثنی ابن فرج الثعلبی أن قوما من بنی ثعلب أرادوا قطع الطریق علی مال السلطان فأتتهم المعاینة فأعلمتهم أن السلطان قد نذربهم فساروا ثم أزمعوا علی الاستخفاء فی دیر العذاری، فصاروا الی الدیر ففتح لهم فما استقرّوا حتی سمعوا وقع حوافر الخیل فی طلبهم، فلما أمنوا و جاوزتهم الخیل خلا کل واحد منهم بجاریة هی عنده عذراء فاذا القسّ قد فرغ منهنّ فقال بعضهم:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 53 و ألوط من راهب یدّعی‌بأن النساء علیه حرام
یحرّم بیضاء ممکورةو یغنیه فی البضع عنها غلام
إذا مامشی غضّ من طرفه‌و فی الدیر باللیل منه عرام
و دیر العذاری فضوح لهنّ‌و عند اللصوص حدیث تمام»
و قال یاقوت الحموی: «و الشعر المنقول فی دیر العذاری یدل علی أنه بنواحی دجیل ... و قال الشابشتی: دیر العذاری بین سرّ من رأی و الحظیرة.
و قال الخالدی: و شاهدته و به نسوة عذاری و حانات خمر و إن دجلة أتت علیه بمدودها فأذهبته حتی لم یبق منه أثرا، و ذکر أنه جثا به فی سنة (320) و هو عامر ... و قال أبو الفرج: و دیر العذاری بسرّ من رأی إلی الآن موجود تسکنه الرواهب. فجعلهما اثنین، و حدث الجاحظ فی کتاب المعلمین قال حدثنی ابن فرج الثعلبی أنّ فتیانا من بنی ملاصة من ثعلبة أرادوا القطع علی مال یمرّ بهم قرب دیر العذاری، فجاءهم من خبّرهم أن السلطان قد علم بهربهم و ان الخیل قد أقبلت تریدهم فاستخفوا فی دیر العذاری، فلما حصلوا فیه سمعوا أصوات حوافر الخیل التی تطلبهم و هی راجعة من الطلب فأمنوا، فقال بعضهم لبعض: ما الذی یمنعکم أن تأخذوا القسّ و تشدّوه وثاقا و یخلو کل واحد منکم بواحدة من هذه الأبکار، فاذا طلع الفجر تفرقنا فی البلاد، و کنّا جماعة بعدد الأبکار اللواتی کنّ أبکارا فی حسابنا، ففعلنا ما اجتمعنا علیه، فوجدنا کلّهنّ ثیّبات قد فرغ منهن القسّ قبلنا، قال بعضنا:
و دیر العذاری فضوح لهنّ‌و عند القسوس حدیث عجیب
خلونا بعشرین صوفیّةو نیل الرواهب أمر غریب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 54 سباع تموج وزاقولةلها فی البطالة حظ رغیب
و للقسّ حزن یهیض القلوب‌و وجد یدلّ علیه النحیب
و قال الشابشتی ... «و ذکر ما قال الشابشتی و قد نقلته آنفا. و قال ابن فضل اللّه العمری: «دیر العذاری و هو بین سرّ من رأی و بغداد بجانب العلث علی دجلة فی موضع حسن فیه رواهب عذاری و کانت حوله حانات الخمر و بساتین و متنزهات، لا یعدم من دخله أن یری من رواهبه جواری حسان الوجوه و القدود و الألحاظ و الألفاظ. قال الخالدی: و لقد اجتزت به فرأیته حسنا و رأیت فی الحانات التی حوله خلقا یشربون علی الملاهی و کان ذلک الیوم عیدا له، و رأیت فی جنینات لرواهبه جماعة یلقطن زهر العصفر و لا یماثل خمره خدودهنّ، ثم إنّ دجلة أهلکته بمدودها حتی لم یبق منه أثر و لجحظة فیه أخبار و أشعار لأنه کان مکانه و مأواه، و إلیه ینجذب هواه و فیه یقول ابن المعتز:
أیا جیرة الوادی علی المشرع العذب‌سقاک حیا حیّ الثری میت الجدب
و حسبک یا دیر العذاری قلیل مایحن بما تحویه من طیبة قلبی
کذبت الهوی إن لم اقف اشتکی الهوی‌الیک و ان طال الوقوف علی صحبی
و عجت به و الصبح ینتهب الدجی‌باضوائه و النجم یرکض فی الغرب
أصانع اطراف الدموع بمقلةموفّرة بالدمع غربا علی غرب
و هل هی الاحاجة قضیت لناو لوم تحملناه فی طاعة الحبّ
و قال الخالدی: و أنشدنی جحظة لنفسه:
قالوا قمیصک مغمور بآثارمن المدامة و الریحان و القار
فقلت من کان مأواه و مسکنه‌دیر العذاری لدی حانوت خمّار موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 55 و ساده یده و الأرض مفرشه‌لا یستطیع لسکر حلّ أزرار
لم ینکر الناس منه أنّ حلّته‌خضراء کالروض أو حمراء کالنار»
و ذکر ابن فضل اللّه بعد ذلک بیتین للصنوبری فی دیر العذاری، مع أنه لیس بدیر عذاری العراق، بل هو دیر عذاری حلب، کما رأی فقد ذکر یاقوت دیرا للعذاری بظاهر حلب فی بساتینها و لا دیر فیه و لعله کان قدیما، و یؤید ذلک ان الصنوبر تغزل فی البیتین بغلام، و ذکر بعدها ابیاتا لابن فیروز البصیر فی دیر العذاری، و هی من الغزل الغلمانی أیضا فلا صلة لها بدیر العذاری، ثم اورد حکایة الجاحظ و أبیات اللصوص ثم ابیات الدیارات التی نقلها الشابشتی و قد قدمت ذکرها و قال أخیرا: «و قیل فی راهبة فیه:
یا ایها القمر المنیر الزاهرالمشرق الحسن المضی‌ء الباهر
أبلغ شبیهتک السّلام و هنّهابالنوم و اشهد لی بأنی ساهر
و قد ذکر دیر العذاری بالعراق الباحث حبیب الزیات أحد الکتاب النصاری و المتجربین فی بحوثهم للدفاع عن النصرانیة .

دیر العلث

قال الشابشتی: «و العلث قریة علی شاطی‌ء دجلة فی الجانب الشرقی منها و بین یدیها من دجلة موضع صعب، ضیق المجاز، کبیر الحجارة، شدید الجریة تجتاز فیه السفن بمشقة و هذه المواضع تسمّی الأبواب، و اذا وافت السفن الی العلث ارست بها فلا یتهیأ لها الجواز إلا بهاد من أهلها یکترونه، فیمسک السکان، و یتخلل بهم تلک المواضع، فلا یحطها حتی یتخلص منها. و هذا الدیر راکب دجلة و هو من احسن الدیارات موقعا و أنزهها موضعا، یقصد من کل بلد، و یطرقه کل أحد، و لا یکاد یخلو من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 56
منحدر و مصعد، و من دخله لم یتجاوز الی غیره لطیبه و نزهته، و وجود جمیع ما یحتاج الیه بالعلث و به» . و قال یاقوت: «دیر العلث، زعم قوم أنه دیر العذاری بعینه، و قال الشابشتی: العلث قریة علی شاطی‌ء دجلة من الجانب الشرقی فی قرب الحظیرة دون سامرا و هذا الدیر راکب دجلة و هو من الدیارات و أحسنها و کان لا یخلو من أهل القصف» . و قال فی موضع آخر: «العلث بفتح اوله و سکون ثانیه و آخره ثاء مثلثة ... و هی قریة علی دجلة بین عکبرا و سامراء، و ذکر الماوردی فی الأحکام السلطانیة ان العلث قریة موقوفة علی العلویین و هی أول العراق فی شرقی دجلة». و قال ابن عبد الحق: «العلث بکسر أوله و سکون ثانیه و آخره ثاء مثلثة قریة علی دجلة بین عکبرا و سامرّا، موقوفة علی العلویین، کانت فی شرقی دجلة، و هی الآن من عمل دجیل علی الشطیطة» . و کان قال: «دیر العلث و هو دیر علی دجلة من شرقیها قرب الحظیرة و قیل انه دیر العذاری و لعله الذی کان باقیا الی هذه الغایة» .
و قال الدکتور احمد نسیم سوسة: «أما المدن و القری المهمة التی کانت علی مجری دجلة ضمن طسّوج بزرج فأولها من الشمال مدینة (العلث) و هی المدینة التی ما زالت خرائبها الواسعة تشاهد علی مسافة حوالی سبعة کیلومترات من شمالی غربی مدینة بلد الحالیّة، و قد حافظت علی اسمها القدیم حتی الیوم فهی لا تزال تسمی اطلالها بالعلث، کما انه لا یزال یسمی سکنة هذه المنطقة (علثاویین) و تمتد خرائب العلث هذه علی طول الضفة الیسری لمجری دجلة القدیم (الشطیطة) و هو المجری الذی یسمی فیه نهر بلد الحالی الذی یتفرع من ضفة نهر دجیل الیسری و ینتهی الی بساتین بلد الحدیثة ... و مما یدل علی: استمرار ازدهار مدینة العلث بعد تحول مجری دجلة عنها ان المنتصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 57
کان یقصدها بین حبن و آخر للاتصال بعلمائها، فقد ذکر سبط ابن الجوزی فی کتابه مرآة الزمان أن المستنصر (کان یمضی الی العلث قریة من دجیل، بینها و بین بغداد مسیرة یومین حتی یزور اسحاق العلثی الحنبلی» .
و قال الشابشتی بعد وصفه للعلث و دیر العلث و لجحظة فیه:
أیها المالحان باللّه جدّاو اصلحا لی الشراع و السکّانا
بلّغانی هدیتما البرداناو ابزلا لی من الدنان دنانا
واعد لا بی الی القبیصة فالزه... راء علّی أفرج الأحزانا
و إذا ما اقمت حولا تمامافاقصدا بی الی کروم أوانا
و انزلا بی الی شراب عتیق‌عتّقته یهوده أزمانا
و احططا لی الشراع بالدیر بالعل... ث لعلی اعاشر الرهبانا
(و ظباء یتلون سفرا من الانجی... ل باکرن سحرة قربانا )
لا بسات من المسوح ثیاباجعل اللّه تحتها أغصانا
(خفرات حتی اذا دارت الکأس کشفن النحور و الصلبانا)
**** و للمعتمد:
یا طول لیلی بفم الصلح‌أتبعت خسرانی بالربح
لهفی علی دهر لنا قد مضی‌بالقصر و القاطول و الشلح
بالدیر بالعلث و رهبانه‌بین الشعانین الی الدنح»
و قال ابن أبی أصیبعة: «قال یوسف بن إبراهیم: عدت جبرئیل بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 58
بختیشوع بالعلث سنة خمس عشرة سنة و مائتین و قد کان خرج مع المأمون فی تلک السنة حتی نزل لمأمون فی دیر النساء، فوجدت عنده یوحنا بن ماسویه و هو یناظره فی علته و جبرئیل یستحسن استماعه و إجابته و وصفه، فدعا جبرئیل بتحویل سنته و سألنی النظر فیه و اخباره بما یدل علیه الحساب، فنهض یوحنا عند ابتدائی بالنظر فی التحویل، فلما خرج من الحراقة قال لی جبرئیل:
لیست بک حاجة الی النظر فی التحویل لانی أحفظ جمیع قولک و قول غیرک فی هذه السنة و انما أردت بدفعی التحویل الیک ان ینهض یوحنا فأسألک عن شی‌ء بلغنی عنه، و قد نهض، فأسألک بحق اللّه هل سمعت یوحنا قط یقول:
إنه اعلم من جالینوس بالطب. فحلفت له أنی ما سمعته قط یدعی ذلک» .

عمر نصر

قال یاقوت: «عمر نصر بسامرّا و فیه یقول الحسین بن الضحّاک:
یا عمر نصر لقد هیجت ساکنةهاجت بلابل صدر بعد إقصار
للّه هاتفة هبّت مرجعةزبور داود طورا بعد أطوار
یحثها دالق بالقدس محتنک‌من الأساقف مزمور بمزمار
عجّت أساقفها فی بیت مذبحهاو عج رهبانها فی عرصة الدار
خمّار حانتها إن زرت حانته‌أذکی مجامرها بالعود و الغار
یهتز کالغصن فی سلب مسوّدةکان دارسها جسم من القار
تلهیک ریقته عن طیب خمرته‌سقیا لذاک جنی من ریق خمار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 59 أغری القلوب به الحاظ ساجیةمرهاء تطرف عن أجفان سحار »
و قال الباحث حبیب الزیات: «و من الدیارات التی اشتهرت بهذا الطرب دیر مارت مریم بین الخورنق و السدیر ... و نظیره عمر نصر فی سر من رأی و هو من متنزهات آل المنذر قدیما بالحیرة، قال الحسین بن الضحاک و کان کثیرا ما یألفه: اصطبحت انا و اخوان لی فی عمر سر من رأی و معنا أبو الفضل رذاذ و زنام الزامر. فقرأ الراهب سفرا من أسفارهم حتی طلع الفجر، و کان شجی الصوت جدا و رجع من نغمته ترجیعا لم أسمع مثله، فتفهمه رذاذ و زنام، فغنی ذلک علیه و زمر هذا فجاء له معنی أذهل العقول و ضج الرهبان بالتقدیس فقلت: یا عمر نصر لقد هیجت ساکنة ...» و ذکر أربعة ابیات منها بیت لم یذکره یاقوت الحموی علی الصحة و هو:
لما حکاها زنام فی تفننهافافتن یتبع مزمورا بمزمار»
و القول بأنه أی عمر نصر کان من متنزهات آل المنذر قدیما بالحیرة مناقض لقوله بادی‌ء ذی بدء انه فی سر من رأی، و یکون من المحال تنزه ملوک الحیرة القائمة علی الفرات قرب النجف فی أرض دیر بسامرا علی دجلة لبعد المسافة و لأن ارض الطیرهان و فیها الدیر لم تکن من مملکة الحیرة و لا کان فیها لملوک الحیرة سلطة و لا سلطان و لا کلمة نافذة.
و رأیت مثل هذا الکلام فی مجلة لغة العرب فی الکلام علی سامرا قال الکاتب «و کان فی جوارها من سابق العهد أی قبل الاسلام عدة أدیرة للنصاری کلها شهیرة منها قلایة العمر أو عمر نصر و کان من متنزهات آل المنذر بالحیرة » و قد ذکر نقلا من معجم البلدان لیاقوت الحموی أن عمر نصر کان فی ناحیة سامرا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 60

دیر مرماجرجس

قال یاقوت الحموی: «دیر مرماجرجس: دیر بنواحی المطیرة ...
و ذکره الشابشتی مع دیر مرجرجس، و لعله هو هو» و قد کان قال: «دیر مرجرجس بالمزرفة بینه و بین بغداد أربعة فراسخ مصعدا و المزرفة قریة کبیرة و کانت قدیما ذات بساتین عجیبة و فواکه غریبة، و کان هذا الدیر من متنزهات بغداد لقربه و طیبه». و علی اعتبار أنه بالمزرفة، فلا یعد من دیارات سامرا و نواحیها، و أیدّ کونه بالمزرفة ابن فضل اللّه العمری قال:
دیر جرجس و هو بالمزرفة أحد الأماکن المشهودة و المواضع المقصودة، و یخرج الیه من یتنزه من أهل بغداد فی السّمیریّات. لقربه و طیبه و هو علی شاطی‌ء دجلة و البساتین محدقة به و الحانات مجاورة له، و به کل ما یحتاج إلیه» . و قال قبلهما الشابشتی: «دیر مرجرجس، هذا الدیر بالمزرفة و هو أحد الدیارات و المواضع المقصودة و المتنزهون من اهل بغداد یخرجون الیه دائما فی السمیریات لقربه و طیبه و هو علی شاطی‌ء دجلة و العروب- یعنی طواحین الماء السفنیة- بین یدیه و البساتین محدقة به و الحانات مجاورة له، و کل ما یحتاج إلیه المتنزهون فحاضر فیه. و المزرفة من أحسن البلاد عمارة و أطیبها بقعة و بها من البساتین ما لیس ببلد.
-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 61

القادسیة

و من المواضع التی کانت فی ناحیة سامرا المعتصم قبل تمصیرها «القادسیة» قال الشابشتی فی الکلام علی دیر السوسی و قد نقلناه فی الکلام علی هذا الدیر:
«هذا الدیر لطیف علی شاطی‌ء دجلة بقادسیة سر من رأی و بین القادسیة و سر من رأی أربعة فراسخ و المطیرة بینها ... و القادسیة من أحسن المواضع و أنزهها و هی من معادن الشراب و مناخات المتطربین، جامعة لکل ما یطلب أهل البطالة و الخسارة و بالقادسیة بنی المتوکل قصره المعروف ببرکوار و لما فرغ من بنائه و هبه لابنه المعتز و جعل اعذاره فیه، و کان من أحسن ابنیة المتوکل و أجلها، و بلغت النفقة علیه عشرین الف الف درهم» .
و قد أخطأ یاقوت فی تعیینها قال: «و القادسیة قریة کبیرة من نواحی دجیل بین حربی و سامرا، یعمل بها الزجاج» . و عقب ابن عبد الحق علی کلامه هذا قال: «هذه (القادسیة) لیست من دجیل، إنما هی فی الجانب الشرقی من دجلة من قری سامرا، خربة تحت سامرا و المطیرة ». و کأن یاقوتا الحموی شعر بخطئه فی معجم البلدان فاستدرکه فی کتاب له فی آخر البلدان أیضا قال: «و القادسیّة قریة کبیرة قرب سامرا یعمل فیها الزجاج، ینسب الیها الشیخ أحمد بن علی المقری‌ء القادسیّ الضریر، و ابنه محمد بن أحمد القادسی الکتبی مؤلف (ذیل تاریخ ابن الجوزی) و هو حیّ الآن» .
و قال الاستاذ المستشرق لسترنج: «و فی شمال غربی العلث حیث ینعطف النهر الیوم إلی ناحیة الشرق انعطافه العظیم قادسیة دجلة، فلا یخلطنّ بین هذه القادسیة و قادسیة الفرات التی کانت فی غرب هذا النهر، و کانت قادسیة دجلة مشهورة بعمل الزجاج» و قال مترجما کتاب لسترانج: «یقوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 62
سور القادسیة فی جنوب أطلال سامراء بین الضفة الیمنی لنهر القائم المندرس و ضفة دجلة الیسری و هو سور مثمن من اللبن طول کل ضلع من أضلاعه (620) مترا، تدعمه من الخارج (17) دعامة نصف دائریة و فی کل رکن من أرکان السّور برج مدوّر کبیر قطره نحو ثمانیة أمتار، و ثخن السّور أربعة أمتار و علوه نحو خمسة أمتار، و تبلغ مساحة الأرض التی یکتنفها السور نحو (745) دونما- و الدونم 2500 متر مربع-. و فی هذا السور فتحات تدل علی أنها کانت أبوابا له، و السّور من الداخل مؤلف من أروقة کل رواق بین دعامتین من دعائمه، و بعض هذه الأروقة اتخذ حجرات. و تشاهد فی داخل القادسیة فی وسطها معالم أبنیة من اللبن، و قد جی‌ء بالماء الی القادسیة من النهر المار من القاطول الکسروی إلی نهر القائم، ثم یعبره فوق قنطرة من الآجرّ قد اندرست، و عند وصول النهر الی سور القادسیّة یدخلها من أحد أبوابها و یتفرّع فی داخلها. راجع سامراء لدار الآثار العراقیة ص 72 و سومر 3: 167 و ری سامراء 248». ثم قالا: «یلاحظ الآن فی شرقی سور القادسیة خرائب عباسیة قرب ضفة دجلة تکثر فوق سطحها کتل من الزجاج المصهور و کسر کثیرة من الأوانی الزجاج و قد نقّبت دائرة الآثار العراقیة هذا الموضوع سنة 1940 و عثرت فیه علی مقادیر کبیرة من هذه المواد الزجاجیة و علی بقایا أبنیة و أکوام من رماد» .
قلنا: و تدل الدلائل الآثاریة من السور المشبه بقیته سور دسکرة أبرویز قرب شهربان علی أن هذا البنیان ساسانی. و قال الشابشتی فی ذکر إعذار المعتز بن المتوکل أی ظهوره بقصر برکوار: «لما صح عزم المتوکل علی إعذار أبی عبد اللّه المعتز أمر الفتح بن خاقان بالتأهب له و أن یلتمس فی خزائن الفرش بساطا للایوان فی عرضه و طوله، و کان طوله مائة ذراع و عرضه خمسون ذراعا، فلم یوجد إلا فیما قبض من بنی أمیة، فانه وجد فی أمتعة هشام بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 63
عبد الملک علی طول الایوان و عرضه، و کان بساطا إبریسما غرز و ذهب مفروز مبطّن، فلما رآه المتوکل أعجب به و أراد أن یعرف قیمته، فجمع علیه التجار، فذکر انه قوّم علی أوسط القیم عشرة آلاف دینار، فبسط فی الایوان، و بسط للخلیفة فی صدر الایوان سریر و مدّ بین یدیه أربعة آلاف مرفع ذهب مرصعة بالجوهر فیها تماثیل العنبر و الند و الکافور (المعمول به علی مثل الصّور، منها ما هو مرصع بالجوهر مفردا و منها ما علیه ذهب و جوهر) و جعلت بساطا ممدودا، و تغدّی المتوکل و الناس» و جلس علی السّریر و أحضر الأمراء و القواد و الندماء (و أصحاب المراتب ) فأجلسوا علی مراتبهم و جعل بین صوانیهم و السماط فرجة، و جاء الفراشون بزبل قد غشّیت بأدم مملوءة دنانیر و دراهم نصفین، فصبّت فی تلک الفرج حتی ارتفعت، و قام الغلمان فوقها، و أمروا الناس عن الخلیفة بالشرب ، و أن ینتقل کل من یشرب بثلاث حفنات ما حملت یداه من ذلک المال، فکان إذا أثقل الواحد منهم ما اجتمع فی کمه أخرجه إلی غلمانه فدفعه إلیهم و عاد إلی مجلسه، و کلما فرغ موضع أتی الفراشون بما یملؤونه (منه) حتی یعود الی حاله.
و خلع علی سائر من حضر ثلاث خلع کل واحد (و أقاموا إلی أن صلیت العصر و المغرب) و حملوا عند انصرافهم علی الأفراس و الشهاری. و أعتق المتوکل عن المعتز ألف عبد، و أمر لکل واحد منهم بمائة درهم و ثلاثة أثواب، و کان فی صحن الدار بین یدی الایوان أربعمائة بلیّة ، علیهن أنواع الثیاب بین أیدیهنّ ألف نبیجة خیزران فیها أنواع الفواکه و الأترج و النارنج علی قلته- کان- فی ذلک الوقت، و التفاح الشامی و اللیموه و خمسة آلاف باقة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 64
نرجس و عشرة آلاف باقة بنفسج، و تقدم إلی الفتح أن ینثر علی البلیات و خدم الدار و الحاشیة ما کان أعده لهم و هو عشرون ألف ألف درهم، فلم یقدم أحد علی التقاط شی‌ء، فأخذ الفتح درهما، فأکبت الجماعة علی المال فنهب، و کانت قبیحة (أم المعتز) قد تقدمت بأن تضرب دراهم علیها (برکة اللّه لأعذار أبی عبد اللّه المعتز) فضرب لها ألف درهم، نثرت علی المزیّن و من فی حیّزه من الغلمان و الشاکریة و قهارمة الدار و الخدم الخاصة من البیضان و السودان، و کان ممن حضر المجلس ذلک الیوم محمد بن المنتصر و أبو أحمد أبو سلیمان ابنا الرشید و أحمد و العباس ابنا المعتصم و موسی بن المأمون، و ابنا حمدون الندیم و أحمد بن أبی رؤیم و الحسین بن الضحاک و علی بن الجهم و علی ابن یحی بن المنجم و أخوه. و من المغنین عمرو بن بانة، أحمد بن أبی العلاء، ابن الحفصی، ابن المکی، سلمک، عثعث، سلیمان الطبال، المسدود، حشیشة، ابن القصار، صالح الدفاف، زنام الزامر. و من المغنیات عریب، بدعة جاریتها، سراب، شاریة و جواریها، ندمان، منعم، نجلة، ترکیة، فریدة، عرفان، قال إبراهیم بن المدبر: لما ظهر المعتز اجتمع مشایخ الکتاب بین یدی المتوکل و کان فیهم یحی بن خاقان و ابنه عبید اللّه إذ ذاک الوزیر و هو واقف موقف الخدم بقباء و منطقة، و کان یحی لا یشرب النبیذ، فقال المتوکل لعبید اللّه: خذ قدحا من تلک الأقداح و اصبب فیه نبیذا و صیّر علی کفک مندیلا و امض إلی أبیک یحی فضعه فی کفّه. قال: ففعل. فرفع یحی رأسه الی ابنه. فقال المتوکل: یا یحی لا تردّه. قال: لا یا أمیر المؤمنین . ثم شرب و قال: قد جلّت نعمتک عندنا یا أمیر المؤمنین، فهنأک اللّه النعمة و لا سلبنا ما أنعم به علینا منک. فقال: یا یحی إنما أردت أن یخدمک وزیر بین یدی خلیفة فی طهور ولی عهد. و قال ابراهیم بن العباس: سألت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 65
أبا حرملة المزیّن فی هذا الیوم فقلت: کم حصل لک إلی أن وضع الطعام؟
فقال: نیف و ثمانون ألف دینار سری الصیاغات و الخواتیم و الجواهر و العدات.
قال: و أقام المتوکل ببرکوار ثلاثة أیام ثم أصعد الی قصره الجعفریّ و تقدم باحضار إبراهیم بن العباس و أمره أن یعمل له عملا بما انفق فی هذا الأعذار و یعرضه علیه، ففعل ذلک فاشتمل العمل علی ستة و ثمانین ألف الف درهم و کان الئاس یستکثرون ما أنفقه الحسن بن سهل فی عرس ابنته بوران حتی أرّخ ذلک فی الکتب و سمیت دعوة الاسلام ثم أتی من دعوة المتوکل ما أنسی ذلک» .
و علی ذکر برکوار القصر الفخم الذی بناه المتوکل بسامرا و جعل مساحة إیوانه مائة ذراع فی خمسین ذراعا، أقول: قدّمنا من قول الشابشتی ما یفید أن القصر بنی بالقادسیة: قادسیة سامرا و أن بین القادسیة و سامرّا أربعة فراسخ و المطیرة بینهما، و الأربعة الفراسخ تساوی فی الأقل «18» کیلو مترا، من مقاییس الطول فی عصرنا، فهل ینطبق آثار القصر «المنقور» المعروفة الیوم بسامرّا علی «قصر برکوارا»؟
جاء فی مقالة بعنوان «آثار سامراء الخالیة و سامرا الحالیة» و قد تقدم ذکرها، قول کاتبها «و لقد سبر الدکتور هرتسفلد بعض السّبر قصرا واقعا علی عدوة دجلة الیمنی یعرف بقصر العاشق و رأی أن یتابع السّیر بعد ذلک.
أما الآن فانه یجری التنقیب فی قصر مبنی قد افترش من الأرض فسحة عظیمة تناهز کیلو مترین مربعین و نصفا و هو واقع فی جنوبی سامراء و اسمه المنقور، و هو و لا شک القصر المعروف سابقا باسم (بلکوارا) الذی بناه و سکنه المعتز باللّه ابن المتوکل علی اللّه و ذلک قبل ارتقائه عرش الخلافة ». ثم قال: «و بازاء العاشق فی الجانب الشرقی من ضفة دجلة الگویرا (بالکاف الفارسیة و تصغیر الاسم) و هو تلول مسافة طولها قرابة مائة متر و عرضها الیوم قرابة عشرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 66
أمتار و قد أکل الشط نصفها و بقی النصف الآخر و ظهرت فیها غرف مبنیة بالجص و الآجرّ مع سرادیب و هی الیوم فی وسط الماء إذ مهواه علیها و فی أیام الفیضان یحیط بها الماء و تکون شبیهة بالجزیرة ».
و علّق الأب انستاس اللغوی المعروف علی کلمة «الکویر) قوله:
«لفظة الگویر تشابه کلّ المشابهة لفظة بلکوارا، لا سیما لأننا نعلم أن العرب کثیرا ما تستثقل الألفاظ الکثیرة الحروف، فیتصرفون بها کل التصرّف، و قد وردت ألفاظ کثیرة حذفوا منها صدرها و أبقوا عجزها، فیحتمل أنهم حذفوا صدر (بلکوارا) و قالوا (کوارا)، و لما کان التصغیر شائعا علی ألسنة أعراب العراق جمیعهم قالوا فیها (کویر) بحذف الألف الأخیرة من باب التخفیف. و الظاهر أن (بلکوارا) کلمة آرامیة قدیمة مرکبة من (بل) أی بعل و (کوارا) أی الجبّار أو القویّ ، أو الإله، و محصل معناه «بعل الجبّار» فیکون موطن هذا القصر فی السابق هیکل (کذا) لبعل الأکبر ، و تلفظ الکاف فی (کوارا) کالکاف الفارسیّة و کالجیم الآرمیة أو المصریة و بتشدید الواو، و قد یکتب العرب الجیم المصریة أو الکاف الفارسیّة کافا لخلوّ حروف هجائهم من هذا الحرف (راجع تاج العروس مادة ج ب ر.
و المزهر 1: 11. و مقدمة ابن خلدون، طبعة بیروت الأولی (509).
و مع کل هذه الأدلة التی یظنها الباحث أنها من البراهین المقنعة فلا یظن الاستاذ هرتسفلد أن (الکویر) هو (بلکوارا) و السبب الأعظم فی رفض هذا الرأی هو أن بلکوارا کان فی الجنوب الأقصی من موقع المدینة، و هذا لا یصدق الیوم علی موقع الکویر، ثانیا أن أعراب العراق لا یجعلون کافا فارسیة أو جیما مصریة إلا القاف فیقولون: گال، بالکاف الفارسیة فی «قال».
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 67
و علیه فیکون «کذا» أصل لفظ الکویر (القویر) تصغیر القارة. و بمعنی الجبیل المنقطع عن الجبال أو الصخرة العظیمة مع حذف الهاء للتخفیف.
هذا رأی الدکتور العلامة (هرتسفلد). و أما سکان سامراء فیزعمون أن الکویر سمّی بهذا الاسم من الگاوور و الکاوور عندهم الکفار أو النصاری، فیکون معنی اللفظ (تل الکفار) و هذا أیضا لا یسلّم به ، و السبب هو أن الکاف فی کلا اللفظین (کاوور و کویر) و إن کانت تلفظ کالکاف الفارسیّة إلّا أنّ الکاوور لا یصغر هذا التصغیر أی علی وزن زبیر، کما أنه لا موجب هناک أن یسمی الکویر بهذا الاسم، إن کان هذا معناه، و لا یسمّی غیره بمثله، و علیه فهذا الرأی فاسد لا محالة. بید أن ما یثبت کل الاثبات أن المنقور هو (بلکوارا) هو أن الیعقوبی یقول فی کتابه تاریخ البلدان- ص 265- إن المتوکل ... أنزل ابنه المعتز خلف المطیرة مشرقا بموضع یقال له بلکوارا، فاتصل البناء من بلکوارا إلی آخر الموضع المعروف بالدور مقدار أربعة فراسخ. و قد حضر الدکتور هرتسفلد فی المنقور فوجد هناک رقیما علیه مکتوب (الأمیر المعتز باللّه ابن أمیر المؤمنین) و لما کان المنقور (و یلفظ بالکاف الفارسیة) آخرا خربة سامراء لم یعد یبقی شک فی أن المنقور هو بلکوارا فی السابق» .
قلت: القادسیة معلومة الأثر و الأطلال و قد ذکر الشابشتی أن المتوکل بنی قصر بلکوارا فیها، و المنقور القائم الأطلال لا یعد الیوم من القادسیة، فکیف یکون هو «بلکوارا»؟ ثم إن المنقور تسمیة عامیة فان العوام یقولون مثلا: حجر منقور، و رحی منقورة و خشب منقور بالمنقار، و جاء فی وصف دیر متی شرقی الموصل «و أکثر بیوته منقورة فی الصخر» کما فی معجم البلدان.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 68
أی فیها تحفیرات بآلات الحفر، و لا تشبه لفظة بلکوارا لفظة «المنقور» حتی یصحفها العوام إلیها بله أن المنقور اسم عربی معرّف محلی بالألف و اللام، و بلکوارا اسم أعجمی لم یدخل علیه أحد الألف و اللام و لم یقل أحد «البلکوارا» حتی یحتج لذلک التحریف البعید، و لو کان المنقور تصحیفا لذاک لبقی فی الأقل علی صورة «منقورا» بغیر تعریف بالألف و اللام. هذا و الأخبار التی نقلتها آنفا مذکور فیها أن فی قصر بلکوارا إیوانا طوله مائة ذراع و عرضه خمسون ذراعا، فینبغی أن یبحث فی خطة قصر المنقور عن موضع ینطبق علی مساحة ذاک الایوان، فان وجد فذلک من مقویات الرأی القائل بأن المنقور هو أطلال بلکوارا، و إن کانت جمیع القصور أیامئذ تحتوی علی أواوین و کان المتوکل قد أحیا الطراز البنائی الحیری المعروف بالحاری ذی الکمین و ذکره المسعودی فی مروج الذهب.
و لعل المنقور هو «الجوسق الخاقانی» قال الیعقوبی: «ثم أحضر المعتصم المهندسین فقال: اختاروا أصلح هذه المواضع فاختاروا عدة مواضع للقصور، و صیّر إلی کل رجل من أصحابه بناء قصر فصیر الی خاقان غرطوج أبی الفتح بن خاقان بناء (الجوسق الخاقانی) و الی عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمری و إلی أبی الوزیر بناء القصر المعروف بالوزیری» . ثم قال: «و ولی صورتان من بقایا اطلال الجوسق الخاقانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 69
جعفر المتوکل ابن المعتصم فنزل الهارونی ، و آثره علی جمیع قصور المعتصم و أنزل ابنه محمدا المنتصر قصر المعتصم المعروف بالجوسق ». و قال أبو علی التنوخی: «و من ملح أخبار القاضی أحمد بن أبی دؤاد ما حکی أن المعتصم کان بالجوسق مع ندمائه و قد عزم علی الاصطباح و أمر کلا منهم ان یطبخ قدرا و نظر سلامة غلام أحمد بن أبی دواد فقال: هذا غلام ابن أبی دواد جاء لیعرف خبرنا و الساعة یأتی فیقول: فلان الهاشمی و فلان القرشی و فلان الأنصاری و فلان العربیّ فیقطعنا بحوائجه عما کنا عزمنا علیه و أنا أشهدکم أنی لا أقضی له الیوم حاجة. فلم یکن بأسرع من أن دخل ایتاخ یستأذن لأحمد بن أبی دواد. فقال (المعتصم) لجلسائه: کیف ترون؟ قالوا: لا تأذن له یا أمیر المؤمنین. قال: سوأة لهذا الرأی و اللّه لحمّی سنة أسهل علیّ من ذلک. فأذن له، فدخل، فما هو إلا أن سلم و جلس حتی أسفر وجه المعتصم و ضحکت الیه جوارحه ثم قال: یا أبا عبد اللّه قد طبخ کل واحد من هؤلاء قدرا و قد جعلناک حکما فی أطیبها، قال: فلتحضر لآکل و أحکم بعلم. فأمر المعتصم باحضارها فأحضرت القدور بین یدیه، و تقدم القاضی أحمد بن أبی دواد، فجعل یأکل من أول کل قدر أکلا تاما. فقال له المعتصم:
هذا ظلم. قال: و کیف ذاک؟ قال: أراک قد أمعنت فی هذا اللون و ستحکم لصاحبه. قال: یا أمیر المؤمنین لیس بلقمة و لا باثنتین تدرک المعرفة باخلاط الطعام و علیّ أن أوفی کلا منها حقّه فی الذوق ثم یقع الحکم بعد ذلک. فتبسم المعتصم و قال: شأنک إذن. و أکل من جمیعها، کما ذکر، ثم قال: أمّا هذه فقد أحسن صاحبها إذ أظهر فلفلها و قلّل کمونها. و أما هذه فقد أجاد صاحبها إذ کثر خلّها و قلّل فلفلها لیشتهی حمضها. و أما هذه فقد أحکمها طبّاخها بتقلیل مائها و کثرة ربّها. و أقبل یصفها واحدة واحدة، حتی أتی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 70
علی جمیعها بصفات سرّ بها أصحابها» .
و جاء فی کتاب الأغانی عن أبی عبد اللّه الهشامی قال. «کانت متیم (الهشامیة) للبانة بنت عبد اللّه بن إسماعیل المراکبی مولی عریب فاشتراها علی بن هشام منها بعشرین ألف درهم و هی إذ ذاک جویریة، فولدت له صفیة و تکنی أم العبّاس ثم ولدت محمدا و یعرف بأبی عبد اللّه ثم ولدت بعده ابنا یقال له هارون و یعرف بأبی جعفر، سمّاه المأمون و کنّاه لما ولد بهذا الاسم و الکنیة، قال: و لما توفی علی بن هشام عتقت، و کان المأمون یبعث الیها فتجیئه فتغنّیه، فلما خرج المعتصم إلی سرّ من رأی أرسل إلیها فأشخصها و أنزلها داخل الجوسق فی دار کانت تسمّی الدمشقیّ و أقطعها غیرها، و کانت تستأذن المعتصم فی الدخول إلی بغداد إلی ولدها فتزورهم و ترجع».
و هذا الخبر یشعر بسعة بقعة الجوسق الخاقانی بحیث أنشئت دور و مرافق فان کان اقطاع المعتصم لها من أرض الخاقانی أیضا فهذا التناهی فی و ساعة القصر و مرافقه، و قال أبو علی التنوخی: «قال أبو اسحاق أخبرنا أحمد بن أبی دواد قال: دخلت علی المعتصم یوما فقال لی: یا أبا عبد اللّه لم یدعنی الیوم أبو الحسن الافشین حتی أطلقت یده علی (أبی دلف) القاسم بن عیسی فقمت من بین یدیه و لم أبصر شیئا جزعا علی أبی دلف و دخلنی أمر عظیم و خرجت فرکبت دابتی و سرت أشدّ سیر من الجوسق إلی باب الافشین بقرب المطیرة أؤمل أن أدرک أبا دلف من قبل أن تحدث علیه حادثة ».
و أنهی القصة بتنحیة أبی دلف فکانت من الفرج بعد الشدّة الذی هو موضوع الکتاب.
و ذکر أبو محمد البلوی فی خبر ارتحال المعتمد علی اللّه سنة 269 إلی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 71
مصر و العزم علی الاستقرار فیها أن إسحاق بن کنداج القائد سار من نصیبین الی الموصل فی خیل جریدة أربعة آلاف مملوک، فلحق المعتمد بین الموصل و الحدیثة و منعه من الارتحال و أعاده الی سامرا قال: «فلما بلغوا سرّ من رأی تلقاه أبو العباس ابن الموفق و صاعد بن مخلد (الوزیر) فسلمه إسحاق إلیهما و انصرف إلی دار الخلیفة ینتظر عودتهم فأنزلا المعتمد دار أبی أحمد ابن الخصیب التی فی طرف الجسر و منع من نزول الجوسق و المعشوق و وکلا به قائدا فی خمسمائة رجل یمنعون أن یدخل إلیه أحد» .
و قال ابن أبی أصیبعة: «قال یوسف بن إبراهیم: «کان خروج أمیر المؤمنین (المعتصم باللّه) عن مدینة السّلام عن غیر ذکر تقدّم الخروج إلی ناحیة من النواحی و کان الناس قد حضروا الدکة بالشماسیّة لحلبة السروج فی یوم الاربعاء لسبع عشرة و لیلة خلت من ذی العقدة سنة عشرین و مائتین، فأخرجت الخیل و دعا بالجمّازات فرکبها و نحن لا نشک فی رجوعه من یومه، ثم أمر الموالی و القواد باللحاق به، و لم یخرج معه من أهل بیته أحد إلا العباس بن المأمون و عبد الوهاب بن علی، و خلّف المعتصم الواثق بمدینة السّلام إلی أن صلی بالناس یوم النحر سنة عشرین و مائتین ثم أمر بالخروج إلی القاطول، فخرج فوجهنی أبو اسحاق (ابراهیم بن المهدی) بحوائج له إلی باب أمیر المؤمنین، فتوجهت فلم یزل سیّارة مرة بالقاطول و مرة بدیر بنی الصقر و هو الموضع الذی سمّی فی أیام المعتصم و الواثق بالایتاخیّة و فی أیام المتوکل بالمحمدیة ، ثم صار المعتصم الی سرّ من رأی فضرب مضاربه فیها و أقام بها فی المضارب، فانی لفی بعض الأیام علی باب مضرب المعتصم إذ خرج سلمویه بن بنان (طبیب المعتصم) فأخبرنی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 72
أن أمیر المؤمنین أمره بالمصیر الی الدور و النظر إلی سوارتکین الفرغانی و التقدم الی متطببه فی معالجته من علّة یجدها بما یراه سلمویه صوابا و حلف علیّ أن لا أفارقه حتی نصیر الی الدور و نرجع. فمضیت معه، فقال لی: حدّثنی فی غداة یومنا نصر بن منصور بن بسّام أنه کان یسایر المعتصم باللّه فی هذا البلد- یعنی بلد سرّ من رأی- و هو أمیر، قال لی سلمویه قال: قال لی نصر إن المعتصم أمیر المؤمنین قال: یا نصر أسمعت قط بأعجب ممّن اتخذ فی هذا البلد بناءا و أوطنه؟! لیت شعره ما أعجب موطنه: حزونة أرضه، أو کثرة أخاقیقته أم کثرة تلاعه و شدّة الحرّ فیه إذا حمی الحصی بالشمس؟! اما ینبغی أن یکون متوطن هذا البلد الا مضطرا مقهورا أو ردی‌ء التمییز.
قال لی سلمویه قال لی نصر بن منصور: و أنا و اللّه خائف أن یوطن أمیر المؤمنین هذا البلد. فان سلمویه لیحدثنی عن نصر إذ رمی ببصره نحو المشرق فرأی فی موضع الجوسق المعروف بالمصیب أکثر من ألف رجل یضعون أساس الجوسق. فقال لی سلمویه: أحسب ظن نصر بن منصور قد صحّ.
و کان ذلک فی رجب سنة إحدی و عشرین و مائتین، و صام المعتصم فی الصیف فی شهر رمضان من هذه السنة و غدّی الناس فیه یوم الفطر و احتجم المعتصم بالقاطول یوم سبت و کان ذلک الیوم آخر یوم من صیام النصاری، و استأذنه فی المصیر الی القادسیة لیقیم فی کنیستها باقی یومه و لیلته و یتقرب فیها یوم الأحد و یرجع الی القاطول قبل وقت الغداء من یوم الأحد، فأذن له فی ذلک و کساه ثیابا کثیرة و وهب له مسکا و بخورا کثیرا فخرج منکسرا مغموما و عزم علیّ بالمصیر الی القادسیة فأجبته الی ذلک ». فتأمل ثانیة سعة قصر الجوسق الخاقانی بحیث اشتغل بوضع أساسه أکثر من ألف رجل و غدّی المعتصم فیه الناس یوم الفطر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 73
و قال الیعقوبی فی سیرة المعتصم: «و توفی یوم الخمیس لاحدی عشرة لیلة بقیت من شهر ربیع الأول سنة 227 و صلیّ علیه ابنه هارون و دفن فی قصره المعروف بالجوسق و کانت سنه 49 سنة» . و قال الخطیب البغدادی فی ترجمة محمد المنتصر ابن المتوکل ناقلا: «مات المنتصر باللّه یوم الأحد لخمس لیال خلون من شهر ربیع الأول من سنة ثمان و أربعین و مائتین، و صلی علیه ابن عمه أحمد بن محمد المستعین باللّه، و دفن فی سر من رأی فی موضع یقال له الجوسق» ثم قال ناقلا: «ولد المنتصر باللّه بسرّ من رأی و مات بسرّ من رأی و هو أول من أظهر قبره فی خلفاء بنی العباس و کان عمره أربعا و عشرین سنة ».
و لم یذکر یاقوت الحموی فی معجم البلدان «جوسق المعتصم» هذا أی الجوسق الخاقانی فی مادته و لا فی کتابه المشترک مع أنه ذکر جواسق عدة فی بلدان مختلفة و لکنه ذکره فی مادة «سامرا» فی الکلام علی القصور التی أنشأها المتوکل فیها و غیرها أن منها «الجوسق فی میدان الصخر خمسمائة ألف درهم» و قیمة هذا المبلغ الشرعیة «خمسون ألف دینار» و هو مبلغ ضئیل بالنسبة الی نفقات القصور الأخری التی کانت فیها أقل نفقات البناء خمسمائة ألف دینار للقصر المختار، و الملیح، و قصر التل، ما عدا قصر القلائد فقد کانت النفقة علیه خمسین ألف دینار کنفقة الجوسق. و أنا أستدل بهذا علی أن المتوکل لم یکن المنشی‌ء لقصر الجوسق بسامرا و إنما أنشأه المعتصم و أحدث المتوکل فیه بنیانا جدیدا فنسب إلیه، دلّنی علی ذلک أن المؤرخین الذین ذکروا الجوسق بعد قتل المتوکل لم یمیّزوا بین جوسقین فی التسمیة و الاضافة، بل أطلقوا لفظ «الجوسق» و دلّنی أیضا أن الشابشتی قال:
«و ذکر أحمد بن حمدون قال: بنی المعتز فی الجوسق فی الصحن الکامل بیتا قدّرته له أمه و مثّلت حیطانه و سقوفه فکان أحسن بیت رئی» . فهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 74
یدل علی أن الجوسق کان من السعة فی خطّته الأصلیة و مرافقه ما یمکن معه إضافة أبنیة أخری.
و قد وردت أخبار لما حدث بعد وفاة المنتصر ابن المتوکل سنة 228 احتوت علی ذکر «الجوسق» فی تاریخ الطبری و غیره، و أحسبها لجوسق المعتصم لأن جوسق المتوکل لا یزال غیر ممیّز ذکره عن الجوسق العتیق سوی نسبته الانشاء إلی المتوکل مع أن النفقة لا تدل علی إنشاء قصر فخم بالنسبة إلی القصور الأخری . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌12 ؛ ص74
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 75

سامراء فی ظل الخلافة العباسیة

اشارة

کتبه الدکتور حسین امین أستاذ التاریخ الإسلامی المساعد بجامعة بغداد
و الحائز علی درجة دکتوراه الشرف الأول من جامعة الاسکندریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 77
سامراء فی ظل الخلافة العباسیة

فی أیام المعتصم

تولی الحکم فی دولة بنی العباس بعد وفاة المأمون، أخوه ابو اسحق محمد ابن هرون الرشید و الملقب بالمعتصم سنة 218 ه، 833 م، و کان المعتصم قد اکثر من شراء الاتراک، الی حد صار عنده سبعون الف مملوکا، کما اشتری من کان ببغداد من رقیق الناس، و ممن اشتری ببغداد، (أشناس) و کان مملوکا لنعیم بن خازم ابن هارون بن نعیم، و إیتاخ کان مملوکا لسلّام بن الابرش، و (وصیف) کان زرادا مملوکا لآل النعمان، و سیما الدمشقی و کان مملوکا لذی الرئاستین الفضل بن سهل، و کان اولئک الاتراک العجم إذا رکبوا الدواب رکضوا فیصدمون الناس یمینا و شمالا فیثب علیهم الغوغاء فیقتلون بعضا و یضربون بعضا و تذهب دماؤهم هدرا لا یعدون علی من فعل ذلک فثقل ذلک علی المعتصم و عزم علی الخروج من بغداد فخرج الی الشماسیة و هو الموضع الذی کان المأمون یخرج فیفیم به الایام و الشهور. فعزم ان یبنی بالشماسیة خارج بغداد فضاقت علیه ارض ذلک الموقع و کره ایضا قربها من بغداد .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 78
و یبدو ان المعتصم تنقل إلی أمکنة متعددة، فقد اقام بالبردان ثم انتقل الی باحمشا من الجانب الشرقی من دجلة، ثم صار الی المطیرة فأقام بها مدة ثم مدّ الی القاطول، و القاطول نهر کان فی موضع سامراء قبل ان تعمر و کان الرشید اول من حفر هذا النهر و بنی علی فوهته قصرا سماه ابا الجند لکثرة ما کان یسقی من الأرضین و جعله لارزاق جنده، و فوق هذا القاطول القاطول الکسروی، حفره کسری انوشروان . و لم تعجب ارض القاطول المعتصم و رکب متصیدا فمر فی مسیره حتی صار الی موضع سر من رأی و هی صحراء من ارض الطیرهان لا عمارة بها و لا أنیس فیها إلّا دیر للنصاری فوقف بالدیر و کلّم من فیه من الرهبان، و قال: ما اسم هذا الموضع، فقال له بعض الرهبان: نجد فی کتبنا المتقدمة ان هذا الموضع یسمی سرّ من رأی و انه کان فی مدینة سام بن نوح و انه سیعمر بعد الدهور علی ید ملک جلیل مظفر منصور له اصحاب کأن وجوههم وجوه طیر الفلاة، ینزلها و ینزلها ولده. فقال: أنا و اللّه ابنیها و انزلها و ینزلها ولدی .
و أمر المعتصم ببناء القصور و الدور، و استقدم المهرة من الصناع و الفنیین لتشیید قصوره و بنایاته و جلب اصناف الأشجار المثمرة من جمیع البلدان فغرست البساتین فی کل مکان، و ما انقضت سنتان او ثلاث حتی ارتفعت القصور و اقیمت المساجد و دواوین الدولة و بنیت الدور و مدت الأسواق و الشوارع و احکمت اسوار القطائع، و شید فیها ثکنات لسکن 250 الف جندی و اصطبلات واسعة لاستیعاب 160 الف حصان .
و یبدو ان المعتصم بعد ان وافق علی اختیار موضع سامراء، صیّر الی کل رجل من أصحابه بناء قصر، فصیّر الی خاقان عرطوج أبی الفتح بن خاقان بناء الجوسق الخاقانی، و الی عمر بن فرج بناء القصر المعروف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 79
بالعمریّ، و الی ابن الوزیر بناء القصر المعروف بالوزیریّ، ثم خطّ القطائع للقواد و الکتاب و الناس و خط المسجد الجامع و اختط الاسواق حول المسجد الجامع، و وسعت صفوف الأسواق و جعلت کل تجارة منفردة و کل قوم علی حدتهم، علی مثل ما رسمت علیه اسواق بغداد، و کتب فی اشخاص الفعلة و البنائین. و اهل المهن من الحدادین و النجارین و سائر الصناعات و فی حمل الساج و سائر الخشب و الجذوع من البصرة و ما والاها من بغداد و سائر السواد و من انطاکیة و سائر سواحل الشام، و فی حمل عملة الرخام و فرش الرخام فأقیمت باللاذقیة و غیرها دور صناعة الرخام، و افرد قطائع الاتراک عن قطائع الناس جمیعا و جعلهم معتزلین عنهم، لا یختلطون بقوم من المولّدین و لا یجاورهم إلّا الفراغنة. و اقطع اشناس و اصحابه الموضع المعروف بالکرخ و ضمّ إلیه عدة من القواد الاتراک و الرجال و امره ان یبنی المساجد و الاسواق .
یظهر لنا من النص السابق ان المعتصم لما وقع اختیاره علی موضع سامراء رغب فی جعل الاتراک یستقلون فی مواضع خاصة من المدینة و لا یختلطون بعناصر غریبة قد تفسد مزاجهم و تعمل علی ضعف همتهم، کما انه الزم کل قائد و رجاله بتحمل مسؤولیة العمل علی المساهمة فی البناء، و هذا یقودنا الی حقیقة مهمة، انه بهذه الطریقة تمکن من اکمال مدینته بهذه السرعة العجیبة، و استخدام الاتراک بجهودهم و اموالهم إضافة إلی الفنیین و الفعلة من ارجاء العالم الاسلامی، فتری فی ذلک الوقت ما یزید علی خمسین ألف من الرجال یعملون باخلاص و نظام و بهذا ارتفعت القواعد و اقیمت الأرکان و شیدت المساجد العامرة و القصور الکبیرة و الدور العدیدة و الحدائق النضرة، فکانت مدینة تفتخر بها الحضارة الاسلامیة و کانت معجزة من معجزات الانسان فی القرون الوسطی.
و یبدو ایضا ان من سیاسة المعتصم عزل جنده الاتراک عن کل العناصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 80
الغریبة منهم، فقد صیّرت قطائع الاتراک جمیعا و الفراغنة العجم بعیدة عن الأسواق و الزحام فی شوارع واسعة و دروب طوال لیس معهم فی قطائعهم و دروبهم احد من الناس یختلط بهم من تاجر و لا غیره، ثم اشتری لهم الجواری فأزوجهم منهن و منعهم ان یتزوجوا او یصاهروا الی احد من المولّدین الی ان ینشأ لهم الولد فیتزوج بعضهم الی بعض و اجری لجواری الاتراک ارزاقا قائمة و اثبت اسماءهن فی الدواوین فلم یکن یقدر احد منهم ان یطلق امرأته و لا یفارقها .
کما نلاحظ ان المعتصم أمر قادته و رجاله الذین اقطعهم الأراضی لبنائها، بأن لا یطلق لغریب مجاورتهم، کما ألزمهم بتشیید الاسواق الضروریة، قال الیعقوبی: و لما اقطع اشناس الترکی فی آخر البناء مغربا و اقطع اصحابه معه و سمّی الموضع الکرخ أمره ان لا یطلق لغریب من تاجر و لا غیره مجاورتهم و لا یطلق معاشرة المولّدین، فاقطع قوما آخرین فوق الکرخ و سماه الدّور و بنی لهم فی خلال الدور و القطائع المساجد و الحمامات و جعل فی کل موضع سویقة فیها عدة حوانیت، و اقطع الأفشین خیذر بن کاوس الأسروشنی فی آخر البناء مشرقا علی قدر فرسخین و سمی الموضع المطیرة، فاقطع اصحابه الاسروشنیة و غیرهم من المضمومین إلیه حول داره و امره ان یبنی فیها هناک سویقة فیها حوانیت للتجار فیما لا بد منه و مساجد و حمامات .
و عنی المعتصم بمدینته عنایة فائقة، فقسمها الی قطائع کل قطیعة لجماعة معینة، و امتدت الشوارع المستقیمة و المنظمة و کان من اکبر شوارع المدینة الشارع المعروف بالسریجة و هو الشارع الأعظم و یمتد من المطیرة الی الوادی المعروف بوادی اسحق بن ابراهیم، و هناک شوارع اخری مثل شارع ابی احمد بن الرشید، و فی هذا الشارع قطائع قواد خراسان منها قطیعة هاشم ابن بانیجور و قطیعة عجیف بن عنبسة و قطیعة الحسن بن علی المأمونی و قطیعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 81
هرون بن نعیم و قطیعة حزام بن غالب، و ظهر قطیعة حزام، الاصطبلات لدواب الخلیفة الخاصیّة و العامیة، یتولاها حزام و یعقوب اخوه، ثم مواضع الرطّابین و سوق الرقیق فی مربعة فیها طرق متشعبة فیها الحجر و الغرف و الحوانیت للرقیق ثم مجلس الشرط و الحبس الکبیر و منازل الناس و الأسواق فی هذا الشارع یمنة و یسرة مثل سائر البیاعات و الصناعات و یتصل ذلک الی خشبة بابک ثم السوق العظمی لا تختلط بها المنازل کل تجارة منفردة و کل اهل مهنة لا یختلطون بغیرهم، ثم الجامع القدیم الذی لم یزل یجمّع فیه الی أیام المتوکل فضاق علی الناس فهدمه و بنی مسجدا جامعا واسعا فی طرف الحیر المسجد الجامع و الاسواق من احد الجانبین و من الجانب الآخر القطائع و المنازل و اسواق اصحاب البیاعات الدنیّة مثل الفقّاع و الهرائس و الشراب، و قطیعة راشد المغربیّ و قطیعة مبارک المغربیّ و سویقة مبارک و جبل جعفر الخیّاط و فیه کانت قطیعة جعفر ثم قطیعة ابن الوزیر ثم قطیعة العباس بن علی بن المهدی ثم قطیعة عبد الوهاب بن علی بن المهدی و یمتد الشارع و فیه قطائع عامة الی دار هرون بن المعتصم، و هو الواثق عند دار العامة و هی الدار التی نرلها یحی بن اکثم فی ایام المتوکل لما ولاه قضاء القضاة، ثم باب العامة و دار الخلیفة و هی دار العامة التی یجلس فیها یوم الاثنین و الخمیس، ثم الخزائن، خزائن الخاصة و خزائن العامة، ثم قطیعة مسرور سمانة الخادم و إلیه الخزائن ثم قطیعة قرقاس الخادم و هو خراسانی ثم قطیعة ثابت الخادم ثم قطیعة أبی الجعفاء و سائر الخدم الکبار.
و الشارع الثانی یعرف بأبی احمد و هو ابو احمد بن الرشید أوّل هذا الشارع من المشرق، دار بختیشوع المتطبب التی بناها فی ایام المتوکل ثم قطائع قواد خراسان و اسبابهم من العرب و من اهل قم و اصبهان و قزوین و الجبل و آذربیجان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 82
یمنة فی الجنوب مما یلی القبلة فهو نافذ الی شارع السریحة الاعظم و ما کان مما یلی الشمال ظهر القبلة فهو نافذ الی شارع ابن احمد، دیوان الخراج الأعظم، و قطیعة عمر و قطیعة الکتّاب و سائر الناس و قطیعة احمد بن الرشید فی وسط الشارع، و فی آخره مما یلی الوادی الغربی یقال له وادی ابراهیم بن ریاح، قطیعة ابن ابی دوّاد و قطیعة الفضل بن مروان و قطیعة محمد بن عبد الملک الزیّات و قطیعة ابراهیم بن ریاح فی الشارع الأعظم. ثم تتصل الاقطاعات فی هذا الشارع و فی الدروب الی یمنته و یسرته الی قطیعة بغا الصغیر ثم قطیعة بغا الکبیر، ثم قطیعة سیما الدمشقی، ثم قطیعة برمش، ثم قطیعة وصیف القدیمة ثم قطیعة إیتاخ و یتصل ذلک إلی باب البستان و قصور الخلیفة.
و الشارع الثالث، شارع الحیر الأول الذی صارت فیه دار احمد ابن الخصیب فی ایام المتوکل، و فیه قطائع الجند و الشاکریة و اخلاط الناس و یمتد الی وادی ابراهیم بن ریاح.
و الشارع الرابع یعرف بشارع برغامش الترکی، فیه قطائع الاتراک و الفراغنة، فدروب الاتراک منفردة و دروب الفراغنة منفردة، و الأتراک فی الدروب التی فی القبلة و الفراغنة بازائهم بالدروب التی فی ظهر القبلة، کل درب بازاء درب لا یخالطهم أحد من الناس، و آخر منازل الاتراک و قطائعهم، قطائع الخزر مما یلی المشرق، اول هذا الشارع من المطیرة عند قطائع الافشین التی صارت لوصیف و اصحاب وصیف، ثم یمتد الشارع الی الوادی الذی یتصل بوادی ابراهیم بن ریاح.
و الشارع الخامس یعرف بصالح العباس و هو شارع الاسکر، فیه قطائع الاتراک و الفراغنة، و الاتراک ایضا فی دروب منفردة و الفراغنة فی دروب منفردة ممتدة من المطیر الی دار صالح العباس التی علی رأس الوادی، و یتصل ذلک بقطائع القواد و الکتاب و الوجوه و الناس کافة.
و شارع الحیر الجدید، یقع خلف شارع الاسکر، فیه اخلاط من الناس من قواد الفراغنة و الاسروشنیة و الاشتاخنجیة و غیرهم من سائر کور خراسان،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 83
و هذه الشوارع التی من الحیر کلما اجتمعت الی اقطاعات لقوم هدم الحائط و بنی خلفه حائطا غیره، و خلف الحائط الوحش من الظباء و الایایل و الحمیر الوحش و الارانب و النعام و علیها حائط یدور فی صحراء حسنة واسعة.
و الشارع الذی علی دجلة یسمی شارع الخلیج و هناک الفرض و السفن و التجارات التی ترد من بغداد و واسط و کسکر و سائر السواد من البصرة و الأبلة و الاهواز و ما اتصل بذلک و من الموصل و بعربایا ، و دیار ربیعة و ما اتصل بذلک، و فی هذا الشارع قطائع المغاربة کلهم او اکثرهم .
و اخذت مدینة سامراء فی الاتساع ایام الخلیفة المعتصم و حمل إلیها الغروس من الجزیرة و الشام و الجبل و الری و خراسان و سائر البلدان، کما عقد جسرا یربط الجانب الشرقی بالجانب الغربی، حیث انشأ هناک العمارات و البساتین .

فی أیام الواثق باللّه

و توفی المعتصم سنة 227 ه، و تولی الخلافة ولده هرون الواثق، و من اشهر عماراته فی سامراء، انشاؤه القصر الذی عرف بالقصر الهارونی، و هو علی دجلة، و بینه و بین سامراء میل و بازائه بالجانب الغربی المعشوق .
و کانت لهذا القصر مجالس فی دکّة شرقیة و دکّة غربیة ، و لما توفی الواثق سنة 232 ه، دفن فی القصر الهارونی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 84

فی أیام المتوکل

اشارة

و ارتقی عرش الخلافة العباسیة المتوکل بن المعتصم، و اتخذ القصر الهارونی منزلا له، و آثره علی غیره من القصور، کما انزل ابنه محمدا الملقب بالمنتصر قصر المعتصم المعروف بالجوسق و انزل ابنه ابراهیم الملقب بالمؤید بالمطیرة و انزل ابنه العتز ببلکوارا.
و یعتبر المتوکل من اکثر الخلفاء العباسیین عنایة بمدینة سامراء، فعمل علی زیادة عماراتها و مدّ شوارعها، و من أشهر أبنیته بناؤه المسجد الجامع فی اول الحیر فی موضع خارج منازل المدینة، و جامع سامراء من أهم الآثار العباسیة فی منطقة سامراء و هو یظهر بجلاء، الجهود العظیمة التی بذلت فی سبیل انشائه و اظهاره بالشکل الذی یلیق و مکانة العاصمة العباسیة، و الزائر له الیوم لا یری إلّا بقایا جدرانه الخارجیة، و مئذنته الشهیرة بالملویة، و طول المسجد 240 مترا و عرضه 160 م، و یبلغ علو الجدران نحو عشرة امتار و ثخنها لا یقل عن المترین، و یدعمها من الخارج ابراج نصف دائریة عددها اربعون برجا، اربعة منها فی الأرکان و ثمانیة فی الضلع الجنوبیة و فی الضلع الشمالیة و عشرة فی الضلع الشرقیة و فی الضلع الغربیة، و فی القسم الأعلی من الجدار الجنوبی الی الجهة القبلیة نوافذ مستطیلة ضیقة من الخارج واسعة من الداخل، و یظهر فی داخل کل نافذة عمودان من الآجر یحملان طاقا مکونا من خمس حنایا.
و فی الجهة القبلیة المحراب و علی طرفیه بابان، و فی الجدران الأخری هناک واحد و عشرون بابا، خمسة فی الجدار الشمالی و ثمانیة فی کل من الجدارین الشرقی و الغربی، و یستدل من استکشاف العلامة الآثاری هرزفلد، علی انه کان فی المسجد 25 رواقا و ان الاوسط منها اکثر اتساعا من الاروقة الاخری، و 24 صفا من الأعمدة فی کل منها عشرة عمد، هذا عدا الایوان الشمالی و فیه 24 صفا من الأعمدة فی کل صف منها ثلاثة عمد و الرواقین الجانبیین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 85
فی کل منها 22 صفا من الأعمدة فی کل صف منها اربعة عمد، و بذلک تکون جملة عدد الأعمدة 488 عمودا. و کانت السقوف ترتکز علی العمد مباشرة دون طیقان من البناء .
و یبدو من الأخبار التاریخیة انه کانت فی وسط المسجد نافورة، فقد قال الیعقوبی: و بنی المسجد الجامع فی اول الحیر فی موضع واسع خارج المنازل لا یتصل به شی‌ء من القطائع و الاسواق و اتقنه و وسّعه و احکم بناءه و جعل فیه فوّارة ماء لا ینقطع ماؤها . و کانت الفوارة تستمد میاهها من القناة التی أنشأها المتوکل لا یصال الماء الی مدینة سامراء .
و یذکر بعض المؤرخین ان جدران المسجد الجامع فی سامراء کانت فیها المرایا، و من النصوص الطریفة ما ذکره ابو الحسن الهروی قوله: و جامعها موضع شریف به المعجون کأنه المرآة یبصر المتوجه الی القبلة الداخل و الخارج من الشمال .
و علی بعد خمسة و عشرین مترا من الجدار الشمالی و علی محور باب المسجد تقع المئذنة الشهیرة بالملویة، و هی مخروطیة الشکل تقوم علی قاعدة مربعة طول ضلعها 32 مترا، یصعد الی قمتها بمرقاة حلزونیة تدور حولها من خارجها باتجاه معاکس لدوران عقرب الساعة خمس مرات و تبدأ المرقاة من وسط الضلع الجنوبیة للقاعدة و تنتهی فی القمة بغرفة صغیرة مستدیرة علوها ستة امتار لها باب من الجهة الجنوبیة، و یبلغ ارتفاع الملویة علی سطح الأرض 52 مترا.
و کان الاعتقاد السائد ان الفارس کان یطلع هذه المئذنة، ذکر ابن خرداذبه ان بمنارة اسکندریة ثلثمائة بیت و ستة و ستین بیتا دائرة و المسجد بها فی اعلاها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 86
و یرکب الفارس و الفارسان الی اعلاها بغیر درج، انما یدور الفرسان و الرجالة الی اعلاها، مثل منارة سرّ من رأی . و لکننی اعتقد عکس ذلک إذ لا أری ضرورة ان یصعد الفرسان الی اعلا المئذنة إضافة الی صعوبة ذلک، کما ان المئذنة و هی جزء من المسجد له قدسیته و جلاله، فمن الواجب الاحتفاظ به منزها من حوافر الخیل و فضلاتها.
و ذکر یاقوت ان المتوکل انفق علی بناء المسجد الجامع خمسة آلاف الف درهم . و الرأی السائد ان مئذنة سامراء بنیت علی غرار الأبراج البابلیة المدرجة (الزقورات) و المنشآت الصینیة فی عهد تانج .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 87
و من الجدیر بالذکر ان احمد بن طولون بنی فی مدینة القطائع بمصر مسجدا علی غرار جامع سامراء، و من لوحته التأسیسیة المثبتة علی احدی دعائم المسجد یتبین لنا ان المسجد الطولونی انشی‌ء بأمر الامیر احمد بن طولون سنة خمس و ستین للهجرة، و قد ذکر بعض المؤرخین تواریخ أخری مقاربة من ذلک فقد ذکر المقریزی ان بناء المسجد کان فی سنة 264 ه . بینما ذکر ابن دقماق ان البناء بدأ فی سنة تسع و خمسین و مائتین للهجرة ، و یحتل مسجد ابن طولون مربعا طول کل ضلع من اضلاعه 162 مترا تقریبا و هو اکثر مساجد مصر اتساعا، و تقع المئذنة فی الزیادة الشمالیة و قاعدة المئدنة مربعة تقریبا مقاساتها 75، 12 سم من الجانبین الشمالی و الجنوبی و 65، 13 من الجانبین الأخرین ، و هو علی طراز جامع سامراء و فی مصلاه عقود مدببة قائمة علی خمسة صفوف من الدعائم، و تندمج فیها اعمدة مبنیة ایضا بالآجر .
و قد بنی بسامراء جامع یعرف بجامع ابی دلف، و مساحة هذا الجامع اقل قلیلا من جامع سامراء و هو مستطیل الشکل، طول ضلعه الکبیر 47، 215 مترا و ضلعه الصغیر 24، 138 مترا، و فی وسطه صحن مکشوف مستطیل الشکل ایضا، و حول الصحن من جوانبه الاربعة، اروقة عددها فی الضلع القبلی خمسة اروقة، و فی الاضلاع الأخری رواقان و ما تزال اساطین هذه الاروقة المشیدة بالآجر و الجص قائمة و کذلک أقواس بعضها، و قد قامت مدیریة الآثار العراقیة بتقویة معظم هذه الاساطین و صیانة عدد من الاقواس، و الیوم بامکان الزائر مشاهدة هذا الأثر العباسی و قد اعید له طرازه الاول بفضل الجهود المبذولة من اجل الحفاظ علیه و اظهاره بالمظهر الذی یلیق به کأثر عربی اسلامی.
و سور الجامع مشید باللبن، و دلت التنقیبات ان ثخن هذا السور لا یقل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 88
عن 60، 1 م و انه کان فی ارکانه الاربعة ابراج مستدیرة و یدعم کل جانب من الجانبین الشرقی و الغربی عشرة ابراج نصف دائریة. و فی الضلع الشمالی ثمانیة ابراج و فی الضلع القبلی عشرة ابراج ایضا.
و لجامع المتوکلیة (جامع ابی دلف) ثمانیة عشر بابا، ثلاثة منها و هی فی ناحیة القبلة و تفضی الی مشتملات تتصل بالضلع الجنوبی و یبدو ان هذه الأبنیة کانت معدة لاستراحة الخلیفة إذا جاء لصلاة الجمعة و کان یدخل الی الجامع من باب بجانب المحراب.
اما مئذنة الجامع فانها تشبه ملویة جامع سامراء، و هی ذات مرقاة خارجیة و هی اصغر حجما من ملویة جامع سامراء و یبلغ علو المئذنة نحو 19 مترا، و تبدأ المرقاة من یمین الباب و تدور ثلاث دورات کاملة باتجاه معاکس لدوران عقرب الساعة، و یستدل من الاخبار التاریخیة و من موضعه ان من عمل المتوکل العباسی، و لکن لا ادری لم عرف هذا الجامع بجامع ابی دلف، علما ان القائد العباسی القاسم بن عیسی العجلی، توفی سنة 226 ه، فی حین ان المتوکل الذی أمر ببناء الجعفریة او المتوکلیة و من ضمنها جامع ابی دلف، تولی الخلافة سنة 232 ه، معنی ذلک ان ابا دلف لم یعاصر بناء المتوکلیة و لم یر جامعها.
و یبدو ان المتوکل العباسی، کان ذا هوایة کبیرة فی تشیید الأبنیة و مد العمران، و من اشهر القصور التی شیدها قصر الجعفری، و هو بالقرب من سامراء بموضع یسمی الماحوزة ، و لا تزال بقایا القصر و برکته تشاهد علی ضفة دجلة فی شمال السور الداخلی لمدینة المتوکلیة فی الزاویة التی یکوّنها نهر دجلة من جهة و نهر القاطول الکسروی من الجهة الثانیة . و نستشف من الاخبار التاریخیة ان بناء القصر کلف الحاکم العباسی المتوکل اموالا طائلة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 89
ذکر ابو الفدا: ان المتوکل انفق فی عمارته اموالا تجل عن الحصر ، و ذکر ایضا ان المتوکل انفق علی بنائه الفی الف دینار و کان المتولی لذلک دلیل بن یعقوب النصرانی کاتب بغا الشرابی .
و بعد أن تمّ بناء المتوکلیة انتقل المتوکل و حاشیته و رجال دولته و عامة الناس الیها، و للبحتری الشاعر قصیدة عامرة فی هذا القصر و بانیه یقول فی مطلعها:
قد تمّ حسن الجعفریّ و لم یکن‌لیتمّ إلّا بالخلیفة جعفر
و لأبی علی البصری وصف حال المدینة العظیمة التی انفقت علیها الأموال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 90
الطائلة و حالها البائس بعد تحول السلطة و الرعیة عنها قصیدة طویلة جاء فی مطلعها:
إن الحقیقة غیر ما یتوهّم‌فاختر لنفسک أی امر تعزم
إن هذه المدینة الجدیدة التی انتقل الیها المتوکل و رعیته، لم تکن علی ما یبدو بالمدینة الناجحة او الملائمة لحیاة السکان، ذلک ان الذین اشرفوا علی مهمة ایصال الماء الی المدینة المتوکلیة لم یکونوا علی خبرة واسعة و امکانیة وافرة، فجاءت النتیجة علی عکس ما کان یرغب المتوکل و الناس جمیعا، و قد لعب مشروع النهر دورا خطیرا فی هجران المدینة، مثل دوره فی نشوء فکرة الانتقال الیها، و ذلک بسبب فشل هذا المشروع و عجزه عن تأمین ایصال المیاه إلیها فی موسم الصیف . و ذکر الیعقوبی: ان النهر لم یتم أمره و لم یجر الماء فیه إلّا جریا ضعیفا لم یکن له إتصال و لا استقامة علی انه قد انفق علیه شبیها بألف الف دینار و لکن کان حفره صعبا جدا انما کانوا یحفرون حصا و افهارا لا تعمل فیها المعاول .
و بدی‌ء العمل فی تشیید المدینة سنة خمس و اربعین و مائتین و وجّه فی حفر ذلک النهر لیکون وسط المدینة، فقدر النفقة علی النهر الف الف و خمسمائة الف دینار، و امر بأن تختط القصور و المنازل و اقطع الولاة و الامراء و الکتاب و الجند، و مدّ الشارع الاعظم من دار اشناس التی بالکرخ و هی التی صارت للفتح بن خاقان مقدار ثلاثة فراسخ الی قصوره، و اقطع الناس یمنة الشارع الاعظم و یسرته و جعل عرض الشارع الأعظم مائتی ذراع، و قدّر ان یحفر فی جنبی الشارع نهرین یجری فیهما الماء من النهر الکبیر الذی یحفره، و بنیت القصور و شیدت الدور و ارتفع البناء، و اتصل البناء من الجعفریة الی الموضع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 91
المعروف بالدّور ثم بالکرخ و سرّ من رأی مادّا إلی الموضع الذی کان ینزله ابو عبد اللّه المعتز، لیس بین شی‌ء من ذلک فضاء و لا فرج و لا موضع لا عمارة فیه فکان مقدار ذلک سبعة فراسخ .
ان ذلک العمل الذی قام به المتوکل، یعتبر من الأعمال الخارقة، و التی تستحق النظر و الاعتبار، و بصورة خاصة إذا ما قدرنا تلک الظروف و امکانیاتها الفنیة التی تکاد تکون امکانیات بدائیة، و رغم ذلک فان المدة التی تمّ فیها بناء المدینة المتوکلیة مدة قصیرة جدا، فقد کمل بناؤها فی اقل من سنتین و انتقل المتوکل الی قصور المدینة اول یوم من المحرم سنة سبع و اربعین و مائتین للهجرة، و اقام فیها حوالی تسعة اشهر و قتل فی شوال سنة سبع و اربعین و مائتین فی قصره الجعفری، و تولی الخلافة العباسیة ولده المنتصر، فانتقل الی سرّ من رأی و امر الناس جمیعا بالانتقال عن الماحوزة (مکان المتوکلیة) و ان یهدموا المنازل و یحملوا النقض الی سامراء فانتقل الناس و حملوا نقض المنازل الی سامراء و خربت قصور الجعفری و منازله و مساکنه و اسواقه فی اسرع مدة و صار الموضع موحشا لا أنیس به و لا ساکن فیه و الدیار بلاقع کأنها لم تعمر و لم تسکن .
و للمتوکل آثار عمرانیة فی سامراء، بعضها لا یزال شاخصا حتی الیوم و البعض الآخر نتعرف علیه من الاخبار التاریخیة، و خیر من یلخص اعمال هذا الحاکم العباسی، یاقوت فی معجمه قوله: من الابنیة الجلیلة مثل ما بناه المتوکل، فمن ذلک القصر المعروف بالعروس انفق علیه ثلاثین الف الف درهم، و القصر المختار خمسة آلاف الف درهم و الوحید الفی الف درهم و الجعفری المحدث عشرة آلاف الف درهم، و الغریب عشرة آلاف الف درهم، و الصبح خمسة آلاف الف درهم، و الملیح خمسة آلاف الف درهم و قصر بستان الإیتاخیة عشرة آلاف الف درهم و التلّ علوّه و سفله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 92
خمسة آلاف الف درهم و الجوسق فی میدان الصخر خمسمایة الف درهم و المسجد الجامع خمسة عشر الف الف درهم و برکوان للمعتز عشرین الف الف درهم و القلاید خمسین الف دینار و جعل فیها ابنیة بمایة الف دینار، و الغرد فی دجلة الف الف درهم و القصر بالمتوکلیة و هو الذی یقال له الماجوزة خمسین الف الف درهم، البهو خمسة و عشرین الف الف درهم و اللؤلؤة خمسة آلاف الف درهم .
یعتبر عام 221 ه، هو بدایة حیاة سامراء کعاصمة للدولة العباسیة، و فی هذه السنة سارت جحافل العباسیین الی محاربة بابک الخرمی، الذی خرج علی الدولة العباسیة، و قد دارت معارک شدیدة بین العباسیین و أنصار بابک، و فی سنة 222 ه، سقطت مدینة (البذ) ، التی کانت قاعدة لبابک الخرمی، و قد نجح الافشین القائد العباسی ان یأسر بابک الخرمی و یقتاده اسیرا إلی سامراء سنة 223 ه، حیث قتل ثم صلب.
و من سامراء توجه المعتصم سنة 223 ه، لمحاربة البیزنطیین و قصد عموریة بجیش کبیر، و انتصر الجیش العباسی انتصارا رائعا، و لما عاد المعتصم الی سامراء بعد ذلک النصر الذی احرزه علی البیزنطیین فی عموریة احتفل باستقباله احتفالا باهرا، و مدحه ابو تمام الشاعر بقصیدته التی جاء فیها:-
السیف اصدق انباءا من الکتب‌فی حده الجدّ بین الحد و اللعب
و فی سنة 227 ه، توفی المعتصم و دفن فی سامراء بقصره المعروف بالجوسق، و کان من وزرائه، احمد بن عمار بن شادی و محمد بن عبد الملک الزیات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 93

عودة للواثق

و تولی الخلافة من بعد المعتصم ولده هارون الواثق، و یعتبر من افاضل الخلفاء العباسیین، و کان فاضلا لبیبا، فطنا فصحیحا و کان یتشبه بالمأمون فی حرکاته و سکناته .
و فی مفتتح خلافته ثارت القیسیة بدمشق، فأرسل الواثق إلیهم رجاء بن ایوب الحضاری و کانوا معسکرین بمرج راهط، فحاربهم رجاء و هزمهم و أعاد الأمن و الاستقرار لدمشق .
و فی سامراء سنة 228 ه، اعطی الواثق اشناس تاجا و وشاحین .
و فی سنة 232 ه، توفی الواثق فی سامراء و دفن فی قصره المعروف بالهارونی. و لم یستوزر الواثق سوی محمد بن عبد الملک الزیات وزیر ابیه .

عودة للمتوکل

و تولی الحکم المتوکل جعفر بن المعتصم، و لم تمض شهور حتی أمر بالقاء القبض علی الوزیر محمد بن عبد الملک الزیات و بحبسه، و فی سنة 235 ه امر بقتل ایتاخ.
و فی سنة 235 ه، ظهر بسامراء رجل یقال له محمود بن الفرج النیسابوری فزعم أنه نبی و انه ذو القرنین و تبعه سبعة و عشرون رجلا و خرج من اصحابه ببغداد رجلان بباب العامة و آخران بالجانب الغربی، فأتی به و باصحابه المتوکل فأمر به فضرب ضربا شدیدا حتی مات .
و فی سنة 236 ه أمر المتوکل بهدم قبر الحسین بن علی علیه السّلام و هدم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 94
ما حوله من المنازل و الدور و ان یبذر و یسقی موضع قبره و ان یمنع الناس من اتیانه، فنادی بالناس فی تلک الناحیة من وجدناه عند قبر الحسین بعد ثلاثة حبسناه فی المطبق .
و فی سنة 237 غضب المتوکل علی احمد بن ابی دؤاد و قبض ضیاعه و املاکه و حبس اولاده، و احضر المتوکل یحی بن اکثر من بغداد الی سامراء و ولاه قضاء القضاة ثم ولاه المظالم، فولی یحی بن أکتم قضاء الشرقیة حیان ابن بشر، و ولی سوار بن عبد اللّه العنبری قضاء الجانب الغربی و کلاهما اعور، فقال الجماز فیهما:
رأیت من الکبائر قاضیین‌هما احدوثة فی الخافقین
هما اقتسما العمی نصفین قدراکما اقتسما قضاء الجانبین الخ
و فی سنة 241 ه وقع مطر شدید بسامراء فی شهر آب ، و فی سنة 243 ه سار المتوکل من سامراء الی دمشق علی طریق الموصل، و دخل دمشق سنة 244 ه، و عزم علی المقام بها و نقل دواوین الملک إلیها و امر بالبناء بها ثم استوبأ البلد، و ذلک بأن هواه بارد ندی و الماء ثقیل و الریح تهب فیها مع العصر فلا یزال یشتد حتی یمضی عامة اللیل و هی کثیرة البراغیث و غلت فیها الأسعار و حال الثلج بین السابلة و المسیرة فرجع الی سامراء و کان مقامه بدمشق شهرین و أیاما . و یذکر المسعودی ان المتوکل نزل قصر المأمون و ذلک بین داریا و دمشق، علی ساعة من المدینة، فی اعلا الأرض، و هذا الموضع بدمشق یشرف علی المدینة و اکثر الغوطة و یعرف بقصر المأمون الی هذا الوقت، و هو سنة اثنتین و ثلاثین و ثلاثمائة .
و فی سنة 245 ه، امر المتوکل ببناء مدینة المتوکلیة و قد تعرضنا بالکلام
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 95
عنها فیما سبق. و فی سنة 246 انتقل المتوکل الی المتوکلیة، و فی سنة 247 ه، قتل المتوکل بقصره بالمتوکلیة، قتله باغر الترکی و اصحابه الأتراک .

أیام المنتصر

و بویع المنتصر ابن المتوکل خلیفة للعباسیین، و حضر الناس الجعفریة (المتوکلیة) من القواد و الکتاب و الوجوه و الشاکریة و الجند و غیرهم فقرأ علیهم أحمد بن الخصیب کتابا یخبر فیه عن المنتصر ان الفتح بن خاقان قتل المتوکل فقتله به فبایع الناس .
و یکاد یجمع المؤرخون من ان المنتصر کان راسخ العقل کثیر المعروف راغبا فی الخیر ، جوادا کثیر الانصاف، حسن العشرة و أمر الناس بزیارة قبر علی و الحسین علیهما السّلام، و أمن العلویین و کانوا خائفین ایام أبیه و أطلق وقوفهم .
توفی المنتصر سنة 248 ه و دفن فی قصر الجوسق ، ذلک لأن اباه انزله ذلک القعر الذی بناه المعتصم ، و المنتصر اول خلیفة من بنی العباس عرف قبره و ذلک ان امه طلبت اظهار قبره ، و من الجدیر بالذکر ان المنتصر عاد الی سامراء فبدأ الخراب یدب الی المتوکلیة، و رجع الناس الی منازلهم بسامراء .

فی أیام المستعین باللّه و المعتز

و بویع فی سامراء احمد بن محمد بن المعتصم فی الیوم الذی تولی فیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 96
المنتصر، و لقبه المستعین باللّه، و فی عصره ظهرت بعض الفتن فی سامراء التی ائارها الجنود الأتراک، ففی 249 ه، وثب الجند بسامراء مرة بعد اخری و تحاربوا و تحاملوا علی (أوتامش) و قالوا أخذ ارزاقنا و ازال مراتبنا، و خرجت عصبة من الأتراک و الموالی الی الکرخ ، فخرج إلیهم اوتامش لیسکنهم فقتلوه و قتلوا کاتبه شجاع بن القاسم و ذلک فی شهر ربیع الآخر و نهبت دورهما فوقع ذلک بموافقة المستعین و کتب إلی الآفاق بلعنه .
و یذکر ابن الأثیر ان نفرا من الناس لا یدری من هم بسامراء فتحوا السجن و اخرجوا من فیه فبعث فی طلبهم جماعة من الموالی فوثب العامة بهم فهزموهم، فرکب بغا و اتامش و وصیف و عامة الأتراک فقتلوا من العامة جماعة، فرمی وصیف بحجر فأمر باحراق ذلک المکان و انتهب المغاربة ثم سکن ذلک آخر النهار .
و هذه الحوادث تدل علی سوء الاوضاع و اختلال الامور، و صار القادة الاتراک یوشی بعضهم ببعض و یتآمر احدهم بالآخر، ففی سنة 251 ه، قتل باغر الترکی، قتله وصیف ، و بعد ذلک انحدر المستعین مع بغا و وصیف و شاهک الخادم و احمد بن صالح بن شیرزاد الی بغداد فی حراقة، ثم تتابع الی بغداد الکتاب و العمال و بنو هاشم و جماعة من اصحاب وصیف و بغا .
و فی السابع من محرم سنة 252 ه بویع للمعتز باللّه فی سامراء و کان سبب البیعة ان المستعین لما استقر ببغداد اتاه جماعة من الاتراک و القوا انفسهم بین یدیه و جعلوا مناطقهم فی أعناقهم تذللا و خضوعا و سألوه الصفح و الرضا، قال لهم المستعین: انتم اهل بغی و فساد و استقلال للنعم، الم ترفعوا إلی فی اولادکم فألحقتهم بکم و هم نحو من ألفی غلام؟ و فی بناتکم فأمرت بتصییرهن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 97
فی عداد المتزوجات و هن نحو من اربعة آلاف و غیر ذلک کله أجبتکم الیه و أدرت علیکم الأرزاق، فعملتم آنیة الذهب و الفضة و منعت نفسی لذتها و شهوتها لصلاحکم و رضاکم و انتم تزدادون بغیا و فسادا، فعادوا و تضرعوا و سألوه العفو فقال المستعین: قد عفوت عنکم و رضیت. فقال له احدهم و اسمه بابی بک : فان کنت قد رضیت فارکب معنا الی سامراء فان الاتراک ینتظرونک. فأمر محمد بن عبد اللّه بعض اصحابه فقام إلیه فضربه، و قال محمد: هکذا یقال لأمیر المؤمنین: قم فارکب معنا. فضحک المستعین و قال:
هؤلاء قوم عجم لا یعرفون حدود الکلام، و قال لهم المستعین: ترجعون الی سامراء فان ارزاقکم دارة علیکم و أنظر انا فی أمری فانصرفوا آیسین منه و أبغضهم ما کان من محمد بن عبد اللّه الی (بابی بک) و أخبروا من وراءهم خبرهم و زادوا و حرضوا تحریضا لهم علی خلعه، فاجتمع رأیهم علی اخراج المعتز و کان هو و المؤید فی حبس الجوسق و علیهم من یحفظهم فأخرجوا المعتز من الحبس و بایعوا له بالخلافة.
و لما علم المستعین استعد لمواجهة الموقف فمنع المیرة عن سامراء و امر بتحصین بغداد و بحفر الخنادق فی الجانبین، و نصب علی الأبواب المنجنیقات و العرادات و شحن الاسوار، و فرض فرضا للعیارین و جعل علیهم عریفا اسمه (یبنویه) و عمل لهم تراسا من البواری المقیرة و اعطاهم المخالی لیجعلوا فیها الحجارة للرمی، و کتب المستعین الی عمال الخراج بکل بلدة ان یکون حملهم الخراج و الاموال الی بغداد و لا یحمل منها الی سامراء شی‌ء و کتب الی الجند الذین بسامراء یأمرهم بنقض بیعة المعتز و مراجعة الوفاء له، و جرت بین المعتز و محمد بن عبد اللّه مکاتبات و مراسلات یدعو المعتز محمدا الی المبایعة و یذکره ما کان المتوکل اخذ له علیه من البیعة بعد المنتصر.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 98
و قدم عبد اللّه بن بقا الصغیر من سامرا الی المستعین و کان قد تحلف بعد ابیه فاعتذر و قال لأبیه: انما قدمت لا موت تحت رکابک فأقام ببغداد أیاما ثم هرب الی سامراء، فاعتذر الی المعتز و قال: انما سرت الی بغداد لا علم اخبارهم و آتیک بها فقبله المعتز و رده الی خدمته، و ورد الحسن بن الأفشین بغداد فخلع علیه المستعین و ضم الیه جمعا من الاشروسنیة و غیرهم .
و دارت بین جیوش المعتز و جیوش المستعین معارک شدیدة تبادلا فیها النصر و الهزیمة، و أخیرا انتصرت جیوش المعتز و أرغم المستعین علی خلع نفسه، و خلال تلک الحوادث، اجتمعت العامة بسامراء و نهبوا سوق الجوهریین و الصیارفة ، ثم نقل المستعین الی واسط و بعد فترة قصیرة، بعث المعتز الیه من قتله، و حمل رأسه الی سامراء و قدّم الی المعتز و هو یلعب الشطرنج و قیل له هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه حتی افرغ من الدست، فلما فرغ نظر إلیه و أمر بدفنه و امر لقاتله بخمسین الف درهم و ولاه معونة البصرة .
و کثرت الاضطرابات سنة 253 ه فی سامراء، و قد سببت تأخر اموال البلدان و نفاد ما فی بیوت الاموال، فوثب الاتراک فخرج إلیهم (وصیف) لیسکنهم فرموه فقتلوه و حزّوا رأسه، و تفرد بغا بالتدبیر و ضعف امر المعتز حتی لم یکن له أمر و لا نهی و انتفضت الاطراف، و خرج بدیار ربیعة رجل من الشراة یقال له مساور بن عبد الحمید و یعرف بأبی صالح من بنی شیبان ثم صار الی الموصل فطرد عاملها حتی قرب من سامرا و نزل فی المحمدیة ، فدخل القصر و جلس علی الفرش و دخل الحمام و ندب له المعتز قائدا و جیشا بعد قائد و جیش و هو یهزمهم حتی کثف جمعه و اشتدت شوکته .
و توفی الامام علی بن محمد بن علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 99
بن الحسین بن علی بن ابی طالب (ع) بسامراء لثلاث بقین من جمادی الآخرة سنة 254 ه، و بعث المعتز بأخیه ابن احمد بن المتوکل فصلی علیه فی الشارع المعروف بشارع ابی احمد، فلما کثر الناس و اجتمعوا کثر بکاؤهم و ضجتهم فرد النعش الی داره فدفن فیها ، و هو یلقب بالعسکری لمقامه بسامراء و کانت تسمی العسکر .
و فی عصر المعتز تولی احمد بن طولون امر مصر نیابة عن (بابکباک) کما ظهر یعقوب بن اللیث الصفار و استولی علی فارس و جمع جموعا کثیرة، و لم یقدر المعتز علی مقاومته .
و فی سنة 254 ه، قتل بغا الشرابی، و نصب رأسه بسامراء و ببغداد و احرقت المغاربة جسده .
و فی سنة 255 خلع المعتز و قد وردت فی هلاکه عدة روایات، ذکر المسعودی: انه ادخل الحمام مکرها و کان الحمام محمیّا و منع الخروج منه، و ذکر روایتین بعد حادثة الحمام، فالاولی تقول انه ترک فی الحمام حتی فاضت نفسه، و الاخری تقول: أنه اخرج بعد ان کادت نفسه تتلف للحمّی، ثم أسقی شربة ماء مقراة ثلج، فنثرت الکبد و غیره، فخ؟؟؟ من فوره، و ذلک لیومین خلوا من شعبان .
و ذکر ابن الاثیر: ان الاتراک طلبوا منه مالا، فلم یتمکن من تلبیة طلبهم، فدخل إلیه جماعة منهم فجروه برجله الی باب الحجرة و ضربوه بالدبابیس و خرقوا قمیصه، و اقاموه فی الشمس، فکان یرفع رجلا و یضع اخری لشدة الحر و کان بعضهم یلطمه و هو یتقی بیده، ... ثم ادخلوه سردابا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 100
و جصصوا علیه فمات .
و بویع محمد بن الواثق الملقب بالمهتدی، خلیفة للعباسیین، للیلة بقیت من رجب سنة خمس و خمسین و مائتین للهجرة، بعد ان أحضر الأتراک الخلیفة المعتز فخلع نفسه امام الناس و الی القاری‌ء الکریم صورة الرقعة بخلع المعتز نفسه:-
«بسم اللّه الرحمن الرحیم، هذا ما شهد علیه الشهود المسمون فی هذا الکتاب شهدوا أن ابا عبد اللّه بن أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه أقر عندهم و اشهدهم علی نفسه فی صحة من عقله و جواز من امره طائعا غیر مکره، انه نظر فیما کان تقلده من امر الخلافة و القیام بامور المسلمین فرأی أنه لا یصلح لذلک و لا یکمل له و أنه عاجز عن القیام بما یجب علیه منها، ضعیف عن ذلک، فأخرج نفسه و تبرأ منها و خلعها من رقبته و خلع نفسه منها و برأ کل من کانت له فی عنقه بیعة من جمیع اولیائه و سائر الناس مما کان له فی رقابهم من البیعة و العهود و المواثیق و الایمان بالطلاق و العتاق و الصدقة و الحج و سائر الایمان، و حللهم من جمیع ذلک و جعلهم فی سعة منه فی الدنیا و الآخرة بعد ان تبین له ان الصلاح له و للمسلمین فی خروجه عن الخلافة و التبری‌ء منها، و أشهد علی نفسه بجمیع ما سمی و وصف فی هذا الکتاب، جمیع الشهود المسمّین فیه و جمیع من حضر بعد أن قری‌ء علیه حرفا حرفا فأقر بفهمه و معرفته جمیع ما فیه، طائعا غیر مکره و ذلک یوم الاثنین لثلاث بقین من رجب سنة خمس و خمسین و مائتین» فوقع المعتز فی ذلک بقوله: أقر أبو عبد اللّه بجمیع ما فی هذا الکتاب، و کتبه بخطه و کتب الشهود شهاداتهم، شهد الحسن بن محمد، و محمد بن یحی، و احمد بن جناب، و یحی بن زکریا ابن ابی یعقوب الأصبهانی، و عبد اللّه بن محمد العامری، و احمد بن الفضل ابن یحی، و حماد بن اسحق، و عبد اللّه بن محمد، و ابراهیم بن محمد،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 101
و ذلک یوم الاثنین لثلاث بقین من رجب سنة خمس و خمسین و مائتین

فی أیام المهدی

و یعتبر المهتدی من خلفاء العباسیین الذین و صفوا بحسن السیرة و التقوی و الورع و کثرة العبادة .
و فی رمضان من سنة 255 ه، وثب عامة بغداد و جندها بمحمد بن أوس البلخی، الذی کان قدم من خراسان بجیوشه، فأعطی اصحابه من اموال جند بغداد فتحرک الجند و الشاکریة فی طلب الارزاق، و کان الذین قدموا مع محمد بن اوس من خراسان قد أساؤوا مجاورة اهل بغداد و جاهروا بالفاحشة و تعرضوا للحرم، فاتفق العامة مع الجند فثاروا و اتوا سجن بغداد عند باب الشام فکسروا بابه و اطلقوا من فیه، و نهب اهل بغداد منازل الصعالیک من اصحاب محمد بن اوس البلخی، و جرح بن اوس البلخی و انهزم هو و اصحابه و تبعهم الناس حتی اخرجوهم من باب الشماسیة و انتهبوا منزله و جمیع ما کان فیه .
و واجهت خلافة المهتدی أخطر مشکلة، تلک هی مشکلة الزنج و قیام حرکتهم فی منطقة البطائح من جنوب العراق، و قد بدأت تلک الحرکة سنة 255 ه، و اشغلت الخلافة العباسیة حتی سنة 270 ه، و دارت بین الزنج و جیوش العباسیین حروب طاحنة انتهت بانتصار الموفق ولی عهد الخلافة العباسیة ایام الخلیفة المعتضد العباسی .
حاول المهتدی أن یتقرب من العامة لیستند إلیهم و یتخذهم عونا قویا له فی کفاحه الاتراک، فبنی قبة لها اربعة ابواب و سماها قبة المظالم، و جلس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 102
فیها للخاص و العام، و امر بالمعروف و نهی عن المنکر، و حرم الشراب و نهی عن القیان، و اظهر العدل، و کان یحضر کل جمعة الی المسجد الجامع، و یخطب الناس و یؤم بهم . و لما اشتد النزاع بینه و بین الاتراک، أحضر جماعة منهم فضرب أعناقهم و فیهم بابکیال رئیسهم فاجتمع الاتراک و شغبوا فخرج إلیهم المهتدی فی السلاح معلقا فی عنقه المصحف و استنفر العامة و اباحهم دماءهم و اموالهم و نهب منازلهم .
و لکن یبدو ان الاتراک کانوا من القوة أن سیطروا علی زمام الامور فی سامراء، حیث تجمعوا فتفرق العامة و تمکنوا من الخلیفة و دخلوا قصره و قضوا علیه ، و ذکر ابن الأثیر یصف اللحظات الأخیرة للخلیفة المهتدی و صراعه مع الأتراک فیقول: فرکب المهتدی و قد جمع له جمیع المغاربة و الأتراک و الفراغنة فصیر فی المیمنة مسرورا البلخی و فی المیسرة یارکوج. و وقف هو فی القلب مع اسارتکین و طبعایغو و غیرهما من القواد، فأمر بقتل بابکیال و القی رأسه إلیهم عتاب بن عتاب فحملوا علی عتاب فقتلوه. و عطفت میمنة المهتدی و میسرته بمن فیها من الاتراک فصاروا مع اخوانهم الاتراک فانهزم الباقون عن المهتدی، و قتل من اصحاب المهتدی خلق کثیر و ولی منهزما و بیده السیف و هو ینادی: یا معشر المسلمین، انا أمیر المؤمنین، قاتلوا عن خلیفتکم، فلم یجبه احد من العامة الی ذلک، فسار الی باب السجن فأطلق من فیه و هو یظن انهم یعینونه فهربوا و لم یعنه احد. فسار الی دار احمد بن جمیل صاحب الشرطة، فدخلها و هم فی اثره فدخلوا علیه و اخرجوه و ساروا به الی الجوسق علی بغل فحبس عند احمد بن خاقان، و قبل المهتدی یده فیما قیل مرارا عدیدة ، و جری بینهم و بینه کلام ارادوه فیه علی الخلع و استسلم للقتل و قالوا: انه کان قد کتب بخطه رقعة لموسی بن بغا و بابکیال و جماعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 103
من القواد انه لا یغدر بهم و لا یغتالهم و لا یفتک بهم، و لا یهم بذلک و انه متی فعل ذلک فهم فی حل من بیعته و الامر إلیهم یقعدون من شاؤوا فاستحلوا بذلک نقض امره، فداسوا خصیتیه و صفعوه فمات و اشهدوا علی موته انه سلیم لیس به أثر و دفن بمقبرة المنتصر .

فی أیام المعتمد علی اللّه

تولی الخلافة بعد هلاک المهتدی ابو العباس احمد بن المتوکل الملقب بالمعتمد علی اللّه، و فی أیامه کان الأمر و النهی لأخیه طلحة المعروف بالموفق، و کانت للموفق ایضا قیادة الجیوش و محاربة الاعداء، و مرابطة الثغور، و ترتیب الوزراء و الامراء، و کان المعتمد مشغولا عن ذلک بلذاته .
و فی سنة 256 ه، ای فی السنة التی بویع فیها المعتمد بالخلافة، دخل الزنج مدینة البصرة و قتلوا کثیرا من اهلها و احرقوها ، و فی نفس السنة ظهر علی بن زید العلوی بالکوفة و استولی علیها و ازال عنها نائب الخلیفة و استقر بها، فسیرت الجیوش لمحاربته و انتصر فی بدایة الأمر علی بن زید و لکنه لم یتمکن من الوقوف امام کیجور الترکی و جیوشه، و استقامت الامور للقائد الترکی فی الکوفة و عاد بعدها الی سامراء بغیر امر الخلیفة، فوجه إلیه الخلیفة نفرا من القواد فقتلوه بعکبرا فی ربیع الاول سنة سبع و خمسین و مائتین .
و فی سنة 258 حصل وباء فی العراق شمل بغداد و واسط و سامراء، و ذکر الیعقوبی أنه مات کثیر من الخلق و کان الرجل یخرج من منزله فیموت قبل ان ینصرف، فیقال انه مات ببغداد فی یوم واحد اثنا عشر الف انسان .
و اشتدت المعارک بین جیوش الخلیفة العباسی و الزنج، و فی سنة 259 ه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 104
عاد الموفق من حرب الزنج متعللا بالمرض فبعث المعتمد موسی بن بغا، فشخص من سامراء نحو الزنج و جرت بینه و بینهم حروب شدیدة ، و فی هذه السنة دخل الأهواز، کما دخل یعقوب بن اللیث الصفار مدینة نیسابور .
و فی سنة 260 ه توفی فی سامراء الامام الحسن بن علی بن محمد (ع) المعروف بالعسکری و دفن فی داره فی البیت الذی دفن فیه ابوه و هو ابن ثمان و عشرین سنة .

فی أیام المعتمد

و فی سنة 261 ه، جلس المعتمد العباسی فی دار العامة بسامراء فولی ابنه جعفرا العهد و لقبه المفوض الی اللّه، و ولی اخاه الموفق العهد بعد جعفر و لقبه الناصر لدین اللّه و ولاه المشرق و بغداد و السواد و الکوفة و طریق مکة و المدینة و الیمن و کسکر، و کور دجلة و الاهواز و فارس و اصبهان و قم و کرج و دینور و الری و زنجان و السند، و شرط ان حدث به الموت و جعفر لم یبلغ، ان یکون الامر للموفق ثم لجعفر بعد و أخذت البیعة بذلک. و امر الموفق ان یسیر الی حرب الزنج .
و فی سنة 262 سار المعتمد العباسی بجیشه الی سامراء لمحاربة یعقوب بن اللیث الصفار، فوصل بغداد ثم الی الزعفرانیة فنزلها و قدم أخاه الموفق، و دخل یعقوب الصفار مدینة واسط، و سیر المعتمد اخاه الموفق فی العساکر لمحاربة یعقوب، فتنازل الموفق مع جیوش یعقوب و اوقع بها هزیمة کبیرة، و رجع المعتمد الی سامراء .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 105
و فی سنة 264 حصلت مشکلة بین الاخوین الخلیفة المعتمد و ولی عهده الموفق، و سببها انه خرج سلیمان بن وهب من بغداد الی سامراء و شیعه الموفق و القواد، فلما صار إلی سامراء غضب علیه المعتمد و حبسه و قیده و انتهب داره و داری ابنیه وهب و ابراهیم، و استوزر الحسن بن مخلد فی ذی القعدة، فسار الموفق من بغداد إلی سامراء و معه عبد اللّه بن سلیمان بن وهب، فلما قرب من سامراء تحول المعتمد الی الجانب الغربی فعسکر به مغاضبا للموفق، و اختلفت الرسل بینه و بین الموفق و اتفقا و خلع علی الموفق، و اطلق سلیمان بن وهب و عاد الی الجوسق .
و توفی یعقوب بن اللیث الصفار و تولی من بعده اخوه عمرو بن اللیث، و عینه الموفق علی الشرطة ببغداد و سامراء، کما ولی خراسان و فاراب، و اصبهان و سجستان و کرمان و السند .
و فی هذه الفترة شددت الخلافة العباسیة علی محاربة الزنج و القضاء علیهم، فقد تحسنت اوضاع الخلافة بعض الشی‌ء خاصة بعد وفاة یعقوب بن اللیث الصفار، کما ان توسع الزنج و سیطرتهم علی مدینة واسط و تهدیدهم الخلافة کان من العوامل المهمة التی دفعت بالخلافة العباسیة و القادة العباسیین الی اتخاذ مواقف حاسمة ضد الزنج، فجهز الموفق الجیوش الکثیفة، و اعد کذلک اسطولا نهریا، و اصبحت قیادة ذلک الجیش لابی العباس المعتضد ابن الموفق، و انتصر المعتضد انتصارات اولیة علی جیوش الزنج کانت لها اهمیة کبیرة فی تقویة المعنویات فی صفوف العباسیین، فقد انتصر علی قائد الزنج سلیمان ابن جامع انتصارا رائعا و نجح فی تمزیق جیشه .
و لما اعد الزنج قوة کبیرة لمحاربة المعتضد، توجه الموفق سنة 267 بجیش کبیر لینضم الی جیش المعتضد و لیکون قوة و سندا له، و لما سمع المعتضد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 106
بتحرکات الزنج و استعداداتهم تراجع الی مقره بجوار واسط لینتظر والده .
ثم سار الموفق و ابنه المعتضد و سیطروا علی مدینة (المنیعة) القریبة من واسط و هی من حصون الزنج الکبیرة، ثم سارا بجیوشهما لاحتلال (المنصورة) و کان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، و جعلوا أمام کل خندق منها سورا یمتنعون به . ثم سار الموفق الی المختارة عاصمة الزنج القریبة من ابی الخصیب فی لواء البصرة، و کانت هذه المدینة محصنة بتحصینات منیعة، فحاصرها الموفق و منع التموین عنها و اطال الحصار علیها، و قد حاول الزنج فک الحصار المضروب علیهم و لکن دون جدوی.
و اخذت هجمات العباسیین علی المختارة بشکل متتابع و کان الهجوم العام علی شرقی أبی الخصیب و غربیه فی اواخر محرم من سنة 270 ه و تمزقت جیوش الزنج و هرب رئیسهم و ابنه و سلیمان ، و بذلک انتهت هذه المشکلة الخطیرة التی هددت الخلافة العباسیة و التی کانت من اهم عوامل تفککها و انحلالها.
و حصلت بین المعتمد الخلیفة العباسی و ولی عهده الموفق جفوة، فقرر المعتمد الذهاب الی مصر، و کتب الخلیفة الی احمد بن طولون یشکو إلیه حاله سرّا من اخیه الموفق، فأشار علیه احمد بن طولون اللحاق به بمصر و وعده النصرة و سیر عسکرا الی الرقة ینتظر وصول المعتمد إلیهم. فاغتنم المعتمد غیبة الموفق و انشغاله فی حروب الزنج، فسار و سار معه جماعة من القواد فأقام بالکحیل یتصید، فلما سار الی عمل اسحق بن کنداج و کان عامل الموصل و عامة الجزیرة وثب ابن کنداج بمن مع المعتمد من القواد فقبضهم و انحدر بهم الی سامراء فتلقاه صاعد بن مخلد کاتب الموفق، فسلم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 107
اسحق بن کنداج، الخلیفة إلیه فأنزله دار احمد بن الخصیب و منعه من نزول دار الخلافة، و وکل به خمسمائة رجل یمنعون من الدخول إلیه، و لما بلغ الموفق ذلک، بعث الی اسحق بخلع و اموال، و اقطعه ضیاع القواد الذین کانوا مع المعتمد، و لقبه ذا السندین، و لقب صاعدا ذا الوزارتین، و اقام صاعد فی خدمة المعتمد، و لکن لیس للمعتمد حل و لا ربط، و قال المعتمد فی ذلک:
أ لیس من العجائب أنّ مثلی‌یری ما قلّ ممتنعا علیه
و تؤخذ باسمه الدنیا جمیعاو ما من ذاک شی‌ء فی یدیه
إلیه تحمل الأموال طرّاو یمنع بعض ما یجبی إلیه
و فی سنة 271 ه، تأزمت الحالة بین الطولونیین و العباسیین، و سار المعتضد علی رأس جیش لمحاربة خمارویه بن احمد بن طولون، و انتصر الطولونیون علی جیش العباسیین ، و فی نفس السنة عزل عمرو بن اللیث عن خراسان، و وقعت معارک بین الصفاریین و العباسیین، و دارت الدائرة علی جیش عمرو بن اللیث الصفار فانهزم عمرو و عساکره، و غنم العباسیون عددا کبیرا من الدواب و البقر .
و بلغت الخلافة العباسیة حدا من الضعف و الفوضی و عدم السیطرة و الضبط علی الامور، حتی لنلمس ذلک فی تصرفات القادة و الامراء، و من امثلة ذلک ان خلافا شخصیا وقع بین محمد بن ابی الساج و اسحق بن کنداج و کلاهما من ولاة الامر فی الجزیرة، و ان محمد بن ابی الساج نافر ابن کنداج فی الأعمال و اراد التقدم و امتنع علیه اسحق، فماذا کانت النتیجة؟ ارسل ابن ابی الساج الی خمارویه بن احمد بن طولون صاحب مصر و اطاعه و صار معه و خطب له بأعماله و هی قنسرین . فقامت الحرب بین المتنافرین و تدخل خمارویه بجیوشه لصالح محمد بن ابی الساج، حتی سیطر علی الجزیرة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 108
و الموصل و خطب لخمارویه فیها ثم لنفسه بعده . و هذا مما لا شک فیه من العوامل التی ادت الی اضعاف الدولة العباسیة و هبوط هیبة الخلافة. و استمرار الحروب بین المتنافسین قد سبب ارتباکا عاما فی جهاز الدولة الاقتصادی و العسکری.
و فی سنة 274 ه، عادت الحرب ثانیة بین العباسیین و الصفاریین، و فی سنة 276 ه، جعلت شرطة بغداد الی عمرو بن اللیث الصفار و کتب اسمه علی الاعلام و الترسة و غیرها .
و فی سنة 278 توفی الموفق ولی عهد الخلافة العباسیة و کان مریضا بالنقرس ، و فی ذات السنة تحرک بسواد الکوفة قوم یعرفون بالقرامطة، و اشتهر منهم حمدان و کان قد اتخذ کلواذی القریبة من بغداد مقرا له، و کان یظهر الزهد و التقشف و یسف الخوص و یأکل من کسبه و یصلی اکثر الناس و یصوم ، و یظهر انه کان أکارا بقارا ، و قد نظّم حمدان حرکة القرامطة تنظیما کان له الأثر الکبیر فی نجاح الدعوة القرمطیة و انتشارها فی انحاء مختلفة من العالم الاسلامی .
و فی سنة 279 ه، خرج المعتمد العباسی و جلس للقواد و القضاة و وجوه الناس و اعلمهم انه خلع ابنه المفوض الی اللّه جعفر من ولایة العهد، و جعل ولایة العهد للمعتضد باللّه ابی العباس احمد بن الموفق .
و یبدو ان المعتمد العباس ترک سامراء، و انه اتخذ بغداد حاضرة ملکه، و ذلک بعد ان عمّر قصره العظیم المعروف فی التاریخ بقصر المعشوق .
و فی نفس السنة توفی الخلیفة المعتمد علی اللّه فی القصر الحسنی ببغداد، و حمل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 109
الی سامرا فدفن بها .
و هکذا انتهت قصة سامراء عاصمة العباسیین، و التی عاشت حوالی الخمس و الخمسین سنة، ملک بها ثمانیة خلفاءهم المعتصم، و الواثق باللّه، و المتوکل علی اللّه، و المنتصر باللّه، و المستعین باللّه، و المعتز باللّه، و المهتدی باللّه، و المعتمد علی اللّه.
و بانتقال الخلیفة العباسی الی بغداد، انتقلت معه الدواوین و جمیع اجهزة الدولة، و بعد فترة و جیزة اصبحت سامراء من المدن الصغیرة، بعد ان کانت قد ضاهت بغداد فی سعتها و کثرة عمرانها و جمال قصورها و نضارة متنزهاتها.
ذکر القزوینی فی سامراء: انها اعظم بلاد اللّه بناء و اهلا ... و لم یکن فی الارض احسن و لا أجمل و لا أوسع ملکا منها ، و قال ابن جبیر فی رحلته: و نزلنا مع الصباح من یوم الخمیس الثامن عشر لصفر علی شط دجلة بمقربة من حصن یعرف بالمعشوق ... و علی قبالة هذا الموضع فی الشط الشرقی مدینة (سر من رأی) و هی الیوم عبرة من رأی أین معتصمها و واثقها و متوکلها، مدینة کبیرة قد استولی الخراب علیها إلّا بعض جهات منها هی الیوم معمورة، و لم یبق إلّا الأثر من محاسنها و اللّه
طرف من اطلال قصر المعشوق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 110
وارث الأرض و من علیها لا إله غیره .
و من المرجع ان بناء مدینة سامراء کان مشروعا لم تتوفر له اسباب و دعائم النجاح، و الذی أبقاها کمدینة (قضاء) الیوم هو وجود العتبات المقدسة فیها، و کونها قریبة من بغداد و ان لآثارها العباسیة اهمیة تاریخیة و اثریة تعمل علی ورود کثیر من السیّاح و الجوابین إلیها.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 111

سامرا فی الشعر

اشارة

جمعه و نسقه حسب الحروف الهجائیة نماذج مقتطفة مما جاء من ذکر سامراء فی الشعر فؤاد عباس
من خریجی الجامعة الامیرکیة ببیروت
و المفتش الاختصاصی فی وزارة التربیة العراقیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 113

أحمد بن أبی دؤاد

(سرّ من را) أسرّ من بغدادفارم بغداد عامدا ببعاد
حبذا مسرحاتها لیس تخلوابدا من طریدة و طراد
و دیار کأنما نسج الدهرعلیها محبّر الابراد
و اذکر المشرف المطلّ من‌التلّ علی الصادرین و الورّاد
و اذا روّح الرعاة فلا تنس‌تداعی فراقد الاولاد

السید أحمد الموسوی

قال مؤرخا تجدید ضریحی العسکریین (ع) بسامرّاء:
الی مهرجان أقام الهدی‌له حفلات باسمی معرّس
رأت (سرّ من را) و من أمّهاضریحا علی خیر مثوی یؤسّس
نعم هو مثوی هداة الانام‌کأن النبیّ بمغناه یرمس
به شیّد الحق تاریخه:(و جدّد نصب ضریح مقدّس)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 114

الشیخ أحمد النحوی

قال مصدّرا و الاعجاز لولده الشیخ محمد رضا و قد نظماها فی طریق أسامرّاء من قصیدة :
رحها فقد لاحت لدیک المعاهدو عمّا قلیل للدیار تشاهد
و تلک القباب الشامخات ترفّعت‌و لاحت علی بعد لدیک المشاهد
و قد لاحت الاعلام اعلام من لهم‌حدیث المعالی قد رواه (مجاهد)
حثثنا الیها العیس قد شفّها النوی‌و قد اخذت منها السری و الفدافد
نؤّم بها دار العلی (سرّ من رأی)دیار لآل اللّه فیها مراقد
دیار بها الهادی الی الرشد و ابنه‌و نجل ابنه و الکل فی الفضل واحد
و له من قصیدة عند زیارته الامامین العسکریین (ع) فی سامرّاء :
فیا ابن النبی المصطفی و سمییّه‌و من بیدیه الحلّ فی الکون و العقد
الیک حثثناها خفافا عیا بهاعلی ثقة أن سوف یوقرها الرفد
فألوت علی دار أناخ بها الندی‌و ألقی علیها فضل کلکله المجد
فعوجا فهذا السر من (سرّ من رأی)یلوح فقد تمّ الرجا و انتهی القصد
و هاتیک ما بین السراب قبابهم‌فآونة تخفی و آونة تبدو

البحتری

قال من قصیدة یمدح بها ابا سعید محمد بن یوسف الثغری و یذکر انتصاره
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 115
علی بابک :
ما زلت تقرع باب بابک بالقناو تزوره فی غارة شعواء
حتی اخذت بنصل سیفک عنوةمنه الذی اعیا علی الخلفاء
اخلیت منه (البذّ) و هی قراره‌و نصبته علما ب (سامرّاء)
و قال فی (الخضر بن أحمد) :
قالت اراک بسرّ من را ثاویافی مرتع جشب و عیش منصب
قلت اربعی فی سرّ من را سیّدکرمت ضرائبه عظیم المنصب
و قال :
کم لیلة ذات اجراس و اروقةکالیمّ یقذف امواجا بامواج فالزوّ و (الجوسق) المیمون قابله
غنج (الصبیح) الذی یدعی بصّناج بسرّ من را) سری همی و سامرنی
لهو نفی الهم عن قلبی باخراج و قال یمدح علیّ بن مرّ الطائی :
اهزّ بالشعر اقواما ذوی و سن‌فی الجهل لو ضربوا بالسیف ما شعروا
علی نحت القوافی من مقاطعهاو ما علیّ لهم ان تفهم البقر
لا رحلنّ و آمالی مطرّحة(بسر من راء) مستبطی لها القدر
*** و قال :
و أری المطایا لا قصور بهاعن لیل (سامرّاء) تدّرعه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 116
و قال :
و لما قصدنا (سرّ من را) تضاء لاو لا خضر یقری فیهما، البدو و الحضر
و قال یخاطب ابراهیم بن المدبّر :
ایّ شی‌ء الهاک عن سرّ من راای و ظلّ للعیش فیها ظلیل

بدیع الزمان الهمدانی

أما ترونی اتغشّی طمراممتطیا فی الضرّ أمرا مرّا
اقصی امانیّ طلوع الشعری‌فقد غنینا بامانی دهرا
و کان هذا الحرّ أعلی قدراو ماء هذا الوجه اغلی سعرا
فانقلب الدهر لبطن ظهراو عاد عرف العیش عندی نکرا
لم یبق من وفری الا ذکراثم الی الیوم هلّم جرّا
لو لا عجوز لی (بسرّ من را)و افرخ دون جبال (بصری)
قد جلب الدهر علیهم ضرّاقتلت یا سادة نفسی صبرا

أبو تمّام

قال من قصیدة طویلة یمدح بها المعتصم و یذکر اخذ بابک الخرّمی :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 117 لما قضی رمضان فیه قضاءه‌شالت به الأیام فی شوّال
ما زال مغلول العزیمة سادراحتی غدا فی القید و الأغلال
متلّبسا للموت طوقا من دم‌لما استبان فظاظة الخلخال
لاقی الحمام (بسرّ من راء) التی‌شهدت لمصرعه بصدق الفال
قطعت به اسبابه لما رمی‌بالطرف بین الفیل و الفیّال
*** و قال من قصیدة یمدح ابا سعید و قد غاب عنه :
سأوطی‌ء اهل (العسکر ) الآن عسکرامن الذلّ محّاء لتلک المعالم
فانی و ما حورفت فی طلب الغنی‌و لکنکم حورفتم فی المکارم
*** و قال فی اصدقاء له ثلاثة :
لی فی نصیبین شجو یستهلّ له‌دمعی و شجو (بسامرّا) و أرّان
ثلاثة سلبتنیهم حتوفهم‌بعد ائتلاف و خلّتنی و احزانی
لقد خبت منهم بعد استنارتهافی الافق أنجم إنعام و إحسان
*** و قال یذم بغداد و یمدح سرّ من رأی :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 118 لقد اقام علی بغداد ناعیهافلیبکها لخراب الدهر باکیها
کانت علی ما بها و الحرب موقدةو النار تطفی‌ء حسنا فی نواحیها
ترجی لها عودة فی الدهر صالحةفالآن اضمر منها الیأس راجیها
مثل العجوز التی ولّت شبیبتهاو بان منها جمال کان یحظیها
لزّت بها ضرّة و هزاء واضحةکالشمس احسن منها عند رائیها

جابر الکاظمیّ

قال من قصیدة بمناسبة تعمیر مشهد العسکریین (ع) فی سامرّاء الذی تمّ سنة 1285 ه :
شمس قدس أبی سناها الغیاباقد انارت من العراق الرحابا
سامرت (سامرّاء) منها ذکاءنورها اذهب الظلام ذهابا
تأخذ الشمس أهبة من ضیاهاثم تهدی الی النهار إهابا
و قال یمدح السیّد مرزا محمد حسن الشیرازی و یهنّیه بیوم الغدیر :
ان یوم الغدیر یوم منیرملأ الارض و السما منه نور
قد صفا الدهر و ازدهی بصفاه‌إذ أعاد الصفا الیه الغدیر
أیّ سبط سرّت به (سرّ من را)إذ لها بالهداة دام السرور
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 119

السید جعفر کمال الدین

قال فی دار السید حسن الصدر فی سامرّاء :
لقد بقیت بسامرّاء منفردامثل انفراد سهیل کوکب الیمن
و الدهر لما رمانی فی فوادحه‌آلیت لا اشتکی إلّا الی (الحسن)

الجواهری

من قصیدة عنوانها: الطبیعة الضاحکة فی سامرّاء :
حییت سامرّا تحیة معجب‌برواء متسع الفناء ظلیله
بلد تساوی الحسن فیه فلیله‌کنهاره و ضحاؤه کأصیله
ساجی الریاح کأنما حلف الصباألّا یمرّ علیه غیر علیله
طلق الضواحی کاد یربی مقفرمنه بنزهته علی مأهوله
و کفاک من بلد جمالا أنه‌حدب علی انعاش قلب نزیله
عجبی بزهو صخوره و جباله‌عجبی بمنحدراته و سهوله
بالشاطی‌ء الأدنی و بسطة رمله‌بالشاطی‌ء الأعلی و برد مقیله
بجماله و البدر یملؤه سنابجلاله رهن الدجی و سدوله
بالنهر فیاض الجوانب یزدهی‌بالمطربین: خریره و صلیله
ذی جانبین: فجانب متطامن‌یقسو النسیم علیه فی تقبیله
بازاء آخر جائش متلاطم‌یرغو اذا ما انصبّ نحو مسیله
فصلتهما الجزر اللطاف نواتئاکلّ تحفز ماثلا لعدیله
و جرت علی الماء القوارب عورضت‌بالجری فهی کراسف بکبوله
فاذا التوت لمسیله فکأنهاتبغی الوصول الیه قبل وصوله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 120 و اذا نظرت رأیت ثمّة قارباتمتازه بالضوء من قندیله
أو صوت مجذاف یبین بوقعه‌فوق الحصی عن شجوه و عویله
***
ساد السکون علی العوالم کلّهاو تجلبب الوادی رداء خموله
و تنبهت بین الصخور حمامةتصغی لصوت مطارح بهدیله
و اشاع شجوا فی الضفاف ورقةإیقاظ نوتیّ بها لزمیله
و لقد رأیت فویق دجلة منظراالشعر لا یقوی علی تحلیله
شفقا علی الماء استفاض شعاعه‌ذهبا علی شطآنه و حقوله
حتی اذا حکم المغیب بداله‌شفق یحوط البدر حین مثوله
فتخالف الشفقان: هذا فائرصعدا، و هذا ذائب بنزوله
ثم استوی فضی نور عابث‌بالمائجتین: میاهه و رموله
فاذا الشواطی‌ء و المساحب و الربی‌و الشط و الوادی و کل فضوله
قمراء راقصة الأشعّة جلّلت‌بخفّی سرّ رائع مجهوله
و الجوّ افرط فی الصفاء فلو جری‌نفس علیه لبان فی مصقوله
هذی الحیاة لمثلها یحنو الفتی‌حرصا و اشفاقا علی مأموله
***
و اذا اسفت لمؤسف فلأنه‌خصب الثری یشجیک فرط محوله
قد کان فی خفض النعیم فبالغت‌کف اللیالی السود فی تحویله
بدت القصور الغامرات حزینةمن کل منهوب الفناء ذلیله
کالجیش مهزوم الکتائب فلّه‌ظفر، ورقّ عدّوه لفلوله
(العاشق) المهجور قوض رکنه‌کالعاشق الآسی لفقد خلیله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 121 و الجعفریّ و لم یقصّر رسمه‌الباقی- برغم الدهر- عن تمثیله
بادی الشحوب تکاد تقرأ لوعةلنعیمه المسلوب فوق طلوله
و کأنما هو لم یجد عن (جعفر) بدلا یسرّ به و لا عن جیله
فضّت مجالسه به و خلون من‌شعر (الولید) بها و من ترتیله
***
و لقد شجتنی عبرة رقراقةحیرانة فی العین عند دخوله
انی سألت الدهر عن تخطیطه‌عن سطحه عن عرضه عن طوله
فأجابنی: هذی الخریبة صدره‌و البلقع الخالی مجرّ ذیوله
و سل الریاح السافیات فانهاادری بکل فروعه و اصوله
و تعلّمن ان الزمان اذا انتحی‌شهب السما کانت مداس خیوله
مدّت بنو العباس کفّ مطاول‌فمشی الزمان لهم بکفّ مغوله
و اجتاح صادق ملکهم لما طغوابدعیّ ملک کاذب منحوله
و کذا السیاسة فی التقاضی عنده‌تسلیم فاضله الی مفضوله
خلّدت سامرّاء لم اوصلک من‌فضل حشدت علیّ غیر قلیله
یا فرحة القلب الذی لم تترکی‌اثرا للاعج همه و دخیله
و افاک ملتهب الغلیل و راح عن‌مغناک یحمد منک برد غلیله
أنعشیّه و نفیت عنه هواجساضایقنه و أثرن من تخییله
و صدقته أملا رآک لمثله‌أهلا، فکنت، و زدت فی تأمیله
هذا الجمیل الغض سوف یردّه‌شعری الیک مضاعفا بجمیله
و له من قصیدة عنوانها: سامرّاء او ساعة مع البحتریّ :
أسدی الیّ بک الزمان صنیعافحمدت صیفا طیبا و ربیعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 122 أجللت منظرک البدیع و منظراجللته لم لا یکون بدیعا!!؟
درج الزمان بها سریعا بعدماناشدته الّا یمرّ سریعا
قرّت بمرآها العیون و قرحةللعین الّا تبصر المسموعا
و نعمت اسبوعا بها و سعیدةسنة نعمت خلالها اسبوعا
الفیت حسن الشاطئین مرقرقاغضّا و خصب الشاطئین مریعا
واضعت احلامی و شرخ شبیبتی‌و طلاقتی فوجدتهنّ جمیعا
صبح اغرّ و لیلة جذلانةبیضاء تهزأ بالصباح سطوعا
و البدر بالأنوار یملأ دجلةزهوا و یبعث فی النفوس خشوعا
و تری ارتیاحا فی الضفاف و هزةتعلو الرمال اذا أجدّ طلوعا
و جرت علی الحصباء دجلة فضّةصهرت هناک فموّعت تمویعا
و کأنما سبکوا قواریرا، بهامضّی السنا، فتصدّعت تصدیعا
و تری الصخور علی الجبال کأنمالبست بهنّ من الهجیر دروعا
***
دور الخلائف عافها سمّارهاو تقطعت اسبابها تقطیعا
درجت بساحتها الحوادث و انبری‌خطب الزمان لها فکان فظیعا
حتی شواطی‌ء دجلة منسابةتأبی تشاهد منظرا مفجوعا
أبّنتها مرئیّة و لطالماغازلت منها حسنها المسموعا
و لقد تذمّ جلادة فی موقف‌للنفس أجمل ان تکون جزوعا
قصر الخلیفة جعفر کیف اغتدی‌بید الحوادث، فظّة، مصفوعا!
و کم استقرّ علی احتقار طبیعةلم تأله التحطیم و التصدیعا!!
و لقد بکیت و ما البکاء بمرجع‌ملکا بشهوة مالکیه بیعا
زر ساحة السجن الفظیع تجد به‌ما یستثیر اللوم و التقریعا
ان الذین علی حساب سواهم‌حلبوا ملذّات الحیاة ضروعا
رفعوا القصور علی کواهل شعبهم‌و تجاهلوا حقّا له مشروعا
حتی اذا ما الشعب حرّک باعه‌فاذا هم ادنی و أقصر بوعا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 123

الحسین بن الضحاک

قال مفضلا سامرّاء علی بغداد:
علی سرّ من را و المصیف تحیةمجلّلة من مغرم بهواهما
الأهل لمشتاق ببغداد رجعةتقرّب من ظلّیهما و ذراهما؟؟
محلّان لقّی اللّه خیر عباده‌عزیمة رشد فیهما فاصطفاهما
و قولا لبغداد اذا ما تنسّمت‌علی أهل بغداد جعلت فداهما
أفی بعض یوم شفّ عینیّ بالقذاحرورک حتی رابنی ناظراهما!!

حیدر الحلی

أدم ذکرها یا لسان الزمان‌و فی نشرها فمک العاطر
و هنّ بها (سرّ من را) و من‌به ربعها آهل عامر
و قل یا تقدّست من بقعةبها یغفر الزلة الغافر
کلا اسمیک فی الناس باد له‌باوجههم أثر ظاهر
فأنت لبعضهم (ساء من‌رأی) و به یوصف الخاسر
و أنت لبعضهم (سرّ من‌رأی) و هو نعت لهم زاهر
و قال من قصیدة فی مدح النبی و العسکریّین (ع) و العلّامة محمد حسن الشیرازی :
زان (سامرّا) و کانت عاطلاتتشکّی من محلّیها الجفاء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 124 و غدت افناؤها آنسةو هی کانت اوحش الارض فضاء
حیّ فیها (المرقد الاسنی) و قل‌زادک اللّه بهاء و سناء
ثم ناد (القبّة) العلیا و قل‌طاولی یا قبة (الهادی) السماء
بمعالی (العسکریین) اشمخی‌و علی افلاکها زیدی علاء
و بنا عرّج علی تلک التی‌اودعتنا عندها (الغیبة) داء

خالد الکاتب

کانت اول شی‌ء قیل فی بناء سرّ من رأی :
عزم السرور علی المقام بسرّ من را للامام
بلد المسرّة و الفتوح المستنیرات العظام
و تراه اشبه منزل‌فی الارض بالبلد الحرام
فاللّه یعمره بمن‌اضحی به عزّ الأنام
و قال فیها أیضا :
بیّن صفو الزمان عن کدره‌فی ضحکات الربیع عن زهره
یا سرّ من را بورکت من بلدبورک فی نبته و فی شجره
غرس جدود الأنام نکبتها(بابک) و (المازیار) من ثمره
فالفتح و النصر ینزلان به‌و الخصب فی تربه و فی شجره
و قال فیها أیضا :
اسقنی فی جرائر و زقاق‌لتلاقی السرور یوم التلاقی
من سلاف کأن فی الکأس منه‌عبرات من مقلتی مشتاق
فی ریاض بسرّ من را الی الکرخ و دعنی من سائر الآفاق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 125 یاد کارات کل فتح عظیم‌لامام الهدی أبی اسحاق

دعبل بن علی الخزاعی

قال یهجو عمیرا الکاتب :
خرجت مبکرا من (سرّ من را)ابادر حاجة فاذا (عمیر)
فلم أثن العنان و قلت أمضی‌فوجهک یا عمیر ... و خیر
و قال فی انشاء سرّ من رأی :
(بغداد) دار الملوک کانت‌حتی دهاها الذی دهاها
ما غاب عنها سرور ملک‌عاد الی بلدة سواها
ما (سرّ من را) بسرّ من رابل هی بؤسی لمن یراها
عجّل ربیّ لها خرابابرغم أنف الذی ابتناها

سکن

جاریة محمود الورّاق قالت فی المعتصم العبّاسی :
ان الامام اذا ارفا الی بلدأرفا الیه بعمران و ایناس
فاصبحت (سرّ من را) دار مملکةمختطّة بین انهار و أغراس
یا غارس الآس و الورد الجنیّ بهاغرس الامام خلاف الورد و الآس
غراسه کل عات لا خلاق له‌عبل الذراع شدید البأس قنعاس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 126 کبابک و أخیه اذ سما لهمابباتر للشوی و الجید خلّاس
فذاک بالجسر نصب للعیون و ذا(بسرّ من را) علی سامی الذرا راسی

شاعر

یهجو ابا الفرج محمد بن علی السامرّی (نسبة الی سامرّاء) احد وزراء الخلیفة العباسی المستکفی باللّه :
الآن إن کفر المقتّر رزقه‌قالوا کفرت فخف عقاب النار
أ أکون رجلی مرکبی و جنیبتی‌خفّی علی ذلیّ بذاک و عار
و (السرّ من رائیّ) فی اصطبله‌مئتا عتیق فاره مختار
کلب حمار بالخیول، و کاتب‌فطن یضیق به کراء حمار!؟
انا قد دهشت فعرفونی أنتم:هذا من الانصاف فی الاقدار؟؟

الشیخ عبد الحسین الحویزی

قال مادحا الامام علی الهادی (ع) :
بک ارض (سامرّاء) اشرق نورهافمحت دجاها بالسنا المتوقد
و علت بهیکلک الشریعة مسنداو السمک یعلو بارتفاع الاعمد
و نزلت کالبیت العتیق مکانةزیّنتها فی نائل متجدّد
و قال من قصیدة مادحا الامام الحسن العسکری (ع) :
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 127 شخصت لرفعتک النجوم طوالعااکبرن شخصک بالعیون الحسّد
و خطرت عن عمرو العلا بارومةنشرت علی الخضرا ذوائب سؤدد
اصبحت ملتزما (مقام حظیرة)قدسیّة عظمی و (قبلة مسجد)
باب لدار علاک اضحت (حطّة)مسحت بها جبهات قوم سجّد

عبید اللّه بن أبی طاهر

اقول لمّا هاج قلبی ذکری‌و اعترضت وسط السماء الشعری
کأنها یاقوتة فی مدری‌ما أطول اللیل بسرّ من را

الوزیر الکاتب (أبو محمد بن سفیان)

کتب الی ابی امیّة ابراهیم بن عصام یعرّض باحد الملوک :
امرر بقاضی القضاة ان له‌حقّا علی کل مسلم یجب
و قل له ان ما سمعت به‌عن (سرّ من راء) کلّه کذب
قد غرّنی مثل ما غررت به‌فجئته یستحثّنی الطرب
حتی اذا ما انتهیت صرت الی‌سراب قفر من دونه حجب
و ملّة للسماح ناسخةلها نبیّ إلهه الذهب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 128

السید محمد علی آل خیر الدین

من قصیدته. الحنین الی سامرّاء :
عج للمحصّب من مشارق دجلةحیث الفضا و الماء و الخضراء
فهناک مربع جیرتی و هناک مفزع حیرتی و هناک (سامرّاء)
فاحبس بحیث العز یسحب ذیله‌تیها و ینشر للفخار لواء
و اخضع بحیث المجد القی رحله‌و اخشع بحیث أظلّت العلیاء
و اجنح الی الحرم المنیع فلودنی‌ملک زوته هیبة و بهاء
تبصر تجلی نور ربک فی ثری‌رقدت به ساداتنا النجباء

ابن المعتز

قال فی سرّ من رأی :
مقفرة الربع لجّ هاجرهاعامرها موحش و غامرها
ینتحب البوم فی منازلهاکأن اوطانها مقابرها
و قال :
بأبی یا سرّ من رالا اراک اللّه شرّا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 129 ما اری من یتقرّی‌و الذی لا یتقرّا
منهم إلا الأبرّاما جد الاخلاق حرا
و قال :
یا سرّ من را لعنت من بلدیخیب فیک الادلاج و البکر
کأنما اللیل حین یسکنهایقدح فیه من بقّها شرر
و قال فی خراب سامرّاء :
قد اقفرت (سرّ من را)و ما لشی‌ء دوام
فالنقض یحمل منهاکأنه الآجام
ماتت کما مات فیل‌تسلّ منه العظام

المنتصر العباسی

کتب الی المتوکل و هو بالشام :
الی اللّه اشکو عبرة تتحیرو لو قد حدا الحادی لظلّت تحّدر
فیا حسرتا أن کنت فی (سرّ من رأی)مقیما و بالشام الخلیفة جعفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 130

السید موسی الطالقانی

و علی (سرّ من رأی) فاحبس الرکب و نح فی عراص ربع محیل
و اسعد الیوم فی المناح علی خیرالبرایا بزفرة و عویل
کم شهید ثوی بها و شریدغاب فیها و کان مأوی الدخیل
فمتی ینجلی النوی عن محیّافیه یشفی قلبی و یطفی غلیلی؟
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 131

سامراء فی المراجع العربیة

اشارة

کتبه الدکتور حسین علی محفوظ
دکتوراه الدولة من جامعة طهران و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و الاستاذ بکلیة الآداب فی جامعة بغداد الیوم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 133

سامراء فی التواریخ

الجامع المختصر سنة 602 ه

و فیها قتل الأمیر سنجر بن مقلد بن سلیمان بن مهارش أمیر عبادة بأرض المعشوق . قتله اخوه علی. و ذلک، فی شعبان .

الحوادث الجامعة سنة 640 ه

و فیها؛ وقع حریق فی مشهد سر من رأی، فأتی علی ضریحی علی الهادی و الحسن العسکری- علیهما السّلام- فتقدم الخلیفة المستنصر باللّه بعمارة المشهد المقدس، و الضریحین الشریفین، و اعادتهما الی أجمل حالاتهما.
و کان الضریحان مما أمر بعملهما ارسلان البساسیری ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 134
سنة 643 ه
و فیها؛ تقدم الخلیفة بارسال طیور من الحمام، إل اربع جهات، لتصنف أربعة اصناف، منها: مشهد حذیفة بن الیمان بالمدائن، و مشهد العسکری بسر من رأی، و مشهد غنی بالکوفة، و القادسیة.
و نفذمع کل عدة من الطیور- عدلان و وکیل. و کتب بذلک سجل، شهد فیه العدول علی القاضی بثبوته عنده. و سمیت هذه الاصناف بالیمانیات، و العسکریات، و الغنویات، و القادسیات.
و نظم النقیب الطاهر، قطب الدین الحسین بن الاقساسی فی ذلک ابیاتا و عرضها علی الخلیفة، أولها:
خلیفة اللّه یا من سیف عزمته‌موکل بصروف الدهر یصرفها
و یقول فیها:
ان الحمام التی صنفتها شرفت‌علی الحمام التی من قبل نعرفها
و القادسیات أطیار مقدسةإذ أنت یا مالک الدنیا مصنفها
و بعدها غنویات تنال بهاغنی الحیاة و ما یهوی مؤلفها
و العسکریات أطیار مشرفةو لیس غیرک فی الدنیا یشرفها
ثم الحمام الیمانیات ما جعلت‌الا سیوفا علی الأعداء ترهفها
لا زلت مستعصما باللّه فی نعم‌یهدی لمجدک أسناها و ألطفها
سنة 653 ه
و فیها؛ حملت القصعة الحجر، المعروفة ب «قصعة فرعون» من سر من رأی إلی بغداد فی کلک.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 135
و رفعت تحت دار الخلیفة. و کانت عظیمة جدا، فلم تزل إلی سنة سبع و خمسین و ستمائة، ثم کسرت .

دوحة الوزراء سنة 1210 ه

انتهز الوزیر فرصة حلول موسم الزیارات، و اعتدال الهواء، و قرر السفر نحو سامراء. و تحرک من بغداد فی الیوم الحادی و العشرین من شهر شوال، و ظل یتنقل فی تلک المناطق للاصطیاف، و تمضیة الوقت، ثم عاد إلی بغداد .

تاریخ العراق بین احتلالین سنة 961 ه

جاء إلی سامراء (سیدی علی رئیس .. الذی أودع إلیه السلطان قبطانیة مصر) وزار فیها علیا الهادی، و الامام حسنا العسکری .
سنة 1117 ه
فی أواسط هذه السنة؛ توجه الوزیر (حسن باشا الجدید) لزیارة الامامین علی الهادی، و حسن العسکری فی سامراء. فأنعم علی الفقراء و الخدام، ثم ذهب یتصید فی تلک الفلوات .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 136
سنة 1132 ه
فی اواخر السنة الماضیة؛ وقع الطاعون و کثرت الاصابات. و یعد بالألف أو أزید یومیا. و هرب أغلب الأهلین، و خرج الوزیر بعساکره إلی أنحاء سامراء. و استمر (الطاعون) إلی أوائل هذه السنة ...
سنة 1210 ه
فی 1 شوال، خرج (الوزیر سلیمان باشا) من بغداد متوجها نحو سامراء للزیارة. و منها، مضی إلی عشیرة بنی عز. قضی بضعة أیام فی الصید ...
سنة 1271 ه
أمر (الوزیر؛ الوالی محمد رشید باشا الکورنکی) بکری نهر الدجیل فی (بلد) التابعة لقضاء سامراء .
سنة 1286 ه
قضاء سامراء ... (من اقضیة لواء بغداد) فی ایام مدحت باشا .
سنة 1287 ه
زار (ناصر الدین شاه) العتبات فی النجف، و کربلاء، و سامراء .
سنة 1296 ه
هاجم الهماوند سامراء، و لم تنقطع غوائلهم . موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌12 ؛ ص136
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 137
سنة 1335 ه
فی 5 جمادی الأول، سنة 1335 ه، و 27 شباط سنة 1917 م ...
تبین ان العدوّ یبلغ جیشه مائتی الف، و لیس لنا أکثر من خمسة آلاف محارب، فأمرت الدولة بنقل ما عندها من سجلات، و نقود، و مهمات أخری إلی سامراء فی القطار ...
* بعد واقعة بغداد تبعثر الجیش العثمانی و انحل انحلالا کبیرا ... توزعت جیوشه إلی جبهات عدیدة ..
فی 29 آذار سنة 1917 ... انسحبت قوة العثمانیین إلی نهر العظیم ..
و من ثم اتصل (القول اردو 13) بجیش سامراء. و حدثت واقعة العظیم فی 18 نیسان سنة 1917 م، و عادت المفرزة من العظیم إلی سامراء ..
و فی جبهة سامراء نفسها کان قد رجع الجیش إلی اصطبلات .. و فی 21 نیسان سنة 1917 م تعرض الانکلیز له بقوی کبیرة فضایقه، و اضطره ان ینسحب و لم یثبت علی القصف الشدید من العدو.
ترک سامراء و محطة القطار. و هذه الواقعة تعرف ب (واقعة السکّر) لأن لدی الجیش العثمانی فی المحطة مقدارا کبیرا من السکّر. ثم حدثت واقعة رویضات ... و الغریب ان الانکلیز بعد أن ربحوا المعرکة رجعوا إلی سامراء لما أصابهم من ضایعات کبیرة. فعادت خیالة الجیش العثمانی، فأشغلت تکریت .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 138

الحقائق الناصعة فی الثورة العراقیة سنة 1920 و نتائجها

فکر المخلصون بالقاء زمام القضیة من ناحیتها الدینیة إلی أحد کبار العلماء المجتهدین .. و هو آیة اللّه المرحوم المیرزا محمد تقی الشیرازی. و قد کان ..
یومذاک یسکن مدینة سامراء ..
* و عند ما صمدت عشائر العزة فی وجه الجیش البریطانی المحتل (فی لواء دیالی)، أوعز حاکم سامراء «المیجر بری» الی عشائر العبید بأن یذهبوا فیحرقوا بیوت عشائر العزة و قراهم، و ینهبوا أموالهم (و کانت بین العزة و عشائر العبید خصومة قدیمة) .
* وصلت الحرکة إلی قضاء سامراء، فاشترک فعلیا أفراد عشیرة الجبور برآسة المرحوم عبد الحمید السلامة، و المجمع برآسة محمد المهدی، و البوأسود برآسة حسین المطر، و البو فراج من العزة برآسة علوان المحمد، و بنو تمیم برآسة حاتم الهذال، و العزة برآسة لفته الهیلان، و بعض العشائر الأخری فهجموا علی مرکز قضاء سامراء، و حاصروا «المیجر بری» الحاکم السیاسی و «فورنو» ضابط البولیس، و طلبوا منهما أن یسلما. إلّا انهما اعتصما فی المدینة داخل السور، و ساعدهما سکان قصبة سامراء بحجة انهما دخلاء علیهم (ای فی حمایتهم) کما أن بعض العشائر هناک قد قامت بمساعدة الانکلیز، و اصطدمت بالثوار فحال ذلک دون تحریر سامراء، و الفتک بالحامیة الانکلیزیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 139

و شایح السراء فی شأن سامراء

لفظة سامراء، معناها طریق سام. و کان سام بن نوح- علی ما یزعمون- إن أتی جوخی، فی فصل الشتاء- مر علیها ... او ان لفظ سا؛ اتاوة الملک، و لفظ مرا؛ عدد، و کان کسری یأخذ الخراج فی ذلک الموضع. و صحفت- علی کلا القولین- بالهمز و التشدید فی حرفین.
ثم أتی نحوها المعتصم اذ اشتکت بغداد من جنده. فارتاد سامراء للاجناد، و اختارها. ثم بنی ما شاء من دساکر، فسرّ من رأی من العساکر. فسمیت سرّ، و سرّ من رأی، و سامرا، و سر من راء، و سری. و سمیت عسکر، و معناها مجتمع الجنود، و سمیت ساء من رأی بعدما انهدم البناء بها.
عمرت سنة 221 ه، و هدمت سنة 279.
طولها (ماید)، أی: 45 درجة و 14 دقیقة، و عرضها (لدیه)، أی؛ 14 درجة و 15 دقیقة. جوها طلق، و تربها نقی، و ماؤها جار، حلّ بها المعتصم، و الواثق، و المتوکل، و المنتصر، و المستعین، و المعتز، و المهتدی، و المعتمد، و المعتضد، و هو الذی اقام فی بغداد، من ضغط الأتراک. فظعن المقیمون فیها، و ترکوا تلک القصور و الریاض، و خربت تلک المبانی اجمع .
* هذا، و لما صفا الهواء للمتوکل و استوی علی عرش الملک فی سامراء اصغی إلی و شایة الأعادی، و استقدم الامام «علی الهادی»، فجاء هو و ابنه الحسن، و ظل یعفی تارة، و یسجن تارة. حتی سّمه المعتز سنة 254 و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 140
المهدی بن الحسن ولد فی تلک السنة. ثم قضی الامام الحسن سنة 260 ه، سمّه المعتمد ،.
* ثم شید ناصر الدولة الحمدانی الدار و الجدث، و کلل الضریح بالستور، و حاط سر من رأی بسور، سنة 333 ه .
* ثم شاده معز الدولة البویهی، فأسس الدعائم، و عمر القبة و السرداب، و رتب القوام و الحجاب، و رفع الضریح بالأخشاب، و ملأ الحوض بالتراب، اذ صار کالبئر إذ کان الناس یأخذون التراب منه للبرکة. و ذلک لأن العسکری کان یتوضأ به أحیانا.
و جدد الصحن و سوره، و طرز البناء، و أکمل عمارة الحمدانی، سنة 337 ه .
* ثم سیج عضد الدولة البویهی الروضة بالساج، و ستر الضریح بالدیباج، و عمر الاروقة، و وسع الصحن، و شید السور، و ذلک فی سنة 368 .
* ثم ترک الأمیر ارسلان بغداد، و حل تکریت، و عمر القبة، و الضریح و عمل الصندوق من الساج، و جعل الرمان فیه من ذهب، و ذلک فی سنة 445 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 141
ثم جدد برکیاروق السلجوقی الأبواب، و سیج الروضة، و رمم القبة و الرواق و الصحن و الدار، علی ید الوزیر مجد الدولة، فی سنة 495 ه .
* ثم عمر الناصر العباسی القبة و المآذن، و زین الروضة، و عقد السرداب، و منع ان یأخذ احد ترابا من الحوض، و کتب اسماء الأئمة الاثنی عشر علی نطاق العقد، علی ید الشریف معد بن محمد بن معد، سنة 606 ه .
* ثم ابدل المستنصر الصندوق- بعد الحریق- و جعله من الساج و عمر الروضة، و السیاج؛ علی ید السید جمال الدین احمد بن طاووس، سنة 640 ه .
* ثم زین ابو أویس حسن الجلائری الضریح، و شید القبة، و عمل البهو، و شاد الدار، و نقل المقابر التی فی الصحن إلی الصحراء، و ذلک فی سنة 750 ه .
* ثم زین الشاه حسین الصفوی الروضة بالساج، و دعم البناء، و عمل الشباک من الفولاذ، و رخم الأرض و الدور، سنة 1106 ه .
* ثم عمر احمد الدنبلی البرمکی الروضة و السرداب، و بدّل بابه، و اخشابه بالحجر الصوان و الرخام، و کان وکیله المیرزا السلماسی. و توفی الخان الدنبلی و لما یکمل البناء، و بقی السلماسی ینفق علیه، و ذلک سنة 1200 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 142
ثم واصل البناء ابنه حسین، و أکمل البهو و الأبواب، و زین جامع السرداب، و کتب الآیات علی الارکان، و زین القبة بالکاشانی، و حفر قبرا له مع أبیه فی الرواق، و ذلک علی ید المیرزا السلماسی ایضا، سنة 1225 ه .
* ثم جدد ناصر الدین شاه القاجاری الشباک، و ذهب القبة، و عمر الضریح، و الرواق، و القبة، و الصحن، و المآذن، و الدار. و رخم الروضة، و الرواق، و البهو، و الصحن. و شرع الأبواب، و رمم السور- الذی بناه الدنبلی من قبل- و ذلک علی ید شیخ العراقین، الشیخ عبد الحسین الرازی، سنة 1285 ه .
* و وسعت فی زمان الملک فیصل الأول الطرق بین الدور و ذلک سنة 1341 ه .
* و هکذا فی زمان الملک غازی الأول سنة 1352 ، و فیصل الثانی سنة 1359 ه.
* و نورت الروضة بالکهرباء سنة 1349 ه و عملت اسالة الماء سنة 1343 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 143

کبار الحوادث:

سنة 260 ه، سجن سراری الامام الحسن.
سنة 279 ه، عاد المعتضد إلی بغداد بعد الفتنة.
سنة 445 ه، حرب البساسیری و السلجوقیین.
سنة 640 ه، احتراق المشهد بسبب الشمع.
سنة 1106 ه، احتراق المشهد أیضا.
سنة 1311 ه، الفتنة بین الأهالی.
سنة 1356 ه، سرقة لوحتین من الذهب، و قطع من الفضة .

مقابر المشاهیر:

السیدة حلیمة بنت الامام الجواد، عمة الامام علی الهادی، سنة 274 ه.
السیدة نرجس زوج الامام الحسن العسکری، ام المهدی، سنة 260 ه.
ابو هاشم، داود، من ذریة عبد اللّه بن جعفر، سنة 261 ه.
احمد الدنبلی الخوئی، سلطان خوی، سنة 1200 ه.
ابنه؛ الحسین بن احمد الدنبلی الخوئی، سنة 1207 ه.
محمود الطهرانی، سنة 1304 ه. عبد الحمید اللاری، سنة 1306 ه.
مهدی الشیرازی، 1308 ه. اسد اللّه الطبیب الشیرازی؛ اخو المیرزا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 144
محمد حسن الشیرازی، سنة 1311 ه. ابراهیم النوری، سنة 1320 ه.
محسن الزنجانی، سنة 1321 ه. رضا بن هادی الهمذانی، سنة 1320 ه.
شریف الحسینی التویسرکانی، سنة 1322 ه. حسین بن رضا علی المقری، الطبیب الهندی، سنة 1334 ه. حسین بن محمد رضا بن علی الحسینی، الأصفهانی، سنة 1334 ه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 145

مآثر الکبراء فی تاریخ سامراء سنة 1318 ه المسألة الدخانیة

و مما وقع فی عصر (المیرزا محمد حسن الشیرازی، نزیل سامراء، المجدّد المصلح الامام) المسألة الدخانیة. و کان ممن عارض السلطان ناصر الدین شاه، و شدد النکیر علیه فی اعطائه امتیاز التنباک لانکلترا هو السید جمال الدین الأفغانی فأخرجه ناصر الدین شاه من ایران فلما وصل الی البصرة فی سنة 1308 کتب الی سیدنا الامام الکبیر الشیرازی قدس سره کتابا بلیغا یستفزه فی ذلک و یستصرخه و یستنجد به بأنواع العبارات المهیجة و المؤثرة فی النفوس و قد شاع هذا الکتاب فی وقته و وصلت نسخته الی النجف، قال العلامة السید محسن العاملی کنت فی النجف و قرأناه و قرأه الناس و قد نشرت صورة الکتاب فی بعض اعداد العرفان الصیداویة و لکن الامام الشیرازی لم یظهر منه شی‌ء فی هذا الباب من اجل هذا الکتاب و هذه صورته:
ج 1- سامراء (10)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 146

کتاب السید جمال الدین الأفغانی لسیدنا الإمام الکبیر الشیرازی رحمه اللّه

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم حقا اقول ان هذا الکتاب خطاب الی روح الشریعة المحمدیة اینما وجدت و حیثما حلت و ضراعة تعرضها الامة علی نفوس زکیة تحققت شؤونها کیفما نشأت و فی ای قطر نبغت الا و هم العلماء فأحببت عرضه علی الکل و ان کان عنوانه خاصا.
حبر الامة، و بارقة انوار الأئمة، دعامة عرش الدین، و اللسان الناطق عن الشرع المبین، الحاج میرزا محمد حسن الشیرازی صان اللّه به حوزة الاسلام، ورد به کید الزنادقة اللئام، لقد خصک اللّه بالنیابة العظمی عن الحجة الکبری، و اختارک من العصابة الحقة و جعل بیدک ازمة سیاسة الامة بالشریعة الغراء و حراسة حقوقها بها، و صیانة قلوبها عن الزیغ و الارتیاب فیها، و احال الیک من بین الانام و انت وارث الانبیاء مهام امور تسعد بها الملة فی دارها الدنیا و تحظی بها فی العقبی و وضع لک اریکة الریاسة العامة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 147
علی الافئدة و النهی، اقامة لدعامة العدل، و انارة لمحجة الهدی، و کتب علیک بما أولاک به من السیادة علی خلقه حفظ الحوزة و الذود عنها و الشهادة دونها علی سنن من مضی، و ان الامة قاصیها و دانیها، و حاضرها و بادیها، و وضیعها و عالیها، قد اذعنت لک بهذه الریاسة السامیة الربانیة جاثیة علی الرکب، خارّة علی الاذقان، تطمح نفوسها الیک فی کل حادثة تعروها و تطل بصائرها الیک فی کل مصیبة تمسها، و هی تری ان خیرها و سعدها منک، و ان فوزها و نجاتها بک، و ان امنها و امانیها فیک، فاذا لمح منک غض نظر، او نأیت بجانبک لحظة، و اهملتها و شأنها لمحة، ارتجفت افئدتها، و انتکثت عقائدها و زاغت ابصارها، و انهدت دعائم ایمانها، نعم لا برهان للعامة فیما دانوا إلا استقامة الخاصة فیما امروا، فان وهن هؤلاء فی فریضة او قعد بهم الضعف عن اماطة منکر اعتور أولئک الظنون و الاوهام، و نکص علی عقبه مارقا عن الدین القویم، حائدا عن الصراط المستقیم، و بعد هذا و ذاک و ذلک اقول ان الامة الایرانیة بما دهمها من عراقیل الحوادث التی آذنت باستیلاء الضلال علی بیت الدین و تطاول الاجانب علی حقوق المسلمین، و وجوم الحجة الحق (ایاک اعنی) عن القیام بناصرها و هو حامل الامانة، و المسؤول یوم القیامة، قد طارت نفوسها شعاعا، و طاشت عقولها، و تاهت افکارها، و وقفت موقف الحیرة، و هی بین انکار و اذعان، و جحود و ایقان لا تهدی سبیلا و هامت فی بیداء الهواجس فی عتمة الوساوس ضالة عن رشدها لا تجد الیه دلیلا و اخذ القنوط بمجامع قلوبها و سد دونها ابواب رجائها و کادت تختار یأسا منها الضلالة علی الهدی و تعرض عن محجة الحق و تتبع الهوی و ان احاد الامة لا یزالون یتساءلون شاخصة ابصارهم عن اسباب قضت علی حجة الاسلام (ایاک اعنی) بالسبات و السکوت و حتم علیه ان یطوی الکشح عن اقامة الدین علی اساطینه و اضطره الی ترک الشریعة و اهلها الی ایدی زنادقة یلعبون بها کیفما یریدون و یحکمون فیها ما یشاؤن حتی ان جماعة من الضعفاء زعموا ان قد کذبوا و ظنوا فی الحجة ظن السوء و حسبها ان الامر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 148
احبولة الحذق و اسطورة المذق و ذلک لأنها تری و هو الواقع ان لک الکلمة الجامعة و الحجة الساطعة و ان أمرک فی الکل نافذ و لیس لحکمک فی الامة منابذ و انک لو اردت ان تجمع آحاد الامة بکلمة منک و هی کلمة تنبثق من کیان الحق الی صدور اهله لترهب به عدو اللّه و عدوهم و تکف عنهم شر الزنادقة و تزیح ما حاق بهم من العنت و الشقاء و تنشلهم من ضنک العیش الی ما هو أرغد و اهنأ فیصیر الدین بأهله منیعا حریزا، و الاسلام بحجته رفیع المقام عزیزا هذا هو الحق انک رأس العصابة الحقة، و انک الروح الساری فی آحاد الأمة فلا یقوم لهم قائم الا بک و لا تجتمع کلمتهم الا علیک لو قمت بالحق نهضوا جمیعا و لهم الکلمة العلیا و لو قعدت تثبطوا و صارت کلمتهم هی السفلی و ربما کان هذا السیر و الدوران حینما غض حبر الامة طرفه عن شؤونهم و ترکهم هملا بلا راع و همجا بلا رادع و لا داع یقیم لهم عذرا فیما ارتابوا خصوصا لما رأوا ان حجة الاسلام قدالفی «!؟» فیما اطبقت الأمة خاصتها و عامتها علی وجوبه و اجمعت علی خطر الاتقاء فیه خشیة لغوبه الا و هو حفظ حوزة الاسلام الذی به بعد الصیت و حسن الذکر و الشرف الدائم و السعادة التامة و من یکون الیق بهذه المزایا و احری بها ممن اصطفاه اللّه فی القرن الرابع عشر و جعله برهانا لدینه و حجة علی البشر، ایها الحبر الاعظم ان الملک قد وهنت مریرته فساءت سریرته و ضعفت مشاعره فقبحت سیرته فعجز عن سیاسة البلاد و ادارة مصالح العباد فجعل زمام الامور کلیها و جزئیها بید اثیم غشوم ثم بعد ذلک یسب الانبیاء فی المحافل جهرا و لا یقیم لشریعة اللّه امرا و لا یری لرؤساء الدین و قرا یشتم العلماء و یقذف الاتقیاء و یهین السادة الکرام و یعامل الوعاظ معاملة اللئام و انه بعد رجوعه من البلاد الافرنجیة قد خلع العذار و تجاهر ... و موالاة الکفار و معاداة الابرار هذه هی افعاله الخاصة فی نفسه ثم انه باع الجزء الأعظم من البلاد الایرانیة و منافعها لاعداء الدین المعادین و السبل الموصلة الیها و الطرق الجامعة بینها و بین تخوم البلاد و الخانات التی تبنی علی جوانب تلک المسالک الشاسعة التی تنشعب فروعها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 149
الی جمیع ارجاء المملکة و ما یحیط بها من البساتین و الحقول نهر کارون و الفنادق التی تنشأ علی ضفتیه الی المنبع و ما یستتبعها من الجنائن و المروج و الجادة من الاهواز الی طهران و ما علی اطرافها من العمران و الفنادق و البساتین و الحقول و التنباک و ما یتبعه من المراکز و محلات الحرث و بیوت المستحفظین و الحاملین و البائعین أنی وجد و حیث نبت و حکر العنب للخمور و ما یستلزمه من الحوانیت و المعامل و المصانع فی جمیع اقطار البلاد و الصابون و الشمع و السکر و لوازمها من المعامل و البنک و ما أدراک ما البنک و هو اعطاء الاهالی کلیة بید عدو الاسلام و استرقاقه لهم و استملاکه ایاهم و تسلیمهم له بالریاسة و السلطان، ثم ان الخائن البلید اراد ان یرضی العامة بواهی برهانه فحبق قائلا ان هذه معاهدات زمانیة و مقاولات وقتیة لا تطول مدتها ازید من مایة سنة، یا للّه من هذا البرهان الذی سوله خرق الخائنین و عرض الجزء الباقی علی الدولة الروسیة حقا لسکوتها لو سکتت مرداب رشت و انهر طبرستان و الجادة من أنزلی الی خراسان و ما یتعلق بها من الحدود و الفنادق و الحقول و لکن الدولة الروسیة شمخت بأنفها و اعرضت عن قبول تلک الهدیة و هی عازمة علی استملاک خراسان و الاستیلاء علی آذربیجان و مازندران ان لم تنحل هذه المعاهدات و لم تفسخ هذه المقاولات القاضیة بتسلیم المملکة تماما بید ذلک العدو هذه هی النتیجة الأولی لخیانة هذا الاخرق، و بالجملة ان هذا المجرم قد عرض اقطاع البلاد الایرانیة علی الدول ببیع المزاد و انه یبیع ممالک الاسلام و دور محمد و آله علیهم السّلام للأجانب و لکنه لخسة طبعه و دناءة فطرته لا یبیعها الا بقیمة زهیدة و دراهم بخسة معدودة نعم هکذا یکون اذا امتزجت اللآمة و الشره بالخیانة و السفه و انک ایها الحجة ان لم تقم بناصر هذه الامة و لم تجمع کلمتهم و لم تنزع السلطة بقوة الشرع من ید هذا الأثیم لأصبحت حوزة الاسلام تحت سلطة الاجانب یحکمون فیها ما یشاؤون و یفعلون فیها ما یریدون و اذا فاتتک هذه الفرصة ایها الحبر و وقع الامر و انت حی لما ابقیت ذکرا جمیلا بعدک فی صحیفة العالم و اوراق التواریخ و انت تعلم ان علماء ایران کافة و العامة بأجمعهم ینتظرون منک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 150
و قد حرجت صدورهم و ضاقت قلوبهم کلمة واحدة و یرون سعادتهم بها و نجاتهم فیها و من خصه اللّه بقوة کیف یسوغ له ان یفرط فیها و یترکها سدی، ثم اقول للحجة قول خبیر بصیر ان الدولة العثمانیة تتبجح بنهضتک علی هذا الامر و تساعدک علیه لانها تعلم مداخلة الافرنج فی الاقطار الایرانیة و استیلاءها علیها تجلب الضرر الی بلادها لا محالة و ان وزراء ایران و امراءها کلهم یبتهجون لکلمة تنبض فی هذا الشأن لانهم بأجمعهم یعافون هذه المستحدثات طبعا و یسخطون من هذه المقاولات جبلة و یجدون بنهضتک مجالا لا بطالها و فرصة لکف شر الشره الذی رضی بها و قضی علیها، ثم ان العلماء و ان کان کل صدع بالحق وجبه هذا الاخرق الخائن بسوء اعماله و لکن ردعهم للزور و زجرهم عن الخیانة و نهرهم المجرمین ما قرت کسلسة المعدات قرارا و لا جمعتها وحدة المقصد فی زمان واحد و هؤلاء لتماثلهم فی مدارج العلوم و تشاکلهم فی الریاسة و تساویهم فی الرتب غالبا عند العامة لا ینجذب بعضهم الی بعض و لا یصیر احد منهم لصقا للآخر و لا یقع بینهم تأثیر الانجذاب حتی تتحقق هیأة وحدانیة و قوة جامعة یمکن بها دفع الشر و صیانة الحوزة کل یدور علی محوره و کل یردع الزور و هو فی مرکزه هذا هو سبب الضعف عن المقاومة و هذا هو سبب قوة المنکر و البغی و انت وحدک ایها الحجة بما اوتیت من الدرجة السامیة و المنزلة الرفیعة علة فعالة فی نفوسهم و قوة جامعة لقلوبهم و بک تنظّم القوی المتفرقة الشاردة و تلتئم القدر المتشتة الشاذة و ان کلمة تأتی منک بوحدانیة تامة یحق لها ان تدفع الشر المحدق بالبلاد و تحفظ حوزة الدین و تصون بیضة الاسلام فالکل منک و بک و الیک و انت المسؤول عن الکل عند اللّه و عند الناس، ثم اقول ان العلماء و الصلحاء فی دفاعهم فرادی عن الدین و حوزته قد قاسوا من ذلک شدائد ما سبق لها منذ قرون و تحملوا لصیانة بلاد المسلمین عن الضیاع و حفظ حقوقهم عن التلف کل هوان و کل صغار و کل فضیحة، و لا شک ان حبر الامة قد سمع ما فعله ادلاء الکفر و اعوان الشرک بالعالم الفاضل الصالح الواعظ الحاج ملا فیض اللّه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 151
الدربندی و ستسمع قریبا ما فعله الطغاة الجفاة بالعالم المجتهد النقی البار الحاج السید علی اکبر الشیرازی و ستحیط علما بما فعله بحماة الملة و الامة من قتل و کی و ضرب و حبس و من جملتهم الشاب الصالح المیرزا محمد رضا الکرمانی الذی قتله ذلک ... فی الحبس و الفاضل الکامل البار الحاج سیاح، و الفاضل الأدیب النجیب المیرزا محمد علی خان، و الفاضل المتفنن اعتماد السلطنة و غیرهم و اما قصتی و ما فعله ذلک الظلوم معی فمما یفتت اکباد اهل الایمان، و یقطع قلوب ذوی الایقان و یقضی بالدهشة علی اهل الکفر و عبدة الاوثان ان ذلک ... امر بسحبی و انا متحصن بحضرة عبد العظیم علیه السّلام فی شدة المرض علی الثلج الی دار الحکومة بهوان و صغار و فضیحة لا یمکن ان یتصور مثلها فی الشناعة هذا کله بعد النهب و الغارة انا للّه و انا الیه راجعون ثم حملنی زبانیته الاوغاد و انا مریض علی برذون مسلسلا فی فصل الشتاء و تراکم الثلوج و الریاح الزمهریریة و ساقتنی جحفلة من الفرسان الی خانقین و صحبنی جمع من الشرطة الی بغداد، و لقد کاتب الوالی من قبل و التمس منه ان یبعدنی الی البصرة علما منه انه لو ترکنی و نفسی لأتیتک ایها الحبر و بثثت لک شأنه و شأن الأمة و شرحت لک ما حاق ببلاد الاسلام من شر هذا ... و دعوتک ایها الحجة الی عون الدین و حملک علی اغاثة المسلمین و کان علی یقین انی لو اجتمعت بک لا یمکنه ان یبقی علی دست الوزارة المؤسسة علی خراب البلاد و اهلاک العباد و اعلاء کلمة الکفر و مما زاده لؤما علی لؤمه و دناءة علی دناءته انه دفعا لثرثرة العامة و تسکینا لهیاج الناس نسب تلک العصابة التی ساقتها غیرة الدین و حمیة الوطن الی المدافعة عن حوزة الاسلام و حقوق الاهالی بقدر الطاقة و الامکان الی الطائفة البابیة کما اشاع بین الناس اولا بأنی مجنون، وا إسلاماه ما هذا الضعف! ما هذا الوهن کیف امکن ان صعلوکا دنی النسب و وغدا خسیس الحسب قدر ان یبیع المسلمین و بلادهم بثمن بخس دراهم معدودة و یزدری العلماء و یهین السلالة المصطفویة و بیت السادة المرتضویة بالبهتان العظیم و لا ید قادرة تستأصل هذا الجذر الخبیث شفاء لقلوب المؤمنین،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 152
و انتقاما لآل سید المرسلین علیه السّلام ثم لما رأیت نفسی بعیدا عن تلک الحضرة امسکت عن بث الشکوی، و لما قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السید علی اکبر الی البصرة طلب منی الی الحبر الاعظم کتابا ابث فیه هذه الغوائل و الحوادث و الکوارث فبادرت الیه امتثالا و علمت ان اللّه تعالی سیحدث بیدک امرا و السّلام علیک و رحمة اللّه و برکاته»
یقول الامیر شکیب ارسلان فی تعلیقه علی حاضر العالم الاسلامی فکان هذا النداء من السید الحسینی من اعظم اسباب الفتوی التی افتاها ذلک الامام ببطلان هذا الامتیاز و اضطرت الحکومة الفارسیة خوف انتفاض العامة الی الغائه انتهی.
و قال العلامة السید محسن العاملی (و لکن الحقیقة ان الامام الشیرازی افتی بتحریم تدخین التنباک حینما بلغه اعطاء الامتیاز الی الدولة البریطانیة قبل ان یرسل له السید جمال الدین هذا الکتاب و لم یکن افتاؤه بتأثیر کتاب السید جمال الدین و لو لم یکن له مؤثر دینی من نفسه عظیم لم یؤثر فیه کتاب جمال الدین و لکن الناس اعتادوا اذا مالوا الی شخص ان یسندوا کل وقائع العالم الیه .

المسألة الدخانیة التی طار صیتها فی الآفاق

ألف بعض الفضلاء من المتأخرین رسالة واسعة فی المسألة الدخانیة باللغة الفارسیة، و رأیت نسخة منها مخطوطة عند العلامة المیرزا محمد الطهرانی بسامراء فأحببت ایراد بعض عباراتها المهمة التی لها دخل فی المقصود قال (ما تعریبه) لما استولت دول الاجانب علی بلاد ایران جعلوا یتربصون بأهلها الدوائر حتی اخذوا امتیازات الکثیر من اجناسهم و اطعمتهم فعطلت أسواق التجارات من جراء ذلک و کثر الحزن فی مکاسبهم فآل امرهم الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 153
الفقر و المسکنة و بطلت مصانع منسوجاتهم و معامل سکرهم ثم لم یقنع الأجانب بذلک فجعلوا یفسدون اخلاقهم و یعیرون علماءهم و یزینون للجهال معارفهم و لا ریب أن النفوس میالة الی اللهو و اللعب و الناس الی امثالهم أمیل و المجالسة مؤثرة و المخالطة تورث المحبة و المحبة تورث الاتحاد فی اللباس و المآکل و المشارب و العلوم و المعارف و جمیع الآداب و الرسوم فیؤول حینئذ أمر المسلمین الی الفناء و الزوال، و کان الأجانب یرسلون فی کل سنة عدة من ابنائهم الی ایران فیدخلون انفسهم فی مکاسبهم بکل حیلة و مکیدة حتی مهنة التجارة و الخیاطة و العمارة و الصیاغة و غیرها، و کان الامر کذلک الی ان سافر السلطان ناصر الدین شاه الی لندن فی سنة 1306 ه فاستقبلوه فی موکب عظیم و احتفلوا به و بذلوا جهدهم فی اکرامه و احترامه اللائق به و هو غافل عن مقاصدهم و ما یریدون منه ثم احتفلوا به فی محفل کبیر و قالوا له ان امتیار التتن و التنباک نستدعیه منکم مدة خمسین سنة بشروط نقوم بها:
الاول:- نرسل فی کل سنة خمسة عشر الف لیرة الی خزینتکم سواء ربحنا او خسرنا و هذا المبلغ نؤدیه کله فی مدة خمسة اشهر.
الثانی:- یجب علی أولیاء الحکم فی جمیع بلدان ایران اجبار الزراعین باعطاء التعهدات لنا و ان کل ما یزرعون من التتن و التنباک لا یجوز لهم بیعه و شراؤه و تضمینه الا باذن صاحب الامتیاز، و لیس لاحد اصدار الاجازة بذلک الا من صاحب الامتیاز و لیس للبایع و المشتری ان یعامل بغیر دفتر الاجازة و من فعل ذلک فعلیه المجازاة.
الثالث:- یجب علی صاحب التتن و التنباک ان یسلم ربع المنافع الی الخزانة و ذلک بعد وضع جمیع المخارج المتعلقة بذلک و للمأمورین تفتیش الدفاتر فی رأس کل سنة.
الرابع:- حریة الآلات و المکائن المتعلقة باصلاح التتن و التنباک و خلوها عن مصارف العشارین حین دخولها فی ایران.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 154
الخامس:- عدم جواز الحمل و النقل من التتن و التنباک مطلقا الا باجازة صاحب الامتیاز.
السادس:- یجب علی اصحاب الامتیاز شراء جمیع الدخان الموجود فی ممالک ایران و لیس للبایع الامتناع من ذلک.
السابع:- یجب علی اولیاء الحکم أن لا یزیدوا فی الاعشار و الکمارک المعمولة الی مدة خمسین سنة.
الثامن:- کل من باع او ابتاع خفیة او وجد عنده شی‌ء منه بدون اجازة فیجب علی المأمورین للدولة العلیة الایرانیة مجازاته الشدیدة.
التاسع:- یجوز لاصحاب الامتیاز انتقال حقوقهم مع شروطها الی من یریدونه کائنا من کان.
العاشر:- یجوز لأصحاب الامتیاز ابتیاع الأراضی للمخازن الدخانیة نعم لا یجوز ابتیاع ازید من ذلک.
الحادی عشر:- لو تجاوز حکم ما قرر فی دفتر الشروط عن مقدار السنة بمعنی ان الهیئة التی تعرف باسم الکمپانیة لم یشتغلوا بالعمل حتی ینقضی من تاریخ کتابة الشروط مقدار سنة بطلت الشروط و بطل الامتیاز فیجب تشکیل ذلک بسرعة ثم کتبوا وثیقة الامتیاز صورتین و ختمهما السلطان ناصر الدین شاه بخاتمه، و قبل ذلک کله غفلة عن حقیقة الحال او عدم علمه بالمآل ثم رجع السلطان الی عاصمة ملکه طهران و جاءت من لندن هیئة تعرف باسم الکمپانیة و اشتغلوا بشراء الأراضی و بناء المخازن و احضار المکائن و الآلات و الأدوات و انتشر الخبر فی الآفاق و نشروا ذلک فی الجرائد و هتفوا بخطأ هذه المعاملة و قالوا ان دخانیة اصبهان وحدها فی سنة واحدة تبلغ عشرین الف لیرة و طعنوا بالسلطان و کثر اللغط فبینما هم کذلک اذ جاء من لندن جماعة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 155
الاجانب لا یقل عددهم عن مائة الف نسمة بین رجال و نساء و دخلوا طهران و شرعوا فی تنفید مقاصدهم و ارسلوا فی کل بلد من بلاد ایران عدة من هیئتهم و قویت بذلک کل ملة فی ایران سوی ملة الاسلام و کثرت الفواحش و شرب الخمور فلم تزل کل یوم تکثر هذه الدواهی و قد فتح الاجانب المدارس لدعوة الناس الی مذهب المسیح و جعلوا المبشرین (البرتستانت) فی جمیع المستشفیات ینفقون اموالا جمة علی الفقراء و المساکین و یستخدمون بنات الاسلام و فتیانها و صار المسلمون مقهورین تحت ایدیهم و فرقوا اربعمائة الف تومان بین الامراء و الحکام لیوافقوهم فی تنفیذ مقاصدهم و ابتاعوا قطعة ارض قرب حدیقة الایلخانی بخمسة و اربعین الف اشرفی و انفقوا لعمارتها مائة و خمسین الف لیرة و جعلوها مسورة بسور رفیع حصین و نصبوا علی ابراجها مدافع، و کان قطر السور اربعة اذرع فلما فرغوا من استحکاماتهم فی طهران ارسلوا هیئة الی شیراز فلما قربوا من البلدة و انتشر خبر قدومهم فیها اجتمع الاشراف عند علمائهم و انکروا هذا العمل فوافقهم العلماء فی ذلک مصلحة لدینهم و اصلاحا لمفاسد امورهم فأخبر بذلک اصحاب الامتیاز فخافوا ان یدخلوا البلدة الی ان سیرت الحکومة السید العلامة الحاج السید علی اکبر الذی کان من قدوة العلماء فی شیراز الی (ابو شهر) خفیة فلما علم بذلک اهل البلدة هاجوا و ماجوا و اضطربت الامور و عطلت الاسواق و لاذوا بالحضرة المقدسة حضرة السید احمد بن موسی بن جعفر علیهم السّلام الذی یعرف بشاه جراغ و کثر البکاء و الضجیج بحیث خشیت الحکومة المحلیة فأمرت باحضار جنود لتفریق الناس بالبنادق فقتل عدة من المسلمین و انهزم الباقون مجروحین خائفین و جلین و لکن الاضطراب یشتد فی کل یوم غیر ان الحکومة المحلیة استقبلت اصحاب الامتیاز و ادخلتهم البلدة مع کل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 156
الاحترام و سار الحاج السید علی اکبر الشیرازی مع جماعة من العلماء من (ابو شهر) الی (سر من رأی) و استعانوا بآیة اللّه المجدد الشیرازی قدس سره فأمر رحمه اللّه بضیافة السید و تجلیله و تعظیمه بما لا مزید علیه، ثم ان أصحاب الامتیاز ارسلوا هیئة الی آذربیجان فأخبر بذلک العلامة الحجة المیرزا جواد آقا فأمر بمنع دخول الهیئة و انکر ذلک اشد الانکار فآل الامر الی تأخیر ذلک الحکم عن آذربیجان و کثرت المراسلات بین السلطان بین هذا العالم الغیور الاسلامی الی ان قهر و اضطهد و دخلت الهیئة آذربیجان بالقوّة القاهرة و اخذوا یبتاعون النقاط الرئیسیة للبلدة و الامکنة المعمورة و ابتنوا فیها قصورا شاهقة و ابنیة فخمة فزاد ذلک وحشة الناس و خوفهم علی اضمحلال بلاد ایران و سقوطها بید الاجانب بلا کلفة فاستغاث الناس بعلمائهم و استدعوا منهم المکاتبة الی سلطانهم و الاحتجاج علیه و ان یبینوا له مفاسد هذه المعاملة ففعلوا غیر انهم ما نالوا مرادهم فکتبوا الی سر من رأی بالقصة التفصیلیة و استغاثوا کلهم بآیة اللّه المجدد و کان قدس سره من خطته أن لا یتداخل فیما یتعلق بأمور المملکة و السیاسة فلما کثرت الشکاوی من جمیع بلاد ایران و تواترت الکتب من العلماء و الاشراف و معاریف التجار و تکلموا فی اطراف القضیة و اوضحوا مفاسد هذا الامتیاز أبرق آیة اللّه المجدد فی التاسع عشر من ذی الحجة سنة 1308 الی السلطان ناصر الدین و کتب کتابا مفصلا الی نائب السلطنة اوضح فیه ما یجب ایضاحه و شرح ما یجب شرحه فأرسل السلطان جواب المکتوب مع کمال التعظیم و التوقیر و کان مفاده.
اولا- ان ایران حالها فی هذا الیوم لیس کحالها فی الامس فیجب علی سلطانها ان یحفظ استقلالها و هذا لا یتم إلا باظهار المودة مع الدول القویة.
و ثانیا- دفع الفاسد بالافسد امر راجح.
و ثالثا- خراج ایران الذی یعرف باسم المالیات لا یفی بمصالح الملک فلیس لنا بد عن امثال هذه المعاملات مع الاجانب لتتم به مصالح المملکة.
و رابعا- لا یجوز للسلطان اذا ختم بخاتمه فی دفتر المعاملة ان ینقضه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 157
و خامسا- لا یمکن الفسخ و الابطال فیها لانها تحولت الی اید قویة من دول اوربا و کیف یمکن للسلطان مع ضعفه ان ینازع الأقویاء.
و سادسا- علی فرض امکان السلطان من فسخ هذه المعاملة و ابطالها فانه یحتاج الی مصارف کثیرة لا یمکننا تحصیل عشرها، فأرسل السلطان الکتاب الی قنصله فی بغداد و کتب له بأن یسافر إلی (سر من رأی) حاملا معه الکتاب و یبذل جهده فی ارضاء الامام الشیرازی ففعل القنصل فلم یقبل (قدس سره) هذه المعاذیر و اجاب عن کل واحد منها و ابرق للسلطان برقیة ثانیة و کتب کتابا ثانیا ادلی فیه ببراهین قاطعة أخطاء هذه المعاملة الفاسدة فکتب فی آخر الکتاب ان عجزت الدولة عن الجواب فلسنا بعاجزین و ان لم تقدر ان تجیب الخصم و تطالب بحقوق الملة فخل بیننا و بینه ثم فی خلال ذلک صدر الأمر من رئیس اصحاب الامتیاز بجمع التنباک الموجود فی جمیع ممالک ایران و شرائه فوقع التشاجر و التنازع فی القیمة و مقدار الثمن و ما ادخره بعض لحاجة أو لغرض آخر حتی ان احد التجار کان له اثنا عشر الف کیس من التنباک فجاء الیه اصحاب الامتیاز لابتیاع ذلک فلم یرض البایع بما عینه صاحب الامتیاز من الثمن فاستمهله لغد فلما خرج اصحاب الامتیاز من عنده اخرج اکیاس التنباک فی الفضاء وصب علیها النفط و احرقها جمیعه فلما اصبحوا جاؤا الیه و طالبوه بالاکیاس فقال بعتها باغلی الثمن فاستشاطوا غضبا و قالوا له کیف بعتها من غیر إذن منا فذهب بهم الی الرماد و قال بعتها لهذا غیرة للدین فافعلوا الآن ما شئتم فکثر الاضطراب بین الناس و اشتد الأمر علی الزراع و ضاق الأمر علی الرعیة لکثرة ما حملوهم من التکالیف الشاقة الضارة لدینهم و دنیاهم و اتصل باصحاب الامتیاز کثیر من الدجالین الذین یریدون التقرب الیهم و یدعون انهم من المسلمین، فکانوا یدلونهم علی اعراض الناس و نوامیسهم و ما ادخروا من التنباک و جعلوا یصرفون عوام الناس عن إطاعة العلماء فاضطهد اهل الدین و کانوا یحبذون السفور لبنات المسلمین و ینصبون الکراسی فی المعامل الاسلامیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 158
لیجلسوا و ینظروا الی بنات المسلمین اللاتی یشتغلن فی المعامل، و هن سافرات و وقع من امثال ذلک مالا یحیط بیانه القلم، فلما رأی العلماء فی اصبهان ان البلیة قد عمت البلاد امتنعوا عن استعمال التنباک و بیعه و شرائه فوافقهم أهل الدین و انتشر الخبر فهددوهم بارسال المدافع الی بیوتهم و تخریب مساکنهم غیر ان العلماء لم یکترثوا بهذه التهدیدات غیرة للدین فآل أمرهم الی النفی و الاخراج فخرج بعضهم خفیة و بعضهم جهرا الی (سر من رأی) و استغاثوا برئیس الشیعة الامام المجدد رحمه اللّه فلما رأی أنه قد تفاقم الأمر و انتهی الأمر الی هذه النتیجة السیئة التی لا ترضی اللّه و رسوله کتب مصدرا فتواه التی رنّ صداها فی العالم الاسلامی لا سیما فی ایران فکان نص تعریبها بعد البسملة «الیوم استعمال التنباک و التتن حرام بأی نحو کان و من استعمله کمن حارب الامام عجل اللّه فرجه» و نصها بالفارسیة (بسم اللّه الرّحمن الرّحیم امروز استعمال تنباکو و تتن در حکم محاربه امام زمان علیه السّلام است حرره الاحقر محمد حسن الحسینی) فأرسل صورة الفتوی الی اکبر علماء طهران الحاج میرزا محمد حسن الأشتیانی قدس سره و فی اواخر شهر ربیع الثانی سنة 1309 اقام اصحاب الامتیاز الاجانب فی دائرة الکمپانی حفلة عظیمة اجتمع فیها خلق عظیم من رجالهم و نسائهم و حضر القنصل الروسی و القنصل الالمانی و القنصل الایطالی و الامریکی و القنصل الترکی و غیرهم من القناصل و المأمورین و الامراء و الحکام و التجار الایرانیین و کانت هذه الحفلة حفلة سرور و نشاط لظفرهم بمرادهم و کانوا فرحین بانقضاء مدة الاستمهال حسبوا انهم من الغد یسیطرون علی المسلمین و ینالون مرامهم فلما اصبح الناس فی غایة الحزن و الانکسار سمع بعضهم من بعض ان الامام الشیرازی حرم استعمال التنباک و التتن و جعله فی حکم المحاربة مع الامام الحجة ابن الحسن (ع) فکادوا یطیرون فرحا و سرورا و جعلوا یسألون من أین جاء هذا النبأ العظیم الذی فیه حیاة ایران و الایرانیین فازدحموا علی دار حجة الاسلام الآشتیانی لکی یعرفوا صحة الخبر و کان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 159
الآشتیانی مترقبا هذه الفتوی غیر ان البرید تأخر اسبوعا فأخذ أولیاء الامر یعاقبون من تکلم بحرمة الاستعمال و یقولون هذا من حیلکم و لم تصدر من الامام الشیرازی فتوی بالحرمة فاذا بالبرید قد دخل دار الآشتیانی و أعطاه صورة الفتوی فقرأها الآشتیانی علی عموم الناس فلم تنقض ساعات إلا و استنسخوا عنها مائة الف نسخة و قرأوها علی المنابر فی المساجد و المحافل و ما أمسی الناس إلا و طبق البلدة الخبر و انتشر فی البلدان و القری التی کانت من اعمال طهران فأمرت الحکومة بجمع النسخ و أخذها من أیدی الناس غیر أنه ما نالت مرامها و جعلت تسأل عن نسخة الاصل فدلت علی الآشتیانی و کان قدس سره یخشی من إظهار نسخة الاصل فاستعلمت الحکومة الامر من (سر من رأی) فأبرقوا للعلامة المیرزا حسین النوری و الشیخ الحاج آفا النوری و أمثالهما فأجیبوا بصحة صدور الفتوی من الامام الشیرازی فایقنوا بصدق صدور الحکم فابرق التجار و العلماء الی جمیع ممالک ایران بذلک و خضع الناس جمیعا للحکم و انقادوا و امتثلوا مبتهجین مسرورین و کل من کان عنده شی‌ء من التنباک أحرقه و کسر غلیانه و شطبه و من عجیب نفوذ هذا الحکم ان الفساق المتجاهرین بالفسق الذین یفطرون شهر الصیام و یشربون الخمر امتنعوا عن استعمال الدخان فقیل لهم ما بالکم تشربون الخمر و لا تشربون التنباک قالوا ان شرب الخمر له توبة و هذا لیس له توبة فمن استعمل التنباک فهو مثل من قتل الامام علیا (ع) و قاتل الامام لا تقبل توبته، و من عجیب نفوذ هذا الحکم بسرعة ان اصحاب المقاهی کسروا کل ما عندهم من ادوات الغلیان، و ان کان من أغلی الأثمان و أبطل اصحاب المعامل کل ما له تعلق بالغلیان سواء فی ذلک التاجر و الکواز و الصیاغ و غیرهم، و کسروا ما عندهم فی المعامل فبلغ الامر الی أن رجلا سأل بعض العلماء و قال انی رششت التنباک بالشمس لییبس و أرید الآن جمعه فاجعله فی کیس و اخرجه من داری فهل هذا استعمال اولا؟، و ارسل رجل رأس غلیان الی دکان لیصلحه قبل وصول الحکم فبعد انتشار الحرمة ذهب لیأخذ رأس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 160
رأس الغلیان فرأی أن الأستاذ یصلح ثقبته و ما هو معد لشرب الافیون ورد رأس الغلیان کما کان و لم یصلحه فقال له الرجل هل یجوز شرب الافیون قال لا و لکن له توبته بخلاف شرب الغلیان الذی لیس له توبة، و رأوا درویشا یشرب الغلیان فانکروا علیه فحلف انه لیس فیه تنباک و انما هو حشیشة فلم یقنعوا بذلک حتی قلبوا رأس الغلیان فرأوا انه قد صدق فترکوه، و من عجیب نفوذ هذا الحکم الشریف أن خوانین حرم السلطان و جواریها قد کسروا ما کان عندهم من الغلیان و استعفی السلطان ناصر الدین شاه خدامه عن هذا العمل فعفا عنهم و خلی سبیلهم، و من عجیب نفوذ هذا الحکم الشریف أن الیهود و المجوس و سائر الفرق الباطلة و افقوا جماعة المسلمین و قالوا ان هذا حکم محترم یجب اتباعه و لا یجوز التخلف عنه فمن تخلف عنه فبعید عن الشرف، و لا یدلنا التاریخ منذ خلق اللّه الدنیا علی ان حکما نفذ بسرعة فی جمیع طبقات الناس کبیرا کان أو صغیرا رجالا أو نساء مؤمنا أو منافقا مسلما او کافرا عالیا کان او دانیا مثل هذا الحکم فانتشر فی العالم الاسلامی امتنع المسلمون عن شربه بسرعة بالطوع و الرغبة و یرون ذلک فخرا لأنفسهم، و قد دلّنا التاریخ من أحوال الأنبیاء علیهم السّلام انهم من بعد سنین متطاولة من تبلیغهم احکام اللّه و تحملهم المذلة و الأذی فی ذلک یتبعهم شرذمة قلیلة و عظمة نفوذ هذا الحکم الشریف بلغت درجة لا یمکن وصفها لانا نری بالعیان و نسمع بالآذان انه قل ما یوجد اتفاق جمیع العلماء فی جمیع البلدان فی حکم یتعلق بالمصلحة العامة و هذا الحکم الشریف لما صدر من مصدره خضع له جمیع العلماء و استقبلوه بکل ارتیاح و قبول و انقادوا الیه بکل ابتهاج و سرور و لعمری أن هذا من النوادر الغریبة التی قلّ ما تتفق فی عصر من العصور کما یدلنا سیر التواریخ لا سیما تواریخ العظماء المصلحین ثم ان اصحاب الامتیاز اصبحوا حیاری مبهوتین کأن علی رؤوسهم الطیر فکتبوا الی لندن بهذا المضمون (ان قد وقعت داهیة عظمی لا یدلنا التاریخ علی مثلها فی ایران و هی ان شرب التنباک و الانفیة التی کانت عادتهم استعمالها فی اللیل و النهار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 161
و أهم لوازمهم بل کانوا یعدونه من الواجبات فی بیوتهم ترکوه بتاتا حین وصلت الیهم فتوی رئیسهم بالحرمة، و من حین صدور الحکم من رجل واحد ترکوا اعظم ما کانوا متعودین به منذ سنین متطاولة من غیر کره و لا اجبار و عامة المسلمین خضعوا لفتوی رئیسهم حتی دوائر الحکومة الایرانیة و صار استعمال التنباک عندهم من انکر المنکرات و لم یزالوا یکسرون (الشطب) (و الغلیان) و یرمون بخزفه و أخشابه الی دائرة الامتیاز) و مثل ذلک کتب السفراء الی ممالک اوربا فاجتمع اصحاب الامتیاز الی السلطان و استغاثوا به فوعدهم بالعلاج و کان السلطان فرحا بهذا الحکم الشریف بالباطن غیر انه لم یکن له بد من المماشاة مع اصحاب الامتیاز فعقد حفلة عظیمة دعا فیها مشاهیر علماء دار الخلافة منهم المیرزا الآشتیانی و المولی السید علی اکبر التفرشی و الشیخ فضل اللّه النوری و شریعة مدار امام الجمعة و شریعت مدار السید محمد رضا و الآخوند ملا محمد تقی القاشانی، و من طرف الدولة أحضر السید عبد اللّه البهبهانی و نائب السلطنة و أمین السلطان و أمین الدولة و مشیر الدولة و قوام الدولة و مخبر الدولة فلما اجتمعو احضر السلطان صورة ما قرر بینه و بین اصحاب الامتیاز و خاطب العلماء و قال هذا ما قرر بین الدولة و بین اصحاب الامتیاز فانظروا فیه فما کان فیه مخالفا لحکم الشرع المطاع نأمر بتغییره، و أما أصل المسألة فابطاله محال، فلما قرأوا فاذا فی صدر الدفتر کلمة (مینویل) فسأل العلماء عن تفسیر هذه الکلمة فقیل لهم أن هذه الکلمة معناها بالانکلیزیة الامتیاز و الانحصار یعنی ان التنباک لا یجوز بیعه و لا شراؤه إلا باجازة اصحاب الامتیاز، و هذا حق یختص به فقط، فقال العلماء هذا اول ما یجب تغییره او اسقاطه لأنه خلاف ما قرر فی شریعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و من الاصول المقررة الثابتة قاعدته ان (الناس مسلطون علی أموالهم) فعلی هذا الأصل کل واحد من الناس مسلط علی ماله یفعل فیه ما یشاء فهو مختار علی بیعه و ادخاره بأی نحو کان، و قاعدتکم ج 1- سامراء (11)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 162
هذه مخالفة لحکم الشرع المطاع حیث انکم أمرتم بأن الرعیة لا تبیع إلا لشخص معین و بثمن معین فی مکان معین و هو مجبور مسلوب الاختیار فی جمیع ذلک و الشارع لا یرضی بذلک أبدا فبهتوا و افحموا، و کل واحد من ارکان الدولة لم یحر جوابا، فقال الوزیر الاشتیانی أن السید میرزا محمد حسن الشیرازی مجتهد و جنابک ایضا مجتهد فیمکنک أن تفتی بالاباحة کما انه فتی بالحرمة، فاجابه الآشتیانی بکلمات قارصة و قال ان مولانا المیرزا الکبیر سید الشریعة و امام الشیعة و ملاذ الأمة و نائب الأئمة حکمه مطاع و أمره لازم الاتباع و نحن عبیده و مطیعوه فی کل ما یقول لأن الراد علیه علی حد الشرک، فیئس الوزیر الأعظم من اقناع العلماء و وعدهم برفع الامتیاز فلما مضی اسبوع علی عقد المجلس المشار الیه عقدوا مجلسا آخر و أحضروا المذکورین و حضر السلطان ناصر الدین و قالوا قد ابطلنا الامتیاز عن داخل ایران فآحاد الرعیة مختار فی بیع التنباک بأی وجه یرید و بأی ثمن و فی أی وقت یشاء لا إجبار فی البین غیر أن الامتیاز باق بحاله فی خارج المملکة و التنباک من ایران یحمل الی المملکة العثمانیة فقط و معلوم عندکم ان اختیار الخارج لیس بأیدینا فنستدعی من العلماء أن یصعدوا المنابر و یعلنوا بالاباحة فقالوا ما افتینا بتحریمه حتی نفتی باباحته و لا ربط لنا فی المسالة انما القول قول السید الکبیر المیرزا الشیرازی منه الأمر و منا الاطاعة و الانقیاد فراجعوه انتم فی المسألة حتی یتبین لکم الأمر، فکتبوا صورة برقیة و ختموها بخواتیم العلماء و ارسلوها الی سامراء و کانوا فی انتظار الحکم بالاباحة فاذا الجواب من سامراء مفاده (التشکر من السلطان و الرجاء بقطع أیدی الأجانب من ایران) فلم یبق مجال للسلطان علی علماء دار الخلافة فبقی حکم الحرمة بحاله، فلما مضی اسبوع رأی الناس فی صبیحة یوم الاثنین اعلانا علی حائط شمس العمارة مفاده ان یوم الاثنین الآتی نحن مأمورون بالجهاد فمن کان مسلما فیجب علیه الجهاد بفتوی الامام الشیرازی مد ظله فولول الناس فهاجوا و ماجوا و انتشر الخبر الی تمام دار الخلافة و خاف الأجانب علی انفسهم فجعلوا ینهزمون خفیة حتی ان کثیرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 163
منهم خرجوا من ایران لابسین ثیاب النساء و کانت قلوبهم مملوءة رعبا من الحکم بحرمة الدخان و قالوا ان المسلمین مستمیتون و نری ان رئیسهم الدینی لو أمرهم باحراق انفسهم بالنار لا یتخلفون عن امره فالاقامة فی ایران فیها خطر عظیم، و اما اصحاب الامتیاز فلجأوا الی شمس العمارة أو استغاثوا بالسلطان ناصر الدین شاه فارسل السلطان الی الآشتیانی و استخبر منه فحلف انه لا علم له بذلک و وعد السلطان بتسکین الناس و کان کثیر من الناس یبتاعون الاسلحة و یجددون العهد و الوصیة و علت اصوات البکاء من دورهم و کانوا یودعون نساءهم و صبیانهم فلم تزل هذه الأمور تتضاعف و یشتد خوف الأجانب و اصحاب الامتیاز فدعا الآشتیانی اصحاب المنابر و المحاریب و امرهم بتسکیت الناس و ان هذا الاعلان لا اصل له فهدأت فورة الناس غیر ان سفراء اوربا خافوا الأمر و زعموا ان هذه الهدنة من المسلمین سیاسة و اغفال للخصم فاحتفلوا قبل مضی اسبوع و احضروا اصحاب الامتیاز و السلطان ناصر الدین شاه و کثیرا من الأکابر و الأشراف و کان المتکلم السفیر الروسی و خاطب الحضار و قال (زنده باد اتفاق مسلمانها) أی لیحی اتفاق کلمة الاسلام علی السلامة فتعجب السفراء من هذه الکلمة فلما رأی السفیر الروسی تعجبهم قال حضرت هذه الحفلة حتی اقول لکم هذه الکلمة و ان شئتم اشرح لکم، قیل له قل، قال الیوم مقدار مائتی الف من رؤوس (الغلیان) و کیزان البلور للغلیان و غیرهما مما یتعلق بالدخان وقفت تجارتها عن روسیا و لا یدری الی ما یصیر مآلها و کان السبب فی ذلک ان «آرسن» رئیس اصحاب الامتیاز وضع حکما فی ایران یخالف قوانینهم الاسلامیة فافتی رئیسهم المطاع بحرمة استعمال الدخان فاطاعوه و ترکوا عادة کانوا متعودین علیها منذ خمسمائة سنة و منشأ هذه الخسائر لیس إلا (آرسن) رئیس الامتیاز، الیس من الواجب علیه رفع یده عن هذه المعاملة قبل حدوث حادثة اکبر من هذه، قالوا باجمعهم نعم، ثم قال هذا سهل یمکن تحمله، و لو فرضنا ان رئیس الامتیاز لم یرفع یده عن هذه المعاملة و رئیس الاسلام یشدد فی الحکم لقطع ید الأجنبی و یفتی بحرمة شرب «الشای»
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 164
و من المعلوم ان تأثیره فی قلوب المسلمین لیس بأقل من تأثیر حرمة الدخان فعنده هل یمن احصاء الخسائر التی ترد الینا و الی سائر دول اوربا لأن ذلک یعطل تجارة السکر بأنواعه و تجارة جمیع الآلات التی یتوقف علیها استعمال «الشای» و قد یکون ذلک سهلا لو فرض و لکن لو اصدر سیدهم المطاع فتوی بحرمة استعمال جمیع ما یرد من البلاد الخارجیة الی ایران لعمت الخسائر و الاضرار جمیع الدول و لو فرضنا مع ذلک سهولة هذه الخسائر العظیمة و لکن لو اصدر فتواه الحاسمة بوجوب قتل جمیع المسیحیین الذین هم منتشرون فی بلاد ایران و تنزیهها عن الأجانب فما تفعلون فقالوا باجمعهم لا شبهة انه لو افتی بذلک لقاتلونا لانهم یرون الجهاد واجبا علیهم و من قتل منهم یکون شهیدا فعند ذلک نکون مسؤولین تجاه صاحبنا لأن التبعة الخارجیة کثیرة فی بلاد ایران و تلک داهیة عظیمة، فقال السفیر الروسی لهم فانظروا عندئذ عواقب المسألة فقالوا بأجمعهم الحق ما تقول و یجب علی (آرسن) رئیس الامتیاز فسخ المعاملة و ابطالها فقال (آرسن) کیف افسخ هذه المعاملة و انی منذ دخلت ایران الی یومی هذا انفقت اربعة کرور من اللیرات فی الرسومات و العمارات و الآلات و الوظائف و غیرها، فقال السفیر الروسی هذه الخسائر التی وردت علیک کنت قد اقدمت علیها لعلمک خلاف القوانین الاسلامیة و رؤساؤهم الدینیون لم یرضوا بذلک، فبهت (آرسن) و لم یحر جوابا ثم استمهل السفراء لینظروا فی امره فکان کلما فکر فی الأمر لم تطب نفسه الی ترک المعاملة، فکتب الیه السفراء بأن لا تقوم فی ایران الا ان تأخذ الاجازة باستعمال الدخان من علماء الاسلام، ثم ان (آرسن) جعل یسأل عن احوال علماء دار الخلافة و مراتب زهدهم و تقواهم الی ان وجد فیهم من کان یطلبه فدخل داره خفیة و رشاه بثلاثة آلاف تومان له و خمسمائة تومان لکاتبه فقبل تلک الرشوة فقال برئیس الامتیاز أنا افتیت بالحرمة لجهات اقتضت و الساعة أفتی بالاباحة فشرب فی الوقت الدخان فلما رأی ذلک (آرسن) فرح بذلک و زعم أنه نال مرامه من هذا الفاسق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 165
المتهتک فقال المرتشی أنا متعهد بإبقاء معاملة الامتیاز علی حالها و استعمال الشعب الدخان و لکن یجب علیک ان تواجه السلطان و تستدعی منه إخراج من هو معارض لنا من طهران، فقام (آرسن) و اتی الی السلطان و قال ما جئنا الی ایران الا معتمدین علیک لتزیل عنا کل غائلة حدثت و الیوم أصابتنا خسائر فادحة و فیها مسؤولیة عند السفراء فنستدعی من حضرتکم اما ان تتحمل خسائرنا لنرجع الی بلادنا او تأخذ لنا الاجازة من العلماء، و لما کان الأول غیر ممکن للسلطان وعده بالثانی اضطرارا ثم حدثه بالفصة و ما وقع الاتفاق علیه مع المرتشی المذکور فبقی السلطان متحیرا فکتب إلی الآشتیانی بما مضمونه ان جنابک مخیر بین ان تعلن بأباحة استعمال الدخان أو تسافر مدة قلیلة من طهران فان الأمر کذا و کذا فکتب الیه الآشتیانی أما نقض حکم الامام الشیرازی فمحال، و اما المسافرة فاسافر مع الغد إن شاء اللّه فانتشر نبأ المسافرة فی تمام البلدة بسرعة هائلة فعظم ذلک الأمر عند العلماء فاجتمعوا من کل محلة و قصدوا دار الآشتیانی و اجتمع من طبقات الناس خلق کثیر فملئت الشوارع و الاسواق و رفعوا اصواتهم بالبکاء و النحیب مستنکرین ذلک أشد الانکار و کان الأمر کذلک الی قریب من الظهر فبینما هم کذلک اذ بأفواج النساء صارخات باکیات یهرعن الی الأسواق فکلما رأین دکانا مفتوحا امرن بسده فعطلت الأسواق و ملئت الشوارع و السکک من الرجال و النساء فجعلوا یسبون اصحاب الامتیاز و کل من ینصرهم و یعینهم و تارة یصرحون باسماء الوزراء الکبار بحیث خاف أرکان الدولة علی أنفسهم فسدوا ابواب شمس العمارة و نصبوا المدافع علی سطوحها و أمروا الجیوش باطلاق نیران بنادقهم فخالف الجیوش أوامر الضباط و کانوا یبکون لبکاء النساء و علت اصوات البکاء من حرم السلطان و جواریها و کن یشتمن الوزراء الذین تعهدوا ببقاء الامتیاز و هتفن بالسب الشنیع و الشتم الفظیع فارسل السلطان نائب السلطنة لیسکت الناس فلما صادف الناس صاحوا فی وجهه و ضربوه ضربا مبرحا فاطلق بعض حواشی السلطان بندقیة فقتل نفرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 166
من الرجال فکثر الضجیج فسکتهم الآشتیانی و قال السلطان استدعی منی أن لا أخرج من دار الخلافة فامضوا إلی مساکنکم فهدأت فورة الناس فدخل عضد الدولة الآشتیانی بعد تفرق الناس مع جماعة من وجوه حواشی الدولة و اعتذر منه بکل لسان و قال له رفعنا الامتیاز عن الخارجیة فضلا عن الداخلیة و قطعنا ایدی الأجانب بالکلیة من ایران فنرجو من فضلکم الآن أن تبرقوا الی سامراء و تشرحوا للامام الشیرازی حقیقة الأمر لیصدر فتواه بجواز استعمال الدخان فاجابه الآشتیانی لذلک فابرق برقیة مفادها ان امتیاز الدخانیة رفع بیمن برکاتکم و مساعیکم الجمیلة من داخل ایران و خارجها و بطلت المعاملة الجائرة و عاد الأمر کما کان و قطعت ایدی الأجانب من ایران فالناس منتظرون امرکم فی جواز استعمال الدخان، و بهذا المضمون أرسل سائر العلماء برقیات إلی سامراء فجاء الجواب للآشتیانی مفاده ان برقیات العلماء وصلت الی و أنا اشکر مساعیکم و اصدق اقوالکم غیر انی لا اعتمد علی طریق الوصول و هی البرقیة فان کتبتم إلی تفصیل ما فی البرقیات بقطع ید الأجنبی عن ایران بتاتا و عود امر الدخانیة الی ما کان سابقا فالترخیص یجیئکم انشاء اللّه، فکتبوا الیه قدس سره فجاء الجواب بالترخیص فخرج اصحاب الامتیاز من ایران راجعین الی اوربا بخفی حنین، و کان یوم وصول الترخیص یوما مشهودا و فرح السلطان ناصر الدین شاه فرحا شدیدا و قال ان المیرزا الشیرازی أحیی دولة القاجاریة و کان قدره مجهولا عندنا و الیوم عرفنا منزلة هذا الرجل الکبیر أدام اللّه بقاءه، و استنسخوا الف صورة من کتاب الامام الشیرازی و ارسلوها إلی سائر بلاد ایران فعاد الأمر کما کان و انتشر الخبر الی سائر آسیا و بلاد اوربا و افریقیا و امریکا و نشر ذلک فی الجرائد الخارجیة، و أرسل الأمریکان الی سفیرهم فی بغداد سائلین عن هذا الرجل الکبیر المطاع الدینی الذی قام فی قبال اربع دول و نال مرامه و غلب علیهم و أمر الروس سفیرهم فی بغداد بمسافرته الی سر من رأی لیظهر اخلاصه فامتثل و کان الأجانب من کل جانب یسألون حاله قدس سره حتی خیف علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 167
من الید العادیة و لکن ید اللّه فوق أیدیهم؛ و کتب السلطان ناصر الدین شاه عریضة مفصلة بدیعة، أظهر فیها اخلاصه الصمیم، و کذا الوزراء و الحکام؛ حتی اشتهر- قدس سره- بآیة اللّه المجدّد؛ لأنه جدد الدولة و المنة .. - .

العراق قدیما و حدیثا

قضاء سامراء

سامراء من المدن الواغلة فی القدم و العمران، فهناک من یقول ان وجودها سبق ظهور الاسلام بزمن بعید، إذ دلت بعض الحفریات علی أن بعض مواطنها کانت مأهولة منذ زمن ما قبل التاریخ و انها من بعد ان بلغت ابعد شأو فی المدینة و الحضارة أخذت فی الهوی و الهبوط شأن کل موجود حتی جاء المعتصم باللّه فجدد بناءها سنة 221 ه- 835 م و منهم من یری أنها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 168
مدینة عباسیة بحتة، اختطها المعتصم بن الرشید فی السنة المذکورة علی الجانب الشرقی من دجلة، و حمل إلیها الأغراس المختلفة من سائر أنحاء المملکة الإسلامیة، و زینها بالقصور و البرک و المیادین، ثم جاء بعده بعض الخلفاء العباسیین فأقاموا فیها القصور، فبنی هارون الواثق باللّه القصر المعروف بالهارونی، و أضاف إلیها جعفر المتوکل علی اللّه القصر المسمی بالجعفری، و شید المعتمد علی اللّه ابن المتوکل القصر المسمی بالمعشوق، و المعروف الآن بالعاشق. و کان الناس قد اتسعوا فی العمران فی زمن المتوکل أکثر مما اتسعوا فی بغداد حتی اتصل من «الدور» إلی «بلکوارا» أو «المنقور» کما یعرف الآن، فلم تزل المدنیة فی سامراء فی تقدم و توسع حتی غدت أجمل مدن العراق دار متعة و عزة و سطوة للعباسیین أکثر من خمسین عاما، ثم قلب لها الدهر ظهر المجن فجعلها خرائب و آکاما تمتد الیوم علی شاطی‌ء دجلة الایسر إلی نحو من ثلاثین کیلومترا.
أما سامراء الحالیة فإنها کانت إحدی المحلات الشهیرة فی أیام المعتصم و کان یسکنها الإمام علی الهادی، فلما توفی (ع) سنة 254 ه- 868 م دفن مدینة سامراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 169
فی بیته، و لما توفی ابنه الحسن العسکری سنة 260 ه- 873 م دفن إلی جوار أبیه فاتخذ شیعتهما مرقدیهما مزارین و قد بنوا حولهما العمارات و أنشأوا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 170
الدور و المنازل العامة فحافظت علی عمرانها و وضعها إلی ما بعد انقراض
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 171
الدولة العباسیة، فلما شرع فی التنظیمات الإداریة فی العراق علی عهد الوالی مدحت باشا عنیت بها الحکومة فجعلتها مرکز قضاء، و هی الیوم علی مسافة 128 کیلومترا من شمالی بغداد، أکثر بیوتها مبنی بالآجر المنتزع من سامراء القدیمة؛ و جل سکانها من العشائر المحیطة بها و هم، أو أکثرهم، یدعون السیادة و انهم من نسل الإمامین العسکریین علیهما السّلام و کان هؤلاء یعیشون علی زوار العتبات المقدسة من الایرانیین و الهنود و الافغان، فلما وقف سیل هؤلاء أو کاد، انصرف الأهلون إلی الارض یحرثونها و یزرعونها لیعیشوا علی غلالها و یتجروا بخیراتها، و قد أدی هذا التحول الاقتصادی إلی ارتفاع مستوی المعیشة فیها فصاروا یأخذون میاه شربهم من الحنفیات بعد أن کانوا یستقونها من النهر علی ید السقائین، و أخذوا یستنیرون بالکهرباء بعد أن کانوا یتخذون الزیوت للإنارة، و انتشرت فی أرجائها الحدائق العامة و الخاصة بعد أن کانت بلقعا، أما جوها فإنه لم یزل لطیفا کما ان نسیمها لم یزل نقیا علیلا، و قد نصب لها جسر من زوارق حدیدیة فسهل لها المواصلات بعد أن کان الناس یعبرون النهر بالزوارق الخشبیة، و مما زاد فی أهمیتها مرور «قطار الشرق السریع» بها و تدل سجلات النفوس علی ان نفوس قضاء سامراء بلغت فی نهایة سنة 1947 (64904) نسمات عدا الأجانب.
و قد قامت مدیریة الآثار القدیمة سنة 1940 م بترمیم بعض هذه الآثار و فتحت متحفا فی (سامراء) و ضعت فیه مخططات و مصورات مهمة عن آثارها و جمعت جزءا مما عثرت علیه من زخارف جصیة و جبسیة جمیلة و آثار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 172
زجاجیة و فخاریة من الفسیفساء و الآجر المزجج علی اشکال زهریة او علی هیأة الکاشی المعرق.
و کان یحیط بسامراء- الحالیة- سور ضخم یبلغ طول محیطه کیلومترین و لا یتجاوز قطره الأعظم 680 مترا، عمّره فی حدود سنة 1250 ه- 1834 م زین الدین السلماسی و قد انفق علی تعمیره احد ملوک الهند کما جاء فی «شرح الطرّة » و لهذا السور اربعة ابواب باب القاطول و باب الناصریة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 173
و باب بغداد و باب الملطوش، و قد هدمت مدیریة الآثار العامة الباب الغربی- ای باب القاطول- فی عام 1936 م. و بنت الحکومة منه صرحا لها و دارا للبلدیة و مستشفی للأهلین و مدرسة للبنین و نادیا للموظفین و دائرة للبرق و البرید. و هدمت الباب الجنوبی- ای باب الناصریة- فبنت خارجه مسلخا و مذبحة. و حولت الباب الشرقی- ای باب بغداد- إلی متحف محلی تعرض فیه نماذج الآثار المنتزعة او المستخرجة من الحفریات التی تقوم بها المدیریة المذکورة.
و فی مدخل سامرا یقع مشروع الثرثار الذی یقی بغداد من الغرق و هو مؤلف من قسمین هما: 1- القناة التی تصل دجلة بمنخفض وادی الثرثار و یبلغ طولها 62 کیلو مترا و (2) سدة علی نهر دجلة مقابل مدینة سامراء لحجز المیاه الفائضة و تحویلها إلی القناة. و تتکون هذه السدة من سبع عشرة فتحة عرض کل منها (12) مترا ترفع بالقوة الکهربائیة و بالعتلات التی تدار بالید إذا انقطع تیار الکهرباء. أما طول السدة فهو (449) مترا. و یتضمن المشروع أیضا ناظم من ست و ثلاثین فتحة عرض کل منها 12 مترا مجهزة بأبواب من الحدید لإمرار تسعة آلاف متر مکعب من الماء فی الثانیة، کما یتضمن بناء اسس لتولید القوة الکهربیة تقدر طاقتها الانتاجیة بمئة و اثنی عشر الف کیلو واط و قد بلغت نفقات حفر القناة و إنشاء السدة حوالی ستة عشر ملیون دینار و بوشر فیه سنة 1952 م فتم افتتاحه فی الثانی من نیسان عام 1956 م و هو من مشاریع مجلس الإعمار المدعمة بواردات العراق من النفط.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 174

سامراء فی الموسوعات و المراجع العامة

وفیات الأعیان

و لما کثرت السعایة فی حقه (- علی الهادی) عند المتوکل أحضره من المدینة. و کان مولده بها. و أقره بسر من رأی، و هی تدعی بالعسکر؛ لأن المعتصم لما بناها- انتقل الیها بعسکره، فقیل لها العسکر.
و لهذا؛ قیل لأبی الحسن (علی الهادی) المذکور: العسکری؛ لأنه منسوب إلیها، و أقام بها عشرین سنة، و تسعة أشهر.
و توفی بها، یوم الاثنین، لخمس بقین من جمادی الآخرة ... سنة اربع و خمسین و مائتین، و دفن فی داره ...

أخبار الدول و آثار الأول

سامرّا (سرّ من رأی)
مدینة عظیمة، کانت علی شرقی دجلة، بین تکریت و بغداد. بناها المعتصم سنة احدی و عشرین و مایتین. و سکن بها جنوده، حتی صارت اعظم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 175
بلاد اللّه. و هی- الیوم- خراب، و بها اناس قلایل کالقریة .

أحسن الودیعة

سامراء .. و هی بلیدة .. و من بغداد الیها مدت الحکومة الألمانیة- بعد أخذ الامتیاز من حکومة ترکیا- السکة الحدیدیة المعروفة بالقطار، و ذلک بعد سنة 1327.
و سامراء بلدة عذبة الماء، طیبة الهواء، قلیلة الداء ...
و هذه البقعة الطاهرة .. هی مزار المسلمین عموما، و الشیعة خصوصا.
و أمر هذه البلدة کانت فی الشدة و الضعف، حتی جاء العلامة المیرزا السید محمد حسن الشیرازی، فسکن بها، و جعلها- کما کانت- مرکزا علمیا لأصحابنا، و رحلت إلیه طلابنا و أصحابنا، من البلاد؛ للتلمذ علیه. فعمر مدرسة کبیرة باقیة حتی الآن و حمامین.
و الیوم فیها جماعة کثیرة من فضلاء الشیعة، و أخیارهم، و عوامهم.
و بالجملة، فسامراء من مراکز العلم قدیما و حدیثا ...

أعیان الشیعة

سامراء، یقال سر من رأی. و لعل سامراء مخفف منها. بناها المعتصم سنة 221، و سکنها بجنوده، لما ضاقت بهم بغداد. فصارت مدینة عظیمة.
و لم تزل فی تناقص، حتی قریة، و کثرت فیها الشیعة، لما توطنها الإمام المیرزا الشیرازی؛ السید محمد حسن. و صارت إلیها الرحلة من الآفاق.
و کانت فیها فی عصره مدرسة عظمی للشیعة فی العلوم الدینیة. و بعد وفاته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 176
سنة 1312؛ تناقص عدد الشیعة فیها، و عادت إلی شبه حالها الاول.
و الیوم؛ فیها جماعة من العلماء و الطلاب .

تاریخ الشیعة

سامراء، اسسها المعتصم عام 320 (کذا)، و جعلها عاصمة ملکه.
و انتقل الیها بحاشیته و جیشه. و انت جد خبیر بأن التشیع یسیر مع الاسلام اینما سار. فکم کان بین الجند، و القواد، و الامراء، و الکتاب، من یحمل بین حنایا ضلوعه ولاء اهل البیت علیهم السّلام.
و ظهر التشیع جلیا بعد ان قام الامامان فیها. و شاهد الناس ما لهما من علم و سجایا حمیدة، و مزایا دلت علی انهما فرعان من شجرة النبوة، و وارثان لذلک العلم الالهی؛ علی الرغم من مناوأة العباسیین لهما، و اجتهادهم فی منع الناس من الاجتماع بهما، و اجتماعهما بالناس. و لکن الشمس تفیض علی العالم اشعة تنمی الضرع و الزرع، و ان حالت السحب دون ذلک الشعاع.
و یشهد لظهور التشیع فی سامراء- ذلک الیوم- ما ذکره الیعقوبی فی تاریخه (3: 225) عن حوادث عام 254، و وفاة الهادی (ع) تاریخه (3: 225) فیها، قال: «فصلی علیه فی الشارع المعروف بشارع ابی حمد. فلما کثر الناس، و اجتمعوا؛ کثر بکاؤهم و ضجتهم، فرد النعش إلی داره، فدفن فیها».
و هکذا، ذکر غیره عند وفاة ولده أبی محمد الحسن- علیه السّلام-.
و ما زال التشیع فیها راسخ القدم. إلی ان حاربه الأیوبی فی تلک الجهات، و اقتفی أثره بعد أمد بعید- السلطان سلیم العثمانی- و جرت علی ذلک السیاسة العثمانیة من بعده.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 177
و لو لم یکن الّا مراد الرابع محاربا للشیعة فی هذه المناطق البعیدة عن المجتمع الشیعی لکفی فی اخفاء التشیع، و هرب الظاهرین من رجاله. و لقد نزح عنها ثلة من الناس هربا بأرواحهم. و کان منهم سدنة ذلک الحرم المقدس.
و لما قطن فیها زعیم اهل الدین- فی عصره- السید میرزا حسن الشیرازی! استعاد التشیع فیها نشاطه، و هاجر إلیها کثیر من ابناء العلم و ارباب المکاسب.
و حینما تضاءل- قبل هذا- التشیع زمنا طویلا کان آخذا بحظ وافر فی قبائلها الجنوبیة القاطنة علی ضفتی دجلة، و فی القری، و الرساتیق الشرقیة الجنوبیة التی بینها و بین بغداد.
و ما زالت- بعد ارتحال السید الشیرازی (علیه الرحمة) مهبطا لبعض أهل العلم.
و لم تخل- فی عهد من عهودها إلی الیوم، من رجال، لهم قیمتهم العلمیة و الاجتماعیة.
و یسکنها- الیوم- جماعة من الشیعة، من أهل الحرف و العمل.
و سامراء، من البلاد المقدسة، التی یؤمها الشیعة لزیارة الامامین الهادی، و ابنه الحسن العسکری علیهما السّلام .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 178

سامراء فی الأدلة و الجغرافیا

الدلیل العراقی الرسمی لسنة 1936

أطلال سامراء

تقع أطلال سامراء المندرسة، بجوار مدینة سامراء الحدیثة. تحتوی هذه الأطلال علی آثار عربیة مهمة تدل معالمها علی ما کانت علیه هذه المدینة من العز، و المنعة، ففیها أنقاض السجن، و الکمرک؛ الذی بناه المتوکل علی اللّه، و الذی یسمی بالعاشق، و هما مقابلان لسامراء الحالیة، و سور (و) منارة الجامع الکبیر الذی بناه المستنصر باللّه. و تعرف هذه المنارة بالملویة ... الخ .

دلیل تاریخی علی مواطن الآثار فی العراق سامراء الیوم

علی نحو 120 کیلو مترا من شمال بغداد، علی ضفة دجلة الشرقبة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 179
تقوم بلدة سامراء الحدیثة، فوق جزء ضئیل من اطلال عاصمة بنی العباس القدیمة، الممتدة اطلالها مسافة طویلة الی شمالها و جنوبها و شرقها.
و هی- الیوم- مرکز قضاء واسع، من أقضیة لواء بغداد.
کان یحیط بهذه البلدة، إلی ما قبل عشر سنوات سور ضخم، یبلغ طول محیطه نحو کیلومترین. شید منذ نیف و مائة سنة؛ لصد غارات البدو عنها. و کان له أربعة ابواب؛ هی: باب القاطول فی الغرب، و باب الناصریة فی الشمال، و باب الملطوش فی الجنوب، و باب بغداد فی الشرق.
و قد هدم الآن معظم هذا السور توسیعا للبلدة التی أخذت تمتد فیها وراءه.

الروضة العسکریة و سرداب الغیبة

و فی قلب مدینة سامراء الحدیثة؛ الروضة العسکریة حیث ضریح الامام علی الهادی (ع)، و الحسن العسکری (ع). و علیه قبة طلیت بالذهب سنة 1285 ه.
و کان الامام علی الهادی یسکن سامراء فی أیام المعتصم باللّه. فلما توفی سنة 254 ه، دفن فی وسط داره، و لما توفی الامام الحسن العسکری سنة 260 ه، دفن بجنبه.
و فی جانب الضریح، الجامع. و تعلو بنایته قبة یزینها کل شی‌ء ملون مزخرف. و تحت الجامع سرداب غیبة الامام الثانی عشر؛ محمد بن الحسن العسکری. و هو السرداب المعروف باسم «غیبة المهدی». و فیه باب خشبی جمیل، عمل سنة 606 ه 1209 م، بأمر الخلیفة العباسی، الناصر لدین اللّه:
تزینه کتابة نسخیة جمیلة، تبرز علی ارضیة مزخرفة ..
و یزین جدران السرداب کاشی ملون و مزخرف. و یمتد- علی طول الجدران الثلاثة- نطاق من الخشب، طوله 80، 4 م: فیه کتابة کوفیة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 180
بارزة هذا نصها: «بسم اللّه الرحمن الرحیم»- محمد رسول اللّه، أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب، الحسن بن علی، الحسین بن علی، (علی بن الحسین)، محمد بن علی، جعفر بن محمد، موسی بن جعفر: علی بن موسی، محمد بن علی، علی بن محمد، الحسن بن علی، القائم بالحق- علیهم السّلام-. هذا عمل علی بن محمد و بن آل محمد رحمه اللّه» .

الدلیل العام لتسجیل النفوس العام لسنة 1957 العشائر المتوطنة

اشارة

اسم العشیرة/ السکان بموجب ارقام الإدارة المحلیة لسنة 56/ مرکز العشیرة أو موطنها وسعة المنطقة بالدونم أو الکیلومتر
البوعباس/ 7000/ یسکنون معیجل، و العلفة، و داود الجزیرة.
البودراج/ 1200/ یسکنون فی العاشک، و الطونیة، و الجزیرة.
البونیسان/ 1250/ فی الدیوانیة الحریجیة، و الجزیرة.
البوباقر/ 500/ یسکنون ام الطلائب.
البو عیسی/ 6000/ یسکنون مکیشیفة، و الجزیرة.
الدوریین/ 400/ یسکنون فی الزلابیة، و الجزیرة.
العبید/ 2650/ طعس الدابة وسعتها (400 کم 2)، و الحدادیة وسعتها (150 کم 2)، و یسکنون الباصونی و عتبة الامام-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 181
و الصراة، و الدعالج وسعتها (300 کم 2) و مطیبیجة وسعتها (400 کم 2)، و الخرابة وسعتها (150 کم 2)، و عجل وسعتها (450 کم 2).
البوصگر/ 100/
الصایح/ 9555/ یسکنون ابوفسیلة وسعتها (400 کم 2) و الصراة وسعتها (400 کم 2)، و الخاتونیة وسعتها (60 کم 2)، و ملیحات وسعتها (160 کم 2) و سدیدة وسعتها (400 کم 2)، و الاغیر وسعتها (750 کم 2)، و المناهلة وسعتها (300 کم 2)، و الچبایش وسعتها (300 کم 2)، و ابو حوای وسعتها (450 کم 2) و الزلزلیة وسعتها (100 کم 2)، و الفرحیات وسعتها (650 کم 2) و البعجی وسعتها (150 کم 2)، و صعید، وسعتها (100 کم 2).
السادة/ 50/ الجلوب وسعتها (100 کم 2)، و الخاتونیة سعتها (60 کم 2)، و ملیحات وسعتها (160 کم 2)،
العزة/ 970/ ام البلبل وسعتها (400 کم 2)، و حاوی المتیة وسعتها (500 کم 2)، و حاوی الحمود وسعتها (150 کم 2)، و قلعة الرمل (100 کم 2)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 182
و مجموع العشائر المتوطنة (11) عشیرة.
و مجموع نفوس العشائر المتوطنة فی سنة 1956 (075، 30).
مجموع نفوس العشائر المتوطنة تخمینا فی ایلول سنة 1957، بعد اجراء التعدیل اللازم (695، 18) .

الأحیاء:

محلة العابد، محلة البوجول، محلة البوبدری، محلة البونیسان، المحلة الغربیة، محلة القاطول، محلة القلعة، المحلة الشرقیة .

الدلیل الجغرافی العراقی سامراء

و فیها اطلال مدینة (سر من رأی) العباسیة. اسست فی زمن الخلیفة المعتصم (218- 227 ه) لجعلها عاصمة له، ثم اوصلها الی أقصی اتساعها المتوکل (232- 247) ه.
و من اهم آثارها: بقایا دار الخلیفة، و المنارة الملویة؛ التی انشئت مع المسجد الجامع الکبیر- علی عهد المتوکل.
و فی مدینة سامراء الحالیة؛ ضریحا الامام علی الهادی، و ولده حسن العسکری- ع- کانت وفاة الاول فی سنة 254 ه، و الثانی فی سنة 260 ه .

الأماکن المقدسة فی العراق

اسس سامراء الخلیفة المعتصم باللّه، سنة 221 هجریة (736 میلادیة).
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 183
و سکنها خلفه حتی سنة 279 هجریة (792 میلادیة) و فیها؛ مسجد مشهود، یرجع الفضل فی بنائه إلی ثلاثة من أئمة المسلمین الامام العاشر، و الحادی عشر، و الثانی عشر. فالعاشر الامام علی العسکری، و الحادی عشر الامام حسن بن علی العسکری. دفنا فی ضریح تعلوه قبة محلاة بالذهب، بأمر شاه العجم؛ ناصر الدین شاه. و فی حجرة صغیرة مبنیة تحت الأرض، غاب الامام المهدی، الامام الثانی عشر، المعروف عنه ان جثته قد اختفت من الضریح سنة 264 هجریة (سنة 878 میلادیة).
و لما آلت مدینة الخلفاء إلی الخراب، و أخذت معالمها فی الاندثار؛ استوطن بعض الناس الأماکن المحیطة بالمسجد، بعد رجوع الخلفاء إلی بغداد و أصبح- بعدئذ- مکانا شهیرا عند الشیعیین یؤمونه للزیارة. و قد احیطت بلدة سامراء فی العهد الحدیث بسور من الآحر لصیانتها ..
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 184

جغرافیة العراق

سامراء:
تقع سامراء علی ضفة دجلة الیسری بعیدة عن الساحل، و هی مرکز القضاء التابع الی لواء بغداد.
و القصبة مبنیة علی ارض خصبة رملیة. و یحیط بها سور من الآجر.
و فیها، مرقد الإمامین علی الهادی، و الحسن العسکری؛ فی صحن کبیر، واقع فی وسط القصبة. و یؤمها الزوار من کل حدب و صوب، للزیارة و التبرک.
و تقع مزارع القصبة و بساتینها علی الضفة المقابلة، نظرا إلی خصب التربة هناک.
و قد کثرت فیها فی الآونة الاخیرة المضخات، لضخ الماء من نهر دجلة. و فی شمالی القصبة اطلال قصر الخلیفة، و هی من أجل الآثار العباسیة الباقیة شأنا.
و البناء یدل علی تقدم فن الریازة فی عهد العباسیین .

سامراء فی الرحلات رحلة ابن جبیر

و نزلنا مع الصباح من یوم الخمیس الثامن عشر لصفر (سنة 580 ه) علی شط دجلة، بمقربة من حصن یعرف بالمعشوق، و یقال انه (کان) متفرجا لزبیدة ابنة عم الرشید و زوجه- رحمه اللّه-.
و علی قبالة هذا الموضع، فی الشط الشرقی؛ مدینة سر من رأی. و هی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 185
- الیوم- عبرة من رأی این معتصمها؟ و واثقها؟ و متوکلها.؟
مدینة کبیرة قد استولی الخراب علیها، الا بعض جهات منها، هی- الیوم- معمورة.
و قد أطنب المسعودی- رحمه اللّه- فی وصفها، و وصف طیب هوائها، و رائق حسنها. و هی کما وصف، و إن لم یبق إلّا الأثر من محاسنها، و اللّه وارث الأرض و من علیها، لا إله غیره. فأقمنا بهذا الموضع طول یومنا مستریحین .

الاشارات الی معرفة الزیارات

مدینة سامراء، و قیل؛ سر من رأی، بها الامام علی بن محمد الهادی، ولد بالمدینة، عاش خمس (کذا) و سبعین سنة.
و بها الامام الحسن بن علی العسکری (رضه).
و بها الامام الحجة، محمد بن الحسن المنتظر (رضه)؛ مولده سر من رأی، عمره سبحان عالم الغیب و الشهادة، قبره؛ اللّه یقضی حیث یشاء.
الخ ... .

رحلة ابن بطوطة

ثم رحلنا، فنزلنا موضعا- علی شط دجلة، بالقرب من حصن یسمی «المعشوق». و هو مبنی علی الدجلة.
و فی الشرقیة- من هذا الحصن- مدینة سر من رأی، و تسمی- أیضا-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 186
سامرا. و یقال لها «سام راه» و معناه بالفارسیة؛ طریق سام. و راه هو الطریق.
و قد استولی الخراب علی هذه المدینة؛ فلم یبق منها إلّا القلیل، و هی معتدلة الهواء، رائعة الحسن؛ علی بلائها، و دروس معالمها.
و فیها- أیضا- مشهد صاحب الزمان- کما بالحلة - .

نزهة الجلیس و منیة الأدیب الأنیس

ثم سرنا من بغداد إلی سامرا ... لزیارة الإمام علی الهادی، و الامام حسن العسکری، فزرناهما- رضی اللّه عنهما- و فزنا بالقبول، و بلوغ المأمول، و أقمنا بها ثلاثة أیام، و رجعنا إلی بغداد دار السّلام ..
مدینة سامرا؛ علی طرف شرقی دجلة. و هی بین بغداد و تکریت.
بناها المعتصم باللّه العباسی؛ سنة 221 عند ما ضاقت بغداد بعبیده الأتراک.
و أنشأ بها جامعا، و عدة دور جلیلة، قیل انه انفق علی بنائها خمسمائة الف الف دینار. و بنی بها المنارة التی کانت من احدی العجائب. و بنی بها قصورا علی شاطی‌ء الدجلة.
و بها نهران یشقان شوارعها، و یشقان الجامع الذی بها.
و فی الجامع؛ سرداب قد ثبت- عند الشیعة الامامیة- ان المهدی؛ محمد بن الحسن العسکری- و هو صاحب الأمر المنتظر- قد غاب فیه الغیبة الکبری ایام المتوکل العباسی .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 187

رحلة المنشی‌ء البغدادی

سامرا؛ من الدور إلیها ثمانیة فراسخ. طیبة الهواء کثیرا، و فیها نحو ألفی بیت.
و من المزارات فیها مزار الامام علی النقی، و الامام حسن العسکری (ع)، و محل غیبة الامام محمد المهدی.
و فی کل سنة یبلغ زوار الشیعة- من العرب و العجم- نحو ثلاثین ألفا؛ یأتون إلی هذه المشاهد للزیارة.
و یقال لسامراء (العسکر)، طولها و عرضها ثلاثة فراسخ. و هی تقع علی ساحل دجلة.
و هی من بناء الخلفاء العباسیین، و أکثر بیوتها إلی الآن ظاهرة. و لها مسجد کبیر من بناء الخلفاء. و المنارة فیها و یقال لها (الملویة)؛ و هی لا تزال قائمة و یصعد علیها من الخارج بالتواء، بخلاف سائر المنائر؛ فان طریق الصعود إلیها من سلم فی الداخل.
و فی سامرا البطیخ الأحمر کثیر الجودة، و لیس فیها و لا فی (الدور)، و تکریت بساتین من جهة ان أرض تلک الأنحاء کلسیة (جص) .

رحلات عبد الوهاب عزام یوم سامراء ..

یوم السبت. السابع و العشرین من رمضان (1349 ه- 1931 م) کان یوما أغرّ بین أیّام رحلتنا. کان أغرّ و إن کره الساخطون، الذین سموه الیوم العصیب، و سموا سامرا «غم من رأی» بدل «سر من رأی». ألیس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 188
یوم سامرا أبقی الأیام فی نفوسهم أثرا، و أعظمها وقعا؟
بدأنا رحلة سامرا بأغلاط؛ غلطنا فی تقدیر الطریق طانین أنه ساعتان أو ثلاث. و غلطنا فی اختیار المطایا. فأخذنا سیارات من بغداد صغیرة مکان سیارات حیفا القویة، ثم أضاع سائقو السیارات 45 دقیقة فی التزود من البنزین.
خرجنا من بغداد، و الساعة احدی عشرة و خمس و أربعون. و واصلنا السیر مسرعین ما أسمحت السیارات، متعجلین حین تقف. و کثیرا ما وقفتها العلل. فواعدنا قنطرة المستنصر، فاجتمعنا عندها. و هی قنطرة عظیمة من الآجر، ذات ثلاث عیون، بناها المستنصر باللّه علی نهر دجیل، و لا تزال قائمة متینة. و قد کتب علیها بخط واضح آیات من القرآن، و اسم الخلیفة و ابیه و جده و الثناء علیهم الخ.
و قد نسخنا ما کتب علیها إلّا کلمات قلیلة محاها الزمان. و تاریخ بناء القنطرة تسع و عشرون و ستمائة.
ترکنا القنطرة نحمد هذا الخلیفة العظیم، بانی المستنصریة و غیرها من الآثار الناطقة بهمته و حسن سیاسته.
ترکنا القنطرة مواصلین السیر، حتی بلغنا شاطی‌ء دجلة ازاء سامرا، و الساعة أربع و نصف. فوجدنا معبرا یسیر بسلسلة ممتدة بین الشاطئین.
و کان لا بد من نقل السیارات، و هی سبع لا یمکن نقلها مرة واحدة. فعوّقنا العبور زمنا طویلا.
سرنا إلی سامرا؛ فإذا مدینة صغیرة مسورة، هی سامرا الحدیثة. و إذا أطلال سامرا القدیمة منثورة فی فضاء فسیح یعیا السائر دون نهایته.
و أقرب الأطلال إلی المدینة جامع المعتصم. و هو؛ واسع المساحة، عظیم السور، یذکّر الرائی بجامع ابن طولون. و کأن ابن طولون بنی جامعه علی نسقه. و خارج المسجد علی مقربة من جداره الشمالی، منارة عظیمة، لها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 189
درج من الخارج، یدور حولها. و یظن ان منارة ابن طولون محاکاة لهذه المنارة؛ لم تبلغ درجتها من الضخامة و الإحکام.
سرنا بین الطلول، نقرأ فی سطورها تاریخا عظیما دارسا. و رأینا علی دجلة مجلسا للمتوکل، بقی من قصره العظیم.
یدخل الی المجلس المشرف علی دجلة، من رواق علیه قبة تظهر فیها محاکاة ایوان کسری.
و لا تزال بلاطات المجلس، و الطریق المفضی إلی الباب واضحة المعالم.
و رأینا- إلی الشمال- برکة عظیمة جافة، حسبنا أنها البرکة التی وصفها البحتری .
عدنا- بعد- إلی سامرا الحدیثة، فاسترحنا قلیلا فی دار رئیس البلدیة، و جاءنا هناک القائمقام؛ أو مأمور المدینة. فذهبنا إلی مشهد سامرا. و هو مسجد علی طراز مساجد الکاظمیة، و کربلاء، و النجف. و لکنه أصغر، و أقل أبهة.
و تحت قبته مقصورة، فیها أربعة قبور؛ للإمام الهادی، و ابنه الحسن العسکری، و السیدتین سکینة، و حلیمة. و یقال لهما هنا سکینة خاتون، و حلیمة خاتون. و هی کلمة ترکیبیة مستعملة فی العراق، معناها السیدة.
إحداهما؛ زوج الهادی، و الاخری؛ عمته .
کنا أمرنا سائقی السیارات، أن یعبروا و ینتظروا علی الشاطی‌ء الآخر.
فلما جئنا لزیارة المسجد، لقیناهم هناک. فقلنا: ما خطبکم؟ قالوا: لا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 190
نستطیع السیر لیلا، و لیس معنا بنزین.
فعرفنا أنها لیلة لیلاء، و خرجنا- بعد زیارة المسجد- معجلین عن زیارة السرداب، الذی اختفی فیه الامام محمد المهدی بن الحسن العسکری و هو الامام الثانی عشر صاحب الزمان. و کم أسفنا علی أن فاتنا زیارة السرداب، و نحن بجانبه .. - .
-
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 191

سامرا فی المراجع الغربیة

اشارة

کتبه و ترجمه من مختلف المصادر جعفر الخیاط
الحائز علی درجة استاذ علوم‌M .S .C . من جامعة کلیفورنیا و مدیر التعلیم الثانوی، و المفتش الاختصاصی بوزارة التربیة سابقا و مدیر التعلیم المهنی العام حالا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 193
سامراء فی المراجع الغربیة
تعد سامراء فی مقدمة المدن المقدسة فی الأسلام، لأن تربتها الذکیة قد قبرت فیها رفات الأمامین العسکریین: أبی الحسن علی الهادی و أبی محمد الحسن الخالص الملقب بالعسکری، و لأن الأمام الحجة المهدی صاحب الزمان قد ولد فیها و اختفی فی بیت من بیوتها مبتعدا عن جور العباسیین و اضطهادهم المعروف لآل البیت النبوی الکریم، الذی أخذ یزداد و یشتد منذ ان تولی المتوکل الخلافة فیها.

الأسم و الموقع

و کانت سامراء قد مصّرت فی عهد الخلیفة المعتصم حینما ضاق سکان بغداد ذرعا بجنده الأتراک، و کثر الاصطدام بین الفریقین بحیث ارتأی هذا الخلیفة العسکری ان یبتعد بجنده عن بغداد و یشید عاصمة جدیدة له علی ضفاف دجلة. فوقع اختیاره علی بقعة أظهرت التنقیبات الأثریة انها کانت آهلة منذ القدم، و ان حضارتها ترجع الی عصور سحیقة فی التاریخ إذ یقول الدکتور سوسه فی (ری سامراء فی عهد الخلافة العباسیة) أنه عثر فی أثناء تنقیباته
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 194
و تدقیقاته لآثار سامراء علی فخار یعود الی عصر ما قبل التاریخ، فی تل الصوان الواقع علی نهر دجلة جنوبی سامراء فی جوار منارة القائم. و انه قد اتصل بالبروفسور هرتسفیلد الألمانی، الذی درس آثار سامراء دراسة مستفیضة سناتی علیها فیما بعد، و أخبره بذلک فکتب له مؤیدا ما توصل الیه بالأضافة الی قوله ان هذه الآثار هی من بقایا مقابر قدیمة ترجع الی عصر ما قبل التاریخ.
و یشیر الی هذا: العلامة المستشرق لسترنج فی کتابه (بلدان الخلافة الشرقیة) بقوله (فی الص 76 من الترجمة العربیة): کانت مدینة سامراء التی اتخذها سبعة من خلفاء بنی العباس عاصمة لهم مدی نصف قرن و نیف، أی من سنة 221 الی 279 (836- 892 م)، معروفة قبل الفتح العربی ثم بقیت بعد ان تهاوت من ذروة عزها الذی لم یدم طویلا مدینة ذات شأن ردحا طویلا من الزمن. و اسمها بالآرامیة سامرّا، فأمر الخلیفة المعتصم حین أقام فیها ان تسمی «سر من رأی». و بهذه الصیغة الأخیرة وجد اسمها فی النقود العباسیة المضروبة فیها. و کانت التسمیة مع ذلک تلفظ بصورة مختلفة ذکر ابن خلکان ستا و من اشهرها: «سامراء»، و هو الاسم الذی اتخذه یاقوت عنوانا لبحثه عن هذه المدینة.
و جاء فی تعلیق للمترجمین الفاضلین اللذین ترجما لسترنج هذا ان التنقیبات الأثریة فی أطلال سامراء قد أثبتت ان موضعها کان آهلا منذ أدوار ما قبل التاریخ. فقد اکتشف فیها البروفسور هرتسفیلد المنقب الألمانی مقبرة من تلک الأدوار بین بقایا القصر العباسی و السن الصخری الذی بنیت علیه المدینة العباسیة علی نحو میل واحد من جنوب دار الخلیفة. و عثر فیها علی ضرب من الفخار المصبوغ أطلق علیه «فخار سامراء»، و هو یمثل دورا من أدوار ما قبل التاریخ
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 195
فی العراق سمی ب «دور حضارة سامراء» نسبة الی الموضع الأثری الذی اکتشف فیه هذا الفخار لأول مرة. کما عثرث مدیریة الآثار العراقیة القدیمة علی موضعین آخرین فی سامراء یرتقیان الی هذا الزمن، أحدهما فی شمال المقبرة المارة الذکر و الآخر فی جنوبی سامراء علی ضفة دجلة شمال صدر القائم یسمی «تل الصوان» و قد جاء أسم هذا الموضع فی الکتابات الآشوریة بصورة «سر مارتا»Sur -ur -mar -ta ، و کان لهذا الموطن فی أیام الفرس شأن کبیر و لا سیما فی حروبهم مع الرومان و لقربه من القاطول الکسروی.
اما ما اورده ابن خلکان فی أسماء سامراء فهو: «و سر من رأی فیها ست لغات، حکاها الجوهری فی کتاب الصحاح، فی فصل رأی، و هی (سر من رأی) بضم السین المهملة و فتحها و (سر من راء) بضم السین و فتحها و تقدیم الألف علی الهمزة فی اللغتین و (ساء من رأی) و (سامراء). و استعمله البحتری ممدودا فی قوله (و نصبته علما بسامراء).
ثم یتابع لسترنج بحثه فی هذا الشأن فیقول ان الأرض التی بنی علیها الخلیفة المعتصم (و هو اصغر أبناء هارون الرشید) أول قصر له حین قدم الی سامراء فی سنة 221 (836) کانت دیرا للنصاری اشتراه من أصحابه بأربعة الاف دینار (2000 باون استرلینی)، و کانت ارضه تعرف بالطیرهان. و یذکر الشی‌ء نفسه الدکتور دوایت دونا لدسون فی کتابه (عقیدة الشیعة) ، و یزید علی ذلک قوله ان اسم سر من رأی أطلقه المعتصم نفسه علی عاصمته الجدیدة التی اصبحت تسمی «المدینة الثانیة لخلفاء بنی هاشم»، و ان المسافة ما بین سامرا و بغداد کانت تبلغ حوالی ستین میلا (انها الیوم حوالی 120 ک)، و ان عدد المراحل ما بین سامراء و مکة المکرمة علی ما یذکره ابن رسته کان تسعا و تسعین مرحلة طول کل منها اثنا عشر میلا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 196
هذا و یقول المؤرخ الألمانی المشهور کارل بروکلمان فی کتابه (تاریخ الشعوب الاسلامیة) ان سامراء اسم فارسی و لیس اسما آرامیا ، کما یستفاد من السطور التالیة: و اذا کان هارون الرشید قد آثر فی السنوات الأخیرة من حیاته ان یفزع الی الرقة، البلدة الریفیة الواقعة علی الفرات، اجتنابا لصخب بغداد، فقد عزم المعتصم علی ان ینشی‌ء سنة 836 مقرا جدیدا لنفسه فی سامراء القائمة علی الضفة الیمنی من دجلة (الصحیح علی الضفة الیسری) علی مسافة مائة کیلو مترا الی شمال بغداد. و لعل الأذن العربیة توهمت ان الأسم الفارسی یخفی فی طیاته نذیر شوم فحرّف فی الاستعمال الرسمی الی «سر من رأی».
و ربما یکون بروکلمان قد استمد هذا الرأی من دائرة المعارف الأسلامیة (غیر المختصرة- 1913) . فقد جاء فیها ان شکل الأسم الأصلی قد یکون ایرانیا.
و ان هذا الافتراض یستند عن کون الأسم قریبا من «سام راه» و «سایی أمورا» أو «سار مورا»، و معنی الأسمین الأخیرین «مکان دفع الجزیة».
و فی فصل خاص یفرده لسامراء المستر سیتون لوید، خبیر مدیریة الآثار العراقیة القدیمة مدة من الزمن، فی کتابه عن (المدن الأثریة القدیمة فی العراق) یورد السبب المعروف عن کیفیة بناء المعتصم مدینة سامراء و یقول ان المعتصم أخذ یطوف فی دجلة لاتخاذ المحل المناسب فاقلع مصعدا فی دجلة حتی وصل الی هضبة مستویة ترتفع عن ضفته الیسری بعدة أمتار، عن مسافة قصیرة من موقع سد نمرود. و کان یقوم هنا دیر من الأدیرة، فکانت أول خطوة یخطوها أنه استشار رهبان هذا الدیر فی الأمر و سألهم عن اسم الموقع. فکان جوابهم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 197
له «.. اننا نجد فیما عندنا من مدونات ان المکان یسمی سر من رأی، و أن هناک نبوءة تقول ان ملکا مظفرا، قویا عظیما، ترافقه حاشیة من رجال تشبه أوجههم طیور الفلا، سیعید بناءه فی یوم من الأیام». و کأن الرهبان فی جوابهم هذا کانوا یتوقعون قبض نصف الملیون من الدنانیر التی دفعت لهم فیما بعد تعویضا عما استملک من أراضیهم فی هذا الشأن. و علی کل فان القسم الأخیر من النبوءة هو الذی تأثر به المعتصم، لأنه سرعان ما تذکر أباه هارون الرشید و کان قد اخبره بالشی‌ء نفسه تقریبا فی مناسبة سابقة. فقد خرج للصید مع اخوته فی یوم من الأیام فلم یکن موفقا فیه، و لم یصطد سوی بومة واحدة، و حینما جاء بها خجلا و وضعها بقرب ما کان اخوته قد اصطادوه من طیور الحباری و الغزلان تأثر أبوه هارون بذلک لسبب من الأسباب و تنبأ له بأنه سوف یتربع علی کرسی الخلافة ذات یوم، و ان رجال حاشیته ستکون لهم أوجه کأوجه البوم. و لذلک استقر المعتصم فی سامراء و شرع ببناء قصر منیف له سماه «دار العامة» فی مکان الدیر، و خطط مدینة من اجمل المدن القدیمة فی تخطیطها و طراز بنائها.
و یقول السر بیرسی سایکس فی کتابه «تاریخ ایران» ان قائدا ترکیا کان قد تعین للقیادة العسکریة العلیا التی کانت تعمل فی غرب الامبراطوریة علی عهد الخلیفة هارون الرشید، و کان ذلک قبل ان یتولی المعتصم الخلافة بثمان و أربعین سنة. و فی خلال هذه المدة کان یؤتی بالاف الممالیک الأتراک من آسیة الوسطی للإنخراط فی سلک الجیش، و تکوین أفواج الحرس الملکی.
و استطاع الکثیرون من هؤلاء أن یحوزوا علی رضا الخلیفة فأخذوا یحلون بالتدریج فی محل العرب الذین عادوا الی بادیتهم. و قد ظهرت مساوی‌ء هذا الجهاز منذ البدایة، لکن المعتصم کان یزداد اعتماده علی الأتراک کلما ازداد موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 198
کره العرب و احتقارهم لهم حتی تمکنوا بمرور الزمن من اغتصاب السلطة.
و حینما ازدادت تعدیاتهم علی الناس فی بغداد و کثر تعرضهم بهم فی الطرق و الأسواق تأثر المعتصم من ذلک و أسس مدینة سامراء علی بعد ستین میلا من العاصمة.
و جاء فی دائرة المعارف المشار الیها ان سامراء تقع علی دورة من دورات دجلة تتجه نحو الجنوب الشرقی ما بین قریتی «کرخ فیروز» فی الشمال و «المطیرة» فی الجنوب الشرقی منها. و هناک قناتان تتفرع إحداهما، و هی القاطول الکسروی، من فوق (کرخ فیروز) بالقرب من الدور فتجری فی اتجاه جنوبی شرقی لتتصل بالقناة الثانیة «القاطول الیهودی» التی تتفرع من دجلة فیما تحت المطیرة فتجری فی اتجاه شرقی- شمالی شرقی، و بذلک تحصر سامراء و ضواحیها الشرقیة فی بقعة تشبه الجزیرة. و تقع فی الضفة الغربیة فی مقابل سامراء عدة قصور یمر ما بینها نهر یجری بموازاة دجلة یسمی «الاسحاقی» ثم یعود فیصب فی دجلة فی موقع یقع تحت المطیرة و ما فوق قصر «بلگوارا» بقلیل.
و من الحوادث المشهورة فی تاریخ منطقة سامراء القدیم المعرکة الحامیة الحاسمة التی وقعت بین الرومان و الایرانیین فی یوم 26 حزیران سنة 363 قبل المیلاد. فقد اصطدم الجیشان بقیادة الأمبراطور جولیان و شاهپور العظیم، علی ما یسمیه السر بیرسی سایکس ، فیما یقرب من سامراء فقتل و خسر الرومان، فاستعاد الایرانیون بذلک نصیبین و ما کان قد استولی علیه جولیان فی شرق دجلة، و عادت جیوشه متقهقرة عبر دجلة بقیادة خلفه جوفیان .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 199

بناء سامراء

و بعد ان اختار المعتصم موقع سامراء، علی ما مر ذکره، عهد تخطیطها و بناءها الی أشناس، القائد الترکی، علی ما یقول بروکلمان . فأنشأ فیها هذا قناتین متفرعتین من دجلة الی الشرق، خلعتا علی المدینة الجدیدة، بالأضافة الی النهر نفسه، منعة الحصن البحری، و کانت المدینة تنتظم من قبل ثمانیة أدیرة نصرانیة. و لقد شید قصر الجوسق للمعتصم أولا، حتی اذا ما جاء بعده خلفاؤه و کانوا سبعة طوال نصف قرن، حلوا جید المنطقة بقصور و مساجد جدیدة. و علی الرغم من أنه لم یبق لنا من هذه المنشآت الفخمة التی أقیمت خلال تلک الفترة القصیرة من الازدهار الا خرائب و أطلال فالحق أنها تقدم لنا صورة عن فن العمارة فی العصر العباسی هی أنبض بالحیاة من تلک التی تقدمها بغداد، حیث عبثت أیدی الأجیال المتأخرة بما ثبت من آثارها فی وجه الأعصار المغولی. و الواقع ان المعماریین المسلمین اعتمدوا فی الشرق، کما اعتمدوا فی الغرب، التقالید القدیمة سواء بسواء. فقصر الخلیفة المتوکل الموسوم بلگوارا و هو أهم بناء لا تزال أسسه محفوظة لنا فی سامراء- انما شید علی طراز قصور المدائن الفهلویة من حیث التصمیم العام، و تخطیط المساحات و شکل الواجهات.
أما مهندسو الجامع الکبیر فتأسوا أثرا أعرق و أوفر حظا من جلال القدم.
ذلک أنهم بنوا مئذنة هذا الجامع فوق قاعدة طولها (328) یاردة علی طراز الأبراج البابلیة ذات السلالم الخارجیة الملویة، و هی «الزقورة». و الحق ان الموارد العظیمة التی کانت ما تزال فی متناول هؤلاء المعماریین، علی الرغم من أن الامبراطوریة کانت فی ذلک الوقت قد أخذت فی الانحطاط، لتظهر لنا أوضح ما یکون الظهور من مساحة الجامع الهائلة حقا. فهو بمثابة مستطیل یبلغ (260) مترا طولا، و (180) مترا عرضا تقریبا. و یستغرق
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 200
صحنه الداخلی المتوزع علی خمس و عشرین بلاطة اربعة و اربعین الف متر مربع.
و لأجل أن نکون فکرة واضحة عن معنی هذا الرقم علینا ان نذکر ان صحن کنیسة القدیس بطرس فی روما یبلغ (15160) مترا مربعا، فی حین لا یزید صحن کاتدرائیة کولون علی (6126) مترا.
اما المستشرق لسترنج فیقول فی (بلدان الخلافة الشرقیة) أن سامراء نفسها کانت تقوم علی ضفة دجلة الشرقیة، و تمتد قصورها الی مسافة سبعة فراسخ بمحاذاة النهر، و کان یقوم فی الجانب الغربی أیضا کثیر من القصور.
و قد انفق الخلفاء الواحد تلو الآخر اموالا طائلة لا یکاد یصدقها العقل علی إنشاء میادین جدیدة للصید و اللعب ...
و قد أقطع المعتصم جنده الأتراک قطائع فی (کرخ فیروز) و ما فوقها حتی الدور، و قطائع أخری فی جنوبی سامراء فی جهة المطیرة. و بنی أول مسجد جامع قرب ضفة دجلة الشرقیة، ثم خطط قصره. و کتب فی إشخاص الفعلة و البنائین و أهل المهن من سائر انحاء الدولة، و فی حمل الساج و سائر الخشب و الجذوع من البصرة، و فرش الرخام من أنطاکیة و اللاذقیة. و اختط الشارع المسمی بالشارع الأعظم بموازاة دجلة. و قامت علی یمین الشارع و یساره القصور الجدیدة و القطائع. و کان الشارع الأعظم ممتدا من المطیرة الی الکرخ، و فی جانبیه دروب و اسواق. و أنشأ أیضا بیت المال الجدید، و دواوین الدولة و دار العامة التی کان یجلس فیها الخلیفة فی یومی الاثنین و الخمیس.
و لما فرغ المعتصم من الخطط و وضع الأساس للبناء فی جانب سامراء، عقد جسرا الی الجانب الغربی من دجلة. فأنشأ هناک البساتین و الأجنة، و حمل النخل الیها من البصرة و حملت الغروس من الشام و خراسان و سائر الأقالیم و کان یسقی الجانب الغربی أنهار تحمل من الأسحاقی، الذی حفره اسحاق بن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 201
ابراهیم صاحب شرطة المعتصم ... و لما توفی المعتصم سنة 227 (842 م) کانت سامراء قد أخذت تنافس بغداد فی فخامة قصورها و جمال مبانیها. و قد أکمل ابناه الواثق و المتوکل اللذان تعاقبا علی الخلافة من بعده ما بدأ به أبوهما. فقد بنی هارون الواثق القصر المعروف بالهارونی، نسبة الیه، علی دجلة و جعل فیه مجالس فی دکة شرقیة و دکة غربیة. و حفر الواثق فرضة من النهر تصلح لدخول السفن التی تردها من بغداد. و خلفه أخوه المتوکل علی اللّه فی سنة 232 (847 م) فنزل الهارونی أولا، الا انه فی سنة 245 (859 م) شرع ببناء قصر جدید له علی ثلاثة فراسخ شمال الکرخ، و مد الشارع الأعظم، و قد عرف قصره و المدینة الجدیدة التی قامت حوله بالمتوکلیة أو «القصر الجعفری»، و ما زالت أطلال القصر الجعفری فی الزاویة التی یؤلفها تفرع النهروان هناک، و اندمجت به الماحوزة و هی المدینة القدیمة.
و بنی المتوکل ایضا جامعا جدیدا متسع الأرجاء فی مکان الجامع الذی بناه أبوه، لأنه ضاق علی أهل العاصمة الجدیدة. و امتدت القصور و البساتین من المطیرة الی الدور و اتصلت. و فی سنة 247 (861 م) قتل المنتصر أباه المتوکل فی قصره المعروف بالجعفری فی المتوکلیة. و أقام الخلفاء الأربعة الذین أعقبوه فی ذلک العهد المضطرب، فی قصر الجوسق فی غربی دجلة قبالة سامراء، و هو من أبنیة المعتصم. و قد أقام المعتمد بن المتوکل و آخر الخلفاء فی سامراء فی الجوسق أولا ثم ابتنی له قصرا جدیدا فی الجانب الشرقی و هو القصر المعروف بالمعشوق.
و من هذا القصر انتقل مرکز الدولة العباسیة الی بغداد قبل وفاة المعتمد سنة 279 (892 م).
و قد اشارت مراجعنا الی اسماء کثیرة من القصور التی بناها الخلفاء فی من بقایا اطلال قصر المعشوق بسامراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 202
سامراء. فذکر ابن سراپیون «قصر الجص» المشهور و هو من أبنیة المعتصم علی الأسحاقی. و سرد یاقوت جملة کبیرة من القصور، و زاد علی غیره مبینا ما أنفقه الخلفاء علیها من أموال خیالیة. فکان مجموع تلک النفقات مئتی ملیون و أربعة ملایین درهم، أی ما یعادل نحوا من ثمانیة ملایین باون استرلینی.
و لا بد لنا من ان نعلق هنا علی بعض ما أورده لسترنج حول موقع قصری الجوسق و المعشوق فنقول ان المعروف الیوم هو ان المعشوق الذی یسمی بالعاشق یقع فی الجانب الغربی و ما تزال أطلاله شاخصة، اما الجوسق فیقع فی الجامع الشرقی من سامراء. و نقول علاوة علی ذلک ان مترجمی کتاب لسترنج المشار الیه یشیران فی حاشیة لهما الی ان مدیریة الآثار العراقیة قد اکتشفت أثرا عباسیا یقع علی الأسحاقی المندرس فی غربی دجلة علی بعد (17) کیلو مترا شمال محطة قطار سامراء یعرف بالحویصلات هو قصر الجص نفسه.
ثم یقول المستشرق لسترنج ان ابن حوقل و هو من أهل المئة الرابعة للهجرة (العاشرة میلادیة) یطنب فی وصف بساتین سامراء الزاهرة العامرة و لا سیما ما کان منها فی الجانب الغربی. لکن المقدسی یذکر أن الکرخ فی الشمال أصبح فی أیامه أکثر عمرانا من سامراء، و کان المسجد الجامع فیها ما زال قائما. و لقد وصفه بقوله: «و بها جامع کبیر یختار علی جامع دمشق قد لبست حیطانه بالمیناء و جعلت فیه أساطین الرخام و فرش به، و له منارة طویلة». و هی ما زالت شاخصة و تعرف بالملویة و الملویة الآن علی نحو نصف میل من شمال سامراء الحالیة. و هذا ما رآه المستوفی فی النصف الأول من المئة الثامنة فقال ان المنارة التی کانت تقوم فی المسجد الجامع یومذاک یبلغ طولها مئة و سبعین ذراعا، و لها مرقاة من خارجها لا یری مثلها فی مکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 203
آخر و زاد علی ذلک أنه قد بناها المعتصم.
هذا و نضیف هنا ما جاء فی حاشیة لمترجمی کتاب لسترنج من معلومات عن «الملویة» نفسها. فقد ذکرا أنها تقع الیوم علی بعد قلیل من شمال شرقی سامراء الحدیثة، علی نحو (25) مترا من الجدار الشمالی لجامعها القدیم.
و کان الخراب قد نال من بعض أقسامها و لا سیما من قاعدتها، و فی ملتویاتها الأولی، حتی ان معالم قاعدتها خفیت عن الأنظار بما تراکم علیها من أنقاض، فظن کثیرون ان مرقاتها تبدأ من سطح الأرض. الا ان مدیریة الآثار العراقیة عنیت بصیانة هذه المنارة فأزالت عنها تلک الأنقاض و أظهرت أسس القاعدة و أعادت بناءها و عمدت مرقاتها حتی القمة. و من طریف ما ورد فی حواشی المترجمین الفاضلین کذلک ان أبا منصور الثعالبی المتوفی سنة 429 ه، أشار الی الملویة فی کتابه (ثمار القلوب) و قال عنها ان المتوکل کان یصعدها علی حمار مریسی، و ان درجها من خارجها و أساسها علی جریب من الأرض، و طولها تسع و تسعون ذراعا.
المسجد الجامع و قد قامت علیه المنارة المعروفة بالملویة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 204
و قد عثرنا فی دائرة المعارف الاسلامیة المار ذکرها علی تفصیلات أخری عن عمران سامراء العباسیة و ابنیتها، جاء فیها انه کان من شوارعها الرئیسة یومذاک (شارع السریجة) الذی یمر بین یدی دائرة الشرطة و السجن ثم یمتد الی المحلة التی کانت تحمل اسم الوزیر الحسن بن سهل، و من ثم الی شارع أبی أحمد بن رشید والی قریة الأیتاخیة المشیدة علی ضفة القاطول الکسروی.
و قد سمیت الأیتاخیة باسم القائد الترکی إیتاخ، لکنها صارت تعرف بعد ذلک بالمحمودیة. و کانت هناک کما یفهم من المدونات التاریخیة خمسة شوارع رئیسة أخری هی: شارع الحیر، و شارع برغموش الترکی المؤدی الی حی الاتراک، و شارع صالح المؤدی الی مخیمات المعسکر، و شارع الحیر الجدید، و شارع الخلیج.
و تقول دائرة المعارف هذه کذلک ان المؤرخین یقدمون لنا تفصیلات کثیرة عن الأبنیة المهمة التی کانت موجودة فیما یجاور سامراء، و منها أبنیة کانت هنا قبل أن تشید سامراء نفسها فی تلک المنطقة، مثل الأدیرة الثمانیة التی أهمها «دیر الطواویس» و «دیر ماری» و «دیر أبی الصفرة»، لکن أشهر الأبنیة کانت القصور الکبیرة. و قبل ان یقتل المتوکل بتسعة أشهر کان منشغلا بتخطیط مدینة جدیدة فی شمال سامراء ما بین (کرخ فیروز) و الدور، و قد سمیت «الجعفریة» باسمه. و من التفصیلات التی یوردها المؤرخون فی هذا الشأن ما ذکروه من ان المتوکل جاء من ایران بشجرة السرو المقدسة عند الزردشتیین فی کیشمار لیستعمل خشبها فی البناء. و یری بعضهم کذلک ان اندثار قصور المتوکل و خرابها السریع بعد ذلک کان عقابا من اللّه له علی الجریمة النکراء التی ارتکبها فی تهدیم قبر الامام الحسین (ع) فی کربلاء سنة 236 للهجرة. و بعد أن قتل المتوکل أعاد ابنه الخلیفة المنتصر بلاطه الی سامراء نفسها، و جعل إقامته فی الجوسق. و قد شید المعتمد، و هو آخر خلیفة أقام فی سامراء، قصر المعشوق فی الضفة الشرقیة سنة 255 ه. و قد حل الخراب بمعظم هذه الأبنیة و القصور منذ القرن العاشر للهجرة، و لم
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 205
یستقم منها غیر الجامع الکبیر بالقرب من معسکرات الجیش، و من أجل هذا عرفت تلک المنطقة من المدینة باسم «العسکر».
و جاء فی دائرة المعارف الاسلامیة هذه أیضا أن السمعانی یذکر فی کتابه (الأنساب) قائمة بأسماء کان یتلقب أصحابها بلقب «سامرائی) أو «سرمری» کما یذکر أسماء أخری کان یلقب أصحابها بلقب «کرخی» نسبة الی ولادتهم فی «کرخ فیروز» .

بناء سامراء فی کتاب سیتون لوید

و یقول سیتون لوید فی «مدن العراق الأثریة» المار ذکره أن المعتصم استقر فی سامراء بعد ان عین موقعها، و أخذ یبنی لنفسه قصرا منیفا أطلق علیه اسم «دار العامة» فی موقع الدیر الذی استملکه من الرهبان. کما أخذ یخطط حوله مدینة من أجمل المدن القدیمة و أکثرها تنسیقا و عمرانا. و فی خلال أربعین السنة التی أعقبت ذلک، حکم فی سامراء خلفاء سبعة آخرون، فبنی کل منهم قصورا و مساجد جدیدة و امتدت المدینة شیئا فشیئا بمحاذاة النهر حتی صار شارعها الأعظم یمتد فی وسطها الی مسافة عشرین میلا قبل ان ینتهی بالبر المحیط بها. و فی نهایة تلک الفترة المزدهرة ترک کل شی‌ء فی سامراء، و انتقلت العاصمة الی بغداد من جدید. و کان هذا الانتقال ثالث حادث فی تاریخ العالم، یؤدی فیه شذوذ ملک أو أمیر الی اقامة مشروع جسیم باهظ التکالیف سرعان ما ثبت عقمه و عدم جدواه، و لذلک فان مشاهد سامراء القدیمة تلوح للزائز الیوم و هی لا تختلف کثیرا عما یشاهده فی عاصمة اخناتون التی لم تعمر طویلا فی تل العمارنة بمصر، أو فی مدینة ملک آشور سرجون الثانی فی خورساباد القریبة من الموصل. فقد بقیت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 206
أطلالها و هی متأثرة بعوادی الزمن فی الغالب بحیث یمکن استقصاء تخطیطها من دون حفریات تقریبا. و بوسع المرء أن یری من الجو المدینة تلک بقصورها و شوارعها الوسیعة و ساحات سباقها، حتی أنه لیصعب علی المرء أن یصدق بأنه ینظر الی مدینة مندثرة تخلی عنها سکانها منذ ثلاثة عشر قرنا.
و اذا عدنا الی حدیث المعتصم و مدینته نجد انه بعد ان شید «دار العامة» و جاء بالمهندسین الحاذقین من البلاد النائیة لیختاروا له مواقع القصور الأخری، و الجوامع و ما أشبه، شرع بتخطیط قسم السکن من المدینة و بتخصیص قطع الأرض لبناء البیوت العائدة لمواطنیه. لکنه تذکر السبب الذی ترک بغداد من أجله فشید ثکنات جسیمة مسیجة لجنده الأتراک فی شمالی المدینة، بمعزل تام عن الأحیاء السکنیة. ثم اشتری لکل واحد منهم جاریة یتخذها زوجة له، و منع الطلاق الی حد الجیل الثانی من النسل. و بعد ان انتهی من هذه المهمة، وجه اهتمامه الی الحصول علی الصنّاع و المواد من أطراف العالم العربی جمیعه لتجمیل مدینته و ما فیها من أبنیة. فأسست مقالع للمرمر و أماکن خاصة للبنائین فی أماکن نائیة مثل أنطاکیة و الاسکندرونة فی سوریة، ثم أرسلت الوفود الی مصر لتجمع من الکنائس المسیحیة الأعمدة و مواد التبلیط و الزخرفة.
و قد برهنت البقع الواسعة من الأرض المنحصرة ما بین السن الصخری الذی شیدت فوقه المدینة و ضفاف دجلة علی خصبها، فزرعت فیها جمیع الأنواع المعروفة من الفواکه و الأزهار بحیث صارت القصور المشیدة فوق السن العالی تطل علی جنان نظرة من الحدائق و البساتین. و قد اتسعت المدینة نفسها بین عشیة و ضحاها برعایة الخلیفة المستعجل، الذی اعتاد علی التجوال فی الشوارع خلال الأمسیات، و توزیع المنح و الهبات السخیة الی المواطنین و المهندسین الذین کانوا یتفوقون فی أعمالهم العمرانیة خلال النهار. و لم تکن المدینة قد اکتمل بناؤها حینما توفی المعتصم، لکن حمّی التعمیر و الانشاء کانت قد تفشت فاستمرت تسیر من دون انقطاع فی أیام من جاء بعده من الخلفاء.
و یأخذ المستر سیتون لوید بوصف الأبنیة المهمة التی أقیمت فی سامراء
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 207
یومذاک، مثل المسجد الجامع و الملویة و دار العامة و قصر. بلگوارا و غیر ذلک، مستندا علی کتابات المنقب الفرنسی فیولیه، و الآثاری الألمانی هرتسفیلد، مما سنأتی علیه فی مکان آخر من هذا المبحث. علی انه یتطرق کذلک الی ما فعله المتوکل أیضا فی سامراء، فیقول أنه حینما جاء دوره فی تحسین أحوال المدینة و توسیعها ابتنی له حیا جدیدا بکامله فی خارج حدود المدینة الأصلیة من جهة الشمال. فنشأت عن ذلک من جدید القصور و المبانی المنیفة و الشوارع و المخازن و ما أشبه. و حینما انتهی من هذا کله صار بوسعه ان یقول بقناعة صبیانیة «الآن عرفت اننی ملک حقا، فقد شیدت مدینة لنفسی صرت أعیش فیها». و مع هذا فان أعظم مشروع اضطلع به المتوکل لم یکن مشروعا ناجحا. فقد کانت سامراء توزع معظم مائها المستمد من دجلة و الآبار علی ظهور الحمیر، و لم یکن یروق ذلک للمتوکل، فشرع یحفر قناة کبیرة تلف حول المدینة من الجهة الشرقیة لتزودها بما یکفیها من الماء، فکلف حفرها مبلغا یزید علی الملیون دینار علی ما یقال. لکن المؤسف هو ان المتوکل تطرف فی الاعتماد علی مهندسیه لأن القناة حینما اکتمل حفرها وجد المهندسون انها عاجزة عن أخذ الماء من دجلة بمقدار کاف، غیر انه ما ان شعر بمرارة هذه الخیبة الفاضحة حتی قضی نحبه، فهجر خلفه حی المتوکلیة بأجمعه و عاد الی الأقامة فی سامراء.
و من الأبنیة الشمالیة التی عجل الخراب الیها علی هذه الشاکلة الجامع الکبیر الثانی المعروف بأبی دلف. و کان لجامع أبی دلف أیضا منارة ملویة، و قد بقی شی‌ء أکثر من داخلیته بحیث أصبح أکثر رونقا و بهاءا من المسجد الجامع. فتشاهد فیه الأساطین و هی مبنیة بالآجر و من الأبنیة الشمالیة التی عجل الخراب الیها علی هذه الشاکلة الجامع الکبیر الثانی المعروف بأبی دلف فتشاهد فیه الأساطین و هی مبنیة بالآجر.
و بقی معظمها شاخصا حتی الیوم. و هناک بقایا منبر کذلک و محراب متقن الصنع، و من ورائه مجموعة من الغرف تحیط بفناء صغیر کاف یجلس فیه الخلیفة قبل الصلوة و بعدها. و هناک سور خارجی توجد آثاره أیضا.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 208
و حینما یعود المرء من أبی دلف الی البلدة الحدیثة یمر بأحسن المناطق السکنیة، و بوسعه ان یسوق سیارته بسرعة غیر یسیرة علی طول «الشارع» الرئیس الذی یبلغ عرضه ثمانین قدما، و تلاحظ بقایا جدول للماء فی کلا الجانبین. کما تلاحظ بوابات الأبنیة المتسطرة علی طول الشارع و صفوف الدکاکین، و جدار السجن. و قد نقبت دائرة الآثار فی عدد کبیر من البیوت و لذلک یشاهد عدد من الغرف لا تزال جدرانها قائمة بارتفاع عدة أمتار و هی مرتبة بمجموعات مزدوجة إما لتکون للدیوان و الحرم أو لتستعمل فی الصیف و الشتاء، و کلها مزخرف بأحسن الزخرف. فتشاهد فی کل مکان تقریبا حشوات الزخرف بالجص الی علو الوزرات، و لعل هذا من بقایا فکرة الزخرف بالألواح الحجریة التی کانت تکتسی بها أسافل الجدران فی القصور الآشوریة و الحثیة. و هناک فوق هذه أحیانا رسوم کلسیة تعتبر مقدمة للطراز الأجد من الزخرف الهیلینی. و توجد نماذج جیدة لکلا النوعین فی قسم الآثار العربیة من متحف بغداد.
و آخر ما یجده المرء عند عودته من أبی دلف الی سامراء الحدیثة فی الجانب الأیسر من الطرائف التل الطویل الذی یمثل «منصة الخلیفة الکبری» فی وسط ساحة السباق الثانیة. و تشبه هذه الساحة فی شکلها الزهرة ذات الکأسیات الأربع عند ما ینظر الیها من الجو، بحیث أن الخیول او العربات المتسابقة کانت تضطر دوما، بعد ان تکون قد دارت أربع مرات فی الأطراف، الی العودة و الدوران بصورة جذابة مباشرة علی مرأی من المشاهدین من فوق التل القائم فی وسط الساحة.
و تعلیقا علی ما یذکره المستر سیتون لوید فی ملاحظاته عن قناة المتوکل و ساحات السباق لا بد لنا من ان نزید فی توضیح هاتین النقطتین باقتباس شی‌ء مما ورد عنهما فی الجزء الأول من کتاب (ری سامراء) للدکتور أحمد سوسه. فقد جاء عن قناة المتوکل (الص 270) ان المعتصم کان قد اکتفی بجعل عاصمته سامراء تمتد علی محاذاة دجلة فی الطول لیسهل حمل میاه الشرب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 209
من النهر فی الروایا علی البغال و الأبل، و لذلک لم یفکر فی القیام بمشروع ری کبیر یؤمن إیصال المیاه الی قلب العاصمة، و قد رأی ان یوجه عنایته الی الجهة الغربیة من دجلة .. فأنشأ نهر الأسحاقی. و لکن المتوکل، و هو الذی کان له ولع خاص بمثل هذه المشاریع العامة، لم یقنع بهذا فبذل قصاری جهده لتحقیق مشاریع الری علی الجانب الذی تقع فیه عاصمته ... فکان أول مشروع قام به بعد تولیه الخلافة المشروع المعروف ب «قناة المتوکل» أو «قناة سامراء» الذی یؤمن ایصال المیاه الی عاصمته سامراء بطریقة الری الجوفی المعروف بری «الکهاریز». و یشتمل هذا المشروع علی کهریزین ضخمین یستعمل أحدهما فی الشتاء و الآخر فی الصیف، و هما یستمدان المیاه من نهر دجلة شمالی الدور فیسیران حوالی أربعین کیلو مترا حتی یصلا الی قلب العاصمة. و قد مد المتوکل هذین الکهریزین الی الجنوب لیخترقا المطیرة ثم یسیران الی ما یجاور القادسیة. و بفضل هذا المشروع تمکن المتوکل من انشاء مشاریعه الجبارة فی قلب العاصمة و التوسع شرقی سامراء باتجاه منطقة الحیر، و من أهم هذه المشاریع انشاء حوض للسباحة خلف «دار الخلیفة» و هو الحوض المعروف الیوم باسم «برکة السباع»، ثم البرکة الواسعة الواقعة فی الجهة الشمالیة الغربیة من هذه البرکة، و أخیرا حلبة السباق و تّلها الذی یشرف علیها المعروف باسم «تل العلیق» و هی الحلبة التی أنشأها المتوکل فی جهة الحیر .. و هذه القناة هی التی مکنت المتوکل من تموین المسجد الجامع الذی أنشأه فی أول الحیر بالمیاه الدائمة فجعل فیه علی قول الیعقوبی «فوارة ماء لا ینقطع ماؤها».
اما عن ساحة السباق المشار الیها فیقول الدکتور سوسة (الص 116) أنه یشاهد فی غربی ساحة الحیر علی الحدود الشرقیة لمبانی سامراء القدیمة آثار ثلاث حلبات للسباق، أحدثها و أکثرها تنسیقا تلک التی تقع فی حدود الحیر شمال شرقی المسجد الجامع بقلیل، و هی مکونة من أربع حلقات کبیرة حول ج 1- سامراء (14)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 210
مربع مرکزی فیه دکة مرتفعة معدة لجلوس الخلیفة و حاشیته (و هی التی یسمیها لوید منصة الخلیفة الکبری). و یبلغ طول الدورة الکاملة فی هذه الحلقات المتتالیة ما یزید علی خمسة کیلومترات، فی حین ان البعد الأعظم من الدکة المرکزیة علی طول هذه الحلقات یقل عن ستمائة متر. و هکذا کان المتسابقون یقطعون فی هذه المساحة مسافة طویلة من دون ان یبتعدوا عن الدکة المرکزیة أکثر من ستمائة متر فی جمیع الأحوال.
و جاء فیما کتبه السر پیرسی سایکس عن خلافة المتوکل فی سامراء أن أهمیة حکم المتوکل تنحصر فی الدرجة الأولی برد الفعل السنی الذی أخذت تظهر علائمه للوجود. فقد کوفحت مبادی‌ء المعتزلة، و اضطهد علماؤهم و رجالهم بأعنف الوسائل و أقساها. و صار یضاهی ذلک فی العنف الکره الذی بدا من الخلیفة الجدید تجاه آل بیت النبی، حتی أنه أخذ یشجع مهرجه علی تقلید «أسد اللّه» فی مظهره و لباسه بینما یغنی المغنون من حوله باستهزاء عن «خلیفة الاسلام الأصلع البطین» . ثم هدم قبر الحسین فحرث موضعه.
و کان المتوکل علاوة علی هذا معادیا لغیر المسلمین بعناد و تعصب فأحیا القوانین المهجورة التی سنت ضدهم فی الماضی. و قد تحتم علیهم بذلک ان یرسموا صورة الشیطان علی أبواب بیوتهم، و یدفعوا رسوما و ضرائب خاصة بهم، و یلبسوا لباسا أصفر یتمیزون به عن الغیر، و منعوا من تولی ایة وظیفة حکومیة کما منع أولادهم من تعلم العربیة.
و یروی سایکس کذلک قصة شجرة السرو المقدسة فی ایران و قطعها، ثم نقلها من کیشمار إلی سامراء للأفادة منها فی بناء «الجعفری» بأمر من المتوکل. فهو یقول: .. و کان الخلیفة فاسقا مسرفا فی الشهوات. و بنی فی جوار سامراء قصرا جدیدا تکلف مبالغ لا تعد و لا تحصی من المال. و لهذا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 211
القصر علاقة بأسطورة کیشمار و کونها ملتقی الملک کوستاشب و زرادشت.
فقد قیل ان «نبی ایران» لأجل ان یخلد هذا اللقاء، زرع شجرة من أشجار السرو تقدمت فی النمو بعد ذلک فأصبح حجمها هائلا جدا، و صار الزردشتیون یعتبرونها شجرة مقدسة. غیر أن الخلیفة المتعصب أمر بقطعها، بعد أن بلغ عمرها 1450 سنة کما یقال، برغم المبالغ الجسیمة التی دفعت من أجل انقاذها، فقطعت و نقلت قطعة قطعة الی سامراء، لکن الأسطورة تقول ان المتوکل قتل فی الیوم الذی وصلت فیه قطع هذه الشجرة الی سامراء ..

فن العمارة فی سامراء

لقد أجمع المؤرخون و الفنیون، من المسلمین و الأجانب، علی ان بناء سامراء فی العهد العباسی، بقصورها و مرافقها و سائر مبانیها، قد تجلت فیه آیات الفن المعماری و الزخرفی الی أقصی حد ممکن فی تلک الأیام. و یؤکد الغربیون من المؤرخین و الفنیین علی ان ذلک الفن المعماری، الذی بلغ الأوج فی ابداعه من عدة اوجه، قد کان متأثرا لدرجة ما بتأثیرات الفن المعماری الایرانی و الهندی و الهیلینی و غیر ذلک مما کان معروفا یومذاک، فضلا عن تأثره بفن العمارة العراقی القدیم. لکن هذه الآراء، و ما یختص منها بالتأثیر الهیلینی الذی یذکره المنقب هرتسفیلد علی الأخص، تحتاج الی الکثیر من النظر و التدقیق فی التطورات الطارئة علی نظریات الفن الاسلامی برمته.
و أهم من کتب عن آثار سامراء العربیة و الفن المعماری فیها العلامة الألمانی أرنست هرتسفیلد، الذی ضمن کتاباته جمیع ما توصل الیه من دراسات عن سامراء، و لا سیما بعد التنقیب الذی أجراه بنفسه. ففی مطلع سنة 1911 استطاع الرحالة و العلامة الألمانی المشهور فردریک صاره‌Fredrick Sarre الحصول علی امتیاز خاص من الدولة العثمانیة للقیام بالتنقیب فی آثار سامراء، و عهد بالعمل الی الدکتور أرنست هرتسفیلد الأستاذ فی جامعة برلین یومذاک.
فاضطلع هذا بمهمته فی الحال و قام بأعبائها خیر قیام، ثم نشر ما توصل الیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 212
فی مؤلفات عدة أصبحت منبعا ثرّا یستقی منه الکتاب عن سامراء فی جمیع اللغات. علی أن هذا العمل کان قد تولاه قبله علی مقیاس ضیق المهندس الفرنسی فیولیه فی 1907، بالنسبة لقصر الجوسق فقط، فنشر نتائج عمله فی بعض المجلات و النشرات الفرنسیة المختصة .
و قد لخص الاستاذ کریسویل، عضو المجمع العلمی البریطانی، أهم ما کتبه هرتسفیلد عن سامراء فی کتابه المعروف «فن العمارة الاسلامی القدیم» المطبوع لأول مرة سنة 1958. فهو یصف فی الفصلین الرابع عشر و السادس عشر عمارة قصر الجوسق الخاقانی (ای قصر المعتصم) بجمیع أجزائه و مرافقه، و الجامع الکبیر فی سامراء بمنارته الملویة، و جامع أبی دلف، و بیوت سامراء، و القبة الصلیبیة، ثم یبحث فی طراز الزخرفة و الزینة فی تلک الأبنیة بوجه عام.
و یبدأ ذلک بمقدمة تاریخیة موجزة عن انتقال العاصمة من بغداد الی سامراء فی عهد المعتصم، و یخلص من ذلک الی القول بأن أول ما فعله هذا الخلیفة،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 213
حین أقدم علی بناء عاصمته الجدیدة، هو انه استقدم الفعلة و البنائین و الصناع، مثل النجارین و الحدادین و غیرهم، من الخارج کما فعل أسلافه حینما عمدوا الی بناء المدینة المدورة (بغداد) من قبل. و جلب أخشاب الساج و جذوع النخل، و سائر أنواع الخشب من البصرة، ثم استقدم العمال المختصین ببناء المرمر و نحته من اللاذقیة و غیرها. و لم یقتصر هذا علی جمیع الصناع و العمال المهرة من أنحاء الأمبراطوریة حسب، و انما استجلب شیئا غیر یسیر من المواد البنائیة من مصر و غیرها أیضا. و هو ینسب الی عبد اللّه بن المقفع قوله ان المعتصم بعث بأناس خاصین الی مصر و زودهم بصلاحیات و أوامر قاطعة بأن یجمعوا أنواع المرمر و الأساطین من الکنائس أینما وجدت. و بعد ان جردوا کنائس الأسکندریة من کل ما وجدوه فیها من هذا القبیل ذهبوا الی کنیسة القدیس میناس فی مریوط، الکائنة فی غرب الاسکندریة، فاقتلعوا ما کان فیها من المرمر الملون و مواد التبلیط التی لم یکن لها مثیل فی کل البلاد.
و حینما استولی المعتصم نفسه علی عموریة فی حملته المشهورة سنة 838 للمیلاد أخذ بوابتها الکبری و نقلها الی سامراء أیضا .

الجوسق الخاقانی

کانت أطلال هذا القصر العظیم، علی ما یقول کریسویل، قد نقب فیها المهندس الفرنسی فیولیه سنة 1907 بنطاق ضیق أجری فیه تنقیبات تجریبیة هنا و هناک، و بعد ذلک بسنوات قلیلة تولت التنقیب فیها بمقیاس واسع بعثة ألمانیة باشراف صاره و هرتسفیلد.
و قد کان أول ما وجدته هذه البعثة حوضا کبیرا فی الأرض المنخفضة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 214
المصاقبة لدجلة، تبلغ مساحته (127) مترا مربعا (417 قدما مربعا).
و تصعد من هذا الحوض الی السن العالی الواقع بین یدی «باب العامة» سلّم ضخم عرضه ستون مترا (197) قدما.
و تتألف «باب العامة»، التی حافظت علی شکلها أحسن من أی جزء آخر من القصر العظیم، من جبهة ثلاثیة العقود یبلغ ارتفاعها حوالی اثنی عشر مترا (5، 39 قدما)، و تمتد من ورائها ثلاث غرف مسقفة بعقادات متوازیة تطل علی نهر دجلة. و یمضی کریسویل فی وصف الاواوین و مساحاتها، و هیکل البباء و مرافقه وصفا دقیقا فی مساحات ثابتة من الطول و العرض و الارتفاع. و الأساطین و زخارفها و هندستها حتی یصور القصر تصویرا مجسما امام القاری‌ء
ثم یأتی علی وصف جناح الحریم من القصر فیقول، کما یقع فی الجهة الجنوبیة قسم الحریم الذی یمتد منه ملحق جنوبی یتفرع الی عدة فروع. و یقع علی الفناء الأول مباشرة الحمام الکبیر. علی ان الداخل اذا استمر علی السیر الی الأمام رأسا یمر فی بهو أمامی یؤدی الی «قاعة شرف» طویلة یکون جداراها الشمالی و الجنوبی بسیطین خالیین من الزخرف، بینما تبدو من الجهة الجنوبیة جبهة «غرفة العرش» بأبوابها الثلاث .
و تتألف «غرفة العرش» من بهو وسطی مربع الشکل کان من المؤکد، علی ما یبدو، مغطی بقبة خاصة مع أربعة أبهاء فرعیة بنی کل منها علی شاکلة «الباسیلیک» الرومانی ثلاثی الأجنحة، و بذلک تکون هذه أشبه بغرفة العرش فی قصر المشتی أیضا. و یقول هرتسفیلد ان السبب فی بناء هذه الابهاء الاربعة علی شاکلة الباسیلیک هو الحاجة الی تدبیر الاضاءة الکافیة. و قد وجدت قطع من أفریز مرمر جمیل فی البهو الأوسط المربع. و کانت هناک بین اذرع الصلیب المتکون موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 215
من شکل البناء أبهاء أصغر مؤزّرة بقطع من المرمر، و مصلی للخلیفة موزّر بالزخارف الجصیة فیه محراب خاص.
و یقع قسم الحرم حول محور مستعرض یمر من الغرفة الوسطی و یتصل بالغرف المکونة شکل
( T )
من الشمال و الجنوب. و لم ینقب الا فی القسم الجنوبی من هذا القسم، و یقع بین یدی البهو الجنوبی من هذا القسم بهو واسع بعرض الفناء المطل علیه. و یشغل ضلعی الفناء الشرقی و الغربی عدد من غرف الجلوس، جهز کل منها بالماء الجاری الذی یصل الی قسم منها بأنابیب رصاص کبیرة، و بأنابیب خزفیة مزججة أو غیر مزججة الی القسم الآخر.
و هناک علاوة علی ذلک غرف خاصة للغسیل و المراحیض. و فی مقابل غرفة العرش من جهة الفناء الجنوبیة توجد غرفة من نوع خاص مربعة الشکل، بعرض الفناء نفسه أیضا. فهی قبل کل شی‌ء محاطة بممر طوله واحد و عشرون مترا (69 قدما) من کل جهة، و لها أربعة أبواب واسعة، مع أربعة أعمدة مرمر فی زوایاها الأربع. و قد کانت هذه الغرفة مزخرفة کلها برسوم بشریة مختلفة.
و یوجد أمام البهو الشرقی الشبیه بالباسیلیک فی جناح غرفة العرش بهو کبیر آخر یبلغ حوالی ثمانیة و ثلاثین مترا (125) قدما فی عرضه، و (40، 10 مترا فی عمقه، و یفتح علی شرفة عظیمة بخمسة أبواب. و هذه عبارة من ساحة مفتوحة واسعة الأرجاء تبلغ مساحتها 350* 180 مترا، و یقسمها جدول من الماء الی قسم غربی مبلط فیه نافورتان و قسم شرقی غیر مبلط یخترقه عدد من الجداول الصغیرة.
و اذا سار المرء متجها الی شرقی الشرفة الکبیرة یأتی السرداب الصغیر الکائن علی محور القصر الأصلی. و یؤلف مدخل السرداب غرفة مربعة الشکل یوجد علی جدرانها أفریز مزین بجمال ماشیة من ذوات السنامین منحوتة بالجص الملون، مع نافورة دائریة الشکل. و یقع سلم السرداب فی الجانب الغربی من البناء الفوقانی. اما السرداب نفسه فهو عبارة عن مغارة منحوتة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 216
فی داخل الصخر بعمق ثمانیة امتار و طول (21) مترا. و یوجد فی کل جدار من جدران المغارة ثلاثة کهوف تصلها ببعضها ممرات خاصة، کما یوجد فی قاعها حوض ماء. و تتصل بالمربع المحیط ببنایة السرداب ساحة خاصة بها، کما أن السرداب و ما یتصل به کله یحجز بین فنائین متشابهین تقریبا یقع فی جهتیهما الشمالیة و الجنوبیة فسطاط بشکل‌T . و قد کان السرداب محاطا کله بصفوف متوازیة طویلة من الغرف التی یظن أنها کانت اصطبلات للخیل .
و هناک فی وسط الساحة الشرقیة مقصورة یمکن للمرء أن یطل منها علی حیر طویل مستعرض محاط بسیاج یبلغ حوالی مائة و ثمانین مترا فی طوله و خمسة و ستین مترا فی عرضه. و لا بد من ان یکون هذا ساحة الکرة و الصولجان (الپولو)، اما الاصطبلات فقد کانت لأفراس الپولو الصغیرة، کما کانت المقصورة مخصصة للمتفرجین. و بهذا نصل الی حافة القصر الشرقیة التی تتصل بساحة الصید أو الحیر. و فی مقابل المقصورة، علی امتداد المحور الرئیس للقصر، یقوم فسطاط عال کبیر یطل علی ساحة الپولو و ساحة السباق التی تضیع ممراتها البالغ طولها خمسة کیلو مترات، فی الأفق البعید. و یبلغ طول هذه الأبنیة و المرافق کلها طول محور القصر الرئیس (1400) متر .
اما «السرداب الکبیر» فهو مربع منفصل محاط بجدران یبلغ طول ضلعه الواحد مائة و ثمانین مترا، و یتصل بالطرف الشمالی الشرقی من القصر نفسه بینما یقع طرفه الجنوبی عند الجدار الشمالی للشرفة الکبیرة. و هو یتألف من کهف مربع عمیق، محفور فی الصخر، یبلغ طول ضلعه ثمانین مترا، مع امتدادات صلیبیة من محاوره یصل طولها الی 115 مترا. و توجد فی قاع السرداب حفرة ثانیة دائریة الشکل یبلغ طول قطرها سبعین مترا. و یعتقد ان هذه الحفرة کانت حوضا للماء لأن کهریزا عمیقا یصل الیها. و یوجد فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 217
الطابق العلوی منه عدد من الغرف الصغیرة غیر المنتظمة حول الجهة الداخلیة من الجدران. و یسقف عدد من هذه الغرف باطواق متقاطعة. و الی الشرق من السرداب شیدت مجموعات مختلفة من الأبنیة علی طول الجدار الشمالی.
و یختم هرتسفیلد وصفه لهذه الأبنیة و المرافق بقوله أن روعة الزینة الموجودة فی القصر و فخامتها تنطوی فی تناسبها مع هذه الأبنیة، بحیث لا یمکن ان یوجد مثیل لها فی أی مکان آخر. اما فی غرف العرش فتحل محل الوزرات الجصیة وزرات مرمر منحوتة الزخرف. و فی الغرف الواقعة ما بین أذرع الصلیب الذی یتشکل به شکل الأبنیة العام فتتغلف الوزرات ببلاطات من المرمر. و کان القسم الأعلی من جدران الحریم مزخرفا برسوم کلسیة من الأشکال الحیة التی اکتشفت بقایا مهمة منها ... و قد کانت جمیع أعمال الخشب و الأبواب و الدعامات و الأعتاب و السقوف من خشب الساج، المحفور المنقوش، او المنقوش فقط و المطّعم قسم منه. و مما کان یزید فی ذلک رونقا و بهاءا وجود المسامیر البرونزیة المشغولة بدقة بین وسائل الزینة. و یجدر بنا ان نذکر هنا کتابات کثیرة مزخرفة قد وجدت منقوشة علی أعمدة الساج، و منها تواقیع الصناع المهرة بالعربیة و السریانیة و الیونانیة.

الجامع الکبیر فی سامراء

یقول البروفسور کریسویل فی کتابه المشار الیه ان الخلیفة المعتصم توفی سنة 227 (842 م) فأعقبه هارون الواثق. و هذا توفی فی سنة 232 (847 م) فأعقبه المتوکل الذی قام بتشیید المسجد الجامع الکبیر.
و الجامع عبارة عن مستطیل واسع الأرجاء یحیط به سور محصن من الآجر المشوی تبلغ مقاییسه 240* 156 مترا من الداخل. و لذلک فان مساحته تبلغ حوالی (38000) متر مربع او (500، 45 یاردة مربعة)، و بهذا یعد أکبر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 218
جامع فی العالم، أی أنه بضعف جامع ابن طولون فی القاهرة. و لم یبق منه سوی الجدران المحیطة به، بعد ان تقوضت سقوفه و اختفت اعمدته التی کانت تستند الیها السقوف. و هذه الجدران، التی یبلغ سمکها (65، 2) مترا قد بنیت بآجر خفیف أحمر تبلغ مساحة الواحدة منه 25- 27 سم مربع و سمکها سبعة سنتیمترات. اما الأبراج المنتشرة فیها فهی نصف دائریة فی تخطیطها تقریبا، و یبلغ قطرها (6، 3). کما یبلغ طول الجدران الساترة بین کل برج و آخر خمسة عشر مترا فی المعدل. و هناک علاوة علی ذلک أربعة أبراج رکنیة کبیرة، و اثنا عشر برجا آخر یمتد شرقا و غربا فیما یجاورها، و ثمانیة شمالا و جنوبا، بحیث یکون مجموع الأبراج الکبیرة أربعة و أربعین برجا. و یقوم کل واحد من هذه الأبراج فوق قاعدة مستطیلة تتألف من ساقین أو ثلاثة من الآجر.
و قد کان للجامع ستة عشر بابا یختلف فی عرضها اختلافا بینا. و کانت هذه الأبواب حین وجدها الرحالة روص فی 1834 قد تهدم البناء من فوقها فیما عدا الأبواب الکائنة فی وسط الضلع الشمالی منه. لکنه یبدو من فحص قوائم الأبواب المحتفظة بشکلها الآن أن فتحاتها کانت مغطاة بعوارض خشبیة یسندها من فوقها طاق من الآجر. غیر أنه یلاحظ من أقصی باب من جهة الجنوب فی الجهة الغربیة ان هذا الطاق یأتی فوقه بناء من الآجر الصقیل جدا البارز قلیلا الی الأمام، و الممتد علی طول الجدار. و فی الباب المقابل من الجانب الآخر یلاحظ بروز طاق صغیر جدا یعتبر جزءا من عقد متین یمتد الی داخل الجدار کله. و لا یدل هذا الا علی أنه کان هناک عدد من الشبابیک الصغیرة المقدسة (ربما ثلاثة) فوق کل باب من الأبواب.
و یلاحظ کذلک ان بناء الأبراج هو بناء بسیط جدا، لکن کل جدار موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 219
من الجدران القائمة بینها یکون مزخرفا بأفریز متألف من ستة مربعات منخفضة ذات حافات مشطوفة عدا مربعات الجبهة الجنوبیة التی کان عددها خمسة فقط. و یوجد فی کل مربع صحن ضحل لا یزید عمقه علی (25) سم، و ما زال قسم من هذه المربعات مغطی بزخرف جصی. و یبلغ علو الجدار فی الوقت الحاضر حوالی عشرة امتار و نصف.
و لقد فتح فی القسم الأعلی من الجدار الجنوبی، فیما تحت الأفریز، أربعة و عشرون شباکا، و شباکان فی کل جانب ینفتحان علی حرم الجامع، و بذلک یبلغ عدد الشبابیک ثمانیة و أربعین. و تبدو الشبابیک من الخارج و هی عبارة عن فتحات مستطیلة ضیقة، لکنها مؤطرة من الداخل بأقواس خماسیة الفصوص متشعبة من أعمدة صغیرة متشابکة، و قد رکب هذا کله فی أطار مستطیل منخفض.
اما الأساطین التی تستند الیها السقوف فقد أزیلت منذ مدة علی ما یبدو، لکنه یتضح من الحفر المتخلفة عن هذا العمل ان الحرم کان فیه أربعة و ستون صفا منها تکوّن خمسة و عشرین فسحة یکون معدل عرض کل منها (20، 4) مترا، و هذه تتناظر مع محور الشبابیک عدا الفسحة الوسطی التی تکون أوسع من الباقیات بقلیل. و کان من الواضح أیضا ان السقف کان یستند الی الأساطین رأسا من دون وجود طوق لها، لأن مثل هذا الطوق لم یکتشف له أی أثر فی الجدران.
و قد أیدت تنقیبات هرتسفیلد بأن الحرم کان فیه أربعة و عشرون صفا من الأساطین، و فی کل صف تسعة منها، بالاضافة الی أربعة و عشرین صفا فی الرواق الشمالی، و فی کل صف من هذه ثلاثة أساطین فقط. أما الأروقة الجانبیة فکان فی کل منها عشرون صفا، و فی کل صف من هذه الصفوف اربع اساطین، تقوم بموازاة الصحن. و علی هذا یبلغ مجموع الأساطین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 220
کلها (464) .
و لقد بقی من آثار هذه الأساطین ما یکفی لتعیین شکلها. فقد کانت القواعد مربعة الشکل طول ضلعها (07، 2) مترا. و کانت تقوم فوق کل واحدة منها اسطوانة مثمنة الجوانب، مبنیة بالآجر، عدا الأساطین الرکنیة الأربعة التی کانت من المرمر .. و لما کانت أعمدة المرمر، التی تتکون منها الأساطین الرکنیة، لا یزید طولها علی المترین فقد کانت الأسطوانة الواحدة تتألف من ثلاثة أعمدة علی الأقل یوضع أحدها فوق الآخر و تلحم ببعضها بالرصاص و أوتاد الحدید، کما هی الحال فی جامعی الکوفة و واسط الکبیرین.
أما الأساطین المبنیة بالحجر فقد بیضت و لونت بحیث تحاکی المرمر فی شکلها.
و یبلغ الارتفاع الصافی الی حد السقف (35، 10) مترا أی (34) قدما.
و اتضح عند عملیة التنقیب ان فتحة فی وسط الجدار الجنوبی کانت موقعا للمحراب المتهدم. و لم یکن المحراب مدورا بل کان مستطیلا فی تخطیطه،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 221
کما هی الحال فی الأخیضر، و کما کانت علیه القاعدة فی العراق و ایران فی العهود الاولی، بحیث یبلغ (59، 2) مترا فی العرض و (75، 1) مترا فی العمق. و کان یقوم فی جانبیه زوجان من أعمدة المرمر وردی الشکل المستجلب من عینتاب، التی تکون لها تیجان و قواعد بشکل الساعة، یستند الیها قوسان متحدا المرکز فی داخل اطار مستطیل یرتفع بارتفاع الجامع نفسه تقریبا.
و کانت هناک آثار للموزاییک المذهب فی خصور العقود.
و یعزو کریسویل الی المؤرخ المقدسی قوله ان جامع سامراء کان ینافس جامع دمشق، و ان جدرانه کانت مزخرفة بالمینا. و یذهب هرتسفیلد الی أن کلمة «مینا» التی یذکرها المقدسی تعنی الموزاییک نفسه، و قد تأید ذلک بما عثر علیه فی تنقیباته من بقایا الموزاییک المزجج الکثیرة .
و قد لوحظ بوضوح عند التنقیب ان زیادات عدة قد أدخلت علی البناء الأصلی، و منها اضافة جدار جدید یمتد من النهایة الجنوبیة لکل جدار من الجدارین الجانبیین الأصلیین. و تدل التصاویر الجویة علی ان هذین الجدارین کانا یؤلفان جزءا من سور کبیر یحیط بالجامع من الشرق و الشمال و الغرب. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌12 ؛ ص221
أن هذا المستطیل الکبیر کله قد وضع فی داخل مستطیل أعظم و أکبر منه بحیث یحیط به من جمیع الجهات الأربع. و قد بنیت هذه الجدران الاضافیة من الآجر الذی أخذ القسم الأعظم منه فی الوقت الحاضر. و تبلغ أبعاد هذا السور الخارجی 376* 444 مترا (1230* 1455 قدما). و لذلک فان المساحة الکلیة للجامع و الزیادات الطارئة علیه تصل الی ما یقرب من (17) هکتار، او (41) أیکرا .
و عند مقارنة هذا الجامع بجامع ابن طولون فی القاهرة، لا بد من ان نتوقع وجود بنایات ملحقة به للمرافق الصحیة و أماکن الوضوء، و من المؤسف ان هرتسفیلد و صاره لم یتهیأ لهما الوقت الکافی للتنقیب عن هذه الزیادات.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 222
و یتطرق کریسویل بعد ذلک الی ذکر المنارة الملویة و أبعادها، فیورد نفس المعلومات التی أتینا علی ذکرها من قبل.

الأسس الفنیة لعمارة الجامع الکبیر

ان أول ما یذکره الأستاذ کریسویل فی هذا الشأن قوله ان فکرة السّلم الحلزونیة التی أنشئت بموجبها منارتا الجامع الکبیر فی سامراء و جامع أبی دلف مستمدة من فکرة الزقورة البابلیة، و ان هذا شی یعترف به المختصون اعترافا تاما. لکن الزقورات لم تکن کلها من نوع واحد، لأن النوع الاعتیادی الشائع منها یتألف من برج مدرج مکون من طوابق عدة متراجعة ذات جبهات متعامدة (غیر مدورة). و یتم الوصول الی الطابق الأول بمرقاة شدیدة الانحدار تتقاطع عمودا مع الجانب الجنوبی الشرقی من وسطه، کما یتم الوصول الی الجوانب الأخری فیها بامتدادات لهذه المرقاة. و لم یکن هذا الطراز من الزقورات هو الذی استمدت منه فکرة (الملویة)، و انما استمدت من طراز آخر مربع التخطیط یدور من حوله منحدر خفیف یکوّن عددا من الدورات الکاملة حتی یصل الی القمة. و من الغریب ان هذا النوع لم یعرف له وجود الا فی مکان واحد، و هو (زّقورة خرساباد) التی اکتشفها بالتنقیب قبل مائة سنة المسیو بلاس، فعثر فیها علی ثلاثة طوابق سالمة و بقایا الطابق الرابع. و هو یقول انه عثر علی بناء رباعی الأضلاع تماما یبلغ طول الجانب الواحد منه (10، 43) مترا بدلا من ان یکون بناءا مدورا کما کان یتوقع. و تبدأ بهذا مرقاة خفیفة المیل جدا من الزاویة الجنوبیة، و تستمر علی طول أحد الجوانب، ثم تدور حول القرنة و هی تستمر فی الصعود دوما، و تدور حول القرنات کلها بالتعاقب، حتی تنتهی بالقرنة التی بدأت منها، و لکن علی ارتفاع (10، 6) امتار أو (20) قدما. و یتجه الدوران
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 223
باتجاه مضاد لدوران عقرب الساعة کما هی الحال فی ملویة سامراء. و قد تم العثور عند التنقیب علی طوابق ثلاثة، یرتفع کل واحد منها الی عشرین قدما (10، 6) مترا مع بقایا الطابق الرابع کما ذکر من قبل.
و یقول کریسویل کذلک ان وصف هذه الزقورة التی عثر علیها بلاس ینطبق علی الوصف الذی وصفها به هیرودوتس. ثم یضیف الی ذلک قوله أنه لا بد من ان تکون قد وجدت زقورات أخری فی العراق من هذا القبیل خلال القرن التاسع المیلادی، أی فی أیام العباسیین الذین شیدت سامراء فی عهدهم، برغم العثور علی واحدة فقط خلال القرن التاسع عشر. و یؤید ذلک، علی ما یقول کریسویل، ما ذکره بنیامین التطیلی الیهودی فی رحلته التی وصف فیها السلالم الحلزونیة المدورة فی النصف الثانی من القرن الثانی عشر للمیلاد. علی ان کریسویل یذکر کذلک ان التحویر الذی أدخله معماریو المتوکل علی الفکرة هو أنهم شیدوا المرقاة الملویة حول بناء مدور بدلا من الشکل المربع الموجود فی الزقورة المشار الیها.

جامع أبی دلف

کان المتوکل، قبل ان یقوم بتشیید الجامع الکبیر فی سامراء، قد قرر ان یبنی مدینة جدیدة له فی شمال سامراء، و اختار لها موقعا یقال له «الماحوسة» فبدأ العمل فیها سنة 245 (859- 60 م)، و مدد الشارع الأعظم الی حیطان الجامع الکبیر من جهاته الثلاث و تبدو مدینة سامراء من خلفها
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 224
ثلاثة فراسخ أخری، أی الی حیث یقع قصر المتوکل الجدید نفسه. و فی الیوم الأول من شهر محرم الحرام 247 (17 مارت 861) انتقل الی مدینته الجدیدة التی أطلق علیها اسم «الجعفریة».
و تشغل أطلال القصر الجعفری هذا مساحة تقدر بحوالی (3/ 1 1) کیلو متر مربع، و هو محاط بأسوار تنتشر فیها الحصون المبنیة بالآجر. و هذه لم یتم التنقیب بها علی ما یقول کریسویل، الذی یورد روایة الیعقوبی عن المتوکل و یقول انه لم یسکن فی قصره هذا الا تسعة أشهر و ثلاثة أیام، و انه قتل فیه فأصبح قصرا مشؤوما تذکره التواریخ جیلا بعد جیل. و کان قتل المتوکل فی یوم 3 شوال 247 (11 کانون الاول 861). فخلفه المنتصر، و عاد الی سامراء بعد ان أمر السکان بأجمعهم أن یعودوا الیها کذلک ... کما أمر بتقویض الأبنیة و نقل موادها البنائیة الی سامراء أیضا. و لهذا دب الخراب فی قصور الجعفریة و بیوتها و أسواقها مع سائر أبنیتها و مرافقها، و اصبحت خرائب تنعق بها الیوم.
لکن کریسویل یقول ان حالة جامع ابی دلف هی علی نقیض الحالة التی وجد فیها الجامع الکبیر. فقد بقیت من هذا الجامع فی سامراء أسواره الخارجیة و زالت داخلیته من الوجود، بینما بقیت داخلیة جامع ابی دلف قائمة، و لم یبق من سوره الذی کان مبنیا بالآجر الا أسسه الطویلة، فیما عدا الضلع الشمالی الذی بقی قائما الی ارتفاع (5- 7) أمتار.
و هناک فی الرواق الشمالی ستة عشر عقدا بطبیعة الحال، کما هو الأمر فی الحرم، و لکن العقد الواحد تکون فیه ثلاثة أقواس فقط یبلغ معدل فتحتها (10، 3) مترا. و هذه تنتهی من جهة الصحن بشکل‌T ، لکنها تنتهی من من جهة الشمال بأساطین جداریة بسیطة مبنیة بالآجر المشوی ... و تکون الفسحة الوسطی فی الحرم أعرض من سائر الفسحات.
و یکون النصف الأعلی من واجهات الأساطین المواجهة للصحن مزینا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 225
بحشوة متراجعة یحتوی علی فرجة مقوسة ضیقة. و قد بنیت الأقواس کلها بحلقتین من الآجر المربع، فوضعت آجرات الحلقة الداخلیة بحیث یتعرض وجهها الی الخارج بینما وضعت آجرات الحلقة الخارجیة علی حاشیتها، کما هی الحال فی مبنی «باب بغداد» فی الرقة، علی ما یقول کریسویل، فیما یکون سمک کل حلقة آجرة و نصف بدلا من آجرتین. أما نوعیة الآجر فهی أدنی من نوعیة الآجر الذی بنی به جامع سامراء من قبل، و تختلف الآجرات فی حجمها من 25 الی 29 سم مربعا، و یکون سمکها سبع سم.
و یری کریسویل ان جامع أبی دلف کان له سطح منبسط مثل جامع سامراء الکبیر، و لم یکن هذا علی أکثر من ارتفاع ثمانی أمتار.
و یذکر کریسویل کذلک، نقلا عن هرتسفیلد، ان الأسوار التی بقیت قائمة من الجامع تبلغ (106) امتار فی سمکها .. و قد تمت تقویتها، کما هی الحال فی جامع سامراء، بأبراج حصینة نصف دائریة ما تزال ثلاثة منها شاخصة للعیان من الخارج. و تبلغ هذه حوالی ثلاثة أمتار فی عرضها، و تبرز الی الخارج بمقدار (20، 1) مترا تقریبا فتکون و اجهتها مبنیة بالآجر المشوی. و قد کانت هناک أربعة أبراج رکنیة، و أحد عشر برجا متوسطا فی الجهتین الشرقیة و الغربیة و ثمانیة فی الشمال، و عدد غیر أکید- ربما ستة- من الجهة الجنوبیة، لیکون المجموع الکلی ثمانیة و ثلاثین برجا. و یبلغ معدل طول الجدران القائمة فیما بینها أربعة عشر مترا، کما توجد فی بعض الأماکن الواقعة فی الجدار الشمالی حزوز خاصة لأنابیب المجاری تبلغ عشرین سنتمترا فی عمقها و (18) فی عرضها، کما هی الحال فی جامع سامراء الکبیر.
و قد کانت هناک ستة أبواب من الجهة الشرقیة و ستة من الجهة الغربیة و ثلاثة من الجهة الشمالیة، فیبلغ مجموعها کلها خمسة عشر بابا. و کانت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 226
لهذه الأبواب قوائم من الآجر المشوی ما زال بعضها شاخصا حتی الیوم
اما المنارة فقد وصفها الرحالة روص بأنها مصغر للملویة المعروفة التابعة للجامع الکبیر، و قد بنیت علی مسافة تسعة أمتار و نصف عن جدار الجامع الشمالی. و کانت قاعدتها، التی تبلغ مترین و نصف فی ارتفاعها و أحد عشر مترا مربعا فی مساحتها، مزخرفة بصف متکون من أربع عشرة حنیة صغیرة فی الجهات الشمالیة و الشرقیة و الغربیة، و عشر حنیات فقط من الجهة الجنوبیة نظرا لوجود المدخل الی المرقاة فیها. و یقوم فوق هذه القاعدة الجزء الحلزونی من المنارة، اما المدخل البالغ عرضه (17، 1) مترا فیکون فی وسط القاعدة.
و یتجه الممر الی الیمین رأسا فیبدأ بسیره الحلزونی بحیث یکون ربع الدورة الأول محفورا فی آجر القاعدة القرصیة. و قد خربت المرقاة بحیث لا یمکن استعمالها، و تبلغ علوا یقرب من (16) مترا، و تدور علی ما یبدو ثلاث دورات کاملة باتجاه معاکس لدوران الساعة.

دور سامراء

و یورد کریسویل فی هذا الشأن نص ما کتبه هرتسفیلد الذی یقول أن دور سامراء فی تلک الأیام کانت مبنیة بموجب طراز خاص. و تتألف الدار الواحدة من مدخل مغطی یؤدی من الشارع او «الدربونه» الی فناء فسیح مستطیل الشکل، یفضل فیه المقیاس 3: 2. و یقع فی نهایته بهو رئیس بشکل‌T مع غرفتین اثنتین فی زاویتین. و یتکرر توزیع الغرف هذا أحیانا فی فناء ثان، مما یمکن ان یستنتج بأنهما عبارة عن حرم، و دیوان. لکنه اذا ما تکرر فی جانبین متقابلین من الفناء نفسه فأنه یدل علی وجود غرف صیفیة و شتویة. اما بقیة الفناء فتحاط بصفوف من الغرف المستطیلة و المخازن.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 227
و یوجد فی غالبیة البیوت عدد من الأفنیة الجانبیة الصغیرة التی توجد فیها غرف تختص بالخزن. و توجد فی البیوت علی الدوام حمامات و مجار و آبار فی کثیر من الأحیان، و یلاحظ أحیانا وجود أبهاء مفتوحة او مکشوفة تقوم سقوفها علی أعمدة، و سرادیب فیها ترتیبات خاصة للتهویة. و قد کانت جمیع الدور ذات طابق واحد، و یصل عدد الغرف فی الدار الواحدة الی خمسین أحیانا!!.
هذا و قد کانت مادة البناء لهذه الدور: الآجر غیر المشوی بوجه عام، إذ لم یکن یستعمل الآجر المشوی الا للماء و المجاری. اما تبلیط الغرف و الساحات فکان یستعمل له الآجرات الکبیرة التی تصل مساحة کل منها أحیانا الی 50* 50 سم. و کانت السقوف من دون استثناء تصنع من الألواح المنبسطة، و الأبواب بصورة أفقیة علی الدوام تقریبا و نادرا ما کانت تغطی فتحاتها بالأقواس المدببة.
و قد وجدت شبابیک کانت ملأی بالزجاج الملون و هو بشکل أقراص کبیرة یتراوح قطرها بین عشرین و خمسین سنتمترا. و بعض الدور کانت الأبهاء و بعض الغرف الخاصة بها مزخرفة زخرفة غیر قلیلة، و کان بعضها الآخر مزخرف الغرف بأجمعها. بینما لم تکن ساحات الدور و أفنیتها مزخرفة عامة، و کانت وزرات الجدران فی الغرف مزخرفة الی علو متر واحد، و کذلک إطارات الشبابیک و حواشی الجدران العلیا، و أحیانا بطینات العقود المقوسة فوق الأبواب .. و کانت تزخرف حواشی الوزرات العلیا، و وسطها أحیانا، بالحنیات الصغیرة التی تشکل فی الغالب و تؤطر بزخرف توریقی، کما هی الحال فی الدور الشرقیة العصریة، و هی تسمی «طاقجه» بالفارسیة.
اما مادة الزینة و الزخرف فی الوزرات فهی الجبس الصافی نسبیا المخلوط بقلیل جدا من التراب.

القبة الصلیبیة و مدافن الخلفاء

و یذکر کریسویل ، مستعینا باستکشافات هرتسفیلد، انه توجد فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 228
الجانب الغربی من دجلة فوق تل یقع علی بعد میل واحد تقریبا من جنوب قصر العاشق اطلال بنایة مثمنة الأضلاع. و هذه تحتوی علی مثمن داخلی لا تزال أضلاعه سالمة، و مثمن خارجی هدم أکثر من نصفه. و توجد بین الاثنین فسحة عرضها (62، 2) مترا لا بد من أنها قد کانت مغطاة بطاق خاص لا تزال بقایا الأقواس الستة عشر التی یستند علیهما شاخصة للعیان، تبرز کل اثنین منها من طرفی کل ضلع من أضلاع المثمن الداخلی. و هناک مدخل مقوس یبلغ عرضه سبعة أقدام فی کل ضلع باق من أضلاع المثمن الخارجی .. و حینما یدخل المرء الی داخل هذا المبنی یعجب عند ما یری ان الفسحة الوسطی فی داخلها تکون علی شکل رباعی، طول ضلعه الواحد (31، 6) مترا، بدلا من الشکل المثمن الذی یتوقعه. و کل باب من الأبواب تقوم علی جانبیها حنیة نصف دائریة عرضها (63) سنتمترا. و هناک ما یدل علی ان هذا المبنی کان مغطی بقبة خاصة به. و لقد شیدت البنایة کلها بنوع من الحجر الاصطناعی المصنوع بشکل آجرات یبلغ مقاسها 32- 33 سنتمترا مربعا و عشر سنتمترات فی السمک. و هذا الحجر مصنوع فی الغالب من الطین القوی المخلوط بمقدار غیر یسیر من مادة «الکوارتز» بحیث یصبح
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 229
حجرا صلبا.
و یتضح من دراسة هذا المبنی أنه من أبنیة العصر الذی بنیت فیه سائر الأبنیة التی تلاحظ أطلالها فی سامراء الیوم، من حیث الانشاء و المواد.
کما أن نوع الحجر الاصطناعی الغریب المستعمل فی البناء یدل علی أنه من الفترة المتأخرة فی تاریخ سامراء العباسیة، لأن هذه المادة الانشائیة قد استعملت کذلک فی تشیید قصر العاشق، و لیس فی تشییید الابنیة الأقدم منه. و اذا ما بحثنا فی المعلومات المتیسرة لدینا عن دفن الخلفاء الذین عاشوا فی سامراء نجد أن أولهم، و هو المعتصم، قد دفن فی الجوسق الخاقانی، و ان الواثق قد دفن فی الهارونی، و ان والدة المتوکل قد دفنت فی جامع «الجعفریة»- أی فی أبی دلف- اما المتوکل نفسه فقد دفن فی القصر الجعفری. لکن المنتصر ابنه کان أول خلیفة عباسی یعرف قبره بوجه عام لأن أمه الیونانیة طلبت رخصة من المسؤولین لا قامة قبة خاصة فوق قبره فلبی طلبها، و یقع هذا الضریح فیما بجاور «قعر الصوامع». هذا و قد عرف ان المعتز و المهتدی کانا قد دفنا فی نفس القبة بعد ذلک أیضا. و یقول کریسویل ان العلامة هرتسفیلد یقترح، بناء علی وجود هذه الأدلة القویة، بأن القبة الصلیبیة ربما تکون هی القبة التی دفن فیها أولئک الخلفاء الثلاثة من العباسیین. فقد نقب فی کانون الأول 1911 تحت تبلیط هذه القبة فعثر علی ثلاثة قبور إسلامیة فی تلک البقعة ، و لذلک یمکن ان یعتبر هذا الاکتشاف تأییدا جلیا لقوله ان القبة الصلیبیة نفسها هی القبة التی أقامتها أم المنتصر فوق قصر ابنها بعد ان قتل فی حزیران 862 م.
و علی هذا فانها لا تعد أقدم قبة فی الاسلام فقط و انما تعد أیضا أول قبة من هذا القبیل فیه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 230

الزخرف السامرائی

لقد قسمت زخرفة الآثار العربیة فی سامراء، عند أول اکتشافها، الی ثلاثة أطرزة علی ما یقول کریسویل و هی: الطراز الاول، و الطراز الثانی، و الطراز الثالث.
و تتمیز زخارف الطراز الأول بشیوع أغصان و أوراق الکروم فیها:
الموجودة فی قبة الصخرة و قصر المشتی. لکن زخرفة سامراء هذه قد أدخل فیها شی‌ء من التحویر علی شکل الأوراق التی تبقی فیه بوجه عام خماسیة الفصوص. و یبدو هذا الطراز واضحا علی الأخص فی «باب العامة»، و هی أقدم بنایة بنیت فی سامراء.
اما الطراز الثانی فتغلب فیه تراکیب نباتیة مرکزیة، مثل الوریدات المتکونة من البراعم، من دون ان تکون لها سیقان. و لذلک لا یلاحظ فیها نمو نباتی، و انما یکون کل جزء منها مستقلا بذاته و له منتهاه الخاصّ به.
فنجد فی هذا الزخرف شجرة النخیل متقلصة الی قسمها العلوی فقط. و هذا یعنی بتعبیر آخر انه طراز زخرفی معاکس للطبیعة فی الدرجة الأولی، و أن خطوطا حلزونیة تلتف فی القسم الأغلب منه. و من مزایا الطرازین الأول و الثانی الجذابة أنها تتشکل بترکیبات وریدیة دائریة کبیرة أو مفصصة، و تمتلی‌ء بها وحدات ذات أشکال مختلفة، مربعة أو مثمنة و غیر ذلک.
و تکون الأشکال فی الطراز الثالث قد صنعت مقدما بقوالب خاصة:
فیما عدا بعض الحواشی البسیطة. و یورد کریسویل وصف هرتسفیلد لهذا الطراز من الزینة الزخرفیة، فیبدأ بقوله ان بروز الترکیبات الزخرفیة یکون علی الدوام ضحلا غیر عمیق، و هو أشبه فی هذا بحفر الخشب. و هو علی درجة من عدم العمق بحیث تنعدم فیه الظلال، الا فی حالات الضوء العمودی، و هو نادر الوقوع عملیا. و تکون ذروة الأشکال صغیرة جدا علی الدوام بالنسبة للارتفاع، و تتکرر عناصرها بسرعة واحدا بعد آخر علی شاکلة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 231
صف الألواح .. و یبدأ الصانع بقص القالب من الخشب فیشکل بموجبه الشکل المطلوب من الطین، ثم یأخذه فیفخره، و یصنع الزخرف الجصی علی منواله .
فقد کان استعمال القوالب فی هذه العملیة قد جعل من الممکن تزیین مساحات کبیرة من الجدران بسرعة عظیمة. و هناک عناصر زخرفیة کثیرة الاختلاف و التباین مثل أشکال القواریر، و أوراق البرسیم، و أشکال السعف، و الخطوط الحلزونیة، و ما أشبه. و تسیطر علی تصمیم الزخارف فکرة مل‌ء السطوح و أشغالها فی الدرجة الأولی، بحیث لا یبقی شی‌ء بادیا للعیان من أرضیة القطعة المزخرفة. و تحجز کل شکل عن الآخر خطوط هندسیة مختلفة، و بذلک تنحصر الزخرفة فی نطاق الأشکال الهندسیة المتکونة. و هذه وسیلة توفر الکثیر من العمل بحیث لا یستطیع المرء الا أن یفکر بأن هذا المبدأ قد عظم تأثیره بسبب ما یوفره من العمل الکبیر الذی کان لا بد من أن یتم بسرعة یکاد لا یتصورها المرء من أجل انجاز بناء سامراء.

عمارة سامراء فی دائرة المعارف الاسلامیة

و هناک بحث موجز مفید عن أبنیة سامراء و فنها العربی المعروف فی دائرة المعارف الاسلامیة المطبوعة سنة 1913 فی لا یدن. و یبدأ هذا البحث بقول کاتبه ان سامراء الیوم عبارة عن مساحة کبیرة من الخرائب و الأطلال تقع فی الجانب الشرقی من دجلة. و تشتمل هذه الخرائب علی مواقع أغنی المدن العباسیة و أثراها، التی کلف بناؤها مبالغ جسیمة من المال. و قد جاءت سامراء الی الوجود فی 838 (الصحیح هو 836) فی عهد المعتصم بن هارون الرشید، و وصلت الی أوج عزها و عظمتها فی عهد المتوکل (847- 861) ثم اندثرت بموته.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 232
و یعطی وجود سامراء قصیر الأمد لهذه الخرائب أهمیة خاصة لدی طلاب الفن الاسلامی و اصوله. و من المؤسف ان یکون عرب العراق قد عمدوا خلال عدة قرون الی اتخاذ هذه الآثار العجیبة مقالع للمواد البنائیة، فعجلوا بالخراب الذی أنزلته فیها عوادی الزمن، و مع هذا فقد اماطت اللثام التنقیبات الجاریة مؤخرا (طبع البحث فی 1913) عن معلومات مهمة کافیة تختص بأسس الأبنیة الرئیسة، و تعطینا فکرة واضحة عن جمال المدینة الاسلامیة الزاهرة التی کانت تشع ببریقها اللامع علی العالم فی تلک الأیام.
ثم یأخذ کاتب البحث فی دائرة المعارف هذه بتعداد الأبنیة و القصور المختلفة، و یصف البعض منها بوصف لا یخرج عن نطاق ما بیناه قبل هذا نقلا عن هرتسفیلد. علی أننا لا بد من أن نضیف هنا ما یقوله عن قصر بلگوارا الذی لم نأت علی وصف له من قبل. فقد جاء فی هذا البحث ان خرائب بلگوارا تشغل مستطیلا کبیرا یزید طول ضلعه الطویل علی ألف یاردة. و ما تزال تقوم فی جبهته الواسعة ثلاثة طوق من الطابوق، و هی مخلفات القصر الوحیدة الباقیة منه. و کان هذا القصر قد بناه المتوکل لابنه المهتدی باللّه.
و کانت هذه الطوق المواجهة للنهر، و قاعة الاستقبال، مع ایوان الضیوف، مفتوحة باتساع علی الوادی. و کانت وراء الطوق ساحات داخلیة ثلاث تتبعها الغرف علی شاکلة الصلیب: و هی غرف العرش، و غرف صغیرة عدیدة، و أجنحة سکن خاصة مجهزة بحمامات باذخة. و کانت هناک من الجهة الشرقیة حدیقة واسعة مستطیلة الشکل تنتشر فیها الشلالات، و تحیط بها جدران ذات ربعات تنفتح علی صواوین صغیرة غنیة بالزخارف و الزینة. اما من جهة الشمال فقد کان هناک نهر کبیر ینزل الیه سلم فخم، فضلا عن الفرض و الکهوف الجمیلة التی کانت محفورة فی أجرافه. و فیما وراء القصر کانت تقع مجموعة من البیوت تضم الحرم و الحاشیة، مع مسجد صغیر، و ثکنة کبیرة لحرس الخلیفة و خیالتهم.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 233
و کانت العناصر الکثیرة المختلفة التی یتکون منها القصر الجسیم بأجمعه مرتبة ترتیبا بدیعا متناسقا، یتکون منه شکل‌T بمقیاس واسع یکون محوره الطویل المتعامد مع النهر منتهیا بحجر الجبهة الثلاث الغنیة بالزینة و الزخرفة بالموزاییک.
و فیما حول قصر الخلیفة کانت هناک بیوت سکن کثیرة الزینة، و کانت أفخم هذه البیوت و أکثرها تواضعا مبنیة بتصمیم واحد. فقد کانت مشیدة بطابق واحد، و تشتمل علی سلسلة من الأقنیة الداخلیة و نافوراتها، و کانت تطل علی هذه الأفنیة الأواوین و غرف الاستقبال. و لقد تخلد هذا الطراز المعماری فی بعض البلاد الشرقیة الی یومنا هذا. و کانت الزینة الداخلیة من أهم ما یمیز هذا الطراز. فان تغلیف الجدران بالخشب المحفور، و وجود الأفاریز، یمیز علی الدوام غرف الاستقبال و جمیع غرف الدور فی بعض الأحیان. و کانت الأفنیة و الساحات الداخلیة تزین کذلک أحیانا، لکن الجدران الخارجیة لم تکن تزخرف مطلقا.
و قد کانت زینة الحفر بالخشب فی قصور سامراء و بیوتها علی نفس الدرجة من المهارة الفنیة، و هی تعطینا فکرة راقیة عن تقدم الفن و تطوره فی تلک الفترة. الخ.
و کانت التغلیفات الدقیقة تقام علی طول الجدران فی الغرف الی ارتفاع ثلاثة اقدام. و کانت تقام فوقها طاقات زخرفیة، کما کانت اطارات الأبواب و الشبابیک مزینة کذلک. و کانت السقوف تزخرف بکورنیشات و أفاریز، تصنع معظمها من الجص المزخرف بدقة و الملون فی بعض الأحیان.
و یکون شکل الزخرف و تصمیمه عادة بأنواع و طرز کثیرة الاختلاف.
فبعضها بسیط، و بعضها معرق بعروق کبیرة خشنة الصنع، بینما تکون غیرها علی جانب أکبر من الدقة. و کان بعضها ینحت فی محله. بینما کان البعض الآخر یصنع فی قوالب علی حدة و یرکب فی الأماکن المطلوبة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 234
و لقد اقترح بعض المختصین تصنیف الزینة الزخرفیة فی سامراء الی ثلاثة أطرزة: 1- الزخرفة ذات الصبغة القبطیة. و 2- الزخرفة ذات الصبغة الایرانیة. و 3- الزخرفة ذات الصبغة العراقیة. علی ان کاتب البحث فی دائرة المعارف یقول ان مثل هذا التصنیف غیر دقیق و غیر ناضج لأنه یؤدی الی ارتکاب الکثیر من الخطأ. غیر ان ما یمکن استنتاجه من دراسة هذه الأنواع الزخرفیة فی سامراء هو ان تأثیرات فنیة مختلفة قد اجتمعت فی هذه البقعة من آسیة من دون ان تتضارب، أو أن یتفوق أحدها علی الآخر.
فقد کانت سامراء مرکزا ینجذب الیه عدد کبیر من الصناع و الفنانین من جمیع انحاء المعمورة بتأثیر الثروة و مرکز الخلافة. و بذلک أصبحت سامراء یومذاک بودقة انصهر فیها الفن الهیلینی، و القبطی- السریانی، و الهندی- الایرانی، فأنتج الفن الاسلامی العربی بوجه عام ... و یبدو أن کاتب هذا البحث قد استمد هذه المعلومات من کتابات العلامة هرتسفیلد ایضا.
لکن کتابا جلیلا ظهر فی السنوات الأخیرة عن الفن الاسلامی عامة باللغة الالمانیة، و ترجم الی العربیة، فیه اشارات مهمة لفن العمارة فی سامراء، و الزخارف المعماریة المعروفة باسمها. و الدکتور کونل أستاذ فی جامعة برلین، و عضو بمعهد الآثار الالمانی و جمعیة العلوم و الفنون، و مؤلف کتب عدة عن الفن الاسلامی و غیره ترجمت الی عدة لغات. و کان فی سنتی 1931 و 1932 مدیرا لأعمال الحفر الأثری ل (جمعیة طیسفون) التی قامت بالتنقیب یومذاک فی منطقة طاق کسری بسلمان باک.
و هو یقول فی کتابه عن جامع سامراء الکبیر: .. و یعد جامع سامراء المشید فی عهد المتوکل (846- 852) أروع المنشآت ذات الأثر فی تلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 235
الفترة. و قد أقیم علی رقعة مستطیلة ضلعها الأکبر (260) مترا، و الأصغر (180) مترا، و کان سطحه بغیر عقود، و یرتکز علی دعائم مثمنة الأضلاع ترتبط بها أعمدة من الرخام. و حوله من الخارج سور ذو أبراج مستدیرة کما فی جوامع المعسکرات و الأربطة، و تقوم مئذنته الملویة خارج السور علی هیئة برج حلزونی مصعدة من الخارج علی غرار الأبراج البابلیة المدرجة (الزقورات) و المنشآت الصینیة فی عهد تانج. و شید فی سامراء جامع أصغر قلیلا هو جامع أبی دلف، و له برج مماثل و یرتکز سقفه علی عقود مدببة تمتد عمودیة حتی جدار القبلة ..
ثم یقول بعد ذلک: و ما زال الجامع الرائع الذی بناه أحمد بن طولون فی مدینة القطائع بمصر (877- 879) فی حالة جیدة، و هو علی طراز جامع سامراء، و فی مصلاه عقود مدببة قائمة علی خمسة صفوف من الدعائم، و تندمج فیها أعمدة مبنیة أیضا بالآجر .. و قد اقتبست بعض الکنائس الرومانیة طراز تلک العقود المدببة .. و أقیمت مئذنته خارجه فوق قاعدة مربعة بمصعد داخلی، یتمشی حلزونیا مع درج خارجی.
و یقول کونل بالنسبة للقصور و المساکن: .. کما یرجح ان قصور الحکام تأثرت فی تخطیطها بقصر معسکر اللخمیین الذی کان قائما فی الحیرة، و ضاع کل أثر له. و فی مقدمة القصور التی تأثرت به قصر الأخیضر و قصر بلگوارا.
اما قصر بلگوارا فقد بناه الخلیفة المتوکل لابنه المعتز بالقرب من سامراء، علی غرار قصر الحیرة. و به عدة أفنیة کبیرة متتابعة، و عدد من قاعات العرش المتعامدة ممتدة علی طوله علی هیأة أبهاء مکشوفة لها واجهات مؤلفة من ثلاثة عقود. و عن یمین وسطه و یساره تمتد أروقة بها عشرات من المساکن لکل منها فناء خاص. و ینتهی ذلک کله بحدیقة تتجه نحو نهر دجلة ممتدة الی ما وراء السور الخارجی، و بها حوض ماء و مرسی للزوارق .. و فی نحو سنة 880 أقیم علی الضفة الغربیة لدجلة قصر العاشق، و فی داخله قصر أصغر کثیرا مماثل له فی التخطیط. و ما زال باقیا من قصر الجوسق فی سامراء بهو مدخل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 236
منیف طویل.
و کانت بیوت الأفراد کلها من طبقة واحدة، و نمتد غالبا طولا بمحاذاة النهر، و عددها حوالی خمسین بیتا مبنیة باللبن علی غرار المساکن الجانبیة بقصر بلگوارا. و هذا النظام نفسه کان یتبع فی المساکن الکبری، مع أبهاء مکشوفة ذات أعمدة و حجرات تحت الأرض تتصل بسرادیب للالتجاء الیها صیفا. و کانت هذه البیوت کلها مزودة بالحمامات و المجاری .
و جاء فی کتاب کونل عن «خزف سامراء» ان أعمال الحفر فی سامراء کشفت عن قطع خزفیة من العصر الاسلامی الأول، و مصنوعات زجاجیة مختلفة. و کانت الکمالیة المستعملة و قتذاک بعضها مصنوع محلیا، و بعضها مستورد من شرق آسیة. و هناک أدلة قویة علی ان الخزف الصینی الأبیض و الخزف المعروف باسم سیلادون کانا یصنعان محلیا و یصدران الی الخارج.
کما عثر علی قطع حجریة من تانج مزججة تزجیجا منقطا، و علی آثار أخری صنعها الخزافون المسلمون علی غرار قطع مستوردة، مع اتجاه جدید فی الصناعة، و ابتکار للبریق المعدنی الذی یکسب المیناء او المادة الزجاجیة لمعانا معدنیا زخرفیا له تأثیر بدیع.
و کما استعملت هذه الطریقة فی الأوانی لتکسبها ألوانا براقة عدیدة متجاورة استعملت فی البلاطات التی کانت تکسی بها الجدران علی هیئة مربعات لتزیین الجوامع و القصور. و لا شک ان البلاطات التی کسی بها محراب جامع القیروان جلبت من بغداد. و قد عم انتشار هذه الأوانی فی البلاد الاسلامیة لاستعمالها بدلا من الأدوات المصنوعة من الذهب و نهی الاسلام عن استعمالها. و قد عثر علی شظایا من هذه الأوانی و الأدوات العراقیة فی مدینة الزهراء باسبانیة، و فی الفسطاط بمصر، و فی سوسه و الری بایران. کما دخلت صناعة الخرف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 237
ذی البریق المعدنی الی تلک الأقطار الثلاثة و الی سوریة .

الفنون الاسلامیة فی سامراء

یعتبر العصر الذی نشأت فیه سامراء، و عادت الی الاختفاء عن مسرح التاریخ، من العصور الاسلامیة الزاهرة التی ازدهت بالمدنیة العربیة العباسیة و طبق ذکرها الخافقین. فقد رافق النهضة العمرانیة الجبارة، التی نشطت عندما قام خلفاء بنی العباس بتشیید سامراء و قصورها، نهضة فی فن العمارة و زخرفها و فی الفنون الجمیلة الأخری بمختلف أنواعها و محالات عملها.
و لقد کتب عدد غیر یسیر من الغربیین عن ازدهار هذه الفنون فی المدن و المراکز الاسلامیة الکبیرة، و عن الابداع الذی حققه العرب و المسلمون فی میادینها المختلفة. و لیس بوسعنا فی مثل هذا المبحث ان نلم بجمیع ما کتب من هذا القبیل بالنسبة لسامراء و العصر الذی ازدهرت فیه فنونها، و انما سنقتصر هنا علی ایراد ما جاء فی مرجع اختصاصی مهم یعد من أهم ما کتب فی الموضوع و هو کتاب «الفنون الاسلامیة» الذی ألفه بالانکلیزیة الدکتور م. س. دیماند، أمین مجموعات الشرق الأدنی فی متحف المیتروبولیتان فی نیویورک، و نقله الی العربیة أحمد محمد عیسی أمین مکتبة جامعة القاهرة، ثم نشرته دار المعارف فی 1954 .
و یبدأ الدکتور دیماند کتابه الجلیل هذا بفصل عن ظهور الاسلام و انتشاره، و قیام الدول العربیة و الاسلامیة، فیتعرض إلی ذکر العباسیین فی بغداد و سامراء حین یقول: .. و أنشأ العباسیون عاصمة جدیدة لهم علی دجلة هی بغداد، التی أصبحت مرکزا مهما للعلوم و الفنون الاسلامیة .. و أنشأ المعتصم العباسی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 238
مدینة سامراء علی بعد ستین میلا شمالی بغداد، و کانت هی الاخری مرکزا و مقرا للخلفاء من سنة 836 الی ان هجرت فجأة فی سنة 892 م.
ثم یأخذ بالبحث فی الفنون المختلفة، فیذکر سامراء عند بحثه فی موضوع التصویر و الرسوم الحائطیة. فیبدأ بقوله ان معلوماتنا التاریخیة عن فن التصویر الاسلامی فی عصوره الأولی لا تزال قلیلة، و لکننا نستطیع علی الأقل ان نتصور مدی الرونق و البهاء فی النقوش الحائطیة فی العصر الأموی و بدایة العصر العباسی من الآثار القلیلة التی اکتشفت فی سوریة و العراق و ایران.
و یبدو التأثیر الایرانی واضحا فی العصر العباسی علی الرسوم الحائطیة فی قصر من قصور سامراء یرجع الی القرن التاسع. و من أطرف هذه الرسومات ما وجد بجناح الحریم، و تضم مناظر راقصات و موسیقیین و حیوانات و طیور، تنحصر بین تفریعات نباتیة و دوائر. غیر ان الألواح الخشبیة التی عثر علیها فی هذا القصر تحوی رسوما بحتة، ذات أسلوب اسلامی خالص یشبه اسلوب زخارف سامراء الجصیة، و قوام هذه الرسومات موضوعات نباتیة ملونة بالألوان: الأبیض و الأزرق و الأحمر و الأصفر و تحدها حدود باللون الأسود.
و الظاهر أن رسوم الجدران فی قصور سامراء قد تکونت منها طریقة خاصة صارت تعرف باسمها، و انتشرت فی أنحاء الأمبراطوریة کلها.
فیقول دیماند مثلا ان قصرا من القصور قد اکتشف فی خوجو بالترکستان الروسیة فوق تل یعرف باسم «تپة مدرسه» فوجدت فیها زخارف یأخذ بوصفها وصفا کاملا یقول فی نهایته .. و تمثل زخارف هذه الحنیات أسلوب زخارف سامراء السابق ذکره، و القائم علی الأسالیب الأمویة التی نراها واضحة فیما عثر علیه من تیجان الأعمدة الرخامیة فی مدینة الرقة، و کذلک فی المنبر الخشبی لجامع القیروان، و فی الأوانی الایرانیة البرونزیة المحفوظة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 239
فی متحف الهرمیتاج، و ترجع کل هذه الأمثلة الی النصف الثانی من القرن الثامن أو أوائل القرن التاسع.
و حینما یبحث الدکتور دیماند فی موضوع النحت علی الحجر و الجص یتطرق الی ذکر سامراء بطبیعة الحال. فهو یقول ان النشاط الفنی العظیم فی العصر العباسی یقترن بنشأة مدینة بغداد، و بتأسیس مقر الخلافة الموقت فی سامراء علی نهر دجلة. و قد کشفت الحفائر التی أجراها فی مدینة سامراء علماء الآثار الألمان باشراف صاره و هرتسفیلد عن مدینة عظیمة رائعة.
و المعروف ان المعتصم أنشأ هذه المدینة عام 221 (836 م)، و کمل بناؤها و زاد اتساعها ثم هجرت فی مدة قصیرة لا تتجاوز سبعة و أربعین سنة (836- 883) بقیت سامراء خلالها مقرا لثمانیة من الخلفاء. و اشتملت المدینة علی طرقات واسعة و مساجد جمیلة و قصور و أسواق و ملاعب، و أحیاء خاصة لسکنی أجناد الجیش الترکی و عمال الدولة و سائر المواطنین. و جهّز قصر الخلیفة کما جهّزت المنازل الخاصة بالحمامات و النافورات، و زینت جدران الغرف الرئیسة بالصور الحائطیة، و غطیت الأجزاء السفلی من جدرانها بوزرة من الجص الی ارتفاع 40 بوصة. و فیما عدا حشوات قلیلة أصیلة، فان جمیع حشوات متحف برلین عبارة عن نماذج منقولة بالصب، نقلها رجال بعثة الحفائر فی سامراء عن القطع الأصلیة، و من نفس المواد التی عملت منها هذه القطع. ولدی متحف المتروبولیتان أربعة من هذه «القوالب» حصل علیها من متحف برلین.
و تدل أسالیب زخارف سامراء الجصیة علی ثلاث مجموعات مختلفة، یتضح من المجموعتین الثانیة و الثالثة ان الزخارف حفرت علی الجدران، او علی حشوات جصیة منفصلة ثبتت بعد ذلک علی الجدران، اما فی المجموعة الأولی فقد صبت الزخارف فی قوالب، و یمکن اعتبار اسلوب المجموعة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 240
الثالثة أقدم الأسالیب جمیعا، و تتکون زخارفه من تفریعات العنب و کیزان الصنوبر و المراوح النخیلیة و أشکال الزهریات داخل تقسیمات هندسیة و جامات سداسیة الفصوص. و مع ان الزخارف هنا تعتمد علی أسالیب الزخرفة الأمویة الا أن رجال الفن العباسیین ابتکروا أشکالا جدیدة ذات مظهر زاخر رائع و من الخصائص الممیزة للزخزفة فی العصر العباسی هو عنایة رجال الفن بابتکار العناصر الزخرفیة و اختلاف عمق الحفر الذی نری خیر امثلته فی منبر خشبی مهم بمسجد القیروان، و فی حشوة خشبیة من تکریت محفوظة بمتحف المتروبولیتان
اما المجموعة الثانیة فتمتاز زخارفها بتجردها عن الطبیعة، و تتکون من اشکال زهریات و تفریعات هندسیة، تحمل أوراقا نباتیة دائریة او أشکالا مختلفة من المراوح النخیلیة. و قد نحتت هذه الزخارف نحتا قلیل البروز، و کسیت بأشکال معینة مضلعة .. و یتمثل فی أسلوب المجموعة الأولی اکتمال تطور مبدأ خاص من مبادی‌ء الفن الاسلامی هو مبدأ تغطیة الفراغ تغطیة تامة.
و کادت تختفی الأرضیة تماما فی هذه المجموعة، أو اقتصرت علی حزوز ضیقة نتیجة اتباع طریقة جدیدة فی الزخرفة. و أساس هذه الطریقة ان تنحت العناصر الزخرفیة نحتا مائلا، و تتقابل حوافها بعضها ببعض فی شکل زوایا منفرجة. و قد اتبعت هذه الطریقة أیضا فی النحت علی الحجر و الخشب و یطلق علیها عادة الاصطلاح المعروف بالنحت المشطوف او المائل. و تتکون الأشکال الزخرفیة المجردة من مجموعة من التعبیرات قوامها تفریعات من التواریق النباتیة و مقتبسات من المراوح النخیلیة أضیفت الیها تحزیزات قلیلة و خطوط قصیرة و نقط. و اشتملت تلک الأشکال أیضا علی کثیر من الزخارف التقلیدیة الاسلامیة، و لکنها فقدت العنایة بتفاصیلها حین استخدمت فی هذا اللون الجدید من الصنعة. و شاعت طریقة النحت المشطوف هذه فی عصر العباسیین، بل عرفت فی عهد هارون الرشید، و یمثلها فی متحف المتروبولیتان تاج عمود جمیل من المرمر.
و کان من عادة الولاة المسلمین استقدام مهرة رجال الفن و الصناعة من
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 241
الأقالیم المختلفة لیشیدوا لهم المدن و القصور و المساجد. و سبق ان ذکرنا انه عند تأسیس مدینة بغداد جمع الخلیفة لها العمال من سوریة و الموصل و الکوفة و واسط و البصرة و ایران. و لا بد من أن یکون هذا التقلید قد اتبع عند بناء سامراء، و یدل تعدد أسالیب زخرفتها علی کثرة الاتجاهات الفنیة التی سادت العصر العباسی.
و قد اتبعت الأسالیب الزخرفیة فی الحفر علی الجص و الحجر أیام العصر العباسی فی سائر الأقالیم الاسلامیة. و دخل هذا الاسلوب مصر من العراق زمن الدولة الطولونیة، اذ نری اسلوب زخارف سامراء من المجموعتین الثانیة و الثالثة واضحا فی الزخارف الجصیة بمسجد ابن طولون سنة 263 (876). و شاعت بمصر کذلک طریقة النحت المائل التی لا حظناها فی الزخارف العباسیة. اما فی ایران فیشاهد أحسن مثال للاسلوب العربی العباسی فی الزخارف الجصیة الزاخرة فی مسجد نایین بالقرب من مدینة یزد، و هی زخارف من ورق العنب تذکر بالاسلوب الثالث من جص سامراء. و یظهر فی نایین نوع من زخارف المراوح النخیلیة یوضح اتجاها جدیدا نحو المغالاة فی زخرفة المسطحات. و تدل هذه التعبیرات الفنیة علی ان زخارف نایین متأخرة عهدا عن سامراء، و أنها ترجع الی أوائل القرن العاشر. و یقول دیماند بعد ذلک:
.. و قد استعار الفن العباسی فیما استعار من فنون الأمم الأخری الأشرطة الزخرفیة التی تحولت فی اسلوبی سامراء و نیسابور الی أشکال زهرة اللوتس المثلثة، الموصولة بطیور او مراوح نخیلیة. و تشبه زخارف نیسابور الجصیة زخارف کل من سامراء و نایین، و لکنها تفصح عن تعبیرات و مبادی‌ء زخرفیة جدیدة .. و یحتمل ان ترجع معظم زخارف نیسابور الجصیة الی أواخر المدة التی أعید فیها بناؤها، ای بین سنتی 961 و 981 (بعد سامراء بحوالی مائة سنة) .. و هکذا تعتبر هذه الزخارف حلقة اتصال مهمة فی سلسلة الزخارف الجصیة الایرانیة بین الاسلوبین العباسی و السلجوقی.
ج 1- سامراء (16)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 242
و یعالج دیماند موضوع حفر الخشب أیضا فیتطرق الی ذکر سامراء بمناسبة الزخرفة التی یتناولها الحفر. فیقول ان الاسلوب العباسی المجرد یتمثل هنا فی وجود زخارف من فروع العنب تحمل أوراقا نباتیة متناهیة فی البعد عن الطبیعة، و کیزان صنوبر بدلا من عناقید العنب .. و تزین مناطق أخری من تلک الحشوات موضوعات مجردة تتکون من عدة تعبیرات مرکبة یمکن اعتبارها الأصول الفنیة لبعض العناصر الزخرفیة للأسلوبین الثانی و الثالث من جص سامراء. و یعتبر منبر القیروان الذی یرجع الی عهد هارون الرشید واحدا من روائع أمثلة الحفر علی الخشب من مدرسة بغداد. و تدل زخارفه، کما تدل زخارف جص سامراء، علی مهارة فائقة فی اظهار التفاصیل و تنوع مستویات الحفر .. و یذکر دیماند بعد ذلک انه سبق له ان قال بأن للفنانین المسلمین فی ختام القرن الثامن المیلادی اسلوبا زخرفیا یناسب طریقة الحفر الجدیدة، و هی طریقة الحفر المائل أو- المشطوف- التی یغلب ان یکون أول ظهورها علی الخشب. و یحتفظ متحف المتروبولیتان من هذا الاسلوب العباسی الجدید بمصراعی باب و حشوتین، من المحتمل ان تکونا جزءا من کتفی باب او من سقف منقوش. و لما کان العثور علیهما فی تکریت فالمرجح ان تکونا قد جاءتا من مکان قریب من سامراء نفسها. و الحشوتان من أکبر و أکمل أمثلة الحفر علی الخشب فی تلک المنطقة.
اما فی موضوع الخزف و صناعته الفنیة فیقول الدکتور دیماند ان الفتح لبلاد الشرق الأدنی کان بدایة عهد جدید فی تاریخ فنون الخزف. و قد اتبع الخزافون المسلمون فی أول الأمر الأسالیب التقلیدیة التی سادت مصر و سوریة و العراق و ایران، و لکن هؤلاء الفنانین أخذوا یبتکرون تدریجیا أسالیب جدیدة فی زخرفة الخزف، و کانت لهم خلال القرن التاسع ابتکارات علی جانب من التنوع، سواء فی الزخارف أم فی الألوان أم فی الأسالیب الصناعیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 243
و أصبحت هذه الابتکارات من ممیزات صناعة الخزف فی العالم الاسلامی.
ثم یقول: و قد أمدتنا الحفائر الأثریة التی أجریت فی مناطق مختلفة من البلاد الاسلامیة مثل سامراء و الفسطاط و المدائن و الری و غیرها بمادة لها أهمیتها بالنسبة لتاریخ الخزف فی بدایة العصر الاسلامی. و لما کانت سامراء قد أنشئت و هجرت بین عامی 836 و 883 فان الخزف الذی اکتشف فی أطلالها یرجع بالتأکید الی القرن التاسع، و بالتالی فانه یساعدنا علی تاریخ الفخار المشابه له فی بعض البلاد الأخری.
و یقول دیماند ان الخزف العباسی ذا اللون الواحد یمکن تقسیمه الی مجموعتین: الأولی و تشتمل علی جرار کبیرة مغطاة بدهن براق أزرق و أخضر، اما زخارفها البارزة المکونة من أشرطة و تفریعات نباتیة فمصنوعة بطریقة الصب بالقرطاس، و هی الطریقة التی اتبعت عادة فی زخرفة الفخار غیر المدهون. و تتکون المجموعة الثانیة من أوان أکثر رقة، فتشتمل علی صحون صغیرة و أکواب و أوان أخری من بینها زمزمیات ذات حلیات زخرفیة بارزة مغطاة بطلاء أخضر براق. و تتألف زخارف ما عثر علیه من الأوانی فی سامراء من رسوم هندسیة و نباتیة و أوراق محوّرة. و ینسب الی المجموعة السابقة عدد من الأوانی الصغیرة، معظمها صحون مغطاة بطلاء أصفر من أملاح الرصاص له بریق ذهبی یعتبره بعض المختصین بریقا معدنیا حقیقیا، و یعتبره البعض الآخر بریقا قزحی اللون. و یحتمل ان یکون بعض ما عثر علیه من القطع الخزفیة فی سامراء و المدائن و الفسطاط ذا بریق معدنی حقیقی ناتج من تلوین طلائها بأملاح الحدید و الأنتیمون.
و یتطرق هذا البحث الی صناعة الفخار المدهون ذی الزخارف المحزوزة کذلک، فیشیر الی أن هذا الفخار و زخرفته قد کثر استعماله، مع بقع و تعریقات باللون البنی المصفر و الأخضر الأرجوانی الفاتح تقلیدا للأوانی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 244
الصینیة التی استوردها العباسیون، و عثر علی قطع منها فی عدة أماکن من بینها سامراء و المدائن و نیسابور. و قد اکتشفت بشرق العالم الاسلامی، مثل سامراء و المدائن وسوس و سمرقند، کمیات کبیرة من هذا النوع من الخزف الذی یرجع الی ما بین نهایة القرن الثامن و العاشر المیلادی. و کان بعض ما عثر علیه من الأوانی متقنا الی حد کبیر، و البعض الآخر مشوها فی رسومه.
و تحت عنوان «الخزف ذو الزخارف المرسومة بالبریق المعدنی» یقول الدکتور دیماند أنه عثر علی الخزف العباسی بالعراق فی کثیر من الأماکن مثل سامراء و المدائن، و فی ایران فی مدینة سوس و الری بوجه خاص، و فی مصر فی أطلال مدینة الفسطاط. و یعتبر الخزف العباسی المحلی بزخارف من البریق المعدنی من أجود منتجات الخزف فی العالم الاسلامی کله، فان صناعة البریق المعدنی کانت من الابتکارات العظیمة التی اهتدی الیها الخزافون المسلمون فی القرنین الثامن و التاسع .. و یصنع هذا النوع من الخزف عادة من طفل أصغر نقی مغطی بطبقة غیر شفافة من المینا القصدیریة ترسم علیها الزخارف بالأکاسید المعدنیة بعد حرقها للمرة الأولی. ثم تحرق للمرة الثانیة حرقا بطیئا جدا تحت درجة حرارة أقل من الأولی، تتراوح بین 500 و 800 فهر نهایت و عندئذ تتحول الی الأکاسید المعدنیة باتحادها مع الدخان الی طبقة معدنیة رقیقة جدا. و یصبح بریق اللون المعدنی المتخلف اما ذهبیا أو أحد أطیاف اللونین البنی او الأحمر. و لم ینته القرن التاسع حتی صار الخزفیون المسلمون سادة تلک الصناعة التی اقتصر أمرها علی الشرق الأدنی. و قد أخرجت لنا حفریات سامراء التی قام بها کل من صاره و هرتسفیلد بعضا من أروع أمثلة الأوانی ذات البریق المعدنی و هذا ما دفع البعض الی القول بأن صناعة البریق المعدنی عراقیة الأصل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 245
.. و قد وجدت أنواع من الخزف ذی البریق المعدنی المتعدد الألوان بایران فی السوس و الری و کذلک فی مصر، و لکن خیر ما یعرف منها ما اکتشف منها فی سامراء نفسها .. و یعتبر الخزف العراقی ذو البریق المعدنی الذی یرجع الی العصر العباسی و الذی اکتشف فی سامراء أحسن ما وصلنا من هذا النوع، و ذلک الی جانب ما أمدتنا به المدائن من أمثلة کثیرة جمیلة منه. و یفوق ما صنع للخلفاء العباسیین بسامراء (836- 883) من خزف ذی بریق معدنی جمیع أنواع الخزف الاسلامی البراق فی ما تلا ذلک من العصور، من حیث جمال شکله أو بهجة ألوانه. و قد رسمت زخارف خزف سامراء بعدة ألوان أو بلون واحد هو الأصفر الذهبی أو الذهبی المخضر، أو البنی فوق طبقة من المینا القصدیریة.
و تعد القطع المتعددة الألوان، أجمل ما أنتجته سامراء من أنواع الخزف ذی البریق المعدنی. و نری فی مجموعة منه اللون الذهبی، و الأخضر الزیتونی، و الأخضر الفاتح، و البنی المائل الی الحمرة. اما زخارفه العباسیة الاسلوب فتتکون من تفریعات نباتیة بها تعبیرات زخرفیة علی هیئة الأقماع، و أشکال أزهار بعیدة عن الطبیعة و تواریق متنوعة و مراوح نخیلیة ثلاثیة الفصوص، و مراوح نخیلیة مجنحة، ثم زینته هذه الموضوعات و ما بینها من فراغ بتهشیرات تشبه قطع الفسیفساء من أشکال المعینات و الفروع النباتیة و الدوائر المنقطعة.
و یقول دیماند کذلک فی هذا الشأن أن أوانی سامراء ذات البریق المعدنی تشبه بلاطات فاخرة ذات رسوم من لون واحد أو عدة ألوان (الذهبی و الأصفر الطفلی و البنی المحمر) و هی بلاطات محراب مسجد سیدی عقبة فی مدینة القیروان بتونس. و تذکر لنا المراجع العربیة انها استوردت، و معها المنبر الخشبی المشهور الموجود بالجامع، من بغداد علی الأرجح. و قد أیدت حفریات سامراء تأییدا حقیقیا ما تذکره المراجع العربیة. و لا بد من ان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 246
تکون بلاطات جامع القیروان من صناعة بغداد لأنها تسبق بتاریخها خزف سامراء. و لما کانت سامراء مقرا موقتا لخلفاء بنی العباس فیمکن اعتبارها فرعا للمدرسة العراقیة فی صناعة الخزف ذی البریق المعدنی الذی کانت بغداد مرکزه الرئیسی. و تدل الزخارف الغنیة و التنوع الکبیر فی رسوم بلاطات محراب جامع القیروان علی مقدار تفوق العراق فی صناعة الخزف ذی البریق المعدنی فی النصف الاول من القرن التاسع.
و یسترسل الدکتور دیماند فی هذا البحث الشیق فیقول ان هناک مجموعة أخری تفوقت علی بلاطات جامع القیروان، و هی من خزف سامراء، مرسومة ببریق معدنی یاقوتی اللون یوجد فی أغلب الأحیان مع اللون الأصفر و الأخضر و الذهبی و الأرجوانی. و لم یقتصر مثل هذا الجمع بین الألوان الفنیة علی الأوانی حسب بل وجد کذلک علی بلاطات استخدمت فی تزیین قصر سامراء. و کانت فی متحف برلین أمثلة منها علی جانب عظیم من الجمال.
و یزین بعض هذه التربیعات رسم دیک داخل اکلیل علی أرضیة صفراء مرمریة.
و فی بحث «الخزف ذو الزخارف المرسومة فوق الدهان» یذکر الاستاذ دیماند ان من انواع الخزف العباسی الجمیل نوعا رسمت زخارفه فوق الدهان باللونین الأزرق و الأخضر، و عثر علیه فی سامراء وسوس و الری و قد صنع هذا النوع من الخزف، مثلما صنعت الأوانی العباسیة ذات البریق المعدنی، من طفل أصفر نقی مغطی بطبقة من المینا القصدیریة اللون، و یدخل هذا النوع فی ضمن خزف سامراء. و تحتوی زخارفه علی کتابات کوفیة باللون الأزرق مع بقع حمراء، کما تحتوی علی أشکال من الأوراق النباتیة أو السیقان المزهرة ذات المراوح النخیلیة بطریقة سریعة باللون الأزرق او الأزرق مع الأخضر .. و قد أمدتنا حفریات نیسابور بأمثلة عدیدة من الخزف الذی صنع بشرق ایران تقلیدا لخزف العراق.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 247
و یتطرق کتاب دیماند الی البحث عن الخزف غیر المدهون کذلک. و هنا أیضا یأتی ذکر سامراء العباسیة حینما یشیر المؤلف الی انه قد وصلتنا عدة أمثلة مزخرفة من هذا الخزف من سامراء و المدائن و نیسابور. کما یشیر کذلک الی ان هناک مجموعة أخری من الخزف غیر المدهون، عملت زخارفه بواسطة أختام مستدیرة او غیر مستدیرة. و تشتمل زخارف الأختام علی رسوم حیوانات و طیور و أشکال آدمیة و وریدات و کتابات کوفیة. و قد وجدت أمثلة هذا النوع فی بلاد العراق، و وجدت فی سامراء أمثلة عدیدة من هذا الخزف ذات رسوم حیوانیة ترجع الی القرن التاسع .. و یبدو مما عثر علیه بسامراء من أمثلة هذا النوع ان زخارف الأوانی الخزفیة غیر المدهونة أقل جودة و اتقانا فی القرن التاسع عن مثیلاتها فی القرنین الحادی عشر و الثانی عشر.
و یأتی ذکر سامراء بعد هذا فی معرض البحث عن «الخزف الاسبانی المغربی» حیث یقول دیماند أنه قد وجد فی مدینة الزهراء بالأندلس بقایا من قطع الخزف ذی البریق المعدنی، ذات صلة بما عرفناه من خزف سامراء و غیرها من بلاد العراق، و لیس ببعید ان یکون مستوردا من تلک البلاد.
و هناک فصل ممتع فی کتاب الدکتور دیماند عن «الزجاج و البلور»:
یقول فیه أن أوانی سامراء الزجاجیة المصنوعة فی القرن التاسع یتضح منها ان أشکالها کانت استمرارا لأشکال الأوانی الساسانیة التی کشف عنها بالمدائن و کش. ثم یقول فی مکان آخر ان من الأسالیب القدیمة المعروفة نقش الزجاج و حفره اما بالید أو بواسطة عجلة خاصة بذلک، و ان ما وجد فی مصر و سوریة من الزجاجات و الأباریق من هذا النوع بسیط جدا فی زخارفه .. علی اننا نری فی القطع المنسوبة الی سامراء فی القرن التاسع تقدما ملحوظا فی زخارفها المحفورة .. و قد عثر فی سامراء کذلک علی مجموعة عظیمة الأهمیة من بقایا قطع الزجاج البلوری النقی من القرن التاسع تزینها زخارف محفورة حفر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 248
غائرا. و یمکن اعتبار هذه المخلفات العباسیة، علی قول الدکتور لام، من انتاج العراق، و یحتمل ان تکون من انتاج بغداد بالذات لما ذاع عنها من شهرة فی صناعة الزجاج ذی الزخارف المقطوعة. و لنا کذلک ان نعتبر تلک المخلفات العباسیة مصادر فنیة لهذا النوع ذاته فی العصر الفاطمی.
و یأتی ذکر سامراء بعد هذا (الص 249 من کتاب دیماند) فی بحث «النسیج المصری زمن العباسیین و الطولونیین» حین یقول الدکتور دیماند ان شهرة دور الطراز فی مصر قد ذاعت بما انتجته من المنسوجات الکتانیة و الحریریة التی کانت تصدر منها فی العهد الاسلامی الی البلاد العربیة الأخری مثل سوریة و العراق و غیرهما. و قد وجدت فی سامراء قطعة نسیج کتانیة من القرن التاسع، علیها کتابة مطرزة بالحریر الأحمر تدل علی أنها صنعت بمدینة تنیس قرب بورت سعید.
هذا و الملاحظ ان الدکتور فیلیب حتی یشیر فی کتابه «تاریخ العرب» لمنشور بالانکلیزیة کذلک الی الفنون و الصناعات الاسلامیة فی مناسبات عدة، لکن بصورة مقتضبة. فیذکر مثلا أن بانی سامراء، الخلیفة المعتصم، قد مر بأن تزین جدران قصره برسوم کلسیة تمثل نساء عاریات و مناظر صید مختلفة، کما فعل قصیر عمره قبله، و لعل ما وجد من هذا القبیل کان من صنع لفنانین المسیحیین. و استخدم من بعده المتوکل، الذی بلغت سامراء علی عهده الأوج فی عظمتها، رسامین بیزنطیین لزخرفة الجدران فی قصوره.
لم یتورع هؤلاء عن ادخال صورة من صور الکنائس و الرهبان بین الصور التی رسموها. و یستند فیلیب حتی فی هذا الخبر علی مقال لأرنست هرتسفیلد شره فی احدی المجلات الالمانیة سنة 1927.
و یتطرق الدکتور حتی کذلک الی صناعة الصینی و الخزف عند العرب موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 249
فیقول ان من بین النفائس الموجودة فی متحف اللوفر، و المتحفة البریطانیة و متحف الآثار العربیة فی القاهرة، قطعا فنیة رائعة من صنع سامراء و الفسطاط مثل الصحون و الأکواب و المزهریات و الجرار و الأسرجة، المصنوعة للبیوت و المساجد. و قد زینت هذه جمیعها بزخارف ذات بریق معدنی أخاذ أو کسیت بطبقات معدنیة دقیقة ذات صبغات قزحیة. و یذکر، فی صدد البحث عن المبانی التی أنشأها أحمد بن طولون فی مصر، ان هذه المبانی کانت متأثرة الی آخر حد بفن العمارة المعروف فی سامراء التی قضی معظم أیام صباه فیها. و ان شطرا کبیرا من القرآن الکریم قد نقشت آیاته بخط کوفی جمیل علی الأفریز الخشبی الممتد حول داخلیة جامع ابن طولون- کما یقول بالاضافة الی ذلک ان المعتصم یعزی الیه تأسیس معامل جدیدة للزجاج و الصابون فی سامراء و بغداد، قد أمر بتأسیس معامل للورق فیها أیضا.
هذا و هناک مراجع ثلاثة أخری عن الفنون الاسلامیة، کتب أصحابها عن سامراء و فنها المعماری بصورة مقتضبة، لکن مرجعنا المذکور فی أعلاه یعتبر أکثرها فائدة و أحدثها فی المعلومات و الاحاطة.

خلفاء سامراء

کانت سامراء، برغم ما صرف علی تشییدها و انتقال مقر الخلافة الیها من مال و جهود، قد قدر لها أن تکون قصیرة العمر و ان لا یطول امد الخلافة فیها الا مدة لا تکاد تبلغ الخمسین سنة و نیف (833- 882).
فقد تربع علی کرسی الخلافة العباسیة الذی انتقل الیها خلفاء ثمانیة فقط، لم یکن أکثرهم سوی آلات مسیرة بأیدی القواد الأتراک، الذین استفحل أمرهم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 250
بحیث کانوا یعزلون هذا الخلیفة و ینصبون غیره بکل ما فی هاتین العملیتین من إذلال و اهانة. و من یدری فلعل ما أصاب المتوکل و أبناءه من هذا التنکیل:
و ما حل بقصورهم و مرابعهم من خراب و تهدیم قبل ان یتمتعوا بها زمنا طویلا، لم یکن الا عقابا من اللّه العزیز القدیر، علی ما یقول بعض المؤرخین لکونهم انتهکوا حرمة الحسین أبی الشهداء و أبنائه و اضطهدوا آل البیت النبوی الکریم فی کل مکان.
و قد کتب عن هؤلاء الخلفاء عدد یسیر من مؤرخی الغرب و کتابهم، من مثل بروکلمان الألمانی، و دائرة المعارف الاسلامیة، و سیتون لوید :
و غیرهم. علی ان خیر من کتب من هؤلاء بصورة موجزة مفیدة المستر ریتشارد کوک فی کتابه المعروف «بغداد مدینة السّلام» . فهو یبدأ بتولی المعتصم ثالث من یتولی الخلافة من أبناء الرشید و یقول انه سکن فی بدایة أمره «الجعفری» قصر الوزیر جعفر البرمکی القدیم فی الجانب الشرقی من بغداد، لأنه کان مسکن أخیه المأمون الرئیس من قبل. ثم بنی لنفسه قصرا خاصا فی المخرم و ترک الجعفری لبوران أرملة المأمون العجوز. علی أنه قرر بعد ثلاث سنوات ان یتحرک حرکة أخری کان من نتیجتها ان تحرم بغداد من وجود الخلافة فیها مدة تبلغ ستا و خمسین سنة. فقد کان العباسیون یعتمدون فی تسییر شؤون الأمبراطوریة و ضبطها علی أناس من أقوالم غریبة، و کان حرسهم الخاص منذ البدایة یتألف من جنود ینتمون الی مختلف الأمم الشرقیة و من الأتراک وحدهم بعد ذلک. و قد استعصی أمر هؤلاء فی النهایة حتی أصبحوا أشبه ما یکون بالحرس «الپریتوری»، فضج البغدادیون من تصرفاتهم الشائنة و سوء سلوکهم. فقرر المعتصم فی أحد الأیام ان یأخذ بمشورة قواده الأتراک و ینقل مقر الحکومة عن بغداد. فوقع اختیاره الأول علی مکان
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 251
یقع فی أعالی النهر یسمی «القاطول»، ثم غیر رأیه بعد هذا فانتخب موقع سامراء، و هی من البلدان التی کانت موجودة قبل الفتح العربی للعراق بالقرب من القصر الصیفی الذی شیده الرشید له من قبل. و قد بقیت الحکومة فی هذا المکان خلال مدة حکم المعتصم و أخلافه السبعة. و منذ ذلک الوقت فصاعدا لم یعد للمعتصم أی اتصال مباشر بمدینة السّلام، عدا ما قام به بعد ذلک من ارسال البوابة الحدید الکبری التی اقتلعها جنده المنتصر فی حصار عموریة.
و قد استخدمت هذه البوابة بعد ذلک فی تزیین قصور الخلفاء عند عودتهم الی بغداد من سامراء.
و قد توفی المعتصم سنة 842 فأعقبه ابنه هارون فی الخلافة، و لقب بالواثق باللّه. و مما یجدر ذکره هنا ان هذا الخلیفة هو محور المؤلف الرومانتیکی المشهور الذی ألفه الکاتب الانکلیزی بیکفورد. و کانت شؤون الخلافة مستقرة و مزدهرة فی عهده، لکنه عاش مدة قصیرة لم تؤهله لترک طابع معروف فی ادراتها. و یعتبر موته فی العادة نهایة العصر الذهبی الذی عاشت فیه الدولة العباسیة.
و کان خلفه، أخوه جعفر، الذی تلقب بالمتوکل علی اللّه، متطرفا فی تأییده لعقیدة السنة، فألغیت بأمر منه فی الحال جمیع الأنظمة و التعلیمات التحرریة التی صدرت فی عهد أسلافه. و بدأت فترة من حکم الارهاب الذی أصابت شروره الشیعة و المعتزلة و الیهود و النصاری علی سواء. و أخذ أتباع أحمد بن حنبل یرهبون الناس فی بغداد فکان ذلک بدایة القصة الطویلة للفتن الدینیة، و عدم التسامح، التی فعل تأثیرها السی‌ء فی الأخیر فعله فی مصیر مدینة السّلام المحزن. و مما حدث من هذا القبیل ان السکیت، الشاعر الشیعی المعروف و الشخصیة المرموقة فی أیامه تصدی له الحرس الأتراک فقتلوه ذات یوم رکلا و رفسا بالأقدام. کما صدرت مراسیم خاصة باجبار النصاری و الیهود علی لبس لباس خاص بهم و معاناة أنواع أخری من الاهانات.
و لقد کانت شخصیة المتوکل من أسوأ الشخصیات و أنحسها، حتی أطلق علیه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 252
اسم «نیرون العرب». و لما کان بحالة سکر دائم صارت سیطرته علی أمور الدولة و شؤونها تتضاءل یوما بعد یوم حتی أدی به الأمر الی أن أقدم علی اغتیاله الحرس الأتراک بالتواطؤ مع ابنه أحمد، الذی أعقبه فی الحکم باسم «المنتصر باللّه». و کان هذا رجلا عادلا رؤوفا بالناس، لکنه قتل بعد فترة من الحکم دامت ستة أشهر فقط فأعقبه رجل من أبناء عمه یسمی أحمد کذلک، و تلقب بلقب «المستعین باللّه». و ما حل هذا الوقت حتی أصبحت السلطة فی العاصمة بأیدی القواد الأتراک، و باتت الأقالیم وقفا علی الحکام من أبناء الأسر الحاکمة فیها التی کان یکاد یقتصر ولاؤها لسامراء علی دفع الخراج السنوی فقط.
و قد اضطربت أحوال الثغور الشمالیة من جدید، و صار الیونانیون یتجاوزون علی الأقالیم الواقعة علی الحدود بصورة مستمرة. فسرعان ما وجد المستعین نفسه، و هو علی شی‌ء من الجرأة، فی وضع غیر محتمل و أخذ یفکر فی وسائل ینقذ فیها العرش من تعسف الأتراک العابثین. و لذلک عوّل علی مؤازرة العرب له وفر هاربا من سامراء الی بغداد التی عادت فأصبحت مقرا موقتا للخلیفة من جدید. فرد علیه الأتراک بتنصیب خلیفة مناوی‌ء له فی عرش سامراء، و هو ابن من ابناء المتوکل اسمه محمد، و لقب «المعتز باللّه». علی ان المستعین و مؤیدیه أخذوا فی الوقت نفسه یعدون العدة للدفاع عن أنفسهم فی بغداد.
و لأجل ان یقف فی وجه الجیش الترکی الذی عرف أنه سیتعقبه من سامراء لا محالة، عمد المستعین فی الحال الی تشیید سور مدور حول المدینة بأسرها فدخلت جسور بغداد الثلاثة فی داخله. فبلغت تکالیف السور الجدید و ما یتبعه من تحصینات حوالی (000، 350) دینار من الذهب، او ما یعادل (000، 160) باون استرلینی الیوم. و حینما وصل الجیش الأتراک الرئیس من سامراء خیم فی العراء خارج باب الشماسیة، و وجهوا هجماتهم الرئیسة علی محلات بغداد الشمالیة فی کلا الجانبین. و قد استعملت المدفعیة بکثرة لدی الفریقین، علی شکل عرادات و مجانیق ثقیلة رکبها المدافعون من الأسوار
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 253
نفسها. و استقام الحصار عدة أشهر من دون أن یؤدی الی نتیجة تذکر، کما وقعت اشتباکات عامة عدیدة فی خارج الأسوار أبدی سکان المدینة المحاصرة فیها کثیرا من البطولة و الاستبسال. و کان المستعین قد وعد بوصول نجدات عاجلة له من ایران، لکنه اعتمد فی الدرجة الأولی علی أمله فی جمع شمل العرب من حوله مرة أخری للدفاع عن حقوقهم القومیة، غیر أن أمله هذا کان عدیم الجدوی لأن القوات العربیة التی تجمعت فی الأنحاء سرعان ما شتت شملها الأتراک من دون أیة صعوبة. و بهذا انتهی الدور الذی کان یلعبه العرب فی الشؤون الأمبراطوریة انتهاء قاطعا، و لم یبق لهم أی تأثیر فی مصائرها.
و لقد نفد صبر القوات الترکیة فی هذا الحصار الطویل فعزموا علی القیام بضربة حاسمة. و لذلک بادروا الی تطویل خطوط الهجوم من الشرق و الغرب:
و شنوا هجوما عاما من باب خراسان الی باب الأنبار الکائنة فی السور الجدید بالقرب من محلة الحربیة حیث یخرج الطریق الرئیس الی سوریة. و بصدفة حسنة لهم احترق الجسر الشمالی من جسور بغداد، و فی خلال الفوضویة التی أعقبت ذلک، و ربما بخیانة حصلت فی الأوساط العلیا، استطاع المهاجمون الدخول الی المدینة و انتهی الأمر بسرعة، فقد هرب المستعین و قبض علیه فیما بعد و قتل، و عاد الأتراک منتصرین الی سامراء.
و مع ان الحزب السامرائی، و الحرس الأتراک، قد انتصروا انتصارا موقتا فی هذا الکفاح فان سطوتهم قد أخذت تتدهور بوجه عام .. فبعد فترة قصیرة، تعرف من الناحیة السیاسیة بتصدع جبهة الأتراک أنفسهم، قتل المعتز أیضا فی 869 لعجزه عن تلبیة ما کان یقدمه الأتراک من طلبات فاحشة.
فتربع علی دست الخلافة ابن من أبناء الواثق لقب «المهتدی باللّه». و لما کان المهتدی رجلا یتصف بالنشاط و القابلیة فقد بدأ بتسنمه العرش عهد انتعشت فیه الخلافة، لکنه قتل فی (870) بسبب آرائه الاصلاحیة. و کان قد عرف بکونه آخر خلیفة ترأس بنفسه محکمة الاستئناف. فأعقبه رجل من أبناء المتوکل
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 254
بلقب «المعتمد علی اللّه». غیر ان السلطة فی زمانه کانت بید أخیه الموفق فی الدرجة الأولی. و قد جعل الموفق، و هو العسکری المقتدر، مقره فی بغداد لیکون أقدر علی النضال ضد حرکة الزنج فی العراق الجنوبی. فأعاد هذا الترتیب کثیرا من أعمال الحکومة الی بغداد برغم بقاء الخلافة اسمیا فی سامراء.
و قبیل ان یقضی المعتمد نحبه أعلن للملأ عن عزمه علی نقل مقر الحکومة الی بغداد مرة أخری، و ربما کان ذلک بمشورة من أخیه الموفق. و کان قبل سنوات قد زار بغداد من عاصمته سامراء زیارة رسمیة فنزل فی الجعفری الذی کانت تسکنه بوران أرملة المأمون التی کانت قد تجاوزت الثمانین من عمرها. و حینما قضت نحبها جعل هذا القصر مسکنا رسمیا للخلیفة، و فیه نزل المعتمد عند ما نقل عاصمته من سامراء و هناک قضی نحبه بالسم الذی دسه الیه ابن أخیه الموفق بالتواطؤ مع الحاجب الترکی مشکیر. فتولی الخلافة بعنوان «المعتضد باللّه».
و نری من المناسب هنا أن نورد ما یذکره المؤرخ الألمانی بروکلمان فی (تاریخ الشعوب الاسلامیة) عن بعض خلفاء سامراء، و نعتبره تعلیقا علی ما مر ذکره من قول ریتشارد کوک، لما فیه من معلومات أخری. فهو یقول :
و لم یستطع المنتصر قاتل أبیه ان یحافظ علی العرش أکثر من ستة أشهر، بذل خلالها جهودا عقیمة لاستخلاصه لنفسه عن طریق اکراه أخویه المعتز و المؤید، علی التنازل عن ولایة العهد، و من طریق محاسنة العلویین. و بعد أن قتله الأتراک بالسم رفعوا الی العرش ابن أخی المتوکل أحمد المستعین باللّه حتی اذا حکم أربع سنوات لا غیر، فقد سلطته التی کانت قد تقلصت فعلا الی طیف من الخیال بسبب النزاع المستمر بین أمراء الجیش الأتراک.
فقد اضطر بغا، الذی کان له فضل تنصیبه خلیفة، الی ان یفر معه من وجه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 255
الخصوم الی بغداد، فی حین رفع المعتز الی عرش الخلافة فی سامراء. و حاول محمد بن عبد اللّه بن طاهر الذی کان المستعین قد عینه أمیرا علی العراق و المدینتین المقدستین ان ینجد سیده المحاصر فی بغداد، و لکنه لم یلبث بعد خلاف نشب بینه و بین بغا ان انقلب علیه، و هکذا لم یعد فی میسور المستعین ان یثبت فی بغداد، فاضطر الی خلع نفسه فی کانون الثانی سنة 866 لیقتل فی تشرین الأول من السنة نفسها فی واسط.
و حاول المعتز ان یتخذ من حرسه المغاربة أداة لمقاومة الأتراک الذین کان لهم علی کل حال الفضل فی ارتقائه کرسی الخلافة. و لکن الأتراک لم یلبثوا بعد ثلاث سنوات و نصف ان خلعوه عن العرش لعجزه عن سد حاجتهم الملحة الی المال. و الحق ان خلفه محمد المهتدی باللّه ابن الواثق سعی عبثا الی اجتناب مصیر أسلافه، فاختصر نفقات القصر الملکی لکی یعید الی الجهاز المالی المضطرب شیئا من النظام الذی فقده. و أیا ما کان، فقد قتل فی معرکة ضد موسی بن بغا، و هو لما یتم السنة الأولی من ولایته.
و نضیف الی هذا ما جاء فی تاریخ ابن العبری عن الخلیفة ابن المعتز، لما فیه من غرابة و طرافة فی الوقت نفسه. فقد جاء فیه: .. فلما بایع المستعین للمعتز وجهه الی البصرة و منها الی واسط و تقدم بقتله و حمل رأسه الی المعتز فقال ضعوه حتی أفرغ من الدست. فلما فرغ نظر الیه و أمر بدفنه. و فی هذه السنة حبس المعتز المؤید أخاه ثم أخرجه میتا لا أثر فیه و لا جرح، فقیل أنه أدرج فی لحاف سمور و أمسک طرفاه حتی مات .. و فی سنة 255 صار الأتراک الی المعتز یطلبون أرزاقهم فماطلهم بحقهم، فلما رأوا انه لا یحصل منه شی‌ء دخل الیه جماعة منهم فجروا برجله الی باب الحجرة و ضربوه بالدبابیس و أقاموه فی الشمس فی الدار و کان یرفع رجلا و یضع رجلا لشدة الحر. ثم سلموه الی من یعذبه فمنعه الطعام و الشراب ثلاثة أیام ثم أدخلوه
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 256
سردابا و جصصوا علیه فمات. و کانت خلافته من لدن بویع بسامراء الی أن خلع اربع سنین و سبعة أشهر (و کان عمره 24 سنة) .. و بعد قتل المعتز طلبت أمه الأمان لنفسها فأمنوها و ظفروا لها بخزائن فی دار تحت الأرض و وجدوا فیها ألف ألف دینار، و ثلاث مئة ألف دینار، و مقدار مکوک زمرد و مقدار مکوک من اللؤلؤ الکبار و مقدار کیلجة من الیاقوت الأحمر. و کان طلب منها ابنها المعتز مالا یعطی الأتراک فقالت: ما عندی شی‌ء. فسبوها و قالوا: عرضت ابنها للقتل فی خمسین ألف دینار و عندها هذا المال جمیعه.

ما کتبه السرجون غلوب عن خلفاء سامراء

و فی الکتاب الذی کتبه السر جون غلوب (غلوب باشا) بعنوان:
(امبراطوریة العرب) بحث طریف، فیه الکثیر من العبر، عن هؤلاء الخلفاء. فهو یکتب عن الخلیفة المعتصم و نشاطه اولا، و عن الواثق و المتوکل ثانیا. و یحلل تحلیلا رائعا ثورة بابک الخرمی فی ایران علی الخلافة الاسلامیة فی بغداد و سامراء، و حملة المعتصم علی عموریة و فتحها. کما یحلل وضع المتوکل و أحواله الذی أدت الی ان یتواطأ ابنه المنتصر مع بعض الأتراک علی قتله.
فهو یقول عن المعتصم، بعد ان یذکر ما یذکره غیره من المؤرخین عن استفحال وضع الأتراک فی بغداد و عزم المعتصم علی نقل العاصمة الی سامراء بسببهم، انه لما کان مولعا بتشیید الأبنیة و الزراعة فقد انصرف بکل ما عنده من نشاط الی تشیید القصور، و انشاء الحدائق، و غرس البساتین:
و تنظیم المزارع، لعاصمته الجدیدة. و کان هو رجلا ذا قوة جسمیة عظیمة، و شکل مؤثر فی النفس، و شجاعة شخصیة فائقة. علی أنه کان الی جنب ذلک
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 257
قلیل الثقافة و التعلم، علی نقیض ما کان علیه أخوه المأمون.
ثم یأتی علی قصة بابک الخرمی و ثورته و یقول أنه اعلنها علی الفوضویة التی انتشرت بسبب النزاع الذی احتدم بین الأمین و المأمون، و ما آل الیه من قتل الأمین. و لم تستطع الحملات التی شنت علیه اخضاعه و القضاء علی ثورته حتی جاء المعتصم و عزم علی حسم الأمر و تصفیته، فکلف قائده حیدر الأفشین بالأمر فتم له ذلک و جی‌ء ببابک مکبلا الی سامراء. و فی هذا الشأن یقول المستر غلوب أنه أخضع فی الأخیر سنة 837، بعد ان هوجمت قلعته و أحرقت الی الأرض و سیق الی سامراء مکبلا بالسلاسل. و قد جعل یوم وصوله الیها یوما مشهودا ابتهجت به الناس من جمیع الطبقات. و قبل ان یعدم ألبس أحسن الملابس الحریر، و وضع التاج فوق رأسه، و طیف به فی الشوارع علی ظهر فیل حتی أخذ الی قصر الخلیفة. و هناک جرّد من ألبسته الفاخرة بحضور الخلیفة، و قطعت یداه و رجلاه، و صار ینخس بالسیف ببطء حتی یدخل الی جوفه من دون أن یمس الأعضاء المهمة فیه لیطول أمد تعذیبه. لکنه تحمل کل ذلک تحملا شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، من دون ان یبدو منه أی صوت أو تألم. ثم قطع رأسه و بعث به الی بغداد، بینما علق جسده الخالی من الرأس مسمرا علی عمود خشبی فی سامراء. فبقی المکان الذی علق فیه یسمی «خشبة بابک» الی ما بعد قرن من الزمن. و یقول غلوب ان المؤرخین العرب یذکرون ان بابک ینسب الیه قتل مئتی ألف نفس خلال المدة التی ظل ثائرا فیها. و حینما استولی جیش الخلافة علی قلعته وجد فیها سبعة آلاف امرأة مسلمة و طفل یشتغلون مثل العبید.
و یشیر بعد ذلک الی ان المعتصم الفعال استطاع کذلک أن یجرد عددا من لحملات المظفرة، و یفرض حکمه، علی البلاد الجبلیة البعیدة مثل طبرستان طخارستان و کابل و قندهار. ثم یأتی علی ذکر حملة عموریة فیقول ان بابک حینما زحف علیه الأفشین من سامراء اتصل بثیوفیل امبراطور بیزنطة، ج 1- سامراء (17)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 258
و حرضه علی مهاجمة الثغور الاسلامیة لأن جیوش الخلیفة کانت منشغلة بجبهته معظمها. فاغتنم ثیوفیل الفرصة و سار علی رأس جیش عرمرم، عدته سبعون الف جندی، الی الحدود السوریة، و قد حاصر فی صیف 837 زبطرة، الکائنة علی بعد ثلاثین میلا من جنوب ملاطیة، فی الوقت الذی کانت فیه الجیوش الاسلامیة ما تزال فی أذربایجان. و لما کانت للمعتصم علاقة عاطفیة بزبطرة هذه، لأنه کان قد ولد فیها حینما کان والده الرشید مصطحبا أمه فی إحدی حملاته إلی هناک، فقد طلب الی ثیوفیل أن یرأف بأهلها و لا یتعرض بها. لکنه لم یتجاهل طلب الخلیفة حسب، و انما عاملها، معاملة صارمة قاسیة علی الأخص. فقد غزاها غزوة عنیفة و هدمها بأکملها الی الأرض، و سبی اکثر من ألف امرأة مسلمة منها عدا الأطفال، بعد ان قتل الرجال کلهم. و ارتکب اعمالا فظیعة أخری فی البلاد المحیطة بها.
و ما ان وافت هذه الأنباء الی سامراء حتی بادر المعتصم فی الحال الی نصب معسکره فی الجانب الغربی من دجلة و نشر رایاته استعدادا للزحف و الانتقام. و قد دعی الرجال لذلک من جمیع البلاد العربیة ایضا، بالاضافة الی الوحدات الترکیة الجاهزة. و فی صیف 838 سار المعتصم علی رأس أکبر جیش قاده خلیفة من الخلفاء حتی ذلک الیوم. فقد کانت عدته علی ما یقول المسعودی مئتی الف جندی علی الأقل. فعبر هذا الجیش اللجب جبال طوروس برتلین اثنین، أحدهما یقوده الخلیفة نفسه عن طریق الساحل، و الآخر بقیادة الأفشین الذی ترتب علیه عبور الجبال من ممر الحدث.
و کان العرب علی ما یبدو قد حذقوا أسرار النار الأغریقیة التی کانت قد أنقذت القسطنطینیة من قبل حینما هاجمها معاویة و سلیمان بن عبد الملک من بعده. فقد سارت مع جیش المعتصم وحدات خاصة لهذا الغرض. و بعد ان عبر العرب طوروس فی 838، تسلم الامبراطور البیزنطی تقریرا من رجال استخباراته بأن رتلا عربیا آخر- هو رتل الأفشین- یقوم بعبور السلسلة الحبلیة فی الحدث، فصمم علی مهاجمته فی الحال قبل ان یجتمع الرتلان فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 259
أنقرة کما تم الاتفاق علیه، و اتخذ ما یلزم لذلک.
علی ان المعتصم علم بما عزم علیه الأمبراطور، و لم یستطع عمل شی‌ء لأشغاله فی تلک الظروف، لکنه بعث الی الأفشین یحذره مما عزم علیه العدو و قبل ان یصل الی الافشین التحذیر فاجأه الامبراطور بالهجوم، لکنه بعد ان ارتبک بعض الارتباک أعد عدته فکر علیه بهجوم مقابل و دحر الجیش البیزنطی شر اندحار. فأدی ذلک الی تقهقره أمامه من دون انتظام، و کان ذلک فی أواخر حزیران 838.
و بعد ان التقی الرتلان العظیمان فی انقرة زحف الجیش العربی بکامله علی عموریة، التی صادف ان کانت هی بدورها المحل الذی ولد فیه الامبراطور ثیوفیل نفسه، أو بلدة أسرته الأصلیة. و لذلک عزم المعتصم علی تهدیمها و ازالتها من الوجود. و بعد ان اندحر الجیش البیزنطی هوجمت عموریة، بعد ان هدمت اسوارها و حوصرت خمسة و خمسین یوما. و یقول المؤرخون العرب، علی ما یذکر غلوب، ان ثلاثین ألف امرأة و طفل تم سبیهم فی تلک المعرکة. و هکذا اقتص المعتصم للشناعات التی کان قد ارتکبها ثیوفیل فی زبطرة.
و یصف المستر غلوب الخلیفة الواثق، الذی تولی بعد ابیه المعتصم، بکونه مسالما هادئا علی عکس أبیه فی أمور کثیرة. و لذلک ترک شؤون الحکم و الخلافة الی وزیریه محمد الزیات و أحمد بن أبی داود. و قضی وقته کله فی سامراء من دون ان یزور الأقالیم أو یترأس الحملات العسکریة. لکنه کان مثقفا مثل عمه المأمون و میالا الی حریة التفکیر. و قد کان یهتم علی الأخص بآل علی بن أبی طالب (ع)، و یساعدهم مالیا فیخصص لهم المخصصات و الرواتب. اما المتوکل الذی ولی بعده فقد کان علی العکس من ذلک، فقد اضطهد الشیعة، و الأقلیات غیر المسلمة اضطهادا یذکره المؤرخون الغربیون جمیعهم علی الأخص. و لذلک هدم قبر الحسین (سنة 850 م) و منع زیارته،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 260
کما سبق ان أتینا علی ذکره فی مناسبات عدة من قبل. و یقول المستر غلوب کذلک ان حیاطین الشوارع و المساجد کانت فی عهده تمتلی‌ء خلال اللیل بکتابات خلاصتها النیل منه و رمیه بالکفر و الألحاد.
اما قضیة قتل المتوکل فیقول مؤلفنا البارع هذا أنه کان عند أول تولیه الخلافة قد رشح لها ابناءه الثلاثة من بعده، یتسلسلون واحدا بعد آخر تبعا لأعمارهم. فکان من المنتظر ان یکون المنتصر ولی عهده، و المعتز من بعده، و أخیرا المؤید. لکن المتوکل کان مغرما علی الأخص بأم المعتز ابنه الثانی:
و کانت أمة یونانیة تسمی السیدة قبیحة (لجمالها)، حتی أنه نظم أبیاتا من الشعر بحقها فی عدة مناسبات. و لذلک کانت مسیطرة علیه الی درجة استطاعت بها ان تؤثر علیه و تقنعه بتولیة ابنها المعتز من بعده، بعد ازاحة أخیه المنتصر (الأکبر) عن طریقه. فبادر المتوکل الی تنفیذ هذا و طلب الی ابنه المنتصر ان یتنازل عن حقه فی ولایة العهد، لکنه رفض ذلک و أصر علی موقفه فی هذا الشأن. و صار أبوه یحقره و یستهزی‌ء به فی مجالسه، و بنتیجة اصرار السیدة (قبیحة) الجمیلة علیه دعی المنتصر الی مجلسه فی النهایة و أخبره بأنه أصدر الأوامر اللازمه بعزله عن ولایة العهد.
و مع ان هذا العمل لم یولد أزمة مخطرة فی بادی‌ء الأمر، و لم یحدث توترا فی الحال، فقد ثبت انه حادث جر الوبال علی المتوکل فی النتیجة. فقد سبق ان بدأت الدسائس فی جو سامراء السیاسی، و لا سیما بین الضباط الأتراک، و الأوساط الرسمیة العلیا، إذ کان بعضهم یحسد بغا الشرابی، الذی کان یعد أقوی رجل فی البلاط العباسی یومذاک و أول رجل یضع المتوکل ثقته فیه، لأنه کان مملوکا ترکیا عادیا و نادلا فی القصر الملکی. و بالنظر لمزایاه و قوة شخصیته تدرج فی الوظائف فأصبح ذا منزلة عالیة فی الحقیقة.
و هنا ازدادت مخاطره، و أخذ مناوئوه یوغرون صدر الخلیفة علیه، لا سیما
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 261
و قد کان فی وضع متهی‌ء لذلک بالنسبة للحیاة الداعرة التی کان یحیاها، و لاهمال شؤون الخلافة و الحکم الذی کان یبدیه.
و قد شاءت العناصر المغرضة فی بلاط سامراء ان تلعب علی الطرفین:
فوجهت أخباریات غفلا من التوقیع تنبی‌ء بغا بأن الخلیفة یعد العدة لقتله بصورة سریة، کما وجهت اخباریات أخری مثلها الی المتوکل تخبره بأن بغا عازم علی اغتیاله. و قد صادف ان حصل الخلاف بین المتوکل و ابنه المنتصر فی هذا الوقت المشحون بالدس و التوتر. و لما کان بغا ینتظر شرا من المتوکل فی أی وقت کان فقد قرر ان یسبقه الی العمل و یتغدی بالخلیفة قبل ان یتعشی هو به. فصادف فی إحدی الأمسیات ان کان المتوکل فی مزاج ممتاز، و کان طلقا فی الکلام و الحدیث مع الحاضرین فی مجلسه. و ازداد ثملا بالشراب کلما تقدمت الأمسیة و مرت ساعاتها، و ظل یطلب مزیدا من الشراب، أو أن بغا ظل یسقیه قدحا بعد آخر عن عمد و تدبیر مسبق. و حینما انسحب معظم أفراد الحاشیة الی مخادعهم بتقدم اللیل، و لم یبق سوی بغا و الفتح بن خاقان، دخل الی الغرفة فجأة خمسة رجال من الأتراک یحملون سیوفا مسلولة بأیدیهم، و کانت النتیجة ان قتل الخلیفة و صاحبه المقرب الفتح بن خاقان و أصبحا جثتین هامدتین فی برکة من الدماء.
و سارع بغا بعد ذلک الی داخل القصر لیأتی بولی العهد، المنتصر، و ینصبه فی مکان أبیه القتیل. فصادفه قادما الی محل الحادث، و سلم علیه بالخلافة.
و عند ذاک دعی الخدام و رجال الحاشیة علی عجل و طلب الیهم ان یبایعوا الخلیفة الجدید. و فی صباح الیوم التالی، 11 کانون الأول 861، اجتمع جمع من الناس خارج القصر فی سامراء و طالبوا بتنصیب المعتز لکن المعتز لم یمکن العثور علیه لأنه کان قد ألقی الأتراک القبض علیه خلال اللیل و وضعوه فی السجن. و بذلک أصبح بغا مسیطرا علی الوضع سیطرة تامة، و غدا المنتصر أمیرا للمؤمنین ما دام الأتراک راضین عنه علی الأقل.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 262

الروضة العسکریة المطهرة

ان أقدم من یشیر الی وجود الروضة العسکریة المطهرة فی سامراء من المراجع الحدیثة محرر و دائرة المعارف الاسلامیة (غیر المختصرة) المطبوعة فی لایدن بهولاندة سنة 1913. فقد جاء فیها قولهم: .. و قد حل الخراب فی معظم هذه الأبنیة و القصور منذ القرن العاشر للهجرة، و لم یستقم منها غیر الجامع الکبیر بالقرب من معسکرات الجیش، و من أجل هذا عرفت تلک المنطقة من سامراء باسم «العسکر». و قد أدی تمسک الشیعة بأئمتهم المعصومین الی الاحتفاظ هناک بقبر امامهم الحادی عشر ابی محمد الحسن الملقب بالعسکری لأنه توفی فی سامراء سنة 260 ه، و بکهف الغیبة الذی اختفی فیه ابنه أبو القاسم محمد المهدی خلیفته الیافع سنة 264 (878 م) و المعروف ان زوار الشیعة ظلوا خلال الألف السنة الأخیرة یزورون سرداب سامراء معتقدین بأن الامام المهدی سیعود الی الظهور هناک فی آخر الزمان.
غیر اننا لا حظنا ان هذا المرجع لا یتطرق بشی‌ء الی ذکر الامام الهادی علیه السّلام، و لا الی ضریحه المقدس.
و یشیر الی ذلک ایضا العلامة المستشرق لسترنج فی کتابه ، الذی مرت الأشارة الیه، فیقول: .. اما ما هو احدث من ذلک من مراجع، فلم یزدنا علما بسامراء الا قلیلا. ثم صار جل أهل سامراء من الشیعة، إذ أن فیها ضریحی الامامین العاشر و الحادی عشر: علی الهادی و ابنه الحسن العسکری و فی جامعها سرداب الغیبة یقولون ان الامام الثانی عشر غاب فیه سنة 264
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 263
(878 م) و هو القائم المهدی المنتظر الذی سیعود فی آخر الزمان. و یقوم هذان الضریحان فی الموضع المعروف بعسکر المعتصم. و الی هذا الموضع نسب الامام العاشر فعرف بالعسکری. و فی أوائل المئة الثامنة (الرابعة عشرة) حین کتب المستوفی، و هو شیعی، ذکر هذه المراقد بوجه خاص و قال ان فی المسجد الجامع القریب من هذه المراقد، فضلا عن منارته العظیمة التی أشرنا الیها، حوضا مشهورا من حجر، یعرف بقصعة فرعون محیطها ثلاث و عشرون خطوة و ارتفاعها سبع أذرع و ثخنها نصف ذراع، قائمة فی صحن الجامع للوضوء. و قد أمر الخلیفة المعتصم بعملها. و زاد المستوفی علی ذلک ان معظم سامراء استولی علیها الخراب و لم یبق من المدینة الا قلیل. و أید هذا القول وصف ابن بطوطة له، و قد زار سامراء سنة 730 (1330 م).
و نذکر بمناسبة ذکر القصعة ان کتاب (الحوادث الجامعة) یذکر فی (الص 306) انها حملت سنة 653 ه «من سر من رأی الی بغداد فی کلک، و رفعت تحت دار الخلیفة، و کانت عظیمة جدا، فلم تزل الی سنة سبع و خمسین و ست مئة، ثم کسرت». و یعلق الدکتور مصطفی جواد علی ذلک بقوله ان هذا الخبر یدل علی ان المستوفی لم یر القصعة فی سامراء، بل نقل خبرها لأنها لم تکن باقیة فی زمانه.
اما المسترسیتون لوید، فیشیر الی وجود الضریحین المطهرین اشارة عابرة فی (مدن العراق الأثریة) المشار الیه قبل هذا. فهو یقول: .. و هی تحتوی علی ضریح امامین من الأئمة الاثنی عشر، و مزار خاص بالامام الثانی عشر، المهدی، الذی اختفی هنا فی کهف تحت الأرض. و ان الباب الذی یسمی «باب الغیبة»، و الذی ینتظر ان یمر منها ثانیة عند ظهوره فی آخر الزمان، محفوظة فی سرداب یقع تحت القبة الذهب الکبری فی سامراء. و هی نموذج یلفت النظر لأشغال الحفر التی تعود الی القرن الرابع عشر، و قد رممت مؤخرا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 264
و تعلیقا علی ذلک نقول ان هذا الباب قد نقل بعد ذلک الی جناح الآثار العربیة من المتحف العراقی الجدید فی بغداد، و ما یزال موجودا فیه. و لا بد لنا من ان نشیر کذلک الی ان سرداب الغیبة الذی یعتقد سیتون لوید، و غیره من الکتاب الغربیین مثل هرتسفیلد، انه تحت القبة الذهب الکبری هو فی الحقیقة تحت القبة الثانیة غیر المذهبة کما لا یخفی.
و یذکر سیتون لوید علاوة علی ذلک ان إحدی أبواب مدینة سامراء القدیمة قد أعید بناؤها و وسعت فجعل منها متحف صغیر علی الطراز الحدیث.
و قد حفظت فیه خرائط و تصاویر سامراء القدیمة علی ما یقول، مع نماذج من اللقی التی وجدت بین ما عثرت علیه مدیریة الآثار القدیمة فی تنقیباتها.

سامراء فی کتاب دونالدسون

لقد أفرد الدکتور دوایت دونالدسون المبشر الانکلیزی الذی عاش فی ایران سنین عدیدة أربعة فصول غیر قصیرة (التاسع عشر و العشرون و الحادی و العشرون و الثانی و العشرون) عن سامراء و الأئمة الأطهار الثلاثة علیهم السّلام:
علی الهادی و الحسن العسکری و الحجة المهدی.
و بفصله الخاص بسامراء یبدأ بالحدیث عن موقعها و بنائها من قبل المعتصم، و عن الجامع الکبیر فیها، و استبداد القادة الأتراک بحکمها، مما سبق ان أتینا علی ذکره مرات عدة. ثم یتابع بحثه بالقول ان الخلفاء فی سامراء قد اشغلوا أنفسهم ببناء قصر بعد آخر فی جانبی دجلة، فکلفهم ذلک شیئا لا یقل عن (204) ملایین درهم بعملة تلک الأیام. و یتطرق خلال هذا الی ان شجرة سرو عظیمة اشتهر ذکرها فی «الشاهنامة» بکونها کانت قد نمت من غصن موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 265
جاء به زرادشت من الجنة، کانت موجودة فی قریة کیشمار بالقرب من تورشیز فی ایران. و قد زرعها تخلیدا لذکری اعتناق الملک کوستاشب الدیانة المجوسیة، و صارت الزلازل بوجودها لا تؤثر فی تلک القریة بینما کانت تنتاب المنطقة بأسرها بین حین و آخر فتهدمها تهدیما. و یذکر القزوینی، علی ما یقول دونالدسون، ان الخلیفة المتوکل أمر فی سنة 247 (861 م) بأن تقطع هذه الشجرة الباسقة و تنقل عبر ایران کلها، فتحمل علی ظهور الابل فی قسم من المسافة، من أجل ان یستفاد منها فی بناء قصره الجدید فی سامراء.
لکنها حینما وصلت الیها کان المتوکل قد قتل بتحریض من ابنه. و یشیر دونالدسون بعد هذا الی ان المستوفی، المیّال للشیعة، یذکر ان المتوکل قد اقتص منه العدل الالهی فقتله ابنه و تهدمت قصوره فغدت خرائب تنعق بها البوم لأنه أوعز بتهدیم قبر الحسین علیه السّلام فی کربلا و منع الزوار من زیارته ردحا من الزمن. کما یذکر ان سامراء لم یبق مسکونا منها حینما زارها سوی قسم قلیل جدا.
و هذا القسم المحدود الذی وجده المستوفی مسکونا فی القرن الرابع عشر للمیلاد، یقارب سامراء المعروفة الیوم فی حجمها و اتساعها علی ما یقول دونالدسون، و هی التی کانت جزءا من «معسکر المعتصم». و هنا سمح للامام علی النقی و ابنه الحسن بالعیش مدة من الزمن، و لذلک سمّیا بالعسکریین، و هنا دفنا کذلک. و یذکر دونالدسون فی الحاشیة ان الشهرستانی یقول بأن الامام علی النقی (الهادی) علیه السّلام مدفون فی قم، ثم یعلق علی ذلک بقوله ان هذا من قبیل الروایات المغلوطة. و یتابع البحث فیقول ان سامراء هذه تقع علی بعد عدة خطوات من جدران جامع الجمعة الکبیر، و هذا یتفق مع ما أورده المستوفی من أن ضریح الامام علی النقی، حفید الامام الرضا، و ضریح ابنه الحسن العسکری یقعان فی قبالة الجامع المذکور. و تدل الدراسات الآثاریة الیوم علی أن سامراء مدینة الخلفاء کانت أوسع من البلدة الحالیة بکثیر .. کما تدل اللقی الآثاریة علی ان لها قیمة خاصة لدارسی الفن
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 266
الاسلامی فی مختلف العصور، لأنها تعود الی الحقبة التی کانت فیها مدینة الخلافة العباسیة تشع بنورها علی العالم.
و فی القسم الباقی من سامراء اختفی الامام المهدی- محمد بن الحسن العسکری- علی ما یقال، و یقول المستوفی ان ذلک وقع فی سامراء سنة 264 (878 م). هذا و أن السماح للطائفة الشیعیة بأن تجعل مقرها، بعد سقوط البویهیین، فیما یقرب من الحلة حیث تسنی لهم ان یفاوضوا هولاکو خان بعد استیلائه علی بغداد للمحافظة علی العتبات، قد أدی الی نشوء فکرة ان الامام المنتظر سیظهر فی تلک المدینة (الحلة). و الی هذا یعزی ما یلاحظ من ارتباک فی روایة ابن بطوطة (1355) الذی شاهد مزارین أقیما للامام المهدی:
أحدهما فی سامراء و الآخر فی الحلة. لکن الحقیقة هی ان «جامع آخر الأئمة» فی الحلة یدل علی المکان الذی ینتظر ان یظهر فیه، اما مکان اختفائه فهو فی قبة ضریحی الإمامین العسکریین (ع) و جانب من الصحن الکبیر و قبة الغیبة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 267
سامراء .
و تعد مدینة سامراء الحدیثة فی نظر الشیعة الیوم ذات أهمیة فائقة لوجود المشهدین اللذین احتفظ بهما فی أحسن حال. و تعلو مشهد الامامین العسکریین القبة الذهب التی بدأ بتشییدها ناصر الدین شاه و أکمل بناءها مظفر الدین شاه سنة 1905 و توجد تحت هذه القبة أربعة قبور مطهرة هی: قبرا الامامین علی النقی و ابنه الحسن العسکری، و قبرا السیدتین القریبتین لهما. و إحداهما حلیمة أخت الامام علی النقی التی روت الظروف التی أحاطت بولادة الامام الغائب، و الأخری نرجس خاتون أم الولد المسیحیة والدة الامام الذی اختفی فی الخامسة (او التاسعة) من عمره. اما المشهد الثانی ففیه المکان الذی اختفی به عن الأنظار، و له قبة تمتاز بدقة تصمیمها و زخرفتها بالقاشانی الأزرق.
و یقع تحتها سرداب الغیبة، الذی ینزل الیه الزوار عن طریق سلم طویل خاص.
ثم یورد الدکتور دونالدسون فی هذا الفصل ترجمة للزیارة التی یقرأها الزوار عند دخولهم الی سرداب الغیبة، بعد ان یذکر موجزا لآداب الزیارة المعروفة، و یستغرق ذلک ما یقارب الأربع صفحات، و قد جاء بذلک نقلا عن دائرة المعارف الاسلامیة، تحت کلمة «الاثنا عشریة».
و فی مستهل الفصل الذی یتکلم فیه علی الامام الهادی علیه السّلام یستطرد دونالدسون بمقدمة تاریخیة یقول فیها ان النصف الأول من القرن التاسع للمیلاد خضعت فیه روما و القسطنطینیة و بغداد الی طغیان العناصر الأجنبیة علیها .. و قد اضطر ثیوفیل (829- 842) الی الاحتفاظ بسطوته، و المجازفة بامبراطوریته، باستخدام جیوش ایرانیة و أرمنیة. و علی الشاکلة نفسها اضطر المأمون و المعتصم و اخلافهما الأقربون، فی بغداد، الی أن یضعوا جل اعتمادهم علی جیوش ترکیة مستأجرة خلال الحقبة نفسها خوفا من مؤامرات العناصر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 268
الاسلامیة المتخاصمة. و لأجل ان یزیدوا فی السلامة و الأمان أسسوا مدینة عسکریة جدیدة فی سامراء، علی بعد ستین میلا من شمال بغداد، و جعلوا مقرهم فیها. و لکن ما مر وقت طویل علی هذا حتی أخذ القادة الأتراک، الذین استطاعوا القضاء علی ثورات اسلامیة عدیدة، ان یملوا ارادتهم علی الخلفاء و أصبحوا الحکام الحقیقیین فی البلاد، بینما بقی الخلفاء أنفسهم ألعوبة فی «سجن» المدینة التی أنشأوها. و فی مثل هذا الوقت الذی کانت السلطة الاسلامیة تنتقل فیه بسرعة الی أیدی الأتراک ولد الامام العاشر، علی النقی، و عاش.

الأمام الهادی علیه السّلام

لقد عنون الدکتور دونالدسون هذا الفصل بعنوان «علی النقی، السجین لعشرین سنة». و بعد المقدمة السابقة، یتابع بحثه عن الأمام و یقول ان سنة میلاده مختلف فیها، فهی اما سنة 827 او سنة 829، و اذا اعتبرنا ان ولادته کانت فی 827 م فیکون قد تجاوز سبع سنوات من عمره حینما توفی والده. و کانت أمه علی ما یقول الرواة أم ولد تدعی سمانة المغربیة، لکن صاحب «المشکاة» یذکر أن اسمها سوسن و أنها کانت تسمی درة المغربیة، مما یدل علی أنها کانت من أسری إحدی الأمم المسیحیة.
و حینما شب الأمام و ترعرع عاش فی المدینة و أشغل نفسه بالتعلیم و التعبد. فصار یجتذب الناس الیه باعداد کبیرة تدریجیا، و لا سیما من الأقالیم التی کان یکثر فیها شیعة آل البیت مثل العراق و أیران و مصر.
و فی خلال السبع او الثمان سنوات التی بقیت من خلافة المعتصم بعد وفاة الأمام محمد الجواد، و فی طوال السنوات الخمس التی تولی فیها الخلیفة الواثق من بعده لیس هناک ما یدل علی أن الأمام قد مسه أحد بسوء أو اعتدی علیه. و من الأحادیث التی تنسب روایتها له، و کان قد کتب
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 269
فی «الصحیفة» بخط علی بن ابی طالب و أملاء رسول اللّه، و توارثته الأئمة جیلا بعد جیل، ان الرسول علیه الصلاة و السّلام کان قد حدد الأیمان و وصفه بکونه موجودا فی قلوب الرجال، و ان أعمالهم تنم علیه.
علی أن خلافة المتوکل ما أن بدأت حتی حدث فی أثنائها رد فعل بارز ضد حریة الرأی و التفکیر، و وضعت الخطة لاضطهاد منظم ضد المعتزلة و الشیعة و لم یسلم منه سوی السنّة الأقحاح. و فی سنة 851 م، حینما کان الأمام فی الخامسة و العشرین من عمره، أمر المتوکل بحظر الزیارة لضریحی الأمامین علی و الحسین علیهما السّلام. و فی ذلک العهد نقض المشهد الحسینی المطهر و دمر عن آخره.
و فی هذا العهد کذلک أصبح الخلیفة ینظر الی الأمام الشاب بعین الشک و الارتیاب. غیر ان الأمام استطاع ذات یوم ان ینقذ نفسه، علی ما یقول المسعودی، بجواب بارع أجاب به علیه السّلام المتوکل حینما وجه له سؤالا محرجا. فقد سأله «ماذا یقول المتحدرون من نسل أبیک بالعباس بن عبد المطلب؟» فرد علیه الأمام یقول «ماذا یقول المتحدرون من صلب ابی، یا أمیر المؤمنین، فی رجل أمر اللّه الناس بأطاعة أولاده:
و ینتظر من أولاده ان یطیعوا اللّه؟» فسر الخلیفة من هذا الجواب و أمر بأن یعطی الأمام مئة ألف درهم.
و یروی المسعودی بالمناسبة نفسها حادثة أخری اوردها المبرد فی الأصل، و ذکرها ابن خلکان فی وصفه للأمام علی النقی. و هی أن الأمام قد سعی به عند المتوکل، و قیل: إن فی منزله سلاحا و کتبا و غیرها من شیعته. و أوهموه أنه یطلب الأمر لنفسه: فوجه الیه بعدة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 270
من الأتراک لیلا، فهجموا علیه فی منزله علی غفلة، فوجدوه وحده فی بیت مغلق، و علیه مدرعة من شعر، و علی رأسه ملحفة من صوف، و هو مستقبل القبلة، یترنم بآیات من القرآن فی الوعد و الوعید، لیس بینه و بین الأرض بساط الا الرمل و الحصی. فأخذ علی الصورة التی وجد علیها، و حمل الی المتوکل فی جوف اللیل. فمثل بین یدیه، و المتوکل یستعمل الشراب، و فی یده کأس. فلما رآه أعظمه و أجلسه الی جانبه.
و قیل له: لم یکن فی منزله شی‌ء مما قیل عنه، و لا حبالة یتعلق علیه بها.
فناوله المتوکل الکأس التی کانت بیده فقال: یا أمیر المؤمنین ما خامر لحمی و دمی قط، فاعفنی فأعفاه.
و قال له:- أنشدنی شعرا استحسنه.
فقال:- أنی لقلیل الروایة للشعر.
قال:- لا بد ان تنشدنی، فانشده:
باتوا علی قلل الأجبال تحرسهم‌غلب الرجال فما أغنتهم القلل
و استنزلوا بعد عز من معاقلهم‌فاودعوا حفرا یا بئس ما نزلوا
ناداهم صائح من بعد ما قبروااین الأسرة و التیجان و الحلل
أین الوجوه التی کانت منعمةمن دونها تضرب الاستار و الکلل
فأفصح القبر عنهم حین ساءلهم‌تلک الوجوه علیها الدود یقتتل
قد طال ما أکلوا دهرا و ما شربوافأصبحوا بعد طول الأکل قد أکلوا
قال:- فأشفق من حضر علی علیّ، رضی اللّه عنه. و ظن ان بادرة تبدر الیه. فبکی المتوکل بکاء شدیدا حتی بلت دموعه لحیته، و بکی من حضر. ثم أمر برفع الشراب.
ثم قال:- علیک یا أبا الحسن دین؟
قال:- نعم أربعة الآف دینار.
فأمر بدفعها الیه، ورده الی منزله مکرما.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 271
هذا و ینقل عن یحیی بن هرثمة، قائد الحرس، انه روی کیفیة إیفاده الی المدینة للأتیان بالأمام الی سامراء علی الوجه التالی، قال: بعثنی الخلیفة المتوکل الی المدینة و أمرنی بأن آتی بعلی بن محمد لیجیب علی بعض الاتهامات التی اتهم بها. و حینما وصلت الی بیته تعالی النحیب و العویل بشکل لم أسمع مثله مطلقا من قبل. فحاولت تهدئتهم و أکدت لهم بأننی لم أتلق أی أمر ینطوی علی إیذائه أو المس به. و عند ما فتشت الدار التی کان یعیش فیها لم أجد سوی قرآن، و کتب للأدعیة و ما أشبه. و لذلک عرضت علیه خدماتی حینما أخذته و أبدیت له غایة الأحترام.
و قد حدث ذات یوم خلال الرحلة، حینما کانت السماء صافیة و الشمس علی وشک الطلوع، ان وضع علیّ عباءته علی رأسه بینما کان یمتطی صهوة جواده و عقد ذیل الحیوان. فتعجبت من ذلک، غیر أننا ما عتمنا حتی رأینا غمامة تتوسط السماء، ثم أخذت تصب مدرارا من مطرها. و عند ذاک التفت إلی علی و قال «أنی أعلم بأنک لم تفهم ما رأیتنی أفعله، و أنک تتصور بأنی کان عندی معرفة خارقة بهذا الأمر. ان الأمر لیس کما تظن، لکننی کنت قد نشأت فی البادیة و أصبحت علی علم تام بالریاح التی تسبق هطول المطر. و قد هب الریح هذا الصباح بصورة لم تجعل مجالا للشک، و شممت رائحة المطر فتهیأت له.»
ثم یتابع هرثمة سرد القصة فیقول: و عند وصولنا الی بغداد کانت زیارتنا الأولی لأسحق بن ابراهیم الطاهری الذی کان حاکما فیها. فقال لی «أعلم یا ابا یحی ان هذا الرجل هو ابن رسول اللّه، و انت تعرف المتوکل و یمکنک ان تؤثر علیه، فأذا ما حرضته علی قتل هذا الرجل فسیعادیک الرسول.» فأجبته بأننی لم أجد فی سلوک علیّ غیر ما یستحق الثناء و الأطراء بالکلیة. ثم ذهبت الی سامراء حیث واجهت وصیفا القائد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 272
الترکی، لأننی کنت من أصدقائه المقربین. فقال لی «أقسم باللّه اذا مسّت شعرة واحدة فی رأس هذا الرجل، فسأطالب انا بحقه.» و قد عجبت بعض العجب لموقف هؤلاء الناس من علی، و حینما أخبرت المتوکل بما سمعت من ضروب الثناء علی الأمام قدم له هدیة ثمینة، و عامله بکل احترام و تقدیر.
.. و مع هذا فنظرا للأخبار العدیدة الأخری التی کانت تصل الی الخلیفة عن ولاء الأمام الهادی فقد بقی أسیرا فی سامراء. و کانت هذه المدینة تسمی «العسکر» فی بادی‌ء الأمر لأن المعتصم کان قد بناها لتکون معسکرا لجنده فی خارج بغداد، و لذلک کان یسمی الأمام علی النقی أحیانا «العسکری» بالنظر للعشرین السنة التی قضاها أسیرا فی مدینة الجیش.
و یقول دونالدسون ان هناک ما یدل علی ان الامام علی النقی کان یسمح له بشی‌ء من الحریة فی اثناء حیاته فی سامراء، فقد کان یلتقی بأصدقائه، و یخرج راکبا الی خارج المدینة ثم یعود الیها، و یحضر فی مجلس الخلیفة. و کانت له داره الخاصة به ایضا، لکن الجواسیس کانوا یترصدون حرکاته و یراقبونه مراقبة دقیقة. و قد قیل ان المتوکل أصدر أمره فی الأخیر بقتله .. فدعاه الی مجلسه، ثم أوصی أربعة من خدامه بأن یسلوا سیوفهم و ینتظروا اشارة منه بقتل الأمام عند ما یخرج.
و حینما خرج الامام من مجلس الخلیفة و تقرب من أولئک الخدم أسقط بیدهم و لم یتم قتله.
و بعد ذلک بمدة و جیزة تمرض المتوکل بظهور خراج کبیر. فی جسمه بحیث لم یعد یستطیع الجلوس و لا النهوض و قد أراد أطباؤه أن یشقوا الخراج بالمبضع لکنه لم یقرهم علی ذلک، و لم تجد نفعا وسائل العلاج الأخری. لکن أم المتوکل بعثت تطلب مشورة الأمام سریا بذلک، فأوصی علیه السّلام باستعمال «لزقة» خاصة ضحک علیها الأطباء. غیر ان الفتح بن خاقان أوصی بتجربتها علی کل حال، فتم الأمر و انفجر الخراج
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 273
فشفی الخلیفة.
و قد قتل المتوکل فی سنة 861 علی ید الأتراک المرتزقة الذین استطاعوا ان یسیطروا علی شؤون الخلافة فی سامراء، و توفی ابنه المنتصر بعد سنة، ثم حکم المستعین بعده ثلاث سنوات حتی قتل فی 865. لکن الأمام الهادی علیه السّلام بقی یعیش أسیرا مبجلا فی سامراء. و قد أطنب مؤرخو الشیعة، علی ما یقول دونالدسون، فی ذکر مزایاه الحمیدة، و لو أردنا أن نضع الزلفی المبالغ فیها جانبا یبدو أنه کان رجلا رزینا حسن الطبع، طیب الخلق، عانی کثیرا من کره المتوکل له فی جمیع الأیام، لکنه مع ذلک حافظ علی هیبته و وقاره، و أبدی کثیرا من الصبر .
و یختم دونالدسون فصله عن الأمام علیه السّلام بقوله ان الیعقوبی یقول أنه توفی بصورة غامضة فی الیوم السادس او السابع و العشرین من جمادی الأخری سنة 254 (868 م)، فانتدب المعتز أخاه أحمد بن المتوکل لیصلی علیه فی محلة «أبی أحمد». لکن الناس حینما تجمعوا حصل کثیر من الضوضاء و الجلبة فنقل التابوت الی بیته حیث دفن فی فنائه. و کان قد وصل الی الأربعین من عمره، و خلف ابنین اثنین هما الحسن و جعفر.
أما الدکتور جون هولیستر ، المشار الیه فی معظم الأجزاء السابقة من هذه الموسوعة، فیذکر جمیع ما أورده دونالدسون عن الأمام الهادی تقریبا. لکنه یذکر بالأضافة الی ذلک أنه کان یبلغ السنة السادسة أو الثامنة من عمره حینما توفی والده، و لذلک کان الأمام «الصغیر» بین الأئمة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 274
الأثنی عشر علیه السّلام. کما یذکر عنه انه مات مسموما، و یرجح ان ذلک تم فی أیام الخلیفة المعتز، و ان الذی صلی علیه و تولی مراسیم دفنه ابنه الحسن العسکری علیه السّلام. و یستند فی روایته علی کتاب عساف فیضی الهندی.

الحسن العسکری علیه السّلام

إن أهم المراجع الغربیة التی تأتی علی ذکر الأمام العسکری علیه السّلام، کتاب دونالدسون (عقاید الشیعة) و کتاب هولیستر (شیعة الهند) المار ذکرهما. ففی الفصل الذی یفرده دونالدسون لهذا الغرض (الفصل 20، الص 217- 225) یقول ان هناک شکا فی المکان الذی ولد فیه الأمام الحادی عشر، فمن المؤرخین من یقول انه ولد فی المدینة المنورة و منهم من یقول انه ولد فی سامراء. و تختلف الروایات کذلک فی السنة التی ولد فیها بین سنتی 230 و 231 أو 232 للهجرة. فیقول الکلینی (الأصول الکافی) انه ولد سنة 232 لکنه لم یعین المکان الذی ولد فیه.
اما العلامة المجلسی فقد ذکر فی الجزء الثانی عشر من (بحار الأنوار) عدة آراء فی هذا الشأن من دون ان یلقی ضوء علی الموضوع. علی اننا نعلم ان الأمام الهادی علیه السّلام لم یؤخذ أسیرا الی سامراء الا فی سنة 234 ه، و لذلک فأن أسرته کانت حتی ذلک الوقت فی المدینة التی یحتمل جدا أن یکون ابنه الحسن قد ولد فیها. و کانت أمه، مثل أمهات معظم الأئمة الآخرین، أمة من الأماء تشرفت بعد إنجابها أطفالا لسیدها باللقب الخاص «ام ولد». و کان اسمها حدیثا، لکن أناسا کثیرین یقولون انها کانت تسمی سوسنا، أو غزالة، أو سلیلا، او حربتا. و نقول تعلیقا علی هذا ان المراجع العربیة تجعل بعض أسمائها هذه حدیثة بدلا من حدیث، موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 275
و حربیة بدلا من حربتا، و غزل المغربیة بدلا من غزالة.
ثم یتابع دونالدسون بحثه عن الأمام الحسن فیقول انه کان یلقب بالصامت، و الهادی، و الرفیق، و الذکی، و النقی. لکن اللقب الذی غلب علیه هو «العسکری»، لأنه عاش فی مدینة الجیش بسامراء. اما کنیته فهی «أبو محمد». و حینما بلغ الثانیة من عمره (او الثالثة أو الرابعة) حامت الشکوک حول والده الامام علی الهادی، و تصور المتوکل انه یشترک فی مؤمرات تحاک ضده، فجی‌ء به أسیرا الی سامراء. و لما کان قد رخص له بالعیش فی بیت خاص به فقد سمح لأسرته الکریمة بأن تأتی الی سامراء کذلک. و هناک شب الفتی و خصص القسم الأعظم من وقته للدراسة و طلب العلم. و بالاضافة الی الدراسات الاعتیادیة التی کانت مطلوبة من الأولاد المسلمین عن القرآن و الشریعة و ما أشبه، فأن الأمام العسکری ربما کان منشغلا أیضا لدرجة ما بتعلم اللغات، لأن من الأمور اللافتة للنظر التی لو حظت علیه فی السنین الأخیرة انه کان یستطیع التکلم بالهندیة مع المسلمین القادمین من الهند، و الترکیة مع الأتراک، و الأیرانیة مع الأیرانیین (نقل دونالدسون هذا عن خلاصة الأخبار). و کثیرا ما کان یسمی هو و أبوه وحده بأسم «ابن الرضا» من دون ان یلقب بالأمام، لأن طائفة کبیرة من الطوائف الشیعیة کانت تعتقد ان الأمامة تقف فی الأمام الرضا علیه السّلام و لا تستمر فی سلالته من بعده، و هؤلاء کان یطلق علیهم «الواقفیة».
و مما یروی عن الامام و قد کان فی السابعة أو الثامنة عشرة من عمره، فی خلافة المستعین، أنه استطاع أن یرکب بغلة مشاکسة کانت تعود للخلیفة من دون أن یجد صعوبة، و قد شاع یومذاک ان الخلیفة کان ینتظر و هو جازم ان تلک البغلة ستقضی علیه، لکن الأمام أبدی مقدرة تامة فی السیطرة علیها بخلاف ما کان یریده صاحبها الخلیفة.
و علی عادة الدکتور دونالدسون، الذی یتسقط فیها الهفوات و یجمع
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 276
الخرافات و الأقوال الغریبة لیفسرها کما یرید و یهوی، فانه یقول مدعیا الاستناد الی کتاب یسمی (عقائد الشیعة) لمؤلف یدعی حاجی مرزا عکاسی (مطبوع بالحجر فی مشهد خراسان سنة 1879) ان الأمام العسکری لم تکن له زوجة شرعیة، و ان إحدی جواریه التی انجبت له ابنه الأمام الحجة القائم کانت نرجس خاتون ابنة یشوع بن امبراطور الروم. و لم یکن للأمام علیه السّلام سوی الحجة القائم و ابنة أخری. ثم یذکر دونالدسون ان قصة نرجس خاتون و کونها أمیرة من أمیرات الروم ربما تکون قد وضعت لتؤکد علی نبل الأمام من جمیع الجهات، لکنه لم یکن من المستبعد انها کانت من بین الأسری المأسورات من جهات الامبراطوریة البیزنطیة، اللواتی جی‌ء بهن الی أسواق النخاسة جاریات فی بیوت علیة القوم من المسلمین.
و یروی دونالدسون کذلک عددا من المعجزات المنسوبة الی الأمام مثل قصته مع الشحاذ الذی أقسم بأنه لا یملک شروی نقیر بینما کان یخبی‌ء فی بیته مئتی دیناز، و حدیثه مع الرجل الذی زاره فتذکر بأنه قد أضاع خمسین دینارا فدله الأمام علی مکانها، و قصته الأخری عن السجادة التی جلس علیها أحد زواره فکانت سجادة جلس علیها الأنبیاء جمیعهم من قبل. الی غیر ذلک مما یلتقطه من اخبار و روایات خارجة عن حیز التاریخ.
و ینتهی الفصل الخاص بالأمام العسکری (ع) بقوله ان اهم ما کان یزعجه به الخلیفة فی السنوات الأربع أو الخمس الأخیرة من حیاته الشریفة انه منع عنه «الخمس» الذی کان من المعتاد ان یسلم الی آل البیت النبوی الکریم. ثم یقول ان المراجع تجمع علی ان الأمام أبا محمد الحسن العسکری قد توفی فی بیته بسامراء سنة 260 للهجرة، و هناک دفن الی جنب والده.
و تقول الکتب الشیعیه مثل کتاب (تذکرة الأئمة) و کتاب (عقائد الشیعة) انه توفی بالسم الذی دسه له المعتمد العباسی.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 277
اما الدکتور هولیستر فیورد النقاط التی تطرق الیها دونالدسون بشکل أوضح، و لا یتوسع فی ذکر المعجزات و الکرامات و ما أشبه مما أورده دونالدسون ضمن حوادث التاریخ معتمدا فیه علی الروایات و الاخبار التی تجافی سرد التاریخ و یقول ان الأمام العسکری تولی مسؤولیات الأمامة و هو فی الثانیة او الثالثة و العشرین من عمره، فکان أکثر نضجا مما کان علیه أبوه وجده حینما تولیا تلک المسؤولیة .. و یبدو ان عزله عن الناس کان یتبع بشی‌ء أکثر من الصرامة التی کان یعامل بها أبوه، و کان یتضح من ذلک ان خلفاء بنی العباس کانوا یرغبون فی التخلص منه. و للبرهنة علی هذا یورد هولیستر قصة البغلة الجموحة، و غیرها.
و بعد ان یشیر الی قصة تزویجه بالسیدة نرجس خاتون المار ذکرها کذلک، یذکر أن الأمام الحسن منع من مقابلة الناس و أبقی فی عزلة شاملة لوحده مدة من الزمن. و لما کان لم ینجب أی ولد و حتی ذلک الحین فقد کان اعداؤه یطمعون فی ان یقطع نسل الأئمة الأطهار. و لأجل إخضاعه الی الرقابة الشدیدة التامة کان سجنه فی ذلک الوقت عبارة عن غرفة فی القسم الأسفل من القصر الملکی، و لم یسمح له بأن یبقی زوجته المفضلة معه. و کان لتلک الغرفة باب فقط، و لم یکن فیها أی شباک یمکن ان یدخل منه النور و الهواء. و قد سجن فیها سنتین، و مع أنه کان شابا فی الرابعة و العشرین من عمره فقد خرج من السجن و هو یبدو کأنه رجل مسن قد ناهز السبعین. لکنه تحمل کل ذلک الأذی و العذاب بطمأنینة و هدوء .
و قد اطلق المعتمد سراحه بعد ذلک و سمح له بالعودة الی بیته. و صار یراقب مراقبة دقیقة من دون ان یکتشف عنه أی نوع من الخیانة، علی موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 278
ما یقول هولیستر. و بعد ذلک قطع عنه الخلیفة «الخمس» .. فوقع الأمام فی ضائقة شدیدة من جراء ذلک، لکنه لم یفقد شخصیته و اتزانه.
فتوفی فی سامراء سنة 260 ه. و قد حصلت ضوضاء و صخب فی البلد حینما سرت أنباء وفاته فیه لکن الأمور عادت الی الهدوء حینما انضم الی موکب التشییع رجال الدولة و کبار بنی هاشم. فدفن الأمام الحسن بالقرب من قبر والده فی سامراء. و کانت قد اشترکت فی التشییع کذلک جموع غفیرة من الناس، و خیّم الحزن فی کل مکان. و لما کانت الحاجة للتقیة و التمسک بها قد انتفت بوفاته فقد عبر الناس عن حزنهم العمیق یومذاک بکل صراحة.
و یقول هولیستر بعد ذلک أن أخاه جعفرا قد حظی بالتفات خاص من السلطة و غیرها بعد وفاة الأمام. و کانت بعض الأوساط تعترف به من قبل بدلا من ان تعترف بالأمام الحسن، او ابنه، لکن الأثنا عشریة یسمونه «الکذاب». و هناک جماعة أخری یسمون أنفسهم «الجعفریة» کانوا ینکرون وجود ابن للأمام الحسن و یعترفون بجعفر الکذاب هذا خلیفة له، بینما کان آخرون یقولون ان الأمامة تنتهی بالحسن العسکری نفسه.
و هنا یذکر هولیستر ان المستر کانن سیل صاحب کتاب (الاثنا عشریة)، بعد ان یتطرق الی أصل الشیعة النصیریة یقول: .. و هناک تفسیر آخر علی جانب أکبر من الاحتمال ینض علی أن اسمهم- النصیریة- الحالی ینسب الی محمد بن نصیر من وکلاء الأمام الحادی عشر الحسن العسکری.
و یقول ماسنیون المستشرق الفرنسی ان محمدا هذا کان یسمی نفسه «باب» الأمام العاشر علی النقی، و ابنه الکبیر محمد الذی مات قبله فی 294 ه. و بهذا یفرق المستر سیل بین النصیریة و الاسماعیلیة، و قد ازدادت الشقة بعدا بین هذین الفریقین بمحاولة الاسماعیلیة الاستیلاء علی النصیریة فی منطقتهم بسوریة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 279

الأمام المهدی المنتظر

لقد کتب عن الأمام المهدی ابی القاسم علیه السّلام عدد غیر یسیر من کتاب الغرب، و لا سیما عند البحث عن المهدی و المهدویة بوجه عام.
لکننا سنقتصد هنا علی ایراد شی‌ء مما کتبه هولیستر فی کتاب (شیعة الهند) و دونالدسون فی کتاب (عقیدة الشیعة) المار ذکره.
و یبدأ الدکتور هولیستر بالقول ان رأی الجعفریة الذین یصرون علی ان الأمام الحسن العسکری لم یکن له ولد، یشارکهم فیه عدد من الباحثین فی موضوع الهرطقة. فیشیر ابن حزم مثلا الی اختلاف الآراء فی هذا الامام و یلخصها فی الآتی: (1) أنه ولد فی السنة التی توفی فیها أبوه.
و (2) أنه ولد بعد ان توفی والده. و (3) انه کان فی الخامسة من عمره حینما انتقل والده الأمام الی دار الخلود. (4) هناک أخبار متناقضة عمن تکون أم الولد نفسه.
ثم یقول: و لا تعتمد عقیدة الأثنی عشریة علی عدم تصدیق السنة أو غیر المسلمین، لهذا الرأی. لکنه یبدو ان شخصیة الأمام الثانی عشر، و الآراء التی تکونت بشأنه، تعتبر من أساسیات العقائد الشیعیة.
ثم یقول هولیستر ان الأمام المهدی ولد فی سامراء سنة 255 ه.
و خلف والده فی الأمامة سنة 260 ه، و بذلک یکون قد بلغ الخامسة من عمره حینما توفی والده. و کانت امه نرجس خاتون أمة من أهل الغرب. و یقول الحلی عنه انه أفضل الأئمة جمیعهم، کما تروی الروایات عددا من المعجزات عن ولادته .. و قد أخفاه أبوه الأمام العسکری، خلال السنین الأولی من سنی حیاته، عن الناس عدا الأصدقاء الأخصاء خوفا علیه من الخلیفة الذی قد یعمد الی القضاء علیه اذا ما سمع بالظروف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 280
التی صحبت ولادته. غیر انه بعد ان توفی والده و أصبح اماما بعده، اختفی عن الأنظار و دخل الغیبة. و یروی هولیستر هنا عددا من الروایات التی یستمدها من الاخبار و لیس من التاریخ.
و تقول احدی الروایات ان الامام المهدی اختفی من سرداب فی سامراء، و یروی ابن بطوطة فی رحلته انه کان قد وجد خیالة من الجنود تقف فی مدخل هذا السرداب. و یبدو ان هذه الروایة شائعة القبول بین الناس، و لذلک یدل أحد المزارین الموجودین فی سامراء الیوم علی المکان الذی قیل انه حصلت فیه الغیبة . إذ یوجد تحت القبة السرداب الذی یعتقد بأن الأمام الفتی قد غاب فیه. و تعتبر زیارته عن طریق سلم طویل مؤد الیه من الزیارات المعروفة بالکثیر من الأجر و الثواب.
و کان یمثل الأمام خلال «الغیبة الصغری» التی امتدت الی ما یقرب من سبعین سنة أربعة وکلاء، و هم: عثمان بن سعید، و أبو جعفر محمد، و ابو القاسم الحسین بن روح، و علی بن محمد السمری. و کان عثمان بن سعید قد خدم الأمامین الأخیرین سکرتیرا و أمینا للصندوق، کما کان مسؤولا فی الحقیقة عن ممتلکاتهما. و قد رشحه الحسن العسکری لیکون وکیلا له، و سمح لجماعة من أتباعه حینما جاءوا یسألون عن الأمام من بعده بأن یروا الأمام الفتی محمدا بأنفسهم، ثم قال لهم بأنهم لن یستطیعوا رؤیته مرة أخری حتی یکون قد تقدم کثیرا فی العمر.
و أخبرهم بعد ذلک بأنهم یجب ان یقبلوا خلال هذه المدة ما یقول لهم عنه عثمان بن سعید لأنه وکیله. و کان کل وکیل یسمی من سیخلفه فی الأمر، کما کان کل منهم یدیر مصالح الأمام و شؤونه، و ینقل الی رؤساء موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 281
الطائفة الأثنی عشریة رسائل الأمام السریة. و ما حلت نهایة العهد الذی اشتغل فیه الوکیل الرابع علی بن محمد حتی کان الاضطهاد قد ادی الی تفرق الطائفة و أفرادها شذر مذر بحیث لم یبق علی قید الحیاة من کان قد رأی الأمام بأم رأسه من قبل. و قد امتنع الوکیل الأخیر عن تسمیة من یخلفه او ینوب عنه فقال «ان الأمر قد أصبح بید اللّه»، و قد عرفت الحقبة المبتدئة بذلک العهد ب «الغیبة الکبری».
و قد کان الأمام المهدی (ع) طوال أیام الغیبة الصغری یظهر بین حین و آخر للمخلصین المقربین من أتباعه، لکنه کان یتصل بالجمیع عن طریق الوکیل. حتی یظهر فی آخر الزمان. و قد یظهر فی مکة مع الحجاج فی أیام العید الأضحی من دون أن یعرفه أحد الی غیر ذلک من المعتقدات.
هذا و هناک أشیاء أخری عن الأمام الحجة ینقلها الدکتور هولیستر عن عدد من کتاب الهند المسلمین، تختص بالرجعة أو ظهور المهدی فی آخر الزمان و ما أشبه. کما یبحث فی مزایا اعتقاد الشیعة الأثنی عشریة بهذه العقیدة، و فوائدها فی حیاتهم الیومیة و الدینیة. ثم یختم البحث بالأشارة الی أن کلمتی «المنتظر» و «القائم» تدلان بطبیعة الحال علی مقدار الأمل الذی یخالج نفوس الشیعة فی عقیدتهم هذه.
اما دونالدسون فیبدأ الفصل الذی خصصه للکتابة عن الأمام المهدی بالمقارنة بین فکرة «المهدی» عند أهل السنة، و ما یعتقده الشیعة بالنسبة لها. ثم یقول انه من المحتمل جدا ان یکون الفشل المحزن، الذی منیت به الأمبراطوریة المسلمة، فی تحقیق العدالة و المساواة بین الناس علی عهد الخلافة الأمویة (41- 132 ه) قد تکون له علاقة بنشوء فکرة ان رجلا رشیدا من بین المسلمین سیظهره اللّه فی آخر الزمان لهذا الغرض.
و الحقیقة ان کلمة «المهدی» کانت قد نشأت بعد اغتیال الأمام علی (ع) قتل ابنه الحسین، و ما أعقب ذلک من فظائع الحروب الأهلیة التی نشبت و بین العرب، حین أطلقت فی سنة 66 للهجرة علی الأمام محمد بن الحنفیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 282
فقد سمی یومذاک «المهدی بن الوصی» و حینما توفی دفن فی جبل رضوی، و صار أتباعه ینتظرون عودته من هذا الجبل، و بذلک أصبح «المهدی المنتظر» ... و نظرا لأن القرآن لیس فیه ما یبرر حقیقة هذه الآمال، فقد کان من الضروری ان تدعم بروایات و أحادیث تؤکد وجودها . علی ان ابن خلدون قد شکک فی صحة ما روی من الأحادیث فی هذا الشأن، و استند فی ذلک الی عدم ذکره فی صحیحی البخاری و مسلم، و شک فی اعتماد الترمذی و أبی داود علی عاصم. و لذلک لم یتطلب علماء السنة وجوب إدخال فکرة «ظهور المهدی» فی عقائدهم.
علی أن علماء الشیعة من جهة أخری یعتبرون انتظارهم لظهور المهدی شیئا أساسیا فی عقائدهم. فهم یذهبون الی ان الآیات القرآنیة التی تعبر عن فکرة الهدایة الألهیة یجب ان ینظر فی علاقتها بالأئمة بتصرف، و یؤکدون بصورة خاصة علی الآیة «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ یَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ یَعْدِلُونَ». و قد زعم الکلینی و غیره من علماء الشیعة، بالاستناد الی أحادیث مرویة عن الأمام الصادق و الأمام الباقر علیهما السّلام، ان کلمة أمة فی هذه الآیة تعنی الأئمة من آل بیت النبی. و هناک حدیث عن الأمام علی یقول فیه «ان هذه الأمة ستنقسم الی ثلاثة و سبعین فرقة، اثنتان و سبعون منها فی جهنم و واحدة فی الجنة.» و هناک عدة آیات تشیر مباشرة الی القیامة. و إن الأشارة الی «القائم» فی یوم القیامة خلال الآیة «أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلی کُلِّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ» یقصد بها المهدی.
لکن الشیعة یعتبرون القرآن أیضا لیس فیه وضوح کاف فی الموضوع، و ان ما ینقصه فی هذا الباب تکمله الاحادیث الموثوقة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 283
ثم یذکر دونالدسون ان الأمام الثانی عشر، الذی کان یسمی صاحب الزمان، یقال انه ولد فی سامراء سنة 255 او 256 ه. و یدل هذا علی أنه ولد قبل وفاة والده الحسن العسکری بأربع أو خمس سنوات. ثم یحاول هذا المؤلف التشکیک فی إمکان تطبیق ما ورد من أحادیث نبویة و غیرها بشأن «المهدی» علی ولادة الأمام الحجة، مما لم نجد موجبا لا یراده هنا لانه خارج عن العرض التاریخی.
و یذکر بعد ذلک ان ابن خادم من خدام الحسن العسکری (ع) یروی قائلا: .. ان الحسن علیه السّلام حینما ولد الأمام بعث یطلب والده، و أوصاه بتوزیع عشرة آلاف رطل من الخبز و عشرة آلاف رطل من اللحم علی بنی هاشم و غیرهم فی سامراء، و ان یذبح عددا من الأغنام لهذا الغرض. و یذکر کذلک ما روته نسیم و ماریة، خادمتا الحسن العسکری عن ولادة المهدی علیه السّلام و ما رافق ذلک من کرامات و معجزات کما یروی مثل هذا عن عمته حلیمة.
و یشیر دونالدسون بعد هذا الی ان المهدی علیه السّلام قد أعلنت أمامته قبیل وفاة والده. فقد أخبر رجل یدعی اسماعیل انه عاد الأمام الحسن فی مرضه الأخیر و جلس بقربه. فسمعه یطلب من عقید خادمه بأن یحضر له شیئا من سائل المستکی، لکن والدة صاحب الزمان سرعان ما جاءت بالأناء و وضعته فی ید الحسن. غیر ان یده ارتعشت حینما حاول ان یشرب شیئا منه فارتطم الأناء بأسنانه. و عند ذاک وضعه جانبا و طلب من خادمه عقید ان یذهب الی الغرفة و یخبر الطفل الذی کان یصلی فیها بالمجی‌ء الیه. و بعد ان انتهی من صلاته جاءت أمه و أخذت بیده فأتت به الی والده. و حینما حضر عند والده کانت سیماء الطفل النبیل تضی‌ء و تزهو، و کان شعره جعدا، و قد ابتسم فبانت اسنانه. و قد بکی الوالد المحتضر عند ما وقع نظره علیه و قال له: یا سید أهل بیته أعطنی شربة فأنی ذاهب الی خالقی و بارئی یوم القیامة. فأخذ الطفل ماء المستکی،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 284
و قرأ علیه، ثم سلمه لوالده. و عند ما شربه قال جهزنی للصلاة، فأخذ صاحب الزمان منشفة مسح بها وجه والده و رأسه و قدمیه للوضوء. و عند ذاک خاطب الأمام المحتضر ابنه بقوله: طفلی العزیز، انت صاحب الزمان، أنت المهدی، أنت آیة فی أرضه. أی طفلی و وصیی، أنت محمد ابنی و ابن الرسول، انت خاتم الأئمة. لقد أخبر رسول اللّه عنک، و ذکر اسمک و کنیتک. و هذا هو عهد أبائی قد جاء الی .. و فی تلک اللحظة توفی الأمام العسکری علیه السّلام.
و یبدو ان الأمام الفتی قد اختفی و بدأت غیبته فیما یقرب من ذلک الوقت. و قد جاء فی (جنات الخلود) انه اختفی فی بیته الذی ورثه من ابیه بسامراء فی سرداب یتم الوصول الیه بعدد من الدرجات. و کان ذلک هو المکان الذی کان یختفی فیه هو و والده بعیدا عن عبث الطغاة حینما کانا ینصرفان الی العبادة. و کان حینما بدأت غیبته فی السادسة، او السابعة، او التاسعة، من عمره مع عدد من الأشهر و الأیام. و یقول دونالدسون ان صاحب (عقائد الشیعة) لا یذکر کیفیة اختفاء الأمام لکنه یقول ان قول البعض بأنه لم یکن قد ولد یومذاک، أو أنه مات فی أیام والده، هو قول باطل. فمن الضروری الاعتقاد بأنه ولد و عاش، و لکن فی الغیبة، و انه سوف یظهر فی آخر الزمان.
و یقول دونالدسون کذلک، ان فکرة بقائه علی قید الحیاة، و اختفائه بصورة غامضة فی وقت یقرب من الوقت الذی توفی فیه والده، تؤید ما ترویه الأخبار عن عودته الی الظهور فی مناسبات عدة، و لا سیما فی مأتم والده و عند الدفاع عن حقوقه وقت توزیع الترکة. فتقول الأخبار مثلا ان عمه جعفرا الکذاب حینما کان یوشک ان یصلی علی جنازة أخیه ظهر طفل و سیم جعد الشعر لماع الأسنان و أمسک برداء عمه، فأصر علی ان یصلی هو نفسه علیها.
و حینما ادعی جعفر کذبا بالمیراث ظهر صاحب الزمان بقرب البیت و سأله
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 285
قائلا: لماذا تدعی بحقوقی؟ فلم یتمالک جعفر ان امتقع لونه ولاذ بالصمت.
و بعد ذلک اختفی الأمام، و حاول جعفر العثور علیه فی کل مکان لکنه لم یستطع التوصل الیه. و قد جاءت جدة الامام الحسن العسکری لأمه و أمرت بأن یدفن فی تلک الدار. فاعترض جعفر علی ذلک مدعیا بأن البیت أصبح یعود له، ثم طلب عدم دفن أخیه فیه. لکن صاحب الزمان ظهر من جدید، و سأل عمه بقوله: هل یعود هذا لک یا جعفر؟ ثم رحل فی الحال و لم یره أحد بعد هذا (الحق الیقین للمجلسی الص 152 و 146).
و هناک أخبار کثیرة عن حوادث و مناسبات ظهر فیها الأمام الحجة للمسلمین المؤمنین، بعد الصلوة أو وقت الحاجة. لکنه بقی سبعین سنة ینوب عنه و کلاؤه فی الأرض. و کان أولهم عثمان بن سعید، و حینما مات خلفه ابنه أبو جعفر، الذی رشح بدوره أبا القاسم ابن روح، و هذا عین بعده أبا الحسن السمری.
و عند ما أشرف الأخیر علی الموت طلب الیه ان یسمی أحدا بعده لکنه رفض ذلک و أجاب یقول: ان الأمر بید اللّه الآن. و علی هذا فأن الحقبة التی کان الوکلاء یمثلون خلالها الأمام اصبحت تعرف بالغیبة الصغری. و هذه تمتد علی ما یقال من سنة 869 الی سنة 940 میلادیة. و منذ ذلک الحین فصاعدا دخل المستتر فی «الغیبة الکبری»، و لا ینتظر ان یعود الا فی آخر الزمان.
أما عن رجعة الامام المنتظر، و ظهوره فی آخر الزمان، فیقول دونالدسون ان الشیعة یؤکدون علی الآیات الآتیة فی اثباتها:
و نتلو علیک من نبإ موسی و فرعون بالحق یؤمنون.
ان فرعون علا فی الارض و جعل أهلها شیعا: یستضعف طائفة منهم، و یذبح ابناءهم و یستحیی نساءهم.
و نرید ان نمنّ علی الذین استضعفوا فی الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثین.
و نمکّن لهم فی الأرض، و نری فرعون و هامان و جنودهما منهم ما کانوا یحذرون.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 286
و أوحینا لأمّ موسی ان آرضعیه فان خفت علیه فألقیه فی الیمّ و لا تخافی و لا تحزنی، انا رادّوه الیک و جاعلوه من المرسلین.
و حینما سئل الأمام زین العابدین (ع) عن تفسیر هذه الآیات رد یقول:
أقسم باللّه الذی بعث محمدا بالحق اننا نحن آل البیت مثلنا مثل موسی و اتباعه، و مثل اعدائنا و أشیاعهم کمثل فرعون و اتباعه.
و هذا ما رأینا اثباته عن الأمام المهدی (ع)، ملخصا مما أورد دونالدسون فی کتابه.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 287

وکلاء الإمام صاحب الزمان

اشارة

لقد أفرد الدکتور دونالدسون، من دون سائر المراجع الغربیة التی تیسرت لنا، فصلا خاصا فی کتابه المشار الیه من قبل بحث فیه عن وکلاء الأمام الحجة (ع) الذین مر ذکرهم. و یبدأ الفصل بقوله ان ولادة الأمام الثانی، علی ما یروی، حصلت فی الثامن من شعبان سنة 256 (869 م) و ان وکیله کان عثمان بن سعید، الذی اوصی بالوکاله من بعده لابنه أبی جعفر محمد، و هذا اوصی بها الی ابی القاسم ابن روح، ثم اوصی بها بدوره الی أبی الحسن علی بن محمد السمری. و کان الأمامان العاشر و الحادی عشر یعتبران عثمان بن سعید سکرتیرهما الخاص، و أمین صندوقهما، و یعدانه شخصا موثوقا به تمام الثقة و یعتبر کل ما یقوله مرویا عن لسانهما. و لذلک کان الأمام العسکری (ع) یخاطبه فی بعض الأحیان علی ملأ الناس بکونه «وکیلا علی مال اللّه».
و قد روی ان اربعین رجلا من وجوه الشیعة کانوا قد اجتمعوا ذات یوم و جاءوا الی الحسن العسکری قبیل وفاته، لیستفسروا منه عمن سیکون حجة اللّه فی أرضه من بعده. فانسحب علیه السّلام من بینهم و دخل الی البیت،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 288
و لم یعد الیهم الا بعد ساعة و هو یحمل بین ذراعیه طفلا و سیما بهی الطلعة.
و قد بیّن لهم ان هذا الطفل هو الذی سیخلفه فی الأمامة، و انهم لن یروه حتی یکون قد تقدمت به السن کثیرا. لکنه أخبرهم بأنهم یجب علیهم، فی الوقت نفسه، ان یقبلوا بما یقوله لهم عثمان بن سعید فی کل شی‌ء لأنه وکیل إمامهم.
و یروی علاوة علی ذلک ان الحسن العسکری قال عنه انه وکیله،. و انه وکیل ابنه محمد. و علی هذا فقد کان هو- ای عثمان بن سعید- الذی تولی غسل جثمان الامام العسکری و تضمیخه بالطیب قبل دفنه و ایداعه فی ضریحه الطاهر.
و حینما سئل عثمان بن سعید عما اذا کان قد رأی ابن الأمام الحسن العسکری، الذی کان یفترض أنه ولد قبیل وفاة أبیه، انفجر باکیا و قال «بلی لقد رأیته ..» لکنه لم یذکر اسم الطفل لئلا یسمع به الأعداء، و یبدأوا بالتفتیش عنه. و المقول ان قبر عثمان بن سعید یوجد فی بغداد، داخل الجامع الکائن فی شارع المیدان بالقرب من باب المدینة. و کان هناک فی سنة 408 هو مدخل خاص الی الغرفة التی یوجد فیها قبره من باب صغیر فی محراب الجامع، لکن هذا الجدار هدم بعد اثنین و ثلاثین سنة و ترک القبر مکشوفا فی الصحن، حیث یستطیع ان یزوره کل أحد.
و قد عین الوکیل الثانی، أبو جعفر محمد بن عثمان، بوصیة خطیة کتبها أبوه لیخلفه فی وکالة الأمام المستتر. و کان هو الذی غسل جثة ابیه و أجری مراسیم الدفن بنفسه، و هنا إجماع عند شیعة العراق علی أنه کان یتمتع بالسلطة التی کانت عند أبیه. و المقول أنه کانت عنده عدة کتب عن القوانین الشرعیة التی ورثها من أبیه، و التی کان أبوه قد تسلمها من الأئمة بدوره. و بعد ان خدم الأمام المنتظر بعد أبیه مدة تناهز الخمسین عاما توفی سنة 305 (917). و قد دفن فی جنب قبر أمه، علی طریق باب الکوفة- فی بغداد- فی الدار التی کان یسکنها و التی تقع الآن فی وسط الفلاة. و حینما کان فی بغداد عشرة من شیعته یسهمون معه فی مسؤولیة تزعّم الطائفة الشیعیة، و یساعدونه فی ادارة شؤونها، کان الشریک الذی یعتمد علیه اکثر من الآخرین أبا القاسم الحسین
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 289
بن روح، و لذلک أوصی له بأن یأخذ مکانه فی وکالة الأمام المستتر، فاصبح الوکیل الثالث للأمام.
و مما یروی عن أم کلثوم، ابنة أبی جعفر، انها قالت ان الحسین بن روح کان وکیل أبیها خلال عدة سنین، و انه کان یشرف علی أملاکه، و ینقل رسائله السریة الی وجوه الشیعة المعروفین. و کان خلال ذلک الوقت کله متحمسا فی خدمة أبیها الذی کان یعتمد علیه بلا أدنی ریب. و مع ان أباها کان له صدیق مخلص آخر، هو ابو جعفر بن أحمد، فقد وجد من المصلحة ان یستخلف ابن روح من دون ان تثار أیة معارضة ضده.
و تقول الرواة ان ابا جعفر کان مقدرا جد التقدیر من الشیعة و السنة علی سواء، و انه کان معروفا عندهم بعلمه و ثقافته. و کان یقدّر علی الأخص لبراعته فی التقیة. ثم یورد دونالدسون هنا قصصا تؤید ذلک، و أخری تدل علی مرونته و حذقه فی اجتذاب خصومه الیه ... و قد توفی أبو القاسم ابن روح سنة 326 فدفن، علی ما تقول أم کلثوم، بالقرب من دار علی بن أحمد النوبختی فی مکان یقع وراء قنطرة الشوک من جهة باب المدینة. و المعروف الیوم لدی الکثیرین من سکان بغداد ان قبره یقع فی منطقة الشورجة خلف بنایة الأوقاف الکبیرة (الجدیدة) المطلة علی شارع الجمهوریة، التی تشغل قسما منها مدیریة البرق و البرید العامة. و تشاد فی هذه الأیام بالذات قبة صغیرة فوق قبره.
و کان الوکیل الرابع علیا بن محمد السمری. و یقول دونالدسون خلال کتابته عنه أن وفاة الأمام الحسن العسکری کانت قد مرت علیها سبعون سنة یومذاک، و برغم انتظار الشیعة المخلص للإمام صاحب الزمان، فانه لم یظهر لهم. و فی خلال هذین الجیلین کان اولئک الذین عرفوا الإمام شخصیا و أدرکوا أیامه قد انتقلوا الی الدار الآخرة. و قد استطاعت مجرد بقیة غیر کبیرة من الطائفة الشیعیة ان تبقی علی قید الحیاة بالسیر خلال طریق التقیة الوعر. و کانت ج 1- سامراء (19)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 290
هذه البقیة قد لاقت الأمرین خلال الشغب و الاضطراب السیاسی و الاجتماعی الذی ضعفت فیه عقائد الناس أجمعهم و فترت همتهم. و شاع الجور و التعسف فی الأرض بحیث صار الکثیرون من الناس یعتقدون بان الإمام کان لا بد من ان یظهر بالتاکید. فلم یتشتت شمل الأقلیه الشیعیة الباقیة و یزداد الضغط علیها حسب، و انما انحطت سمعة الامبراطوریة الاسلامیة أیضا و نال منها تکرر غزوات القبائل المتاخمة لها ما نال، کما اصیبت جیوش المسلمین بخسرانات فادحة بالقتال المستمر مع البیزنطیین.
ففی السنة التی توفی فیها الامام العسکری علیه السّلام فی سامراء هلک الخلیفة الصالح، بعد تعذیب شنیع و راح ضحیة لضغط اسیاده الأتراک علیه.
و جاء عهد الخلیفة المعتمد بسلسلة من الکوارث الرهیبة. و هنا یعدد دونالدسون ما حل بالبلاد العراقیة و غیرها من نکبات و یشیر الی ثورة صاحب الزنج و ما اقترفت فیها من فظائع و شناعات، و الی ما وقع من حوادث الطاعون و الزلزال و ما حصل من نزاعات و حروب اهلیة، فضلا عن اندحار الجیوش أمام البیزنطیین، حتی تولی السفاح الثانی، الخلیفة المعتضد، و استطاع ان یعید الی الخلافة شیئا من هیبتها.
و یقول دونالدسون بعد سرد هذه الأشیاء ان الوکیل الرابع قد تولی فی أسوأ الأوقات و أنحسها. و ربما کان هذا الوکیل یعتقد بالنسبة لما جری ان الأمام القائم (ع) کان لا بد من ان یظهر، و الا فسیکون موقفه حرجا بین الناس و یصیبه الکثیر من الخیبة و الفشل. و لذلک نجده یقول حینما کان یحتضر:
و طلب الیه ان یسمی وکیلا من بعده، ان الأمر اصبح بید اللّه. و هکذا رفض ترشیح احد، فلم یعد یوجد بهذا علی وجه الأرض ای وکیل للإمام منذ ان توفی السمری سنة 329 (940) حتی الیوم، و انتهت مدة الغیبة الصغری التی امتدت من سنة 256 الی سنة 329 للهجرة، و حلت بعدها حقبة الغیبة الکبری. و یقول دونالدسون ان قبر الوکیل الرابع- السمری- یقع فی شارع الخلبخی بالقرب من قناة النهربی. لکن المعروف عند الکثیرین من الناس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 291
ببغداد الیوم هو انه مدفون فی وسط سوق السرای فی مقابل باب المستنصریة الکبری تقریبا .

بعد عودة الخلافة الی بغداد

و منذ ان انتقلت عاصمة الخلافة العباسیة علی عهد المعتمد من سامراء الی بغداد سنة 870 للمیلاد، لم یبق لسامراء شأن یذکر و لم تعد تلفت الیها الأنظار الا نادرا. و لذلک نجد ان اسمها ینقطع وروده فی التواریخ جمیعها الا حینما یشار فیها الی حوادث و رجال اصبحوا فی ذمة التاریخ نفسه. و حینما دالت دولة بنی العباس، و اکتسحت سیول الترکمان و المغول بلاد العراق فقوضت دعائم الخلافة العباسیة فی بغداد، خمل ذکر العراق بأجمعه و لم یعد سوی أقلیم ناء من أقالیم الدول الترکمانیة، أو ولایة من الولایات المهملة تنتمی الی الدولة العثمانیة مترامیة الأطراف.
لکن سامراء مع انحطاط شأنها علی هذا المنوال، و انقلابها الی محطة صغیرة من المحطات التی تقف فیها وسائط النقل النهریة فی فی بعض الأحاییین بین الموصل و بغداد، أو بغداد و استانبول، فقد بقیت کعبة للزوار الذین کانوا و ما زالوا یفدون الیها من انحاء العالم الأسلامی جمیعه لزیارة الأضرحة المطهرة فیها، التی بقیت رمزا لانتصار العقیدة الحقة علی الظلم و الفساد.
و حینما بزغ فجر النهضة الحدیثة فی أورپة و صارت أنظار الغرب تتجه الی البلاد الشرقیة لاستغلالها و استثمار خیراتها و مواقعها الجغرافیة، و ترویج المصالح التجاریة و الاستعماریة فیها، صار الرحالة الغربیون یسلکون الی الشرق طریق استانبول- الموصل، او حلب- الموصل، ثم یأخذون طریق النهر من الموصل الی بغداد فالبصرة فی کثیر من الأحیان. و لذلک صرنا نجد اشارات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 292
عابرة، او اشارات فیها شی‌ء من التفصیل، الی سامراء فی رحلات هؤلاء الغربیین، حیث ان اکلاکهم کانت تقف فی شواطئها فیتلبثون فیها بعض الوقت.
و أقدم ما عثرنا علیه من هذا القبیل ذکر سامراء فی رحلة الرحالة الفرنسی المشهور جان بابتیست تافیرنییه الذی زار العراق فی منتصف القرن السابع عشر للمیلاد.
و قد وصف فی رحلته طریق النهر من الموصل الی بغداد و أتی فیها علی ذکر سامراء. فهو یقول (الص 74 من الترجمة العربیة): .. و فی الیوم الثانی و العشرین- شباط 1652- بعد ان بقینا ساعتین فی الماء، التقینا بجدول یأخذ ماءه من دجلة لسقی الأراضی هناک، و یمتد الی قرب قبالة بغداد، و هناک یصب فی دجلة مرة ثانیة. و من هناک نزلنا الی البر فی الجهة الکلدانیة، لأنه کان برفقتنا مسلمون أحبوا ان یتبرکوا بزیارة مکان یقال له سامراء، و فیها جامع لا یبعد اکثر فرسخ من النهر، یؤمه کثیر من المسلمین لتقدیم فروض العبادة، خاصة الهنود و التتر الذین یعتقدون ان اربعین نبیا من أنبیائهم مدفونون هناک. و لما علموا اننا نصاری لم یسمحوا لنا بأن نطأ أرضه. و علی خمس مائة خطوة من الجامع برج مشید بمهارة فائقة، له مرقاتان من خارجه تدوران حوله دوران الحلزون. و إحدی هاتین المرقاتین أعمق فی بنایة البرج من الأخری و کان بامکانی ان امعن النظر فیه اکثر من هذا لو سمح لی بالدنو منه الی مسافة قریبة. و الذی لاحظته انه مشید بالآجر و تبدو علیه مسحة القدم. و علی نصف فرسخ منه تبدو ثلاثة أبواب کبیرة کأنها أبواب قصر عظیم. و فی الحقیقة لا یبعد فی هذه الأنحاء ان کانت مدینة عظیمة، لأن مسافة ثلاثة فراسخ علی طول النهر لا یری شی‌ء سوی الخرائب و الأطلال.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 293

سامراء فی القرن التاسع عشر

اشارة

إن أقدم من أشار الی سامراء فی رحلته من الرحالة الغربیین، الذین أخذ یزداد عددهم فی القرن التاسع عشر، الکابتن جون ماکدونالدکینیر الانکلیزی، الموظف فی بحریة شرکة الهند الشرقیة، و المنتدب لدربار نواب کارناتیک فی الهند. فقد جاء من انکلترا الی استانبول فی صیف 1813، ثم وصل من الأناضول الی الموصل فی طریقه الی الهند. و من هناک استقل کلکا أقلع به الی بغداد. و فی خلال هذه الرحلة وقف قلیلا فی تکریت و سامراء، و کتب شیئا عنهما. فهو یقول: ... و وصلنا الی تکریت فی صباح یوم 12 آب 1813، و هی عبارة عن قریة مبنیة بیوتها بالطین تقع بین سلسلة من التلول الصخریة فی الجانب الأیمن من دجلة. و تکریت هی برثاBirtha القدیمة التی کانت فی القرن الثانی عشر للمیلاد مقرا للمطران الیعقوبی فی هذه الجهات. و عند وصولنا الی هنا رخصت الحرس من حملة البنادق الذین کان باشا الموصل قد بعثهم معنا للمحافظة، بعد ان وجدت ان إزعاجهم لنا کان أکثر من فائدتهم. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 294
و أقلعنا ثانیة فی السادسة صباحا فکانت الشواطی‌ء فی جنوب تکریت من الجانبین مغطاة بشطیات الرقی و الخیار، التی یرفع لها الماء بالکرود التی تکلمت عنها من قبل (یلاحظ انه یسمی الکرود مکائنا) ... و یکون دجلة عریضا جدا عند تکریت. و فی الساعة التاسعة و ثلث لاح لنا مرقد إمام الدور و قریته الکبیرة، التی تقوم علی مرتفع غیر عال من التلول الرملیة البعیدة عن شاطی‌ء الجانب الأیسر من النهر بمسافة نصف میل و مرقد الإمام بناء عال مربع الشکل تعلوه قبة بنیت بالطراز الاسلامی (ارابیسک). و لا شک ان «دورا» هو الأسم القدیم لهذه البقعة التی یعرفها قراء التاریخ جیدا، بکونها المکان الذی حاول فیه الجیش الرومانی ان یعبر دجلة بعد موت جولیان، و حیث وقّع خلفه علی اتفاقیة مهینة تنازل فیها عن نصیبین و الأقالیم الکائنة فیما وراء دجلة الی الأیرانیین. و کانت الشواطی‌ء هنا أیضا، ملأی بالمکائن المعدة لزراعة الرقی، الذی یعد أحسن رقیّ فی البلاد، و یرسل بکمیات کبیرة الی بغداد. و قد لاحظنا وجود بستان کبیرة للنخیل أول مرة منذ أن خرجنا من الموصل. و فی الساعة الحادیة عشرة و نصف لاحت لنا خرائب الطین لقریة أسکی بغداد فی الجانب الأیسر، و هنا یتفرع النهر الی فرعین متساویین فی الحجم یحیطان بجزیرة طولها نصف میل. و فی الثانیة عشرة و نصف أتینا الی بلدة تسمی «اشناس» علی الجانب الأیسر. و بعد ان سرنا الی الساعة الثانیة بعد الظهر لاحظنا اطلالا عالیة لقصر یسمی «قصر العاشق» علی بعد ربع میل من ضفة النهر الیمنی، و فی مقابلها مباشرة من الجانب المقابل خرائب یقال لها «المعشوق». و للعرب أساطیر و أقوال تروی عن هذین المکانین .. و هنا أیضا یقسم النهر الی فرعین سرنا فی الفرع الواقع علی یمیننا منهما، و ما حلت الساعة الثالثة حتی وصلنا الی سامراء الکائنة فی الجانب الأیسر:
و هی بلدة تحتوی علی ألفی نسمة، و تبعد حوالی ربع میل عن نقطة تشعب الفرعین.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 295
و کانت سامراء، و هی سامیر
Samere
القدیمة، محل الأقامة المفضل لعدد من خلفاء بنی العباس، و لا تزال أطلال مدینتهم هناک تشغل فسحة کبیرة من الأرض. و أهمها قبر و مشهد الأمام المهدی الذی دفن فی سامراء (؟).
و هو بناء. جمیل من الطابوق، تعلوه قبتان و منارتان مزینتان بالکاشی الملون الذی یتباهی به العرب، و یبدو بمنظر جذاب حینما تتساقط أشعة الشمس علیه. و هناک علی مسافة غیر بعیدة عنه برج مخروطی الشکل یعلو علوا عظیما، و یبدو بمنظر متناسب. و تلف حول هذا البرج مرقاة حلزونیه شیدت بمهارة بحیث یمکن ان تصعد منها الی القمة الخیل و البغال عند اللزوم.
و علی بعد عشرة أمیال و نصف من شمال شرق البلدة الحدیثة، و علی الفرع الأیسر من دجلة، تقوم خرائب قصر الخلیفة الذی یبدو أنه کان واسعا جدا، و هو مبن بالطابوق و الطین. و لکنه برغم ما کان علیه من أهمیة و ازدهار لا یحتوی علی شی‌ء یستحق المشاهدة (یظهر ان الکابتن کینیر لم یکن یتذوق الآثار و ما فیها من فن و زخرفة). و تشاهد أیضا أقساما کبیرة من سور البلدة أیضا، و هی تمتد الی مسافة غیر یسیرة فی البادیة المحیطة بها. و من الصعب ان یتصور المرء کیف ان بقعة مثل هذه یمکن ان تنتخب موقعا لعاصمة مهمة یقیم فیها «أمیر» ذو سطوة و منعة. فان أرضها الممتدة الی مد البصر قاحلة، و هی یباب بلقع لیس فیه زرع و لا شجر، یمکن أن یریح و لو قلیلا من سطوع الشمس و حر الرمال. و یمتلی‌ء الجو من فوقها بغیوم من الغبار تولدها الریح الشدیدة التی تضیف بعصفها شیئا غیر یسیر الی وحشة المکان. و مع ان المعروف عن العراق العربی ان أرضه تصبح خضراء نضرة بمجرد سقیها و جر المیاه لها، فان الضفاف هنا عالیة و دجلة عریض ضحل. و لذلک لا بد من ان تنشأ صعوبات غیر قلیلة فی الری هنا.
و قد کتب بعد کینیر من الرحالین الغربیین، فی القرن التاسع عشر، المستر کلودیوس ریج القنصل البریطانی فی بغداد (1808- 1821) علی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 296
عهد الولاة سلیمان باشا الصغیر (المسمی بالقتیل) و سعید باشا، و داود باشا آخر الممالیک. و کان هذا رجلا مثقفا متحرکا قوی الشخصیة، سافر کثیرا فی العراق و تجول فیه بقصد الاطلاع و استکشاف الآثار التاریخیة و غیر ذلک.
و قد سافر فی 1816 الی أوربة مع زوجته، ثم عاد منها عن طریق استانبول و الموصل، و توجه من الموصل الی بغداد بالکلک عن طریق دجلة. فأشار الی سامراء حین توقف فیها و نزل لیطلع علی أحوال البلدة و معالمها. و لذلک ذکرها فی مدوناته أو یومیاته عن الرحلة. و قد اطلعت إحدی قریباته المسماة کونستانس الیکساندر، علی هذه الیومیات فلخصت ما کتبه عن سامراء بالذات فی کتابها المعروف بعنوان (بغداد فی الأیام الغابره). فهی تقول عن سفرة ریج و زوجته بعد ان تحرکا من تکریت: .. و کانت سامراء، التی تبعد بمسافة عشرین میلا، موقعا آخر من مواقع الاستراحة، و قد مروا فی الطریق الیها بخرائب أسکی بغداد التی کانت تمتد لمسافة غیر یسیرة علی طول النهر. و هی تعود فی تاریخها الی أیام الخلفاء الأوائل، و لم یکن فیها سوی تلول من الزبل تدل علی الموقع. علی ان سامراء کان لها شی‌ء من الأهمیة، و یقدسها الشیعة تقدیسا کبیرا، لأنها قد دفن فیها ثلاثة من أئمتهم: أی الامام علی النقی، و الحسن العسکری، و أعظم الجمیع المهدی صاحب الزمان الذی غاب هنا، و لا یزال یعیش فی إحدی الآبار علی ما یزعم، لیعود الی الظهور من جدید فی آخر الزمان. و کان قد بنی مؤخرا جامع جدید، و بقربه حمام و خان لایواء الزوار، علی نفقة أحد الایرانیین المتدینین. و حینما کان ریج و جماعته یتجولون فی سامراء جاءهم المتولی، او الکلیدار، و دعاهم للتفرج علی الجامع و السرداب الذی غاب فیه المهدی أو قتل (؟). فلم یتحمس ریج و المسیحیون من جماعته للنزول الی سرداب الغیبة، فقد لا یروق ذلک زوار الشیعة، لکنهم نظروا الی الداخل من احدی الکوات فوجدوا هناک موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 297
علی ما یقول درویشا یتمشی ذهابا و ایابا و هو یقرأ الزیارة و الدعاء. و کانت هناک أیضا بئر خاصة یلاحظ فی قعرها علی الدوام قمر تام البزوغ، علی ما یقال ، و کان هذا ناتجا بطبیعة الحال عن حیلة ما فی الأضاءة، نظمرا لعمق البئر و صغر الفتحة التی یدخل منها النور، لکن ذلک کان فیه تطمین للآمال التی یعلقها الزوار علیه.
و کانت تری فیما حول سامراء خرائب ممتدة، و بقایا أبنیة کبیرة فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 298
جمیع الجهات، و أهمها او أکثرها استثارة لحب الاستطلاع کان البرج المدور الملوی علی شاکلة الحلزون المتکون من ستة طوابق (؟) الذی قال أحدهم عنه انه کان منارة للجامع، و قال آخرون غیر أنه کان برجا للمراقبة.
و لا شک ان المقصود بهذا (الملویة) المعروفة التی بنیت لتکون منارة للجامع الکبیر القریب منها.
و قد فحص ریج بعض الخرائب الأخری الممتدة علی طول النهر:
فظن أنها لا بد من ان تکون اطلال القادسیة، نظرا لشکلها المشابه للأبنیة الساسانیة، و لنوع الآجر الذی کانت مبنیة به. و کانت هذه البلدة قد تقرر فیها إنهاء أمر الامبراطوریة الایرانیة فی القرن السابع، حینما وقعت فیها معرکة حامیة ضد العرب الذین استولوا علیها فی النهایة. و لا شک ان المستر ریج، و قریبته کاتبة الکتاب، قد أخطآ فی هذا التفسیر، لأن الموقعة التی جرت بین الفرس و العرب فی شهر شباط او مارت سنة 637 م، المشار الیها، قد وقعت فی قادسیة الکوفة الکائنة علی الفرات و لیس قادسیة دجلة کما ظنا.
یضاف الی ذلک ان الآثار التی اعتقد ریج انها القادسیة من المحتمل جدا ان تکون غیر القادسیة، لأن قادسیة دجلة تبعد عن سامراء من جهة الجنوب بحوالی ثلاثة فراسخ و لا أظنه یستطیع الذهاب من سامراء الیها فی تلک الظروف.
و یقول المنشی فی رحلته ان محیطها یبلغ ثلاثة أمیال و هی بلدة مدورة و ان عرض سور القادسیة (15) قدما.
و قد جاء فی (رحلة المنشی البغدادی) المعربة من الفارسیة عن سامراء فی ذلک الدور (1822) ما یأتی: .. و من الدور الیها ثمانیة فراسخ، طیبة الهواء کثیرا، و فیها نحو ألفی بیت. و من المزارات فیها مزار الامام علی النقی، و الامام حسن العسکری (ع)، و محل غیبة الامام محمد المهدی. و فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 299
کل سنة یبلغ زوار الشیعة من العرب و العجم نحو ثلاثین ألفا، یأتون الی هذه المشاهد للزیارة و یقال لسامراء العسکر. و طولها و عرضها ثلاثة فراسخ تقع علی ساحل دجلة. و هی من بناء الخلفاء العباسیین، و أکثر بیوتها الی الآن ظاهرة، و لها مسجد کبیر من بناء الخلفاء. و المنارة فیه یقال لها «الملویة» لا تزال قائمة، و یصعد الیها من الخارج بالتواء، بخلاف سائر المنائر فان طریق الصعود الیها من سلم فی الداخل. و فی سامراء البطیخ الأحمر کثیر الجودة، و لیس فیها و لا فی الدور و تکریت بساتین من جهة أن أرض تلک الأنحاء کلسیة .. هذا و نذکر زیادة فی الایضاح ان السید المنشی کان موظفا فی القنصلیة البریطانیة ببغداد، ای فی معیة المستر ریج القنصل المار ذکره.

رحلة جونز

و ممن اشتهر ذکره من الأجانب فی العراق فی اواسط القرن التاسع عشر الکوماندر فیلیکس جونر. و کان هذا من رجال البحریة فی الحکومة الهندیة (الانکلیزیة طبعا) یومذاک، و قد انتدب لمهمات کثیرة فی العراق کان من أهمها مسح الأنهر العراقیة، و لا سیما نهر دجلة، تمهیدا لفتح خطوط ملاحة نهریة فیها. و من جملة رحلاته هذه (رحلة بالباخرة الی شمال بغداد) بدأ بها علی ظهر الباخرة (نیکوتریس) فی یوم 2 نیسان 1846، و قد وصل فی هذه الرحلة الی سامراء مساء یوم 6 منه.
و هو یکتب عن سامراء فی تلک الأیام، فیقول: .. تقع بلدة سامراء الحدیثة علی جرف عال ممتد فیکوّن الضفة الیسری من دجلة، و هی الآن محاطة بسور متین شیّد علی حساب شیعة الهنود المتنفذین. و حینما زرتها فی 1843، کان هذا السور قد بدی‌ء بتشییده حدیثا، و کانت البلدة قبله موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 300
مکشوفة، فکابدت کثیرا من طلبات البدو الجائرة. فقد کانوا یخیمون فی خارجها، و یهددون بغزوها اذا لم تنفذ مطالیبهم المتکررة. علی أنها أصبحت الیوم آمنة بفضل السور الجدید، و لا یحصل فیها مثل ما کان یحصل. لکن بناء السور حصل فیه شی‌ء غیر یسیر من قصر النظر، لعدم تمدیده الی ما یقرب من حافة الجرف المطلة علی النهر نفسه، لأن البدو یستطیعون الآن ان یأتوا فی کل وقت فیخربوا القناة التی تأخذ الماء الی البلدة، و بقطع هذا الشی‌ء الحیوی یستطیعون ارغامها علی الرضوخ لمطالیبهم.
و هی علی کل حال بلدة حقیرة بوجه عام، لکن أهمیتها تعزی فی الدرجة الأولی الی الضریحین الجمیلین الموجودین فیها. و تعلو هذین الضریحین قبتان، شیدت کبراهما فوق قبر الامام الحسن العسکری. و قد أجریت بعض الترمیمات فیها مؤخرا، و اعتقد انها کانت قد کسیت من قبل بالذهب علی غرار القباب المقامة فی الکاظمیة و کربلا و النجف، لکنها تبدو الآن بیضاء تماما لأن المبالغ المتیسرة حالیا عند المعنیین بها غیر کافیة للعمل علی إرجاع رونقها السابق الیها. اما القبة الصغیرة، أو قبة الامام المهدی، فهی قبة نظیفة جدیدة قد زینت بالکاشی الجمیل الموشی بأوراد صفراء و بیضاء فوق أرضیة خضراء تمیل الی الزرقة.
و کان الامام المهدی آخر الأئمة، الذین یقدسهم الشیعة، و یقال انه اختفی فی هذه البقعة. و یدل کهف کبیر أقیم فوقه هذا البناء علی الموقع الذی غاب فیه الامام، و یعتقد انه سیعود الی الظهور فیه فی المستقبل. و لذلک یقدسه المسلمون کثیرا، و لا سیما الشیعة منهم. و یقصد هذا المکان کل سنة من الزوار من انحاء ایران کلها. فقد قیل لی ان معدل زوار هذه البقعة المقدسة یبلغ حوالی عشرة آلاف کل سنة، لکننی میال الی الاعتقاد بأن هذا العدد یعتبر أقل من الواقع بکثیر. و لا تجبی أیة ضریبة هنا علیهم، لکن أصحاب الخانات و البیوت التی یقیمون فیها یدفعون الی الحکومة قرشین اثنین عن کل زائر.
و فی حاشیة للکوماندر جونز یقول ان الأتراک منذ ان احتلوا کربلا
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 301
و النجف المقدستین فی 1843، قل توارد الزوار علی باشویة بغداد، لکن الأمن الذی تسهر علیه الحکومة الیوم و التساهل الذی یبدیه الوالی نجیب باشا سوف یعید الزوار الایرانیین بسرعة الی التکاثر من جدید، و یضیف فی الوقت نفسه الی واردات الولایة المادیة کل سنة شیئا غیر یسیر من المال، الذی کان قد قل بتأثیر السیاسة التی کان یتبعها الباشا من قبل. لکن المعروف فی التاریخ ان نجیب باشا هذا کان ظالما متجبرا هاجم کربلا بقسوة و فظاظة سنة 1843 و أخضعها بقوة و عنف. و من جملة ما یروی عن هذه الوقعة ان کثیرا من الأهالی التجأوا الی صحن الامام العباس (ع) فلم یعصمهم ذلک من شر الهجوم، و قد قتل قسما منهم ظلما و عدوانا، و ان الباشا نفسه روی عنه انه دخل ممتطیا صهوة جواده الی الصحن کذلک عند تعقیب الفلول المتقهقرة من الأهلین . و لعل هذا الحادث هو الذی أدی الی تناقص الزوار او انقطاعهم بعد ذلک.
ثم یتابع فیلیکس جونز حدیثه فیقول: ان البلدة تتألف من حوالی (250) بیتا، مع عدد من السکان السنّة لا یتجاوز الألف الذین یحمل مائة منهم السلاح.
و قد أقطعت البلدة فی هذه السنة الی الضابط الحالی السید حسین لقاء (000، 280) قرش، أو ما یعادل (660) باونا استرلینیا تقریبا.
و یوجد علی ما یقرب من نصف میل من شمال البلدة برج غریب حلزونی الشکل، یسمی الملویة، و یقدر علوه بمائة و ثلاثة و ستین قدما. و من الممکن للناظر ان یری من قمته منظرا جمیلا لسامراء القدیمة. إذ تنتشر فی کل جهة من الجهات أکوام من کسر الطابوق و الزجاج و الخزف، بالاضافة الی التخطیط الواضح للکثیر من الأبنیة القدیمة الذی یمکن ان یشاهد. و المقول ان المدینة القدیمة کانت تسقی بکهریز تحت الأرض، یبدأ فمه (فتحته) فیما یقرب من حمرین. و ما تزال آثار هذا الکهریز معروفة بواسطة بقایا الآبار. و قد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 302
شیدت الملویة و بقایا البناء المستطیل (الجامع او المدرسة) القریب منها بالطابوق الفاخر، الذی لا یمکن أن یضاهی بناءه النظیف البناء الذی یحصل الیوم.
و یبلغ طول المدرسة (او الجامع) 810 أقدام و عرضها 490 قدما، و لها اثنتا عشرة دعامة او رکیزة ما بین الحصون الرکنیة فی الضلعین الشمالی و الشرقی و الجنوبی و الغربی. و یقابل المدخل الرئیس القبلة، لیدل فی الحال علی أصله الاسلامی. و یبدو ان برکة کبیرة کانت توجد فی وسط الصحن، و یبلغ علو السور الیوم حوالی ثلاثین قدما، کما تشاهد من الجهة الجنوبیة الغربیة بقایا شبابیک قوطیة الطراز. و الی الشمال الغربی للملویة، علی بعد میلین و نصف تقریبا توجد بقایا قصر الخلیفة أو قصر المعتصم ثامن الخلفاء العباسیین:
الذی ترک بغداد و بنی سامراء خوفا من طبیعة البغدادیین الثاثرة. و لیس فیه الیوم قائما غیر مدخله، و تشغل الأطلال المحیطة به مساحة کبیرة من الأرض، توجد تحتها غرف مقببة. و هناک أقوال کثیرة ینقلها العرب عن هذه الغرف، التی کنا خلال زیارتنا لها فی 1843 قد نزلنا الیها بالحبال، فأخاف ذلک السکان العرب الذین لم یکونوا یأمنون الوقوف بقربها. فهم یعتقدون اعتقادا جازما ان أسدا کان یقیم فی هذا المکان. و تمتد هذه الأقبیة الی مسافة غیر یسیرة، و یبدو انها کانت قد نحتت فی الحجر الکلسی لکن اسطحها بنیت بالطابوق.
و لا شک ان موقع سامراء کان قد اختیر اختیارا جیدا. إذ یحده دجلة من الغرب، و یمتد فرع النهروان الرئیس من قنطرة الرصاص الی نهر العظیم من الشمال، کما یمتد فرع النهروان الجنوبی من القائم نحو الشرق لیتصل بالفرع الشمالی فی الجنوب. و بذلک یحیط بمستطیل کبیر جدا من الأرض الغنیة بخصبها التی یبلغ طول أطول جهاتها 35 میلا انکلیزیا، و الضلعین الباقیین حوالی عشرین میلا. و قد أشغلت هذه المنطقة عدة بلدان من قبل، و یدل علی خصبها وجود الأقنیة العدیدة المتفرعة من النهروان. اما الآن فلا تری فیها و لا ورقة واحدة أو ذرة من العشب.
و الی الشمال الغربی من قصر الخلیفة، و فوق تل متموج یکوّن الحدود
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 303
الیمنی لوادی دجلة یوجد طلل آخر من نفس النمط البنائی علی ما یبدو.
و لا یزال قسم من حصون هذا الطلل قائما .. و هی اما دائرة او مضلعة، و مبنیة باتقان من أفخر الطابوق. و هذه أطلال قصر «العاشق»، و بعض التلول العالیة الکائنة فی منتصف المسافة بین قصر الخلیفة و العاشق فی وادی النهر نفسه تدل علی وجود آثار قدیمة فیها، ربما تکون بابلیة الأصل علی ما اعتقد. علی ان العرب یطلقون علی هذه التلال «المعشوق»، و یقال ان جسرا کان یصل فی قدیم الزمان بینها و بین العاشق. و علی بعد أربعة أمیال من شمال سامراء یقوم تل عال فی الفضاء، یسمی «تل العلیج». و تروی عن هذا التل قصص عدة تفید بأنه کان قد أقامه ملک قدیم أمر جنوده بأن یأتی کل منهم بمل‌ء کیس العلیق من التراب الی هذا المکان فتکون هذا التل الکبیر. و هو یشبه تمام الشبه التلول التی تشاهد فی سوریة و وادی الشهریزور بالقرب من السلیمانیة.
و یقول فیلیکس جونز فی الحاشیة ان هذا التل العالی موقع کومة الحطب التی حرقت بها جثة الأمبراطور جولیان الرومانی قبل ان یؤخذ رمادها الی طوروس. ثم یذکر بالتفصیل قصة الحرب التی وقعت بین الرومان و الایرانیین و قتل فیها جولیان، التی أتینا علی ذکرها قبل هذا نقلا عن کتاب بیرسی سایکس عن تاریخ ایران.

رحلة جون أشر

و فی صیف 1864 قام المستر جون أشر، عضو الجمعیة الجغرافیة الملکیة فی لندن، برحلة طویلة الی موقع الآثار الایرانیة المعروف باسم پرسو پولس، او تخت جمشید، القریب من شیراز. و ضمّن جمیع مشاهداته علی طول الطریق فی رحلته المطبوعة سنة 1865. و قد عبر من الأناضول الی الموصل، موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 304
ثم استقل الکلک منها الی بغداد، فمرّ فی طریقه بسامراء. و قبیل وصول الکلک الی سامراء مرّ بنهر النهروان، ثم وصلوا فی مساء ذلک الیوم الی ما یقابل خرائب أسکی بغداد التی کانت تشغل رقعة کبیرة من الأرض. و یقول المستر أشر أن هذا الاسم أطلقه العرب علی أطلال هذه البلدة الفارسیة او العربیة القدیمة. و فی صباح الیوم التالی (19 کانون الأول 1864) مروا بأطلال قصر العاشق قبیل الرسو فی سامراء.
اما سامراء نفسها فقد وجدها المستر أشر بلدة غیر صغیرة فیها عدد کبیر من السکان، و شاهد فیها الملویة التی سماها برجا و قدر ارتفاعها بمائة قدم.
و هو یقول ان آثار العباسیین فیها کانت مغطاة بأکوام کبیرة من التراب و الأنقاض، و یشیر الی تقدیس المسلمین الشیعة لمشهد الامامین العسکریین، و غیبة الامام الحجة (صاحب الزمان) فیها. و عند استئناف الرحلة وصل الکلک فی مساء ذلک الیوم الی خرائب اصطبلات فألقی مراسیه بالقرب منها للمبیت.

الرحالة نیجهولت

و قد زار الرحالة الهولاندی لکلاما آنایهولت (نیجهولت) العراق سنة 1866/ 67، و بقی فی بغداد مدة من الزمن، ثم غادرها قاصدا سامراء یوم 16 أیار 1867. و قد لخص سفرته هذه الأستاذ میر بصری، الذی یقول أنه خرج من بغداد فمر بقریة الجدیدة (بالتصغیر) علی دجلة، و ینگجة، و الجیزانی، و نهر حزام، و خان نجار، و خان المزراقجی، حتی لاحت لعینیه قباب سامراء فی 21 أیار. و کانت أبواب البلدة مغلقة خشیة هجوم الأعراب، ففتح له الباب الشمالی و أخذ الی دار فسیحة بنیت للزوار، و فیها شرفة جمیلة و غرف تطل علی فناء رحیب و اصطبل للخیل. و یحدثنا الرحالة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 305
عن مدیر الناحیة الذی زاره حالما علم بقدومه و هیأ له وسائل الراحة، و أرسل الیه الهدایا من الخرفان و الفواکه و التمر و کان المدیر عبید الناجی أغا رجلا صغیرا لطیف المعشر، فائق الأدب، فی نحو الثلاثین من عمره.
و یقول الرحالة ان سامراء مبنیة علی تلال کثیرة الحصی تشرف علی نهر دجلة، یحیط بها سور شید قبل عهد قصیر بأمر أمیرة هندیة لحمایة البلدة من غزوات البدو. و تضم سامراء مدافن أئمة الشیعة الثلاثة: علی النقی و ابنه لحسن العسکری و حفیده المعروف بصاحب الزمان الذی یقال ان أعداءه حاولوا الفتک به، فلما رفعوا الجنجر لقطع رأسه، انشقت الأرض و غیبته، فاذا بمهاجمیه الذاهلین أول المؤمنین بقداسته. و یقول رحالتنا ان شاه ایران قد أعلن قبل عدة أشهر عزمه علی اهداء صفائح ذهب لتزیین القبة، فکان الناس ینتظرون وصول هذه الهدیة الثمینة خلال أیام معدودة.
و یقول کذلک: ان النهر الذی یبعد قلیلا صافی المیاه بالنظر الی الحصی الذی یکسو عقیقه، و عرض دجلة یبلغ هنا نحوا من (300) متر، و علی شاطئیه تقوم خرائب المدینة القدیمة التی کانت بلدة کبیرة لا تقاس بها القریة الحاضرة التی تضم سوقا صغیرة تتألف من بضعة دکاکین یباع فیها التبغ و الرز و التمور و التفاح الأخضر الخ. و یحیط السور بالبلدة عدا جهة النهر، و له فتحات علیا، و ثلاثة أبواب. و نفوس سامراء تقرب من 400 عائلة. و یقول الرحالة ان قبة صاحب الزمان المغشّاة بالقاشانی جمیلة، اما قبة العسکری فمتداعیّة و للمسجدین فناءان فسیحان لم یسمح لصاحبنا بالدخول الیهما، و کان انطباعه عن سامراء اجمالا ان فیها شیئا یبعث الانقباض فی النفس لمنظر هذه الأطلال الشاسعة التی توحی بعظمة البلدة السابقة و انحطاطها الحاضر.
و أشاد نایهولت بهواء البلدة النقی و خلوها من البعوض، و ذکر الملویة التی تشبه برج (بیزا) و سائر الأطلال العباسیة، ثم نوه بمشاهدته لقدوم الأفواج المتقاطرة من الزوار. و هو یقول ان مدارج الملویة تتصاعد بیسر و سهولة ج 1- سامراء (20)
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 306
حتی یمکن للخیل و البغال ان ترقاها الی أعلی حاملة الخلفاء الی الشرفة التی تطل علی الضواحی. و کانت توضع بالغرفة المقامة بأعلی الملویة، و لها فتحات الی جهات الأفق، مصابیح تسرج فی کل مساء لانارة سبیل القوافل القادمة لیلا. و ترتفع الملویة فی ظهر مسجد الجمعة العظیم الذی لم یبق منه سوی حیطانه الخارجیة، و قد رأی نایهولت الأخشاب و القصب المستعملة فی بنائه کما فی طاق کسری. و من هناک یصل السائر، اذا اتجه صوب النهر، الی (میدان أسبها) ای (سوق الخیل) و المکان یغشاه العشب، ثم (المهترخانه) و کانت اصطبلات واسعة، فالمدرسة، و لم یحفظ الزمن من کل تلک المبانی سوی أنقاض و حیطان متداعیة و آثار أرضیة ممزوجة بالطابوق. و یأتی بعد ذلک السوق التی تمتد الی آخر البلدة علی مسیرة ربع ساعة من دجلة، و هناک لا تزال قائمة.
و قد مضی الرحالة متجها الی الیسار لیصل الی (حفرة السباع)، و هی حفرة عمیقة مقطوعة فی الصخر الکلسی الذی یؤلف قاعدة تلال سامراء القدیمة. و تؤدی الحفرة الی مغاور کانت تتخذ لحبس الأسود، و هی محفورة فی الصخر أیضا و معقودة بالطابوق. و المقول ان حفرة السباع تتصل بدهالیز تحت الأرض بسجن قریب. و یروی فی ذلک ان الخلیفة هارون الرشید القی فی هذا السجن بالامام حسن العسکری و أراد ان یجعله فریسة للسباع فأمر بفتح الباب المتصل بمغارة الأسود. لکن الوحوش الضاریة ما أن دخلت و رأت الامام حتی أقعت باحترام عند قدمیه، و لم تمسسه بسوء. ثم توجه الرحالة لزیارة بقایا قصر من قصور الخلفاء، و هو مشید علی مثال مدائن کسری بمقیاس أصغر، فثمت نفس توزیع الحجر علی الساحة الداخلیة مع طاق رئیس فی وسط ما تبقی من الواجهة و نفس نقاط تعلیق المصابیح فی السقف
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 307
المعقود. و تری الی جانب ذلک فتحة کان فیها جرس استولی علیه بعض القناصل من هواة الآثار!
و تجاه هذه الخرائب مباشرة تنتهی التلال فتنبطح الأرض سهلة حتی تتصل بدجلة علی مسیرة عشر دقائق. و هناک مرتفع علی الشاطی‌ء کانت تقوم علیه قریة أرمنیة اسمها (الگاوور) أی (قریة الکفار). و کان فی موقع سامراء الحاضرة محلتان أخریان للأرمن أسمهما (الناصریة) و (الخاتون) و عند أطلال قریة الگاوور الأشجار الوحیدة المزروعة فی ضواحی سامراء و هی اشجار توت، و لذلک سمی المکان باسم (التکی) و هو ثمر التوت باللغة الفارسیة. و اذا أصعدنا فی ضفة النهر بلغنا أنقاض حصن یسمی (قلعة اشناس):
و علی بعد فرسخین منها أطلال (أبی دلف) و ینسب بناؤها الی الفضل بن یحی البرمکی. و وصل الرحالة بعد ذلک الی (تل العلیج) الذی یزعم أنه من عمل جنود هارون الرشید: فقال ان الامام العسکری سأل الخلیفة عن عدد جنده، فأجاب هارون سیحمل کل جندی حفنة من الرمال و یرمیها فی هذا المکان فتری الذی سیرتفع بعد ذلک! و هکذا صنع مئات الآلاف من رجال الجیش التلول التی نشاهد آثارها الآن.
و علی الجانب الآخر من النهر تری أطلال مربعة الشکل تنتهی بأعمدة أو أبراج صغیرة، و هذا کل ما بقی من قصر مشید بالآجر بازاء قصر الخلفاء و یعرف بقصر «العاشق». و تحدثنا الأساطیر عن فتی أحب بنت الخلیفة و أحبته، فلم یکفها ان تراه من نافذتها بل أمرت بتشیید شرفة علی سطح قصر أبیها لتتمتع بمشاهدته. و وراء قصر العاشق خرائب أخری تعرف باسم «کف الکلب» إذ یسمع منها فی مساء أیام الجمع نباح الکلاب!!
و قد عاد الرحالة من زیارة تلک الأماکن یصحبه السید مهدی، الذی اختاره المدیر لمرافقته. و غادر سامراء فی الغداة بعد ان اشتری کلبا سلوقیا جمیلا، و قد رافقه مضیفاه السید عباس و السید محمد شطرا من الطریق.
و نقول تعلیقا علی ما جاء فی أقوال نایهولت عن الامام العسکری و السباع،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 308
و علی ما جاء فی قولی فیلیکس جونز و نایهولت عن تل العلیق، ان القصة التی تروی عن القاء الامام علیه السّلام بین السباع قد جرت فی أیام الخلیفة المعتمد و لیس فی أیام هارون الرشید کما لا یخفی. اما تل العلیق فقد اختلف فیه الرواة العرب فنسبوا القصة الی الخلیفة المعتصم أولا و الی المتوکل أیضا. و یقول الدکتور سوسة فی هذا الشأن «.. و قد اختلفت الآراء فی تاریخ انشاء تل العلیق کما اختلفت فی معرفة الغایة التی أنشی‌ء من أجلها، فبعض المؤرخین من الأفرنج یری انه یرجع الی عهد الرومان و البعض الآخر یری انه یرجع الی ما قبل ذلک العهد. الا أننا نری بان اتصال التل بقناة المتوکل هو أقوی دلیل علی أنه من عمل المتوکل. اما القصد من انشائه فتکاد الآراء تجمع علی أنه انشی‌ء لتأمین تمتع الخلیفة و رجال حاشیته بمناظر حلبة السباق من محل مرتفع یمتد فیه البصر الی أقصی حد الحلبة مما یساعد علی تتبع حرکات الخیول فی هذه المسافة الطویلة.»

السر والس بج

و قد وصل الی العراق قادما من مصر سنة 1888 عالم من علماء الآثار البریطانیین یدعی السر والس بج، و أقام فی بغداد عدة أشهر. فتسنی له خلال مدة وجوده فی العراق ان یزور الکاظمیة و سامراء و یکتب شیئا عنهما، فی کتابه الذی أخرجه بمجلدین سنة 1920 بعنوان (علی ضفاف النیل و دجلة) .
و کانت زیارته لسامراء عن طریق النهر بین الموصل و بغداد. و هو یقول بعد توجهه بالکلک من الدور الی سامراء انهم بعد ان جاوزوه بقلیل لاح لهم فی الجانب الشرقی من النهر تل عال کبیر یسمی «تل البنات»، ثم باتوا فی الکلک تجاه مصب النهروان علی مقربة من «تل المهیجر». ثم اقلعوا فی صباح الیوم موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 309
الثانی و ظلوا یسیرون فی محاذاة الجانب الغربی من دون ان یعبروا الی الضفة الشرقیة لیشاهدوا خرائب «قنطرة الرصاص» التی یقول انها سمیت کذلک لأن حجارتها شدت بالرصاص، ثم جاوزوا «أبا دلف» القائم فی الضفة الشرقیة و شاهدوا أطلال «قصر المتوکل» أو «الجعفریة» التی یقول عنها انها عبارة عن ضاحیة من ضواحی سامراء الشمالیة، و إن القسم الأکبر منها یسمی «أسکی بغداد». و مروا بعد ذلک بخرائب أشناس و تل العلیق الذی یقع علی بعد میلین او ثلاثة عن ضفة النهر. لکنه یقول إنهم رأوا علی الضفة نفسها- أی الشرقیة- «قصر المعشوق». و بعد ان تجاوز السر والس و جماعته خرائب قصر الخلیفة فی الجانب الشرقی من النهر وصلوا الی سامراء فتوقفوا فیها قرب جسر الزوارق الذی یشیر الی وجوده .. ثم قصدوا البلدة من شاطی‌ء النهر الرملی فوجدوها محاطة بسور سمیک یبلغ ارتفاعه تسعة عشر قدما، و کان حدیث البناء لکنه بحاجة الی شی‌ء من الترمیم.
و یقول السر والس أن أحد الثقلاء فرض نفسه علیهم و رافقهم خلال تجوالهم فی البلد، لکنه نصحهم بأن یغادروه بأسرع ما یمکن لأن نظرات الناس فی السوق الیهم، و تصرفاتهم تجاههم، کانت شیئا غیر ودی. فدلت علی أنهم لم یکونوا من المرغوب فیهم هناک. ثم یذکر ان البلدة تشتهر بوجود مشهدی الامامین العاشر و الحادی عشر فیها، و یسمیها (علی العسکری) و (الامام الحسن)، و یقول ان القبتین القائمتین فوق الضریحین کانتا من أروع ما یمکن ان یشاهده المرء من بعید. لکنه یستدرک و یقول ان اقترابهم منهما کان شیئا غیر ممکن. و یحدثنا عن الجامع الذی تقوم فی وسطه قبة صغیرة و یقول ان سردابا أرضیا غاب فیه الامام الثانی عشر سنة 898، و أنه علی ما یقال ما زال حیا یرزق. و لذلک سمی بالامام القائم، و هو الامام المهدی الذی سیملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ان ملئت ظلما و جورا حینما یعود الی الظهور .. و یقول بعد ذلک ان المشهدین یقعان فی القسم الغربی من البلدة، بینما یقع فی شمالها بناء یضم الجامع القدیم الذی یبلغ (810) أقدام فی الطول و 490 قدما فی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 310
العرض، و حوالی ثلاثین قدما فی ارتفاع السور.
و یحدثنا بج کذلک عن «الملویة» التی یذکر ان کلودیوس ریج یسمیها برجا حلزونیا بست طوابق، یبلغ ارتفاعه 163 قدما علی ما یقول فیلیکس جونز. ثم یذکر ان بعض الرحالة الأوربیین یذهبون الی انها عبارة عن زقورة بابلیة، و أنه من المحتمل جدا ان یکون المعتصم هو الذی بنی هذه المئذنة للجامع الکبیر الکائن بقربها. اما الحقیقة فهی ان الذی بنی الملویة هو المتوکل. و یتکلم بج بعد هذا عن موقع سامراء الحسن وجوها اللطیف و أراضیها الخصبة، و یرجح ان تکون قد وجدت فی مکانها مدینة من المدن القدیمة، لا سیما و قد وجد بعض الآجر البابلی علی شاطئها. و مما یذکره کذلک ان سامراء کانت قد احتفظت بأهمیتها الی ما بعد انتقال مرکز الخلافة العباسیة عنها .. ثم استحالت فی القرن الرابع. عشر الی خرائب و رکام کما یستفاد مما کتبه ابو الفدا و ابن بطوطة عنها. و آخر ما یکتبه بج عن سامراء ان الروضتین المطهرتین فیها یصرف علیهما مما تجود به أکف الزوار من المال، کما یصرف من ذلک أیضا علی ترمیم سور البلدة و المحافظة علیه. و بعد أن أخذ بج و جماعته شیئا من البطیخ معهم فی الکلک و نقدوا البائع ثمنه بالروبیات، اقلعوا متوجهین الی الجنوب.

المس غیر ترودبیل فی سامراء

کانت المس غیر ترودبیل، سکرتیرة دار الاعتماد البریطانی ببغداد، التی عرفت خلال السنین الأول لتأسیس الحکم الوطنی فی العراق، قد زارت سامراء لأول مرة سنة 1909، أی فی أیام الحکم العثمانی قبل نشوب الحرب العالمیة الأولی فی 1914. و کانت منذ ذلک العهد تعمل فی مصلحة الاستخبارات البریطانیة و تطوح فی آفاق البلاد العربیة لهذا الغرض. فقد جاءت من لندن الی بغداد عن طریق سوریة و نزلت فی دار المقیمیة البریطانیة حینما کان الکولونیل رمزی قنصلا عاما فیها. و من هناک قصدت سامراء لدراسة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 311
الآثار الاسلامیة فیها علی ما تقول، فوصلتها فی أواسط نیسان. و لذلک نراها تکتب فی رسالتها المؤرخة فی 15 منه ما یأتی فی انتقاد ما عمله هرتسفیلد المنقب الالمانی المعروف:
رکبت مدة قصیرة من الزمن، و أنجزت أشغالا کثیرة، قبل أن أصل الی هذا المکان. فقد أخذنا فی طریقنا مقاییس بلدة بأکملها (لعلها تقصد خرائب القادسیة القریبة من سامراء)، و من حسن الحظ أن هذه البلدة لم یبق منها الا أسوارها الخارجیة، لکن ذلک استغرق ثلاث ساعات من الوقت. و تعد سامراء أهم مکان فی العالم یمکن ان تشاهد فیه العمارات الاسلامیة القدیمة.
ان المخطط الذی رسمه هرتسفیلد لها هو من بنات أفکاره و تخیلاته، و قد کنت اتوقع بوثوق بأن أجد جمیع ما فعله لا یمکن ان یدخل علیه ای تحویر او تحسین من الغیر، لکننی یترتب علی الآن أن أفعل کل هذا من جدید، و انا أخشی ان ینطبق هذا علی الأشیاء الأخری التی اشتغل بها. فهو مختص بفن العمارة، و لا یمکن ان أتصور ان مختصا بفن العمارة مثله یبقی ما یزید علی الساعة فی ذلک الجامع (لعلها تقصد جامع سامراء الکبیر) و لا یلتفت الی تفصیلات البناء المهمة فوق العادة، التی لم یلتفت لها. و أنا حینما تسنح لی الفرصة لتدقیق ما فعله المختصون بالعمارة، ابدأ بالاعتقاد بأنی أصبحت مختصة فیها أیضا- لکن هذا یعتبر أکثر مما یجب بطبیعة الحال. و علی کل فان المرء یمکنه علی الدوام ان یقدر تمام التقدیر الأشیاء التی یسعی لاخراجها و هی مطابقة للحقیقة و الواقع مطابقة تامة ..
و فی رسالة أخری، مؤرخة فی 18 نیسان تقول: .. و کما توقعت، کان من المحتم علی ان أعید عمل جمیع ما کان هرتسفیلد قد فعله من جدید،
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 312
و قد انصرفت الی ذلک بکل عزم و قوة لمدة ثلاثة أیام و نصف. و بینما کنت یوم أمس منهمکة فی رسم المخطط لقصر من قصور الخلیفة عثر رجل کان یحفر فی الخرائب، من أجل استخراج الآجر منها، علی قطعة جمیلة من الزخارف الجصیة التی کانت لا تزال فی مکانها. و قد وعدت الناس بأن أقدم بخشیشا لکل من یأتی لی بمزید من هذا، فکانت النتیجة ان حصلت علی قطعتین أخریین من الزخارف الجداریة، تکفیان لترکیب الأجزاء الباقیة کلها من هذا الطراز الزخرفی الجمیل. و لا أعرف مکانا آخر تعرف فیه الزخارف الجصیة القدیمة من هذا النوع الا فی مصر. و کنت فی الوقت نفسه قد جمعت کومة کبیرة من کسر الفخار، الخشن جدا، المغطی بالأشکال الزخرفیة المهمة. و من حسن الحظ ان الدنیا أمطرت بعد یوم أمس بعد الظهر بشدة بحیث کان یستحیل علی الاشتغال فی الخارج، و لذلک جلست فی خیمتی و رسمت جمیع ما عثرت علیه من قطع الفخار. فعندی أربعة و أربعون شکلا مختلفا، عدا قطعة أو قطعتین جیدتین بصورة خاصة کنت قد أخذتهما معی.
و کانت إحداهما قطعة جمیلة جدا، تزینها بطة جمیلة مرسومة علی الطین ...
و توجد فی (رسائل غیر ترودبیل) رسالتان کتبتهما المس بیل من سامراء، إحداهما فی 22 تشرین الثانی 1917 و الثانیة فی 30 تشرین الثانی 1917، أی بعد احتلال الانکلیز للعراق و خلال تأسیس الادارة العسکریة فیه.
و هی تروی فی الرسالة الأولی کیف تأخرت عن المجی‌ء الی سامراء لحادث مهم حدث فی بغداد، و هو موت الجنرال مود (فاتح بغداد) بمرض الهیضة (الکولیرا). و یظهر أنها کانت متأثرة جدا من ذلک، و متحیرة کیف وقعت الوفاة بتلک السرعة و لا سیما ان انتشار هذا المرض لم یکن واسعا فی بغداد، و ان الجنرال مود نفسه لم یکن یختلط مع السکان العرب کثیرا علی حد قولها. موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 313
لکنه کان قبل یومین من وفاته قد حضر حفلة فی مدرسة الیهود شرب فیها شیئا من القهوة و أکل بعض «الکیک»، و فعلت الشی‌ء نفسه هی و سائر الحضار أیضا. و لذلک کان یستحیل التکهن عن المکان الذی أخذ منه العدوی، علی ما تقول. لکن المعروف فی سائر المراجع الانکلیزیة عن هذا الحادث انه شرب الشای و الحلیب فی حفلة مدرسة الألیانس التی حضرها، فکان ذلک سببا لنقل العدوی له. ثم تعود المس بل فی الرسالة و تقارن بین وفاة الجنرال مود و وفاة الامبراطور جولیان- الرومانی- فیما یقرب من سامراء، و تستشهد بما یقوله المؤرخ القدیم امیانوس مارسیلینوس فی تأبین الامبراطور:
«فلیحمد اللّه العلی القدیر لأنه مات فی معمعان المجد، الذی حصل علیه بجدارة و انصاف» ..
ثم تقول عن سامراء نفسها انها بلدة مسورة جمیلة، ترتفع فی وسطها القبة الذهب الهائلة، التی تعلو المشهد فتحجب السماء عن الناظرین من الطرق الضیقة الآیلة جدرانها الی الانهدام ..
و تعنون الرسالة الأخری إلی أهلها و أسرتها فی لندن فتقول انها ما زالت باقیة فی سامراء لأن مضیفها قائد الجحفل الانکلیزی أصرّ علیها بالبقاء فیها حتی یتم لها الشفاء. ثم تقول ان الکولونیل و یلکوکس جاء الی سامراء أیضا فی صباح ذلک الیوم لتغییر الهواء لأن سامراء تعتبر مصحا لهذه المناطق، علی حد قولها. و تتحدث بالمناسبة عن طیب المناخ و الهواء الشمالی العلیل، و السماء الصافیة. کما تتحدث عن تجوالها خارج البلدة ممتطیة صهوة الجواد أو راکبة فی السیارة، فتذکر ان کل شی‌ء هنا عبارة عن بادیة تخترقها عشرات الأقنیة و الجداول القدیمة و التلول الأثریة الدالة علی القری المندثرة.
و هی تقول انه یکاد یکون من المستحیل علی المرء أن یتصور کیف کانت هذه البلاد حینما کانت تسقی بهذه الأقنیة من دجلة، و عند ما کان سکانها یحتشدون فی القری و الأرباض الممتدة الی عمق عشرة أمیال من جهتی النهر. ثم تذکر ان الدنیا امطرت هنا فی الاسبوع الماضی فکان مجموع ساعات المطر 18 ساعة. موسوعة العتبات المقدسة ؛ ج‌12 ؛ ص314
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 314
و لذلک أخذ الناس ینشغلون بالحراثة، و أصبحت الأرض تلوح للناظرین بلونها الأسمر الزاخر بالحیاة بدلا من لون الرمل الأصفر الباهت.
و قد ورد اسم سامراء فی رسالة أخری من رسائل المس بیل مؤرخة فی 14/ 3/ 920، و هی تقول فیها خلال حدیثها مع المرحوم العلامة السید حسن الصدر فی الکاظمیة : .. و تطرقنا بعد ذلک الی طقس سامراء الذی شرح لی بأنه أحسن من طقس بغداد بکثیر، لأن سامراء تقع فی المنطقة المناخیة الثالثة فی عرف الجغرافیین القدماء.
و فی رسالة تاریخها 16 تموز 1921 تروی المس بیل کیفیة إعلان الأمیر فیصل ملکا علی العراق فی مجلس الوزراء (یوم الاثنین 11/ 7/ 1921)، و اعتراض بعض الشخصیات العراقیة یومذاک علی هذا. ثم تقول: .. و من المهم ان یذکر ان الکمالیین ما ان علموا بقدوم فیصل الی العراق حتی بدأوا بشن حملة دعائیة حامیة فی مصلحة مرشحهم الشیخ أحمد الأدریسی السنوسی.
و کان أول ما علمناه فی هذا الشأن من مواطن موصلی جلب الی المستر نولدر وثیقة خاصة تدعو العراقیین الی مبایعة السنوسی. و جاءنا الخبر الآخر من رجل یقال له «نقیب سامراء»، کان مع الأتراک منذ 1918 و عاد مؤخرا الی العراق. و لهذا الشخص سمعة تتسم بالمکر و الخدیعة، لکننی أعجبت به.
فقد قال لی ان الأتراک کانوا قد دعوه الی حمل أوراق البیعة هذه الی هنا فرفض ذلک، مع أنه ذکر أناسا آخرین کانوا قد قبلوا القیام بالمهمة .. و ان مجرد مجی‌ء أناس متحفظین مثل نقیب سامراء، أو اقدامهم علی ارسال رسائل الی فیصل یسترخصونه فیها بالمجی‌ء، یعدّ شیئا مرضیا. إذ یبدو أنهم لا یثقون کثیرا بالخطط الترکیة السنوسیة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 315

سامراء فی الحرب العالمیة الأولی

اشارة

لقد قدر لسامراء، کما قدر لبعض البلدان العراقیة الأخری مثل الکوت و بغداد و سلمان باک و ما أشبه، ان یذکر اسمها ذکرا خاصا خلال الحرب العالمیة الأولی و ما قبلها بفترة قصیرة. فقد أصبحت قبیل اعلان الحرب نهایة سکة الحدید التی انشئت بمساعدة الألمان بینها و بین بغداد، باعتبارها جزءا من «سکة حدید بغداد- حیدر باشا- برلین» الداخلة فی ضمن الامتیاز الذی حصل علیه الألمان من الدولة العثمانیة. و لما کانت سکة الحدید وسیلة مهمة للغایة من وسائل الحرب، لا سیما فی تلک الظروف و الأیام، و لما کان اتصال العراق بترکیة یتم عن هذا الطریق عادة فقد جاءت الحرب الی بغداد و سامراء بمزید من الحرکة و النشاط الحربی. و یقول ریتشارد کوک فی (بغداد مدینة السّلام) المشار الیه قبل هذا ان قطار سامراء الجدید، الذی کان قد فتح للعمل حدیثا، بقی مشغولا فی اللیل و النهار بحرکة الرجال و المعدات و الذخائر، و صارت الأکلاک المعروفة فیما بین النهرین منذ القدم تشاهد فی سامراء قادمة من الموصل علی وجه الماء و هی محملة بأحمال و سلع و لم یسمع بها من قبل مثل البنادق و الذخیرة و السیارات و حتی مدافع المیدان الخفیفة.
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 316
و یأتی ذکر سامراء مرة أخری فی کتاب کوک هذا بمناسبة وصف لعملیة انسحاب الأتراک من بغداد، و اخلائها فی لیلة العاشر من شهر مارت 1917، بعد ان تقرر ذلک فی المجلس الحربی الذی عقده خلیل باشا قائد الجبهة فی مخیم الخر. إذ یقول ریتشار کوک: .. و قد أخذت البرقیات الملحة تتری علیه- علی خلیل باشا- من أنور باشا فی استانبول بوجوب الثبات فی وجه العدو المتقدم، لکن قادة الجبهة فی المیدان کانوا یضعون نصب أعینهم الاعتبارات العسکریة الصرفة، و یشیرون الی عدم کفایة القوات الموضوعة تحت تصرفهم لمقاومة الهجوم البریطانی الجازم، و النتائج المرعبة التی یمکن ان تؤدی الیها الهزیمة المفاجئة أو التقهقر غیر المنتظم من المدینة نفسها. فطالبوا بالانسحاب العاجل خلال اللیل الی نقطة تقع علی خط السکة الحدید، حیث یکون بوسعهم الاتصال بقاعدتهم فی سامراء .. و عند ذاک رکب خلیل باشا و ضباط رکنه الی محطة الکاظمیة و استقلوا القطار منها الی سامراء. و یفهم من هذا بلا شک ان سامراء أصبحت قاعدة الأتراک الحربیة فی جبهة العراق، بعد سقوط بغداد.

احتلال سامراء

ما عتم الجیش البریطانی ان احتل بغداد، فی لیلة 10 مارت 1917، حتی أعد العدة بسرعة لمطاردة الجیش العثمانی المنسحب الی الشمال. و قد اشتبک الفریقان فی عدة مواقع قبل الوقوف فی اصطلات، ثم جرت موقعة حامیة فی هذا المکان ایضا، و فی بند العظیم، قبل وقوع الاشتباک فی موقعة سامراء.
و قد ذکر هذا کله بالتفصیل المستر ادموند کاندلر، المراسل الحربی البریطانی الذی رافق الحملة- أو قوة «دی» کما یسمونها- من الفاو الی
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 317
الموصل، فی کتابه المعروف باسم (الطریق الطویل الی بغداد). فقد أفرد فصلا خاصا فی الجزء الثانی منه (الفصل 36) لوصف المعرکة و تفرعاتها.
و قبل ان یأتی علی وصف معرکة سامراء و ما سبقها، یعمد المستر کاندلر الی وصف معرکة «بند العظیم» بکثیر من التفصیل لأن الانکلیز لم یکن من الممکن لهم ان یتقدموا الی الشمال باتجاه کرکوک و الموصل لو لم ینتصروا فی جبهة العظیم. و یظهر من وصفها انها کانت معرکة دمویة هائلة استمات فیها الأتراک فی الصمود، و عبأوا جمیع ما کان عندهم من قوة فیها. فقد حشدوا ثلاثة آلاف جندی ترکی مثلا فی جبهة لا یزید طولها علی (400) یاردة، علی ما یقول کاندلر. و تبودلت قریة العظیم التی أزیلت من الوجود عدة مرات بین الفریقین. و یقول کاتبنا هذا کذلک ان معرکة بند العظیم هذه کانت اشد معرکة دمویة جرت فی ما بین النهرین (العراق) خلال تلک الحرب، بالنسبة للخساثر التی حصلت فیها و نسبة ذلک الی القوات المشترکة فی القتال. فقد خسرت معظم الکتائب الانکلیزیة نسبة کبیرة من أفرادها، مثل کتیبة جیشیر التی خسرت (126) قتیلا من مجموع (330) فی آخر مرحلة من مراحل المعرکة و خسرت کتیبة (ساوث ویلز بوردر رذ) (203) قتلی من مجموع (340).
و وجد الانکلیز مائة من القتلی الأتراک فی المکان الذی حمی فیه و طیس القتال.
و یبدو ان معظم هذا القتال کان قد جری بالسلاح الأبیض، علی ما یقول کاندلر. و قد انتهت هذه المعرکة فی آخر یوم من نیسان 1917.
أما بالنسبة لسامراء فیقول کاندلر انه کان ینتظر ان تستطیع الفرقة السابعة البریطانیة ان تحتلها بعد انتهاء القتال فی جبهة العظیم بیوم واحد أو یومین فقد بادرت فی یوم 19 نیسان الی احتلال مرتفعات الخبن الکائنة علی بعد میل و نصف فقط من خنادق الأتراک فی اصطبلات. و کانت خطوط الأتراک هنا علی غایة من القوة و المنعة، و لو کانوا قد نفذوا رأی القائد کاظم قره بکر بک موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 318
فی الموضوع لأصبح الأتراک علی جانب أکبر من القوة فی الاستحکام و القتال ففی الوقت الذی کان یبدو ان بغداد قد أوشکت علی السقوط کان یقود الفیلق الترکی الثامن عشر کاظم قره بکر بک، القائد المشهور بخدمته و خبرته الطویلة و حینما تم الانسحاب من بغداد کان من رأیه ان یکون هذا الانسحاب. الی اصطبلات رأسا لتقویة المواقع التی کانت موجودة فیها و تحشید القوة الکافیة لها، لأنه لم یکن یعتقد بتبذیر قواته و إتعابها بالقتال فی مواقع صغیرة. علی أن رأیه لم یجد قبولا لدی القیادة العلیا، کما تبین من أقوال الأسری الأتراک بعد ذلک، فاستقال من منصبه و اعطیت القیادة الی شوکت باشا. فأدت النتیجة الی ان تحصل عدة معارک بین بغداد و اصطبلات. من دون ان یستفید منها الأتراک المتقهقرون بشی‌ء. و قد برهنت الحوادث علی انهم کان بوسعهم ان یستفیدوا فوائد جلی بتراجعهم الی هذه الخطوط رأسا.
و مع هذا فقد کانت خطوط اصطبلات قویة فوق العادة. و کانت أول معرکة جرت فیها معرکة حامیة الوطیس امتد فیها القتال علی طول الخطوط.
لکن الأتراک صمدوا فی طوابی الدجیل بعناد و کأن بقاءهم فی آسیة کلها کان یتوقف علی هذا الموقع. بینما کانت نقطة سکة الحدید معرضة للخطر.
و هی أکثر أهمیة من بغداد لهم من الناحیة الستراتیجیة.
و بعد ان احتلت أول مواضع اصطبلات فی 21 نیسان زحف اللواء الثامن و العشرین البریطانی، و ظل یناوش العدو و یتصل به. و فی ظهر الروم التالی (22 منه) وصل مقر هذا اللواء الی خرائب اصطبلات فکان بوسع الضباط فیه حینما أطلوا من المرتفعات أن یشاهدوا ساحة المعرکة بأجمعها، و سقف محطة القطار الکائن علی بعد عدة أمیال، و القبة الذهب القائمة فوق مشهد سامراء یشع بریقها فی شمس منتصف النهار، مع البرج الغریب (الملویة طبعا) الذی کان یرتفع فوق جمیع ما کان حوله. و کانت الأرض تنحدر تدریجیا نحو هذه العلامات الشاخصة، التی لم یکن أی منها یقع فی منطقة القتال، حتی تصل الی سلسلة من التلول و الآکام الممتدة من النهر
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 319
الی محطة القطار. و علی هذه المرتفعات و الروابی کان الأتراک قد اختاروا الصمود، و القتال للدفاع عن سامراء.
لکن مدفعیتنا سرعان ما اصبحت تصل الی القسم الأعظم من مراکز القوة الترکیة المتخندقة بین النهر و سکة الحدید. غیر ان الموضع کان ممتدا بحیث لم یمکن قصفه کله او مهاجمته من جمیع نقاط الجبهة بالمدافع و المشاة المتیسرین لدینا. فتقرر بناء علی ذلک القیام بالضغط علی جناح الأتراک الأیسر و دفعه الی الوراء من جهة النهر، بینما تتولی الخیالة بحرکة التفاف من الجناح الأیمن تتقدمها بطاریة من السیارات المصفحة الخفیفة ..
و قد تم الهجوم بهذه الخطة، لکن المستر کاندلر یقول ان الأتراک صمدوا له و قاوموا حرکة الالتفاف بشجاعة. علی ان الذی اخافهم اکثر من أی شی‌ء آخر، فجعلهم یتراجعون هو مدفعیة الرتل الانکلیزی الذی کان فی الجانب الأیسر من النهر. فقد اوقعت بجناحهم و مؤخرتهم خسائر فادحة. و کان من نتیجة الهجوم ان حصل تقدّم فی جبهة النهر، و عزز المتقدمون بقوات جدیدة.
و یقول کاندلر: ان الأتراک انسحبوا فی تلک اللیلة فتمادینا فی تعقیبهم عند الفجر، و احتللنا محطة سامراء، و عند ذاک تراجع العدو الی تکریت.
و کانت محطة القطار، و مظلات البضائع، و الورش، قد نهبت. و قد کنا نتوقع ان نجد القاطرات، و عجلات السکک الحدید، قد دمرت لکن الأتراک کانوا قد صمموا علی الدفاع عن سامراء بکل ثمن علی ما یبدو، و لذلک لم یفسح لهم احجامهم عن الانسحاب المجال لإکمال عملیة التخریب.
و کان من بین غنائم الحرب عدد من قاطرات و عجلات الخط العریض، التی کانت کلها قد تضررت، عدا بعضها الذی کان قد تم اصلاحه. و فی ظرف أیام معدودة استطعنا تسییر القطارات بین بغداد و نهایة السکة.
و أصبحت سامراء مقرنا الأمامی فی الصیف. و قد بلغت درجة الحرارة فیها 119 درجة فرنهایت فی الظل، لکن القوة «دی» تهیأ لها شی‌ء من الراحة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 320
بعد ان حققت أهدافها. فقد استطاعت فی معارک نیسان ان تدحر الفیلق الترکی الثالث عشر ثلاث مرات، و الفیلق الثامن عشر خمس مرات، و هی تدفعه أمامها خلال ستین میلا. و استطاعت ارتالنا خلال الشهر، فی کلا جانبی دجلة ان تأسر ثلاثة آلاف أسیر، و تغنم ستة عشر مدفعا.
ثم یختم کاندلر فصل سامراء بقوله ان سامراء قد شهدت الکثیر من عملیات صنع التاریخ خلال القرون، و کنا نشعر بأنها یجب ان تصنع المزید من هذا. إذ یرقد الامبراطور جولیان مدفونا فیها. بعد أن خر صریعا بقربها، خلال تقهقره من طیسفون (المدائن)، و یمکن رؤیة قبره من اسوار المدینة. و هو عبارة عن تل من التراب محاط بخندق (ربما یشیر بهذا الی تل العلیق). یضاف الی ذلک ان هذا المکان من الأمکنة التاریخیة أیضا من جهة انه شهد نهایة الصولة الروحیة علی الأرض. فقد اختفی الامام الثانی عشر هنا فی سرداب مبهم غامض من سرادیب البلدة، و سوف یظهر من جدید علی ما یقول الشیعة الذین ینظر الکثیرون منهم الی تلک البقعة من أجل هذا الغرض. و جاء بعد ذلک الهونی- أی الألمانی- فوضع یده الدنسة علی سامراء:
و وصمها بجعلها نقطة أمامیة لنفوذه المسیطر. و کذا جابهت القوتان احداهما الأخری، فترتب علی النضال الجاری الیوم ان یقدر طریقة الحیاة بعد الحرب، و فلسفتها، أو دینها.

سامراء بعد الاحتلال

و قد کان من الطبیعی ان یعقب احتلال البلاد إجراء شی‌ء من التنظیمات المدنیة لتمشیة الأعمال الحکومیة، و توجهها نحو الإسهام فی المجهود الحربی.
و هناک عدة اشارات من هذا القبیل الی سامراء فی کتاب السر ارنولد ویلسن موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 321
وکیل الحاکم الملکی العام فی العراق بعد تلک الفترة. فقد أشار فی الص (170) الی ان المناطق المحتلة فی العراق قد قسمت لأغراض اداریة الی ست عشرة وحدة اداریة ، و کانت سامراء واحدة منها. اما الوحدات فهی: العمارة، بغداد، البصرة، دیر الزور، الدیوانیة، الدلیم، الحلة، خانقین، کرکوک، کوت العمارة، الموصل، المنتفک، سامراء، الشامیة، السلیمانیة. و کان ذلک قد تم فی 1919. و تقول المس بیل بهذه المناسبة کذلک فی تقریرها الرسمی الذی رفع الی الحکومة البریطانیة عن الوضع العام فی العراق خلال سنی الاحتلال البریطانی المنتهیة ببدایة عهد الانتداب فی صیف 1920 أن المجالس البلدیة فی کرکوک و الحلة و الدیوانیة و سامراء و العمارة و دیالی و الرمادی قد شکلت فی شتاء 1919- 1920.
و یذکر ویلسن (الص 180) ان أعمال المسح کانت تجری تباعا فی هذه المناطق کذلک. فیقول ان المناطق المحتلة کلها الی حد الکوت و الناصریة قد تم مسحها عند ما کانت القوات البریطانیة تحتل بغداد. و لذلک ترتب علی المسؤولین ان یمدو أعمال المسح بعد احتلال المناطق التی خضعت لنفوذهم:
و لا سیما من بغداد الی الحدود الأیرانیة، و الی سامراء، و مناطق الفرات.
و تم مع هذا المسح رسم خرائط حربیة جدیدة بشی‌ء غیر یسیر من التفصیل استعدادا لما قد یحدث من عودة القتال. و یشیر ویلسن کذلک الی المقابز و الأماکن التذکاریة التی خلفتها الحملة البریطانیة فی العراق. فهو یقول (الص 203) أن العراق اصبح فیه خمس عشرة مقبرة للأنکلیز الذین أریقت
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 322
دماؤهم فیه، و هی موزعة کالآتی: ثلاث مقابر فی الموصل، و أربع فی بغداد، و ثلاث فی البصرة، و اثنتان فی العمارة، واحدة فی کل من سامراء و الکوت.
و یذکر ریتشارد کوک بالأضافة الی ذلک (الص 312 من کتابه المشار الیه قبل هذا) ان بغداد اصبحت تخدمها ثلاث محطات للسکک الحدید:
احداها فی الکرخ و تعرف بمحطة غربی بغداد، و هی نهایة الخط الوارد من البصرة و کربلاء، و نهایة الخط الوارد من سامراء الذی أنشأه الألمان قبل الحرب. و من المحطتین فی الرصافة تقع محطة شمال بغداد خارج باب المعظم:
و هی نهایة الخطوط الواردة من خانقین و کرکوک، و محطة شرقی بغداد فی الشیخ. و للکاظمیة محطة خاصة بها، تقع علی خط سامراء الألمانی.
و قد ورد اسم سامراء فی تقریر المس بیل المشار الیه، فی مناسبات عدة کذلک. و أول ما تذکر هذا الأسم بمناسبة حدیثها عن العلماء و المدن المقدسة، و تعلق الشیعة بها (الص 6 من الترجمة العربیة). و یأتی بعد ذلک ذکر سامراء عندما تقول المس بیل ان الشیخ محمد علی کمونة اتصل بالانکلیز من کربلاء فی ایلول 1915، و تراسل مع السر پیرسی کوکس الذی کان ما یزال فی الکوت بصحبة الحملة البریطانیة قبل استیلائها علی بغداد. و قد اقترح علی الانکلیز یومذاک بان یتعهدوا بتنصیبه حاکما وراثیا مستقلا فی ولایة مقدسة تمتد من سامراء الی النجف الأشرف (الص 30). ثم یرد اسم سامراء بمناسبة ذکر المس بیل لمنطقة الاحتلال البریطانی بعد الاستیلاء علی بغداد، فتقول ان تلک المنطقة کانت تمتد الی سامراء خلال الأشهر الستة الأولی من یوم الاحتلال.
لکن أهم ما تذکر به سامراء فی هذه السنوات فی کتاب فیلیب ویلارد
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 323
آیرلاند (العراق- دراسة فی تطوره السیاسی)، خلال البحث عن الثورة العراقیة (1920) ضد الأنکلیز الغزاة. فهو یقول (الص 208): ..
و کانت دلتاوة قد رضخت منذ مدة لنفوذ السید محمد الصدر الذی جعلها مقرا له بعد ان حاولت الحکومة القاء القبض علیه فی بغداد یوم 12 آب، و منها أخذ یشجع الثوار و لا سیما فی سامراء. و یقول (فی الص 210 من العربیة) کذلک: .. و وقعت الثورة حوالی سامراء بجهود السید محمد الصدر الذی کان یؤازره فیها أحد الشیوخ المتنفذین، بالأضافة الی التأثیر الذی أحدثته حوادث منطقة بعقوبة و الی طبیعة القبائل القلقة. و قد استقی المستر آیرلاند تلک المعلومات من تقریر أحد الحکام السیاسیین الذین اشتغلوا فی منطقة سامراء یومذاک. و فی حاشیة یوردها آیرلاند فی اسفل الصفحة 231 من الترجمة العربیة یذکر تعیین أحمد بک قائمقاما فی سامراء بتاریخ 21 کانون الأول 1920 من قبل مجلس الوزراء.
و یشیر الی امتداد ثورة العشرین الی سامراء المستر لونکریک أیضا فی کتابه الثانی المشار الیه (العراق 1900- 1950، الص 125). فهو یقول. و فی المنطقة المحیطة بسامراء أدت الدعایة المنبثة من المدن المقدسة الی ثورة القبائل فی أواخر آب 1920، لکن هجومها علی البلدة لم یقترن بالنجاح

موظفو الانکلیز فی سامراء

هناک فی الملحق الرابع من ملحقات کتاب ارنولد ویلسن المشار الیه قبل هذا قائمة کبیرة بالموظفین الانکلیز، و غیر الانکلیز، الذین أشغلوا وظائف فی مختلف الدوائر علی عهد الحکم البریطانی، و من جملتهم أناس اشتغلو فی سامراء بطبیعة الحال. و قد وجدنا من المناسب ان نورد اسماءهم فی الآتی:
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 324
فقد اشتغل فی جیش «الشبانة» المرتزق الکابتن أیس وایت و قد عین بتاریخ 12- 3- 1919، و الکابتن آر گاربوت و قد عین فی 1- 12- 1919، و الکابتن أیل ماثیوز و قد عین فی 29- 5- 1919. و اشتغل فی صحة سامراء الدکتور جهان خان بصفة مساعد جراح من الدرجة الأولی و قد عین فی 4/ 12/ 1918، و الدکتور جی کلوف الجراح المدنی و قد عین فی 20/ 3/ 1922، و اشتغل الکابتن سی پکتول اعتبارا من 1/ 3/ 1919 معاون حاکم سیاسی فی سامراء، و اشتغل فی شرطة سامراء الکابتن أی جونسون بصفة معاون مدیر شرطة و قد عین فی 3/ 11/ 1919، و الکابتن تی فورنو بصفة معاون مدیر شرطة و قد عین فی 15/ 11/ 1919. و اشتغل المیجر أیس موری ملحقا سیاسیا لرئیس الحکام السیاسیین و قد عین فی سامراء یوم 28/ 4/ 1917، و اشتغل المیجر أی بری معاون حاکم سیاسی فی سامراء من 29/ 3/ 1918 الی 7/ 6/ 1918 ثم نقل الی بلد، و عاد الی سامراء مرة ثانیة بصفة حاکم سیاسی ابتداء من 1/ 11/ 1918. و اشتغل مظفر شاه خان بهادر وکیل معاون حاکم سیاسی و قد عین بتاریخ 22/ 12/ 1919. و اشتغل المستر جی جورجیوس ملحقا سیاسیا للحاکم السیاسی و قد عین فی سامراء یوم 1/ 5/ 1919. و اشتغل محمود افندی رئیسا للبلدیة من 23/ 7/ 1919، و اشتغل عبد المجید افندی مدیر مال فی سامراء اعتبارا من 1/ 1/ 1920.
کما اشتغل وکیلا لمعاون الحاکم السیاسی السید عمر دراز خان (خان صاحب):
و قد عین فی 25/ 6/ 1920.

فرایا ستارک فی سامراء

و ممن زار سامراء من الغربیین المتأخرین و کتب عنها بعض الملاحظات الکاتبة الانکلیزیة التی کانت معروفة فی العراق، المس فرایا ستارک . موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 325
فقد زارتها فی الثلاثینات الأولی و کتبت فصلا خاصا عنها و عن تکریت فی کتابها الموسوم (صور بغدادیة). فقد ذهبت الی سامراء و هی مدعوة عند أحد العراقیین مع امرأتین اخریین علی ما تذکر. و هی تقول انهن سافرن لوحدهن لان الطریق أمین، و الأمور سائرة من ان یعکرها شی‌ء. فسلکن الطریق الشمالی المار بالکاظمیة، و قابلهن الناس مقابلة و دیة أینما کن یذهبن، لا سیما و قد شعرن بالحریة لوحدهن فکن یقفن فی المقاهی الصغیرة علی الطریق و یأخذن التصاویر و یتحدثن الی الرعاة و غیرهم من الناس. و تتحدث عن الرعاة الذین کانوا یأتون من مسافات بعیدة لا یصال الأغنام الی بغداد. و قد أوصاها جماعة من هؤلاء بزیارة تکریت، و السؤال عن أحفاد رجل نصرانی قدیم من أهالی تکریت کان یدعی عبد السطیح. و مما یروی عن هذا الشخص انه دعی للاسلام ففضل ان یقفز بفرسه من أعلی الصخرة الی دجلة علی ان یذعن لذلک.
ثم وصلت الی شریعة سامراء فانتظرت طویلا حتی اتت العبّارة المحملة علی شختور، و عبرت بها الی الجانب الأیسر مع الحمیر و السیارة و بعض الأعراب علی حد قولها. و تقول عن سامراء انها أکثر المدن المقدسة الأربع عروبة و أقلها صبغة فارسیة، و انها محاطة بالأسوار فی منطقة من الخرائب تقوم فوق جرف غیر عال تبدو من تحته الأراضی النهریة المزروعة. فوجدتها بلدة نظیفة مسالمة، تحاط من جمیع جوانبها بالبدو الذین یقصدونها علی الدوام:
و قد أضاعت شیئا من شعور الکراهیة للأجانب الذی تتمیز به البلدان العراقیة بسبب التقلبات التی مرت علیها. و تقول المس ستارک ان سامراء تمتعت بفترة قصیرة من الأزدهار و المجد تقل عن خمسین سنة، و قد حکم فیها ثمانیة خلفاء شیدوا عددا من القصور الجمیلة، التی ینقب الآن عن زخارفها الجصیة بالتدریج لتزیّن بها اجنحة المتحف العربی فی بغداد. و لم نجد أناسا أورپیین فیها، و انما وجدت ثلاثة من المختصین بفن العمارة العراقیین یقومون بالتنقیب بکل حماسة علی حسابهم هم أنفسهم، و کانوا أناسا لطیفین. ثم تذکر المس
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 326
ستارک ان وجدت التنقیب فی هذه الآثار المهمة مشاعا یومذاک للجمیع، حیث یستطیع کل فرد یملک الوسائل اللازمة ان ینقب اینما یرید.
و تقول کذلک ان الأهالی فی البلدة کانوا فی حیرة من امرهم لان الحکومة کانت تعتز بالأمن و السکینة التی تسود البلد، و لذلک کانت تنوی تهدیم السور و الاستفادة من آجره الاعتیادی لترمیم الآثار العباسیة. و هی تعتقد ان إزالة السور من شأنه ان یفقد البلدة کثیرا من جمالها و طابعها التاریخی، و تناشد من یقرأ سطورها ان یمد ید المساعدة لیحول دون ذلک ان أمکن. ثم تعلق علی هذا العمل و تقول انها تحب الخرائب کأماکن یجلس فیها المرء و یفکر فی حیاة الغابرین من الناس، و ان المرء یستطیع ان یفعل ذلک أحسن فیما لو لم ینقب فیها أحد. و لهذا ذهبت بالسیارة مع رفیقتیها الی الطرف الشّمالی من سامراء و وقفت فی فناء جامع أبی دلف الذی لم تصل الیه ید التنقیب، و هناک شاهدت أساطینه المتکسرة و هی تجمع فی مکانها الجسامة و العظم خلال العاصفة الترابیة. و تأتی بعد ذلک علی وصف الأطلال حتی تقول ان هذا المکان کان یعج فی یوم من الأیام بصخب القادة الأتراک و تحکمهم بالخلفاء بحیث کانوا یقتلون خلیفة بعد آخر، و ینشرون العنف و الدسائس فی کل شارع علی الدوام. اما الیوم فتقوم فی الوحدة المخیمة علی هذا المکان أدغال القلغان ذات الرؤوس الزرقاء و کأنها صلبان ذات أذرع ممدودة، بصفوف لا نهایة لها تمتد حول حافات التلول الأثریة. و تذهب فی الخیال الی أبعد من ذلک فتقول:
.. و فی خرائب الصحن الکبیر مرق طائران من طیور الزریاب بأجنحة مراوغة لماعة، من تحت الأعمدة المکتسیة بلون الغبار، الی السماء المغبرة، فذکرتنا بأن الحیاة الناعشة الزاخرة قد تنبثق من هذه المادة الداکنة فی ای وقت کان
و من المؤسف ان نری، مع جمیع ما یبدو علی المس ستارک من علم و سعة اطلاع و أفق، انها تجهل تاریخ المکان الذی تقف فیه مثل هذه الوقفا المتفلسفة، و تزعم ان الامام الثانی عشر الذی غاب فی سامراء غیبته المعروفة یدعی «جعفر الصادق». فهی تقول: ان خلفاء سامراء قد أضافوا خلال
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 327
سیرتهم المسرعة المؤلمة تعقیدا آخر الی تعقیدات الاسلام لأنهم هم الذین سببوا غیبة الامام الثانی عشر، جعفر الصادق (؟)، فأعطوا للشیعة بذلک ذریعة لا تثمن بثمن یستفیدون منها، و هی وجود زعیم مختف یمکن ان یتجسد فی الوجود فی أی لحظة.
و تتمادی فی جهلها و غلطها فتقول: .. ان السجن الذی وجد فیه لآخر مرة قد أدخل مع قبری الامامین العاشر و الحادی عشر فی مشهد واحد تعلوه قبتان، فتکون أسواره الغفل بأبوابها الأربعة مرکزا للبلدة. و یمتد بین یدی المشهد شارع تصطف علی جوانبه تخوت المقهی. و فی شارع مغبر متعرج من الشوارع الجانبیة، یمر من ممر معقود سقفه بالآجر المنحوت، أنزلنا فی بیت جهزه راجا پرپور فی الهند لنزول الزوار. و هناک کان الشیخ سعید بعباءته و عمته الخضراء ینتظر وصولنا ..

سامراء فی حوادث 1940

و حینما وقعت حوادث أیار 1940، و هرب عبد الاله مع عدد من رجال ذلک العهد الی الأردن، قرر الانکلیز استخدام «الجیش العربی» الذی کان یقوده رجل الاستخبارات الانکلیزی گلوب باشا لاعادتهم الی العراق بعد القضاء علی الثورة الوطنیة التی تزّعمها الجیش العراقی ببغداد.
فسار رتل من الجیش العربی، مع ارتال الجیش البریطانی، من الأردن نحو الحبّانیة التی کان یحاصر القاعدة الجویة البریطانیة فیها الجیش العراقی الثائر، و بالنظر لکثرة الجیش الزاحف، و وفرة معداته و حداثتها، سقطت الحبانیة بأیدیهم، و بدأ الجیش البریطانی بزحفه علی بغداد بعد ذلک عن طریق الفلوجة- بغداد. و لأجل إشغال الجیش العراقی فی عدة جبهات، و بناءا علی ما ارتآه من محاصرة بغداد و قطع اتصالها بالموصل و غیرها فضلا عن الحیلولة دون وصول الامدادات لها، فقد کلف گلوب باشا و جیشه «العربی» بان یقطع الجزیرة الکائنة بین النهرین و یعبر الی شمال بغداد منها حتی یصل الی سکة
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 328
حدید بغداد- الموصل فیقطعها فی جنوب سامراء، بینما یستمر الجیش البریطانی الرئیس فی زحفه علی طریق الفلوجة، فتم له ذلک و وصل گلوب و قوته الی محطة المشاهدة.
و قد ذکر هذه العملیة بالتفصیل گلوب باشا فی کتابه (قصة الجیش العربی). و من جملة ما یقوله فی هذا الشأن قوله: .. فتوجه الجیش العربی فی صباح الیوم الثانی قبل الرتل الزاحف الی هدفه. و وقف الرتل وقفة طویلة فی منتصف الطریق للغداء فأضاع وقتا غیر یسیر تکبد أشیاء کثیرة بسببه فی الیوم التالی. لکننی أخذت فی الوقت نفسه بعض أفراد الجیش العربی و سرت لقطع السکة و خطوط التلفون فی محطة المشاهدة قبل ان یصل الرتل المتأخر الیها. و کانت معنا مفرزة من النسّافة لکن الجنود لم یکن عندهم مع الأسف من المتفجرات ما یکفی لنسف الجسور، فاقتصر عملنا علی قطع الخط برفع القضبان الحدید لبعض المسافات. و قد أطلقت علینا النار من رشاش فی المحطة:
و بینما کنا مشتبکین علی هذه الشاکلة وصل الرتل الرئیس و عبر خط السکة، ثم استدار الی الجنوب علی طریق الموصل- بغداد الرئیس. و حینما انهینا عملنا وجدنا أنفسنا فی مؤخرة الرتل بدلا من ان نکون فی مقدمته.
.. و یبدو ان حکومة رشید عالی قد علمت بمحاولتنا الأولی لقطع سکة الحدید فی جنوب سامراء یوم 23 مایس. فقد وصلهم نبأ یشیر الی ان ثلاثة من الانکلیز کانوا یعبثون بالسکة خلال اللیل. و کان هذا النبأ صحیحا تمام الصحة لأننا کنا مع الرتل الانکلیزی الزاحف موجودین فی البادیة علی بعد میل واحد من طریق سامراء. و بعد یومین وصل الی الحکومة العراقیة ایضا نبأ المعرکة الصغیرة التی وقعت بین دوریة الجیش العراقی و سریة الضابط لا شی فی خارج سامراء. و کانت لقطار الموصل أهمیة بالغة بالنسبة لحکومة رشید عالی، و لذلک کانت تبدو شدیدة الحساسیة تجاه کل ما من شأنه ان یهددها موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 329
بشی‌ء. فأوفد فی صباح یوم 28 مایس متصرف بغداد- جلال خالد- و زعیم فی الجیش العراقی الی سامراء للتحقیق فی هذه الهجمات الموجهة الی سکة الحدید، و اتخاذ الاجراءات الممکنة لمعالجتها. و بینما کانا فی سامراء نفسها وصلنا نحن الی الطریق فحلنا بینهما و بین العاصمة، و حینما کانا یسوقان عائدین فی طریقهما الی بغداد وجدا نفسیهما فجأة فی مؤخرة رتلنا ..

نبذ متفرقة عن سامراء

لقد لا حظنا ان هناک نبذا متفرقة عن سامراء و أحوالها ترد هنا و هناک فی بعض الکتب الغربیة الحدیثة التی صدرت فی السنوات الأخیرة. و من جملة هذه الکتب کتاب المستر لونکریک الثانی عن العراق. فهو یقول فی معرض البحث عن سکان العراق و أقلیاته فی 1900: .. فاذا کانت هذه الأقلیات الکردیة و الیزیدیة و الترکمانیة تنحصر بالکلیة تقریبا فی ولایة الموصل، فان الحالة تختلف بالنسبة للایرانیین المقیمین فی العراق. فقد کان یندر وجود هؤلاء فی البلاد العراقیة الکائنة فی شمال جبل حمرین، و کان یقتصر وجودهم فی العراق الجنوبی علی بعض الأسر و العوائل. لکن تکاثفهم الأکبر کان فی کربلا و الکاظمیة و سامراء و النجف، ای فی المدن المقدسة الأربع، و فی بغداد .
و یقول فی مکان آخر: أن تدفق الزوار الایرانیین علی النجف و کربلا و الکاظمیة و سامراء، مع کونه کان یثیر من سوء التفاهم المشترک، فانه کان مشحونا بالفرص التی تنتهزها الحکومات للتشدد فی الضغط علی الحریات، و الطلبات غیر المعقولة، بالنسبة لأجور السمات و الحجر الصحی و ما أشبه .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 330
و یتحدث فی مناسبة أخری عما کانت علیه طبیعة المجتمع و احواله فیها تختلف باختلاف البیئة التی تحیط بها. فان کثیرا منها لم تکن لها صبغة معینة بل کانت عبارة عن محطات تقف فیها القوافل، و مراکز للمنتجات الزراعیة، و محطات وقود للبواخر النهریة، أو مراکز للقطعات العسکریة. لکن غیرها کانت لها صبغة خاصة تقریبا. فقد کانت هیت مرکزا لصناعة القیر، و کانت کرکوک و أربیل مرکزین رئیسین للشؤون الکردیة، و «مشتلین» للأفندیة الذین یتکلمون الترکیة، بینما کانت خانقین نقطة للحدود الایرانیة ... أما الکاظمیة و سامراء فقد کانت تنحصر أهمیتهما فی کونهما مشهدین من المشاهد الشیعیة المقدسة و محجا للزوار. و فی معرض البحث عن المجتمع العشائری فی 1900، یقول لونگریک ان بیئة القبیلة لم تکن تؤثر علی اقتصادیاتها حسب و إنما کانت تؤثر أیضا علی طریقة حیاتها .. فان زراع الفاکهة و التبوغ فی کردستان، و زراع القمح و الخضروات فی سامراء کانوا یختلفون اختلافا کافیا عن منتجی التمور فی بعقوبة أو الشامیة، أو العاملین فی مرزات البو محمد او الفتلة .
و یذکر فی معرض البحث عن انشاء سکة حدید بغداد- سامراء ان ما مایسنر باشا (الألمانی)، الذکی الفعال، و المستشرق المثقف، ظهر فی بغداد خلال شهر تموز 1911 و فتح مکتبة فی بیت کاظم باشا الذی اصبح بعد ذلک مقرا للمندوب السامی البریطانی و السفارة البریطانیة فی الأخیر. ثم اختیر موقع محطة القطار المقبلة فی الجانب الأیمن من دجلة، و حفرت أول حفرة تراب للخط المزمع أنشاؤه من بغداد الی سامراء بحضور الوالی فی تموز 1912.
و یتحدث لونگریک عن شؤون الری فی بدایة القرن کذلک، فتطرق الی التوصیات التی قدمها مهندس الری البریطانی الأکبر السر ویلیام ویلکوکس، و من جملتها التوصیة بانشاء مشروع الثرثار بالقرب من سامراء و توجیه میاه دجلة الفائضة الی منخفضة .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 331
و عند البحث عن معاهدة 1920 یتطرق لونگریک الی معارضة الوطنیین لها، و الاستعانة بعلماء الدین فی ذلک. فهو یقول: ان رئیس الوزراء قرر اجراء انتخابات عامة فی البلاد لتقویة مرکزه فی الوزارة، و للاطلاع علی رأی الأمة فی هذا الشأن، و لو شکلیا علی الأقل. فلم یکتف الحزب الوطنی بمقاطعة الانتخابات، و بالنشاط الذی بدا منه فی مقالات الصحف، و الخطب و المناشیر الیدویة، بل لم یتردد فی الاستعانة أیضا بسلطة المجتهدین الشیعة فی تحریم المعاهدة الجدیدة. علی أن هؤلاء کانوا قد عدلوا عن التدخل بالمرة، الا فی سامراء التی تدخلوا فیها جزئیا .
و یشیر لونگریک أیضا الی أن استتباب الحالة فی المناطق العشائریة قد أدی الی تفرغ الحکومة العراقیة الی انجاز الکثیر من الأعمال العمرانیة و الثقافیة، و منها اجراء الحفریات فی سامراء فی حدود سنة 1932، و غیرها من الأماکن الأثریة الأخری. کما یشیر الی الحفریات التی قامت بها دائرة الآثار القدیمة فی سامراء، و جبل سنجار، و واسط ما بین 1939 و 1941.
و فی الکتاب الذی اشترک فیه المستر لونگریک مع المستر فرانک ستوکس:
یشیر المؤلفان کذلک الی أهمیة سامراء الأثریة و وجود متحف خاص للآثار العربیة فیها. و هناک مناسبات أخری یرد فیها ذکر سامراء فی هذا الکتاب أیضا، إذ یورد المؤلفان خلاصة تاریخیة موجزة جدا عن تاریخ العباسیین فی العراق و یشیران الی انتقال الخلافة من بغداد الیها علی النحو المار ذکره قبل هذا. و یشیران کذلک الی انشاء سکة حدید بغداد- سامراء من قبل الألمان قبیل الحرب العالمیة الأولی .
و آخر ما وجدناه من المراجع الغربیة التی تأتی علی ذکر سامراء فی مناسبات
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 332
عدة کتاب أمریکی عن العراق ظهر فی 1958 من تألیف عدة کتاب باشراف جورج هاریس، و أول ما یرد ذکر سامراء فیه هو الخلاصة التاریخیة التی یذکر فیها أیضا نقل العاصمة من بغداد الی سامراء بالنحو المعروف. ثم یبحث الکتاب فی توزیع سکان العراق و شؤون النفوس فیه، و یقول ان المنطقة التی یزداد تکاثف السکان فیها علی دجلة تبدأ مما یقرب من سامراء، و تسیر مع النهر و فروعه و لا سیما الغراف و الدجیلة. و حینما یتطرق الکتاب الی نوعیة السکان، و یبحث فی أحوال العرب العشائریین منهم، یقول ان هؤلاء العرب أکثرهم من الفلاحین الشیعة الذین لا یختلفون بشی‌ء عن العرب الموجودین فی خوزستان بایران، و یزداد الارتباط بین هؤلاء بوجود المدن الشیعیة المقدسة فی العراق: النجف و الکاظمین و کربلا و سامراء .
و یبحث هذا الکتاب کذلک فی النواحی العمرانیة من العراق فیشیر الی أعمال مجلس الأعمار السابق، و ما کان یفعله فی کل سنة من تخصیص «اسبوع الأعمار» لبث الدعایة لمنجزاته. و أول اسبوع أقیم من هذا القبیل تم فیه افتتاح السدتین الکبیرتین فی سامراء و الرمادی. و عند البحث عن مشاریع الری الکبری التی أنجزت فی ذلک العهد یقول المؤلف ان أهم مشروع کبیر أنشی‌ء علی دجلة لدرء خطر الفیضان عن بغداد و غیرها من البلاد الجنوبیة هو «سدّة سامراء» التی تؤخذ المیاه الزائدة من دجلة بواسطتها الی وادی الثرثار.
و وادی الثرثار هذا عبارة عن منخفض طبیعی واسع الأرجاء یکون قعره فی مستوی سطح البحر، و تعلو ضفافه الی علو (200) قدم. ثم یقول فی تلک الأیام (1958) ان المشروع الذی خصص له مبلغ عشرة ملایین دینار قد أنجز معظمه، و بدء منذ 1956 بتوجیه المیاه الیه فی مواسم الفیضان. و بذلک یدرأ الخطر عن بغداد و ما فی جنوبها غالبا، و یخزن مقدار کاف للزراعة الصیفیة فی المستقبل .
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 333

الفهرست

سامراء قدیما
سامراء قدیما 7
الطیرهان 15
قدم السکن فی سامراء 17
منطقة سامراء علی عهد الساسانیین 19
دیارات سامراء و القاطول الکسروی 29
دیر سامرا 39
دیر مرماری 41
دیر السوسی 44
دیر باشهرا 45
دیر عبدون 46
دیر صباعی 49
دیر العذاری 52
دیر العلث 55
عمر نصر 58
دیر مرماجرجس 60
القادسیة 61
سامراء فی ظل الخلافة العباسیة
فی أیام المعتصم 77
فی أیام الواثق باللّه 83
فی أیام المتوکل 84
فی أیام المنتصر 95
فی أیام المستعین باللّه و المعتز 95
فی أیام المهتدی 101
فی أیام المعتمد علی اللّه 103
سامراء فی الشعر
احمد بن ابی دؤاد 113
السید احمد الموسوی 113
الشیخ احمد النحوی 114
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 334
البحتری 114
بدیع الزمان الهمدانی 116
ابو تمام 116
الشیخ جابر الکاظمی 118
السید جعفر کمال الدین 119
محمد مهدی الجواهری 119
الحسین بن الضحاک 123
السید حیدر الحلی 123
خالد الکاتب 124
دعبل الخزاعی 125
سکن 125
الشیخ عبد الحسین الحویزی 126
عبید اللّه بن ابی طاهر 127
ابو محمد بن سفیان (الوزیر الکاتب) 127
السید محمد علی آل خیر الدین 128
ابن المعتز 128
المنتصر العباسی 129
السید موسی الطالقانی 130
سامراء فی المراجع العربیة
الجامع المختصر 133
الحوادث الجامعه 133
دوحة الوزراء 135
تاریخ العراق بین احتلالین 135
الحقائق الناصعة 138
و شایح السراء فی سان سامراء 139
کبار الحوادث 143
مقابر المشاهیر 143
مآثر الکبراء فی تاریخ سامراء 145
کتاب السید جمال الدین الافغانی للامام الشیرازی 146
المسألة الدخانیه 152
العراق قدیما و حدیثا 167
وفیات الأعیان 174
أخبار الدول و آثار الاول 174
احسن الودیعه 175
اعیان الشیعه 175
تاریخ الشیعه 176
الدلیل العراقی الرسمی 178
دلیل تاریخی علی مواطن الاثار فی العراق 178
الدلیل العام لتسجیل النفوس العام 180
الدلیل الجغرافی العراقی 182
الاماکن المقدسة فی العراق 182
جغرافیة العراق 184
سامراء فی الرحلات (رحلة ابن جبیر) 184
الاشارات الی معرفة الزیارات 185
رحلة ابن بطوطة 185
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 335
نزهة الجلیس و منیة الأدیب الانیس 186
رحلة المنشی البغدادی 187
رحلات عبد الوهاب عزام 187
سامراء فی المراجع الغربیة
(الاسم و الموقع) 193
بناء سامراء 199
بناء سامراء فی کتاب سیتون لوید 205
فن العمارة فی سامراء 211
الجوسق الخاقانی 213
الجامع الکبیر فی سامراء 217
الاسس الفنیة لعمارة الجامع الکبیر 222
جامع ابی دلف 223
دور سامراء 226
القبة الصلیبیة و مدافن الخلفاء 227
الزخرف السامرائی 230
عمارة سامراء فی دائرة المعارف الاسلامیة 231
الفنون الاسلامیة فی سامراء 237
ما کتبه السر جون غلوب عن خلفاء سامراء 256
الروضة العسکریة المطهرة 262
سامراء فی کتاب دونالدسون 264
الامام الهادی (ع) 268
الحسن العسکری (ع) 274
الامام المهدی المنتظر 279
وکلاء الامام صاحب الزمان 287
بعد عودة الخلافة الی بغداد 291
سامراء فی القرن التاسع عشر 293
رحلة جونز 299
رحلة جون أشر 303
الرحالة نیجهولت 304
السر والس بج 308
المس غیر ترود بیل فی سامراء 310
سامراء فی الحرب العالمیة الاولی 315
احتلال سامراء 316
سامراء بعد الاحتلال 320
موظفو الانکلیز فی سامراء 323
فرایا ستارک فی سامراء 324
سامراء فی حوادث 1940 327
نبذ متفرقة عن سامراء 329
موسوعة العتبات المقدسة، ج‌12، ص: 336
هذه الموسوعة
علی الرغم من انتشار الحضارة و الثقافة التی دفعت بالکثیر من العلماء و المحققین و الباحثین فی العصور الأخیرة الی احیاء مختلف التراث الاسلامی و الآثار العربیة فیما بحثوا، و حققوا، و کتبوا، فقد ظلت هنالک کنوز ذات قیمة کبری فی تاریخ العالم الانسانی فضلا عن تاریخ الاسلام و العرب.
لقد ظلت هذه الکنوز مطمورة فی بطون الکتب المخطوطة و المطبوعة لم یمسها احد الا من بعض اطرافها، و لم یتطرق الیها باحث الا من بعض جوانبها، و هی کنوز لم تقتصر علی ناحیة دون ناحیة، فهی تخص العلم، و الادب، و الفن، و الفلسفة، بقدر ما تخص الفقه و التاریخ، متمثلة کلها فی تاریخ العتبات المقدسة:
مکة المکرمة- المدینة المنورة- القدس الشریف- النجف الاشرف- کربلاء- الکاظمین- مشهد الرضا- سامراء .. الخ
فلکل عتبة من هذه العتبات تاریخ ذو علاقة جد وثیقة بالثقافة و الحضارة الاسلامیة و العربیة، مما اختزنته من المخطوطات الاثریة، و الروائع الادبیة، و ما قامت به من المدارسة طوال العصور المظلمة، اذ لو لا هذه العتبات لما بقی الیوم بایدینا من تلک الکنوز الا النزر الیسیر.
و هذا هو الذی دفع بطائفة من اهل الفضل و اساتذة جامعة بغداد من ارباب الاختصاص الی ان تتضافر جهودهم فی اخراج موسوعة تاریخیة- علمیة- اثریة- ادبیة- عامة، تتناول جمیع العتبات المقدسة بالبحث المفصل الشامل منذ اول تمصیر العتبة المقدسة حتی الیوم- علی ان یکون لکل عتبة اجزاء خاصة، و ان یکون کل جزء منها مستقلا بمواضیعه.
و هو اول عمل من نوعه، و اول مجهود خطیر یقوم به مؤلفه، و یکفی ان یستدل القاری‌ء علی خطورته مما یقع تحت عینیه من اجزائه.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.